المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الربا والصرف، وتحريم الحيل (الرِّبا) مقصور، يُكتب بالألف والواو والياء. - كشاف القناع عن متن الإقناع - ط وزارة العدل - جـ ٨

[البهوتي]

فهرس الكتاب

‌باب الربا والصرف، وتحريم الحيل

(الرِّبا) مقصور، يُكتب بالألف والواو والياء. وهو لغةً: الزيادة. قال تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}

(1)

أي: علت وارتفعت. وقال تعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}

(2)

أي: أكثر عددًا.

وهو (مُحرَّم) إجماعًا

(3)

؛ لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}

(4)

.

(وهو من الكبائر) لعدِّه صلى الله عليه وسلم له في السبع الموبقات، في الحديث المتفق عليه

(5)

.

وحُكي عن ابن عباس وغيره إباحةُ رِبا الفضل؛ لحديث: "لا ربا إلا في النَّسيئَة" رواه البخاري

(6)

، ثم رجع ابن عباس عنه، رواه

(1)

سورة فصلت، الآية:39.

(2)

سورة النحل: الآية: 92.

(3)

الإجماع لابن المنذر ص/ 117، 118، ومراتب الإجماع لابن حزم ص/ 151، والإفصاح لابن هبيرة (1/ 212).

(4)

سورة البقرة، الآية:275.

(5)

البخاري في الوصايا، باب 23، حديث 2766، وفي الحدود، باب 44، حديث 6857، ومسلم في الإيمان، حديث 89 عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه:"اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات".

(6)

في البيوع، باب 79، حديث 2178، 2179. وأخرجه - أيضًا - مسلم في المساقاة، حديث 1596، (101، 102، 104).

ص: 5

الأثرم

(1)

. وقال الترمذي

(2)

وابن المنذر

(3)

، والحديث محمول على الجنسين.

(وهو) شرعًا (تفاضُلٌ في أشياءَ) كمكيل بجنسه، أو موزون بجنسه (ونساءٌ في أشياءَ) كمكيل بمكيل، وموزون بموزون، ولو من غير جنسه (مُختصٌّ بأشياء) وهي المكيلات، والموزونات (وَرَدَ الشرع بتحريمها) أي: بتحريم الربا فيها.

(وهو) أي: الربا (نوعان):

أحدهما: (ربا الفَضْل، و) الثاني (ربا النسيئة).

(فأما ربا الفَضْل) أي: الزيادة (فيَحرُمُ في كلِّ مكيل) بيع بجنسه (و) في كلِّ (موزون بيع بجنسه) لعدم التماثل؛ لما روى عُبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الذهب بالذهب، والفضة بالفضَّة، والبُر بالبُر، والشَّعيرُ بالشَّعير، والتَّمر بالتَّمر، والملح بالملح، مِثْلاً بمِثْل، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصنافُ، فبِيعُوا كيف شئتم، يدًا بيدٍ" رواه أحمد ومسلم

(4)

. وعن أبي سعيد مرفوعًا نحوه، متفق عليه

(5)

.

واختُلِف في العِلَّة التي لأجلها حُرِّم الربا في هذه الأصناف الستة،

(1)

لعله في سننه، ولم تطبع. ورواه أيضًا مسلم في المساقاة، بعد حديث 1594 (100).

(2)

في البيوع، باب 24، بعد حديث 1241.

(3)

لم نقف عليه في مظانه من كتب ابن المنذر المطبوعة، ونقله عنه ابن قدامة في المغني (6/ 52).

(4)

أحمد (5/ 320)، ومسلم في المساقاة، حديث 1587 (81).

(5)

البخاري في البيوع، باب 78، حديث 2176، 2177، ومسلم في المساقاة، حديث 1584.

ص: 6

والأشهر عن إمامنا

(1)

ومختار عامة الأصحاب: أنَّ علَّة الربا في النقدين؛ كونهما موزوني جنس. وفي الأعيان الباقية كونها مكيلات جنس، فيجري الربا في كل مكيل، أو موزون بجنسه.

(ولو) كان (يسيرًا لا يتأتَّى كيْلُه، كتمرةٍ بتمرةٍ، أو تمرةٍ بتمرتين) لعدم العِلم بتساويهما في الكيل (ولا) يتأتَّى (وَزْنُه، كما دون الاُرْزَة من الذَّهب والفضة) ونحوهما لما تقدم.

(مطعومًا كان) المكيل أو الموزون (أو غير مطعوم كالحبوب) من بُرٍّ، وشعير، وذرة، ودُخْن

(2)

، وأرز، وعدس، وباقلاء

(3)

، وغيرها، كحب الفجل والقطن والكتَّان (و) كـ (ــالأشْنانِ، والنُّورَة، والقطن، و) كـ (ــالحرير، والصوف، والحِنَّاء، والكَتَّان، والحديد، والنحاس، والرصاص، والذهب، والفضة ونحو ذلك) ممَّا يُكال أو يوزن (فتكون العِلَّة في النقدين كونهما موزوني جنس) فتتعدَّى إلى كل موزوني جنس مما تقدم.

(ويجوز إسلامهما) أي: الذهب والفضة (في الموزون من غيرهما) كالحرير، والصوف، والحناء، والكتَّان، ونحوها؛ للحاجة. قال القاضي: القياس المنع، وإنما جاز للمشقَّة.

(سوى ماءٍ، فإنه لا ربا فيه بحال. ولو قيل: هو مكيل لعدم تموُّله

(1)

الإرشاد ص/ 183، وكتاب الروايتين والوجهين (1/ 316)، وانظر: مسائل عبد الله (3/ 940) رقم 1272، ومسائل الكوسج (6/ 2650) رقم 1861، و (6/ 2890) رقم 2115.

(2)

هو حَبُّ الجاوَرْس، أو حبٌّ أصغر منه، أملس جدًا، بارد يابس، حابس للطبع. انظر: القاموس المحيط ص/ 1195، مادة (دخن).

(3)

الباقلاء: هو القول. القاموس المحيط ص/ 967، مادة (بقل).

ص: 7

عادة) لإباحته في الأصل. قال في "المبدع": وفيه نظر؛ إذ العِلَّة عندنا ليست هي المالية.

(ولا يجري) الربا (في مطعوم لا يُكال ولا يوزن، كالمعدودات من التُّفاح، والرمان، والبطيخ، والجوز، والبيض ونحوها) فيجوز بيع بيضة وخيارة وبطيخة بمثلها. نص عليه

(1)

؛ لأنه ليس مكيلًا ولا موزونًا، لكن نقل مُهنا

(2)

: أنه كره بيع بيضة ببيضتين. وقال: لا يصلح إلا وزنًا بوزن؛ لأنه مطعوم.

(ولا) يجري الربا أيضًا (فيما لا يوزن) عُرفًا (لصناعته) ولو كان أصله الوزن، غير المعمول من النقدين (كالمعمول من الصُّفْر

(3)

، والحديد، والرصاص ونحوه، كالخواتم) من غير النقدين (و) كـ (ــاللُّجُم، والأسْطال، والإبر، والسكاكين، والثياب، والأكسية، من حرير وقطن، وغيرهما) كصوف، وشعر، ووَبَرٍ (فيجوز بيع سكين بسكينتين و) بيع (إبرة بإبرتين ونحوه.

وكذا) يجوز بيع (فَلْس بفَلْسين عددًا، ولو نافقة) لأنها ليست بمكيل ولا موزون. أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"

(4)

عن مجاهد قال: "لا بأس بالفَلْس بالفَلْسين يدًا بيد". وأخرج عن حماد مثله

(5)

. ونص أحمد

(6)

: لا يباع فَلْس بفَلْسين، ولا سكين بسكينتين.

(1)

الإرشاد ص/ 188.

(2)

انظر: الإرشاد ص/ 188، وكتاب الروايتين والوجهين (1/ 316).

(3)

الصُّفر: النحاس. القاموس المحيط ص/ 425، مادة (صفر).

(4)

(7/ 120).

(5)

(7/ 120). وأخرجه - أيضًا - عبد الرزاق (8/ 37) رقم 14209.

(6)

الإرشاد ص/ 186، وكتاب الروايتين والوجهين (1/ 318)، وانظر: مسائل الكوسج (6/ 2889 - 2892) رقم 2114 - 2116.

ص: 8

(وجيد الرِّبوي ورديئه) سواء (وتِبْره

(1)

ومضروبُه) سواء (وصحيحه ومكسوره، في جواز البيع متماثلًا) يدًا بيد (وتحريمه متفاضلًا) أو مع تأخير

(2)

القبض (سواءٌ) فلا تُعتبر المساواة في القيمة، بل في معياره الشرعي من كيل أو وزن.

(فلا يجوز بيع مصنوع من الموزونات) لم تخرجه الصناعة عن الوزن بجنسه (إلا بمثله وزنًا) سواء ماثَلَه في الصناعة أوْ لا؛ لعموم الحديث السابق

(3)

.

(وجوَّز الشيخ

(4)

بيعَ مصنوعٍ مباح) الاستعمال (كخاتم ونحوه بِيعَ بجنسه بقيمته حالًا، جعلًا للزائد) عن وزن الخاتم (في مقابلة الصنعة) فهو كالأجرة (وكذا جَوَّزه) أي: بيع خاتم بجنسه بقيمته (نَساءً ما لم يقصد كونها ثمنًا) فإن قصد ذلك لم يجز للنَّساء.

(وقال) الشيخ

(4)

: (وما خرج من القُوت بالصنعة كَنَشَأ

(5)

) ككلأ (فليس بربوي، وإلا) أي: وإن لم يخرج عن القوت (فجنسٌ بنفسه، فيُباع

(6)

خبز بهريسة) على اختيار الشيخ. والمذهب: ما يأتي من أنه لا يصح.

(وفي "المغني" و"الشرح": وإن قال للصائغ: صُغْ لي خاتمًا وَزْنُه

(1)

التّبر بالكسر: الذهب والفضة، أو فتاتهما قبل أن يُصاغا. القاموس المحيط ص/ 356، مادة (تبر).

(2)

في "ح": "تأخر".

(3)

تقدم تخريجه (8/ 6) تعليق رقم (4، 5).

(4)

الاختيارات الفقهية ص/ 188.

(5)

النَّشا: ليس بمهموز كما يفهم من السياق بل مقصور وممدود وهو فارسي معرَّب، ما يُعمل من الحنطة. المصباح المنير ص/ 833، مادة (نشو).

(6)

كذا في الأصول، وفي متن الإقناع (2/ 246):"فيباح".

ص: 9

درهمٌ، وأعطيك مِثْلَ زنته وأجرتَك درهمًا، فليس ذلك بيع درهم بدرهمين. قال أصحابنا: للصائغ أخذُ الدرهمين، أحدُهما في مُقابَلة) فضة (الخاتم، والآخر أُجرة له) في نظير عمله، وجزم بمعناه في "المنتهى".

(وجَهْلُ التساوي حالةَ العقد) على مكيل بجنسه، أو على موزون بجنسه (كعِلْمِ التفاضل) في منع الصحة إذا اتحد جنس المكيل، أو الموزون.

(فلو باع بعضَه) أي: بعض الربوي (ببعضٍ) من جنسه (جزافًا) لم يصح (أو كان) الجزاف (من أحد الطرفين) كمُدِّ بُرٍّ بِبُرٍّ جزافًا (حَرُمَ) البيع (ولم يصح) لعدم العلم بالتساوي (كقوله: بعتُك هذه الصُّبْرة بهذه الصُّبْرة، وهما) أي: الصُّبْرتان (من جنس واحد، وهما) أي المتعاقدان (يجهلان كَيْلهما) أي: كيل الصُّبْرتين، وهذا مثال للأولى (أو) يجهلان (كَيْل إحداهما) أي: إحدى الصُّبْرتين، ويعلمان كَيْل الأخرى، وهذا مثال الثانية.

(وإن علما) أي: المتعاقدان (كَيْلهما) أي: كَيْل الصُّبرتين (و) علما (تساويهما) في الكيل (صَحَّ) البيع؛ للعلم بالتساوي.

(وإن قال) البائع: (بعتُك هذه الصُّبرة بهذه الصُّبرة مكايلة صاعًا بصاع، أو) قال: (مثلًا بمثل، فكِيْلَتا، فبان تساويهما في الكيل، صَحَّ) البيع (وإلا، فلا) أي: وإن لم يتساويا بأن زادت إحداهما على الأخرى، بطل البيع؛ للتفاضل.

(وإن كانتا) أي: الصُّبْرتان (من جنسين) كما لو كانت إحداهما شعيرًا، والأخرى باقِلاء، فقال: بعتُك هذه الصُّبْرة بهذه الصُّبْرة (مِثلًا بمثل، فكِيْلَتا، فكانتا سواء، صَحَّ البيع) لعدم المانع.

(وإن تفاضلتا) أي: زادت إحداهما على الأخرى (فرضي صاحب الزيادة بدفعها إلى الآخر مجانًا، أو رضي صاحب الناقصة بها مع نقصها،

ص: 10

أُقِرَّ العقد) لأن الحق لهما، فجاز ما تراضيا عليه، والجنس مختلف، فلم يضرَّ التفاضل (وإن تشاحَّا؛ فُسِخَ) العقد بينهما، قطعًا للنزاع.

(ولا يُباع ما أصلُه الكيلُ) كالحبوب والمائعات (بشيء من جنسه وزنًا، ولا) يُباع (ما أصله الوزن) بشيء من جنسه (كَيْلًا، إلا إذا علم تساويهما في معياره) أي: الأصل (الشرعي) لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "الذهبُ بالذهبِ، والفضَّة بالفضة، وزنًا بوزنٍ، مثلًا بمِثْلٍ، فمن زاد أو اسْتَزادَ فهو ربًا" رواه مسلم

(1)

.

وروى أبو داود من حديث عبادة مرفوعًا: "البُر بالبُر مدين بمدين

(2)

، والمِلح بالملح مدين بمدين

(2)

، والشعير بالشعير مدين بمدين

(2)

، والتمر بالتمر مدين بمدين

(2)

، فمن زاد أو ازْداد فقد أرْبَى"

(3)

. ف‌

‌اعتبر الشارع المساواة في الموزونات بالوزن، وفي المكيلات بالكيل،

فمن خالف ذلك خرج عن المشروع المأمور به، إذ المساواة المعتبرة فيما يحرم فيه التفاضل، هي المساواة في معياره الشرعي.

(فإن اختلف الجنسُ جاز بيعُ بعضِه ببعضٍ كيلًا أو وزنًا، وجزافًا ومتفاضلًا) لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفتْ هذه الأصنافُ فَبيعُوا كيف شِئْتُم يدًا

(1)

في المساقاة، حديث 1588 (84).

(2)

كذا في الأصول: "مدين بمدين" والذي في سنن أبي داود: "مُدْيٌ بمُدْيٍ".

قال الخطابي في معالم السنن (3/ 68): والمدي مكيال يعرف ببلاد الشام، وبلاد مصر، به يتعاملون، وأحسبه خمسة عشر مكوكًا، والمكوك صاع ونصف.

(3)

أبو داود في البيوع، باب 12، حديث 3349، وأخرجه - أيضًا - النسائي في البيوع باب 44، حديث 4577، والطبري في تهذيب الآثار، مسند عمر (2/ 746) حديث 1087، بنحوه. وأصله في صحيح مسلم، المساقاة، حديث 1587 بلفظ:"نهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء، عينًا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى".

ص: 11

بيدٍ"

(1)

(كذهب بفضة، و) كـ (ــتمر بزبيب، و) كـ (ــحنطةٍ بشعير، و) كـ (ــأُشْنانٍ

(2)

بملح، و) كـ (ــجِصٍّ بنُورةٍ، ونحوه) كحديد بنحاس، وخزٍّ بكَتَّان.

(والجنس: ما له اسم خاص يشمل أنواعًا) أي: الجنس هو الشامل لأشياء مختلفة بأنواعها.

(والنوع: هو الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها). وقد يكون جنسًا بالنسبة إلى ما تحته، والجنس نوعًا بالنسبة إلى ما فوقه. والمراد هنا: الجنس الأخص والنوع الأخص، فكل نوعين اجتمعا في اسم خاص فهو جنس.

ثم مَثَّله فقال: (كذهب) وأنواعه: المغربي، والدكروري (وفضةٍ) وأنواعها: الريال والبنادقة ونحوها (وبُرٍّ) وأنواعه: البحيري، والصعيدي (وشعيرٍ) كذلك (وتمر) وأنواعه البرني، والمعقلي، والصيحاني وغيرها (وملح) وأنواعه المنزلاوي، والدمياطي.

(فكلُّ شيئين فأكثر أصلهما واحد، فهما جنس واحد، وإن اختلفت مقاصدُهما، كدُهن وَرْدٍ، و) دُهن (بنفسج و) دُهن (زَنْبق

(3)

، و) دُهن (ياسمين ونحوها) كدُهن بَانٍ (إذا كانت كلُّها من دهنٍ واحد) كالشيرج

(4)

(فهي جنس واحد) لاتحاد أصلها، وإنما طيبت بهذه الرياحين فنُسبت إليها، فلم تَصِرْ أجناسًا.

(1)

تقدم تخريجه (8/ 6) تعليق رقم (4).

(2)

الأشنان بالضم والكسر: شجر ينبت في الأرض الرملية، يستعمل هو أو رماده في غسل الثياب والأيدي، وله خواص طبية. انظر: القاموس المحيط ص/ 1176، والمعجم الوسيط (1/ 19) مادة (أشن).

(3)

الزنبق: زهر يُجعل في السيرج ونحوه، ويُعمل من دهن كغيره من أنواع الأزهار. تاج العروس (6/ 373) مادة (زنبق).

(4)

تقدم التعريف به (7/ 354).

ص: 12

(وقد يكون الجنس الواحد مشتملًا على جنسين، كالتمر يشتمل على النوى) وغيره (وهما) أي: النوى وما عليه (جنسان) بعد النزع؛ لأن كلًّا منهما له اسم خاص يشمل أنواعًا (و) كـ (ــاللَّبن يشتمل على المخيض

(1)

و) على (الزُّبْدِ، وهما) أي: المخيض والزُّبْد (جنسان) لما تقدم (فما داما) أي: التمر والنوى، أو المخيض والزُّبْد (متَّصلين) اتصال خِلْقة (فهما جنس واحد) لاتحاد الاسم (وإذا مُيِّز أحدهما عن الآخر، صارا جنسين) ولو خلطا يجوز التفاضل بينهما كما تقدم.

(وفروع الأجناس أجناس، كأدِقَّةٍ، وأخبازٍ، وأدهانٍ، وخُلولٍ) لأن الفرع يتبع أصله، فلما كانت أصول هذه أجناسًا، وجب أن تكون

(2)

هذه أجناسًا؛ إلحاقًا للفروع بأصولها، فعلى هذا: دقيق الحنطة جنس، وخبزها جنس، ودقيق الشعير جنس، وخبزه جنس، ودُهن السمسم جنس، ودُهن الزيتون جنس، وخَلُّ التمر جنس، وخَلُّ العنب جنس، وهكذا، فعسل النحل وعسل القصب جنسان.

(واللحم أجناسٌ باختلاف أصوله) لأنها فروعُ أصولٍ هي أجناس، فكانت أجناسًا كالأخباز (وكذلك اللَّبن) أجناس باختلاف أصوله (فَضَأْنٌ ومَعْزٌ نوعا جنسٍ) لا يُباع أحدهما بالآخر إلا مِثلًا بمِثل يدًا بيد، وكذا البقر والجواميس، والبَخَاتي والعِراب.

(وسمين ظهرٍ، و) سمين (جَنْبٍ، ولحمٌ أحمرُ، جنس واحد) يتناوله اسم اللحم.

(والشحم، والألية، والكبد، والطِّحال) بكسر الطاء، يقال: هو

(1)

المخيض: فعيل بمعنى مفعول، ومخضتُ اللبن مخضًا، إذا استخرجت زُبْده بوضع الماء فيه وتحريكه. المصباح المنير ص/ 776، مادة (مخض).

(2)

في "ذ": "كانت" بدل "وجب أن تكون".

ص: 13

لكل ذي كرش إلا الفرس، فلا طِحَال له، قاله في "الحاشية". (والرئة، والرؤوس، والأكارع، والدماغ، والكرش، والمعي، والقلب، والجلود، والأصواف، والعظام ونحوها أجناس) لأنها مختلفة في الاسم والخِلْقة، فكانت أجناسًا، كبهيمة الأنعام (فلا يَحرُم التفاضلُ بين أجناسها) ولو شحمًا بلحم؛ لأنهما جنسان كالنقدين.

(و‌

‌يَحرم بيع جنس منها بعضُه ببعض متفاضلًا)

لما تقدم، لكن لكل واحد منها أجناس باختلاف أصوله، فيجوز بيع رطل من رأس الضأن برطلين من رأس البقر، كاللحم.

(و) يَحرم (بيع خَلِّ عنب بخلِّ زبيب، ولو متماثلًا) لانفراد خَلِّ الزبيب بالماء.

(ويجوز بيع دِبْسٍ بـ) ــدِبْسٍ (مثله متساويًا) لا متفاضلًا؛ لاتحاد الجنس.

(ويصح بيع لحم بمثله من جنسه، إذا نُزع عظمه) وتساويا وزنًا، يدًا بيد، وإن اختلفا في الجنس، جاز التفاضل؛ لما تقدم.

(ولا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه) لما روى مالك، عن زيد بن أسلم، عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم:"نَهى عن بيع اللحم بالحيوان"

(1)

.

(1)

مالك في الموطأ (2/ 655). وأخرجه - أيضًا - أبو داود في المراسيل ص/ 166، حديث 178، والشافعي في الأم (3/ 81)، وعبد الرزاق (8/ 27) حديث 14162، والدارقطني (3/ 71)، والحاكم (2/ 35)، وابن حزم في المحلى (8/ 517)، والبيهقي (5/ 296)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 176) حديث 1419.

قال البيهقي: هذا هو الصحيح، يعني المرسل.

وذكره السيوطي في الجامع الصغير (6/ 307 مع الفيض) ورمز لصحته.

وأخرجه الدارقطني (3/ 70)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 334)، وابن عبد البر في التمهيد (4/ 322)، وابن الجوزى في التحقيق (2/ 176) من طريق يزيد بن مروان، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعًا. =

ص: 14

قال ابن عبد البر: هذا أحسن أسانيده

(1)

؛ ولأنه مال ربوي بِيعَ بما فيه من جنسه مع جهالة المِقدار؛ كالسمسم بالشيرج.

(ويصح) بيع لحم (بـ) ــحيوان (غير جنسه) لأنه مال ربوي بِيعَ بغير أصله وبغير جنسه، فجاز كما لو باعه بنقدٍ، لكن يحرم بيعه نسيئة عند جمهور الفقهاء، ذكره الشيخ تقي الدين

(2)

(كَبِغَير مأكول) أي: كما يجوز بيع لحم بحيوان غير مأكول، كحمار وبغل.

(ولا يصح بيع حَبّ بدقيقه، ولا) بيع حَبٍّ (بسَويقه) لأن كل واحد منهما مكيل، ويُشترط في بيع المكيل بجنسه التساوي، وهو متعذِّرٌ هنا؛ لأن أجزاء الحب تنتشر بالطحن، والنار أخذت من السويق (ولا) يصح بيع (دقيق حب) كبُرٍّ (بسويقه) لأن النار قد أخذت من السويق، فهو كبيع

= قال الدارقطني: تفرد به يزيد بن مروان، عن مالك، بهذا الإسناد، ولم يتابع عليه، وصوابه في الموطأ عن ابن المسيب مرسلًا.

وقال البيهقي: ورواه يزيد بن مروان الخلال عن مالك عن الزهري عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم وغلط فيه.

وقال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث يتصل من وجه ثابت من الوجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب

ثم ذكر هذا الحديث المرفوع، وقال: هذا حديث إسناده موضوع، لا يصح عن مالك، ولا أصل له في حديثه.

ولمرسل سعيد بن المسيب شاهد عن سمرة بن جندب رضي الله عنه مرفوعًا: أخرجه الحاكم (2/ 35)، والبيهقي (5/ 296). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، رواته عن آخرهم أئمة حفاظ ثقات، ولم يخرجاه، وقد احتج البخاري بالحسن عن سمرة. ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: هذا إسناد صحيح، ومن أثبت سماع الحسن البصري عن سمرة بن جندب عده موصولًا، ومن لم يثبته، فهو مرسل جيد يضم إلى مرسل سعيد بن المسيب، والقاسم بن أبي بزة، قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

(1)

التمهيد (4/ 322).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (35/ 420)، والمبدع (4/ 135).

ص: 15

الحنطة المقلية بالنيئة.

(ولا) يصح بيع (خبز، وزَلابية

(1)

، وهَريسة

(2)

، وفالوذج

(3)

، ونشأ ونحوها) كسنبوسك

(4)

وحريرة

(5)

(بحبِّه) لأن فيها ماء؛ فلا يتأتَّى العلم بالمماثلة.

(ولا) يصح بيع خبز وما عطف عليه (بدقيقه) أو سويقه (كيلًا، ولا وزنًا) لعدم العلم بالتماثل.

(ولا يصح بيع نِيئهِ بمطبوخه كخبز بعجين، وحنطة مقلية بنيئة) لأخذ النار من أحدهما فتفوت المماثلة.

(ولا) يصح بيع (أصله) أي: أصل ربوي (بعصيره، كزيتون بزيته ونحوه) كسمسم بشَيْرجه، وحب كتان بزيته.

(ولا) بيع (خالصه) بمَشُوبه (أو مَشُوبه بمَشُوبه، كحنطة) خالصة

(1)

الزَّلابية: ضرب من الحلوى يُصنع من الدقيق، ثم يُقلى بالزيت، وتؤكل بالعسل. نهاية الرتبة في طلب الحسبة ص/ 25، والقاموس المحيط ص/ 94، مادة (زلب).

(2)

الهريسة: طعام يُتخذ من البر، بعد أن يُدَق ثم يطبخ. تاج العروس (17/ 27) مادة (هرس).

(3)

الفالوذج: ضرب من الحلوى، يصنع من الدقيق والماء والعسل، فارسي معرب. وتعرف اليوم باسمها الفارسي:(بالوزة) لكنها تصنع الآن من النشاء والماء والسكر. انظر: المعرب للجواليقي ص/ 247، تاج العروس (9/ 454)، ومتن اللغة (4/ 444)، والمعجم الوسيط (2/ 700) مادة (فلذ).

(4)

السنبوسك: (معرب سنبوسه، الفارسية) وهي نوعان: حامض، ينظر في: تذكرة داود (1/ 203)، وقصد السبيل (2/ 158)، ومتن اللغة (3/ 219). وحلو يصنعه أهل الشام من دقيق يُعجن، ثم يخبز قبل أن يختمر [أي: رقاق الكنافة]، ثم يبسونه (يفتونه) بغربال ونحوه، ويضيفون إليه سمنًا، وقد يُزاد عليه العسل أو السكر، أسنى المطالب مع حاشيته (4/ 256)، وانظر: كنز الفوائد في تنويع الموائد ص/ 49.

(5)

الحريرة: الحساء المطبوخ عن الدقيق والدسم والماء. النهاية (1/ 365) مادة (حرر).

ص: 16

أو فيها شعير (بحنطة فيها شعير يقصد تحصيله، أو فيها زوان

(1)

أو تُراب يَظهر أثره) لانتفاء التساوي (إلا اليسير) أي: إذا كان الشعير ونحوه يسيرًا لا يُقصد تحصيله، ولا يَظهر أثره، فلا يمنع الصحة؛ لأنه لا يُخِلُّ بالتماثل.

(ولا يَصح بيع عَسَلٍ) خالص من شمعه، أو فيه شمعه (بعسلٍ فيه شمعه) لعدم العلم بالتماثل.

(ولا) بيع (لَبَنٍ بِكَشْكٍ

(2)

) لأن اللبن فيه مقصود، فهو بيع لبن بلبن، ومع أحدهما غيره (ولا) بيع (حَبٍّ جيد بمُسوِّس) لعدم العلم بالتماثل.

(بل) يصح بيع الحَب الجيد (بخفيف وعتيق) من جنسه إذا تساويا كيلًا؛ لأنهما تساويا في معيارهما الشرعي، فلا يؤثّر اختلافهما في القيمة.

(ولا) يصح بيع (رطبه) أي: رطب جنس ربوي (بيابسه، كـ) ــبيع (الرُّطب بالتمر، والعنب بالزبيب، والحنطة المبلولة أو الرَّطْبة باليابسة) لحديث سعد بن أبي وقاص: "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئل عن بيع الرُّطب بالتَّمرِ؟ فقال: أيَنْقُصُ الرُّطب إذا يَبِسَ؟ قالوا: نعم. فنهى عن ذلك". رواه مالك وأبو داود

(3)

. فعلل بالنقصان إذا يبس، وهذا موجود في كل

(1)

الزوان: حب يُخالط البُر فيكسبه الرداءة، وأهل الشام يسمونه الشَّيْلم، وفيه لغات: ضم الزاى مع الهمزة (زُؤان)، وكسر الزاي مع الواو الواحدة (زِوَان). المصباح المنير ص/ 354 مادة (زون).

(2)

الكَشْك: على وزن فَلْس طعام يُتخذ من البر أو الشعير بعد أن يُهرس حتى يُنقى من القشر، ثم يُجشُّ ويُغلى في المخيض (اللبن) إلى أن يخثر، فيُجفف. النظم المستعذب (2/ 204).

(3)

مالك في الموطأ (2/ 624)، وأبو داود في البيوع، باب 18، حديث 3359. وأخرجه - أيضًا - الترمذي في البيوع، باب 14، حديث 1225، والنسائي في البيوع، =

ص: 17

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= باب 36، حديث 4559، 4560، وفي الكبرى (4/ 22) حديث 6136، 6137، وابن ماجه في التجارات، باب 53، حديث 2264، والطيالسي ص/ 29، حديث 214، والشافعي في الرسالة ص/ 331 حديث 907، وفي مسنده (ترتيبه 2/ 159)، وفي اختلاف الحديث ص/ 262، وعبد الرزاق (8/ 32) حديث 14185، 14186، والحميدي (1/ 41) حديث 75، وابن أبي شيبة (6/ 182، 14/ 204)، وأحمد (1/ 175، 179)، والدورقي في مسند سعد ص/ 187، حديث 111، والبزار (4/ 66) حديث 1233، وابن الجارود (2/ 230) حديث 657، وأبو يعلى (2/ 68) حديث 712، 713، والطحاوي (4/ 6)، وفي شرح مشكل الآثار (15/ 467 - 470) حديث 6161 - 6167، والشاشي (1/ 206 - 207)، حديث 161 - 163، وابن حبان "الإحسان"(11/ 372) حديث 4997، والدارقطني (3/ 49)، والحاكم (2/ 38، 43)، والبيهقي (5/ 294 - 295)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 211)، وابن عبد البر في التمهيد (19/ 171، 172)، والبغوي في شرح السنة (8/ 78) حديث 2068، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 172)، والضياء في المختارة (3/ 155 - 156) حديث 951 - 954، والمزي في تهذيب الكمال (10/ 102) من طريق عبد الله بن يزيد، عن زيد أبي عياش، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال ابن الملقن في البدر المنير (6/ 478): هذا الحديث صحيح.

وضعفه ابن حزم في المحلى (8/ 462، 465، 466) بزيد أبي عياش، وقال: هو رجل مجهول، لا يدرى من هو.

قال الخطابي في معالم السنن (3/ 78): قد تكلم بعض الناس في إسناد حديث سعد بن أبي وقاص، وقال: زيد أبو عياش راويه ضعيف. ثم قال: وليس الأمر على ما توهمه، وأبو عياش معروف، ذكره مالك في الموطأ؛ وهو لا يروي عن رجل متروك الحديث بوجه، وهذا من شأن مالك وعادته معلوم.

وقال المنذري في تهذيب السنن (5/ 34): وقد حكي عن بعضهم أنه قال: زيد أبو عياش مجهول. وكيف يكون مجهولًا وقد روى عنه اثنان ثقتان: عبد الله بن يزيد وعمران بن أبي أنس، وقد عرفه أئمة الشأن؛ هذا الإمام مالك قد أخرج حديثه في =

ص: 18

رُطب بِيع بيابسه (إلا) في (العرايا. ويأتي) قريبًا؛ فيصح بيع الرُّطب بالتمر فيها بشروطه.

(ويصح بيع دقيقهِ بدقيقهِ كَيْلًا إذا استويا في النعومة) فإن اختلفا في النعومة، لم يصح البيع، لعدم التساوي، وإن اختلف جنس الدقيقين، صحَّ كيف تراضيا عليه يدًا بيد.

(و) يصح بيع (مطبوخِه) أي: مطبوخ جنس ربوي (بمطبوخه) كخبز بخبز، إذا استويا، وكسَمْن بسمن (ولا تَمنعُ زيادةُ أخْذِ النار من أحدِهما أكثرَ من الآخر إذا لم يكثُرْ) أخذ النار من أحدهما؛ لأنه لا يمنع من التساوي، فإن كَثُرَ مَنَعَ الصحة؛ لعدم التساوي (وما فيه) أي: في المطبوخ (من الملح والماء غير مقصود، لا يَضُرُّ) أي: لا يمنع الصحة (كالملح في الشَّيْرج) فلا يصير كبيع مُدِّ عجوة ودرهم

(1)

؛ لعدم قَصْدِ الماء والملح.

(فإن يَبِسَ الخبزُ ودُقَّ وصار فَتيتًا، بِيعَ بمثله) في اليبوسة والدِّقة

= موطئه مع شدة تحريه في الرجال ونقده.

وقال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 55): أعله بعضهم بما لو سكت عنه كان أولى.

وذكره ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 9) وقال: وقد أعله جماعة منهم الطحاوي والطبري وأبو محمد بن حزم وعبد الحق كلهم أعله بجهالة حال زيد أبي عياش، والجواب أن الدارقطني قال: إنه ثقة ثبت.

وأبو عياش هذا ذكره ابن حبان في الثقات (4/ 251)، وقال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال (2/ 105): صالح الأمر.

وصحح الحديث - أيضًا - ابن المديني، وابن خزيمة، وابن حبان كما في بلوغ المرام ص/ 279.

(1)

في "ح" زيادة: "بمد عجوة ودرهم".

ص: 19

(كيلًا) لأنه بالدَّق انتقل من الوزن إلى الكيل.

(فإن كان فيه) أي: في المطبوخ (من غيره من فروع الحِنطة مما هو مقصودٌ كالهريسة والحَريرة والفالوذج وخُبز الأبازِير

(1)

) فلا يجوز، أي: الخبز المضاف إليه الأبازير المقصودة؛ لا اليسيرة التي لا تُقصد؛ كما تقدم. (والخُشْكَنانك

(2)

، والسنبوسك

(3)

ونحوه) كالكعك (فلا يجوز بيعُ بعضِه ببعض) كبيع هَريسة بهريسة؛ لأنه من مسألة مُدِّ عَجوة ودرهم، وتأتي.

(ولا) يصح أيضًا (بيعُ نوعٍ منه بنوعٍ آخر) كبيع خبز بهَريسة، أو هَريسة بحَريرة، أو سنبوسكة بخُشْكَنانكة لما تقدم.

(ويجوز بيع الرُّطَب) بمثله متساويًا (و) بيع (العنب) بمثله متساويًا (و) بيع (اللِّبَأ) بمثله متساويًا. واللِّبأ بوزن عنب مهموزًا: أول اللبن في النتاج، ذكره في "الحاشية". (و) بيع (الأقِط) بمثله متساويًا (و) بيع (الجُبن) بمثله متساويًا (و) بيع (السمن ونحوه بمثله متساويًا) لما تقدم

(والتساوي بين الأقِطِ والأقِط) بالكيل (وبين الرُّطب والرُّطب بالكيل) لأنه معيارهما الشرعي.

(و) التساوي (بين الجُبن والجُبن بالوزن؛ لأنه لا يمكن كَيْله، وكذلك) العِنب و (الزُّبْدُ والسمن) فهي موزونة؛ لأنه لا يمكن كيلها

(1)

تقدم التعريف بها (4/ 394).

(2)

الخُشْكَنانك: ويقال: الخُشْكَنان: خالص دقيق الحنطة إذا عجن بسمن وبُسط وملئ بالسكر واللوز أو الفستق وماء الورد وخُبِزَ. فارسي معرب، معناه: الخبز اليابس، تكلمت به العرب قديمًا. تذكرة داود (1/ 140)، وقصد السبيل (1/ 459)، ومتن اللغة (2/ 280)، والمعجم الوسيط (1/ 236)

(3)

تقدم تعريفه (8/ 16).

ص: 20

(قلت: ومثله العَجوة إذا تجَبَّلت فتصير من الموزون) لأنه لا يمكن كيلها.

(ويصح بيع خُبز) حبٍّ كبُرٍّ (بخُبزه) إذا تساويا (و) بيع (نشائه بنشائه إذا استويا في النَّشاف، أو الرُّطوبة، وزنًا متساويًا) فإن اختلفا لم يصح؛ للتفاضل.

(وفي "المُبْهج": لا يجوز بيع فَطير بخمير) ولعلَّ مراده إذا لم يتساويا في النَّشاف أو الرُّطوبة، فيوافق كلام الأصحاب.

(ويصح بيعُ عصيرِ جنسٍ بعصيرِه) كعصير عنب بعصير عنب (ولو مطبوخين) إذا استويا كما تقدم، فإن كان أحدُهما مطبوخًا دون الآخر، لم يصح البيع، كما تقدم.

(و) يصح بيع (رَطْبه برَطْبه) بسكون الطاء، أي: رَطْب جنس ربوي برَطْبه (من عنبٍ، ورُطَبٍ ونحوهما) كمشمش، وتوت بيع بمثله من جنسه متساويًا.

(ولا يصح بيع زُبْدٍ بسمن) لأنه كبيع مشوب بخالص؛ لفوات التساوي (ويجوزان) أي: يجوز بيع الزُّبْد والسمن (بمَخِيض

(1)

) يدًا بيد؛ لاختلاف الجنس، و (لا) يجوز بيع سمن أو زُبْد (بلَبَنٍ) لأنه أصلهما، ولا يُباع فرع بأصله كما تقدم.

(و) لا يبيع السمن، أو الزُّبْد بـ (ــفروعه) أي: فروع اللبن (كاللِّبأ ونحوه) من جُبْن، أو أقِطٍ ونحوه.

(ولا) يصح (بيعُ لبنٍ بمخيض) لأن المخيض فرع اللبن.

ولا يصح بيع أصلٍ بفرعه (أو جامد) أي: لا يصح بيع لَبَنٍ بلَبَن جامد؛ لعدم طريق العلم بالتساوي (أو) أي: لا يصح بيع لبن

(1)

تقدم التعريف به (8/ 13) تعليق رقم (1).

ص: 21

بـ (ــمصْلٍ

(1)

، أو جُبن، أو أقِط) لأنه بيع أصل بفرعه.

(ولا يصح بيع المُحَاقلة) لقول أنس: "نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن المحاقَلَة" رواه البخاري

(2)

، والنهي يقتضي التحريم والفساد.

(وهو) أي: بيع المُحاقلة (بيعُ الحبّ المشتدّ في سنبله بحبٍّ من جنسه) لأن الحب إذا بِيع بجنسه لا يُعلم مقداره بالكيل، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.

والمُحاقلة: من الحقل، وهو الزرع إذا تشعَّب قبل أن تغلظ سوقه.

(ويصح) بيع الحَبِّ المشتدِّ في سنبله (بغير جنسه مكيلًا كان، أو غيره) لأنه إذا اختلف الجنس جاز البيع كيف شاء المتبايعان يدًا بيد.

(ولا) تصح (المُزابنة) لقول ابن عمر: "نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن المُزابنة" متفق عليه

(3)

.

(وهي) أي المُزابنة: (بيع الرُّطَب في رؤوس النخل بالتمر).

والزبْنُ لغةً: الدفع الشديد، ومنه وُصِفت الحرب بالزبون؛ لشدة الدفع فيها. وسُمِّي الشرطيُّ زبينًا؛ لأنه يدفع الناس بشدة وعنف.

(إلا في العَرايا التي رخَّص فيها) أي: رخَّص فيها صلى الله عليه وسلم. رواه أبو هريرة

(4)

، وزيد بن ثابت

(5)

، وسهل بن أبي

(1)

المَصْل: عُصارة الأقط، وهو ماؤه الذي يعصر منه حين يُطبخ. المصباح المنير ص/ 789، مادة (مصل).

(2)

في البيوع، باب 93، حديث 2207.

(3)

البخاري في البيوع، باب 75، 81، 91، حديث 2171، 2172، 2185، 2205، ومسلم في البيوع، حديث 1542.

(4)

أخرجه البخاري في البيوع، باب 83، حديث 2190، وفي المساقاة، باب 17، حديث 2382، ومسلم في البيوع، حديث 1541.

(5)

أخرجه البخاري في البيوع، باب 75، 82، 84، حديث 2173، 2184، 2188، =

ص: 22

حثمة (1)، متفق عليه.

(وهي) أي: العرايا: جمع عَريَّة. قال الجوهري

(2)

: العَريَّة: النخلة يعريها رجلًا محتاجًا، فيجعل ثمرها له عامًا، فَعِيلة بمعنى مفعولة. وقال أبو عبيد

(3)

: هي اسم لكل ما أفرد عن جملة سواء كان للهبة، أو للبيع، أو الأكل. وقيل: سُمِّيت به؛ لأنها مُعرَّاة من البيع المحرَّم، أي: مُخْرَجة منه (بيع الرُّطب في رؤوس النخل) لأن الرُّخصة وردت في بيعه على أصوله للأخذ شيئًا فشيئًا لحاجة التفكُّه. رُوي عن محمود بن لبيد قال: قلت لزيد: ما عراياكم هذه؟ فسمَّى رجالًا محتاجين من الأنصار شكَوْا إلى النبي صلى الله عليه وسلم "أنَّ الرطب يأتي، ولا نَقْدَ بأيْديهم يتبايعون به رُطَبًا، وعندهم فضولٌ من التَّمْر، فرخَّص لهم أن يتبايعوا العَرايَا بِخَرْصِها من التّمْر الذي في أيْديهم يأكلونه رُطَبًا" متفق عليه

(4)

.

= 2192، وفي المساقاة، باب 17، حديث 2380، ومسلم في البيوع، حديث 1539 (64).

(1)

أخرجه البخاري في البيوع، باب 83، حديث 2191، وفي المساقاة باب 17، حديث 2383، 2384، ومسلم في البيوع، حديث 1540 (70).

(2)

الصحاح (6/ 2423، 2424) مادة: (عرا).

(3)

انظر: غريب الحديث (1/ 231، 293)، والمطلع ص/ 241.

(4)

لم نقف عليه في الصحيحين. وذكره ابن قدامة في الكافي (3/ 94) وعزاه للصحيحين أيضًا، وتعقبه ابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 543) بقوله: وهو وَهْم، فإن هذا الحديث لم يخرَّج في الصحيحين، ولا في السنن، وليس لمحمود بن لبيد رواية عن زيد في شيء من الكتب الستة. قال شيخنا الحافظ [أبو الحجاج المزي]: بل وليس هذا الحديث في مسند أحمد ولا في السنن الكبير للبيهقي، وقد فتَّشت عليه في كتب كثيرة فلم أره مسندًا، وقد ذكره الشافعي في كتاب البيوع، في باب بيع العرايا [(الأم 3/ 54)] بلا إسناد.

وقال ابن الملقن في البدر المنير (6/ 588): وهو عجيب، فإنه ليس في الصحيحين =

ص: 23

(خَرْصًا بمآله): أي: بما يؤول إليه الرّطب (يابسًا) لا أقل ولا أكثر؛ لأن الشارع أقام الخَرْصَ مقامَ الكيل؛ فلا يُعدل عنه، كما لا يُعدل عن الكيل فيما يُشترط فيه الكيل.

(بمثله عن التَّمْر) فلا يجوز بيعها بخَرْصها رُطبًا، ولا بزيادة عن خَرْصها أو نقص منه (كَيْلًا) أي: يكون التمر المُشترى يه كيلًا (معلومًا لا جزافًا) لقوله في الحديث: "رخَّص في العرايا أن تُباع بخَرْصها كَيْلًا"

(1)

.

ولأن الأصل اعتبارُ الكيل من الجانبين، سقط في أحدهما، وأُقيم الخَرْصُ مقامه للحاجة، فيبقى الآخر على مقتضى الأصل.

(فيما دونَ خمسةِ أوسُق) لقول أبي هريرة: "إن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص في العرايا أن تُباع بخَرْصِها فيما دون خمسة أوْسُق، أو خمسةِ أوْسُقٍ" متفق عليه

(2)

، شك داود بن الحصين؛ أحدُ رواته، فلا يجوز في الخمسة؛ لوقوع الشك فيها.

(لمن به حاجة إلى أكل الرُّطَب) لما تقدم من الحديث، وما جاز

= ولا في السنن، نعم أخرجه الشيخان [البخاري 2173، ومسلم 1539] من حديث زيد بن ثابت، بلفظ: أنه صلى الله عليه وسلم رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرًا يأكلونها رطبًا. وفي لفظ: رخص في العرايا أن تُباع بخرصها كيلًا.

وقال الحافظ في الفتح (4/ 393): وقال ابن المنذر: هذا الكلام لا أعرف أحدًا ذكره غير الشافعي، وقال السبكي: هذا الحديث لم يذكر الشافعي إسناده، وكل من ذكره إنما حكاه عن الشافعي، ولم يجد البيهقي في المعرفة [8/ 100 حديث 11273] له إسنادًا قال: ولعل الشافعي أخذ من السير - يعني سير الواقدي - قال: وعلى تقدير صحَّته، فليس فيه حجة لتقييد بالفقير؛ لأنه لم يقع في كلام الشارع، وإنما ذكره في القصة، فيحتمل أن تكون الرخصة وقعت لأجل الحاجة المذكورة، ويحتمل أن يكون للسؤال، فلا يتم الاستدلال مع إطلاق الأحاديث المنصوصة من الشارع.

(1)

تقدم تخريجه (8/ 22) تعليق رقم (4، 5).

(2)

تقدم تخريجه (8/ 22) تعليق رقم (4).

ص: 24

للحاجة لا يجوز عند عدمها؛ كالزكاة للمساكين.

(ولا نَقْدَ معه) أي: مع المشتري؛ لما تقدَّم في حديث زيد

(1)

(فيصحُّ) بيع العرايا بهذه الشروط.

(ولو كان ثمر النَّخْل) أي: الرُّطب الذي على رؤوس النخل (غير موهوب لبائعه) أي: لا يُشترط في العرية أن تكون موهوبة لبائعها، خلافًا للخرقي وصاحب "التلخيص".

(فإن كان) الرُّطب في العَريَّة، وفي نسخ:"فإن كانت"، أي: العَريَّة (خمسة أوسق فأكثر، بطل) اليع (في الجميع) لما تقدم من حديث أبي هريرة.

(ويُشترط فيها) أي: في العرايا

(2)

(حُلولٌ وقَبْضٌ من الطرفين في مجلس بيعها، فـ) ــالقبض (في نخلٍ بتخليته) أي: تخلية البائع بين المشتري وبينه (و) القبض (في تمرٍ بكيله) لما تقدم.

(ولو سَلَّم أحدُهما) ما عليه (ثم مَشَيا معًا إلى الآخر، فتسلَّمه، صحَّ) البيع؛ لعدم التفرق قبل القبض.

(ولو باع رجلٌ عاريَّةً من رَجُلين فأكثر فيها) أي: في العريَّة (أكثر من خمسة أوسُق، جاز) البيع، حيث كان ما أخذه كلُّ واحد دون خمسة أوسق (فلا يتقيَّد) البيع (في حقِّ البائع بخمسة أوسُق) بل يتقيد في حقِّ المشتري.

(وإن اشترى) إنسان (عَريتين فأكثر من رجلين فأكثر، وفيهما أقل من خمسة أوسُق، جاز) البيع؛ لوجود شَرْطه، وإن كان فيهما خمسة

(1)

تقدم تخريجه (8/ 23) تعليق رقم (4).

(2)

في "ذ": "العرية".

ص: 25

أوسق فأكثر لم يجز.

(ولا يجوز بيع العرِيَّة لغنيٍّ) معه نَقْدٌ يشتري به؛ لمفهوم ما تقدم.

(ولو باعها) أي: العرية (لواهبها تحرُّزًا من دخول صاحب العَرية، أو) من دخول (غيره لا لحاجة الأكل) لم يجز لما سبق.

(أو اشتراها) أي: العرية (بـ) ـــمثل (خَرْصها رُطَبًا، لم يجز) لما سبق.

(ولو احتاج) إنسان (إلى أكل التمر، ولا ثمن معه إلا الرُّطب، لم يبعه به) أي: بالتمر (فلا تُعتبر حاجة البائع) لأن الرُّخصة لا يُقاس عليها، وقال أبو بكر والمجد بجوازه، وهو بطريق التنبيه؛ لأنه إذا جاز مخالفة الأصل لحاجة التفكُّهِ، فلِحاجة الاقتياتِ أَولى، والقياس على الرُّخصة جائزٌ إذا فُهمت العلة.

(ولا يُباع الرُّطب الذي على الأرض بتمر) للنهي عنه كما سبق

(1)

.

(ولا تصح في سائر الثمار) اقتصارًا على مورد النص، وغيرها لا يساويها في الحاجة، وفي الترمذي من حديث رافع، وسهل مرفوعًا:"أنه نهى عن المُزابَنَة: الثَّمر بالتمر، إلا أصحاب العَرايا، فإنه قد أذن لهم. وعن بيع العنب بالزبيب"

(2)

.

(ولا يصح بيعُ ربوي بجنسه، ومع أحدهما أو معهما) أي: الثمن والمثمن (من غير جنسهما كمُدِّ عجوة ودرهمٍ بمثلهما) أي: بمُدِّ عَجوة

(1)

تقدم تخريجه (8/ 17) تعليق رقم (3).

(2)

الترمذي في البيوع، باب 64، حديث 1303، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

وهو عند البخاري في المساقاة، باب 17، حديث 2383، 2384، ومسلم في البيوع، حديث 1540 (70)، دون قوله:"وعن بيع العنب بالزبيب".

ص: 26

ودرهم، ولو كان الدرهمان والمُدَّان من نوع واحد (أو بمُدَّين) من عَجوة (أو بدرهمين) نص عليه

(1)

، وتُسمَّى مسألة مُدّ عَجوة ودرهم، ولو كان الدرهمان والمُدَّان من نوع؛ لما روى فضالة بن عبيد قال:"أُتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها خَرَزٌ وذهبٌ ابتاعها رجُلٌ بتسعة دنانير أو سبعة، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لا، حتى تميِّز ما بينهما، قال: فرَدَّهُ" رواه أبو داود

(2)

. وفي لفظ لمسلم: "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بالذهب الذي في القلادة فنُزعَ وحده، ثم قال لهم: الذهبُ بالذهب وزْنًا بوزْنٍ"

(3)

.

وللأصحاب في توجيه البطلان مأخذان:

أحدهما، وهو مأخذ القاضي وأصحابه: أن الصفقة إذا جَمعت شيئين مختلفي القيمة انقسم الثمن على قَدْر قيمتهما، كما لو اشترى شِقْصًا وسيفًا، فإن الشفيع يأخذ الشِّقْص بقِسطه منه. وهذا يؤدِّي هنا: إما إلى العلم بالتفاضل، أو إلى الجهل بالتساوي، وكلاهما يُبطِل العقد؛ فإنه إذا باع درهمًا ومُدًّا يساوي درهمين بمُدَّين يساويان ثلاثة دراهم، كان الدرهم في مقابلة ثُلثي مُدّ، ويبقى مُدٌّ في مقابلة مُدٍّ وثُلث؛ وذلك ربًا. فلو فُرض التساوي كمُدٍّ يساوي درهمًا ودرهم بمُدٍّ يساوي درهمًا ودرهم، لم يجز؛ لأن التقويم ظنٌّ وتخمين، فلا يتحقَّق معه المساواة،

(1)

كتاب الروايتين والوجهين (1/ 321، 323)، وانظر: مسائل عبد الله (3/ 911) رقم 1228، ومسائل الكوسج (6/ 2865) رقم (2085).

(2)

في البيوع والإجارات، باب 13، حديث 3351. وأخرجه - أيضًا - الطيالسي ص/ 136، حديث 1011، وابن أبي شيبة (6/ 55، 14/ 258)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/ 133)، حديث 2111، والطحاوي (4/ 72)، وفي شرح مشكل الآثار (15/ 379) حديث 6096، والطبراني في الكبير (18/ 302) حديث 775، والبيهقي (5/ 293).

(3)

مسلم في المساقاة، حديث 1591.

ص: 27

والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل. وضعَّف هذه الطريقة ابن رجب

(1)

، قال: لأن التقسيم هو قسمة الثمن على قيمة المثمن، لا أجزاء أحدهما على قيمة الآخر.

والمأخذ الثاني: سَدُّ ذريعة الربا؛ لئلا يُتخذ ذلك حيلة على الربا الصريح، كبيع مائة درهم في كيس بمائتين، جعلًا للمائة في مقابلة الكيس، وقد لا يساوي درهمًا. وفي كلام الإمام إيماء إلى هذا المأخذ

(2)

.

(ولو دفع إليه) أي: إلى آخَرَ: (درهمًا، وقال: أعطني بنصف هذا، الدرهم نصف درهم، وبنصفه الآخر فلوسًا، أو حاجة)، كخبز ونحوه، جاز.

(أو) دفع إليه درهمًا، وقال:(أعطني بالدرهم نصفًا وفلوسًا ونحوه) كما لو دفع درهمين وقال: أعطني بأحدهما لحمًا، وبالآخر نصفين، ففعل (جاز) وصَحَّ.

(كما لو دفع إليه درهمين وقال: أعطني بهذا الدرهم فلوسًا، وبالآخر نصفين

(3)

) وفعل، فإنه يجوز؛ لوجود التساوي، ولأن ذلك بمنزلة عقدين، أحدهما: صرف نصف الدرهم بنصف الدرهم، أو صرف الدرهم بنصفين. والآخر: بيع الفلوس أو الحاجة بالنصف أو الدرهم الآخر، فليس من مسألة مُدِّ عجوة.

(وإن باع نوعي جنسٍ) بنوع منه، أو نوعين، جاز، كتمرٍ مَعْقِلي

(1)

القواعد الفقهية، القاعدة الثالثة عشر بعد المائة ص/ 267.

(2)

كتاب الروايتين والوجهين (1/ 322، 323)، وانظر: مجموع الفتاوى (29/ 27).

(3)

في "ذ" زيادة: "صرف نصف".

ص: 28

وإبراهيمي بِبَرْني، أو بِبَرْني وصَيْحاني، مِثْلًا بمِثْل، يدًا بيد.

(أو) باع (نوعًا بنوع منه) أي: من جنس واحد (أو) باع نوعًا بـ (ــنوعين) من جنس (كدينار قُراضَةً. وهي قطع ذهب أو فضة. بـ) ــدينار (صحيح.

أو) باع (قُراضةً وصحيحًا بصحيحين، أو بقُراضَتين، أو حنطة حمراء وسمراء ببيضاء، أو تمرًا بَرْنيًّا ومَعْقِليًّا بإبراهيمي ونحوه، صحَّ) البيع في هذه الصور وما أشبهها؛ لأن الشارع اعتبر المِثْلية في ذلك، فدلَّ على الإباحة عندها؛ وهي في الموزون وزنًا، وفي المكيل كيلًا، والجودة ساقطة هنا؛ أشبه ما لو اتفق النوع.

(وما لا يُقصدُ عادةً، ولا يُباع مُفرَدًا، كذهبٍ مُموَّهٍ به سقفُ دار) كالمعدوم (فيجوز بيع الدار) المُموَّه سقفها بذهبٍ (بذهبٍ وبدارٍ مِثْلها) سقفها مُموَّه بذهب؛ لأن الذهب في السقف غير مقصود، ولا مقابل بشيء من الثمن.

(وكذا ما لا يؤثِّر في كيل، أو وزن فيما بيع بجنسه لكونه يسيرًا، كالملح فيما يُعمل فيه) كخبز، وجُبن (وحبات الشعير في الحنطة، ولو) كان (في أحدِهما دون الآخر) لأنه غير مقصود؛ فيجوز بيع رغيف برغيف مثله، ورطل من جُبن برطل من جُبن.

(وكذا إن كان غيرُ المقصود كثيرًا؛ إلا أنه لمصلحة المقصود، كالماء في خَلِّ التمر، و) خَلِّ (الزّبيب، ودِبْس التمر، فلا يُمنع بيعُه) أي: ما ذكر من الخل والدبس (بمثلِه) فيجوز بيع خَلِّ التمر بخلِّ التمر، وخلِّ الزبيب بخَلِّ الزبيب، ودبس التمر بدبس التمر، مثلًا بمِثْل، يدًا بيد. ولا أثر لما فيه من الماء؛ لأنه غير مقصود.

ص: 29

و (لا) يجوز (بيعه) أي: خَلّ الزبيب (بخَلِّ العنب، لأنه كبيع التمر بالرُّطب) وهو غير جائز كما تقدم

(1)

.

(وإن كان غيرُ المقصود كثيرًا، وليس من مصلحته) أي: مصلحة ما أُضيف إليه (كاللَّبن المَشوب بالماء) إذا بيع (بمثله، والأثمان المغشوشة) إذا بيعت (بغيرها) أي: بأثمان خالصة من جنسها (لم يجز) للعلم بالتفاضل.

(وإن باع دينارًا) أو درهمًا (مغشوشًا بمثله) أي: بدينار، أو درهم مغشوش (والغِشُّ فيهما) أي: في الثمن والمثمن (متفاوتٌ، أو غير معلومِ المقدار لم يجز) لأن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.

(وإن علم التساوي في الذهب) الذي في الدنانير

(2)

(و) علم تساوي (الغش الذي فيهما، جاز) بيع أحدهما بالآخر (لتماثلهما في المقصود) وهو الذهب (أو) لتماثلهما (في غيره) أي: الغش. وليست من مسألة مُدِّ عَجوة (لكون الغش غيرَ مقصود؛ فكأنه لا قيمة له) كالملح في الخبز على ما تقدم.

(قال في "الرعاية": وكذا - يعني: ما لا يُقصد عادةً - ثوبٌ طِرازه ذهبٌ، لا يُمنع من البيع بجنسه) أي: بثوب طرازه ذهب (ولا) يُمنع (بيع نخلةٍ عليها رُطبٌ) أو تمر (بمثلها) أي: بنخلة عليها رُطبٌ أو تمر (أو) بيع نخلة عليها رُطب أو تمر (برُطب) أو تمر. (ويأتي بيع العبد ذي المال آخر باب بيع الأصول) والثمار.

(ولا يصح بيع تمر منزوعِ النَّوى بما) أي: بتمر (نواه فيه؛ لاشتمال أحدِهما على ما ليس من جنسه، وكذا إن نَزَع النوى) من التمر

(1)

(8/ 17).

(2)

في "ح" و"ذ": "الدينارين".

ص: 30

(ثم باع النوى والتمرَ المنزوعَ نواه، بنوىً وتمرٍ، لم يصح) البيع؛ لأن التبعية قد زالت، فصار كمسألة مُدِّ عجوة.

(وإن باع) تمرًا (منزوعَ النَّوى بـ) ــتمر (منزوعِ النَّوى، جاز) البيع للتساوي، كما لو كان في كل واحد منهما نواه.

(ويصح بيع نوىً بتمر فيه نوىً متساويًا ومتفاضلًا) لأن النوى في التمر غير مقصود، أشبه ما لو باع دارًا - مُوِّهَ سقفها بذهب - بذهب.

(و) يصح بيع (لبنٍ بشاةٍ ذات لبن. و) بيع (صوف بنعجة عليها صوف، حية كانت) النعجة (أو مُذكَّاة) لأن اللبن في الشاة والصوف عليها غير مقصود، كالنَّوى في التمر.

(و) يصح بيع (درهم فيه نُحاسٌ بنُحاسٍ) لأن النُّحاس في الدرهم غير مقصود (أو) أي: ويصح بيع درهم فيه نُحاس (بمثله) أي: بدرهم فيه نُحاس (متساويًا) أي: إذا تساوى ما فيهما من الفضة والنُّحاس؛ لكون النحاس فيهما غير مقصود.

(و) يصح بيع (ذات لَبَنٍ) بذات لَبَنٍ (أو) ذات (صوف بمثلِها) لأن الصوف واللبن فيها غير مقصود، أشبه الملح في الخبز أو الشَّيْرج

(1)

.

ويصح بيع تراب معدن وصاغة بغير جنسه.

(ومرجع الكيل: عُرْفُ المدينة) على عهد النبي صلى الله عليه وسلم (و) مرجع (الوزن: عُرْف مكة، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) لما روى عبد الملك بن عمير

(2)

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المكيالُ مكيالُ المدينة، والميزانُ ميزانُ

(1)

تقدم التعريف به (4/ 393).

(2)

كذا في الأصول: "عبد الملك بن عمير" والصواب "عبد الله بن عمر" - رضي الله =

ص: 31

مكة"

(1)

. وكلامه صلى الله عليه وسلم إنما يُحمل على تبيين الأحكام، فما كان مكيلًا

= عنهما - كما في المغني (6/ 72)، والشرح الكبير (12/ 91)، ومصادر التخريج.

(1)

أخرجه أبو داود في البيوع والإجارات، باب 8، حديث 3340، والنسائي في الزكاة، باب 44، حديث 2519، وفي البيوع، باب 54، حديث 4608، وفي الكبرى (2/ 4، 29/ 35) حديث 2299، 6185، وفي الإغراب للنسائي ص/ 123، حديث 58، وأبو عبيد في الأموال ص/ 520، حديث 1605، وفي غريب الحديث (3/ 40)، وعبد بن حميد (2/ 35) حديث 801، والفاكهي في أخبار مكة (3/ 159) حديث 1917، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (3/ 288) حديث 1252، وابن الأعرابي في معجمه (2/ 826) حديث 1702، والطبراني في الكبير (12/ 300) حديث 13449، وأبو نعيم في الحلية (4/ 20)، وابن حزم في المحلى (11/ 353)، والبيهقي (6/ 31)، والبغوي في شرح السنة (8/ 69) حديث 2063، من طريق الفضل بن دُكين، ومحمد بن يوسف الفريابي، وإسماعيل بن عمر، عن الثوري، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن طاوس، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وقد صححه ابن حبان والدارقطني كما في فيض القدير (6/ 374)، وابن حزم، وقال النووي في المجموع (6/ 4): رواه أبو داود والنسائي بأسانيد صحيحة على شرط البخاري ومسلم. وقال ابن دقيق العيد في الإمام كما في البدر المنير (5/ 562): رجاله رجال الصحيح. وصححه العلائي كما في فيض القدير (6/ 374)، وقال ابن الملقن في البدر المنير (5/ 562): هذا الحديث صحيح

ورجاله رجال الصحيح من سفيان إلى آخره. وذكره السيوطي في الجامع الصغير (6/ 374 مع الفيض) ورمز لحسنه.

وأخرجه البزار "كشف الأستار"(2/ 85) حديث 1662، وابن حبان "الإحسان"(8/ 77) حديث 3238، والبيهقي (6/ 31) من طريق أبي أحمد الزبيري، عن الثوري، عن حنظلة، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ولفظ البزار والبيهقي: المكيال مكيال أهل مكة، والميزان ميزان أهل المدينة!

وعند ابن حبان: الوزن وزن مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة.

وقد اختلف أهل العلم في تصحيح هذه الرواية، فرجَّح أبو حاتم الرازي هذا الوجه، قال كما في العلل لابنه (1/ 374): أخطأ أبو نعيم في هذا الحديث، والصحيح: عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، حدثني أبي، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال: =

ص: 32

بالمدينة في زمنه صلى الله عليه وسلم انصرف التحريم بتفاضل الكيل إليه، فلا يجوز أن يتغير بعد ذلك، وهكذا الموزون.

(وما لا عُرْف له بهما) أي: بمكة والمدينة (اعتُبر عُرفُه في موضعه) لأن ما لا حدَّ له في الشرع يُرجع فيه إلى العُرف، كالحرز والقبض.

(فإن اختلفت البلادُ) التي هي مواضعه (اعتُبر الغالبُ) منها (فإن لم يكن) غالب (رُدَّ إلى أقرب الأشياء به شبَهًا بالحجاز) لأن الحوادث تُردُّ إلى أشبه المنصوص عليه بها.

وقوله: (فإن تعذَّر) ردُّه إلى أقرب الأشياء به شَبَهًا بالحجاز (رُجع إلى عُرْف بلده) مبنيٌّ على الوجه الثاني في أن ما لا عُرْف له بمكة والمدينة، يُردُّ إلى أقرب الأشياء به شَبَهًا بالحجاز، كما نقله في "الإنصاف" عن "الحاوي" وغيره، وليس مبنيًا على المذهب؛ لأن ردّه إلى ذلك على المذهب إنما هو إذا لم يكن له عُرْف بلده.

(والبُرُّ والشعير مكيلان) وكذا الأقِط (وكذا الدقيق، والسويق، وسائر الحبوب، والأبازير

(1)

، والأشنان، و) كذا (الجِصُّ والنُّورة) ويأتي

= قال لي أبو أحمد: أخطأ أبو نعيم فيما قال: عن ابن عمر.

ورجَّح عدد من الأئمة الوجه الأول: قال أبو داود (4/ 117) - تحقيق: محمد عوامة -: وقال أبو أحمد - وأخطأ - عن ابن عباس، مكان ابن عمر.

وقال الطبراني، كما في سنن البيهقي: هكذا رواه أبو أحمد فقال: "عن ابن عباس"، فخالف أبا نعيم في لفظ الحديث، والصواب: ما رواه أبو نعيم بالإسناد واللفظ.

وقال الدارقطني في العلل، كما في البدر المنير لابن الملقن (5/ 563): الصحيح حديث ابن عمر، قال: ورواه الفريابي عن الثوري، وخالفه في المتن، فقال:"المكيال مكيال أهل مكة، والوزن وزن أهل المدينة" والصحيح اللفط الآخر.

وقال ابن كثير في "إرشاد الفقيه"(2/ 19): والصواب: حديث ابن عمر.

(1)

تقدم التعريف بها (4/ 394).

ص: 33

في السَّلَم أنه يُسلَم فيهما وزنًا (ونحوها) أي: نحو الجص والنُّورة.

(وكذا التمر والرطب والبُسر) وباقي ثمر النخل (وسائر ما يجب فيه الزكاة من الثمار، مثل: الزبيب، والفستق، والبندق، واللوز، والبُطْمُ

(1)

، والعُنَّاب

(2)

، والمِشْمِش، والزيتون، والملح، والمائع كله): من لبن، وخَلٍّ، وزيت، وشَيْرج، وسائر الأدهان. وجعل في "الروضة" العسل موزونًا.

(و‌

‌يجوز التعامل بكيل لم يُعهد)

أي: لم يتعارف.

(ومن الموزون: الذهب، والفضة، والنُّحاس، والحديد، والرصاص، والزئبق، والكَتَّان، والقُطن، والحرير، والقَزُّ، والشَّعْر، والوبر والصوف والغَزْل، واللؤلؤ، والزُّجاج، والطين الأرمني الذي يؤكل دواءً، واللَّحْم، والشحم، والشَّمْع، والزعفران، والعُصْفر، والوَرْس، والخُبْز) إلا إذا يبس ودُق وصار فتيتًا، فهو مكيل وتقدم

(3)

(والجُبن، والعِنَب، والزُّبد، ونحوه) أي: نحو ما ذكر. قال الموفق والشارح: يُباع السمن بالوزن، ويتخرَّج أن يُباع بالكيل.

(وغير المَكيل والموزون كالثياب، والحيوان، والجَوْز، والبيض، والرُّمان، والقثاء، والخيار، وسائر الخضر، والبقول، والسفرجل، والتفاح، والكُمَّثْرى، والخوخ ونحوها) كالإجَّاص، وكل فاكهة رطبة، ذكره القاضي.

(1)

البطم: شجر حراجي كالفستق جرمًا، سبط الأوراق، وثمره حب مفرطح في عناقيد كالفلفل. المعتمد في الأدوية المفردة ص/ 34.

(2)

العُنَّاب: شجرٌ حبُّه يُشبه ثمر الزيتون في شكله، وهو أحمر حلو، الواحدة: عُنَّابة. المعتمد في الأدوية المفردة ص/ 440.

(3)

(8/ 19 - 20).

ص: 34

فصل

(وأما ربا النسيئة) من النَّساء بالمد، وهو: التأخير، يُقال: نسأت الشيء وأنسأته: أخَّرته.

وقد أشار إلى معناه الخاص هنا، فقال:(فكلُّ شيئين) من جنس، أو جنسين (ليس أحدُهما نقدًا) ذهبًا أو فضة، و (عِلَّة ربا الفضل) وهو الكيل والوزن كما تقدم

(1)

(فيهما واحدة، كمكيل بمكيل) من جنسه أو غيره (بأن باع مُدَّ بُرٍّ بجنسه) أي: ببرٍّ (أو) باع مدَّ بُرٍّ (بشعير ونحوه) كباقلا، وعدس، وأرز، (وموزون بموزون، بأن باع رطل حديد بجنسه) أي: حديد (أو) باع رطل حديد (بنُحاس ونحوه) كرصاص، وقطن، وكتان (لا يجوز النَّساء فيهما) بغير خلاف نعلمه

(2)

. قاله في "الشرح".

لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد: "ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز"

(3)

.

ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الذَّهب بالورِق ربًا، إلا هاءَ وهاءَ"

(4)

.

ومعناها على اختلاف لغاتها: خُذْ وهَات في الحال، يدًا بيد.

(فيُشترط) لصحة البيع في ذلك (الحلولُ والقبضُ في المجلس) لما ذكر.

ثم إن اتّحد الجنس اعتُبر التماثل، وإلا جاز التفاضل كما تقدم

(5)

.

(1)

(8/ 6 - 7).

(2)

الإجماع لابن المنذر ص/ 117.

(3)

أخرجه البخاري في البيوع، باب 78، حديث 2177، ومسلم في المساقاة، حديث 1584.

(4)

أخرجه البخاري في البيوع، باب 54، 76، حديث 2134، 2174، ومسلم في المساقاة، حديث 1586، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(5)

(8/ 12).

ص: 35

(فإن تفرَّقا) أي: المتعاقدان (قبلَه) أي: قبل القبض من الجانبين (بطل العقد) لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، يدًا بيدٍ"

(1)

. والمراد به القبض.

(وإن كان أحدُهما) أي: أحد المبيعين (نقدًا فلا) يحرم النَّساء، ولا يبطل العقد بتأخير القبض، ولو كان الثاني موزونًا، كبيع حديد، أو نحاس أو نحوه، بذهب أو فضة. قال في "المبدع": بغير خلاف

(2)

؛ لأن الشارع أرخص في السَّلم، والأصل في رأس ماله النقدان، فلو حرم النَّساء فيه لانسدَّ باب السَّلم في الموزونات غالبًا.

(ولو في صَرْفِ فلوسٍ نافقةٍ به) أي: بنَقْدٍ، فيجوز النَّسَاء، و (اختاره الشيخ

(3)

وغيره) كابن عقيل، وذكره الشيخ رواية. قال في "الرعاية": قلت: إن قلنا: هي عَرْض، جاز وإلا؛ فلا (خلافًا لما في "التنقيح") من أنه يُشترط الحلول والتقابض في صرْفِ نَقْدٍ بفلوس نافقة. والذي قاله في "التنقيح" قدَّمه في "المبدع"، وذكر في "الإنصاف" أنه الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، ونص عليه، وقدَّمه في "المحرر"، و"الفروع"، و"الرعايتين"، و"الحاويين"، و"الفائق" اهـ. وجزم به في "المُنتهى".

(وإن اختلفتِ العلَّة فيهما) أي: في المبيعين (كما لو باع مكيلًا بموزون، جاز التفرُّق قبل القبض، و) جاز (النَّساء) أي: التأجيل؛ لأنهما لم يجتمعا في أحد وَصْفَي عِلة ربا الفضل، أشبه الثياب بالحيوان.

(1)

تقدم تخريجه (8/ 6) تعليق رقم (4، 5).

(2)

الإجماع لابن المنذر ص/ 119.

(3)

الاختيارات الفقهية ص/ 189.

ص: 36

(وما كان مما ليس بمكيل ولا موزون، كثياب وحيوان وغيرهما، يجوز النَّساء فيه، سواء بيع بجنسه، أو بغير جنسه، متساويًا أو متفاضلًا) لأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو "أن يأخُذَ على قَلائِصِ الصَّدقة، فكان يأخذ البعيرَ بالبَعيرَين، أي: إلى إبل الصدقة" رواه أحمد، والدارقطني وصححه

(1)

. وإذا جاز في الجنس الواحد ففي الجنسين أَولى.

(1)

أخرجه أحمد (2/ 171، 216)، والدارقطني (3/ 69) واللفظ له. وأخرجه - أيضًا - أبو داود في البيوع والإجارات، باب 16، حديث 3357، والطحاوي (4/ 60)، والدارقطني (3/ 70)، والبيهقي (5/ 287) من محمد بن إسحاق، عن أبي سفيان الحرشي، عن مسلم بن جبير، عن عمرو بن حريش الزبيدي، عن عبد الله بن عمرو، به.

وقد اختلف الأئمة في تصحيح هذا الحديث وتضعيفه:

فقال يحيى بن معين كما في الجرح والتعديل (9/ 383): هذا حديث مشهور.

وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

وأعله ابن حزم في المحلى (9/ 107)، والبيهقي، وعبد الحق في الأحكام الوسطى (3/ 242)، وابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (2/ 520)، وابن الملقن في البدر المنير (6/ 471)، وابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 8) بثلاث علل:

الأولى: مسلم بن جبير وعمرو بن حريش: مجهولان.

الثانية: محمد بن إسحاق مدلس، ولم يصرح بالتحديث.

الثالثة: الاضطراب؛ لأنه قد اختُلف فيه على ابن إسحاق، فرواه البخاري في التاريخ الكبير (6/ 323)، وأحمد (2/ 171، 216)، والدارقطني (3/ 69)، والحاكم (4/ 47) من أوجه مختلفة على ابن إسحاق بتقديم وتأخير بعض الرواة.

ودفع الحافظ في تعجيل المنفعة (2/ 256) هذا الاضطراب، فقال:"وإذا كان الحديث واحدًا، وفي رجال إسناده اختلاف بالتقديم والتأخير، رجح الاتحاد".

ورواه الدارقطني (3/ 69)، والبيهقي (5/ 287) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص به.

وصحَّحه البيهقي، وجوَّد إسناده ابن عبد الهادي، وقوَّاه الحافظ في الفتح (4/ 419).

ص: 37

(ولا يصح بيع كالئ بكالئٍ) بالهمزة فيهما، وبعض الرواة يتركه تخفيفًا (وهو: بيع دَيْن بدَيْن) مطلقًا؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ، رواه أبو عبيد في "الغريب"

(1)

، إلا أن الأثرم

(2)

روى أن أحمد سُئل: أيصحُّ هذا الحديث؟ قال: لا، قاله في "الشرح".

(1)

غريب الحديث (1/ 140) الطبعة المصرية، وسقط سنده من الطبعة الهندية (1/ 20). وأخرجه - أيضًا - عبد الرزاق (8/ 90) حديث 14440، وابن أبي شيبة (6/ 598)، والبزار "كشف الأستار"(2/ 91) حديث 1280، وابن عدي (6/ 2335)، والدارقطني (3/ 71، 72)، والحاكم (2/ 57)، والبيهقي (5/ 290) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وذكره السيوطي في الجامع الصغير (6/ 330 مع الفيض) ورمز لصحته.

وضعَّفه النووي في المجموع (9/ 399)، والهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 80 - 81)، والحافط في بلوغ المرام حديث 846، وقال في الدراية (2/ 157):"وفي إسناده موسى بن عبيدة، وهو متروك، ووقع في رواية الدارقطني: موسى بن عقبة، وهو غلط، واغتر بذلك الحاكم، فصحح الحديث، وتعقبه البيهقي [5/ 290] لكن تابع موسى بن عبيد عليه إبراهيم بن أبي يحيى: أخرجه عبد الرزاق [8/ 90 حديث 14440] عنه عن عبد الله بن دينار، به".

قلنا: إبراهيم بن أبي يحيى قال فيه الحافظ في التقريب (243): متروك. وانظر: علل الدارقطني (4/ ل 73/ ب)، والسنن الكبرى للبيهقي (5/ 290)، والعلل المتناهية (2/ 111)، والتلخيص الحبير (3/ 26).

وأخرجه الطبراني في الكبير (4/ 267) حديث 4375، عن رافع بن خديج. قال الحافظ في الدراية (2/ 157): إسناده مقلوب، وقال في التلخيص الحبير (3/ 26): وهذا لا يصلح شاهدًا لحديث ابن عمر، فإنه من طريق موسى بن عبيدة - أيضًا - عن عيسى بن سهل، وكأن الوهم فيه من الراوي عنه محمد بن يعلى زُنبور.

(2)

لعله في مسائله، أو سننه، ولم تطبعا. وقول الإمام أحمد هذا نقله - أيضًا - صالح في مسائله (3/ 199) رقم 1646، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 111).

ص: 38

(وله)، أي: لبيع الدَّين بالدَّين (صور:

منها: بيع ما في الذِّمة حالًا من عُروض وأثمان، بثمن إلى أجلٍ لمن هو) أي: الدَّين (عليه، أو) بيع ما في الذمة (لغيره) أي: غير من هو عليه مطلقًا.

(ومنها: جعل رأس مال السَّلَم دينًا) بأن يكون له دَيْن على آخر، فيقول: جعلت ما في ذِمَّتك رأس مال سَلَم على كذا.

(ومنها): ما (لو كان لكل واحد من اثنين دَيْن على صاحبه من غير جنسه) أي: جنس دينه (كالذهب والفضة، وتصارفا) هما (ولم يُحْضِرا شيئًا) أي: أحدهما، أو هما (فإنه لا يجوز؛ سواء كانا حالَّين أو مؤجَّلين) لأنه بيع دَيْن بدَيْن (فإن أحضر أحدهما) أي: أحد الدينين (أو كان) أحد العوضين دَينًا والآخر (عنده أمانة) أو غصب ونحوه (جاز) التصارف؛ ولم يكن بيع دَيْن بدَيْن، بل بعين (وتصارفا على ما يرضيان به من السعر) لأنه بيع، فيجوز ما تراضيا به، لكن يأتي في الباب: إذا عوَّضه نَقْدًا عن نَقْدٍ آخر بذمته، أن يكون بسعر يومه. (ولا يُجبر أحدهما) أي: المدينين (على سعر

(1)

لا يريده) لأن البيع عن تراض (فإن لم يتفقا على سعر أدَّى كلُّ واحد ما عليه) من الدَّين؛ لأنه الأصل الواجب.

(ولو كان لرجل على رجل دينارٌ فقضاه دراهِمَ) متفرِّقة (شيئًا بعد شيء، فإن كان يعطيه كلَّ) نقدة من (درهم) فأكثر (محاسبة

(2)

من الدينار) بأن يقول: هذا الدرهم عن عُشرٍ دينار مثلًا، أو هذان الدرهمان عن خُمسه (صَحَّ) القضاء؛ لأنه بيع دَيْنٍ بعين.

(1)

في "ذ": "ما" بدل "سعر".

(2)

في "ذ" و"ح" ومتن الإقناع (2/ 257): "بحسابه".

ص: 39

(فإن لم يفعل ذلك) بأن أعطاه وسكت (ثم تَحَاسبا بعد) إعطاء الدراهم (فَصَارَفه بها وقتَ المحاسبة لم يَجُز؛ لأنه بيع دَيْنٍ بدَيْن) وهو غير جائز، كما تقدم.

(وإن صارفه عمَّا) استقرَ (له في ذِمَّته، ولو كان) ما له في ذمته (مؤجَّلًا بعين) مقبوضة بالمجلس (صَح) الصَّرف، ويأتي ذلك مفصَّلًا.

‌فصل في المصارفة

(وهي: بيع نَقْدٍ بنَقْدٍ) اتَّحد الجنس أو اختلف، سُمِّي بذلك لصريفهما

(1)

، وهو تصويتهما في الميزان. وقيل: لانصرافهما

(2)

عن مقتضى البياعات، من عدم جواز التفرُّق قبل القبض ونحوه.

(والقبض في المجلس شَرْطٌ لصحته) أي: الصَّرْف، حكاه ابن المنذر

(3)

إجماعَ من يحفظ عنه من أهل العلم، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"وبيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، يدًا بيدٍ"

(4)

.

(1)

في "ح" زيادة: "أي النقود".

(2)

في "ذ" زيادة "أي المتصارفين".

(3)

الإجماع ص/ 118.

(4)

أخرجه البخاري في البيوع، باب 74، 81، حديث 2175، 2182، ومسلم في المساقاة، حديث 1590، عن أبي بكرة رضي الله عنه.

وأخرجه الترمذي في البيوع، باب 23، حديث 1240، والشافعي في الأم (3/ 15)، وفي المسند (ترتيبه 2/ 157)، ومحمد بن الحسن الشيباني في الحجة على أهل المدينة (2/ 602، 606)، والطحاوي (4/ 4)، والبيهقي (5/ 276، 282) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. =

ص: 40

(فإن طال المجلس) قبل القبض، وتقابضا قبل التفرُّق جاز (أو) تصارفا، ثم (تماشيا مُصْطَحِبَيْنِ إلى منزل أحدِهما) فتقابضا (أو) تماشيا (إلى الصرَّاف فتقابضا عنده، جاز) أي: صَحَّ الصَّرْف؛ لأن المجلس هنا كمجلس الخيار في البيع، ولم يتفرَّقا قبل القبض، ولا يبطل الصَّرْف بتخابر فيه، وقياسه سلم، وبيع نحو مُدّ بُر بمثله، أو بشعير، فيصح العقد دون الشرط، كسائر الشروط الفاسدة.

(ويجوز) الصَّرْف (في الذِّمم بالصفة) كصارفتك دينارًا بعشرة دراهم، ويصف ذلك إن تعددت النقود، وإلا؛ لم يحتج لوصفه، وينصرف لنَقْد البلد.

ويكفي القبض في المجلس، وإن لم تكن معينة (لأن المجلس كحالة العقد) لعموم ما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم:"بيعوا الذهبَ بالفضَّة كيف شئتم، يدًا بيدٍ"

(1)

(فمتى افترقا قبل التقابض) من الجانبين بطل العقد؛ لما سبق.

(أو افترقا) أي: المتعاقدان (عن مجلس) عقد (السَّلَم قبل قبض) المُسلَّم إليه (رأسَ ماله) أي: السَّلَم (بطل العقد) لما يأتي في السَّلَم.

(وإن قبض البعض فيهما) أي: في الصَّرْف والسَّلَم (ثم افترقا، كفرقة خيار المجلس) قبل تقابض الباقي (بطل) العقد (فيما لم يقبض فقط) لفوات شرطه.

(ولو وكَّل المتصارفان) من يقبض لهما (أو) وكَّل (أحدهما من

= وأخرجه أبو داود في البيوع، باب 12، حديث 3349، والنسائي في البيوع، باب 44، حديث 4576، 4577، بنحوه. ومعناه في صحيح مسلم وغيره. وقد تقدم تخريجه (8/ 6) تعليق رقم (4).

(1)

تقدم تخريجه (8/ 40) تعليق رقم (4).

ص: 41

يقبض له، فتقابض الوكيلان) أو تقابض أحدُ المتصارفين ووكيل الآخر (قبل تفرُّق الموكِّلَين) أو قبل تفرق الموكِّل والعاقد الثاني الذي لم يوكِّلْ (جاز) العقد، أي: صح؛ لأن قبض الوكيل كقبض موكِّلِهِ.

(وإن تفرَّقا) أي: الموكِّلان، أو الموكِّل والعاقد الثاني (قبل القبض، بطل الصَّرْف، افترق الوكيلان أو لا) لتعلُّق القبض بالعقد.

ولو تفرَّق الوكيلان ثم عادا بالمجلس وموكلاهما باقيان لم يتفرَّقا إلى التقابض، صح العقد؛ لما تقدم.

(ولو كان عليه دنانير، أو) كان عليه (دراهم، فوكَّل غريمَه في بيع داره) أو نحوها (و) في (استيفاء دينه من ثمنها، فباعها بغير جنس عليه) أي: على رَبِّ الدار (لم يجز) للوكيل (أن يأخذ منها) أي: من ثمن الدار (قَدْر حقه؛ لأنه) أي: المدين (لم يأذن له) أي: للوكيل (في مصارفة نفسه) فإن أذن له في ذلك جاز، فيتولَّى طرفي عقد المصارفة.

(وإن مات أحدُ المتصارفين قبل التقابض، بَطَل) العقد؛ لعدم تمامه؛ لأن القبض هنا كالقَبول في البيع (لا) إن ماتا أو أحدُهما (بعده) أي: بعد التقابض (وقبل التفرُّقِ) فلا يبطل العقد؛ لأنه قد تَمَّ وانقضى

(1)

.

(وإن تصارفا على عينين) أي: معينين (من جنسين) كهذا الدينار بهذه الدراهم (ولو بوزن متقدِّم) على العقد (أو) بـ (ــإخبار صاحبه) بأن وزن نقده كذا (وظهر غصب) أي: أن أحد العِوضين مغصوب، بَطَلَ العقد؛ لأنه باع ما لا يملكه.

(1)

في "ذ": "ونفذ" بدل "وانقضى".

ص: 42

(أو) ظهر (عيبٌ في جميعه) أي: جميع أحد العِوضين (ولو) كان العيب (يسيرًا من غير جنسه، كالنُّحاس في الدراهم، و) كـ (ـالمِسِّ) وهو نوع من النحاس (في الذهب، بطل العقد) لأنه باعه غير ما سَمَّى له، فلم يصح، كبِعْتُك هذا البغل، فتبين أنه فرس.

(وإن ظهر) الغصب أو العيب من غير الجنس (في بعضه) بأن صارفه دينارين بعشرين درهمًا، فوجد أحد الدينارين مغصوبًا، أو به مِسٌّ (بطل العقد فيه فقط) بما يقابله، وصح في السليم بما يقابله.

(وإن كان العيب من جنسه) أي: جنس المعيب (كالسواد في الفضة والخشونة) فيها (وكونها تتفطر) أي: تتشقق (عند الضرب، أو أنَّ سِكَّتها

(1)

مخالفة لسكَّة السلطان، فالعقد صحيح) لأن العيب لا يبطل البيع، سواء ظهر العيب قبل التفرق أو بعده.

(وله) أي: لمن صار إليه المعيب (الخيار) بين الرد والإمساك مع الأرش (فإن رده، بطل) العقد، وليس له البدل؛ لأن العقد وقع على عينه، فإذا أخذ غيره، أخذ ما لم يشتره.

(وإن أمسكه) أي: المعيب (فله أرشه في المجلس) من غير جنس السَّلَم، لئلا يفضي إلى مسألة مُدِّ عجوة.

(وكذا) يجوز له أخْذ الأرْش (بعدَه) أي: بعد المجلس (إن جعلاه) أى: الأرْش (من غير جنس الثمن) أي: النقدين، كبُرٍّ أو شعير؛ لأنه لا يُعتبر قبضه فيه إذا بيع بنَقْدٍ (وكذا سائر أموال الرِّبا إن

(2)

بيعت بغير

(1)

السِّكَّة: حديدة منقوشة تطبع بها الدراهم والدنانير، والجمع سكك. "المصباح المنير" ص/ 282، مادة (سكك).

(2)

في "ح": "إذا".

ص: 43

جنسها) أي (مما يُشترط فيه القبض) على ما تقدم بيانه.

(فلو باع بُرًّا بشعير فوجد بأحدهما عيبًا، فأخذ أرشه درهمًا ونحوه) مما ليس بمكيل (جاز، ولو بعد التفرُّق) من المجلس؛ لما تقدم.

(وإن تَصَارفا في الذِّمة على جنسين) كدينار بعشرة دراهم، وتقابضا، ثم ظهر عيبٌ في أحدهما (والعيبُ من جنسه، فإن وُجِدَ) أي: عُلِمَ العيبُ (فيه قبل التفرُّق، فالعقد صحيح، وله أخذُ بدله) قبل التفرُّق سليمًا؛ لأن العقد وقع على مطلق، والإطلاق يقتضي السلامة من العيب (أو) أخذ (أَرْشه) أي: العيب (قبل التفرُّق) من غير جنس السليم، لما تقدم.

(وإن وُجِدَ) أى: عُلِمَ

(1)

(بعد التفرُّق لم يبطل) العقد (أيضًا) كمن اشترى سلعة فوجدها معيبة (وله إمساكه مع أَرْش) عيبه (و) له (ردُّه وأخْذُ بدله في مجلس الردّ) لأن قبض بدله يقوم مقامه.

(فإن تفرَّقا قبل أخذ بدله في مجلس الرد، بطل) العقد لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا غائبًا منها بناجز"

(2)

.

(فلو ظهر بعضُه) أي: بعض أحد العوضين (معيبًا؛ فحكمه حكم ما لو وُجِدَ جميعُه) معيبًا، فله ردُّ المعيب؛ وأخذ بدله قبل التفرُّق، أو إمساكه مع أرشه.

(وإن كان) العيب (من غير جنسه) كالنُّحاس في الفضة، والمِس في الذهب (فالعقد صحيح، وله ردُّه) أى: المعيب (قبل التفرُّق وأخذُ

(1)

في "ح" و"ذ" زيادة: "العيب".

(2)

أخرجه البخارى في البيوع، باب 78، حديث 2177، ومسلم في المساقاة، حديث 1584، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 44

بَدَلِه) قبل التفرُّق (و) إن علم العيب من غير الجنس (بعدَه) أي: بعد التفرُّق (يفسد العقدُ) لأن قبضه كلا قبض، وقد تفرَّقا قبل التقابض.

(وإن عيَّن أحدهما) أي: أحد العِوضين في الصرف (دون) العِوض (الآخر) كصارفتك هذا الدينار بعشرة دراهم كذا، أو هذه الفضة بدينار مصري (فلكُلٍّ) من المعيَّن وما في الذِّمة (حُكم نفسه) إذا ظهر معيبًا على ما سبق من التفصيل.

(وكذا الحكم فيهما) أي: في المعيَّن وما في الذمة (إذا كانت المصارفة) على شيئين من جنس واحد، لكن لا أرْشَ.

(أو) كان (ما يجري فيه الربا من جنس واحد) كبُرٍّ معيَّن أو في الذمة، ببُرٍّ كذلك، (إلا أنه لا يصح أخذُ أرش) مطلقًا؛ لثلا يؤدِّي إلى التفاضل، أو إلى مسألة مُدِّ عجوة.

وإن تلف العِوض في الصَّرف بعد القبض، ثم علم عيبه، فسخَ العقد، ويردُّ الموجود، وتبقى قيمة المعيب في ذمة من تلف في يده، فيرد مثلها أو عوضها إن اتفقا عليه، سواء كان الصَّرْفُ بجنسه أو غير جنسه.

ولا يجوز أخذ الأرش إلا إذا كان

(1)

في المجلس والعوضان من جنسين.

(ومتى صارفه) ثم أراد الشراء منه (كان له الشراءُ) منه (من جنس ما أخِذ منه بلا مواطأة) بينهما على ذلك؛ لما روى أبو هريرة وأبو سعيد "أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على خيبرَ، فجاءه بتمر جَنيبٍ، فقال: أكلُّ تمرِ خيبر هكذا؟ قال: لا والله؛ إنا لنأخذُ الصَّاع من هذا بالصَّاعين،

(1)

في "ح": "إن كانا".

ص: 45

والصاعين بالثلاثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تفعل، بع التَّمْرَ بالدراهم، ثم اشترِ بالدراهم جَنيبًا" متفق عليه

(1)

ولم يأمره أن يبيعه مِن غير مَن يشتري منه، ولو كان ذلك محرمًا، لبيَّنه له.

(ولو اشترى فضة بدينار ونصف) دينار (ودفع) المشتري (إلى البائع دينارين؛ ليأخذ قَدْرَ حَقِّه منه) أي: من المدفوع له، وهو الديناران (فأخذه) أي: فأخذ البائع قَدرَ حقِّه من الدينارين (ولو بعد التفرُّق، صَحَّ) الصَّرْف؛ لحصول التقابض قبل التفرُّق، والذي تأخَّر إنما هو تمييز حقه من حق الآخر (والزائد) من الدينارين (أمانةٌ في يده) أي: يد البائع؛ لعدم المقتضي لضمانه.

(ولو صارفه خمسةَ دراهم بنصف دينارٍ، فأعطاه دينارًا) ليأخذ منه نصفه (صح) الصَّرْف؛ لوجود القبض، ولو تأخر التمييز حتى تفرَّقا (ويكون نصفه له والباقي) من الدينار (أمانة في يده) أي: يد قابض الدينار؛ لما تقدم (ويتفرَّقان) أي: لهما أن يتفرَّقا قبل تمييز النصف (ثم إن صارفه) أي: صارف قابض الدينار صاحبه (بعد ذلك بالباقي له منه) أي: من الدينار؛ جاز (أو اشترى به) أي: بالباقي من الدينار (منه شيئًا) جاز (أو جعله) أي: الباقي (سَلَمًا في شيء) جاز؛ لأنه عين ماله، وليس دينًا (أو وهبه) أي: وهب دافعُ الدينار قابضَه (إياه) أي: الباقي منه (جاز) لأنه تصرُّفٌ من أهله في محله.

(ولو اقترض) آخذ الدينار (الخمسةَ) دراهم (منه) أى: من قابضها

(1)

البخارى في البيوع، باب 89، حديث 2201، 2202، وفي الوكالة، باب 3، حديث 2302، 2303، وفي المغازي، باب 39 حديث 4244، 4245، وفي الاعتصام بالكتاب والسنة، باب 19، حديث 7350، 7351، ومسلم في المساقاة، حديث 1593.

ص: 46

(وصارفه بها عن) النصف (الباقي)، صحَّ بلا حيلة.

(أو صارفه دينارًا بعشرةٍ، فأعطاه الخمسةَ، ثم اقترضها منه ودفعها عن الباقي) من العشرة بذمته (صحَّ) ذلك (بلا حِيلة) أي: مواطأة، فإن كان حِيلة، لم يصح؛ لما يأتي.

(ومن عليه دينارٌ فقضاه دراهم متفرِّقة، كل نَقدَةٍ بحسابها من الدينار) بأن يقول: هذا الدرهم عن عُشْر دينار، وهذان الدرهمان عن خُمسه مثلًا، وهكذا (صحَّ) ذلك (وإلا؛ فلا).

وإن أعطاه الدراهم مع السكوت، ثم حاسبه بعد ذلك وصارفه بها، لم يصح؛ لأنه بيع دَين بدين، وتقدم قريبًا

(1)

.

(ويصح اقتضاء نَقْدٍ من) نَقْدٍ (آخر) لحديث ابن عمر: "كُنَّا نبيعُ الأبعِرَة بالبقيع بالدنانير، ونأخذ عنها الدراهمَ، بالدراهم ونأخذُ عنها الدنانيرَ، فسألنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: لا بأس أن تأخذوها بسعر يومها، ما لم تتفرقا وبينكما شيء" رواه أبو داود وابن ماجه

(2)

(إن أحضر أحدهما)

(1)

(8/ 40).

(2)

أبو داود في البيوع، باب 14، حديث 3354، 3355، وابن ماجه في التجارات، باب 51، حديث 2262. وأخرجه -أيضًا- الترمذي في البيوع، باب 24، حديث 1242، والنسائي في البيوع، باب 50، 52، حديث 4596، 4597، 4603، وفي الكبرى (4/ 34) حديث 6180، 6181، والطيالسي ص/ 255، حديث 1868، وعبد الرزاق (8/ 119) حديث 14550، وأحمد (2/ 83، 84، 139، 154)، والدارمي في البيوع، باب 43، حديث 2581، وابن الجارود (2/ 229) حديث 655، وأبو يعلى (10/ 24) حديث 5655، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (3/ 282، 283) حديث 1246 - 1248، وابن حبان "الإحسان" (11/ 287) حديث 4920، والاسماعيلي في معجم الشيوخ (1/ 416)، والدارقطني (3/ 23)، والحاكم (2/ 44)، وابن حزم في المحلى (8/ 503)، والبيهقي (5/ 284، 315)، وفي معرفة السنن والآثار (8/ 112، 113) حديث 11317 - 11319، وابن =

ص: 47

أي: أحد النقدين، وإلا لم يصح أن يبيع دينًا بدين

(1)

(أو كان) أحد النقدين (أمانة) أو غصبًا (عنده): أي: عند المقضي (و) النقد (الآخر في الذِّمة) وهو (مستقرٌّ) كثمن، وقَرض، وأجرة استوفى نفعها، بخلاف دين كتابةٍ، وجُعلِ قبل عملٍ، ونحوه مما لم يستقر (بسعر يومه) أي: يوم الاقتضاء؛ لما تقدم في حديث ابن عمر، وهذا الصحيح من المذهب، كما يدلُّ عليه كلام "الإنصاف" هنا، بخلاف ما قدَّمه في الفصل قبل هذا.

= عبد البر في التمهيد (6/ 292، 16/ 12، 13)، وابن الجوزى في التحقيق (2/ 180) حديث 1437، كلهم عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.

وأخرجه البيهقي -أيضًا- في معرفة السنن والآثار (8/ 113) رقم 11322 - 11326، عن طرق عديدة، عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفًا، وقد اختلف أهل العلم في رفعه، ووقفه.

فصححه الدارقطني كما في الدراية (2/ 155)، والحاكم على شرط مسلم، وابن عبد البر، والنووى في المجموع (9/ 298)، وابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 7)، وقال ابن الملقن في تحفة المحتاج (2/ 233): ولك أن تقول: سماك عن رجال مسلم استقلالًا، والبخاري تعليقًا، ووثق أيضًا، فلم لا يكون من باب تعارض الرفع والوقف، والأصح تقديم الرفع كما قال ابن حبان.

قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر. وروى داود بن أبى هند هذا الحديث عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، موقوفًا.

قال الدارقطني في العلل (4/ ق 71/ ب): ولم يرفعه غير سماك، وسماك سيئ الحفظ.

قال البيهقي: والحديث تفرد برفعه سماك بن حرب عن سعيد بن جبير من بين أصحاب ابن عمر رضي الله عنهما. وقال في معرفة السنن، الآثار -عقب روايته من طريق شعبة عن جماعة موقوفًا-: قال شعبة: ورفعه لنا سماك بن حرب وأنا أفرقه. قال ابن الملقن في البدر المنير (6/ 566): لما علمه من سوء حفظه. ورجح وقفه أيضا الحافظ ابن حجر في الدراية.

(1)

في "ذ" و"ح": "لأنه بيع دين بدين".

ص: 48

(ولا يُشترط حلولٌ) أي: حلول ما في الذِّمة؛ فلو كان مؤجلًا وقضاه عنه بسعر يوم القضاء؛ جاز؛ لأنه رضي بتعجيل ما في الذِّمة بغير عوض.

(وإن كان) كلٌّ من النقدين (في ذمتيهما فاصطرفا) من غير إحضار أحدهما (لم يصح) الصَّرف؛ لأنه بيع دَيْن بدَينٍ (وتقدم بعضه)

(1)

في مواضع.

(ولو كان لرَجُل على رَجُلٍ عشرةُ دنانير فوفَّاه عشرة) دنانير (عددًا، فوجدها أحدَ عشر) دينارًا وزنًا (كان الدينار الزائد في يد القابض مُشَاعًا مضمونًا لمالكه) المقبض؛ لأن القابض قبضه على أنه عوض ماله، فكان مضمونًا عليه.

(وإن كان له عنده دينار وديعةً فصارفه) أي: صارف ربُّ الدينار الوديع (به) أي: بالدينار (وهو) أي: الدينار (معلوم بقاؤه، أو مظنونٌ) بقاؤه (صحَّ الصَّرْف) لانتفاء الغَرَر (وإن ظنَّ عدمَه) أي: الدينار (لم يصح) الصرف؛ للغَرَر (وإن شكَّ فيه) أي: في عدم الدينار (صَحَّ) الصرف؛ لأن الأصل بقاؤه (فإن تبيَّن عدمه) أى: الدينار (حين العقد، تبيَّنَّا أن العقدَ وقع باطلًا) لعدم المعقود عليه.

ومن اشترى شيئا بنصف دينار لزمه شقٌّ

(2)

، ثم ان اشترى آخر بنصف آخر، لزمه شق -أيضًا- ويجوز إعطاؤه عنهما صحيحًا، لكن إن شرط ذلك في العقد الثاني أبطله، وقيل لزوم الأول يبطلهما. (والدراهم والدنانير تتعيَّن بالتعيين في جميع عقود المعاوضات، كبيع، وصلح

(1)

(8/ 39).

(2)

الشقُّ: نصف الشيء. المصباح المنير ص/ 453، مادة:(شقق).

ص: 49

بمعناه) أي: بمعنى البيع، بأن أقرَّ

(1)

بدَين أو عينٍ، وصالحه بدراهم أو دنانير معيَّنة (و) كـ (ـــأجرةٍ، وصَداقٍ، وعوضِ عتقٍ، وخلعٍ، وما صُولح به عن دم عمدٍ، أو غيره) لأن الدراهم والدنانير أحد العوضين فتعيَّنت بالتعيين كالعوض الآخر (فـ) ــــعلى هذا (لا يصح ولا يجوز للمشتري) ونحوه (إبدالها) أي: إبدال الدراهم المعينة، أو الدنانير المعينة.

(ويبطل العقد) أي: البيع وما بمعناه (بـ) ــــــظهور (كونها مغصوبة) كما لو ظهر المبيع مغصوبًا.

(ويملكها) أي: الدراهم والدنانير المعيَّنة بالعقد (بائعٌ) ونحوه (بمجرَّد) العقد مع (التعيين) لها (فيصح تصرُّفه) أي: البائع ونحوه (فيها) أي: في الدراهم والدنانير المعينة (قبل قَبْضها) إن لم تحتج إلى وَزْنٍ أو عدّ.

(وإن تلفت) الدراهم أو الدنانير المعينة (قبل قَبضها فـ) ـهي (من ضمانه) أي: البائع ونحوه إن لم تحتج لوزن أو عدٍّ كالمبيع المعيَّن.

(وإن وجدها البائع) أي: الدراهم أو الدنانير المعينة (معيبة من غير جِنسها) بأن وجد في الدراهم نُحاسًا، أو الدنانير مِسًّا (بطل العقد) أي: البيع وما بمعناه؛ لأنه باعه غير ما سَمَّى له.

(فإن كان) العيب (في بعضِها) فقد (بطل) العقد (فيه) أي: المعيب (فقط) وصح في السليم بقسطه.

(و) إن ظهر في الدراهم أو الدنانير المعيبة عيبٌ (من جنسها، خُيِّر) البائع ونحوه (بين فسخ) فيردها ولا يطالب ببدلها (وإمساكٍ بلا

(1)

في "ح" زيادة: "له".

ص: 50

أَرْش، إن كان العقد على) عوضين من (جنس) واحد؛ لئلا يُفضي إلى عدم التماثل.

(وإلا) بأن كان العِوضان من جنسين (فله أخذ أرش في المجلس) لأن التماثل في الجنسين غير مُعتبر (و) له أخذ أَرش (بعده) أي: بعد المجلس (إن جعلاه من غير جنس الثمن) أي: النقد؛ لئلا يُفضي إلى بيع نَقدٍ بنقدٍ مع تأخير التقابض (كما تقدم

(1)

) تفصيله.

(تنبيه) هو لغة: الإيقاظ. واصطلاحًا: عنوان بحث يفهم مما قبله.

(يحصُل التعيين بالإشارة) سواء ضَمَّ إليهما الاسم أو لا (كقوله: بعتك هذا الثوب بهذه الدراهم، أو بهذه فقط من غير ذكر الدراهم، أو: بِعتُكَ هذا بهذا) من غير تسمية العِوضين.

قلت: ويحصُل التعيين بالاسم: كبعتُك عبدي سالمًا. أو: داري بموضع كذا، ويعلمانهما، أو بما في يدي أو كيسي من الدراهم أو الدنانير، ويعلمان ذلك.

(ويحرم الرِّبا بين المسلمين، و) يحرم الربا (بين المسلم والحربي في دار الإسلام ودار الحرب، ولو لم يكن بينهما أمان) لعموم قوله تعالى: {وحرَّمَ الربَا}

(2)

وغيره من الأدلة، (ما لم يكن) الربا (بينه) أي: بين إنسان (وبين رقيقُه، ولو) كان رقيقه (مدبَّرًا، أو أمَّ ولد) لأن المال كله للسيد (و) لو كان الرقيق (مكاتَبًا) فلا يجري

(3)

بينه وبين سيده ربًا (في مال الكتابة) فقط، على ما يأتي في الكتابة.

(1)

(8/ 43).

(2)

سورة البقرة، الآية:275.

(3)

في "ح": "فلا يجوز".

ص: 51

(وتجوز المعاملة بـ) ــنقد (مغشوش من جنسه لمن يعرفه

(1)

) أي: الغش؛ لعدم الغرر (وكذا) تجوز المعاملة بنقد مغشوش (بغير جنسه، وكذا) يجوز (ضَربه) أي: النقد المغشوش، نقل صالح

(2)

عن الإمام في دراهم يقال لها المسبية

(3)

، عامتها نحاس إلا شيئًا فيها فضة، فقال:(إذا كان شيئًا اصطلحوا عليه، كالفلوس) اصطلحوا عليها، فأرجو أن لا يكون فيها بأس. (ولأنه لا تغرير فيه) ولا يمنع منه؛ لأنه مستفيض في سائر الأعصار، جارٍ بينهم من غير نكير (لكن يُكره) ضرب النقد المغشوش؛ لأنه قد يتعامل به من لا يعرفه.

(فإن اجتمعت عنده دراهم زيوف) أي: نحاس (فإنه يَسبِكُها، ولا يبيعها، ولا يخرجها في معاملة، ولا صدقة، فإنَّ قابِضها ربما خلطها بدراهم جيدة؛ وأخرجها على من لا يَعرف حالَها؛ فيكون) ذلك (تغريرًا بالمسلمين) وإدخالًا للغَرَر عليهم. قال أحمد

(4)

: إني أخاف أن يغرَّ بها مسلمًا، وقال: ما ينبغي أن يغرَّ بها المسلمين، ولا أقول: إنه حرام. قال في "الشرح": فقد صَرَّح بأنه إنما كرهه؛ لما فيه من التغرير بالمسلمين (وكان) عبد الله (ابن مسعود) رضي الله عنه (يكسر الزيوف وهو على بيت المال

(5)

، وتقدم

(6)

بعض ذلك في) باب (زكاة الذهب والفضة، وتقدم

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (2/ 262): لم يعرفه.

(2)

لم نقف عليه في مسائله المطبوعة، وقد نقل هذا القول عن صالح أبو يعلى في الأحكام السلطانية ص/ 179. وانظر: مسائل أبي داود ص/ 195، 196.

(3)

كذا في الأصول، وفي مسائل أبي داود والأحكام السلطانية: المسيبية.

(4)

انظر: الأحكام السلطانية ص/ 179.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 217)، وبكر بن بكار في حديثه (12) ومن طريقه الدراقطني في المؤتلف والمختلف (2/ 860)، والخطيب في الموضح (1/ 105).

(6)

(5/ 12) تعليق رقم (1).

ص: 52

هناك أيضًا كلام الشيخ

(1)

في الكيمياء) وأنها غش فتحرم مطلقًا (وقال: لا يجوز بيع الكتب التي تشتمل على معرفة صناعتها، ويجوز إتلافها. انتهى) دفعًا لضررها

(2)

.

(ويحرم قَطْع درهم ودينار) ونحوهما من السِّكة الجائزة بين المسلمين (وكَسْره) أي: ما ذكر من الدرهم والدينار ونحوهما (ولو) كان كَسرُه (لصياغة وإعطاء سائل) لعموم "نهيه صلى الله عليه وسلم عن كَسْرِ السِّكَة الجائزة بين المسلمين"

(3)

؛ ولأن فيه تضييقًا للمعاملة (إلا أن يكون رديئًا، أو يُختلف في شيء منها، هل هو جيد أو رديء؟ فيجوز كَسرُه؛ استظهارًا لحاله.

وتُكره كتابة القرآن على الدرهم والدينار والحِياصة

(4)

، قال أبو المعالي: ونثرها) أي: الدراهم والدنانير (على الراكب) ويأتي في الوليمة: يُكره نثار والتقاطه.

(وأول ما ضُربت الدراهم) ضَرْب الإسلام (على عهد الحَجَّاج) الثقفي في خلافة عبد الملك بن مروان

(5)

.

(ولا يجوز بيع تراب الصاغة، و) تراب (المعدن بشيء من جنسه) فتراب معدن الذهب وصياغته لا يجوز بيعه بذهب؛ للجهل بالتساوي؛ ويجوز بفضة.

(1)

مجموع الفتاوى (29/ 368 - 371)، والاختيارات الفقهية ص / 190.

(2)

في "ح": "دفعًا للضرر".

(3)

تقدم تخريجه (5/ 13) تعليق رقم (1).

(4)

الحِياصة: الأصل الحِواصة: سيرٌ يشدُّ به حزام السرج. القاموس المحيط ص/ 795، مادة (حوص).

(5)

انظر: تاريخ الطبري (6/ 256)، والأوائل لأبى هلال العسكري (1/ 369).

ص: 53

وتراب معدن الفضة وصياغته لا يجوز بيعه بفضة كذلك، ويجوز بذهب، ولا يؤثر استتار المقصود بالتراب في المعدن؛ لأنه بأصل الخلقة، فهو كالرماد ونحوه، وتراب الصاغة بالحمل عليه.

(والحيل التي تُحرِّم حلالًا، أو تُحلِّل حرامًا) أي: التي يتوصل بها إلى ذلك (كلها محرَّمة لا تجوز في شيء من الدين) لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدخل فرسًا بين فرسَين وقد أمن أن يَسبِقَ فهو قمارٌ، ومن أدخل فرسًا بين فرسين ولا يأمَنُ أن يسبق فليس بقمارٍ" رواه أبو داود وغيره

(1)

. فجعله

(1)

أبو داود في الجهاد، باب 69، حديث 2579، 2580، وابن ماجه في الجهاد، باب 44، حديث 2876، وأبو عبيد في غريب الحديث (2/ 143)، وابن أبي شبية (12/ 499)، وأحمد (2/ 505)، والحربي في غريب الحديث (2/ 373)، وأبو يعلى (10/ 259)، حديث 5864، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (5/ 155)، حديث 1897، 1898، والطبراني في الصغير (1/ 169)، وابن عدي (3/ 1208، 1209)، والدارقطني (4/ 111، 305)، والحاكم (2/ 114)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 175، 6/ 127)، وابن حزم في المحلى (7/ 354)، والبيهقي (10/ 20)، وابن عبد البر في التمهيد (14/ 87)، والبغوي في شرح السنة (10/ 396)، حديث 2654، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

وأخرجه مالك في الموطأ (2/ 468) ومن طريقه البيهقي (10/ 20)، وابن أبي شيبة (12/ 499)، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب -مقطوعًا من قوله- يقول: ليس برهان الخيل بأس، إذا دخل فيها مُحلِّلٌ، فإن سَبَق أخذ السبق، وإن سُبِق لم يكن عليه شيء.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.

وقال ابن حزم كما في الفروسية لابن القيم ص/ 214: هو صحيح، وليس في رجال هذا الإسناد من ينبغي النظر فيه إلا سفيان بن حسين هذا، فإنهم أئمة الإسلام، وهداة الأنام.

وصحَّح المرسل أبو داود في سننه قال: رواه معمر وشعيب وعقيل عن الزهرى، عن =

ص: 54

قمارًا مع إدخال الفرس الثالث؛ لكونه لا يمنع معنى القمار، وهو كون كل واحد من المتسابقين لا ينفك عن كونه آخذًا أو مأخوذًا منه، وإنما دخل صورة، تحيُّلًا على إباحة المحرَّم، وسائر الحِيل مثل ذلك؛ ولأن الله تعالى إنما حرَّم المُحرَّمات؛ لمفسدتها والضرر الحاصل منها، ولا يزول ذلك مع بقاء معناها، وأما حديث خيبر المشهور، وهو:"بع الجمعَ -أي: التمر الرديء- بالدراهم، ثم اشترِ بها جيدًا"

(1)

فإنما أمرهم بذلك؛ لأنهم كانوا يبيعون الصاعين من الرديء بالصَّاع منَ الجيد، فعلَّمهم صلى الله عليه وسلم الحيلة المانعة من الربا؛ لأن القصد هنا بالذات تحصيل أحد النوعين دون الزيادة، فإن قُصدت حرمت الحيلة، جمعًا بين الأخبار. فعُلم أن كل ما قصد التوصل إليه من حيث ذاته لا من حيث كونه حرامًا جاز، وإلا حرم.

= رجال من أهل العلم، وهذا أصح عندنا.

وأبو حاتم الرازي، ففي العلل لابنه (2/ 251) قال: هذا خطأ لم يعمل سفيان بن حسين بشيء، لا يشبه أن يكون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسن أحواله أن يكون عن سعيد بن المسيب، قوله، وقد رواه يحيى بن سعيد، عن سعيد قوله. وفي موضع آخر من العلل (2/ 318)، قال: لا أعلم روى هذا الحديث غير حصين بن نمير عن سفيان بن حسين، وسعيد بن بشير، وأرى أنَّه كلام سعيد.

وشيخ الإسلام ابن تيمية قال في مجموع الفتاوى (18/ 63): "فإن هذا معروف عن سعيد بن المسيب من قوله، هكذا رواه الثقات من أصحاب الزهري، عن الزهري، عن سعيد، وغلط سفيان بن حسين فرواه عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة مرفوعًا، وأهل العلم بالحديث يعرفون أن هذا ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم".

والعلامة ابن القيم، قال في الفروسية ص / 229:"هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم البتة، وقال: فمن له ذوق في علم الحديث لا يشك ولا يتوقف أنَّه من كلام سعيد بن المسيب، لا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم".

(1)

تقدم تخريجه (8/ 46)، تعليق رقم (1).

ص: 55

(وهي) أي: الحيلة (أن يُظهر عقدًا) ظاهره الإباحة (يريد به مُحرَّمًا مخادعةً وتوصُّلًا

(1)

إلى فعل ما حرَّم الله) تعالى من الربا ونحوه (أو) إلى (إسقاط واجب) لله تعالى، أو لآدمي، كهبة ماله قرب الحول؛ لإسقاط الزكاة، أو لإسقاط نفقة واجبة (أو) إلى (دَفْع حَقٍّ) عليه من نحو دين.

(فمنها) أي: الحيل (لو أقرضه شيئًا، وباعه سلعةً بأكثر من قيمتها، أو اشترى) المقترض (منه) أي: من المقترض (سلعةً بأقل من قيمتها؛ توسُّلًا إلى أخذ العِوض عن القرض.

ومنها) أي: الحيل (أن يستأجر أرض البستان بأمثال أُجرتها، ثم يساقيه على ثمر شَجَرِه بجُزء من ألف جزءٍ للمالك) أو لجهة الوقف (والباقي) من الثمر (للعامل، ولا يأخذ المالك) ولا الناظر (منه شيئًا، ولا يُريدَ) انِ (ذلك وإنما قصدهـ) ـما (بيع الثمرة قبل وجودها) أو بُدوٍّ صلاحها (بما سمَّياه أجرةً، والعامل لا يقصد سوى ذلك، وربما لا ينتفع بالأرض التي سَمَّى الأجرة في مقابلتها) بل قد تكون الأرض لا تصلح للزرع بالكلية (وقد ذكر ابنُ القيم في) كتابه ("إعلام الموقعين"

(2)

من ذلك صورًا كثيرة جدًّا، يطول ذكرها فلتُعاود) لعموم الحاجة إليها.

(1)

في "ح": "وتوسلًا".

(2)

(4/ 25).

ص: 56

‌باب بيع الأصول والثمار وما يتعلق بذلك

(الأصول) جمع أصل؛ وهو ما يتفرَّع عنه غيره، والمراد به (هنا أرض، ودُور، وبساتين، ونحوها) كمَعَاصر، وطواحين.

والثمار جمع ثَمَر، كجبل وجبال. وواحد الثمر: ثمرة. وجمع الثّمار: ثُمُر، ككتاب وكتب، وجمع ثُمُر: أثْمار، كعُنُق وأعناق، فهو رابع جمع.

(إذا باع دارًا، تناول البيعُ أرضَها) أي: إذا كانت الأرض يصح بيعها؛ فإن لم يَجُز، كسواد العراق، فلا، قاله في "المبدع" و"شرح المُنتهى". وظاهر ما تقدم من صحة بيع المساكن خلافه (بمعدنها الجامد) لأنه كأجزائها.

(و) تناول البيع (بناءها، وسقفها، ودَرَجها) لأن ذلك داخل في مسمَّاها.

(و) تناول البيع أيضًا (فناءها) إن كان لها فِناء، إذ غالب الدور ليس لها ذلك. والفِناء بكسر الفاء: ما اتسع أمام الدار.

(و) تناول البيع أيضًا (ما فيها) أي: الدار (من شَجَر وعَريش، وهو ما تُحمل عليها الكروم.

و) تناول البيع (ما يتصل بها) أي: الدار (لمصلحتها كسلاليم) مسمَّرة، والسَّلاليم: جمع سُلَّم -بضم السين وفتح اللام- وهو المِرقاة، مأخوذ من السلامة تفاؤلًا (ورفوف مسمَّرة، وأبواب منصوبة) وحلقها

ص: 57

(وخَوَابٍ مدفونة للانتفاع بها، وأجْرِنة مبنية، وحَجَر رَحًى سُفلانيٍّ منصوبةٍ) لأنه متصل بها لمصلحتها، أشبه الحيطان.

(وكذا) يتناول البيع (ما كان في الأرض من الحجارة المَخلُوقة، أو) كان (مبنيًا، كأساسات الحيطان المنهدمةِ، والآجُر) المتصل بالأرض.

و‌

‌حكم الهبة، والرهن، والوقف، والإقرار، والوصية بدار حكمُ بيعها

فيما ذكر.

(وإن كان ذلك) المتصل بالأرض (يضرُّ بالأرض وينقصها، كالصخر) المخلوق في الأرض (المُضِر بعروق الشجر، فهو عيب يُثبت للمشتري الخيار بين الردّ و) بين (الإمساك مع الأرْش إذا لم يكن) المشتري (عالمًا) به كسائر العيوب، وإن علمه، فلا خيار له؛ لدخوله على بصيرة.

(وإن كانت الحجارة) مودعة فيها للنقل عنها (و) كان (الآجُر مُودَعًا فيها للنقل عنها، فهو للبائع) كالفرش والستور (ويلزمه نقلها) أي: نقل الحجارة المودعة فيها للنقل

(1)

، ونقل الآجُر غير

(2)

المبني

(3)

(وتسوية الأرض، وإصلاح الحُفَر) لأن عليه تسليم المبيع تامًّا، ولا يمكن إلا بذلك، فوجب.

(وإن كان قَلْعُها) أي: الحجارة (يضرُّ بالأرض ويتطاول، فهو عيب) يثبت به للمشتري الخيار (كما تقدم). والواو بمعنى "أو".

(1)

"للنقل" ساقطة من "ح".

(2)

"غير" ساقطة من "ذ".

(3)

في "ح" زيادة: "بها".

ص: 58

(ولا يتناول البيع -أيضًا- ما كان مُودعًا فيها) أي: في الدار (من كنزٍ مدفون) لأفه ليس من أجزائها.

(ولا) يتناول البيع (منفصلًا عنها، كحبلٍ، ودلو، وبَكْرَة، وقُفْل، وفرش، ورفوف موضوعة على الأوتاد بغير تسمير ولا غرز في الحائط) لعدم اتصالها، فإن كانت مُسمَّرة أو مغروزة في الحائط دخلت. وتقدم

(1)

بعضه.

(وكذا رَحًى غير منصوبة، وخوابيَ موضوعةً من غير أن يُطيَّن عليها) فلا يتناولها البيع؛ لعدم اتصالها بالأرض.

وكذا كل منفصل (ولو كان من مصلحة المتصل بها، كمفتاح، وحجر رَحًى فوقاني إذا كان السُّفلاني منصوبًا) لأن اللفظ لا يتناوله، ولا هو متصل بها. ولو كانت الصيغة المتلفظ بها: الطاحونة ونحوها، دخل الفوقاني أيضًا.

(و) لا يدخل في بيع دار وأرض (معدن جار، وماء نبع في بئر أو عين) لما تقدم في البيع

(2)

(لا نفس البئر وأرض العين ونحوه، مما يتَّصل بها (فإنه لمالك الأرض) وينتقل بانتقالها؛ لاتصاله بها.

(فإن كان فيها) أي: في الدار (متاع له) أي: للبائع (لزمه نقله منها بحسب العادة) ليسلمها للمشتري فارغة (فلا يلزمه) النقل (ليلًا، ولا) يلزمه أيضًا (جَمْع الحمَّالين) الذين بالبلد؛ لأنه ليس المعتاد.

(فإن طالت مدة نقله) أي: المتاع (عُرفًا. ونَقَلَ) وصوابه:

(1)

(8/ 57).

(2)

(7/ 329).

ص: 59

"وقيَّده" كما في "الإِنصاف"(جماعةٌ) منهم صاحب "الرعاية الكبرى"(فوق ثلاثة أيام، فـ) ــهو (عيب) يثبت به للمشتري الخيار إن لم يُعلِمه به.

(وتثبت اليد عليها) أي: الدار (وإن كانت مشغولة بمتاعه) أي: متاع البائع ونحوه.

(وكذا كل موضع يُعتبر فيه القبض، كرهن ونحوه) فتثبت اليد على الدار المرهونة ونحوها، وإن كانت مشغولةً بمتاع الراهن ونحوه.

(قال في "المغني" في) باب (الرهن: وإن خلَّى) الراهن (بينه) أي: بين المرتهن (وبينها) أي: الدار المرهونة (من غير حائل، بأن فتح له بابَ الدار، وسَلَّم إليه مفتاحها، صح التسليم) أي: لزم الرهن (ولو كان فيها قماش للراهن) وظاهره: أنَّه إذا لم يُسلِّمه المفتاح مع كون قماشه بها، أنَّه لا يلزم الرهن؛ إلا أن يقال: الواو بمعنى "أو".

(وكذا لو رهنه دابةٌ عليها حِمْلٌ للراهن، وسلَّمها إليه) أي: المُرتَهِن (به) أي: بالحِمْل؛ فيلزم الرهن؛ لوجود القبض المعتبر.

(ولا أجرة) على بائع (لمدَّة نقله) متاعه من الدار المبيعة، وظاهره: ولو طالت (وإن أبي) البائع (النقلَ، فللمشتري إجبارُه على تفريغ مِلكه) وإن لم يتضرر المشتري ببقائه؛ لأنه إشغال لملك المشتري بغير حق.

(وان ظهَر في الأرض) المبيعة (معدنٌ جامدٌ لم يعلم به البائع، فله) أي: البائع (الخيار) بين إمضاء البيع، أو فسخه، وكذا لو ظهر فيها بئر أو عين ماء، ويلزم المشتري إعلام البائع بذلك، كما تقدم

(1)

فيمن اشترى

(1)

(7/ 453).

ص: 60

متاعًا، فوجده خيرًا مما اشتراه.

(وإن باع) أرضًا، أو بستانًا (أو رهن أرضًا، أو بستانًا، أو أقرّ) بأرض، أو بستان (أي أوصى به) أي: بالمذكور من أرض أو بستان (أو وقفه، أو أصْدقه) في نكاح (أو جعله عوضًا في خُلْعٍ) أو عتق، أو جعالة ونحوه (أو وهبه) أو تصدَّق به (دخل أرضٌ، وغراسٌ، وبناء، ولو لم يقل: بحقوقها) لأنهما من حقوق الأرض، ويتبعان الأرض من كل وجه؛ لأنهما يُتخذان للبقاء فيها، وليس لانتهائهما مدة معلومة، بخلاف الزرع والثمرة. وفي مسألة البستان؛ لأنه اسم للأرض والشجر والحائط، بدليل أن الأرض المكشوفة لا تُسمَّى به.

و (لا) يدخل في بيع أرض أو بستان (شجرٌ مقطوع، ومقلوعٌ) لأن اللفظ لا يتناوله، والتبعية انقطعت بانفصاله.

(فإن قال: بعتُك هذه الأرض

(1)

وثلث بنائها، أو) بعتُك هذه الأرض

(1)

(وثلث غراسها ونحوه) كالربع (لم يدخل في البيع) من البناء والغراس (إلا الجزء المُسمَّى) لقرينة العطف.

(وكذلك لو قال: بعتُك نصف الأرض وربع الغراس) لم يتناول البيع من غراس النصف سوى الجزء المُسَمَّى منه؛ لقرينة العطف.

(ويدخل ماؤها) أي: ماء الأرض المبيعة (تبعًا) لها، بمعنى: أن المشتري يصير أحق به كالبائع، لا أنَّه يملكه، إذ لا يملك إلا بالحيازة، كما تقدم في البيع

(2)

.

(ولو باع قريةً لم تدخل مزارعها) في البيع (إلا بذكرها) أي: ذكر

(1)

في "ذ": "الدار".

(2)

(7/ 328 - 329).

ص: 61

المزارع، بأن باعه إياها بمزارعها (أو) إلا (بقرينة، كمساومة على أرضها) أي: أرض المزارع (و) كـ (ذكر الزرع والغرس فيها) أي: في المزارع (و) كـ (ذكر حدودها) أي: المزارع (أو بذل ثمن لا يصلح إلا فيها) أي: القرية (وفي أرضها) التي تزرع (ونحوه) أي: نحو ما ذكر من القرائن (قاله الموفق وغيره) كالشارح. قال في "الفروع": وهو أَولى. قال في "الإنصاف": وهو الصواب.

(وإن) باعه القرية، ولم يذكر مزارعها، و (لم تكن قرينة) تدل على دخول مزارعها (فالبيع يتناول البيوت والحصن) إن كان بها حِصن (و) السور (الدائر عليها) أي: على القرية؛ لأن ذلك هو مُسمَّى القرية، وهي مأخوذة من القر

(1)

، وهو الجمع؛ لأنها تجمع الناس.

(وأما الغراس بين بنيانها) أي: بنيان القرية، سواء كان في البيوت أو بينها (فحكمُه حُكم الغراس في الأرض، المبيعة (فيدخل) تبعًا للأرض (كما تقدم) قريبًا.

وكذا أصول البقول والباذنجان ونحوها.

(ولا يدخل زرعٌ ولا بَذْره) وكذا لا يدخل منفصل عن القرية، من نحو: مفاتيح، وأحجار رحًى فوقية، وأحبال، وبكرات، وأدلية ونحوها، بخلاف المتصل من عُرُش، وخوابٍ مبنية، وأبواب، وحَجَر رحىً سفلاني إن كانت منصوبة، ونحو ذلك مما يدخل في بيع دار.

(وإن باعه) أي: باع ربُّ البستان إنسانًا (شجرة) فأكثر من بستانه (فله) أي: للمشتري (تبقيتها في أرض البائع) إن لم يشترط قَلْعها (كثمر على شجر) بيع بعد بُدوِّ صلاحه.

(1)

كذا في الأصول، والصواب: القَرْيِ، انظر: لسان العرب (15/ 178)، مادة (قري).

ص: 62

(ويثبت له) أي: للمشتري (حق الاجتياز) إليها؛ لدلالة الحال عليه (وله) أي: للمشتري -وكان الأَولى العطف بالفاء- (الدخول لمصالحها) من نحو سقي وتأبير.

(ولا يدخل منبتها من الأرض) تبعًا لها؛ لأن اللفظ قاصر عنه، والمغرس أصل، فلا يكون تبعًا (بل يكون له) أي: للمشتري (حق الانتفاع في الأرض) النابتة بها (فلو انقلعت) الشجرة (أو بادت، لم يملك إعادة غيرها مكانها) لأنه لم يملكه كما تقدم؛ وانقطع حقه من الانتفاع بذلك.

(وإن كان في الأرض) المبيعة (زرع يُجزُّ مرةً بعد أخرى، كالرَّطْبة) بفتح الراء؛ وهي الفِصَّة؛ فإذا يبست فهي قَتٌّ (والبقول) كالنعناع والشَّمَر

(1)

والكُرَّاث و (سواء كان) الزرع المذكور (مما يبقى) في الأرض (سنة كالهندباء، أو أكثر) من سنة (كالرَّطْبة، أو) كان بالأرض زرع (تتكرر ثمرته، كالقثاء، والباذنجان، أو) كان بالأرض ما يتكرر (زَهْرُه، كبنفسج، ونرجس، وورد، وياسمين، ونحوها) كبان (فالأصول) من جميع ذلك (للمشتري) لأن ذلك يُراد للبقاء، أشبه الشجر (وكذلك أوراقه وغصونه، فهو كورق الشجر وأغصانه) للمشتري؛ لأنه من أجزائه.

(والجزَّة) بالكسر: اسم لما تهيأ للجزِّ، وبالفتح: المرة، قاله في "المطلع"

(2)

، (واللقطة، الظاهرتان، والزهر الظاهر منه -وهو الذي

(1)

الشَّمَرُ: الشَّمارُ: وهو بقلة من الفصيلة الخيمية، ومنه نوع حلو يؤكل ورقه وسوقه نيئًا، ونوع آخر سكري يؤكل مطبوخًا. كمعجم الوسيط (1/ 495) مادة:(شمر).

(2)

المطلع على أبواب المقنع ص/ 243.

ص: 63

تفتَّح- للبائع) ونحوه؛ لأنه يُجنى مع بقاء أصله، أشبه ثمر الشجر والمؤبّر (إلا أن يشترطه المبتاع) ونحوه، فيكون له؛ عملًا بالشرط. (وعلى البائع قَطْع ما يستحقُّه منه) أي: مما ذكر من الجزَّة واللَّقطة الظاهرتين، والزهر المتفتح (في الحال) أي: على الفور؛ لأن ذلك ليس له حَدٌّ ينتهي إليه، وربما ظهر غير ما كان ظاهرًا، فيعسر تمييز حق كل منهما.

(وإن كان فيها) أي: الأرض المبيعة (زرع لا يُحصد إلا مرَّة) واحدة، سواء (نبت) ذلك الزرع (أو لا، كبُرٍّ، وشعير، وقِطنيات) بكسر القاف، وهي العدس، والباقلا، ونحوها، مِن قَطَن بالمكان: أقام به (ونحوها، كجزر، وفُجْل، وثوم، وبصل ونحوه) كدُخْن، وذرة (أو) كان بها (قصب سُكَّر) فإنه يؤخذ مرة واحدة. قاله في "المغني"(وكذا القصب الفارسي) لأن له وقتًا يُقطع فيه (إلا أن عُروقَه للمشتري) ونحوه؛ لأنها تُترك في الأرض للبقاء، أشبهت الشجر (لم يدخل) ما ذكر من الزرع في البيع؛ لأنه مودع في الأرض يُراد للنقل، أشبه الثمرة المؤبَّرة (وهو لبائع) ونحوه (مُبقًّى إلى حصاد، و) إلى (قلع بلا أجرة) علي البائع؛ لأن المنفعة حصلت مُستثناة له (إن لم يشترطه مشترٍ) ونحوه.

(فإن اشترطه فهو له، قصيلًا

(1)

كان أو ذا حبٍّ، مستترًا أو ظاهرًا، معلومًا أو مجهولًا) لأنه بالشرط يدخل تبعًا للأرض؛ فهو كأساسات الحيطان (ويأخذه بائع) ونحوه (أول وقت أخذه، ولو كان بقاؤه أنفع له) كالثمرة.

(1)

القَصِيل: هو الشعير يجزُّ أخضر لعلف الدواب، وسُمي قصيلًا؛ لأنه يقصل وهو رطب. المصباح المنير ص/ 694، مادة (قصل).

ص: 64

(ويؤخذ القصبُ الفارسي في أول وقته الذي يقطع فيه، وعليه) أي: البائع (إزالة ما يَبقى من عروقه المُضرَّة بالأرض، كـ) ـــعروق (قطن وذُرةٍ) لأن عليه تسليم الأرض خالية (وكذا) يلزم البائع إزالة ما يبقى من عروق القصب الفارسي ونحوه و (إن لم يضرَّ بها) كنقل متاعه (و) عليه أيضا (تسوية الحُفَرٍ) كما تقدم

(1)

.

(وإن ظنَّ مشترٍ) لأرض (دخولَ زرعِ البائع، أو) دخول (ثمرٍ على شجر في البيع، وادَّعى الجهل به، ومثله يجهلُه، فله الفسخ) لأنه يفوت عليه منفعة الأرض والشجر عامًا، وإن اختار الإمساك فلا أرش له.

(ولو كان في الأرض) المبيعة (بَذْرٌ، فإن كان أصله يبقى في الأرض، كالنوى وبِزرِ الرَّطبة ونحوهما) كبزر الهندبا (فحكمُه حكم الشجر، عَلِقت عروقُه أو لا) لأنه يُراد به البقاء (إذا أريد به) أي: النوى ونحوه (الدوام في الأرض) ولا تضرُّ جهالته؛ لأنه يدخل تبعًا، كالحمل والنوى في التمر (وإن لم يُرد به الدوام) في الأرض (بل) أُريد به (النقل) منها (إلى موضع آخر ويُسمَّى الشتل، أو كان أصله لا يبقى في الأرض) كبذر البُرِّ ونحوه (فكزرع) فهو للبائع ونحوه.

(فإن لم يعلم المشتري بَذْرَ الزرع ونحوه) كالشتل (فله فسخ البيع وإمضاؤه) مجانًا؛ لأن فيه تفويتًا لمنفعة الأرض عليه مدة.

(فإن تركه) أي: الزرع أو البَذْر له، أو الشتل (البائع للمشتري) فلا خيار له؛ لأنه زاده خيرًا فلزمه قَبوله؛ لأن فيه تصحيحًا للعقد (أو قال) البائع:(أنا أحوِّله، وأمكَنَ ذلك) أي: تحويله (في زمن يسير لا يضرُّ

(1)

(8/ 58).

ص: 65

بمنافع الأرض، فلا خيار للمشتري) لأنه أزال العيب بالنقل على وجه لا يضرُّ بمنافع الأرض.

(وكذلك إن اشترى) إنسان (نخلًا فيها طَلعٌ، فبان قد تشقَّق) ولم يكن علم به المشتري (فله الخيار) بين الإمساك والرد (فإن تركها) أي: الثمرة (له البائع، فلا خيار له) أي: للمشري؛ لما تقدم في الزرع.

(وإن قال: أنا أقطعُها الآن، لم يسقط خياره) أي: المشتري؛ لأنه لا تأثير له، لأنه قد فات المشتري ثمرة ذلك العام.

(ولو باع الأرضَ بما فيها من البَذْر، صَحَّ) البيع (فيدخل) البَذْر (تبعًا) فلا تضر جهالته كأساسات الحيطان.

(وإن ذكر) البائع (قَدْرَه) أي: البذر (و) ذكر (صفته) كسَلَم (كان أولى) لصيرورته معلومًا بالوصف.

(والحصاد ونحوه) كالجذاذ واللقاط فيما قلنا إنه للبائع ونحوه (على البائع) ونحوه؛ لأن ذلك من مؤنة نقل ملكه، فهو كنقل الطعام المبيع (فإن حَصَده) أي: الزرع بائعٌ ونحوه، (قبل أوان الحصاد؛ لينتفع بالأرض في غيره) أى: غير ذلك الزرع (لم يملك) البائع ونحوه (الانتفاعَ بها) لانقَطاع ملكه عنها.

(كما لو باع دارًا فيها متاع لا يُنقل في العادة إلا في شهر، فتكلَّف) البائع (نقله في يوم لينتفع بالدار في غيره بقية الشهر) لم يملك ذلك؛ لأن ملكه قد انقطع عنها، وإنما أمهل للتحويل بحسب العادة، دفعًا لضرره، وحيث تكلَّفه فقد رضي به.

ص: 66

فصل

(ومن باع نخلًا قد تشقق طلعه) بكسر الطاء

(1)

غلاف العنقود، قاله في "الحاشية" (ولو لم يؤبَّر) أي: يلقح. والتلقيح: وضع طلع الفُحَّال

(2)

في طلع الثمر (أو) باع نخلًا فيه (طلع فُحَّال تشقق يُراد للتلقيح) صفة لـ"طلع فُحَّال"، أو حال منه (أو صالح به) أي: بالنخل المذكور (أو جعله صَداقًا، أو) جعله (عِوضَ خُلع) أو طلاق، أو عتق (أو) جعله (أجرة) أو جعالة ونحوه (أو رهنه، أو وهبه، أو أخذه) تبعًا للأرض (بشفعة، فالتمر فقط دون العَراجين ونحوها) كليفٍ، وجَريدٍ وخُوص

(3)

(لمُعطٍ) من بائع، وواهب، ومُصدق، وراهن ونحوهم؛ لقول ابن عمر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من باع نخلًا مُؤبرًا فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المُبتاع" متفق عليه

(4)

، والحكم منوط بالتشقيق

(5)

وإن لم يؤبر؛ لصيرورته في حكم عين أخرى، وإنما نصَّ على التأبير لملازمته التشقق غالبًا (متروكًا) أي: الثمر (في النخل إلى

(1)

كذا فى الأصول: بكسر الطاء والصواب بفتحها، كما في لسان العرب (8/ 238)، وتهذيب اللغة (2/ 173)، والمصباح المنير ص /513، والقاموس المحيط ص/ 961، ومتن اللغة (3/ 622) مادة (طلع).

(2)

الفُحَّال: وزن تُفاح، هو ذكَر النخل الذي يُلقح حوامل النخل. المصباح المنير ص / 633، مادة (فحل).

(3)

الخُوصُ: ورق النخل، الواحدة خُوصة. المصباح المنير ص /250، مادة (خوص).

(4)

البخاري في البيوع، باب 90، 92، حديث 2203، 2204، 2306، وفي المساقاة، باب 17، حديث 2379، وفي الشروط، باب 2، حديث 2716، ومسلم في البيوع حديث 1543.

(5)

في "ح": "بالتشقق".

ص: 67

الجذاذ، وذلك حين تتناهى حلاوة ثمرها) ولا يلزمه قطعها في الحال، إذ التفريغ جار على العُرف.

(و) أوان الجذاذ (في غير النخل حين يتناهى إدراكه) أي: الثمر (سواء استحقَّها) البائع ونحوه (بشرطه) بأن باعها ونحوه قبل التشقق والظهور، واشترطها (أو) استحقَّها (بظهورها) بأن باع ونحوه بعد التشقق ونحوه، فتترك إلى أوان أخذها في الموضعين لما تقدم (ما لم تَجرِ عادة بأخذه) أي: ثمر النخل (بُسْرًا، أو كان بُسْرُه خيرًا من رُطَبه، فإنه يَجُذُّه حين تستحكم حلاوة بُسْرِه) للعادة. (وإن قيل: إنَّ بقاءه في شجره خير له، أُبقي) كما سلف. وفي نسخ: "وأبقي"، فـ"إنْ" وصلية. وقوله: وأبقي، أي: إلى أن يصير بُسرًا (إن لم يشترط) المبتاع ونحوه، (قطعه، ولم تتضرر الأصول ببقائه.

فإن شَرَط) المبتاع ونحوه (قَطْعه، أو تضرر الأصل) ببقائه (أُجبر) البائع ونحوه (على القطع) عملًا بالشرط في الأولى، وإزالة للضرر في الثانية (هذا) أي: كون الثمر للمعطي، محلُّه (إن لم يشترطه آخذُ الأصل) وهو المبتاع ونحوه، لما تقدم من

(1)

حديث ابن عمر

(2)

، فإن اشترطه كان له، وماعدا البيع من المذكورات مقيس عليه.

(بخلاف وَقْفٍ، ووصية، فإن الثمرة تدخل فيهما) إذا أُبقيت إلى يوم الموت، وإن تشققت وظهرت (كفسخٍ لعيب، ومقابلة في بيع، ورجوع أبٍ في هبة) أي: لولده (قاله في "المغني" ومن تابعه؛ لأن الطلع المتشقق عنده) أي: عند صاحب "المغني" (زيادةٌ متصلة لا تتبع في

(1)

في "ح": "في" بدل "من".

(2)

تقدم تخريجه (8/ 67) تعليق رقم (4).

ص: 68

الفُسوخ) الصواب: إسقاط "لا" كما هو صدر عبارته، وعبارة "المغني": فإن الزيادة المتصلة تابعة في الفسوخ (انتهى. لكن يأتي في الهبة: أن الزيادة المتصلة تمنع الرجوع، فيحمل ما هنا على ما إذا كان الطلع موجودًا حال الهبة ولم يزد.

وصرًح القاضي وابن عقيل -أيضًا- في التفليس والرد بالعيب: أنه) أي: الطلع المتشقق (زيادة منفصلة

(1)

، وذكره منصوص أحمد

(2)

، فلا تدخل الثمرة في الفسخ، ورجوع الأب) في هبته لولده (وغير ذلك) من العقود (وهو المذهب على ما ذكروه في هذه المسائل) وجزم به المصنف فيما تقدم

(3)

في خيار العيب.

(ولو اشترط أحدهما) أي: المعطي أو الآخذ (جزءًا من الثمرة) مُشاعًا (معلومًا) كنصف أو ربع (صحَّ) الاشتراط (فيه) أي: في الجزء المشروط (كاشتراط) من ليست الثمرة له (جميعها، فمن اشترطها) أي: الثمرة (منهما، فهي له) سواء كان ذلك (قبل أن تتشقق أو بعده) عملًا بالشرط؛ ولما تقدم في حديث ابن عمر

(4)

. وقياس الباقي عليه.

(وكذلك) أي: كالنخل إذا بيع بعد تشقق طلعه (الشجرُ إذا) بيع ونحوه، و (كان فيه ثمرٌ بادٍ) أي: ظاهر (عند العقد، كعِنب، وتين، وتوت، ورُمَّان، وجوز، وما ظهر من نَوره ولو لم يتناثر) نَوره (كمشمش، وتفاح، وسفرجَل، ولوز، وما خرج من أكمامه) جمع كِمٍّ، بكسر الكاف (كورد، وقطن) فالثمر لبائع ونحوه؛ قياسًا من الطلع المتشقق.

(1)

في "ذ": "متصلة" قال في الهامش: "نسخة: منفصلة".

(2)

مسائل الكوسج (9/ 4635) رقم 3292، والمحرر في الفقه (1/ 345).

(3)

(7/ 452).

(4)

تقدم تخريجه (8/ 67) تعليق رقم (4).

ص: 69

(وما) بيع ونحوه (قبل ذلك) أي: قبل ظهور الثمرة كما ذكر (فهو للمشتري) كالطَّلع قبل تشققِه.

(فإن اختلفا) أي: المتعاقدان (هل بدا) الثمرُ، أو تشقق الطَّلعُ (قبل بيع) ونحوه (أو بعده، فقول بائع) ونحوه: أنه بعد العقد؛ لأنه ينكر خروجه عن ملكه، والأصل عدمه.

(والورق) بالشجر المبيع (للمشتري، سواء كان ورق توت يُقصد أخذه لتربية دود القزِّ، أو غيره

(1)

) لأنه داخل في مُسمَّى الشجر، ومن أجزائه، وخُلِق لمصلحته، فهو كسائر المبيع.

(وإن ظهر بعضُ الثمرة) المبيعة شجرها (أو تشقَّق طلع بعض نخل) بيع ونحوه (فـ) ـما ظهر وما تشقَّق (لبائع، وما لم يظهر) من ثمر (أو تشقق) من طلع (فـ) ـــــهو (لمشترٍ) ونحوه (سواءٌ كان من نوع ما تشقَّق، أو غيره) لعموم ما سبق (إلا في الشجرة الواحدة) إذا تشقَّق بعضُ طَلعِها، أو ظهر بعض ثمرها (فالكل) أي: جميع ثمرها (لبائع) ونحوه؛ إلحاقًا لما لم يتشقق، أو لم يظهر بما تشقق، أو ظهر منها

(2)

. (ونصُّ) الإمام (أحمد

(3)

) مبتدأ، أي: نصه: أن ما أُبَر للبائع، وما لم يؤبر للمشتري (ومفهوم الحديث) يعني حديث ابن عمر السابق:"من باع نخلًا مؤبرًا؛ فثمرتها للبائع؛ إلا أن يشترطها المُبتاعُ" متفق عليه

(4)

(عمومهما يخالفه) خبر؛ أي: يخالف ما ذكره الأصحاب من أن الكل للبائع، هذا معنى كلامه في "المغني".

(1)

في "ذ": "ونحوه".

(2)

في "ذ": "منه".

(3)

كتاب التمام (2/ 12)، والمغني (6/ 133).

(4)

تقدم تخريجه (8/ 67) تعليق رقم (4).

ص: 70

قلت: لا مخالفة؛ لأن قول الإمام: "ما أُبِّر" صادق بما إذا أبِّر جميع النخلة أو بعضها، وكذلك الحديث. فقوله:"نخلًا مُؤَبرًا" صادق بتأبير جميع ثمرة كل واحدة من النخل، وبتأبير بعض كل نخلة منه.

(ولبائعٍ) سقيُ ثمرته لمصلحة (ولمشترٍ سقيُ ما له إن كان فيه) أي: السقيُ (مصلحة لحاجة وغيرها، ولو تضرَّر الآخر) بالسقي (فلا يُمنعان) ولا أحدهما منه؛ لأنهما دخلا في العقد على ذلك.

وليس لأحدهما السقي لغير مصلحة؛ لأن سقيه يتضمن التصرُّف في ملك غيره، والأصل المنع، وإنما إباحته للمصلحة.

(وأيهما التمَسَ) أي: طَلَبَ (السقيَ، فمؤنتُه عليه) وحده (ولا يَلزمُ أحدَهما سقيُ ما للآخر) ولا مشاركته في سقيه؛ لأنه لم يملكه من قبله.

فصل

(ولا يصح بيعُ الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها) لحديث ابن عمر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار قبل بدُوِّ صلاحِها، نهى البائعَ والمُبتاعَ" متفق عليه

(1)

، والنهي يقتضي الفساد.

(ولا) يصح بيع (الزرع قبل اشتداد حَبِّه) لحديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع السُّنبل حتى يبيَضَّ ويأمنَ العاهةَ" رواه مسلم

(2)

.

وعن أنس مرفوعًا "أنه نهى عن بيع الحبِّ حتى يشتدَّ" رواه أحمد، والحاكم

(3)

وقال: على شرط مسلم.

(1)

تقدم تخريجه (7/ 355) تعليق رقم (3).

(2)

في البيوع، حديث 1535.

(3)

أحمد (3/ 221، 250)، والحاكم (2/ 19)، وقد تقدم تخريجه (7/ 356) تعليق رقم (1).

ص: 71

(إلا) إذا باع الثمرة قبل بُدوِّ، صلاحها، والزرع قبل اشتداد حَبِّه (بشرط القَطْع في الحال) فيصح، قال في "المغني": بالإجماع؛ لأن المنع إنما كان خوفًا من تلف الثمرة، وحدوث العاهة عليها، بدليل ما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم:"نهى عن بيع الثمار حتى تزهي. قال: أرأيت إذا منع الله الثمرةَ بم يأخُذُ أحدُكم مالَ أخيه؟ " رواه البخاري

(1)

، (إن كان) ما ذكر (منتفعًا به حينئذ) أي: حين القطع، فإن لم ينتفع بهما كثمرة الجوز، وزرع التُّرمُس

(2)

، لم يصح؛ لعدم النفع بالمبيع (ولم يكن) ما بيع من الثمر قبل بُدُوِّ صلاحه مُشاعًا، والزرع قبل اشتداد حبه (مُشاعًا، بأن يشتري نصف الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها، أو) يشتري (نصف الزرع قبل اشتداد حَبّه مشاعًا، فلا يصح) الشراء بـ (ـشرط القطع؛ لأنه لا يمكنه قَطعه) أي: ما يملكه (إلا بقطع ما لا يملكه، وليس له ذلك) أي: قَطع ما لا يملكه (إلا أن يبيعه) أي: ما ذكر عن الثمرة قبل بُدوِّ صلاحها، والزرع الأخضر (مع الأصل، بأن يبيع الثمرة مع الشجر) فيجوز (أو يبيع الزرع مع الأرض)، فيجوز. (أو يبيع الثمرة لمالك الأصل) أي: الشجرة، فيجوز (أو) يبيع (الزرع لمالك الأرض فيجوز) البيع، ويصح؛ لأنه إذا بيع مع أصل

(3)

دخل تبعًا في البيع، فلم يضرّ احتمال الغرر فيه، كما احتُملت الجهالة في بيع اللبن في الضَّرْع مع الشاة، والنَّوى في التمر مع التمر،

(1)

في الزكاة، باب 58، حديث 1448، وفي البيوع، باب 85، 86، 87، 93، حديث 2195، 2197، 2198، 2208. وأخرجه -أيضًا- مسلم في المساقاة حديث 1555.

(2)

التُّرْمُس: نبات بقلي، حبه مفرطح الشكل، مُرّ الطعم، منقور الوسط، لحبوبه خواص طبية وغذائية. انظر: تاج العروس (15/ 480) مادة (ترمس).

(3)

في "ذ": "مع الأصل".

ص: 72

وفيما إذا بيع مفردًا لمالك الأصل قد حصل التسليم التام للمشتري؛ لكونه مالك الأصل والقرار.

(فإن شَرَط عليه) أي على المشتري للثمر مع أصله، أو للزرع مع أرضه، أو لهما منفردين وهو مالك الأصل (القطعَ في الحال؛ صحَّ) البيع (ولا يلزم المشتري الوفاء به) أي: بالشرط (لأن الأصل له) فإن شاء فرَّغه، وإن شاء أبقاه مشغولًا.

(وكذا حكم رَطْبةٍ وبُقُول فلا يُباع) شئ منها (مفردًا بعد بُدُوِّ صلاحه، إلا جزَّةً جزَّةً، بشرط جَزِّه) أي: قطعه (في الحال) لأن الظاهر منه معلوم لا جهالة فيه ولا غَرَر، بخلاف ما في الأرض، فإنه مستورٌ مُغيَّب، وما يحدث منه معدوم، فلم يجز بيعه، كالذي يحدث من الثمرة.

(وإن اشترى الثمرة)، قبل بُدُوِّ صلاحها (بشرطِ القَطْعِ) في الحال (ثم استأجر الأصول أو استعارها) أي: الأصول (لتبقيتها، أي: الثمرة (إلى) أوان (الجذاذ، لم يصح).

وكذا لو اشترى الزرع الأخضر بشرط القَطْع في الحال، ثم استأجر الأرض، أو استعارها لتبقيته، لم يصح. ويأتي أن البيع يبطل بأول الزيادة.

(ولا يُباع القِثَّاء ونحوه) كالخيار، والباذنجان (إلا لقَطَةً لَقَطَةً) لأن الزائد على اللَّقطة لم يُخلق فلم يجز بيعه، كما لو باعه قبل ظهوره (إلا أن يبيعه) أي: القثاء ونحوه (مع أصله) فيصح؛ لأنه إذن تبعٌ للأصل، أشبه الحَمل مع أمه وأُسَّ الحائط معه (ولو لم تُبَع معه أرضه) كالثمر إذا بيع في الشجر.

(وإن باعه) أي: ما ذكر من القثاء ونحوه (دون أصله فإن لم يَبدُ

ص: 73

صلاحه، لم يصح) البيع (إلا بشرط قطعه في الحال، إن كان ينتفع به) كما تقدم في الثمرة، وإن لم ينتفع به إذن لم يصح بيعه، كسائر ما لا نفع فيه.

(ويصح بيع هذه الأصول التي تتكرَّرُ ثمرتها) كأصول القثاء والخيار والباذنجان (من غير شرط القطع) كبيع الشجر (صغارًا كانت الأصول أو كبارًا، مثمرة) كانت (أو غير مثمرة) بدا صلاح ثمرها أو لم يبدُ كالشجر؛ لأن العقد على الأصول، وأما الثمرة فهي تابعة، كالحَمْل مع أمه.

(والقطن) ضربان، أحدهما: ما له أصل يبقى في الأرض أعوامًا. والثاني: ما يتكرر زرعه كل عام، فـ (ـــــإن كان له أصل يبقى في الأرض أعوامًا كقطن الحجاز، فحُكمه حُكم الشجر، فيجوز إفراده بالبيع) كالشجر وأصول القثاء (وإن بيعت الأرض، دخل في البيع) كالشجر (وثمره كالطلع إن تفتَّح فلبائع، وإلا فلمشترٍ.

وإن كان يتكرر زرعه كل عام) كقُطن مصر والشام (فـ) ــحكمه حكم (زرع) بُرٍّ، ونحوه، لشبهه به.

(ومتى كان جوزه ضعيفًا رطبًا لم يقوَ) أي: يشتدَّ (ما فيه، لم يصح بيعه) كالزرع الأخضر (إلا بشرط القطع) فى الحال (كالزرع الأخضر) لما تقدم.

(وإن قوي حبُّه واشتدَّ، جاز بيعه) مطلقًا، و (بشرط التبقية، كالزرع إذا اشتدّ حبُّه) جاز بيعه مطلقًا، وبشرط التبقية.

(وكذا الباذنجان) فحُكمه حكم القطن على ما تقدم.

(والحصاد) لزرع اشتراه (واللقاطُ) للقطةٍ اشتراها (والجذاذ) للثمرة المشتراة (على المشتري) لأن ذلك من مؤنة

(1)

ما اشتراه؛ كنقل الطعام

(1)

في "ح" زيادة: "نقل".

ص: 74

المبيع، بخلاف أجرة الكيَّال ونحوه، فإنها على البائع؛ لأنها من مؤنة تسليم المبيع إلى المشتري، وهو على البائع، وهنا حصل التسليم بالتخلية دون القطع؛ بدليل جواز التصرُّف فيه.

(فإن شَرَطه) أي: الحصاد، أو الجذاذ، أو اللقاط، المشتري (على البائع، صَحَّ) الشرط، كشرطه حمل الحطب، أو تكسيره.

(وإن باعه) أي: ما ذكر من الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها، والزرع الأخضر، والقثاء، ونحوها دون أصوله (مطلقًا، فلم يذكر قطعًا ولا تبقية، أو باعه بشرط التبقية، لم يصح) البيع، لما سبق من الأدلة على اشتراط بُدُوِّ الصلاح في الثمرة، واشتداد الحب في الزرع، وجز المبيع لقطة لقطة فيما تتكرر ثمرته.

(وإن اشترى) إنسان (قَصِيلًا

(1)

فقطعه، ثم نبت) في العام المقبل، فلصاحب الأرض؛ لأن المشتري ترك الأصول على سبيل الرفض لها، فسقط حقُّه، كما يسقط حق حاصد الزرع من السنابل التي يخلفها، ولذلك أُبيح التقاطها.

(أو سقط من الزرع حبٌّ) عند الحصاد (فنبت في العام المُقبل، -ويُسمَّى: الزُّريعَ) بالتصغير- (فلصاحب الأرض) ويأتي في المساقاة.

(وإن شَرَط القطع) أي: باع الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها أو القثاء ونحوها، الظاهرة بشرط القطع في الحال (ثم أخّره) أي: القطع (حتى بدا صلاحُ الثَّمرة) أو اشتدَّ الحب (أو طالت الجزَّةُ) من الرطبة ونحوها، أو كبرت اللقطة من القثاء ونحوها (أو اشترى عَريَّة ليأكلها رُطبًا) بشروطها

(1)

سبق التعريف به (8/ 64).

ص: 75

السابقة (فأخَّر) أخذَها (حتى أتمرت) أي: صارت تمرًا (أو) أخَّر (الزرع) الأخضر، إذا اشتراه بشرط القطع (حتى اشتدَّ) الزرع (بطل البيعُ) فيما ذُكر (بمجرَّد الزيادة) لأن صحة ذلك يجعل ذريعة إلى الحرام، ووسائل الحرام حرام، كبيع العِيْنة، وقد عاقب الله تعالى أهل السبت بصنيعهم.

(و) إذا بطل البيع فـ (ـالأصل) من الثمرة، والزرع، والجزَّة، واللقطة على البائع (والزيادة) الطارئة بعده (للبائع) كأن العقد لم يوجد.

(لكن يُعفى عن يسيرها) أي: يسير الزيادة (عُرفًا كـ) ـتركه القطع (اليوم واليومين) فلا يبطل البيع بذلك؛ لمشقَّة التحرُّز منه.

(وإن تلفت) الثمرة المبيعة دون أصولها، قبل بُدُوِّ صلاحها بشرط القطع (بجائحة قبل التَّمكُّن من أخذه) أي: الثمر، أنَّثَ أولًا، وذكر ثانيًا؛ لأن اسم الجنس يجوز تأنيث ضميره وتذكيره، كقوله تعالى:{أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}

(1)

، {نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}

(2)

(ضَمِنه) أي: الثمر (بائعٌ) لحديث جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوَضعِ الجوائح" رواه مسلم

(3)

.

(وإلا) أي: وإن تلفت بعد تمكُّن المشتري من أخذها فعلى (مُشترٍ) أي: فتفوت على المشتري لتقصيره بتركها.

(ولو باع شجرًا فيه) أي: الشجر (ثمرٌ له) أي: البائع، بأن كان نخلًا تشقق طلعه، أو شجرًا ظهرت ثمرته (ونحوه) بأن باع ما فيه زهر، أو قطن خرج من أكمامه، أو أصول قثاء ونحوها بعد ظهور ثمرتها (ولم يأخذه) أي: يأخذ البائع الثمر الذي له ونحوه (حتى حدثت ثمرة أخرى)

(1)

سورة الحاقة، الآية:7.

(2)

سورة القمر، الآية:20.

(3)

في المساقاة، حديث 1554 (17).

ص: 76

واختلطت بها (فلم تتميَّز، فهما) أي: البائع والمشتري (شريكان) في الثمرة (بقَدْر ثمرة كلِّ واحد منهما) فيقسمانها

(1)

كذلك، كما لو اشترى حنطة فانهَالتْ عليها أخرى.

(فإن لم يعلم قَدْرها) أي: قَدْر الثمرة الحادثة (اصطلحا) أي: البائع والمشتري على الثمرة؛ لدعاء الحاجة لذلك، إذ لا طريق لمعرفة حق كل منهما (والبيع صحيح) فلا يبطل بالاختلاط، كما تقدم

(2)

في اختلاط الحنطة المبيعة بغيرها.

(وإن أخَّر) المشتري (قَطعَ خشب) اشتراه (مع شرطه) أي: القطع (فنما) الخشب (وغلظ، فالبيع لازم) لا يبطل بذلك (ويشتركان في الزيادة) لأنها حصلت في ملكهما؛ فإن الخشب مِلك للمشتري، وأصله ملك البائع، وهما سبب الزيادة، فيقوَّم الخشب يوم العقد ويوم الأخذ، فالزيادة ما بين القيمتين، فيشتركان فيها.

فصل

(وإذا بدا صلاح الثمرة واشتدَّ الحبُّ، جاز بيعه مطلقًا) أي: بغير شرط قطع أو تبقية.

(و) جاز بيعه (بشرط التبقية) لأن النهي عن بيع الثمرة قيل بُدُوِّ صلاحها

(3)

، وعن بيع الحب حتى يشتدَّ

(4)

، يدلُّ بمفهومه على جواز البيع بعد بُدُوِّ الصلاح والاشتداد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علَّل بخوف

(1)

في "ح" و"ذ": "فيقتسمانها".

(2)

(8/ 29).

(3)

تقدم تخريجه (7/ 355) تعليق رقم (3) وانظر (8/ 71)، تعليق رقم (1).

(4)

تقدم تخريجه (7/ 356) تعليق رقم (1).

ص: 77

التلف

(1)

، وهذا المعنى مفقود هنا.

(وللمشتري تبقيته) أي: ما ذكر من الثمر والزرع (إلى الحصاد والجذاذ) لأن العُرف يقتضيه.

(ويلزم البائع سَقيُهُ) إن احتاج إليه؛ لأنه يجب عليه تسليمه كاملًا، ولا يحصُل إلا به، بخلاف ما إذا باع الأصل وعليه ثمرة للبائع، فإنه لا يلزم المشتري سقيها؛ لأن البائع لم يملكها من جهته، وإنما بقي ملكة عليها (ويُجبَرُ) البائع على السقي إذن (إن أبى) السقيَ (ولو تضرَّر الأصل) بالسقي؛ لأنه دخل على ذلك.

(ولمشتريه) أي: الثمر بعد بُدُوِّ صلاحه (تعجيل قطعه، وبيعه قبل جَذِّه) لأن ملكه عليه تام.

(وإن تلفت ثمرةٌ، ولو في غير النخل) كرُمَّان، وعنب (أو) تلف (بعضها) أي: الثمرة (ولو) كان التالف (أقل من الثلث) أي: من ثلث الثمرة (بجائحة سماوية، وهي ما لا صُنْعَ لآدمي فيها، كريح، ومطرٍ، وثلجٍ، وبردٍ) بفتح الراء، المطر المنعقد (وبَرْدٍ) بسكون الراء، ضد الحَرِّ (وجليد، وصاعقة، وحَرٍّ، وعطش ونحوها، وكذا جراد ونحوه) كجندب (ولو) كان التلف (بعد قبضها، وتسلُّمِها) بالتخلية؛ لأنها ليست بقبض تام، فوجب كونه من ضمان البائع، كما لو لم يقبض و (رجع) المشتري (على بائع) الثمرة التالفة بثمنها إن تلفت كلها (لكن يُسامَح في تلف يسير لا ينضبط) فلا يرجع بقسطه من الثمن (ويُوضع من الثمن بتلف البعض) من الثمرة المبيعة (بقَدْرِ التالف) منها.

والأصل في ذلك كله حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمر بوَضع

(1)

تقدم تخريجه (8/ 71) تعليق رقم (2).

ص: 78

الجوائحِ"

(1)

، وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن بِعْتَ من أخيك تمرًا فأصابته جائحةٌ، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيكَ بغير حَق؟ " رواهما مسلم

(2)

.

(وإن تعيَّبت) الثمرة (بها) أي: بالجائحة المذكورة (من غير تَلَفٍ، خُيِّر) المشتري (بين إمضاء) البيع (مع) أخذ (أرش) العيب (وبين ردٍّ وأخذ الثمن كاملًا) لأن ما ضمن تلفه بسبب في وقتٍ، كان ضمان تعيبه فيه بذلك أَولى.

(وإن اختلفا) أي: البائع والمشتري (في التلف) أي: بأن قال البائع: لم يتلف شيء، وقال المشتري: بل تلف (أو) اختلفا في (قَدْره) أي: التالف (فقول بائع) لأنه منكرٌ لما يدعيه المشتري، والأصل عدمه.

(ومحل) وضع (الجائحة) عن المشتري (ما لم يشترها مع أصلها) لحصول القبض التام، وانقطاع عِلَقِ البائع عنها، قاله في "شرح المنتهى". ومقتضاه: أنها لو بيعت وحدها لمالك الأصل، فالحكم كذلك، ولم أجده منقولًا (أو يؤخِّرها عن وقت أخذِها المعتاد، فإن كان ذلك) التأخير عن الوقت المعتاد (فـ) ـالثمرة التالفة (من ضمان مشترٍ) لتفريطه.

(وما له أصلٌ يتكرَّر حمله، كقِثاءٍ وخيار وباذنجان وشِبهها، كشجرٍ) فيما تقدم (وثمرُه كثمرة) شجر كبار (فيما تقدم من) وضع (جائحةٍ وغيرها) على التفصيل السابق.

(وإن أتلفه) أي: ما ذكر من الثمر (آدميٌّ معيَّنٌ، أو) أتلفه (عسكرٌ

(1)

تقدم تخريجه (8/ 76) تعليق رقم (3).

(2)

في المساقاة، حديث 1554 (14، 17).

ص: 79

ولُصوص، خُيِّر مشترٍ بين فسخ) البيع، ويرجع بما دفعه (و) بين (إمضاءٍ ومطالبةِ مُتلِفٍ) بالبدل، كالمكيل اذا أتلفه آدمي قبل القبض.

(وإن تلف الجميع) أي: جميع المبيع من الثمرة (بالجائحة، بطل العقد) فلا تخيير للمشتري (ويرجع المشتري بجميع الثمن) على البائع إن كان دفعه له، وإلا سقط عنه، لما تقدم من حديث جابر

(1)

.

(وفي "الأجوبة المصرية"

(2)

) لشيخ الإسلام أبي العباس: (لو استأجر بستانًا أو أرضًا، وساقاه على الشجر بجزء من ألف جزء، إذا تلف الثمر بجراد ونحوه من الآفات السماوية، فإنه يجب وضع الجائحة عن المستأجر) صورة (المشتري) حقيقة (فَيَحطُّ عنه من العِوض بقَدْرِ ما تَلِفَ) من الثمرة (سواء كان العقد فاسدا أو صحيحًا) لعموم حديث جابر السابق (1)؛ ولأن فاسد العقود كصحيحها في الضمان وعدمه.

(وإن اشترى الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها بشرط القطع، فتلفت بجائحة) سماوية (بعد تمكنه من قطعها فـ) ـهي (من ضمانه) أي: المشتري؛ لتفريطه.

(وإن لم يتمكن) المشتري من قطعها حتى تلفت (فـ) ـهي (من ضمان بائع) لحديث جابر السابق (1)، وتقدم ذلك في الفصل السابق

(3)

.

وعُلم مما تقدم: أن الحَبَّ إذا اشتراه وتلف، أنه من ضمان المشتري، وليس كالثمرة.

(وإن استأجر) إنسان (أرضًا فزرعها، فتلف الزرع) ولو بجائحة

(1)

تقدم تخريجه (8/ 76، 79) تعليق رقم (3، 2).

(2)

مجموع الفتاوى (30/ 309).

(3)

(8/ 76).

ص: 80

سماوية (فلا شيء على المؤجر) فيما قبضه من الأجرة، وإن لم يكن قَبَضَها، فله الطلب بها؛ لأنها تستقر بمضي المدة، انتفع المستأجر أو لا.

(وصلاح بعض ثمرة شجرة) في بستان (صلاح لها) أي: للشجرة (و) صلاح (لسائر النوع الذي في البستان الواحد) لأن اعتبار الصلاح في الجميع يشق، كالشجرة الواحدة.

و (لا) يكون صلاح ثمرة شجرة، أو بعضها صلاحًا لسائر (الجنس) الذي بالبستان؛ لأن الأنواع تتباعد ويتميز بعضها عن بعض، ولا يخشى اختلاطها.

(ولو أفرز ما لم يبدُ صلاحه) من البستان (مما بدا صلاحه، وباعه) أي: ما لم يبدُ صلاحه (لم يصح) البيع لحديث النهي السابق

(1)

وإنما صح بيعه مع ما بدا صلاحه تبعًا له.

(وإذا اشتدَّ بعض حبِّ الزرع جار بيع جميع ما في البستان من نوعه) أى: من نوع الحَبِّ المشتدِّ (كالشجرة) إذا بدا صلاح بعضها كان صلاحًا لجميع نوعها، كما تقدم.

إذا تقرَّر ذلك (فصلاح ثَمَر النخل) وهو: البلح (أن يحمَرَّ أو يصفرُّ.

و) صلاح (العنب أن يتموَّه بالماء الحلو) أي: أن يصفرَّ لونه، ويظهر ماؤه، وتذهب عفوصته

(2)

من الحلاوة، قاله في "الحاشية". قال: فإن كان أبيض، حسن قشره وضرب إلى البياض، وإن كان أسود،

(1)

تقدم تخريجه (7/ 355) تعليق (3).

(2)

العُفوصةُ: المرارة والقبض. القاموس المحيط ص/ 623 مادة: (عفص).

ص: 81

فحين يظهر فيه السواد.

(و) صلاح (ما يظهر ثمره فمًا واحدًا

(1)

من سائر الثمر) كرُمَّان، ومشمش، وخوخ، وجوز (أن يظهر فيه النضجُ ويطيب أكلُه) لأنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الثمرة حتى تَطِيبَ" متفق عليه

(2)

. وقال المجد، وتبعه في "الفروع" وجماعة: بُدُوِّ صلاح الثمر: أن يطيب أكله ويظهر نضجه. قال في "الإنصاف": وهذا الضابط أولَى، والظاهر: أنه مراد غيرهم، وما ذكروه علامة على هذا. انتهى، وجزم به في "المنتهى".

(و) صلاح (ما يظهر فمًا بعد فمٍ، كقثَّاء ونحوه، أن يؤكل عادة).

(و) صلاح (في حَبٍّ: أن يشتدَّ، أو يبيضَّ) لأنه صلى الله عليه وسلم جعل اشتداد الحب غايةً لصحة بيعه

(3)

، كبُدُوِّ الصلاح في الثمرة.

فصل

(ومن باع رقيقًا) عبدًا، أو أَمَة (له مال ملَّكه) أي: الرقيق (سيده إيَّاه) أي: المال (أو خصَّه به، أو) باع رقيقًا (عليه حَليٌ) كأساور، وحياصة (فمالهُ وحليه للبائع، إلا أن يشترطه) المبتاع (أو) يشترط (بعضَه المبتاع، فيكون له) أي: للمبتاع (ما اشترط) من كلِّ أو بعض؛ لحديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من باع عبْدًا وله مالٌ فمالُه للبائع، إلا أن يشترطَهُ المُبتاع" رواه مسلم

(4)

؛ ولأن العبد وماله للبائع، فإذا باع العبدَ

(1)

فمًا واحدًا: أي مرة واحدة. انظر: القاموس المحيط ص/ 1146، مادة (الفم).

(2)

البخاري في البيوع، باب 83، حديث 2189، ومسلم في البيوع، حديث 1536 (86) عن جابر رضي الله عنه.

(3)

تقدم تخريجه (8/ 71) تعليق رقم (3).

(4)

في البيوع، حديث 1543 (80). وأخرجه -أيضًا- البخاري في المساقاة، باب 17 =

ص: 82

بقي المال، وسواء قلنا: العبد يَملك بالتمليك أو لا.

(فإن كان) المُبتاع (قصدُه المالَ) الذي هو مع الرقيق، بأن لم يقصد تركه للرقيق، كما يأتي (اشترط علمه) بالمال (وسائر شروط البيع) لأنه مبيع مقصود، أشبه ما لو ضَمَّ إليه عينًا أخرى (وله) أي: المبتاع (الفسخُ بعيب ماله) أي: مال الرقيق المقصود (كهو) كما أن له الفسخ بعيبٍ يجده في الرقيق.

(وإن لم يكن قصده

(1)

) أي: المبتاع (المال، وقصَدَ) المبتاع (تَرْكَ المال للرقيق لينتفع) الرقيق (به وحده، لم يُشترط) علمه بالمال، ولا غيره من الشروط؛ لأن المال دخل تبعًا.

(فإن كان عليه) أي: الرقيق (ثيابٌ، فقال) الإمام (أحمد

(2)

: ما كان للجمال فهو للبائع) لأنه زيادة عن العادة، ولا تتعلَّق به حاجة العبد، إلا أن يشترطه المبتاع (وما كان للُّبس المعتاد، فهو للمشتري) لجريان العادة ببيعها معه، وتتعلق بها مصلحته وحاجته، إذ لا غِنى له عنها.

(ويدخل عِذَار فرس) أي: لجامها (ومِقْود دابة) بكسر الميم (ونعلُها ونحوهن في مطلق البيع) لجريان العادة ببيعه معها.

(وإذا اشترط مالَ الرقيق ثم رَدَّه) أي: الرقيق (بإقالة، أو خيار، أو عيب) أو غبنٍ، أو تدليس ونحوه (رَدَّ ماله) معه؛ لأنه عين مال أخذه المشتري به، فيرده بالفسخ كالعبد.

(فإن تَلِفَ ماله) أي: الرقيق (وأراد) المشتري (ردَّه) بنحو عيب

= حديث 2379، ولفظهما: ومن ابتاع عبدًا

إلخ.

(1)

في "ح": "وإن لم يقصد".

(2)

المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف (12/ 215)، والمبدع (4/ 175).

ص: 83

(فـ) ـله ذلك و (عليه) أي: المشتري (قيمة ما تلف) من المال (عنده) كما لو تعيّب عنده ثم ردَّه.

(ولا يُفرَّق بين العبد) أي: المبيع (وبين امرأته ببيعه، بل النكاح باقٍ) مع البيع؛ لعدم ما يوجب التفريق.

ص: 84

‌باب السَّلَم والتصرف في الدِّين وما يتعلق به

قال الأزهري

(1)

: السَّلَم والسَّلَف واحد في قول أهل اللغة، إلا أن السَّلَف يكون قرضًا. لكن السَّلَم لغة أهل الحجاز، والسَّلَف لغة أهل العراق، قاله الماوردي

(2)

، وسُمِّي سَلَمًا؛ لتسليم رأس المال في المجلس، وسلفًا؛ لتقديمه.

(وهو) أي: السَّلَم (عَقْدٌ على) شيء يصح بيعه (موصوف في الذمة) وهي وصف يصير به المكلِّف أهلًا للإلزام والالتزام (مؤجَّل) أي: الموصوف (بثمن) متعلّق بـ"عقد"(مقبوض) أي: الثمن (في مجلس العقد) قال في "المبدع": واعترض بأن قبض الثمن شرط من شروطه، لا أنه داخل في حقيقته، والأولى: أنه بيع موصوف في الذِّمة إلى أَجَلٍ.

وأجمعوا على جوازه، ذكره ابن المنذر

(3)

.

ودليله: من الكتاب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}

(4)

.

ومن السُّنة ما روى ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، وهم يُسْلِفون في الثمار؛ السَّنتين والثلاث، فقال: "منْ أسْلَفَ في شيءِ، فَلْيُسْلِف في كيلٍ معلومٍ، ووزن معلومٍ إلى أَجَلٍ معلومٍ" متفق عليه

(5)

.

(1)

الزاهر في غريب ألفاظ الإمام الشافعي ص/ 314.

(2)

الحاوي الكبير (5/ 388).

(3)

الاجماع ص/ 119.

(4)

سورة البقرة، الآية:282.

(5)

البخاري فى السلم، باب 1، 2، 7، حديث 2239، 2240، 2241، 2253، =

ص: 85

ولحاجة الناس إليه.

(ويُشترط له) أي: السَّلَم (ما يُشترط للبيع) لأنه نوع منه (إلا أنه) أي: السَّلَم لا (يجوز) إلا (في المعدوم) لما يأتي، بخلاف البيع؛ فإنه يجوز في الموجود وفي المعدوم بالصفة، كما تقدم

(1)

. والمراد بالمعدوم هنا: الموصوف في الذِّمة، وإنْ كان جنسه موجودًا.

(ويصح) السَّلَم (بلفظ بيعٍ) كـ: ابتعتُ منك قمحًا صفتُه كذا، وكَيْلُه كذا إلى كذا؛ لأنه نوعٌ من البيع (و) يصحُّ أيضًا بلفظ، (سَلَم، وسَلَف) لأنهما حقيقة فيه (و) يصح -أيضًا- (بكل ما يصح به الببع) كـ: تملَّكتُ، واتَّهبتُ ونحوه.

(ولا يصح) السَّلَم (إلا بشروط سبعة) تأتي مفصلة:

(أحدها: أن يكون) السَّلمَ (فيما يمكن ضبط صفاته) لأن ما لا تنضبط صفاته يختلفُ كثيرًا، فيفضي إلى المنازعة المطلوبُ عَدَمُها، بأن يكون المسلَم فيه (من المكيل، من حبوب وغيرها) كأدهانٍ، وألبانٍ (والموزون، من الأخباز واللحوم النيئة، ولو مع عظمه) لأنه كالنوى في التمر (إن عيَّن موضع القطع، كلحم فخذٍ، وجَنْب، وغير ذلك) فإن لم يُعيّن، لم يصع السَّلَم فيه بعظمه؛ لاختلافه.

(ويُعتبر قوله) إذا أسْلَم في لحم (بقر) أو جواميس (أو غنم) الأولى إسقاطها، كما يأتي في نظائره (أو ضأن، أو معز، جَذَع أو ثَنِيٍّ، ذكر أو أنثى، خصي أو غيره، رضيع أو فطيم، معلوفة أو راعية، سمين أو هزيل) لأن الثمن يختلف بهذه الأشياء، فاعتبُر بيانها.

(ويلزم) المسلم إذا أسلم في اللحم وأطلق (قَبول اللحم بعظامه)

= ومسلم في المساقاة، حديث 1604.

(1)

(7/ 322).

ص: 86

لأن اتصاله بها اتصال خِلقة (كالنَّوى في التمر.

فإن كان السَّلَم في لحم طير، لم يحتج) في الوصف (إلى ذِكْرِ الذكورية والأنوثية، إلا أن يختلف) اللحم (بذلك) أي: بالذكورية والأنوثية (كلحم الدجاج) فيحتاج إلى بيان.

(ولا) يحتاج أيضًا في السَّلَم في الطيرِ (إلى ذِكْر موضع القطع، إلا أن يكون كبيرًا يؤخذ منه بعضه) كخمسة أرطال من لحم نعام، فيبين موضع القطع؛ لاختلاف العظم.

(ولا يلزمه) أي: المسلم إذا أسلم في لحم طير (قَبول الرأس والساقين) لأنه لا لحم بها.

(ويذكر في السمك) إذا أسلم فيه (النوع) فيقول: (بَرَدِيٌّ أو غيره، و) يذكر (الكبر والصغر، والسِّمَن والهزال، والطري، والمِلْح، ولا) يلزم المسلم أن (يقبل الرأس والذنب، وله ما بينهما) أي: الرأس والذنب بعظامه.

(ولا يصح) السَّلَم (في اللحم المطبوخ، ولا) اللحم (المشوي) لأنه يختلف.

(ويصح) السَّلَم (في الشحوم) كاللحوم. قيل لأحمد

(1)

: إنه يختلف؟ فقال: كلُّ سلف يختلف.

(و) يصح السَّلَم في (المذروع من الثياب) والخيوط.

(وأما المعدود المختَلِفُ، فيصحُّ) السَّلم (في الحيوان منه) خاصة؛ لأنه الذي يتأتَّى ضبطه (ولو) كان المسلَم فيه (آدميًّا) ويأتي وصفه.

(ولا) يصح السَّلَم (في الحوامل من الحيوان) بأن أسلم في أمَةٍ

(1)

مسائل أبي داود ص/ 197.

ص: 87

حامل، أو فرس حاملٍ ونحوها؛ لأن الحمل مجهول غير متحقق.

(ولا) يصح السَّلَم (في شاة لبون) أي: ذات لبن؛ لأنه كالحمل (ولا في أمَةٍ وولدها، أو أختها، أو عمتها، أو خالتها) ونحوها من أقاربها (لندرة جمعها في الصفة.

ولا) يصح السَّلَم (في فواكه معدودة) كالرُّمان، والسفرجل، والخوخ ونحوها؛ لأنها تختلف بالصغر والكبر (فأما) الفواكه (المكيلة، كالرطب ونحوه، و) الفواكه (الموزونة، كالعنب ونحوه، فيصح) السَّلَمْ (فيه) أي: فيما ذكر من المكيلات والموزونات.

(ولا يصح) السَّلَم (في بُقُولٍ) لأنها تختلف، ولا يمكن تقديرها بالحزم (و) لا في (جلود) لأنها تختلف، ولا يمكن ذرعها؛ لاختلاف الأطراف (و) لا في (رؤوس، وأكارع) لأن أكثر ذلك العظام والمشافر، واللحم فيها قليل، وليست موزونة.

(و) لا يصح السَّلَم في (بيض) لاختلافه كبرًا وصغرًا (و) لا في (رمان، ونحوها) أي: المذكورات عن المعدودات المختلفة.

(ولا) يصح السَّلَم (في أوانٍ مختلفةِ رؤوس وأوساط، كَقِمَاقم) جمع قُمقُم بضم القافين (و) كـ (ـأصطال

(1)

ضيقةِ رؤوسٍ) لاختلافها (وقيل: يصح) السَّلَم فيها (حيث أمكن ضبطها) صححه في "التصحيح"، فيضبط نحو رمان بوزن، وإناء بارتفاع، وحائط ودور أسفله وأعلاه.

(ويصح) السَّلَم (فيما يَجمعُ أخلاطًا) واحدها خِلط، بكسر الخاء (مقصودة متميزة، كثياب منسوجة من نوعين) كإبريسم وقطن؛ لأن

(1)

كذا في الأصول، وفي متن الإقناع (2/ 280):"أسطال" وهو الصواب. قال في القاموس المحيط ص/ 1014، مادة (سطل):"السطل: طُسَيْسَةٌ لها عُروة".

ص: 88

ضبطها ممكن (ونُشَّاب ونَبل مَرِيشين

(1)

، وخفاف، ورماح مُتوَّزة

(2)

ونحوها) لإمكان ضبطها بالصفة.

و (لا) يصح السَّلَم (فيما يَجمع أخلاطًا غير متميزة، كقِسي مشتملة على خشبٍ، وقَرْنٍ، وعصب، وتَوْز) بفتح المثناة فوق وسكون الواو (ونحوها) كطلاء؛ إذ لا يمكن تمييز ما في القوس من كل نوع من هذه.

(ويصح) السَّلَم (في شَهْدٍ، وهو العسل في شمعها وزنًا) لأنه اتصال خِلقة، كالنَّوى في التمر، والعظم في اللحم.

(ولا يصح) السَّلَم (فيما لا ينضبط، كالجواهر كلها، من دُرٍّ، وياقوت، وعقيق، وشبهه) كلؤلؤ، ومرجان؛ لأنه يختلف اختلافا متباينًا بالكبر والصغر، وحسن التدوير، وزيادة ضوئها، ولا يمكن تقديرها ببيض العصفور؛ لأن ذلك يختلف، ولا بشيء معين؛ لأنه قد يتلف.

(ولا) يصح السَّلَم (في عين من

(3)

عقار، وشجر نابت، وغيرهما) لأن المعين يمكن بيعه في الحال، فلا حاجة إلى السَّلم فيه؛ ولأنه ربما تلف قبل أوان تسليمه، فلم يصح، كما لو شرط مكيالًا بعينه غير معلوم.

(ولا) يصح السَّلَم في مخلوطة بـ (ـما لا ينفعه خَلْط، كلبن مشوب) بماء، وحنطة مخلوطة بزوان

(4)

لأنه مجهول لا ينضبط بالصفة (أو لا يتميز، كمغشوش من أثمان) فلا يصح السَّلَم فيها؛ لأن غشها يمنع العلم

(1)

راش السهم يَريشه: ألزق عليه الريش، كريَّشَه، فهو مَرِيش ومُرَيَّش. القاموس المحيط ص/ 595 مادة (ريش).

(2)

في "ذ": "مستورة"، وتوز: فارسية، وهو لحاء الشجر الرقيق مثل ورق البردي، يلف حول القوس زينة له، أو ليزداد نعومة. تكملة المعاجم العربية لدوزي (2/ 76).

(3)

"من" ساقطة من "ح".

(4)

تقدم التعريف به (8/ 17).

ص: 89

بالقَدْر المقصود منها (و) كـ (ـمعاجين، وحلوى، ونَدٍّ

(1)

، وغالية

(2)

) فلا يصح السَّلَم فيها؛ لعدم ضبطها بالصفة.

(ويصح) السَّلَم (فيما يترك فيه شيء غير مقصود لمصلحة كالجبن توضع فيه الإنفَحَة، والخبز يوضع فيه الملح، وخل التمر يوضع فيه الماء، والسَّكَنْجَبين

(3)

يوضع فيه الخل، ونحوها) كدهن ورد وبنفسج؛ لأن ذلك يسير مقصودٌ لمصلحة، فلم يؤثر.

(ويصح) السَّلَم (في أثمان) خالصة (ويكون رأس المال غيرها) أي: غير الأثمان (لأنـ) ـه يحرم النَّساء بين النقدين كما تقدم

(4)

.

و (كل مالَين حَرُم النَّساء فيهما، لا يجوز أن يُسلَم) بالبناء للمفعول (أحدهما في الآخر) لفوات التقابض في المجلس، فلا يصح أن يسلم بُرًّا في شعير، ولا خبزًا في جبن.

(ويصح) السَّلَم (في فلوس) ولو نافقة (عددية، أو وزْنِية، ولو كان رأس مالها أثمانًا؛ لأنها) أي: الفلوس (عوض

(5)

) لا ثمن (وهذا أصوب) لكن تقدم لك في الربا أنها ملحقة بالأثمان على الصحيح، فلا يصح إن كان رأس مالها ثمنًا؛ لفوات التقابض (لكن إن كانت) الفلوس (وزْنية) أي: يتعامل بها وزنًا (فأسلَم فيها موزونًا، كصرف ونحوه) كخزٍّ، وكتان (لم يصح) السَّلَم (لاجتماعهما في علة ربا النسيئة)

(1)

النَّد، ويكسر: عود يتبخر به، وهو العود المُطرَّى بالمسك والعنبر والبان، أو هو العنبر. تاج العروس (9/ 215) مادة (ندد).

(2)

الغالية: أخلاط من الطيب. المصباح المنير ص/ 619، مادة (غلا).

(3)

السكنجبين: ليس من كلام العرب، وهو معروف مركب من السكر والخل ونحوه. المطلع ص/ 246.

(4)

(8/ 35).

(5)

في "ح" ومتن الإقناع (2/ 282): "عرض".

ص: 90

وهي الوزن.

(ويصح) السَّلَم (في عَرْض بعَرْض) إن لم يجرِ بينهما ربا النسيئة (فلو جاءه) أي: جاء المسلِم المسلَم إليه (بعين ما أخذ منه عند محِله) بكسر الحاء، أي: حلوله (لزمه) أي: المسلم (قَبوله إن اتَّحدا صفة) لأنه أتاه بالمسلَم فيه على صفته، فلزمه قَبوله، كما لو أتاه بغيره، والمثمن إنما هو في الذمة، وهذا عوض عنه.

(ومنه) أي: من مثال ما لو جاء بعين ما أخذ منه (لو أسلم جارية صغيرة في) جارية (كبيرة) ووصفها (فجاء المحل وهي) أي: الجارية المأخوذة (على صفة المسلَم فيه) وهي الجارية الكبيرة الموصوفة (فأحضرها) المسلم إليه (لزمه) أي: المسلِم (قَبولها) لما تقدم، إن لم يكن حيلة (فإن فعل ذلك حيلة لينتفع بالعين) التي جعلت رأس مال السَّلَم (أو ليطأ الجارية) التي أخذها رأس مال السلم (ثم يردّها بغير عِوض، لم يجز) لما تقدم من تحريم الحِيل.

ويصح السَّلَم في السُّكَّر والفانيد

(1)

والدبس، ونحو ذلك مما مسته النار؛ لأن عمل النار فيه معلوم بالعادة، ممكن ضبطه بالنشافة والرطوبة، فصح السَّلَم فيه كالمجفف بالشمس.

(1)

الفانيد: ويُقال: "فانيد" بالمعجمة، فارسي معرَّب، نوعٌ من الحلوى يُعمل من السُّكر والطحين الناعم أو النشا. انظر: المصباح المنير ص/ 660، مادة (فند)، وتاج العروس (8/ 509) مادة (فند)، وكنز الفوائد في تنويع الموائد ص/ 103.

ص: 91

فصل

الشرط (الثاني) للسَّلَم: (أن يصفه) أي: المسلَم فيه (بما يختلف به الثمن) اختلافا (ظاهرًا) لأن السَّلَم عوض يثبت في الذمة، فاشترط العلم به، كالثمن، وطريقه: الرؤية، أو الصفة، والأول ممتنع، فتعين الوصف.

(فـ) ـعلى هذا (يذكر جنسَه) أي: المسلَم فيه (فيقول مثلًا: تمرٌ. و) يذكر (نوعَه، فيقول) مثلًا: (بَرْنِيٌّ، أو: معقِليٌّ، ونحوه.

و) يذكر (قَدْرَ حَبِّه، فيقول: صغار، أو: كبار.

و) يذكر (لونه أن اختلف) اللون (كالطَّبرزد) نوع من التمر (يكون منه أسود وأحمر.

و) يذكر (بلده، فيقول) مثلًا: (كوفي، أو بصري.

و) يذكر (حداثته وقِدَمه، فإن أطلق العتيق) ولم يقيده بعام، أو أكثر (أجزأ أيُّ عتيق كان) لتناول الاسم له (ما لم يكن مُسوِّسًا ولا حشفًا)، وهو رديء التمر، قاله في "القاموس"

(1)

(ولا متغيرًا) فلا يلزم المسلِمَ قَبوله؛ لأن الإطلاق يقتضي السلامة من العيب.

(وإن شرط) المسلِم (عتيقَ عامٍ أو عامين، فهو على ما شرط) لوقوع العقد على ذلك (فيقول: حديث، أو قديم) بيان لذِكر حداثته وقِدمه.

(و) يذكر (جودته ورداءته؛ فيقول: جيد، أو رديء.

(1)

القاموس المحيط ص / 800، مادة (حشف).

ص: 92

والرطب كالتمر في هذه الأوصاف، إلا الحديث والعتيق) لأنه لا يتأتَّى فيه ذلك (وله) أي: للمسلِم في الرُّطب (من الرُّطب ما أرطب كله) لانصراف الاسم إليه (ولا يأخذ) من أسلم في رطبٍ (مُشدَّخًا) كمعظَّم، بُسرٌ يُغمز حتى ينشدخ، قاله في "القاموس"

(1)

. (ولا) يأخذ (ما قارب أن يُتْمِر) لعدم تناول الاسم له.

(وهكذا) أي: كالرُّطب في نحو هذه الأوصاف (ما يشبهه من العنب والفواكه) التي يصح السَّلَم فيها (وكذلك سائر الأجناس) التي يسلم فيها (يذكر فيها ما يختلف به الثمن) اختلافًا ظاهرًا (فالجنس، والجودة، والرداءة، والقَدْر شرط في كل مُسْلَمِ فيه) من الحبوب وغيرها.

(ويميِّز مختلِفَ نوعٍ، و) يذكر (سنَّ حيوان) فيقول مثلًا: بنت مخاض، أو لبون، ونحو ذلك (و) يذكر (ذكوريته، وسمنه، وراعيًا، وبالغًا، وضدها) وهو الأنوثية والهزال والعلف والصغر (ويذكر اللون إذا كان النوع الواحد يختلف) لونه، كما تقدم في التمر.

(ويُرجع في سنِّ الرقيق إليه) أي: إلى الرقيق (إن كان بالغًا) لأنه أدرى به من غيره (وإلا) بأن لم يكن بالغًا (فالقول قول سيده) في قدْرِ سِنِّهِ؛ لأن قول الصغير غير مُعتدٍّ به (وإن لم يعلم) سيده سنَّه (رجع في ذلك إلى أهل الخبرة على) حسب (ما يغلب على ظنونهم تقريبًا) لعدم القدرة على اليقين.

(ويصف البُرَّ بأربعة أوصاف: النوع، فيقول: سلمونيٌّ. والبلد، فيقول: حوراني، أو: بِقاعي) إن كان بالشام، أو بحيري، إن كان بمصر مثلًا (وصغار الحبِّ أو كباره، وحديث أو عتيق. وإن كان النوع الواحد

(1)

القاموس المحيط ص/ 253، مادة (شدخ).

ص: 93

يختلف لونه، ذكره) كما تقدم

(1)

.

(ولا يسلم فيه) أي: البُر (إلا مصفًّى) من تِبنه وعُقَدِهِ (وكذلك الشعير والقطنيات وسائر الحبوب) فيصفها بأوصاف البُرِّ.

(ويصف العسل بالبلد) كمصري (ورَبيعي أو صيفي، أبيض أو أشقر أو أسود، جيد أو رديء، وله مصفًّى) من الشمع.

(ويذكر) إذا أسلم في صيد (آلة صيدٍ، أحبولة

(2)

أو كلبًا، أو فهدًا أو غيرها) كبازٍ، وشَرَك (لأن الأحبولة يوجد الصيد فيها سليمًا، ونكهة الكلب أطيب من) نكهة (الفهد) بل أطيب الحيوانات نكهة؛ لكونه مفتوح الفم في أكثر الأوقات. قال في "المغني": والصحيح أن هذا لا يُشترط؛ لأنه يسير.

(ويذكر في الرقيق قَدْرًا) فيقول: (خماسي أو سُداسي، يعني خمسه أشبار، أو ستة، أسود أو أبيض، أعجميٌّ أو فصيحٌ، وكَحَلًا أو دَعَجًا) والكحل محركًا: سواد العين مع سعتها. والدعج: أن يعلو الأجفان سواد خلقة، موضعَ الكحلِ، ذكره في "القاموس"

(3)

(وتكلْثُمَ وَجْهٍ) أي: استدارة (وبكارةً، وثُيوبةً، ونحوها.

و) يذكر (كون الجارية) المسلم فيها (خميصةً ثقيلةَ الأرداف سمينةً، ونحو ذلك مما يُقصد، ولا يطول) في الأوصاف (ولا ينتهي في عِزَّةِ الوجودِ.

فإن استقصى الصفات حتى انتهى إلى حالٍ يندُر وجودُ المُسلَم فيه

(1)

(8/ 92).

(2)

الأحبولة: المصيدة. انظر القاموس المحيط ص / 981، مادة (حبل).

(3)

هكذا قال المؤلف رحمه الله، والذي في القاموس المحيط ص / 1052، مادة (كحل): الكحل محركة: أن يعلو منابت الأشفار سوادٌ خلقة، أو أن تسود مواضع الكحل. وقال في ص/ 188، مادة (دعج): الدعج: سواد العين مع سعتها. اهـ.

ص: 94

بتلك الصفات؛ بَطَلَ) السَّلَم؛ لأن من شرطه أن يكون المُسلَم فيه عامَّ الوجود عند

(1)

المحل، واستقصاء الصفات يمنع منه.

(ولا يُحتاجُ في) وصف (الجارية) المُسلَم فيها (إلى ذِكْر الجعودة والسبوطة) لأنه لا يختلف به الثمن اختلافًا بيِّنًا (كما لا تُراعى صفات الحُسن والملاحة) لأن الثمن لا يختلف معها اختلافًا ظاهرًا (فإن ذكر) المسلَم إليه (شيئًا من ذلك) وعقد عليه (لَزِمه) الوفاء به.

(وتضبط الإبل بأربعة أوصاف: النِّتاج، فيقول: من نِتاج بني فلان. والسِّن) فيقول: (بنت مخاض) أو (بنت لبون، ونحوه) كحقَّة، أو جَذَعة (واللون) فيقول:(بيضاء أو حمراء، أو ورقاء، و) يقول: (ذَكرَ أو أنثى. وأوصاف الخيل كأوصاف الإبل) الأربعة.

(وأما البغال والحمير، فينسبها إلى بلدها؛ لأنها لا تُنسب إلى نتاج، والبقر والغنم إن عُرِف لها نِتاج تُنسب إليه، وإلا) بأن لم يعرف لها نتاج (فهي كالحمير) تُنسب إلى بلدها.

(ولابُدَّ من ذِكْر النوع في هذه الحيوانات، فيقول في الإبل: بُخْتِيَّة أو عِرابية، وفي الخيل: عربية، أو هجين، أو برذون) وتقدم

(2)

تفسيرها في قسمة الغنيمة (و) يقول (في الغنم: ضأن أو معز، إلا البغال والحمير فلا أنواع فيها.

ويضبط السَّمْنَ بالنوع، من ضأن أو غيره) كمعز، أو بقر، أو جاموس (واللون) فيقول:(أبيض أو أصفر) ويقول: (جيد أو رديء. قال القاضي: ويذكر المرعى، ولا يحتاج إلى ذِكْر حديث أو عتيق؛ لأن

(1)

فى "ذ": "فى" بدل "عند".

(2)

(7/ 155).

ص: 95

الإطلاق يقتضي الحديث، ولا يصح. السَّلَم في عتيقِه؛ لأنه عيب، ولا ينتهي إلى حَدٍّ يُضبط به.

ويصف الزُّبْدَ بأوصاف السَّمْن) السابقة (ويزيد: زُبد يومه أو أمْسِه، ولا يلزمه قَبول متغيِّر من السَّمَنِ والزُّبدْ، ولا) سمن أو زبُد (رقيق، إلا أن تكون رقته) أي: ما ذكر منهما (للحَرِّ.

ويصف اللَّبن بالمرعى والنوع، ولا يَحتاج إلى اللون) لعدم اختلافه (ولا) إلى قوله:(حَلْب يومه؛ لأن إطلاقه يقتضي ذلك) فإن ذكر كان مؤكدًا (ولا يلزمه قَبول) لبن (متغيِّرٍ) بنحو حموضة؛ لأن الإطلاق يقتضي السلامة.

(ويصح السّلَم في المَخيض

(1)

نصًّا

(2)

) لأن ما فيه من الماء يسير، لمصلحته، وجرت به العادة، فهو كالملح في الجبن. قلت: والظاهر وصفه بوصفي اللبن.

(ويصف الجبن بالنوع) كبقري (و) بـ (ـالمرعى، و) بـ (ـــرَطْبٍ أو يابسٍ، جيد أو رديء.

ويصف اللِّبأ

(3)

ويسْلِمُ فيه وزنًا) لأنه

(4)

يجمد عقب حلبه، فلا يتحقق فيه الكيل (بصفات اللبن) من المرعى والنوع (ويزيد) اللِّبأ (اللون، ويذكر) في وصفه (الطبخ وعدمه.

ويصف غَزْلَ القطن، و) غزل (الكَتَّان بالبلد، واللون، والغِلظ والرِّقة. والنعومة والخشونة، ويصف القطن بذلك) أي: بالبلد واللون

(1)

تقدم التعريف به (8/ 13) تعليق رقم (1).

(2)

مسائل أبي داود ص/ 197، وابن هانئ (2/ 19) رقم 1254.

(3)

تقدم تعريف المؤلف به (8/ 20).

(4)

في "ح": زيادة "لا".

ص: 96

(ويجعل مكان الغلظ والدقة

(1)

، طويل الشعرة أو قصيرها. وإن شرط فيه منزوع الحب، جاز) وله شرطه (وإن أطْلق، كان له) القطن (بحبه كالتمر بنواه.

ويصف الإبْريسَم بالبلد، واللون، والغلظ والرقة.

ويصف الصوف بالبلد، واللون، وطويل الشعرة، أو قصيرها. والزمان) كقوله:(خريفي، أو: ربيعي، من ذكر أو أنثى) وفي "المغني" و"الشرح": احتمال أنه لا يحتاج إلى ذكر الذكورة والأنوثة؛ لأن التفاوت فيه يسير (وعليه) أي: المسلَم إليه (تسليمه) أي: الصوف (نقيًا من الشوك والبعر، ولو لم يشترط) عليه؛ لأنه مقتضى الإطلاق.

(وكذلك الشعر والوبر) فيوصفان بأوصاف الصوف، ويُسلَّمان نقيين من الشوك والبعر، وإن لم يشترط.

(ويضبط الرَّصاص) بفتح الراء (والنُّحاس) بضم النون (والحديد بالنوع، فيقول في الرصاص: قلعيٌّ، أو أُسْرُبٌ

(2)

، و) يذكر (النعومة والخشونة، واللون إن كان يختلف) لونه (ويزيد في الحديد: ذَكرًا أو أنثى؛ فإن الذَّكر أحد وأمضى) من الأنثى.

(وتُضبط الأواني غيرُ مختلفة الرؤوس والأوساط) لأن السَّلَم لا يصح في مختلفها (بقَدْرها) أي: كبرها أو صغرها (وطولها، وسمكها، ودَوْرها، كالأسطال القائمة الحيطان.

ويضبط القِصاعَ والأقداح من الخشب بذكر نوع خشبها) فيقول: (من جوز، أو توت) أو نحوه (وقَدْرها في الصغر والكبر، والعمق

(1)

في "ح" ومتن الإقناع (2/ 286): "والرقة".

(2)

الأُسْرُب: كقُنْفُذ، فارسي معرَّب، هو الرصاص. تاج العروس (3/ 55) مادة:(سرب).

ص: 97

والضيق، والثخانة والرقة.

وإن أسلم في سيف، ضُبط) السيف (بنوع حديده، و) ضبط (طوله وعرضه، ودقته وغلظه، وبلده، وقديم الطبع أو محدثه

(1)

، ماضٍ أو غيره، ويصف قَبيعته

(2)

وجفنه) أي: قرابه.

(ويضبط خشب البناء بذكر نوعه، ورطوبته ويبسه، وطوله ودَوْرِهِ) إن كان مدوّرًا (أو سُمْكه وعرضه) إن لم يكن مدوّرًا (ويلزمه أن يدفع إليه من طرفه إلى طرفه بذلك العرض أو الدور) الموصوف.

(وإن كان أحد طرفيه أغلظ مما وصف له) والآخر كما وصف (فقد زاده خيرًا) ويلزمه قَبوله. (وإن كان) أحد طرفيه (أدقَّ) مما وصف له (لم يلزمه قَبوله) لأنه دون ما أسلم فيه.

(وإن ذكر الوزن، أو) ذكر (سَمْحًا

(3)

، أو لم يذكره، جاز) السَّلَم، وصح (وله سَمْحٌ) أي:(خالٍ من العُقَدِ) لأنه مقتضى الإطلاق.

(وإن كان) الخشب المسلم فيه (للقِسيِّ، ذكر هذه الأوصاف، وزاد: سهليًّا أو جبليًّا، أو خُوطًا

(4)

، أو فِلقة

(5)

؛ فإن الجبلي أقوى من السهلي، والخوط أقوى من الفِلقة.

ويذكر فيما) أي: في خشب (للوقود: الغِلَظ) أو الدقة (واليُبس

(1)

في "ذ": "أو حديثه".

(2)

قبيعة السيف: ما على طرف مقبضه من فضة أو حديد. القاموس المحيط ص/ 748 مادة: (قبع).

(3)

السمح: كل ما استوت نبتته، حتى يكون ما بين طرفيه منه ليس بأدقَّ من طرفيه أو أحدهما. انظر لسان العرب (2/ 490) مادة:(سمح).

(4)

الخوط: الغصن الناعم. القاموس المحيط ص/ 660، مادة:(خوط).

(5)

الفِلقة: قوس تتخذ من نصف عود. القاموس المحيط ص/ 919، مادة:(فلق).

ص: 98

والرطوبة، والوزن، ويذكر فيما) أي: في خشب (للنَّصب: النوع والغلظ وسائرَ ما يحتاج إلى معرفته.

ويذكر في النشاب والنبل نوع خشبه، وطوله) أي: النشاب أو النبل (وقصره، ودقته، وغلظه، ولونه، ونصله، وريشه.

ويضبط حجارة الأرْحِية

(1)

بالدور، والثخانة، والبلد، والنوع إن كان يختلف، وإن كان) الحجر (للبناء ذكر اللون والقَدْر، والنوع والوزن.

ويذكر في حجارة الآنية: النوع، واللون، والقَدْر، واللين، والوزن، ويصف البلور بأوصافه) هكذا في "المغني"، مع أنه قال قبله:"لا يصح السَّلَم في البلور".

(ويصف الآجُرَّ، واللَّبن بموضع التربة، واللون، والدور والثخانة. ويذكر في الجص والنُّورة: اللون والوزن) وهكذا في "المغني"، و"المبدع" وغيرهما. وتقدم في الربا

(2)

أنهما من المكيلات. وقال في "الإنصاف" هناك: وعليه فيبدل الوزن بالكيل. (ولا يقبل) المسلِم من الجص والنُّورة (ما أصابه الماء فجفَّ) لذهاب المقصود منه (ولا) يقبل -أيضًا- منهما (ما قَدُمَ قِدَمًا يؤثِّر فيه.

ويضبط العنبر باللون والبلد، وإن شرط قطعة أو قطعتين، جاز) وله شرطه (وإلا فله إعطاؤه صغارًا) بالوزن.

(ويصف العود الهندي ببلده، وما يُعرف به.

ويضبط اللُّبان والمَصْطكا

(3)

وصمغ الشجر) بالوزن والبلد، وما

(1)

أرْحية: جمع رحىً، وهي الطاحون. المصباح المنير ص/303، مادة (رحى).

(2)

(8/ 33).

(3)

المَصْطكا بالفتح والضم، ويمد في الفتح فقط: علك رومي. القاموس المحيط =

ص: 99

يختلف به (و) يضبط (سائر ما يصح

(1)

السَّلَم فيه بما يختلف به. ويقول في الخبز: خبز بُّرٍّ، أو شعير، أو دُخْن) أو ذرة (أو أرز) ونحوه (و) يذكر (النشافة والرطوبة، واللون، فيقول: حُوَّارَى) بضم الحاء وتشديد الواو وفتح الراء، أي: خالص من النخالة (أو خُشْكار

(2)

، والجودة والرداءة.

ويذكر في طير: نوعًا، ولونًا، وكبرًا، وصغرًا، وجودة ورداءة) وصيد أُحبولة ونحوها على ما تقدم

(3)

.

(وما لا يختلف به الثمن لا يحتاج إلى ذِكره، فإن شَرَط الأجود) لم يصح؛ لتعذُّر الوصول إليه إلا نادرًا، إذ ما من جيد إلا ويحتمل وجود أجود منه (أو) شَرَطَ (الأردأ، لم يصح) لأنه لا ينحصر.

(وإن جاءه) أي: جاء المسلَمُ إليه المسلِمَ (بدون ما وصف) له، فله أخذه، (أو) جاءه بـ (ــنوع آخر) من جنس المسلم فيه، ولو بأجود منه (فله أخذه) لأن الحق له، وقد رضي بدونه، ومع اتحادهما في الجنس هما كالشيء الواحد، بدليل تحريم التفاضل (ولا يلزمه) أي: لا يلزم المسلِمَ أخذ دون ما وصف، ولا أخذ نوع آخر؛ لأنه غير المسلَمِ فيه، ولا يُجبر على إسقاط حقه. (وإن جاءه) المسلمُ إليه (بجنس آخر) بأن أسلم في بُرٍّ، فجاءه بأرز، أو شعير (لم يجز له أخذه) لحديث:"من أسلَم في شيءٍ فلا يَصْرِفهُ إلى غيره" رواه أبو داود وابن ماجه

(4)

.

= ص/ 953، مادة (مصك).

(1)

في الإقناع (2/ 289): يجوز.

(2)

خُشْكار: خبز لم ينخل طحينه. المعجم الفارسي ص/ 240.

(3)

(8/ 94).

(4)

أبو داود في البيوع، باب 59، حديث 3468، وابن ماجه في التجارات، باب 60، =

ص: 100

(و) إن جاءه (بأجود) مما وصف له (من نوعه) أي: من نوع ما أسلم فيه (لزمه قَبوله) لأنه جاءه بما تناوله العقد وزيادة تنفعه. قال في "المبدع": وظاهره ولو تضرَّر. انتهى. فإن كان من نوع آخر لم يلزمه.

(فإن قال: خُذْه) أي: الأجود (وزِدني درهمًا لم يجز) لأن الجودة صفة، فلا يجوز إفرادها بالعقد.

(وإن جاءه بزيادة في القَدْر، فقال ذلك) أي: خُذْه وزِدني درهمًا (صَحَّ) ذلك؛ لأن الزيادة هنا يصح إفرادها بالبيع.

(وإن قبض) المسلَمَ فيه (ووجد) به (عيبًا، فله إمساكُه مع أرشه، أو ردُّه) كسائر المعيبات.

(ويضبطُ الثيابَ) إذا أسلم فيها (فيقول: كتان، أو قُطن) أو إبريسم

= حديث 2283. وأخرجه -أيضًا- الترمذي في العلل ص/ 195، حديث 346، والدارقطني (3/ 45)، والبيهقي (6/ 30)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 197) حديث 1510، من طريق سعد الطائي عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا.

قاله الترمذي: لا أعرف هذا الحديث مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وهو حديث حسن.

وذكره السيوطي في الجامع الصغير (6/ 61 مع الفيض) ورمز لحسنه.

وأعله أبو حاتم الرازي كما في العلل لابنه (1/ 387)، والبيهقي، وعبد الحق الإشبيلي في الأحكام الوسطى (3/ 278)، وابن القطان في بيان الوهم والإيهام (3/ 173)، وابن الملقن في البدر المنير (6/ 563)، وابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 25) بثلاث علل:

الأولى: ضعف عطية العوفي.

الثانية: الاضطراب.

الثالثة: الوقف.

وأخرجه عبد الرزاق (8/ 14) رقم 14106، 14109، وابن أبي شيبة (6/ 226) عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفًا.

ص: 101

(والبلدَ، والطول والعرض، والصفاقة، والرقة والغِلَظَ، والنعومة والخشونة، ولا يذكر الوزن، فإن ذكره لم يصح) السَّلَم؛ لندرة جمع الأوصاف مع الوزن.

(وإن ذكر) في الوصف (الخام والمقصور، فله شَرطه، وإن لم يذكره، جاز) لأن الثمن لا يختلف بذلك اختلافًا ظاهرًا (وله خام) لأنه الأصل.

(وإن ذكر) في وصف الثوب (مغسولًا، أو لبيسًا، لم يَصِحَّ) السَّلَم؛ لأن اللبس مختلف، ولا ينضبط.

(وإن أسلم في مصبوغ مما يُصبغُ غزله، صَحَّ) السَّلَم لأنه مضبوط (وإن كان) المصبوغ (مما يُصبغ بعد نسجه لم يصح) السَّلَم فيه؛ لأن الصبغ لا ينضبط، ولأن صبغ الثوب يمنع الوقوف على نعومته وخشونته.

(وإن أسلم في ثوب مختلف الغزل) أي: من نوعين فأكثر (كقطن وكتان، أو قطن وإبريسم، وكانت الغزول) من كل نوع (مضبوطة بأن يقول: السَّدى إِبريسم، واللُّحمة كتَّان، أو نحوه) كقطن (صَحَّ) السَّلَم؛ للعلم بالمسلم فيه، وإلا؛ لم يصح.

(ويصح السَّلَم في الكاغَد

(1)

، ويضبطه بذكر الطول والعرض، والرقة والغلظ، واستواء الصنعة).

(1)

تقدم التعريف به (7/ 449).

ص: 102

فصل

الشرط (الثالث) للسَّلَم: (أن يذكر قَدْره) أي: المسلم فيه (بالكيل في المكيل، والوزن في الموزون) لما روى ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أسْلَفَ في شيءٍ فلْيُسلِفْ في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ" متفق عليه

(1)

، ولفظه لمسلم.

(و) أن يذكر قَدْره بـ (ــالذراع في المذروع، والعدّ في معدود يصح السَّلَم فيه) لأنه عوض غائب يثبت في الذمة، فاشتُرط معرفة قَدْره كالثمن.

(فإن أسلم في مكيل وزنًا، أو) أسلم (في موزون كيلًا، لم يصح) السَّلَم؛ لأنه قدَّره بغير ما هو مقدَّرٌ به، فلم يجز، كما لو أسلم في المذروع وزنًا، وبالعكس.

(وعنه: يصح) نقلها المرُّوذي

(2)

؛ لأن الغرض معرفة قَدْره، وإمكان تسليمه من غير تنازع، فبأي قَدْر قدَّره جاز (اختاره الموفق وجمع) منهم الشارح وابن عبدوس في "تذكرته"، وجزم بها في "الوجيز" و"المنور" و"منتخب الأزجي".

(ولا يصح) السَّلَم (في المَذروع إلا بالذَّرع) لما تقدم.

(ولابُدَّ أن يكون المكيال ونحوه) كالصَّنجة، والذراع (معلومًا عند العامة) لأنه إذا كان مجهولًا تعذَّر الاستيفاء به عند التلف، وذلك مُخِلٌّ

(1)

تقدم تخريجه (8/ 85) تعليق رقم (5).

(2)

لعله في مسائله ولم تطبع. وقد ذكر القاضي أبو يعلى في الروايتين والوجهين (1/ 320، 360) قولين، ونقل عن المروذي قوله: لا يسلف ما يكال فيما يوزن وإن اختلفا. ويؤيده رواية الكوسج في مسائله (6/ 2948) رقم 2175.

ص: 103

بالحكمة التي اشترط معرفة القَدْرِ لأجلها.

(فإن شرط مكيالًا) بعينه (أو ميزانًا) بعينه (أو ذراعًا بعينه، أو صنجة بعينها غير معلومات، أو أسْلَم في مثل هذا الثوب ونحوه، لم يصح) السَّلَم؛ لأنه قد يهلك فتتعذَّر معرفة المسلم فيه، وهو غَرَر.

(لكن لو عيَّن مكيال رجُلٍ، أو ميزانه، أو صنجته، أو ذراعه، صَحَّ) السَّلَم (ولم يتعين) فله أن يُسلِم بأي مكيال، أو ميزان، أو صنجة، أو ذراع؛ لعدم الخصوصية.

وما لا يمكن وزنه بميزان كالأحجار

(1)

الكبار يُحطُّ في سفينة، وينظر إلى أي موضع تغوص، فيُعَلَّم، ثمْ يرفع، ويُحطُّ مكانَه رمل أو أحجار صغار إلى أن يبلغ الماء الموضع الذي كان بلغه، ثم يوزن، فما بلغ فهو زنة ذلك الشيء.

(ويُسلِم في معدود مختلف يتقارب، غيرِ حيوان) كالجوز والبيض (عددًا) لأن التفاوت فيه يسير، ولهذا لا تكاد القيمة تختلف بين البيضتين والجوزتين، بخلاف البطيخ فإنه يتفاوت كثيرًا.

(وفي غيره) أي: يُسلِم في المعدود الذي لا يتقارب

(2)

كالبطيخ والفواكه المعدودة من الرمان ونحوه (وزنًا) لأنه يختلف كثيرًا ويتباين جدًّا، فلا ينضبط إلا بالوزن.

وما ذكر من السَّلَم في المعدود غير الحيوان محلُّه (إن صَحَّ السَّلَم فيه، وتقدم

(3)

قريبًا) في الشرط الأول حكاية الخلاف في ذلك، وقدَّم المصنف أنه لا يصح، وهو المذهب.

(1)

فى "ح": "كالحجارة".

(2)

في "ح": "بتفاوت".

(3)

(8/ 87).

ص: 104

فصل

الشرط (الرابع) للسَّلَم: (أن يشترط) المُسْلَم إليه (أجلًا معلومًا) لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلفَ في شيءِ فليُسْلِفْ في كيلٍ معلومٍ، أو وزنٍ معلومٍ، إلى أجَلِ معلومٍ"

(1)

فأمر بالأجَل، كما أمر بالكيل والوزن.

والأصل في الأمر الوجوب (له) أي: الأجل (وَقْعٌ في الثمن عادة، كشهر) لأن الأجل إنما اعتُبر ليتحقق الرَّفق الذي شُرع من أجله السَّلَم، فلا يحصُل ذلك بالمدة التي لا وَقْعَ لها في الثمن (وفي "الكافي": أو نصفِه، ونحوه) أي: نحو النصف. وفي "المغني" و"الشرح": وما قارب الشهر. قال الزركشي وكثير من الأصحاب يُمثِّل بالشهر والشهرين. فمِن ثَمَّ قال بعضهم: أقله شهر.

(فإن اختلفا في قَدْره) أي: قَدْر الأجل، بأن قال المسلِم: إلى شهر مثلًا، فقال المسلَم إليه: بل شهرين؛ فقول مسلَم إليه.

(أو) اختلفا في (مضيِّه) أي: الأجل (أو) اختلفا في (مكان التسليم، فقول مُسلَمٍ إليه) بيمينه؛ لأن الأصل بقاء الأجل، وبراءة ذمة المُسلَم إليه من مؤنة نقله إلى الموضع الذي يدعيه المُسلِم.

وكذا إن اختلفا في قَدْر المسلَم فيه أو صفته، كما في "المستوعب".

(وإن اختلفا في أداء المسلَم فيه، فقول المُسلِم) بيمينه؛ لأنه منكر للقبض، والأصل عدمه.

(1)

تقدم تخريجه (8/ 85) تعليق رقم (5).

ص: 105

(أو

(1)

) اختلفا (في قَبْض الثمن) الذي وقع عقد السَّلَم عليه (فقول المسلَم اليه) بيمينه؛ لأنه منكر، والأصل عدم القبض.

(فإن اتفقا عليه) أي: على قبض الثمن (وقال أحدهما: كان) القبض (في المجلس قبل التفرُّق، وقال الآخر): بل كان القبض (بعده) أي: بعد التفرُّق (فـ) ـالقول (قول من يدَّعي القبض في المجلس) بيمينه؛ لأنه يدعي الصحة، وذاك يدعي الفساد، والظاهر في العقود الصحة.

(فإن أقاما بينتين بما ادَّعياه) أي: أقام مُدَّعي القبض في المجلس بينة به، وأقام الآخر بينة بضد ذلك (قُدِّمت -أيضًا- ببينته) أى: بينة مدَّعى القبض في المجلس؛ لأنها مثبتة، وتلك نافية؛ ولأن معها زيادة علم.

(وإن أسلم حالًّا) لم يصح، لما تقدم من حديث ابن عباس

(2)

. (أو) أسلم (مطلقًا) أي: لم يعيّن أجلًا (لم يصح) السَّلَم لما تقدم (إلا أن يقع) العقد (بلفظ البيع فيصح حالًا، ويكون بيعًا بالصفة، وتقدم) في البيع

(3)

.

قال القاضي: ويجوز التصرُّف

(4)

قبل قبض رأس المال؛ لأنه بيع، ويحتمل أن لا يصح؛ لأنه بيع دَيْن بدَيْن. ذكره في "الكافي". وتقدم في البيع

(5)

: إن كان الموصوف في الذمة لم يصح إن تفرَّقا قبل قبضه، أو قبض ثمنه.

(وإن أسلم إلى أجل قريب كاليومين والثلاثة؛ لم يصحَّ) السَّلَم؛ لفوات شرطه، وهو أن مثل ذلك لا وَقعْ له في الثمن (إلا أن يُسلِم في

(1)

في "ح": "وإن" بدل "أو".

(2)

تقدم تخريجه (8/ 85) تعليق رقم (5).

(3)

(7/ 322).

(4)

في "ح": "التفرق".

(5)

انظر: (7/ 492، 494، 499).

ص: 106

شيء كخبز ولحم ودقيق ونحوها. يأخذُ منها

(1)

كل يوم جزءًا معلومًا، فيصِحُّ) السَّلَم؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك.

(فإن قَبَضَ البعضَ) مما أسلم فيه ليأخذ منه كل يوم قَدْرًا معلومًا (وتعذَّر قبض الباقي، رجع بقسطه من الثمن، ولا يجعل للباقي فضلًا على المقبوض) لأنه مبيع واحد متماثل الأجزاء، فيقسط الثمن على أجزائه بالسوية كما لو اتَّحد أجله.

(وإن أسلم في جنس واحد إلى أجلين) كَبُرٍّ بعضه إلى رجب، وبعضُه إلى شعبان، جاز بشرطه الآتي؛ لأن كل بيع جاز إلى أجل، جاز إلى أجلين وآجال، كبيوع الأعيان.

(أو) أسلم (في جنسين) كبُرٍّ وشعير (إلى أجل) واحد (صح) السَّلَم، كالبيع (إن بيَّن قسطَ كلِّ أجَلٍ) وثمنه في الأولى (و) بيَّن (ثمن كل جنس) في الثانية؛ لأن الأجل الأبعد له زيادة وَقْع على الأقرب، فما يقابله أقل مما يقابل الآخر، فاعتُبر معرفة قسطه وثمنه، وبهذا يحصُل التمييز للثمن الآخر (وإلا) بأن لم يبين قسط كل أجل وثمنه (فلا) يصح السَّلَم؛ لما تقدم.

(وإن أسلم جنسين) كذهب وفضة (فى جنس واحد) كبُرٍّ (لم يصح) السَّلَم (حتى يبين حصة كل جنس من المسلم فيه) كما لو أسلم في جنسين على ما تقدم. قال في "الإنصاف": على الصحيح من المذهب.

(و‌

‌لابُدَّ أن يكون الأجل مقدرًا بزمن معلوم)

لما تقدم من الحديث

(2)

.

(1)

"ذ" ومتن الإقناع (2/ 292): "منه".

(2)

تقدم تخريجه (8/ 85) تعليق رقم (5).

ص: 107

(فإن أسلم) مطلقًا، أو إلى حصاد ونحوه (أو باع، أو شرط الخيار مطلقًا، أو إلى حصاد، أو جذاذ ونحوهما) من كل ما يختلف، كنزول المطر، وهبوب الريح، وقدوم الحاج (لم يصح الشرط والعقد في السَّلَم) لفوات شرطه، وهو الأجل المعلوم؛ لاختلاف هذه الأشياء.

(ولا) يصح (الشرط فى البيع، والخيار

(1)

) للجهالة (ويصح البيع فيهما) أي: فيما إذا باع مطلقا، أو إلى حصاد ونحوه، ويكون الثمن حالًا. وفيما إذا شرط الخيار مطلقًا، أو إلى حصاد ونحوه (وتقدم)

(2)

ذلك (في الشروط في البيع) مفصلًا.

(وإن

(3)

قال): أسلمت في كذا (إلى شهر كذا) أي: رمضان ونحوه (أو) قال: (مَحِلُّه شهر كذا، أو) قال: مَحِلُّه (فيه) أي: في شهر كذا (صَحَّ) لأنه أجلٌ معلومٌ (وحَلَّ بأوله) كما لو علق عليه طلاقًا أو عتقًا.

(وإن قال) المسلِم للمسلَم إليه: (تؤديه) أي: السَّلَم (فيه) أي: في شهر كذا (لم يصحَّ) السَّلَم؛ لأنه جعله كله ظرفًا، فاحتمل أوله وآخره، فلم يكن أجلًا معلومًا.

(و) إن قال: أسلمتك في كذا (إلى أوله) أى: أول شهر كذا (أو) إلى (آخره، يَحلُّ) في الأولى (بأول جزء) من الشهر (و) في الثانية بـ (ـآخره) أي: آخر جزء من الشهر.

(وإن قال): أسلمتُك في كذا (إلى ثلاثة أشهر؛ كان إلى انقضائها) فإن كانت مبهمة، فابتداؤها حين تلفظ بها. وإن قال: إلى شهر، انصرف إلى الهلال، إلا أن يكون في أثنائه، فإنه يكمل بالعدد.

(1)

كذا في الأصول، وفي متن الإقناع (2/ 293):"ولا الخيار".

(2)

(7/ 401 - 402).

(3)

في "ح": "وإذا".

ص: 108

(وينصرِفُ) إطلاق الأشهر (إلى الأشهر الهلالية) لقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ}

(1)

.

(و) يصح السَّلَم (إلى شهر رومي، كَشُباط ونحوه) مثل: كانون الأول، أو الثاني (أو) إلى (عيدٍ لهم) أي: للروم (لم يختلف، كالنيروز، والمِهْرجَان، ونحوهما مما يعرفه المسلمون، يصح إِن عَرَفاه) أي: المتعاقدان؛ لأنه معلومٌ، أشبه عيد المسلمين.

(وإلا) بأن اختلف ذلك العيد المشروط (فلا يصح) السَّلَم (كالسَّعانين، وعيد الفَطِير) ونحوها مما يجهله المسلمون غالبًا، ولا يجوز تقليد أهل الذمة فيه. والسعانين -بسين ثم عين مهملتين؛ قاله ابن الأثير

(2)

وغيره- وهو عيد للنصارى، قيل عيدهم الكبير بأسبوع، قال النووي

(3)

: ويقوله العوام، وشبههم من المتفقهة بالشين المعجمة، وذلك خطأ.

(و) إن شرَطه (إلى العيد، أو) إلى (ربيع، أو) إلى (جمادى، أو) إلى (النَّفْر) من مِنًى ونحوها (مما يشترك فيه شيئان) كالنَّحْر (لم يصح) السَّلَم، حتى يعيِّن أحدهما؛ للجهالة.

(و) إن شَرَطه (إلى عيد الفطر، أو) إلى عيد (النَّحْر، أو) إلى (يوم عرفة، أو عاشوراء أو نحوها) كالنَّفْرِ الأول، أو الثاني، وهما ثاني أيام التشريق وثالثها، فالنفر الأول لمن تعجَّل في يومين، والنَّفْر الثاني لمن

(1)

سورة التوبة، الآية:36.

(2)

النهاية في غريب الحديث (2/ 369)، وانظر: القاموس المحيط ص/1205، مادة (سعن)، وانظر ما تقدم (7/ 264) تعليق رقم (2).

(3)

تهذيب الأسماء واللغات (3/ 149).

ص: 109

تأخَّر (صَحَّ) السَّلَم؛ لأنه أجل معلوم.

(ومثله) أي: السَّلَم (الإجارة) فيما ذكره، مما يصح أو يبطل.

(وإن جاءه) أي: جاء المسلَمُ إليه المسلِمَ (بالمسلَم فيه في مَحِلِّه) أي: وقتَ حلول أجله (لزمه) أي: المسلِم (قبضه، كالمبيع المعيّن، ولو تضرَّر بقبضه) لأن الضرر لا يُزال بالضرر.

(وإن أحضره بعد محل الوجوب، فكما لو أحضر المبيع بعد تفرقهما) من المجلس، فيلزمه قبضه، ولو تضرر.

(وإن أحضره) أي: المسلَمَ فيه (قبل مَحلِّه، فإن كان فيه) أي: في قبضه (ضرر، لكونه) أي: المسلَم فيه (مما يتغيَّر، كالفاكهة التي يصح السَّلَم فيها) من الرطب والعنب ونحوهما (أو كان) المسلم فيه (قديمه دون حديثه، كالحبوب، أو كان) المسلم فيه (حيوانًا، أو ما يحتاج في حفظه إلى مؤنة، كالقطن ونحوه، أو كان الوقت مَخُوفًا يخشى) المسلِمُ (على ما يقبضه، لم يلزم المسلِمَ قَبوله) أي: قَبول السَّلَم قبل مَحِلِّه؛ لما عليه من الضَّرر فيه.

(وإن لم يكن في قبضه) أي: المسلم فيه (ضرر ولا يتغيَّر) أي: يختلف (قديمه وحديثه كالحديد والرصاص، والزيت، والعسل ونحوها، لزمه قبضه) لأن الغرض حاصل مع زيادة تعجيل المنفعة، فجرى مجرى زيادة الصفة.

(وحيث قلنا: يلزمه القبض) لكونه بعد محله، أو عنده، أو قبله ولا ضرر، وأتاه بالمسلم فيه على صفته (وامتنع) المسلِمُ (منه) أي: من قبضه (قيل) أي: قال (له) الحاكم: (إما أن تقبض حقّك، وإما أن تُبرئ

ص: 110

منه، فإن أبى) الأمرين (رفع) المسلَم إليه (الأمر إلى الحاكم فقبضه) أي: المسلَم فيه (له، وبرئت ذمة المسلَمِ إليه فيه) أي: في ذلك المقبوض منه لأن الحاكم يقوم مقام الممتنع بولايته، وليس له أن يبرئ. قلت: وقياسه لو غاب المسلِم.

(وكذا) أي: كدَين السَّلَم (كلُّ دَيْن لم يحل إذا أتى) صاحبه (به) يلزمه قبضه حيث لا ضرر عليه فيه، وإن أتى به عند محِلِّه، أو بعده، لزمه مطلقًا.

(ويأتي إذا عجَّل الكتابة قبل محِلِّها) أي: حلولها، في باب الكتابة.

(لكن لو أراد) إنسان (قضاء دَيْن عن غيره فلم يقبله ربُّ الدَّين، أو أعْسَر زوج بنفقة زوجته، فبذلها أجنبي) وكذا لو لم يعسر، وبذلها أجنبيُّ (فلم تقبل) الزوجة (لم يُجبَرا) أي: ربُّ الدين والزوجة، على القبول من الأجنبي؛ لما فيه من تحمُّل مِنَّة الدافع، وتملك الزوجة حينئذ الفسخ بالإعسار.

وعُلم من قوله: "فبذلها أجنبي" أنه لو أعسر الزوج، وبذلها قريبه الواجب عليه نفقته، كوالده وولده، وأخيه، وَجَبَ عليها القَبول، وأجبرت عليه، ولا فسخ لها.

(إلا أن يكون) من أراد قضاء الدَّين عن غيره، أو بذل النفقة للزوجة (وكيلًا) عن المدين، أو الزوج، فيُجبران على القَبول منه؛ لقيامه مقام موكله (كتمليكه) أي: تمليك الأجنبي (للزوج؛ أو المديون) ما ينفقه أو يفي به دينه، إذا قبضاه ووفيا به ما عليهما، أجبرت الزوجة وربُّ الدَّين على القَبول منه؛ لعدم المِنَّة عليهما إذن.

ص: 111

(وليس) يلزم المسلَمَ إليه (للمسلِم إلا أقلُّ ما تقع عليه الصفة) التي عقد عليها، فإذا أتاه به لم يطلب منه أعلى منه؛ لأنه أتاه بما تناوله العقد فبرئت ذمته منه.

(و) يجب (على المسلَم إليه أن يسلِم الحبوبَ) المسلَمَ بها (نقية) أي: خالصة (من التبن، و) من (العُقَد، و) من (غير جنسها) كتراب، وزوان

(1)

في البُرِّ (فإن كان فيها تراب ونحوه) كزوان (يأخذ موضعًا من المكيال، لم يجز) له تسليمها كذلك، ولا يُجبر المسلِمُ على قَبولها كذلك (وإن كان) التراب أو نحوه (يسيرًا لا يؤثر، لزمه) أي: المُسلِم (أخذه) لأنه متعارف.

(ولا يلزمه) أي: المسلِم (أخذ التمر) المسلَم فيه (ونحوه) كالزبيب وسائر الفواكه اليابسة التي يصح السَّلَم فيها (إلا جافًّا) جفافه المعتاد (ولا يلزم أن يتناهى جفافه) لما تقدم من أنه ليس له إلا أقل ما يقع عليه الصفة.

(ولا يلزمه) أي: المسلِم (أن يقبل معيبًا) لأن الإطلاق يقتضي السلامة (فإن قبضه) أى: المسلَمَ فيه (فوجده معيبًا، فله إمساكه مع الأرش كما تقدم، وله ردُّه والمطالبة بالبدل) سليمًا (كالمبيع) غير المعين.

فصل

الشرط (الخامس) للسَّلَم (أن يكون المسلَمُ فيه عامَّ الوجود في مَحِلِّه). بكسر الحاء: وقت حلوله غالبًا، لوجوب تسليمه إذن (سواء كان) المسلَم فيه (موجودًا حال العقد أو معدومًا) كالسَّلَم في الرطب

(1)

تقدم التعريف به (8/ 17).

ص: 112

والعنب زمن الشتاء إلى الصيف.

(فإن كان) المسلَم فيه (لا يوجد فيه) أي: في وقت حلوله (أو لا يوجد) فيه (إلا نادرًا، كالسَّلَم في الرطب والعِنب إلى غير وقته، لم يصح) السَّلَم؛ لأنه لا يمكن تسليمه غالبًا عند وجوبه، أشبه بيع الآبق، بل أَولى.

(وإن أسلم في ثمرةٍ نخلةٍ بعينها، أو) أسلم (في ثمرة بستان بعينة، بدا صلاحه أو لا، أو) أسلم (في زرعه) أي: زرع بستان بعينه (استَحْصَدَ) أي: طلب الحصاد بأن اشتدَّ حبه (أو لا، أو) أسلم في ثمرةِ أو زرعِ (قرية صغيرة، أو) أسلم (في نِتاج فحْلٍ فلان، أو غنمه ونحوه، لم يصحَّ) السَّلَم في ذلك كله؛ لأنه لا يؤمن انقطاعه، ولما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم:"أنه أسلف إليه يهوديٌ في تمرِ حائطِ بني فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما في حائِطِ بني فُلانٍ فلا، ولكن كَيلٌ مسمَّىَ إلى أجلٍ مُسَمَّىَ" رواه ابن ماجه وغيره

(1)

. قال

(1)

ابن ماجه في التجارات، باب 59، حديث 2281، وأبو يعلى (13/ 483) حديث 7496، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/ 110) حديث 2082، وابن حبان "الإحسان"(1/ 521) حديث 288، والطبراني في الكبير (5/ 222) حديث 5147، والحاكم (3/ 604، 605)، وأبو نعيم في دلائل النبوة (1/ 108) حديث 48، وفي معرفة الصحابة (3/ 1184) حديث 3000، والبيهقي (6/ 24) وفي دلائل النبوة (6/ 278)، والضياء في الأحاديث المختارة (9/ 446) حديث 421، والمزي في تهذيب الكمال (7/ 334 - 347) عن الوليد بن مسلم، عن محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده عبد الله بن سلام رضي الله عنه مرفوعًا. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو من غرر الحديث.

وتعقبه الذهبي بقوله: ما أنكره وأركَّه!

وقال المزي: هذا حديث حسن مشهور في دلائل النبوة.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 240): رواه الطبرانى ورجاله ثقات.

وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة (4/ 54، 55) وقال: ورجال الإسناد موثقون، =

ص: 113

ابن المنذر

(1)

: المنع منه كالإجماع؛ لاحتمال الجائحة.

(وإن أسلم إلى مَحِلٍّ) أي: وقت (يوجد فيه عامًا، فانقطع وتعذَّر حصوله، أو) حصول (بعضه إما لغيبة المسلَم إليه) وقت وجوده (أو) لـ (ـعجز) هـ (عن التسليم حتى عدم المسلَم فيه، أو لم تحمِل الثمار تلك السنة، وما أشبهه، خُيِّر) المسلِمُ (بين صبر) إلى أن يوجد المسلم فيه فيأخذه (و) بين (فسخٍ في الكل) المتعذِّر (أو البعض المتعذِّر، ويرجع برأس مال) ما فسخ فيه، كُلًا كان أو بعضًا، إن كان رأس المال موجودًا (أو عِوَضِه إن كان معدومًا) لتعذُر ردِّه، وعوضُه: مِثْلُ مِثليٍّ، وقيمةُ متقوَّم.

وعُلم مما تقدم: أنه لو تحقَّق بقاء المسلم فيه، لزم المسلَمَ إليه تحصيلُه. قال في "شرح المنتهى": ولو شقَّ كبقية الديون.

(وإن أسلم ذمي إلى ذمي في خمر، ثم أسلم أحدهما، رجع المسلم) أى: صاحب السَّلم (فأخذ رأسَ ماله) الذى دفعه إن كان موجودًا، أو عِوضَهُ إن عدم؛ لأنه اذا أسلم الأول فقد تعذَّر عليه استيفاء المعقود عليه، وإن أسلم الآخر فقد تعذَّر عليه الإيفاء.

= وقد صرح الوليد فيه بالتحديث.

وقال في تهذيب التهذيب (3/ 35): وهو حديث حسن مشهور في دلائل النبوة.

(1)

لم نجده في مظانه من كتب ابن المنذر المطبوعة، وقد ذكره عنه ابن القطان بنحوه في الإقناع في مسائل الإجماع (4/ 1820) رقم 3533، نقلًا عن الإشراف. وذكر نحوه ابن عبد البر في الاستذكار (19/ 176).

ص: 114

فصل

الشرط (السادس) للسَّلَم: (أن يقبض) المسلَمُ إليه أو وكيله (رأس ماله) أي: السَّلَم (في مجلس العقد) قبل التفرُّق، استنبطه الشافعي

(1)

من قوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف فليُسلِفْ"

(2)

أي: فليعط، قال: لأنه لا يقع اسم السَّلَف فيه حتى يعطيه ما أسلفه قبل أن يفارق من أسلفه. انتهى. وحذارًا

(3)

أن يصير بيع دَيْن بدَيْن، فيدخل تحت النهي (أو ما في معنى القبض، كما لو كان عنده) أي: المسلَم إليه (أمانة، أو عين مغصوبة) ونحوها فجعلها ربها رأس مال سلم، فيصح؛ لأنه في معنى القبض.

و (لا) يصح عقد السَّلَم (بما في ذمته) أي: المسلَم إليه، بأن يكون له عليه دَيْن فيجعله رأس مال سَلَم؛ لأنه بيع دين بدَيْن، فهو داخل تحت النهي، وتقدم

(4)

.

(فإن قبض) المسلَم إليه (البعض) من رأس مال السَّلَم قبل التفرُّق (ثم افترقا قبل قبض الباقي، صَحَّ فيما قبض بقسطه، وبَطَل فيما لم يقبض) لتفريق الصفقة (وتقدَّم

(5)

) ذلك (في الصَّرْف).

لكن لو تعاقدا على مائة درهم في كُرٍّ

(6)

طعام مثلًا، وشرط أن يُعجِّل له منها خمسين، وخمسين إلى أَجَل، لم يصح العقد في الكل؛ ولو قلنا بتفريق الصفقة؛ لأن للمعجَّل فضلًا على المؤجَّل، فيقتضي أن

(1)

الأم (3/ 95).

(2)

تقدم تخريجه (8/ 85) تعليق رقم (5).

(3)

في "ذ": "وحذرًا".

(4)

(8/ 39).

(5)

(8/ 41).

(6)

تقدم التعريف به (7/ 336).

ص: 115

يكون في مقابلته أكثر مما في مقابلة المؤجَّل، والزيادة مجهولة، فلم يصح.

(ويُشترط كونه) أي: رأس مال السَّلَم (معلوم الصفة والقَدْر) كالمُسلَم فيه؛ لأنه قد يتأخر تسليم المعقود عليه، ولا يؤمن انفساخه، فوجب معرفة رأس ماله ليردَّ بدله كالقرض (فـ) ـــــعلي هذا (لا يصح) السَّلَم (بصُبرة) مشاهدَةٍ لا يعلمان قَدْرها.

(ولا) يصح السَّلَم (بما لا يمكن ضبطه بصفة، كجوهر ونحوه، فإن فعلا) أي: عقداه بذلك (فباطل) لفوات شرطه (ويرجع) أي: يرد المقبوض إذن (إن كان باقيًا، وإلا) بأن لم يكن باقيًا (فقيمته) إن كان متقوَّمًا، أو مثله إِن كان مثليًا، كصُبرة من نحو حبوب.

(فإن اختلفا فيها) أي: في قيمة رأس مال السَّلَم الباطل، أو في قَدْر الصُّبرة المجعولة رأس مال سَلَم (فقول مسلَمٍ إليه) بيمينه؛ لأنه غارم.

(فإن تعذَّر) عِلْمُ قَدْر القيمة، أو الصُّبرة، بأن قال المسلم إليه: لا أعلم قَدْر ذلك (فقيمة مسلم فيه مؤجَّلًا) إلى الأجل الذي عَيَّنَاه؛ لأن الغالب في الأشياء أن تُباع بقيمتها.

(ولو قبَض) المسلَمُ إليه (رأس مال السَّلَم المعيّن، ثم افترقا، فوجده) المسلَم إليه (مَعيبًا من غير جنسه) كالنُّحاس في الفضة، والمِسِّ

(1)

في الذهب (أو ظهر) رأس مال السَّلَم المعيَّن (مستحَقًا بغصب أو غيره، بطل العقدُ) كما لو ظهر ثمن المبيع المعيَّن كذلك.

(وإن كان العيب من جنسه) أي: جنس رأس المال، كالسواد في الفضة، والوضوح في الذهب (فله) أي: المُسلَم إليه (إمساكه وأخذ أَرْش

(1)

تقدم التعريف به (8/ 43).

ص: 116

عيبه، أو ردُّه وأخذ بدله في مجلس الرَّدٍّ) هكذا في "الإنصاف"، وهو غير ظاهر، بل متى ردَّه بطل العقد، كما في "المغني" لوقوعه على عينه، بخلاف ما في الذِّمة كما تقدم. وقد ذكرت كلام "المستوعب" في "الحاشية".

(وإن كان العقد وقع على مالٍ في الذمة) وقبضه، ثم ظهر به عيب من جنسه (فله المطالبة ببدله في المجلس، ولا يبطل العقد بردِّه) لأنه لم يتعيَّن، فإن كان العيب من غير الجنس بطل العقد بالتفرُّق على الصحيح، كما في "الإنصاف".

(وإن تفرَّقا) عن المجلس بعد قبضه (ثم علم) المسلم إليه (عيبه فردَّه، لم يبطل) السَّلَم (إن قبض) المسلَم إليه (البدل في مجلس الرَّدِّ) إقامة لمجلس الردِّ مقام جلس العقد.

(وإن تفرَّقا عن مجلس الرَّدِّ قبل قبض البدل، بطل) السَّلَم؛ لفوات شرطه، وهو القبض قبل التفرُّق، وإن كان العيب من غير جنسه، وتفرَّقا قبل أَخْذ بدله، بطل العقد، وتقدم نظير ذلك في الصرف.

(وإن وجد) المسلَم إليه (بعض الثمن رديئًا فردَّه، ففي المردود ما ذكرنا من التفصيل) المذكور.

فصل

الشرط (السابع) للسَّلَم: (أن يُسلِم في الذِّمة، فإن أسلمَ في عين) كدار وشجرة نابتة (لم يصح) السَّلَم (لأنه ربما تَلِفَ) أي: المعيَّن (قبل أوان تسليمه) ولأن المعيَّن بمكن بيعه في الحال، فلا حاجة إلى السَّلَم فيه، وتقدم

(1)

.

(1)

(8/ 106).

ص: 117

(ولا يُشترط) للسَّلَم (ذِكْر مكان الإيفاء) لأنه صلى الله عليه وسلم لم يذكره؛ ولأنه عقد معاوضةٍ أشبه بيوعَ الأعيان.

(إلا أن يكون موضعُ العقد لا يمكن الوفاء فيه، كبَرِّيَّه، وبحرٍ، ودار حرب) فيُشترط ذكره؛ لتعذُّر الوفاء في موضع العقد، وليس البعض أَولى من البعض، فاشترط تعيينه بالقول، كالكيل.

(ويجب) الإيفاء (مكان العقد) إن عقدا في محل يصلح للإقامة (مع المُشَاحَّة) لأن العقد يقتضي التسليم في مكانه، فاكتفي بذلك عن ذكره.

(وله) أي: المسلِمُ (أخذه) أي: المسلَم فيه (في غيره) أي: غير مكان العقد (إن رضيا) لأن الحق لا يعدوهما.

و (لا) يجوز أخذه (مع أجرة حمله إليه) أي: إلى مكان العقد، قال القاضي: (كأخذ بدل السَّلَم.

ويصح شرطه) أي: الإيفاء (فيه) أي: في مكان العقد (ويكون) ذلك الشرط (تأكيدًا) لمقتضى العقد.

(و) يصح شرط الإيفاء (في غيره) أي: غير مكان العقد، كبيوع الأعيان.

(ولا يصح بيعُ المسلَم فيه قبل قبضه) قال في "المغنى" و"المبدع": بغير خلاف نعلمه؛ "لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه

(1)

"؛ ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه، فلم يجز بيعه قبل قبضه كالمَكيل (ولو) كان بيع المسلَم فيه (لمن هو في ذمته) لعموم ما سبق.

(ولا) تصح (هبته) أي: هبة المسلَم فيه قبل قبضه لغير من هو

(1)

تقدم تخريجه (7/ 492)، تعليق رقم (1).

ص: 118

عليه؛ لأنها تنقل الملك كالبيع (ولا هبة دين غيره) أي: غير السَّلَم، (لغير من هو في ذمته) لأن الهبة تقتضي وجود معيَّن وهو منتفٍ هنا (ويأتي) ذلك (في الهبة) مفصَّلًا.

(ولا) يصح (أحد غيره) أي: المسلَم فيه (مكانه) لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلم في شيءٍ فلا يصْرفهُ إلى غيره"

(1)

؛ ولأن أخذ العِوض عنه بيع، فلم يجز، كبيعه، وسواء كان المسلَم فيه موجودًا، أو معدومًا، وسواء كان العوض مثله في القيمة، أو أقل، أو أكثر.

(ولا) تصح (الحوالة به) أي: بدين السَّلَم؛ لأنها معاوضة بالمسلَم فيه قبل قبضه، فلم تجز كالبيع.

(ولا) الحوالة (عليه) لأنها لا تصح إلا على دين مستقر، والسَّلَم عرضة للفسخ.

(ولا) تصح الحوالة (برأس مال سَلَم بعد فسخه، ويأتي) ذلك (في) باب (الحوالة) موضحًا (ويأتي في الهبة: البراءة من الدين، و) من (المجهول، و) يأتي (في) باب (الشركة: القبض من الدَّين المشترك) مفصَّلًا.

(ويصح بيع دينٍ مستقر؛ من ثمن) مبيع (وقرضٍ، ومهرٍ بعد دخوله، وأجرةٍ استوفى نفعها) إن كانت الإجارة على عمل، كخياطة ثوب (أو فرغت مدتها) أن كانت على مدة، كإجارة دار شهرًا (وأرْش جناية، وقيمة مُتلَفٍ، ونحوه) كجُعْل بعد عمل (لمن هو) أي: الدَّين (في

(1)

تقدم تخريجه (8/ 100) تعليق رقم (4).

ص: 119

ذمته) لخبر ابن عمر: "كنا نبيعُ الإبل بالبقيع بالدنانير ونأخذُ عنها الدَّراهم، وبالدَّراهم ونأخُذُ عنها الدنانيرَ، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فقال: لا بأس؛ إن أخذتها بسعر يومها، ما لم تتفرَّقا وبينكُما شيءٌ" رواه أبو داود وابن ماجه

(1)

، فدل على جواز بيع ما في الذمة من أحد النقدين بالآخر، وغيره يُقاس عليه.

(و) يجوز (رهنه) أي: رهن الدَّين المستقر (عنده) أي: عند من هو في ذمته (بحق له) أي: لمن هو في ذمته؛ هذا أحد روايتين ذكرهما في "الانتصار"

(2)

. قال في "الإنصاف": الأولى الجواز، وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب حيث قالوا: يجوز رهن ما يصح بيعه. انتهى.

قلت: بل يكاد صريح كلامهم أن يكون بخلافه، حيث قالوا: الرهن: توثقة دينٍ بعين، بل صرَّح المجد في "شرحه" بعدم صحته.

(إلا رأس مال سَلَمٍ بعد فسخ) السَّلَم (وقبل قبض) رأس ماله، فلا يصح بيعه ولو لمن هو عليه، ولا رهنه عنده؛ لما تقدم.

(لكن إن كان) الدين (من ثمن مكيلٍ، أو موزون، باعه بالنسيئة) أو بثمن لم يقبض (فإنه لا يصح أن يأخذ عوضه ما يشارك المبيعَ في علَّةِ ربا فضلٍ أو نسيئةٍ) فلا يعتاض عن ثمن مكيل مكيلًا، ولا عن ثمن موزون موزونًا (حسمًا لمادة ربا النسبئة، وتقدم) ذلك (آخر كتاب البيع)

(3)

مبينًا.

(ويُشترط) لصحة بيع الدَّين الثابت في الذمة لمن هو عليه (أن يقبض عوضه في المجلس إن باعه بما لا يُباع به نسيئة) كأن باع الذهب

(1)

أبو داود في البيوع، باب 14، حديث 3354، وابن ماجه في التجارات، باب 51، حديث 2262، وقد تقدم تخريجه (8/ 47) تعليق رقم (2).

(2)

لم نقف عليه فيما طبع من الانتصار، وانظر: الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير (5/ 111).

(3)

(7/ 379).

ص: 120

بفضة، أو عكسه (أو) باعه (بموصوف في الذِّمة) فيُعتبر قبضه قبل التفرُّق؛ لئلا يصير بيع دَيْن بدين، وهو منهيٌّ عنه كما تقدم

(1)

(وإلا) بأن باعه بمعيّن يباع به نسيئة، كما لو كان الدَّين ذهبًا وباعه ببُرٍّ معين (فلا يُشترط) قبضه في المجلس.

(ولا يصح بيعه) أي: الدَّين (لغيره) أي: غير من هو في ذمته مطلقًا؛ لأنه غير قادر على تسليمه، أشبه بيع الآبق.

(ولا) يصح (بيع دَيْن الكتابة) ولو لمن هو في ذمته؛ لأنه غير مستقر (ولا) بيع (غيره) أي: غير دين الكتابة حال كونه (غير مستقر) كصداق قبل دخوله، وجُعْل قبل عمل.

(ولا يجوز بيع الدَّيْن من الغريم) الذي هو عليه (بمثله) بأن كان له عليه دينار فباعه له بدينار (لأنه نفس حقه) الواجب له، فلا أثر للتعويض.

(فلو قال) المسلَمُ إليه للمسلِم (في دَيْن السَّلَم: صالحني منه) أي: من أجله (على مثل الثمن) المعقود عليه (صَحَّ) ذلك (وكان إقالةً) بلفظ الصلح؛ لأنها تصح بكل ما أدَّى معناها.

(وتصح الإقالة في المُسلَم فيه) حكاه ابن المنذر

(2)

إجماع من يُحفظ عنه؛ ولأنها فسخٌّ للعقد وليست بيعًا.

(و) تصح الإقالة أيضًا (في بعضه) أي: بعض المسلّم فيه؛ لأن الإقالة مندوب إليها، وكل مندوب إليه جاز في الجميع، جاز في البعض، كالإبراء والإنظار.

(1)

(8/ 38).

(2)

الإجماع لابن المنذر (الطبعة الثانية 1420 هـ وسقط ذكر هذا الإجماع من الطبعة الأولى) ص/ 135، رقم 560. وانظر: الاستذكار لابن عبد البر (21/ 12، 13) رقم 30218.

ص: 121

(ولا يُشترط فيه) أي: في التقايل (قبض رأس مال السَّلَم) في مجلس الإقالة؛ لأنها ليست بيعًا (ولا) قبض (عوضه) أي: عوض رأس مال السَّلَم (إن تعذَّر) رأس مال السَّلَم بأن عدم (في مجلس الإقالة) متعلِّق بـ "قبض"، أي: لا يُشترط القبض في مجلسها؛ لأنها ليست بيعًا، كما تقدم.

(ومتى انفسخ عقدُه) أي: عقد السَّلَم (بإقالة، أو غيرها) كعيب في الثمن (لزمه) أي: المسلَم إليه (ردُّ الثمن الموجود) لأنه عين مال المسلِم، عاد إليه بالفسخ (وإلا) أي: وإن لم يكن الثمن موجودًا، ردَّ (مثله) إن كان مِثْليًا (ثم قيمته) إن كان متقوّمًا؛ لأن ما تعذَّر ردُّه رجع بعوضه.

(وإن أخذ بدله) أي: بدل رأس مال السَّلَم بعد الفسخ (ثمنًا وهو ثمنٌ، فَصَرْفٌ يُشترط فيه التقابض) قبل التفرُّق.

(وإن كان) رأس مال السَّلَم (عَرْضًا فأخذ) المسلِم (عنه عَوْضًا، أو ثمنًا) بعد الفسخ (فبيع، يجوز فيه التفرق قبل القبض) لكن إن عوَّضه مكيلًا عن مكيل، أو موزونًا عن موزون، اعتبُر القبض قبل التفرُّق، كالصرف.

(وإن كان لرجل سَلَم، وعليه سَلَم من جنسه، فقال) الرجل (لغريمه: اقبض سَلَمي لنفسك، ففعل، لم يصح قبضه لنفسه، إذ هو حَوالة بسَلَم) وتقدَّم

(1)

أنها لا تصح به.

(ولا) يصح -أيضًا- قبضه (للآمِرِ؛ لأنه) أي: "الآمر (لم يجعله) أي: القابض (وكيلًا) عنه في القبض (والمقبوض باقٍ على مِلك الدافع) لعدم القبض الصحيح.

(1)

(8/ 119).

ص: 122

(وإن قال) الرجل: (اقبضه) أيْ السَّلَم (لي، ثم اقبضه لنفسك) وفعل (صَحَّ) القبض لكل منهما؛ لأنه استنابه في قبضه له، فإذا قبضه لموكله، جاز أن يقبضه لنفسه، كما لو كان له وديعة عند مَن له عليه دين وأذنه في قبضها عن دينه (فيصح قَبْض وكيل من نفسه لنفسه نصًّا

(1)

إلا ما كان من غير جنس ماله) أي: دينه، فلا يصح قبضه من نفسه لنفسه؛ لأنها معاوضة لم يأذن له فيها.

(و) يصح (عكسه) أي: عكس قبض الوكيل من نفسه لنفسه (وهو) أي: عكس قَبْض الوكيل من نفسه لنفسه (استنابة من عليه الحق للمستحِقِّ) في أخذ حقه، بأن يوكل المدينُ ربَّ الدَّيْن في قبضه له (وتقدم) ذلك (آخر) باب (خيار البيع

(2)

.

ولو قال الأول) وهو من له سَلَم وعليه سَلَم (للثاني) الذي له وعليه السَّلَم: (احْضُر اكتيالي منه) أي: ممن لي عليه السَّلَم (لأُقَبِّضَه لك، ففعله) أي: حضر اكتياله منه، وسلَّمه له بغير كيل (لم يصح قبضه للثاني) لعدم كيله (ويكون الأول (قابضًا لنفسه) لاكتياله إياه.

(وإن قال) الأول للثاني: (أنا أقبِضُه لنفسي، وخُذْه بالكيل الذي تشاهده، صَحَّ) ذلك (وكان) ذلك (قبضًا لنفسه، ولم يكن قبضًا للغريم المَقول له ذلك) لعدم كيله إياه، أشبه ما لو قبضه جزافًا، وتقدم

(3)

في البيع أنه يصح قبض المبيع جزافًا إن علماه. فإما أن يكون كل من القولين على رواية؛ لأن المسألة ذات روايتين، وإما أن يقال: ما هنا خاص

(1)

انظر: الجامع الصغير ص/ 164، وكتاب الروايتين والوجهين (1/ 398).

(2)

(7/ 501 - 502).

(3)

(7/ 493).

ص: 123

بالسَّلَم؛ لأنه أضيق، والأول مقتضى كلامه في "تصحيح الفروع" فإنه جعل ما هنا فردًا من أفراد المسألة السابقة، وقال: ظاهر كلام كثير من الأصحاب أنه لا يكفي ذلك، أي: قَبض المكيل جزافًا، ولابُدَّ من كيل ثانٍ، فيحمل ما تقدم على غير المكيل.

(ومعنى القول بأنه ليس بقبض) للغريم: (أنه لا يُباح له التصرُّف فيه بدون كيل ثانٍ، لا بمعنى أنه لا تَبْرَأ ذمة الدافع) منه.

(وإن اكتاله) الأول (ثم تركه في المكيال، وسَلَّمه إلى غريمه، فقبضه، صَحَّ القبض لهما) لأن الأول قد اكتاله حقيقة، والثاني حصل له استمرار الكيل، واستدامته كابتدائه، مع أنه لا تحصل زيادة علم بابتدائه، فلا معنى له.

(وإن دفع زيدٌ لعمرٍو دراهم) وعلى زيد طعام لعمرو (فقال) زيد لعمرو: (اشترِ لك بها مثلَ الطعام الذي عليَّ، ففعل؛ لم يصحَّ) الشراء. قال في "الفروع": لأنه فضولي. لأنه اشترى لنفسه بمال غيره.

(وإن قال) زيد لعمرو: (اشْترِ لي بها) أي: بالدراهم (طعامًا، ثم اقبضه لنفسك، ففعل، صح الشراء) لأنه وكيل عنه فيه (ولم يصح القبض لنفسه) لأن قبضه لنفسه فرع عن قبض موكله، ولم يوجد.

(وإن قال) زيد لعمرو: اشْترِ لي بالدراهم مثل الطعام الذي عليَّ و (اقبضْه لي، ثم اقبضْه لنفسك. ففعل) بأن اشترى بها طعامًا له، ثم قبضه له؛ ثم قبضه لنفسه (صَحَّ) ذلك كله؛ لأنه وكيله

(1)

في الشراء والقبض، ثم الاستيفاء من نفسه لنفسه، وذلك صحيح كما تقدم.

(و‌

‌لو دفع إليه كيسًا وقال: استوفِ منه قَدْر حَقِّك، ففعل، صَحَّ)

(1)

في "ح": "وكله".

ص: 124

كما تقدم؛ لأنه من استنابة من عليه الحق للمستحق، والزائد أمانة.

(ولو أذن لغريمه في الصدقة عنه بدينه الذي له عليه، أو في صَرْفه، أو) في (المضاربة به) ونحوه (أو قال: اعزِلْه، وضاربْ به) ففعل (لم يصح) ذلك (ولم يبرأ) الغريم من الدَّين بذلك؛ لأن ربَّ الدَّين لا يملكه حتى يقبضه.

(ولو قال) ربُّ الدَّين (له) أي: لغريمه: (تصدَّق عنِّي بكذا) ولم يقل: من ديني (أو) قال: (اعطِ فلانًا كذا، ولم يقل: من ديني، صَحَّ) ذلك (وكان اقتراضًا) لا تصرُّفًا في الدَّين قبل قبضه (كما لو قاله لغير غريمه) فإنه يكون اقتراضًا (ويسقط من الدَّين) الذي للقائل على الغريم (بمقداره) أي: مقدار ما قال له تصدَّق به، أو أعطِه فلانًا عني (للمُقاصَّة) الآتية، وكذا لو قال: اشترِ لي كذا بكذا، ولم يقل: من ديني.

(ومن ثبت له على غريمه مِثْلُ ما لَه عليه) من الدَّين (قَدْرًا وصفة، وحالًّا، أو مؤجَّلًا أجلًا واحدًا، لا حالًّا ومؤجلًا، تساقطا) إن اتفق الدَّيْنان قَدْرًا (أو بقدْر الأقل) إن كان أحد الدَّينين أكثر من الآخر (ولو بغير رضاهما) لأنه لا فائدة في اقتضاء الدين من أحدهما، ودفعه إليه بعد ذلك؛ لِشَبهه بالعبث.

(إلا إذا كانا) أي: الدَّيْنان (أو) كان (أحدُهما دَيْنَ سَلَم) فلا مقاصَّة (ولو تراضيا) لأنه تصرُّف في دين السَّلَم قبل قبضه، وهو غير صحيح.

وكذا لو تعلَّق بأحد الدينين حق، كما لو باع الراهن الرهن لتوفية دين المُرتَهِن ممن له عليه حق، مثل الثمن الذي باعه به، فلا مقاصَّة؛ لتعلُّق حق المُرتَهِن به، وكما لو بيع بعض مال المفلس على بعض غرمائه بثمن في الذِّمة من جنس ماله على المفلس، فلا مقاصَّة؛ لتعلُّق حق باقي الغرماء بذلك.

ص: 125

(و‌

‌من عليها دين من جنسِ واجبِ نفقتها، لم يُحتسب به) عليها

من نفقتها (مع عُسْرتها) لأن قضاء الدَّين بما فضل عن النفقة ونحوها (ويأتي) ذلك (في النفقات) موضحًا.

(ومتى نوى مديون بأدائه) إلى غريمه (وفاء دينه، برئ) منه (وإلا) ينوِ قضاءه (فمتبرعٌ) هكذا ذكروه هنا.

وفي كتب الأصول

(1)

: من الواجب ما لا يفتقر إلى نية، كأداء الدَّين، وردِّ الوديعة ونحوهما. ويمكن حمل ما هنا على ما إذا نوى التبرُّع، لا على ما إذا غفل؛ جمعًا بين الكلامين، كما أوضحتُه في "الحاشية".

(وإن وفَّاه) أي: الدَّين (حاكمٌ قهرًا) على مدين لامتناعه (كَفَتْ نيتُه) أي: الحاكم (إن قضاه من) مال (مديون) وكذا لو قضاه غير الحاكم عن المديون من مال نفسه.

(و‌

‌يجب أداء ديون الآدميين على الفور عند المطالبة)

لحديث: "مَطْلُ الغنيِّ ظُلْمٌ"

(2)

.

(ولا يجب) أداء ديون الآدميين (بدونها) أي: بدون المطالبة (على الفور) بل يجب موسعًا.

(قال ابن رجب

(3)

: إذا لم يكن) المدين (عيَّن له) أي: لربِّ الدين

(1)

انظر: الكوكب المنير (1/ 349).

(2)

أخرجه البخاري في الحوالات، باب 1، 2، حديث 2287، 2288، وفي الاستقراض، باب 12، حديث 2400، ومسلم في المساقاة، حديث 1564 عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

القواعد الفقهية ص/ 54، القاعدة الثانية والأربعون.

ص: 126

(وقت الوفاء) فيقوم تعيينه مقام المطالبة عنده (ويأتي) ذلك (أول الحَجْرِ) بأتم من هذا.

(وإذا كان عليه دينٌ لم يعلم به صاحبه، وَجَبَ عليه) أي: المدين (إعلامه) أي: ربّ الدين بدينه؛ لئلا يكون خائنًا له.

(ولا يقبض) ربُّ السَّلَم (المُسلَمَ فيه إلا بما قُدِّر به من كيلٍ وغيره) كوزن، وذرع، وعدٍّ.

(فإن قبضه) أي: المُسلَم فيه (جزافًا) اعتبره بما قدر به أولًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع الطعامِ حتى يجري فيه الصَّاعان"

(1)

.

(1)

روى عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم:

أ - أبو هريرة رضي الله عنه: أخرجه البزار "كشف الأستار"(2/ 86) حديث 1265، وأبو يعلى في معجمه ص / 319، حديث 293، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (15/ 140) حديث 5902، وابن حزم في المحلى (8/ 523)، والخطيب في الموضح (2/ 400)، والبيهقي (5/ 316).

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 99): رواه البزار، وفيه مسلم بن أبي مسلم الجرمي، ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله رجال الصحيح. قلنا: وثقه الخطيب في تاريخه (13/ 100)، وذكره ابن حبان فى الثقات (9/ 158)، وقال: ربما أخطأ، وقال الأزدي -كما في لسان الميزان (7/ 92) -: حدث بأحاديث لا يتابع عليها، وكان إمامًا بطرسوس، فلعله لذلك حسَّن إسناده الحافظ في "الفتح" (4/ 351). وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 8): إسناده مقارب.

ب - جابر رضي الله عنه: أخرجه ابن ماجه في التجارات، باب 37، حديث 2228، وعبد بن حميد (3/ 30) حديث 1057، والدارقطني (3/ 8)، والبيهقي (5/ 316). ضعفه الزيلعي في نصب الراية (4/ 34)، وابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 72)، والبوصيري فى مصباح الزجاجة (3/ 24).

جـ - أنس رضي الله عنه: أخرجه ابن عدي (3/ 886) وقال: وهذا منكر.

د - ابن عباس رضي الله عنهما: أخرجه ابن عدي (8/ 102، طبعة دار الكتب العلمية) عن معلَّى بن هلال الطحان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما =

ص: 127

(ومثله) أي: مثل قبضه جزافًا في عدم الصحة (لو قبض المكيل وزنًا، أو) قبض (الموزون كيلًا) فلا يصح القبض؛ لما تقدم

(1)

من أن قبض ما يُكال بالكيل، وما يُوزن بالوزن.

(أو اكتال) من عليه الحق (له) أي: للمستحق (في غيبته، ثم قال) له بعد حضوره: (خُذْ هذا قَدْرَ حقِّك، فقبضه بذلك) الكيل السابق، لم يكن قبضًا؛ لعدم مشاهدته كيله، و (اعتبره) قبل التصرُّف فيه (بما قُدِّر) أي: كيل (به أولًا).

وكذا حكم موزون ومذروع ومعدود.

(ولا يتصرَّف في حقه) إذا قبضه بغير معياره الشرعي (قبل اعتباره) لفساد القبض، ويبرأ الدافع من ضمانه إذا تلف (ثم يأخذ) المستحق (قَدْرَ حَقِّه منه) أي: من المقبوض جزافًا ونحوه.

(فإن زاد، فالزائد في يده أمانة) لا مضمون؛ لأنه قبضه بإذن ربه (يجب ردُّه) لربه.

(وإن كان ناقصًا طالب بالنقص) وأخذه (والقول قوله) أي: القابض

= قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "لا يباع طعام حتى يُكال بالصاعين، صاع البائع، وصاع المشتري". ومعلى بن هلال هذا: رماه ابن عيينة، وأحمد، والنسائي، والسعدي، وابن عدي بالكذب، انظر: الكامل (6/ 2369).

هـ - عن الحسن مرسلًا: أخرجه الشافعي في الأم (4/ 72)، وابن أبي شيبة (7/ 197)، قال البيهقي (5/ 315): وقد روي ذلك موصولًا من أوجه إذا ضم بعضها إلى بعض قوِيَ، مع ما سبق من الحديث الثابت عن ابن عمر، وابن عباس في هذا الباب وغيرهما.

وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 8) عقب حديث جابر رضي الله عنه المتقدم: رواه البيهقي بإسناد مقارب عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، وذكره الشافعي عن الحسن البصري مرسلًا، وهذا كله يشد بعضه بعضًا.

(1)

(7/ 500).

ص: 128

(في قَدْره) أي: النقص (مع يمينه) لأنه منكر لقبض الزائد، والأصل عدمه.

(ويسلم) المسلم (إليه) أي: إلى ربِّ السلم (ملءَ المكيال، وما يحمله) لأنه المتعارف (ولا يكون) المكيال (ممسوحًا، ما لم تكن عادة) فيعمل بها؛ لأن المطلق في الشرع يُحمل على العُرف (ولا يَدُقُّ) المكيال (ولا يَهزُّ) هـ فتكره زلزلة الكيل كما تقدم؛

(1)

لأنه قد يؤدي إلى أن يأخذ فوق حقه، ولأنه غير متعارف.

(وإن قبضه) أي: المسلَم فيه (كيلًا) إن مكيلًا (أو وزنًا) إن كان موزونًا (ثم ادَّعى غلطًا ونحوه، لم يُقبل قوله) لأن الأصل عدم الغلط (وكذا حكم ما قبضه من مبيع، أو دينٍ آخر) غير السَّلَم إن قبضه جزافًا، قُبِل قوله في قَدْره، وإن قبضه بكيل أو وزن لم تُقبل دعواه الغلط، وتقدم

(2)

.

و‌

‌من قبض دينه، ثم بان لا دين له، ضمن ما قبضه،

ولو أقرَّ بأخذ مال غيره، لم يبادر إلى إيجاب ضمانه حتى يفسر أنه عدوان.

(ولا يصح أَخْذُ رهن ولا كفيل -وهو الضَّمين- بمُسلَمٍ فيه) رُويت كراهته عن علي

(3)

وابن عباس

(4)

وابن عمر

(5)

إذ وضع الرهن للاستيفاء من ثمنه عند تعذُّر الاستيفاء من الغريم، ولا يمكن استيفاء المسلَم فيه من ثمن الرهن، ولا من ذمة الضامن، حذرًا من أن يصرفه إلى غيره، قال في "المبدع": وفيه نظر؛ لأن الضمير في "لا يصرفه" راجع إلى المسلَم فيه، ولكن يشترى ذلك من ثمن الرهن ويُسلمه، ويشتريه الضامن ويُسلمه،

(1)

(7/ 501).

(2)

(7/ 501).

(3)

أخرجه عبد الرزاق (8/ 9) رقم 10482، وابن أبي شيبة (6/ 20).

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 21).

(5)

أخرجه عبد الرزاق (8/ 9) رقم 10483، وابن أبي شيبة (6/ 20).

ص: 129

لئلا يصرفه إلى غيره، ولهذا اختار الموفق وجمعٌ الصحةَ.

(ولا) يصح أخْذُ الرهن والضَّمين أيضًا (بثمنه) أي: رأس مال السلم بعد فسخه؛ لما تقدم، وفيه ما سبق.

ص: 130

‌باب القرض

بفتح القاف، وحُكي كسرها.

(وهو) في اللغة: القطع، مصدر قرض الشيءَ يقرِضه بكسر الراء: قطعه. ومنه المِقْراض، والقرض: اسم مصدر بمعنى الاقتراض

(1)

.

وشرعًا: (دفع مالٍ إرفاقًا لمن ينتفع به، ويردُّ بدله) وهو نوع من المعاملات على غير قياسها لمصلحةٍ لاحظها الشارع، رفقًا بالمحاويج. والأصل فيه: الإجماع

(2)

؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

.

(و) هو (نوع من السَّلَف لارتفاقه) أي: ارتفاق

(4)

المقترض (به) أي: بما اقترضه.

(ويصح) القرض (بلفظ: قرض، و) لفظ (سَلَف) لورود الشرع بهما (وبكل لفظ يؤدِّي معناهما) أي: معنى القرض والسَّلَف (كقوله:

(1)

في "ذ" والمطلع ص/ 246: "الإقراض" وهو الصواب.

(2)

مراتب الإجماع ص/ 165.

(3)

أخرج مسلم في المساقاة، حديث 1600 عن أبي رافع رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرًا، فقدِمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًّا، فقال: أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء"، والبكر: الفتي من الإبل.

وأخرج -أيضًا- في المساقاة، حديث 1601 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: استقرض رسول الله سنًا، فأعطى سنًا فوقه، وقال: خياركم محاسنكم قضاء. وأخرجه البخاري في الوكالة، باب 5، حديث 2305، وفي الاستقراض باب 4، حديث 2390.

(4)

في "ح": "انتفاع".

ص: 131

ملكتُكَ هذا على أن تردَّ لي بدله) أو خُذْ هذا انتفعْ به، ورُدَّ لي بدله، ونحوه.

(أو توجدُ قرينة دالة على إرادته) أي: القرض؛ كأن سأله قرضًا. (فإن) قال: ملكتُكَ و (لم يذكر البدل، ولم توجد قرينة) تدلُّ عليه (فهو هبة) لأنه صريح في الهِبة.

(فإن اختلفا) فقال المعطي: هو قرض؛ وقال الآخذ: هو هبة (فالقول قول الآخذ) إنه هبة؛ لأن الظاهر معه.

(وهو) أي: القرض (عقدٌ لازم في حق المُقرِض) بالقبض؛ لكونه أزال ملكه عنه بعِوض من غير خيار؛ فأشبه البيع (جائز في حقِّ المقترض) في الجملة؛ لأن الحقَّ له فيه.

(ولا يثبت فيه) أي: القرض (خيار) لأنه ليس بيعًا، ولا في معناه (وهو من المرافق) جمع مرفق -بفتح الميم وكسرها مع كسر الفاء وفتحها- وهو ما ارتفقت به وانتفعت (المندوب إليها في حق المُقرِض) لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من كشفَ عن مؤمن كُربةً من كُربِ الدنيا، فرَّج الله عنه كُربة من كُربِ يوم القيامِة"

(1)

. قال أبو الدرداء: "لأن أُقرضَ دينارينِ، ثمَّ يردان، ثم أقرضُهما، أحبُّ إلي من أن أتصدَّق بهما"

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، حديث 2699، عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: "من نفَّس عن مؤمن كربة عن كرب الدنيا، نفَّس الله عنه

" الحديث.

وأخرجه البخاري في المظالم، باب 3، حديث 2442، ومسلم في البر والصلة والآداب، حديث 2580، عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ:"ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه كُربة من كُربات يوم القيامة". وأما بلفظ "من كشف" فرواه الحاكم في معرفة علوم الحديث ص/ 20، وأعلَّ إسناده بالانقطاع.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 33) والبيهقي (5/ 353) من طريق سالم بن أبي الجعد، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وهو منقطع بين سالم وأبي الدرداء. قال البزار "كشف الأستار" (4/ 52): وسالم لم يسمع من أبي الدرداء، وقال العراقي في تحفة التحصيل =

ص: 132

و (لما فيه من الأجر العظيم) ومنه: ما في حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيتُ ليلةَ أسريَ بي على بابِ الجنةِ مكتوبًا: الصدقة بعشرةِ أمثالها، والقرضُ بثمانيةَ عشرَ، فقلتُ: يا جبريلُ، ما بالُ القرضِ أفضلُ من الصدقةِ؟ قال: لأنَّ السائلَ يسألُ وعندهُ، والمقترضُ لا يستقرضُ إلا من حاجةٍ" رواه ابن ماجه

(1)

.

= ص/ 120: ولم يدرك أبا الدرداء.

(1)

في الصدقات، باب 19، حديث 2431. وأخرجه -أيضًا- ابن حبان في المجروحين (1/ 284)، والطبراني في الأوسط (7/ 369) حديث 6715، وفي مسند الشاميين (2/ 413) حديث 1614، وابن عدي (3/ 883)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 332)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/ 285) حديث 3566، وفي البعث والنشور ص /100، حديث 167، وابن مردويه كما في الدر المنثور (4/ 153)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 112) حديث 990.

قال ابن حبان: وليس بصحيح. وقال ابن الجوزي: لا يصح. وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 47): هذا إسناد ضعيف.

وأورده السيوطي في الجامع الصغير (4/ 9 مع الفيض) ورمز لحسنه، وتعقبه المناوي فقال: رمز المصنف لحسنه، وليس كما قال، فقد قال الحافظ العراقي: وسنده ضعيف، وأصله قول ابن الجوزي: حديث لا يصح.

وله شاهد أخرجه الطيالسي ص/155، حديث 1141، والطبراني في الكبير (8/ 249) حديث 7976، والبيهقي في شعب الإيمان (3/ 284، 285) حديث 3564، 3565، والخطيب في الفصل للوصل (1/ 376) حديث 38. وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 112) حديث 989، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة؛ فرأيت على بابها: الصدقة بعشر، والقرض بثمانية عشر، فقلت: يا جبريل، كيف صارت الصدقة بعشر والقرض بثمانية عشر؟ فقال: لأن الصدقة تقع في يد الغني والفقير، والقرض لا يقع إلا في يد من يحتاج إليه". هذا لفظ ابن الجوزي. وقال: هذا حديث لا يصح. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 126): رواه الطبراني في الكبير، وفيه عتبة بن حميد وثقه ابن حبان وغيره، وفيه ضعف.

وأورده السيوطي في الجامع الصغير (3/ 518 مع الفيض) ورمز لصحته.

ص: 133

والقرض (مباحٌ للمُقترِض) وليس مكروهًا؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان مكروهًا كان أبعد الناس منه.

(ولا إثم على من سُئِلَ فلم يُقرِض) لأنه ليس بواجب، بل مندوب، كما تقدم (وليس هو) أي: سؤال القرض (من المسألة المذمومة) لما تقدم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه إنما يأخذه بعوضِه، فأشبه الشراء بدين في ذمته.

(وينبغي) للمقترِض (أن يُعلِم المُقرِضَ بحاله، ولا يَغُرَّه من نفسه، ولا يستقرض إلا ما يَقدِرُ أن يؤدِّيه، إلا الشيء اليسير الذي لا يتعذَّر مثله) عادة؛ لئلا يضرَّ بالمقرِض.

(وكره) الإمام (أحمد

(1)

الشراءَ بدينٍ ولا وفاء) للدين (عنده، إلا اليسير) لعدم تعذره عادة.

(وكذا الفقيرُ يتزوَّجُ) المرأةَ (الموسرةَ، ينبغي أن يُعلِمَها بحاله) أي: فقره (لئلا يَغرَّها.

ويُشترط معرفة قَدْره) أي: القرض (بمقدَّرٍ معروف) من مكيال، أو صنجة، أو ذراع، كسائر عقود المعاوضات.

(فلو اقترض دراهم، أو دنانير غير معروفة الوزن، لم يصحَّ) القرض للجهالة بمقدارها فيتعذَّر رَدُّ مثلها.

(وإن كانت) الدراهم أو الدنانير (عددية يُتعامل بها عددًا) لا وزنًا (جاز قرضُها عددًا، ويَردُّ بدَلَها عددًا) عملًا بالعُرف.

(ولو اقترض مكيلًا) جزافًا (أو موزونًا جزافًا، أو قدَّره) أي:

(1)

الفروع (4/ 207).

ص: 134

المكيل (بمكيال بعينه، أو) قدَّر الموزون بـ (ـصنجة بعينها، غير معروفين عند العامة، لم يصح) القرض؛ لأنه لا يأمن تلف ذلك، فيتعذَّر رَدّ المِثْل (كالسَّلَم) وإن كان لهما عُرف، صحَّ القرض، لا التعيين.

(ويُشترط وصفه) أي: معرفة وصفه ليردَّ بدله.

(و) يُشترط (أن يكون المقرِض ممن يصح تبرُّعه) لأنه عقد إرفاق، فلم يصح إلا ممن يصح تبرُّعه كالصدقة.

(ومن شأنه) أي: القرض (أن يُصادف ذِمة) قال ابن عقيل: الدَّيْن لا يثبت إلا في الذِّمم، ومتى أُطلقت الأعواض تعلَّقت بها، ولو عُينت الديون من أعيان الأموال لم يصح (فلا يصح قرض جهةٍ، كمسجد ونحوه) كمدرسة ورباط (وقال في "الفروع"، في باب الوقف: وللناظر الاستدانة عليه بلا إذن حاكم لمصلحة، كشرائه له) أى: للوقف (نسيئة، أو بنقد لم يعيّنه). وفي باب اللقيط: يجوز الاقتراض على بيت المال لنفقة اللقيط. وكذا قال في "الموجز": يصح قرض حيوان وثوب لبيت المال، ولآحاد المسلمين، نقله في "الفروع".

قلت: والظاهر أنَّ الدَّين في هذه المسائل يتعلَّق بذمة المقترِض، وبهذه الجهات، كتعلُّق أَرْش الجناية برقبة العبد الجاني، فلا يلزم المقترِض الوفاء من ماله، بل من ريع الوقف وما يحدث لبيت المال، أو يقال: لا يتعلَّق بذمته رأسًا، وما هنا بمعنى الغالب، فلا تَرِد المسائل المذكورة؛ لندرتها.

(ويصح) القرض (في كلِّ عين يجوز بيعها) من مكيلٍ، وموزون ومذروع، ومعدود وغيره (إلا الرقيق فقط) فلا يصح قَرْضه، ذكرًا كان أو أنثى؛ لأنه لم ينقل، ولا هو من المرافق؛ ولأنه يُفضي إلى أن يقترض

ص: 135

جاريةً يطؤها ثم يردُّها.

(ولا يصح قَرْض المنافع) لأنه غير معهود (وجوَّزه الشيخ

(1)

، مثل أن يَحصُد معه) إنسان (يومًا، ويَحصُد الآخر معه يومًا) بدله (أو يسكنه دارًا ليسكنه الآخر) دارًا (بدلها) كالعارية بشرط العِوض.

(ويتم) عقد القرض (بقَبول) كسائر العقود.

(ويُملك) القرض بقبضه (ويلزم بقبضه) لأنه عقد يقف التصرُّف فيه على القبض، فوقف الملك عليه كالهِبة، قال في "المبدع" و"شرح المنتهى": وفيه نظر؛ لأن الهبة تُملك بالعقد، كما يأتي (مكيلًا كان) القرض (أو موزونًا، أو معدودًا، أو مذروعًا، أو غير ذلك.

وله) أي: للمقترض (الشراء به) أي: بالقرض (من مقرِضه) نقله مُهنَّا

(2)

؛ لأنه ملكه، فكان له التصرُّف فيه بما شاء.

(ولا يملك المقرِض استرجاعه) أي: القرض؛ للزومه من جهته بالقبض (ما لم يفلس القابض، وبُحْجَر عليه) للفَلَس قبل أخذ شيء من بدله، فله الرجوع به، كما يأتي في الحَجْر.

(وله) أي: للمقرِض (طلبُ بدلِهِ) أي: القرض (في الحال) مطلقًا؛ لأن القرض يثبت في الذمة حالاًّ، فكان له طلبه كسائر الديون الحالة، ولأنه سبب يوجب رَدَّ المِثْل أو القيمة، فكان حالاًّ كالإتلاف.

(ولا يلزم المقترِض رَدُّ عينه) أي: عين ما اقترضه؛ لأنه ملكه ملكًا تامًّا بالقبض. (فإن ردها) أي: عين ما اقترضه (عليه) أى: على المقرِض (لزمه قَبوله) أي: المردود (إن كان مثليًّا) لأنه ردّه على صفة حقه، فلزمه

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 194.

(2)

الفروع (4/ 201).

ص: 136

قَبوله كالسَّلَم (وهو) أي: المثلي (المكيل والموزون) الذي لا صناعة فيه مباحة يصح السَّلَم فيه. ويأتي في الغصب بأوضح من هذا (وإلا) أي: وإن لم يكن القرض مِثْليًّا، وردّه المقترض بعينه (فلا) يلزم المقرض قَبوله؛ لأن الذي وجب له بالقرض قيمته، فلا يلزمه الاعتياض عنها.

وإذا كان القرض مِثْليًّا، وردّه المقترِض بعينه، لزم المقرِض أخذه (ولو تغيَّر سعرُه) ولو بنقصٍ (ما لم يتعيَّب) كحنطة ابتلَّت، أو عَفِنت، فلا يلزمه قَبولها؛ لأن عليه فيه ضررًا؛ لأنه دون حقه (أو يكن) القرض (فلوسًا، أو) يكن دراهم (مُكَسَّرة فيُحَرِّمها) أي: يمنع الناس من المعاملة بها (السلطان) أو نائبه، سواء اتفق الناس على ترك المعاملة بها أو لا؛ لأنه كالعيب، فلا يلزمه قَبولها (فله) أي: للمقرِض (القيمة) عن الفلوس والمكسَّرة في هذه الحالة (وقت قرض) سواء كانت باقية، أو استهلكها، وسواء نقصت قيمتها قليلًا أو كثيرًا، والمغشوشة إذا حرَّمها السلطان كذلك.

وعُلم منه: أن الفلوس إن لم يُحرِّمها وجب ردُّ مثلها، غَلَت أو رخصت، أو كسدت.

وتكون قيمة ذلك (من غير جنسه إن جرى فيه ربا فضل، كما لو أقرضه دراهم مُكَسَّرة، فحرَّمها السلطان، أُعطي قيمتها ذهبًا) حذرًا من ربا الفضل (وعكسه بعكسه) فلو أقرضه دنانير مكسورة فَحرَّمها السلطان، أعطى قيمتها فضة.

(وكذا) في الحكم المذكور (لو كانت) الفلوس أو المكسَّرة التي حرَّمها السلطان (ثمنًا معينًا) في عقد بيع (لم يقبضه) البائع (في) وقت

ص: 137

عقد على (مبيع) حتى حَرَّمها السلطان (أو ردَّ) المشتري (مبيعًا) لعيب، أو خيار مجلس، او شرط، أو تدليس، أو غبن (ورام أخذ ثمنه) وكان فلوسًا أو مكسَّرة، فحرَّمها السلطان، فله قيمتها يوم عقد من غير جنسه إن جرى بينهما ربا فضل.

وكذا سائر الديون، كعِوض خلع وعتق ومتلَف من غصب ونحوه، وأجرة ونحوها، كما أشار اليه الشيخ تقي الدين

(1)

قال: وإذا كان المُقرَض ببلد المطالبة تحرم المعاملة به في سيرة السلطان، فالواجب على أصلنا القيمة، إذ لا فرق بين الكساد لاختلاف الزمان أو المكان، إذ الضابط أن الدَّيْن الذي في الذمة كان ثمنًا فصار غير ثمن.

(ويجب) على المقترِض (رَدُّ مِثْلٍ في) قرض (مكيل وموزون) يصح السَّلَم فيه لا صناعة فيه مباحة. قال في "المبدع": إجماعًا

(2)

؛ لأنه يضمن في الغصب والإتلاف بمثله، فكذا هنا، مع أن المِثْل أقرب شبهًا بالقرض من القيمة (سواء زادت قيمته) أي: المِثْل (عن وقت القرض أو نقصت) قيمته عن ذلك.

(فإن أعوز المِثْل) قال في "الحاشية": عَوِزَ الشيء عَوَزًا من باب تعب: عزَّ فلم يوجد، وأعوزني المطلوب؛ مثل أعجزني، لفظًا ومعنىّ (لزم) المقترضَ (قيمتُه) أي: المِثْل (يوم إعوازه) لأنها حينئذ ثبتت في الذمة.

(و) يجب على المقترِض رَدُّ (قيمة ما سوى ذلك) أى: المكيل والموزون؛ لأنه لا مِثْل له، فضمن بقيمته كالغصب.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (29/ 528).

(2)

مراتب الإجماع ص / 165.

ص: 138

قال في "الاختيارات"

(1)

: ويتوجَّه في المتقوَّم أن يجوز رَدّ المِثلْ بتراضيهما. انتهى. وهو ظاهر؛ لأن الحق لهما لا يعدوهما.

وتُعتبر قيمة ما لا يصح السَّلَم فيه (من جواهر وغيرها) مما لا ينضبط بالصفة (يوم قبضه) لأنها تختلف قيمتها في الزمن اليسير باعتبار قلة الراغب وكثرته، فتنقص، فينضر المقترِض، وتزيد زيادة كثيرة، فينضر المُقرِض.

وقيمة ما سوى ذلك يوم القرض، كما في "التنقيح" و"الإنصاف"؛ وقال: جزم به في "المغني"، و"الشرح"، و"الكافي"، و"الفروع" وغيرهم.

(ولو اقترض خبزًا) عددًا (أو) اقترض (خميرًا عددًا، أو ردَّ) خبزًا أو خميرًا، (عددًا بلا قصد زيادة، ولا) قَصْد (جودة، ولا شرطهما، جاز) ذلك؛ لحديث عائشة قالت: "قلت: يا رسول الله، الجيرانُ يستقرضُونَ الخبزَ والخميرَ، ويردونَ زيادةً ونقصانًا، ققال: لا بأسَ، إنما ذلك من مرافقِ الناس، لا يرادُ به الفضلُ" ذكره أبو بكر في "الشافي"

(2)

بإسناده.

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 194.

(2)

كتاب الشافي لأبي بكر لم يطبع وأخرجه -أيضًا- ابن الجوزي في التحقيق (2/ 194) حديث 1502، والرافعي في التدوين (3/ 146). قال ابن عبد الهادي في التنقيح (3/ 7): قال شيخنا: وفي إسناده من يجهل حاله.

وأخرجه ابن عدي (6/ 2170) في ترجمة محمد بن عبد الملك الأنصارى. وقال: وكل أحاديثه مما لا يتابعه الثقات عليه، وهو ضعيف جدًا.

وللحديث شاهد عن معاذ رضي الله عنه: أخرجه ابن حبان في المجروحين (3/ 74) والطبراني في الكبير (20/ 96) حديث 189، وفي مسند الشاميين (1/ 233)، حديث 414، وابن عدي (2/ 530)، والبيهقي في شعب الإيمان (7/ 533)، حديث =

ص: 139

ولأنه مما تدعو الحاجة إليه، فإن قَصَد الزيادة أو الجودة أو شرطهما، حَرُم؛ لأنه يجر نفعًا.

(ولو اقترض تفاريق لزمه) أي: المقترض (أن يَردَّ جملة) بطلب ربها؛ لأن الجميع حالٌّ.

(ويصح قرض الماء كيلًا) كغيره من المكيلات؛ لأن كل مائع مكيل كما تقدم (وكذا) يجوز (قرضه) أي: الماء (لسقي الأرض إذا قُدِّر) الماء (بأُنْبُوبة ونحوها) مما يتخذ من فخار، أو رصاص ونحوه على هيئتها.

(وسئل) الإمام (أحمد عن عين) ماء (بين قوم لهم نوبات في أيام، يقترض) أحدهم (الماء من نوبة صاحب) يوم (الخميس ليسقي به ويرد عليه) نوبته في (يوم السبت؟ فقال) الإمام

(1)

: (إذا كان) الماء (محدودًا يُعرف كم يخرج منه، فلا بأس) لتمكنه من رَدِّ المِثْل (وإلا) بأن لم يكن محدودًا يعرف كم يخرج منه (أكرهه) لأنه لا يمكنه رد مثله، ولعله لا يحرم؛ لأن الماء العِدَّ لا يُملك بملك الأرض، بل ربُّها أحق به، كما سبق.

(ويثبت العِوض) عن القرض (في الذمة) أي: ذِمة المقترض (حالًّا

= 11238، والخطيب في تاريخه (13/ 454) وابن الجوزي في التحقيق (2/ 194) حديث 1503، من طريق ثور بن يزيد عن خالد بن معدان، عن معاذ رضي الله عنه بنحوه.

قال المزي في تهذيب الكمال (8/ 168): خالد بن معدان روى عن معاذ بن جبل، ولم يسمع منه. وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (3/ 7): وإسناده صالح، لكنه منقطع، فإن الحديث مروي من طريق خالد، وخالد لم يدرك معاذًا.

(1)

المغنى (6/ 434).

ص: 140

وإن أجَّله) لأنه عقد منع فيه من التفاضل؛ فمنع الأجل فيه كالصَّرْف، إذ الحالُّ لا يتأجل بالتأجيل؛ وهو عدة وتبرع لا يلزم الوفاء به. قال أحمد

(1)

: القرض حال، وينبغي أن يفي بوعده.

(ويحرم الإلزام بتأجيله) أي: القرض، لأنه إلزام بما لا يلزم، وهذا معنى قوله في "الفروع" وغيره: يحرم تأجيله.

(وكذا كل دَين حال، أو) كان مؤجَّلًا (حَلَّ أجلُه) لا يصح تأجيله، ويحرم الإلزام به.

(ولا يلزم) المقرِض (الوفاء به) أي: بالتأجيل (لأنه وعد، لكن ينبغي له) أي: المقرِض (أن يفى بوعده) نصًّا

(2)

.

(واختار الشيخ

(3)

صحة تأجيله ولزومه إلى أجله سواء كان) الدَّين (قرضًا أو غيره) كثمن مبيع وقيمة مُتلَف ونحوه؛ لعموم حديث: "المؤمنون عندَ شروطِهم"

(4)

.

(ويجوز شرط الرهن، و) شرط (الضَّمين فيه) أي: في القرض؛ "لأنه صلى الله عليه وسلم استقرضَ من يهوديٍّ شعيرًا ورهنهُ درعَهُ" متفق عليه

(5)

.

وما جاز فعله جاز شرطه؛ ولأنه يراد للتوثُّق بالحق، وليس ذلك

(1)

الفروع (4/ 202).

(2)

الفروع (4/ 202).

(3)

الاختيارات الفقهية ص/ 194.

(4)

تقدم تخريجه (7/ 107) تعليق رقم (3).

(5)

البخاري في البيوع، باب، 14، 33، 88 حديث 2068، 2096، 2200، وفي السلم، باب 5، 6، حديث 2251، 2253، وفي الاستقراض، باب 1، حديث 2386، وفي الرهن، باب 1، 5، حديث 2509، 2513، ومسلم في المساقاة، حديث 1603، عن عائشة رضي الله عنها ولفظهما:"اشترى من يهودي طعامًا".

ص: 141

بزيادة. والضَّمين كالرهن، فلو عيَّنهما وجاء بغيرهما، لم يلزم المقرِض قَبوله -وإن كان ما أتى به خيرًا من المشروط- وحينئذ يُخيَّر بين فسخ العقد وبين إمضائه، بلا رهن ولا كفيل.

(وإن شرط) المقترِض (الوفاء أنقصَ مما اقترض) لم يجز؛ لإفضائه إلي فوات المماثلة (أو شَرَط أحدُهما على الآخر أن يبيعه أو يؤجره أو يُقرضه، لم يجز) ذلك؛ لأنه كبيعتين في بيعة المنهي عنه (كشرط) المقرض (زيادة وهدية، وشرط ما يجر نفعًا، نحو أن يُسكنه المقترض داره مجانًا، أو رخيصًا، أو يقضيه خيرًا منه) فلا يجوز؛ لأن القرض عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه.

ولا فرق بين الزيادة في القَدْر أو الصفة، مثل أن يُقرضه مكسَّرة فيعطيه صحاحًا ونحوه.

(أو) شرط أن يعطيه بدل القرض (في بلد آخر) لم يجز؛ لأن فيه نفعًا في الجملة. وفي "المغني" و"الشرح": إن لم يكن لحمله مؤنة جاز، وإلا، حرم.

(أو) شَرَط المقرِضُ على المقترض أن (يبيعه شيئًا يرخصه عليه) لم يجز؛ لأنه يجر به نفعًا.

(أو) شَرَط المقرِضُ على المقترض أن (يعمل له عملًا، أو) أن (ينتفع بالرهن أو) أن (يساقيه على نخلٍ، أو يزارعه على ضيعة، أو) أن (يسكنه المقرض عقارًا بزيادة على أجرته، أو) أن (يبيعه شيئًا بأكثر من قيمته، أو يستعمله في صنعة ويعطيه أنقص من أجرة مثله، ونحوه) من كل ما فيه جرُّ منفعة؛ فلا يجوز لما تقدم.

ص: 142

(وإن فعله) أي: شيئًا مما تقدم (بغير شرط يعد الوفاء) ولا مواطأة جاز؛ لأنه لم يجعله عوضًا في القرض، ولا وسيلة إليه، ولا إلى استيفاء دينه، أشبه ما لو لم يكن قرض (أو قضى) المقترض (أكثر) مما اقترضه جاز.

قال في "الفصول": وأما الذهب والفضة، فيُعفى فيهما عن الرجحان في القضاء إذا كان يسيرًا. انتهى.

وقال في "المبدع": وإن كان زيادة في القضاء؛ بأن يقرضه درهمًا فيعطيه أكثر منه، لم يجز؛ لأنه ربًا.

وصرَّح في "المغني" و"الكافي": بأن الزيادة في القَدْر والصفة جائزة، للخبر. انتهى. ولعل كلامه في "المغني" و"الكافي" محمول على الزيادة اليسيرة، بدليل قوله:"للخبر"، وهو:"أنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يقولُ للوزَّانِ: أرجحْ"

(1)

، ويقول: "خيركم أحسنكم

(1)

أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (4/ 141، 142) حديث 2254، وأبو داود في البيوع، باب 7، حديث 3336، والترمذي في البيوع، باب 66، حديث 1305، والنسائي في البيوع، باب 54، حديث 4606، وفي الكبرى (4/ 35) حديث 6184، و (5/ 482) حديث 9670، وابن ماجه في التجارات، باب 34، حديث 2220، والطيالسي ص/ 165، حديث 1192، وعبد الرزاق (8/ 68) حديث 14341، وابن أبي شيبة (6/ 586)، وأحمد (4/ 352)، والدارمي في البيوع، باب 47، حديث 2585، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3/ 288) حديث 1668، 1669، وابن الجارود (1/ 154) حديث 559، وابن قانع في معجم الصحابة (3/ 125) حديث 1097، وابن حبان "الإحسان"(11/ 547) حديث 5147، والطبراني في الكبير (7/ 89) حديث 6466، والحاكم (2/ 30)، والبيهقي (6/ 32، 33)، والخطيب في الموضح (2/ 151، 152)، وابن الأثير في أسد الغابة (2/ 493)، وابن عساكر في تاريخه (4/ 205)، والمزي في تهذيب الكمال =

ص: 143

قضاء"

(1)

فيوافق كلام صاحب «الفصول» ، وعليه يُحمل كلام المصنف.

(أو) قضى (خيرًا منه) أي: مما اقترضه (في الصفة) بأن قضى صحاحًا عن مكسَّرة، أو جيدة عن رديء، أو أجود سكة مما اقترضه جاز؛ لأن مبنى القرض على العفو لأجل الرفق.

(أو) قضى (دونه) أي: دون ما اقترضه (بتراضيهما) أي: المقترِض والمقرِض (بغير مواطأة) على ذلك جاز؛ لأن الحق لا يعدوهما.

(أو أهدى) المقترِض (له) أي: للمقرِض (هدية) بعد الوفاء جاز، بلا شرط، ولا مواطأة؛ لأنه لم يجعل تلك الزيادة عوضًا في القرض، ولا وسيلة إليه، ولا إلى استيفاء دينه، أشبه ما لو لم يكن قرض

(أو علم) المقرض (منه) أي: من المقترض (الزيادة لشهرة سخائه وكرمه، جاز)«لأنه صلى الله عليه وسلم كان معروفًا بحسنِ الوفاء»

(2)

فهل يسوغ لأحد أن يقول: إن إقراضه مكروه؟

(ولو أراد إرسال نفقة إلى عياله، فأقرضها) أي: النفقة (رجلًا

= (12/ 269، 270)، عن سويد بن قيس رضي الله عنه.

قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأورده السيوطي في الجامع الصغير (4/ 65 - مع الفيض) ورمز لصحته.

(1)

أخرجه البخاري في الوكالة، باب 5، 6، حديث 2305، 2306، وفي الاستقراض، باب 4، 6، 7، حديث 2390، 2392، 2393، وفي الهبة، باب 23، 25، حديث 2606، 2609، ومسلم في المساقاة، حديث 1601 عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

انظر ما تقدم (8/ 131) تعليق رقم (3).

ص: 144

ليوفيها لهم، فلا بأس) بذلك (إذا لم يأخذ عليها شيئًا) زائدًا عنها.

(وإن فعل) المقترِض (شيئًا مما فيه نفع) للمقرِض، من هدية أو نحوها (قبل الوفاء، لم يجز) كما تقدم

(1)

(ما لم ينوِ) المقرِض (احتسابه من دَيْنِه، أو مكافأته عليه) أي: ما فعله مما فيه نفع فيجوز. نص عليه

(2)

(إلا أن تكون العادة جارية بينهما) أي: بين المقرِض والمقترِض (به) أي: بما ذكر من الإهداء ونحوه (قبل القرض) فإن كانت جارية به، جاز؛ لحديث أنس مرفوعًا قال:"إذا أقرض أحدُكم قرضًا، فأهدَى إليهِ، أو حَمَلهُ على الدابة، فلا يركبها، ولا يقبلهُ، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك" رواه ابن ماجه

(3)

بسندٍ فيه كلام.

(وكذا) أي: كالمقترِض فيما ذكر (الغريم) أي: كل مدين غيره.

(فلو استضافه) أي: استضاف المقترِض المقرِض (حَسَب له) أي: المقرِض (ما أكل) عنده قبل الوفاء، لما تقدم، أو كافأه عليه، إن لم تجرِ العادة بينهما به قبل القبض؛ على قياس ما تقدم.

(وهو) أي: المقرِض (في الدعوات) إذا فعل المقترِض وليمةً أو عقيقة ونحوهما (كغيره) ممن لا دَيْنَ له.

(1)

(8/ 142).

(2)

الفروع (4/ 204)، وانظر مسائل الكوسج (6/ 2619) رقم 1836.

(3)

في الصدقات، باب 19، حديث 2432. وأخرجه - أيضًا - بقي بن مخلد كما في الأحكام الوسطى للإشبيلي (3/ 289)، والبيهقي (5/ 350).

وحسنه شيخ الإسلام ابن تيمية في إقامة الدليل ص/ 238.

وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (3/ 8): وإسناد هذا الحديث غير قوي على كل حال.

وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 48): هذا إسناد فيه مقال، عتبة بن حميد ضعفه أحمد. وقال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حبان في الثقات.

ص: 145

(ولو أقرض) إنسان (فلَّاحه في شراء بقر يعمل عليها في أرضه) بالحرث ونحوه (أو) أقرضه في شراء (بذر يبذره فيها) أي: أرضه (فإن شرط) المقرِض (ذلك في القرض، لم يجز) لما تقدم

(1)

.

(وإن كان) ذلك (بلا شرط، أو قال) المقترض: (أقرضني ألفًا، وادفعْ إليَّ أرضك أزرعها بالثلث، حَرُم أيضًا) لأنه يجر به نفعًا، نص عليه

(2)

، واختاره ابن أبي موسى (وجوَّزه الموفق وجمع) لعدم الشرط والمواطأة عليه، وصحَّحه في "النظم" و"الرعاية الصغرى"، وقدَّمه في "الفائق" و"الرعاية الكبرى".

(ولو أقرض) إنسان (مَن له عليه بُرٌّ شيئًا يشتريه) أي: البرُّ (به، ثم يوفيه إيَّاه، جاز) العقد بلا كراهة. وفي "المستوعب": يُكره، وقاله سفيان

(3)

، قال: أمرَّتين؟

(4)

.

(وإن قال) المقرِض للمقترِض: (إن متُّ - بضم التاء - فأنت في حِلٍّ، فوصية صحيحة) كسائر الوصايا.

(و) إن قال له: إن متَّ (بفتحها) أي: التاء، فأنت في حلٍّ (لا يصح، لأنه إبراء معلَّق بشرط) وشرط الإبراء أن يكون منجزًا، كالهِبة.

(ولو جعل) إنسان (له) أي: لآخر (جعلًا على اقتراضه له بجاهه لإخوانه؛ جاز) لأنه في مقابلة ما يبذله من جاهه فقط (لا إن جَعَل له جُعْلًا

(1)

(8/ 142).

(2)

الفروع (4/ 207)، وانظر: مسائل الكوسج (6/ 2641، 2701) رقم 1853، 1911.

(3)

مسائل الكوسج (6/ 3007) رقم 2239، وفيه:"قال - أي سفيان -: هذا مكروه، هذا أمرٌ بيِّن".

(4)

كذا في الأصل، وفي "ذ": أمرٌ بيِّنٌ، وعلق عليه: نسخة "أمَرَّتين".

ص: 146

على ضمانه له) فلا يجوز؛ نص عليهما

(1)

؛ لأنه ضامن، فيلزمه الدَّين، وإن أدَّاه وجب له على المضمون عنه، فصار كالقرض.

فإذا أخذ عوضًا في القرض، صار القرض جارًّا للمنفعة؛ فلم يجز. ومنعه الأزجي في الأولى أيضًا.

(قال) الإمام (أحمد

(2)

: ما أحب أن يقترض بجاهه) لإخوانه، قال القاضي: إذا كان من يقترض له غير معروف بالوفاء، لكونه تغريرًا بمال المقرِض وإضرارًا به، أما إن كان معروفًا بالوفاء، فلا يُكره؛ لكونه إعانة له، وتفريجًا لِكُربته.

(ولو أقرض غريمه المعسرَ ألفًا ليوفيه منه) أي: الألف (ومن دينه الأول كلَّ وقت شيئًا) جاز، والكل حال.

(أو قال) المقرِض: (أعطني بديني رهنًا، وأنا أعطيك ما تعمل فيه، وتقضيني ديني كله) أي: الأول والثاني (ويكون الرهن عن الدَّينين، أو عن أحدهما) بعينه (جاز) لأنه ليس فيه اشتراط زيادة عما يستحقه عليه. (والكل) أي: جميع الدَّين الأول والثاني (حالٌّ) لا يتأجَّل بقول ذلك، كما تقدم

(3)

.

(وأن أقرضه) أثمانًا أو غيرها (أو غصبه أثمانًا أو غيرها، فطالبه المقرِض أو المغصوب منه ببدلها) أي: ببدل الأثمان أو غيرها (ببلد آخر) غير بلد القرض، أو الغصب (لزمه) أي: المقترض أو الغاصب دفع المثل

(1)

الفروع (4/ 207)، وانظر النص على المسألة الأولى في: مسائل الكوسج (6/ 3055) رقم 2299.

(2)

المغني (6/ 430).

(3)

(8/ 141).

ص: 147

الذي لا مؤنة لحمله؛ لأنه أمكنه قضاء الحق بلا ضرر (إلا ما لحمله مؤنة، وقيمته في بلد القرض والغصب أنقص) من قيمته في بلد الطلب (فيلزمه) أي: المقترض أو الغاصب (إذنْ قيمتُه فيه) أي: في بلد القرض والغصب (فقط، وليس له) أي: للمقرض والمغصوب منه (إذن مطالبته بالمِثْل) لأنه لا يلزمه حمله إلى بلد الطلب، فيصير كالمتعذِّر، وإذا تعذَّر المِثْل تعيَّنت القيمة.

وإنما اعتُبرت ببلد القرض، أو الغصب؛ لأنه المكان الذي يجب التسليم فيه (ولا) مطالبة لربه (بقيمته في بلد المطالبة) لما تقدم.

(وإن كانت قيمته) أي: القرض أو الغصب (في البلدين) أي: بلد القرض أو الغصب، وبلد المطالبة (سواءً، أو) كانت قيمته (في بلد القرض) أو الغصب (أكثر) من قيمته في بلد المطالبة (لزمه أداء المِثْل) لأنه أمكنه بلا ضرر عليه في أدائه.

(وإن كان) القرض أو الغصب (من المتقوِّمات، فطالبه) أي: طالب ربُّه المقترضَ، أو الغاصب (بقيمته في بلد القرض) أو الغصب (لزمه أداؤها) لأنه أمكنه أداء الواجب بلا ضرر عليه فيه.

وعُلِم منه: أنه إن طالبه بقيمته في بلد المطالبة، وكانت أكثر لم تلزمه؛ لأنه لا يلزمه حمله إليها.

(ولو بَذل المقترضُ) للمقرِض (أو) بذل (الغاصبُ) للمغصوب منه (ما في ذمته) من مِثْلٍ أو قيمة (ولا مؤنة لحمله) أي: المبذول، والجملة حالية (لزم) المقرِض والمغصوب منه (قَبوله مع أَمْنِ البلد والطريق) لأنه لا ضرر عليه إذن، فإن كان لحمله مؤنة، أو كان البلد أو الطريق مَخُوفًا؛

ص: 148

لم يلزمه قَبوله، ولو تضرَّر المقترِض أو الغاصب؛ لأن الضرر لا يُزال بالضرر.

(فإن كان المغصوب باقيًا) وبذل الغاصب بدله لربِّه (لم يُجبر ربُّهُ على قَبوله) أي: البدل (بحال) لا مع مؤنة للحمل، ولا مع عدمها، ولا مع أمن البلد والطريق، ولا مع الخوف؛ لأن دفع البدل معاوضة، ولا يجبر عليها الممتنع.

وإذا اقترض دراهمَ، فاشترى منه بها شيئًا، فخرجتْ زيوفًا، فالبيع صحيحٌ، ولا يرجع البائع على المشتري ببدل الثمن؛ لأنها دراهمُه، فعيبُها عليه، وإنما له على المشتري بدل ما أقرضه إيَّاه بصفته زيوفًا، قاله أحمد

(1)

. وحمله في "المغني" و"الشرح" على ما إذا باعه بها، وهو يعلم عَيبَها، أما إذا باعه بثمن في ذمته، ثم قبض هذه بدلًا عنها، غير عالم بعيبها، فينبغي أن يجب له دراهم خالية من العيب، ويَردُّ هذه عليه، وللمشتري رَدُّها على البائع وفاءً على القرض، ويبقى الثمن في ذمته، والمذهب الأول.

و‌

‌لو أقرض ذميٌّ ذميًّا خمرًا، ثم أسلما، أو أحدهما، بطل القرض،

ولم يجب على المقترِض شيء.

(1)

المغني (6/ 440).

ص: 149

‌باب الرهن

(وهو) في اللُّغة: الثبوت والدوام. يقال: ماء راهن، أي: راكد، ونعمة راهنة، أي: دائمة. وقيل: هو الحَبْس؛ لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}

(1)

أي: محبوسة، وهو قريبٌ من الأول؛ لأن المحبوس ثابت في مكان لا يُزايله.

وشرعًا: (توثقةُ دَيْنٍ بعين) أي: جَعْل عينٍ مالية وثيقة بدَيْن (يُمكِن أخذُه) أي: الدَّين (أو) أخذ (بعضه منها) أي: من العين، إذا كانت من جنس الدَّين (أو) يمكن أخذه أو بعضه (من ثمنِها) أي: من ثمن العين، إن لم تكن من جنس الدَّين (إن تعذَّر الوفاءُ من غيرها) أي: من غير العين.

وفي الزركشي: توثقة دَيْنٍ بعين، أو بدين على قول، يمكن أخذُه منه إن تعذَّر الوفاء من غيره. انتهى.

فعُلم منه: أن المقدَّم لا يصح رهن الدين، ولو لمن هو عنده، خلافًا لما قدَّمه في السَّلَم؛ وتقدَّم ما فيه

(2)

.

والرهن جائز بالإجماع

(3)

وسنده: قوله تعالى: {فَرِهَانٌ

(1)

سورة المدثر، الآية:38.

(2)

(8/ 120).

(3)

الإجماع لابن المنذر ص/ 122، ومراتب الإجماع ص/ 108، والإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان (3/ 1657).

ص: 150

مَقْبُوضَةٌ}

(1)

. والسُّنة مستفيضة بذلك. وليس بواجب إجماعًا

(2)

؛ لأنه وثيقة بالدين، فلم يجب كالضمان.

(ويجوز في الحضر كالسَّفر) خلافًا لمجاهد

(3)

، لفعله

(4)

صلى الله عليه وسلم، وذِكْرُ السفر في الآية خرجَ مخرج الغالب؛ لكون الكاتب يعدم في السفر غالبًا، وهو لا يشترط عدم الكاتب مع ذكره فيها.

(وهو لازم في حق الراهن) أي: بعد قبضه؛ لأن الحظ فيه لغيره، فلزم من جهته، كالضمان في حق الضامن (جائز في حق المرتهن) لأن الحظ فيه له وحده، فكان له فَسْخُه كالمضمون له.

و (يجوز عقدُه) أي: الرهن (مع الحقِّ) بأن يقول: بِعتُك هذا بعشرة إلى شهر ترهنني بها عبدك فلانًا، فيقول: اشتريتُ منك ورهنتُك عبدي؛ لأن الحاجة داعية إلى جوازه إذن.

(و) يجوز عقدُه (بعده) أي: بعد الحق إجماعًا

(5)

؛ لأنه دَيْن ثابت تدعو الحاجة إلى أخذ الوثيقة به كالضمان.

و (لا) يجوز عقده (قبلَه) أي: قبل الحق؛ لأنه وثيقة بحق، فلم

(1)

سورة البقرة، الآية:283.

(2)

المغني (6/ 444).

(3)

أخرج الطبري في تفسيره (3/ 139 - 140) عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: لا يكون الرهن إلا في السفر.

(4)

أخرجه البخاري في البيوع، باب 14، 33، 88، حديث 2068، 2096، 2200، وفي السلم، باب 5، 6، حديث 2251، 2252، وفي الاستقراض، باب 1، حديث 2386، وفي الرهن، باب 2، 5، حديث 2509، 2513، ومسلم في المساقاة، حديث 1603، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعامًا من يهودي إلى أَجَلٍ، ورهنه درعًا من حديد.

(5)

مراتب الإجماع، لابن حزم ص/ 108.

ص: 151

يجز قبل ثبوته كالشهادة، ولأن الرهن تابع للحق، فلا يسبقه، كالثمن لا يتقدم البيع.

والفرق بينه وبين الضمان: أن الضمان التزام مالٍ تبرُّعًا بالقول، فجاز في غير حق ثابت كالنذر.

(والمرهون: كلُّ عينٍ معلومةٍ جُعلت وثيقةً بحق يمكن استيفاؤه منها) إن كانت من جنسه (أو من ثمنها) إن لم تكن من جنسه، وكثيرًا ما يُطلق الرهن ويراد به المرهون، من إطلاق المصدر على اسم المفعول.

(والمراد: كلُّ عين يجوز بيعُها) لأن المقصود منه الاستيثاق بالدين؛ ليتوصَّل إلى استيفائه من ثمن الرهن عند تعذُّر استيفائه من الراهن، وهذا يتحقَّق في كل عين يصحُّ بيعها، فلا يجوز رهن المنافع؛ لأنها تملك إلى حلول الحق. ولو رهنه أجرة داره شهرًا، لم يصح؛ لأنه مجهول. (حتى المُؤجَر) يجوز لمالكه رهنه؛ لأنه يجوز له بيعه، فهو كالمُعَار (و) حتى (المُكاتَب) لأنه يجوز بيعه، وإيفاء الدين من ثمنه (ويُمَكَّنُ) بالبناء للمفعول، أي: المُكاتَب (من الكسب كما كان) قبل أن يُرهن، ولا يصح شرط منعه من التصرُّف. (وما أدَّاه) من دَيْن الكتابة (رُهِن معه) لأنه كنمائه (فإن عجز) عن أداء ما بقي من الكتابة، ورَقَّ (كان هو وكسبه رهنًا) بالدين (وإن عتق) المُكاتَب (كان ما أدَّاه بعد عقد الرهن رهنًا) كمن مات بعد كسبه.

(فأما) الرقيق (المُعلَّق عِتقه بصفة) بأن قال له سيده: إذا جاء وقت كذا، فأنت حرٌّ (فإن كانت) لصفة (توجد قبل حلول الدَّين، لم يصح رهنه) لعدم إمكان بيعه عند حلوله (وإلا) توجد قبل حلوله (صح) رهنه

ص: 152

لإمكان بيعه، (وإن كانت) الصفة (تحتمل الأمرين) أي: الوجود قبل حلول الدَّين وبعده (كـ) ــأن علَّق عتقه بـ (ــقدوم زيد، صح) رهنه (أيضًا) كالمُدبَّر والمريض.

(وتصح زيادة رهن) بأن استدان منه مائة، ورهنه عليها عبدًا، ثم زاده عليها ثوبًا، فيصح؛ لأنه توثقة (ويكون حكمها) أي: الزيادة (حكم الأصل) المرهون أولًا.

و (لا) تصح (زيادة دَيْنه) أي: دَين الرهن، بأن استدان منه مائة ورهنه عليها عينًا، ثم استدان منه مائة أخرى وجعل الرهن على المائتين، لم يصح؛ لأنه رهن مرهون (كالزيادة في الثمن) بعد لزوم البيع

(1)

؛ فإنها لا تلحق بالعقد، كما تقدم

(2)

، ولو كان ذلك قبل قبض الرهن، صح، وكان رهنًا على المائتين.

(ويصح الرهن ممن يصح بيعه وتبرُّعه) لأنه تبرُّعٌ؛ إذ ليس بواجب كما تقدم

(3)

(ولو كان) الرهن (من غير مَن عليه الدين) المرهون عليه (فيجوز أن يرهن الإنسان مال نفسه على دين غيره، ولو بغير رضاه) أي: المَدين (كما يجوز أن يضمنه) بغير رضاه (وأولى) أي: صحة الرهن عنه بغير رضاه أولى من صحة ضمانه بغير رضاه.

(وهو) أي: الرهن عنه بغير إذنه (نظير إعارته) أي: المَدين شيئًا (للرهن، وصرَّح به) أي: بجواز رهن الإنسان ماله عن غيره بغير رضاه (الشيخ

(4)

).

(1)

في "ذ": "الأخرى" بدل "البيع".

(2)

(7/ 477).

(3)

(8/ 151).

(4)

الاختيارات الفقهية ص/ 197.

ص: 153

إذا علمت أن الرهن يصح ممن يصح بيعه وتبرُّعه (فلا يصح) الرهن (من سفيه ومُفلِس) لأنه لا يصح بيعهما (و) لا من (مكاتَبٍ وعبدٍ، ولو مأذونًا لهم في تجارة) لأنه لا يصح تبرُّعهم (ونحوهم) كالمميز.

ولولي اليتيم ونحوه رهن ماله لمصلحة، ويكون بيد عدل.

(ولا يصح) الرهن (معلَّقًا بشرط) كالبيع.

(ولا) يصح الرهن (بدون إيجاب وقَبول، أو ما يدلُّ عليهما) من الراهن والمرتهن، كسائر العقود.

(ولا بُدَّ من معرفته) أي: الرهن (و) معرفة (قَدْره وصفته وجنسه) لأن الرهن عقد على مال، فاشتُرِط العلمُ به، كباقي العقود.

(و) لا بُدَّ من (مِلْكه) أي: الراهن للرهن (ولو) كان يملك (منافعه) دون عينه (بأن يستأجر) إنسان (شيئًا) ليرهنه (أو) كان يملك الانتفاع به، بأن (يستعيره ليرهنه بإذن ربه فيهما) فيصح الرهن إذن (ولو لم يبيّن) المَدين (لهما) أي: للمؤجر والمعير (قَدْرَ الدَّين) الذي يرهنهما به (لكن ينبغي) للمَدين (أن يَذكر) للمؤجر والمُعير (المُرْتَهَنَ والقَدْرَ الذي يرهنه به وجنسه) أي: جنس القَدْر الذي يرهنه به (و) أن يذكر لهما (مدةَ الرهن) لئلا يغرّهما.

(ومتى شَرَط) الراهن (شيئًا من ذلك) المذكور، وهو المُرْتَهَن، وقَدْر الدين، وجنسه، ومدة الرهن (فخالف ورَهَنه بغيره، لم يصح الرهن) لأنه لم يؤذن له فيه، أشبه ما لو لم يؤذن له في أصل، الرهن.

(فإن أذن) المؤجر، أو المعير (له) أي: للراهن (في رهنه) أي: رهن ما استأجره، أو استعاره لذلك (بقَدْرٍ من المال) كمائة مثلًا (فنقص عنه) بأن رهنه بثمانين مثلًا (صح) الرهن؛ لأنه فعل بعض المأذون فيه.

ص: 154

(و) إن رهنه (بأكثر) كمائة وخمسين مثلًا (صح) الرهن (في القَدْر المأذون فيه) وهو المائة (فقط) وبطل في الزيادة، كتفريق الصفقة بخلاف ما لو آذنه بدنانير، فرهنه بدراهم، أو بمؤجل، فرهنه بحالٍّ ونحوه؛ فإنه لا يصح؛ لأن العقد لم يتناول مأذونًا فيه بحال.

(ولمعير) للرهن (أن يكلف راهنه فكَّه في محل الحق) أي: أجله (وقبله) أي: قبل محله؛ لأن العارية لا تلزم.

(وله) أي: للمعير للرهن (الرجوع) في الإذن في الرهن (قبل إقباضه المُرْتَهِنَ) لأن الرهن إنما يلزم بالقبض.

وكذا المؤجر له الرجوع، إذا أذن للمستأجر في رهنه قبل إقباضه (لا المؤجر) عينًا لمن يرهنها، أو ينتفع بها ثم آذنه أن يرهنها وأقبضها، فلا رجوع له (قبل مضي مدة الإجارة) للزومها.

(ويُباع) الرهن المستأجر، أو المستعار (إن لم يقضِ الراهن الدَّين) فيبيعه الحاكم، إن لم يأذن ربه؛ لأنه مقتضى عقد الرهن.

(فإن بِيع) الرهن (رجع) المؤجر، أو المعير على الراهن (بمثله في المِثْليِّ، وإلا) يكن الرهن مِثْليًّا، رجع ربه (بأكثر الأمرين من قيمته، أو ما بيع به) لأنه إن بيع بأقل من قيمته، ضمن الراهن النقص، وإن بيع بأكثر، كان ثمنه كله لمالكه. يؤيده: أن المرتهن لو أسقط حقه من الرهن، رجع الثمن كله إلى صاحبة، فإذا قضى به الراهن دينه، رجع به عليه، ولا يلزم من وجوب ضمان النقص أن لا تكون الزيادة للمالك، كما لو كان باقيًا بعينه، والمنصوص

(1)

يرجع ربه بقيمته، لا بما بيع به، سواء زاد على القيمة أو نقص، صحَّحه في "الإنصاف"، وقال: قدَّمه في "الفروع"

(1)

مسائل الكوسج (6/ 3035) رقم 2277.

ص: 155

و"الفائق" و"الرعاية الصغرى" و"الحاويين".

(فلو تلف) الرهن المؤجَرُ، أو المستعارُ بغير تعدٍّ ولا تفريط (ضمن) الراهنُ (المستعيرُ فقط) لأن العارية مضمونة مطلقًا، كما يأتي دون المؤجَر؛ فلا يضمنه بلا تعدٍّ ولا تفريط.

(وإن فَكَّ المُعير، أو المؤجِر الرهن، وأدَّى) الدَّين (الذي عليه بإذن الراهن رجع) المُعير أو المؤجِر (به) أي: بما أداه عنه (عليه) أي: على الراهن.

(وإن قضاه) أي: الدَّينَ المؤجِرُ أو المُعيرُ (متبرعًا لم يرجع بشيء) لتبرُّعه به، وكذا إن لم ينوِ تبرُّعًا ولا رجوعًا.

(وإن قضاه) أي: قضى المُعير أو المؤجِر الدَّين عن الراهن (بغير إذنه ناويًا الرجوع) عليه (رجع) لقيامه عنه بدين واجب عليه، فإن لم ينوِ رجوعًا، لم يرجع.

(وإن) استأجر، أو استعار شيئًا ليرهنه ورهنه بعشرة، ثم (قال) الراهن لربه:(أذنت لي في رهنه بعشرة فقال) ربه: (بل) أذنت لك في رهنه (بخمسة، فالقول قول المالك) بيمينه؛ لأنه منكر للإذن في الزيادة، ويكون رهنًا بالخمسة فقط.

(ولو رهنه) أي: رهن مدينٌ ربَّ دين (دارًا فانهدمت قبل قبضها، لم ينفسخ عقد الرهن) لبقاء المالية (وللمرتهِن الخيار، إن كان الرهن مشروطًا في البيع) فإن شاء أمضى البيع، وإن شاء فسخه؛ لفوات شرطه؛ فإن لم يكن مشروطًا في البيع، فلا خيار له فيه، وكذا قرض.

(ويصح) الرهن (بكل دَيْنٍ واجب) كقرض، وقيمة مُتلَف (أو) دَينٍ

ص: 156

(مآله إلى الوجوب) كثمن في مدة خيار (حتى) يصح أخذ الرهن (على عين مضمونة كالغُصوب والعواري، والمقبوض على وجه السَّوم، والمقبوض بعقدٍ فاسد) لأن مقصود الرهن الوثيقة بالحق، وهذا حاصل، فإن الرهن بهذه الأعيان يحمل الراهن على أدائها، وإن تعذَّر أداؤها استوفى بدلها من ثمن الرهن، فأشبهت ما في الذِّمة (قال في "الفائق": قلت: وعليه يُخرَّج الرهن على عواري الكتب الموقوفة، ونحوها) كالأسلحة والدروع الموقوفة على الغزاة (انتهى) يعني: إن قلنا: هي مضمونة، صَحَّ أخذ الرهن بها، وإلا؛ فلا. ويأتي في العارية: أنها غير مضمونة، فلا يصح أخذ الرهن بها.

وعُلم من ذلك: أنه يصح أخذ الرهن للوقف، فيصح الضمان - أيضًا - لجهة الوقف؛ لأن ما صح رهنه صح ضمانه.

(ويصح) أخْذ الرهن (على نفع إجارة في الذِّمة كـ) ــمن استؤجر لـ (ــخياطة ثوب، وبناء دار، ونحو ذلك) كحمل معلوم إلى موضع معين؛ فإن لم يفعله الأجير، بيع الرهن واستؤجر منه من يعمله.

و (لا) يصح أخذ الرهن (على دِيةٍ على عاقلةٍ قبل الحلول) لعدم وجوبها إذن (و) أخذ الرهن بها (بعده) أي: بعد الحلول (يصح) لوجوبها إذن.

(ولا) يصح أخْذ الرهن (على دَيْن كتابةٍ) لعدم وجوبه.

(و) لا على (جُعْل في جعالة) قبل العمل لعدم وجوبه.

(و) لا على (عِوض في مسابقة قبل العمل) لعدم وجوبه، ولا يتحقَّق أنه يؤول للوجوب.

(و) أخذ الرهن بالجُعل في الجعالة، وبالعِوض في المسابقة

ص: 157

(بعده) أي: بعد العمل (يصح فيهما) لاستقرار الجُعل والعِوض إذن.

(ولا) يصح أخذ الرهن (على عهدة مبيع) لأن البائع إذا وثق على عهدة المبيع، فكأنه ما قبض الثمن؛ ولا ارتفق به؛ ولأنه ليس له حَدٌّ ينتهي إليه، فيعم ضرره بمنع البائع التصرُّف فيه.

(و) لا يصح أخْذ الرهن بـ (ــعِوض غير ثابت في الذِّمة، كثمن معيّن، وأجرة معيّنة في إجارة، ومعقود عليه فيها) أي: الإجارة (إذا كان منافعَ) عين (معيّنة، كدار) معينة (وعبد معين، ودابة) معينة (لحمل شيء معيّن إلى مكان معلوم) لأن الذمة لم يتعلَّق بها في هذه الصور حق واجب، ولا يؤول إلى الوجوب؛ لأن الحق في أعيان هذه الأشياء، وينفسخ عقد الإجارة عليها بتلفِها.

(ويصح رهن ما يُسرع إليه الفساد) كالعنب والرطب (بدَيْنٍ حالٍّ أو مؤجَّل) لأنه يجوز بيعه، فيحصُل المقصود.

(فإن كان) الدين (مؤجَّلًا، وكان الرهن مما يمكن تجفيفه كالعنب، فعلى الراهن تجفيفه) لأنه عن مؤنة حفظه وتبقيته، أشبه نفقة الحيوان.

(وإن كان) الرهن (مما لا يُجفف كالبطيخ والطبيخ، وشَرَط) في الرهن (بيعَه، وجَعْلَ ثمنه رهنًا) مكانه (فعل ذلك، وإن أطلقا بِيْعَ) أي: باعه الحاكم، إن لم يأذن ربه (أيضًا) وجعل ثمنه مكانه كما يأتي؛ لأن الثمن بدل العين، وبدل الشيء يقوم مقامه، وهذا إن لم يكن الدَّين قد حلَّ، وإلا قضي من ثمنه، صَرَّح به في "المغني" و"الشرح".

ونقل أبو طالب

(1)

فيمن رهن وغاب، وخاف المرتهن فساده، أو

(1)

كتاب الروايتين والوجهين (1/ 370)، وانظر مسائل الكوسج (6/ 2741) رقم 1954.

ص: 158

ذهابه، فليأتِ السلطان حتى يبيعه؛ كما أرسل ابن سيرين إلى إياس يأذن له في بيعه

(1)

. فإذا باعه حفظه، حتى يجيء صاحبه، فيدفعه إليه بأسره، حتى يكون صاحبه يقضيه.

(وإن شَرَطَ) في رهن ما يُسرع إليه الفساد (أن لا يُباع، لم يصح) الشرط؛ لمنافاته مقتضى العقد (كما لو شَرَط) في الرهن (عدم النفقة على الحيوان) المرهون؛ لأنه يؤدي إلى هلاكه، فيفوت الغرض من التوثيق.

(وحيث يُباع) الرهن (فإن كان) الراهن (جَعَلَ للمرتَهِنِ بيعه) في العقد، (أو أذن له فيه بعدَ العقد) باعه المرتهن؛ لأنه وكيل ربه (أو اتفقا) أي: الراهن والمرتهن (على أن الراهن) يبيعه، باعه (أو) اتفقا على أن (غيره يبيعُه باعه) لأنه وكيل مالكه ومأذون له من قِبَلِ المرتَهِن.

(وإلا) أي: وإن لم يتفقا على شيء من ذلك (باعه الحاكم) لقيامه مقام الممتنع والغائب (وجعل ثمنه رهنًا) مكانه (إلى الحُلُول) لقيام البدل مقام المبدل.

(وكذلك الحُكْم إن رهنه ثيابًا، فخاف) المرتهن (تلفها، أو) رهنه (حيوانًا، فخاف) المُرتَهِن (موته) فيُباع؛ على ما تقدم نَقْله عن أبي طالب.

(ويصح رهن المُشاع في الشريك ومن أجنبي) لأنه يجوز بيعه في محل الحق؛ أشبه المفرز.

(ثم إن كان) المرهون بعضه (مما لا يُنقل) كالعقار (خَلَّى) الراهن

(1)

أخرج عبد الرزاق (8/ 246) رقم 15076 من طريق خالد الحذاء قال: قال لي محمد بن سيرين: إن عندي غزلًا مرهونًا، فَأْتِ إياس بن معاوية - وكان قاضيًا يومئذ - فاستأذنه لي في بيعه، فإني أخاف عليه الفساد، فأذن لي.

ص: 159

(بينه) أي: الرهن (وبينه، وإن لم يحضر الشريكُ) ولم يأذن؛ إذ ليس في التخلية بينه وبينه تعدٍّ على حصة الشريك.

(وإن كان) المرهون بعضه (مما يُنقل) كالثياب والبهائم (فرضي الشريك والمرتَهِن بكونه في يد أحدهما، أو غيرهما، جاز) لأن الحق لهما لا يتجاوزهما.

(وإلا) يتراضيا على ذلك (جَعَله حاكم في يد أمينٍ أمانةً، أو بأجرة) لأن قبض المرتَهَن واجب، ولا يمكن ذلك منفردًا؛ لكونه مُشاعًا، فتعيَّن ما ذكر؛ لكونه وسيلة إلى القبض الواجب.

(وله) أي: للحاكم (أن يؤجِرَه) عليهما لوجود المصلحة لهما بذلك.

(ويصح أن يرهَنَ) إنسان (بعض نصيبه من المُشاع، كأن يرهن نصف نصيبه، أو) يرهن (نصيبه من معيَّنٍ) في مُشاع (مثل أن يكون له نصف دار فيرهن نصيبه من بيت منها) أي: الدار (بعينه لشريكه، أو غيره) أي: غير شريكه، فيصح؛ لأنه يجوز بيعه كما تقدم (ولو كان) النصيب (مما) أي: من عقار (تُمْكِنُ قسمتُه) بلا ضرر، ولا رَدِّ عوض.

(فإن اقتسما) أي: الراهن وشريكه العقار المشترك (فوقع) المعين (المرهون) بعضه، وهو البيت في المثال المذكور (لغير الراهن، لم تصح القسمة) لأن الراهن ممنوع من التصرُّف في الرهن بما يضرّ المرتهن، فيمنع من القسمة المضرة، كما يمنع من بيعه (قطع به) أي: بعدم صحة القسمة (الموفق والشارح) ومعناه في "شرح المنتهى".

(ويصح رهن) القِنِّ (المرتد، و) القِنّ (القاتل في المُحاربة) ولو

ص: 160

تحتم قتله (و) القِنّ (الجاني، عمدًا كانت الجناية أو خطأ، على النفس أو دونها) كالأطراف؛ لأنه يصح بيعه في محل الحق (فإن كان المرتَهِن عالمًا بالحال) من الردة، أو القتل في المحاربة، أو الجناية (فلا خيار له) لدخوله على بصيرة (وإن لم يكن) المرتَهِن (عالمًا) بالحال (ثم علم) به (بعد إسلام المرتدِّ وفداء الجاني، فكذلك) أي: لا خيار له (لأن العيب زال) بلا ضرر يلحقه.

(وإن علم) المرتَهِن بالحال (قبل ذلك) أي: قبل إسلام المرتد، وفداء الجاني (فله رَدُّه) أي: الرهن (وفسخ البيع إن كان) الرهن (مشروطًا في العقد) أي: عقد البيع؛ إذ الإطلاق يقتضي السلامة، فلم يوفَ له بشرطه.

(وإن اختار) المرتَهِن (إمساكه) في هذه الحالة (فلا أرش له) لذلك العيب؛ لأن الرهن لو تلف بجملته قبل قبضه، لم يملك بدله، فبعضه أولى.

(وكذلك لا أَرْش له) أي: للمرتَهِن (لو لم يعلم) الحال (حتى قُتِلَ العبد بالردة) أو المحاربة (أو القصاص، أو أُخِذ بالجناية) أي: بيع فيها، أو سُلِّم لوليها.

ومتى امتنع السيد من فداء الجاني، لم يُجبر، ويُباع في الجناية؛ لتقدم حق المجني عليه على الرهن، أشبه ما لو جنى بعد الرهن.

(ويصح رهن المُدَبَّر) لأنه يجوز بيعه (والحكم فيما إذا علم) المُرتَهِن (وجود التدبير، أو لم يعلم) به (كالحُكْم في العبد الجاني) على ما ذكر من التفصيل.

ص: 161

(فإن مات السيد قبل الوفاء

(1)

فعتَقَ المدبرُ) لخروجه كله من الثلث بعد الدين (بطل الرهن) كما لو مات.

(وإن عتق بعضه) أي: بعض المُدَبَّر؛ لعدم خروجه كله من الثلث (بقي الرهن فيما بقي) منه قِنًّا، كما لو تلف البعض وبقي البعض.

(وإن لم يكن للسيد مال يفضل عن وفاء الدَّيْن، بيع المُدَبَّر) كله (في الدَّيْن وبطل التدبير) كالوصية.

(وإن كان الدين لا يستغرقه) أي: المُدَبَّر كله (بيع منه بقَدْرِ الدَّيْن وعتق ثلث الباقي) منه بالتدبير (وباقيه للورثة) إرثًا.

(ويحرم رهن مال يتيم لفاسق) لأنه عرضة لضياعه؛ فإن شرط جعله بيد عدل، جاز.

(ويصح رهن مبيع بعد قبضه) مطلقًا؛ لجواز بيعه إذن (وكذا) يصح رهن المبيع (قبله) أي: قبل قبضه (في غير مكيل وموزون ومعدود ومذروع) ومبيع بصفة، أو رؤية متقدَّمة على ما سبق في البيع، ورهن المبيع على الوجه المذكور صحيح (ولو) كان رهنه (على ثمنه) لأن الثمن صار دينًا في الذِّمة، والمبيع صار ملكًا للمشتري، فجاز رهنه بالثمن كغيره من الديون.

(وتقدم

(2)

) في البيع (حُكم المَكيل ونحوه) كالمعدود والموزون والمذروع والمبيع بصفة، أو رؤية متقدِّمة.

(وما لا يصح بيعه، كالمُصحف، وأم الولد، والوقف، والعين

(1)

"الوفاء": ساقطة من "ذ".

(2)

(7/ 492 - 500).

ص: 162

المرهونة، والكلب) ولو معلمًا (وما لا يُقدَر على تسليمه، والمجهول الذي لا يصح بيعه، لا يصح رهنه) لأن القصد من الرهن استيفاء الدّين من ثمنه عند التعذُّر، وما لا يجوز بيعه، لا يمكن فيه ذلك، والمُصحف لا يصح رهنه، ولو قلنا: يصح بيعه. نقل الجماعة عن الإمام: لا أرخص في رهن المصحف

(1)

.

(فلو قال) الراهن للمُرتَهِن: (رهنتُك أحد هذين) العبدين، لم يصح للجهالة (أو) قال: رهنتُك (عبدي) فلانًا (الآبق) لم يصح؛ لعدم قُدرته على تسليمه (أو) قال: رهنتك (هذا الجِرابَ) - بكسر الجيم - بما فيه (أو) هذا (البيت) بما فيه (أو) هذه (الخريطة بما فيها، لم يصح) الرهن للجهالة. (وإن) قال: رهنتك هذا الجراب، أو البيت، أو الخريطة، و (لم يقل: بما فيها، صح) الرهن (للعِلم بها) أي: بالجراب والخريطة والبيت.

(و‌

‌لا) يصح رهن (ما لا يجوز بيعه من أرض الشام والعراق ونحوهما)

كأرض مصر (مما فتح عَنوة) ولم يقسم؛ لما تقدم من أن عمر رضي الله عنه وَقَفَه، وأقرَّه بأيدي أربابه بالخراج

(2)

.

(وكذا حكم بنائها) أي: بناء الأرض المذكورة، إذا كان بناؤها (منها) قطع به في "المغني"، و"الكافي" و"المبدع"، لكن تقدم في البيع

(3)

: أن بيع المساكن من أرض العَنوة صحيح، سواء كانت آلتها منها، أو من غيرها، فيصح رهنها (فإن كان) بناء هذه الأرض (من غير

(1)

كتاب الروايتين والوجهين (1/ 371)، والمغني (6/ 462).

(2)

تقدم (7/ 169 - 170).

(3)

(7/ 323).

ص: 163

أجزائها) صح رهنه (أو رَهَن الشجرَ المجدّد فيها) بعد الوقف (صح) رهنه، كسائر الأملاك؛ لأنه يجوز بيعه.

(ولا) يصح (رهنُ مال غيره بغير إذنه) لأنه لا يصح بيعه (فإن رهن عينًا يظنها لغيره، نحو أن يرهن عبد أبيه، فيتبين أنه) أي: أباه (قد مات وصار العبد ملكه بالميراث) أو أنه كان أذن له (صح) الرهن كما تقدم

(1)

في البيع؛ إذ العبرة في المعاملات بما في نفس الأمر.

(ولا) يصح (رهن المبيع في مدة الخيار، إلا أن يرهنه المشتري، و) الحال أن (الخيار له وحده، فيصح) الرهن (ويبطل خياره) لأن تصرُّفَه دليل رضائه بالبيع وإمضائه.

ويصح - أيضًا - رهنه بإذن البائع أو عنده، ولو كان الخيار للبائع.

ويصح رهن البائع له بإذن المشتري، كما يعلم مما سبق في الخيار.

(ولو أفلس المشتري) مثلًا (فرهن البائع عين ماله التي له الرُّجوع فيها) لعدم أخذه ثمنها (قبل الرُّجوع) لم يصح (أو رهن الأبُ العينَ التي وهبها لولده قبل رجوعه) فيها (لم يصح) الرهن؛ لأنه لا يجوز له بيعها؛ لانتقال الملك عنه لغيره.

(لكن) استدراك من قوله: "وما لا يصح بيعه لا يصح رهنه"(يصح رهن الثمرة قبل بدُوِّ صلاحها من غير شرط القطع، و) يصح رهن (الزرع الأخضر) بلا شرط القلع؛ لأن النهي عن البيع إنما كان لعدم الأمن من العاهة، ولهذا أمر بوضع الجوائح، وهذا مفقودٌ هنا. وبتقدير تلفهما لا يفوت حق المرتهن من الدَّين لتعلقه بذمة الراهن، فمتى حلَّ الحق بِيْعا، وإن اختار المرتهن تأخير بيعهما، فله ذلك.

(1)

(7/ 321).

ص: 164

(و) يصح رهن (الأَمَة دون ولدها) أو أخيها ونحوه (وعكسه) أي: يصح رهن ولدها ونحوه دونها، وكذا رهن الأب دون ولده، أو ولده دونه ونحوه؛ لأن النهي عن بيع ذلك إنما هو لأجل التفريق بين ذي الرحم المُحرم (و) ذلك مفقود هنا، فإنه إذا استحق بيع الرهن (يُباعان) أي: الأَمَة وولدها، أو الأخوان ونحوهما (ويوفى الدين من) ثمن (المرهون منها، والباقي) من ثمن المرهون منهما (للراهن) وإن لم يفِ ثمنه بالدَّين؛ فما بقي من الدَّين مرسلٌ في الذمة، لا رهن به.

(فإذا كانت الجارية هي المرهونة) دون ولدها، وبيعا معًا (وكانت قيمتها مائة مع كونها ذات ولد، وقيمة الولد خمسين، فحصتها) أي: الجارية (ثلثا الثمن) الذي بيعا به، قطع به في "المغني" وصحح في "التلخيص": أنها تُقوَّم مع ولدها وولدها معها؛ لأن التفريق مُحرَّم، فيُقَوَّم كل منهما مع الآخر. قال في "الرعاية الكبرى": وهو أَولى.

(فإن لم يعلم المُرتَهِن) للجارية (بالولد، ثم عَلِم) به (فله الخيار في الرد والإمساك، فإن أمسك، فلا شيء له غيرها، وأن رَدَّها، فله فسخ البيع، إن كانت مشروطة فيه) أي: في البيع لفوات شرطه، فإن لم تكن مشروطة فيه فلا فسخ له.

(وإن تعيَّب الرهن) قبل قبضه (أو استحال العصير) المرهون (خمرًا قبل القبض؛ فللبائع الخيار بين قبضه معيبًا، ورضاه بلا رهن فيما إذا تخمَّر العصير، وبين فسخ البيع) يعني: إن كان مشروطًا فيه؛ لفوات شرطه، وإلا؛ فلا. (و) إذا فسخ البيع (رد الرهن) لربه؛ لبطلانه.

(وإن علم) المرتَهِن (بالعيب بعد قبضه) أي: الرهن (فكذلك) أي: يُخير بين إمساكه، أو رده وفسخ البيع، إن كان مشروطًا فيه.

ص: 165

(وليس له) أي: للمُرتَهِن (مع إمساكه) أي: الرهن المعيب (أَرْش من أجل العيب) لأن الرهن لو تلف بجملته لم يملك الطلب ببدله، فبعضه أولى.

(وإن رهن ثمرة إلى محِلٍّ) بكسر الحاء، أي: أجل (فَحَدَث فيه) أي: المحل ثمرة (أخرى لا تتميز، فالرهن باطل) لأنه مجهول عند حلول الحق.

(وإن رهنها) أي: الثمرة (بدَيْن حالٍّ، أو) رهنها بدَيْن مؤجَّل، و (شرط قطعها عند خوف اختلاطها) بأخرى (جاز) لأنه لا غَرَرَ فيه. (فإن لم يقطعها) أي: الثمرة (حتى اختلطت) بغيرها (لم يبطل الرهن) لأنه وقع صحيحًا.

(فإن سَمَحَ الراهن ببيع الجميع) من الثمرة المرهونة وما اختلطت به (على أنه رهن) جاز؛ لأنه كزيادة الرهن.

(أو اتفقا) أي: الراهن والمرتهن (على) بيع (قَدْرٍ منه جاز) لأن الحق لا يعدوهما.

(وإن اختلفا، أو تشاحَّا، فـ) ــيقدم (قول الراهن مع يمينه) لأنه مُنكِرٌ.

(وان رهن المُكاتَب من يعتق عليه) من ذوي رحمه المحرم، كأبيه وأخيه وعمه (لم يصح) رهنه (لأنه لا يملك بيعه) لما يأتي في الكتابة.

(ولو رهن العبد المأذون) له في التجارة (من يعتق على السيد) كأبي سيده، وأخيه وعمه (لم يصح) رهنه (لأنه صار حرًّا بشرائه) لأن حقوق العقد متعلقة بالسيد؛ لأنه المالك.

ص: 166

(ولو رهن الوارث تَرِكة الميت أو باعها، وعلى الميت دَيْن، ولو من زكاة، صح) الرهن أو البيع؛ لانتقال التركة إليه بموت مورثه. وتعلُّق الدَّيْن بها كتعلُّق أَرْش الجناية برقبة الجاني، لا يمنع من صحة التصرف.

(فإن قضى) الوارث (الحق) الذي على الميت (عن غيره) أي: من غير ما رهنه أو باعه (فالرهن) والبيع (بحاله) لا ينقض، كما لو رهن السيدُ العبدَ الجاني، أو باعه ووفى أَرْش الجناية من غيره (وإلا) يوفِ الوارث الحقَّ (فللغرماء انتزاعه) أي: انتزاع ما رهنه، أو باعه، وإبطال تصرُّفه؛ لسبق حَقِّهم (والحُكم فيه) أي: فيما انتزعه الغرماء من المُرتَهِن، أو المشتري من تركة الميت (كالحُكم في) العبد (الجاني) فيُباع ويوفى من ثمنه ما على الميت، وإن فضل شيء فللوارث، كما يأتي تفصيله.

(وكذا الحكم لو تصرَّف) الوارث (في التركة، ثم رُدَّ عليه) أي: على الوارث (مبيع باعه الميت) قبل موته (يعيب) متعلق بـ "رد"(ظهر فيه) أي: في المبيع، فإن وفى الوارث المشتري ثمنه نفذ تصرُّفه، وإلا؛ فله انتزاع التركة ممن هي بيده، وأخذ ثمنه منها.

(أو حقٌّ) أي: وكذا حكم حق (تعلّق تَجَدُّدُهُ) وفي نسخة "تجدد تعلقه" وهي موافقة لما في "المغني"(بالتركة) بعد تصرُّف الوارث فيها (مثل أن وقع إنسان، أو بهيمة في بئر حَفَره) المورث قبل موته (في غير ملكه) تعديًا. وقوله: (بعد موته) متعلِّق بـ "وقع". وقوله: (لأن تصرُّفه) أي: الوارث في التركة إذن (صحيح) علة لقوله: "ولو رهن الوارث تركة الميت إلخ"(لكن) تصرف الوارث في التركة مع تعلُّق حق غرماء الميت بها (غير نافذ) بل موقوف (فإن قضى) الوارث (الحقَّ) اللازم

ص: 167

للميت (من غيره) أي: غير ما تصرف فيه (نفذ) تصرُّفه (وإلا) يقضه من غيره (فسخ البيع والرهن) وقضى ما على الميت؛ لسبق حق صاحب الدَّيْن.

وعُلِم من قوله: "فسخ البيع والرهن": أنه لو أعتقه لم يتأتَّ فسخ العتق، بل يُجبر الوارث على قضاء الحق، كما لو أعتق السيدُ العبدَ الجاني، أو أعتق الراهن الرهنَ، على ما يأتي.

(ويصح رهن عبدٍ مسلمٍ لكافر) لأن الرهن لا ينقل الملك إلى الكافر، بخلاف البيع (إذا شَرَط كونه) أي: العبد المسلم (في يد مسلمٍ عدل) وإلا لم يصح؛ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}

(1)

.

(ومثله) أي: مثل العبد المسلم فيما ذكر (كتب الحديث والتفسير) فيصح رهنها لكافر، إذا شرط أن تكون بيد مسلم عدل.

(ولا يلزم الرهن في حق الراهن إلا بالقبض) لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}

(2)

؛ ولأنه عقد إرفاق يفتقر إلى القَبول، فافتقر إلى القبض، كالقرض، وعُلم من ذلك: أنه لا يلزم في حق المرتهن مطلقًا؛ لأن الحق له، وتقدم

(3)

. وقوله: (للمرتهن، أو وكيله، أو لمن اتفقا) أي: الراهن والمُرتَهِن (عليه) أي: أن يكون الرهن بيده متعلِّق بالقبض ولا فرق في ذلك بين المكيل والموزون وغيرهما.

(وليس له) أي: للمُرتَهِن، أو وكيله (قبضه) أي: الرهن (إلا بإذن الراهن) لأنه له قبل القبض، فلا يملك المُرتَهِن إسقاط حقه بغير إذنه

(1)

سورة النساء، الآية:141.

(2)

سورة البقرة، الآية:283.

(3)

(8/ 151).

ص: 168

كالموهوب. (فإن قبضه) أي: الرهن مرتَهِنٌ أو نائبه (بغير إذن) الراهن (لم يثبت حكمه) وهو اللزوم (وكان بمنزلة ما لم يقبض) لفساد القبض؛ لعدم إذن الراهن فيه.

(فلو استناب المرتهنُ الراهنَ في القبض، لم يصح) قبضه، ولم يكن الرهن لازمًا؛ لأن المُرتَهِن لم يقبضه هو ولا وكيله (وعبد الراهن وأم ولده كهو) فلا تصح استنابتهما في قبض الرهن؛ لأن يد سيدهما ثابتة عليهما وعلى ما بيدهما (لكن تصح استنابة مُكاتَبه) أي: مكاتَب الراهن (وعبده المأذون له) في التجارة في قبض الرهن؛ لاستقلالهما بالتصرُّف.

(وصفة قبضه) أي: قبض الرهن (كـ) ــصفة قبض (مبيع، فإن كان) الرهن (منقولًا، فقَبْضُه نَقْله) كالخيل

(1)

(أو تناوله) إن كان يتناول كالدراهم ونحوه (موصوفًا كان) الرهن (أو معيَّنًا، كعبد وثوب وصُبرة. وإن كان) الرهن (مكيلًا فـ) ــقبضه (بكيله، أو) كان (موزونًا فـ) ــقبضه (بوزنه، أو) كان (مذروعًا، فـ) ــقبضه (بذرعه، أو) كان (معدودًا، فـ) ــقبضه (بعدِّه، وإن كان) الرهن (غير منقول كعقار) من أرض وبناء، وغراس (و) كـ (ــثمر على شجر، وزرع في أرض فـ) ــقبضه (بالتخلية بينه وبين مرتهنه من غير حائل) لأنه المُتعارف في ذلك كله، كما تقدم في البيع

(2)

.

(ولو رهنه دارًا فخلَّى) الراهن (بينه) أي: المُرتَهِن (وبينها، وهما فيها، ثم خرج الراهن) منها (صح القبض؛ لوجود التخلية. و) الرهن (قبل قبضه جائز غير لازم) لعدم وجود شرط اللزوم، وهو القبض.

(1)

في "ذ": "كالحلي".

(2)

(7/ 500 - 504).

ص: 169

(فلو تصرَّف فيه) أي: الرهن (راهن قبله) أي: قبل القبض (بِهبة، أو بيع، أو عتق، أو جعله صداقًا، أو عوضًا في خلع) أو طلاق، أو عتق، أو جعله أجرة، أو جُعلًا في جعالة، ونحو ذلك مما يخرج به عن ملكه (أو رهنه ثانيًا، نفذ تصرُّفُه) لعدم لزوم الرهن (وبطل الرهن الأول) لأن هذه التصرُّفات تمنع الرهن، فانفسخ بها (سواء أقْبَض) الراهن (الهبةَ والبيعَ والرهنَ الثاني، أم لم يُقبِضه) كما

(1)

تقدم

(2)

.

(وإن دبَّره) أي: دبر الراهن الرهن في قبضه (أو آجره، أو كاتبه، أو زوَّج الأَمَة) المرهونة قبل القبض (لم يبطل الرهن) لأن هذه التصرُّفات لا تمنع البيع، فلا تمنع صحة الرهن.

(ولو أذن) الراهن للمرتهن (في قَبْضه) أي: الرهن (ثم تصرَّف) الراهن (قبلَه) أي: قبل القبض (نفذ) تصرُّفُه (أيضًا) لعدم اللزوم بعدم القبض.

(وإن امتنع) الراهن (من إقباضه) الرهن (لم يُجبر) عليه؛ لعدم لزومه، ويبقى الدين بغير رهنٍ، وكذا إن انفسخ الرهن قبل القبض.

(لكن إن شَرَطه) البائع (في عقد بيع، وامتنع) المشتري (من إقباضه) الرهن (فللبائع فَسْخُ البيع) لأنه لم يُسلِّم له ما شرطه، وكذا لو شرطه في قرض.

(ولو رهنه) شخص (ما هو في يده) أي: المُرتَهِن (ومضمون عليه كالغصوب والعواري، والمقبوض على وجه سَوْم، والمقبوض بعقد فاسد، صحَّ الرهن، وزال الضمان) لانتقاله إلى الأمانة (كما لو كان) ما في يده (غيرَ مضمون عليه كالوديعة ونحوها) كالمضاربة والشركة (ويلزم

(1)

في حاشية "ذ": "في نسخة: لما".

(2)

(8/ 155).

ص: 170

الرهنُ) حينئذ (بمجرَّد ذلك) أي: بمجرَّدِ العقد؛ لأن يده ثابتة عليه، وإنما تَغيَّر الحكم فقط، فلم يحتج إلى قبض، كما لو منع الوديعة صارت مضمونة (ولا يحتاج) لزوم الرهن إذًا (إلى أمر زائد على ذلك) أي: على العقد، كمضي زمن يتأتى قبضه فيه (كهِبة) أي: هبة إنسان ما بيده، فإنها تلزم بمجرد العقد، ولا يحتاج لمضي زمن يتأتَّى فيه القبض، لما تقدم.

(فإن جُنَّ أحدُ المتراهنين قبل القبض، أو مات) أحدهما قبله (لم يبطل الرهن) لأنه يؤول إلى اللزوم؛ فأشبه البيع في مدة الخيار، بخلاف نحو الوكالة (ويقوم وليُّ المجنون مقامه، فإن كان المجنون هو الراهن، فعل وَليُّه ما فيه الحظ له من التقبيض) للرهن (وعدمه) يعني: إن كان الحظ للمجنون في التقبيض، بأن يكون شرط في بيع والحظ في إتمامه أقبضه، وإن كان الحظ في تركه لم يجز تقبيضه؛ وإنما اعتُبر الإذن؛ لشبهه بالهِبة، من حيث إنه لا يلزم إلا بالقبض.

(وإن كان) المجنون هو (المرتَهِن قبضه) له (وَلِيُّه) لأنه الأحظ له.

(وإن مات) أحدُهما (قام وارثه مقامه) في التقبيض والقبض كسائر حقوقه.

(فإن مات الراهن لم يلزم ورثَته تقبيضه) أي: الرهن؛ لأنه لا يلزم مورثهم، وإن أرادوا إقباضه.

(فإن لم يكن على المستدين سوى هذا الدَّين، فللورثة تقبيض الرهن) للمرتهن؛ لأن الحق لهم.

(وإن كان عليه) أي: الميت (دين سواه، فليس للورثة تخصيص المُرتَهِن بالرهن) لأن حقوق الغرماء تعلَّقت بالتَّرِكة قبل لزوم حقه، فلم يجز تخصيصه به بغير رضاهم.

ص: 171

(وسواء فيما ذكرنا ما) إذا مات أحدهما أو جُنَّ (بعد الإذن في القبض، وما) إذا حصل ذلك (قبله) أي: قبل الإذن في القبض (لأن الإذن يبطل بالموت والجنون والإغماء والحَجْر) لأنه وكالة.

(فلو حُجِر على الراهن لفَلَس قبل التسليم، لم يكن له تسليمه) لأنه تخصيص لبعض الغرماء.

(وإن كان) الحجر (لسَفَهٍ، فكما لو زال عقله بجنون) فيقوم وليه مقامه في فعل الأحظ.

(وإن أُغمي عليه) أي: على الراهن قبل إقباضه الرهن (لم يكن للمُرتَهِن قَبْض الرهن) بنفسه (وليس لأحد تقبيضه) له (لأن المُغمى عليه لا تثبت عليه الولاية) لأحد؛ لقصر مدة الإغماء (وانتُظرت إفاقته) من إغمائه ليقبضه إن شاء.

(وإن خرس) الراهن (وكانت له كتابة مفهومة، أو إشارة معلومة، فكمتكلِّم) لحصول المقصود بكتابته أو إشارته (وإلا) بأن لم تكن له كتابة مفهومة ولا إشارة معلومة (لم يجز) للمُرتَهِن (القبض.

وإن كان أحد هؤلاء قد أَذِن في القبض بطل حكمه) أي: حكم إذنه (لأن إذنهم يبطل بما عرض لهم) من موت، وجنون، وإغماء، وحَجْرٍ، وخَرَسٍ، وتقدم بعضه.

(واستدامة قبضه) أي: الرهن (شرطٌ في لزومه) لأن الرهن يُراد للوثيقة؛ ليتمكَّن من بيعه واستيفاء دينه، فهذا لم يكن في يده، زال ذلك، بخلاف الهبة؛ فإن القبض في ابتدائها يثبت الملك، فإذا ثبت، استغنى عن القبض.

(فإن أخرجه) أي: الرهن (المُرتهنُ باختياره إلى الراهن، زال

ص: 172

لزومه، وبقي) الرهن (كأنه لم يوجد فيه قَبْضٌ) لأن استدامة القبض شرط في اللزوم وقد زالت، والمشروط ينتفي بانتفاء شرطه (سواء أخرجه) المُرتَهِن إلى الراهن (بإجارة، أو إعارة، أو إيداع، أو غير ذلك) لما تقدم.

(فإن ردَّه) أي: ردَّ الراهنُ الرهنَ (إليه) أي: إلى المرتَهِن (باختياره، عاد لزومه بحكم العقد السابق) لأنه أقبضه باختياره، فلزم كالأول، ولا يحتاج إلى تجديد عقد؛ لأن العقد الأول لم يطرأ عليه ما يبطله؛ أشبه ما لو تراخى القبض عن العقد.

(وإن أزيلت) أي: أزال الراهن أو غيره (يده) أي: المُرتَهِن (بغير حق، كالغصب، والسرقة، وإباق العبد، وضياع المتاع، ونحوه، فلزومه) أي: الرهن (باقٍ) لأن يَدَ المُرتَهِن ثابتة عليه حكمًا.

ولو سبى الكُفَّار العبدَ المرهون ثم استُنْقذ منهم عاد رهنًا بحاله، نص عليه

(1)

، قاله في القاعدة الثلاثين

(1)

، وقال: لو صالحه عن دين الرهن على ما يشترط قبضه في المجلس، صح الصلح وبَرِئت ذمته في الدَّيْن، وزال الرهن، فإن تفرَّقا قبل القبض، بطل الصلح، وعاد الدَّيْن والرهن بحاله.

(وإن أقرَّ الراهن بالتقبيض) للرهن (ثم أنكره، وقال: أقررتُ بذلك، ولم أكن أقبضتُ شيئًا) فقول المُرتَهِن، مؤاخذة للراهن بإقراره. (أو أقرَّ المُرتَهِن بالقبض ثم أنكره، فقولُ المُقَرِّ له) مؤاخذة للمُقِرِّ بإقراره لحديث: "لا عُذرَ لمَنْ أقرَّ"

(2)

.

(1)

بل في القاعدة الأربعين من القواعد الفقهية ص/ 51.

(2)

ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة ص 727 برقم 1311 وقال: قال شيخنا [يعني ابن حجر]: لا أصل له وليس معناه على إطلاقه صحيحًا.

ص: 173

(فإن طلب المُنْكِرُ يمينَه) أي: يمين خصمه أنه ما أقرَّ كاذبًا (فله ذلك) أي: تحليفه؛ لاحتمال صدقه. ويأتي في الإقرار.

(وإن اختلفا) أي: الراهن والمُرتَهِن (في القبض، فقال المُرتَهِن: قبضتُه) أي: الرهن، فصار لازمًا (وأنكر الراهن) ذلك (فقولُ صاحب اليد) فإن كان بيد الراهن فقوله؛ لأن الأصل عدم القبض، وإن كان بيد المُرتَهِن فقوله؛ لأن الظاهر قبضه بحق.

(وإن اختلفا في الإذن) في القبض (فقال الراهن: أخذْتَهُ) أي: الرهن (بغير إذني) فلم يلزم (فقال) المُرتَهِن: (بل) أخذتُهُ (بإذنك، وهو في يد المُرتَهِن، فقول الراهن) لأنه مُنْكِرٌ (جزم به في "الكافي".

وإن قال) الراهن: (أذنتُ لك) في قبضه (ثم رجعتُ قبل القبضِ، فأنكر المُرتَهِن) رجوعه (فقوله) أي: المُرتَهِن؛ لأن الأصل عدم الرجوع.

وإن كان الرهن في يد الراهن فقال المُرتَهِن: قبضتُه، ثم غصبْتَنيه، فأنكر الراهن، فالقول قوله؛ لأن الأصل معه.

(ولو رهنه عصيرًا فتخمَّر، زال لزومه) لأن تخميره بمنزلة إخراجه من يده؛ لأنه لا يد لمسلم على خمر (ووجبت إراقتُهُ) حينئذ كسائر الخمر (فإن أُريق) ما تخمَّر من العصير (بطل العقد فيه، ولا خيار للمُرتَهِن) لأن التلف حصل في يده، وهذا بالنسبة للمسلمين.

(وإن عاد) ما تخمَّر من العصير (خلًّا) قبل إراقته (عاد لزومه بحكم العقد السابق) كما لو زالت يد المرتهن عنه ثم عادت إليه.

فلو استحال خمرًا قبل قبض المُرتَهِن، بطل العقد فيه، ولم يعد

ص: 174

بعوده خلًّا؛ لأنه عقد ضعيف لعدم القبض، أشبه إسلام أحد الزوجين قبل الدخول.

(وإن أجره) أي: أجر الراهن

(1)

(أو أعاره لمُرتَهِن، أو) أجره أو أعاره لـ (ــغيره) أي: غير مُرتَهِن (بإذنه) أي: إذن مُرتَهِن (فلزومه) أي: الرهن (باقٍ) لأن هذا التصرُّف لا يمنع البيع؛ فلم يفسد القبض (لكنه يصير) الرهن (في العارية مضمونًا) على المستعير من مُرتَهِن أو غيره؛ لأن العارية مضمونة كما يأتي.

فصل

(وتصرُّف راهنٍ في رهن لازم) أي: مقبوض (بغير إذن مُرتَهِن بما يمنع ابتداء عَقْده، كهبة، ووقف، وبيع، ورهن، ونحوه) كجعله عوضًا في صَداق أو طلاق (لا يصح) لأنه تصرُّف يُبطل حق المُرتَهِن من الوثيقة، وليس بمبني على السِّراية والتغليب، فلم يصح بغير إذن المُرتَهِن، كفسخ الرهن (إلا العتق مع تحريمه) لما فيه من إبطال حق المُرتَهِن من الوثيقة (فإنه ينفُذ) لأنه إعتاق من مالك قام الملك، فنفذ، كعتق المستأجر، ولأنه مبني على السراية والتغليب، بدليل أنه ينفذ في ملك الغير، ففي ملكه أولى (ولو كان) الراهن (مُعسِرًا) نفذ عتقه لما تقدم.

(ويؤخذ من) راهن (مُوسِر) إذا أعتق الرهن (قيمتُه) لأنه أبطل حق المُرتَهِن من الوثيقة، أشبه ما لو أتلفه (وقتَ عتقه) لأنه وقت إتلافه يكون (رهنًا مكانه) لأنها نائبة عن الرهن أو بدل عنه.

(ومتى أيسر) راهن (مُعسِرٌ) وقد أعتق الرهن (بقيمته قبل حلول

(1)

في "ح" و"ذ" زيادة: "الرهن".

ص: 175

الدَّين، أُخذت) القيمة (منه، وجُعلت رهنًا) مكانه؛ لأنها بدله.

(وإن أيسر) الراهن (بعدَه) أي: بعد حلول الدَّين، وكان قد أعتق الرهن (طولب بالدَّين فقط) لأن ذمته تبرأ به من الحقين معًا.

(وإن أَذِنَ) المُرتَهِن (فيه) أي: العِتق (أو في غيره مما تقدَّم) من الهبة، والوقف، والبيع، والرهن، ونحوه (صح) التصرُّف المأذون فيه؛ لأن الراهن إنما مُنع من مثل ذلك لتعلق حق المُرتَهِن، وقد أسقطه بالإذن (وبطل الرهن) لأن ما أذن فيه يمتنع معه جواز الرهن ابتداء، فامتنع معه دوامًا، ولهذا قيد فيما تقدم بقوله:"بما يمنع ابتداء عقده" احترازًا من نحو الإجارة والعارية والتزويج والكتابة ونحوها، فتصح بإذن المُرتَهِن، ولا يبطل بها الرهن؛ لأنها لا تمنع ابتداء عقده.

(وإن أذن) المرتهن للراهن (في البيع، ففيه تفصيل يأتي قريبًا.

وله) أي: للراهن (إخراج زكاته) أي: الرهن (منه بلا إذن مُرتَهِن إن عَدِم) الراهن (غيرَه) لتعلُّق الزكاة بعين المال، كتعلُّق أرش الجناية برقبة العبد الجاني (ومتى أيسر) الراهن (جعل بدله) أي: بدل ما أخرج زكاة (رهنًا) مكانه، كبدل ما أعتقه.

(وله) أي: للراهن (غَرس أرضٍ) مرهونة (إذا كان الدَّين مؤجَّلًا) لأن تعطيل منفعتها إلى حلول الدَّين تضييع للمال، وقد نهي عنه بخلاف الحالِّ؛ فإن الراهن حينئذٍ يُجبر على فَكِّ الرهن بالوفاء أو بيعه، فلا تعطل منفعتها. قال في "الكافي": ولو ارتهن أرضًا فنبت فيها شيء، دخل في الرهن؛ لأنه من نمائها، سواء نبت بنفسه أو بفعل الراهن.

(و) للراهن (وطء) مرهونة (بشرطٍ، أو إذن مُرتَهِن) لأن الراهن إنما منع من ذلك لأجل حق المُرتَهِن، وقد أسقطه بالإذن فيه، أو الرضا به.

ص: 176

(و) لراهن (إجارة) الرهن (وإعارته بإذنه) أي: المرتهن (أيضًا، والرهن بحاله) وتقدم

(1)

قريبًا.

(ويَحرم) على الراهن ما ذكر من الوطء، والإجارة، والإعارة (بدونه) أي: بدون إذن المُرتَهِن، قيل له في رواية ابن منصور

(2)

: أله أن يطأ؟ قال: لا والله.

(ولا يُمنع) الراهن (من إصلاح الرَّهن، ودفع الفساد عنه، من سقي شجرٍ، وتلقيحٍ، وإنزاء فحلٍ على إناثٍ، ومُداواة، وفصْدٍ، ونحوه) كتشريط (وفتح رَهْصةٍ

(3)

، وهو التبزيغ) أي: البيطرة؛ لأن ذلك مصلحة للرهن، وزيادة في حق المرتهن من غير ضرر عليه، فلم يملك المنع منه.

وكذلك تعليمِ قِنٍّ صناعة، ودابةٍ السيرَ.

(وإن كان الرهن فُحولًا لم يكن له) أي: للراهن (إطراقها بغير رضا المُرتَهِن) لأنه انتفاع بها (إلا أن تتضرَّر) الفحول (بتركه) أي: الإطراق (فيجوز) لأنه (كالمداواة) له.

(ويمنع) الراهن (من قطع إصبع زائدة، و) قطع (سِلْعة

(4)

فيها خطر) من مرهون؛ لأنه يُخاف عليه من قطعها، بخلاف ما لو كان به أكلة؛ فإنه يُخاف من تركها، لا قطعها.

(ويُمنع) الراهن (من ختانه) أي: الرهن (إلا مع دَيْن مؤجَّل يبرأ) المختون (قبل أجله، والزمان معتدل لا يخاف عليه) أي: المختون (فيه)

(1)

(8/ 175).

(2)

مسائل ابن منصور الكوسج (6/ 2795) رقم 2008.

(3)

الرَّهْصَة: أن يذوي باطن حافر الدَّابة من حَجَرٍ تطؤه، تاج العروس (17/ 607) مادة (رهص).

(4)

تقدم التعريف بها (5/ 417) تعليق رقم (6).

ص: 177

لأن الختان لا يضر المُرتَهِن إذن، ويزيد به الثمن.

(وللمُرتَهِن مداواة ماشية) مرهونة (لمصلحة) لأن له فيها حق التوثق.

(وليس للراهن الانتفاع بالرهن باستخدامٍ، ولا وطءُ الأَمَةِ، ولو) كانت (آيسةً، أو صغيرة) لا تحمل، كالمستبرأة.

(ولا) للراهن (سُكنى) المرهون (ولا التصرُّف فيه: بإجارة، ولا إعارة، ولا غير ذلك بغير رضا المُرتَهِن) ولا يملك ذلك المُرتَهِن بغير. رضا الراهن (وتكون منافعه معطَّلة) إذا لم يتفقا على التصرُّف (فإن

(1)

كانت) المرهونة (دارًا أُغلقت، وإن كان) المرهون (عبدًا أو غيره، تعطَّلت منافعه، حتى يفكَّ الرهن) ولا ينفرد أحدهما بالتصرُّف؛ لأنه لا ينفرد بالحق.

(ويصح رهن الأَمَة المزوَّجة) لأنه يصح بيعها (وليس له) أي: الراهن (تزويج الأَمَة المرهونة) بغير إذن المُرتَهِن (فإن فعل) أي: زوَّجها بغير إذن المُرتَهِن (لم يصح) لأنه ينقص ثمنها؛ فلم يصح كتزويج العبد (ولا وطؤها) أي: ليس للراهن وطء الأَمَةِ المرهونة (فإن فعل، فلا حدَّ عليه) لأنها ملكه (ولا مهر) لذلك.

(وإن أتلف جزءًا منها، أو نقصها، مثل إن افتض البِكْرَ) أي: أزال بكارتها (أو أفضاها) أي: خرق ما بين سبيليها، أو ما بين مخرج البول ومني (فعليه قيمة ما أتلف) أي: أرش نقصها (فإن شاء) الراهن (جعله رهنًا معها، وإن شاء جعله قضاءً من الحق، إن لم يكن) الحق قد (حلَّ، وإن كان) الحق (قد حلَّ، جعله قضاءً) عن الحق (لا غير) لأنه يبرأ به من الحقين.

(1)

في "ح": "فإذا".

ص: 178

(وإن أولدها) الراهن (بأن) وطئ المرهونة فـ (ــأحبلها بعد لزوم الرهن، وولدت ما تصير به أُمَّ ولد) وهو ما تبين فيه خلق إنسان، ولو خفيًّا (خرجت من الرهن) لأنها صارت أمَّ ولدٍ له؛ لأنه أحبلها بحرٍّ في ملكه (وأُخذت منه) أي: الراهن (قيمتُها حين أحبلها) لأنه وقت إتلافها (فجُعلت رهنًا) مكانها، كما لو أتلفها بغير ذلك، وإن تلفت بسبب الحمل، فعليه قيمتها؛ لأنها تلفت بسببٍ كان منه. (إلا أن يكون الوطء بإذن المُرتَهِن) لأن الوطء يُفضي إلى الإحبال، ولا يقف على اختياره، فالإذن في سببه إذن فيه.

(فإن أذن) المُرتَهِن في الوطء (ثم رجع) قبله (فكمَنْ لم يأذن) فيه.

(وإن اختلفا) أي: الراهن والمُرتَهِن، أو أحدهما، وَرَثَه الآخر، أو ورثتهما (في الإذن) في الوطء أو غيره (فالقول قول من ينكر) الإذن؛ لأن الأصل عدمه، فإن توجهت اليمين على وارث المُرتَهن، حلف على نفي العلم، وإن نكل من توجهت عليه اليمين قضي عليه بالنكول.

(وإن أقرَّ المُرتَهِن بالإذن) في الوطء (وأنكر) المُرتَهِن (كون الولد من الوطء المأذون فيه) وقال: هو من وطء آخر (أو قال: هو) أي: الولد (من زوج أو زنىً، فقول الراهن بغير يمين) لأنا لم نُلْحقه به بدعواه، بل بالشرع (إن اعترف المُرتَهِن بالإذن في الوطء و) اعترف (بالوطء، و) اعترف (بالولادة، و) اعترف (بمضي عدة بعد الوطء يمكن أن تلده فيها) فإن عاش اعتُبر مضي ستة أشهر من وطئه؛ لأنها أقل مدة الحمل.

(وإن أذن) الراهن للمُرتَهِن (في ضَرْبها) أي: ضرب المرهونة (فضربت فتلفت؛ فلا ضمان عليه) لأنه تولَّد من الضرب المأذون فيه.

ص: 179

(وإذا رهنها) أي: الأَمَة (فبانت حائلًا) لا حمل بها (أو) بانت (حاملًا بولد لا يلحق بالراهن) لكونه من وطء شُبهة، أو زنىً، أو زوج (فالرهن) باق (بحاله) لعدم ما يبطله.

(وكذلك إن كان) الولد (يلحق به) أي: بالراهن (لكن لا تصير به) الأَمَة (أُمَّ ولد، مثل إن وطئها وهي زوجته) أو بشبهة، أو زنىً (ثم مَلَكَها، ثم رَهَنها) فبانت حاملًا من ذلك الوطء.

(وإن بانت) الأَمَة (حاملًا بما تصير به أُمَّ ولدٍ) بأن وطئها في ملكه، ثم رهنها، ثم ظهر حملها (بطل الرهن) أي: تبينا بطلانه؛ لأنه لا يصح بيعها (ولا خيار للمُرتَهِن، ولو كان) رهنها (مشروطًا في البيع) لأن المنع من رهنها من قبل الشرع، لا من المشتري.

(وإن أقرَّ الراهن بالوطء بعد لزوم الرهن) وأنكر المُرتَهِن (قُبِلَ) قول الراهن (في حقه) وحده (ولا يُقبل) قوله (في حق المُرتَهِن) لأن الأصل عدم ذلك، وبقاء التوثقة حتى تقوم البينة به.

(وإن أذن مُرتَهِن لراهن في بيع الرهن) فله ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يأذن له في البيع (بشرط أن يجعل ثمنه رهنًا مكانه) فيصح البيع.

والشرط الثاني: ما أشار إليه بقوله: (أو أذن) مُرتَهِن (في بيعه) أي: الرهن (بعد حلول الدَّيْن، صح البيع) لصدوره من المالك بإذن المُرتَهِن (وبطل الرهن في عينه، وصار الثمن رهنًا) لأنه بدل الرهن (ويأخذ الدَّينَ الحال منه) لأن مقتضى الرهن بيعه، واستيفاء الحق من ثمنه (وما سواه) أي: سوى ما أخذ في الدَّيْن الحالِّ (يبقى رهنًا إلى) حلول (أجله) أي: المؤجَّل، فيوفى منه، أي: في حال الشرط.

ص: 180

(و) الثالث: إذا أذن في بيع الرهن (بدونهما، أي: حلول الدَّين، أو شرط) جعل (ثمنه رهنًا) فـ (ــيبطل) الرهن بـ (ــالبيع) لخروجه عن ملك الراهن بإذن المُرتَهِن، ولا يكون ثمنه رهنًا مكانه؛ لعدم اشتراطه، وحلول الدَّيْن، خلافًا للقاضي ومتابعيه.

وعبارة المصنف توهم بطلان البيع، وليس كذلك، قال في "الفروع": وبدونهما يبطل الرهن وقال في "الكافي": الثاني: أن يبيعه قبل حلول الدَّيْن بإذن مطلق؛ فيبطل الرهن ويسقط حق المُرتَهِن من الوثيقة؛ لأنه تصرَّف في عين الرهن تصرُّفًا لا يستحقه المُرتَهِن؛ فأبطله كالعتق. وكذا في "المغني".

(فإن اختلفا في الإذن) بأن قال الراهن: بعته بإذن المرتهن، وقال المُرتَهِن: لم آذن له (فقول مرتَهِن) أو وارثه بيمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن. (فإن أقرَّ) المُرتَهِن (به) أي: الإذن (واختلفا في شرط جَعْلِ ثمنه (رهنًا) مكانه، بأن قال الراهن: لم تشترطه، وقال المُرتَهِن: اشترطته (فقول الراهن) أو وارثه بيمينه؛ لأنه منكر، والأصل عدم الاشتراط.

(وإن أذن) المُرتَهِن (له) أي: للراهن (في بيعه) أي: الرهن، والدَّين مؤجَّل (بشرط أن يجعل

(1)

دينه من ثمنه) فباعه (صح البيع) للإذن فيه (ولغا الشرط) لأن التأجيل أخذ قسطًا من الثمن، فإذا أسقط بعض مدة الأجل في مقابلة الإذن فقد أذن بعوض، وهو ما يقابل الباقي من مدة الأجل من الثمن؛ وهذا لا يجوز أخذ العوض عنه فيلغو (ويكون الثمن) حينئذ (رهنًا) مكانه؛ لأن المُرتَهِن لم يأذن في البيع إلا طامعًا في وفاء دينه من ثمنه، فلم يسقط حقه منه مطلقًا.

(1)

في "ح" ومتن الإقناع (2/ 323): "يعجل".

ص: 181

(وللمُرتَهِن الرجوع في كل تصرُّفٍ أذن فيه) للراهن (قبل وقوعه) لعدم لزومه.

(فإن ادعى) المُرتَهِن (أنه رجع) عن الإذن (قبل البيع) ونحوه (لم يقبل) قوله (لأنه) أي: المبيع ونحوه (تعلَّق به حقٌّ ثالثٌ) فلم يقبل قوله في إبطاله (ولو ثبت رجوعه) أي: أن المُرتَهِن رجع قبل تصرُّف الراهن (وتصرَّف الراهن جاهلًا رجوعه، لم ينفذ تصرُّفه) كالوكيل إذا تصرَّف غير عالم بعزل موكله له.

(ونماء الرهن؛ متصلًا كان) النماء (أو منفصلًا، وكسبه وغلاته

(1)

، وصوفه، ولبنه، وورق شجره المقصود، ومهره، وأرْش الجناية عليه الموجبة للمال) أو للقصاص واختير المال (وما يسقط من ليفه وسعفه، وعراجينه، وزَرَجُون الكرم) بزاي ثم راء مفتوحتين وجيم مضمومة: قضبان الكرم. ذكره الجواليقي

(2)

(وما قُطع من الشجر من حَطَب، وأنقاض الدار، تكون رهنًا في يد مَن الرهن في يده) من المُرتَهِن، أو وكيله، أو من اتفقا عليه (كالأصل؛ فتُباع معه إذا بيع) لأن الرهن عقد على العين، فيدخل فيه ما ذكر، كالبيع والهبة، وفي الجناية عليه؛ لأنها بدل جزء منه، فكانت عن الرهن كقيمته إذا أتلفه إنسان (وتأتي الجناية) على الرهن (الموجبة للقصاص) مفصَّلة.

(وإذا رهن أرضًا، أو دارًا، أو غيرهما) كبستان وطاحون (تَبِعه في الرهن ما يَتبع) المبيع (في البيع من شجرٍ وغيره، وما لا) يتبع في البيع (فلا) يتبع في الرهن.

(1)

في "الإقناع"(2/ 323): "وغلاء ثمنه".

(2)

المعرَّب ص/ 213.

ص: 182

فصل

(ومؤنة الرهن من طعامه، وكسوته، ومسكنه، وحافظه، وكفنه، وبقية تجهيزه - إن مات - وأجرة مخزنه - إن كان مخزونًا - و) أجرة (سقيه وتلقيحه وزباره) أي: قطع الأغصان الرديئة لِتَخْلُفَها أغصانٌ جديدة

(1)

من الكرم (وجذاذه، ورعي ماشيةٍ) مرهونة (ورَدِّه) أي: المرهون (من إباقه، و) أجرة (مداواته لمرض، أو جُرْح، وخِتانه على الراهن) لما روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه" رواه الشافعي والدارقطني

(2)

، وقال: إسناده حسن متصل؛ ولأنه ملك للراهن؛ فكان عليه نفقته وما يحتاج إليه، ومؤنة تجهيزه تابعة لمؤنته.

(فإن) امتنع الراهن من بذل ما وجب عليه مما تقدَّم، أجبره الحاكم عليه، فإن لم يفعل، أخذ الحاكم من ماله وفعله.

فإن (تعذَّر أَخْذُ ذلك من الراهن) لغيبة أو غيرها، ولم يقدر له على مال (بيع منه) أي: الرهن (فيما يجب عليه) أي: الراهن (فِعْلُه بقدر الحاجة) لأن حفظ البعض أولى من إضاعة الكل. واحترز بقوله: "فيما يجب عليه فعله" من نحو مداواته وختانه.

(فإن خيف استغراقُه) أي: استغراق البيع للرهن في الإنفاق عليه ونحوه (بيع كله) وجعل ثمنه رهنًا مكانه؛ لأنه أحظ لهما.

(وعلى الراهن تجفيفُ الثمرة) المرهونة (إذا احتاجت إليه) أي:

(1)

في "ح": "جيدة".

(2)

تقدم تخريجه (7/ 402) تعليق رقم: (1).

ص: 183

التجفيف (والحقُّ مؤجَّل) لأنه من جملة المؤنة التي تحفظ بها، وتقدَّم.

(وإن كان) الحقُّ (حالًّا بيعت) الثمرة ووفِّي منها الدَّيْن؛ لعدم الحاجة إلى تجفيفها.

(وإن اتفقا) أي: الراهن والمُرتَهِن (على بيعها) أي: الثمرة (وجعل ثَمَنِها رهنًا) مكانها (بـ) ــدين (مؤجَّل، جاز) لأن الحق لا يعدوهما.

(فإن اختلفا) بأن طلب أحدهما البيع والآخر بقاءها (قُدِّمَ قول من يستبقيها) إلى حلول الدَّيْن؛ لأنه وقت وجوب بيعها (الا أن تكون) الثمرة (مما تقلُّ قيمته بالتجفيف، وقد جرت العادة ببيعه رطبًا) أو عنبًا (فَيُباع) كذلك؛ لأنه أحظ لهما (ويُجعل ثمنه رهنًا) مكانه؛ لأنه بدله.

(وإن اتفقا) أي: المتراهنان (على قَطْعِها) أي: الثمرة (في وقت جاز؛ حالًّا كان الحق أو مؤجَّلًا، أو كان الأصلحُ القطعَ أو التركَ) لأن الحق لهما لا يعدوهما؛ فمهما تراضيا عليه، جاز.

(ويُقدَّمُ قول من طلب الأصلحَ) من القطع أو الترك (إن كان ذلك) القطع (قبل حلول الحقِّ) لأنه لم يدخل وقت بيعها (وإلا) بأن كان بعد حلول الحق قُدِّم (قول من طلب القطع) منهما، وإن لم يكن أصلح؛ لأنه إن طلبه الراهن فالضرر عليه، وإن طلبه المُرتَهِن فهو لا يُجبر على تأخير حقه بعد حلوله.

(وإن كانت الثمرة مما لا يُنتفَع بها قبل كمالها) كثمرة الجوز (لم يجز قطعُها قبله) أي: قبل كمالها (ولم يُجبَر عليه) لأنه إضاعة مال، وقد نهى عنه صلى الله عليه وسلم

(1)

.

(وإن أراد الراهن السفر بالماشية ليرعاها في مكانٍ آخر، وكان لها

(1)

تقدم تخريجه (6/ 130) تعليق رقم (1).

ص: 184

في مكانها مرعىً تتماسك به، فللمُرتَهِن منعُه) من السفر بها؛ لأن فيه إخراجها عن يده ونظره.

(وإن أجْدَب مكانها) أي: محل رعيها (فلم تَجِدْ ما تتماسك به، فله) أي: الراهن (السفر بها) لأنه موضع حاجة (إلا أنها تكون) الماشية (في يد عدل يرضيان به، أو ينصبه الحاكم) فيسافر هو بها (ولا ينفرد الراهن بها) لئلا يفوت حق المُرتَهِن من التوثق.

(فإن امتنع الراهن من السفر بها) مع جَدْب مكانها (فللمُرتَهِن نقلُها) للحاجة.

(وإن أراد) كلٌّ منهما (السفرَ بها، و) لكن (اختلفا في مكانها، قُدِّم من يعيِّن الأصلح، فإن استويا قُدِّم قول المُرتَهِن) لأنه أحق باليد.

(وأيهما أراد نقلها عن البلد مع خصبه إلى مثله، أو) إلى (أخصب منه، لم يكن له ذلك) بغير إذن صاحبه، لعدم الحاجة إليه (وإن اتفقا) أي: الراهن والمُرتَهِن (عليه) أي: على نقلها إلى خصب مثل مكانها، أو أخصب (جاز) لأن الحق لا يعدوهما.

(ولا يُجبر الراهن على مداواة الرهن) ولا فتح عرقه؛ لأن الشفاء بيد الله تعالى، وقد يجيء بدونه، بخلاف النفقة.

(ولا) يُجبر الراهن على (إنزاء الفحل على الإناث) لأنه ليس مما يحتاج إليه بقائها (و) لا يُجبر على (نحو ذلك مما لا يُحتاج إليه لبقاء الرهن).

وإن احتاجت الماشية لراعٍ، لزم الراهن؛ لأنه لا قِوام لها بدونه.

(وإن جَرِبَتِ الماشية) المرهونة (فللراهن دَهْنها بما يُرجى نفعه ولا

ص: 185

يُخاف ضرره، كالقَطِران والزيت اليسير) كمداواة القن (وإن خيف ضرره كـ) ــالزيت (الكثير، فللمُرتَهِن منعه) لأنه ربما فوَّت عليه الرهن.

(وهو) أي: الرهن (أمانة في يد المرتهن) لحديث أبي هريرة السابق

(1)

؛ ولأنه لو ضُمن لامتنع الناس من فعله خوفًا من الضمان، وذلك وسيلة إلى تعطيل المداينات، وفيه ضرر عظيم؛ وهو منفي شرعًا؛ ولأنه وثيقة بالدين، فلا يضمن كالزيادة على قدر الدين (ولو قبل العقد) بأن دفع له العين ليرهنها بعد فتلفت فلا ضمان (كـ) ــما لو تلف الرهن (بعد الوفاء أو الإبراء) من الدين.

(وإن تلف) الرهن (بغير تعدٍّ منه) أي: المرتهن (أو تفريط؛ فلا شيء عليه) أي: المُرتَهِن (كما لو تلف تحت يد العدل) لما تقدم من أنه أمانة بيده.

(وليس عليه) أي: المُرتَهِن مؤنة (رده) بل يخلي بين المالك وبينه (كالوديعة) والمؤجرة، بخلاف العارية.

(فإن سأله مالكُه) أي: الرهن (دَفْعَه إليه) بعد فكه (لزم من هو في يده من المرتَهِن، أو العدل دفعه إليه) أي: أن يخلي بينه وبينه، كما تقدم (إذا أمكنه) ذلك (فإن لم يفعل) المرتَهِن، أو العدل مع الإمكان (صار ضامنًا) بمنعه ربه منه بلا عذر.

(وإن تعدى) المرتهن (فيه) أي: الرهن (أو فرَّط؛ زال ائتمانه، كوديعة، ويصير) الرهن (مضمونًا) حينئذ لتعديه أو تفريطه (والرهن) باقٍ (بحاله) لأنه يجمع أمانة واستيثاقًا، فإذا زال أحدهما بقي الآخر.

(ولا يسقط بهلاكه) أي: الرهن (شيءٌ عن دَيْنه) إن لم يتعدَّ أو

(1)

تقدم تخريجه (7/ 402) تعليق رقم (1).

ص: 186

يُفرِّط؛ لأنه كان ثابتًا في ذمة الراهن قبل التلف، ولم يوجد ما يُسقطه، فبقي بحاله (كدَفْعِ عبدٍ) أو نحوه لربِّ دين (يبيعه، ويأخذ حقه من ثمنه، وكحبس عين مؤجرة) تعجَّل ربها أجرتها ثم انفسخ العقد (بعد الفسخ على الأجرة، ويتلفان) أي: العبد المدفوع لمن يبيعه ويأخذ حقه من ثمنه، والعين المؤجرة المحبوسة على أجرتها بعد الفسخ، فلا يسقط الدَّين ولا الأجرة بتلفهما؛ لعدم تعلُّقه بهما.

(بخلاف حبس البائع المبيعَ المتميزَ على ثمنه، فإنه يسقطُ) ثمنه (بتلفِهِ) في رواية

(1)

؛ لأنه عوضه، والرهن ليس بعِوض الدَّين.

(و‌

‌إذا تَلِف الرهن، لم يلزم الراهن أن يرهن مكانه رهنًا آخر)

لأن الرهن من أصله جائز غير واجب.

(وإن قضى بعضَ دينه) أي: دين المدين (أو أبرأ منه، وببعضه) أي: الدين (رهنٌ أو كفيل، وقع عمًّا نواه الدافع أو المبرئ) لأن التعيين في ذلك له؛ فينصرف إلى ما عيَّنه، فمن عليه مائتان بإحداهما رهن أو كفيل فوفي منهما مائة، أو أُبرئ منها، فإن نوى القاضي، أو المبرئ المائة التي بها الرهن أو الكفيل، وقع عنها وانفك الرهن، وبرئ الكفيل، وإن نوى الأخرى وقع عنها، والرهق أو الكفيل بحاله.

(والقول قوله) أي: القاضي أو المبرئ (في النية واللفظ) لأنه أدرى بما صدر منه.

(فإن أطلق) ولم يعيِّن إحدى المائتين بلفظه ولا نيته حال القضاء أو الإبراء (صَرَفَه) بعد ذلك (إلى أيهما شاء) لأن له ذلك في الابتداء، فكان له ذلك بعده، كما لو كان له مالان: حاضر وغائب، فأدَّى قَدْر زكاة

(1)

الإنصاف (5/ 160).

ص: 187

أحدهما، كان له صَرْفه إلى أيهما شاء.

(وإن تَلِف بعض الرهن) وبقي بعضه (فباقيه رهنٌ بجميع الدَّيْن) لأن الدَّين كله متعلِّق بجميع أجزاء الرهن.

(ولو) كان الرهن (عينين تَلِفت إحداهما) فالدَّين متعلِّق بالأخرى، لما تقدم.

(ولا ينفكُّ شيءٌ من الرهن، ولو أمكن قِسمتُه حتى يقضي جميعَ الدين) حكاه ابن المنذر

(1)

إجماعَ من يحفظ عنه؛ لأن حق الوثيقة متعلِّق بجميع الرهن، فيصير محبوسًا بكل الحق وبكل جزء منه، لا ينفك منه شيء حتى يقضي جميعه (حتى ولو قضى أحدُ الوارثين ما يخصُّه من دين برهن) رهنه مورثه؛ لما تقدم.

(ويُقيل قولُه) أي: المُرتَهِن (في التلف) بيمينه إن أطلق، أو ذكر سببًا خفيًّا، كسرقة؛ لأنه أمين (دون الردِّ) فلا يُقبل قوله فيه؛ لأنه قبض العين لحظ نفسه.

(وإن ادعاه) المُرتَهِن، أي: التلف (بحادثٍ ظاهر، قُبِل قولُه) أي: المُرتَهِن (فيه) أي: في التلف (ببيِّنة تشهد بالحادث) الظاهر، لعدم خفائه (ثم) بعد إقامة البينة بالحادث الظاهر، يُقبل (قوله) أي: المُرتَهِن (في تلفه به) أي: بالحادث الظاهر (بدونها) أي: بدون بينة تشهد بأنه تلف بالحادث الظاهر.

(وإن رَهَنه عند رجلين) مثلًا (فوفَّى أحدَهما) انفك في نصيبه؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة عقدين، فكأنه رهن كل واحد منهما النصف منفردًا.

(1)

الإجماع ص/ 123.

ص: 188

(أو رهنه رجلان) مثلًا (شيئًا، فوفَّاه أحدُهما) ما عليه (انفكَّ) الرهن (في نصيبه) لأن الراهن متعدد، فتعلَّق على كل منهما بنصيبه (كتعدُّد العقد) فلو رهن اثنان عبدًا لهما عند اثنين بألف، فهذه أربعة عقود، ويصير كل ربع منه رهنًا بمائتين وخمسين، فمتى قضاه في شيء، انفكَّ من الرهن بقَدْر ذلك. ذكره القاضي.

(فإن أراد من انفكَّ نصيبه) من الرهن (مقاسمة المُرتَهِن، وكان الرهن مما لا تنقصه القسمة، كالمكيل والموزون، فله ذلك، وإلا) بأن كان مما تنقصُه القِسمة (فلا) يجيبه المُرتَهِن؛ لما عليه من الضرر (ويُقَرُّ في يد المُرتَهِن بعضه رهنٌ وبعضه وديعة) حتى يوفي دينه دفعًا للضرر.

(وإذا حلَّ الدينُ، لزم) المدين (الراهنَ الإيفاءُ) لأنه دين حالٌّ، فلزم إيفاؤه، كالذي لا رهن به.

(فإن امتنع) المدين (من وفائه، فإن كان الراهن أذِنَ للمُرتَهِن) في بيعه (أو) أذن (العدل في بيعه، باعه) لأنه مأذون له فيه (ووفَّى الدين) من ثمنه (لكن لو باعه العدل) بإذن الراهن (اشتُرط إذن المُرتَهِن) لأن البيع لحقه، فلم يجز حتى يأذن فيه (ولا يحتاج إلى تجديد إذن الراهن) لأن الأصل بقاؤه على الإذن.

(ويجوز للعدل أو المُرتَهِن) إذا أتلف الرهن وأخذت قيمته مكانه (بيع قيمة الرهن) أو مثله (كأصله) المأخوذ عنه القيمة (بالإذن الأول) ولا يحتاج إلى تجديد إذن؛ لأن البدل يقوم مقام مبدله.

(فإن لم يكن) الراهن (أذن) في بيع الرهن (أو) كان (أذن) فيه (ثم عزله، رفع) المُرتَهِن (الأمر إلى حاكم فيجبره) أي: المدين (على وفاء الدَّين، أو بيع الرهن) للوفاء من ثمنه؛ لأن هذا شأن الحاكم.

ص: 189

قال في "المغني": وقياس المذهب، أنه متى عزله عن البيع، فللمرتَهِن فسخ البيع الذي حصل الرهن بثمنه، كما لو امتنع الراهن من تسليم الرهن المشروط في البيع.

(فإن لم يفعل) الراهن ذلك (حبسه) الحاكم (أو عزَّره ليبيعه) أو يوفي الدين (فإن أبى) الراهن (باعه) الحاكم (عليه، وقضى الدَّين) من ثمنه؛ لأنه تعيَّن طريقًا إلى أداء الواجب فوجب أداؤه.

(و‌

‌حكم) المدين (الغائب حكمُ الممتنع من الوفاء)

فيبيع الحاكم عليه ويوفي الدين؛ لأن له ولاية مال الغُيَّب

(1)

، كما يأتي في القضاء.

(قال الشيخ

(2)

: ومتى لم يُمكن بيعُ الرهن إلا بخروج المديون من الحبس أو كان في بيعه - وهو في الحَبْس - ضررٌ عليه، وجب إخراجه) من الحبس ليبيعه (ويضمن عليه، أو يمشي معه، هو) أي: رب الحق (أو وكيله) إن خيف هربه، دفعًا للضرر.

فصل

(وإذا قَبَض الرهنَ من تراضى المتراهنان أن يكون) الرهن (على يده، صح قبضه) للرهن (وكان وكيلًا للمُرتَهِن) في قبضه (وقام قبضُه مقامَ قبض المرتَهِن في اللزوم به) أي: بقبضه (إذا كان ممن يجوز توكيله؛ وهو الجائز التصرف) أي: الحر البالغ الرشيد (مسلمًا كان) من اتفقا على أن يكون الرهن تحت يده (أو كافرًا، عدلًا أو فاسقًا، ذكرًا أو أنثى) لأنه جاز

(1)

في "ح": "الغائب".

(2)

الاختيارات الفقهية ص/ 197، ومجموع الفتاوى (30/ 25).

ص: 190

توكيله في غير الرهن، فجاز فيه كالعدل، قاله في "الكافي" و"المغني" وغيرهما. وهو واضح، بخلاف ما توهمه عبارة "المقنع" و"المنتهى" من اعتبار العدالة (لا صبيًّا) أو مجنونًا، أو سفيهًا؛ لأنه غير جائز التصرُّف.

(فإن فعلا)، أي: جعلاه تحت يد صبي، أو نحوه (فقبضه وعدمه سواء) لا أثر له.

(ولا عبدًا بغير إذن سيده) لأن منافعه لسيده، فلا يجوز تضييعها في الحفظ من غير إذنه (ولا مكاتبًا بغير جُعْل) لأنه ليس له التبرُّع، وإن كان بجُعْل، جاز؛ لأن له التكسُّب بغير إذن سيده.

(وإن شرط جعله) أي: الرهن (في يد اثنين، لم يكن لأحدهما الانفراد بحفظه) لأن المتراهنين لم يرضيا إلا بحفظهما معًا، فلم يجز لأحدهما الانفراد كالوصيين.

(ويمكن اجتماعهما في الحفظ؛ بأن يجعلاه) أي: الرهن (في مخزن عليه لكلِّ واحد منهما قُفْلٌ) بضم القاف؛ وهو الغَلَقُ من خشب أو حديد.

(فإن سلَّمه) أي: الرهن (أحدهما إلى الآخر فعليه ضمان النصف) لأنه القدر الذي تعدى فيه (فإن مات أحدهما) أي: أحد الاثنين اللذين شرط جعل الرهن بيدهما (أو تغيَّرت حالُه بفسق، أو ضعف عن الحفظ، أو عداوة) لأحد المتراهنين (أُقيم مقامَه عدل يُضمُّ إلى الآخر) فيقيمه الحاكم إن لم يتراضَ المتراهنان.

وإن شرط أن يكون الرهن يومًا بيد المرتهن، ويومًا بيد فلان، جاز، ذكره القاضي في مواضع، قاله المجد في "شرحه".

ص: 191

(وليس للراهن ولا للمُرتَهِن - إذا لم يتفقا - ولا للحاكم نَقْل الرهن عن يد من تشارطا) أي: الراهن والمُرتَهِن (أن يكون) الرهن (على يده، إن كان) المشروط جعله تحت يده (عدلًا، ولم تتغير حاله عن الأمانة، ولا حدث

(1)

بينه وبين أحدهما عداوة) لأنهما رضيا به في الابتداء؛ ولأنهما إذا لم يملكاه، فالحاكم أولى.

(وله) أي: لمن اتفقا أن يكون الرهن تحت يده (ردُّه) أي: الرهن (عليهما) أي: المتراهنين (وعليهما قَبوله) منه؛ لأنه أمين متطوع بالحفظ، فلم يلزمه المقام عليه؛ كسائر الأمانات (فإن امتنعا) أي: المتراهنان من أخذ الرهن من العدل (أجبرهما الحاكم) على أخذه منه (فإن دفعه الحاكم إلى أمين من غير امتناعهما) من أخذه (ضمن الحاكم والأمين معًا) الرهن؛ لتعدِّي الحاكم بدفعه مع حضور مستحقَّيه، وعدم امتناعهما؛ إذ لا ولاية له على الحاضر غير الممتنع، وتعدي الأمين بأخذه مال الغير بغير مقتضٍ.

(وكذلك لو تَرَكه) أي: الرهن (العدلُ عند آخر مع وجودهما) أي: المتراهنين (ضمن العدل والقابض) الرهن، لما تقدم.

(وإن امتنعا) أي: المتراهنان من قبض الرهن من العدل (ولم يجد) العدل (حاكمًا) أهلًا (فتركه) العدل (عند عدلٍ آخر، لم يضمن) أحدٌ منهما الرهن للعُذر.

(وإن امتنع أحدُهما) أي: المتراهنين من قبض الرهن من العدل (لم يكن له) أي: للعدل (دفعه) أي: الرهن (إلى الآخر) فإن امتنع الراهن لم يدفعه للمُرتَهِن، أو امتنع المُرتَهِن لم يكن له دفعه للراهن؛ لأنه متى سلَّمه

(1)

في متن الإقناع (2/ 327): "حدثت".

ص: 192

لأحدهما فوَّت على الآخر حقه (فإن فعل) أي: دفع العدل الرهن لأحدهما بغير إذن الآخر (ضمن) ما فات على الآخر.

(فإن كانا) أي: المتراهنان (غائبين، أو تغيَّبا) مسافة القصر (وكان للعدل عُذر من مرض، أو سفر، أو نحوه، دَفَعه) العدل، أي: الرهن (إلى الحاكم فقبضه) منه (أو أقبضه) الحاكم (عدلًا) لقيام الحاكم مقامهما حينئذٍ.

(فإن لم يجد) العدل (حاكمًا أودعه) العدل (ثقةً) للحاجة (فإن أودعه) العدل (الثقة وجود الحاكم) العدل (ضَمِن) لقيام الحاكم مقامهما؛ وقد عَدَل عنه.

(وإن لم يكن له) أي: للعدل (عُذْر): من مرض، أو سفر ونحوهما (وكانت الغيبة) أي: غيبة المتراهنين (دون مسافة القصر، فكما لو كانا حاضرين) لأن ذلك في حكم الإقامة، وإن كانت مسافة القصر، قبضه الحاكم منه، فإن لم يجد حاكمًا دفعه إلى عدل، قاله في "المغني".

(وإن كان أحدُهما) أي: الراهن والمُرتَهِن (غائبًا وحده، فحكمه

(1)

حاكم الغائبين، وليس له) أي: العدل (ردُّه) أي: الرهن (إلى الحاضر منهما) لأن في رده إليه تضييع حظ الغائب منه.

(وكل موضع قلنا: لا يجوز له) أي: العدل (دفعه) أي: الرهن (إلى أحدهما) أي: الراهن والمُرتَهِن (إذا دفعه) العدل (إليه، فعليه) أي: العدل (ردُّه) أي: الرهن (إلى يده) استدراكًا لحظ الآخر (فإن لم يفعل) العدل (ضمن حق الآخر) لأنه فوته عليه.

(1)

في متن الإقناع (2/ 328): "فحكمهما".

ص: 193

(وإن اتفقا) أي: الراهن والمُرتَهِن (على نقله) أي: الرهن (عن يده) أي: العدل (جاز) لأن الحق لا يعدوهما.

(وكذلك لو كان الرهن في يد المُرتَهِن، فلم تتغيَّر حاله، لم يكن للراهن ولا للحاكم نقله من يده) إذ لا حاجة تدعو إلى ذلك.

(فإن تغيَّرت حال العدل بفسق أو ضعف، أو حدثت عداوة بينه وبينهما، أو بينه وبين أحدهما، فلمن طلب نقْلَه) أي: الرهن (عن يده ذلك) لدعاء الحاجة إليه (ويضعانه) أي: يضع الراهن والمُرتَهِن الرهن (في يد من اتفقا عليه) أي: على أن يكون تحت يده؛ لأن الحق لا يعدوهما.

(فإن اختلفا) فيمن يضعانه عنده (وضعه الحاكم عند عدل) قطعًا للنزاع.

(وإن اختلفا) أي: الراهن والمُرتَهِن (في تغير حاله) أي: العدل (بحث الحاكم) عن حاله (وعمل) الحاكم (بما ظهر له) لأنه محل اجتهاد.

(وهكذا لو كان) الرهن (في يد المُرتَهِن فتغيَّرت حاله) أي: المُرتَهِن (في الثقة) أي: العدالة (والحفظ؛ فللراهن رفعه) أي: الرهن (عن يده إلى الحاكم ليضعه) أي: الرهن (في يد عدل) لدعاء الحاجة إلى ذلك.

وإن اختلفا في تغير حال المُرتَهِن، بحث الحاكم وعمل بما ظهر له، كما تقدم في العدل.

(وإن مات العدل) والرهن بيده (أو) مات (المُرتَهِن) والرهن بيده (لم يكن لورثتهما إمساكه) أي: الرهن (إلا برضاهما) أي: الراهن

ص: 194

والمُرتَهِن فيما إذا مات العدل؛ لأن المتراهنين لم يأمنا الورثة.

وإن مات المُرتَهِن والرهن بيده لم يكن لورثته إمساكه إلا برضا الراهن؛ لأن الراهن لم يرضَ بحفظهم (فإن اتفقا عليه) أي: على بقاء الرهن بيد ورثة العدل، أو المُرتَهِن؛ جاز (أو) اتفقا (على عدل يضعانه) أي: الرهن (عنده) حينئذٍ (فلهما ذلك) لأن الحق لا يعدوهما.

(وإن اختلفا) أي: الراهن والمُرتَهِن (عند موت العدل) فيمن يضعانه عنده (أو اختلف الراهن وورثة المُرتَهِن) بعد موته فيمن يضعانه عنده (رفعا الأمر إلى الحاكم ليضعه بيد عدل) قطعًا للنزاع.

(وإن أذن الراهن والمُرتَهِن للعدل في البيع) وعيَّنا له نقدًا لم يخالفهما؛ لأنه وكيلهما (وإن أذن الراهن للمُرتَهِن فيه) أي: في بيع الرهن (وَعَيَّنَ) الراهن له (نقدًا، تَعيَّن) ذلك النقد، ولم يكن له مخالفته؛ لأنه وكيل (وإلا) بأن لم يعيِّنا للعدل نَقْدًا في الأولى، ولم يعيَّن الراهن للمُرتَهِن نقدًا في الثانية (لم يبع) العدل أو المرتهن (إلا بنقد البلد) لأن الحظ فيه.

(فإن كانت فيه نقود باع بأغلبها) رواجًا (فإن تساوت) في الرواج (باع) الرهن (بجنس الدَّين) لأنه أقرب إلى وفاء الحق.

(فإن لم يكن فيه) أي: في نقد البلد (جنس الدَّين، باع بما يرى أنه أصلح) لأن عليه الاحتياط فيما هو متوليه، كالحاكم (فإن تساوت) في نظره (عيَّن الحاكم) له (نقدًا يبيع به) لأنه أعرف بالأحظ، وأبعد من التُّهمة.

(وإن اختلف الراهن والمُرتَهِن على العدل في تعيين النقد، لم يسمع) العدل (قول واحد منهما، ويرفع) العدل (الأمر إلى الحاكم،

ص: 195

فيأمره) الحاكم (ببيعه بنقد البلد، سواء كان من جنس الحق، أو لم يكن) من جنسه، وسواء (وافق قول أحدهما، أو لا) لأن الحظ في ذلك.

(وحكمه) أي: حكم العدل أو المُرتَهِن (في البيع) للرهن (حكم الوكيل في وجوب الاحتياط) على ما سيذكره في الوكالة؛ لأنه وكيل.

(و) حكمه أيضًا حكم الوكيل في (المنع من البيع بدون ثمن المِثْل وغير ذلك) مما يأتي تفصيله (لكن لا يبيع هنا نَساءً) أي: حتى على القول بأن الوكيل يبيع نساءً؛ لأن قرينة الحال هنا تخالفه.

(ومتى خالف) العدل أو المُرتَهِن (لزمه) في مخالفته (ما يلزم الوكيل المخالف) على ما يأتي.

(وإن قبض) العدل (الثمن فتلف في يده من غير تعدٍّ، ولا تفريط - ويُقبل قوله في تلفه -) أي: تلف الثمن، وفي نفي تعد وتفريط؛ لأنه أمين (فمن ضمان الراهن) لأنه ملْكه، فيفوت عليه، وإن قال الراهن للعدل: ما قبضت الثمن من المشتري فالقول قول العدل؛ لأنه أمين.

فصل

(وإن استُحِقَّ الرهن المبيعُ) أي: خرج مستحقًا (رجع المشتري على الراهن) لأن المبيع له، فالعهدة عليه كما لو باع بنفسه، وحينئذٍ لا رجوع له على العدل (إن أعلمه العدلُ أنه وكيلٌ) لا يقال: يرجع المشتري على العدل؛ لكونه قبض الثمن بغير حق؛ لأنه سُلِّم إليه على أنه أمين في قبضه يسلمه إلى المُرتَهِن، فلم يجب عليه ضمانه (وإلا) بأن لم يعلمه أنه وكيل (فـ) ــإنه يرجع (على العدل) لأنه غرَّه (وهكذا كل وكيل باع مال غيره) ثم بان مستحقًّا.

ص: 196

(فإن علم المشتري) باستحقاق المبيع (بعد تَلف الثمن في يد العدل رجع) المشتري (- أيضًا - على الراهن) بالثمن (ولا شيء على العدل) حيث أعلم المشتري بالحال، لما تقدم.

(فأما المُرتَهِن فقد بان له أنَّ عقد الرهن كان فاسدًا) لكون الراهن رهنه ما لا يملكه بغير إذن ربه (فإن كان) الرهن (مشروطًا في البيع، ثبت له) أي: للمُرتَهِن (الخيار فيه) أي: في البيع؛ لأن المشتري لم يوفِ له بشرطه (وإلا) يكن الرهن مشروطًا في البيع (سقط حَقُّه) من الاستيثاق، ولم يملك المطالبة ببدله؛ لأن الرهن غير واجب، وكذا حكم قرض.

(وإن كان الراهن مفلسًا حيًّا أو ميتًا) وباع العدل الرهن، وتلف ثمنه بيده، ثم ظهر مستحقًا (كان المُرتَهِن والمشتري أسوةَ الغرماء) لأنهم تساووا في ثبوت حقهم

(1)

في الذِّمة.

(وإن خرج) الرهن (مستحقًا بعد دفع الثمن إلى المُرتَهِن، رجع المشتري على المُرتَهِن) بما قبضه؛ لأنه صار إليه بغير حق، فكان رجوعه عليه كما لو قبضه منه.

(وإن كان) الرهن ليس مستحقًا لكن (المشتري ردَّه بعيب، لم يرجع على المُرتَهِن) لأنه قبضه بحق (ولا على العدل) إن أعلمه أنه وكيل؛ لأنه أمين (ويرجع) المشتري حينئذٍ (على الراهن) لأن الرهن ملكه، وعهدته عليه، كما تقدم.

(وإن كان العدل حين باعه) أي: الرهن (لم يُعْلِم المشتري أنه وكيل، كان للمشتري الرجوع عليه) أي: العدل؛ لأنه غرَّه (ويرجع هو) أي: العدل (على الراهن) لأن قرار الضمان عليه، لما تقدم و (إن أقرَّ

(1)

في "ذ": حقوقهم.

ص: 197

العدل بالعيب) في المبيع - لأنه يُقبل قوله فيما وُكِّلَ فيه - (أو ثبت) العيب (ببينة.

وان أنكر) العدل العيب (فقوله مع يمينه) لأن الأصل عدم العيب، جزم به في "شرح المنتهى" وغيره هنا تبعًا "للمغني"، لكنه نبَّه بعد ذلك على الخلاف في المسألة، وتقدم أن القول قول المشتري بيمينه، حيث احتمل حدوث العيب، فلا يحتاج إلى إقرار العدل، ولا إلى بينة، ولا إلى تحليف العدل.

ثم فرَّع على الأول:

(فإن نَكَلَ) العدل (فقُضي عليه بالنُّكُول، ورجع المشتري عليه) أي: العدل (لم يرجع العدل على الراهن؛ لأنه يقر

(1)

أن المشتري ظَلَمه) ولا يرجع المظلوم إلا على من ظلمه، أو تسبب في ظلمه.

(وإن تلف المبيع في يد المشتري، ثم بان) المبيع (مستحقًّا قبل وزن ثمنه) أو بعده (فللمغضوب منه تضمين من شاء من الغاصب) وهو الراهن (والعدل، والمُرتَهِن، والمشتري) ذكر معناه في "المغني" و"الكافي"، وقال: لأن كل واحد منهم قبض ماله بغير حق. انتهى. وهذا ظاهر أن وضع المُرتَهِن يده عليه، وإلا فلا طلب عليه، كما يدل عليه تعليله. قال ابن نصر الله: إذ لا تعلُّق للمُرتَهِن به؛ لأنه دم يقبضه ولا قبض ثمنه، فكيف يضمنه؟!.

(ويستقرُّ الضمان على المشتري، ولو لم يعلم بالغَصْب؛ لأن التَّلَف) حصل (في يده) ويرجع على الراهن بالثمن الذي أخذ منه، إن كان أخذه منه.

(1)

في "ح": "يقول".

ص: 198

وإذا باع العدل الرهن بيعًا فاسدًا، وجب رده، فإن تعذَّر رده، فللمُرتَهِن تضمين من شاء من العدل والمشتري أقل الأمرين من قيمة الرهن، أو قَدْر الدين؛ لأنه يقبض ذلك مستوفيًا لحقه؛ لأنه رهنه، فلم يكن له أكثر من دينه، وما بقي للراهن يرجع به على من شاء منهما، وإن وفى الراهن المُرتَهِن، رجع بقيمته على من شاء منهما، ويستقرُّ الضمان على المشتري، لحصول التلف في يده، قاله في "الكافي".

(وإن ادَّعى العدل دفعَ الثمن إلى المُرتَهِن، فأنكر) المُرتَهِن أخذه (ولم يكن) العدل (قضاه ببينة، ولا حضور راهن؛ ضمن) العدل؛ لتفريطه في القضاء بغير بينة (كما لو أمره) الراهن (بالإشهاد فلم يفعل) أي: يشهد (ولا يُقبل قوله) أي: العدل (عليهما) أي: على الراهن والمُرتَهِن (في تسليمه) أي: الثمن (لمُرتَهِن) أما كونه لا يُقبل قوله على الراهن؛ فلأنه يدَّعي الدفع إلى غيره، وأما أنه لا يقبل قوله على المُرتَهِن؛ فلأنه إنما هو وكيله في الحفظ، لا في دفع الثمن إليه (فيحلف مُرتَهِن) أنه ما أخذ دينه مثلًا (ويرجع على أيهما شاء) أي: العدل أو الراهن.

(فإن رجع) المُرتَهِن (على العدل؛ لم يرجع العدل على أحد) لأنه يُقرُّ ببراءة ذمة الراهن، ويدَّعي أن المُرتَهِن ظلمه.

(وإن رجع) المُرتَهِن (على راهن، رجع) الراهن (على العدل) لتفريطه في القضاء بغير بينة.

(وإن دفعه العدل) أي: الثمن (إلى المُرتَهِن بحضرة الراهن) لم يرجع الراهن عليه، إذا أنكر المُرتَهِن، وغرم؛ لأنه لا يُعدُّ مفرطًا حينئذٍ (أو) دفع العدل الثمن للمُرتَهِن (ببينة، وسواء كانت) البينة (حاضرة أو غائبة، حية أو ميتة، إن صَدَّقه المُرتَهِن) صوابه: الراهن؛ إذ لو صدَّق

ص: 199

المُرتَهِن لم يطالب بدينه (لم يرجع) الراهن إذا أنكر المُرتَهِن، ورجع على الراهن (عليه) أي: العدل؛ لأنه لا يُعدُّ مفرِّطًا مع الإشهاد.

وعُلم منه: أن العدل لو ادَّعى القضاء بحضرة الراهن، أو أنه أشهد وغاب، أو مات شهوده، وأنكره الراهن، فقوله؛ لأن الأصل عدم ذلك.

(ويأتي حكم الوكيل) في قضاء دين إذا أنكره المقضي في الوكالة، وأنه كالعدل في ذلك.

(وإن غصب المُرتَهِن الرهن من العدل، ثم ردَّه إليه؛ زال عنه الضمان) لأنه ردَّه إلى وكيل الراهن في إمساكه، فأشبه ما لو أذن له في دفعه إليه.

(ولو كان الرهن في يد المُرتَهِن فتعدَّى) المرتَهِن (فيه، ثم أزال التعدي، أو سافر) المُرتَهِن (به) أي: الرهن (ثم ردَّه) أي: عاد به من السفر (لم يَزُلْ عنه الضمان) كما لو صدر ذلك من العدل؛ لأن استئمانه زال بذلك، فلم يَزُل بفعله مع بقائه بيده، بخلاف ما قبلها، فإنه ردَّه إلى يد نائب مالكه.

وعُلم من ذلك: أنه ليس له أن يسافر بالرهن مع القُدرة على صاحبه، فإن فعل صار ضامنًا، بخلاف ما قالوه في الوديعة.

قال المجد: ولعل الفرق: أن الرهن يتعلَّق ببلده أحكام؛ من بيعه بنقده، وبيعه فيه لوفاء الدَّين، وغير ذلك، فلذلك تعيَّن بقاؤه فيه عند حاكم أو ثقة.

(وإذا استقرض ذمي من مُسلمٍ مالًا، فرهنه خمرًا؛ لم يصح، سواء جعله في يد ذمي أو غيره) لأنها ليست مالًا (فإن باعها الراهن) الذمي (أو نائبه الذمي) من ذمي (وجاء المُقرِض بثمنها؛ لزمه قَبوله، فإن أبى) قَبوله

ص: 200

(قيل له: إما أن تقبض، وإما أن تبرئ) لأن أهل الذِّمة إذا تقابضوا العقود الفاسدة جرى مجرى الصحيحة. قال عمر في أهل الذمة معهم الخمور: ولُّوهم بَيْعَهَا، وخُذُوا من أثمانها

(1)

.

(وإن جعلها) أي: الخمر (في يد مسلم، فباعها المسلم) ولو من ذمي (لم يجبر المرتَهِن على قَبول الثمن) بل ولا يجوز له قَبوله؛ لبطلان البيع، وبقاء الثمن على ملك ربه الأول.

(وإن شَرَط) في الرهن (أن يبيع المُرتهن أو العدل الرهن) عند حلول الحق (صح) شرطه؛ لأن ما صح توكيل غيرهما فيه، صح توكيلهما فيه، كبيع عين أخرى (ولم يؤثِّر) ذلك الشرط (فيه) أي: في عقد الرهن فسادًا، كسائر الشروط الصحيحة في سائر العقود.

(وكذا كل شَرْط وافق مقتضى العقد) ولم ينافه، سواء كان العقد رهنًا أو غيره، فلو أعاره شيئًا ليرهنه إلى أجل على دَيْن حالٍّ، يعني أنه شرط على المُرتَهِن أن لا يباع قبل الأجل المُسمَّى، فرهنه على ذلك، صح الرهن عندي، وظاهر كلام القاضي في "المجرد": أنه لا يصح، قاله المجد في "شرح الهداية".

(وإن عزلهما) الراهن، أي: المُرتَهِن أو العدل، عن بيع الرهن (أو مات) الراهن (عُزِلا) لأن الوكالة عقد جائز، فلم يلزم المقام عليها، وسواء

(2)

(عَلِما) بعزله أو موته (أو لم يعلما) ذلك، كسائر الوكلاء.

(وإن أتلف الرهنَ في يد العدل أجنبيٌ، فعلى المُتلِف بدله) أي: مثل الرهن إن كان مثليًّا، وإلا فقيمته (يكون رهنًا في يده) أي: العدل

(1)

تقدم تخريجه (7/ 276) تعليق رقم (3).

(2)

"وسواء" ساقطة من "ح".

ص: 201

(بمجرَّد الأخذ) من المُتلِف، كبدل هدي وأضحية.

(وله) أي: للعدل (المطالبة به) أي: بالبدل على المُتلِف، كالوديعة؛ لأن له ولاية حفظه.

(فإن كان البدل من جنس الدَّيْن، وقد أذن) الراهن (له) أي: العدل (في وفائه) أي: الدَّيْن (من ثمن الرهن، ملك إيفاءه منه) أي: من البدل من جنسه؛ لأنه كثمنه.

وإن كان البدل من غير الجنس، فقياس المذهب له بيعه، كنمائه على ما ذكره القاضي، وجزم به المصنف فيما تقدم. وفي "الكافي": الصحيح لا؛ لأنه لم يؤذن له فيه، ولا هو تبع لما أذن فيه، بخلاف النماء.

(وإن شرط) في الرهن (شرطًا لا يقتضيه العقد، كالمُحرَّم) من خمر أو خنزير ونحوهما (و) شرط رهن (المجهول والمعدوم، وما لا يقدر على تسليمه) كآبق وشارد (ونحوه) مما لا يصح بيعه، (أو) شرط ما (ينافيه) أي: ينافي مقتضى عقد الرهن (نحو: أن لا يُباع) الرهن (عند حلول الحق، أو لا يُباع ما خيف تَلفُه) مما يُسرع إليه الفساد ونحوه

(1)

، (أو) شرط (بيعه بأي ثمن كان، أو) شرط أن (لا يبيعه إلا بما يرضيه، أو) أن (ينتفع به الراهن، أو) أن ينتفع به (المُرتَهِن، أو) شرط (كونه مضمونًا على المُرتَهِن، أو) مضمونًا على (العدل، أو) شرط أن (لا يقبضه، أو) شرط (إن جاءه) الراهن (بحقه في مَحِلِّه) أي: أجله (وإلا، فالرهن له) أي: المُرتَهِن (بالدَّيْن) أو إن لم يأته بحقه، فالرهن مبيع له بالدَّيْن (الذي له عليه) أي: على الراهن (أو) شرط الراهن أنَّ المُرتَهِن (لا يستوفي الدَّيْن من ثمنه، أو شرطا الخيار للراهن، أو) شرطا أن (لا يكون العقد لازمًا في

(1)

"ونحوه" ساقطة من "ح".

ص: 202

حقه) أي: الراهن (أو) شرطا (توقيت الرهن) بأن قالا: هو رهن عشرة أيام

(1)

(أو) شرطا أن (يكون الرهن يومًا رهنًا ويومًا لا) يكون رهنًا (أو) شرطا (كون الرهن في يد الراهن، فالشرط فاسد) لمنافاته مقتضى العقد (والرهن صحيح) مع فساد الشرط؛ لحديث: "لا يغلقُ الرهنُ"، رواه الأثرم عن عبد الله بن جعفر

(2)

.

قال الإمام

(3)

: لا يدفع رهنًا إلى رجل ويقول: إن جئتك بالدراهم إلى كذا، وإلا فالرهن لك. ووجه الدليل منه: أنه صلى الله عليه وسلم نفى غلق الرهن دون أصله؛ فدلَّ على صحته، وقيس عليه سائر الشروط الفاسدة.

(لكن إذا لم يكن) الرهن (مقبوضًا) بيد المُرتَهِن، أو نائبه (فـ) ــهو (غير لازم) لأن شرط لزومه قبضه، كما سبق

(4)

.

(و) لكن (إن كان) الرهن (مجهولًا، أو) كان (مُحرَّمًا ونحوه) كالمعدوم وسائر ما لا يصح بيعه، مما لا يقدر على تسليمه ونحوه (فباطل) لعدم حصول المقصود منه، وتقدَّم بعضه

(5)

.

(1)

في "ح" زيادة: "مثلًا".

(2)

لعلَّ الأثرم رواه في سننه ولم تطبع، ولم نجد من رواه عن عبد الله بن جعفر، وقد رواه البيهقي (6/ 44) عن معاوية بن عبد الله بن جعفر، وقال: هذا مرسل. انظر ما تقدم (7/ 402) تعليق رقم (1).

(3)

الرعاية الصغرى لابن حمدان ص/ 348. هذا إذا قال له: إن جئتك به، وإلا، فهو لك. لأنه شرط فاسد. وأما إذا وكله في بيعه بأن قال: إن جئتك به، وإلا، فأنت وكيلي في بيع الرهن، أو فبع الرهن واستوف حقك، فهو جائز، نص على ذلك الإمام أحمد كما في مسائل عبد الله (3/ 945) رقم 1276، ومسائل صالح (1/ 187) رقم 106، ومسائل الكوسج (6/ 3042) رقم 2284.

(4)

(8/ 151، 155).

(5)

(8/ 162 - 163).

ص: 203

(وإذا رهنه أَمَةً، وشرط كونها عند امرأته

(1)

، أو) عند (ذي) رحم (مَحْرمٍ لها) بنسب أو غيره (أو) شرط (كونها في يد المُرتَهِن، أو أجنبي على وجه لا يُفضي إلى الخلوة بها، مثل أن يكون لهما) أي: للأجنبي والمُرتَهِن (زوجات، أو سراريّ، أو نساء من محارِمِهما معهما في دارِهما، جاز) لأنه لا يُفضي إلى الخلوة المُحرَّمة بها.

(وإن لم يكن كذلك) بأن لم يكن للمُرتَهِن، أو الأجنبي زوجات، ولا سراريّ، ولا نساء معهما في دارهما (فسد الشرط؛ لإقضائه إلى الخلوة المُحرَّمة، ولا يفسد الرهن) لأنه لا يفضي إلى نقص ولا ضرر في حق المتعاقدين.

(ويجعلها) أي: الأَمَة المرهونة (الحاكم) حينئذ (على يد من يجوز أن تكون عنده) من امرأة، أو مَحْرَمٍ، أو أمين له زوجات أو سراريّ، أو محارم على وجه لا يُفضي إلى الخلوة المُحَرَّمة.

(وإن كان مرتَهِنُ العبد امرأة لا زوج لها، فشرطت كونه عندها على وجه يُفضي إلى خلوته بها) بأن لم يكن معها مَحْرَم ولا زوج (لم يَجُز - أيضًا -) لإفضائه إلى الخلوة المُحَرَّمة، ويجعله الحاكم عند أمين.

(وإن قال الغريم: رهنتُك عبدي هذا على أن تزيدني في الأجل) بأن كان الدَّين مؤجلًا إلى رجب، ورهنه على أن يمده إلى رمضان مثلًا (كان) الرهن (باطلًا) لأن الأجل لا يثبت في الدَّين إلا أن يكون مشروطًا في عقد وجب به، وإذا لم يثبت الأجل فسد الرهن؛ لأنه في مقابلته (وإذا فسد الرهن وقبضه المرتَهِن، فلا ضمان عليه) إن تلف بيده؛ لما ذكره من أن

(1)

في متن الإقناع (2/ 333): "امرأة".

ص: 204

فاسد العقود كصحيحها في الضمان وعدمه، والرهن الصحيح غير مضمون، ففاسده كذلك.

(وكل عقد كان صحيحًا مضمونًا) كالبيع (أو غير مضمون) كالإجارة (ففاسده كذلك) أي: كصحيحه في الضمان وعدمه.

(فإن كان) الرهن (مؤقتًا) فهو فاسد، جزم به في "الكافي". وظاهر ما قدَّمه في "المغني" و"المبدع" صحته، كما هو مقتضى كلام المصنف أولًا.

(أو شرط أنه) أي: الرهن (يصير للمُرتَهِن بعد انقضاء مدته، صار بعد ذلك) أي: بعد انقضاء مدته (مضمونًا؛ لأنه مقبوض بحكم بيع فاسد) جزم به في "المغني" وغيره. وقال في "القواعد الفقهية"

(1)

: والمنصوص عن أحمد في رواية محمد بن الحسين

(2)

بن هارون: أنه لا يضمنه بحال. ذكره القاضي في "الخلاف" لأن الشرط فسد، فيصير وجوده كعدمه.

(و‌

‌حكمُ الفاسدِ من العقود حكمُ الصحيح في الضمان)

فالمبيع بعقد صحيح مضمون، فكذا المقبوض ببيع فاسد كما سبق.

فصل

(وإذا اختلفا) أي: الراهن والمُرتَهِن (في قَدْرِ الدَّيْن الذي به الرهن، نحو أن يقول الراهن: رهنتك عبدي هذا بألف، فقال المُرتَهِن:

(1)

القواعد الفقهية لابن رجب، القاعدة السابعة والثلاثون، ص/ 49.

(2)

كذا في الأصول: "الحسين" وصوابه: "الحسن" كما في القواعد الفقهية، وطبقات الحنابلة (1/ 288)، وتاريخ بغداد (2/ 191).

ص: 205

بل بألفين) فقول راهن بيمينه، سواء اتفقا على أن

(1)

الدَّيْن ألفان، أو اختلفا.

(أو) اختلفا في (قَدْر الرهن، نحو أن يقول) الراهن: (رهنتك هذا، فقال المُرتَهِن: وهذا - أيضًا -) فقول راهن بيمينه.

(أو) اختلفا في (ردِّه) أي: ردّ الرهن، بأن قال المُرتَهِن: رددته إليك، وأنكر الراهن، فقوله بيمينه، وتقدم

(2)

.

(أو قال) الراهن: (رهنتُك بـ) ــالدَّين (المؤجَّل من الألفين، فقال) المُرتَهِن: (بل) رهنتنيه (بالحالِّ) منهما، فقول الراهن بيمينه.

(أو قال) الراهن: رهنتُكَه (ببعض الدَّيْن) أي: بنصفه، أو ربعه ونحوه (فقال المُرتَهِن: بل بكلِّه) أي: الدَّيْن، فقول الراهن بيمينه.

(أو قال) الراهن: (أقبضتُك عصيرًا، في عقد شُرِطَ فيه رهنُه) بأن باعه بشرط أن يرهنه هذا العصير، وأقبضه إياه، ثم وجده خمرًا، فقال الراهن: أقبضتُكه عصيرًا، وتخمَّر عندك، فلا فسخ لك؛ لأني وفيت بالشرط (فقال) المُرتَهِن:(بل) أقبضتنيه (خمرًا) فلي الفسخ؛ لعدم الوفاء بالشرط، فقول راهن.

(أو اختلفا في عين الرهن، نحو رهنتُك هذا) العبد (فقال المُرتَهِن: بل هذا) العبد (فقول الراهن يمينه) لأنه منكرٌ، والأصل عدم ما أنكره؛ ولأن القول قوله في أصل العقد، فكذلك في صفته.

(وإن اختلفا) أي: الراهن والمُرتَهِن (في تلف العين) المرهونة (أو) اختلفا في (قيمتها، حيث لزمت) القيمة (المرتَهِن) لتلف العين المرهونة بتعديه، أو تفريطه (فقوله) أي: قول المُرتَهِن بيمينه، أما في تلف العين؛

(1)

في "ح" زيادة "جميع".

(2)

(8/ 166).

ص: 206

فلأنه أمين، وأما في قيمتها حيث لزمته؛ فلأنه غارم.

(وإن أبرأه) أي: الراهن (المرتَهِن من أحد الدينين) اللذين له عليه (واختلفا في تعيينه) أي: الدين المبرَّأ منه (فقول مُرتَهِن) وهو المبرئ؛ لأنه أدرى بما صدر منه، وتقدم.

(وإن قال) الراهن: (رهنتُك هذا العبد، فقال) المرتهن: (بل هذه الجارية، خرج العبد من الرهن) لإقرار المرتهن بأنه ليس رهنًا (وحلف الراهن أنه ما رهنه الجارية، وخرجت) الجارية (من الرهن - أيضًا -) لأن القول قوله في عدم رهنها؛ لأنه الأصل.

(ولو ادعى المرتهن أنه قبضه) أي: الرهن (منه) أي: الراهن، وأنكره الراهن (قُبِلَ قوله) أي: المُرتَهِن (إن كان) الرهن (بيده) أنه قبضه؛ عملًا بظاهر اليد، وإلا، فقول راهن.

(ولو كان بيد رجلٍ عبدٌ، فقال لـ) ـــرجل (آخر: رهنتني عبدك هذا بألف، فقال) مالكه: (بل غصبته، أو) قال: (هو وديعة عندك، أو عارية، فقول السيد، سواء اعترف اليد بالدَّين، أو جَحَده) لأن الأصل عدم الرهن.

(ولو قال) المرتهن: (أرسلتَ وكيلكَ، فرهنَ عندي هذا على ألفين قبضهما مني، فقال) الراهن: (ما أذنت له إلا في رهنه بألف، فإن صدَّق الرسولُ الراهنَ، حلف الرسولُ ما رهنه إلا بألف، ولا قبض إلا ألفًا، ولا يمين على الراهن) لأن الدعوى على غيره (فإذا

(1)

حلف الوكيل، بَرِئا جميعًا، أي: الرسول والراهن، وإن نَكَل) الرسول عن اليمين، وقضي عليه بالنكول (فعليه الألف المختلَف فيه، ولا يرجع به على أحد) لأنه يدعي أن المُرتَهِن ظلمه، ولا يرجع الإنسان بظلامته إلا على من ظلمه،

(1)

في "ح": "فإن".

ص: 207

أو تسبب في ظلمه.

(وإن صدَّق) الرسول (المُرتَهِن، فقول الراهن مع يمينه) أنه وصله ألف فقط، ولم يأذنه في غيرها (فإن نَكَل) الراهن عن اليمين (قضي عليه بالألف، ويدفع) الألف (إلى المُرتَهِن) ولا يرجع به على الرسول (وإن حلف) الراهن (برئ) من الألف (وعلى الرسول ألف) لأنه أقرَّ بقبضها (ويبقى الرهن بألف.

وإن عَدِمَ الوكيل، أو تعذَّر إحلافه) لنحو أسر، أو مرض (فعلى الراهن اليمين: أنه ما أذن في رهنه إلا بألف، ولا قبض أكثر منه، وبقي الرهن بألف) لأنه منكِرٌ للزائد.

(ولو قال: رهنتُك عبدي الذي بيدك بألف، فقال) ذو اليد: (بل بعتنيه بها، أو قال) المالك: (بعتُكه) أي: العبد (به) أي: بالألف (فقال) ذو اليد: (بل رهنتنيه به، ولا بينة) لواحد منهما (حلف كلٌّ منهما على نفي ما ادَّعى عليه به) لأنه ينكره، والأصل عدمه (وسقط) ما ادَّعى به كل منهما على الآخر، يحلف كل على نفيه (ويأخذ الراهن رهنه، ويبقى الألف بلا رهن) ومن نكَل منهما قضي عليه بالنُّكول، فإن نكلا، صرفهما على قياس ما تقدم في اختلاف المتبايعين

(1)

.

(وكل أمين يُقبل قوله في الرد) كالوديع، والوكيل، والوصي بغير جعل (فطُلِب منه) الرد (فليس له تأخيره) أي: الرد (حتى يشهد عليه) لعدم الحاجة إلى ذلك (ولو قلنا: يحلِف) إذ لا ضرر في الحلف صادقًا.

(وكذا مستعير ونحوه) ممن لا يُقبل قوله في الرد، كمُرتَهِن، ووكيل بجُعْل (لا حجة) أي: بيِّنة (عليه) إذا طُلب منه الرد، ليس له

(1)

(7/ 484).

ص: 208

تأخيره حتى يشهِدَ؛ لتمكنه من الإجابة، بنحو: لا حق له قِبَلي.

(وإن كان عليه) أي: على المستعير ونحوه (حجة، فله تأخيره) حتى يشهِد (كدَيْن بحجة) له تأخيره حتى يشهِد؛ لدعاء الحاجة إلى ذلك (فإذا قبض الوديعة ببينة دفعها ببينة) بناءً على رواية

(1)

: أنه إذا قبض الوديعة ببينة لم يُقبل قوله في الرد إلا ببينة. والمذهب

(2)

: يُقبل قوله في ردِّها بيمينه، وإن قبضها ببيِّنة، كما يأتي في الوديعة، فعلى هذا إذا طلبت منه، لزمه دفعها، ولا يؤخره ليشهد، كما تقدم.

(ولا يلزمه) أي: مَن له دَيْن، أو عارية ونحوها بوثيقة (دفع الوثيقة) إلى خصمه (بل) يلزمه (الإشهاد بأخذه) أي: أخذ الدَّيْن ونحوه؛ لأنها ملكه، والغرض يحصُل بالإشهاد بأخذه.

(قال في "الترغيب": لا يجوز للحاكم إلزامه به) أي: بدفع الوثيقة، لما تقدم.

(وكذا الحكم في تسليم بائع كتاب ابتياعه إلى مشترٍ) أي: لا يلزم البائع ذلك (ويأتي) ذلك (آخر الوكالة.

وإن أقرَّ الراهن أنه أعتق العبدَ) المرهون (قبل رهنه، وكذَّبه المرتَهِن، عتق) العبد؛ لأن السيد غير متهم في الإقرار بعتقه؛ لأنه لو أعتقه لنفذ عتقه، فكذا إذا أخبر به؛ لأن كل من صح منه إنشاء عقد، صح منه الإقرار به (وأخذت منه) أي: من الراهن (قيمته إن كان موسرًا، وجعلت) القيمة (رهنًا) مكانه (كما لو باشر عتقه) لأنه فوَّت عليه الوثيقة بالإقرار بالعتق، فلزمته القيمة، تجعل مكانه، جبرًا لما فاته من الوثيقة،

(1)

كتاب التمام (2/ 30).

(2)

وهي الرواية الثانية، المصدر السابق، والإنصاف 6/ 338.

ص: 209

وإن كان معسرًا، فعلى ما سبق من التفصيل.

(وإن أقر) الراهن (أنه) أي: الرهن (كان جنى) قبل الرهن (أو أنه) كان (باعه، أو) كان (غصبه) قبل الرهن (قُبل) إقرار الراهن (على نفسه) إذ لا عُذر لمن أقرَّ.

(ولم يقبل) إقراره (على المرتهن) لأنه متهم في حقه، وقول الإنسان على غيره غير مقبول (إلا أن يصدقه) أي: الراهنَ المرتهنُ؛ فيبطل الرهن، لوجود المقتضي السالم عن المعارض.

(ويلزم المرتَهِن اليمينُ) إذا طُلب منه (أنه ما يعلم) صدق (ذلك) الذي أقرَّ به الراهن (فإن نكل) المرتَهِن عن اليمين (قضي عليه) بالنكول، لما يأتي في بابه.

فصل

(وإذا كان) الرهن (مركوبًا، أو محلوبًا، فله) أي: المُرتَهِن (أن يَركب ويَحلُب حيوانًا، ولو أَمَة مرضعة بغير إذن راهن بقَدْرِ نفقته نصًّا) من رواية محمد بن الحكم، وأحمد بن القاسم

(1)

؛ لحديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الظَّهرُ يُركب بنفقته إذا كانَ مرهونًا، ولبنُ الدَّرِّ يُشربُ بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يَركبُ ويَشربُ النفقة" رواه البخاري

(2)

.

لا يقال: المراد به أن الراهن ينفق وينتفع؛ لأنه مدفوع بما روي:

(1)

مسائل محمد بن الحكم وأحمد بن القاسم لم تُطبعا، وانظر: مسائل الكوسج (6/ 2745) رقم 1959، والمغني (6/ 511).

(2)

في الرهن، باب 4، حديث 2512.

ص: 210

"إذا كانت الدابةُ مرهونة فعلى المرتهن علفُها"

(1)

فجعل المرتَهِن هو المنفق، فيكون هو المنتفع، وقوله:"بنفقته" أي: بسببها، إذ الانتفاع عوض النفقة، وذلك إنما يتأتى من المرتهن، أما الراهن فإنفاقه وانتفاعه ليسا بسبب الركوب والشرب، بل بسبب الملك، ويكون المرتهن (متحريًّا للعدل في ذلك) أي: في كون الركوب والحلْب بقَدْرِ النفقة؛ لئلا يحيف على الراهن.

(وسواء أنفق) المرتهن (مع تعذُّر النفقة من الراهن بـ) ــسبب (غيبة أو امتناع) أو غيرهما (أو) أنفق (مع القدرة على أخذ النفقة منه) أي: الراهن (أو استئذانه) لعموم الخبر.

(ولا ينهكه) - أي: المحلوب والمركوب - بالحلب والركوب؛ لما فيه من الضرر به.

(فإن فضل) عن النفقة (من اللبن شيء باعه المأذون له) من مرتهن أو غيره؛ لقيامه مقام المالك (وإلا) بأن لم يأذن الراهن لأحد في بيعه (باعه الحاكم) لقيامه مقامه، إذ لو تركه لفسد.

(وإن فضل من النفقة شيء) بأن لم يَفِ اللبن والركوب بها (رجع) المُرتَهِن (به على راهن) إن نوى الرجوع عليه؛ لأنه قام عنه بواجب، وللمرتهن الرجوع في هذه الصورة إذا نوى الرجوع (وإن لم يرجع إذا أنفق على الرهن في غير هذه الصورة في ظاهر كلامهم) هذا معنى كلامه في

(1)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 228)، والطحاوي (4/ 99)، وفي شرح مشكل الآثار (15/ 453) حديث 6153، والدارقطني (3/ 34) عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال البيهقي في معرفة السنن والآثار (8/ 228) بعد نسبة الحديث للبخاري: وزاد بعضهم فيه: المرتهن. وليس بمحفوظ. . . هذا يدل من خطأ تلك الزيادة. . . وانظر: المحلى (8/ 92)، والبدر المنير (6/ 634).

ص: 211

"الإنصاف" نقلًا عن الزركشي (وإن كان) المرتهن (متطوِّعًا) بما فضل من النفقة (لم يرجع) بشيء.

(و‌

‌لا يجوز للمُرتَهِن أن يتصرَّف في) الرهن (غير المركوب والمحلوب،

فلا ينفق على العبد والأَمَة، ويستخدمهما بقَدْر النفقة) قصرًا للنص على مورده.

(و) يجوز (للمُرتَهِن أن ينتفع بالرهن بإذن راهن مجانًا) أي: بغير عوض، وبعوض (ولو بمحاباة) في الأجرة، لأنه كالانتفاع به بغير عوض (ما لم يكن الدَّين قرضًا) فلا ينتفع به المُرتَهِن، ولو أذن الراهن مجانًا أو بمحاباة؛ لأنه يصير قرضًا جرَّ نفعًا.

"تنبيه": فرَّق المصنفُ هنا - كأكثر الأصحاب - بين القرض وغيره من الديون، وتقدم في القرض

(1)

: أن كل غريم كالمقترض في الهدية ونحوها، فمقتضاه: عدم الفرق هنا

(2)

. وذكر صاحب "المستوعب": أن في غير القرض روايتين

(3)

، فيكون المصنف كصاحب "المنتهى" مشى في كل باب على رواية.

(وإن استأجره) أي: الرهن (المُرتَهِن، أو استعاره) المُرتَهِن (لم يخرج) المرهون (بذلك عن الرهن) خلافًا للقاضي (لأن القبض مُستدام) بيده، ولا تنافي بين العقدين (لكن يصير) الرهن (في العارية مضمونًا) بالانتفاع، وتقدم

(4)

.

(1)

(8/ 145).

(2)

في "ح": "هناك".

(3)

الرواية الأولى في مسائل الكوسج 6/ 2739 رقم 1952: قال الإمام أحمد: إذا رهنه من قرض فلا ينتفع بشيء وإن أذن له، وإذا كان من بيع فلا بأس أن ينتفع به إذا كان أذن له. أما الرواية الثانية ففي مسائل حنبل كما في المغني (6/ 512).

(4)

(8/ 186).

ص: 212

(وإن انتفع) المُرتَهِن بالرهن (بغير إذن الراهن، فعليه أجرته) في ذمته كالغاصب، فإن كانت من جنس الدَّين، سقط عنه بقَدْرها بالمقاصَّة بشروطها (وإن تلف الرهن، ضمنه) المُرتَهِن (لتعديه) بانتفاعه به بغير إذن ربه، كالوديعة.

(وإن أنفق) المُرتَهِن (على الرهن بغير إذن راهن مع إمكانه) أي: قُدرته على استئذانه (فـ) ــهو (متبرِّع، ولو نوى الرجوع) لأنه مفرِّط، حيث لم يستأذن المالك، إذ الرجوع فيه معنى المعاوضة، فافتقر إلى الإذن والرضا، كسائر المعاوضات.

(وإن عَجَزَ) المُرتَهِن (عن استئذانه) أي: المالك لنحو غيبة (رجع) المُرتَهِن عليه؛ لأنه قام عنه بواجب، وهو محتاج إليه؛ لحرمة

(1)

حقه (بالأقل مما أنفقه ونفقة مثله) فإن كانت نفقة مثله خمسة، وأنفق أربعة، رجع بالأربعة؛ لأنها التي أنفقها، وإن كانت بالعكس رجع - أيضًا - بالأربعة؛ لأن الزائد على نفقة المِثْل تبرع (إذا نوى الرجوعَ) فإن لم ينوه، فهو متبرِّع لا رجوع له، وله الرجوع في هذه الحالة (ولو قَدِرَ على استئذان حاكم، ولم يستأذنه ولو لم يُشهِد) أنه ينفق ليرجع على الراهن، لما تقدم.

(وكذا) أي: مثل حكم النفقة على الرهن (حكم) النفقة على (وديعة) وعارية (وجمال ونحوها) كبغال وحمير (إذا هرب صاحبُها، وتركها في يد مُكتَرٍ) وأنفق عليها، فإن كان بنية الرجوع رجع، وإلا فلا. (وتأتي هذه) أي: مسألة هَرَبِ الجمّال ونحوه (في الإجارة).

قال في "الهداية" وغيرها: وكذلك الحكم إذا مات العبد المرهون فكفَّنه.

(وإن انهدمت الدار) المرهونة (فعمَّرها المرتَهِن بغير إذن الراهن،

(1)

في "ح" و"ذ": "لحراسة".

ص: 213

لم يرجع) المُرتَهِن (به) أي: بما أنفقه في عمارتها؛ لأنه ليس بواجب على الراهن، بخلاف نفقة الحيوان (ولو نوى) المُرتَهِن (الرجوعَ، لكن له) أي: المُرتَهِن (أخذ أعيان آلته) لأنها عين ماله، لم تخرج عن ملكه، وكذا مستأجر، ومستعير، ووديع.

فصل

(وإن جنى الرهنُ) كالعبد (جنايةً موجبة للمال) كالخطأ، وشبه العبد (على بدن أو مال، تستغرق) جنايته (قيمته) أي: قيمة الرهن (تعلَّق أرْشُها برقبته) أي: برقبة الجاني (وقُدِّمت على حق المُرتَهِن) قال في "المبدع": بغير خلاف نعلمه، ومعناه في "المغني" لأنها مقدَّمة على حق المالك، والملك أقوى من الرهن، فأولى أن تُقدَّم على الرهن. لا يقال: حق المُرتَهِن مُقدَّم - أيضًا - على حق المالك؛ لأن حق المُرتَهِن ثبت من جهة المالك بعقده، بخلاف حق الجناية؛ فإنه ثبت بغير اختاره مقدَّمًا على حقه، فَقُدِّم على ما ثبت بعقده؛ ولأن حق الجناية يختص بالعين فيسقط بفواتها، وحق المُرتَهِن لا يسقط بفوات العين، ولا يختص بها، فكان تعلُّقه بها أخف وأدنى.

(وخُيِّر سيده بين فدائه بالأقل من قيمته، أو أَرْش جنايته) لأنه إن كان الأَرْش أقل، فالمجني عليه لا يستحق أكثر من أَرْش جنايته، وإن كانت القيمة أقل، فلا يلزم السيد أكثر منها؛ لأن ما يدفعه عوض عن العبد، فلا يلزمه أكثر من قيمت كما لو أتلفه (ويبقى الرَّهن بحاله) لأن حق المُرتَهِن قائم لوجود سببه، وإنما قُدِّم حق المجني عليه؛ لقوَّته، فإذا زال، ظهر حق المُرتَهِن (وبين بيعه) أي: الجاني (في الجناية، أو تسليمه

ص: 214

إلى وَليِّ الجناية، فيملكه ويبطل الرهن فيهما) أي: فيما إذا باعه أو سلّمه لوليها، لأن الجناية تعلَّقت بالعبد وبالبيع فيها، أو تسليمه لوليها، استقر كونه عوضًا عنها، فبطل كونه محلًّا للرهن.

(فإن لم يستغرق الأَرْشُ قيمته) أي: قيمة العبد (بيع منه) أي: من العبد (بقَدْرِه) أي: الأرش؛ لأن بيعه إنما جاز ضرورة، فيتقيد بقَدْرِ الحق (وباقيه) أي: العبد (رهن) لزوال المعارض (فإن تعذَّر بيع بعضه) أي: العبد (بيع كله) للضرورة، وكذا أن نقصت قيمته بتشقيص (ويكون باقي ثمنه رهنًا) مكانه.

(وإن فَدَاه) أي: الجاني (مُرتَهِن بإذن راهن غير مُتبرِّع) بفدائه (رجع به) أي: بفدائه؛ لأدائه بإذن مالكه، كما لو قضى عنه دينه بإذنه (وإلا) بأن لم يكن بإذن مالكه (لم يرجع، ولو نوى الرجوع، حتى ولو تعذَّر استئذانه؛ لأن المالك لم يجب عليه الافتداء هنا) بخلاف النفقة عليه، وكذا لا يرجع إذا كان بإذن المالك ونوى التبرُّع.

(فإن فَدَاه) أي: الجاني المُرتَهِن (وشرط) المرتَهِن (أن يكون) الجاني (رهنًا بالفداء مع الدَّين الأول، لم يصح) ذلك؛ لأن العبد مرهون بدين، فلم يجز رهنه بآخر (كما لو رهنه) أي: المرهون (بدين سوى هذا) الفداء؛ لأن المشغول لا يُشغل.

(وإن كانت جنايته) أي: المرهون (موجبة للقصاص في النفس، فلوليها استيفاؤه) أي: القصاص (فإن اقتص) منه وليها (بطل الرهن كما لو تلف) الرهن.

(وإن كانت) الجناية (في طرف، اقتص منه، وبقي الرهن في باقيه) لزوال المعارض.

ص: 215

(وإن عفا) وليُّ الجناية (على مال، تعلَّق) ذلك المال (برقبة العبد) الجاني (وصار كالجناية الموجبة للمال) على ما تقدم.

(ويأتي حكم جنايته) أي: العبد (عمدًا أو خطأ في) باب (مقادير الديات بأتم من هذا) مفصلًا.

(وإن جنى المرهون بإذن سيده، وكان) المرهون (يعلم تحريم الجناية، وأنه لا يجب عليه قَبول ذلك) الأمر (من سيده، فكالجناية بغير إذنه) على ما سبق تفصيله (وإن كان) المرهون (صبيًّا أو أعجميًّا لا يعلم ذلك) أي: تحريم الجناية، وأنه لا يجب عليه قَبول ذلك من سيده (فالجاني هو السيد) والعبد كالآلة (يتعلَّق به) أي: بالسيد، أي: بذمته (موجَب الجناية، ولا يُباع العبد فيها) لعدم تعلُّقها برقبته (موسرًا كان السيد، أو معسرًا) كما لو باشر السيدُ القتلَ.

(و‌

‌حكم إقرار العبد بالجناية حكم إقرار غير المرهون)

على ما يأتي تفصيله في الحَجْر والإقرار.

(وإن جُني عليه) أي: المرهون (جناية موجبة للقصاص، أو غيره) أي: أو مال (فالخصم سيده) لأنه المالك له، والأَرْش الواجب بالجناية ملكه، وإنما للمُرتَهِن فيه حق الوثيقة (فإن أخَّر) السيدُ (المطالبة لغيبة، أو عُذْر) من نحو مرض (أو غيره، فللمُرتَهِن المطالبة) لأن حقه متعلِّق بموجَبها، كما لو كان الجاني سيده (ويأتي آخر الوديعة بعض ذلك.

ولسيده) أي: سيد المرهون المجني عليه عمدًا (القصاص بإذن مُرتَهِن وبدونه) أي: بدون إذن المُرتَهِن (إن أعطاه) أي: السيد (ما يكون رهنًا) مكانه؛ لتعلُّق حقه به.

وللسيد - أيضًا - العفو على مال، ويتعلَّق به حق الراهن والمُرتَهِن،

ص: 216

ويجب من غالب نقد البلد، كَقِيَم المُتلفات. فلو أراد الراهن أن يُصالح عنها، أو يأخذ عنها عوضًا، لم يجز إلا بإذن المُرتَهِن، وما قبض منه جعل رهنًا؛ لأنه بدل عنه، فيعطى حكمه، قاله في "المبدع".

(فإن اقتصَّ) سيد المرهون من الجاني عليه (في نفس، أو دونها) فعليه قيمة أقلهما، تجعل رهنًا مكانه؛ لأنه أتلف مالًا استحق بسبب إتلاف الرهن، فغرم قيمته، كما لو كانت الجناية موجبة للمال، وإنما وجب أقل القيمتين؛ لأن حق المرتهن تعلق بالمالية، والواجب من المال هو أقل القيمتين، فعلى هذا: لو كان الرهن يساوي عشرة، والجاني خمسة، أو بالعكس: لم يكن عليه إلا الخمسة.

(أو عفا) السيد عن الجاني (على مال، فعليه) أي: السيد (قيمة أقلِّهما) أي: الجاني والمجني عليه (قيمةً تُجعل رهنًا مكانه) أي: مكان المرهون، لما تقدم.

(وإن كانت الجناية) من الرهن (على سيد العبد) المرهون (فإن كانت) الجناية (إتلاف مال، أو) كانت إتلاف نفس، لكن (موجبة للمال، فـ) ــهي (هدر) لأنه مال لسيده، فلا يثبت له مال في ماله، كما لو لم يكن رهنًا.

(وإن كانت) الجناية على سيده (موجبة للقَوَدِ، وكانت) الجناية (على ما دون النفس، وعفا السيدُ على مال، أو) عفا (على غير مال، سقط القصاصُ) للعفو (ولم يجب المال) لما تقدم.

(وإن اقتص) السيد (فعليه) أي: السيد (قيمتُه) لأنه فوَّته على المُرتَهِن (تكون رهنًا مكانه) إن كان الدَّين مؤجلًا (أو قضاءً عن الدَّين) إن كان الدَّين حالًا، لأنه يُخرِجه عن كونه رهنًا باختياره، فكان عليه بدله،

ص: 217

كما لو أعتقه.

(وكذلك إن كانت الجناية على النفس، فاقتص الورثة) من المرهون الجاني (وتجب عليهم القيمة) تكون رهنًا مكانه، أو قضاء عن الدَّين (وليس لهم) أي: للورثة (العفو على مال) فإن عفوا على مال، أو عفا بعضهم، فـ (ــعلى ما ذكرناه) يسقط القصاص للعفو، والمال؛ لأنه لو وجب لكان لهم، ولا يجب للإنسان في ماله مال.

(وإن جنى العبد المرهون على عبد سيده، فإن لم يكن) المجني عليه (مرهونًا، فكالجناية على طرف سيده) إن أوجبت مالًا، فهدر، وإن أوجبت قصاصًا، فلسيده القصاص بإذن مُرتَهِن

(1)

، أو إعطائه ما يكون رهنًا مكانه، وبدونهما عليه قيمة أقلهما رهنًا مكانه.

وإن كانت الجناية على مورث سيده، وكانت على طرفه أو ماله، فكأجنبي، وله القصاص إن كانت موجبة له، والعفو على مال وغيره؛ فإن انتقل ذلك إلى السيد بموت المستحق، فله ما لمورثه من القصاص والعفو على مال؛ لأن الاستدامة أقوى من الابتداء، فجاز أن يثبت بها ما لا يثبت في الابتداء.

وإن كانت على نفسه بالقتل، ثبت الحكم لسيده، وله أن يقتص فيما يوجب القصاص.

ومُكاتَب السيد كولده، وتعجيزه كموت ولده.

(وإن كان) المجني عليه (مرهونًا عند مُرتَهِن القاتل، والجناية موجبة للقصاص) بأن كانت عمدًا محضًا (فإن اقتص السيد، بطل الرهن في المجني عليه) كما لو مات حتف أنفه (وعليه قيمة المقتص منه) لأنه

(1)

في "ذ" زيادة: "كما لو مات حتف أنفه".

ص: 218

فوَّته على المُرتَهِن بغير إذنه.

(وإن عفا) السيد (على مال، أو كانت) الجناية (موجبة للمال) بأن كانت خطأ، أو شبه عمد (وكانا) أي: الجاني والمجني عليه (رهنًا بحق واحد، فجنايته هدر) لأن الحق متعلق بكل واحد منهما، فإذا قُتل أحدهما بقي الحق معلقًا بالآخر، كما لو مات حتف أنفه.

(وإن كان كل واحد منهما) أي: الجاني والمجني عليه (رهنًا بحق منفرد، فإن كان الحقان سواء) من جنس أو جنسين (و) كانت (قيمتهما سواء، فالجناية هدر) لأنه لا فائدة في اعتبارها، وتعلق دين المقتول برقبة القاتل، ذكره في "الكافي".

(وإن اختلف الحقان، واتفق القيمتان، مثل أن يكون دَيْنُ أحدهما مائة، ودَيْنُ الآخر مائتين، وقيمة كل واحد منهما مائة؛ فإن كان دَيْن القاتل أكثر) وهو المائتان (لم يُنقل إلى دَيْن المقتول) لعدم الفائدة (وإن كان دَيْن المقتول أكثر) بأن كان مرهونًا بالمائتين (نُقِل) دينه - وهو المائتان - (إلى القاتل بحاله) فيصير رهنًا بالمائتين (ولا يُباع)

(1)

لأنه لا فائدة فيه، بل إذا حلَّت المائتان.

(وإن اتفق الدَّيْنان، واختلف القيمتان، بأن يكون دَيْنُ كلِّ واحد منهما مائةً، و) يكون (قيمة أحدهما مائة، والآخر مائتين، فإن كان قيمةُ المقتول أكثر، بقي بحاله) لأنه لا غرض في النقل (وإن كانت قيمة الجاني أكثر، بيع منه بقَدْرِ جنايته، يكون رهنًا بدَيْن المجني عليه، والباقي) منه (رهن بدينه.

فإن اتفقا) أي: الراهن والمُرتَهِن (على تبقيته) أي: القاتل (ونقل

(1)

في "ح" زيادة: "القاتل".

ص: 219

الدَّيْن) أي: دَيْن المقتول (إليه صار) القاتل (مرهونًا بهما) أي: بدَيْن القاتل والمقتول.

(وإن حلَّ أحدُ الدَّينين بيع بكلِّ حال) لأنه إن كان دَيْنه المعجَّل، بيع ليستوفى من ثمنه، وما بقي منه رهن بالدَّيْن الآخر، وإن كان المُعجَّل الآخر، بِيع ليستوفى منه بقَدْره، والباقي رهن بدينه.

(وإن اختلف الدينان والقيمتان، كأن يكون أحد الدَّيْنين خمسين والآخر ثمانين، و) تكون (قيمة أحدهما مائة، و) قيمةُ (الآخر مائتين؛ فإن كان دَيْن المقتول أكثر، نقل إليه) أي: إلى القاتل (وإلا) يكن أكثر (فلا) يُنقل إليه لما تقدم.

(وأما إذا كان) العبد (المجني عليه رهنًا عند غير مرتَهِن القاتل، واقتصَّ السيد) من القاتل (بطل الرهن في المجني عليه) لأن الجناية عليه لم توجب مالًا يُجعل رهنًا مكانه (وعليه) أي: السيد (قيمة) العبد (المقتصِّ منه تكون رهنًا) مكانه؛ لأنه أبطل حق الوثيقة فيه باختياره.

(وإن عفا) السيد (على مال) صارت الجناية كالجناية الموجبة للمال، و (ثبت المال) المعفو عليه (في رقبة العبد) الجاني؛ لأن السيد لو جنى على العبد، لوجب أَرْش الجناية لحق المُرتَهِن؛ فبأن يثبت على عبده أولى.

(فإن كان الأَرْش لا يستغرق قيمته) أي: العبد (بيع عنه بقَدْرِ الأَرْش، يكون رهنًا عند مُرتَهِن المجني عليه، وباقيه) أي: العبد (رهن عند مرتهنه) لخلوه عن المعارض (وإن لم يمكن بيع بعضه، بيع كله) للضرورة (وقُسم ثمنه بينهما، على حسب ذلك) فقَدْر الأَرْش من ثمنه (يكون رهنًا) عند مرتَهِن المجني عليه، وباقيه رهن عند مرتهنه.

ص: 220

(وإن كان) الأَرْش (يستغرق قيمته، نُقل الجاني، فجُعل رهنًا عند) المرتَهِن (الآخر) لما سبق، ولا يُباع حتى يحلَّ دينه.

(وإن أقرَّ رجل بالجناية على الرهن، فكذَّبه الراهن والمُرتَهِن، فلا شيء لهما) لتكذيبهما له.

(وإن كذَّبه المرتَهِن وصدَّقه الراهن، فله) أي: الراهن (الأَرْش، ولا حق للمرتَهِن فيه) لإقراره بذلك.

(وإن صدَّقه) أي: المقرَّ (المرتَهِنُ وحده) وكذَّبه السيد (تعلَّق حقه) أي: المرتَهِن (بالأَرْش) لما تقدم.

(وله) أي: المرتَهِن (قبضه) أي: الأرش (فإذا قضى الراهن الحق، أو أبرأه المرتَهِن) منه (رجع الأَرْش إلى الجاني) لإقرار السيد له بذلك (ولا شيء للراهن فيه) لما تقدم.

(وإن استوفى) المرتَهِن (حقه من الأرش، لم يملك الجاني مطالبة الراهن) بما استوفاه المرتَهِن من الأَرْش (لأنه) أي: الجاني (مقرٌّ له) أي: للراهن (باستحقاقه) الأَرْش.

(وإن كان الرهن أمَة، فَضَرَب بطنها، فألقت جنينًا، فما وجب فيه) من عُشر قيمة أُمِّه، إن سقط ميتًا، أو قيمته إن سقط حيًّا لوقت يعيش لمثله، ثم مات (وأُخذ) من الضارب (فهو رهن معها

(1)

) لأنه بدل عن الجنين التابع لها في الرهن.

(وإن كانت) المرهونة (بهيمةً) وضُرِبت (فألقت ولدها ميتًا من الضربة ففيه) أي: في ولدها (ما نَقَضَها لا غير) لما يأتي: من أن في جنين دابة ما نقص أُمه (ويكون) المأخوذ (رهنًا معها) كسائر أروش الجنايات.

(1)

في "ذ" زيادة: "كسائر أروش الجنايات".

ص: 221

(وإن كانت الجناية) على الرهن (موجبة للمال، فما قُبض منه) أي: من المال (جُعل) رهنًا (مكانه) أي: مكان المرهون؛ لقيامه مقامه.

(فإن عفا السيد) الراهن (عن المال، صح في حقه) لأنه يملكه (ولم يصح في حق المرتَهِن) لأن الراهن لا يملكه (فيؤخذ من الجاني الأَرْش، فيدفع إلى المرتَهِن) لتعلق حقه به (فإذا انفكَّ الرهن بأداء راهن، أو إبراء) مرتَهِن (رد) المرتَهِن (إلى الجاني ما أخذ منه) من الأَرْش؛ لأنه لا مستحق له غيره.

(وإن استوفاه) أي: استوفى المرتَهِن دَيْنه (من الأرش) الذي أبرأ الراهن الجاني عنه (رجع جانٍ على راهن) لأن ماله ذهب في قضاء دينه، فلزمه غرامته، كما لو استعاره فرهنه.

(وإن وطئ المرتَهِن الجارية المرهونة من غير شُبهة، فعليه الحَدُّ) لأنه حرام إجماعًا

(1)

؛ إذ لا نكاح، ولا ملك، ولا شبهة (و) عليه أيضًا (المهر) لأنه استوفى المنفعة المملوكة لسيدها بغير إذنه، فكان عليه عوضها، كأَرْش البكارة (وولده رقيق) لأنه لا ملك له فيها، ولا شبهة ملك، أشبه الأجنبي، وهو ملك (للراهن رهنًا مع أُمه) لأنه من جملة نماء الرهن.

(وإن وطئها) مرتَهِن (بإذن راهن، وادَّعى الجهالة، وكان مثله يجهل ذلك، كمن نشأ ببادية، أو) كان (حديث عهد بإسلام، فلا حدَّ) عليه؛ لأن ذلك شُبهة يدرأ بها الحَدّ (ولا مهر) عليه؛ لأنه يجب للسيد بسبب الوطء، وقد أذن فيه، أشبه ما لو أتلفها بإذنه (وولده حُرٌّ) للشُّبهة (لا يلزمه قيمته) بخلاف المغرور؛ لأنه حدث عن وطء مأذون فيه كالمهر.

(1)

المحلى لابن حزم (8/ 107)، والمغني (6/ 488)، وانظر: الإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان (3/ 1661).

ص: 222

(وإن كان) المُرتَهِن (عالمًا بتحريمه) أي: الوطء المأذون له فيه من الراهن (فلا مهر) لما تقدم (وعليه الحدُّ، وولده رقيق) لانتفاء الشُّبهة.

(وإن وطئها) المرتَهِن (من غير إذن راهن جاهلًا التحريم، فلا حَدَّ) عليه (وولده حُرٌّ) للشُّبهة (وعليه) أي المرتَهِن (الفداء) فيفديه بقيمته يوم الولادة؛ لأنه فوَّته على الراهن باعتقاده الحرية (و) عليه (المهر) أيضًا لما تقدم.

(وله) أي: للمرتَهِن (بيع رهن جَهِل ربَّه، إن أيس من معرفته، والصدقة بثمنه بشرط ضمانه) لربه، أو وارثه إذا عرفه، فإذا عرفهم خيَّرهم بين الأجر أو يغرم لهم. قال في "الاختيارات"

(1)

: وليس لصاحبه إذا عُرف رد المعاوضة؛ لثبوت الولاية عليها شرعًا. انتهى. وظاهر كلامه: يبيعه؛ ولو بلا إذن حكم، وهو مقتضى كلام الحارثي. وقدَّم في "الرعاية الكبرى": ليس له بيعه بغير إذن حاكم. قال في "تصحيح الفروع": الصواب استئذان الحاكم في بيعه، إن كان أمينًا.

(ولا يستوفي) المُرتَهِن (حقه من الثمن) الذي باع به الرهن (نصًّا)

(2)

وظاهره: ولو عجز عن إذن الحاكم، وهو أحد وجهين أطلقهما في "الفروع". قال في "تصحيح الفروع": والصواب أن الحاكم إذا عدم، يجوز له أخذ قَدْر حقه من ثمنه. (وعنه: بلى

(3)

) أي: له أخذ حقه من ثمنه.

(ولو باعها) أي: العين المرهونة (الحاكم ووفَّاه) من ثمنها (جاز)

(1)

ص/ 240.

(2)

انظر: مسائل ابن هانئ (2/ 33) رقم 1313.

(3)

انظر: مسائل عبد الله (3/ 943) رقم 1275، وكتاب الروايتين والوجهين (1/ 370).

ص: 223

لأن الحاكم له ولاية مال الغائب (ويأتي في) باب (الغصب: لو بقيت في يده غُصوبٌ ونحوها) كعوارٍ أو أمانات (لا يعرف أربابها) فيدفعها إلى الحاكم، أو يبيعها ويتصدق بثمنها.

ص: 224

باب الضمان والكفالة وما يتعلق بهما

(الضمان) مشتق من الضَّم، قدَّمه في "المغني"، و"الشرح"، و"الفائق"، وغيرها. ورُدَّ: بأن لام الكلمة في الضَّم ميم، وفي الضمان نون. وأُجيب: بأنه من الاشتقاق الأكبر، وهو المشاركة في أكثر الأصول مع ملاحظة المعنى.

وقال القاضي: مشتق من التضمن؛ لأن ذِمة الضامن تتضمَّن الحق.

وقال ابن عقيل: من الضمن، فذِمَّة الضامن في ضمن ذمة المضمون عنه.

وشرعًا: (التزام من يصح تبرُّعه) وهو الحُر غير المحجور عليه (أو) التزام (مُفلِسٍ برضاهما) أي: من يصح تبرُّعه، والمُفلِس (ما) أي: دينًا (وجب) على غيره (أو) ما (يجب على غيره مع بقائه) أي: ما وجب أو يجب (عليه) أي: على الغير.

وهو ثابت بالإجماع

(1)

، وسنده قوله تعالى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}

(2)

قال ابن عباس: "الزَّعيمُ: الكَفيلُ"

(3)

وقوله صلى الله عليه وسلم: "الزَّعيمُ غارمٌ" رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه

(4)

.

(1)

الإجماع لابن المنذر ص/ 125، ومراتب الإجماع لابن حزم ص/ 113.

(2)

سورة يوسف، الآية:72.

(3)

أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 20)، والطبراني في الكبير (10/ 252) رقم 10597، وابن الأنباري في إيضاح الوقف والابتداء (1/ 86).

(4)

أبو داود في البيوع والإجارات، باب 90، حديث 3565، والترمذي في البيوع، باب =

ص: 225

(غيرَ ضمان مسلم) أو كافر (جِزْية) فلا يصح، ولو بعد الحول؛ لأنها إذا أُخذت من الضَّامن فات الصَّغَار المضمون عنه (و) غير (كفالته) أي: كفالة مسلم، وكذا كفالة كافر (من هي) أي: الجِزية (عليه) فلا

= 39، حديث 1265، وفي الوصايا، باب 5، حديث 2120.

وأخرجه - أيضًا - ابن ماجه في الصدقات، باب 9، حديث 2405، والطيالسي ص/ 145، حديث 1128، وعبد الرزاق (4/ 148، 8/ 173، 181، 9/ 48) حديث 7277، 14796، 14797، 16308، وسعيد بن منصور (1/ 107) حديث 427، وابن أبي شيبة (6/ 145، 7/ 200)، وأحمد (5/ 267)، وفي العلل (3/ 17) حديث 3952، وابن الجارود (3/ 274) حديث 1023، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (11/ 298) حديث 4461، والطبراني في الكبير (8/ 135، 137) حديث 7615، 7621، وفي مسند الشاميين (1/ 309) حديث 541، وابن عدي (1/ 289)، وابن الغطريف في جزئه ص/ 71، حديث 22، والدارقطني (3/ 41)، وتمام في فوائده (1/ 165)، حديث 384، والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 64) حديث 50، والبيهقي (6/ 72، 88)، وابن عبد البر في التمهيد (12/ 39)، والبغوي في شرح السنة (8/ 224) حديث 2162، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 205) عن إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم، عن أبي أمامة رضي الله عنه.

قال الترمذي في الموضع الأول: حديث حسن غريب. وقال في الموضع الثاني: حديث حسن صحيح. وقال البغوي: هذا حديث حسن. وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 58): هذا من أصح أحاديث إسماعيل بن عياش؛ لأن شيخه في هذا شامي، وهو حجة إذا روى عن الشاميين عند الجمهور. وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (8/ 287): هذا إسناد قوي. وقال الزيلعي في نصب الراية: رواية إسماعيل بن عياش عن الشاميين جيدة، وشرحبيل من ثقات الشاميين. وقال ابن الملقن في البدر المنير (6/ 707): هذا الحديث حسن.

وضعَّفه ابن حزم في المحلى (9/ 172) بإسماعيل بن عياش.

وتعقَّبه ابن الملقن في البدر المنير (6/ 708)، فقال: هذا الحديث من روايته عن الشاميين

فيكون صحيحًا. وقال في خلاصة البدر المنير (2/ 90): وخالف ابن حزم، فَوَهِمَ في توهينه. وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (7/ 47): وضعَّفه ابن حزم بإسماعيل، ولم يُصبْ.

ص: 226

تصح الكفالة ولو بعد الحول؛ لفوات الصَّغار إذا استوفيت من الكفيل (فلا يصح) أي: الضمان ولا الكفالة (فيهما) أي: في جِزية وجبت، ولا جزية ستجب، كما تقدم.

(ويصح) الضمان (بلفظ): أنا (ضمين، وكفيل، وقبيل، وحميل، وصبير، وزعيم) بما عليه. يقال: قَبِل به - بكسر الباء - فهو قبيل، وحمل به حمالة، فهو حميل. وزعم به يزعُم - بالضم - زعمًا. وصبر يصبُر - بالضم - صبرًا، وصبارة: بمعنى واحد. وهو معنى كفل.

(و) يصح الضمان - أيضًا - بلفظ: (ضمنت دينك، أو تحملته، وضمنت إيصاله، أو هو) أي: دينك (عليَّ، ونحوه) من كل ما يؤدي معنى التزامه ما عليه.

(فإن قال) شخص: (أنا أؤدي) ما عليه (أو) أنا (أحضر) ما عليه (لم يصر ضامنًا) بذلك؛ لأنه وعد، وليس بالتزام.

(وقال الشيخ

(1)

: قياس المذهب يصح) الضمان (بكل لفظ فُهِم منه الضمان عُرفًا، مثل) قوله: (زوِّجه، وأنا أؤدي الصداق، أو) قوله: (بِعْهُ، وأنا أعطيك الثمن، أو) قوله: (اتْرُكْهُ ولا تطالبه، وأنا أعطيك) ما عليه (ونحو ذلك) مما يؤدي هذا المعنى؛ لأن الشرع لم يحدد ذلك بحد، فرجع إلى العرف، كالحِرز والقبض.

(وإن ضمن) إنسان (وهو) أي: الضامن (مريض مرضًا غير مَخوف) كصداع وحُمى يسيرين، ولو صار مخوفًا ومات به (أو) وهو مريض مرضًا (مخوفًا، ولم يتصل به الموت، فـ) ــهو (كالصحيح) كسائر تبرُّعاته.

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 195.

ص: 227

(وإن كان) الضامن وقت الضمان مريضًا (مرض الموت المخوف، حُسِبَ ما ضَمِنه من ثُلُثه) لأنه تبرُّع، فهو كسائر تبرُّعاته، وكالوصية. وقياس المريض كذلك من باللُّجَّة

(1)

عند الهيجان، أو وقع الطاعون ببلده ونحوهما ممن أُلحِق بالمريض مرض الموت المخوف، كما سيأتي في عطية المريض.

(ويصح الضمان من أخرس بإشارة مفهومة) كسائر تصرفاته؛ لأنها كاللفظ في الدلالة على المراد (ولا يثبت) الضمان (بكتابته) أي: الأخرس، حال كونها (منفردة عن إشارة يُفهم بها أنه قَصَدَ الضمان؛ لأنه قد يكتب عبثًا، أو تجربةَ قلم) فلا يكون ضامنًا بالاحتمال.

(ومن لا تُفهم إشارته) من الخرس (لا يصح ضمانُهُ) أي: أن يضمن غيره، ولو بكتابة؛ لما تقدم من أنه قد يكتب عبثًا، أو تجربة قلم، فليست صريحة (وكذلك) أي: كالضمان (سائر تصرُّفاته) فتصح بإشارة مفهومة، لا بكتابة مفردة عن إشارة يُفهم بها المقصود، ولا ممن ليس له إشارة مفهومة. وتأتي صحة الوصية، والطلاق، والإقرار بالكتابة.

(ولصاحب الحق مطالبةُ من شاء منهما) أي: من المضمون عنه والضامن (لثبوته) أي: الحق (في ذمتيهما جميعًا) فلا يبرأ المضمون عنه بمجرَّد الضمان كما يبرأ المحيل، بل يثبت الحق في ذمتيهما جميعًا؛ لصحة هبته لهما؛ ولأن الكفيل لو قال: تكفَّلت بالمطالبة دون أصل الدَّين، لم يصح اتفاقًا

(2)

(3)

. ذكره في "المبدع".

(و) لصاحب الحق أيضًا (مطالبتهما) أي: المضمون عنه والضامن

(1)

اللُّجَّة بالضم - معظم الماء، ومنه بحر لُجِّي. انظر: القاموس المحيط ص/ 203.

(2)

في "ح": "وفاقًا". وهو موافق لما في المبدع (4/ 249).

(3)

انظر: فتح القدير (7/ 218)، ومواهب الجليل (5/ 100)، وروضة الطالبين للنووي (4/ 264).

ص: 228

(معًا في الحياة والموت، ولو كان المضمون عنه) مليئًا (باذلًا) للدَّين؛ لما تقدَّم، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"الزَّعيمُ غارمٌ"

(1)

.

(فإن أحال ربُّ الحقِّ) المضمون عنه بدينه، برئ الضامن (أو أحيل) أي: أحاله المضمون عنه بدينه، برئ الضامن (أو زال العقد) بأن انفسخ البيع الذي ضمن فيه الثمن، أو انفسخت الإجارة وقد ضمن الأجرة (برئ الضامن) بغير خلاف نعلمه؛ لأنه تَبَعٌ له، والضمان وثيقة، فإذا برئ الأصل، زالت الوثيقة، قاله في "المبدع"(و) برئ (الكفيل، وبطل الرهن إن كان) هناك رهن، لما تقدم.

وإن وَرِثَ الدَّين، لم يبرأ ضامن ولا كفيل، ولم يبطل رهن.

(فإن برئ المضمون عنه) بأداء، أو إبراء، أو حوالة (برئ الضامن) لأنه فرعه كما سبق (وإن برئ الضامن) لم يبرأ المضمون عنه؛ لأنه أصل، فلا يبرأ ببراءة التبع (أو أقرَّ) المضمون له (ببراءته) أي: الضَّامن (كقوله) أي: ربّ الحق للضامن: (برئتَ من الدَّين، أو أبرأتك) منه (لم يكن) ربُّ الحق (مقرًّا بالقبض) للدَّيْن (ولم يبرأ مضمونٌ عنه) لأصالته، فلا يبرأ ببراءة تبعه (و) القائل للضامن:(برئت إليَّ من الدَّين، مُقِرٌّ بقبضه) لأنه أقرَّ ببراءته بفعل واصل إليه، وذلك لا يكون إلا بقبضه.

(و) قول ربِّ الحق للضامن: (وهبتُك الحق، تمليكٌ له، فيرجع) الضامن بالدَّين (على مديون) ويأخذه منه؛ لأن ربَّه ملَّكه له.

(ويصح أن يضمن الحق عن) المَدين (الواحدِ اثنان فأكثر، سواء ضَمنَ كلُّ واحد جميعه) أي: الدَّين (أو جزءًا) معلومًا (منه) لأن ما جاز ثبوته في ذِمة اثنين، جاز ثبوته في ذِمة أكثر منهما (فإن قالا: كلُّ واحد منا

(1)

تقدم تخريجه (8/ 225) تعليق رقم (4).

ص: 229

ضامن لك الألف) الذي عليه (فهو) أي: قولهما (ضمان اشتراك في انفراد) لأنهما اشتركا في الضمان، وكل واحد ضامن الدَّين منفردًا بضمانه (له) أي: لربِّ الحق (مطالبتهما معًا بالألف، و) له (مطالبة أحدهما به) لثبوته في ذِمة كل منهما كاملًا (فإن قضاه) أي: الألف (أحدهما لم يرجع) القاضي بالألف (إلا على المضمون عنه) لأنه الأصيل.

(فإن أبرأ) ربُّ الحق (المضمونَ عنه برئ الجميع) لأنهم تبعه (وإن أبرأ) ربُّ الحقِّ (أحدَ الضامنين برئ وحده) دون المضمون عنه؛ لأنه أصله، ودون الضامن الثاني؛ لأنه ليس تبعًا لرفيقه.

(وإن ضَمِنَ أحدُهما) أي: أحد الضامنين (صاحبَهُ لم يصح) ضمانه له؛ لأن الحق ثبت في ذمته بضمانه الأصل، فهو أصل، فلا يجوز أن يصير فرعًا.

(وإن قالا: ضَمِنَّا لك الألف، فهو بينهما بالحصص) أي: نصفين (فكل واحد منهما ضامن لحصته) وهي النصف من الألف؛ لأن مقتضى الشركة التسوية.

(ولو تكفَّل بـ) ــبدن المدين (الواحدِ اثنان) فأكثر (صح) ذلك كالضمان.

(ويصح أن يتكفَّل كلُّ واحد من الكفيلين) ببدن الكفيل (الآخر) لأن الكفالة بالبدن لا بما في ذمته، بخلاف الضمان (فلو سَلَّمه أحدهما) أي: الكفيلين (برئ) الذي سلَّمه منه (وبرئ كفيله به) من كفالته برقبته؛ لبراءة الفرع ببراءة أصله. و (لا) ببرأ كفيله (من إحضار المكفول) لأنه لم يسلمه، ولم يبرئه ربُّ الحق، ولا يبرأ أصله.

ص: 230

(وإن كفَلَ المكفولُ به) وهو المدين (الكفيل، لم يصح) ذلك، لأنه أصل، فلا يجوز أن يصير فرعًا.

(وإن كفل) المكفول (به) أي: بالكفيل (في غيره) أي: غير ما كفله فيه، بأن كان على الكفيل دين فكفله المكفول به لربه (صح) ذلك؛ لعدم المانع.

(ولو ضَمِنَ ذميٌّ لذميٍّ عن ذميٍّ خمرًا، فأسلم المضمون له، أو المضمون عنه، برئ) المضمون عنه (هو والضامن) معًا؛ لأن مالية الخمر بطلت في حق من أسلم، فإن كان هو المضمون له لم يملك مطالبة المضمون عنه، ولا الضامن؛ لأنه تبع لأصله، وإن كان الذي أسلم هو المضمون عنه؛ فلأنه لا يجوز وجوب خمر على مسلم، والضامن فرعه (وإن أسلم الضامن) في خمر (برئ وحده) لما تقدم.

(ولا يصح) الضمان (إلا من جائز التصرُّفِ) أي: ممن يصح تصرفه في ماله؛ لأنه إيجابُ مال بعقد؛ فلم يصح من غير جائز التصرُّف كالبيع، رجلًا كان أو امرأة (إلا المحجور عليه لفَلَس، فيصح ضمانه) لأنه تصرُّفٌ في ذمته، وهو أهل له (ويتبع) به (بعد فكِّ الحَجْر عنه) كسائر ديونه التي في ذمته الثابتة بعد الحجر.

إذا تقرر أنه لا يصح إلا من جائز التصرُّف (فلا يصح) ضمان (من مجنون، ولا مبرسَم، ولا صبي، ولو مميزًا) لعدم صحة تصرُّفهم.

(فلو ضَمِن) شخص شخصًا (وقال) الضامن: (كان) الضمان (قبل بلوغي، وقال خصمه) وهو المضمون له: (بل) كان الضمان (بعده) أي: بعد البلوغ (فالقول قول المضمون له) لأنه يدَّعي سلامة العقد، وهي

ص: 231

الأصل (وتقدَّم مثله في الخيار في البيع

(1)

) فيما إذا ادعى أحد المتبايعين ما يفسد العقد، وأنكره الآخر: القول قول المُنكِر.

(وكذا لو ادَّعى) الضامن (الجنونَ) وقت الضمان، وأنكره خصمه، فالقول قوله (ولو عُرف له حال جنون) لأن الأصل سلامة العقد.

(ولا يصح) الضمان (من سفيه) لعدم صحة تصرُّفه (ولا) يصح الضمان (من عبدٍ بغير إذن سيده، ولو كان مأذونًا له في التجارة) لأنه عقدٌ تضمَّن إيجابَ مالٍ، فلم يصح بغير إذن السيد كالنكاح.

(ويصح) ضمان العبد (بإذنه) أي: إذن سيده؛ لأنه لو أَذِنَ له في التصرُّف لصح، فكذا هنا (ويتعلَّق) ما ضمنه العبد بإذن سيده (بذمة السيد) كاستدانته.

(فإن أَذِن) السيد (له في الضمان ليكون القضاء من المال الذي في يده، صح) ذلك (ويكون ما في ذمته متعلِّقًا بالمال الذي في يد العبد، كتعلُّق حق الجناية برقبة) العبد (الجاني) لأنه إنما التزمه كذلك.

(كما لو قال الحُرُّ: ضمِنتُ لك هذا الدَّين على أن تأخذ) ما ضمنته (من مالي هذا، صح) ذلك، ويكون متعلِّقًا بالمال الذي عيَّنه، كتعلُّق أَرْش الجناية برقبة الجاني، فعلى هذا: إذا تلف المال سقط الضمان، وإن أتلفه متلِف تعلَّق الضمان ببدله.

(ولا يصح ضمان المكاتَب) بأن يضمن إنسانًا (لغيره بغير إذن سيده) لأنه تبرُّعٌ (كالقِن) إذا ضمِن بغير إذن سيده، فإن أذن له صح، ويؤخد مما بيد مكاتَب.

(و‌

‌لا يصح) الضمان (إلا برضا الضامن)

فلا يصح ضمان المُكرَه؛

(1)

(7/ 488).

ص: 232

لأنه التزام مال، فلم يصح بغير رضا المُلتزِم، كالنذر.

(ولا يُعتبر) لصحة الضمان (رضا المضمون له) لأن أبا قتادة ضَمِنَ الميت بغير رضا المضمون له، وأقرَّه الشارع صلى الله عليه وسلم

(1)

(ولا) رضا (المضمون عنه) قال في "المبدع": بغير خلاف نعلمه؛ لحديث أبي قتادة، ولأنه لو قضى الدَّيْن عنه بغير إذنه ورضاه، صح، فكذا، إذا ضَمِن عنه.

(ولا) يُعتبر أيضًا (معرفة الضامن لهما) أي: للمضمون له والمضمون عنه؛ لأنه لا يعتبر رضاهما، فكذا معرفتهما.

(ولا) يُعتبر (كون الحقِّ معلومًا) لأنه التزام حق في الذِّمة من غير

(1)

أخرجه البخاري في الحوالات، باب 3، حديث 2289، وفي الكفالة، باب 3، حديث 2295، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بجنازة ليصلي عليها، فقال: هل عليه من دَيْنٍ؟ قالوا: لا، فصلَّى عليه، ثم أُتي بجنازة أخرى، فقال: هل عليه من دَيْن؟ قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم، قال أبو قتادة: عليَّ دَيْنه يا رسول الله، فصلَّى عليه.

وأخرج الترمذي في الجنائز، باب 69، حديث 1069، والنسائي في الجنائز، باب 67، حديث 1959، وفي البيوع، باب 102، حديث 4706، وفي الكبرى (1/ 637) حديث 2087، وابن ماجه في الصدقات، باب 9، حديث 2407، وعبد الرزاق (8/ 290)، حديث 15258، وابن أبي شيبة (3/ 371)، وأحمد (5/ 297، 301، 302، 304، 311)، وعبد بن حميد (1/ 206)، حديث 190، 191، والدارمي في البيوع، باب 53، حديث 2596، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (10/ 336 - 338) حديث 4146 - 4148، وابن حبان "الإحسان"(7/ 329، 330)، حديث 3058 - 3060، والطبراني في الأوسط (3/ 239) حديث 2512، وابن عبد البر في التمهيد (3/ 240)، عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل ليصلى عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"صلوا على صاحبكم؛ فإن عليه دينًا"، قال أبو قتادة: هو عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بالوفاء"؟ قال: بالوفاء، فصلى عليه. قال الترمذي: حسن صحيح.

ص: 233

معاوضة، فصح في المجهول كالإقرار (ولا) كون الحق (واجبًا، إذا كان مآله) أي: الحق (إلى العلم والوجوب) فيصح ضمان ما لم يجب إذا آل إلى الوجوب؛ لقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}

(1)

، فدلت الآية على ضمان حِمْلِ البعير، مع أنه لم يكن وجب.

لا يقال: الضمان ضَمُّ ذِمةٍ إلى ذِمةٍ، فإذا لم يكن على المضمون عنه شيء فلا ضَمَّ؛ لأنه قد ضَمَّ ذمته إلى ذمة المضمون عنه في أنه يلزمه ما يلزمه، ويثبت في ذمته ما يثبت فيها، وهذا كاف.

(فلو قال: ضَمِنتُ لك ما على فلان) صح (أو) قال: (ما على فلان عليَّ) أو عندي، ونحوه، صح. وهذه من أمثلة المجهول (أو) قال: ضَمِنتُ لك (ما تُداينه به) صح، وهذه من أمثلة ما يؤول إلى الوجوب (أو) قال: ضَمِنتُ لك (ما يُقِرُّ لك به) فلان (أو ما تقوم) لك (به البينةُ) عليه (أو ما يخرجه الحساب بينكما، ونحوه) كضمِنتُ لك ما يقضى به عليه (صح) ذلك. وهذه من أمثلة المجهول أيضًا.

(ومنه) أي: من ضمان ما يجب (ضمان السوق، وهو أن يضمن ما يلزم التاجرَ من دَيْن، وما يقبضه من عين مضمونة، قاله الشيخ

(2)

.

وقال) الشيخ

(2)

: (تجوز كتابته والشهادة به لمن لم يَرَ جوازه؛ لأنه محل اجتهاد) قال

(2)

: وأما الشهادة على العقود المُحرَّمة على وجه الإعانة عليها؛ فحرام.

(واختار) الشيخ

(2)

(صِحةَ ضمان حارس ونحوه، وتجار حَرْب، ما يذهب من البلد والبحر، وأن غايته ضمان ما لم يجب.

(1)

سورة يوسف، الآية:72.

(2)

الاختيارات الفقهية ص/ 195 - 196، ومجموع الفتاوى (29/ 549).

ص: 234

وضمان المجهول كضمان السوق؛ وهو أن يضمن الضامنُ ما يجب على التُّجَّار للناس من الديون، وهو جائز عند أكثر العلماء، كمالك

(1)

وأبي حنيفة

(2)

وأحمد

(3)

.

وقال) الشيخ

(4)

- أيضًا -: (الطائفة الواحدة الممتنعة من أهل الحرب التي ينصر بعضُها بعضًا، تجري مجرى الشخص الواحد في معاهداتهم، وإذا شورطوا على أن تُجارهم يدخلون دار الإسلام بشرط أن لا يأخذوا للمسلمين شيئًا، وما أخذوه كانوا ضامنين له، والمضمون يؤخذ من أموال التُّجَّار، جاز ذلك، ويجب على ولي الأمر، إذا أخذوا مالًا لتُجَّار المسلمين أن يطالبهم بما ضَمِنوه، ويحبسهم على ذلك، كـ) ــسائر (الحقوق الواجبة. انتهى). واقتصر عليه في "المبدع" وغيره.

(ولا تصح الكفالة ببعض الدَّيْن مبهمًا) كجزء منه، أو حظٍّ، أو شيء، لأنه مجهول لا يؤول إلى العلم.

(ولا) تصح الكفالة (بدَيْن السَّلَم، وتقدم

(5)

) ذلك (في بابه) موضحًا.

(وإن قال) إنسان: (ما أعطيته) فلانًا (فهو عليَّ، ولا قرينة) تدلُّ على إرادة ما أعطاه في الماضي، أو ما يعطيه في المستقبل (فهو لما وجب في الماضي) حملًا للفظ على حقيقته، إذ هي المتبادرة منه.

(1)

النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني (10/ 151)، وعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس (2/ 657).

(2)

فتح القدير لابن الهمام (7/ 181).

(3)

مسائل الكوسج (6/ 2977) رقم 2210.

(4)

مختصر فتاوى ابن تيمية ص/ 516، ومجموع الفتاوى (28/ 312).

(5)

(8/ 129).

ص: 235

(وله) أي: الضامن ما لم يجب (إبطال الضمان) فيما يؤول للوجوب (قبل وجوبه) لعدم اشتغال ذمته.

فصل

(ويصح ضمان دَيْن الضامن، نحو أن يضمن الضامنَ ضامنٌ آخر) لأنه دين لازم في ذمته، فصحَّ ضمانه، كسائر الديون (فيثبت الحقُّ في ذمم الثلاثة، أيّهم قضاه برِئت ذِممهم كلها) لأنه حق واحد، فإذا سقط لم يجب مرة أخرى.

(وإن أبرأَ الغريمُ المضمونَ عنه برئ الضامنان) لأنهما تبعه فيبرآن ببراءته (وإن أبرأ) الغريمُ (الضامنَ الأول، برئ الضامنان) الأول؛ لإبراء الغريم، والثاني؛ لأنه فرعه (ولم يبرأ المضمون عنه) لأنه أصل، فلا يبرأ ببراءة فرعه (وإن أبرأ) الغريم الضامن (الثاني برئ وحده) دون الأول، والمضمون عنه؛ لأنهما أصله.

(ومتى حصلت براءة الذِّمة بالإبراء) من الغريم (فلا رجوع فيها) أي: البراءة، فإذا أبرأ المضمون له الضامن، لم يرجع الضامن على المضمون عنه بشيء.

(والكفالة كالضمان في هذا المعنى) لأنها في معنى الضمان.

(ويصح ضمان دَيْن الميت ولو غير مفلس) لأن أبا قتادة ضَمِن دَيْن الميت

(1)

، (ولا تبرأ ذمته) أي: الميت، من الدَّين (قبل القضاء) لقوله صلى الله عليه وسلم:"نفس المؤمن مُعلقة بدينه حتى يُقضى عنه"

(2)

. ولما أخبر أبو قتادة

(1)

تقدم تخريجه (8/ 233) تعليق رقم (1).

(2)

تقدم تخريجه (4/ 40) تعليق رقم (5).

ص: 236

النبي صلى الله عليه وسلم بوفاء الدينارين قال: "الآن بَرَّدْتَ عليهِ جِلدته" رواه أحمد

(1)

، ولأنه وثيقةٌ بدَيْنٍ؛ فلم يسقط قبل القضاء كالرهن.

(و)

‌ يصح (ضمان كل دَيْن، صح أَخْذُ الرهن به)

مما تقدم.

وإذا ضَمِن الضامنَ آخرُ (فإن

(2)

أدَّى الدينَ الضامنُ الأول) بنية الرجوع (رجع على المضمون عنه) لأنه قام عنه بواجب (وإن أدَّاه) الضامن (الثاني وهو ضامنُ الضامن، رجع على الضامن الأول) لأنه أصله (وهو) أي: ثم يرجع الضامن الأول بعد أدائه للثاني (على الأصيل) وهو المضمون عنه؛ لقيامه عنه بواجب، كما تقدم.

(ويصح ضمان المهر قبل الدخول) لأنه يؤول إلى الوجوب، بل وجب بالعقد، ولكن يستقر بالدخول (و) يصح ضمان المهر (بعده) أي: بعد الدخول؛ لاستقراره (ولو) كان ضمان المهر (عن ابنه الصغير كـ) ــابنه (الكبير) أو أجنبي؛ لأنه دَيْن واجب، أو يؤول إليه.

(و) يصح (ضمان عهدة بائع لمشترٍ، بأن يضمن) الضامن (عنه)

(1)

(3/ 330). وأخرجه - أيضًا - الطيالسي ص/ 233 حديث 1673، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (10/ 334) حديث 4145، والدارقطني (3/ 79) والحاكم (2/ 58)، وابن الغطريف في جزئه ص/ 74، حديث 27، وابن حزم في المحلى (8/ 114)، والبيهقي (6/ 74، 75) وفي إثبات عذاب القبر ص/ 93، حديث 138، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 205) حديث 1535 عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر رضي الله عنه به.

قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وصحَّحه النووي في تهذيب الأسماء واللغات (2/ 595)، والحافظ ابن حجر في الأربعين المتباينة السماع ص/ 80، وحسَّن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 591)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 39، 4/ 127). وقال ابن عبد الهادي في المحرر ص/ 320: اختُلف في الاحتجاج بابن عقيل.

(2)

في "ح": "فإذا".

ص: 237

أي: عن البائع (الثمن متى خرج المبيع مستحَقًا، أو رُدَّ) المبيع (بعيب، أو) يضمن (أَرْشَ العيب.

و) يصح ضمان العُهدة (عن مشترٍ لبائع، بأن يضمن الثمن الواجب قبل تسليمه، أو) يضمن الثمن (إن ظهر به عيب، أو استُحِق؛ فضمان العُهدة في الموضعين ضمان الثمن) كله (أو بعضه عن أحدهما للآخر) وهو صحيح عند جماهير العلماء

(1)

، لأن الحاجة تدعو إلى الوثيقة، وهي ثلاثة: الشهادة، والرهن، والضمان، فالأولى لا يستوفى منها الحق، والثانية ممنوعة؛ لأنه يلزم حبس الرهن إلى أن يؤدى، وهو غير معلوم، فيؤدي إلى حبسه أبدًا، فلم يبق غير الضمان، ولأنه لو لم يصح؛ لامتنعت المعاملات مع من لم يُعرف، وفيه ضرر عظيم رافعٌ لأصل الحكمة التي شُرع البيع من أجلها.

(وألفاظ ضمان العُهدة: ضَمنتُ عُهدته، أو ثمنه، أو دَرَكَه، أو يقول) الضامن (للمشتري: ضمنتُ خلاصك منه، أو: متى خرج المبيع مستحقًا، فقد ضمنتُ لك الثمن) فلو ضمن خلاص المبيع، فقال أحمد

(2)

: لا يحلُّ. واختاره أبو بكر؛ لأنه إذا خرج حرًّا، أو مستحقًا لم يستطع خلاصه.

(ولو بنى المشتري) في عقار اشتراه، وضمن له آخر دَرَكَه، ثم ظهر العقار مستحقًا (فنقضه المستحق، فالأنقاض للمشتري) لأنها أعيان ماله (ويرجع بقيمة التالف على البائع) لأنه غرَّه. وقَيَّده الشيخ التقي

(3)

في

(1)

انظر: المغني (7/ 77)، وبدائع الصنائع (6/ 9)، والمدونة (5/ 269)، ونهاية المحتاج (4/ 439).

(2)

المغني (7/ 78).

(3)

الاختيارات الفقهية ص/ 230، وانظر مجمح الفتاوى (29/ 50).

ص: 238

موضع، بما إذا كان عالمًا، وإلا فلا تغرير.

(ويدخل) ما يغرمه المشتري من قيمة التالف، وكذا لو أخذ منه الأجرة (في ضمان العُهدة في حَقِّ ضامنها) فللمشتري الطلب بما غَرَّمه من ذلك على الضامن للعُهدة.

(ولو خاف المشتري فسادَ البيع بغير استحقاقِ المبيعِ) كدعوى البائع صغرًا، أو إكراهًا، أو نحوهما (أو) خاف أحدهما (كون العِوض معيبًا، أو شَكَّ) المشتري (في كمال الصَّنجة) التي تَسلَّم بها المبيع، وكذا المكيال (أو) شَكَّ البائع في (جودة جنس الثمن، فضمِن) الضامن (ذلك صريحًا، صح) ضمانه له (كضمان العُهدة) لأنه يرجع إليه.

(ويصح ضمان نقص الصَّنجة ونحوها) كالمكيال (يرجع) القابض بما نقص، وإذا اختلفا في قَدْرِ النقص، أخذ (بقوله مع يمينه) لأنه منكِرٌ لقبض ما ادَّعاه خصمه، والأصل عدمه. وإن باعه شيئًا بشرط ضمان دَرَكه إلا من زيد، ثم ضَمِن دَركَه منه - أيضًا - لم يعد صحيحًا، ذكره في "الانتصار"، وجزم به في "المنتهى".

(وولد المقبوض على وجه السَّوم كهو) أي: كالمقبوض على وجه السَّوم، في الضمان وعدمه، على التفصيل الآتي؛ لأنه فَرْعه.

(ولا يصح ضمان دَيْنِ الكتابة) لأنه ليس بلازم، ولا مآله إلى اللزوم؛ لأن المُكاتَب له تعجيز نفسه والامتناع من الأداء، فإذا لم يلزم الأصل فالفرع أولى.

(ولا) يصح أيضًا (ضمان الأمانات، كالوديعة، والعين المؤجرة، و) مال (الشركة، والمضاربة، والعين المدفوعة إلى الخياط والقصَّار ونحوها) لأنها غير مضمونة على من هي في يده، فكذا على ضامنه. وفي

ص: 239

"عيون المسائل": لأنه لا يلزمه إحضارها، وإنما على المالك أن يقصد الموضع فيقبضها (إلا أن يضمن التعدي فيها) أي: الأمانات، فيصح الضمان؛ لأنها إذن مضمونة على من هي في يده، أشبهت الغصوب.

(ويصح ضمان الأعيان المضمونة كالغصوب والعواري، والمقبوض على وجه السَّوم من بيعٍ) أي: لببع (وإجارة) لأنها مضمونة على من هي في يده، فهي كالحقوق الثابتة في الذِّمة، وضمانها في الحقيقة ضمان استنقاذها وردها، أو قيمتها عند تلفها، فهي كعُهدة المبيع (فلو ضَمِن) الضامن (مقبوضًا على وجه سوم) صحَّ، وذلك (بأن يساوم) المضمون عنه (إنسانًا على عين، ويقطع ثمنها) أو أجرتها (أو لم يقطعه، ثم يأخذها ليريها أهله فإن رضوها) أخذها (وإلا ردَّها) لربها، فإذا قبضه كذلك (ضمنه) أي: ضمن القابضُ المقبوضَ على وجه السوم (إذا تلف) فيهما مطلقًا؛ لأنه مقبوض على وجه البدل والعوض، فهو كمقبوض بعقد فاسد (وصح ضمانُهُ فيهما) أي: في البيع والإجارة لما سبق (إلا إنْ أخذه) أي: أخذ إنسان شيئًا (بإذن رَبِّه ليريه) الآخذ (أهله، فإن رضوه أخذه، وإلا ردَّه من غير مساومة ولا قَطْع ثمن، فلا يضمنه) الآخذ (إذا تلف بغير تفريط) لأنه ليس مقبوضًا على وجه سوم؛ لعدم السوم (ولا يصح ضمانه) لأنه أمانة، إلا أن يضمن التعدِّي فيه على ما سبق.

(قال الشيخ: لو تغيَّب مضمون عنه - أطلقه) الشيخ

(1)

(في موضع، وقيَّده) الشيخ

(2)

(في) موضع (آخر: بقادر على الوفاء - فأمسك) ربُّ الحقِّ (الضامن وغرم) الضامن (شيئًا بسبب ذلك) أي: تغيَّب المضمون

(1)

مجموع الفتاوى (29/ 550).

(2)

الاختيارات الفقهية ص/ 195.

ص: 240

عنه (وأنفقه) الضامن (في الحبس، رجع) الضامن (به) أي: بما غرمه وأنفقه في الحبس (على المضمون عنه) قال في "الإنصاف": وهو الصواب الذي لا يُعدل عنه. انتهى؛ لأنه تسبب في غرمه. لكن قال في "شرح المنتهى": إذا ضمنه بإذنه، وإلا فَلِمَ يتسبب في ظلمه؟! (ويأتي) ذلك (أول) باب (الحَجْر) موضَّحًا.

(ويصح ضمان الجُعْل في الجعالة، و) الجُعْل (في المسابقة، و) الجُعل في (المناضلة) ولو قبل العمل (لأنه) أي: الجُعْل (يؤول إلى اللزوم إذا عمل العمل، لا ضمان العمل فيها) أي: في الجعالة والمسابقة والمناضلة؛ لأنه لا يؤول إلى اللزوم.

(ويصح ضمان أرْش الجناية، نقودًا كانت) الأروش (كقيم المتلَفَات، أو حيوانًا كالديات) لأنها واجبة، أو تؤول إلى الوجوب.

(ويصح ضمان نفقة الزوجة، مستقبلة كانت أو ماضية) لما تقدم (ويلزمه) أي: الضامن (ما يلزم الزوج) على ما يأتي (ولو زاد على نفقة المُعسِر) من نفقة الموسر أو المتوسط؛ لأنه فَرْعُه. وقال القاضي: إذا ضمن النفقة المستقبلة، لزمه نفقة المعسر؛ لأن الزيادة على ذلك تسقط بالإعسار.

فصل

(وإن قضى الضامن الدَّيْن، أو أحال) الضامن (به) أي: بالدَّيْن (متبرِّعًا، لم يرجع) الضامن (بشيء) سواء (ضَمِنه بإذنه، أو بغير إذنه) لأنه متطوِّع بذلك، أشبه الصدقة.

(و) إن قضاه الضامن، أو أحال به (ناويًا الرجوع، يرجع) على

ص: 241

المضمون عنه؛ لأنه قضاء مبرئ من دَيْنٍ واجب، فكان من ضمان من هو عليه، كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه، فكان له الرجوع، وسواء قبض الغريم من المحال عليه، أو أبرأه، أو تعذَّرَ عليه الاستيفاء لفَلَس أو مَطْل؛ لأن نفس الحوالة كالإقباض (ولو كان الضمان والقضاء) بغير إذن المضمون عنه (أو) كان (أحدهما) أي: القضاء أو الضمان (بغير إذن المضمون عنه) وأجاب في "المغني" و"الشرح" عن قضية أبي قتادة رضي الله عنه

(1)

: بأنه تبرُّعٌ بالضمان والقضاء؛ قَصْدًا لتبرئة ذمته - أي: الميت - ليصلِّي صلى الله عليه وسلم عليه، مع علمه بأنه لم يترك وفاءً.

(وإن لم ينوِ) الضامن حال القضاء أو الحوالة (رجوعًا ولا تبرُعًا، بل ذَهَل عن قصد الرجوع وعدمه، لم يرجع) الضامن على المضمون عنه بشيء كالمتبرِّع؛ لعدم قصده الرجوع.

(وكذا حكم من أدَّى عن غيره دينًا واجبًا) كفيلًا كان، أو أجنبيًّا، إن نوى الرجوع رجع، وإلا؛ فلا.

(لا) من أدَّى (زكاةً ونحوها) كنذر وكفَّارة، وكل ما افتقر إلى نية، فلا رجوع له، ولو نوى الرجوعَ؛ لأنه لا يبرأ المدفوع عنه بذلك؛ لعدم النية منه.

(ويرجع الضامن) وكل من أدَّى عن غيره دينًا واجبًا بنية الرجوع، حيث قلنا: يرجع (بأقل الأمرين مما قضى) به الدَّين (حتى قيمة عَرْض عوَّضه) لربِّ الدَّيْن (به، أو قدْرِ الدَّين) لأنه إن كان الأقل الدين، فالزائد لم يكن واجبًا عليه، فهو متبرِّع بأدائه، وإن كان المقضي أقلَّ، فهو إنما يرجع بما غرم، ولهذا لو أبرأه غريمه، لم يرجع بشيء.

(1)

تقدم تخريجه (8/ 233) تعليق رقم (1).

ص: 242

(وللضامن مطالبة المضمون عنه بتخليصه قبل الأداء إذا طُولب به) أي: الدَّيْن (أن كان ضمن بإذنه) لأنه شغل ذمته من أجله بإذنه، فلزمه تخليصها، كما لو استعار عبده فرهنه بإذنه، فإنَّ عليه تخليصه إذا طلبه ربُّه (وإلا) بأن لم يطالب، أو كان ضمنه بغير إذنه (فلا) يلزمه تخليصه؛ لأنه إذا لم يأذن له، فهو الذي أدخل الضرر على نفسه، وإن أذن له ولم يطالبه ربُّ الحق، فلا ضرر عليه يزيله.

(لكن إن أدَّى) الضامن (الدَّين) بنيَّة الرجوع (فله) أي: الضامن (المطالبة) على المضمون عنه (بما أدَّى) عنه، لما سبق.

(وإذا كان له ألف على رجلين، على كلِّ واحد منهما نصفه) أي: الألف أصالة (وكل واحد منهما) أي: من الرجلين (ضامن عن صاحبه) ما عليه (فأبرأ الغريمُ أحدهما من الألف برئ منه) أي: من الألف؛ لأن الإبراء صادف ما عليه أصالة وضمانًا (وبرئ صاحبه من ضمانه) لبراءة الأصل، فيبرأ الفرع (وبقي عليه) أي: على صاحبه (خمسمائة) وهي ما كان عليه أصالة؛ لأنه لم يوجد ما يسقطها عنه.

(وإن قضاه) أي: ربَّ الحق (أحدهما) أي: أجد الرجلين (خمسمائة، أو أبرأه) أي: أحدهما (الغريمُ منها) أي: من خمسمائة (وعيَّن) الذي قضى (القضاء) أو عيَّن المبرئ ما أبرأ منه (بلفظه) بأن قال: هذا قضاء عن الأصل أو الضمان (أو) عيَّنه بـ (ــنيته) بأن نواه (عن الأصل أو الضمان، انصرف إليه) أي: إلى ما عيَّنه من الأصل أو الضمان، كمن وجبت عليه زكاة نصابين، وأدَّى قدْر زكاة أحدهما، وعيَّنه.

(وإن أطلق) القاضي أو المبرئ اللفظ والنية، فلم يعينهما (صرفه)

ص: 243

أي: ما قضاه، أو أبرأ منه (إلى ما شاء منهما) أي: من الأصل والضمان (كما تقدم) في الرهن والزكاة إذا وجبت عليه لنصابين.

(والمعتبر في القضاء: لفظ القاضي ونيته) وصَرْفه (وفي الإبراء: لفظ المبرئ، ونيته) وصَرْفه، كما تقدم.

(ومتى اختلفوا في ذلك، فالقول قول من اعتُبر لفظه ونيته) وصَرْفه؛ لأنه أدرى بما صدر منه.

(وإن ادَّعى ألفًا على حاضر وغائب، وأن كلًّا منهما ضامن عن صاحبه) ما عليه (فإن اعترف الحاضر بذلك) أي: بأن عليهما الألف، وبالضمان (فله) أي: للمدَّعي (أخذ الألف منه) لاعترافه له به أصالة وضمانًا (فإذا قدم الغائب واعترف) بذلك (رجع عليه صاحبه بنصفه) الذي أدَّاه عنه، إن نوى الرجوع (وإن أنكر) الغائب ذلك (فقوله مع يمينه) مع عدم البينة؛ لأن الأصل براءته.

(وإن كان الحاضر أنكر) ذلك (فقوله مع يمينه) لحديث: "البينة على المدَّعي واليمينُ على من أنكر"

(1)

.

(فإن قامت عليه بينةٌ) بالدعوى (فاستوفى) المُدَّعي (الألف منه، لم

(1)

أخرجه ابن أبي عاصم في الديات ص/ 40، والبيهقي (10/ 252) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وحسَّنه ابن الصلاح في مشكل الوسيط (7/ 402 - بهامش الوسيط للغزالي)، والنووي في الأربعين النووية ص/ 62، وابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/ 226)، وصحَّح إسناده الحافظ في البلوغ (1408)، وحسَّنه في الفتح (5/ 383)، وجوَّد إسناده المناوي في فيض القدير (5/ 334).

والحديث أخرجه البخاري في التفسير، باب 3، حديث 4552، ومسلم في الأقضية، حديث 1711 عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعَى عليه.

ص: 244

يرجع) الغارم (على الغائب بشيء) لإقراره أن لا حقَّ عليهما، وإنما المُدَّعي ظلمه (فإن اعترف الغائب) بما عليه (ورجع الحاضر عن إنكاره فله) أي: للحاضر (الاستيفاء منه) أي: الرجوع على الغائب بما غَرِمه عنه؛ لأنه يدَّعي عليه حقًّا يعترف له به.

(وإن لم تَقُمْ على الحاضر بينةٌ) بما ادُّعي عليه من الألفِ أصالةً وضمانًا (حلف) لأنه منكِرٌ (وبرئ) أي: انقطعت الخصومة بينه وبين المُدَّعي.

(فإذا قَدِم الغائب، فإن أنكر) ما كان ادُّعي به عليه من الأصالة والضمان (وحلف) لأنه منكِرٌ (برئ) أي: انقطعت الخصومة معه (وإن اعترف) بالدعوى (لزمه دَفْع الألف) مؤاخذة له باعترافه، ولا رجوع له على الحاضر إلا ببينة، أو إقرار من الحاضر بعد.

(وإن ادَّعى الضامن أنه قضى الدَّين) عن المضمون (وأنكر المضمون له) ذلك (ولا بينة) للضامن بالقضاء (وحلف) المضمون له أن الضامن لم يقضِه (لم يرجع ضامن على مضمون عنه) ولو أذنه

(1)

إلا في قضاء مبرئٍ، ولم يوجد، وللمضمون له مطالبة الضامن والأصيل (ولو صدَّقه) أي: صدَّق المضمون عنه الضامن؛ لأن المانع من الرجوع تفريط الضامن من حيث إنه قضى بغير بينة، وذلك مشتركٌ بين التصديق والتكذيب، فإذا استوفى مضمون له الحقَّ بعد ذلك من الضامن، رجع على المضمون عنه بما قضاه عنه ثانيًا؛ لبراءة: ذمته به ظاهرًا، قاله القاضي، ورجَّحه في "المغني" و"الشرح" وفيه وجهٌ: يرجع بالأول؛ للبراءة به باطنًا (إلا أن يكون) قضاء الضامن الدَّين (بحضرته)

(1)

زاد بعده في "ح"، و"ذ":"لأنه لم يأذنه".

ص: 245

أي: حضرة المضمون عنه، فللضامن الرجوع على المضمون؛ لأنه هو المفرِّط بترك الإشهاد (أو) إلا أن يكون القضاء (بإشهاد) بأن أشهد الضامن بينة عادلة، فله الرجوع (- ولو مات الشهود أو غابوا - إن صدَّقه المضمون عنه) أنه أشهد (أو ثبت) لأن الضامن لم يُقصِّر ولم يُفرِّط.

وإن كانت البينة مردودة بأمر ظاهر كالكفر والفسق الظاهر، لم يرجع الضامن مطلقًا؛ لتفريطه، وإن رُدَّت بأمر خفي كالفسق الباطن، أو لكون الشهادة مختلَفًا فيها، كشهادة العبيد، فاحتمالان، وكذا شاهد واحد.

(وإن اعترف المضمون له بالقضاء) أي: بالاستيفاء من الضامن (وأنكر المضمون عنه، لم يسمع إنكاره) لأن ما في ذمته حق المضمون له، فإذا اعترف بالقبض من الضامن، فقد اعترف بأن الحقَّ الذي له صار للضامن: فيجب أن يقبل إقراره؛ لكونه إقرارًا في حق نفسه.

(وإن قضى) الضامن الدَّيْن (المؤجَّل قبل أجله، لم يرجع) على المضمون عنه (حتى يحل) أجله؛ لأنه لا يجب له أكثر مما كان للغريم؛ ولأنه متبرِّع بالتعجيل، فلم يرجع قبل الأجل، كما لو قضاه أكثر من الدَّيْن.

(وإن مات المضمون عنه، أو الضامن، لم يحلَّ الدَّيْن) لأن التأجيل حق من حقوق الميت، فلم يبطل بموته كسائر حقوقه (وإن ماتا) أي: الضامن والمضمون عنه (فكذلك) أي: لم يحلَّ الدَّيْن، كما تقدم (إن وثق الورثة) برهن يُحرز، أو كفيل مليء بأقل الأمرين من الدَّيْن أو التركة (وإلا) بأن لم توثق الورثة (حلَّ) الدَّيْن، لما يأتي في الحَجْر.

(و‌

‌يصح ضمان الحالِّ مؤجَّلًا)

نص عليه

(1)

؛ لحديث رراه ابن

(1)

المغني (7/ 82).

ص: 246

ماجه

(1)

عن ابن عباس مرفوعًا، ولأنه التزمه مؤجلًا بعقد، فكان مؤجلًا كالبيع. لا يقال: الحالُّ لا يتأجل، وكيف يثبت في ذمتيهما مختلفًا؛ لأن الحق يتأجل في ابتداء ثبوته بعقد، وهنا كذلك؛ لأنه لم يكن ثابتًا عليه حالًّا.

ويجوز تخالف ما في الذمتين (فلصاحب الحق مطالبة المضمون عنه في الحال دون الضامن) فلا يطالبه حتى يحلَّ أجله (وإن ضَمِنَ المؤجل حالًّا، صح) الضمان، ولم يصر حالًّا (ولم يلزمه) أي: الضامن (قبل أجله) لأن الضامن فرع المضمون عنه، فلا يستحق مطالبته دون أصله.

والفرق بينها وبين التي قبلها: أن الحالَّ ثابتٌ مستحق القضاء في جميع الزمان، فإذا ضمنه مؤجلًا، فقد التزم بعض ما يجب على المضمون عنه، فصح، كما لو كان الدَّيْن عشرة، فضمن خمسة، وأما المؤجَّل فلا يستحق قضاؤه إلا عند أجله، فإذا ضمنه حالًّا، التزم ما لم يجب، كما لو كان الدَّيْن عشرة، فضمن عشرين.

(1)

في الصدقات، باب 49، حديث 2406: أن رجلًا لزم غريمًا له بعشرة دنانير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي شيء أعطيكه، فقال: لا والله لا أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل، فجرَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كم تستنظره؟ فقال: شهرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنا أحمل له، فجاءه في الوقت الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين أصبت هذا؟ قال: من معدن، قال: لا خير فيها، وقضاها عنه. وأخرجه - أيضًا - أبو داود في البيوع والإجارات، باب 2، حديث 3328، وعبد بن حميد (1/ 518)، حديث 594، والطبراني في الكبير (11/ 218) حديث 11547، والحاكم (2/ 10)، وابن حزم في المحلى (8/ 116)، والبيهقي (6/ 74).

قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وضعَّفه ابن حزم.

ص: 247

فصل

(الكفالة) صحيحة؛ لقوله تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}

(1)

، ولأن الحاجة داعيةٌ إلى الاستيثاق بضمان المال أو البدن، وضمان المال يمتنع منه كثيرٌ من الناس، فلو لم تجز الكفالة بالنفس، لأدَّى إلى الحَرَجِ، وعدم المعاملات المُحتاج إليها.

وهي (التزامُ رشيدٍ) - ولو مفلسًا - (برضاه إحضار مكفول به) لأن العقد في الكفالة واقع على بدن المكفول به، فكان إحضاره هو المُلتَزَم به كالضمان وقوله:(تعلق به حقٌّ مالي) صفة لـ "مكفول به" ويأتي محترزه وقوله (إلى مكفول له) متعلق بـ "إحضار" ولو قال: إحضار من عليه حق مالي إلى ربه، لكان أخصر وأولى؛ لأنه لا دور فيه (حاضرًا كان المكفول به أو غائبًا).

وتصح إن كَفَلَ (بإذنه وبغير إذنه) كالضمان (ولو) كان المكفول به (صبيًّا أو مجنونًا، ولو بغير إذن وليهما) لأنه قد يلزم إحضارهما مجلس الحكم، ولذلك قال:(ويصح إحضارهما مجلس الحكم للشهادة عليهما بالإتلاف) أي: إتلاف نفس أو مال؛ لأنهما يضمنان الجناية وإتلاف ما لم يدفع إليهما.

(وتنعقد) الكفالة (بألفاظ الضمان) السابقة

(2)

(كلها) نحو: أنا

(1)

سورة يوسف، الآية:66.

(2)

(8/ 227).

ص: 248

ضمين ببدنه، أو زعيم به.

(وإن ضَمِن) الضامن (معرفته) أي: معرفة إنسان، بأن جاء إنسان إلى آخر يستدين منه، فقال له: أنا لا أعرفك، لا أعطيك، فضمن له إنسان معرفته، فداينه، ثم غاب المستدين أو توارى (أُخِذَ) بالبناء للمفعول، أي: ضامن المعرفة (به) أي: بالمستدين. قال أحمد في رواية أبي طالب

(1)

فيمن ضَمِنَ لرجل معرفة رجل، أُخِذَ به، فإن لم يقدر، ضمن.

(و) قال الشيخ التقي في "شرح المحرر"

(2)

: ضمان المعرفة (معناه: إني أعرِّفك من هو، وأين هو) وقال ابن عقيل في "الفصول" بعد حكايته لنص الإمام المذكور: وهذا يعطي أن أحمد جعل ضمان المعرفة توثقة لمن له المال، فـ (ــكأنه قال: ضَمِنتُ لك حضورَه) متى أردت؛ لأنك أنت لا تعرفه، ولا يمكنك إحضار من لا تعرفه، فأنا أعرفه فأحضره لك متى أردت، فصار كقوله: تكفَّلت ببدنه. انتهى. فيُطالب ضامن المعرفة بإحضاره، فإن عَجَزَ عن إحضاره مع حياته، لزمه ما عليه لمن ضَمِنَ معرفته له.

وقوله: (فإن لم يعرِّفه) من هو وأين هو؟ (ضمن) ما عليه (وإن عَرَّفه) ذلك (فليس عليه أن يُحضره) هذا تتمة كلام الشيخ التقي مفرَّعًا على ما اختاره

(3)

.

(1)

الفروع (4/ 253).

(2)

كتاب شرح المحرر لشيخ الإسلام ابن تيمية لم يطبع، وقد نسبه إليه جماعة، انظر: معجم مصنفات الحنابلة (3/ 471).

(3)

الاختيارات الفقهية ص/ 196.

ص: 249

قال: وظاهر هذه الرواية - أي: رواية أبي طالب المذكورة - لا يُخالف ذلك، بل يوافقه؛ لأنه قد قال: غَرَّه. وأما قوله: فإن لم يَقدِرْ عليه، فيحتمل: لم يقدِرْ على إحضاره، ويحتمل: على تعريفه. انتهى. والاحتمال الثاني: ردَّه في "شرح المنتهى" بأربعة أوجهٍ، وأحسن في الرَّدِّ، وقد علمت ما في كلام المصنف وخلطه أحد القولين بالآخر، وجعل المفرَّع على الأول مفرَّعًا على الثاني.

(وتصح) الكفالة (ببدن من عليه دَيْنٌ لازم) أو يؤول إلى اللزوم، غير جزية ودين سَلَمٍ. وتقدم

(1)

. وأشار إليه بقوله: (يصح ضمانه) ولو حذف "لازم" لكان أوضح (معلومًا كان الدَّين) المكفول بدن من هو عليه (أو مجهولًا) إذا كان يؤول إلى العلم. وتقدم

(2)

، وقوله:(مِن كلِّ من يلزمه الحضور إلى مجلس الحكم) بيان لمن عليه دَيْن، واحتُرز به عن الأب، فلا تصح كفالته لولده؛ لأنه لا تُسمع دعواه عليه بغير النفقة الواجبة، فلا يلزمه الحضور لمجلس الحكم (ولو) كان من عليه الدَّيْن (محبوسًا) بحبس الشرع (لكون المحبوس يمكن تسليمه بأمر الحاكم) لربِّ الحق (ثم يعيده) الحاكم (إلى الحبس بالحقَّين جميعًا) ويبرأ الكفيل كما يأتي.

(وإن كان) المكفول (محبوسًا عند غير الحاكم لم يلزمه) أي المكفول له (تسليمه) أي: تسلمه (محبوسًا) بدليل قوله: (لأن ذلك الحبس يمنعه استيفاء حقه) فلا أثر لتسلمه، بخلاف المحبوس عند الحاكم، كما تقدم.

(1)

(8/ 129، 226، 235).

(2)

(8/ 233 - 234).

ص: 250

(و‌

‌تصح) الكفالة (بالأعيان المضمونة، كالغصوب والعواري)

لأنه يصح ضمانها.

(ولا تصح) الكفالة (بالأمانات) كالوديعة، والشركة، والمضاربة (إلا) إن كفله (بشرط التعدِّي) فيها، فيصح، كما تقدم في الضمان

(1)

.

(ولا) تصح الكفالة (بزوجةٍ لزوجها، ولا بشاهد ليشهد له) لأن الذي عليهما أداؤه ليس بمالي، ولا يمكن استيفاؤه من الكفيل.

(ولا) تصح الكفالة (إلى أجلٍ مجهول، ولو في ضمان) أي: لا يصح الضمان إلى أجل مجهول (كـ) ــقوله: ضمنته أو كفلته إلى (مجيء المطر وهبوب الرياح) فلا يصحان (لأنه ليس له وقت يستحقُّ مطالبته فيه) بما ضمنه أو كَفَله.

(وإن جعله) أي: الضمان أو الكفالة (إلى الحصاد، أو الجذاذ) أو العطاء (فكأجَلٍ في بيع) لا يصح على المقدم (والأولى صحته هنا) لأنه تبرُّعٌ من غير عوض جُعل له أجل لا يمنع من حصول المقصود منه؛ فصح كالنذر، وهكذا كل مجهول لا يمنع مقصود الكفالة، قاله الموفق والشارح.

(ولا تصح) الكفالة (ببدن مَن عليه حَدٌّ، أو قصاص لإقامة الحَدِّ؛ لأنه لا يجوز استيفاؤه من الكفيل، كحدِّ زنىً وسرقة وقَذْف) وشرب (إلا) إذا كَفَلَ بدنه (لأَجْلِ مالٍ بالدفع) أي: بالعفو إلى الدِّية ليدفعها (و) إلا إذا ضمن السارق بسبب (غرم السرقة) أي: المسروق، فتصح؛ لأنه حق مالي.

(ولا تصح) الكفالة (بغير معين، كـ) ــكفلت (أحد هذين)

(1)

(8/ 239 - 240).

ص: 251

المدينين؛ لأن المكفول غير معلوم في الحال ولا المآل؛ فلا يمكن تسليمه.

(ولا) تصح الكفالة (بالمُكاتَب من أجل دَيْنِ الكتابة) لأن الحضور لا يلزمه؛ إذ له تعجيز نفسه. وعُلم منه: أنه تصح كفالته بغير دَيْنِ الكتابة.

(وإن كَفَلَ) إنسان (بجزءٍ شائع من إنسان، كثلثه وربعه ونحوهما) كخمسه وجزء من ألف جزء منه (أو) كَفَلَ بـ (ــعضو منه، كوجهه ويده ورجله ونحوه) كرأسه، وكبده (أو) كَفَلَ بـ (ــروحه أو نفسه) صحَّت الكفالة؛ لأنه لا يمكنه إحضاره إلا بإحضار الكل، والنفس تستعمل بمعنى الذات.

(أو كَفَلَ بإنسان على أنه إن جاء به وإلا، فهو كفيل بآخر) وعيَّنه (أو) فهو (ضامن ما عليه) من المال صحَّت الكفالة؛ لأن تعليق الكفالة والضمان على شرط صحيح يصح كضمان العهدة.

(أو) قال: (إذا قَدِمَ) الحاج، فأنا كفيل بفلان شهرًا، صح) ذلك؛ لأنها جمعت تعليقًا وتوقيتًا، وكلاهما صحيح مع الانفراد؛ فكذا مع الاجتماع.

(ولو قال: كَفَلتُ ببدن فلان على أن يُبرئ فلانٌ) أي: زيد مثلًا (الكفيل، أو) قال: كفلت بفلان (على أن يُبرئه) أي: يبرئ المكفول عنه الكفيل (من الكفالة، فَسَدَ الشرطُ والعقدُ) لأنه شرط فسخ العقد في عقد، فلم يصح، كالبيع بشرط فسخ بيع آخر.

(وكذا لو قال: كفلتُ لك بهذا الغريم على أن تبرئني من الكفالة بفلان) الآخر (أو) قال: (ضمنتُ لك هذا الدَّين على أن تبرئني من ضمان

ص: 252

الدَّين الآخر، أو) قال: ضَمِنتُ لك هذا الدَّين (على أن تبرئني من الكفالة بفلان) فيفسد الشرط والعقد لما تقدم.

(وكذا لو شرط في الكفالة، أو الضمان أن يتكفَّل المكفولُ به) أو المضمون (بآخر) بأن قال: أنا كفيل بفلان على أن يتكفل لي بفلان، أو يضمنه لي، أو أنا ضامن ما على فلان على أن يتكفَّل لي بفلان، أو يضمنه لي (أو) كَفَلَ، أو ضمن على أن (يضمن) المكفول به أو المضمون عنه (دَينًا عليه) أي: على الكفيل أو الضامن، (أو) كَفَلَ أو ضمن على أن (يبيعه) المكفول به أو المضمون عنه (شيئًا عيَّنه) الكفيل أو الضامن (أو) على أن (يؤجره داره ونحوه) كعلى أن يهبه كذا، فلا يصح الضمان ولا الكفالة في ذلك كله؛ لأنه من قبيل "بيعتين في بيعة" المنهي عنه

(1)

.

(ولا تصح) الكفالة (إلا برضا الكفيل) لأنه لا يلزمه الحق ابتداءً إلا برضاه.

(ولا يُعتبر رضا مكفول له) لأنها وثيقة لا قَبْضَ فيها، فصحَّت من غير رضاه كالشهادة (ولا) يُعتبر - أيضًا - رضا (مكفول به) كالضمان.

"تتمة": إذا قال شخص لآخر: اضمنْ عن فلان، أو اكفلْ عنه، ففعل، كان الضمان والكفالة لازمين للمُباشِرِ دون الآمر؛ لأنه كَفَلَ باختيار نفسه، وإنما الأمر للإرشاد، فلا يلزم به شيء.

(وتصح) الكفالة (حالَّة ومؤجَّلة، كالضمان والثمن) في البيع (فإن أطلق) كقوله: أنا كفيل ببدن فلان (كانت حالَّةً، كالضمان) إذا أطلق يكون حالًّا (لأن كلَّ عَقْدٍ يدخله الحلول) كالثمن في البيع، والأجرة والصداق (اقتضى إطلاقه الحلول، فإن عيَّن) الكفيل (تسليمه) أي:

(1)

تقدم تخريجه (7/ 359) تعليق رقم (1).

ص: 253

المكفول به (في مكانٍ لزمه تسليمه فيه) وفاءً بالشرط، كالمُسلَم فيه.

(وإن وقعت الكفالة مطلقة) بأن لم يعين موضعًا لتسليمه (وجب تسليمه مكان العقد كالسَّلَم.

وإذا تكفَّل) كفيل بإحضاره، أي: المكفول به (حالًّا؛ فله) أي: المكفول له (مطالبته) أي: الكفيل (بإحضاره) حالًا؛ لأنه مقتضى العقد كما سبق.

(فمتى أحضره) الكفيل (مكان العقد لتعيينه) أي: تعيين مكان العقد (فيه) أي: في العقد (أو) أحضره مكان العقد (لكون الكفالة وقعت مطلقة) لم يعيَّن فيها موضع التسليم؛ برئ الكفيل؛ لأنه عَقْدٌ على عمل، فبرئ منه بالعمل المعقود عليه كإجارة.

(أو أحضره) الكفيل (في مكان عيَّنه غيره) أي: غير مكان العقد (بعد حلول

(1)

الكفالة) برئ الكفيل لما سبق.

(أو أحضر) الكفيل (قبله) أي: قبل أجل الكفالة (و) الحال أنه (لا ضرر) على المكفول له (في قبضه، وسلَّمه) الكفيل للمكفول له، برئ، لما سبق.

(أو سلَّم مكفول به نفسه في محله) أي: محل التسليم وأجله (برئ) الكفيل، كما لو قضى المضمون عنه الدَّين.

ويبرأ الكفيل بتسليم المكفول به (ولو لم يقل: قد برئت إليك منه، أو قد سلَّمته إليك، أو قد أخرجت نفسي من كفالته) خلافًا لابن أبي موسى؛ لأنه قد وفى بما عليه من العمل، كالأجير.

ومحل براءة الكفيل بتسليمه (ما لم تكن هناك يد حائلة ظالمة) تمنعه منه؛ لأنه لا يحصُل له غرضه.

(1)

في "ح" و"ذ" والإقناع (2/ 353) زيادة: "أجل".

ص: 254

(وإن أحضره) أي: أحضر الكفيلُ المكفولَ به (وامتنع) المكفول له (من تسلُّمه) بلا ضرر (برئ) الكفيل (ولو لم يُشهِد على امتناعه) أي: المكفول له (من تسلُّمه) وقال القاضي: يرفعه إلى الحاكم فيسلمه إليه، فإن لم يجده أشهد.

(وإن كانت الكفالة مؤجلة، لم يلزمه) أي: الكفيل (إحضاره قبل أجلها) كسائر الحقوق المؤجلة.

(قال الشيخ

(1)

: إن كان المكفول في حبس الشرع، فسلَّمه) الكفيل (إليه فيه) أي: في الحبس (برئ) الكفيل (ولا يلزمه إحضاره منه) أي: الحبس (إليه عند أحد من الأئمة، ويمكِّنه الحاكم من الإخراج

(2)

؛ ليحاكم غريمه، ثم يرده) إلى الحبس.

(وإن مات مكفول به) برئ الكفيل (سواء توانى الكفيل في تسليمه حتى مات أو لا) لأن الحضور سقط عنه، فبرئ كفيله، كما لو أُبْرِئ من الدَّين، وفارق ما إذا غاب، فإن الحضور لم يسقط عنه.

ولو قال الكفيل في الكفالة: إن عَجَزت عن إحضاره، أو متى عَجَزت عن إحضاره، كان عليَّ القيام بما أقرَّ به، فقال ابن نصر الله: لم يبرأ بموت المكفول، ولزمه ما عليه. قال: وقد وقعت هذه المسألة وأفتيت فيها بلزوم المال.

(أو تلفت العين المكفول يها) ولو عارية ونحوها، كما يعلم من كلامه في "تصحيح الفروع" (بفعل الله تعالى قبل المطالبة بها؛ برئ

(1)

مجموع الفتاوى (29/ 554).

(2)

في مجموع الفتاوى (29/ 554): وللحاكم أن يخرجه عن الحبس حتى يحاكم غريمه، ثم يعيده إليه.

ص: 255

الكفيل) لأن تلفها بمنزلة موت المكفول به، وظاهره: أنها إذا تلفت بفعل آدمي لم يبرأ الكفيل، وعلى المتلِف بدلُها.

(لا بموت الكفيل) فلا يبرأ الكفيل بموته (فيؤخذ من تركته ما كَفَلَ به) يعني: حيث تعذَّر إحضار المكفول به، كما لو مات الضامن.

(فإن كان) ما على المكفول به (دَيْنًا مؤجَّلًا فوثق ورثته) أي: الكفيل (برهن) يُحرز (أو ضمين) مليء، لم يحل الدَّين قبل أجله (وإلا) يوثقوا بذلك (حلَّ) الدَّين، لما يأتي في الحَجْر.

(ولا) يبرأ الكفيل (بموت المكفول له) كالضمان (وورثته) أي: ورثة المكفول له (كهو في المطالبة) للكفيل (يإحضاره) أي: المكفول به، لانتقال الحق إليهم، كسائر حقوقه.

(وإن ادَّعى الكفيل) بالمال أو البدن (براءة المكفول به من الدَّين وسقوط الكفالة) لم يقبل منه بغير بينة؛ لأن الأصل عدم ذلك (أو قال) الضامن أو الكفيل: (لم يكن عليه) أي: على المضمون عنه، أو المكفول به (دَيْن حين) ضمنته أو (كفلته، فقول) المضمون له و (المكفول له مع يمينه) لأن الأصل صحة الكفالة والضمان، فإن نكل قُضي عليه بالنكول.

وإذا

(1)

مات المديون فأبرأه ربُّ الدَّيْن، فلم تقبل ورثته؛ برئ مع كفيله.

(وإذا

(1)

طالب الكفيلُ المكفولَ به بالحضور معه) لربِّ الحق (لزمه ذلك، إن كانت الكفالة بإذنه) ولو لم يطالبه به ربُّ الحق؛ لأنه شغل ذمته من أجله بإذنه؛ فلزمه تخليصه، كما لو استعار منه عبده ليرهنه (أو طالبه) أي: الكفيل (صاحب الحق بإحضاره) أي: المكفول به، وإن لم يكفله بإذنه، لأن حضور المكفول به حق للمكفول له، وقد استناب الكفيل في

(1)

في "ح": "وإن".

ص: 256

ذلك بمطالبته به، أشبه ما لو صَرح بالوكالة (وإلا) بأن كفله بغير إذنه، ولم يطالبه صاحب الحق بإحضاره (فلا) يلزمه الحضور معه إلى رَبِّ الحق؛ لأن المكفول به لم يشغل ذمته، وإنما شغلها الكفيل باختياره، ولم يوكله صاحب الحق.

(وإن كان المكفول به غائبًا غيبةً تُعْلم غيرَ منقطعة) بأن غاب بموضع معلوم (ولو) كان المكفول به (مرتدًا لحِقَ بدار الحرب) بموضع معلوم (أمهل) الكفيل (بقَدْرِ ما يمضي) إلى محل المكفول به (ويحضره) منه، ليتحقق إمكان التسليم، وسواء كانت المسافة قريبة أم بعيدة (وإن لم يَعْلم فيها) أي: في الغيبة (خبره) أي: المكفول به (لزمه) أي: الكفيل (الدَّيْن من غير إمهال) إذ لا فائدة في الإمهال مع عدم العلم بموضعه.

(فإن) علم موضعه و (مضى) الكفيل إليه (ولم يحضره) أي: المكفول به (إما لتوانٍ، أو لهربه) أي: المكفول به (واختفائه، أو لامتناعه، أو لغير ذلك) كذي سلطان (بحيث تعذَّر إحضاره مع حياته، لزمه) أي: الكفيل (ما عليه من الدَّيْن) لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الزعيمُ غارم"

(1)

، ولأنها أحد نوعي الكفالة، فوجب الغُرْم بها إذن، كالكفالة بالمال، ولا يسقط عن الكفيل المالُ بإحضار المكفول به بعد الوقت المُسمَّى، نصًّا

(2)

(إلا إذا شرط) الكفيل (البراءة منه) أي: من الدَّين، فلا يلزمه، عملًا بشرطه؛ لأنه إِنما التزم الكفالة على هذا الشرط، فلا يلزمه سوى ما اقتضاه التزامه.

(كذا عِوض العين المكفول بها) يلزم الكفيل إذا تعذَّر عليه إحضار

(1)

تقدم تخريجه (8/ 225) تعليق رقم (4).

(2)

انظر الإنصاف (5/ 214).

ص: 257

المكفول به ليسلِّمها (إذا لم يشرط) الكفيل (أن لا مال عليه بتلفها) أي: بسبب تعذُّر ردها لتلفها بفعل آدمي، أو هربه بها، ونحوه، وأما إذا تلف بفعل الله، فقد تقدم

(1)

أن الكفيل يبرأ بذلك، كموت المكفول به.

(فإن اشترط) الكفيل البراءة (برئ) لما تقدم.

(والسجَّان ونحوه ممن هو وكيل على بدن الغريم) كرسول الشرع (بمنزلة الكفيل للوجه) أي: كفيل البدن (عليه) أي: السجَّان ونحوه (إحضارُ الخصم؛ فإن تعذَّر) عليه (إحضاره ضمن ما عليه، قاله الشيخ

(2)

). واقتصر عليه في "الفروع". وقال ابن نصر الله: الأظهر أنه كالوكيل، يجعل في حفظ الغريم، إن هرب منه بتفريطه لزمه إحضاره، وإلا؛ فلا.

(وقال) الشيخ

(3)

: (وإذا لم يكن الوالد ضامنًا لولده، ولا له عنده مال، لم يجُز لمن له على الولد حقٌّ أن يطالب والده بما عليه، لكن إن أمكن الوالدَ معاونةُ صاحب الحق على إحضار ولده بالتعريف بمكانه ونحوه، لزمه ذلك) أي: التعريف بمكانه ونحوه؛ لأنه من قبيل نصحه له.

(وحيث أدَّى الكفيل ما لزمه) لتعذُّر إحضار المكفول به عليه (ثم قَدِرَ) الكفيل (على المكفول به) فقال في "الفروع": (فظاهر كلامهم) أي: الأصحاب (أنه) أي: الكفيل (في رجوعه عليه) أي: المكفول به (كضامن) إن نوى الرجوع رجع على المكفول به، وإلا فلا (وأنه) أي: الكفيل (لا يُسلِّمه) أي: المكفول به (إلى المكفول له، ثم يسترد) الكفيل

(1)

(8/ 255).

(2)

مجموع الفتاوى (29/ 556).

(3)

مجموع الفتاوى (29/ 551).

ص: 258

منه (ما أدَّاه) إليه (بخلاف مغصوب تعذَّر إحضاره مع بقائه) فغرم الغاصب قيمته، ثم قَدِر عليه، فإنه يرده للمغصوب منه، ثم يسترد منه ما أدَّاه (لامتناع بيعه) لأن الغاصب لم يملكه بدفع القيمة، وإنما أخذت منه للحيلولة؛ وقد زالت، بخلاف ما على المكفول من الدَّين، فإنه يصير للكفيل ببذل عوضه ناويًا الرجوع، ويملكه ملكًا تامًّا، وله منعه والتصرُّف فيه بما شاء.

وإن أدَّى الكفيل لغيبة المكفول، وقد تعذَّر إحضاره، ثم ثبت بالبينة موت المكفول به قبل غرم الكفيل المال، استردَّه لتبين براءته بموت المكفول به.

(وإن كفَلَ اثنان واحدًا فسلَّمه أحدهما، لم يبرأ الآخر) بذلك؛ لأن إحدى الوثيقتين انحلَّت من غير استيفاء، فلم تنحل الأخرى، كما لو أبرأ أحدهما (وإن سَلَّم) المكفول به (نفسه بَرِئا) لأنه أدَّى ما يلزم الكفيلين لأجله، وهو إحضار نفسه، فبرئت ذمتهما.

(وإن كَفَلَ واحدٌ غريمًا لاثنين فأبرأه) أي: الكفيل (أحدُهما، لم يبرأ) الكفيل (من الآخر) لأن عقد الواحد مع اثنين بمنزلة عقدين، فقد التزم إحضاره عند كل واحد منهما، فإذا أبرأه أحدهما، بقي حقُّ الآخر.

(وإن كفَلَ الكفيل كفيلٌ آخرُ، صحَّ) ذلك؛ لأنه تصرفٌ من أهله في محله (فإذا برئ) الكفيل (الأول برئ) الكفيل (الثاني) لأنه فرعه (ولا عكس) فإذا برئ الثاني، لم يبرأ الأول؛ لأن الأصل لا يبرأ ببراءة الفرع.

(وإن كَفَلَ) الكفيل (الثاني) شخص (ثالثٌ، برئ كلٌّ منهم) أي: الكفلاء (ببراءة من قبله) لأنه فرعه (ولا عكس) أي لا يبرأ أحدهم ببراءة من بعده؛ لأنه ليس فرعه (كضمان) في مال.

ص: 259

(ولو كَفلَ اثنان واحدًا، وكَفَلَ كلَّ واحد منهما) أي: من الكفيلين (كفيلٌ آخر، فأحضره أحدهما) أي: أحد الكفيلين الأولين (برئ هو ومنْ تكفَّل به) الأول بتسليمه، والثاني ببراءة أصله (وبقي) الكفيل (الآخر ومن تكفَّل به) حتى يُسلِّماه أو أحدهما، أو يُسلِّم نفسه، أو يبرأ من الحق.

(ومتى أحال ربُّ الحق) على الغريم بدينه (أو أُحيل) ربُّ الحق بدينه (أو زال العقد) من بيع أو نحوه (برئ الكفيل) بالمال أو البدن (وبطل الرهن) إن كان (لأن الحوالة استيفاء في المعنى) سواء استوفى المحال به أو لا، ولبراءة الغريم بزوال العقد (وتقدم) ذلك (أول الباب)

(1)

.

"تتمة": لو قال: أعطِ فلانًا ألفًا، ففعل؛ لم يرجع على الآمر، ولم يكن ذلك كفالة ولا ضمانًا، إلا أن يقول: أعطِه عني، خليطًا كان أو غيره.

(ولو خيف من غرق السفينة، فألقى بعضُ من فيها متاعه في البحر لتخفَّ لم يرجع) الملقي (به) أي: بمتاعه (على أحد، ولو نوى الرجوع) لأنه أتلف مال نفسه باختياره من غير ضمان.

(ويجب الإلقاء) أي: إلقاء ما لا روح فيه من السفينة (إن خيف تلف الركاب بالغرق) لأن حُرمة ذي الروح آكد، فإن خيف الغرق بعد ذلك أُلقي الحيوان غير الآدمي؛ لأن حرمته آكد.

(ولو قال بعض أهلها) أي: السفينة، لواحد منهم:(ألقِ متاعك) في البحر (فألقاه، فلا ضمان على الآمر) لأنه لم يُكرِهه على إلقائه، ولم يضمنه له.

(1)

(8/ 229).

ص: 260

(وإن قال: ألقِهِ) في البحر (وأنا ضامنه، ضمن) الآمر (الجميعَ) وحده؛ لأن ضمان ما لم يجب صحيح.

(وإن قال): ألقِهِ في البحر (وأنا وركبان السفينة ضامنون، وأطلق، ضمن) الآمرُ (وحده بالحصة) لأنه لم يضمن الجميع، وإنما ضمن حصته، وأخبر عن سائر ركبان السفينة بضمان سائره، فلزمته حصته، ولم يَسْرِ قوله على الباقين.

(وإن قال): ألقِهِ في البحر و (كلُّ واحدٍ منَّا ضامن لك متاعك أو قيمته، ضمن) أي: لزم (القائل) وحده (ضمان الجميع، سواء كانوا) أي: ركبان السفينة (يسمعون قوله فسكتوا، أو قالوا: لا نفعل، أو لم يسمعوا) قوله؛ لأن سكوتهم لا يلزمهم به حق (وإن رضوا) أي: الركبان (بما قال، لزمهم) الغرم، ويوزع على عددهم؛ لاشتراكهم في الضمان.

(وكذا الحكم في ضمانهم) أي: في ضمان اثنين أو أكثر (ما عليه) أي: على مدين (من دَيْن) فإن قالوا: ضمنَّا لك الدَّيْن؛ كانوا شركاء، على كلٍّ حصته، وإن قالوا: كل منَّا ضامن لك الدَّيْن، طُولب كلُّ واحد به كاملًا وتقدم.

(ولو قال) جائزُ التصرُّف (لزيد: طَلِّقْ زوجتك وعليَّ ألف، أو) عليَّ (مهرها) فطلَّقها (لزمه) أي: القائل (ذلك) أي: الألف أو مهرها (بالطلاق، قاله في "الرعاية"، وقال: لو قال: بعْ عبدك من زيد بمائة وعليَّ مائة أخرى، لم يلزمه شيء) والفرق: أنه ليس في الثاني إتلاف، بخلاف الأول.

وإن شُرط في ضمان أو كفالة خيار فسدا.

ص: 261

‌باب

(الحَوالة)

بفتح الحاء وكسرها، واشتقاقها من التحول؛ لأنها تحول الحق من ذمة إلى ذمة أخرى، قاله في "المبدع".

وهي ثابتة بالإجماع

(1)

، ولا عبرة بمخالفة الأصمِّ.

وسنده: السُّنة الصحيحة، فمنها: ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَطلُ الغنيِّ ظلمٌ، وإذا أُحِيلَ أحدُكم على مليءٍ فليتبع"

(2)

.

وفي لفظ: "مَن أُحيل بحقه على مليء فليحتل"

(3)

.

(وهي عقد إرفاق) منفرد بنفسه، ليس محمولًا على غيره (لا خيار فيه، وليست) الحَوالة (بيعًا) لأنها لو كانت بيعًا لكانت بيع دَيْن بدَيْن،

(1)

مراتب الإجماع لابن حزم ص/ 112.

(2)

تقدم تخريجه (8/ 126) تعليق رقم (2)، ولفظهما: وإذا أتبع.

(3)

أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (5/ 239)، وابن أبي شيبة (7/ 79)، وأحمد (2/ 463)، وأبو عوانة (3/ 348) حديث 5248، والطبراني في مسند الشاميين (3/ 188) حديث 2051، والبيهقي (6/ 70)، عن أبي هريرة رضي الله عنه دون قوله:"بحقه"، وصححه الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 46).

وأخرجه الحارث بن أبي أسامة كما في "بغية الباحث" ص/ 144، حديث 445، من طريق إسماعيل بن مسلم، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه دون قوله:"بحقه" وقال الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (3/ 122): إسماعيل ضعيف.

وأخرجه البزار "كشف الأستار"(2/ 100) حديث 1299، عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: وإذا أحيل أحدكم .. الحديث دون قوله "بحقه" وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 131): ورجاله رجال الصحيح خلا الحسن بن عرفة، وهو ثقة.

وأما بلفط "بحقه" فلم نقف على من أخرجه.

ص: 262

ولما جاز التفرُّق قبل القبض؛ لأنها بيع مال الربا بجنسه، ولجازت بلفظ البيع، وبين جنسين كالبيع كله، ولأن لفظها يشعر بالتحوُّل، وليست - أيضًا - في معنى البيع، لعدم العين فيها (بل) الحوالة (تَنقُل المال) المُحال به (من ذِمة المُحيل إلى ذمة المُحَال عليه) لما سبق من أنها مشتقة من التحوُّل أو التحويل. وفيها شبه بالمعاوضة من حيث إنها دَيْن بدَيْن، وشبه بالاستيفاء من حيث براءة المُحِيل بها، ولترددها بينهما ألحقها بعض الأصحاب بالمعاوضة، وبعضهم بالاستيفاء.

وتلزم بمجرد العقد (فلا يملك المُحتال على المليء) الرجوع على المحيل بحال؛ لأن الحق انتقل، فلا يعود بعد انتقاله، هذا إذا اجتمعت شروطها؛ لأنها براءة من دَيْن ليس فيها قَبْض ممن هو عليه، ولا ممن يدفع عنه، أشبه ما لو أبرأه من الدَّيْن.

(ولا) يملك (المُحتال) ولو على غير مليء (برضاه) بالحوالة (إذا لم يشترط يسار المُحتال عليه، وجَهِلَه) أي: يساره (أو ظنه مليئًا) ثم تبيَّن خلافه (الرجوعَ على المحيل بحال، أي: سواء أمكن استيفاء الحق) من المحال عليه (أو تعذَّر) استيفاؤه (لمَطْلٍ، أو فَلَسٍ، أو موت، وكذا) لو تعذَّر استيفاؤه (لجحود، صَرَّح به في "الفروع" وغيره) بأن جَحَد المحال عليه الدَّينَ وحَلَف.

(ولعل المراد) بأنه لا يرجع مع الجحود (إذا كان المحتال يعلم الدَّين، أو صدَّق) المحتالُ (المحيلَ عليه) أي: على أن دينه بذمة المحال عليه الجاحد (أو ثبت) الدَّين (ببينة، ثم ماتت ونحوه) بأن أقرَّ المحتال عليه أولًا، ثم أنكر.

ص: 263

(أما إن ظنَّه) أي: ظنَّ المُحتال الدَّينَ (عليه) أي: على المحال عليه (فَجَحَد) المحال عليه الدَّين (ولم يمكن إثباته، فله) أي: المحتال (الرجوعُ عليه) أي: على المحيل؛ لأن الأصل بقاء دَيْنه عليه، ولم تتحقق براءته منه.

(وتصح) الحوالة (بلفظها) كأحلتك بدَيْنك على فلان (أو معناها الخاص) كأتبعتك بدينك على فلان ونحوه؛ لدلالته على المقصود.

(ولا تصح) الحوالة (إلا بشروط) أربعة:

(أحدها: أن يحيل على دينٍ مستقرٍ في ذمة المحال عليه) لأن ما ليس بمستقر عُرْضة للسقوط، ومقتضى الحوالة إلزام المحال عليه بالدَّين مطلقًا، فلا تثبت فيما هذا صفته (ولو) كانت الحوالة (على الضامن بما ضمنه، ووجب) لأنه دَيْنٌ مستقرٌّ، بخلاف ما إذا ضمن ما يؤول إلى الوجوب؛ فلا تصح الحوالة عليه قبل وجوبه، لأنه لا دَيْن عليه إذن (أو) أي: وتصح الحوالة على ما (في ذمة ميت) من دَيْن مستقر، لما سبق.

(وفي "الرعاية الصغرى" و"الحاويين": إن قال: أحلتك بما عليه) أي: الميت (صح) ذلك (لا: أحلتك به عليه، أي: الميت) فلا يصح؛ لأن ذمته قد خربت.

(وتصح) الحوالة (على المُكاتَب بغير مال الكتابة) كبدل قَرْض وثمن مبيع؛ لأنه دَيْن مستقر.

(وإن أحال) السيد (على مال الكتابة) لم تصح الحوالة؛ (ولو حلَّ) لعدم استقراره.

(أو) أحال المُسلِم على (السَّلَم) لم تصح الحوالة؛ لعدم استقراره.

ص: 264

(أو) أحال على (رأس ماله) أي: السَّلَم (بعد فَسْخه) لم تصح الحوالة؛ لأنه لا يصح تصرُّف فيه قبل قبضه (وتقدم

(1)

في أواخر

(2)

السَّلَم).

(أو) أحالت الزوجة على (الصداق قبل الدخول) ونحوه مما يقرر الصداق، لم تصح الحوالة؛ لعدم استقراره.

(أو) أحال على (الأجرة بالعقد قبل استيفاء المنافع) فيما إذا كانت الإجارة لعمل (أو) قبل (فراغ المدة) إن كانت الإجارة على مدة، لم تصح الحوالة؛ لعدم استقرارها.

(أو) أحال البائع (بثمن المبيع على المشتري في مدة الخيار) أي: خيار المجلس أو الشرط، لم تصح الحوالة؛ لعدم استقراره.

(أو) أحال (على عين من وديعة، أو مضاربة) أو شركة، لم تصح الحوالة؛ لأنه لم يحل على دين.

(أو) أحال (على استحقاق في وقف، أو) أحال (على ناظره، أو على وليِّ بيت المال، أو أحال ناظرُ الوقف بعضَ المستحقين على جهة ونحوه، لم يصح) ذلك حوالة؛ لأنها انتقال مال من ذِمة إلى ذِمة، والحق هنا ليس كذلك، لكن يكون ذلك وكالة كالحَوالة على ما له في الديوان.

(ولا يُشترط) للحَوالة (استقرار المُحال به، فإن أحال المُكاتَبُ سيدَه) بدَيْن الكتابة (أو) أحال (الزوجُ امرأته) بالصداق قبل الدخول (أو) أحال (المشتري البائعَ بثمن المبيع في مدة الخيارين، صح) ذلك؛ لأن المدين له تسليم الدَّيْن قبل استقراره، وحَوالته به تقوم مقام تسليمه.

(1)

(8/ 119).

(2)

في متن الإقناع (2/ 360): "باب".

ص: 265

(ولا تصح) الحوالة (بمُسْلَمٍ فيه، ولا برأس ماله بعد فَسْخ) العقد؛ لأنه تصرُّفٌ في السَّلَم، أو رأس ماله قبل القبض، وذلك غير صحيح. وتقدم في السَّلم

(1)

.

(ولا) تصح الحوالة (بجزية) لفوات الصَّغار، ولا على الجزية لذلك، ولعدم استقرارها.

(وإن أحال مَنْ لا دين عليه شخصًا على مَنْ له عليه دين فهي وكالة) جرت (بلفظ الحوالة) إذ ليس فيها تحويل حق من ذمة إلى ذمة، وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة؛ لاشتراكهما في المعنى، وهو استحقاق الوكيل مطالبة من عليه الدين، كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه (تثبت فيها أحكامها) أي: أحكام الوكالة من عزل الوكيل بموت الموكِّل وعزله ونحوه.

(وإن أحال من عليه دَيْن على مَنْ لا دَيْن عليه، فهو) وكالة في (اقتراض، فلا يصارفه) لأنه لم يأذن له في المصارفة (فإن قبض المحتال منه) أي: من المحال عليه الذي لا دين عليه (الدين، رجع) المحال عليه إذن (على المحيل) بما دفعه عنه للمحتال (لأنه قرض) حيث لم يتبرَّع.

(وإن أبرأه) أي: أبرأ المحتال المحال عليه الذي لا دَيْن عليه (منه، لم تصح البراءة؛ لأنها براءة لمن لا دَيْن عليه، وإن) قبض المحتال من المُحال عليه الذي لا دَيْن عليه ما أُحيل به، ثم (وهبه) المحتال (إياه بعد أن قبضه منه) ملكه، و (رجع المحال عليه) حينئذٍ (على المحيل) بما دفعه عنه؛ لأنه قرض، وهبة المحتال بعد ذلك غير مانعة.

(وإن أحال مَنْ لا دَيْن عليه على مَن لا دَيْنَ عليه، فهي وكالة في

(1)

(8/ 119).

ص: 266

اقتراض أيضًا، وليس شيء من ذلك حوالة) لانتفاء شروطها.

الشرط (الثاني: تماثل الدَّيْنَين) لأنها تحويل للحق ونقلٌ له، فينتقل على صفته (في الجنس، كأن يُحيل من عليه ذهبٌ بذهبٍ، و) أن يحيل (من عليه فضة بفضة، فلو أحال مَن عليه ذهبٌ بفضة، أو بالعكس) بأن أحال من عليه فضة بذهب (لم يصح) ذلك؛ للتخالف.

(و) تماثل الدينين (في الصفة، فلو أحال مَن عليه) دراهم (صحاح بمكسَّرةٍ، أو من عليه) دراهم (غورية بسُليمانية، لم يصح) ذلك، للتخالف.

(و) تماثل الدَّيْنين في (الحلول والتأجيل) بأجل واحد (فإن كان أحدهما) أي: الدَّينين (حالًّا والآخر مؤجَّلًا) لم تصح (أو كان أحدهما) مؤجلًا (إلى شهر، و) الدَّين (الآخر) مؤجَّلًا (إلى شهرين، لم تصح الحوالة) لأنها إرفاق كالقرض، فلر جُوِّزت مع الاختلاف، لكان المطلوب منها الفضل، فتخرج عن موضوعها.

(ولو كان الحقان) أي: المُحال به والمُحال عليه (حالَّين، فشرط

على المحتال أن يؤخِّر حقه، أو) يؤخِّر (بعضه إلى أجل) ولو معلومًا (لم تصح) الحوالة (أيضًا) لأن الحالَّ لا يتأجَّل.

ولو قيل: يفسد الشرط، وتصح الحوالة كالشروط الفاسدة في البيع، لكان أوفق بالقواعد، ولم أرَ المسألةَ لغيره.

(فيُشترط ذلك) أي: تماثل الدَّينين فيما ذكر (كما يُشترط) ذلك (في المقاصَّة، وتقدم

(1)

آخر السَّلَم

(2)

) بيان المقاصَّة وشروطها.

(1)

في "ح" زيادة: "ذلك".

(2)

(8/ 124 - 126).

ص: 267

(و) يشترط تماثل الدَّيْنين في (القَدْر، فلا تصح) الحوالة (بعشرة على خمسة، ولا عكسه) بأن أحاله بخمسة على عشرة؛ للتخالف، كما سبق.

(وتصح) الحوالة (بخمسة من العشرة على الخمسة، و) تصح الحوالة (بالخمسة على خمسة من العشرة) للموافقة (ولا يضر اختلاف سببي الدَّيْنين) بأن يكون أحدهما عن قرض، والآخر ثمن مبيع أو نحوه:

‌الشرط (الثالث: أن تكون) الحوالة (بمال معلوم على مال معلوم مما يصح السَّلَم فيه من المِثْليات وغيرها، كمعدود ومذروع)

لأنها إن كانت بيعًا فلا يصح في مجهول، وإن كانت تحول الحق فيعتبر فيها التسليم، والجهالة تمنع منه.

ولا تصح فيما لا يصح السَّلَم فيه، كالجوهر.

وإن أحال بإبل الدِّية على إبل القرض، لم يصح على المذهب، من أنه يرد القيمة لاختلاف الجنس. وإن كان بالعكس لم يصح مطلقًا. وفي الحوالة بإبل الدية على من عليه مثلها وجهان: قال القاضي: تصح؛ لأنها تختص بأقل ما يقع عليه الاسم في السن والقيمة وسائر الصفات.

والوجه الثاني: لا تصح؛ لأنها مجهولة.

(قال الشيخ

(1)

: الحوالة على ما له في الديوان) ومثله الحوالة على ما له في الوقف (إذْنٌ في الاستيفاء فقط) كما تقدم

(2)

.

(وللمحتال) إذن (الرجوع) كعزل الوكيل نفسه (ومطالبة محيله) بدينه؛ لأنه لم يبرأ منه بوفاء، ولا إبراء، ولا حوالة حقيقة.

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 196.

(2)

(8/ 265).

ص: 268

الشرط (الرابع: أن يُحيل برضاه) قال في "المبدع": بغير خلاف؛ لأن الحق عليه، فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين على المحال عليه.

(ولا يُعتبر رضا المحال عليه) لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه وبوكيله، وقد أقام المحتال مقام نفسه في القبض، فلزم المحال عليه الدفع إليه كالوكيل.

(ولا) يُعتبر أيضًا (رضا المحتال إن كان المحال عليه مليئًا، فيجب) على من أحيل على مليء (أن يحتال) لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أُتبع أحدُكم على مليءٍ فليتبع"

(1)

(فإن امتنع) المحتال (أُجبر على قَبولها) أي: الحوالة، للخبر (ويبرأ المحيل بمجرَّد الحوالة قبل الأداء، وقبل إجبار) الحاكم (المحتال على قَبولها) أي: الحوالة، فلا رجوع له على المُحيل لو مات المُحال عليه، أو أفلس، أو جَحَدَ بعد ذلك. وتقدم.

وفسَّر الإمام أحمد

(2)

المليء، فقال: هو أن يكون قادرًا بماله وقوله وبدنه، فلذلك قال:(وتُعتبر المَلاءة في المال، والقول، والبدن) وجزم به في "المحرر"، و"النظم"، و"الفروع"، و"الفائق"، و"المنتهى" وغيرها. زاد في "الرعاية الصغرى" و"الحاويين":(وفِعْلِه) وزاد في "الكبرى" عليهما: (وتمكُّنه من الأداء.

فـ) ــالملاءة (في المال: القُدرة على الوفاء، و) الملاءة (في القول: أن لا يكون مماطلًا، و) الملاءة (في البدن: إمكان حضوره مجلس الحكم) هذا معنى كلام الزركشي.

والظاهر أن فِعْله يرجع إلى عدم المَطْل؛ إذ الباذل غير مماطل،

(1)

تقدم تخريجه (8/ 126) تعليق رقم (2).

(2)

المغني (7/ 62).

ص: 269

وتمكُّنه من الأداء يرجع إلى القدرة على الوفاء، إذ مَن ماله غائب أو في الذمم ونحوه غير قادر على الوفاء، ولذلك أسقطهما الأكثر كما تقدم، ولم يفسرهما.

(فلا يلزم) ربَّ الدَّيْن (أن يحتال على والده) لأنه لا يمكنه إحضاره إلى مجلس الحكم (ولا) يلزم أن يحتال (على مَن هو في غير بلده) لعدم قدرته على إحضاره مجلس الحكم.

وقياسه: الحوالة على ذي سلطان لا يمكنه إحضاره مجلس الحكم.

(ولا يصح أن يُحيل) ربُّ الدَّيْن (على أبيه) لأن المُحيل لا يملك مطالبة المُحال عليه، ففرعه كذلك.

(ومتى صحَّت) الحوالة (فَرَضِيَا) أي: المُحتال والمُحال عليه (بخير منه) أي: الدَّيْن (أو بدونه، أو) رَضِيا بـ (ــتعجيله) وهو مؤجَّل (أو) بـ (ــتأجيله) وهو حالٌّ (أو) أخذ (عوضه، جاز) ذلك؛ لأن ذلك يجوز في القرض، فهنا أَولى، لكن إن جرى بين العوضين ربا النسيئة، كما لو كان الدَّيْن المُحال به عن الموزونات، فعوَّضه فيه موزونًا من غير جنسه، أو كان مكيلًا، فعوَّضه عنه مكيلًا من غير جنسه، اشترط فيه التقابض بمجلس التعويض.

(وإن رضي) المُحتال بالحوالة (واشترط) في المحال عليه (اليسار) صح الاشتراط؛ لحديث: "المسلمون على شروطهم"

(1)

؛ ولأنه شرط فيه مصلحة للعقد في عقد معاوضة، فكان كشرط صفة في المبيع، فإن بان معسِرًا؛ فله الرجوع على المُحيل؛ لفوات شرطه (أو لم يرضَ)

(1)

تقدم تخريجه (7/ 107) تعليق رقم (3).

ص: 270

المُحتال بالحَوالة (فبان) المُحال عليه (معسِرًا، فله) أي: المُحتال (الرجوعُ على المُحيل) ولا يُجبر على اتباعه؛ لأنه لم يحتل على مليء.

(وإذا أحال المشتري البائع بالثمن) فبان البيع باطلًا، فالحوالة باطلة (أو أحال البائع عليه) أي: المشتري (به) أي: بالثمن (فبان البيع باطلًا، كظهور العبد المبيع حرًّا) أو مستحقًّا (فإن كان) ظهور البطلان (ببينة، فالحوالة باطلة) لأنه ببطلان البيع تبيّنا أن لا ثمن على المشتري، والحوالة فَرْعٌ على الثمن، فإذَنْ يبطل الفرع لبطلان أصله، فيرجع المشتري على من كان له عليه الدَّيْن في مسألة حوالته، وعلى المُحال عليه في مسألة الحَوالة عليه، لا على البائع؛ لأن الحوالة لما بطلت وجب بقاء الحق على ما كان.

(وإن كان) ظهور المبيع حرًّا (باتفاق المُحيل والمُحال عليه على حريته) أي: العبد المبيع (من غير بينة، فإن صدَّقهما المحتال، فكذلك) أي: بطلت الحوالة؛ لاتفاق الكل على بطلانها (وإن كذَّبهما) المُحتال (لم يُقبل قولهما عليه) لأنهما يبطلان حقه (أشبه ما لو باع المشتري العبدَ، ثم اعترف هو وبائعه أنه كان حرًّا، لم يقبل قولُهما على المشتري الثاني.

وإن أقاما) أي: المحيل والمحال عليه (بينة) بحريته (لم تُسمع) بينتهما (لأنهما كذَّباها بدخولهما في التبايع.

وإن أقام العبد بينة بحريته، قُبلت) البينة؛ لعدم ما يمنعها (وبطلت الحوالة) لأنه ببطلان البيع ظهر أن لا ثمن على المشتري، والحوالة فرع على سلامة الثمن.

(وإن صدَّقهما) أي: البائع والمشتري (المُحتال) على حرية العبد

ص: 271

(وادَّعى أن الحوالة بغير ثمن العبد) الذي اتفقوا على حريته (فـ) ــالقول (قوله مع يمينه) لأنه يدعي سلامة العقد، وهي الأصل (إذا لم يكن لهما) أي: للبائع والمشتري (بينة) بأن الحوالة بثمن العبد. فإن كانت، عُمِلَ بها.

(وإن اتفق المُحيل والمُحتال على حريته) أي: العبد (وكذبهما المحال عليه، لم يقبل قولهما عليه في حرية العبد) لأنه إقرار على غيرهما (وتبطل الحوالة) لاعتراف المحيل والمحتال ببطلانها (والمُحال عليه يعترف للمُحتال بدَيْن لا يصدِّقه) المُحتال (فيه، فلا يأخذ منه شيئًا.

وإن اعترف المُحتال والمُحال عليه بحرية العبد، عتق) العبد (لإقرار مَنْ هو في يده بحريته، وبطلت الحوالة بالنسبة إليهما) مؤاخذة لهما بحكم إقرارهما (ولم يكن للمحتال الرجوع على المحيل؛ لأنه معترفٌ ببراءته) بدخوله معه في الحوالة.

(وإن فسخ البيع) وقد أحال المشتري البائع بالثمن، أو أحال البائع عليه به (بعيب، أو) تدليس ونحوه، أو (إقالة، أو خيار، أو انفسخ النكاح) بعد الحوالة بالصداق بما يسقطه أو ينصفه (ونحوه) أي: أو انفسخ نحو النكاح كإجارة بعد الحوالة بأجرتها (بعد قبض المُحتال مال الحوالة، لم تبطل) الحوالة؛ لأن عقد البيع لم يرتفع من أصله، فلم يسقط الثمن، فلم تبطل الحوالة؛ لانتفاء المبطل.

(وللمشتري الرجوعُ على البائع في مسألتي حوالته) للبائع (والحوالة عليه) من البائع؛ لأنه لما ردَّ المعوَّض استحق الرجوع بالعِوض، والرجوع في عينه متعذِّر؛ للزوم الحوالة، فوجب في بدله، وإذا لزم البدل وجب على البائع؛ لأنه هو الذي انتفع بمبدله.

ص: 272

و (لا) رجوع للمشتري (على مَن كان عليه الدَّيْن في المسألة الأولى) وهو الذي أحال المشتري عليه البائع (ولا) رجوع للمشتري أيضًا (على مَن أُحيل) أي: أحاله البائع (عليه في) المسألة (الثانية) لصحة الحوالة وعدم بطلانها، لما تقدم.

(وإن كان الفسخ) للبيع على أيِّ وجهٍ كان، من تقايل، أو عيب، أو خيار ونحوه (قبل القبض) أي: قبض المحتال مال الحوالة (لم تبطل الحوالة أيضًا) لأن الحق انتقل عن المُحيل، فلم يعد إليه، وثبت للمُحتال، فلم يزل عنه؛ ولأن الحوالة بمنزلة القبض، فكأن المحيل أقبض المحتال دَيْنه (كما لو أخذ البائع بالثمن عرضًا) أو كان دراهم وأخذ عنها دنانير، أو بالعكس، ثم فسخ البيع، لم يرجع المشتري إلا بما وقع عليه العقد، لا بما عوَّضه البائع.

(ويرجع المشتري على البائع بالثمن) لعود المبيع إليه بالفسخ، كما سبق (ويأخذه) أي: الثمن (البائعُ من المُحال عليه) لبقاء الحَوالة.

(وللبائع أن يُحيل المشتري على من أحاله المشتري عليه في الصورة الأولى) وهي ما إذا كان المشتري أحال البائع بالثمن؛ لأن دَيْن البائع ثابتٌ على مَن أحاله المشتري عليه، فصحَّت الحَوالة عليه كسائر الحقوق.

(وللمشتري أن يُحيل المُحتال عليه) من البائع (على البائع في) الصورة (الثانية) وهي ما إذا كان البائع أحال على المشتري بالثمن؛ لاستقرار الدَّين عليه، كما تقدم.

(فإذا أحال) شخص (رجلًا على زيد بألفه، فأحاله) أي: الرجل

ص: 273

(زيدٌ بها على عمرو، صحَّ) ما ذكر؛ لأنه حوالة بدَيْن على دَيْن ثابت (وهكذا لو أحال الرجل عَمْرًا على زيد بما ثبت له في ذمته، فلا يضر تكرار المُحال والمُحيل) أي: لا يمنع من صحة الحَوالة؛ لعدم منافاته لها.

(وإذا) اختلف المُحيل والمُحتال، بأن (قال) المحيل:(أحلتك) فـ (ــقال) المحتال: (بل وكَّلتني) في القبض، فقول مدَّعي الوكالة، لما يأتي، وله القبض؛ لأنه إما وكيل أو مُحتال، فإن قبض منه بقَدْر دَيْنه فأقل، فله أخذه لنفسه؛ لأن ربَّ الحق يعترف له به، وهو يقول: إنه أمانة في يده، وله مِثْله عليه، فإذا أخذه لنفسه حصل غرضه له، وإن استوفى مدَّعي الوكالة دَيْنه من مدَّعي الحوالة، رجع هو على المحال عليه، وإن كان مدعي الوكالة قد قبض وأتلف، أو تلف في يده بتفريطه، سقط حقه، وإن تلف في يده بلا تفريط، فالتالف على خصمه، وله طلبه بحقه، ولا رجوع لخصمه على المحال عليه؛ لاعترافه ببراءته.

(أو قال) المُحيل: (وكَّلتك) في القبض (قال: بل أحلتني، فقول مدَّعي الوكالة) لأنه يدعي بقاء الحق على ما كان، وينكر انتقاله، والأصل معه.

(وكذا إن اتفقا) أي: ربُّ الدَّين والمدين (على أنه) أي: المدين (قال) لربِّ الدين: (أحلتُكَ) وادَّعى أحدهما أنه أُريد بها الوكالة، فقوله؛ لأن الأصل بقاء الحق على المحال عليه، فيحلف المُحيل، ويبقى حقه في ذمة المُحال عليه. قاله الموفَّق والشارح.

قال في "الرعاية الكبرى" و"الفروع": لا يقبض المحتال من المحال عليه؛ لعزله بالإنكار، وله طلب حقه من المحيل، صححه الموفق،

ص: 274

والشارح، قالا هما، وصاحب "المبدع"، و"شرح المنتهى": وعلى كلا الوجهين، إن كان المحتال قد قبض الحق من المحال عليه، وتلف في يده، فقد بَرِئ كلُّ واحد منهما من صاحبه، ولا ضمان عليه، سواء تلف بتفريطه أو غيره. انتهى.

وفي "الفروع": والتالف من عمرو، أي: مدَّعي الوكالة. وتَبِعه في "المُنتهى"، وإن لم يتلف، فله أخذُه منه في الأصح.

(أو قال) المدين لربِّ الدَّين: (أحلتُك بديني، أو) أحلتك (بالمال الذي قِبَلَ فلان، وادَّعى أحدُهما أنه أريد بها الوكالة، وأنكر الآخر) أن يكون أريد بها الوكالة، فقول مُدَّعي الوكالة، لما سبق من أن الأصل معه، ولا موضع للبينة هنا؛ لأنهما لم يختلفا في لفظ يُسمع، ولا فعل يُرى، وإنما يدَّعي أحدُهما بيّنته، وهذا لا تشهد به البينة نفيًا، ولا إثباتًا.

(وإن قال) المدين لربِّ الحق: (أحلتُك بدينك، واتفقا على) صدور (ذلك) اللفظ بينهما (وادَّعى أحدهما أنه أُريد بها الوكالة، فقول مُدَّعي الحوالة) لأن الحوالة بدَيْنه لا تحتمل الوكالة، فلم يُقبل قول مدَّعيها.

ومن له دَيْن على آخر فطالبه به، فقال: أحلت به فلانًا الغائب، وأنكر ربُّ الحق، فقوله مع يمينه، ويُعمل بالبينة.

ص: 275

باب الصلح وأحكام

(1)

الجوار

بكسر الجيم، بمعنى المجاورة. وأصله الملازمة؛ لأن الجار يلزم جاره في المسكن.

(الصلح) لغةً: (التوفيق، والسلْم) بفتح السين وكسرها، أي: قطع المنازعة.

(وهو) أي: الصلح شرعًا: (معاقدة يُتَوصَّلُ بها إلى موافقة بين مُختلفين) أي: المتخاصمين.

وهو جائز بالإجماع

(2)

؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}

(3)

، وقوله:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}

(4)

، ولحديث أبي هريرة مرفوعًا:"الصُّلحُ جائزٌ بين المسلمين؛ إلا صُلحًا حَرَّمَ حلالًا، أو أحلَّ حرامًا" رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح. وصحَّحه الحاكم

(5)

.

(1)

في "ح" و"ذ" ومتن الإقناع (2/ 365): "وحكم".

(2)

الإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان (3/ 1692).

(3)

سورة الحجرات، الآية:9.

(4)

سورة النساء، الآية:128.

(5)

جزء من حديث "المسلمون على شروطهم" وقد تقدم تخريجه، والكلام عليه مفصلًا في الجهاد (7/ 107 - 108) تعليق رقم (1)، فقرة (أ)، و (ب)، من حديث أبي هريرة، عند أبي داود، وعمرو بن عوف رضي الله عنهما عند الترمذي.

وقوله "الصلح جائز بين المسلمين. . ." الخ أخرجه - أيضًا - ابن حبان "الإحسان"(11/ 488) حديث 5091، والبيهقي (6/ 64 - 65) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد (2/ 366)، وابن الجارود (2/ 207) حديث 638، والحاكم =

ص: 276

(وهو) أي: الصلح (أنواع) تأتي الإشارة إليها في كلامه.

(ومن أنواعه: الصلح) بين متخاصمين

(1)

(في الأموال، وهو المراد) بالترجمة (هنا) في هذا الباب.

(ولا يقع) الصلح (في الغالب إلا عن انحطاط من رُتبة إلى ما دونها، على سبيل المداراة، لبلوغ بعض الغرض) أي: للوصول إلى بعض الحق.

(وهو) أي: الصلح (من أكبر العقود فائدة) لما فيه من قطع النزاع والشقاق (ولذلك) أي: لكونه من أكبر العقود فائدة (حَسُنَ) أي: أُبيح (فيه الكذب) كما يأتي في الشهادات موضَّحًا.

(ويكون) الصلح (بين مسلمين وأهل حَرْب) بعقد الذِّمة

(2)

، أو الهُدنة

(3)

، أو الأمان

(4)

، وتقدم.

(و) يكون أيضًا (بين أهل بَغْيٍ، و) أهل (عدل) ويأتي في الحدود.

(و) يكون أيضًا (بين زوجين إذا خيف الشقاق بينهما، أو خافت امرأة إعراض زوجها عنها) ويأتي في النشوز.

= (2/ 50، 4/ 101) دون الاستثناء.

وأخرجه ابن ماجه في الأحكام، باب 23، حديث 2353. والبيهقي (6/ 65) عن عمرو بن عوف رضي الله عنه.

وأخرجه سحنون في المدونة (4/ 364، 365)، والبيهقي (6/ 65)، وفي معرفة السنن والآثار (8/ 277) رقم 11903، عن عمر رضي الله عنه موقوفًا أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن الصلح جائز. . . الخ.

(1)

في "ح": "المتخاصمين".

(2)

تقدم (7/ 222).

(3)

تقدم (7/ 211).

(4)

تقدم (7/ 192).

ص: 277

(و) يكون أيضًا (بين متخاصمين في غير مال) غير من سبق ذكرهم، وليس له باب يخصُّه.

ويكون - أيضًا - بين متخاصمين في المال، وهو المقصود بالباب، كما تقدم

(1)

، وهذه أنواعه التي أشار إليها أولًا.

(وهو) أي: الصُّلح بين متخاصمين (في الأموال قسمان:

أحدهما: صُلح على الإقرار، وهو) أي: صلح الإقرار (نوعان:

أحدهما: الصلح على جنس الحق) المقَرِّ به (مثل أن يقرَّ) رشيد (له بدَيْن، فيضع) أي: يسقط (عنه بعضه) ويأخذ الباقي (أو) يقرَّ رشيد لآخر (بعين، فيهب) المقرُّ له (له) أي: للمُقر (بعضها، ويأخذ الباقي، فيصح) الصلح (إن كان) ما صدر من إبراء، أو هبة (بغير لفظ الصلح؛ لأن الأول) أي: وضْعَ بعض الحق

(2)

(إبراء، والثاني) أي: هبة بعض العين (هبة، يُعتبر له شروط الهبة) من كونه جائز التصرُّف، والعلم بالموهوب، ونحوه، ولا يمنع الإنسان من إسقاط بعض حقه أو هبته، كما لا يمنع من استيفائه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كلَّم غرماء جابر ليضعوا عنه

(3)

. وقضية كعب مع ابن أبي حَدْرد شاهدة بذلك

(4)

فإن كان بلفظ الصلح، لم يصح؛ لأنه صالح

(1)

(8/ 277).

(2)

في "ح" و"ذ": "الدين".

(3)

أخرجه البخاري في البيوع، باب 51، حديث 2127، وفي الاستقراض، باب 8، 9، 18، حديث 2395، 2396، 2405، وفي الهبة، باب 21، حديث 2601، وفي الصلح، باب 13، حديث 2709، وفي الوصايا، باب 36، حديث 2781، وفي المناقب، باب 25، حديث 3580، وفي المغازي، باب 18، حديث 4053، وفي الاستئذان، باب 17، حديث 6250.

(4)

أخرج البخاري في الصلاة، باب 71، 83، حديث 457، 471، وفي الخصومات =

ص: 278

عن بعض ماله ببعض؛ فهو هضم للحق.

وبالجملة فقد منع الخِرقي، وابن أبي موسى الصلح على الإقرار، وأباه الأكثرون، فعلى الأول إن وفاه من جنس حقه، فهو وفاء، ومن غير جنسه معاوضة. وإن أبرأه من بعضه فهو إبراء، وإن وهبه بعض العين فهو هبة، ولا يُسمَّى صُلحًا، فالخلاف إذن في التسمية. قاله في "المغني" و"الشرح". وأما المعنى فمتفق عليه.

(ويصح) ما ذكر من الإبراء والهِبة (إن لم يكن بشرط، مثل أن يقول): أبرأتُكَ، أو: وهبتُكَ (على أن تعطيني الباقي) فإن فعل ذلك، لم يصح؛ لما يأتي في الهبة من أنه لا يصح تعليقها، ولا تعليق الإبراء بشرط.

(أو يمنعه) أي: لا يصح الإبراء والهبة إذا منعه المقر (حقه بدونه) أي: بدون الإبراء، أو الهبة، فلا يصح؛ لأنه من أكل أموال الناس بالباطل.

(ولا يصح ذلك) أي: ما ذكر من الإبراء والهبة (ممن لا يملك التبرُّع كالمُكاتَب، و) العبد، أو المميِّز (المأذون له) في التجارة (و) لا من (ولي اليتيم، وناظر الوقف، ونحوهم) كالوكيل في استيفاء الحقوق؛ لأنه تبرُّع، وهؤلاء لا يملكونه (إلا في حال الإنكار، وعدم البينة) فيصح؛

= باب 4، 9، حديث 2418، 2424، وفي الصلح، باب 10، 14، حديث 2706، 2710، ومسلم في المساقاة، حديث 1558، عن كعب بن مالك رضي الله عنه: أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما، حتى كشف سجْفَ حجرته، فنادى:"يا كعب. قال: لبيك يا رسول الله، قال: ضع من دينك هذا. وأومأ إليه: أي الشطر، قال: لقد فعلت يا رسول الله، قال: قم فاقضه".

ص: 279

لأن استيفاء البعض عند العجز عن استيفاء الكل أَولى من تركه.

(ويصح) الصُّلح (عما ادُّعي) بالبناء للمفعول به (على موليه، وبه بيِّنة) للمدَّعي؛ لأنه مصلحة للمولى عليه، فإن لم يكن به بينة، لم يصح.

(وإن صالح) رشيد (عن) دَيْنٍ (مؤجَّل ببعضه حالًّا، لم يصح) الصُّلح؛ لأنه ببذل القدر الذي يحطه عوضًا عن تعجيل ما في ذمته أشبه ما لو أعطاه عشرةً حالَّةً بعشرين مؤجَّلة (إلا في) دَين (كتابة) فإذا عجَّل المُكاتَب البعض وأبرأه السيد من الباقي، صَحَّ؛ لأن الربا لا يجري بين المُكاتَب وسيده في دَيْن الكتابة، كما تقدم

(1)

.

(وإن وضع) أي: أسقط ربُّ الدَّيْن (بعض) الدَّيْن (الحالِّ، وأجَّل باقيه) بأن كان له عليه مائة حالَّة أبرأه منها بخمسين مؤجَّلة (صح الإسقاط) لأنه أسقطه عن طيب نفسه، وليس في مقابلة تأجيل، فوجب أن يصح كما لو أسقطه كله (دون التأجيل) لأن الحالَّ لا يتأجَّل، و (لأنه وَعْد) فلا يلزم الوفاء به، وكذا لو صالحه عن مائة صحاح بخمسين مكسَّرة، هو إبراء في الخمسين، ووعد في الأخرى.

(وإن صالح) مَن عليه حق (عن الحق بأكثر منه من جنسه، مثل أن يصالح عن دِية الخطأ) بأكثر منها من جنسها (أو) صالح (عن قيمة مُتلَف) متقوَّم (بأكثر منها من جنسها، لم يصح) الصُّلح؛ لأن الدية والقيمة ثبتت في الذِّمة مقدَّرة، فلم يجز أن يُصالح عنها بأكثر منها من جنسها؛ إذ الزائد لا مقابل له، فيكون حرامًا؛ لأنه من أكل المال بالباطل. و (كمِثْليٍّ) أتلفه وصالحه عنه بأكثر من مثله من جنسه.

(1)

(8/ 51).

ص: 280

(وإن صالحه) عن دية الخطأ وقيمة المُتلَف (بعرض قيمته أكثر منها) أي: من دية الخطأ أو قيمة المُتلَف (صح) الصلح (فيهما) أي: في مسألة الدية ومسألة القيمة؛ لأنه لا ربا بين العِوض والمعوَّض، فصح، كما لو باعه ما يساوي خمسة بدرهم.

(ويصح) الصلح (عن المِثْلي) المُتلَف (بأكثر من قيمته) وبعرض من غير جنسه، لما سبق.

(وإن صالحه) صاحب بيت (ببعض بيت أقرَّ له به) لم يصح الصُّلح؛ لأنه صالحه عن بعض حقه ببعضه (أو) صالحه (على أن يَسْكنه) المقرُّ (سَنَة، أو) صالحه على أن (يبني له) المقرُّ (فوقه) أي: فوق البيت المقرِّ به (غرفة، لم يصح) الصُّلح؛ لأنه صالحه عن ماله على ماله، أو منفعته.

(وإن أسكنه) السَّنة أو بعضها، أو بنى له فوقه غرفة (كان) ذلك (تبرُّعًا منه) أي: من صاحب البيت بمنافعه (متى شاء) المقرُّ له (أخرجه منها) أي: من الدار المعلومة من ذلك البيت؛ لأنه كالعارية.

(وإن أعطاه) أي: أعطى المقَرُّ له المقِرَّ (بعضَ داره بناءً على هذا) الصُّلح، لم يلزم الإعطاءُ؛ لترتُّبه على الصلح الفاسد (فمتى شاء) المقَرُّ له (انتزعه) أي: ما أعطاه له (منه) أي: من المقر.

(وإن فعل) المقَرُّ له (ذلك) أي: ما ذكر، بأن أسكنه البيت، أو أعطاه بعضه، أو بنى له فوقه غرفة (على سبيل المصالحة معتقدًا أن ذلك وجب عليه بالصُّلح، رجع) المقَرُّ له (عليه) أي: على المقِر (بأجرة ما سكن) في الدار (وأجرة ما كان في يده من الدار) إذا كان في يده بعضها.

ص: 281

(وإن بنى) المقِرُّ (فوق البيت غرفة) بناء على السطح (أُجبر) بالبناء للمفعول، أي: المقِرُّ (على نقضها) لأنه وضعها بغير حق (و) أجبر - أيضًا - على (أداء أُجرة السطح مدةَ مُقامه في يده) لأنه بيده بعقد فاسد (وله) أي: المقر (أخذ آلته) التي بنى بها الغرفة لبقائها في ملكه.

(وإن اتفقا) أي: المقِرُّ والمقَرُّ له بالبيت الذي بنيت فوقه الغرفة (على أن يصالحه صاحب البيت على بنائه) الذي هو الغرفة (بعِوض، جاز) الصلح؛ لأن الحق لهما.

(وإن بنى) المقِرُّ (الغرفة بتراب من أرض صاحب البيت وآلاته، فليس له) أي: للمُقِرِّ أخذُ بنائه؛ لأنه ملك صاحب البيت) لا حق للمقِرِّ فيه، ولا رجوع له بمؤنة التالف، كالغاصب.

(وإن أراد) الباني بتراب صاحب البيت والآلة

(1)

(نقض البناء، لم يكن له ذلك) أي: نقض البناء؛ لأنه لا حق له فيه (إذا أبرأه المالك من ضمان ما يتلف به) أي: بالبناء، وتصح البراءة منه، كما يأتي في الغصب.

(وإن قال) ربُّ الدَّيْن

(2)

لمدين: (أقرّ لي بديني وأعطيك) أو خُذْ (منه) أو من غيره (مائة، ففعل) أي: أقر له بدينه (صح الإقرار) لأنه أقر بحق يحرم عليه إنكاره (ولم يصح الصلح) لأنه يجب عليه الإقرار بما عليه من الحق، فلم يحل له أخذ العوض عما يجب عليه، فإن أخذ شيئًا ردَّه.

(1)

في "ح" و"ذ": "آلاته".

(2)

في "ذ": "دين".

ص: 282

(وإن صالح) شخص (إنسانًا مكلَّفًا ليقرَّ له بالعبودية) أي: بأنه مملوك، لم يصح الصلح (أو) صالح (امرأة مكلَّفة لتقرَّ له بالزوجية، لم يصح) الصُّلح؛ لأن ذلك صلح يحل حرامًا؛ لأن إرقاق النفس، وبَذْل المرأة نفسها بعوض لا يجوز.

(وإن دفع المُدَّعى عليه العبوديةُ) مالًا للمدَّعي صلحًا عن دعواه، صح؛ لأنه يجوز أن يعتق عبده بعِوض، ويشرع ذلك في حق الدافع؛ لقطع الخصومة (أو) دفع المُدَّعى عليه (الزوجية إلى المدعي مالًا صلحًا عن دعواه، صح) لأن المدعي يأخذ العِوض عن حقه في النكاح، فجاز، كعوض الخُلع، والمرأة تبذله لقطع الخصومة.

(فإن ثبتت الزوجية بعد ذلك) أي: بعد دفعها العوض له (بإقرارها، أو ببينة، فالنكاح باقٍ بحاله) لأنه لم يوجد من الزوج طلاق ولا خلع (ولم يكن ما أخذه) من العوض (صُلحًا) عن دعوى الزوجية (خُلعًا) لأنها لم تدفعه في مقابلة إبانتها؛ لأنها لم تعترف بالزوجية حتى تطلب الإبانة.

(وإن) طلَّقها وأنكر فـ (ــدفعت إليه مالًا ليقر لها بما وقع) منه (من طلاقها، صَحَّ) لأنه يجوز لها أن تبذل له مالًا ليبينها (وحرُمَ عليه الأخذ) لأن الإقرار بما وقع منه واجب عليه، فلا يجوز له أن يعتاض عنه.

(ولو طلَّقها ثلاثًا، أو) طلقها (أقل) من ثلاث (فصالحها على مال لتترك دعواها) الطلاق (لم يجز) الصلح؛ لأنه يُحِل حرامًا.

(النوع الثاني) من نوعي الصلح على إقرار: (أن يصالح عن الحق المقَرِّ به بغير جنسه، فهو معاوضة، أي: بيع) كما لو اعترف له بعين في يده أو دَيْنٍ في ذمته؛ ثم عوَّضه عنه ما يجوز تعويضه، وهو ينقسم ثلاثة أقسام، نبَّه عليها بقوله:

ص: 283

(فإن كان بأثمانٍ عن أثمان فصَرْف، له حكمه) لأنه بيع أحد النقدين بالآخر، فيُشترط له القبض في المجلس.

(و) إن كان (بعرض عن نَقْدٍ، أو) كان (عن العرض بنقد، أو) كان عن العرض بـ (ــعرض، فبيع) يُشترط فيه العلم؛ لأنه مبادلة مال بمال (و) الصلح (عن دَيْنٍ يصح بغير جنسه بأكثر من الدَّيْن وأقل) منه؛ لأنه بيع (بشرط القبض) قبل التفرُّق؛ لئلا يصير بيع دَيْن بدَيْن.

(ويحرم) الصُّلح عن الدَّيْن (بجنسه إذا كان) مِثْليًا (مكيلًا أو موزونًا) لا صناعة فيه مباحة يصح السَّلَم فيه (بأكثر) من الدَّيْن (وأقل) منه (على سبيل المعاوضة) لأنه ربًا (لا) إن ترك له بعض الدَّيْن وأخذ الباقي (على سبيل الإبراء أو الحطيطة) كما لو أبرأه من الكل، وتقدم.

وإن كان الدَّيْن غير مكيل ولا موزون، وصالحه عنه بأكثر منه من جنسه، جاز؛ لأن الواجب في غير المِثْلي قيمته، فالصلح في الحقيقة عن القيمة، وهي إنما تكون من النقدين، فاختلف الجنس، فلا ربا.

(وإن كان) الصُّلح عن نقْدٍ أو عرض (بمنفعة، كسُكنى دار، وخدمة عَبْدٍ) مدة معلومة (أو) صالحه عن ذلك (على أن يعمل له عملًا معلومًا) كخياطة ثوب وبناء حائط (فـ) ــهو (إجارة) لأنها بيع المنافع (تبطل بتلف الدَّار، وموت العبد لا عتقه) أو بيعه أو هبته (كسائر الإجارات.

فإن كان) التَّلَف (قبل استيفاء شيء من المنفعة) انفسخت، و (رجع بما صالح عنه) من دين أو عين.

(وإن كان) التلف (بعد استيفاء بعضها) أي: بعض المنفعة، انفسخت فيما بقي، و (رجع بقسط ما بقي) من المدة.

ص: 284

(وإن صالحه) أي: صالح المقِرُّ المقَرَّ له بدَيْن أو عين (على أن يزوَّجه أمَته، وكان) المقَرُّ له (ممن يجوز له نِكاح الإماء) بأن كان عادم الطَّول، خائف العنت (صح) الصُّلح (وكان المصالح عنه) من دَيْنٍ أو عين (صداقَها) لأنهما جعلاه في نظير تزويجها.

(فإن انفسخ النكاح قبل الدخول بأمر يُسقط الصداق) كفسخها لعيبه (رجع الزوج) المقَرُّ له على المقِرِّ (بما صالح عنه) من دَيْن أو عين؛ لعوده إليه بالفسخ.

(وإن طلَّقها) الزوج (قبل الدخول) تنصَّف الصداق، و (رجع) الزوج (بنصفه) أي: بنصف ما صالح عنه.

وإن طلقها بعد الدخول ونحوه، فلا رجوع له بشيء؛ لتقرُّر الصَّداق بنحو الدخول.

(وإن صالح) البائع (عن عيب مبيعٍ بشيء) أي: عين، كدينار، أو منفعة كسُكنى دار معينة (صح) الصلح؛ لأنه يجوز أخذ العِوض عن عيب المبيع.

(فإن بان أنه) أي: المُصالح عنه (ليس بعيب) كانتفاخ بطن أَمَةٍ ظَنَّ أنه حَمْلٌ فتبين عدمه (أو زال) العيب (سريعًا - كما يأتي - رجع) البائع على المشتري (بما صالح به) لظهور عدم استحقاق المشتري له؛ لعدم العيب في الأولى، وزواله عن الثانية بلا ضرر يلحقه.

(وإن صالحت المرأة) عن دَيْن، أو عين أقرَّت به (بتزويج نفسها، صح) الصلح والنكاح (وكان ما أقرَّت به من دَيْن أو عين صَدَاقًا لها) لأن عقد التزويج يقتضي عوضًا، فإذا جَعلت ذلك عوضًا عن الحق الذي عليها، صح، كغيره، ويكون عقد النكاح من الولي بحضرة شاهدي

ص: 285

عدل، على ما يأتي تفصيله في النكاح، ولم يُنبِّهوا عليه؛ لظهوره.

(وإن كان الصلح) بتزويجها (عن عيب أقرَّت به في مبيعها، وانفسخ نكاحها بما يسقطُ به صَدَاقها) لمجيء الفرقة من قبلها، كفسخها لعيبه (رجع) الزوج (عليها بأرشه) أي: أرش العيب، وهو قسط ما بين قيمته صحيحًا ومعيبًا من ثمنه، كما تقدم

(1)

؛ لأنه صداقها.

(وإن لم ينفسخ النكاح وتبيَّن عدم العيب كبياض في عَيْن العبد) الذي باعته (ظَنَّته عمىً، أو زال) البياض (سريعًا بغير كلفة وعلاج، ولم يحصُل به تعطيل نفع، رجعت بأرشه) على الزوج وهو المشتري؛ لأنه صَداقها الذي رضيت به، كما لو تزوَّجها على عبدٍ فبان حرًّا ونحوه (لا بمهر مِثْلها) لأنها مسمّىً لها.

(وإن صالح عمَّا في الذِّمة) من نحو قرض وقيمة مُتلَف (بشيء في الذِّمة، لم يجز التفرُّق قبل القبض؛ لأنه بيع دَيْن بدَيْن) فلا يصح كما تقدم.

(وإن ادَّعى زرعًا في يد رجل، فأقرَّ له به، ثم صالحه) المقر عمَّا أقرَّ به (على دراهم) أو دنانير (جاز على الوجه الذي يجوز) به (بيع الزرع، على ما ذكر في البيع) أي: بيع الأصول والثمار، نحو أن يكون بعد اشتداد حبه، أو بشرط القطع في الحال.

(ويصح الصلح عن المجهول بمعلوم، إذا كان) المجهول (مما لا يمكن معرفته) وقوله: (للحاجة، نصًّا

(2)

) متعلِّق بـ "يصح"، علة له (سواء كان) المجهول (عينًا أو دينًا، أو كان الجهل من الجانبين، كصلح

(1)

(7/ 449).

(2)

انظر: الفروع (4/ 267).

ص: 286

الزوجة عن صدَاقها الذي لا بينة لها به، ولا علم لها ولا للورثة بمبلغه، وكذلك الرجلان بينهما معاملة وحساب قد مضى عليه زمن طويل، ولا علم لكل منهما بما عليه لصاحبه، أو) كان الجهل (ممن هو) أي: الدَّين (عليه) بأن كان عليه حق (لا علم له بقَدْره، ولو علمه صاحب الحق، ولا بيِّنة له) بما يدَّعيه، وقوله:(بنقدٍ) أي: حالٍّ (ونسيئة) متعلقٌ بـ "يصح"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لرجلين اختصما في مواريث دَرَسَتْ بينهما: "استهما وتوخَّيا الحقَّ، ولْيحلِلْ أحدكما صاحبه" رواه أحمد وأبو داود

(1)

، ولأنه إسقاط حق، فصح في المجهول كالعتاق، والطلاق، ولو قيل بعدم جوازه؛ لأفضى إلى ضياع الحق، والبيع قد يصح في المجهول في الجملة كأساسات الحيطان

(2)

، فإن كان الصلح بمجهول، لم يصح؛ لأن تسليمه واجب، والجهالة تمنعه.

(فإن أمكن معرفته) أي: المجهول (ولم تتعذَّر) معرفته (كتَرِكة موجودة صولح بعض الورَّاث عن ميراثه منها) ولو

(1)

أحمد (6/ 320)، وأبو داود في الأقضية، باب 7، حديث 3584، 3585. وأخرجه - أيضًا - إسحاق بن راهويه (4/ 61) حديث 1823، وابن أبي شيبة (7/ 233)، وابن الجارود (3/ 255) حديث 1000، وأبو يعلى (12/ 324، 456) حديث 6897، 7027، والطحاوي (4/ 154)، وفي شرح مشكل الآثار (2/ 230، 232) حديث 755، 758، والدارقطني (4/ 238)، والحاكم (4/ 95)، والبيهقي (6/ 66، 10/ 260)، وابن عبد البر في التمهيد (22/ 222)، والبغوي في شرح السنة (10/ 113) حديث 2508، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 386) حديث 2039، عن أم سلمة رضي الله عنها.

قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وصحَّح إسناده ابن الملقن في تحفة المحتاج (2/ 576).

(2)

في "ح" و"ذ": "الحائط".

ص: 287

لم يعرف كميته (لم يصح الصلح) في ظاهر نصوصه، وهو ظاهر ما جزم به في "الإرشاد"، وقطع به الشيخان والشارح؛ لعدم الحاجة. قال أحمد

(1)

: إن صولحت المرأة عن ثُمُنها، لم يصح الصلح، واحتج بقول شريح

(2)

. وقدَّم في "الفروع" و"المبدع"، واقتصر عليه في "التنقيح"، و"المنتهى" أنه كبراءة من مجهول، أي: إن قلنا بصحة البراءة من المجهول، صح الصلح، وإلا؛ فلا.

قال في "التلخيص": وقد نزَّل أصحابنا الصلح عن المجهول المقَرِّ به بمعلوم

(3)

منزلة الإبراء من المجهول؛ فيصح على المشهور؛ لقطع النزاع. انتهى. وظاهر هذا: لا فرق بين الدَّيْن والعين. قال في "المبدع": وقيل: لا يصح عن أعيان مجهولة؛ لكونه إبراء.

(ولا تصح البراءة من عين بحال) أي: سواء كانت معلومة أو مجهولة بيد المبرئ أو المبرأ، ويأتي في الصداق: إذا كانت العين بيد أحدهما، وعفا الذي ليست بيده، يصح بلفظ العفو والإبراء والهبة ونحوها. وهو ظاهر كلام "المغني" و"الشرح".

لكن مقتضى ما قدَّمه في "الفروع" و"الرعاية": عدم صحة الهبة بلفظ الإبراء والعفو، ولو كانت العين بيد الموهوب، كما نبَّهَ عليه ابن قُندس في "حاشية المحرر" في باب الهبة.

(1)

المغني (7/ 23 - 24).

(2)

أخرج عبد الرزاق (8/ 289) رقم 15255، وابن أبي شيبة (7/ 212)، ووكيع بن خلف في أخبار القضاة (2/ 231)، عن شريح قال: أيما امرأة صولحت عن ثمنها، ولم يبين لها ما ترك زوجها، فتلك الريبة كلها.

(3)

"بمعلوم" ساقطة من "ح".

ص: 288

قلت: لا يلزم من عدم صحة الإبراء من العين، ولا من عدم صحة البيع في المجهول، عدم صحة الصلح عنه؛ لأنه أوسع، بدليل ما لو صالح الورثة من وُصِّيَ له بخدمة أو سُكنى، أو حَمْلِ أَمَة بدراهم مسماة، فإنه يصح الصلح، كما في "المنتهى" وغيره، مع أنه لا يجوز بيع ذلك، والحمل عين، فلا تصح البراءة منه.

فصل

(القسم الثاني) من قسمي الصلح: (الصلح على إنكار

(1)

) وذلك (بأن يدَّعي) إنسان (عليه عينًا في يده، أو دَينًا في ذمته، فينكره) المدَّعى عليه (أو يسكت وهو يجهله) أي: المدَّعى به (ثم يصالحه على مال، فيصح) الصلح في قول أكثر العلماء؛ لعموم ما سبق

(2)

.

فإن قيل: قال صلى الله عليه وسلم: "إلا صُلحًا أحلَّ حرامًا"

(3)

وهذا داخل فيه؛ لأنه لم يكن له أن يأخذ من مال المدَّعى عليه، فحل بالصلح.

فالجواب: أنه لا يصلح

(4)

دخوله فيه، ولا يمكن حَمْل الخبر عليه لأمرين:

أحدهما: أن ما ذكرتم يوجد في الصلح بمعنى الهِبة، فإنه يحل للموهوب ما كان حرامًا.

الثاني: لو حَلَّ به المحرَّم، لكان الصلح صحيحًا؛ لأن الصلح الفاسد لا يحل الحرام، وإنما معناه ما يتوصَّل به إلى تناول المحرَّم مع

(1)

في "ح" و"ذ": "الإنكار".

(2)

(8/ 276).

(3)

تقدم تخريجه (8/ 276) تعليق رقم (5).

(4)

في "ح" و"ذ": "لا يصح".

ص: 289

بقائه على تحريمه، نحو أن يصالح حرًّا على استرقاقه.

(بنقدٍ ونسيئة) متعلِّق بـ "يصح"؛ لأن المُدَّعي مُلجأ إلى التأخير بتأخير خصمه.

(ويكون) الصلح على (المال المصالَح به بيعًا في حق المُدَّعي) لأنه يعتقده عوضًا عن حقه، فيلزمه حكم اعتقاده.

(فإن وجد) المُدَّعي (فيما أخذه) من المال (عيبًا، فله ردُّه وفسخ الصلح) أو إمساكه مع أَرْشه، كما لو اشترى شيئًا فوجده معيبًا.

(وإن كان) ما أخذه المُدَّعي عوضًا عن دعواه (شقصًا مشفوعًا، ثبتت فيه الشفعة) كشريك

(1)

المُدَّعى عليه؛ لأنه بيعٌ؛ لكونه أخذه عوضًا كما لو اشتراه.

(ويكون) صلح الإنكار (إبراءً في حق المُنكِر؛ لأنه دفع إليه) أي: المُدَّعي (المال افتداء ليمينه، ودفعًا للضرر عنه) من التبذُّل والخصومة، لا عوضًا عن حق يعتقده عليه.

(فإن وجد) المُنكِر (بالمصالح عنه عيبًا، لم يرجع به) أي: بما دفعه من المال، ولا بأَرْشه (على المُدَّعي وإن كان) ما صالح به المُنكِر (شقصًا، لم تثبت فيه الشفعة) لاعتقاده أنه ليس عوضًا.

(ولو دفع المُدَّعى عليه) المُنكِر (إلى المُدَّعي ما ادعاه، أو بعضه مصالحًا به) كان المدَّعي فيه كالمُنكِر، و (لم يثبت فيه حكم البيع ولا الشفعة) لأن المدَّعي يعتقد أنه أخذ ماله، أو بعضه مسترجعًا له ممن هو عنده، فلم يكن بيعًا، كاسترجاع العين المغصوبة. وإن ادَّعى على آخر وديعةً أو قرضًا، أو تفريطًا في وديعة، أو مضاربة، فأنكره واصطلحا،

(1)

في "ذ": "لشريك".

ص: 290

صح؛ لما تقدم

(1)

.

(و) شرط صحة صلح الإنكار: أن يعتقد المدَّعي حقيقة ما ادَّعاه، والمُدَّعى عليه عكسه فـ (ــمتى كان أحدهما عالمًا بكذب نفسه، فالصلح باطل في حقه، وما أخذه) العالمُ بكذب نفسه (حرام عليه) لأنه مِن أَكْلِ المال بالباطل (ولا يشهد له) الشاهد به (إن علم ظلمه) لأنه إعانة على باطل، ومن ادُّعيَ عليه بحق فأنكره، ثم قال: صالحني عن المال

(2)

الذي تدعيه، لم يكن مُقِرًّا به.

(وإن صالح عن المُنكِر أجنبيٌّ بإذنه) أي: المُنكِر (أو بغير إذنه، اعترف) الأجنبي (للمدعي بصحة دعواه) على المنكر (أو لم يعترف) له بصحتها (صح) الصلح (سواء كان المدَّعَى به دينًا، أو عينًا، ولو لم يذكر) الأجنبي (أن المُنكِر وكَّله) في الصلح عنه؛ لأنه قَصَدَ براءته وقطْع الخصومة عنه، أشبه ما لو قضى دينه

(3)

.

(ويرجع) الأجنبي على المُنكِر بما دفعه من العوض (مع الإذن) في الأداء، أو في الصُّلح (فقط) أما مع الإذن في الأداء فظاهر، وأما مع الإذن في الصُّلح فقط؛ فلأنه يجب عليه الأداء بعقد الصُّلح، فإذا أدَّى فقد أدى واجبًا عن غيره محتسبًا بالرجوع، فكان له الرجوع، وأما إذا لم يأذنه في الصلح، ولا في الأداء، فلا رجوع له، ولو نوى الرجوعَ عنه

(4)

؛ لأنه أدَّى عنه ما لا يلزمه أداؤه، فكان متبرِّعًا.

(وإن صالح الأجنبي المدعِيَ لنفسه؛ لتكون المطالبة له) أي:

(1)

(8/ 289).

(2)

في "ح" و"ذ": "عن الملك".

(3)

زاد في "ذ": "فقط".

(4)

في "ذ": عليه.

ص: 291

للأجنبي، حال كونه (غير معترف بصحة الدَّعوى، أو معترفًا بها، والمدَّعى به دَيْن) لم يصح مطلقًا (أو) المدَّعى به (عين) فإن كان الأجنبي منكِرًا، لم يصح الصُّلح - أيضًا - مطلقًا، وإن كان الأجنبي مقِرًّا بها (عالمًا بعجزه عن استنقاذها، لم يصح) الصلح (فيهنَّ) أي: فيما ذكر من المسائل (لكونه شراء ما لم يثبت لبائع) ولم تتوجَّه إليه خصومة يُفتدى منها، وهذا تعليل لعدم صحة الصلح فيما إذا كان الأجنبي مُنكِرًا (أو) لكونه شراء (دَيْن لغير من هو في ذمته) تعليل لعدم صحة الصلح من الأجنبي عن الدَّين، مع إقرار الأجنبي به (أو) لكونه شراء (مغصوب لا يقدِر على تخليصه) تعليل لعدم صحة صلح الأجنبي عن العين مع إقراره بها، إذا كان الأجنبي عالمًا بعجزه عن استنقاذها (وتقدم حُكمهن) أي: حكم هذه المسائل، بعضها (في السَّلَم

(1)

، و) بعضها في (البيع

(2)

) بل مسألة الدَّيْن تكررت فيهما.

(وإن علم) الأجنبي القدرة عليه (أو ظَنَّ القدرة عليه) أي: الاستنقاذ من المُدَّعى عليه (أو) علم أو ظن (عدمها) أي: عدم القدرة (ثم تبيَّن) له (القدرة، صح فيـ) ــما إذا كان الأجنبي مقِرًّا والمدَّعى به (العين فقط) لأن الصلح تناول ما يمكن تسليمه، وأما في الدَّين

(3)

إذا كان الأجنبي منكِرًا، فلا يصح مطلقًا، لما تقدم

(4)

.

(ثم إن عَجَزَ) الأجنبيُّ بعد أن صالح عن العين المقَر بها لتكون له (عن ذلك) أي: عن استنقاذها (فهو) أي: الأجنبي (مخير بين فسخ

(1)

(8/ 115).

(2)

(7/ 320، 334).

(3)

زاد في "ذ": "وفيما".

(4)

(8/ 291).

ص: 292

الصُّلح) ويرجع بما دفعه للمدَّعي؛ لأن المعقود عليه لم يسلم له (و) بين (إمضائه) أي: الصلح، ويصبر حتى يقدر على استنقاذها.

"تنبيه": إذا قال أجنبي

(1)

: أنا وكيل المُدَّعى عليه في مصالحتك، وهو مقر لك في الباطن، فظاهر الخرقي: أنه لا يصح؛ لأنه هضم للحق، وقال القاضي: يصح.

ومتى صدَّقه المُنكِر ملك العين، ولزمه ما ادعى عنه بإذنه، وإن أنكر الوكالة حلَّفه وبرئ. وأما ملكها في الباطن، فإن كان وكَّله فلا يقدح إنكاره، وإن لم يوكله لم يملكها.

وإن قال الأجنبيُّ للمدعي: قد عَرَف المدعى عليه صحةَ دعواك، وهو يسألك أن تصالحه عنه، وقد وكَّلني في المصالحة عنه، صح؛ لأنه لم يمتنع من أدائه، بل صالح عليه مع بذله، وإن صالح المُنكِر بشيء، ثم أقام المُدَّعي بينة أن المُنكِر أقر قبل الصلح بالملك، لم تسمع، ولم ينقض الصلح، ولو شهدت بأصل الملك.

فصل في الصلح عما ليس بمال

(ويصح الصلح عن كل ما يجوز أخذ العوض عنه، سواء كان) المصالح عنه (مما يجوز بيعه) من عين ودين (أم لا) يجوز بيعه، كقصاص، وعيب مبيع.

(1)

في "ح": "الأجنبي".

ص: 293

(فيصح) الصلح (عن القصاص) مع الإقرار والإنكار (بديات) لأن الحسن، والحسين، وسعيد بن العاص بذلوا للذي وجب له القصاص على هُدبة بن خَشرَم سبعَ ديات، فأبى أن يقبلها

(1)

؛ ولأن المال غير متعين؛ فلا يقع العوض في مقابلته (و) يصح الصلح عن القصاص -أيضًا - (بدية، وبأقل منها، وبكل ما يثبت مهرًا) وهو أقل متمول (حالًّا) كان (أو مؤجلا) لأنه يصح إسقاطه مجانا، فعلى ذلك أولى.

(و) يصح الصلح (عن سُكنى الدار) التي يستحقها بإجارة، أو وصية ونحوها (و) عن (عيب المبيع) قال في "المجرَّد": وإن لم يصح بيع ذلك؛ لأنه لقطع الخصومة.

(ولو صالح) الجاني (عن القصاص بعبدٍ أو غيره) كأمَةٍ ودار (فخرج) العبد (مستحقا، أو حرا) أو كانت الأمَة كذلك، أو الدار مستحقة أو موقوفة (رجع) وليُّ القصاص (بقيمته) أي: قيمة العبد أو

(1)

قال المبرد في الكامل (3/ 1452 - 1456) في قصة مقتل هدبة بن خشرم: ويقال: إنه عُرض على ابن زيادة عشر ديات فأبى إلا القود، وكان ممن عَرَض الديات عليه -ممن ذُكر لنا-: الحسين بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، وسائر القوم من قريش وأنصار.

وأخرجها -مسندة- أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني (21/ 254 - 274) وفيه: فسأل سعيدُ بن العاص أخا زيادة أن يقبل الدية عنه، قال: أعطيك ما لم يعطه أحد من العرب، أعطيك مائة ناقة حمراء ليس فيها جداء ولا ذاتُ داء، فقال له: والله لو نقبت لي قبتك هذه، ثم ملأتها لي ذهبا، ما رضيت بها من دم هذا الأجدع، فلم يزل سعيد يسأله، ويعرض عليه فيأبى، ثم قال له: والله لو أردت قبول الدية لمنعني قوله:

لنجدعنَّ بأيدينا أنوفكم

ويذهبُ القتل فيما بيننا هدَرا

فدفعه حينئذ ليقتله بأخيه.

وذكرها عنه مختصرًا ابن عساكر في تاريخه (34/ 374).

ص: 294

نحوه؛ لتعذُّر تسليمه، فيرجع إلي بدله.

(وإن عَلِما) أي: المتصالحان (كونه) أي: العبد أو نحوه (مستحقًّا أو حرًّا) لم يصح الصُّلح (أو كان) المصالح به عن القصاص (مجهولا، كدار وشجرة بطلت التسمية) لعلمهما بطلانها (ووجبت الدية) لرضا مستحق القصاص بإسقاطه (أو) وجب (أرش الجُرح) إن كانت الجناية جُرحا، وعفا عنها على مجهول، أو نحو حر يعلمانه.

(وإن صالح) الجاني (على حيوان مطلق من آدمي) كعبد أو أَمةٍ غير معينين ولا موصوفين (أو) صالح على حيوان مطلق (غيره) أي: غير آدمي؛ كفرس أو بعير غير معين، ولا موصوف (صَحَّ) الصُّلح (ووجب الوسط) لأنه أقرب للعدل بينهما.

(ولو

(1)

صالح) المُدعى عليه (عن دار أو عبد بعِوض، فبان العِوض مستحقًّا، أو) بعبد، فبان (حرًّا، رجع) المُدعي في الدار) المصالح عنها (أو) رجع فيـ (ـما صالح عنه) إن صالح عن غير دار، وكان باقيا (أو بقيمته إن كان) المصالح عنه متقوَّمًا (تالفا) وإن كان مِثليًّا فبمِثله (لأن الصلح هنا بيع حقيقة إذا كان عن إقرار) فإذا تبين أن العِوض كان مستحقا، أو حرا، كان البيع فاسدا، فيرجع فيما كان له.

(وإن كان) الصلح (عن إنكار) وظهر العِوض مستحقا أو حرًّا (رجع) المدعي (بالدعوى) أي: إلى دعواه قبل الصلح؛ لتبين بطلانه.

(ولو صالح) إنسان (سارقا، أو شاربا، أو زانيا، ليطلِقه ولا يرفعه إلى السلطان) لم يصح الصلح؛ لأن الرفع إلى السلطان ليس حقا يجوز الاعتياض عنه.

(1)

في متن الإقناع (2/ 372): "وإن".

ص: 295

(أو) صالح (شاهدا على أن لا يشهد عليه بحق آدمي، أو بحق الله، كزكاة ونحوها، أو) لئلا شهد عليه (بما يوجب حدًّا، أو) صالحه (على أن لا يشهد عليه بالزور) لم يصح؛ لأنه صلح على حرام، أو على تَركِهِ، ولا يجوز الاعتياض عنه.

(أو) صالح (شفيعًا عن شُفعته) لم يصح؛ لأنها ثبتت لإزالة الضرر، فإذا رضي بالعوض تبينا أن لا ضرر، فلا استحقاق، فيبطل العوض؛ لبطلان معوضه. نقل ابن منصور

(1)

: الشفعة لا تباع ولا تُوهب. وأما الخلع فهو معاوضة عما ملكه بعوض، وهاهنا بخلافه.

(أو) صالح قاذف (مقذوفا عن حَدِّ) القذف، لم يصح، وإن قلنا: هو له، فليس له الاعتياض عنه؛ لأنه ليس بمال ولا يؤول إليه، بخلاف القصاص.

(أو صالح بعِوض عن خيار) في بيع أو إجارة (لم يصح الصُّلح) لأن الخيار لم يشرع لاستفادة مال، وإنما شُرع للنظر في الأحظ، فلم يصح الاعتياض عنه (وتسقط الشُّفعة وحدُّ القذف) والخيار؛ لرضا مستحقها بتركها.

(وإن صالحه على موضع قناة من أرضه يجري فيها) أي: القناة (الماء، وبيَّنا موضعها) أي: القناة (و) بيَّنا (عَرضها وطولها، جاز) الصلح بعوض معلوم؛ لأنه إما بيع أو إجارة، وكلاهما جائز.

(ولا حاجة إلى بيان عُمقِه؛ لأنه إذا ملك الموضع كان له إلى تخومه، فله أن ينزل فيه ما شاء) إن كان بيعا (وإن كان إجارة) بأن تصالحا على إجراء الماء فيها مع بقاء الملك بحاله (اشتُرِط ذِكرُ العُمقِ) كما في

(1)

الكوسج في مسائله (6/ 3020) رقم 2255.

ص: 296

"الكافي".

وأطلق في "الفروع"، و"الإنصاف"، و"المنتهى"، وغيرها: لا يُشترط ذِكْرُ العُمْق، قال في "شرح المنتهى": لأنه إذا ملك عين الأرض، أو نفعها كان له إلى التخوم، فله أن ينزل فيها ما يشاء.

(وإن صالحه على إجراء الماء في ساقيةٍ) أي: قناة (من أرض ربِّ الأرض مع بقاء ملكة) أي: ربّ الأرض (عليها) أي: أرض الساقية (فهو إجارة للأرض) لأنه بيع منفعتها بعوض معلوم (يُشترط فيه تقدير المُدَّة، وسائر شروط الإجارة) كسائر الإجارات، قَطَع به في "الكافي" و"المغني"

ومقتضى كلامه في "الإنصاف" كـ"الفروع" وغيره: لا يُعتبر بيان المدة؛ للحاجة، وتبعهم في "المنتهى".

(ويعلم تقدير الماء) المصالح على إجرائه في الساقية (بتقدير الساقية) التي يخرج منها الماء إلى الموضع الذي يجري فيه من أرض المصالح؛ لأنه لا يمكن أن يجري فيها أكثر من ملئها

(1)

.

(وإن كانت الأرض في يد رجل بإجارة، جاز له) أي: للمستأجر (أن يصالح رجلًا على إجراء الماء فيها) أي: في الأرض الموجودة فيها (في ساقية محفورة) فيها (مدة لا تجاوز مدة الإجارة) لأنه يملك المنفعة، فكان له أن يستوفيها بنفسه، وبمن يقوم مقامه.

(وإن لم تكن الساقية محفورة لم يجز) للمستأجر (أن يصالحه على ذلك) أي: على إجراء ساقيته فيها (لأنه) يحتاج إلى إحداث الساقية، والمستأجر (لا يجوز) له (إحداث ساقية في أرض في يده بإجارة.

(1)

في "ح": "من مائها".

ص: 297

فإن كانت الأرض في يده وقفًا عليه) وأراد أن يصالح على إجراء الماء في ساقية في الأرض الموقوفة (فـ) ـــالموقوف عليه (كالمستأجر) إن كانت محفورة، جاز، وإلا؛ فلا، قاله القاضي وابن عقيل. وقال في "المغني": والأولى أنه يجوز له حَفْر الساقية؛ لأن الأرض له، وله التصرُّف فيها كيف شاء ما لم يُنقل الملك فيها إلى غيره. قال في "الفروع": فدلَّ أن الباب والخوخة والكوَّة ونحو ذلك لا يجوز في مؤجرة، وفي موقوفة الخلافَ، أو يجوز قولًا واحدًا، وهو أَولى، وظاهره: لا تُعتبر المصلحة وإذْن الحاكم، بل عدم الضرر. انتهى.

قلت: ينبغي أن يكون ناظر الوقف، وولي اليتيم، كالمستأجر إن رأى مصلحةً، وإلا؛ فلا. وفي "المنتهى": وموقوفة كمؤجرة، وهي تشمل الموقوفة على معين، أو غيره.

(وكذا المستعير) له أن يصالح على إجراء الماء في ساقية محفورة بالأرض المستعارة، كالمستأجر، وليس له أن يصالح على إحداثها. هذا ما جزم به في "الإنصاف"، وغيره، وفيه نظر؛ لأن المُستعير لا يملك المنفعة، فكيف يُصَالح عليها؟ ولهذا لا يجوز أن يؤجر ولا يعير، وعلى تسليم الصحة، فينبغي أن يكون العوض المصالح به عن ذلك لمالك الأرض، كما يأتي فيما لو أجرها بإذن معير.

(وإن صالحه على إجراءِ ماءِ سَطْحِهِ من المطر على سَطْحِه، أو) صالحه على إجراء ماء (في أرضه) حال كون الماء (من سَطْحه، أو) صالحه على إجراء ماء المطر (في أرضه) حال كونه (عن أرضه، جاز) الصلح في ذلك (إذا كان ما يجري ماؤه) من أرض أو سطح (معلومًا) لهما (إما بالمشاهدة، وإما بمعرفة المساحة) أي: مساحة السطح، أو الأرض

ص: 298

التي ينفصل ماؤها (لأن الماء يختلف بصغر السطح والأرض وكبرهما) فاشتُرط معرفتهما.

(ويُشترط) أيضًا (معرفة الموضع الذي يخرج منه الماء إلى السطح) أو إلى الأرض؛ دفعًا للجهالة.

(ولا تفتقر) صحة الإجارة (إلى ذِكْرِ المدة؛ لدعوى الحاجة) إلى تأبيد ذلك (فيجوز العقد على المنفعة في موضع الحاجة غير مقدَّر بمدة، كنِكاح، لكن قال) ابن رجب (في "القواعد") في السابعة والثمانين

(1)

: (ليس بإجارة محضة؛ لعدم تقدير المدة) بل هو شبيه بالبيع (بخلاف الساقية) التي يجري

(2)

فيها غير ماء المطر (فكانت بيعًا تارة، وإجارة) تارة (أخرى) فاعتُبر فيها تقدير المدة على ما تقدم، وسبق ما فيه.

(وإن كانت الأرض أو السطح الذي يجري عليه الماء مستأجرًا أو عارية، لم يجز أن يصالح) المستأجر أو المستعير (على إجراء الماء عليه بغير إذن مالكه) أما في السطح؛ فلتضرُّره بذلك، وأما في الأرض؛ فلأنه يجعل لغير صاحب الأرض رسمًا، فربما ادَّعى ملكها بعد.

(ويحرم إجراء ماء في ملك إنسان بلا إذنه، ولو مع عدم تضرُّرِهِ، أو) مع عدم (تضرُّرِ أرضه) بذلك؛ لأنه استعمال لملك الغير بغير إذنه (ولو كان) ربُّ الماء (مضرورًا إلى ذلك) أي: إلى إجرائه في ملك غيره، فلا يجوز له؛ لما سبق.

(ولو صالحه على أن يسقي أرضه من نَهره، أو) من (عينه) أو بئره (مدة ولو معينة، لم يصح) الصلح (لعدم ملكه الماء) لأن الماء العِدّ لا

(1)

ص / 213.

(2)

في "ح": "يخرج".

ص: 299

يُملك بملك الأرض كما تقدم.

(وإن صالحه على سهم منهما) أي: من النهر أو العين، أو البئر (كثلث ونحوه) من ربع أو خمس (جاز) الصلح (وكان) ذلك (بيعًا للقرار) أي: للجزء المُسمَّى من القرار (والماء تابعٌ له) أي: للقرار، فيقسم بينهما على قَدْرِ ما لكل منهما فيه.

(ويصح أن يشتري ممرًّا في ملك غيره) دارًا كان أو غيرها (و) أن يشتري (موضعًا في حائط يفتحه بابًا، و) أن يشتري (بقعة) في أرض (يحفرها بئرًا) بشرط كون ذلك معلومًا؛ لأن ذلك نَفْعٌ مقصودٌ، فجاز بيعه كالدور.

(و) يصح أيضًا أن يشتري (عُلْوَ بيت يبني عليه بنيانًا موصوفًا) أو ليضع عليه خشبًا موصوفًا؛ لأنه ملك للبائع، فجاز بيعه كالأرض. ومعني "موصوفًا" أي: معلومًا. قال في "المبدع": وظاهره أنه لا يجوز أن يحدث ذلك على الوقف. قال في "الاختيارات"

(1)

: وليس لأحد أن يبني على الوقف ما يضرُّه اتفاقا، وكذا إن لم يضره عند الجمهور.

(وكذا لو كان البيت) الذي اشترى عُلْوَه (غير مبني إذا وصف العلو والسُّفْل) ليكون معلومًا، وإنما صح؛ لأنه ملكٌ للبائع، فكان له الاعتياض عنه.

(ويصح فِعْل ذلك) أي: ما ذكر من اتخاذ ممر في ملك غيره، أو موضع في حائطه يفتحه بابا، أو بقعة في أرضه يحفرها بئرًا، أو علو بيت يبني عليه بنيانًا، أو يضع عليه خشبًا معلومين (صُلحًا أبدًا) أي: مؤبدًا، وهو في معنى البيع (و) فعله (إجارةً، مدةً معلومة) لأن ما جاز بيعه

(1)

ص / 199.

ص: 300

جازت إجارته. قال في "المنتهى": وإذا مضت، بقي، وله أجرة المِثْل.

(ومتى زال) البنيان أو الخشب (فله إعادته) لأنه استحق إبقاءه بعوض (سواء زال لسقوطه) أي: سقوط البنيان، أو الخشب (أو) زال لـ (ـــسقوط الحائط) الذي استأجره لذلك (أو) زال لـ (ـــــغير ذلك) كهدمه إياه.

(ويرجع) المصالح على ربِّ البيت (بأجرة مدة زواله) أي: زوال بنائه أو خشبه في أثناء مدة الإجارة سقوطًا لا يعود، قاله في "المغني" (عنه) أي: عن البيت. جزم به في "الإنصاف" و"المنتهى" وغيرهما. وعلى مقتضى ما في الإجارة: إنما يرجع إذا كان من فعل ربِّ البيت، أو من غير فعلهما. أما إن

(1)

كان من قبل المستأجر وحده، فلا رجوع له.

(وله) أي: لربِّ البيت (الصُّلح على زواله) أي: إزالة العلو عن بيته (أو) الصُّلح بعد انهدامه على (عدم عوده) سواء كان ما صالحه به مثل العوض الذي صولح به على وضعه، أو أقل أو أكثر؛ لأن هذا عِوض عن المنفعة المستحقة له فيصحُّ بما اتفقا عليه.

فصل في أحكام الجوار

قال صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سَيُوَرِّثُهُ" متفق عليه من حديث ابن عمر

(2)

، وعائشة

(3)

، وجاء في معناه

(1)

في "ح": "إذا".

(2)

البخاري في الأدب، باب 28، حديث 6015، ومسلم في البر والصلة والآداب، حديث 2625.

(3)

البخاري في الأدب، باب 28، حديث 6014، ومسلم في البر والصلة والآداب، حديث 2624.

ص: 301

أحاديث

(1)

كلها تدل على مثل ذلك. وهذا الفصل وضع لبيان ما يجب من ذلك.

(وإن حصل في هوائه) المملوك له هو أو منفعته (أو) في (هواء جدار له فيه شركة) في عينه أو منفعته (أغصان شجرة غيره) أو حصلت الأغصان على جداره (فطالبه) أي: طالب ربُّ العقار أو بعضه أو منفعته صاحبَ الأغصان (بإزالتها، لزمه) أي: لزم ربَّ الأغصان إزالتُها؛ لأن الهواء تابع للقرار، فوجب إزالة ما يشغله من ملك غيره، كالدابة إذا دخلت ملكه، وطريقه: إما القطع، أو ليُّه إلى ناحية أخرى، وسواء أثر ضررًا؛ أو لا.

(فإن أبى) ربُّ الأغصان إزالتها (لم يُجبر؛ لأنه) أي: حصولها في هوائه (ليس من فعله.

ويضمن ربُّها) أي: الأغصان (ما تَلِفَ بها بعد المطالبة) قطع به في

(1)

منها: ما أخرجه البخاري في الأدب، باب 29، حديث 6016 عن أبي شريح، ومسلم في الإيمان، حديث 46 عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه".

ومنها: ما أخرجه أيضًا البخاري في الأدب، باب 30، حديث 6017، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فِرْسنَ شاة".

ومنها: ما أخرجه البخاري في الأدب، باب 31، حديث 6019، ومسلم في الإيمان، حديث 48، عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه قال: "سمعت أذناي وبصرت عيناي حين تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره

" الحديث.

ومنها: ما أخرجه البخاري في الأدب، باب 31، حديث 6018، ومسلم في الإيمان، حديث 47 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره".

ص: 302

"التنقيح"، وصحَّح في "الإنصاف" عدم الضمان، ونقل الضمان عن "المغني" و"الشرح" و"شرح" ابن رزين، ونقل في "المبدع" عن "الشرح" أنه قَدَّم عدم الضمان. قلت: وقدَّمه في "المغني" وهو قياس ما يأتي في الغصب، فيمن مال حائطه؛ لأنه ليس من فعله، بل جعل في "المغني" هذه المسألة مبنية على تلك.

(ولمن حصلت) الأغصان (في هوائه إزالتها) إذا أبى مالكها (بلا حكم حاكم) لأن ذلك إخلاء ملكه الواجب إخلاؤه (فإن أمكنه) أي: ربَّ الهواء (إزالتُها) أي: الأغصان (بلا إتلاف) لها (ولا قَطْع من غير مشقة، ولا غرامة، مثل أن يلويها ونحوه، لم يَجُز له إتلافها) كالبهيمة الصائلة، إذا اندفعت بدون القتل (فإن أتلفها في هذه الحالة غَرِمها) لتعديه به (وإن لم يمكنه إزالتها إلا بقطع ونحوه، فله ذلك، ولا شيء عليه) كالصائل، إذا لم يندفع إلا بالقتل.

(وإن صالح) ربُّ الأغصان (عن ذلك) أي: عن بقاء الأغصان بهوائه (بعِوض، لم يصح) الصُّلح (رطْبًا كان الغصن أو يابسًا) لأن الرَّطب يزيد ويتغيَّر، واليابس ينقص، وربما ذهب بالكلية (وفي "المغني": اللائق بمذهبنا صحته) أي: الصلح مطلقًا (اختاره ابن حامد، وابن عقيل، وجزم به جماعة) منهم صاحب "المنور"، وقدَّمه ابن رزين في "شرحه"؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك لكثرتها في الأملاك المتجاورة، وفي القطع إتلاف وضرر، والزيادة المتجددة يُعفى عنها، كالسِّمن الحادث في المستأجر للركوب.

قال في "المغني": وكذلك قوله: دعني أُجْرِي في أرضك ماءً، ولك أن تسقي به ما شئت، وتشرب منه، ونحو ذلك.

ص: 303

(وإن اتفقا) أي: ربُّ الهواء والأغصان (على أن الثمرة) أي: ثمرة الأغصان الحاصلة بهواء الجار (له) أي: لصاحب الهواء (أو) أن الثمر (بينهما، جاز) الصلح؛ لأنه أسهل من القطع (ولم يلزم) الصلح، فلكل منهما إبطاله متى شاء؛ لأنه مجرَّد إباحة من كلِّ منهما لصاحبه. وصحة الصُّلح هنا مع جهالة العِوض -وهو الثمرة- خلاف القياس؛ لخبر مكحول يرفعه:"أيما شجَرَةٍ ظللتْ على قومٍ، فهم بالخيارِ بين قطعِ ما ظللَ أو أكلِ ثمرِها"

(1)

.

(وفي "المبهج" في الأطعمة: ثمرة غصن في هواء طريق عام للمسلمين) ومعناه -أيضًا- لابن القيم في "إعلام الموقعين"

(2)

لأن إبقاءه إذنٌ عرفًا في تناول ما سقط منه.

(وإن امتدَّ من عروق شجره إلى أرض جاره) ولو مشتركة (فأثَّرت) العروق (ضررًا كتأثيره) أي: الممتد (في المصانع، وطيٍّ) أي: بناء (الآبار، وأساس الحيطان، أو) كتأثيره في (منعها) أي: الأرض التي امتدت إليها العروق (من نبات شجر، أو) نبات (زرع لصاحب الأرض، أو لم يؤثر) الممتد شيئًا من ذلك (فالحكم في قطعه) أي: إزالته (و) في (الصلح عنه كالحكم في الأغصان) على ما تقدم من التفصيل والخلاف (إلا أن العروق لا ثَمَرَ لها) بخلاف الأغصان.

(فإن اتفقا على أن ما ينبت من عروقها لصاحب الأرض) كله (أو جزءًا معلومًا منه، فكالصُّلح على الثمرة) فيصح جائزًا، لا لازمًا؛ قياسًا

(1)

أخرجه أحمد (3/ 499)، وابن عساكر في تاريخه (34/ 112) وهو مرسل، لأن مكحولًا تابعي.

(2)

(2/ 345).

ص: 304

على الثمرة (فإن) وقع الصُّلح على ذلك، و (مضت مدة، ثم أبى صاحب الشجرة دفع نباتها) أو ثمرتها (إلى صاحب الأرض، فعليه أجرة المِثلْ) لبقائها تلك المدة؛ لأنه لم يرضَ بالتبقية إلا على عِوض، ولم يسلم له.

(وصلح مَنْ مالَ حائطُه) إلى ملْك غيره (أو من زلق خشبه إلى ملْك غيره كـ) ــصلح ربِّ (غصن) مع ربِّ الهواء، فلا يصح على ما تقدم.

(ولا يجوز) لأحد (أن يُخرِج إلى طريق نافذ جناحًا، وهو الروشن) على أطراف خشب مدفونة في الحائط (ولا) أن يخرج (ظُلَّةً) أي: بناء يستظل به من نحو حرٍّ (ولا) أن يخرج (ساباطًا، وهو سقيفة بين حائطين تحتها طريق

(1)

، ولا) أن يخرج (ميزابًا) لأن ذلك تصرُّفْ في ملْك غيره بغير إذنه، كغير النافذ، وسواء ضرَّ بالمارة أوْ لا؛ لأنه إذا لم يضر حالًا، فقد يضرُّ مآلًا (إلا بإذن إمام أو نائبه، إن لم يكن فيه) أي: في الميزاب والجناح والساباط (ضررٌ) فتجوز هذه الثلاثة؛ لأن الإمام أو نائبه نائب المسلمين، فإذنه كإذنهم، ولما روى أحمد:"أن عمر اجتاز على دار العباس رضي الله عنهما وقد نصبَ ميزابًا إلى الطريق فقلعهُ، فقال: تقلعه؛ وقد نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده؟! فقال: والله لا تنصبه إِلا على ظهري، فانحنى حتى صعد على ظهره، فنصبه"

(2)

؛ ولأن العادة جارية به.

(1)

زاد في "ذ" ومتن الإقناع (2/ 376): (ولا) أن يخرج (دكانًا) بضم الدال وهو: الدكة بفتح الدال (المبنية للجلوس عليها).

(2)

أحمد (1/ 210). وأخرجه -أيضًا- ابن سعد (4/ 20) مطولًا من طريق هشام بن سعد، عن عبيد الله بن عباس.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 206 - 207) رواه أحمد ورجاله ثقات، إلا أن هشام بن سعد لم يسمع من عبيد الله. =

ص: 305

(وانتفاء الضَّرر في الساباط) والجناح والميزاب (بحيث يمكن عبور محمل ونحوه تحته) أي: الساباط.

(قال الشيخ

(1)

: والسَّاباط الذي يضرُّ بالمارة مثل أن يحتاج الراكبُ أن يحني رأسه إذا مرَّ هناك) أي: تحته (وإن غفل) الراكب (عن نفسه رمى) الساباط (عمامته، أو شجَّ) الساباطُ (رأسه، ولا يمكن أن يمرَّ هناك) أي: تحته (جَمَلٌ عال إلا كسر) الساباط (قَتَبه، والجمل المُحَمَّل لا يمر هناك) أي: تحته (فمِثل هذا الساباط لا يجوز إحداثه على طريق المارة باتفاق المسلمين، بل يجب على صاحبه) أي: الساباط (إزالته، فإن لم يفعل، كان على ولاة الأمور إلزامه بإزالته، حتى يزول الضَّرر، ولو كان الطريق منخفضًا) وقت وضع الساباط، بحيث لا ضرر فيه إذ ذاك (ثم ارتفع) الطريق (على طول الزمان، وجب) على ربه (إزالته) دفعًا لضرره (إذا كان الأمر على ما ذكر) من أنواع الضرر.

(وقال) الشيخ

(2)

: (ومن كانت له ساحة يلقى فيها التراب والحيوان) الميت (وتضرَّرَ الجيران بذلك، فإنه يجب على صاحبها أن يدفع ضرر الجيران، إما بعمارتها، أو بإعطائها لمن يعمرها، أو) بأن (يُمنع أن يلقي فيها ما يضرُّ بالجيران.

= وقد روي -أيضًا- من وجوه أخرى، فرواه ابن سعد (4/ 20)، والبيهقي (6/ 66) عن يعقوب بن زيد، بنحوه.

ورواه الحاكم (3/ 331) في حديث طويل عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، وقال: والشيخان رضي الله عنهما لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. ورواه أبو داود في المراسيل ص / 293، حديث 406، وعبد الرزاق (8/ 292) حديث 15264 عن موسى بن أبي عيسى أبي هارون المدني مرسلًا.

(1)

الاختيارات الفقهية ص / 200.

(2)

الاختيارات الفقهية ص / 199.

ص: 306

وقال) الشيخ

(1)

: (لا يجوز لأحد أن يُخرِج في طريق المسلمين شيئًا من أجزاء البناء، حتى إنه يُنهى عن تجصيص الحائط، إلا أن يدخل) ربُّ الحائط به (في حدِّه بقَدْرِ غِلَظِ الجص. انتهى.

ولا يجوز أن يبني) أحدٌ (في الطريق دُكانًا، ولو كان الطريق واسعًا) لما تقدم

(2)

(ولو بإذن إمام) أو نائبه، بخلاف الجناح والساباط والميزاب؛ لأنه لا تضييق فيها؛ لأنها في العلو، بخلاف الدُّكان (ولا أن يفعل ذلك) أي: بناء دُكان، أو إخراج جناح، أو ساباط، أو ميزاب (في ملك إنسان، ولا هوائه، ولا) في (دَرْب غير نافذ إلا بإذن أهله) لأن المنع لحقِّهم؛ فإذا رضوا بإسقاطه، جاز. وأما الطريق النافذ فالحق فيه لجميع المسلمين، والإذن من جميعهم غير مُتصوَّر.

(ويضمن) من بنى دكانًا، أو أخرج جناحًا، أو ساباطًا، أو ميزابًا لا يجوز له (ما تلف به) من نفس

(3)

أو مالٍ؛ لتعديه به.

(ولا يسقط شيء من ضمانه) أي: ضمان ما يتلف بسبب ما ذكر من الدكان والجناح ونحوه (بتآكل أصله) وفيه وجه: يسقط به نصف الضمان.

(فإن صالح) ربُّ الميزاب والدكان ونحوهما مالك الأرض أو الهواء، أو أهل الدرب غير النافذ (عن ذلك) المذكور (بعِوض، صح) الصُّلح (ولو في الجناح والساباط) لأن الهواء يصح أخذ العِوض عنه، كالقرار، كما سبق

(4)

(بشرط كون ما يخرجه) من جناح، أو ساباط، أو

(1)

مختصر الفتاوى المصرية ص / 349، ومجموع الفتاوى (30/ 10).

(2)

(8/ 305).

(3)

في "ذ" زيادة: "أو طرف".

(4)

(8/ 302).

ص: 307

ميزاب، أو دكان (معلوم المقدار في الخروج والعلو) دفعًا للجهالة.

(ولا يجوز) لأحد (أن يحفر في الطريق النافذة بئرًا لنفسه، سواء جعلها لماء المطر، أو استخرج منها ماء) عِدًّا (ينتفع به) ولو بلا ضرر؛ لأن الطريق ملك للمسلمين كلهم، فلا يجوز أن يحدث فيها شيئًا بغير إذنهم، وإذنهم كلهم غير مُتصوَّر.

(وإن أراد حَفْرها) أي: البئر (للمسلمين) لأجل (نفعهم مثل أن يحفرها لسقي الناس والمارة من مائها، أو لينزل فيها ماء المطر عن الطريق (في طريق ضيق) مُنعَ للضرر (أو كانت) الطريق واسعة، وأراد حَفْرها (في ممرِّ الناس، بحيث يخاف سقوط إنسان فيها، أو) يخاف سقوط (دابة) فيها (أو) بحيث (يُضيِّق عليهم ممرَّهم، لم يجز) له حفرها؛ لأن ضررها أكثر من نفعها، ودرء المفاسد مقدَّم على جلْب المصالح.

(وإن حَفَرها) أي: البئر للمسلمين (في زاوية من طريق واسع، وجعل عليها ما يمنع الوقوع فيها، جاز) له ذلك؛ لأنه مصلحة بلا مفسدة (كتمهيدها) أي: الطريق (وبناء رصيف فيها) يمر عليه الناس نحو مطر، وكذا بناء مسجد فيها، ويأتي في الغصب.

(و) حفر البئر (في دَرْبٍ غير نافذ لا يجوز إلا بإذن أهله) لأن الدَّرْب ملك لهم، فليس لأحد التصرُّف فيه إلا بإذنهم.

(ولو صالح) من يريد حفر البئر (أهل الدَّرْب عن ذلك بعِوضٍ جاز) الصلح؛ لأن الحق لهم (سواء حفرها لنفسه أو للسبيل، وكذا إن فعل ذلك) أي: حفر البئر (في ملك إنسان) لم يجز إلا بإذنه، وإن صالحه عنه بعِوض، جاز.

(وإذا كان ظهر داره في دربٍ غير نافذ، ففتح بابا) فيه (لغير

ص: 308

الاستطراق، جاز) له (لأن له رفع جميع حائطه) فبعضه أَولى (ولا يجوز) له ولا لأحد (الاستطراق) منه (إلا بإذنهم) لأن الملْك فيه لهم كما تقدم

(1)

(وإن صالحهم) عن ذلك بعِوض (جاز) الصُّلح، وكان لازمًا؛ لأن ذلك حقهم، فجاز لهم أخذ العِوض عليه، كسائر الحقوق.

(ويجوز) لمن ظهر داره (في دَرْبٍ نافذ) أن يفتح له بابًا للاستطراق؛ لأن الحق فيه لجميع المسلمين، وهو من جملتهم، ولا ضرر فيه على المجتازين.

(قال الشيخ

(2)

: وإن كان له باب في دَرْبٍ غير نافذ يستطرق استطراقًا خاصًّا، مثل أبواب السر التي يخرج منها النساء، أو الرجل المرَّة بعد المرَّة، هل له أن يستطرق منها استطراقًا عامًّا؟ ينبغي أن لا يجوز هذا. انتهى) لأن الظاهر أنه إنما استحق الاستطراق كذلك، فلا يتعداه.

(ويحرم) على الجار (إحداثه في ملكه ما يضرُّ بجاره) لخبر: "لا ضَرر ولا ضِرارَ"

(3)

احتجَّ به أحمد

(4)

(ويُمنع) الجار (منه) أي: من إحداثه ما يضرُّ بجاره (إذا) أراد (فعله) لما تقدم (كـ) ـما يمنع من (ابتداء إحيائه ما يضرُّ بجاره. وأمثلة إحداث ما يضرُّ بالجار (كحفر كنيف إلى جنب حائط جاره) يضره (وبناء حمَّام يتأذَّى بذلك، ونصب تَنُّور يتأذَّى) جاره (باستدامة دخانه، وعمل دُكان قِصارة، أو حِدَادة يتأذَّى بكثرة دَقّه، و) يتأذَّى (بهزِّ الحيطان) من ذلك (و) نصب (رحىً) يتأذَّى بها جاره (وحَفْر بئر ينقطع بها ماء بئر جاره، وسقي وإشعال نار يتعديان إليه) أي:

(1)

(8/ 308).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (30/ 11).

(3)

تقدم تخريجه (2/ 111) تعليق رقم (1).

(4)

مسائل عبد الله (3/ 1003) رقم 1368.

ص: 309

إلى الجار (ونحو ذلك) من كل ما يؤذيه.

(ويضمن) من إحداثٍ بملكه ما يضرُّ بجاره (ما تَلِفَ به) أي: بسبب الإحداث؛ لتعديه به.

(بخلاف طَبْخه) أي: الجار (وخبزه فيه) أي: في ملكه على العادة، فلا يُمنع من ذلك؛ لأن الضرر لا يُزال بالضرر.

(ويُمنع) ربُّ حَمَّام ونحوه (من إجراء ماء الحَمَّام) ونحوه (في نهر غيره) لأنه تصرُّفٌ في ملك الغير بغير إذنه.

(وإن كان هذا الذي حصل منه الضَّرر) للجار من حَمَّام ورحىً ونحوهما (سابقًا) على ملك الجار (مثل من له في ملكه مدبغة ونحوها) من رحىً وتنور (فأحيا إنسان إلى جانبه مواتًا، أو بناه) أي: بنى جانبه (دارًا) قلت: أو اشترى دارًا بجانبه بحيث (يتضرَّر) صاحب الملك المحدث (بذلك) المذكور من المدبغة ونحوها (لم يلزمه) أي: صاحب المدبغة ونحوها (إزالة الضرر) لأنه لم يحدث بملكه ما يضرُّ بجاره.

(وليس له) أي: للجار (منعه) أي: منع جاره (من تعلية داره، ولو أفضى) إعلاؤه (إلى سَدِّ الفضاء عنه) قاله الشيخ

(1)

. قال في "الفروع": وقد احتجَّ أحمد بالخبر: "لا ضررَ ولا ضِرارَ"

(2)

فيتوجَّه منه منعه (أو خاف) أي: ليس للجار منع جاره من تعلية بنائه ولو خاف (نقص أجرة داره) قال الشيخ

(3)

: بلا نزاع. قال في "الفروع": كذا قال.

(وإن حَفَرَ) إنسانٌ (بئرًا في ملكه فانقطع ماء بئر جاره، أُمِر) حافر

(1)

الاختيارات الفقهية ص / 198.

(2)

تقدم تخريجه (2/ 111) تعليق رقم (1).

(3)

الاختيارات الفقهية ص / 199.

ص: 310

البئر (بسَدِّها ليعود ماء البئر الأول) لأن الظاهر أن انقطاعه بسببها.

(فإن) سَدَّ الثاني بئره و (لم يَعُد) ماء الأولى (كُلِّف صاحب البئر الأول حفر البئر التي سُدِّت لأجله من ماله) لأنه تسبب في سَدِّها بغير حق.

(ولو ادَّعى) إنسان (أن بئره فسدت من خلاء جاره، أو) من (بالوعته، وكانت البئر أقدم منها) أي: من الخلاء والبالوعة (طُرحَ في الخلاء أو البالوعة فقط، فإن لم يظهر طعمه ولا رائحته في البئر، عُلم أن فسادها بغيره) أي: غير الخلاء والبالوعة، فلا يكلَّف ربهما نقلهما.

(وإن ظهر فيها ذلك) أي: طعم النفط (كُلِّف صاحبُ الخلاء والبالوعة؛ نَقْل ذلك) أي: الخلاء والبالوعة؛ دفعًا لضرره (إن لم يمكن إصلاحها

(1)

) نحو بناء يمنع وصوله إلى البئر.

وإن كانت البئر بعدهما، لم يُكلَّف ربهما نقلهما مطلقًا؛ لأنه لم يحدثهما، وإنما ربُّ البئر أحدثها.

(ولو كان لرجل مصنع، فأراد جاره غرس شجرة مما تسري عروقه كشجرِ تِينٍ ونحوه) كَجُمَّيزٍ

(2)

(فَيَشقُّ) عرقه (حائط مصنع جاره ويُتلفه، لم يملك) جاره (ذلك) لما فيه من ضرر جاره، فإن فعل، ضَمِن (وكان لجاره منعه) من غرسها (و) لجاره (قَلْعها إن غرسها) دفعًا لضررها.

(ولو أنَّ بابه في آخر دَرْبٍ غير نافذ، ملك نقله) أي: الباب (إلى

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (2/ 379): "إصلاحه".

(2)

الجُمَّيز: الواحده جُمَّيزة، وهو التين الذكر، ويكون بالغور، ويوجد بكثرة في أرض الشام ومصر، وهو ألوان مختلفة، منه الأصفر وهو حلو، والأسود ويُدمي الفم.

انظر: تاج العروس (15/ 71) مادة (جمز).

ص: 311

أوله) أي: الدرب؛ لأنه تَرَكَ بعضَ حقه؛ لأن له الاستطراق إلى آخره (إن لم يحصُل) منه (ضرر، كفتحه مقابل باب غيره ونحوه) كفتحه عاليًا يصعد إليه بسلَّم يُشرف منه على دار غيره.

(و) إن كان بابه في أول الدَّرْب أو وسطه (لم يملك نقله إلى داخل منه) تلقاء صدر الزُّقاق؛ لأنه يقدم بابه إلى موضع لا استطراق له فيه (إن لم يأذن) له (من فوقه) أي: من هو داخل عنه، فإن أذن، جاز (ويكون أعارة إن أذنوا) فإذا سَدَّه ثم أراد فتحه، لم يملكه إلا بإذن متجدد، لكن ليس للآذن الرجوع بعد فتحه مادام مفتوحًا، قياسًا على ما قالوه فيما لو أذن لجاره في البناء على حائطه، أو وضع خشبه عليه، ليس له الرجوع؛ لأنه إضرارٌ به. ذكره في "شرح المنتهى".

(وحيث نَقَلَه) أي: الباب عن آخر الدَّرْب (إلى أول الدَّرْب، فله رَدُّه إلى موضعه الأول) لأن تركه لبعض حقه لا يسقطه، فله الرجوع متى شاء.

(ولو كان له داران متلاصقتان، ظَهْرُ كل واحدة منهما إلى ظَهْرِ الأُخرى، وبابُ كلِّ واحدة منهما في درْبٍ غير نافذ، فَرَفع) صاحب الدارين (الحاجز بينهما، وجعلهما دارًا واحدة، جاز) له ذلك؛ إذ لا حَجْرَ عليه في ملكه.

(وإن فَتَحَ من كل واحدة منهما) أي: من الدارين (بابًا إلى) الدار (الأخرى ليتمكن من التطرُّق من كل واحدة منهما إلى الدَّارين جاز) لأن له رفع الحاجز، فبعضه أولى.

(ولو كان في الدَّرْب) غير النافذ (بابان فقط لرجلين، أحدهما) أي: البابين (قريبٌ من باب الزقاق، و) الباب (الآخر من داخله) أي:

ص: 312

الدرب (فتنازعا) أي: الرجلان (في الدَّرب، حُكِمَ بالدَّرب من أوله إلى الباب الذي يليه) أي: أول الدرب (بينهما) لأن لهما الاستطراق فيه جميعًا (و) حكم (بما بعدَه) أي: بعد الباب الأول (إلى صَدْر الدَّرب للآخر، يختصُّ به ملكًا له) لأن الاستطراق في ذلك له وحده، فله اليد والتصرُّف فيما جاوز بابه (وله) أي: لصاحب الباب الآخر (أن يجعله) أي: ما بعد باب الأول (دِهْليزًا لنفسه، و) له (أن يدخله في داره على وجهٍ لا يضرُّ بجاره) لأنه ملكه، فجاز له التصرُّف فيه كيف شاء بلا ضرر.

(ولا يضع) أحد من أهل الدَّرْب المشترك (على حائطه) أي: الدَّرْب (شيئًا) لأنه تصرُّف في مشترك بغير إذن باقي الشركاء (وليس له أن يفتح في حائط جاره) رَوْزَنةً، ونحوها (ولا) أن يفتح في (الحائط المشترك رَوْزَنة ولا طاقًا، ولا غيرهما من التصرُّفات، حتى بضَرْب وَتَدٍ) أو مسمار أو نحوه؛ إذ لا فَرْق؛ لأنه انتفاع بملك غيره بما له قيمة بغير إذنه؛ فمنع منه، كالبناء عليه.

والرَّوْزَنة: الكوة، بفتح الكاف وضمها: الخرق في الحائط، والطاق: ما عطف من البنيان. ومنه طاقة القبلة.

(ولا أن يُعْليه) أي: يُعْلي حائط جاره أو المشترك (ولا) أن (يُحْدِث عليه سُتْرةً، ولا) أن يُحدِث عليه (حائطًا، ولا خُصًّا

(1)

يَحجز به بين السطحين إلا بإذن صاحبه) أو شريكه، لما تقدم.

(وإن صالحه عن ذلك) أي: عن البناء عليه، أو وضع السترة أو الخصِّ ونحوه (بعوض، جاز) الصلح، سواء كان إجارة في مدة معلومة،

(1)

الخُصّ: البيت من القصب، والجمع أخصاص، المصباح المنير ص / 233، مادة (خصَّ).

ص: 313

أو صُلحًا على وضعه على التأبيد، ومتى زال فله إعادتُه، ويحتاج لوصف البناء، كما تقدم

(1)

.

(وله الاستناد إليه) إلى جدار جاره أو المشترك (وإسناد شيء لا يضرُّه، والجلوس في ظله، ونظره في ضوء سراجه بلا إذن) لأن هذا لا مضرة فيه، والتحرُّز منه يشق.

(قال الشيخ

(2)

: العين والمنفعة التي لا قيمة لها عادة، لا يصح أن يرد عليها عقد بيع، و) لا عقد (إجارة اتفاقًا، كمسألتنا) أي: كالاستناد إلى الحائط ونحوه، ومثلها في العين نحو حبة بُرٍّ.

(ولو كان له حق ماء يجري على سطح جاره، لم يجز له) أي: لجاره (تعلية سطحه ليمنع) جريان (الماء) على سطحه؛ لأنه إبطال لحق جاره، وكذا ليس له تعليته ليكثر ضرر جاره (ولو كثر ضرره) بجريان الماء على سطحه؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر.

(وليس له وضع خشبه على حائط جاره، أو) الحائط (المشترك) بلا إذنه (إلا عند الضرورة بأن لا يمكنه التسقيف إلا به) أي: بوضع الخشب على حائط الجار، أو المشترك (فيجوز) وضعه، سواء كان له حائط واحد أو حائطان؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا:"لا يمنعنَّ جارٌ جاره أن يضع خشبه على جداره"، ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضينَ، والله لأرمينَّ بها بينَ أكتافكم. متفق عليه

(3)

. ومعناه: لأضعن

(1)

(8/ 300).

(2)

مجموع الفتاوى (30/ 305)، والاختيارات الفقهية ص / 198.

(3)

البخاري في المظالم، باب 20، حديث 2463، ومسلم في المساقاة، حديث 1609.

ص: 314

هذه السُّنة بين أكتافكم، ولأحملنَّكم على العمل بها. وقيل معناه: لأضعنَّ جذوع الجيران على أكتافكم مبالغة؛ ولأنه انتفاع بحائط جاره على وجه لا يضر به، أشبه الاستناد إليه.

وإن أمكن وضعه على غيره لم يجز وضعه عليه إلا بإذن ربه، وإذا لم يمكن إلا به جاز (ولو) كان الحائط (ليتيم ومجنون) أو مكاتَب أو وقف ونحوه؛ لعموم ما سبق (ما لم يتضرر الحائط) بوضع الخشب عليه، فلا يوضع بغير إذن ربه مطلقًا؛ لحديث:"لا ضررَ ولا ضرارَ"

(1)

.

(وليس له) أي: لجارِ ربِّ الحائط (منعه) أي: منع جاره (منه) أي: وضع خشبه (إذًا) أي: إذا لم يمكن تسقيف إلا به بلا ضرر على الحائط، لما تقدم

(2)

.

(فإن أبى) ربٌّ الحائط تمكينه منه (أجبره، حاكمٌ) عليه؛ لأنه حق عليه.

(وإن صالحه عنه بشيء، جاز) قاله في "الإنصاف". وظاهره حتى في الحالة التي يجب فيها التمكين.

وقال في "المبدع": إذا أذن له المالك في وضع خشبه، أو البناء على جداره بعوض، جاز، قال: وإن كان في الموضع الذي يجوز له، لم يجز أن يأخذ عوضًا؛ لأنه يأخذ عوض ما يجب عليه بَذْله، (وكذا حكم جدار مسجد) إذا لم يمكن جاره تسقيف إلا بوضع خشبه عليه، جاز بلا ضرر، كالطِّلْق

(3)

.

(1)

تقدم تخريجه (2/ 111)، تعليق رقم 1.

(2)

(8/ 314).

(3)

بكسر الطّاء: هو ضِدُّ الوقف، سُمِّيَ طِلْقًا؛ لأن مالكه مُطْلَقُ التصرُّف فيه، =

ص: 315

(ومن ملك وضع خشبه على حائط، فزال) الخشب عن الحائط (بسقوطه) أي: الخشب (أو قَلْعِهِ، أو سقوط الحائط، فله) أي: ربُّ الخشب (إعادته بشرطه) بأن لا يمكن تسقيف إلا به بلا ضرر؛ لأن السبب المجوز لوضعه مستمر، فاستمر استحقاق ذلك.

وإن خيف سقوط الحائط بعد وضعه، لزم إزالته؛ لأنه يضرُّ بالمالك، وإن لم يخف عليه، لكن استغنى عن إبقائه عليه، لم تلزم إزالته، قاله في "المغني".

(ومتى وَجَده) أي: خشبه (أو) وجد (بناءه، أو مسيل مائه ونحوه) كجناحه أو ساباطه (في حق غيره، أو) وجد (مجرى ماء سطحه على سطح غيره، ولم يعلم سببه، فهو) أي: ما وجده حق (له؛ لأن الظاهر وضعه بحق) من صلح أو غيره، خصوصًا مع تطاول الأزمنة.

(فإن اختلفا) في أنه وضع بحق أَوْ لا (فقول صاحب الخشب والبناء والمسيل) ونحوه: إنه وضع بحق (مع يمينه) عملًا بالظاهر.

(فإن زال) الخشب ونحوه (فله) أي: لربِّه (إعادته) لأن الظاهر استمرار حقه فيه، فلا يزول حتى يوجد ما يخالفُه.

(وله) أي: لمن وجد خشبه أو بناءه ونحوه على جدار غيره (أخذ عِوضٍ عنه) بأن يصالحه بعِوض على إزالته، أو عدم إعادته.

(ولو كان له وضع خشبه على جدار غيره) لكونه لا يمكن تسقيف إلا به بلا ضرر (لم يملك) من قلنا له وضع خشبه (إجارته) أي: الحائط

= والوقف: غير مُطْلَقِ التصرُّف، بل هو مَمنوعٌ من بيعه وهبته. النظم المستعذب (2/ 355).

ص: 316

(ولا إعارته، ولا بيعه، ولا المصالحة عنه للمالك) أي: مالك الحائط (ولا لغيره؛ لأنه) أي وضع الخشب (أُبيح له مِن حق غيره لحاجته) كطعام غيره إذا أُبيح له من أجل الضرورة

(1)

.

(ولو أراد صاحبُ الحائط) الَّذي استحق الجار وضع خشبه عليه (إعارته أو إجارته على وجه يمنع هذا المستحق من وضع خشبه، لم يملك ذلك) لأنه يسقط به حقًّا وجب عليه، وإن باعه صح البيع، ولا يملك المشتري منعه.

(ولو أراد هَدْمَ الحائط لغير حاجة، لم يملك ذلك) أي: هدمها؛ لأنه يسقط به ما وجب عليه من تمكين جاره من وضع خشبه عليه.

(وإن احتاج) ربُّ الحائط (إلى ذلك) أي: إلى هَدْمِهِ (للخوف من انهدامه، أو لتحويله) أي: الحائط (إلى مكان آخر، أو لغرض صحيح) غير ذلك (مَلَكَ ذلك) أي: هَدْمه؛ لأنه ملكه، فله التصرُّف فيه بما شاء غير مضار لجاره.

(ولو أذن صاحب الحائط لجاره في البناء على حائطه، أو وضع سترة، أو خشبه عليه) ونحو ذلك (في الموضع الَّذي لا يستحق وضعه) عليه (جاز) لأن الحق له (وصارت عارية لازمة، ويأتي.

وإن أذن له في ذلك) أي: في وضع خشبه أو بنائه (بأجرة جاز، سواء كانت إجارة، أو صلحًا على وضعه على التأبيد، ومتى زال فله إعادته، ويُشترط معرفة البناء) أو الخشب (و) معرفة (العرض، والطول، والسُّمْك، والآلات من الطين واللبِن، أو الطين والآجر، وما أشبه ذلك) قطعًا للنزاع والمخاصمة.

(1)

في "ذ" زيادة: "وليس ملكًا له حتَّى يتصرف فيه".

ص: 317

(وإذا سقط الحائط الَّذي عليه البناء، أو الخشب في أثناء مدة الإجارة سقوطًا لا يعود، انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة) لتعذُّر استيفاء المعقود عيه (ورجع) المستأجر على ربِّ الحائط، فيأخذ (من الأجرة) إن كان عَجَّلها له (بقسط ما بقي من المُدَّة) وإن لم يكن عجَّلها سقط عنه بقسط الباقي.

(وإن أُعيد) الحائط (رجع) ربُّ البناء، أو الخشب (من الأجرة بقَدْرِ مدة السقوط) لانفساخ الإجارة فيه.

(وإن صالحه مالك الحائط على رفع خشبه، أو بنائه بشيء معلوم) لهما (جاز، سواء كان ما صالحه به مثل العوض الَّذي صولح به على وضعه، أو) كان (أقل، أو أكثر) لأنه ملك المنفعة، فجاز له أخذ العوض عنها كالمستأجر يؤجر.

(وكذلك لو كان له مسيل ماء في أرض غيره، أو) كان له (ميزاب أو غيره) من جناح، أو ساباط ونحوه (فصالح صاحب الأرض مستحقَّ ذلك بعوض ليزيله عنه، جاز) الصلح.

(وإن كان الخشب، أو الحائط) الَّذي بناه على ملك غيره (قد سقط فصالحه) صاحب الحائط (بشيء على أن لا يعيده) أي: الخشب، أو البناء على الحائط

(1)

(جاز) لأنه ملك المنفعة، فجاز له الاعتياض عنها.

فصل

(ويلزم أعلى الجارين بناء سترة تمنع مشارفة الأسفل) لأن الإشراف على الجار إضرار به، لأنه يكشفه، ويطلع على حرمه، فمنع

(1)

في "ح": "حائطه".

ص: 318

منه؛ لحديث: "لا ضرر ولا ضرار" رواه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس مرفوعًا

(1)

و (كما لو كانت السُّترة قديمة فانهدمت، فإنه يجب إعادتها، فإن استويا) بحيث لم يكن أحدهما أعلى من الآخر (اشتركا) لأنه ليس أحدهما أولى من الآخر بالسُّترة، فلزمتهما.

(وأيهما) أي: أيُّ المستويين (أبي) بناء السترة مع جاره (أجبر) عليه (مع الحاجة إلى السترة) لأنه حق عليه، لتضرر جاره بمجاورته له من غير سترة، فأجبر عليه مع الامتناع، كسائر الحقوق.

(فإن كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر، فليس لصاحب) السطح (الأعلى الصعودُ على سطحه، على وجه يشرف على سطح جاره، إلا أن يبني) الأعلى (سُترة تستره) عن رؤية الأسفل (كما تقدم.

ولا يلزم الأعلى سد طاقته، إذا لم ينظر منها ما يحرم نظره من جهة جاره) إذ لا ضرر فيها على الجار حينئذ، فإن رأى ذلك منها لزمه سدها.

(ويجبر الشريك على العمارة مع شريكه في الأملاك، والأوقاف المشتركة) لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضررَ ولا ضرارَ" وكنقضه عند خوف سقوطه، وكالقسمة والبناء، وإن كان لا حرمة له في نفسه، لكن حرمة الشريك الَّذي يتضرَّر بترك البناء توجب ذلك.

(فإن انهدم حائطهما) المشترك (أو) انهدم (سقفها) المشترك (فطالب أحدُهما صاحبه ببنائه معه، أُجبر) الممتنع منهما، لما تقدم (فإن امتنع، أَخذ الحاكم من ماله) النفقة

(2)

(وأنفق عليه) مع شريكه بالمحاصَّة

(1)

تقدم تخريجه (2/ 111)، تعليق رقم (1).

(2)

في "ذ": "النقد".

ص: 319

(فإن لم يكن له) أي: للممتنع (عين مال) أي: نقْد (وكان له مَتَاع، باعه) أي: باع الحاكم مَتَاعه (وأنفق منه) على حصته مع الشريك، كوفاء دَين الممتنع منه (فإن لم يكن له) أي: للممتنع نَقْد ولا عَرْض (اقترض) الحاكم (عليه وأنفق) على حصته، كنفقة حيوانه.

(وإن أنفق الشريك) على بناء حِصَّة شريكه (بإذنه) أي: إذن شريكه (أو إذن حاكم، أو) أنفق (بنيَّة رجوع) بغير إذنهما (رجع) على شريكه (بما أنفق) بالمعروف (على حصة الشريك) لأنه قام عنه بواجب (وكان) البناء (بينهما) أي: بين الشريكين (كما كان قبل انهدامه) لا يختصُّ به الباني؛ لرجوعه على شريكه بما يقابل حصته منه.

وإن بناه الشريك لنفسه بآلته، فشركةٌ بينهما كما كان، وليس له مَنْعُ شريكه من الانتفاع به قبل أخذ نصف نفقة تأليفه، كما أنَّه ليس له نقضه، وإن بناه بغير آلته فهو له، وله نقضه، لا إن دفع له شريكه نصف قيمته. وإن أراد غير الباني نقضه، أو إجبار بانيه على نقضه، لم يكن له ذلك.

(وإن استُهدم) أي: آل إلى الانهدام (جدارهما، أو سقفهما وخيف ضرره، نقضاه وجوبًا) دفعًا لضرره (فإن أبى أحدهما) هَدْمه (أجبره الحاكم) عليه؛ إزالةً للضرر (ويأتي في الغصب ضمان ما تَلِفَ به) مفصَّلًا.

(وأيهما) أي: أيُّ شريكين (هَدَمه) أي: هَدَم ما خيف سقوطه (إذَنْ بغير إذْنِ صاحبه، فلا شيء) أي: فلا ضمان (عليه) لأنه مُحسِن، بل قياس ما سبق يرجع بما يقابل حصته من أجرة الهدم، إن نوى الرُّجوع (كما لو انهدم) المشترك (بنفسه) من غير فِعْل أحدهما.

(وإن اتفقا على بناء الحائط المشترك بينهما نصفين، وملكه بينهما)

ص: 320

نصفين (والنفقة كذلك) أي: نصفان (على أن ثلثه لأحدهما، وللآخر الثلثان، لم يصح) الصلح (لأنه يصالح، على

(1)

بعض ملكه ببعض) وذلك غير صحيح.

(وإن اتفقا على أن يحمِّله) أي: الحائط المشترك بعد بنائهما له (كل واحد منهما) أي: من الشريكين (ما شاء) من بناء أو خشب (لم يجز) الصُّلح (لجهالة الحمل.

و‌

‌لا يُجبر) الشريك (على بناء حاجز بين ملكيهما)

لأن انتفاعهما لا يتوقف على ذلك، فلا ضرر في تركه، بخلاف الحائط المشترك والسقف، فإن أراد أحدهما البناء، فله ذلك في ملكه خاصة.

(ولو انهدم سُفْلٌ) لإنسان، و (عُلْوُه لغيره، انفرد صاحب السُّفْل ببنائه) لانفرداه بملكه (وأُجبر) صاحب السُّفْل (عليه) ليتمكن صاحب العلو من انتفاعه به.

(وإن كان على العلو طبقةٌ ثالثة) لآخر (فصاحب الوسط مع من فوقه، كمن) أي: كالذي (تحته) وهو صاحب السُّفل (معه) أي: مع صاحب العلو، فيجبر ربُّ الوسطى

(2)

على بنائها، وينفرد به، كما تقدم

(3)

.

(وإذا كان نهر، أو بئر، أو دولاب، أو ناعورة، أو قناة) شركة (بين جماعة، واحتاج) ذلك (إلى عمارة، أو كَرْي) أي: تنظيف (أو) إلى (سَدّ

(1)

في "ذ": عن.

(2)

في "ح": "الوسط".

(3)

(8/ 319).

ص: 321

شقٍّ

(1)

فيه، أو إصلاح حائط، أو) إصلاح (شيء منه، كان غُرم ذلك) الَّذي يحتاج إليه (بينهم، على حسب ملكهم فيه) أي: في ذلك المشترك، كما تقدم

(2)

في الحائط والسقف، (ويُجبر الممتنع) منهم من العمارة لحق شركائه (وليس لأحدهم مَنْعُ صاحبه من عمارته) إذا أرادها كالحائط.

(فإن عمره) أحدهم (فالماء بينهم على الشركة) ولا يختص به المعمر؛ لأن الماء ينبع من ملكيهما، وإنما آثر أحدهما في نقل الطين منه، وليس له فيه عين مال، والحكم في الرجوع بالنفقة كما تقدم

(3)

في الحائط.

(فإن كان بعضهم) أي: بعض الشركاء في النهر ونحوه (أدنى) أي: أقرب (إلى أوله من بعض، اشترك الكل في كريه) أي: تنظيف النهر ونحوه (و) في (إصلاحه، حتَّى يصلوا إلى الأول، ثم) إذا وصلوا إلى الأول فـ (ـلا شيء على الأول) لانتهاء استحقاقه؛ لأنه لا حق له فيما وراء ذلك.

(ويَشترك الباقون حتَّى يصلوا إلى الثاني، ثم لا شيء عليه) أي: الثاني، لما تقدم (ويشترك من بعده) أي: بعد الثاني إلى أن ينتهوا إلى الثالث، ثم لا شيء عليه، وهكذا (كلما انتهى العمل إلى موضع واحد منهم، لم يكن عليه فيما بعده شيء) لأنه لا ملك له فيما وراء موضعه.

(ومتى هَدَم) أحد الشركاء (مشتركًا من حائط، أو سقف قد خشي

(1)

في "ذ" والإقناع (2/ 384): بثق.

(2)

(8/ 319).

(3)

(8/ 319).

ص: 322

سقوطه، ووجب هَدْمه) لذلك (فلا شيء عليه) لأنه مُحسن (كما لو انهدم بنفسه) وتقدم

(1)

.

(وإن كان) هَدْمُ أحد الشريكين الحائط، أو السقف المشترك (لغير ذلك) أي: خوف سقوطه (لحاجة أو غيرها، التزم إعادته أو لا، فعليه إعادته) كما كان؛ لتعديه على حصة شريكه، ولا يمكن الخروج من عهدة ذلك إلا بإعادته جميعه، هذا كلامهم. ومقتضى القواعد؛ أنَّه يضمن أرش نقص حصة شريكه.

(ولو اتفقا) أي: الشريكان (على بناء حائطِ بستان، فبنى أحدُهما) ما عليه، وأهمل الآخر (فما تَلِفَ من الثمرة بسبب إهمال الآخر، ضَمِنه) أي: ضمن نصيب شريكه منه (الَّذي أهمل، قاله الشيخ

(2)

) لتلفه بسببه.

(ولو كان السُّفْل لواحد والعلو لآخر) وتنازعا في السقف، ولا بيِّنة (فالسقف بينهما) لانتفاع كلٍّ منهما به (لا لصاحب العلو) وحده. ويأتي في الدعاوى بأوضح من هذا.

(1)

(8/ 320).

(2)

الاختيارات الفقهية ص / 198.

ص: 323

‌باب الحَجْر

هو لغة: المنع والتضييق، ومنه: سمي الحرام حِجْرًا، قال تعالى:{وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا}

(1)

أي: حَرَامًا محرَّمًا. وسُمِّي العقل حِجْرًا؛ لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح، وتضرُّ عاقبته.

(وهو) أي: الحَجْر شرعًا: (منع الإنسان من التصرُّف في ماله) والأصل في مشروعيته قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالكُمُ}

(2)

. أي: أموالهم، لكن أُضيفت إلى الأولياء؛ لأنهم قائمون عليها، مدبِّرون لها، وقوله تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} الآية

(3)

. وإذا ثبت الحَجْر على هذين، ثبت على المجنون من باب أولى.

(وهو) أي: الحَجْر (على ضربين):

أحدهما: (حَجْر لِحَقٍّ) أي: حَظِّ (الغير) أي: غير المحجور عليه (كحَجْرٍ على مُفلِس) لحق الغرماء (و) على (مريض) مرضَ الموت المخوف وما في معناه (على ما زاد على الثلث) لحق الورثة (و) على (عَبْدٍ ومُكاتَب) لحق السيد (و) على (مُشترٍ) في جميع ماله (إذا كان الثمن في البلد أو قريبًا منه بعد تسليمه المبيع) لحق البائع.

(و) على (راهن) بعد لزوم رهن لحق مُرْتَهِن (و) على (مشتر) في الشقْص المشفوع (بعد طلب شفيع) إن قلنا: لا يملكه بالطلب، لحق

(1)

سورة الفرقان، الآية:22.

(2)

سورة النساء، الآية:5.

(3)

سورة النساء، الآية:6.

ص: 324

الشفيع (و) على (مرتد) لحق المسلمين (وغير ذلك) كالمقتِّر على نفسه وعياله، والزوجة بما زاد على الثلث على قول فيهما (على ما يأتي) توضيحه (فنذكر منه) أي: من هذا الضرب (هاهنا الحَجْر على المفلس) وما عداه في أبوابه. وتقدم بعضه.

(وهو) أي: المُفلِس (مَن لا مال) أي: نَقْد (له، ولا ما يدفع به حاجته) من العروض، فهو المعدم، ومنه أفلس بالحجة، أي: عدمها، ومنه الخبر المشهور:"من تعدُّون المفلس فيكم؟ قالوا: من لا دِرهم له ولا متاعَ، قال: ليس ذلك المُفلِس، ولكنَّ المفلس من يأتي يوم القيامة بحسناتٍ أمثال الجبال، ويأتي وقد ظلم هذا، وأخذَ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن بقي عليه شيء، أُخذَ من سيئاتهم فرد عليه، ثم طرحَ في النار" رواه مسلم بمعناه

(1)

.

فقولهم ذلك إخبارٌ عن حقيقة المفلس؛ لأنه عُرْفُهم ولُغتهم، وقوله:"ليس ذلك المفلس" تجوزٌ لم يردْ به نفي الحقيقة، بل

(2)

أراد فَلَسَ الآخرة؛ لأنه أشدُّ وأعظم، حتَّى إن فَلَسَ الدنيا عنده بمنزلة الغنى.

(و) المُفلِس (شرعًا: من لزمه) من الدَّين (أكثر من ماله) الموجود. وسموه

(3)

مفلِسًا، وإن كان ذا مال؛ لأن ماله مستحق الصَّرْف في جهة دَيْنه؛ فكأنه معدوم، أو باعتبار ما يؤول من عدم ماله بعد وفاء دينه؛ أو لأنه يُمنع من التصرُّف في ماله إلا الشيء التافه الَّذي لا يعيش إلا به، كالفلوس ونحوها.

(1)

في البر والصلة والآداب، حديث 2581 عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

في "ذ" زيادة: "إنما".

(3)

في "ذ": "سمي".

ص: 325

(و) الضرب الثاني: (حَجْرٌ لحظِّ نفسه) أي: نفس المحجور عليه (كحَجْرٍ على صغير، ومجنون، وسفيه) إذ فائدة الحَجْر عليهم لا تتعداهم.

(فحَجْر المفلس: منع حاكم مَنْ) أي: شخصًا (عليه دَين حالٌّ يعجز عنه ماله الموجود) حال الحَجْر (مدة الحَجْر من التصرُّف فيه) أي: في ماله. ويأتي محترز قيوده.

(ومن لزمه دين مؤجَّل) من ثمن مبيع، أو صداق، أو غيره (حرمت مطالبته به قبل) حلول (أجله) لأنه لا يلزمه أداؤه قبل الأجل، ومن شروط المطالبة: لزوم الأداء (ولم يُحجر عليه من أجله) لأن المطالبة لا تستحق، فكذا الحجر.

(وإن أراد سفرًا طويلًا) فوق مسافة القصر عند الموفق، وابن أخيه، وجماعة. قال في "الإنصاف": ولعله أولى، ولم يقيده به في "التنقيح" و"المنتهى" وغيرهما، فمقتضاه العموم، ولعله أظهر (يحل الدين) المؤجَّل (قبل فراغه) أي: السفر (أو) يحل (بعده، مخوفًا كان) السفر (أو غيره) أي: غير مخوف (وليس به) أي: الدَّين (رهن يفي به، ولا كفيل مليء) بالدَّين (فلغريمه منعه) من السفر؛ لأن عليه ضررًا في تأخير حقه عن محله، وقدومه عند المحل غير متيقن، ولا ظاهر، فَمَلَك منعه. (في غير جهاد متعيّن) فلا يمنع منه، بل يمكَّن؛ لتعينه عليه (حتَّى) أي: لغريم من أراد سفرًا مَنعه إلا أن (يوثِّقه بأحدهما) أي: برهن يحرز الدَّين، أو كفيل مليء، فإذا وثَّقه بأحدهما لم يمنعه لانتفاء الضرر.

(فلو أراد المَدِين وضامنه معًا السفر، فله) أي: الغريم (منعهما، و) له (منع أحدهما أيهما شاء) فإن شاء منع المدين، أو ضامنه (حتَّى

ص: 326

يوثق بما ذكر) من رهن محرز، أو كفيل مليء (وكذلك لو كان الضامن غير مليء) بالدَّين، وأراد المدين السفر (فله) أي: للغريم (أن يطلب منه) أي: المدين (ضامنًا مليئًا، أو رهنًا) مليئًا، أو رهنًا محرزًا.

(ولو كان بالدَّين رهن لا تفي قيمته به) أي: بالدَّين (فله) أي: الغريم (أن يطلب) من المدين (زيادة الرهن حتى تبلغ قيمة الجميع قَدْر الدَّين، أو يطلب منه) أي: المدين (ضامنًا بما يبقى من الدَّين بعد قيمة الرهن) ليزول عنه الضرر.

(وإن أراد) المَدين (سفرًا وهو عاجز عن وفاء دينه، فلغريمه منعه حتى يقيم كفيلًا ببدنه، قاله الشيخ

(1)

) لأنه قد يوسر في البلد الذي سافر إليه، فلا يتمكن الغريم من طلبه، فإذا كان ثمَّ كفيل طلبه بإحضاره.

(ولا يملك) ربُّ دَين (تحليل) مدين (محرِم) بالحج، أو العمرة فرضًا أو نفلًا؛ لوجوب إتمامها بالشروع.

(وإن كان دينه) أي: المدين (حالًا، وهو قادر على وفائه) أي: الدَّين الحال (وطُلب) الدَّين (منه) أي: من المدين (فسافر) المدين (قبل وفائه؛ لم يجز له أن يترخَّص بقصر ولا غيره) كفطر، وأكل ميتة؛ لأنه عاصٍ بسفره.

(فإن كان) المدين (عاجزًا عن وفاء شيء منه) أي: الدَّين (حرمت مطالبته، والحَجْر عليه، وملازمته) لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ}

(2)

وقوله صلى الله عليه وسلم لغرماء الذي كَثُرَ دينه: "خذوا ما

(1)

الاختيارات الفقهية ص / 200.

(2)

سورة البقرة، الآية:280.

ص: 327

وجدتم، وليس لكم إلا ذلك"

(1)

.

(وإن كان له) أي: المدين (مالٌ يفي بدينه الحال، لم يُحْجَر عليه) لعدم الحاجة إلى ذلك؛ لأن الغرماء يمكنهم المطالبة بحقوقهم في الحال (ولو كان عليه دَينٌ مؤجَّل غيره) أي: غير الحال؛ لأن المؤجَّل لا يطالب به قبل أجله.

(و) يجب (على الحاكم أن يأمره) أي: المدين (بوفائه إن طلبه) أي: الأمر (الغرماء منه) أي: من الحاكم؛ لما فيه من فصل القضاء المنتصب له.

(ويجب على) مدين (قادر وفاؤه) أي: الدَّين الحال (على الفور بطلَب رَبِّه) له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَطْلُ الغني ظلمٌ"

(2)

، وبالطلب يتحقق المَطْل (أو عند) حلول (أجله، إن كان) الدَّين (مؤجلًا) ابتداء، ثم حلَّ؛ قاله ابن رجب

(3)

، وتقدم (وإلا) بأن لم يطالب به ربه (فلا) يجب عليه على الفور، لمفهوم ما سبق.

(فإن كان له) أي: المدين (سِلعة فطلب) من ربِّ الحق (أن يمهله حتى يبيعها ويوفيه) الدَّين (من ثمنها، أُمهل بقَدْرِ ذلك) أي: بقدْرِ ما يتمكَّن من بيعها والوفاء.

وكذا إن طُولب بمسجد أو سوق، وماله بداره، أو مُودَع، أو ببلد آخر، فيمهل بقَدْرِ ما يحضره فيه.

(وكذلك إن أمكنه) أي: المدين (أن يحتال لوفاء دَينه؛ باقتراض

(1)

أخرجه مسلم في المساقاة، حديث 1556، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

تقدم تخريجه (8/ 126) تعليق رقم (2).

(3)

انظر: القواعد الفقهية، القاعدة الثانية والأربعون، ص / 54.

ص: 328

ونحوه) فيمهل بقَدْر ذلك، ولا يحبس لعدم امتناعه من الأداء، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وإن خاف ربُّ الحق هَرَبَه، احتاط بملازمته، أو كفيل.

(و) إن (طَلَبَ) المدين (أن يُرسِّم عليه حتى يفعل ذلك) أي: ما يتمكَّن به من الوفاء (وجبت إجابته إلى ذلك) دفعًا لضرره (ولم يجز مَنْعُه منه) أي: الوفاء (بحبسه) لأنه عقوبة لا محوج إليها.

(وكذا إن طلب تمكينه منه) أي: من الوفاء (محبوس) فيُمكَّن (أو توكَّل) إنسان (فيه) أي: في وفاء الدَّين؛ فيمهل بقَدْرِ ما يتمكَّن فيه من الوفاء (قاله الشيخ)

(1)

كما يمهل الموكِّل.

(ولو مطل) المدينُ ربَّ الحق (حتى شكا عليه، فما غرمه) ربُّ الحق (فعلى) المدين (المماطل) إذا كان غرمه على الوجه المعتاد، ذكره في "الاختيارات"

(2)

لأنه تسبب في غرمه بغير حق (وفي "الرعاية": لو أحضر مدَّعى به ولم يثبت للمدَّعي، لزمه) أي: المدَّعي (مؤنة إحضاره، و) مؤنة (ردَّه) إلى موضعه؛ لأنه ألجأه إلى ذلك بغير حق (وإلا) بأن أثبته (لزما المنكر) لحديث: "على اليد ما أخذتْ حتى تؤديه"

(3)

.

(وقال الشيخ

(4)

: لو تغيَّب مضمونٌ عنه، فَغَرِم الضامنُ بسببه) رجع بما غرمه، أو أنفقه في الحبس، كما تقدم. أطلقه في موضع، وقيَّده في آخر بقادر على الوفاء. وتقدم. قال في "شرح المنتهى": ولعل المراد: إن ضَمِنه بإذنه، وإلا؛ فلا فِعْل له ولا تسبُّب.

(1)

مجموع الفتاوى (30/ 25)، الاختيارات الفقهية ص / 200.

(2)

الاختيارات الفقهية ص / 201.

(3)

تقدم تخريجه (7/ 446) تعليق رقم (2).

(4)

الاختيارات الفقهية ص / 195.

ص: 329

(أو غَرِم) شخص (بسببِ كَذِبٍ عليه عند وليِّ الأمر) أو بإغراء، أو دلالة عليه (رَجَع) الغارم (على المتسبب) بما غَرِمه لتسببه، وقرار الضمان على الآخذ إن كان الأخذ ظلمًا.

(فإن أبى مَن) أي: مدين (له مالٌ يفي بدَينه) الحال (الوفاءَ، حَبَسه الحاكم) لما روى عَمرو بن الشريد، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَيُّ الواجدِ ظلمٌ، يُحِلُّ عرْضَه وعقوبَتَه" رواه أحمد وأبو داود وغيرهما

(1)

.

قال أحمد

(2)

: قال وكيع "عرضه": شكواه، و"عقوبته": حبسه.

وظاهر كلامه: أنه متى توجَّه حبسُه، حُبس، ولو كان أجيرًا في مدة الإجارة، أو امرأة مزوَّجة؛ لأن الإجارة والزوجة لا تمنع من الحبس، ذكره في "المبدع".

"تتمة": قال الشيخ تقي الدين

(3)

: ولا يجب حبسه في مكان

(1)

أحمد (4/ 222، 388)، وأبو داود في الأقضية، باب 29، حديث 3628. والبخاري في التاريخ الكبير (4/ 259)، والنسائي في البيوع، باب 100، حديث 4703، 4704، وفي الكبرى (4/ 59) حديث 6288، 6289، وابن ماجه في الصدقات، باب 18، حديث 2427، وإسحاق بن راهويه كما في تغليق التعليق (3/ 319)، وابن أبي شيبة (7/ 79)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (2/ 410) حديث 949، وابن حبان "الإحسان" (11/ 486) حديث 5089، والطبراني في الكبير (7/ 318) حديث 7250، وفي الأوسط (3/ 46) حديث 2449، والحاكم (4/ 102)، والبيهقي (6/ 51). قال ابن المبارك: يحل عرضه: يغلظ عليه، وعقوبته: يحبس له.

قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي،، وحسَّن إسناده ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 47)، والحافظ ابن حجر في الفتح (5/ 62). وذكره البخاري في الاستقراض، باب 13، قبل حديث 2401 معلقًا بصيغة التمريض.

(2)

المسند (4/ 222).

(3)

الاختيارات الفقهية ص / 201.

ص: 330

معيَّن، بل المقصود منْعُه من التصرُّف حتى يؤدِّي الحق، فَيُحبس ولو في دار نفسه بحيث لا يمكَّن من الخروج.

(وليس له) أي: للحاكم (إخراجه) أي: المدين من الحبس (حتى يتبيَّن له أمره) أي: أنه مُعسِر؛ فيجب إطلاقه (أو يبرأ) المدين (من غريمه بوفاء أو إبراء) أو حوالة؛ فيجب إطلاقه لسقوط الحق عنه (أو يرضى) غريمه (بإخراجه) من الحبس بأن سأل الحاكم إخراجه، وجب إطلاقه؛ لأن حبسه حق لربِّ الدَّين، وقد أسقطه.

"فائدة": روى البخاري عن أبي موسى: الحبس على الدَّين من الأمور المحدثة، وأول من حَبَسَ عليه شُريح، وكذا الخصمان يتلازمان

(1)

.

(فإن أصرَّ) المدين المليء على الحبس ولم يقضِ الدَّين (باع) الحاكم (ماله، وقضى دينه) لما روى كعب بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم "حَجَر على معاذٍ ماله، وباعهُ في دَين كان عليه" رواه الخلال والدارقطني،

(1)

لم نقف عليه في مظانه من كتب البخاري المطبوعة، ولا غيره. وذكره -أيضًا- ابن مفلح في المبدع (4/ 308)، وعزاه للبخاري.

وعزوه إلى البخاري عن أبي موسى وهمٌ، وإنما هو من كلام ابن هبيرة في الإفصاح كما جاء في الفروع (4/ 290) موضحًا حيث قال:"وقد قال ابن هبيرة في الإفصاح في حديث أبي موسى من أفراد البخاري: الحبس على الدين من الأمور المحدثة، وأول من حبس على الدين شريح القاضي، ومضت السنة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم أنه لا يحبس على الديون، ولكن يتلازم الخصمان" وحبس شريح على الدين، أخرجه عبد الرزاق (8/ 305 - 306) رقم 15309 - 15310، وابن أبي شيبة (6/ 248، 250)، والطبرى في تفسيره (6/ 30 - 31) رقم 6278 - 6281، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (2/ 105) رقم 283.

ص: 331

ورواه الحاكم، وقال: على شرطهما

(1)

.

(1)

لم نقف عليه في مظانه من كتب الخلال المطبوعة. وأخرجه الدارقطني (4/ 230 - 231)، والحاكم (2/ 58). وأخرجه -أيضًا- العقيلي (1/ 68)، والطبراني في الأوسط (6/ 437) حديث 5935، والبيهقي (6/ 48)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 202) من طريق إبراهيم بن معاوية، عن هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه.

قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.

وقال العقيلي: إبراهيم بن معاوية لا يتابع على حديثه.

وقال الذهبي في الميزان (1/ 66) في إبراهيم بن معاوية: ضعَّفه الساجي وغيره.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 143): رواه الطبراني في الأوسط، وفيه إبراهيم بن معاوية، وهو ضعيف.

وتابع إبراهيم بن معاوية إبراهيمُ بن موسى عند الحاكم (3/ 273)، والبيهقي (6/ 48) عن هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه.

قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.

وأخرجه أبو داود في المراسيل ص / 162، حديث 171، 172، وعبد الرزاق (8/ 268) رقم 15177، والحارث بن أبي أسامة كما في "بغية الباحث" ص / 144 حديث 446، والطبراني في الكبير (20/ 30) حديث 44، وأبو نعيم في الحلية (1/ 231) والبيهقي (6/ 48)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 202) من طرق عن ابن شهاب، عن ابن كعب بن مالك، مرسلًا.

ورجح العقيلي في الضعفاء (1/ 68) هذا الوجه المرسل.

وقال عبد الحق في الأحكام الوسطى (3/ 286): هذا من المراسيل، وكذا أسنده هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه، والمرسل أصح؛ لأن عبد الرزاق أرسله عن معمر، عن الزهري، عن ابن كعب، أن معاذ بن جبل.

وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (3/ 26): المشهور في الحديث الإرسال.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 144): رواه الطبراني في الكبير مرسلًا، ورجاله رجال الصحيح. =

ص: 332

(وقال جماعة) منهم صاحب "الفصول": (إذا أصرَّ) المدين (على الحبس، وصَبَر عليه، ضَرَبه الحاكم. قال في "الفصول" وغيره: يَحبسُه، فإن أبى) الوفاء (عزَّره، قال: ويُكرِّرُ حَبْسَه وتعزيرَه حتى يقضيه) أَي: الدَّين.

(قال الشيخ

(1)

: نص عليه الأئمة من أصحاب أحمد وغيرهم. ولا أعلم فيه نزاعًا، لكن لا يزاد في كلِّ يوم على أكثر التعزير إن قبل بتقديره) وجزم بمعنى ذلك في "المنتهى".

(وقال) الشيخ

(2)

: (ومن طُولب بأداء حق عليه) من دَينٍ أو غيره (فطلب إمهالًا) بقَدْر ما يتمكَّن فيه من أدائه (أُمهل بقَدْر ذلك، -كما تقدم

(3)

، في الباب (في كلامه-؛ لكن إن خاف غريمُه منه) هربًا (احتاط عليه بملازمته أو كفيل، أو ترسيم عليه) وتقدم.

(وإن ادَّعى من عليه الدَّين الإعسار، وأنه لا شيء معه) يؤديه في الدَّين (فقال المدَّعي للحاكم: المال معه، وسأل) المُدَّعي (تفتيشه، وجب على الحاكم إجابته إلى ذلك) أي: إلى تفتيشه؛ لاحتمال صدق المدَّعي، وعدم المفسدة فيه.

(وإن صدَّقه) أي: المدين (غريمُه) في دعوى الإعسار (لم يُحبس، ووجب إنظارُه) إلى ميسرة (ولم تَجُزْ ملازمته) ولا الحَجْر عليه، كما

= وقال الحافظ في بلوغ المرام حديث 867: أخرجه أبو داود مرسلًا، ورُجِّح. وقال في التلخيص الحبير (3/ 37): قال عبد الحق: المرسل أصح من المتصل.

(1)

الاختيارات الفقهية ص / 201.

(2)

الاختيارات الفقهية ص / 200.

(3)

(8/ 328).

ص: 333

تقدم

(1)

، لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ}

(2)

.

(وإن أكذبه) أي: أكذب المدَّعي المدين في دعواه الإعسار (وكان دَينه) أي: مُدَّعي الإعسار (عن عِوض) مالي (كالبيع والقَرْض، أو عُرِف له) أي: للمدين (مالٌ سابق، والغالبُ بقاء ذلك) المال الذي عرف (أو) كان دينه (عن غير عوض، كأَرْشْ جناية، وقيمة مُتلَفٍ، ومهر، أو ضمان، أو كفالة، أو عوض خلع، و) كان (أقرَّ أنه مليء، حُبس) لأن الأصل بقاء ماله، وحبسُه وسيلةٌ إلى قضاء دينه (إلا أن يدعي) المدين (تلفًا ونحوه) كنفاد ماله، ويصدقه ربُّ الدَّين، فلا يحبس (أو يسأل) المدين (سؤاله) أي: رب الدَّين (ويصدِّقه) على أنه معسر (فلا) يُحبس، لما تقدم.

(فإن أنكره) أي: أنكر ربُّ الدَّين إعسار المدين (وأقام) ربُّ الدَّين (بينة بقدرته) على وفاء الدين، حبس؛ لثبوت ملاءته (أو حلف) ربُّ الدَّين (أنه لا يعلم عسرته) أي: المدين، حبس (أو) حلف ربُّ الدين (أنه) أي: المدين (موسر، أو ذو مال ونحوه) أي: نحو ما ذكر، بأن حلف مثلًا أنه قادر على الوفاء، ويكون حلفه بحسب جوابه كسائر الدعاوى (حبس) أي: المدين؛ لعدم ثبوت عسرته.

(فإن لم يحلِفْ) ربُّ الدَّين بعد سؤال المدين حلفه: أنه لا يعلم عُسرته (حَلَف المَدينُ) أنه معسر (وخُلِّي) سبيله لأن الأصل عدم المال (إلا أن يقيم) ربُّ الدين (بينة تشهد له) بما ادِّعاه من يساره، فيحبس المدين. ويحتمل أن يكون المعنى: إلا أن يقيم المدين بينة بإعساره فلا

(1)

(8/ 327).

(2)

سورة البقرة، الآية:280.

ص: 334

يحبس.

(وإن كان الحق عليه) أي: المدين (ثبت في غير مقابلةِ مالٍ أخذَه) المدين (كأرش جناية، وقيمةِ متلَفٍ، ومهر، أو ضمانٍ، أو كفالة، أو عوض خُلْع، ولم يعرف له) أي: المدين (مال) الغالب بقاؤه (ولم يقر) المدين (أنه مليء، حلف) المدين (أنه لا مال له، وخلِّي) سبيله؛ لأن الأصل عدم المال. قال ابن المنذر

(1)

: الحبس عقوبة، لا نعلم له ذنبًا يعاقب به؛ فإن نكل حُبس.

(فإن شهدت) بينة (بنفاد ماله، أو) شهدت (بتلفِهِ، ولم تشهد) البينة (بعسرته حَلَفَ) المدين (معها) أي: مع البينة (أنه لا مال له في الباطن) لأن اليمين على أمر محتمل، خلاف ما شهدت به البينة، ولا يُعتبر في البينة إذا شهدت بتلَفِ ماله، أو نفاده أن تكون ممن تخبر باطن حاله.

(وإن شهدت) البينة للمدين (بإعساره اعتُبر فيها) أي: البينة (أن تكون ممن تخبر باطن حاله؛ لأنها) أي: الشهادة بإعساره (شهادة على نفي قُبِلت للحاجة) لأن الإعسار من الأمور الباطنة التي لا يطلع عليها في الغالب إلا المخالطُ له.

لا يقال: هذه شهادة على نفي، فلا تُسمع، كالشهادة على أنه لا دَيْن له؛ لأن الشهادة على النفي لا ترَدُّ مطلقًا، إذ لو شهدت بينة أن هذا وارثه لا وارث له غيره، قُبلت؛ ولأن هذه الشهادة وإن تضمنت النفي، فهي تثبت حالة تظهر وتقف عليها بالمشاهدة، بخلاف ما إذا شهدت أنه لا حق له، فإن هذا مما لا يوقف عليه، ولا يشهد به حالة يتوصل بها إلى

(1)

الإشراف (1/ 148).

ص: 335

معرفته.

(ويُكتفى فيها) أي: في الشهادة بعُسرته (باثنين) كالنكاح والرجعة (ولا يحلف) مُدَّعي الإعسار (معها) أي: مع بينته الشاهدة بعُسرته (لأنه تكذيب للبينة، ويكفي في الحالين) أي: في حال شهادتها بالتلف، وحال شهادتها بالإعسار (أن تشهد بالتلف، أو) أن تشهد بـ (ـالإعسار).

وفي "التلخيص": لا يكتفى بالشهادة بالإعسار، بل لابدَّ من الشهادة بالتلف والإعسار معًا. وفي "الرعايتين" و"الحاويين" و"الفائق": تشهد بذهابه وإعساره، لا أنه لا يملك شيئًا.

(وتُسمع) البينة بذلك (قبل حَبْسه وبعدَه ولو بيوم) لأن كل بينة جاز سماعها بعد مدة، جاز سماعها في الحال، كسائر البينات، لكن قال في "الاختيارات"

(1)

: ليس له إثبات إعساره عند غير من حبسه بلا إذنه.

وإذا حبست الزوجةُ زوجَها، لم يسقط من حقوقه عليها شيء؛ فله إلزامها ملازمة بيته، وأن لا تُدْخِله أحدًا إلا بإذنه، وليس على محبوس قَبول ما يبذله غريمه مما عليه مِنَّة فيه، ولو طلب من زوجته الاستمتاع في الحبس؛ فعليها أن توفيه ذلك، قاله الشيخ تقي الدين

(2)

.

(ولو قامت بينةٌ للمفلِسِ بمال معيَّن، فأنكر) المُفلِسُ (ولم يُقرَّ به) أي: بالمال (لأحد، أو قال) المفلس: (هو لزيد، فكذَّبه زيد، قضى منه دينه) ولا يثبت الملك للمدين لأنه لا يدَّعيه. قال في "الفروع": وظاهر هذا: أن البينة هنا لا يُعتبر لها تقدُّم دعوى، قال ابن نصر الله: أي: من المالك، بل قد تحتاج إلى دعوى الغريم، وإن كانت له بينة

(1)

الاختيارات الفقهية ص / 201.

(2)

الاختيارات الفقيهة ص / 201.

ص: 336

قُدمت لإقرار ربِّ اليد.

وفي "المنتخب": تُقدَّم بينة المدعي؛ لأنها خارجة. ولابن نصر الله هنا كلام حسن، ذكرته في "حاشية المنتهى".

(وإن صدَّقه) أي: المفلس (زيدٌ، لم يقض منه) أي: من المال (الدَّين، ويكون) المال (لزيد) عملًا بإقرار ربِّ اليد (مع يمينه) أي: يمين زيد؛ لاحتمال المواطأة معه.

(ويحرم على المعسر أن) ينكر أن لا حق عليه، وأن (يحلفَ: أنه لا حق له) أي: للمدَّعي (ويتأول) لأنه ظالم للمدَّعي بذلك؛ فلم ينفعه التأويل.

وفي "الإنصاف": لو قيل بجوازه إذا تحقق ظُلم ربِّ الحق له وحبسه، ومنعه من القيام على عياله، لكان له وجه. انتهى.

ومن سُئل عن غريب وظن إعساره، شهد، قاله في "الفروع". وفي "الرعاية": والغريب العاجز عن بينة إعساره، يأمر الحاكم من يسأل عنه، فإذا ظن السائل إعساره، شهد به عنده.

(وإن كان له) أي: المدين (مال لا يفي بدينه، فسأل غرماؤُه كلُّهم) الحاكمَ الحَجْرَ عليه (أو) سأل (بعضُهم الحاكمَ الحَجْرَ عليه، لزمه) أي: الحاكم (إجابتهم) إلى الحَجْر عليه؛ لما روى كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "حَجَر على معاذٍ، وباعَ ماله" رواه الخلال

(1)

.

فإن لم يسأل أحدٌ من غرمائه الحاكم الحجرَ عليه، لم يَحْجر عليه

(2)

؛ لأنه لا يحكم بغير طلب ربِّ الحق.

(1)

تقدم تخريجه (8/ 332) تعليق رقم (1).

(2)

في "ح": "لم يلزمه" بدل: "لم يحجر عليه".

ص: 337

و (لا) يَلزم الحاكمَ (إجابةُ المعسِر) إلى الحَجْر عليه (إذا طلب) المُعسِرُ (من الحاكم الحَجْر على نفسه) لأن الحجر عليه حقٌّ لغرمائه لا له.

(ويستحبُّ) للحاكم (إظهار الحَجْر عليه، لتُجتنب معاملته.

و) يُستحب (الإشهاد عليه لينتشر ذلك، وربما عُزِل الحاكم أو مات فيثبت الحَجْر عليه عند) الحاكم (الآخر، فلا يحتاج إلى ابتداء حَجْر ثانٍ) بخلاف ما إذا لم يشهد.

(وكل ما فعله المُفلِس في ماله قبل الحَجْر عليه: من البيع، والهبة، والإقرار، وقضاء بعض الغرماء، وغير ذلك، فهو نافذ) لأنه من مالكٍ جائز التصرف (ولو استغرق) التصرُّف (جميع ماله مع أنه يحرم) على المدين التصرُّف (إن أضرَّ) تصرُّفه (بغريمه) وتقدم

(1)

.

فصل

(ويتعلَّق بالحَجْر عليه) أي: المُفلِس (أربعة أحكام:

أحدها: تعلُّق حق الغرماء بماله) لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن في الحَجْر عليه فائدة، ولأنه يُباع في ديونهم، فكانت حقوقهم متعلِّقة به، كالرهن (فلا يُقبل إقراره) أي: المُفلِس (عليه) أي: على ماله؛ لأن حقوق الغرماء متعلِّقة بأعيان ماله، فلم يُقبل الإقرار عليه، كالعين المرهونة، حتى ولو أقرَّ بعتق عبده، لم يُقبل منه؛ لأنه لا يصح منه، فلم يُقبل إقراره به، بخلاف الراهن.

(1)

(8/ 327).

ص: 338

(ولا يصح تصرُّفه فيه) أي: في ماله، ببيع ولا غيره (حتى ما يتجدَّد له) أي: للمفلس (من مال) بعد الحَجْر، فحكمُه كالموجود حال الحَجْر (من أرْش جناية) عليه، أو على قِنِّه

(1)

(وإرث، ونحوهما) كوصية، وصدقة، وهبة.

(ولو) كان تصرُّفه (عتقًا، أو صدقة بشيء كثير أو يسير) فلا ينفذ؛ لأنه ممنوع من التبرُّع لحق الغرماء، فلم ينفذ عتقه، كالمريض الذي يستغرق دينه ماله (إلا بتدبير) ووصية؛ لأن تأثيرهما بعد زوال الحجْرِ بالموت، وإنما يظهر أثر ذلك إذا مات عن مال، يخرج المُدبَّر أو الموصى به من ثلثه بعد وفاء دينه.

(وله) أي: للمفلس (رَدُّ ما اشتراه قبل الحَجْر) عليه (بعيب أو خيار) شرط، أو غبن

(2)

، أو تدليس ونحوه (غير متقيد بالأحظِّ) لأن ذلك إتمام لتصرف سابق حجره، فلم يمنع منه، كاسترداد وديعة له أودعها قبل الحَجْر.

(ويكفِّر هو) أي: المفلس (و) يكفِّر (سفيه بصوم) لأن إخراج الكفارة من مال المفلس يضرُّ بغرمائه، ومن مال السفيه يضرُّ به، وللمال المكفَّر به بدل، وهو الصوم، فرجع إليه، كما لو وجبت الكفارة على من لا مال له (فإن فكَّ حَجْره قبل تكفيره، وقدر) على المال (كفَّر بغيره) أي: غير الصوم، وهو العتق في كفارة الترتيب، كموسر لم يُحجر عليه قبل ذلك. ولعل المراد: أنه يجوز له التكفير بغير الصوم، لا أنه يجب؛ لأن المعتبر في الكفارات وَقْتُ الوجوب على المذهب، كما يأتي في الظِّهار.

(1)

تقدم التعريف به (5/ 364) تعليق رقم (1).

(2)

في "ذ": عيب.

ص: 339

(فإن كان المفلس صانعًا، كالقصَّار والحائك، في يده متاع، فأقر) المفلس (به لأربابه، لم يقبل) إقراره؛ لأنه متهم (وتُباع العين التي في يده، وتقسم بين الغرماء) كسائر ماله (وتكون قيمتها) أي: العين المقر بها (واجبة على المفلس، إذا قدر عليها) بعد فَكِّ الحَجْر عنه، مؤاخذة له بإقراره. وإن باع ماله لغرمائه أو بعضهم، ولو بكل الدَّين، لم يصح.

(فإن توجهت على المفلس يمين) بأن ادعي عليه بشيء فأنكر، فطلب الخصم يمينه (فَنكَل عنها، فقُضي عليه) بالنكول (فكإقراره، يلزم في حقه) فيتبع به بعد فَكِّ الحَجْر عنه (دون الغرماء) فلا يشاركهم للتهمة.

(وإن تصرَّف) المُفلِس (في ذمته بشراء، أو ضمان، أو إقرار، صح) تصرُّفه (ويتبع به) أي: بما لزمه من ثمن مبيع، أو ضمان، أو إقرار (بعد فَكِّ الحَجْر عنه؛ لأن الحَجْر متعلِّق بماله) لحقِّ الغرماء (لا بذمته) بخلاف السفيه ونحوه (ولا يشاركون) أي: غرماء الدَّيْن الذي تعلَّق بذمته، من ثمن مبيع أو قرض، أو ضمان ونحوه، أو إقرار (غرمائه في الحَجْر) عليه (سواء نَسَب ما أقرَّ به إلى ما قبل الحَجْر، أو بعده) بأن قال: أخذت منه كذا قبل الحَجْر، أو بعده، أو أطلق (وسواء علم مَن عامله بعد الحَجْر أنه محجور عليه، أم لا) لأن من علم فلَسه، ثم عامله فقد رضي بالتأخير، ومن لم يعلم فقد فرط.

(وإن ثبت عليه) أي: المفلس (حق) لزمه قبل الحَجْر (ببينة، شارك صاحبه الغرماء) كما لو شهدت به قبل الحَجْر.

(وإن جنى) المفلس (جناية موجبة للمال، شارك المجني عليه الغرماء) بأرْش الجناية؛ لأنه حق ثبت على الجاني بغير اختيار من له الحق، ولم يرض بتأخيره كما قبل الحَجْر (وإن كانت) الجناية (موجبة

ص: 340

للقصاص) كالعمد (فعفا صاحبها إلى مال، أو صالحه المُفلِس على مال، شارك) المجني عليه (الغرماءَ) أيضًا، لما سبق.

(وإن جَنى عبدُه) أي: عبد المُفلِس جناية موجبة للمال أو القصاص، وعفا وليُّها إلى مال (قُدِّم المجني عليه بثمنه) أي: العبد (على الغرماء) لتعلق حقه بعينه، كما يقدم المجني عليه على المُرتَهِن.

فصل

(الحكم الثاني) من الأحكام المتعلقة بالحَجْر: (أنَّ من وجد عنده) أي: المفلس (عينًا باعها إياه، ولو) كان بيعها إياه (بعد الحَجْر عليه، غير عالم به) أي: بالحَجْر عليه؛ لعدم تقصيره؛ لأنه مما يخفى كثيرًا (أو) وجد عنده (عينَ قرضه

(1)

، أو رأس مال سلم أو غير ذلك) كشقص أخذه منه المفلِس بشفعة (حتى عينًا مؤجرة، ولو) كانت (نفسه) بأن أجر حرٌّ نفسه، فحُجِر على المستأجر لفلس (أو غيرها) بأن أجر عبده، أو دابته، فحُجِر على المستأجر لفلس، و (لم يمض من المدة) أي: مدة الإجارة (شيء) له أجرة عادة (فهو) أي: واجد عين ماله عند المفلس (أحق بها، إن شاء) الرجوع فيها، رُوي عن علي

(2)

،

(1)

في "ذ": "قرض".

(2)

لم نقف على من رواه عنه مسندًا، وقال البيهقي في معرفة السنن والآثار (8/ 247) رقم 11823: "ورواه ابن المنذر عن عثمان، وعلي، ثم قال: ولا نعلم أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خالف عثمان. وعليًّا رضي الله عنهما في ذلك. انتهى.

وقد روي عن علي رضي الله عنه "أنه أسوة الغرماء" رواه عبد الرزاق (8/ 266) رقم 15170، وابن أبي شيبة (6/ 37)، ولكنه ضعيف. انظر التمهيد (8/ 412)، =

ص: 341

وعمار

(1)

، وأبي هريرة

(2)

؛ لحديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك متاعه عند إنسان أفلَس فهو أحق به" متفق عليه

(3)

، وحينئذ فالبائع ونحوه بالخيار بين الرجوع فيها، وبين أن يكون أسوة الغرماء، وسواء كانت السلعة مساوية لثمنها، أو لا (ولو بعد خروجها عن ملكه) أي: المفلس (وعودها إليه بفسخ، أو شراء، أو نحو ذلك) كإرث، وهبة، ووصية (فلو اشتراها) المفلس (ثم باعها، ثم اشتراها، فهي لأحد البائعين بقرْعة) فأيهما قرع الآخر كان أحق بها؛ لأنه يصدق على كل منهما أنه أدرك متاعه عند من أفلس، فتقديم أحدهما ترجيح بلا مرجِّح، فاحتجنا إلى تمييزه بالقرعة، فإن ترك أحدهما، فللثاني الأخذ بلا قُرعة.

(فإن بذل الغرماء لصاحب السلعة) التي أدركها ربُّها بيد المفلس (الثمن من أموالهم، أو خصوه به) أي: بثمنها (من مال المفلس ليتركها،

= والاستذكار (21/ 25) لابن عبد البر، وفتح الباري لابن حجر (5/ 64).

(1)

كذا في الأصول "عمار" ولم نقف على من رواه عنه، وفي المغني (6/ 538):"عثمان" ولعله الصواب، فقد روى البخاري في الاستقراض، باب 14، قبل حديث 2402، معلقًا بصيغة الجزم وإسماعيل بن جعفر في حديثه ص / 375، رقم 321، (رواية علي بن حجر)، ومن طريقه أبو عبيد في الأموال كما في تغليق التعليق (3/ 320)(ولم نقف عليه في المطبوع من الأموال)، والدارقطني (3/ 31 - 32)، والبيهقي (6/ 46)، وابن حجر في تغليق التعليق موصولًا عن سعيد بن المسيب، قال: أفلس مولىً لأم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فاختصم به إلى عثمان، فقضى عثمان أن من كان اقتضى من حقه شيئًا قبل أن يتبين إفلاسه فهو له، ومن عرف متاعه بعينه، فهو له. وصحح الحافظ في الفتح (5/ 63) إسناده.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 37) عن عمرو بن دينار، عَمَّن حدث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: من وجد عين ماله عند رجل قد أفلس، فهو أحق به ممَّن سواه.

(3)

البخاري في الاستقراض، باب 14، حديث 2402، ومسلم في المساقاة، حديث 1559.

ص: 342

أو قال المفلس: أنا أبيعها وأعطيك ثمنها؛ لم يلزمه) أي: ربُّ السلعة (قَبوله) وله أخذها؛ لعموم ما سبق.

(وإن دفعوا) أي: الغرماء (إلى المفلس الثمن فَبدّله) المُفلِس (له) أي: لربِّ السلعة (لم يكن له الفسخ) واستقر البيع؛ لزوال العجز عن تسليم الثمن، فزال ملك الفسخ، كما لو أسقط الغرماء حقهم عنه، أو وهب له

(1)

فأمكنه الأداء عنه، أو غلت أعيان ماله، فصارت قيمتها وافية بحقوق الغرماء، بحيث يمكنه أداء الثمن كله.

(ومن استأجر أرضًا) مثلًا (للزرع) أو غيره (فأفلس) المستأجر (قبل مضي شيء من المدة) له أجرة (فللمؤجر فسخ الإجارة) لأنه أدرك عين ماله عند من أفلس.

(وإن كان) الحَجْر عليه (بعد انقضائها) أي: المدة (أو) بعد (مضي بعضها، لم يملك الفسخ) لأنه لم يجد عين ماله (تنزيلًا للمدة منزلة المبيع، ومضيُّ بعضها) أي: المدة (بمنزلة تلف بعضها) أي: بعض العين المبيعة، وهو مسقِط للرجوع، كما يأتي.

(ولو اكترى من يَحمِل له متاعًا إلى بلدٍ) أو مكان معين (ثم أفلس المكتري قبل حمل شيء) من المتاع (فللمكري) أي: الأجير (الفسخ) لما تقدم.

(وإن أصدق امرأة عينًا، ثم انفسخ نكاحها بسبب يُسقِطُ صداقَها) كفسخها لعيبه (أو فَارَقَها) الزوجُ (قبل الدخول فرقة تُنصِّف الصَّداق) بأن طلقها ونحوه (وقد أفلستْ، ووجد) الزوجُ (عينَ ماله، فهو أحقُّ به) أي: بما وجب له، وهو جميع الصَّداق في الأولى، ونصفه في الثانية،

(1)

في "ذ" زيادة: "مال".

ص: 343

وظاهره: ولو كانت باعتها ثم رجعت إليها ونحوه مما يُسقط الرجوع، وإلا فترجع إليه قهرًا كما يأتي.

و‌

‌يُشترط لملك الرجوع سبعة شروط:

ذكرها بقوله:

(بشرط أن يكون المُفلِس حيًّا إلى حين أخذه) أي: المبيع ونحوه؛ لما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيُّما رجل باع متاعًا فأفلسَ الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعهُ من ثمنه شيئًا، فوجدَ متاعه بعينه فهو أحقُّ به، وإن ماتَ المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء" رواه مالك وأبو داود مرسلًا

(1)

، ورواه أبو داود مسندًا من حديث إسماعيل بن عياش، عن الزبيدي، عن الزهري، عن أبي بكر، عن أبي هريرة

(2)

قال أبو داود: وحديث مالك أصح.

(1)

مالك في الموطأ (2/ 678)، وأبو داود في البيوع، باب 76، حديث 3520. وأخرجه - أيضًا - عبد الرزاق (8/ 264) حديث 15158، والطحاوي (4/ 166)، وفي شرح مشكل الآثار (12/ 17)، حديث 4605، والبيهقي (6/ 46) كلهم من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، به مرسلًا. قال ابن عبد البر في التمهيد (8/ 406): هكذا هو في جميع الموطآت التي رأينا، وكذلك رواه جميع الرواة عن مالك فيما علمنا - مرسلًا -، إلا عبد الرزاق، فإنه رواه عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي بكر، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فأسنده، وقد اختلف في ذلك عن عبد الرزاق.

ورواية عبد الرزاق المشار إليها أخرجها الطحاوي في شرح مشكل الآثار (12/ 18) حديث 4606، وابن عبد البر في التمهيد (8/ 406) من طريق عبد الرحمن بن بشر، وعبد الله بن بركة، عن عبد الرزاق به، ولم نقف عليها في مظانها من المطبوع من المصنف لعبد الرزاق، قال الحافظ في الفتح (5/ 63): وصله عبد الرزاق في مصنفه عن مالك، لكن المشهور عن مالك إرساله، وكذا عن الزهري. انظر التعليق الآتي.

(2)

أبو داود في البيوع، باب 76، حديث 3522. وأخرجه - أيضًا - ابن الجارود (2/ 202)، حديث 632، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (12/ 19) حديث =

ص: 344

فعلى هذا: إذا مات المشتري، فالبائعُ أُسوة الغرماء، وسواء علم بفَلَسه قبل الموت، فحُجِر عليه ثم مات، أو مات فتبيَّن فلسه؛ لأن الملك

= 4608، والدارقطني (3/ 30)، والبيهقي (6/ 47)، وابن عبد البر (8/ 408)، من طريق إسماعيل بن عياش، عن الزبيدي، به.

وأخرجه ابن ماجه في الأحكام، باب 26، حديث 2359، وابن الجارود (2/ 203، 204) حديث 631، 633، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (12/ 19) حديث 4607، والدارقطني (3/ 29)، والبيهقي (6/ 47 - 48)، وابن عبد البر في التمهيد (8/ 408) من طريق إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن الزهري، به، دون قوله: وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء.

وقد اختلف العلماء في تصحيح هذا الحديث وتضعيفه:

قال ابن دقيق العيد في الإلمام (2/ 525): قلت: الزبيدي شيخ إسماعيل شامي، وقد اشتهر تصحيح حديث إسماعيل بن عياش عن الشاميين.

وقال ابن التركماني في الجوهر النقي: هو صحيح؛ لأن الزبيدي شامي، وقد قال البيهقي: ما روى إسماعل بن عياش عن الشاميين صحيح

الخ.

وقال أبو داود: حديث مالك - يعني المرسل - أصح.

وقال ابن الجارود: قال ابن يحيى - يعني شيخه -: رواه مالك، وصالح بن كيسان، ويونس عن الزهري، عن أبي بكر مطلق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أولى بالحديث، يعني من طريق الزهري.

وقال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان كما في العلل لابن أبي حاتم (1/ 389): الصحيح. عندنا من حديث الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل.

وقال البيهقي: وقد رواه إسماعيل بن عياش، عن الزبيدي، عن الزهري - موصولًا - ولا يصح.

والجزء الأخير من الحديث أخرجه ابن ماجه في الأحكام، باب 26، حديث 2361، والدارقطني (3/ 30)، والبيهقي (6/ 48)، وابن عبد البر في التمهيد (8/ 409)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 201) من طريق اليمان بن عدي، عن الزبيدي، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما امرئ مات وعنده مال امرئ بعينه اقتضى منه شيئًا، أو لم يقتض، فهو أسوة للغرماء.

قال الدارقطني: اليمان بن عدي ضعيف الحديث.

ص: 345

انتقل عن المفلس إلى الورثة، أشبه ما لو باعه.

(و) الشرط الثاني: ذكره بقوله: (ولم ينقد) المفلس (من ثمن المبيع) ونحوه

(1)

(شيئًا، ولا أبرأه) البائعُ (من بعضه) فإن أدَّى بعض الثمن أو الأجرة، أو القرض، أو السَّلَم ونحوه، أو أبرئ منه، فهو أُسوة الغرماء في الباقي، لما تقدم من الحديث؛ ولأن في الرجوع في قسط ما بقي تبعيضًا للصفقة على المشتري وإضرارًا له.

(و)

‌ الشرط الثالث: كون (السلعة بحالها).

(و) الشرط الرابع: كونها (لم يزل ملكه عن بعضها بتلفٍ ولا غيره) من بيع أو هبة ونحوهما (فإن تلف جزء منها) أي: السلعة (كـ) ــقطع (بعض أطراف العبد) أو الأَمَة (أو ذهبت عينه، أو جُرح) جرحًا تنقص به قيمته (أو وُطئت البكر، أو تلف بعض الثوب، أو انهدم بعض الدار ونحوه، لم يكن للبائع الرجوع) في العين، ويكون أُسوة الغرماء؛ لما تقدم.

(وإن باع) المشتري (بعض المبيع، أو وهبه، أو وقفه، فكتلفه) فيمنع الرجوع (هذا إن كانت) السلعة (عينًا واحدة في مبيع، وإن كانت عينين، كعبدين ونحوهما) كثوبين (وبقي واحدة) وتلفت الأخرى (رجع فيها) أي: الباقية؛ لأنه وجدها بعينها، فيدخل في العموم، فيأخذها بقسطها من الثمن.

ويفرق بين هذه وبين ما إذا قبض بعض الثمن؛ لأن المقبوض من

(1)

"ونحوه" ساقطة من "ذ".

ص: 346

الثمن يقسط على المبيع، فيقع القبض من ثمن كل واحدة من العينين، وقبض شيء من ثمن ما يريد الرجوع فيه مبطل له، بخلاف التلف؛ فإنه لا يلزم من تلف إحدى العينين تلف شيء من العين الأخرى.

(و)

‌ معنى كون السلعة بحالها بأن (لم تتغير صفتها بما يزيل اسمها،

كنسج غزلٍ، وخبز دقيقٍ، وعمل زيتٍ صابونًا، وقطع ثوب قميصًا، ونَجْرِ خشب أبوابًا) أو رفوفًا (وعمل شريط إبرًا) وعمل حديد مسامير ونحوها، ونحاس صحونًا ونحوها (وطحن حبٍّ) من بُرٍّ أو نحوه (أو) كان (حبًّا فصار زرعًا، أو عكسه) بأن اشترى زرعًا فحصده وصار حبًّا (أو) كان (نوىً) فغرسه (فنبت شجرًا، أو) كان (بيضًا فصار فراخًا) ونحو ذلك، فيمنع الرجوع، ويكون ربُّها أُسوة الغرماء؛ لأنه لم يجد متاعه بعينه (و) بأن (لم يخلطها بما لا تتميز) منه؛ فلو كانت زيتًا فخلطه بنحو زيت، أو قمحًا فخلطه بقمح، فلا رجوع، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من أدرك متاعه بعينه"

(1)

أي: قَدر عليه وتمكن من أخذه.

(و)

‌ الشرط الخامس: كون السلعة (لم يتعلَّق بها حقٌّ، من شُفعةٍ، أو جنايةٍ،

بأن يشتري) شقصًا مشفوعًا، ثم يفلِس، أو يشتري (عبدًا، ثم يفلس بعد تعلُّق أرش الجناية برقبته) فلا رجوع للبائع، ويكون أسوة الغرماء؛ لسبق حق الشفيع؛ لكونه ثبت بالبيع، والبائع ثبت حقه بالحَجْر؛ ولأن حقَّ المجني عليه مقدَّم على الرهن المقدَّم على حق البائع؛ فمنع بالأولى.

(ف‌

‌إن أبرأ الغريم) المشتري (من) أَرْش (الجناية، فللبائع الرجوع)

لأنه وجد متاعه بعينه، لم يتعلَّق به حق لغيره.

(1)

تقدم تخريجه (8/ 342) تعليق رقم (3).

ص: 347

(وكذا لو أسقط الشفيع) حقه من الشفعة (أو) أسقط (المُرتَهِن حقه) من الرهن، فللبائع ونحوه الرجوع، لما تقدم.

(أو رهنٍ) بالجر عطف على "شفعة" فإن رهنه المشتري ثم أفلس، فلا رجوع للبائع، لسبق حق المُرتَهِن (ونحوه) أي: نحو الرهن كالعتق، قاله في "المبدع" فلو اشترى عبدًا وأعتقه، ثم حُجِر عليه، فالبائع أسوة الغرماء.

والحكم صحيح، لكن منع الرجوع؛ لزوال ملكه عن العتيق، لا لتعلُّق حق الغير به، ويمكن تمثيله بالإجارة، بأن اشترى عبدًا، ثم أجره، ثم أفلس.

(لكن إن كان الرهن أكثر من الدَّيْن) وأخذ الدائن دَيْنه منه (فما فضل عنه رُدَّ على المال) ليقسم معه بين سائر الغرماء كما يأتي (وليس لبائعه الرجوع في الفاضل) منه، لما تقدم.

(وإن كان المبيع عينين، فرَهَن) المشتري (إحداهما) أو تعلَّق بها حق شفعة، أو جناية (ملك البائع الرجوع في) العين (الأخرى، كما إذا تلفت إحدى العينين) وبقيت الأخرى؛ لأنه وجدها بعينها يتعلَّق بها حق لأحد.

(ولو مات الراهن وضاقت تَرِكته عن الديون، قُدِّمَ المُرتَهِن برهنه) فيأخذ دَيْنه منه مقدَّمًا على سائر الغرماء؛ لتعلُّق حقه به، فإن بقي من ثمنه شيء رُدَّ عليهم، وإن بقي له شيء حاصصهم به، وتقدم.

(ولو رهن) المشتري (بعضَ العبد) ونحوه (لم يكن للبائع الرجوع في باقيه) كما لو تلف؛ لأن تبعيض الصفقة ضررٌ بالمشتري (ولم يكن) المبيع (صيدًا، والبائع مُحْرِمٌ) إذ لا يدخل الصيد في ملك المُحْرِم ابتداء

ص: 348

بغير إرث (فلا يأخذه) البائع المُحْرِم (حال إحرامه) ولا يباع مع باقي ماله، بل يؤخَّر له إلى أن يحل من إحرامه فيأخذه.

(و) الشرط السادس: كون السلعة (لم تزد زيادة متصلة، كسِمَنٍ، وكِبَرٍ، وتعلُّم صنعة، و) تعلُّم (كتابة، و) تعلُّم (قرآن، وتجدُّد حَمْلٍ، لا إن ولدت) فهو زيادة منفصلة.

(فإن وُجد شيء من ذلك) أي: مما ذكر من السمن، وما عطف عليه ونحوه (مُنعَ الرجوعُ) لأنه فُسخ بسبب حادث؛ فلم يملك الرجوع في عين المال الزائد زيادة متصلة، كفسخ النكاح بالإعسار أو الرضاع، إذا زاد الصداق. كذلك لا رجوع للزوج بعينه، بل ببدله، ولأنها زيادة في ملك المفلِس، فلم يستحق أخذها.

وفارق الردَّ بالعيب؛ لأن الفسخ من المشتري، وهو راضٍ بإسقاط حقه من الزيادة، ولأن الفسخ للعيب لمعنىً قارن العقد، وهو العيب، والفسخ هنا لسبب حادث، والخبر محمولٌ على من وجد متاعه على صفته، ليس بزائد.

(و‌

‌وطء الثيب ما لم تحمل، وتزويج الأَمَة، لا يمنع الرجوع)

لأن ذلك لا يخرجه عن كونه عين ماله (وهي) أي: الأَمَة التي زوَّجها المفلس (على نكاحها) فلا ينفسخ برجوع البائع؛ لأنه عقد لازم.

(ويُشترط - أيضًا - أن يكون البائع حيًّا) إلى حين الرجوع، وهو الشرط السابع. قال في "الترغيب" و"الرعاية الكبرى": ولربه دون ورثته على الأصح أخذه، وقدَّمه في "الرعاية الصغرى"، و"الفائق"، و"الزركشي"، و"التلخيص". وظاهر كلامه في "المقنع" و"المنتهى": لا يُشترط، ولورثته أخذ السلعة، كما لو كان صاحبها حيًّا. قال في

ص: 349

"الإنصاف": وهو صحيح. وهو ظاهر ما قدَّمه في "الفروع". وظاهر كلام أكثر الأصحاب؛ لعدم اشتراطهم ذلك، قال في "المبدع": والأصح أنه يثبت لهم.

(وإن كان الثمن مؤجَّلًا رجع) البائع (فيها) أي: في السلعة المبيعة، (فأخذها عند حلول الأجل، فتُوقَفُ إليه) أي: إلى أن يحل الدَّين، فيختار البائع الفسخ أو الترك، ولا تُباع؛ لأن حق البائع تعلَّق بها، فقدم على غيره، وإن كان مؤجلًا كالمُرتَهِن.

(ويصح الرجوع فيها) أي: في العين المبيعة (و) يصح الرجوع أيضًا (في غيرها) أي: في غير المبيعة، كالقرض ورأس مال السَّلَم ونحوه، مما تقدم

(1)

أول الفصل (بالقول) كرجعت في متاعي، أو أخذته، أو استرجعته، أو فسخت البيع أو نحوه، ولو (على التراخي) كرجوع الأب في الهبة، ويكون رجوعه (فسخًا) حقيقة أو حكمًا؛ لأنه قد لا يكون هناك عقد يفسخ، كاسترجاع الزوج الصَّداق الذي انفسخ النكاحُ فيه بما يسقطه قبل فَلَسِ المرأة إذا باعته ثم عاد إليها ونحوه، وإلا فيرجع إلى ملكه قهرًا، حيث استمرَّ في ملكها بصفته (بلا حُكم حاكم) لثبوته بالنص، كفسخ المعتقة (إذا كملت الشروط) السابقة.

(ولو حكم حاكمٌ بكونه) أي: الذي وَجَدَ متاعه عند المفلس (أُسوة الغرماء نقض حكمه نصًّا

(2)

) قال أحمد: لو أن حاكمًا حكم أنه أُسوة الغرماء، ثم رفع إلى رجل يرى العمل بالحديث، جاز له نقض حكمه، ذكره في "المغني" و"الشرح".

(1)

(8/ 341).

(2)

المغني (6/ 539) وانظر مسائل ابن هانئ (2/ 22) رقم (1267).

ص: 350

(ولا يفتقر الرجرع إلى شروط البيع، من المعرفة، والقدرة على تسليمه) ونحو ذلك؛ لأنه فسخ لا بيع (فلو رجع) البائع أو نحوه (في) عبد (آبق، صحَّ) الرجوع (وصار) العبد ملكًا (له، فإن قدر) البائع أو نحوه (أخذه، وإن تلف) الآبق (فمن ماله) أي: البائع ونحوه، كسائر أمواله.

(وإن بان تلفها) أي: السلعة (حين استرجاعه) لها (بطل رجوعه) أي: تَبَيَّنا أن رجوعه كان باطلًا، إذ لا يمكن الرجوع في المعدوم.

ومنه لو رجع في أَمَة وَطِئها المُفلِس، ثم تبيَّن أنها كانت حملت قبل الرجوع، إذ الاستيلاد إتلاف.

(فأما الزيادةُ المنفصلة - كالولدِ، والثمرةِ، والكسبِ - والنقصُ) بالرفع، عطف على الزيادة (بهزالٍ، أو نسيان صنعةٍ، أو) نسيان (كتابة، أو كبر، أو تغير عقله، أو كان) المتاع (ثوبًا فَخَلَقَ، فلا يمنع الرجوع) لأن العين قائمة مشاهدة لم يتغير اسمها، ولا صفتها (فيأخذه) أي: المتاع (ولو ناقصًا بجميع حقه) إن شاء، أو يضرب مع الغرماء بثمنه؛ لأن الثمن لا يقسط على صفة السلعة، من سِمَن وهزال، وعلم ونحوه، فيصير كنقصه لتغير الأسعار.

(والزيادة) المنفصلة (لبائع) نصًّا، كالمتصلة، قال الإمام في رواية حنبل

(1)

، في ولد الجارية ونتاج الدابة: هو للبائع. وعنه: لمفلس

(2)

.

قال في "التنقيح": وهو أظهر. وقال الشارح: هذا أصح إن شاء الله.

(1)

كتاب الروايتين والوجهين (1/ 373)، والمغني (6/ 550)، وانظر: مسائل ابن هانئ (2/ 63) رقم 1397.

(2)

انظر: مسائل الكوسج (6/ 2770 - 2771) رقم 1983.

ص: 351

وجزم به في "الوجيز". قال في "المغني": وقياسهم على المتصلة غير صحيح؛ لأنها تتبع في الفسوخ والرد بالعيب، بخلاف المنفصلة. قال: ولا ينبغي أن يقع في هذا خلاف، لظهوره، وحمل النص على أنه باعهما في حال حملهما؛ فيكونان مبيعين، ولهذا خصَّ هذين بالذِّكْر، دون بقية النماء.

(وإن صبغ) المشتري (الثوب، أو قصره، أو لَتَّ

(1)

السَّويق بزيت، لم يمنع الرجوع) لأن العين قائمة مشاهدة، لم يتغير اسمها ولا صفتها (ما لم ينقص بها) أي: الثوب بالصبغ، أو القصر، أو السويق باللَّتِّ، فإن نقص بذلك سقط الرجوع؛ لأنه نقص بفعله، فأشبه إتلاف البعض. ورَدَّ هذا التعليل في "المغني" بأن هذا النقص نقصُ صفة، فلا يمنع الرجوع، كنسيان صنعة وهُزال عبد. وقال المجد: إنه - أي: الرجوع - الأصحُّ. وجزم به في "المبدع"، والأول صحَّحه في "الفروع"، وقطع به في "التنقيح" و"المنتهى".

(و) إن زادت قيمةُ الثوب أو السَّويق فـ (ـــالزيادة عن قيمة الثوب) بالصبغ أو القصارة (و) الزيادة عن قيمة (السويق) باللَّتِّ (للمفلس) لأنها حصلت بفعله في ملكه، فيكون شريكًا للبائع بما زاد عن قيمة الثوب والسويق.

فإن كانت القصارة بفعل المُفلِس، أو بأجرة وفَّاها، فهما شريكان في الثوب، فإن اختار البائعُ دفع قيمة الزيادة إلى المُفلِس، لزمه قَبولها؛ لأنه يتخلَّص بذلك من ضرر الشركة، وإن لم يختر بيع الثوب، وأخذ كل واحد بقَدْرِ حَقِّه، فلو كانت قيمة الثوب خمسة، فصار يساوي ستة؛

(1)

يقال: لتَّ السَّويق، أي: بلَّه. انظر: تاج العروس (5/ 73 - 74)، مادة (لتت).

ص: 352

فللمُفلِس سدسه، وللبائع خمسة أسداسه.

وإن كان العمل من صانع لم يستوفِ أجره؛ فله حبس الثوب على استيفاء أجرته، اقتصر عليه في "الشرح".

(ولو كانت السلعة صبغًا، فَصَبَغ به) المشتري ثيابًا، وحُجِر عليه (أو) كانت (زيتًا فلتَّ به) سويقًا (أو) كانت (مسامير، فسمَّر بها بابًا، أو) كانت (حَجَرًا فبنى عليه) بنيانًا (أو) كانت (خشبًا، فسقف به) سقفًا (فلا رجوع) للبائع؛ لأن المشتري شغل المبيع بغيره على وجه التَّبَع، فلم يملك بائعه الرجوع فيه.

(فإن كان الصبغ والثوب لواحد) واشتراهما منه، وصبغ الثوب بالصبغ، وحجر عليه (رجع) البائع (في الثوب وحده، ويكون المُفلِس شريكًا) للبائع (بزيادة الصبغ، ويضرب بائع الصبغ بثمنه مع الغرماء) كما لو كانا لاثنين.

(وإن اشترى رفوفًا) جمع رفٍّ، أي: ألواح خشب (ومسامير من واحد، وسَمَّرها) أي: الرفوف (بها) أي: بالمسامير (رجع) بائعهما (فيهما) لأنه وجد عين ماله، فكان له الرجوع فيه.

(وإن غرس) المشتري (الأرضَ) التي اشتراها (أو بنى فيها) وحُجِر عليه (فله) أي: لبائعها (الرجوع فيها) لأنه أدرك متاعه بعينه، ومال المشتري دخل على وجه التبع، كالصبغ.

(و) إذا رجع في الأرض فله (دَفْعُ قيمة الغراس والبناء، فيملكه، أو قَلْعُه وضمانُ نقصه) لأنهما حصلا في ملكه لغيره بحق، كالشفيع والمعير (إلا أن يختار المُفلِسُ والغرماءُ القَلْع) فإن اختاروه ملكوه؛ لأن البائع لا حقَّ له في الغِراس والبناء، فلا يملك إجبار مالكهما على المعاوضة عنهما.

ص: 353

(فـ) ــعلى هذا (يلزمهم إذن تسوية الأرض، و) يلزمهم (أَرْش نقصها الحاصل به) لأن ذلك نقص حصل لتخليص ملك المُفلِس، فكان عليه (ويضربُ به) أي: بأَرْش نقص الأرض (البائعُ مع الغرماء) كسائر ديون المُفلِس.

(وله) أي: لبائع الأرض (الرجوعُ فيها) أي: أرضه (ولو قبل القلع) أي: قلع الغراس والبناء (ودَفْع قيمة الغراس والبناء، أو قلعه) وضمان نقصه. وتقدم قريبًا.

(وإن امتنعوا) أي: المُفلِس والغرماء (من القلع، لم يجبروا عليه) لأنهما وضعا بحق (وإن أبوا) أي: الغرماء (القلعَ، وأبى) البائع (دَفْعَ القيمة) أو أرش نقص القلع (سقط الرجوع) لما فيه من الضرر على المشتري والغرماء، والضرر لا يُزال بمثله.

ولو اشترى أرضًا فزرعها، ثم أفلس، بقي الزرع لربِّه مجانًا إلى الحصاد، فإن اتفق المفلس والغرماء على الترك أو القطع؛ جاز؛ وإن اختلفوا - وله قيمة بعد القطع - قُدِّم قول من يطلبه.

وإن اشترى غراسًا فغرسه في أرضه، ثم أفلس، ولم يزد الغراس، فله الرجوع فيه، فإن أخذه، لزمه تسوية الأرض، وأَرْش نقصها.

وإن بذل الغرماء والمُفلِس له القيمة، لم يُجبر على قَبولها.

وإن امتنع من القلع فبذلوا القيمة له ليملكه المُفلِس، أو أرادوا قلعه وضمان النقص، فلهم ذلك، وكذا لو أرادوا قَلْعه من غير ضمان النقص في الأصح، قاله في "المبدع" وغيره.

وإن أراد بعضهم القلع وبعضهم التبقية قُدِّم قول من طلب القلع.

ص: 354

وإن اشترى أرضًا من واحد وغراسًا من آخر، وغرسه فيها، ثم أفلس، ولم يزد، فلكل الرجوع في عين ماله.

ولصاحب الأرض قلع الغراس من غير ضمان، فإن قلعه بائعه، لزمه تسوية الأرض، وأَرْش نقصها الحاصل به.

وإن بذل صاحب الغراس قيمة الأرض لصاحبها، لم يجبر على ذلك، وفي العكس إذا امتنع من القلع، له ذلك في الأصح، قاله في "المبدع"، وتقدم

(1)

في بيع الأصول والثمار حكم الطلع، والخلاف في أنه زيادة متصلة أو منفصلة.

فصل

(الحكم الثالث) من الأحكام المتعلقة بحجره (بيعُ الحاكم مالَه، وقَسْم ثمنه) بين الغرماء بالمحاصَّة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما حَجَر على معاذ باع ماله في دينه، وقسم ثمنه بين غرمائه

(2)

. ولفعل عمر

(3)

. ويكون ذلك (على

(1)

(8/ 68 - 69).

(2)

تقدم تخريجه (8/ 332) تعليق رقم (1).

(3)

أخرج مالك في الموطأ (3/ 770)، وعبد الرزاق - كما في التلخيص الحبير (3/ 140) - وابن أبي شيبة (7/ 219) وسحنون في المدونة (5/ 233)، والبيهقي (6/ 49) و (10/ 141) وفي معرفة السنن والآثار (8/ 252) رقم 11852: أن رجلًا من جهينة كان يسبق الحاج، فيشتري الرواحل فيغلي بها، ثم يسرع السير، فيسبق الحاج، فأفلس، فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب، فقال: أما بعد: أيها الناس، فإن الأسيفع، أسيفع جهينة، رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سبق الحاج، ألا وإنه قد دان معرضًا فأصبح قد رِين به، فمن كان له عليه دين، فليأتنا بالغداة، نقسم ماله بينهم، وإياكم =

ص: 355

الفور) لأن تأخيره مَطْل، وفيه ظلم لهم.

(ويجب عليه) أي: الحاكم (ذلك) أي: بيع ماله، وقسم ثمنه

(1)

(إن كان مال المفلس من غير جنس الديون، فإن كانت ديونهم من جنس الأثمان أخذوها) أي: الأثمان، إن وجدت في ماله، ولا بيع، لعدم الحاجة إليه، وإلا بيعَ بالأثمان، وقسمت بينهم.

(وإن كان فيهم) أي: الغرماء (من دَيْنه من غير جنس الأثمان، وليس في مال المُفلِس من جنسه، ورضي أن يأخذ عوضه من الأثمان، جاز) حيث لا محظور في الاعتياض.

(وإن امتنع) من أخذ عوضه (وطلب جنسَ حقِّه، اشترى له بحصة الثمن) التي آلت إليه بالمحاصَّة (من جنس دَيْنه) لأنه الواجب، ولا يُجبر على الاعتياض.

وكذا لو كان دين سَلَم، فيشترى له بحصته من المُسْلَم فيه، ولا اعتياض؛ لما سبق، ويأتي.

(ولو أراد الغريم الأخذ من المال المجموع، وقال المُفلِس: لا أقضيك إلا من جنس دَيْنك، قُدِّم قول المفلس) لأنه طالب للأصل الواجب، فلا يجبر على المعاوضة.

(ولا يحتاج) الحكم (إلى استئذان المُفلِس في البيع) لأنه محجور عليه يحتاج إلى قضاء دَيْنه، فجاز بيع ماله بغير إذنه كالسفيه (لكن يُستحب) للحاكم (أن يحضِرَه) أي: المُفلِس (أو) يُحضِر (وكيله) وقت

= والدين، فإن أوله هم، وآخره حرب. روي هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه من طرق بعضها موصول وبعضها منقطع. انظر علل الدارقطني (2/ 147)، والتلخيص الحبير (3/ 140).

(1)

في "ذ" زيادة: على غرمائه.

ص: 356

البيع لفوائد:

منها: أن يحضر ثمن متاعه ويضبطه.

ومنها: أنه أعرف بالجيد من متاعه، فإذا حضر تكلَّم عليه.

ومنها: أنه تكثر فيه الرغبة.

ومنها: أنه أطيب لنفسه، وأسكن لقلبه.

(و) يُستحب للحاكم - أيضًا - أن (يُحضِر الغرماء) لأنه لهم، وربما رغبوا في شيء فزادوا في ثمنه، وأطيب لقلوبهم، وأبعد للتُّهمة، وربما يجد أحدُهم عينَ ماله فيأخذها.

(وإن باعه) الحاكم (من غير حضورهم كلِّهم) أي: المُفلِس والغرماء (جاز) لما تقدم (ويأمرهم) أي: المفلس والغرماء (الحاكمُ أن يقيموا مناديًا ينادي على المتاع) لأنه مصلحة.

(فإن تراضوا بثقةٍ، أمضاه) الحاكم، وإن تراضوا بغير ثقة ردَّه، بخلاف المرهون إذا اتفق الراهن والمُرتَهِن على غير الثقة، لم يكن له ردُّه، والفرق: أن للحاكم هنا نظرًا؛ فإنه قد يظهر غريمٌ آخر.

(وإن اختار المفلِس رجلًا) ينادي (واختار الغرماء آخر، أقرَّ) الحاكم (الثقة) من الرجلين (فإن كانا ثقتين قدَّم) الحاكم (المتطوِّع) منهما؛ لأنه أحظ (فإن كانا متطوّعين ضمَّ) الحاكم (أحدهما إلى الآخر) جمعًا بين الحقين (وإن كانا بجعلٍ، قدَّم أوثَقَهما وأعرفَهما) لأنه أنفع (فإن تساويا) في ذلك (قدَّم) الحاكم (من يرى) منهما؛ لأنه لا مرجح لأحدهما على الآخر.

(ويُستحب) للحاكم أو أمينه (أن يبيع كلَّ شيء في سوقه) لأنه أحوط، وأكثر لطلابه.

ص: 357

(ويجوز) بيعه (في غيره) أي: غير سوقه؛ لأن الغرض تحصيل الثمن كالوكالة (وربما أدَّى الاجتهاد إلى أنه) أي: بيع الشيء في غير سوقه (أصلح) من بيعه في سوقه (بشرط أن يبيعه بثمن مثله المستقر في وقته) أي: وقت البيع، فلا اعتبار بحال الشراء (أو أكثر) من ثمن مثله، فإن باع بدون ثمن المِثلْ، لم يجز، لكن مقتضى ما يأتي في الوكالة: أنه يصح، ويضمن النقص.

(فإن زاد في السِّلعة أحد في مدة الخيار، لزم الأمين) أي: أمين الحاكم (الفسخ) لأنه أمكنه بيعه بثمن، فلم يجز إمضاؤه بدونه، كما لو زيد فيه قبل العقد.

(وإن كان) زاد في السلعة (بعد لزومه) أي: البيع (استُحب له) أي: لأمين الحاكم (سؤالُ المشتري الإقالةَ، واستُحب للمشتري الإجابة) إلى الإقالة؛ لأنه معاونة على قضاء دَيْن المُفلِس، ودفع حاجته، وتقدم في البيع

(1)

: "يحرم البيع على بيع المسلم، والشراء على شرائه"، فهذه الصورة إما مستثناة للحاجة، أو محمولة على ما إذا زاد غير عالم بعقد البيع.

(ويجب) على الحاكم أو أمينه (أن يترك له) أي: للمفلِس (من ماله ما تدعو إليه حاجته: من مسكن، وخادم) صالحين لِمِثْلِه، لأن ذلك مما لا غِنى له عنه، فلم يبع في دينه كلباسه وقوته، وقوله صلى الله عليه وسلم:"خُذوا ما وجدتم"

(2)

قضية عين يحتمل أنه لم يكن فيما وجدوه مسكن، ولا خادم (إن لم يكونا) أي: المسكن والخادم (عينَ مال الغرماء، فإن كانا) عين مال الغرماء (لم يُترك له) أي: للمفلِس (منه) أي: من مال الغرماء (شيء)

(1)

(7/ 376 - 377).

(2)

تقدم تخريجه (8/ 328) تعليق رقم (1).

ص: 358

بل من وجد عين ماله، فهو أحق بها بالشروط السابقة (ولو كان) المفلس (محتاجًا) إلى ذلك؛ لعموم ما سبق من الخبر (لكن إن كان له) أي: المفلِس (داران يستغني بإحداهما، بيعت الأخرى) لعدم احتياجه إلى سكناها.

(وإن كان له مسكن واسع عن سكنى مثله، بيع) المسكن الواسع (واشتُري له مسكنُ مثله) لاندفاع حاجته به (ورُدَّ الفضل) من ثمنه (على الغرماء) جمعًا بين المصلحتين.

(وكذلك ثيابه) أي: المفلس (إذا كانت رفيعةً، لا يلبس مثلُه مثلَها) بيعت، واشتُري له ما يلبسه مثله، ورُدَّ الفضل على الغرماء.

(وإن كانت) الثياب (إذا بيعت، واشتُري له كسوةُ مثله لا يفضل عنها) أي: عن كسوة مثله (شيء) من ثمن الثياب الرفيعة (تُرِكت) بحالها؛ إذ لا فائدة إذًا في البيع والشراء.

(وشَرْط) تَرْك (الخادم) له (أن لا يكون نفيسًا) لا يصلح لمثله، وإلا بيع واشترى له ما يصلح لمثله، إن كان مثله يخدم، وردَّ الفضل على الغرماء.

(ويترك) الحاكم (له) أي: للمفلِس (أيضًا آلةَ حِرفته) فلا يبيعها لدعاء حاجته إليها، كثيابه ومسكنه (فإن لم يكن) المفلِس (صاحب حِرفة ترك) الحاكم (له ما يتَّجر به لمؤنته) أي: لتحصيل مؤنته. وفي "الموجز"

(1)

و"التبصرة": وفرس يحتاج ركوبها.

(ويُنفقُ) الحاكم (عليه) أي: المُفلِس (وعلى من تلزمُه نفقتُه) من زوجة، وخادم، وقريب؛ لأنهم يجرون مجرى نفسه (من ماله

(1)

في "ح": "الوجيز".

ص: 359

بالمعروف) لقوله صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك، ثم بمن تعولُ"

(1)

؛ ولأن ملكه باقٍ عليه قبل القسمة.

(وهو) أي: المعروف (أدنى ما يُنفق على مِثله، وأدنى ما يسكنه مِثله) وقوله: (من مأكل، ومشرب، وكسوة) بيان لما ينفق على مثله (إلى أن يفرغ من قسمته) أي: قسمة ماله (بين غُرمائه، إن لم يكن له) أي: المفلِس (كَسْبٌ يفي بذلك) أي: بنفقته وكسوته.

فأما إن كان يقدر على التكسُّب، فنفقته في كسبه؛ فإنه لا حاجة في إخراج ماله مع غناه بكسبه، قاله في "المغني" و"الشرح"، قال في "الإنصاف": وهو قوي.

(وإن كان كَسْبه) أي: المفلس (دون نفقته) وكسوته (كُمِّلت من ماله) كما لو لم يكن له كسب.

(ويُجهَّز هو) أي: المفلس (ومن تلزمه مؤنته - غير زوجته - من ماله إن مات)، هو أو من تلزمه نفقته؛ كنفقته، وأما الزوجه فمؤنة تجهيزها في تركتها مطلقًا (مقدَّمًا) أي: المفلِس ومن يلزمه تجهيزه بمؤنة تجهيزه (على غيره) من الغرماء (كما تقدم

(2)

) في التكفين.

(ويكفَّن) المفلس إذا مات، وكذا من مات من الرجال الذين يلزمه نفقتهم (في ثلاثة أثواب) بيض من قطن (كما) أي: مما (كان يلبس في حياته) أي: من ملبوس مثله في الجمع والأعياد، وتقدم

(3)

. والمرأة في خمسة أثواب كذلك. (وقدَّم في "الرعاية"): يُكفَّن (في ثوب واحد)

(1)

تقدم تخريجه (5/ 55) تعليق رقم (1).

(2)

(4/ 102).

(3)

(4/ 101).

ص: 360

اقتصارًا على الواجب.

(وإن تَلِف شيء من ماله) أي: المفلس (تحت يد الأمين) أي: أمين الحاكم، فمن مال المفلس (أو بيع شيء من ماله، وأُودِع ثمنه، فتلف عند المودع) من غير تعد ولا تفريط (فمن ضمان المفلس) أي: فالتالف من مال المفلس؛ لأن نماءه له، فتلفه عليه كالعروض.

(ويبدأ) الأمين (ببيع أقلِّه بقاء، وأكثره مؤنة، فيبيع أولًا ما يُسرع إليه الفساد؛ كالطعام الرَّطْب) والفاكهة؛ لأن بقاءه مَتْلَفَة بيقين (ثم) يبيع (الحيوان) لأنه مُعرَّض للإتلاف، ويحتاج إلى مؤنة في بقائه (ثم) يبيع (الأثاث) لأنه يخاف عليه، ويناله الأذى (ثم) يبيع (العقار) لأنه لا يُخاف عليه؛ بخلاف غيره، وبقاؤه أشهر له وأكثر لطلابه، والعُهدة على المفلِس إذا ظهر مستحقًّا فقط، قاله في "الشرح".

(ويبيع) الأمين (بنقد البلد) لأنه أصلح، فإن كان فيه نقود باع بأغلبها رواجًا، فإن تساوت باع جنس الدَّين (وتقدم في الرهن

(1)

نظيره. ويُعطى) بالبناء للمفعول (مناد، وحافظ المتاع، و) حافظ (الثمن، و) يُعطى (الحمَّالون) وفي نسخ: الحمالين بالياء عطفًا على نائب الفاعل، باعتبار أصله؛ لأنه مفعول به (أجرتهم في مال المفلس) لأنه حق على المُفلِس، لكونه طريقًا إلى وفاء دَيْنه؛ فمؤنته عليه (تُقَدَّم) أي: أجرة المنادي والحافظ والحمال (على ديون الغرماء) لأنه من مصلحة المال.

ومحل ذلك (إن لم يوجد متبرِّعٌ) بالنداء والحفظ والحمل، فإن وُجِدَ قُدِّم على من يطلب أجرة.

(ونظيره) أي: نظير أجرة المنادي ونحوه (ما يُستدان على تَرِكَةِ

(1)

(8/ 195).

ص: 361

الميت لمصلحة التَّرِكة، فإنه مقدم على الديون الثابتة في ذمة الميت.

ويبدأ) عند قسم ماله (بالمجني عليه إذا كان الجاني عبدَ المفلس) سواء (قبل الحجْر كانت الجناية، أو بعده) لأن الحق متعلِّق بعينه، يفوت بفواتها، بخلاف بقية الغرماء (فيدفع) الحاكم أو أمينه (إليه) أي: إلى المجني عليه (الأقل من الأَرْش، أو) من (ثمن العبد) الجاني (ولا شيء له) أي: للمجني عليه (غيره) أي: غير الأقل منهما؛ لأن الأقل إن كان هو الأَرْش، فهو لا يستحق إلا أَرْش الجناية، وإن كان ثمن الجاني فهو لا يستحق غيره؛ لأن حقه متعلِّق بعينه. هذا إذا كانت الجناية بغير إذن السيد؛ فإن كانت بإذنه، أو أمره، تعلَّقت بذمته، كما يأتي في الجنايات. فيضرب للمجني عليه بجميع أرشها مع الغرماء. وعلى الأول: إن فضل شيء من ثمن العبد عن أرش الجناية، ردَّ على المال (وإن لم يفِ) ثمنه (بأَرْش الجناية) فلا شيء له غيره؛ لما تقدم.

(وإن كان الجاني المفلس، فالمجني عليه أُسوة الغرماء) فيضرب له معهم بأرش الجناية، سواء كانت قبل الحجر أو بعده، وتقدم.

(ثم) يبدأ (بمن له رهن لازم) أي: مقبوض (فيختص بثمنه) إن كان قَدْر دينه، سواء كان المفلس حيًّا أو ميتًا؛ لأن حقه متعلِّق بعين الرهن وذمة الراهن، بخلاف الغرماء.

(وإن فضل له) أي: للمرتهن (فضل) من دينه (ضرب به مع الغرماء) لأنه ساواهم في ذلك.

(وإن فضل منه) أي: من ثمن الرهن (فضل) عن دينه (ردَّ على المال) ليقسم بين الغرماء؛ لأنه انفك من الرهن بالوفاء؛ فصار كسائر مال المفلس.

ص: 362

(ثم) يبدأ (بمن له عينُ مالٍ) فيأخذها بشروطه؛ لما تقدم

(1)

.

(أو) له (عين مؤجرة) استأجرها المفلس منه، ولم يمض من مدتها شيء فيأخذها كما تقدم (أو) له منفعة عين هو (مستأجرها من مُفلِس، فيأخذها) لأن حقه متعلِّق بالعين والمنفعة، وهي مملوكة له في هذه المدة.

(وكذا مؤجر نفسه) للمفلِس، ثم حجر عليه قبل أن يمضي من مدة الإجارة شيء؛ فله فسخ الإجارة، لدخوله فيما سبق.

(وإن بطلت الإجارة في أثناء المدة) بأن ماتت العين التي استأجرها من المفلِس، وعجل له أجرتها (ضرب له) أي: للمستأجر (بما بقي) له من الأجرة التي عجَّلها (مع الغرماء) كسائر الديون، إن لم تكن عين الأجرة باقية، وإن كان ذلك بعد قسم ماله رجع على الغرماء بحصته.

(ولو باع) المفلس (شيئًا، أو باعه وكيله، وقبض) المفلس أو وكيله (الثمن، فتلف وتعذَّر ردُّه، وخرجت السلعة مستحقة) وحجر على المفلس (ساوى المشتري) بما كان دفعه (الغرماء) فضرب له به معهم كسائر الديون.

(وإن أجر) المفلس (دارًا) بعينها (أو بعيرًا بعينه، أو) أجر (شيئًا غيرهما بعينه، ثم أفلس، لم تنفسخ الإجارة) بالحجر عليه (بالفلس) للزومها (وكان المستأجر أحقَّ بالعين التي استأجرها من الغرماء حتى يستوفي حقَّه، فإن هلك البعير) المؤجر (أو انهدمت الدار) المؤجرة (قبل انقضاء المدة، انفسخت الإجارة) لفوات المعقود عليه (ويضرب) المستأجر (مع الغرماء ببقية الأجرة) إن كان عجلها، وتقدم.

(1)

(8/ 341).

ص: 363

(وإن استأجر جَمَلًا) أو نحوه (في الذِّمة، ثم أفلس المؤجرُ، فالمستأجر أُسوة الغرماء) لعدم تعلُّق حقه بالعين.

(وإن أجر دارًا ثم أفلس) المؤجر (فاتفق المفلس والغرماء على البيع قبل انقضاء مدة الإجارة، فلهم ذلك) لأن الحق لا يعدوهم (ويبيعونها مستأجرة) للزوم الإجارة.

(فإن اختلفوا) بأن طلب أحدهم البيع في الحال، والآخر البيع إذا انقضت الإجارة (قُدِّم قول من طلب البيع في الحال) لأنه الأصل، ولا ضرر فيه.

(فإذا استوفى المستأجر) المدة، أو المنفعة (تسلَّم المشتري) العين؛ لعدم المعارض.

(وإن اتفقوا) أي: المفلس والغرماء (على تأخير البيع حتى تنقضي مدة الإجارة، فلهم ذلك) لأن الحق لهم؛ وقد رضوا بتأخيره.

(ولو باع سلعة) قبل الحَجْر (ولو) كان المبيع (مكيلًا أو موزونًا، قبض ثمنها أولًا، ثم أفلس) أو مات (قبل تقبيضها) أي: السلعة المبيعة (فالمشتري أحق بها من الغرماء) لأنها عين ملكه.

(وإن كان على المفلس دين سَلَمٍ، فوجد المسلمُ الثمنَ بعينه، فهو) أي: المسلم (أحق به كما تقدم

(1)

، وإن لم يجده) أي: الثمن (فإن حلَّ) السَّلم (قبل القسمة، ضَرَب) المسلم (مع الغرماء بقيمة المسلم فيه) كسائر الديون (فإن كان في المال من جنس حقه) المسلَم فيه (أخذ) المسلِم (منه بقدر ما يستحقه) بالمحاصة، (وإن لم يكن فيه) أي: في مال المفلس (من جنس حقه) الذي أسلم فيه (عُزِل له) أي: للمسلم (من

(1)

(8/ 341).

ص: 364

المال قَدْر حقه) الذي يخرج له بالمحاصة (فيشتري به المسلَم فيه، فيأخذه.

وليس له أن يأخذ المعزول بعينه) لأنه اعتياض عن المسلَم فيه، وهو لا يجوز.

(فإن أمكنه) أي: الحاكم، أو أمينه (أن يشتري بالمعزول) لربِّ السَّلَم (أكثر مما قُدِّرَ له) أي: من المعقود عليه (لرُخْصِ المسلَم فيه اشترى له) أي: لرب السَّلَم (بقَدْر حقِّه) أي: قَدْرِ سَلَمه (ويردُّ الباقي) مما خرج له بالمحاصة (على الغرماء) لأنه لا مستحق له غيرهم (ثم يقسم) الحاكم أو أمينه (الباقي) من مال المفلس (بين باقي الغرماء) لتساوي حقوقهم في تعلقها بذمة المفلس (على قَدْرِ ديونهم) لأن فيه تسوية بينهم، ومراعاة لكمية حقوقهم، فلو قضى الحاكم، أو المفلِس بعضهم، لم يصح؛ لأنهم شركاؤه، فلم يجز اختصاصه دونهم.

(ولا يلزمهم) أي: الغرماء (بيان أن لا غريم سواهم) بخلاف الورثة، ذكره في "الترغيب"، و"الفصول" وغيرهما؛ لئلا يأخذ أحدهم ما لا حق له فيه (فإن كان فيهم) أي: الغرماء (من له دَيْن مؤجَّل، لم يحلَّ) لأن الأجل حق للمفلس؛ فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه؛ ولأنه لا يوجب حلول ما لَه؛ فلا يوجب حلول ما عليه، كالإغماء (ولم يوقف له) أي: للدَّين المؤجَّل (شيء) من المال (ولا يرجع) ربُّ الدَّيْن المؤجَّل (على الغرماء، إذا حلَّ) دينه بشيء؛ لأنه لم يستحق مشاركتهم حال القسمة، فلم يستحق الرجوع عليهم بعد (لكن إن حلَّ) دينه (قبل القسمه، شاركهم) لمساواته لهم (وإن حلَّ) دينه (بعد قسمة البعض) من المال (شاركـ) ــهم (في الباقي) من المال (ويَضرب فيه بجميع دَينه،

ص: 365

ويَضرب باقي الغرماء ببقية ديونهم.

ومن مات وعليه دين مؤجَّل، لم يحلَّ) الدين بموته (إذا وثَّق الورثة، أو) وثَّق (غيرهم برهن، أو كفيل مليء) على (أقل الأمرين من قيمة التركة أو الدَّين) لأن الأجل حق للميت، فورث عنه كسائر حقوقه و (كما لا تحلُّ الديون التي له يموته، فتختصُّ أرباب الديون الحالَّة بالمال) ويتقاسمونه بالمحاصة، ولا يترك منه للمؤجَّل شيء، ولا يرجع ربه عليهم بعد حلوله، بل على من وثَّقه.

(فإن تعذَّر التوثُّق لعدم وارث) بأن مات عن غير وارث، حلَّ، ولو ضمنه الإمام (أو) لـ (ــغيره) أي: غير عدمه، بأن خلف وارثًا لكنه لم يوثق (حلَّ) الدَّين لغلبة الضرر (فيأخذه) ربه (كله) إن اتسعت التركة له، أو يحاصص به الغرماء، ولا يسقط منه شيء في مقابلة الأجل. وإن ضمنه ضامن وحلَّ على أحدهما، لم يحل على الآخر.

(وحكم من طرأ عليه جنون، حكم المفلِس والميت في حلول الدَّين) المؤجل بجنونه (وعدمه) أي: عدم حلوله. فعلى المذهب: لا يحلُّ.

(وإن ظهر غريمٌ بعد القسمة لم تنقض) القسمة (ورجع) الغريم الذي ظهر (على كل واحد بقَدْر حِصته) لأنه لو كان حاضرًا شاركهم، فكذا إذا ظهر.

(فلو كان) للمفلس (ألفٌ، اقتسمه غريماه نصفين، ثم ظهر ثالثٌ دينه كدين أحدهما، رجع) الثالث (على كل واحد بثلث ما قبضه) وهو خمسمائة، وثلثها مائة وستة وستون وثلثان. قال في "الفروع":(وظاهر كلامهم: يرجع من من أتلف ما قبضه بحصته) واقتصر عليه في

ص: 366

"الإنصاف"، وهذا بخلاف ما إذا قبض أحد الشريكين شيئًا من الدَّين المشترك على ما يأتي.

ولعل الفرق: أن بالحجْر تعلَّق حق جميع الغرماء بماله، فتخصيص بعضهم باطل، كما سبق

(1)

، بخلاف مسألة القبض من المشترك، إذ المدين فيها غير محجور عليه.

(ولا يمنع الدَّينُ انتقالَ التركة إلى الورثة) إذا مات المدين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك حقًّا أو مالًا فلورثته"

(2)

؛ ولأن تعلُّق الدين بالمال لا يزيل الملك في حقِّ الجاني والراهن والمفلس، فلم يمنع نقله.

(ويتعلق حق الغرماء بها) أي: بالتركة (كلها، وإن لم يستغرقها الدَّين) كتعلُّق أرْش الجناية برقبة العبد الجاني (سواء كان) الدَّين (دَيْنًا لآدمي، أو) كان (دينًا لله تعالى) كزكاة، وكفَّارة، ونذرِ حج، وسواء (ثبت) الدَّين (في الحياة، أو تجدد بعد الموت بسبب يقتضي الضمان، كحفر بئر) تعديًا (ونحوه) كبناء تعدَّى به، فإذا تلف بذلك شيء بعد موت الحافر والباني، تعلَّق بتركته (وتأتي تتمته في كتاب الوصايا، و) في (آخر) باب (القسمة.

والدَّين باقٍ في ذمة الميت) لما تقدم في الضمان من قوله صلى الله عليه وسلم: "الآن بَرَّدت جلدته"

(3)

حال كون الدين (في التركة) أي: متعلقًا بها (حتى

(1)

(8/ 365).

(2)

أخرجه البخاري في الكفالة، باب، حديث 2298، وفي الاستقراض، باب 11، حديث 2398، وفي النفقات، باب 15، حديث 5371، وفي الفرائض، باب 4، حديث 6731، وباب 25، حديث 6763، ومسلم في الفرائض حديث 1619 عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

تقدم تخريجه (8/ 237) تعليق رقم (1)، ولفظه هناك:"الآن بردت عليه جلدته".

ص: 367

يوفَّى) منها أو من غيرها.

(ويصح تصرُّف الورثة في التركة) ببيع أو غيره لانتقالها إليهم، كتصرُّف السيد في العبد الجاني، وإنما يجوز لهم التصرُّف (بشرط الضمان) قاله القاضي.

قال: ومتى خلَّى الورثة بين التركة وبين الغرماء سقطت مطالبتهم بالديون، ونصب الحاكم من يوفيهم منها، ولم يملكها الغرماء بذلك. انتهى. وأما صحة التصرُّف فلا تتوقف على الضمان، كما هو المتبادر من عبارة "المبدع" و"شرح المنتهى"، وغيرهما، حيث قالوا: فإن تصرَّفوا فيها، صح، كتصرف السيد في العبد الجاني.

(ويضمنون) أي: الورثة إذا تصرفوا في التركة (الأقل من قيمة التركة أو الدَّين) لأنه الواجب عليهم.

(فإن تعذَّر وفاؤه) أي: الدَّين بعد تصرُّفهم في التركة (فسخ تصرفهم) قاله في "المبدع" وغيره. وعبارة "شرح المنتهى": فسخ العقد. انتهى.

فعليها إن تصرفوا بعتق لم يتأتَّ فسخه، وعليهم الأقل من قيمته أو الدَّين، كما لو أعتق السيد الجاني، والراهن الرهن.

(وإن بقي على المفلس) بعد قسم ماله (بقية) من الدَّين (أجبر المحترف على الكسب، و) على (إيجار نفسه فيما يليق بمثله) من الصنائع (لقضاء ما بقي عليه) من الديون؛ لأنه صلى الله عليه وسلم: "باع سُرَّقًا في دَيْنهِ بخمسة أبعرة"، رواه الدارقطني

(1)

، وسُرَّق رجل دخل المدينة، وذكر أن

(1)

(3/ 62). وأخرجه - أيضًا - الروياني في مسنده (2/ 466)، حديث 1487، والطحاوي (4/ 157)، وفي شرح مشكل الآثار (5/ 132) حديث 1875، وابن =

ص: 368

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= عدي في الكامل (4/ 1608)، والحاكم (2/ 54)، والبيهقي (6/ 50) وابن الجوزي في التحقيق (2/ 201) حديث 1525 عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن زيد بن أسلم قال: لقيت رجلًا بالإسكندرية يقال له: سُرَّق، فقلت له: ما هذا الاسم؟ قال: سمانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخلت المدينة فأخبرتهم أنه يقدم لي مال، فبايعوني، فاستهلكت أموالهم، فأتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنَّه سُرَّق. فباعني بأربعة أبعرة، فقال له غرماؤه: ما تصنع به؟ قال: أعتقه، قالوا: ما نحن بأزهد في الأجر منك، فأعتقوني.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري. ووافقه الذهبي.

وقال ابن عدي: ولعبد الرحمن بن عبد الله غير ما ذكرت من الأحاديث، وبعض ما يرويه منكر مما لا يتابع عليه، وهو في جملة من يكتب حديثه من الضعفاء.

وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (3/ 24): إسناده صحيح.

وأخرجه ابن سعد في الطبقات (7/ 504)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (5/ 107) حديث 2648، والبزار "كشف الأستار"(2/ 101) حديث 1303، والطحاوي (4/ 157) وفي شرح مشكل الآثار (5/ 133، 134) حديث 1876، والطبراني في الكبير (7/ 165، 166) حديث 6716، والدارقطني (3/ 61)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (3/ 1445)، حديث 3667، من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن البيلماني، عن سرق بنحوه.

قال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (3/ 91): مسلم وعبد الرحمن البيلماني لا يحتج بهما.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 142): رواه البزار والطبراني في الكبير، وفيه مسلم بن خالد الزنجي، وثقه ابن معين وابن حبان، وضعَّفه جماعة.

وأخرجه - أيضًا - الدارقطني (3/ 61) من طريق عبد الرحمن وعبد الله ابني زيد بن أسلم، عن أبيهما، عن سرق.

وقال البيهقي (6/ 51): مدار حديث سُرَّق على هؤلاء، وكلهم ليسوا بأقوياء: عبد الرحمن بن عبد الله، وابنا زيد، وإن كان الحديث عن زيد عن ابن البيلماني، فابن البيلماني ضعيف في الحديث، وفي إجماع العلماء على خلافه - وهم لا يجمعون على ترك رواية ثابتة - دليل على ضعفه، أو نسخه إن كان ثابتًا. =

ص: 369

وراءه مالًا، فداينه الناس، وركبته ديون، ولم يكن وراءه مال، فسماه سُرَّقًا، والحر لا يباع، فعلم أنه باع منافعه، إذ المنافع تجري مجرى الأعيان في صحة العقد عليها، وتحريم أخذ الزكاة؛ فكذا هنا؛ ولأن الإجارة عقد معاوضة فأجبر عليها، كبيع ماله (مع) بقاء (الحَجْر عليه إلى الوفاء) أو حكم الحاكم بفكه، ويأتي.

(و) يجبر - أيضًا - على (إيجار موقوف عليه) يستغني عنه (و) على إيجار (أم ولده إن استغنى عنها) لأنه قادر على وفاء دينه، فلزمه، كمالك ما يقدر على الوفاء منه (لا إن لزمه حج وكفارة) ونحوهما من حقوق الله تعالى، فلا يجبر على إيجار نفسه ووقفه وأم ولده في ذلك؛ لأن ماله لا يباع فيه، فنفعه أولى.

(ولا يُجبر) المدين مطلقًا (على قبول هبةٍ وصدقة) وعطية (ووصية، ولو كان المتبرِّع ابنًا) له؛ لما فيه من الضرر عليه بتحمل المنَّة التي تأباها قلوب ذوي المروءات.

(ولا يملك غير المدين وفاء دينه) عنه (مع امتناعه) أي: المدين منه. وكذلك لو بذله غير المدين وامتنع ربه من أخذه منه.

(ولا يملك الحاكم قبض ذلك) أي: ما ذكر من هبة وصدقة ووصية ونحوها للمدين (لوفائه) أي: وفاء دينه (بلا إذن) من المدين (لفظيٍّ، أو عُرفيٍّ) لأنه لا يملك إجباره عليه، فلم يملك فعله عنه.

(ولا يُجبر) المفلس (على تزويج أم ولد) لوفاء دينه مما يأخذ من مهرها. وظاهره: ولو لم يكن يطؤها، لما فيه من تحريمها عليه بالنكاح

= قال الطحاوي: بيع الحر في الدين كان في أول الإسلام حتى نسخ. انظر: شرح معاني الآثار (157)، وشرح مشكل الآثار (5/ 135).

ص: 370

وتعلق حق الزوج بها.

(ولا) تُجبر (امرأة) مدينة (على نكاح) نفسها لمن يرغب في نكاحها، لتأخذ مهرها وتُوْفي منه دينها؛ لأنه يترتب عليها بالنكاح من الحقوق ما قد تعجز عنه.

(أو) أي: ولا يُجبر (رجل على خُلع) إذا بذلت له زوجته، أو غيرها مالًا ليخالعها، أو يطلقها عليه، ويوفي منه الدين؛ لأن عليه فيه ضررًا بتحريم زوجته عليه، وقد يكون له إليها ميل.

(ولا) يُجبر مدين - أيضًا - باع أو اشترى بشرط الخيار (على ردِّ مبيع، و) لا على (إمضائه) أي: البيع، ولو كان فيه حظ؛ لأن ذلك إتمام لتصرُّفٍ سابق على الحَجْر، فلم يُجبر عليه فيه.

(و) لا على (أخذ دية عن قود) وجب له بجناية عليه، أو على مورثه؛ لأن ذلك يفوِّت المعنى الذي لأجله شُرع القصاص، ثم إن اقتص فلا شيء للغرماء، وإن عفا على مال، ثبت وتعلَّق به دينهم.

(و) لا يُجبر - أيضًا - على (نحوه) أي: نحو ما ذكر؛ كما لو بذلت له امرأة مالًا ليتزوَّجها عليه؛ لم يُجبر على قَبوله، أو ادعى على إنسان بشيء؛ فأنكره؛ وبذل له مالًا على أن لا يحلفه.

(ولا تسقط) الدية (بعفوه) أي: المفلس (من غير مال) كأن عفا على نحو خمر (أو) عفا (مطلقًا) بأن قال: عفوت (أو) عفا (مجانًا) بأن قال: عفوت بلا شيء، ويأتي في العفو عن القصاص تحرير ذلك، وأن له العفو مجانًا؛ لأن المال لم يجب عينًا.

(ولا يُجبرون - أيضًا - على ذلك) أي: لا يجبر من له أم ولد على تزويجها، ولا رجل على خلع امرأته، ولا امرأة على نكاح، ولا من له

ص: 371

قود على العفو عنه على مال (لأجل نفقة واجبة) عليهم؛ لما تقدم من أنهم لا يُجبرون عليه لوفاء الدَّين (ولا يُمنعون أخذ الزكاة لأجله) أي: لأجل ما يبذل لهم في تزويج أم ولد ونحوها مما ذكر؛ لأنه لا يثبت به غنىً.

(ولا ينفك الحَجْر عنه) أي: المفلس (إلا بحكم حاكم، إن بقي عليه شيء) من الدَّين؛ لأنه حَجْرٌ ثبت بحكم، فلا ينفكّ إلا به، كالمحجور عليه لسفه بعد رشده (وإلا) بأن لم يبقَ عليه شيء من الدَّين (انفك) عنه الحَجْر بلا حكم؛ لأن المعنى الذي حجر عليه من أجله قد زال.

(وإذا فكَّ) الحاكم (عنه الحجر، فليس لأحدٍ مطالبته ولا ملازمته حتى يملك مالًا) لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}

(1)

.

(فإن جاء الغرماء عقب فكِّ الحجر عنه، فادعوا أنَّ له مالًا، لم يقبل إلا ببينة) لأنه خلاف الظاهر.

(فإن ادعوا بعد مدة أن في يده مالًا، أو ادعوا ذلك) أي: أن في يده مالًا (عقب فكِّ الحَجْرِ عنه، وبينوا سببه) أي: المال (أحضره الحاكم وسأله) عما ذكره الغرماء (فإن أنكر) أن بيده مالًا (فقوله مع يمينه) لأنه منكِر، والأصل عدمه.

(وإن أقرَّ) أن بيده مالًا (وقال: هو) أي: المال (لفلان) وأنا وكيله، أو عامله؛ وفلان حاضر (وصدَّقه، حلف المقرُّ له) لجواز تواطئهما.

(وإلا) بأن لم يقل: هو لفلان ويصدقه، ويحلف: بأن أقرَّ المفلس

(1)

سورة البقرة، الآية:280.

ص: 372

أنه له، أو أنه لفلان، وكذَّبه فلان، أو صدَّقه، ولم يحلف (أُعيد الحَجْر عليه؛ إن طلب الغرماء ذلك) وكان لا يفي بدينه، وإلا وفَّاه منه، ولا حاجة إلى الحَجْر، كما تقدم

(1)

.

(وإن أقرَّ) المفلس (أنه) أي: المال (لغائب، أُقرَّ) المال (في يده) أي: المفلس (حتى يحضر الغائب، ثم نسأله) فإن صدَّقه، وحلف، أخذه، وإلا؛ أُعيد الحَجْر عليه (كما تقدم في الحاضر.

وإذا انفك) الحَجْر (عنه) بحكم الحاكم (فلزمته ديون) أخرى (وحُجر عليه) ثانيًا، ولو بطلب أرباب الديون الثانية (شارك غرماءُ الحَجْر الأول غرماءَ الحَجْر الثاني في ماله) الموجود؛ لأنهم تساووا في ثبوت حقوقهم في ذمته، إلا أن الأولين يضرب لهم ببقية ديونهم، والآخرين بجميعها.

(وإن كان للمفلِس) أو الميت (حقٌّ له به شاهد) واحد (وحلف) المفلس، أو الوارث (معه، ثبت المال، وتعلقت به حقوق الغرماء) كسائر أمواله.

(فإن أبى) المفلس، أو الوارث (أن يحلف معه) أي: مع شاهده (لم يُجبر) على ذلك؛ لأنا لا نعلم صدق الشاهد (ولم يكن لغرمائه) أي: المفلس، أو الميت (أن يحلفوا) مع شاهده؛ لأنهم يثبتون ملكًا لغيرهم، لتعلُّق حقوقهم به بعد ثبوته، فلم يجز، كالمرأة تحلف لإثبات ملك زوجها لتعلق نفقتها به.

(1)

(8/ 328).

ص: 373

فصل

(الحكم الرابع) المتمم لأحكام الحَجْر على المفلِس (انقطاع المطالبة عنه) لما تقدم عن قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}

(1)

وقوله صلى الله عليه وسلم لغرماء معاذ: "خُذوا ما وجدتم، ثم ليس لكم إلا ذلك"

(2)

.

(فمن أقرضه شيئًا أو باعه) شيئًا (لم يملك مطالبتَه) ببدله (حتى ينفك عنه الحَجْر) لأنه هو الذي أتلف ماله بمعاملة من لا شيء معه، لكن إن وجد المقرضُ، أو البائعُ أعيان مالهما، فلهما أخذها كما سبق

(3)

، إن لم يعلما بالحجر.

فصل

(الضرب الثاني) من ضروب

(4)

الحَجْر: حَجْر (المحجور عليه لحظِّه) أي: حظ المحجور نفسه (وهو الصبي) أي: من لم يبلغ من ذكر أو أنثى (والمجنون والسفيه) لأن فائدة الحَجْر عائدة عليهم كما سبق

(5)

، والحَجر عليهم عام، بخلاف المفلس ونحوه.

(1)

سورة البقرة، الآية:280.

(2)

تقدم تخريجه (8/ 328) تعليق رقم (1)، وقوله:"وقوله صلى الله عليه وسلم لغرماء معاذ" لعل الصواب: "وقوله صلى الله عليه وسلم لغرماء الذي كثر دينه" كما تقدم هناك. وأما قصة معاذ فتقدمت (8/ 331 - 332) تعليق رقم (1).

(3)

(8/ 341).

(4)

في "ذ": "ضربي".

(5)

(8/ 326).

ص: 374

(فلا يصح تصرُّفهم) أي: الصبي والمجنون والسفيه (في أموالهم ولا ذممهم قبل الإذن) لأن تصحيح تصرفهم يفضي إلى ضياع مالهم، وفيه ضرر عليهم.

(ومن دفع إليهم) أو إلى أحدهم (ماله ببيع، أو قرض رجع فيه ما كان باقيًا) لأنه عين ماله (وإن أتلفوه، أو تلف في أيديهم) بتعدٍّ أو تفريطٍ، أو لا (لم يضمنوا، وكان من ضمان مالكه) لأنه سلَّطهم عليه برضاه، سواء (علم بالحَجْر، أو لم يعلم) لتفريطه.

(وإن جنوا) على نفس، أو طرف، أو جرح (فعليهم أَرْش الجناية) لأنه لا تفريط من المجني عليه، والدية على العاقلة مع الصغر والجنون بشرطه.

(ويضمنون) أي: الصبي المجنون والسفيه (ما لم يدفع إليهم إذا أتلفوه) لأنه لا تفريط من المالك، والإتلاف يستوي فيه الأهل وغيره، وحكم المغصوب كذلك؛ لحصوله في يدهم بغير اختيار مالكه.

وإذا دفع محجور عليه لحظِّه ماله لمحجور عليه لحظِّه فتلِف، فالظاهر أنه مضمون على المدفوع له؛ لأنه لا تسليط من المالك، وقد تلف بفعل القابض له بغير حق فضمنه؛ لأنه إتلاف يستوي فيه الكبير والصغير، والعمد والسهو، ولم أره منقولًا.

(ويأتي حكم وديعة وعارية) إذا تلفت بيد أحدهم، وأنه لا ضمان عليه فيها (و) يأتي - أيضًا - في الوديعة حكم (عبد) أودع.

(ومن أعطوه) أي: الصبي أو المجنون أو السفيه (مالًا) بغير إذن الولي (ضمنه) أي: صار في ضمان آخذه؛ لتعدِّيه بقبضه ممن لا يصح

ص: 375

منه دفع

(1)

(حتى يأخذ وليُّه) أي: ولي الدافع؛ لأنه هو الذي يصح قبضه (ويأتي بعضه.

وإن أخذه) أي: المال إنسان من المحجور عليه (ليحفظه) من الضياع (لم يضمنه) بذلك إن لم يفرط (كمغصوب أخذه ليحفظه لربه) فلا يضمنه؛ لأن في ذلك إعانة على رَدِّ الحق إلى مستحقه.

(ومتى عقل المجنون، وبلغ الصبي، ورشدا) ذكرين كانا أو أنثيين (ولو بلا حكم) حاكم (انفكَّ الحَجْر عنهما بلا حكم) أما في الثاني؛ فلقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} الآية

(2)

. وأما الأول؛ فلأن الحَجْر عليه كان لجنونه، فإذا زال، وجب زوال الحَجْر لزوال علته.

(ودفع إليهما) أي: إلى من بلغ رشيدًا أو عقل رشيدًا (مالهما) لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}

(3)

.

(ويُستحب أن يكون الدفع) لهما (بإذن قاض، و) أن يكون (ببينة بالرشد، و) أن يكون ببينة (بالدفع ليأمن التبعة) أي: الرجوع عليه بعد ذلك.

(ولا ينفك) الحَجْر عنهما (قبل ذلك) أي: البلوغ أو العقل مع الرشد (بحال) ولو صارا شيخين، وروى الجوزجاني

(4)

في "المترجم" قال: كان القاسم بن محمد يلي أمر شيخ من قريش ذي أهل ومال؛

(1)

في "ح": "دفعه".

(2)

سورة النساء، الآية:6.

(3)

سورة النساء، الآية:6.

(4)

هو أبو إسحاق، إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق السعدي، المتوفى سنة (259)، وكتابه "المترجم" لم يطبع، قال فيه ابن كثير في البداية والنهاية (11/ 31): فيه علوم غزيرة، وفوائد كثيرة.

ص: 376

لضعف عقله. قال ابن المنذر

(1)

: أكثر علماء الأمصار من أهل الحجاز والشام والعراق ومصر يَرون الحَجْر على كل مضيع لماله، صغيرًا كان، أو كبيرًا.

(ويحصل البلوغ) في الذكر والأنثى بواحد من ثلاثة أشياء:

(بإنزال المني يقظة، أو منامًا باحتلام، أو جماع، أو غير ذلك) لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا}

(2)

قال ابن المنذر

(3)

: أجمعوا على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل.

(أو بلوغ خمس عشرة سنة) أي: استكمالها، لما روى ابن عمر قال:"عُرِضتُ على النبي صلى الله عليه وسلم يومَ أحدٍ، وأنا ابن أربعَ عشرةَ سنةً؛ فلم يجزني، وعُرضْتُ عليهِ يوم الخندق، وأنا ابنُ خمس عشرة سنة، فأجازني" متفق عليه

(4)

.

(أو نبات الشعر الخشن القوي حول القُبُل) لأنه صلى الله عليه وسلم "لما حكَّمَ سعد بن معاذٍ في بني قريظة، فحكم بقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وأمر أن يكشف عن مؤتزرهم، فمن أنبت، فهو من المقاتلة، ومن لم ينبت فهو من الذرِّية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لقد حكم بحكم الله من

(1)

الإشراف (1/ 128).

(2)

سورة النور، الآية:59.

(3)

الإجماع، ص/ 141.

(4)

أخرجه البخاري في الشهادات، باب 18، حديث 2664، وفي المغازي، باب 29، حديث 4097، ومسلم في الإمارة، حديث 1868.

ص: 377

فوق سبعة أرقعة" متفق عليه

(1)

(دون) نبات (الزَّغَب الضعيف) لأنه ينبت للصغير.

(وتزيد الجارية) على الذكر بشيئين: (بالحيض) لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا

(1)

البخاري في الجهاد والسير، باب 168، حديث 3043، وفي مناقب الأنصار، باب 12، حديث 3804، وفي الاستئذان، باب 26، حديث 6262، ومسلم في الجهاد والسير، حديث 1768، 1769، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه دون ذكر الكشف عن مؤتزرهم، ولا ذكر من فوق سبعة أرقعة. وقال الحافظ في التلخيص الحبير (3/ 42): متفق عليه دون قصة الإنبات عن حديث أبي سعيد.

فأما قصة الكشف عن مؤتزرهم، فأخرجها أبو داود في الحدود باب 17، حديث 4404، والترمذي في السير، باب 29، حديث 1584، والنسائي في الطلاق، باب 20، حديث 3429، وفي الكبرى (4/ 349) حديث 7474، و (5/ 185) حديث 8620، 8621، وابن ماجه في الحدود، باب 4، حديث 2541، والشافعي في السنن المأثورة ص/ 441، حديث 670، والطيالسي ص/ 181، حديث 1284، وعبد الرزاق (10/ 179) حديث 18743، وابن سعد (2/ 76)، وابن أبي شيبة (12/ 384)، وأحمد (4/ 310)، والدارمي في السير، باب 26، حديث 2467، وابن الجارود (3/ 299) حديث 1045، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/ 205) حديث 2189، وأبو عوانة (4/ 56، 57)، والطحاوي (3/ 216، 217)، وابن قانع (2/ 308)، وابن حبان "الإحسان"(11/ 104) حديث 4781، 4782، 4783، 4788، والطبراني في الكبير (17/ 163 - 165) حديث 428 - 438، والحاكم (2/ 123، 3/ 35)، والبيهقي (6/ 58، 9/ 63)، وفي الصغير (2/ 299) حديث 2075، وابن الأثير في أسد الغابة (4/ 46)، والمزي في تهذيب الكمال (20/ 158) من طرق عن عبد الملك بن عمير قال: سمعت عطية القرظي يقول: "عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قُتل، ومن لم يُنبت خُلي سبيله، فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي". واللفظ لأحمد.

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، أنهم يرون الإنبات بلوغًا إن لم يعرف احتلامه، ولا سنه، وهو قول أحمد.

وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.

وأما قوله: "من فوق سبعة أرقعة" فقد تقدم تخريجه (7/ 79) تعليق رقم (1).

ص: 378

يقبل الله صلاة حائض إلا بخِمَارٍ"

(1)

رواه الترمذي وحسَّنه.

(والحمل؛ لأن حملها دليل إنزالها، فيُحكم ببلوغها منذ حملت) لأن الله تعالى أجرى العادة بخلق الولد من مائهما؛ لقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}

(2)

(ويقدَّر ذلك) أي: الوقت الذي حكم ببلوغها منه (بما قبل وضعها بستة أشهر؛ لأنه اليقين) لأنها أقل مدة الحمل (إذا كانت توطأ) بأن كانت مزوَّجة.

(وإن طلقت وكانت لا توطأ؛ فولدت أكثر مدة الحمل) وهي أربع سنين (فأقل) من ذلك (منذ طلقت، فقد بلغت قبل الفرقة) لأنه لا يحتمل خلاف ذلك.

(و) يحصُل بلوغ (خنثى) بأحد خمسة أشياء: (بسنٍّ) أي: تمام خمس عشرة سنة (أو نبات) شعر خشن (حول الفرجين، أو مني من أحدهما، أو حيض من فرْج) أي: مما يشبه فرج الأنثى (أو هما) أي: الحيض والمني (من فرج واحد، أو مني من ذكره، وحيض من فرجه) لأنه إن كان ذكرًا، فقد أمنى، وإن كان أنثى فقد حاضت، ويأتي حكم إشكاله وما يزول به في ميراثه.

(ولا اعتبار) في البلوغ (بغلظِ الصوت، ولا فرق الأنف، و) لا (نهود الثدي، و) لا (شعر الإبط، ونحو ذلك) لعدم اطراده.

(والرشد: الصلاح في المال لا غير) في قول أكثر العلماء؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ

(1)

تقدم تخريجه (1/ 470) تعليق رقم (3).

(2)

سورة الطارق، الآيات: 5، 6، 7.

ص: 379

أَمْوَالَهُمْ}

(1)

، قال ابن عباس:"يعني صلاحًا في أموالهم"

(2)

. وقال مجاهد: إذا كان عاقلًا

(3)

. ولأن العدالة لا تُعتبر في الرُّشد في الدوام، فلا تعتبر في الابتداء، كالزُّهد في الدنيا، فعلى هذا يدفع إليه ماله وإن كان مفسِدًا لدينه، كمن ترك الصلاة، ومنع الزكاة، ونحو ذلك.

(ولا يُدفع إليه مالُه) بعد بلوغه (قبله) أي: قبل رُشدِه (ولو صار شيخًا) لما تقدم

(4)

.

(ولا يدفع إليه) أي: إلى المحجور عليه لحظِّه مالُه (حتى يُختبر) أي: يُمتحن (بما يليق به، ويؤنَس) أي: يُعلم (رُشْدُه) لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} الآية

(5)

أي: اختبروهم، فعلَّق الدفع على: الاختبار، والبلوغ، وإيناس الرشد. فوجب اختباره بتفويض التصرُّف إليه، وهو يختلف.

(فإن كان من أولاد التجار، وهم) أي: التجار (من يبيع ويشتري) لطلب الربح (فـ) ــإيناسُ الرُّشد منه (بأن يتكررا) أي: البيع والشراء (منه، فلا يُغبنُ غالبًا غَبْنًا فاحشًا، وأن يحفظ ما في يده من صَرْفه فيما لا فائدة فيه، كالقمار، والغناء، وشراء المُحرَّمات) كالخمر وآلات اللهو (ونحوه.

وليس الصدقةُ به وصرفه في باب بر) كغزو وحج (و) صرفه في

(1)

سورة النساء، الآية:6.

(2)

أخرجه ابن جرير في تفسيره (4/ 252)، وابن المنذر كما في الدر المنثور (2/ 121)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 865) رقم 4805، والبيهقي (6/ 59).

(3)

أخرجه ابن جرير في تفسيره (4/ 253)، وانظر: تفسير مجاهد ص/ 267.

(4)

(8/ 376 - 377).

(5)

سورة النساء، الآية:6.

ص: 380

(مطعم، ومشرب، وملبس، ومنكح لا يليق به: تبذيرًا؛ إذ لا إسراف في الخير).

قال في "الاختيارات"

(1)

: الإسراف: ما صرفه في المحرَّمات، أو كان صَرْفه في المباح يضرُّ بعياله، أو كان وحده ولم يثق بإيمانه، أو أسرف

(2)

في مباح قَدْرًا زائدًا على المصلحة. انتهى.

وقال المصنف في "الحاشية": الفرق بين الإسراف والتبذير، أن الإسراف: صَرْف الشيء فيما ينبغي زائدًا على ما ينبغي، والتبذير: صَرْف الشيء فيما لا ينبغي.

(ويُختبر ابن المزارع بما يتعلَّق بالزراعة، والقيام على العُمَّال والقُوَّام، و) يُختبر (ابن المحترِف) أي: صاحب الصناعة (بما يتعلَّق بحرفته، و) يختبر (ابن الرئيس والصدر الكبير، و) ابن (الكاتب الذين يصان أمثالهم عن الأسواق: بأن تدفع إليه نفقته مدة لينفقها في مصالحه، فإن صَرَفها في مصارفها ومواقعها، واستوفى على وكيله فيما وكل فيه، واستقصى عليه) أي: على وكيله (دَلَّ ذلك على رشده) فيعطى ماله.

ويُشترط في الكل ما تقدم في ابن التاجر من حفظ ما في يده عن صرفه فيما لا فائدة فيه، ولو أخَّره، وأرجعه إلى الكل كما صنع غيره لكان أفيد.

(و)

‌ إذا عُلِم رشده أُعطي ماله (سواء رشده الولي، أو لا)

لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}

(3)

.

(1)

ص/ 202.

(2)

في "ذ" والاختيارات: صرف.

(3)

سورة النساء، الآية:6.

ص: 381

(قال الشيخ

(1)

: وإن نوزع) أي: نازعه وليُّه (في الرُّشد، فشهِدَ) به (شاهدان قَبِلَ) الحاكم شهادتهما وعمل بها (لأنه) أي: الرشد (قد يعلم فالاستفاضة) كالنسب (ومع عدمها) أي: البينة (له اليمين على وليه) لعموم حديث: "البينة على المدَّعي، واليمين على من أنكر"

(2)

(أنه لا يعلم رُشده) لأن اليمين على فعل الغير، فكانت على نفي العلم.

(ولو تبرَّع) من لم يعلم رُشده (وهو تحت الحَجْر، فقامت بينة برُشده) وقت التبرع (نفذ) تبرُّعه، وكذلك سائر عقوده؛ لأن العبرة في العقود بما في نفس الأمر.

(والأنثى) إذا أُريد اختبارها (يفوَّض إليها ما يفوَّض إلى ربة البيت من الغزل والاستغزال) أي: دفعها الكتان ونحوه إلى الغزالات (بأجرة المِثْل، وتوكيلها في شراء الكتَّان ونحوه) كالقطن (وحفظ الأطعمة من الهر، والفأر، وغير ذلك، فإن وُجدت ضابطة لما في يدها، مستوفية من وكيلها، فهي رشيدة) يُدفع إليها مالها، وإلا؛ فلا.

(ووقت الاختبار قبل البلوغ) لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}

(3)

فظاهرها: أن ابتلاءهم قبل البلوغ؛ لأنه سمَّاهم يتامى، وإنما يكون ذلك قبل البلوغ، ومدَّ اختبارهم إلى البلوغ بلفظ:"حتى" فدلَّ على أنه قبله؛ ولأن تأخيره إلى البلوغ يفضي إلى الحَجْر على البالغ الرشيد؛ لكونه ممتدًا حتى يختبر، ويُعلم رُشده.

(ولا يُختبر إلا المراهق المميز، الذي يَعرف البيع والشراء،

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 202.

(2)

تقدم تخريجه (8/ 244) تعليق رقم (1).

(3)

سورة النساء، الآية:6.

ص: 382

والمصلحة والمفسدة) وإلا؛ أدَّى إلى ضياع المال وحصول الضرر (و‌

‌بيع الاختبار وشراؤه صحيح)

لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}

(1)

ولا يأمر بغير الصحيح.

فصل

(وتثبت الولاية على صغير ومجنون) ذكر أو أنثى (لأب) لأنها ولاية، فقدَّم فيها الأب كولاية النكاح، ولكمال شفقته (بالغٍ رشيدٍ عاقل حر عدلٍ، ولو ظاهرًا) لأن تفويض الولاية إلى غير مَن هذه صفاته تضييعٌ للمال؛ ولأن غير البالغ الرشيد الحر العاقل يحتاج إلى ولي، فلا يكون وليًّا على غيره، لكن تثبت الولاية للمكاتَب على ولده التابع له في الكتابة. ويُتصور أن يكون الأب غير بالغ إذا ألحق الولد بابن عشر احتياطًا للنسب، فيلحق به الولد، ولا يثبت به بلوغه (ولو) كان الأب (كافرًا) فله الولاية (على ولده الكافر) لمساواته له في الكفر، ولا ولاية للكافر على ولده المسلم؛ لقوله تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}

(2)

وإنما تثبت الولاية لكافر (بـ) ــشرط (أن يكون عدلًا في دينه) ممتثلًا لما يعتقدونه واجبًا، منتهيًا عما يحرِّمونه، مراعيًا للمروءة.

(ثم) تثبت الولاية على صغير ومجنون (بعد الأب لوصيه) العدل (ولو) كان (بجعل، وثمَّ متبرع) بالولاية؛ لأنه نائب الأب، أشبه وكيله في الحياة.

(1)

سورة النساء، الآية:6.

(2)

سورة النساء، الآية:141.

ص: 383

(ثم) إن لم يكن أب ولا وصيه، أو كان الأب موجودًا وفُقِد شيء من الصفات المعتبرة فيه، ثبتت الولاية عليهما (لحاكم) لأن الولاية انقطعت من جهة الأب، فتكون للحاكم؛ لأنه وليُّ مَنْ لا وليَّ له وقوله:(كذلك) أي: بالصفات المعتبرة.

قال الإمام: أما حكامنا هؤلاء اليوم، فلا يجوز أن يتقدم إلى أحد منهم، ولا يدفع إليه شيئًا

(1)

.

(فلو لم يوصِ الأبُ إلى أحدٍ) بالصفات المعتبرة، أو كان الأبُ موجودًا غير متصف بالصفات المعتبرة، كما يدلُّ عليه كلامه في الهبة (أقام الحاكم أمينًا في النظر لليتيم) والمجنون؛ لانتقال الولاية إليه.

(فإن لم يوجد حاكم) بالصفات المعتبرة (فأمينٌ يقوم به) أي: باليتيم. سأل الأثرم

(2)

الإمام عن رجل مات، وله ورثة صغار، كيف يصنع؟ فقال: إن لم يكن لهم وصي، ولهم أم مشفقة تدفع إليها.

(والجد) لا ولاية له؛ لأنه لا يدلي بنفسه، وإنما يدلي بالأب فهو كالأخ (والأم وسائر العصبات لا ولاية لهم) كان المال محل الخيانة، ومن عدا المذكورين أولًا قاصر عنهم، غير مأمون على المال.

(ولا يجوز لوليهما) أي: الصغير والمجنون (أن يتصرَّف في مالهما إلا على وجه الحظِّ لهما) لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}

(3)

والمجنون في معناه.

(فإن تبرَّع) بهِبة أو صدقة (أو حابى) بأن اشترى بزيادة، أو باع

(1)

الفروع (4/ 317).

(2)

لعله في مسائله، ولم تطبع، وذكره - أيضًا - في الفروع (4/ 317).

(3)

سورة الأنعام، الآية: 152، والإسراء الآية:34.

ص: 384

بنقصان (أو زاد على النفقة عليهما) بالمعروف (أو) زاد على النفقة (على من تلزمهما مؤنته) من زوجة ونحوها (بالمعروف، ضَمِنَ) لأنه مفرِّطٌ، كتصرُّفِهِ في مال غيرهما. قال في "المبدع": ومراده - والله أعلم - أنه يضمن القَدْرَ الزائد على الواجب، لا مطلقًا.

(ولوليهما الإنفاق عليهما من مالهما بغير إذن حاكم، كـ) ــإنفاقه على (لقيط) بغير إذن حاكم لولايته.

(ولو أفسد) طفل أو مجنون (نفقته، دفعها) الولي (إليه يومًا بيوم) دفعًا للمفسدة، وعُلم أن من لم يفسدها، يجوز أن يجعل له ما جرت به عادة أهل بلده.

(فإن أفسدها) المولَّى عليه بإتلافها، أو دفعها لغيره (أطعمه) الولي (معاينة) أي: حال كونه معاينًا له، وإلا؛ كان مفرِّطًا.

(ولو أفسد كسوته، ستر عورته فقط في بيت إن لم يمكن التحيل) على إبقائها عليه (ولو بتهديد وزجر وصياح عليه، ومتى أراه) الولي (الناس، ألبسه) ثيابه (فإذا عاد) إلى البيت (نزع) الثياب (عنه) وستر عورته فقط.

(ويقيد المجنون بالحديد لخوف) عليه، نص عليه

(1)

. وكذا ينبغي لو خيف منه.

(ولا يصح أن يرتهن) الولي من مالهما لنفسه (أو يشتري) الولي (من مالهما) شيئًا (لنفسه أو يبيعهما) شيئًا من نفسه؛ لأنه مظنة التُّهمة (إلا الأب) لأن التُّهمة بين الولد ووالده منتفيةٌ؛ إذ من طبع الوالد الشفقة عليه، والميل إليه، وتَرْك حظ نفسه لحظِّه، وبهذا فارق الوصي والحاكم

(1)

الفروع (4/ 322).

ص: 385

(ويأتي) ذلك.

(ويجب على وليهما إخراج زكاة مالهما) من مالهما (و) إخراج (فطرتهما من مالهما) وكذا فطرة من تلزمهما مؤنته، وتقدم في الزكاة

(1)

.

(ولا يصح إقراره) أي: الولي (عليهما) بمال ولا إتلاف ونحوه، لأنه إقرار على الغير وأما تصرُّفاته النافذة منه، كالبيع والإجارة، وغيرهما، فيصح إقراره بها كالوكيل.

(ولا) يصح (أن يأذن لهما في حفظ مالهما) لعدم حصول المقصود.

(ويُستحب إكرام اليتيم، وإدخال السرور عليه، ودفع النفس و) دفع (الإهانة عنه) أي: عن اليتيم (فجبر قلبه من أعظم مصالحه، قاله الشيخ

(2)

) لحديث أبي الدرداء مرفوعًا: "أتحب أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك، ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يَلِنْ قلبك" رواه الطبراني في "الكبير"

(3)

.

(1)

(4/ 309، 5/ 54).

(2)

لم نقف عليه في مظانه من كتب شيخ الإسلام المطبوعة، وانظر: تحفة المودود ص/ 300.

(3)

لم نقف عليه في المطبوع من المعجم الكبير، وقد ذكره المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 322) حديث 3744، والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 160) وضعفاه.

قال المنذري: رواه الطبراني من رواية بقية، وفيه راوٍ لم يسم أيضًا. وقال الهيثمي: رواه الطبراني وفي إسناده من لم يسم، وبقية مدلس.

وأخرجه - أيضًا - عبد الرزاق (11/ 96) حديث 20029، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (1/ 214) في حديث طويل، وفي إسناده راوٍ لم يسمَّ.

وأخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق ص/ 75، والبيهقي في شعب الإيمان =

ص: 386

(ولوليهما مكاتبة رقيقهما) لأن ذلك تحصيل لمصلحة الدنيا والآخرة، وقيَّدها بعض الأصحاب بما إذا كان فيها مصلحة (و) لوليهما (عتقه) أي: عتق رقيقهما (على مال إن كان فيه حظ كما تقدم، مثل أن تكون قيمته ألفًا، فيكاتبه على ألفين، أو يعتقه عليهما) أي: على ألفين (ونحو ذلك) مما فيه حظ لهما؛ لأنها معاوضة فيها حظ، فَمَلَكها الوليُّ كالبيع.

(وإن كان) ما ذكر من الكتابة والعتق (على مال بقَدْرِ قيمته) أي: القن (أو) كان على مال (أقل) من قيمته (لم يجز) ذلك؛ لأنه لا حظَّ فيه للمولَّى عليه (كعتقه مجانًا) أي: بغير عوض. وعنه: بلى؛ لمصلحة؛ بأن تساوي أَمَة مع ولدها مائة، وبدونه مائتين، ولا يمكن إفرادها بالبيع، فيعق الولد لتكثر قيمة الأم، اختاره أبو بكر. قال في "الإنصاف": ولعل هذا كالمتفق عليه.

(وله) أي: لولي اليتيم والمجنون (تزويج رقيقهما من عبيد وإماء لمصلحة) ولو بعضًا ببعض؛ لأن في ذلك إعفافًا عن الزِّنى، وإيجابًا لنفقة الإماء على أزواجهن.

= (7/ 472) حديث 11035، عن محمد بن واسع، عن أبي الدرداء رضي الله عنه مختصرًا.

قال المزي في تهذيب الكمال في ترجمة محمد بن واسع (26/ 578): قال علي بن المديني: ما أعلمه سمع من أحد من الصحابة.

وللحديث شاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال له:"إن أردت أن يلين قلبك، فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم" رواه أحمد (2/ 263، 387)، وعبد بن حميد (3/ 198) حديث 1424.

قال المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 333) حديث 3745، الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 160): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال العراقي كما في فيض القدير (1/ 109): إسناده صحيح.

ص: 387

(و) لوليهما (السفر بمالهما لتجارة وغيرها) بأن عرض له سفر (في مواضع آمنة) لأنه أحظ لهما، ولأنه عادة البالغين في أموالهم. وقوله (في غير بحر) لم يقيّد به في "الإنصاف" ولا "المبدع" ولم أره لغيره، بل مقتضى كلامهم: يجوز - أيضًا - مع غلبة السلامة.

(ولا يدفعه) أي: يدفع الوليُّ مالهما (إلا إلى الأمناء) لأنه لا حظَّ لهما في دفعه لغير أمين.

(ولا يُغرِّر) الوليُّ (به) أي: بمالهما، بأن يعرضه لما هو متردد بين السلامة وعدمها؛ لعدم الحظِّ لهما.

(وله) أي: للولي (المضاربة) أي: التجارة (به) أي: بالمال (بنفسه، ولا أُجرة له) في نظير اتجاره به (والربح كله للمولَّى عليه) لأنه نماء ماله.

(والتجارة بمالهما أولى من تركها) وفي "الاختيارات"

(1)

: تُستحب التجارة بمال اليتيم؛ لقول عمر وغيره: "اتجروا في أموال اليتامى؛ لئلا تأكلها الصدقة"

(2)

.

(وله) أي: لولي الصغير والمجنون (دفعه) أي: دفع مالهما (مضاربةً إلى أمين) يتَّجر فيه (بجزء من الربح) لأن عائشة أبضعت مال محمد

(3)

بن أبي بكر رضي الله عنهم

(4)

، ولأن الولي نائب عن محجوره في كل ما فيه مصلحته.

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 203.

(2)

تقدم تخريجه (4/ 310) تعليق رقم (4).

(3)

كذا في الأصول: محمد بن أبي بكر. والصواب: القاسم بن محمد بن أبي بكر كما في مصادر التخريج.

(4)

تقدم تخريجه (4/ 310) تعليق رقم (1).

ص: 388

(وله) أي: الولي (إبضاعه، وهو) أي: إبضاعه (دفعه) أي: مالِهِما (إلى من يتَّجرُ به، والربح كله للمولَّى عليه.

و) للولي أيضًا (بيعه نَسيئًا لمليء، و) له (قرضه لمصلحة فيهما) بأن يكون الثمن المؤجل أكثر مما يُباع به حالًّا (كحاجة سفر، أو خوف عليه) أي: على المال (أو غيرهما) فيجوز حينئذ (ولو بلا رهن ولا كفيل، و) فعل ذلك (بهما) أي: بالرهن والكفيل (أو بأحدهما أولى) من تركه؛ لأنه الاحتياط.

(فإن تَلِفَ) المال، أي: ضاع بسبب تَرْك الرهن والكفيل (لم يضمن) الولي؛ لأن الظاهر السلامة.

(قال القاضي: و‌

‌معنى الحظِّ) في قرض مال الصبي والمجنون

(أن يكون للصبي) أو المجنون (مال في بلد، فيريد) الولي، (نقله إلى بلد آخر فيقرضه) الولي (من رجل في ذلك البلد، ليقضيه بدله في بلده، يقصد) الولي (بذلك حفظه من الغرر) أي: المخاطرة (في نقله) أي: المال (أو يخاف عليه) أي: على المال (الهلاك من نهب، أو غرق، أو غيرهما، أو يكون) المال (مما يتلف بتطاول مدته، أو) بكون (حديثه خيرًا من قديمه، كالحنطة ونحوها، فيقرضه) الوليُّ (خوفًا من السوس، أو) خوفًا من أن (تنقص قيمته، وأشباه ذلك.

وإن لم يكن فيه) أي: في قرضه (حظٌّ، لم يجز) لوليه قرضه؛ لأنه يُشبه التبرُّع.

(وإن أراد) الوليُّ (أن يودع ماله) أي: مال الصغير، أو المجنون (فقرْضه لثقة أولى) من إيداعه؛ لأنه أحفظ له.

(وإن أودعه) الولي (مع إمكان قرضه، جاز) له ذلك (ولا ضمان

ص: 389

عليه) أي: الولي إن تلف؛ لعدم تفريطه.

(وكل موضع قلنا: له) أي: للولي (قرضه) بأن رأى فيه المصلحة (فلا يجوز) قرضه (إلا لمليء أمين) لئلا يعرضه للتلف، وكذا بيعه نَسَاء.

(ولا يقرضه) الولي (لمودة ومكافأة) نصًّا

(1)

؛ لأنه لا حظَّ للمولَّى عليه في ذلك.

(ولا يقترض وصيّ ولا حاكم منه شيئًا) لنفسه، كما لا يشتري من نفسه، ولا يبيع لها؛ للتُّهمة. وظاهره: أن الأب له ذلك؛ لعدم التُّهمة.

(وله) أي: للولي (هبته بعوض) قَدْر قيمته فأكثر، أما بدونها فمُحاباة على قياس ما سبق.

(و) للولي (رهنه عند ثقة لحاجة) وللأب أن يرتهن مالهما لنفسه، ولا يجوز ذلك لولي غيره.

(ولوليهما) أي: الصغير والمجنون، أبًا كان أو غيره (شراء العقار لهما) من مالهما ليستغل مع بقاء الأصل لهما.

(و) له أيضًا (بناؤه) أي: العقار لهما (بما جرت عادة أهل بلده به.

وفي "المغني" وغيره - نقلًا عن الأصحاب -: يبنيه بالآجر والطين، لا باللَّبِن) لأنه إذا انهدم فسد.

ورُدَّ: بأن كل الأماكن لا يقدر فيها على الآجر، وإن وجد فبقيمة كثيرة. قال: فيُحمل قول الأصحاب على من عادتهم البناء به، كالعراق ونحوها، ولا يصح حمله في حق غيرهم.

(وإن كان الشراء أحظَّ من البناء، وهو) أي: شراء العقار (ممكن

(1)

الإرشاد ص/ 423، والهداية للكلوذاني (1/ 267)، والمغني (6/ 344). وانظر: مسائل الكوسج (8/ 4340) رقم 3101.

ص: 390

تعيَّن تقديمه) أي: الشراء على البناء؛ لكونه أحظ.

(وله) أي: للولي (شراء الأضحية ليتيم له مالٌ كثيرٌ من مال اليتيم) وحمل النص في "المغني" على يتيم يعقلها؛ لأنه يوم سرور وفرح؛ ليحصُل بذلك جبر قلبه، وإلحاقًا بمن له أب، كالثياب الحسنة مع استحباب التوسعة في هذا اليوم.

(وتَحرم صدقته) أي: الولي (بشيء منها) أي: الأضحية (وتقدم) في الأضاحي

(1)

.

(ومتى كان خلط قُوْته) أي: اليتيم بقوت وليه (أرفق به، وأَلْيَن في الخَبْز، وأمكن في حصول الأُدم، فهو) أي: الخلط (أولى)، طلبًا للرفق، قال تعالى:{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}

(2)

.

(وإن كان إفراده) أي: اليتيم (أرفق به، أفردَه) الوليُّ؛ مراعاة للمصلحة.

(ويجوز) للولي (تركه) أي: اليتيم (في المَكْتب) ليتعلم ما ينفعه (و) له - أيضًا - (تعليمه الخط، والرماية، والأدب، وما ينفعه. و) له (أداء الأجرة عنه) من ماله؛ لأن ذلك من مصالحه، أشبه ثمن مأكوله. (و) له (أن يسلِّمه في صناعة إذا كانت مصلحة.

و) له - أيضًا - (مداواته) أي: مداواة محجوره لمصلحة.

(و) له - أيضًا - (حَمْلُه ليشهد الجماعة بأُجرة فيهما) أي: في المداوة والحمل (بلا إذن حاكم إذا رأى) الوليُّ (المصلحةَ في ذلك كله.

وله) أي: الولي (بيع عقارهما) أي: الصغير والمجنون

(1)

(6/ 432).

(2)

سورة البقرة، الآية:220.

ص: 391

(لمصلحة، ولو لم يحصُل زيادة على ثمن مثله) أي: مثل العقار.

(وأنواع المصلحة كثيرة؛ إما لاحتياج) الصغير والمجنون (إلى نفقة، أو كسوة، أو قضاء دين) عليهما (أو ما لا بُدَّ منه) للصغير والمجنون (وليس له ما تندفع به حاجته، أو يخاف عليه) أي: العقار (الهلاك بغرق أو خراب ونحوه، أو يكون في بيعه) أي: العقار (غبطة، وهي أن يبذل فيه زيادة كثيرة على ثمن مثله، ولا يتقيد بالثلث، أو يكون) أي: العقار (في مكان لا ينتفع به) لكونه لا غلة فيه لخراب محلته مثلًا (أو نفعه قليلًا، فيبيعه ويشتري له) عقارًا (في مكان يكثر نفعه، أو يرى) الولي (شيئًا يُباع في شرائه غِبطة لا يمكنه شراؤه إلا ببيع عقاره، وقد تكون داره في مكان يتضرر الغلام بالمقام فيه، كسوء

(1)

الجوار أو غيره، فيبيعها ويشتري له بثمنها دارًا يصلح له) أي: للمولَّى عليه (المقام بها، وأشباه هذا مما لا ينحصر) فالمعتبر أن يراه مصلحة.

قال في "المبدع": وحاصله أنه لا يباع إلا بثمن المِثْل، فلو نقص منه، لم يصح، ذكره في "المغني" و"الشرح" انتهى. وفي "حواشي" ابن نصر الله: وبيع الولي بدون القيمة صحيحٌ على المذهب، يعني: ويضمن النقص كالوكيل.

(وإن وصَّى لأحدهما) أي: صغير أو مجنون (بمن يعتق عليه) كأبيه وأخيه (ولا تلزمه) أي: المحجور عليه (نفقته، لإعسار الموصى له، أو غير ذلك) كأن يكون الموصى به قادرًا على التكسُّب (وجب على الولي قَبول الوصية) لأنه مصلحة محضة (وإلا) بأن كانت نفقته واجبة على المحجور عليه (لم يجز له) أي: للولي (قَبولها) أي: الوصية؛

(1)

في "ح" ومتن الإقناع (2/ 410): "لسوء".

ص: 392

لعدم المصلحة.

والهبة في ذلك كالوصية.

وعُلِم منه: أنه ليس لوليهما شراء من يعتق عليهما مطلقًا؛ لأنه تبرُّع.

(وللوليِّ أن يأذن للصغيرة أن تلعب بِلُعَبٍ غير مصوَّرة، أي: بلا رأس، وله شراؤها) أي: اللُّعب غير المصوَّرة لمحجورته (من مالها، نصًّا

(1)

) لأنه لا محظور فيه، بل فيه مصلحة التمرُّن على ما يُطلب منها. (و) شراؤه لها (من ماله أولى) ليوفّر لها مالها (وتقدم في ستر العورة

(2)

بعضه).

ولوليها - أيضًا - تجهيزها، إذا زوَّجها بما يليق بها من ثياب وحلي وفُرش على العادة؛ لأنه من مصالحها.

(وإن لم يمكن الولي تخليصُ حقِّ موليه) من دين أو عين (إلا برفعه إلى والٍ يظلمه، فله) أي: الولي (رفعه) أي: من عليه الحق؛ لأنه هو الذي جرَّ الظلم إلى نفسه.

(كما لو لم يمكن ردُّ المغصوب إلا بكلفةٍ عظيمة) فإن للمالك تكليف الغاصب ذلك، والمؤنة على الغاصب؛ لأنه المتسبب، فيؤخذ منه أن الإنسان إن لم يمكنه أخْذ حقه إلا برفع من هو عليه لوالٍ يظلمه، جاز له رفعه.

(1)

الفروع (4/ 321)، والآداب الشرعية (3/ 517)، وانظر: الورع للإمام أحمد ص/ 141.

(2)

(2/ 164).

ص: 393

فصل

(ومن بلغ سفيهًا) واستمر (أو) بلغ (مجنونًا، فالنظر) في ماله (لوليه قبلُ) أي: قبل البلوغ، من أب، أو وصيه، أو الحاكم؛ لما تقدم

(1)

.

(وإن فكَّ عنه الحَجْر) بأن بلغ عاقلًا رشيدًا (فعاوده السَّفه) أُعيد الحَجْر عليه (أو جُنَّ) بعد بلوغه ورشده (أُعيد الحَجْر عليه) لأن الحكم يدور مع علته.

(ف‌

‌إن فسق السفيه، ولم يبذِّر، لم يُحجر عليه)

خصوصًا على القول بأن الرُّشد إصلاح المال فقط.

(ولا يَحجر عليهما) أي: على عن سفه، أو جُنَّ بعد بلوغه ورشده، إلا الحاكم؛ لأن التبذير الذي هو سبب الحَجْر عليه ثانيًا يختلف، فاحتاج إلى الاجتهاد، وما احتاج إلى الاجتهاد لم يثبت إلا بحكم الحاكم، كالحَجْر على المفلس، وهذا واضح بالنسبة لمن سفه، وأما من جنَّ، فالجنون قال في "المبدع": لا يفتقر إلى الاجتهاد، بغير خلاف، ومعناه في "المغني".

(ولا ينظر في أموالهما) أي: مال من سفه أو جنَّ بعد بلوغه ورشده وحُجِر عليه (إلا الحاكم) لأن الحَجْر عليهما يفتقر إلى الحاكم

(2)

، فكذا النظر في مالهما (ولا ينفك) الحَجْر (عنهما إلا بحكمه) لأنه حَجْرٌ ثبت بحكمه، فلم يزل إلا به، كالمفلِس.

(والشيخ الكبير إذا اختلَّ عقله حُجر عليه بمنزلة المجنون) لعجزه

(1)

(8/ 383 - 384).

(2)

زاد في "ذ": "وفكه كذلك".

ص: 394

عن التصرُّف في ماله. ونقل المرُّوذي

(1)

: أرى أن يحجر الابن على الأب إذا أسرف في ماله، بأن يضعه في الفساد، وشراء المغنيات ونحوه.

(ومن حجر عليه) الحاكم (استُحِب إظهاره عليه، والإشهاد عليه) أي: على الحَجْر عليه (لتُجتنب معاملته) وعُلم منه: أن الإشهاد عليه ليس بشرط؛ لأنه ينتشر أمره لشهرته.

(وإن رأى الحاكمُ أن يأمر مناديًا ينادي بذلك) أي: بالحَجْر عليه (ليعرفه الناس، فعل) أي: أمر من ينادي به.

(ولا يصح تزوُّجه إلا بإذن وليه) لأنه تصرف يجب به مال، فلم يصح بغير إذن وليه، كالشراء (إن لم يكن) السفيه (محتاجًا إليه) أي: إلى التزوُّج (وإلا) بأن احتاج إليه (صح) التزوُّج بغير إذنه؛ لأنه إذًا مصلحة محضة، والنكاح لم يُشرع لقصد المال، وسواء احتاجه لمتعة أو خدمة (ويتقيد) السفيه إذا تزوج (بمهر المِثْل) فلا يزيد عليه؛ لأن الزيادة تبرُّع، وليس من أهله.

(وإن عضله الوليُّ بالزواج) أي: منعه منه (استقلَّ) السفيه (به) كما

(2)

تقدم.

(فلو عَلِم) الولي (أنه) أي: السفيه (يطلِّق) إذا زوَّجه (اشترى له أَمَة) يتسرَّى بها، ولا ينفذ عتقه فيها؛ لأنه تبرُّع، أشبه هبته ووقفه، والطلاق ليس بإتلاف مال؛ لأن الزوج لا ينفذ بيعه في زوجته، ولا تورث عنه إذا مات، فليست بمال، بخلاف الرقيق.

وغُرْمُ الشاهدين نصفَ المسمى إذا شهدا بالطلاق قبل الدخول

(1)

الورع ص/ 56، والإرشاد ص/ 365.

(2)

في "ذ" زيادة: "لو لم يمنعه لما".

ص: 395

ورجعا بعد حكم الحاكم به، إنما هو لأجل تفويت الاستمتاع بما أوقعا من الحيلولة، وإن لم يتلفا مالًا.

(ويأتي تزويج وليه) أي: السفيه (له) مفصَّلًا.

(وينفق عليه) من ماله (ويُكسى) من ماله (بالمعروف) ويتولى ذلك وليُّه.

(فإن أفسد) السفيه (ذلك) أي: نفقته وكسوته (فعل) الوليُّ (به كما تقدم

(1)

في الصبي والمجنون) فيدفع النفقة إليه يومًا بيوم، فإن أفسدها أطعمه معاينة، ويستر عورته فقط في بيت إن لم يمكن تحيُّلٌ عليه بتهديد ونحوه، وإذا خرج للناس ألبسه ثيابه.

(ويصح تدبيره ووصيته) لأنه لا ضرر عليه فيهما، ويأتي.

و (لا) يصح (عتقه، و) لا (هبته، و) لا (وَقْفُهُ) لأنه تبرُّع، وليس من أهله، لكن إن كان الوقف معلَّقًا بموته فالظاهر صحته؛ لأنه وصية. وفارق عِتقُهُ عِتقَ الراهن؛ لأن الحجْر على الراهن لحق غيره، وينجبر بأخذ قيمته مكانه.

(وله) أي: السفيه (المطالبة بالقصاص) لأنه يستقل بما لا يتعلق بالمال مقصوده.

(و) له (العفو) عن القصاص (على مال، ولا يصح) عفوه عن القصاص (على غير مال) ويأتي في العفو عن القصاص تحريره، وأنه يصح.

(ويصح استيلاده) أي: استيلاد السفيه الأَمَة المملوكة له (وتعتق الأمة المستولدة) له (بموته) لعموم ما يأتي في أمهات الأولاد.

(1)

(8/ 385).

ص: 396

(وإن أقرَّ) السفيه (بحد) زنىً، أو شرب، أو قذف (أو طلاق

(1)

زوجته، أو خلعها بمال، صح) الإقرار والطلاق والخلع؛ لأن مقصودها لا يتعلق بالمال (ويلزمه) أي: السفيه (حكمه) أي: حكم الإقرار والطلاق والخلع (في الحال) لأنه غير متهم في نفسه، والحَجْر إنما يتعلق بماله.

(وإن قبض) السفيه (عوض الخُلْع) أو الطلاق (لم يصح قبضه) لأنه تصرُّف في مال (فلو أتلفه) أو تلف بيده (لم يضمن) السفيه (ولا تَبْرَأُ المرأة بدفعها إليه) أي: إلى السفيه عوض الخلع، أو الطلاق، كالصغير؛ لعدم أهليته للقبض.

(ويصح ظهاره، وإيلاؤه، ولعانه، ونفيُ النسب به) أي: باللعان، عن السفيه.

(وإن أقرَّ) السفيه (بما يوجب القصاص) في نفس أو طرف ونحوه (وطلب) المقَرُّ له (إقامته، كان لربه استيفاؤه) في الحال (فإن عفا) ربه عنه (على مال، صح) العفو (والصواب: أنه لا يجب المال) الذي عفا عليه (في الحال) لأن السفيه والمقَرَّ له قد يتواطآن على ذلك، بل يجب إذا فك الحَجْر عنه (وسقط القصاص) للعفو.

(وإن أقر) السفيه (بنسب ولد) أو نحوه (صح) إقراره (ولزمته أحكامه، من نفقة وغيرها) كالسكنى والإرث (كنفقة الزوجة) والخادم.

(ولا يفرِّق السفيه زكاة ماله بنفسه، بل) يُفرِّقها (وليُّه) كسائر تصرفاته المالية.

(ولا تصح شركته) أي: السفيه (ولا حوالته، ولا الحوالة عليه، ولا

(1)

في "ح" و"ذ" ومتن الإقناع (2/ 412): "أو طلَّق".

ص: 397

ضمانه) لغيره (ولا كفالته) ببدن إنسان؛ لأن ذلك تصرُّفٌ مالي، فلم يصح منه، كالبيع والشراء.

(ويصح منه) أي السفيه (نذر كلِّ عبادة بدنية، من حج وغيره) كصوم وصلاة؛ لأنه غير محجور عليه في بدنه (لا نذر عبادة مالية) كصدقة وأُضحية؛ لأنه تصرُّفٌ في مال. قال في "المغني": وكَفَّر بالصيام.

(وإن أحرم) السفيه (بحج فرض، صح) إحرامه به كسائر عباداته (والنفقة من ماله تدفع إلى ثقة يتفق عليه في الطريق) حتى يعود (وإن كان) الحج الذي أحرم به (تطوُّعًا، وكانت نفقته في السفر كنفقته في الحضر، أو) كانت نفقته في السفر (أزيد، لكن يكتسب) السفيه (الزائد) في سفره (لم يمنعه وليه) من إتمام الحج؛ لأنه وجب بالشروع (ودفع النفقة إلى ثقة) ينفق عليه (كما تقدم) في الفرض (وإلا) بأن كانت نفقة السفر أزيد ولم يكتسبها (فله) أي: لوليه (تحليله) من الإحرام بحج النفل؛ لما عليه من الضرر فيه (ويتحلل) السفيه (بالصيام) أي: صيام عشرة أيام (كالمُعْسِر) إذا أُحصر (وتقدم

(1)

) ذلك (في كتاب الحج) مفصَّلًا.

(وإن لزمته) أي: السفيه (كفَّارة يمين، أو) لزمته (كفارة غيرها) كقتل وظِهار (كفَّرَ بالصوم) لأن المال يضره (وإن أعتق أو أطعم) أو كسا (لم يَجْزِهِ، ولم ينفذ) عتقه ونحوه؛ لأنه تصرُّف مالي، فلم يصح منه.

(فإن فك عنه الحَجْر قبل تكفيره كَفَّرَ بما يُكفِّر به الرشيد) على ما يأتي تفصيله، وتقدم ما فيه

(2)

(لا إن فكَّ) حَجْره (بعد التكفير) فلا يعيد

(1)

(6/ 370).

(2)

(8/ 339).

ص: 398

الكفارة؛ لأنه فعل ما كان واجبًا عليه، كمن صَلَّى بالتيمم ثم وجد الماء.

(وإن أقر) السفيه (بمال، صح) إقراره (ولم يلزمه) ما أقر به (في حال حَجْره) بل يتبع به بعده، لكن إن علم الولي صحة ما أقرَّ به السفيه، كدين جناية ونحوه، لزمه أداؤه، ذكره في "الشرح" و"الوجيز".

(وحكم تصرُّف وليِّ السفيه كحكم تصرُّف وليِّ الصغير والمجنون) على ما سلف؛ لأن ولايته على السفيه لحظِّه، أشبه وليَّ الصبي.

فصل

(وللولي المحتاج، غير الحاكم وأمينه، أن يأكل من مال المولَّى عليه) لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}

(1)

، وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:"أنَّ رجلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير، وليس لي شيء، ولي يتيم، فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف" رواه أبو بكر

(2)

(الأقل من أجرة مِثْله، أو قَدْر كفايته) لأنه يستحقه،

(1)

سورة النساء، الآية:6.

(2)

لم نقف عليه في مظانه من كتب أبي بكر الخلال المطبوعة. وأخرجه - أيضًا - أبو داود في الوصايا، باب 8، حديث 2872، والنسائي في الوصايا، باب 11، حديث 3670، وفي الكبرى (4/ 113) حديث 6495، وابن ماجه في الوصايا، باب 9، حديث 2718، وأحمد (2/ 186، 215 - 216)، وابن الجارود (3/ 218) حديث 952، والعقيلي (4/ 358)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 868) حديث 4824، والبيهقي (6/ 284)، والبغوي في شرح السنة (8/ 305) حديث 2205.

قال الحافظ في الفتح (8/ 241): وإسناده قوي.

وله شاهد عند البخاري في البيوع، باب 95، حديث 2212، وفي الوصايا، باب 22، حديث 2765، وفي التفسير، باب 2، حديث 4575، وعند مسلم في التفسير، حديث 3019 من طريق هشام بن عروة، عن أبيه: أنه سمع عائشة رضي الله عنها تقول: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أنزلت في والي =

ص: 399

بالعمل والحاجة جميعًا، فلم يجز أن يأخذ إلا ما وجدا فيه (ولو لم يقدره حاكم).

وأما الحاكم وأمينه فلا يأكلان شيئًا؛ لأنهما يستغنيان بما لهما في بيت المال، كما يأتي.

(ولا يلزمه) أي: الولي (عوضه) أي: ما أكله (إذا أيسر) لأن ذلك جُعل عوضًا له عن عمله، فلم يلزمه عوضه، كالأجير والمضارب؛ ولأنه تعالى أمر بالأكل ولم يذكر عوضًا.

(وإن كان) الولي (غنيًّا لم يجز له ذلك) أي: الأكل من مال المولَّى عليه؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ}

(1)

(إذا لم يكن أبًا) لما يأتي: أن الأب له أن يتملك من مال ولده ما شاء.

(فإن فرض) أي: قدَّر (للولي الحاكمُ شيئًا، جاز له أخذه مجانًا) فلا يغرم بدله بعد (ولو مع غناه) وللحاكم الفرض حيث رأى فيه مصلحة.

(ولا يقرأ) الولي ولا غيره (في مصحف اليتيم إن كان) ذلك (يُخْلِقُه) أي: يُبلي المصحف؛ لما فيه من الضرر عليه.

(ويأكل ناظر وقف بمعروف نصًّا

(2)

، إذا لم يشترط الواقف له شيئًا) لأنه يساوي الوصي معنىً وحكمًا (وظاهره) أن الناظر يأكل بالمعروف (ولو لم يكن محتاجًا، قاله في "القواعد"

(3)

.

= اليتيم الذي يقيم عليه، ويصلح في ماله، إن كان فقيرًا أكل منه بالمعروف.

(1)

سورة النساء، الآية:6.

(2)

كتاب الوقوف من الجامع للخلال (1/ 252) رقم 20، والقواعد لابن رجب في القاعدة الحادية والسبعين ص/ 136.

(3)

ص/ 136.

ص: 400

وقال الشيخ

(1)

: له) أي: الناظر (أخذ أجرة عمله مع فقره) قال في "المبدع": قال الشيخ تقي الدين

(1)

: لا يقدم بمعلومه بلا شرط؛ إلا أن يأخذ أجرة عمله مع فقره، كوصي اليتيم.

(و‌

‌الوكيل في) تفريق (الصدقة لا يأكل منها شيئًا؛ لأجل العمل)

لأنه يمكنه موافقة الموكِّل على الأجرة، بخلاف الوصي، أشار إليه القاضي. ولا يأكل أيضًا لفقره، ولو كان محتاجًا؛ لأنه مُنفِّذ.

(ومتى زال الحَجْر) عن الصغير، أو المجنون، أو السفيه (فادَّعى) أحدهم (على الولي تعدِّيًا) في ماله (أو) ادَّعى (ما يوجب ضمانًا) من نحو تفريط، أو محاباة، أو تبرُّع (ونحوه بلا بينة، فقول وَليٍّ) لأنه أمين كالمودَع (حتى في قدر نفقة عليه، و) قَدْر (كسوة، أو) قَدْر نفقة وكسوة (على ماله) أي: مال المحجور، من رقيق وبهائم، وكذا يقبل قوله في قَدْر النفقة على من تلزمه نفقته، من زوجة وقريب (أو) قَدْر نفقة على (عقاره) إن أنفق عليه في عمارة (بالمعروف من ماله) أي: مال الولي، ليرجع على المحجور عليه، وظاهره: لا تُقبل دعواه اقتراضًا عليه؛ لأنه خلاف الظاهر (ما لم يُعلم كذبه) أي: الولي، بأن كذَّب الحسُّ دعواه (أو تخالفه عادةٌ وعرفٌ) فلا يُقبل قوله لمخالفته الظاهر.

(لكن لو قال الوصي: أنفقت عليك ثلاث سنين. وقال اليتيم: بل مات أبي منذ سنتين، وأنفقت علي من أوان

(2)

موته، فقول اليتيم) بيمينه، لأن الأصل موافقته.

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 256.

(2)

في "ح" ومتن الإقناع (2/ 414): "من لدن".

ص: 401

(ويُقبل قول ولي - أيضًا - في وجود ضرورة، وغبطة، ومصلحة) اقتضت بيع عقار المحجور، فعُلم منه: أنه لا يُعتبر ثبوت ذلك عند الحاكم، لكنه أحوط؛ دفعًا للتهمة (و) يُقبل قول ولي - أيضًا - في (تلف) مال المحجور، أو بعضه؛ لأنه أمين.

(و) حيث قلنا: القول قول ولي، فإنه (يحلف) لاحتمال قول اليتيم (غير حاكم) فلا يحلف مطلقًا؛ لعدم التُّهمة.

(ويُقبل قوله) أي: الولي (في دفع المال إليه بعد) بلوغه، و (رُشده، وعقله، إن كان) الولي (متبرِّعًا) لأنه أمين؛ أشبه المودع (وإلا) يكن الولي متبرعًا، بل بأجرة (فلا) يُقبل قوله في دفعه المال إليه، بل قول اليتيم؛ لأن الولي قبض المال لحظِّه، فلم تُقبل دعواه الرد، كالمُرتَهِن والمستعير.

(وليس لزوج حَجْر على امرأته الرشيدة في تبرُّع بشيء من مالها، ولو زاد) تبرعها (على الثلث) لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}

(1)

. وهي ظاهرة في فكِّ الحَجْر عنهنَّ، وإطلاقهن في التصرف، وقوله صلى الله عليه وسلم:"يا معشر النساء تصدَّقن ولو من حليكُنَّ"

(2)

، وكُنَّ يتصدقن؛ ويقبل منهنَّ، ولم يستفصل، وقياسها على المريض فاسد؛ لأن المرض سبب يُفضي إلى وصول المال إليهم بالميراث، والزوجية إنما تجعله من أهل الميراث، فهي أحد وصفي العلة، فلا يثبت الحكم بمجردها، كما لا يثبت لها الحَجْر على زوجها.

(1)

سورة النساء، الآية:6.

(2)

أخرجه البخاري في الزكاة، باب 48، حديث 1466، ومسلم في الزكاة، حديث 1000 عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.

ص: 402

وليس لحاكم حَجْر على مقتِّر على نفسه وعياله، وقال الأزجي: بلى. أي: لا يمنع من عقوده، ولا يكفُّ عن التصرُّف في ماله، لكن ينفق عليه جبرًا بالمعروف من ماله.

فصل

(لوليِّ مميز) ذكرًا كان أو أنثى (و) لـ (ــسيد عبدٍ) مميزٍ، أو بالغ (الإذن لهما في التجارة) لقوله تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} الآية

(1)

. أي: اختبروهم؛ لتعلموا رشدهم، وإنما يتحقق ذلك بتفويض الأمر إليهم: من البيع، والشراء، ونحوه؛ ولأن المميز عاقل محجور عليه، فصحَّ تصرُّفه بإذن وليِّه، كالعبد الكبير، فلو تصرَّف بلا إذن، لم يصح.

(فينفك عنهما) أي: عن المميز والعبد (الحَجْر فيما أذن) الولي أو السيد (لهما فيه فقط) فإذا أذن لهما في التجارة في مائة، لم يصح تصرُّفهما فيما زاد عليها.

(و) ينفك عنهما الحَجْر أيضًا (في النوع الذي أمرا به) أي: بأن يتجرا فيه (فقط) لأنهما يتصرفان بالإذن من جهة آدمي، فوجب أن يتقيدا بما أذن لهما فيه، كوكيل ووصي في نوع من التصرُّفات، قال في "الفروع":(وظاهر كلامهم، أنه) أي: المأذون في التجارة من مميز وعبد (كمضارب في البيع نسيئة ونحوه) كالبيع بعوض، لا كوكيل؛ لأن الغرض هنا الربح كالمضاربة.

ولو كان العبد مشترَكًا لم يصحَّ تصرُّفه إلا بإذن الجميع؛ لأن التصرُّف يقع بمجموع العبد.

(1)

سورة النساء، الآية:6.

ص: 403

(وإن أذن) الولي أو السيد (له) أي: للمميز أو العبد (أن يشتري في ذمته، جاز) له الشراء في ذمته؛ عملًا بالإذن.

(ويصح إقرارهما) أي: المميز والعبد (بقَدْر ما أذن لهما فيه) لأن الحَجْر انفكَّ عنهما فيه، ويأتي في الإقرار بأتم من هذا.

(وليس لأحد منهما أن يوكل فيما يتولَّى مثله) من العمل (بنفسه) إذا لم يعجزه؛ لأنهما يتصرَّفان بالإذن، فاختصا بما أذن لهما فيه، كالوكيل.

(وإن أذن) الوليُّ أو السيد (له) أي: للمميز أو العبد (في جميع أنواع التجارة، لم يجز أن يؤجر نفسه، ولا) أن (يتوكل لغيره، ولو لم يُقيِّد) الوليُّ أو السيد (عليه) لأنه عقدٌ على نفسه، فلا يملكه إلا بإذن كبيع نفسه وتزويجه؛ ولأن ذلك يشغله عن التجارة المقصودة بالإذن، وفي إيجار عبيده وبهائمه خلاف في "الانتصار". قال في "تصحيح الفروع": الصواب الجواز؛ إن رآه مصلحة، وإلا؛ فلا.

(وإن وكَّل) المميز، أو العبد المأذون (فكوكيل) يصح فيما يعجزه، وفيما لا يتولى مثله بنفسه فقط.

(ومتى عَزَل سيدٌ قِنَّه) المأذون (انعزل وكيله) أي: وكيل القن، كوكيل وكيل ومضارب؛ لأنه متصرف لغيره بإذنه، وتوكيله فرع إذنه، فإذا بطل الإذن، بطل ما هو مبني عليه، بخلاف وكيل صبي، ومُكاتَب، وراهن آذنه مرتهن في بيع رهن، فإذا وكلوا، وبطل الإذن

(1)

، لم تبطل الوكالة؛ لأن كلًّا منهم متصرف في مال نفسه، فلم ينعزل وكيله بتغير الحال، لكن لا يتصرف الوكيل في حال المنع لموكله.

(1)

في "ح": "الرهن".

ص: 404

(والمجنون والطفل دون التمييز لا يصح تصرفهما بإذن ولا غيره) لعدم الاعتداد بقولهما.

(ويصح شراء العبد من يعتق على سيده، لرحم أو غيره) كتعليق، بأن قال السيد لعبد: إن اشتريتُكَ فأنت حر، فاشتراه مأذونه.

قلت: الظاهر أنه ليس له شراء من اعترف سيده بحريته؛ لأنه افتداء وتبرُّعٌ، فلا يملكه.

(و) للعبد المأذون أيضًا (شراء امرأة سيده، و) له أيضًا شراء (زوج صاحبة المال، وينفسخ نكاحهما) لما يأتي من أنه متى ملك أحد الزوجين الآخر، أو بعضه، انفسخ النكاح.

(وإن رآه) أي: العبد (سيده) يتجر فلم ينهه، لم يصر مأذونًا له (أو) رأى المميزَ (وليُّه يتجر فلم ينهه، لم يصر مأذونًا له) لأنه تصرُّف يفتقر إلى الإذن، فلم يقم السكوت مقامه، كما لو تصرف أحد الراهنين في الرهن، والآخر ساكت، وكتصرف الأجانب.

(وإذا تصرَّف) المميز أو العبد (غير المأذون له ببيع، أو شراء بعين المال، أو في ذمته، أو) تصرَّف (بقرض، لم يصح) التصرُّف؛ لأنه محجور عليه كالسفيه (ثم إن وجد ما أخذه) المميز أو العبد (من مبيع أو غيره، فَلِرَبِّه أخذه منه) أي: من العبد أو المميز (و) له أخذه أيضًا (من السيد) أو الولي (إن كان بيده، و) له أخذه (حيث كان) لفساد العقد.

(فإن تلف) ما أخذه المميز والعبد بنحو بيع (في يد السيد، أو غيره، رجع عليه) مالكه (بذلك) أي: ببدل ماله؛ لأنه تلف في يده بغير حق (وإن شاء) المالك (كان) ما تلف بيد السيد (متعلِّقًا برقبة العبد) لأنه الذي حال بينه وبين ماله، فعلى هذا يخيَّر المالك بين أن يرجع على

ص: 405

السيد أو العبد، قاله في "المغني" و"الشرح" و"التلخيص".

(وإن أهلكه العبد) أي: أهلك ما قبضه ببيع أو غيره بغير إذن سيده (تعلَّق) البدل (برقبته يفديه سيده، أو يسلِّمه) لمستحق البدل، أو يبيعه (إن لم يعتقه، فإن أعتقه لزم السيدَ الذي) كان (عليه قبل العتق) وهو أقل الأمرين من قيمته أو البدل.

و (لا) يلزم السيدَ (أَرْش الجناية كلُّه، إذا كان أكثر من قيمته) كما لو لم يعتقه، فإذا تعلق برقبته مائة وقيمته خمسون، فأعتقه سيده، لم يلزمه سوى الخمسين؛ لأنه لم يُفوِّت إلا الخمسين.

(ويضمنه) أي: ما قبضه العبد ببيع وقرض ونحوه (بمِثلْه، إن كان مِثليًّا، وإلا بقيمته) لأنه مقبوض بعقد فاسد.

وأما ما قبضه المميز غير المأذون وأتلفه، أو تلف بيده، فغير مضمون عليه، وتقدم

(1)

.

(ويتعلَّق دين مأذونٍ له في التجارة بذمة سيده بالغًا ما بلغ) لأنه غرَّ الناس بمعاملته.

(وحكم ما استدانه) العبد المأذون (أو اقترضه بإذن السيد، حكم ما استدانه للتجارة بإذنه) فيتعلَّق بذمة السيد، ولو زاد على قيمة العبد.

(ويبطل الإذن بالحَجْر على سيده) لسفه أو فلس (و) بـ (ــموته وجنونه المُطبَق) - بفتح الباء - وبسائر ما يُبطل الوكالة؛ لأن إذنه له كالوكالة، يبطل بما يبطلها.

(وتتعلَّقُ أروش جناياته) أي: العبد (وقيم متلفاته برقبته، سواء كان مأذونًا له) في التجارة (أو لا) إذ الإذن في التجارة لا يتضمن الإذن في

(1)

(8/ 375).

ص: 406

الجنايات والإتلافات.

(و) حيث قلنا: يتعلق دَيْن المأذون بذمة سيده، فـ (ــلا فرق فيما لزمه من الدَّين بين أن يكون) لزمه (في التجارة المأذون) له (فيها، أو) لزمه (فيما لم يؤذن له فيه، مثل أن يأذن له في التجارة في البرِّ فيتجر في غيره) أو يستدين لغير ذلك (لأنه) أي: إذنه في التجارة له (لا ينفك عن التغرير، إذ يظن الناس أنه مأذون له في ذلك أيضًا) فيعاملونه.

(وإذا باع السيدُ عبدَه المأذونَ له شيئًا) أو اشتراه منه (لم يصح) لأن العبد وما بيده ملك للسيد، وليس له أن يسافر بلا إذن سيده، بخلاف المضارب والمُكاتَب؛ لأن ملك السيد في رقبته وماله أقوى، ذكره المجد.

(وإذا ثبت عليه) أي: العبد (دَيْن، أو أَرْش جناية، ثم ملكه من له الدَّين، أو الأرش)، بغير شراء (سقط عنه ذلك) الدَّين أو الأَرْش؛ لعدم البدل عن الرقبة الذي يتحوَّل إليه الدين.

وإن ملكه بشراء، فإن كان الدَّين متعلِّقًا بذمته، سقط - أيضًا - لأن السيد لا يثبت له الدَّين في ذمة مملوكه، وإن كان متعلِّقًا برقبته تحول إلى ثمنه؛ لأنه بدله، فيقوم مقامه.

(وإن حَجَر) السيد (عليه) أي: على العبد المأذون (وفي يده مال) فأقرَّ به، لم يصح إقراره لحق السيد (ثم) إن (أذن) السيد (له فأقرَّ) المأذون (به) أي: بالمال الذي بيده (صح) إقراره؛ لأن المانع من صحة إقراره الحَجْر عليه، وقد زال؛ ولأن تصرُّفه صحيح، فصحَّ إقراره كالحر.

(ولا يَملكُ عبد) ولا أَمَة غير مُكاتَب ومكاتبة (بتمليك، ولا غيره)

ص: 407

لأنه مال، فلا يملك المال (وتقدم) ذلك (في كتاب الزكاة) مفصلًا

(1)

.

(وما كسب) عبد (غيرُ مُكاتَب) من مباح، أو قَبِلَه من نحو هبة (فلسيده) قال في "المبدع": ولا يصح قبول سيده عنه مطلقًا.

(وله) أي: لمن يريد بيعًا أو شراء ونحوه (معاملة عبد، ولو لم يثبت كونه مأذونًا له) لأن الأصل صحة التصرف.

(ومن وجد بما اشتراه من قِنٍّ عيبًا) فأراد رده على القن (فقال: أنا غير مأذون لي في التجارة، لم يُقبل) منه؛ لأنه إنما أراد أن يدفع عن نفسه، ولو صدقه سيده، ونقل مهنَّا فيمن قَدِم ومعه متاع يبيعه، فاشتراه الناس منه، فقال: أنا غير مأذون لي في التجارة، قال: هو عليه في ثمنه، مأذونًا له أو غير مأذون

(2)

. وقال الشيخ تقي الدين

(3)

: إن علم السيد بتصرفه لم يقبل، ولو قُدَّر صدقه، فتسليطه عدوان منه، فيضمنه.

(ولا يعامَل صغير) لم يُعلم أنه مأذون له (إلا في مِثْل ما يُعامَل مثله) لأن الأصل عدم الإذن، وتقدم

(4)

في البيع: "يصح تصرفه في اليسير".

(و‌

‌لا يبطل إذن) السيد لعبده في التجارة (بإباقٍ، وتدبير، وإيلاد، وكتابة، وحرية، وأسر، وحَبْس بدَيْن، وغصب)

لأن ذلك لا يمنع ابتداء الإذن له في التجارة، فلا يمنع استدامته.

(ولا يصح تبرُّع مأذون له بدراهم، و) لا بـ (ــكسوة ثياب ونحوها) كفرس وحمار؛ لأن ذلك ليس من التجارة، ولا يحتاج إليه، كغير المأذون له. وظاهره: ولو قلَّ. قاله في "المبدع".

(1)

(4/ 308).

(2)

الفروع (4/ 335).

(3)

الاختيارات الفقهية ص/ 203.

(4)

(7/ 307).

ص: 408

(ويجوز له) أي: للمأذون له (هدية مأكول، وإعارة دابة، وعمل دعوة ونحوه) كإعارة ثوبه (بلا إسراف) لأنه صلى الله عليه وسلم "كان يجيب دعوة المملوك"

(1)

، ولأنه مما جرت به عادة التُّجار فيما بينهم، فيدخل في

(1)

روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم:

أ - أنس رضي الله عنه: أخرجه الترمذي في الجائز، باب 32، حديث 1017، وفي الشمائل ص/ 173، حديث 326، وابن ماجه في التجارات، باب 66، حديث 2296، وفي الزهد باب 16، حديث 4187، والطيالسي ص/ 285، حديث 2148، وابن سعد (1/ 370، 371)، وابن أبي شيبة (3/ 164)، وعبد بن حميد (3/ 116) حديث 1238؛ وابن أبي الدنيا في التواضع ص/ 148، حديث 113، وأبو القاسم البغوي في الجعديات (1/ 471) حديث 874، وابن عدي (6/ 2309)، وأبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 348، 364) حديث 120، 127، والحاكم (2/ 466، 4/ 119)، وأبو نعيم في الحلية (7/ 312)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/ 290) حديث 8190، 8191، وفي دلائل النبوة (1/ 330، 4/ 204)، والخطيب في تاريخه (12/ 32)، وفي الموضح (2/ 459)، وابن عساكر في تاريخه (4/ 78، 79)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 207) حديث 1543، عن مسلم الأعور، عن أنس رضي الله عنه.

قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مسلم، عن أنس، ومسلم الأعور يضعف، وهو مسلم بن كيسان، تكلم فيه. اهـ. وقال ابن عدي: ولمسلم عن أنس ومجاهد وغيرهما غير ما ذكرت، والضعف على رواياته بيِّن.

وقال الحاكم في الموضعين: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي في الموضع الأول، وتعقبه في الموضع الثاني بقوله: مسلم تُرِك. وضعَّفه ابن طاهر في ذخيرة الحفاظ (2/ 844)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (2/ 360)، والحافظ في الدراية (2/ 242).

وأخرجه - أيضًا - ابن سعد (1/ 371)، وابن عدي (5/ 1695) من طريق شعبة، وأبو نعيم في الحلية (5/ 63)، وابن مخلد البزاز في حديثه ص/ 219، حديث 278 من طريق الحسن بن عمارة، كلاهما (شعبة، والحسن بن عمارة) عن حبيب بن أبي ثابت، عن أنس. وقال ابن عدي: وهذا الحديث معروف من حديث الحسن بن عمارة، عن حبيب بن أبي ثابت

ومن حديث شعبة منكر. وقال أبو نعيم: غريب =

ص: 409

عموم الإذن. وقال في "النهاية": الأظهر أنه لا يجوز؛ لأنه تبرع بمال مولاه، فلم يجز كنكاحه، وكمُكاتَب في الأصح.

(ولـ) ــقِنٍّ (- غير مأذون له - الصدقةُ من قوته برغيف ونحوه، إذا لم يضرَّ به) لأنه مما جرت العادة بالمسامحة فيه.

(وللمرأة الصدقة من بيت زوجها بغير إذنه بنحو ذلك) أي: الرغيف؛ لحديث عائشة ترفعه: "إذا أنفقت المرأة من طعام زوجها غير مفسدةٍ؛ كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجر ما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئًا" متفق عليه

(1)

. ولم تذكر

= من حديث حبيب عن أنس، تفرد به الحسن.

ب - جابر رضي الله عنه: أخرجه ابن سعد (1/ 371)، والبزار "كشف الأستار"(3/ 155)، حديث 2463. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 20): رواه البزار وإسناده حسن.

جـ - ابن عباس رضي الله عنهما: أخرجه ابن أبي الدنيا في التواضع ص/ 143، حديث 111، والطبراني في الكبير (12/ 67)، حديث 12494، وأبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 366)، حديث 128، والبيهقي في شعب الإيمان (6/ 290)، حديث 8192، 8193، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 20): رواه الطبراني، وإسناده حسن. وذكره السيوطي في الجامع الصغير (5/ 205، مع الفيض) ورمز لحسنه.

د - أبو هريرة رضي الله عنه: أخرجه ابن عدي (5/ 1688) من طريق عمر بن يزيد، عن عطاء، عن أبي هريرة. قال ابن عدي: وهذه الأحاديث (وذكر أخرى) عن عطاء والحسن غير محفوظة. وقال ابن طاهر في ذخيرة الحفاظ (3/ 1808): وعمر متروك الحديث.

وقال ابن حزم في المحلى (8/ 322): وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أجاب دعوة المملوك.

(1)

البخاري في الزكاة، باب 17، 25، 26، حديث 1425، 1437، 1440، 1441، وفي البيوع، باب 12، حديث 2065، ومسلم في الزكاة، حديث 1024.

ص: 410

إذنًا، إذ العادة السماح وطيب النفس به (إلا أن يمنعها) الزوج من ذلك (أو يكون) الزوج (بخيلًا، فتشك في رضاه، فَيَحْرُم) عليها الصدقة بشيء من ماله (فيهما) أي: فيما إذا منعها، أو كان بخيلًا فشكَّت في رضاه، وكذا إذا اضطرب عُرف، وشكت في رضاه (كصدقة الرجل بطعام المرأة) فيحرم بغير إذنها؛ لأن العادة لم تجر به.

(فإن كان في بيت الرجل من يقوم مقام امرأته، كجاريته، وأخته، وغلامه المتصرف في بيت سيده وطعامه، فهو كزوجته) يجوز له الصدقة بنحو رغيف من ماله، ما لم يمنع، أو يكن بخيلًا، أو يضطرب عُرف، ويشك في رضاه.

(وإن كانت المرأة ممنوعة من التصرُّف في بيت زوجها، كالتي يطعمها بالفرض، ولا يمكِّنها من طعامه، فهو كما لو منعها) من الصدقة (بالقول) عملًا بدلالة الحال؛ فلا تتصدَّق من ماله بشيء.

ص: 411

‌باب الوكالة

بفتح الواو وكسرها: اسم مصدر بمعنى التوكيل.

(وهي) لغةً: التفويض، يقال: وكلت أمري إلى الله، أي: فوَّضته إليه، واكتفيت به. وقد تُطلق، ويُراد بها الحفظ، ومنه قوله تعالى:{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}

(1)

.

وشرعًا: (استنابة جائز التصرف مثلَه) أي: جائز التصرف، ذكرين كانا أو أنثيين، أو مختلفين (فيما تدخله النيابة

(2)

) من حقوق الله تعالى، وحقوق الآدميين، ويأتي تفصيله.

وهذا التعريف باعتبار الغالب، أو المراد: جائز التصرف في ذلك الفعل الذي وُكل فيه، وإن لم يكن مطلق التصرف، فلا يرد صحة توكيل نحو عبد فيما لا يتعلق بالمال مقصوده.

وهي جائزة إجماعًا

(3)

؛ لقوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} الآية

(4)

. وفَعَلَه صلى الله عليه وسلم فقد وكَّل عمرو

(5)

بن الجعد في شراء الشاة

(6)

، وأبا

(1)

سورة الأنعام، الآية:107.

(2)

في هامش نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (2/ 231) ما نصّه: "هذا أحسن ما قيل في تعريفها كما في المبدع، لكن زاد بعضهم: "في الحياة" احترازًا عن الوصية. وفي الرعاية الكبرى: الوكالة عبارة عن إذنٍ في تصرُّفٍ يملكه الآذن فيما تدخله النيابة. ا. هـ. نفلته من خط ابن العماد رحمه الله".

(3)

مراتب الإجماع لابن حزم ص/ 111، والإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان (3/ 1557).

(4)

سورة الكهف، الآية:19.

(5)

كذا في الأصل و"ح"، وفي "ذ":"عروة" وهو الصواب؛ كما في مصادر التخريج.

(6)

تقدم تخريجه (7/ 321) تعليق رقم (1).

ص: 412

رافع في تزوج ميمونة

(1)

، وعمرو بن أمية الضمري في تزوج أم حبيبة

(2)

.

(وتصح) الوكالة، أي: إيجابها (بكل قول يدل على الإذن) في التصرف (كوكَّلتكَ، أو فوَّضتُ إليك) في كذا (أو أذنت لك فيه، أو بِعْه، أو أعتِقْهُ، أو كاتبه، ونحو ذلك) كأقمتك مقامي، أو جعلتُك نائبًا عني؛ لأنه لفظ دال على الإذن، فصح كلفظها الصريح.

قال في "الفروع": ودلَّ كلام القاضي على انعقادها بفعل دال، كبيع، وهو ظاهر كلام الشيخ

(3)

فيمن دفع ثوبه إلى قصَّار أو خياط. وهو أظهر كالقَبول. انتهى.

(و) يصح قَبول الوكالة بـ (ــكلِّ قولٍ، أو فِعل من الوكيل يدلُّ على القَبول) لأن وكلاء النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنهم سوى امتثال أوامره، ولأنه إذنٌ في التصرف، فجاز قَبوله بالفعل، كأكل الطعام (ولو لم يعلم) الوكيل (بها) أي: بالوكالة له، مثل: إن وكَّله في بيع داره، ولم يعلم الوكيل، فباعها؛ نفذ بيعه؛ لأن الاعتبار في العقود بما في نفس الأمر، وتقدم في البيع

(4)

.

(ويصح قَبولها) أي: الوكالة (على الفور والتراخي، بأن يوكِّله في

(1)

تقدم تخريجه (6/ 161) تعليق رقم (4).

(2)

أخرجه ابن سعد (8/ 99)، والحاكم (4/ 22) عن جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه مرسلًا، وفي سنده محمد بن عمر الواقدي، قال عنه ابن حجر في التقريب ص/ 433: متروك.

وأخرجه - أيضًا - البيهقي (7/ 139) عن ابن إسحاق عن أبي جعفر، مرسلًا. وانظر: التلخيص الحبير (3/ 50).

(3)

انظر مجموع الفتاوى (29/ 8، 13).

(4)

(7/ 321).

ص: 413

بيع شيء، فيبيعه بعد سنة، أو يبلغه أنه وكَّله منذ شهر، فيقول: قَبِلتُ) لأن قَبول وكلائه صلى الله عليه وسلم كان بفعلهم، وكان متراخيًا عن توكيله إياهم؛ ولأنه إذنٌ في التصرُّف، والإذن قائم ما لم يرجع عنه، أشبه الإباحة.

(وكذا سائر العقود الجائزة، كشركة، ومضاربة، ومساقاة، ونحوها) كالمزارعة (في أن القَبول يصح بالفعل) فورًا ومتراخيًا؛ لما سبق.

(ولو أبى الوكيلُ أن يقبل) الوكالة (فكعزْلِهِ نفسه) كالموصى له إذا لم يقبل الوصية، ولم يردها، يُحكم عليه بالرد، وعلى قياس ذلك باقي العقود الجائزة.

(ويُعتبر) لصحة الوكالة (تعيين وكيل) فلو قال: وكَّلت أحد هذين، لم تصح للجهالة، و (قال في "الانتصار": فلو وكَّل زيدًا وهو لا يعرفه) لم تصح؛ لوقوع الاشتراك في العلم، فلا بدَّ من معرفة المقصود، إما بنسبة، أو إشارة إليه، أو نحو ذلك مما يُعَيّنه (أو لم يعرف الوكيلُ موكِّله) بأن قيل له: وكَّلك زيد، ولم ينسب له، ولم يذكر له من وَصْفه أو شُهرته ما يميزه (لم يصح) ذلك للجهالة.

(وتصح) الوكالة (مؤقتة) كأنت وكيلي شهرًا (و) تصح أيضًا (معلَّقة بشرط نحو: إذا قَدِمَ الحاج، فافعل كذا، أو: إذا جاء الشتاء، فاشترِ لنا كذا، أو: إذا طلب أهلي منك شيئًا فادفعه إليهم، و: إذا دخل رمضان فقد وكَّلتك في كذا، أو: فأنت وكيلي، ونحوه) كوصية وإباحة أكل وقضاء، وإمارة.

(ولا يصح التوكيل في شيء) من بيع، أو عتق، أو طلاق ونحوها

ص: 414

(إلا ممن يصح تصرُّفه فيه) أي: في ذلك الذي وُكِّل فيه (لنفسه) لأن من لا يصح تصرفه بنفسه، فنائبه أولى (سوى توكيل أعمى، ونحوه) كغائب (في عقد) نحو بيع أو إجارة على (ما يحتاج إلى رؤية) لأن منعه من التصرف لعجزه عن العلم بالمبيع لا لمعنىً فيه (وتقدم) ذلك (في البيع

(1)

.

ومثله) أي: مثل التوكيل فيما ذكر (التوكل) فلا يصح أن يتوكل في شيء من لا يصح منه لنفسه (سوى توكُّل حُرٍّ واجد الطَّول) أو غير خائف العنت (في قَبول نكاح أَمَة لمن تُباح له) الأَمَة من عبد أو حر عادم الطَّوْل خائف العَنَت (و) سوى (توكُّل غني في قبض زكاة) أو كفارة أو نذر (لفقير، و) سوى (قَبول نكاح أخته، ونحوها) كعمته (من أبيه) أو جده ونحوه (لأجنبي) لأن المنع منه لنفسه إنما هو على سبيل التنزيه لا لمعنىً فيه يقتضي منع التوكل، ولو وكَّل الزوجُ الوليَّ في القَبول، صح، ويتولَّى طرفي العقد، ويأتي في النكاح (و) سوى (طلاق امرأةٍ نفسَها، و) طلاقها (غيرها) من ضرة أو غيرها (بالوكالة، فيصح فيهن) لأنها لما ملكت طلاق نفسها بجعله إليها ملكت طلاق غيرها.

(ولا يصح) أن يوكل (في بيع ما سيملكه، ولا) في (طلاق من يتزوجها) لأن الموكل لا يملكه حين التوكل، وإن قال: إن تزوجتُ فلانةً فقد وكَّلتك في طلاقها، لم يصح، بخلاف: أن اشتريت فلانًا، فقد وكَّلتك في عتقه؛ لصحة تعليق العتق على الملك، بخلاف تعليق طلاق المرأة على نكاحها.

(ولا) يصح (توكيل العبد، و) لا (السفيه في غير ما لَهما فعله) من

(1)

(7/ 339).

ص: 415

نحو طلاق، وكل ما لا يتعلق بالمال مقصوده.

(وتصح وكالة المميز بإذن وليه) في كلِّ تصرف لا يُعتبر له البلوغ (كتصرُّفه) أي: المميز (بإذنه) أي: الولي، فإنه صحيح، وتقدم

(1)

.

وأما توكيله في نحو إيجاب النكاح، فلا يصح، لما مَرَّ. ويأتي في النكاح. ويصح توكيله في الطلاق بغير إذن وليه إذا عقله، لصحته منه، ويأتي في الطلاق.

(ويصح التوكيل في كل حَقِّ آدميٍّ من العقود) لأنه صلى الله عليه وسلم وكَّل في الشراء

(2)

والنكاح

(3)

. وسائر العقود - كالإجارة والقرض والمضاربة والإبراء - في معناه (و) من (الفسوخ) لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، أشبه البيع (حاضرًا كان الموكِّلُ أو غائبًا) صحيحًا كان أو مريضًا (ولو) كان التوكيل في خصومة (بغير رضا الخصم، حتى في صلح وإقرار) فيصح التوكيل فيهما، كغيرهما.

وصفة التوكيل في الإقرار: أن يقول له: وكَّلتك في الإقرار، فلو قال له:"أقِرَّ عَنِّي" لم يكن ذلك وكالة، ذكره المجد.

(ولا بدَّ من تعيين) الموكِّل (ما يُقرُّ به) وكيله عنه (وإلا) بأن قال: وكلتك في الإقرار لزيد بمال أو شيء، فأقر كذلك (رجع في تفسيره إلى الموكِّل) لأنه أعلم بما عليه.

(ولو أذن له أن يتصدق بمال) من دراهم، أو غيرها (لم يجز له أن يأخذ منه) الوكيل (لنفسه) صَدَقَةً (إذا كان من أهل الصَّدَقة، ولا) شيئًا

(1)

(8/ 403).

(2)

تقدم تخريجه (7/ 321) تعليق رقم (1).

(3)

تقدم تخريجه (6/ 161) تعليق رقم (4) و (8/ 413) تعليق رقم (2).

ص: 416

(لأجل العمل) لأن إطلاق لفظ الموكِّل ينصرف إلى دفعه إلى غيره.

وهل يجوز أن يدفع منه لوالده، وولده، وزوجته؟ فيه وجهان، أولاهما: جوازه؛ لدخولهم في عموم لفظه، قاله في "المغني"(وتقدم في الحَجْر)

(1)

موضَّحًا. وكذا لو وصَّى إليه بتفريق ثلثه على قوم وهو منهم، أو دفع إليه مالًا؛ وأمره بتفريقه على من يريد، أو دَفْعِه إلى من شاء، قاله في "المغني".

(ويصح) التوكيل (في عتق وإبراء، ولو) كان التوكيل (لغريمه) في الإبراء (و) لـ (ــعبده) في العتق (ويملكانه) أي: يملك الغريم الإبراء، والعبدُ العتقَ (لأنفسهما بالوكالة الخاصة) بأن وكَّله غريمه في إبراء نفسه، أو وكَّل عبدَه في إعتاق نفسه، و (لا) يملكان ذلك بالوكالة (العامة) ومثلهما الطلاق (فلو وكَّل) السيدُ (العبدَ في إعتاق عبيده، أو) وكَّل الزوجُ (امرأته في طلاق نسائه، لم يملك العبدُ إعتاق نفسه، ولا المرأة طلاق نفسها) لأن ذلك ينصرف بإطلاقه إلى التصرف في غيره.

(وإن وكَّله) ربُّ الدين (في إبراء غرمائه، لم يكن له) أي: الوكيل (أن يبرئ نفسه، كما لو وكَّله في حبسهم) أي: الغرماء (لم يملك حَبْس نفسه) لما سبق.

(ويصح) التوكيل (في طلاق، ورجعة، وحوالة، ورهن، وضمان، وكفالة، وشركة، ووديعة، ومضاربة، وجعالة، ومساقاة) ومزارعة (وإجارة، وقرض، وصلح، وهبة، وصدقة، ووصية، وكتابة، وتدبير، وإيقاف، وقسمة، وحكومة) بأن يوكِّل القاضي من يحكم بين الخصمين على ما يأتي تفصيله.

(1)

(8/ 401).

ص: 417

(و) يصح التوكيل - أيضًا - في (إثبات حقٍّ، ومحاكمة فيه) أي: مخاصمة في إثبات الحق، بأن يوكِّل المدَّعى عليه من يُجيب عنه.

(و) يصح التوكيل - أيضًا - في (تَملُّكِ مباحاتٍ من صيد، وحشيش، ونحوهما) كحطب، وإحياء موات؛ لأنه تملك مال بسبب لا يتعين عليه، فجاز كالابتياع، بخلاف الالتقاط؛ لأن المغلَّب فيه الائتمان (سوى ظِهار، ولِعان، وأيمان، ونذور، وإيلاء، وقَسامة، وقَسْمٍ بين زوجات، وشهادة، والتقاط) لقطة أو لقيط (واغتنام، ومعصيةٍ، وجزية، ورضاع، ونحوه، مما لا تدخُلُه النيابة) فلا تصح الوكالة فيه؛ لعدم قَبول النيابة.

(وله أن يوكِّلَ من يقبلُ له النكاحَ، لكن يُشترطُ لصحة عقده) أي: الوكيل (تسميةُ الموكِّل في صُلْب العقد، فيقول) الولي: زوَّجت موكلك فلانًا، أو زوَّجت فلانًا - وينسبه - فلانةً، ويقول الوكيل:(قبلتُ هذا النكاح لفلان) ابن فلان (أو لموكِّلي فلان، فإن قال) الوكيل: (قبلتُ هذا النكاح، ونوى أنه قَبِلَه لموكِّله، ولم يذكره) في العقد (لم يصح) النكاح، ويأتي في النكاح بأوضح من هذا.

(وله أن يوكِّل من يزوِّجُ مَوْلِيَّتَه، ولو) كان الولي (غير مُجبرٍ) قبل إذنها له في التزويج (لأن ولايته ثابتة بالشرع من غير جهة المرأة) لأنها لا تملك عزله (والذي يُعتبر إذنها فيه هو التزويج، وهو) أي: التزويج (غير ما يوكِّل فيه) الولي، ولهذا يعتبر إذن غير مُجبرة لوكيله بعد الوكالة، وإن كانت أذنت لوليها قبل (ويأتي) ذلك (في أركان النكاح) مفصلًا.

ومحل صحة توكيل الزوج في القَبول (إذا كان الوكيل ممن يصح منه ذلك) أي: قَبول النكاح (لنفسه) كالحر البالغ ولو فاسقًا، بخلاف

ص: 418

المميز والعبد.

(و) محل صحة توكيل الولي في الإيجاب: إذا كان الوكيل ممن يصح منه إيجابه (لموليتِهِ) بخلاف فاسق وغير مكلف، ومن لا يعرف الكفء ومصالح النكاح ونحوه (إلا توكُّل حر واجد الطَّول في قَبولِ نكاحِ أَمَةٍ لمن تُباح له) الأَمَة (فيصح، كما تقدم) قريبًا

(1)

.

(وتصح) الوكالة أيضًا (في كلِّ حقٍّ لله تعالى تدخله النيابة من العبادات، كتفرقة صدقة، وزكاة، ونذر، وكفَّارة) لأنه صلى الله عليه وسلم: كان يبعثُ عمَّاله بقبض الصدقات وتفريقها، وحديث معاذ شاهدٌ بذلك

(2)

(وحج وعمرة) نفلًا مطلقًا أو فرضًا من نحو معضوب، وتقدم في الحج

(3)

(وركعتا طواف تدخل تبعًا لهما) أي: للحج والعمرة (بخلاف عبادة بدنية محضة، كصلاة، وصوم، وطهارة من حَدَث) أصغر أو أكبر (ونحوه) كاعتكاف (فلا تصح) الوكالة فيها؛ لأنها تتعلَّق ببدن مَن هي عليه.

وعُلم من قوله: "من حدث": أنه تصح الوكالة في تطهير البدن والثوب من النجاسة، ويصح - أيضًا - أن ينوي رفع الحدث، ويستنيب من يصب له الماء أو يغسل له أعضاءه، وتقدم

(4)

.

(والصوم) ونحوه (المنذور يُفعل عن الميت) أداء لما وجب عليه (وليس ذلك بوكالة) لأن الميت لم يستنب الولي بذلك، وإنما أمره الشرع به إبراءً لذمة الميت.

والحاصل: أن الحقوق ثلاثة أنواع:

(1)

(8/ 415).

(2)

تقدم تخريجه (5/ 95) تعليق رقم (3).

(3)

(6/ 45، 59).

(4)

(1/ 245).

ص: 419

نوع تصح الوكالة فيه مطلقًا، وهو ما تدخله النيابة من حقوق الله تعالى وحقوق الآدمي.

ونوع لا تصح الوكالة فيه مطلقًا؛ كالصلاة والظهار.

ونوع تصح فيه مع العجز دون القدرة؛ كحج فرض وعمرته.

(ويصح قوله) أي: قول مكلف رشيد لمثله: (أخرجْ زكاة مالي) ويُبيِّنُها له (من مالك) لأنه اقتراض من مال الوكيل، وتوكيل في إخراجه.

(ويصح) التوكيل (في إثبات الحدود، و) في (استيفائها) ممن وجبت عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "واغد يا أنيسُ إلى امرأة هذا، فإن اعترفت، فارجُمْها، فاعترفت، فأمر بها فرُجِمت" متفق عليه

(1)

، فقد وكَّله في الإثبات والاستيفاء جميعًا.

(وله) أي: للوكيل (استيفاء) ما وُكِّل فيه (بحضرة موكِّله

(2)

وغيبته) لعموم الأدلة؛ ولأن ما جاز استيفاؤه في حضرة الموكِّل، جاز في غيبته كسائر الحقوق (ولو) كان الاستيفاء (في قصاص وحَدِّ قذف) لأن احتمال العفو بعيد، والظاهر أنه لو عفا لأعلم وكيله.

(والأَوْلى) الاستيفاء (بحضوره) أي: الموكِّل (فيهما) أي: في القصاص وحد القذف؛ لأن العفو مندوب إليه، فإذا حضر احتمل أن

(1)

البخاري في الوكالة، باب 13، حديث 2314، 2315، وفي الصلح، باب 5، حديث 2695، 2696، وفي الشروط، باب 9، حديث 2724، 2725، وفي الأيمان والنذور، باب 3، حديث 6633، 6634، وفي الحدود، باب 30، 34، 38، 46، حديث 6827، 6828، 6835، 6836، 6842، 6843، 6859، 6860، وفي الأحكام، باب 39، حديث 7193، 7194، ومسلم في الحدود، حديث 1697، 1698 عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما.

(2)

في متن الإقناع (2/ 422): "موكل".

ص: 420

يرحمه؛ فيعفو.

(وليس لوكيل توكيل فيما يتولى مثله بنفسه، إلا بإذن موكِّل) لأنه لم يأذن له في التوكيل، ولا تضمنه إذنه لكونه يتولى مثله؛ ولأنه استئمان فيما يمكنه النهوض فيه، فلم يكن له أن يوليه غيره كالوديعة (أو يقول) الموكل، وفي نسخة:"إلا أن يقول"(له) أي: للوكيل: (اصنع ما شئت، أو تصرَّف كيف شئت، فيجوز) للوكيل أن يوكِّل؛ لأنه لفظ عام فيدخل في عموم التوكيل.

(وإن أذن) الموكِّل لوكيله في التوكيل (تعيَّن أن يكون الوكيل الثاني أمينًا) لأنه لا حظَّ للموكِّل في توكيل من ليس بأمين، وكذا حيث جاز له التوكيل (إلا مع تعيين الموكِّل الأول) بأن يقول له: وكِّلْ زيدًا، فيوكله، أمينًا كان أو خائنًا؛ لأنه قطع نظره بتعيينه له.

(فإن وكَّل) الوكيل حيث جاز (أمينًا فصار خائنًا، فعليه عزله) لأن ترْكَه يتصرف تضييعٌ وتفريط.

(وكذا وصيٌّ يوكِّل) فيما أوصي به إليه، أي: حكمه حكم الوكيل، فليس له أن يوكِّل فيما يتولَّى مثله بنفسه؛ لأنه متصرِّف في مال غيره بالإذن، أشبه الوكيل. وإنما يتصرف فيما اقتضته الوصية، كالوكيل إنما يتصرف فيما اقتضته الوكالة.

قال في "المبدع": ويلحق بهذا مضارب

(1)

(و) كذا (حاكم يتولَّى القضاء في ناحية، فيستنيب غيره) أي: حكمه حكم الوكيل، ليس له ذلك فيما يتولَّى مثله بنفسه.

وحيث جازت الاستنابة، فله أن يستنيب من غير مذهبه، ذكره

(1)

في "ذ" زيادة: "وولي".

ص: 421

القاضي في "الأحكام السلطانية"

(1)

، وابن حمدان في "الرعاية"، ويأتي بأتم من هذا في القضاء.

(وما يعجز عنه) أي: الوكيل ونحوه (لكثرته، له التوكيل في جميعه) لأن الوكالة اقتضت جواز التوكيل؛ فجاز في جميعه، كما لو أذن فيه لفظًا (كتوكيله) أي: كما يجوز للوكيل أن يوكِّل (فيما لا يتولَّى مثله بنفسه) أي: إذا كان العمل مما يرتفع الوكيل عن مثله، كالأعمال الدنية في حق أشراف الناس المرتفعين عن فعلها عادة، فإن الإذن ينصرف إلى ما جرت به العادة.

قال في "الفروع" بعد ذكر المسألة: ولعل ظاهر ما سبق يستنيب نائب في الحج لمرض، خلافًا لأبي حنيفة

(2)

والشافعي

(3)

.

(ويكون من وكِّل) من قبل الوكيل (وكيل الوكيلِ) لأنه قائم مقامه، فله عزله.

(وإن قال الموكِّل للوكيل: وكِّلْ عنك، صح) ذلك (وكان) الثاني (وكيلَ وكيله) فينعزل بعزل الوكيل الأول وموته.

(وإن قال) الموكِّل: (وكِّل عني، أو) قال: وكِّلْ و (أطلق) بأن لم يقل: عنك، ولا عني (صح، وكان) الثاني (وكيل موكِّله) لا ينعزل بعزل الوكيل له ولا بموته.

ولو قال لشخص: وكِّلْ فلانًا عني في بيع كذا، فقال الوكيل الأول للثاني: بِعْ هذا، ولم يشعره أنه وكيل الموكِّل، فقال الشيخ: لا يحتاج

(1)

ص/ 63.

(2)

الهداية للمرغيناني (3/ 1146)، وحاشية ابن عابدين (5/ 527).

(3)

الأم (4/ 489)، ومختصر المزني ص/ 152.

ص: 422

إلى تبيين أنه وكيله أو وكيل فلان، ذكره في "الاختيارات"

(1)

.

(وحيث قلنا: إن الوكيل الثاني وكيل الموكِّل، فإنه ينعزل بعزله وبموته ونحوه) كجنونه وحَجْرٍ عليه (ولا يملك الوكيل الأول عَزْله) لأنه ليس وكيلًا عنه (ولا ينعزل) الوكيل الثاني (بموته) ونحوه؛ لأنه ليس وكيلًا عنه.

(وحيث قلنا) إن الوكيل الثاني (وكيل الوكيل، فإنه ينعزل بعزلهما) أو أحدهما

(2)

والحجر عليهما، أو على أحدهما، ونحوه.

(وكذا) قول الموصي لوصيه: (أوْص إلى من يكون وصيًّا لي) فإنه يكون من أوصى إليه الوصي وصيًا للموصي الأول (ولا يوصي وكيل مطلقًا) أي: سواء أذن له في التوكيل أو لا (ويأتي) ذلك.

(ويصح توكيل عبد غيره بإذن سيده) لأن المنع لحقِّه، فإذا أذن صار كالحر (ولا يصح) توكيل العبد (بغير إذن) سيد (هـ) لأنه محجور عليه (ولو في إيجاب النكاح وقَبوله) لأنه لا يصح منه ذلك لنفسه بغير إذن سيده، فكذا لغيره.

(وإن وكَّله) إنسان (بإذنه) أي: إذن سيده (في شراء نفسه من سيده) صح؛ لأنه يجوز أن يوكله في شراء عبد غيره، فجاز أن يشتري نفسه (أو) وكَّله في (شراء عبد غيره) بإذن سيده (صح) التوكيل والشراء لما سبق.

(فلو قال) العبد: (اشتريتُ نفسي لزيد) الموكل (وصدَّقاه) أي:

(1)

ص/ 205.

(2)

زاد في "ح" و"ذ" ومتن الإقناع (2/ 423): " (وبموتهما) أو أحدهما".

ص: 423

زيد وسيده (صح) الشراء (ولزم زيدًا الثمن) الذي وقع به العقد؛ لأن ذلك مقتضى البيع.

(وإن صدَّقه السيد) على أنه اشترى نفسه لزيد (وكذَّبه زيد، نظرتَ، فإن كذبه) زيد (في الوكالة حلف) أي: حلف زيد أنه لم يوكله (وبرئ) من الثمن؛ لأن الأصل عدم الوكالة (وللسيد فسخ البيع واسترجاع عبده) لتعذُّر ثمنه.

(وإن صدَّقه) زيد (في الوكالة، وقال) زيد: (ما اشتريتَ نفسك لي. فالقول قول العبد) لأن الوكيل يقبل إقراره بما وُكِّل فيه.

(وإن قال السيد) للعبد: (ما اشتريتَ نفسك إلا لنفسك. فقال) العبد: (بل) اشتريتُ نفسي (لزيد. فكذَّبه) زيد (عتق) العبد؛ لإقرار السيد على نفسه بما يعتق به العبد (ولزمه الثمن في ذمته للسيد) لأن الظاهر وقوع العقد له.

(وللمُكاتَب أن يوكِّل فيما يتصرف فيه بنفسه) من نحو بيع؛ لعموم ما سبق (وله أن يتوكَّل) عن غيره (بجُعْلٍ) ولو بغير إذن سيده؛ لأنه من اكتساب المال.

(وليس له) أي المُكاتَب (أن يتوكَّل بغير جُعْلٍ) لأنه تبرع بمنافعه، فلا يملكه (إلا بإذن سيده) فإن أذن جاز.

والمُدبَّر، والمعلَّق عتقه بصفة، وأم الولد كالقن، وكذا المبعَّض؛ لأن التصرف يقع بجميع بدنه. ويحتمل إذا كان بينه وبين سيده مهايأة أن يصح في نوبته.

ص: 424

فصل

(والوكالة عَقدٌ جائز من الطرفين) لأنها من جهة الموكِّل إذْنٌ، ومن جهة الوكيل بذل نفع، وكلاهما جائز (تبطل بفسخ أحدهما) أي وقت شاء؛ لعدم لزومها؛ لما تقدم.

(فلو قال) الموكِّل (لوكيله: كلما عزلتك، فقد وكَّلتُك. فهي الوكالة الدورية) لأنها تدور مع العزل، فكلما عزله، عاد وكيلًا (وهي) أي: الوكالة الدورية (صحيحة) لأن تعليق الوكالة صحيح، كما تقدم (وانعزل) الوكيل في الوكالة الدورية (بـ) ــقول الموكِّل: عزلتُكَ، و (كلما وكَّلتُك؛ فقد عزلتُك. فقط) أي: دون عزلتك؛ فلا ينعزل بها.

(وهي) أي: مقالته: كلما وكَّلتك فقد عزلتُك (فسخٌ معلَّق بشرط) وهو التوكيل، والفسخ المعلَّق صحيح كما تقدم. وعلى هذا: فلا يصير وكيلًا إذا وكَّله بعد العزل الدوري؛ لأنه متى صار وكيلًا انعزل، ذكر معناه في "شرح المنتهى".

(وتبطل الوكالة بموت الموكِّل، أو) بموت (الوكيل) لأن الوكالة تعتمد الحياة، فإذا انتفت، انتفت صحتها؛ لانتفاء ما تعتمد عليه، وهو أهلية التصرف (لكن لو وكَّل وليُّ اليتيم وناظر الوقف، أو عقدا) ولي اليتيم أو ناظر الوقف (عقدًا جائزًا غيرها، كالشركة والمضاربة، لم تنفسخ بموته؛ لأنه متصرف على غيره) ذكره في "القواعد"

(1)

، واقتصر عليه في "الإنصاف".

(وتبطل) الوكالة (بجنون مطبَق) بفتح الباء (من أحدهما) أي:

(1)

قواعد ابن رجب ص/ 117 القاعدة الحادية والستون.

ص: 425

الموكِّل أو الوكيل؛ لأن الوكالة تعتمد العقل، فإذا انتفى، انتفت صحتها؛ لانتفاء ما تعتمد عليه، وهو أهلية التصرف.

(و) تبطل الوكالة أيضًا (بالحَجْر عليه) أي: على أحدهما (لسفه فيما لا يتصرف السفيه فيه) كبيع وشراء؛ لعدم أهليته للتصرف بخلاف نحو طلاق.

(و) تبطل الوكالة أيضًا (بفَلسَ موكِّل فيما حُجر عليه فيه) كتصرف في عين ماله؛ لانقطاع تصرفه فيه بخلاف ما لو وُكِّل في تصرف في الذمة.

(و) تبطل الوكالة أيضًا (بفسق) أحدهما (فيما ينافيه) الفسق (فقط، كإيجاب في نكاح) لخروجه عن أهلية التصرف، بخلاف الوكيل في قَبوله، أو في بيع أو شراء، فلا ينعزل بفسق موكله، ولا بفسقه؛ لأنه يجوز منه ذلك لنفسه، فجاز لغيره كالعدل.

(وإن كان وكيلًا فيما تُشترط فيه الأمانة، كوكيل وليِّ اليتيم، وولي الوقف على المساكين، ونحوه، انعزل بفسقه وفسق موكِّله) لخروجه عن أهليته لذلك التصرف.

(وكذلك كل عقد جائز من الطرفين، كشركة، ومضاربة، وجعالة) يبطل بموت أحدهما، وعزله، وجنونه المطبَق، والحَجْر عليه لسفه أو فَلَس، حيث نافاه (ويأتي) ذلك مفصلًا في أبوابه.

(ولا تبطل) الوكالة (بالنوم والسُّكْر الذي يفسق به في غير ما ينافيه) لأنه كالنوم؛ لأنه لا يخرجه عن أهلية التصرف. وتقدم حكم ما ينافيه الفسق.

ص: 426

(ولا) تبطل أيضًا (بالإغماء) كالنوم؛ لأنه لا تثبت عليه الولاية به (و) لا بـ (ــالتعدي كلُبْس ثوب) وُكِّل في نحو بيعه (وركوب دابة ونحوهما) لأن الوكالة اقتضت الأمانة والإذن، فإذا زالت الأولى بالتعدي بقي الإذن بحاله، بخلاف الوديعة؛ فإنها مجرد أمانة، فنافاها التعدي (ويصير) الوكيل (بالتعدي ضامنًا؛ فلو وكّل في بيع ثوب، فلبسه، صار ضامنًا) لتعديه (فإذا باعه) الوكيل (صح بيعه) له (ربرئ من ضمانه) لدخوله في ملك المشتري وضمانه.

(فإذا قبض) الوكيل (الثمن) حيث جاز له (صار أمانة في يده غيرَ مضمون عليه) لأنه لم يحصُل منه تعدٍّ عليه (فإن ردَّه) أي: ردّ المشتري الثوب (عليه) أي: على الوكيل (بعيب، عاد الضمان) لأن العقد المُزيل للضمان زال، فعاد ما زال به.

وإن عاد إلى يد الوكيل بعقدٍ آخر، لم يعد الضمان إلا إن تعدَّى؛ لأن هذه وكالة أخرى، لم يقع منه فيها تعد.

(ولو دفع إليه مالًا، ووكَّله أن يشتري به شيئًا، فتعدى) الوكيل (في الثمن، صار ضامنًا، فإذا اشترى به، وسلَّمه) أو لم يسلمه على قياس المبيع (زال الضمان، وقبضه للمبيع قبض أمانة، فإن ردَّه بعيب، وقبض الثمن، عاد مضمونًا عليه) كما تقدم في البيع

(1)

.

(وتبطل) الوكالة (أيضًا بتلف العين التي وُكِّل في التصرُّف فيها) لأن محل الوكالة قد ذهب.

(و) تبطل أيضًا (بدفعه) أي: الوكيل (عوضًا لم يؤمر بدفعه) فلو وكَّله في شراء عبد بهذه الدراهم، وفي شراء أَمَة بدراهم أخرى، فبذل

(1)

(7/ 426 - 427).

ص: 427

ثمن أحدهما في الآخر، بطلت؛ لأنه إنما وكَّله في الشراء به.

(و) تبطل أيضًا بـ (ــاقتراضه) أي: الوكيل (المال الذي بيده) للموكِّل (كتلفه) أي: كما تبطل الوكالة بتلفه (كما إذا دفع) الموكِّل (إليه دينارًا، وكَّله في الشراء به، فاستقرض الوكيل الدينار) وتصرف فيه لنفسه، بطلت الوكالة.

(و) لو (عزل دينارًا عوضه، واشترى به) الوكيل (فيصير كالشراء له) أي: للموكِّل (من غير إذن؛ لأن الوكالة بطلت، والدينارُ الذي عزله) الوكيل (عوضًا لا يصير للموكل حتى يقبضه، فإذا اشترى للموكِّل به شيئًا) ولم يسمِّه في العقد (وُقف) الشراء (على إجازته، فإن أجازه) الموكِّل (صح) الشراء له، كما تقدم في البيع

(1)

(ولزمه الثمن، وإلا) بأن لم يجزه الموكل (لزم) البيع (الوكيل) فيؤدي ثمنه.

(وتبطل) الوكالة (برِدَّة موكل) لعدم صحة تصرفه في ماله، وفي "الشرح": لا تبطل بردة الموكل فيما له التصرف فيه.

و (لا) تبطل بردة (وكيل، ولو لحق) الوكيل (بدار حرب) لأن ردته لا تؤثر في تصرُّفه، وإنما تؤثر في ماله (إلا فيما ينافيها) أي: إلا إذا وُكِّلَ في تصرف ينافي الردة كإيجاب، أو قَبول نكاح مسلمة.

(ويصح توكيل المسلم كافرًا فيما يصح تصرفه) أي: الكافر (فيه) من بيع أو نحوه (ذميًا كان) الوكيل (أو مستأمنًا، أو حربيًا، أو مرتدًا) لأن العدالة غير معتبرة فيه؛ فكذلك الدين كالبيع.

(وإن وكَّله) أي: وكَّل إنسان آخر (في طلاق امرأته، فوطئها) الموكِّلُ (أو قبَّلها ونحوه) كمباشرتها دون فرج؛ بطلت الوكالة؛ لأن ذلك

(1)

(7/ 322).

ص: 428

دليل رجوعه، وجزم في "المنتهى" بأنها لا تبطل بالقبلة (أو) وكَّل (في عتق عبده، فكاتبه، أو دبَّره، بطلت) الوكالة بذلك؛ لأنه دليل رجوعه.

(ولا يبطل توكيله عبده بعتقه ولا بيعه، و) لا (هبته، و) لا (كتابته، و) لا (إباقه) لأن ذلك لا يمنع ابتداء الوكالة، فلا يمنع استدامتها.

(وكذا إن وكَّل) إنسان (عبد غيره، فأعتقه السيد، أو باعه) أو وهبه، أو كاتبه، أو أبق العبد، لما سبق (لكن في صورة البيع) والهبة (إن رضي المشتري) أو المتهب (ببقائه على الوكالة، إن لم يكن المشتري) أو المتهب (الموكِّل) فالوكالة باقية (وإلا) بأن لم يرضَ المشتري أو المتهب ببقاء العبد على الوكالة (بطلت) الوكالة؛ لأن العبد لا يتصرف بغير إذن مالكه.

وأما إذا اشتراه أو اتهبه الموكِّل من مالكه، فلا بطلان؛ لأن ملكه إياه لا ينافي أذنه في البيع والشراء.

(ولا تبطل) الوكالة (بطلاق امرأة) وكَّلها زوجها، أو غيره (ولا بجحود وكالة من أحدهما) أي: الوكيل والموكل.

(ولا) تبطل (بسكناه) أي: الموكل (داره بعد أن وكَّله في بيعها، ونحوه) لأن ذلك لا يدل على رجوعه عن الوكالة ولا ينافيها.

(وينعزل الوكيل بموت موكِّل، وعزله قبل علمه) أي: الوكيل (به) أي: بموت موكله أو عزله؛ لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا صاحبه، فصح بغير علمه كالطلاق (فيضمن) الوكيل (إن تصرف) بعد موت موكله، أو عزله (لبطلان تصرفه، إلا ما يأتي في باب العفو عن القصاص) من أن الوكيل لو اقتص، ولم يعلم عفو موكله لا ضمان عليهما.

(ولا يقبل قوله) أي: الموكِّل (إنه كانَ عَزَلَه) أي: الوكيل قبل

ص: 429

تصرُّفه؛ لتعلُّق الحق بثالث (بلا بينة) فإن أقام بينة عُمل بها.

(ويُقبل قوله) أي: الموكِّل (إنه أخرج زكاته قبل دفع وكيله) الزكاة (إلى الساعي) لأنها عبادة؛ فَقُبِلَ قوله فيها (وتؤخذ) الزكاة (منه) أي من الساعي (إن كانت) الزكاة (بيده) أي: الساعي، وترد لربها (وإلا) تكن بيد الساعي بأن تلفت أو أعطاها لمستحقيها (فلا) تؤخذ منه، وظاهره أنه لو كان الوكيل دفع الزكاة لنحو فقير لا يُقبل قول الموكل: إنه كان أخرج قبل ذلك حتى ينتزعها من الفقير بلا بينة.

(و‌

‌لا ينعزل مودَع قبل علمه) بموت المودع، أو عزله،

فما بيده أمانة.

(ولو قال شخص لآخر: اشترِ كذا بيننا. فقال: نعم. ثم قال لآخر) فقال له: اشتره بيننا قال: (نعم. فقد عزل نفسه من وكالة الأول، ويكون ذلك) الذي اشتراه (له) أي: للوكيل (وللثاني) نصفين؛ لأن إجابته للثاني دليل رجوعه عن إجابة الأول.

(وتنفسخ شركة ومضاربة بعزله) أي: الشريك، أو رب المال (قبل العِلم) بعزله، كالوكيل.

(ومتى صحَّ العزل في الكُلِّ) أي: في الوكالة والشركة والمضاربة (كان ما بيده) أي: الوكيل والشريك والمضارب (أمانة) لا يضمنه إذا تلف بغير تعدٍّ منه ولا تفريط، حيث لم يتصرف، وأما ما تلف بتصرُّفه، فيضمنه كما سبق.

(وكذلك عقود الأمانات كلها: كالوديعة، والرهن، إذا انتهت) بأن كانت مُغيَّاة بمدة وانقضت (أو انفسخت) بموت، أو عزل حيث أمكن، فإنها تكون أمانة.

ص: 430

(و) كذلك (الهبة) للولد (إذا رجع فيها الأب) فهي أمانة ما دامت بيد ولده.

(ويأتي في آخر باب "صريح الطلاق وكناياته" قَبول قول موكِّل: إنه) كان (رجع قبل طلاق وكيله، و) يأتي هناك - أيضًا - حكم دعوى (عتقه ورهنه) ما وكّل في بيعه قبل بيع وكيله له.

(و‌

‌إذا وقعت الوكالة مطلقة، ملك) الوكيل (التصرف أبدًا ما لم تنفسخ)

الوكالة؛ لأنه مقتضى اللفظ.

(ويحصُل فسخها) أي: الوكالة (بقوله: فسختُ الوكالة، أو أبطلتُها، أو نقضتُها، أو أزلتُك، أو صرفتُك، أو عزلتُك عنها، أو ينهاه) الموكّل (عن فعل ما أمره به، وما أشبه ذلك من الألفاظ المقتضية عزله، و) الألفاظ (المؤدية معناه) أي: معنى العزل (أو يعزل الوكيل نفسه، أو يوجد ما يقتضي فسْخها حكمًا - على ما ذكرنا - أو يوجد ما يدلُّ على الرجوع عن الوكالة، كوطء امرأته بعد توكيله في طلاقها) ونحو ذلك مما تقدم

(1)

.

(وحقوق العقد) كتسليم الثمن، وقبض المبيع، وضمان الدرك، والرد بالعيب ونحوه (متعلقة بالموكِّل؛ لأن الملك ينتقل إليه) أي: الموكِّل (ابتداء، ولا يدخل) المبيع (في ملك الوكيل، فلا يعتق قريبُ وكيل عليه) لأنه لم يملكه، هكذا لو قال لعبد: إن اشتريتُك فأنت حُرٌّ، واشتراه بالوكالة، لم يعتق على الوكيل.

(ولا يُطالَب) الوكيل (في الشراء بالثمن، ولا) يُطالَب الوكيل (في

(1)

(8/ 425 - 428).

ص: 431

البيع بتسليم المبيع، بل يُطالب بهما الموكِّل) لأن حقوق العقد متعلِّقة به.

وفي "المغني" و"الشرح": إن اشترى وكيل في شراء في الذمة فكضامن، وقاله المجد وابن نصر الله.

وقال الشيخ تقي الدين

(1)

: فمن وُكِّلَ في بيع، أو شراه، أو استئجار؛ فإن لم يُسمِّ مُوكِّلَهُ في العقد فضامن، وإلا فروايتان. وظاهر المذهب: يضمنه، فيُحمل كلام المصنف على الثمن المعين.

(ولو وَكَّل مسلمٌ ذميًا) أو معاهدًا، أو حربيًا (في شراء خمر، أو خنزير) أو نحوهما (لم يصح التوكيل) لأن شراء المسلم لذلك لا يصح، فتوكيله فيه كذلك (ولا) يصح (الشراء) لما سبق.

(ولا يصح إقرار الوكيل على موكِّله) بغير ما وُكِّل فيه؛ لأنه إقرار على غيره كالأجنبي (لا عند الحاكم، ولا عند غيره، ولا صلحه) أي: الوكيل (عنه) أي: عن موكله (ولا الإبراء) أي: إبراء الوكيل (عنه) أي: عن موكله (إلا أن يصرِّح) الموكِّل (بذكر ذلك) للوكيل (في توكيله) فيملكه كسائر ما يوكل فيه.

(ويرد الموكل) المبيع (بعيب) أو تدليس، أو غبن، ونحوه (ويضمن) الموكِّل (العهدة) إذا ظهر المبيع، أو الثمن مستحقًا أو معيبًا (ونحو ذلك) من سائر ما يتعلَّق بالعقد لما تقدم من أن حقوق العقد متعلِّقة به دون الوكيل.

(وإذا وكَّل) شخصٌ (اثنين) واحدًا بعد آخر

(2)

، ولم يصرِّح بعزل

(1)

مجموع الفتاوى (29/ 364، 30/ 210) والاختيارات الفقهية ص/ 209.

(2)

في "ح": "بعد واحد".

ص: 432

الأول، أو وكَّلهما معًا (لم يجز لأحدهما الانفراد بالتصرف) لأن الموكِّل لم يفوضه إليه وحده، وكذا الناظران والوصيان (إلا أن يجعل) الموكِّل (ذلك) أي: الانفراد بالتصرف (إليه) أي: إلى أحدهما بعينه، أو يجعله لكل منهما، فيكون له الانفراد به.

(وإن غاب أحدهما) أي: أحد الوكيلين، ولم يكن الموكِّل جعل لكل منهما الانفراد (لم يكن للآخر) الحاضر (أن يتصرف) في غيبة رفيقه (ولا لحاكم ضم أمين إليه ليتصرَّفا) معًا (وفارق ما لو مات أحدُ الوصيين، حيث يضيف الحاكم إلى الوصي أمينًا ليتصرَّفا؛ لكون الحاكم له النظر في حق الميت واليتيم، ولهذا: لو لم يوص إلى أحد أقام الحاكم أمينًا في النظر لليتيم) بخلاف الموكِّل، فإنه رشيد جائز التصرف، لا ولاية للحاكم عليه.

(وإن حضر الحاكمَ أحدُ الوكيلين، و) الوكيل (الآخرُ غائب) عن البلد أو المجلس (فادَّعى) الوكيل الحاضر (الوكالة لهما) أي: له ولرفيقه الغائب (وأقام بينة) بدعواه (سمعها الحاكم، وحكم بثبوت الوكالة لهما) أي: للحاضر والغائب (ولم يملك الحاضرُ التصرفَ وحده) لما تقدم (فإذا حضر) الوكيل (الآخر، تصرَّفا معًا، ولا يحتاج إلى إقامة بينة. وجاز الحكم المتقدم للغائب، تبعًا للحاضر، كما يجوز أن يَحكم بالوقف الذي ثبت لمن لم يُخْلَق؛ لأجل من يستحقه في الحال.

وإن جَحدَ الغائبُ الوكالةَ أو عزل نفسه، لم يكن للآخر أن يتصرَّف) لأن الموكِّل لم يرضَ تصرف أحدهما منفردًا؛ بدليل إضافة الغير إليه، كما سبق.

(وجميع التصرفات) من بيع، أو طلاق، أو اقتضاء دين، أو إبراء

ص: 433

منه، ونحوها (في هذا) المذكور في التفصيل السابق (سواء) لعدم الفارق.

(ولا يصح بيع وكيل) شيئًا وُكِّلَ في بيعه (لنفسه) لأن العرف في البيع: بيع الرجل من غيره، فحُمِلت الوكالة عليه. وكما لو صرَّح به؛ ولأنه يلحقه به تهمة، ويتنافي الغرضان في بيعه لنفسه، فلم يجز

(1)

كما لو نهاه (ولا) يصح (شراؤه) أي: الوكيل شيئًا وُكِّلَ في شرائه (منها) أي: من نفسه (لموكِّله) لما تقدم في البيع (ولو زاد) الوكيل في البيع (على مبلغ ثمنه في النداء، أو وَكَّلَ من يبيع) حيث جاز (وكان هو أحد المشترين) فلا يصح البيع لما تقدم من أن العُرف بيعه لغيره، فتُحمل الوكالة عليه (إلا بإذنه) بأن أذن له في البيع من نفسه، أو الشراء منها، فيجوز لانتفاء التُّهمة (فيصح تولي طرفي عقد فيهما) أي: في البيع والشراء لانتفاء التُّهمة (كأبي الصغير، وكتوكيله

(2)

في بيعه، و) توكيل (آخر له) أي: للوكيل (في شرائه) فيتولى طرفي العقد.

(ومثله) أي: مثل البيع في تولي طرفي العقد (نكاح، ويأتي) مفصلًا في كتاب النكاح (و) مثله أيضًا (دعوى) إذا وكَّلاه فيها فيدعي عن أحدهما، ويجيب عن الآخر، ويقيم حجة كل واحد منهما. وقال الأزجيُّ في الدعوى: الذي يقع الاعتماد عليه: لا يصح؛ للتضاد.

(ويصح بيعه) أي: الوكيل في البيع (لإخوته وأقاربه) كعمه وابني أخيه وعمه. وقال في "الإنصاف": قلت: حيث حصل تهمة في ذلك لا يصح (لا) بيعه (لولده، ووالده، ومكاتَبه ونحوهم) كزوجته وسائر من تردُّ

(1)

في "ح": "فلم يصح".

(2)

في "ذ": "وتوكيله".

ص: 434

شهادته له؛ لأنه مُتَّهم في حقهم، ويميل إلى ترك الاستقصاء عليهم في الثمن، كتهمته في حق نفسه، ولذلك لا تُقبل شهادته لهم (إلا بإذن) الموكِّل فيجوز لانتفاء التُّهمة. قلت: والشراء منهم كالبيع لهم فيما سبق.

(وكذا) أي: كالوكيل فيما تقدم من البيع ونحوه لنفسه، أو أقاربه (حاكم، وأمينه، ووصي، وناظر) وقف؛ فلا يبيع من مال الوقف، ولا يشتري منه لنفسه، ولا لوالده وولده، ومُكاتَبه ونحوهم.

وأما إجارته فقال ابن عبد الهادي في "جمع الجوامع": إن كان الوقف على نفس الناظر، فإجارته لولده

(1)

صحيحة بلا نزاع، وإن كان الوقف على غيره، ففيه تردُّد يحتمل أوجهًا:

منها: الصحة، وحَكَم به جماعة من قضاتنا، منهم البرهان بن مفلح.

والثاني: تصح بأجرة المِثْل فقط.

والثالث: لا تصح مطلقًا، وهو الذي أفتى به بعض إخواننا.

والمختار من ذلك: الثاني. انتهى كلامه ملخصًا.

والذي أفتى به مشايخنا: عدم الصحة.

(و) كذا (مضارب وشريك عِنانٍ ووجوهٍ) وكذا عامل بيت المال ونحوه. والإجارة كالبيع فيما سبق؛ لأنها نوع منه.

(1)

في "ح" زيادة: "ومكاتبه".

ص: 435

فصل

(ولا يصح أن يبيع) الوكيل (نَسَاءً) أي: بثمن مؤجل (ولا) أن يبيع (بغير نَقْدِ البلد) لأن الأصل في البيع الحلول، وإطلاق النقد ينصرف إلى نَقْدِ البلد؛ ولهذا لو باع وأطلق، انصرف إلى الحلول ونقد البلد.

(ولا) أن يبيع (بغير غالبه) رواجًا (إن كان فيه) أي: البلد (نقود، فإن تساوت) النقود رواجًا (فبالأصلح) لأنه الذي ينصرف إليه الإطلاق:

(هذا إن

(1)

لم يُعيِّن الموكِّل نقدًا، فإن عيَّنه أو قال:) بعْ بكذا (حالًّا، تعيَّن) ما عيَّنه الموكِّل؛ لتعيينه إياه، لكن لو لم يقل: حالًا تعيَّن أيضًا الحال، فلا فائدة له إلا التوكيد.

(ولا أن يبيع) الوكيل (بعَرْض) كثوب وفلوس (ولا نفع) كسكنى دار، وخدمة عبد (مع الإطلاق) بأن قال له: بِعْ هذا؛ فلا يبيعه بعرض ولا نفع؛ لأن عقد الوكالة لم يقتضه، لكن الشيء التافه الذي يُباع بالفلوس عادة يصحُّ بيعه بها، عملًا بالعُرف. والفرق بين الوكيل والمضارب، حيث يبيع بنَسَاءٍ وبعرض: أن المقصود في المضاربة الربح، وهو في النَّسَاء ونحوه أكثر، ولا يتعيَّن ذلك في الوكالة، بل ربما كان المقصود تحصيل الثمن لدفع حاجة، فيفوت بتأخير الثمن، ولأن استيفاء الثمن وتنضيضه في المضاربة على المضارب فيعود الضرر عليه، بخلاف الوكالة، وإن عيَّن له شيئًا تعيَّن، ولم يجز مخالفته؛ لأنه متصرِّف بإذنه.

(وليس لوكيل في بيع تقليبه) أي: المبيع (على مشترٍ إلا بحضرته) أي: الموكل؛ لأن الوكالة لا تقتضيه (وإلا) بأن أعطاه الوكيل لمن يريد

(1)

في "ذ": "إذا".

ص: 436

الشراء ليقلبه وغاب به عن الوكيل (ضمن) الوكيل المبيع إن تلف؛ لتعديه بدفعه له.

(ولا) لوكيل (بيعه ببلد آخر، فيضمن) إن فعل؛ لعدم تضمُّن الإذن لذلك (ويصح) البيع، لما تقدم أن التعدي لا يبطلها.

(و) إن نقل المبيع إلى بلد آخر وباعه به (مع مؤنة نقل) للمبيع (لا) يصح البيع؛ لأن فعله ذلك يدلُّ على رجوعه عن الوكالة، وأنه يتصرَّف لنفسه، ذكره في شرح "المنتهى" من عنده.

(وليس له) أي: الوكيل (العقد مع فقير) لا يقدِرُ على الثمن (ولا) مع (قاطع طريق) لما فيه من إضرار الموكِّل (إلا أن يأمره) الموكِّل بذلك.

(وإن باع هو) أي: وكيل (ومضارب بدون ثمن المِثْل) إن لم يُقدِّر له ثمنًا (أو) باع (بأنقص مما قدَّره له) الموكِّل، أو رب المال (صح) البيع؛ لأن من صح بيعه بثمن المِثْل، صح بدونه كالمريض (وضمنا) أي: الوكيل والمضارب (النقص كله، إن كان مما لا يُتغابن به عادة) لأن فيه جمعًا بين حظ المشترى بعدم الفسخ وحظ البائع، فوجب التضمين، وأما الوكيل فلا يُعتبر حظه؛ لأنه مفرِّط.

(فأما ما يتغابن الناس بمثله) عادة (كالدرهم في العشرة، فمعفو عنه) لا يضمنه الوكيل ولا المضارب؛ لأنه لا يمكن التحرُّز منه (إذا لم يكن الموكِّل قد قدَّر الثمن) للوكيل.

(ويضمن) الوكيل والمضارب (الكلَّ) أي: كل النقص، ولو كان يُتغابن به عادة (في المُقدَّر) فإن قال: بِعْهُ بعشرة، وباعه بتسعة، ضمن الواحد لمخالفته.

(ولا يضمن عبدٌ) باع بأنقص عن ثمن المِثْل، أو مما قَدَّره له سيده

ص: 437

(لسيده) لأنه لا يثبت له على عبده الدين.

(ولا) يضمن (صبيٌّ) باع كذلك (لنفسه) لأن الإنسان لا يثبت له الدَّين على نفسه (ويصح البيع) من العبد والصبي بأنقص، كالوكيل.

(ولو حضر من يزيد) في المبيع (على ثمن مِثْل، لم يجز) للوكيل ولا للمضارب (بيعه به) أي: بثمن المِثْل؛ لأن عليه الاحتياط وطلب الحظ للموكِّل، فإن خالف وباع، فمقتضى ما سبق: يصح البيع. وظاهر كلامهم: ولا ضمان. ولم أره مصرَّحًا به.

(فإن باع) الوكيل أو المضارب (بثمن المِثْلِ) أو أكثر (فحضر من يزيد) في الثمن (في مدة خيار) مجلس أو شرط (لم يلزمه) أي: الوكيل، أو المضارب (فسخ) البيع؛ لأن الزيادة منهيٌّ عنها، والدافع لها قد لا يثبت عليها.

وتقدم في الحَجْر

(1)

: أن أمين الحاكم إذا باع مال المفلس، وحضر من يزيد، يلزمه الفسخ في مدة الخيار، وبعدها يُستحبُّ له سؤال المشتري الإقالة.

(وإذا باع) وكيلٌ أو مضارب (بأكثر منه) أي: من ثمن المِثْلِ، أو المُقدَّر (صح) البيع (سواء كانت الزيادة من جنس الثمن الذي أمره به) الموكِّل أو رب المال (أو لم تكن) الزيادة من جنسه؛ لأنه باع بالمأذون فيه، وزاده خيرًا زيادة تنفعه، ولا تضرُّه، والعُرف يقتضيه، أشبه ما لو وكَّله في الشراء، فاشتراه بدون ثمن المِثْل، أو بأنقص مما قدَّره له.

(و) إن قال الموكِّل: (بِعْهُ بدرهم، فباعه بدينار، أو) قال: (اشتره بدينار، فاشتراه بدرهم، صح) البيع والشراء (لأنه مأذون فيه عُرفًا) فإنَّ

(1)

(8/ 358).

ص: 438

من رضي بدرهم رضي مكانه بدينار، ومن رضي ببذل دينار رضي مكانه بدرهم.

قال في "المبدع": وإن اختلط الدرهم بآخره

(1)

، عَمل بظنه، ويقبل قوله حكمًا، ذكره القاضي.

و (لا) يصح البيع إذا قال: بِعْهُ بدرهم (إن باعه بثوب يساوي دينارًا) لمخالفة موكِّله، والعُرف لا يقتضيه.

(وإن قال) الموكِّلُ: (بِعْهُ بمائة درهم، فباعه) الوكيل (بمائة ثوب قيمتها) أي: الثياب (أكثر من الدراهم) لم يصح البيع للمخالفة.

(أو) قال: بِعْهُ بمائة درهم، فباعه (بثمانين درهمًا وعشرين ثوبًا، لم يصح) البيع، ولو زادت قيمة الثياب للمخالفة في الجنس.

(وإن قال) الموكِّلُ: (اشتره بمائة، ولا تشتره بدونها. فخالفه) الوكيل (لم يجز) أي: لم يصح الشراء للمخالفة لنصه، وصريح قوله مقدَّم على دلالة العُرف.

(وإن قال: اشترِه بمائة، ولا تشتره بخمسين. صح شراؤه بما بينهما) أي: بين المائة والخمسين؛ بأن اشتراه بستين مثلًا؛ لأن إذنه في الشراء بمائة دلَّ عُرفًا على الشراء بما دونها، خرج منه الخمسون بصريح النهي، بقي فيما فوقها على مقتضى الإذن (و) كذا لو اشتراه (بدون الخمسين) فيصح؛ لأنه لم ينهه عنه.

(و) إن قال الموكِّل: (اشترِ لي نصفه بمائة، ولا تشتره جميعه. فاشترى) الوكيل (أكثر من النصف، وأقل من الكلِّ بمائة، صح) الشراء؛ لما تقدم.

(1)

زاد في "ذ": له.

ص: 439

(و) إن قال الموكِّل: (بِعْهُ بألف نساء. فباعه) الوكيل (به حالًا، يصح) لأنه زاده خيرًا، فهو كما لو وكَّله في بيعه بعشرة، فباعه بأكثر (ولو استضر) الموكِّل (بقبض الثمن في الحالِّ) من حيث حفظه، أو خوف تلفه، أو تعدٍّ عليه، ونحوه، اعتبارًا بالغالب، إذ النادر لا يفرد بحكم (ما لم ينهه) بأن يقول: لا تبع حالًّا، فلا يصح؛ للمخالفة.

(وإن وكَّله في الشراء، فاشترى) الوكيل (بأكثر من ثمن المِثْلِ مما لا يُتغابن به عادة) إذا لم يقدر له ثمن، صح (أو) اشترى الوكيل (بأكثر مما قَدَّره له) الموكل (صح) كالبيع فيما سبق (وضمن) الوكيل (الزائد) عن ثمن المِثْل أو المقدَّر، لما سبق.

(ومثله) أي: الوكيل (مضارب) فيما ذكر، وكذا الوصي، وناظر الوقف، إذا باع بدون ثمن المِثْلِ، أو اشترى بأكثر عنه، ذكره الشيخ تقي الدين

(1)

.

(وإن وكَّله في بيع عبد) أو غيره (بمائة، فباع) الوكيل (نصفه بها) أي: بالمائة (صَحَّ) البيع؛ لأنه حصَّل غرضه، وزاده زيادة تنفعه، ولا تضرُّه (وله) أي: الوكيل (بيع النصف الآخر) لأنه مأذونٌ في بيعه، فأشبه ما لو باع العبدَ كله بمثلي ثمنه.

(وكذا لو وكلَّه في بيع عبدين بمائة، فباع) الوكيل (أحدَهما بها) صح البيع (وله بيع) العبد (الآخر) لأنه لم يوجد ما يقتضي عزله.

(وإن وكَّله في بيع شيء، فباع) الوكيل (بعضه بدون ثمن الكُلِّ، لم يصح) البيع؛ لأنه غير مأذون فيه، ولما فيه من الضرر، أشبه ما لو وكَّله في شراء شيء فاشترى بعضه (ما لم يبع) الوكيل (الباقي) من العبد، فإن

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 206.

ص: 440

باعه، صح. وعلى هذا فالبيع الأول موقوف، إن باع الباقي تبيَّنَّا صحته، وإلا تبينا بطلانه، ولم أره صريحًا (أو يكن) المبيع (عبيدًا، أو صُبرةً ونحوهما، فيصح) بيعه (مفرَّقًا) لأنه العُرف (ما لم يأمره) الموكِّل (ببيعه صفقة واحدة) فلا يخالفه.

(وإن اشتراه) الوكيل (بما قدَّره) الموكِّل (له) بأن قال له: اشترِه بمائة. فاشتراه بها (مؤجَّلًا) صح؛ لأنه زاده خيرًا.

(أو قال) الموكِّل: (اشترِ لي شاةً يدينار، فاشترى) الوكيل (به) أي: الدينار (شاتين تساوي إحداهما دينارًا، أو اشترى) الوكيل (شاة تساوي دينارًا بأقل منه، صح) الشراء (وكان) الزائد (للموكِّل) لحديث عروة بن الجعد: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعثَ معة بدينارٍ يشتري له به أضحيةً - وقال مرةً: أو شاةً - فاشترى له اثنتين، فباعَ واحدة بدينارٍ، وأتاه بالأخرى، فدعا له بالبركة، فكان لو اشترى التراب لربحَ فيه". وفي رواية: "قال: هذا ديناركم، وهذه شاتكم، قال: كيف صنعت؟ فذكره" رواه أحمد"

(1)

، ولأنه حصَّل المأذون فيه وزيادة.

وكذا لو اشترى شاتين، كل منهما تساوي دينارًا.

(وإن لم تساوه) أي: الدينار إحداهما فيما إذا اشترى شاتين، أو لم تساوه التي اشتراها بدون الدينار (لم يصح) الشراء؛ لأنه لم يحصُل له المقصود، فلم يقع البيع له، لكونه غير مأذون فيه لفظًا ولا عُرفًا.

(وإن باع) الوكيل (إحدى الشاتين) اللتين اشتراهما بدينار (لا) إن باع (كلتيهما بغير إذن) الموكِّل (صح) البيع (إن كانت) الشاة (الباقية تساوي دينارًا) لما تقدم من حديث عروة بن الجعد.

(1)

تقدم تخريجه (7/ 321) تعليق رقم (1).

ص: 441

(ولا يملك الوكيل في البيع والشراء شرط الخيار للعاقد معه) لأنه إلزام لموكِّله بما لم يلتزمه، وعقد الوكالة لا يقتضيه.

(وله) أي: الوكيل (شرطه) أي: الخيار (لنفسه) ويكون له ولموكِّله، وإن شرطه لنفسه فقط لم يصح (و) له شرطه (لموكِّله) لأنه زاده خيرًا، وتقدم

(1)

: أنه يختصُّ بخيار مجلس لم يحضره موكِّله، ويختصُّ به موكِّله إن حضره، قاله في "المبدع".

(وليس له) أي: للوكيل (شراء مَعيبٍ) أي: لا يجوز له؛ لأن الإطلاق يقتضي السلامة (فإن فعله) أي: اشترى معيبًا (غير عالم، فله الرد) بالعيب، لقيامه مقام الموكِّل (وإن فعله) أي: اشترى الوكيل المعيب (عالمًا) بعيبه (لزمه) أي: لزم البيعُ الوكيلَ (ما لم يرضَ الموكِّل) لأن الحق له (وليس له) أي: للوكيل (ولا لموكله رده) أي: رد ما اشتراه الوكيل عالمًا بعيبه؛ لدخول الوكيل على بصيرة، فيلزمه البيع إن لم يرضه موكِّله.

(وإن اشترى) الوكيل ما علم عيبه (بعين المال) الذي وُكِّل في الشراء به (فكشراء فضولي) فلا يصح على المذهب (وله) أي: للوكيل (وللموكِّل رده) أي: ردّ ما اشتراه الوكيل غير عالم بعيبه، أما الموكِّل فلأن حقوق العقد متعلِّقة به، وأما الوكيل فلقيامه مقامه، وتقدم.

(فإن حضر) الموكِّل (قبل رَدِّ الوكيل) المعب (ورضي) الموكِّل (بالعيب، لم يكن للوكيل رده) لأن الحق للموكِّل وقد أسقطه، بخلاف المضارب؛ لأن له حقًا، ولا يسقط برضا غيره.

(وإن لم يحضر) الموكِّل (فأراد الوكيل الرَّدَّ، فقال له البائع: توقف

(1)

(7/ 422).

ص: 442

حتى يحضر الموكِّل، فربما رضي بالعيب، لم يلزمه) أي: الوكيل (ذلك) لأنه لا يأمن فوات الردِّ بهرب البائع، فإن أخَّره لذلك فله الردُّ (فلو أسقط الوكيل خياره فحضر موكِّله فرضي به) أي: المعيب (لزمه) البيع؛ لأن الحق له (وإلا) بأن لم يرضَ به (فله رده) لأن الحق له، فلا يسقط بإسقاط وكيله.

(ولو ظهر به) أي: المبيع (عيب) وأسقط الوكيل خياره، وأراد الموكِّل الردَّ به (فأنكر البائع أن الشراء وقع للموكِّل) قُبِلَ قوله، و (لزم الوكيل) لأن الظاهر فيمن يباشر عقدًا أنه لنفسه (وليس له) أي: الوكيل (رده) لإسقاطه خياره.

(فإن قال البائع) للوكيل: (موكلك قد رَضِي بالعيب، فالقول قول الوكيل مع يمينه أنه لا يعلم ذلك) لأنه الأصل (ويردُّه) الوكيل (ويأخذ حقَّه في الحال) لأنه لا يأمن فوات الرَّدِّ لو أخَّر حتى يحضر الموكِّل.

(ولو ادَّعى الغريم أن الموكِّل عزل الوكيل في قضاء) أي: اقتضاء (الدَّين، أو ادَّعى موت الموكِّل) أو نحوه مما تنفسخ به الوكالة (حَلَفَ الوكيل على نفي العلم) بما ادَّعاه الغريم؛ لأن الأصل عدمه.

(فإن ردَّه) أي: رد الوكيل المعيبَ في غيبة الموكِّل (فصدَّق الموكِّل البائع في الرضا بالعيب، لم يصح الرد، وهو باقٍ للموكِّل) لأن رضا الموكِّل بالعيب عَزْلٌ للوكيل عن الرد، ومَنْعٌ له، بدليل: أن الوكيل لو علم لم يكن له الرد، فللموكِّل استرجاعه، وللبائع ردُّه عليه.

(ولا يُسمع قوله) أي: الغريم (لوكيل غائب) في الاقتضاء منه: (احْلِفْ أن لك مطالبتي، أو) احْلِفْ (أنه) أي: الموكِّل (ما عزلك) لأنه طلب للحلف على البتِّ على نفي فعل الغير، فلا يلزم الإجابة إليه.

ص: 443

(ويُسمع قوله) أي: الغريم: (أنت تعلمُ ذلك) أي: أنه عزلك (فيحلف) الوكيل على نفي العلم لاحتمال صدقه. (ورضا الموكِّل الغائب بالعيب) في مبيع اشتراه وكيله (عزل لوكيله عن ردِّه) فلا يصح ردّ الوكيل بعده، وتقدم.

(ولو قال) الغريم: (موكلك أخذ حقه، أو: أبرأني) من الدَّين (لم يقبل) منه ذلك بلا بينة؛ لأنه خلاف الأصل (فإن حَلَفَ) الوكيل أنه لا يعلم ذلك (طالبه، وأخذ) الدَّين منه (ولم) يلزمه أن (يؤخِّر) الطلب (ليحلف الموكِّل) لأنه لا يأمن من الفوات.

فصل

(وإن وكَّله في شراء) شيء (معيَّن، فاشتراه، ووجده) الوكيل (معيبًا، فله) أي: الوكيل (الرد قبل إعلام موكِّله) صحَّحه في "الإنصاف"، و"تصحيح الفروع"؛ لأن الأمر يقتضي السلامة، أشبه ما لو وكَّله في شراء موصوف. وفي "التنقيح" و"المنتهى": ليس له رده، قال في "المبدع": وهو الأشهر؛ لأن الموكل قطع نظره بالتعيين، فربما رضيه بجميع صفاته.

(وإن علم) الوكيل (عيبه) أي: عيب ما عيَّنه له موكِّله (قبل الشراء، فليس له) أي: الوكيل (شراؤه) كغير المعين، بناء على أن له رده لو لم يعلم. قال في "المبدع": والمقدم له شراؤه. انتهى. أي: لأن الموكِّل قطع نظره بالتعيين، كما تقدم.

(وإن قال) الموكِّل: (اشترِ لي بهذه الدراهم، ولم يقل: بعينها،

ص: 444

جاز له) أي: الوكيل (أن يشتري له) أي: الموكِّل (في ذمته، و) أن يشتري له (بعينها) لأن الإطلاق بتناولهما.

(وإن قال) الموكِّل: (اشترِ لي بعين هذا الثمن، فاشترى) الوكيل (له) بثمن (في ذمته، صح البيعُ) للوكيل (ولم يلزم) البيعُ (الموكِّل) لأن الثمن إذا تعيَّن انفسخ العقد بتلفه، أو كونه مغصوبًا، ولم يلزمه ثمنٌ في ذمته، وهذا غرض صحيح للموكِّل، فلم تجز مخالفته.

(وعكسُهُ) بأن قال: اشترِ لي في ذمتك وانقد الثمن، فاشترى بعينه (يصح) الشراء (ويلزمه) أي: الموكِّل؛ لأنه أذنه في عقد يلزمه به الثمن، مع بقاء الدراهم وتلفها، فكان إذنًا في عقد لا يلزمه الثمن إلا مع بقائها.

(و‌

‌يُقبل إقرار الوكيل بعيب فيما باعه)

لما يأتي من أنه يقبل إقراره في كل ما وُكِّلَ فيه.

(وإن أمره) أي: أمر المُوكِّل الوكيلَ (ببيعه في سوقٍ بثمنٍ، فباعه) الوكيل (به في) سوق (آخر، صح) البيع؛ لأن القصد البيع بما قدَّره له، وقد حصل، كالإجارة وغيرها (إن لم ينهه) الموكِّل عن بيعه في غيره، فلا يصح؛ للمخالفة (ولم يكن له) أي: الموكِّل (فيه) أي: في ذلك السوق (غرض) صحيح، بأن يكون ذلك السوق معروفًا بجودة النقد، أو كثرة الثمن، أو حله، أو صلاح أهله، فلا يبيعه في غيره.

(وإن قال) الموكِّل: (بِعْهُ من زيد، فباعه) الوكيل (من غيره، لم يصح) البيع للمخالفة؛ لأنه قد يقصد نفعه، فلا تجوز مخالفته، قال في "المغني" و"الشرح": إلا أن يعلم بقرينة، أو صريح أنه لا غرض له في عين المشتري.

ص: 445

(وإن وكَّله

(1)

في التصرُّف في زمن مقيد) كرجب (لم يملك التصرف قبله ولا بعده) لأن الوكيل في زمن معين لا يكون وكيلًا في غيره (فلو قال) الموكِّل: (بعْ ثوبي غدًا، لم يجز) للوكيل بيعه (قبله ولا بعده) ولم يصح؛ لأنه لم يتناوله إذنه نطقًا ولا عُرفًا؛ لأنه قد يؤثِّر التصرف في زمن الحاجة إليه دون غيره.

(وإن وكَّله في بيع شيء، ملك تسليمه) لأن إطلاق الوكالة في البيع يقتضي التسليم لكونه من تمامه (ولم يملك) الوكيل الإبراء من ثمنه؛ لأنه ليس من البيع ولا من تتمته، ولم يملك أيضًا (قَبْضَ ثمنه) أي: ثمن ما وُكِّلَ في بيعه؛ لأنه قد يوكِّل في البيع من لا يأتمنه على الثمن (فـ) ــعلى هذا (إن تعذَّر قبضه) لموت المشتري مفلِسًا ونحوه (لم يلزمه) أي: الوكيل (شيء) من الثمن؛ لأنه ليس بمفرط؛ لكونه لا يملكه، و (كما لو ظهر المبيع مستحقًّا أو معيبًا) فإنه لا شيء على الوكيل في شرائه؛ لعدم تفريطه (كحاكم وأمينه) إذا باعا على صغير أو غائب وفات الثمن، لا شيء عليهما (إلا أن يأذن) الموكِّل (له) أي: للوكيل (في قبض الثمن) فيملك قبضه (أو تدل عليه) أي: على قبض الثمن (قرينةٌ، مثل توكيله في بيع ثوب) أو نحوه (في سوق غائب عن الموكِّل، أو) في (موضع يضيع الثمن بترك قبض الوكيل، ونحوه) فيملك الوكيل قبضه؛ لدلالة القرينة على الإذن في قبضه.

هذا أحد الوجوه، جزم به في "الوجيز"، وهو ظاهر ما جزم به في "الرعاية الصغرى" و"الحاويين"، و"الفائق"، واختاره الموفق، وقدَّمه

(1)

في "ح": "وإن أذن له".

ص: 446

في "المحرر" و"الرعاية الكبرى". قال في "الإنصاف": وهو الصواب.

والوجه الثاني: لا يملك قبض ثمنه مطلقًا، وهو المذهب، كالحاكم وأمينه، اختاره القاضي وغيره، وجزم به في "الهداية" و"المذهب"، و"مسبوك الذهب"، و"المستوعب"، و"الخلاصة"، و"التلخيص". وقدَّمه في "الفروع".

والوجه الثالث: يملكه مطلقًا، قال ابن عبدوس في "تذكرته": له قبض الثمن إن فُقدت قرينة المنع، وجزم بالثاني في "المنتهى".

(فـ) ــعلى الأول: إن أذنه، أو دلت قرينة على القبض (متى ترك) الوكيل (قبضَه) وسلم المبيع، ففات الثمن (ضمنه) الوكيل؛ لأنه يُعدُّ مفرطًا.

(وكذلك لو أفضى) عدم القبض (إلى ربًا) كبيع ربوي بآخر (ولم يحضر الموكِّل) فيقبضه الوكيل، ذكره في "التنقيح"؛ لأن القبض حينئذ من مقتضى العقد.

(وكذا الحكم في قبض سلعة وكِّل في شرائها) فلا يملك قبضها مطلقًا؛ ما لم يُفْضِ إلى ربًا. وعلى ما قدَّمه: أو قرينة.

(وإن أمره بقبض دراهم، أو) أمره بقبض (دينار، لم يصرف

(1)

بغير إذن) الموكل؛ لأن المصارفة عقد لم يأذن فيه.

(وإن أخذ) الوكيل في قبض دين (رهنًا، أساء) الوكيل؛ لعدم الإذن (ولم يضمن) الوكيل الرهن إذا تلف بلا تفريط؛ لأن صحيحه غير مضمون، ففاسده لا ضمان فيه.

(ولا يسلِّم) الوكيل (المبيعَ قبل قبض ثمنه حيث جاز القبض) أي:

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (2/ 433): "يصارف".

ص: 447

حيث جاز له قبض ثمنه؛ لأنه يُعدُّ مفرِّطًا (أو حضوره) أي: إلا بحضور الموكِّل (فإن سلَّمه) أي: سلَّم الوكيل المبيع بغير حضور الموكِّل (قَبْلَ قبضه) أي: الثمن حيث جاز (ضمن) لما تقدم.

(وكذا وكيل في شراء وقبض مبيع) لا يُسلِّم الثمن حتى يتسلم المبيع.

(وإن كان له) أي: الوكيل (عُذر، مثل أن ذهب لينقد) الثمن (ونحوه) فضاع المبيع (فلا ضمان عليه) لأنه لا يُعدُّ مفرطًا إذًا.

(وإن وكَّله في شراء ذلك

(1)

ملك) الوكيل (تسليم ثمنه) لأنه من تمام العقد (فإن أخَّر) الوكيل (تسليمه بلا عذر، ضمنه) إذا تلف، لتفريطه بإمساكه.

(فإن اشترى) الوكيل (عبدًا) أو نحوه (فنقد ثمنه، فخرج العبد) أو نحوه (مستحقًا، فله) أي: الوكيل (المخاصمة في ثمنه) ومطالبة البائع به (إن دلَّت قرينةٌ على ذلك، كبُعده) أي: الوكيل (عن موكِّله، ونحوه) بأن يكون في موضع لو تركه الوكيل لفات على موكِّله، صوَّبه في "تصحيح الفروع"، وصوَّب فيه - أيضًا - أنه يجوز للوكيل تزكية بينة خصمه، قال: بل هو أولى من الأجنبية.

(وإن وكَّله في بيع فاسد، كشرطه) أي: الموكل (على وكيل ألَّا يُسلِّم المبيع، لم يصح) التوكيل (ولم يملكه) أي: البيع الفاسد؛ لأن الله تعالى لم يأذن فيه، ولأن الموكِّل لا يملكه، فوكيله أَولى.

وقوله: "كشرطه على وكيل ألَّا يُسلِّم المبيع" تشبيه للشرط الفاسد بالبيع الفاسد في أنه لا يصح التوكيل فيه، فذكره بعد "لم يصح" أولى،

(1)

في "ح" و"ذ" ومتن الإقناع (2/ 433): "شيء" بدل "ذلك".

ص: 448

كما فعل في "المبدع".

(ولم يملك) الوكيل في البيعِ الفاسدِ البيعَ (الصحيحَ) لأنه لم يوكل فيه.

(وإن وكَّله في كل قليل وكثير، لم يصح) ذكره الأزجيُّ اتفاق الأصحاب، وكذا لو قال: وكَّلتُك في كل شيء، أو في كل تصرُّف يجوز لي، أو كل ما لي التصرُّف فيه؛ لأنه يدخل فيه كل شيء من هبة ماله، وطلاق نسائه، وإعتاق رقيقه، فيعظم الغرر والضرر، ولأن التوكيل لا بُدَّ وأن يكون في تصرف معلوم.

قال في "المبدع": ومثله: وكَّلتك في شراء ما شئت من المتاع الفلاني، فلو قال: وكَّلتك بما إليّ من التصرفات فاحتمالان.

(وإن وكَّله في بيع ماله كله) صح؛ لأنه يعرف ماله فيقل الغرر (أو) وكله في بيع (ما شاء منه) أي: من ماله، صح لما تقدم (أو) وكَّله في (المطالبة بحقوقه كلها) أو في قبض دينه كله، وما يتجدد له في المستقبل، صح (أو) وكَّله في (الإبراء منها) أي: من حقوقه كلها (أو) وكَّله في المطالبة أو الإبراء في (ما شاء منها، صح) التوكيل لقلة الغرر.

قال في "المبدع": وظاهر كلامهم في: بع من مالي ما شئت، له بيع ماله كله.

(وإن قال) الموكِّل لوكيله: (اشترِ لي ما شئت) لم يصح؛ لأنه قد يشتري ما لا يقدر على ثمنه (أو) قال: (اشترِ لي عبدًا بما شئت، لم

ص: 449

يصح) التوكيل (حتى يذكر النوع وقَدر الثمن) لأن ما يمكن شراؤه، والشراء به يكثر، فيكثر فيه الغرر، فإن ذكر النوع وقَدْر الثمن، صحَّ لانتفاء الغرر. واقتصر القاضي على ذكر النوع؛ لأنه إذا ذكر نوعًا فقد أذن في أعلاه ثمنًا فيقل الغرر. قال في "المبدع": فمن اعتبره - أي: ذكر الثمن - جوَّز أن يذكر أكثر الثمن وأقله.

(وإن وكَّله في مخاصمة غرمائه، صح) التوكيل. (وإن جهلهم الموكِّل والوكيل) لإمكان معرفتهم بعد ذلك، فلا غرر.

(وإن وكَّله في الخصومة، صح) التوكيل (ولم يكن وكيلًا في القبض) لأن الإذن لم يتناوله نطقًا ولا عُرفًا؛ لأنه قد يرضى للخصومة ما لا يرضاه للقبض، إذ معنى الوكالة في الخصومة: الوكالة في إثبات الحق.

(ولا) يكون الوكيل في الخصومة وكيلًا (في الإقرار على موكِّله) بقبض ولا غيره، نص عليه

(1)

؛ لأنه لم يتناوله الإذن نطقًا ولا عُرفًا (كإقراره) أي: الوكيل (عليه) أي: على موكِّله (بقَوَدٍ وقَذْف) فإنه غير صحيح (وكالولي) لا يصح إقراره على مولاه (ولهذا لا يصح منهما يمين) لأنها لا تدخلها النيابة.

(وفي "الفنون": لا تصح الوكالة ممن علم ظلم موكِّله في الخصومة، ولا شكَّ فيما قال) قاله في "الإنصاف"؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}

(2)

ذكر القاضي فيه: لا يجوز لأحد أن يخاصم

(1)

انظر الفروع (4/ 349).

(2)

سورة النساء، الآية:105.

ص: 450

عن غيره في إثبات حق أو نفيه، وهو غير عالم بحقيقة أمره. وفي "المغني" في الصلح نحوه. قاله في "المبدع".

(وكذا لو ظنَّ) الوكيل (ظلمه) أي: ظلم موكله، لم يجز أن يتوكل عنه (أيضًا) لما سبق، إجراء للظن مجرى العلم (وإلا) يكن المراد من كلام "الفنون" ذلك (فبعيد جدًّا القول به) أي: بجواز التوكيل (مع ظن ظلمه) أي: ظن الوكيل ظلم موكِّله، ومع الشك احتمالان.

(وإن وكَّله في القبض) أي: قبض الدَّين، أو الوديعة ونحوها (كان وكيلًا في الخصومة) لأنه لا يتوصَّل إلى القبض إلا بها، فكان إذنًا فيها عرفًا؛ لأن القبض لا يتم إلا به.

(وإن وكَّله في قبض الحق) من دَين أو عين (من إنسان، تعيَّن) أي: لم يجز إلا (قبضه منه) أي: من ذلك الإنسان (أو من وكيله) لقيامه مقامه و (لا) يملك قبضه (من وارثه) لأنه لم يؤمر بذلك، ولا يقتضيه العُرف، لا يقال: الوارث قائم مقام المورث، فهو كالوكيلِ؛ لأن الوكيل إذا دفع بإذنه جرى مجرى تسليمه، وليس الوارث كذلك، فإن الحق انتقل إليه، واستحقَّت المطالبة عليه، لا بطريق النيابة عن المورث، ولهذا لو حلف: لا يفعل شيئًا، حنث بفعل وكيله دون مورثه.

(وإن قال) الموكِّل: (اقبضْ حقي الذي عليه، أو) اقبض حقي الذي (قِبَله) أو في جهته (فـ) ــللوكيل القبض (منه، أو من وارثه) لأن الوكالة اقتضت قبض حقه مطلقًا، فشمل القبض من الوارث. (وإن قال) الموكِّل:(اقبضْه) أي: الحق (اليوم، لم يملك) الوكيل (قبضه غدًا) لتقييد الوكالة بزمن معين؛ لأنه قد يختص غرضه في زمن حاجته إليه.

ص: 451

(وله) أي: الوكيل (إثبات وكالته مع غيبة موكِّله) فيقيم البينة بلا دعوى، كما يأتي في القضاء.

(وإن أمره بدفع ثوب إلى) نحو (قصَّار معيَّن، فدفعه) الوكيل (ونسيه، لم يضمنه) أي: الثوب؛ لأنه لم يُعدُّ مفرطًا، بل التفريط من الموكِّل (وإن أطلق المالك) ولم يعيّن قصَّارًا (ودفعه) الوكيل (إلى من لا يعرف عينه، ولا اسمه، ولا دكانه، ضمنه الوكيل؛ لتفريطه.

ولوكيل في شراء حنطة، أو) في شراء (طعام، شراءُ بُرٍّ فقط) لأن الحنطة هي البر، والطعام هو البر أيضًا، لكن هذا عُرف العراق سابقًا، و (لا) يملك شراء (دقيقه) لأن اللفظ لا يتناوله، ولا العُرف.

(وإن وكَّله في الإيداع، فأودع ولم يُشهد) الوكيل (لم يضمن) الوكيل (إذا أنكر المودَعُ) الإيداع؛ لعدم الفائدة في الإشهاد، لأن المودِع يُقبل قوله في الرَّدِّ والتلف، فلم يكن مفرِّطًا في عدم الإشهاد.

فإن قال الوكيل: دفعت المال إلى المودَع، فأنكر، قُبِل قول الوكيل؛ لأنهما اختلفا في تصرُّفه فيما وكِّل فيه، ذكره في "المبدع" و"شرح المنتهى".

(وإن وَكَّل) مدين (مودَعًا، أو غيره في قضاء دين) عنه (ولم يأمره) الموكِّل (بإشهاد، فقضاه) الوكيل (في غيبته) أي: الموكِّل (ولم يُشهِد) على القضاء (فأنكر

(1)

الغريم، ضمن الوكيل) لأنه مفرِّط، حيث لم يُشهِد (قال القاضي وغيره) من الأصحاب:(سواء صدَّقه الموكِّل) في القضاء (أو كذَّبه) لأنه إنما أذن في قضاء مبرئ، ولم يوجد (كما لو أمره بالإشهاد، فلم يفعل) أي: يُشهِد، فيضمن لمخالفته (إلا أن يقضيه)

(1)

في متن الإقناع (2/ 225): "فأنكره".

ص: 452

الوكيل (بحضرة الموكِّل) فإنه لا يضمن؛ لأن حضوره قرينة رضاه بالدفع بغير بينة (أو) إلا أن (يأذن) الموكِّل (له) أي: للوكيل (في القضاء بغير إشهاد) فلا يضمن؛ لأنه ممتثل، فلا يُنسب إليه تفريط.

(وإن) أشهد فماتوا، أو غابوا، فلا ضمان عليه؛ لعدم تفريطه.

وإن أشهد بينةً فيها خلاف، فوجهان.

فإن (قال) الوكيل: (أشهدْتُ فماتوا) أي: الشهود، أو غابوا (أو) قال الوكيل للموكِّل:(أذنتَ فيه) أي: القضاء (بلا بينة، أو) قال الوكيل للموكل: (قضيتُ بحضرتك، فأنكر الموكِّل) ذلك (فقوله) أي: الموكِّل، بيمينه؛ لأن الأصل عدم ذلك، وتقدم في الضمان، والقول في الرهن نحوه

(1)

.

فصل

(والوكيل أمين، لا ضمان عليه فيما تلف في يده، من ثمن ومثمن وغيرهما، بغير تفريط ولا تعدٍّ) لأنه نائب المالك في اليد والتصرُّف، فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد المالك، كالمودَع (سواء كان بجُعل أم لا) حتى لو كان له دين، ولآخر عليه دَين، فوكَّله في قبْض دَينه، وأذن له أن يستوفي حقه منه، فتلف المال قبل استيفائه، فإنه لا يضمنه، نصَّ عليه أحمد في رواية مثنىً الأنباري

(2)

. ذكره في القاعدة الثالثة

(1)

(8/ 245، 8/ 174، 199).

(2)

هو مثنى بن جامع، أبو الحسن الأنباري، قال الخلال: كان مثنىً ورعًا جليل القدر

وكان أبو عبد الله يعرف قدره وحقه، ونقل عنه مسائل حسانًا. تاريخ بغداد (13/ 173)، وطبقات الحنابلة (1/ 336)، والمقصد الأرشد (3/ 19)، والمنهج الأحمد (2/ 158) ولم يذكروا سنة وفاته.

ص: 453

والأربعين

(1)

.

(فلو قال) الوكيل: (بعتُ الثوبَ، وقبضتُ الثمن؛ فتلف. فأنكره) أي: البيع (الموكِّل، أو قال) الموكِّل: (بعته، ولم تقبض شيئًا) فقول وكيل بيمينه؛ لأنه يملك البيع والقبض، فقُبِل قوله فيهما كالولي، ولأنه أمين وتتعذَّر إقامة البينة على ذلك فلا يكلَّفها، كالمودع.

(أو اختلفا) أي: الوكيل والموكِّل (في تعديه، أو تفريطه في الحفظ، أو) اختلفا في (مخالفة) الوكيل (أمر موكِّله) فقول وكيل بيمينه؛ لأن الأصل براءته، فدعوى التعدي والتفريط (مثل أن يدَّعي) الموكِّل:(أنك حملت على الدابة فوق طاقتها، أو حملت عليها شيئًا لنفسك، أو فرَّطت في حفظها، أو لبست الثوب) ونحو ذلك (أو) قال الموكِّل للوكيل: (أمرتُكَ بردِّ المال، فلم تفعل) ذلك (أو ادَّعى) الوكيل (الهلاك من غير تفريط، ونحو ذلك) وأنكره الموكِّل (فقول وكيل مع يمينه) لأنه أمين.

(وكذا) أي: كالوكيل في ذلك (كل من كان بيده شيء لغيره على سبيل الأمانة، كالأب والوصي، وأمين الحاكم، والشريك، والمضارب، والمرتَهِن، والمستأجر) والمودَع، يُقبل قولهم في التلف، وعدم التفريط، والتعدي.

(ويُقبل إقراره) أي: الوكيل (بأنه تصرف في كل ما وُكِّلَ فيه) لأن من ملك شيئًا، ملك الإقرار به (ولو) كان وكِّل (في عقد نكاح) وأقر بالعقد، قُبل منه كغيره.

(ولو وَكَّله في شراء عبد، فاشتراه، واختلفا في قدر الثمن، فقال)

(1)

القواعد الفقهية، ص/ 59 - 60.

ص: 454

الوكيل: (اشتريته بألف، فقال الموكِّل: بل بخمسمائة، فقول الوكيل) لأنه أمين، وأدرى بما عقد عليه.

(وإن اختلفا في ردِّ عين) وكِّل فيها (أو) في ردِّ (ثمنها إلى موكِّل، فقول وكيل مع يمينه، إن كان) الوكل (متبرعًا) بعمله؛ لأنه قبض المال لنفع مالكه فقط، فقُبل قوله فيه، كالوصي والمودَع المتبرع (وكذا وصيٌّ، وعامل وقف، وناظره) إذا كانوا (متبرعين) فالقول قولهم بيمينهم (لا) إن كانوا (بجعلٍ فيهن) أي: في مسائل دعوى الوكيل، والوصي، وعامل الوقف وناظره، إذا ادعوا رد العين (وأجير ومستأجر) ونحوه من كل من قبض العين لحظِّه، فلا تُقبل دعواه الرد. وتقدم في الرهن

(1)

، كالمستعير.

(ولا يُقبل قول وكيل في ردِّه) أي: ما ذكر من العين، أو الثمن (إلى ورثة موكِّل) لأنهم لم يأتمنوه.

(ولا) يُقبل قول (ورثة وكيل في دفعه إلى موكله) لأنه لم يأتمنهم (أو) أي: ولا يُقبل قول ورثة الوكيل في الرد إلى (ورثته) أي: الموكِّل؛ لما تقدم.

(ولا) يُقبل (قول وكيل في دفع مال الموكِّل إلى غير من ائتمنه بإذنه) بأن دفع إليه دينارًا مثلًا ليقرضه لزيد، ويقول الوكيل: دفعته إلى زيد، وينكره، لأنه ليس أمينًا للمأمور بالدفع إليه، فلا يُقبل قوله في الرد إليه، كالأجنبي.

قال في "الفروع": فلا يُقبل قوله في دفع المال إلى غير ربه، وإطلاقهم: ولا في صَرْفه في وجوه عينت له من أجرة لزمته، وذكره

(1)

(8/ 199 - 200، 206).

ص: 455

الأَدَمي

(1)

البغدادي. انتهى. وفي "القواعد"

(2)

: يُقبل قول الوكيل على الصحيح من المذهب، نص عليه

(3)

، واختاره أبو الحسن التميمي.

(وكذا) لا يُقبل (قول كلِّ من ادَّعى الردَّ إلى غير من ائتمنه) جزم به في "الرعاية الكبرى".

"فائدة": الوكيل في الضبط - مثل من وكَّل رجلًا في كتابة ما له وما عليه، كأهل الديوان - قوله أَولى بالقَبول من وكيل التصرُّف؛ لأنه مؤتمن على نفس الإخبار بما له وبما عليه. ونظيره إقرار كتَّاب الأموال وكُتَّاب السلطان بما على بيت المال، وسائر أهل الديوان بما على جهاتهم من الحقوق، من ناظر الوقف، وعامل الصدقة والخراج، ونحو ذلك؛ فإن هؤلاء لا يخرجون عن وكالة أو ولاية، ذكره في "الاختيارات"

(4)

.

(ومن ادَّعى من وكيل، ومرتَهِن، ومضارب، ومودَع التلف بحادث ظاهر، كحريق، ونهب جيش، ونحوه، لم يُقبل) قوله (إلا ببينة تشهد بـ) ــوجود (الحادث في تلك الناحية) لأنه لا تتعذَّر إقامة البينة عليه غالبًا؛ ولأن الأصل عدمه (ثم يُقبل قوله) أي: من ذكر من وكيل، ومرتَهِن، ومضارب، ومودَع (في التلف) بيمينه، بخلاف ما لو ادَّعى أحدهم التلف وأطلق، أو أسنده إلى أمر خفي، كنحو سرقة (وتقدم) ذلك (في الرهن)

(1)

هو أحمد بن محمد بن علي البغدادي، المقرئ الأَدَمي الحنبلي، سمع الموطأ على ابن حلاوة، سمع منه ابن رجب وقال: "كان صالحًا دينًا، أعاد بالمستنصرية

وصنف كتابًا في الفقه، وأجاز له جماعة من شيوخ الشام، توفي ببغداد سنة نيف وأربعين وسبعمائة، ودفن بمقبرة الإمام أحمد". وله كتاب "المنور في راجح المحرر" مطبوع. تاريخ ابن قاضي شهبة (2/ 1/ 657).

(2)

القاعدة الرابعة والأربعون، ص/ 63.

(3)

المصدر السابق.

(4)

ص/ 206.

ص: 456

مفصلًا

(1)

.

(و‌

‌لا ضمان) على وكيل (بشرط)

بأن قال له: وكلتك بشرط ضمان ما يتلف منك، فإذا تلف منه شيء بغير تفريط لم يضمنه؛ لأنه أمين، والشرط لاغٍ؛ لأنه ينافي مقتضى العقد.

(وإن قال وكيل، أو مضارب) لربِّ المال: (أذنتَ لي في البيع نَسَاء) أي: إلى أجل (أو) قال: أذنت لي (في الشراء بكذا، أو) قال وكيل: (أذنت لي في البيع بغير نقد البلد، فأنكره) الموكِّل (أو قال) الوكيل: (وكَّلتني في شراء عبد، فقال) الموكِّل: (بل) وكلتك (في شراء أَمَةٍ) فقول وكيل.

(أو اختلفا) أي: الوكيل والمضارب مع ربِّ المال (في صفة الإذن) في الوكالة، أو المضاربة (فقولهما) أي: الوكيل والمضارب بيمينهما؛ لأنهما أمينان في التصرف، فقُبل قولهما كالخياط.

(ولو وكل

(2)

في بيع) نحو (عبدٍ فباعه) الوكيل (نسيئة، فقال الموكِّل: ما أذنتُ) لك (في بيعه إلا نقدًا، فصدَّقه الوكيل والمشتري) في ذلك (فسد البيع) للمخالفة (وله) أي: الموكِّلُ (مطالبة من شاء منهما) أي: الوكيل والمشتري (بالعبد إن كان باقيًا، وبقيمته إن تلف) أما طلبه للوكيل فلكونه أحال بينه وبين ماله، وأما للمشتري فلوضعه يده على ماله بغير حق، والقرار على المشتري.

(فإن أخذ) الموكِّل (القيمة من الوكيل، رجع) الوكيل (على المشتري بها) أي: بالقيمة؛ لحصول التلف في يده (وإن أخذها) أي:

(1)

(8/ 188).

(2)

في "ذ" ومتن الإقناع (2/ 437): "وكَّله".

ص: 457

أخذ الموكِّل القيمة (من المشتري، لم يرجع) المشتري (على أحد) بها لاستقرارها عليه.

(وإذا قبض الوكيل ثمن المبيع) حيث جاز له كما يُعلم مما سبق (فهو أمانة في يده، لا يلزمه تسليمه قبل طلبه، ولا يضمنه) إذا تلف (بتأخيره) كالوديعة، بخلاف الثوب الذي أطارته الريح إلى داره؛ لأن الوكيل مأذون في القبض صريحًا أو ضمنًا، بخلاف صاحب الدار.

(فإن أخَّر) الوكيل (ردَّه) أي: الثمن (بعد طلبه) أي: الموكِّل الثمنَ (مع إمكانه) أي: الردِّ (فتلف) الثمن (ضمنه) الوكيل؛ لتعديه بإمساكه بعد الطلب، وتمكُّنه منه، وإن تلف قبل التمكُّن من ردِّه لم يضمنه؛ لأنه لا يُعدُّ مفرطًا.

(وإن) طلب الموكِّل الثمن من الوكيل، و (وعده) الوكيل (ردَّه

(1)

، ثم ادَّعى) الوكيل:(أني كنت رددته قبل طلبه) أي: الموكِّل (أو أنه) أي: الثمن (كان تلف) قبل طلبه (لم يُقبل قوله) لأنه رجوع عن إقرار بحق آدمي، فلم يُقبل (ولو) كان (ببينة) أقامها الوكيل؛ لأن وَعْده برده يتضمن تكذيبها.

(وإن صدَّقه الموكِّلُ) في أنه كان ردَّه، أو تلف (برئ) الوكيل؛ لاعتراف ربِّ الحق ببراءته.

(وإن لم يعِده) أي: يَعِد الوكيلُ الموكلَ (برده) أي: الثمن (لكن منعه) الوكيل (أو مطله) بالثمن (مع إمكانه، ثم ادَّعى الرَّدَّ أو التلف، لم يُقبل قوله) لأنه صار كالغاصب، فلا يبرأ بدعواه ذلك، لكن في دعوى التلف يُقبل منه، ويَغرم القيمة كالغاصب (لا) أن يدَّعي الوكيل ذلك

(1)

في متن الإقناع (2/ 437): "بردِّه".

ص: 458

(ببينة) فيعمل ببينته، ويبرأ إذا شهدت بالرَّد مطلقًا، أو بالتلف قبل المنع أو المطل، وإلا؛ ضمن كالوديع، ويأتي.

(وإن أنكر) الوكيل (قبض المال، ثم ثبت) القبض (ببينة، أو اعتراف) الوكيل به (فادَّعى) الوكيل (الرَّدَّ، أو التلف، لم يُقبل) قوله (ولو أقام) بالرد، أو التلف (بينة) لأنه كذَّبها بإنكار القبض ابتداء.

(فإن كان جحوده) أي: جحود الوكيل القبض بقوله: (إنك لا تستحق علي شيئًا، أو) بقوله: (ما لك عندي شيء) أو نحوه، مما ليس بصريح في إنكار القبض ابتداء (سُمع قوله) أي: قول الوكيل في دعوى التلف، أو الرد؛ لأنه لا ينافي جوابه المذكور (إلا أن يدعي) الوكيل (رده، أو تلفه بعد قوله: ما لك عندي شيء) فلا يُسمع قوله، لمنافاته لجوابه، لكن في مسألة التلف يُقبل قوله بيمينه بالنسبة لغرم البدل، كما يأتي في الغاصب.

(وإن قال: وكَّلتني أن أتزوج لك فلانة، ففعلت) أي: تزوجتها لك (وصدَّقته المرأة) أنه تزوجها له (فأنكره) أي: أنكر المدعى عليه أن يكون وكَّله، بأن قال: ما وكلتك (فقول المنكِر) لأنهما اختلفا في أصل الوكالة، فقُبِل قول المنكِر؛ لأن الأصل عدمها، ولم يثبت أنه أمينه حتى يقبل قوله عليه (بغير يمين) نص عليه

(1)

؛ لأن الوكيل يدعي حقًّا لغيره، ومقتضاه أنه يستحلف إذا ادعته المرأة. صرَّح به في "المغني" و"الكافي" و"الشرح" و"الوجيز". ويأتي؛ لأنها تدعي الصداق في ذمته، فإذا حلف لم يلزمه شيء (ويلزمه) أي: الموكِّل (تطليقها، إن لم يتزوجها) لإزالة الاحتمال؛ لأنه يحتمل صحة دعواها، فيتنزل منزلة النكاح الفاسد.

(1)

المغني (7/ 217)، وانظر: مسائل ابن هانئ (1/ 197) رقم 983.

ص: 459

(ولا يلزم الوكيل شيء) من الصداق؛ لتعلُّق حقوق العقد بالموكِّل، هذا إن لم يضمنه؛ فإن ضمنه، فلها الرجوع عليه بنصفه لضمانه عنه.

(ولو مات أحدُهما لم يرثه الآخر) لأنه لم يثبت نكاحها فترثه، وهو منكِرٌ أنها زوجته، فلا يرثها.

(فإن ادعته) أي: النكاح (المرأة، فأنكره) المدَّعى عليه (حلف) المدَّعى عليه (وبرئ) لأن الأصل عدمه، وإنما حلف (لأنها تدَّعي الصداق في ذمته) وهو ينكره.

(ولو ادَّعى) إنسان (أن فلانًا الغائب وكَّله في تزويج امرأة، فتزوجها له، ثم مات الغائب، لم ترثه) أي: الغائب (المرأة) لعدم تحقق صحة النكاح، إذ لا يُقبل قوله أنه وكَّله (إلا بتصديق الورثة، أو) إلا أن (يثبت ببينة) أنه وكَّله، فترثه.

(وإن أقرَّ الموكِّل بالتوكيل في التزويج، وأنكر) الموكل (أن يكون الوكيل تزوج له؛ فالقول قول الوكيل، فيثبت التزويج) لأنه مأذون له، أمين، قادر على الإنشاء، وهو أعرف.

(وإن وكَّله أن يتزوَّج له امرأة فتزوج) الوكيل (له غيرها) لم يصح العقد للمخالفة (أو تزوَّج) إنسان (له) أي: لآخر (بغير إذنه، فالعقد فاسدٌ، ولو أجازه) المعقود له كبيع الفضولي.

(وإن ادَّعى البائع أنه باع مال غيره بغير إذنه، فأنكره المشتري) فقوله (أو قال المشتري) للبائع: (إنك بعت مال غيرك بغير إذنه، فأنكر البائع وقال: بل بعتُ ملكي، أو: بعتُ مال موكِّلي بإذنه، فقول المنكِر) بيمينه؛ لأنه يدَّعي صحة العقد، والآخر يدَّعي فساده، والظاهر الصحة.

ص: 460

(وإن اتفق البائع والمشتري على ما يبطل البيع) كعدم الإذن أو المعرفة بالمبيع، أو نحوه (وقال الموكِّل: بل البيع صحيح، فـ) ــالقول (قوله) لأنه يدعي الأصل وهو الصحة، ولا يُقبل إقرارهما عليه (ولا يلزمه رَدُّ ما أخذ من العوض) لأن الظاهر أنه قبضه بحق.

(ويجوز التوكيل بجُعْل معلوم) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث عُمَّالهُ لقبضِ الصَّدقاتِ، ويجعلُ لهم على ذلك جُعلًا

(1)

. ولأنه تصرف لغيره لا يلزمه، فهو كرد الآبق.

(و) يصح التوكيل أيضًا (بغير جُعل) إذا كان الوكيل جائز التصرف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكل أنيسًا في إقامة الحدِّ

(2)

، وعروة في شراء شاةٍ

(3)

، وعمرًا

(4)

وأبا رفعٍ

(5)

في قَبول النكاح بغير جُعلٍ.

(ويستحق) الوكيل (الجُعل مع الإطلاق) بأن قال: بع هذا، ولك كذا (قبل قبض) الوكيل (الثمن) لأن البيع يتحقق قبل قبضه (ما لم يشترط عليه الموكِّل) قبض الثمن، فلا يستحقه قبله؛ لعدم توفيته العمل.

(ولو قال) موكِّل: (بعْ ثوبي بعشرة، فما زاد فلك، صَحَّ) نص عليه

(6)

، ورواه سعيد عن ابن عباس بإسناد جيد

(7)

، ولأنها عين تنمى

(1)

تقدم تخريجه (5/ 127) تعليق رقم (4).

(2)

تقدم تخريجه (8/ 420) تعليق رقم (1).

(3)

تقدم تخريجه (7/ 321) تعليق رقم (1).

(4)

تقدم تخريجه (8/ 413) تعليق رقم (2).

(5)

تقدم تخريجه (6/ 161) تعليق رقم (4).

(6)

مسائل أبي داود ص/ 206.

(7)

لم نقف عليه في المطبوع من سننه. وأخرجه عبد الرزاق (8/ 234) رقم 15020، وابن أبي شيبة (6/ 105)، والبيهقي (6/ 121)، من طريق عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا. وذكره البخاري في الإجارة، باب 14، قبل حديث 2274 =

ص: 461

بالعمل عليها، فهو كدفع ماله مضاربة.

(ولا يصح) التوكيل (بجعل مجهول) لفساد العوض (ويصح تصرُّفه) أي: الوكيل (بـ) ــعموم (الإذن) في التصرُّف (وله) أي: الوكيل حينئذ (أجرة مثله) لأنه عمل بعوض لم يسلم له.

(وإذا قال) ربُّ دين (لرجل) مدين له: (اشترِ لي بديني عليك طعامًا) أو غيره ففعل، لم يصح؛ لأنه لم يملكه إلا بقبضه.

(أو) قال الرجل: (أسلفني) وفي بعض النسخ: "أسلف لي"(ألفًا من مالك في كُرِّ طعام، ففعل) أي: فأسلف له ألفًا، كذلك (لم يصح) لأن المقترض لا يملك القرض إلا بقبضه، فلا يصح تصرُّفه فيه قبله، فلا يصح توكيله.

(فإن قال) لرجل: (اشترِ لي) كذا (في ذمتك) واقبضِ الثمن عني من مالك، صح (أو) قال:(أسلف لي ألفًا في كُرِّ طعامٍ، واقْبِضِ الثمن عني من مالك، أو) اقْبِض الثمن (من الدَّين الذي لي عليك، صح) لأنه وكَّله في الشراء والإسلاف، وفي الاقتراض منه، أو القبض من دينه والدفع عنه، وكل منها صحيح مع الانفراد، فكذا مع الاجتماع.

(ولو كان له على رجل دراهم، فأرسل إليه رسولًا يقبضها، فبعث إليه مع الرسول دينارًا فضاع) الدينار (مع الرسول، فـ) ــالدينار (من مال باعث) وهو المدين فيضيع عليه (لأنه) أي: المرسل (لم يأمره) أي: الوكيل (بمصارفته

(1)

، إلا أن يُخبر الرسولُ الغريمَ أن ربَّ الدَّين أذن له في

= معلقًا بصيغة الجزم، بلفظ:"لا بأس أن يقول: بع هذا الثوب، فما زاد على كذا وكذا فهو لك".

(1)

في "ح" زيادة: "عنه".

ص: 462

قبض الدينار عن الدراهم، فيكون) الدينار (من ضمان الرسول) لتغريره الغريم.

(ولو كان لرجل عند آخر دنانير وثياب، فبعث إليه رسولًا، فقال) ربُّ الدنانير والثياب: (خذْ دينارًا وثوبًا، فأخذ دينارين وثوبين، فضاعت) المأخوذات (فضمان الدينار والثوب الزائدين على الباعث، أي: الذي أعطاه الدينارين والثوبين، ويرجع) الباعث (به) أي: الزائد من الدينار والثوب (على الرسول) ذكره في "المغني" و"المستوعب" و"المبدع"؛ لأنه دفع إليه مال غيره بغير إذنه، فضمنه لربه، وعزاه في "المغني" إلى رواية مهنَّا

(1)

.

وفي "القواعد"

(2)

: يضمن المرسل لتغريره، ويرجع هو على الرسول. وعزاه إلى رواية مُهنَّا، واقتصر عليه في "الإنصاف" في الحوالة، وجزم به في "المنتهى".

وللموكِّل تضمين الوكيل؛ لأنه تعدَّى بقبض ما لم يؤمر بقبضه، فإن ضمنه لم يرجع على آخذه

(3)

؛ لاستقرار الضمان عليه؛ لحصول التلف تحت يده.

(وإذا وكَّله في قبض زوجته ونَقْلها إلى داره، أو) وكَّله (في بيع عبده، أو) وكَّله (في قبض دار له في يد رجل، ثم غاب) الموكِّل (فأقامت الزوجة البينة أنه طلقها، و) أقام (العبد) البينة (أنه أعتقه، و) أقام (من في يده الدار) البينة (أنه ملكها منه) أو وقفها عليه (زالت الوكالة) لزوال

(1)

المغني (7/ 223)، والقواعد لابن رجب، القاعدة الثالثة والتسعون، ص/ 225.

(2)

ص/ 225.

(3)

في "ح": "على أحد".

ص: 463

محلها.

(وإن وكَّله في عتق عبده، ثم كاتبه سيده) الموكِّل في عتقه (انعزل الوكيل) لأن ذلك دليل رجوعه.

(ولو باع له وكيله ثوبًا) أو نحوه (فوهب له) أي: للوكيل (المشتري مِنديلًا) - بكسر الميم - أو نحوه (في مدة الخيارين، فهو) أي: المِنديل (لصاحب الثوب) نص عليه

(1)

(لأنه زيادة في الثمن) في مدة الخيارين (فلحق به) أي: بالثمن، وكذا عكسه. وعُلم منه: أنه لو وهبه شيئًا بعد مدة الخيارين، أنه للموهوب له.

فصل

(وإن كان عليه) أي: على إنسان (حق) من دَين، كثمن، وقيمة متلف (أو عنده وديعة لإنسان، فادَّعى آخر أنه وكيل صاحبه في قبضه) الدين، أو الوديعة (فصدَّقه) المدين، أو الوديع (لم يلزمه الدفع إليه) لأن عليه فيه تبعة؛ لجواز أن ينكر الموكِّل الوكالة فيستحق عليه الرجوع، إلا أن تقوم به بينة.

(وإن كذَّبه) أي: كذَّب المدين، أو الوديع مدَّعي الوكالة (لم يُستحلَف) لعدم فائدة استحلافه، وهي الحكم عليه بالنكول (كدعوى) إنسان (وصية به) أي: بالدين أو الوديعة، فلا يلزم المدينَ ولا المودَع الدفع إليه إن صدَّقه، ولا الحلف إن كذَّبه، لما تقدم.

(فإن دفع) المدين أو الوديع (إليه) أي: إلى مدَّعي الوكالة (فأنكر صاحب الحق الوكالة، حلف) صاحب الحق أنه لم يوكله؛ لأن الأصل

(1)

المغني (7/ 255).

ص: 464

عدمه (ورجع) صاحب الحق (على الدافع وحده) بدينه (إن كان) الحق (دينًا) لأن حقه في ذمته، ولم يبرأ منه بتسليمه إلي غير وكيله (و) يرجع (هو) أي: الدافع (على الوكيل) بما دفع له (مع بقائه، أو تعديه في تلف، أو تفريطـ) ــه حتى تلف؛ لاستقراره عليه بالتعدي أو التفريط.

(وإن لم يتعد) الوكيل (فيه) أي: فيما قبضه (مع تلفه) بيد الوكيل (لم يرجع الدافع) على الوكيل، حيث صدَّقه على دعوى الوكالة؛ لأنه يدعي أن ما أخذه المالك ظلم، ويُقرُّ بأنه لم يوجد من صاحبه تعدٍّ، فلا يرجع على صاحبه بظلم غيره، وإن كان دفع بغير تصديق رجع مطلقًا.

(وإن كان) المدفوع (عينًا، كوديعة ونحوها، فوجدها) ربُّها (أخذها) ممن هي بيده؛ لأنها عين حقه.

(وله مطالبة من شاء بردها) فإن شاء طالب الوديع؛ لأنه أحال بينه وبين ماله، وإن شاء طالب مدَّعي الوكالة؛ لأنه قبض عين ماله بغير حق (فإن طالب) ربُّ الوديعة (الدافع، فللدافع مطالبة الوكيل بها، وأخذها من يده) ليسلمها لربها، ويبرأ من عُهدتها إن كانت باقية.

(وإن كانت تالفة أو تعذَّر ردُّها؛ فله) أي، لربِّها (تضمين من شاء منهما) أي: من الدافع والقابض، لأن الدافع ضمنها بالدفع، والقابض قبض ما لا يستحقه.

(ولا يرجع بها من ضمَّنه على الآخر) لأن كلَّ واحد منهما يدَّعي أن ما أخذه المالك ظلم، ويُقرُّ بأنه لم يوجد من صاحبه تعدٍّ؛ فلا يرجع على صاحبه بظلم غيره (إلا أن يكون الدافع دفعها إلى الوكيل من غير تصديق، فيرجع) الدافع (على الوكيل) ذكره الشيخ تقي الدين

(1)

وفاقًا؛ لكونه لم

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 211 - 212.

ص: 465

يقر بوكالته، ولم تثبت ببينته. قال: ومجرد التسليم ليس تصديقًا.

(وإن ضمَّن) ربُّ الوديعة (الوكيلَ، لم يرجع على الدافع وإن صدَّقه) لاعتراف الوكيل ببراءته، وأنَّ ربَّ الحق ظلمه، فلا يرجع بظلمه على غير من ظلمه.

(لكن إن كان الوكيل تعدَّى فيها) أي: الوديعة (أو فرَّط، استقر الضمان عليه) ولو كان الدافع صدَّقه.

(فإن ضمن) ربُّ الوديعة الوكيل (لم يرجع على أحد) بما غرمه (وإن ضمن) ربُّ الوديعة (الدافع، رجع) الدافع (عليه) أي: على الوكيل.

(ولو شهد بالوكالة اثنان، فقال أحدهما) أي: أحد الشاهدين قبل الحكم بها: (قد عزله) الموكِّل (لم تثبت الوكالة) لأن رجوع الشاهد قبل الحكم يمنع الحكم بشهادته (فإن قاله) أي: قال: قد عزله (بعد حكم الحاكم بصحتها) ثبتت؛ لأن رجوعه بعد الحكم لا يرفعه، ولم يتم النصاب بعزله (أو قاله) أي قال: قد عزله (واحد غيرهما) أي: غير الشاهدين قبل الحكم أو بعده (ثبتت) الوكالة؛ لأنه قد تَمَّ النصاب بها، ولم يَتِمَّ بالعزل.

(فإن قالا جميعًا) أي: الشاهدان، أو قال اثنان غيرهما:(كان قد عزله، ثبت العزل) لتمام نصابه، وسواء كان ذلك قبل الحكم أو بعده.

(وإن شهد شاهد أنه وكَّله يوم الجمعة، و) شهد (شاهد أنه وكَّله يوم السبت) لم تتمَّ الشهادة؛ لأن التوكيل يوم الجمعة غير التوكيل يوم السبت، فلم تكمل شهادتهما على فعل واحد.

(أو شهد أحدهما أنه وكَّله بالعربية، و) شهد (آخر أنه وكَّله

ص: 466

بالعجمية) لم تتم الشهادة؛ لأن التوكيل بالعربية غير التوكيل بالعجمية، فلم تكمل الشهادة على فعل واحد.

(أو شهد أحدهما أنه قال) له: (وكَّلتُك. و) شهد (الآخر أنه قال) له: (أذنت لك في التصرُّف) لم تتم الشهادة.

(أو) شهد أحدهما أنه قال: وكَّلتك، والآخر (أنه قال: جعلتُك وكيلًا، أو جريًّا) قال في "الصحاح"

(1)

: الجَريُّ: الوكيل والرسول (لم تتم الشهادة) لأن اللفظ مختلف، فلم تكمل الشهادة على شيء واحد، وهذا معنى ما ذكره في "المغني" وغيره هنا، وفيه مع ما يأتي في الشهادات تأمُّل.

(وإن شهد أحدُهما) أي: أحد الشاهدين (أنه أقرَّ بتوكيله يوم الجمعة، وشهد الآخر أنه أقرَّ) بتوكيله (يوم السبت) كَمُلت؛ لأن الإقرارين بعقد واحد، ويشق جمع الشهود ليقر عندهم حالة واحدة.

(أو شهد) أحدهما (أنه أقرَّ عنده بالوكالة بالعجمية، و) شهد (الآخر أنه أقرَّ بها) أي: الوكالة (بالعربية) كملت لعدم التنافي.

(أو شهد أحدهما أنه وكَّله، و) شهد (الآخر أنه أذِنَ له في التصرُّف) كملت؛ لاتحاد المعنى، وهذا بخلاف ما تقدم؛ لأنهما هناك اتفقا على اتحاد الصيغة واختلفا فيها؛ وهنا لم يتعرضا للصيغة.

(أو قال أحدهما) أي: الشاهدين: (أشهدُ أنه) أي: الموكِّل (أقرَّ عندي أنه وكَّله، وقال) الشاهد (الآخر: أشهدُ أنه أقرَّ عندي أنه جريُّه)

(2)

)

(1)

(6/ 2302).

(2)

الجري: الوكيل. القاموس المحيط ص/ 1270، مادة (جرى).

ص: 467

تمت الشهادة بالوكالة؛ لعدم التنافي؛ لما سبق.

(أو) شهد أحدهما أنه أقرَّ أنه وكَّله، والآخر أنه أقرَّ (أنه أوصى إليه بالتصرف في حياته، تمت الشهادة، وثبتت الوكالة بذلك) لعدم التنافي؛ لإمكان تعدد الإقرار.

(وإن شهد أحدُهما أنه وكَّله في بيع عبده، وشهد) الشاهد (الآخر أنه وكَّله وزيدًا) لم تتم الشهادة للتنافي.

(أو شهد) أحدهما (أنه وكَّله في بيعه) أي: العبد (وقال) الشاهد الآخر: وكَّله في بيعه، وقال:(لا تبعه حتى تستأمرني، أو) حتى (تستأمر فلانًا، لم تتم الشهادة) ولم تثبت الوكالة للتنافي؛ لأن الأول أثبت استقلاله بالبيع، والثاني ينفي ذلك.

(وإن شهد أحدهما أنه وكَّله في بيع عبده، و) شهد (الآخر أنه وكَّله في بيع عبده وجاريته، حكم بالوكالة في العبد) لتمام النصاب بالنسبة إليه، وله أن يحلف مع الشاهد الثاني. وتثبت الوكالة - أيضًا - في الجارية. وإن لم يحلف؛ فلا.

(وكذا إن

(1)

شَهِد أحدهما أنه وكَّله في بيعه لزيد، و) شهد (الآخر أنه وكَّله في بيعه لزيد، وإن شاء) فله بيعه (لعمرو) فيحكم بالوكالة في بيعه لزيد، وإن حلف مع الآخر ثبتت - أيضًا - وإلا؛ فلا؛ لأن الشهادة في الوكالة في المال تثبت بما يثبت به المال، ويأتي.

(ولا تثبت الوكالة و) لا (العزل بخبر واحد) بل باثنين في غير المال وما يقصد به، ويأتي أن الوكالة فيه تثبت بما يثبت هو به. وفي "المغني": العزل لا يثبت إلا بما يثبت به التوكيل.

(1)

في متن الإقناع (2/ 442): "لو".

ص: 468

(فإن شهد اثنان) حِسبةً (بلا دعوى الوكيل: أن فلانًا الغائب وكَّل فلانًا الحاضر، فقال الوكيل: ما علمتُ هذا، وأنا أتصرَّف عنه، ثبتت الوكالة) لأن معنى: "ما علمتُ هذا" أي: أنه وكَّلني، وذلك ليس تكذيبًا لهما؛ لأنه قبل شهادتهما لم يعلمه، وبها علمه.

(وإن قال) المشهود له: (ما أعلم صدق الشاهدين، لم تثبت وكالته) لتكذيبه شاهديه.

(وإن قال) المشهود له: (ما علمتُ، وسكتَ، قيل له: فسِّرْ، فإن فَسَّرَ بالأول) أي: أنه ما علم هذا، وأنه يتصرَّف (ثبتت) لما تقدم (وإن فَسَّرَ بالثاني) بأن قال: ما أعلم صدق الشاهدين (لم تثبت) الوكالة؛ لما سبق.

(وتقبل شهادة الوكيل على موكِّله) لعدم التُّهمة، كشهادة الأب على ولده وأوْلى.

(و) تقبل شهادة الوكيل (له) أي: لموكِّله (فيما لم يوكِّله فيه) لأنه أجنبي بالنسبة إليه (فإن شهد) الوكيل (بما كان وكيلًا فيه بعد عزله) من الوكالة (لم تُقبل) شهادته (أيضًا، سواء كان) الوكيل (خاصم فيه بالوكالة، أو لم يخاصم) لأنه بعقد الوكالة صار خصمًا فيه، فلم تُقبل شهادته فيه، كما لو خاصم فيه.

(وإذا كانت أَمَة بين نفسين، فشهدا أن زوجها وكَّل) زيدًا (في طلاقها) لم تُقبل (أو شهدا بعزل الوكيل في الطلاق، لم تقبل) شهادتهما لأنها تجرُّ نفعًا، أما في الأولى فلعود منفعة البُضع إليهما، وأما في الثانية فلبقاء النفقة على الزوج.

(ولا تُقبل شهادة ابن الرجل) له بالوكالة (ولا) شهادة (أبويه له

ص: 469

يالوكالة) ولا شهادة أبيه وابنه؛ لأنها شهادة فرع لأصل وعكسه.

(ويثبت العزل بها) أي: شهادة أبوي الموكِّل، أو ابنيه، أو أبيه وابنه (لأنهما يشهدان لمن لا يدَّعيها) أي: يطلبها، فهي كالشهادة عليه.

(فإن قبض الوكيل) الدَّين من الغريم (فحضر الموكِّل، وادَّعى أنه كان قد عزل الوكيل، وأن حقه باقٍ في ذمة الغريم، وشهد له ابناه) أي: الموكِّل، أو أبواه، أو أبوه وابنه (لم تُقبل شهادتهما) لأنها شهادة فرع لأصله، وبالعكس.

(وإن ادَّعى مُكاتَب الوكالة، فشهد له سيده، أو ابنا سيده، أو أبواه، لم تُقبل) شهادتهما؛ لأنها شهادة مالك لرقيقه، أو شهادة فرع أو أصل لرقيق أصله، أو فرعه.

(وإذا حضر رجلان عند الحاكم، فأقرَّ أحدهما أن الآخر وكَّله) يعني: قال أحدهما: إنه وكَّل الآخر (ولم يسمعه) أي: الإقرار (شاهدان مع الحاكم، ثم غاب الموكِّل وحضر الوكيل، فقدَّم خصمًا لموكِّله، وقال: أنا وكيل فلان، فأنكر الخصم كونه وكيلًا، لم تُسمع دعواه حتى تقوم البينة بوكالته؛ لأن الحاكم لا يحكم بعلمه) في غير تعديل وجرح، ويأتي في القضاء: يحكم بعلمه بالإقرار في مجلس حكمه، وإن لم يسمعه معه غيره. لكن إقراره بالوكالة توكيل وليس إقرارًا؛ لأنه لم يظهر حقًا عليه، وإنما هو إشهاد. فليس مما يأتي.

(ولو حضر رجلٌ) قاضيًا (وادَّعى على غائب مالًا في وجه وكيله فأنكره) الوكيل (فأقام) المُدَّعي (بينة بما ادَّعاه) من الدَّين (حلَّفه الحاكم) - على رواية تأتي في القضاء - استظهارًا (وحكم له بالمال) ويأتي: أنه لا يحلف مع البينة التامة.

ص: 470

(فإذا حضر الموكِّل وجَحَدَ الوكالة) لم يؤثر في الحكم، أو حضر (وادَّعى أنه كان قد عزله لم يؤثر ذلك في الحكم) لأن القضاء على الغائب صحيح، وإن لم يكن وكيل.

(وإن ادَّعى) إنسان (أن صاحب الحق) أي: الدَّين (أحاله به) على الغريم (فكدعوى وكالة، و) دعوى (وصية على ما تقدم) فإن صدَّقه لم يلزمه الدفع إليه، وإن كذَّبه لم يستحلف؛ لأن الدفع إليه غير مبرئ؛ لاحتمال أن ينكر المُحيل الحوالة، فهو كدعوى الوكالة والوصية. وعنه

(1)

: يلزمه الدفع إليه؛ لأنه معترف أن الحق انتقل إليه أشبه الوارث.

ورُدَّ: بأن وجوب الدفع إلى الوارث؛ لكونه مستحقًّا، والدفع إليه مبرئ، فإنه أقرَّ أن لا حقَّ لسواه، بخلافه هنا، فإلحاقه بالوكيل أَولى.

وتُقبل بينة المحال عليه على المُحيل، فلا يطالبه، وتُعاد لغائب محتال بعد دعواه، فيقضي له بها إذن، قاله في "المبدع".

وإن دفع المُدَّعى عليه الحوالة للمدَّعي ما ادعاه بلا إثباتها، ثم أنكرها ربُّ الحق، رجع على الغريم، وهو على القابض مطلقًا، صدَّقه أو لا، تلف في يده أو لا؛ لأنه قبضه على أنه مضمون عليه.

(وإن ادَّعى) إنسان: (أنه) أي: ربُّ الحق (مات، وأنا وارثه، لا وارث له غيري، لزمه) أي: الغريم (الدفع إليه مع التصديق) لأنه مُقرٌّ له بالحق، وأنه يبرأ بهذا الدفع، فلزمه، كما لو جاء صاحب الحق.

و (لا) يلزمه الدفع مع (الإنكار) أنه مات، أو أنه وارثه لا وارث له

(1)

لم نقف على هذه الرواية عن الإمام أحمد، وإنما فيها وجهان للأصحاب كما في الهداية (1/ 211)، والمغني (7/ 261) والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف (13/ 567)، والفروع (4/ 373).

ص: 471

غيره (ويلزمه) أي: الغريم (اليمين مع الإنكار أنه لا يعلم صحة ما قاله) لأنه حلف على نفي فعل الغير (عينًا كان) الحق (أو دينًا وديعة) كانت العين (أو غيرها) من عارية ومضاربة ونحوهما.

(ومن طُلبَ منه حقٌّ) من دين أو عين (وامتنع) المطلوب منه (من دفعه حتى يشهد القابض على نفسه بالقبض، وكان الحق عليه) أي: المطلوب منه (بغير بينة، لم يلزم القابض الإشهاد) ولم يجز للمطلوب منه التأخير لذلك؛ لأنه لا ضرر عليه في الدفع حتى يطلب زواله؛ لأنه متى ادَّعى عليه، قال: لا يستحق عليَّ شيئًا. ويُقبل قوله مع يمينه.

(وإن كان الحقُّ ثبت ببينة، وكان مَن عليه الحق يُقبل قوله في الرَّدِّ كالمودَع، والوكيل بغير جُعْل) والوصي بغير جُعْل (فكذلك) لا يلزم القابض الإشهاد على نفسه بالقبض، ولا للمطلوب منه التأخير لذلك؛ لما تقدم.

(وإن كان) مَن عليه الحق (ممن لا يُقبل قوله في الرَّدِّ، أو) كان ممن هو (مختَلَف

(1)

في قَبول قوله) في الرَّدِّ (كالغاصب، والمُستعير) والمقترض (والمُرتَهِن) والوصي، والوكيل بجعل، وكل من قبض العين لحظِّ نفسه (لم يلزمه تسليم ما قبله) من دين أو عين (إلا بالإشهاد) على القابض بالقبض؛ لحديث:"لا ضرر ولا ضرار"

(2)

.

(ومتى أشهد) القابض (على نفسه بالقبض، لم يلزم) القابض (تسليم الوثيقة بالحق إلى مَن عليه الحق) لأنها ملكه؛ فلا يلزمه دفعها، وكذا من باع عقارًا ونحوه وبه وثيقة لا يلزمه دفعها للمشتري (وتقدم

(1)

في متن الإقناع (2/ 444): "يُختلَف".

(2)

تقدم تخريجه (2/ 111) تعليق رقم (1).

ص: 472

بعضه في الرهن

(1)

.

وإذا شهد بالوكالة رجل وامرأتان، أو) شهد (شاهد) بها (وحلف) مدَّعي الوكالة (معه، ثبت ذلك، إن كانت الوكالة في المال) أو ما يُقصد به المال؛ لأن الوسائل لها حكم

(2)

المقاصد.

(ومن أخبر بوكالةٍ، وظُنَّ صدقه) أي: صدق مخبره (تصرَّف) اعتمادًا على غلبة ظنه.

(و) إذا تصرَّف وأنكر المخبر عنه (ضَمِن) الوكيل ما فات بتصرُّفه، إن لم تثبت وكالته؛ لتبين أنه تصرَّف بغير حق.

(1)

(8/ 209).

(2)

في "ح": "أحكام".

ص: 473

‌كتاب الشركة

بوزن سَرِقة، وتَمرة، ونِعْمة، وهي جائزة بالإجماع

(1)

؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية

(2)

والخُلطاء: هم الشُّركاء. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله: أنا ثالث الشريكين، ما لم يَخُنْ أحدُهما صاحبه، فإذا خانه خرجتُ من بينهما" رواه أبو داود من حديث أبي هريرة

(3)

، وإسناده ثقات.

(1)

الإجماع لابن المنذر ص/ 122، ومراتب الإجماع لابن حزم ص/ 160، والإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان (3/ 1622).

(2)

سورة (ص)، الآية:24.

(3)

في البيوع والإجارات، باب 27، حديث 3383. وأخرجه - أيضًا - الدارقطني (3/ 35)، والحاكم (2/ 52)، والبيهقي (6/ 78)، والخطيب في تاريخه (4/ 316)، والمزي في تهذيب الكمال (10/ 401) من طريق محمد بن سليمان المصِّيصي - المعروف بِلُوَين - عن أبي همام محمد بن الزبرقان، عن أبي حيان بن سعيد بن حيان، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

قال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 61): رواه أبو داود بإسناد جيد. وقال ابن الملقن في البدر المنير (6/ 721): هذا الحديث جيد الإسناد.

وأعله ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (4/ 490)، والذهبي في ميزان الاعتدال (2/ 132) بجهالة والد أبي حيان. فتعقبهما ابن الملقن في البدر المنير (6/ 722) وابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 49) بأنه قد ذكره ابن حبان في الثقات، وذكر أنه روى عنه أيضًا الحارث بن يزيد. وقال ابن الملقن: وروى عنه القاضي شريح أيضًا. وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب (4/ 19): "وقال العجلي: كوفي ثقة، ولم يقف ابن القطان على توثيق العجلي فزعم أنه مجهول".

وقال ابن عبد الهادي في المحرر ص/ 325: وقد قيل: إنه منكر. =

ص: 475

(وهي) نوعان: (اجتماع في استحقاق أو) اجتماع في (تصرف.

و) النوع (الأول: شركة في المال) كاثنين ملكا عينًا بمنافعها بإرث، أو شراء، أو هبة، ونحوها، أو ملكا الرقبة دون المنفعة، أو بالعكس. ويلحق بذلك ما إذا اشتركا في حق الرقبة، كما لو قذفهما إنسان بكلمة واحدة، فإنه يحدُّ لهما حدًّا واحدًا، ويأتي.

(و) النوع (الثاني: شركة عقود، وهو المراد هنا) بالترجمة.

(و‌

‌تكره معاملة مَن في ماله حلالٌ وحرامٌ يُجهل)

وكذا إجابة دعوته، وأكل هديته، وصدقته، ونحوها، ويأتي في الوليمة، وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلَّته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من اتقى الشُّبهات فقد

= وأخرجه الدارقطني (3/ 35) عن جرير بن عبد الحميد الضبي، عن أبي حيان التيمي، عن أبيه، مرسلًا.

قال لُوَين كما في سنن الدارقطني: لم يسنده إلا أبو همام وحده. وزاد في تهذيب الكمال: "وهو منكر" ووقع مكانها في تاريخ بغداد: "وهو ثَبْت".

قال الدارقطني في العلل (11/ 7): يرويه ابن حيان التيمي واختُلف عنه، فوَصَله أبو همام الأهوازي، عن أبي حيان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفه جرير بن عبد الحميد وغيره، رووه عن أبي حيان، عن أبيه، مرسلًا، وهو الصواب.

وقال ابن الملقن في البدر المنير (6/ 722): أبو همام هو محمد بن الزبرقان السالف، وهو ثقة، فيأتي فيه ما في تعارض المرسل مع المتصل، وله شاهد من حديث حكيم بن حزام، أخرجه الأصبهاني في ترغيبه وترهيبه [1/ 456 حديث 818] من حديث أبي الخليل عنه مرفوعًا:"البيعان بالخيار، ويد الله على الشريكين، ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن صدقا وبيَّنا وجبت البركة بينهما، وإن كتما وكذبا محقت البركة من بيعهما".

قلنا: هكذا وقع إسناده في الترغيب والترهيب: عبد الله بن الحارث، عن أبي الخليل، عن حكيم! وهذا إسناد مقلوب، وصوابه: عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام. هكذا أخرجه البخاري في البيوع، باب 19، حديث 2079، ومسلم في البيوع، حديث 1532، دون قوله:"ويد الله على الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه".

ص: 476

استبرأ لدينه وعرضه" الحديث

(1)

.

(و) تُكره (مشاركة مجوسي، ووثني، ومن في معناه) ممن يعبد غير الله تعالى، وظاهره: ولو كان المسلمُ يلي التصرفَ. قال أحمد في المجوسي: ما أُحب مخالطته ومعاملته؛ لأنه يستحلُّ ما لا يستحلُّ هذا

(2)

.

(وكذا) تُكره (مشاركة كتابي، ولو غير ذمي؛ لأنه يعمل بالربا، إلا أن يلي المسلم التصرُّف) فلا تُكره؛ للأمن من الربا، ولما روى الخلال بإسناده عن عطاء، قال:"نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مشاركة اليهودي والنصراني إلا أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم"

(3)

.

(وهي) أي:‌

‌ شركة العقود (خمسة أقسام، لا يصح شيء منها إلا من جائز التصرف)

لأنها عقد على تصرُّف في مال، فلم تصح من غير جائز التصرُّف في المال كالبيع.

(أحدها: شركة العِنان) بكسر العين، سُميت بذلك؛ لأن الشريكين فيها يتساويان في المال والتصرُّف، كالفارسين إذا سوّيا

(4)

بين فرسيهما، وتساويا في السير.

وقال الفرَّاءُ

(5)

: مشتقة من "عنَّ الشيء" إذا عرض، يقال: "عنَّت

(1)

أخرجه البخاري في الإيمان، باب 39، حديث 52، وفي البيوع، باب 2، حديث 2051، ومسلم في المساقاة، حديث 1599، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.

(2)

أحكام أهل الملل من الجامع، للخلال (1/ 187) رقم 302 - 304.

(3)

أحكام أهل الملل من الجامع، للخلال (1/ 188) رقم 306. وأخرجه ابن أبي شيبة (6/ 9) عن عطاء وطاوس ومجاهد مرسلًا بنحوه.

(4)

في "ذ": "استويا".

(5)

انظر: الزاهر للأزهري ص/ 332.

ص: 477

لي حاجة" إذا عرضت، لأن كل واحد منهما قد عنَّ، أي: عرض له مشاركة صاحبه.

وقيل: من عانَّه، إذا عارضه، فكلٌّ منهما قد عارض صاحبه بمثل ماله وعمله.

قال في "المبدع": وقوله في "الشرح": إنه راجع إلى قول الفراء ليس بظاهر، وما قاله في "الشرح" هو في "المغني" أيضًا.

وهي جائزة إجماعًا، ذكره ابن المنذر

(1)

، وإن اختُلف في بعض شروطها، (بأن يشترك اثنان فأكثر بماليهما) خرج به المضاربة؛ لأن المال فيها من جانب، والعمل من آخر، بخلافها، فإتها تجمع مالًا وعملًا من كل جانب، لقوله:(ليعملا فيه) أي: المال (ببدنَيْهما، وربحه بينهما) على حسب ما اشترطاه (أو) يشترك اثنان فأكثر بماليهما على أن (يعمل) فيه (أحدُهما، بشرط أن يكون له) أي: العامل (من الربح أكثر من ربح ماله) ليكون الجزء الزائد في نظير عمله في مال شريكه.

(فإن شرط) صاحبه (له ربحًا قَدْر ماله) أي: العامل (فهو إبضاع لا يصح) لأنه عمل في مال الغير بغير عوض.

(وإن شرط له) صاحبه (أقلَّ منه) أي: من ربح ماله (لم يصح أيضًا؛ لأخذه جزءًا من ربح مال صاحبه بلا عمل) منه، لكن التصرُّف صحيح؛ لعموم الإذن، وله ربح ماله، ولا أُجرة له؛ لتبرُّعه بعمله.

(مما يدلُّ على رضاهما) متعلِّق بـ "يشترك" أو محذوف تقديره: وتنعقد (بمصيِّر) بتشديد الياء المكسورة (كل منهما) أي: المالين (لهما) أي: للشريكين، فقوله:"بمصيِّر" متعلق بقوله: "على رضاهما".

(1)

الإجماع ص/ 122، الإقناع لابن المنذر (1/ 268).

ص: 478

(ولها) أي: شركة العنان (شروط):

(منها: أن يكون المالان) المعقود عليهما (معلومين) فلا تصح على مجهولين للغرر (فإن اشتركا في) مال (مختلطٍ بينهما شائعًا) كمال ورثاه، أو اتهباه، ولم يعلما كميته (صحَّ) عقد الشركة (إن علما قَدْرَ مال كلٍّ منهما) فيه من نصف أو ربع ونحوه؛ لانتفاء الغرر بذلك.

(ومنها): أي: شروط الشركة (حضور المالين، كمضاربة) لتقرير العمل وتحقيق الشركة (فلا تصح) الشركة (على) مال (غائب، ولا) على مال (في الذمة) لأنه لا يمكن التصرُّف فيه في الحال، وهو مقصود الشركة، لكن إذا أحضراه وتفرَّقا

(1)

، ووجِدَ منهما ما يدل على الشركة فيه، انعقدت حينئذ (ولا) تصح الشركة (على مجهول) عن الطرفين أو أحدهما؛ لما تقدم.

(وهي) أي: الشركة التي وقع العقد فيها على مالين منهما؛ ليعمل فيه أحدهما بجزءٍ زائد عن ربح ماله (عنان) من حيث إن المال منهما (ومضاربة) من حيث إن العمل من أحدهما في مال غيره بجزء من ربحه، وإنما حَملتُ كلامه على هذا مع بُعْدِه؛ ليوافق كلام غيره من الأصحاب.

(ويغني لفظ الشركة عن إذْنٍ صريح) من كلٍّ منهما للآخر (في التصرُّف) لتضمنها للوكالة (وينفذ تصرُّف كلِّ واحد منهما) أي: الشريكين (في) جميع (المالين بحكم الملك في نصيبه، و) بحكم (الوكالة في نصيب شريكه) لأنه متصرِّف بجهة الإذن، فهو كالوكالة، فعلمت أن كلًّا من المالين يصير شركة بينهما بمجرد العقد، وإن لم يقع خلط بالفعل.

(1)

في "ح": "واتفقا".

ص: 479

(ومنها) أي: شروط الشركة (أي يكون رأس المال من النقدين المضروبين) لأنهما ثمن البياعات، وقيم الأموال، والناس يشتركون بهما من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمننا من غير نكير (فلا تصح شركة العنان، ولا المضاربة بعرض، ولو) كان العَرْض (مِثْليًّا) كَبُرٍّ وحرير؛ لأن قيمته ربما زادت قبل بيعه، فيشاركه الآخر في نماء العين التي هي ملكه.

(ولا) تصح الشركة ولا المضاربة (بقيمته) أي: العَرْض؛ لأن القيمة قد تزيد بحيث تستوعب جميع الربح، وقد تنقص بحيث يشاركه الآخر في ثمن ملكه الذي ليس بربح، مع أن القيمة غير متحققة المقدار فيفضي إلى التنازع.

(ولا) تصح شركة العِنان ولا المضاربة (بثمنه) أي: ثمن العَرْض (الذي اشترى به) لأنه معدوم حال العقد، و - أيضًا - قد خرج عن ملكه للبائع.

(ولا) تصح شركة عِنان ولا مضاربة (بثمنه) أي: ثمن العَرْض (الذي سَيُباع به) لأنه معدوم، ولا يملكه إلا بعد البيع.

(ولا) تصح شركة عِنان ومضاربة (بمغشوش) من النقد غشًّا (كثيرًا) عُرفًا؛ لأنه لا ينضبط غشُّه، فلا يتأتَّى ردُّ مثله؛ ولأن قيمتها تزيد وتنقص، فهي كالعروض (ولا فلوس ولو نافقة) لأنها عُروض (ولا نقْرَةٍ، وهي التي لم تضرب) لأن قيمتها تزيد وتنقص، فأشبهت العروض.

(ولا أثر هنا) أي: في شركة العِنان والمضاربة (و) لا (في الربا وغيرهما) كالصرف والقرض (لغشٍّ يسير لمصلحة، كحبة فضة ونحوها في دينار) لأنه لا يمكن التحرُّز منه.

(ومنها) أي: شروط شركة عِنان ومضاربة (أن يشترطا لكلِّ واحد

ص: 480

منهما جُزءًا من الربح مُشاعًا معلومًا: كنصف، أو ثلث، أو غيرهما) لأن الربح مستحقٌّ لهما بحسب الاشتراط، فلم يكن بُدٌّ من اشتراطه (سواءٌ شرطا لكلِّ واحد) منهما (على قَدْر مالِه من الربح، أو) شرطا (أقل) منه (أو أكثر) لأن الربح مستحقٌّ بالعمل، وقد يتفاضلان فيه؛ لقوة أحدهما وحذقه، فجاز أن يجعل له حظًّا من ربح ماله كالمضاربة.

(فإن قالا: الربح بيننا، تناصفاه) لأن الإضافة إليهما إضافة واحدة من غير ترجيح، فاقتضت التسوية؛ كقوله: هذه الدار بيني وبينك.

(وإن لم يذكراه) أي: الربح، لم يصح؛ لأنه المقصود من الشركة، فلا يجوز الإخلال به.

(أو شرطا لأحدهما، في الشَّركة والمضاربة جزءًا مجهولًا) كحظٍّ أو جزء، أو نصيب، لم يصحا؛ لأن الجهالة تمنع تسليم الواجب.

(أو) شرطا فيهما لأحدهما (دراهم معلومةً) لم يصحا؛ لأنه قد لا يربح غيرها فيأخذ جميع الربح، وقد لا يربح فيأخذ جزءًا من المال، وقد يربح كثيرًا فيتضرر من شُرطت له.

(أو) شرطا لأحدهما (ربحَ أحدِ الثوبين، أو) ربح (أحد السفرتين، أو ربحَ تجارته في شهرٍ) بعينه (أو) في (عام بعينه) لم يصحا؛ لأنه قد يربح في ذلك المعين دون غيره، أو بالعكس، فيختص أحدهما بالربح، وهو مخالف لموضوع الشركة.

(أو) شرطا لأحدهما (جزءًا وعشرةَ دراهمَ، أو جزءًا إلا عشرةَ دراهم) ونحوها، لم يصحَّا، كما لو شرط له مِثل ما شرط لزيد في شركة أخرى، وهما لا يعلمانه.

(أو دفَعَ إليه ألفًا مُضاربة، وقال) الدافعُ: (لك رِبحُ نصفِه، لم

ص: 481

يصحَّ العقدُ) لما تقدم.

(وكذا مساقاةٌ ومزارعة) قياسًا على الشركة، فيُعتبر لصحتها تسمية جزء مُشاع معلوم للعامل، ويأتي في بابه مفصَّلًا.

(ولا يُشترط) في شركة عنان (خَلْطُ المالين) لأنه عقد يقصد به الربح، فلم يُشترط فيه ذلك كالمضاربة؛ ولأنه عقد على التصرُّف، فلم يُشترط فيه الخلط كالوكالة.

(ولا) يُشترط أيضًا (اتفاقهما) أي: المالين (قدرًا، و) لا (جنسًا، و) لا (صفة) لأنهما أثمان، فصحت الشركة فيهما كالمتفقين.

(فلو نما أحدُهما) أي: المالين (قبل الخَلْط، أو خَسِر) أحدهما قبل الخلط (فـ) ــالنماء (لهما، و) الخسران (عليهما) لأن المال صار مختلطًا بمجرد العقد كما تقدم.

(ولو أخرج أحدهما) أي: الشريكين (دراهم، و) أخرج (الآخرُ دنانير، أو) أخرج (أحدهما مائةً، و) أخرج (الآخرُ مائتين، أو) أخرج (أحدُهما) دراهم (ناصرية) أي: ضَرْب الناصرِ محمد بن قلاوون

(1)

(و) أخرج (الآخر) دراهم (ظاهرية) نسبة للظاهر بيبرس

(2)

(صح) العقد لما تقدم.

(1)

هو السلطان الملك الناصر، محمد بن قلاوون بن عبد الله الصالحي. ولد سنة 684 هـ وجلس على سرير الملك سنة 693 هـ هـ، كان غاية في الكرم، وقورًا مهيبًا، يُعظِّم أهل العلم، توفي بالقاهرة سنة 741 هـ رحمه الله تعالى. انظر: النجوم الزاهرة (8/ 41)، والدرر الكامنة (4/ 144).

(2)

هو السلطان الظاهر، أبو الفتوح بيبرس بن عبد الله البندقداري الأيوبي التركي، وهو الرابع من ملوك الترك، ولد في حدود 620 هـ، وتولى سلطنة مصر والشام سنة 658. توفي في دمشق سنة 676 هـ رحمه الله تعالى. انظر: النجوم الزاهرة (7/ 94).

ص: 482

(وعند التراجع) بعد فَسْخ الشركة (يرجعان بما أخرجاه) أي: يأخذ كلٌّ منهما مثل ما أخرجه قَدْرًا وجنسًا وصفة، وما بقي فربح.

(وما يشتريه كلٌّ منهما) أي: الشريكين (بعد عقد الشركة، فـ) ــهو (بينهما) مشترك حيث لم ينوه لنفسه؛ لأن العقد وقع على ذلك، ولأنه أمينه ووكيله (وأما ما يشتريه) أحدُهما (لنفسه، فهو له) خاصة (والقول قوله في ذلك) أي: أنه اشتراه للشركة أو لنفسه؛ لأنه أعلم بنيته.

(وإن تلف أحدُ المالين) أو بعضه (ولو قبل الخَلْطِ، فـ) ــالتالف (من ضمانهما) معًا؛ لأن العقد أقتضى أن يكون المالان كالمال الواحد كنمائه؛ لصحة القسمة بالكلام، كخَرْص ثمار، فكذا الشركة. احتجَّ به أحمد

(1)

، قاله الشيخ تقي الدين

(2)

(والوضيعة) أي: الخسران، ولو في أحد المالين قبل الخلط، عليهما (على قَدْر المال) بالحساب؛ لأنها عبارة عن نقصان رأس المال، وهو مختص بالقَدْر، فيكون النقص منه دون غيره، وسواء كانت الوضيعة لتلف، أو نُقصان في الثمن، أو غير ذلك.

فصل

(و) يجوز (لكلٍّ منهما) أي: من الشريكين (أن يبيع، ويشتري مساومةً، ومرابحةً، وتوليةً، ومواضعةً) لأنه بالنسبة إلى شريكه وكيل، فملك ذلك كالوكيل (ويَقبِض) ثمنًا ومُثْمنًا (ويُقبِضَ) ذلك؛ لأنه مؤتمن في ذلك فملكها

(3)

، بخلاف الوكيل في قبض الثمن؛ فإنه قد لا يأمنه

(1)

انظر: كتاب التمام (2/ 45 - 46).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (30/ 91)، والفروع (4/ 396).

(3)

في "ذ": "فملكهما".

ص: 483

(ويُطالِبَ بالدَّين، ويخاصم فيه) لأن مَنْ ملك قَبْضَ شيء؛ ملك المطالبة والمخاصمة فيه، كالوكيل في قَبْض الدين.

(و) لكلٍّ منهما أن (يُحيل ويحتال) لأنهما عقد معاوضة وهو يملكهما

(1)

.

(ويؤجِرَ ويستأجرَ) من مال الشركة؛ لأن المنافع أُجريت مجرى الأعيان، فصار كالشراء والبيع، وله المطالبة بالأجر لهما، ودفعه عليهما؛ لأن حقوق العقد لا تختص بالعاقد.

(و) لكل منهما أن (يردَّ بالعيب للحظ فيما وَلِيه) من البيع (أو وَلِيه صاحبه) لأن الوكيل يردُّ، فالشريك أَولى (ولو رضي) به (شريكه.

و) له أن (يُقِرَّ به) أي: بالعيب، كما يقبل إقرار الوكيل على موكِّله به.

(و) له أن (يُقَايل) لأن الحظَّ قد يكون فيها، قال في "المبدع": وظاهره مطلقًا، وهو الأصح في "الشرح"؛ لأنها إن كانت بيعًا فقد أذن له فيه، وإن كانت فسخًا فكالرد بالعيب.

(و) له أن (يُقِرَّ بالثمن وببعضه، وبأُجرة المنادي والحمَّال ونحوه، ويأتي قريبًا) لأن ذلك مما يحتاج إليه كالإقرار بالعيب.

(و) له أن (يفعل كلَّ ما هو من مصلحة تجارتهما) لأن مبناها على الوكالة والأمانة.

(وإن رُدَّت السلعة عليه) أي: الشريك (بعيب، فله أن يقبلَها) ويرد الثمن.

(1)

في "ح" و"ذ": "يملكها".

ص: 484

(و) له (أن يُعطي الأَرْش، أو يَحطَّ من ثمنه) لأجْلِ العيب (أو يؤخِّر ثمنه لأجل العيب) لأنه عادة التُّجار.

(وليس له) أي: لأحدهما (أن يُكاتب الرَّقيق) لأنه لم يأذن فيه شريكه، والشركة تنعقد على التجارة، وليست منها (ولا) أن (يزوِّجه) لما ذكرنا، سيما وتزويج العبد ضرر محض (ولا) أن (يعتقه ولو بمال، ولا يَهَبَه) لكن نقل حنبل

(1)

: يتبرَّع ببعض الثمن لمصلحتِه (ولا) أن (يقرض)

(2)

ظاهره: ولو بِرهْن. (ولا يُحابي) فيبيع بأنقص من ثمن المِثْل، أو يشتري بأكثر منه؛ لأن الشركة انعقدت على التجارة بالمال، وهذه ليست منها.

(ولا) أن (يُضارب بالمال) لأن ذلك يثبت في المال حقوقًا، ويستحق ربحه لغيره. (ولا) أن (يُشارك فيه) أي: في مال الشركة (ولا أن يَخلِطَ مال الشركة بماله، ولا مال غيره) لأنه يتضمن إيجاب حقوق في المال، وليس هو من التجارة المأذون فيها.

(ولا أن يأخذ به) أي: بمال الشركة (سَفْتَجة) ببفتح السين والتاء، ذكره في "حاشيته" (بأن يدفع إلى إنسان شيئًا من مال الشركة ويأخذ به

(3)

كتابًا إلى وكيله ببلد آخر ليستوفي منه ذلك المال) بتلك البلد؛ لأن فيها خطرًا (ولا يعطيها) أي: السفتجة (بأن يأخذ من إنسان عَرْضًا، ويعطيه بثمنه كتابًا إلى وكيله ببلد آخر ليستوفي منه ذلك) المال (إلا بإذن شريكه فيهن) أي: فيما ذكر من هذه المسائل؛ لأنه ليس من التجارة المأذون

(1)

الفروع (4/ 383)، والمبدع (5/ 9).

(2)

في "ح" زيادة: "المال و".

(3)

في "ح" و"ذ" ومتن الإقناع (2/ 449): "منه" بدل "به".

ص: 485

فيها، وهو راجع للكتابة وما بعدها.

(ويملك) الشريك (البيع نَساءً) أي: إلى أجل معلوم؛ لأنه من عادة التجار، ومهما فات من الثمن لم يلزمه ضمانه إلا أن يُفرِّط ببيع من لا يوثق به، أو من لا يعرفه، قاله في "المغني" في المضارب.

(ويملك الإيداعَ) لأنه عادة التُّجار (و) يملك (الرَّهْن والارتهان) لأن الرهن يُراد للإيفاء، والارتهان يُراد للاستيفاء، وهو يملكهما، فكذا ما يُراد لهما (لحاجة فيهن) أي: في الإيداع، والرهن، والارتهان. ولا فرق بين مَن يلي العقد وغيره.

(و) لشريك (عزل وكيل وكَّله هو، أو) وكَّله (شريكه) لأنه وكيل وكيله.

(وليس له أن يُبضع، وهو) أي: الإبضاع في الأصل: طائفة من المال تبعث للتجارة، قاله الجوهري

(1)

. والمراد: (أن يدفع من مال الشركة إلى من يتَّجِرُ فيه، والربح كله للدافع وشريكه) لما فيه من الغرر.

(وليس له أن يوكِّل فيما يتولَّى مثله) من العمل (بنفسه) كالوكيل، وعُلم منه: أن له التوكيل فيما لا يتولَّى مثله بنفسه أو يُعجِزُه.

(وهو) أي: شريك العِنان (كمضارب فيما له) فعله (و) فيما يجب (عليه) فعله (وفيما يُمنع) المضارب (منه) لتساويهما في الحكم.

(وله) أي: الشريك (السفر مع الأمن) أي: أمن البلد والطريق، كولي اليتيم (فلو سافر، والغالبُ العَطَبُ، ضمن) لتفريطه (وكذا) لو

(1)

الصحاح (3/ 1186) مادة: (بضع).

ص: 486

سافر (فيما ليس الغالبُ السلامةَ فيه) ولو استوى الأمران؛ لتفريطه.

(ومثله وليُّ يتيم) ومضارب.

(وإن لم يعلما) أي: الشريك ووليُّ اليتيم، ومثله المضارب (بخوفه) أي: البلد أو الطريق (أو) لم يعلما (بفَلَس مشترٍ، لم يضمنا) ما فات بذلك؛ لأنهما لا يُعدَّان مفرِّطين.

(وإن علم) الشريك (عقوبةَ سلطان ببلد بأخذ مال، فسافر إليه فأخذه، ضمنه) أي: المال (لتعريضه) أي: الشريك، المالَ (للأخذ.

وليس له) أي: الشريك (أن يستدين على مال الشركة) لأنه يدخل فيها أكثر مما رضي الشريك بالمشاركة فيه، فلم يجز، كما لو ضمَّ إليها شيئًا من ماله. والاستدانة:(بأن يشتري بأكثر من رأس المال، أو) يشتري (بثمن ليس معه من جنسه إلا في النقدين) لجريان العادة بقَبول أحدهما عن الآخر (فإن فعل) أي: استدان على الشركة (فهو) أي: فضمان ما استدانه (عليه) إن تلف أو خسر (وربحه له) إن ربح؛ لأنه لم تقع الشركة فيه (إلا أن يأذن شريكه) فيجوز كبقية أفعال التجارة المأذون فيها.

وإن أخذ أحدهما مالًا مضاربة، فربْحُه له دون صاحبه؛ لأنه يستحقه بعمله، ويجيء فيه ما يأتي في المضارب، ذكره في "المغني".

(وهذا المنع المتقدم مع الإطلاق، أما لو أذِنَ) الشريك (له) أي: لشريكه (فيه) أي: فيما تقدم أنه ممنوع منه من التصرُّفات، جاز (أو قال) الشريك لشريكه:(اعملْ برأيك، جاز له أن يعمل كلَّ ما يقع في التجارة، من الإبضاع، والمضاربة بالمال، والمشاركة) به (وخَلْطِهِ بماله، والزراعة

ص: 487

وغير ذلك

(1)

، إذا رأى فيه مصلحةً) لتناول الإذن لذلك، دون التبرُّع، والحطيطة والقرض، وكتابة الرقيق وعتقه وتزويجه؛ لأنه ليس بتجارة، وإنما فوَّض إليه العمل برأيه في التجارة.

(وإن أخَّر) أحدُ الشريكين (حقَّه من الدَّين الحالِّ، جاز) لأنه أسقط حقه من المطالبة، فصح أن ينفرد به كالإبراء (لا) إن أخَّر (حقَّ شريكه) فلا يجوز؛ لأنه غير مأذون فيه نُطقًا ولا عُرفًا (لكن لو قبض شريكه شيئًا مما لم يؤخَّر، كان له) أي: للمؤخر (مشاركته فيه) أي: فيما قبضه.

(وله) أي: الشريك (حَبْس غريم مع منع الآخر منه) أي: من حبسه؛ لأنه مدينه.

(وإن تقاسما الدَّين في الذِّمة) بأن كان لهما على زيد مائة، فقال: أنا آخذ منه خمسين، وأنت تأخذ خمسين، لم تصح (أو) تقاسما الدَّين في (الذِّمم) بأن كان لهما ديون على جماعة، ورضي كلٌّ ببعضهم (لم يصح) لأن الذِّمم لا تتكافأ ولا تتعادل، والقسمة لا تقتضيهما؛ لأنها بغير تعديل، بمنزلة البيع، ولا يصح بيع الدَّين بالدَّين، فلو تقاسما، وضاع البعض وقبض البعض، فما قبض لهما، وما ضاع عليهما.

(وإن أبرأ) أحدهما (من الدَّين، لزم) الإبراء (في حقِّه) لأنه تبرُّع (دون) حق (صاحبه) لأنه ليس من التجارة. ومثله: لو أجَّل ثمن مبيع في مدة خيار، على ما في "المبدع".

(وكذلك إن أقرَّ) أحدُ الشريكين (بمال على الشركة غير المتعلِّق بها

(1)

في "ح" زيادة: "كالسفتجة ونحوها".

ص: 488

- وتقدم) المتعلِّق بها وأنه عليهما (قريبًا

(1)

- عينًا كان) المُقرُّ به (أو دينًا، قَبل) حصول (الفُرقة بينهما، لزم) الإقرار (في حقه، ولم يُقبل) إقراره (على شريكه) لأنه إنما أذن له في التجارة، وليس الإقرار داخلًا فيها.

(وإذا قبض أحدُ الشريكين من مال مشترك بينهما بإرث، أو إتلاف، أو عقد من ثَمَنِ مبيع، أو قَرْضٍ أو غيره) قال الشيخ تقي الدين

(2)

: أو ضريبة سبب استحقاقها واحد (ولو كان القبض بعد تأجيل شريكه حقَّه، فلشريكه الأخذُ من الغريم) مثل ما قبضه شريكه (وله الأخذُ من القابض) لأنهما سواء في الملك (حتى ولو أخرجه) القابض عن يده (برهن، أو قضاء دَيْن، فيأخذه) الشريك (من يده) أي: ممن هو بيده (كمقبوض بعقد فاسد.

وإن كان القبض بإذن شريكه، أو تلف) المقبوض (في يد قابضه، فلا مُحاصَّة) ويتعيَّن الغريم، ويأخذ الشريك منه مثل ما قبضه شريكه.

(وللغريم) غير المحجور عليه (التخصيص) لبعض الغرماء (مع تعدُّد سبب الاستحقاق) بأن باعه واحد شيئًا وأقرضه آخرُ شيئًا، فله تقديم من شاء منهما في الوفاء، إذ لا معيّن لذلك غيره (لكن ليس لأحدهما إكراهه على تقديمه) على الآخر؛ لأنه إكراه بغير حقٍّ.

(و) يجب (على كلِّ واحد) من الشريكين (أن يتولَّى ما جرت العادة أن يتولاه، من نَشْر الثوب وطيِّه، وخَتْم الكيس وإحرازه، وقبض النقد) لأن إطلاق الإذن يُحمل على العُرف، وهو يقتضي أن هذه الأمور يتولاها

(1)

(8/ 484).

(2)

الاختيارات الفقهية ص/ 193.

ص: 489

بنفسه (فإن) استأجر من (فعله بأجرة، غَرِمها) من ماله؛ لأنه بذلها عوضًا عَمَّا يلزمه.

(وما جرت العادة) بـ (ــأن يستنيب) الشريك (فيه، كالاستئجار للنداء على المتاع ونحوه، فله أن يستأجر من مال الشركة من يفعله) لأنه العُرف (وليس له) أي: الشريك (فعله) أي: فعل ما جرت العادة أن لا يتولاه (ليأخذ أجرته بلا شرط) لأنه تبرُّع بما لا يلزمه، فلم يستحقَّ شيئًا، كالمرأة التي تستحق خادمًا، إذا خدمت نفسها.

(وإذا استأجر أحدُهما الآخرَ فيما لا يستحق أُجرته إلا بعمل فيه، كنقل طعام بنفسه، أو غلامه، أو دابته، جاز، كـ) ــاستئجار (داره) أو أجنبي لذلك (وبذل خفارةٍ، وعُشرٍ على المال. قال) الإمام (أحمد

(1)

: ما أُنفق على المال) المشترك (فعلى المال) بالحصص، كنفقة العبد المشترك.

(وليس لأحد من الشركاء أن ينفق) من المال المشترك (أكثر من نفقة شريكه، إلا بإذنه) أي: إذن شريكه؛ لأنه بغير إذنه خيانة أو غصب.

(وإن اتفقا) أي: الشريكان (على شيء معلوم من النفقة لكل واحد منهما، كان) ذلك (أحوط) قطعًا للنزاع.

(ويحرم على شريكٍ في زَرْعٍ فرْكُ شيءٍ من سُنبله يأكله بلا إذن) شريكه؛ لأنه تصرُّف في المال المشترك بغير إذن صاحبه. وفي "الفروع": ويتوجه: عكسه.

(1)

الفروع (4/ 384)، وانظر: مسائل الكوسج (6/ 2806) رقم 2022.

ص: 490

فصل

(والشروط في الشركة ضربان) كالبيع والنكاح:

أحدهما: (صحيح، مثل أن يشترط أن لا يتَّجر إلا في نوعٍ من المتاع) أي: المال، سواء كان مما يعمُّ وجوده، أو لا، وقال في "الرعاية": عام الوجود، والمراد به عمومه حال العقد في الموضع المعيَّن للتجارة، لا عمومه في سائر الأزمنة والأمكنة (أو) أن لا يتَّجر إلا في (بلدٍ بعينه) كمكة ونحوها، أو لا يبيع إلا بنقد كذا (أو) أن (لا يسافر بالمال، أو) أن (لا يبيع) إلا من فلان (أو) أن (لا يشتري إلا من فلان) فهذا كله صحيح، سواء كان الرجل مما يكثر المتاع عنده أو يقل؛ لأنه عقد يصح تخصيصه بنوع، فصح تخصيصه برجل وبلد معينين، كالوكالة.

فإن جمع البيع والشراء من واحد لم يضرَّ، ذكره في "المستوعب"، وفي "المغني" و"الشرح" خلافه، قال في "المبدع": وهو ظاهر.

(و) الثاني (فاسد، كاشتراط ما يعود بجهالة الرِّبْح، وتقدم

(1)

) بيانه (في الباب، فهذا يُفسدُ العقدَ في الشركة والمضاربة) كما تقدم مفصَّلًا.

(وإن اشترطَ) الشريكُ، أو ربُّ المال (عليه) أي: على شريكه، أو المضارب (ضمانَ المال) إن تلف (أو) شرط (أن عليه من الوضيعة أكثر من قَدْر ماله) فسد الشرط وحده؛ لمنافاته مقتضى العقد (أو) شرط عليه (الارتفاق بالسِّلع) فسد الشرط؛ لأنه لا مصلحة للعقد فيه، أشبه اشتراط

(1)

(8/ 481).

ص: 491

ما يُنافيه.

(أو) شرط عليه أن (لا يفسخ الشركة مُدةً بعينها، أو) أن (لا يبيع إلا برأس المال، أو أقل) من رأس المال، (أو) أن (لا يبيع إلا ممن اشترى منه، أو) أن (لا يبيع، أو لا يشتري، أو لزومَ العقد) فسد الشرط وحده؛ لمنافاته مقتضى العقد.

(أو) شرط عليه (خدمةً) ولو في شيء معين (أو قَرْضًا، أو مضاربةً أخرى) له في مال آخر (أو شرطه) أي: ما ذكر من الخدمة وما عطف عليها (لأجنبيٍّ، أو) شرط (أيَّمَا أعجبه أخَذَه بثمنه، وهو التولية ونحوه) كشرطه على المضارب جزءًا من الوضيعة (فهذه شروط فاسدة) لأنها ليست من مصلحة العقد ولا مقتضاه، أشبهت ما ينافيه.

(ولا تُفسد) هذه الشروطُ الفاسدةُ (العقدَ) لأنه عقد على مجهول، فلم تبطله الشروط الفاسدة، كالنكاح، وهذا ما صحَّحه في "الإنصاف" وغيره، لكن مقتضى القواعد: أنه إذا شرط عليه قرضًا، أو مضاربة أخرى يفسد العقد؛ لأنه كبيعتين في بيعة؛ المنهي عنه

(1)

؛ كما يأتي بعضه في المضاربة.

(وإذا فسد العقدُ) أي: عقد الشركة بأنواعها (قُسم ربحُ شركة عِنان ووجوه على قَدْرِ المالين) لأن التصرُّف صحيح، لكونه بإذن مالكه، والربح نماء المال (كالوضيعة) فهي بقَدْر المالين.

(وما عَمِله كلُّ واحد منهما) أي: الشريكين (في الشركتين) أي: شركة العِنان، وشركة الوجوه (فله أُجرته) لأنه عمل في نصيب شريكه،

(1)

تقدم تخريجه (7/ 359) تعليق رقم (1).

ص: 492

فيرجع به؛ لأنه عقد يبتغي الفضل فيه في ثاني الحال، فوجب أن يقابل العمل فيه عوض كالمضاربة، وبيان قَدْر أجرته في نصيب شريكه، أن ينظر أُجرة عمل كل واحد منهما في المالين، و (يسقط منها أُجرة عمله في ماله) لأن الإنسان لا يجب له على نفسه المال (ويرجع على) شريكه (الآخر بقَدْرِ ما بقي له) من أُجرة العمل؛ لأنه الذي عَمِله في مال شريكه.

(فإن تساوى مالاهما وعملاهما، تَقاصَّ الدينان) لأنه قد ثبت لكل منهما على الآخر مثل ما له عليه (واقتسما الربح نصفين، وإن فضل أحدُهما صاحبه بفضلٍ، تَقاصَّ دَيْن القليل بمِثْله) من الكثير (ويرجع على الآخر بالفضل) أي: بنصفه؛ لما تقدم.

(وقُسمت أُجرة ما تقبَّلاه في) شركة (الأبدان) إذا فسدت (بالسوية، ويرجع كلُّ واحدٍ منهما فيها على الآخر بأجرة نصف عَمِله) لما تقدم.

(وإن تعدَّى شريك) ما أمره به شريكه، فتلف شيء من المال (ضَمِنَ) التالف، كسائر الأمناء (والربح لربِّ المال) أي: ربح نصيب الشريك له، لا شيء فيه للمتعدي كالغاصب، قال في "الإنصاف": على الصحيح من المذهب، ونقله الجماعة

(1)

.

(والعقد الفاسد في كلِّ أمانة وتبرّع - كمضاربة، وشركة، ووكالة، ووديعة، ورهن، وهِبة، وصدقة ونحوها - كصحيح في ضمان وعدمه، فكلُّ عقد لا ضمان في صحيحه) كالمذكورات (لا ضمان في فاسده.

وكل عقد لازم) أو جائز (يجب الضمان في صحيحه، يجب) الضمان (في فاسده، كبيع، وإجارة، ونكاح ونحوها) كعارية. والمراد

(1)

انظر: مسائل عبد الله (3/ 946 - 947) رقم 1279 - 1282، ومسائل صالح (1/ 448) رقم 450.

ص: 493

ضمان الأجرة والمهر في الإجارة الفاسدة والنكاح الفاسد، وأما العين فغير مضمونة فيهما.

والحاصل: أن ما وجب الضمان في صحيحه، وجب في فاسده، وما لا؛ فلا.

قال في "القواعد"

(1)

: وليس المراد أن كل حال ضمن فيها في العقد الصحيح ضمن فيها في العقد الفاسد؛ فإن البيع الصحيح لا يجب فيه ضمان المنفعة، وإنما تضمن العين بالثمن، والمضمون بالبيع الفاسد يجب ضمان الأجرة فيه على المذهب.

ولا يقال: إذا باع العدلُ الرهنَ، وقبض الثمنَ، وتلف في يده، ثم خرج الرهن مستحقًّا، رجع على العدل إن لم يعلمه بالحال، كما سبق

(2)

، مع أنه لا ضمان عليه في صحيحه؛ لأن هذا من القبض الباطل لا الفاسد.

(والشركة) بسائر أنواعها (عقد جائز) من الطرفين؛ لأن مبناها على الوكالة والأمانة (تبطل بموت أحد الشريكين، و) بـ (ـجنونه) المطبق (و) بـ (ـالحَجْر عليه لسفه) أو فَلَس فيما

(3)

حُجِر عليه فيه (وبالفسخ من أحدهما) وسائر ما يبطل الوكالة.

(فإن عزل أحدُهما صاحبه، انعزل المعزول) ولو لم يعلم، كالوكيل (ولم يكن له أن يتصرف إلا في قَدْرِ نصيبه) من المال، فإن تصرَّف في أكثر، ضمن الزائد.

(وللعازل التصرُّف في الجميع) أي: جميع مال الشركة؛ لأنها باقية في حقه؛ لأن شريكه لم يعزله، بخلاف ما إذا فسخ أحدهما الشركة؛ فلا

(1)

في القاعدة السابعة والأربعون، ص / 67.

(2)

(8/ 196).

(3)

في "ذ": "أو فيما".

ص: 494

يتصرف كلٌّ إلا في قَدْرِ ماله.

(هذا) أي: ما ذكر من العزل (إذا نضَّ المال) أي: صار مثلَ حاله وقتَ العقد عليه، دنانير أو دراهم (وإن كان) المال (عَرْضًا، لم ينعزل) أحدهما بعزل شريكه له (وله التصرُّف بالبيع) لتنضيض المال كالمضارب (دون المعاوضة بسلعة أخرى، ودون التصرُّف بغير ما يَنضُّ به المال) لأنه معزول، ولا حاجة تدعو إلى ذلك بخلاف التنضيض. هذا ما ذكره القاضي وظاهر كلام أحمد

(1)

. والمذهب: أنه ينعزل مطلقًا، وإن كان عَرْضًا. ورُدَّ قياسه على المضارب: بأن الشركة وكالة، والربح يدخل ضمنًا، وحق المضارب أصلي.

(وإذا مات أحدُ الشريكين وله وارث رشيد، فله) أي: الوارث (أن يقيم على الشركة، ويأذن له الشريك في التصرُّف) ويأذن هو -أيضًا- لشريكه فيه (وهو) أي: بقاؤه على الشركة (إتمام الشركة، وليس بابتدائها، فلا تُعتبر شروطها) أي: شروط الشركة من حضور المال، وكونه نقدًا مضروبًا، وبيان الربح، ونحوها مما تقدم

(2)

. هذا مقتضى كلامه في "المغني" و"المبدع". وقال في "المستوعب": إن مات، يُخرَج من الشركة، ويتسلَّم حقَّه ورثتُه. انتهى. فصريحه بطلان الشركة بموت أحدهما، وهو صريح كلامه قريبًا، وصريح كلام "المنتهى" وغيرهما فيما تقدم

(3)

في الوكالة، ومقتضى ما يأتي في المضاربة -أيضًا- إذ لا فرق.

(1)

انظر: كتاب الروايتين والوجهين (1/ 395)، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف (14/ 52).

(2)

(8/ 479).

(3)

(8/ 425).

ص: 495

(وله) أي: الوارث (المطالبة) للشريك (بالقسمة) لمال الشركة (فإن كان) الوارث (مُوَلًّى عليه) لكونه محجورًا عليه (قام وليُّه مقامَهُ في ذلك) أي: في إبقاء الشركة والمقاسمة (ولا يفعل) الوليُّ (إلا ما فيه المصلحة للمُوَلَّى عليه) كسائر التصرُّفات.

(فإن كان الميت قد وصَّى بمال الشركة، أو ببعضه لمعيَّن، فالموصى له) إذا قَبل (كالوارث فيما ذكرنا) لانتقال الملك إليه.

(وإن كان) الإيصاء به (لغير مُعيَّن كالفقراء، لم يَجُزْ للوصي الإذن في التصرُّف، ووجب دفعُه إليهم) أي: دفع المال الموصى به إلى الموصى لهم (ويَعزِل) الوصيُّ (نصيبه) أي: نصيب الميت (ويفرِّقه عليهم) أي: على الموصى لهم؛ عملًا بالوصية.

(فإن كان على الميت دينٌ تعلَّق) الدين (بتَرِكتِه، فليس للوارث إمضاء الشركة حتى يقضي دينه، فإن قضاه) أي: الوارث (من غير مال الشركة، فله الإتمام) أي: إتمام الشركة (وإن قضاه منه، بطلت الشَّرِكة في قَدْرِ ما قضى) ذكره في "المغني" و"المبدع" وغيرهما.

لكن مقتضى ما تقدم: أن الوارث لا يمنع من إتمام الشركة قبل القضاء، لكن يكون موقوفًا، إن قضاه نفذت الشركة كسائر تصرُّفاته، وإلا نقضت، ووفي الدَّين من حصة الميت (ويأتي في المضاربة: لو مات أحدُ المتضاربين) مفصَّلًا.

ص: 496

فصل

القسم (الثاني: المُضاربة، وهي) تسمية أهل العراق، مأخوذة من الضَّرْب في الأرض، وهو السفر للتجارة، قال تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}

(1)

. ويحتمل أن يكون من ضرب كل منهما بسهم في الربح.

وسمَّاها أهلُ الحجاز: قِراضًا، فقيل: هو من القَرض بمعنى القطع، يقال: قرض الفأرُ الثوبَ، إذا قطعه، فكأن ربَّ المال اقتطع من ماله قطعة، وسلَّمها إلى العامل، واقتطع له قطعة من ربحها. وقيل: من المساواة والموازنة، يقال: تقارض الشاعران، إذا توازنا.

وهي جائزة بالإجماع، حكاه ابنُ المنذر

(2)

ورُويت عن عمر

(3)

، وعثمان

(4)

، وعلي

(5)

، وابن مسعود

(6)

، وحكيم بن حزام

(7)

رضي الله

(1)

سورة المزمل، الآية:20.

(2)

الإقناع لابن المنذر (1/ 270).

(3)

أخرجه مالك في الموطأ (2/ 687)، والشافعي في الأم (4/ 33)، وفي مسنده (ترتيبه 2/ 169 - 170)، والدارقطني (3/ 63)، والبيهقي (6/ 110)، وفي معرفة السنن والآثار (8/ 322) رقم 12065. قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 57): إسناده صحيح.

(4)

أخرجه مالك في الموطأ (3/ 688) والشافعي في الأم (7/ 108)، والبيهقي (6/ 111)، وفي معرفة السنن والآثار (8/ 323) رقم 12068. وصححه ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 74)، والحافظ في بلوغ المرام رقم 905.

(5)

أخرجه عبد الرزاق (8/ 248) رقم 15087.

(6)

ذكره الشافعي في الأم (7/ 108)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار (8/ 323) رقم 12069.

(7)

أخرجه الدارقطني (3/ 63)، والبيهقي (6/ 111). وصحح إسناده ابن كثير في إرشاد =

ص: 497

تعالى عنهم، ولم يُعرف لهم مخالف، والحكمة تقتضيها؛ لأن بالناس حاجة إليها، فإن النقدين لا تنمى إلا بالتجارة، وليس كلُّ من يملكها يحسن التجارة، ولا كلُّ من يحسنها له مال، فشُرِعت لدفع الحاجة.

والمضاربة: (دفع مال) أي: نَقْدٍ مضروب خالٍ من الغش الكثير، وتقدم

(1)

(وما في معناه) أي: معنى الدفع، بأن كان له عند إنسان نَقْد مضروب من نحو وديعة (معيَّن معلوم قَدْره) فـ (ـــلا) تصح على (صُبرةِ نَقْد) لجهالتها (ولا) على (أحد كيسين في كلٍّ واحد منهما مال معلوم تساوى ما فيهما) أي: الكيسين (أو اختلف) ما فيهما للإبهام. وقوله: (إلى من يتَّجر فيه) أي: المال، متعلِّق بـ"دفع"، وسواء كان المدفوع إليه واحدًا أو أكثر، ولذلك عبر بـ"من" وقوله:(بجزء) مشاع (معلوم من ربحه) أي: المال، متعلق بـ"يتَّجر"، فإن سَمَّى له كل الربح أو دراهم، ولو معلومة، أو جزءًا مجهولا، كحظٍّ، أو قسط، أو نصيب، فسدت، وتقدم

(2)

.

وكذا لو جعل له جزءًا من نفس المال المدفوع (له) أي: للعامل (أو لعبده) أي: عبد العامل، إذ المشروط للعبد لسيده (أو) شرط الجزء للعامل، و (لأجنبي مع عمل منه) أي: من الأجنبي بأن يقول: اعمل في هذا المال بثلث الربح لك ولزيد على أن يعمل معك؛ لأنه في قوة قوله: اعملا في هذا المال بالثلث.

= الفقيه (2/ 75).

وقال الحافظ في التلخيص الحبير (3/ 58): رواه البيهقي بسند قوي. وقال في بلوغ المرام (905): رجاله ثقات.

(1)

(8/ 480).

(2)

(8/ 481).

ص: 498

(ويُسمَّى أيضًا) دفع المال على الوجه المذكور (قِراضًا) وتقدم (ومعاملة) من العمل.

(وتنعقد) المضاربة (بما يؤدِّي معنى ذلك) أي: معنى المضاربة والقِراض من كلِّ قول دلَّ عليها؛ لأن المقصود المعنى، فجاز بكلِّ ما يدلُّ عليه.

(وهي) أي: المضاربة (أمانة ووكالة) لأنه متصرِّف لغيره بإذنه، والمال تحت يده على وجه لا يختصُّ بنفعه (فإن ربح) العامل في المال (فشركة) لاشتراكهما في الربح (وإن فسدت) المضاربة (فإجارة) لأن العامل يأخذ أجرة عمله.

(وإن تعدَّى) العامل ما أمره به رب المال (فغصب) يَردُّ المال وربحه، ولا شيء له في نظير عمله كالغاصب.

(قال) ابنُ القيِّم (في الهدي) النبوي

(1)

: ‌

‌(المضارب أمين وأجير، ووكيل، وشريك،

فأمين إذا قبض المال، ووكيل إذا تصرَّف فيه) أي: المال (وأجير فيما يباشره من العمل بنفسه) لأنه يعمل لغيره بعوض، وهو الجزء المُسمَّى له من الربح، وإن كانت المضاربة، صحيحة، ولعل مراده: أنه في حكم الأجير، وإلا فتعريف الإجارة الآتي لا ينطبق عليه، ولذلك لم يجعل المصنف قوله مقابلًا لما قدمه من أنه أجير إذا فسدت (وشريك إذا ظهر فيه) أي: المال (الربح) لما تقدم.

(ومِنْ شَرْطِ صحتها) أي: المضاربة (تقديرُ نصيب العامل) من الربح؛ لأنه لا يستحقه إلا بالشرط.

(فإن قال) ربُّ المال: (خُذْ هذا المال مضاربةً، ولم يذكر سهمَ

(1)

زاد المعاد (1/ 161).

ص: 499

العامل) لم تصح (أو قال): خُذْ هذا المال مضاربة (ولك جُزءٌ) أو حظٌّ أو نصيب (من الربح، فـ) ـــالمضاربة فاسدة؛ لجهالة نصيب العامل، و (الربح كله لربِّ المال) لأنه نماء ماله (والوضيعة عليه) أي: على ربِّ المال وحده؛ لأن العامل أمين (وللعامل أجرُ مثله) وإن لم يحصُل ربح؛ لأنه عمل بعِوض لم يسلم له.

(وتكفي مباشرته) أي: العمل، قبولًا (فلا يُعتبر نُطقُ) العامل بالقَبول كالوكالة (فإن قال) ربُّ المال: (خذْه فاتِّجر فيه

(1)

، والربحُ كله لي. فـ) ـهو (إبضاع) أي: يصير جميع الربح لربِّ المال (لا حق للعامل فيه) فيصير وكيلًا متبرِّعًا؛ لأنه قرن به حكم الإبضاع، فلو قال مع ذلك: وعليك ضمانه؛ لم يضمنه؛ لأن العقد يقتضي كونه أمانة غير مضمونة، ما لم يتعدَّ أو يفرِّط، فلا يزول ذلك بشرطه.

(وإن قال): خُذْه فاتَّجِرْ به، و (الربحُ كله لك. فـ) ـــــالمال المدفوع (قرض) لا قراض؛ لأن اللفظ يصلح له، وقد قرن به حكمه، فانصرف إليه كالتمليك، والربح كله للعامل (لا حقَّ لربِّ المال فيه) أي: الربح، وإنما يرجع بمثل ما دفعه (وليسا) أي: الإبضاع والقرض. (بشركة) ولا مضاربة؛ لعدم تحقق معناها فيهما.

(فإن زاد) ربُّ المال (مع قوله: والربح كله لك؛ ولا ضمان عليك، فهو قرض شُرِط فيه نفي الضمان، فلا ينتفي) لأنه شرط فاسد لمنافاته مقتضى العقد.

(وإن قال) ربُّ المال: اتَّجِر به و (الربح بيننا. فـ) ـالربح (بينهما

(1)

في متن الإقناع (2/ 455): "به".

ص: 500

نصفين) لأنه أضافه إليهما إضافة واحدة، ولم يترجّح فيها أحدهما على الآخر، فاقتضي التسوية، كهذه الدار بيني وبينك.

(وإن قال) ربُّ المال: (خذه مضاربة، والربح كله لك) فسدت.

(أو قال:) خُذْه مضاربة (والربح كلُّه لي، فسدت) المضاربة؛ لأنها تقتضي كون الربح بينهما، فإذا شرط اختصاص أحدهما بالربح، فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد، ففسد، كما لو شرط الربح في شركة العِنان لأحدهما، ويفارق إذا لم يقل: مضاربة؛ لأن اللفظ يصلح لما أثبت حكمه من الإبضاع والقرض، وينفذ تصرف العامل؛ لأن الإذن باق.

(وله) أي: العامل (أجرة المِثل في الأُولى) وهي قوله: "خُذْه مضاربة والربح كله لك" لأنه عمل على عوض لم يسلم له (ولا شيء له) أي: للعامل (في الثانية) وهي قوله: "خُذه مضاربة والربح كله لي" لأنه تبرُّع بعمله.

(وإن قال:) خُذْه مضاربة، (لك) ثلث الربح، صح، والمسكوت عنه حينئذٍ لرب المال.

(أو) قال: خُذْه مضاربة، و (لي ثلث الربح، ولم يذكر نصيب الآخر، صح) القِراض (والباقي) من الربح (للآخر) المسكوت عنه؛ لأن الربح لهما، فإذا قُدِّرَ نصيب أحدهما منه، فالباقي للآخر بمفهوم اللفظ، كما علم أن ثلثي الميراث للأب من قوله تعالى:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}

(1)

.

(وإن أتى معه) أي: مع الجزء المسمى (بربع عشر الباقي ونحوه)

(1)

سورة النساء، الآية:11.

ص: 501

كربع خمس جزء من سبعة عشر

(1)

(صح) لأن جهالته تزول بالحساب.

(وإن قال) ربُّ المال: خُذه مضاربة (لي النصف، ولك الثلث. وسكت عن) السدس (الباقي، صح، وكان) الباقي (لربِّ المال) لأنه يستحق الربح بماله؛ لكونه نماءه وفوعه، والعامل يأخذ بالشرط، فما شرط له استحقه، وما بقي فلربِّ المال بحكم الأصل.

(وإن قال) ربُّ المال: (خُذه مضاربة على الثلث، أو قال:) خُذْه مضاربة (بالثلث، أو على الثلثين، أو بالثلثين، ونحوه) كقوله: خُذه مضاربة بالربع، أو على خمسين ونحوه (صح) ذلك (وكان تقدير النصيب للعامل) لأن حصته إنما تتقدَّر بالشرط، بخلاف ربِّ المال، فإنه يستحقُّ الربح بماله.

(وإن اختلفا) أي: ربُّ المال والعامل (لمن الجزء المشروط، فـ) ــــهو (للعامل، قليلًا كان) الجزء المشروط (أو كثيرًا) لأنه يستحقه بالعمل، وهو يقلُّ ويكثر، وإنما تتقدَّر حصته بالشرط، بخلاف ربِّ المال؛ فإنه يستحق الربح بماله، ويحلف مُدَّعيه؛ لأنّه يحتمل خلاف ما قاله، فيجب لنفي الاحتمال.

وإن اختلفا في قَدْر الجزء بعد الربح، فقال العامل: شرطت لي النصف، وقال المالك: الثلث، قُدِّم قوله؛ لأنه منكِرٌ للزيادة، فإن أقام كل منهما بينة، قُدِّمت بينة العامل، ذكره في "المبدع".

(وإن قال) ربُّ المال: (خُذه مضاربة، ولك ثلث الربح؛ وثلث ما بقى. صح، وله) أي: العامل (خمسة أتساع الربح) لأن مخرج الثلث

(1)

أي جزء من ثلاثمائة وأربعين جزءًا.

ص: 502

وثلث الباقي تسعة، وثلثها ثلاثة، وثلث ما بقي اثنان، ونسبتها إلى التسعة ما ذكر.

(وإن قال): خُذْه مضاربةً؛ ولك (ثلث الربح وربع ما بقي. فله النصف) لأن مخرج الثلث وربع الباقي من ستة، وثلثها اثنان، وربع الباقي واحد، والثلاثة نصف الستة.

(وإن قال): خُذه مضاربة و (لك ربع الربح وربع ما بقي. فله ثلاثة أثمان ونصف ثمن) لأن مخرج الربع وربع الباقي من ستة عشر، وربعها أربعة، وربع الباقي ثلاثة، والسبعة نسبتها إلى الستة عشر ما ذكر.

(وسواء عَرَفا) أي: المتقارضان (الحساب أو جهلاه) لأن إزالته ممكنة بالرجوع إلى غيرهما ممن يعرف الحساب.

(ويجوز أن يدفع) واحد (إلى اثنين مضاربة في عقد واحد) كما يجوز في عقدين.

(فإن شرط) ربُّ المال (لهما جزءًا) معلومًا (من الربح بينهما نصفين، صح) قليلًا كان أو كثيرًا.

(وإن قال) ربُّ المال: (لكما كذا وكذا) كالنصف أو الثلث (من الربح، ولم يبين كيف هو؟) أي: كيفية قسمته بينهما من تساوٍ أو تفاضل (فهو) أي: الجزء المشروط (بينهما نصفين) لأن مطلق الإضافة يقتضي التسوية.

(وإن شرط) ربُّ المال (لأحدهما) أي: أحد العاملين (ثلث الربح، و) شرط (للآخر ربعه) أي: الربح (والباقي له) أي: لربِّ المال (جاز) ذلك، وكان الربح على ما شرطوا؛ لأن الحق لا يعدوهم، فجاز ما تراضوا عليه.

ص: 503

(وإن قارض اثنان واحدًا بألف لهما، جاز) كما لو قارضه كلٌّ منهما منفردًا بخمسمائة (فإن شرطا) أي: صاحبا المال (له) أي: للعامل في مالهما (ربحًا متساويًا منهما) بأن شرط له كلٌّ منهما نصف الربح، أو ثلثه (جاز.

وكذلك إن) شرطاه متفاضلًا، بأن (شرط أحدهما له النصف، و) شرط (الآخر) له (الثلث) كما لو انفرد كلٌّ منهما بعقده؛ لأن العقد يتعدد بتعدد العاقد (ويكون باقي ربح مال كلِّ واحد منهما له) أي: لصاحب ذلك المال؛ لأنه نماء ماله.

(وإن شرطا كون الباقي من الربح بينهما نصفين، لم يجز) لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، وكلٌّ منهما لا حقَّ له في مال الآخر، ولا عمل له فيه؛ فلا يستحقُّ من ربحه شيئًا.

(وإذا شرطا) أي: المتقارضان (جزءًا)، معلومًا (من الربح لغير العامل، فإن كان) شرط (لعبد أحدهما، أو) كان شرط (لعبديهما، صح، وكان) في الحقيقة (مشروطًا لسيده) لأن العبد لا يملك، وماله لسيده.

(وإن جعلاه) أي: جعل المتقارضان الربح (بينهما وبين عبد أحدهما أثلاثًا، فلصاحب العبد الثلثان) أي: الثلث المشروط له والثلث المشروط لعبده (وللآخر الثلث) لأنه الذي شرط له.

(وإن شرطاه) أي: شرط المقارضان الجزء من الربح (لأجنبي، أو لولد أحدهما) كبيرًا كان أو صغيرًا (أو امرأته، أو قريبه) كأبيه وأخيه (وشرطا عليه) أي: على المشروط له الجزء (عملًا مع العامل، صح) الشرط (وكانا عاملين) بمنزلة ما لو قال: اعملا في هذا المال، ولكلٍّ

ص: 504

منكما كذا.

(وإن لم يشرطا عليه) أي: على المشروط له الجزء غير عبد أحدهما (عملًا) مع العامل (لم تصح المضاربة) لأنه شرط فاسد يعود إلى الربح، ففسد به العقد، كما لو شرطا

(1)

دراهم معلومة.

(وكذلك حكم المساقاة والمزارعة في) جميع (ما تقدم) في المضاربة قياسًا عليها؛ لأن العامل في كلٍّ منها إنما يستحق بالعمل.

(وحكم المضاربة حكم الشركة فيما للعامل أن يفعله) من البيع والشراء، أو القبض والإقباض، وغيرها (أو لا يفعله) كالقرض، وكتابة الرقيق وتزويجه، ونحوه (و) في (ما يلزمه فعله) كنشر الثوب وطيِّه، وختم الكيس، والإحراز ونحوه (وفي الشروط) صحيحة كانت أو فاسدة، مفسِدة أو غير مفسِدة (لأن) كل (ما جاز في إحداهما جاز في الأخرى) لاشتراكهما في التصرف بالإذن (وكذا المنع) أي: ما امتنع في إحداهما، امتنع في الأخرى.

(وإن فسدت) المضاربة (فالربح لربِّ المال) لأنه نماء ماله، والعامل إنما يستحق بالشرط، فإذا فسدت فسد الشرط، فلم يستحق شيئًا.

(وللعامل) إذا فسدت (أجرة مثله، خَسِر المال أو ربح) لأن عمله إنما كان في مقابلة المُسمَّى، فإذا لم تصح التسمية وجب ردُّ عمله عليه، وذلك متعذِّر، فوجب له أجر المِثْل (وما تصرَّفه) العامل في المضاربة الفاسدة من التصرُّفات (نافذ) لإذن ربِّ المال له في التصرُّف.

(ولو لم يعمل العامل) في المضاربة (شيئًا، إلا أنه صرف الذهب

(1)

في "ح" زيادة: "به".

ص: 505

بالوَرق، فارتفع الصرف، استحق العامل حصته) من الربح؛ لأنه مقتضى ذلك العقد الصحيح.

(ولا ضمان عليه) أي: العامل (فيها) أي: في المضاربة الفاسدة؛ لما تقدم من أن: ما لا ضمان في صحيحه لا ضمان في فاسده، ولو قدَّم ذلك على مسألة الصرف لكان أنسب، وحمْلُ كلامه هنا على المضاربة الصحيحة ممكن، لكنه يأتي في كلامه.

(ويصح تعليقها) أي: المضاربة ولو على شرطٍ مستقبل، كإذا جاء رأس الشهر فضارِبْ بهذا على كذا؛ لأنه إذنٌ في التصرف، فجاز تعليقه كالوكالة (والمنصوص) عن الإمام

(1)

: (و) يصح: (بعْ هذا) العرض (وما حصل من ثمنه، فقد ضاربتك به) لأنه وكيل في بيع العَرْض، فإذا باعه صار الثمن في يده أمانة، أشبه ما لو كان المال عنده وديعة.

(ويصح تأقيتُها) أي: المضاربة (بأن يقول) ربُّ المال: (ضاربتك على هذه الدراهم) أو الدنانير (سنة، فإذا مضت السنة، فلا تبعْ ولا تشترِ) لأنه تصرُّفٌ يتوقَّفُ بنوعٍ من المتاع، فجاز توقيته بالزمان كالوكالة.

(ولو قال) ربُّ المال: ضاربْ بهذا المال شهرًا (ومتى مضى الأجل، فهو) أي: مال المضاربة (قرض) صح ذلك.

(فـ) ـإن (مضى) الأجل (وهو) أي: المال (ناضٌّ صار) المال (قرضًا، وإن مضى) الأجل (وهو متاع) فعلى العامل تنضيضه (فإذا باعه)

(1)

الفروع (4/ 380). لكن في مسائل الكوسج (6/ 2595، 2804) رقم 1816، 2019، قلت: إذا أعطاه العروض مضاربة له أجر مثله؟

قال أحمد: أكره أن يفعله، فإن فعله فهو على ما اشترطاه.

وقال القاضي أبو يعلى في الروايتين والوجهين (1/ 393): نقل إسحاق بن هانئ: لا تصح. ونقل الأثرم: جواز ذلك.

ص: 506

ونضَّضه (صار قرضًا) لأنه قد يكون لربِّ المال فيه غرض، نص عليه في رواية مُهنَّا

(1)

.

(وإن قال) ربُّ عَرْض: (بع هذا العرض، وضاربْ بثمنهِ) صح لما تقدم.

(أو) قال ربُّ وديعة: (اقبض وديعتي) من زيد أو منك، وضارب بها.

(أو) قال ربُّ دين: اقبضْ (ديني) من فلان (وضاربْ به) صح؛ لأنه وكله في قبض الدين أو الوديعة، وعلَّق المضاربة على القبض، وتعليقها صحيح.

(أو) قال: ضاربْ (بعين مالي الذي غصبته مني، صح) ذلك؛ لأنه في معنى الدفع (وزال ضمان الغصب) بمجرد عقد المضاربة، وصار المال أمانة بيده؛ لإذن ربه في بقائه بيده.

(ويصح قوله) أي: قول ربِّ وديعة ونحوها: (إذا قدم الحاج، فضارب بوديعتي، أو غيرها) لأن تعليق المضاربة صحيح؛ لما تقدم.

(وإن قال) ربُّ دين: (ضاربْ بالدَّين الذي عليك) لم تصح؛ لعدم حضور المال، ولأن المال الذي في يد المدين له، وإنما يصير لغريمه بقبضه، ولم يقبضه.

(أو) قال: ضاربْ (بديني الذي على زيد، فاقبضه) لم يصح ذلك؛ لأنه عقد على ما لا يملكه؛ لأنه لا يملك ما في يد مدين إلا بقبضه، ولم يوجد، بخلاف: اقبضْ ديني، وضارب به، فيصح، وتقدم قريبًا.

(أو قال) ربُّ مال: (هو) أي: هذا المال (قرض عليك شهرا) أو

(1)

الفروع (4/ 382).

ص: 507

نحوه (ثم هو مضاربة، لم يصح) ذلك؛ لأنه إذا صار قرضًا، ملكه المقترض، فلم يصح عقد المضاربة عليه، وهو في ذمته؛ لعدم ملك ربِّ الدين له إذن.

فإن اشترى في هذه الصور بالدَّين شيئًا للمضاربة، فهو للمشتري، وربحه له وخسرانه عليه.

(وإن أخرج) إنسان (مالًا) تصح المضاربة عليه (يعمل فيه هو) أي: مالكه (وآخر، والربح بينهما، صحَّ، وكان مضاربة) لأن غير صاحب المال يستحق المشروط بعمله من الربح في مال غيره، وهذا حقيقة المضاربة.

(وكذا مساقاة ومزارعة) إذا عمل المالك مع العامل، وسمى للعامل جزءًا معلومًا، فيصحان كالمضاربة.

(وإن شرط فيهن) أي: في المضاربة والمساقاة والمزارعة (عملَ المالك) مع العامل (أو) عملَ (غلامه معه) أي: مع العامل (صَحَّ) العقدُ والشرطُ (كـ) ــــاشتراط العامل فيهن (بهيمتَهُ) أي: بهيمة المالك يحمل عليها.

(ولا يضر) أي: لا يفسد المضاربة والمساقاة والمزارعة (عمل المالك) مع العامل (بلا شرط) نص عليه

(1)

، وإنما تظهر فائدته على القول بأن اشتراط عمله يفسدها، والمقدَّم خلافه.

"تتمة": نقل أبو طالب (

(1)

) فيمن أعطى رجلًا مضاربة على أن يخرج إلى الموصل، فيوجّه إليه طعام فيبيعه، ثم يشتري به، ويوجه إليه إلى

(1)

الفروع (4/ 381)، والإنصاف (5/ 433).

ص: 508

الموصل. قال: لا بأس إذا كانوا تراضوا على الربح.

(وإن باع المضارب بدون ثمن المِثْلِ) أو اشترى بأكثر منه، صح، و (ضمن كوكيل) وتقدم

(1)

.

(وله) أي: المضارب (أن يشتري المعيب، إذا رأى فيه مصلحة، بخلاف وكيل) لأن القصد في المضاربة الربح، وهو قد يحصُل بشراء المعيب، بخلاف الوكالة، فإن الغرض تحصيل ما وُكِّل فيه، وإطلاقه يقتضي السلامة.

فصل

(وليس للعامل شراء من يعتق على ربِّ المال بغير إذنه) لأن فيه ضررًا، ولا حظَّ للتجارة فيه، إذ هي معقودة للربح حقيقة أو مظنة، وهما منتفيان هنا (فإن فعل) أي: اشترى من يعتق على ربِّ المال (صح) الشراء؛ لأنه مال متقوم قابل للعقود، فصح كما لو اشترى من علَّق ربُّ المال عتقه بملكه (وعتق) أي: على ربِّ المال؛ لأنه ملكه، وذلك موجب عتقه. (وضمن) العامل (ثمنه) سواء (علم) بأنه يعتق على ربِّ المال (أو لم يعلم) لأن الإتلاف الموجب للضمان لا فرق فيه بين العلم والجهل، وقال أبو بكر: إن لم يعلم، لم يضمن؛ لأنه معذور.

(وإن اشتراه) العامل (بإذنه) أي: إذن ربِّ المال (صح) الشراء (أيضًا) لأنه يصح شراؤه بنفسه، فكذا نائبه، ولا ضمان عليه؛ لأن ربَّ المال هو الآذن في إتلافه.

(وتنفسخ المضاربة في قدرِ ثمنِه فيهما) أي: فيما إذا اشتراه بغير إذنه، وفيما إذا اشتراه بإذنه لتلفه.

(1)

(8/ 437).

ص: 509

(وإن كان في المال ربح، وجمع العامل بحصته منه) أي: من الربح؛ لأنه استحقه بالعقد والعمل، ولم يوجد ما يسقطه.

(وإن اشترى) العامل (امرأة ربِّ المال) صح (أو كان ربُّه) أي: المال (امرأةً، فاشترى) عاملها (زوجَها، أو) اشترى (بعضهما، صح ولو كان) الشراء (بعين المال) لأنه اشترى ما يمكن طلب الربح فيه، أشبه ما لو اشترى أجنبية أو أجنبيًّا (وانفسخ النكاح فيهما) أي: فيما إذا اشترى امرأةَ ربِّ المال، أو بعضها، أو اشترى زوجَ ربةِ المال أو بعضَه، لما يأتي من أنه متى ملك أحد الزوجين الآخر، أو بعضه، انفسخ النكاح.

(ولا ضمان على العامل فيما يفوت) المرأة (من المهر) إذا فسد نكاحُها بشراء زوجها (و) لا فيما (يسقط من النفقة) لأن ذلك لا يعود إلى المضاربة، ولا فرق بين شرائه في الذمة أو بعين المال، وإذا اشترى زوجةَ ربِّ المال وانفسخ النكاح، وكان قبل الدخول، وجب على الزوج نصف الصداق، ورجع به على عامله؛ لأنه سبب تقريره عليه، كما لو أفسدت امرأةٌ نكاحه بالرضاع، ذكره في "المغني" و"الشرح" و"شرح المنتهى".

(وإن اشترى) العامل (من يعتق على نفسه) كأبيه وأخيه (ولم يَظهر ربحٌ لم يعتق) لأنه لا يملكه، وإنما هو ملك ربِّ المال.

(وإن ظهر ربح، عتق عليه) أي: المضارب (قَدر حصته، وسرى) العتق (إلى باقيِه إن كان) المضارب (موسرًا) بقيمة باقيه؛ لأنه ملكه بفعله فعتق عليه، أشبه ما لو اشتراه بماله.

وإن اشتراه ولم يظهر ربح، ثم ظهر بعد ذلك والعبد باقٍ في التجارة، فهو كما لو كان ظاهرًا (وغرم) المضارب (قيمته) أي: قيمة من

ص: 510

عتق عليه للمضاربة.

(وإن كان) المضارب (معسرًا لم يعتق منه إلا ما ملكه) ولا سراية، وإن أيسر بالبعض فقط، عتق قدرُ ما هو موسِرٌ به؛ وغرم قيمة ما عتق.

(وليس له) أي: المضارب (الشراء من مال المضاربة، إن ظهر) في المضاربة (ربح) لأنه شريك لرب المال فيه (وإلا) بأن لم يظهر رِبح (صحَّ كشراء الوكيل من موكِّله) فيشتري من ربِّ المال أو من نفسه بإذن ربِّ المال.

(وليس له) أي: المضارب (وطءُ أمةِ المضاربة، ولو ظهر ربح) كالأمَة المشتركة (فإن فعل) أي: وطئ المضاربُ أمةَ المضاربة (فعليه المهر) إن لم يكن الوطء بإذن ربِّ المال (و) عليه (التعزير) نص عليه

(1)

(ولا حدّ، ولو لم يظهر ربح) لأن ظهور الربح ينبني على التقويم، والتقويم غير متحقق؛ لأنه يحتمل أن السلع تساوي أكثر مما قُوِّمت به، فيكون ذلك شُبهة في درء الحدِّ.

(وإن علقت منه) أي: المضارب (ولم يظهر في المال رِبح، فولدُهُ رقيق) ملك لربِّ المال؛ لأنه لا ملك له، ولا شبهة ملك.

(وإن ظهر ربح) في المضاربة، ووطئ المضاربُ منها أَمَةً، وعلقت منه (فالولد حرٌّ، وتصير) الأمَة (أم ولد له) أي: المضارب (وعليه قيمتها) يوم إحبالها، كالأمَة المشتركة إذا أحبلها أحد الشريكين، ولا مهر عليه، ولا فداء للولد، كما يأتي في الأمَة المشتركة.

(وليس لربِّ المال وطء الأمة) من مال المضاربة (أيضًا؛ ولو عدم الربح) لأنه ينقصها إن كانت بكرًا، ويعرِّضها للخروج من المضاربة

(1)

مسائل الكوسج (6/ 2999) رقم 2230، والمغني (7/ 155).

ص: 511

والتلف (فإن فعل) أي: وطيء ربُّ المال أمةَ المضاربة (فلا حد عليه) بذلك؛ لأنها ملكه.

(وإن أحبلها صارت أمَّ ولد له، وولده حر، وتخرج من المضاربة) لأن أمَّ الولد لا يصح بيعها، وتحسب عليه قيمتها، ويضاف إليها بقية المال، فإن كان فيه ربح، فللعامل حصته منه.

(وليس له) أي: المضارب (أن يضارب لآخر، إذا كان فيه ضرر على الأول) بلا إذنه، ككون المال الثاني كثيرًا فيستوعب زمانه، فيشغله عن تجارة الأول.

(فإن فعل) أي: ضارب لآخر مع تضرُّرِ الأول (حرم، وردَّ نصيبه من الربح في شركة الأول) نص عليه

(1)

؛ لأنه استحق ذلك بالمنفعة التي استحقت بالعقد الأول، فينظر ما ربح في المضاربة الثانية، فيدفع إلى ربِّ مالها منه نصيبه؛ لأن العدوان من المضارب لا يسقط حقَّ رب المال الثاني، ويأخذ المضارب نصبيه من الربح فيضمه إلى ربح المضاربة الأولى فيقتسمانه، وقال في "المغني" و"الشرح": النظر يقتضي أن رب المضاربة الأولى لا يستحق من ربح الثانية شيئًا؛ لأنه إنما يستحقّ بمال أو عمل، وهما منتفيان، وتعدي المضارب بترك العمل واشتغالُه عن المال الأول لا يوجب عوضًا، كما لو اشتغل بالعمل في مال نفسه أو آجر نفسه.

(وإن لم يكن فيه) أي: في ضرابه لثانٍ (ضرر على الأول، ولم يكن) الأول (اشترط للعامل نفقة، أو كان) ضرابه للثاني (بإذنه) أي: الأول (جاز) مطلقًا؛ لانتفاء الضرر في الأولى، والإذن في الثانية (وامتنع

(1)

الفروع (4/ 384).

ص: 512

الردُّ) أي: ردُّ نصيب العامل من المضاربة الثانية في الأولى، بل نصيبه له وحده، وإن كان ربُّ الأولى اشترط للعامل النفقة، لم يأخذ لغيره مضاربة، وإن لم يتضرر. نص عليه

(1)

. قاله في "الفائق"، وقَدَّمه في "الشرح"، وحمله الموفق على الاستحباب.

(وإن أخذ) إنسان (من رجل مضاربة، ثم أخذ) المضارب (من آخر بضاعة، أو عمل في مال نفسه واتَّجر فيه، فربحه في مال البضاعة لصاحبها، وفي مال نفسه له) لا حق لربِّ المضاربة فيه؛ لأنه لا عمل منه ولا مال.

(وإن دفع) ربُّ المال (إليه) أي: إلى المضارب (ألفين في وقتين لم يخلطهما) بغير إذن ربِّ المال؛ لأنه أفرد كلَّ واحد بعقد، فكانا عقدين، فلا تجبر وضيعة أحدهما بربح الآخر، كما لو نهاه عن ذلك.

(فإن أذن) ربُّ المال (له) أي: المضارب في الخلط (قبل تصرُّفه) أي: المضارب (في) المال (الأول) جاز (أو) أذنه في الخلط (بعده) أي: التصرف (وقد نضَّ) الأول (جاز، وصار) المال كله (مضاربة واحدة) كما لو دفعه إليه دفعة واحدة (وإلا) بأن تصرَّف في الأول ولم ينضَّه، وأذنه في الخلط (فلا) يجوز الخلط لأن حكم العقد الأول استقر، فكان ربحه وخسرانه مختصًّا به، فضمُّ الثاني إليه يوجب جبران خسران أحدهما بربح الآخر، فإذا شرط ذلك في الثاني فسدا.

(و‌

‌ليس لربِّ المال أن يشتري من مال المضاربة شيئًا لنفسه

؛ لأنه) أي: مال المضاربة (ملكه، وكشراء الموكِّل من وكيله، وكذلك شراء السيد من عبده المأذون) له في التجارة ولو استغرقته الديون، لأن ملك

(1)

المغني (7/ 161).

ص: 513

السيد لم يزل عنه.

واستحقاق انتزاع ما في يده لا يوجب زوال الملك كالمُفلِس، بخلاف شرائه من مُكاتَبه؛ لأن السيد لا يملك ما في يد المكاتَب، ولا تجب عليه زكاته.

(فإن اشترى أحدُ الشريكين نصيب شريكه، صح) لأنه ملك لغيره، فصح شراؤه كالأجنبي، إلا أن من علم مبلغ شيء لم يبعه صُبرة.

(وإن اشترى) أحدُ الشريكين (الجميع) أي: جميع مال الشركة (لم يصح) الشراء (في نصيبه) لأنه ملكه (وصح في نصيب شريكه) بناء على تفريق الصفقة.

(وليس للمضارب نفقة) عن مال المضاربة (ولو مع السفر) بمال المضاربة؛ لأنه دخل على أن يستحق من الربح شيئًا، فلا يستحق غيره، إذ لو استحقها؛ لأفضى إلى اختصاصه به حيث لم يربح سوى النفقة (إلا بشرط، كوكيل) قال الشيخ تقي الدين

(1)

: أو عادة.

(فإن شرطها) أي: النفقةَ ربُّ المال (له) أي: المضارب (وقَدَّرها، فحسنٌ) قطعًا للمنازعة.

(فإن لم يُقدِّرها) أي: النفقة (واختلفا) أي: تشاحا في قَدرِ النفقة (فله نفقة مثله عُرفًا، من طعام وكسوة) كالزوجة؛ لأن إطلاق النفقة يقتضي جميع ما هو من ضروراته المعتادة، فكان له النفقة والكسوة، وهي إباحة؛ فلا ينافي ما تقدم

(2)

: أن شرط دراهم معلومة يبطلها. وتردَّد ابنُ نصرِ الله: هل هي من رأس المال أو الربح؟ قلت: بل الظاهر أنها من

(1)

الاختيارات الفقهية ص / 213.

(2)

(8/ 481).

ص: 514

الربح.

(وإن كان معه) أي: المضارب (مال لنفسه يتَّجر فيه، أو) معه (مضاربة أخرى؛ أو) معه (بضاعة لآخر، فالنفقه على قدرِ المالين) لأن النفقة للعمل في المال، فكانت على قدرِ ما لكل فيه (إلا أن يكون ربّ المال قد شَرَط له) أي: العامل (النفقَةَ من ماله، مع علمه بذلك) أي: بما معه من مال نفسه، أو مضاربة، أو بضاعة لغيره.

(وإن لقيه) أي: العامل (ربُّ المال ببلد أذِنَ له في سفره إليه، وقد نضَّ) المال (فأخذه) ربُّه منه (فلا نفقة لرجوعه) إلى البلد الذي سافر منه؛ لأنه إنما استحق النفقة ماداما في القراض، وقد زال؛ فزالت النفقة.

(وإن مات) العامل (لم يجب تكفينه) لأن القراض انقطع بموته، فانقطعت النفقة.

(وله) أي: للعامل (التسري) أي: شراء أَمَة من مال المضاربة ليطأها (بإذنٍ) من ربِّ المال (فإذا اشترى) المضارب لنفسه (جاريةً) من مال المضاربة بإذن ربه (ملكها، وصار ثمنها قرضًا) في ذمته؛ لأن ربَّ المال قد أَذِنَ له في التسري، والإذن فيه يستدعي الإذن في الوطء؛ لأن البُضع لا يُباح إلا بملك أو نكاح، وربُّ المال لم يوجد منه ما يدلُّ على تبرُّعه بالثمن، فوجب كونه قرضًا؛ لأنه المتيقن.

(و‌

‌ليس للمضارب ربح حتى يستوفيَ رأس المال)

قال في "المبدع": بغير خلاف نعلمه. يعني أنه لا يستحق أخذ شيء من الربح حتى يُسلِّم رأس المال إلى ربه.

(فإن اشترى) المضارب (سلعتين، فربح في إحداهما) وخسر في

ص: 515

الأخرى (أو) ربح (في إحدى السفرتين، وخسر في الأخرى، جبرت الوضيعة من الربح كما يأتي) لأنه هو الفاضل عن رأس المال، وما لم يفضل، فليس بربح (والمضاربة بحالها) فلا تنفسخ في الوضيعة.

فصل

(وإن تَلِفَ رأسُ المال، أو) تلف (بعضُه) بعد تصرفه (أو تَعيَّب) رأس المال (أو خسر) رأس المال (بسبب مرض) عبد التجارة أو دابتها (أو) خسر بسبب (تَغيُّر صفة) كعبدٍ عَمِيَ، أو حنطة ابتلَّت (أو نزل السعر بعد تصرفه) أي: المضارب (فيه) أي: في رأس المال (جبرت الوضيعة من ربح باقيه قبل قسمته ناضًّا، أو تنضيضه مع المحاسبة) لأنها مضاربة واحدة، فلا شيء للعامل إلا بعد كمال رأس المال.

(وإن تلف بعضُ رأس المال قبل تصرُّفه) أي: العامل (فيه، انفسخت فيه) أي: التالف (المضاربة، وكان رأس المال) هو (الباقي خاصة) لأنه مال هلك على جهته قبل التصرُّف، أشبه التالف قبل القبض، وفارق ما بعد التصرُّف؛ لأنه دار في التجارة، وشرع فيما قصد بالعقد من التصرُّفات المؤدية للربح.

(وإن تلف المال) قبل التصرُّف (ثم اشترى) المضارب (سلعة في ذمته للمضاربة، فهي) أي: السلعة (له) أي: للمضارب (وثمنها عليه) سواء (علم) المضارب (تلَف المال قبل نقدِ الثمن، أو جَهِله) لأنه اشتراها في ذمته، وليست من المضاربة؛ لانفساخها بالتلف، فاختصَّت به، ولو كانت للمضاربة لكان مستدينًا على غيره، والاستدانة على الغير بغير إذنه لا تجوز (إلا أن يجيزه ربُّ المال) فيكون له؛ كما تقدم فيمن اشترى لغيره

ص: 516

سلعة في ذمته، ولم يسمِّه.

(وإن تلف) مال المضاربة (بعد الشراء قبل نَقْدِ ثمنها) أي: السلعة (بأن اشترى في الذِّمة) للمضاربة سلعة في ذمته، ثم تلف مال المضاربة قبل إقباضه (أو تلف هو) أي: مال المضاربة (والسلعة، فالمضاربة) باقية (بحالها) لأن الموجب لفسخها هو التلف، ولم يوجد حين الشراء ولا قبله (والثمن على ربِّ المال) لأن حقوق العقد متعلِّقة به كالموكِّل (ويصير رأسُ المال الثمنَ دون التالف) لفواته (ولصاحب السلعة مطالبة كلٍّ منهما) أي: من ربِّ المال والعامل (بالثمن) لبقاء الإذن من ربِّ المال، ولمباشرة العامل، فإن غرمه ربُّ المال، لم يرجع على أحد؛ لأن حقوق العقد متعلِّقة به (ويرجع به العامل) إن غرمه على ربِّ المال، لما تقدم.

(فلو كان) رأس (المال مائة، فخسر عشرة، ثم أخذ ربُّه عشرة، لم ينقص رأس المال بالخسران؛ لأنه قد يربح فيجبر الخسران) من الربح (لكنه) أي: رأس المال (ينقص بما أخذه ربُّ المال، وهو العشرة وقسطها من الخسران) و (هو درهم وتسع) درهم (ويبقى رأس المال ثمانية وثمانين وثمانية أتساع درهم، فإن كان) ربُّ المال (أخذ نصف التسعين الباقية) وهو خمسة وأربعون (بقي رأس المال خمسين) درهمًا (لأنه) أي: رب المال (أخذ نصف المال، فسقط نصف الخسران، وإن كان) ربُّ المال (أخذ خمسين، بقي أربعة وأربعون وأربعة أتساع) لأنه أخذ خمسة أتساع المال، فسقط خمسة أتساع الخسران، وهو خمسة وخمسة أتساع درهم، يبقى ما ذكر.

ص: 517

(وكذلك إذا ربحَ المالُ، ثم أخذ ربُّ المال بعضَه) أي: المال (كان ما أخذه) ربُّ المال (من الربح ورأس المال، فلو كان رأس المال مائة، فربح عشرين، فأخذها) ربُّ المال (فقد أخذ سدسه، فينقص المال) وهو مائة (سدسه: ستة عشر وثلثين، وقسطها) من الربح (ثلاثة وثلث، بقي رأس المال ثلاثة وثمانين وثلثًا) ولو كان أخذ ستين، بقي رأس المال خمسين؛ لأنه أخذ نصف المال، فبقي نصف المال، وإن أخذ خمسين بقي ثمانية وخمسون وثلث؛ لأنه أخذ ربع المال وسدسه، فيبقى ثلثه وربعه، وهو ما ذكرنا.

(ولو اشترى) العامل (عبدين بمائة، فتلف أحدهما، وباع) العامل (الآخر بخمسين، فأخذ منها ربُّ المال خمسة وعشرين، بقي رأس المال خمسين؛ لأن ربَّ المال أخذ نصف المال الموجود، فسقط نصف الخسران. ولو لم يتلف العبد، وباعهما) أي: العبدين العامل (بمائة وعشرين، فأخذ ربُّ المال ستين، ثم خسر العامل فيما معه) من المال (عشرين، فله من الربح خمسة؛ لأن سدس ما أخذه ربُّ المال ربح) وسدسه عشرة (للعامل نصفه) خمسة، إذا كانت المضاربة على أن الربح بينهما نصفين (وقد انفسخت المضاربة فيه) بأخذ ربِّ المال له (فلا يجبر به خسران الباقي) لمفارقته إياه.

(وإن اقتسما) أي: المتقارضان (العشرينَ الربحَ خاصةً، ثم خسر) المال (عشرين، فعلى العامل ردُّ ما أخذه، وبقي رأس المال تسعين؛ لأن العشرة الباقية مع ربِّ المال تُحسب من رأس المال. ومهما بقي العقد على رأس المال، وجب جبر خسرانه من ربحه؛ وإن اقتسما الربح) لأنها

ص: 518

مضاربة واحدة.

(وتحرم قسمته) أي: الربح (والعقد باق إلا باتفاقهما) على قسمته؛ لأنه مع امتناع ربِّ المال وقاية لرأس ماله؛ لأنه لا يأمن الخسران، فيجبره بالربح، ومع امتناع العامل لا يأمن أن يلزمه ردُّ ما أخذ في وقت لا يقدر عليه، فلا يجبر واحد منهما.

(قال) الإمام (أحمد) -وقد سُئل عن المضارب يربح ويضع مرارًا-: يرد الوضيعة على الربح (إلا أن يقبض رأسَ المال صاحبُه، ثم يرده إليه، فيقول: اعمل به ثانية، فما ربح بعد ذلك لا يجبر به وضيعة الأول) لأنه مضاربة ثانية. قال: فهذا ليس في نفسي منه شيء (وأما ما لا يدفع) إليه (فحتى يحتسبا حسابًا كالقبض) كما قال ابن سيرين (قيل: وكيف يكون حسابًا كالقبض؟ قال: يظهر المال، يعني ينضُّ ويجيء، فيحتسبان عليه، وإن شاء صاحبه قبضه، قيل له) أي: الإمام (فيحتسبان على المتاع؟ قال: لا يحتسبان إلا على الناضِّ؛ لأن المتاع قد ينحط سعره ويرتفع. انتهى) ما رواه الأثرم

(1)

عنه رحمه الله.

(وأما قبل ذلك) أي: قبل قبض ربِّ المال رأس ماله وتنضيضه مع المحاسبة (فالوضيعة) إذا حصلت (تحسب من الربح) لبقاء المضاربة.

(وكذلك‌

‌ لو طلب أحدُهما قِسمةَ الربح دون رأس المال، لم تجب إجابته

؛ لأنه) أي: الممتنع (لا يأمن الخسران في الثاني) أي: ثاني الحال، فإن كان الممتنع المالك، فهو يجبر الخسران بالربح، وإن كان العامل، فإنه لا يأمن أن يلزمه الردُّ في قوت لا يقدر عليه، وتقدم.

(وإن اتفقا) أي: المتقارضان (على قَسْمه) أي: الربح (أو) على

(1)

لعله في مسائله ولم تطبع، وقد نقله عنه -أيضًا- ابن قدامة في المغني (7/ 169).

ص: 519

(قسم بعضه، أو) اتفقا (على أن يأخذ كلُّ واحد منهما كلَّ يوم قدْرًا معلومًا، جاز) لأن الحق لهما لا يعدوهما.

(وإتلاف المالك للمال كقسمه) الربح (فيغرم حصة عامل) من الربح (كـ) ـما لو أتلفه (أجنبي) فإنه يغرم للعامل حصته، ولربِّ المال رأس ماله وحصته.

وإن قُتل قِنُّ المضاربة، فلربِّ المال القصاص بشرطه، وتبطل المضاربة فيه إذن لذهابه، وله العفو على مال، ويكون كبدل المبيع، والزيادة على ثمنه ربح، ومع ربح القَوَد إِليهما؛ لاشتراكهما فيه.

(ومن الربح مهر) وجب بوطء أَمَةٍ من مال المضاربة، أو بتزويجها باتفاقهما (وثمرة) ظهرت من شجرة اشتري من مالها (وأجرة) وجبت بعقد على شيء من مال المضاربة، أو بتعدٍّ عليه (وأرش عيب) وأَرش جناية (ونتاج) نتجته بهيمتها.

(وإذا ظهر ربح) في المال (لم يكن له) أي: العامل (أخذ شيء منه إلا بإذن ربِّ المال) لأن نصيبه مُشاع، وليس له أن يقاسم نفسه، ولأن ملكه عليه غير مستقر، ولأنه وقاية لرأس المال ولا يؤمن الخسران.

(ويملك العامل حصته من الربح بالظهور قبل القسمة، كربِّ المال وكمساقاة) لأن هذا الجزء مملوك، ولابُدَّ له من مالك، وربُّ المال لا يملكه اتفاقًا

(1)

، فلزم أن يكون للمضارب، ولأنه يملك المطالبة بالقسمة، ولا يمتنع أن يملكه، ويكون وقاية لرأس المال (ويستقر الملك فيها) أي: ملك العامل في حصته (بالمقاسمة، وبالمحاسبة التامة) لأنه قبل ذلك عُرضة لأن يخرج عن يده لجبران خسران (وتقدم نصُّ أحمد فيه

(1)

انظر: الإشراف لابن المنذر (1/ 108).

ص: 520

قريبًا.

وإن طلب العاملُ البيعَ) أي: بيع مال المضاربة (مع بقاء قِراضه، أو فسخه، فأبى ربُّ المال) البيع (أُجبر) عليه ربُّ المال (إن كان فيه) أي: المال (ربح) لأن حقَّ العامل في الربح لا يظهر إلا بالبيع، فأجبر الممتنع على توفيته كسائر الحقوق، فإن لم يكن فيه ربح ظاهر، لم يُجبر المالك على البيع، لأن العامل لا حق له فيه، وقد رضيه مالكه عَرضًا.

(وإن انفسخ القراض، والمال عَرْض، فرضى ربُّ المال أن يأخذ بماله من العَرْض، فله ذلك، فَيقوَّم) العَرْض (عليه، ويدفع حصة العامل) لأنه أسقط عن العامل البيع، وقد صدَّقه على الربح، فلا يُجبر على بيع ماله من غير حظ يكون للعامل في بيعه، إن لم يكن حيلة على قطع ربح عامل، كشرائه خَزًّا في الصيف ليربح في الشتاء ونحوه، فيبقى حقُّه في ربحه.

(ثم إن ارتفع السعر بعد ذلك) أي: بعد التقويم على المالك ودفعه حصة العامل (لم يطالبه العامل بشيء) كما لو ارتفع بعد بيعه لأجنبي.

(وإن لم يَرْضَ) ربُّ المال (بأخذه) أي: المال (من ذلك) العَرْض (وطلب البيع، أو طلبه) أي: البيع (ابتداء) من غير فسخ المضاربة (فله ذلك، ويلزم المضارب بيعه، ولو لم يكن في المال ربح) وقبض ثمنه؛ لأن عليه رد المال ناضًّا كما أخذه.

(وإن نضَّ) العامل (رأس المال جميعه) وطلب ربُّ المال أن ينض الباقي (لزم العامل أن ينض له الباقي) كرأس المال.

(وإن كان رأس المال دراهم، فصار دنانير، أو عكسه) بأن كان دنانير، فصار دراهم (فكعَرْض) إن رضيه ربُّ المال، وإلا؛ لزم العامل

ص: 521

إعادته كما كان، وكذا لو كان رأس المال صحاحًا فنضَّه قِراضة أو مكسَّرة.

(وإن انفسخ) القراض (والمال دَيْن، لزم العامل تقاضيه، سواء كان فيه ربح؛ أو لم يكن) فيه ربح؛ لأن المضاربة تقتضي ردَّ رأس المال على صفته، والديون لا تجري مجرى الناض، فلزمه أن ينضه، ولا يقتصر في التقاضي على قدْر رأس المال.

(فإن اقتضى) العامل (منه قَدْرَ رأس المال، أو كان الدَّين قَدْر الربح أو دونه) أي: الربح (لزم العامل تقاضيه -أيضًا-) لأنه إنما يستحق نصيبه من الربح عند وصوله إليهما على وجه يمكن قسمته، ووصول كل واحد منهما إلى حقه منه، ولا يحصل ذلك إلا بعد تقاضيه (ولا يلزم الوكيل تقاضي الدَّين) لأنه ليس مقتضى عقد الوكالة.

(وإن قارض) المريض (في المرض) المَخُوف، ومات فيه (فالربح من رأس المال، وإن زاد على تسمية المِثْل) أي: ما يُسمَّى لمِثله (ولا يحتسب

(1)

من ثلثه، ويُقدَّم به على سائر الغرماء) لأن ذلك لا يأخذه من ماله، وإنما يستحقه بعمله من الربح الحادث، ويحدث على ملك المضارب دون المالك، بخلاف ما لو حابى الأجير في الأجر، فإنه يحتسب بما حاباه من ثلثه؛ لأن الأجر يؤخذ من ماله.

(وإن ساقى) المريض (أو زارع في مرض موته) المَخُوف (حُسِبَ) الزائد (من الثلث) لأنه من عين المال، بخلاف الربح في المضاربة.

(وإن مات المضارب -فجأة أو لا) أي: غير فجأة- (ولم يُعرف مال المضاربة، لعدم تعيين العامل له) أي: للمال (وجُهل بقاؤه، فهو دين

(1)

في "ذ" زيادة: "به".

ص: 522

في تركته) أي: العامل (لصاحبه، أُسوة الغُرماء) لأن الأصل بقاء المال في يد الميت واختلاطه بجملة التركة، ولا سبيل إلى معرفة عينه، فكان دينًا، ولأنه لا سبيل إلى إسقاط حق مالك المال، ولا إلى إعطائه عينًا من التركة؛ لاحتمال أن تكون غير عين ماله، فلم يبقَ إلا تعلقه بالذمة.

(وكذلك الوديعة) إذا مات الوديع وجُهل بقاؤه.

(ومثله لو مات وصي، وجُهل بقاء مال موليه) فيكون دينًا في تَرِكته. قلت: وقياسه ناظر وقف وعامله، إذا قبض للوقف شيئًا، ومات، وجُهل بقاؤه. وقد وقعت مسألة الناظر، وأفتيتُ فيها باللزوم.

(وإذا مات أحد المتقارضين، أو جُنَّ) جنونًا مطبقًا (أو توسوس) بحيث لا يحسن التصرُّف (أو حُجِرَ عليه لسفه، انفسخ القراض) لأنه عقد جائز من الطرفين، فبطل بذلك كالوكالة.

(فإن كان) الميت، أو المجنون ونحوه (رب المال، فأراد الوارث) الجائز التصرُّف (أو وليه) إن لم يكن الوارث جائز التصرف (إتمامه) أي: القراض أي: البقاء عليه (والمال نضٌّ، جاز، ويكون رأسُ المال) الذي أعطاه الموروث (وحصتُه من الربح رأسَ المال، وحصةُ العامل من الربح شركة له مشاع) وهذه الإشاعة لا تمنع صحة العقد؛ لأن الشريك هو العامل، وذلك لا يمنع التصرُّف.

(وإن كان المال عرضًا وأرادوا) أي: الوارث مع العامل (إتمامه) أي: القراض (لم يجز، لأن القِراض قد بطل بالموت. وكلام) الإمام (أحمد

(1)

في جوازه محمول على أنه يبيع ويشتري بإذن الورثة، كبيعه وشرائه بعد انفساخ القِراض) ذكره الموفق. وللعامل بيع عُروض وإقتضاء

(1)

كتاب الروايتين والوجهين (1/ 395)، والمغني (7/ 175).

ص: 523

ديون كفسخ والمالك حيٌّ.

(وإن كان) الميت، أو المجنون ونحوه هو (العاملَ، وأراد ربُّ المال ابتداء القراض مع وارثه) أي: وارث العامل (أو) مع (وليه) إن لم يكن الوارث جائز التصرُّف (والمال ناضٌّ، جاز) لعدم المانع.

(وإن كان) المال (عَرْضًا، لم يجز) القراض عليه (ودفع) العَرْض (إلى الحاكم فيبيعه) ويقسم الربح على ما شرطا عند ابتداء المضاربة، ولا يبيعه أحدهما بغير إذن الآخر؛ لاشتراكهما فيه.

فصل

(والعامل أمين) في مال المضاربة؛ لأنه متصرِّف فيه بإذن مالكه على وجه لا يختص بنفعه، فكان أمينًا كالوكيل، وفارق المستعير؛ لأنه يختص بنفع العارية (لا ضمان عليه فيما تَلِفَ) من مال المضاربة (بغير تعدٍّ، ولا تفريط) كالوديع والمرتَهِن.

(والقول قوله) أي: العامل (في قَدرِ رأس المال) لأن ربَّ المال يدعي عليه قبض شيء، وهو يُنكره، والقول قول المنكر، فلو جاء بألفين وقال: رأس المال ألف، والربح ألف، فقال ربُّ المال: بل الألفان رأس المال، فالقول قول العامل (و) في قَدْر (الربح) لأنه أمين (و) في (أنه رَبحَ أو لم يربح، وفيما يدعيه من هلاك وخسران) لأن تأمينه يقتضي ذلك. ومحل ذلك: إن لم تكن لربِّ المال بينة تشهد بخلاف ذلك، وإن ادَّعى الهلاك بأمر ظاهر، كُلِّف بينة تشهد به، ثم حلف أنه تلف به.

(و) القول قوله فيـ (ـما يذكر أنه اشتراه لنفسه أو للقراض) لأن الاختلاف هنا في نية المشتري، وهو أعلم بما نواه لا يطلع عليه أحد

ص: 524

سواه، ومثله: وكيل، وشريك عِنان، ووجوه.

(و) يُقبل أيضًا قول العامل في نفي (ما يُدَّعى عليه من خيانة، أو جناية، أو مخالفته شيئًا مما شرطه) ربُّ المال (عليه) لأن الأصل عدم ذلك.

ولو كان المضارب يدفع إلى ربِّ المال في كلِّ وقت شيئًا معلومًا، ثم طلب ربُّ المال رأسَ ماله، فقال المضارب: كل ما دفعت إليك من رأس المال، ولم أكن أربح شيئًا، فقول المضارب في ذلك. نصَّ عليه في رواية مُهنَّا

(1)

.

(ويُقبل قوله) أي: العامل (: إنه) أي: ربّ المال (لم ينهه عن بيعه نَساء، أو) أنه لم ينهه عن (الشراء بكذا) لأن الأصل معه (وتقدم

(2)

في الوكالة.

وكذا لو اشترى) العامل (عبدًا فقال ربُّ المال: كنت نهيتك عن شرائه، فأنكر) العامل النهي، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدمه.

(والقول قول ربِّ المال في ردِّه) أي: المال، (إليه) أي: إذا اختلفا في ردِّ مال المضاربة، فالقول قول ربِّ المال بيمينه؛ لأنه منكِرٌ، والعامل قبض المال لنفع له فيه، فلم يُقبل قوله في ردِّه كالمستعير.

(و) القول قول ربِّ المال أيضًا (في الجزء المشروط للعامل بعد الربح) فلو قال: شرطتَ لي نصف الربح، وقال المالك: بل ثلثه، فالقول قول المالك؛ لأنه يُنكر السدس الزائد واشتراطَه له، والقول قول المُنكِر (كقَبوله) أي: قول المالك (في صفة خروجه) أي: المال (عن

(1)

مسائل مهنا لم تطبع، انظر: مسائل أبي داود ص / 199.

(2)

(8/ 457).

ص: 525

يده) أي: يد الآخذ.

(فلو أقام كلُّ واحد منهما بينة بما قاله، قُدِّمت بينة العامل) لأن معها زيادة علم، وهو ما يقتضي عدم ضمان المال، ولأنه خارج.

(فلو دفع إليه مالًا يتَّجِر به، ثم اختلفا، فقال رب المال: كان قِراضًا) على النصف مثلًا (فربحه بيننا، وقال العامل: كان قَرضًا، فربحه كله لي، فالقول قول ربِّ المال) لأن الأصل بقاء ملكه عليه (فيحلف) ربُّ المال (ويقسم الربح بينهما) نصفين.

(وإن أقام كلُّ واحد منهما بينة بدعواه، تعارضتا) أي: البينتان، وسقطتا (وقسم) الربح (بينهما نصفين) نص عليه

(1)

في رواية مُهنَّا. واقتصر عليه في "المغني"؛ لأن الأصل بقاء ملك ربِّ المال عليه، وتبع الربح، لكن قد اعترف بنصف الربح منه للعامل، فبقي الباقي على الأصل. والمذهب: تقدم بينة العامل، كما قدَّمه أولًا.

(وإن قال ربُّ المال: كان بضاعة) فرِبْحه لي (وقال العامل: كان قِراضًا) فرِبْحه لنا (أو) كان (قرضًا) فرِبحه لي (حلف كلٌّ

(2)

منهما على إنكار ما ادَّعاه خصمه) لأن كلًّا منهما منكِرٌ لما ادَّعاه خصمه عليه، والقول قول المُنكِر (وكان للعامل أُجرة) مِثْل (عمله لا غير) والباقي لربِّ المال؛ لأنه نماء ماله، تابع له.

(وإن خسر المالُ، أو تلف) المال (فقال ربُّ المال: كان قرضًا، وقال العامل:) كان (قِراضًا أو بضاعة. فقول ربِّ المال) لأن الأصل في القابض لمال غيره الضمان.

(1)

المغني (7/ 187).

(2)

في "ح" متن الإقناع (2/ 467) زيادة: "واحد".

ص: 526

(وإن قال العامل) في مال المضاربة: (ربحت ألفًا ثم خسرتها، أو هلكت. قُبِلَ قوله) بيمينه؛ لأنه أمين.

(وإن قال: غلطتُ) في قولي (أو نسيتُ، أو كذبتُ، لم يُقبل) قوله؛ لأنه رجوع عن إقرار بحقٍّ لآدمي.

ولو خسر العامل، واقترض ما تمَّم به رأسَ المال ليعرضه على ربِّه تامًّا، فعَرَضه عليه، وقال: هذا رأس مالك، فأخذه، فله ذلك، ولا تقبل رجوع العامل عن إقراره له، ولا تُقبل شهادة المقرِض، لأنه يجرُّ بها إلى نفسه نفعًا، وليس له مطالبة ربِّ المال، بل العامل.

(وإن

(1)

دفع رجل إلى رجلين مالًا قِراضًا على النصف) له، والنصف لهما (فنضَّ المال، وهو) أي: المال (ثلاثة آلاف، فقال ربُّ المال: رأس المال ألفان؛ فصدَّقه أحدهما، وقال الآخر: بل هو ألف، فقول المُنكِر مع يمينه، فإذا حلف أنَّه ألف، فالربح ألفان، ونصيبه منهما خمسمائة، يبقى ألفان وخمسمائة، يأخذ ربُّ المال ألفين) لأن الآخر يصدقه (يبقى خمسمائة ربحًا بين ربِّ المال والعامل الآخر، يقتسمانها أثلاثًا، لربِّ المال ثلثاها، وللعامل ثلثها) لأن نصيب ربِّ المال من الربح نصفه، ونصيب هذا العامل ربعه، فيقسم بينهما باقي الربح على ثلاثة، وما أخذه الحالف فيما زاد عَلى قَدْرِ نصيبه كالتالف منهما، والتالف يحسب في المضاربة من الربح.

(وإذا شرط المضارب النفقة، ثم ادَّعى أنه أنفق عن ماله، وأراد الرجوع، فله ذلك) أي: الرجوع (ولو بعد رجوع المال إلى مالكه) لأنه أمين، فكان القول قوله، كالوصي إذا ادَّعى النفقة على اليتيم.

(1)

في "ح": "وإذا".

ص: 527

(ولو دفع عبدَه، أو) دفع (دابته إلى من يعمل بها بجزء الأجرة) جاز.

(أو) دفع (ثوبًا) إلى من (يخيطه، أو) دفع (غزلًا) إلى من (ينسجه بجزء من ربحه) قال في "المغني": وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصِّله قمصانًا ليبيعها، وله نصف ربحها بحق عمله، جاز. نصَّ عليه في رواية حرب

(1)

. وإن دفع غزلًا إلى رجل ينسجه ثوبًا بثلث ثمنه، أو ربعه، جاز. نص عليه

(2)

.

(أو) دفع ثوبًا إلى من يخيطه، أو غزلًا إلى من ينسجه (بجزء منه) مشاع معلوم (جاز) لأن ذلك عين تنمى بالعمل عليها، فصح العقد عليها ببعض نمائها، كالشجر في المساقاة، والأرض في المزارعة، وبهذا يتبين أن تخريجها على المضاربة بالعُروض فاسد، فإن المضاربة إنما تكون بالتجارة والتصرُّف في رقبة المال، وهذا بخلافه.

وعلى قياس ما سبق: لو دفع شبكته إلى صياد ليصيد بها، ويكون بينهما نصفين. قاله الموفق. وقال ابن عقيل: لا يصح، والصيد كله للصائد، وعليه أُجرة الشبكة.

(ومثله) أي: ما ذكر (حصاد زرعه) بجزء مُشاع منه (وطحن قمحه) بجزء مُشاع منه (ورضاع رقيقه) بجزء مُشاع منه (وبيع متاعه بجزء مُشاع من ربحه، واستيفاء مال بجزء منه، ونحوه) كبناء دار، ونَجْرِ باب، وضرب حديد نحو إبر بجزء مُشاع منها (وغزوه بدابته) أي: فرسه (بجزء

(1)

المغني (7/ 117).

(2)

مسائل عبد الله (3/ 972) رقم 1324، ومسائل أبي داود ص / 199، والمغني (7/ 117).

ص: 528

من السهم) الذي يعطى لها، و"ال" فيه للجنس، فيصدق بالسهمين إن كانت عربية (وهي) أي: هذه المسألة (مسألة قفيز الطحان) ذكره في "الإنصاف"، وما رواه الدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنَّهُ نَهَى عَنْ عَسْبِ الفَحْلِ، وَقَفيزِ الطَّحَّانِ"

(1)

لا ينافى ذلك؛ لأن المقدَّر هنا جزء مُشاع، بخلاف ما إذا قَدَّر له قفيزًا، فإنه لا يدري الباقي بعد القفيز كم هو؟ فتكون المنفعة مجهولة. أشار إليه في "المغني". وأنت خبير بأن الحقيق أن يُسمَّى بمسألة قفيز الطحان إذا سُمِّي له قفيز، لا جزء مُشاع.

(لكن لو دفع إليه الثوب) ليخيطه، أو ينسجه (ونحوه) كالقمح

(1)

الدارقطني (3/ 47). وأخرجه -أيضًا- أبو يعلى (2/ 301) حديث 1024، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (2/ 186) حديث 711، والبيهقي (5/ 339) من طريق سفيان الثوري، عن هشام أبي كليب، عن عبد الرحمن بن أبي نعم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ: نُهيَ عن عسب الفحل

الحديث.

قال الذهبي في الميزان (4/ 306)؛ هذا منكر، ورَجُله [هشام أبو كليب] لا يُعرف. وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان (2/ 44): وهذا الحديث لا يصح. وقال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 107): رواه الدارقطني من رواية أبي سعيد بإسنادٍ فيه مجهول. وقال ابن حجر في الدراية (2/ 190): في إسناده ضعف.

وأخرجه الطحاوي -أيضًا- في شرح مشكل الآثار (2/ 186) حديث 709، من طريق أبي يوسف، عن عطاء بن السائب، عن ابن أبي نعيم، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإسناده ضعيف، لاختلاط عطاء، ولم يُذكر أبو يوسف فيمن سمع منه قبل اختلاطه.

وأخرجه مسدد في مسنده -كما في المطالب العالية (2/ 98) حديث 1420 - عن خالد، عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن أبي نعم، مرسلًا.

قال الحافظ: هذا مرسل حسن.

قلنا: خالد هو ابن عبد الله الواسطي، وروايته عن عطاء بعد الاختلاط. انظر: الكواكب النيرات ص / 327.

تنبيه: "النهي عن عسب الفحل" ثابت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما رواه البخاري في الإجارة، باب 21، حديث 2284.

ص: 529

ليطحنه (بالثلث أو الربع ونحوه) كالخمس (وجعل) الدافع (له) أي: للعامل (مع ذلك) الجزء المشاع (درهمًا، أو درهمين ونحوه) كأربعة دراهم (لم يصح) ذلك. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول

(1)

: لا بأس بالثوب يدفع بالثلث أو الربع. وسُئل عن الرجل يعطي الثوب بالثلث ودرهم أو درهمين؟ قال: أكرهه

(2)

؛ لأن هذا شيء لا يُعرف، والثلث إذا لم يكن معه شيء نراه جائزًا؛ لحديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم "أعْطى خَيبَر على الشَّطرِ"

(3)

، قيل لأبي عبد الله

(4)

: فإن كان النَّسَّاج لا يرضى حتَّى يزاد على الثلث درهمًا، قال: فليجعل له ثلثًا وعشر الثلث، أو نصف عشر وما أشبهه.

(ولو دفع) إنسان (دابته، أو) دفع (نَحْله لمن يقوم به بجزء من نمائه، كدرٍّ، ونسل، وصوف، وعسل ونحوه) كمسك وزباد (لم يصح)

(1)

انظر: مسائل أبي داود ص / 199.

(2)

انظر: مسائل ابن هانئ (2/ 32) رقم 1307، 1308.

(3)

أخرجه أبو داود في البيوع والإجارات، باب 36، حديث 3414، وأحمد (3/ 367)، والطحاوي (3/ 247، 4/ 113)، والدارقطني (2/ 133)، والبيهقي (4/ 123)، وابن عبد البر في التمهيد (6/ 461)، ولفظه: أفاء الله على رسوله خيبر فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 120 - 121): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

وفي الباب عن ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه البخاري في الإجارة، باب 22، حديث 2285، وفي الحرث والمزارعة، باب 8، 9، 11، 17، حديث 2338 - 2329، 2331، 2338، وفي الشركة، باب 11، حديث 2499، وفي الشروط، باب 5، حديث 2720، وفي فرض الخمس، باب 19، حديث 3152، وفي المغازي، باب 40، حديث 4248، ومسلم في المساقاة، حديث 1551، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع.

(4)

المغني (7/ 117 - 118).

ص: 530

لحصول نمائه بغير عمل منه (وله) أي: العامل (أجرة مثله) لأنه عمل بعِوض لم يسلم له.

(و) إن دفع ذلك (بجزءٍ) مُشاع معلوم (منه) أي: من المدفوع (يجوز) إذا كان العقد على (مدة معلومة) كسنة ونحوها (ونماؤه) أي: المدفوع (ملك لهما) على حسب ملكهما في الأصل؛ لأنه نماء ملكهما.

فصل

القسم (الثالث: شركة الوجوه: وهي أن يشتريا في ذمتيهما بجاهيهما شيئًا يشتركان في ربحه، من غير أن يكون لهما رأس مال، على أن ما اشترياه، فهو بينهما نصفين، أو أثلاثًا، أو نحو ذلك) مما يتفقان عليه، سُميت بذلك؛ لأنهما يعاملان فيها بوجههما

(1)

. والجاه والوجه واحد. يقال: فلان وجيه، إذا كان ذا جاه.

وهي جائزة؛ إذ معناها: وكالة كلِّ واحد منهما صاحبَه في الشراء والبيع والكفالة بالثمن، وكلُّ ذلك صحيح؛ لاشتمالها على مصلحة من غير مفسدة.

(فيكون الملك) فيما يشتريان (بينهما على ما شرطاه، ويبيعان ذلك، فما قسم الله من الربح فهو بينهما) على ما شرطا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "المؤمنونَ على شُروطِهم"

(2)

ولأن عقدها مبناه على الوكالة فيتقيد بما أذن فيه، وسواء (عيَّنا جنسه) أي: ما يشتريان (أو قَدْره، أو قيمته، أو لا) لأن ذلك إنما يُعتبر في الوكالة المفردة، أما الوكالة الداخلة في ضمن

(1)

في "ح": "بوجوههما".

(2)

تقدم تخريجه (7/ 107) تعليق رقم (3).

ص: 531

الشركة فلا يُعتبر فيها ذلك، بدليل المضاربة، وشركة العينان، فإن في ضمنهما توكيلًا، ولا يُعتبر فيهما شيء من هذا.

(ف‌

‌لو قال كلٌّ منهما للآخر: ما اشتريت من شيء فبيننا، صح)

لما تقدم (وما ربحا، فهو بينهما على ما شرطاه) كشركة العِنان وغيرها.

(وكلٌّ منهما وكيلُ صاحِبه كفيلٌ عنه بالثمن) لأن مبناها على الوكالة والكفالة.

(والوضيعة على قَدْر ملكيهما فيه) أي: فيما يشتريانه، فعلى من يملك فيه الثلثين ثلثا الوضيعة، وعلى من يملك فيه الثلث ثلثها، سواء كانت لتلف، أو بيع بنقصان، وسواء كان الربح بينهما كذلك، أو لم يكن؛ لأن الوضيعة عبارة عن نقصان رأس المال، وهو مختص بملَّاكه، فوزع بينهما على قَدْرِ حصصهما.

(وهما) أي: شريكا الوجوه (في التصرُّف) بنحو بيع وإقرار، وخصومة (كشريكي العِنان فيما يجب لهما وعليهما) وفيما يمتنع، وسائر ما تقدم.

"تتمة": إذا قضى العامل بمال المضاربة دينه، ثم اتَّجر بوجهه، وأعطى ربَّ المال نصف الربح، فنقل صالح

(1)

: أما الربح، فأرجو إذا كان متفضلًا عليه.

فصل

القسم (الرابع: شركة الأبدان): أي شركة بالأبدان، فحُذفت الباء ثم أضيفت؛ لأنهم بذلوا أبدانهم في الأعمال لتحصيل المكاسب (وهي)

(1)

لم نقف عليه في مسائل صالح المطبوعة، وانظر الفروع (4/ 391).

ص: 532

ضربان:

أحدهما: (أن يشتركا) أي: اثنان فأكثر (فيما يتقبلان بأبدانهما في ذممهما من العمل، فهي شركة صحيحة) روى أبو طالب

(1)

: لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم، وليس لهم مال، مثل الصيادين، والبقَّالين، والحمَّالين، وقد أشرك النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين عَمَّار، وسعد، وابنِ مَسعودٍ، فجاءَ سعد بأسيرينِ، ولم يجِيئا بشيء. والحديث رواه أبو داود والأثرم

(2)

، وكان ذلك في غزوة بدر، وكانت غنائمها لمن أخذها قبل أن يشرِّك الله تعالى بين الغانمين، ولهذا نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَن أخذَ شيئًا فهو لَهُ"

(3)

فكان ذلك من قبيل المباحات.

ولا يشترط لصحتها اتفاق الصنعة، فتصح (ولو مع اختلاف الصنائع) كاشتراك حدَّاد، ونجَّار، وخيَّاط؛ لأنهم اشتركوا في مكسب

(1)

انظر: مسائل ابن هانئ (2/ 21) رقم 1260 - 1262، والإرشاد ص / 216.

(2)

أبو داود في البيوع، باب 30، حديث 3388، ولعل الأثرم رواه في سننه ولم تطبع. وأخرجه -أيضًا- النسائي في الأيمان، باب 47، حديث 3947، وفي البيوع، باب 105، حديث 4711، وفي الكبرى (3/ 110، 118)، و (4/ 61) حديث 4671، 6296، وابن ماجه في التجارات، باب 63، حديث 2288، وابن أبي شيبة (4/ 387)، والدارقطني (3/ 34)، والبيهقي (6/ 79)، وابن عساكر في تاريخه (20/ 321)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 207) حديث 1541، من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

وذكره ابن حزم في المحلى (8/ 123) وقال: إن هذا خبر منقطع؛ لأن أبا عبيدة لا يذكر من أبيه شيئًا.

وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود (5/ 53): وهو منقطع، فإن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئًا. وقال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (3/ 39): وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه.

(3)

تقدم تخريجه (7/ 157) تعليق رقم (3).

ص: 533

مباح، فصح كما لو اتفقت الصنائع.

(وما يتقبله أحدهما من العمل يصير في ضمانهما، يطالبان به، ويلزمهما عمله) لأن مبنى هذه الشركة على الضمان، فكأنها تضمنت ضمان كلِّ واحد منهما عن الآخر ما يلزمه.

(ويلزم غير العارف منهما) بذلك العمل (أن يقيم مقامه) في العمل، ليحصل المقصود لكلِّ من الشريكين والمستأجر.

(و‌

‌لو قال أحدهما: أنا أتقبل؛ وأنت تعمل، صحت الشركة)

جعلًا لضمان المتقبل كالمال.

(ولكل منهما المطالبة بالأجرة) لعمل تقبَّله هو، أو صاحبه (وللمستأجر دفعها إلى كلِّ) واحد (منهما، ويبرأ منها) أي: الأجرة (الدافع) بالدفع لأحدهما؛ لأن كلَّ واحد منهما كالوكيل عن الآخر.

(وإن تلفت) الأجرة (في يد أحدهما من غير تفريط فهي من ضمانهما) تضيع عليهما؛ لأن كلَّ واحد منهما وكيل الآخر في المطالبة والقبض (وما يتلف) من الأعيان أو الأجرة (بتعدي أحدهما، أو تفريطه، أو تحت يده على وجه يوجب الضمان عليه) كمنع أو جحود (فهو) أي: التالف (عليه وحده) لانفراده بما يوجب الضمان.

(وإن أقرَّ أحدهما بما في يده) من الأعيان (قبل) إقراره (عليه) وعلى شريكه) لأن اليد له، فيقبل إقراره بما فيها، بخلاف إقراره بما في يد شريكه، أو بدين عليه (ولا يُقبل إقراره بما في يد شريكه، ولا بدين عليه) أي: على شريكه؛ لأنه لا يَدَ له على ذلك.

الضرب الثاني ذكره بقوله: (ويصح) الاشتراك (في تملك

ص: 534

المباحات من الاحتشاش، والاصطياد، والتلصص على دار الحرب، وسائر المباحات) لما تقدم من نصِّ الإمام واحتجاجه

(1)

، و (كالاستئجار عليها) أي: على المباحات.

(وإن مرض أحدهما) أي: الشريكين (أو ترك العمل ولو بلا عذر، فالكسب بينهما) على ما شرطاه؛ لأن العمل مضمون عليهما؛ وبضمانهما له وجبت الأجرة، فتكون لهما، ويكون العامل منهما عونًا لصاحبه في حصته، ولا يمنع ذلك استحقاقه، كمن استأجر رجلًا ليقصر له ثوبًا، فاستعان بآخر.

(فإن طالبه) أي: المريض (الصحيحُ بأن يعمل) معه (أو أن يقيم مقامه من يعمل) معه (لزمه ذلك) لأنهما دخلا على أن يعملا، فإذا تعذر عمل أحدهما بنفسه، لزمه أن يقيم مقامه توفيةً لما يقتضيه العقد.

(فإن امتنع) المريض ونحوه من أن يقيم مقامه (فللآخر الفسخ) أي: فسخ الشركة، بل له فسخها وإن لم يمتنع، لأنها غير لازمة كما سبق.

(فإن اشتركا ليحملا على دابتيهما ما يتقبلان حمله في الذمة، والأجرة بينهما، صح) ذلك؛ لأن تقبلهما الحمل أثبت الضمان في ذمتهما (ولهما أن يحملاه على أي ظهر كان) والشركة تنعقد على الضمان كشركة الوجوه.

(وإن اشتركا في أجرة عين الدابتين) لم يصح (أو) اشتركا (في أُجرة أنفسهما إجارة خاصة، لم يصح) ذلك؛ لأن المُكتري استحق منفعة البهيمة التي استأجرها، أو نفعة المؤجر نفسه؛ ولهذا تنفسخ بموت

(1)

(8/ 533).

ص: 535

المؤجَر من بهيمة أو إنسان، فلم يتأتَّ ضمان، فلم تصح الشركة؛ لأن مبناها عليه.

(ولكلِّ) واحد (منهما أُجرة دابته، و) أُجرة (نفسه) لعدم صحة الشركة (فإن أعان أحدهما صاحبه في التحميل، كان له) عليه (أجرة مثله) لأنه عمل طامعًا في عوض لم يسلم له.

(ولو اشترك اثنان، لأحدهما آلة قصارة، وللآخر بيت، فاتفقا على أن يعملا) أي: أن يقصرا ما يتقبلان عمله من الثياب (بآلة هذا، في بيت هذا، والكسب بينهما، صح) ذلك؛ لأن الشركة وقعت على عملهما، والعمل يستحق به الربح في الشركة، والآلةُ والبيتُ لا يستحق بهما شيء؛ لأنهما يستعملان في العمل المشترك، فصارا كالدابتين اللتين يحملان عليهما ما يتقبلان حمله في ذمهما.

(فإن فسدت الشركة) لنحو جهالة ربح (قُسم الحاصل بينهما على قَدْرٍ أَجْرِ عملهما، و) على قَدْرِ (أجر الدار والآلة) لأن العوض قد أخذ في مقابلة تلك المنافع، فلزم توزيعه عليها بالمحاصَّة كما لو أجروها بأجر واحد.

(وإن كانت لأحدهما) أي: الشريكين، (آلة، وليس للآخر شيء، أو لأحدهما بيت، وليس للآخر شيء، فاتفقا) أي: الشريكان (على أن يعملا بالآلة، أو) على أن يعملا (في البيت والأجرة بينهما) أنصافًا، أو متفاضلة (جاز) لما ذكرنا فيما لو كان لأحدهما آلة وللآخر بيت.

(وإن دفع) إنسان (دابة إلى آخر ليعمل عليها، وما رزق الله بينهما على ما شرطاه) من تساوٍ أو تفاضل (صح، وهو يُشبه المساقاة

ص: 536

والمزراعة. وتقدم

(1)

قريبًا) في آخر المضاربة.

(ولو اشترك ثلاثة: لواحد دابة، ولآخر راوية، وثالث يعمل) بالراوية على الدابة، على أن ما رزقه الله فهو بينهم (أو اشترك أربعة: لواحد دابة، ولآخر رحًى، ولثالث دكان، ورابع يعمل) الطحن بالدابة والرحى في الدكان، وما رزقه الله فبينهم (ففاسدتان) لأنهما ليسا من قبيل الشركة ولا المضاربة؛ لأنه لا يجوز أن يكون رأس مالهما العروض، ولا إجارة؛ لأنها تفتقر إلى مدة معلومة وأجر معلوم، ففسدتا.

(وللعامل الأُجرة) لأنه هو المستأجر لحمل الماء والطحن (وعليه) أي: العامل (لرفقته أجرة آلتهم) لأنه استعملها بعِوض لم يسلم لهم، فكان لهم أجرة المِثْل، كسائر الإجارات الفاسدة.

(وقياس نصه

(2)

) أي. الإمام في الدابة يدفعها إلى آخر يعمل عليها، وما رزقه الله بينهما (صحَّتها) أي: مسألة اشتراك الثلاثة، ومثلها اشتراك الأربعة (واختاره الموفَّق وغيره) كالشارح، وقدَّمه في "الفروع" و"الرعاية" (قال المنقِّح: وهو أظهر، وصحَّحه في "الإنصاف") والأول اختيار القاضي وأكثر الأصحاب.

(ومن استأجر من الأربعة ما ذكر) من الدابة والرحى والدكان والعامل (صح) العقد (و) تكون (الأُجرة) بين الأربعة (بقَدْرِ القيمة) أي: توزع عليهم على قَدْرِ أَجرِ مِثْلِ الأعيان المؤجرة (كتوزيع المهر فيها إذا تزوَّج) الرجل (أربعًا) من النساء (بمهر واحد) كما يأتي في الصداق.

(وإن تقبَّل الأربعة) أي: صاحب الدابة، وصاحب الرحى،

(1)

(8/ 530 - 531).

(2)

المغني (7/ 117).

ص: 537

وصاحب الدكان، والعامل (الطحن في ذممهم) بأن قال لهم إنسان: استأجرتكم لطحن هذا القمح بمائة، فقبلوا (صح) العقد (و) تكون (الأجرة) بينهم (أرباعًا) لأن كلَّ واحد منهم مؤجر لطحن ربعه بربع الأجرة (ويرجع كلُّ واحد) عن الأربعة (على رفقته) الثلاثة (لـ) ـأجل (تفاوت قَدْرِ العمل) منهم (بثلاثة أرباع أجر المِثْل) على كلِّ واحد بالربع، فلو كانت أجرة مثل الدابة أربعين والرحى ثلاثين، والدكان عشرين، وعمل العامل عشرة، فإن ربَّ الدابة يرجع على الثلاثة بثلاثة أرباع أجرتها، وهي ثلاثون، مع ربع أُجرتها الذي لا يرجع به على أحد وهو عشرة؛ فيكمل له أربعون، ويرجع ربُّ الرحى على الثلاثة باثنين وعشرين ونصف مع ما لا يرجع به، وهو سبعة ونصف، فيكمل له ثلاثون، ويرجع ربُّ الدكان بخمسة عشر مع ما لا يرجع به، وهو خمسة، فيكمل له عشرون، ويرجع العامل بسبعة ونصف مع ما لا يرجع به، وهو درهمان ونصف، فيكمل له عشرة، ومجموع ذلك مائة درهم، وهي القَدْر الذي استؤجروا به. وإنما لم يرجع بالربع الرابع؛ لأن كل واحد منهم قد لزمه ربع الطحن بمقتضى الإجارة، فلا يرجع بما لزمه على أحد.

ولو تولَّى أحدهما الإجارة لنفسه، كانت الأجرة كلها له، وعليه لكلِّ واحد من رُفقته أجرة ما كان من جهته.

(وإن قال) إنسان لآخر: (آجِرْ عبدي، أو) آجِرْ (دابتي، وأُجرَتُه بيننا) ففعل (فالأجرة كلها لربِّه) أي: العبد أو الدابة؛ لأنها في مقابلة نفعه (وللآخر أجرة مثله) فقط؛ لأنه عمل بعوض لم يسلم له.

(وتصح شركة شهود، قاله الشيخ

(1)

) وقال -أيضًا-: إن اشتركوا

(1)

الاختيارات الفقهية ص / 214.

ص: 538

على أن ما حصَّله كل واحد منهم بينهم، بحيث إذا كتب أحدهم وشهد، شاركه الآخر وإن لم يعمل، فهي شركة الأبدان، تجوز حيث تجوز الوكالة، وأما حيث لا تجوز ففيه وجهان، كشركة الدلَّالين. انتهى.

قلت: فمقتضى هذا: لا تصح كما لا تصح شركة الدلَّالين.

(وقال) الشيخ

(1)

: (وللشاهد أن يقيم مقامه إن كان) الجُعْل (على عمل في الذمة، وكذا إن كان الجُعْل على شهادته بعينه. انتهى.

وموجب العقد المطلق) في شركة وجعالة وإجارة (التساوي في العمل والأجر) لأنه لا مرجِّح لواحد، فيستحق الفضل (ولو عمل واحد) منهم (أكثرَ، ولم يتبرع) بالزيادة (طالب بالزيادة) ليحصل التساوي.

(ولا تصح شركة دلَّالين؛ لأن الشركة الشرعية لا تخرج عن الوكالة والضمان، ولا وكالةَ هنا، فإنه لا يمكن توكيل أحدهما) للآخر (على بيع مال الغير، ولا ضمانَ، فإنه لا دين يصير بذلك في ذِمَّة واحد منهما، ولا تقبُّل عمل، فهي) أي: شركة الدَّلالين (كآجِرْ دابتك والأجرة بيننا) فلا تصح (وهذا في الدلالة التي فيها عقد، كما دلَّ عليه التعليل) المذكور.

(قال الشيخ

(2)

: فأما مجرد النداء والعَرْض) أي: عَرْض المتاع للبيع (وإحضار الزَّبون، فلا خلاف في جواز الاشتراك فيه.

وقال

(3)

: وليس لوليِّ الأمر المنعُ بمقتضى مذهبه في شركة الأبدان، والوجوه، والمساقاة، والمزارعة، ونحوهما) وفي بعض النسخ:"ونحوها" أي: نحو المذكورات من مسائل الخلاف (مما يسوغ

(1)

الاختيارات الفقهية ص / 214.

(2)

مجموع الفتاوى (30/ 79 - 81).

(3)

الاختيارات الفقهية ص / 214.

ص: 539

فيه الاجتهاد. انتهى) لأن فيه تضييقًا وحرجًا، والاختلاف رحمة.

(وإن جمعا) أي: اثنان فأكثر (بين شركة عِنان، وأبدان، ووجوه، ومضاربة، صح) لأن كل واحدة منها تصح مفردة، فصحت مجتمعة. قال ابن مُنجَّا: وكما لو ضُمَّ ماء طهور إلى مثله.

فصل

(الخامس: شركة المفاوضة) والمفاوضة لغةً: الاشتراك في كلِّ شيء، كالتفاوض.

(وهي قسمان: أحدهما: أن يُدخلا فيها الأكساب النادرة، كوجدان لُقَطة، أو) وجدان (رِكاز، أو ما يحصُل لهما) أي: الشريكين (من ميراث، أو ما يلزم أحدَهما من ضمان غصب، أو أرْش جناية، ونحو ذلك، فـ) ـهذه شركة (فاسدة) لأنه عقد لم يرد الشرع بمثله، ولما فيه من كثرة الغرر؛ لأنه قد يلزم فيه شيء لا قدرة للشريك على القيام به؛ ولأنه تضمن ما لا يقتضيه العقد من كفالة وغيرها.

(ولكلٍّ منهما) أي: الشريكين (ربح ماله، و) له (أُجرة عمله، و) كذا (ما يستفيده له) وحده (ويختص بضمان ما غصبه أو جناه، أو ضمنه عن الغير) لفساد الشركة، ولكلِّ نفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت.

القسم (الثاني) من قسمي شركة المفاوضة: (تفويض كلٍّ منهما إلى صاحبه: شراء، وبيعًا، ومضاربة، وتوكيلًا، وابتياعًا في الذِّمة، ومسافرة بالمال، وارتهانًا، وضمان) أي: تقبُّل (ما يرى من الأعمال) كخياطة وحدادة (فـ) ـهي (صحيحة) وهي الجمع بين عِنان ومضاربة، ووجوه وأبدان، وتقدم وجه صحتها.

ص: 540

(وكذا لو اشتركا في) كلِّ (ما يثبت لهما أو) يثبت (عليهما إن لم يُدخِلا فيها كسبًا نادرًا) كميراث ووجدان لقطة (أو) يدخلا فيها (غرامة) من ضمان غصب، أو أَرْش جناية، أو مهر وَطْءٍ ونحوها، فإن أدخلا ذلك، فهي الفاسدة، وتقدمت.

ص: 541