المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب المساقاة، والمُناصَبة، والمزارعة جمعها في باب؛ لاشتراكها في الأحكام. (المُساقاة) مفاعلة - كشاف القناع عن متن الإقناع - ط وزارة العدل - جـ ٩

[البهوتي]

فهرس الكتاب

‌باب المساقاة، والمُناصَبة، والمزارعة

جمعها في باب؛ لاشتراكها في الأحكام.

(المُساقاة) مفاعلة من السقي؛ لأنه أهمُّ أمرها، وكانت النخل بالحجاز تُسقى نَضْحًا، أي: من الآبار، فيعظم أمره، وتكثر مشقته.

وهي: (دَفعْ أرضٍ، وشجرٍ له ثمرٌ مأكولٌ) خرج به الصفصاف

(1)

، والحَوَر

(2)

، والعفص

(3)

، ونحوه، والورد ونحوه (لمن يغرسه) ويعمل عليه بجُزءٍ مُشاع معلوم من ثمرته، أو منه، وهي المُناصَبة - وتأتي - (أو) دَفْع شجرٍ له ثمرٌ مأكولٌ (مغروسٍ معلوم) بالمشاهدة (لمن يعمل عليه، ويقوم بمصلحته، بجُزء مُشاعٍ معلومٍ من ثمرته) لا منه، ولا بآصُع أو دراهم، ويأتي.

فعلمت: أن المساقاة أعمُّ من المناصبة.

(والمزارعة) مُشتقةٌ من الزرع، وتُسمَّى مُخَابرة، من الخَبار - بفتح الخاء - وهي الأرض اللينة، ومؤاكرة، والعامل فيها خبير ومُؤَاكِر (دَفْع

(1)

الصفصاف: بالفتح، والواحد صفصافة، شجر عظام، وهو بأرض العرب كثير، وأصنافه كثيرة، وكلها خوَّار خفيف، وهو يورق وينور ولا يثمر، ويُسمَّى الخِلاف - على وزن كتاب -، والسَّوجر. انظر: لسان العرب (9/ 97) مادة (خلف)، وكفاية المتحفظ (1/ 195)، وانظر ما تقدم (1/ 49) تعليق رقم (1).

(2)

الحور: ضرب من الشجر، وهو جنس من الفصيلة الصفصافية، يُزرع حول الجداول والأنهار لخشبه، تسوى منه السهام. انظر: المعجم الوسيط (2/ 647) مادة (غرب).

(3)

العَفْصُ: شجرةٌ من البَلُّوطِ، تحملُ سنةً بَلوطًا، وسنةً عَفْصًا، وقد اشتُقَّ منه لكل طعم فيه قَبضٌ ومَرارةٌ أن يُقال: فيه عُفُوصَةٌ، وهو عَفِصٌ، وقال الأطباء: هو دواءٌ قابضٌ مجفف، يردُّ المواد المنصبة، ويشدُّ الأعضاء الرخوة والضعيفة. انظر: تاج العروس (18/ 35) مادة (عفص).

ص: 5

أرضٍ وحبٍّ لمن يزرعه ويقوم عليه، أو) دفع حبٍّ (مزروع) ينمى بالعمل (لمن يعمل عليه، بجزء مُشاع معلوم من المُتَحصِّل).

والأصلُ في جوازها السُّنَّةُ، فمنها ما روى ابنُ عمر قال:"عاملَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أهلَ خيبرَ بِشَطْرِ ما يخرجُ مِنها مِنْ ثَمَرٍ أو زرعٍ" متفق عليه

(1)

. وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: "عاملَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أهلَ خَيبر بالشطر، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم أهلوهم إلى اليوم، يعطُون الثُّلُثَ أو الرُّبْعَ"

(2)

وهذا عَمِل به الخلفاء الراشدون ولم يُنكَر، فكان كالإجماع

(3)

، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك؛ لأن كثيرًا من الناس لا شجر لهم، ويحتاجون إلى الثمر، وأهل الشجر يحتاجون إلى العمل، ففي تجويزها دَفْعٌ للحاجتين، وتحصيلٌ لمنفعة كلٍّ منهما، فجاز كالمضاربة.

(ويُعتبر كون عاقِدَيْهما) أي: المساقاة والمزارعة (جَائِزَي التصرُّف) لأن كلًّا منهما عقد معاوضة، فاعتُبر لها ذلك كالبيع.

(ف‌

‌تجوز المساقاةُ في كلِّ شجر له ثمرٌ مأكولٌ)

وإن لم يكن نخلًا ولا كَرْمًا؛ لما تقدم. لا يقال: ابن عمر قد رجع عما روى؛ لقوله: "كُنَّا نُخابِرُ أربعين سنةً حتى حَدَّثنا رَافعُ بن خَدِيْج أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن

(1)

البخاري في الإجارة، باب 22، حديث 2285، وفي المزارعة، باب 8، 9، 11، حديث 2328، 2329، 2331، وفي الشركة، باب 11، حديث 2499، وفي الشروط، باب 5، حديث 2720، وفي المغازي، باب 40، حديث 4248، ومسلم في المساقاة، حديث 1551.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 338)، وذكره ابن حزم في المحلى (8/ 214)، وأورده ابن القيم في تهذيب السنن (5/ 58)، وقال: وهذا أمر صحيح مشهور.

(3)

مراتب الإجماع لابن حزم ص/ 104، والإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان (3/ 1627 - 1632).

ص: 6

المُخابرةِ"

(1)

؛ لأنه لا يجوز حَمْلُ حديث رافع على ما يُخالف الإجماع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يزل يُعامِل أهل خيبر حتى مات، ثم عَمِل به الخلفاء بعده، ثم من بعدهم، فكيف يتصور نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، بل هو محمولٌ على ما روى البخاري عنه قال:"كُنَّا نكْرِي الأرضَ بالنَّاحية مِنها تُسَمَّى لسيِّدِ الأرضِ، فرُبَّما يُصابُ ذلكَ وتَسْلَمُ الأرضُ، ورُبَّما تُصابُ الأرضُ ويَسْلَمُ ذلك، فنُهينا، فأمَّا الذَّهَبُ والوَرِقُ فلم يكن يومئذٍ"

(2)

. وروي تفسيره - أيضًا - بشيء غير هذا من أنواع الفساد، وهو مضطرب أيضًا

(3)

، قال الإمام

(4)

: رافع يُروى عنه في هذا ضروب. كأنه يريد: أن اختلاف الروايات عنه يوهن حديثه

(5)

.

(1)

لم نقف على من رواه بهذا السياق، وقد ورد معناه من طُرق، منها:

ما رواه مسلم في البيوع، حديث 1547 (106) عن عمرو، قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: كُنَّا لا نرى بالخبر بأسًا، حتى كان عام أول، فزعم رافع أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه.

ومنها ما رواه البخاري في المزارعة، باب 18، حديث 2345، ومسلم في البيوع، حديث 1547 (109) - والسياق له - عن نافع، أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يكري مزارعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إمارة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وصدرًا من خلافة معاوية حتى بلغه في آخر خلافة معاوية، أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه، وأنا معه، فسأله فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع فتركها ابن عمر بعد، وكان إذا سئل عنها بعد قال: زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها.

(2)

البخاري في المزارعة، باب 7، حديث 2327، وأخرجه مسلم في البيوع، حديث 1547 (116، 117) بنحوه.

(3)

"أيضًا" ساقطة من "ح"، وفي "ذ":"جدًّا" بدل "أيضًا".

(4)

مسائل أبي داود ص/ 200.

(5)

قال الإمام ابن القيم في تهذيب السنن (5/ 58 - 59): وأما حديث رافع بن خديج فجوابه من وجوه: أحدها: أنه حديث في غاية الاضطراب والتلون، قال الإمام =

ص: 7

فعلى المذهب: لا تصح المساقاة على ما ليس له ثمر مأكول، كالصفصاف، والسَّرْو

(1)

، والورد ونحوها؛ لأنه ليس منصوصًا عليه، ولا في معنى المنصوص عليه؛ ولأن المساقاة إنما تكون بجُزء من الثمرة، وهذا لا ثمرة له.

(وقال الموفَّق) والشارح: (تصح) المساقاة (على ما لَه وَرَقٌ يُقصَد، كتوت، أو له زهر يُقصد، كورد ونحوه) كياسمين؛ إجراء للورق والزهر مجرى الثمرة (وعلى قياسه) أي: قياس ما له وَرَق أو زهر يُقصد (شجرٌ له خشبٌ يُقصد، كحَوَر وصَفْصَاف) لكن صرَّح الموفَّق والشارح: أنها لا تصح في الصنوبر والحَوَر والصَّفْصَاف ونحوها بلا خلاف، مع أن خشبه مقصودٌ - أيضًا - فكيف يُقاس على كلامهما ما صرَّحا بنفيه؟! إلا أن يقال:

= أحمد: حديث رافع بن خديج ألوان. وقال أيضًا: حديث رافع ضروب. . . الرابع: أنه تارة يحدثه عن بعض عمومته، وتارة عن سماعه، وتارة عن رافع بن ظهير، مع اضطراب ألفاظه، فمرة يقول:"نهى عن الجعل"، ومرة يقول:"عن كراء الأرض"، ومرة يقول:"لا يكاريها بثلث، ولا ربع، ولا طعام مسمى"، وإذا كان شأن الحديث هكذا وجب تركه، والرجوع إلى المستفيض المعلوم من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، الذي لم يضطرب ولم يختلف. الخامس: أن من تأمل حديث رافع، وجمع طرقه، واعتبر بعضها ببعض، وحمل مجملها على مفسرها، ومطلقها على مقيدها، علم أن الذي نهى منه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أمر بين الفساد، وهو المزارعة الظالمة الجائرة ....

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (5/ 24): وقد استظهر البخاري لحديث رافع بحديث جابر وأبي هريرة؛ رادًّا على من زعم أن حديث رافع فرد وأنه مضطرب، وأشار إلى صحة الطريقين عنه حيث روى - أي: رافع - عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى عن عمه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأشار إلى أن روايته يغير واسطة مقتصرة على النهي من كراء الأرض، وروايته عن عمه مفسرة للمراد، وهو ما بينه ابن عباس في روايته من إرادة الرفق والتفضيل، وأن النهي عن ذلك ليس للتحريم.

(1)

السَّرو: فارسي، واحدته بهاء، وهو شجر العرعر، وهو شجر عظيم جبلي، لا يزال أخضر، له ثمر أمثال النبق، يبدو أخضر، ثم يبيض، ثم يسود حتى يكون كالحمم. انظر: لسان العرب (4/ 560) مادة (عرر).

ص: 8

القصد منه إلزامهما الحجَّة، أي: هذا لازم لكم مع أنكم لا تقولون به.

وقوله: (بجُزءٍ مُشاع معلومٍ بن ثمره) متعلق بقوله: "فتجوز المساقاة"(أو) من (وَرَقه ونحوه) كزهره، على قول الموفَّق والشارح (يُجعَلُ) أي: يُسمَّى ذلك الجزء (للعامل) أو لربِّ الشجر، فيكون ما عداه للعامل، كما تقدم

(1)

في المضاربة.

(ولو ساقاه على ما يتكرَّر حَمْلُه عن أصول البقول والخضروات، كالقطن) الذي يؤخذ مرة بعد أخرى (و) كـ (ــالمَقَاثي) من نحو بطيخ وقثاء (و) كـ (ــالباذنجان ونحوه) لم تصح؛ لأن ذلك ليس بشجر، وتصح المزارعة عليه على مقتضى ما يأتي تفصيله.

(أو) ساقاه (على شجر لا ثَمَرَ له، كالحَوَر، والصَّفْصَاف، لم يصح على الأول) كما تقدم.

(وتصح) المُساقاة (بلفظ مُساقاة) لأنه لفظها الموضوع لها (و) بلفظ (مُعاملة، ومُفَالحة، و: اعْمَلْ بستاني هذا حتى تكمُل ثمرتُه، وبكلِّ لفظٍ يؤدِّي معناها) لأن القصد المعنى، فإذا دلَّ عليه بأي لفظ كان؛ صَحَّ كالبيع.

(وتقدم) في الوكالة

(2)

(صفة القَبول) وأنه يصح بما يدلُّ عليه من قول وفعل، فشروعه في العمل قَبول.

(وتصح هي) أي: المُساقاة بلفظ إجارة (و) تصح (مُزارعة بلفظ إجارة) فلو قال: استأجرتُكَ لتعمل لي في هذا الحائط بنصف ثمرته أو زَرْعه، صح؛ لأن القصد المعنى، وقد وُجِدَ ما يدلُّ على المراد منه.

(وتصح إجارةُ أرض) معلومة، مدة معلومة (بنقدٍ) معلوم (و) بـ (ـــعُروض) معلومة، وهو ظاهر.

(1)

(8/ 501).

(2)

(8/ 413).

ص: 9

(و) تصح إجارتها - أيضًا - (بجزء مُشاع معلوم) كالنصف والثلث (مما يخرج منها) سواء كان طعامًا، كالبر والشعير، أو غيره، كالقطن والكتان، وهو إجارة حقيقة، كما لو أجرها بنقد. وقال أبو الخطاب ومن تبعه: هي مزارعة بلفظ الإجارة مجازًا.

(فإن لم يزرعْهَا) أي: المستأجر (في إجارة، أو مزارعة) أي: سواء قلنا: إنها إجارة، أو مزارعة، كما عبَّر به شارح "المُنتهى" وغيره (نُظر إلى معدَّلِ المُغَلِّ) من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: إلى المغَلِّ المُعدَّل، أي: الموازن لما يخرج منها لو زُرِعت (فيجب القسط المُسمَّى فيه) أي: في العقد، وإن فسدت؛ فأُجرة المِثْلِ.

(وتصح إجارتُها) أي: الأرض (بطعام معلوم من جنس الخارج منها) كما لو أجرها ليزرعها بُرًّا بقفيز بُرٍّ، فإن قال: مما يَخرج منها؛ فسدت. صَرَّح به المجدُ.

(و) تصح إجارتها - أيضًا - بطعام معلوم (من غير جنسه) أي: الخارج منها؛ بأن أجرها بشعير لمن يزرعها بُرًّا.

(وتصح المُساقاةُ على) شجر له (ثمرةٌ موجودة لم تكمُل) تنمى بالعمل.

(و) تصح المُزارعة (على زرعٍ نابت ينمى بالعمل) لأنها إذا جازت في المعدوم مع كثرة الغَرر فيه، ففي الموجود مع قلة الغَرر أولى.

(فإن بقي من العمل ما لا تزيدُ به الثمرةُ) أو الزرع (كالجذاذ ونحوه) كالحصاد (لم يصح) عقدُ المُساقاة ولا المُزارعة، قال في "المغني" و"المبدع": بغير خلاف.

(وإذا ساقاه على وَدِيِّ نخلٍ) أي: صغاره (أو) ساقاه على (صغار شجر إلى مدة يحمل فيها غالبًا، بجُزء من الثمرة، صح) العقد؛ لأنه ليس

ص: 10

فيه أكثر من أنَّ عَمَلَ العامل يكثُرُ، ونصيبه يقلُّ، وهذا لا يصنع صحتها، كما لو جُعل له جزء من ألف جزء.

(وإن ساقاه على شجر يغرسه، ويعمل عليه حتى يثمر بجُزء) مُشاع (معلوم من الثمرة، أو من الشجر، أو منهما، وهي المغارسة والمناصبة، صَحَّ) العقد، نص عليه

(1)

. واحتج بحديث خيبر

(2)

؛ ولأن العمل وعوضه معلومان، فصحَّتْ كالمساقاة على شجر موجود (إن كان الغَرْس من ربِّ المال) يعني: الأرض، كالمزارعة (قال الشيخ: ولو كان) المُغارسُ (ناظرَ وقفٍ، و) قال: (إنه لا يجوز للناظر بعده بيع نصيب الوقف) من الشجر (بلا حاجة. انتهى

(3)

) ومراده بالحاجة: ما يجوز معه بيع الوقف. ويأتي مفصَّلًا.

(فإن كان الغِراسُ من العامل، فصاحبُ الأرض بالخيار بين قَلْعِه ويَضمن له نقصَه، وبين تركِهِ في أرضه ويدفع إليه) أي: العامل (قيمتَه) أي: الغراس (كالمشتري إذا غَرَس في الأرض) التي اشتراها (ثم أخَذَه) أي: الشِّقص المشفوع (الشفيعُ) بالشُّفعة كما يأتي.

(وإن اختار العاملُ قَلْعَ شجره، فله ذلك، سواء بذل له) صاحبُ الأرض (القيمةَ، أو لا) لأنه ملكه، فلم يمنع تحويله.

(وإن اتفقا) أي: صاحب الأرض والعامل (على إبقائه) أي: الغِراس في الأرض (ودفع أُجرة الأرض، جاز) لأن الحق لا يعدوهما.

(وقيل: يصح كون الغِراس من مُساقٍ، ومُناصبٍ. قال المنقِّح:

(1)

انظر: مسائل الكوسج (6/ 2753) رقم 1962، ومسائل ابن هانئ (2/ 25) رقم 1281.

(2)

تقدم تخريجه (9/ 6) تعليق رقم (1).

(3)

الاختيارات الفقهية ص/ 216.

ص: 11

وعليه العمل) وقال في "الإنصاف": حكمه حكم المزارعة، اختاره المصنف - أي: الموفَّق - والشارح، وابن رَزين، وأبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين

(1)

، و"الحاوي الصغير"، وجزم به ابن رَزين في "نهايته" و"نظمها". قلت: وهو أقوى دليلًا. انتهى.

(ولو دفع أرضه) لمن يغرِسُها (على أن الأرض والغِراس بينهما، فَسَد) قال في "المغني": ولا نعلم فيه مخالفًا؛ لأنه شرط اشتراكهما في الأصل (كما لو دفع إليه الشجر المغروس) مساقاة (ليكون الأصلُ والثمرةُ بينهما، أو شرط في المزارعة كون الأرض والزرع بينهما) فلا يصحَّان؛ لما تقدم، وكذا المضاربة.

(ولو عَمِلا في شجر لهما، وهو) أي: الشجر (بينهما نصفان، وشرطا) أي: الشريكان (التفاضلَ في ثمره) بأن قالا: على أن لك الثلث، ولي الثلثين (صح) لأن من شُرط له الثلثان قد يكون أقوى على العمل، وأعلم به ممن شُرط له الثلث.

(ومِن شَرْطِ صحة المُساقاة تقديرُ نصيب العامل بجُزء) مُشاع (من الثمرة، كالثلث والربع) والخمس؛ لما سبق من أنه صلى الله عليه وسلم: "عاملَ أهلَ خَيبرَ بِشَطْر ما يخرجُ مِنْ ثمرٍ أو زرعٍ"

(2)

.

(فلو جعل) ربُّ شجر (للعامل جزءًا من مائة جزء) جاز.

(أو) جعل ربُّ الشجر (الجُزء) من مائة جُزء (لنفسه، والباقي للعامل، جاز) ما تراضوا عليه؛ لأن الحق لا يعدوهما (ما لم يكن) شرطهما لربِّ الشجر جزءًا من مائة جزء، والباقي للعامل (حيلة) على بيع

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 217.

(2)

تقدم تخريجه (9/ 6) تعليق رقم (1).

ص: 12

الثمرة قيل بدوِّ صلاحها، فلا يصح (ويأتي قريبًا) موضَّحًا.

(ولو جعل) ربُّ الشجر (له) أي: للعامل (آصُعًا معلومة) كعشرة، لم تصح؛ لأنه قد لا يخرج إلا ذلك، فيختص به العامل (أو) جعل له (دراهم) ولو معلومة، لم تصح؛ لأنه قد لا يخرج من النماء ما يساوي تلك الدراهم (أو جعلها) أي: الآصُع المعلومة، أو الدراهم (مع الجُزء) المُشاع (المعلوم) بأن ساقاه على الثلث وخمسة آصُع، أو وخمسة دراهم (فَسَدتْ) المساقاة؛ لخروجها عن موضوعها.

(وكذلك) تفسد (إن شرط) ربُّ الشجر (له) أي: للعامل (ثَمَرَ شجرٍ بعينه) لأنه قد لا يحمل غيره؛ أو لا يحمل بالكلية، فيحصُل الضَّرر والغَرر.

(فإن جعل) ربُّ الشجر (له) أي: للعامل (ثمرةَ سنةٍ غيرِ السَّنة التي ساقاه عليها) أي: الثمرة (فيها) أي: السَّنة، بأن ساقاه على سنة أربع بجزء من ثمرة سنة خمس، لم تصح.

(أو) جعل له (ثمرَة شجرٍ غيرِ الشجرِ الذي ساقاه عليه) بأن قال له: اعمل في هذا البستان الشرقي يربع ثمر الغربي، لم تصح.

(أو) شرط عليه (عملًا في غير الشجر الذي ساقاه عليه) بأن ساقاه على بستان بنصف ثمره على أن يعمل له في بستان آخر (أو) شرط عليه (عملًا في غير السَّنة) بأن قال له: اعمل في هذا البستان سنة بنصف ثمره، على أن تعمل فيه في السنة الآتية (فسد العقد) لأن هذا كله يُخالف موضوع المساقاة؛ إذ موضوعها أنه يعمل في شجر معيَّنٍ بجزءٍ مُشاع من ثمرته في ذلك الوقت الذي يستحق عليه فيه العمل (سواء جعل ذلك) الثمر (كلَّه حقَّه) أي: العامل في نظير عمله (أو) جعله (بعضَه) بأن سمَّى له النصف أو نحوه (أو) شرط (جميع العمل) على العامل (أو بعضه) بأن شرط أن يعمل نصف السنة أو نحو ذلك.

ص: 13

(وإذا كان في البستان شجر من أجناس، كتين، وزيتون، وكرم، فَشَرَط) ربُّ البستان (للعامل من كلِّ جنس) من الشجر (قدرًا) معلومًا (كنصف ثمر التين، وثلث) ثمر (الزيتون، وربع) ثمر (الكرم) صح.

(أو كان فيه) أي: البستان (أنواعٌ من جنس، فَشَرط من كلِّ نوع قَدْرًا) معلومًا، كنصف البرني، وثلث الصيحاني، وربع الإبراهيمي (وهما) أي: ربّ البستان والعامل (يعرفان قَدْر كلِّ نوع، صحَّ) العقد على ما شرطا؛ لأن ذلك بمنزلة ثلاثة بساتين، ساقاه على كلِّ بستان بقَدْرٍ مخالف للقَدْر المشروط من الآخر.

ولو ساقاه على بستان واحد نصفه هذا بالثلث، ونصفه هذا بالربع، وهما متميزان، صح؛ لأنهما كبستانين.

(وإن كان البستان لاثنين، فَسَاقيَا عاملًا واحدًا، على أن له نصفَ نصيبِ أحدِهما وثُلُثَ نصيبِ الآخرِ، والعامل عالمٌ ما لكلِّ واحد منهما) من البستان (صح) العقد؛ لأنه بمنزلة بستانين ساقاه كلُّ واحد منهما على واحد بجزء يُخالف الآخر.

(وكذا إن جَهِل) العامل (ما لكل واحد منهما) من البستان (إذا شرطا قَدْرًا واحدًا) كأن يقولا: اعمل في هذا البستان بالثلث؛ لأن له ثلث نصيب كلٍّ منهما بالغًا ما بلغ (كما لو قالا: بعناك دارنا هذه بألف، ولم يعلم) المشتري (نصيب كل واحد منهما) فإنه يصح؛ لأنه اشترى الدار كلها منهما، وهما يقتسمان الثمن على قَدْر ملكيهما.

(ولو ساقى واحدٌ) على بستان له (اثنين، ولو مع عدم التساوي بينهما في النصيب) بأن جعل لأحدهما السدس، وللثاني الثلث، صح.

(أو ساقاه) أي: ساقى واحدًا (على بستانه ثلاث سنين، على أن له

ص: 14

في السَّنة الأولى النصفَ، وفي) السنة (الثانية الثلثَ، وفي) السنة (الثالثة الرُّبعَ، صح) لأن قَدْر الذي له في كلِّ سنة معلوم، فصح، كما لو شرط له من كل نوع قَدْرًا.

(ولا تصح المساقاة إلا على شجرٍ معلوم) للمالك والعامل (بالرؤية، أو الصفة التي لا يختلف) الشجر (معها، كالبيع) هكذا في "المغني" و"شرح المنتهى" وغيرهما، والمراد: كما يصح البيع بالوصف؛ لما تقدم

(1)

من أنه خاص بما يصح السلم فيه.

(فإن ساقاه على بستان لم يَرَه، ولم يوصف له، أو على أحد هذين الحائطين، لم تصح) المساقاة؛ لأنها معاوضة، يختلف الغرض فيها باختلاف الأعيان، فلم تجز على غير معيَّن كالبيع.

(وتصح) المساقاة (على البعل) الذي يشرب بعروقه (كالسَّقي) الذي يحتاج لسقي؛ لأن الحاجة تدعو إلى المعاملة في ذلك، كدُعائها إلى المعاملة في غيره، فيُقاس عليه، وكذا الحكم في المزارعة.

فصل

(والمُساقاة والمُزارعة عقدان جائزان) من الطرفين؛ لما روى مسلم عن ابن عمر في قصة خيبر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نُقِرُّكُمْ على ذلك مَا شِئْنَا"

(2)

ولو كان لازمًا لم يجز بغير توقيت مدة، ولا أن يجعل الخيرة إليه في مدة إقرارهم؛ ولأنها عقد على جزء من نَماء المال، فكانت جائزة

(1)

(7/ 335).

(2)

مسلم في المساقاة، حديث 1551 (4، 6). وأخرجه - أيضًا - البخاري في المزارعة، باب 17، حديث 2338.

ص: 15

كالمضاربة (يبطلان بما تبطل به الوكالةُ) من موت، وجنون، وحَجْرٍ لسَفَهٍ، وعزلٍ (ولا يفتقران إلى القَبول لفظًا) بل يكفي الشروع في العمل قَبولًا، كالوكيل (ولا) يفتقران (إلى ضَرْبِ مدة يحصُل الكمال فيها) لأنه صلى الله عليه وسلم لم يضرب لأهل خيبر مدة، ولا خلفاؤه من بعده.

(ولكلٍّ منهما فسخُها) أي: المساقاة أو المزارعة متى شاء؛ لأنه شأن العقود الجائزة.

(فإن فُسخت) المساقاة (بعد ظهور الثمرةِ، فهي) أي الثمرة (بينهما) أي: المالك والعامل (على ما شرطاه) عند العقد؛ لأنها حدثت على ملكيهما، وكالمضاربة.

(ويملك العاملُ حصَّته) من الثمرة (بالظُّهور) كالمالك، وكالمضارب (ويلزمه) أي: العامل (تمامُ العمل) في المساقاة (كما يلزم المضارب بيع العروض، إذا فُسخت المضاربة).

قال المُنقِّح: (فيؤخذ منه دوامُ العمل على العامل في المُناصبة، ولو فُسخت) المُناصبة (إلى أن تَبيد) الشجر التي عُقدت عليها المُناصبة، والواقع كذلك.

(فإن مات) العامل في المُساقاة، أو المُناصبة (قام وارثُه مقامَه في الملك والعمل) لأنه حق ثبت للمورث وعليه، فكان لوارثه، فإن أبى الوارث أن يأخذ ويعمل، لم يُجبر، ويستأجر الحاكم من التركة من يعمل، فإن لم تكن تركة، أو تعذَّر الاستئجار منها، بيع من نصيب العامل ما يحتاج إليه لتكميل العمل، واستؤجر من يعمله، ذكره في "المغني".

(وإن باعه) أي: نصيب العامل، هو أو وارثه (لمن يقوم مقامه) بالعمل (جاز) لأنه ملكه، وإن تعلَّق به حق المالك من حيث العمل، لم

ص: 16

يمنع صحة البيع؛ لأنه لا يفوت عليه، لكن إن كان المبيع ثمرًا، لم يصح إلا بعد بُدوِّ الصلاح، أو لمالك الأصل. وإن كان المبيع نصيب المناصب من الشجر، صح مطلقًا.

(وصحَّ شرطه) أي: العمل من البائع، على المشتري (كالمُكاتَب إذا بيع على كتابته، وللمشتري الملك وعليه العمل) لأنه يقوم مقام البائع فيما له وعليه.

(فإن لم يعلم) المشتري بما لزم البائع من العمل (فله الخيار بين الفسخ وأخذ الثمن) كاملًا (وبين الإمساك وأخذ الأَرْشِ، كمن اشترى مُكاتَبًا لم يعلم أنه مُكاتَب.

وإن فَسخ العاملُ، أو هرب قبل ظُهورِها) أي: الثمرة (فلا شيء له) لأنه قد رضي بإسقاط حقِّه، فصار كعامل المضاربة، إذا فسخ قبل ظهور الربح، وعامل الجعالة، إذا فسخ قبل تمام عمله.

(وإن فَسخ ربُّ المال) المساقاة قبل ظهور الثمرة، وبعد شروع العامل في العمل (فعليه للعامل أجرة) مثل (عمله) بخلاف المضاربة؛ لأن الربح لا يتولَّد من المال بنفسه، وإنما يتولَّد من العمل، ولم يحصُل بعمله ربح، والثمر متولِّد من عين الشجر، وقد عمل على الشجر عملًا مؤثرًا في الثمر، فكان لعمله تأثير في حصول الثمر، وظهوره بعد الفسخ؛ ذكره ابن رجب في "القواعد"

(1)

.

(ويصح توقيتُها) أي: المساقاة؛ لأنه لا ضرر في تقدير مُدَّتها، ولا يُشترط توقيتُها؛ لأنها عقد جائز كالوكالة.

(وإن ساقاه إلى مدة تكمُلُ فيها الثمرة غالبًا، فلم تحمِل) الثمرة

(1)

في القاعدة الستين ص/ 112.

ص: 17

(تلك السَّنة، فلا شيء للعامل) لأن دخل على ذلك، وكالمضارب.

(وإن مات العامل وهي) أي: المساقاة (على عَيْنه) أي: ذاته (أو جُنَّ، أو حُجِرَ عليه لسَفَهٍ، انفسخت) المساقاةُ كـ) ــما لو مات (ربُّ المال) أو جُنَّ، أو حُجِرَ عليه لسَفَهٍ (وكما لو فَسَخَ) المساقاةَ (أحدُهما) لأنها عقد جائز من الطرفين. ولو حَذَف قوله:"وهي على عينه" - كـ"المقنع" و"الفروع" و"الإنصاف" و"المبدع" و"المنتهى" وغيرها - لأصاب.

(وإن ظهر الشجرُ مُستحَقًّا بعد العمل، أخذه) أي: الشجر (ربُّه، و) أخذ (ثمرته) لأنه عين ماله (ولا حقَّ للعامل في ثمرته، ولا أُجرة له) على ربِّ الشجر؛ لأنه لم يأذن له في العمل (وله) أي: العامل (على الغاصب أُجرة مِثْلِه) لأنه غَرَّه واستعمله، كما لو غصب نُقْرة

(1)

؛ واستأجر مَن ضَرَبَها دراهم.

(وإن شَمَّس) العاملُ (الثمرةَ، فلم تنقص) قيمتها بذلك (أخذها ربُّها) أي: المغصوب منه (وإن نقصت) الثمرة بذلك (فله) أخذُها و (أرشُ نقصِها، ويرجع به على من شاء منهما) أي: الغاصب والعامل (ويَستقرُّ الضمان على الغاصب) لأنه سبب يد العامل.

(وإن استحقت) الثمرة (بعد أن اقتسماها، وأكلاها) أي: الغاصب والعامل (فللمالك تضمين من شاء منهما، فإن ضمَّن الغاصب، فله تضمينه الكلَّ، وله تضمينه قَدْر نصيبه) لأن الغاصب سبب يد العامل؛ فلزمه ضمان الجميع (و) له (تضمين العامل قَدْر نصيبه) لتلفه تحت يده.

(1)

النُّقْرة: هي القطعة المذابة من الفضة، وقبل الذوب هي تِبْر. المصباح المنير ص/ 853، مادة (نقر).

ص: 18

(فإن ضمَّن) المالك (الغاصبَ الكُلَّ، رجع العامل بقَدْر نصيبه) لأن التلف وجد في يده فاستقر الضمان عليه (ويرجع العامل على الغاصب بأجرة مِثْلِه) لأنه غرَّه.

وإن ضمَّن العاملَ، احتمل ألَّا يضمِّنه إلا نصيبه خاصة؛ لأنه ما قبض الثمرة كلها، بل كان مراعيًا لها وحافظًا.

ويحتمل أن يضمنه الكل لأن يده ثبتت عليه مشاهدة بغير حقٍّ، فإن ضمَّنه الكلَّ، رجع على الغاصب ببدل نصيبه منها وأجر مِثْلِه.

وإن ضمَّن كلًّا ما صار إليه، رجع العامل على الغاصب بأجر مِثْلِه، لا غير.

وإن تلفت الثمرة في شجرها، أو بعد الجذاذ قبل قسمة، فمن جعل العامل قابضًا لها بثبوت يده على حائطها قال: يلزمه ضمانها. ومن قال: لا يكون قابضًا إلا بأخذ نصيبه منها قال: لا يلزمه الضمان، ويكون على الغاصب؛ ذكره في "المغني"، و"شرح المنتهى".

فصل

(ويلزم العاملَ) في مساقاة ومزارعة (ما فيه صلاحُ الثمرة والزَّرع، وزيادتُهما، من السقي) بماء حاصل لا يحتاج إلى حفر بئر، ولا إلى إدارة دولاب.

وقوله (والاستقاء) أي: إخراج الماء من بئر، أو نحوها بإدارة الدولاب لذلك، لا حفر البئر، أو تحصيل الماء بنحو شراء؛ فإنه على المالك كما يأتي.

(والحَرْث، وآلته، وبقرِه، والزِّبار) بكسر الزاي: تخفيف الكرم من

ص: 19

الأغصان، وكأنه مولَّد؛ قاله في "الحاشية"(وقطع ما يحتاج إلى قطعه) من نحو جريد النخل (وتسوية الثمرة، وإصلاح الحُفَر التي يجتمع فيها الماء على أصول النخل، وإدارة الدولاب، والتلقيح، والتشميس، وإصلاح طُرُق الماء، و) إصلاح (موضع التشميس، وقطع الحشيش المُضرِّ) بالشجر أو الزرع (من شوكٍ وغيره، وقطع الشجر اليابس، وآلة ذلك كالفأس ونحوه) كالمِنجل (وتفريق الزِّبْل) والسباخ (ونقل الثمر، ونحوه إلى جَرِين

(1)

، وتجفيفه، وحفظه) أي: الثمر (في الشجر، وفي الجَرين إلى قَسْمه) لأن ذلك كله فيه صلاح الزرع والثمر وزيادتهما، فهو لازم للعامل بإطلاق العقد.

(وكذا الجذاذ إن شرط عليه) وصح شرطُه عليه؛ لأنه لا يخل بمصلحة العقد، فصح، كتأجيل الثمن، وشرط الرهن والضمين في البيع (وإلا) يشترطه على العامل (فـ) ـهو (عليهما بقَدْر حِصَّتيهما) لأنه إنما يكون بعد تكامل الثمرة، وانقضاء المعاملة، فكان عليهما، كنقل الثمرة إلى المنزل. هكذا علَّلوه! وفيه نظر، فإن نَقْل الثمرة إلى الجرين، والتشميس، والحفظ ونحوه، تقدم أنه على العامل مع أنه بعد الجذاذ.

(فإن شَرَط العاملُ أنَّ أجْر الأُجَراء الذين يَحتاج إلى الاستعانة بهم) يؤخذ (من) ثمن (الثمرة، وقدَّر) العامل (الأُجْرة، أو لم يقدِّرْها، لم يصحَّ) ذلك (كما لو شرط لنفسه أَجْر عمله؛ لأن العمل عليه) فلا يصح شَرْط أخذ عوضه.

(و) يجب (على ربِّ المال ما فيه حفظ الأصل، من سدِّ الحيطان،

(1)

الجَرِيْنُ: البَيْدر الذي يُداس فيه الطعام، والموضع الذي يجفَّف فيه الثمار أيضًا، والجميع جُرُنٌ. المصباح المنير ص/ 134، مادة (جرن).

ص: 20

ومثله) أي: مثل ما يحفظ الأصل، تحصيل (السياج؛ قاله الشيخ

(1)

. وإجراء الأنهار، وحفر البئر، والدولاب وما يُديره) أي: الدولاب (من آلة ودابَّة، وشراء الماء، و) شراء (ما يُلَقَّح به، وتحصيل الزِّبل.

وقال الموفق وغيره: والأَولى أنَّ البقر التي تُدير الدُّولاب على العامل، كبَقَرِ الحرث) وهو قول ابن أبي موسى.

(فإن شرط) في مساقاة، أو مزارعة (على أحدهما) أي: المالك، أو العامل (ما يلزم الآخرَ، أو بعضَه، فَسَد الشرطُ والعقدُ) لأنه شرطٌ يخالف مقتضى العقد فأفسده، كالمضاربة، إذا شرط العمل فيها على ربِّ المال.

(وحكمُ العامل) في مساقاة ومزارعة (حكمُ المُضارب فيما يُقبل قوله فيه، و) فيـ (ــما يُردُّ) قوله فيه، لأن ربَّ المال ائتمنه بدفع ماله.

(فإن اتَّهم) ربُّ المال العاملَ بخيانة (حلَف) العامل؛ لاحتمال صدق المدعي.

(وإن ثبتتْ خيانتُه) قبل تمام العمل بإقراره، أو ببينة، أو نكوله (ضُمَّ إليه من يُشارِفُهُ، كالوصي إذا ثبتتْ خيانتُه) تحصيلًا للغرضين.

(فإن لم يُمكن حِفظه) أي: المال من العامل (استؤجر من ماله من يعمل العمل، يقوم مقامَه، ويُزيلُ يده) لخيانته.

(فإن عَجَز) العامل (عن العمل لضعفِه مع أمانته، ضُم إليه قويٌّ) أمين (ولا تُنزعُ يده) لأن العمل مستحق عليه، ولا ضرر في بقاء يده.

(فإن عَجَز) العامل (بالكلية، أقام) العامل (مُقامَه من يعمل،

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 219.

ص: 21

والأجرة عليه في الموضعين) لأن عليه توفية العمل، وهذا من توفيته.

(وإذا ظهرت الثمرة، ثم تلفت إلا واحدةً، فهي بينهما) على ما شرطا كالكلِّ.

(ويلزم من بلغت حصتُه منهما نصابًا زكاتُه) لأن العامل يملك حصته بالظهور، كربِّ المال.

(وإن ساقاه على أرض خراجية، فالخراج على ربِّ المال) لأنه يجب على رقبة الأرض، سواء أثمرت الشجر، أو لم تثمر، زرع الأرض أو لم يزرعها.

(وإذا ساقى) ربُّ المال (رجلًا، أو زارعه، فعاملَ العاملُ غيرَه على الأرض، أو الشجر بغير إذن ربِّه، لم يجز) كالمضارب لا يضارب بالمال.

(فإن استأجر أرضًا، فله أن يُزارع فيها) لأن منافعها صارت مستحقة له، فملك المزارعة فيها كالمالك (والأجرة على المستأجر دون المُزارع) لما تقدم في الخراج

(1)

.

(وكذلك يجوز لمن في يده أرضٌ خراجيَّةٌ أن يُزارِعَ فيها، والخراجُ عليه دون المُزارِع) كما مرَّ في المساقاة.

(وللموقوف عليه أن يُزارِع في الوقف ويُساقيَ على شجره) كالمالك، وكذلك ينبغي في ناظر الوقف إذا رآه مصلحة.

(ويُتَّبع في الكُلف السلطانية) أي: التي يطلبها السلطان (العُرْفُ، ما لم يكن شَرْط) فيُعمل بمقتضاه، فما عُرف أَخْذُه من ربِّ المال، كان عليه، وما عُرف أَخْذُه من العامل، كان عليه.

(وما طُلب من قرية من كُلف سُلطانية ونحوها، فعلى قَدْر الأموال،

(1)

(7/ 179).

ص: 22

فإن وُضِعَ على الزَّرع، فعلى ربِّه، أو) وُضِعَ (على العقار، فعلى ربِّه، ما لم يشرط على مستأجر، وإن وُضِعَ مطلقًا فالعادة) قاله الشيخ

(1)

.

وقال

(2)

: ولمن له الولاية على المال، أن يصرف فيما يخصُّه من الكُلف، كناظر الوقف، والوصي، والمضارب، والوكيل. قال

(2)

: ومن لم يخلص مال غيره من التلف إلا بما أدى عنه، رجع به في أظهر قولي العلماء.

(ويُعتبر) في مزارعة (معرفةُ جنس البَذْر، ولو تعدَّد) البَذْر (و) معرفة (قَدْره) أي: البذر، كالشجر في المساقاة؛ ولأنها معاقدة على عمل، فلم تجز على غير معلوم الجنس والقَدْر، كالإجارة (وفي "المغني": أو تقدير المكان) وتعيينه، أو بمساحته.

(وإن شرط) ربُّ المال للعامل (إن سقى سيحًا، أو زرعها شعيرًا، فالربعُ، و) إن سقى (بكُلفة، أو) زرع (حنطه، النصفُ) لم يصح للجهالة (أو) قال ربُّ المال: (لك نصفُ هذا النوع، ورُبْع الآخر، ويَجهلُ العاملُ قَدْرهما) أي: النوعين، لم يصح للجهالة (أو) قال:(لك الخُمسان إن لزمتك خسارةٌ، وإلا الربعُ) لم يصح للجهالة (أو قال) ربُّ المال: (ما زرعتَ من شعير فلي رُبْعُهُ، وما زرعتَ من حنطة فلي نصفُه) ولم يبيّن البذر، لم يصح للجهالة.

(أو) قال: (سَاقَيْتُك على هذا البستان بالنصف على أن أُساقيك على الآخر بالربع، لم يصح) لأنه كبيعتين في بيعة المنهي عنه.

(وإن قال: ما زرعتَ من شيء فلي فصفه، صح) لما تقدم أن النبيَّ

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 220.

(2)

الاختيارات الفقهية ص/ 148.

ص: 23

- صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع

(1)

.

(وإن ساقى أحدُ الشريكين شريكَه، وجعل له من الثمر أكثر من نصيبه، مثل أن يكون الأصل بينهما نصفين، فجعل له ثلثي الثمرة، صح، وكان السُّدس حصته من المساقاة) كما لو ساقى أجنبيًّا بذلك.

(وإن جعل الثمرة بينهما نصفين، أو جعل للعامل الثلث، فَسَدت) المساقاة؛ لأنه لم يُجعل للعامل شيء في مقابلة عمله (ويكون الثمر بينهما بحكيم الملك) نصفين، وشرط الثلث للعامل باطل؛ لأن غير العامل يأخذ من نصيب العامل جزءًا ويستعمله بلا عوض، فلا يصح (ولا يستحق العامل شيئًا) في نظير عمله (لأنه متبرِّع) به. وإن شرط للعامل كلَّ الثمرة، فَسَدت أيضًا، وله أُجرة مِثْله.

‌فصل في المزارعة

وتقدم تفسيرها أول الباب ‌

(تجوز) المزارعة (بجزء مشاع معلوم يُجعل للعامل من الزَّرع،

كما تقدم) لقصة خَيبر.

(فإن كان في الأرض شجرٌ، فزارعه الأرضَ، وساقاه على الشجر) الذي بها (صح) سواء قلَّ بياض الأرض أو كَثُر، نص عليه

(2)

، وقال: قد "دَفَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم خَيبَر على هذا". ولأنهما عقدان يجوز إفرادُ كلِّ واحد منهما، فجاز الجمع بينهما، كالبيع والإجارة.

(1)

تقدم تخريجه (9/ 6) تعليق رقم (1).

(2)

المغني (7/ 561).

ص: 24

(وإن أجره الأرضَ، وساقاه على الشجر) الذي بها (صح، كجمع بين إجارة وبيع) ما لم يكن حيلة.

(وإن كان حيلةً على بيع الثمرة قبل وجودها، أو قبل بُدُوِّ صلاحها، بأن أجره الأرضَ بأكثر من أجرتها وساقاه على الشجر بجزء من ألف جزء ونحوه، حَرُم) ذلك (ولم يصح) كلٌّ من الإجارة والمساقاة.

قال المنقِّح: قياس المذهب بطلان عقد الحيلة مطلقًا. ومقتضى ما قدَّمه في "المنتهى": أنه يصح في الإجارة، ويبطل في المُساقاة.

(وسواء جَمَعَا بين العقدين) أي: الإجارة والمساقاة (أو عَقَدَا واحدًا بعد الآخر، فإن قُطع بعض الشجر المثمر - والحالة هذه - فإنه ينقص من العوض المستحَقِّ بقَدْر ما ذهب من الشجر، سواء قيل بصحة العقد، أو فساده، وسواء قطعه المالك أو غيره) قاله الشيخ تقي الدين

(1)

.

قلت: مقتضى القواعد: أنه لا يسقط من أجرة الأرض شيء إذا قلنا بصحتها؛ لأن الأرض هي المعقود عليها، ولم يَفُتْ منها شيء، وأما إذا فسدت، فعليه أجرة مثل الأرض، ويرد الثمرة وما أخذه من ثمر الشجر، وله أجرة مِثْل عمله فيها، والله أعلم.

(ولا تصح إجارة الأرض وشجر فيها لحَمْلها) أي: حمل الشجر، وهو ثمرها وورقها ونحوه، وحكاه أبو عبيد إجماعًا

(2)

، وجوَّزه ابن عقيل تبعًا للأرض ولو كان الشجر أكثر، واختاره الشيخ تقي الدين

(3)

(1)

مختصر الفتاوى المصرية ص/ 367.

(2)

كتاب الأموال ص/ 90. وقال: لا نعلم المسلمين اختلفوا في كراهة القبالات.

وقد تعقب شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (30/ 225) هذا الإجماع ولم يَرَه شيئًا.

(3)

مجموع الفتاوى (30/ 220 - 240).

ص: 25

وصاحب "الفائق".

(وتصح إجارتها) أي: الشجرة (لنشر الثياب عليها ونحوه) كالاستظلال بها؛ لأنه نفع مباح.

(ويُشترط) للمزارعة (كون البذر من ربِّ الأرض ولو أنه العامل، وبقَرِ العمل من الآخر) لأنهما يشتركان في نمائه، فوجب أن يكون رأس المال من أحدهما، كالمضاربة.

(ولا تصح) المزارعة (إن كان البذر من العامل، أو) كان البذر (منهما) أي: من العامل وربِّ الأرض (أو) كان البذر (من أحدهما والأرض لهما) لما تقدم (أو) البذر من واحد، و (الأرض والعمل من الآخر، أو) الأرض من واحد والعمل من آخر و (البذر من ثالث، أو) الأرض من واحد، والعمل من آخر، والبذر من ثالث، و (البقر من رابع) فلا تصح في جميع هذه الصُّور؛ لأن البذر ليس من ربِّ الأرض.

(وعنه

(1)

: لا يشترط كون البذر من ربِّ الأرض، واختاره الموفَّق، والمجد، والشارح، وابن رَزين، وأبو محمد) يوسف (الجوزي، والشيخ

(2)

، وابن القيم

(3)

، وصاحب "الفائق" و"الحاوي الصغير"، وهو الصحيح) قاله في "المغني"، قال في "الإنصاف": وهو أقوى دليلًا (وعليه عمل الناس) لأن الأصل المعوَّل عليه في المزارعة قضية خَيبر، ولم يذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن البذر على المسلمين.

(وإن قال) ربُّ أرضٍ لعامل: (آجرتُكَ نصفَ أرضي بنصفِ البذر،

(1)

المغني (7/ 562).

(2)

الاختيارات الفقهية ص/ 219.

(3)

زاد المعاد (3/ 346).

ص: 26

ونصفِ منفعتِك ومنفعة بقَرِك وآلتِك، وأخرج المُزارعُ البذر كلَّه، لم يصح؛ لجهالة المنفعة.

وكذلك لو جعلها) أي: المنفعة (أُجرةً لأرضٍ أخرى، أو) أجرة لـ (ــدارٍ، لم يَجُزْ) لجهالة المنفعة.

(و) إذا فسدت وكان البذر من العامل، فـ (ــالزرع كلُّه للمُزارع) لأنه صاحب البذر، لأنه عَيْنُ ماله، تَقلَّب من حال إلى حال (وعليه أجرة مِثْل الأرض) لأن ربَّها دخل على أن يأخذ ما سُمِّي له، فإذا فات، رجع إلى بدله؛ لكونه لم يرضَ ببذل أرضه مجانًا، وإن كان البذر منهما فالزرع لهما بحسبه.

(فإن أمكن عِلْمُ المنفعة) أي: منفعة العامل، وبَقَره، وآلته (وضبطُها بما لا تختلف معه، ومعرفةُ البذر) وأجرة نصف الأرض بنصف البذر والمنفعة (جاز) لانتفاء الغرر والجهالة (وكان الزرع بينهما) نصفين؛ لأن البذر الذي هو أصله كذلك.

(وإن شرط) المزارع (أن يأخذ ربُّ الأرض مثل بذره، و) أن (يقتسما الباقي ففاسد) كأنه اشترط لنفسه قُفزانًا مَعلومةً، وهو شرط فاسد تفسد به المُزارعةُ؛ لأنه قد لا يخرج من الأرض إلا ذلك القدر، فيختصُّ به المالك، وربما لا تخرجه، وموضوعها على الاشتراك.

(وإن شرط) في المزارعة، أو المساقاة (لأحدهما) أي: رب البذر والشجر، أو العامل (قُفْزانًا معلومة) لم تصح لما تقدم (أو) شرط لأحدهما (دراهم معلومة) لم تصح؛ لأنه ربما لا يخرج من الأرض إلا ذلك فيؤدي إلى الضرر (أو) شرط لأحدهما (زرعَ ناحيةٍ معينة) فسدت،

ص: 27

قال في "المغني" و"المبدع": بإجماع العلماء

(1)

(أو) يشترط لأحدهما (ما على الجداول، إما منفردًا، أو مع نصيبه؛ فَسدت المزارعةُ والمساقاة.

ومتى فَسد العقدُ) أي: عقد المزارعة والمساقاة (فالزرعُ) لصاحب البذر، وعليه أجرة العامل (والثمرُ لصاحبه) أي: البذر، أو الشجر (وعليه الأجرة) للعامل؛ لأنه عَمِل بعوض لم يُسَلَّم له.

(وحكمُ المزارعة حكمُ المساقاة فيما ذكرنا) فيما تقدم من الأحكام (والحصادُ، والدِّياسُ، والتصفيةُ) أي: تصفية الحبِّ من التبن (واللِّقاطُ، على العامل) لأنه من العمل الذي لا يستغنى عنه، ولقصة خيبر.

(ويُكره الحصاد والجذاذ ليلًا) لأنه ربما أصابه أذىً من نحو حيَّة.

(وإن دفع رجل بذره إلى صاحب الأرض ليزرعَهُ في أرضه، ويكون ما يخرج بينهما؛ ففاسدٌ) لكون البذر ليس من ربِّ الأرض (ويكون الزرع لمالك البذر) لأنه عين ماله تقلَّب من حال إلى حال (وعليه أُجرة الأرض، و) أجرة (العمل) في الزرع؛ لأنه إنما بذل نفعهُ، ونفع أرضه بعوض، لم يُسَلَّم له، فرجع ببدله.

(وإن قال) ربُّ أرض: (أنا أزرع الأرض ببذري، وعواملي، وتسقيها بمائك، والزرع بيننا، لم يصح) لأن موضوع المزارعة على أن يكون من أحدهما الأرض، ومن الآخر العمل، وصاحب الماء ليس منه أرض ولا عمل ولا بذر، ولأن الماء لا يباع ولا يستأجر، فكيف تصح المزارعة به؟!

(و‌

‌إن زارع شريكَهُ في نصيبه، صح؛ بشرط أن يكون للعامل أكثرُ من نصيبه)

بأن يكون الأصل بينهما نصفين، فيقول أحدهما للآخر: اعمل

(1)

المغني (7/ 566).

ص: 28

عليه ولك الثلثان، فيصح، ويكون السدس الزائد في نظير عمله في حصة شريكه.

(وتقدم) نحوه في المساقاة

(1)

(قريبًا.

وما سقط من حبٍّ وقتَ حصادٍ، فَنَبت في العام القابل فلِربِّ الأرض مالكًا كان) ربُّ الأرض (أو مستأجرًا، أو مستعيرًا) نص عليه

(2)

؛ لأن ربَّ الحبِّ أسقط حقه منه بحكم العُرف، وزال ملكه عنه؛ لأن العادة ترك ذلك لمن يأخذه.

(وكذا نصَّ) الإمام

(3)

(في من باع قصيلًا، فحُصِد، وبقي يسيرًا، فصار سنبلًا، فـ) ــهو (لربِّ الأرض) لما تقدم.

(ويُباح التقاط ما خَلَّفه الحصَّادون من سُنْبُلٍ، وحبٍّ، وغيرهما) بلا خلاف، لجريان ذلك مجرى نبذه على سبيل الترك له (ويَحرُم منعُه، قاله في "الرعاية") لأنه منعٌ من مباح.

(وإذا غَضَبَ زرعَ إنسانٍ، وحَصَده) الغاصب (أُبيح للفقراء التقاطُ السنبلِ المتساقِطِ، كما لو حصدها المالك، وكما يُباحُ رَعْيُ الكلأ من الأرض المغصوبة) واستشكل بدخول الأرض المغصوبة.

(وإن خرج الأكَّار) أي: الزرَّاع (باختياره، وترك العمل قبل الزرع، أو بعده قبل ظهوره) أي: الزرع (وأراد) الأكَّار (أن يبيع عمل يديه) في الأرض

(4)

من حرث ونحوه (وما عمل) أي: أنفق (في

(1)

(9/ 24).

(2)

مسائل أبي داود ص/ 201.

(3)

مسائل أبي داود ص/ 200.

(4)

"في الأرض" ساقطة من "ح".

ص: 29

الأرض؛ لم يجز) ذلك، خلافًا للقاضي في "الأحكام السلطانية"

(1)

(ولا شيء له) كالعامل في المساقاة.

(وإن أخرجه مالكُ ذلك، فله أجرةُ) مِثْل (عمله، وما أنفق في الأرض) لأنه عمل بعوض لم يُسَلَّم له، فوجب له بدله، وهو قيمته. وعُلم منه: أنه إذا فسخت المزارعة بعد ظهور الزرع، للعامل نصيبه، وعليه تمام العمل كالمساقاة.

(ولا يجوز) لربِّ الأرض (أن يَشرط على الفلاح شيئًا مأكولًا، ولا غيره) أي: غير مأكول (من دجاج، ولا غيرها التي يسمُّونها خدمة) ويُسمَّى الآن ضيافة، (ولا أخذه) أي: الدجاج ونحوه (بشرط ولا غيره) إلا أن ينوي مكافأته، أو الاحتساب به من أجرة الأرض، أو كانت العادة جارية بينهما به قبل أن يعطيه أرضه، على قياس ما تقدم في القرض

(2)

.

(ولو أجر) إنسان (أرضه سنة لمن يزرعها، فزرعها) المستأجر زرعًا ينبت في سنة (فلم ينبت الزرع في تلك السنة، ثم نبت في السنة الأخرى، فهو للمستأجر، وعليه الأجرة لربِّ الأرض مدة احتباسها) فيلزمه المُسمَّى للسنة الأولى، وأجرة المِثل للثانية (وليس لربِّ الأرض مطالبته) أي: المستأجر (بقلعه) أي: الزرع (قبل إدراكه) لأنه وضعه بحقٍّ، وتأخره ليس بتقصيره.

(1)

ص/ 211.

(2)

(8/ 145).

ص: 30

‌باب الإجارة

مشتقة من الأجر، وهو العِوَض، ومنه سُمِّي الثواب أجرًا؛ لأن الله تعالى يُعوِّض العبدَ به على طاعته، أو صبره عن معصيته.

وهي ثابتة بالإجماع

(1)

.

وسنده من الكتاب قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}

(2)

، ومن السنة: حديث عائشة في خبر الهجرة قالت: "واستأجَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلًا منْ بَني الدِّيل هاديًا خِرِّيتًا". والخِّريت: الماهِر بالهداية؛ رواه البخاري

(3)

.

والحاجة داعية إليها، إذ كل إنسان لا يقدر على عقار يسكنه، ولا على حيوان يركبه، ولا على صنعة يعملها، وأرباب ذلك لا يبذلونه مجانًا، فجوِّزت طلبًا للرفق.

(وهي) لغة: المجازاة.

وشرعًا: (عقد على منفعة مباحة معلومةٍ، تؤخذ شيئًا فشيئًا).

وهي ضربان، أُشير

(4)

إلى الأول منهما بقوله: (مدَّة معلومة، من عين معلومة) معينة، كـ: أجرتُك هذا البعير (أو) من عين (موصوفة في الذِّمة) كـ: أجرتُك بعيرًا صفته كذا، ويستقصي صفته.

(1)

الإجماع، لابن المنذر ص/ 128.

(2)

سورة الطلاق، الآية:6.

(3)

في الإجارة، باب 3، 4، حديث 2263، 2264، وفي مناقب الأنصار، باب 45، حديث 3905.

(4)

في "ح": "أشار".

ص: 31

وأُشير إلى الضرب الثاني بقوله: (أو عمل معلوم) وقوله: (بعِوض معلوم) راجع للضربين، فعلمت أن المعقود عليه هو المنفعة لا العين، خلافًا لأبي إسحاق المروزي؛ لأن المنفعة هي التي تُستوفى، والأجرة في مقابلتها، ولهذا تُضمن دون العين، وإنما أُضيف العقد إلى العين؛ لأنها محل المنفعة ومنشؤها، كما يُضاف عقد المساقاة إلى البستان، والمعقود عليه الثمرة، والانتفاع تابع، ضرورة أن المنفعة لا توجد

(1)

عادة إلا عقبه.

(ويُستثنى من) قولهم: (مدة معلومة) صورتان: إحداهما تقدمت في الصلح

(2)

. والأخرى: (ما فُتح عَنوةً ولم يُقْسم) بين الغانمين (فيما فعله عمر رضي الله عنه

(3)

) في أرض الخراج، فإنه وقف أرض ذلك على المسلمين، وأقرها في أيدي أربابها بالخراج الذي ضربه أجرة لها في كل عام، ولم يقدِّر مدتها؛ لعموم المصلحة فيها.

وأركان الإجارة خمسة: المتعاقدان، والعوضان، والصيغة.

(وهي) أي: الإجارة (والمساقاة، والمزارعة، والعرايا، والشُّفعة، والكتابة، ونحوها) كالسَّلَم (من الرُّخص المباحة المستقرِّ حكمها على وفق القياس) قال في "الفروع": لأن من لم يخصص العلَّة، لا يُتصور عنده مخالفة قياس صحيح، ومن خصَّصها فإنما يكون الشيء خلاف

(4)

القياس إذا كان المعنى المقتضي للحكم موجودًا فيه، وتخلَّف الحكم عنه.

(1)

في "ذ": "تؤخذ".

(2)

(8/ 297، 299).

(3)

تقدم تخريجه (7/ 170) تعليق رقم (1).

(4)

في "ح": "مخالفًا".

ص: 32

(ولا تصح) الإجارة (إلا من جائز التصرُّف) لأنها عقد معاوضة كالبيع.

(وتنعقد) الإجارة (بلفظ: إجارةٍ

(1)

وما في معناها) كالكراء، سواء (أضافه إلى العين، نحو: آجرتُكَها، أو: أكريتُكَها، أو) أضافه (إلى النفع، نحو) قوله: (آجرتُك) نفع هذه الدار (أو: أكريتُك) نفع هذه الدار (أو: ملكتُك نفعَها.

و) تنعقد - أيضًا - (بلفظ: بيع، إضافةً إلى النفع، نحو) قوله: (بعتُك نفعَها، أو): بعتُك (سُكنى الدار، ونحوه، أو أطلق) لأنها بيع، فانعقدت بلفظه كالصرف.

قال الشيخ تقي الدين

(2)

: التحقيق أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت بأي لفظ كان من الألفاظ التي عَرَف بها المتعاقدان مقصودَهما، وهذا عام في جميع العقود، فإن الشارع لم يحد حدًّا لألفاظ العقود، بل ذكرها مطلقة. وكذا قال ابن القيم في "إعلام الموقعين"

(3)

، وصحَّحه في "التصحيح" و"النظم". وقال في "المنتهى": وبلفظ بيع؛ إن لم يضف إلى العين. ومعناه في "التلخيص" قال: مضافًا إلى النفع، كـ: بعتُك نفعَ هذه الدار شهرًا، وإلا لم يصح، نحو: بعتُكها

(4)

شهرًا.

(و‌

‌لا تصح) الإجارة (إلا بشروط ثلاثة:

أحدها: معرفة المنفعة) لأنها هي المعقود عليها؛ فاشترط العلم بها كالمبيع، ومعرفتها:(إما بالعُرف) وهو ما يتعارفه الناس بينهم

(1)

في "ذ": "آجرت".

(2)

مجموع الفتاوى (20/ 533).

(3)

(2/ 4).

(4)

في "ذ": "بعتك".

ص: 33

(كسُكْنى الدَّار شهرًا) لأن السُّكنى متعارفة بين الناس، والتفاوتُ فيها يسير، فلم يحتج إلى ضبطه (و) كـ (ــخدمة الآدمي سنة) لأن الخدمة - أيضًا - معلومة بالعُرف، فلم تحتج إلى ضبط كالسُّكنى (فيخدمه في الزمن الذي يقتضيه العُرف) قال في "النوادر" و"الرعاية": إن استأجره شهرًا يخدم ليلًا ونهارًا، فإن استأجره للعمل استحقه ليلًا. انتهى. والمراد: ما جرت به العادة من الليل، قال في "الهداية": يخدم من طلوع الشمس إلى غروبها، وبالليل ما يكون من خدمة أوساط الناس.

(فإذا كان لهما عُرف، أغنى عن تعيين النفع، و) عن تعيين (صفته، وينصرف الإطلاق إليه) أي: إلى العُرف؛ لتبادره إلى الذهن.

(فإذا كان عُرف الدار السُّكنى) واكتراها فله السُّكنى، على ما يأتي (أو لم يكن) للدار عُرف (واكتراها) أي: الدار (لها) أي: للسُّكنى (فله السُّكنى.

و) له (وَضْع متاعه فيها، ويترك فيها من الطعام ما جرت عادة الساكن به) قال في "المبدع": ويستحق ماء البئر تبعًا للدار في الأصح.

(وله) أي: المستأجر (أن يأذن لأصحابه، وأضيافه في الدخول) بها (والمبيت فيها) لأنه العادة. وقيل لأحمد

(1)

: يجيء زوار، عليه أن يخبر صاحب البيت بهم؟ قال: ربما كثروا، أرى أن يخبر، وقال: إذا كان يجيئه الفرد، ليس عليه أن يخبره.

(وليس له) أي: للساكن (أن يعمل فيها حدادةً، ولا قصارةً) لأنه ليس العُرف، و - أيضًا - يضر بجدرانها.

(ولا) يجعلها (مخزنًا للطعام) لأنه يضرُّ بها، والعُرف لا يقتضيه.

(1)

مسائل أبي داود ص/ 206.

ص: 34

(ولا أن يُسكِنها دابة) لما تقدم. قلت: إن لم تكن قرينة، كالدار الواسعة التي فيها إسطبل مُعدٌّ للدواب، عملًا بالعُرف.

(ولا يَدَع) المستأجر (فيها رمادًا، ولا ترابًا، ولا زبالة، ونحوها) مما يضرُّ بها؛ لحديث: "لا ضَررَ ولا ضِرار"

(1)

.

(وله) أي: المستأجر (إسكان ضيف وزائر) لأنه ملك السُّكنى، فله استيفاؤها بنفسه، وبمن يقوم مقامه.

(وإما بالوصف، كحمل زُبْرة حديد وزنها كذا إلى موضع معين) فلا بُدَّ من ذكر الوزن والمكان الذي يحمل إليه؛ لأن المنفعة إنما تُعرف بذلك، وكذا كلُّ محمول.

(ولو كان المحمول كتابًا، فوجد) الأجيرُ (المحمولَ إليه غائبًا) ولا وكيل له (فله) أي: الأجير (الأجرة) المسمَّاة (لذهابه، و) له أجرة مثل (ردِّه) لأنه ليس سوى رده إلا تضييعه، وقد علم أنه لا يرضى تضييعه، فيتعين رده.

(وإن وجده) أي: وجد الأجيرُ المحمولَ إليه (ميتًا، ففي "الرعاية" وهو ظاهر "الترغيب": له المُسمَّى فقط، ويردُّه) لأنه أمانة بيده. ولعل الفرق أن الموت ليس من فعل الميت، بخلاف الغيبة، فكان الباعث مفرِّطًا بعدم الاحتياط.

(قال أحمد

(2)

: يجوز أن يستأجر) الأجنبي (الأَمَةَ والحُرَّة للخدمة) لأنها منفعة مباحة (ولكن يصرف) المستأجر (وجهه عن النظرة) للحُرة (ليست الأَمَة مثل الحُرَّة) فلا يُباح للمستأجر النظر لشيء من الحُرَّة

(1)

تقدم تخريجه (2/ 111) تعليق رقم (1).

(2)

الإرشاد ص/ 214.

ص: 35

بخلاف الأَمَة، فينظر منها إلى الأعضاء الستة، أو إلى ما عدا عورة الصلاة، على ما يأتي في النكاح. والحاصل: أن المستأجر لهما كالأجنبي (ولا يخلو) المستأجر (معها) أي: الحُرَّة (في بيت) بل ولا مع الأَمَة، كما يأتي في النكاح (ولا ينظر إليها متجرِّدة، ولا إلى شعرها) المتصل؛ لأنه عورة من الحرة بخلاف الأَمَة.

(و) تصح الإجارة (لبناء) دار ونحوها؛ لأنه نفع مباح (ويُقدَّر) البناء (بالزمان) كيوم أو شهر.

(وإن قُدِّر بالعمل) بأن استأجره لبناء حائط (فلا بُدَّ من معرفة موضعه) أي: البناء (لأنه يختلف بقرب الماء وسهولة التراب، ولا بُدَّ من ذِكْرِ طول الحائط، وعرضه، وسَمْكه) بفتح السين وسكون الميم، أي: ثخانته، وهو في الحائط بمنزلة العمق في غير المنتصب؛ ذكره في "الحاشية" (وآلته) أي: البناء (من طين، ولَبِنٍ، وآجُرٍّ، وشِيدٍ) أي: جِيرٍ (وغير ذلك) كالجص؛ لأن معرفة المنفعة لا تحصل إلا بذلك، والغرض يختلف، فلم يكن بدٌّ مِن ذِكره.

(ولو استؤجر لحفر بئرٍ، عشرة أذرع طولًا، وعشرة) أذرع (عرضًا، وعشرة) أذرع (عمقًا، فَحَفَر) الأجير (خمسة طولًا في خمسة عرضًا في خمسة عمقًا) وأردت أن تعرف ما يستحقه من الأجرة المسماة له (فاضرب عشرة في عشرة تبلغ مائة، ثم اضرب المائة في عشرة تبلغ ألفًا) فهي التي استؤجر لحفرها (واضرب خمسة في خمسة، بخمسة وعشرين، ثم اضربها في خمسة؛ بمائة وخمسة وعشرين) وذلك الذي حفره (و) إذا نسبت (ذلك) إلى الألف وجدته (ثُمن الألف، فله ثُمنُ الأجرة) لأنه وفَّى

ص: 36

بثمن العمل (إن وجب له شيءٌ) من الأجرة، بأن ترك العمل لنحو صخرة منعته من الحفر. هذا قول صاحب "الرعاية". ويأتي في الباب ما يقابله، والآتي هو الصحيح من المذهب.

(وإن استأجره ليبني له بناءً معلومًا) كحائط موصوفة بما تقدم (أو) ليبني له (في زمن معلومٍ) كيوم أو أسبوع (فبناه) الأجير (ثم سَقَطَ البناء، فقد وفَّى) الأجير (ما عليه، واستحقَّ الأجرة) كاملة؛ لأن سقوطه ليس من فِعله، ولا تفريطه، هذا (إن لم يكن سقوطه من جهة العامل

(1)

.

فأما إن) كان سقوطه من جهته بأن (فرَّط، أو بناه محلولًا، أو نحو ذلك، فسقط، فعليه إعادتُه، وغَرامةُ ما تلف منه) لتفريطه.

(وإن استأجره لبناء أذرع معلومة، فبنى بعضَها، ثم سقط) على أيِّ وجهٍ كان (فعليه إعادةُ ما سقط، و) عليه (تمام ما وقعت عليه الإجارة من الأذرع) مطلقًا؛ لأنه لم يوف بالعمل، وعليه غرم ما تلف إن فرَّط.

(ويصح الاستئجار لتطيين الأرض والسطوح والحيطان، و) الاستئجار لـ (ــتجصيصها) ونحوه؛ لأنه مباح، ويُقدَّر بالزمن.

(ولا يصح) الاستئجار (على) ذلك إذا قُدِّر بـ (ــعمل معين) بأن يقول: استأجرتُك لتطيين هذه الحائط، أو تجصيصها (لأن الطين) أو الجص (يختلف في الرقة والغِلظ، و) كذلك (الأرض منها العالي والنازل، وكذلك الحيطان والسطح) منها العالي والنازل (فلذلك لم يصح) الاستئجار لذلك (إلا على مدة) معلومة، كيوم أو شهر.

(وتصح إجارةُ أرضٍ معينة) برؤية؛ لأن الأرض لا تنضبط بالصفة (لزرعِ كذا) من بُرٍّ، أو قطن، ونحوهما (أو غرس) معلوم كمِشْمِش (أو

(1)

في "ح": "العمل".

ص: 37

بناء معلوم) كدار وصفها، بلا خلاف (أو) إجارتها (لزرع ما شاء، أو لغرس ما شاء) أو لبناء ما شاء

(1)

(كـ: أجرتُك لتزرع ما شئت، أو) أجرها (لغرسٍ، ويسكت) أو لبناء أو زرع، ويسكت (أو أجره الأرضَ وأطلق) بأن لم يعين زرعًا ولا غرسًا ولا بناء (وهي تصلح للزرع وغيره) فتصح الإجارة في جميع هذه الصور؛ للعلم بالمعقود عليه. قال الشيخ تقي الدين

(2)

: إن أطلق، أو قال: انتفِع بها ما شئت، فله زرع وغرس وبناء. (ويأتي له تتمة) في الباب.

(ويجوز الاستئجار لضرب اللَّبِن على مُدَّةٍ) كيوم أو شهر (أو) على (عمل) معلوم.

(فإن قدَّره بالعمل، احتاج إلى تعيين عدده، و) إلى (ذِكْرِ قَالبه، وموضع الضَّرب) لأنه يختلف باعتبار التركيب والماء (فإن كان هناك قالبٌ معروف لا يختلف، جاز) كما لو كان المكيال معروفًا.

(وإن قَدَّره بالطول والعَرْض والسمك، جاز) لانتفاء الغرر (ولا يكتفى بمشاهدة قالب الضَّرب إذا لم يكن معروفًا) لأن فيه غررًا، وقد يتلف كالسَّلَم.

(ولا يلزمه) أي: الأجير (إقامة اللَّبِن ليجفَّ) لأنه إنما استؤجر للضرب لا للإقامة (ما لم يكن شَرْطٌ، أو عُرفٌ) فيُرجع إليه. وظاهر ما قدَّمه في "المبدع" و"شرح المنتهى": لا يلزمه مع عُرف.

(ومثله) أي: إقامة اللَّبِن (إخراج الآجُرِّ من التنور الذي استؤجر

(1)

زاد في "ذ" ومتن الإقناع (2/ 490): (أو لزرع) ما شاء (وغرس ما شاء)، وبناء ما شاء.

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (15330)، والإنصاف (6/ 8).

ص: 38

لِشَيِّه) فلا يلزمه إن لم يكن شَرْطٌ، أو عُرفٌ؛ لما تقدم.

(وإن استؤجر لحفر قَبْرٍ، لزمه ردُّ ترابه) أي: القبر (على الميت؛ لأنه العُرف) و (لا) يلزمه (تطيينه) لأنه ليس بمشروع. وظاهره ولو كان العُرف.

(وإن استأجر للركوب، ذَكرَ) المستأجر (المركوبَ، فرسًا أو بعيرًا، ونحوه) كحمار (كمبيع) إن لم يكن مرئيًا (و) ذكر (ما يركب به من سرج وغيره) لأن ضرر المركوب يختلف باختلاف ذلك (و) ذكر (كيفية سيره، من هِملاج وغيره) لأن الغرض يختلف باختلافه. والهِملاج بكسر الهاء: من الهملجة

(1)

؛ مشية معروفة.

(ولا يُشترط ذِكرْ ذكوريته) أي: المركوب (وأنوثيته، ونوعه) فلا يُشترط في الفرس أن يقول: حِجْر

(2)

أو حصان، ولا عربي أو بِرْذون

(3)

ونحوه؛ لأن التفاوت بين ذلك يسير.

(ولا بُدَّ من معرفة راكب برؤية، أو صفة، كمبيع) لاختلافه بالطول والسِّمَن وضدهما.

(ويُشترط) أيضًا (معرفة توابعه) أي: الراكب (العُرفية، كزادٍ، وأثاثٍ من الأغطية، والأوطئة، والمعاليق، كالقِدْر والقِربة ونحوهما، إما برؤية، أو صفة، أو وزنٍ) لأن ذلك يختلف.

(وله) أي: الراكب (حَمْلُ ما نقص من معلومه) أي: من الذي قدَّره للمؤجر (ولو بأكل معتاد، ويأتي في الباب) موضحًا.

(1)

هَمْلجَ البرذون هَمْلجة: مشى مشية سهلة في سرعة. المصباح المنير ص/ 881، مادة (هملج).

(2)

الحِجْر: الفرس الأنثى. المصباح المنير ص/ 122، مادة (حجر).

(3)

البرذون: هو الذي أبواه أعجميان. حياة الحيوان للدميري (1/ 119).

ص: 39

(وإن كان) استأجر (للحمل لم يحتج إلى ذِكْر ما تقدم) من ذكر ما يحمل عليه وآلته (إن لم يتضرر المحمول بكثرة الحركة، أو يُفوِّت غرض المستأجر) باختلاف ما يحمل عليه (وإلا) بأن تضرَّر المحمول، أو فات غرض المستأجر باختلافه (اشتُرط، كحامل زجاج، وخزف) أي: فخار، (وفاكهة، ونحوه) أي: نحو ما ذكر، لأن فيه غرضًا.

(ويُشترط معرفةُ المتاع المحمول برؤيةٍ أو صفة، وذكر جنسه من حديد، أو قُطن أو غيره، و) معرفة (قَدْره بالكيل أو بالوزن، فلا يكفي ذِكْر وزنه فقط) لاختلاف الغرض، خلافًا لابن عقيل.

(و‌

‌يُشترط معرفة أرضٍ) إذا استؤجر (لحرثٍ) برؤية

؛ لأنها لا تنضبط بالصفة، فيختلف العمل باختلافها.

فصل

الشرط (الثاني) للإجارة: (معرفة الأجرة) لأنه عوض في عقد معاوضة، فوجب أن يكون معلومًا، كالثمن. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم:"مَنِ استأجَرَ أجيرًا فلْيُعلِمه أجْرَه"

(1)

.

(1)

أخرجه أبو داود في المراسيل ص/ 167، حديث 181، وأحمد (3/ 59، 68، 71) من طريق حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا.

وأخرجه عبد الرزاق (8/ 235) حديث 15023 عن معمر والثوري عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، أو أحدهما مرفوعًا.

وأخرجه محمد بن الحسن في الآثار ص/ 167، حديث 750، وأبو نعيم في مسند أبي حنيفة ص/ 89، عن أبي حنيفة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن أبي هريرة، وأبي سعيد رضي الله عنهما مرفوعًا.

وأخرجه البيهقي (6/ 120) من طريق أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، عن =

ص: 40

ويصح أن تكون في الذِّمة، وأن تكون معينة (فما في الذِّمة) حكمه (كَثَمنٍ) فما صح أن يكون ثمنًا في الذمة، صح أن يكون أجرة (و) الأجرة (المعينة كمبيعٍ) معين.

(ولو جعل الأجرة صُبْرة دراهم، أو) صُبْرة (غيرها، صحَّت) الإجارة (كبيع) بخلاف السَّلَم؛ لأن المنفعة هاهنا أُجريت مجرى الأعيان؛ لأنها متعلقة بعين حاضرة، والسَّلَم متعلِّق بمعدوم، فافترقا.

(و‌

‌تجوز إجارةُ الأرض بجنس ما يخرج منها)

بأن أجرها لمن يزرعها بُرًّا بقفيز بُرٍّ، إن لم يقل: مما يخرج منها، وإلا؛ لم يصح (وتقدم في الباب قبله

(1)

) مفصلًا.

= الأسود، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. وقال: كذا رواه أبو حنيفة، وكذا في كتابي: عن أبي هريرة، وقيل من وجه آخر ضعيف: عن ابن مسعود. ورواه حماد بن سلمة، عن إبراهيم، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره. وهو مرسل بين إبراهيم، وأبي سعيد. وكذلك رواه معمر، عن حماد بن أبي سليمان مرسلًا.

وقال عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الوسطى (3/ 284): إبراهيم لم يدرك أبا سعيد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 97): رواه أحمد، وقد رواه النسائي موقوفًا، ورجال أحمد رجال الصحيح إلا أن إبراهيم النخعي لم يسمع من أبي سعيد فيما أحسب. وقال ابن حجر في الدراية (2/ 187): وإبراهيم النخعي لم يدرك أبا سعيد ولا أبا هريرة، أي: لم يسمع.

وأخرجه النسائي في المزارعة باب 44، رقم 3866، وفي الكبرى (3/ 110) رقم 4673 من طريق شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، عن أبي سعيد رضي الله عنه موقوفًا. وأخرجه ابن أبي شيبة (6/ 303) من طريق سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن أبي هريرة، وأبي سعيد رضي الله عنهما موقوفًا.

قال ابن أبي حاتم في علله (2/ 443): قال أبو زرعة: الصحيح موقوف عن [كذا! ولعله على] أبي سعيد؛ لأن الثوري أحفظ.

(1)

(9/ 10).

ص: 41

(ويصح استئجار أجيرٍ وظِئْرٍ) أي: مرضعة، ولو أمًّا (بطعامهما وكسوتهما) وإن لم يصف الطعام والكسوة (أو بأجرة معلومة وطعامهما وكسوتهما).

أما المرضعة: فلقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}

(1)

فأوجب لهنَّ النفقة والكسوة على الرضاع؛ ولم يفرِّق بين المُطلَّقة وغيرها، بل في الآية قرينة تدلُّ على طلاقها؛ لأن الزوجة تجب نفقتها وكسوتها بالزوجية، وإن لم ترضع، ولقوله تعالى:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}

(1)

والوارث ليس بزوج.

وأما الأجير: فلما روي عن أبي بكر، وعمر، وأبي موسى رضي الله تعالى عنهم: أنهم استأجروا الأجراء بطعامهم وكسوتهم

(2)

، ولم يظهر له نكير، فكان كالإجماع.

و (كما لو شرطا) أي: المرضعة والأجير (كسوةً ونفقة معلومتين

(1)

سورة البقرة، الآية:233.

(2)

لم نقف على من رواه منهم مسندًا، وذكر ذلك عنهم ابن قدامة في المغني (8/ 68). وفي مسائل الكوسج (6/ 3092) رقم 2327 عن إسحاق بن راهويه قال: فإن السنة مضت في استئجار الرجل بالكسوة وبطعامه أنه جائزٌ، رأى ذلك ابن عباس وأبو هريرة، وقد قال الله تبارك وتعالى:{أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 202] فتلاها ابن عباس حين سُئل عمّن يؤاجر نفسه على أن يطعموه ويخدمهم، وكذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه:"أجرت نفسي على طعام بطني وعقبة رجلي".

قلنا: أما أثر ابن عباس فرواه الحاكم (2/ 277)، والبيهقي (4/ 333). قال الحكم: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.

وأما أثر أبو هريرة فرواه ابن ماجه في الرهون، باب 5، حديث 2445، وعبد الرزاق (8/ 215) رقم 14941، وابن سعد (326)، والبيهقي (6/ 120)، وفي شعب الإيمان (8/ 466) رقم 4256. قال البوصيرى. إسناده صحيح موقوف.

ص: 42

موصوفتين، كصفتهما في السَّلَمِ) بأن يوصفا بما لا يختلفان معه غالبًا.

(وهما) أي: المرضعة والأجير (عند التنازع) في صفة الكسوة والنفقة، أو قدرهما (كزوجةٍ) قال في "الشرح": لأن الكسوة عُرفًا، وهي كسوة الزوجات، والإطعام عُرفًا، وهو الإطعام في الكفَّارات، وفي الملبوس إلى أقل ملبوس مثله؛ لأن الإطلاق يجزئ فيه أقل ما يتناوله اللفظ، كالوصية.

(ويُسنُّ إعطاء ظِئْرٍ حرَّةٍ عند الفطام عبدًا أو أَمَة، إن كان المسترضع موسرًا) لما روى أبو داود بإسناده عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن حجَّاج، عن أبيه، قال:"قلت: يا رَسُول الله، ما يُذْهِب عني مَذِمة الرَّضاع؟ قال: الغُرَّة: العبْدُ أو الأَمَة" قال الترمذي: حسن صحيح

(1)

.

(1)

أبو داود في النكاح، باب 12، حديث 2064، والترمذي في الرضاع، باب 6، حديث 1153. وأخرجه - أيضًا - البخاري في التاريخ الكبير (2/ 371)، والنسائي في النكاح، باب 56، حديث 3329، وفي الكبرى (3/ 306) حديث 5482، وعبد الرزاق (7/ 478) حديث 13956، والحميدي (2/ 387) حديث 877، وأحمد (3/ 450)، وفي العلل ومعرفة الرجال (2/ 336) حديث 2487، والحسين المروزي في البر والصلة ص/ 41، حديث 81، والدارمي في النكاح، باب 50، حديث 2259، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/ 344) حديث 2379، والروياني في مسنده (2/ 451) حديث 1471، وأبو يعلى (12/ 221) حديث 6835، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (2/ 173 - 174) حديث 692 - 694، وابن قانع في معجم الصحابة (1/ 193)، وابن حبان "الإحسان" (10/ 43) حديث 4230)، والطبراني في الكبير (3/ 222، 223) حديث 3199 - 3208، والعسكري في تصحيفات المحدثين (1/ 274)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (2/ 730) حديث 1945، والبيهقي (7/ 464)، وابن الأثير في أسد الغابة (1/ 459)، والمزي في تهذيب الكمال (5/ 450 - 451) كلهم من طرق عن هشام بن عروة، به.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح

هكذا رواه يحيى بن سعيد القطان، =

ص: 43

(قال الشيخ

(1)

: لعلَّ هذا في المتبرعة بالرضاعة. انتهى.

وإن كانت الظِّئر أمَةً استُحب) لمسترضع موسر (إعتاقها) لأنه يحصُل أخص الرقاب بها لها، وتحصُل به المجازاة التي جعلها النبيُّ صلى الله عليه وسلم مجازاة للوالد من النسب

(2)

.

= وحاتم بن إسماعيل، وغير واحد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن حجاج بن حجاج، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى في علله الكبير ص/ 168، حديث 293 عن سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن حجاج بن حجاج، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال: سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: الصحيح: عن حجاج بن حجاج، عن أبيه، ولا أعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث الواحد، ومن قال: الحجاج بن أبي الحجاج فهو خطأ. وقال في السنن (3/ 460): حديث ابن عيينة غير محفوظ.

وقد تابع هشامًا الزهري: أخرجه الحارث بن أبي أسامة "بغية الباحث" ص/ 156، حديث 479، وأبو الزناد: أخرجه الطبراني في الكبير (3/ 222) حديث 3205، وأبو الأسود يتيم عروة: أخرجه الطبراني في الكبير (3/ 223) حديث 3209، ثلاثتهم عن عروة، عن الحجاج بن الحجاج، عن أبيه، به.

وأخرجه ابن قانع في معجم الصحابة (1/ 193) من طريق داود بن عبد الوحمن، عن هشام بن عروة، عن الحجاج بن الحجاج، عن أبيه، به. وأخرجه من طريق ابن أبي الزناد، عن أبيه، ومن طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن الحجاج، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأخرجه أيضًا النسائي في الكبرى (3/ 306) حديث 5483 من طريق عبد الرحمن بن مهدى، والطبراني في الكبير (3/ 222) حديث 3200، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (2/ 730) حديث 1944 من طريق أبي نعيم، عن سفيان، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن الحجاج، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأخرجه الطيالسي ص/ 184، حديث 1301، وابن سعد (4/ 318) من طريق ابن أبي ذئب، عمن سمع عروة، أن رجلًا قال

الحديث.

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 228.

(2)

يشير إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجزئ ولدٌ والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه". أخرجه مسلم في العتق، حديث 1510 عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 44

(ولو استؤجرت) المرأة (للرَّضاع والحضانة، لزماها) أي: الرضاع والحضانة؛ لأنه مقتضى العقد.

(وإن استؤجرت للرَّضاع، وأطلق) الرضاع (لزمتها الحضانة تبعًا) عملًا بالعُرف.

(وإن استؤجرت للحضانة وأطلق) العقد (لم يلزمها الرَّضاع) لأنه ليس داخلًا في الحضانة. وقال في "المنتهى": وإن أطلقت، أو خصص رضاع، لم يشمل الآخر.

(والمعقودُ عليه في الرَّضاع: الحضانة واللَّبن) لأن كلًّا منهما مقصود، ولأن العقد لو كان على الخدمة وحدها لما لزمها سقي لبنها، وأما كونه عينًا فلا يمنع؛ للضرورة إلى حفظ الآدمي؛ لأن غيره لا يقوم مقامه.

(ولو وقعت الإجارة على الحضانة والرَّضاع، وانقَطَع اللَّبَن، بَطَلا) أي: بطلت الإجارة فيهما؛ لتعذُّر المقصود منها.

(ويجبُ على المُرضِعة أن تأكل، وتشربَ ما يُدِرُّ لبنَها ويصلُحُ به، وللمكتري مطالبتُها بذلك) لأنه من تمام التمكين

(1)

من الرضاع، وفي تركه إضرارٌ بالصبي.

(فإن لم تُرضعه، لكن سقته لبن الغنم) أو غيرها (أو أطعمته، أو دفعته إلى خادمها) أو غيرها (فأرضعته، فلا أُجرة لها) لأنها لم توفِ بالمعقود عليه.

(وإن) اختلفا، فـ (ــقالت: أرضعتُهُ، فأنكر المسترضع) أنها

(1)

في "ح": "التمكن".

ص: 45

أرضعتْه (فالقول قولها) بيمينها؛ لأنها مؤتمنة.

(ويُشترط) لصحة الإجارة للرَّضاع (رؤية المرتضع) ولا يكفي وصفه؛ لأن الرضاع يختلف باختلاف كبره وصغره، ونهمته

(1)

وقناعته.

(و) يُشترط - أيضًا - (معرفة مدة الرضاع) لأنه لا يمكن تقدير الرضاع إلا بها، فإن السقي والعمل فيها يختلف.

(و) يُشترط - أيضًا - معرفةُ (مكانه) أي: الرَّضاع (هل هو عند المرضعة، أو عند وليِّه؟) لأنه يختلف، فيشق عليها في بيت المستأجر، ويسهل في بيتها.

(ولا بأس أن ترضع المُسلِمة طفلًا لكتابي بأجرة، لا) طفلًا (لمجوسي) ونحوه ممن يعبد غير الله. قال في "الفروع": رخَّص أحمد

(2)

في مُسلِمة تُرضع طفلًا لنصارى بأُجرة، لا لمجوسي. وسوَّى أبو بكر وغيره بينهما؛ لاستواء البيع والإجارة.

(ولا يصح استئجار دابة بعلفِها، أو بأجر مُعين وعلفها) لأنه مجهول، ولا عُرْفَ له يرجع إليه (إلا أن يشترطه) أي: العلف (موصوفًا) كشعير ونحوه، وقَدْره بمعلوم، فيجوز.

(وعنه

(3)

: يصح) مطلقًا (اختاره الشيخ

(4)

، وجمعٌ) كاستئجار الأجير بطعامه.

(وإن شرط للأجير) لخدمة أو رضاع (طعام غيره وكسوته) أي: الغير (موصوفًا) ما ذكر من الطعام والكسوة (جاز) لأنه معلوم (كـ) ــما لو

(1)

نَهَم يَنْهِم: كَثُر أكلُه. المصباح المنير ص/ 629، مادة (نهم).

(2)

الفروع (4/ 431 - 432)، والإنصاف (6/ 16).

(3)

الاختيارات الفقهية ص/ 221، والفروع (4/ 423)، والمبدع (5/ 67).

(4)

الاختيارات الفقهية ص/ 221.

ص: 46

شَرَط له طعام نفسه، وكسوة (نفسه، ويكون ذلك للأجير، إن شاء أطعمه) له (وإن شاء تَرَكه) لأنه في مقابلة منافعه (وإن لم يكن) ما شَرَطه للأجير من طعام غيره وكسوته (موصوفًا، لم يصح) لأن ذلك مجهول (وإنما جاز) ذلك إذا شرط (للأجير) نفسه (للحاجة إليه) وجري العادة به، فلا يلزم احتمالها مع عدم ذلك.

(وليس له) أي: المستأجر (إطعامه) أي: الأجير (إلا ما يوافقه من الأغذية) لأن عليه ضررًا، ولا يمكنه استيفاء الواجب له منه.

(وإن استغنى الأجير عن طعام المستأجر) بطعام نفسه أو غيره (أو عَجَز عن الأكل لمرضٍ أو غيره، لم تسقط نفقته، وكان له المطالبة بها) لأنها عوض، فلا تسقط بالغنى عنه، كالدراهم.

(وإن احتاج) الأجيرُ (إلى دواءٍ لمرض، لم يلزم المستأجر) لأنه ليس من النفقة، كالزوجة (لكن يلزمه) أي: المستأجر (بقَدْرِ طعام الصحيح) يدفعه له، فيصرفه فيما أحب من دواء، أو غيره.

(وإن قبض لأجير طعامَهُ، فأحبَّ) الأجير (أن يستفضل بعضه لنفسه، وكان المستأجر دفع إليه أكثر من الواجب له ليأكل منه قَدْر حاجته، ويُفْضل الباقي) منع منه؛ لأنه لم يُمَلِّكه إياه، وإنما أباحه أكل قَدْر حاجته (أو كان في تَرْكه لأكله كلِّه ضررٌ على المستأجر، بأن يضعف الأجير عن العمل، أو يقل لَبَنُ الظِّئر، منع منه) لأن على المستأجر ضررًا بتفويت بعض ماله من منفعته، فمنع منه كالجمَّال إذا امتنع عن

(1)

علف الجِمَال.

(1)

في "ذ": "من".

ص: 47

(وإن دفع) المستأجر (إليه قَدْر الواجب فقط) من غير زيادة (أو) دفع إليه (أكثر منه) أي: الواجب (وملَّكه إياه، ولم يكن في تفضيله لبعضه ضرر بالمستأجر، جاز) للأجير أن يستفضل بعضه لنفسه؛ لأنه لا حقَّ للمستأجر فيه ولا ضرر عليه، أشبه الدراهم.

(فإن قدَّم) المستأجر (إليه) أي: الأجير (طعامًا فنُهب، أو تَلِف قبل أكله، وكان) الطعام (على مائدة لا يخصُّه) المستأجر (فيها بطعامه، فـ) ــالطعام (من ضمان المستأجر) لأنه لم يسلِّمه إليه.

(وإن خصَّه) المستأجر (بذلك) الطعام (وسلَّمه إليه) ثم نُهب، أو تَلِف (فمن مال الأجير) لأنه تسليم عوض على وجه التمليك، أشبه البيع.

(والدَّاية التي تَقْبَل) الولد في (الولادة، يجوز لها أخذ الأجرة على ذلك، و) يجوز لها (أن تأخذ) على ذلك (بلا شرط) لأنه عمل لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة.

(ولا بأس أن) يستأجر من (يحصد الزرعَ) بجزء مُشاع منه (و) أن يستأجر من (يصرم) أي: يجذُّ ثمر (النخل بسدس ما يخرج منه) أو بربعه ونحوه (قال) الإمام (أحمد

(1)

: هو أحب إليَّ من المقاطعة، يعني مع جوازها) أي: المقاطعة.

(ولا يجوز نفض

(2)

الزيتون ونحوِه ببعض ما يسقط منه) أي: بآصُع

(1)

المغني (8/ 72).

(2)

نَفَضْتُ الورقَ من الشجرة نفضًا: أسقطته، والنَّفَض ما تساقط. المصباح المنير ص/ 618، مادة (نفض).

ص: 48

معلومة منه؛ للجهالة؛ لأنه لا يدري الباقي بعدها (وله) أي: الأجير (أُجرة مثله) لأنه عمل بعوض لم يسلم له.

(ويجوز نفضُ كُلِّه) أي: الزيتون ونحوه (ولقطه ببعضه مُشاعًا) كالثلث والسدس، كما سبق في الزرع والنخل. وتقدم

(1)

ذلك في آخر المضاربة.

(ويجوز للرجل) وللمرأة (أن يؤجر أَمَته) ولو أمَّ ولد

(2)

(للإرضاع) لأنها ملكه، ومنافعها له (وليس لها إجارة نفسها) لرضاع، ولا غيره؛ لأنها لا تملك منافعها، إلا بإذن سيدها.

(فإن كان لها ولد لم يجز) لسيدها (إجارتها للإرضاع إلا أن يكون فيها) أي: الأمَة (فضلٌ عن رِيِّه) أي: ولدها (لأن الحق) في اللَّبَن (للولد، وليس للسيد إلا الفاضِلُ عنه) أي: عن الولد من اللَّبَن.

(فإن كانت) الأمَة (متزوِّجة بغير عبده، لم يجز) للسيد (إجارتها لذلك) أي: للرضاع (إلا بإذن الزوج) لأن فيه تفويتًا لحقه.

(وإن أجرَهَا) السيد (للرَّضاع، ثم زوَّجها، صحَّ النكاح، ولا تنفسخ الإجارة) بالنكاح، كالبيع (وللزوج الاستمتاع بها وقت فراغها من الرَّضاع والحضانة) لسبق حق المستأجر.

(وتأتي إجارة الحرَّة) نفسَها (في) باب (عشرة النساء) مفصَّلة.

(ولا يُقبل قولُها) أي: التي أجرت نفسها، ثم ادَّعت (أنها ذات زوجٍ) لتسقط حق المستأجر من الإجارة إلا ببينة (أو مؤجرةٌ) أي: إذا تزوَّجت ثم ادَّعت أنها كانت مؤجرة (قبل نكاح) لم يُقبل قولُها (بلا بينة)

(1)

(8/ 528).

(2)

في "ح" زيادة: "للخدمة و".

ص: 49

لأنه يتضمن إسقاط حق الزوج في مدة الإجارة.

فصل

(وإن دفع) إنسان (ثوبه إلى قَصَّار، أو خيَّاط، ونحوهما) كصَبَّاغ (ليعمله) أي: ليقصرَه، أو يخيطه، أو يصبغه ونحوه (ولو لم تكن له) أي: للقصَّار ونحوه (عادة بأخذ أُجرة، ولم يَعقِدا) أي: القصَّار والخياط (عقدَ إجارة) صح، وله أجرة مثله حيث كانا منتصبين لذلك، وإلا؛ لم يستحقَّا أجرًا، إلا بشرط، أو عقدٍ، أو تعريض

(1)

؛ لأنه لم يوجد عُرف يقوم مقام العقد، فهو كما لو عمل بغير إذن مالكه (أو استعمل) إنسان (حمَّالًا ونحوه، أو) استعمل (شاهدًا إن جاز له) أي: الشاهد (أخذ أُجرة) بأن عَجَزَ عن المشي، أو تأذَّى به، فله أخذ أُجرة مركوب، كما يأتي في الشهادات (صَحَّ، وله أجرة مِثْله) لأن العُرف الجاري بذلك يقوم مقام القول.

وقال شيخ مشايخنا الفارضي

(2)

: فإن قيل: يحرم الأخذ على الشهادة، فالجواب: أن الذي يحرم إنما هو في نحو ما إذا تحمَّل الشهادة، وأبى أن يؤدِّيها إلا بجُعْل، أو سُئل في أن يشهد، فأبى أن يشهد إلا بجُعْل. أما لو دعا زيدًا مثلًا فذهب معه وشهد، وتكلَّف زيدٌ لدابة مثلًا، أو مضى زمنٌ لمِثْله أجرة، لا سيما مع بُعْد المكان، فله أُجرة مِثْله.

(1)

في "ح": "إلا بعد عقد أو شرط أو تعريض".

(2)

هو شمس الدين، محمد الفارضي القاهري الحنبلي، الشاعر المشهور، أخذ عن جماعة من علماء مصر، واجتمع ببدر الدين الغزي، واستشهد الشيخ شمس الدين العلقمي بكلامه في شرح الجامع الصغير. توفي سنة (981 هـ) رحمه الله تعالى. انظر: شذرات الذهب (8/ 393)، والنعت الأكمل ص/ 142 والسحب الوابلة (3/ 1106).

ص: 50

نقلته من خط شيخي ولد العم عبد الرحمن البهوتي

(1)

على "حاشية الفروع".

(كتعريضه) أي: الدَّافع (بها) أي: بالأجرة (نحو: خُذْه، وأنا أعلم أنك متعيِّش

(2)

، أو): خُذْه و (أنا أُرضيك، ونحوه) مما يدل على إعطاء الأجرة.

(وكذا دخول حمَّام، وركوب سفينة ملَّاح، وحلق رأسه، وتغسيله، وغسل ثوبه، وبيعه له) شيئًا (وشربه منه ماء) أو قهوة ونحوها من المباحات، وما يأخذه البائع ثمن الماء أو القهوة ونحوها، وأجرة الآنية والساقي والمكان، قياسًا على المسألة بعدها.

(وقال في "التلخيص": ما يأخذه الحمَّامي أجرةُ المكان والسطل والمئزر، ويدخل الماء تبعًا) لأنه لا يصح عقد الإجارة عليه، وهذا بخلاف مسألة الشرب، فإن الماء مبيع.

ولا ينبغي لمن دخل الحَمَّام أن يستعمل فوق المعتاد؛ لأنه غير مأذون فيه لفظًا ولا عُرفًا؛ بل يحرم عليه، كاستعماله من الموقوف فوق القَدْرِ المشروع، أخذًا من قولهم: يجب صرف الوقف للجهة التي عيَّنها الواقف.

(ويجوز إجارة دار بسُكنى دار) أخرى (و) بـ (ــخدمة عبد،

(1)

هو عبد الرحمن بن يوسف بن علي البهوتي، أخذ العلم من والده وجدِّه، والتقى الفتوحي صاحب "منتهى الإرادات" وغيرهم، وأخذ عنه جمع، منهم: "العلامة منصور البهوتي - صاحب كتابنا هذا - والحافظ عبد الباقي الدمشقي. وكان المترجم حيًّا سنة 1040. انظر: النعت الأكمل ص/ 204 - 205، والسحب الوابلة (2/ 528 - 529).

(2)

في متن الإقناع (2/ 495): "تتعيش".

ص: 51

و) بـ (ــتزويج امرأة) لقصة شُعيب عليه السلام

(1)

؛ لأنه جعل النكاح عوض الأُجرة، ولأن كل ما جاز أن يكون ثمنًا في البيع، جاز عوضًا في الإجارة، فكما جاز أن يكون العوض عينًا، جاز أن يكون منفعة، سواء كان الجنس واحدًا كالأول، أو مختلفًا كالثاني. قال المجد في "شرحه": فإذا دفعت عبدك إلى خيَّاط، أو قصَّار، أو نحوهما ليعلِّمه ذلك العمل بعمل الغلام سنة، جاز ذلك في مذهب مالك

(2)

وعندنا.

(وتصح إجارة حَلْي بأجرة من غير جنسه، وكذا) بأجرة (من جنسه) لأنه عين ينتفع بها منفعة مباحة مقصودة مع بقائها، فجازت إجارته كالأراضي (مع الكراهة) أي: يُكره إجارة الحلي بنقد من جنسه، خروجًا من خلاف من قال: لا تصح؛ لأنها تحتك بالاستعمال، فيذهب منه أجزاء، وإن كانت يسيرة، ليحصُل الأجر في مقابلتها ومقابلة الانتفاع بها، فيفضي إلى بيع ذهب بذهب وشيء آخر. ورُدَّ: بأن الأجرة في مقابلة الانتفاع، لا في مقابلة الذاهب، وإلا لما جاز إجارة أحد النقدين بالآخر؛ لإفضائه إلى التفرق قبل القبض.

(وإن قال) صاحب الثوب لخيَّاط: (إن خِطْتَ هذا الثوب اليوم) فلك درهم (أو) إن خِطته (روميًا، فلك درهم، و) إن خِطته (غدًا، أو فارسيًا فـ) ــلك (نصفه) أي: نصف درهم، لم يصح.

(أو) قال ربُّ أرض: (إن زرعتها بُرًّا) فبخمسة (أو) قال ربُّ حانوت: (إن فتحت خيَّاطًا، فبخمسة، و) إن زرعت (ذرة أو) فتحت (حدادًا، فبعشرة، ونحوه) مما لم يقع فيه جزم (لم يصح) العقد؛ لأنه

(1)

انظر: تفسير ابن كثير (3/ 384)، سورة القصص، الآيات: من 23 - 28.

(2)

المدونة الكبرى (4/ 420).

ص: 52

عقد واحد اختلف فيه العوض بالتقديم والتأخير ونحوهما، فلم يصح، كـ: بعتك بعشرة نقدًا، أو أحد عشرة نسيئة، ما لم يتفرقا على أحدهما، كما تقدم

(1)

في البيع.

(وإن أَكْراه دابة، وقال: إن رددتَها اليوم فبخمسة، وغدًا فبعشرة، أو أَكْراه عشرة أيام بعشرة) دراهم (وما زاد فلكل يوم كذا، صح) لأنه لا يؤدِّي إلى التنازع؛ لأنه عيَّن لكل زمن عِوضًا معلومًا، فصح.

(ولا يصح أن يكتري مدَّةً مجهولة، كـ) ــاكترائه فرسًا (مُدَّة غزاته، أو غيرها) لأنه لا يدري متى تنقضي، وقد تطول وتقصر، فيؤدي إلى التنازع (وإن سَمَّى لكل يوم شيئًا معلومًا، جاز) وصح العقد، لما تقدم.

(وإن أكراه) الدار ونحوها (كلَّ شهر بدرهم، أو) اكتراه للسقي (كلَّ دلو بتمرة، صح) العقد؛ لما روي عن علي قال: "جُعْتُ مَرَّةً جُوعًا شديدًا، فخرجْتُ أطْلُبُ العملَ في عوالي المدينةِ، فإذا أنا بامرأة قد جَمعتْ بَذْرًا

(2)

، فَظننْتُ أنها تُرِيدُ بَلَّه، فقاطعتها كلَّ ذَنُوبٍ بتمرةٍ، فَمددْتُ ستة عشرَ ذَنُوبًا، فَعدَّت لي ستَّ عَشرةَ تَمرة. فأتيت النبيَّ فأخبرتهُ، فأكل معي منها" رواه أحمد

(3)

.

(1)

(7/ 359).

(2)

كذا في الأصول! وهو خطأ، وصوابه "مدرًا" كما في مصادر التخريج الآتية، و"المدر" هو الطين، كما جاء مصرحًا به عند البيهقي (6/ 119)، والضياء في المختارة (2/ 336).

(3)

(1/ 90، 135). وأخرجه - أيضًا - ابن أبي الدنيا في الجوع ص/ 37، حديث 17، وعبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد فضائل الصحابة (1/ 537) حديث 896، وفي زوائد الزهد (2/ 51)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 70)، والبيهقي (6/ 191)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 218) حديث 1574، والضياء في المختارة (2/ 335) =

ص: 53

ومثله ما تقدَّم إذا باعه الصُّبْرة كل قفيز بدرهم، فعلى هذا تلزم الإجارة في الشهر الأول بإطلاق العقد، قاله في "المغني" و"الشرح"، وما بعده يكون مراعىً، ونبَّه عليه بقوله:(وكلَّما دخل شهر، لزمهما حكم الإجارة إن لم يفسخا) الإجارة أوله؛ لأن دخوله بمنزلة إيقاع العقد على عينه ابتداء؛ لأن شروعه في كل شهر مع ما تقدم في العقد من

= حديث 713، 714، عن مجاهد، عن علي رضي الله عنه.

قال ابن أبي حاتم في المراسيل ص / 206: قال أبو زرعة: مجاهد عن علي مرسل، قال أبي رحمه الله: مجاهد أدرك عليًّا، لا يذكر رؤية، ولا سماعًا. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 97): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح؛ إلا أن مجاهدًا لم يسمع من علي.

وأخرجه -أيضًا- بنحوه الترمذي في صفة القيامة، باب 34، حديث 2473، وإسحاق بن راهويه -كما في إتحاف الخيرة المهرة (7/ 459) حديث 7338، وهناد في الزهد (2/ 385) حديث 749، عن محمد بن كعب القرظي، وأبو يعلى (1/ 387) حديث 502 عن يزيد بن رومان القرظي عمَّن سمع عليًّا رضي الله عنه.

قال الترمذي: حسن غريب. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 314): رواه أبو يعلى، وفيه راوٍ لم يُسم، وبقية رجاله ثقات.

وأخرجه ابن أبي عمر العدني -كما في المطالب العالية (3/ 361) حديث 3173 - من طريق أبي رافع، عن محمد بن كعب القرظي، عن علي رضي الله عنه، وأبو رافع اسمه إسماعيل بن رافع الأنصاري، قال ابن حجر في التقريب (446): ضعيف الحفظ.

وأخرجه ابن ماجه في الرهون، باب 6، حديث 2447، والضياء في المختارة (2/ 412) حديث 798، عن أبي حية، عن علي رضي الله عنه بلفظ: كنت أدلو الدلو بتمرة، وأشترط أنها جلدة.

قال البوصيري في مصباح الزجاجة (3/ 77): هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات.

وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 61): رواه ابن ماجه بسند صححه ابن السكن.

وقال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (3/ 64): هذا الإسناد صالح.

ص: 54

الاتفاق على تقدير أجره، والرضا ببذله به، جرى مجرى ابتداء العقد عليه، وصار كالبيع بالمعاطاة، إذا جرى من المساومة ما دلَّ على الرضا بها، قاله في "المغني".

(ولكلِّ) واحد (منهما) أي: من المؤجر والمستأجر (الفسخ عقب تَقضِّي كل شهر على الفور في أول الشهر) بأن يقول: فسخت الإجارة في الشهر الآخر، وليس بفسخ على الحقيقة؛ لأن العقد الثاني لم يثبت، قاله في "المغني" و"الشرح". وفي "الرعاية": قلت: أو يقول: إذا مضى هذا الشهر فقد فسختها. انتهى. وهو ظاهر؛ لما تقدم أنه يصح تعليق فسخ بشرط. قال في "المغني" و"الشرح": إذا ترك التلبس به، فهو كالفسخ لا تلزمه أجرة؛ لعدم العقد.

(ولو أجره) دارًا، أو نحوها (شهرًا غير معيَّن، لم يصح) العقد؛ للجهالة.

(ولو قال) المؤجر: (أجرتك هذا الشهر بكذا وما زاد فَبِحسابه، صح) العقد (في الشهر الأول) فقط؛ لأنه معلوم دون ما بعده.

(و) إن قال: (أجرتُك داري عشرين شهرًا) من وقت كذا (كل شهرٍ بدرهم، صَحَّ) العقد. قال في "المبدع": بغير خلاف نعلمه؛ لأن المدة والأجرة معلومان، وليس لواحد منهما الفسخ؛ لأنها مدة واحدة، أشبه ما لو قال: أجرتُك عشرين شهرًا بعشرين درهمًا.

(و) إن قال ربُّ صُبرة: (استأجرتُك لحمل هذه الصُّبرة إلى مصر بعشرة) صح؛ لأنه عيَّن المحمول والمحمول إليه.

(أو) قال: استأجرتُك (لحملها

(1)

) إلى كذا (كل قفيز بدرهم)

(1)

في "ح" و"ذ": "لتحملها".

ص: 55

صح؛ لأن القفيز معلوم، وأجره معلوم، وجهالة عدد قفزانها تزول باكتيالها.

(أو) قال: استأجرتُك (لتحمِلها لي) إلى كذا (كل قفيزٍ بدرهم، وما زاد) على القفيز (فبحساب ذلك، صح) العقد؛ لأنه في قوة قوله: كل قفيز بدرهم.

(وكذلك كلُّ لفظٍ يدلُّ على إرادة حمل جميعها، كقوله: لتحمل قفيزًا منها بدرهم وسائرها بحساب ذلك. أو قال: وما زاد فبحساب ذلك، يريد باقيها كلَّه إذا فَهِما) أي: العاقدان (ذلك من اللفظ؛ لدلالته) أي: اللفظ (عندهما عليه، أو لقرينة صرفت إليه) لأن الغرض يحصُل به.

(وإن قال): استأجرتُك (لتحمل قفيزًا منها بدرهم وما زاد فبحساب ذلك، يريد) المستأجر (بذلك) القول (مهما حَمَلته من باقيها) فلك بكل قفيز درهم، لم يصح؛ للجهالة.

(أو) قال: استأجرتُك (لتنقل لي منها كل قفيزٍ بدرهم) لم يصح؛ لأن "من" للتبعيض، و"كل" للعدد، فكأنه قال: لتحمل منها عددًا، فلم يصح؛ للجهالة، بخلاف ما لو أسقط "منها".

(أو) قال: استأجرتك (على أن تحمل لي منها قفيزًا بدرهم، وعلى أن تحمل الباقي بحساب ذلك، لم يصح) العقد؛ لأنه من قبيل بيعتين في بيعة المنهي عنه.

(وإن قال): استأجرتُك (لتحمِل لي هذه الصُّبرة؛ كل قفيز بدرهم، وتنقل لي صُبرة أخرى في البيت بحساب ذلك، فإن كانا يعلمان الصُّبرة التي في البيت بالمشاهدة) أو وصفاها (صح) العقد فيهما للعلم بهما (وإن

ص: 56

جهلها أحدهما، صح) العقد (في الأولى) للعلم بها (وبطل في الثانية) للجهل بها.

(وإن قال): استأجرتُك (لتحمل لي هذه الصُّبرة، والتي في البيت بعشرة، فإن كانا يعلمان التي في البيت صح فيهما) بالعشرة، وإن جهلاها، أو أحدهما فقياس ما تقدم

(1)

في البيع، إذا جمع بين معلوم ومجهول لا يتعذَّر علمه، يصح في المعلوم بقسطه: أنه يصح في المعلومة بقسطها من العشرة، ويبطل في الأخرى.

(وإن قال): استأجرتُك (لتحمِل لي هذه الصُّبرة، وهي عشرة أقفزة بدرهم، فإن زاد على ذلك فالزائد بحساب ذلك، صَحَّ) العقد (في العشرة فقط) للعلم بها دون ما زاد، فإنه مجهول، و-أيضًا- عقده معلَّق، ولا يصح تعليق الإجارة. وقال في "المنتهى": أو على حمل زُبْرة إلى محلَّ كذا على أنها عشرة أرطال، وإن زادت فلكلِّ رطلٍ درهم، صح. انتهى. ويمكن حمله على ما هنا، أي: صح في الزُّبْرة فقط.

(وإن قال): استأجرتُك (لتحمِلها كل قفيزٍ بدرهم، فإن قَدِمَ لي طعام فحملتَه فبحساب ذلك، صح -أيضًا- في الصُّبرة فقط) -لما تقدم- دون ما زاد.

فصل

الشرط (الثالث) للإجارة: (أن تكون المنفعة مباحة لغير ضرورة) أي: بأن تُباح مطلقًا، بخلاف ما يُباح للضرووة، أو للحاجة، كأواني الذهب، والكلب (مقصودة) عادة.

(1)

(7/ 395).

ص: 57

إذا تقرر ذلك (فلا تصح الإجارة على الزِّنى، والزَّمْر، والغناء، والنياحة) لأنها غير مباحة (ولا إجارةُ كاتب يكتب ذلك) أي: الغناء والنوح، وكذا كتابة شِعْر مُحرَّم، أو بدعة، أو كلام مُحرَّم؛ لأنه انتفاع مُحرَّم.

(ولا إجارة الدَّار لتُجعل كنيسةً، أو بيتَ نار، أو لبيع الخمر، أو للقمار) لأن ذلك إعانة على المعصية، وقال تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}

(1)

وسواء (شُرط) ذلك (في العقد، أو لا) إذا دلَّت عليه القرائن.

(ولو اكترى ذِميٌّ من مسلم دارًا) ليسكنها (فأراد بيع الخمر فيها، فلصاحب الدار منعُهُ) من ذلك؛ لأنه معصية.

(ولا تصح إجارة ما يُجمِّل به دكانه من نقد، وشمع ونحوهما) كأوانٍ (ولا طعام ليتجمَّل به على مائدته ثم يردَّه؛ لأن منفعة ذلك غير مقصودة) وما لا يُقصد، لا يقابل بعوض.

(ولا) يصح استئجار (ثوب لتغطية نعش) الميت؛ ذكره في "المغني" و"الشرح".

(ولا) يصح الاستئجار على حمل ميتة، ونحوها، لأكل، لغير مضطر) لأنه إعانة على معصية، فإن كان الحمل لمضطرٍ صحَّتْ.

(و) لا يصح الاستئجار على حَمْل (خمر) لمن (يشربها) لأنه صلى الله عليه وسلم "لَعَنَ حاملَها والمَحْمُولةَ إليه"

(2)

(ولا أجرةَ له) أي: لمن استؤجر لشيء

(1)

سورة المائدة، الآية:2.

(2)

روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم:

أ - عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أخرجه أبو داود في الأشربة، باب 2، حديث 3674، وابن ماجه في الأشربة، باب 6، حديث 3380، وابن وهب في الموطأ =

ص: 58

محرَّم مما تقدم.

(ويصح) الاستئجار (لإلقاء) الميتة (و) لـ (ـإراقة) الخمر؛ لأن

= ص / 39، حديث 54، وسعيد بن منصور في التفسير (4/ 1594) حديث 816، وابن أبي شيبة (6/ 447)، وأحمد (2/ 25، 71، 97)، والبزار "كشف الأستار"(5/ 95) حديث 1601، وأبو يعلى (9/ 431، 441) حديث 5583، 5591، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (8/ 397، 399) حديث 3342، 3343، والطبراني في الكبير (12/ 180) حديث 12977، وفي الأوسط (5/ 166) حديث 4962، و (8/ 16) حديث 7816، وفي الصغير (2/ 45) حديث 753، والحاكم (2/ 31 - 32)، والبيهقي (5/ 327، 6/ 12، 8/ 287)، وفي شعب الإيمان (5/ 9) حديث 5583، 5584، وصححه ابن السكن -كما في التلخيص الحبير (4/ 73) -، وقال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (3/ 578): رواه أبو داود وابن ماجه بإسنادٍ حسن، وقال شيخنا أبو العباس [ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (3/ 143)]: هو حديث جيد.

ب - عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أخرجه أحمد (1/ 316)، وعبد بن حميد (1/ 582) حديث 685، والفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 530)، وابن حبان "الإحسان"(12/ 178) حديث 5356، والطبراني في الكبير (12/ 233) حديث 12976، والحاكم (2/ 31، 4/ 145)، والبيهقي في شعب الإيمان (5/ 9) حديث 5585.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وشاهده حديث عبد الله بن عمر. ووافقه الذهبي. وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 208): رواه أحمد بإسناد صحيح.

ج - أنس بن مالك رضي الله عنه: أخرجه الترمذي في البيوع، باب 59، حديث 1295، وابن ماجه في الأشربة، باب 6، حديث 3381، والطبراني في الأوسط (2/ 93) حديث 1355، والضياء في المختارة (6/ 181 - 182) حديث 2187 - 2189.

قال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أنس. وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 73): رواه الترمذي وابن ماجه، ورواته ثقات.

ص: 59

ذلك مما تدعو الحاجة إليه، ولا تندفع بدون إباحة الإجارة له (ولا يُكره أكل أجرة ذلك) أي: الإلقاء والإراقة.

(ويصح) الاستئجار (لِكَسْحِ كَنِيف) لدعاء الحاجة إليه (ويُكره له أكل أجرته) لما فيه من الدناءة.

(كـ) ـما يُكره للحُرِّ أكل (أُجرة حَجَّام) لقوله صلى الله عليه وسلم: "كَسْبُ الحَجَّام خَبِيثٌ" متفق عليه

(1)

وقال: "أطْعِمهُ ناضحَك ورقيقَك"

(2)

قلت: ولعل

(1)

أخرجه مسلم في المساقاة، حديث 1568 عن رافع بن خديج رضي الله عنه، ولم نقف عليه في صحيح البخاري.

(2)

أخرجه أبو داود في البيوع، باب 39، حديث 3422، والترمذي في البيوع، باب 47، حديث 1277، وابن ماجه في التجارات، باب 10، حديث 2166، والشافعي في مسنده (ترتيبه 2/ 166)، والحميدي (2/ 387) حديث 878، وابن أبي شيبة (6/ 265)، وأحمد (5/ 435 - 436)، وابن زنجويه في الأموال (1/ 221) حديث 282، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/ 139) حديث 2120، وابن الجارود (2/ 170) حديث 583، والدولابي في الكنى (1/ 76)، والطحاوي (4/ 131 - 132)، وفي شرح مشكل الآثار (12/ 77 - 78) حديث 4658، وابن قانع في معجم الصحابة (3/ 116 - 117)، وابن حبان "الإحسان"(11/ 557 - 558) حديث 5154، والطبراني في الكبير (20/ 313) حديث 744، والبيهقي (9/ 337)، وفي معرفة السنن والآثار (14/ 313 - 114)، والبغوي في شرح السنة (8/ 18) حديث 2034، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 220) حديث 1582، وابن الاثير في أسد الغابة (5/ 120) من حديث محيِّصة بن مسعود رضي الله عنه.

قال الترمذي: حديث محيِّصة حديث حسن صحيح.

وقال ابن حجر في الفتح (4/ 459): أخرجه مالك وأحمد وأصحاب السنن ورجاله ثقات.

وأخرجه مالك في الموطأ (2/ 974)، والطحاوي (4/ 132)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار (14/ 113 - 114) عن سعد بن محيصة مرسلًا.

قال ابن عبد البر في التمهيد (11/ 77): وذلك من الغلط الذي لا إشكال فيه على أحد من أهل العلم. =

ص: 60

الفرق بين ذلك وبين ما سبق من أجرة الإلقاء والإراقة: مباشرة النجاسة، إذ إلقاء الميتة وإراقة الخمر لا مباشرة فيه للنجاسة غالبًا، بخلاف كَسْحِ الكنيف. والله أعلم.

(ولو استأجره على سَلْخِ بهيمة بجلدِها) لم يصح؛ لأنه لا يعلم هل يخرج سليمًا أو لا؟ وهل هو ثخين أو رقيق؟ ولأنه لا يجوز أن يكون عوضًا في البيع، فكذا هنا (أو) استأجره (على إلقاء ميتة بجلدِها، لم يصح) لأنه ليس بمال. وإن قيل: إنه مال؛ فلما تقدم.

(وله) أي: الأجير على سلخ البهيمة بجلدها، أو على إلقاء الميتة بجلدها (أجرة مِثْله) لأنه عمل بعوض لم يُسلَّم له.

ويصح الاستئجار لإلقاء الميتة بالشعر الذي على جلدها، إن كان محكومًا بطهارته؛ ذكره في "الفصول".

ومن أعطى صيادًا أجرة ليصيد له سمكًا ليختبر بَخْتَهُ

(1)

؛ فقد استأجره ليعمل بشبكته؛ قاله أبو البقاء، واقتصر عليه في "الفروع".

(ومثله) أي: مثل استئجاره على سلخ بهيمة بجلدها في عدم الصحة استئجاره لـ (ـطحن قمح بنخالته، وعمل السمسم شَيْرَجًا

= وأخرجه الحميدي (2/ 538) حديث 1284، وأحمد (3/ 307، 381)، وأبو يعلى (4/ 89) حديث 2114، والطحاوي (4/ 130) عن جابر رضي الله عنه بلفظ: اعْلِفْه ناضحك.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 93): رواه أحمد وأبو يعلى، ورجال أحمد رجال الصحيح. وقال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (3/ 277): هذا إسناد صحيح.

(1)

البخت: الحظُّ، وزنًا ومعنىً، وهو أعجمي، المصباح المنير ص / 51، مادة (بخت).

ص: 61

بالكسب) الخارج منه (والحَلْج) أي: حلج القطن (بالحب) الذي يخرج منه، فلا يصح؛ للجهالة بالأجرة؛ لأنه لا يعلم ما يخرج منه.

(وتجوز إجارة المسلم) حرًّا كان أو عبدًا (للذِّمي، إذا كانت الإجارة) على عمل معين (في الذِّمة) كخياطة، وبناء، وطَحْن، وحَصْد، وصَبْغ، وقَصْر (وكذا) تجوز إجارة المسلم لذمي (لعمل غير خدمة) مدة معلومة بأن يستأجره ليستقي، أو يقصُر له أيامًا معلومة؛ لأنه عقد معاوضة لا يتضمن إذلال المسلم ولا استخدامه، أشبه مبايعته، وأما إجارته له للخدمة فلا تجوز؛ لأنه عقد يتضمن حبس المسلم عند الكافر، وإذلاله واستخدامه مدة الإجارة، أشبه بيع المسلم لكافر.

(ولا) تجوز (إعارة الرقيق المسلِمِ له) أي: للذمِّي للخدمة، ويجوز لغيرها؛ لما تقدم.

(ولا بأس أن يَحفِرَ للذمي قبرًا بالأجرة) كبناء بيت له بالأجرة.

(ويُكره) دفن المسلم للذمي (إن كان) المدفون فيه (ناووسًا) لأن فيه إعانة على مكروه. والناووس: حجر يُنقر ويُوضع فيه الميت.

فصل

(والإجارة على ضربين:

أحدهما: إجارة عين) ولها صورتان:

إحداهما: أن تكون إلى أمَدٍ معلوم.

الثانية: أن تكون لعملٍ معلوم، وسيأتيان.

ثم العين تارة تكون معينة، كـ: استأجرتُ منك هذا العبد ليخدمني

ص: 62

سنة بكذا، أو ليخيط لي هذا الثوب بكذا، وتارة تكون موصوفة في الذِّمة، كحمار صفته كذا، ليركَبه سنة إلى موضع كذا، بكذا.

(فما حَرُم بيعه فإجارته مثله) تحرم؛ لأنها نوعٌ من البيع (إلا الحُرَّ والحُرَّة) فتصح إجارتهما؛ لأن منافعهما مضمونة بالغصب، فجازت إجارتهما كمنافع القِن. (و) إلا (الوقفَ) فتصبح إجارته؛ لأن منافعه مملوكة للموقوف عليه، فجازت إجارته ممن له الولاية عليه كالمؤجر (و) إلا (أمَّ الولد) فتصح إجارتها؛ لأن منافعها مملوكة لسيدها، فجاز له إجارتها كإعارتها.

(و‌

‌تصح إجارة كل عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقائها):

العين، كالأرض والدور والبهائم والثياب ونحوها.

(ولا تصح إجارة ما لا يمكن استيفاؤها) أي: المنفعة (منها، كأرض سَبِخَة لا تُنبت) إذا أُوجرت (للزرع) لأن الإجارة عقد على المنفعة، ولا يمكن تسليم هذه المنفعة في هذه العين (أو) أرض (لا ماء لها) بحيث لا يمكن زرعها (أو) أرض (لها ماء لا يدوم لمدة الزرع) فلا تصح إجارتها للزرع؛ لما تقدم.

(ولا) إجارة (ديك ليوقظه لوقت الصلاة) ولا طائر ليسمع صوته؛ لأنه هذه المنفعة ليست متقوَّمة ولا مقدورًا على تسليمها؛ لأنه قد يصيح، وقد لا يصيح.

(ولا) إجارة (ما لا ينتفع به مع بقاء عينه، كـ) ـإجارة (المطعوم والمشروب ونحوه) كالمشموم من الرياحين وماء الورد.

(ويصح استئجار دار يجعلها مسجدًا) يُصلِّي فيه؛ لأنها منفعة

ص: 63

مباحة يمكن استيفاؤها من الدار مع بقائها (أو

(1)

) استئجار (حائط ليضع عليه أطراف خشبه، إذا كان الخشبُ معلومًا، والمدةُ معلومةً) وكذا لو استأجرها ليبني عليها بناء معلومًا؛ لأنها منفعة مباحة تُستوفى مع بقاء العين.

(و) يصح (استئجار فهد، وهرٍّ، وصقر، وباز، ونحوه) مما يصلح (للصيد) لأن فيه نفعًا مباحًا. وكذا يصح استئجار حيوان للحراسة.

و (لا) يصح استئجار (سباع البهائم التي لا تصلُح له) أي: للصيد؛ لأنها لا نفع فيها.

(ولا) يصح استئجار (خنزير، ولا كلب، ولو كان يصيد أو يحرس) لأنه لا يصح بيعه.

(ويصح استئجار كتاب للقراءة) فيه (والنظر فيه) أي: مراجعة المسائل (أو فيه) أي: الكتاب (خَطٌّ حَسَن يجوِّد خطه عليه) لأن نفعه مباح مقصود يُستوفى مع بقاء الكتاب (إلا المصحف، فلا تصح) إجارته؛ وإن صحَّحنا بيعه؛ تعظيمًا له.

(ويجوز نسخه) أي: المصحف (بأجرة) لأنه عمل مباحٌ مقصود (وتقدم) ذلك (كتاب البيع

(2)

و) في (غيره

(3)

) مفصلًا.

(ويصح استئجار نَقْدٍ) أي: دراهم ودنانير (للتحلِّي والوزن) مدة معلومة؛ لأن نفعه مباح يُستوفى مع بقاء العين، وكالحَلْي.

(و) كذا (ما احتيج إليه كالأنف) من ذهب (وربط الأسنان به) مدة

(1)

في متن الإقناع (2/ 500): "و".

(2)

(7/ 316).

(3)

(1/ 316).

ص: 64

معلومة، فتصح إجارته لذلك؛ لما مَرَّ.

(فإن أطلق الإجارة) على النقد بأن لم يذكر وزنًا ولا تحليًّا ونحوه (لم تصح) الإجارة، وتكون قرضًا في ذمة القابض؛ لأن الإجارة تقتضي الانتفاع، والانتفاع المعتاد بالدراهم والدنانير إنما هو بأعيانها، فإذأ أُطلق الانتفاع، حُمل على المعتاد.

(ولو أجره مكيلًا، أو موزونًا، أو فلوسًا) ليعاير عليها؛ صحَّتْ كالنقد للوزن، وإن أطلق (لم تصح) الإجارة، وعلى قياس ما سبق: تكون قرضًا.

(ويجوز استئجار الشجر ليجفِّفَ عليها الثياب، أو) لـ (ـيبسطها) أي: الثياب (عليها) أي: الشجر (ليستظلَّ بظلِّها) لأنه منفعة مباحة مقصودة يمكن استيفاؤها مع بقاء العين، فجاز استئجارها لها كالحبال، والخشب، والشجر المقطوع.

(و) يجوز استئجار (ما يبقى من الطيب) كالعنبر (والصَّندل، وقِطَع الكافور ونحوه) كمِسكٍ (للشَّمِّ) مدة معينة، ثم يرده؛ لأنها منفعة مباحة، أشبهت استئجار الثوب للبس، مع أنه لا ينفك من إخلاق.

(ويصح استئجار ولده) لخدمته (ووالده لخدمته) كأجنبي (ويُكره) الاستئجار للخدمة (في والديه) وإن علوا؛ لما فيه من إذلال الوالدين بالحبس على خدمة الولد.

(ويصح استئجار امرأته لرَضَاع ولدِه) سواء كان (منها، أو مِن غيرها، و) يصح -أيضًا- استئجارها على (حضانته، بائنًا كانت) المرأة (أو في حِباله) لأن كل عقد يصح أن تعقده مع غير الزوج، يصح أن تعقده مع الزوج كالبيع؛ ولأن منافعها من الرضاع والحضانة غير مستحقة

ص: 65

للزوج؛ بدليل أنه لا يملك إجبارها على حضانة ولدها، ولا على إرضاعه، ويجوز لها أن تأخذ عليها العوض من غيره، فجاز لها أخذه منه، كثمن مالها، واستحقاقه لمنفعتها من جهة الاستمتاع لا يمنع استحقاق منفعة سواها بعوض آخر.

(ولا تصح إجارة العين إلا بشروط خمسة:

أحدها: أن يعقِدَ على نفع العين) الذي يُستوفى (دون أجزائها، فلا تصح إجارة الطعام للأكل، كما تقدم، ولا) إجارة (الشمع ليشعله) ولا الصابون ليغسل به.

(ولا) أن يستأجر (حيوانًا ليأخذ لَبنَه، ولا) حيوانًا (لِيُرضعه ولَدَه ونحوه) كقِنه (ولا) أن يستأجر حيوانًا (ليأخذ صوفه، وشعره، ونحوه) كوبره، أو ولده؛ لأن مورد عقد الإجارة النفع، والمقصود هاهنا العين، وهي لا تملك، ولا تستحق بإجارة. وقال الشيخ تقي الدين

(1)

: تجوز إجارة حيوان لأخذ لَيَنهِ. والمذهب: لا يصح ذلك في حيوان (إلا في الظِّئر) أي: آدمية؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}

(2)

والفرق بينها وبين البهائم: أنه يحصل منها عمل من وضع الثدي في فم المرتضع ونحوه، بخلاف البهيمة؛ وللضرورة.

(ولا) يصح (استئجار شجرة ليأخذ ثمرها، أو شيئًا من عَينها) كالحيوان لأخذ لَبَنه.

(ونَقْعُ البئر) في الدار والأرض، ونحوها (يدخل تبعًا للدار ونحوها) لا أصالةً. قال في "الانتصار": قال أصحابنا: لو غار ماءُ دار

(1)

الاختيارات الفقهية ص / 221.

(2)

سورة الطلاق، الآية:6.

ص: 66

مؤجرة، فلا فسخ؛ لعدم دخوله في الإجارة. وفي "الفصول": لا يستحق بالإجارة؛ لأنه إنما يُملك بالحيازة.

(قال ابن عقيل: يجوز استئجار البئر ليستقي منه أيامًا معلومة، أو) يستقي منها (دلاء معلومة؛ لأن هواء البئر، وعُمقَها فيه نوع انتفاع بمرور الدَّلو فيه، فأما الماء فيؤخذ على الإباحة. انتهى) لأنه إنما يملك بالحيازة كما تقدم. قال في "المغني": وهذا التعليل يقتضي أنه يجوز أن يستأجر منه بركته ليصطاد منها السمك مدة معلومة. انتهى. وهو واضح إذا لم تُعمل للسمك؛ لأن هواء البركة وعُمْقَها فيه نوع انتفاع بمرور آلة الصيد، والسمك يؤخذ على الإباحة، وأما إذا عُمِلت للسمك، فإنه يملك بحصُوله فيها، كما يأتي في الصيد، فلا تصح الإجارة لأخذه، لكن إن أجرها قبل حصول السَّمك بها لمن يصطاده منها مدة معلومة، صح. فإذا حصل فيها، فله صيده.

(ويدخل -أيضًا- تبعًا حِبرُ ناسخٍ) وأقلامه في استئجار على نَسخٍ (وخيوط خيَّاط) في استئجار على خِياطة (وكُحْلُ كحَّال) في استئجار على كَحْل (ومرهم طبيب) في استئجار لمداواة مدة معلومة (وصِبغُ صَبَّاغ) في إجارة لصَبغ (ونحوه) كَقِلْي قصَّار، وقَرَظ دبَّاغ، ولِصَاق لَصَّاق، وماء عجَّان.

(وسُئل) الإمام أحمد

(1)

عن إجارة بيت الرَّحى الذي يديره الماء؟ فقال: الإجارة على البيت، والأحجار، والحديد، والخشب، فأما الماء فإنه يزيد وينقص وينضُب) أي: يغور (ويذهب فلا يقع عليه إجارة) لعدم انضباطه.

(1)

مسائل البُرزاطي كما في بدائع الفوائد لابن القيم (4/ 58).

ص: 67

(ولا يجوز استئجار الفحل للضِّراب) لنهيه صلى الله عليه وسلم "عن عَسْبِ الفَحلِ" متفق عليه

(1)

. والعسب: إعطاء الكراء على الضراب على أحد التفاسير، ولأن المقصود الماء، وهو مُحرَّم لا قيمة له، فلم يجز أخذ العوض عنه كالميتة.

(فإن احتاج) إنسان (إلى ذلك، ولم يجد من يَطرُقُ له) دابته مجانًا (جاز له) أي: لربِّ الدابة (أن يبذُلَ الكِراء) لأنه بذل لتحصيل منفعة مباحة تدعو الحاجة إليها، فجاز (كشراء الأسير، ورشوة الظالم، ليدفع ظلمه. ويحرم على المُطرِق) وهو ربُّ الفحل (أخذه) أي: العوض؛ للنهي السابق.

(وإن أطرق إنسانٌ فَحْلَه بغير إجارة ولا شرط، فأُهديت له هدية، أو أُكرِم بكرامة لذلك، فلا بأس) لأنه فَعَل معروفًا، فجازت مجازاته عليه؛ قاله في "المغني" و"الشرح". ونقل ابن القاسم

(2)

: لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى شيئًا كالحجَّام

(3)

. فحمله القاضي على ظاهره، وأنه مقتضى

(1)

أخرجه البخاري في الإجارة، باب 21، حديث 2284، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقد تقدم في (7/ 341) تعليق رقم (2)، ولم نقف عليه عند مسلم بهذا اللفظ، وإنما أخرجه في المساقاة، حديث 1565، عن جابر رضي الله عنه، بلفظ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ضراب الجمل.

(2)

المغني (6/ 304)، وانظر: مسائل عبد الله (3/ 977) رقم 1331.

(3)

حديث إعطائه صلى الله عليه وسلم أجر الحجام، أخرجه البخاري في البيوع، باب 39، حديث 2103، وفي الإجارة، باب 18، حديث 2278، 2279، وفي الطب، باب 9، حديث 5691، ومسلم في المساقاة، حديث 1202 (65، 66)، وفي السلام، حديث 76، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجَّام أجره.

وأخرجه البخاري -أيضًا- في البيوع، باب 39، 95، حديث 2102، 2210، وفي الإجارة، باب 17، 18، 19، حديث 2277، 2280، 2281، وفي الطب، باب 13، حديث 5696، ومسلم في المساقاة، حديث 1577 (64)، عن أنس رضي الله عنه قال: حجم أبو طيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر له بصاع من تمر

الحديث.

ص: 68

النظر، وحمله في "المغني" على الورع، وهو ظاهر. قال الشيخ تقي الدين

(1)

: فلو أنزاه على فرسه فنقص ضمن النقص. قاله في "المبدع".

الشرط (الثاني: معرفةُ العين) المؤجرة (برؤية) إن كانت لا تنضبط بالصفات، كالدار والحمَّام (أو صفةٍ يحصُل بها معرفته) أي: المؤجر (كمبيع) لأن الغرض يختلف، وإن جرت الإجارة في الموصوفة في الذِّمة بلفظ سَلَم، اعتبر قبض أجرة بمجلس عقد، وتأجيل نفع، فيجري السَّلَم في المنافع كالأعيان.

(فإن لم تحصُل) المعرفة (بها) أي: الصفة، بأن لم يذكر من صفاته ما يكفي في السَّلَم (أو كانت) الصفة (لا تتأتَّى فيها) أي: المؤجرة (كالدار والعقار) من بساتين ونخيل وأرض -وعطفه على "الدار" من عطف العام على الخاص- (فتُشترط مشاهدته وتحديده، ومشاهدة قَدْر، الحمَّام، ومعرفة مائه، و) معرفة (مصرفه) أي: الماء (ومشاهدة الإيوان، ومطَّرَح الرماد، وموضع الزبل) وما روي من أن الإمام

(2)

كره كِراء الحمَّام؛ لأنه يدخله من تنكشف عورته فيه؛ حمله ابن حامد على التنزيه، والعقد صحيح؛ حكاه ابن المنذر

(3)

إجماعًا حيث حدَّده، وذَكَر جميع آلته، شهورًا مسماة.

الشرط (الثالث: القدرة على التسليم) لأنها بيع المنافع، أشبهت بيع الأعيان (فلا تصح إجارة) العبد (الآبق، و) لا الجَمَل (الشارد)

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (30/ 320).

(2)

المغني (8/ 24).

(3)

الإشراف (1/ 245).

ص: 69

وقياس البيع: ولو من قادر على تحصيلهما.

(و) لا إجارة (المغصوب ممن لا يقدِرُ على أخذه منه) أي: الغاصب؛ لأنه لا يمكنه تسليم المعقود عليه، فلا تصح إجارته، كبيعه، وكذا الطير في الهواء.

(ولا) تصح (إجارة مُشاعٍ مفرَد لغير شريكه؛ لأنه) أي: المؤجر (لا يقدر على تسليمه) إلا بتسليم نصيب شريكه، ولا ولاية عليه؛ فلم يصح، كالمغصوب.

(وإن كانت) العين (لواحد، فأجر) ربُّ العين (نصفه) أي: نصف المؤجر (صح؛ لأنه يمكنه تسليمه) إذ العين كلها له، فَيُسلِّمها للمستأجر، ثم إن أجر النصف الآخر للأول؛ صح، وإن كان لغيره؛ فوجهان (إلا أن يؤجر الشريكان) المشترك (معًا) لواحد؛ فيصح؛ لعدم المانع (أو) يؤجر أحدهما للآخر أو لغيره (بإذنه) أي: شريكه (قاله في "الفائق"، وهو مقتضى تعليلهم) لكونه لا يقدر على تسليمه؛ لأنه إذا أذن له، فقد قَدِرَ على التسليم، وقد يمنع؛ إذ لا يلزم من الإذن في الإجارة الإذن في التسليم، و-أيضًا- الإذن ليس بلازم، فإذا أذن ثم رجع؛ صح رجوعُهُ، فلا يتأتَّى التسليم. ومقتضى التعليل: أن العين لو كانت لجمع فأجر أحدهم نصيبه لواحد منهم بغير إذن الباقين؛ لم تصح. قال في "الرعاية الكبرى": لا تصح إلا لشريكه بالباقي، أو معه لثالث.

(ولا) تصح إجارة (عين لاثنين فأكثر، وهي) أي: العين (لواحد) لأنه يشبه إجارة المُشاع (وعنه) أي: الإمام

(1)

(بلى) تصح إجارة المُشاع لغير الشريك (اختاره جمع) منهم أبو حفص، وأبو الخطاب،

(1)

كتاب التمام (2/ 87).

ص: 70

والحلواني، وصاحب "الفائق"، وابن عبد الهادي. قال في "التنقيح": وهو أظهر، وعليه العمل. انتهى.

وعليه: فتصح إجارة العين لاثنين فأكثر، وهي لواحد.

وإن أجر اثنان دارهما من واحد صفقة واحدة، على أن نصيب أحدهما بعشرة والآخر بعشرين؛ صح.

وإن أجر اثنان دارهما من رجل واحد، ثم أقاله أحدهما؛ صح، وبقي العقد في نصيب الآخر؛ ذكره القاضي، ثم قال: ولا يمتنع أن نقول بفسخ العقد في الكل.

‌الشرط (الرابع: اشتمالها على المنفعة) المعقود عليها

(فلا تصح إجارة بهيمة زَمِنَةٍ للحَمل) أو الركوب (ولا) إجارة (أخرس على تعليم منطوق، ولا) إجارة (أعمى للحفظ) أي: ليحفظ شيئًا يحتاج إلى رؤية؛ لأن الإجارة عقد على المنفعة، ولا يمكن تسليم هذه المنفعة من هذه العين.

(ولا) تصح إجارة (كافر لعملٍ في الحَرَم؛ لأن المنع الشرعي كالحسِّي، ولا) إجارة (لقلع سنٍّ سليمة، أو قطع يد سليمة) وكذا سائر الأعضاء.

(ولا الحائض والنفساء على كنس المسجد في حالة لا تأمنان فيها تلويثه) قلت: وكذا من به نجاسة تتعدَّى.

(ولا على تعليم الكافر القرآن) قلت: ينبغي مثله التفسير الحديث، وكتاب نَحْوٍ يشتمل على آيات وأحاديث.

(ولا) إجارة (على تعليم السِّحر، والفُحش، والخِناء) بكسر

ص: 71

الخاء والمد (أو) على (تعليم التوارة، والكتب المنسوخة) قلت: أو العلوم المُحرَّمة؛ لما مَرَّ من أن المنع الشرعي كالحسِّي.

(ولا) تصح (إجارة أرض لا تُنبت للزرع -كما تقدم

(1)

- ولا حَمَام لحمل كتُبٍ) لتعذيبه؛ قاله في "الموجز" وفيه احتمال. قال في "التبصرة": هو أَولى.

‌الشرط (الخامس: كون المنفعة مملوكةً للمؤجر، أو مأذونًا له فيها)

لأنها بيع المنافع، فاشترط فيها ذلك كالبيع، فلو أجر ما لا يملكه، ولا إذن له فيه؛ لم يصح؛ كبيعه.

(وتصح إجارة مستأجر) العين المؤجرة (لمن يقوم مقامه) في استيفاء النفع (أو) لمن (دونه في الضرر) لأن المنفعة لما كانت مملوكة له، جاز له أن يستوفيها بنفسه ونائبه.

(ولا يجوز) للمستأجر أن يؤجرها (لمن هو أكثر ضررًا منه) لأنه لا يستحقه (ولا) إجارتها (لمن يخالف ضرَرُهُ ضَرَرَهُ) لما مَرَّ (ما لم يكن المأجور حرًّا، كبيرًا) كان (أو صغيرًا)، خلافًا "للتنقيح" حيث قَيَّد بالكبير (فإنه ليس لمستأجره أن يؤجره؛ لأنه لا تثبت يدُ غيره عليه، وإنما هو يسلِّم نفسه) إن كان كبيرًا (أو يسلِّمه وليُّه) إن كان صغيرًا.

(وتصح) إجارة العين المؤجرة (لغير مؤجرها، و) تصح (لمؤجرها بمثل الأجرة، و) بـ (ـزيادة) على الأجرة التي استأجر بها؛ لأنها عقد يجوز برأس المال، فجاز بزيادة (ولو لم يقبض) المستأجر (المأجور) سواء أجره لمؤجره أو غيره؛ لأن قبض العين لا ينتقل به الضمان إليه، فلم يقف جواز التصرُّف عليه، بخلاف بيع المكيل ونحوه قبل قبضه (ما

(1)

(9/ 63).

ص: 72

لم تكن) إجارته لمؤجره بزيادة (حيلةً) كعِينةٍ، بأن أجرها بأجرة حالَّةٍ نقدًا، ثم أجرها

(1)

بأكثر منه مؤجلًا، فلا يصح؛ لما سبق

(2)

في مسألة العِينَة.

(وليس للمؤجر): الأول (مطالبة المستأجر الثاني بالأجرة) لأن غريم الغريم ليس بغريم.

قلت: إن غاب المستأجر الأول، أو امتنع؛ فللمؤجر رفع الأمر للحاكم، فيأخذ من المستأجر الثاني ويوفّيه أجرته، أو من مال المستأجر الأول إن كان، وإن فضل شيء حفظه للمستأجر، وإن بقي له شيء، فمتى وجد له مالًا وفَّاه منه، كما يأتي في القضاء على الغائب.

(وإذا تقبل) الأجير (عملًا في ذمته بأجرة، كخياطة أو غيرها، فلا بأس أن يُقبِّله غيرَه بأقلَّ منها) أي: أجرته (ولو لم يُعِنْ فيه بشيء) من العمل؛ لأنه إذا جاز أن يُقبِّله بمثل الأجر الأول أو أكثر؛ جاز بدونه كالبيع، وكإجارة العين.

(ولمستعير إجارتها) أي: العين المعارة (إن أذن له مُعيرٌ فيها) أي: في إجارتها؛ لأنه لو أذِنَ له في بيعها لجاز، فكذا في إجارتها، ولأن الحق له، فجاز بإذنه. وقوله (مدةً يُعينها) متعلق بـ"إجارتها"؛ لأن الإجارة عقد لازم لا يجوز إلا في مدة معينة، ثم إن عيَّن له ربها مدةً، تقيَّد بها، وإلا فكوكيل مطلق، يؤجر العُرف كما يأتي.

(والأجرة لربِّها) دون المستعير لانفساخ العارية بوجود

(3)

الإجارة

(1)

في "ح": "استأجرها".

(2)

(7/ 381).

(3)

في "ذ": "بورود".

ص: 73

عليها؛ لكون الإجارة أقوى للزومها (ولا يضمن مستأجر) من مستعير (ويأتي في العارية.

وتصح إجارة وقف) لأن منافعه مملوكة للموقوف عليه، فجاز له إجارتها كالمستأجر.

(فإن مات المؤجر، انفسخت) الإجارة (إن كان المؤجر الموقوف عليه ناظرًا بأصل الاستحقاق، وهو من يستحق النظر لكونه موقوفًا عليه، ولم يَشرُط الواقف ناظرًا؛ بناء على أن الموقوف عليه يكون له النظر إذا لم يَشرُط الواقفُ ناظرًا) وهو المذهب.

ووجه انفساخها إذَن: أن البطن الثاني يستحق العين بجميع منافعها تلقيًا من الواقف بانقراض الأول، بخلاف المطلق

(1)

فإن الوارث يملكه من جهة الموروث، فلا يملك إلا ما خلفه، وحق المورِّث لم ينقطع عن ميراثه بالكلية، بل آثاره باقية فيه، ولهذا تُقضى منه ديونه وتنفذ وصاياه.

(وإن جعل له) أي: للموقوف عليه (الواقفُ النظرَ) بأن قال: النظر لزيد أو للأرشد، فالأرشد، ونحوه (أو تكلَّم بكلام يدلُّ عليه) أي: على جعل النظر للموقوف عليه (فله النظر بالاستحقاق والشرط، ولا تبطل الإجارة بموته) لأن إيجاره هنا بطريق الولاية، ومن يلي بعده إنما يملك التصرُّف فيما لم يتصرف فيه الأول (فيرجع مستأجرٌ) عجَّل الأجرة (على مؤجر قابضٍ) للأجرة (في تَرِكَتِهِ، حيث قلنا: تنفسخ) الإجارة بموته كالمسألة الأولى؛ لأنه تبيَّن عدم استحقاقه لها، فإن تعذَّر أخذها فظاهر كلامهم أنها تسقط؛ قاله في "المبدع".

(1)

في "ح" و"ذ": "الطلق".

ص: 74

(ومثله) أي: مثل الموقوف عليه (مُقْطَع) أرضًا ارتفاقًا، إذا (أجر إقطاعَه، ثم انتقل

(1)

) ما أجره (إلى غيره بإقطاع آخَرَ) فتنفسخ الإجارة، ويأخذ المنتقل إليه ما يقابل زمن استحقاقه من مستأجر، ويرجع مستأجر على قابض.

(وإن كان المؤجرُ) للوقف (الناظرَ العامَّ) وهو الحاكم (أو من شرَطَ له الواقفُ النظرَ، وكان أجنبيًّا أو من أهل الوقف، لم تنفسخ) الإجارة (بموته ولا بعزله) في أثناء المدة أو قبلها، كما لو أجر سنة خمس في سنة أربع ومات، أو عزل قبل دخول سنة خمس؛ لما مَرَّ من أنه أجر بطريق الولاية، ومن يلي النظر بعده إنما يملك التصرُّف فيما لم يتصرف هو فيه، و (كملكه المطلق

(2)

) إذا أجره ثم مات، فإن الإجارة لا تبطل بموته؛ لما تقدم.

(والذي يتوجَّه أنه لا يجوز للموقوف عليهم أن يستسلفوا الأجرةَ؛ لأنهم لم يملكوا المنفعة المستقْبلة، ولا الأجرة عليها) أي: على المنفعة المستقبلة (فالتسلفُ لهم قبضُ ما لا يستحقونه، بخلاف المالك، وعلى هذا فللبطن الثاني أن يُطالب بالأجرة المستأجِرَ الذي سلَّف المستحقين؛ لأنه لم يكن له التسليف، ولهم أن يطالبوا الناظرَ إن كان هو المُسلِفَ) ذكره في "الاختيارات"

(3)

.

(وكموت المستأجر) عطف على "كملكه المطلق (2) " أي: وكما

(1)

زاد في متن الإقناع (2/ 505): "عنه".

(2)

في "ح" و"ذ" ومتن الإقناع (2/ 505): "الطِّلق".

(3)

ص / 256.

ص: 75

لا تبطل الإجارة بموت مستأجر.

(وإذا أجر الوليُّ اليتيمَ) مدة (أو) أجر (ماله) مدة (أو) أجر (السيدُ العبدَ مدة) معلومة (ثم بلغ الصبي ورَشَدَ، وعَتَقَ العبدُ) قبل انقضاء مدة الإجارة (فإن كان) الولي (يعلم بلوغ الصبيِّ فيها) أي: في المدة، بأن أجره سنتين وهو ابن أربع عشرة سنة (أو) كان السيد يعلم (عِتْقَ العبد) فيها (بأن كان) عتقه (معلَّقًا) على شيء يوجد فيها (انفخست) الإجارة (وقت عتقه) أي: العبد (و) وقت (بلوغه) أي: اليتيم؛ لئلا يُفضي إلى أن تصح على جميع منافعهما طول عمرهما، وإلى أن يتصرَّف كلٌّ منهما في غير زمن ولايته على المأجور.

(وإن لم يعلم) الولي بلوغ اليتيم في أثناء المدة، ولم يعلم اليد عتقه في أثنائها (لم تنفسخ) الإجارة؛ لأنه تصرُّف لازم يملكه المتصرِّف، كما لو زوَّج أَمَته، ثم باعها، أو أعتقها.

(ولا تنفسخ) إجارة اليتيم أو ماله (بموت) الولي (المؤجر، ولا عزله) لأنه تصرَّف -وهو من أهل التصرُّف- فيما له الولاية عليه، فلم يبطل تصرُّفه، كما لو مات ناظر الوقف، أو عُزل هو، أو الحاكم.

(ولا يرجع العتيقُ على سيده بشيء من الأجرة) التي قبضها سيده حين أجره وهو رقيق؛ لأنه ملكها بالعقد (لكن نفقتُه) أي: العتيق (في مدة باقي الإجارة على سيده) لأنه كالباقي في ملكه؛ لأنه لا يملك عوض نفعه (إن لم تكن) نفقته (مشروطة على المستأجر) فإن شُرطت عليه، لزمته.

(ولو وُرِثَ المأجور) بأن مات مالكه، وانتقل إلى ورثته (أو اشتُريَ) المأجور (أو اتُّهِب) المأجور (أو وُصِّي له) أي: لإنسان (بالعين) المؤجرة (أو أُخِذَ) المأجور (صَداقًا) بأن تزوَّج مالكُهُ عليه امرأة (أو أخذه

ص: 76

الزوج عوضًا عن خُلْع) أو طلاق (أو) أُخِذَ (صُلحًا، أو غير ذلك) بأن جُعل عوضًا في عتق، أو جعالة، أو إجارة ونحوها (فالإجارة بحالها) لا تبطل بذلك؛ لأنها عقد لازم، ويكون المأجور ملكًا للمنتقل إليه مسلوب الانتفاع إلى انقضاء المدة.

(وتجوز إجارة الإقطاع) لأن المُقطَع يملك منفعته (كالوقف، فلو أجره) المقطع (ثم استُحِقَّت الأقطاع لآخر، فالصحيح) أن الإجارة (تنفسخ) بانتقاله عنه (كما تقدم

(1)

) قريبًا (وإن كانت الأقطاع عُشْرًا) قلت: أو خراجًا، بأن أقطعه عشر الخارج من الأرض أو خراجها دون الأرض (لم تصح إجارتها) لأنه لا يملك الأرض ولا منفعتها (كتضمينه) أي: كما أن تضمينه

(2)

العشر والخراج بقدر معلوم، باطل. وتقدم في الزكاة

(3)

.

فصل

(وإجارة العين تنقسم قسمين:

أحدهما: أن تكون على مُدَّة، كإجارة الدار شهرًا، أو) إجارة (الأرض عامًا، أو) إجارة (الآدمي للخدمة، أو للرعي) أو للنسخ، أو للخياطة ونحوها، مدة معينة.

فعُلم منه: أن إجارة العين تارة تكون في الآدمي، وتارة تكون في غيره من المنازل والدواب ونحوها. وقد حكاه ابن المنذر إجماعًا

(4)

.

(1)

(9/ 75).

(2)

في "ذ": "تضمين".

(3)

(4/ 439).

(4)

الإجماع ص / 128.

ص: 77

(ويُسمَّى الأجيرُ فيها الأجيرَ الخاص، وهو) أي: الأجير الخاص (من قُدِّرَ نفعه بالزمن) لاختصاص المستأجر بمنفعته في مدة الإجارة، لا يشاركه فيها غيره.

(وإذا تمت الإجارةُ، وكانت على مدة، ملك المستأجر المنافعَ المعقودَ عليها فيها) أي: في مدة الإجارة؛ لأنه مقتضى العقد (وتَحدُث) المنافع (على ملكه) أي: المستأجر، سواء استوفاها أو تركها، كالمبيع.

(ويُشترطُ أن تكون المُدَّة معلومة) لأن المدة هي الضابطة للمعقود عليه، المعرِّفَة له، فاشتُرط العلم بها كالمكيلات.

ويُشترط -أيضًا- أن (يغلب على الظن بقاءُ العين فيها، وإن طالت) المدة؛ لأن المصحح له كون المستأجر يمكنه استيفاء المنفعة منها غالبًا. وظاهره: ولو ظَنَّ عدم العاقد. قال في "الرعاية": ولا فرق بين الوقف والملك، بل الوقف أَولى، قال في "المبدع": وفيه نظر.

(فإن قدَّر المدة بسنة مطلقة، حُمل على السنة الهلالية) لأنها المعهودة، فإن وصفها به كان تأكيدًا.

(وإن قال): سنة (عَددية، أو) قال: (سنة بالأيام. فـ) ـهي (ثلاثمائة وستون يومًا؛ لأن الشهر العددي ثلاثون يومًا) والسنة اثنا عشر شهرًا.

(وإن قال): سنة (رومية، أو شمسية، أو فارسية، أو قبطية -وهما يعلمانها- جاز) ذلك (وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يومًا وربع يوم) فإن

ص: 78

الشهور الرومية

(1)

: منها سبعة أحد وثلاثون يومًا، وأربعة ثلاثون يومًا، وواحد ثمانية وعشرون يومًا، وهو شباط، وزاده الحساب ربعًا، وشهور القبط كلها ثلاثون ثلاثون، وزادوها خمسة وربعًا، لتساوي سَنتهم السنَّة الرومية.

(وإن جَهِلا) أي: المتعاقدان (ذلك) أي: ما ذكر من السنين غير العربية (أو) جهله (أحدُهما، لم يصح) العقد؛ للجهل بمدة الإجارة.

(ولا يُشترط أن تلي المدة) أي: مدة الإجارة (العقدَ، فلو أجَره سنة خمس في سنة أربع، صح) العقد؛ لأنها مدة يجوز العقد عليها مع غيرها، فجاز العقد عليها مفردة كالتي تلي العقد (سواء كانت العين) المؤجرة (مشغولة وقت العقد بإجارة، أو رهن، أو غيرهما -إذا أمكن التسليم عند وجوبه- أو لم تكن مشغولة) لأنه إنما يشترط القدرة على التسليم عند وجوبه، كالسَّلَم لا يشترط وجود القدرة عليه حال العقد.

(فلا تصح إجارة) أرض (مشغولةٍ بغراس، أو بناء للغير، وغيرهما) إلا أن يأذن مالك الغراس، أو البناء، فينبغي القول بالصحة، وإذا كان الشاغل لا يدوم، كالزرع ونحوه، أو كان الشغل بما يمكن فصله عنه، كبيت فيه متاع، أو مخزن فيه طعام ونحوه، جازت إجارته لغيره وجهًا واحدًا؛ قاله ابن عبد الهادي في "جمع الجوامع".

"تتمة": لو كانت مشغولة في أول المدة، ثم خلت في أثنائها، فقال ابن نصر الله: يتوجَّه صحتها فيما خلت فيه من المدة بقسطه من الأجرة، ويثبت الخيار بناء على تفريق الصفقة، وكذا يتوجَّه فيما إذا تعذَّر تسليمها في أول المدة، ثم أمكن في أثنائها.

(1)

في "ذ": "أشهر الروم".

ص: 79

(ولو أجره إلى ما يقع اسمه على شيئين، كالعيد): عيد فطر وأضحى (وجمادى) أولى، وثانية (وربيع): أول، وثاني (لم يصح) العقد؛ للجهالة (فلابُدَّ من تعيين العيد فطرًا، أو أضحى مِن هذه السنة، أو من سنة كذا، وكذا جمادى) لابُدَّ من تعيينه، الأولى، أو الثانية، من هذه السنة أو سنة كذا (و) كذا (نحوه) كربيع لابُدَّ من تعيينه وتعيين سنته (وتقدم

(1)

) ذلك (في السَّلَم) بأوضح من هذا.

(وإن علَّقها) أي: الإجارة (بشهر مفرد كرجب، فلابُدَّ أن يُبين من أي سنة، و) إن علَّقها (بيوم) فـ (ـلابُدَّ أن يبينه من أي أسبوع) دفعًا للإيهام

(2)

.

(وليس لوكيلٍ مطلَقٍ الإيجارُ مدة طويلة، بل العُرف كسنتين ونحوهما) كثلاث سنين؛ قاله في "شرح المنتهى". (قاله الشيخ

(3)

) لأن المطلق يُحمل على العُرف.

(وإذا أجره في أثناءِ شهرٍ مدةً لا تَلي العقد، فلابُدَّ من ذِكْرِ ابتدائها كانتهائها) ليحصُل العلم بها.

(وإن كانت) المدة (تليه) أي: العقد (لم يحتج إلى ذِكْره) أي: الابتداء (ويكون) ابتداؤها (من حين العقد.

وكذا إن أطلق، فقال: أجرتك شهرًا، أو سنة، أو نحوهما) كأسبوع، فيصح، ويكون ابتداؤها من حين العقد؛ لقصة شُعيب

(4)

، وكمدة السَّلم؛ اختاره في "المغني"، ونصره في "الشرح". والمذهب: لا

(1)

(8/ 109).

(2)

في "ذ": "للإبهام".

(3)

الاختيارات الفقهية ص / 224.

(4)

انظر ما تقدم (9/ 52) تعليق رقم (1).

ص: 80

يصح؛ نَصَّ عليه

(1)

؛ لأنه مطلق؛ فافتقر إلى التعيين.

(وإذا أجره سنة هلالية في أولها، عدَّ) المستأجر (اثني عشر شهرًا بالأهِلَّة، سواء كان الشهر تامًّا أو ناقصًا) لأن الشهر ما بين الهلالين (وكذلك إن كان العقد على أشهر) معلومة في ابتداء الشهر، فيستوفيها بالأهلة، تامَّة كانت، أو ناقصة، أو مختلفة (وإن كان) العقد (في أثناء شهر، استوفى شهرًا بالعدد ثلاثين) يومًا (من أول المدة وآخرها؛ نص عليه

(2)

في النذر) لأنه قد تعذر إتمامه بالهلال فتممناه بالعدد (و) يستوفي (باقيها بالأهلة) لأنه أمكن استيفاؤها بالأهلة وهي الأصل.

(وكذا حكم ما تعتبر فيه الأشهر، كعِدَّة وفاة، وشهْرَي صيام الكفارة، ومدة الخيار، وغير ذلك) كأجَل ثَمَنٍ وسَلَمٍ؛ لأنه ساوى ما تقدم معنًى. قال الشيخ تقي الدين

(3)

: إلى مثل تلك الساعة.

(وإذا استأجر سنة، أو سنتين، أو شهرًا، لم يحتج إلى تقسيط الأجرة على كلِّ سنة) فيما إذا استأجر سنتين ونحوهما (أو شهرٍ) فيما إذا استأجر سنة (أو يوم) فيما إذا استأجر شهرًا ونحوه.

(القسم الثاني: إجارتها) أي: العين (لعملٍ معلوم، كإجارة دابة) معينة، أو موصوفة في الذمة (للركوب إلى موضع معين، أو يحمل عليها) شيئًا معلومًا (إليه) أي: إلى محل معين.

(فإن أراد) المستأجر (العدول إلى مثله) أي: مثل المكان الذي استأجر إليه (في المسافة، والحزُونة) أي: الغلاظة (- و) هي ضد

(1)

المغني (8/ 10)، وانظر: كتاب الروايتين والوجهين (1/ 423 - 424).

(2)

الهداية لأبي الخطاب (1/ 226)، والاختيارات الفقهية ص / 224، وانظر: مسائل البغوي ص / 23، رقم 12، والجامع الصغير لأبي يعلى ص / 195.

(3)

الاختيارات الفقهية ص / 224.

ص: 81

(السهولة - والأمن، أو) كانت (التي يعدل إليها أقل ضررًا، جاز) لأن المسافة عُينت ليستوفى منها المنفعة، ويعلم قَدْرها بها، فلم تتعين، كنوع المحمول والراكب.

قال في "المغني": ويقوى عندي أنه متى كان للمُكري غرض في تلك الجهة المعينة، لم يجز العدول إلى غيرها، مثل أن يكري جماله إلى مكة ليحج معها، فلا يجوز أن يذهب بها إلى غيرها. ولو أكرى جِماله جُملة إلى بلد، لم يجز للمستأجر التفريق بينها، بالسفر ببعضها إلى جهة وباقيها إلى جهة أخرى.

(وإن سلك) المستأجر (أبعد منه) أي: من المكان الذي استأجر إليه (أو) سلك (أشق) منه (فـ) ـعليه المُسمَّى و (أجرة المِثلْ للزائد) لتعديه به. (ويأتي قريبًا.

وإن اكترى ظهرًا) ليركبه (إلى بلد، ركبه إلى مَقَرِّهِ) من البلد (ولو لم يكن) مقره (في أول عمارته) لأنه العُرف.

قلت: إن دلَّت قرينة على ذلك، كمن معه أمتعة، ونحوها؛ فواضح، وإلا فمحله، إن لم يكن للدواب موقف معتاد، كموقف بولاق، ومصر القديمة، ونحوهما.

(و) تصح (إجارة بقَرٍ لحَرْثِ مكان) لأنها خُلقت له، وقد أخرجاه في "الصحيحين"

(1)

. (أو) إجارتها لـ (ـدياس زرع) لأنها منفعة مباحة مقصودة كالحرث (أو استئجار آدمي) حرٍّ، أو قِنٍّ (ليدله على الطريق) لأن

(1)

البخاري في المزارعة، باب 4، حديث 2324، وفي أحاديث الأنبياء، باب 54، حديث 3471، وفي فضائل الصحابة، باب 5، حديث 3663، ومسلم في فضائل الصحابة، حديث 2388، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل راكب على بقرة التفتت إليه، فقالت: لم أُخلق لهذا، خُلقت للحراثة

" الحديث.

ص: 82

النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا عبد الله بن الأُريَقِط هاديًا خِرِّيتًا -وهو الماهر بالهداية- ليدلهما على الطريق إلى المدينة

(1)

. (أو) استئجار (رحًى لطحن قُفزان معلومة) لأنه منفعة مقصودة.

(ويُشترط معرفة العمل وضبطُه بما لا يختلف) لأن العمل إذا لم يكن معروفًا مضبوطًا بما ذكر، يكون مجهولًا، فلا تصح الإجارة معه؛ لأن العمل هو المعقود عليه، فاشتُرط معرفته وضبطه، كالمبيع.

(ولا تُعرف الأرض التي يريد حرثها إلا بالمشاهدة) لاختلافها بالصلابة والرخاوة.

(وأما تقدير العمل فيجوز بأحد شيئين: إما بالمدَّة كيوم، وإما بمعرفة الأرض، كهذه القطعة، أو) بقوله: (تحرُث من هنا إلى هنا، أو بالمساحة، كجَريب

(2)

أو جَريبين، أو كذا ذراعًا في كذا) ذراعًا.

(فإن قدَّره) أي: الحرث (بالمدة، فلابُدَّ من معرقة البقر التي يعمل عليها) لأن الغرض يختلف باختلافها.

(ويجوز أن يستأجر البقر مفردةً؛ ليتولى ربّ الأرض الحَرْث بها، وأن يستأجرها مع صاحبها، و) أن يستأجرها (بآلتها، وبدونها) أي: بدون آلة.

(وكذا استئجار البقر وغيرها لدِيَاس الزرع، واستئجار غَنَم لتدوسَ له طينًا، أو زرعًا) معينًا، أو موصوفًا، فإن قدَّره بالمدة، فلابُدَّ من معرفة الحيوان الذي يدوس به؛ لأن الغرض يختلف بقوته وضعفه، وإن كان على عمل غير مقدَّر بمدة احتاج إلى معرفة جنس الحيوان؛ لأن الغرض

(1)

تقدم تخريجه (9/ 31) تعليق رقم (3).

(2)

الجريب: عشرة آلاف ذراع. انظر: المصباح المنير (1/ 37)، مادة (جرب).

ص: 83

يختلف، فمنه ما ورثه طاهر، ومنه ما هو نجس، ولا يحتاج إلى معرفة عينه.

(وإن اكترى حيوانًا لجمل لم يُخلقْ له، كبقرٍ للرُّكوب، وإبل وحُمُرٍ للحرث، جاز) لأنها منفعة مقصودة، أمكن استيفاؤها من الحيوان، لم يردِ الشرع بتحريمها، فجاز كالتي خُلقت له. وقولها "إنما خُلِقتُ للحرث"

(1)

أي: معظم نفعها، ولا يمنع ذلك الانتفاعَ بها في شيء آخر.

(وإن استأجر دابة لإدارة الرَّحى، اعتبر معرفة الحجر بمشاهدة، أو صفة) لأن الغرض يختلف بكبره وصغره (و) اعتُبر أيضًا (تقدير العمل) إما بالمدة (كيوم أو يومين، أو بـ) ـإناء (الطعام، كقفيز أو قفيزين و) اعتُبر أيضًا (ذِكْر جنس المطحون إن كان) المطحون (يختلف) بالسهولة وضدها؛ لزوال الجهالة.

(وإن اكتراها) أي: الدابة (لإدارة دولاب، فلابُدَّ من مشاهدته ومشاهدة دِلائه) لأنها تختلف (وتقدير ذلك بالزمن، أو ملء الحوض، وكذلك أن اكتراها للسقي بالغَرْب) بفتح الغين وسكون الراء: دلو كبير معروف (فلابُدَّ من معرفته.

ويقدَّر) السقي (بالزمان) كيوم، وأسبوع (أو بعدد الغُرُوب، أو بملء بِركة) و (لا) يصح تقديره (بسقي أرض) لأنه لا ينضبط (وإن قدَّره) أي: السقي (بشرب ماشية، جاز؛ لأن شربها يتقارب في الغالب، كـ) ـما يجوز تقديره بـ (ـبلِّ تراب معروف) لهما؛ لأنه معلوم بالعُرف.

(وإن استأجر دابة ليستقي عليها، فلابُدَّ من معرفة الآلة التي يستقي فيها، من راوية، أو قِرَب، أو جِرار، إما بالرؤية، أو بالصفة) لأنها

(1)

تقدم تخريجه (9/ 82) تعليق رقم (1).

ص: 84

تختلف (ويقدَّر العمل بالزمان) كيوم وشهر (أو بالعدد، أو بملء شيء معين، فإن قدَّره) أي: العمل (بعدد المرَّات، احتاج إلى معرفة المكان الذي يَستقي منه، و) معرفة المكان (الذي يذهب إليه) بالماء ليصبه فيه.

(ومن اكترى زورقًا) -هو نوع من السفن- (فزواه

(1)

مع زورق له، فغرقا، ضَمِن؛ لأنها مخاطرة لاحتياجها إلى المساواة، ككفة الميزان.

كما لو اكترى ثورًا لاستقاء ماء، فجعله فدَّانًا) أي: قَرَنه بثور آخر (لاستقاء الماء فتلف، ضمن) لأنها مخاطرة.

(وكل موضع وقع) العقد (على مدة، فلابُدَّ من معرفة الظَّهر الذي يعمل عليه) لأنه يختلف في القوة والضعف، والغرض يختلف باختلافه.

وإن وقع) العقد (على عمل معيَّن، لم يحتج إلى ذلك) أي: إلى معرفة الظَّهْر الذي يعمل عليه؛ لأن العقدَ والعمل حيث ضُبطا

(2)

حصل المطلوب.

(وإن استأجر رَحًى لطحن قُفْزان معلومة، احتاج إلى معرفة جنس المطحون) فيعينه (بُرًّا، أو شعيرًا، أو ذرة، أو غير ذلك؛ لأن ذلك يختلف) وتقدم

(3)

.

(ويجوز استئجار كيَّال، ووزَّان) وعدَّاد، وذرَّاع، ونقَّاد ونحوه (لعمل معلوم، أو في مدة معلومة) لأنه نفع مباح مقصود.

(1)

زواه: جمعه. المصباح المنير ص / 355، مادة (زوى).

(2)

في "ح" و"ذ": "لأن القصد العمل، وحيث ضُبط".

(3)

(9/ 84).

ص: 85

(و)

‌ يجوز (استئجار رجل ليلازم غريمًا يَستحقُّ ملازمته)

لأن الظاهر أنه بحق، فإن الحاكم في الظاهر لا يحكم إلا بحق. لكن قال الإمام

(1)

، في رواية الفضل بن زياد: غير هذا أعجب إلي. قال في "المغني": كرهه؛ لأنه يؤول إلى الخصومة، وفيه تضييق على مسلم، ولا يأمن أن يكون ظالمًا فيساعده على ظلمه.

(ويجوز) الاستئجار (لحفر الآبار، والأنهار، والقُنِيِّ

(2)

، ولابُدَّ من معرفة الأرض التي يحفر فيها) لأن الأرض تختلف بالصلابة وضدها (وإن قدَّره) أي: الحفر (بالعمل، فلابُدَّ من معرفة الموضع بالمشاهدة؛ لكونها) أي: الأرض (تختلف بالسهولة والصلابة، و) لابُدَّ أيضًا من (معرفة دَوْر البئر، وعمقها، وآلتها إن طواها) أي: بناها (و) لابُدَّ من معرفة (طول النهر، وعرضه، وعمقه) لأنه يختلف.

(وإن حَفر بئرًا) استؤجر لحفرها (فعليه شَيلُ ترابها منها) أي: البئر؛ لأنه لا يمكنه الحفر إلا به، فقد تضمنه العقد.

(فإن تهوَّر) فيها (تراب من جانبها، أو سقطت فيه)، أي: في المحفور، من بئر، أو نهر (بهيمة، أو نحو ذلك) فانهال بها تراب (لم يلزمه) أي: الأجير (شَيْلُه) أي: التراب (وكان) شَيلُهُ (على صاحب البئر) إن أراد تنظيفها؛ لأنه سقط فيها من ملكه، ولم يتضمن عقد الإجارة رفعه.

(وإن وَصَل) الأجيرُ في الحفر (إلى صخر، أو جَمَاد يمنع الحفر، لم يلزمه حفره؛ لأن ذلك) الصخر أو نحوه (مخالف لما شاهده من

(1)

مسائل الفضل بن زياد كما في بدائع الفوائد (4/ 77)، وانظر: المغني (8/ 41).

(2)

القُنيُّ: جمع قناة. انظر: لسان العرب (15/ 203)، مادة (قنا).

ص: 86

الأرض. فإذا ظهر فيها) أي: الأرض (ما يُخالف المشاهدة، كان له) أي: الأجير (الخيار في الفسخ) والإمضاء، كخيار العيب في المبيع.

(فإن فسخ) الأجير (كان له من الأجر بحصة ما عمل) لأن المانع من الإتمام ليس من قِبله (فيُقَسَّط الأجر) المُسمَّى (على ما بقي) من العمل (و) على (ما عمل) الأجير (فيقال: كم أجر ما عمل؟ وكم أجر ما بقي؟ فيُقَسَّط الأجر المُسمَّى عليهما) فإذا فرضنا أن أجر ما عمل عشرة، وما بقي خمسة عشر، فله خمسان.

(ولا يجوز تقسيطه) أي: الأجر (على عدد الأذرع؛ لأن أعلى البئر يسهُل نقل التراب منه، وأسفله يشُقُّ ذلك) أي: نقل التراب (فيه) هذا ما جزم به في "المغني" و"المبدع" وغيرهما، خلاف ما ذكره في أوائل الباب

(1)

تبعًا "للرعاية".

(وإن نبع منه) أي: المحفور من بئر أو نهر (ما منعه) أي: الأجير (من الحفر فكالصخرة) له الفسخ، ويُقَسَّط المُسمَّى على ما عمل وما بقي، ويأخذ بالقسط.

(ويجوز استئجار ناسخ) ينسخ له كتب فقه، أو حديث، أو شعرًا مباحًا، أو سجلات؛ نص عليه

(2)

. ولابُدَّ من تقديره بالمدة، أو العمل.

(فإن قدَّره بالعمل، ذكر عدد الورق وقَدْرَهُ، وعدد السطور في كل ورقة، وقَدْرَ الحواشي، و) ذكر (دقة القلم وغلظه، فإن عرف الخط بالمشاهدة؛ جاز، وإن أمكنه) ضبطه (بالصفة؛ ذكره، وإلا؛ فلابُدَّ من المشاهدة) لأن الأجر يختلف باختلافه (ويصح تقدير الأجر بأجزاء الفرع

(1)

(9/ 36).

(2)

انظر: المغني (8/ 38).

ص: 87

وأجزاء الأصل) المنقول منه.

(وإن قاطعه على نسخ الأصل بأجر واحد، جاز) لأنه عمل معلوم (فإن أخطأ بالشيء اليسير) الذي جرت العادة به (عُفي عنه) لأن ذلك لا يمكن التحرُّز منه (وإن كان كثيرًا عُرفًا) بحيث يخرج عن العادة (فهو عيبٌ يُرَدُّ به.

قال ابن عقيل: ليس له) أي: الأجير للنسخ (محادثةُ غيره حالة النسخ، ولا التشاغل بما يشغل سره، ويوجب غلطه، ولا لغيره تحديثه وشغله، وكذلك الأعمال التي تختل بشَغل السر والقلب، كالقِصارة، والنِّساجة ونحوهما) لأن فيه إضرارًا بالمستأجر.

(ويجوز أن يستأجر سمسارًا؛ ليشتري له) أي: للمستأجر (ثيابًا) لأنه منفعة مباحة كالبناء (فإن عيَّنَ العملَ دون الزمان، فجعل له من كل ألف درهم شيئًا معلومًا؛ صح) العقد (وإن قال: كلما اشريت ثوبًا فلك درهم، وكانت الثياب معلومة، أو مقدَّرة بثمن؛ جاز) وإلا فلا؛ للجهالة.

(ويجوز أن يستأجره ليبيع له ثيابًا بعينها) لأنه نفع مباح تجوز النيابة فيه، وهو معلوم، فجازت الإجارة عليه، كشراء الثياب (ونحوه) أي: نحو ما ذكر من المنافع المباحة المقصودة المعلومة.

‌فصل

(الضرب الثاني: عقد على منفعة في الذِّمة في شيء معيَّن، أو موصوف،

مضبوطة بصفات -كالسَّلَم-، فيُشترط تقديرها بعمل أو مدَّة، كخياطة ثوب، وبناء دار، وحملٍ إلى موضع معيَّن) ليحصُل العلم

ص: 88

بالمعقود عليه (ويلزم) الأجير (الشروعُ فيه) أي: فيما استؤجر (عَقِب العقد) لجواز مطالبته به إذن (فلو ترك) الأجير (ما يلزمه، -قال الشيخ

(1)

: بلا عُذر- فتَلِفَ) قال الشيخ: بسببه (ضمن) ما تلف بسببه.

(ولا يجوز أن يكون الأجير فيها إلا آدميًّا) لأنها متعلِّقة بالذمة، ولا ذمة لغير الآدمي (جائزَ التصرُّف) لأنها معاوضة لعمل في الذمة، فلم تجز من غير جائز التصرُّف (ويُسمَّى الأجيرَ المشترك) لأنه يتقبل أعمالًا لجماعة، فتكون منفعته مشتركة بينهم (وهو) أي: الأجير المشترك (من قُدِّر نفعه بالعمل) بخلاف الأجير الخاص، فنفعه مقدَّر بالزمن؛ وتقدم

(2)

.

(ولا يصح الجمع بين تقدير المدة والعمل) -وفي بعض النسخ: على شيء- (كقوله: استأجرتُك لتخيط لي هذا الثوب في يوم) لأن الجمع بينهما يزيد الإجارة غَرَرًا لا حاجة إليه؛ لأنه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء اليوم، فإن استعمل في بقيته، فقد زاد على ما وَقَع عليه العقدُ، وإن لم يعمل كان تاركًا للعمل في بعضه، فهذا غرر أمكن التحرُّز منه، ولم يوجد مثله في محل الوفاق، فلم يجز العقد معه.

(ويصح) الجمع بين تقدير المدَّة والعمل (جعالة) لأنه يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الإجارة، فإذا تم العمل قبل انقضاء المدة، لم يلزمه العمل في بقيتها، كقضاء الدَّين قبل أجله، وإن مضت المدة قبل العمل، فإن اختار إمضاء العقد طالبه بالعمل فقط، كالمُسلِم إذا صبر عند التعذُّر، وإن فسخ قبل العمل سقط الأجر والعمل، وإن كان بعد عمل بعضه، فإن

(1)

مختصر الفتاوى المصرية ص / 383.

(2)

(9/ 78).

ص: 89

كان الفسخ من الجاعل، فللعامل أجر مثله، وإن كان من العامل فلا شيء له. هذا مقتضى كلامهم، لكن لم أرَه صريحًا.

(ويَحرُم ولا تصح إجارةٌ على عمل يختصُّ فاعله أن يكون من أهل القُربة -وهو المسلِمُ-، ولا يقع) ذلك العمل (إلا قُربة لفاعله، كالحج، أي: النيابة فيه) أي: في الحج (والعمرة، والأذان، ونحوها، كإقامة، وإمامة صلاة، وتعليم قرآن، وفقه، وحديث، وكذا القضاء؛ قاله ابن حمدان) لما روى عُبادة قال: "عَلّمتُ ناسًا من أهلِ الصُّفةِ القرآنَ، فأهدى لي رجلٌ منهم قوسًا، فذكرتُ ذلكَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن سَرَّك أن يُقلِّدَك الله قوسًا من نارِ، فاقبلها" رواه أبو داود

(1)

بمعناه.

(1)

في الإجارة، باب 37، حديث 3416. وأخرجه -أيضًا- البخاري في التاريخ الكبير (1/ 444)، وابن ماجه في التجارات، باب 8، حديث 2157، وابن أبي شيبة (6/ 223 - 224)، وأحمد (5/ 315)، وعبد بن حميد (1/ 201) حديث 183، والطحاوي (3/ 17)، وفي شرح مشكل الآثار (11/ 111) حديث 4333، والشاشي في مسنده (3/ 180) حديث 1266، 1267، وابن حبان في المجروحين (3/ 7)، والطبراني في مسند الشاميين (3/ 277) حديث 2253، والحاكم (2/ 41)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2/ 82)، والبيهقي (6/ 125)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 84) حديث 92، وفي التحقيق (2/ 218) حديث 1576، والمزي في تهذيب الكمال (3/ 230) من طريق مغيرة بن زياد، عن عبادة بن نُسَي، عن الأسود بن ثعلبة، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: مغيرة صالح الحديث، وقد تركه ابن حبان. وقال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (3/ 65):"لكن الحاكم صحح حديثه هذا، وقال في موضع آخر: المغيرة بن زياد صاحب مناكير، لكنهم لم يختلفوا في تركه، ويقال: إنه حدث عن عبادة بن الصامت بحديث موضوع". =

ص: 90

وعن أُبي بن كعب: "أنهُ علَّم رجلًا سورةً من القرآنِ، فأهدَى له خميصة أو ثوبًا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنَّك لو لبستها، ألبسك الله مكانها ثوبًا من نار" رواه الأثرم

(1)

.

= وقال ابن الجوزي في العلل (1/ 75): "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أحمد بن حنبل: المغيرة بن زياد ضعيف الحديث، يحدث بأحاديث مناكير، وكل حديث رفعه، فهو منكر". وقال في التحقيق (2/ 218): ضعيف. وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 7): ومغيرة مختلف فيه، واستنكر أحمد حديثه، وناقض الحاكم فصحَّح حديثه في المستدرك، واتهمه به في موضع آخر، فقال: يقال إنه حدث عن عبادة بن نسي بحديث موضوع.

وقال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (3/ 530 - 531): أما حديث عبادة فيرويه عنه الأسود بن ثعلبة، وهو مجهول الحال، ولا يعرف روى عنه غير عبادة بن نسي، وفيه مع ذلك مغيرة بن زياد، وهو مختلف فيه.

وقال ابن حجر في الدراية (2/ 188): وإسناده ضعيف.

وقد روي بنحوه بإسناد آخر: أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 444)، وأبو داود في الإجارة، باب 37، حديث 3417، وأحمد (5/ 324)، والطبراني في مسند الشاميين (3/ 270) حديث 2237، والحاكم (3/ 356)، والبيهقي (6/ 125)، والمزي في تهذيب الكمال (4/ 134 - 135) من طريق بشر بن عبد الله بن يسار، عن عبادة بن نسي، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر في الدراية (2/ 188): إنه أقوى من الحديث الأول. وقال البيهقي: هذا حديث مختلف فيه على عبادة بن نسي كما ترى، وحديث ابن عباس، وأبي سعيد [في قراءة الفاتحة على اللديغ بجعل] أصح إسنادًا منه.

(1)

لعله في سننه ولم تطبع. وأخرجه عبد بن حميد (7/ 197) حديث 175، من طريق رجل يقال له: أبان، عن أبي بن كعب، به.

قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/ 297): أبان روى عن أبي بن كعب، مرسل، سمعت أبي يقول ذلك.

وأخرجه -أيضًا- ابن ماجه في التجارات، باب 8، حديث 2158، والبيهقي (6/ 125)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 218) حديث 1577، والضياء في =

ص: 91

ولأن مِن شرْط هذه الأفعال كونها قُربة إلى الله تعالى، فلم يجز أخذ الأجرة، كما لو استأجر قومًا يصلون خلفه.

(ويصح أخذ جعالة على ذلك، كـ) ـما يجوز (أخذه) عليه (بلا

= المختارة (4/ 22) حديث 1253، من طريق عبد الرحمن بن سلم، عن عطية بن قيس الكلاعي، عن أبي بن كعب رضي الله عنه بلفظ:"قوسًا" بدل: "ثوبًا أو خميصة".

قال البيهقي: منقطع. وقال الذهبي في ميزان الاعتدال (2/ 567): إسناده مضطرب. وقال العلائي في المراسيل ص / 292: عطية بن قيس عن أبي بن كعب مرسل.

وقال ابن التركماني في الجوهر النقي (6/ 126): وعطية هذا تابعي، ذكر صاحب الكمال (20/ 155) عن أبي مسهر أنه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا روايته عن أُبيّ محمولة على الاتصال.

وأخرجه الطبراني في الأوسط (1/ 139) حديث 439، عن طريق عبد الله بن سليمان، عن الطفيل بن عمرو الدوسي قال: أقرأني أبي بن كعب القرآن، فأهديت إليه قوسًا

الحديث.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 95): وفيه عبد الله بن سليمان بن عمير، ولم أجد من ترجمه، ولا أظنه أدرك الطفيل.

وذكر ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (3/ 531)، والذهبي في الميزان (2/ 261) أنه يرويه قاسم بن أصبغ، من طريق أبي إدريس الخولاني، قال: كان عند أبي بن كعب رضي الله عنه ناس من اليمن يقرئهم

الحديث.

قال ابن القطان: وهو هكذا منقطع، فإن أبا إدريس لم يشاهد هو ذلك، فإنه لا صحبة له.

وقال الذهبي: هذا مرسل جيد الإسناد غريب. قال عبد الحق في الأحكام الوسطى (3/ 283) بعد أن أورد حديث عبادة بن الصامت: وفي هذا الباب في هذه القصة أو مثلها عن أبي بن كعب، ذكره قاسم بن أصبغ وغيره، وهي أسانيد منقطعة وضعاف. وقال ابن القطان (3/ 532): وليس فيها شيء يلتفت إليه. وتعقبه ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 7) بقوله: وفيما قال نظر، وذكر المزي في الأطراف [1/ 36] له طرقًا منها ما بيَّن أن الذي أقرأه أبي هو الطفيل بن عمرو.

وقال ابن عبد البر في التمهيد (21/ 114): وليس في هذا الباب حديث يجب به حجة من جهة النقل، والله أعلم.

ص: 92

شرط، وكذا) حكم (رُقْيَة) لحديث أبي سعيد الخدري

(1)

.

وأما حديث القوس والخميصة، فقضيتان في عين، فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم عَلِم أنهما فعلا ذلك خالصًا، فَكَرِهَ أخذ العوض عنه من غير الله تعالى، ويحتمل غير ذلك؛ قاله في "المغني" على أن أحاديثهما لا تقاوم حديث أبي سعيد، ففي إسنادهما مقال.

(وله أخذ رزق على ما يتعدَّى نفعُه) كالقضاء، والفتيا، والأذان، والإمامة، وتعليم القرآن، والفقه، والحديث، ونحوها (كـ) ـما يجوز أخذ (الوقف على من يقوم بهذه المصالح) المتعدي نفعها؛ لأنه ليس بعوض، بل القصد به الإعانة على الطاعة، ولا يخرجه ذلك عن كونه قُربة، ولا يقدح في الإخلاص؛ لأنه لو قدح ما استحقت الغنائم (بخلاف الأجر) فيمتنع أخذه على ذلك؛ لما تقدم.

(وليس له أخذ رزق، و) لا (جُعل، و) لا (أجر على ما لا يتعدَّى) نفعه (كصوم، وصلاة خلفه) بأن أعطى لمن يصلي مأمومًا معه جُعلًا، أو أجرة، أو رزقًا (وصلاته لنفسه، وحجِّه عن نفسه، وأداء زكاة نفسه، ونحوه) كاعتكافه، وطوافه عن نفسه؛ لأن الأجر عوض الانتفاع، ولم يحصل لغيره هاهنا انتفاع، فأشبه إجارة الأعيان التي لا نفع فيها.

(ولا) يصح (أن يصلي عنه) -وفي نسخ: عن (غيره- فرضًا، ولا نافلة، في حياته، ولا في مماته) لأن الصلاة عبادة بدنية محضة، فلا تدخلها النيابة، بخلاف الحج، وتقدم أن ركعتي الطواف تدخل تبعًا. وتقدم في آخر الصوم

(2)

: من مات وعليه نَذْر صلاة ونحوه. ولا يعارض

(1)

تقدم تخريجه (4/ 30) تعليق رقم (1).

(2)

(5/ 306 - 308).

ص: 93

هذا ما تقدَّم في أواخر الجنائز

(1)

: كل قُربة فعلها مسلم وجعل ثوابها لحي أو لميت نَفَعه؛ لأن الصلاة ونحوها ليست واقعة عن الغير، بل للفاعل، وثوابها للمفعول عنه، على ما تقدم.

(فإذا وصَّى بدراهم لمن يُصلِّي عنه، تُصُدِّق بها عنه) أي: الميت (لأهل الصدقة) تحصيلًا لغرضه في الجملة.

(و‌

‌تجوز الإجارة على ذبح الأضحية والهدي،

كتفرقة الصَّدقة ولحم الأُضحية) ولحم الهَدي، لأن ذلك عمل لا يختص فاعله أن يكون من أهل القُربة؛ لصحته من الذمي.

(وتصح) الإجارة (على تعليم الخَط والحساب، والشِّعر المباح، وشِبهه) لأنه تارة يقع قُربة، وتارة يقع غير قُربة، فلم يمنع الاستئجار لفعله، كغرس الأشجار، وبناء البيوت.

(فإن نسيه) أي: ما تعلَّمه، من شعر، وحساب، ونحوه (في المجلس أعاد تعليمه) لأنه مقتضى العُرف (وإلا) بأن نسيه بعد المجلس (فلا) يلزمه إعادته؛ لأنه ليس مقتضى العقد.

(وتصح) الإجارة (على بناء المساجد، وكَنْسها، وإسراج قناديلها، وفتح أبوابها، ونحوه) كتجميرها (وعلى بناء القناطر، ونحوها) كالربط، والمدارس، والخوانك؛ لما تقدم.

(وإن استأجره ليحْجُمه، صح كـ) ـما لو استأجره لـ (ـفَصْد) لما روى ابن عباس، قال:"احتجمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجَّامَ أجرهُ، ولو علِمهُ حرامًا لم يعطهِ" متفق عليه

(2)

؛ ولأنها منفعة مباحة، لا يختص

(1)

(4/ 235).

(2)

تقدم تخريجه (9/ 68) تعليق رقم (3).

ص: 94

فاعلها أن يكون من أهل القُربة، فجاز الاستئجار عليها كالبناء، ولأن بالناس حاجة إليها، ولا يجد كل أحد متبرِّعًا بها، فجاز الاستئجار عليها، كالرضاع.

(ويُكره للحُرِّ أكل أجرته، كـ) ـما يُكره للحُرِّ (أخذ) أي: أكل (ما أعطاه) المحتجم (بلا شرط، ويطعمه الرقيق والبهائم) لقوله صلى الله عليه وسلم: "كسبُ الحجَّامِ خبيثٌ" متفق عليه

(1)

، وقال:"أطعمهُ ناضحكَ ورقيقكَ" رواه الترمذي وحسنه

(2)

، فدلَّ على إباحته، إذ غير جائز أن يطعم رقيقه ما يحرم أكله، فإن الرقيق آدمي؛ يُمنع عما يمنع منه الحُر، ولا يلزم من تسميته خبيثًا التحريم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قد سَمَّى البصلَ والثومَ خبيثين مع إباحتهما

(3)

، وخَصَّ الحُرَّ بذلك؛ تنزيهًا له.

(ويصح استئجارُه لحَلْقِ الشَّعر) المطلوب، أو المباح أخذه (و) لـ (ـتقصيره، ولخِتانٍ، وقطع شيء من جسده؛ للحاجة إليه) أي: إلى قطعه لنحو أَكِلَة

(4)

؛ لأن ذلك منفعة مباحة مقصودة، ولا يُكره أكل أجرته، وقوله صلى الله عليه وسلم:"كَسْبُ الحجَّام خبيثٌ"، يعني بالحجامة، كما نهى عن مهر البغي

(5)

، وكما لو كسب بصناعة أخرى.

(1)

تقدم تخريجه (9/ 60) تعليق رقم (1).

(2)

تقدم تخريجه (9/ 60) تعليق رقم (2).

(3)

انظر تخريجه (3/ 246) تعليق رقم (1)، و (5/ 400) تعليق رقم (2، 3).

(4)

الأكِلَة: عِلَّة يحدث منها جُرح يتأكَّل منه البدن. النظم المستعذب (1/ 229)، ولسان العرب (11/ 22) مادة (أكل).

(5)

أخرج البخاري في البيوع، باب 113، حديث 2237، وفي الإجارة، باب 20، حديث 2282، وفي الطلاق، باب 51، حديث 5346، وفي الطب، باب 45، حديث 5761، ومسلم في المساقاة، حديث 1567، عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال:"نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وحُلوان الكاهن، ومهر البغي".

ص: 95

(ومع عدمها) أي: عدم الحاجة إلى قطع شيء من جسده (يَحْرُم) القطع (ولا يصح) الاستئجار له؛ لما تقدم

(1)

أن المنع الشرعي كالحسي.

قلت: ومثله حَلْق اللحية، فلا يصح الاستئجار له.

(ويصح أن يستأجر) الأرمدُ (كحَّالًا ليَكحُل عينيه) لأنه عمل جائز يمكن تسليمه (ويقدرُ ذلك بالمدة) دون البرء؛ لأنه غير معلوم (ويحتاج إلى بيان عدد ما يَكْحُله كل يوم) فيقول: (مرة، أو مرتين، فإن كَحَله في المدة فلم يبرأ، استحق الأجر) ة؛ لأنَّه وفَّى بالعمل.

(وإن برئ) الأرمد (في أثنائها) أي: المدة (انفسخت الإجارة فيما بقي) من مدة الإجارة، لتعذُّر استيفاء المعقود عليه.

(وكذا لو مات) الأرمد في أثناء المدة، انفسخت الإجارة فيما بقي؛ لما مَرَّ، ويستحق من الأجرة بالقسط.

(فإن امتنع المريضُ من ذلك) أي: من إتمام الكُحْل (مع بقاء المرض، استحق الطبيب الأجرة بمضي المدة) لأن الإجارة عقد لازم، وقد بذل الأجير ما عليه (فإن قدَّرها) أي: المدة (بالبرء، لم يصح) ذلك (إجارةً، ولا جعالة) لأنه مجهول لا ينضبط (ويأتي) أيضًا (في الجعالة.

ويصح أن يستأجر) المريض (طبيبًا لمداواته، والكلام فيه كالكلام في الكحَّال، إلا أنه لا يصح اشتراط الدواء على الطبيب) بخلاف الكُحْل يصح اشتراطه على الكَحَّال، ويدخل تبعًا للحاجة إليه، وجري العادة به في الكُحْل دون الدواء، ويملك الأجرة ولو أخطأ في تطبيبه؛ ذكره ابن

(1)

(9/ 71).

ص: 96

عبد الهادي في "جمع الجوامع" قال: ويلزمه ما العادة أن يباشره من وصف الأدوية، وتركيبها وعملها، فإن لم يكن عادته تركيبها لم يلزمه، ويلزمه -أيضًا- ما يحتاج إليه من حُقنة، وفصْدٍ ونحوهما، إن شرط عليه، أو جرت العادة أن يباشره، وإلا؛ فلا.

(ويصح أن يستأجر من يَقلَع له ضِرْسَه) عند الحاجة إلى قَلْعِه (فإن أخطأ، فقلع غير ما أُمِرَ بقَلْعه، ضمنه) لأنه جناية، ولا فرق في ضمانها بين العمد والخطأ إلا في القصاص، وعدمه.

(وإن برئ الضرس قبل قَلْعه، انفسخت الإجارة)، لأن قلعه لا يجوز (ويُقبل قوله) أي: المريض (في برئه) أي: الضرس؛ لأنه أدرى به.

(وإن لم يبرأ) الضرس (لكن امتنع المستأجر من قلعه، لم يُجبر) على قلعه؛ لأنه إتلاف جزء من الآدمي محرَّم في الأصل، وإنما أُبيح إذا صار بقاؤه ضررًا، وذلك مفوَّض إلى كل إنسان في نفسه، إذا كان أهلًا لذلك، وصاحب الضرس أعلم بمضرَّته ونفعه؛ وقَدْر ألمه.

فصل

(ويُعتبر كون المنفعة) المعقود عليها (للمستأجر، فلو اكترى دابة لركوب المؤجر؛ لم يصح) العقد؛ لئلا يلزم تحصيل الحاصل؛ لأن المنفعة ملك للمؤجر قبل العقد عليها، فلو صح استئجارها له، لزم تمليكه ما هو في ملكه، وإذا استأجر لنفسه، كان له إعارتها للمؤجر كغيره.

ص: 97

(وللمستأجر استيفاء المنفعة بنفسه، وبمثله بإعارة، أو غيرها) لأنه مَلَكَ المنفعة بالعقد، فكان له التسلط على استيفائها بنفسه، ونائبه.

(ولو شَرَط عليه) أي: المستأجر (استيفاءَها) أي: المنفعة (بنفسه، فسد الشرط، ولم يلزم الوفاء به) لأنه شرطٌ ينافي مقتضى العقد، إذ مقتضاه الملك، ومن ملك شيئًا استوفاه بنفسه وبنائبه (ويُعتبر كون راكبٍ مثله) أي: المستأجر، أو دونه (في طولٍ، وقصرٍ، وغيرهما) كَسِمَنٍ وهزال؛ لأن العقد اقتضى استيفاء المنفعة المقدَّرة بذلك الراكب، لا بأطول أو أثقل منه؛ ولأنه أكثر مما عقد عليه.

و (لا) تُعتبر مماثلته (في معرفة ركوب) لأن التفاوت فيه يسير.

(ومثله) أي: مثل شرط استيفاء المنفعة بنفسه في الفساد (شرط زرع بُرٍّ فقط) فلا يلزم الوفاء به، وله زرع بُرٍّ، وما هو مثله ضررًا، أو أقل، لا أكثر.

(ولا يضمنها مُستعيرٌ منه) أي: المستأجر (إن تلفت من غير تفريط) لأنه قام مقام المستأجر في الاستيفاء، فكان حكمه كالمستأجر في عدم الضمان؛ لأن يده كيَده (ويأتي) ذلك في العارية أيضًا.

(ولا يجوز) للمستأجر، ولا نائبه (استيفاء) المنفعة (بما هو أكثر ضررًا، ولا بما يخالف ضررُه) أي: المستوفى (ضررَه) أي: المعقود عليه.

(و‌

‌له أن يستوفي المنفعة ومثلها، وما دونها في الضرر، من جنسها)

أي: جنس المنفعة المعقود عليها، لا من غير الجنس، لأنه لم يملكه.

(وإذا اكترى لزَرع الحنطة، فله زَرْعُ الشعير ونحوه) كالباقلاء، والعدس ونحوه، مما هو مثل البُر في الضرر، أو دونه (وليس له زرع

ص: 98

الدُّخْن

(1)

والذرة ونحوهما) كقطن وقصب؛ لأن ذلك أكثر ضررًا من البر (ولا يملك الغرس ولا البناء) في الأرض التي استأجرها للزرع؛ لأنهما أكثر ضررًا منه.

(وإن اكتراها لأحدهما؛ لم يملك الآخر) أي: إذا اكترى الأرض للغرس، لم يملك البناء، أو استأجرها للبناء لم يملك الغرس؛ لأن ضرر كل واحد منهما يخالف ضرر الآخر؛ لأن الغرس يضر بباطن الأرض، والبناء يضر بظاهرها.

(وإن اكتراها للغرس) ملك الزرع؛ لأن ضرره أقل من ضرر الغرس، وهو من جنسه (أو) اكتراها لأجل (البناء) ملك الزرع، كما لو استأجرها للغرس؛ قدَّمه في "الرعاية الكبرى"، وقال في "المغني" و"شرح المنتهى": وإن اكتراها للبناء، لم يكن له الزرع، وإن كان أخف ضررًا؛ لأنه ليس من جنسه (أو) اكتراها (لهما) أي: للغرس والبناء (ملك الزرع) لأنه أخف ضررًا.

(ولا تخلو الأرض من قسمين:

أحدهما: أن يكون لها ماءٌ دائم، إما من نهر لم تجرِ العادةُ بانقطاعه) كالأراضي التي تشرب من النيل والفرات ونحوهما (أو) لها ماءٌ (لا ينقطع إلا مدَّة لا تؤثر في الزرع، أو) تشرب (من عين تنبع، أو بِرْكة من مياه الأمطار يجتمع فيها الماء، ثم تسقى به، أو) تشرب (من بئر تقوم بكفايتها، أو ما يشرب بعروقه لنداوة الأرض، وقُرب الماء الذي تحت الأرض، فهذا كله دائم، ويصح استئجاره) أي: هذا القسم من الأرض

(1)

الدُّخن: حب الجاورس أو حب أصغر منه، أملس جدًّا، بارد يابس، حابس للطبع القاموس المحيط ص / 1542، مادة (دخن).

ص: 99

(للغراس والزرع) قال في "المغني": بغير خلاف علمناه.

(وكذلك التي تشرب من مياه الأمطار، وتكتفي بالمعتاد منه) لأن حصوله معتاد، والظاهر وجوده.

القسم (الثاني: ألّا يكون لها ماءٌ دائم، وهي نوعان:

أحدهما: ما يشرب من زيادةٍ معتادة تأتي وقتَ الحاجة، كأرض مصر الشاربة من زيادة النيل، وما يشرب من زيادة الفرات وأشباهه، وأرض البصرة الشاربة من المَدِّ والجَزْرِ) قال في "مختصر الصحاح"

(1)

: الجَزر: ضد المد، وهو رجوع الماء إلى خَلْف (وأرض دمشق الشاربة من زيادة بَرَدَى) بفتحات (وما يشرب من الأودية الجارية من ماء المطر) المعتاد (فهذه تصح إجارتها قبل وجود الماء الذي تُسقى به) لأن حصوله معتاد، والظاهر وجوده، ولأن ظن القدرة على التسليم في وقته كافٍ في صحة العقد، كالسَّلَمِ في الفاكهة إلى أوانها.

(النوع الثاني: أن يكون مجيء الماء) إليها (نادرًا، أو غير ظاهر، كالأرض التي لا يكفيها إلا المطرُ الشديدُ الكثيرُ الذي يَندر وجودُه، أو لكون شربها من فيض وادٍ مجيئه نادر، أو) يكون شربها (من زيادة) غير معتادة، بل (نادرة في نهر) أو غير غالبة؛ قاله في "المغني"، من نِيْلٍ أو غيره (فهذه إن أجرها بعد وجود ما يسقيها به؛ صح) العقد؛ لأنها مشتملة على النفع المقصود منها (و) إن أجرها (قبله) أي: قبل وجود ما يسقيها للزرع أو الغرس (لا يصح) العقد؛ لأن الأرض لا تُنبت الزرع، أو الغرس بلا ماء، وحصوله غير معلوم ولا مظنون، فأشبهت السبخة إذا أُوجرت للزرع.

(1)

ص / 102، مادة (جزر).

ص: 100

(وإن اكتراها على أنها لا ماء لها، صَحَّ؛ لأنه يتمكَّن بالانتفاع منها

(1)

، بالنزول فيها، وغير ذلك) كوضع رَحْله، وجَمْعِ الحطب. قلت: وهذا معنى استئجار الأرض مَقيلا ومَراحًا. وقال الشيخ تقي الدين

(2)

: وما لم يُروَ من الأرض، فلا أجرة له اتفاقًا، وإن قال في الإجارة: مقيلًا ومَراحًا وأطلق؛ لأنه لا يَرِدُ عليه عقد؛ كالبرِّية.

(وإن حصل لها ماء قبل) فوات زمن (زَرعها، فله زَرْعها) لأنه من منافعها الممكن استيفاؤها (وليس له أن يبني ولا يغرس) فيها؛ لأن ذلك يراد للتأبيد، وتقدير الإجارة بمدة يقتضي تفريغها عند انقضائها، بخلاف ما إذا صَرَّحَ بالغِراس والبناء، فإن تصريحه صرف التقدير عن مقتضاه، كذا لو أطلق مع علمه بحالها، لا إن ظن إمكان تحصيله.

(وإن اكترى دابة للرُّكوب، أو الحَمْل، لم يملك الآخر) لأن ضَرَرَ كل منهما مخالف لضرر الآخر؛ لأن الراكب يُعِينُ الظهرَ بحركته؛ لكن يقعد في موضع واحد فيشتد على الظهر، والمتاع يتفرق على جنبيه، لكن لا حركة له يعين بها الظهر.

(وإن اكتراها ليركبها عَريًّا، لم يجز أن يركبها بسرج) لأنه زائد عَمَّا عقد عليه.

(وإن اكتراها ليركبها بسَرْج، فليس له ركوبها عريًّا) لأنه يحمي ظهرها، فربما أفسده.

(و) إن استأجرها ليركبها بسَرْج (لا) يركبها (بسَرْج أثقل منه)

(1)

في "ذ": "بها"، وفي "ح":"فيها".

(2)

مجموع الفتاوى (30/ 312).

ص: 101

لأنه زيادة عن

(1)

المعقود عليه (ولا أن يركب الحمار بسرج بِرْذَون

(2)

، إن كان أثقل من سرجه، أو أضر) لما تقدم (لا إن كان أخف، أو أقل ضررًا) من سرجه. وكان الصواب أن يقول: أخف وأقل ضررًا؛ كما في "المغني" إذ أحدهما ليس بكافٍ.

(و‌

‌إن اكتراها

(3)

لحمل الحديد، أو القطن، لم يملك حمل الآخر)

لاختلاف ضررهما؛ لأن القطن يتجافى، وتهب فيه الريح، فيتعب الظهر، والحديد يجتمع في موضع واحد، فيثقل عليه.

(وإن أجره مكانًا ليطرح فيه إرْدَبَّ

(4)

قمح، فطرح فيه إردبَّيَن، فإن كان الطرح على الأرض، فلا شيء له) للزائد؛ لأن ذلك لا يضر بالأرض (وإن كان) الطرح (على غرفة ونحوها، لزمه أجرة المِثل للزائد) لتعدِّيه به.

(وإن اكتراه ليطرح فيه ألف رطل قطن، فطرح فيه ألف رطل حديد، لزمه أجرة المِثْل) مقتضى التحقيق: أن يقال: لزمه المُسمَّى مع تفاوت أجرة المِثْل، كما يدلُّ عليه كلامه في "المغني" و"المبدع"، ولما يأتي في قوله: "وإن خالف في شيء مما تقدم

إلخ".

(و‌

‌إن أجره الأرض ليزرعها، أو يغرسها، لم يصح؛ لأنه لم يعيّن أحدهما.

(1)

في "ح": "على".

(2)

تقدم التعريف به (3/ 262).

(3)

في متن الإقناع (2/ 518): "اكتراه".

(4)

الإرْدَب: كيل معروف بمصر، وهو أربعة وعشرون مَنًّا، وذلك أربعة وعشرون صاعًا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، والجمع أرادب. المصباح المنير ص / 305، مادة (ردب).

ص: 102

وإن اكتراها للزرع مطلقًا) صح (أو قال: لتزرعها ما شئت، وتغرسها ما شئت؛ صح) العقد، وتقدم. (وله أن يزرعها كلها ما شاء، وأن يغرسها كلها ما شاء).

قلت: وأن يزرع البعض ويغرس الباقي.

(وإن) أطلق، وتصلح لزرع وغيره؛ صح في الأصح، وإن أطلق، وتصلح للجميع، أو (قال: لتنتفع بها ما شئت، فله الزرع والغراس والبناء كيف شاء) قاله الشيخ تقي الدين

(1)

. ولا يعارضه ما سبق في الأرض التي لا ماء لها؛ لأنه لم ينص في العقد على الانتفاع كيف شئت، لكن يرد على ما إذا أطلق، إلا أن يحمل ما تقدم على دلالة القرينة.

(وإن خالف في شيء مما تقدم) بأن استأجرها لشيء، وخالف (ففعل ما ليس له فعله) بأن استأجرها للزرع، فغرس، ونحوه، لزمه المُسمَّى مع تفاوت أجر المِثل، فيقال في من اكترى أرضًا لزرع حنطة، فزرعها قطنًا: كم تساوي أجرتها مع الحنطة؟ فيقال -مثلًا-: عشرة. ومع القطن؟ فيقال -مثلًا-: خمسة عشر. فيأخذ ربُّها مع المُسمَّى الخمسة؛ نص عليه في رواية عبد الله

(2)

؛ لأنه لما عيَّن الحنطة لم تتعين؛ فإذا زرع ما هو أكثر ضررًا، فقد استوفى المنفعة وزيادة عليها، فكان على المستأجر المُسمَّى؛ للمنفعة، وأجرة المثل؛ للتفاوت.

(أو سلك) المستأجر (طريقًا أشقَّ مما عيَّنها، لزِمه المُسمَّى) في العقد (مع تفاوت أجر المِثْل) كما تقدم.

(1)

انظر: الفروع (4/ 446).

(2)

مسائل عبد الله، كتاب الخراج (3/ 1213) رقم 1671، والمغني (8/ 81).

ص: 103

(لا

(1)

فيما إذا اكترى) ظهرًا (لحمل حديد، فحمل) عليه (قطنًا، وعكسه، فإنه يلزم أجر المِثْل) لأن ضرر أحدهما مخالف لضرر الآخر، فلم يتحقَّق كون المحمول مشتملًا على المستحقِّ بعقد الإجارة وزيادة عليه، بخلاف ما قبلها من المسائل؛ قاله في "المغني". وجزم في "التنقيح" وتبعه في "المنتهى" بأنه يلزمه المُسمَّى مع تفاوت أجر المِثْل من غير استثناء.

(وإن اكتراها لحمولة شيء، فزاد عليه) لزمه المُسمَّى وأجرة المِثْل للزائد.

(ولو) استأجرها (لركوبه وحده، فأردف غيره) لزمه المُسمَّى وأجرة المِثل للرديف.

(أو) استأجر ليركب، أو يحمل (إلى موضع، فجاوزه، فعليه المُسمَّى، وأجرة المِثل للزائد) لأنه متعدٍّ به.

(وإن تلفت الدابة) المؤجرة، وقد خالف المستأجر، ففعل ما لا يجوز له (ضمن قيمتها) كلها؛ لتعدِّيهِ (سواء تلفت في الزيادة، أو) تلفت (بعد رَدِّها إلى المسافة) لأن يده صارت ضامنة بمجاوزة المكان، فلا يزول الضمان عنها إلا بإذن جديد، ولم يوجد (ولو كانت) الدابة تلفت بها (في يد صاحبها) بأن كان معها، ولم يرضَ بحمل الزائد على ما وقع عليه العقد، ولا بمجاوزة المكان المعيَّن في العقد؛ لأن اليد للراكب وصاحب الحمل، وسكوتُ ربِّها لا يدلُ على رضاه، كما لو بِيع متاعُه، وهو ساكت، فإنه لا يمنعه الطلب به (إلا أن يكون له) أي: للمستأجر (عليها) أي: المؤجرة (شيءٌ، وتتلف في يد صاحبها بسببٍ غير حاصلٍ

(1)

في متن الإقناع (2/ 518): "إلا".

ص: 104

من الزيادة) بأن افترسها سبع، أو سقطت منه في هوة، أو جرحها إنسان، فماتت، فإنه لا ضمان على المكتري؛ لأنها لم تتلف في يدٍ عاديَة.

(وإن كان) التلف (بسببها) أي: الزيادة (كتعبها من الحمل) الذي زاد فيه (أو السير) الذي تجاوز فيه المسافة (فيضمن) المستأجر، لأنها تلفت بسبب حاصل من تعديه (كتلفها تحت الحمل) الزائد (والراكب) المتعدي (وكمن ألقى حجرًا في سفينة موقورة، فغرَّقها) الحجرُ، فإنه يضمن قيمتها وما فيها جميعَه.

(فإن اكتُريَ) إنسان (لحمل قفيزين، فحملهما فوجَدَهما ثلاثة، فإن كان المُكتري تولَّى الكيل، ولم يعلم المُكري بذلك) أي: بأنها ثلاثة (فكمَن اكترى لحمولة شيء فزادَ عليه) يلزمه المُسمَّى وأجرة المِثل للقفيز الزائد.

(وإن كان المُكري) أي: الأجير (تولَّى كيله، و) تولى (تعبئته، ولم يعلم المكتري) أو علم، ولم يأذن (فلا أجر له في حمل الزائد) لتعدِّيه بحمله.

(وإن تلفت دابتُهُ فلا ضمان) على المستأجر (لها) لأن تلفها بتعدِّي مالكها (وحكمه في ضمان الطعام) إذا تلف (حكم من غصب طعام غيره) فتلف، يضمنه بمثله.

(وإن تولَّى ذلك) أي: الكيل والتعبئة (أجنبيٌّ ولم يعلما) أي: المستأجر والأجير، أو علما ولم يأذنا (فهو مُتعدٍّ عليهما، عليه لصاحب الدابة الأجر، ويتعلَّق به ضمانها) إن تلفت (وعليه لصاحب الطعام

ص: 105

ضمانُ) مثل (طعامه) إن تلف (وسواء كَالَه) أي: الطعام (أحدُهما

(1)

ووضعه الآخرُ على ظهر الدَّابة، أو كان الذي كَاله وعبَّأه وضعه على ظهر الدابة) أي: فالحكم منوط بالكائل؛ لأن التدليس منه، لا ممن وضعه على ظهر الدابة.

فصل

(ويلزم المؤجر مع الإطلاق) أي: إطلاق عقد الإجارة (كلُّ ما يتمكَّن به) المستأجر (من النفع، مما جرت به عادةٌ وعُرفٌ) عبارة "المنتهى": أو عُرف (من آلاتٍ وفعل) بيانٌ لـ"ما"(كزِمام مركوب) وهو الذي يقود به (ولجامه، ورَحْله، وقتَبَه، وحزامه، وثَفَره، وهو الحياصة، والبُرَة

(2)

التي في أنف البعير إن كانت العادة جارية بها، وسَرْجه، وإكافه) وهو البَرذعة (و) كـ (ـشدِّ ذلك) أي: ما ذكر من الأشياء السابقة (عليه) أي: على المركوب (وتوطئة

(3)

، وشدِّ الأحمال، و) شدِّ (المحامل) التي يركب فيها (والرفع والحطِّ) لأن هذا هو العُرف، وبه يتمكَّن من المركوب

(4)

(وقائدٍ وسائق، ولزوم البعير لينزل) الراكب (لصلاة الفرض -ولو فَرْضَ كفايةٍ- لا) لينزل (لسُنَّة راتبة) لأنها تصح على الراحلة بخلاف

(1)

في "ح" زيادة: "أي المؤجر والمستأجر".

(2)

البُرَة: حلقة تجعل في أنف البعير تكون من صُفْر ونحوه. المصباح المنير ص / 46، مادة (بري).

(3)

في متن الإقناع (2/ 520): "توطئته".

(4)

في "ذ": "من الركوب".

ص: 106

الفرض (و) لا لـ (ـــأكل وشُرب) لأنه يمكن فعلهما على الراحلة بلا مشقة.

(ويلزمه) أي: المؤجر (حَبْسه) أي: البعير (له) أي: للمستأجر (لينزل لقضاء حاجة الإنسان) وهي البول والغائط (و) يلزمه -أيضًا- حَبْسه له لينزل لأجل (الطهارة، ويَدَع البعيرَ واقفًا حتى يفعل ذلك) أي: يقضي حاجته ويتطهر، ويصلِّي الفرضَ؛ لأنه لا يمكنه فعل شيء من ذلك على ظهر الدابة، ولابُدَّ له منه، بخلاف نحو أكل وشُرب مما يمكنه راكبًا.

(فإن أراد المكتري إتمامَ الصلاة، فطالبه الجمَّال بقصْرها، لم يلزمه) أي: القصر؛ لأنه رخصة (بل تكون) الصلاة (خفيفةً في تمامٍ) جمعًا بين الفرضين.

(ويلزمه) أي: المؤجر (تبريكه) أي: البعير (لشيخ ضعيف، وامرأة، وسمين، ونحوهم) ممن يعجز عن الركوب والنزول والبعير واقف (لركوبهم ونزولهم) لأنه المعتاد لهم (و) يلزمه -أيضًا- تبريكه لمن عَجَزَ عن الرُّكوب والنزول (لمرض، ولو طارئًا) على الإجارة؛ لأن العقد اقتضى ركوبه بحسب العادة؛ قاله في "المغني" و"الشرح".

(فإن احتاجت الراكبة إلى أخذ يدٍ، أو مَسِّ جسمٍ، تولَّى ذلك محرَمُها دون الجمَّال) لأنه أجنبي.

(ولا يلزمه) أي: المؤجر (محْمِل، ومَحَارة، ومظلة، ووِطاء فوق الرَّحْل، وحبل قِران بين المحمِلين والعِدْلين، بل) ذلك (على المستأجر، كأجرة دليل) إن جهلا الطريق؛ لأن ذلك كله من مصلحة المُكتري، وهو خارج عن الدابة وآلتها، فلم يلزم المكري، كالزاد. قال في

ص: 107

"القاموس"

(1)

: والمحمل كمجلس: شقتان على البعير يحمل فيهما العديلان. قال

(2)

: والمظلة بالكسر والفتح: الكبير من الأخبية.

(قال في "الترغيب": وعِدل قُماش على مُكْرٍ، إن كانت) الإجارة (في الذمة. وقال الموفق: إنما يلزم المؤجِر ما تقدم ذِكره إذا كان الكري على أن يذهب معه المؤجر، أما إن كان على أن يسلِّم الراكب البهيمة ليركبها لنفسه، فكل ذلك عليه) لأن الذي على المكري تسليم البهيمة، وقد سلَّمها (انتهى. وهو متوجِّه في بعض دون بعض.

والأولى أن يُرجَع في ذلك إلى العُرف والعادة، ولعله مُرادهم) لقولهم أولًا: عما جرت به عادة أو عرف. قلت: حتى لو سافر معها ينبغي ألّا يلزمه إلا ما هو العادة والعُرف؛ لأنه يختلف باختلاف البلدان.

(فأما تفريغ البَالوعة والكنيف، وما حصل في الدار من زِبْل وقُمامة، فيلزم المستأجرَ، إذا تسلَّمها فارغة) لحصوله بفعله، كقماشه. قال في "الإنصاف": ويتوجَّه أن يُرجَع في ذلك إلى العُرف.

(ويلزم مؤجرَ الدار تسليمُها مُنظَّفة) من زِبْل وقمامة، فارغَة البَالوعة والكنيف (و) يلزمه -أيضًا- (إزالة ثلج عن سطح) المؤجَرة (و) عن (أرض) مؤجرة (ولو) كان الثلج (حادثًا) بعد الإجارة؛ ليتمكَّن المستأجر من الانتفاع.

و (لا) يلزم المؤجر لمكان يستقَى منه (حبلٌ ودلو وبكرة) كمُكرٍ أرضًا لزرع، فإن آلة الحرث ونحوها على المكتري.

(1)

ص / 1276، مادة (حمل).

(2)

ص / 1329، مادة (ظلل).

ص: 108

(ويلزمه) أي: المؤجرَ (مفاتيحها) أي: المؤجرة (وتسليمها إلى مُكتر) لأنه بها يتوصل إلى الانتفاع، ويتمكَّن منه (وتكون) المفاتيح (أمانة معه) أي: المُكتري، كالعين المؤجرة (فإن تلفت) المفاتيح (من غير تفريط، فعلى المؤجِر بدلها) ويكون -أيضًا- أمانة.

(ويلزمه) أي: المؤجر (أيضًا عمارتُها) أي: العين المؤجرة، دارًا كانت أو حمامًا، أو غيرهما (سطحًا وسقفًا، بترميم) ما يحتاج إلى الترميم (بإصلاح منكسر، وإقامة مائل، وعمل باب، وتطيين ونحوه) مما تدعو الحاجة إليه؛ لأنه به يتوصَّل إلى الانتفاع، ويتمكَّن منه (فإن لم يفعل) المؤجر ذلك (فللمستأجر الفسخ) إزالة لما يلحقه من الضرر بتركه.

(ويلزمه) أي: المؤجر (تبليط الحَمَّام، وعمل أبوابه، وبِرَكِهِ، ومستوقده، ومجرى الماء) لأنه لا يُنتفع به إلا بذلك (ولا يُجبر) المؤجر (على تجديد) وتحسين، وتزويق؛ لأن الانتفاع ممكن بدونه.

(ولو شرط) مؤجر (على مكتري الحَمَّام، أو الدار) أو الطاحون، ونحوها، أن (مدة تعطيلها عليه) لم يصح؛ لأنه لا يجوز أن يؤجره مدة لا يمكن الانتفاع في بعضها (أو) شرط المؤجر (أن يأخذ) المستأجر (بقَدْرِ مدة التعطيل بعد فراغ المدة) أي: مدة الإجارة؛ لم يصح؛ لأنه يؤدِّي إلى جهالة مدة الإجارة (أو شرط) المؤجر (على المكتري النفقة الواجبة لعمارة المأجور) لم يصح؛ لأنه يؤدي إلى جهالة الإجارة

(1)

(أو جعلها) أي: النفقة على المأجور (أجرة، لم يصح) لأنها مجهولة.

(1)

في "ذ": "الأجرة".

ص: 109

(لكن لو عَمَر) المستأجر (بهذا الشرط، أو) عمر (بإذنه) أي: المؤجر (رجع) عليه (بما قال مُكْرٍ) لأنه منكِرٌ، ووضَّحه بقوله:(فإن اختلفا في قَدْر ما أنفقه) المُكتري؛ بأن قال: أنفقت مائة، وقال المُكري: بل خمسين (ولا بينةَ) لأحدهما (فالقول قول المُكري) لأنه منكِرٌ.

(وإن أنفق) المستأجر (من غير إذنه، لم يرجع به بشيء) لأنه متبرِّع، لكن له أخذ أعيان آلاته.

(ولا يلزم أحدهما) أي: المؤجر والمستأجر (تزويق، ولا تجصيص، ونحوهما) مما يمكن الانتفاع بدونه (بلا شرط) لأن الانتفاع لا يتوقف عليه.

(ولا يلزم الراكب الضعيف، و) لا (المرأة، المشي المعتاد عند قُرب المنزل، وكذا قوي قادر) على المشي فلا يلزمه؛ لأنه ليس مقتضى العقد (لكن المروءة تقتضي ذلك إن جرت به عادة) أمثاله.

(ولو اكترى بعيرًا إلى مكة، فليس له الركوب إلى الحج، أي: إلى عرفة، والرجوع إلى منىً) لأنه زيادة على المعقود عليه.

(وإن اكترى) بعيرًا (ليحجَّ عليه، فله الرُّكوب إلى مكة، و) الركوب (من مكة إلى عرفة، ثم) الركوب (إلى مكة) لطواف الإفاضة (ثم إلى منىً لرمي الجمار) لأن ذلك كله من أعمال الحج، وظاهره: أنه لا يركب بعد رَمْي الجِمار إلى مكة بلا شرط؛ لأن الحج قد انقضى.

(وإذا كان الكَرْي إلى مكة، أو) في (طريق لا يكون السير فيه إلى المتكاريَيْن، فلا وَجْهَ لتقدير السير فيه) لأن ذلك ليس إليهما ولا مقدورًا عليه لهما.

ص: 110

(وإن كان) الكري (في طريق السير فيه إليهما) أي: المتكاريين (استحب ذِكر قَدْر السير في كل يوم) قطعًا للنزاع.

(فإن أطلقا، والطريق منازل معروفة، جاز) لأنه معلوم بالعُرف.

(ومتى اختلفا في ذلك) أي: في قَدْر السير (أو) اختلفا (في وقت السير، ليلًا أو نهارًا، أو) اختلفا (في موضع المنزل، إما في داخل البلد، أو) في (خارج منه، حُمِلا على العُرف) لأن الإطلاق يُحمل عليه، وإن لم يكن للطريق عُرف، وأطلقا العقد، لم يصح

(1)

عند القاضي، وقال الموفق: الأولى الصحة؛ لأنه لم تَجْرِ العادة بتقدير السير، ويُرجَع إلى العُرف في غير تلك الطريق.

(وإن شرط) المستأجر (حمل زاد مُقدَّر، كمائة رطل، وشرط) المستأجر (أن يُبْدِل منها ما نقص بالأكل، أو غيره، فله ذلك) لصحة الشرط.

(وإن شرط ألَّا يبدله، فليس له إبداله) عملًا بالشرط (فإن ذهب بغير الأكل، كسرقة، أو سقوط) ضاع به (فله إبداله) أي: إبدال ما سرق، أو ضاع.

(وإن أطلق العقد) فلم يشترط إبدالًا، ولا عدمه (فله إبدال ما ذهب بسرقة وأكل، ولو معتادًا كالماء) لأنه استحق حمل مقدار معلوم، فمَلَكه مطلقًا، وتقدم بعضه.

(ويصح كَرْي العُقبة، بأن يركب شيئًا ويمشي شيئًا) لأنه إذا جاز اكتراؤها في الجميع، جاز في البعض (وإطلاقها يقتضي ركوب نصف

(1)

في "ح" زيادة: "العقد".

ص: 111

الطريق) حملًا على العُرف.

(ولابُدَّ من العلم بها) أي: العُقبة (إما بالفراسخ) بأن يركب ميلًا، أو فرسخًا، ويمشي آخر (وإما بالزمان، مثل أن يركب ليلًا، ويمشي نهارًا، أو بالعكس، أو يمشي يومًا، ويركب يومًا، فإن طلب) من استأْجَر ليركب يومًا ويمشي يومًا (أن يمشي ثلاثة أيام، ويركب ثلاثة) أيام (لم يكن له ذلك) بغير رضا المؤجر (لأنه يضرُّ بالمركوب) لتعب الراكب.

(فإن كان الراكب اثنين) بأن استأجرا جملًا يتعاقبان عليه، جاز، و (كان الاستيفاء إليهما على ما يتفقان عليه) لأن الحق لا يعدوهما.

(فإن تشاحَّا في البادئ بالركوب) منهما (أُقرع) بينهما؛ لأنه لا مرجِّح لأحدهما على الآخر، فتعينت القُرعة، وإن تشاحَّا في الركوب، قسم بينهما، لكل واحد منهما فراسخ معلومة، أو لأحدها الليل وللآخر النهار، وإن كان لذلك عُرفٌ رُجع إليه.

فصل

(والإجارة عقد لازم من الطرفين) لأنها عقد معاوضة كالبيع، ولأنها نوع من البيع، وإنما اختصت باسم كالصَّرف والسَّلَم (يقتضي) عقدها (تمليك المؤجر الأجرة، و) تمليك (المستأجر المنافع) كالبيع، فـ (ـــــليس لأحدهما فسخها بعد انقضاء الخيار) أي: خيار المجلس أو الشرط (إن كان) خيار على ما تقدم تفصيله في باب الخيار

(1)

(إلا أن

(1)

(7/ 411، 418 - 419).

ص: 112

يجد) المستأجر (العينَ معيبةً عيبًا لم يكن) المستأجر (علم به) حال العقد (فله الفسخ) قال في "المغني" و"المبدع": بغير خلاف نعلمه؛ لأنه عيب في المعقود عليه، فأثبت الخيار كالعيب في المبيع. وكذا لو حدث العيب عند مستأجر، كما يأتي.

(والعيب الذي يُفسخ به) في الإجارة (ما تنقص به المنفعة، ويظهر به تفاوت الأجرة) فيفسخ بذلك. (إن لم يَزُل) العيب (بلا ضرر يلحقه) أي: المستأجر، كما تقدم في البيع

(1)

.

ثم ذكر أمثلة العيب، فقال:(كأن تكون الدابة جَموحًا، أو عَضوضًا، أو نَفورًا، أو شموسًا، أو بها عَيب، كتعثُّر الظهر في المشي، وعرجٍ يتأخر به عن القافلة، ورَبْض) أي: بروك (البهيمة بالحِمل، أو يجدَ) المستأجرُ (المكترَى للخدمة ضعيف البصر، أو به جنون، أو جذام، أو برص، أو مرض، أو يجد) المستأجرُ (الدارَ مهدومة الحائط، أو يخاف من سقوطها، أو انقطاع الماء من بئرها، أو تغيره بحيث يمنع الشرب والوضوء) فيثبت له خيار الفسخ -ولا يعارضه ما قدَّمته عن "الانتصار" من أنه لا فسخ له بذلك؛ لإمكان حمله على أنه لا يحصُل الفسخ بمجرد ذلك بقرينة السياق؛ لأنه لو كان هو المعقود عليه، لانفسخت الإجارة بمجرد انقطاعه؛ لتعذُّر المعقود عليه، بخلاف ما إذا قلنا: يدخل تبعًا، فإنه لا ينافي ثبوت الخيار بانقطاعه- (وأشباهِ ذلك) من العيوب.

(فإن رضي) المستأجرُ (بالمُقام، ولم يفسخ) الإجارة (لزمه جميع الأجرة) المُسماة، ولا أرش له.

(1)

(7/ 449).

ص: 113

(وإن اختلفا) أي: المؤجر والمستأجر (في الموجود: هل هو عَيب، أو لا؟ رُجع) فيه (إلى أهل الخبرة، مثل أن تكون الدابة خشنة المشي، أو أنها تُتْعِبُ راكبها؛ لكونها لا تُركب كثيرًا، فإن قالوا) أي: أهل الخبرة (هو عيب، فله الفسخ، وإلا؛ فلا) فسخ له، ويكفي فيه اثنان منهم، على قياس ما يأتي في الشهادات.

(وهذا) أي: ما ذكر من الفسخ (إذا كان العقد على عينها) أي: عين المعيبة (فإن كانت) المؤجَرة (موصوفة في الذِّمة، لم ينفسخ العقد) بردِّها لكونها معيبة (وعلى المُكري إبدالها) بسليمة، كالمسلَم فيه؛ لأن إطلاق العقد إنما يتناول السليم.

(فإن عجز) المكري (عن إبدالها، أو امتنع منه) أي: من إبدالها (ولم يمكن إجباره) عليه (فللمكتري الفسخ -أيضًا-) استدراكًا لما فاته.

وعُلم مما تقدم: أن الإجارة الصحيحة ليس للمؤجر ولا غيره فسخها لزيادة حصلت، ولو كانت العين وقفًا. قال الشيخ تقي الدين: باتفاق الأئمة، وإذا التزم المستأجر بهذه الزيادة على الوجه المذكور، لم تلزمه اتفاقًا، ولو التزمها بطيب نفسٍ منه، بناء على أن إلحاق الزيادة والشروط بالعقود اللازمة لا تلحق؛ ذكره في "الاختيارات"

(1)

.

(وإن فسخها المستأجر من غير عيب) ولا خيار غيره (وترك الانتفاع بالمأجور قبل تَقَضِّي المدة، لم تنفسخ) الإجارة (وعليه الأجرة، ولا يزول ملكه عن المنافع) بل تذهب على ملكه؛ لما تقدم

(2)

من أنها عقد لازم.

(ولا يجوز للمؤجر التصرُّف فيها) أي: في العين المؤجرة، سواء

(1)

ص / 225.

(2)

(9/ 112).

ص: 114

ترك المستأجر الانتفاع بها أو لا؛ لأنها صارت مملوكة لغيره، كما لا يملك البائع التصرف في المبيع إلا أن يوجد منهما ما يدل على الإقالة.

(فإن تصرَّف) المؤجر في العين المؤجرة (ويد المستأجر عليها، بأن سكن) المؤجر (الدارَ، أو أجرَها لغيره) بعد تسليمها للمستأجر (لم تنفسخ) الإجارة بذلك؛ لما مَرَّ.

(وعلى المستأجر جميع الأجرة) لأن يده لم تَزُل عن العين (وله) أي: المستأجر (على المالك أجرة المِثْل لما سكنه، أو تصرَّف فيه) لأنه تصرَّف فيما ملكه المستأجر عليه بغير إذنه، فأشبه تصرُّفه في المبيع بعد قبض المشتري له، وقبضُ العين هنا قامَ مقام قبض المنافع.

(وإن تصرَّف المالك قبل تسليمها) أي: العين المؤجرة (أو امتنع منه) أي من التسليم (حتى انقضت المدة، انفسخت الإجارة) بذلك. قال في "المغني" و"الشرح": وجهًا واحدًا؛ لأن العاقد قد أتلف المعقود عليه قبل تسليمه، فأشبه تلف الطعام قبل قبضه.

(وإن سَلَّمها) أي: سَلَّم المؤجرُ العينَ المؤجرة (إليه) أي: المستأجر (في أثنائها) أي. المدة (انفسخت) الإجارة (فيما مضى) من مدة الإجارة (وتجب أجرة الباقي بالحِصة) أي: بالقسط من المُسمَّى.

(وإن حوَّله المالك قبل تَقَضِّي المدة) المؤجرة (أو منعه بعضَها) أي: بعض المدة (أو امتنع إلى الأجير من تكميل العمل، أو من التسليم في بعض المدة أو المسافة، لم يكن له) أي: المؤجر، ولا الأجير (أجرة لما فعل) الأجير (أو سكن) المستأجر (نصًّا

(1)

) قبل أن يحوله المؤجر؛ لأن

(1)

مسائل الكوسج (6/ 2915) رقم 2142، والقواعد الفقهية ص / 65، القاعدة الخامسة والأربعون.

ص: 115

كلّا منهم لم يُسلِّم إلى المستأجر ما وقع عليه عقد الإجارة، فلم يستحق شيئًا، كمن استأجر إنسانًا ليحمل له كتابًا إلى بلد معين، فحمله بعض الطريق فقط، أو ليحفر له عشرين ذراعًا، فحفر له عشرة وامتنع من حفر الباقي.

(وإن هرب الأجيرُ) قبل إكمال العمل، لم تنفسخ الإجارة (أو شردت الدابة) المؤجرة، لم تنفسخ الإجارة (أو أخذها). أي: المؤجرة (المؤجر، وهَرَبَ بها) لم تنفسخ الإجارة (أو منعه) أي: منع المؤجر المستأجر (من استيفاء المنفعة من غير هرب، لم تنفسخ الإجارة) بذلك؛ للزومها (ويثبت له) أي: المستأجر (خيار الفسخ) استدراكًا لما فاته.

(فإن فسخ، فلا كلام، وإن لم يفسخ) المستأجر الإجارة (وكانت) الإجارة (على مدة، انفسخت) الإجارة (بمضيها يومًا فيومًا) لفوات المعقود عليه.

(فإن عادت العين) المؤجرة (في أثنائها استوفى) المستأجر (ما بقي) من المدة؛ لبقاء الإجارة فيه.

(وإن انقضت) المدة كلها قبل عودها (انفسخت) الإجارة لفوات المعقود عليه.

(وإن كانت) الإجارة (على عمل في الذِّمة، كـ) ـأن استؤجر لـ (ـخياطة ثوب ونحوه) كبناء حائط (أو) استؤجر لـ (ـحمل) شيء (إلى موضع معيَّن) ثم هرب الأجير قبل إتمام العمل (استؤجر من ماله) أي: استأجر الحاكمُ من مال الأجير (مَن يعمله) كما لو أسلم إليه في شيء فهرب قبل أدائه؛ لأن له ولاية على الغائب والممتنع، فيقوم عنهما بما وجب عليهما من مالهما.

ص: 116

(فإن تعذَّر) بأن لم يكن له مال (فله) أي: المستأجر (الفسخُ) وله الصبر إلى أن يقدر عليه، فيطالبه بالعمل؛ لأن ما في ذمته لا يفوت بهربه.

(فإن لم يفسخ) المستأجر (وصبر) حتى وجد الأجير (فله مطالبته بالعمل متى أمكن) لبقائه في ذمته.

(وكل موضع امتنع الأجير من) إتمام (العمل فيه) فلا أجرة له لما عمل (أو) أي: وكلُّ موضع (مَنَعَ المؤجرُ المستأجرَ من الانتفاع) بالعين المؤجرة (إذا كان بعد عمل البعض، فلا أجرة له فيه، على ما سبق) لأنه لم يسلِّم له ما تناوله عقد الإجارة، فلم يستحق شيئًا (إلا أن يَرُدَّ المؤجرُ العينَ) للمستأجر (قبل انقضاء المدة) فله الأجرة؛ لأنه سَلّمَ العين، لكن يسقط منها أجرة المدة التي احتبسها المؤجر؛ لانفساخ الإجارة فيه، كما تقدم.

(أو) إلا أن (يُتمم الأجيرُ العمل، إن لم يكن) العقدُ (على مدة قبل فسخ المستأجر، فيكون له أجر ما عمل) لكونه وفَّى بالعمل.

(فأما إن شردت الدابة، أو تعذَّر استيفاء المنفعة بغير فعل المؤجر، فله) أي: المؤجر (من الأجر بقَدْرِ ما استوفى) المستأجر (بكل حال) سواء عادت العين في المدَّة، أو لم تعد؛ لأن للمكري فيه عذرًا.

(وإن هرب الجمَّال ونحوه بدوابه) في بعض الطريق، أو قبل الدخول فيها (استأجر عليه الحاكم إلى أن يرجع، وباع ماله في ذلك) إن وجد له مالًا؛ لأن له الولاية على الغائب (فإن تعذَّر) بأن لم يكن حاكم، أو كان وتعذَّر الإثبات عنده، أو لم يجد ما يكتريه، أو وجده ولم يجد ما يكتري به، فللمستأجر الفسخ (أو كانت الدواب معيَّنة في العقد،

ص: 117

فللمستأجر الفسخ) لأنه تعذَّر عليه قبض المعقود عليه، ولم يجز إبدالها؛ لأن العقد وقع على عينها (ولا أجرة) للجَمَّال ونحوه (لما مضى) قبل هربه؛ لكونه لم يوفِ المعقود عليه.

فإن فسخ وكان الجمَّال ونحوه قَبَضَ الأجرة، فهي دَين في ذمته، وإن اختار المُقام، وكانت على عملٍ في الذمة، فله ذلك ومطالبته متى قَدر عليه.

وإن كانت مدة، وانقضت في هربه، انفسخت الإجارة.

وإن كان العقد على موصوف غير معيَّن، لم ينفسخ العقد، ويرفع الأمر إلى الحاكم، فإن وجد له مالًا اكترى به، كما سبق، وإلا؛ اقترض عليه ما يكتري به، فإن دفعه له ليكتري لنفسه، جاز، وإن كان القرض من المكتري، جاز وصار دَينًا في ذمة الجَمَّال.

(وإن هرب) الجَمَّالُ أو نحوه (أو مات، وترك بَهائِمَه، وله مال، أنفق عليها الحاكم من ماله) أي: مال الجَمَّال ونحوه، إن كان (ولو ببيع ما فضل منها) -أي: البهائم- عمَّا وقع عليه العقد (لأن علفها وسقيها عليه) أي: على مالكها، وهو غائب، والحاكم نائبه، وكذا يستأجر الحاكم من مال الجَمَّال مَن يقوم مقامه في الشَّدِّ عليها وحفظها، وفعل ما يلزمه فعله.

(فإن لم يمكن) بأن لم يوجد له مال (استدان) الحاكم (عليه) ما ينفقه عليها؛ لأنه موضع حاجة.

(أو أذن) الحاكم (للمستأجر في النفقة) على البهائم؛ لأن إقامة أمين غير المستأجر تشق، وتتعذَّر مباشرته كل وقت.

(فإذا انقضت) الإجارة (باعها) أي: البهائم (الحاكمُ ووفَّى المنفِقَ)

ص: 118

-من مستأجر أو غيره- ما أنفقه؛ لأن فيه تخليصًا لذِمَّة الجمَّال، وإيفاء لحق صاحب النفقة (وحَفِظ باقي ثمنها لصاحبها) لأن الحاكم يلزمه حفظ مال الغائب.

(فإن لم يستأذن) المنفقُ، من مستأجر أو غيره (الحاكمَ، وأنفق بنية الرجوع، رجع) على ربِّها بما أنفقه؛ لأنه قام عنه بواجب غيرَ متبرِّع به، وتقدم في الرهن

(1)

(وإلا) ينو الرجوع (فلا) رجوع له؛ لأنه متبرعٌ.

(ولا يُعتبر الإشهاد على نيته

(2)

الرجوع، صحَّحه في "القواعد"

(3)

) وكذا لا يُعتبر تعذَّر استئذان الحاكم.

(وإذا رجع) ربُّ البهائم (واختلفا فيما أنفق، وكان الحاكم قدَّر النفقة، قُبِل قولُ المكتري في) إنفاق (ذلك) الذي قدَّره

(4)

الحاكم؛ لأنه أمين (دون ما زاد) على ذلك، فلا يُقبل قوله فيه (وإن لم يقدِّر) الحاكم (له) أي: المستأجر، نفقة (قُبِل قوله) أي: المستأجر (في قَدرِ النفقة بالمعروف) لأنه أمين.

(وتنفسخ الإجارة بتلف العين المعقود عليها) كعبدٍ مات؛ لأن المنفعة زالت بالكلية بتلف المعقود عليه، فانفسخت، سواء كان قبل قبضها أو عقبه، ولا أجرة (فإن تلفت) العين (في أثنائها، انفسخت) الإجارة (فيما بقي) من المدة خاصة، وله من المُسمَّى بالقسط.

(وتنفسخ) الإجارة للرضاع (بموت الصبي المرتضع) لأنه تعذَّر استيفاء المعقود عليه، لكون غيره لا يقوم مقامه، لاختلافهم في

(1)

(8/ 213).

(2)

في متن الإقناع (2/ 526): "نية".

(3)

ص / 143 القاعدة الخامسة والسبعون.

(4)

في "ذ" زيادة "له" بعد "قدره".

ص: 119

الرضاع، وقد يدرّ اللبن على ولد دون آخر، فإن كان موته عقب العقد زالت الإجارة من أصلها، ورجع المستأجر بالأجر كله، وإن كان بعد مضي مدة، رجع بحصة ما بقي، وكذا لو امتنع الرضيع من الشرب من لبنها؛ ذكره المجد.

(و) تنفسخ -أيضًا- (بموت المرضعة) لفوات المنفعة بهلاك محلها.

(و) تنفسخ -أيضًا- بـ (ـانقلاع الضرس الذي اكترَى لقلعه، أو بُرئه) لتعذُّر استيفاء المعقود عليه، كالموت (ونحوه) كاستئجار طبيب ليداويه، فيبرأ أو يموت، فتنفسخ فيما بقي، فإن امتنع المريض من ذلك مع بقاء المرض، استحق الطبيب الأجرة بمضي المدة، وإن شارطه على البرء فهي جعالة، ولا يستحق شيئًا من أجرة حتى يوجد البرء؛ ذكره في "الإنصاف" (كما تقدم في الباب

(1)

).

و (لا) تنفسخ (بموت راكب، ولو لم يكن له من يقوم مقامه في استيفاء المنفعة) بأن لم يكن له وارث، أو كان غائبًا، كمن يموت بطريق مكة؛ لأن المعقود عليه إنما هو منفعة الدابة دون الركب؛ لما تقدم

(2)

من أن مستأجر الدابة للركوب له أن يُركِب من يماثله، وإنما ذكر الراكب لتُقدَّر به المنفعة، كما لو استأجر دابة ليحمل عليها هذا القنطار القطن فتلف، لم تنفسخ، وله أن يحملها من أي قطن كان.

(وإن اكترى دارًا) ونحوها (فانهدمت) في أثناء المدة، انفسخت فيما بقي (أو) اكترى (أرضًا للزرع، فانقطع ماؤها مع الحاجة إليه،

(1)

(9/ 97).

(2)

(9/ 98).

ص: 120

انفسخت) الإجارة (فيما بقي من المدة) لأن المقصود بالعقد قد فات، أشبه ما لو تلف.

(وكذا لو انهدم البعض) من الدار ونحوها، انفسخت الإجارة فيما انهدم، وسقط عن المستأجر قسطه من الأجرة (ولمُكترٍ الخيار في البقية) لتفرُّق الصفقة عليه.

(فإن أمسك) البقية (فبالقِسْط من الأجرة) فتقسَّط الأجرة على ما انهدم، وعلى ما بقي، ويلزمه قسط الباقي.

(وإن أجره أرضًا بلا ماء) صح؛ لأنه يتمكَّن من زرعها رجاء الماء، ومن النزول، ووضع رَحْلِه، وجمع الحطب فيها (أو) أجره أرضًا، و (أطلق) بأن لم يقل: ولا ماء لها (مع علمه) أي: المستأجر (بحالها) وأنه لا ماء لها (صح) لما سبق.

وفسَّر الإطلاق في "شرح المنتهى" بأن قال: أجرتك هذه الأرض مدة كذا بكذا، ولم يُقيد النفع. وقيَّد قوله قبلها: وإن أجره أرضًا بلا ماء ليزرعها المستأجر، وهما يعلمان أن لا ماء لها.

و (لا) تصح الإجارة، إن أجره أرضًا لا ماء لها (إن ظَنَّ المستأجرُ إمكان تحصيل الماء) أو لم يعلم أنها لا ماء لها؛ لأنه ربما دخل في العقد بناء على أن المؤجر يحصُل له ماء، وأنه يكتريها للزراعة مع تعذُّرها.

(وإن علم) وجود الماء بالأمطار ونحوها (أو ظن وجوده بالأمطار، أو زيادة) النيل ونحوه (صح) العقد؛ لأن حصوله معتاد، والظاهر وجوده (وتقدم

(1)

) ذلك (في الباب) بأوضح من هذا.

(1)

(9/ 99 - 100).

ص: 121

فصل

(ومتى زَرَعَ؛ فغرِق) الزرع (أو تلِف) الزرع (بحريقٍ، أو جراد، أو فأر، أو بَرْد، أو غيره قبل حصاده، أو لم تُنبت، فلا خيار، وتلزمه الأجرة، نصًّا

(1)

) لأن التالف غيرُ المعقود عليه، وسببه غير مضمون على المؤجر (ثم إن أمكن المُكتري الانتفاعُ بالأرض بغير الزرع، أو بالزرع في بقية المُدَّة، فله ذلك) لأنه ملك المنفعة إلى انقضاء مدته.

(وإن تَعذَّر زرعُها) أي: المؤجرة (لغرق الأرض) المؤجرة (أو قَلَّ الماء قبل زَرعها، أو بعده، أو عابت بغرقٍ يعيب به بعض الزرع، فله الخيار) لحصول ما تنقص به منفعة العين المؤجرة.

ثم إن اختار الفسخ، وقد زرع، بقي الزرع في الأرض إلى الحصاد، وعليه من المُسمَّى بحصته إلى حين الفسخ، وأجر المثل لما بقي من المدة لأرض متصفه بالعيب الذي ملك الفسخ من أجله.

والأرضُ الغارقة بالماء التي لا يمكن زَرعُها قبل انحساره، وهو تارة ينحسر وتارة لا ينحسر، لا يصح عقد الإجارة عليها إذًا؛ لأن الانتفاع بها في الحال متعذر لوجود المانع، وفي المآل غير ظاهر؛ لأنه لا يزول غالبًا.

(ولا تنفسخ) الإجارة (بموت المُكري و) موت (المُكتري) معًا (أو) بموت (أحدهما) لأنها عقد لازم، فلم تنفسخ بموت العاقد مع سلامة المعقود عليه، إلا إذا مات الموقوف عليه وقد أجرَ؛ لكون

(1)

المغني (8/ 64)، وانظر: مسائل الكوسج (6/ 2907) رقم 2134.

ص: 122

الوقف

(1)

عليه، ولم يشرط الواقف ناظرًا، كما تقدم

(2)

.

(ولا) تنفسخ -أيضًا - (بعذر لأحدهما) أي: المكري، أو المكتري (مثل أن يكتري للحج، فتضيع نفقته، أو) يكتري (دكانًا) يبيع فيه متاعه (فيحترق متاعه) لأنه عقد لا يجوز فسخه لغير عُذْر، فلم يجز لعُذر من غير المعقود عليه، كالبيع. ويفارق الإباق؛ فإنه عُذر في المعقود عليه (وتقدمَّ بعضه) في الباب

(3)

.

(وإن غُصبت العين المستأجرة، فإن كانت) الإجارة (على عين موصوفة في الذِّمة) بأن أجره دابة صفتها كذا وكذا، ثم سَلَّمه عينًا بتلك الصفات، فغُصِبت (لزمه) أي: المؤجر (بدلُها) لأن العقد على ما في الذمة لا عليها.

(فإن تعذَّر) بدلُها على المؤجر (فله) أي: المستأجر (الفسخ) وله الصبر إلى القدرة عليها أو على بدلها، وتنفسخ بمضي المدة إن كانت على مدة.

(وكذا لو تلفت) الموصوفة في الذمة (أو تعيبت) فيلزم المؤجر بدلها، فإن تعذَّر، فللمستأجر الفسخ، كما لو تعذر تسليم المبيع.

(وإن كانت) الإجارة (على عين معينة لعمل) بأن أجره هذه الدابة ليركبها إلى كذا، أو هذه الأمَة لتخيط له ثوبًا معلومًا، فغُصِبت (خُيِّر مستأجر بين فسخ، وصَبْرٍ إلى أن يقدِرَ عليها) لأن الحق في ذلك له، فإذا أخَّره، جاز.

(1)

في "ح": "الموقوف".

(2)

(9/ 74).

(3)

(9/ 120).

ص: 123

(وإن كانت) الإجارة (على) عين معيَّنة إلى (مدة) معلومة؛ بأن قال: أجرتك هذا العبد للخدمة شهرًا، فغُصِب (خير) مستأجر (بين فسخ) العقد؛ لتعذر تسليم المعقود عليه (و) بين (إمضاء) أي: إبقاء العقد بلا فسخ (ومطالبةِ غاصب بأجرة مِثل) ولا ينفسخ العقد بمجرد الغصب؛ لأن المعقود عليه لم يفت مطلقًا، بل إلى بدل، وهو القيمة، أشبه ما لو أتلف الثمرةَ المبيعة آدميٌّ، وحيث ثبت له الخيار، فله الفسخ (ولو متراخيًا، ولو بعد فراغ المدة) لأنه فسخ لاستدراك ظلامة، فهو كالفسخ لعيب في المبيع.

(فإن فسخ) المستأجر (فعليه أجرة ما مضى) قبل الفسخ من المُسمَّى؛ لاستقراره عليه (وإن رُدَّت العين) المغصوبة (في أثنائها) أي: مدة الإجارة (قبل الفسخ، استوفى) المستأجر (ما بقي) من مدته (وخُير فيما مضى) والعين بيد الغاصب.

(وإن كان الغاصب هو المؤجر، فلا أجرة له) سواء كانت الإجارة على عمل، أو إلى مدة، وسواء كانت على عين معيَّنة، أو موصوفة، وسواء كان غَصْبُه لها قبل المدة، أو في أثنائها (فليس حكمه حكم الغاصب الأجنبي) حيث لم تكن يَدُ المستأجر عليها، كما تقدم

(1)

(وقد عُلم، ذلك (مما تقدم

(1)

) من قوله: "وإن حوَّله المالك قبل تَقضِّي المدة" إلى قوله: "لم يكن له أجرة لما فعل أو سكن، نصًّا".

(ولو أتلف المستأجر العين) المؤجرة (ثبت ما تقدم من) ملك (الفسخ) إذا كانت على موصوفة في الذمة وتعذَّر البدل (أو الانفساخ) إذا

(1)

(9/ 115).

ص: 124

كانت على معينة؛ لتعذُّر تسليم المعقود عليه (مع تضمينه) أي: المستأجر (ما أتلف) من العين.

‌(ومثله جَبُّ

(1)

المرأة زوجَها، تَضمَنُ) الدية (ولها الفسخُ) للعيب

وهو الجب.

(ولو حدث خوفٌ عام يمنع من سُكنَى المكان الذي فيه العين المستأجرة، أو حُصِرَ البلدُ، فامتنع خروج المستأجر إلى الأرض) التي استأجرها ليزرعها (فله الفسخ) لأنه أمر غالب مَنَعَ المستأجر استيفاء المنفعة، فيثبت به الخيار، كالغصب.

(وإن كان الخوف خاصًّا بالمستأجر، كمن خاف وحدَه لقُرب أعدائه من الموضع المأجور، أو حلولهم في طريقه، أو مرِضَ، أو حُبِس) ولو ظلمًا (لم يملك الفسخ) لأنه عُذر يختصُّ به، لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية؛ لأن له أن يؤجر لمن يقوم مقامه.

(ولو اكترى دابة ليركبها) إلى موضع معين (أو) اكتراها لـ (ـيحمل عليها إلى موضع معيَّن، فانقطعت الطريق إليها) أي: إلى جهة ذلك الموضع المعيَّن (لخوفٍ حادثٍ، أو اكترى إلي مكة، فلم يحج الناسُ ذلك العام من تلك الطريق، ملك كلٌّ منهما) أي: من المؤجر المستأجر (فسخ الإجارة) لما تقدم (وإن اختارا) أي: المؤجر والمستأجر (بقاءها) أي: الإجارة (إلى حين إمكان استيفاء المنفعة، جاز) لأن الحق لا يعدوهما.

(ومن استؤجر لعمل شيء في الذِّمة، ولم يُشترط عليه مباشرته، فمرض، وجب عليه أن يقيم مقامه من يعمله) ليخرج من الحق الواجب

(1)

الجَبّ: القطع، وهو استئصال المذاكير. المصباح المنير ص / 122، مادة (جبب).

ص: 125

في ذمته، كالمسلَم فيه (والأجرة عليه) أي: على المريض؛ لأنها في مقابلة ما وجب عليه، ولا يلزم المستأجرَ إنظارُه؛ لأن العقد بإطلاقه يقتضي التعجيل (إلا فيما يختلف فيه القصد كنسخٍ، فإنه يختلف باختلاف المخطوط، ولا يلزم المستأجر قَبوله) أي: قَبول عمل غيره؛ لأن الغرض لا يحصُل به.

(وإن تعذَّر عمل الأجير، فله) أي: المستأجر (الفسخ) لتعذُّر وصوله إلى حقه (وإن شرط) المستأجر (عليه) أي: على الأجير (مباشرته، فلا استنابة إذًا) لوجود الشرط.

(وإن مات) الأجير (في بعضها) أي: في أثناء مدة الإجارة (بطلت) الإجارة (فيما بقي) لفوات المعقود عليه بهلاك محله (وإن كانت الإجارة على عَينهِ في مدة، أو غيرها) بأن استأجر عبدًا معينًا، أو إنسانًا معينًا ليخيط له شهرًا، أو ليبني له هذا الحائط (فمرض) الأجير (لم يقم غيرُه مقامَه) لوقوع العقد على عينه، كالمبيع المعين.

(وإن وجد) المستأجر (العين) المؤجرة (معيبة، أو حدث بها) عنده (عيبٌ يظهر به تفاوت الأجرة -وتقدم

(1)

التنبيه على بعضه قريبًا-) فله الفسخ؛ لأن المنافع لا يحصُل قبضها إلا شيئًا فشيئًا، فإذا حدث العيب فقد وُجِد قبل قبض الباقي من المعقود عليه، فأثبت الفسخ فيما بقي منها.

(أو استأجر دارًا جارُها رجلُ سوءٍ) أو امرأة كذلك (ولم يعلم) المستأجر (فله الفسخ) بذلك كالبيع (إن لم يَزُل) العيب (سريعًا، بلا ضرر يلحقه) أي: المستأجر.

(1)

(9/ 113).

ص: 126

فإن انسدت البالوعة، فأراد المستأجر الرَّدَّ، قال المؤجر: أنا أفتحها، وكان زمنا يسيرًا لا تتلف فيه منفعة تضر بالمستأجر، لم يكن له الخيار.

(و) إذا فسخ المستأجر الإجارة للعيب، فـ (ـعليه أجرة ما مضى) قبل الفسخ؛ لاستقراره عليه (و) للمستأجر -أيضًا- (الإمضاء بلا أرش) للعيب؛ لأنه رضي به ناقصًا، وفيه وَجْه: له الأرْش كالبيع. قال ابن نصر الله: وقد تعبنا

(1)

فلم نجد بينهما فرقًا (فلو لم يعلم) المستأجر بالعيب (حتى انقضت المدة، لزمته الأجرة كاملة، ولا أَرْش له) للعيب، كما لو علم واختار الإمضاء.

(ويصح بيع العين المؤجرَة) سواء أجرها مدة لا تلي العقد، ثم باعها قبل دخولها، أو باعها في أثناء المدة؛ لأن الإجارة عقد على المنافع، فلا تمنع صحة البيع، كلما لو زَوَّج أَمَتَهُ، ثم باعها (و) يصح -أيضًا- (رهنها) لأنه يصح بيعها.

(ولمشتريها) أي: المؤجرة الخيار بين (الفسخ، والإمضاء مجانًا، إذا لم يعلم) أنها مؤجرة، وفي "الرعاية": الفسخ أو الأرش. قال أحمد

(2)

. هو عيب. وهو ظاهر ما تقدم.

(ولا تنفسخ) الإجارة (بشراء مستأجرها) أي: العين المؤجرة؛ لأنه كان مالكًا للمنفعة، ثم ملك الرقبة، ولا تنافي بينهما (ولا) تنفسخ الإجارة -أيضًا- (بانتقالها) أي: العين المؤجرة (إليه) أي: إلى المستأجر (بإرث، أو هبة، أو وصية، أو صداق، أو عوض في خلع، أو

(1)

في "ح": "تتبعنا" بدل "تعبنا".

(2)

مسائل الميموني كما في الاختيارات الفقهية ص / 230، والفروع (4/ 442).

ص: 127

صلح، ونحوه) كجعالة، وطلاق، وعتق؛ لعدم التنافي بين ملك الرقبة والمنفعة (فيجتمع لبائع على مشتر) للعين المؤجرة عليه (الثمن والأجرة) لأن عقد البيع لم يشمل المنافع الجارية في ملكه بعقد التآجر؛ لأن شراء الإنسان ملك نفسه محال.

(وإن اشترى المستأجر العين) المؤجرة (فوجدها معيبة، فردَّها) أي: رَدَّ شراءها للعيب (فالإجارة بحالها) لأنهما عقدان، فإذا فسخ أحدهما بقي الآخر.

(وإن كان المشتري) للعين المؤجرة (أجنبيًّا) فالأجرة من حين البيع له، نص عليه

(1)

في رواية جعفر بن محمد، واستُشكل بكون المنافع مدة الإجارة غيرَ مملوكة للبائع، فلا تدخل في عقد البيع حتى إن المشتري يكون له عوضُها، وهو الأجرة.

وأُجيب عن ذلك: بأن المالك يملك عوضها وهو الأجرة، ولم تستقر بعد: ولو انفسخ العقد لرجعت المنافع إلى البائع، فيقوم المشتري مقام البائع فيما كان يستحقه منها، وهو استحقاق عوض المنافع مع بقاء الإجارة؛ قاله في "شرح المنتهى". وفي "المغني" ما يقتضي أن الأجرة للبائع، وهو واضح لأنه ملكها بالعقد (فـ) ـإن (رَدَّ المستأجر) الأجنبي (الإجارة) لعيبٍ ونحوه (عادت المنفعة) في باقي المدة (إلى البائع) دون المشتري؛ لأن عقده لم يتناولها لعدم ملك البائع لها إذ ذاك.

(ولو وهب) المعير (العينَ المستعارة) أو باعها ونحوه (للمستعير، بطلت العارية) لأنها عقد جائز بخلاف الإجارة.

(ولو باع) الوارثُ (الدارَ التي تَستحقُّ المُعتدةُ للوفاة سُكناها، وهي

(1)

القواعد الفقهية ص / 47، القاعدة السادسة والثلاثون.

ص: 128

حامل، فقال الموفَّق: لا يصح بيعها. وقال المجد: قياس المذهب الصحة. قال في "الإنصاف": وهو) أي: قول المجد (الصواب) كبيع المؤجرة.

فصل

(والأجير) قسمان: خاص، ومشترك.

فـ (ـالخاص: من قُدِّر نفعُه بالزمن) بأن استؤجر لخدمة، أو عمل في بناء، أو خياطةٍ، يومًا، أو أسبوعًا ونحوه (كما تقدم

(1)

) في الباب (يستحقُّ المستأجرُ نفعه في جميع المدة المقدَّر نفعُهُ بها) لا يشركه فيها أحد، فإن لم يستحق نفعه في جميع الزمن، فمُشْتَرَك -كما يأتي- (سوى) زمن (فعل الصلوات الخمس في أوقاتها بسُننَها) أي: المؤكدات؛ قاله في "المستوعب"(و) سوى (صلاة جمعة وعيد) فإن أزمنة ذلك لا تدخل في العقد، بل هي مستثناة شرعًا. قال المجد في "شرحه": ظاهر النص

(2)

: يمنع من شهود الجماعة إلا بشرط أو إذن (سواء سَلَّم نفسَه للمستأجر) بأن كان يعمل عند المستأجر (أوْ لا) بأن كان يعمل في بيت نفسه.

(ويَستحق) الأجيرُ الخاص (الأجرةَ بتسليم نفسه، عمل، أو لم يعمل) لأنه بذل ما عليه، كما لو بذل البائع العينَ المبيعة.

(وتتعلق الإجارة بعينه) كالمبيع المعين (فلا يستنيب) الأجير الخاص (وتقدم قريبًا

(3)

.

(1)

(9/ 77 - 78).

(2)

انظر: الإرشاد ص / 213.

(3)

(9/ 126).

ص: 129

ولا ضمان عليه فيما يتلف في يده) نص عليه

(1)

؛ لأنه نائب المالك في صَرْف منافعه إلى ما أمر به، فلم يضمن، كالوكيل؛ ولأن عمله غير مضمون عليه، فلم يضمن ما تلف به، كالقصاص (إلا أن يتعمَّد) الإتلاف (أو يُفرِّط) فيضمن؛ لأنه إذًا كالغاصب.

(وليس له) أي: الأجير الخاص (أن يعمل لغيره) أي: غير مستأجره؛ لأنه يفوِّت عليه ما استحقه بالعقد.

(فإن عَمِل) الأجير الخاص لغير مستأجره (وأضرَّ بالمستأجر، فله) أي: المستأجر (قيمةُ ما فوَّته) من منفعه (عليه) بعمله لغيره. قال أحمد

(2)

في رجل استأجر أجيرًا على أن يحتطب له على حمارين كل يوم، فكان الرجل ينقل عليهما، وعلى حمير لرجل آخر ويأخذ منه الأجرة: فإن كان يدخل عليه ضرر يرجع عليه بالقيمة.

قال في "المغني": فظاهر هذا أن المستأجر يرجع على الأجير بقيمة ما استضر باشتغاله عن عمله. قال: ويحتمل أنه أراد أنه يرجع عليه بقيمة ما عمله لغيره.

وقال القاضي: معناه يرجع بالأجر الذي أخذه من الآخر؛ لأن منافعه في هذه المدة مملوكة لغيره، فما حصل في مقابلتها يكون للذي استأجره. انتهى. وعُلم منه: أنه إذا لم يستضر لا يرجع بشيء؛ لأنه اكتراه لعمل، فوفَّاه على التمام.

(والأجير المُشَتَرَك من قُدِّر نفعُهُ بالعمل) كخياطة ثوب، وبناء حائط، وحمل شيء إلى مكان معين، أو على عمل في مدة لا يستحق

(1)

انظر: مسائل الكوسج (6/ 2698) رقم 1906، والإرشاد ص / 211.

(2)

المغني (8/ 40).

ص: 130

نفعه في جميعها، كالطبيب، والكحَّال (ويتقبل الأعمال) لجماعة في وقت واحد، يعمل لهم، فيشتركون في نفعه، فلذلك سُمِّي مُشتَرَكًا (فتتعلَّق الإجارة بذمته) لا بعينه (ولا يستحق الأجرة إلا بتسليم عمله) دون تسليم نفسه، بخلاف الخاص.

(ويضمن) الأجير المُشترَك (ما تلف بفعله، ولو بخطئه، كتخريق القصَّار الثوبَ) من دَقِّه، أو مَدِّه، أو عصره، أو بسطه (وغلطه) أي: الخيَّاط (في تفصيله، ودفعه إلى غير ربه) روي عن عمر

(1)

، وعلي

(2)

(1)

أخرج عبد الرزاق (8/ 217) رقم 14949، وابن أبي شيبة (6/ 285)، وسحنون في المدونة (4/ 388) عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن عمر رضي الله عنه كان يضمن الصناع الذين انتصبوا للناس في أعمالهم ما أهلكوا في أيديهم. ضعَّفه الشافعي في الأم (7/ 96)، ونقله عنه البيهقي (6/ 122)، وفي معرفة السنن والآثار (8/ 339) رقم 12118.

(2)

أخرج الشافعي في الأم (7/ 96)، وعبد الرزاق (8/ 217) رقم 14948، وابن أبي شيبة (6/ 285 - 286)، والبيهقي (6/ 122)، وفي معرفة السنن والآثار (8/ 339) رقم 12121 عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه أنه كان يضمن القصار والصواغ، وقال: لا يصلح الناس إلا ذلك.

وأخرج عبد الرزاق (8/ 218) رقم 14950، من طريق جابر الجعفي، عن الشعبي، أن عليًّا وشريحًا كانا يضمنان الأجير.

وأخرج البيهقي (6/ 122) عن خلاس أن عليًّا كان يضمن الأجير.

وأخرج ابن أبي شيبة (6/ 126، 285)، عن [ابن] عبيد بن الأبرص أن عليًّا ضمن نجارًا.

قال الشافعي: وقد يروى من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ضمن الغسال والصباغ

ويروى عن عمر تضمين بعض الصناع من وجه أضعف من هذا، ولم نعلم واحدًا منهما يثبت.

وقال البيهقي: حديث جعفر عن أبيه عن علي مرسل، وأهل العلم بالحديث يضعفون حديث خلاس عن علي، وقد روى جابر الجعفي -وهو ضعيف- عن الشعبي قال: كان علي يضمن الأجير، والله أعلم.

ص: 131

رضي الله عنهما؛ لأن عمله مضمون عليه لكونه لا يستحق العوض إلا بالعمل، فإن الثوب لو تلف في حرزه بعد عمله لم يكن له أجرة فيما عمل فيه -بخلاف الخاص- وما تولد منه يجب أن يكون مضمونًا، كالعدوان بقطع عضو.

(ولا يحل لقابضه) أي: الثوب (لُبْسُه، ولا الانتفاع به) إذا علم أنه ليس ثوبه، وعليه رده إلى القصَّار.

(وإن قطعه) قابض (قبل علمه) أنه ثوب غيره (غَرِم أرش نقصه و) أجرة (لُبْسِه) لتعديه على ملك غيره (ويرجع) القابض (به) أي: بما غَرِمه (على القصَّار) لأنه غَرَّه، ولرَبِّ الثوب الطلب بثوبه إن كان موجودًا، وإن هلك ضَمِنَهُ القابض، ولربِّه تضمين القصَّار لأنه حال بينه وبين ماله، هذا قياس كلامهم. والله أعلم.

(وكزلق حمَّال وسقوط) الحمل (عن دابته) أو رأسه (أو تلف) الحمل (من عثرته) أي: الحامل، من آدمي، أو بهيمة، فيضمن ذلك، كما تقدم.

(و) يضمن -أيضًا- (ما تلف بقَوْدِه، وسَوْقه، وانقطاع حبله الذي يشد به حِمْلَه، وكذا طبَّاخ، وخبَّاز، وحائك، وملَّاح سفينة، ونحوهم) من الأجراء المشترَكين، فيضمنون ما تلف بفعلهم؛ لما تقدم، سواء (حضر ربُّ المال، أو غاب) وسواء كان يعمل في بيت المستأجر، أو في بيته؛ لأن ضمانه لجنايته. واختار القاضي في "المجرد" وأصحابُه أنه يضمن إن عمل في بيت نفسه، لا في بيت المستأجر.

ولو كان القصَّار، ونحوه متبرِّعًا بعمله، لم يضمن جناية يده؛ نص عليه

(1)

؛ لأنه أمين محض، فإن اختلفا في أنه أجير، أو متبرِّعٌ فقوله: إنه متبرِّعٌ؛ ذكره المجد في "شرحه".

(1)

مسائل حرب، كما في معونة أولي النهى (5/ 136).

ص: 132

(ولا ضمان عليه) أي: الأجير المشترك (فيما تلف من حِرْزِهِ) بنحو سرقة (أو) تلف (بغير فعله) لأن العين في يده أمانة، أشبه المودَع (ولا أجرة له) أي: الأجير المشترك (فيما عمله) وتلف قبل تسليمه لربه (سواء عمله في بيت المستأجر، أو) في (بيته) لأنه لم يُسلِّم عمله للمستأجر، فلم يستحق عوضه، كالمبيع من الطعام، إذا تلف في يد بائعه. لكن كلام "المنتهى" الآتي في الفصل بعده يخالفه.

(وإذا استأجر) إنسان (قصَّابًا) أي: جزَّارًا (يذبح له شاة، فذبحها ولم يُسَمِّ) عليها عمدًا (ضَمِنها) لتحريم أكلها، فإن تركها سهوًا حَلَّت ولا ضمان.

(وإن استأجر مُشترَك خاصًّا) كالخياط في دكان يستأجر أجيرًا فأكثر مدة معلومة يستعمله فيها (فلكلٍّ) من الخاص والمشترك (حكم نفسه) فإذا تقبل صاحب الدكان خياطة ثوب، ودفعه إلى أجيره؛ فَخَرَقه أو أفسده بلا تعدٍّ ولا تفريط، لم يضمنه؛ لأنه أجير خاص، ويضمنه صاحب الدكان لمالكه؛ لأنه أجير مُشترَك.

(وإن استعان) المشترك (به) أي: بالخاص (ولم يعمل) المشترك (فله) أي: المشترك (الأجرة لأجل ضمانه، لا لتسليم العمل) وتقدم في الشركة

(1)

أن التقبل يوجب الضمان على المتقبل، ويستحق به الربح.

(ولا ضمان على حجَّام، ولا بزَّاغ، -وهو البَيْطار- ولا خَتَّان، ولا طبيب ونحوهم) ككحَّال (خاصًّا كان أو مشترَكًا، إذا عُرف عنهم حِذْق) الصنعة (ولم تجن أيديهم) لأنه فعل فعلًا مباحًا، فلم يضمن سرايته،

(1)

(8/ 534).

ص: 133

كحده؛ لأنه لا يمكن أن يقال: اقطع قطعًا لا يسري، بخلاف: دق دقًّا لا يخرقه، فإن لم يكن لهم حِذْق في الصنعة ضَمِنوا؛ لأنهم لا يحل لهم مباشرة القطع إذًا، فإذا قطع فقد فعل مُحرَّمًا، فضمن سرايته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"منْ تطبَّبَ بغيرِ علمٍ فهو ضامنٌ" رواه أبو داود

(1)

.

ومحل عدم الضمان -أيضًا- (إذا أذِنَ فيه مكلَّف، أو وليّ غيره، حتى في قطع سِلْعة

(2)

ونحوها، ويأتي) في الجنايات، فإن لم يأذن،

(1)

في الديات، باب 25، حديث 4586. وأخرجه -أيضًا- النسائي في القسامة، باب 41، حديث 4885، وفي الكبرى (4/ 241، 248) حديث 7034، 7068، وابن ماجه في الطب، باب 16، حديث 3466، وابن أبي عاصم في الديات ص / 64، وابن عدي في الكامل (5/ 1767)، والإسماعيلي في المعجم (2/ 634 - 635) حديث 265، والدارقطني (3/ 195، 4/ 216)، والحاكم (4/ 313)، والبيهقي (8/ 141) من طرق، عن الوليد بن مسلم، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في الجامع الصغير (2/ 510 مع الفيض) ورمز لصحته.

وقال أبو داود: هذا لم يروه إلا الوليد، لا ندري هو صحيح أم لا؟

وقال البيهقي: كذا رواه جماعة عن الوليد بن مسلم، ورواه محمود بن خالد، عن الوليد، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يذكر أباه. ورواية محمود بن خالد أخرجها النسائي في القسامة، باب 41، حديث 4846، وفي الكبرى (4/ 241) حديث 7035، لكن في المطبوع منهما ذكر "عن أبيه" ونظنه خطأ مطبعيًّا، فإن المزي قال في تحفة الأشراف (6/ 325) حديث 8746: وليس في حديث محمود "عن أبيه". انظر -أيضًا- الكامل لابن عدي (5/ 1767).

وقال الدارقطني: لم يسنده عن ابن جريج غير الوليد، وغيره يرويه عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب مرسلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

السلعة: زيادة تحدث في البدن كالغُدَّة أو الخُراج تتحرك إذا حُرِّكت، وقد تكون من حِمِّصة إلى بطيخة. القاموس المحيط ص / 729، مادة (سلع).

ص: 134

فَسَرَتْ، ضمن؛ لأنه فِعْل غير مأذون فيه، فضمن. واختار في "الهدي"

(1)

: لا يضمن، لأنه محسن.

(فإن) أذن فيه، وكان حاذقًا، لكن (جنت يده ولو خطأ، مثل أن جاوز قطع الختان إلى الحشفة، أو إلى بعضها) أي: الحشفة (أو قطع في غير مَحلِّ القطع، أو قطع سِلْعة، فتجاوز موضع القطع، أو قطع بآلة كالَّةٍ يكثر ألمها؛ أو في وقت لا يصلح القطع فيه، وأشباه ذلك، ضمن) لأن الإتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ.

قال ابن القيم في "تحفة المودود"

(2)

: فإن أذن له أن يختنه في زمن حَرٍّ مفرط، أو برد مفرط، أو حال ضعف يخاف عليه منه، فإن كان بالغًا عاقلًا، لم يضمنه؛ لأنه أسقط حقه بالإذن فيه، وإن كان صغيرًا ضَمنه؛ لأنه لا يُعتبر إذنه شرعًا، وإن أذن فيه وليه، فهذا موضع نظر، هل يجب الضمان على الولي، أو الخاتن؟ ولا ريب أن الولي متسبِّب، والخاتن مباشر، فالقاعدة تقتضي تضمين المباشر؛ لأنه يمكن الإحالة عليه، بخلاف ما إذا تعذَّر تضمينه.

(وإن ختن صبيًّا) ذكرًا أو أنثى (بغير إذن وليه) ضمن سرايته (أو قَطَعَ سِلْعة من مكلَّف بغير إذنه) ضمن السراية (أو) قطع سِلْعة (من صبي بغير إذن وليه، فسَرت جنايته، ضمن) لأنه غير مأذون فيه (وإن فعل ذلك الحاكم) بالصبي (أو) فعله (وليُّه، أو فعله مَن أذِنا) أي: الحاكم أو الولي (له فيه، لم يضمن) لأنه مأذون فيه من ذي الولاية.

(ولا ضمان على راع فيما تلف من الماشية، إذا لم يتعد، أو يفرِّط

(1)

زاد المعاد (4/ 141).

(2)

ص / 244.

ص: 135

في حفظها) لأنه مؤتمن على الحفظ، أشبه المودع؛ ولأنها عين قبضت بحكم الإجارة، أشبهت العين المستأجرة.

(فإن فعل) أي: فرَّط الراعي في حفظها (بنوم أو غفلة، أو تركها تتباعد عنه، أو تغيب عن نظره وحفظه، أو) تعدَّى بأن (أسرف في ضَربها، أو ضَرَبَها في غير موضع الضرب، أو) ضَرَبها (من غير حاجة إليه) أي: الضرب (أو سلك بها موضعًا تتعرَّض فيه للتلف) لنحو خوف (وما أشبه ذلك، ضمن) الراعي التالف. قال في "المبدع": بغير خلاف.

(وفي "الفصول": يلزم الراعي توخي) أي: تحرِّي (أمكنة المرعى النافع، وتوقي النبات المُضر، و) يلزمه (رَدُّها عن زرع الناس، و) يلزمه (إيرادها الماء، إذا احتاجت إليه على الوجه الذي لا يضرها شربه، ودفع السباع عنها، ومنع بعضها عن بعض قتالًا ونطحًا، فيرد الصائلة عن المصول عليها، والقرناء عن الجمَّاء، والقوية عن الضعيفة، فإذا جاء المساء وجب عليه إعادتها إلى أربابها. انتهى) وهو واضح.

(وإن اختلفا) أي: ربُّ الماشية والراعي (في التعدي) أو التفريط (وعدمه) بأن ادَّعى ربُّها أن الراعي تعدى، أو فرَّط، فتلفت، وأنكر الراعي (فـ) ـالقول (قول الراعي) بيمينه؛ لأنه أمين، والأصل براءته (فإن) فعل الراعي فعلًا و (اختلفا في كونه تعديًا، رُجع) فيه (إلى أهل الخبرة) لأنهم أدرى به.

(وإن ادَّعى) الراعي (موتَ شاة ونحوها، قُبِل قوله) بيمينه (ولو لم يأتِ بجلدها، أو شيء منه) لأنّه مؤتمن.

(ومثله) أي: الراعي في قَبول قوله في التلف، وعدم التعدي، أو التفريط، وفي عدم الضمان ونحوه مما تقدم (مستأجر الدابة) إذا ادَّعى

ص: 136

تلفها، أو أنه لم يفرِّط، قُبِل قوله، ولا ضمان عليه؛ لأنه مؤتمن.

(ويجوز عقد الإجارة على رعي ماشية معينة) بأن يقول: استأجرتُك لترعى هذه الماشية (وعلى) رعي (جنس) موصوف (في الذمة) بأن يقول: استأجرتك لرعي إبل، أو بقر، أو غنم، ويصفُها (يرعاها) مدة معلومة (فإن كانت) الإجارة (على) ماشية (معينة تعيَّنت، فلا يُبدِلها) المستأجر بغيرها، كالمبيع المعين (ويبطل العقد فيما تلف منها) لهلاك محل المنفعة، ويسقط من الأجرة قسط ما تلف (وله أجر ما بقي بالحصة، ونماؤها في يده أمانة) لا يضمنه إذا تلف، إن لم يتعدَّ أو يفرط.

(وإن عقد على) رعي شيء (موصوف في الذِّمة، ذكر جنسه ونوعه) فيقول: (إبلًا، أو بقرًا، أو غنمًا) ويقول في الإبل: بخاتي أو عِراب، وفي البقر: بقرًا أو جواميس، وفي الغنم:(ضأنًا، أو معزًا. و) يذكر (كبره، وصغره، وعدده وجوبًا) لأن الغرض يختلف باختلاف ذلك، فاعتُبر العِلم به إزالة للجهالة.

(ولا يلزمه) أي: الراعي (رعي سخالها) سواء كانت على معيَّنة، أو موصوفة؛ لأن العقد لم يتناولها (فإن أطلق ذِكر البقر، و) ذِكْر (الإبل، لم يتناول) العقد (الجواميس والبخاتِيَّ) حملًا على العُرْف.

(وإن حبس الصانع الثوب على أجرته بعد عمله) أي: قَصره، أو خياطته، أو صبغه، ونحوه (فتلف) ضمنه؛ لأنه لم يَرهنه عنده، ولا أذن له في إمساكه؛ فلزمه الضمان كالغاصب (أو أتلفه) أي: أتلف الصانع الثوبَ بعد عمله، ضمنه (أو عمل) الصانع (على غير صفة شرطه) أي: ربّ الثوب (ضَمِنه) الصانع لجنايته (وخير مالك) لأن الجناية على ماله، فكانت الخِيرَة إليه دون غيره (بين تضمينه) أي: الصانع (إيَّاه) أي: الثوب

ص: 137

(غير معمول، ولا أجرةَ له) لأن الأجرة إنما تجب بالتسليم، ولم يوجد (وبين تضمينه) الثوب (معمولًا، ويدفع إليه الأجرة) لأنه لو لم يدفع إليه الأجرة، لاجتمع على الأجير فوات الأجرة وضمان ما يقابلها، ولأن المالك إذا ضمَّنه ذلك معمولًا يكون في معنى تسليم ذلك معمولًا، فيجب أن يدفع إليه الأجرة لحصول التسليم الحكمي.

(ويُقدَّم قولُ رَبِّه) أي: الثوب (في صفة عمله) أي: إذا اختلفا في صفة العمل بعد تلف الثوب ليغرمه للعامل، فالقول قول ربِّه؛ لأنه غارم (ذكره ابن رزين) واقتصر عليه في "المبدع".

(ومثله) أي: ما ذكر (تلف) ما بيد (أجير مشترك) بعد عمله، إذا تلف على وجه مضمون عليه، خُيِّر المالك بين تضمينه معمولًا ويدفع الأجرة، وتضمينه غير معمول ولا أجرة.

(و) كذا (ضمان المتاع المحمول) إذا تلف على وجه يضمنه الحامل (يُخيَّر رَبُّه بين تضمينه) أي: الحامل (قيمته في الموضع الذي سلَّمه إليه) فيه (ولا أجرة له)، لأنه لم يسلِّم عمله (وبين تضمينه في الموضع الذي أفسده) الحامل، أو فسد بنحو تعديه فيه (وله) أي: الحامل حينئذ (الأجرة إلى ذلك المكان) الذي تلف فيه؛ لأن تضمينه قيمته فيه في معنى تَسلُّمه به.

(وإن أفلس مستأجر) أي: لو اشترى ثوبًا -مثلًا- ودفعه لصانع عمله (ثم جاء بائعه يطلبه) بعد فسخه البيع لوجود متاعه عند من أفلس (فللصانع حَبْسُهُ) على أجرته؛ لأن الحمل الذي هو عِوضها موجود في عين الثوب، فملك حَبْسه مع ظهور عسرة المستأجر، كمن أجَّر دابته، أو نحوها لإنسان بأجرة حالة، ثم ظهرت عسرة المستأجر، فإن للمؤجر

ص: 138

حَبْسها عنده وفسخ الإجارة، ثم إن كانت أجرته أكثر مما زادت به قيمته أخذ الزيادة وحاصص الغرماء بما بقي له من الأجرة.

(والعينُ المستأجرة أمانةٌ في يد المستأجر، إن تلفت بغير تَعَدٍّ ولا تفريط، لم يضمنها) لأنه قبض العين لاستفاء منفعة يستحقها منها، فهو مؤتمن، كالموصى له بنفعِ عينٍ (والقول قوله) بيمينه (في عدم التعدي) لأنه الأصل.

(وإن شرط المؤجر على المستأجر ضمان العين، فالشرط فاسدٌ) لمنافاته مقتضى العقد.

(فإن شرط) المؤجر (ألَّا يسير بها) المستأجر (في الليل، أو) ألّا يسير بها (وقتَ القائلة، أو) أن (لا يتأخَّر بها عن القافلة، أو) أن (لا يجعل سيره في آخرها؛ وأشباه هذا مما فيه غرض، فخالف) المستأجرُ (ضَمِن) لمخالفته الشرط الصحيح، كما لو شرط عليه ألا يحمِّلها إلا قفيزًا، فحمَّلها قفيزين.

(وإذا ضرب المستأجرُ الدابةَ، أو) ضربها (الرائضُ -وهو الذي يعلمها السير- بقَدْرِ العادة، أو كبحَها) المستأجر أو الرائض (باللِّجام، أي جذبها لتقِفَ، أو ركضها برجله، لم يضمن) إذا تلفت (لأن له ذلك بما جرت به العادة) فإن زاد على العادة ضَمِنَ؛ لأنه غير مأذون فيه نُطقًا وعُرفا.

(ويجوز له) أي: المستأجر (إيداعها في الخان، إذا قَدِمَ بلدًا وأراد المضي في حاجته، وإن لم يستأذن المالك في ذلك) نُطقًا؛ لأنه مأذون فيه عُرفًا. قلت: وكذلك إذا ذهب بها من حارة إلى حارة.

(وإذا اشترى طعامًا في دار رجل، أو) اشترى (خشبًا، أو ثمرة) أو زرعًا (في بستان، فله أن يُدخل ذلك -من الرجال والدواب- من يحوِّل)

ص: 139

له (ذلك، و) من (يقطف) له (الثمرة، وإن لم يأذن المالك) لأنه العُرف والعادة.

(وكذا)

‌ يجوز للمستأجر (غسل الثوب المستأجَر إذا اتَّسخ)

قلت: أو تنجَّس؛ لأنه العُرف (ويأتي إذا أدَّبَ ولده، ونحوه) كزوجته وصبيه (في آخر الديات) مفصَّلًا.

(وإن قال) الخياطُ لربِّ الثوب: (أذِنت لي في تفصيله قباء، فقال) رب الثوب: (بل قميصًا) فقول خيَّاطِ (أو) قال الخياط: أذنتَ في تفصيله (قميص امرأة، فقال) ربِّ الثوب: (بل قميص رجل، فقول خياط) بيمينه؛ لأن الأجير والمستأجر اتفقا على الإذن، واختلفا في صفته، فكان القول قول المأذون، كالمضارب إذا قال: أذنتَ لي في البيع نسَاءً، ولأنهما اتفقا على ملك الخيَّاط القَطعَ، والظاهر أنه فعل ما مَلَكه، واختلفا في لزوم الغرم له، والأصل عدمه.

(بخلاف وكيل) إذا ادعى أنه أذن له في البيع ونحوه، لم يُقبل؛ لأن الأصل عدم الإذن. وإن ثبتت وكالته، واختلفا في صفة الإذن؛ فقوله، كما تقدّم في الوكالة

(1)

، كالمضارب؛ لأن الأصل براءته. وعبارته موهمة. والله أعلم.

(وله) أي: الخيَّاط (أجرة مِثله) لأنه ثبت وجود فِعْله المأذون فيه، ولا يستحق المُسمَّى؛ لأنه لا يثبت بمجرد دعواه.

(ومثله) أي: الخيَّاط (صَبَّاغ ونحوه) كصائغ وغيره من الأجراء (اختلف هو) أي: الصَّبَّاغ (وصاحب الثوب في لون الصبغ) بأن قال: أذِنتَ لي في صبغه أسود، قال ربُّ الثوب: بل أحمر، ونحوه، فيُقبل

(1)

(8/ 457).

ص: 140

قول الصبَّاغ، وله أجرة مِثْله.

(ولو قال) ربُّ ثوبٍ لخياط: (إن كان الثوب يكفيني) قميصًا، أو قباء (فاقطَعْه وفصِّله، فقال) الخيَّاط: (يكفيك، ففصَّله) الخياط (ولم يكفه، ضَمِنه) أي: ضمن أرش تقطيعه؛ لأنه إنما أذنه في قطعه بشرط كفايته؛ فقطعه بدون شرطه.

(ولو قال: انظر هل يكفيني قميصًا) أو قباء؟ (فقال: نعم، فقال: اقطَعه، فقطعه، فلم يكفه، لم يضمنـ) ـه؛ لأنه أذنه من غير اشتراط، بخلاف التي قبلها.

(ولو أمره) أي: أمر ربُّ ثوبٍ الخيَّاطَ (أن يقطع الثوب قميص رجل، فقطعه قميص امرأة، فعليه غُرم ما بين قيمته صحيحًا ومقطوعًا) لتعديه بقطعه كذلك.

(وإذا دفع إلى حائك غزلًا، فقال) ربُّ الغزل: (انسجهُ لي عشرة أذرع في عرض ذراع، فنسجه زائدًا على ما قدره له في الطول والعرض، فلا أجر له) أي: الحائك (في الزيادة) لأنه غير مأمور بها (وعليه ضمان ما نقص الغزلَ المنسوج فيها) لتعديه (فأما ما عدا الزائد، فإن كان جاءه زائدًا في الطول وحده ولم ينقص الأصل بالزيادة، فله المسمَّى) من الأجر.

وإن جاء به زائدًا في العَرض وحده، أو فيهما ففيه وجهان:

أحدهما: لا أجْرَ له؛ لأنه مخالفٌ لأمرِ المستأجر.

والثاني: له المُسمَّى؛ لأنه زاد على ما أمر به، فأشبه زيادة الطول.

ومن قال بالأول فَرَّقَ بين الطول والعرض: بأنه يمكن قطع الزائد في الطول، ولا يمكن ذلك في العرض.

وإن جاء به ناقصًا في الطول والعرض، أو في أحدهما، ففيه

ص: 141

وجهان أيضًا:

أحدهما: لا أجر له، وعليه ضمان نقص الغزل لمخالفته.

والثاني: له بحصته من المُسمَّى.

وإن جاء به زائدًا في أحدهما ناقصًا في الآخر، فلا أجر له في الزائد، وهو في الناقص على ما ذكرنا من التفصيل؛ قاله الموفَّق.

(ولو ادَّعى) المستأجر (مرض العبد) المؤجر (أو إباقه، أو شرود الدَّابة) المؤجرة (أو موتها بعد فراغ المُدَّة، أو فيها) أي: المدة (أو) ادَّعى (تلف المحمول، قُبِل قوله) لأنه مؤتمن (ولا أُجرة عليه إذا حَلَف أنه ما انتفع) بالعين المؤجرة.

(فإن اختلفا) أي: المؤجر والمستأجر (في قَدْر الأجرة) المُسمَّاة (فكاختلافهما في قَدرِ الثمن في البيع) فيتحالفان، وتقدم

(1)

في البيع.

(وإن اختلفا في قَدر مدة الإجارة كقوله: آجرتُك سنة بدينار، قال) المستأجر: (بل سنتين بدينارين، فقول المالك) لأنه منكر للزائد. وكما تقدم

(2)

إذا اختلفا في قدرِ المبيع.

(وإن قال) المستأجر: (آجرتنيها سنة بدينار، قال) المؤجر: (بل بدينارين، تحالفا) لأنهما اختلفا في قدرِ الأجرة (ويُبدأ بيمين الآجر) ويجمع في يمينه إثباتًا ونفيًا، فيقول: ما أجرتكها بدينار، بل بدينارين، ثم يعكس المستأجر، لأن الإجارة نوع من البيع.

(فإن كان) التحالف (قبل مضي شيء من المدة، فسخا) أو أحدُهما (العقد، ورجع كل واحد منهما في ماله) لأن العقد ارتفع.

(1)

(7/ 480).

(2)

(7/ 488).

ص: 142

(وإن رضي أحدُهما بما حلف عليه الآخر، أُقر العقد) لأنه لا ينفسخ بالتحالف، بل بالفسخ بعده.

(وإن فسخا) أو أحدهما (العقد بعد) مضي (المدة، أو) مضي (شيء منها، سقط المُسمَّى، ووجب أجر المِثْل) لتعذُّر رَدِّ المنفعة، كما لو اختلفا في المبيع بعد تلفه.

(وإن قال) المؤجر: (آجرتُكها سنة بدينار، قال) المستأجر: (بل سنتين بدينار، تحالفا، وصارا كما لو اختلفا في العوض مع اتفاق المدَّة) لأنه لم يوجد الاتفاق منهما على مدة بعوض.

(وإن قال) ربُّ الدار: (آجرتُك الدَّار سنة بدينار. فقال الساكن: بل استأجرتني على حفظها بدينار، فقول ربِّ الدار) بيمينه، إلا أن يكون للساكن بينة؛ لأن الأصل براءته، والأصل في القابض لماله غيره الضمان، فيحلف كلٌّ منهما على نفي ما ادعاه الآخرُ، ويغرم الساكنُ أجرة المِثل لمدة سُكناه فقط، هذا مقتضى القواعد.

فصل

(وتجب الأجرة بنفس العقد، فتثبتُ في الذمة، وإن تأخرت المطالبة بها) لأنها عوض أطلق في عقد معاوضة، فملك بمطلق العقد كالثمن والصداق (وله الوطء إذا كانت الأجْرة أمَة) لأنه ملكها بالعقد، (سواء كانت) الإجارة (إجارة عين) كعبد ودار معينة (أو في الذِّمة) سواء اشترط الحلول أو أطلق، وسواء كانت المدة تلي العقد، أو لا.

وأما قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}

(1)

، وقوله

(1)

سورة الطلاق الآية: 6.

ص: 143

- صلى الله عليه وسلم: "ورجلٌ استأجرَ أجيرًا، فاستوفى منهُ ولم يُوفِّهِ أجرهُ"

(1)

، فيحتمل أنه أراد الإيتاء عند الشروع في الرضاع، أو تسليم نفسها، وكذلك الحديث، ويحققه: أن الإيتاء في وقت لا يمنع وجوبه قبله؛ لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}

(2)

، والصداق يجب قبل الاستمتاع؛ وهذا هو الجواب عن الحديث. ويدلُّ له: أنه إنما توعد على ترك الإيفاء بعد الفراغ من العمل، وقد قلتم: تجب الأجرة شيئًا فشيئًا. قال في "المغني": ويحتمل أنه توعده على ترك الإيفاء في الوقت الذي تتوجَّه المطالبة فيه عادة.

(وتُستحق) الأجرةُ (كاملةً) أي: يملك المؤجِر المطالبة بهما.

(ويجب) على المستأجر (تسليمُها بتسليم العين) معيَّنة كانت في العقد، أو موصوفة في الذِّمة (لمستأجر) لأن تسليم العين يجري مجرى تسليم نفعها، (أو بذلِها له) -بأن يأتي المؤجر بالعين للمستأجر؛ ليستوفي ما وقع عليه عقد الإجارة من منفعتها، فيمتنع من تسلُّمِها- لأنه فعل ما عليه، كما لو بذل البائع العينَ المبيعة (أو بفراغ عمل بيد مستأجِر ويدفعه إليه) أي: إلى المستأجِر (بعد عمله) هكذا في "التنقيح".

قال في "المغني": وإنما توقف استحقاق تسليمه على العمل؛ لأنه عوض، فلا يُستَحَق تسليمه إلا مع تسليم المعوَّض، كالصداق، والثمن في البيع.

وعبارة "المنتهى" و"شرحه": وتستقر بعمل ما بيد مستأجِر،

(1)

أخرجه البخاري في البيوع، باب 106، حديث 2227، وفي الإجارة، باب 10، حديث 2270، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

سورة النساء، الآية:24.

ص: 144

كطبَّاخ استؤجر لطبخ شيء في بيت المستأجِر، فطبخه وفرغ منه، وبدفع غيره أي: غير ما بيد مستأجِر، كما لو اتفقا على أن الطباخ يطبخ ما استؤجِر على طبخه في داره، فيستحق الأجرة عند إتيانه إلى المستأجِر معمولًا؛ لأنه في الحالتين قد سَلَّم ما عليه، فاستحَق تسليم عوضه، وهو الأجرة. انتهى. وهو معنى كلامه في "المبدع".

ومحل وجوب تسليم الأجرة (إن لم تؤجَّل) فإن أُجِّلت لم يجب بذلها حتى تحل، كالثمن والصداق.

(ولا يجب تسليم أجرة العمل في الذمة حتى يتسلَّمه) المستأجر، وإن وجبت بالعقد، وعلى هذا وردت النصوص ولأن الأجير إنما يوفَّى أجرَه إذا قضى عمله؛ لأنه عوض، فلا يستحق تسليمه إلا مع تسليم المعوَّض، كالصَّداق والثمن، وفارق الإجارة على الأعيان؛ لأن تسليمها أجري مجرى تسليم نفعها، ومتى كانت على عمل في الذمة لم يحصُل تسليم المنفعة، ولا ما يقوم مقامها.

(وتستقر) الأجرة (بمضي المدَّة) حيث سلِّمت إليه العين التي وقعت الإجارة عليها، ولا حاجز له عن الانتفاع، ولو لم ينتفع؛ لأن المعقود عليه تلف تحت يده وهو حقه، فاستقر عليه بدله، كثمن المبيع إذا تلف في يد المشتري.

(أو) أي: وتستقر الأجرة -أيضًا- (بفراغ العمل) هكذا في "التنقيح"، والمراد أن كان الأجير يعمل ببيت المستأجر، وإلا؛ فبتسليمه معمولًا، كما تقدم.

وتستقر الأجرة -أيضًا- ببذل تسليم عين لعمل في الذِّمة، إذا مضت مدة يمكن الاستيفاء فيها؛ كما لو قال: اكتريتُ منك هذه الدابة

ص: 145

لأركبها إلى بلدِ كذا بكذا، ذهابًا وإيابًا، وسلَّمها إليه المؤجر، ومضت مدة يمكن فيها ذهابه إلى ذلك البلد، ورجوعه على العادة، ولم يفعل؛ نقل ذلك في "المغني" عن الأصحاب؛ لأن المنافع تلفت تحت يده باختياره، فاستقرَّ الضمان عليه.

(وإذا انقضت الإجارة، وفي الأرض) التي كانت مؤجرة (غراس، أو بناء شُرِط قلعه عند انقضائها) أي: الإجارة، لزم قلعُه مجَّانًا (أو) كان شرط قلعه (في وقت) معيَّن (لزم) المستأجر (قلعُه) أي: الغراس، أو البناء في محل الشرط، وفاء بموجب شرطه.

فإن قلت: إذا كان إطلاق العقد فيهما يقتضي التأبيد، فشرط القلع ينافي مقتضى العقد، فيفسد.

أُجيب: بأن اقتضاءه التأييد إنما هو من حيث إن العادة تبقيتهما، فإذا أطلقا حُمِل على العادة، فإذا شرط خلافه جاز -كما لو باع بغير نقد البلد- وحينئذ يقلع (مجانًا، فلا تجب على ربِّ الأرض غرامة نقص) الغراس أو البناء.

(ولا) يجب (على مستأجر تسوية حفر) أرض (ولا إصلاح أرض) لأنهما دخلا على ذلك لرضاهما بالقلع (إلا بشرط) لما تقدم، فإن اتفقا على إبقائه بأجرة أو غيرها، جاز إذا شرطا مدة معلومة.

(وإن لم يُشتَرط قلعه) بأن أطلقا الإجارة (أو شُرِط بقاؤه) أي: الغراس أو البناء (فلمالك الأرض؛ أخذه بالقيمة إن كان ملكه) للأرض (تامًّا) ويأتي مفهومه، فيدفع قيمة الغراس أو البناء، فيملكه مع أرضه؛ لأن الضرر يزول بذلك (ويأتي في الشفعة كيف يُقَوَّم الغراسُ والبناءُ) وذلك بأن تقوَّم الأرض مغروسة أو مبنية، ثم تقوَّم خالية، فما بينهما قيمة الغراس والبناء.

ص: 146

(وإن كان المستأجر شريكًا في الأرض شركةً شائعة، فبنى أو غرس) بعد أن استأجر حصة شريكه (ثم انقضت المدةُ، فللمؤجر أخذُ حصةِ نصيبهِ من الأرض والبناء والغراس) يعني: إن كان يملك نصف الأرض، أخذ نصف الغراس، أو البناء بنصف قيمته، أو: الربعَ، أخذ ربعهما بربع القيمة، وهكذا. ولو قال:"من البناء" لكان صوابًا، كما هي عبارة ابن نصر الله التي هي أصله.

(وليس له) أي: الشريك المؤجر (إلزامُه) أي: الشريك المستأجر (بالقلع) ولو ضمن له نقص ما في نصيبه (لاستلزامه قَلْعَ ما لا يجوز قَلْعُه) لعدم تمييز ما يخص نصيبه من الأرض من الغراس والبناء، والضرر لا يُزال بالضرر؛ قاله ابن نصر الله.

(ولا يتملَّكُه) أي: الغراس أو البناء، بعد انقضاء مدة الإجارة (غيرُ تام الملك، كالموقوف عليه والمستأجر) والموصى له بالمنفعة؛ لقصور ملكه، ولذلك لا يأخذ بالشُّفعة؛ هذا تخريج لابن رجب

(1)

.

وفي "الفائق": لو كانت الأرض وقفًا لم يتملك إلا بشرط واقف، أو رضا مستحق. وقال في "التنقيح": بل إذا حصل به نفع كان له ذلك. انتهى.

ويأتي في الوقف أن الموقوف عليه له تملك زرع الغاصب بالنفقة. ومقتضى كلامه: أنه لا فَرْق.

وكذلك جوَّز ابن رجب -أيضًا- أن يقال للمستأجر: تملك الزرع بنفقته، إذ هو مالك المنفعة.

وخرَّج -أيضًا- على ذلك: ما إذا غُصبت الأرض الموصى بمنافعها، أو المستأجرة، وزُرع فيها؛ فهل يتملَّك الزرع مالك الرقبة، أو

(1)

القواعد الفقهية ص / 154، القاعدة السابعة والسبعون.

ص: 147

مالك المنفعة؟ ذكره في القاعدة التاسعة والسبعين

(1)

.

وقال في كتابه المُسمَّى بـ"أحكام الخراج"

(2)

، فيما إذا خرج من بيده الأرض الخراجية منها؛ وله غراس أو بناء فيها: فهل يقال: للإمام أن يتملكه للمسلمين من مال الفيء، إذا رآه أصلح، كما يتملك ناظر الوقف ما غُرِس فيها، أو بُني بالقيمة بعد انقضاء المدة؟ ولا يبعد جوازه، بل أَولى من ناظر الوقف؛ للاختلاف في ملك الموقوف عليهم لرقبة الوقف، وأما المسلمون فإنهم يملكون رقبة أرض العنوة، فظاهره جوازه للناظر مطلقًا، إذا رآه مصلحة. انتهى.

(ولا) يتملكه (مُرْتَهِنٌ) لأنه لا ملك له، وإنما له حق الاستيثاق.

وقوله: (أو تَرْكه بالأجرة، أو قلعه) أي: الغراس أو البناء (وضمان نَقْصِه) عطف على أخذه بقيمته؛ لما فيه من الجمع بين الحقين.

(ولصاحب الشجر) أو البناء (بيعه لمالك الأرض ولغيره) لأن ملكه عليه تام، فله التصرُّف فيه بما شاء (فيكون) المشتري غيرُ مالك الأرض (بمنزلته) أي: المستأجر.

(وفي "التلخيص" وغيره: إذا اختار المالك القلع وضمانَ النقص فـ) ـمؤنة (القلع على المستأجر) وجزم به في "المنتهى"؛ لأن عليه تفريغ العين المؤجرة مما أشغلها به من ملكه، ولو كان ذلك بأمر المالك (وليس عليه) أي: المستأجر (تسوية حفر؛ لأن المؤجر دخل على ذلك. انتهى.

ومحل) كون (الخيرَة في ذلك لربِّ الأرض، ما لم يختر مالكُه قَلْعَه، فإن اختاره) مالكُه (فله ذلك) وليس لمالك الأرض منعه ليتملكه

(1)

القواعد الفقهية، ص / 164.

(2)

ص / 120.

ص: 148

بقيمته، أو ليجب عليه أجر مثله بتبقيته؛ لأنه ملك مالكه، فكان له أخذه من العين المؤجرة كغيره من المملوكات.

(وعليه) أي: المستأجر إن اختار القلع دون ربِّ الأرض (تسوية الحفر) لأنه أدخل نقصًا على ملك غيره بغير إذنه، فكان عليه مؤنة إزالته.

(وظاهر كلامهم، كما قاله صاحب "الفروع": لا يَمنَع الخِيرَةَ -من أخذ ربِّ الأرض له، أو قلعه وضمان نقصه، أو تركه بالأجرة- كونُ المستأجر) فاعلُ "لا يمنع"(وقَفَ ما غرسه، أو بناه) ولو على مسجد (فإذا لم يتركه) ربُّ الأرض (في الأرض، لم يبطل الوقف بالكلية، بل ما يؤخذ بسبب قلعه وضمان نقصه، أو) أخذ بسبب (تملكه بالقيمة، يكون بمثابة ما لو أتلف الوقف، وأُخِذت منه) أي: المتلَف (قيمته، يشتري بها ما يقوم مقامَه، فكذا هنا) يشتري بالقيمة، أو بما أخذ من أرش القلع ما يقوم مقامَه.

والظاهر: أن الآلات والغراس المقلوع باق على الوقف، فإن أمكن وضعه في محل آخر، وإلا بِيعَ واشتري بثمنه ما يقومُ مقامَه (وهو) أي: الحكم (كما قال) صاحب "الفروع" (وهو ظاهر.

وظاهر كلامهم: لا يقلع الغراس) والبناء (إذا كانت الأرض وقفًا) وتقدم أنه لا يتملك إلا تام الملك، وحينئذ فيبقى بأجرة المِثْل (بل قال الشيخ

(1)

: ليس لأحد أن يقلع غراس المستأجر وزرعه، صحيحةً كانت الإجارة أو فاسدة) لتضمُّنها الإذن في وضعه (بل إذا بقي، فعليه) أي: مالكه (أجرة المِثْل.

وإن أبقاه) أي: الغراس أو البناء الموقوف (بالأجرة، فمتى باد بطل

(1)

انظر: الاختيارات الفقهية ص / 227.

ص: 149

الوقف، وأخذ الأرضَ صاحبهُا، فانتفع بها).

وقال الشيخ تقي الدين في من احتكر أرضًا بنى فيها مسجدًا، أو بناءً وَقَفَه عليه: متى فرغت المدة وانهدم البناء، زال حكم الوقف، وأخذوا أرضهم، فانتفعوا بها، ومادام البناء قائمًا فيها، فعليه أجرة المِثْل

(1)

. قال في "الإنصاف": وهو الصواب، ولا يسع الناس إلا ذلك.

(ومحل الخيرة) بين ما تقدم (أيضًا، ما لم يكن البناء مسجدًا ونحوه) كسقاية وقنطرة (فلا يهدَم ولا يُتَملَّك، وتلزم الأجرة إلى زواله) لأنه العُرف؛ إذ وَضْع هذه للدوام.

(ولا يعاد) المسجد ونحوه لو انهدم (بغير رضا ربِّ الأرض) لزوال حكم الإذن بزوال العقد.

(ولو غرسَ، أو بنى مشترٍ) فيما اشتراه (ثم فُسِخ البيع بعيب) أو غبن، أو إقالة، أو خيار شرط، ونحوه (كان لربِّ الأرض الأخذ) أي: أخذ غراس المشتري أو بنائه (بالقيمة، أو القلع وضمان النقص) لأنه وُضِع بحق، وفي ذلك جمع بين حق البائع والمشتري.

(و) له (تركه) أي: الغراس أو البناء بالأرض (بالأجرة) إن تراضيا عليها؛ لأن الحق لا يعدوهما.

(وأما المبيع بعقد فاسد، إذا غَرَس فيه المشتري أو بنى، فحكمه حكم المستعير، إذا غرس أو بنى، على ما يأتي في بابه) أي: فلا يقلع غراسه ولا بناؤه مجانًا، بل لربِّ الأرض تملكه بقيمته، أو قلعه وضمان نقصه؛ لأن تعاطَيه العقد معه -وإن كان فاسدًا- يتضمن الإذن في الانتفاع، وكذا مستأجر بعقد فاسد.

(1)

مجموع الفتاوى (31/ 8).

ص: 150

(وإن كان فيها) أي: الأرض التي انقضت إجارتها (زَرْعٌ بقاؤه بتفريط مستأجر، مثل أن يزرع) المستأجر (زرعًا لم تجر العادةُ بكماله قبل انقضاء المدة، فحكمه حكم زرع الغاصب) لأن بقاءه فيها بعدوانه (للمالك) للأرض (أخذه) أي: الزرع (بالقيمة) هكذا في "المقنع" و"المغني" و"التنقيح" و"المنتهى". وقال الموضِّحُ: هو كزرع غاصبٍ -قاله الأصحاب- فيؤخذ بنفقته؛ قاله في "الكافي" وغيره. انتهى. وهي مثل البذر

(1)

وعوض لواحقه؛ لأنهم جعلوه حكم الغاصب، وهذا حكمه (ما لم يختر مستأجرٌ قَلْعَ زَرْعه في الحال، وتفريغَ الأرض، فإن اختاره، فله ذلك) أي: قلعه؛ لأنه يُزيل الضررَ، ويُسلِّم الأرض فارغة.

(ولا يلزمه) أي: المستأجر قَلْع زرعه، ولو طلبه المالك في هذه الحالة؛ لأن له حدًّا ينتهي إليه بخلاف الغرس.

(وللمالك تركه) أي: الزرع (بالأجرة) كزرع غاصب.

(وإن كان بقاؤه) أي: الزرع بعد انقضاء المدة (بغير تفريط) المستأجر (مثل أن يزرع زرعًا ينتهي في المدة) الباقية من مدة الإجارة (عادة، فأبطأ) أي: تأخَّر انتهاؤه (لبرد أو غيره لزمه) أي: رب الأرض (تركه بأجرة مثله إلى أن ينتهي) لحصوله في أرض بإذنه من غير تفريط، أشبه ما لو أعاره أرضًا فَزَرَعها، ثم رجع قبل كماله (وله المُسمَّى) لمدة الإجارة (وأجرة المِثْل لما زاد) عن مدة الإجارة، وتقدم بعضه.

(ومتى أراد المستأجر زَرْعَ شيء لا يدرَك مثله) عادة (في مدة الإجارة، فللمالك منعه) لأنه سبب لوجود زرعه في أرضه بغير حق (فإن زرع) ما لا يكمل عادة في المدة (لم يملك) رَبُّ الأرض (مطالبته بقلعه

(1)

في "ح": "بذره".

ص: 151

قبل انقضاء المدة) لأنه في أرض يملك نفعها، ولأنه لا يملك ذلك بعد المدة، فقبلها أَولى.

وإن زرع مؤجر في أرض أجرها، قبل انقضاء مدة الإجارة، زرعًا يضرُّ بالمستأجر، أو غرس أو بنى، فذكر القاضي في "خلافه" أن الجميع يُقلع، وإنما قلع الزرع هنا؛ لأن مالك الأرض هو الزارع، والمتعلق حقه بها لا يمكن تملكه لعدم ملكه، فتعين القلع.

قال ابن رجب

(1)

: وفيه نظر، إذ يجوز أن يقال: للمستأجر تملك الزرع بنفقته، كالموقوف عليه يتملك زرع الغاصب، ويحتمل تخريج ذلك على الوجهين في ملك الموقوف عليه للشفعة في شركة الوقف. هذا حاصل كلامه. لكن يفرق بين الموقوف عليه والمستأجر، إذ الموقوف عليه يملك العين لكن ملكًا قاصرًا؛ بخلاف المستأجر، فإنه لا ملك له في العين.

(ولو اكترى أرضًا لزرعٍ، مدةً لا يكمل) ذلك الزرع (فيها) عادة (وشرط) المستأجر (قلعه بعدها) أي: مدة الإجارة (صح) العقد؛ لأنه لا يفضي إلى الزيادة على مدته، وقد يكون له غرض في ذلك لأخذه قصيلًا

(2)

أو غيره، ويلزمه ما التزم.

(وإن شرط بقاءه) أي: الزرع (ليدرك) بعد مدة الإجارة، فسدت (أو سكت) فلم يشترط قطعًا ولا بقاء (فسدت) أما في الأولى؛ فلأنه جمع بين متضادين؛ لأن تقديره المدة يقتضي التفريغ بعدها، وشرط التبقية يخالفه؛ ولأن مدة التبقية مجهولة. وأما في الثانية؛ فلأنه اكتراها

(1)

القواعد الفقهية ص / 164، القاعدة التاسعة والسبعون.

(2)

القَصيل: تقدم التعريف به (8/ 64) تعليق (1).

ص: 152

لزرع شيء لا ينتفع بزرعه في مدة الإجارة، أشبه إجارة أرض السَّبخة للزرع.

(وإذا تسلَّم العينَ) المعقود عليها (في الإجارة الفاسدة حتى انقضت المدة) أو بعضها، أو مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها أوْ لا (فعليه أجرة المِثْل) لمدة بقائها في يده (سكن، أو لم يسكن) لأن المنافع تلفت تحت يده بعوض لم يُسلَّم للمؤجر، فرجع إلى قيمتها كما لو استوفاه.

(وإن لم يتسلَّم) العين في الإجارة الفاسدة (لم يلزمه أجرة، ولو بذلها) أي: العين (المالك) لأن المنافع لم تتلف تحت يده، والعقد الفاسد لا أثر له، بخلاف الإجارة الصحيحة.

(وإن اكترى) المستأجر (بدراهم، وأعطاه) أي: المؤجر (عنها دنانير) أو ثيابًا، أو حيوانًا، أو عقارًا، أو نحوه (ثم انفسخ العقدُ) لعيب أو نحوه (رجع المستأجر بالدراهم) لأن العقد إذا انفسخ، رجع كلٌّ من المتعاقدين في العوض الذي بَذَله، وعوض العقد هو الدراهم، والمؤجر أخذ الدنانير ونحوها بعقد آخر، ولم ينفسخ، أشبه ما إذا قبض الدراهم، ثم صَرَفها بدنانير، أو اشترى بها شيئًا. وكذلك البيع ونحوه، وتقدم

(1)

.

(وإذا انقضت المدة) أي: مدة الإجارة، أو استوفى العمل من العين المؤجرة (رفع المستأجر يده) عن العين المؤجرة (ولم يلزمه) أي: المستأجر (الرد، ولا مؤنته، كمودَع) لأنه عقد لا يقتضي الضمان، فلا يقتضي الرد ولا مؤنته، بخلاف العارية. وفي "التبصرة": يلزم المستأجر ردُّ العين المؤجرة إذا شرط عليه.

(وتكون) العين المؤجرة بعد انقضاء مدة الإجارة (في يده) أي:

(1)

(8/ 50).

ص: 153

المستأجر (أمانة) كما كانت له في المدة

(1)

، فـ (ـإن تلفت) المؤجرة قبل ردها (من غير تفريط) ولا تعدٍّ (فلا ضمان عليه) كالوديعة، لكن متى طلبها ربُّها، وجب تمكينه منها، فإن منَعَه لغير عُذر، صارت مضمونة كالمغصوبة، ونماؤها كالأصل، فلو استأجر دابة، فولدت عنده، كان ولدها أمانة كأُمِّه، وليس له الانتفاع به، لأنه غير داخل في العقد، وهل له إمساكه بغير إذن مالكه تبعًا لأصله، أم لا؟ كمن أطارت الريح إلى داره ثوب غيره؛ خَرَّجه القاضي وابنُ عقيل على وجهين.

(ولا تُقبل دعواه) أي: المستأجر (الرد) أي: رد العين المؤجرة إلى مالكها، إذا أنكره (إلا ببينة لأنه قبضه) أي: المؤجَّر (لمنفعة نفسه) فهو (كالمرتهن والمستعير) والمضارب.

"تتمة": قال القاضي في من استأجر عبدًا للخدمة: إن له المسافرة به في العقد المطلق، قال: فإن شُرط ترك المسافرة به لزم الشرط، وقال: ليس للسيد أن يسافر برقيقه إذا أجره.

(1)

في "ذ": "كما كانت في حالة المدة".

ص: 154

‌باب السبق والمناضلة

السَّبْق، بسكون الباء: بلوغ الغاية قبل غيره، والسباق فعال منه.

و (السَّبقَ بفتح الباء) والسبقة: (الجُعْل الذي يُسَابق عليه.

و) السَّبْق (بسكونها) أي: الباء، مصدر سبق، وهو (المجاراة بين حيوان ونحوه) كسفن.

(والمُنَاضلة) من النضل يقال: ناضله مناضلة ونضالًا، ونيضالًا وهي (المسابقة بالسهام) وهي النُّشَّاب والنَّبْل.

(تجوز المسابقة بلا عوض على الأقدام، وبين سائر الحيوانات من إبل، وخيل، وبغال، وحمير، وفيلة) جمع فيل (وطيور حتى بحَمَام) خلافًا للآمدي (وبين سفن، ومزاريق) جمع مِزراق، بكسر الميم: رمح قصير أخف من العنزة؛ قاله في "حاشيته"(ونحوها) كالرمح والعنزة (ومجانيق، ورمي أحجار بيَدٍ، ومقاليع) لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ

} الآية

(1)

.

وصَحَّ من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم "سابقَ بين الخيلِ المضمرة من الحَفْيَاءِ إلى ثنيةِ الوداعِ، وبين التي لم تُضمر من ثنيةِ الوداعِ إلى مسجد بني زُرَيقٍ"

(2)

.

قال موسى بن عقبة

(3)

: من الحَفْياء إلى ثنية الوداع ستة أميال أو سبعة.

(1)

سورة الأنفال، الآية:60.

(2)

أخرجه البخاري في الصلاة، باب 41، حديث 420، وفي الجهاد، باب 56 - 58، حديث 2868 - 2870، وفي الاعتصام، باب 16، حديث 7336، ومسلم في الإمارة، حديث 1870.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب 58، حديث 2870.

ص: 155

وقال سفيان

(1)

: من الثنية إلى مسجد بني زُريق ميل أو نحوه.

والخيل المُضْمَرة: هي المعلوفة القوت بعد السمن؛ قاله في "القاموس"

(2)

.

(ويُكره الرَّقص ومجالس الشعر، وكل ما يُسمَّى لعبًا) ذكره في "الوسيلة" لحديث عقبة: الآتي (إلا ما كان مُعِينًا على قتال العدو) لما تقدم (فيُكره لعبه بأُرْجُوحة) ونحوها؛ ذكره ابن عقيل وغيره (وكذا مراماة الأحجار ونحوها، وهو أن يرمي كل واحد الحجر إلى صاحبه).

قال الآجري في "النصيحة": من وَثَب وثبةً مَرَحًا ولعبًا بلا نفع، فانقلب، فذهب عقلُهُ، عصى، وقضى الصلاة.

(وظاهر) كلام (الشيخ

(3)

: لا يجوز اللَّعب المعروف بالطَّاب

(4)

والنقيلة

(5)

) قال: ويجوز اللعب بما قد يكون فيه مصلحة بلا مضرة.

(وقال

(6)

: كلُّ فعل أفضى إلى مُحرَّمٍ كثيرًا، حرَّمه الشارع، إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة؛ لأنه يكون سببًا للشر والفساد.

(1)

صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب 56، عقب حديث 2868.

(2)

ص / 429، مادة (ضمر).

(3)

الاختيارات الفقهية ص / 233.

(4)

هو أربع عصي صغار ملونة بألوان مختلفة، تُرمى وتطرح بلا حساب ولا إعمال فِكر، وينظر للونها، ويرتب عليه مقتضاه الَّذي اصطلحوا عليه، والاعتماد يكون على ما تخرجه القضبان الأربعة. انظر: البحر الرائق (7/ 91)، ونهاية المحتاج (8/ 295)، والزواجر عن اقتراب الكبائر (2/ 202).

(5)

النقيلة: ويقال أيضًا: المنقلة، وهي قطعة خشب يُحفر فيها حفر؛ ثلاثة أسطر، ويُجعل فيها حصى صغار يُلعب بها. وقيل: خشبة يُحفر فيها ثمانية وعشرون حُفرة، أربعة عشر من جانب، وأربعة عشر من الجانب الآخر، ويُلعب بها، ولعلها نوعان فلا تخالف. الزواجر عن اقتراب الكبائر (2/ 201).

(6)

الاختيارات الفقهية ص / 233.

ص: 156

وقال أيضًا

(1)

:‌

‌ ما ألهى وشغل عما أمر الله به، فهو منهيٌّ عنه، وإن لم يحرم جنسه،

كبيع وتجارة ونحوهما. انتهى).

وما روي "أنَّ عائشةَ وجوارِيَ معها كُنَّ يلعبنَ باللُّعبِ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يراهُنَّ" رواه أحمد

(2)

وغيره، و"كانت لها أرجوحةٌ قل أن تتزوجَ" رواه أبو داود

(3)

بإسناد جيد، فيُرخَّص فيه للصغار ما لا يُرخَّص للكبار؛ قاله الشيخ تقي الدين

(4)

في خبر ابن عمر في زمارة الراعي

(5)

.

(1)

المصدر السابق.

(2)

(6/ 57، 166، 233، 234)، والبخاري في الأدب، باب 81، حديث 6130، ومسلم في فضائل الصحابة، حديث 2440 عن عائشة رضي الله عنها.

(3)

في الأدب، باب 63، حديث 4933 - 4937. وأخرجه -أيضًا- البخاري في مناقب الأنصار، باب 44، حديث 3894، ومسلم في النكاح، حديث 1422، عن عائشة رضي الله عنها.

(4)

الاختيارات الفقهية ص / 233.

(5)

أخرجه أبو داود في الأدب، باب 60، حديث 4924 - 4926، وابن سعد (4/ 163)، وأحمد (2/ 8، 38)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (13/ 247) حديث 5237، وابن حبان "الإحسان"(2/ 468) حديث 693، والآجري في تحريم النرد ص 205، حديث 64، 65، والطبراني في الأوسط (7/ 33) حديث 6767، وتمام في فوائده (2/ 143) حديث 1375، والبيهقي (10/ 222)، كلهم من طرق عن نافع قال: سمع ابن عمر مزمارًا، قال: فوضع إصبعيه على أذنيه، ونأى عن الطريق، وقال لي: يا نافع، هل تسمع شيئًا؟ قال: فقلت: لا. قال: فرفع إصبعيه من أذنيه، وقال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا.

قال أبو داود: هذا حديث منكر. وتعقبه ابن حجر الهيتمي في كف الرعاع ص / 46 بقوله: وخالف أبا داود ابن حبان، فخرجه في صحيحه، ووافقه الحافظ محمد بن نصر السلامي، فإنه سئل عنه، فقال: هو حديث صحيح.

وقال صاحب عون المعبود (14/ 267): هكذا قاله أبو داود، ولا يعلم وجه النكارة، فإن هذا الحديث رواته كلهم ثقات، وليس بمخالف لرواية أوثق الناس. انظر: نزهة الأسماع في مسألة السماع ص / 46 لابن رجب رحمه الله.

ص: 157

قلت: ولعب الجواري باللُّعب غير المصوَّرة فيه مصلحة للتمرُّن على ما هو المطلوب منهن عادة، ويتوجه كذا في العيد ونحوه؛ لقصة أبي بكر وقوله صلى الله عليه وسلم:"دعهما فإنَّها أيامُ عيدٍ"

(1)

.

(ويُستحبُّ اللَّعب بآلة الحرب، قال جماعة: والثِّقاف

(2)

) لأنه يُعين على قتال العدو.

(ويَتعلَّم بسيفٍ خشب لا حديد نصًّا) نقله أبو داود

(3)

؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُشيرُ أحدكم بحديدٍ"

(4)

.

(وليس من اللهو المُحرَّم ولا) اللهو (المكروه تأديبُ فرسه، وملاعبتُه أهلَه، ورميه عن

(5)

قوسه) لحديث عقبة مرفوعًا: "كلُّ شيءٍ يلهو به ابنُ آدم، فهو باطل" ثم استثنى هذه الثلاثة؛ رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي

(6)

وحسَّنه، والمُراد ما فيه مصلحة شرعية،

(1)

أخرجه البخاري في العيدين، باب 2، 5، حديث 949، 987، وفي المناقب، باب 15، حديث 3529، ومسلم في العيدين 892، عن عائشة رضي الله عنها، واللفظ لمسلم.

(2)

الثِّقاف: ما تُسوى به الرماح. القاموس المحيط ص / 795، مادة (ثقف).

(3)

مسائل أبي داود ص / 231.

(4)

أخرجه البخاري في الفتن، باب 7، حديث 7072، ومسلم في البر والصلة، حديث 2617، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح

" الحديث. وفي رواية لمسلم، حديث 2616: "من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه".

(5)

في "ح": "على".

(6)

أحمد (4/ 144، 146، 148)، وأبو داود في الجهاد، باب 24، حديث 2513، والنسائي في الخيل؛ باب 8، حديث 3578، والترمذي في فضائل الجهاد، باب 11، حديث 1637. وأخرجه -أيضًا- ابن ماجه في الجهاد، باب 19، حديث 2811، والطيالسي ص / 135، حديث 1007، وعبد الرزاق (11/ 461) حديث =

ص: 158

ويدخل فيه تعليم الكلب للصيد والحراسة، وتعليم السباحة.

ومنه ما في "الصحيحين" من "لَعِبِ الحبشةِ بِدَرَقِهمْ وحِرَابهم، وتوثبهم بذلك على هيئة الرقص، في يوم عيدٍ، في مسجد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وستر النبيِّ صلى الله عليه وسلم عائشة وهي تنظر إليهم"

(1)

. ودخل عمرُ فأهوى إلى

= 21010، وسعيد بن منصور (2/ 171) حديث 2450، وابن أبي شيبة (5/ 320، 321)، والدارمي في الجهاد، باب 14، حديث 2405، والفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 501)، وابن الجارود (3/ 314) حديث 1062، والروياني في مسنده (1/ 187) حديث 247، وأبو عوانة (5/ 103)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (1/ 270) حديث 295، والطبراني في الكبير (17/ 341، 342) حديث 941، 942، وفي مسند الشاميين (1/ 358) حديث 616، والحاكم (2/ 95)، والبيهقي 10/ 14، 218)، وفي شعب الإيمان (4/ 44) حديث 4301، والخطيب في الموضح (1/ 113)، وابن عبد البر في التمهيد (24/ 101)، وابن عساكر في تاريخه (40/ 497).

قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي، وأعله الحافظ العراقي في "المغني عن حمل الأسفار"(2/ 285) بالاضطراب.

وله شاهد من حديث جابر بن عبد الله، أو من حديث جابر بن عمير رضي الله عنهما: أخرجه النسائي في الكبرى (5/ 303) حديث 8940، وإسحاق بن راهويه في مسنده كما في نصب الراية (4/ 274)، والبزار "كشف الأستار"(2/ 279) حديث 1704، والطبراني في الكبير (3/ 193) حديث 1785، وفي الأوسط (9/ 69) حديث 8143، وجوَّد إسناده المنذري في الترغب والترهيب (2/ 243)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 269): رواه الطبراني في الكبير، والبزار، ورجال الطبراني رجال الصحيح، خلا عبد الوهاب بن بخت، وهو ثقة. وصححه الحافظ في الإصابة (2/ 49).

(1)

البخاري في الصلاة، باب 69، حديث 454، 455، وفي العيدين، باب 3، حديث 950، وفي الجهاد، باب 81، حديث 2907، وفي النكاح، باب 82، 114، 5190، 5236، ومسلم في العيدين، حديث 892 (17)، عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 159

الحصباءِ يحصبهم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"دعهم يا عمر"

(1)

.

(ويُكره لمن علم الرمي أن يتركه كراهة شديدة) لقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن علم الرميَ، ثمَّ تركه فهي نعمةٌ كفَرها"

(2)

قال العلقمي

(3)

: وردت من طرق صحيحة بألفاظ مختلفة، والمعنى واحد، وسبب هذه الكراهة: أن من تعلَّم الرمي حصلت له أهلية الدفاع عن دين الله ونكالة العدو، وتأهَّل لوظيفة الجهاد، فإذا تركه، فقد فرَّط في القيام بما قد يتعين عليه.

(وتجوز المصارعة) لأنه صلى الله عليه وسلم "صارعَ رُكانة فصرعهُ" رواه أبو داود

(4)

.

(1)

البخاري في العيدين، باب 25، حديث 988، ومسلم في العيدين، حديث 893.

(2)

جزء من حديث عقبة بن عامر السالف في (9/ 158)، تعليق رقم (6)، وأخرجه مسلم في الإمارة، حديث 1919، بلفظ:"من علم الرمي ثم تركه، فليس منا، أو قد عصى".

(3)

لعله في حاشيته على الجامع الصغير ولم تطبع، وانظر ما تقدم (2/ 242) تعليق رقم (2)، وشذرات الذهب (10/ 490).

(4)

في اللباس، باب 24، حديث 4078. وأخرجه -أيضًا- البخاري في التاريخ الكبير (1/ 82)، والترمذي في اللباس، باب 42، حديث 1784، وابن سعد (1/ 374)، وأبو يعلى (3/ 5) حديث 1412، والطبراني في الكبير (5/ 71) حديث 4614، والحاكم (3/ 452)، والبيهقي في شعب الإيمان (5/ 175) حديث 6258، من طريق أبي الحسن العسقلاني، عن أبي جعفر بن محمد بن علي بن ركانة، عن أبيه، أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم.

قال البخاري: إسناده مجهول، لا يعرف سماع بعضهم من بعض.

قال الترمذي: حديث حسن غريب، وإسناده ليس بالقائم، ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني، ولا ابن ركانة. وقال ابن حبان في الثقات (3/ 130): وفي إسناد خبره نظر. وله شواهد عن جماعة من الصحابة وغيرهم، منهم:

أ - ابن عباس رضي الله عنهما. أخرجه أبو الشيخ في "السبق والرمي" -كما في "الفروسية" لابن القيم ص / 201 - ، وقال ابن القيم: وهذا إسناد جيد متصل. وضعفه الحافظ في التلخيص الحبير (4/ 162). =

ص: 160

(و) يجوز (رفع الأحجار لمعرفة الأشد) لأنه في معنى المصارعة.

(وأما اللَّعِب بالنَّرد والشِّطرنج، ونِطاح الكِباش. ونِقار الديوك، فلا يُباح بحال) أي: لا بعوض ولا بغيره، ويأتي في الشهادات موضحًا (وهي) أي: هذه الأشياء (بالعوض أحرم) أي: أشد حُرمة. ويأتي في الشهادات.

(و‌

‌لا تجوز) المسابقة (بعوض إلا في الخيل، والإبل، والسِّهام للرجال)

لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا سبقَ إلا في نَصْلٍ أو خفٍّ أو حافرٍ" رواه الخمسة

(1)

، ولم يذكر ابن ماجه "أو نصل" وإسناده حسن. واختصت

= وأخرجه أبو داود في المراسيل ص / 235، حديث 308، وأبو الشيخ في "السبق والرمي" -كما في "الفروسية" ص / 202 - ، والبيهقي (10/ 18)، عن سعيد بن جبير، مرسلًا. قال البيهقي: مرسل جيد، وقد روي بإسناد آخر موصولًا إلا أنه ضعيف.

وقال الحافظ في التلخيص الحبير (4/ 162): إسناده صحيح إلى سعيد بن جبير، إلا أن سعيدًا لم يدرك ركانة.

ب - أبو أمامة رضي الله عنه: أخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة (2/ 1114)، حديث 2807، والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 251)، وضعّفه، وضعف إسناده أيضًا الحافظ في التلخيص الحبير (4/ 162).

ج - عبد الله بن الحارث رضي الله عنه: أخرجه عبد الرزاق (11/ 127) حديث 20909، وأبو الشيخ في "السبق والرمي" -كما في "الفروسية" ص / 200 - ، وضعَّفه الحافظ في التلخيص الحبير.

د - إسحاق بن يسار مرسلًا: أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (6/ 250)، وقال: وهذه المراسيل تدلُّ على أن للحديث الموصول فيه أصلًا. وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات (2/ 162): والحديث في المصارعة ضعيف.

(1)

أبو داود في الجهاد، باب 67، حديث 2574، والترمذي في الجهاد، باب 22، حديث 1700، والنسائي في الخيل، باب 14، حديث 3587، 3588، وفي الكبرى (3/ 41) حديث 4426، 4427، وابن ماجه في الجهاد، باب 44، حديث 2878، =

ص: 161

هذه الثلاثة بأخذ العوض فيها؛ لأنها من آلات الحرب المأمور بتعليمها وإحكامها. وذكر ابن عبد البر

(1)

تحريم الرهان في غير الثلاثة إجماعًا. وقوله: "للرجال" أخرج النساء؛ لأنهن لسن مأمورات بالجهاد (بشروط خمسة) متعلق بـ"تجوز":

(أحدها: تعيين المركوبين بالرؤية) سواء كانا اثنين، أو جماعتين (وتساويهما في ابتداء العَدْو وانتهائه، وتعيين الرماة، سواء كانا اثنين أو جماعتين) لأن المقصود في المسابقة معرفة سرعة عَدْوِ المركوبين اللذين يسابق عليهما. وفي المناضلة معرفة حذق الرماة. ولا يحصُل ذلك إلا بالتعيين بالرؤية، لأن المقصود معرفة عَدْو مركوب بعينه، ومعرفة حذق

= وأحمد (2/ 474). وأخرجه -أيضًا- الشافعي في الأم (4/ 229)، وفي السنن المأثورة (ص / 443)، وفي مسنده (ترتيبه 2/ 128، 129)، وابن أبي شيبة (12/ 502)، والحربي في غريب الحديث (2/ 852)، وأبو القاسم البغوي في الجعديات (2/ 988) حديث 2855 - 2857، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (5/ 148) حديث 1888 - 1892، وابن حبان "الإحسان"(10/ 544) حديث 4690، والطبراني في الأوسط (2/ 341) حديث 2168، وفي الصغير (1/ 52) حديث 50، وابن عدي (6/ 2229)، والبيهقي (10/ 16)، وابن عبد البر في التمهيد (14/ 93)، والبغوي في شرح السنة (10/ 393) حديث 2653، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قال الترمذي وأبو محمد البغوي: هذا حديث حسن.

وأخرجه -أيضًا- دون ذكر "أو نصل": البخاري في التاريخ الكبير (9/ 48)، والنسائي في الخيل، باب 14، حديث 3589، 3591، وفي الكبرى (3/ 41) 4428، 4430، وابن أبي شيبة (12/ 503)، وأحمد (2/ 256، 358، 385، 425)، والحربي في غريب الحديث (3/ 1117)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (5/ 146) حديث 1883 - 1887، والطبراني في الأوسط (1/ 41) حديث 110، و (8/ 311) حديث 8729، والبيهقي (10/ 16).

(1)

التمهيد (14/ 88).

ص: 162

رام بعينه، لا معرفة عَدْو مركوب في الجملة، أو حذق رام في الجملة، فلو عقد اثنان مسابقة على خيل غير معينة أو مناضلةً ومع كل منهما نفر غير معيَّن لم يجز.

(و‌

‌لا يُشترط تعيين الراكبين، ولا القوسين ولا السِّهام)

لأن الغرض معرفة عَدْو الفرس، وحذق الرامي، دون الراكب والقوس والسهام؛ لأنها آلة المقصود، فلا يشترط تعيينها كالسرج (ولو عيَّنها لم تتعيَّن) لما تقدم.

(وكلُّ ما تعيَّن

(1)

لا يجوز إبداله، كالمتعين في البيع، وما لا يتعيَّن يجوز إبداله لعُذر وغيره) فإن شرط ألَّا يرمي بغير هذا القوس، أو بغير هذا السهم، أو لا يركب غير هذا الراكب، فهو فاسد؛ لأنه ينافي مقتضى العقد.

‌الشرط (الثاني: أن يكون المركوبان، والقوسان من نوع واحد)

لأن التفاوت بين النوعين معلوم بحكم العادة، أشبها الجنسين (فلا تصح) المسابقة (بين فرس عربي، وهجين) وهو ما أبوه فقط عربي (ولا) المناضلة (بين قوس عربية، وفارسية) والعربية قوس النبل، والفارسية قوس النُّشَّاب؛ قاله الأزهري

(2)

.

(ولا يُكره الرمي بالقوس الفارسية) ولا المسابقة بها، وقال أبو بكر: يُكره الرمي بها؛ لما روى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم "رأى مع رجلٍ قوسًا فارسيةً، فقال: ألْقِها فإنها ملعونةٌ، ولكن عليكم بالقسيِّ العربية، وبرماح القنا، فبها يُؤيِّدُ الله هذا الدِّين، وبها يمكِّن الله لكم في

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (2/ 543): "يتعين".

(2)

الزاهر ص / 375 - 376.

ص: 163

الأرض"

(1)

ورواه الأثرم

(2)

. والجواب: أنَّه يحتمل أنَّه لعنها لحمل العجم لها في ذلك العصر قبل أن يُسْلِموا، ومنع العرب من حملها لعدم معرفتهم بها.

الشرط (الثالث: تحديد المسافة والغاية) بأن يكون لابتداء عَدْوِهما وآخره غاية لا يختلفان فيها؛ لأن الغرض معرفة الأسبق، ولا يحصُل إلا بتساويهما في الغاية؛ لأن أحدهما قد يكون مقصرًا في ابتداء عدوه؛ سريعًا في آخره، وبالعكس.

(و) تحديد (مدى الرمي بما جرت به العادة) لأن الإصابة تختلف بالقرب والبعد (ويُعرف ذلك) أي: مدى الرمي (بالمشاهدة) نحو: من هنا إلى هناك (أو بالذراع نحو مائة ذراع، أو مائتي ذراع. وما لم تجر به عادة) وهو ما تعذَّر الإصابة فيه غالبًا (وهو ما زاد في الرمي على ثلاثمائة

(1)

ابن ماجه في الجهاد، باب 18، حديث 2810. وأخرجه -أيضًا- الطيالسي ص / 23، حديث 154، وابن عدي (4/ 1490)، والبيهقي (10/ 14)، والبغوي في معجم الصحابة (4/ 175)، من طريق أشعث بن سعيد، عن عبد الله بن بسر، عن أبي راشد، عن علي رضي الله عنه بنحوه.

قال البوصيري في الزوائد (2/ 116): هذا إسناد ضعيف، عبد الله بن بسر الحُبراني ضعفه يحيى القطان وابن معين وأبو حاتم والترمذي والنسائي والدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات، فما أجاد.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار (8/ 247): في إسناده أشعث بن سعيد السمان، وهو متروك.

وأخرجه أبو داود في المراسيل ص / 246، حديث 331، من طريق إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن بسر الحبراني، عن عبد الرحمن بن عدي البهراني، عن أخيه عبد الأعلى -مرسلًا- وقال: وقد أسند هذا الحديث، وليس بالقوي، وعبد الله بن بسر هذا ليس بالقوي، كان ابن سعيد يضعفه.

(2)

لعله في سننه، ولم تطبع.

ص: 164

ذراع، فلا يصح) لأنه يفوت به الغرض المقصود بالرمي. وقيل: إنه ما رمى في أربعمائة ذراع إلا عقبة بن عامر الجهني

(1)

.

(ولا يصح‌

‌ تناضلهما على أن السبق لأبعدهما رميًا)

لعدم تحديد الغاية.

الشرط (الرابع: كون العوض معلومًا، إما بالمشاهدة، أو بالقَدْر، أو بالصفة) لأنه مال في عقد، فاشتُرِط العلم به كسائر العقود، والمراد بمعرفته بالقدر، إذا كان بالبلد نقد واحد، أو أغلب، وإلا؛ لم يَكْفِ ذِكْر القَدْر، بل لابُدَّ من وصفه.

(ويجوز أن يكون) العوض (حالًّا ومؤجَّلًا، و) أن يكون (بعضه حالًّا وبعضه مؤجَّلًا) كالثمن والصداق.

(ويُشترط أن يكون) العِوض (مباحًا) كالصَّداق والبيع، فلا تصح على خمر ونحوه.

(وهو) أي: بذل العوض المذكور (تمليك) للسابق (بشرط سبقه) فلهذا قال في "الانتصار" في شركة العنان: القياس لا يصح. انتهى. قلت: في كلامهم أنَّه جعالة، فليس من قبيل التمليك المعلَّق على شرط محض.

الشرط (الخامس: الخروج عن شِبْهِ القمار) لأن القمار مُحرَّمٌ فشِبْهه مثله. والقِمار -بكسر القاف- مصدر قامَرَه فقَمَرَه، إذا راهنه فغلبه (بألَّا يُخرِجَ جميعُهم) لأنه إذا أخرج كل واحد منهم، فهو قِمار، لأنه

(1)

لم نقف على من رواه مسندًا، وذكره أيضًا الرافعي في الشرح الكبير (12/ 199)، وعبد الرحمن المقدسي في الشرح الكبير (15/ 17)، وابن مفلح في المبدع (5/ 124)، وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 164): لم أرَ هذا.

ص: 165

لا يخلو، إما أن يغنم أو يغرم، ومن لم يخرج، بقي سالمًا من الغرم.

(فإن كان الجعل من الإمام من ماله، أو من بيت المال) جاز؛ لأن في ذلك مصلحة وحثًّا على تعليم الجهاد، ونفعًا للمسلمين.

(أو) كان الجعل (من غيرهما، أو من أحدهما) وحده؛ لأنه إذا جاز بَذْلُهُ من غيرهما، فمن أحدهما أَولى، وكذا لو كانوا ثلاثة فأخرج اثنان منهم، أو أربعة فأخرج ثلاثة منهم، ونحوه (على أنَّ من سبق أخذه؛ جاز، فإن جاءا معًا فلا شيء لهما) لأنه لا سابق فيهما.

(وإن سَبَق المُخرِجُ) للجعل (أحرز سَبقَه) بفتح الباء، أي: ما أخرجه (ولم يأخذ) السابقُ (من الآخر) المسبوق (شيئًا) لأنه إن أخذ منه شيئًا كان قمارًا.

(وإن سبق من لم يُخرِج، أحرز سَبَق صاحبه) فملكه؛ وكان كسائر ماله؛ لأنه عوض في الجعالة، فملك فيها، كالعوض المجعول في رَدِّ الضالة، فإن كان العوض في الذِّمة، فهو دين يقضى به عليه، ويجبر عليه إن كان موسرًا، وإن أفلس، ضرب به مع الغرماء.

(وإن أخرجا) أي: المتسابقان (معًا، لم يجز، وكان قمارًا؛ لأن كل واحد منهما لا يخلو من أن يغنم أو يغرم، وسواء كان ما أخرجاه متساويًا، أو متفاوتًا، مثل أن أخرج أحدهما عشرة، و) أخرج (الآخر خمسة، إلا بمحلل، لا يُخرج شيئًا) لما روى أبو هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدخلَ فرسًا بين فرسين، وهو لا يأمن أن يسبقَ فليسَ قمارًا، ومن أدخل فرسًا بينَ فرسينِ وهو آمنٌ أن يسبق فليس قمارٌ"، رواه أبو داود

(1)

، فجعله قمارًا إذا أمن السبق؛ لأنه لا يخلو كل واحد منهما أن يغنم أو

(1)

تقدم تخريجه (8/ 54) تعليق رقم (1).

ص: 166

يغرم، وإذا لم يأمن أن يُسبق لم يكن قمارًا؛ لأن كل واحد منهما يجوز أن يخلو من ذلك.

(و‌

‌يكفي) محلل (واحد، ولا تجوز الزيادة عليه)

لدفع الحاجة به؛ قاله الآمدي.

ويشترط في المحلل أن يكون (يكافئ فرسُه فرسَيهما، أو) يكافئ (بعيره بعيرَيهما، أو) يكافئ (رَمْيُه رَمْيَيهما) للخبر السابق.

(فإن سَبَقهما) أي: سبق المحلل المخرجين (أحرزَ) المحلل (سَبَقَيهما) بفتح الباء، لأنهما جعلا لمن سبق.

(وإن سبقاه) أي: المخرجان المحللَ (أحرزا سبقَيهما) أي: أحرز كل منهما ما أخرجه؛ لأنه لا سابق منهما ولا شيء للمحلل؛ لأنه لم يسبق واحدًا منهما (ولم يأخذا منه شيئًا) لأنه لم يشترط عليه شيء لمن سبقه.

(وإن سبق أحدهما) أي: المُخرِجَين (أحرز السبقين) لأنهما جعلا لمن سبق.

(وإن سبق معه) أي: مع أحد المخرجين (المُحلِّلُ) بأن جاء أحدهما والمحلل معًا (أحرز السابق) منهما (مال نفسه) لسبقه (ويكون سَبَق

(1)

المسبوق بين السابق والمُحلِّل نصفين) لأنهما قد اشتركا في السبق، فوجب أن يشتركا في عوضه.

(وإن جاؤوا) أي: المخرجان والمحلل (الغاية دفعة واحدة، أحرز كل واحد منهما سَبق نفسه) لأنه لا سابق (ولا شيء للمُحلِّل) لأنه لم يسبق.

(1)

في "ح": "مال" بدل "سبق".

ص: 167

(فإن قال المُخرِج) للعوض (من غيرهما: من سَبق أو صَلَّى) منكما (فله عشرة، لم يصح إذا كانا اثنين) لأنه لا فائدة في طلب السبق إذًا، فلا يحرص عليه؛ لأنه سوَّى بينهما.

(فإن كانوا أكثر) من اثنين، صح؛ لأن كل واحد منهم يطلب أن يكون سابقًا، أو مُصلِّيًا.

(أو قال) المُخرِج غيرهما: مَن سبق فله عشرة، و (من صَلَّى أي: جاء ثانيًا، فله خمسة، صح) لأن كلًّا منهما يجتهد أن يكون سابقًا ليُحرِز أكثر العوضين.

وسُمِّي الثاني: مُصلِّيًا؛ لأن رأسه تكون عند صلو

(1)

الأول، والصَّلَوان: هما العظمان الناتئان من جانب الذنب، وفي الأثر عن علي قال:"سبقَ أبو بكرٍ، وصلَّى عمرُ، وخبطتنا فتنةٌ"

(2)

.

(1)

"صلو" كذا في الأصل و"ذ"، وصوابه:"صلا" كما في المصباح المنير ص / 473، والنهاية في غريب الحديث (3/ 50)، وتاج العروس (38/ 440) مادة (صلى).

(2)

أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (7/ 172)، وأبو عبيد في غريب الحديث (3/ 458)، وابن سعد (6/ 130)، وأحمد (1/ 124، 132، 137)، وفي فضائل الصحابة (1/ 214، 216) رقم 241، 244، وعبد الله بن أحمد في السنة (ص / 240) رقم 1309، وابن أبي عاصم في السنة (2/ 573) رقم 1209، والطبراني في الأوسط (2/ 177) رقم 1639، وأبو الشيخ في طبقات المحدثين (3/ 384) رقم 553، والحاكم (3/ 67)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 74)، والبيهقي في الاعتقاد ص / 238، والخطيب في تاريخه (14/ 357)، والضياء في المختارة (2/ 95، 328، 329) رقم 472، 706، 707، عن علي رضي الله عنه. ولفظه: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى أبو بكر، وثلث عمر، ثم خبطتنا -أو أصابتا- فتنة، فما شاء الله جل جلاله.

قال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 54): رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات.

ص: 168

(وكذا) يصح إذا فاوت العوض (على الترتيب للأقرب إلى السبق) بأن جعل للأول عشرة، وللثاني ثمانية، وللذي يليه خمسة، ثم للذي يليه أربعة، وهكذا.

(وخيل الحَلْبة) بفتح الحاء وسكون اللام (على الترتيب) وهي خيل تُجمع للسباق من كل أوب، لا تخرج من إصطبل واحد، كما يقال للقوم إذا جاؤوا من كل أوب للنُّصرة: قد أحلبوا؛ قاله في "الصحاح"

(1)

، أولها (مُجَلٍّ) السابق (فمُصَلٍّ) الثاني، لما سبق (فَتَالٍ) الثالث؛ لأنه يتلو المصلِّي (فبارع) الرابع (فمرتاح) الخامس (فخطي) السادس، وهو بالخاء المعجمة (فعاطف) السابع (فمؤمَّل) بوزن معظم، الثامن (فلطيم)(التاسع)(فسُكَيت) ككميت، وقد تشدد ياؤه، العاشر آخر خيل الحلبة (ففُسْكُل) كقنفذ، وزبرج، وزنبور، وبرذون: الذي يجيء آخر الخيل، ويُسمَّى القاشور والقاشر.

وهذا الترتيب قدَّمه في "التنقيح"، وتبعه المصنف وصاحب "المنتهى"(و) في بعضها اختلاف، فـ (ـفي "الكافي"، وتبعه في "المطلع": مُجَلٍّ فمُصَلٍّ فَمُسَلٍّ، فتالٍ، فمرتاح، إلى آخره) وقال أبو الغوث: أولها المجلي، وهو السابق، ثم المصلي، ثم المسلي، ثم التالي، ثم العاطف، ثم المرتاح، ثم المؤمَّل، ثم الخَطِيُّ، ثم اللطيم، ثم السُّكَيت، وهو الفُسكُل؛ ذكره الجوهري

(2)

.

(فإن جعل) من أخرج العوض (للمصلَّي أكثر من السابق، أو جعل للتالي أكثر من المصلِّي، أو لم يجعل للمصلي شيئًا) وجعل للتالي عوضًا

(1)

(1/ 115) مادة (حلب).

(2)

الصحاح (5/ 1790). وانظر: لسان العرب (11/ 519 - 520) مادة (فسكل).

ص: 169

(لم يجز) لأنه يفضي إلى ألَّا يقصد السبق، بل يقصد التأخر، فيفوت المقصود.

(وإن قال لعشرة: من سبق منكم فله عشرة، صح، فإن جاؤوا معًا، فلا شيء لهم) لعدم السبق (وإن سبق

(1)

واحد، فله العشرة) لسبقه (أو) سبىق (اثنان، فهي) أي: العشرة (لهما) لأنهما السابقان (وإن سبق تسعة، وتأخر واحد، فالعشرة للتسعة) لأنهم سبقوا.

(وإن شرطا) أي: المتسابقان (أن السابق يُطْعِمُ السَّبَقَ) بفتح الموحدة (أصحابَه، أو) يُطعمه (بعضهم، أو) يُطعمه (غيرَهم، أو) قال: (إن سبقتني فلك كذا، أو: لا أرمي أبدًا، أو شهرًا، لم يصح الشرط) لأنه عوض على عمل، فلا يستحقه غير العامل، كالعوض في رد الآبق (ويصح العقد) أي: عقد المسابقة؛ لأنها عقد لا تتوقف صحتها على تسمية بدل، فلم تفسد بالشرط الفاسد كالنكاح.

فصل

(والمسابقة جعالة) لأنها عقد على ما لا تتحقق القدرة على تسليمه، فكان جائزًا، كرَدِّ الآبق.

(وهي عقد جائز) لما مَرَّ (لا يؤخذ بعوضها رهن، ولا كفيل) لعدم وجوبه.

و (لكلٍّ منهما فسخُها، ولو بعد الشروع فيها) لعدم لزومها (ما لم يظهر لأحدهما فضل) على صاحبه، مثل أن يسبق بفرسه في بعض المسافة، أو يصيب بسهامه أكثر منه (فإن ظهر له) عليه فضل (فله) أي:

(1)

في "ح": "جاء".

ص: 170

الفاضل (الفسخ) لأن الحق له (دون صاحبه) المفضول؛ لأنه لو جاز له ذلك، لفات غرض المسابقة، فلا يحصُل المقصود.

(وتبطل بموت أحد المتعاقدَين) كوكالة (و) تبطل بموت (أحد المركوبين) لأن العقد تعلَّق بعينهما (ولا يقوم وارث الميت مقامه، ولا يقيم الحاكم من يقوم مقامه) لأنها انفسخت بموته.

و (لا) تبطل (بموت الراكبين، أو أحدهما، ولا تلف أحد القوسين) أو هما (والسهام) لأن هذه غير معقود عليها، فلم ينفسخ العقد بتلفها، كموت أحد المتبايعين.

(ويشترط) في المسابقة بعوض (إرسال الفرسين، والبعيرين دفعة واحدة) فليس لأحدهما أن يرسل قبل الآخر (ويكون عند أول المسافة من يشاهد إرسالهما، ويرتبهما، وعند الغاية من يضبط السابق منهما) لئلا يختلفا في ذلك.

(ويحصل السبق بالرأس في متماثلٍ عُنُقه) من الخيل (و) السبق (في مختلفه) أي: العنق من الخيل (و) السبق في (إبل) مطلقًا (بكتفه) لأن الاعتبار بالرأس هنا متعذر، فإن طويل العنق قد تسبق رأسه لطول عنقه، لا بسرعة عدوه. وفي الإبل ما يرفع رأسه، وفيها ما يمد عنقه، فربما سبق رأسه لمد عنقه لا بسبقه، فلذلك اعتبر بالكتف، فإن سبق رأس قصير العنق، فهو سابق بالضرورة. وإن سبق رأس طويل العنق بأكثر مما بينهما في طول العنق فقد سبق، وإن كان بقدره لم يسبق، وإن كان أقل، فالآخر سابق.

(وإن شرط) المتسابقان (السبق بأقدام معلومة) كثلاثة فأكثر (لم

ص: 171

يصح) لأن هذا لا ينضبط، ولا يقف الفرسان عند الغاية بحيث يعرف مساحة ما بينهما.

(فَتُصفُّ الخيلُ في ابتداء الغاية صفًّا واحدًا، ثم يقول المُرتِّبُ لذلك: هل من مصلِح للِجام، أو حامل لغلام، أو طارح لجلٍّ

(1)

؟ فإذا لم يجبه أحدٌ، كبّر ثلاثًا، ثم خلَّاها) أي: أرسلها (عند) التكبيرة (الثالثة) لأن عليًّا رضي الله عنه أمر سراقة بن مالك بذلك، لما جعل إليه ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم من أمر السُّبْقةِ في خبر الدارقطني

(2)

.

(ويخطُّ الضابط للسبق عند انتهاء الغاية خطًّا، ويقيم رجلين، متقابلين، أحد طرفي الخط بين إبهامي أحدهما والطرف الآخر بين إبهامي الآخر، وتمر الخيل بين الرجلين، ليعرف السابق) كما فعل علي رضي الله عنه فيما أخرجه الدارقطني عنه (

(2)

).

(ويحرم أن يجنب أحدهما) أي: المتسابقين (مع فرسه) فرسًا (أو) يجنب (وراءه فرسًا لا راكب عليه يحرِّضُه على العدو.

و) يحرم أيضًا (أن يجلِبَ، وهو أن يصيح به في وقت سباقه) لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا جلبَ ولا جنبَ في الرهانِ" رواه أبو داود

(3)

وغيره بإسناد حسن

(1)

الجلّ: بالضم وبالفتح، ما تلبسه الدابة لتُصان به. القاموس المحيط ص / 978، مادة (جلل).

(2)

(4/ 305 - 306). وأخرجه -أيضًا- البيهقي (10/ 22). قال البيهقي: هذا إسناد ضعيف. والسُّبْقة: بضم السين، وإسكان الباء. انظر تهذيب الأسماء واللغات (3/ 145).

(3)

أبو داود في الجهاد، باب 70، حديث 2581، والبيهقي (10/ 21) من طريق الحسن، عن عمران رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي في النكاح، باب 29، حديث 1123، والنسائي في النكاح، باب 60، حديث 3335، وفي الخيل، باب 15، =

ص: 172

عن عمران بن الحصين. والجَلَب -بفتح الجيم واللام-: هو الزجر للفرس والصياح عليه، حثًّا له على الجَرْي.

= حديث 3592، وفي الكبرى (3/ 42، 309) حديث 4431، 4432، 5495، والطيالسي ص / 113، حديث 838، وابن أبي شيبة (12/ 234)، وأحمد (4/ 429، 439، 443)، والبزار (9/ 28) حديث 3535، والروياني في مسنده (1/ 100) حديث 71، وابن حبان "الإحسان"(8/ 61، 62) حديث 3267، وابن عدي (5/ 1476)، والطبراني في الكبير (18/ 147، 148، 170، 172) حديث 315، 316، 382، 383، 390، والدارقطني (4/ 303)، وابن عبد البر في التمهيد (14/ 91)، والبيهقي (10/ 21) عن طرق عن الحسن، عن عمران، بلفظ:"لا جلب، ولا جنب، ولا شغار في الإسلام، ومن انتهب فليس منا".

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وقال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (2/ 76): إنه منقطع، فإن الحسن لم يصح سماعه من عمران. وقال -أيضًا- (2/ 81): إن زيادة (في الرهان) إنما هي من رواية عنبسة، عن الحسن، عن عمران، ولا آمن أن تكون هذه الزيادة من المدرج، فسرها يحيى بن خلف، أو من فوقه، فاتصلت بالخبر.

وفي الباب: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أخرجه أبو داود في الزكاة، باب 9، حديث 1591، 1592، وابن أبي شيبة (12/ 235)، وأحمد (2/ 180، 216)، وابن الجارود (3/ 307) حديث 1052، وابن خزيمة (4/ 26) حديث 2280، والبيهقي (4/ 110، 8/ 29)، والبغوي في "شرح السنة"(10/ 202) حديث 2542.

قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ص: 173

‌فصل في المناضلة

من النَّضل، يقال: ناضله نضالًا، ومناضلة، وسُمِّي الرمي نضالًا: لأن السهم التام يُسمَّى نضلًا، فالرمي به عمل بالنضل، وهي ثابتة بالكتاب؛ لقوله تعالى:{قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ}

(1)

وقرئ: "ننتضل"

(2)

، والسنة شهيرة بذلك

(3)

.

(وحكم المناضلة في العوض حكم الخيل) والإبل فيما تقدم تفصيله.

(وتصح بين) شخصين (اثنين، و) بين (حزبين) كما تقدم

(4)

.

(ويُشترط لها) زيادة على ما سبق (شروط أربعة:

أحدها: أن تكون على من يحسن الرمي) لأن الغرض معرفة الحذق به، ومن لا حذق له، فوجوده كعدمه.

(فإن كان في أحد الحزبين من لا يحسنه) أي: الرمي (بطل العقد فيه، وأُخرج من الحزب الآخر مثله) كالبيع إذا بطل في البعض، بطل فيما يقابله من الثمن (ولهم) أي: لكل حزب (الفسخ إن أحبوا) لتبعيض

(1)

سورة يوسف، الآية:17.

(2)

هي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه كما ذكر القرطبي في تفسيره (9/ 145). وانظر: تفسير الثعلبي (5/ 203)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (3/ 95).

(3)

منها ما روى البخاري في الجهاد، باب 78، حديث 2899، وفي أحاديث الأنبياء، باب 12، حديث 3373، وفي المناقب، باب 3، حديث 3507، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون بالسوق، فقال: "ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا

" الحديث.

(4)

(9/ 163).

ص: 174

الصفقة في حقهم.

(وإن عَقَد النضالَ جماعةٌ، ليقتسموا بعد العقد حزبين برضاهم، صح) العقد، و (لا) يصح إن عقداه ليقتسما (بقُرعة) لأنها قد تقع الحُذَّاق دون غيرهم في أحد الحزبين.

(ويُجعل لكل حزب رئيس، فيختار أحدهما) أي: الرئيسين (واحدًا) من النفر (ثم يختار) الرئيسُ (الآخرُ آخرَ حتى يفرغا) ليحصُل التعادل بينهما.

(و‌

‌لا يجوز أن يختار كل واحد من الرئيسين أكثر من واحد واحد)

لأنه قد يؤدي إلى اختصاص أحدهما بالأحذق، فلا يحصُل التساوي.

(وإن اختلفا) أي: الرئيسان (في من يبدأ بالخيرة) منهما (اقترعا) لأنه لا مرجّح غير القُرعة.

(ولا يجوز جعل رئيس الحزبين واحدًا) لأنه لا يضره أيهما غُلب أو غَلب، فلا يحصُل مقصود المناضلة (ولا) جعل (الخيرة في تمييزهما) أي: الحزبين (إليه) أي: إلى شخص واحد؛ لما سبق (ولا أن يختار جميع حزبه أولًا) لأنه ترجيح له بلا مرجِّح، ويُفضي إلى عدم التساوي (ولا السَّبْق) -بسكون الباء- بمعنى المسابقة بالخيل والإبل (عليه) أي: على ذلك المذكور، بأن يتسابقا على جعل رئيس الحزبين واحدًا، وعلى أن الخيرة في تمييزهما إليه ونحوه.

(ولا يُشترط) للمناضلة (استواء عدد الرماة) فلو كان أحد الحزبين عشرة، والآخر ثمانية ونحو ذلك، صح.

(وإن بان بعضُ الحزب كثيرَ الإصابة، أو عكسه، فادَّعى) الحزبُ الآخر (ظنَّ خلافه، لم يُقبل) أي: لم يُسمع منه ذلك؛ لأن شرط دخوله

ص: 175

في العقد أن يكون من أهل الصنعة دون الحذق، كما لو اشترى عبدًا على أنه كاتب، فبان حاذقًا أو ناقصًا، لم يؤثر.

الشرط (الثاني: معرفة عدد الرِّشق -بكسر الراء- وهو) عدد (الرمي) وأهل العربية يخصونه فيما بين العشرين والثلاثين، وبفتحها: الرمي، وهو مصدر رشقت الشيء رشقًا.

قال المصنف في "الحاشية": الرَّشق -بفتح الراء- الرمي نفسه. والرِّشق: الوجه من الرمي، إذا رمى القوم بأجمعهم جميع السهام، وقيل: الرشق السهام نفسها.

وكذا في "المستوعب"، و"المطلع" عن الأزهري

(1)

: الرشق -بكسر الراء- عدد الرمي.

واشتُرط العلم به؛ لأنه لو كان مجهولًا، أفضى إلى الاختلاف؛ لأن أحدهما يريد القطع

(2)

، والآخر يريد الزيادة.

(وليس له عدد معلوم، فأي عدد اتفقوا عليه، جاز) لأن الغرض معرفة الحَذقِ.

(و) تُعتبر معرفة (عدد الإصابة، بأن يقول) العاقد: (الرِّشق عشرون، والإصابةُ خمسة ونحوه) كستة أو ما يتفقان عليه؛ لأن الغرض معرفة الحَذْق، ولا يحصُل إلا بذلك.

(إلا أنه لا يصح اشتراطُ إصابة تندر، كإصابة جميع الرِّشق، أو تسعة من عشرة ونحوه) لبعد إصابة ذلك.

(1)

المطلع ص / 270، وانظر: تهذيب اللغة (8/ 315) مادة (رشق)، والزاهر ص / 541.

(2)

في "ذ": "القلع".

ص: 176

(ويُشترط استواؤهما) أي: المتناضلين (في عدد الرِّشْق، و) عدد (الإصابة و) في (صفتها) أي: الإصابة، من خوارق ونحوها (وسائر أحوال الرمي) لأن موضوعها على المساواة، فاعتبرت، كالمسابقة على الحيوان.

(فإن جعلا رِشْق أحدهما عشرة، و) رِشْق (الآخر عشرين، أو شرطا أن يصيب أحدهما خمسة، و) أن يصيب (الآخر ثلاثة، أو شرطا إصابة أحدهما خواسق، والآخر خواصل) ويأتي معناهما (أو شرطا أن يحط أحدهما من إصابته سهمين، أو) شرطا (أن يحط سهمين من إصابته بسهم من إصابة صاحبه، أو شرطا أن يرمي أحدهما من بُعْدٍ، و) يرمي (الآخر من قُرب، أو أن يرمي أحدهما وبين أصابعه سهم، والآخر بين أصابعه سهمان، أو أن يرمي أحدهما وعلى رأسه شيء، والآخر خال عن شاغل، أو) شرطا (أن يحط عن أحدهما واحدًا من خطئه، لا عليه ولا له، وأشباه هذا مما تفوت به المساواة، لم يصح) لمنافاته لموضوع المسابقة.

وإذا عقدا ولم يذكرا قوسًا صح؛ لما تقدم

(1)

. ويستويان في العربية والفارسية.

الشرط (الثالث: معرفة) نوع (الرمي هل هو مفاضلة ومحاطّة، أو مبادرة) لأن غرض الرماة يختلف، فمنهم من إصابته في الابتداء أكثر منها في الانتهاء، ومنهم من هو بالعكس، فوجب اشتراط ذلك؛ ليعلم ما دخل فيه.

(فالمفاضلة: أن يقولا: أينا فضل صاحبه بإصابة أو إصابتين أو ثلاث إصابات ونحوه من عشرين رمية، فقد سبق، فأيهما فضل صاحبه

(1)

(9/ 163).

ص: 177

بذلك، فهو السابق) لوجود الشرط.

(وتُسمَّى) المفاضلة: (محاطَّة؛ لأن ما تساويا فيه من الإصابة محطوط غير مُعتدٍّ به) ذكره في "الشرح". وفي "المنتهى": المُحاطَّة: أن يحطَّ ما تساويان فيه من إصابة من رمي معلوم مع تساويهما في الرميات، فأيهما فضل بإصابة معلومة، فقد سبق. قال في "شرحه": والفرق بين المفاضلة والمحاطَّة: أن المُحاطَّة يقدر فيها الإصابة من الجانبين بخلاف المفاضلة. واستدلّ له بكلام المجد في "شرحه".

(ويلزم) في المفاضلة (إكمال الرِّشْق، إذَا كان فيه) أي: في إكماله (فائدة) فإذا قالا: أينا فضل صاحبه بثلاث إصابات من عشرين رمية فهو سابق، فرميا اثني عشر سهمًا، فأصابها أحدهما وأخطأها الآخر كلها، لم يلزم إتمام الرشق؛ لأن أكثر ما يكون أن يصيب الآخر الثمانية الباقية ويخطئها الأول، ولا يخرج الأول بهذا عن كونه سابقًا، وإن كان الأول إنما أصاب في الاثني عشر عشرًا، لزمهما أن يرميا بقية الثلاثة عشر، فإن أصابا أو أخطآ أو أصابها الأول وحده، فقد سبق، ولا يحتاج إلى إتمام الرشق، وإن أصابها الآخر دون الأول، فعليهما أن يرميا الرابع عشر على ما تقدم.

ضابط ذلك: أنه متى بقي من عدد الرمي ما يمكن أن يسبق به أحدهما صاحبه، أو يسقط به سبق صاحبه، لزم الإتمام، وإلا؛ فلا.

(والمبادرة: أن يقولا: من سبق إلى خمس إصابات من عشرين رمية، فقد سبق، فأيهما سبق إليها مع تساويهما في الرمي، فهو السابق) لوجود الشرط.

(ولا يلزم) إذا سبق إليها واحد (إتمام الرمي) عشرين؛ لأن السبق

ص: 178

قد حصل بسبقه إلى ما شرطا السبق إليه.

(وإن أصاب كل واحد منهما خمسًا، فلا سابق) فيهما (فلا يكملان الرِّشْق) لأن جميع الإصابة المشروطة وُجِدَت، واستويا فيها.

(ومتى كان النضال بين حزبين، اشتُرط كون الرشق يمكن قسمه بينهم) أي: أهل كل حزب (بغير كسر، ويتساوون فيه، فإن كانوا ثلاثة، وجب أن يكون له ثلث، وكذا ما زاد) فإذا كانوا أربعة، وجب أن يكون له ربع، أو خمسة وجب أن يكون له خمس؛ لأنه إذا لم يكن كذلك، بقي سهم أو أكثر بينهم لا يمكن الجماعة الاشتراك فيه.

(ولا يجوز أن يقولوا: نُقرعُ، فمن خرجت قُرْعتُهُ، فهو السابق، ولا أنَّ مَن خرجت قُرعته، فالسَّبَق عليه) لأنّه لا يحصُل به الغرض المقصود من النضال (ولا أن يقولوا: نرمي، فأينا أصاب، فالسبق على الآخر) لأنه يشبه القمار.

(وإن شرطوا) أي: المتناضلون (أن يكون فلان مقدَّم حزبٍ، وفلانٌ مُقدَّمَ) الحزب (الآخر، ثم فلان ثانيًا من الحزب الأول، وفلان ثانيًا من الحزب الثاني، كان) الشرط (فاسدًا) لأنه لا يقتضيه العقد.

(وإن تناضل اثنان، وأخرج أحدُهما السبق، فقال أجنبي: أنا شريكك في الغرم والغنم، إن فضلك، فنصف السبق علي، وإنْ فضلته فنصفه لي، لم يجز) ذلك، ولم يصح؛ لما تقدم في شركة المفاوضة

(1)

(وكذلك لو كان المتناضلون ثلاثة، منهم) اثنان أخرجا، والثالث (مُحَلِّلٌ، فقال رابع للمستبقين: أنا شريككما في الغنم والغرم) لم يصح؛ لما تقدم.

(1)

(8/ 540).

ص: 179

(وإن فَضَل أحدُ المتناضلين صاحبَه، فقال المفضولُ) للفاضل: (اطرحْ فضلَكَ، وأعطيَك دينارًا، لم يجُزْ) لأنه أخْذٌ للمال في غير مقابلة مال، ولا ما في معناه (و‌

‌إن فسخا العقدَ، وعقدا عقدًا آخر، جاز)

لأن الحقَّ لهما، وكذا لو فسخه الفاضل، وأما المفضول، فليس له فَسْخه وتقدم

(1)

.

(وإذا أخرج أحدُ الزَّعيمين) أي: الرئيسين (السبق) بفتح الباء (من عنده، فسُبِقَ) بالبناء للمفعول (حزبُه، لم يكن على حزبه شيء) لأنه لم يشترطه عليهم.

(وإن شرطه) أي: السبق (عليهم، فهو عليهم بالسَّوية، ويُقسَم) السبق (على الحزب الآخر) وهم السابقون (بالسَّوية، مَن أصاب ومَن أخطأ) لأن مطلق الإضافة تقتضي التسوية.

(وإذا أطلقا الإصابةَ، تناوَلَها على أي صفة كانت) لأن أي صفة كانت تدخل في مُسمَّى الإصابة. وفي "المغني": أن صفة الإصابة شرطٌ لصحة المناضلة، ومشى عليه فيما تقدم.

(فإن قالا: خواصل) بالخاء المعجمة والصاد المهملة (فهو بمعناه، ويكون تأكيدًا) لأنه اسم لها كيف كانت. قال الأزهري

(2)

: الخاصل الذي أصاب القرطاس، وقد أخصله، إذا أصابه.

(ومن صفات الإصابة خواسق) بالخاء المعجمة والسين المهملة (وهو ما خرق الغرض، وثبت فيه.

(1)

(9/ 170 - 171).

(2)

تهذيب اللغة (7/ 141، 142) مادة (خصل)، والزاهر ص / 539.

ص: 180

وخوازق -بالزاي-، ومقرطس بمعناه) قال الأزهري

(1)

والجوهري

(2)

: الخوازق -بالزاي- لغة في الخاسق، فهما شيء واحد.

(وخوارق -بالراء المهملة- وهو ما خرق الغرض، ولم يثبت فيه، ويُسمَّى مَوارِقَ.

وخواصِرُ) بالخاء المعجمة والصاد والراء المهملتين (وهو ما وقع في أحد جانبي الغرض) ومنه قيل: الخاصرة؛ لأنها في جانب الإنسان.

(وخوارم بها خرم جانب الغرض.

وحوابي: ما وقع بين يدي الغرض ثم وثب إليه) ومنه يقال: حبا الصبي.

(فبأي صفة قيَّدوا) أي: المتناضلون (الإصابة، تقيَّدت) الإصابة (بها) لأنه وصف وقع العقد عليه، فوجب أن يقيَّد به ضرورة الوفاء بموجبه (وحصل السبق بإصابته) أي: إصابة ذلك المقيد على ما قيَّدوا به.

(وإنْ شرطا إصابة موضع من الغرض كالدائرة فيه، تقيَّد) السبق (به) لأن الغرض يختلف باختلاف ذلك، فتعين أن تتقيد المناضلة به؛ تحصيلا للغرض.

(وإذا كان شرطهم خواصل، فأصاب) الغرض (بنصل السهم حُسب له كيف كان) لما تقدم أن الخاصل: الذي أصاب القرطاس.

(فإن أصاب) السهمُ الغرضَ (بعرضه، أو بفُوقه) وهو ما يوضع فيه الوتر (نحو أن ينقلب السهم بين يدي الغرض، فيصيب فُوقُه الغرضَ، أو انقطع السهم قطعتين فأصابت القطعة الأخرى) الغرض (لم يُعتدَّ به) لأنه

(1)

تهذيب اللغة (7/ 20) مادة (خزق).

(2)

الصحاح (4/ 1469) مادة (خسق).

ص: 181

لا يُعدَّ إصابة.

‌الشرط (الرابع: معرفة قَدْر الغرض، طولًا وعرضًا وسُمكًا وارتفاعًا

من الأرض) لأن الإصابة تختلف باختلاف ذلك، فوجب العلم به، أشبه تعيين النوع.

(وهو) أي: الغرض (ما يُنصَبُ في الهدف، من قرطاس أو جلد أو خشب أو غيرها) سُمِّي غرضًا؛ لأنه يقصد (ويُسمَّى شارة) وشَنًّا

(1)

. وفي "القاموس"

(2)

: القرطاس: كل أديم ينصب للنضال.

(والهدف: ما يُنصب الغرض عليه، إما تراب مجموع أو حائط، أو غيرهما) كخشبة وحجر.

(ولا يُعتبر) لصحة النضال (ذكر المبتدئ) منهما (بالرمي) خلافًا "للترغيب"؛ لأنه لا أثر له، وكثير من الرماة يختار التأخر (فإن ذكراه) أي: المبتدئ (كان أولى) وفي "شرح المنتهى": يُستحب تعيين المبتدئ بالرمي عند عقد المناضلة. انتهى. أي: لأنه أقطع للنزاع.

(وإن أطلقا) بأن لم يعينا المبتدئ عند العقد (ثم تراضيا بعد العقد على تقديم أحدهما، جاز) لأن الحق لا يعدوهما.

(وإن تشاحَّا في المبتدئ منهما) بالرمي (أُقرع بينهما) لأنه لابُدَّ أن يبتدئ أحدهما بالرمي؛ لأنهما لو رميا معًا أفضى إلى الاختلاف، ولم يعرف المصيب منهما، وقد استويا في الاستحقاق فصير إلى القُرعة (ولو كان لأحدهما مزية بإخراج السبق) -بفتح الباء- فلا يقدم بذلك. وقيل:

(1)

الشَّنّ: بفتح الشين، هو الغرَض، أصله الجلد البالي، وجمعه شنان، ككلب وكلاب. انظر: تحرير ألفاظ التنبيه للنووي، ص / 230، والمصباح المنير ص / 442، والقاموس المحيط ص / 210، مادة (شنن).

(2)

ص / 729، مادة (قرطس).

ص: 182

يقدم بذلك؛ لأن له نوعًا من الترجيح، فعلى هذا: إن كان العوض من أحدهما، قُدِّم صاحبه.

(وإن كان المُخرج) للعوض (أجنبيًّا، قُدِّم من يختاره منهما، فإن لم يختر، وتشاحا، أُقرع بينهما) وما ذكرته من أن ذلك مفرَّع على القول الثاني صريح كلام "المبدع"، ففي كلام المصنف نظر؛ لأنه يقتضي أن ذلك مفرَّع على المذهب.

(وأيهما كان أحقَّ بالتقديم، فبَدَره الآخرُ فرمى، لم يُعتدَّ له بسهمه، أخطأ أو أصاب) لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمِل عملًا ليسَ عليهِ أمرنا فهو ردٌّ"

(1)

.

(وإذا بدأ أحدُهما في وَجْهٍ، بدأ الآخرُ في) الوجه (الثاني) تعديلًا بينهما (فإن شرطا البداءةَ لأحدهما في كل الوجوه لم يصح) لأن موضوع المناضلة على المساواة، وهذا تفاضل.

(وإن فعلا ذلك من غير شَرْطٍ برضاهما، صح) لأن البداءة لا أثر لها في الإصابة ولا في وجود الرمي.

(وإذا رمى البادئ بسهمٍ، رمى الثاني بسهمٍ كذلك، حتى يقضيا رمييهما) لأنه العُرف.

(وإن رَمَيا سهمين سهمين، فَحَسَنٌ) وكذا لو رميا خمسًا خمسًا، أو نحوه.

(وإن شرطا أن يرمي أحدهما رِشْقَه، ثم يرمي الآخر) رِشْقَه، جاز.

(أو) اشترطا أن (يرمي أحدُهما عددًا، ثم يرمي الآخرُ مثلَه، جاز) وعُمل به؛ لحديث: "المؤمنُونَ عندَ شروطهم"

(2)

.

(1)

تقدم تخريجه (1/ 46) تعليق رقم (1).

(2)

تقدم تخريجه (7/ 107) تعليق رقم (3).

ص: 183

(و‌

‌إن شَرَطا أن يبدأ كلُّ واحدٍ منهما من وجهين متواليين، جاز)

لما تقدم.

(والسُّنة أن يكون لهما غرضان، يرميان أحدَهما، ثم يمضيان إليه فيأخذان السهام، ثم يرميان الآخر) لفعل الصحابة

(1)

رضي الله عنهم. وقد رُوي مرفوعًا: "ما بينَ الغرضين روضةٌ من رياضِ الجنة"

(2)

. وقال إبراهيم التيمي: رأيت حذيفة ينشد

(3)

بين الهدفين يقول: أنا بها، في قميص

(4)

. وعن ابن عمر

(5)

رضي الله عنهما مثل ذلك (وإن جعلوا غرضًا

(1)

منهم: ابن عمر، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم كما يأتي بعد في كلام المؤلف.

ومنهم: عقبة بن عامر رضي الله عنه، أخرج مسلم في الإمارة، حديث 1919، عن فقيم اللخيمي أن قال لعقبة بن عامر: تختلف بين هذين الغرضين، وأنت كبير يشق عليك

الحديث.

وأخرج الطبراني في فضل الرمي (ق 7)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 224) عن الأوزاعي، عن بلال بن سعد، قال: أدركتهم يشتدون بين الأغراض يضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل كانوا رهبانًا.

(2)

أورده الديلمي في الفردوس (2/ 43) حديث 2245، عن أبي هريرة، وأورده ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 164) بلفظ: ما بين الهدفين

وقال: لم أجده هكذا إلا عند صاحب مسند الفردوس من جهة ابن أبي الدنيا بإسناده عن مكحول، عن أبي هريرة رفعه، وإسناده ضعيف مع انقطاعه.

وقال ابن الملقن في البدر المنير (9/ 436): غريب.

(3)

كذا في الأصول، وفي مصادر التخريج:"يشتد".

(4)

أخرجه سعيد بن منصور (2/ 184) رقم 2457، 2458، وابن أبي شيبة (12/ 501) عن إبراهيم التيمي عن أبيه.

(5)

أخرج سعيد بن منصور (2/ 185) رقم 2459، 2460، وابن أبي شيبة (12/ 502)، والطبراني في الكبير (12/ 208) رقم 13078، عن مجاهد قال: رأيت ابن عمر يشتد بين الهدفين في قميص ويقول: أنا بها أنا بها. وجوَّد إسناده ابن الملقن في البدر المنير (9/ 440)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 269): رواه الطبراني ورجاله =

ص: 184

واحدًا، جاز) لأن المقصود يحصُل به.

(وإذا تشاحَّا في) موضع (الوقوف) هل هو عن يمين الغرض، أو يساره، ونحو ذلك (فإن كان الموضع الذي طلبه أحدهما أولى، مثل أن يكون في أحد الموقفين يستقبل الشمس، أو) يستقبل (ريحًا يؤذيه استقبالها، ونحو ذلك، والآخر يستدبِرُها) أي: الشمس أو الريح (قُدِّم قول من طلب استدبارها) لأنه أحظ لهما (إلا أن يكون في شرطها) أي: المناضلة (استقبال ذلك، فالشرط أولى) بالاتباع؛ لدخولهم عليه (كما لو اتفقا على الرمي ليلًا) فإنه يُعمل بما اتفقا عليه.

(فإن كان الموقفان سواء) في استدبار الشمس، أو الريح (كان ذلك) أي: الوقوف (إلى الذي يبدأ، فيتبعه الآخر، فإذا كان) أي: صار (في الوجه الثاني وقف الثاني، حيث شاء ويتبعه الأول) ليستويا.

(وإذا أطارت الريح الغرض، فوقع السهمُ موضعَهُ، فإن كان شرطهم خواصل، احتُسِبَ له به) لأنه لو كان الغرض موضعه، لأصابه، وكذا لو كانا أطلقا الإصابة، ولو كان الغرض جلدًا وخيط عليه شنبر كشنْبر المنخل، وجعلا له عرىً، وخيوطًا تعلق به في العرى، فأصاب السهم الشَّنبر، أو العرى، وشرطهم خواصل؛ اعتُدَّ به؛ لأن ذلك من الغرض، وأما المعاليق وهي الخيوط فلا يعتدُّ بإصابتها مطلقًا؛ لأنها ليست من الغرض.

وإن أصاب السهم سهمًا في الغرض قد علق نصله فيه وباقيه خارج منه، لم يُحتسب له به، ولا عليه.

= ثقات. وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 166): وإسناده حسن.

ص: 185

وإن كان السهم قد غرق في الغرض إلى فُوقِهِ، حُسبت له إصابته؛ لأنه لو لم يكن لأصاب الغرض يقينًا.

وإذا تناضلا على أن الإصابة حوابي، على أن من خسق منهما كان بحابيين، أو على أن ما قرب من الشن، سقط الذي هو منه أبعد، جاز؛ قاله القاضي وابن عقيل.

(وإن كان) شرطهم (خواسق) وأطارت الريح الغرض، فوقع السهم موضعه (لم يُحتسب له) أي: رامي السهم (به، ولا عليه) لأنا لا ندري، هل كان يثبت في الغرض لو كان موجودًا، أو لا؟

(وإن وقع) السهم (في غير موضع الغرض، احتُسِب به على راميه) لتبيّن خطئه.

(وإن وقع) السهم (في الغرض في الموضع الذي طار إليه) الغرض (حُسبت) الرمية (عليه أيضًا، إلا أن يكونا اتفقا على رميه في الموضع الذي طار إليه، وكذا الحكم لو ألقت الريح الغرض على وجهه) إذا وقع السهم فيه، حُسب على راميه.

(وإن عرض) لأحدهما (عارض مِن كَسْرِ قوس، أو قَطْعِ وَتَرٍ، أو ريح شديدة، لم يُحتسب عليه ولا له بالسهم) لأن العارض كما يجوز أن يصرفه عن الصواب إلى الخطأ، يجوز أن يصرفه عن الخطأ إلى الصواب.

وإن حال حائل بينه وبين الغرض، فنفذ منه وأصاب الغرض، حُسب له؛ لأن هذا من سداد الرمي وقوته.

(وإن عرض مطر أو ظُلمة) عند الرمي (جاز تأخير الرمي) لأن المطر يرخي الوتر، والظُّلمة عُذر لا يمكن معه فعل المعقود عليه؛ ولأن

ص: 186

العادة الرمي نهارًا، إلا أن يشترطاه ليلًا، فيلزم كما تقدم

(1)

.

(ويُكره للأمين والشهود) وغيرهم ممن حضر (مدح أحدهما، أو) مدح (المصيب، وعيب المخطئ، لما فيه من كَسْرِ قلب صاحبه) وغيظه.

قال في "الفروع": ويتوجَّه في شيخ العلم وغيره مدح المصيب من الطلبة وعيب غيره كذلك.

وفي "الإنصاف": قلت: إن كان مدحه يفضي إلى تعاظم الممدوح، أو كَسْرِ قلب غيره، قوي التحريم، وإن كان فيه تحريض على الاشتغال ونحوه، قوي الاستحباب. والله أعلم.

(ويُمنع كلٌّ منهما من الكلام الذي يغيظ صاحبه، مثل أن يرتجز ويفتخر، ويتبجح بالإصابة، ويُعنف صاحبه على الخطأ، أو يظهر أنه يعلمه، وكذا الحاضر معهما) يمنع من ذلك. وإن أراد أحدهما التطويل والتشاغل عن الرمي بما لا حاجة إليه عن مسح القوس والوتر، ونحو ذلك، لعل صاحبه ينسى القصد الذي أصاب به، أو يفتر، منع من ذلك، وطولب بالرمي، ولا يزعج بالاستعجال بالكلية، بحيث يمنع من تحري الإصابة.

(وإن قال قائل: ارْمِ هذا السهم، فإن أصبتَ به فلك درهم، وإن أخطأتَ، فعليك درهم، لم يصح) ذلك (لأنه قمار) وإن قال من أراد رمي سهم لحاضره: إن أخطأتُ فلك درهم، لم يجز؛ لأن الجعل إنما يكون في مقابلة عمل، ولم يوجد من الحاضر عمل، فيستحق به شيئًا.

(وإن قال) إنسان لآخر: ارمِ هذا السَّهم و (إن أصبتَ به فلك درهم) صح جعالة، لا نضالًا.

(1)

(9/ 185).

ص: 187

(أو قال) لآخر: (ارمِ عشرة أسهم، فإن كان صوابك أكثر من خطئِكَ، فلك دِرهمٌ) صح جعالة.

(أو قال:) ارمِ عشرة أسهم و (لكَ بكلِّ سهم أصبتَ به منها درهم، أو) لك (بكلِّ سهم زائد على النصف من المصيبات درهم) صح جعالة.

(أو قال): (ارمِ عشرة أسهم، فـ (ـإن كان صوابك أكثر) من خطئِكَ (فلك بكلِّ سهمٍ أصبت به درهم، صح) ذلك (وكان جعالة) لأنه بذل مال على ما فيه غرض صحيح، ويلزمه الجعل بالإصابة التي شرطها (لا نضالًا) لأن النضال إنما يكون بين اثنين أو جماعة على أن يرموا جميعًا، ويكون الجعل لبعضهم إذا كان سابقًا.

(وإن شرطا أن يرميا) أي: المتناضلان من اثنين أو حزبين (أرشاقًا) جمع رِشق، وتقدم

(1)

معناه (كثيرة معلومة، جاز.

وإن شرطا أن يرميا منها كل يوم قدرًا اتفقا عليه، جاز) لحديث:"المؤمنون عند شروطهم"

(2)

.

(وإن أطلقا العقد جاز، وحمل) الإطلاق (على التعجيل، والحلول، كسائر العقود) من نحو بيع وصداق (فيرميان من أول النهار إلى آخره) لأنه العادة (إلا أن يعرض عُذر من مرض أو غيره، فإذا جاء الليل، تركاه إلا أن يشترطا) الرمي (ليلًا، فيلزم) الشرط، وتقدم

(3)

.

(فإن كانت الليلة مُقمِرة مُنيرة اكتُفي بذلك) لحصول المقصود به (وإلا) بأن كانت مُظلمة (رَمَيَا في ضوء شمعة أو مشعل) ليتأتَّى تَحرِّي الإصابة.

(1)

(9/ 176).

(2)

تقدم تخريجه (7/ 107) تعليق رقم (3).

(3)

(9/ 185).

ص: 188

‌باب العارية

بتخفيف الياء وتشديدها، وأصلها من عار، إذا ذهب وجاء، ومنه قيل للبطّال: عيَّار؛ لتردده في بطالته. والعرب تقول: أعاره وعاره، كأطاعه وطاعه.

قال الأصحاب تبعًا للجوهري

(1)

: هي مشتقة من العار. وفيه شيء، لأنه صلى الله عليه وسلم فعلها. وأصل المادة فيما قيل: العري، وهو: التجرُّد، فَسُمِّيت عارية؛ لتجرُّدِها عن العوض، كما تُسمَّى النخلة الموهوبة عرية؛ لتعريها عن العوض. وقيل: من التعاور، أي: التناوب؛ لجعل مالكها للغير نوبة في الانتفاع بها.

(وهي) أي: العارية (العين المعارة) أي: المأخوذة من مالكها، أو مالك منفعتها، أو مأذونهما؛ للانتفاع بها مطلقًا، أو زمنًا معلومًا بلا عوض، وتطلق كثيرًا على الإعارة مجازًا، ويرد على تعريفه الدور. والعارة بمعنى العارية، قال تميم بن مُقبِل

(2)

:

فأخْلِقْ وأتلِفْ، إنما المالُ عارة

وكُلْهُ مع الدَّهر الذي هو آكله

(والإعارةُ: إباحةُ نَفْعِها بغير عوض) من المستعير أو غيره. والإباحة رفع الحرج عن إباحة

(3)

ما ليس مملوكًا

(4)

.

(وهي) أي: الإعارة (مندوبٌ إليها) لأنها مِن البِرِّ والتقوى، وقال

(1)

الصحاح (2/ 761).

(2)

ديوانه ص / 243.

(3)

في "ح" و"ذ": "تناول".

(4)

في "ذ": "مملوكًا له".

ص: 189

تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}

(1)

، وقوله تعالى:{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}

(2)

قال ابن عباس وابن مسعود: "هي العواري"

(3)

. وقوله صلى الله عليه وسلم: "العاريةُ مُؤداةٌ"

(4)

والمعنى شاهد بذلك، فهي كهبة الأعيان.

(1)

سورة المائدة، الآية:2.

(2)

سورة الماعون، الآية:7.

(3)

أخرجه الطبري في تفسيره (30/ 316 - 319)، والبيهقي (6/ 88).

وأخرجه الطبراني في الكبير (9/ 206) رقم 9005، 9006، 9007، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

وأخرجه الحاكم (2/ 536)، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.

(4)

أخرجه أبو داود في البيوع، باب 90، حديث 3565، والترمذي في البيوع، باب 39، حديث 1265، وفي الوصايا، باب 5، حديث 2120، والنسائي في الكبرى (3/ 410 - 411) حديث 5781 - 5782، وابن ماجه في الصدقات، باب 5، حديث 2398، 2399، والطيالسي ص / 154، حديث 1128، وعبد الرزاق (4/ 148، 8/ 181، 9/ 48) حديث 7277، 14796، 16308، وسعيد بن منصور (1/ 125) حديث 427، وابن أبي شيبة (6/ 145)، وأحمد (5/ 267، 293)، وابن الجارود (3/ 274) حديث 1023، والروياني في مسنده (2/ 307) حديث 1257، وعبد الله في مسائله (3/ 17 - 18) حديث 3952، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (11/ 297) حديث 4460، 4461، وابن حبان "الإحسان"(11/ 491) حديث 5094، والطبراني في الكبير (8/ 135، 137، 143، 148) حديث 7615، 7621، 7637، 7647، 7648، وفي مسند الشاميين (1/ 309، 360) حديث 541، 621، والدارقطني (3/ 40)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 631)، والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 64) حديث 50، والبيهقي (6/ 72، 88)، وابن عبد البر في التمهيد (12/ 39)، والبغوي في شرح السنة (8/ 325) حديث 2163، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 210) حديث 1551، والضياء في المختارة (6/ 149 - 151) حديث 2144 - 2147 كلهم من طرق عن أبي أمامة رضي الله عنه.

قال الترمذي: حديث حسن غريب. =

ص: 190

(ويُشترط كونها) أي: العين المُعارة (منتفَعًا بها مع بقاء عينها) كالدور، والعبيد، والثياب، والدواب، ونحوها؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم "استعارَ من أبي طلحةَ فرسًا"

(1)

و"من صفوان أدراعًا"

(2)

، وسئلَ عن حقِّ الإبلِ؟

= وقال في الموضع الثاني: حسن صحيح.

وقال البغوي: حديث حسن. وقوَّى إسناده الذهبي في السير (8/ 287)، وحسَّنه ابن الملقن في البدر المنير (6/ 707)، وضعفه ابن حزم في المحلى (9/ 172)، فتعقَّبه ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 90) بقوله: وخالف ابن حزم فوهم في توهينه. انظر: البدر المنير (6/ 708).

وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 47): "وفيه إسماعيل بن عياش، رواه عن شامي -وهو شرحبيل بن مسلم- سمع أبا أمامة، وضعفه ابن حزم بإسماعيل، ولم يصب

وصححه ابن حبان من طريق حاتم".

وأخرجه ابن ماجه في الصدقات باب 5، حديث 2399، والطبرابي في مسند الشاميين (1/ 360) حديث 621، والدارقطني (4/ 70)، والضياء في المختارة (6/ 150) حديث 2145، 2147، وجوَّد إسناده ابن الملقن في البدر المنير (6/ 709). وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 42): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.

وأخرجه أحمد (5/ 293) والطحاوي في شرح مشكل الآثار (11/ 297) حديث 4460، عمَّن سمع النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه البخاري في الهبة، باب 32، حديث 2627، وفي الجهاد، باب 46، 50، 55، 81، 115، 116، 164، حديث 2857، 2862، 2867، 2908، 2968، 2969، 3040، وفي الأدب، باب 39، 116، حديث 6033، 6212، ومسلم في الفضائل، حديث 2307 (49).

(2)

روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم، منهم:

أ - صفوان بن أمية رضي الله عنه: أخرجه أبو داود في البيوع، باب 88، حديث 3562، والنسائي في الكبرى (3/ 410) حديث 5779، وأحمد (3/ 401، 6/ 465)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (11/ 292) حديث 4455، والدارقطني (3/ 39)، والحاكم (2/ 47)، والبيهقي (6/ 89)، وفي معرفة السنن والآثار (8/ 299)، حديث 11967، والبغوي في شرح السنة (8/ 224) حديث =

ص: 191

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= 2161، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 210) حديث 1548، والضياء في المختارة (8/ 23) حديث 13، من طريق يزيد بن هارون، عن شريك، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه.

وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (11/ 291) حديث 4454، والطبراني في الكبير (8/ 50) حديث 7339، والضياء في المختارة (8/ 22) حديث 11، من طريق شريك. وأخرجه الدارقطني (3/ 40)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 210) حديث 1549، من طريق قيس بن الربيع، كلاهما عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة، عن أمية بن صفوان، عن أبيه.

وأخرجه النسائي في الكبرى (3/ 410) حديث 5780، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (11/ 292) حديث 4456، من طريق إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية، مرسلًا.

وأخرجه أبو داود في البيوع، باب 88، حديث 3563، وابن أبي شيبة (6/ 143)، والطحاري في شرح مشكل الآثار (11/ 295) حديث 4459، والدارقطني (3/ 40)، والبيهقي (6/ 89، 7/ 18)، وابن عبد البر في التمهيد (12/ 42)، من طريق جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أناس من آل عبد الله بن صفوان، مرسلًا.

وأخرجه أبو داود في البيوع، باب 88، حديث 3564، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (11/ 293) حديث 4457، والدارقطني (3/ 40)، والبيهقي (6/ 89)، من طريق أبي الأحوص، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عطاء بن أبي رباح، عن ناس من آل صفوان بن أمية.

وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (11/ 294) حديث 4458، من طريق أبي الأحوص، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفوان بن أمية.

وأخرجه النسائي في الكبرى (3/ 409) حديث 5778، من طريق حجاج بن أرطاة، عن عطاء بن أبي رباح، مرسلًا.

وقد ذكر البخاري في التاريخ الكبير (2/ 8) بعض طرق هذا الحديث، ولم يحكم عليه بشيء، وأعله ابن عبد البر في التمهيد (12/ 40) بالاضطراب سندًا ومتنًا.

وقال ابن التركماني في الجوهر النقي (6/ 90): هذا الحديث اضطرب سندًا ومتنًا، وجميع وجوهه لا يخلو عن نظر، ولهذا قال صاحب التمهيد [12/ 41]: الاضطراب =

ص: 192

فقال: إعارةُ دلوها، وإطراقُ فحلها"

(1)

، فثبت ذلك في المنصوص عليه، والباقي قياسًا، وخرج بذلك ما لا يُنتفع به إلا مع تلف عينه، كالأطعمة والأشربة، لكن إن أعطاها بلفظ الإعارة، فقال ابن عقيل: احتمل أن يكون إباحة الانتفاع على وجه الإتلاف.

(وتنعقد) الإعارة (بكل قولٍ، أو فعلٍ يدلُّ عليها، كقوله: أعرتُك هذا) الشيء (أو أبحتُك الانتفاع به، أو يقول المستعير: أعرني هذا، أو

= فيه كثير، ولا حجة فيه عندي في تضمين العارية.

وقال ابن عبد الهادي في المحرر ص / 327، حديث 931: رواته ثقات، وقد أُعِلَّ.

وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 67): وله طرق من وجوه يشد بعضها بعضًا، وقد روي من حديث جابر، وابن عباس، وهو من الأحاديث المشهورات الحسان.

ب - ابن عباس رضي الله عنهما: أخرجه الدارقطني (3/ 38)، والحاكم (2/ 47)، والبيهقي (6/ 88). وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.

ج - جابر رضي الله عنه: أخرجه الحاكم (3/ 48)، والبيهقي (6/ 89). وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.

د - عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أخرجه الدارقطني، وفي سنده حجاج بن أرطاة، وهو صدوق كثير الخطأ والتدليس، كما قال الحافظ في التقريب (1127).

هـ - علي بن الحسين رحمه الله مرسلًا: أخرجه البيهقي (6/ 89)، وقال: وبعض هذه الأخبار -وإن كان مرسلًا- فإنه يقوى بشواهده مع ما تقدم من الموصول.

وفي الباب عن يعلى بن أمية رضي الله عنه: أخرجه أبو داود في البيوع، باب 90، حديث 3566، والنسائي في الكبرى (3/ 409) حديث 5776، 5777، وأحمد (4/ 222)، وابن حبان "الإحسان"(11/ 22) حديث 4720، والدارقطني (3/ 39)، والضياء في المختارة (8/ 22) حديث 12، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه، وعند الضياء: عن يعلى بن صفوان بن أمية، عن أبيه.

قال ابن حزم في المحلى (9/ 173): هذا حديث حسن ليس في شيء مما روي في العارية خبر يصح غيره.

(1)

أخرجه مسلم في الزكاة، حديث 988 (28).

ص: 193

أعطنيه أَرْكبه، أو أحْمِل عليه، فيسلِّمه) المعير (إليه ونحوه) كـ: استرح على هذه الدابة، وكدفعه الدابة لرفيقه عند تَعَبِه، وتغطيته بكسائه إذا رآه برد؛ لأنها من البِر، فصحَّت بمجرد الدفع، كدفع الصدقة. ومتى ركب الدابة، أو استبقى الكساء عليه، كان ذلك قَبولًا. قال في "الترغيب": يكفي ما دلَّ على الرضا من قول، أو فعل، كما لو سمع من يقول: أردت من يعيرني كذا، فأعطاه كذا؛ لأنها إباحة لا عقد.

(ويُعتبر) -أيضًا- (كونُ المعير أهلًا للتبرُّع شرعًا) لأن الإعارة نوع من التبرُّعِ؛ لأنها إباحة منفعة، فلا يعير مكاتَبٌ، ولا ناظر وقف، ولا ولي يتيم من ماله.

(و) يُعتير -أيضًا- (أهليَّة مستعير للتبرُّع له) بتلك العين، بأن يصح منه قَبولها هبة، فلا تصح إعارة المصحف لكافر.

(وإن شَرَط) المعيرُ (لها) أي: الإعارة (عوضًا معلومًا في) عارية (مؤقتة) بزمن معلوم (صحَّ) ذلك (وتصير إجارةً) تغليبًا للمعنى، كالهبة إذا شُرط فيها ثواب معلوم كانت بيعًا.

(وإن قال: أعرتُك عَبْدي) أو نحوه (على أن تعيرني فرسك) أو نحوه، ففعلا (فإجارةٌ فاسدة غير مضمونة؛ للجَهالة) لأنهما لم يذكرا مدة معلومة، ولا عملًا معلومًا. قال الحارثي: وكذا لو قال: أعرتك هذه الدابة لتعلفها، أو هذا العبد لتمونه. انتهى. وإن عَيّنا المدة والمنفعة، صحت إجارة؛ لما تقدم.

(وتصحُّ إعارة الدراهم، و) إعارة (الدنانير للوزن) ولِيُعَاير عليها، كإجارتها لذلك، وكذا المكيل والموزون.

(فإن استعارَها) أي: الدراهم والدنانير (ليُنفِقها) أو أطلق (أو

ص: 194

استعارَ مكيلًا، أو موزونًا) ليأكله، أو أطلق (فقَرْضٌ) تغليبًا للمعنى، فيملكه بالقبض.

(وتصح) الإعارة (في) ذي (المنافع المباحة) دون المُحرَّمة، كالزمر والطبل والغناء.

(و) تصح (إعارة كلب صيد) أو ماشية، أو حرث (و) إعارة (فحل للضِّراب) لأن نفع ذلك مباح، ولا محظور في إعارتهما لذلك، والمنهي عنه هو العوض المأخوذ في ذلك، ولذلك امتنعت إجارته.

(وتحرم إعارةُ بُضْعٍ) -بضم الباء- أي: فرج؛ لأنه لا يُباح إلا بملك أو نكاح.

(و) تحرم إعارة (عبد مسلم لكافر لخدمته خاصة، كـ (ـما تحرم (إجارته لها) أي: للخدمة. فإن أعاره أو أجره لعمل في الذمة غير الخدمة صحّتا، وتقدم في الإجارة

(1)

.

(و) تحرم (إعارةُ صيدٍ) لمُحْرِمٍ؛ لأن إمساكه له مُحَرَّمٌ.

(و) تحرم إعارة (ما يَحْرُمُ استعماله في الإحرام) من نحو طِيب (لمُحْرِمٍ) لأنه معاونة على الإثم والعدوان.

(فإن فعل) بأن أعار صيدًا لمُحْرِمٍ (فتلف الصيد) بيد المُحْرِمِ (ضَمِنه) المُحْرِمُ (منه

(2)

بالجزاء، وللمالك بالقيمة) وتقدم في الإحرام توضيحه

(3)

.

(و) تحرم (إعارةُ عين لنفْعٍ مُحَرَّمٍ، كإعارة دار لمن يتخذها كنيسة، أو يشربُ فيها مسكرًا، أو يعصي الله فيها، وكإعارة سلاح لقتال في الفتنة، وآنية ليتناول بها مُحَرَّمًا) من نحو خمر (و) إعارة (أواني الذهب

(1)

(9/ 62).

(2)

في "ذ" ومتن الإقناع (2/ 556): "لله".

(3)

(6/ 143).

ص: 195

والفضة، و) إعارة (دابة ممن يؤذي عليها مُحترَمًا، و) إعارة (عبدٍ، أو أمَة لغناء، أو نَوحٍ، أو زَمْرٍ، ونحوه) لأن ذلك كله إعانة على الإثم والعدوان المنهي عنه، وكإجارة ذلك.

(وتجب إعارة مصحف لمُحتاجٍ إلى قراءة فيه، ولم يجد غيره، إن لم يكن مالكه محتاجًا إليه) وخرَّج ابن عقيل وجوب الإعارة -أيضًا- في كُتُبٍ للمحتاج إليها من القضاة والحكام وأهل الفتاوى. وقال ابن الجوزي: ينبغي لمن ملك كتابًا ألَّا يبخل بإعارته لمن هو أهل له، وكذلك ينبغي إفادة الطالب بالدلالة على الأشياخ وتفهيم المُشكِل.

"فائدة" قال المرُّوذي

(1)

: قلت لأبي عبد الله: رجل سقطت منه ورقة فيها أحاديث وفوائد، فأخذتها، ترى أن أنسخها وأسمعها؟ قال: لا، إلا بإذن صاحبها.

(ولا تعار الأَمَةُ للاستمتاع) بها في وطء ودواعيه؛ لأنه لا يُباح إلا بملك، أو نكاح (فإن وطئ) المستعيرُ الأمَةَ المُعارة (مع العلم بالتحريم، فعليه الحَدّ) لانتفاء الشُّبهة إذًا (وكذا هي) يلزمها الحَدُّ (إن طَاوَعتهُ) عالمة بالتحريم (وولده رقيق) تبعًا لأُمِّه، ولا يلحقه نسبه، لأنه ولد زِنى.

(وإن كان) وطئ (جاهلًا) بأن اشتبهت عليه بزوجته، أو سُرِّيَّتِهِ، أو جهل التحريم؛ لقُرْبِ عهده بالإسلام (فلا حَدَّ) عليه؛ لحديث:"ادرؤوا الحدودَ بالشبهاتِ"

(2)

(1)

انظر: مسائل عبد الله (3/ 945) رقم 1278، ومسائل ابن هانئ (2/ 34) رقم 1316، والآداب الشرعية (2/ 175 - 176).

(2)

لم نقف عليه -بهذا اللفظ- مسندًا في الكتب المسندة المعتبرة، قال ابن حزم في المحلى (8/ 235): ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قط من طريق فيها خير، ولا نعلمه) أيضًا جاء عنه عليه السلام أيضًا لا مسندًا ولا مرسلًا، وإنما هو قول رُوي عن ابن مسعود وعمر =

ص: 196

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فقط، وقال ابن كثير في تحفة الطالب ص / 226: لم أرَ هذا الحديث بهذا اللفظ. وقال الزيلعي في نصب الراية (3/ 333): غريب بهذا اللفظ. وقال الحافظ في الدراية (2/ 101): لم أجده مرفوعًا، وقال في موافقة الخُبْرِ الخَبَرَ (1/ 442): هذا الحديث مشهور بين الفقهاء وأهل أصول الفقه، ولم يقع لي مرفوعًا بهذا اللفظ

ثم قال (1/ 447): وقد وجدت خبر ابن عباس في موضع آخر ذكره شيخنا الحافظ أبو الفضل رحمه الله في شرح الترمذي، قال: وأما حديث ابن عباس فرواه أبو أحمد بن عدي في جزء خرجه من حديث أهل عمر والجزيرة من رواية ابن لهيعة، عن يزيد بن حبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ادرؤوا الحدود بالشبهات، وأقيلوا الكرام عثراتهم؛ إلا في حَدٍّ". وهذا الإسناد إن كان من بين ابن عدي وابن لهيعة مقبولين، فهو حسن.

وأخرجه ابن عساكر في تاريخه (68/ 189)، وأبو سعد السمعاني في الذيل -كما في المقاصد الحسنة ص / 74 - ، وأبو مسلم الكجي -ومن طريقة الرشاطي في اقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أسماء الصحابة ورواة الآثار، ومن طريقة ابن الأبار في المعجم في أصحاب القاضي الإمام أبي علي الصدفي ص / 233، وساقه بالسند أيضًا مختصرًا ابن الملقن في البدر المنير (8/ 611) - في قصة طويلة عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن الأبار: وهو مما نقد ابن عطية في أشباه له على الرشاطي، واعتقد جميعها فكاهات نسبها إيه، بل جعلها حكايات عنه، وقال: هي لغو وسقط، لا يحل أن تقرأ في جوامع المسلمين على عَمَرة المساجد، وحكى أن في آخر هذه من ترخيص عمر بن عبد العزيز مما لا يليق بدينه وفضله.

قال السخاوي: قال شيخنا: وفي سنده من لا يعرف.

رقد روي معناه من جماعة من الصحابة رضي الله عنهم مرفوعًا، وموقوفًا، منهم:

أ - عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج، فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".

أخرجه الترمذي في الحدود، باب 2، حديث 1424، وفي العلل الكبير ص / 228، حديث 409، والدارقطني (3/ 84)، والحاكم (4/ 384)، والبيهقي (8/ 238، 9/ 123)، والخطيب في تاريخه (5/ 331)، من طريق محمد بن ربيعة والفضل بن =

ص: 197

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= موسى، عن يزيد بن زياد الدمشقي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، به.

قال الحاكم: صحيح الإسناد. وتعقبه الذهبي بقوله: قال النسائي: يزيد بن زياد شامي متروك. وقال الترمذي في العلل الكبير ص / 228: سألت محمدًا [البخاري] عن هذا الحديث، فقال: يزيد بن زياد الدمشقي منكر الحديث، ذاهب.

وأخرجه الترمذي -أيضًا- في العلل الكبير ص / 228، حديث 410، وابن أبي شيبة (9/ 569)، والبيهقي (8/ 238)، من طريق وكيع، عن يزيد بن زياد؛ به موقوفًا.

قال الترمذي في سننه (4/ 33): رواية وكيع أصح. وقال البيهقي: تفرد به يزيد بن زياد الشامي عن الزهري، وفيه ضعف، ورواية وكيع أقرب إلى الصواب.

قلنا: مدار المرفوع والموقوف على يزيد بن زياد الدمشقي، وهو متروك.

ب - علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود" أخرجه الدارقطني (3/ 84)، والبيهقي (8/ 238)، وضعَّفه.

وقال ملا علي القاري في مرقاة المفاتيح (7/ 44): إسناده حسن.

ج - أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول االله صلى الله عليه وسلم: "ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعًا".

أخرجه ابن ماجه في الحدود، باب 5، حديث 2545، وأبو يعلى (11/ 494) حديث 6618.

وضعف إسناده: البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 70)، وابن حجر في موافقة الخُبْر الخَبَر (1/ 443).

د - عمر رضي الله عنه قال: "ادرؤوا الحدود ما استطعتم". أخرجه عبد الرزاق (7/ 402) رقم 13641، ومن طريقه ابن حزم في المحلى (11/ 154)، عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عمر بلفظ:"ادرؤوا الحدود ما استطعتم".

وأخرجه ابن أبي شيبة (9/ 566)، عن الحارث، عن إبراهيم، من عمر بلفظ:"لأن أعطل الحدود بالشبهات، أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات".

قال ابن عبد البر في الاستذكار (8/ 13): الحارث هو ابن يزيد أبو علي العكلي، أحد الفقهاء الثقات، ومراسيل إبراهيم عندهم صحاح. وأعله ابن حزم بالانقطاع.

هـ - معاذ، وعبد الله بن مسعود، وعقبة بن عامر رضي الله عنهم قالوا:"إذا اشتبه الحد، فادرؤوه".

أخرجه ابن أبي شيبة (9/ 556)، والدارقطني (3/ 83)، والبيهقي (8/ 238)، وقال: =

ص: 198

وكذا هي لا حَدَّ عليها، إن جهلت أو أُكرهت (وولده حرٌّ، ويلحق به) للشُّبهة.

(وتجب قيمته) يوم ولادته على المستعير (للمالك) لأنه فَوَّته عليه باعتقاده الحرية.

(ويجب مهر المِثل فيهما) وأرش البكارة، أي: فيما إذا وطئ عالمًا أو جاهلًا (ولو مُطَاوِعةٌ) لأن المهر للسيد، فلا يسقط بمطاوعة الموطوءة (إلا أن يأذن فيه) أي: في الوطء (السَّيدُ) فلا مهر، ولا أرش، ولا فداء للولد؛ لأنه أسقط حقه بإذنه.

(وأمَّا) إعارة الأمَة (للخدمة، فإن كانت بَرْزة) أي: تبرز للرجال؛

= منقطع. قال الذهبي في المهذب (7/ 3375) رقم 13346: إسحاق تالف. وقال الزيلعي في نصب الراية (3/ 333): وهو معلول بإسحاق بن أبي فروة، فإنه متروك.

و - ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ادرؤوا الحدود ما استطعتم، فإنكم أن تخطئوا في العفو خير من أن تخطئوا في العقوبة، وإذا وجدتم لمسلم مخرجًا فادرؤوا عنه الحد" أخرجه البيهقي (8/ 138)، عن إبراهيم، عنه. وقال: منقطع موقوف.

وأخرجه عبد الرزاق (7/ 402) رقم 13640، والطبراني في الكبير (9/ 192، 341) رقم 8947، 9695، عن القاسم بن عبد الرحمن، قال: قال ابن مسعود: "ادرؤوا الحدود والقتل عن عباد الله ما استطعتم".

وأعله ابن حزم في المحلى (11/ 154) بالانقطاع.

وأخرجه مسدد في مسنده -كما في المطالب العالية (2/ 268) رقم 1870 - وابن أبي شيبة (9/ 566)، والبيهقي (8/ 238)، من طرق عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال:"ادرؤوا الجلد والقتل عن المسلمين ما استطعتم". ولفظ مسدد: "ادرؤوا الحدود عن عباد الله عز وجل".

قال البيهقي: هذا موصول، وقال -أيضًا - (9/ 123): وأصح الروايات فيه عن الصحابة رواية عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، من قوله.

وقال الذهبي في المهذب (7/ 3375) رقم 13347: هو أجود ما في الباب.

وحسّن إسناده ابن حجر في موافقة الخُبْر الخَبَر (1/ 443).

ص: 199

لقضاء الحوائج (أو) كانت (شوهاء) قبيحة المنظر (جاز) لسيدها أن يعيرها مطلقًا؛ للأمن عليها. والجواز يحتمل نفي التحريم والكراهة، فلا ينافي أن أصل العارية للندب، ويحتمل أنه على ظاهره، فحينئذ تكمل للعارية الأحكام الخمسة.

(وكذا إن كانت) الأمَةُ (شابَّةً) يعني جميلة، ولو كبيرة (وكانت الإعارةُ لمَحْرَمٍ، أو امرأة، أو صبي) لأنه مأمون عليها (وإن كانت) إعارة الشابة (لشابٍّ، كُرِه، خصوصًا العزب) لأنه لا يؤمن عليها.

(وتحرُم إعارتُها) أي: الأمَة (وإعارةُ أمردَ، وإجارتهما لغير مأمونٍ) لأنه إعانة على الفاحشة (وقال ابنُ عقيل: لا تجوز إعارتها للعُزَّاب، الذين لا نساء لهم من قَراباتٍ ولا زوجاتٍ) لما فيه من التعرض للخلوة بالأجنبيات.

(وتحرُم الخلوةُ بها) أي: بالأمَة المُعارة على ذَكَرٍ غيرِ مَحْرَمٍ، كغير المُعارة (و) يحرم -أيضًا- (النَّظرُ إليها بشهوةٍ) كمؤجرة.

(وتُكرَه استعارةُ أبويهِ

(1)

) وإن علوا، من أبٍ وأم وجدٍّ وجدَّة (للخدمة؛ لأنه يكره للولد استخدامهما) فكرهت استعارتهما لذلك.

(ولمستعير الردُّ) أي: رد العارية (متى شاء) لأنها ليست لازمة.

(ولمعير الرجوع) في عارية (متى شاء، مطلقة كانت) العارية (أو مُؤَقَّتة) لأن المنافع المستقبلة لم تحصُل في يد المستعير، فلم يملكها بالإعارة، كما لو لم تحصُل العين الموهوبة في يده، ولأن المنافع إنما تُستوفى شيئًا فشيئًا، فكلما استوفى منفعة، فقد قبضها، والذي لم يستوفه لم يقبضه، فجاز الرجوع فيه، كالهِبة قبل القبض (ما لم يأذن) المعير (في

(1)

في "ح": "والديه".

ص: 200

شَغْلِه) أي: المعار -بفتح الشين وسكون الغين المعجمة، مصدر شغل يشغل، وفيهما أربع لغات- (بشيء يستضر المستعير برُجُوعه) أي: المعير في العارية (مثل أن يعيره سفينةً لحمل متاعه، أو) يعيره (لوحًا يَرْقَعُ به سفينةً، فَرَقَعَها به ولَجَّج في البحر، فليس له) أي: المعير (الرجوعُ) في العارية (والمطالبة) بالسفينة أو اللوح (ما دامت) السفينة (في اللُّجَّةِ حتى تَرسى) لما فيه من الضرر، فإذا رَستْ، جاز الرجوع؛ لانتفاء الضَّرر. (وله) أي: المُعير (الرُّجوع قبل دخولها) أي: السفينة (البَحْر) لانتفاء الضَّرر.

(ولا لمن أعاره أرضًا للدَّفن) الرجوع (حتى يَبْلى الميت، ويصير رميمًا؛ قاله ابن البنَّا) لما فيه من هَتْكِ حُرمته. وقال المجد في "شرحه": بأن يصير رميمًا ولم يبقَ شيء عن العظام في الموضع المستعار. وعبارة "المقنع"، وتبعها في "المنتهى" وغيره: حتى يبلى الميت. قال في "المبدع": وقال ابن البناء: لا يرجع حتى يصير رميمًا. ومقتضاه: أنهما قولان، ولعل الخُلْفَ لفظيٌّ، كما يُعلم من كتب اللغة. قال في "الصحاح"

(1)

: والرميم البالي. وقال ابن الجوزي: تخرج عظامه، ويأخذ أرضه، ولا أجرة له (وله) أي: المعير (الرجوع) في أرضه (قبل الدَّفْن) لانتفاء الضرر.

(ولا لمن أعاره حائطًا ليضع عليه) أي: الحائط (أطراف خشبهِ، أو لتعلية سُتْرةٍ عليه) الرجوع في الحائط (مادام) الخشب أو بناء السترة (عليه) لما فيه من الضرر (وله) أي: ربّ الحائط (الرجوع) في حائطه (قبلَ الوضع، و) له الرجوع (بعده) أي: الوضع (ما لم يَبْنِ عليه) لانتفاء

(1)

(5/ 1937).

ص: 201

الضرر (أو) أي: إلا أن (تكون العاريَّة لازمةً ابتداءً) بأن احتاج إلى التسقيف، ولم يمكن إلا بوضع خشبه على جدار جاره، ولا ضرر، وأعاره لذلك، فلا رجوع له. وتقدَّم

(1)

في الصلح.

(فإن خيفَ سقوطُ الحائطِ بعدَ وضعِه) أي: الخشب (عليه، لزم إزالته؛ لأنه يضرُّ بالمالك) والضرر لا يُزال بالضرر.

(وإن لم يخف عليه) أي: الحائط السقوطَ (لكن استغنى) المستعير (عن إبقائه) أي: الخشب (عليه) أي: الحائط (لم يلزم) المستعير (إزالته) لما فيها من الضرر.

(فإن سقط) الخشب (عنه) أي: عن الحائط المُعار لوضعه (لهدم) الحائط (أو غيره) كسقوط الخشب مع بقاء الحائط (لم يملك) المستعير

(2)

(رده) أي: إعادة الخشب؛ لأن العارية ليست بلازمة، وإنما امتنع الرجوع قبل سقوطه؛ لما فيه من الضرر بالمستعير بإزالة المأذون في وضعه، وقد زال (إلا بإذنه) أي: المعير (أو عند الضرورة) بألّا يمكن تسقيف إلا به (إن لم يتضرَّر الحائط) لحديث أبي هريرة

(3)

(سواء أُعيد) الحائط (بآلته الأولى أو غيرها، وتقدَّم

(4)

في الصلح) مفصَّلًا.

(ولا لمن أعاره أرضًا للزرع) الرجوع فيها (قبل الحصاد) لما فيه من الضرر (فإن بدَّل المعيرُ قيمةَ الزرع ليتملَّكه، لم يكن له ذلك) بخلاف

(1)

(8/ 315).

(2)

قوله: لم يملك المستعير رده: يعني إن كان قد طالبه برفعه كما صرح به ابن نصر الله، -وأيضًا- الشيخ عثمان في "حاشيته" على "المنتهى"[3/ 146]. ش.

(3)

أخرجه البخاري في المظالم، باب 20، حديث 2463، ومسلم في المساقاة، حديث 1609، بلفظ:"لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره".

(4)

(8/ 314 - 318).

ص: 202

الغراس والبناء (لأن له وقتًا ينتهي إليه) بخلافهما (إلا أن يكون) الزرع (مما يُحصد قَصيلًا فيحصده) المستعير (وقت أخذه عُرفًا) لعدم الضرر إذًا، قال المجد: ولا أجرة عليه.

(وإذا أطلق) المعير (المدة في العاريَّة) فلم يقيدها بزمن (فله) أي: المستعير (أن ينتفع بها) أي: بالعارية (ما لم يرجع) المعير (وإن وقَّتها) المعير (فله) أي: المستعير (أن ينتفع بها) أي: بالعارية (ما لم يرجع) المعير (أو) أي: إلى أن (ينقضي الوقت) فلا ينتفع إلا بإذن؛ لانتهاء الإعارة.

(فإن كانَ المعارُ أرضًا) وانقضت مدة الإعارة (لم يكن له) أي: المستعير (أن يغرس، ولا يبني؛ ولا يزرع بعد الوقت) الذي حُدَّت به الإعارة (أو) بعد (الرجوع) في الإعارة (فإن فعل شيئًا من ذلك) بأن غرس، أو بني، أو زرع بعد الوقت أو الرجوع (فكغاصِبٍ) على ما يأتي تفصيله؛ لعدوانه.

(وإن أعارها) أي: الأرض (لغرسٍ؛ أو بناء، وشرط) المعير (عليه) أي: المستعير (القَلْع في وقت) عَيَّنه (أو) شرط القلع (عند رجوعه، ثم رجع) المُعير (لزمه) أي: المستعير (القَلْعُ) أي: قَلْع ما غرسه، أو بناه عند الوقت الذي ذكراه، أو عند رجوع المُعير. وظاهره: ولو لم يأمره المُعير بالقلْع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون على شروطهم"

(1)

قال في "الشرح": حديث صحيح. ولأن المستعير دخل في العارية راضيًا بالتزام الضرر الذيِ دخل عليه، ولا يلزم رب الأرض نقص الغراس والبناء.

(ولا يلزمه) أي: المُستعير (تسويةُ الأرض) إذا حصل فيها حفر (إلا بشرط) المعير عليه ذلك؛ لرضاه بذلك، حيث لم يشترطه على المستعير

(1)

تقدم تخريجه (7/ 107) تعليق رقم (3).

ص: 203

فإن شرطه عليه، لزمه؛ لدخوله على ذلك.

(وإن لم يشرط) المعير (عليه) أي: المستعير (القَلْع) أي: قلع غراسه وبنائه (لم يلزمه) أي: المستعير القلع (إلا أن يَضمنَ له المعيرُ النَّقص) لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "ليسَ لعرقٍ ظالمٍ حقٌّ"

(1)

(1)

روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم:

أ - سعيد بن زيد رضي الله عنه: أخرجه أبو داود في الخراج، باب 37، حديث 3073، والترمذي في الأحكام، باب 38، حديث 1378، والنسائي في الكبرى (3/ 305) حديث 5761، والبزار (4/ 86) حديث 1256، وأبو يعلى (2/ 252) حديث 957، والبيهقي (6/ 99، 142)، وابن عبد البر في التمهيد (22/ 281)، والضياء في المختارة (3/ 298) حديث 1097، 1098، من طريق عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعيد بن زيد رضي الله عنه.

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقد رواه بعضهم عن هشام بن عروة عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وقال البزار: وهذا الحديث قد رواه جماعة عن هشام بن عروة، عن أبيه مرسلًا. وقال الدارقطني في العلل (4/ 414): تفرَّد به عبد الوهاب الثقفي.

وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 69): رواه أبو داود بإسناد على شرط الشيخين.

ب - عائشة رضي الله عنها: أخرجه الطيالسي ص / 203، حديث 1440، وابن عدي (3/ 1086)، والدارقطني (4/ 217)، والبيهقي (6/ 142)، وابن عبد البر في التمهيد (22/ 283)، من طريق زمعة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها.

قال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 474): قال أبي: هذا حديث منكر، إنما يرويه من غير حديث الزهري، عن عروة مرسلًا.

قال ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 54): وفي إسناده زمعة، وهو ضعيف.

وأخرجه الطبراني في الأوسط (8/ 132) حديث 7263، من طريق عصام بن رواد بن الجراح، عن أبيه، عن نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، من عروة بن الزبير، به.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 158): رواه الطبراني في الأوسط بإسنادين، في أحدهما عصام بن رواد بن الجراح، قال الذهبي؛ لينه أبو أحمد الحاكم، وبقية رجاله ثقات. =

ص: 204

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وأخرجه القضاعي في مسند الشهاب (2/ 203) حديث 1187، من طريق يحيى بن المنذر، عن ابن الأجلح، عن هشام بن عروة، عن أبيه، به.

ويحيى بن المنذر قال عنه العقيلي في الضعفاء الكبير (4/ 431): في حديثه نظر. وضعَّفه الدارقطني كما في ميزان الاعتدال (4/ 411).

وقال الزيلعي في نصب الراية (4/ 288): أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده فقال: حدثنا زهير، ثنا إسماعِيل بن أبي أويس، حدثني أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، به.

ج - رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجه أبو داود في الخراج، باب 37، حديث 3074، 3075، وأبو يوسف في الخراج ص / 64، ويحيى بن آدم في الخراج ص / 86، 87، حديث 274، 275، وأبو عبيد في الأموال ص / 364، حديث 707، وابن زنجويه في الأموال (2/ 639) حديث 1054، والطحاوي (4/ 118)، والدارقطني (3/ 53)، والبيهقي (6/ 99، 142)، وفي معرفة السنن والآثار (8/ 305) حديث 11977، وابن عبد البر في التمهيد (22/ 282)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 213) حديث 1560، من طريق محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة، عن عروة، به.

قال الحافظ في بلوغ المرام حديث 897: رواه أبو داود، وإسناده حسن.

وقال الشيخ الألباني في الإرواء (5/ 355): وهذا إسناد رجاله ثقات، لولا أن ابن إِسحاق مدلس، وقد عنعنه.

وأخرجه النسائي في الكبرى (3/ 405) حديث 5762، من طريق يحيى بن سعيد. ومالك في الموطأ (2/ 743) -ومن طريقه الشافعي في الأم (4/ 45، 7/ 230)، وفي مسنده (ترتيبه 2/ 133، 134)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار (9/ 7، 18) حديث 12171، 12206 - ، أبو عبيد في الأموال ص / 363، حديث 704، من طريق سعيد بن عبد الرحمن، وأبي معاوية. وابن أبي شيبة (7/ 74)، من طريق وكيع. ويحيى بن آدم في الخراج ص / 86، حديث 272 من طريق عبد الله بن إدريس. وابن زنجويه في الأموال (2/ 639)، حديث 1053 من طريق ابن عيينة. والبيهقي (6/ 143) من طريق ابن عيينة، وابن إدريس. كلهم:(يحيى بن سعيد، ومالك، وسعيد بن عبد الرحمن، وأبو معاوية؛ وابن عيينة، وابن إدريس) عن هشام بن عروة، عن أبيه، مرسلًا. =

ص: 205

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وأخرجه النسائي -أيضًا- في الكبرى (3/ 404) حديث 5760، من طريق حيوة بن شريح، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عروة، مرسلًا.

قال الدارقطني في العلل (4/ 414): والمرسل عن عروة أصح.

وقال ابن عبد البر: هذا الاختلاف عن عروة يدل على أن الصحيح في إسناد هذا الحديث عنه الإرسال، كما روى مالك ومن تابعه، وهو أيضًا صحيح مسند على ما أوردنا، وهو حديث مُتلقى بالقبول عند فقهاء الأمصار وغيرهم، وإن اختلفوا في بعض معانيه.

د - عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أخرجه أحمد (5/ 326) من طريق إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن عبادة رضي الله عنه في حديث طويل.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 174): وإسحاق بن يحيى لم يدرك عبادة.

وقال الحافظ في الدراية (2/ 201): ورجاله ثقات إلا أنه منقطع.

هـ - عمرو بن عوف رضي الله عنه: علقه البخاري في الحرث والمزارعة، ترجمة باب 15، قبل حديث 2335، بصيغة التمريض. وأخرجه يحيى بن آدم في الخراج ص / 88، حديث 279، وابن أبي شيبة في مسنده -كما في المطالب العالية (7/ 462) حديث 1504 - وإسحاق بن راهويه -ومن طريقه ابن حجر في تغليق التعليق (3/ 309)، وابن زنجويه في الأموال (2/ 638) حديث 1052، والبزار (8/ 320) حديث 3393، والطحاوي (3/ 268)، والطبراني في الكبير (17/ 13، 14) حديث 4، 5، وابن عدي (6/ 2079)، والبيهقي (6/ 142)، وابن عبد البر في التمهيد (22/ 284)، كلهم من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 157): رواه الطبراني في الكبير، وفيه كثير بن عبد الله، وهو ضعيف. وقال الحافظ في الفتح (5/ 19): وكثير هذا ضعيف. وقال في الدراية (2/ 201): وكثير ضعّفوه كثيرًا، وكذا قال في المطالب العالية.

و - سمرة بن جندب رضي الله عنه: أخرجه البيهقي (6/ 142) من طريق قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه. وقتادة والحسن: مدلِّسان.

ز - أبو أسيد رضي الله عنه: أخرجه يحيى بن آدم في الخراج ص / 88، حديث 276.

قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "الخراج": وفي إسناده إسحاق بن أبي فروة، وهو ضعيف جدًّا لا يوثق بروايته. =

ص: 206

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ح - جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أخرجه الترمذي في الأحكام، باب 38، حديث 1379، والنسائي في الكبرى (3/ 404) حديث 5757، وأبو يعلى (4/ 139) حديث 2195، والطبراني في الأوسط (5/ 97) حديث 4779، عن طريق محمد بن بشار، ومحمد بن يحيى بن أيوب، وسفيان، ومحمد بن عبَّاد، عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان، عن جابر رضي الله عنه، به.

وأخرجه ابن حبان "الإحسان"(11/ 606) حديث 5205، عن محمد بن يحيى الزِّماني، عن عبد الوهاب الثقفي، عن هشام بن عروة، عن وهب بن كَيسان، عن جابر رضي الله عنه، به. ليس فيه: أيوب!

وأخرجه النسائي في الكبرى (3/ 404) حديث 5758، وأحمد (3/ 304)، من طريق عبَّاد بن عبَّاد، وأخرجه البيهقي (6/ 148)، وابن عبد البر في التمهيد (22/ 281) من طريق حماد بن زيد، كلاهما عن هشام بن عروة، عن وهب بن كَيسان، عن جابر رضي الله عنه، به.

وعلَّقه البخاري في صحيحه، في الحرث والمزارعة، باب 15، قبل حديث 2335، بصيغة التمريض، فقال: ويُروى فيه عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وقوَّاه الحافظ في الفتح (5/ 19) بمجموع طرقه.

وقال ابن عبد البر في التمهيد (22/ 280): واختلف فيه على هشام، فروته عنه طائفة عن أبيه مرسلًا، كما رواه مالك، وهو أصح ما قيل فيه -إن شاء الله-. وروته طائفة عن هشام، من أبيه، عن سعيد بن زيد. وروته طائفة عن هشام، عن وهب بن كيسان، عن جابر. وروته طائفة عن هشام، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع، عن جابر. وبعضهم يقول فيه: عن هشام، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن جابر، وفيه اختلاف كثير.

قال الحافظ في الفتح (5/ 19): وقد اختُلف فيه على هشام، فرواه عنه عبَّاد هكذا. ورواه يحيى القطان، وأبو ضمرة، وغيرهما، عنه، عن أبي رافع، عن جابر. ورواه أيوب، عن هشام، عن أبيه، عن سعيد بن زيد. ورواه عبد الله بن إدريس، عن هشام، عن أبيه، مرسلًا. واختُلف فيه على عروة، فرواه أيوب، عن هشام، موصولًا. وخالفه أبو الأسود، فقال: عن عروة، عن عائشة، كما في هذا الباب. ورواه يحيى بن عروة، =

ص: 207

والمستعير إنما حصل غراسه أو بناؤه في الأرض بإذن ربِّها، ولم يشترط عليه قلعه، فلم يلزمه؛ لدخول الضرر عليه بنقص قيمة ذلك؛ ولأن العارية عقد إرفاق ومعونة، وإلزامه بالقلع مجانًا يخرجه إلى حكم العدوان والضرر. قال المجد في "شرحه": ومتى أمكن القلع من غير نقص أُجبر عليه المُستعير.

(فإن قلعَ) المُستعير غراسه، أو بناءه باختياره (فعليه تسويةُ الأرضِ) من الحفر؛ لأنها حصلت بفعله لتخليص ماله، كالمستأجر (وإن أبي القَلْع في الحال التي لا يُجبر فيها) بأن كان عليه فيه ضَرَرٌ، ولم يُشترط عليه (فللمُعِير أخذُه بقيمته بغير رضا المُستعير، أو قَلعه وضمانُ نقصه) لأن في ذلك دفعًا لضرره وضرر المستعير، وجمعًا بين الحقَّين. ومؤنة القلع على المستعير، كالمستأجر.

ولو دفع المستعير قيمة الأرض ليتملَّكها، لم يكن له ذلك؛ لأنها

= عن أبيه، مرسلًا، كما ذكرته عن سنن أبي داود، ولعل هذا هو السِّر في عدم جزم البخاري به.

وقال في تغليق التعليق (3/ 310): "فإن قيل: لِمَ مرَّضه البخاري، وصحَّحه الترمذي؟ قلت: الترمذي اتَّبع ظاهر إسناده، وأما البخاري فإنه عنده معلَّل؛ للاختلاف فيه على هشام في إسناده ولفظ متنه، أما اختلاف اللفظ فقد مضى، وأما اختلاف الإسناد فرواه يحيى بن سعيد القطان -وهو من الحفظ-، وأبو ضمرة أنس بن عياض المدني، وأبو معاوية، كلهم عن هشام، عن ابن رافع، عن جابر. ورواه عبد الله بن إدريس وغيره، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وكذا رواه يحيى بن عروة، عن أبيه. ورواه أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة. وفيه اختلاف غير هذا، فلهذا لم يجزم به، والله أعلم، وإن كان ظاهر الإسناد الصحة، فقد قدّمنا أنه ربما مرَّض أحاديث صحيحة الإسناد لعِلَلٍ فيها".

ص: 208

أصل، والغراس والبناء تابع، بدليل تبعهما لها في البيع دون تبعها لهما.

(فإن أبى) المُعير (ذلك) أي: الأخذ بالقيمة، والقلع مع ضمان النقص، لم يُجبر عليه.

فإن طلب أحدهما البيع (بِيعَا) أي: الأرض والغراس أو البناء (لهما) أي: لمالكيهما، أي: عليهما، ويُجبر الآخر؛ لأن ذلك طريق لتخليص كل منهما من مضارة الآخر.

(فإن أبيا) أي: المُعير والمُستعير (البيعَ، تُرك) الغراس أو البناء (بحاله واقفًا) في الأرض حتى يتفقا؛ لأن الحق لهما، ومتى بيعا، دفع لرب الأرض قيمتها فارغة، والباقي لربِّ الغراس أو البناء.

(وللمُعير التصرُّف في أرضه على وجهٍ لا يضرُّ بالشَّجر) لأنه يملك عينها ونفعها، وليس له التصرُّف بما يضرُّ الشجر أو البناء؛ لأنهما محترمان لوضعهما بإذنه.

(وللمُستعير الدخول لسقي وإصلاح وأخذِ ثمرةٍ) لأن الإذن في فعل شيء إذن فيما يعود بصلاحه (وليس له) أي: المُستعير (الدخول لغير حاجة من التَّفرُّج ونحوه) كمبيت فيها؛ لا

(1)

يعود بصلاح ماله؛ لأنه ليس بمأذون فيه نُطقًا ولا عُرفًا.

(وأيهما) أي: المُعير، أو المُستعير (طلب البيع، وأبى الآخر) البيعَ (أُجبر) الممتنع (عليه) كما تقدم؛ إزالة للضرر عنهما (ولكل منهما بيع ماله) من أرض، أو غراس، أو بناء (منفردًا لمن شاء) من صاحبه أو غيره؛ لأنه ملكه (فيقوم المشتري) لشيء من ذلك (مقام البائع) فمشتري الأرض بمنزلة المُعير، ومشتري الغراس أو البناء بمنزلة المستعير.

(1)

في "ح" و"ذ": "لأنه لا".

ص: 209

(ولا أجرة على المستعير من حين رجوع) مُعير (في) نظير بقاء (غرس وبناء) في معارة.

(و) لا أجرة للمُعير -أيضًا- في (سفينة في لُجَّةِ بحر، و) لا أجرة له من حين رجوع في (أرض) أعارها لدفن (قبل أن يَبلى الميّتُ) لأن بقاء هذه بحكم العارية، فوجب كونه بلا أجرة كالخشب على الحائط؛ ولأنه لا يملك

(1)

الرجوع في عين المنفعة المذكورة؛ لإضراره بالمستعير إذًا، فلا يملك طلب بدلها كالعين الموهوبة (بل في زرع) أي: إذا أعاره الأرض للزرع، ثم رجع المُعير قبل أوان حصاده، وهو لا يُحصد قَصِيلًا، فإن له مثل أجرة الأرض المعارة من حين رجع

(2)

إلى حين

(3)

الحصاد؛ لوجوب تبقيته في أرض المُعير إلى أوان حصاده قهرًا عليه، لكونه لم يرضَ بذلك بدليل رجوعه، ولأنه لا يملك أن يأخذ الزرع بقيمته؛ لأن له أمدًا ينتهي إليه، وهو قصير بالنسبة إلى الغرس، فلا داعي إليه، ولا أن يقلعه ويضمن نقصه؛ لأنه لا يمكن نقله إلى أرض أخرى، بخلاف الغرس وآلات البناء.

(ويجوز أن يستعير دابَّةً ليركبها إلى موضع معلوم، فإن جاوزه، فقد تعدَّى) لأنه بغير إذن المالك (وعليه أجرة المِثْلِ للزائد) على المأذون فيه (خاصَّةً) لأنه الذي حصل فيه التعدي دون ما استعار له.

(وإن قال المالك: أعرتُكها) لتركبها أو تحمل عليها (إلى فرسخ، فقال المستعير): بل أعرتنيها (إلى فرسخين، فالقول قول المالك) لأنه

(1)

في "ح": "يمكن" بدل "يملك".

(2)

في "ح": "رجوع".

(3)

في "ح": "أوان" بدل "حين".

ص: 210

منكِرٌ لإعارة الزائد، والأصل عدمها، كما لو أنكر الإعارة من أصلها.

(وإن اختلفا في صفة العين حين التَّلفِ) بأن قال المُعير: كان العبد كاتبًا، أو خياطًا ونحوه، وأنكره المُستعير (أو) اختلفا (في قَدْرِ القيمةِ) أي: قيمة العين المُعارة بعد تَلَفِها (فقول مُستعير) بيمينه؛ لأنه غارم ومنكِرٌ لما يدعيه المُعير من الزيادة، والأصل عدمُها إلا أن يكون للمُعير بينة. وعلى قياس ما تقدَّم في غير موضع. إنما يقبل قول مستعير إن ساغ.

(وإن حمل السيل بذرًا إلى أرض) لغير مالك البذر (فنبت فيها فهو) أي: الزرع (لصاحبه) أي: البذر؛ لأنه نماء ملكه (مُبقّىً إلى الحصاد) لعدم عدوان ربه، وإن كان يُحصد قَصيلًا حُصِدَ؛ قاله الحارثي (ولربِّ الأرض أجرة مِثله) لأن إلزامه بتبقية زرع لم يأذن فيه في أرضه بغير أجرة إضرار به، فوجب أجر المِثْل، كما لو انقضت مدة الإجارة، وفي الأرض زرع بغير تفريطه. ولا يُجبر ربُّ الزرع على قَلْعِه.

(وإن أحبَّ مالِكُه قَلْعه، فله ذلك، وعليه تسوية الحفر وما نَقصَت) لأنه أدخل النقص على ملك غيره لاستصلاح ملكه.

(وإن حمل) السيل (غرسًا) إلى أرض آخر، فنبت فيها (فكغرسِ مشترٍ شِقْصًا فيه شفعة) إذا أخذه الشفيع، فلربِّ الأرض أن يتملكه بقيمته أو يقلعه، ويضمن نقصه كالشفيع، وليس له قَلعه مجانًا؛ لأنه لم يحصُل مِن ربِّه عدوان فيه.

(وكذا حكمُ نوىً، وجَوزٍ، ولوزٍ ونحوه) من بندق وفستق وشبههما (إذا حَمَله) السيل (فنبت) في أرضٍ لآخر، فلربِّ الأرض تملكه بقيمته، أو قلعه مع ضمان نقصه، ولا يقلعه مجانًا؛ لعدم عدوان ربه.

ص: 211

(وإنْ حمل) السيل (أرضًا بشجرها، فنبتت في أرض أخرى، كما كانت) قبل حَمْلها (فهي) أي: الأرض ذات الشجر المحمولة (لمالكها) و (يُجبر) مالكها (على إزالتها) لأن في بقائها إشغالًا لملك الغير بما يدوم ضرره بغير اختياره، لكن تقدم في حكم الجوار

(1)

: أن ربَّ الشجر لا يُجبر على إزالة عروق شجره وأغصانها من أرض جاره وهوائه؛ لأنه حصل بغير اختيار مالكها. ولم يظهر لي الفرق بينهما، إلا أن يقال هنا: يمنع الانتفاع بالكلية، بخلاف الأغصان والعروق.

(وإن ترك صاحب الأرض المنتقلة) بشجرها تلك الأرض لصاحب الأرض المنتقلة إليها، سقط عنه الطلب (أو) ترك ربُّ (الشجر) أو البناء (أو الزرع) أو النوى (ذلك) المذكور من أرض أو شجر أو بناء أو زرع أو نوىً (لصاحب الأرض التي انتقل إليها، لم يلزمه نقلُه، ولا أجرةٌ، ولا غيرُ ذلك) وسقط عنه الطلب بسبب ذلك؛ لأنه حصل بغير تفريطه ولا عدوانه، وكانت الخيرة إلى صاحب الأرض المشغولة به، إن شاء أخذه لنفسه، وإن شاء قلعه؛ ذكره في "الشرح".

فصل

(وحكم مستعيرٍ في استيفاء المنفعةِ، كمستأجرٍ) لأنه ملك التصرف بإذن المالك، أشبه المستأجر.

(فإن أعاره أرضًا للغراس والبناء، أو لأحدهما، فله ذلك) أي: أن يفعل ما استعار له (و) له (أن يزرع ما شاء) لأن الضَّرر أخف، هكذا ذكره الأصحاب هاهنا، وذكر في "المغني" في الإجارة: إن أجرها للبناء، امتنع

(1)

(8/ 302 - 304).

ص: 212

الغرس والزرع؛ لأن ضررهما يختلف. فتمتنع الزراعة هاهنا كذلك

(1)

، وهو الصحيح؛ قاله الحارثي.

(وإن استعارها للزرع، لم يغرس ولم يبنِ) لأنهما أكثر ضررًا.

(وإن استعارها للغرس، أو البناء، فليس له الآخر) لأن ضررهما مختلف.

(و) حكم مستعير (كمستأجر في استيفائها) أي: المنفعة (بنفسه، وبمن يقوم مقامه) وهو وكيله؛ لأنه نائبه (و) مستعير كمستأجر -أيضًا- (في استيفائها) أي: المنفعة (بعينها، وما دونها في الضَّرر من نوعها) فإذا أعاره لزرع البُرِّ، فله زرعه وزرع ما دونه، لا ما فوقه ضررًا، كدُخْن وذرة، وإذا أعاره للركوب، لم يحمل، وعكسه (وغير ذلك) أي: حكم المستعير حكم المستأجر في غير ما ذكر مما تقدَّم في الإجارة

(2)

(إلا أنهما) أي: المستعير والمستأجر (يختلفان في شيئين:

أحدهما) أن المستعير (لا يملك الإعارة، ولا الإجارة على ما يأتي) لأنه لا يملك المنفعة بل الانتفاع.

(والثاني: الإعارة لا يشترط لها تعيين نوع الانتفاع) لأنها عقد جائز، فلا أثر للجهالة فيه للتمكن من قطعها بالفسخ، بخلاف الإجارة (فلو أعاره مطلقًا) أي: أعاره عينًا ولم يبين صفة الانتفاع بها (ملك) المستعير (الانتفاع بالمعروف في كل ما هو) أي: المعار (مهيأ) أي: صالح (له، كالأرض -مثلًا- تصلح للبناء والغراس، والزراعة، والارتباط) فله الانتفاع بها في أي ذلك أراد (وما كان غير مهيَّأ له، وإنما

(1)

في "ح": "لذلك".

(2)

(9/ 33 وما بعدها).

ص: 213

يصلحُ لجهةٍ واحدة -كالبساط إنما يصلح للفرش- فالإطلاق فيه كالتقييد للتعيين) أي: لتعين نوع الانتفاع (بالعُرْف) فيحمل الإطلاق عليه.

(وله) أي: المستعير (استنساخ الكتاب المُعَار، و) له (دفع الخاتم المعار إلى من ينقش له على مثاله) لأن المنافع واقعة له، فهو كالوكيل (وإذا أعاره) أرضًا (للغرس، أو للبناء، أو للزراعة، لم يكن له) أي: المُستعير (ما زاد على المرَّة الواحدة) بلا إذن المُعير؛ لعدم تناول الإذن للزائد.

(فإن زرع) المُستعير (أو غرس) أو بنى (ما ليس له) زَرعُهُ أو (غَرسه) أو بناؤه (فكغاصبٍ) لأنه تصرف بغير إذن المالك.

(و‌

‌استعارةُ الدَّابة للرّكوب لا تفيد السفر بها)

لأنه ليس مأذونًا فيه نُطقًا ولا عُرفًا.

(والعارِية المقبوضة مضمونةٌ) روي عن ابن عباس

(1)

وأبي هريرة

(2)

؛ لما روى الحسن، عن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"على اليدِ ما أخذتْ حتَّى تؤديه" رواه الخمسة وصححه الحاكم

(3)

. وعن صفوان "أنهُ صلى الله عليه وسلم استعارَ عنهُ يومَ حنينٍ أدراعًا فقال: أغصبًا يا محمدُ؟ قال: بل عاريةٌ مضمونةٌ" رواه أحمد وأبو داود

(4)

.

وأشار أحمد

(5)

إلى الفرق بين العارية والوديعة، بأن العارية

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 142)، والبيهقي (6/ 90)، وابن عبد البر في التمهيد (12/ 44).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 145)، وابن عبد البر في التمهيد (12/ 44).

(3)

تقدم تخريجه (7/ 446) تعليق رقم (2).

(4)

تقدم تخريجه (9/ 191) تعليق رقم (2).

(5)

مسائل عبد الله (1/ 981 - 982) رقم 1339، ومسائل صالح (1/ 452 - 453) رقم 462، وانظر: مسائل ابن هانئ (2/ 33) رقم 1312، وطبقات الحنابلة (1/ 422)، ومناقب الإمام أحمد ص / 94.

ص: 214

أخذتها اليد، والوديعة دفعت إليك، ولأنه أخذ ملك غيره لنفع نفسه منفردًا بنفعه من غير استحقاق، ولا إذن في إتلاف، فكان مضمونًا كالغصب، وقاسه في "المغني" و"الشرح" على المقبوض على وجه السَّوْمِ، فيضمنها المُستعير (بقيمتِها يوم التَّلفِ) لأنه حينئذ يتحقق فوات العارية، فوجب اعتبار الضمان به إن كانت متقوَّمة. ولعل المراد بيوم التلف وقتُه ليلًا كان أو نهارًا (بكُلِّ حال) أي: لا فرق بين أن يتعدَّى فيها، أو يُفرِّط فيها، أو لا (وإنْ شَرط نفيَ ضمانِها) أي: لم يسقط؛ لأن كل عقد اقتضى الضمان، لم يغيره الشرط كالمقبوض ببيع، فالشرط فاسد.

(وإن كانت) العارية (مِثليَّةً) وتلفت (فـ) ـضمانها (بمثلها) لأنه أقرب إليها من القيمة.

(وكل ما كان أمانةً) لا يزول عن حكمه بشرط ضمانه، كالوديعة والرهن (أو) كان (مضمونًا لا يزول عن حكمه بالشرط) لأن شَرْطَ خلاف مقتضى العقد فاسدٌ.

(ولو استعار وَقْفًا، ككُتُب علم وغيرها) كأدراع موقوفة على الغزاة (فتلفت بغير تفريط) ولا تعدٍّ (فلا ضمان) قال في "شرح المنتهى": ولعلَّ وَجْهَ عدم ضمانها لكون قبضها ليس على وجه يختص المستعير بنفعه؛ لكون تعلُّم العلم وتعليمه والغزو من المصالح العامة؛ أو لكون الملك فيه ليس لمعين؛ أو لكونه من جملة المستحقين له، أشبه ما لو سقطت قنطرة موقوفة بسبب مشيه عليها، والله أعلم. وفي التعليل الأول نظرٌ، إذ عليه لا فرق بين الملك والوقف، ومقتضى التعليلين الأخيرين: أن ذلك لو كان وقفًا على معيَّن، وتلف، ضمنه مستعيره كالطِّلْقِ، وهو ظاهر، ولم أره.

ص: 215

(وإن كان) استعار كُتُبِ العلم الموقوفة ونحوها (بِرَهْن) وتلفت (رجع) الرهن (إلى ربه) وعلى ما تقدم

(1)

في الرهن: لا يصح أخذ الرهن عليها؛ لأنها أمانة، فيرد الرهن لربه مطلقًا وإن فرَّط لفساده، ويضمن المستعير ما تلف منها بتفريطه أو تعديه.

(ولو أركب دابتَه منقطِعًا لله تعالى، فتلفَت) الدابة (تحته، لم يَضْمن) المنقطعُ الدابة؛ إذ المالك هو الطالب لركوبه تقرُّبا إلى الله تعالى.

وكذا لو غطَّى ضيفه بنحو لحاف فتلف، لم يضمنه.

(وكذا رَديفُ ربِّها) بأن أركب إنسانًا خلفه، فتلفت الدابةُ تحتهما، لم يضمن الرديف شيئًا؛ لأن الدابة بيد مالكها.

(و) كذا (رائض) الدابة -وهو الذي يُعلِّمها السيرَ- إذا تلفت تحته، لم يضمنها؛ لأنه أمين (و) كذا (وكيلُه) أي: وكيل ربِّ الدابة، إذا تلفت في يده، لم يضمنها؛ لأنه ليس بمستعير.

وكذا حيوان موصًى بنفعه، إذا قبضه الموصى له، وتلف في يده بغير تفريط، لم يضمنه؛ لأن نفعه مستحق لقابضه.

(ولو قال) آخذ الدابة: (لا أركبُ إلاَّ بأجرة، وقال) الدافع: (لا آخذ أجرة، ولا عَقْدَ بينهما) وأخذها (فـ) ـهي (عاريَةٌ) تثبت لها أحكام العارية؛ لأن ربَّها لم يبذلها إلا كذلك.

وكذا لو استعمل المودَع الوديعة بإذن ربها.

(وإن تلفت أجزاؤها) باستعمالها بمعروف، فلا ضمان (أو) تلفت العارية (كلُّها باستعمالـ) ـــــها (بمعروف، كخَمْل مِنْشَفة، وطِنْفِسةٍ)

(1)

(8/ 157).

ص: 216

-بكسرتين في اللغة العالية، واقتصر عليها جماعة منهم ابن السِّكِّيت

(1)

، وفي لغة بفتحتين- وهي بساط له خمل رقيق (ونحوهما) لأن الإذن في الاستعمال تضمن الإذن في الإتلاف الحاصل به، وما أُذِن في إتلافه لا يُضمن، كالمنافع. قال ابن نصر الله: فعلى هذا لو تلفت بالانتفاع بالمعروف، فلا ضمان. وعُلم من قوله:"بمعروف" أنه لو جَمَل في الثوب ترابًا، فتلف، ضمنه؛ لتعديه بذلك.

(أو) تلفت العارية، أو جزؤها (بمرور الزمان، فلا ضمان) لأنه تلف بالإمساك المأذون فيه، أشبه تلفه بالفعل المأذون فيه.

ولو جرح ظهر الدابة بالحمل، وجب الضمان، سواء كان الحمل معتادًا أو لا؛ لأنه غير مأذون فيه، والاحتراز منه ممكن عند الحمل، بخلاف خَمْل المنشفة؛ ذكره الحارثي.

(وكذا لو تلِف ولدُها) أي: العارية، الذي سُلِّم معها؛ لأنه لم يدخل في الإعارة، ولا فائدة للمستعير فيه، أشبه الوديعة.

فإن قيل: تقدم أن الحمل وقت عقدٍ مبيعٌ؛ فعليه هنا يكون معارًا.

قلت: يُفرَّق بينهما بأن العقد في البيع على العين، بخلاف العارية، فإنه على المنافع، ولا منفعة للحمل يرد عليها العقد.

(أو) تلفت (الزيادة) التي حصلت في العين المستعارة عند المستعير، لم يضمنها؛ لأنه لم يرد عليها عقد العارية. وعُلم منه: أن الزيادة لو كانت موجودة عند العقد، كما لو كانت الدابة سمينة؛ فهزلت عند المستعير أنه يضمن نقصها. قلت: إن لم تذهب في الاستعمال

(1)

إصلاح المنطق ص/ 174 إذ جعل فتح الطاء من لغة العامة ولم يتكلم عن حركة الفاء بشيء إلا أنه ذكر في ص/ 122 جواز كسر الفاء وفتحها.

ص: 217

بالمعروف، أو بمرور الزمان.

(وليس لمستعيرٍ أن يعيرَ) المعار (ولا) أن (يؤجر) هـ (إلا بإذن) ربه؛ لأنه لا يملك منافعه، فلا يصح أن يبيحها، ولا أن يبيعها بخلاف مستأجر، وتقدم

(1)

. قال الحارثي: ولا يودعه.

(ولا يضمنُ مستأجِرٌ منه) أي: المستعير (مع الإذن) من المعير، إذا تلفت العين عنده بلا تفريط، كالمستأجر من ربها (وتقدَّم

(2)

في الإجارة.

و) إذا آجر المستعير بإذن المُعير العارية، فـ (ـالأجرة لربِّها) لأنها بدل عمَّا يملكه من المنافع (لا له) أي: المُستعير؛ لأنه لا ملك له في المنافع، وإنما يملك الانتفاع.

(فإن أعار) المُستعير (بلا إذن) المعير (فتلفت) العارية (عند) المُستعير (الثاني، ضَمِّنَ) ربُّ العين (القيمةَ والمنفعةَ أيهما شَاء) أما الأول؛ فلأنه سَقط غيره على أخذ مال غيره بغير إذنه، أشبه ما لو سَلَّط على مال غيره دابةً فأكلته. وأما الثاني؛ فلأن العين والمنفعة فاتا على مالكهما في يده (والقَرار

(3)

) في ضمانهما (على الثاني) لأنه المستوفي للمنفعة بدون إذن المالك، وتلف العين إنما حصل تحت يده، ومحل ذلك (إن كان) الثاني (عالمًا بالحال) أي: بأن للعين مالكًا لم يأذن في إعارتها، وكذا لو أجرها بلا إذنه (وإلا) يكن الثاني عالمًا بالحال (استقرَّ عليه ضمان العين) لأنه قبضها على أنها عارية، والعارية مضمونة.

(ويستقِرُّ ضمانُ المنفعة على) المُستعير (الأول) لأنه غَرَّ الثاني

(1)

(9/ 213).

(2)

(9/ 73 - 74).

(3)

في "ح": "والمقرر".

ص: 218

بدفعها له على أن يستوفي منافعها بغير عوض، وعكس ذلك: لو أجرها لجاهلٍ بالحال، فيستقر على المستأجر ضمان المنفعة، وعلى المستعير ضمان العين.

(وليس له) أي: المستعير (أن يستعمل ما استعاره في غير ما يُستعمل فيه مثله، مثل أن يَحْشُو القميصَ قُطنًا -كما يفعل بالجوالق) غرارة من شعر ونحوه- (أو يحمل فيه) أي: القميص (ترابًا، أو يستعمل المناشف والطنافس في ذلك) أى: حشو القطن أو التراب (أو يستظلّ بها من الشمس أو نحوه) لأنه غير مأذون فيه لفظًا ولا عرفًا (فإن فعل) ذلك (ضَمِنَ ما نقص من أجزائها بهذه الاستعمالات) لتعديه بها.

(فإن اختلفا) أي: المُعير والمُستعير (فيما ذهبت به أجزاؤها، فقال المُستعيرُ) ذهبت (بالاستعمال المعهود) أي: المعتاد (وقال المُعيرُ) ذهبت (بغيره، ولا بَيِّنَة، فقول مستعير مع يمينه، ويبرأ من ضمانها) لأنه منكِرٌ، والأصل براءته.

(ويجب) على المستعير (الردُّ) للعارية (بمطالبة المالك) له بالرد، ولو لم ينقض غرضه منها، أو بمضي الوقت؛ لأن الإذن هو المسلط لحبس العين، وقد انقطع بالطلب.

(و) يجب الرد أيضًا (بانقضاء الغرض من العين) المعارة؛ لأن الانتفاع هو الموجب للحبس، وقد زال (وبانتهاء التَّأْقيت) إن كانت العارية مؤقتة لانتهائها (وبموت المعير، أو المستعير) لبطلان العارية بذلك؛ لأنها عقد جائز من الطرفين.

(وحيث تأخَّر الردُّ فيما ذكرنا، ففيه) أى: المُعار (أُجرة المِثْل) لمدة تأخيره (لصيرورته) أي: المُعار (كالمغصوب؛ قاله الحارثي) لعدم

ص: 219

الإذن فيه.

(وعلى مُستعير مؤنةُ رد العارية إلى مالكها -كمغصوب-) لما تقدَّم من قوله صلى الله عليه وسلم: "على اليدِ ما أخذت حتَّى تؤديه"

(1)

وإذا كانت واجبة الرد، وجب أن تكون مؤنة الرد على مَن وجب عليه الرد.

و (لا) يجب على المستعير (مؤنتها) أي: العارية من مأكل ومشرب مادامت (عنده) بل ذلك على مالكها كالمستأجَرة.

(وعليه) أي: المستعبر (ردها) أي: العارية (إليه) أي: المالك أو وكيله (إلى الموضع الذي أخذها منه) كالمغصوب (إلا أن يَتَّفقا على ردِّها إلى غيرِه) قاله في "الشرح".

(ولا يجب على المُستعير أن يحملها) أي: العارية (له) أي: المعير (إلى موضع آخر) غير الذي استعارها فيه (فإذا أخذها) أي: العارية (بدمشق، وطالبه) مالكها بها (ببعلبك، فإن كانتَ معه، لزم الدفع) لعدم العذر (وإلا) تكن معه ببعلبك (فلا) يلزمه حملها إليها؛ لأن الإطلاق إنما اقتضى الرد من حيث أخذ، وإعادة الشيء إلى ما كان عليه، فلا يجب ما زاد.

(وإن استعار ما ليس بمال، ككلب مباح الاقتناء) قلت: أو جلد ميتة مدبوغ (أو أبعد حُرًّا صغيرًا) قلت: ومثله مجنون (عن بيت أهله، لزمه رَدُّهما، و) لزمه (مؤنةُ الرَّد) لعموم ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "على اليدِ ما أخذتْ حتَّى تؤديه" (

(1)

)، ولو مات الحُرُّ لم يضمنه، كما يأتي في الباب عقبه، وفي الديات.

(1)

تقدم تخريجه (7/ 446) تعليق رقم (2).

ص: 220

(فإن رَدَّ) المُستعير (الدابة إلى إصْطَبْل) -بقطع الهمزة مكسورة وفتح الطاء وسكون الباء، غير عربي

(1)

- (مالكها أو) إلى (غُلامِهِ، وهو القائم بخدمته وقضاء أموره، عبدًا كان أو حُرًّا) لم يبرأ بذلك (أو) ردها إلى (المكان الذي أخذها منه، أو إلى مِلْك صاحبها) ولم يُسلِّمها لأحد، لم يبرأ بذلك (أو) رَدَّ العارية (إلى عياله الذين لا عادة لهم بقبض ماله، لم يبرأ من الضمان) لأنه لم يردها إلى مالكها، ولا نائبه فيها، فلم يبرأ كالأجنبي.

(وإن رَدَّها) أى: رد المُستعير الدابة (أو) رَدَّ (غيرها) من العواري (إلى من جرت عادته بجريان ذلك) أي: الرد (على يده، كسَائسٍ) رد إليه الدابة (و) كـ (ــــزوجة متصرِّفةٍ في ماله، وخازنٍ) إذا رَدَّ إليهما ما جرت عادتهما بقبضه - (و) كـ (ـــــوكيل عام في قبض حقوقه- قاله) القاضي (في "المُجَرَّد -برئ) المستعير من الضمان؛ لأنه مأذون في ذلك عُرفًا، أشبه ما لو أذن له فيه نطقًا.

(وإن سلَّم شريك إلى شريكه الدابةَ المشتركة، فتلفت بلا تفريط ولا تَعَدٍّ، بأن ساقها فوق العادة) -مثال للتعدي المنفي- وقوله (من غير انتفاع ونحوه) -متعلق بـ"سلم"- (لم يَضمَن؛ قاله الشيخ

(2)

) لأنه أمين (وتأتي تَتِمَّتُهُ في الهبة) وإن ساقها فوق العادة، ضمن، وإن سَلَّمها إليه ليعلفها، ويقوم بمصلحتها ونحوه، لم يضمن، وإن سَلَّمها إليه لركوبها لمصالحه، وقضاء حوائجه عليها، فعارية.

(ومن استعار شيئًا، ثم ظهر مُستحَقًّا، فلمالكه أَجْرُ مِثله) لأنه لم

(1)

المُعرَّب ص/ 19.

(2)

الاختيارات الفقهية ص/ 231.

ص: 221

يأذن في استعماله (يُطالِبُ به مَن شاء منهما) أما الدافع، فلتعديه بالدفع، وأما القابض فلقبضه مال غيره بغير إذنه.

(فإنْ ضمِّن المستعيرَ، رجع على المُعيرِ بما غرمَ) لأنه غَرَّه (ما لم يكن) المستعير (عالمًا) بالحال، فيستقر عليه الضمان؛ لأنه دخل على بصيرة (وإن ضمّن) المالكُ (المُعيرَ) الأجرة (لم يرجع) بها (على أحد) إن لم يكن المستعير عالمًا، وإلا؛ رجع عليه؛ لما تقدم (ويأتي في الغصب) موضحًا.

فصل

(وإن دفع إليه دابةً، أو غيرَها) من الأعيان المُنتفَع بها مع بقائها (ثم اختلفا) أي: المالك والقابض (فقال) المالك: (أَجَّرتُك، فقال) القابض: (بل أعرتني) وكان ذلك (عقب العقد) بأن لم يمضِ زمن له أجرة عادة (والدابة) أو غيرها (قائمة) لم تتلف (فقول القابض) بيمينه؛ لأن الأصل عدم عقد الإجارة (و) حينئذ (ترد) العين (إلى مالكها) لأنه لا مستحق لها غيره.

(وإن كان) الاختلاف (بعد مضي مدة لها أُجرة) عادة (فـ) القول (قول مالك فيما مضى من المدة) مع يمينه؛ لأنهما اختلفا في كيفية انتقال المنافع إلى ملك القابض، فقُدِّم قول المالك؛ كما لو اختلفا في عين، فادعى المالك بيعها، والآخر هبتها، إذ المنافع تجري مجرى الأعيان (دون ما بقَي) من المدة، فلا يقبل قول المالك فيه؛ لأن الأصل عدم العقد.

(و) إذا حلف المالك، فـ (ـــــله أجرةُ مِثله

(1)

) لأن الأجرة

(2)

لا تثبت بدعوى المالك بغير بينة، وإنما يستحق بدل المنفعة، وهو أجرة المِثْل.

(1)

في "ح" و"ذ" ومتن الإقناع (2/ 565): "مثل".

(2)

في "ح" و"ذ": "الإجارة".

ص: 222

(وإن كانت الدابة قد تلفت) وقال المالك: أجرتكها، وقال القابض: أعرتنيها (لم يستحق صاحبها المطالبةَ بقيمتها؛ لإقراره بما يسقِط ضمانَها) وهو الإجارة (ولا نظر إلى إقرار المُستعير) بالعارية (لأن المالك ردَّ قوله بإقراره) بالإجارة (فبطل) إقراره.

(وإن قال) المالك: (أعرتُك) العين (قال) القابض: (بل أجرتني، والبهيمةُ تالفة) فقول مالك؛ لأن الأصل في القابض لمال غيره الضمان.

(وإن اختلفا في رَدِّها) بأن قال مُستعير: رددتها، وأنكره المالك (فقول مالك) بيمينه؛ لأن الأصل عدم الرد، وكالمدين إذا ادَّعى أداء الدين.

(وإن قال) القابض: (أعرتَني، أو أجرتني، قال

(1)

) المالك: (بل غصَبتَني، فإن كان اختلافهما عقب العقد، والبهيمة قائمة، أخذها مالكها، ولا شيء له) لأن الأصل عدم الإجارة والعارية، ولم يفت منها شيء ليأخذ المالك عوضه.

(وإن كان) اختلافهما و (قد مضى مدة لها أجرة، فقول المالك) بيمينه؛ لما تقدم من أن الأصل عدم الإجارة والعارية وأن الأصل في القابض لمال غيره الضمان (فتجب له أجْرة المِثل على القَابض) للعين، حيث لا بينة له؛ لأن الأصل عدم ما ادعاه.

(وإن تلفت الدابة) واختلفا (ففي مسألة دعوى القابض العاريةَ و) المالك الغصب (هُما متَّفِقَان على ضمان العين) إذ كل من الغصب والعارية مضمون

(2)

(مختلفان في الأجرة) لأن المالك يدعيها لدعواه

(1)

في "ح": "وقال".

(2)

في "ح": "مضمونة".

ص: 223

الغصب، والقابض ينكرها بدعواه العارية (والقولُ قول المالك) لما تقدم (فـ) ــــيحلف، و (تجب له أجرة المِثْل) على القابض (كما تقدَّم.

وفي دعواه) أي: القابض (الإجارة) مع دعوى المالك الغصب، هما (مُتَّفقان على وجوب الأجرةِ، مخُتلفان في ضمان العين، والقول قول المالكِ، فيغرم القابِض قيمتَها، إذا كانت تالفةَ في الصورتين) أي: في دعوى

(1)

الإجارة ودعوى

(1)

العارية، حيث ادعى المالك الغصب فيهما، ويغرم القابض -أيضًا- أجرة مثلها إلى حين التلف فيهما، كما عُلِمَ مما تقدم.

(وإن قال) المالك: (أعرتُك، قال) القابض: (بل أودعتني، فقول مالك) بيمينه؛ لما تقدم.

(ويستحق) المالك (قيمة العين، إن كانت تالفةً) ولا أجرة (وعكسها) بأن قال المالك: أودعتُك، فقال القابض: أعرتني (فـ) ـــــالقول (قوله) أي: المالك (أيضًا) لما تقدم (فيضمن) القابض (ما انتفع به) أي: أجرة انتفاعه بالمقبوض، ويرد العين إن كانت باقية، وإلا فقيمتها -أيضًا-. وإذا ادعى أنه زرعها عارية، وقال ربها: إجارة، فقول ربها؛ ذكره الشيخ تقى الدين

(2)

.

(1)

في "ح" و"ذ": "دعواه".

(2)

مجموع الفتاوى (30/ 249 - 250).

ص: 224

‌باب الغصب وجناية البهائم وما في معنى ذلك من الإتلافات

(الغصب حرام) إجماعًا

(1)

؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}

(2)

. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مالُ امرئ مسلمٍ إلَّا عن طِيبِ نفسه" رواه ابن ماجه، والدارقطني

(3)

.

(1)

اختلاف الفقهاء لابن جرير الطبري ص/ 146، والإشراف لابن المنذر (2/ 492)، ومراتب الإجماع ص/ 100، والمغني (7/ 360).

(2)

سورة البقرة، الآية:188.

(3)

لم نقف عليه في سنن ابن ماجه. وهذا الحديث جاء عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عند الدارقطني وغيره، منهم:

أ - عمرو بن يثربي الضمري رضي الله عنه: أخرجه الدارقطني (3/ 25). وأخرجه -أيضًا- أحمد (3/ 423، 5/ 113)، والفسوي في المعرفة والتاريخ (1/ 332)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2/ 225) حديث 979، وعبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند (5/ 113)، والطحاوى (4/ 241) وابن قانع في معجم الصحابة (2/ 208)، والطبراني في الأوسط "مجمع البحرين"(4/ 61) حديث 2097، والبيهقي (6/ 97).

وجوَّد إسناده الزيلعي في نصب الراية (4/ 169)، والنووي في المجموع (9/ 54)، وابن حجر في الدراية (2/ 201).

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 171): رجال أحمد ثقات.

ب - ابن عباس رضي الله عنهما: أخرجه الدارقطني (3/ 25). وأخرجه -أيضًا- الحاكم (1/ 93)، والبيهقي (6/ 97)، وفي الاعتقاد ص/ 296. وصحح إسناده النووي في المجموع (9/ 54).

ج - أبو حرة الرقاشي، عن عمه حِذْيم بن حنيفة، وقيل: عمر بن حمزة رضي الله عنه: أخرجه الدارقطني (3/ 26). وأخرجه -أيضًا- أحمد (5/ 72 - =

ص: 225

(وهو) أي: الغصب مصدر: غصب الشيء يغصِبه -بكسر الصاد- غصبًا، واغتصبه يغتصبه اغتصابًا، والشيء مغصوب وغصب.

وهو في اللغة: أخذ الشيء ظلمًا؛ قاله الجوهري

(1)

، وابن سِيدَه

(2)

.

وشرعًا: (استيلاء غير حربيٍّ عُرفًا) أي: فعل يُعدُّ استيلاء عُرفًا (على حق غيره) من مال أو اختصاص

(3)

(قهرًا بغير حق) فُعلم منه: أن الغصب لا يحصل بغير الاستيلاء

(4)

، ويأتي، وأن استيلاء الحربي على مالنا ليس غصبًا؛ لأنه يملكه بذلك، كما تقدم

(5)

في الغنيمة، وأن

= 73)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3/ 291) حديث 1671، وأبو يعلى (3/ 140) حديث 1570، والبيهقي (6/ 100)، وفي شعب الإيمان (4/ 387) حديث 5492. ضعَّفه النووي في المجموع (9/ 54)، وابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 46)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 265 - 266): رواه أحمد، وأبو حرة الرقاشي وثقه أبو داود، وضعفه ابن معين، وفيه علي بن زيد، وفيه كلام.

د - أنس رضي الله عنه: أخرجه الدارقطني (3/ 26). وضعف إسناده ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (3/ 50)، والزيلعي في نصب الراية (4/ 169)، وابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 46)، وفي الدراية (2/ 201).

هـ - ابن عمر رضي الله عنهما: أخرجه الروياني في مسنده (2/ 410) حديث 1416، والبيهقي (6/ 97)، من طريق موسى بن عبيدة، عن صدقة بن يسار، وعبد الله بن دينار، عن ابن عمر. وموسى بن عبيدة ضعيف، كما في التقريب (7038).

(1)

الصحاح (1/ 194).

(2)

المحكم (5/ 253).

(3)

"وهو ما يستحق من يده عليه الانتفاع به، ولا يملك أحد مزاحمته فيه، مع عدم قبوله للتمول والمعاوضة" ش.

(4)

في "ذ": "استيلاء".

(5)

(7/ 130 - 132).

ص: 226

السرقة، والنهب، والاختلاس ليست غصبًا؛ لعدم القهر فيها، وأن استيلاء الولي على مال موليه ليس غصبًا؛ لأنه بحق.

قيل: "قهرًا" زيادة في الحَدِّ؛ لأن الاستيلاء يدلُّ عليه. قال في "المبدع": وفيه نظر؛ لأنه لا يستلزمه، مع أنه يخرج بقيد القهر ما تقدم من المسروق والمنتهب والمختلس، ودخل في الحَدِّ ما يؤخذ من الأموال بغير حَقٍّ كالمكوس.

(وتُضْمَن أمُّ وَلَدٍ) بغصب؛ لأنها تجري مجرى المال، بدليل أنها تُضمن بالقيمة في الإتلاف؛ لكونها مملوكة كالقِنِّ، بخلاف الحرة، فإنها ليست بمملوكة، فلا تُضمن بالقيمة.

(و) يُضمن (قِنٌّ) بغصب، ذكرًا كان أو أنثى، كسائر المال.

(و) يُضمن (عقار بغصب) لما روى سعيد بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتطَعَ منَ الأرض شبرًا ظلمًا، طُوِّقهُ يوم القيامةِ من سبعِ أرَضين" متفق عليه

(1)

؛ ولأن ما يُضمن في الإتلاف يجب أن يُضمن في الغصب كالمنقول. والعَقارُ -بفتح العين-: قال أبو السَّعادات

(2)

: هو الضيعة، والنخل، والأرض. فيضمن الغاصب العقار (إذا تلف بغرق ونحوه) كسائر المغصوبات.

(لكن لا تثبت يد على بُضع) -بضم الباء- وجمعه أبضاع كقفل وأقفال، يطلق على الفَرْج، والجماع، والتزويج. والبضاع: الجماع؛ لفظًا ومعنىً؛ ذكره في "الحاشية"(فيصح تزويج الأَمَة المغصوبة) قِنًّا

(1)

البخاري في المظالم، باب 13، حديث 2452، وفي بدء الخلق، باب 2، حديث 3198، ومسلم في المساقاة، حديث 1610.

(2)

النهاية في غريب الحديث (3/ 274).

ص: 227

كانت، أو أُمَّ ولد، أو مُدَبَّرة، أو مُكاتَبة.

(ولا يَضمن الغاصب مهرها، لو حبسها عن النكاح حتى فات) نكاحها (بالكبر) أي: كبرها؛ لأن النفع إنما يضمن بالتفويت، إذا كان مما تصح المعاوضة عليه بالإجارة، والبُضع ليس كذلك.

(ولا يحصُل الغصب من غير استيلاء، فلو دخل أرضَ إنسانٍ أو دارَه، صاحبُها فيها أوْ لا) سواء دخل (بإذنه، أو بغير إذنه، لم يضمنها بدخوله) حيث لم يقصد الاستيلاء (كما لو دخل صحراة له) لأنه إنما يضمن بالغصب ما يضمن بالعارية، وهذا لا تثبت به العارية، ولا يجب به الضمان فيها، فكذلك لا يثبت به الغصب.

"تنبيه": في قوله: "صحراة" نظر. قال في "الصحاح"

(1)

: تقول: هذه صحراء واسعة، ولا تقول: هذه صحراة

(2)

، فتدخل تأنيثًا على تأنيث.

"فائدة": لا يُشترط لتحقق الغصب نقل العين، فيكفي مجرد الاستيلاء، فإذا ركب دابة واقفة لإنسان، ليس هو عندها، صار غاصبًا، ولو دخل دارًا قهرًا، وأخرج رَبَّها، فغاصب، وإن أخرجه قهرًا، ولم يدخل، أو دخل مع حضور رَبِّها وقوته، فلا. وإن دخل قهرًا، ولم يُخرِجه، فقد غصب ما استولى عليه، وإن لم يرد الغصب، فلا. وإن دخلها قهرًا في غيبة رَبِّها، فغاصبٌ، ولو كان فيها قُماشه

(3)

؛ ذكره في "المبدع".

(1)

(2/ 708).

(2)

في الصحاح: "صحراءة".

(3)

قماش البيت: متاعه. انظر: الصحاح (3/ 1016)، والقاموس المحيط ص/ 603، مادة (قمش).

ص: 228

(وإن غصب كلبًا يجوز اقتناؤه) وهو كلبُ صيدٍ، وماشية، وحرث، لزمه رَدّه.

(أو) غصب (خمرَ ذِمِّي مستورةً) أو خمر خلَّال، لزمه رَدُّها؛ لأنها غير ممنوع من إمساكها، وكذا لو غصب دهنًا متنجِّسًا؛ لأنه يجوز الاستصباح به في غير مسجد.

(أو تخلَّلَ خمرُ مسلم في يَدِ غاصبٍ، لزمه رَدُّه) لأنها صارت خلًّا على حكم ملكه، فإن تلف ضَمِنه. وقوله:"مسلم" ليس بقِيد، بل خمر الذمي إذا تخلَّل بيد الغاصب، يجب رَدُّه بطريق الأولى؛ لأنه كان يجب رَدُّه قبل التخلُّل، فبعدَه أَولى (لا ما أُريق) من خمر مسلم -ولعل المراد غير خلَّال- (فجَمَعَه آخر، فتخلَّلَ) في يد جامعه، فلا يلزمه رَدُّه (لزوال يده هنا) بالإراقة.

(وإن أتلف) غاصب، أو غيره (الكلبَ، أو الخمر -ولو كان المتلِفُ ذميًّا- لم تلزمه قيمتهما) لأنهما ليس لهما عوض شرعي؛ لأنه لا يجوز بيعهما (كخنزير، و) كـ (ــخمر غير مستورة) ولو لذمي.

(وتجب إراقةُ خَمرِ المسلم) غير الخلَّال؛ لأنه لا يقر على اقتنائه (ويحرم ردُّها) أي: الخمر (إليه) أي: المسلم غير الخلَّال؛ لأنه إعانة له على ما يحرم عليه.

(وإن غصب جلدَ ميتة نجسة، لم يلزمه) أي: الغاصب (ردُّه) ولو دبغه (لأنه لا يطهر بدبغه، ولا قيمة له) لأنه لا يصح بيعه. واختار الحارثي: يجب ردُّه حيث قلنا: ينتفع به في اليابسات؛ لأنَّ فيه نفعًا مباحًا كالكلب المُقتنى، وصححه في "تصحيح الفروع"، وهو القياس،

ص: 229

وقطع به ابن رجب

(1)

، واختاره -أيضًا- الموضِّح، وقال: وصَرَّحوا بوجوب رده في الإقرار بالمجمل.

(وإن استولى على حُرٍّ، لم يضمنه بذلك، ولو كان صغيرًا) لأنه ليس بمال (ويأتي في الديات -إن شاء الله تعالى-) بأوضح من ذلك، لكن تقدم في الباب قبله

(2)

: إذا أبعده عن بيت أهله، يلزمه رده، ومؤنته عليه.

ولا يضمن دابة عليها مالكها الكبير ومتاعه؛ لأنها في يد مالكها؛ نقله ابن رجب عن القاضي

(3)

. وجزم به في "المنتهى".

(ويضمن) الغاصب (ثيابَه) أي: ثياب حُرٍّ صغير (وحَليه) وإن لم ينزعه عنه؛ لأنه مال، أشبه ما لو كان منفردًا.

(وإن استعمله) أي: الحرَّ؛ كبيرًا كان أو صغيرًا (كرهًا، أو حبسه مدة، فعليه أُجرته) لأن منفعته مال، يجوز أخذ العوض عنها، فضمنت بالغصب (كـ) ــمنافع (العبد، وإن منعه) أي: منع إنسانٌ آخر (العملَ من غير حبس، فلا) ضمان عليه في منافعه (ولو) كان الممنوع (عبدًا) لأن منافعه فاتت تحت يده، فلا يضمنها الغير.

فصل

(ويلزمه) أي: الغاصب (رَدُّ المغصوب إلى محله) الذي غصبه منه

(1)

القواعد الفقهية ص/ 204، القاعدة الخامسة والثمانون.

(2)

(9/ 220).

(3)

كذا في الأصول الخطية و"ذ"، وفي القواعد الفقهية ص/333 القاعدة الثانية والتسعين:"لو غصب دابة عليها مالكها ومتاعه ففي الخلاف الكبير لا يضمن". وكتاب الخلاف الكبير للقاضي أبي يعلى لم يُطبع، انظر: معجم مصنفات الحنابلة (2/ 45).

ص: 230

(وإن بَعُدَ، إن قدر على رَدِّه) أي: إن كان باقيًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "عَلى اليدِ ما أخذَتْ حتى تؤديهُ" رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه

(1)

، وحسنَّه الترمذي. ولما روى عبد الله بن السائب، عن أبيه، عن جَدِّه:"لا يأخذنَّ أحدكُم متاعَ أخيهِ لاعبًا أو جادًّا، ومن أخذَ عصا أخيهِ، فليردَّها" رواه أبو داود

(2)

.

(ولو غرم) الغاصب (عليه) أي: الرد (أضعاف قيمته) لأنه هو المتعدي

(3)

، فلم ينظر إلى مصلحته، فكان أَولى بالغرامة.

(1)

تقدم تخريجه (7/ 446) تعليق رقم (2).

(2)

في الأدب، باب 93، حديث 5003. وأخرجه -أيضًا- البخارى في الأدب المفرد ص/ 93، حديث 241، والترمذي في الفتن، باب 3، حديث 2160، وأحمد (4/ 221)، وعبد بن حميد (1/ 401) حديث 436، وابن أبي شيبة في مسنده (2/ 197) حديث 682، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (5/ 325) حديث 2867، والدولابي في الكنى (2/ 145)، والطحاوي (4/ 243)، وفي شرح مشكل الآثار (4/ 307) حديث 1624، والطبراني في الكبير (22/ 241) حديث 630، والحاكم (3/ 637)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (5/ 2786) حديث 6612، والبيهقي (6/ 92، 100)، وفي شعب الإيمان (4/ 388) حديث 5494، والبغوي في شرح السنة (10/ 264) حديث 2572، وابن عساكر في تاريخه (19/ 71)، من طريق ابن أبي ذئب، عن عبد الله بن السائب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا.

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي ذئب. وقال البيهقي في الخلافيات (3/ 419؛ مختصره): إسناده حسن إلى ابن السائب. واستغربه الذهبي في السير (13/ 508). وأخرجه الطيالسي ص/ 184، حديث 1302، عن ابن أبي ذئب، عن عبد الله بن السائب، عن جده -ليس فيه عن أبيه- وقال يونس بن حبيب: هكذا هو في كتابي عن أبي داود، والناس يقولون: عن ابن أبي ذئب، عن عبد الله بن السائب، عن أبيه، عن جده.

وانظر: نصب الراية (4/ 167)، والتلخيص الحبير (3/ 46).

(3)

في "ح": "المعتدي".

ص: 231

(فإن قال ربُّه) أي: المغصوب المُبَعَّد (دعه) مكانه (وأعطني أجرة رَدِّه) إلى مكانه (وإلا، ألزمتُك بردِّه) لم يلزمه؛ لأنها معاوضة، فلا يُجبر عليها (أو طلب) رَبُّ المغصوب (منه) أي: الغاصب (حمله إلى مكان آخر في غير طريق الرَّدِّ، لم يلزمه) أي: الغاصب، ولو كان أقرب؛ لأنها معاوضة.

(وإن قال المالك: دَعْه) أي: المغصوب (لي في المكان الذي نقلتَه إليه، لم يملك الغاصب رَدّه) إلى المكان الذي غصبه منه؛ لأنه تصرُّفٌ لم يؤذن له فيه.

(وإن قال) المالك (ردّه) أي: المغصوب (إلى بعض الطريق) إلى الموضع الذي غصبه منه (لزمه) ردّه إليه؛ لأنه يلزمه إلى جميع المسافة، فلزمه إلى بعضها، كما لو أسقط ربُّ الدَّين عن المدين بعض الدَّين، وطلب منه باقيه (ومهما اتفقا عليه من ذلك) المذكور (جاز) لأن الحق لهما.

(وإن خلطه) أي: المغصوب (بما يمكن تمييزه منه، أو) يمكن (تمييز بعضه، كحِنطة) خلطها (بشعير، أو بسمسم، أو) خلط (صغار الحَبِّ بكباره) ولو اتَّحد الجنس (أو) اختلط (زبيب أحمر بأسود) وما أشبه (لزمه) أي: الغاصب (تخليصه، وردّه) إلى مالكه (وأجرة المميِّز عليه) أي: الغاصب؛ لأنه بسبب تعدّيه، فكان أَولى بغرمه من مالكه، لكون الشارع لم ينظر إلى مصلحة المتعدي.

(وإن) اختلط المغصوب بغيره، و (لم يمكن تمييزه، فسيأتي في الباب، وإن شغل المغصوب بملكه، كحَجَرٍ بَنَى) الغاصب (عليه، أو خَيْطٍ خاط به ثوبه، أو نحوه، فإن بلي الخيط، وانكسر الحَجَر) بحيث

ص: 232

لا ينتفع به، وإلا؛ رَدّه مع أرشه (أو كان مكانه خشبة، فتلفت) الخشبة (لم يجب رَدّه) لأنه صار مُستهلَكًا (ووجبت قيمته) كما لو أتلفه.

(وإن كان) الحَجَر، أو الخشبة، أو الخيط (باقيًا بحاله) أو متغيرًا (لزمه رَدّه) مع أرش نقصه إن نقص (وإن انتقض البناء) برَدِّ الحَجَر، أو الخشبة (وتَفَصَّل الثوب) برد الخيط؛ لأنه مغصوب أمكن رده، فوجب، كما لو لم يبن عليه أو يخيط به، و"إن" وصليّة.

(وإن سمَّر) الغاصب (بالمسامير) المغصوبة (بابًا، لزمه) أي: الغاصب (قلعها وردّها) للخبر

(1)

، ولا أثر لضرره؛ لأنه حصل بتعديه (وإن كانت المسامير من الخشبة المغصوبة، أو) كانت من (مال المغصوب منه، فلا شيء للغاصب) في نظير عمله، لتعديه به (وليس له) أي: الغاصب (قلعها) لأنه تصرُّف لم يؤذن له فيه (إلا أن يأمره المالك) بقلعها (فيلزمه) القلع، ولا أثر لضرره؛ لأنه حصل بتعديه.

(وإن كانت المسامير للغاصب، فوهبها للمالك، لم يُجبر المالك على قبولها) من الغاصب؛ لما عليه من المنة.

(وإن استأجر الغاصب على عمل شيء من هذا الذي ذكرناه؛ فالأجر عليه) لأنه غرَّ العامل، ولا شيء على المالك؛ لأنه لم يأذن فيه.

(وإن زرع) الغاصب (الأرضَ، فردَّها بعد أخذ الزرع، فهو للغاصب) قال في "المبدع" بغير خلاف نعلمه؛ لأنه نماء ماله (وعليه) أي: الغاصب (أجرتها) أي: الأرض (إلى وقت تسليمها) لأنه استوفى نفعها، فوجب عليه عوضه، كما لو استوفاه بالإجارة؛ ولأن المنفعة مال، فوجب أن

(1)

يعني قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يأخذنَّ أحدكم متاع أخيه

" وقد تقدم تخريجه (9/ 230) تعليق رقم (1).

ص: 233

تضمن كالعين (و) عليه (ضمان النقص) إن نقصت كسائر الغصوب.

(ولو لم يزرعها) أي: المغصوبة الغاصب (فنقصت لترك الزراعة، كأراضي البصرة، أو نقصت) المغصوبة (لغير ذلك، ضمن) الغاصب (نقصها) لأنه نقص حصل بيده العادية.

(وإن أدركها) أي: الأرض (ربُّها، والزرع قائم) لم يُحصد (فليس له إجبار الغاصب على قَلْعه) لما روى رافع بن خديج أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ زرعَ في أرض قومٍ بغير إذنهم، فليسَ له من الزرعِ شيءٌ، ولهُ نفقتهُ" رواه أحمد وأبو داود والترمذي

(1)

وحسَّنه. ولأنه أمكن رَدُّ المغصوب

(1)

أحمد (3/ 365، 4/ 141)، وأبو داود في البيوع، باب 33، حديث 3403، والترمذي فى الأحكام، باب 29، حديث 1366، وفي العلل الكبير ص / 211، حديث 377. وأخرجه -أيضًا- ابن ماجه في الرهون، باب 13، حديث 2466، ويحيى بن آدم في الخراج ص/93 - 94، حديث 295، 296، والطيالسي ص/ 129، حديث 960، وأبو عبيد في الأموال ص/ 364، حديث 708، وابن أبي شيبة (7/ 89، 14/ 219)، وابن زنجويه في الأموال (2/ 640) حديث 1057، والطحاوي (4/ 117، 118)، وفي شرح مشكل الآثار (7/ 96) حديث 2667 - 2669، والطبراني في الكبير (4/ 284) حديث 4437، وابن عدي (4/ 1334)، والإسماعيلي في معجمه (3/ 757)، والبيهقي (6/ 136)، وفي معرفة السنن والآثار (8/ 289 - 290)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 213) حديث 1557، من طريق شريك، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عطاء بن أبي رباح، عن رافع.

وأخرجه ابن عدي (4/ 1334)، من طريق حجاج بن محمد، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عطاء، عن رافع.

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث أبي إسحاق إلا من هذا الوجه من حديث شريك بن عبد الله، والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق. وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن، وقال: لا أعرفه من حديث أبي إسحاق إلا من رواية شريك.

قال ابن عدي: وهذا يعرف بشريك بهذا الإسناد، كنت أظن أن عطاء عن رافع بن =

ص: 234

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= خديج مرسل، حتى تبين لي أن أبا إسحاق أيضًا عن عطاء مرسل. وقال ابن أبي حاتم في المراسيل ص/ 155: سمعت أبا زرعة يقول: لم يسمع عطاء من رافع بن خديج. قال البيهقي: هو مرسل، قال الشافعي في كتاب البويطي: الحديث منقطع؛ لأنه لم يلق عطاء رافعًا.

وقال الخطابي في معالم السنن (3/ 96): هذا حديث لا يثبت عند أهل المعرفة بالحديث، وحدثني الحسن بن يحيى، عن موسى بن هارون الحمال، أنه كان ينكر هذا الحديث ويضعفه، ويقول: لم يروه عن أبي إسحاق غير شريك، ولا عن عطاء غير أبي إسحاق، وعطاء لم يسمع من رافع بن خديج شيئًا، وضعفه البخاري أيضًا، وقال: تفرد بذلك شريك عن أبي إسحاق، وشريك يهم كثيرًا أو أحيانًا، ويشبه أن يكون معناه -لو صح وثبت- على العقوبة، والحرمان للغاصب، والزرع في قول عامة الفقهاء لصاحب البذر؛ لأنه تولد من ماله وتكوّن معه، وعلى الزارع كراء الأرض، غير أن أحمد بن حنبل كان يقول: إذا كان الزرع قائمًا فهو لصاحب الأرض، فأما إذا حصد فإنما يكون له الأجرة. وحكى ابن المنذر عن أبي داود قال: سمعت أحمد بن حنبل وسئل عن حديث رافع فقال: عن رافع ألوان، ولكن أبا إسحاق زاد فيه: زرع بغير إذنه، وليس غيره يذكر هذا الحرف.

وتعقبه ابن القيم في تهذيب السنن (5/ 64) فقال: "وليس مع من ضعف الحديث حجة، فإن رواته محتج بهم في الصحيح وهم أشهر من أن يسأل عن توثيقهم، وقد حسنه إمام المحدثين أبو عبد الله البخاري، والترمذي بعده، وذكره أبو داود ولم يضعفه، فهو حسن عنده، واحتج به الإمام أحمد وأبو عبيد، وقد تقدم شاهده من حديث رافع بن خديج في قصة الذي زرع في أرض ظهير بن رافع فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الأرض أن يأخذوا الزرع ويردوا عليه نفقته، وقال فيه لأصحاب الأرض: خذوا زرعكم. فجعله زرعًا لهم؛ لأنه تولد من منفعة أرضهم، فتولده في الأرض كتولد الجنين في بطن أمه، ولو غصب رجل فحلًا، فأنزاه على ناقته، أو رمكته، لكان الولد لصاحب الأنثى دون صاحب الفحل؛ لأنه إنما يكون حيوانًا من حرثها. ومني الأب لما لم يكن له قيمة، أهدره الشارع؛ لأن عسب الفحل لا يقابل بالعوض، ولما كان البذر مالًا متقومًا رد على صاحبه قيمته، ولم يذهب عليه باطلًا، وجعل الزرع لمن يكون في أرضه كما يكون الولد لمن يكون في بطن أمه [كذا في المطبوع، =

ص: 235

إلى مالكه من غير إتلاف مال الغاصب على قُربٍ من الزمان، فلم يجز إتلافه، كما لو غصب سفينة، فحمل فيها متاعه، وأدخلها لُجَّة البحر، لا يُجبر على إلقائه، فكذا هنا، صيانة للمال عن التلف، وفارق الشجر لطول مدته.

وحديث: "ليسَ لعرقٍ ظالمٍ حقٌّ"

(1)

محمولٌ عليه؛ لأن حديثنا في الزرع، فيحصُل الجمع بينهما.

و (يُخيَّر) مالكُ الأرض (بين تَرْكه) أي: الزرع (إلى الحصاد بأجرته) أي: أجرة مِثْله، وأرش نقصها إن نفصت (وبين أخذه بنفقته) لأن كل واحد منهما يحصُل به غرضه، فملك الخيرة بينهما تحصيلًا لغرضه (فيرد) المالك -إن اختار أخذ الزرع- للغاصب (مثل البَذْر، وعوض لواحقه، من حرث وسقي، وغيرهما) لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: "ولهُ نفقتُهُ" قال الإمام

(2)

: إنما أذهب إلى هذا الحكم استحسانًا على خلاف القياس. وظاهره: ولو كان عمل الحرث ونحوه بنفسه؛ لأن

= وصوابه: "أمَتَه"]، ورمكته، وناقته، فهذا محض القياس، لو لم يأت فيه حديث، فمثل هذا الحديث الحسن الذي له شاهد من السنة على مثله -وقد تأيد بالقياس الصحيح- من حجج الشريعة.

وقال أبو حاتم الرازي كما في العلل لابنه (1/ 476) عن حديث ظهير: وهذا يقوى حديث شريك.

(1)

تقدم تخريجه (9/ 204) تعليق رقم (1).

(2)

العدة لأبي يعلى (5/ 1605)، والتمهيد لأبي الخطاب (4/ 87)، والمغني (7/ 378)، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف (15/ 138)، وبدائع الفوائد (4/ 124). وانظر: مسائل الكوسج (6/ 2286) رقم 1893، ومسائل أبي داود ص/ 200، وكتاب الروايتين والوجهين (1/ 420)، والجامع الصغير ص/ 180، والتمام (2/ 75).

ص: 236

العمل متقوّم استهلك لمصلحة الزرع، فوجب رد عوضه، كما لو استأجر مَن عَمِله. وهذا أحد احتمالين ذكرهما الحارثي.

(ولا أُجرة) على الغاصب في الأرض المغصوبة، إذا اختار المالك أخذ الزرع بنفقته (لمدة مكثه) أي: الزرع (في الأرض) المغصوبة؛ لأن منافع الأرض في هذه المدة عادت إلى المالك، فلم يستحقَّ عوضها على غيره.

(ويُزكِّيه) أي: الزرع (ربُّ الأرض، إن أخذه قبل وجوب الزكاة) بأن تملكه قبل اشتداده؛ لوجوبها وهو في ملكه (و) إن تملَّكه (بعده) أي: بعد الوجوب، بأن تملَّكه بعد الاشتداد، فزكاته (على الغاصب) لأنه المالك وقت وجوبها، صحَّحه في "الإنصاف". قال في "تصحيح الفروع": وهذا الصحيح، وقواعد المذهب تقتضيه. والوجه الثاني: يُزكِّيه آخذه، وهو مقتضى النصوص، وهو اختيار الخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى، والحارثي وغيرهم؛ لأنهم اختاروا أن الزرع من أصله لربِّ الأرض، ولكن المذهب الأول. انتهى. ومقتضى كلامه في "التنقيح" و"المنتهى" في الزكاة: أن المذهب الثاني، وإن قلنا: الملك للغاصب إلى أخذه، ويفرق بين ربِّ الأرض والمشتري بأن ربَّ الأرض يتملَّكه بنفقته، فملكه استند إلى أول وجوده، بخلاف المشتري.

(وإن غَرَسَها) أي: الأرض المغصوبة (الغاصب، أو بنى فيها ولو) كان الغاصب (شريكًا) في الأرض المغصوبة (أو فعله) أي: غرس، أو بنى في الأرض أجنبي أو شريك (من غير غصب، بلا أذن) ربِّ الأرض (أُخِذ) أي: ألزم (بقلع غراسه، و) قلع (بنائه) إذا طالبه ربُّ الأرض بذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لعِرْقٍ ظالمٍ

(1)

حقٌّ" رواه

(1)

(هو على وصف العرق بالظلم، لا على الإضافة؛ قاله الحارثي) ش.

ص: 237

الترمذي

(1)

وحسَّنه. وفي رواية أبي داود والدارقطني من حديث عروة بن الزبير قال: "ولقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديثَ: أنَّ رجلين اختصما إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، غرسَ أحدهما نخلًا في أرضِ الآخرِ، فقضى لصاحب الأرض بأرضهِ، وأمرَ صاحبَ النخل أن يُخرجَ نخلهُ منها، فلقد رأيتها وإنها لتضربُ أصولها بالفؤوسِ، وإنها لنخلٌ عُمٌّ"

(2)

.

قال أحمد

(3)

: العُم الطوال.

(و) أُخذ الغاصب -أيضًا- بـ (ـتسوية الأرض، وأرش نقصها) لأنه ضرر حصل بفعله، فلزمه إزالته كغيره.

(و) عليه (أجرتها) أي: أجرة مثل الأرض مدة احتباسها؛ لأن منافعها ذهبت تحت يده العادية، فكان عليه عوضها كالأعيان.

(ثم إن كانت آلات البناء من المغصوب) بأن كان فيه لَبِنٌ أو آجرٌّ، أو ضرب منه لَبِنًا أو آجرًّا، وبنى به فيه (فـ) ـعليه (أجرتُها مبنية) لأن البناء والأرض ملك للمغصوبة منه الأرض، ولا أُجرة للغاصب لبنائه (وإلا) تكن آلات البناء من المغصوب، بل كانت الآلات للغاصب، فعليه (أجرتها غير مبنية) لأنه إنما غصب الأرض وحدها، وأما بناؤه بآلاته فله.

(فلو أجرها) أي: أجر الغاصب الأرض المغصوبة المبنية بآلاته مع ما بها من بناء (فالأجرة) المستقرة على المستأجر (لهما) أي: مشتركة بين ربِّ الأرض وربِّ البناء (بقَدْر قيمتيهما) أي: قيمتي منفعتيهما، فينظر: كم أجرة الأرض مبنية، ثم أجرتها خالية؟ فما بينهما فهو أجرة البناء،

(1)

في الأحكام، باب 38، حديث 1378، وتقدم تخريجه (9/ 206) تعليق رقم (1).

(2)

تقدم تخريجه (9/ 205) إكمال تعليق رقم (1) فقرة (جـ).

(3)

المبدع (5/ 157 - 158). وانظر: النهاية (3/ 301).

ص: 238

فيوزع ما يؤخذ من المستأجر على أجرة الأرض، وأجرة البناء، فيختص كل واحد بأجرة ما له.

(ولو جصَّصَ الغاصبُ الدارَ) ونحوها (أو زوَّقها، فحكمها كالبناء) لأنه شغل ملك غيره بما لا حُرمة له.

(ولو غصب) إنسان (أرضًا وغراسًا من شخص واحد، فَغَرَسه فيها، فالكل لمالك الأرض) ولا شيء للغاصب في نظير فعله، لتعدِّيه به (فإن طالبه) أي: الغاصبَ (ربُّها بقلعه) أي: الغراس (وله في قلعه غرضٌ صحيح، أُجبر) الغاصب (عليه) لأنه فَوَّت على المالك غرضًا مقصودًا بالأرض، فأوخذ

(1)

بإعادتها إلى ما كانت عليه (وعليه) أي: الغاصب -وفي نسخة: "وعلى"- (تسوية الأرض، و) أرش (نقصها، و) أرش (نقص الغراس) لحصوله بتعديه.

(وإن لم يكن) للمالك (في قَلْعِهِ غرضٌ صحيحٌ، لم يُجبر) الغاصب على القلع؛ لأنه سَفَهٌ.

(وإن أراد الغاصبُ قَلْعه) أي: قلع الغراس، أو البناء (ابتداء) من غير طلب من المالك (فله مَنْعُهُ) من القلع؛ لأنهما ملكه، فليس لغيره التصرُّف عليه بغير إذنه.

(ويلزمه) أي: الغاصب (أُجرته) أي: المغصوب، إذا بناه الغاصب بآلات من المغصوب (مبنيًا) لأن البناء والأرض ملك لربهما. وتقدم

(2)

.

وإن غصب أرضًا لرجل، وغرسًا من آخر، وغرسه في الأرض، ثم وقع النزاع في مؤنة القلع، فكما لو حمل السيل غرسًا إلى أرض آخر

(1)

في "ذ": "فأُخذ" وهو الصواب.

(2)

في الصفحة السابقة.

ص: 239

فنبت فيها، على ما تقدم في العارية

(1)

. وهذا معنى كلام المجد: فإذا قلنا: ليس له قَلْعُه مجانًا، وغرم أرش النقص، رجع رَبُّ الأرض به على الغاصب؛ لأنه تسبَّب في غرمه، وكذا إذا زرع الأرض المغصوبة ببذر الغير، هل له تبقيته بأجرة أو مجانًا؟ على وجهين، فإذا قلنا: لا أجرة، فهي على الغاصب. وعلى الوجه الآخر: تكون على صاحبه. هذا حاصل كلام المجد.

(ورَطْبة ونحوها) كنعناع وبُقولٍ مما يُجَزُّ مرَّة بعد أخرى، أو يتكرَّر حمله، كقثاء وباذنجان (كزرع فيما تقدَّم) في أن ربَّ الأرض إذا أدركه قائمًا، له أن يتملَّكه بنفقته؛ لأنه ليس له أصلٌ قويٌّ، أشبه الحنطة والشعير (لا كغرس) أي: ليس حكمه حكم الغرس.

وإذا غصب الأرضَ فغرسها وأثمرت، فأدركها ربُّها بعد أخذ الغاصب، فهي له. وكذا لو أدركها والثمرة عليها؛ لأنها ثمرة شجره، فكانت له كأغصانها؛ قدَّمه في "المغني"، و"الشرح"، و"الفائق"، و"الرعايتين"، و"الحاوي الصغير"، و"ابن رزين"، و"المبدع"، وصحَّحه الحارثي. قال: والقياس على الزرع ضعيف. وعنه

(2)

: كالزرع، إن أدركها قبل الجذاذ أخذها، وعليه النفقة. واختاره القاضي.

(ولو أراد مالك الأرض) المغصوبةِ (أخذَ البناءِ والغراسِ) من الغاصب (مجانًا، أو) أراد أخذهما (بالقيمة، وأبى مالكُه) أي: الغراس أو البناء، الإعطاء (لم يكن له) أي: مالك الأرض (ذلك) لأنه عين مال

(1)

(9/ 211).

(2)

انظر: المغني (7/ 379)، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف (15/ 140). وروى الكوسج عن الإمام أحمد مسألة مثلها في البناء (6/ 2687) رقم 1896:"قال أحمد: "وأحب إلي إذا كان البناء ينتفع به، فأحب إلي أن يعطيه النفقة، ولا يقلع بناءه".

ص: 240

الغاصب، فلم يملك ربُّ الأرض أخْذَه، كما لو وضع فيها أثاثًا أو نحوه. وقال المجد في "شرحه": لصاحب الأرض تملك البناء والغراس بقيمته مقلوعًا، إذا كانت الأرض تنقص بقلعه.

(وإن اتفقا) أي: مالك الأرض ومالك الغراس، أو البناء (على تعويضه) أي: على أن يعوض رَبُّ الأرض رَبَّ الغراس، أو البناء (عنه، جاز) لأن الحق لا يعدوهما.

(وإن وهب الغاصبُ الغراسَ والبناء لمالك الأرض، ليتخلَّص) الغاصب (من قلعه، فقبله المالكُ، جاز) لتراضيهما (وإن أبى) مالك الأرض (قَبوله) أي: الغراس أو البناء، من الغاصب (وكان) لربِّ الأرض (في قَلْعه غرضٌ صحيحٌ، لم يُجبر) ربُّ الأرض (على قَبوله) من الغاصب؛ لأنه يُفوِّت غرضه الصحيح، فإن لم يكن في قَلْعه غرضٌ صحيح، ففيه احتمالان، أحدهما: أنه يسقط الطلب عن الغاصب بقلعه؛ لأنه سَفَهٌ، وقد زاد زيادة تنفعه ولا تضره. والثاني: لا؛ لأنه عقد يُعتبر له الرضا، فلم يُجبر عليه كالبيع. قال في "الإنصاف": الأولى ألّا يُجبر.

(وإن أخذ) الغاصبُ، أو غيرُه (ترابَ أرض) بغير إذن ربها (فضربه لَبِنًا، ردَّه) لأنه عين مال ربِّ الأرض (ولا شيء له) في نظير عمله لتعديه به (إلا أن يجعل) الغاصب (فيه، تِبْنًا له) أي: للغاصب (فله أن يحُلَّه) أى: اللبِن (ويأخذ تبْنه) قال الحارثى: لكن عليه ضمان اللبِن؛ لأنه قد تمحض للمالك ملكًا (إن كان يحصُل منه شيء) لأنه عين ماله، وإن لم يكن يحصُل منه، فليس له حله بغير إذن ربه، لأنه تصرّف في مال الغير لغير حاجة (وإن طالبه المالك بحَلِّه) أي: اللبِن (لزمه) أي: الغاصب حله (إن كان فيه) أي: الحل (غرضٌ صحيح) وإلا؛ فلا؛ لأنه سَفَهٌ.

ص: 241

(وإن جعله) أي: التراب بعد ضَرْبه (آجرًا) وهو اللبِن المشوي (أو فَخارًا) بفتح الفاء (لزمه) أي الغاصب (ردّه) للمالك (ولا أَجْر له لعمله) لأنه عدوان (وليس له) أي: الغاصب (كَسْره) أي: الآجر، أو الفَخَّار (ولا للمالك إجباره عليه) أي: الكسر؛ لأنه إضاعة مال بلا فائدة.

(وإن غصب) إنسان (فَصيلًا

(1)

) أو مهرًا، ونحوه (فأدخله داره، فكَبرُ، وتعذَّر خروجه بدون نقض الباب، أو) غصب (خشبة، وأدخلها داره، ثم بنى الباب ضيقًا) بحيث (لا تخرج) الخشبة (إلا بنقضه، وجب نقضه) أي: الباب، لضرورة وجوب الرَّدِّ (ورد الفَصيل والخشبة) لربهما، ولا شيء على ربهما؛ لأن المتعدي أَولى بالضرر.

(وإن كان حصوله) أي: الفصيل (في الدَّار من غير تفريط من صاحبها) بأن دخل الفصيل بنفسه، أو أدخله ربه (نُقضَ الباب، وضمانه على صاحب الفَصيل) لأنه لتحصيل مالِه، فيغرم مالكه أرش نقض البناء وإصلاحه.

(وأما الخشبة) إذا حصلت في الدار من غير تفريط صاحبها (فإن كان كسرها أكثر ضررًا من نقض الباب) بأن تنقص قيمتها بالكسر أكثر من أَرْش نقضه وإصلاحه (فكالفَصيل) فينقض الباب، ويغرم صاحبها أرش نقضه وإصلاحه (وإن كان) كسرها (أقل) ضررًا (كُسرت) ولا شيء على صاحب الدار؛ لعدم عدوانه.

(وإن كان حصوله) أي: ما ذكر من الفَصيل أو الخشبة (في الدار بعدوان من صاحبه، كمن غصب دارًا، وأدخلها فَصيلًا أو خشبة، أو

(1)

الفصيل: هو ولد الناقة إذا فصل عن أمه. القاموس المحيط ص/ 1042، مادة (فصل).

ص: 242

تعدَّى على إنسان، فأدخل داره فرسًا ونحوها) بغير إذنه (كُسرت الخشبة، وذُبح الحيوان) المأكول (وإن زاد ضرره على نقض البناء) لأن ربه هو الذي أدخل الضرر على نفسه بعدوانه.

وإن كان الحاصل من ذوات التركيب، كالتوابيت والأسِرَّة، فكذلك؛ إن فَرَّط مالك الدار، نقض الباب من غير أرش، وإن فَرَّط مالكه، فكك التركيب.

(وإن باع) إنسان (دارًا وفيها ما يعسر إخراجه، كخوابى) غير مدفونة (وخزائن) غير مسمورة؛ لما تقدم في البيع

(1)

: أنه يتناول المتصل بها (أو حيوان، وكان نقض الباب أقل ضررًا من بقاء ذلك في الدار، أو) من (تفصيله) أي: ما يتأتى تفصيله، كخزائن (و) من (ذبح الحيوان) المأكول (نُقِضَ) الباب (وكان) أرش نقضه و (إصلاحه على البائع) لأنه لتخليص ماله. وكذا لو باع داره وله فيها أسرَّة، وتعذَّر الإخراج والتفكيك.

(وإن كان) نقض الباب (أكثر ضررًا) من بقاء ذلك في الدار، ومن تفصيله، وذبح الحيوان (لم يُنْقَض) الباب؛ لعدم فائدته (ويصطلحان على ذلك، بأن يشتريه مشتري الدار، وغير ذلك) بأن يهبه له البائع ونحوه، هذا اختيار الموفَّق. وقال القاضي وابن عقيل، وصاحب "التلخيص" وغيرهم: ينقض الباب، وعلى البائع ضمان النقض.

(وإن غصب لوحًا، فرقع به سفينة، لم يُقلَع، وهي) أي: السفينة (في اللُّجة، حتى تخرج) السفينة (منها) أي: اللُّجَّة (وتَرسى، إن خيف عليها) الغرق (بقلعه) لأن في قلعه إفسادًا لمال الغير، مع إمكان رَدِّ الحق

(1)

(8/ 57 - 58).

ص: 243

إلى مستحقه بعد زمن يسير بدونه (ولو لم يكن فيها إلا مال الغاصب، أو لم يكن فيها ذو روح مُحترَم) خلافًا لأبي الخطاب؛ لأنه أمكن رَدّ المغصوب من غير إتلاف، كما لو كان فيها مال غيره.

(وعليه) أي: الغاصب (أجرته) أي: اللوح (إليه) أي: إلى رَدّه، لذهاب منافعه بيده، وأرش نقصه إن نقص.

(وإن كان) اللوح (في أعلاها) أي: السفينة، بحيث (لا تغرق بقلعه، لزمه قَلْعه) ورَدُّه لربه، كما لو كانت بالساحل (ولصاحب اللوح طلب قيمته، حيث تأخَّر القلع) لكونها في اللُّجَّة وخيف غرقها، للحيلولة (فإذا أمكن رَدٌ اللوح) إلى رَبِّه (استرجعه، ورد القيمة) لزوال الحيلولة، وعلى الغاصب الأجرة إلى حين بَذله القيمة فقط، ولا يملكه ببذلها، بل يملكها ربه.

(وإن غصب خيطًا، فخاط به جرح حيوان مُحترَم) من آدمي، أو غيره (وخيف من قَلعه) أي: الخيط (ضرر آدمي) لم يقلع، وعليه قيمته (أو) خيف من قلعه (تَلَف غيره) أي: الآدمي (فعليه) أي: الغاصب (قيمته) أي: الخيط؛ لأنه تَعذَّر رَدُّ الحق إلى مستحقه، فوجب رَدّ بدله، وهو القيمة، ولا يلزمه القلع؛ لأن الحيوان آكد حرمة من بقية المال. وكذا لو شدَّ بالمغصوب جُرحًا يثغب

(1)

دمه، أو جبر به نحو ساق مكسور.

(وغير المحترم) مبتدأ خبره (كالمرتد، والحربي، والكلب العقور، والخنزير) فإذا خاط جرح ذلك بالخيط المغصوب وجب ردّه؛

(1)

في "ذ": "يشخب" يدل "يثغب"، وتثغَّبت لِثته بالدم: سالت، وشخبتْ أوداج القتيل دمًا: جرت وسالت. القاموس المحيط ص/ 63، مادة (ثغب)، والمصباح المنير ص/ 416، مادة (شخب).

ص: 244

لأنه لا يتضمن تفويت ذي حرمة، أشبه ما لو خاط به ثوبًا.

(وإن كان) الحيوان (مأكولًا) وخاط جرحه بالخيط المغصوب، وهو ملك (للغاصب، ذبح) الحيوان، ولو نقصت به قيمته أكثر من ثمن الخيط، أو لم يكن معدًّا لأكل، كالخيل (ولزمه) أي: الغاصب (ردّه) أي: الخيط، لربه؛ لأنه متمكِّن من رَدِّه بذبح الحيوان والانتفاع بلحمه، ولا أثر لتضرُّرِهِ بذلك؛ لتعدّيه.

(وإن كان) الحيوان الذي خِيط جرحه مُحترَمًا (غير مأكول، ردَّ) الغاصب (قيمة الخيط) لأن حُرمة الحيوان آكد، كما سبق.

(وإن مات الحيوان) الذي خِيط جرحه بالخيط المغصوب (لزمه) أي: الغاصب (رده) أي: الخيط، لربه؛ لزوال حرمة الحيوان بموته (إلا أن يكون آدميًّا معصومًا، فيرد القيمة) أي: قيمة الخيط؛ لأن حرمة الآدمي ميتًا كحرمته حيًّا.

(وإن غصب جوهرة فابتلعتها بهيمة، فحكمها حكم الخيط) الذي خاط به جرحها، على ما سبق تفصيله.

(ولو ابتلعت شاتُهُ) أي: شاة إنسان (ونحوها) أى: الشاة من كل ما يؤكل (جوهرةَ آخر غيرَ مغصوبة، وتوقَّف إخراجُها) أي: الجوهرة (على ذَبْحِها) أي: الشاة ونحوها (ذُبحت، بقيد كون الذبح أقل ضررًا) من الضرر الحاصل بتركها (قاله الموفق وغيره. وقال الحارثي: واختار الأصحابُ عَدَمُ القيد) لكون الذبح أقل ضررًا على ما مَرَّ في مثله.

(وعلى مالك الجوهرة ضمان نقص الذبح) لأنه لتخليص ماله (إلا أن يُفرِّط مالك الشاة بكون يده عليها، فلا شيء له) مما نقصه الذبح (لتفريطه.

ص: 245

ولو أدخلت البهيمة رأسها في قِدْرٍ ونحوه، ولم يمكن إخراجه) أي: الرأس (إلا بذبحها، وهي) أي: البهيمة (مأكولة، فقال الأكثرون) منهم القاضي وابن عقيل (إن كان) دخولُ رأسِها (لا بتفريط من أحد، كُسِر القِدْر) لردِّ ما حصل فيه بغير عدوان لربه (ووجب الأرش على مالك البهيمة) لأنه لتخليص ماله.

(وإن كان) دخول رأسها (بتفريطِ مالكها، بأن أدخل رأسها بيده) في نحو القِدر (أو كانت يده عليها) حال الدخول (ونحوه، ذُبحت من غير ضمان) على ربِّ الإناء؛ لأن التفريط من جهته، فهو أَولى بالضرر ممن لم يُفرِّط.

(وإن كانت) الفعلة (بتفريط مالك القِدْر، بأن أدخله بيده، أو ألقاها) أي: القِدْر (في الطريق، كُسرت) القدر أو نحوها (ولا أرش) لها على ربِّ الشاة ونحوها؛ لأن المفرِّط أولى بالضرر. وقال الموفَّق والشارح: يُعتبر أقل الضررين، فإن كان الكسر هو الأقل، تعيَّن، وإلا؛ ذبح، والعكس كذلك. ثم قال: من أيهما كان التفريط فالضمان عليه. وإن لم يحصُل تفريط من واحد منهما، فالضمان على صاحب البهيمة إن كُسِر القدر، وإن ذبحت البهيمة، فالضمان على صاحب القدر.

(ولو قال من عليه الضمان: أنا أُتلف مالي، ولا أغرم شيئًا للآخر، كان له ذلك) لأنه رضي بإضرار نفسه.

(وإن كانت) البهيمة التي أدخلت رأسها في نحو القدر (غير مأكولة، كُسرت القدر، ولا تُقتل البهيمة بحال) ويحرُم تَرْك الحال على ما هو عليه، لما فيه من تعذيب الحيوان.

ص: 246

(ولو اتفقا على القتل لم يمكَّنا) منه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن ذبح الحيوانِ لغيرِ مأكلَة"

(1)

.

(ومن وقع في) نحو (مَحْبرته دينارٌ ونحوه) كجوهرة (لغيره، بتفريط صاحِبها) أي: المَحْبرة (فلم يخرج) الدينار منها (كُسِرت مجَّانًا) أي: ولا شيء على رَبِّ الدينار لرَبِّ المَحْبرة؛ لأنه المفرِّط.

(وإن لم يفرِّط) ربُّ المَحْبرة (خُيِّر ربُّ الدينار) فرَّط، أو لم يفرِّط (بين تركه فيها) إلى أن تنكسر (وبين كَسْرها، وعليه قيمتُها) لأنه لتخليص ماله (فإن بذل ربُّها بدله، وجب قَبوله) ولم يجز له كسرها؛ لأنه بذل له ما لا يتفاوت به حقه، دفعًا للضرر عنه، فلزمه قَبوله، لما فيه من الجمع بين الحقين (فإن بادر) رَبُّ الدينار (فكسر) المَحْبرة (عدوانًا، لم يلزمه أكثرُ

(1)

لم نقف على من رواه مرفوعًا بهذا اللفظ، وذكره الزيلعي في نصب الراية (3/ 406) بلفظ:"نهى من ذبح الشاة إلا لمأكلة". وقال: غريب. وجاء في وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان، حين بعثه إلى الشام:"ولا تعقرن شاة، ولا بعيرًا، إلا لمأكلة". وتقدم تخريجه (7/ 22) تعليق رقم (4). وأخرج أبو داود في المراسيل ص/ 239، حديث 316، وسعيد بن منصور (2/ 159) حديث 2384، عن عمرو بن عبد الرحمن، عن القاسم مولى عبد الرحمن، قال: استأذن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو، وفيه: ولا تقتل بهيمة ليست لك فيها حاجة، واتق أذى المؤمن.

قال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (3/ 59) ردًّا على الإشبيلي: وأظن أبا محمد نقل من نسخة كان قد سقط منها إسناده، وبحسب ذلك لم يجعل له عيبًا سوى الإرسال والانقطاع، فأمَّا مَن وقف على إسناده إلى القاسم: فيعلم أنَّ فيه مجهولًا، لا يصح الحديث من أجلهِ ولو اتصل.

وقال أيضًا (2/ 215): عمرو بن عبد الرحمن لا تعرف حاله، إلا أن أبا محمد قد قال: إنه لم يقف له على إسناد يوصل إلى القاسم، فاتضح في ذلك عذره من وجه.

وانظر: نصب الراية (3/ 406)، والتلخيص الحبير (3/ 55).

ص: 247

من قيمتها) كسائر المتلفات.

(وإن كان السقوط لا بفعل أحدٍ، بأن سقط مِن مكانٍ، أو ألقاه طائر أو هِرٌّ، وجب الكسر، وعلى رَبِّ الدينار الأرش) أي: أرش ما نقص بالكسر؛ لأنه لتخليص ماله.

(فإن كانت المَحْبرة ثمينةً) أي: غالية الثمن (وامتنع رَبُّ الدينار من ضمانها في مقابلة الدينار، فيُقال له: إنْ شئتَ أن تأخذ) دينارك (فاغرم) أرش كسرها (وإلا) تشاء أن تأخذه (فاترك) الدينار حتى تنكسر (ولا شيء لك) بدله.

(ولو غصب) إنسان (الدينارَ) أو نحوه (فألقاه

(1)

في مَحْبرة آخر) أو نحوها، من كل إناء ضيق الرأس (أو سقط) الدينار (فيها) أي: المحبرة (بغير فعله) أي: الغاصب (تعيَّن الكسر) لرَدِّ عين المال المغصوب، من غير إضاعة مال (وعلى الغصب ضمانها، إلا أن يزيد ضرر الكسر على التبقية، فيسقط) الكسر (ويجب على الغاصب ضمان الدينار) فيعطي رَبَّ الدينار بدله، ولا تكسر؛ لأن في كسرها إذًا إضاعة للمال، وهي منهي عنها، ولو بادر رَبُّ الدينار وكسرها، لم يلزمه إلا قيمتها، وجهًا واحدًا؛ قاله في "الإنصاف" وغيره.

فصل

(وإن زاد المغصوب) بيد الغاصب، أو غيره (لزمه رَدّه يزيادته، متصلة كانت؛ كالسِّمن؛ وتعلُّم صنعة، أو منفصلة؛ كالولد) من بهيمة، وكذا من أَمَةٍ، إلا أن يكون جاهلًا، فهو حُرٌّ، ويفديه بقيمته يوم الولادة،

(1)

في "ح" ومتن الإقناع (2/ 574): "وألقاه".

ص: 248

ويأتي (والكسب) لأنه من نماء المغصوب، وهو لمالكه، فلزمه رَدّه، كالأصل.

(ولو غصب جارحًا) فصاد به (أو قوسًا)، أو سهمًا؛ قاله في "المغني"(فصاد) الغاصب، أو غيره (به، أو) غصب (شبكة

(1)

، أو شَرَكًا، فأمسك) الشَّرَكُ، أو الشبكةُ (شيئًا، أو) غصب (فرسًا، فصاد عليه، أو غَنِمَ، فهو لمالكه) أي: فالصيد في الكُلِّ، وغُنْم الفرس، لمالكَ الجارح والقوس والشبكة والشرك والفرس؛ لأن ذلك كله بسبب ملكه، فكان له، كما لو غصب عبدًا فصاد.

(ولا أجرة له) أي: لا يلزم الغاصب أجرة للجارح، أو القوس، أو الشبكة، أو الشرك، أو الفرس (مدة اصطياده) وغزو الفرس؛ لأن منافع المغصوب في هذه المدة عادت إلى المالك، فلم يستحق عوضها على غيره، كما لو زرع الغاصب الأرض المغصوبة، فأخذ المالك الزرع بنفقته، وكذا لو غصب عبدًا، فصاد أو كسب، فهو لسيده، ولا أجرة للعبد على الغاصب في مدة كَسْبِهِ وصيده؛ لما تقدم.

وإذا غصب كلبًا وصاد به ففي "التلخيص": هو للغاصب.

(وإن غصب مِنجلًا، فقطع) الغاصب أو غيره (به خشبًا، أو حشيشًا، فهو) أي: الخشب أو الحشيش (للغاصب) لحصول الفعل منه (كالحبل) المغصوب (يربط به) الغاصب ما يجمعه من حطب ونحوه، وكما لو غصب سيفًا، فقاتل به، وغَنِم.

(وإن غصب ثوبًا، فقَصَره) الغاصب بنفسه، أو بأجرة (أو) غصب (غزلًا فنسجه، أو) غصب (فضةً، أو حديدًا، فضربه إبرًا، أو أوانى، أو

(1)

في "ح" زيادة: "أو فخًّا ونحوه".

ص: 249

غيرها

(1)

، أو) غصب (خشًا، فنجره بابًا، أو نحوه) كرفوف (أو) غصب (شاةً فذبحها، وشواها) لزمه رَدُّ ذلك وأرش نقصه، ولا شيء له في نظير عمله؛ لتعديه.

(وذَبْحه) أي: الغاصب (إياها) أي: الشاة (لا يحرِّمها، بمعنى أنها ليس) هو، أي: الشأن، أن الشاة (صارت كالميتة) لأنها مذكَّاة ممن فيه أهلية الذكاة (لكن لا يجوز) للغاصب ولا غيره (أكلها، ولا التصرُّف فيها، إلا بإذن مالكها) كسائر الأموال (ويأتي في القطع في السرقة.

أو) غصب (طينًا، فضربه لبنًا) أو آجُرًا (أو فخارًا، أو) غصب (حبًّا فطحنه) أو دقيقًا، فعجنه وخبزه، ونحوه (ردَّ ذلك) إلى مالكه؛ لأنه عين ماله؛ ولأنه لو فعله بملكه لم يزل عنه، فكذا بملك غيره (بزيادته) إن زاد (وأرش نقصه) إن نقص؛ لكونه حصل بفعله، ولا فرق بين نقص العين، أو القيمة، أو هما.

(ولا شيء له) أي: للغاصب، بعمله المؤدِّي إلى الزيادة؛ لأنه تبرُّعٌ في ملك غيره، فلم يستحقَّ لذلك عوضًا، كما لو غَلَى زيتًا فزادت قيمته.

(لكن إن أمكن الردُّ إلى الحالة الأولى، كحلي ودراهم، ونحوهما) من أواني من حديد ونحوه، وسكاكين ونعال (فللمالك إجباره) أي: الغاصب (على الإعادة) إلى الحالة الأولى؛ لأن عمل الغاصب في المغصوب مُحَرَّم، فمَلَك المالكُ إزالته مع الإمكان، وظاهر كلامهم هنا: وإن لم يكن فيه غرض صحيح، لكن مقتضى ما تقدم: إنما يملك إجباره إذا كان فيه غرض صحيح، وجزم به الحارثي.

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (2/ 575): "أو غيرهما".

ص: 250

(وما لا يمكن) ردُّه إلى حالته الأولى (كالأبواب، والفخار ونحوهما) كالآجُر، والشاة إذا ذبحها وشواها، والحب إذا طحنه (فليس للغاصب إفساده، ولا للمالك إجباره عليه) لأنه إضاعةُ مالٍ بغير منفعة (وتقدم

(1)

بعضه.

وإن غصب أرضًا، فحفر فيها بئرًا، أو شَقَّ) فيها (نهرًا، أو نحوه) كقناة ودولاب (فلربِّها إلزامه بطمِّها) أي: البئر ونحوها (إن كان) الطمُّ (لغرض صحيح) لعدوانه بالحفر؛ ولأنه يضر بالأرض.

(وإن أراد الغاصب طَمَّها، فإن كان) الطَّمُّ (لغرضٍ صحيحٍ، كإسقاط ضمان ما يقع فيها) أي: البئر (أو يكون) الغاصب (قد نقل تُرابها إلى ملكه، أو) إلى (ملك غيره، أو إلى طريق يحتاج إلى تفريغه، فله) أي: الغاصب (طَمّها) بترابها حيث بقي، فلو فات بسيل أو ريح ونحوه، فله الطَّمُّ بغيره من جنسه، لا برمل، أو كناسة ونحوها؛ ذكره الحارثي (من غير إذن ربها) تخلصًا من ذلك الضرر.

(وإن لم يكن له) أي: الغاصب (غرضٌ) صحيحٌ في الطَّمِّ (مثل أن يكون) الغاصب (قد وضع التراب في أرض مالكها، أو) وضعه (في موات، وأبرأه) المالك (من ضمان ما يتلف بها) أي: بالبئر، ونحوها (وتصح البراءة منه) قال في "المغني" و"الشرح": لأن الضمان إنما يلزمه لوجود التعدي، فإذا رضي صاحب الأرض زال التعدي، فيزول الضمان. وليس هذا إبراء عمَّا

(2)

لم يجب، وإنما هو إسقاط للتعدي، برضاه به (أو مَنعَه) المالك (منه) أي: الطَّمّ (لم يملك) الغاصب (طَمَّها)

(1)

(9/ 241 - 242).

(2)

في "ذ": "مما".

ص: 251

في هذه الصور؛ لأنه تصرّف في ملك الغير بغير إذنه لغير غرض صحيح، ومَنْعُه من الطَّمِّ رضًا بالحفر، فيكون بمنزلة إبرائه من ضمان ما يتلف بها.

(ولو كشط) الغاصب (تراب الأرض) المغصوبة (فطالبه المالك بردِّه وفَرْشِهِ، لزمه) أي: الغاصب (ذلك) أي: الرد والفرش. وظاهره: وإن لم يكن فيه غرض صحيح، وهو أحد وجهين أطلقهما في "المبدع" وغيره.

(وإن أراده) أي: فرش التراب كما كان (الغاصبُ، وأباه المالك، فله) أي: الغاصب (فعله لغرض صحيح، مثل أن كان) الغاصب (نقله إلى ملك نفسه، فيردُّه لينتفع بالمكان، أو) كان الغاصب (طرحه في ملك غيره، أو في طريق يحتاج إلى تفريغه) أي: ملك غيره، أو الطريق (وإن كان) الغاصب أراد فرش التراب الذي كشطه (لا لغرض صحيح، فلا) يُمكَّن منه بلا إذن المالك؛ لأن فيه تصرُّفًا في ملك الغير بغير إذنه، لغير حاجة.

(وإن غصب حبًّا فزرعه، أو) غصب (بيضًا، فصار) البيض (فراخًا، أو) غصب (نوىً) فغرسه (فصار غرسًا، أو) غصب (غصنًا) فغرسه (فصار شجرة، رَدَّه) الغاصب لمالكه؛ لأنه عين مال مالكه (ولا شيء له) أي: للغاصب في عمله؛ لأنه تبرَّع به.

(وإن نقص) المغصوب (ولو) كان نقصه (بنبات لِحية عبدٍ أمردَ، أو) كان نقصه بـ (ـــذهاب رائحة مسك، أو قطع ذنب حمار ونحوه) كبغل وفرس (ضمن) الغاصب (نقصه) الحاصل قبل رده؛ لأنه ضمان مال من غير جناية، فكان الواجب ما نقص، إذ القصد بالضمان جَبْر حق المالك بإيجاب قَدْر ما فُوِّت عليه؛ ولأنه لو فات الجميع، لوجبت قيمته، فإذا

ص: 252

فات منه شيء، وجب قدره من القيمة، كغير الحيوان.

ولا يضمن الغاصب ربحًا فات بحبس مال تجارة عن مالكه مدة يمكن أن يربح فيها؛ لأنه لا وجود له.

(ونص) الإمام (أحمد

(1)

في طَيْرَةٍ جاءت إلى قوم، فازدوجت عندهم وفرَّخت: أن الفراخ تَبَعٌ للأم، ويُردُّ على أصحاب الطَيْرة فراخها) كولد الأَمَة والبهيمة. قال في "المبدع": ويرجع على ربِّها بما أنفقه إن نوى الرجوع به، وإلا؛ فلا. انتهى. وهو واضح إن تعذَّر استئذانه، كما تقدم

(2)

.

(وإن غصب شاةً) أو بقرةً، أو بدنةً ونحوها (وأنزى عليها فَحْلَه، فالولد لمالك الأم) كولد الأَمَة (ولا أُجرة للفحل) لعدم إذن رَبِّها؛ ولأنه لا تصح إجارته لذلك.

قلت: وكذا لو غصب نخلة، وحصل منها ودِيٌّ

(3)

، فإنه لمالكها؛ لأنه من نمائها، ككسب العبد وولد الأَمَة.

(وإن غصب فحلَ غيره، فأنزاه على شاته، فالولد له) أي: للغاصب (تبعًا للأم، ولا يلزمه أجرة الفحل) لأنه لا تصح إجارته لذلك (لكن إن نقص) الفحل بالإنزاء، أو غيره (لزمه) أي: الغاصب (أرش نقصه) لتعديه.

فصل

(وإن نقص) المغصوب بيد الغاصب، أو غيره (لزمه) أي: الغاصب (ضمانه) أي: النقص (بقيمته) أي: النقص، فيقوَّم صحيحًا

(1)

كتاب الورع عن الإمام أحمد للمروذي ص/ 46.

(2)

(8/ 213).

(3)

هو صغار النخل كما تقدم في (9/ 10).

ص: 253

وناقصًا، ويغرم الغاصب ما بينهما؛ لأنه ضمان مال من غير جناية، فكان الواجب ما نقص، إذ القصدُ بالضمان جَبْرُ حق المالك بإيجاب قَدْر ما فُوِّت عليه؛ ولأنه لو فات الجميع، لوجبت قيمته، فإذا فات منه شيء وجب قَدْره عن القيمة (ولو) كان ما نقص (رقيقًا، أو بعضه) بأن عَمِي، أو خرس ونحوه، أو ذهبت يده، أو رجله ونحوهما، بنحو أكلة.

(لا) يضمن ما ذهب من الرقيق (بمُقَدَّر من الحُرِّ، كَيَدِه) فلا يجب فيها نصف القيمة، ولا تجب القيمة في ذهاب نحو بصره - أيضًا - (إذا لم يُجْنَ) بالبناء للمفعول (عليه) أي: الرقيق (وإن جُنيَ عليه) أي: الرقيق المغصوب، من الغاصب، أو غيره (ضمنه) أي: ضمن الغاصب الذاهب بالجناية (بأكثر الأمرين) من أرش نقص قيمة المجني عليه، أو دية المقطوع؛ لأن سبب كل واحد منهما وُجِدَ، فوجب أكثرهما، ودخل الآخر فيه، فإن الجناية واليد وُجِدا فيه جميعًا، فلو غصب عبدًا قيمته ألف، فزادت قيمته عنده إلى ألفين، ثم قطع يده، فصار يساوي ألفًا وخمسمائة، كان عليه - مع رَدِّه - ألف، وإن كان القاطع ليده غير الغاصب، وقد نقصت قيمته مائتين قَبْلُ، وصار بعد القطع يساوي أربعمائة، كان على الجاني أربعمائة؛ لأن جنايته مضمونة بنصف القيمة، وهي حين القطع ثمانمائة، وعلى الغاصب مائتان؛ لأنها نقصت من قيمة العبد في يده، وللمالك تضمين الغاصب ما عليه وعلى الجاني؛ لأن ما وُجِد في يده في حكم الموجود منه.

(ويرجع غاصبٌ غَرِم) الجميع لمالك (على جانٍ بأرش جناية فقط) لاستقرار ضمانه عليه؛ لأنه أرش جنايته، فلا يجب عليه أكثر منه،

ص: 254

وللمالك تضمين الجاني أرش الجناية، ولا يرجع به على أحد؛ لأنه لم يضمِّنه أكثر مما وجب عليه، ويضمن الغاصب ما بقي من النقص، ولا يرجع به على أحد.

(فإن خصاه) أي: خصى الغاصب - أو غيره - العبدَ المغصوبَ (ولو زادت قيمته) بالخصاء (أو قطع) الغاصب، أو غيره (منه) أي: المغصوب (ما تجب فيه دية كاملة من الحُرِّ) كأنفه، أو ذَكَره، أو يديه (لزمه ردُّه، ورَدُّ قيمته، ولا يملكُه الجاني) لأن المتلَف البعض، فلا يقف ضمانه على زوال الملك، كقطع خصيتي ذَكَر مُدَبَّر؛ ولأن المضمون هو المفوّت، فلا يزول الملك عن غيره بضمانه، كما لو قطع تسع أصابع.

(وإن كان) المغصوب (دابة) ونقصت بجناية، أو غيرها (ضمن) الغاصب (ما نقص من قيمتها، ولو) كان النقص (بتلف إحدى عينيها) أي: الدابة، فيغرم أرش نقصها فقط؛ لأنه الذي فوَّته على المالك، وما روى زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم:"قَضى في عينِ الدابةِ بربعِ قيمتِها"

(1)

، ورُوي عن عمر

(2)

؛ قال في "المبدع": لا نعرف صحته، بدليل احتجاج

(1)

أخرجه قاسم بن أصبغ - كما في المحلى (8/ 149، 10/ 428) -، والعقيلي (1/ 95)، والطبراني في الكبير (5/ 138) حديث 4878، من طريق أبي أمية إسماعيل بن يعلى، عن أبي الزناد، عن عمرو بن وهيب، عن أبيه، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، به.

وضعفه ابن حزم لضعف إسماعيل بن يعلى، وجهالة عمرو بن وهيب، وأبيه.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 298): رواه الطبراني، وفيه أبو أمية بن يعلى، وهو ضعيف.

وقال الحافظ في التلخيص الحبير (3/ 55) والدراية (3/ 55): في إسناده أبو أمية بن يعلى، وهو ضعيف.

(2)

أخرجه عبد الرزاق (9/ 394) رقم 17748، و (10/ 77) رقم 18418، 18419، 18423، وسعيد بن منصور (2/ 43، 44) رقم 1961، 1962، وابن أبي شيبة =

ص: 255

أحمد

(1)

بقول عمر دونه، مع أن قول عمر محمول على أن ذلك كان قَدْر نقصها، ولو كان تقديرًا؛ لوجب في العين نصف الدية، كعين الآدمي.

(وإن نقصت قيمة العين) المغصوبة (بتغيُّرِ السِّعر) بأن نزل السعر؛ لذهاب نحو موسم (لم يضمن) الغاصب ما نزل السعر (سواء رُدَّت العين، أو تلفت) لأن المغصوب لم تنقص عينه، ولا صفته، فلم يلزمه شيء سوى رَدِّ المغصوب أو بدله، والفائت إنما هو رغبات الناس، ولا تُقَابَل بشيء.

(وإن نقصت) قيمة المغصوب (لمرضٍ، ثم عادت) القيمة (ببرئه) ردَّه، ولا شيء عليه (أو ابيضَّت عينه) أي: المغصوب من عبد، أو أَمَةٍ (ثم زال بياضُها ونحوه) بأن نسي صنعة، فنقصت قيمته، ثم تعلّمها (ردَّه) الغاصب (ولم يلزمه شيء) لأن القيمة لم تنقص، فلم يلزمه شيء.

(وإن استردّه المالك مَعيبًا مع الأرش، ثم زال العيب في يد مالكه) أي: المغصوب (لم يجب) على مالكه (ردُّ الأرش؛ لاستقراره) أي: الأرش (بأخذ العين ناقصة) عن حال غصبها، نقصًا أثَّر في قيمته.

(وكذا لو أخذ) المالك (المغصوب) بعد تعيّبه (بغير أرش، ثم زال) العيب (في يده) أي: المالك (لم يسقط الأرش) لاستقراره بالرد،

= (9/ 275، 276)، ووكيع في أخبار القضاة (2/ 187)، وابن حزم في المحلى (10/ 428)، والبيهقي (6/ 96 - 98)، والدمياطي في كتاب الخيل - كما في التلخيص الحبير (3/ 55) -، كلهم من طرق عن عمر رضي الله عنه. وقوّى بعض طرقه الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 55).

وقال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 100): رواه البيهقي وقال: منقطع من ثلاثة، وضعيف من رابع.

(1)

المغني (7/ 371).

ص: 256

بخلاف ما لو برئ قبل ردّه.

(وإن زادت) قيمة المغصوب (لمعنىً في المغصوب، من كِبَر وسِمن، وهزال) عن سمن مفرط (وتعلُّم صنعة، ونحو ذلك) كزوال عُجمة، وتعلُّم علم (ثم نقصت) القيمة بزوال ذلك (ضمن) الغاصب (الزيادة) لأنها زادت على ملك مالكها، فلزم الغاصب ضمانهما، كما لو كانت موجودة حال الغصب، وفارق زيادة السعر؛ لأنها لو كانت موجودة حال الغصب لم يضمنها، والصناعة إن لم تكن من عين المغصوب فهي صفة فيه، ولذلك يضمنها إذا طُولب برَدِّ العين.

(وإن عاد مثلُ الزيادة الأولى من جنسها، مثل أن) غصب عبدًا فـ (ـــسَمِن، فزادت قيمته، ثم نقصت) قيمته (بزوال ذلك) السمن (ثم سَمِن فعادت) قيمته كما كانت (لم يضمن) الغاصب (ما نقص) أولًا ثم عاد؛ لأن ما ذهب من الزيادة؛ عاد وهو بيده، أشبه ما لو مرضت؛ فنقصت قيمتها؛ ثم برئت؛ فعادت القيمة.

وكذا لو نسي صنعة، ثم تعلمها، أو بدلها

(1)

، فعادت قيمته كما كانت، لم يضمن شيئًا.

(وإن كانت) الزيادة الحاصلة (من غير جنسها) أي: الزيادة الذاهبة، مثل إن غصب عبدًا قيمته مائة، فتعلَّم صنعة، فصار يساوي مائتين، ثم نسيها، فصار يساوي مائة، ثم سَمِن فصار يساوي مائتين (لم يسقط ضمانها) لأنه لم يعد ما ذهب، بخلاف التي قبلها.

(وإن غصب عبدًا) أو أَمَة (مُفْرِطًا في السِّمَن، فهزل، فزادت قيمته)

(1)

في هامش نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (2/ 349) ما نصه: "لأن الصنائع جنس واحد. ا. هـ من خط ابن العماد".

ص: 257

بذلك (أو لم تنقص) ولم تزد (ردَّه) الغاصب (ولا شيء عليه) لأن الشرع إنما أوجب في مثل هذا ما نقص من قيمته، ولم يقدر بدله، ولم تنقص قيمته، فلم يجب عليه شيء غير رده.

(وإن نقص المغصوب) قبل رَدِّه (نقصًا غير مستقر) بأن يكون ساريًا غير واقف (كحنطة ابتلَّت وعَفِنَت) وطلبها مالكها قبل بلوغها إلى حالة يعلم فيها قَدْر أرش نقصها (خُيِّر) مالكها (بين أخذ مثلها

(1)

) من مال غاصب (وبين تَرْكها) بيد غاصب (حتى يستقر فسادها، فيأخذَها، و) يأخذ (أرش نقصها) لأنه لا يجب له المثل ابتداءً؛ لوجود عين ماله، ولا أرش العيب؛ لأنه لا يمكن معرفته ولا ضبطه إذًا، وحيث كان كذلك، صارت الخيرة إلى المالك؛ لأنه إذا رضي بالتأخير، سقط حقه من التعجيل، فيأخذ العين عند استقرار فسادها؛ لأنها ملكه، ويأخذ من الغاصب أرش نقصها؛ لأنه حصل تحت يده العادية، أشبه تلف جزء من المغصوب.

وقوله: (فإن استقر) النقص قبل ردِّ المغصوب (أخذها) أي: الحنطة مالكها (و) أخذ (الأرش) لما سبق: ينبغي حمله على ما إذا استقر قبل الطلب؛ لئلا يتكرَّر مع الذي قبله.

(وإن جنى) القِنُّ (المغصوب) قبل رَدِّه (فعلى الغاصب أرش جنايته) لأن جنايته نقص فيه؛ لتعلقها برقبته، فكان مضمونًا على الغاصب، كسائر نقصه، سواء في ذلك ما يوجب القصاص، أو المال، و (سواء جنى) القِنُّ المغصوب (على سيده، أو) على (أجنبي) لأن جنايته على سيده من جملة جناياته، فكانت مضمونة على الغاصب، كالجناية

(1)

في "ح": "ثمنها" بدل "مثلها".

ص: 258

على الأجنبي، وكذا حكم ما أتلفه القِنُّ المغصوب من مال أجنبي، أو سيده؛ لما سبق. ولا يسقط ذلك بردِّ الغاصب له؛ لأن السبب وُجِد في يده، فلو بيع في الجناية بعد الرَّدِّ، رجع ربُّه على الغاصب بالقَدْرِ المأخوذِ منه؛ لاستقراره عليه.

(وجنايته) أي: المغصوب (على غاصبه، وعلى مالِه هَدْرٌ) لأنها جناية لو كانت على أجنبي، لوجب أرْشها على الغاصب، فلو وجب له شيء؛ لوجب على نفسه (إلا في قَوَدٍ) لأنه حق تعلَّق بنفسه، لا يمكن تضمينه لغيره، فاستوفي منه (فلو قتل) المغصوب (عبدًا لأحدهما) أي: للغاصب، أو غيره من أجنبي، أو

(1)

سيده (عمدًا، فله) أي: سيد المقتول (قتله به، ثم يرجع السيد بقيمته على الغاصب فيهنَّ) لأنه تلف في يده، أشبه ما لو مات بيده.

(وفي "المستوعب": من استعان بِعَبْدِ غيره بلا إذن سيده، فحكمه) أي: المستعين (حكم الغاصب حَالَ استخدامه) فيضمن جنايته ونقصه، وجزم به في "المبدع"، وكذا في "المنتهى" في الديات.

(ويضمن) الغاصب (زوائد الغصب، كالثمرة) إذا تلفت، أو نقصت (و) كـ (ــالولد إذا ولدته أُمُّه حيًّا، ثم مات، سواء حملت) به أُمُّه (عنده) أي: الغاصب (أو غصبها حاملًا) لأنه مال مغصوب حصل في يده، فيضمنه بالتلف، كالأصل.

(وإن ولدته ميتًا عن غير جناية، لم يضمنه) إن كان غصبها حاملًا؛ لأنه لم تُعْلَم حياته، وإن كانت قد حَمَلت به عنده، وولدته ميتًا، فكذلك عند القاضي، وابن عقيل، وصاحب "التلخيص"، وقدَّمه في "المغني"

(1)

في "ذ": "أو من سيده".

ص: 259

و"الشرح" و"الفروع" و"الفائق"، وصحَّحه في "الإنصاف"، وعند أبي الحسين ابن القاضي: يضمنه بقيمته لو كان حيًّا. وقال الموفَّق ومن تبعه: والأولى أنه يضمنه بعُشْر قيمة أُمِّه. قال في "تصحيح الفروع" عن اختيار الموفق: وهو الصواب. ويحتمل الضمان بأكثر الأمرين، قال الحارثي: وهو أقيس.

(و) إن ولدته ميتًا (بها) أي: بجناية (يضمنه الجاني بعشر قيمة أُمِّه) لما يأتي في الجنايات.

(وكذا ولد بهيمة) مغصوبة، حكمه حكم أُمِّه فيما سبق من التفصيل، لكن إذا ولدته ميتًا بجناية، يضمن بما نقص أُمّه، لا بعُشْر قيمتها، كما يأتي في الجنايات.

فصل

(وإن خلط) الغاصب (المغصوب بماله) على وجه يتميز، فقد سبق الكلام عليه

(1)

.

وإن كان (على وجه لا يتميز) المغصوب عن غيره (مثل: إن خلط حِنطة) بمثلها (أو) خلط (دقيقًا) بمثله (أو زيتًا) بمثله (أو نَقْدًا بمثله، لزمه) أي: الغاصب (مثلُه) أي: المغصوب (منه) أي: المختلط من المغصوب وغيره؛ لأنه قدر على دفع بعض ماله إليه، مع رَدِّ المِثل في الباقي، فلم ينتقل إلى بدله في الجميع، كما لو غصب صاعًا، فتلف بعضه.

(ولا يجوز للغاصب أن يصرَّف في قَدْر ماله منه) بدون إذن

(1)

(9/ 232).

ص: 260

المغصوب منه؛ لأنها قسمة، فلا تجوز بغير رضا الشريكين.

(ولا) يجوز - أيضًا - للغاصب (إخراج قَدْر الحَرَامِ منه) أي: المختلط (بدون إذن المغصوب منه؛ لأنه اشتراك) فلا يقاسم نفسه (لا استهلاك) وأنكر الإمام قول من قال: يخرج منه قَدْر ما خالطه

(1)

، هذا إن عرف ربَّه، وإلا تَصدَّق به عن ربِّه، وما بقي حلال، وإن عبر الحرام الثلث.

قال أحمد في الذي يعامل بالربا: يأخذ رأس ماله، ويرد الفضل إن عرف رَبَّه، وإلا تَصدَّق به، ولا يؤكل عنده شيء، وإن شَكَّ في قَدْرِ الحرام، تَصدَّق بما يعلم أنه أكثر منه؛ نص عليه

(2)

.

(وإن خلطه) أي: المغصوبَ (بدونه) من جنس (أو) خلطه (بخير منه) من جنسه (أو) خلطه (بغير جنسه) مما له قيمة (ولو بمغصوب مثلِه، لآخر) وكان الخلط (على وَجْهٍ لا يتميَّز) كزيت بشَيْرج (فهما) أي: مالكا المخلوطين (شريكان بقَدْرِ قيمتيهما، فيباع الجميع، ويدفع إِلى كلِّ واحدٍ قَدْرَ حَقّه، كاختلاطهما من غير غصب) لأنه إذا فعل ذلك وصل كل منهما إلى حقه، فإن نقص المغصوب عن قيمته منفردًا، فعلى الغاصب ضمان النقص؛ لأنه حصل بفعله، وإن خلطه بما لا قيمة له؛ كزيت بماء، فإن أمكن تخليصه، خلَّصه وردَّه ونقصه، وإلَّا، أو كان يفسده، فعليه مثله.

(وإن اختلط درهم) لإنسان (بدرهمين لآخر من غير غصب، فتلف) درهمان (اثنان، فما بقي) - وهو درهم - فهو (بينهما نصفين) لأنه

(1)

في "ح": "خلطه".

(2)

كتاب الورع عن الإمام أحمد، للمروذي ص/ 50، 58، ومسائل عبد الله (3/ 942) رقم 1274.

ص: 261

يحتمل أن يكون التالف الدرهمين، فيختصُّ صاحب الدرهم به، ويحتمل أن يكون التالف درهمًا لهذا، ودرهمًا لهذا، فيختصُّ صاحب الدرهمين بالباقي، فتساويا، لا يحتمل غير ذلك، ومالُ كل واحد منهما متميّز قطعًا، بخلاف المسائل المتقدِّمة، غايته: أنه أبهم علينا؛ ذكره في "الإنصاف".

وقال في "تصحيح الفروع": قلت: ويحتمل القُرعة، وهو أَولى؛ لأنَّا متحقِّقون أن الدرهم لواحد منهما، لا يشركه فيه غيره، وقد اشتبه علينا، فأخرجناه بالقرعة، كما في نظائره، وهو كثير، ولم أره لأحدٍ من الأصحاب، فمنَّ الله به، فله الحمد.

(وإن خلطه) أي: المغصوب (بغير جنسه، فتراضيا على أن يأخذ) المغصوب منه (أكثر من حَقِّه، أو أقلَّ) منه (جاز) لأنَّ بدله من غير جنسه، فلا تحرم الزيادة بينهما؛ بخلاف ما لو خلطه بجيد أو رديءٍ، واتفقا على أن يأخذ أكثرَ من حَقِّه من الرديء، أو دون حَقِّه من الجيد، لم يجز؛ لأنه رِبًا.

وإن كان بالعكس، فرضي بأخذ دون حقّه من الرديء، أو سمح الغاصب بدفع أكثر من حقه من الجيد، جاز؛ لأنه لا مقابل للزيادة.

(وإن غصب ثوبًا، فصبغَه) الغاصب (بصبْغِه، أو) غصب (سويقًا، فلتَّه) الغاصب (بزيته، فنقصت قيمتهما) أي: قيمة الثوب والصبغ، أو قيمة الزيت والسويق (أو) نقصت (قيمة أحدهما، ضَمِن الغاصب النقص) لأنه حصل بتعديه، فضمنه، كما لو أتلف بعضه، وإن كان النقص بسبب تغير الأسعار، لم يضمنه.

(وإن لم تنقص) قيمتهما (ولم تَزِد، أو زادت قيمتهما، فهما) أي:

ص: 262

ربّ الثوب والصبغ، أو ربّ السويق والزيت (شريكان) في الثوب وصبغه، أو السويق وزيته (بقَدْرِ ملكيهما) فيُباع ذلك ويوزع الثمن على قَدْر القيمتين. وكذا لو غصب زيتًا، فجعله صابونًا.

(وإن زادت قيمة أحدهما) من ثوب، أو صبغ، أو سويق، أو زيت (فالزيادة لصاحبه) يختصُّ بها؛ لأن الزيادة تبعٌ للأصل. هذا إذا كانت الزيادة لغُلوّ سعرٍ، فإن حصلت الزيادة بالعمل، فهي بينهما؛ لأن ما عمله الغاصب في العين المغصوبة لمالكها حيث كان أثرًا، وزيادة مال الغاصب له؛ قاله في "شرح المنتهى".

(وإن أراد أحدُهما) أي: مالك الثوب، أو الغاصب (قَلْعَ الصبغ) من الثوب (لم يُجبر الآخر عليه) لأن فيه إتلافًا لملكه.

(وإن أراد المالك) للثوب (بيع الثوب، فله ذلك) لأنه ملكه، وهو عين، وصبغه باقٍ للغاصب (ولو أبي الغاصب) بيع الثوب، فلا يمنع منه مالكه؛ لأنه لا حجر له عليه في ملكه.

(وإن أراد الغاصبُ بيعَه) أي. الثوب المصبوغ (لم يُجبر المالك) لحديث "إنَّما البيعُ عن تراضٍ"

(1)

.

وإن بذل الغاصبُ لربِّ الثوب قيمته، ليملكه، أو بذل ربُّ الثوب قيمة الصبغ للغاصب ليملكه، لم يُجبر الآخر؛ لأنها معاوضة لا تجوز إلا بتراضيهما. وصحَّح الحارثي أن لمالك الثوب تملك الصبغ بقيمته، ليتخلَّص من الضرر.

(وإن وهب) الغاصبُ (الصبغَ للمالك) للثوب (أو) غصب دارًا وزوَّقها، ثم وهب (تزويق الدار ونحوهما) للمالك (لزمه) أي: المالك

(1)

تقدم تخريجه (7/ 303) تعليق رقم (4).

ص: 263

(قَبوله) لأنه صار من صفات العين، فهو كزيادة الصفة في المُسْلَم فيه (كنسج غزلٍ، وقَصْرِ ثوبٍ، وعمل حديد إبرًا، أو سيوفًا ونحوهما) كسكاكين، ونِعالات، وأواني، و (لا) يلزم المالك إذا غصب منه خشبًا، وجعله بابًا، ثم وهبه المسامير، قَبوله

(1)

(هبة مسامير سمَّر بها بابًا مغصوبًا) لأنها أعيان متميزة أشبهت الغراس.

(وإن غصب صبغًا، فصبغ به) الغاصبُ (ثوبَه، أو) غصب (زيتًا، فلتَّ به) الغاصب (سويقه، فهما شريكان بقدر حقَّيهما

(2)

) في ذلك، فيُباعان ويوزَّع الثمن على قَدْر الحقَّين؛ لأنه بذلك يصل كلٌّ منهما لِحقِّه (ويضمن) الغاصب (النقص) إن وُجِد؛ لحصوله بفعله، ولا شيء له إن زاد المغصوب في نظير عمله؛ لتبرُّعه به.

(وإن غصب ثوبًا وصبغًا) من واحد (فصبغه يه، ردَّه) الغاصب (و) ردَّ (أرش نقصه) إن نقص؛ لتعديه به (ولا شيء له في زيادته) بعمله فيه؛ لأنه متبرِّعٌ به.

وإن كانا من اثنين، اشتركا في الأصل والزيادة بالقيمة، وما نقص من أحدهما، غَرِمه الغاصب.

وإن نقص السعر لنقص سعر الثياب، أو الصبغ، أو لنقص سعرهما، لم يضمنه الغاصب، ونقص كل واحد منها من صاحبه.

وإن أراد أحدهما قَلْعَ الصبغ، لم يُجبر الآخر.

وكذا لو غصب سويقًا من واحد وزيتًا من آخر، ولتَّه به، أو نَشًا وعسلًا من اثنين، وعقده حلوى.

(1)

في "ح" و"ذ": "قبول".

(2)

في "ح": "حقهما".

ص: 264

(وإنقاء الثوب الدَّنِسِ بالصابون) من الغاصب (إن أورث نقصًا) في الثوب (ضمنه الغاصبُ) لحصوله بفعله (وإن زاد) الثوب (فـ) ــالزيادة (للمالك) ولا شيء للغاصب في عمله؛ لتبرُّعه به.

(ولو غصبه) أي: الثوب (نجسًا، لم يملك) الغاصب (تطهيره بغير إذن) رَبِّه كسائر التصرُّفات (وليس للمالك) للثوب (تكليفه) أي: الغاصب (به) أي: بتطهيره؛ لأن نجاسته لم تحصُل بيده.

(وإن كان) الثوب حين الغصب (طاهرًا فنَجُسَ عنده) أي: الغاصب (لم يكن له) أي: الغاصب (- أيضًا - تطهيره بغير إذن) ربه؛ لما سبق (وله) أي: المالك (إلزامه) أي: الغاصب (به) أي: بتطهيره؛ لأنه تنجَّس تحت يده العادية.

(وما نقص) من قيمة الثوب بسبب الغسل (فعليه) أي: الغاصب (أرشه) لأنه نقص حصل في يده (ولو ردَّه) أي: ردَّ الغاصب الثوب (نجسًا، فمؤنة تطهيره على الغاصب) لأنه كالنقص الحاصل في يده.

فصل

(وإن وطئ الغاصبُ الجاريةَ) المغصوبة (مع العلم بالتحريم) أي: تحريم الوطء (فعليه) أي: الغاصب (الحدُّ) أي: حد الزنى؛ لأنها ليست زوجة له، ولا ملك يمين، ولا شبهة تدرأ الحَدَّ.

(وكذا هي) أي: الجارية يلزمها الحدُّ (إن طاوعت) على الزنى (وكانت من أهل الحدِّ) بأن كانت مكلَّفة غير جاهلة بالتحريم.

(وعليه) أي: الغاصب بوطئها (مَهْرُ مِثْلها) بكرًا، إن كانت بكرًا، كما صَرَّح به الحارثي، وإلا؛ فثيِّبًا (ولو) كانت (مُطاوعةً) لأنه حقٌّ

ص: 265

للسيد، فلا يسقط بمطاوعتها، كما لو أذنت في قطع يدها (و) على الغاصب - أيضًا - (أرش البكارة) التي أزالها؛ لأنه جزء منها، ولأن كلًّا من المهر والأرش يضمن منفردًا، بدليل أنه لو وطئها ثيبًا وجب مهرها، ولو

(1)

افتضها بإصبعه، وجب أرش بكارتها، فكذلك يجب أن يضمنهما إذا اجتمعا. ويأتي في النكاح أن أرش بكارة الحُرَّة يندرج في مهرها.

(و) على الغاصب (ردُّها) أي: الجارية (إلى سيدها) لما تقدم أول الباب

(2)

.

(وإن ولدت) الجاريةُ من غاصب عالم بالحال (فالولدُ رقيقٌ للسيد) تبعًا لأُمِّه؛ لأنه من نمائها.

(ويضمن الغاصب نقص الولادة) لحصوله بتعديه (ولا ينجبر) نقص الولادة (بزيادة

(3)

الولد) كما لا ينجبر به نقص غير الولادة.

(وإن تلفت) الجارية (فعليه) أي: الغاصب (قيمتها.

وإن ردَّها) أي: رَدَّ الغاصب الجارية حاملًا (فماتت في يَدِ المالك بسبب الولادة، وجب ضمانُها) على الغاصب؛ لأنه أثر فعله، كما لو استردَّ الحيوان المغصوب، وقد جرحه الغاصب، فسرى الجرح إلى النفس عند المالك، فمات (وتقدم

(4)

) قريبًا (إذا ولدته ميتًا) فلا ضمان إن لم يكن بجناية، ويضمنه سِقطًا بعُشر قيمة أُمِّه.

(وإن كان) الغاصب (جاهلًا بالتحريم، ومثله يجهله) لقرب عهده بالإسلام، أو كونه نشأ ببادية بعيدة يخفى عليه مثل هذا، وكذا جاهل

(1)

في "ح": "وإذا".

(2)

(9/ 230 - 231).

(3)

في متن الإقناع (2/ 580): "بزيادتها".

(4)

(9/ 259 - 260).

ص: 266

الحال، بأن اشتبهت عليه بأمَتِه، أو زوجته في نحو ظُلمة، أو اشتراها من الغاصب يظنها أَمَته، أو تزوَّجها منه على أنها حُرَّة ونحوه (فلا حدَّ عليه) أي: الواطئ؛ للشبهة (وعليه المهر، وأرش البكارة) ونقص الولادة؛ لأن ذلك إتلاف يستوي فيه الجاهل والعالم (والولد حُرٌّ) لاعتقاد الواطئ الإباحة (ونسبُهُ لاحِقٌ للغاصب) للشُّبهة، وكذا لو كان من غير الغاصب جاهلًا.

وقوله: (إن انفصل حيًّا، وعليه فداؤه بقيمته يوم انفصاله) فيه تقديم وتأخير، أي: وعليه فداء الولد بقيمته يوم ولادته إن انفصل حيًّا، فيفديه الواطئ للسيد؛ لأنه حال بينه وبين السيد بتفويت رقِّه باعتقاده، وإنما اعتبرت قيمته يوم الولادة؛ لأنه أوَّلُ حالِ إمكانِ تقويمِه؛ لأنه لا يمكن تقويمه حَمْلًا؛ ولأنه وقت الحيلولة بينه وبين سيده.

(وإن انفصل) المحكوم بحريته (ميتًا من غير جناية، فغير مضمون) لأنه لم تعلم حياته قبل ذلك.

(و) إن انفصل ميتًا (بجناية؛ فعلى الجاني الضمان) لأن الإتلاف وُجِدَ منه.

(فإن كانت) الجناية (من الغاصب، فـ) ــعليه (غُرَّة) عبد أو أَمَة، قيمتها خمس من الإبل (موروثة عنه) أي: عن الجنين؛ لأنه كأنه ولِد حيًّا؛ لأنه أتلف جنينًا حرًّا، و (لا يرث الغاصبُ منها) أي: الغُرَّة (شيئًا) لو كان الولد منه؛ لأنه قاتل له (وعليه) أي: الغاصب (للسيد عُشر قيمة الأم) فيضمنه له ضمان المماليك، ولهذا لو وضعته حيًّا قوَّمناه مملوكًا، وقد فوَّت رقَّه على سيده.

(وإن كانت) الجناية (من غير الغاصب، فعليه) أي: الجاني (الغُرَّة، يرثها الغاصب) لأنه أبو الجنين (دون أُمِّهِ) لأنها رقيقة (وعلى

ص: 267

الغاصب عُشر قيمة الأُمِّ للمالك) لأنه يضمنه ضمان المماليك؛ لكونه قد فَوَّتَ رِقَّه على السيد.

(وإن قتلها) الغاصب (بوطئه، أو ماتت) الأَمَةُ (بغيره، فعليه) أي: الغاصب (قيمتها) أي: الأَمَة، وتقدم

(1)

(أكثر ما كانت) هكذا في "المغني" و"المبدع".

قال الحارثي: وهذا محمول على أن الكثرة كانت في مقابلة الأوصاف؛ لا لارتفاع الأسعار، كما صار إليه في مثله، وإلا فهو بعينه مذهب الشافعي

(2)

؛ مثاله: كانت القيمة ألفًا، فنقصت بالافتضاض مائة، ثم بالولادة مائة، ثم ماتت وقيمتها ثمانمائة، فالواجب ألف لا ثمانمائة؛ لأن الأوصاف مضمونة كالأعيان، ووقع التضمين على هذا الاعتبار بأكثر ما كانت. ولو نقصت القيمة لانخفاض السعر قبل الافتضاض، أو قبل الولادة، أو قبل الموت، فعلى المذهب: الواجب ما استقرَّ عليه الحال يوم تَلِف الوصف، أو تَلِف العين، وعلى قول القائلين بأقصى القِيَم يكون الواجب ألفًا. انتهى.

والمذهب: أنه يضمن المغصوب بقيمته يوم التَّلَفِ؛ نقله الجماعة عن أحمد

(3)

.

(و) على ما نذكره

(4)

(يدخل في ذلك) أي: في قيمتها أكثر ما كانت (أرْشُ بكارتها، ونقصُ ولادتها) لأنها تقوَّم بكرًا لا نقص بها، وعلى المذهب - من أنها تُقوَّم يوم التَّلَف - لا يدخل ذلك، بل يُضمُّ إلى قيمتها.

(1)

(9/ 266).

(2)

نهاية المحتاج (5/ 166).

(3)

مسائل صالح (1/ 362) رقم 332، وكتاب الروايتين والوجهين (1/ 414).

(4)

في "ذ": "ذكره".

ص: 268

(ولا يدخل في) أي: في قيمتها أكثر ما كانت (ضمان ولدها) لو مات (ولا مهر مِثْلها) بل يُضمُّ ذلك إلى القيمة على كلا القولين.

ومتى انتقلت العين المغصوبة عن يد الغاصب إلى غير المالك لها، فالمنتقلة إليه بمنزلة الغاصب، في كون المالك يملك تضمينه العين والمنفعة؛ لأنه إن كان عالمًا بالحال، كان غاصبًا، وإن كان جاهلًا، فلعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"على اليدِ ما أخذتْ حتى تؤديه"

(1)

؛ ولأن العين المغصوبة صارت في يده بغير حق، فمَلَك المالكُ تضمينه، كما يملك تضمين الغاصب، لكن إنما يستقر عليه ما دخل على ضمانه من عين، أو منفعة، وما عداه فعلى الغاصب إن لم يعلم.

إذا تقرَّر ذلك: فالأيدي المترتبة على يد الغاصب عشرة، تأتي مفصَّلة.

فمن غصب أَمَةً بكرًا، فباعها، أو وهبها لإنسان، أو زوَّجها له ونحوه، واستولدها، ثم ماتت عنده، أو غصب دارًا، أو بستانًا، أو عبدًا ذا صناعة، أو بهيمةً، ثم باع ذلك، أو وهبه ونحوه، ممن استغله، إلى أن تلف عنده، ثم حضر المالك، فله تضمين أيهما شاء، وقد أشار إلى ذلك بقوله (وإن باعها) أي: الجارية (أو وَهَبَها ونحوهما) بأن جعلها صداقًا، أو عوضًا في خلع، أو طلاق، أو عن قرض ونحو ذلك (من كل قابضٍ منه) أي: من الغاصب تملكًا بعوض أو غيره (لعالم بالغصب، فوطئها) القابض، وأولدها (فللمالك تضمين أيهما شاء) أي: الغاصب أو القابض (نَقْصَهَا) أي: الجارية (ومهرها، وأُجرتها، وأرش بكارتها، وقيمةَ ولدها إن تلف) ولدها.

(1)

تقدم تخريجه (7/ 446) تعليق رقم (2).

ص: 269

(فإن ضمَّن) المالك (الغاصبَ) ذلك (رجع) الغاصب (على الآخر) وهو القابض منه، بما ضمَّنه له المالك (لحصول التلف في يده) العادية، حيث علم بالغصب.

(وإن ضمَّن) المالك (الآخرَ) أي: القابضَ من الغاصب، العالِمَ بالحال، جميع ذلك (لم يرجع) القابض بما غرمه (على أحد) لاستقرار ذلك عليه؛ لدخوله على بصيرة (والنقص والأجرة قبل البيع والهبة) ونحوهما (على الغاصب) فليس للمالك تضمينهما للقابض؛ لأنهما لم يذهبا تحت يده.

(وإن لم يعلما) أي: المشتري والمتهب (بالغصب، فهما كالغاصب في جواز تضمينهما العين والمنفعة) من حين القبض؛ لما تقدم (لكنهما يرجعان على الغاصب بما لم يلتزما ضمانه) أي: بما لا يقتضي العقد ضمانه، من عين أو منفعة، وكذا سائر الأيدي المترتبة على يد الغاصب، فعقد البيع يقتضي أن المبيع مضمون على المشتري بالثمن، حتى لو تلف فات مجانًا، بخلاف المنافع، فإنها

(1)

تثبت للمشتري تبعًا للعين؛ لأن الخراج بالضمان، وعقد الإجارة يقتضي أن المنفعة مضمونة على المستأجر دون العين، فإن المستأجر إنما أعطى الأجرة في مقابلة المنفعة خاصة، فهي مضمونة عليه بالأجرة، والعين معه أمانة لم يلتزم ضمانها، والوديعة والهبة تقتضي عدم ضمان العينِ والمنفعةِ، والعاريةُ تقتضي ضمان العين دون المنفعة، وهكذا تقول في كل عقد بحسبه.

إذا علمت ذلك، فالأولى والثانية من الأيدي المترتبة على يد

(1)

في "ذ": "فإنما" بدل "فإنها".

ص: 270

الغاصب يدا

(1)

المشتري والمستعير، وإليهما أشار بقوله:(فإن ضمَّن) المالك (المشتري) العينَ والمنفعةَ (أو) ضمَّن (المستعيرَ) العينَ والمنفعةَ (رجعا) أي: المشتري والمستعير على الغاصب (بقيمة المنفعة) إذ هي غير مضمونة عليهما (دون العين) فإنها تستقر عليهما؛ لدخولهما في العقد على ضمانها.

الثالثة: يد المستأجر، وإليها الإشارة بقوله:(والمستأجر) إن جهل الغصب (عكسُهما) يستقر عليه ضمان المنفعة دون العين؛ لأنه دخل على ضمان المنفعة دون العين، فإن ضمَّن المالكُ الغاصبَ العينَ والمنفعةَ، رجع الغاصبُ على المستأجر بقيمة المنفعة؛ وإن ضمَّنهما المستأجر، رجع على الغاصب بقيمة العين.

‌الرابعة والخامسة: المُمَلَّك بلا عوض، والقابض بعقد أمانة،

وقد ذكرهما بقوله: (وإن ضمَّن) المالكُ (المودَعَ) ولم يكن فرَّط (أو المُتَّهِبَ) - ومثله المُهْدَى إليه، والمُتصدَّق عليه - العينَ والمنفعةَ (رجعا) أي: المودع والمتَّهِب (بهما) على الغاصب حيث لم يعلما؛ لتغريره لهما؛ ولأنهما لم يدخلا على ضمان شيء.

ومثل المودع الوكيل، والمرتهن، وما تقدم في الرهن

(2)

: من أن الوكيل والأمين في الرهن إذا باعا، وقبضا الثمن، ثم بان المبيع مستحقًّا، لم يلزمهما شيء، أي: من الثمن؛ لأن حقوق العقد متعلقة بالموكِّل دون الوكيل، وليس معناه أن المستحق للعين لا يطالب الوكيل بها، كما نَبَّه

(1)

في "ذ": "يد".

(2)

(8/ 196).

ص: 271

عليه ابن رجب

(1)

.

(وإن ضمَّن) المالكُ (الغاصبَ، رجع) الغاصبُ (على الآخر بما لم يرجع به) القابض (عليه لو ضمَّنه) المالك ابتداءً، ففي مسألتي الوديعة والهبة، إذا ضمَّن الغاصبَ لا يرجع على المُتَّهب، ولا على الوديع بشيء؛ لأنهما لم يدخلا على ضمان شيء؛ وإن كانا عالمين، استقر عليهما الضمان.

والموصى له بالمنافع كالمتهب.

(ويستردُّ المشتري والمستأجر من الغاصب ما دفعا إليه من المسمَّى) في البيع والإجارة (بكل حال) أي: سواء جهلا، أو علما بالغصب؛ لانتفاء صحة العقد فيهما؛ لأن البائع والمؤجر ليس مالكًا ولا مأذونه، فلا يملك الثمن، ولا الأجرة بالعقد الفاسد.

وظاهره: ولو أقرَّا بالملك للغاصب، وهو مقتضى ما يأتي في الدعاوى.

ومفهوم "المنتهى": إنْ أقرَّا بالملك له؛ لا رجوع لهما؛ مؤاخذة لهما بمقتضى إقرارهما.

قال ابن رجب في "القواعد"

(2)

: لو أقرَّ المشتري للبائع بالملك، فلا رجوع له عليه، ولو أقرَّ بصحة البيع، ففي الرجوع احتمالان، ذكرهما القاضي، وقد يخرج كذلك في الإقرار بالملك حيث علم أن مستنده اليد، وقد بان عدوانها. انتهى.

(1)

القواعد الفقهية ص/ 225، القاعدة الثالثة والتسعين.

(2)

ص/ 228، القاعدة الثالثة والتسعون.

ص: 272

ولو طالب المالك الغاصب بالثمن كله، إذا كان أزيد من القيمة، قال ابن رجب

(1)

: قياس المذهب: أنَّ له ذلك كما نصَّ عليه أحمد

(2)

في المُتَّجِر في الوديعة من غير إذن: أن الربح للمالك.

(وإن ولَدَت) المغصوبة (مِن مشترٍ، أو) ولدت من (متَّهِبٍ، فالولد حُرٌّ) حيث لم يعلما الحال؛ للغَرر (ويفديه) أبوه (بقيمته يوم وضعه) لما تقدم

(3)

(ويرجع) الغارم (بالفداء على الغاصب) لأنه غَرَّه؛ ولأنه لم يدخل على ضمانه.

(وإن تلفت) الجارية (عند مُشترٍ) جاهل بالحال (فعليه قيمتها، ولا يرجع بها، ولا بأرش بكارة) على الغاصب؛ لأنه دخل على ضمان العين؛ لأنه بذل الثمن في مقابلتها (بل) يرجع المشتري الجاهل بالحال على الغاصب (بثمنٍ) أخذه الغاصب عنه (و) بـ (ــمهرٍ، وأجرةِ نفعٍ، وثمرة) بستان (وكسب) قِنٍّ (وقيمة ولدٍ، كما تقدم

(4)

) لأنه دخل على أن ذلك غير مضمون عليه (و) كذا (نقص ولادةٍ ومنفعة فائتة) إذا غرمهما المشتري رجع بهما على الغاصب، كما تقدم

(5)

(وتقدم

(6)

حكم غير المشتري من كل قابضٍ من الغاصب بما يرجع) الغاصب (به على القابض منه) إذا غرمه المالك، وما يرجع به القابض على الغاصب إن ضمنه المالك.

(1)

في القواعد الفقهية ص/ 226، في القاعدة الثالثة والتسعين.

(2)

مسائل صالح (1/ 454، 3/ 246) رقم 463، 1742، ومسائل عبد الله (3/ 983) رقم 1340.

(3)

(9/ 267).

(4)

(9/ 270).

(5)

(9/ 271).

(6)

(9/ 269 - 270).

ص: 273

فإن قلت: أين تقدم ذلك؟ قلت: في قوله: "لكنهما يرجعان على الغاصب بما لم يلتزما ضمانه"

(1)

لأن معناه: أن المشتري والمُتَّهب ونحوهما من كلِّ قابض - إذا غرَّمهما المالك - يرجعان على الغاصب بما لا يقتضي العقد أنه مضمون عليهما.

وعُلِم منه: أنه يستقرُّ عليهما ما اقتضى العقد أنه مضمون عليهما، كما تقدم

(1)

.

(وإن ردَّها) أي: الجارية المشتري (حاملًا، فماتت من الوضع، فهي مضمونةٌ على الواطئ) لأنها تلفت بسبب وطئه، وقد دخل على ضمانها، فإن كان موهوبًا وغرم القيمة، رجع بها على الغاصب؛ لأنه غَرَّه.

السادسة: يد المتزوج للأَمَة المغصوبة، إذا تزوَّجها وولدت عنده وماتت، وقد ذكرها بقوله:(وإن ولدتْ من زوجٍ غير عالم) بالغصب (فالولدُ رقيق) تبعًا لأُمِّهِ، إن لم يشترط حريته، أو يغرَّ بحريتها (يجب) على الزوج (ردُّه على المالك، إن كان الولد حيًّا) كأُمِّهِ (وإن تلف) الولد (ففيه القيمة للمالك) كما تقدم

(2)

(يأخذها) المالك (ممن شاء؛ من الغاصب، أو الزوج، فإن ضمَّن الزوجَ، رجع على الغاصب) لأنه غَرَّه (وإن ضمَّن الغاصبَ، لم يرجع عليه) أي: الزوج؛ لاستقرار ذلك على الغاصب.

(وإن ماتت) الجارية (في حِبالِ الزوج، فَقَرارُ الضمان على الغاصب) لأن مقتضى عقد النكاح عدم ضمانها على الزوج.

(فإن استخدمها الزوجُ، وغَرِم) للمالك (الأجرةَ، لم يرجع بها على

(1)

(9/ 270).

(2)

(9/ 267).

ص: 274

الغاصب) لأن عقد النكاح لا يقتضي استخدام الزوج للزوجة؛ لأن المعقود عليه فيه منفعة البُضع فقط، فلا تغرير.

وإن أعارها) أي: أعار الغاصب العين المغصوبة (فتلفت، ضَمِن مستعير غير عالم العينَ) لأنه مقتضى عقد العارية دون المنفعة (و) غَرِم (غاصبٌ الأجرةَ) لأن المستعير دخل على أنها غير مضمونة عليه، وكذا الحكم فيما تلف من الأجزاء بالاستعمال بالمعروف.

(وإلا) بأن كان المستعير عالمًا بالغصب (ضمنهما) أي: العين والمنفعة (المستعير، كما تقدم

(1)

) لأنه لا تغرير.

السابعة: يد المتصرّف في المال بما ينميه، كالمضارب، والشريك، والمساقي، والمزارع، إذا تلف ذلك بيد العامل ونحوه، فإن ضمَّنه المالكُ، رجع على الغاصب بقيمة وأجرة عملٍ، لأنهم دخلوا على أن لا ضمان عليهم؛ إلا حصتهم من الربح والثمر ونحوه، فيستقر عليهم ضمانها.

وإن ضمَّن الغاصبَ، رجع بما قبض عامل لنفسه من ربح وثمر وزرع بقيمته معه؛ لأنه لا يستحق ما قبضه من ذلك؛ لفساد العقد، وللعامل على الغاصب أجرة مِثْله؛ لأنه غَرَّه.

الثامنة: يد القابض تعويضًا بغير عقد البيع، بأن يجعل المغصوب عوضًا في نكاحٍ، أو خُلعِ، أو طلاق، أو عتق، أو صلح، أو إيفاء دَيْن ونحوه، فإن غرم قابض، رجع بقيمة منفعة. وإن غَرِم غاصب، رجع بقيمة عين، والدَّين بحاله.

(1)

(9/ 222).

ص: 275

التاسعة: يد المُتْلِف للمغصوب نيابة عن الغاصب، كالذابح للحيوان، والطابخ له، وهذا يرجع بما ضَمَّنَهُ له المالك على الغاصب إن لم يعلم بالحال؛ لوقوع الفعل للغاصب، فهو كالمباشر له، لكن إن أتلفه على وجه مُحَرَّم، كأن قتل العبد، أو أحرق المال المغصوب عالمًا تحريمه، ففي "التلخيص": يستقرُّ عليه الضمان؛ لعلمه بالتحريم، ورجَّح الحارثي دخوله في قسم المغرور؛ لعدم علمه بالضمان.

العاشرة: يد الغاصب من الغاصب، فالقرار على الثاني مطلقًا، ولا يطالب

(1)

بما زاد على مدته، وهذا كلُّه يُعلم مما ذكره بالتأمُّل، ومتى وجدت زيادة بيد أحدهما؛ كسِمَنٍ، وتعلُّم صنعةٍ، ثم زالت، فإن كانت في يد الثاني، فكما لو كانت بأيديهما، وإن كانت بيد الأول، اختص بضمان تلك الزيادة، وأما الأصل فعلى ما سبق.

(وإذا اشترى) إنسان (أرضًا، فغرسها، أو بنى فيها، فخرجت) الأرض (مستحقَّة، وقَلَع غرسه وبناءه، رجَعَ المشتري على البائع بما غَرِمه) بسبب ذلك، من ثمن أقبضه، وأجرة غارس وبانٍ، وثمن مؤنٍ مستهلكةٍ، وأرش نقص بقلعٍ، ونحو ذلك، وأجرة دارٍ؛ لأن البائع غَرَّ المشتري ببيعه إياها، وأوهمه أنها ملكه، وكان ذلك سببًا في غراسه وبنائه وانتفاعه، فرجع عليه بما غرمه.

و (لا) يرجع المشتري (بما أنفق على العبد والحيوان، ولا بخراج الأرض) إذا اشترى أرضًا خراجية، وغَرِم خراجها، ثم ظهرت مُستحقَّة، فلا يرجع المشتري بذلك على البائع (لأنه) أي: المشتري (دخل في الشراء ملتزِمًا ضمان ذلك) لأن عقد البيع يقتضي النفقة على المبيع ودفع خراجه.

(1)

في "ذ": "يطالبه".

ص: 276

قلت: وقياس ذلك أن الزوج لا يرجع على الغاصب بما أنفقه على الزوجة إذا خرجت مغصوبة، كما أنه لا يرجع على الحُرَّة في النكاح الفاسد.

وبيع الخراجية - كما تقدَّم - غير صحيح، فالمراد هنا: إذا حكم به من يراه، أو المراد به: النزول عنها لمن يقوم مقامه في الانتفاع ووزن الخراج، كما يأتي في إحياء الموات.

(وإن أطعم) الغاصبُ (المغصوبَ لعالمٍ بالغصبِ، استقر الضمان على الآكل) لأنه المباشِر، ولا غَرر.

(وإن لم يعلم) الآكلُ بالغصب (فـ) ـــقرار الضمان (على الغاصب) لأنه غَرَّ الآكل (ولو لم يقل) الغاصبُ: (كُلْه، فإنه طعامي) لأن الظاهر أن الإنسان إنما يتصرَّف فيما يملكه.

(وإن أطعمه) أي: أطعم الغاصبُ المغصوبَ (لمالكه، أو) أطعمه لـ (ـــعبده) أي: المالك (أو دابته، فأكله) المالك (عالمًا أنه له) وكذا لو أكله عبده، أو دابته بيده (ولو بلا إذنه) أي: المالك (بَرِئَ الغاصبُ) لأن المالك أتلف ماله عالمًا عن غير تغرير، فلم يكن له رجوع به على أحد.

(وإن لم يعلم) المالكُ أنه طعامه، لم يبرأ الغاصبُ؛ لأنه لم يُعِده إلى تصرفه التام وسلطانه المطلق؛ إذ لا يتمكَّن من بيعه، ولا هِبته، ولا إطعامه غيره.

(أو أخذه) أي: أخذ المالكُ المال المغصوبَ من غاصبه (بقرضٍ، أو شراه، أو هِبة، أو هدية، أو صدقة، أو أباحه) الغاصب (له) أي: للمالك ولم يعلم، لم يبرأ.

(أو رهنه) الغاصب (عنده) أي: مالكه (أو أودعه إيَّاه، أو أجره، أو

ص: 277

استأجره على قِصَارته وخياطته، لم يبرأ) الغاصب (إلا أن يُعلِم) المالكَ أنه ماله المغصوب منه؛ لأنه بالغصب أزال يد المالك وسلطنته، وبالإطعام، والهبة، أو الإيداع، أو نحوه، لم يعد

(1)

، إلا أنه إنما تسلَّمه على وجه الأمانة، أو ثبوت بدله في ذمته، أو تحمُّله مِنَّته، وربما كافأه في الهِبة، لكن القياس: أن الغاصب يبرأ إذا أخذه المالك قرضًا، أو شراءً من العين؛ لأن مالكها دخل على أنها مضمونة عليه. وقد قالوا: لا شيء له لما يستقر عليه لو كان أجنبيًّا، كما في العارية، وجزم به في "المغني"، لكن المنصوص ما ذكر المصنف كما قال الحارثي؛ لأنه سلَّمه إليه على بذل العوض، فلم يرد إليه على ما كان. وقد أشبعت الكلام في ذلك في "حاشية المنتهى".

"تنبيه": قياس المذهب: أن الغاصب يبرأ من المنفعة فيما إذا أجره لمالكه؛ لدخوله على ضمانها، كما أشار إليه المجد في "شرحه".

(وإن أعاره) أي: أعار الغاصبُ المالكَ (إيَّاه) أي: المغصوب (بَرِئَ) الغاصب (عَلِمَ) المالك أنه ماله (أو لم يعلم) ذلك؛ لأنه دخل على أنه مضمون عليه، لكن له الرجوع بأجرة منفعته على الغاصب؛ لأنه دخل على أن المنفعة غير مضمونة عليه، كما يُشير إليه كلام المجد في "شرحه".

وإن صَدَرَ ما تقدم من مالك لغاصب، بأن وهبه المغصوب، أو أودعه إياه، ونحوه؛ بَرِئ الغاصب، كما لو زوَّجه المغصوبةَ، ومن أخذ منه ما اشتراه ببينة بالملك المطلق، ردَّ بائعه ما أخذ.

(ومن اشترى عبدًا) أو أَمَةً (فأعتقه، فادَّعى رجل أن البائع غصبه)

(1)

في "ذ": "يعودا".

ص: 278

أي: القِنَّ (منه، فصدَّقه أحدهما) أي: البائع أو المشتري (لم يُقبل) تصديقه (على الآخر) المنكِر؛ لأنه لا يُقبل إقراره في حَقِّ غيره.

(وإن صدَّقاه) أي: البائع والمشتري (مع العبد، لم يبطل العتق) لأنه حقٌّ لله تعالى، بدليل أنه لو شهد به شاهدان وأنكره العبد لم يُقبل منه، وكذا إن صدَّقاه دون العبد كان حرًّا؛ لأنه تعلَّق به حقٌّ لغيرهما. (ويستقرُّ الضمان على المشتري) لأن التلف حصل في يده، وللمالك تضمين مَن شاء منهما قيمته يوم العتق، فإن ضمَّن البائع، رجع على المشتري؛ لما ذكرنا، وان ضمَّن المشتري، لم يرجع على البائع إلا بالثمن؛ قاله في "المبدع" وغيره.

(فلو مات العبدُ، وخلَّف مالًا، فهو) أي: المال (للمدَّعي) لاتفاقهم على أنه له (إلا أن يُخلِّف) القِنُّ (وارثًا) فالمال له؛ للحكم بحريته (وليس عليه) أي: القِنِّ (ولاءٌ) لأن أحدًا لا يدعيه.

(وإن أقام المدَّعي بينة بما ادَّعاه) من أنَّ البائع غصبه منه (بَطَل البيع) لأنه ليس من مالك ولا مأذون (و) بَطَل (العِتق) لترتبه على البيع الباطل (ويرجع المشتري على البائع بالثمن) لبطلان البيع.

(وإن كان المشتري لم يعتقه) وادعى إنسان أن البائع غصبه منه (وأقام المدعي بينة بما ادعاه، انتقض البيع) أي: تبينا عدم انعقاده؛ لأنه ليس من مالك ولا مأذونه (ورجع المشتري على البائع بالثمن) لبطلان البيع.

(وكذلك إن أقرَّا) أي: البائع والمشتري (بذلك) أي: بأن البائع غصبه من المُدَّعي، فيبطل البيع ويرجع المشتري على البائع بما قبضه من الثمن؛ لأن الحق لا يعدوهما، بخلاف ما إذا أعتقه.

ص: 279

(وإن أقرَّ أحدهما) بما ادَّعاه المُدَّعي من غصب القِن (لم يُقبل) إقراره (على الآخر) لأنه تعلَّق به حق لغيره.

(فإن كان المقرُّ) هو (البائع، لزمته القيمة للمدعي) لأنه حال بينه وبين ملكه بغير حق (ويُقَرُّ العبد في يد المشتري) لأنه ملكه في الظاهر (وللبائع إحلافهُ) أنه لا يعلم صحة إقراره، فإن نكل، قضي عليه بالنكول.

(ثم إن كان البائع لم يقبض الثمن، فليس له مطالبة المشتري) به؛ لإقراره بما يُسقطه (وإن كان) البائع (قد قبضه) أي: الثمن (فليس للمشتري استرجاعه؛ لأنه لا يدَّعيه.

ومتى عاد العبد إلى البائع بفسخ) للبيع (أو غيره) من إرث، أو هبة، أو شراء ونحوها (لزمه) أي: البائع (ردُّه) أي: العبد (إلى مدَّعيه) لاعترافه له بالملك (وله استرجاع ما أُخذ منه) في نظير الحيلولة لزوالها.

(وإن كان إقرار البائع) بأنه غصبه منه (في مدة الخيار، انفسخ البيع؛ لأنه يملك فسخه) فقبل إقراره بما يفسخه، وسواء كان خيار مجلس، أو خيار شرط لهما، أو للبائع وحده، لا للمشتري وحده.

(وإن كان المُقِرُّ) بأن البائع غصبه، هو (المشتري وحده؛ لزمه ردُّ العبد) للمُدَّعي؛ لإقراره له بالملك (ولم يُقبل إقراره على البائع، ولا يَملك) المشتري (الرجوع عليه) أي: البائع (بالثمن، إن كان) البائع (قبضه، وعليه) أي: المشتري (دفعه) أي: الثمن (إليه إن لم يكن) البائع (قبضه) لأنه ملكه في الظاهر.

(وإن أقام المشتري بينة بما أقرَّ به) من غصب البائع للعبد (قُبلت) بينته؛ لعدم ما يُنافيها (وله الرجوع بالثمن) على البائع حينئذ؛ لتبين بطلان البيع.

ص: 280

(وإن كان البائع) هو (المُقِرّ) بأنه غصبه من المدعي (وأقام بينة) بما أقر به (فإن كان) البائع (في حال البيع قال: بعتُك عبدي هذا. أو) قال: بعتُك (ملكي، لم تُقبل بينته) أي: البائع (لأنه يكذبها) بقوله: عبدي هذا، أو ملكي.

(وإلا) يقل ذلك، بأن قال مثلًا: بعتُك هذا العبد (قُبلت) بينته؛ لأنه قد يبيع ملكه وغيره.

(وإن أقام المدعي البينة، سُمعت) بينته وبطل البيع، وكذا العتق إن كان كما تقدم

(1)

.

(ولا تُقبل شهادة البائع له) أي: للمدعي بأنه غصبه منه؛ لأف يَجُرُّ بها إلى نفسه نفعًا.

(وإن أنكراه) أي: أنكر البائعُ والمشتري مُدَّعي العبد (جميعًا، فله إحلافهما) لحديث: "البيِّنَةُ على المُدَّعي واليمين على مَنْ أنكرَ"

(2)

.

"تتمة": قال أحمد

(3)

في رجل يجد سرقته عند إنسان بعينها قال: هو ملكه يأخذه، أذهبُ إلى حديث سَمُرَة: عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَجَدَ متاعهُ عند رجلٍ فهو أحقُّ به، ويَتبعُ المُبتاعُ مَنْ باعه"

(4)

رواه هشيم، عن

(1)

(9/ 279).

(2)

تقدم تخريجه (8/ 244) تعليق رقم (1).

(3)

مسائل الكوسج (9/ 4605) رقم 3259، والمغني (7/ 422).

(4)

أخرجه أبو داود في البيوع، باب 80، حديث 3531، وفي المراسيل ص/ 175، حديث 193، والنسائي في البيوع، باب 96، حديث 4695، وفي الكبرى (4/ 56 - 57) حديث 6277، وابن الجارود (3/ 276) حديث 1026، والطبراني في الكبير (7/ 207) حديث 6860، والدارقطني (3/ 28)، والبيهقي (6/ 100 - 101) من طريق هشيم، عن موسى بن السائب، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه، به. =

ص: 281

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= قلنا: هنا إسناد ضعيف؛ لعنعنة قتادة والحسن، وهما مدلسان، وللاختلاف في سماع الحسن عن سمرة. انظر: السلسلة الضعيفة للشيخ الألباني (5/ 82). وموسى بن السائب قد خولف في رواية، فأخرجه أحمد (5/ 10) وابن عدي (5/ 1700)، وابن جميع في معجمه ص/ 364، من طريق عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه، ولفظه:"من وجدت متاعه عند مُفلِس بعينه، فهو أحق به". هكذا بلفظ: "عند مفلس".

قال ابن حزم في المحلى (7/ 303): حديث ثابت صحيح. وقال ابن حجر في الفتح (5/ 64): أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده حسن. وقال ابن عدي: وهذا لا أعلم يرويه عن قتادة غير عمر بن إبراهيم، وموسى بن السائب من رواية هشيم عنه

ولعمر بن إبراهيم غير ما ذكرت من الأحاديث، وحديثه عن قتادة خاصة مضطرب. وضعفه ابن طاهر المقدسي في ذخيرة الحفاظ (4/ 2429).

وأخرجه ابن ماجه في الأحكام، باب 12، حديث 2331، وابن أبي شيبة (7/ 181)، وأحمد (5/ 13، 18)، والطحاوي (4/ 165). والدارقطني (3/ 28)، والبيهقي (6/ 51) من طريق حجاج بن أرطاة، عن سعيد بن زيد بن عقبة، عن أبيه، عن سمرة بلفظ: إذا سرق من الرجل متاع، أو ضاع له متاع؛ فوجده بيد رجل بعينه فهو أحق به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن.

قال البوصيرى في مصباح الزجاجة (2/ 31): هذا إسناد ضعيف لتدليس حجاج بن أرطاة.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه، فقد أخرج أبو داود في المراسيل ص/ 174، حديث 192، والنسائي في البيوع، باب 96، حديث 4694، وعبد الرزاق (10/ 201) حديث 18829، وأحمد (4/ 226)، وابن قانع في معجم الصحابة (1/ 41)، والطبراني في الكبير (1/ 205) حديث 555، والحاكم (2/ 35)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (2/ 264) حديث 893، والضياء في المختارة (4/ 263، 283) حديث 1416، 1475، عن أسيد بن ظهير الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بأنه إذا كان الذي ابتاعها من الذي سرقها غير متهم، يخير سيدها، فإن شاء أخذ الذي سُرق منه بثمنها، وإن شاء اتبع سارقه، ثم قضى بذلك أبو بكر، وعمر، وعثمان. =

ص: 282

موسى بن السائب، عن قتادة، عن الحسن، عن سَمُرَة، وموسى بن السائب: ثقة.

فصل

(وإن تلف المغصوبُ) بأن كان حيوانًا فمات، أو متاعًا فاحترق ونحوه، وشمل كلامه: لو غصبه مريضًا؛ فمات في يده بذلك المرض، ضَمِنه؛ كما جزم به الحارثي. واقتصر عليه في "الإنصاف"(أو أتلفه الغاصبُ، أو) أتلفه (غيرُه) بأن قتل الحيوان المغصوب، أو أحرق المتاع المغصوب (ولو) كان إتلاف غير الغاصب للمغصوب (بلا غصب) بأن أتلفه بيد الغاصب، أو بعد أن انتقل إلى يده بشيء مما تقدم من نحو بيع، أو هبة، أو عارية، أو وديعة (ضمِنه) الغاصبُ، أو من تلف بيده (بمِثْله، إن كان) المغصوب (مكيلًا، أو موزونًا) لا صناعة فيه مباحة يصح السَّلَم فيه (تماثلت أجزاؤه أو تباينت، كالأثمان، ولو نُقْرَةً أو سَبيكة، و) كـ (ــالحبوب) من بُرٍّ، وأرز، ودخن، وذرة، وعدس، وباقلا ونحوها و) كـ (ــالأدهان) من سمن، وشيرج، وزيت، وكذا سائر المائعات والثمار التي تجب فيها الزكاة، كتمر، وزبيب، وبندق، ولوز، ونحوها. وتقدم

(1)

بيان المكيلات والموزونات في الربا مفصَّلة، فيضمن ذلك بمثله (إذا كان) حين التلف (باقيًا على أصله) أي: حاله حين الغصب.

= قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.

تنبيه: وقع في بعض طرق الحديث: "أسيد بن حضير" وهو وهم؛ قاله المزي في تحفة الأشراف (1/ 75)، انظر: تحفة الأشراف (1/ 72)، وإتحاف المهرة (1/ 369 - 170).

(1)

(8/ 33 - 34).

ص: 283

قال أحمد في رواية حرب

(1)

: ما كان من الدراهم والدنانير، أو ما يُكال، أو ما يوزن، فعليه مِثله. انتهى. لأن المِثْل أقرب إلى المنضبط من القيمة؛ لكونه مماثلًا له من طريق الصورة والمشاهدة، والمعنى بخلاف القيمة، فإنها مماثلة من طريق الظن والاجتهاد، فقدم ما طريقه المشاهدة كالنص، فإنه لما كان طريقه الإدراك بالسماع كان أولى من القياس؛ لأن طريقه الاجتهاد.

(فإن تغيَّرت صفته) أي: المغصوب (كرطب صار) وقت التلف (تمرًا، أو سمسم صار) بعد الغصب (شَيْرجًا، ضمَّنه) بتشديد الميم (المالك) للغاصب ونحوه (بمثل أيِّهما أحبَّ) لثبوت ملكه على كل واحد من المِثلين، فإن شاء ضمَّنه رطبًا وسمسمًا؛ اعتبارًا بحال الغصب، أو تمرًا وشيرجًا؛ اعتبارًا بحالة التلف.

(والدراهم المغشوشة الرائجة مثليَّةٌ) لتماثلها عُرفًا، ولأن أخلاطها غير مقصودة، وكذا الفلوس، وتقدم في القرض

(2)

.

"تنبيه": ينبغي أن يُستثنى من ضمان المِثْلي بمِثْله، الماء في المفازة، فإنه يضمن بقيمته في البرية؛ ذكره في "المبدع"، وجزم به الحارثي.

قلت: ويؤيده ما قالوه في التيمم

(3)

: ويُيَمم ربُّ ماء مات؛ لعطش رفيقه، ويغرم قيمته مكانه لورثته.

(وإن أعوز المِثْل

(4)

) قال في "المبدع": في البلد أو حوله (لعدمٍ،

(1)

كتاب الروايتين والوجهين (1/ 409)، والمغني (7/ 363).

(2)

(8/ 137).

(3)

انظر (1/ 393).

(4)

في "ذ": "المثلي".

ص: 284

أو بُعْدٍ، أو غلاءٍ، فعليه) أي: الغاصب ونحوه (قيمةُ مِثْله) أي: المغصوب المِثْلي؛ لأنها أحد البدلين، فوجب عند تعذُّر أصله كالآخر (يوم إعوازه) أي: المِثل (2)؛ لأن القيمة وجبت في الذِّمة حين انقطاع المِثْل، فاعتُبرت القيمة حينئذ كتلف المتقوّم (في بلده) أي: الغصب؛ لأنه مكان الوجوب.

(فلو قدر) الغاصب ونحوه (على المِثْل) بعد تعذُّره (قبل أداء القيمة لا بعدَه، لزمه المِثْل) لأنه الأصل، وقد قدر عليه قبل أداء البدل، حتى ولو كان ذلك بعد الحكم عليه بأداء القيمة، كالمأمور بالتيمم عند ضيق الوقت وفَقْدِ الماء، إذا قدر عليه قبل انقضاء الصلاة.

(و) إن قدر على المِثْل بعد أداء القيمة (لم يرد القيمة) ليأخذ المِثْل؛ لأنه استقر

(1)

البدل، كمن وجد الماء بعد الصلاة.

(فإن كان) الموزون (مصوغًا

(2)

مباحًا) أي: فيه صناعة مباحة (كمعمول ذهب وفضة) من أساور وخلاخيل ودمالج ونحوها (و) كمعمول (نحاس ورصاص، ومغزول صوف وشعر ونحوه) كمغزول قطن وكَتَّان (أو) كان (تِبْرًا تُخالف قيمتُه وزنَه بزيادة أو نقص) ضمن بقيمته؛ لأن الصناعة تؤثر في القيمة، وهي مختلفة، والقيمة فيه أخصر

(3)

، وكذا ما لا يصح السَّلم فيه من جوهر ونحوه.

(فإن كان) المصوغ (من) أحد (النقدين) قُوِّم بالآخر؛ لئلا يؤدي إلى الربا فيقوَّم حلي الذهب بالفضة، وحلي الفضة بالذهب.

(1)

في "ح": و"ذ": "قد استقر".

(2)

أشار في حاشية "ذ" إلى أنه في نسخة: "مصنوعًا".

(3)

في "ذ": "أحصر".

ص: 285

(أو) كان المغصوب (محلًّى بأحدهما) أي: النقدين (قَوَّمه بغير جنسه) فيُقوَّم المحلَّى، بذهب بالفضة، والمحلَّى بفضة بالذهب؛ فرارًا من الربا.

(وإن كان) المغصوب (محلًّى بهما) أي: بالنقدين معًا (قَوَّمه بما شاء منهما؛ للحاجة) إلى التقويم بأحدهما؛ لأنهما قِيَم للمتلفات، وليس أحدهما أَولى من الآخر، فكانت الخيرة في ذلك إلى من يخبر التقويم. (وأعطاه) أي: أعطى الغاصبُ ونحوه مالك المحلَّى بهما (بقيمته عَرْضًا) لأن أخذها من أحد النقدين يفضي إلى الربا، وكذا لو كان مصوغًا منهما.

(وإن كان) المغصوب (محرَّم الصناعة، كأواني ذهب، وفضة، وحَلْي محرَّم) كسرج وركاب (ضَمِنه) الغاصب ونحوه (بوزنه فقط) لأن الصناعة المُحرَّمة لا قيمة لها شرعًا.

(وفي "الانتصار" و"المفردات": لو حكم حاكم بغير المِثْل في المِثْلي، وبغير القيمة في المتقوَّم، لم ينفذ حكمه، ولم يلزم قَبوله) واقتصر عليه في "المبدع" وغيره.

(وإن لم يكن) المغصوب (مِثْليًا) كالثوب، والعبد، والدابة، وتلف، أو أتلفه الغاصب، أو غيره (ضَمِنه بقيمته) لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أعتقَ شِرْكًا له في عبدٍ قُوِّمَ عليه قيمةَ العَدْلِ" متفق عليه

(1)

. فأمر بالتقويم في

(1)

البخاري في الشركة، باب 5، 14، حديث 2491، 2503، وفي العتق، باب 4، حديث 2521 - 2525، ومسلم في العتق، حديث 1501، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وأخرجه - أيضًا - البخاري في الشركة، باب 5، حديث 2492، وفي العتق، باب 5، حديث 2526، 2527، ومسلم في العتق، حديث 1503، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 286

حصة الشريك؛ لأنها متلفة بالعتق، ولم يأمر بالمِثْل؛ لأن هذه الأشياء لا تتساوى أجزاؤها، وتختلف صفاتها، فالقيمة فيها أعدل وأقرب إليها، فكانت أَولى.

فإن كان زرعًا أخضر، قُوِّم على رجاء السلامة وخوف العطب، كالمريض والجاني.

وتُعتبر القيمة (يوم تلفه في بلد غصبه) لأن ذلك زمن الضمان وموضعه (من نقده) أي: نَقْد بلد الغصب؛ لأنه موضع الضمان (فإن كان به

(1)

نقود، فمن غالبها) لأنه الذي ينصرف إليه اللفظ عند الإطلاق، كما لو باع بدينار مطلق.

(وكذا متلف بلا غصب، ومقبوض بعقد فاسد) إذا تلف أو أُتلف (وما أجري مجراه) أي: مجرى المقبوض بعقد فاسد في الضمان (مما لم يدخل في ملكه

(2)

) أي: القابض، كالمقبوض على وَجْهِ السَّوم، فإن كانت مِثْلية، ضُمنت بمثلها، أو متقوَّمة فبقيمتها، لكن لو اشترى ثمرة شجرة شراء فاسدًا، وخلَّى البائع بينه وبينه على شجرة، لم يضمنه بذلك؛ لعدم ثبوت يده عليه، ذكره بعض أصحابنا محلَّ وفاق؛ قاله ابن رجب في "القواعد"

(3)

.

(فإن دخل) التالف (في مِلْكه) أي: ملك متلفه (بأن أخذ معلومًا بكيلٍ أو وزنٍ، أو) أخذ (حوائجَ من بقَّال ونحوه) كجزار وزيَّات (في أيام) ولم يقطع سعرها (ثم يُحاسِبُه بعد) ذلك (فإنه يعطيه بسعر يوم أخذه؛ لأنه

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (2/ 586): "فيه".

(2)

زاد في متن الإقناع (2/ 586): "أي: يجب فيه قيمته يوم تلفه، أو انقطاع مثله".

(3)

ص/ 230، القاعدة الثالثة والتسعون.

ص: 287

ثبتت قيمتُهُ) في ذمته (يومَ أخذه) لتراضيهما على ذلك، ولا يرد المِثْل.

ومقتضى قولهم: "فإن دخل في ملكه": أن العقد في ذلك صحيح، وإلا لما ترتَّب عليه الملك، ولذلك أخذ منه الشيخ تقي الدين

(1)

صحَّةَ البيع بثمن المِثْل، وعلى هذا يدخل في ملكه

(2)

، وهذا العقد جارٍ مجرى الفاسد؛ لكونه لم يعيّن فيه الثمن، لكنه صحيح، إقامةً للعُرف مقامَ النُّطق، وهذا - وإن كان مخالفًا لما تقدَّم من أن البيع لا يصح إلا مع معرفة الثمن - أَولى من القول بأنه فاسد يترتَّب عليه الملك؛ لأن الفاسد لا يترتَّب عليه أثره، بل يدعي أن الثمن في هذه معلوم بحكم العُرف، فيقوم مقامَ التصريح به.

(و‌

‌لا قصاص في المال، مثل شَقِّ ثوبه ونحوه)

بل الضمان بالبدل، أو الأرش، على ما تقدم تفصيله.

(ولو غصب جماعةٌ مُشاعًا) بين جماعة كعقار (فردَّ واحدٌ منهم) أي: الغاصبين (سهمَ واحدٍ) من المالكين (إليه، لم يجز له) أي: لم يطب له الانفراد بالمردود عليه (حتى يعطي شركاءه) أي: إلى أن يرد إلى شركائه مثل ما ردَّ إليه؛ لأن نصيبه شائع، فلا يختصُّ بالمردود (وكذا لو صالحوه عنه بمال

(3)

) نقله حرب

(4)

، أي: فلا يطيب له الانفراد به، وقال في "الفروع": ويتوجَّه أنه بيع المُشاع. انتهى. أي: فيصحّ، ويطيب له المال.

(1)

مجموع الفتاوى (29/ 231 - 232)، وانظر: بدائع الفوائد (4/ 51).

(2)

في "ذ": "وعلى هذا مما لم يدخل في ملكه"، وعلق عليه في الهامش: وفي نسخة "وعلى هذا يدخل في ملكه".

(3)

في "ذ": "بماله".

(4)

الفروع (4/ 508)، والإنصاف (6/ 197).

ص: 288

قلت: وهو ظاهر، ولعل رواية حرب فيما إذا صالحوه عن سهمٍ معيَّن.

وكذا لو كان الغاصب لحصصهم واحدًا.

ويصح غَصْب المُشاع، فلو كانت أرض، أو دار لاثنين في يدهما، فنزل الغاصب في الأرض، أو الدار فأخرج أحدهما، وبقي الآخر معه على ما كان مع المُخرَج، فإنه لا يكون غاصبًا إلا نصيب المُخرَج، حتى لو استغلَّا الملك، أو انتفعا به، لم يلزم الباقي منهما لشريكه المُخرَج شيء؛ قاله المجد في "شرحه".

(ولو تلف بعضُ المغصوب، فنقصت قيمةُ باقيه) بذلك (كزَوْجَي خُفٍّ، ومصراعَي باب تلف أحدُهما، فعليه) أي: الغاصب (رَدُّ الباقي، وقيمةُ التالف، وأرشُ النقص) فإذا كانت قيمتهما مجتمعين ستة دراهم، فصارت قيمة الباقي منهما درهمين، رَدَّه، وأربعة دراهم: درهمان قيمة التالف، ودرهمان أرش النقص؛ لأنه حصل بجنايته، بخلاف نقص السعر؛ لأنه لم يذهب به من المغصوب عين ولا معنىً، وههنا فوّت معنىً، وهو إمكان الانتفاع به.

(وإن غصب ثوبًا قِيمتُه عشرةٌ، فلبسه) الغاصب، أو غيره (فأبلاه، فنقص) الثوب (نصفَ قيمتِه) وكذا لو نقص ذلك بغير استعمال (ثم غلت الثيابُ، فعادت قيمتُه) أي: الثوب المغصوب إلى عشرة (كما كانت) قبل البلى (رَدَّه) الغاصبُ (و) رد (أرشَ نقصه) لأن ما تلف قبل غلاء الثوب، يثبت قيمته في الذمة، فلا يتغير ذلك بغلاء الثوب ولا رخصه.

(وإن رخصت الثيابُ، فعادت قيمتُه إلى

(1)

ثلاثة، لم يلزم الغاصبَ

(1)

"إلى" ليست في "ذ" ومتن "الإقناع"(2/ 587).

ص: 289

إلا خَمسةٌ) أرش النقص (مع رَدِّ الثوب) لمالكة؛ لما تقدم.

(وإن غصب عبدًا فأبق، أو) غصب (فرسًا فشرد، أو) غصب (شيئًا تعذَّر ردُّه مع بقائه، ضَمِن) الغاصب (قيمتَه) للحيلولة (فإذا أخذها المغصوب منه، ملكها) بقبضها، فيصح تصرُّفه فيها كسائر أملاكه من أجل الحيلولة، لا على سبيل العوض (و) لهذا (لا يملك الغاصب العين المغصوبة بدفع القيمة) لأنه لا يصح أن يتملَّكه بالبيع؛ لعدم القدرة على تسليمه، فلا يصح أن يتملَّكه بالتضمين كالتالف. قال في "التلخيص": ولا يُجبر المالك على أخذها، ولا يصح الإبراء منها، ولا يتعلَّق الحقُّ بالبدل، فلا ينتقل إلى الذِّمة، وإنما يثبت جواز الأخذ دفعًا للضرر، فتوقف على خيرته.

(ولا) يملك الغاصب - أيضًا - (أكسَابَها) أي: العين المغصوبة؛ لأنه فرع ملكها (ولا يَعتِق) العبد الآبق (عليه) أي: الغاصب ببذل قيمته للمالك (إن كان) الآبق (قريبه) أي: الغاصب؛ لأنه لم يملكه (فإن قدر) الغاصب (عليه) أي: المغصوب (بعد) عجزه عن ردِّه (ردَّه) لمالكه (بنمائه - المتصل والمنفصل -) لأنه تابع للأصل (وأخَذَ) الغاصب (القيمةَ بزوائدِها المتَّصلة فقط) من سمن ونحوه؛ لأنه إنما وجب دفعها من أجل الحيلولة وقد زالت، ولا يرد المنفصلة بلا نزاع؛ قاله في "الإنصاف".

قال المجد: وعندي أن هذا لا يُتصور؛ لأن الشجر، أو الحيوان لا يكون أبدًا نفس القيمة الواجبة، بل بدل عنها، وإذا رجع المغصوب، رَدَّ القيمة لا بدلها ولا ثمراته، كمن باع سلعة بدراهم، ثم أخذ عنها ذهبًا، أو سلعة، ثم رَدَّ المبيع بالعيب، فإنه يرجع بدراهم

(1)

، لا ببدلها. انتهى.

(1)

في "ذ": "بدراهمه".

ص: 290

قال في "شرح المنتهى": وهو كما قال: قلت: وفيه شيء؛ لأن من باع بدراهم قد استقرت بذمته، فيتأتى التعويض عنها، وهنا لم تثبت القيمة بذمته - كما تقدم

(1)

عن صاحب التلخيص - فافترقا.

(إن كانت) القيمة (باقية، وإلا) بأن لم تكن باقية أخذ (بدلها) وهو مثلها إن كانت مِثْلية، أو قيمتها إن كانت متقوّمة.

(وليس للغاصب حَبْس العين) المغصوبة، إذا عادت إليه بعد أداء قيمتها للحيلولة (لاسترداد القيمة، كمن اشترى شراء فاسدًا) وقبض المبيع وسَلَّم الثمن، فإنه (ليس له حَبْس المبيع على رَدِّ الثمن، بل يُدفعان) أي: المغصوب وقيمته، أو المبيع بيعًا فاسدًا وثمنه (إلى عدل) ينصبه الحاكم (يسلِّمُ إلى كل واحد ما له) قطعًا للنزاع، كما تقدم في البيع

(2)

.

(وإن غصب عصيرًا، فتخمَّر) عنده (فعليه) أي: الغاصب (مثله) أما ضمانه، فلأنه صار في حكم التالف؛ لذهاب ماليته بتخمُّره، وأما كونه بالمِثْل، فلأنه مِثْلي.

(وإن انقلب) الخمر (خلًّا ردَّه) الغاصب (و) رَدَّ (ما نقص من قيمة العصير، أو) نقص (منه بـ) ـــسبب (غليانه) لأنه نقصٌ حصل بيده، ومن غصب صاعًا من عصير، وغلاه حتى ذهب نصفه، فلم تنقص قيمته، فنقل المجد عن القاضي، وابن عقيل: لا يضمن شيئًا؛ لأن الذاهب منه أجزاء مائية، ورطوبات لا قيمة لها. وقدم في "الفروع": عليه مِثْل نقصه، وحكاه في "الإنصاف" عن الأصحاب، وكما لو كان زيتًا ونحوه.

(1)

(9/ 290).

(2)

(7/ 489).

ص: 291

(وإن غصب أثمانًا) لا مؤنة لحملها (فطالبه مالكُها بها في بلد آخر) غير بلد الغصب (وجب) على الغاصب (ردّها إليه) أي: المالك؛ لعدم الضرر.

(وإن كان المغصوب من المُتقوَّمات) كالثياب والعبيد، وطالب به مالكه في غير بلد الغصب (لزم) الغاصب (دفع قيمته في بلد الغصب) للحيلولة.

(وإن كان) المغصوب (من المِثْليات) ولحمله مؤنة (وقيمته في البلدين) أي: بلد الغصب وبلد الطلب (واحدةٌ، أو هي) أي: القيمة (أقل في البلد الذي لقيَه) المالك وطلبه منه (فيه، فله) أي: المالك (مطالبته بمثله) للحيلولة، مع أنه لا ضرر عليه.

(وإن كانت) قيمته ببلد الطلب (أكثر) من قيمته ببلد الغصب (فليس له) أي: المالك (المِثْل) لما فيه من ضرر الغاصب (وله المطالبة بقيمته في بلد الغصب) لأنه لا ضرر فيها على الغاصب.

(وفي جميع ذلك متى قدر) الغاصب (على المغصوب، أو) قدر على (المِثْل في بلد الغصب، رَدَّه) للمالك؛ لأنه الواجب (وأخذ) الغاصب (القيمة) لأنها إنما وجبت للحيلولة وقد زالت.

‌فصل

(وإن كان للمغصوب منفعةٌ تصح إجارتُها)

يعني: إن كان المغصوب مما يؤجر عادة (فعلى الغاصب أجرة مِثْله مدَّةَ مقامه في يَده) سواء (استوفى) الغاصب، أو غيره (المنافع، أو تركها تذهب) لأن كل ما ضمن بالإتلاف، جاز أن يضمنه بمجرد التلف في يده، كالأعيان،

ص: 292

وحديث: "الخراجُ بالضَّمان"

(1)

وارد في البيع، فلا يرد عليه الغاصب، والقابض بعقد فاسد، أو سوم.

(وإن ذهب بعض أجزائه) أي: المغصوب (في المدة) أي: مدة الغصب، باستعمال، أو لا (كخَمْل المنشفة، لزمه) أي: الغاصب (مع الأجرة، أَرْشُ نقصه) لأن كل واحد منهما ينفرد بالإيجاب، فإذا اجتمعا وجبا، والأجرة في مقابلة ما يفوت من المنافع، لا في مقابلة الأجزاء.

(وإن تلف المغصوب، فعليه) أي: الغاصب (أجرته إلى) حين (تلفه) لأنه من حين التَّلف لم تبقَ له منفعة حتى نوجب عليه ضمانها.

(ويُقبل قول الغاصب) أو: القابض (أنه تلف) لأنه لا يُعلم إلا منه (فيُطالب بالبدل) أي: بمِثْله إن كان مِثليًّا، وقيمته إن كان متقوَّمًا، ويُقبل قوله - أيضًا - في وقت التلف بيمينه؛ لتسقط عنه الأجرة من ذلك الوقت.

(وما لا تصح إجارته) أي: لم تجرِ العادة بإجارته (كغنم، وشجر، وطير) ونحوه (مما لا منفعة له) تؤجر عادة (لم يلزمه) أي: الغاصب (له أجرة) لأن منافعه غير متقوَّمة، ولا يرد عليه صحة استئجار الغنم لدياس الزرع، والشجر لنشر الثياب؛ لندرة ذلك.

(وإن غصب شيئًا، فعجز عن رَدِّه) كعبد أبق، وجمل شرد (فأدَّى قيمته) للحيلولة (فعليه) أي: الغاصب (أجرته إلى وقت أداء القيمة) فقط.

(فإن قدر) الغاصب (عليه) أي: المغصوب (بعد) أن كان عجز عنه (لزمه رَدُّه) لمالكه (كما تقدم

(2)

قريبًا، ولا أجرة له) على الغاصب (من

(1)

تقدم تخريجه (7/ 450) تعليق رقم (2).

(2)

(9/ 290).

ص: 293

حين دفع) الغاصب (بدله إلى ردِّه) لأن المالك بقبض قيمته استحق الانتفاع ببدله الذي هو قيمته، فلا يستحق الانتفاع به وببدله الذي قام مقامه.

(ومنافع المقبوض بعقد فاسد) يجب الضمان في صحيحه، كبيع وإجارة (كمنافع المغصوب، تُضمن بالفوات والتفويت) أي: يضمنها القابض، سواء استوفى المنافع أو تركها تذهب؛ لما تقدم، بخلاف عقود الأمانات، كالوكالة، والوديعة، والمضاربة، وعقود التبرعات، كالهِبة، والوصية، والصدقة، فلا ضمان في صحيحها، ولهذا يرجع من غرم بسبب ذلك شيئًا على الغاصب بما غرمه.

(ولو كان العبد المغصوب ذا صنائع، لزمه) أي: الغاصب (أجرة أعلاها) صنعة (فقط) لأنه لا يمكن الانتفاع به في صنعتين معًا في آن واحد، ولأن غاية ما يحصُل لسيده به من النفع، أن يستعمله في أعلى ما يحسنه من الصنائع (وتقدم

(1)

أول الباب: لو حبس حرًّا أو استعمله كرهًا) فله أجرة مِثْله، ولو كان ذا صنائع، وجب له أجرة أعلاها.

فصل

(وتصرُّفاتُ الغاصب الحُكمِيَّة) وكذا غير الغاصب (وهي) أي: التصرُّفات الحُكميَّة (ما لها حُكمٌ من صحة، أو فساد) أي: ما توصف تارة بالصحة، وتارة بالفساد (كالحج من المال المغصوب، وسائر العبادات) التي تتعلَّق بالمغصوب، إذا فعلها عالمًا ذاكرًا - كما تقدَّم

(2)

في الصلاة - كالصلاة بثوب مغصوب، أو في مكان مغصوب، والوضوء من

(1)

(9/ 230).

(2)

(1/ 46، 2/ 137، 206، 5/ 92).

ص: 294

ماء مغصوب، وإخراج زكاته، بخلاف عبادة لا يحتاج إليها، كالصوم والذِّكر والاعتقاد (والعقود، كالبيع والإجارة) للمغصوب (والإنكاح - كأن أنكح) الغاصب، أو غيره (الأَمَة المغصوبةَ - ونحوها) أي: نحو المذكورات كالعِتق، والهبة، والوقف (تَحرمُ، ولا تصح) خبر قوله: "وتصرفات الغاصب" لحديث: "مَن عمِل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ"

(1)

أي: مردود.

(وتحرم) التصرُّفات (غير الحُكميَّة) في المغصوب (كإتلاف) المغصوب (واستعمالـ) ــه (كأكل) المغصوب (ولبسـ) ــه (ونحوهما) كركوبه، وحمل عليه، وسُكنى العقار؛ لحديث:"إنَّ أموالكم وأعراضكُم حرامٌ عليكم"

(2)

.

(وإن اتَّجَر) الغاصب (بعين المال) المغصوب، بأن كان دنانير، أو دراهم فاتَّجر بها (أو) اتَّجر بـ (ـــثمن عين المغصوب

(3)

) بأن غصب عبدًا، فباعه، واتَّجر بثمنه، وحصل ربح (فالربح والسلع المشتراة للمالك) نقله الجماعة

(4)

، واحتج

(5)

بخبر عروة بن الجعد

(6)

. وسواء قلنا بصحة

(1)

تقدم تخريجه (1/ 46) تعليق رقم (1).

(2)

أخرجه البخاري في العلم، باب 9، 37، حديث 67، 105، وفي الحج، باب 132، حديث 1741، وفي المغازي، باب 77، حديث 4406، وفي الأضاحي، باب 5، حديث 5550، وفي الفتن، باب 8، حديث 7078، وفي التوحيد، باب 24، حديث 7447، ومسلم في الذكر والدعاء، حديث 1679، عن أبي بكرة رضي الله عنه.

(3)

أشار في حاشية "ذ": إلى أنه في نسخة: "مغصوبة" وكذا في متن الإقناع (2/ 589).

(4)

مسائل صالح (1/ 287) رقم 230، وانظر: مسائل عبد الله (3/ 992) رقم 1351.

(5)

مسائل عبد الله (1/ 307) رقم 1141، 1142، وسنن الترمذي كتاب البيوع، باب 34، عقب حديث 1258.

(6)

تقدم تخريجه (7/ 321) تعليق رقم (1).

ص: 295

الشراء، أو بطلانه، وهذه المسألة مشكِلةٌ جدًا على قواعد المذهب؛ لأن تصرُّفات الغاصب غير صحيحة، فكيف يملك المالك الربح والسلع؟ لكن نصوص أحمد

(1)

متفقة على أن الربح للمالك، فخرَّج الأصحاب ذلك على وجوه كلها ضعيفة؛ فبناه ابن عقيل على صحة تصرُّف الغاصب، وتوقفه على الإجازة، وتبعه في "المغني"، وبناه في "التلخيص" على أنها صحيحة لا تتوقف على الإجازة؛ لأن ضرر الغصب يطول بطول الزمان، فيشق اعتباره، وخصَّ ذلك بما طال زمنه، وحمله القاضي في بعض كتبه على أن الغاصب اشترى في الذمة، ثم نقد فيه دراهم الغصب، وصَرَّحَ بذلك أحمد في رواية المرُّوذي

(2)

، فيحمل مطلق كلامه على مقيده. وحمله ابن رجب في فوائد "القواعد"

(2)

على أن النقود لا تتعين بالتعيين؛ فيصير كما لو اشترى في ذمته، وحمله في "المبدع" على ما إذا تعذَّر رد المغصوب إلى مالكه، ورد الثمن إلى المشتري.

(وإن اشترى) الغاصب، أو غيره (في ذمته، ثم نقدها) أي: عين المال المغصوب، أو ثمنها (ولو من وديعة عنده، أو قارضَ بهما) أي: بالوديعة والغصب (ولو) كان الشراء (بغير نيَّة

(3)

نقدِه) أي: الثمن من الغصب، أو الوديعة (فالعقد) أي: الشراء (صحيح) لأنه تصرف في ذمته، وهي قابلة له (والإقباضُ فاسدٌ، أي: غير مبرئ) لعدم إذن المالك فيه (والربح والسلع

(4)

المشتراة للمالك) لقول ابن عمر: "ادفعْ إليه

(1)

انظر تعليق رقم (4) من هذه الصفحة، و (9/ 273) تعليق رقم (2).

(2)

انظر: القواعد الفقهية لابن رجب ص/ 415.

(3)

في هامش نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (2/ 362) ما نصه: "وقيده في المنتهى تبعًا لصاحب المحرر وغيره بالنية. ا. هـ. من خط ابن العماد".

(4)

في "ذ" زيادة: "في المضاربة وغيرها" شرحًا.

ص: 296

دراهمه بنتاجها"

(1)

، ولم يستفصل عن عين، أو ذِمة. قال الحارثي: وهذا القول يستلزم سلامة العقد للمالك، وفيه بحث، فإن العقد إذا صَحَّ لكونه واقعًا في ذمة العاقد، فكيف يحصُل لمن لم يقع في ذمته؟ ومأخذ الصحة في أشهر الوجهين: أنه نتيجة ملكه، فكان كالمتولِّد من عينه، وهذا قضاء بالدخول في الملك قهرًا، كدخول الميراث بالإرث

(2)

.

(وإن لم يبقَ درهم مباح) أي: ومن لم يقدر على شيء مباح (أَكل عادتَه) لدعاء الحاجة إلى ذلك (لا ما له عنه غنىً، كحلوى وفاكهة؛ قاله في "النوادر") واقتصر عليه في "الفروع"، إذ لا مبيح للزيادة على ما تندفع به الحاجة.

(وإن اختلفا) أي: الغاصب والمالك (في قيمة المغصوب) بأن قال الغاصب: قيمته عشرة، وقال المالك: اثنا عشر، فقول الغاصب؛ لأنه غارم (أو) اختلفا (في زيادة قيمته: هل زادت قبلَ تلفِهِ أو بعدَه، أو) اختلفا (في قَدْره) أي: المغصوب (أو) اختلفا (في صناعة فيه ولا بينة) لأحدهما (فالقول قول الغاصب) بيمينه؛ لأنه منكِرٌ لما يدَّعيه المالك عليه من الزيادة، وإن كان لأحدهما بينة عمل بها.

(وإن اختلفا في رَدّه) فقال الغاصب: رددتُهُ، وأنكره المالك، فقول المالك؛ لأن الأصل معه (أو) اختلفا في (عيبٍ فيه بعد تلفه) بأن

(1)

لم نقف على من أخرجه.

(2)

زاد في "ذ" بعد هذا الموضع: "لا في العامل، ولا في غيره فيها، وليس على المالك شيء من أجر العامل؛ لأنه لم يأذن له، ثم إن كان المضارب عالمًا بالغصب، فلا أجرة له لتعديه بالعمل، وإن لم يعلم، فعلى الغاصب أجرة مثله؛ لأنه استعمله بعوض لم يسلم له، فلزمته أجرته، كالعقد الفاسد". وأشار في الهامش إلى أن هذه الزيادة غير موجودة في نسخة ابن العماد.

ص: 297

قال الغاصب: كان العبد أعمى مثلًا، وأنكره المالك (فقول المالك) بيمينه؛ لأن الأصل السلامة.

(لكن لو شاهَدَت البيِّنةُ العبدَ معيبًا عند الغاصب، فقال المالك: حَدَث) العيب (عند الغاصب، وقال الغاصب: بل كان) العيب (فيه قبل غَصْبه، فقول الغاصب) بيمينه؛ لأنه غارم، والظاهر أن صفة العبد لم تتغير.

(وإن بقيت في يده غُصُوبٌ لا يَعرِفُ أربابَها، فسلَّمها إلى الحاكم - ويلزمه) أي: الحاكم (قَبولُها - برئ من عُهدتها) لأن قبض الحاكم لها قائم مقام قبض أربابها لها؛ لقيامه مقامهم.

(وله) أي: الذي بيده المغصوب (الصدقة بها عنهم) أي: أربابها؛ لأن المال يُراد لمصلحة المعاش أو المعاد، ومصلحة المعاد أَولى المصلحتين، وقد تعيَّنت ههنا لتعذُّر الأخرى (بشرط ضمانها) لأربابها إذا عرفهم؛ لأن الصدقة بدن الضمان إضاعة لمال المالك لا على وَجْهِ بدل، وهو غير جائز، نقل المرُّوذي

(1)

: "على فقراء مكانه"، أي: مكان الغاصب

(2)

إن عَرَفه، لأنه أقرب إلى وصول المال إليه إن كان موجودًا، أو إلى ورثته. ويُراعى الفقراء؛ لأنها صدقة. ونقل صالح

(3)

: "أو بالقيمة". وله شراء عرض بنقد، ولا يجوز في ذلك مُحَاباة قريب أو غيره؛ نصًّا

(4)

.

(1)

الفروع (4/ 513)، والقواعد الفقهية لابن رجب ص/ 241.

وانظر: مسائل عبد الله (3/ 991) رقم 1350، ومسائل صالح (1/ 288) رقم 232.

(2)

في "ح"، و"ذ":"الغصب".

(3)

لم نقف عليه في مسائل صالح المطبوعة، وقد نقلها عنه صاحب الفروع (4/ 513).

(4)

مسائل عبد الله (2/ 506 - 507) رقم 698، 699، ومسائل صالح (2/ 138 - 139) =

ص: 298

(كلُقَطة) حرم التقاطها، أو لم يعرِّفها، فيتصدق بها عن أربابها بشرط الضمان، أو يدفعها للحاكم. وإذا أنفقت كانت لمن يأخذ بالحق مباحة، كما أنها على من يأكلها بالباطل مُحَرَّمة، وبكلِّ حالٍ: ترك الأخذ أجود من القَبول، وإذا صح الأخذ كان أفضل، أعني: الأخذ والصرف إلى الناس المحتاجين، إلا إذا كان من المفاسد، فهناك الترك أولى. ومن الصدقة بما ذكر: وَقْفُه، أو شراء عين به يقفها، كما ذكره الشيخ تقي الدين نصًّا

(1)

.

(ويسقط عنه) أي: الغاصب (إثمُ الغصب) بدفعها للحاكم، أو الصدقة بها عن رَبِّها بشرط ضمانها؛ لأنه معذور عن الرد للمالك لجهله به، وإذا تصدَّق بها، فالثواب لأربابها.

(وكذا رُهون، وودائعُ، وسائر الأماناتِ، والأموال المحرَّمة) كالسَّرقة والنهب، إذا جُهِل ربُّها، دفعها للحاكم، أو تصدَّق بها عن رَبِّها بشرط ضمانها له؛ لأن في الصدقة بها عنهم جمعًا بين مصلحة القابض بتبرئة ذمته، ومصلحة المالك بتحصيل الثواب له.

قال ابن رجب في "القواعد"

(2)

: وعلى هذا الأصل يتخرَّج جواز أخذ الفقراء من الصدقة مِن يد مَن ماله حرام، كقطَّاع طريق، وأفتى القاضي بجوازه.

(وليس لمن هي) أي: الغصوب، والأمانات المجهولة أربابها (عنده أخذ شيء منها، ولو) كان (فقيرًا) من أهل الصدقة.

قال ابن رجب

(2)

: الديون المستحقَّة كالأعيان، يتصدق بها عن

= رقم 705، ومسائل ابن هانئ (1/ 113) رقم 557.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (29/ 249)، الفروع (4/ 514).

(2)

القواعد الفقهية ص/ 241، القاعدة السابعة والتسعون.

ص: 299

مستحقها؛ نص عليه

(1)

، مع أنه نص على أنَّ من قال لغريمه: تصدَّق عني بديني الذي لي عليك، لم يبرأ بالصدقة. ونص في رواية أبي طالب

(2)

في من عليه دين لرجل مات، وعليه ديون للناس، يقضى عنه دينه بالدين الذي عليه: أنه يبرأ باطنًا. وإذا أراد من بيده عين جُهِل مالكها أن يتملَّكها ويتصدَّق بقيمتها عن مالكها، فنقل صالح

(3)

عن أبيه الجواز في من اشترى آجُرًّا، وعلم أن البائع باعه ما لا يملك ولا يُعْرَف له أرباب: أرجو إن أخرج قيمة الآجر، فتصدَّق به أن ينجو من إثمه، وقد يتخرَّج فيه خلاف من جواز شراء الوكيل من نفسه.

(وإذا تصدَّق) الغاصب ونحوه (بالمال) المغصوب، ونحوه، المجهول ربّه (ثم حضر المالك، خُيِّر بين الأجر، وبين الأخذ) للبدل (من المتصدِّق. فإن اختار) الأجر فذاك، وإن اختار (الأخذ) من المتصدق (فله ذلك، والأجر للمتصدّق) عمَّا تصدَّق به. وعُلم منه: أنه ليس لصاحبه - إذا عُرف - رَدّ ما فعله من كانت بيده مما تقدَّم؛ لثبوت الولاية له شرعًا للحاجة، كمن مات ولا ولي له ولا حاكم.

(ولو نوى) الغاصب ونحوه (جَحْد ما بيده من ذلك) الغصب، أو الأمانة ونحوها في حياة ربه (أو) نوى جحد (حَقّ عليه في حياةِ ربّه، فثوابه له) أي: لربه؛ لأن نية جحده قائمة مقام إتلافه إذًا، فكأنه لم ينتقل لورثة رَبِّه بموته، فكان ثوابه له (وإلا) ينوِ جحد ما ذكر في حياة رَبِّه بل

(1)

القواعد الفقهية ص/ 241، وانظر: مسائل عبد الله (3/ 991) رقم 1350، ومسائل صالح (1/ 288) رقم 232.

(2)

القواعد الفقهية ص/ 241.

(3)

لم نقف عليه في مسائل صالح المطبوعة، وقد نقله عنه ابن رجب في القواعد الفقهية ص/ 241، وقال مثله في الرهن كما في مسائل عبد الله (3/ 943) رقم 2275.

ص: 300

بعد موته (فـ) ــثوابه (لوَرثتِهِ) لأنه إنما عَدِمَ عليهم. وعُلِمَ من ذلك: أنه يُثاب على ما فات عليه قهرًا، مع أنه لم ينوه.

(ولو ندم) الغاصب ونحوه على تعديه (وردَّ ما غصبه) أو سرقه، ونحوه (على الورثة، برئ) الغاصب ونحوه (من إثمه) أي: المال المغصوب، أو المسروق ونحوه؛ لأنه وصل إلى مستحقه (لا من إثم الغصب) فلا يبرأ منه، بل يبقى عليه إثم ما أدخل على قلب مالكه من ألم الغصب، ومضرَّة المنع من ملكه مدة حياته، فلا يزول إثم ذلك إلا بالتوبة. هذا معنى كلام ابن عقيل. وذكر أبو يعلى الصغير: أن بالضمان والقضاء بلا توبة يزول حق الآدمي، ويبقى مجرَّد حق الله تعالى. وذكر المجد في من ادّان على أن يؤديه؛ فعجز: لا يُطالب به في الدنيا ولا في الآخرة. وقال أبو يعلى الصغير بما يقتضي أنه محل وفاق.

(ولو ردَّهُ) أي: المال المغصوب ونحوه (وارثُ الغاصب) أو السارق ونحوه (فللمغصوب منه) أو المسروق منه ونحوه (مطالبته) أي: الغاصب، أو السارق ونحوه (في الآخرة نصًّا) لأن المظالم لو انتقلت لما استقر لمظلوم حق في الآخرة.

‌فصل فيما يُضمن به المال من غير غَصْب

(ومن أتلف) من مكلَّف وغيره، إن لم يدفعه إليه ربّه (ولو) كان الإتلاف (خطأ

(1)

أو سهوًا، مالًا محترمًا لغيره بغير إذنه) أي: المالك

(1)

في هامش نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (2/ 364) ما نصه: (كأن كان نائمًا

)؛ فانقلب على شيء؛ فأتلفه، فإنه يضمنه، ولا يرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "رُفع =

ص: 301

(ضمنه) أي: ضَمِن المتلِفُ ما أتلفه؛ لأنه فوته عليه، فوجب عليه ضمانه، كلما لو غصبه فتَلِفَ عنده. واحترز بالمال عن الكلب، والسرجين النجس، ونحوهما (سوى إتلاف حربي مالَ مسلمٍ) وعكسه، وعادلٍ مالَ باغٍ، وعكسه، حال الحرب، فلا يضمنه المتلِفُ، ويأتي.

(وغيرُ المحترَم، كمال حربي، وصائل، ورقيق حالَ قطعه الطريقَ، ونحوهم) كآلات لهو، وآنية خمر، وآنية ذهب وفضة، وصليب، وصنم ونحوها (لا يضمنه) متلِفه لعدم احترامه، ويأتي.

(وإن أُكره) إنسان (على إتلافه) أي: المال المضمون (ضَمِنه مكرِهُه) ولو كان مال المكرَه؛ لأن الإتلاف من المكرِه، وأما المكرَه فهو كالآلة.

(ومن أغرى ظالمًا بأخذ مال إنسان، ودلَّه عليه) أي: على الإنسان أو ماله (ضَمِنه) المغري لتسببه (أفتى به ابن الزريراني

(1)

) ولعله جواب سؤال، فلا يُحتجُّ بمفهومه، وأنه يكتفي بالإغراء أو الدلالة؛ لأنه يصدق عليه أنه تسبب في ظلمه، فهو كالذي بعده.

(وإن غرم) إنسان (بسبب كذب عليه عند وَليِّ الأمر، فله) أي: الغارم (تغريمُ الكاذب) لتسببه في ظلمه، وله الرجوع على الآخذ منه؛ لأنه المباشِر (وتقدَّم) ذلك (في الحَجْر

(2)

) وتقدَّمت له نظائر أيضًا.

= عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" [تقدم تخريجه 2/ 115 تعليق رقم (1)] فيُجاب: بأن الضمان جاء من ربط الأحكام بالأسباب، لا من جهة أنه مكلَّف في هذه الحالة. ا. هـ. من خط ابن العماد".

(1)

هو أبو بكر تقي الدين عبد الله بن محمد بن أبي بكر الزريراني البغدادي مفتي العراق، توفي سنة 729 هـ. رحمه الله تعالى. المقصد الأرشد (2/ 55 - 56).

(2)

(8/ 330).

ص: 302

ومثله: مَن شكى إنسانًا ظلمًا، فأغرمه شيئًا لحاكم سياسي، كما أفتى به قاضي القضاة الشهاب ابن النجار

(1)

، ولم يزل مشايخنا يُفتون به، بل لو أغرمه شيئًا لقاضٍ ظلمًا، كان

(2)

الرجوع به عليه، كما يُعلم مما تقدم

(3)

في الحَجْر فيما غرمه ربّ الدَّيْن بمَطْلِ المدين ونحوه؛ لأنه بسببه.

(وإن أذن ربُّ المال في إتلافه) أو دفعه إلى مَحجور عليه لحظِّه (فأتلفه، لم يضمن المتلِفُ) ما أتلفه، لتسليط رَبّه له عليه.

(وإن فتح) إنسانٌ (قفصًا عن طائر) مملوك

(4)

أو فتح إصطبل حيوان محترم (أو حَلَّ) إنسانٌ (قيدَ عبدٍ، أو) حَل قيدَ (أسير، أو دفع لأحدهما) أي: العبد أو الأسير (مِبْردًا، فبرده) أي: القيد (فذهبوا) أي: الطائر والعبد والأسير، ضَمِن الفاتح والحال ودافع المبرد؛ لتسببه في الضياع.

(أو حَلَّ) إنسان (رباط سفينة، فغرقت بعصوف ريح أو لا) ضَمِن (أو فتح إصطبلًا) بقطع الهمزة (فضاعت الدَّابةُ، أو حَلَّ رباط فرس) ففاتت؛ ضَمِنها (أو) حَلَّ (وِكَاء) بكسر الواو، وهو الحبل الذي يربط به

(1)

هو شهاب الدين، أحمد بن عبد العزيز بن علي بن إبراهيم بن رُشَيد، ابن النجار، القاهري، لازم المشايخ، وقرأ عليهم، وحج، وتميز، وفهم، وتولى نيابة القضاء، من مؤلفاته: شرح الوجيز في الفقه، وحاشية على التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع. توفي سنة (949 هـ) رحمه الله تعالى. انظر: الضوء اللامع (1/ 349)، وشذرات الذهب (8/ 276).

(2)

في "ح" و"ذ" زيادة: "له".

(3)

(8/ 329).

(4)

في "ح" و"ذ" زيادة: "محترم".

ص: 303

نحو القِربة (زِق) يكسر الزاي، أي: ظرف (مائع) فاندفق (أو) حَلَّ وِكاء زِق (جامد، فأذابته الشمس) فاندفق؛ ضَمِنه، فإن قرب إليه شخص نارًا فذاب بها، فقياس مذهبنا: يضمنه بقرب

(1)

النار، كالدافع مع الحافر؛ قاله المجد.

(أو بقي) الزِّق (بعد حَلِّه قاعدًا، فألقته ريح، أو) ألقته (زلزلة، فاندفق، فخرج) ما فيه (كله في الحال، أو) خرج (قليلًا قليلًا، أو خرج منه شيء بلَّ أسفله) أي: الزق (فسقط) فاندفق (أو ثقل أحد جانبيه) أي: الزق بعد حَلِّ وِكائه (فلم يزل يميل قليلًا قليلًا حتى سقط، ضَمِنه) أي: ضَمِن المتسبب في جميع ما ذكر ما تلف بسبب تعديه، سواء (تعقب ذلك فعلَه، أو تراخى عنه) وسواء (أهاج الطائرَ أو

(2)

الدابة حتى ذهبا، أو لا) لأنه تلف بسبب فعله، فلزمه ضمانه، وكمن قطع علاقة قنديل؛ فسقط؛ فانكسر.

قال في "الفنون": إلا ما كان من الطيور يألف الرواح، ويعتاد العود، فلا ضمان في إطلاقه إتلافًا.

(ومثله لو أزال يد إنسان عن عبدٍ، أو) عن (حيوان، فهرب، إذا كان الحيوان مما يذهب بزوال اليد) عنه (كالطير والبهائم الوحشية، والبعير الشارد، والعبد الآبق) فيضمنه من أزال يَدَ ربِّه عنه؛ لتسببه في فواته.

(أو نفَّر الدابة بأن صرخ فيها حتى شردت، وإن لم يعلم ذلك) أي: أنها تنفر بصياحه، فيضمنها؛ لأن الإتلاف يستوي فيه العمد والخطأ.

(1)

في حاشية نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (2/ 365): "لعله: مقرب".

(2)

في "ذ" ومتن الإقناع (2/ 592): "و".

ص: 304

(وكذا لو أزال يَدَه الحافظة) لمتاعه (حتى نهبه الناسُ، أو) حتى (الدواب أفسدته، أو) أفسدته (النار، أو) أفسده (الماء) فيضمنه (بأن فتح بابه) تعديًا (فيجيء غيره، فينهب المال، أو يسرقه) أو يفسده بحرق، أو غرق، فلربِّ المال تضمين فاتح الباب لتسببه في الإضاعة (والقرار على الآخذ) لمباشرته، فإن ضمنه ربُّ المال، لم يرجع على أحد، وإن ضَمِن الفاتح، رجع على الآخذ.

(ولو ضرب) إنسان (يَدَ آخر، وفيها) أي: اليد (دينار، فضاع) الدينار (ضَمِنه) الضارب لتسببه في إضاعته.

(ولو خاصمه، فأسقط عمامته عن رأسه بيده، أو هَزَّه حتى سقطت) عمامته عن رأسه (فتلفت) لوقوعها في نار ونحوها (أو) سقطت (في زحام) بسبب هزّه ونحوه (فضاعت، ضَمِنها) الذي سقطت بفعله لتعديه.

قلت: فإن وقعت في نحو قذر ينقصها، فعليه أرش النقص.

(ولو أقام عمودًا) ونحوه (بجداره المائل) يمنعه من السقوط (فجاء آخر، ورفع العمود) أو نحوه تعديًا (فسقط الجدار في الحال، ضَمِنه) الرافع للعمود، ونحوه لتعديه.

(وإن وقع طائر إنسان على جدار، فنفَّره آخر) صاحب الجدار أو غيره (فطار، لم يضمنه) المنفِّر؛ لأن تنفيره لم يكن سبب فواته، فإنه كان ممتنعًا قبل ذلك.

(وإن رماه) إنسان (فقتله، ضَمِنه) الرامي (وإن كان في داره) لأنه كان يمكن تنفيره بغير قتله.

(وإن قتله) أي: الطائر (وهو مار في هواء داره، أو) وهو مار في (هواء دار غيره، ضَمِنه) لأنه لا يملك منع الطائر في الهواء.

ص: 305

(ولو كانت الدابة المحلولة عقورًا، وجنت) بعد حَلِّها، أو فتح إصطبلها ونحوه (ضَمِن) الحالُّ ونحوه (جنايتها) لأنه السبب فيها (كما لو حَلَّ سلسلة فهد، أو ساجور كلب، فعقرا) فالضمان على الحالِّ لتسببه. والساجور: خشبة تجعل في عنق الكلب.

(وإن أفسدت) الدابة المحلولة (زرع إنسان، فكإفساد دابة نفسِه) ذرع غيره (على ما سيأتي) تفصيله في جنايات البهائم.

(ولو فتح) إنسان (بَثْقًا) - بتقديم الموحدة - وهو الجسر الذي يحبس الماء (فأفسد بمائة زرعًا، أو بنيانًا) قلت: أو غراسًا (ضمن) فاتح البَثْقِ ما تلف بسببه.

قلت: وعلى قياسه: لو فات به ري شيء من الأراضي التي كانت تروى بسبب سَدّه، فيضمن فاتحه خراجه.

وعلى قياسه: لو فَرَّط من يلي سَدَّ البثْقِ فيه، فأزاله الماء عند علوه وأتلف شيئًا، أو فات به ري شيء من الأراضي.

(كما لو أطلق دابة رموحًا من شِكال

(1)

، أي: تضرب برجلها) بيان للرموح، فيضمن من أطلقها ما تلف بها.

(وإن رمى) أي: ألقى (الزِّقَّ الذي بقي بعد حَلِّ وِكائه قاعدًا إنسانٌ آخر، اختصَّ الضمان به) أي: بالمُلقي للزِّق؛ لأنه باشر الإتلاف.

(وإن بقي الطائر) بعد فتح قفصه (و) بقي (الفرس) بعد حَلِّ قيده، أو فتح إصطبله (بحالهما، فنفَّرهما آخر، ضمنهما المنفِّر) وحده؛ لأن سببه أخص، فاختص الضمان به، كدافع الواقع في البئر مع حافرها،

(1)

الشِّكال: على وزن كتاب، العِقال: تاج العروس (29/ 274) مادة (شكل).

ص: 306

وكذا لو حَلَّ إنسانٌ حيوانًا، وحَرَّضه آخر، فجنى، فإن ضمان جنايته على المحرِّض.

(وإن أتلف وثيقة

(1)

لا يثبت) المال (إلا بها) وتعذَّر ثبوته (ضمنه) متلفُها؛ لأنه تسبب في إضاعته.

(لا إن دفع) إنسان (مفتاحًا إلى لص) فسرق اللصُّ ما في الدار المدفوع مفتاحها إليه، فالضمان على اللص دون الدافع؛ لأن اللص مباشر، والدافع متسبب، وإحالة الحكم على المباشر أَولى من المتسبب.

(ولو حبس مالكٌ دوابَّ، فتلفت) الدواب بسبب حبسه (لم يضمن

(2)

) حابس

(3)

الدوابّ. قال في "المبدع": وينبغي أن يفرق بين الحبس بحق، أو غيره.

(وإن ربط دابة) في طريق ولو واسعًا (أو أوقفها في طريق ولو) كان الطريق (واسعًا، ويده عليها

(4)

) بأن كان راكبًا، أو نحوه (فأتلفت) الدابة (شيئًا) ضمنه من ربطها، أو أوقفها (أو جنت) الدابة (بيدٍ، أو رِجلٍ، أو فمٍ) ضَمِن رابطها ومُوْقِفها؛ لحديث النعمان بن بشير مرفوعًا: "من أوقف دابةً في سبيلٍ من سُبُلِ المسلمين، أو في سوق من أسواقهم، فأوطأت بيدٍ أو رجلٍ، فهو ضامن" رواه الدارقطني

(5)

، ولأن طبع الدابة

(1)

في "ح" و"ذ" ومتن الإقناع (2/ 593) زيادة: "بمال".

(2)

في هامش نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (2/ 366) ما نصه: "مطلقًا على المذهب، كما جزم به في المنتهى. ا. هـ. من خط ابن العماد".

(3)

في "ح" و"ذ": "حابسه".

(4)

زاد في "ذ": "أو لا"، وفي متن الإقناع (2/ 594):"أم لا".

(5)

(3/ 179). وأخرجه - أيضًا - البيهقي (8/ 344)، وفي معرفة السنن والآثار =

ص: 307

الجناية بفمها أو رجلها، فإيقافها في الطريق كوضع الحجر، ونصب السكين فيه. وظاهره: لا يضمن جناية ذَنَبِها.

(أو ترك) أي: ألقى (في الطَّريق طينًا، أو قِشْرَ بطيخ، أو رَشَّ فيه ماء، فزلق به إنسان) ضَمِنه مُلقي الطين، أو القشر، أو الرَّاشُّ، لكن لو كان الرشُّ لتسكين الغبار على المعتاد؛ فلا ضمان، على ما يأتي في الجنايات.

(أو) ألقى (خشبة، أو عمودًا، أو حَجَرًا) في الطريق، لا لنحو مطر، ليمشي عليه الناس (أو كيس دراهم، أو أسند خشبةً إلى حائط) وظاهره: لو مال إلى السقوط (فتلِفَ به) أي: بواحد من المذكورات (شيء) من آدمي، أو دابة، أو غيرهما (ضَمِن) المُلْقي لذلك (ما أتلفه،

= (13/ 58) حديث 17594، من طريق أبي جزي نصر بن طريف، عن السري بن إسماعيل، عن الشعبي، عن النعمان، به. قال البيهقي: أبو جزي والسري بن إسماعيل ضعيفان. وقال في معرفه السنن والآثار: وهذا لا يصح، أبو جزي، والسري ضعيفان.

وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 166)، وقال: رواه الطبراني في الكبير، من طريق بقية، عن عيسى بن عبد الله، ولم أعرف عيسى هذا، وبقية: مدلس، وبقية رجاله ثقات.

وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 472): وسألته - أي أباه - عن حديث رواه بقية، عن عيسى بن عبد الله، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن النعمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من ربط دابته على الطريق فما أصاب الدابة برجله، فهو له ضامن". قال أبي: هذا حديث باطل، إنما يرويه إسماعيل عن الشعبي، عن شريح، هذا الكلام من قِبَله، وعيسى هو ابن عبد الله الأنصاري، من ولد النعمان بن بشير، ولم يدرك ابن أبي خالد، وهو ذاهب الحديث، مجهول، روى عنه الوليد بن مسلم، وبقية.

وأخرجه عبد الرزاق (10/ 69) رقم 18386، وابن أبي شيبة (9/ 449) عن أشعث، عن الشعبي، بنحوه، موقوفًا.

وأشعث هو ابن سوار ضعيف، كما قال ابن حجر في التقريب (528).

ص: 308

أو تلف به) لحصول التلف بتعديه.

(ومن ضَرَبَ دابة مربوطة في طريق ضيق، فرفسته فمات، ضَمِنه صاحبها؛ ذكره) ابن عقيل (في "الفنون") وظاهره: لو كانت واسعة لا ضمان؛ لعدم حاجته إلى ضَرْبها، فهو الجاني على نفسه.

(وإن اقتنى كلبًا عقورًا، بأن يكون له) أي: الكلب (عادة بذلك) العقر (أو) اقتنى كلبًا (لا يُقتنى) بألّا يكون كلب صيد، ولا زرع، ولا ماشية (أو) اقتنى كلبًا (أسودَ بهيمًا، أو) اقتنى (كبشًا مُعلَّمًا النطاحَ، أو) اقتنى (أسدًا، أو نمرًا، أو نحوَهما من السباع المتوحشة، فعقرت، أو خرقت ثوبًا) بمنزله أو خارجه، ضمنه مقتنيها؛ لأنه مُتعدٍّ باقتنائه.

(أو) اقتنى (هرًّا تأكل الطيور، وتقلِبُ القدور في العادة، مع علمه) بحالها (بأن تَقَدَّم للهر عادة بذلك) المذكور من أكل الطيور وقلب القدور (ضمن) لتعديه باقتنائها إذًا.

(فإن لم يكن له) أي: الهِرّ (عادةٌ بذلك، لم يضمن صاحبُه) ما أتلفه؛ لعدم عدوانه باقتنائه ما لا عادة له بذلك (كالكلب الذي ليس بعقور) إذا اقتناه لنحو صيد، ولم يكن أسودَ بهيمًا، فإن صاحبه لا يضمن جنايته.

(ولا فرق) في ضمان إتلاف ما لا يجوز اقتناؤه مما تقدم (بين) الإتلاف في (الليل والنهار) لأنه للعدوان، بخلاف البهائم من إبل، وبقر، وغنم، ونحوها (إلا أن يكون) المخروق ثوبه أو نحوه (دخل منزله بغير إذنه، أو) دخل (بإذنه، ونَبَّهَه) ربُّ المنزل (أنه) أي الكلب ونحوه (عقور، أو غير موثوق

(1)

) فلا يضمن رب المنزل؛ لأنه إذا دخل بغير

(1)

زاد في "ذ": "به".

ص: 309

إذنه، فهو المتعدِّي بالدُّخول، وإن كان بإذنه ونَبَّهه على أنه عقور، أو غير موثوق، فقد أدخل الضرر على نفسه على بصيرة.

(ولا يضمن) مُقتني المذكورات، من الكلب العقور، ونحوه (ما أفسدت بغير ذلك) المذكور من عقر، أو خَرْق ثوب، بأن أفسدت (ببول أو ولوغ) في إناء؛ لأن هذا لا يختص بالكلب العقور.

(وله قتل هِرٍّ بـ) ــسبب (أكل لحمٍ ونحوه، كالفواسق) وسائر ما فيه أذىً، دفعًا لأذاه (وقيَّده ابن عقيل، ونصره الحارثيُّ: حين أكلها) اللحم ونحوه (فقط) إلحاقًا لها بالصائل.

(ولو حصل عنده كلب عقور، أو سِنَّورٌ ضار) أي: له عادة بأكل الطيور، وقلب القدور (من غير اقتناء، و) من غير (اختيار، فأفسد) شيئًا (لم يضمن) ما أفسده؛ لأنه لا تعدّي منه، ولا تَسبُّب، إذ لم يقتنه.

(وإن اقتنى حَمَامًا، أو غيره من الطير، فأرسله نهارًا، فلقط حبًّا) للغير (ضَمِن) المقتني؛ خَرَّجه في "الآداب"

(1)

على مسألة الكلب العقور. وإن قلنا: يحرم الاقتناء، وإلا؛ ففيه نظر، وبَعُدَ الجزمُ بعدم الضمان. وفي "المغني": لا ضمان، وكذا نقله في "الإنصاف" عن الحارثي، واقتصر عليه.

فصل

(وإن أجَّجَ نارًا في موات، أو) أجَّجها (في ملكه) بأن أوقد النار حتى صارت تلتهب في داره، أو على سطحه (أو سقى أرضه) لشجر، أو زرع بها، أو ليزرعها (فتعدى) ما ذكر، من النار والماء (إلى ملك غيره،

(1)

الآداب الشرعية (3/ 260).

ص: 310

فأتلفه) أي: أتلف المتعدي من النار، أو الماء، ملك غيره (لم يضمن) الفاعل؛ لأن ذلك ليس من فعله، ولا تعديه، ولا تفريطه. وسُئل أحمد

(1)

: أوقد

(2)

نارًا في السفينة؟ فقال: لا بُدَّ له من أن يطبخ. وكأنه لم يرَ

(3)

عليه (إذا كان) التأجيج، أو السقي (ما) أي: شيئًا (جرت به العادة، بلا إفراط، ولا تفريط، فإن فَرَّط) بأن ترك النار مؤجَّجة، والماء مفتوحًا، ونام، فحصل التلف بذلك وهو نائم؛ ضمن لتفريطه.

(أو فرط

(4)

، بأن أجَّجَ نارًا تسري في العادة، لكثرتها، أو) أجَّجها (في ريح شديدة تحملها) إلى ملك غيره؛ ضمن لتعديه، وكذا لو أجَّجها قرب زرع، أو حصيد؛ ذكره الحارثي.

و (لا) يضمن إن تعدَّت (بطريانها) أي: الريح، بعد أن لم تكن؛ لعدم تفريطه. قال في "عيون المسائل": لو أججها على سطح داره، فهبت الريح، فأطارت الشرر؛ لم يضمن؛ لأنه في ملكه، ولم يفرط، وهبوب الريح ليس من فعله.

(أو فتح ماء كثيرًا يتعدى) عادة (أو فتحه في أرض غيره، أو أوقد) نارًا (في ملك غيره) تعديًا (فَرَّط، أو أفرط) أي: أسرف (أو لا، ضَمِن ما تلف به) لتعديه.

(وكذلك) يضمن (إن أيبست

(5)

النار) التي أوقدها، ولو في ملكه (أغصان شجرة غيره) لأن ذلك لا يكون إلا من نار كثيرة (إلا أن تكون

(1)

مسائل ابن هانئ (2/ 30) رقم 1296، وبدائع الفوائد (4/ 49).

(2)

في "ذ": "عمَّن أوقد"، وفي مسائل ابن هانئ وبدائع الفوائد:"إن أوقد".

(3)

في "ذ": "ينكر"، وفي مسائل ابن هانئ:"ولم ير عليه ضمانًا".

(4)

في متن الإقناع (2/ 595): "أفرط".

(5)

في "ذ" ومتن الإقناع (2/ 599): "يبَّست".

ص: 311

الأغصان في هوائه، فلا يضمن) لأنه لا يُمنع من التصرف في ملكه.

(وإن ألقت الريح إلى داره ثوب غيره، لزمه حفظه؛ لأنه أمانة) بيده، إلى أن يرده لربه (فإن لم يعرف) صاحبُ الدار (صاحبَه) أي: الثوب (فهو لُقَطَة) يُعرِّفه حولًا (وإن عَرَفه) أي: عرف ربُّ الدار صاحبَ الثوب (لزمه إعلامه) بالثوب فورًا (فإن لم يفعل) أي: لم يُعلِم ربَّه به مع علمه (ضَمِنه) إن تلف بعد مضي زمن يتأتَّى فيه إعلامه؛ لأنه لم يستحفظه.

(وإن سقط طائرُ غيرِه في داره، لم يلزمه) أي: ربّ الدار (حفظه، ولا إعلام صاحبه) لأنه لم يزل ممتنعًا (إلا أن يكون) الطير (غير ممتنع) كالمقصوص جناحه (فكالثوب) إن لم يَعرف صاحبه، فلُقَطة، وإن عَرَفه، أعلمه فورًا، وإلا؛ ضَمِن.

(وإن دخل) طير مملوك (بُرْجَه، فأغلق عليه البابَ) ربُّ البرج (ناويًا إمساكه لنفسه، ضَمِنه) لتعديه (وإلا) بأن لم يغلق عليه الباب، أو أغلقه غير ناوٍ إمساكه لنفسه، بأن لم يعلم به، أو نوى إمساكه لربّه (فلا ضمان عليه) لعدم تعدِّيه، وهو في الأخيرة مُحسِن، لكن عليه إعلامه فورًا إن علمه، كما سبق.

(وإن حفر في فِنائه) بكسر الفاء (وهو) أي: الفِناء (ما كان خارج الدار) ونحوها (قريبًا منها) قال في "القاموس"

(1)

: فِناء الدار ككساء: ما اتَّسع من أمامها، وجمعه أفنية وفُنِيٌّ (بئرًا لنفسه، ولو بإذن الإمام) ولو بلا ضرر؛ لأنه ليس له أن يأذن فيه كما يأتي، وكذا إن حفر نصف البئر في حده، ونصفها في فنائه (وكذا البناء) في فِنائه (ضَمِن ما تلف بها) أي: بالبئر، وكذا البناء؛ لأنه تلَفٌ حصل بسبب تعديه، أشبه ما لو نصب في

(1)

ص/ 1322، مادة (فني).

ص: 312

فِنائه سِكِّينًا، فتلف به شيء، إذ الأفنية ليست بملك ملّاك الدور، وإنما هي من مرافقهم.

(ولو حفرها) أي: البئر، في الفِناء (الحُرُّ بأجرة، أو لا، وثبت علمه أنها في ملك غيره) أي: الآذن (ضمن الحافر) ما تلف بها؛ لأنه هو المتعدي.

(وإن جهل) الحافرُ أنها في ملك الغير (ضَمِن الآمرُ) لتغريره الحافر، وكذا لو جهل الباني. فلو ادعى الآمر علم الحافر، أو الباني بالحال، وأنكراه، فقولهما؛ لأن الأصل عدمه.

(وإن حَفَرها) أي: البئر في سابلة واسعة؛ لنفع المسلمين بلا ضرر (أو بنى مسجدًا، أو خانًا، ونحوه) كبناء وَقَفه على مسجد؛ ذكره الشيخ تقي الدين

(1)

، ونقله عنه ابنُ رجب في "القواعد"

(2)

(في سابلة) أي: طريق مسلوك (واسعةٍ، لنفع المسلمين) كما لو حفرها ليجتمع فيه ماء المطر، أو ينبع منها الماء ليشرب المارَّة (بلا ضرر بالمارَّة - لا) إن فعل ذلك (لنفع نفسه - ولو بغير إذن إمام

(3)

، لم يضمن ما تلف بها) لأنه مُحسِن (كبناء جِسر) بفتح الجيم وكسرها، وهو القنطرة؛ ليمر عليه الناس.

(وكذا لو حفرها) أي: البئر (في مَواتٍ لتُملكَ، أو ارتفاق، أو انتفاع عام) لأنه مأذون فيه شرعًا.

(وينبغي) لمن حفر بئرًا بالطريق الواسع، أو الموات (أن يجعل

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (30/ 402).

(2)

ص/ 215، القاعدة الثامنة والثمانون.

(3)

في متن الإقناع (2/ 596): "الإمام".

ص: 313

عليها حاجزًا تُعلَم به لتُتَوَقَّى. قال الشيخ

(1)

: ومن لم يسدَّ بئره سدًا يمنع من الضرر، ضَمِن ما تلف بها.

وإن فعله) أي: ما ذكر من حفر البئر، وبناء المسجد، أو الخان ونحوه (فيها) أي: في الطريق (لنفع نفسه، أو كان يَضرُّ بالمارَّة) بأن حفر البئر في القارعة (أو) فعله (في طريق ضيق، ضَمِن، سواء فعله لمصلحة عامة أو لا، بإذن الإمام، أو لا؛ لأنه ليس له أن يأذن فيه) لما فيه من الضرر.

ولو مات الحافر، ثم تلف بها شيء، ضمنه من تركتِهِ، صَرَّح به القاضي في "المجرَّد"، وابن عقيل في "الفصول" في باب الرهن، حتى قالا: لو بيعت التركة، لَفُسِخَ في قدر الضمان منها؛ لسبق سببه، ولو كانت التَّرِكة عبدًا، فأعتقه الورثة قبل الوقوع، ضمنوا قيمة العبد، كالمرهون، صَرَّح به القاضي في "الخلاف"؛ ذكره ابن رجب

(2)

.

(وفِعلُ عبده) لما ذكر، من الحفر، والبناء بالفِناء، والطريق الواسع، أو الضيق (بأمره) أي: السيد (كفعل نفسه) لأن العبد كالآلة، وسواء (أعتقه) سيده (بعد ذلك، أو لا) اعتبارًا بحال الفعل، فيختص الضمان بالسيد.

(و) إن فعله العبد (بغير إذنه) أي: السيد (يتعلَّق ضمانه) أي: ضمان ما يتلف (برقبته) كسائر جناياته التي لم يأذن فيها سيده (ثم إن أعتقه) السيد بعد الحفر، أو البناء بغير إذنه، ثم تلف شيء بسبب ذلك (فما تلف بعد عتقه، فعليه) أي: العتيق (ضَمانه) دون سيده؛ لاستقلاله بالجناية.

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 198.

(2)

القواعد الفقهية ص/ 219، القاعدة التاسعة والثمانون.

ص: 314

(ولو أمره) أي: الحافر، أو الباني (السلطان بفعل ذلك) أي: بالحفر، أو البناء (ضَمِن السلطان وحدَه) وظاهره: سواء علم أن الأرض ملك لغير السلطان، أو لا؛ لأنه لا تسعه مخالفته، أشبه ما لو أكره على ذلك.

(وإن فعل) إنسان في طريق (ما تدعو الحاجة إليه، لنفع الطريق

وإصلاحها، كإزالة الطين والماء عنها، وتنقيتها مما يضرُّ فيها) كقشر

بطيخ (وحفر هَدَفَةٍ) أي: ربوة عالية (فيها) أي: الطريق، بحيث تساوي غيرها (وقلع حجر) في الأرض (يضرُّ بالمارة، ووضع الحصى في حُفرة فيها) أي: في الأرض (ليملأها، وتسقيف ساقية فيها، ووضع حَجَر في طين فيها؛ ليطأ الناس عليه، فهذا كله مباح، لا يضمن ما تَلِفَ به) لأنه إحسان ومعروف.

(وإن بسط في مسجد حصيرًا، أو باريَّة) - وهي الحصير - كما في "القاموس"

(1)

، لكن في عُرف الشام ما يُنسج من قصب، ولعله المراد هنا؛ ليحصُل التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه (أو) بَسَط في المسجد (بساطًا، أو علَّق فيه قِنديلًا، أو أوقده، أو نَصَبَ فيه) أي: المسجد (بابًا، أو عُمُدًا، أو بنى جدارًا) يحتاج إليه المسجد (أو سَقَفَه، أو جعل فيه رَفًّا ونحوه؛ لنفع الناس، أو وضع فيه حصىً، لم يضمن ما تلف به) لأنه محسِن.

(وإن جلس) في مسجد، أو طريق واسع (أو اضطجع) في مسجد، أو طريق واسع (أو قام في مسجد، أو طريق واسع، فعثر به حيوان) فتلف، أو نقص (لم يضمن) تلفه ولا نقصه؛ لأنه فعل مباحًا لم يتعدَّ به

(1)

ص/ 354، مادة (بور).

ص: 315

على أحد، في مكان له فيه حق، أشبه ما لو فعله بملكه. ويضمن إن كان الفعل مُحرَّمًا، كالجلوس مع الحيض في المسجد، أو مع إضرار المارة في الطريق؛ قاله في "شرح المنتهى". ومقتضى كلام الحارثي: لا ضمان - أيضًا -، لأن المنع لا لذات الجلوس، بل لمعنىً قارنه، وهو الجناية أو الحيض، فأشبه من جلس بملكه بعد نداء الجمعة.

(ويضمن) إن جلس، أو اضطجع، أو قام (في طريق ضيق) لإضراره بالمارة (ويأتي في الديات).

وإن أحدث بركةً للماء، أو كنيفًا، أو مستحمًّا، فنزَّ إلى جدار جاره؛ فأوهاه وهدمه، ضَمِنه؛ لأن هذه الأسباب تتعدَّى؛ ذكره في "الفصول" و"التلخيص"، قالا: وللجار منعه من ذلك، إلا أن يبني حاجزًا محكمًا يمنع النَّزَّ. زاد ابن عقيل: أو يبعد بحيث لا يتعدَّى النَّزُّ إلى جدار جاره. وقال أيضًا: الدقُّ الذي يهدُّ الجدار مضمون السراية؛ لأنه عدوان محض.

(وإن أخرج) إنسان (جناحًا) وهو الرَّوشن (أو ميزابًا ونحوه) كساباط، وحجر بَرَزَ به في البنيان (إلى طريق نافذ) مطلقًا، إلا بإذن إمام أو نائبه في جناح، أو ساباط، أو ميزاب بلا ضرر (أو) أخرج ما ذكر في درب (غير نافذ، بغير إذن أهله، فسقط على شيء، فأتلفه، ضَمِن، ولو) كان سقوطه (بعد بيعه، وقد طُولِب بنقضه؛ لحصوله) أي: التلف (بفعله) أي: بسبب فعله الذي تعدَّى به.

ومفهومه: أنه إذا سقط بعد البيع، ولم يكن طُولب بنقضه، لا يضمن (ما لم يأذن فيه) أي: الجناح والميزاب والساباط (إلى الطريق النافذ فقط، إمامٌ أو نائبُه، ولم يكن منه ضررٌ) على المارة بإخراجه، فلا

ص: 316

ضمان؛ لأن النافذ حق للمسلمين، والإمام وكيلهم، فإذنه كإذنهم، أشبه ما لو أذن أهل غير النافذ له في ذلك.

(وإن مال حائطُهُ) بعد أن بَنَاه مستقيمًا (إلى غير ملكه) سواء كان مختصًّا، كهواء جاره، أو مشترَكًا، كالطريق (علم به) أي: بميلان حائطه (أو لا، فلم يهدمه حتى أتلف شيئًا، لم يضمنه) ولو أمكنه نقضه، وطُولب به؛ لعدم تعديه بذلك؛ لأنه بناه في ملكه، ولم يسقط بفعله، فهو (كما لو سقط من غير ميلان، وعنه

(1)

: إنْ طُولب) أي: طالبه مستحق (بنقضه، وأُشهد عليه، فلم يفعل) مع إمكانه (ضَمِن، واختاره جماعة) لأن تَرْك الهدم مع المطالبة تفريطٌ.

وأجيب عن ذلك: بأنه لو وجب بسقوطه ضمان، لم تُشترط المطالبة بنقضه، كما لو بناه ابتداءً مائلًا إلى ملك غيره، فإن عليه ضمان ما يتلف به، ولو لم يُطالب بنقضه.

(قال الموفَّق والشارح: والتفريع عليه) أي: ما ذكر من الرواية الثانية (والمطالبة: من كلِّ مسلِم أو ذِمي، إذا كان ميله إلى الطريق) لأن الحق فيها لعامة الناس (كما لو مال إلى ملك جماعة، فطالب واحد منهم، ولكل منهم المطالبة) بالنقض؛ لأن له حقًّا فيه.

(وإن طالب واحد) ممن لهم الحق (فاستأجله) أي: استمهله (صاحب الحائط، أو أجَّله الإمام، لم يسقط عنه الضمان) بذلك؛ لوجوبه عليه على الفور مع الإمكان، كما تقدم. فإنا كان الإمهال بقَدْر الحاجة إلى تحصيل الآلات، فلا ضمان؛ لانتفاء التفريط؛ ذكره الحارثيُّ.

(ولا أثر لمطالبة) المستحق لـ (ــمستأجرِ الدارِ ومستعيرها

(1)

المحرر (1/ 344)، والفروع (4/ 520).

ص: 317

ومستودَعها ومرتهنها) لأنهم لا يملكون النقض، ولا ولاية لهم على المالك.

وإن كان المالك محجورًا عليه لسفه ونحوه، فطُولب، لم يلزمه؛ لعدم أهليته، وإن طُولب وَليُّه أو الوصي، فلم يفعل، ضَمِن المالك؛ قاله في "المجرد"، و"المغني"، و"الشرح"، والحارثي، و"المبدع"، وغيرهم، ونقله في "الفروع" عن "المنتخب". وقال ابن عقيل: الضمان على الولي. قال الحارثي: وهو الحق لوجود التفريط منه. وهو توجيه لصاحب "الفروع".

(ولا ضمان عليهم) لأنه لا أثر لطلبهم.

(وإن بناه) أي: الحائط (مائلًا إلى ملك غيره بإذنه، أو) بناه مائلًا (إلى ملك نفسه) لم يضمن لعدم تعدِّيه (أو مال) الحائطُ (إليه) أي: إلى ملك رَبِّه (بعد البناء، لم يضمن) رَبُّهُ ما تلف به.

(وإن بناه) أي: الحائط (مائلًا إلى الطريق) ضَمِن ما تلف به (أو) بناه مائلًا (إلى ملك الغير بغير إذنه، ضَمِن) ما تَلِف به، ولو لم يُطالب بنقضه لتسببه.

(وإنْ تُقُدِّم إلى صاحب الحائط المائل) أي: طُولب (بنقضه، فباعه مائلًا، فسقط على شيء، فتلف به، فلا ضمان على بائع) فيما تلف؛ لأن الحائط ليس ملكه حال السقوط، فزال تمكُّنُهُ من هدمه، فلا تفريط منه. قال ابن عقيل: إن لم يكن حيلة على الفرار من نقضه، فيضمن.

(ولا) ضمان (على مُشترٍ، لأنه لم يطالب بنقضه، وكذلك إن وهبه) أي: الحائط المائل، بعد الطلب (وأقبضه) ثم سقط، فأتلف شيئًا، لم يضمنه الواهب؛ لأنه ليس ملكه، ولا المُتَّهب؛ لأنه لم يُطالَب، وكذا لو

ص: 318

صالح به، أو جعله صَداقًا، أو عوضًا في خُلع، أو طلاق، أو عتق، ونحوه، مما ينقل الملك.

(وحيث وَجَب الضمانُ) فيما تلف بالجدار (والتالف آدميٌّ، فالدِّيَة على عاقلته) أي: عاقلة رَبِّ الحائط؛ لأنها تحمل دية القتل الخطأ، وشِبه العمد.

(فإن أنكرت العاقلةُ كونَ الحائط لصاحبهم) الذي يعقلون عنه (أو أنكروا) أي: العاقلة (مطالبَتَه بنقضِهِ) حيث اعتبرت، أو أنكروا تلف الآدميِّ بالجدار (لم يلزمهم) شيء (إلا أن يثبُتَ) ببينة؛ لأن الأصل عدم الوجوب.

وإن أبرأه من مال الحائط إلى ملكه، والحقُّ له، فلا ضمان.

(وإن تشقَّقَ الحائط عَرْضًا، فَكَمَيْلِهِ) فلا ضمان إن لم يُطالَب بنقضه. وكذا إن طُولب، على المذهب. وعلى الرواية الثانية: يضمن إذا طولب، وأشهد عليه.

(لا) إن تشقق الحائط (طولًا) وهو مستقيم، فإنه لا أثر له؛ لأنه لا ضرر فيه.

‌‌

‌فصل في جناية البهائم

(وما أتلفته البهيمة) آدميًّا كان، أو مالًا (ولو صيدَ حَرَمٍ، فلا ضمان على صاحبها) فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "العجماءُ جَرْحُها جُبارٌ" متفق عليه

(1)

،

(1)

البخاري في الزكاة، باب 66، حديث 1499، وفي المساقاة، باب 3، حديث 2355، وفي الديات، باب 28، 29، حديث 6912، 6913، ومسلم في الحدود، =

ص: 319

أي: هدر (إذا لم تكن يده عليها) فإن كانت، ضَمِن، ويأتي (إلا الضارية) أي: المعتادة بالجناية مِن البهائم، والجوارح، وشبهها. قال الشيخ تقي الدين

(1)

في من أمر رجلًا بإمساكها: ضمنه، إذا لم يُعلمه بها.

(ومن أطلق كلبًا عقورًا، أو دابة رَفوسًا، أو عَضوضًا، على الناس في طرقهم ومصاطبهم ورحابهم فأتلف مالًا أو نفسًا، ضمن؛ لتفريطه. وكذا إن كان له طائر جارح كالصقر والبازى، فأفسد طيور الناس وحيواناتهم؛ قاله) ابن عقيل (في "الفصول").

قال في "المبدع": وظاهر كلامهم، أي: عدم الضمان، في غير الضارية، إذا لم تكن يده عليها، ولو كانت مغصوبة؛ لأنه لا تفريط من المالك، ولا ذِمَّة لها فيتعلَّق بها، ولا قصد فيتعلَّق برقبتها، بخلاف العبد والطفل. انتهى. وهو معنى ما قدَّمه في "الفروع" قال: وهذا فيه نظر. وحَكَى عن ابن عقيل ما يقتضي الضمان.

(وإن كانت البهيمة في يَدِ إنسانٍ، كالسائق) المُتصرِّف فيها (والقائد) المُتصرِّف فيها (والراكب المُتصرِّف فيها، سواء كان) كل من السائق والقائد، والراكب المتصرف فيها (مالكًا، أو غاصبًا، أو أجيرًا، أو مستأجرًا، أو مستعيرًا، أو موصىً له بالمنفعة) أو مرتَهِنًا (ضَمِن ما جنت يدُها، أو فَمُها) أي: جناية يدها، أو فَمِها (أو وطؤها يرجلها، لا ما نفحت بها) أي: برجلها؛ لما روى سعيد مرفوعًا: "الرِّجلُ جُبارٌ"

(2)

.

= حديث 1710، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(1)

الاختيارات الفقهية، ص/ 340.

(2)

أخرجه أبو داود في الديات، باب 29، حديث 4592، والنسائي في الكبرى (3/ 412) حديث 5788، وابن أبي عاصم في الديات، ص/ 82، وأبو عوانة (4/ 159) حديث 6371، والطبراني في الأوسط (5/ 489) حديث 4926، وفي =

ص: 320

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الصغير (1/ 262)، وابن عدي (3/ 1251)، والدارقطني (3/ 152، 179)، وفي العلل (9/ 121)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2/ 152)، وابن حزم في المحلى (11/ 20)، والبيهقي (8/ 343)، والخطيب في الفصل للوصل (2/ 781)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 339) حديث 1860، من طريق سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قال ابن حزم: وهذا إسناد مستقيم لاتصال الثقات فيه.

وقال الدارقطني: لم يروه غير سفيان بن حسين، وخالفه الحفاظ عن الزهري، منهم مالك، وابن عيينة، ويونس

كلهم رووه عن الزهري فقالوا: العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، ولم يذكروا: الرجْل، وهو الصواب.

وقال البيهقي: قال الشافعي: وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من: "الرجل جبار"، فهو غلط والله أعلم؛ لأن الحفاظ لم يحفظوا هكذا. ثم قال البيهقي: هذه الزيادة ينفرد بها سفيان بن حسين عن الزهري، وقد رواه مالك بن أنس، والليث بن سعد، وابن جريج. . . وغيرهم عن الزهري، لم يذكر أحد منهم فيه "الرجل".

وقال ابن عبد البر في التمهيد (7/ 25 - 26): وهذا حديث لا يوجد عند أحد من أصحاب الزهري إلا سفيان بن حسين، وهو عندهم فيما ينفرد به لا تقوم به حجة.

وقال الخطابي في معالم السنن (4/ 39): وقد تكلم الناس في هذا الحديث، وقيل: إنه غير محفوظ، وسفيان بن حسين معروف بسوء الحفظ.

وقال ابن حجر في الفتح (12/ 256): وقد اتفق الحفاظ على تغليط سفيان بن حسين، حيث روى عن الزهري في حديث الباب:"الرجل جبار".

وأخرجه - أيضًا - الدارقطني (3/ 154)، والبيهقي (8/ 343)، والخطيب في الفصل للوصل (2/ 773) من طريق آدم، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الدارقطني: لم يروه عن شعبة غير آدم قوله: "الرجل جبار". وقال البيهقي: قال الدارقطني: كذا قال، وهو وهم، ولم يتابعه عليه أحد عن شعبة، ثم قال: وقد روى هذا الحديث عن شعبة محمد بن جعفر "غندر" - وهو الحكم في حديث شعبة -، ومعاذ بن معاذ العنبري، ومسلم بن إبراهيم، وأبو عمر الحوضي وغيرهم دون هذه الزيادة.

وأخرجه عبد الرزاق (10/ 66) حديث 18376، وابن أبي شيبة (9/ 270)، وابن أبي =

ص: 321

وفي رواية أبي هريرة: "رِجلُ العجماءِ جبارٌ"

(1)

، فَدَلَّ على وجوب الضمان في جناية غيرها. وخصص بالنفح

(2)

دون الوطء؛ لأن من بيده الدابة يمكنه أن يجنبها وطء ما لا يريد أن تطأه، بتصرفه فيها، بخلاف نفحها، فإنه لا يمكنه أن يمنعها منه، وحيث وجب الضمان، وكان المجني عليه مما تحمله العاقلة، فهي عليها، كما صَرَّحَ به المجد في "شرحه" بما يقتضي أنه محل وفاق.

ومحل عدم ضمان ما نفحت برجلها (ما لم يكبَحْها) أي: يجذبها باللِّجام (زيادةً على العادة، أو يضرِبْها في وجهها) فيضمن؛ لتسببه في جنايتها (ولو) فعل ذلك (المصلحة) تدعو إليه.

(ولا يضمن) الراكب ونحوه (ما جنت) الدابة (بذَنَبها) لأنه لا يمكن التحفظ منه.

(ويضمن) - أيضًا - الراكب ونحوه (ما جنى ولدُها) ولو لم يفرط؛ لأنه تبعُها. وظاهره: سواء جنى بيده، أو فمه، أو رجله، أو ذنبه. ولو قيل: يضمن منه ما يضمن منها فقط، لكان له وجه.

(ومن نَفَّرها) أي: البهيمة (أو نَخَسها، ضَمِن وحده) لأنه المتسبب في جنايتها (دونهم) أي: دون الراكب، والسائق، والقائد (فإن جنت)

= عاصم في الديات ص/83، وإبراهيم الحربي في غريب الحديث (2/ 416)، والدارقطني (3/ 187، 179)، والبيهقي (8/ 344)، والخطيب في الفصل للوصل (2/ 780)، عن هزيل بن شرحبيل، مرسلًا.

قال البيهقي: هذا مرسل، لا تقوم به حجة، ورواه قيس بن الربيع موصولًا بذكر: عن عبد الله بن مسعود فيه، قال: وقيس لا يحتج به.

(1)

لم نقف على من أخرجه بهذا اللفظ، وانظر تخريج الحديث السابق.

(2)

نَفَحَت الناقة: ضربت برجلها. مختار الصحاح ص/ 670، مادة (نفح).

ص: 322

البهيمة (عليه) أي: على من نَفَّرها أو نَخَسها (فـ) ــالجناية (هدْر) لأنه السبب في الجناية على نفسه.

(وإن ركبها اثنان) وجنت جناية مضمونة (ضَمِن الأول منهما) أي: الراكبين؛ لأنه المتصرِّف فيها، والقادر على كَفِّها (إلا أن يكون) الأول (صغيرًا، أو مريضًا ونحوهما) كالأعمى (والثاني متولي تدبيرها، فعليه) أي: الثاني (الضمان) وحده؛ لكونه المتصرِّف فيها.

(وإن اشتركا) أي: الراكبان (في التصرُّف) في البهيمة (اشتركا في الضمان) أي: ضمان جنايتها المضمونة؛ لاشتراكهما في التصرُّف.

(وكذا لو كان معها) أي: البهيمة (سائقٌ وقائدٌ) وجنت جناية تُضمن، فالضمان عليهما.

(وإن كان معهما) أي: السائق والقائد، راكب (أو) كان (مع أحدهما راكب، شاركهما) أي: شارك الراكبُ السائقَ والقائدَ، أو أحدهما، في ضمان جنايها؛ لاشتراكهم في التصرُّف؛ لأن كلًّا منهم لو انفرد مع الدابة، انفرد بالضمان، فإذا اجتمع مع غيره منهم، شاركه في الضمان.

وعُلم مما تقدم: أنه لو اجتمع الثلاثة، أو اثنان منهم، لكن انفرد واحد بالتصرُّف، اختص بالضمان.

(والإبل والبغال المُقْطَرة، كـ) ــالبهيمة (الواحدة، على قائدها الضمان) لما جنت كل واحدة من القِطَار؛ لأن الجميع إنما تسير بسير الأول، وتقف بوقوفه، وتطأ بوطئه، وبذلك يمكنه حفظ الجميع عن الجناية.

(وإن كان معه) أي: القائد (سائقٌ؛ شاركه) أي: شارك السائقُ

ص: 323

القائدَ (في ضمان الأخير فقط، إن كان) السائق (في آخرها) لأنهما اشتركا في التصرف الأخير، ولا يشارك السائقُ القائدَ فيما قبل الأخير؛ لأنه ليس سائقًا له، ولا تابعًا لما يسوقه.

(وإن كان) السائق (في أوَّلها) أي: أول المُقْطَرة (شارك) السائقُ القائدَ (في) ضمان جناية (الكُلِّ) لأنه لو انفرد بذلك، لضمن جناية الجميع؛ لأن ما بعد الأول تابع له، سائر بسيره، فإذا كان معه غيره وجب أن يشاركه في ذلك.

(وإن كان) السائق (فيما عدا الأولَ) من المُقْطَرة (شارك) السائقُ القائدَ (في ضمان ما باشر سَوْقَه، وفي) ضمان (ما بعده) أي: بعد الذي باشر سوقه؛ لأنه تابع له (دون) ضمان (ما قبله) أي: قبل الذي باشر سوقه، فيختصُّ به القائد، ولا يشاركه السائق؛ لأنه ليس سائقًا له، ولا تابعًا لما يسوقه.

(وإن انفرد راكبٌ بالقِطَار، وكان) الراكب (على أوله، ضمن) الراكب (جناية الجميع؛ قاله الحارثيُّ) لأن ما بعد الراكب إنما يسير بسيره، ويَطَأ بوطئه، فأمكن حفظه عن الجناية، فضمن، كالمَقْطور على ما تحته.

قلت: فعلى هذا، إن كان معه سائق، فعلى ما سبق من التفصيل، إذا كان سائق وقائد، وإن كان المفرِد بالقطار راكبًا، أو سائقًا على غير الأول، ضَمِن جناية ما هو راكب عليه، أو سائق له، وما بعده، دون ما قبله.

(ولو انفلتت الدَّابة ممن هي في يده، وأفسدت) شيئًا (فلا ضمان) على أحد؛ لحديث: "العجماءُ جَرحُها جبارٌ" وتقدم

(1)

.

(1)

تقدم تخريجه (9/ 319) تعليق رقم (1).

ص: 324

فإن

(1)

استقبلها إنسان، فردَّها، فقياس قول الأصحاب: الضمان؛ قاله الحارثيُّ. ثم قال: ويحتمل عدم الضمان؛ لعموم الخبر؛ ولأن يده ليست عليها.

قال: والبهيمة النَّزِقَة التي لا تنضبط بكبح ولا نحوه، ليس له ركوبها بالأسواق، فإن ركب ضمن؛ لتفريطه. وكذا الرَّموح

(2)

والعضوض.

(ويضمن ربُّ البهائم، ومستعيرها، ومستأجرُها، ومستودعُها) قلت: وقياسه: مرتهنٌ وأجيرٌ لحفظها، وموصىً له بنفعها (ما أفسدت: من زرع، وشجر، وغيرهما) كثوب خَرَقته، أو مَضَغته، أو وطئت عليه، ونحوه (ليلًا) لما روى مالك عن الزهري، عن حرام بن سعد بن محيصة:"أنَّ ناقةً للبراءِ دخلت حائط قوم فأفسدَت، فقضى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ على أهلِ الأموالِ حِفْظَها بالنَّهارِ، وما أفسدت فهو مضمونٌ عليهم"

(3)

.

(1)

في "ح" و"ذ": "فلو".

(2)

رَمَحه الفرس: رفسه. انظر: القاموس المحيط ص/ 281، مادة (رمح).

(3)

أخرجه مالك في الموطأ (2/ 747 - 748). وأخرجه - أيضًا - من طريق مالك: الشافعي في السنن المأثورة ص/ 385، حديث 526، وفي مسنده (ترتيبه 2/ 107)، وأحمد (5/ 435)، والطحاوي (3/ 203)، وفي شرح مشكل الآثار (15/ 464) حديث 6159، والدارقطني (3/ 156)، والبيهقي (8/ 279، 341)، وفي معرفة السنن والآثار (13/ 94) حديث 17575.

قال ابن عبد البر في التمهيد (11/ 81): هكذا رواه جميع رواة الموطأ فيما علمت مرسلًا.

وأخرجه - أيضًا - أحمد (5/ 436)، وابن الجارود (3/ 101 - 102) حديث 796، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (15/ 464 - 465) حديث 6160، والبيهقي (8/ 342)، وابن عبد البر في التمهيد (11/ 89)، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وحرام بن سعد بن محيصة، أن ناقةً للبراء بن عازب

فذكره. =

ص: 325

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وأخرجه ابن ماجه في الأحكام، باب 13، حديث 2332، عن الليث بن سعد، عن الزهري، عن حرام بن محيصة، أن ناقة للبراء

فذكره.

وأخرجه ابن طهمان في مشيخته ص/ 230، حديث 198، عن محمد بن ميسرة، ومن طريقه النسائي في الكبرى (3/ 412) حديث 5787، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن البراء، أن ناقة له

قال النسائي: محمد بن ميسرة: هو ابن أبي حفصة، وهو ضعيف.

وأخرجه أبو داود في البيوع، باب 92، حديث 3570، والنسائي في الكبرى (3/ 411 - 412) حديث 5785، والشافعي في مسنده (ترتيبه 2/ 107)، وأحمد (4/ 295)، وابن أبي عاصم في الديات ص/ 57، حديث 205، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (15/ 462 - 463) حديث 6157 - 6158، والدارقطني (3/ 155)، والحاكم (2/ 47 - 48)، والبيهقي (8/ 341)، وفي معرفة السنن والآثار (13/ 95) حديث 17576، وابن عبد البر في التمهيد (11/ 89)، من طرق عن الأوزاعي، عن الزهري، عن حرام بن محيصة، عن البراء.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على خلاف بين معمر والأوزاعي، فإن معمرًا قال: عن الزهري، عن حرام بن محيصة، عن أبيه. ووافقه الذهبي.

لكن قال الدارقطني: عن حرام بن محيصة، عن أبيه إن شاء الله، عن البراء. فزاد:"عن أبيه" بين حرام والبراء، على الشك، وهذه الزيادة ليست عند الشافعي في مسنده (ترتيبه 2/ 107)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (15/ 462 - 463) حديث 6157، 6158، والبيهقي (8/ 341)، وفي معرفة السنن والآثار (13/ 95) حديث 17576.

وأخرجه الطحاوي (3/ 203)، والدارقطني (3/ 155)، عن يونس بن عبد الأعلى، عن أيوب بن سويد، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن حرام بن محيصة، أن ناقة لرجل من الأنصار دخلت حائطًا

فذكره.

وأخرجه الثاني في الكبرى (3/ 411) حديث 5784، عن محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن ابن محيصة، عن أبيه محيصة بن مسعود الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن ناقة للبراء

فذكره من مسند محيصة. =

ص: 326

قال ابن عبد البر

(1)

: هذا وإن كان مرسلًا، ففو مشهور، وحَدَّث به الأئمة الثقات، وتلقَّاه فقهاء الحجاز بالقَبول.

ولأن العادة من أهل المواشي إرسالها نهارًا للرعي، وحفظها ليلًا، وعادة أهل الحوائط حفظها نهارًا، فإذا أفسدت شيئًا ليلًا، كان من ضمان

= وأخرجه أبو داود في البيوع، باب 92، حديث 3569، وعبد الرزاق (10/ 82) حديث 18437، وأحمد (5/ 436)، وابن حبان "الإحسان"(13/ 354 - 355) حديث 6008، والدارقطني (3/ 154 - 155)، والبيهقي (8/ 342)، وابن عبد البر في التمهيد (11/ 88)، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن حرام بن محيصة، عن أبيه، أن ناقة للبراء بن عازب

فذكره.

قال البيهقي: وكذلك رواه جماعة عن عبد الرزاق، وخالفه وهيب، وأبو مسعود الزجاج، عن معمر، فلم يقولا: عن أبيه.

وقال ابن عبد البر في التمهيد (11/ 81): ولم يتابع عبد الرزاق على ذلك، وأنكروا عليه قوله فيه: عن أبيه.

قال الشافعي في اختلاف الحديث (8/ 566) - وعنه البيهقي في معرفة السنن والآثار (13/ 96) رقم 17585 - : أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله. قال ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 86 - 87): مداره على الزهري، واختلف عليه، فقيل هكذا، وهذه رواية الموطأ، وكذلك رواية الليث، عن الزهري، عن ابن محيصة لم يسمه، أن ناقة؛ رواه معن بن عيسى، عن مالك فزاد فيه: عن جده محيصة، ورواه معمر، عن الزهري، عن حرام، عن أبيه، ولم يتابع عليه؛ أخرجه أبو داود، وابن حبان، ورواه الأوزاعي، وإسماعيل بن أمية، وعبد الله بن عيسى، كلهم عن الزهري، عن حرام، عن البراء، وحرام لم يسمع من البراء؛ قاله عبد الحق تبعًا لابن حزم، ورواه النسائي من طريق محمد بن أبي حفصة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن البراء. ورواه ابن عيينة، عن الزهري، عن حرام وسعيد بن المسيب، أن البراء. رواه ابن جريج، عن الزهري: أخبرني أبو أمامة بن سهل، أن ناقة للبراء. ورواه ابن أبي ذئب، عن الزهري قال: بلغني أن ناقة للبراء.

وانظر: فتح الباري (12/ 258).

(1)

التمهيد (11/ 82) وزاد في آخره: وجرى في المدينة به العمل.

ص: 327

مَن هي بيده (إن فرَّط) في حفظها (مثل ما إذا لم يَضُمَّها ونحوه ليلًا، أو ضمَّها بحيث يمكنها الخروج، فإن ضمَّها) أي: ضَمَّ البهائمَ من هي بيده ليلًا (فأخرجها غيره بغير إذنه، أو فتح) غيره (عليها بابها) فأتلفت شيئًا (فالضمان على مُخْرِجها، أو فاتحِ بابها) لأنه السبب، ولا ضمان على من كانت بيده؛ لعدم تفريطه.

(ولو كان ما أتلفته) البهائم المُعارة، ونحوها ليلًا (لرَبِّها، ضَمِنه مستعير ونحوه) كمستأجر ومستودَع، إن فرط.

(وإن لم يُفرِّط رَبُّها ونحوه) كمستأجرها ومستعيرها، بأن ضمَّها ليلًا بحيث لا يمكنها الخروج، فخرجت، فأتلفت شيئًا (فلا ضمان) لعدم تفريطه.

(ولا يضمن) ربُّها ومستعيرها ونحوه (ما أفسدت من ذلك) أي: من زرع، أو شجر، أو غيرهما (نهارًا) للحديث السابق (إذا لم تكن يد أحد عليها، سواء أرسلها بقرب ما تفسده، أو لا) لعموم الحديث السابق.

قال القاضي: هذه المسألة محمولة على المواضع التي فيها مزارع ومراعي، فأما القرى العامرة التي لا مرعى فيها إلا بين مراحين، كساقية، وطرق زرع، فليس له إرسالها بغير حافظ، فإن فعل لزمه الضمان؛ لتفريطه.

(وإن كان عليها) أي: البهيمة (يد) كقائد (ضَمِن صاحب اليد) ما أفسدت من زرع وشجر، وغيرهما، ولو نهارًا.

(قال الحارثي: لو جرت عادة بعض) أهل (النواحي بربطها نهارًا، وإرسالها) ليلًا (وحفظ الزرع ليلًا، فالحكم كذلك) أي: إنه يضمن رَبُّها ونحوه ما أفسدت ليلًا - إن فرَّط - لا نهارًا (لأن هذا) العُرف (نادر، فلا

ص: 328

يُعتبر به في التخصيص) أي: تخصيص الحديث السابق.

(ولو ادَّعى صاحب الزرع أن غنم فلان نَفَشَتْ) أي: رعت (فيه) أي: في زرعه (ليلًا، ووُجِد في الزرع أثر غنم، ولم يكن هناك غنم لغيره، قُضي بالضمان) على صاحب الغنم، عملًا بالقرينة، وعبارة "المنتهى":"ومن ادَّعى أن بهائم فلان" فلا تختص المسألة بالغنم.

(قال الشيخ) تقي الدين

(1)

: (هذا من القيافة في الأموال. وجَعَلَها) أي: القيافة (معتبرة) في الأموال (كالقيافة في الإنسان

(2)

.

ويضمن غاصبُها) أي: البهائم (ما أفسدت ليلًا ونهارًا) فرَّط، أو لم يفرط، كانت يده عليها أو لا؛ لتعديه بإمساكها.

(ومن طرد دابَّة من مزرعته، لم يضمن) ما أفسدته من مزرعة غيره (إلا أن يُدخِلَها مزرعةَ غيره) فيضمن ما أفسدت منها؛ لتسببه.

(وإن اتصلت المزارع) لم يطردها؛ لأن ذلك تسليط على زرع غيره، و (صَبَر ليرجع على رَبِّها) بقيمة ما تأكله، حيث لا يمكنه منعها إلا بتسليطها على مال غيره.

(ولو قدر أن يخرجَها) من مزرعته (وله مُنصَرَف غير المزارع) يخرجها منه (فتركها) في مزرعته (فـ) ــما أفسدت منها (هدر) لا ضمان على رَبِّها فيه؛ لأن رَبَّ الزرع هو المُفرِّط إذًا.

(والحطبُ على الدابة إذا خرق ثوبَ آدمي بصير عاقل، يجد

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 401.

(2)

في بعض نسخ الإقناع: الأنساب. وأشار في حاشية "ذ" إلى أنه في نسخةٍ، وكذلك هو في القواعد الفقهية لابن رجب ص/ 18، القاعدة الثالثة عشرة، والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير (15/ 341)، شرح المنتهى (4/ 185)، ومطالب أولي النهى (4/ 91). نقول: وكلاهما له وجه.

ص: 329

منحَرَفًا) أي: موضعًا يتحول إليه (فـ) ــالخرق (هدر) لا يضمنه الحَطَّاب؛ لتقصير رَبِّ الثوب بعدم الانحراف. قلت: وقياسه لو جرحه ونحوه.

وكالحطب حديد ونحوه.

(وكذا لو كان) صاحب الثوب (مستدبرًا، فصاح به) حامل الحطب (منبهًا له) ووجد منحرفًا، ولم ينحرف، فخُرِق ثوبه، فهدر. قلت: وكالمستدبر: الأعمى إذا صاح عليه منبِّهًا له بالانحراف لموضع يمكنه الانحراف إليه ولم يفعل (وإلا) بأن لم يجد منحرفًا وهو مستقبل له، أو لم ينبهه وهو مستدبر (ضَمِنه) أي: خرق الثوب (فيهما) حامل الحطب، فيغرم أرشه.

(ومن صال) أي: وَثَب (عليه آدمي) صغير أو كبير، عاقل أو مجنون؛ قاله الحارثي (أو غيره) من البهائم والطيور (فقتله) المصول عليه (دفعًا عن نفسه، لم يضمنه) إن لم يندفع بغير القتل؛ لأنه قتله لدفع شره، فكأن الصائل قتل نفسه.

(ولو دفعه) أي: دفع إنسان الصائل (عن غيره، غير ولده) أي: القاتل (ونسائه) كزوجته، وأُمه، وأخته، وعمته، وخالته (بالقتل) متعلق بـ "دفعه"، (ضمنه).

قال في القاعدة السابعة والعشرين

(1)

: لو دفع صائلًا عليه بالقتل، لم يضمنه، ولو دفعه عن غيره بالقتل، ضَمِنه؛ ذكره القاضي. وفي "الفتاوى الرجبيات" عن ابن عقيل، وابن الزاغوني: لا ضمان عليه - أيضًا -. انتهى. فما ذكره المصنف توسط بين القولين. قال الحارثي:

(1)

القواعد الفقهية، لابن رجب، ص/ 37.

ص: 330

وعن أحمد

(1)

رواية بالمنع من قتال اللصوص في الفتنة، فيترتب عليه وجوب الضمان بالقتل؛ لأنه ممنوع منه إذًا. وهذا لا عمل عليه. انتهى.

قال في "الإنصاف": أما ورود الرواية بذلك فمُسلَّم، وأما وجوب الضمان بالقتل، ففي النفس منه شيء.

(ويأتي) ذلك (في) باب (حَدِّ المحاربين) بأوضح من هذا.

(وإذا عُرفت البهيمة بالصَّوْل وجب على مالكها، و) على (الإمام، و) على (غيره) ممن يقدر على إتلافها (إتلافها إذا صالت) وقوله (على وجه المعروف) متعلق بـ "إتلافها"، أي: وجب إتلافها على وجه لا تعذيب فيه لها؛ لحديث: "إذا قتلتم فأحسنوا القِتلةَ"

(2)

، أو أن هذا القتل من المعروف، فلذلك لم يختص به ربُّها، بل خوطب به كل أحد؛ لأن الأمر بالمعروف فرض كفاية.

(ولا تُضمن) البهيمة المعروفة بالصَّول، إذا قُتلت حال صَوْلها؛ لأنها غير محترمة (كمرتد) وزانٍ محصن.

(ولو حالت بهيمة بينه وبين ماله، ولم يصل إليه) أي: ماله (إلا بقتلها، فقتلها، لم يضمنـ) ــها؛ لعدم احترامها لصولها

(3)

.

(وإن اصطدمت سفينتان) واقفتان، أو مُصْعِدَتان، أو مُنحدِرتان (فغرقتا، ضَمِن كلُّ واحدٍ منهما) أي: من القيِّمين (سفينة الآخر، وما فيها) من نفس ومال (إن فرَّط) لأن التلف حصل بسبب فعليهما، فوجب على كلٍّ منهما ضمان ما تلف بسبب فعله، كالفارسين إذا اصطدما.

(1)

السنة من الجامع للخلال (1/ 179 - 182)، والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير (15/ 343).

(2)

تقدم تخريجه (2/ 25) تعليق رقم (2).

(3)

زاد في "ذ" بعد هذا الموضع كلمة: "فصل".

ص: 331

(وإن لم يُفرِّط) واحد منهما (فلا ضمان على واحد منهما) لعدم مباشرته التلف وتسببه فيه.

(وإن فرَّط أحدُهما) دون الآخر (ضَمِن) المفرِّطُ (وحدَه) ما تلف بتفريطه؛ لتسببه في إتلافه.

(و) إذا اختلفا في التفريط، فـ (ــالقول قول القيِّم - وهو الملَّاح - مع يمينه في غلبة الريح) إياه (وعدم التفريط) لأنه منكِرٌ، والأصل براءته.

(والتفريط: أن يكون قادرًا على ضبطها، أو رَدّها عن الأخرى) فلم يفعل (أو أمكنه أن يعدلها إلى ناحية أخرى) لا صَدْمَ معها (فلم يفعل، أو لم يكمل) القيِّم (آلتها من الرجال والحبال وغيرهما

(1)

) كالمراسي، والأخشاب التي يحتاج إليها في حفظها.

(ولو تعمَّدا) أي: القيمان (الصَّدْمَ فـ) ــهما (شريكان في) ضمان (إتلاف كل منهما) أي: من السفينتين (و) في ضمان إتلاف (مَن فيهما) أي: السفينتين، من الأنفس والأموال؛ لأنه تلفٌ حصل بفعلهما، فاشتركا في ضمانه، أشبه ما لو خرقاهما.

وإن تلف بسبب ذلك آدميٌّ محترمٌ (فإن قَتَل غالبًا) ما وجِد من فعلهما (فـ) ــعليهما (القَوَد) بشرطه من المكافأة ونحوها؛ لأنهما تعمَّدا القتل بما يقتل غالبًا، أشبه ما لو ألقاه في لجَّة البحر، بحيث لا يمكنه التخلُّص، فغرق.

(وإلَّا) بأن لم يقتل غالبًا، بأن فعلا قريبًا من الساحل (فـ) ــهو (شبه عمد) كما لو ألقاه في ماء قليل، فغرق به.

(ولا يسقط فعل الصَّادم في حق نفسه مع عمد) أي: مع تعمدهما

(1)

في متن الإقناع (2/ 602): "غيرها".

ص: 332

الصدم، بل يُعتدُّ به، فكل منهما شارك الآخر في قتل نفسه، فإن مات أحدهما، فليس لورثته إلا نصف ديته، وإن ماتا، وجب لكلٍّ منهما نصف ديته من تركة الآخر، فإن استويا، سقطا، وإلا فبقدر الأقل، ومفهومه: أنه يسقط مع خطأ، فتجب الدية كاملة على العاقلة.

(وإن خرقها) أي: خرق السفينة إنسان (عمدًا، فغرقت بمن فيها) من الأنفس والأموال (وهو) أي: خرقه إياها (مما يُغرقها غالبًا، أو يهلك من فيها) غالبًا (لكونهم في اللُّجَّة، أو لعدم معرفتهم بالسباحة) وإن لم يكونوا في اللُّجة (فعليه) أي: الخارق لها (القصاص إن قتل) - بسبب ذلك - (من يجب القصاص بقتله) لأنه أهلكه بفعله (و) عليه - أيضًا - (ضمان السفينة) لرَبِّها، فيغرم قيمتها، إذا

(1)

تلفتْ، وأرش نقصها إن لم تتلف (بما) أي: مع ضمان ما (فيها، من مال أو نفس) من آدمي، أو حيوان محترم.

(وإن كان) خرقها (خطأ) بأن كان بالسفينة محل يحتاج إلى الإصلاح، فقلع منه لوحًا ليصلحه، أو ليضع عوف في مكان لا يغرق به من فيها غالبًا، فغرقوا بسبب ذلك (عمل بمقتضاه) وكذا إن كان شبه عمد، بأن قلع اللوح من غير داع إلى قلعه، لكن في مكان قريب من الساحل لا يغرق به من فيها غالبًا، فغرق، فلا قصاص فيهما، لكن لكل منهما حكمه في الضمان، على ما يأتي تفصيله في الديات.

(وإن كانت إحدى السفينتين واقفة، و) كانت (الأخرى سائرة) واصطدمتا، فغرقتا (ضمن قَيِّمُ) السفينة (السائرة) السفينةَ (الواقفة، إن فرَّط) بأن أمكنه ردها، ولم يفعل، أو لم يكمل آلتها من رجال وحبال،

(1)

في "ذ": "إن".

ص: 333

وغيرهما؛ لأن التلف حصل بتقصيره، أشبه ما لو نام وتركها سائرة بنفسها حتى صدمتها. وأما قيم الواقفة فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يوجد منه تعدٍّ ولا تفريط، أشبه النائم في الصحراء، إذا عثر به إنسان، فتلف (ويأتي إذا اصطدم نفسان في) كتاب (الديات) مفصلًا.

(وإن كانت إحداهما مُنحدِرة) والأخرى مُصعِدة (فعلى صاحبها) أي: المنحدرة (ضمان المُصْعِدة) لأن المنحدرة تنحط على المصعدة من عُلْوٍ، فيكون ذلك سببًا لغرقها، ولا ضمان على قَيِّم المُصْعِدة، تنزيلًا للمُنحدرة منزلة السائرة، وللمُصعدة منزلة الواقفة (إلا أن يكون) قَيِّم المُنحدِرة (غلبه الريح) أو نحوه عن ضبطها (أو) إلا أن يكون (الماءُ شديد) اً وفي نسخة: الشديد (الجِرْيَة، فلم يقدر على ضبطها) فلا ضمان عليه؛ لأنه لا يدخل في وسعه، ولا يكلِّفُ الله نفسًا إلا وسعها؛ ولأن التلف يمكن استناده إلى الريح، أو شدة جريان الماء.

قال الحارثي: وسواء فرَّط المُصْعِد في هذه الحالة، أو لا، على ما صَرَّح به في "الكافي"، وأطلقه الأصحاب وأحمد

(1)

. وقال في "المغني": إن فرط المُصْعِد بأن أمكنه العدول بسفينته، والمُنحدِر غير قادر ولا مفرِّط، فالضمان على المصعِد؛ لأنه المفرّط. قال الحارثي: وهذا صريح في أن المصعِد يؤاخذ بتفريطه.

(ولو أشرفت السفينة على الغرق، فـ) ــالواجب (على الركبان إلقاء بعض الأمتعة، حسب الحاجة) أي: يجب إلقاء ما تظن به النجاة من المتاع - ولو كله - دفعًا لأعظم المفسدتين بأخفِّهما؛ لأن حرمة الحيوان أعظم من حُرمة المتاع (ويحرم إلقاء الدواب) المحترمة (حيث أمكن

(1)

الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير (15/ 245).

ص: 334

التخفيف بالأمتعة) لما تقدم (وإن ألجأت الضرورة إلى إلقائها) أي: الدواب (جاز) إلقاؤها (صونًا للآدميين) لأنهم أعظم حرمة (والعبيدُ) في وجوب الحفظ (كالأحرار) لاستوائهم في الحرمة.

(وإن تقاعدوا) حال الإشراف على الغرق (عن الإلقاء) عن المتاع، أو مع الدواب (مع الإمكان) ودعاء الضرورة إليه (أثموا) لقوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}

(1)

.

(ولا يجب الضمان فيه) أي: فيما يلقيه من متاعه عند الإشراف على الغرق، فلا يضمنه له أحد.

(ولو ألقى متاعَه ومتاعَ غيره) مع عدم امتناعه (فلا ضمان على أحد) من الملقي، أو غيره؛ لأنه محسن.

(وإن امتنع) إنسان (من إلقاء متاعه، فللغير إلقاؤه من غير رضاه) لأنه قام عنه بواجب (ويضمنه) أي المتاع الملقى مع امتناع ربه (الملقي) له؛ لأنه أتلف مال الغير بغير رضاه (وتقدم بعض ذلك في الضمان

(2)

) فليعاود.

(ومن أتلف) مِزمارًا ونحوه، بأن حرقه، و

(3)

ألقاه في نحو بحر (أو كسر مِزمارًا) بكسر الميم (أو طُنبورًا) بضم أوله (أو صَليبًا، أو) كسر (إناء ذهب، أو فضة) لم يضمنه، وأما إذا أتلفه، فإنه يضمنه بوزنه ذهبًا، أو فضة بلا صناعة، كما تقدم

(4)

. قال الحارثي: لا خلاف فيه. انتهى.

والفرق بينه وبين آلة اللهو: أن الذهب والفضة لا يتبعان الصنعة،

(1)

سورة البقرة، الآية:195.

(2)

(8/ 260 - 261).

(3)

في "ذ": "أو".

(4)

(9/ 286).

ص: 335

بل هما مقصودان عملًا، أو كسرًا. والخشب والرَّق يصيران تابعين للصناعة، فالصناعة في الذهب والفضة كالغناء في الآدمية؛ لأن الصناعة أقل من الأصل، والخشب والرَّق لا يبقى مقصودًا بنفسه، بل يتبع الصورة، أشار إليه ابن عقيل.

(أو) كسر أو شق (إناء فيه خمر مأمور بإراقتها) - وهي ما عدا خمر الخلَّال، وخمر الذمي المستترة - لم يضمن إناءها تبعًا لها (ولو قدر على إراقتها بدونه) أي: بدون كسر الإناء أو شقه، لأمْرِه صلى الله عليه وسلم بكسر دِنانها، رواه الترمذي

(1)

. وأمر بشق زِقاقها. رواه

(1)

في البيوع، باب 58، حديث 1293. وأخرجه - أيضًا - الطبراني في الكبير (5/ 99) حديث 4714، والدارقطني (4/ 265، 266)، وابن الجوزي في التحقيق (1/ 110) حديث 96، من طريق ليث بن أبي سليم، عن يحيى بن عبَّاد، عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة، أنه قال: يا نبي الله، إني اشتريت خمرًا لأيتام في حجْري، قال: "أهرِق الخمرَ، واكْسِر الدِّنَان".

وقد خُولف الليث في روايته، خالفه الثوري، فرواه عن السدي، عن يحيى بن عباد، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الخمر تُتَّخذ خلًّا؟ فقال: "لا". أخرجه مسلم في الأشربة، حديث (1983).

ورجَّح الترمذي، والدارقطني في العلل (6/ 12) رقم (946)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (1/ 591) رواية الثوري.

وأعله ابن العربي - كما في عمدة القاري (13/ 28) -، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (1/ 591): بليث بن أبي سُليم.

وبوَّب عليه البخاري في كتاب المظالم، باب 32، فقال: باب هل تُكسَرُ الدِّنَانُ التي فيها خمرٌ، أو تخرَّقُ الزِّقاقُ؟

ثم ساق بسنده - حديث 2477 - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نيرانًا تُوقَدُ يوم خيبر، قال:"علام تُوقَدُ هذه النيران؟ " قالوا: على الحُمُر الإنسية، قال:"اكسِروها، وهَريقوها"، قالوا: ألا نُهريقُها ونغسِلُها؟ قال: "اغسِلوا".

قال الحافظ: وكأنه أشار بكسر الدِّنان إلى ما أخرجه الترمذي عن أبي طلحة قال: =

ص: 336

أحمد

(1)

.

(أو) أتلف إنسانٌ (آلةَ لهوٍ) بكسر، أو حرق، أو غيرهما (ولو) كانت (مع صغير) وآلة اللهو (كعود وطبل) غير طبل حرب (و) كـ (ــدف بصنوج أو حِلَق) لم يضمنه، بخلاف دفٍّ لا حلق فيه ولا صنوج، وطبل حرب، فيضمنهما متلفهما؛ لإباحتهما (أو) كـ (ــنرد، أو شطرنج) قال في "الفروع": ظاهر كلام الأصحاب أن الشطرنج من آلة اللهو. قيل: بل هي من أعظمها، وقد عمَّ البلاء بها.

(أو) أتلف بحرق أو غيره (آلة سحر، أو تعزيم، أو تنجيم، أو) أتلف (صور خيال، أو) أتلف (أوثانًا، أو خنزيرًا، أو) أتلف (كُتُبَ مبتدعة مضلة، أو) أتلف (كُتُبَ أكاذيب، أو سخائف لأهل الخلاعة والبطالة، أو) أتلف (كُتُبَ كُفْر) لم يضمنها؛ لعدم احترامها.

= يا نبي الله، اشتريت خمرًا لأيتام في حجري، قال: أهرق الخمر، وكسِّر الدِّنان. وأشار بتخريق الزِّقاق إلى ما أخرجه أحمد عن ابن عمر، قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم شَفْرة وخرج إلى السوق، وبها زقاق خمر، جُلبت من الشام، فشقَّ بها ما كان من تلك الزِّقاق، فأشار المصنِّف إلى أن الحديثين إن ثبتا، فإنما أمر بكسر الدِّنَان وشَق الزِّقاق، عقوبة لأصحابها، وإلا فالانتفاع بها بعد تطهيرها ممكن.

(1)

(2/ 71، 132 - 133) عن ابن عمر رضي الله عنهما في حديث طويل.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 53 - 54): رواه كله أحمد بإسنادين، في أحدهما: أبو بكر بن أبي مريم، وقد اختلط. وفي الآخر: أبو طعمة، وقد وثقه محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، وضعفه مكحول، وبقية رجاله ثقات.

وأخرجه ابن وهب في الموطأ ص/ 39، حديث 54، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (8/ 397 - 400) حديث 3342، 3343، والطبراني في الكبير (12/ 180) حديث 12977، والحاكم (4/ 144)، والبيهقي (8/ 287)، وفي شعب الإيمان (5/ 9) حديث 5584، من فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. انظر: فتح الباري (5/ 121).

ص: 337

(أو حرق مخزن خَمْرٍ) قال في "الهدي"

(1)

: يجوز تحريق أماكن المعاصي وهدمها، كما حَرَّق صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار، وأمر بهدمه

(2)

.

(أو) أتلف (كتابًا فيه أحاديث رديئة) أي: تفرَّد بها وَضَّاع، أو كَذَّاب. قال في "شرح المنتهى": وظاهره ولو كان معها غيرها. ويؤيد ذلك ما قاله في "الفنون": وهو أنه يجوز إعدام الآية من كتب المبتدعة، لأجل ما هي فيه، وإهانة لما وُضعت له، ولو أمكن تمييزها.

(أو) كسر (حَليًا مُحرَّمًا على ذَكَرٍ لم يستعمله) أي: يتخذه (يصلح للنساء، لم يضمنه) لعدم احترامه، وأما إذا أتلفه، فقد تقدم

(3)

أن مُحَرَّم الصناعة يُضمن بمثله وزنا، وتُلغى صناعته، قال في "الآداب الكبرى"

(4)

: ولا يجوز تخريق

(5)

الثياب التي عليها الصور، ولا الرُّقوم التي تصلح بسطًا، ومضارج

(6)

، وتداس، ولا كسر الحلي المُحرَّم على الرجال إن صَلَح للنساء، قال في موضع آخر: ولم يستعمله الرجال.

(1)

زاد المعاد (3/ 571).

(2)

أخرج مسدد في مسنده - كما في المطالب العالية (4/ 123) حديث 3639 - ، والطبري في تفسيره (11/ 33)، وابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 1884) حديث 10089، والحاكم (4/ 596)، عن جابر رضي الله عنه قال: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حين انهار.

قال الحاكم: هذا إسناد صحيح. ووافقه الذهبي. انظر: سيرة ابن هشام (4/ 175)، وتفسير ابن كثير (2/ 388).

(3)

(9/ 286).

(4)

الآداب الشرعية (1/ 236).

(5)

في "ذ": "تحريق".

(6)

المضارج: واحدها مِضْرَج، وتضرَّج الثوب إذا تشقَّق، وضرَّجت الثوب تضريجًا إذا صبغته بالحمرة، وهو دون المشبع وفوق المورد، والمضارج: الثياب الخُلْقَان تُبْتَذل. لسان العرب (2/ 313) مادة (ضرج).

ص: 338

(وإن تلفت حامل، أو) تلف (حملها، من ريح طبيخ عَلِم ربُّهُ ذلك عادةً، ضَمِن) ما تلف بسببه، فإن لم يعلمه عادة لها، فلا ضمان

(1)

.

قلت: ويُقبلِ قوله في عدم العلم؛ لأن الأصل براءته، لكن إن طلبتْ، وامتنع، ضَمِن؛ لأنه إنما يُعلم من قبلها.

(قال الشيخ

(2)

: وللمظلوم الاستعانة بمخلوق) أي: في دفع الظلم

(3)

عن نفسه (فـ) ــاستعانته (بخالقه أولى) من استعانته بالمخلوق (وله) أي: المظلوم (الدعاء بما آلمه) أي: بسبب ما آلمه (بقدر ما يوجبه ألم ظلمه).

و (لا) يجوز له الدعاء (على من شتمه، أو أخذ ماله، بالكفر

(4)

) لأنه فوق ما يوجبه ألم الظلم

(5)

.

(ولو كذب) ظالمٌ (عليه) أي: على إنسان (لم يَفْتر) أي: لم يكذب (عليه) أي: الكاذب (بل يدعو الله في من يفتري عليه نظيره، وكذا إن أفسد) إنسان (عليه دِينه) فلا يفسد هو عليه دِينه، بل يدعو الله عليه في من يفسد عليه دِينه. هذا مقتضى التشبيه، والتورُّع عنه أَولى.

(قال أحمد

(6)

: الدُّعاء قِصاصٌ، ومَن دعا على مَن ظلمه فما صَبَر،

(1)

زاد في "ذ": "عليه".

(2)

الاختيارات الفقهية ص/ 241.

(3)

في "ذ": "المظلمة".

(4)

في هامش نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله ما نصه (2/ 375): "أي: بأن يقول: سلبه الله الإيمان مثلًا".

(5)

في "ذ": "ظلمه".

(6)

طبقات الحنابلة (1/ 408)، ومناقب الإمام أحمد ص/ 414، والفروع (4/ 528) و (6/ 119).

ص: 339

يريد أنه انتصر) لنفسه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن دَعا على مَن ظلمهُ فقدِ انتصرَ" رواه الترمذي

(1)

عن عائشة.

(ولمن صَبرَ) فلم ينتصر (وغَفَر) تجاوز (إنَّ ذلك) الصبر والتجاوز (لمن عَزْمِ الأمور) أي: معزوماتها، بمعنى المطلوبات شرعًا.

(1)

في الدعوات، باب 103، حديث 3552، وفي العلل الكبير ص/ 366، حديث 681. وأخرجه - أيضًا - ابن أبي شيبة (10/ 347 - 348)، والبزار في مسنده - كما في تفسير ابن كثير (4/ 120) -، وأبو يعلى (7/ 433، 8/ 94) حديث 4454، 4631، وابن عدي (6/ 2407)، وابن السماك في جزء حنبل ص/ 123، حديث 1، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (1/ 338)، والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 242 - 243) حديث 386 - 388، وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/ 408)، والذهبي في تذكرة الحفاظ (2/ 613) من طريق أبي الأحوص، عن أبي حمزة (ميمون)، عن إبراهم النخعي، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها.

قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرف إلا من حديث أبي حمزة.

وقال في العلل الكبير (2/ 922): سألت محمدًا [البخاري] عن هذا الحديث فقال: لا أعلم أحدًا روى هنا الحديث غير أبي الأحوص، ولكن هو عن أبي حمزة، وضعَّف أبا حمزة جدًّا.

وقال ابن طاهر في ذخيرة الحفاظ (4/ 2278): رواه أبو حمزة ميمون القصاب، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، ولا أعلم يرويه عن أبي حمزة غير أبي الأحوص، وأبو حمزة متروك الحديث.

وقال ابن كثير في تفسيره (4/ 120): رواه الترمذي من حديث أبي الأحوص، عن أبي حمزة، واسمه ميمون. ثم قال [أي: الترمذي]: لا نعرف إلا من حديثه، وقد تُكلم فيه من قبل حفظه.

وضعَّف إسناده أيضًا: ابنُ مفلح في الآداب الشرعية (2/ 227)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (2/ 791)، والمناوى في التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 416)، والعجلوني في كشف الخفاء (2/ 325).

ص: 340

‌باب الشفعة

بإسكان الفاء، من الشَّفاعة، أي: الزيادة أو التقوية، أو من الشَّفْع وهو أحسنها، فإن الشَّفْع هو الزوج، والشفيع كان نصيبه منفردًا في ملكه، فبالشُّفعة ضم المبيع إلى ملكه فصار شفعًا، والشافع هو جاعل الوتر شفعًا، والشفيع فعيل بمعنى فاعل

(1)

.

وهي ثابتة بالسُّنة، فروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم:"قضى بالشُّفعة في كُلِّ ما لم يُقْسَمْ، فإذا وقعت الحُدودُ، وصُرفت الطُّرُقُ، فلا شُفعةَ" رواه أحمد والبخاري

(2)

. وحكى ابن المنذر

(3)

الإجماع عليها.

(وهي استحقاق الشريك) في ملك الرقبة، ولو مكاتَبًا (انتزاع حصة شريكة) إذا انتقلت إلى غيره (من يد من انتقلت) حصة الشريك (إليه، إن كان) المنتقل إليه (مثله) أي: الشفيع في الإسلام، أو الكفر (أو دونه) بأن كان الشفيع مسلمًا، والمشتري كافرًا، فإن كان بالعكس، فلا شُفعة - ويأتي - وقوله (بِعِوَض مالي) من متعلق بـ "انتقلت"، وقوله (بثَمَنه) أي: نصيب الشريك (الذي استقرَّ عليه العقد) متعلق بـ "انتزاع".

فخرج بقوله: "الشريك" الجار، والموصى له بنفع دار، إذا باعها

(1)

انظر: المطلع ص/ 278.

(2)

أحمد (3/ 297، 372، 399)، والبخاري في البيوع، باب 96، 97، حديث 2213، 2214، وفي الشفعة، باب 1، حديث 2257، وفي الشركة، باب 8، 9، حديث 2495، 2496، وفي الحيل، باب 14، حديث 6976. وأخرجه مسلم في المساقاة، حديث 1608 بلفظ: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم رَبْعة أو حائط

الحديث.

(3)

الإجماع ص/ 121.

ص: 341

أو بعضَها وارثٌ؛ لأن الموصى له ليس بمالك لشيء من الدار.

وقوله: بـ "عِوَض" مخرج للموروث، والموصى به، والموهوب بلا عوض ونحوه.

وقوله: "مالي" مخرج للمجعول عوضًا عن مهر، أو خُلع، أو دم عمد، صُلحًا ونحوه.

قال الحارثيُّ: وأورد على قَيْدِ الشركة أنه لو كان من تمام الحَدِّ، لما حسن أن يقال: هل تثبت الشفعة للجار؛ أو لا؟ انتهى.

ويُردُّ: بأن السؤال لا يكون ممن عرف هذا الحَدَّ، وإنما يكون من الجاهل به. فيجاب: بأن الشفعة استحقاق الشريك لا الجار.

(ولا يحل الاحتيالُ لإسقاطها) أي: الشُّفعة. قال الإمام أحمد

(1)

: لا يجوز شيء من الحيل في إبطالها ولا إبطال حقِّ مسلم. واستدلَّ الأصحاب بحديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تَرْتكبوا ما ارْتكبَت اليهودُ، فَتستحِلُّوا مَحارمَ الله بأدْنَى الحِيل" قاله في "المغني" وغيره، ورواه ابن بطة بإسناده

(2)

. وقد حرم الله الحيل في كتابه في

(1)

مسائل إسماعيل بن سعيد - كما في بيان الدليل على بطلان التحليل لشيخ الإسلام ابن تيمية ص/ 60 - ، ومسائل صالح (3/ 130) رقم 1495، وإبطال الحيل لابن بطة ص/ 112، وطبقات الحنابلة (1/ 104، 332).

(2)

في إبطال الحيل، ص/ 112، عن أبي الحسن أحمد بن سلم، عن الحسن بن محمد الزعفراني، عن يزيد بن هارون، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأورده شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (29/ 29)، والعلامة ابن القيم في تهذيب السنن (5/ 103)، وحسَّنا إسناده.

وقال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (3/ 426): وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل". =

ص: 342

مواضع

(1)

.

(ولا تسقط) الشُّفعة (به) أي: بالاحتيال لإسقاطها؛ لأنها وُضِعت لدفع الضَّرر، فلو سقطت بالتحيل، لَلَحِق الضرر.

(والحيلة أن يُظْهِرا) أي: المتعاقدان (في البيع شيئًا لا يؤخذ بالشفعة معه، و) أن (يتواطآ في الباطن على خلافه) أي: خلاف ما أظهراه.

(فمن صور الاحتيال: أن تكون قيمةُ الشِّقْص) بكر الشين، أي: النصيب (مائةً، وللمشتري عَرْضٌ قيمتهُ مائةٌ، فيبيعه) أي: فيتواطآن على بيع (العرض) لمالك الحصة (بمائتين، ثم يشتري الشِّقْصَ منه بمائتين، فيتقاصَّان.

أو يتواطآن على أن) يبيعه الشِّقْص بمائتين، ثم (يدفع إليه عشرة دنانير عن المائتين، وهي) أي: العشرة الدنانير (أقل) قيمة (من المائتين) من الدراهم (فلا يُقدِم الشفيعُ عليه) أي: على أخذ الشِّقْص (لنقصان

= وأورده ابن كثير في تفسيره (3/ 492) وقال: هذا إسناد جيد، فإن أحمد بن محمد بن سلم هذا ذكره الخطيب في تاريخه [(4/ 362)] ووثقه، وباقي رجاله مشهورون ثقات، ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيرًا. ووقع في مطبوع إبطال الحيل وتفسير ابن كثير: ابن مسلم، والصواب: ابن مسلم، كما ذكرناه عن الخطيب البغدادي، وكما هو في الإبانة (3/ 132، 296). وانظر: غاية المرام في تخريج أحاديث كتاب الحلال والحرام ص/ 23 - 24.

(1)

ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب بيان الدليل على بطلان التحليل ص/ 61 - 127، ومنها قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ. . . . وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 8 - 15]، وقوله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وقوله:{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62]، وقصة أصحاب السبت التي وردت في سورة البقرة، الآيتان: 65 - 66، وفي سورة الأعراف، الآيات: 163 - 166.

ص: 343

قيمته عن المائتين.

ومنها) أي: صور الاحتيال (إظهارُ كونِ الثمنِ مائةً، ويكون المدفوع) ثمنًا باطنًا (عشرين فقط.

ومنها: أن يكون كذلك) أي: أن يُظهرا أن الثمن مائة (فيبرئه) البائع (من ثمانين) من المائة ويأخذ عشرين.

(ومنها) أي: من صور الاحتيال: (أن يَهَبَه) البائع (الشِّقْص، ويَهَبَه الموهوبُ له الثمنَ) بعد أن تواطآ على ذلك.

(ومنها: أن يبيعه الشِّقص بصبرة

(1)

دراهم معلومةٍ) بـ (ــالمشاهدة، مجهولة المقدار) ليمنع الشفيع من الشُّفْعة؛ لجهالة قَدْر الثمن (أو) يبيعه الشِّقْص (بجوهرة ونحوها) مما تُجهل قيمته، ليمنع أخذ الشفيع بالشفعة.

(فالشفيع على شُفعته في جميع ذلك) المذكور من الصور؛ لما

(2)

تقدم.

(فيدفع) الشفيع إذا أخذ بالشفعة (في) الصورة (الأولى) وهي ما إذا كانت قيمة الشقص مائة، وللمشتري عرض قيمته مائة، فأظهرا بيع كل منهما بمائتين وتقاصَّا (قيمة العرض مائة) لأنها الثمن حقيقة (أو) يدفع فيما إذا كانت قيمة الشقص مائة، وأظهرا البيع بمائتين، ثم عوَّضه عنها عشرة دنانير (مثل العشرة دنانير) دون المائتين؛ لأنها غير مقصودة باطنًا.

(و) يدفع (في) الصورة (الثانية) وهي ما إذا أظهرا أن الثمن مائة، والمدفوع عشرون فقط، عشرين.

(1)

في متن الإقناع (2/ 607): "بصُرَّة".

(2)

في "ذ": "كما".

ص: 344

(و) في (الثالثة) وهي ما إذا أظهرا أن الثمن مائة، وأبرأه من ثمانين (عشرين) لأن ما زاد عليها ليس مقصودًا حقيقة.

(و) يدفع (في) الصورة (الرابعة) وهي ما إذا أظهرا التواهب (مثل الثمن الموهوب له) أي: للبائع.

(و) يدفع (في) الصورة (الخامسة) وهي ما إذا باعه بصُبْرة دراهم مشاهدة، مجهولة القَدْر حيلة، أو بجوهرة ونحوها، مجهولة القيمة حيلة (مثل الثمن المجهول) من الدراهم (أو قيمته) إذا كان جوهرة ونحوها (إن كانت) الثمن (باقيًا.

ولو تعذَّر معرفة الثمن) مع الحيلة (بتَلَف) الثمن المعقود عليه (أو موت) العبد ونحوه المجعول ثمنًا (دفع) الشفيع (إليه) أي: المشتري (قيمة الشِّقْص) المشفوع؛ لأن الأصل في عقود المعاوضات أن يكون العوض فيها بقَدْرِ القيمة؛ لأنها لو وقعت بأقل، أو أكثر لكانت محاباة، والأصل عدمها.

"تتمة": في "الفائق": قلت: ومن صور التحيل: أن يقفه المشتري، أو يهبه، حيلة، لإسقاطها، فلا تسقط بذلك عند الأئمة الأربعة

(1)

، ويغلط من يحكم بهذا ممن ينتحل مذهب أحمد، وللشفيع الأخذ بدون حكم، انتهى. قال في القاعدة الرابعة والخمسين

(2)

: هذا الأظهر.

(وإن تعذَّر) عِلْمُ قَدْر الثمن (من غير حيلة) في ذلك على إسقاط

(1)

انظر: المبسوط (14/ 114)، والذخيرة للقرافي (7/ 375)، وروضة الطالبين للنووي (5/ 111)، والتمام (2/ 74) والمغني (7/ 485).

(2)

القواعد الفقهية لابن رجب ص/ 90.

ص: 345

الشفعة (بأن قال المشتري: لا أعلم قَدْرَ الثمن) ولا بينة به (فقوله) أي: المشتري (مع يمينه

(1)

) أنه لا يعلم قَدْر الثمن (وأنه لم يفعله حيلة) على إسقاط الشُّفْعة؛ لأن الأصل عدم ذلك.

(وتسقط الشُّفعة) حيث جهل قَدْر الثمن بلا حيلة، كما لو علم قَدْره عند الشراء، ثم نسي؛ لأن الشُّفْعة لا تستحق بغير بدل، ولا يمكن أن يدفع إله ما لا يدعيه، ودعواه لا تمكن مع جهله.

(فإن اختلفا) أي: المشتري والشفيع (هل وقع شيء من ذلك حيلة) على إسقاط الشُّفْعة (أو لا) بأن قال الشفيع: وقع ذلك حيلة، وأنكره المشتري (فـ) ــالقول (قول المشتري مع يمينه) أنه لم يقع حيلة؛ لأن الأصل عدمه، ولأنه منكِرٌ (وتسقط) الشُّفْعة إذا حلف المشتري، فإن نكل، قُضي عليه بالنكول (وإن خالف أحدهما) أي: المتعاقدين (ما تواطآ عليه) وأظهرا خلافه، كما لو تواطآ على أن الثمن عشرون، وأظهراه مائة (فطالب) البائع (صاحبه) أي: المشتري (بما أظهراه) أي: المائة (لزمه) دفع المائة (في ظاهر الحكم) لأن الأصل عدم التواطؤ، قلت: إن لم تقم بينة بالتواطؤ، وله تحليف البائع أنه لم يتواطأ معه على ذلك.

(ولا يَحلُّ في الباطن لمن غَرَّ صاحبَه الأخذُ) أي: لا يحل باطنًا للبائع أن يأخذه من المشتري (بخلاف ما تواطآ عليه) بأن يأخذ منه زيادة؛ لأنه ظلم.

(و‌

‌لا تثبت) الشُّفْعة (إلا بشروطٍ خمسة:

أحدها: أن يكون الشِّقْص) المنتقل عن الشريك (مبيعًا، أو مصالحًا به صُلحًا بمعنى البيع) بأن يقر له بدَيْن أو

(1)

في "ذ": "بيمينه".

ص: 346

عين

(1)

، فيصالحه عن ذلك بالشِّقْص (أو) يكون الشِّقْص (مصالَحًا به عن جناية موجبة للمال) كقتل الخطأ، وشبه العمد، وأرش الجائفة، ونحوها (أو) يكون الشقص (موهوبًا هبة مشروطًا فيها الثواب) أي: عوض (معلوم) لأن الشفيع يأخذه بمثل الثمن الذي انتقل به إلى المشتري، ولا يمكن هذا في غير المبيع، وألحق بالبيع المذكورات بعده؛ لأنها بيع في الحقيقة، لكن بألفاظ أُخر.

(فلا شفعة فيما) أي: في شقص (انتقل) عن ملك الشريك (بغير عوض بحال) أي: لا مالي ولا غيره (كموهوب) بغير عوض (وموصىً به، وموروث ونحوه) كدخوله في ملكه بطلاق قبل الدخول، بأن أُصدقت امرأة أرضًا، وباعت نصفها، ثم طَلَّقها الزوج قبل الدخول، فإنه يرجع إليه النصف الباقي في ملكها، ولا شُفعة للمشتري من المرأة عليه.

(ولا) شُفعة أيضًا (فيما عِوَضُه غيرُ مال، كصداق، وعوض خلع) أو طلاق، أو عتق (وصلح عن دم عمد) لأن ذلك ليس له عوض يمكن الأخذ به، فأشبه الموهوب والموروث، وفارق البيع؛ لأنه يأخذ بعوضه.

فلو جنى جنايتين: عمدًا، وخطأ، فصالحه منهما على شِقص، أُخذ بها في نصف الشقص، أي: ما يقابل الخطأ دون باقيه؛ لأن الصفقة جمعت ما فيه شفعة، وما لا شفعة فيه، فوجبت فيما تجب فيه، دون الآخر، كما لو باع شقصًا وسيفًا.

ومن قال لأمِّ ولده: إن خدمت ولدي حتى يستغني، فلك هذا الشقص، فخدمته إلى الفطام استحقته، ولا شُفعة فيه؛ لأنه موصىً به بشرط.

(1)

أشار في حاشية "ذ" إلى أنه في نسخة: "غيره".

ص: 347

(و) لا شُفعة - أيضًا - في (ما) أي: شقص (أخذه) المنتقل إليه (أجرةً، أو جعالةً، أو ثمنًا في سَلَمٍ) إن صح جعل العقار رأس مال سَلَم (أو عوضًا في كتابة) لأنه لا يمكن الأخذ بقيمة الشقص؛ لأنها ليست بعوضه في المسائل الأربع، ولا بقيمة مُقابِلِهِ من النفع والعين، و- أيضًا - الخبر وارد في البيع، وليست هذه في معناه، ورد الحارثي ذلك، وصحح جريان الشفعة قولًا واحدًا.

(ومثله) أي: مثل ما عوضه غير مال (ما) أي: شقص (اشتراه الذمي بخمر أو خنزير) لأنهما ليسا بمال.

(ولا تجب) الشُّفعة (بفسخ يرجع به الشقص إلى العاقد) أي: البيع

(1)

(كردِّه) أي: رَدّ المشتري الشِّقص (بعيب، أو مقايلة، أو لغبن، أو اختلاف متبايعين) في الثمن، أو خيار مجلس، أو شرط، أو تدليس؛ لأن الفسخ رفع للعقد، فليس بيعًا ولا في معناه.

فصل

الشرط (الثاني: أن يكون) المبيع وما بمعناه (شِقصًا مُشاعًا مع شريك - ولو مكاتَبًا - من عقار) بفتح العين، يعني أرضًا (ينقسم) أي: تجب قسمته بطلب بعض الشركاء (قسمة إجبار) لقوله صلى الله عليه وسلم: "الشُّفْعَةُ فيما لم يُقسَم، فإذا وَقَعت الحدودُ فلا شُفعةَ" رواه الشافعي

(2)

. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الشُّفعَةُ في كُلِّ ما لم يُقسم، فإذا وقعت الحدودُ، وَصُرفَت الطُّرقُ فلا

(1)

في "ح" و"ذ": "البائع".

(2)

في مسنده (ترتيبه 2/ 165)، عن جابر رضي الله عنه، وتقدم تخريجه (9/ 342)، تعليق رقم (2).

ص: 348

شُفعةَ" رواه أبو داود

(1)

.

فإن قيل: إنما نفى الشفعة بصَرْف الطرقات، وهي للجار غير مصروفة؟

أجيب: بأن الطرقات التي تنصرف بالقسمة مختصَّة باستطراق المُشاع، الذي يستطرق به الشريك ليصل إلى ملكه، فإذا وقعت القسمة، انصرف استطراقه في ملك شريكه، وأما غيره من الطُّرقات المستحقة فلا تنصرف أبدًا.

(فأما المقسوم المحدود، فلا شُفعة لجاره فيه) لما تقدم.

وأما حديث: "الجار أحقُّ بصَقبهِ" رواه البخاري وأبو داود

(2)

، قال في "القاموس"

(3)

: أي: بما يليه ويقرب منه. وحديث: "جَارُ الدَّارِ أحقُّ بالدارِ" رواه الترمذي

(4)

وقال: حسن صحيح. وحديث: "الجارُ أحقُّ

(1)

في البيوع، باب 75، حديث 3514، عن جابر رضي الله عنه، وقد تقدم تخريجه (9/ 342)، تعليق رقم (2).

(2)

البخاري في الشفعة، باب 2، حديث 2258، وفي الحيل، باب 14، 15، حديث 6977، 6978، 6980، 6981، وأبو داود في البيوع، باب 75، حديث 3516، عن أبي رافع رضي الله عنه.

(3)

ص/ 135، مادة (صقب).

(4)

في الأحكام، باب 31، حديث 1368. وأخرجه - أيضًا - أبو داود في البيوع، باب 75، حديث 3517، والنسائي في الكبرى (10/ 365) حديث 11717 (طبعة مؤسسة الرسالة)، والطيالسي ص/ 122، حديث 904، وابن أبي شيبة (7/ 165)، وأحمد (5/ 8، 12، 13، 17، 18، 22)، وابن الجارود (2/ 211) حديث 644، والطحاوي (4/ 123)، وابن أبي حاتم في العلل (1/ 480)، والطبراني في الكبير (7/ 196 - 197) حديث 6801 - 6807، وابن عدي (2/ 729)، والقطيعي في جزء الألف دينار ص/ 205، حديث 135، والبيهقي (6/ 106)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 215) حديث 1565، من طرق عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة - رضي =

ص: 349

بِشُفعةِ جارِهِ، يُنتظرُ بها إذا كان غائبًا، إذا كان طريقُهما واحدًا" رواه الترمذي

(1)

وحسَّنه.

= الله عنه - مرفوعًا.

وأخرجه الترمذي في العلل ص/ 214، حديث 381، والنسائي في الكبرى (10/ 364) حديث 11713، والطحاوي (4/ 122)، وابن حبان "الإحسان"(11/ 585) حديث 5182، والطبراني في الأوسط (9/ 68) حديث 8142، والخطيب في تاريخه (11/ 342)، وأبو طاهر السلفي في معجم السفر ص/ 129، حديث 393، والذهبي في المعجم المختص ص/ 120، وفي معجم الشيوخ (1/ 321)، من طريق عيسى بن يونس، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا.

قال البخاري - كما نقل عنه الترمذي في العلل -: الصحيح حديث الحسن عن سمرة، وحديث قتادة عن أنس غير محفوظ، ولم يعرف أن أحدًا رواه عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس غير عيسى بن يونس.

وبمثل قول البخاري قال أبو زرعة وأبو حاتم كما في العلل لابن أبي حاتم (1/ 480)، والدارقطني كما في الأحكام الوسطى لعبد الحق (3/ 295)، والحافظ ابن حجر في إتحاف المهرة (2/ 207)، وقال: وقد صححه مع ذلك ابن القطان، واحتج بأن قاسم بن أصبغ رواه عن محمد بن إسماعيل، عن نعيم بن حماد، عن عيسى بن يونس، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. وعن سعيد عن قتادة، عن أنس، قال: فروايته للوجهين دليل على أنه كان عند سعيد كذلك، ولا يعلل أحدهما بالآخر. انظر: بيان الوهم والإيهام (2/ 442). وذكره السيوطي في الجامع الصغير (3/ 343 - مع الفيض) ورمز لصحته.

(1)

في الأحكام، باب 32، حديث 1369، وفي العلل ص/ 216، حديث 385. وأخرجه - أيضًا - أبو داود في البيوع، باب 73، حديث 3518، والنسائي في "الكبرى" (10/ 365) حديث 11714 (طبعة مؤسسة الرسالة)، وابن ماجه في الشفعة، باب 2، حديث 2494، ومحمد بن الحسن الشيباني في الحجة على أهل المدينة (3/ 75)، والطيالسي ص/ 234، حديث 1677، وعبد الرزاق (8/ 81) حديث 14396، وابن أبي شيبة (6/ 358، 7/ 165 - 166)، وأحمد (3/ 303)، والدارمي في البيوع، باب 83، حديث 2627، والطحاوي (4/ 120، 121)، =

ص: 350

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= والعقيلي (3/ 31)، والطبراني في الأوسط (5/ 330، 8/ 201) حديث 5460، 8399، وابن عدي (5/ 1941)، والبيهقي (6/ 106)، والخطيب في الموضح (2/ 528)، وابن عبد البر في التمهيد (7/ 47)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 216) حديث 1568، من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

قال الترمذي: هذا حديث غريب - وفي تحفة الأشراف (2/ 229) حديث 2434، ونصب الراية (4/ 173): حسن غريب - وعبد الملك هو ثقة مأمون عند أهل الحديث، لا نعلم أحدًا تكلم فيه غير شعبة من أجل هذا الحديث.

وقال في العلل: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث؟ فقال: لا أعلم أحدًا رواه عن عطاء غير عبد الملك بن أبي سليمان، وهو حديثه الذي تفرد به، ويروى عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف هذا.

وقال الشافعي في اختلاف الحديث ص/ 161: سمعنا بعض أهل العلم بالحديث يقول: نخاف ألّا يكون هذا الحديث محفوظًا. قيل له: ومن أين قلت؟ قال: إنما رواه عن جابر بن عبد الله، وقد روى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر مفسرًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة". وأبو سلمة من الحفاظ. وروى أبو الزبير - وهو من الحفاظ - عن جابر ما يوافق قول أبي سلمة، ويخالف ما روى عبد الملك بن أبي سليمان.

واستنكره: شعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، ووكيع بن الجراح، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، والبيهقي، وابن عبد البر، والزرقاني، والمناوي. انظر: السنن الكبرى للبيهقي (6/ 106 - 107)، والتمهيد (7/ 48)، وتهذيب الكمال (18/ 325)، وإعلام الموقعين (2/ 145)، وشرح الموطأ للزرقاني (3/ 477)، وفيض القدير (3/ 353).

وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (2/ 144): هذا حديث صحيح، فلا يُرَدُّ.

وقال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (3/ 58): واعلم أن حديث عبد الملك حديث صحيح، ولا منافاة بينه وبين رواية جابر المشهورة، فإن في حديث عبد الملك:"إذا كان طريقهما واحدًا"، وحديث جابر المشهور لم ينف فيه استحقاق الشفعة إلا بشرط تصرف الطرق؛ قاله الحنابلة. فنقول: إذا اشترك الجاران في المنافع كالبئر أو السطح =

ص: 351

فقد أجيب عن الأول بوجهين:

أحدهما: أنه أَبهم الحق ولم يُصرِّح به، فلم يجز أن يُحمل على العموم.

والثاني: أنه محمول على أنه أحق بالفناء الذي بينه وبين الجار ممن ليس بجار، أو يكون مرتفقًا به.

وعن الثاني: بأن الحسن رواه عن سَمُرة، وأهل الحديث اختلفوا في لقاء الحسن له، ومن أثبت لقاءه إياه قال: إنه لم يرو عنه إلا حديث العقيقة، ولو سلم لكان عنه الجوابان المذكوران.

وعن الثالث: بأن شُعبة قال: سها فيه عبد الملك بن سليمان

(1)

الذي الحديث من روايته، وقال الإمام أحمد

(2)

: هذا الحديث منكر. وقال ابن معين

(3)

: لم يروه غير عبد الملك، وقد أنكر عليه.

= أو الطريق، فالجار أحق بصفقة [كذا، ولعلها: "بشفعة"] جاره، كحديث عبد الملك، وإذا لم يشتركا في شيء من المنافع فلا شفعة؛ لحديث جابر المشهور، وهو أحد الأوجه الثلاثة في مذهب أحمد وغيره، وطعن شعبة في عبد الملك بسبب هذا الحديث لا يقدح في عبد الملك، فإن عبد الملك ثقة مأمون، وشعبة لم يكن عن الحُذَّاق في الفقه ليجمع بين الأحاديث إذا ظهر تعارضها، وإنما كان إمامًا في الحفظ، وطَعْنُ من طَعَن فيه إنما هو اتباعًا لشُعبة وقد احتج مسلم في صحيحه بعبد الملك، وخرج له أحاديث، واستشهد به البخاري، وكان سفيان يقول: حدثني الميزان عبد الملك بن أبي سليمان. وقد وثقه الإمام أحمد ويحيى بن معين والنسائي وغيرهم. وصحح الحديث - أيضًا - في المحرر ص/ 330، حديث 939.

(1)

كذا في الأصول "بن سليمان" والصواب: "ابن أبي سليمان" كما في كتب التخريج والتراجم.

(2)

في العلل ومعرفة الرجال (2/ 281) رقم 2256، وانظر:(1/ 545، 333) رقم 1292، 599 من الكتاب المذكور، وتاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/ 460) رقم 1169.

(3)

انظر: تاريخ بغداد (10/ 394 - 395)، وتاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/ 460) =

ص: 352

ثم يحتمل أن المراد بالجار في الأحاديث: الشريك، فإنه جار - أيضًا -، لأن اسم الجوار يختص بالقريب، والشريك أقرب من اللصيق، فكان أحق باسم الجوار، وقد أطلقت العرب على الزوجة جارة؛ لقربها. قال الأعشى

(1)

:

أجارتنا بِيني فأنتِ طالقه

(ولا) شفعة (في طريق نافذ) لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا شُفعةَ في فناءٍ، ولا في طريقٍ، ولا مَثقبةٍ

(2)

" رواه أبو عبيد في "الغريب"

(3)

. و"المثقبة

(2)

": الطريق الضيق بين دارين؛ لا يمكن أن يسلكه أحد.

(فإن كان) طريق (غير نافذ لكلِّ واحدٍ من أهله فيه باب، فباع أحدهم داره فيه) أي: في الطريق غير النافذ (بطريقها، أو باع الطريقَ وحده، وكان الطريق لا يقبل القسمة، أو) كان الطريق (يقبَلُها، وليس لدار المشتري طريق إلى داره سوى تلك الطريق، ولا يمكن فتح باب لها) أي: لدار المشتري (إلى شارع) أي: طريق نافذ (فلا شُفعة) للحديث السابق؛ ولحصول الضرر على المشتري بوجوبها؛ لأن الدار تبقى لا طريق لها (ولو كان نصيب المشتري) للدار بطريقها أو لطريقها (من

= رقم 1169.

(1)

ديوان الأعشى، ص/ 122، وفيه:

يا جارتي بيني فإنك طالقه

كذاك أمور الناس غادٍ وطارقه.

(2)

كذا في الأصول! والذي في غريب الحديث لأبي عبيد: (منقبة) بالنون، وكذلك هو في المعاجم.

(3)

غريب الحديث (3/ 121 ط الهند، 2/ 539 ط مصر) ولم يسنده، وأورده ابن الجوزي في التحقيق (2/ 217) من دون إسناد. وأخرج عبد الرزاق (8/ 87) حديث 14427، عن محمد بن أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا شفعة في ماء، ولا طريق، ولا فحل".

ص: 353

الطريق أكثر من حاجته) في الاستطراق؛ لأن في وجوبها في الزائد تبعيض صفقة المشتري، ولا يخلو من الضرر.

(وإن كان الطريقُ يَقبلُ القسمة) لسعته (ولدار المشتري طريق آخر إلى شارع) أو غيره (أو) لم يكن لها طريق لكن (أمكن فتح باب لها إلى شارع، وجبت) الشُّفعة في الطريق المشترك المذكور؛ لأنه أرض مشتركة تحتمل القسمة، فوجبت فيه الشفعة كغيره.

(وكذا) أي: كالطريق المشترك في وجوب الشفعة وعدمه على التفصيل المتقدم (دهليز دار، وصحن دار مشتركان) والدِّهليز، بكسر الدال: ما بين الباب والدار. والصحن: وسط الدار. فإذا بيعت دار لها دهليز مشترك، أو بيت بابه في صحن دار مشترك، ولا يمكن الاستطراق إلى المبيع إلا من ذلك الدهليز أو الصحن، فلا شُفعة فيهما؛ للضرر.

وإن كان له باب آخر، أو أمكن فتح باب له إلى شارع، وجبت؛ لوجود المقتضي وعدم المانع.

(ولا شُفعة بالشِّرب) بكسر الشين المعجمة، وسكون الراء المهملة (وهو النهر أو البئر) أو العين (يسقي أرض هذا، و) يسقي (أرض هذا، فإذا باع أحدهما أرضه) المفرزة (فليس للآخر الأخذ) بالشفعة (بـ) ــسبب (حقه من الشِّرب) لعموم ما سبق.

(ولا) شُفعة (فيما لا تجب قسمته) إذا طلبها أحد الشركاء (كحمَّام صغير، وبئر، وطرق، وعِراص ضيِّقة) ورحىً صغيرة، وعِضادة

(1)

؛

(1)

العضادة: ما يصنع لجريان الماء فيه من السواقي في ذوات الكتفين، ومنه: عضادتا الباب، وهما خشبتاه من جانبيه، فإن تلاصقت، لم يمكن قسمتها، وإن تباعدت، أمكن قسمتها. المطلع ص/ 402.

ص: 354

لحديث أبي عبيد السابق

(1)

، ولقول عثمان:"لا شُفعةَ في بئرٍ ولا نخْلٍ"

(2)

، ولأن إثبات الشفعة في هذا يضر بالبائع؛ لأنه لا يمكنه أن يتخلَّص من إثبات الشفعة في نصيبه بالقسمة، وقد يمتنع المشتري لأجل الشفيع، فيتضرر البائع، وقد يمتنع البيع فتسقط الشفعة، فيؤدي إثباتها إلى نفيها.

فإن كان الحَمَّام كبيرًا تُمكِن قسمته حَمَّامين، أو أمكنت قسمة البئر بئرين، أو كان مع البئر بياض أرض بحيث تحصل البئر في أحد النصيبين، وجبت الشفعة، وكذا الرَّحى.

(ولا) شُفعة أيضًا (فيما ليس بعقار كشجر) مفرَد (وحيوان، وبناء

(1)

تقدم تخريجه (9/ 353) تعليق رقم (3).

(2)

أخرجه الشافعي في الأم (4/ 4) - لكن ليس في المطبوع لفظه، وساقه من طريقه تامًّا البيهقي في معرفة السنن والآثار (8/ 319) رقم 12048 - ، وأبو عبيد في غريب الحديث (3/ 417)، وابن أبي شيبة (6/ 579، 7/ 172)، وأحمد كما في مسائل صالح (3/ 185) رقم 1612، وابن أبي حاتم في العلل (1/ 479) من طريق محمد بن عمارة، عن أبي بكر بن حزم، عن أبان بن عثمان، عن عثمان رضي الله عنه.

وأخرجه مالك في الموطأ (2/ 717)، وعبد الرزاق (8/ 80، 87) رقم 14393، 14426، والبيهقي (6/ 105) من طريق محمد بن عمارة، عن أبي بكر بن حزم، عن عثمان رضي الله عنه.

قال الدارقطني في العلل (3/ 15): وكلهم وقفوه، ورواه يزيد بن عياض، عن أبي بكر بن حزم، عن أبان بن عثمان، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف أصح، ويزيد بن عياض ضعيف.

وأخرجه عبد الرزاق (8/ 88) رقم 14428 من طريق أبي طوالة، عن أبان بن عثمان قال: لا شفعة في بئر ولا فحل.

وأخرجه ابن الجوزي في التحقيق (2/ 217) رقم 1570 من طريق أبي بكر بن حزم عن عمر رضي الله عنه موقوفًا.

ص: 355

مفرَد) عن أرض (وجوهر، وسيف، ونحوها) كسفينة، وزرع وثمرة؛ لأن من شرط وجوبها أن يكون المبيع أرضًا؛ لأنها هي التي تبقى على الدوام، ويدوم ضررها (إلا أن الغراس والبناء يؤخذان تبعًا للأرض) لقضائه صلى الله عليه وسلم "بالشُّفعةِ في كُلِّ مُشْتَرَكٍ لم يُقسَم، رَبْعَةً أو حائطًا"

(1)

وهذا يدخل فيه البناء والأشجار.

(وكذا نهر، وبئر، وقناة، ودولاب) فتؤخذ

(2)

بالشفعة تبعًا للأرض؛ لا مفرَدة.

و (لا) يؤخذ بالشفعة تبعًا ولا مفردًا (ثمرة) قال في "المغني" و"الشرح": ظاهرة (و) لا (زرع) لأنهما لا يدخلان في البيع، فلا يدخلان في الشفعة، كقماش الدار؛ لأن الشفعة بيع في الحقيقة، لكن الشارع جعل للشفيع سلطان الأخذ بغير رضا المشتري.

(فإن بِيْعَ الشجر) مع أرض فيها شفعة، وأُخذ الشجر تبعًا للأرض بالشفعة (وفيه) أي: الشجر (ثمرة غير ظاهرة، كالطَّلْع غير المتشقق، دخل) الثمر (في الشفعة) أي: المشفوع، تبعًا له، حيث أخذه الشفيع قبل التشقق؛ لأنه يتبع في البيع، فتبع في الشفعة؛ لأنها بيع في المعنى.

فإن لم يأخذه حتى تشقَّق، بقي الثمر لمشتر إلى أوان أخذه، ويأتي مفصلًا.

(وإن بيعت حصة من عُلْوِ دار مشترك) أي: العلو (وكان السقف الذي تحته لصاحب السُّفل) وحده (أو) كان السقف (لهما) أي: لصاحب

(1)

أخرجه مسلم في المساقاة، حديث 1608، عن جابر رضي الله عنه. والرَّبْع: المنزل ودار الإقامة، وربع القوم محلتهم، والرباع جمعه، والرَّبعة أخص منه. النهاية في غريب الحديث (2/ 189).

(2)

في "ذ": "فتؤخذ منه".

ص: 356

السفل والعلو (أو) كان السقف (لصاحب العلو، فلا شُفعة في العلو) لأنه بناء مفرد.

(ولا) شُفعة - أيضًا - في (السقف) لأنه لا أرض له، فهو كالأبنية المفرَدة (وإن كان السُّفل مشترَكًا) بين اثنين فأكثر (والعلو خالص لأحد الشريكين، فباع) ربُّ العلوِ (العلوَ ونصيبَه من السُّفل، فللشريك الشُّفعة في السُّفل فقط) دون العلو؛ لعدم الشركة فيه.

فصل

الشرط (الثالث) للشُّفعة: (المطالبة بها على الفَوْر) ساعة يعلم بالبيع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الشُّفعةُ لمن واثبَها"

(1)

رواه الفقهاء في كتبهم، وردَّه الحارثيُّ بأنه لا يعرف في كتب الحديث؛ ولقوله - أيضًا - في رواية:"الشُّفعة كَحَلِّ العِقال" رواه ابن ماجه

(2)

؛ ولأن ثبوتها على التراخي ربما

(1)

ذكره ابن حزم في المحلى (9/ 91)، وجزم بأنه مكذوب، والزيلعي في نصب الراية (4/ 176)، وقال: غريب.

وقال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 102): غريب، ولم أرَ من ذكره من أهل العلم غير المطرزي [المغرب (2/ 341)] مفسرًا له. وانظر: البدر المنير (7/ 16).

وأورده ابن حجر في الدراية (2/ 203) وقال: لم أجده، وإنما ذكره عبد الرزاق [8/ 83، رقم 14406] من قول شريح.

وأورده الشيرازي في المهذب (1/ 387) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

في الشفعة، باب 4، حديث 2500. وأخرجه - أيضًا - ابن حبان في المجروحين (2/ 266)، وابن عدي (6/ 2185)، والبيهقي (6/ 180)، والخطيب في تاريخه (6/ 56 - 57)، من طريق محمد بن الحارث، عن محمد في عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ونقل ابن أبي حاتم في العلل (1/ 479) عن أبي زرعة قوله: هذا حديث منكر، لا أعلم أحدًا قال بهذا.

وقال البيهقي (6/ 108): محمد بن الحارث البصري متروك، ومحمد بن =

ص: 357

أضرَّ بالمشتري؛ لعدم استقرار ملكه (بأن يُشهد) الشفيع (بالطلب) بالشُّفعة (حين يعلم) بالبيع (إن لم يكن) للشفيع (عُذر) يمنعه من الطلب.

(ثم) إذا أشهد على الطلب (له أن يُخاصم) المشتري (ولو بعد أيام) أو أشهر أو سنين؛ لأن إشهاده دليل على رغبته.

(ولا يُشترط في المطالبة حضور المشتري، لكن إن كان المشتري غائبًا، عن مجلس حاضرًا في البلد، فالأَولى أن يُشهِد على الطلب) خروجًا من خلاف مَن اشترطه، كالقاضي في "الجامع الصغير"، وأبي حنيفة

(1)

، والمراد من عدم اشتراط حضور المشتري عند المطالبة: أنه لا تُعتبر مواجهة الشفيع له. قال الحارثي: المذهب الإجزاء. ونقله عن ابن الزاغوني. قال: وهو ظاهر ما نقله أبو طالب عن أحمد

(2)

، وهو قياس المذهب - أيضًا -، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب في "رؤوس مسائله"، والقاضي أبي الحسين في "تمامه"، وصَرَّح به في "المحرر"، لكن بقيد الإشهاد، وهو المنصوص من رواية أبي طالب والأثرم

(3)

، وهذا اختيار أبي بكر، وإيراد المصنف - أي: الموفق - هنا يقتضي عدم الإجزاء، وأن الواجب المواجهة. قال: وقد صَرَّح به في "العمدة". انتهى. والثاني مقتضى كلامه في "المنتهى".

(و) على الأول: فالأولى - أيضًا - أن (يُبادر) الشفيع (إلى

= عبد الرحمن البيلماني ضعيف، ضعفهما يحيى بن معين وغيره من أئمة أهل الحديث. وقال ابن الملقن في البدر المنير (7/ 13)، وابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 56)، والبوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 62): إسناده ضعيف.

(1)

انظر: المبسوط (14/ 102).

(2)

الإنصاف مع الشرح الكبير والمقنع (15/ 390).

(3)

المصدر السابق.

ص: 358

المشتري) فيطالبه (بنفسه، أو بوكيله) بالشفعة؛ خروجًا من الخلاف.

(فإن بادر هو) أي: الشفيع (أو) بادر (وكيله) فطالب المشتري بالشُّفعة (من غير إشهاد) أنه على شُفعته (فهو على شُفعته) لعدم تأخيره الطلب.

(فإن كان) للشفيع (عُذر) يمنعه الطلب (مثل ألَّا يعلم) بالبيع، فأخَّر إلى أن علم، وطالَب ساعةَ عَلِمَ (أو علم) الشفع بالبيع (ليلًا، فأخَّره) أي: الطلب (إلى الصبح) مع غيبة مشترٍ عنه (أو) أخَّر الطلب (لشدة جوع، أو عطش، حتى يأكل ويشرب) مع غيبة مشتر (أو) أخَّر الطلب مُحْدِثٌ (لطهارة) مع غيبة مشترٍ (أو) أخَّره لـ (ــإغلاق باب، أو ليخرج من الحَمَّام، أو ليقضي حاجته) من بول أو غائط (أو ليؤذِّن ويقيم، ويأتي بالصلاة بِسُنَنِهَا، أو ليشهدها في جماعة يخاف فوتها، ونحوه) كمن علم وقد انخرق ثوبه، أو ضاع منه مال، فأخَّر الطلب ليرقع ثوبه، أو يلتمس ما سقط منه (لم تسقط) الشُّفعة؛ لأن العادة تقديم هذه الحوائج ونحوها على غيرها، فلا يكون الاشتغال بها رضًا بترك الشُّفعة، كما لو أمكنه أن يسرع في مشيه، أو يحرك دابته، فلم يفعل، ومضى على حسب عادته.

(إلا أن يكون المشتري حاضرًا عنده) أي: الشفيع (في هذه الأحوال) فتسقط بتأخيره؛ لأنه مع حضوره يمكنه مطالبته من غير اشتغال عن أشغاله (إلا الصلاة) فلا تسقط الشُّفعة بتأخير الطلب للصلاة وسُنَنها، ولو مع حضور المشتري عند الشفيع؛ لأن العادة تأخير الكلام عن الصلاة (وليس عليه) أي: الشفيع (تخفيفها) أي: الصلاة (ولا الاقتصار على أقل ما يجزئ) في الصلاة؛ لأن إكمالها لا يدلُّ على رغبته عن الشفعة.

ص: 359

(فإذا فَرَغَ) الشفيع (من حوائجه، مضى على حسب عادته إلى المشتري) ليطالبه بالشُّفعة (وليس عليه) أي: الشفيع (أن يُسرع في مشيه) إن مشى (أو يُحرِّك دابته) إن ركب؛ لأن الطلب المشروط هو الطلب بحكم العادة (فإذا لقيه بدأه بالسلام، ثم يطالب) لأنه السُّنة، وفي الحديث:"مَنْ بَدأَ بالكلامِ قَبْلَ السَّلامِ فلا تُجِيبوه" رواه الطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم في "الحلية" من حديث ابن عمر

(1)

.

(فإن قال) الشَّفيع (بعد السَّلام متصلًا به: بارك الله لك في صفقة يمينك، أو دعا له) أي: للمشتري (بالمغفرة ونحو ذلك) كأن دعا له بالمعونة (لم تبطل شُفعته؛ لأن ذلك يتَّصل بالسَّلام، فهو من جملته، والدعاء له) أي: للمشتري (بالبركة في الصفقة دعاء) من الشفيع (لنفسه؛ لأن الشِّقص يرجع إليه) أي: الشفيع، إذا أخذه بالشفعة (فلا يكون ذلك) الدعاء (رضًا) بترك الشُّفعة.

(فإن اشتغل) الشَّفيعُ (بكلامٍ آخر) غير الدُّعاء (أو) سلَّم ثم (سكت لغير حاجة، بطلت) شُفعته؛ لفوات شرطها، وهو الفور.

(ويملك) الشفيع (الشِّقصَ) المشفوعَ (بالمطالبة) بالشُّفعة (ولو لم يقبضه مع مَلاءَته بالثمن) لأن البيع السابق سبب، فإذا انضمت إليه المطالبة، كان كالإيجاب في البيع؛ إذا انضم إليه القَبول (فيصح تصرُّفه) أي: الشفيع (فيه) أي: الشِّقص المشفوع؛ لانتقال الملك إليه.

(ويورَث) الشِّقص (عنه) أي: عن الشفيع، إذا مات بعد الطلب

(1)

الطبراني في الأوسط (1/ 269) حديث 431 بلفظ: "من بدأ بالسؤال. . ."، وأبو نعيم في الحلية (8/ 199) بلفظ:"من بدأ بالكلام. . ."، وقد تقدم تخريجه (4/ 249) تعليق رقم (1).

ص: 360

كسائر أملاكه.

(ولا يُعتبر) لانتقال الملك إلى الشفيع (رِضا مُشترٍ) لأنه يؤخذ منه قهرًا، والمقهور لا يُعتبر رضاه.

(ولفظ الطلب) للأخذ بالشفعة أن يقول: (أنا طالب) بالشُّفعة (أو) أنا (مطالب) بالشُّفعة (أو) أنا (آخذ بالشُّفعة، أو) أنا (قائم عليها) أي: الشُّفعة (ونحوها

(1)

مما يفيد محاولة الأخذ) بالشُّفعة، كـ: تملكتُ الشِّقص، أو انتزعتُه من مشتريه، أو ضممتُه إلى ما كنت أملكه من العين.

(فإن أخَّر) الشريك (الطلبَ مع إمكانه) أي: الطلب (ولو جهلًا باستحقاقها) أي: الشُّفعة، سقطت؛ لأنه لا يُعذر بذلك، لعدم خفائه غالبًا (أو) أخَّر الطلب (جهلًا بأن التأخير مسقِط لها، ومثله لا يجهله، سقطت) شُفعته؛ لعدم عُذره (إلا أن يعلم) الشريك بالبيع (وهو غائب عن البلد، فيُشهِدَ على الطلب بها، فلا تسقط) شُفعته (ولو أخَّر المبادرة إلى الطلب بعد الإشهاد عند إمكانه) لأن إشهاده بالطلب دليل على الرغبة، وعلى أنه لا مانع له من الطلب إلا قيام العُذر به.

وكالغائب: مريض ومحبوس.

(وتسقطُ) الشُّفعة (إذا) علم الشريك بالبيع وهو غائب، و (سار هو) أي: الشريك الغائب (أو) سار (وكيله إلى البلد الذي فيه المشتري في طلبها) أي: الشُّفعة (ولم يُشهِد) قبل سيره (ولو) سار (بمضيٍّ) أي: سير (معتاد) لأن السير يكون لطلب الشُّفعة ولغيره، وقد قدر أن يبين كونَ سيره لطلب الشفعة بالإشهاد عليه، فإذا لم يفعل، سقطت، كتارك الطلب مع حضوره.

(1)

في "ح" و"ذ" ومتن الإقناع (2/ 612): "ونحوه".

ص: 361

(وإن أخَّر) الشريك (الطلبَ والإشهادَ؛ لعجزه عنهما، أو) لعجزه (عن السير) إلى المشتري فيطالبه، وإلى من يشهده على أنه مطالب (كالمريض، لا من صُداع وألم قليل) لأن ذلك لا يعجزه عن الطلب والإشهاد (وكالمحبوس ظُلمًا، أو بدَيْنٍ لا يمكنه أداؤه، أو مَن) أي: غائب (لا يجد من يُشهده، أو وجد من لا تُقيل شهادته؛ كالمرأة، والفاسق، ونحوهما) كغير بالغ (أو وجد مستورَي الحال، فلم يُشهِدْهما) لم تسقط شُفعته؛ لأنه معذور بعدم قَبول شهادتهما (قال في "تصحيح الفروع": ينبغي أن يُشهِدَهما، ولو لم يَقبَلْهما) الحاكم (وهو على شُفعتِه) إذا أشهد على الطلب عند زوال عُذره (أو وَجَد) الغائب (مَن لا يَقدَم معه إلى موضع المطالبةِ) فلم يُشهِده، لم تسقط شُفعته، إذ لا فائدة في إشهاده، فإن وجد واحدًا فأشهده أو لم يُشهِده، لم تسقط؛ قاله في "المغني" و"الشرح" ونصراه. وردَّه الحارثيُّ بأن شهادة العدل يقضى بها مع اليمين.

(أو) أخَّر الطلب أو الإشهاد (لإظهارهم زيادةً في الثمن، أو) لإظهارهم (نقصًا في المبيع، أو) لإظهارهم (أنه موهوب له) أي: للمشتري (أو) لإظهارهم (أن المشتري غيره) أي: غير المشتري باطنًا (أو أخبره) أي: الشريك، بالبيع (مَن لا يُقبل خَبَرُه) لفسقه (فلم يصدقه) ولم يطلب أو يُشهِد (أو) أظهر المتعاقدان (أنهما تبايعا بدنانير، فتبين أنه بدراهم، أو بالعكس) بأن أظهرا أنهما تبايعا بدراهم، فتبين أنه بدنانير (أو أظهر) المشتري (أنه اشتراه بنقد، فبان أنه اشتراه بعَرْض، أو بالعكس، أو) أظهر أنه اشتراه (بنوع من العُروض، فبان أنه) اشتراه (بغيره) أي: غير ذلك النوع، كنقد أو نوع آخر (أو أظهر) المشتري (أنه اشتراه له) أي:

ص: 362

لنفسه (فبان أنه اشتراه لغيره، أو بالعكس) بأن أظهر أنه اشتراه لغيره، فبان أنه اشتراه لنفسه (أو) أظهر (أنه اشتراه لإنسان، فبان أنه اشتراه لغيره، أو أظهر أنه اشترى الكلَّ بثمن، فبان أنه اشترى نصفه بنصفه، أو) أظهر (أنه اشترى نصفه بثمن، فبان أنه اشترى جميعه بضعفه، أو) أظهر (أنه اشترى الشِّقص وحدَه، فبان أنه اشتراه هو وغيرُه، أو بالعكس) بأن أظهر أنه اشترى الشِّقص وغيره، فبان أنه اشتراه وحده (فهو) أي: الشَّفيع (على شُفعته) إذا علم الحال، فلا يكون ذلك مسقِطًا لشُفعته؛ لأنه إما معذور، أو غير عالم بالحال على وجهه، كما لو لم يعلم مطلقًا.

(فأما إن أظهر) المشتري (أنه اشتراه بثمنٍ؛ فبان أنه اشتراه بأكثر) فلا شُفعة؛ لأن من لا يرضى بالقليل لا يرضى بأكثر منه.

(أو) أظهر (أنه اشترى الكلَّ بثمنٍ فبان أنه اشترى به) أي: بذلك الثمن (بعضه) أي: بعض الشِّقص (سقطت شُفعتُه) لأن من لم يرضَ بأخذ الشقص كله بذلك الثمن، لا يرضى بأخذ بعضه به.

(وإن كان المحبوسُ حُبِسَ بحقٍّ يلزمه أداؤه، وهو قادر عليه) أي: على أدائه (فهو كالمطلَق، إن لم يبادر إلى المطالبة، ولم يوكِّل) من يطالب له فورًا (بطلت شُفعتُه) لأنه ليس بمعذور، كالمريض مرضًا يسيرًا لا يمنعه من طلب الشُّفعة.

(وإن أخبره) أي: الشفيع بالبيع (من يُقبل خَبرُه، ولو عدلًا واحدًا، عبدًا أو أنثى، فلم يصدقه) الشفيع، سقطت شُفعتُه؛ لأنه خبرٌ من عدل يجب قَبوله في الرواية، والفُتيا، وسائر الأخبار الدينية، فسقطت الشُّفعة بتكذيبه.

(أو) أخبره (مَن لا يُقبل خَبرُه كفاسق وصبي، وصدَّقه ولم يطالب)

ص: 363

سقطت شُفعتُه؛ لأن تصديقه اعتراف بوقوع البيع، فوجب سقوطها بتأخير الطلب.

(أو قال) الشريك (للمشتري: بِعْنِي ما اشتريتَ، أو: صالِحْني) عنه (مع أنه لا يصح الصلح عنها) أي: عن الشُّفعة (أو) قال: (هَبْهُ لي، أو: ائتمنِّي عليه، أو: بِعْهُ ممن شئتَ، أو: وَلِّهِ إياه) أي: أعطه لمن شئتَ برأس ماله (أو هَبْهُ له) أي: لمن شئتَ (أو: أكْرِني، أو: ساقِني، أو: قاسمني، أو: اكْترِ مني، أو ساقاه ونحوه) كـ: اشتريتَ غاليًا، أو بأكثر مما أعطيتُ أنا، سقطت شُفعتُه؛ لأن هذا وشبهه دليل على رضاه بالشركة، وتركه للشُّفعة، وإن قيل له: شريكك باع نصيبه من زيد. فقال: إن باعني زيد، وإلا؛ فلي الشُّفعة. كان ذلك كقوله لزيد: بِعْنِي ما اشتريتَ؛ قدَّمه الحارثيُّ.

(أو قدر معذورٌ) لمرض، أو حبس ونحوه (على التوكيل) في طلب الشُّفعة (فلم يفعله) بأن لم يوكل، سقطت شُفعته؛ لعدم عُذره في التأخير.

(أو لقي) الشريك (المشتري في غير بلده، فلم يطالبه) سقطت شُفعته (سواء قال: إنما تركتُ المطالبةَ لأطالِبَه في البلد الذي فيه البيع، أو) لأطالِبَه في بلد (المبيع) أو لا (أو) سواء قال: إنما تركتُ المطالبة (لآخذ الشِّقص في موضع الشُّفعة، أو لم يقل، أو نسي المطالبة، أو) نسي (البيع) لأنه مقصِّر بعدم الطلب فورًا (أو قال) الشريكُ للمشتري: (بكم اشتريتَ؟ أو) قال: (اشتريتَ رخيصًا، أو قال له) أي: للشريك (المشتري: بعتُكَ، أو: وليتُكَ، فقَبِل) ذلك (سقطت) شُفعتُه؛ لأنه

ص: 364

دليل

(1)

تركه الشُّفعة.

(وإن دلَّه

(2)

) الشريك في البيع (أي: عَمِلَ دلَّالًا، وهو السفير) بين البائع والمشتري - والاسم: الدَّلالة، بفتح الدال وكسرها، قال ابن سِيده

(3)

: ما جعلتَهُ للدَّليل والدلَّال - لم تسقط شُفعته.

(أو رضي) الشريكُ (به) أي: بالبيع (أو ضَمِن عنه) الثمن، لم تسقط شُفعته؛ لأن ذلك سبب ثبوت الشُّفعة، فلا تسقط به.

(أو سلَّم) الشريكُ (عليه، أو دعا له بعده) أي: بعد السلام متَّصلًا به (ونحوه، كما تقدم

(4)

، ولم يشغل بكلامٍ آخر، أو لم يسكت لغير حاجته) لم تسقط شُفعته؛ لما تقدم

(4)

.

(أو توكَّل) الشريك (لأحد المتبايعين، أو جعل له الخيار، فاختار إمضاء البيع، فـ) ــهو (على شُفعته) لأن ذلك سبب ثبوت الشُّفعة؛ ولأن المسقِط لها، الرضا بتركها بعد وجوبها، ولم يوجد.

(وإن قال الشريك) لشريكه: (بعْ نصفَ نصيبي مع نصفِ نصيبِكَ، ففعل) أي: باع نصف النصيبين (ثبتتِ الشُّفعة لكلِّ واحدٍ منهما في المبيع من نَصيبِ صاحبِه) لأن كلًّا منهما شريك.

(وإن أَذِنَ) الشريكُ لشريكه (في البيع، أو أسقَطَ) الشريكُ (شُفعته قَبْل البيع، لم تسقُطْ) شُفعته؛ لأنه إسقاط حق قبل وجوبه، فلما يسقط، كما لو أبرأه مما سيقرضه له.

(وإن تَرَك وليٌّ - ولو) كان (أبًا - شفعةَ موليهِ، صغيرًا كان أو

(1)

في "ذ": "دليل على".

(2)

في "ذ": "دلَّل".

(3)

المحكم والمحيط الأعظم (9/ 271) مادة (دلل).

(4)

(9/ 360).

ص: 365

مجنونًا) أو سفيهًا (لم تسقط) شُفعته؛ لأن الترك من غيرِ الشفيع كالغائب إذا ترك وكيله الأخذ بها.

(وله) أي: المحجور عليه (الأخذُ بها) أي: بالشُّفعة (إذا) بلغ و (عَقَل ورَشَد، سواء كان فيها حظٌّ، أو لا) ولو كان الولي قد صَرَّح بالعفو عنها؛ لأن المستحقَّ للشُّفعة له الأخذُ بها سواء كان له حظٌّ فيها، أو لم يكن.

(وقيل: لا يأخذ) المحجور عليه بعد أهليته (بها إلا إن

(1)

كان فيها) أي: الشُّفعة (حظٌّ له، وعليه الأكثر) بناء على أن عفو الولي عنها مع عدم الحظ فيها صحيح، قياسًا على الأخذ مع الحظ. ورُدَّ: بأنه لا يلزم من ملك استيفاء الحق ملك إسقاطه؛ بدليل سائر حقوق المحجور عليه؛ لأن في الأخذ تحصيلًا له.

(وأما الوليُّ، فيجب عليه الأخذُ بها) أي: بالشُّفعة (له) أي: للمحجور عليه (إن كان) الأخذ (أحظّ) للمحجور عليه، بأن كان الشراء رخيصًا، أو بثمن المِثْل، وللمحجور عليه مال يشتري منه؛ لأن عليه الاحتياط لموليه، وفعل الأحظ له، فإن ترك الوليُّ الأخذ حينئذ، فلا غرم عليه؛ لأنه لم يفوت شيئًا من ماله.

(وإلا) يكن في الأخذ بالشُّفعة حظٌّ للمحجور عليه، كما لو غُبِنَ المشتري، أو كان الأخذ بها يحتاج إلى أن يستقرض ويرهن مال المحجور عليه (تعيَّن) على الولي (الترك) كسائر ما لا حظَّ لموليه فيه (ولم يصح الأخذ) بالشفعة حينئذ، فيكون باقيًا على ملك المشتري.

(ولو عفا الوليُّ عن الشُّفعة التي فيها حظٌّ لموليه، ثم أراد) الولي

(1)

في متن الإقناع (2/ 615): "إذا".

ص: 366

(الأخذ) بها (فله) أي: الولي (ذلك) لعدم صحة عفوه عنها، كما سبق.

(وإن أراد) الوليُّ (الأخذَ) بالشُّفعة (في ثاني الحال، وليس فيها مصلحة) للمحجور عليه (لم يملكه) أي: الأخذ بالشُّفعة؛ لعدم الحظ (وإن تجدَّد الحظُّ) للمحجور عليه (أخذ) الوليُّ (له بها) لعدم سقوطها بالتأخير.

(وحيث أخذها) أي: أخذ الوليُّ بالشُّفعة (مع الحظ) للمحجور عليه (ثبت الملك) في المشفوع (للصبي ونحوه) كالمجنون والسفيه (وليس له) أي: المحجور عليه (نقضه بعد البلوغ) أو العقل، أو الرُّشد، كسائر تصرُّفات الولي اللازمة.

(وحكم المُغْمى عليه، و) حكم (المجنون غير المطبَق، حكم المحبوس والغائب، تُنتظر إفاقتهما) لأنهما معذوران، ولا تثبت الولاية عليهما.

(وحكم وليِّ المجنون المطبَق) بفتح الباء (وهو الذي لا تُرجى إفاقته، و) حكمٌ وليِّ (السفيه، حكمُ وليِّ الصغير) فيما تقدم، وسبقت الإشارة إليه.

(وإذا مات مورِّث الحَمل) كأبيه (بعد المطالبة بها) أي: الشُّفعة (لم يؤخذ له؛ لأنه لا يتحقق وجوده) نقله ابن رجب

(1)

عن الأصحاب (وفي "المغني" و"الشرح": إذا وُلد وكَبِر، فله الأخذ إذا لم يأخذ به الولي، كالصبي) قلت: الظاهر، أن هذا مُفرَّع على أن الشفيع لا يملك الشِّقص بالطلب، وأما على ما تقدم

(2)

- وهو المذهب - فينتقل الملك للمورِّث

(1)

القواعد الفقهية، ص/ 194، القاعدة الرابعة والثمانون.

(2)

(9/ 360).

ص: 367

قبل موته، فيورَث عنه الشقص كسائر تركته، ويوفى الثمن من التركة كسائر الديون.

(وللمفلس الأخذُ بها) أي: بالشُّفعة (و) له (العفو) عنها؛ لأنه مكلَّف رشيد (وليس للغرماء إجباره) أي: المفلس (على الأخذ بها، ولو كان فيها حظ) له؛ لأن الحق له، فلا يُجبر على استيفائه.

(وللمكاتَب الأخذُ) بالشُّفعة (والترك) كالحرِّ.

(وللمأذون له من العبيد) في التجارة (الأخذُ) بالشُّفعة (دون الترك) لأن الحق فيها لسيده لا له، فهو كولي المحجور عليه (ويأتي آخر الباب) هذا بحسب ما عزم عليه، لكنه لم يفِ به

(1)

.

(وإذا باع وصيُّ الأيتام لأحدهم نصيبًا في شركة الآخر، فله) أي: الولي (الأخذُ للآخر بالشُّفعة) لأنه كالشراء له.

(وإن كان الوصي شريكًا لمن باع عليه) من الأيتام الشِّقص المشفوع (فليس له) أي: الوصي (الأخذ) بالشُّفعة؛ لأنه مُتَّهم في بيعه؛ ولأنه بمنزلة من يشتري لنفسه من مال يتيمه.

(ولو باع الوصي نصيبه، كان له الأخذ) بالشُّفعة (لليتيم) ونحوه (مع الحَظِّ له) لأن التُّهمة منتفية، فإنه لا يقدر على الزيادة في ثمنه؛ لكون المشتري لا يوافقه؛ ولأن الثمن حاصل له من المشتري، كحصوله من اليتيم، بخلاف بيعه مالَ اليتيم، فإنه يمكنه تقليل الثمن ليأخذ الشِّقص به، وإذا رفع الأمر للحاكم فباع عليه، فللوصي الأخذُ حينئذ؛ لعدم التهمة.

(1)

في هامش نسخة إلى حمود التويجري رحمه الله (2/ 383) ما نصه: "أي المؤلف لم يف به، أي: فلم يذكره بعد. اهـ. من خط ابن العماد".

ص: 368

(فإن كان مكان الوصيِّ أبٌ، فباع شِقص ولده، فله الأخذُ بالشُّفعة لنفسه؛ لعدم التُّهمة) ولذلك كان له أن يشتري من نفسه مال ولده.

(وإن بِيعَ شِقصٌ في تركة

(1)

حَمْلٍ، لم يكن لوليِّه الأخذُ) بالشُّفعة له؛ لأنه لا يمكن تمليكه بغير الوصية (فإذا وُلِد) الحمل (ثم كَبِر) أي: بلغ ورَشَدَ (فله الأخذ) بالشُّفعة (كالصبي إذا كَبِر) ولم يكن وليه أخذ بالشُّفعة. ولوليه الأخذ بالشُّفعة بعد ولادته إذا كان فيها حظٌّ، إذ لا مانع من تمليكه إذًا.

فصل

الشرط (الرابع) للأخذ بالشُّفعة: (أن يأخذ) الشريكُ (جميعَ) الشِّقص (المبيع) لئلا يتضرَّر المشتري بتبعيض الصفقة في حقِّه بأخذ بعض المبيع، مع أن الشُّفعة تثبت على خلاف الأصل؛ دفعًا لضرر الشركة، فإذا أخذ البعضَ، لم يندفع الضَّررُ، وهذا الشرط - كالذي قبله - شَرْط لاستدامه الشُّفعة، لا لثبوتها، كما نبَّه عليه الحارثيُّ.

(فإن طلب) الشريكُ (أخذَ البعضِ) من المبيع (مع بقاء الكلِّ - أي

(2)

: لم يتلف من المبيع شيء - سقطت شُفعته) لأن حق الأخذ إذا سقط بالترك في البعض، سقط في الكل، كعفوه عن بعض قَوَدٍ يستحقه.

(وإن تعدَّد الشُّفعاء، فـ) ــالشِّقص المبيع (بينهم على قَدْرِ ملكهم، كمسائل الرَّدِّ) لأن الشُّفعة حقٌّ يُستفاد بسبب الملك، فكان على قَدْر الأملاك كالغلة (فدارٌ بين ثلاثة) لواحد (نصف، و) لآخر (ثلث، و) لآخر (سدس، باع صاحبُ الثلث) نصيبه (فـ) ــأصل (المسألة من ستة) مخرج

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (2/ 617): "شركة".

(2)

في "ذ": "أي بأن".

ص: 369

الكسور (الثلث بينهما) أي: بين صاحب النصف، والسدس (على أربعة) بسط النصف ثلاثة، وبسط السدس واحد، فـ (ــلصاحب النصف ثلاثة، ولربِّ السدس واحد، ولا يُرجَّح أقربُ) الشُّفعاء على أبعدهم (ولا) ذو (قَرابة) من الشُّفعاء على أجنبي؛ لأن القُرْب ليس هو سبب الشفعة.

(وإن ترك أحدُهم شُفعته، سقطتْ، ولم يكن للباقين) من الشُّفعاء (أن يأخذوا إلا الكلَّ، أو يتركوا) الكلَّ. قال ابن المنذر

(1)

: أجمع كلُّ مَن أحفظ عنه من أهل العلم على هذا؛ لأن في أخذ البعض إضرارًا بالمشتري بتبعيض الصفقة عليه، والضرر لا يُزال بالضرر.

و (كما لو كان بعضهم) أي: الشُّفعاء (غائبًا) فإنه ليس للحاضر إلا أخذ الكلِّ أو تركه؛ لأنه لم يُعلَم الآن مطالب سواه؛ ولأن في أخذ بعض الشقص تبعيضًا لصفقة المشتري.

(فإن وهب بعضُ الشفعاء نصيبَه من الشُّفعة لبعض الشُّركاء، أو) وهبه لـ (ــغيره، لم تصح) الهِبة (وسقطت) الشُّفعة؛ لأن ذلك دليل إعراضه عنها.

(فإن كان الشُّفعاء) كلهم (غائبين) لم تسقط الشُّفعة لموضع العُذر (فإذا قدم أحدهم) من سفره (فليس له أن يأخذ إلا الكل، أو يترك) الكل؛ دفعًا لتبعيض الصفقة على المشتري.

(فإن امتنع) من حضر من الغائبين، أو كان حاضرًا وشريكاه غائبين (حتى يحضر صاحباه) بطل حقه؛ لأن في تأخيره إضرارًا بالمشتري.

(أو قال: آخذ قَدْرَ حقي) فقط (بَطَلَ حقُّه) لما فيه من إضرار المشتري بتبعيض الصفقة.

(1)

الإجماع ص/ 121.

ص: 370

(فإن) وفي نسخة: فإذا (أخذ) من حضر - أو كان حاضرًا - من الشركاء (الجميعَ) أي: جميع الشِّقص المشفوع (ثم حضر) شريكٌ (آخر، قاسمه إن شاء، أو عفا، فبقي) الشِّقص (للأول) لأن المطالبة إنما وجدت منهما.

(فإن قاسَمَهُ ثم حضر الثالثُ، قاسَمَهما إن أحبَّ) الأخذ بالشفعة (وبطلت القسمةُ الأولى) لأنه تبيَّن أن لهما شريكًا لم يقاسم، ولم يأذن (وإن عفا) الثالث عن شُفعته (بقي) الشِّقص (للأوَّلَيْن) لأنه لا مشارك لهما.

(فإن نما الشِّقصُ في يد الأول) قبل أخذ شريكيه (نماءً منفصلًا) بأن أخذ أجرته أو ثمرته (لم يُشارِك

(1)

فيه واحدٌ منهما) لأنه انفصل في ملكه، فأشبه ما لو انفصل في يد المشتري قبل الأخذ بالشُّفعة (وكذلك

(2)

إذا أخذ الثاني) نصيبه بعد قدومه من الأول (فنما في يده) أي: الثاني (نماءً منفصلًا، لم يُشارِكه الثالث فيه) لما تقدم.

(وإن ترك الأولُ شُفعته، أو أخذ بها ثم ردَّ ما أخذه بعيب، توفَّرت الشُّفعة على صاحبيه) الغائبين، فإذا قدم الأول منهما، فله أخذ الجميع على ما ذكرنا في الأول، وإن أخذ الأولُ الشِّقص بالشُّفعة، ثم أعاده للمشتري بنحو هبة، فلا شُفعة للغائبين؛ لأنه عاد بغير السبب الذي تعلَّقت به الشُّفعة؛ بخلاف ردِّه بعيب؛ لأنه رجع إلى المشتري بالسبب الأول، فكان لشريكه أخذه كما لو عفا.

(فإن خرج الشِّقصُ) المشفوع (مستحَقًا) وقد أخذ الأول، ثم الثاني

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (2/ 617): "يشاركه".

(2)

في "ح": "وكذا".

ص: 371

منه، ثم الثالث منهما (فالعهدة على المشتري) لأن الشُّفعة مستحَقة بعد الشراء وحصول الملك للمشتري، فكانت العهدة عليه، فـ (ــيرجع الثلاثة عليه، ولا يرجع أحدهم على الآخر) بشيء.

(وإن أراد الثاني) عند قدومه في غيبة الثالث (الاقتصار على قَدْرِ حَقِّه، فله ذلك) لأنه اقتصر على بعض حَقِّه، وليس فيه تبعيض الصفقة على المشتري، والشفيع دخل على أن الشُّفعة تتبعَّض عليه (فإذا قدم الثالث، فله أن يأخذ ثلث ما في يد الثاني، وهو التسع، فيضمه إلى ما بيد الأول، وهو الثلثان، تصير سبعة أتساع، يقتسمانها) أي: الأول والثالث (نصفين، لكلِّ واحد منهما ثلث ونصف تسع، وللثاني تسعان، وتصح من ثمانية عشر) حاصلة من ضرب تسعة في اثنين، لكلِّ واحد من الأول والثالث سبعة سبعة، وللثاني أربعة؛ لأن الثاني ترك سدسًا كان له أخذه، وحقه منه ثلثاه، وهو التسع، فتوفَّر ذلك على شريكيه في الشُّفعة.

(وإن كان المشتري شريكًا) لآخر غير البائع (فالشُّفعة بينه وبين الآخر) بحسب ملكيهما؛ لأنهما تساويا في الشركة فتساويا في الشُّفعة، كما لو اشتراه غير الشريك. والمعنى: أن المشتري يستقر ملكه على ما يقابل ما كان له، فلا ينتزع منه، وإلا؛ فلا شُفعة له على نفسه.

(فإن ترك المشتري شُفعتَهُ ليوجب الكلَّ على شريكه، لم يلزمه) أي: الشريك (الأخذُ) أي: أخذ الكلِّ (ولم يصح إسقاطه) أي: الشريك المشتري لنصيبه (لملكه له بالشراء) واستقراره (فلا يسقط بإسقاطه) كالشفيعين إذا حضر أحدهما فأخذ الجميع، ثم حضر الآخر وطلب حَقَّه منها، فقال له الآخذ: خُذ الكلَّ أو دَعْهُ.

(وإذا كانت دار بين اثنين، فباع أحدُهما نَصيبَه لأجنبيٍّ صفقتين،

ص: 372

ثم علم شريكُه) ذلك (فله الأخذ بهما) أي: بالعقدين؛ لأنه شفيع فيهما (أو) الأخذ أيضًا (بأحدهما) أيهما كان؛ لأن كلًّا منهما بيع مستقل بنفسه وهو يستحقهما، فإذا أسقط البعضَ كان له ذلك، كما لو أسقط حقه من الكل.

(فإن أخذ) الشفيع (بـ) ــالبيع (الثاني، شاركه مشترٍ في شُفعته) لأن ملك المشتري استقر في المبيع

(1)

الأول بإسقاط الشفيع حَقَّه منه، فصار شريكه، فيشاركه في البيع الثاني.

(وإن أخذ) الشفيع (بـ) ــالبيع (الأول، لم يشاركه في شُفعته أحد) لأنه لم تسبق له شركة.

(وإن أخذ) الشفيع (بهما) أي: بالبيعتين (لم يشاركه في شفعته الأول ولا الثاني) لأنه لم تسبق لهما شركة. هذا إذا تعددت العقود دون البائع والمشتري (وإن) تعددا دون العقد، بأن (اشترى اثنان) حق واحد صفقة واحدة (أو اشترى الواحد لنفسه، ولغيره بالوكالة) قلت: أو الولاية أو بهما، بأن كان وكيلًا لأحدهما، ووليًا على الآخر (حقَّ واحدٍ، فللشفيع أخذ حَقِّ أحدهما) لأن الصفقة مع اثنين بمنزلة عقدين، فيكون للشفيع الأخذ بهما وبأيهما شاء، وكذا إذا اشترى الواحد لنفسه وغيره؛ لتعدد من وقع له العقد.

(وإن اشترى واحد حق اثنين) صفقةً واحدة (أو اشترى واحد شقصين من أرضين صفقةً واحدة والشريكُ واحدٌ، فللشفيع أخذُ أحدهما) أي: أحد الشِّقصين من أحد العقارين؛ لأن كلًّا منهما مستحَق بسبب غير الآخر، فجرى مجرى الشريكين؛ ولأن الشفيع قد يلحقه الضَّرر بأرض

(1)

في "ذ": "البيع".

ص: 373

دون أرض (وإن شاء أخَذَهما) أي: الشِّقصين معًا.

وإن كان الشريك متعدِّدًا، أخذوا الجميع وقسموا الثمن على القيمة، ولمن شاء أخْذُ حصته بقسطها، وافقه الآخر أو خالفه.

(وإن باع اثنان نصيبهما من اثنين صفقةً واحدةً، فالتعدُّد واقعٌ من الطرفين) إذ البائع اثنان، والمشتري اثنان (والعقدُ واحد، وذلك) العقد (بمثابة أربع صفقات، فللشَّفيع أخذ الكلِّ، أو أخْذ نصفِه ورُبْعِه منهما، أو أخْذ نِصْفِه منهما) فيبقى لهما نصفه (أو أخْذ نصفِه من أحدِهما) ويبقى نصفه للآخر (أو أخذ رُبْعِه من أحدهما) فيبقى له رُبْعه وللآخر نصفه.

وإن باع أحدُ الشركاء عن نفسه، وعن شريكه بطريق الوكالة، أو الولاية شقصًا من واحد، كان ذلك بمنزلة عقدين؛ لتعدُّد من وقع منه العقد، فللشفيع الأخذ بهما وبأحدهما أيهما شاء.

(وإن باع) إنسان (شِقصًا وسيفًا) أو نحوه، مما لا شُفعة فيه (صفقةً واحدة) بثمن واحد (فللشَّفيع أخذ الشقص) بالشُّفعة (بحصته من الثمن) لأن ذلك العقد بمثابة عقدين؛ لتعدد المبيع (فيُقسَم الثمن على قيمتيهما) أي: الشقص والسيف، أو نحوه، فلو كانت قيمة الشِّقص ألفًا، وقيمة السيف - مثلًا - خمسمائة، وبيعا بألف ومائتين، أخذ الشفيعُ الشِّقصَ بثمانمائة.

(ولا ثبت للمشتري خيار التفريق) في هذه الصُّور؛ لتعدُّد العقد معنىً.

(وإن تلف بعض المبيع) المشفوع بأمرٍ سماوي، أو فعلِ آدمي (أو انهدم) بيت من الدار التي بيع منها الشقص (ولو بفعل الله) تعالى كالمطر (فله) أي: الشفيع (أخذ الباقي) من الشِّقص (بحصته من الثمن) أي: ثمن

ص: 374

جمع الشِّقصِ، فلو كان الشِّقصُ المشفوع نصفًا من الدار، والبيت الذي انهدم منها نصف قيمتها، أخذ الشفيع الشقص فيما بقي من الدار بنصف ثمنه.

(فإن كانت الأنقاض موجودة، أخذَها) الشفيع (مع العَرْصة) والباقي من البناء (بالحصة) أي: حصتهما

(1)

من الثمن.

(وإن كانت) الأنقاض (معدومةً، أخَذ) الشفيع (العَرْصةَ وما بقي من البناء) بحصته من الثمن؛ لأنه تعذَّر عليه أخْذ كل المبيع بتلف بعضه، فجاز له أخْذ الباقي بحصته، كما لو تعذَّر عليه أخْذ الكل لكونه معه شفيع آخر.

(فلو اشترى دارًا بألفٍ تساوي ألفين، فباع) المشتري (بابَها) فبقيت بألف (أو هدمها، فبقيت بألف، أخَذَها) الشفيع (بخمسمائة بالقيمة من الثمن، أي بالحصة من الثمن) والمراد بقوله: اشترى دارًا، أي: شِقصًا من دار، من إطلاق الكلِّ على البعض، كقوله تعالى:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ}

(2)

.

(ويُتصوَّر أن تكون الشُّفعة في دارٍ كاملة، بأن تكون دورُ جماعة مشتركةٌ، فيبيع أحدهم حصته من الجميع مُشاعًا، ويُظهرا في الثمن زيادةً تُترَك الشُّفعة لأجلها، ويُقاسَم بالمهايأة، فيحصُل للمشتري دار كاملة) ثم يتبين الحال فيأخذها الشفيع.

(أو) بأن تكون دور

(3)

جماعة مشتركة، فيبيع أحدهم حصته من

(1)

أشار في حاشية "ذ" إلى أنه في نسخة: "حصتها".

(2)

سورة البقرة، الآية:19.

(3)

في "ح" زيادة: "بين" بعد كلمة "دور".

ص: 375

الجميع مُشاعًا، و (يظهرا

(1)

انتقال الشِّقص من جميع الأملاك بالهبة، فيقاسم) المشتري شركاءه، فيحصُل له دار كاملة.

(أو) بأن (يوكِّل الشريكُ وكيلًا في استيفاء حُقوقه ويسافر، فيبيع شريكُه حصتَه في الجميع) أي: جميع الدور المشتركة (فيرى الوكيل أن الحظَّ لموكِّله في ترك الشُّفعة، فلا يُطالب بها، ويقاسم) المشتري الوكيل (بالوكالة، فيحصُل للمشتري دارٌ كاملة، فهدَمها) أو باع بابها، فنقصت كما تقدم (ثم علم الشفيع مقدار الثمن بالبينة، أو بإقرار المشتري؛ ذكره في "المستوعب".

ولو تعيَّب المبيعُ بعيب يُنقِص الثمنَ مع بقاء عينه) كما لو انشقَّ الحائط، أو تشعَّث الشجر، أو بارت الأرض (فليس له) أي: الشفيع (الأخذُ إلا بكلِّ الثمن، أو الترك) لأنه لم يذهب من المبيع شيء حتى ينقص من الثمن في مقابلته، وإسقاط بعض الثمن إضرار بالمشتري، والضرر لا يُزال بالضرر.

فصل

الشرط (الخامس) للأخذ بالشُّفعة:

(أن يكون للشَّفيع ملكٌ للرَّقبة سابق) على البيع؛ لأن الشفعة ثبتت لدفع الضرر عن الشريك، فإذا لم يكن له ملك سابق، فلا ضرر عليه، فلا شُفعة (ولو) كان الشريك (مكاتَبًا) لصحة ملكه كغيره.

فـ (ــلا) شُفعة بـ (ــملك منفعةٍ، كدار موصىً بنفعها، فباع الورثةُ نصفَها، فلا شُفعة للموصَى له) لأن المنفعة لا تؤخذ بالشُّفعة، فلا تجب بها.

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (2/ 619): "يظهر".

ص: 376

(ويُعتبر) للأخذ بالشُّفعة (ثبوتُ المِلك) للشفيع بالبينة، أو إقرار المشتري (فلا تكفي اليد) لأنها مرجِّحة فقط؛ عملًا بالظاهر، ولا تفيد الملك، كما يأتي في الدعاوى والبينات.

(فإن لم يسبق) ملك (أحدهما، كشراء الاثنين دارًا صفقةً واحدة، فلا شُفعة لأحدهما على صاحبه) لأنه لا مزيَّة لأحدهما على الآخر؛ لاستوائهما في البيع في زمنٍ واحد.

(وإن ادَّعى كلٌّ منهما) أي: الشريكين (السَّبْقَ، فتحالفا، أو) أقاما بينتين، و (تعارضت بينتاهما، فلا شُفعة لهما) أي: لأحدهما على الآخر؛ لأنه لم يثبت السبق لواحد منهما.

(ولا شُفعة بشركة وقفٍ) فدارٌ نصفها وقفٌ ونصفها طِلْقٌ، وبِيْعَ الطِّلْقُ، لا شُفعة للموقوف عليه ولو معينًا (لأن ملكه غير تام) أشبه مالك المنفعة.

فصل

(وإن تصرَّف المشتري في) الشِّقص (المبيع قبل الطَّلب) أي: طلب الشفيع بالشُّفعة (بوقفٍ) متعلِّق بـ "تصرف"(على معيَّن) كأن وقفه على ولده، أو ولد زيد (أو لا) على معين

(1)

، بأن وقفه على مسجد كذا، أو على الفقراء، أو الغزاة ونحوهم (أو) تصرَّف في الشِّقص بـ (ــهِبة، أو صَدَقة) أو جعله عوضًا في عِتق، أو طلاق، أو خُلع، أو صُلح عن دَمِ عمدٍ، ونحوه مما لا شُفعة فيه ابتداء (سقطت الشُّفعة) لأن في الشفعة إضرارًا بالموقوف عليه، والموهوب له، والمُتَصدَّق عليه ونحوه؛ لأن

(1)

في "ح": "على غير معيّن".

ص: 377

ملكه يزول

(1)

عنه بغير عِوض؛ لأن الثمن إنما يأخذه المشتري، والضَّرر لا يُزال بالضرر.

و (لا) تسقط الشُّفعة (برهنه) أي: رهن المشتري الشِّقص المشفوع (و) لا بـ (ــإجارته) لبقاء المؤجر والمرهون في ملك المشتري، وسبقِ تعلُّقِ حق الشفيع على حق المرتَهِن والمستأجر (وينفسخان) أي: الرهن والإجارة (بأخذه) أي: أخذ الشَّفيع الشَّقص المرهون، أو المؤجر بالشُّفعة من حين الأخذ؛ لأنهما يستندان إلى حال الشراء، ولسبق حَقِّه حقهما أيضًا.

والفرق بين الأخذ بالشُّفعة والبيع: أن الشِّقص خرج من يد المشتري قهرًا عليه في الأخذ بالشفعة، بخلاف البيع.

(ويَحرم) على المشتري تصرُّفه بعد الطلب (ولا يصح تصرُّفه بعد الطلب) لانتقال الملك إلى الشفيع بالطلب في الأصح، أو الحَجْر عليه به؛ لحقِّ الشفيع على مقابله.

وإن نهى الشفيع المشتري عن التصرُّف، ولم يطالبه بها، لم يَصر المشتري ممنوعًا، بل تسقط الشُّفعة على قولنا: هي على الفور؛ ذكره القاضي في "خِلافه"، واقتصر عليه ابن رجب في القاعدة الثالثة والخمسين

(2)

.

(ولو أوصى المشتري بالشِّقص، فإن أخذه الشَّفيعُ قبل القَبول، بطلت الوصية واستقرَّ الأخذ) للشفيع؛ لسبق حَقِّه على حقِّ الموصى له، والوصية قبل القَبول بعد الموت جائزة لا لازمة، فبطلت؛ لفوات

(1)

في "ح": "لا يزول".

(2)

القواعد الفقهية، ص/ 87.

ص: 378

الموصى به قبل لزومها.

(وإن طلب) الشفيعُ الأخذَ بالشُّفعة قبل قَبول الوصية (ولم يأخذ بعد) الطلب حتى مات الموصي (بطلت الوصية أيضًا)، واستقرَّ الأخذ للشفيع، سواء قَبِلَ الموصى له الوصيةَ؛ أو لا؛ لأنه ملكه قبل لزوم الوصية ففاتت الوصية على الموصى له (ويدفع) الشَّفيع (الثمن إلى الورثة؛ لأنه ملكهم) إلى الأخذ.

(وإن كان الموصى له قَبِل) الوصية بالشِّقص (قَبْل أخذ الشفيع) بالشُّفعة (أو) قبل (طَلَبه) بها، لزمت الوصية واستقرَّ

(1)

للموصى له، و (سقطت الشُّفعة) لأن في الشُّفعة إضرارًا بالموصى له؛ لأن ملكه يزول عنه بغير عِوض، وكما لو وهبه المشتري قبل الطلب.

(وإن باع) المشتري الشِّقصَ قبل الطلب (فللشفيع الأخذ بـ) ــثمن (أيِّ البيْعين شاء) لأن سبب الشُّفعة الشراء، وقد وُجِدَ من كل منهما، ولأنه شفيع في العقدين.

وعُلِم من ذلك: صحة تصرُّف المشتري في الشِّقص قبل الطلب؛ لأنه ملكه، وكون الشفيع له أن يتملَّكه لا يمنع من تصرُّفه فيه، كما لو كان أحدُ العوضين في البيع مَعيبًا؛ فإنه لا يمنع من التصرُّف في الآخر، وكالابن يتصرَّف في العين الموهوبة له، وإن جاز لأبيه الرجوع فيها.

(ويرجع من أخذه منه) يعني من أخذ الشفيع الشِّقص ببيع قبل بيعه

(2)

(على بائعه بما أعطاه) من الثمن؛ لأنه لم يسلم له المعوض.

(1)

في "ذ" زيادة: "الملك" بعد "استقر".

(2)

في "ح" جاءت العبارة هكذا: "يعني من أخذ الشفيع الشقص ممن أخذه ببيع قبل طلبه".

ص: 379

(فإن أخذ) الشفيع (بـ) ــالبيع (الأول، رجع) المشتري (الثاني على) المشتري (الأول) بما دفعه له من الثمن، وينفسخ البيع الثاني.

(وإن كان ثَمَّ) مشترٍ (ثالث) بأن لم يعلم الشفيع حتى تبايع ثلاثة (فأكثر) وأخذ الشفيع بالبيع الأول (رجع) المشتري (الثاني على الأول، و) المشتري (الثالث على الثاني، وهلُمَّ جرًّا) وينفسخ ما بعد البيع الأول.

وإن أخذ بالبيع الأخير، فلا رجوع، واستقرت العقود.

وإن أخذ بالمتوسط، استقرَّ ما قبله، وانفسخ ما بعده.

(وإن فُسِخَ البيع بعيبٍ في الشِّقص) المشفوع (أو إقالةٍ، أو تحالفٍ) لاختلاف في الثمن (ثم عَلِم الشفيع) بالبيع (فله الأخذ بها) أي: بالشُّفعة؛ لأن حَقَّه سابق على ذلك كله؛ لأنه ثبت بالبيع (فيُنْقَضُ فسخه) أي: ينقض فسخ البيع بتلك المذكورات إذا أخذ الشفيع بالشُّفعة.

(ويأخذ) الشفيع الشِّقص (في) فسخ البيع بـ (ــالإقالة، و) فسخه بـ (ــالعيب) أي: عيب الشِّقص (بالثمن الذي وقع عليه العقد) لما يأتي.

(و) يأخذ (في) الفسخ لأجل (التحالف بما حَلَف عليه البائع) لأن البائع مُقِرٌّ بالثمن الذي حلف عليه، ومُقِرٌّ للشفيع باستحقاق الشُّفعة بذلك، فإذا بطل حقُّ المشتري بإنكاره، لم يبطل حق الشفيع بذلك، فله أن يبطل فسخهما ويأخذ؛ لأن حقه أسبق.

(وإن فسخ البائع) البيع (لعيبٍ في ثمنه) أي: ثمن الشِّقص المشفوع (المعيَّن) كما لو اشترى الشِّقص بعبد معيَّن ثم علم البائع عيبَه، وفسخ البيع (فإن كان) الفسخ (قبل الأخذ بالشُّفْعة، فلا شُفعة) لما فيها من الإضرار بالبائع بإسقاط حقِّه من الفسخ الذي استحقَّه بوجود العيب، والشُّفعة ثبتت لإزالة الضرر، والضرر لا يُزال بالضرر، ولأن حَقَّ البائع

ص: 380

في الفسخ أسبق؛ لأنه استند إلى وجود العيب، وهو موجود حال البيع، والشُّفعة تثبت بالبيع، ويفارق ما إذا كان الشِّقص معيبًا؛ فإن حق المشتري إنما هو في استرجاع الثَّمن، وقد حصل له من الشفيع، فلا فائدة في الرَّد، وفي مسألتنا حق البائع في استرجاع الشَّقص، ولا يحصُل ذلك مع الأخذ بالشُّفعة.

و (إلا) بأن كان الفسخ بعد الأخذ بالشُّفعة (استقرَّت) للشفيع؛ لأنه ملك الشِّقص بالأخذ، فلم يملك البائع إبطال ملكه، كما لو باعه المشتري لأجنبي.

(وللبائع) إذا فسخ بعد أخذ الشَّفيع (إلزام المشتري بقيمة شِقصه) لأن الأخذَ بالشُّفعة بمنزلة تلف الشِّقص (ويتراجع المشتري والشفيع بما بين القيمة) أي: قيمة الشِّقص (والثمن) الذي وقع عليه العقد، وهو قيمة العبد؛ لأن الشفيع أخذه قبل الاطلاع على عيب العبدِ بقيمته؛ لأنه الثمن الذي وقع عليه العقد، وبعد الاطلاع على عيب العبد، وفسخ البيع، وتعذُّرِ رَدِّ الشقص، استقرَّ العقد على قيمة الشقص، والشفيع لا يلزمه إلا ما استقر عليه العقد، وللمشتري المطالبة بما أدَّاه زيادة عليه (فيرجع دافع الأكثر منهما) على الآخر (بالفضل) فإذا كانت قيمة الشِّقص مائة، وقيمة العبد الذي هو الثمن مائة وعشرين، وكان المشتري أخذ المائة والعشرين من الشفيع، رجع الشفيع عليه بالعشرين؛ لأن الشِّقص إنما استقر عليه بالمائة.

(و‌

‌لا يرجع شفيعٌ على مشترٍ بأرْشِ عيب في ثمن عَفَا عنه بائع)

أي: لو أبرأ البائع مشتري الشِّقص من العيب الذي وجده بالعبد مثلًا، فلا رجوع للشفيع عليه بشيء؛ لأن البيع لازم من جهة المشتري، لا يملك

ص: 381

فسخه، أشبه ما لو حطَّ البائع عنه بعض الثمن بعد لزوم العقد.

وإن اختار البائع أخذ أرش العيب فله ذلك، ولا يرجع مشترٍ على شفيعٍ بشيء إن دفع إليه قيمة العبد سليمًا، وإلَّا؛ رجع عليه ببدل ما أدَّى من أرشه، وإن عاد الشقص - بعد فسخ العقد لعيب الثمن وأخذ الشفيع

(1)

- إلى ملك المشتري من الشفيع أو غيره، ببيع، أو هبة، أو إرث ونحوه، لم يملك البائع استرجاعه بمقتضى الفسخ السابق؛ لأن ملك المشتري زال عنه، وانقطع حقه منه إلى القيمة، فإذا أخذها لم يبقَ له حقٌّ.

بخلاف غاصب تعذَّر عليه ردُّ مغصوبٍ، فأدَّى قيمته ثم قدر عليه؛ فإنه يرده ويسترجع القيمة؛ لأن ملك المغصوب منه لم يزل عنه.

(وإن أخذ الشَّفيع الشِّقص) بالشفعة (ثم ظهر) أي: اطلع بالشقص (على عيب لم يعلماه) أي: المشتري والشفيع (فله) أي: الشفيع (ردُّه على المشتري، أو أخذ أرْشه) منه؛ لما تقدم من أن الأخذ بالشُّفعة في معنى البيع (و) يرجع (المشتري على البائع كذلك) أي: بالثمن، ويرد الشِّقص إن ردّه الشفيع عليه، أو يأخذ الأرش.

(وأيهما) أي: أيُّ الشخصين من الشفيع والمشتري (علم به) أي: بالعيب عند العقد أو قبله (لم يَرُدَّه) أي: الشقص المعيب، ولم يطالب بأرْشٍ؛ لأنه دخل على بصيرة.

(ولكن إذا علم الشفيع وحده، فلا ردَّ للمشتري) لخروج الشقص عن ملكه (وله) أي: المشتري (الأرْشُ) للعيب الذي لم يعلمه.

(وإن ظهر الثمن المعين مستحَقًا، فالبيع باطل) لما تقدم في البيع

(1)

في "ح" و"ذ" زيادة: "بالشفعة" بعد كلمة "الشفيع".

ص: 382

(ولا شُفعة) لأنها إنما تثبت في عقد ينقل الملك إلى المشتري.

فإن كان الشفيع قد أخذ بالشُّفعة، لزمه ردُّ ما أخذ

(1)

على البائع، ولا يثبت ذلك إلا ببينة، أو إقرار المتبايعين والشفيع، فإن أقرَّا وأنكر الشفيع، لم يُقبل قولهما عليه، وله الأخذ بالشفعة، ويرد البائع العبدَ لصاحبه، ويرجع على المشتري بقيمة الشِّقص، وإن أقرَّ الشفيع والمشتري دون البائع، لم تثبت الشُّفعة، ووجب على المشتري ردُّ قيمة العبد على صاحبه، ويبقى الشقص معه، يزعم أنه للبائع، والبائع يُنكره ويدَّعي عليه وجوبَ ردِّ العبد، فيشتري الشقص منه، ويتباريان.

وإن أقرَّ الشفيع والبائع، وأنكر المشتري، وجب على البائع ردُّ العبد على صاحبه، ولم تثبت الشُّفعة، ولم يملك البائع مطالبة المشتري بشيء؛ لأن البيع صحيح في الظاهر، وقد أدَّى ثمنه الذي هو ملكه في الظاهر.

وإن أقرَّ الشفيع وحده لم تثبتِ الشفعة، ولا يثبتُ شيءٌ من أحكام البطلان في حق المتبايعين.

وإن كان اشترى الشِّقص بثمنٍ في ذمته، ثم نَقَدَ الثمن، فبان مُستحَقًّا، كانت الشُّفعة واجبة؛ لأن البيع صحيح، فإن تعذَّر قبض الثمن من المشتري لإعساره أو غيره، فللبائع فَسْخ البيع، ويُقدَّم حقُّ الشفيع، إذ بالأخذ بها يحصُل للمشتري ما يؤديه ثمنًا، فتزول عسرته، ويحصل الجمع بين الحقين؛ ذكره في "المغني" و"الشرح".

(وإن ظهر بعضه) أي: بعض الثمن المعيَّن (مستحَقًّا، بطَل البيع فيه) أي: فيما ظهر مستحَقًّا، وما يقابله من الشِّقص فلا شُفعة فيه، وصَحَّ

(1)

في "ذ": "أخذه".

ص: 383

في الباقي، وتثبت فيه الشُّفعة.

(وإن كان) الثمن (مكيلًا، أو موزونًا) أو معدودًا، أو مذروعًا (فتلِف قبل قبضه، بَطَل البيع) لما تقدم (وانتفت الشُّفعة) إن كان التلف قبل الأخذ بها؛ لأنه تعذَّر التسليم، فتعذَّر أيضًا

(1)

العقد، فلم تثبت الشُّفعة، كالفسخ بخيار

(2)

.

(فإن كان الشفيع أخذ بالشُّفعة) قبل التَّلَف (لم يكن لأحدٍ استرداده) أي: الشِّقص؛ لاستقرار ملك الشَّفيع عليه، ويغرم مشتريه لبائعه قيمة المبيع، ويأخذ من الشفيع بدل ما وقع عليه العقد، وتقدم في البيع

(3)

.

(ولو ارتدَّ المشتري، فقُتل أو مات) قبل عِلم الشفيع بالبيع (فللشفيع) إذا علم بالبيع (الأخذ) بالشُفعة (من بيت المال؛ لانتقال ماله) أي: المرتد (إليه) أي: إلى بيت المال؛ لأنها وجبت بالشراء، وانتقاله إلى المسلمين بقتله أو موته لا يمنع الشُّفعة، كما لو مات على الإسلام فورِثَه ورَثَتُه، أو صار ماله إلى بيت المال؛ لعدم ورثته (والمطالَب) بفتح اللام (بالشُّفعة وكيل بيت المال) لأنه نائب عن المسلمين الآيل إليهم الشِّقص.

(و‌

‌لا تصح الإقالة بين البائع والشفيع

؛ لأنه ليس بينه وبينه بيع، وإنما هو مشترٍ من المشتري) والإقالة إنما تكون بين المتبايعين، فإن باعه إياه، صحَّ؛ لأن العقار يجوز التصرف فيه قبل قبضه.

(وإن استغله) أي: استغل المشتري الشِّقص قبل أخذ الشفيع

(1)

في "ح": "إمضاء" بدل "أيضًا".

(2)

في "ذ": "لخيار".

(3)

(7/ 496).

ص: 384

بالشُّفعة (بأن أخذ ثمرته، أو أجرته، فهي له) أي: للمشتري (وليس للشَّفيع مطالبة المشتري بردِّها) لحديث: "الخَرَاجُ بالضَّمان"

(1)

.

(وإن أخَذَه) أي: الشِّقص (شفيع وفيه زَرْعٌ، أو ثمرة ظاهرة، أو) ثمرة (مؤبَّرة ونحوه) كلقطةٍ ظاهرة من باذنجان ونحوه (فهي) وفي نسخة: فهو. أي: الزرع والثمرة واللقطة الظاهرتان (لمشترٍ

(2)

) لأنه ملكه (مبقًّى إلى أوان أخذه بحصاد، أو جذاذ، أو غيرهما) كلقاط (بلا أُجرة) لأنه زرعه في ملكه؛ ولأن أخذه بمنزلة بيع ثانٍ.

(وإن نَمَا) الشِّقص (عنده) أي: المشتري (نماءً متصلًا، كشجر كَبِر، وطَلْعٍ لم يؤبَّر) يعني: يتشقق (تَبِعه) أي: الأصل (في عقد وفسخ) كالرد بعيب، فيأخذه الشفيع بزيادته.

لا يُقال: فلِمَ لا يكون حكمه حكم الزوج، إذا طلَّق قبل الدُّخول؟ لأن الزوج يقدر على الرجوع بالقيمة، إذا فاته الرجوع في العين، وهنا يسقط حقه منها، إذا لم يرجع في الشِّقص، فافترقا.

ولو كان الطَّلْعُ موجودًا حال الشراء غير مؤبَّر، ثم أُبِّرَ عند المشتري، فهو له - أيضًا - مبقًّى إلى أوان جذاذه، لكن يأخذ الشفيع الأرض والنخل بحصتهما من الثمن؛ لأنه فات عليه بعض ما شمله عقد الشراء، وهو الطلع الذي لم يؤبر حال العقد، فهو كما لو شمل الشراء الشقص وعَرْضًا معه.

(وإن قاسَمَ المشتري وكيلَ الشفيع) في غيبة الشفيع (أو قاسَمَ)

(1)

تقدم تخريجه (7/ 450) تعليق رقم (2).

(2)

في هامش نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (2/ 389) ما نصه: "أي: إن حدث ذلك في ملك المشتري، وأما إذا كان ذلك موجودًا وأخذ الشفيع في الحال فهي له. اهـ. ابن العماد".

ص: 385

المشتري (الشفيعَ؛ لكونه أظهرَ له زيادةً في الثمن، أو) لكونه أظهر (أن الشِّقص موهوب له ونحوه) بأن أظهرَ بأن

(1)

الشراء لغيره (ثم غرس) المشتري (أو بنى) فيما خرج له بالقسمة (لم تَسْقط الشُّفعة) لأن الشفيع لم يترك الطَّلب بها إعراضًا عنها، بل لما أظهره المشتري.

وكذا لو كان الشفيع غائبًا أو صغيرًا، وطالب المشتري الحاكمَ بالقسمة فقاسم، ثم قَدِم الغائب، وبلغ الصغير، فلهما الأخذ.

(وللشفيع الأخذُ بها إذا عَلِم الحالَ، ويدفع قيمةَ الغراس أو

(2)

البناء) لربهما (حين تقويمه) أي: الغراس والبناء.

(وصفة تقويمه: أن الأرض تُقوَّم مغروسةً، أو مبنيَّة، ثم تقوَّم خاليةً) من الغراس، أو البناء (فيكون ما بينهما قيمةَ الغراس، أو البناء) لأن ذلك هو الذي زاد بالغراس، أو البناء (فيملكه) أي: الغراس أو البناء، الشفيعُ بما بين القيمتين (أو يقلعه) أي: الغراس، أو البناء، إن أحب (ويضمن نقصه من القيمة) المذكورة، وهي ما بين قيمة الأرض مغروسة أو مبنية، وبين قيمتها خالية (بالقَلْع) متعلق بـ "نقصه".

وإن غرس المشتري، أو بنى مع الشفيع أو وكيله في المُشاع، ثم أخذه الشفيع، فالحكم في أخذ نصيبه من ذلك كالحكم في أخذ جميعه.

(فإن اختار الشفيع أخذَه) أي: الغراس، أو البناء بقيمته (وأراد المشتري قَلْعه، فله) أي: المشتري (ذلك) أي: قلعه؛ لأنهما ملكه على انفراده (ولو مع ضرر) يلحق الأرض؛ لأنه لتخليص عين ماله مما كان حِين الوضع في ملكه (ولا يَضمن) مُشترٍ (نقصَ الأرض) بقلع غراسه، أو

(1)

في "ذ": "أن".

(2)

في متن الإقناع (2/ 622): "و".

ص: 386

بنائه؛ لانتفاء عدوانه، فيخيَّر الشفيع بين أخذ الشِّقص ناقصًا بكل الثمن، أو تركه (ولا يلزمه) أي: المشتري (تسوية حفرها) إذا قلع غراسه أو بناءه؛ لعدم عدوانه (ولا يلزم الشفيع إذا أخذ الغراس، أو البناء دفع ما أنفقه) المشتري على الغراس

(1)

والبناء (سواء كان) ما أنفقه (أقلَّ من قيمته أو أكثرَ) منها، يل تلزمه قيمته فقط.

(وإن حفر) المشتري (فيها) أي: البقعة المشفوعة (بئرًا) بعد المقاسمة - لما تقدم - أو حفرها مع الشفيع أو وكيله على ما تقدم تفصيله في البناء، ثم أخذ الشفيع بالشُّفعة (أخذها) أي: البئر (الشفيع) مع الشِّقص (ولزمه) أي: الشفيع للمشتري (أُجرةُ المِثْل لحفرها) لأن المشتري لم يتعدَّ بحفرها.

(وإن باع شفيعٌ ملكه) من الأرض التي بيع منها الشِّقص المشفوع (أو) باع (بعضه) أي: بعض ملكه منها (قبل العلم) ببيع شريكه (لا بعده، لم تسقط شُفعته) لأنها تثبت له حين بيع شريكه، ولم يوجد منه ما يدلُّ على عفوه عنها، بخلاف ما لو باع بعد العلم (وللمشتري الشُّفعة فيما باعه الشَّفيع) سواء أخذ منه ما اشتراه بالشُّفعة أو لم يؤخذ؛ لأنه شريك في الرقبة، أشبه المالك الذي لم تستحق عليه شفعة.

(وإن مات الشفيع) قبل الطلب بالشُّفعة مع القدرة، أو الإشهاد مع العذر (بَطَلت) شُفعته؛ لأنها نوع خيارٍ شُرع للتمليك، أشبه القَبول، فإنه لو مات من يريد القَبول بعد إيجاب صاحبه، لم يقم وارثه مقامه في القَبول؛ ولأنا لا نعلم بقاءه على الشُّفعة؛ لاحتمال رغبته عنها، ولا ينتقل إلى الورثة ما شكَّ في ثبوته.

(1)

في "ذ": "الغرس".

ص: 387

(وإن طالب) الشفيع بالشُّفعة قبل موته، أو أشهد مع العُذر أنه مطالب بها (فلا) سقوط بموته، بل تنتقل لورثته، خصوصًا على القول بأنه يملك الشِّقص بمجرد الطلب، وهو المذهب (وتكون) الشُّفعة (لورثته كُلِّهم) إذا مات بعد الطلب (على حسب ميراثهم) كسائر حقوقه (ولا فرق في الوارث بين ذوي الرحم) أي: الأقارب الوارثين بفرض، أو تعصيب، أو رحم (والزوج، والمَولى) وهو المعتِق، وعصبته المتعصبون بأنفسهم (وبيت المال، فيأخذ الإمام بها) أي: بالشُّفعة، إذا لم يكن هناك وارث خاص يستغرق بفرض، أو تعصيبٍ، أو ردٍّ، أو رحمٍ.

(فإن ترك بعضُ الورثة حقَّه) من الشُّفعة (توفَّر الحقُّ على باقي الورثة، ولم يكن لهم أن يأخذوا إلَّا الكُلَّ، أو يتركوا) الكُلَّ؛ لأن في أخذ البعض وترك البعض إضرارًا بالمشتري، لكن على المذهب من أنَّ الشفيع يملك الشِّقص بالطلب، لا يتأتَّى العفو بعده، بل ينتقل الشِّقص إلى الورثة كلهم على حسب إرثهم، قهرًا عليهم، ويؤخذ ثمنه من التركة كسائر الديون.

(وإذا بِيع شقصٌ له شفيعان، فعفا عنها) أي: الشُّفعة (أحدُهما، وطالب بها الآخر، ثم مات الطالب) للشُّفعة

(1)

(فورثه) الشريك (العافي) عن الشفعة (فله أخذ الشقص بها) أي: بالشُّفعة؛ لأن عفوه أولًا عن حقه الثابت بالبيع لا يسقط حقه المتجدد بالإرث، وإذا حققت النظر فالملك قد انتقل إلى الطالب بالطلب، ثم انتقل إلى وارثه وراثةً. فقوله:"فله الأخذ" إنما هو مجاراة للخصم، أو على القول الثاني أنه لا يملكه بالطلب، وإلا؛ فهو ينتقل إليه قهرًا.

(1)

أشار في هامش "ذ" إلى أنه في نسخة: "المطالب بالشفعة".

ص: 388

فصل

(ويأخذ الشَّفيع الشِّقصَ) المشفوع (بلا حكم حاكم) لأنه حق ثبت بالإجماع

(1)

، فلم يفتقر إلى حكم حاكم، كالردِّ بالعيب (بمثل الثمن الذي استقرَّ عليه العقد) وقت لزومه (قَدْرًا وجنسًا وصفةً) لحديث جابر:"فهوَ أحقُّ به بالثَّمنِ" رواه أبو إسحاق الجُوزجاني في "المترجم"

(2)

؛ ولأن الشفيع إنما يستحق الشقص بالبيع، فكان مستحقًّا له بالثمن كالمشتري. لا يقال: الشفيع استحقَّ أخذ الشقص بغير رضا مالكه، فكان ينبغي أن يأخذه بقيمته، كالمضطر إلى طعام غيره؛ لأن المضطر استحقَّه بسبب حاجته، فكان المرجع في بدله إلى قيمته، والشفيع استحقَّه بالبيع، فوجب أن يكون بالعِوض الثابت به (إن قَدر) الشفيع (عليه) أي: الثمن.

(وإن طلب) الشفيع (الإمهال) لتحصيل الثمن (أُمهِلَ يومين أو ثلاثة) أيام؛ لأنها حدُّ جمع القِلَّة (فإذا مضت) الأيام الثلاثة (ولم يُحضِرْه) أي: يُحضِر الشفيع الثمن (فللمشتري الفسخُ) لأنه تعذَّر عليه الوصول إلى الثمن فملك الفسخ، كبائع بثمن حالٍّ (من غير حاكم) لأن الأخذ بالشُّفعة لا يقف على حكم حاكم، فلا يقف فسخ الأخذ بها عليه، كالردِّ بالعيب.

(1)

تقدم توثيقه (9/ 341) تعليق رقم (3).

(2)

تقدم التعريف به (8/ 376) تعليق رقم (4).

وأخرجه - أيضًا - أحمد (3/ 310، 382)، والبيهقي (6/ 104). وأصل الحديث في الصحيحين كما تقدم (9/ 342، 349) تعليق رقم (2).

ص: 389

وحيث تقرَّر أن الشفيع يأخذ الشِّقص بالثمن الذي استقرَّ عليه العقد (فإن كان) الثمن (مِثليًّا فـ) ــإن الشفيع يأخذه (بمثْله) أي: الثمن (وإلا) يكن الثمن مثليًّا (فـ) ــإن الشفيع يأخذه (بقيمته) أي: الثمن؛ لأنها بدله في القرض والإتلاف (وقت لزومه) أي: العقد؛ لأنه حين استحقاق الأخذ.

(وإن دفع) المشتري لبائع (مكيلًا) كَبُرٍّ وزيتٍ (بوزنٍ، أخذ) من الشفيع (مثل كيله، كقرضٍ) أي: كما لو أقرضه مكيلًا بوزن، فإنه يسترد مثل كيله، اعتبارًا بمعياره الشرعي، وكذا عكسه.

(وإن كان الثمن) عن الشِّقص المشفوع (عَرْضًا متقوَّمًا موجودًا، قُوِّم، وأعطى) الشفيعُ المشتريَ (قيمته) لأنها بدله، كما تقدم.

(وإن كان) العَرْض المجعول ثمنًا (معدومًا، وتعذَّرت معرفته، كانت دعوى) المشتري (جَهْله) أي: جهل قيمته (كدعوا) هـ (جَهْل الثمن، على ما يأتي) أي: مقبولة منه بيمينه، وتسقط الشُّفعة حيث لا حيلة (فإن اختلفا) أي: الشفيع والمشتري (في قيمته) أي: قيمة العرض المجعول ثمنًا (والحالة هذه) أي: وهو معدوم (فقول مشترٍ) بيمينه؛ لأنه أعرف بما عقد عليه، ولأن الشِّقص ملكه، فلا ينزع منه بغير ما يدعيه بلا بينة.

(وإن عجز) الشفيع (عن الثمن، أو) عجز (عن بعضه، سقطت شُفعته، كما تقدم.

فلو أتى) الشفيع (برهن، أو ضَمينٍ) لم يلزم المشتري قَبولهما، ولو كان الرهن محرَزًا والضمين مليئًا؛ لما على المشتري من الضرر بتأخير الثمن، والشُّفعة شُرعت لدفع الضرر فلا تثبت معه (أو بذل) الشفيع (عرضًا عن الثمن) بأن كان نقدًا، فدفع عنه عَرْضًا (لم يلزم

ص: 390

المشتري قَبوله) دفعًا لما عساه أن يتضرر به.

(والأخذ بالشُّفعة نوعُ بيعٍ) كما تقدم

(1)

؛ لأنه تملك للشِّقصِ بثمنه (لكن لا خيار فيه) أي: في الأخذ بالشُّفعة؛ لأنه قهري (ولهذا) أي: لكونه نوع بيع (اعتُبر له) أي: لصحة الأخذ بالشُّفعة (العلم بالشِّقص) المأخوذ (و) العلم (بالثمن) المأخوذ به، كما يُعتبر في البيع العلم بالعوضين.

(فلا يصح) الأخذ بالشُّفعة (مع جهالتهما) ولا مع جهالة أحدهما، هذا معنى ما قطع به في "المغني"، ومشى عليه في "الإنصاف"، وهو معنى ما قدَّمه في "الفروع" و"المبدع". وقال في "التنقيح": ولا تُعتبر رؤيته قبل تملُّكه، أي: الشِّقص. انتهى. وهو معنى ما جزم به في "المنتهى"، وهو معنى ما قدَّمه في "الفروع" عن "الترغيب" لكونه قهريًا، بخلاف البيع.

(وله) أي: للشفيع (المطالبة بها) أي: بالشفعة (مع الجهالة) أي: جهالة الشِّقص والثمن (ثم يتعرف) مقدار الثمن من المشتري أو غيره، ويتعرَّف المبيع فيأخذه بثمنه. وظاهر عطفه بـ "ثم": أنه لا يُعتبر الفور للتعرُّف والأخذ؛ اكتفاءً بالمطالبة ولو مع الجهالة، وهو ظاهر ما تقدم أيضًا.

(ولا يلزم المشتري تسليمُ الشِّقص) للشفيع (حتى يقبض الثمن) لأن الأخذ بالشُّفعة قهري، والبيع عن رضًا.

(وإن أفلس الشفيع) بعد الأخذ بالشُّفعة (والثمن) كلُّه (في الذِّمة) أي ذمة الشفيع (خُيِّر مشترٍ بين فسخ) الأخذ بالشفعة (و) بين (ضَرْبٍ مع

(1)

(9/ 356).

ص: 391

الغرماء بالثمن، كبائع) مع مشتر أفلس؛ لحديث:"مَنْ أدْركَ متاعَه عند مَنْ أفْلسَ فهو أحق به" وتقدم في الحجر

(1)

.

(وما يُزاد في الثَّمن) في مدة الخيار يلحق به (أو يُحَطُّ منه) أي: الثمن (في مدة الخيار) أي: خيار المجلس أو الشرط (يلحق به) أي: بالعقد؛ لأن زمن الخيار كحالة العقد.

و (لا) يلحق به (ما) زيدَ، أو حُطَّ من الثمن (بعدها) أي: مدة الخيار؛ لأن الزيادة حينئذٍ هِبةٌ يُشترط لها شروطها، والنقصان إبراء، فلا يثبت شيء منهما في حق الشَّفيع؛ لكونه وجد بعد استقرار العقد، أشبه ما لو وهب أحدهما الآخر عينًا أخرى.

(وإن كان الثمن) عن الشِّقص المشفوع (مؤجَّلًا، أخَذَه) أي: الشقص (الشفيعُ بالأجل، إن كان) الشفيع (مليئًا، وإلا) بأن كان معسِرًا (أقام) الشفيع (كفيلًا مليئًا) بالثمن (وأخذ) الشفيع الشِّقص (به) أي: بالثمن مؤجَّلًا؛ لأن الشفيع يستحق الأخذ بقَدْر الثمن وصفته، والتأجيل من صفته، واعتُبرت الملاءة أو الكفيل، دفعًا لضرر المشتري (فلو لم يعلم) الشفيع بالبيع (حتى حلَّ) الثمن المؤجَّل (فـ) ــالثمن (كالحالِّ) أي: كما لو اشترى به حالًّا.

(وإن اختلفا) أي: الشفيع والمشتري (في قَدْره) أي: الثمن، بأن قال المشتري: اشتريته بثلاثين، وقال الشفيع: بل بعشرين مثلًا (فالقول قول المشتري) مع يمينه؛ لأنه العاقد، فهو أعلم بالثمن؛ ولأن المبيع ملكه، فلا ينزع منه بدعوى مختلف فيه (إلا أن يكون للشفيع بيِّنة) والشفيع ليس بغارم؛ لأنه لا شيء عليه، وإنما يريد تملُّك الشِّقص بثمنه،

(1)

(8/ 342) تعليق رقم (3).

ص: 392

بخلاف غاصبٍ ومتلِفٍ.

(وإن أقام كلُّ واحد منهما بينة) بما ادَّعاه (قُدِّمت بيِّنة الشفيع) لأنها بمنزلة بينة الخارج.

(ولا تُقبل شهادة البائع لواحدٍ منهما) أي: الشفيع أو المشتري؛ لأنه متَّهم، ويُقبل عدل وامرأتان، وشاهد ويمين (ويؤخذ بقول مشترٍ في جهله به) أي: بالثمن؛ لأنه أعلم بنفسه (فيحلف أنه لا يعلم قَدْره) أي: الثمن (ولا شُفعة) لأنه لا يمكن الأخذ بغير ثمن، ولا يمكن أن يدفع إليه ما لا يدعيه، إلا أن يفعل ذلك تحيُّلًا على إسقاطها، فلا تسقط.

(فإن اتَّهمه) الشفيع (أنه) أي: المشتري (فعله حيلة) لإسقاط الشُّفعة (حلَّفه) أنه لم يفعله حيلة.

(وإن وقع) ذلك (حيلة، دفع) الشفيع (إليه) أي: المشتري

(1)

مثل (ما أعطاه) للبائع إن علم (أو قيمة الشِّقص) إن تعذَّرت معرفة الثمن، وهذا معنى قوله:(فإن كان) الثمن (مجهولًا؛ كصُبْرة نَقْدٍ ونحوه) كصُبرة بُرٍّ، أو شعير (وجوهرة، دفع) الشفيع (مثله) أي: مثل المِثْلي (أو قيمته) أي: قيمة المتقوم إن علم ذلك (فإن تعذَّر) علمه لتلفه ونحوه (فـ) ــللشفيع الأخذ بـ (ــقيمة الشِّقص) حيث وقع ذلك حيلة (وتقدَّم بعضه) في الباب

(2)

.

(وإن اختلفا) أي: الشفيع والمشتري (في الغراس والبناء) اللذين (في الشِّقص) المشفوع (فقال المشتري: أنا أحدثته، فأنكر الشفيع) وقال: بل اشتريتُهُ مغروسًا ومبنيًا (فقول المشتري) بيمينه؛ لأنه ملك

(1)

في "ذ": "أي: إلى المشتري".

(2)

(9/ 344، 345).

ص: 393

المشتري، والشفيع يريد تملكه عليه، فلا يُقبل منه إلا ببينة، وإن أقاما بينتين قُدمت بينة شفيعٍ.

(وإن قال المشترى: اشتريتُهُ بألفٍ. وأقام البائع بيِّنة أنه باعه بألفين؛ فللشفيع أخذه بألف) لأن المشتري مُقِرٌّ له باستحقاقه بألف، فلم يستحق الرجوع بأكثر.

(فإن قال المشتري: غَلِطْتُ. أو: نَسِيتُ، أو: كذبتُ) والبينة صادقة (لم يقبل قوله) لأنه رجوع عن إقراره بحقٍّ لآدمي، فلم يُقبل، كما لو أقرَّ له بدين.

(وإن ادَّعى) الشفيع (أنك) أيُّها الواضع يدك على الشِّقص (اشتريتَه بألف) فلي الشفعة، احتاج إلى تحرير الدعوى، فيحدد المكان الذي فيه الشقص، ويذكر قَدْر الشقص وثمنه، فإن اعترف، لَزِمه، وإن أنكر (فقال) واضع اليد:(بل اتهبتُه، أو ورثتُه) فلا شُفعة (فالقول قوله مع يمينه) أنه اتهبه، أو ورثه؛ لأن الأصل معه، والمثبت للشفعة البيعُ، ولم يتحقق.

وإن قال: لا تستحق عليَّ شُفعة؛ فالقول قوله مع يمينه، وهي على حسب جوابه.

(فإن نكل) المدَّعى عليه (عنها) أي: اليمين (أو قامت للشفيع بينة) بدعواه (فله أخذه) أي: الشِّقص بالشفعة؛ لأن البيع ثبت بالنكول؛ لقيامه مقام الإقرار، أو بالبينة، وإذا ثبت؛ تبعته حقوقه، والأخذ بالشُّفعة من حقوقه (و) حينئذ يعرض عليه الثمن، فإن أخذه دفع إليه، وإلا فـ (ــيبقى الثمن في يده) يعني: في ذمة الشفيع (إلى أن يدعيه المشتري) فيدفع إليه، وكذا لو ادَّعى الشفيع أن واضع اليد اشتراه، فأنكر وأقرَّ البائع، ويأتي.

ص: 394

ولو ادَّعى شريك على حاضر بيده نصيبُ شريكِه الغائب: أنه اشتراه، وأنه يستحقه بالشفعة، فصدَّقه المدَّعى عليه؛ أخَذَه منه.

وكذا لو ادَّعى الشريك على الحاضر أنه باع نصيب الغائب بإذنه، فقال: نعم. فإذا قدم الغائب فأنكر، حلف، وانتزع الشقص، وطالب بالأجرة من شاء منهما، وقرار الضمان على الشفيع.

وإن أنكر واضع اليد أنه اشترى نصيبَ الغائب، وقال: بل أنا وكيل في حفظه، أو مستودَع، فالقول قوله مع يمينه، فإن نكَلَ، احتمل أن يقضى عليه؛ لأنه لو أقرَّ لقضي عليه، واحتمل ألّا يقضى عليه؛ لأنه قضاء على غائب بلا بينة ولا إقرار؛ ذكره في "المغني" و"الشرح".

فصل

(ولا شُفعة في بيعٍ فيه خيارُ مجلسٍ، أو) خيار (شرطٍ، قبل انقضائه) أي: الخيار (سواءٌ كان الخيار لهما) أي: المتبايعين (أو لأحدهما) لما في الأخذ من إبطال خياره، وإلزام المشتري بالعقد قبل رضاه بالتزامه، وإيجاب العُهدة عليه، وتفويت حَقِّه من الرجوع في عين الثمن، إن كان الخيار له، وتفويت حقِّ البائع من الرجوع في عين المبيع، إن كان الخيار له.

(وبيع المريض) ولو مرض الموت المَخُوف (كبيع الصحيح في الصحة) أي: في كون البيع صحيحًا (و) في (ثبوت الشُّفعة وغيرها) من الأحكام المترتِّبة على البيع؛ لأنه من مكلَّف رشيد، لكن في المحاباة تفصيل يأتى بيانه في عطية المريض (ويأخذ الشفيع الشِّقص) المشفوع (بما صحَّ البيع فيه) إذا كان فيه محاباة من المريض، على ما يأتي.

ص: 395

(وإن أقرَّ بائع ببيع) شِقص مشفوع (وأنكر مشترٍ) شراءه (وجبت الشُّفعة بما قال البائع) من الثمن؛ لأن البائع أقرَّ بحقين: حقٍّ للشفيع، وحقٍّ للمشتري، فإذا سقط حقُّ المشتري بإنكاره ثبت حقُّ الشفيع، كما لو أقرَّ بدارٍ لرجُلين، فأنكر أحدهما (فيأخذ الشَّفيع الشِّقص منه) أي: من البائع (ويدفع) الشفيع (إليه الثمن، إن لم يكن) البائع (مقِرًّا بقبضه) من المشتري (وإن كان) البائع (مقِرًّا بقبضه) أي: الثمن (من المشتري بقي في ذِمَّة الشفيع إلى أن يدعيه المشتري، وليس للشفيع، ولا للبائع محاكمة المشتري ليثبت البيع في حَقِّه) لعدم الحاجة إليه؛ لوصول كل منهما إلى مقصوده بدون المحاكمة.

(ومتى ادَّعى البائع) الثمنَ، دُفع إليه (أو) متى ادَّعى (المشتري الثمن، دُفع إليه؛ لأنه لأحدهما، وإن ادَّعياه) أي: الثمن (جميعًا، فأقرَّ المشتري بالبيع، وأنكر البائع القبضَ، فهو) أي: الثمن (للمشتري) فيأخذه من الشفيع، وطَلَبُ البائعِ حينئذٍ على المشتري بالثمن، ما لم يثبت دفعه إليه.

(وعُهدَة الشَّفيع على المشتري) لأن الشفيع ملك الشقص من جهة المشتري، فهو كبائعه (وعُهدَة المشتري على البائع) لما ذكر (إلا إذا أقرَّ البائع وحدَه بالبيع) وأنكر المشتري الشراءَ، وأخذ الشفيع الشِّقص من البائع (فالعُهدَة عليه) أي: على البائع؛ لحصول الملك للشَّفيع من جهته؛ قاله الزركشي. والعمدة

(1)

في الأصل: كتاب الشراء (والمراد بالعُهدَة هنا: رجوعُ من انتقل الملك إليه) من شفيع، أو مشترٍ (على من انتقل عنه) الملك من بائع أو مشترٍ (بالثمن، أو الأرْشِ عند استحقاق

(1)

في "ذ": "العهدة" وهو الصواب.

ص: 396

الشِّقص أو عيبه) فإذا ظهر الشِّقص مستحقًّا، رجع الشفيع على المشتري بالثمن، ثم المشتري على البائع. وإن ظهر الشِّقص معيبًا، واختار الشفيع الإمساك مع الأرْش، رجع بالأرش على المشتري، ثم المشتري على البائع؛ لما تقدم.

(فإن أبى المشتري قبض المبيع) ليسلّمه للشفيع (أجبره الحاكم عليه) أي: على قبض الشقص؛ لأن القبض واجب، ليحصُل حق المشتري من تسليمه، ومن شأن الحاكم أن يجبر الممتنع.

(وإن ورث اثنان شِقصًا عن أبيهما) أو أمهما، أو أخيهما ونحوه (فباع أخدهما نصيبه) للآخر أو غيره (فالشُّفعة بين أخيه وشريك أبيه) أو أُمِّه، أو أخيه ونحوه؛ لأنهما شريكان حال ثبوت الشُّفعة، فكانت بينهما، كما لو تملكاها بسبب واحد، ولأنها تثبت لدفع ضرر الشريك الداخل على شركائه بسبب شركته، وهو موجود في حق الكل.

وكذا لو اشترى اثنان نصفَ دار، ثم اشترى اثنان نصفها الآخر، أو ورثاه، أو اتَّهباه، أو وصل إليهما بسببٍ ما من أسباب الملك، فباع أحدهما نصيبه.

وهذه المسائل وشبهها داخلة فيما سبق من قوله: "وهي بين شركاء على حسب أملاكهم".

(ولا شُفعة لكافر حين البيع، أسلم بعدَ) البيع (أو لا) أي: لم يسلم (على مسلم) لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا شُفعةَ لنصراني" رواه الدارقطني في كتاب "العلل"، وأبو بكر

(1)

، وفي إسنادهما

(1)

لم نقف عليه في مظانه فيما طُبع من كتاب العلل للدارقطني، ولا فيما طُبع من كتب الخلال. وأخرجه - أيضًا - العقيلي (4/ 313)، والطبراني في الصغير (1/ 206)، =

ص: 397

بابل

(1)

بن نجيح، عن سفيان الثوري، عن حميد، عن أنس. وبابل

(1)

ضعَّفه الدارقطني وابن عدي.

ولأنه معنىً يختصُّ به العقار، أشبه الاستعلاء في البنيان.

(وتجب) أي: تثبت الشُّفعة (فيما) أي: في شِقص مشفوع (ادَّعى شراءه لموليه) أي: محجوره؛ لأن الشُّفعة حق ثبت لإزالة الضَّرر، فاستوى فيه مطلق التصرُّف والمحجور عليه، ويقبل إقرار وليِّه به، كإقراره بعيب في مبيعه، وكذا ما ادَّعى أنه اشتراه لفلان الغائب، فإن الشُّفعة تثبت فيه، ويأخذه الحاكم ويدفعه للشفيع، والغائب على حجته إذا قدم.

وأما لو أقرَّ المدَّعى عليه بمجرَّد الملك لمحجوره، أو موكّله

= وابن عدي (7/ 2520)، والبيهقي (6/ 108 - 109)، والخطيب في تاريخه (13/ 435)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 109)، وفي التحقيق (2/ 217)، من طريق نائل بن نجيح، عن سفيان، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو حاتم - كما في العلل لابنه (1/ 478) -: هذا باطل. وقال ابن عدي: ولنائل غير ما ذكرت، وأحاديثه مظلمة جدًا، وخاصة إذا روى عن الثوري.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 159): رواه الطبراني في الصغير، وفيه نائل بن نجيح، وثقه أبو حاتم وضعفه غيره.

وأخرجه العقيلي (4/ 313)، والبيهقي (6/ 109)، والخطيب في تاريخه (13/ 435)، من طريق محمد بن كثير، عن الثوري، عن حميد، عن الحسن قال: ليس لليهودي ولا للنصراني شفعة.

قال العقيلي: حديث ابن كثير أولى. وصوَّبه الدارقطني في العلل - كما في تاريخ بغداد - والبيهقي، وقال الخطيب: وهو الصحيح.

وأخرجه عبد الرزاق (8/ 84) رقم 14411، من طريق الثوري، عن حميد الطويل، عن الحسن أو أنس، قال: ليس للكافر شفعة.

(1)

كذا في الأصول، والصواب:"نائل" كما في مصادر التخريج.

ص: 398

الغائب، ثم أقرَّ بالشراء بعد ذلك، لم تثبت الشُّفعة حتى تقوم بالشراء بينة، أو يقدم الغائب، أو ينفك الحَجْر عن المحجور ويعترفا بالشراء؛ لأن الملك ثبت لهما بالإقرار، وإقراره بالشراء بعد ذلك إقرار في ملك غيره، فلم يُقبل، وإن لم يذكر سبب الملك لم يسأله الحاكم عنه، ولم يطالَب ببيانه؛ لأنه لا فائدة في الكشف عنه؛ ذكره في "المغني" و"الشرح".

(و) تثبت الشُّفعة (للمسلِم) على الكافر؛ لعموم الأدلة؛ ولأنها إذا ثبتت على المسلم مع عظم حرمته، فلأن تثبت على الذِّمي مع دناءته أَولى.

(و) تثبت الشُّفعة - أيضًا - (لكافرٍ على كافر) لاستوائهما كالمسلمين (ولو كان البائع) للشقص المشفوع (مسلمًا) لأن الشفيع يأخذ الشقص من المشتري المساوي له لا من البائع.

(ولو تبايع كافران بخمرٍ، أو خنزيرٍ) أو نحوهما (وتقابضا) قبل إسلامهما، أو ترافعهما إلينا (لم يُنقض البيع) وكذا سائر تصرُّفاتهم، ولا شُفعة؛ لأن الثمن ليس بمال، وتقدم

(1)

.

(ولا شُفعة لأهل البدع الغُلاة على مسلم) لما تقدَّم من أنه لا شُفعة لكافرٍ على مسلم، وأهل البدع الغلاة (كالمُعتقِد أنَّ جبربل غَلِط في الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أُرسل إلى عليٍّ، ونحوه) كمن يعتقد ألوهية علي؛ لأنها إذا لم تثبت للذمي الذي يقرُّ على كفره، فغيره أَولى.

(وكذا حُكْمُ من حُكِمَ بكفره من الدُّعاة إلى القول بخلق القرآن) ونحوه. ويأتي في الشهادات قولهم - أي: الأصحاب

(2)

-: ويكفر مجتهدهم الداعية.

(1)

(7/ 281).

(2)

"أي الأصحاب" ساقطة من "ح" و"ذ".

ص: 399

(وتثبت) الشُّفعة (لكلِّ من حكمنا بإسلامه منهم) أي: من أهل البدع (كالفاسق بالأفعال) من زنىً، ولواط، وشرب خمر، ونحوه.

(و) تثبت الشُّفعة (لكلٍّ من البدوي) أي: ساكن البادية (والقروي) أي: ساكن القُرَى (على الآخر) لعموم الأدلة، واشتراكهما في المعنى المقتضي لوجوب الشُّفعة.

(ولم يَرَ) الإمام (أحمد

(1)

في أرض السواد شُفعة) لأن عمر وقفها (وكذا الحكم في سائر الأرض التي وقفها عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنه (كأرض الشام، و) أرض (مصر، وغيرهما مما لم يقسم بين الغانمين) قال في "المغني" و"الشرح": (إلا أن يَحْكُم ببيعها حاكم، أو يفعله) أي: بيعها (الإمام أو نائبه، فتثبت) الشُّفعة (فيه) أي: فيما حكم به الحاكم أو

(2)

باعه الإمام أو نائبه؛ لأنه مختلف فيه، وحكم الحاكم ينفذ فيه، وفعله كحكمه. قال الحارثي: ويخرَّج على القول بجواز الشراء ثبوت الشُّفعة؛ لأنها فرع منه.

(ولا شُفعة لمضاربٍ على ربِّ المال إن ظهر رِبْحٌ) لأنه يصير له جزء من مال المضاربة، فلا تثبت له على نفسه.

(وإلا) أي: وإن لم يظهر ربح (وجبت) الشُّفعة؛ لأنه أجنبي (وصورته: أن يكون للمضارب شِقصٌ في دار) تنقسم إجبارًا (فيشتري) المضارب (من مال المضاربة بقيتها) أي: الدار.

(ولا) شُفعة أيضًا (لربِّ المال على مضارب، وصورته: أن يكون لربِّ المال شِقصٌ في دار، فيشتري المضارب من مال المضاربة بقيتها)

(1)

مسائل حنبل كما في المغني (7/ 526).

(2)

في "ح": "لو" بدل "أو".

ص: 400

لأن الملك لربِّ المال، فلا يستحق الشُّفعة على نفسه.

(ولو بيع شقص) مشفوع من عقار (فيه شركة مال المضاربة، فللعامل الأخذ) أي: أخذ الشقص (بها) أي: بالشفعة للمضاربة (إذا كان الحظ فيها) أي: في الشُّفعة، أي: في الأخذ بها. كما لو كان ثمنه دون ثمن المِثل؛ لأنه بمظنة أن يربح.

(فإن تركها) أي: ترك العامل الأخذ بالشُّفعة لرأي رآه من بيعه بأكثر من ثمن المِثْل ونحوه (فلربِّ المال الأخذ) بالشُّفعة؛ لأن مال المضاربة ملكه، والشركة في الحقيقة إنما هي له (ولا ينفذ عفو العامل) عن الشُّفعة؛ لأن الملك لغيره، أشبه العبد المأذون له في التجارة.

(ولو باع المضارب من مال المضاربة شِقصًا) مشفوعًا (في شركة نفسه، لم يأخذ) أي: المضارب، الشِّقص (بالشُّفعة) من نفسه (لأنه) أي: المضارب (متَّهم) أشبه شراءه من نفسه. وتثبت الشُّفعة للسيد على المُكاتَب؛ لأن السيد لا يملك ما في يده ولا يزكِّيه، ولهذا جاز أن يشتري منه. بخلاف العبد المأذون له، وإن كان عليه دَيْن، فلا شُفعة لسيده عليه؛ لأنه لا يصح شراؤه منه؛ لأن ما بيده ملك لسيده، كما تقدم في آخر الحَجْر

(1)

.

(1)

(8/ 407).

ص: 401

‌باب الوديعة

(وهي) فعيلة، من وَدَع الشيءَ إذا تَرَكه، إذ هي متروكة عند المودَع. وقيل: مشتقة من الدَّعَة، فكأنها عند المودَع غير مبتذلة للانتفاع. وقيل: من وَدَع الشيءُ إذا سكن، فكأنها ساكنة عند المودع.

وشرعًا: (اسم للمال) أو المختص، ككلب الصيد (المودَع) بفتح الدال، أي: المدفوع إلى من يحفظه بلا عوض. فخرج بقيد "المال" أو "المختص" الكلب الذي لا يُقتنى، والخمر ونحوهما مما لا يُحترم، وبقيد "المدفوع" ما ألقته الريح إلى دار من نحو ثوب، وما أخذه بالتعدي. وبقيد "الحفظ" العارية، ونحوها، وبقيد "عدم العوض" الأجير على حفظ المال. وبما ذكرت تعلم ما في كلامه من القصور والدَّور.

قال الأزهري

(1)

: وسُميت وديعة بالهاء؛ لأنهم ذهبوا بها إلى الأمانة. انتهى.

والإجماع في كل عصر على جوازها

(2)

، وسنده قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}

(3)

مع السُّنة الشهيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم:"أدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتَمنكَ، ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ" رواه أبو داود والترمذي وحَسَّنه

(4)

. والمعنى يقتضيها لحاجة الناس إليها؛ لأنه يتعذَّر عليهم حفظ جميع أموالهم بأنفسهم.

(1)

الزاهر في غريب ألفاظ الإمام الشافعي، ص/ 380.

(2)

انظر: الإجماع لابن المنذر ص/ 129، ومراتب الإجماع لابن حزم ص/ 110، والإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان (3/ 1586).

(3)

سورة النساء، الآية:58.

(4)

تقدم تخريجه (7/ 205) تعليق رقم (1).

ص: 402

(والإيداع: توكيل) ربِّ المال جائز التصرُّف (في حفظه تبرُّعًا) من الحافظ.

(والاستيداع: توكل) جائز التصرُّف (في حفظه) أي: حفظ مال غيره (كذلك) أي: تبرُّعًا (بغير تصرف) في المال المحفوظ. ومحترز تلك القيود عُلِم مما قَدَّمته.

(ويكفي القبض قَبولًا) للوديعة، كالوكالة.

(وقَبولها) أي: الوديعة (مستحبٌّ لمن يعلم من نفسه الأمانة) أي: أنه ثقة قادر على حفظها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "والله في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيه"

(1)

قال في "المبدع": ويُكره لغيره إلا برضا رَبِّها. انتهى.

قلت: ولعلَّ المراد بعد إعلامه بذلك إن كان لا يعلمه؛ لئلا يغرّه.

(وهي) أي: الوديعة بمعنى العقد (عقد جائز من الطرفين) لأنها نوع من الوكالة (فإن أذن المالك) للمدفوع إليه المال (في التصرُّف) أي: استعماله (ففعل) أي: استعمله حسب الإذن (صارت عارية مضمونة) كالرَّهن إذا أذِن ربُّه للمرتَهِن في استعماله، فإن لم يستعملها فهي أمانة؛ لأن الانتفاع غير مقصود، ولم يوجد، فوجب تغليب ما هو المقصود.

(ويُشترط فيها) أي: الوديعة (أركان وكالة) أي: ما يُعتبر في الوكالة من البلوغ والعقل والرشد.

(وتنفسخ) الوديعة (بموت) أحد العاقدين (وجنونـ) ــه (و) بـ (ــعزل مع علمه) بالعزل، فإن عزله ربُّها، ولم يعلم المودَع بذلك، لم ينعزل؛ لعدم الفائدة فيه، إذ المال بيده أمانة لا يتصرف فيه، بخلاف الوكيل.

(وهي) أي: الوديعة (أمانة) لقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا

(1)

أخرجه مسلم في الذكر، حديث 2699.

ص: 403

فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}

(1)

(لا ضمان عليه). أي: المودَع (فيها) أي: الوديعة؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن أُودِعَ وَدِيعةً، فلا ضَمان عليه" رواه ابن ماجه

(2)

؛ ولأن المستودَع يحفظها لمالكها، فلو ضمنت؛ لامتنع الناس من الدخول فيها، وذلك مضرٌّ؛ لما فيه من مسيس الحاجة إليها.

(إلا أن يتعدى) الوديع (أو يفرِّط) أي: يقصِّر في حفظ الوديعة فيضمنها؛ لأن المتعدي متلف لمال غيره، فضمنه، كما لو أتلفه من غير

(1)

سورة البقرة، الآية:283.

(2)

في الصدقات، باب 6، حديث 2401، من طريق أيوب بن سويد، عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، به. وضعَّفه ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 65)، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (3/ 62): هذا إسناد ضعيف؛ لضعف المثنى، والراوي عنه. وأخرجه - أيضًا - ابن حبان في المجروحين (2/ 73)، والبيهقي (6/ 289)، من طريق ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وحكم عليه ابن حبان بالوضع، أو القلب. وأخرجه الدارقطني (3/ 41)، والبيهقي (6/ 289)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 223) حديث 1597، من طريق محمد بن عبد الرحمن الحجبي، عن عمرو بن شعيب، به. بلفظ: لا ضمان على مؤتمن.

وضعفه الذهبي في المهذب (5/ 2453)، وابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (3/ 77)، وابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 150)، والحافظ في التلخيص الحبير (3/ 97)، وبلوغ المرام (966).

وأخرجه الدارقطني (3/ 41)، من طريق عمرو بن عبد الجبار، عن عبيدة بن حسان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان. وقال: عمرو، وعبيدة ضعيفان، وإنما يروى عن شريح القاضي غير مرفوع. ثم أخرجه من قول شريح.

وأخرجه - أيضًا - عبد الرزاق (8/ 178) رقم 14782، ووكيع بن خلف القاضي في أخبار القضاة (2/ 331)، والبيهقي (6/ 91) من قول شريح.

ص: 404

إيداع، والمفرِّط متسبب بترك ما وجب عليه من حفظها.

(فإن عزل) الوديع (نفسه فـ) ــقد انعزل؛ لأنها جائزة، أشبه ما لو عزله ربها، و (هي) أي: الوديعة (بعده) أي: بعد عزله نفسه (أمانة، حكمها) ما دامت (في يده حكم الثوب الذي أطارته الريح إلى داره) لأنه لم يتعدَّ بوضع يده عليها، وإذن ربها له في حفظها بطل بعزله نفسه (يجب) عليه (ردُّه) إلى ربه فورًا مع التمكن؛ لعدم إذن ربه في بقائه بيده.

(فإن تلف) المال المودَع عند الوديع بعد عزله نفسه، أو الثوب الذي أطارته الريح إلى داره (قبل التمكُّن من ردِّه، فهدر) لا ضمان فيه، وفهم منه: أنه إن تلف بعد تمكنه من ردِّه أنه يضمنه؛ لأنه متعدٍّ بإمساكه فوق ما يتمكن فيه من الرد.

(وإن تلفت) الوديعة (ولو لم يذهب) أي: يتلف (معها شيء من ماله) أي: الوديع (لم يضمن) الوديع الوديعة؛ لعموم ما سبق، - وما روى سعيد: حدثنا هشيم، أخبرنا حميد الطويل، عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه "ضَمَّنَهُ وديعةً ذهبَتْ مِنْ بينِ مالِهِ"

(1)

محمول على التفريط من أنس في حفظها، فلا منافاة - (إلا أن يتعدَّى) الوديع (أو يفرِّط في حفظها) أي: الوديعة فتتلف، فيضمنها؛ لما تقدم.

(وإن شرط) رَبُّ الوديعة (عليه) أي: الوديع (ضمانها) أي:

(1)

لم نقف عليه في مظانه فيما طُبع من سنن سعيد بن منصور. وأخرجه - أيضًا - البيهقي (6/ 290) من طريق يحيى، عن حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه، وصححه ابن حزم في المحلى (8/ 277).

وأخرجه - أيضًا - عبد الرزاق (8/ 182)، رقم 14799، وابن أبي شيبة (6/ 401)، وأبو القاسم البغوي في الجعديات (1/ 510) رقم 1007، والبيهقي (6/ 290)، كلهم من طرق عن أنس رضي الله عنه.

ص: 405

الوديعة، لم يصح الشرط، ولم يضمنها الوديع؛ لأنه شرط يُنافي مقتضى العقد، فلم يصح، وتقدم

(1)

.

(أو قال) الوديع: (أنا ضامن لها) أي: الوديعة (لم يضمن) ما تلف بغير تعدٍّ أو تفريط؛ لأن ضمان الأمانات غير صحيح، وتقدم

(2)

، فلذلك قال:(وكذلك كلُّ ما أصله الأمانة) كالرهن، والعين المؤجرة، والموصى بنفعِها، ونحوها، لا يصح شرط ضمانها، ولا ضمانُها؛ لما تقدم.

(ويلزمه) أي: الوديع (حفظها) أي: الوديعة (بنفسه أو وكيله، أو مَن يحفظ ماله عادة كزوجة وعبدٍ، كما يحفظ) الوديع (ماله في حِرْزِ مِثْلها عُرفًا، كحِرْز سرقة) لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}

(3)

. ولا يمكن ذلك إلا بالحفظ كما ذكر.

قال في "الرعاية": من استودع شيئًا حفظه في حِرْز مثلِه عاجلًا مع القدرة، وإلا؛ ضمن (إن لم يُعيّن ربُّها حِرْزًا) فإن عيَّنه تعين هو أو مثله، ويأتي.

(فإن لم يُحرِزها) الوديع (في حِرْز مِثْلها) مع عدم التعيين، ضَمِنها؛ لأنه مُفرِّط (أو سعى) الوديع (بها إلى ظالم، أو دَلَّ) الوديع (عليها لصًّا، فأخذها) اللصُّ (ضمنها) الوديع؛ لتعديه، أو تفريطه.

(وإن وضعها) الوديع (في حِرْزِ مِثْلها، ثم نَقَلَها) الوديع (عنه إلى حِرْزِ مِثْلها، ولو كان) المنقول إليه (دون) الحِرْزِ (الأول، لم يضمن)

(1)

(9/ 404).

(2)

(8/ 239).

(3)

سورة النساء، الآية:58.

ص: 406

الوديع الوديعة؛ لأن صاحبها رَدَّ حفظها إلى اجتهاده، ولم يحصُل منه تفريط.

(ولو كانت العين) المقصود حفظها (في بيت صاحبها، فقال) صاحبها (لرجل - بأجرة أو) بـ (ــلا) أُجرة - (احفظْها في موضعها، فنقلها) المستحفظ (عنه) أي: عن موضعها (من غير خوف، ضَمِنها؛ لأنه ليس بمودَع) بفتح الدال (إنما هو وكيل في حفظها في موضعها) فهو متعدٍّ بنقلها؛ لأنه غير مأذون فيه (إلا أن يخاف) المستحفظ (عليها) التلف (فعليه إخراجها) لأنه من حفظها في هذه الحالة.

(وإن عَيَّن صاحبها) أي: الوديعة (حِرْزًا، فجعلها) المودع (في) حِرْز (دونه، ضَمِن) الوديع (سواء رَدَّها) المودع (إليه) أي: إلى الحِرْز الذي عَيَّنه صاحبها (أو لا) لأنه خالفه في حِفظ ماله.

(وإن أحرزها بمِثلْه) أي: بحِرْز مثل الذي عينه صاحبها في الحفظ (أو) بحِرْز (فوقه) أي: أحرز منه، كلبس خاتم في خنصر، فلبسه في بنصر لا عكسه (لم يضمن) الوديع (ولو) أخرجها (لغير حاجه) لأن تعيينه الحِرْز إذن فيما هو مثله، كمن اكترى لزرع حنطة، فله زرعها وزرع مثلها في الضرر، فما فوقه من باب أولى.

(وإنْ نَهَاه) أي: نهى صاحبُ الوديعة المودَع (عن إخراجها، فأخرجها) الوديع (لغشيان نار، أو) غشيان (سيل، أو) غشيان (شيء الغالب منه التَّوَى) بالمثناة الفوقية، أي: الهلاك - (ويلزمه) أي: الوديع إخراج الوديعة (إذًا) أي: عند غشيان شيء الغالب منه الهلاك كالنهب - (لم يضمن) الوديع الوديعة، إن تلفت إذًا (إن وضعها) الوديع (في حِرْزِ مِثْلها، أو) في حِرْزٍ (فوقَه) لأن حِفْظها نقلها، وتركها يضيعها.

ص: 407

(فإن تعذَّرا) أي: حِرْز مثلها وما فوقه، عند غشيان ما الغالب منه الهلاك (وأحرزها) الوديع (في دونه) في هذه الحال (فلا ضمان) على الوديع؛ لأن إحرازها به إذًا أحفظ لها مِن تَرْكها بمكانها، وليس في وسعه حينئذ سواه.

(وإن تَرَكَها) أي: ترك الوديع الوديعة في الحِرْز الذي عَيَّنه رَبُّها مع غشيان ما الغالب منه الهلاك (فتَلِفت، ضمنـ) ــها الوديع (سواء تلفت بالأمر المخوف، أو غيره) لأنه مُفرِّط به.

(وإن أخرجها) أي: الوديعة من المكان الذي عَيَّنه ربها، ونهاه عن إخراجها منه (لغير خوف - ويحرم إخراجها) إذًا - (ضَمِن) الوديع الوديعة (ولو) أخرجها (إلى حِرْز مثلها، أو) حِرْز (فوقه) لأنه خالف ربَّها لغير فائدة، فكان متعديًا بذلك، بخلاف ما إذا لم ينهه، كما تقدم قريبًا.

وإذا أخرج الوديعة المنهي عن إخراجها وتلفت، فادَّعى الوديع أنه أخرجها لغشيان شيء الغالب منه الهلاك، وأنكر صاحبها وجوده، فعلى الوديع البينة أنه كان في ذلك الموضع ما ادَّعاه؛ لأنه لا تتعذَّر إقامة البينة عليه؛ لظهوره، فإذا ثبت، قُبل قوله في التلف به بيمينه.

(وإن) عيَّن ربُّ الوديعة حِرْزًا، و (قال) للوديع (لا تُخرِجْها) من ذلك الحِرْز (وإنْ خِفتَ عليها، فأخرجها عند الخوف) فتلفت، لم يضمنها؛ لأنه زيادة خير وحفظ (أو تركها) عند الخوف، فتلفت (لم يضمنـ) ــها الوديع؛ لأنه ممتثل أمر صاحبها، كما لو قال له: أتلِفْها، فأَتْلَفَها. والحكم في إخراجها من الخريطة

(1)

، أو الصندوق كالحكم في

(1)

الخريطة: شبه كيس يُشرَج من أديم وخِرَق، والجمع: خرائط. المصباح المنير (1/ 167) مادة (خرط).

ص: 408

إخراجها من البيت فيما تقدم تفصيله.

(وإن أودعه بهيمةً ولم يأمره) ربُّها (بعلْفِهَا، و) لا (سقْيها) لزمه ذلك؛ لأنه من كمال الحِفْظِ، بل هو الحفظ بعينه؛ لأن العُرف يقتضي علْفها وسقْيها، فهو مأمور به عُرفًا (أو أمره) ربُّ البهيمة (بذلك) أي: بعلْفِهَا وسقْيها (لزمـ) ــه علفها وسقيها؛ لأنه من حفظها.

(فإن لم يعلِفْها) الوديع، أو لم يسقها (حتى ماتت) البهيمة المودَعة جوعًا أو عطشًا (ضمنـ) ــها الوديع؛ لتفريطه في حفظها، وتعديه بترك ما أمر به عُرفًا، أو نطقًا (إلا أن ينهاه) أي: الوديعَ (المالكُ عن علفها) أو سقيها، فيتركه، فتتلف (فلا يضمن) الوديع؛ لأن مالكها أذنه في إتلافها، أشبه ما لو أمره بقتلها (لكن يأثم) الوديع بترك علْفها وسقْيها حتى مع الأمر بتركهما؛ لحُرْمة الحيوان.

(وإن قدر المستودَع على صاحبها) أي: البهيمة (أو) قدر على (وكيله، طالبه بالإنفاق عليها، أو) طالبه (بردِّها) أي: البهيمة (عليه) أي: على مالكها، أو وكيله (أو) طالبه بأن (يأذن له في الإنفاق عليها، ليرجع) الوديع (به) أي: بما أنفقه؛ لأن النفقة على الحيوان واجبة على مالكه، وهذه طريق

(1)

الوصول إليها منه.

(فإن عجز) المستودَع (عن صاحبها، و) عجز عن (وكيله) أو لم يقدر على أن يتوصَّل إلى أحدهما ليطالبه بالإنفاق عليها، أو استردادها، أو أن يأذنه في النفقة (رفع) المستودَع (الأمرَ إلى الحاكم، فإن وجد) الحاكمُ (لصاحبهما مالًا أنفق عليها منه) لأن للحاكم ولاية مال الغائب (وإن لم يجد) الحاكمُ لصاحبها مالًا (فَعَلَ) الحاكم (ما يرى فيه الحظ)

(1)

في "ح" ونسخة أشار إليها في حاشية "ذ": "طرق" وفي "ذ": "طريقة".

ص: 409

أي: ما يؤديه إليه اجتهاده أنه أحظ (لصاحبها، من بيعها) وحفظ ثمنها لربها (أو بيع بعضها وإنفاقه) أي: ثمن البعض (عليها) أي: على ما بقي منها (أو إجارتها) وينفق من أجرتها عليها، ويحفظ الباقي (أو الاستدانة على صاحبها، فيدفعه) أي: ما يستدينه الحاكم (إلى المودَع، أو) إلى أمين (غيره، فينفق) المدفوع إليه (عليها) منه بحسب الحاجة.

(ويجوز) للحاكم (أن يأذن للمودَع أن ينفق عليها من ماله) ليرجع على ربها إذا جاء (ويكون المودَع) حينئذ (قابضًا من نفسه) لما ينفقه عليها (لنفسه) وتقدم نظيره في قبض المبيع

(1)

ونحوه (ويَكِلُ) أي: يفوِّض الحاكم (ذلك إلى اجتهاده) أي: المودَع (في قَدْر ما ينفق) على البهيمة المودَعة مع أمانته.

قلت: والأحوط أن يُقَدِّر له ما ينفقه؛ قطعًا للنزاع بعد.

(ويرجع) المستودَع (به) أي: بما أنفقه بإذن الحاكم (على صاحبها) لقيام إذن الحاكم مقام إذنه.

(فإن اختلفا) أي: المودَع وربّها (في قَدْر النفقة) بأن قال المودَع: أنفقت عشرة، وقال ربُّها: بل ثمانية (فـ) ــالقول (قول المودَع) - بفتح الدال - بيمينه (إذا ادَّعى النفقة بالمعروف) لأنه أمين (وإن ادَّعى) المودَع (زيادة) عن النفقة بالمعروف، أو عمَّا قدَّره له الحاكم - إن قدر شيئًا - (لم تُقبل) دعواه لمنافاة العُرف لها.

(وإن اختلفا) أي: ربّ البهيمة والمودَع (في قَدْر المدّة) أي: مدة الإنفاق، بأن قال ربُّها: أنفقت منذ سنة، فقال المستودَع: بل من سنتين (فقول صاحبها) بيمينه؛ لأن الأصل براءة ذِمَّته مما ادَّعاه عليه من المدة

(1)

(7/ 501).

ص: 410

الزائدة، وتقدم نظيره في ولي اليتيم

(1)

.

(وإذا أنفق) المستودَع (عليها بإذن حاكم، رجع به) أي: بما أنفقه؛ لما مرَّ.

(وإن كان) المستودع أنفق (بغير إذنه) أي: الحاكم (مع تعذُّره) أي: إذن الحاكم، وغيبة رَبِّها، أو العجز عن استئذانه

(2)

(وأشهد) المستودَعُ (على الإنفاق) أي: على أنه أنفق ليرجع (رجع) بما أنفقه على صاحبها؛ لقيامه عنه بواجب.

(وإن كان) المستودَع أنفق على البهيمة (مع إمكان إذن الحاكم، ولم يستأذنْهُ) أي: الحاكم مع العجز عن استئذان رَبِّها (بل نوى الرُّجوع، لم يَرجِع) على صاحبها بشيء مما أنفقه، صححه هنا في "الإنصاف"، لعدم إذن رَبِّها أو من يقوم مقامه مع قُدرته عليه.

(وقيل: يرجع) المستودَع بما أنفقه عليها على رَبِّها، إذا تعذَّر استئذانه، ولو لم يستأذن حاكمًا مع قُدرته ولم يُشْهِد (اختاره جمع) منهم ابن عبدوس في "تذكرته"، وجزم به في "المنتخب"، وصححه الحارثي، وصاحب "الرعاية الصغرى"، و"الحاوي الصغير"، و"الفائق". قال في "الإنصاف": وهو الصواب. انتهى. وجزم به المصنف وصاحب "المنتهى" وغيرهما في الرهن

(3)

، وقطع به ابن رجب في القاعدة

(1)

(8/ 401).

(2)

في "ح" زيادة: "الحاكم".

(3)

في هامش نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (2/ 398) ما نصه: "إلا أن يُحمل ما هناك على ما إذا لم ينهه عن علفها، وما هنا على ما إذا نهاه عنه، كما دلَّ عليه السياق، فلا تعارض بين الكلامين، لكن لا يناسبه قوله: وتقدم في الرهن. ا. هـ من خط ابن العماد".

ص: 411

الخامسة والسبعين

(1)

(وتقدم في الرهن

(2)

.

ومتى أودعه) إنسان وديعة (وأطلق) فلم يأمره بوضعها في شيء بعينه (فتركها) المستودَع (في جيبه) أي: إذا كان مزرورًا، أو ضيق الفم. فإن كان واسعًا، أو غير مزرور، ضَمِن؛ ذكره المجد في "شرحه"(أو) في (يده، أو شدَّها في كُمِّه، أو) شدَّها في (عضده، أو ترك) المستودَع (في كُمِّه) مودَعًا (ثقيلًا) بحيث يشعر به إذا سقط (بلا شَدٍّ) لم يضمنه، حيث لم يعين ربُّه حِرزًا؛ لجريان العادة به (أو تركها) أي: ترك المستودع الوديعة (في وسطه، وأحرز) أي: شد (عليها سراويله، لم يضمن) إن ضاعت؛ لأنه لا يعدُّ مفرِّطا. وفي "الفصول": إن تركها في رأسه، أو غرزها في عمامته، أو تحت قلنسوته، احتمل أنه حِرْز.

(وإن عَيَّن) رب الوديعة (جيبه) بأن قال للمستودَع: اجعلها في جيبك (ضَمِن) المستودَع الوديعة إن ضاعت وقد جعلها (في يده أو) في (كُمِّه) لأن الجيب أحرزُ، وربما نسي فسقطت من يده، أو كُمِّه، و (لا) يضمن في (عكسه) بأن عيّن يده أو كمه، فجعلها في جيبه؛ لأنه أحرز.

(وإن قال) ربُّ الوديعة للمستودَع: (اتركْها في كُمِّك، فتركها في يده) ضمنها؛ لأن اليد يسقط منها الشيء بالنسيان، بخلاف الكمِّ (أو عكسه) بأن قال: اتركها في يدك، فتركها في كمِّه (ضَمِن) لأن الكمَّ يتطرق إليه البطُّ

(3)

بخلاف اليد، فكل منهما أدنى من الآخر من وجه، فضمن لمخالفته. وقال القاضي: اليد أحرز عند المغالبة، والكمُّ أحرز

(1)

القواعد الفقهية، ص/ 145.

(2)

(8/ 213).

(3)

البطُّ: الشَّقُّ، وقد تقدم التعريف به (5/ 417) تعليق رقم (6).

ص: 412

عند عدمها.

(كما) يضمن المستودَع (لو جاءه) ربُّ الوديعة (بها في السوق، وأمره) ربُّ الوديعة (بحفظها ببيته، فتركها) المستودَع (عنده إلى مضيه إلى منزله) أو فوق ما يمكنه الذهاب بها، فتلفت قبل أن يمضي بها إلى بيته؛ لأن البيت أحفظ، وتركها فوق ما يذهب بها تفريط.

(وإن أمره) ربُّ الوديعة (أن يجعلها في صندوق، وقال) رب الوديعة للمستودَع: (لا تقفل عليها) الصندوق (ولا تنم فوقها، فخالفه) وقفل عليها أو نام عليها، فلا ضمان عليه؛ لأنه محسن (أو قال) اجعلها في صندوق و (لا تقفل عليها إلا قفلًا واحدًا، فجعل عليها قفلين، فلا ضمان عليه) لما تقدم.

(وإن قال) ربُّ الوديعة: (اجعلها في هذا البيت، ولا تُدخِله أحدًا، فـ) ــجعلها في البيت، و (أدخل إليه قومًا، فسرقها أحدهم حال إدخالهم أو بعده، ضمنها) لأن الداخل ربما شاهد الوديعة في دخوله البيت، وعلم موضعها وطريق الوصول إليها، فسرقها.

وإن كان السارق من غيرهم، أو كان التلف بحرق أو غرق، ففي الضمان وجهان: أحدهما لا يضمن؛ اختاره القاضي، وقال في "المبدع": إنه أصح.

والثاني: يضمن؛ اختاره ابن عقيل والموفق، ومال إليه الشارح، وجزم به في "المنتهى" لمخالفته.

(وإن أودعه خاتمًا، وقال) ربُّه للمستودَع (اجعلْه في الخنصر، فلبسه) المستودَع (في البنصر، لم يضمن) الخاتم إن ضاع؛ لأن البنصر أغلظ، فهي أحرز (لكن إن انكسر) الخاتم (لغلظها) أي: البنصر،

ص: 413

ضَمِن؛ لأنه أتلفه بما لم يأذن فيه مالكه (أو جعله) أي: الخاتم (في أنملتها) أي: البنصر (العليا، ضَمِن) لأنه أدنى من المأمور به. وعبارة "الإنصاف": وإن لم يدخل في جميعها، فجعله في بعضها، ضَمِن.

(وإن قال: اجعلْه في البنصر، فجعله في الخنصر) ضَمِن؛ لأنه دون المأمور به (أو) قال: اجعله في البنصر، فجعله (في الوسطى، ولم يدخل) الخاتم (في جميعها، ضمن) لما تقدم.

(ولو أمره) ربُّ الوديعة (أن يجعلها في منزله، فتركها) المستودَع (في ثيابه) ولو شدَّها فيها (وخرج بها، ضَمِنها) لأن البيت أحرز.

فصل

(وإن دفع) المستودَع (الوديعةَ إلى من يحفظ ماله) أي: المستودَع عادة (أو) دفعها إلى من يحفظ (مال ربّها عادة، كزوجته، وعبده، وخادمه ونحوهم) كخازنه (لم يضمن) المستودَع إن تلفت؛ لأنه قد وجب عليه حفظها، فله توليه بنفسه، وبمن يقوم مقامه، ولقيامهم مقام المالك في الرَّدِّ (كوكيل ربّها) وكما لو كانت الوديعة ماشية، فدفعها للراعي، أو لغلامه ليسقيها.

(ولو دفعها) أي: دفع المستودع الوديعة (إلى الشَّريك) أي: شريك رَبِّها في غيرها، أو فيها، أو دفعها المستودَع إلى شريكه نفسه (ضَمِن) المستودَع الوديعة إن تلفت (كالأجنبيّ المَحْض) الذي ليس بشريك، أما شريكا العِنان، فإن جاز إيداع أحدهما، فالظاهر أنه لا ضمان على المستودَع في الرد للآخر، على ما تقدم في الشركة

(1)

،

(1)

(8/ 489).

ص: 414

والعين لاثنين إذا أودعاها، ليس للمستودع الرد على أحدهما إلا بإذن الآخر، فإن فعل، ضمن حصته.

(وله) أي: المستودع (الاستعانة بالأجانب في الحَمْل والنَّقل) أي: في حمل الوديعة، ونقلها من موضع إلى آخر حيث جاز، لجريان العادة به.

(و) له الاستعانة بالأجانب - أيضًا - في (سقي الدابة) المودَعة (وعلفها) لأن الإنسان يفعل ذلك في ماله، فكذا في الوديعة.

(وإن دفعها) أي: دفع المستودع الوديعة (إلى أجنبي) لعذر، لم يضمن (أو) دفع الوديعة إلى (حاكم لعُذر) كمن حضره الموت، أو أراد سفرًا، وخاف عليها (لم يضمن) لأنه لم يتعدَّ ولم يُفرِّط.

(وإلا) بأن دفعها لأجنبي، أو حاكم بلا عُذر (ضَمِن) المستودَع الوديعة لتعديه؛ لأن المستودَع ليس له أن يودِع بلا عُذر. قال في "المبدع": ولعله غير ظاهر في الحاكم. انتهى. وفيه نظر؛ إذ الحاكم لا ولاية له على مكلَّف رشيد حاضر.

(وللمالك) أي: مالك الوديعة (مطالبتُهُ) أي: المستودَع ببدل الوديعة؛ لأنه صار ضامنًا بنفس الدفع، والإعراض عن الحفظ (و) لمالك الوديعة - أيضًا - (مطالبة الثاني) وهو القابض من المستودَع؛ لأنه قبض ما ليس له قبضه، أشبه المودَع من الغاصب (ولو كان) الثاني (جاهلًا بالحال) بأن لم يعلم أنها وديعة لا عُذر للمستودَع في إيداعها (ويستقرُّ عليه) أي: الثاني (الضمان إن كان عالمًا) بأنها وديعة، لا عُذْرَ في إيداعها، فإن ضَمنه المالك ابتداء، لم يرجع على المستودع، وإن ضَمن المستودَع، رجع عليه؛ لأن التلف وجد في يده، ولا تغرير.

ص: 415

(وإلا) يكن عالمًا بأنها وديعة لا عُذر في إيداعها (فلا) يستقر عليه الضمان بل على المستودَع، فإن ضَمن المالك المستودَع ابتداء، لم يرجع عليه، وإن ضَمنه رجع على المستودع، لأنه غرَّه.

(وإن أراد) المستودَع (سفرًا، أو خاف عليها عنده، فله) أي: المستودَع (رَدُّها على مالكها الحاضر، أو من يحفظ ماله عادة) كزوجته، وعبده، وخازنه (أو) رَدُّها إلى (وكيله) أي: وكيل ربِّ الوديعة (في قبضها، إن كان) لربِّها وكيل في قبضها، أو قبض حقوقه؛ لأن في ذلك تخليصًا له من دركها. ومقتضاه: أنه إذا دفعها إلى الحاكم إذًا يضمن؛ لأنه لا ولاية له على الحاضر، ويلزمه مؤنة الرد؛ لتعديه.

(وله) أي: المستودَع (السفر بها والحالة هذه) أي: وربها حاضر (إن لم يخف) المستودَع (عليها، أو كان) السفر (أحفظ لها) من إبقائها (ولم ينهه) رَبُّ الوديعة عن السفر بها. قال في "المبهج" و"الموجز": والغالب السلامة. فعلى هذا لا يضمنها إن تلف معه، سواء كان به ضرورة إلى السفر، أو لا؛ لأنه نقلها إلى موضع مأمون، فلم يضمنها، كما لو نقلها في البلد، وكأب ووصي، لا كمستأجر لحفظ شيء.

(وإن لم يجد من يردُّها عليه منهم) أي: من المالك، ومن يحفظ ماله، ووكيله (حمَلَها) المستودَع (معه في سفره، إن كان) السفر (أحفظ لها، ولم ينهه) ربُّها عن السفر بها (ولا ضمان) على المستودَع إذا سافر بها مع كونه أحفظ، ولم ينهه (وإلا) بأن كان السفر ليس أحفظ، ولو استوى الأمران (فلا) يسافر بها، فإن فعل، ضمن.

(وإن نهاه) أي: نهى رب الوديعة المستودع عن السفر بها (امتنع) عليه السفر بها (وضمن) إن سافر بها وتلفت؛ للمخالفة (إلا أن يكون

ص: 416

السفر بها لعذر، كجلاء أهل البلد، أو هجوم عدو، أو حرق، أو غرق، فلا ضمان) عليه إذا سافر بها وتلفت؛ لأنه موضع حاجة، فإن تركها إذًا وتلفت، فمقتضى ما صححه في "الإنصاف": يضمن حيث ترك الأصلح.

(ولو أودع) ربُّ وديعة (مسافرًا، فسافر) أي: سافر المستودع (بها، وتلفت بالسفر، فلا ضمان عليه) لأن إيداع المالك في هذه الحالة يقتضي الإذن في السفر بالوديعة (فإن هجم قُطَّاع الطريق عليه) أي: على المسافر بوديعة حيث جاز له السفر بها (فألقى المتاع) المودَع (إخفاءً له، وضاع، فلا ضمان عليه) لأن هذا عادة الناس في حفظ أموالهم.

(فإن خاف) المستودَعُ (المقيمُ عليها) أي: الوديعة (إذا سافر بها، ولم يجد) المستودَع (مالكها) ولا من يحفظ ماله عادة (ولا وكيله) في قبضها (دفَعها) المستودَع (إلى الحاكم) المأمون؛ لأن في السفر بها غررًا؛ لأنه عُرضة للنهب وغيره؛ ولأن الحاكم يقوم مقام صاحبها عند غيبته. وظاهره: أنه إذا أودعها مع قدرته على الحاكم أنه يضمنها.

(فإن تعذَّر ذلك) أي: دفعها إلى الحاكم المأمون (أودعها) المستودَع (ثقةً) لفعله صلى الله عليه وسلم "لمَّا أرادَ أنْ يُهاجِر، أوْدَعَ الودائعَ التي كانت عندهُ لأمِّ أيمنَ، وأمَرَ عليًّا رضي الله عنهما أن يَرُدَّها إلى أهلِها"

(1)

(أو

(1)

لم نقف على من أخرجه بهذا السياق، وقد أخرج الطبري في تاريخه (2/ 378)، من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن التيمي، والبيهقي (6/ 289)، عن طريق محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، كلاهما، من عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عليًّا أن يتخلف عنه بمكة، حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس. دون ذكر "أنه أودع الودائع التي عنده لأم أيمن". =

ص: 417

دفَنها) أي: دفن المستودَع الوديعة (إن لم يضرها الدفن، وأعْلَم) المستودعُ (بها) أي: بالوديعة المدفونة (ثقةً يسكن تلك الدار) التي دفنها بها (فيكون) الدفن وإعلام الثقة الساكن (كإيداعه) لأن الحفظ يحصُل به.

(فإن دفَنها) المستودَع (ولم يُعْلِم بها أحدًا، أو) دفنها، و (أعلم بها غير ثقة، أو) أعلم بها (من لا يسكن الدار، ولو ثقة، ضَمِنها) لأنه فرَّط في الحفظ؛ لأنه إذا لم يُعلِم أحدًا قد يموت في سفره، أو يضل عن موضعها، فلا تصل لربِّها، وإذا أعلم غير ثقة، ربما أخذها، ومن لا يسكن الدار لا يتأتَّى حفظه ما فيها

(1)

.

(وحكم من حضرته الوفاة) وعنده وديعة (حكمُ من أراد سفرًا، في دفْعها إلى الحاكم، أو ثقةٍ) أو دفنها، وإعلام ساكن ثقة إن لم يجد ربَّها، ولا من يحفظ ماله عادة، ولا وكيله؛ لأنه موضع حاجة.

(والودائع التي جُهل مُلَّاكها، يجوز) للمستودَع (أن يتصدَّق بها بدون) إذن (حاكم) وأن يدفعها التي الحاكم (وكذلك إن فُقِدَ مالكُها، ولم يطلع على خبره، وليس له ورثة) فيجوز للمستودَع أن يتصدَّق بالوديعة بنية غرمها، إذا عرفه أو عرف وارثه، وأن يدفعها للحاكم (وتقدم نظير ذلك في) باب (الغصب

(2)

، و) في (آخر) باب (الرهن

(3)

) مفصَّلًا (و) تقدم

= وأخرجه البيهقي (6/ 289)، من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة، قال: حدثني رجال قومي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه - دون ذكر أم أيمن.

وأورده ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 98) وقال: رواه ابن إسحاق بسند قوي.

وانظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 485)، والبداية والنهاية (3/ 178، 197).

(1)

في "ح" زيادة: "وكذا لو كان الدفن يضرها".

(2)

(9/ 298).

(3)

(8/ 223).

ص: 418

أيضًا (أنه يلزم الحاكم قَبول ذلك) أي: ما ذكر من الغصب والرهن والوديعة، وكذا نحوها (إذا دُفع إليه) أي: دفع ذلك إلى الحاكم من هو بيده، من غاصب ومرتهن ووديع ونحوهم.

(وإن تعدَّى) الوديع (فيها) أي: في الوديعة (بانتفاعه) بها (فركب) الوديع (الدَّابةَ) المودَعة (لغير نفعها) أي: علفها وسقيها (أو لبس الثوب) المودَع لا لخوف عُثٍّ

(1)

ونحوه (أو أخرجها لا لإصلاحها، كـ) ــأن أخرجها لـ (ـــإنفاقها، أو) أخرجها (ليخون فيها، أو) أخرجها (شهوة إلى رؤيتها، ثم ردَّها) إلى حِرْزها (بنِيَّة الأمانةِ) بطلت، وضَمِن؛ لتصرُّفه في مال غيره بغير إذنه (أو كسَر) الوديع (خَتْمَ كيسها) أي: الوديعة (أو كانت) الوديعة (مشدودةً، فحلَّ) الوديع (الشَّدَّ، أو) كانت (مصرورةً في خرقة، ففتح) الوديع (الصُّرَّةَ) أو مقفولةً فأزاله، ضَمِن سواء أخرج منها شيئًا، أو لا؛ لهتكه الحِرْزَ بفعل تعدَّى فيه (أو جَحَدها) أي: الوديعة (ثم أقَرَّ بها) ضَمِن؛ لأنه بجحدها خرج عن الاستئمان عنها، فلم يزل عنه الضمان بالإقرار بها؛ لأن يده صارت يد عدوان (أو منَعها بعد طلبِ طالبها شرعًا) بأن طلبها مالكها، أو وليه، أو وكيله الثابتة وكالته بالبينة (و) بعد (التمكُّن من دفعها) إلى ذلك الطالب، ضمن؛ لأن يده عادية إذًا بمنعها (أو خلَطَها بما لا تتميز منه) كزيت بزيت أو شيرج، ودراهم بدراهم.

(ولو كان التعدِّي) بشيء مما سبق (في إحدى عينين) مودَعتين وكان فعل ما تقدم (بغير إذنه) أي: المالك (بطلت) الوديعة (وضَمِن) المستودَع؛ لأنه صيَّرها في حكم التالف، وفوَّت على نفسه رَدَّها، أشبه

(1)

سيأتي تعريفها في كلام المؤلف (9/ 421).

ص: 419

ما لو ألقاها في بحر، وسواء خلطها بماله، أو مالِ غيرِه مثلها، أو دونها، أو أجود. وفي "الرعاية": إذا خلط إحدى وديعتي زيد بالأخرى بلا إذن، وتعذَّر التمييز، فوجهان (ويأتي بعضه) في الباب.

(ولا تعود وديعة) بعد التعدّي فيها بشيء مما سبق (إلا بعقد) وديعة (جديد) لبطلان الاستئمان بالعدوان.

(و) حيث بطلت الوديعة (وجب الردُّ فورًا) لأن يده صارت عادية كالغاصب.

(وإن خلطها غيرُه) أي: خلط الوديعة غير المستودَع، بما لا تتميز منه (فالضمان عليه) أي: الخالط دون المستودَع؛ لوجود العدوان من الخالط (ومتى جَدَّد) المستودَع (استئمانًا) برئ، فإن تلفت بعدُ، لم يضمن؛ لأنه لم يتعدَّ في الاستئمان الذي تلفت فيه، والأول قد زال (أو أبرأه) المالك (من الضمان) بتعديه (برئ) المستودَع، فلا يضمنها إن تلفت بعد؛ لأنه ممسكها بإذن ربِّها، وزال حكم التعدِّي بالبراءة.

(ولا يضمن) المستودَع (بمجرَّد نية التعدِّي) في الوديعة (إذا تلفت) الوديعة بلا تعدٍّ ولا تفريط، بخلاف ملتقطٍ نوى التملُّك. والفرق: أن الإيداع عقد، والنية ضعيفة فلا تُزيله، بخلاف الالتقاط.

(وإن خَلَطَها) أي: الوديعة مستودَع (بمتميِّز كدراهم بدنانير، أو دراهم بيض بسود) أو بُرٍّ بشعير أو عدس، لم يضمن؛ لإمكان التمييز، فلا يعجز بذلك عن ردِّها، فلم

(1)

يضمنها كما لو تركها في صندوق فيه أكياس له.

(أو اختلط) مودَع (غيرُ متميز) كبُرٍّ ببُرٍّ، أو دقيق بدقيق (بغير تفريط

(1)

في "ح": "فلا".

ص: 420

منه) فلا ضمان، فإن ضاع البعضُ، جعل من مال المودَع في ظاهر كلام أحمد

(1)

؛ ذكره المجد في "شرحه". وذكر القاضي في "الخلاف" أنهما يصيران شريكين، قال المجد: ولا يبعد على هذا أن يكون الهالك منهما؛ ذكره في القاعدة الثانية والعشرين

(2)

.

(أو ركب) المستودَع (الدَّابةَ) المودَعة (لعلْفها أو سقيها) لم يضمن؛ لأنه مأذون فيه عُرفًا.

(أو لبس) المستودَع (الثوبَ) من نحو صوف (خوفًا عليه من عُثٍّ) جمع عُثَّة - بضم المهملة -: سوسة تلحس الصوف (ونحوه) بأن كانت فُرُشًا ونحوها، ففرشها لخوفٍ من عُثٍّ، أو كانت آلة صناعة من خشب فاستعملها؛ لخوف من الأرَضة (لم يضمن) لأنه محسن.

(وإن أخذ) المستودَع (درهمًا) بلا إذن من وديعة غير مختومة، ولا مشدودة، ولا مصرورة (ثم رَدَّه) وتلف، ضمنه وحده (أو) أخذ منها درهمًا، ثم رَدَّ (بدله متميِّزًا) وضاعت، ضَمِنه وحده (أو أذِن) المالك (له) أي: المستودَع (في أخذِه) درهمًا (منها) فأخذه (ورَدَّ) المستودَع (بدلَه بلا إذن، فضاع الكُلُّ، ضَمِنه) أي: الدرهم المأخوذ (وحده) لأن الضمان تعلَّق بالأخذ، فلم يضمن غير ما أخذه؛ بدليل ما لو تلف في يده قبل رَدِّه.

(إلا أن تكون) الوديعة دراهم (مختومةً أو مشدودة أو مَصْرورة) فإن كانت كذلك، ضمن الجميع؛ لهتك الحِرْزِ بغير إذن رَبِّه (أو) إلا إن (رَدَّ بدلَه غير متميِّز وضاعت الوديعة (فيضمنُ الجميعَ) لخلطه الوديعة بما لا

(1)

مسائل الكوسج (6/ 3014) رقم (2247).

(2)

القواعد الفقهية لابن رجب ص/ 29.

ص: 421

تتميز منه (كما لو لم يَدْرِ أيُّهما ضاع) بأن ضاع درهم مثلًا، ولم يدرِ أهو المردود، أو غيره من الوديعة، فيضمنه؛ لأن الأصل عدم براءته.

(ولو خرق) المستودَع (الكيس) المشدود على دراهم ونحوها (من فوق الشدِّ، لم يضمن إلا الخرق) لأنه لم يهتك الحِرْز.

(و) بخرق الكيس (مِن تحته) أي: الشدِّ (يضمن أرْشَه) أي: الخرق (و) يضمن (ما فيه) من دراهم ونحوها إن ضاعت؛ لهتكه الحِرْزَ.

(وأن أودعه صغيرٌ مميِّزٌ، أو لا، وديعةً) أو أودعه مجنونٌ، أو محجورٌ عليه لسفهٍ، وديعة (فتلفت) عند المستودَع، ولو بلا تعدٍّ ولا تفريط (ضَمِنها) المستودَع؛ لأنه أخذ مال غيره بغير إذن شرعي، أشبه ما لو غصبه (ولا يبرأ) المستودَع من صغير ونحوه (إلا بالتسليم إلى وليِّه) كدَيْنه، وتقدم في الحَجْر

(1)

(إلا أن يكون) المحجور عليه لِحَظِّه (مميزًا مأذونًا) له في الإيداع (أو يخاف) الآخذ لما معه (هلاكَها معه، فيأخذها لحفظها) حتى يُسلِّمها لوليه (حِسْبة، فلا) ضمان عليه (كالمال الضائع، والموجود في مَهْلكة، إذا أخذه لذلك) أي: ليحفظه لربه (وتلف) قبل التمكُّن من ردِّه.

(وكذا لو أخذ) إنسان (المال من الغاصب تخليصًا) له (ليردَّه إلى مالكه) فتلف قبل التمكُّن، لم يضمنه؛ لأنه محسن.

(وإن أودع) جائزُ التصرُّف (الصغيرَ) وديعةً (ولو) كان المستودَع الصغير (قِنًّا، أو) أودع جائزُ التصرُّف (المجنونَ أو المعتوهَ - وهو المختلُّ العقل -) وديعةً (أو) أودع جائزُ التصرف (السفيهَ وديعةً، أو أعارهم) أي: أعار جائزُ التصرُّف الصغيرَ، أو المجنون، أو المختلَّ العاقل أو السفيه،

(1)

انظر (8/ 375 - 376).

ص: 422

(شيئًا، فأتلفوه) بأكل أو غيره (أو تلف بتفريطهم، لم يضمنوا) لأن المالك سلَّطهم على الإتلاف بالدفع إليهم (ويضمن ذلك) أي: المودَعَ والمُعارَ (العبدُ المكلَّف) ومثله المدبَّر، والمكاتَب، والمعلَّق عتقه على صفة، وأم ولد (في رقبته، إذا أتلفه) لأنه مكلَّف، فصح استحفاظه، وبه يحصُل الفرق بينه وبين الصبي، وكونها في رقبته؛ لأن إتلافه من جنايته.

"تنبيه": ظاهر قوله - كغيره -: "إذا أتلفه": أنه لو تلف بيده لا ضمان، ولو بتعدٍّ أو تفريط، وهو كالصريح في قول "التنقيح": ولا يضمن الكلّ - أي: الوديعة والعارية - بتلفهما بتفريط، لكن مقتضى تعليلهم بما تقدم: أنه يضمن إن تعدَّى أو فرَّط، ويكون كإتلافه.

(وإذا مات إنسان وثبت أنَّ عندَه وديعةً) أو مضاربة، أو رهنًا، ونحوها من الأمانات (ولم توجد) تلك الوديعة ونحوها (بعينها) في تركته (فهي دَيْنٌ عليه، تغرمها الورثة من تركته) لأنه لم يتحقق براءته منها (كبقية الديون) فإن كان عليه دين سواها، فهما سواء، وتقدم في المضاربة

(1)

.

فصل

(المودَع أمين) لأن الله تعالى سَمَّاها أمانة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}

(2)

(والقول قوله مع يمينه فيما يدَّعيه من ردٍّ) لأنه لا منفعة له في قبضها، فقُبل قوله بغير بينة (ولو) ادَّعى الردَّ (على يد عبده) أي: عبد المالك (أو زوجته، أو خازنه) أو وكيله، أو

(1)

(8/ 522 - 523).

(2)

سورة النساء، الآية:58.

ص: 423

حافظ ماله؛ لأن أيديهم كيده؛ قاله في القاعدة الرابعة والأربعين

(1)

.

وإن دفع المستودَع الوديعةَ لزوجته - نفسه - أو خازنه ونحوهما، وادعوا الردَّ، فقولهم بيمينهم.

قال في "المبدع" بعد أن قَدَّم ما جزم به المصنف سابقًا من أن للمودَع دفع الوديعة إلى من يحفظ ماله عادة كزوجته وخازنه، وذكر مقابله: وعلى الأول يصدق في دعوى الرد أو التلف كالمودَع. انتهى. وقال الأزجي: إن ادعى الرد إلى رسولِ موكِّلٍ ومودِعٍ، فأنكر الموكِّل، ضَمِن؛ لتعلُّق الدفع بثالث، ويحتمل: لا.

وذكر المجد في "شرحه": لو أودع أحد الشريكين - حيث جاز - وادعى الوديع الرد إليه، قُبِل، كما يُقبل على المالك المحض، وإن ادَّعى الردَّ على الشريك الآخر، لم يُقبل إلا ببينة.

(أو) ادَّعى الردَّ (بعد موت رَبِّها) أي: الوديعة (إليه) أي: إلى رَبِّ الوديعة، بأن ادَّعى ورثة المالك على المودَع بالوديعة، فقال: رددتُها إليه قبل موته، قُبل قوله بيمينه، كما لو كان المالك هو المدَّعي وأنكر.

(وكذا دعوى تلف) من مستودع، فتُقبل بيمينه (ولو) كان التلف (بسبب خفيٍّ، من سرقة، أو ضياع ونحوه) لتعذُّر إقامة البينة على ذلك، فلو لم يقبل قوله فيه؛ لامتنع الناس من قَبول الأمانات مع الحاجة إليه.

قال ابن المنذر

(2)

: أجمع كلُّ من نحفظ عنه أن المستودَع إذا أحرز الوديعة، ثم ذكر أنها ضاعت، قُبل قوله مع يمينه.

(فإن ادَّعاه) أي: ادَّعى المستودَع التلفَ (بسببٍ ظاهرٍ كحريق،

(1)

القواعد الفقهية لابن رجب ص/ 62 - 65.

(2)

الإجماع ص/ 129.

ص: 424

وغرق، وغارة ونحوها) كنهب جيش (لم يُقبل) منه ذلك (إلا ببينة) تشهد (بوجود ذلك السبب في تلك الناحية).

فإن عجز عن إقامة البينة بالسبب الظاهر، ضَمِنها؛ لأنه لا تتعذَّر إقامة البينة به، والأصل عدمه.

(ويكفي في ثبوته) أي: السبب الظاهر (الاستفاضة) قاله في "التلخيص" و"الرعايتين" و"الحاوي الصغير" وغيرها. فعلى هذا: إذا علمه القاضي بالاستفاضة، قُبِل قول الوديع بيمينه، ولم يكلفه بينة تشهد بالسبب، ولا يكون من القضاء بالعلم، كما ذكره ابن القيم في "الطرق الحكمية"

(1)

في الحكم بالاستفاضة، لا في خصوص هذه.

(فإذا ثبت) السبب الظاهر بالبينة، أي الاستفاضة (فالقول قولُهُ) أي: الوديع (في التلف مع يمينه) فيحلف أنها ضاعت به (وتقدم

(2)

في الرهن والوكالة) نحو ذلك.

(ويُقبل قولُه) أي: المستودَع (في الإذن) أي: أن المالك أذِنَ له (في دفعها) أي: الوديعة (إلى إنسان) عَيَّنه (وأنه دفعـ) ــها إليه مع إنكار المالك الإذن ولا بينة به؛ لأنه ادَّعى دفعًا يبرأ به من الوديعة، فكان القول قوله فيه، كما لو ادَّعى ردَّها إلى مالكها، ولا يلزم المدعى عليه للمالك غير اليمين لما لم يقر بقبضه، وهذه المسألة من المفردات

(3)

.

ولو اعترف المالكُ بالإذن، وأنكر الدفع، قُبل قول المستودَع، ثم ينظر في المدفوع إليه، فإن أقر بالقبض، فلا كلام، وإن أنكر، حلف

(1)

ص/ 294 - 295.

(2)

(8/ 188، 454).

(3)

مسائل الكوسج (6/ 3014) رقم 2246، والفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني، للدمنهوري (2/ 41).

ص: 425

وبرئ - أيضًا - وفاتت على رَبِّها، إن كان الثاني وديعًا، وإن كان ذا دين

(1)

، قُبِلَ قوله مع يمينه، وضَمِن الدافع إن لم يُشهِد، لتقصيره، صَدَّقه المالك أو كذَّبه. وتقدم في الوكالة

(2)

.

(و) يُقبل قول المستودع - أيضًا - في نفي (ما يُدَّعى عليه من خيانة وتفريط) لأن الأصل عدمهما.

(ولا تُقبل دعواه) أي: المستودَع (الردَّ إلى ورثة المالك، و) لا دعواه الردَّ إلى (الحاكم) إلا ببينة؛ لأنهم لم يأتمنوه، وكذا ورثة المودَع، لا يُقبل قولهم في الدفع إلى المالك ولا إلى غيره؛ لأنهم غير مؤتمنين عليها من قبل مالكها.

(فإن منع) المستودَعُ (ربَّها) أي: الوديعة (منها) أي: من أخذها (أو مَطَله) أي: أخَّر دفعها إلى مستحقها (بلا عُذر، ثم ادَّعى تَلَفًا) للوديعة (لم يُقبل) منه ذلك (إلا ببينة) لأنه بالمنع، أو المَطْل، بطل الاستئمان.

قلت: هو لا يزيد على الغاصب، وهو يُقبل قوله في التلف بيمينه، ويضمن البدل.

(ولو سلَّم) المستودَع (وديعة إلى غير رَبِّها كُرهًا) لم يضمن (أو صادره سلطان، لم يضمن) الوديعة؛ لأن الإكراه عُذر يُبيح له دفعها (كما لو أخذها) السلطان (منه) أي: المستودَع (كُرهًا) أي: قهرًا. وعند أبي الوفاء: إن ظَنَّ أخذها منه بإقراره كان دالًّا، ويضمن.

(وإن آل الأمرُ إلى الحلف) أي: وإن طلب من المستودَع أن يحلف أنه ليس عنده وديعة لفلان (ولا بُدَّ) أي: ولم يجد بُدًّا من الحلف، بأن

(1)

في "ح" و"ذ": "دينًا" بدل "ذا دين".

(2)

(8/ 452).

ص: 426

كان الطالب ليمينه متغلِّبًا عليه بسلطنة، أو تلصص، ولا يمكنه الخلاص منه إلا بالحلف (حلف متأوّلًا) فينوي: لا وديعة عندي لفلان في موضع كذا من المواضع التي ليست بها، ونحوه، ولم يحنث. وقال القاضي في "المجرد": له أخذها.

(فإن لم يحلف حتى أُخذت منه، وجب الضمان) لتفريطه بترك الحلف.

(وإن حلف) المستودَع أنه لا وديعة لفلان عنده (ولم يتأوَّل، أَثِمَ) لحلفه كاذبًا، لكن إثم حلفه دون إثْمِ إقراره بها (ووجبت الكفَّارة) لحنثه بالحلف بلا تأويل.

(وإن أُكره على اليمين بالطلاق) أنه لا وديعة عنده لفلان (فكما لو أُكره على إيقاع الطلاق) أي: فلا تنعقد؛ قاله أبو الخطاب.

(قال الحارثيُّ): وفيه بحث (وحاصله) أي: البحث (إن كان الضرر الحاصل بالتغريم كثيرًا يوازي الضرر في صور الإكراه، فهو إكراه لا يقع، وإلا وقع) على المذهب. انتهى.

(وإن نادى السلطان: أن من لم يحمل

(1)

وديعةَ فلان، عُمِل به كذا وكذا) من أنواع التهديد (فحملها من غير مطالبة، أثِمَ، وضَمِن).

قال ابن الزاغوني: إن لم يعينه، أو عيَّنه، وتهدَّده، ولم ينله بعذاب، أثِمَ، وضَمِن، وإلا؛ فلا. انتهى. وفيما إذا عيَّنه وتهدَّده نظرٌ، إذا كان قادرًا على الإيقاع به؛ لأنه إكراه.

(وإِن سلَّم) المستودَع (الوديعةَ إلى من يظنه صاحبها، فتبين

(1)

في هامش نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (2/ 231) ما نصه: "أي لم يأت بها إليّ".

ص: 427

خطؤه، ضَمِنها) لأنه فوَّتها على رَبِّها.

(وإن) أنكر المستودَعُ الإيداعَ، بأن (قال: لم تودعني. ثم أقرَّ بها) أي: الوديعة (أو ثبت) الإيداع (ببينة، فادَّعى ردًّا، أو تَلَفًا سابقين لجحوده، لم يُقبل) منه ذلك (وإن أقام به بينة) لأنه صار ضامنًا بجحوده، ومعترفًا على نفسه بالكذب المنافي للأمانة؛ لأنه مكذِّب لبينته بجحوده.

(وإن كان) ما ادَّعاه من الردِّ أو التلف (بعد جحوده) كما لو ادَّعى عليه بالوديعة يوم الخميس، فجحَدها، ثم أقرَّ بها يوم السبت، ثم ادَّعى أنه ردَّها، أو تلفت بغير تفريطه يوم الأربعاء، وأقام بذلك بينة (قُبلت) بينته (بهما) أي: بالرد أو التلف؛ لأنه حينئذ ليس بمكذِّب لها.

(فإن شهدت بينةٌ بالتلف، أو الرد) بعد جحود الإيداع (ولم يعين

(1)

هل ذلك) التلف أو الرد (قبل جحوده أو بعده، واحتمل الأمرين، لم يسقط الضمان) لأن وجوبه متحقق، فلا ينتفي بأمر متردد فيه (ويأتي.

وإن قال) المدَّعَى عليه بوديعة (ما لك عندي شيء، أو لا حقَّ لك علي) أو قِبَلي، ثم أقر بالإيداع، أو ثبت ببينة (قُبل قوله في الرد والتلف) بيمينه؛ لأنه لا ينافي جوابه؛ لجواز أن يكون أودعه، ثم تلفت عنده بغير تفريط، أو رَدَّها فلا يكون له عنده شيء (لكن إن وقع التلف بعد الجحود، وجب الضمان) لاستقرار حكمه بالجحود، فيشبه الغاصب. قلت: وظاهره: ولو أقام به بينة.

(ولو قال) إنسان لآخر: (لك عندي

(2)

وديعة، ثم ادَّعى) المُقِر (ظنَّ البقاء) أي: قال: كنت أظنها باقية (ثم علمت تَلَفها، لم يُقبل قوله)

(1)

في متن الإقناع (3/ 13): "تعين".

(2)

"عندي" ساقطة من "ذ" ومتن الإقناع (3/ 13).

ص: 428

لأنه رجوع عن إقرار بحقٍّ لآدمي، وقال القاضي: يُقبل، ويأتي في الإقرار ما فيه.

(وإن مات المودَع، وادَّعى وارثه الردَّ) إلى المالك، أو غيره (أو) ادَّعى الوارث (أن مورِّثه) كان (ردّها) لم يُقبل إلا ببينة (أو ادَّعاه) أي: الرد (الملتقط، أو) ادَّعاه (من أطارت الريح إلى داره ثوبًا، لم يُقبل إلا ببينة) لأن المالك لم يأتمنهم.

(ومن حصل في يده أمانة بغير رضا صاحبها، كاللُّقطة، ومن أطارت الريح إلى داره ثوبًا، وجبت) عليه (المبادرة إلى الردِّ مع العلم بصاحبها، و) مع (التمكُّن منه، وكذا إعلامه) أي: الواجب عليه أحد أمرين: إما الرد، أو الإعلام (ذكره جَمْعٌ) منهم صاحب "المغني" و"المحرر" و"المستوعب" ونحوه، ذكره ابن عقيل، وحكاه في "القواعد الفقهية"

(1)

(قال في "الإنصاف": وهو مراد غيرهم) لأن مؤنة الرد لا تجب عليه، وإنما الواجب التمكين من الأخذ؛ قاله في القاعدة الثانية والأربعين

(2)

.

(وكذا الوديعة، والمضاربة، والرهن، ونحوها) كالعين المشتركة (إذا مات المؤتمن، وانتقلت إلى وارثه) وجب على من هي بيده المبادرة إلى الرَّدِّ مع العلم بصاحبها، والتمكّن منه، أو إعلامه (لزوال الائتمان.

وكذا لو فسخ المالك) في حضرة الأمين، أو غيبته (عقد الائتمان في الأمانات، كالوديعة، والوكالة، والشركة، والمضاربة، يجب الردّ على الفور؛ لزوال الائتمان) قال في "القواعد

(1)

القاعدة الثانية والأربعون ص/ 54.

(2)

ص/ 55.

ص: 429

الفقهية"

(1)

: وظاهر كلامه، أي: القاضي، أنه يجب فعل الرد، فإن العلم هنا حاصل للمالك. انتهى.

قلت: وفيه نظر؛ لأن مؤنة الرَّدِّ لا تجب عليه.

ولو دخل حيوان لغيره، أو عبد له إلى داره، فعليه أن يخرجه، ليذهب كما جاء؛ لأن يده لم تثبت عليهما، بخلاف الثوب؛ ذكره ابن عقيل؛ قاله في القاعدة الثالثة والأربعين

(2)

.

(وإن تلفت) الوديعة أو نحوها (عند الوارث قبل إمكان رَدِّها، لم يضمنها) لأنه لم يفرِّط (وإلا) بأن أخَّر الردَّ، أو الإعلام فوق ما يمكنه، وتلفت (ضَمِنـ) ــها؛ لتفريطه بالتأخير.

(ويجب) على المستودَع (رَدّ الوديعة إلى مالكها) أي: تمكينه من أخذها؛ لما يأتي (إذا طلبها، فإن أخَّره) أي: الرد (بعد طلبها، بلا عُذر، ضَمن) إن تلفت، أو نقصت، كالغاصب.

وإن طلبها في وقت لا يمكن دفعها إليه، لبعدها، أو لمخافة في طريقها، أو للعجز عن حملها، أو غير ذلك، لم يكن متعديًا بترك تسليمها، ولم يضمنها؛ لعدم عدوانه.

(ويمهل) المستودَع، إذا طلب منه الرد (لأكل وشرب، ونوم، وهضم طعام، ومطر كثير، ونحوه) كطهارة، وصلاة (بقَدْره) أي: بقدر ذلك، فلا يضمنها إن تلفت زمن عُذره؛ لعدم عدوانه.

(وكذا لو أمره بالردِّ) أي: رد الوديعة (إلى وكيله، فتمكَّن) المستودَع من ردها للوكيل (وأبى) ردها (ضَمِن) المستودَع الوديعة إن

(1)

القاعدة الثانية والأربعون ص/ 55.

(2)

القواعد الفقهية لابن رجب ص/ 59.

ص: 430

تلفت، سواء (طلبها الوكيل، أم لا) لأنه أمسك مال غيره بغير إذنه.

(ومثله) أي: الوديع (من أخَّر دفع مال أُمر بدفعه بلا عُذْرٍ) وتلف، فيضمنه؛ لما تقدم.

(وليس على المستودَع مؤئة الردِّ) أي: رَدِّ الوديعة (و) لا مؤنة (حَمْلها إلى رَبِّها، إذا كانت مما لحمله مؤنة، قَلَّت المؤنة أو كَثُرَت) بل الواجب عليه التمكين من الأخذ فقط؛ لأنه قبض العين لمنفعة مالكها على الخصوص، بخلاف مستعير.

(فإن سافر) المستودَع (بها) أي: بالوديعة (بغير إذن رَبِّها، لزمه) مؤنة (رَدِّها إلى بلدها) ولعل المُراد في حال لا يجوز له السفر بها، وإلا؛ فقال القاضي: له ما أنفق بنيّة الرجوع. أي: لأن مؤنة الرد على رَبّها، وقد قام بها عنه الوديع بنية الرجوع.

(وتثبت الوديعة بإقرار الميت) بأن كان أقرَّ أنها لفلان (أو) إقرار (ورثته، أو بينته) كسائر الحقوق.

(وإن وُجِدَ عليها مكتوبٌ: وديعةٌ، لم يكن حجةً) لأنه يحتمل أن الوعاء كانت فيه وديعة قبل هذه، أو كان وديعة للميت عند غيره، ونحو ذلك؛ اختاره القاضي في "المجرد"، وابن عقيل، والموفَّق، وقدَّمه الشارح، ونصره وجزم به في "الحاوي الصغير" و"النظم". والصحيح من المذهب - كما في "الإنصاف" وغيره -: أنه يعمل به وجوبًا، وقطع به في "التنقيح"، وتبعه في "المنتهى"

(1)

.

(وإن وجد) وارث (خطَّ مورثه: لفلان عندي وديعة، أو) وجد

(1)

في هامش نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (2/ 231) ما نصه: "أي: إن كان بخط الميت، وإلا؛ فلا. ا. هـ. من خط ابن العماد".

ص: 431

(على كيس ونحوه) مكتوبٌ (هذا لفلان، عمل) الوارث (به وجوبًا) كما يعمل بإقراره باللفظ.

(وإن وجد) وارث (خطَّه) أي: خط مورثه (بدين له على فلان، جاز للوارث الحلف) إذا أقام به شاهدًا مثلًا، وكان يعلم أن مورِّثه لا يكتب إلا حقًّا، وأنه صادق أمين (ودُفع) الدين (إليه) فيجوز الحلف على ما لا تجوز الشهادة به، إذ لا يشهد على شهادة أبيه أو غيرها، إذا رآها بخطه.

(وإن وجد) وارث (خطَّه) أي: خط مورثه (بدين عليه) لمعين (عمل) الوارث (به) وجوبًا (ودفع) الدين (إلى مَن هو مكتوب باسمه) كالوديعة.

(وإن ادَّعى الوديعة اثنان، فأقرَّ) المستودَع (بها لأحدهما، فهي له) أي: للمقر له (مع يمينه) لأن اليد كانت للمودَع، وقد نقلها إلى المُدَّعي، فصارت اليد له، ومَن كانت اليد له، قُبِل قوله بيمينه.

ومن أفراد ذلك: لو قال المودَع: أودعنيها الميت، وقال: هي لفلان، وقال ورثته: بل هي له. أفتى الشيخ التقي

(1)

: بأن القول قول المودَع مع يمينه.

(ويحلف المودَعُ - أيضًا - للمدَّعي الآخر) الذي أنكره؛ لأنه منكِرٌ لدعواه، وتكون يمينه على نفي العلم؛ قاله في "المبدع"(فإن) حلف، برئ، وإن (نَكَل، لزمه بدلها له؛ لأنه فوَّتها) عليه، وكذا لو أقر له بها بعد أن أقرَّ بها للأول، فتسلم للأول، ويغرم قيمتها للثاني نصًّا

(2)

.

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 244.

(2)

المغني (9/ 276)، والشرح الكبير مع الإنصاف والمقنع (16/ 64).

ص: 432

(وإن أقرَّ بها لهما) معًا (فهي لهما) أي: بينهما، كما لو كانت بأيديهما وتداعياها (ويحلف لكلِّ واحدٍ منهما) يمينًا على نصفها.

(فإن نَكَلَ) عن اليمين

(1)

(لزمه بدلُ نصفها لكلِّ واحدٍ منهما) وإن نكل عن اليمين لأحدهما فقط، لزمه لمن نكل عن اليمين له عوض نصفها.

(ويلزم كل واحد منهما الحلف لصاحبه) لأنه منكِرٌ لدعواه.

(وإن قال) المودَعُ: هي (لأحدهما، ولا أعرف عينه، فإن صدَّقاه، أو سكتا) عن تصديقه وتكذيبه (فلا يمين) عليه؛ إذ لا اختلاف (ويقرع بينهما) فمن خرجت له القُرعة، سلِّمت إليه بيمينه.

(وإن كذَّباه) بأن قالا: بل تعرف أينا صاحبها (حلف) لهما (يمينًا واحدة: أنه لا يعلم) عينه.

وكذا إن كذَّبه أحدهما وحدَه (ويقرع بينهما، فمن قَرَع) أي: خرجت له القُرعة (حلف) أنها له؛ لاحتمال عدمه (وأخذها) بمقتضى القُرعة.

(فإن نكل) المودَع عن اليمين أنه لا يعلم صاحبها (حكم عليه) بالنُّكول (وألزم التعيين) أي: تعيين صاحبها (فإن أبى) التعيين (أُجبر على القيمة) إن كانت متقوَّمة، وعلى المِثْل إن كانت مثلية (فتؤخذ القيمة) أو المِثْل (والعين، فيقترعان عليهما، أو يتفقان) عليهما. قال في "التلخيص": وكذلك إذا قال: أعلم المستحق ولا أحلف.

(ثم إن قامت بينة بالعين لآخذ القيمة سلِّمت إليه) العين، للبينة،

(1)

في "ذ": "اليمينين" وهو الصواب.

ص: 433

وتقديمها

(1)

على القُرعة (وردت القيمة إلى المودَع، ولا شيء للقارع) على المودع؛ لأنه لم يفوِّت عليه شيئًا، بل المفوت البينة.

(وإن أودعه اثنان مكيلًا أو موزونًا، ينقسم) إجبارًا، بألَّا ينقص بتفرقة (فطلب أحدهما حقه) من المودع (لغيبة شريكه، أو) حضوره و (امتناعه) من الأخذ، ومن الإذن لصاحبه في أخذ حَقّه (سلَّمه) المودَع (إليه) أي: إلى المطالب وجوبًا؛ لأنه أمكن تمييز نصيب أحد الشريكين من نصيب الآخر بغير غبن ولا ضرر، فإذا طلب أحدهما نصيبه، لزم دفعه إليه، كما لو كان متميزًا.

وقال القاضي: لا يجوز ذلك إلا بإذن الحاكم؛ لأن ذلك يحتاج إلى قسمة، ويفتقر إلى حكم أو اتفاق، وليس ذلك إلى المودَع، وهو مقتضى كلامه في القسمة.

وعُلِم مما تقدَّم: أن ذلك لا يجوز في غير المِثْلي؛ لأن قسمته لا يؤمن فيها الحيف؛ لافتقارها إلى التقويم، وهو ظنٌّ وتخمين.

(وإن غُصبت الوديعة، فللمودَع المطالبة بها) لأنه مأمور بحفظها، وذلك منه، وعبَّر في "الفروع" بأنه يلزمه (وكذا مضارِب، ومرتَهن، ومستأجِر) قلت: ومستعير، ومجاعَل على عملها.

(وإن قال) ربُّ الوديعة للمودَع: (كلما خنتَ، ثم عدت إلى الأمانة فأنت أمين، صح) لصحة تعليق الإيداع على الشرط، كالوكالة.

(1)

في "ذ": "تقدمها".

ص: 434

‌باب إحياء الموات

قال الأزهري

(1)

: هو الأرض التي ليس لها مالك، ولا بها ماء، ولا عمارة، ولا يُنتفع بها. انتهى.

وتُسمَّى: ميتة ومَوَاتًا، بفتح الميم والواو. والمُوْتان، بضم الميم وسكون الواو: الموت الذريع. ورجل مَوْتان القلب، بفتح الميم وسكون الواو، يعني: أعمى القلب لا يفهم؛ قاله في "المغني".

وفي "القاموس"

(2)

: المُوَات كغراب: الموت، وكسحاب: ما لا روح فيه، وأرض لا مالك لها. والموتان - بالتحريك - خلاف الحيوان، وأرض لم تُحْيَ بعد، وبالضم: موت يقع بالماشية، ويفتح.

(وهي الأرض المُنفكَّة عن الاختصاصات وملكِ معصومٍ) مسلم أو كافر، ويأتي بيان الاختصاصات.

والأصل في إحياء الأرض حديثُ جابر مرفوعًا: "مَنْ أحيا أرضًا ميتةً فهي لهُ"

(3)

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وحديث سعيد بن زيد: "مَن أحيا أرضًا ميتةً فهي لهُ، وليس لعرقٍ ظالمٍ حقٌّ"

(4)

قال الترمذي: حديث حسن. وروى مالك في "موطئه"

(5)

وأبو داود في "سننه" مثله.

(1)

الزاهر ص/ 256.

(2)

ص/ 206، مادة (موت).

(3)

تقدم تخريجه (9/ 207) تكميل تعليق رقم (1) فقرة (ح).

(4)

تقدم تخريجه (9/ 204) - تعليق رقم (1) فقرة (أ).

(5)

أخرجه مالك مرسلًا عن عروة، كما تقدم في (9/ 205) تكميل تعليق رقم (1) فقرة (ج).

ص: 435

قال ابن عبد البر

(1)

: هو مسند صحيح متلقًّى بالقَبول عند فقهاء المدينة وغيرهم.

قال في "المغني" و"الشرح": وعامة فقهاء الأمصار على أن الموات يُملك بالإحياء، وإن اختلفوا في شروطه.

(فإن كان الموات) أي: الأرض الخراب الدارسة (لم يجر عليه ملك لأحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة، مُلك بالإحياء) بغير خلاف بين القائلين بالإحياء؛ قاله في "المغني" و"الشرح". نقل أبو الصقر

(2)

: في أرض بين قريتين، ليس فيها مزارع، ولا عيون وأنهار، تزعم كل قرية أنها لهم في حرمهم: فإنها ليست لهؤلاء ولا لهؤلاء، حتى نعلم أنهم أحيوها، فمن أحياها فله. ومعناها نقل ابن القاسم

(3)

. ويأتي مفهوم قوله: "ولم يوجد فيه أثر عمارة".

(وإن ملكها من له حُرمة) من مسلم، أو ذمي، أو معاهد، لم تُملك بإحياء (أو) ملكها من (شُكَّ فيه) أله حُرمة؛ أم لا؟ (فإن وُجِدَ) هو (أو أحدٌ من ورثته، لم يملك

(4)

بإحياء).

(1)

التمهيد (22/ 283) ولفظه: قال أبو عمر: هذا الاختلاف عن عروة يدل على أن الصحيح في إسناد هذا الحديث عنه الإرسال كما روى مالك ومن تابعه، وهو أيضًا صحيح مسند على ما أوردنا والحمد لله. وهو حديث متلقًّى بالقبول عند فقهاء الأمصار وغيرهم وإن اختلفوا في بعض معانيه.

(2)

طبقات الحنابلة (1/ 410)، وأبو الصقر هو يحيى بن يزداد الوراق، وراق الإمام أحمد بن حنبل، وله جزء مسائل في الحمى، والمساقاة، والصيد، واللقطة، وغير ذلك ولم تطبع. طبقات الحنابلة (1/ 409).

(3)

الفروع (4/ 552)، والمبدع (5/ 249).

(4)

في "ذ": "تملك".

ص: 436

قال ابن عبد البَر

(1)

: أجمع العلماء على أن ما عُرف بملك مالك غير منقطع، أنه لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه. انتهى. ومراده: ما ملك بشراء أو هبة ونحوه، بخلاف ما ملك لإحياء ثم دثر، ففيه خلاف، فعند مالك

(2)

يملك بالإحياء.

(وإن عُلم) مالكه (ولم يُعقِب) أي: لم يكن له ورثة (لم يملك) أيضًا بالإحياء؛ لحديث عائشة ترفعه: "مَن أحيا أرضًا ليست لأحدٍ"

(3)

(وأقطعه الإمام من شاء) لأنه فَيْء.

(وإن كان) المَوات (قد مُلِك بإحياء، ثم تُرك حتى دَثَر، وعاد مواتًا، لم يُملك بإحياء إن كان لمعصوم) لأن ملك المحيي أولًا لم يزل عنها بالترك، بدليل سائر الأملاك.

(وإن عُلم ملكه) أي: الدارس الخراب (لمعين غير معصوم) بأن كان لكافر لا ذِمَّة له، ولا أمان (فإن كان بدار حرب واندرس، كان كموات أصلي، يملكه مسلم بإحياء) لأن ملك من لا عصمة له كعدمه. وإن كان بدار إسلام، فالصحيح: أنه لا يملكه بالإحياء، فلا أثر لإحيائه. وإن ملكه بنحو شراء، بأن وكَّل غير المعصوم معصومًا ليشتري له مكانًا، فاشتراه، ثم ترك حتى درس، وصار مواتًا فالظاهر أنه لا يُملك بالإحياء، فيكون فَيْئًا، بمنزلة ما جَلَوا عنه خوفًا منَّا. لكن مقتضى التعليل: أنه يُملك بالإحياء. وظاهره أيضًا: أن الذِّمي لا يملكه

(1)

التمهيد (22/ 285).

(2)

المدونة (6/ 195 - 196).

(3)

أخرجه البخاري في الحرث والمزارعة، باب 15، حديث 2335، بلفظ:"من أعمر أرضًا ليست لأحدٍ فهو أحق. . .". وأخرجه أبو عبيد في الأموال ص/ 363، حديث 703 باللفظ المذكور.

ص: 437

بالإحياء. ولعله غير مراد.

(وإن كان فيه) أي: الخراب (أثر لملك

(1)

غير جاهلي، كالخِرَب التي ذهبت أنهارها، واندرست آثارها) ولم يُعلم الآن لها مالك (مُلك بالإحياء) لعموم ما سبق من الأخبار، وسواء كان بدار الإسلام، أو بدار الحرب.

(وكذا إن كان) أثر الملك به (جاهليًّا قديمًا، كديار عاد) وآثار الروم، فيملكه من أحياه؛ لما سبق، وروى سعيد في "سننه" وأبو عبيد في "الأموال" عن طاوُس، عنه صلى الله عليه وسلم:"عادِيُّ الأرضِ لله ولرسولهِ، ثمَّ هُو بعدُ لكم"

(2)

.

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (3/ 17): "الملك".

(2)

لم نقف عليه فيما طُبع من سنن سعيد بن منصور، وقد أسنده من طريقه ابن الجوزي في التحقيق (2/ 224) بسنده ومتنه، وهو عند أبي عبيد في الأموال ص/ 347، حديث 676. وأخرجه - أيضًا - الشافعي في الأم (4/ 45)، ويحيى بن آدم في الخراج ص/ 86 - 88، حديث 270، 277، وأبو يوسف في الخراج ص/ 65، وابن زنجويه في الأموال (2/ 613) حديث 1008، والبيهقي (6/ 143)، وفي معرفة السنن والآثار (9/ 9 - 10) حديث 12182، عن معمر، وابن عيينة، وليث بن أبي سليم عن طاوُس، به، مرسلًا.

وأعلَّه ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 711)، وابن عبد الهادي في التنقيح (3/ 83) بالإرسال.

وأخرجه البيهقي (6/ 143)، من طريق معاوية بن هشام، عن سفيان، عن ابن طاوُس، عن أبيه، عن ابن عباس، به، مرفوعًا.

قال البيهقي: تفرد به معاوية بن هشام مرفوعًا موصولًا. وقال الذهبي في المهذب (5/ 2277) وابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 62): هذا مما أُنكر عليه.

وأخرجه يحيى بن آدم في الخراج ص/ 85، حديث 369، والبيهقي (6/ 143)، عن عبد الله بن إدريس، عن ليث، عن طاوُس، عن ابن عباس، موقوفًا.

قلنا: ليث بن أبي سليم: صدوق اختلط جدًّا، ولم يتميز حديثه. فتُرك. كما في التقريب (5721)، وقد رواه عن طاوُس مرسلًا كما تقدم.

ص: 438

(فأما مساكن ثمود، فلا تَمَلُّكَ فيها؛ لعدم دوام البكاء مع السُّكنى و) مع (الانتفاع؛ قاله الحارثي) وظاهر كلام غيره: تملك بالإحياء، ونقله في "الشرح"، بل صَرَّح به في "شرح المنتهى" عن جمع من الأصحاب؛ لعموم ما سبق.

(ويُكره دخول ديارهم) أي: ثمود (إلا لباكٍ معتبر، لا يصيبه ما أصابهم) من العذاب، للخبر

(1)

.

(أو) كان أثر الملك به جاهليًّا (قريبًا) فيملك بالإحياء؛ لأن أثر الملك الذي به لا حُرمة له، أشبه آثار الجاهلي القديم.

(أو تردَّد في جريان الملك عليه) ولم يتحقَّق ملكه لمعصوم، ملك بالإحياء؛ لأن الأصل عدم جريان الملك عليه.

(ومتى

(2)

أحيا أرضًا ميتة، فهي له) أي: للمُحيي (مسلمًا كان) المُحيي (أو ذميًّا) وسواء أحياها (بإذن الإمام أو) بـ (ــغير إذنه، في دار الإسلام وغيرها) لعموم ما سبق من الأخبار؛ ولأنها عين مباحة، فلم يفتقر ملكها إلى إذن الإمام، كأخذ المباح، وهو مبني على أن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال (إلا موات الحرم وعرفات) فلا يُملك بالإحياء مطلقًا؛ لما فيه من التضييق في أداء المناسك، واختصاصه بمحلٍّ؛ الناسُ فيه سواء، ومِنى ومزدلفة من الحرم كما سبق

(3)

، فلا

(1)

أخرج البخاري في المغازي، باب 81، حديث 4419، ومسلم في الزهد، حديث 2980، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحِجْر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رأسه وأسرع المسير حتى أجاز الوادي".

(2)

في متن الإقناع (3/ 18) ونسخة أشار إليها في هامش "ذ": "ومن".

(3)

(6/ 70).

ص: 439

إحياء بهما.

(وموات العَنْوة) كأرض مصر والشام والعراق (كغيره) مما أسلم أهله عليه، كالمدينة، وما صولح أهله على أن الأرض للمسلمين (فيملك) موات العَنْوة بالإحياء.

(ولا خراج عليه) أي: على من أحيا موات العَنْوة، وما رُوي عن الإمام

(1)

: "ليس في أرض السَّوادِ مواتٌ" معللًا بأنها لجماعة، فلا يختص بها أحدهم؛ حملها القاضي على العامر، ويحتمل أن أحمد قاله لكون السواد كان عامرًا في زمن عمر بن الخطاب، وحين أخذه المسلمون من الكفار (إلا أن يكون) المُحيي للعَنْوة (ذميًّا) فعليه الخراج؛ لأن الأرض للمسلمين، فلا تُقَر في يد غيرهم بدون الخراج، كغير الموات، وهل يملكه مع ذلك؟ عبارة "الإنصاف" أولًا: تقتضي أنه يملكه، وثانيًا: صريحة في أنه لا يملكه، بل يقر بيده بالخراج.

(ولا يَملك مسلم) بالإحياء (ما) أي: مواتًا (أحياه من أرض كفار صولحوا على أنها) أي: الأرض (لهم، ولنا الخراج عليها) لأنهم صولحوا في بلادهم، فلا يجوز التعرُّض لشيء منها؛ لأن الموات تابع للبلد. ويفارق دار الحرب؛ لأنها على أصل الإباحة.

(ولا يُملك بإحياءٍ ما قَرُب) عُرفًا (من العامر، وتعلَّق بمصالحه، كطُرقه وفنائه) ما اتسع أمامه (ومجتمع ناديه) أي: جماعته (ومسيل مياهه، ومُطَّرح قُمامته، ومُلقى ترابه، و) ملقى (آلاته) التي لا نفع بها (ومرعاه، ومحتطبه، وحريم البئر، و) حريم (النهر، و) حريم (العين،

(1)

انظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص/ 169، والاستخراج لأحكام الخراج لابن رجب ص/ 58 - 59.

ص: 440

ومرتكض الخيل) أي: المحل المعد لركضها (ومدافن

(1)

الأموات، ومناخ الإبل، والمنازل المعتادة للمسافرين حول المياه، والبقاعِ المرصدة لصلاة العيدين، و) لصلاة (الاستسقاء، و) لصلاة (الجنائز، و) البقاع المرصدة لـ (ــدفن الموتى) ولو قبل الدفن (ونحوه، فكلُّ مملوكٍ لا يجوز إحياء ما تعلَّق بمصالحه) قال في "المبدع": بغير خلاف نعلمه؛ لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحيا أرضًا مَيتةً من غيرِ حقِّ مسلم فهيَ لهُ"

(2)

؛ ولأن ذلك من مصالح الملك، فأعطي حكمه. وذكر القاضي: أن مباح المرافق لا يملكه المحيي بالإحياء، لكن هو أحق بها من غيره.

(ولا يجوز للإمام إقطاع ما لا يجوز إحياؤه) مما قَرُب من العامر، وتعلَّق بمصالحه؛ لأنه في حكم المملوك لأهل العامر (وما) قرب من العامر لكنه (لا يتعلَّق بمصالحه، مُلِك بإحياءٍ) كالبعيد عنه؛ لعموم ما سبق، مع انتفاء المانع، وهو التعلق بمصالح العامر (وللإمام إقطاعه) أي: ما قَرُب من العامر، ولم يتعلَّق بمصالحه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم:"أقطعَ بلالَ بنَ الحارثِ العقيق"

(3)

مع قربه من عامر المدينة.

(ولو اختلفوا في الطريق وقت الإحياء جُعلت سبعةَ أذرع) للخبر

(4)

(ولا تُغيَّر) الطريق (بعد وضعها، وإن زادت على سبعة أذرع؛ لأنها للمسلمين) فلا يختص أحد منهم بشيء منها.

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (3/ 19): "مدفن".

(2)

تقدم تخريجه (9/ 206) تكميل تعليق رقم (1) فقرة (هـ).

(3)

تقدم تخريجه (4/ 442) تعليق رقم (6).

(4)

أخرج البخاري في المظالم، باب 29، حديث 2473، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم إذا تشاجروا في الطريق بسبعة أذرع. وأخرجه مسلم في المساقاة، حديث 1613 بلفظ:"إذا اختلفتم في الطريق، جُعل عرضه سبع أذرع".

ص: 441

(ولا تُملك معادن ظاهرة) بإحياء (ولا تحجر

(1)

) أي: لا يجوز لأحد أن يتحجرها ليختص بها.

(وهي) أي: المعادن الظاهرة (ما لا تفتقر إلى عمل) بأن كان يُتوصل إلى ما فيها بلا مؤنة (كملح، وقار، ونفط، وكحل، وجص، وياقوت، وماء، وثلج) - في عَدِّهما من المعادن نظر - (ومُوْميا

(2)

، وبِرَام، وكبريت، ومقاطع طين) - في جعله من المعادن نظر - (ونحوها) لأن فية ضررًا بالمسلمين، وتضييقًا عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "أقطعَ أبيضَ بنَ حَمَّالٍ معدِن الملحِ، فلما قيل لهُ: إنه بمنزلةِ الماءِ العِدِّ، ردَّهُ"

(3)

؛ كذا

(1)

في متن الإقناع (3/ 19) ونسخة أشار إليها في حاشية "ذ": "تُحتجر".

(2)

المُوْميا: بالضَّم وسكون الواو، لفظة يونانية معرَّبة، والأصل مومياي، حذفت الياء اختصارًا، وهو اسم دَواءٍ لوَجَعِ المفاصل والكبد، شُرْبًا وطِلاءً، ومن عُسْرِ البولِ ومن أوْجاع المثانة والرَّحِم والمغص والنَّفْخِ وغير ذلك. المصباح المنير ص/ 806، مادة (موم)، وتاج العروس (39/ 575).

(3)

أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (2/ 59)، وأبو داود في الخراج، باب 36، حديث 3064، والترمذي في الأحكام، باب 39، حديث 1380، والنسائي في الكبرى (3/ 405 - 406) حديث 5764 - 5768، وابن ماجه في الرهون، باب 17، حديث 2475، ويحيى بن آدم في الخراج ص/ 110، حديث 346، وأبو عبيد في الأموال ص/ 350، حديث 685، وابن سعد (5/ 523)، وابن أبي شيبة (12/ 356)، وابن زنجويه في الأموال (2/ 618) حديث 1017، والدارمي في البيوع، باب 66، حديث 2608، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/ 419، 420) حديث 2470، 2471، وابن قانع في معجم الصحابة (1/ 62 - 63)، وابن حبان "الإحسان"(10/ 351) حديث 4499، والطبراني في الكبير (1/ 277، 278، 279) حديث 806، 808 - 811، وابن عدي (6/ 2239)، والدارقطني (3/ 76، 4/ 221)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (2/ 397) حديث 1021، والبيهقي (6/ 149)، والخطيب في تاريخه (14/ 160 - 161)، والبغوي في شرح السنة (8/ 277) حديث 2193، والضياء في المختارة (4/ 55، 58، 59) حديث 1282، =

ص: 442

قال أحمد

(1)

.

(ولا) تُملك ولا تُحتجر معادن (باطنة) وهي التي تحتاج في إخراجها إلى حفر ومؤنة (ظهرت) الباطنة (أو لا، كحديد ونحوه) من نحاس، وذهب، وفضة، وجوهر، وشبهها (بإحياء) متعلِّق بـ "لا تملك"؛ لأن الإحياء الذي يملك به هو العمارة التي يتهيأ بها المُحْيَا للانتفاع من غير تكرار عمل، وهذا حفر وتخريب يحتاج إلى تكرار عند كل انتفاع.

(ولا) يُملك بإحياء (ما نضب) أي: غار (عنه الماء، مما كان مملوكًا وغلب) الماء (عليه، ثم نضب) الماء (عنه، بل هو باقٍ على ملك مُلَّاكه) قبل غلبة الماء عليه، فـ (ــلهم أخذه) لأنها لا تزيل ملكهم عنه.

(أما ما نضب) أي: غار (عنه الماء من الجزائر، والرقاق) بفتح الراء: أرض لينة أو رمال يتصل بعضها ببعض؛ قاله في "الحاشية". وقال بعضهم: أرض مستوية لينة التراب تحتها صلابة (مما لم يكن مملوكًا، فلكلِّ أحد إحياؤه) بَعُدَت أو قربت (كموات) قال الحارثي: مع عدم

= 1285، 1286.

قال الترمذي: حديث غريب.

وقال ابنُ القطان في بيان الوهم والإيهام (5/ 80): هو حديث يرويه محمد بن يحيى بن قيس المأربي، عن أبيه، عن ثمامة بن شراحيل، عن سمي بن قيس، عن شمير بن عبد المدان، عن أبيض. فكل من دون أبيض بن حمال مجهول، وهم خمسة، ما منهم من يعرف له حال، ومنهم من لم يرو عنه شيء من العلم إلا هذا، وهم الأربعة، يستثنى منهم محمد بن يحيى بن قيس، فإنه قد روى عنه جماعة.

وضعفه ابن القطان أيضًا في موضع آخر (5/ 209).

وقال الذهبي في ميزان الاعتدال (7/ 212): هذا إسناد لا تنهض به الحجة.

(1)

الأحكام السلطانية ص/ 235، والمغني (8/ 155).

ص: 443

الضَّرر، ونص عليه

(1)

. انتهى.

وقال في "التنقيح": لا يُملك بالإحياء. وتبعه في "المنتهى". وقال أحمد

(2)

في رواية العباس بن موسى: إذا نضب الماء من جزيرة إلى فناء رجل، لم يَبْنِ فيها؛ لأن فيه ضررًا، وهو أن الماء يرجع. أي: يرجع إلى ذلك المكان، فإذا وجده مبنيًّا رجع إلى الجانب الآخر، فأضر بأهله؛ ولأن الجزائر منبت الكلأ والحطب، فجرت مجرى المعادن الظاهرة.

(و‌

‌ليس للإمام إقطاع معادن ظاهرة أو باطنة)

لما فيه من التضييق، وصحح في "الشرح" جوازه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "أقطعَ بلال بن الحارثِ معادِنَ القَبَليَّة، جليسها وغويرها

(3)

" رواه أبو داود وغيره

(4)

.

(فإن كان بقرب الساحل موضع، إذا حصل فيه الماء، صار ملحًا، ملك بالإحياء، وللإمام إقطاعه) لأنه لا تضييق على المسلمين بذلك، بل يحدث نفعه بالعمل فيه، فلم يمنع منه، كبقية الموات. وإحياؤه بتهيئته لما يصلح له، من حفر ترابه، وتمهيده، وفتح قناة إليه؛ لأنه يتهيأ بهذا للانتفاع به.

(وإذا مَلك المُحيا) بأن أحيا ما يجوز له إحياؤه (ملكه بما فيه من المعادن الجامدة، كمعادن الذهب والفضة ونحوهما) كالجواهر (باطنة

(1)

المغني (8/ 160)، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف (16/ 105).

(2)

الأحكام السلطانية ص/ 212، وطبقات الحنابلة (1/ 239)، والمغني (8/ 160)، والشرح الكبير (16/ 105).

(3)

"جليسها وغويرها" كذا في الأصل، وفي "ذ":"جلسها وغويرها"، وفي سنن أبي داود:"جَلْسيَّها وغوْريَّها". قال في النهاية (3/ 393): الغَور ما انخفض من الأرض، والجَلس: ما ارتفع منها.

(4)

تقدم تخريجه (4/ 442) تعليق رقم (6).

ص: 444

كانت) المعادن (أو ظاهرة) تبعًا للأرض؛ لأنه ملك الأرض بجميع أجزائها وطبقاتها، وهذا منها، فدخل في ملكه على سبيل التبعية، ويفارق الكنز؛ لأنه مودَع فيها للنقل عنها، فالباطنة: كالذهب، والفضة، والحديد، والرصاص. والظاهرة: كالكحل، والجص، والزرنيخ، والكبريت.

قال في "الشرح" و"المبدع": ولو تحجَّر الأرض، أو أقطعها، فظهر فيها المعدن قبل إحيائها كان له إحياؤها، ويملكها بما فيها؛ لأنه صار أحق بتحجره وإقطاعه، فلم يُمنع من إتمام حَقّه.

(وإن ظهر فيه) أي: المُحْيَا من الأرض (عين ماء، أو معدن جار) إذا أُخذ منه شيء خلفه غيره، كنفط، وقار (أو) ظهر فيها (كلأ، أو شجر، فهو أحق به بغير عوض) لأنه لو سبق إلى المباح الذي ليس بأرضه كان أحق به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن سبقَ إلى ما لم يَسبِقْ إليهِ مسلِمٌ فهو لهُ" رواه أبو داود

(1)

. وفي لفظ: "فهو أحقُّ بهِ" فهنا أَولى.

(ولا يملكه) لحديث ابن عباس "الناسُ شركاءُ في ثلاثٍ: في الماء، والكَلأ، والنارِ" رواه الخلال وابن ماجه

(2)

وزاد: "وثمنهُ حرامٌ" ولأنها ليست من أجزاء الأرض، فلم تُملك بملكها كالكنز.

(وما فَضَل من مائه الذي في قرار العين، أو) في قرار (البئر) عن حاجته، وحاجة عياله، وماشيته، وزَرْعه (لزمه بَذْله لبهائم غيره، إن لم يوجد ماء مباح، ولم يتضرَّر) ربُّ الأرض (به، سواء اتَّصل) موضع الماء (بالمرعى، أو بَعُدَ عنه.

(1)

تقدم تخريجه (4/ 443) تعليق رقم (3).

(2)

تقدم تخريجه (7/ 328) تعليق رقم (2).

ص: 445

ويلزم) أيضًا (بَذْله لزَرْعِ غيره، ما لم يؤذِهِ بالدُّخول) لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تمنعُوا فضلَ الماءِ، لتمنعُوا بهِ الكلأ" متفق عليه

(1)

. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا:"مَن مَنَعَ فَضْلَ مائِهِ، أو فضلَ كَلَئِهِ، مَنَعَهُ الله فضلهُ يوم القيامةِ" رواه أحمد

(2)

. ولا يتوعد على ما يحلُّ.

(فإن آذاه) بالدخول، فله منعه، وكذا لو تضرَّرَ ببَذْلِهِ، أو وجد مباحًا غيره (أو كان له فيه) أي: البئر (ماء السماء، فيخاف عطشًا، فلا بأس أن يمنعه) لأنه ملكه بالحِيازة، فلم يلزمه بذله كسائر أملاكه،

(1)

البخاري في المساقاة، باب 2، حديث 2353، 2354، وفي الحيل، باب 5، حديث 6962، ومسلم في المساقاة، حديث 1566.

(2)

(2/ 221، 179) من طريق ليث بن أبي سُليم، عن عمرو بن شعيب، به.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 125): رجال أحمد ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر. وقال المناوي في التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 445): إسناده حسن. وأعلَّه ابن حجر في التلخيص الحبير (2/ 67) بليث بن أبي سُليم.

وأخرجه العقيلي (4/ 51)، والطبراني في الأوسط (2/ 45) حديث 1195، وفي الصغير (1/ 74) حديث 93، وأبو الشيخ في طبقات المحدثين (3/ 515)، من طريق محمد بن الحسن القُرْدُوسي، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، عن عمرو بن شعيب، به.

قال الطبراني: تفرَّد به محمد بن الحسن. وقال العقيلي: حديثه غير محفوظ، وليس بمشهور بالنقل، وهذا يُروى بإسناد أصلح من هذا. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 125): في إسناد الطبراني محمد بن الحسن القُردُوسي، ضعَّفه الأزدي بهذا الحديث، وقال: ليس بمحفوظ.

وأخرجه أحمد (2/ 183) عن سليمان بن موسى، عن عبد الله بن عمرو، به.

قال البخاري - كما في علل الترمذي الكبير ص/ 102 - : سليمان لم يدرك أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أيضًا ص/ 157: منكر الحديث، أنا لا أروي عنه شيئًا، روى سليمان بن موسى أحاديث عامتها مناكير.

ص: 446

بخلاف العِدِّ.

(وكذا لو حازه) أي: الماء العِدّ (في إناء) لم يلزمه بَذْله لغيره، لما تقدم، إلا عند الاضطرار بشرطه (وعند الأذى بورود الماشية إله) أي: إلى الماء العِدِّ الفاضل عن حاجة رَبِّ أرضه (فيجوز لِرُعاتها سوق فضل الماء إليها) لأن فيه تحصيلًا للمقصود بلا مفسدة.

(ولا يلزمه) أي: مَن وَجَبَ عليه بَذْل الماء (بذل آلة الاستسقاء

(1)

، كالحبل والدَّلو والبكرة) لأنها تتلف بالاستعمال، أشبهت بقية ماله، لكن إن اضطر بلا ضرر على رَبِّها، لزم بذلها. ويأتي في الأطعمة.

(وإذا حفر بئرًا بـ) ــأرض (مَوَات للسابلة) أي: لنفع المجتازين (فالناس مشتركون في مائها، والحافر لها كأحدهم في السقي، والزرع، والشُّرب) لأن الحافر لم يَخصَّ بها نفسه ولا غيره (وعند الضِّيق) أي: التزاحم (يُقدَّم الآدمي) في السقي؛ لأنه أشدُّ حُرمة (ثم) تُقدم (البهائم) لأن لها حُرمة (ثم) يُسقى (الزرع.

وإن حَفَرها) أي: البئر (ليرتفق هو) أي: الحافر (بمائها كحفر السُّفَّارة في بعض المنازل) بئرًا ليرتفقوا بمائها، وكحفر المنتجعين (كالأعراب، والتُّركمان ينتجعون أرضًا فيحفرون لشربهم، وشُرب دوابهم، لم يملكوها) لأنهم جازمون بانتقالهم عنها، وتركها لمن ينزل منزلتهم، بخلاف الحافر للتملك (وهم أحق بمائها ما أقاموا) لسبقهم (وعليهم بَذْل الفاضل) من الماء (لشاربه) للخبر السابق (وبعد رحيلهم تكون سابلةً للمسلمين) لأنه ليس أحد ممن لم يحفرها أحق من الآخر.

(فإن عادوا) أي: الحافرون (إليها، كانوا أحقَّ بها) من غيرهم؛

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (3/ 21): "الاستقاء" وهو الصواب.

ص: 447

لأنهم لم يحفروها إلا لأنفسهم، ومن عادتهم الرحيل والرجوع، فلم تزل أحقيتهم بذلك.

(قال في "المغني") و"الشرح": (وعلى كل حالٍ لكل أحد أن يستقي من الماء الجاري لشربه، وطهارته، وغسل ثيابه، وانتفاعه به في أشباه ذلك) أي: المذكور من الشرب، والطهارة، وغسل الثياب (مما لا يؤثِّر فيه من غير إذن) رَبِّه (إذا لم يدخل إليه في مكان محوط عليه، ولا يحل لصاحبه المنع من ذلك) لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "ثلاثةٌ لا ينظرُ الله إليهم ولا يُزكيهم ولهم عذابٌ أليمٌ: رجلٌ كان بفضلِ ماءٍ بالطَّريقِ، فمنعهُ ابنَ السبيلِ" رواه البخاري

(1)

.

فأما ما يؤثِّر فيه كسقي الماشية الكثيرة، فإن فضل الماء عن حاجة صاحبه، لزمه بذله لذلك، وإلا؛ فلا، وتقدم

(2)

.

(وقال الحارثيُّ: الفضل الواجب بذله ما فضل عن شَفَتِهِ وشَفَةِ عياله، وعجينهم، وطبيخهم، وطهارتهم، وغسل ثيابهم، ونحو ذلك، وعن مواشيه، ومزارعه، وبساتينه) لأن ذلك كله من حاجته.

وإن حفر البئر بموات تملُّكًا، فهي له كما يأتي، كما لو حفرها بملكه الحي.

فصل

(وإحياء الأرض) المَوَات (أن يحوزها بحائط منيع) بحيث (يمنع) الحائط (ما وراءه) لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحاطَ حائطًا على أرضٍ فهي لهُ" رواه

(1)

في المساقاة، باب 5، 10، حديث 2358، 2369، وفي الشهادات، باب 23، حديث 2672، وفي الأحكام، باب 48، حديث 7212، وفي التوحيد، باب 24، حديث 7446. وأخرجه - أيضًا - مسلم في الإيمان، حديث 108.

(2)

(9/ 445).

ص: 448

أحمد وأبو داود عن جابر

(1)

، ولهما مثله عن سمرة بن جندب

(2)

.

(ويكون البناء مما جرت عادة) أهل (البلد البناء به) مِن لَبِنٍ، أو آجُر، أو حجر، أو قصب، أو خشب ونحوه (سواء أرادها) المُحيي (لبناء، أو زرع، أو) أرادها (حظيرة غنم، أو) حظيرة (خشب ونحوهما، ولا يُعتبر في ذلك) أي: في الإحياء (تسقيف) ولا نصب باب؛ لأنه لم يُذكر في الخبر، والسُّكنى ممكنة بدونه.

(1)

أحمد (3/ 381)، ولم نجده عند أبي داود، وأخرجه - أيضًا - عبد بن حميد (3/ 47) حديث 1093، والطحاوي (3/ 268)، والذهبي في تذكرة الحفاظ (2/ 534)، عن قتادة، عن سليمان بن قيس اليشكري، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، به.

قلنا: وقتادة لم يسمع من سليمان اليشكري، كما قال أحمد، والبخاري، وابن معين. انظر: تحفة التحصيل ص/ 264.

(2)

أحمد (5/ 12، 21)، وأبو داود في الخراج، باب 37، حديث 3077. وأخرجه - أيضًا - النسائي في الكبرى (3/ 405) حديث 5763، ويحيى بن آدم في الخراج ص/ 92، حديث 290، والطيالسي ص/ 122، حديث 906، وابن أبي شيبة (7/ 76)، وابن الجارود في المنتقى (3/ 267) حديث 1015، والطحاوي (3/ 268)، والعقيلي في الضعفاء (3/ 183)، والطبراني في الكبير (7/ 208 - 209) حديث 6863 - 6867، وفي مسند الشامين (4/ 28) حديث 2640، والبيهقي (6/ 142، 148)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 225) حديث 1602، عن قتادة، عن الحسن البصري، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه.

قال العقيلي: وفي هذا رواية من غير وجه أصلح من هذا، وفيها اضطراب. وقال ابن عبد البر في التمهيد (22/ 286): والحسن عندهم لم يسمع في سمرة، وإنما هي - فيما زعموا - صحيفة، إلا أنهم لم يختلفوا أن الحسن سمع من سمرة حديث العقيقة؛ لأنه وُقف على ذلك فقال:"سمعته من سمرة" وقد روى الترمذي [في العلل الكبير 2/ 963، 588] عن البخاري أن سماع الحسن من سمرة صحيح.

وأعلَّه ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 62) بالخلاف الواقع في سماع الحسن من سمرة.

ص: 449

(أو) أن (يُجرِيَ لها ماء) بأن يسوق إليها ماء نهر، أو بئر (إن كانت لا تُزرع إلا به) أي: بالماء المسوق إليها؛ لأن نفع الأرض بالماء أكثر من الحائط.

(أو) أن (يحفِر فيها بئرًا يكون فيها ماء، فإن لم يصل إلى الماء، فهو كالمتحجر الشارع في الإحياء، على ما يأتي) تفصيله.

قال في "التلخيص" وغيره: وإن خرج الماء، استقر ملكه، إلا أن تحتاج إلى طَي، فتمام الإحياء طَيها.

(أو) أن (يغرِس فيها شجرًا) بأن كانت لا تصلح للغراس لكثرة أحجارها أو نحوها، فينقِّيها ويغرسها؛ لأنه يُراد للبقاء، كالحائط.

(أو) أن (يمنع) عن الموات (ما لا

(1)

يمكن زرعها إلا بحبسه عنها، كأرض البطائح) لأن بذلك يتمكَّن من الانتفاع بها، ولا يُعتبر أن يزرعها ويسقيها.

(وإن كان المانع من زَرْعِها كثرة الأحجار كأرض اللَّجَاة

(2)

) ناحية بالشام (فإحياؤها بقلع أحجارها وتنقيتها. وإن كانت غياضًا وأشجارًا، كأرض الشعراء

(3)

، فبأن يقلع أشجارها، ويزيل عروقها المانعة من الزرع) لأنه الذي يتمكَّن به من الانتفاع بها.

(ولا يحصُل الإحياء بمجرد الحَرْث والزَّرْع) لأنه لا يُراد للبقاء،

(1)

في متن الإقناع (3/ 22): "ماءً لا يمكن".

(2)

اللَّجاة: اسم للحرَّة السوداء التي بأرض صَلْخَد بأرض حوران من نواحي الشام، فيها قرىً ومزارع وعمارة واسعة يشملها هذا الاسم. انظر: معجم البلدان (5/ 13).

(3)

"الشعراء" كذا في الأصل و"ذ"، وفي متن الإقناع (3/ 22)، والمغني (8/ 178)، والمبدع (5/ 256):"الشعرى". والشِّعرى: بالقصر، جبل عند حرَّة بني سُليم. معجم البلدان (3/ 349).

ص: 450

بخلاف الغرس (ولا) يحصُل الإحياء - أيضًا - (بخندق يجعله عليها) أي: حول الأرض التي يريد إحياءها (أو) بـ (ـــشوك وشِبهه يَحوطها به، ويكون تحجُّرًا) لأن المسافر قد ينزل منزلًا، ويحوط على رحله بنحو ذلك.

(وإن حفر) في موات (بئرًا عاديَّة) بتشديد الياء، نسبة إلى عاد، ولم يرد عادًا بعينها، لكن لما كانت عاد في الزمن الأول وكانت لها آثار في الأرض نُسب إليها كل قديم، فلذا قال (وهي القديمة التي انطمت، وذهب ماؤها، فجَدَّد حفرها وعمارتها، أو انقطع ماؤها فاستخرجه، مَلَكها وملك حريمها خمسين ذراعًا من كل جانب.

و) البئر (غير العاديَّة) حريمها (على النصف) من حريم العادية، فهو خمسة وعشرون ذراعًا من كل جانب؛ لما روى أبو عبيد في "الأموال" عن سعيد بن المسيب قال:"السُّنةُ في حريمِ القَليبِ العادِي خمسونَ ذراعًا، والبدِيءِ خمسةٌ وعشرونَ"

(1)

، وروى الخلال والدارقطني نحوه مرفوعًا

(2)

.

(1)

أبو عبيد في الأموال ص/ 369، رقم 719، موقوفًا، ليس فيه:"السنة". وأخرجه - أيضًا - موقوفًا يحيى بن آدم في الخراج ص/ 104، رقم 327، وابن أبي شيبة (6/ 373 - 374)، والبيهقي (6/ 155).

وأخرجه أبو داود في المراسيل ص/ 290، والحاكم (4/ 97)، والبيهقي (6/ 157 - 158)، عن سعيد بن المسيب - مرسلًا -. وانظر التعليق التالي.

(2)

لعلَّ الخلال رواه في سننه ولم تُطبع، وأخرجه الدارقطني (4/ 220) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا - وأخرجه - أيضًا - الحاكم (4/ 97) معلقًا، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (1/ 209)، وقال الدارقطني: الصحيح من الحديث أنه مرسل عن ابن المسيب، ومن أسنده فقد وهم. وقال في العلل (9/ 194): والمرسل أشبه. وقال البيهقي (6/ 156) - بعد روايته موقوفًا، ومرسلًا -: وروي من حديث معمر، وإبراهيم بن أبي عبلة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة مرفوعًا موصولًا، وهو ضعيف.

ص: 451

وعُلم من كلامه: أن البئر التي لها ماء ينتفع به الناس ليس لأحد احتجاره، كالمعادن الظاهرة.

(وحريم عين وقناة) من مَوات حولها (خمسمائة ذراع) قلت: لعل المراد بذراع اليد؛ لأنه المتبادر عند الإطلاق.

(وحريم نهر من حافتيه ما يحتاج) النهر (إليه لطرح كِرايته) أي: ما يلقى منه طلبًا لسرعة جريه (وطريق شاوِيْه) أي: قيِّمه. قال في "شرح المنتهى": والكراية والشاوي لم أجد لهما أصلًا في اللغة بهذا المعنى، ولعلهما مولدتان من قبل أهل الشام (وما يستضِرُّ صاحبه بتملُّكه عليه، وإن كثر) وكذا ما يرتفق به حوله؛ لأنه من مصالحه.

(وله) أي: لصاحب النهر (عمل أحجارِ طَحْنٍ على النهر، ونحوه، وموضع غرس وزرع ونحوهما) قاله في "الرعاية". قال: وإن كان بجنبه مُسَنَّاةٌ

(1)

لغيره ارتفق بها في ذلك - أي: في تنظيفهِ - ضرورةً.

(وحريم شجرة قَدْر مَدِّ أغصانها، و) الحريم (في النخل) بقَدْرِ (مَدِّ جريدها) لحديث أبي سعيد: "اختُصم إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حريمِ نخلة، فأمرَ بجريدَةٍ من جرائِدها فذُرعت فكانت سبعةَ أذرعٍ أو خمسةَ أذرُعٍ، فقضى بذلك" رواه أبو داود

(2)

.

(و) حريم (أرض) أُحييت (لزرعٍ) قَدْر (ما يحتاجه) زارعها (لسقيها، وربط دوابها، وطرح سَبَخها ونحو ذلك) كمصرِف مائها عند الاستغناء عنه؛ لأن ذلك كله من مرافقها.

(1)

المُسَنَّاة: السد الذي يردُّ ماء النهر من جانبيه. المطلع ص/ 404.

(2)

في الأقضية، باب 31، حديث 3640. وأخرجه - أيضًا - الطحاوي في شرح مشكل الآثار (9/ 173) حديث 3541، 3542، والطبراني في الأوسط (2/ 252) حديث 1898، والبيهقي (6/ 155). وسكت عليه أبو داود والمنذري.

ص: 452

(وحريم دار من موات حولها مَطْرَحُ تراب، وكُناسة، وثلج، وماء ميزاب، وممر إلى بابها) لأن هذا كله مما يرتفق به ساكنها.

(ولا حريم لدار محفوفة بملك الغير) من كل جانب؛ لأن الحريم من المرافق، ولا يرتفق بملك غيره؛ لأن مالكه أحق به (ويتصرَّف كل واحد) منهم (في ملكه، وينتفع به بحسب ما جرت به العادة، فإن تعدَّى) العادة (مُنِع) من التعدِّي، عملًا بالعادة.

(ومن تحجَّر مواتًا) أي: شرع في إحيائه من غير أن يُتمه (بأن حفر بئرًا، ولم يصل إلى مائها، أو أدار حول الأرض) التي أراد إحياءها (تُرابًا، أو أحجارًا، أو جدارًا صغيرًا) لا يمنع ما وراءه (أو سبق إلى شجر مباح كالزيتون، والخرنوب، ونحوهما، فَشَفَّاه) - بالشين المعجمة والفاء

(1)

- أي: قطع الأغصان الرديئة لتخلفها أغصان جيدة، كما ذكره في "حاشية التنقيح"، وأطال فيه، وذكرناه في "حاشية المنتهى" (وأصلحه، ولم يُرَكِّبْه

(2)

، ونحو ذلك) بأن خَنْدَقَ حول الأرض، أو حَرَثها، أو أدار حولها شوكًا، أو نحوه، لم يملكه بذلك (أو أقطعه له إمام، لم يملكه بذلك) لأن الملك إنما يكون بالإحياء، ولم يوجد (وهو) أي: المتحجِّر (أحق به) لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن سبقَ إلى ما لم يَسبِق إليه مسلمٌ، فهو له" رواه أبو داود

(3)

.

(و) كذا (وارثه بعده) يكون أحق به من غيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن تركَ

(1)

قال في شرح منتهى الإرادات (4/ 268): "شفَّى" بالشين المعجمة، وتشديد الفاء.

(2)

يركِّبه: أي يُطعِّمه، وطعَّم الغصنَ وأطعمه، إذا وصل به غُصنًا من غير شجره. القاموس المحيط ص/ 1133، مادة (طعم).

(3)

تقدم تخريجه (4/ 443) تعليق رقم (3).

ص: 453

حقًّا، أو مالًا، فهو لورثتهِ"

(1)

؛ ولأنه حق للموروث، فقام وارثه مقامه فيه، كسائر حقوقه.

(و) كذا (من ينقله) المتحجِّر، أو وارثه (إليه بغير بيع) فيكون أحق به من غيره؛ لأن من له الحق أقامه مقامه فيه.

(وليس له) أي: المتحجِّر، أو وارثه، أو من انتقل إليه من أحدهما (بيعه) لأنه لم يملكه، وشرط المبيع أن يكون مملوكًا.

(فإن ركَّب، أي: أطعم الزيتون والخرنوب) بعد أن شَفَّاه وأصلحه (ملكه) لأنه تهيَّأ بذلك للانتفاع به لما يُراد منه، فهو كسوق الماء إلى الأرض المَوات (و) ملك أيضًا (حريمه) تبعًا له. وتقدم

(2)

.

(فإن لم يُتِم إحياءه) أي: إحياء ما تحجَّره مما تقدم (وطالت المدة عُرفًا كنحو ثلاث سنين، قيل له) أي: المتحجِّر (إما أن تُحييه) فتملكه (أو تتركه) لمن يُحييه (إن حصل متشوِّف للإحياء) لأنه ضَيَّق على الناس في حق مشترك بينهم، فلم يُمكّن من ذلك، كما لو وقف في طريق ضيق، أو مَشْرَعة

(3)

ماء، أو معدن، لا ينتفع، ولا يدع غيره ينتفع.

(فإن طلب) المتحجِّر (المهلة لعُذر، أُمهل شهرين، أو ثلاثة، أو أقل على ما يراه الحاكم) لأنه يسير (وإن لم يكن له عُذر، فلا يُمهل) بل يقال له: إما أن تعمر، وإما أن ترفع يدك، فإن لم يعمرها، كان لغيره

(1)

تقدم تخريجه (8/ 367) تعليق رقم (2).

(2)

(9/ 453).

(3)

المَشْرَعة: بفتح الميم والراء، شريعة الماء، والشريعة هي مَورد الناس للاستقاء، وسُميت بذلك لوضوحها وظهورها، وجمعها شرائع، ولا تسميها العرب "مَشْرَعة" حتى يكون الماء عِدًّا لا انقطاع له، كماء الأنهار، ويكون ظاهرًا مَعينًا ولا يُستقى منه برشاء. المصباح المنير ص/ 421، مادة (شرع).

ص: 454

عمارتها.

(وإن أحياه غيره) أي: غير المتحجِّر (في مدة المُهلة، أو قبلها لم يملكه) لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحيا أرضًا ميتةً في غيرِ حَقِّ مسلمٍ فهي له"

(1)

؛ ولأنه إحياء في حق غيره، فلم يملكه؛ ولأن حق المتحجر أسبق، فكان أولى.

(و) إن أحياه أحد (بعدها) أي: بعد مضي مدة المهلة (ملكه) من أحياه، قال في "الإنصاف": لا أعلم فيه خلافًا. انتهى. وذلك لأن الأول لا ملك له، وحقه زال بإعراضه حتى مضت مدة الإمهال.

(ومن نزل عن وظيفة) من إمامة، أو خطابة، أو تدريس، ونحوه (لزيد، وهو) أي: زيد (لها) أي: الوظيفة (أهلٌ، لم يتقرر غيره) فيها؛ لتعلُّق حقه بها.

(فإن قُرِّرَ هو) أي: قرره من له الولاية كالناظر، تَمَّ الأمر له (وإلا) بأن لم يقرِّره من له ولاية التقرير (فهي) أي: الوظيفة (للنازل) لأنه لم يحصل منه رغبة مطلقة عن وظيفته.

(وقال الشيخ

(2)

: لا يتعين المنزول له، ويولي من له الولاية من يستحقها شرعًا) واعترضه ابن أبي المجد

(3)

: بأنه لا يخلو إما أن يكون

(1)

تقدم تخريجه (9/ 206) تكميل تعليق رقم (1) فقرة (هـ).

(2)

الاختيارات الفقهية ص/ 253.

(3)

في حاشية نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (2/ 411) ما نصه: "قال ابن قندس: ابن أبي المجد هذا شامي كان في زمن صاحب الفروع، وله بعض مناقشات على الفروع. ا. هـ.". قلنا: هو الشيخ الفقيه العالم، أبو المحاسن، جمال الدين، يوسف بن ماجد بن أبي المجد عبد الخالق المرداوي الحنبلي، كان من فضلاء الحنابلة، كثير النظر في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، مثابرًا على الفتوى بقوله في مسائل، الطلاق، وبيض الفروع وزاد فيها ونقص وناقش المصنف فيها في أماكن. توفي =

ص: 455

نزوله بعوض أو لا، وعلى كل لم يحصل منه رغبة مطلقة عن وظيفته، ثم قال: وكلام الشيخ في قضية عين، فيحتمل أن المنزول له ليس أهلًا، ويحتمل عدمه. قال في "المبدع": وفيه نظر، فإن النزول يفيد الشغور، وقد سقط حقه بشغوره، إذ الساقط لا يعود.

وقوله: "في قضية عين" الأصل عدمه. وقال الموضِّح: ملخص كلام الأصحاب: يستحقها منزولٌ له إن كان أهلًا، وإلا؛ فلناظر تولية مستحقها شرعًا. انتهى.

ومما‌

‌ يُشبه النزول عن الوظائف: النزول عن الإقطاع،

فإنه نزول عن استحقاقٍ يختص به؛ لتخصيص الإمام له استغلاله، أشبه مستحق الوظيفة، وأخذ العوض عن ذلك قريب من الخلع، كما قاله ابن نصر الله وغيره. قلت: وإن لم يتم النزول، فله الرجوعُ بما بذله من العوض؛ لأن البدل لم يسلم له.

(وقال ابن القيم

(1)

: ومن بيده أرض خراجية، فهو أحقُّ بها بالخراج، كالمستأجر) لأن عمر

(2)

رضي الله عنه أقرَّها بأيدي أربابها بالخراج الذي ضَرَبَه أجرةً لها في كل عام، فملكوا منافعها بالخراج الذي يبذلونه (ويرثها ورثته كذلك) فيكونون أحقَّ بها بالخراج.

(وليس للإمام أخْذُها منه) أي: ممن هي بيده ولا من ورثته (ودفعها إلى غيره) لأنه أحق بها من غيره (وإن نزل عنها، أو آثر بها) أحدًا

= سنة (782 هـ) بالصالحية بدمشق. رحمه الله تعالى. انظر: الجوهر المنضد ص/ 179.

(1)

أحكام أهل الذمة (1/ 125).

(2)

انظر ما تقدم (7/ 169 - 170).

ص: 456

(فالمنزول له) أحقُّ بها (والمؤثَر أحقُّ بها) من غيره (وتقدم) في الأرضين المغنومة

(1)

.

(ومثله ما صحَّحه صاحب "الفروع" وغيره: لو آثر شخصًا بمكانه في الجمعة لم يكن لغيره) أي: المؤثَر (سبقه إليه؛ لأنه أقامه مقامه، أشبه من تحجَّر مواتًا، أو سبق إليه) أي: الموات (أو آثر به) فإنه ليس لأحد سبقه إليه.

قال في "الفروع": ويتوجَّه مثله، أي: المُتحجِّر في أنه أحق به ومن ينقله إليه، في نزول مستحق عن وظيفةٍ لزيد، هل يتقرَّر فيها غيره؟ (فمراد صاحب "الفروع" بالتشبيه المذكور: أنه لم يتم النزول المذكور، إما لكونه قبل القَبول من المنزول له، أو قبل الإمضاء إذا كان النزول معلَّقًا بشرط الإمضاء، ممن له ولاية ذلك، فإنه حينئذ يشبه المُتحجِّر، فيجري فيه ما فيه من الخلاف.

أما إذا تَمَّ النزول إما بالقَبول) من المنزول له (أو الإمضاء) ممن له ولاية ذلك (ووقع) النزول (الموقِعَ) لأهلية المنزول له، وانتفاء الموانع (فليس لأحد التقَرُّرُ) عن المنزول له (ولا) لناظر ولا غيره (التقرير فيه) أي: في المنزول عنه؛ لأن الحق انتقل إلى المنزول له عاجلًا بقَبوله، ولا يتوقف على تقرير ناظر، ولا مراجعته، إذ هو حق له نقله إلى غيره، وهو مطلق التصرُّف في حقوقه، ليس محجورًا عليه في شيء منها، أشبه سائر حقوقه. هذا وما ذكره المصنف قبله ملخص كلام ابن أبي المجد، وقد ذكره بطوله في "شرح المنتهى".

(1)

(7/ 179).

ص: 457

(وهو) أي: المنزول عنه (حينئذ يُشَبَّه

(1)

بالمتحجَّر) بفتح الجيم (إذا أحياه مَن تحجَّره، و) يُشَبَّه (بالمؤثر بالمكان إذا صار فيه) ليس لأحد نزعه منه (لأنه لا تُرفع يد المُحيي عمَّا أحياه، ولا المؤثر يزال من المكان الذي أوثر به وصار فيه) بل هو أحق به.

‌فصل في الإقطاع

وقد قسمه الأصحاب إلى ثلاثة أقسام: إقطاع تمليك، وإقطاع استغلال، وإقطاع إرفاق.

وقَسم القاضي إقطاع التمليك إلى: موات، وعامر، ومعادن. وجعل إقطاع الاستغلال على ضربين: عُشر، وخَراج.

(وللإمام إقطاع مَوات لمن يُحييه) لأنه صلى الله عليه وسلم أقطعَ بلالَ بن الحارثِ العقِيقَ

(2)

، وأقطعَ وائلَ بنَ حُجْرٍ أرضًا

(3)

، وأقطع أبو

(1)

في الإقناع (3/ 26): "شبيه".

(2)

تقدم تخريجه (4/ 442) تعليق رقم (6).

(3)

أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (8/ 175 - 176) حديث 2607، وفي الصغير (1/ 119)، وفي رفع اليدين ص/ 137 - 138، حديث 45، وأبو داود في الخراج، باب 36، حديث 3058، 3059، والترمذي في الأحكام، باب 39، حديث 1381، والطيالسي ص/ 137، حديث 1017، وابن سعد (1/ 349 - 351)، وأحمد (6/ 399)، وابن زنجويه في الأموال (2/ 619) حديث 1018، 1019، والدارمي في البيوع، باب 66، حديث 2612، وأبو زرعة الدمشقي في الفوائد المعللة ص/ 224، حديث 168، وابن حبان في الثقات (3/ 425)، وفي مشاهير علماء الأمصار ص/ 45، والطبراني في الكبير (22/ 9، 13) حديث 4، 12، 13، وفي الصغير (2/ 284) حديث 1176، والبيهقي (6/ 144)، عن علقمة بن وائل، =

ص: 458

بكر

(1)

وعمر

(2)

وعثمان

(3)

وجمع من الصحابة.

= عن أبيه.

قال البخاري في رفع اليدين ص/ 104: وقصة وائل مشهورة عند أهل العلم، وما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في أمره وما أعطاه، معروف بذهابه إلى النبي مرة بعد مرة.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن، كذا في المطبوع من السنن، وفي نسخة الكروخي (ق 100/ ب) ومختصر السنن للمنذري (4/ 58)، والبدر المنير (7/ 69)، والتلخيص الحبير (3/ 64)، نقلًا عن الترمذي: حسن صحيح. وفي التحفة (9/ 88) حديث 11773: صحيح، فقط.

(1)

أخرج يحيى بن آدم في الخراج ص/ 77، رقم 242، 243، وابن أبي شيبة (12/ 354)، والبلاذري في فتوح البلدان (1/ 13) رقم 46، والبيهقي (6/ 144)، عن عروة: أن أبا بكر رضي الله عنه أقطع الزبير ما بين الجرْف إلى قناة.

وأخرج أبو عبيد في الأموال ص/ 351، رقم 687، وابن زنجويه في الأموال (2/ 622) رقم 1022، عن عمر بن يحيى الزرقي، قال: أقطع أبو بكر طلحة بن عبيد الله أرضًا، وكتب له بها كتابًا، وأشهد أناسًا فيهم عمر. . . إلخ.

(2)

أخرج ابن أبي شيبة (12/ 355)، والبلاذري في فتوح البلدان (1/ 14) رقم 54، 55، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن عمر أقطع عليًا ينبع، وأضاف إليها غيرها.

وأخرجه يحيى بن آدم في الخراج ص/ 77، رقم 244، عن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى رضي الله عنه لإعطاء نافع بن الحارث بن كلدة أرضًا على شاطئ دجلة؛ أخرجه يحيى بن آدم في الخراج ص/ 26، 78، رقم 43، 245، 249، وأبو عبيد في الأموال ص/ 353، رقم 690، وابن زنجويه في الأموال (2/ 625) رقم 1026، وابن أبي شيبة (12/ 355). وأقطع عمر رضي الله عنه أيضًا - عثمان بن أبي العاص: أخرجه ابن زنجويه في الأموال (2/ 626) رقم 1031. وأقطع خوات بن جبير: أخرجه أبو يوسف في الخراج ص/ 61، والبلاذري في فتوح البلدان (1/ 12).

(3)

أخرج أبو عبيد في الأموال ص/ 353، 354، رقم 691، 692، وابن زنجويه في الأموال (2/ 626) رقم 1029، وابن أبي شيبة (12/ 354)، والبيهقي (6/ 145)، عن موسى بن طلحة: أن عثمان رضي الله عنه أقطع خمسة من أصحاب رسول الله =

ص: 459

(ولا يملكه) أي: الموات (بالإقطاع) لأنه لو ملكه ما جاز استرجاعه (بل يصير) المُقطَع (كالمتحجِّر الشارع في الإحياء) لأنه ترجح بالإقطاع على غيره، ويُسمَّى تملكًا لمآله إليه.

(ولا ينبغي للإمام أن يُقطِع إلا ما قدر) المقطَعُ (على إحيائه) لأن في إقطاعه أكثر من ذلك تضييقًا على الناس في حق مشترك بينهم مما لا فائدة فيه.

(فإن أقطع) الإمام أحدًا (أكثر منه) أي: مما يقدر على إحيائه (ثم تبين عجزه عن إحيائه، استرجعه) الإمام منه، كما استرجع عمر من بلال بن الحارثِ ما عجز عن عمارته من العقيق الذي أقطعه إياه الرسول صلى الله عليه وسلم

(1)

.

(وله) أي: للإمام (إقطاع غير مَوات تمليكًا وانتفاعًا؛ للمصلحة) لما تقدم.

(ويجوز الإقطاع من مال الجِزية) المعروف في مصر بالجوالي

(2)

(كما في الإقطاع من مال الخراج، والظاهر أن مرادهم) أي: الأصحاب (بالمصلحة) التي يجوز الإقطاع لأجلها (ابتداءً ودوامًا، فلو كان ابتداؤه) أي: الإقطاع (لمصلحة، ثم في أثناء الحال فُقِدت) المصلحة (فللإمام استرجاعها) أي: الأرض التي أقطعها؛ لأن الحكم يدور مع علته.

(وله) أي: الإمام (إقطاع الجلوس في الطريق الواسعة، و) في

= صلى الله عليه وسلم: الزبير، وسعد بن مالك، وابن مسعود، وخبابًا، وأسامة بن زيد، رضي الله عنهم.

(1)

تقدم تخريجه (4/ 442) تعليق رقم (6).

(2)

الجالية: أهل الذمة الذين أجلاهم عمر رضي الله عنه عن جزيرة العرب، ثم نقلت إلى الجزية التي أخذت منهم، ثم استعملت في كل جزية تؤخذ، وإن لم يكن صاحبها جلا عن وطنه، والجمع جوالي. المصباح المنير (1/ 106) مادة (جلو).

ص: 460

(رحاب المساجد المتسعة غير المحوطة) لأن له في ذلك اجتهادًا من حيث إنه لا يجوز الجلوس إلا فيما لا يضرُّ بالمارَّة، فكان للإمام أن يُجْلِس فيها (ما لم يُضيِّق على الناس، فيحرم) عليه أن يُجْلِس من يرى أنه يضرُّ بالمارة.

(ولا يملك ذلك المُقْطَعُ، ويكون) المقطع (أحقَّ بالجلوس فيها) بمنزلة السابق إليها بلا إقطاع، لكن لا يسقط حقُّه بنقل متاعه، بخلاف السابق (ما لم يَعُد الإمام فيه) أي: في إقطاعه؛ لأنه كما أن له اجتهادًا في الإقطاع، له اجتهاد في استرجاعه. وعُلم مما تقدم: أن رحبة المسجد لو كانت محوطة لم يجز إقطاع الجلوس بها؛ لأنها من المسجد.

(فإن لم يقطعها) أي: الطريق الواسعة، ورحاب المسجد غير المحوطة (الإمام) أحدًا (فلمن سبق إليها الجلوسُ فيها بغير إذنه) لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَن سبقَ إلى ما لم يَسبِق إليهِ مسلمٌ فهو أحقُّ به"

(1)

. واتفق أهل الأمصار في سائر الأعصار على إقرار الناس على ذلك من غير نكير

(2)

، ومحله ما لم يضيق أو يضرَّ بالمارة (ويكون) السابق إليها (أحقَّ بها؛ ولو ليلًا، ما لم يَنقل متاعه عنها) لما سبق.

(وإن أطال الجلوس فيها، أُزيل) لأنه يصير كالمتملك، ويختص بنفع يساويه فيه غيره، وإن قام وترك متاعه لم يجز لغيره إزالته، وإن نقل متاعه كان لغيره الجلوس فيها، ولو لم يأت الليل.

(وإن) نفل متاعه لكن (أجلس غلامه، أو أجنبيًّا؛ ليحفظ له المكان حتى يعود، فهو كما لو ترك المتاع فيه) فليس لغيره الجلوس فيه.

(1)

تقدم تخريجه (4/ 443) تعليق رقم (3).

(2)

المهذب للشيرازي (3/ 621)، والمغني (8/ 161).

ص: 461

(وليس له) أي: الجالس بطريق واسع ونحوه (الجلوس بحيث يمنع جاره رؤية المُعاملين

(1)

لمتاعه، أو) يمنع (وصولهم) أي: المُعاملين (إليه) أي: إلى جاره (أو يُضيَّق عليه) أي: على جاره (في كَيْل، أو وزن، أو أَخْذٍ، أو إعطاء) لحديث: "لا ضررَ ولا ضرارَ"

(2)

.

(وله) أي: الجالس بطريق واسع، أو رحبة مسجد غير مَحوطة (أن يُظَلل على نفسه فيها بما لا ضرر فيه، من بارية) أي: حصير (وكساء) لدعاء الحاجة إلى ذلك (وليس له أن يبني دَكَّة ولا غيرها) في الطريق ولو واسعًا، وتقدم في الصُّلح

(3)

، ولا في رحبة المسجد؛ لما فيه من التضييق.

(فإن سبق اثنان، فأكثر إليها) أي: إلى الطريق الواسع، أو إلى رحبة المسجد غير المحوطة (أو) سبق (إلى خان مسبل، أو) سبق إلى (رباط، أو) إلى (مدرسة، أو) إلى (خانكاه) ويقال: خانقاه

(4)

(ولم يتوقف فيها) أي: المذكورات من الرباط، والمدرسة، والخانكاه (على تنزيل ناظر) وضاق المكان عن انتفاع جميعهم (أُقْرع) لأنهم استووا في السبق، والقُرعة مميزة.

(ومن سبق إلى معدن مباح) غير مملوك (فهو أحقُّ بما ينالـ) ــه

(1)

المعاملين: من المعاملة، عاملته في كلام أهل الأمصار: يُراد به التصرُّف؛ من البيع ونحوه. المصباح المنير ص/ 588، مادة (عمل).

(2)

تقدم تخريجه (2/ 111) تعليق رقم (1).

(3)

(8/ 307).

(4)

الخانَقاه: بفتح النون، بُقعةٌ يسكنها أهل الصلاة والخير والصُّوفية، مُعَرَّب "خانه كاه". وقد حدثت في الإسلام في حُدود الأربعمائة، وجُعِلتْ لمتخلّي الصوفية فيها لعبادة الله تعالى. تاج العروس (25/ 270) مادة (خنق).

ص: 462

(منه) باطنًا كان المعدن، أو ظاهرًا؛ لحديث:"مَن سبقَ إلى ما لم يَسْبِق إليه مسلمٌ فهو له"

(1)

(ولا يُمنع) السابق (ما دام آخذًا) للحديث (ولو طال) مقامه (و) قال (في "المغني" و"الشرح": فإن أخذ قَدْر حاجته، وأراد الإقامة فيه بحيث يمنع غيره منه، مُنع من ذلك) لعدم دعاء الحاجة إليه.

(فإن سبق اثنان، فأكثر إليه) أي: إلى المعدن المباح (وضاق المكان عن أخذهم جملة، أُقرع، كطريق) أي: كما لو سبق اثنان، فأكثر إلى طريق واسع، وضاق عن جلوسهما، فَيُقرع بينهما، كما سبق.

(وإن حَفَره) أي: المعدن (إنسانٌ من جانب آخر) غير الذي حفر منه السابق (فوصل إلى النَّيْل لم يكن له) أي: السابق (منعه) لأن حَقَّه إنما تعلق بما وصل إليه دون غيره.

(ومن سبق إلى مباح؛ فأخذه؛ مثل ما ينبت في الجزائر والرَّقاق

(2)

، وكل مَوات من الطَّرْفاء

(3)

، والقصب، والشَّعراء

(4)

، وثمرِ الجبل، وغير ذلك من النباتات، أو) سبق (إلى صيد، ولو سَمَكًا، أو) سبق إلى (عَنْبر، وحَطَب، وثمر) مباح (ولؤلؤ، ومرجان) ونحوه كمِسْك، وعسل نحل

(1)

تقدم تخريجه (4/ 443) تعليق رقم (3).

(2)

الرَّقاقُ: كسَحاب، الصَّحراء المُتَّسعة، الليِّنة التُّراب. وقيل: والأرض السهلة المنبسطة المستوية، اللينة التراب؛ تحتهُ صلابةٌ. تاج العروس (25/ 355) مادة (رقق).

(3)

الطَّرْفاءُ: نوع من الشجر، وهو من العضاه، وهدبه مثل هُدب الأثل، وليس له خشبٌ، وإنما يُخرجُ عِصيًّا سمحةً في السماء، وقد تتحمَّض به الإبلُ إذا لم تجِد حَمْضًا غيره. وهي أربعة أصناف، منها الأثل. تاج العروس (24/ 72) مادة (طرف).

(4)

الشَّعْراء: شجرةٌ من الحَمْضِ، ليس لها ورق، ولها هدب، تحرص عليها الإبل حرصًا شديدًا، تخرجُ عيدانًا شدادًا ولها خشبٌ حطب. تاج العروس (12/ 186) مادة (شعر).

ص: 463

(وما ينبذه الناس رغبة عنه) كعظم به شيء من لحم رُغِبَ عنه، ونثار في عرس ونحوه، وما يتركه الحصَّادُ من الزرع، واللّقَّاطُ من الثمر رغبة عنه (ملكه) آخذه، مسلمًا كان أو ذميًّا؛ للحديث السابق (والملك مقصور فيه على القَدْر المأخوذ) فلا يملك ما لم يحزه، ولا يمنع غيره منه.

(وإن سبق إليه) أي: المُباح (اثنان) فأكثر (قُسم بينهما) بالسوية؛ لأنهم استووا في السبب، والقسمةُ ممكنة، وحذرًا من تأخير الحق (ولو كان الآخذ للتجارة أو للحاجة) أي: لا فرق بين ذي الحاجة والتاجر؛ لأن الاستحقاق بالسبب لا بالحاجة (ولا يقترعان) بل يقتسمان؛ لما سبق.

(وكذا لو سبق) واحد، أو اثنان، فأكثر (إلى ما ضاع من الناس مما لا تتبعه الهِمَّة) أي: هِمَّة أوساط الناس؛ لأنه يملكه بمجرَّد الالتقاط، ولا يحتاج لتعريف (و) كذا من سبق إلى (ما يسقط عن الثلج والمَنِّ، وسائر المباحات) كاللَّاذن

(1)

.

(وإن سبق) إنسان (إلى لَقيط، أو) إلى (لُقَطَة، أو) سبق (إلى طريق، فهو أحقُّ به) لحديث: "من سبق"

(2)

إلخ. (فإن رأى اللُّقَطة) أو اللَّقيط (واحدٌ، وسبق آخرُ إلى أخذها) أو أخذه، أي: اللَّقيط (فهي) وهو أي: اللقيط (لمن سبق) للحديث

(2)

.

(فإن) رآهما اثنان و (أمر أحدهما صاحبه بأخذها) أو أخذه (فأخذها) أو أخذه (ونواه) أي: الآخذ (لنفسه، فهي) أي: اللُّقطة، أو اللَّقيط (له) أي: للآخذ؛ لأنه السابق، وقد عزل نفسه عن التوكيل بنية الأخذ له (وإلا) بأن لم يأخذهما لنفسه، فاللُّقطة واللَّقيط (لمن أمره)

(1)

تقدم التعريف به (4/ 438) تعليق رقم (3).

(2)

تقدم تخريجه (4/ 443) تعليق رقم (3).

ص: 464

بالأخذ له (في قول) من يقول بصحة التوكيل في الالتقاط. وجزم به الموفَّق وغيره. والمذهب: لا يصح. وتقدم

(1)

في الوكالة، وتقدم

(1)

الفرق بينه وبين الاصطياد.

فصل في مسائل من أحكام الانتفاع بالمياه غير المملوكة ونحوها

(وإن

(2)

كان الماء في نهر) صغير (غير مملوك، كمياه الأمطار، و) كـ (ــالأنهار الصغار، وازدحم الناسُ فيه) أي: الماء (وتشاحُّوا، فلمَن في أعلاه) أي: النهر (أن يبدأ) بالسقي (فيسقي) أرضه (ويحبس الماء) بها (حتى يصل إلى كعبه، ثم يرسله إلى من يليه) فيسقي ويحبسه إلى أن يصل إلى كعبه، ثم يرسله إلى من يليه، فيفعل (كذلك) وهلم جرًّا (إلى آخرهم) لحديث عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم "قَضى في شُربِ النخلِ من السيلِ أنَّ الأعلى يشربُ قبلَ الأسفلِ، ويتركُ الماءَ إلى الكعبينِ، ثُمَّ يرسِلُ الماء إلى الأسفلِ الذي يليهِ، وكذلكَ حتى تنقضي الحوائط، أو يفنى الماءُ" رواه ابن ماجه وعبد الله بن أحمد

(3)

.

(1)

(8/ 418).

(2)

في متن الإقناع (3/ 29): "وإذا".

(3)

ابن ماجه في الرهون، باب 20، حديث 2483، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (5/ 327). وأخرجه - أيضًا - البيهقي (6/ 154) عن إسحاق بن يحيى بن الوليد، عن عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، مرفوعًا.

وأعلَّه البيهقي، وابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 113)، والحافظ في التلخيص الحبير (3/ 66)، والبوصيري في مصباح الزجاجة (3/ 84)، بالانقطاع بين إسحاق بن يحيى وعبادة بن الصامت.

وقال ابن الملقن في البدر المنير (7/ 83): إسحاق بن يحيى ابن أخي عبادة بن =

ص: 465

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الصامت، عن عبادة، قال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة. وقال الذهبي: إسحاق بن يحيى، عن عمه عبادة، منكر الحديث.

وفي الباب عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم:

1 -

عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أخرجه أبو داود في الأقضية، باب 31، حديث 3639، وابن ماجه في الرهون، باب 20، حديث 2482، والبيهقي (6/ 154)، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وحسَّنه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (5/ 296)، وابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 113)، والحافظ في الفتح (5/ 40).

وقال المنذري في مختصر السنن (5/ 242): الراوي عن عمرو بن شعيب هو عبد الرحمن بن الحارث المخزومي المدني، تكلَّم فيه الإمام أحمد.

2 -

عائشة رضي الله عنها: أخرجه الحاكم (2/ 62)، وابن عبد البر في التمهيد (17/ 409)، من طريق إسحاق بن عيسى، عن مالك بن أنس، عن أبي الرجال، عن عمرة، عن عائشة.

قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. وحسَّن إسناده الحافظ في الفتح (5/ 40).

وقال الدارقطني في العلل (5/ ق 106/ أ): يرويه أبو الرجال، واختُلف عنه، فرواه محمد بن إسحاق عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة، واختُلف عن مالك، فأسنده إسحاق بن عيسى عن رواية أحمد بن صالح عنه عن مالك، وغيره لا يذكر عائشة، وهو المحفوظ عن مالك. وقال ابن عبد البر: وهذا إسناد غريب جدًّا عن مالك، لا أعلمه يُروى عن مالك بهذا الإسناد من غير هذا الوجه. وانظر: البدر المنير (7/ 85).

3 -

ثعلبة بن أبي مالك رضي الله عنه: أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/ 215) حديث 2200، والطبراني في الكبير (2/ 86) حديث 1387، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (1/ 490) حديث 1394، وابن الأثير في أسد الغابة (1/ 292)، من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب، عن إسحاق بن إبراهيم، عن صفوان بن سليم، عن ثعلبة بن أبي مالك رضي الله عنه، به، مرفوعًا.

قال الحافظ في الإصابة (2/ 24): رجاله ثقات.

وأخرجه أبو داود في الأقضية، باب 36، حديث 3638، والبيهقي (6/ 154)، من =

ص: 466

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= طريق الوليد بن كثير، عن أبي مالك بن ثعلبة، عن أبيه ثعلبة بن أبي مالك، به، مرفوعًا.

وأخرجه يحيى بن آدم في الخراج ص/ 10، حديث 310 - 312، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (14/ 60) حديث 5450، والطبراني في الكبير (2/ 86) حديث 1386، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (1/ 490) حديث 1393، والبغوي في معجم الصحابة (1/ 423) حديث 269، والبلاذري في فتوح البلدان (1/ 9) حديث 28، من طريق محمد بن إسحاق، عن أبي مالك بن ثعلبة بن أبي مالك، عن أبيه، به، مرفوعًا.

قلنا: محمد بن إسحاق مدلس - كما في التقريب (5762) -، ولم يصرح بالتحديث. وأخرجه ابن ماجه في الرهون، باب 20، حديث 2481، عن إبراهيم بن المنذر الحِزامي، عن زكريا بن منظور بن ثعلبة بن أبي مالك، عن محمد بن عقبة بن أبي مالك، عن عمِّه ثعلبة بن أبي مالك، فذكره.

وأعلَّه ابن الملقن في البدر المنير (7/ 85) والبوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 56) بضعف زكريا بن منصور.

قلنا: وأُعل حديث ثعلبة هذا بالإرسال، قال ابن الملقن: وثعلبة هذا إمام بني قريظة، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وله رؤية، وطال عمره، روى عنه ابنه أبو مالك، وصفوان بن سليم، وله حديثان مرسلان، ووالده أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، واسمه عبد الله.

وقال البوصيري: وهذا الحديث مرسل؛ لأن ثعلبة ليست له صحبة، قال العجلي: مدني تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: هو في التابعين. وقال ابن معين: رأى النبي صلى الله عليه وسلم.

4 -

مرسل عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أخرجه مالك (2/ 744) في كتاب الأقضية، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه بلغه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومُذينب: يمسك حتى الكعبين، ثم يُرسِل الأعلى على الأسفل.

وقال ابن عبد البر في التمهيد (17/ 407): لا أعلم هذا الحديث في سيل مهزور ومُذَينب هكذا يتَّصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه.

وقال أيضًا: سئل أبو بكر البزار عن حديث هذا الباب، فقال: لست أحفظ فيه بهذا =

ص: 467

ومعناه قصة الزبير مع الأنصاري في "الصحيحين"

(1)

.

(فإن لم يَفْضُل) من الماء (عن الأول) شيء (أو) لم يَفْضُل (عَمَّن

(2)

يليه) أي: الأول (شيء، فلا شيء للباقي) أي: لمن بعده؛ لأنه ليس له إلا ما فَضَل، فهو كالعصبة مع أصحاب الفروض في الميراث.

(وإن كان بعض أرض أحدهم مُستفِلًا، و) كان (بعضها مُستعليًا، سقى كلَّ واحدة على حِدَتها) أي: انفرادها، فيسقي الأعلى، ثم يرسل الماء إلى من يليه، ثم كذلك حتى يصل إلى الأسفل، فيسقيه؛ لما تقدم.

(فإن استوى اثنان) فأكثر (في القُرب من أول النهر، اقتسما الماء بينهما) على قَدْر الأرض (إنْ أمكن) قَسْمه؛ لتساويهما في الحق (وإلا) بأن لم يمكن قَسْمه بينهم (أُقرع.

فإن كان الماء لا يفضل عن) سقي (أحدهما، سقى القارعُ) أوَّلًا (بقَدْر حَقِّه من الماء، ثم يتركه) أي: الماء (للآخر، وليس له أن يسقي بجميع الماء لمساواة الآخر له) في استحقاق الماء (وإنما القُرعة للتقدُّم) في استيفاء الحق لا في أصل الحق (بخلاف الأعلى مع الأسفل، فإنه ليس للأسفل حقٌّ إلا في الفاضل عن الأعلى) كما تقدم.

= اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا يثبت.

(1)

البخاري في المساقاة، باب 6، 7، 8، حديث 2359 - 2362، وفي الصلح، باب 12، حديث 2708، وفي التفسير، باب 12، حديث 4585، ومسلم في الفضائل، باب 36، حديث 2357، ولفظه: أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماءَ يمر، فأبى عليه، فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاري فقال: أن كان ابن عمتك؟! فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر.

(2)

في الإقناع (3/ 29): "من".

ص: 468

(وإن كانت أرض أحدِهما أكثر من) أرض (الآخر، قُسِم الماء بينهما على قَدْر الأرض) فلو كان لأحدههما جَريب، وللآخر جَريبان مثلًا، قُسم بينهما أثلاثًا، لذي الجريب ثلث، وللآخر ثلثان، وهكذا؛ لأن مَنْ أرضُه أكثرُ مساوٍ للآخر في القُرب، فاستحقَّ جزءًا من الماء في نظير الزائد.

(ولو احتاج الأعلى إلى الشِّرب) أي: سقي أرضه (ثانيًا قبل انتهاء سقي الأرض

(1)

، لم يكن له ذلك) إلى أن ينتهي سقي الأراضي؛ ليحصُل التعادل.

(ومَن سبق إلى قناة لا مالك لها، وسبق آخرُ إلى بعض أفواهها من فوق، أو من أسفل، فلكلِّ واحدٍ منهما ما سبق إليه) لحديث: "مَن سبقَ إلى ما لم يَسبِق إليه مسلمٌ فهو له"

(2)

.

(ولمالك أرض منعه من الدخول بها) أي: بأرضه (ولو كانت رسومها) أي: القناة (في أرضه) فلا يدخل المحيي أرضَ الغير بغير إذنه؛ لأنه تصرُّف في ملك الغير بغير إذنه، ولا يعارضه ما تقدم في الصلح

(3)

من دلالة الرسوم على الملك؛ لأن المحيي إنما يملك القناة بالإحياء، فوجود الرسوم لا يدل على سبق ملكه، بخلاف الجار ونحوه ممن مُلْكه ثابت.

(وإنه) بكسر الهمزة على الاستئناف (لا يملك) رب أرض (تضييق مجرى قناة في أرضه خوفَ لِصٍّ؛ لأنه) أي: مجراها (لصاحبها) أي:

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (3/ 30): "الأراضي" وهو الصواب.

(2)

تقدم تخريجه (4/ 443) تعليق رقم (3).

(3)

(8/ 296 - 297).

ص: 469

القناة، فلا يتصرف غيره فيه بغير إذنه.

(وإن كان النهر كبيرًا، لا يحصُل فيه تزاحم، كالنيل والفُرات ودجلة، فلكلِّ أحد أن يسقي منه ما شاء، متى شاء، كيف شاء) لأنه لا ضرر في ذلك.

(فإن أراد إنسان إحياء أرض يسقيها منه) أي: من السيل (أو) بسقيها (من نهر غير مملوك تجري فيه مياه الأمطار، ولو كان أقرب إلى أول النهر، لم يُمنع) أي: لم يمنعه من له حق في هذا الماء من الإحياء؛ لأن حقه في الماء لا في الموات (ما لم يضرَّ بأهل الأرض الشاربة منه) فيملكون منعه دفعًا للضرر عنهم (ولا يسقي) من أحيا بعدهم (قبلَهم) لأن حقَّهم أسبق؛ ولأن من ملك أرضًا ملكها بحقوقها ومرافقها، فلا يملك غيره إبطال حقوقها، وسبقهم إياه بالسقي من حقوقها.

(ولو أحيا سابق في أسفَلِه) أي: النهر الصغير (ثم) أحيا (آخرُ فوقَه، ثم) أحيا (ثالثٌ فوقَ الثاني، سقى المحيي أولًا، ثم) سقى (الثاني، ثم) سقى (الثالث) لأن المعتبر السبقُ إلى الإحياء، لا إلى أول النهر.

(ولو كان الماء بنهر مملوك، كحفر نهرٍ صغير سِيق

(1)

الماء إليه من نهر كبير، فما حصل فيه من الماء مُلِك) للحيازة.

(فلو كان) النهر (لجماعة فـ) ــالماء (بينهم) على قَدْر ملكهم في النهر، وذلك معنى قوله:(على حسب العمل والنفقة) لأنه إنما ملك بالعمارة، والعمارة بالنفقة والعمل.

(فإن لم يكفِهم) الماء (وتراضوا على قسمته، جاز) لأن الحق لا يعدوهم (وإلا) أي: وإن لم يتراضوا على قسمته (قسمه الحاكم) بينهم

(1)

في متن الإقناع (3/ 31): "سبق".

ص: 470

(على قَدْر ملكهم) أي: قسم لكل واحد من الماء بقَدْر ما يملك من النهر (فتؤخذ خشبة أو حجر مستوي الطرفين والوسط، فتوضع على موضع مستوٍ من الأرض في مصدم الماء، فيه) أي: المذكور من الخشبة أو الحجر (حزوزٌ أو ثقوب متساوية في السعة على قَدْر حقوقهم، يخرج من كل حَزٍّ أو ثقب إلى ساقية مفردة لكل واحد منهم، فإذا حصل الماء في ساقيته، انفرد به) فيتصرف فيه بما أحب؛ لأنه انفرد بملكه.

(فإن كانت أملاكهم) مستوية فواضح، وإن كانت (مختلفة، قُسِم) الماء (على قَدْر ذلك) أي: أملاكهم (فإن كان لأحدهم نصفه، وللثاني ثلثه، وللثالث سدسه، جُعل فيه ستة ثقوب، لصاحب النصف ثلاثة) ثقوب (تصب في ساقيته، ولصاحب الثلث اثنان) يصبان في ساقيته (ولصاحب السدس واحد) يصب في ساقيته.

(فإذا

(1)

أراد أحدهم أن يجري ماءه في ساقية غيره ليقاسمه في موضع آخر، لم يجز) له ذلك (بغير رضاه) لأنه يتصرف في ساقيته ويخرب حافتيها، ويخلط حقه بحق غيره على وجه لا يتميز.

(وما حصل لأحدهم في ساقيته، تَصرَّف فيه بما أحب من عمل رحىً عليها) أي: الساقية (أو) عمل (دولاب، أو عبَّارة) بالعين المهملة والباء الموحدة (وهي خشبة تُمدُّ على طرفي النهر، أو) عمل (قنطرة يعبر الماء عليها، أو غير ذلك من التصرُّفات) لأنها ملكه لا حق لغيره فيها.

(وأما النهر المشترك) بين جماعة (فليس لأحدهم أن يتصرف فيه بذلك) أي: بما أحب (فليس له) أي: أحد الشركاء (فتح ساقية إلى جانبه) أي: النهر (قبل المقسِم) بكسر السين، أي: موضع القسم، وهو

(1)

في "ح" و"ذ" ومتن الإقناع (3/ 31): "فإن".

ص: 471

الحجر أو الخشبة التي بها الثقوب (يأخذ حقه منها، ولا أن ينصب على حافتي النهر رَحىً تدور بالماء، ولا غير ذلك) من نحو ما تقدم (لأن حريم النهر مشترك، فلم يملك التصرُّف فيه بغير إذنهم) كسائر الحقوق المشتركة.

"تتمة": نقل يعقوب

(1)

في من غُصب حقه من ماء مشترك؛ للبقية أخذ حقهم.

(وإذا اقتسموا ماء النهر المشترك بالمُهَايأة، وكان حق كل واحد منهم معلومًا، مثل أن يجعلوا لكلِّ حصة يومًا وليلة، أو لواحد من طلوع الشمس إلى الزوال، وللآخر) من الزوال (إلى الغروب، ونحو ذلك) جاز.

(أو اقتسموه بالساعات، وأمكن ضبط ذلك بشيء معلوم، جاز إذا تراضوا به) لأن الحق لا يتجاوزهم.

(وتقدم في الصلح

(2)

: لو احتاج النهر) المشترك (ونحوه إلى عمارة، أو كَرْي) أي: تنظيف، وأنه على الشركاء بحسب أملاكهم. ومن سد له ماء لجاهه، فلغيره السقي منه لحاجة؛ ما لم يكن تركه يرده على من سد عنه.

(ومن ترك دابة بمَهْلَكة، أو) بـ (ــفلاة لعجزه عن علفها، أو) تركها بهما (لانقطاعها) أي: عجزها عن المشي (ويأسه منها، ملكها مستنقذها نصًّا

(3)

) لما روى الشعبي مرفوعًا: "مَن وجد دابةً قد عجز عنها أهلُها،

(1)

انظر: الفروع (4/ 564).

(2)

(8/ 321 - 322).

(3)

الإرشاد إلى سبيل الرشاد ص/ 255، والرعاية الصغرى (1/ 434).

ص: 472

فسيَّبوها، فأخذها، فأحياها، فهي له" قال عبيد الله بن حميد بن عبد الرحمن: فقلت - يعني للشعبي -: من حدَّثك بهذا؟ قال: غير واحد من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ رواه أبو داود بإسناده، والدارقطني

(1)

؛ ولأن فيه إحياءً لها، وإنقاذًا من الهلاك، وصونًا للمال عن الضياع، وحفظًا لحرمة الحيوان.

(لا) إن أخذ (عبدًا أو متاعًا تركه) ربُّه (عجزًا) عنه، فلا يملكه بذلك، اقتصارًا على صورة النص؛ ولأن العبد يمكنه في العادة التخلُّص إلى الأماكن التي يعيش بها، والمتاع لا حُرمة له في نفسه، ولا يُخشى عليه التلف كما يُخشى

(2)

على الحيوان، فإن الحيوان يموت إذا لم يُطعم ويُسقى، وتأكله السباع، والمتاع يبقى.

(1)

أبو داود في البيوع، باب 77، حديث 3524، 3525، والدارقطني (3/ 68). وأخرجه - أيضًا - ابن أبي شيبة (12/ 533)، والبيهقي (6/ 198)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 234) حديث 1644، 1645، عن عبيد الله بن حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن الشعبي، به.

قال البيهقي: هذا حديث مختلف في رفعه، وهو عن النبي صلى الله عليه وسلم منقطع، وكل أحد أحق بماله حتى يجعله لغيره.

وتعقبه ابنُ التركماني فقال: إن مثل هذا ليس بمنقطع، بل هو موصول، وإن الصحابة كلهم عدول.

وقال الخطابي في معالم السنن (5/ 178): هذا الحديث مرسل.

وضعفه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (5/ 94)، وابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (3/ 109) لجهالة عبيد الله بن حميد. وحسنه الشيخ الألباني في الإرواء (6/ 16) وفصل فيه الكلام فارجع إليه.

وأخرجه عبد الرزاق (8/ 210) رقم 14921، وابن أبي شيبة (12/ 534)، والبيهقي (6/ 198)، عن الشعبي موقوفًا، بنحوه.

(2)

في "ح" و"ذ": "كالخشية".

ص: 473

(ولا ما أُلقي في البحر خوفًا من الغرق) فلا يملكه آخذه، قال الحارثيُّ: نص عليه

(1)

، وقيل: يملكه آخذه؛ قدَّمه في "الفائق" و"الرعايتين"، وصحَّحه في "النظم"، وقَطَع به في "التنقيح" و"المنتهى"، وتبعهم المصنف في اللقطة في ظاهر كلامه.

(أو انكسرت السفينةُ، وأخرجه) أي: المتاع الذي كان فيها (قوم) فلا يملكونه (فيرجع آخذه) أي: العبد على ربه (بنفقة واجبة، و) بـ (ــأجرة حمل متاع) وإنقاذ العبد، أو المتاع من البحر، وإن لم يأذن ربه، كما يأتي في الجعالة؛ لأن فيه حَثًّا وترغيبًا في إنقاذ الأموال من الهلكة.

(وللإمام أن يحمي) وفي نسخ: "أن يحيى" والأول الصواب، كما في "المقنع"، و"الفروع"، وغيرهما، ويدل عليه آخر كلامه (أرضَ مَوات لرعي دواب المسلمين التي يقوم بحفظها، من الصدقة والجِزية ودواب الغُزاة، و) رعي (ماشية الضعفاء عن البُعْد، للرعي وغير ذلك، ما لم يُضيِّق على المسلمين) لقول عمر رضي الله تعالى عنه: "المالُ مالُ الله، والعبادُ عبادُ الله. والله لولا ما أحمِلُ عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبرًا في شبرٍ" رواه أبو عبيد

(2)

.

قال مالك

(3)

: بلغني أنه كان يحمل على أربعين ألفًا من الظهر في

(1)

الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير (16/ 140).

(2)

في الأموال ص/377، رقم 742، عن عامر بن عبد الله بن الزبير - قال أبو عبيد: أحسبه - عن أبيه، به.

وأخرج البخاري في الجهاد والسير، باب 179، رقم 3059، عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له يدعى هُنَيًّا على الحمى، فقال: والذي نفسي بيده، لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله، ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا.

(3)

الموطأ (2/ 464)، والأموال لأبي عبيد ص/ 378.

ص: 474

سبيل الله. وروي - أيضًا - أن عثمان حَمى

(1)

، واشتهر ولم يُنْكَر، فكان كالإجماع (وليس ذلك) أي: الحِمى (لغيره) أي: الإمام؛ لقيام الإمام مقام المسلمين، فيما هو من مصالحهم دون غيره.

(وما حَمَاه النبي صلى الله عليه وسلم فليس لأحد) من الأئمة، أو غيرهم (نقضه ولا تغييره) لا (مع بقاء الحاجة إليه، و) لا مع (عدمها، ولا إحياؤه، فإن أحياه لم يملكه) لأن النص لا ينقض بالاجتهاد (وكان له صلى الله عليه وسلم فقط) دون غيره (أن يحمي لنفسه) لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا حِمى إلَّا لله ولرسولهِ" رواه أبو داود

(2)

، وذلك لأن صلاحه يعود إلى صلاح المسلمين، وماله كان يرده في المسلمين، ففارق الأئمة في ذلك، وساووه فيما كان صلاحه للمسلمين (ولم يفعل) أي: لم يحمِ صلى الله عليه وسلم لنفسه شيئًا، وإنما حمى للمسلمين، فروى ابن عمر قال:"حَمَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم النَّقيعَ لخيلِ المسلمين"

(1)

أخرجه إسحاق بن راهويه (2/ 332، 333) رقم 859، وابن أبي شيبة (15/ 215)، وأَحمد في فضائل الصحابة (1/ 470) رقم 765، والبزار (2/ 42) رقم 389، والطبري في تاريخه (4/ 354)، وابن حبان "الإحسان"(15/ 357) رقم 6919، والحاكم (2/ 339)، والبيهقي (6/ 147)، عن أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري في حديث طويل.

قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 228 - 229): رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح غير أبي سعيد مولى أبي أسيد، وهو ثقة.

وقال ابن حجر في المطالب العالية (4/ 263 - 286): رواه إسحاق في مسنده، ورجاله ثقات.

(2)

في الخراج والإمارة، باب 39، حديث 3083، عن الصعب بن جثامة رضي الله عنه. وأخرجه - أيضًا - البخاري في المساقاة، باب 11، حديث 2370، وفي الجهاد، باب 146، حديث 3012.

ص: 475

رواه أبو عبيد

(1)

، والنَّقيع بالنون: موضع ينتقع فيه الماء، فيكثر فيه الخصب.

(وما حماه غيره) أي: غير النبي صلى الله عليه وسلم (من الأئمة جاز له) أي: لذلك الحامي، نقضُه (و) جاز (لإمام غيره نقضه) لأن حمى الأئمة اجتهاد في حماه في تلك المدة دون غيرها (و) ينبني على ذلك أنه (يملكه محييه) لأن ملك الأرض بالإحياء منصوص عليه، والنص مقدَّم على الاجتهاد.

(1)

في الأموال ص/ 375، حديث 740. وأخرجه - أيضًا - أحمد (2/ 91، 155، 157)، وابن زنجويه (2/ 666) حديث 1105، وأبو الشيخ في طبقات المحدثين (3/ 78، 4/ 280)، والبيهقي (6/ 146)، من طريق عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، به. قال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 93)، وابن حجر في الفتح (5/ 45): وفي إسناده عبد الله العمري، وهو ضعيف.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 158): وفيه عبد الله العمري وهو ثقة، وقد ضعفه بعضهم.

قلنا: تابعه عاصم بن عمر بن حفص العمري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، به؛ أخرجه ابن حبان "الإحسان"(10/ 538) حديث 4683، والطبراني في الأوسط (8/ 51) حديث 7937، وعاصم ضعيف كما قاله ابن حجر في التقريب (3085)، لكن يصلح في المتابعة.

وللحديث شاهد عن الصعب بن جثامة رضي الله عنه: أخرجه أبو داود في الخراج والإمارة، باب 39، حديث 3084، وأحمد (4/ 71)، والطحاوي (3/ 269)، والحاكم (2/ 61).

قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

وقال الشافعي في الأم (3/ 270): حدثنا غير واحد من أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع.

وأخرج ابن سعد في الطبقات (5/ 11) عن عمرو بن عمير بن هُنَي عن أبيه عن جده أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لم يحم شيئًا من الأرض إلا النقيع، وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حماه. . . .

ص: 476

(وليس للأئمة أن يحموا لأنفسهم شيئًا) لما تقدَّم من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا حِمى إلا للهِ ولرسولهِ"

(1)

.

(ومن أخذ مما حَمَاه إمام، عُزِّرَ في ظاهر كلامهم) لافتياته على الإمام (وظاهره: ولا ضمان) على من أخذه مما حَمَاه

(2)

الإمام شيئًا؛ لأنه مباح، والمنع من حيث الافتيات فقط.

ولا يجوز لأحد أن يأخذ من أرباب الدواب عوضًا عن مرعى موات أو حِمىً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "شرَّكَ الناس فيه"

(3)

؛ قاله في "الأحكام السلطانية"

(4)

.

وإذا كان الحِمى لكافَّة الناس تساوى فيه جميعهم. فإن خص به المسلمين اشترك فيه غنيهم وفقيرهم، ومنع منه أهل الذمة، وإن خص به الفقراء منع منه الأغنياء وأهل الذمة، ولا يجوز أن يخص به الأغنياء، ولا أهل الذمة.

(1)

تقدم تخريجه (9/ 475) تعليق رقم (2).

(2)

في "ح" و"ذ": "أحياه" بدل "حماه".

(3)

يشير إلى حديث: "المسلمون شركاء في ثلاث. . ." وقد تقدم تخريجه (7/ 328) تعليق رقم (2).

(4)

ص/ 224.

ص: 477

‌باب الجعالة

- بتثليث الجيم - رُوي عن ابن مالك

(1)

. مشتقة من الجُعْل، بمعنى التسمية؛ لأن الجاعل يُسمِّي الجعل لمن يعمل له العمل، أو من الجَعْل بمعنى الإيجاب، يقال: جعلت له كذا، أي: أوجبت. ويُسمَّى ما يُعطاه الإنسان على أمر يفعله: جُعلًا، وجعالة، وجَعِيلة؛ قاله ابن فارس

(2)

.

والأصل في مشروعيتها قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ}

(3)

، وحديث اللديغ

(4)

.

(وهي جَعلُ شيءٍ) من المال (معلومٍ، كأجرة) بالرؤية أو الوصف، و (لا) يُشترط أن يكون معلومًا، إن كان (من مال حربي، فيصح) أن يجعل الإمام من مال حربي (مجهولًا) كثلث مال فلان الحربي، ونحوه لمن يدلُّ على قلعة ونحوها، وتقدم في الجهاد

(5)

. وقوله (لمن يعمل له عملًا مباحًا) متعلِّق بـ "جَعْل"(ولو) كان العمل المباح (مجهولًا

(6)

) كخياطة

(1)

إكمال الإعلام بتثليث الكلام (1/ 15).

(2)

مجمل اللغة (1/ 191).

(3)

سورة يوسف، الآية:72.

(4)

وهو ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي

الحديث، وفيه: فقال بعضهم - أي بعض الصحابة -: فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلًا. وقد تقدم تخريجه (4/ 30) تعليق رقم (1).

(5)

(7/ 99 - 100).

(6)

في حاشية نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (2/ 417) ما نصه: "أي: يؤول =

ص: 478

ثوب لم يصفها، وردِّ لُقطة لم يُعيَّن موضعها؛ لأن الجعالة جائزة، لكل منهما فَسْخها، فلا يؤدي إلى أن يلزمه مجهولًا، بخلاف إجارة.

(و) يصح - أيضًا - أن يجاعل (على) أن يعمل له (مدة، ولو مجهولة) كـ: من حَرَس زرعي فله كل يوم كذا.

(سواء جعله لمعيَّن، بأن يقول من تصح إجارته) وهو جائز التصرف، لزيد مثلًا (إن رددت لُقَطتي، فلك كذا، فـ) ــيستحقه إن ردَّها، و (لا يستحقه من ردها سواه) أي: سوى المخاطب بذلك؛ لأن ربَّها لم يُجاعله على ردِّها. وإن كانت بيد إنسان، فجعل له مالكها جُعْلًا ليردها، لم يُبح له أخذه؛ ذكره في "المبدع".

(أو) جعله لـ (ــصغير معيَّن بأن يقول: من ردَّ لُقَطتي، أو وجدها) فله كذا (أو) من (بنى لي هذا الحائط، أو) من (ردَّ عبدي) الآبق (فله كذا، فيصح العقد) مع كونه تعليقًا؛ لأنه في معنى المعاوضة، لا تعليقًا محضًا.

(ويستحق) العامل (لجُعْل بالرد) أي: بعمل ما جُوعِل عليه، كرد اللُّقَطة أو العبد، وبناء الحائط ونحوه (ولو كان) المُسمَّى في ردِّ الآبق (أكثر من دينار، أو) أكثر من (اثني عشر درهمًا) فضة؛ لأنه قد استقرَّ على الجَاعل بالعمل (وإن لم يكن) المُسمَّى (أكثر) من دينار، أو اثني عشر درهمًا (فله) أي: العامل (في) ردِّ (العبد) الآبق (ما قَدَّره الشارع) دينارًا، أو اثني عشر درهمًا، وتلغى التسمية؛ قطع به الحارثي، وصاحب "المبدع"؛ لأن من أوجب عليه الشارع شيئًا مقدَّرًا من المال عند وجود

= إلى العلم، وأما المجهول مطلقًا فلا تصح؛ كما يأتي في من قال: مَن داوَى لي هذا حتى يبرأ من جرحه أو مرضه أو رَمَده؛ لم يصح، فَلْيُحفظْ. ا. هـ. من خط ابن العماد".

ص: 479

سببه، استقر عليه كاملًا بوجود سببه، كأداء ربع مال الكتابة للمكاتَب عند أدائه مال كتابته، وقدم في "الفروع": أنه لا يستحق إلا المُسمَّى. قال في "التنقيح" و"شرح المنتهى": وهو ظاهر كلام غيره. وأطلق الوجهين في "المنتهى".

(فمن فعله) أي: العمل المُسمَّى عليه الجُعْل (بعد أن بلغه الجعل، استحقه كدَيْن) أي: كسائر الديون عن المجاعل؛ لأن العقد استقرَّ بتمام العمل، فاستحق ما جُعل له، كالربح في المضاربة.

(و) من بلغه الجُعْل (في أثنائه) أي: أثناء العمل الذي سُمي الجُعْل لمن عمله (يستحق) من الجُعل (حِصَّة تمامه) أي: العمل إن أتمَّه بنية الجُعل؛ لأن عمله فبل بلوغ الجُعل وقع غير مأذون فيه، فلم يستحق عنه عوضًا؛ لأنه بذلَ منافعَه متبرِّعًا بها، ويأتي:"من فَعَله قبل أن يبلغه الجُعل".

(والجماعة) إن فعلت المُجَاعَل عليه (تقتسمه) أي: الجُعْل؛ لأنهم اشتركوا في العمل الذي به استحق الجُعل، بخلاف ما لو قال: من دخل هذا الثقب، فله دينار، فدخله جماعة، استحق كل واحد منهم دينارًا؛ لأنه دخل دخولًا كاملًا، بخلاف ردِّ اللُّقَطة ونحوه، فإنه لم يردها واحد منهم ردًّا كاملًا. ومن نحو ذلك لو قال: من نَقَبَ السورَ، فله دينار. فنقبه ثلاثة نقبًا واحدًا، اشتركوا في الدينار، وإن نَقَب كل واحد نقبًا، استحق كل واحد دينارًا.

(وإذا ردَّ) العامل اللُّقَطة، أو العبد، ونحوهما (لم يكن له الحبس) أي: حبس المردود (على الجُعْل) فإن حبسه عليه وتلف، ضَمِنه (وإن تلف الجُعْل) بيد المجاعِل (كان له) أي: العامل (مثله إن كان مِثْليًا،

ص: 480

وإلا) بأن لم يكن مِثْليًا (فقيمتُه) إذا ردّ.

(فإن فاوت بينهم) أي: بين الجماعة العاملين (فجعل لواحد) على رَدّه (دينارًا، و) جعل (لآخر) دينارين (اثنين، و) جعل (لآخر ثلاثة) دنانير (جاز) على ما تراضوا عليه.

(فإن) ردّه واحد استحق جعله، وإن (ردَّه الثلاثة، فلكل واحد ثلث جعله) وإن ردَّه اثنان منهم؛ فلكلٍّ منهما نصف جعله، وإن جعل لأحدهم دينارًا، وللآخرَين عوضًا مجهولًا فردوه، فلصاحب الدينار ثلثه، وللآخرَين أجرة عملهما.

(وإن جعل) ربُّ العبد الآبق - مثلًا - (لواحد معيَّن) كزيد (شيئًا في ردِّه، فردَّه) زيد (هو وآخران معه، وقالا: رددناه معاونة له) أي: لزيد - مثلًا - (استحق) زيد (جميع الجُعْل، ولا شيء لهما) لأنهما تبرَّعا بعملهما.

(وإن قالا: رددناه لنأخد العوض لأنفسنا، فلا شيء لهما) لأنهما عملا من غير جُعْل (وله) أي: زيد (ثلث الجُعْل) لأنه عمل ثلث العمل.

(وإن نادى غيرُ صاحب الضالة، فقال: من رَدَّها فله دينار، فردَّها رجلٌ) أو امرأة (فالدينار على المنادي؛ لأنه ضَمِن) أي: التزم (العوض) ولا شيء على ربِّها؛ لأنه لم يلتزمه.

(وإن قال) المنادي - غيرُ ربِّ الضالة - (في النداء: قال فلان: من ردَّ ضالتي، فله دينار) ولم يكن ربها قال ذلك (فردَّها رجل، لم يضمن المنادي) لأنه لم يلتزم العوض، والرَّادُّ مقصِّر بعدم الاحتياط.

(وإن ردَّه) أي: العبد ونحوه (من دون المسافة المعينة، كأن قال) ربُّ آبق (من ردَّ عبدي من بلد كذا، فله كذا، فردَّه) إنسان (من بعض

ص: 481

طريقه) أي: طريق البلد المُسمَّى (فـ) ــإنه يستحق (بالقسط) من الجُعْل المُسمَّى، فإن كان المحل الذي رَدَّه منه نصف المسافة، استحق نصف المُسمَّى، وإن كان أقل، أو أكثر، فبحسابه.

(و) إن ردَّه (من) موضع (أبعد منها) أي: من البلدة المسماة (له المُسمَّى فقط) لأنه لم يجعل للزائد على المسافة عوضًا، فلم يستحق الراد في مقابلته شيئًا.

(وإن رده) العامل (من غير البلد المُسمَّى) ومن غير طريقه (فلا شيء له) لأن ربه لم يجعل على رَدِّه من غير البلد الذي عَيَّنه عوضًا، فالرادُّ من غيره متبرِّع بعمله (كما لو جعل) ربُّ آبقين (له في رَدِّ أحد عبديه) كسالم، شيئًا (معينًا، فَرَدَّ) العبدَ (الآخر) فلا يستحق المعين. قلت: بل ما قَدَّره الشارع، وكذا التي قبلها.

(وإن قال) ربُّ آبقين (من ردَّ عبْدَيَّ فله كذا، فردَّ أحدهما، فله نصف الجعالة) لأنه ردَّ نصفهما، ويأتي: لو هرب قبل تسليمه لم يستحق شيئًا.

(ومن فعله) أي: العمل المجاعَل عليه (قبل أن يبلغه الجُعْل، لم يستحقه) أي: الجعل، ولا شيئًا منه؛ لأنه متبرِّع بعمله (وحرم) عليه (أخذه) أي: الجعل؛ لأنه مِن أكْلِ المال بالباطل (وسواء ردَّه) أي: سلَّم المردود ونحوه (قبل بلوغ الجعل، أو بعده) إذ الجعل في مقابلة العمل لا التسليم.

(و‌

‌يصح الجمع بين تقدير المدة والعمل)

كأن يقول: من خاط لي هذا الثوب في يومٍ، فله كذا، فإن أتى به فيها استحق الجعل، ولم يلزمه شيء آخر، وإن لم يَفِ به فيها، فلا يستحق شيئًا؛ قاله في "الشرح".

ص: 482

بخلاف الإجارة، فالجعالة وإن كانت نوعَ إجارة، لكن تخالفها في أشياء، منها هذه المسألة، ومنها أن الفاعل لم يلتزم الفعل، وأن العقد قد يقع لا مع معين، كـ: من فعل كذا فله كذا.

(وكل ما جاز أن يكون عوضًا في الإجارة، جاز أن يكون عوضًا في الجعالة) فيصح أن يجعل لعامل نفقته وكسوته، كاستئجاره بذلك مفردًا، أو مع دراهم مُسمَّاة، وتزيد الجعالة بجعل مجهول من مال حربي، وتقدم

(1)

.

(وكل ما جاز أخذ العوض عليه في الإجارة من الأعمال، جاز أخذه) أي: العوض (عليه في الجعالة، وما لا يجوز أخذ العوض عليه في الإجارة، كالغناء، والزَّمْر، وسائر المحرمات، لا يجوز أخذ الجُعْل عليه) لقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}

(2)

.

(وما يختص أن يكون فاعله من أهل القُربة) بأن اشترط إسلام فاعله (مما لا يتعدى نفعه فاعلَه، كالصلاة، والصيام، لا يجوز أخذ الجعل عليه) كما تقدم في الإجارة

(3)

.

(فأما ما يتعدَّى نفعه، كالأذان ونحوه) كتعليم فقه، وقرآن، وقضاء، وإفتاء، على تفصيل يأتي في القضاء، ورقية (فيجوز) لحديث أبي سعيد

(4)

(وتقدم في الإجارة) مفصلًا

(5)

.

(وإن جَعَل) لمن عمل له عملًا (عوضًا مجهولًا، كقوله: من ردَّ

(1)

(9/ 478).

(2)

سورة المائدة، الآية:2.

(3)

(9/ 90).

(4)

تقدم تخريجه (4/ 30) تعليق رقم (1).

(5)

(9/ 93).

ص: 483

عبدي الآبق فله نصفه، أو: من ردَّ ضالتي فله ثلثها، أو: فله ثوب، ونحوه) من المجهولات (أو) جعل له عوضًا (محرَّمًا، كالخمر، فله في ذلك كله أُجرة المِثْل) لأنه عمل بعوض لم يُسلَّم له.

(وإن قال: من داوى لي هذا) الجريح (حتى يبرأ من جرحه، أو) داوى هذا المريض حتى يبرأ من (مرضه، أو) داوى هذا الأرمد حتى يبرأ من (رَمَده، فله كذا، لم يصح) العقد فيها مطلقًا؛ صححه في "الإنصاف" وغيره.

(وهي) أي: الجَعَالة (عقد جائز) من الطرفين. قال في "الشرح": لا نعلم في ذلك خلافًا (لكل واحد منهما) أي: من الجاعل، والمجعول له المعين (فَسْخها) متى شاء، كسائر العقود الجائزة (فإن فَسَخها العامل) ولو بعد شروعه في العمل (لم يستحق) لما عمله (شيئًا) لأنه فوَّت على نفسه، حيث لم يأتِ بما شُرط عليه، كعامل المساقاة.

(وإن فَسَخها الجاعل) قبل شروع العامل، لم يلزمه شيء، و (بعد الشروع فعليه للعامل أجرة) مِثْلِ (عَمَله) لأنه عمل بعوض ولم يُسلَّم له، فكان له أجرة عمله، وما عمله بعد الفسخ لا أُجرة له عليه؛ لأنه عمل غير مأذون فيه.

وإن زاد الجاعل، أو نقص من الجعل قبل الشروع في العمل، جاز، وعمل به؛ لأنها عقد جائز، فجاز فيه ذلك، كالمضاربة.

(وإن اختلفا في أصل الجُعْل) أي: التسمية، بأن أنكرها أحدهما (فقول من ينفيه) لأن الأصل عدمه.

(و) إن اختلفا (في قَدْره) أي: الجعل (أو) اختلفا في قَدْر (المسافة) بأن قال الجاعل: جعلت ذلك لمن ردَّه من عشرة أميال. فقال

ص: 484

العامل: بل من ستة أميال مثلًا (فقول جاعل) لأنه منكِرٌ لما يدَّعيه العامل، زيادة عما يعترف به، والأصل براءته منه، وكذا لو اختلفا في عين العبد الذي جعل العوض في رَدِّه.

(ومن عمل لغيره عملًا بغير جُعْل، فلا شيء له) لأنه بذل منفعته من غير عوض، فلم يستحقه؛ ولئلا يلزم الإنسان ما لم يلتزمه، ولم تطب نفسه به (إن لم يكن) العامل (مُعَدًّا لأخذ الأجرة، فإن كان) معدًّا لذلك (كالملَّاح، والمُكاري، والحَجَّام، والقصَّار، والخيَّاط، والدلَّال، ونحوهم) كالنقَّاد، والكيَّال، والوزَّان، وشبههم (ممن يرصد نفسه للتكسُّب بالعمل، وأذن له) المعمول له في العمل (فله أُجرة المِثْلِ) لدلالة العُرف على ذلك (- وتقدَّم معناه في الإجارة

(1)

- إلا في تخليص متاع غيره من بحر، أو فَمِ سَبُعٍ، أو فلاة، ولو) كان المخلِّص (عبدًا، فله) أي: العامل (أجرة مثله) وإن لم يأذن له ربه؛ لأنه يخشى هلاكه وتلفه على مالكه، بخلاف اللقطة.

وكذا لو انكسرت السفينة، فخلَّص قوم الأموال من البحر، فتجب لهم الأجرة على الملَّاك؛ لأن فيه حثًّا وترغيبًا في إنقاذ الأموال من الهلكة، فإن الغوَّاص إذا علم أن له الأجرة، غرَّر بنفسه، وبادر إلى التخليص، بخلاف ما إذا علم أنه لا شيء له.

(وإلا في ردِّ آبق من قِنٍّ، ومُدبَّر، وأمِّ ولد، إن

(2)

كان) الرَّادُّ (غير الإمام، فله ما قدَّره الشارع: دينارٌ، أو اثنا عشر درهمًا) رُوي عن عمر

(3)

(1)

(9/ 25).

(2)

في متن الإقناع (3/ 38): "وإن".

(3)

أخرج ابن أبي شيبة (6/ 541)، وأحمد - كما في المحلى (8/ 208) -، من طريق الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أن عمر جعل في =

ص: 485

وعلي

(1)

وابن مسعود

(2)

.

وروى ابن أبي مليكة، وعمرو بن دينار - مرسلًا - أن النبي صلى الله عليه وسلم "جَعل في ردِّ الآبقِ إذا جاء به خارجًا مِن الحرمِ دينارًا"

(3)

، والمعنى فيه: الحث على حفظه على سيده، وصيانة العبد عما يخاف من لحاقه بدار الحرب، والسعي في الأرض بالفساد. ونقل ابن منصور"

(4)

: سُئل أحمد عن جُعْل الآبق؟ فقال: لا أدري، قد تكلَّم الناس فيه، لم يكن عندي فيه حديث صحيح.

وعلى الأول: فإن ردَّه الإمام، فلا شيء له في رده نصًّا

(5)

؛

= الآبق دينارًا، أو اثني عشر درهمًا. وأعلَّه ابن حزم بالانقطاع.

(1)

أخرج ابن أبي شيبة (6/ 541)، وأحمد - كما في المحلى (8/ 208) -، والبيهقي (6/ 200)، من طريق الحجاج، عن حصين، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه قال في جعل الآبق: دينار أو اثنا عشر درهمًا، قريبًا أخذ أو بعيدًا.

قال البيهقي: الحجاج بن أرطاة لا يحتج به.

(2)

أخرج محمد بن الحسن الشيباني في الحجة (2/ 735)، وفي الآثار ص/ 196، وعبد الرزاق (8/ 208) رقم 14911، وابن أبي شيبة (6/ 541)، وابن حزم في المحلى (8/ 208)، والبيهقي (6/ 200)، عن أبي عمرو الشيباني، عن ابن مسعود رضي الله عنه سئل عن جُعْل الآبق؟ فقال: إذا كان خارجًا من الكوفة فأربعين، وإذا كان بالكوفة فعشرة.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 540) عن ابن أبي مليكة وعمرو بن دينار، وأخرجه محمد بن الحسن الشيباني في الحجة (2/ 735) عن ابن أبي مليكة، وأخرجه عبد الرزاق (8/ 208) رقم 14907، عن عمرو بن دينار.

وأخرج البيهقي (6/ 200) من طريق معمر، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمرو قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد الآبق يوجد في الحرم بعشرة دراهم.

قال البيهقي: هذا ضعيف، والمحفوظ حديث ابن جريج، عن ابن أبي مليكة وعمرو بن دينار قالا:"جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. . ." وذلك منقطع.

(4)

مسائل الكوسج (6/ 2612) رقم 1828.

(5)

مسائل حرب كما في القواعد الفقهية ص/ 142، القاعدة الرابعة والسبعون، =

ص: 486

لانتصابه للمصالح، وله حق في بيت المال على ذلك (سواء ردَّه) أي: الآبق (من داخل المِصر أو خارجه، قَرُبت المسافة أو بَعُدت، وسواء كان) الآبق (يساوي المقدار) الذي قدَّره الشارع (أو لا، وسواء كان) الرَّادُّ (زوجًا للرقيق) الآبق (أو ذا رحمٍ في عيال المالك، أو لا) لعموم ما سبق.

"تنبيه": يقال: أبق العبد: إذا هرب من سيده، بفتح الباء، يأبِقُ، بكسرها وضمها، فهو آبق.

وقال الثعالبي في "سر اللغة"

(1)

: لا يقال للعبد آبق إلا إذا كان ذهابه من غير خوف، ولا كدٍّ في العمل، وإلا فهو هارب.

(وإن مات السيد قبل وصول المُدبَّر، وأمِّ الولد) إليه (عَتَقا) إن خرج المُدبَّر من الثلث (ولا شيء له) أي: لرادهما، في نظير الرد؛ لأن العمل لم يتمَّ؛ لأن العتيق لا يُسمَّى آبقًا.

(ويأخذ) رادُّ الآبق (منه) أي: من سيده، أو تركته (ما أنفق عليه، و) ما أنفق (على دابة) يجوز التقاطها (في قوتٍ وعلف، ولو لم يستأذن) المنفقُ (المالك) في الإنفاق (مع القُدْرة عليه) أي: على الاستئذان؛ لأن الإنفاق مأذون فيه شرعًا؛ لحُرمة النفس، وحثًّا على صون ذلك على ربِّه، بخلاف الوديعة ونحوها (حتى ولو هرب) المنفَق عليه (منه) أي: من واجده (في طريقه، أو مات، فله الرجوع عليه بما أنفق عليه قبل هربه) أو موته؛ لأن النفقة عليه مأذون فيها شرعًا، أشبه ما لو أنفق بإذن مالكه. قال في "الفروع": ويرجع بنفقته، ولو لم يستحق جُعلًا، كردِّه من غير

= والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير (6/ 396).

(1)

فقه اللغة وسر العربية ص/ 51.

ص: 487

بلد سَمَّاه، أو هربه منه، نص عليه

(1)

، وإنما يرجع بما أنفق (ما لم ينوِ التبرُّع) فلا نفقةَ له، وكذا لو نوى بالعمل التبرُّع، لا أجرة له، ومقتضاه: لا تُعتبر نية الرُّجوع، بخلاف الوديعة ونحوها.

(لكن لا جُعل له إذا هرب) الآبق منه (قبل تسليمه) لسيده (أو مات) الآبق قبل تسليمه؛ لأنه لم يتمَّ العمل.

(ولو أراد) واجد الآبق (استخدامه بدل النفقة، لم يجز) ذلك (كالعبد المرهون) وأولى.

(ومن أخذ الآبق، أو) أخذ (غيره) من المال الضائع، ليوده لربِّه (فهو أمانة في يده، إن تلف) قبل التمكُّن من رَدِّه (بغير تفريط) ولا تعدٍّ (فلا ضمان عليه) فيه؛ لأنه محسن بأخذه.

(وإن وجد) رادُّ الآبق (صاحبه، دفعه إليه إذا اعترف العبد أنه سيده، أن كان كبيرًا) لأنه إذا استحق أخذه بوصفه إياه، فبتصديقه على أنه مالكه أولى، وأما الصغير فقوله غير مُعتبر (أو أقام) صاحبه (بينة) أنه له، فيدفعه إليه.

(فإن لم يجد) واجد الآبق (سيدَه، دفعه إلى الإمام، أو) إلى (نائبه، فيحفظه لصاحبه) إلى أن يجده (أو يبيعه) الإمام أو نائبه (إن رأى المصلحة فيه) أي: في بيعه، ويحفظ ثمنه لربه؛ لانتصابه لذلك.

(فإن باعه الإمام، أو نائبه لمصلحة رآها، فجاء سيده، فاعترف أنه كان أعتقه) قبل بيع الإمام أو نائبه (قُبِلَ قوله، وبطل البيع) لأنه لا يجرُّ به إلى نفسه نفعًا، ولا يدفع عنها ضررًا، ولم يصدر منه ما ينافيه.

(وليس لواجده) أي: العبد (بيعه، ولا تملكه بعد تعريفه) لأن العبد

(1)

مسائل عبد الله (3/ 987) رقم 1345.

ص: 488

يتحفَّظ بنفسه (فهو كضوالِّ الإبل) لكن جاز التقاطه؛ لأنه لا يؤمن لحاقه بدار الحرب، وارتداده، واشتغاله بالفساد.

(ومتى كان العمل في مال الغير إنقاذًا له من التلف المشرِف عليه، كان جائزًا) بغير إذن مالكه؛ لأنه إحسان إليه (كذبح الحيوان المأكول، إذا خيف موته، ولا يَضمن ما نقص بموته) أي: ذبحه؛ لأنه محسِن به.

(ولو وقع الحريق بدار ونحوها، فَهَدمها غيرُ صاحبها بغير إذنه على النار؛ لئلا تسري) النار (أو هدم قريبًا منها، إذا لم يقدر على الوصول إليها، وخيف تعديها وعُتوّها، لم يضمن؛ ذكره) ابن القيم (في "الطرق الحكمية"

(1)

، ثم قال: ولو رأى السبلَ يقصد الدار المؤجَّرة، فبادر وهدم الحائط ليخرج السيل ولا يهدم الدار، كان محسِنًا، ولا يضمن. انتهى) وكذا في "إعلام الموقعين"

(2)

.

(وإن وجد فرسًا لرجل مع المسلمين مع أناسٍ من العرب - أي: من البدو - فأخذ الفرسَ منهم، ثم إن الفرس مرض، بحيث لم يقدر على المشي، جاز للآخذ بيعه، بل يجب عليه في هذه الحالة أن يبيعه لصاحبه، وإن لم يكن وكَّله

(3)

في البيع. وقد نص الأئمة على هذه المسألة ونظائرها، ويحفظ الثمن) لربِّه (قاله الشيخ. وهي) أي: هذه المسألة (في) الجزء (الخامس من "الفتاوى المصرية")

(4)

.

(1)

ص/ 36.

(2)

(2/ 393).

(3)

في "ح": "وكيله".

(4)

الفتاوى الكبرى (4/ 37)، ومختصر الفتاوى المصرية ص/ 416، ومجموع الفتاوى (30/ 411).

ص: 489

‌باب اللقطة

قال في "القاموس"

(1)

: اللُّقَطة محركة، وكحُزْمة، وهُمَزة، وثُمَامة: ما التُقِط. انتهى. وقوله: محركة، أي: مفتوحة اللام والقاف.

حكي عن الخليل

(2)

: اللُّقَطة، بضم اللام وفتح القاف: الكثير الالتقاط.

وحكى عنه في "الشرح"

(3)

: أنها اسم للملتقِط؛ لأن ما جاء على فُعَلَة فهو اسم الفاعل، كالضُّحَكَة، والهُمَزَة، واللُّمَزَة.

(وهي اسم لما يُلتقط، من مال) ضائع (أو مختصّ ضائع) كالساقط من رَبِّه بغير علمه (وما في معناه) أي: معنى الضائع، كالمتروك قصدًا لأمر يقتضيه (لغير حربي) فإن كانت لحربي ملكها واجدها، كالحربي إذا ضَلَّ الطريق، فوجده إنسان فأخذه، مَلَكه، وتقدم

(4)

(يلتقطه غيرُ رَبِّه) فإن التقطه رَبُّه، لم يسمَّ لُقطة عُرفًا.

والأصل في اللُّقطة: ما روى زيد بن خالد الجهني، قال: "سُئلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن لُقَطَةِ الذّهب والوَرِقِ، فقال: اعْرِفْ وكاءَها وعِفاصها، ثمَّ عَرِّفها سنةً، فإنْ لم تعرف، فاستنفِقها، ولتكن وديعةً عندك، فإنْ جاء طالبها يومًا مِنَ الدهرِ فادفَعْها إليه. وسأله عن ضالةِ الإبل، فقال: ما لَكَ

(1)

القاموس المحيط ص/ 686، مادة (لقط) وفيه: اللقط محركة. . . إلخ.

(2)

المطلع على أبواب المقنع ص/ 282.

(3)

الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف (16/ 185) وفيه: كالصُّحَلة والصُّرعة واللُّقطة بسكون القاف المال الملقوط مثل الضُّحْكة والهُزْأة، وانظر: العين (5/ 100)، باب القاف والطاء واللام معهما.

(4)

(7/ 203).

ص: 490

ولها؟ معها سِقاؤُها وحِذَاؤها، تَرِدُ الماءَ، وتأكلُ الشجر، حتى يجدهَا ربُّها. وسألهُ عن الشَّاةِ؟ فقال: خُذْها، فإنما هي لكَ، أو لأخيكَ، أو للذئب" متفق عليه

(1)

.

وأركانها ثلاثة: ملتقط، وملقوط، والتقاط.

(و‌

‌ينقسم) المال الضائع ونحوه (ثلاثة أقسام:

أحدها: ما لا تتبعه هِمَّة أوساط الناس) قال في "القاموس"

(2)

: الهِمَّة، بالكسر وتفتح: ما هُمَّ به من أمر ليُفْعَل (كالسوط) ما يُضرب به، وفي "شرح المهذب"

(3)

: هو فوق القضيب ودون العصا، وفي المختار: هو سوط لا ثمرة له (والشِّسْع) أحد سيور النعل الذي يدخل بين الإصبعين (والرغيف والكِسْرة، والتمرة، والعصا ونحو ذلك) كالخِرقة، والحبل، وما لا خطر له.

قال في "المبدع": والمعروف في المذهب تقييده بما لا تتبعه هِمَّة أوساط الناس، ولو كثر.

(1)

البخاري في العلم، باب 28، حديث 91، وفي الشرب والمساقاة، باب 12، حديث 2372، وفي اللقطة، باب 2، 9، 11، حديث 2427، 2428، 2436، 3438، وفي الطلاق، باب 23، حديث 5292، وفي الأدب، باب 75، حديث 6112، ومسلم في اللقطة، حديث 1722.

(2)

القاموس المحيط ص/ 1512، مادة (همَّ).

(3)

كذا في الأصول وشرح منتهى الإرادات (6/ 169)، وهو تصحيف! وصوابه:"شرح المذهب" كما في المبدع (9/ 47) وهو لأبي يعلى الصغير، انظر: معجم مصنفات الحنابلة (2/ 230) والنقل عنه كثير في كتب الحنابلة. ونص العبارة في المبدع: "وقال في شرح المذهب: للحنفية السوط فرق القضيب ودون العصا، وفي المختار لهم: بسوط لا ثمرة له". أي نقل القاضي أبو يعلى الصغير هذا القول عن الحنفية، ونصَّ على القول المختار عندهم. وانظر: المبسوط (9/ 64).

ص: 491

ونص في رواية أبي بكر بن صدقة

(1)

: أنه يعرِّف الدرهم.

وقال ابن عقيل: لا يجب تعريف الدَّانِق، وحمله في "التلخيص" على دَانِق الذهب؛ نظرًا لعُرف العراق.

(وما قيمته كقيمة ذلك، فيملك بأخذه، وينتفع به آخذه بلا تعريف) لحديث جابر: "رخَّصَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في العصا والسَّوْطِ والحبلِ، يلتقِطُهُ الرجلُ، يَنتفعُ به" رواه أبو داود

(2)

(والأفضل أن يتصدق به) ذكره في "التبصرة".

(ولا يلزمه) أي: الملتقط (دفع بدله، إن وَجَد رَبَّه) لأن لاقطه ملكه بأخذه (ولعل المراد: إذا تلف) قال في "الشرح": إذا التقطه إنسان، وانتفع به وتلف، فلا ضمان.

(فأما إن كان) ما التقطه مما لا تتبعه الهِمَّة (موجودًا، ووَجَد) ملتقطُهُ (ربَّه، فيلزمه دفعه إليه) ويؤيده: تعبيرهم بالبدل، إذ لا يُعدل إليه إلا عند تلف المبدَل. ولهذا قال الموضح: ظاهر كلامهم: يلزم دفع عينه.

(1)

الجامع الصغير لأبي يعلى ص/ 208، والمبدع (5/ 274)، والإنصاف (6/ 400)، وانظر: مسائل الكوسج (6/ 2715 - 2717) رقم 1929 - 1932.

(2)

في اللقطة، باب 1، حديث 1717. وأخرجه - أيضًا - الطبراني في الأوسط (10/ 122) حديث 9258، وابن عدي (6/ 2353)، والبيهقي (6/ 195)، من طريق المغيرة بن زياد، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، مرفوعًا.

قال أبو داود: ورواه شبابة، عن مغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كانوا، لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال البيهقي: في رفع هذا الحديث شك، وفي إسناده ضعف.

وقال المنذري في مختصر السنن (2/ 272): وفي إسناده المغيرة بن زياد، وقد تكلم فيه غير واحد.

وقال ابن حجر في فتح الباري (5/ 85): في إسناده ضعف، واختلف في رفعه ووقفه.

ص: 492

(وكذا لو لقي كنَّاسٌ، ومن في معناه) كالمُقَلِّش

(1)

(قِطَعًا صغارًا مفرَّقة) من الفضة، فإنه يملكها بأخذها، ولا يلزمه تعريفها، ولا بدلها إن وَجَد رَبَّها (ولو كَثُرت) بضم بعضها إلى بعض؛ لأن تفرقها يدل على تغاير أربابها.

(ومن ترك دابة بمهلكة أو فلاة، تَرْك إياس، لانقطاعها) أي: عجزها عن المشي (أو) تَرَكها لـ (ــعجزه عن عَلفها، ملكها آخذها) لحديث الشعبي، وتقدم

(2)

، بخلاف عبد ومتاع (إلا أن يكون تَرَكَها ليرجع إليها، أو ضلَّت منه) فلا يملكها آخذها (وتقدم

(3)

آخر إحياء الموات) موضحًا.

(وكذا ما أُلقِيَ خوف الغرق) في البحر، فيملكه آخذه؛ لأن مالكه ألقاه باختياره - فأشبه المنبوذ - رغبة عنه، كما في "التنقيح" و"المنتهى" وغيرهما، فهو مخالف لما قَدَّمه في إحياء الموات، ويحتمل أن المراد التشبيه في تقدم حكمه، أو أنه مشبَّه بالمُستثنى، فلا مخالفة، وتقدم

(4)

توضيح ذلك في إحياء الموات وبيان الخلاف فيه.

القسم (الثاني: الضَّوالُّ التي تمتنع من صغار السباع، مثل ثعلب، وذئب، وابن آوى، وولد الأسد

(5)

) والضَّوال جمع ضالَّة، وهي اسم للحيوان خاصة، ويقال لها: الهوامي، والهوافي، والهوامل، وامتناعها:

(1)

المُقلِّش: هو الذي ينخل التراب في الأزقة؛ لطلب ما سقط من الناس، ويُسمَّى المصوّل والمقلِّش، وكله غير عربي في هذا المعنى. المصباح المنير ص/ 597، مادة (نخل).

(2)

(9/ 473) تعليق رقم (1).

(3)

(9/ 472 - 473).

(4)

(9/ 474).

(5)

زاد في متن الإقناع (3/ 41): "ونحوها".

ص: 493

إما لكبر جثتها (كإبل، وخيل، وبقر، وبغال، و) إما لطيرانها كـ (ــطيور تمتنع بطيرانها، و) إما بسرعة عدوها كـ (ــظباء، و) إما بنابها، كـ (ــفهود مُعلَّمة) أو قابلة للتعليم، وإلا؛ فليست مالًا، كما يُعلم مما تقدم في البيع

(1)

(وكـ) ــإبل (حُمُر) أهلية (وخالف الموفق فيها) فقال: الأولى إلحاقها بالشاة؛ لمساواتها لها في العلة.

(فهذا القسم غير الآبق يحرم التقاطه) لما تقدم في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن ضالة الإبل: "ما لكَ ولها؟ دَعْها، فإنَّ معها حِذاءَها وسِقاءَها، تَرِدُ الماءَ وتأكُلُ الشجرَ، حتى يَجِدَها ربُّها"

(2)

. وحذاؤها: خُفُّها؛ لأنه لقوته وصلابته يجري مجرى الحذاء. وسقاؤها: بطنها؛ لأنها تأخذ فيه ماءً كثيرًا، فيبقى معها، يمنعها العطش.

ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤْوِي الضَالَّة إلا ضالٌّ" رواه أحمد

(3)

وغيره.

(1)

(7/ 317).

(2)

تقدم تخريجه (9/ 491) تعليق رقم (1).

(3)

أحمد (4/ 360، 362) والبخاري في التاريخ الكبير (4/ 334)، وأبو داود في اللقطة، باب 1، حديث 1720، النسائي في الكبرى (3/ 415 - 416) حديث 5799 - 5801، وابن ماجه في اللقطة، باب 1، حديث 2503، وابن أبي شيبة (6/ 464 - 465)، والطحاوي (4/ 133)، وفي شرح مشكل الآثار (12/ 149) حديث 4719، والمحاملي في الأمالي ص/ 61، حديث 3، والبيهقي (6/ 190)، عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه.

قال علي ابن المديني - كما في تنقيح التحقيق (3/ 105) -: حديث جيد.

وقال ابن حزم في المحلى (8/ 261): لا يصح.

قلنا: وفي إسناده اضطراب وجهالة، انظر: تهذيب الكمال (13/ 199)، وتهذيب التهذيب (4/ 454 - 455).

لكن معناه ثابت عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرِّفها" رواه مسلم في اللقطة، حديث 1725.

ص: 494

وأما الآبق فيجوز التقاطه؛ صونًا له عن اللحوق بدار الحرب، وارتداده، وسعيه بالفساد، وتقدم

(1)

.

(و) هذا القسم (لا يملكه) ملتقطه (بتعريفه) لأنه متعدٍّ بأخذه، كالغاصب؛ لعدم إذن المالك والشارع، سواء كان زمنَ أمن أو فساد (وإن أنفق) الملتقط (عليه) أي: على ما ذكر في هذا القسم (لم يرجع) على رَبِّه بما أنفقه عليه (لتعديه) بالتقاطه وإمساكه.

(فإن تبع شيء منها) أي: الضوال المذكورة (دوابه، فَطَرَده) فلا ضمان عليه (أو دخل) شيء منها (داره، فأخرجه، فلا ضمان عليه، حيث لم يأخذه، ولم تثبت يده عليه، لكن لإمام ونائبه فقط) دون غيرهما (أخذ ذلك) أي: ما ذكر من الضوال (ليحفظه لربِّه) لأن لهما نظرًا في حفظ مال الغائب، وفي أخذها على وجه الحفظ مصلحة لربِّها؛ لصونها.

و (لا) يجوز لهما كغيرهما أخذها (على سبيل الالتقاط) لما تقدم (ولا يلزمهما) أي: الإمام أو نائبه (تعريفه) أي: تعريف ما أخذه من الضوال ليحفظه لربه؛ لأن عمر رضي الله عنه لم يكن ليعرِّف الضوال

(2)

؛ ولأنه إذا عُرِف من الإمام حفظ الضوال، فمن كانت له ضالة جاء إلى موضع الضوال، فمن عَرَف ماله، أقام البينة عليه.

(ولا تكفي فيه الصفة) لأن الضالة كانت ظاهرة للناس حين كانت في يد مالكها، فلا يختص بمعرفة صفاتها دون غيره، وإقامة البينة عليها

(1)

(9/ 486).

(2)

أخرج مالك في الموطأ (2/ 759)، وعبد الرزاق (10/ 132) رقم 18607، والبيهقي (6/ 191)، عن الزهري، قال: كانت ضوالُّ الإبل في زمان عمر بن الخطاب إبلًا مؤبَّلة تناتج لا يمسها أحد، حتى إذا كان زمان عثمان بن عفان أمر بتعريفها ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها.

ص: 495

ممكنة؛ لظهورها للناس.

(ومن أخذه) أي: ما يمتنع من صغار السباع (ولم

(1)

يكتمه، ضمنه إن تلف أو نقص) قبل رده (كغاصب) لأن التقاطه غيرُ مأذون فيه.

(وإن كتمه وتلف، ضمنه) الكاتم (بقيمته مرتين) لربه (إمامًا كان) الملتقط (أو غيره).

قال أبو بكر في "التنبيه": ثبت خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "في الضَّالَّةِ المَكتومةِ غَرامتُها ومثلُها معها"

(2)

قال: وهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يرد.

(وإن لم يتلف) ما التقطه من الضوال (رده) إلى ربه - إن وجده - بلا غرم إن لم ينقص، وإلا؛ فأرش نقصه، وتقدم.

(فإن دفعه إلى إمام

(3)

أو نائِبهِ) ليحفظه لربه، زال عنه الضمان؛ لأن للإمام نظرًا فيها (أو أمره) الإمام أو نائبه (بردِّه إلى مكانه، زال عنه الضمان) لما روى الأثرم بسنده "أنَّ عمر قال لرجلٍ وجد بعيرًا: أرْسِلْهُ

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (3/ 42): "ولو لم".

(2)

أخرجه أبو داود في اللقطة، حديث 1718، وعبد الرزاق (10/ 129) حديث 18599، والطحاوي (3/ 146)، والعقيلي (3/ 259 - 260)، والبيهقي (6/ 191)، من طريق معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة، يحسبه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعمرو بن مسلم هو عمرو بن برق، كما ذكر العقيلي في الضعفاء (3/ 259)، ونقل عن الإمام أحمد: عمرو بن برق له أشياء مناكير، ومعمر قد روى عنه، وكان عنده لا بأس به، وكانت له علة، ثم أشار أبو عبد الله بيده إلى فيه أي: يشرب.

ثم قال العقيلي: أما حديث الضالة فيروى بغير هذا الإسناد من طريق أصلح من هذا.

وقال المنذري في مختصر السنن (2/ 273): لم يجزم عكرمة بسماعه من أبي هريرة، فهو مرسل.

(3)

في متن الإقناع (3/ 42): "الإمام".

ص: 496

حيثُ وجدتَهُ"

(1)

؛ ولأن أمره برده كأخْذه منه، فإن رده إلى مكانه بغير إذن الإمام أو نائبه، وتلف، ضَمنه؛ لأنه بأخذه لزمه حفظه، وتركه تضييع له.

(وكذا من أخذ من نائم، أو) أخذ من (ساهٍ) أي: غافل (شيئًا، لا يبرأ بردِّه) له نائمًا أو ساهيًا (بل بتسليمه لربِّه بعد انتباهه) من النوم والسهو؛ لأن الآخذ متعدٍّ بالأخذ، فهو سارق أو غاصب، فلا يبرأ من عُهدته إلا برَدِّه في حالٍ يصح قبض مالكه له فيها (أو) بتسليمه (لإمام أو نائبه) ليحفظه لربه، فيبرأ بذلك، وفيه نظر، إذ لا ولاية لحاكم على نائم وساهٍ، ولذلك لم يذكره في "المنتهى" ولم أره لغيره.

(ويجوز التقاط الكلب المُعلَّم) الصيد، عند القاضي وغيره. قال الحارثي: وهو أصح؛ لأنه لا نص في المنع، وليس في معنى الممنوع (وينتفع به في الحال) بلا تعريف؛ لأنه ليس بمال، وقدم في "شرح المنتهى" أنه يحرم التقاطه، وجزم به في "التنقيح" تبعًا "للمغني" وغيره، لكن لا ضمان.

(ويَسِمُ الإمام) من الوَسْم وهو العلامة (ما يحصُل عنده من الضَّوال) وقوله: (بأنها ضالة) متعلق بـ "يسم"(ويُشهِد عليها) لاحتمال تغيره.

(ثم إن كان له حِمىً يرعى فيه) ما يجتمع عنده من الدواب (تركها) ترعى (فيه إن رأى ذلك، وإن رأى) المصلحة في (بيعها، أو لم يكن له

(1)

لعل الأثرم رواه في سننه ولم تطبع. وأخرجه - أيضًا - مالك في الموطأ (2/ 759)، وعبد الرزاق (10/ 132، 133) رقم 18608 - 18609، وابن أبي شيبة (6/ 466)، والطحاوي (4/ 138)، وفي شرح مشكل الآثار (12/ 160، 161)، والبيهقي (6/ 191).

ص: 497

حِمىً، باعها بعد أن يحليَها ويحفظ صفاتها، ويحفظ ثمنها لصاحبها) لأن ذلك أحفظ لها؛ لأن تركها يفضي إلى أن تأكل جميع ثمنها.

(ويجوز التقاط الصُّيود المتوحشة التي إذا تُركت رجعت إلى الصحراء، بشرط عجز رَبِّها عنها) لأن تركها أضيع لها من سائر الأموال، والمقصود حفظها لصاحبها لا حفظها في نفسها، ولو كان القصد حفظها في نفسها، لما جاز التقاط الأثمان، فإن الدينار دينار حيثما كان، ولا يملكها بالتعريف؛ لأن الشرع لم يرد بذلك فيها، ومثله على ما ذكره في "المغني" وغيره: لو وجد الضالة في أرضٍ مَسْبعَةٍ

(1)

، يغلب على الظن أن الأسد يفترسها إن تركت، أو قريبًا من دار الحرب يخاف عليها من أهلها، أو بمحل يستحل أهله أموال المسلمين كوادي التيم

(2)

، أو في برية لا ماء فيها ولا مرعى، فالأولى جواز أخذها للحفظ، ولا ضمان، ويسلمها لنائب الإمام، ولا يملكها بالتعريف. قال الحارثي: وهو كما قال. قال في "الإنصاف": لو قيل بوجوب أخذها والحالة هذه، لكان له وجه.

(وأحجار الطواحين) مبتدأ (الكبيرة، والقدورُ الضخمة، والأخشاب الكبيرة) وقوله (ملحقة بإبل) خبرُه، أي: فلا يجوز التقاطها؛ لأنها لا تكاد تضيع عن صاحبها، ولا تبرح من مكانها، فهي أولى بعدم التعرُّض من الضوال.

(ويجوز التقاط قِنٍّ صغير، ذكرًا كان) القن (أو أنثى) كالشاة (ولا

(1)

أرضٌ مَسْبَعةٌ بوزن مَتربَة: ذات سباع. مختار الصحاح ص/ 283.

(2)

وادي التيم، ويقال وادي تيم الله بن ثعلبة: هو وادٍ من أعمال دمشق، أول قراه قرية شُبعة، يسكنه الدروز أتباع الحاكم العبيدي. انظر: توضيح المشتبه (5/ 48)، ومجموع الفتاوى (4/ 163)، والبداية والنهاية (11/ 320).

ص: 498

يُملك بالالتقاط) ولو عرَّفه حولًا (قال الموفق: لأنه) أي: اللقيط (محكوم بحريته) لأنها الأصل، على ما يأتي في اللقيط.

القسم (الثالث: سائر) أي: باقي (الأموال، كالأثمان، والمتاع، وما لا يمتنع من صغار السباع، كالغنم، والفُصلان) - بضم الفاء وكسرها -: جمع فصيل، وهو ولد الناقة، إذا فُصل عن أمِّه (والعجاجيل) جمع عجل، وهو ولد البقرة (وجِحاش الحمير، والأفلاء) بالمد: جمع فِلْو، بوزن سِحْر، وجَرْو، وعَدُوّ، وسُمُو، وهو الجحش والمهر، إذا فطما أو بلغا السنة؛ قاله في "القاموس"

(1)

(والإوز، والدجاج، ونحوها) كالخشبة الصغيرة، وقطعة الحديد، والنحاس، والرصاص، والزِّقِّ من الدهن، أو العسل، والغِرارة

(2)

من الحبِّ، والكتب، وما جرى مجرى ذلك. والمريض من كبار الإبل ونحوها كالصغير (سواء وجد ذلك بمصرٍ أو بمهلكة، لم ينبِذْه ربُّه رغبة عنه) فإن نبذه كذلك، ملكه آخذه، وتقدم في إحياء الموات

(3)

.

(فمن لا يأمن نفسه عليها) أي: اللقطة (لا يجوز له أخذها بحال) لما فيه من إضاعتها على ربها، فهو كإتلافها، وكما لو نوى تملكها في الحال أو كتمانها (فإن أخذها) أي: اللُّقطة (بهذه النية) أي: بنية الخيانة (ضَمِنهما) إن تلفت (ولو تلفت بغير تفريط) لأنه أخذ مال غيره على وجهٍ لا يجوز له أخذه، فضَمِنه، كالغاصب (ولم يملكها) أي: اللقطة، إذا

(1)

القاموس المحيط ص/ 1740، مادة (فلو).

(2)

الغِرارة: وعاء من الخيش ونحوه، يوضع فيه القمح وغيره، وهو أكبر من الجُوالق. انظر: المصباح المنير ص/ 609، والمعجم الوسيط (2/ 672) مادة (غرر).

(3)

(9/ 464).

ص: 499

أخذها وهو لا يأمن نفسه عليها، أو نوى تملُّكهَا في الحال، أو كتمانها (وإن عرَّفها) لأن السبب المحرَّم لا يفيد الملك؛ بدليل السرقة.

(ومن أخذها) أي: اللقطة (بنية الأمانة، ثم طرأ) له (قصد الخيانة، لم يضمن) اللقطة، إن تلفت بلا تفريط في الحول، كما لو كان أودعه إياها.

(ومن أمن نفسه عليها) أي: اللقطة (وقوي على تعريفها، فله أخذها) لحديث زيد بن خالد المذكور أول الباب

(1)

في النقدين، وقيس عليهما كل متموَّل غير الحيوان، وفي الشاة، وقيس عليها كل حيوان لا يمتنع بنفسه من صغار السباع، وظاهره: لا فرق بين الإمام وغيره.

(والأفضل

(2)

) لمن أمن نفسه عليها، وقوي على تعريفها (تركُها) أي: عدم التعرُّض لها. قال أحمد

(3)

: الأفضل ترك الالتقاط. وروي معناه عن ابن عباس

(4)

وابن عمر

(5)

رضي الله عنهم (ولو وجدها بمَضْيَعة) لأن في الالتقاط تعريضًا بنفسه لأكل الحرام، وتضييع الواجب من تعريفها وأداء الأمانة فيها، فترك ذلك أَولى وأَسلم.

(1)

تقدم تخريجه (9/ 491) تعليق رقم (1).

(2)

في "ح": "والأولى".

(3)

المغني (8/ 291).

(4)

أخرجه عبد الرزاق (10/ 137) رقم 18624، وابن أبي شيبة (6/ 463)، والبيهقي (6/ 192)، ولفظه: لا ترفع اللقطةَ، لست منها في شيء، وقال: تركها خير من أخذها.

(5)

أخرجه مالك في الموطأ (2/ 758)، والشافعي في الأم (4/ 69، 7/ 226)، وعبد الرزاق (10/ 137) رقم 18623، وابن أبي شيبة (6/ 455، 463، 464)، والفاكهي في أخبار مكة (3/ 47) رقم 1768، 1769، والبيهقي (6/ 188 - 189).

ص: 500

(وإن عجز عن تعريفها

(1)

، فليس له أخذها) ولو بنية الأمانة؛ لأنه لا يحصل به المقصود من وصولها إلى ربها (ومتى أخذها) أي: أخذ الملتقط اللقطة (ثم ردها إلى موضعها) ضمنها (أو فرَّط فيها) فتلفت (ضَمِنها) لأنها أمانة حصلت في يده، فلزمه حفظها كسائر الأمانات، وتركُها والتفريط فيها تضييع لها (إلا أن يكون) الملتقط (رَدَّها بإذن الإمام أو نائبه) إلى موضعها، فلا يضمنها؛ لأن للإمام نظرًا في المال الذي لا يُعلم مالكه.

وكذا لو التقطها ودفعها للإمام أو نائبه.

(ولو) كان المُلْتَقَطُ (ممتنعًا) من صغار السباع، ورده إلى مكانه بإذن الإمام أو نائبه، فإنه يبرأ من ضمانه (كما تقدم.

وإن ضاعت اللقطة من ملتقطها في حول التعريف بغير تفريط) منه (فلا ضمان عليه) لأنها أمانة في يده، فلم يضمنها، كالوديعة.

(فإن) ضاعت منه، فـ (ــالتقطها آخر، فعَلم) الثاني (أنها ضاعت من الأول، فعليه) أي: الثاني (ردها إليه) أي: الأول؛ لأنه قد ثبت له حق التمول، وولاية التعريف والحفظ، فلا يزول ذلك بالضياع.

(فإن لم يعلم الثاني بالحال حتى عرَّفها حولًا، ملكها) لأن سبب الملك وجد منه من غير عدوان (ولا يملك الأول انتزاعها منه) لأن الملك مقدم على حق التملك (فإذا جاء صاحبها أخذها من الثاني، وليس له مطالبة الأول) لأنه لم يفرط.

(وإن علم الثاني بالأول، فردَّها إليه فأبى) الأول (أخذها، وقال) للثاني: (عرِّفها أنت، فعرَّفها) الثاني حولًا (ملكها - أيضًا -) لأن الأول

(1)

زاد بعدها في متن الإقناع (3/ 43): "أو لم يأمن نفسه عليها".

ص: 501

ترك حقه، فسقط.

(وإن قال) الأول للثاني: (عرِّفها، وتكون ملكًا لي، ففعل) الثاني (فهو نائبه في التعريف، ويملكها الأول) لأنه وكَّله في التعريف، فصح، كما لو كانت بيد الأول.

(وإن قال) الأول للثاني: (عرِّفها، وتكون بيننا، ففعل) أي: عرَّفها (صح - أيضًا - وكانت بينهما) لأنه أسقط حقه من نصفها، ووكَّله في الباقي.

(وإن غصبها غاصب من الملتقط، وعرَّفها) الغاصب (لم يملكها) لأنه متعدٍّ بأخذها، ولم يوجد منه سبب تملكها، فإن الالتقاط من جملة السبب، ولم يوجد منه، بخلاف ما لو التقطها ثانٍ، فإنه وُجدَ منه الالتقاط.

(واللقطة) التي أُبيح التقاطها، ولم تُملك به، وهي القسم الثالث (على ثلاثة أضرب:

أحدها: حيوان) مأكول، كفصيل، وشاة، ودجاجة (فيلزمه) أي: الملتقِط (فعل الأحظِّ) لمالكه (من) أمور ثلاثة:

(أكله، وعليه قيمته) في الحال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم وسُئل عن لُقطةِ الشاةِ -: "هي لكَ، أو لأخيكَ، أو للذِّئب"

(1)

، فجعلها له في الحال، لأنه سَوَّى بينه وبين الذئب، والذئب لا يستأني بأكلها، ولأن في أكل الحيوان في الحال إغناء عن الإنفاق عليه، وحراسته لماليته على صاحبه إذا جاء، فإنه يأخذ قيمته بكمالها.

(أو) من (بيعه) أي: الحيوان؛ لأنه إذا جاز أكله، فبيعه أَولى

(1)

تقدم تخريجه (9/ 491) تعليق رقم (1).

ص: 502

(و) إذا باعه (حفظ ثمنه لصاحبه، وله) أي: الملتقط (أن يتولى ذلك بنفسه، ولا يحتاج إلى إذن الإمام في الأكل) لظاهر الحديث السابق (و) لا يحتاج إلى إذن الإمام - أيضًا - في (البيع) لأنه إذا جاز أكله بلا إذنه، فبيعه أَولى (ويلزمه) أي: الملتقِط (حفظ صفتها) أي: اللقطة (فيهما) أي: فيما إذا أراد الأكل، أو البيع؛ ليتمكن من الرد إذا وصفها ربها.

(أو) من (حفظه) أي: الحيوان (والإنفاق عليه من ماله) لما في ذلك من حفظه على مالكه (ولا يتملَّكه) أي: لا يصح أن يتملك الملتقِط الحيوان، ولو بثمن المِثل، كولي اليتيم لا يبيع من نفسه (فإن تركه) أي: ترك الحيوان (ولم ينفق عليه) حتى تلف (ضَمِنه) لأنه مُفرِّط.

(ويرجع) الملتقِط (به) أي: بما أنفقه على الحيوان (ما لم يتعدَّ) بأن التقطه؛ لا ليعرِّفه، أو بنية تملّكه في الحال ونحوه (إن نوى الرجوعَ) على مالكه - إن وجده - بما أنفق، كالوديعة (وإلا) بأن أنفق ولم ينوِ الرجوع (فلا) رجوع له بما أنفق؛ لأنه متبرِّع.

(فإن استوت) الأمور (الثلاثة) في نظر الملتقِط، ولم يظهر له الأحظ منها (خُيِّر بينها) لجواز كل منها مع عدم ظهور الأحظ.

(قال الحارثي: وأَولى الأمور: الحفظ مع الإنفاق، ثم البيع وحفظ الثمن، ثم الأكل وغرم القيمة) وفي "الترغيب": لا يبيع بعض الحيوان.

الضرب (الثاني: ما يخشى فساده) بتبقيته (كطبيخ، وبِطيخ، وفاكهة، وخضروات، ونحوها، فيلزمه) أي: الملتقِط (فعل الأحظ، من أكله، وعليه قيمته، وبيعه) ولو (بلا حكم) أي: إذن (حاكم، وحفظِ ثمنه) لأن في كل منها حفظًا لماليته على ربه، وكالحيوان.

(ولو تركه) أي: ترك الملتقط ما يخشى فساده بلا أكل، ولا بيع

ص: 503

(حتى تلف، ضَمِنه) لأنه مفرِّط.

(فإن استويا) في نظر الملتقِط (خُيِّر بينهما) فأيهما فعل جاز له. (وقيَّده) أي: ما ذكر من البيع والأكل (جماعة - بعد تعريفه - بقَدْر ما

(1)

يخاف معه فساده، ثم هو بالخيار) بين أكله، وبيعه (إلا أن يمكن تجفيفه) أي: تجفيف ما يخشى فساده (كالعنب، فيفعل) الملتقِط (ما يرى الحظَّ فيه لمالكه، من الأكل) بقيمته (والبيعِ) مع حفظ ثمنه (والتجفيفِ) لأنه أمانة بيده، وفعل الأحظ في الأمانة متعين (وغرامة التجفيف) إن احتيج إليها (منه، فيبيع) الملتقط (بعضه في ذلك) أي: في تجفيفه؛ لأنه من مصلحته، فإن أنفق من ماله، رجع به في الأصح؛ قاله في "المبدع"، وإن تعذَّر بيعه، ولم يمكن تجفيفه، تعين أكله.

الضرب (الثالث: سائر الأموال) أي: ما عدا الضربين المذكورين كالأثمان والمتاع، ونحوه.

(ويلزمه) أي: الملتقط (حفظ الجميع) من حيوان وغيره؛ لأنه صار أمانة في يده بالتقاطه.

(و) يلزمه (تعريفه على الفور) لظاهر الأمر؛ لأن مقتضاه الفور، ولأن صاحبها يطلبها عقب ضياعها (حيوانًا كان) الملتقَطُ (أو غيرَه) سواء أراد الملتقط تملُّكه، أو حفظه لصاحبه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر به زيد بن خالد

(2)

، وأُبي بن كعب

(3)

، ولم يفرِّق، ولأن حفظها لصاحبها إنما يفيد بوصولها

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (3/ 44): "ما لا".

(2)

تقدم تخريجه (9/ 492) تعليق رقم (1).

(3)

أخرجه البخاري في اللقطة، باب 1، 10، حديث 2426، 2437، ومسلم في اللقطة، حديث 1723، بلفظ: "إني وجدت صرة فيها مائة دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، =

ص: 504

إليه، وطريقُهُ التعريف.

ويكون التعريف (بالنداء عليه) أي: المُلْتَقَط (بنفسه) أي: المُلْتَقِط (أو بنائبه) ويكون النداء (في مجامع الناس، كالأسواق، والحمَّامات، وأبواب المساجد أدبار الصلوات) لأن المقصود إشاعة ذكرها.

(ويُكره) النداء عليها (فيها) أي: في المساجد؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "مَن سمعَ رجلًا يَنشدُ ضالَّةً في المسجدِ، فليَقُلْ: لا أدَّاها الله إليكَ، فإنَّ المساجدَ لم تُبْنَ لهذا"

(1)

والإنشاد دون التعريف فهو أولى.

(ويُكثر منه) أي: التعريف (في موضع وجدانها) لأنه مظنَّة طلبها (و) يُكثر - أيضًا - منه (في الوقت الذي يلي التقاطها) لأن صاحبها يطلبها عقب ضياعها، فالإكثار منه إذًا أقرب إلى وصولها إليه.

ويكون التعريف (حولًا كاملًا) لحديث زيد بن خالد

(2)

، وهو قول عمر

(3)

،

= فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: عرِّفها حولًا. قال: فعرَّفتها، فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته، فقال: عرفها حولًا. فعرفتها، فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته، فقال: عرِّفها حولًا. فعرفتها، فلم أجد من يعرفها، فقال: احفظ عددها، ووعاءها، ووكاءها، فإن جاء صاحبها، وإلا؛ فاستمتع بها. فاستمتعتُ بها".

(1)

أخرجه مسلم في المساجد، حديث 568، ولفظه:"لا ردها الله عليك".

(2)

تقدم تخريجه (9/ 491) تعليق رقم (1).

(3)

أخرج عبد الرزاق (10/ 139) رقم 18630، وابن أبي شيبة (6/ 452) من طريق إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة قال: كان عمر يأمر أن تعرف اللقطة سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا تصدق بها، فإن جاء صاحبها خُيِّر.

قال ابن التركماني في الجوهر النقي (6/ 187): وهذا سند جليل متفق عليه، إلا إبراهيم، فإن مسلمًا انفرد به.

وأخرجه - أيضًا - بنحوه: النسائي في الكبرى (3/ 420) رقم 5818، ومالك في الموطأ (2/ 757 - 758)، والشافعي في الأم (4/ 69، 7/ 225)، وعبد الرزاق (10/ 135 - 136) رقم 18618، 18619، 18621، وابن أبي شيبة (6/ 453، =

ص: 505

وعلي

(1)

، وابن عباس

(2)

(نهارًا) لأنه مجمع الناس وملتقاهم (كل يوم مرة، أسبوعًا) أي: سبعة أيام؛ لأن الطلب فيه أكثر.

(ثم) لا يجب تعريفها بعد أسبوع متواليًا، بل على عادة الناس؛ قطع به في "المنتهى" وغيره، وقَدَّم في "الترغيب"، و"التلخيص"، و"الرعاية" وغيرها:(مرة من كل أسبوع، من شهر، ثم مرة في كل شهر) حتى يتمَّ الحول.

(ولا يصفه) أي: لا يصف ما يعرِّفه (بل يقول: من ضاع منه شيء، أو) من ضاع منه نفقة) قاله في "المحرر". وفي "المغني" و"الشرح": فيقول: من ضاع منه ذهب، أو فضة، أو دنانير، أو دراهم، أو ثياب، ونحو ذلك. انتهى. لكن اتفقوا على أنه لا يصفها؛ لأنه لا يؤمَن أن يدَّعيها بعض من سَمِعَ صفتها، فتضيع على مالكها.

ومقتضى قولهم: "لا يصفها" أنه لو وصفها، فأخذها غير مالكها بالوصف، ضَمِنها الملتقِط لمالكها، كما لو دَلَّ الوديع على الوديعة من سرقها.

(وإن سافر) الملتقِط في حول التعريف (وَكَّل من يعرِّفُها) عنه حتى يحضر، فينوب نائبه منابه.

= 462)، والطحاوي (3/ 137)، وفي شرح مشكل الآثار (12/ 118) رقم 4696، والبيهقي (6/ 187، 193)، وفي معرفة السنن والآثار (9/ 79) رقم 12412.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 451 - 452)، والبيهقي (6/ 188).

(2)

أخرج ابن أبي شيبة (6/ 449) من طريق عبد العزيز بن رفيع، قال: حدثني أبي قال: وجدت عشرة دنانير، فأتيت ابن عباس فسألته عنها، فقال: عرفها على الحجر سنة، فإن لم تعرف فتصدق بها، فإن جاء صاحبها فخيره الأجر أو الغرم.

قال ابن التركماني في الجوهر النقي (6/ 188): وهذا السند على شرط البخاري، خلا رفيعًا، وهو ثقة، ذكره ابن حبان.

ص: 506

(فإن التقط) اللقطة (في صحراء، عَرَّفها في أقرب البلاد من الصحراء) التي التقطها فيها؛ لأنه مظنة طلبها.

(وأجرة المنادي على الملتقِط) لأنه سبب في العمل، فكانت أجرته عليه، كما لو اكترى شخصًا يقلع له مباحًا (ولا يرجع) الملتقِط (بها) أي: بأجرة المنادي، على ربِّ اللقطة، ولو قصد حفظها لمالكها - خلافًا لأبي الخطاب - لأن التعريف واجب على الملتقط، فأجرته عليه.

(و‌

‌لا تعرَّف كلاب) ولو مُعلَّمة (بل ينتفع بالمباح منها)

فيجوز التقاطه، كما تقدم؛ لأنه لا نص في المنع، وليس في معنى الممنوع، وفي أخذه حفظه على مستحقه، أشبه الأثمان، وأَولى من جهة أنه ليس مالًا، فيكون أخف.

(وإن كان لا يرجى وجود صاحب اللقطة) ومنه: لو كانت دراهم، أو دنانير، ليست بصرة ولا نحوها، على ما ذكره ابن عبد الهادي في "مغني ذوي الأفهام"، حيث ذكر أنه يملكها ملتقطها بلا تعريف

(1)

(لم يجب تعريفها في أحد القولين) نظرًا إلى أنه كالعبث، وظاهر كلام "التنقيح"، و"المنتهى" وغيرهما: يجب مطلقًا.

(ولو أخَّر) الملتقِط (التعريفَ عن الحول الأول) أَثِمَ، وسقط (أو) أخَّره (بعضه) أي: بعض الحول الأول (أَثِمَ) الملتقِط بتأخيره التعريفَ؛ لوجوبه على الفور، كما تقدم (وسقط) التعريف؛ لأن حِكمة التعريف لا تحصُل بعد الحول الأول، فإذا تركه في بعض الحول، عرَّف بقيته فقط (كـ) ــما يأثم بـ (ــالتقاطه بنية تملُّكه، أو) بالتقاط ما (لم يرد تعريفه)

(1)

في حاشية نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (2/ 425) ما نصه: "وانظر: هل يملكها بعد مضي الحول، أو قبله؟ الظاهر على الفور. ا. هـ. من خط ابن العماد".

ص: 507

وتقدم.

(ولا يملكها) أي: اللُّقطة، إذا لم يُعرِّفها في الحول الأول (بالتعريف بعد الحول الأول) لأن شرط الملك التعريف فيه، ولم يوجد. وهل يتصدق بها، أو يحبسها عنده أبدًا؟ على روايتين

(1)

(2)

.

(وكذا لو تركه) أي: التعريف (فيه) أي: الحول الأول (عجزًا، كمريض، ومحبوس، أو) تركه فيه (نسيانًا) فلا يملكها به بعده؛ لأن تعريفها في الحول الأول سبب الملك، والحكم ينتفي لانتفاء سببه، سواء انتفى لعذر أو غيره، وهذا أحد وجهين؛ قَدَّمه في "الرعايتين"، و"الحاوي الصغير"، و"شرح ابن رزين".

والوجه الثاني: يملكها بتعريفها حولًا بعد زوال العُذر؛ لأنه لم يؤخِّر التعريف عن وقت إمكانه، فأشبه ما لو عرَّفها في الحول الأول، ومفهوم كلام "التنقيح": أنه المذهب؛ ذكره في "شرح المنتهى".

(أو تركه) أي: التعريف (في بعض الحول) لعُذر أو غيره، على ما تقدَّم، فلا يملكها ولو عرَّفها بعده؛ لما تقدم.

(أو وجدها صغير ونحوه) كسفيه (فلم يعرِّفها وليُّه) الحول الأول، فلا يملكها؛ لانتفاء سبب الملك، كما تقدم.

(أو ضاعت) اللُّقطة (فعرَّفها) الملتقِط (الثاني، مع علمه بـ) ــالملتقِط (الأول، ولم يُعْلِمْه) بها، لم يملكها (أو أعلمه) أي: أعلم الثاني الأولَ (وقصد) الثاني (بتعريفها لنفسه) دون الأول، ولم يأذنه

(1)

المغني (8/ 298).

(2)

في حاشية نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (2/ 436) ما نصه: "مقتضى ما تقدم في الغصب: أنه يتصدق بها. ا. هـ. من خط ابن العماد".

ص: 508

الأول (لم يملكها) الثاني؛ لأن ولاية التعريف للأول، وهو معلوم، فأشبه ما لو غصبها من الملتقط غاصب فعرَّفها. والوجه الثاني: يملكها؛ لأن سبب الملك وُجِدَ منه، والأول لم يملكها، قدَّمه ابن رَزين في "شرحه"، وقطع به في "التنقيح"، وتبعه في "المنتهى"، لكن توهم في "شرحه" أن الأول هو الذي يملكها؛ وهو مخالف لكلام الأصحاب؛ لأنهم إنما حكوا الوجهين في ملك الثاني لها، وأما الأول فلم يوجد منه تعريف، لا بنفسه، ولا بنائبه، والتعريف هو سبب الملك، والحكم ينتفي لانتفاء سببه.

(وليس خوفه) أي: الملتقِط (أن يأخذها) أي: اللُّقطة (سلطان جائر) عُذرًا في ترك تعريفها (أو) خوفه أن (يطالبه بأكثر عذرًا في ترك تعريفها) قال في "الفروع": (فإن أخَّره) أي: التعريف، لذلك الخوف (لم يملكها إلا بعده) أي: التعريف؛ ذكره أبو الخطاب، وابن الزاغوني. ومرادهم - والله أعلم - أنه ليس عذرًا حتى يملكها بلا تعريف، ولهذا ذكروا أنه يملكها بعده، وقد ذكروا أن خوفه على نفسه، أو ماله، عُذر في ترك الواجب. وقال أبو الوفاء:"تبقى بيده، فإذا وجد أمنًا، عرَّفها حولًا". انتهى. فيؤخذ من هذا: أن تأخير التعريف للعذر لا يؤثر، وتقدم أن فيه وجهين، وأن كلام المصنف أنه لا يملكها بعده، فيتعارض كلامه، إلا أن يقال: هذا متأخّر عما تقدَّم، فكأنه رجع إلى هذا.

(وإذا عرَّفها) أي: عرَّف المُلتقِط اللُّقطةَ الجائز التقاطُها، حولًا كاملًا، فورًا (فلم تُعْرَف، دخلت) اللُّقطة (في ملكه) أي: المُلتقِط، غنيًّا كان أو فقيرًا (بعد الحول) لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد: "فَإنْ لم

ص: 509

تُعْرَفْ فاستَنْفِقْها"

(1)

وفي لفظ: "وإلا فهي كسبيلِ مَالِكَ"

(2)

وفي لفظ: "ثم كلها"

(3)

وفي لفظ: "فانتفع بها"

(4)

وفي لفظ: "فشأنك بها"

(5)

، وفي حديث أبي بن كعب:"فاستنفقها"، وفي لفظ:"فاستَمْتِع بها" وهو حديث صحيح

(6)

؛ قاله في "المغني". وقال: ويملك اللقطة ملكًا مراعىً يزول بمجيء صاحبها. قال: والظاهر أنه يملكها بغير عوض يثبت في ذمته، وإنما يتجدد وجوب العوض بوجود صاحبها، كما يتجدد وجوب نصف الصداق، أو بدله للزوج بالطلاق (حكمًا، كالميراث) لما تقدم من الأحاديث؛ ولأن الالتقاط والتعريف سبب التملك، فإذا تمّا، وجب أن يثبت الملك حكمًا، كالإحياء والاصطياد، فلا يقف على قوله، ولا اختياره (ولو) كانت اللقطة (عروضًا) فهي (كأثمان

(7)

) لعموم الأحاديث

(1)

تقدم تخريجه (9/ 491) تعليق رقم (1). وهذا اللفظ أخرجه البخاري في اللقطة، باب 2، حديث 2427، ومسلم في اللقطة، حديث 1722 (5).

(2)

أخرجه بهذا اللفظ مسلم في اللقطة، حديث 1723 (10) لكن من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، أما من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في الطلاق، باب 23، حديث 5292، بلفظ:"فاخلطها بمالك". وأخرجه الطبراني في الكبير (5/ 353) حديث 5258 بلفظ: "ثم اجعلها في مالك".

(3)

أخرجه مسلم في اللقطة، حديث 1722 (7).

(4)

أخرجه الطحاوي (4/ 134 - 135).

(5)

أخرجه البخاري في المساقاة، باب 12، حديث 2372، وفي اللقطة، باب 4، حديث 2429، ومسلم في اللقطة، حديث 1722 (1).

(6)

أخرجه البخاري في اللقطة، باب 1، 10، حديث 2426، 2437، ومسلم في اللقطة، حديث 1723، ولفظ:"فاستنفقها" لم نقف عليه في الصحيحين من حديث أُبي، وهو فيهما من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، أخرجه البخاري في اللقطة، باب 2، حديث 2427، ومسلم في اللقطة، حديث 2722.

(7)

في "ذ": "كالأثمان".

ص: 510

التي في اللُّقطة جميعها، وروى الجُوزْجَاني، والأثرم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: "أتى رجلٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، كيف تَرَى في متاع يُوجَدُ في الطَّريق المِيْتاءِ

(1)

، أو في قرية مَسْكُونَةٍ؟ فقال: عَرِّفْهُ سنةً، فإن جاء صاحبُهُ، وإلا؛ فشأنكَ به"

(2)

. (و) لو كانت اللُّقطة (لُقطة الحَرَم) فإنها تُملك بالتعريف حكمًا كلُقطة الحِلِّ، وروي عن ابن عمر

(3)

وابن عباس

(4)

وعائشة

(5)

رضي الله عنهم؛ لعموم الأحاديث؛ ولأنه أحد الحرمين، فأشبه حرم المدينة؛ ولأنها أمانة، فلم يختلف حكمها بالحِل والحَرَم، كالوديعة وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تَحِلُّ ساقطَتُها إلَّا لمُنشدٍ" متفق عليه

(6)

، يحتمل أن يريد إلا لمن عرَّفها

(1)

الميتاء: على وزن مِفعال، أي: المسلوكة. النهاية (1/ 22).

(2)

لم نقف عليه في مظانه من كتب الجوزجاني المطبوعة، والأثرم لعله رواه في سننه ولم تطبع. وأخرجه - أيضًا - أبو داود في اللقطة، باب 1، حديث 1710، والنسائي في الزكاة، باب 28، حديث 2493، وفي الكبرى (3/ 423) حديث 5826 - 5829، ومحمد بن الحسن في الحجة على أهل المدينة (1/ 435)، وأبو عبيد في الأموال ص/ 421، حديث 859، وأحمد (2/ 180، 203، 207)، وابن الجارود (2/ 237) حديث 670، وابن خزيمة (4/ 47) حديث 2327، والدارقطني (3/ 194، 4/ 236)، والبيهقي (6/ 190)، بلفظ: سئل عن اللقطة، فقال: ما كان منها في طريق الميتاء

الحديث. وزادوا: وما كان الطريق غير الميتاء، والقرية غير المسكونة، ففيه وفي الركاز الخمس.

(3)

لم نقف على من أخرجه.

(4)

لم تقف على من أخرجه.

(5)

أخرج الطحاوي (4/ 139)، عن معاذة العدوية، أن امرأة سألت عائشة رضي الله عنها فقالت: إني أصبت ضالة في الحرم، وإني عرَّفتها فلم أجد أحدًا يعرفها، فقالت لها عائشة: استنفعي بها.

(6)

البخاري في العلم، باب 39، حديث 112، وفي اللقطة، باب 7، حديث 2434، وفي الديات، باب 8، حديث 6880، ومسلم في الحج، حديث 1355، عن أبي =

ص: 511

عامًا، وتخصيصها بذلك لتأكدها، لا لتخصيصها، كقوله صلى الله عليه وسلم:"ضالَّةُ المسلم حَرَق النَّارِ"

(1)

وضالة الذمي مقيسة عليها.

= هريرة رضي الله عنه.

(1)

روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم، منهم:

أ - عبد الله بن الشخير رضي الله عنه: أخرجه النسائي في الكبرى (3/ 414) حديث 5790، وابن ماجه في اللقطة، باب 18، حديث 2502، وابن سعد (7/ 34)، وأحمد (4/ 25)، والطحاوي (4/ 133) وفي شرح مشكل الآثار (12/ 152) حديث 4722، وابن حبان "الإحسان"(11/ 249) حديث 4888، والطبراني في الأوسط (2/ 152) حديث 1547، وأبو نعيم في الحلية (9/ 33)، والبيهقي (6/ 191)، والبغوي في شرح السنة (8/ 316 - 317) حديث 2209، 2210، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 63) حديث 891: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات.

ب - الجارود بن المعلى رضي الله عنه: أخرجه النسائي في الكبرى (3/ 414، 415، 418) حديث 5792 - 5797، 5810، 5898، والطيالسي ص/ 183، حديث 1294، وعبد الرزاق (10/ 131) حديث 18603، وأحمد (5/ 80)، والدارمي في البيوع، باب 61، حديث 2601، 2602، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3/ 263 - 264) حديث 1637 - 1641، وأبو يعلى (2/ 220، 3/ 109) حديث 919، 1539، والطحاوي (4/ 133)، وفي شرح مشكل الآثار (12/ 153 - 155) حديث 4723 - 4725، وابن قانع في معجم الصحابة (1/ 154)، وابن حبان "الإحسان"(11/ 248) حديث 4887، والطبراني في الكبير (2/ 264 - 265 - 267) حديث 2109 - 2122، وفي الأوسط (6/ 114) حديث 5965، وفي الصغير (2/ 95) حديث 846، والبيهقي (6/ 190 - 191)، والخطيب في الموضح (1/ 303).

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 167): رواه أحمد والطبراني في الكبير بأسانيد، ورجال بعضها رجال الصحيح. وصحح إسناده الحافظ في الفتح (5/ 92)، والمناوي في التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 109)، وضعفه ابن حزم في المحلى (8/ 261).

ج - عصمة بن مالك الخطمي رضي الله عنه: أخرجه الطبراني في الكبير (17/ 184) حديث 489. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 167): وفيه أحمد بن شدين [في =

ص: 512

"تتمة" قال أبو عبيد

(1)

: المُنشد المعرّف، والناشد الطالب.

(أو كان سقوطها) أي: اللُّقطة (من صاحبها بـ) ـــسبب (عدوان غيره) عليه؛ لعموم ما سبق.

فصل

(ولا يجوز له) أي: الملتقِط (التصرف فيها) أي: اللُّقطة بعد تعريفها الحول، ولو بخلط بما لا تتميز منه (حتى يَعْرف وعاءَها، وهو ظَرْفها، كيسًا كان أو غيره) كخرقة مشدودة فيها، وقِدْر وزِقّ فيه اللقطة المائعة، ولفافة على ثياب.

(و) حتى يَعْرف (وكاءَها) بالمدِّ (وهو الخيط) أو السير (الذي تُشَدُّ به) فيَعْرف كونه خيطًا، أو سيرًا، وكون الخيط من إبريسم، أو قطن، أو كتان ونحوه.

(و) حتى يَعْرف (عِفَاصها) بكسر العين المهملة (وهو الشَّد والعَقْد، أي: صفتُهما) فيَعْرف الربط هل هو عقدة أو عقدتان، وأُنْشُوطة

(2)

أو غيرها؛ للاتفاق

(3)

على الأمر بمعرفة صفاتها، وهذه منها. والأنشوطة:

= المطبوع راشد]، وهو ضعيف. والحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير (4/ 252) من حديث الجارود، وعبد الله بن الشخير، وعصمة، ورمز لصحته.

د - عن الحسن مرسلًا: أخرجه النسائي في الكبرى (3/ 414) حديث 5791، وعبد الرزاق (10/ 131) حديث 18604.

(1)

غريب الحديث (2/ 133).

(2)

الأنشوطة، بضم الهمزة: ربطة دون العقدة، إذا مُدَّت بأحد طرفيها انفتحت. المصباح المنير، ص/ 606، مادة (نشط) وانظر ما يأتي في كلام المؤلف.

(3)

الإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان (3/ 1610).

ص: 513

قال في "القاموس"

(1)

: كأنبوبة: عُقْدة يسهل انحلالها كعُقْدة التِّكَّة. وقال في العفاص

(2)

: ككتاب: الوعاء فيه النفقة، جلدًا أو خرقة، وغلافُ القارورة، والجلدة

(3)

تغطى به رأسها. انتهى. فالعفاص مشترك، لكن لما ذُكر مع الوعاء، حُمل على ما يغايره؛ لأنه الأصل في العطف.

(و) حتى يَعْرف أيضًا (قَدْرَها) أي: اللقطة بمعيارها الشرعي، من كيل، أو وزن، أو ذرع، أو عدٍّ.

(و) حتى يَعْرف (جِنْسها، وصِفتَها) التي تتميز بها، وحتى نوعها، ولونها؛ لحديث زيد، وفيه:"فإن جاءَ صاحبُها، فعرَف عفاصها، وعددها ووكاءها، فأعطِها إياه، وإلَّا؛ فهي لكَ" رواه مسلم

(4)

. وفي حديث أُبي بن كعب: "فإن جاء أحدٌ يُخبِرُكَ بعددِها، ووِعائها، ووِكائها، فأعْطِها إيَّاهُ"

(5)

(أي: يجب معرفة ذلك عند إرادة التصرُّف فيها) أي: في اللُّقطة؛ لما تقدم، ولأن دفعها إلى رَبِّها يجب بما ذكر، فلا بُدَّ من معرفته، نظرًا إلى ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ ولأنه إذا عدم ذلك لم يبقَ سبيل إلى معرفتها.

(ويُسنُّ ذلك) أي: أن يَعْرف وعاءها

(6)

وعفاصها، وجنسها،

(1)

ص/ 690، مادة (نشط).

(2)

القاموس المحيط ص/ 623، مادة (عفص).

(3)

في "ذ" والقاموس المحيط: "الجلد".

(4)

في اللقطة، حديث 1722 (6). وأخرجه البخاري في اللقطة، باب 2، 11، حديث 2427، 2438، وفي الطلاق، باب 22، حديث 5292، بنحوه.

(5)

أخرجه مسلم في اللقطة، حديث 1723 (10).

(6)

في "ح" و"ذ" زيادة: "ووكاءها".

ص: 514

وصفتها، وقَدْرها (عند وجدانها) لأن فيه تحصيلًا للعلم بذلك.

(و) يُسنُّ للملتقِط أيضًا (إشهاد عدلين عليها) لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَجَدَ لُقطةً فليُشهِدْ ذَوَي عَدْلٍ" رواه أبو داود

(1)

.

و (لا) يُسنُّ الإشهاد (على صفتها) أي: اللُّقطة؛ لاحتمال شيوعه، فيعتمده المدعي الكاذب. قال في "الشرح" و"المبدع": ويستحب كَتْبُ صفاتها، ليكون أثبت لها؛ مخافة نسيانها.

(فمتى جاء طالبها) ولو بعد الحول (فوصفَها) بالصفات السابقة (لزم دفعها إليه إن كانت عنده، ولو بلا بينة ولا يمين، ظنَّ صدقه أو لا) لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن جاء طالبُها يومًا مِنَ الدَّهرِ، فأدِّها إليه"

(2)

؛ ولأنه يتعذر إقامة البينة عليها غالبًا؛ لسقوطها حال الغفلة والسهو، فلو لم يجب دفعها بالصفة لما جاز التقاطها.

(فإن وجدها) طالبها (قد خرجت عن) ملك (الملتقِط ببيع، أو غيره) بأن باعها الملتقِط، أو وهبها، أو وقفها (بعد مِلْكها) أي: بعد أن

(1)

في اللقطة، باب 1، حديث 1709. وأخرجه - أيضًا - النسائي في الكبرى (3/ 418) حديث 5808، وابن ماجه في اللقطة، باب 2، حديث 2505، والطيالسي ص/ 146، حديث 1081، وابن أبي شيبة (6/ 455)، وأحمد (4/ 162، 266)، وابن الجارود (2/ 238) حديث 761، والطحاوي (4/ 136)، وفي شرح مشكل الآثار (8/ 161، 163 - 164، 12/ 143 - 144) حديث 3133، 3135 - 3137، 4714 - 4716، وابن حبان "الإحسان" (11/ 256) حديث 4894، والطبراني في الكبير (17/ 360) حديث 986، 990، والبيهقي (6/ 187، 193)، وابن عبد البر في التمهيد (3/ 121 - 122)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 234) حديث 1643، عن عياض بن حمار رضي الله عنه.

وصححه ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (3/ 108)، وابن التركماني في الجوهر النقي (6/ 193)، وابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 94).

(2)

تقدم تخريجه (9/ 510) تعليق رقم (1).

ص: 515

عرَّفها حولًا كاملًا (فلا رجوع) لطالبها في عينها؛ لأن تصرف الملتقِط وقع صحيحًا، لدخولها في ملكه (وله) أي: لطالبها (بدلها) على الملتقِط، أي: مثلها إن كانت مِثلية، وإلا، فقيمتها؛ لتعذُّر ردِّها، لما تقدم.

(فإن أدركها) طالبها (مبيعة بيع الخيار) بأن بيعت بشرط الخيار (للبائع، أو لهما) أي: البائع والمشتري، وقوله (في زمنه) متعلق بـ "أدركها" أي: زمن الخيار (وجبَ) على البائع (الفسخ) ليردها لربِّها؛ لقدرته عليه. وعُلم من كلامه: أنه لو كان الخيار للمشتري وحده، فليس لربِّها إلا البدل، ما لم يختر المشتري الفسخَ، ولا يلزمه.

(أو) أدركها ربُّها بعد الحول (مرهونة) ولو مقبوضة (فله انتزاعها) من المرتهن أو نائبه؛ لقيام ملكه، وانتفاء إذنه؛ قاله الحارثي. وقال في "الإنصاف": قلت: يتوجَّه عدم الانتزاع؛ لتعلُّق حقِّ المرتهن به، ويؤيده قوله في "الشرح": وسائر أحكام الرجوع ههنا، كحكم رجوع الزوج على ما نذكره إن شاء الله.

(فإن صادفها ربُّها، قد رجعت إليه) أي: إلى الملتقِط بعد خروجها عن ملكه (بفَسخٍ أو غيره، أخذها) لأنه وجد عين ماله في يد الملتقِط، فكان له أخذها كالزوج إذا طلَّق قبل الدخول، فوجد الصداق قد رجع إلى المرأة.

وحيث أخذ اللُّقطة طالبها فإنه يأخذها (بنمائها المتصل) لأنه ملك مالكها، ولا يمكن انفصالها عنه؛ ولأنه يتبع في العقود والفسوخ.

(فأما) النماء (المنفصل قبل مضي الحول، فـ) ــهو (لمالكها) لأنه نماء ملكه (و) النماء المنفصل (بعده) أي: بعد حول التعريف (لواجدها)

ص: 516

لأنه مَلَك اللُّقطة بمضي الحول، فنماؤها إذًا نماء ملكه؛ ولأنه يضمن النقص بعد الحول، فتكون له الزيادة، ليكون الخراج بالضمان، بخلاف المفلس، فإنه لا يضمن النقص لغيره.

(ووارث ملتقِط، كهو) أي: كالملتقِط (في تعريفٍ وغيره) لقيامه مقامه، فإن مات قبل تمام الحول، قام وارثُه مقدمه في إتمام تعريفها، ودخلت في ملكه بعد تمام التعريف، وإن مات بعد الحول، ورثها ورثته كسائر أمواله.

(فإن مات الملتقِطُ بعد تمام الحول، ثم جاء صاحبُها، أَخَذها من الوارث) إن كانت موجودة، كما يأخذها من الموروث.

(وإن كانت) اللُّقطة (معدومة، فصاحبها غريم بها) أي: بمثلها، إن كانت مثلية، أو بقيمتها، فيأخذ ذلك من تركته، وإن ضاقت، زاحم الغرماء، و (إن كان تَلَفها بعد الحول بفعله) أي: المورث أو الوارث (أو بغير فعله) لأنها قد دخلت في ملكه بمضي الحول.

(وإن تلِفت) اللُّقطة (أو نقصت، أو ضاعت قبل مضي الحول، لم يضمنها) الملتقِط ولا وارثه (إن لم يفرِّط؛ لأنها في يده أمانة.

و) إن تلفت، أو نقصت، أو ضاعت (بعد الحول، يضمنها - ولو لم يفَرِّط -) لدخولها في ملكه إذًا (بمثلها، إن كانت مثلية، وإلا) تكن مثلية، ضَمِنها (بقيمتها يومَ عرف ربَّها، سواء تلفت بفعله، أو بغير فعله) لصيرورتها بملكه بعد حول التعريف.

وإذا مات الملتقِط، ولم يُعلم تلف اللُّقطة، ولم توجد في تركته، فصاحبها غريم بها، سواء كان قبل الحول، أو بعده؛ لأن الأصل بقاؤها.

(ولا يكفي تصديق عبد) ولا أَمَةِ (ملتقِط) أي: لو كان بيد قنٍّ عينٌ،

ص: 517

وجاء طالبها، وقال: هي لُقطة، ووصفها، لم يكف تصديق القِن (لواصف) على أنها لُقطة (بل لا بُدَّ من بينة؛ لأن إقرار العبد لا يصح فيما يتعلق بنفسه) أي: برقبته؛ لأنه إقرار على سيده، بخلاف إقراره بنحو طلاق.

(فإن وصفها) أي: اللقطة (اثنان) فأكثر (معًا، أو وصفها الثاني) بعد الأول، لكن (قبل دفعها إلى الأول) أُقرع بينهما (أو أقاما بينتين) باللقطة (أُقرع بينهما) لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر (فمن قَرَع) أي: خرجت له القرعة (حلف) أن اللقطة له؛ لاحتمال صدق صاحبه (وأخذها) لأن ذلك فائدة القرعة.

(و) إن وصفها إنسان (بعد دفعها) لمن وصفها أولًا (لا شيء للواصف الثاني) لأن الأول استحقها بوصفه إياها، مع عدم المنازع له حين أخذها، وثبتت يده عليها، ولم يوجد ما يقتضي انتزاعها منه، فوجب بقاؤها له كسائر ماله.

(ولو ادعاها) أي: اللقطة (كلُّ واحد منهما، فوصفها أحدهما دون الآخر، حلف) واصفها (وأخذها) لترجُّحه بوصفها.

(ومثله وَصفُه مغصوبًا ومسروقًا) ومنهوبًا ونحوه، فإنه (يستحقه بالوصف) ولا يكلف بينة تشهد به (ذكره القاضي وأصحابه على قياس قوله) أي: الإمام

(1)

: (إذا اختلف المؤجر والمستأجر في دِفن الدار) بكسر الدال، أي: المدفون بها (مَنْ وصَفَه، فهو له) لترجُّحه بالوصف.

(1)

مسائل الفضل بن زياد، كما في المغني (8/ 321)، وبدائع الفوائد (4/ 76)، والإنصاف (6/ 423).

ص: 518

قال في القاعدة الثامنة والتسعين

(1)

: من ادَّعى شيئًا ووصفه، دُفع إليه بالصفة، إذا جُهل ربه، ولم تثبت عليه يد من جهة مالكه، وإلا؛ فلا.

(ولا يجوز) للملتقِط (دفعها) أي: اللقطة لطالبها (بغير وصف ولا بينة، ولو ظهر صدقه) لاحتمال كذبه، ويضمن الدافع إن جاء آخرُ ووصَفها، وقرار الضمان على الآخذ، وللملتقط مطالبة آخذها بها، إن لم يأت أحد؛ لأنه لا يأمن مجيء ربها وطلبه بها، ولأنها بيده أمانة.

(وإن) وصفها إنسان، ودفعها إليه، ثم (أقام آخرُ بينةً أنها له، أخذها من الواصف) لأن البينة أقوى من الوصف.

(فإن تلفت عند الواصف، ضَمِنها) الواصف؛ لأن يده عادِيَة، كالغاصب (ولم يضمن الدافع، وهو الملتقِط، إن كان الدَّفْع بإذن حاكم) لأن الدفع إذن واجب عليه، فكأنه بغير اختياره، فلم يضمن، كالمُكرَه.

(ولا يرجع الواصف عليه) أي: على الملتقِط بما يغرمه لمن أقام البينة، بل يستقر عليه ضمانه.

(وكذا لو كان الدَّفْع) من الملتقط للواصف (بغير إذن، حاكم) لأنه بإذن الشرع، فلا ضمان على الملتقِط (لوجوبه) أي: الدفع (عليه) لمن وصفها؛ لما تقدم.

وإن كان الواصف أخذ بدلها لتلفها عند الملتقِط، لم يطالبه ذو البينة، وإنما يرجع على الملتقِط، ثم يرجع الملتقِط على الواصف، إن لم يكن أقر له.

(ومؤنة رَدّها) أي: اللُّقطة (على ربِّها) إن احتاجت لذلك، كالوديعة.

(1)

القواعد الفقهية، لابن رجب ص/ 242.

ص: 519

(ولو قال مالكها) أي: اللقطة (بعد تلفها) في حول التعريف بلا تفريط (أخَذْتَها لتَذْهب بها) لا لتعرِّفها، فأنت ضامن (وقال الملتقِط: بل) أخذتُها (لأُعَرِّفها، فقوله) أي: الملتقِط (مع يمينه) لأنه منكِرٌ، والأصل براءته.

(وإن وجد) مشترٍ (في حيوان اشتراه، كشاة ونحوها، نقدًا، فـ) ــهو (لقطة لواجده، يُعَرِّفها) أي: يلزمه تعريفها، كسائر الأموال الضائعة.

(ويبدأ) في التعريف (بالبائع؛ لأنه يحتمل أن تكون) الشاة (ابتلعتها من ملكه؛ كما لو وجد صيدًا مخضوبًا، أو في أذنه قُرْطٌ، أو في عنقه خرز) فإنه لُقطة؛ لأن ذلك الخضاب ونحوه يدل على ثبوت اليد عليه قبل ذلك.

(وإن اصطاد سمكةً من البحر

(1)

، فوجد في بطنها دُرَّةً غير مثقوبة، فهي) أي: الدُّرَّة (له)

(2)

للصائد؛ لأن الظاهر ابتلاعها من معدنها؛ لأن الدُّرَّ يكون في البحر، قال تعالى:{وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}

(3)

.

(وإن باعها) أي: السمكة (غيرَ عالم بها) أي: بالدُّرَّة (لم يَزُل ملكُه) أي: الصياد (عنها) أي: الدُّرَّة (فتردُّ إليه) لأنه إذا علم ما في بطنها لم يبعه، ولم يرض بزوال ملكه عنه، فلم يدخل في البيع (كما لو باع دارًا له فيها مال) مدفون (لم يَعْلَم به.

وإن وجد) الصياد (في بَطْنِها) أي: السمكة (ما لا يكون إلا لآدمي،

(1)

في "ح": "في وسط البحر".

(2)

في "ذ" زيادة: "أي".

(3)

سورة النحل، الآية:14.

ص: 520

كدراهم أو دنانير، أو) وجد فيه (دُرَّة أو غيرها مثقوبة، أو متصلة بذهبٍ، أو فضةٍ، أو غيرهما) فلُقطة، لا يملكها الصياد، بل يُعرِّفها.

(أو) وجد ما ذكر (في عَيْنٍ، أو نهر، ولو) كان النهر (مُتَّصلًا بالبحر، فَلُقطة، على الصياد تعريفها) عملًا بالقرائن.

(وإن وَجَدها) أي: الدراهم، أو الدنانير، أو الدُّرَّة المثقوبة ونحوها (المشتري) للسمكة (فالتعريف عليه) لأنه الملتقِط.

(وإن اصطادها) أي: السمكة (من عين، أو نهر غير متصل بالبحر، فكالشاة، في أنَّ ما وجد في بطنها من دُرَّة مثقوبة، أو غير مثقوبة، لُقطةٌ) لأن العين والنهر غير المتصل ليس معدنًا للدُّرِّ.

وعُلم منه: أنه إن كان متصلًا بالبحر، وكانت الدُّرَّة غير مثقوبة، أنها للصياد.

(وإن وجد) إنسان (عنبرة على الساحل، فحازها، فهي له) لأن الظاهر أن البحر قذف بها، فهي مباحة، ومن سبق إلى مباح فهو له. وإن لم تكن على الساحل، فلُقطة يُعرِّفها.

(ومن أُخِذ متاعُه، كثياب في حمَّام) وتُرِك له بدله، فلُقطة (أو أُخِذ مداسه، وتُرك بدله، فلُقطة) لا يملكه بذلك؛ لأن سارق الثياب، ونحوها، لم يجرِ بينه وبين مالكها معاوضة تقتضي زوال ملكه عنها، فإذا أخذها فقد أخذ مال غيره، ولا يعرف صاحبه، فيعرِّفه كاللُّقطة.

(ويأخذ) ربُّ الثياب ونحوها (حقَّه منه) أي: مما تُرِكَ له (بعد تعريفه) من غير رفعه إلى حاكم. قال الموفق: هذا أقرب إلى الرفق بالناس؛ لأن فيها نفعًا لمن سُرقت ثيابه، بحصول عوض عنها، ونفعًا للآخر - إن كان سارقًا - بالتخفيف عنه من الإثم، وحفظًا لهذه الثياب عن

ص: 521

الضياع، فلو كانت الثياب المتروكة أكثر قيمة من المأخوذ، فإنما يأخذ منها بقَدْر قيمة ثيابه، لأن الزائد فاضل عما يستحقه، ولم يرضَ صاحبها بتركها عوضًا عَمَّا أخذه، ويتصدَّق بالباقي.

(ومن وَجَد لُقطة بدار حرب، وهو) أي: الواجد (في الجيش، عَرَّفها سنة، ابتداؤها) أي: السنة (في الجيش) لاحتمال أن تكون لأحدهم (و) يُعرِّفها (بقيتها) أي: بقية السَّنة (في دار الإسلام، ثم) إذا تَمَّ تعريفها (وضعها) أي: اللُّقطة (في المغنم) لأنه وصل إلها بقوة الجيش، فأشبهت مباحات دار الحرب، إذا أخذ منها شيئًا.

(وإن كان) الملتقِط (دخل) دار الحرب (بأمان، عرَّفها) أي: اللُّقطة (في دارهم) حولًا؛ لأن أموالهم محرَّمة عليه (ثم هي) أي: اللُّقطة (له) أي: لواجدها (إلا أن يكون في جيش، فكالتي قبلها) أي: يضعها في المغنم؛ لما تقدم.

وإن دخل إليهم متلصصًا، فوجد لُقطة، عرَّفها في دار الإسلام؛ لأن أموالهم مباحة له، ثم يكون حكمها حكم غنيمته، ويحتمل أن تكون غنيمة له لا تحتاج إلى تعريف؛ لأن الظاهر أنها من أموالهم؛ قاله في "المغني".

(وإن وجد لُقطة في غير طريق مأتي) أي: مسلوك (فهي لُقطة) تُعرَّف، كالتي في الطريق المسلوك.

ص: 522

فصل

(ولا فرق) في وجوب تعريف اللُّقطة حولًا، وملكها بعده (بين كون الملتقط غنيًّا أو فقيرًا، مسلمًا أو كافرًا، عَدْلًا أو فاسقًا، يأمن نفسه عليها) لأن الالتقاط نوع اكتساب، فاستووا فيه، كالاحتشاش والاصطياد، وأما من لا يأمن نفسه عليها، فيحرم عليه أخذها، وتقدم

(1)

.

(ويُضَمُّ) أي: يضم الحاكم إذا علم بها (إلى الكافر والفاسق أمين في تعريفها وحفظها) قطع به في "المغني" وغيره؛ لأنهما لا يؤمنان على تعريفها، ولا يؤمن أن يُخِلَّا في التعريف بشيء من الواجب عليهما. وأجر المشرف عليهما؛ قاله في "المغني" و"الشرح" في المشرف على الكافر، وقالا: وإن لم يمكن المشرف حفظها منه، انتزعت من يده وتركت في يد عدل، فإذا عرَّفها، وتمَّت السنة، ملكها ملتقطها؛ لأن سبب الملك وُجِد منه.

(وإن وجدَها) أي: اللُّقطة (صغيرٌ، أو سفيهٌ، أو مجنونٌ) صَحَّ التقاطه؛ لأنه نوع تكسُّب كالاصطياد، و (قام وليُّه بتعريفها) لأنه قد ثبت لواجدها حق التملك فيها، فكان على وليه القيام بها (فإذا عرَّفها) الولي (فهي لواجدها) لأن سبب الملك تمَّ بشرطه.

ولو كان الصغير مميزًا، فعرَّفها بنفسه، قال الحارثي: فظاهر كلامه في "المغني" عدم الإجزاء، والأظهر: الإجزاء؛ لأنه يعقل التعريف، فالمقصود حاصل. انتهى.

وإن لم يعرِّفها الصغير، ولا الولي، فنص الإمام

(2)

: إن وجد

(1)

(9/ 500).

(2)

مسائل العباس بن موسى كما في المغني (8/ 334)، والشرح الكبير مع المقنع =

ص: 523

صاحبها، دفعها إليه، وإلا؛ تصدق بها، قد مضى أجل التعريف فيما تقدم من السنين. وهذا يؤيد ما جزم به المصنف فيما تقدم أن تأخير التعريف لعُذر كتأخيره بلا عُذر؛ لأن الصغير من أهل العُذر.

(وإن تركها الولي بيده) أي: يد الصغير، أو السفيه، أو المجنون (بعد علمه) أي: الولي بها (ضمنها الولي) لأنه المضيع لها؛ لأنه يلزمه حفظ ما يتعلق به حقُّ موليه.

(وإن تلفت) اللُّقطة (بيد أحدهم) أي: الصغير، أو المجنون، أو السفيه (بغير تفريط) من أحد منهم، ولا من الولي (فلا ضمان عليه) لأنها كالأمانة (وإن فرَّط) فيها واجدها الصغير، أو السفيه، أو المجنون، فتلفت (ضَمِنها في ماله، كإتلافه، وكعبد.

وللعبد التقاطها) لعموم الأحاديث؛ ولأن الالتقاط سبب يملك به الصغير، ويصح منه، فصح من الرقيق.

(و) للعبد إذا التقطها (تعريفها بلا إذن سَيِّده، كاحتطابه واحتشاشه واصطياده) لأنه فِعْلٌ حِسي، فلم يمكن ردُّه.

(وله) أي: العبد (إعلام سَيِّده العَدلِ بها، إن أمنه) عليها (وإلا) يأمن سيده عليها (لزم) العبد (سترها عنه) أي: عن سيده؛ لأنه يلزمه حفظها، وذلك وسيلة إليه، ويسلِّمها للحاكم ليعرِّفها، ثم يدفعها إلى سيده بشرط الضمان.

(ولسيِّده العدل أخْذُها منه) ليعرِّفها، فإن عرَّفها وأدَّى الأمانة فيها، فتلفت في الحول الأول بغير تفريط، فلا ضمان فيها؛ لأنها لم تتلف بتفريط أحدهما (أو تَرْكها) أي: ولسيده تركها (معه) أي: العبد (ليعرِّفها

= والإنصاف (16/ 270).

ص: 524

إن كان) العبد (عَدْلًا) فيكون السيد مستعينًا به في حفظها، كما يستعين به في حفظ سائر ماله.

وإن كان العبد غير أمين، كان السيد مفرِّطًا بإقرارها في يده، فيضمنها إن تلفت، كما لو أخذها من يده، ثم رَدَّها إليه؛ لأن يد العبد كيده.

وإن أعتق السيد عبده بعد التقاطه، كان له انتزاع اللُّقطة من يده؛ لأنها من كسبه.

(فإن أتلفها) أي: اللُّقطة (العبد، أو تلفت) اللُّقطة (بتفريطه قبل الحول، أو بَعْده، ففي رقبته) ضمانها؛ لأنه أتلف مال غيره، فكان ضمانه في رقبته، كغير اللقطة.

(ومثله) أي: العبد فيما تقدم (أمُّ ولد، ومدبَّرٌ، ومعلَّقٌ عتْقُه بصفة، لكن إن تلفت) اللقطة (بتفريط أُمِّ الولد، فداها سَيدُها بالأقلِّ من قيمتها، أو قيمة ما أتلفته) كسائر إتلافاتها.

(والمكاتَب) في التقاط (كالحرِّ) لأن المُكاتَب يملك أكسابه، وهذا منها، ومتى عاد قِنًّا بعجزه، كانت كَلُقطة القِن.

(و) لُقطة (من بعضُه حُرٌّ، بَيْنَه وبينَ سيِّده) على قَدْر ما فيه من الحرية والرق، كسائر أكسابه (ولو كان بينَهما) أي: بين المبعَّض وسيده (مُهايَأةٌ) أي: موافقة على أن يكون كسبه لنفسه مدة معلومة، ولسيده مدة معلومة.

(وكذا حكم نَادرٍ مِن كَسْبه، كهبةٍ وهديَّة ووَصيَّةَ ورِكازٍ ونحوه) كنثار يقع في حجره؛ لأن الكسب النادر لا يعلم وجوده ولا يظن، فلا يدخل في المُهايأة.

ص: 525

وإن كان الرقيق الملتقط بين شركاء، فاللقطة بينهم على قَدْر حصتهم منه.

(ولو استيقظَ نائِمٌ) أو مغمىً عليه (فوجَد في ثوبه مالًا لا يدري من صَرَّه) أو وجد في كيسه - قلت: أو جيبه - مالًا لا يدري من وضعه فيه (فهو) أي: المال (له) أي: للنائم ونحوه (ولا تعريف) عليه؛ لأن قرينة الحال تقتضي تمليكه له.

ص: 526

‌باب اللقيط

فعيل بمعنى مفعول، كقتيل وجريح، والأنثى لقيطة.

(وهو) أي: اللَّقيط (طِفْل) لا مميز (لا يُعرف نَسبه، ولا) يُعرف (رِقُّه، نُبذ) بالبناه للمفعول، أي: طُرح في شارع، أو باب مسجد ونحوه (أو ضَلَّ) الطريق، ما بين ولادته (إلى سِنِّ التمييز) قال في "الإنصاف": فقط، على الصحيح من المذهب (وقيل: والمُمَيِّزُ) لقيط - أيضًا - (إلى البُلُوغ، وعليه الأكثرُ) قاله في "التنقيح". قال في "الفائق": وهو المشهور، قال الزركشي: هذا المذهب. قال في "التلخيص": والمختار عند أصحابنا أن المميز يكون لقيطًا؛ لأنهم قالوا: إذا التقط رجل وامرأة معًا من له أكثر من سبع سنين، أقرع ولم يخير، بخلاف الأبوين.

وعُلم مما تقدم: أنه لو نُبذ أو ضَلَّ طفل معروف النسب، أو معلوم الرق، فرفعه من يعرفه أو غيره، فهو لقيط لغةً؛ لا شرعًا.

(والتقاطُه فَرضُ كفايةٍ) لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}

(1)

؛ ولأن فيه إحياء نفسه، فكان واجبًا، كإطعامه إذا اضطر، وإنجائه من نحو غرق، فلو تركه جميع من رآه أثموا.

ويحرم النبذ، لأنه تعريض بالمنبوذ للتلف.

(ويُستحبُّ للملتقِط الإشهادُ عليه) كاللُّقطة، ودفعًا لنفسه؛ لئلا تراوده باسترقاقه.

(و) يُستحب - أيضًا - للملتقِط الإشهاد (على ما معه) أي: اللقيط، من مال؛ صونًا لنفسه عن جحده.

(1)

سورة المائدة، الآية:2.

ص: 527

(وهو) أي: اللقيط (حرٌّ في جميع أحكامه) حتى في قذف وقَوَد؛ لأنها الأصل في الآدميين، فإن الله خلق آدم وذريته أحرارًا، وإنما الرِّق لعارض، فإذا لم يعلم ذلك العارض، فله حكم الأصل.

وهو - أيضًا - (مسلم) لظاهر الدار، وتغليب الإسلام، فإنه يعلو ولا يُعلى عليه (إلا أن يُوجد) اللقيط (في بلد كُفَّار حرب، ولا مُسلمَ فيه) أي: في بلد الحرب (أو فيه مسلم كتاجر وأسير، فكافر رقيق) لأن الدار لهم، وإذا لم يكن فيها مسلم كان أهلها منهم، وإن كان فيها قليل من المسلمين، غلب فيها حكم الأكثر من أجل كون الدار لهم. قال في "الرعاية": وإن كان فيها مسلم ساكن، فاللقيط مسلم، وإلى ذلك أشار الحارثي، فقال: مَثَّل الأصحاب في المسلم هنا بالتاجر والأسير، واعتبروا إقامته زمنًا ما، حتى صَرَّح في "التلخيص" أنه لا يكفي مروره مسافرًا.

(فإن كَثُر المسلمونَ) في دار الحرب (فـ) ــاللقيط (مسلم) قلت: حرٌّ؛ لما تقدم.

(وإن وجد) اللقيط (في دار الإسلام في بلدٍ كلُّ أهلها) أهل (ذِمَّةٍ، فكافر) لأن تغليب حكم الإسلام إنما يكون مع الاحتمال، وهذه لا مسلم فيها يحتمل كونه منه. وقال القاضي وابن عقيل: مسلم؛ لأن الدار للمسلمين؛ ولاحتمال كونه من مسلم يكتم إيمانه.

(وإن كان فيه) أي: بلد الإسلام الذي كلُّ أهلهِ ذمةٌ (مسلم) ولو واحدًا (فـ) ــاللقيط (مسلم، إن أمكن كونه) أي: اللقيط (منه) أي: من المسلم بها؛ تغليبًا للإسلام، ولظاهر الدار، وإن لم يبلغ من قلنا بكفره تبعًا للدار، حتى صارت دار إسلام، فَمُسلم.

ص: 528

(ولا تجب نفقته) أي: اللقيط (على ملتقطِه) لأنه لا يرثه (ويُنفَق عليه من بيت المال، إن لم يكن معه) أي: اللقيط (ما ينفق عليه) لما روى سعيد عن سُنَين أبي جميلة قال: "وَجدْتُ ملقُوطًا، فأتَيْتُ به عمرَ رضي الله عنه، فقال عريفي: يا أمير المؤمنينَ إنَّه رجلٌ صالحٌ، فقال عمرُ: أكذلكَ هو؟ قال: نَعَمْ، قال: فاذهَبْ، هو حُرٌّ، ولكَ ولاؤُهُ، وعلينا نفقتُهُ أو رضاعُهُ"

(1)

.

(فإن تعذَّر) الإنفاق عليه من بيت المال؛ لكونه لا مال فيه، أو لكون البلد ليس بها بيت مال ونحوه (اقترضَ حاكمٌ على بيتِ المال) وظاهره: ولو مع وجود متبرع بها؛ لأنه أمكن الإنفاق عليه بدون منة تلحقه في المستقبل، أشبه الأخذ لها من بيت المال؛ قاله في "شرح المنتهى".

(فإن تَعذَّر) على الحاكم الاقتراض على بيت المال، أو كان لا

(1)

أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (7/ 311)، والبيهقي (10/ 298)، عن الزهري سمع سُنينًا أبا جميلة يحدث سعيد بن المسيب

الحديث بنحوه.

وذكره البخاري في الشهادات، باب 16، عن أبي جميلة معلقًا - بصيغة الجزم - ووصله مالك في الموطأ (2/ 738)، والشافعي في مسنده (ترتيبه 2/ 138)، وعبد الرزاق (7/ 450) رقم 13839 - 13840، وابن سعد في الطبقات (5/ 63)، وابن أبي شيبة (6/ 528، 11/ 406)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (7/ 310)، والطبراني في الكبير (7/ 102) رقم 6498 - 6500، والبيهقي (6/ 201 - 202)، وفي معرفة السنن والآثار (9/ 90) رقم 12462، من طرق عن الزهري، عن سُنين أبي جميلة، يقول: وجدت منبوذًا

الحديث.

وصححه ابن حزم في المحلى (8/ 274)، وابن حجر في تغليق التعليق (3/ 391).

وقال الزيلعي في نصب الراية (3/ 465): قال الدارقطني في كتاب العلل: وبعضهم رواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي جميلة، قال: والصواب ما رواه مالك.

ص: 529

يمكن الأخذ منه (فعلى مَنْ عَلم حاله الإنفاقُ) عليه (مجَّانًا) للأمر بالتعاون على البر والتقوى، وبالعدل والإحسان؛ ولأنه إحياء معصوم، وإنقاذ له من التلف، فوجب، كإنقاذ الغريق.

(ولا يرجع

(1)

) المنفِق بما أنفقه عليه (لأنها فرض كفاية) إذا قام بها البعض، سقطت عن الباقين؛ لحصول المقصود، وإن ترك الكلُّ أثموا، ولأنها وجبت للمواساة، فهي كنفقة القريب وقِرى الضيف.

(وإن اقترضَ الحاكمُ ما أنفق عليه) أي: اللقيط (ثم بان رقيقًا، أو له أب موسر، رَجَع) الحاكم (عليه) أي: على سيد الرقيق، وأبي الحرِّ الموسر؛ لأن النفقة حينئذ واجبة عليهما. قلت: وقياس الأب وارث موسر، ويؤيده قوله (فإن) اقترض الحاكم على اللقيط، و (لم يَظْهر له أحدٌ) تجب عليه نفقته (وفَّى) الحاكم ما اقترضه (مِنْ بيت المال) لأن نفقته حينئذ واجبة فيه، وإن كان للقيط مال تعذَّر الإنفاق منه لمانع، أو ينتظر حصوله من وقف أو غيره، فلمَن أنفق عليه بنية الرجوع أن يرجع؛ لأنه في هذه الحالة غني عن مال الغير؛ هذا معنى كلام الحارثي، وقال: وإذا أنفق الملتقِط أو غيره نفقة المِثْل بإذن الحاكم ليرجع، فله الرجوع. وقال في "المغني" و"الشرح": وإن لم يتبرَّع أحد بالإنفاق عليه، فأنفق عليه الملتقط أو غيره؛ بنية الرجوع إذا أيسر، بأمر الحاكم؛ لزم اللقيط ذلك، إذا كانت النفقة قصدًا بالمعروف. وبغير أمر الحاكم، فقال أحمد

(2)

: يؤدي النفقة من بيت المال.

(وما وُجِدَ معه) أي: اللقيط (من فِراش تحتهُ) كوطاء، وبساط،

(1)

زاد في متن الإقناع (3/ 53): "بالنفقة".

(2)

المغني (8/ 356)، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف (16/ 282).

ص: 530

ووسادة، وسرير (أو ثياب) أو حَلْي، أو غطاء عليه (أو مال في جَيْبه، أو تحت فراشه) أو وسادته (أو مدفونًا تحته طريًّا، أو) وجد (مطروحًا قريبًا منه، كثَوْب موضوع إلى جانبه، أو حيوان مشدودٍ بثيابه، فهو له) وكذا ما طُرح فوقه، أو رُبط به، أو بثيابه، أو سريره، وما بيده من عنان دابة، أو مربوط عليها، أو مربوطة به، أو بثيابه؛ قاله الحارثي؛ لأن يده عليه، فالظاهر أنه له، كالمكلَّف، ويمتنع التقاطه بدون التقاط المال الموجود؛ لما فيه من الحيلولة بين المال ومالكه.

(وإن كان) اللقيط (في خيمة) أو نحوها (أو دار، فهي له) إذا لم يكن فيها غيره.

فإن كان ثَمَّ بالغٌ في جميع ما تقدم، فهو به أخص؛ إضافة للحكم إلى أقوى السببين، فإن يد اللقيط ضعيفة بالنسبة إلى يد البالغ. وإن كان الثاني لقيطًا، فهو بينهما نصفين؛ لاستواء يدهما، إلا أن توجد قرينة تقتضي اختصاص أحدهما بشيء دون شيء، فيعمل بها، وما وُجِدَ بعيدًا عنه، أو مدفونًا تحته غير طري، فَلُقطة.

(وأَولى الناس بحضانته) واجده؛ لأنه سبق إليه، فكان أَولى به.

(و) أَولى الناس بـ (ـــحفظ ماله واجده) لأنه وليه (إن كان أمينًا) لما تقدم عن عمر رضي الله عنه (مكلفًا) لأن غير المكلف لا يلي أمر نفسه، فلا يلي أمر غيره (رشيدًا) لأن السفيه لا ولاية له على نفسه، فغيره أَولى (حرًّا) تامَّ الحرية؛ لأن كلًّا من القنِّ، والمدبَّر، وأمّ الولد، والمعلَّق عتقه بصفةٍ؛ منافعُه مستحَقَّة لسيده، فلا يصرفها في غير نفعه إلا بإذنه، وكذا المكاتَب ليس له التبرُّع بماله ولا منافعه إلا بإذن سيده (عَدْلًا) لأن عمر رضي الله عنه أقرَّ اللقيط في يد أبي جميلة حين قال له عريفه: "إنَّهُ رجلٌ

ص: 531

صالحٌ"

(1)

(ولو) كان (ظاهرًا)، أي: لم تعلم عدالته باطنًا، كولاية النكاح والشهادة فيه، وأكثر الأحكام.

(وله) أي: لواجده المتصف بما تقدم (الإنفاق عليه مما وجد معه بغير إذن حاكم) لأنه وليه، بخلاف من أودع مالًا وغاب وله ولد، فلا ينفق الوديع على ولده من الوديعة؛ لأنه لا ولاية له، بل تقوم امرأته إلى الحاكم حتى يأمره بالإنفاق؛ لاحتياجه إلى نظر الحاكم.

(والمستحبُّ) لواجد اللقيط الإنفاق (بإذنه) أي: الحاكم (إنْ وُجِد) لأنه أبعد من التهمة، وأقطع من الظنة

(2)

، وفيه خروج من الخلاف، وحفظ لماله من أن يرجع عليه بما أنفق.

(وينبغي) لولي اللقيط (أن ينفق عليه بالمعروف كـ) ـــولي (اليتيم، فإن بلغ اللقيط، واختلفا) أي: اللقيط وواجده (في قَدْر ما أنْفق) واجده عليه، فقول المتفق بيمينه (أو) اختلفا (في التفريط في الإنفاق) بأن قال اللقيط: أنفقت فوق المعروف، وأنكره واجده (فقول المنفق) بيمينه؛ لأنه أمين، والأصل براءته.

(وله) أي: واجد اللقيط (قَبول هدية له) وهبة (وصدقة، ووصية) وزكاة، وكفارة، ونذر كولي اليتيم؛ ولأن القبول محض مصلحة، فكان له، كحفظه وتربيته.

قلت: ولعل المراد: تجب إذا لم يضرَّ باللقيط، كما تقدم في الحَجْر

(3)

فيما إذا وهب لليتيم رحمه أنه يجب القَبول، إن لم تلزم نفقته.

(1)

تقدم تخريجه (9/ 529) تعليق رقم (1).

(2)

في "ذ": "المظنة".

(3)

(8/ 392 - 393).

ص: 532

وإنما عبَّروا باللام في مقابلة من منع ذلك وجعله للحاكم.

(ولا يُقَرُّ) اللقيط (بيد صبي، و) لا بيد (مجنون، و) لا بيد (سفيه، و) لا بيد (فاسق) ظاهر الفسق؛ لما تقدم (و) لا يُقر - أيضًا - بيد (كافر، واللقيط مسلم) لانتفاء ولاية الكافر على المسلم، ولا يؤمن فتنته في الدِّين (ولا) يُقر اللقيط - أيضًا - (بيد رقيق بلا إذن سَيّده) لانتفاء أهليته للحضانة والولاية على الأحرار.

(وليس له) أي: القِن (التقاطُه بغير إذْنِ سيِّده) لأنه مستحق المنفعة للسيد (إلا ألّا يجد) الرقيق (مَنْ يلتقطه، فيجب) على الرقيق (التقاطه؛ لأنه تخليص له) أي: اللقيط (من الهلكة) وهو واجب في هذه الحال؛ لانحصاره فيه (فإن أذن له سيده) في التقاطه (فهو نائبه) فلا ينزع منه؛ لأن التقاطه إذًا للسيد، والعبد نائب عنه. قال ابن عقيل: وليس للسيد الرجوع في الإذن.

(والمدبَّر، وأمُّ الولد، والمعلَّق عتقُه) بصفة (والمكاتَب، ومَنْ بعضُه حُرٌّ، كالقن) لقيام الرقِّ.

(ولا يُقَرُّ) اللقيط (بيد بدويٍّ يتنقَّلُ في المواضع) لأنه إتعاب للطفل بتنقُّله، فيؤخذ منه ويُدفع إلى من في قرية؛ لأنه أرفه له، وأخف عليه.

(ولا) يُقر - أيضًا - بيد (مَنْ وجَدهُ في الحضَر، وأراد نقله إلى البادية) لأن مقامه في الحضر أصلح له في دينه ودنياه، وأرفه له، وأرجى لكشف نسبه، وظهور أهله.

(فإن التقَطه في البادية مقيمٌ في حِلَّةٍ) بكسر الحاء المهملة: وهي بيوت مجتمعة للاستيطان، أُقر معه؛ لأن الحِلَّة كالقرية في كون أهلها لا ترحل لطلب الماء والكلأ (وأراد) أي: وأراد واجد اللقيط ببادية (النُّقْلة)

ص: 533

به (إلى الحضر، أُقِرَّ) اللقيط (معه) لأنه أرفق به.

(ويصح) أي: يجوز (التقاط ذِمِّي لذمي، ويُقَرُّ) الذمي (بيده) أي: الذمي؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}

(1)

.

(ولو التقط) اللقيطَ (الكافرَ مسلمٌ وكافرٌ، فهما سواء) لاستوائهما في الالتقاط، وللكافر على الكافر الولاية (وقيل: المسلم أحق؛ اختاره جمع) منهم صاحب "المغني" و"الشرح" والناظم. قال الحارثي: وهو الصحيح بلا تردُّد؛ لأنه عند المسلم ينشأ على الإسلام، ويتعلم شرائع الدِّين، فيفوز بالسعادة الكبرى.

(وإن التقطه في الحضر من يريد النُّقْلةَ إلى بلدٍ آخر) لم يُقر بيده (أو) التقطه في الحضر من يريد النقلة (مِن بلدٍ إلى قرية، أو من محلَّة إلى محلَّة) أي: من حِلَّة إلى حِلَّة (لم يُقَرَّ بيده) لأن بقاءه في بلده، أو قريته، أو حِلَّته أرجى لكشف نسبه، وكالمنتقل به إلى البادية (ما لم يكنِ البلدُ الذي كان فيه) واجد اللقيط (وَبِيئًا) أي: وخيمًا (كغُور بِيسان) بكسر الباء الموحدة يليها ياء مثناة تحت ساكنة ثم سين مهملة: بلد بأرض الشام (ونحوه) كالجُحْفَة، فإن كان البلد ربيئًا، أُقِرَّ اللقيط بيد المنتقل عنه إلى بلد لا وباء به، أو دونه في الوباء؛ لأنه مصلحة.

وإن أراد السفر به لغير نقلة، فإن عرفت عدالته، وظهرت أمانته، أُقر بيده.

وإن كان مستور الحال، ففيه وجهان.

(وحيث يقال بانتزاعه) أي: اللقيط (من الملتقِط فيما تقدم) من المسائل (فإنَّما ذلك) الانتزاع (عند وجود الأَولى به) من الملتقِط (فأما إذا

(1)

سورة الأنفال، الآية:73.

ص: 534

لم يوجد) أَولى منه (فإقراره في يده أَولى كيف كان) لرجحانه بالسبق إليه.

(ويقدَّم مُوسر ومقيم من أهل الحضانة، إذا التقطاه) أي: الموسر وضده، أو المقيم وضده (معًا على ضدِّهما) فيقدم الموسر على المعسر؛ لأنه أحظ للقيط، ويقدَّم المقيم على المسافر؛ لأنه أرفق باللقيط (فإن تساويا) أي: الملتقطان في اليسار أو الإقامة (وتَشَاحَّا) بأن لم يرض أحدهما بإسقاط حقه، وتسليم اللقيط إلى صاحبه (أُقْرع بينهما) لقوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}

(1)

؛ ولأنه لا مرجِّح لأحدهما، والحضانة لا تتبعض، والمهايأة فيها إضرار بالطفل؛ لأنه تختلف عليه الأغذية والأنس والإلف.

(والبَلديُّ، والكريم، وظاهر العدالة، وضدُّهم) أي: البلدي والقروي سواء، والكريم والبخيل سواء، وظاهر العدالة ومستورها سواء؛ لاستوائهما في الأهلية (والرجل والمرأة سواء) فلا تُقدم عليه، بخلاف الحضانة؛ لأنهما أجنبيان عن الطفل، فيستويان فيه، وإنما قُدِّمت في الحضانة؛ لقرابتها المقتضية للشفقة، وكون الرجهل إنما يحضن بأجنبية.

(والشركة في الالتقاط أن يأخُذاه جميعًا) أي: معًا (ووضْعُ اليد عليه كالأخذ، ولا اعتبارَ بالقيام المجرَّد) عن الأخذ، ووضع اليد (عنده) أي: عند اللقيط؛ لأن الالتقاط حقيقة في الأخذ، وفي معناه: وضع اليد، فلا يوجد بدونهما (إلا أن يأخذه) الملتقط (للغير بأمره، فالملتقط هو الآمر في قول) من يقول بصحة التوكيل في الالتقاط (والآخِذُ نائب عنه) أي: الآمر، فهو كاستنابته في أخذ المباح، وتقدم في

(1)

سورة آل عمران، الآية:44.

ص: 535

الوكالة

(1)

: لا تصح في الالتقاط، فالملتقِط هو الآخذ لا الآمر (فإن نوى) المأمور (أخذَهُ لنفسه، فهو أحق به) ولو قلنا بصحة الوكالة؛ لأنه بنيَّة أَخْذِه لنفسه عزَل نفسَه.

(وإن اختلفا في الملتقِط منهما) بأن ادَّعى كلٌّ منهما: أنه الذي التقطه وحده (قُدِّم عن له بينةٌ) به (سواءٌ كان في يده، أم في يد غيره) إعمالًا لبيِّنته (فإن كان لكلِّ واحد منهما بينةٌ، قُدِّم أسبقهما تاريخًا) لأن الثاني إنما أخذ ممن ثبت الحق له. قال الحارثي: وهذا التعليل يقتضي أن اللقيط لا يقبل الانتقال من شخص إلى شخص، وليس كذلك، فإنه جائز في بعض الحالات، فهو كالمال، فيجري فيه ما في بينة المال من رواية اعتبار سبق التاريخ، ورواية

(2)

تساويهما؛ أعني البينتين.

(فإن اتحدتا تاريخًا، أو أُطلِقَتا، أو أُرِّخت إحداهما، وأُطلقت الأخرى، تعارضتا وسقطتا) فيصيران كمن لا بينة لهما، إن لم يكن بيد أحدهما، فإن كان بيد أحدهما، فكدعوى المال، فَتُقدَّم بينة خارج.

(وإن لم تكن لهما بينة، قدِّم صاحب اليد مع يمينه) لأن اليد تفيد الملك، فأَولى أن تفيد الاختصاص.

(فإن كان) اللقيط (في أيديهما، أقرع بينهما) لتساويهما في موجب الاستحقاق، ولا سبيل إلى اشتراكهما في كفالته كما تقدم (فمن قَرَع) أي: خرجت له القُرعة (سلِّم إليه مع يمينه.

وإن لم يكن لهما يدٌ، فوصفَه أحدُهما بعلامةٍ مستورة في جسده) بأن يقول: بظهره، أو بطنه، أو كتفه، أو فخذه شامة، أو أَثَرُ جرح أو

(1)

(8/ 418).

(2)

المغني (8/ 366).

ص: 536

نار، ونحوه، فكشف ووجد كما ذكر (قُدِّم)، على من لم يصفه به؛ لأن هذا نوع من اللقطة، فقدم بوصفها كلقطة المال، ولأنه يدل على سبق يده عليه (فإن وصفاه جميعًا) بما تقدم (أُقرع بينهما) لانتفاء المرجح لأحدهما على الآخر.

(وإن لم يكن) اللقيط (في أيديهما، ولا في يد واحد منهما، ولا بينة لهما، ولا لأحدهما، ولا وصفاه، ولا) وصفه (أحدهما، سلَّمه القاضي إلى مَنْ يرى

(1)

منهما، أو من غيرهما) لأنه لا يَدَ لهما ولا بينة، فاستويا وغيرهما فيه، كما لو لم يتنازعاه. وقال في "المغني": الأولى أن يُقرع بينهما.

(ولا تخيير للصبي) إذ لا مستند له، بخلاف اختياره أحد الأبوين؛ لأنه يستند إلى تجربة تقدمت؛ قاله في "التلخيص".

(ومن أسقطَ حَقَّه) من المتنازعين فيه، أو ممن التقطاه معًا (منه) أي: من اللقيط (سقط) حقه؛ لأن الحق لهما، فكان لكلٍّ منهما تركه للآخر، كالشفيعين.

فصل

(وميراث اللَّقيط) - إن مات - لبيت المال، إن لم يخلِّف وارثًا، ولا يرثه الملتقِط؛ لأنه إذا لم يكن رحِم ولا نِكاح، فالإرث بالولاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنَّما الولاءُ لمَن أعتقَ"

(2)

والملتقِط ليس معتِقًا. وحديث

(1)

في "ذ": "يريد" وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة "يرى".

(2)

تقدم تخريجه (5/ 143) تعليق رقم (1).

ص: 537

واثلةَ بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرأةُ تحوزُ ثلاثةَ مواريثَ: عَتِيقَها، ولقِيطَها، وولَدَها الذي لاعَنَتْ عليه" أخرجه أبو داود والترمذي

(1)

وقال: حديث حسن. قال ابن المنذر: لا يثبت

(2)

. وقول

= وأخرجه - أيضًا - مسلم في العتق، حديث 1505 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1)

أبو داود في الفرائض، باب 9، حديث 2906، والترمذي في الفرائض، باب 23، حديث 2115. وأخرجه - أيضًا - النسائي في الكبرى (4/ 78، 91) حديث 6360، 6361، 6420، وابن ماجه في الفرائض، باب 12، حديث 2742، وسعيد بن منصور في سننه (1/ 135) حديث 479، وابن أبي شيبة (11/ 408)، وأحمد (3/ 490، 4/ 107)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (7/ 309، 13/ 125، 126) حديث 2870، 5136، 5137، والطبراني في الكبير (22/ 73 - 74) حديث 181، 182، وفي مسند الشاميين (2/ 301) حديث 1384، وابن عدي (5/ 1707)، والدارقطني (4/ 89 - 90)، والحاكم (4/ 340 - 341)، والبيهقي (6/ 240، 259)، وابن عساكر في تاريخه (37/ 245 - 246)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 251) حديث 1676، من طريق عمر بن رؤبة، عن عبد الواحد النصري، عن واثلة رضي الله عنه.

قال الترمذي: حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 336): هو حديث حسن، وبه نأخذ. وقال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (2/ 164):"قال أبو حاتم [الجرح والتعديل 6/ 22]: عبد الواحد لا يحتج به. قلت: قد احتج به البخاري، لكن عمر بن رؤبة قال البخاري [التاريخ الكبير 6/ 155]: فيه نظر. وفي مراسيل أبي داود [ص/ 256، حديث 362] من طريق داود بن أبي هند، عن عبد الله بن عبيد، عن رجل من أهل الشام: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ولد الملاعنة عصبته عصبة أمه"، ونحوه قال ابن حجر في الفتح (12/ 31) ثم قال: وهذه طرق يقوَى بعضها ببعض.

وقال البيهقي، والخطابي في معالم السنن (4/ 99): غير ثابت. وقال ابن حزم في المحلى (8/ 275): عمر بن رؤبة وعبد الواحد النصري مجهولان. وقال ابن الجوزي: عبد الواحد النصري لا يحتج به.

(2)

المغني (8/ 360).

ص: 538

عمر: "ولكَ ولاؤُهُ"

(1)

أي: ولايته.

(وديَتُه) أي: اللقيط (إن قُتِل لبيت المال) لأنها من ميراثه كسائر ماله (إن لم يُخلِّف) اللقيط (وارثًا) بفرض، أو تعصيب، فإن كانت له زوجة، فلها الربع، والباقي لبيت المال، وإن ماتت لقيطة لها زوج، فله النصف والباقي لبيت المال، وإن كان له بنت، أو بنت ابن، أو ابن بنت، أخذ جميع المال؛ لأن الرد والرحم مقدَّم على بيت المال (ولا ولاءَ عليه) أي: اللقيط لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الولاءُ لمَن أعتقَ"

(2)

؛ ولأنه لم يثبت عليه رِقٌّ، ولا ولاء على آبائه، فلم يثبت عليه، كالمعروف نسبه؛ ولأنه إن كان ابن حُرَّين، فلا ولاء عليه، وإن كان ابن مُعتقَين، فلا يكون عليه ولاء لغير معتقهما.

(وإن قُتل) اللقيط (عمدًا، فوليُّه الإمام) لقوله صلى الله عليه وسلم: "السُّلطانُ وليُّ مَنْ لا وليَّ له"

(3)

؛ ولأن المسلمين يرثونه، والسلطان يَنوب منابهم، فـ (ــإن شاء) الإمام (اقتصَّ، وإن شاء أخذ الدِّية) حسب الأصلح؛ لأنه حرٌّ معصوم، والاستحقاق منسوب إلى جهة الإسلام، لا إلى آحاد المسلمين، حتى يمنع منه كون فيهم صبيان ومجانين.

(وإن قُطِعَ طرفه) أي: اللقيط (عمدًا، انتظر بلوغه مع رشده) ليقتص أو يعفو؛ لأن مستحقَّ الاستيفاءِ المجنيُّ عليه، وهو حينئذ لا يصلح للاستيفاء، فانتظرت أهليته، وفارق القصاص في النفس؛ لأن القصاص ليس له، بل لوارثه، والإمام هو المتولي عليه (فيحبس الجاني)

(1)

تقدم تخريجه (9/ 529) تعليق رقم (1).

(2)

تقدم تخريجه (5/ 143) تعليق رقم (1).

(3)

جزء من حديث عائشة رضي الله عنها: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها. . ." ويأتي تخريجه في كتاب النكاح، باب أركان النكاح.

ص: 539

على طرف اللقيط (إلى أوان البلوغ والرشد) لئلا يهرب (إلا أن يكون) اللقيط (فقيرًا، ولو) كان اللقيط (عاقلًا، فيجب على الإمام العفوُ على مال) فيه حظ للقيط (ينفق عليه) دفعًا لحاجة الإنفاق، وما جزم به المصنف من التسوية بين المجنون، والعاقل، قال في "شرح المنتهى": إنه المذهب. وقال في "الإنصاف": هو الصحيح من المذهب، ويأتي في باب استيفاء القصاص: أن لولي المجنون العفو؛ لأنه لا أمدَ له ينتهي إليه، بخلاف ولي العاقل، وقطع به في "الشرح" هنا.

(وإن ادَّعى الجاني عليه) أي: على اللقيط رِقَّه (أو) ادَّعى (قاذِفُه رِقَّه، وكذَّبه اللقيط بعد بلوغه، فالقول قول اللقيط) لأنه موافق للظاهر؛ لأنه محكوم بحريته؛ ولأنه لو قذف إنسانًا، لوجب عليه حدُّ الحُرِّ، فللقيط طلب حدِّ القذف، واستيفاء القصاص من الجاني، وإن كان حرًّا.

وإن أوجبت الجنابة مالًا، طالب بما يجب في الحُرِّ.

وإن صَدَّق اللقيط قاذفه، أو الجاني عليه على كونه رقيقًا، لم يجب عليه إلا ما يجب في قذف الرقيق، أو جنايته عليه.

(وإن جنى اللَّقيط جنايةً تحملُها العاقلةُ، فـ) ــأرشها (على بيت المال) لأن ميراثه ونفقته في بيت المال، فكان عقله فيه، كعصباته.

(وإن كانت) الجناية (لا تحملها العاقلةُ) كالعمد المحض، وإتلاف المال (فحكمه) أي: اللقيط (فيها حكم غير اللقيط).

فـ (ــإن كانت) الجناية (توجب القصاص، وهو) أي: اللقيط (بالغ عاقل، اقتص منه) مع المكافأة.

(وإن كانت) الجناية من اللقيط (موجبةً للمال، وله) أي: اللقيط (مال استُوفي) ما وجب بالجناية (منه) أي: من ماله (وإلَّا) بأن لم يكن له

ص: 540

مال (كان) ما وجب بالجناية (في ذمته، حتى يُوسِر) كسائر الديون.

(وإن ادَّعى أجنبي) أي: غير الملتقِط (أن اللقيط مملوكه) وهو في يده، صُدِّق بيمينه، إن كان اللقيط طفلًا أو مجنونًا.

(أو) ادَّعى إنسان أن (مجهول النسبِ غيرهُ) أي: اللقيط (مملوكُه وهو في يده، صُدِّق) المدَّعي؛ لدلالة اليد على الملك (مع يمينهِ) لإمكان عدم الملك، ثم إذا بلغ وقال: أنا حرٌّ، لم يُقبل قوله؛ قاله الحارثي.

(وإلا؛ فلا) أي: وإن لم يكن اللقيط أو مجهول النسب بيد المدعي، فلا يصدق؛ لأن دعواه تُخالف الأصل والظاهر.

(فلو شهدت له) أي: لمدَّعي اللقيط غير ملتقطه، أو لمدعي مجهول النسب (بَينةٌ باليد) بأن قالا: نشهد أنه كان بيده. حكم له باليد، فيحلف أنه ملكه، ويُحكم له بملكه؛ لأن اليد دليل الملك.

(أو) شهدت بـ (ــالملك، أو) شهدت (أنه عبدُه، أو مملوكه) أو قِنه أو رقيقه (ولو لم تَذْكر البينةُ سببَ الملك) حكم له به، كما لو شهدا بملك دار أو ثوب.

(أو) شهدتْ (أن أَمَته) أي: المدَّعي (ولدتْه في ملكه، حُكم له به) لأن الغالب أنها لا تلد في ملكه إلا ملكه.

(وإن) شهدت أنه ابن أَمَته، أو أن أَمَته ولدته، و (لم تقل: في ملكه، لم يحكم له) به؛ لأنه يجوز أن تكون ولدته قبل ملكه لها، فلا يكون له، مع كونه ابن أَمَته، وكونها ولدته.

وهل يكفي في البينة التي تشهد أن أَمَته ولدته في ملكه، امرأة واحدة، أو رجل واحد؛ لأنه مما لا يطَّلع عليه في غالب الأحوال رجال؟ وبه جزم في "المغني"، أو لا بُدَّ في ذلك من رجلين أو رجل وامرأتين،

ص: 541

كما ذكره القاضي؟ فيه وجهان. قال الحارثي عن قول القاضي: إنه أشبه بالمذهب.

(وإن ادَّعاه) أي: ملك اللقيط (الملتقِط، لم يُقبل إلا ببينة) تشهد بملكه، أو أن أَمَته ولدته في ملكه، ولا تكفي يده ولا بينة تشهد له باليد؛ لأن الأصل الحرية، ويده عن سبب لا يفيد الملك، فوجودها كعدمها، بخلاف المال، فإن الأصل فيه الملك (وإن كان المدَّعَى) - بفتح العين - أنه مملوك، من لقيط، أو مجهول نسب (بالغًا عاقلًا) وكذا إن كان مميزًا، كما يأتي في الدعاوى (فأنكر) أنه رقيق، وقال: أنا حرٌّ (فالقول قوله إنه حرٌّ) لأن الأصل معه.

(وإن كان للمدَّعي) رق اللقيط أو مجهول النسب (بيِّنة) بدعواه (حُكِم) له (بها) أي: ببينته.

(فإن كان الملتقَط) بفتح القاف، وفي نسخ: اللقيط (قد تصرف قبل ذلك) أي: قبل أن يحكم به لمدعي رقه ببينة (ببيع أو شراء) أو هبة ونحوها (نُقضت تصرفاته) لأنه بأن أنه كان تصرف بغير إذن سيده.

(وإن أقر) اللقيط أو مجهول النسب (بالرقِّ بعد بلوغه، لم يقبل إقراره، سواء تقدم إقرارَه تصرُّفٌ ببيع، أو شراء، أو تزويج، أو إصداق ونحوه، أو لم يتقدمه) تصرُّفٌ (بل) كان (أقر بالرق جوابًا) لدعوى مدَّع (أو) أقر به (ابتداء، ولو صدَّقه المقَرُّ له) بالرق؛ لأنه يبطل به حق الله تعالى في الحرية المحكوم بها، فلم يصح (كما لو تقدمه إقرار بحريته) ولأن الطفل المنبوذ لا يعلم رق نفسه ولا حريتها، ولم يتجدد له رق بعد التقاطه.

(وإن أقر اللقيط أنه كافر وقد حكمنا بإسلامه من طريق الظاهر، تبعًا

ص: 542

للدار) بأن كان وجد في دار إسلام، فيه مسلم يمكن كونه منه (لم يُقْبل قوله) أنه كافر بعد بلوغه؛ لأن دليل الإسلام وجد عريًا عن المعارض، وثبت حكمه واستقر، فلم يجز إزالة حكمه بقوله، كما لو قال ذلك ابن مسلم، وقوله لا دلالة فيه أصلًا؛ لأنه لا يعرف في الحال من كان أبوه، ولا ما كان دينه، وإنما يقول ذلك من تلقاء نفسه.

(وحكمه حكم المرتد) يُستتاب ثلاثًا، فإن تاب، وإلا؛ قُتل.

(كما لو بلغ سنًّا يصح إسلامه فيه) كسبع سنين (ونطق بالإسلام) وهو يعقله (ثم قال: إنه كافر) فإنه يُستتاب بعد بلوغه ثلاثًا، فإن تاب، إلا؛ قُتل؛ لأن إسلامه متيقَّن.

فصل

(وإن أقرَّ إنسان أنه) أي: اللقيط (ولده) وقوله (مسلمٌ أو ذمي) صفة لـ "إنسان"(يمكن كونه) أي: اللقيط (عنه) أي: المقِر (حُرًّا كان) المقِرُّ (أو رقيقًا، رجلًا كان أو امرأة، ولو) كانت (أَمةً، حيًّا كان اللقيط أو ميتًا، أُلحق به) لأنه استلحاق لمجهول النسب ادعاه من يمكن أنه منه، من غير ضرر فيه، ولا دافع عنه، ولا ظاهر يرده، فوجب اللحاق؛ ولأنه محض مصلحة للطفل؛ لوجوب نفقته وكسوته واتصال نسبه، فكما لو أقرَّ له بمال.

(ولا تجب نفقته) أي: اللقيط (على العبد) إذا ألحقناه به؛ لأنه لا يَملك (ولا حضانة له) أي: للعبد على من استلحقه؛ لاشتغاله يالسيد فيضيع، فلا يتأهل للحضانة، قال الحارثي: وإن أذن السيد جاز؛ لانتفاء مانع الشغل.

ص: 543

(ولا) تجب نفقة من استلحقه العبد (على سيده؛ لأنه) أي: اللقيط (محكوم بحرِّيَّته) والسيد غير نسيب له (وتكون) نفقته (في بيت المال) لأنه للمصالح العامة.

(ولا يلحق) اللقيط (بزوجِ المرأة المُقِرَّة به بدون تصديقه) أي: الزوج؛ لأن إقرارها لا ينفذ، على غيرها، فلا يلحقه بذلك نسب لم يقرَّ به.

(ولا) يلحق اللقيط (بالرقيق) إذا استلحقه (في رقه) لأنه خلاف الأصل وإضرار بالطفل (بدون بيِّنة الفراش فيهما) فإن أقامت المرأة بينة أنها ولدته على فراش زوجها، لحق به.

وكذا لو أقيمت بينة برِقه، بأن تشهد أنه عبده، أو قِنه، أو أن أَمته ولدته في ملكه، على ما تقدم.

(كما لو استلحق) حرٌّ (رقيقًا) فيثبت نسبه دون حريته، إلا ببينة تشهد أنه ولد على فراشه.

(ولا) يلحق اللقيط (بزوجة المُقِرِّ بدون تصديقها) لأن إقراره لا يسري عليها.

(ويلحق) اللقيطُ (الذِّمِّي) إذا استلحقه (نسبًا) كالمسلم (لا دينًا) لأنه محكوم بإسلامه، فلا يتأثر بدعوى الكافر؛ ولأنه مخالف للظاهر، وفيه إضرار باللقيط.

(ولا حق له) أي: الذمي (في حَضانته) أي: اللقيط الذي استلحقه؛ لأنه ليس أهلًا لكفالة مسلم، ولا تؤمن فتنته عن الإسلام، ونفقته في بيت المال.

(ولا يسلَّم إليه إلا أن يقيم) الذمي (بَيِّنةً أنه وُلِدَ على فراشه، فيلحقه دِيْنًا) لثبوت أنه ولد ذميين، كما لو لم يكن لقيطًا (بشرط استمرارِ أبويْه

ص: 544

على الحياة والكفر) إلى بلوغه عاقلًا، فإن مات أحدهما، أو أسلم قبل بلوغه، حكم بإسلامه.

(والمجنون كالطفل) إذا أقر إنسان أنه ولده، لحق به (إذا أمكن أن يكون منه، وكان) المجنون (مجهولَ النسب) لأن قول المجنون غير مُعتبر، فهو كالطفل.

(وكلُّ مَنْ ثَبت لحاقه بالاستلحاق، لو بلغ) أو عقل (وأنكر، لم يُلتفت إلى قوله) لنفوذ الإقرار عليه في صغره أو جنونه لمستند صحيح، أشبه الثابت بالبينة.

(وإن ادَّعاه) أي: نسب اللقيط (اثنان أو أكثر) سُمعت؛ لأن كل واحد لو انفرد صحت دعواه، فإذا تنازعوا تساووا في الدعوى، ولا فرق بين المسلم والكافر، والحر والعبد.

فإن كان (لأحدهما بينة، قُدِّم بها) لأنها تظهر الحق وتبينه.

(وإنْ كان) اللقيط المدَّعى نسبه (في يدِ أحدهما، وأقاما بينة قدمتْ بينةُ خارج) كالمال.

(وإن كان) اللقيط (في يدِ امرأةٍ) وادعت نسبه، وأقامت به بينة (قدمتْ على امرأة ادَّعتْهُ بلا بينة) لأن البينة موضحة.

(وإن تساووا في البينة) بأن أقام كل منهم بينة، والطفل بأيديهم، أو ليس بيد واحد منهم (أو) تساووا في (عدمها، عُرض) اللقيط (معهما) أي: المدعيين إن ادعياه معًا، وإلا؛ لحق بالأول، إلا أن تلحقه القافةُ بالثاني، فيلحق به، وينقطع نسبه عن الأول؛ لأنها بينة في إلحاق النسب، فيزول بها الحكم الثابت بمجرد الدعوى (على القافَة) بالتخفيف: جمع قائف، ويأتي .............................

ص: 545

معناه

(1)

. وكان إياس بن معاوية قائفًا

(2)

، وكذا شريح

(3)

؛ قاله في "المبدع".

(أو) عرض (مع أقاربهما، إن ماتا) أي: المدعيين (كالأخ والأخت والعمة والخالة، فإن ألحقتْهُ) القافة (بأحدهما، لحق

(4)

به) لحديث عروة عن عائشة قالت: "دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو مسرورٌ، فقال: أيْ عائشةُ، ألمْ تَري أن مُجزِّزًا المُدْلجي دخل؛ فرأى أسامةَ وزيدًا وعليهما قَطِيفَةٌ، قد غَطّيا رؤوسَهما، وبَدَتْ أقدامُهما، فقال: إنَّ هذه الأقدامَ بعضُها مِنْ بعض". وفي لفظ: "دخل قَائِفٌ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم شاهدٌ، وأسامةُ بن زيدٍ وزيدُ بن حارثةَ مضْطجعان، فقال: إنَّ هذه الأقدام بعضُها مِنْ بعضٍ، فَسُرَّ بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأعجبهُ، وأخبَرَ به عائشةَ" متفق عليهما

(5)

.

وبه قال عمر

(6)

وأبو موسى

(7)

وابن عباس

(8)

وأنس

(9)

، وقضى به عمر بحضرة الصحابة - رضي الله تعالى عنهم -، فكان إجماعًا

(10)

.

(1)

(9/ 548).

(2)

أخبار القضاة لوكيع (1/ 369)، وتهذيب الكمال (3/ 418).

(3)

الطبقات الكبرى (6/ 131)، وسير أعلام النبلاء (4/ 101).

(4)

في متن الإقناع (3/ 59): "ألحق".

(5)

البخاري في المناقب، باب 23، 46، حديث 3555، 3731، وفي الحدود، باب 31، حديث 6770، 6771، ومسلم في الرضاع، حديث 1459.

(6)

أخرجه البيهقي (10/ 263 - 264).

(7)

أخرجه البيهقي (10/ 265).

(8)

أخرجه عبد الرزاق (7/ 448) رقم 13835.

(9)

أخرجه البيهقي (10/ 264).

(10)

الاستذكار (22/ 184)، وزاد المعاد (5/ 420)، والطرق الحكمية ص/ 317. وخالف في ذلك أبو حنيفة وأصحابه، انظر: المبسوط (17/ 70).

ص: 546

(وإن ألحقته) القافة (بهما) أي: المدعيين (لحق) نسبه (بهما) لما روى سعيد عن عمر "في امرأة وطئها رجلانِ في طُهْرٍ، فقال القائفُ: قد اشتركا فيه جميعًا، فجعلَهُ بينهما"

(1)

. وبإسناده عن الشعبي قال: وعلي يقول: "هو ابنُهُما، وهما أبواهُ، يرثُهُما ويرثانه"

(2)

ورواه الزبير بن بكار عن عمر.

(فيرثُ) الملحق بأبوين (كلَّ واحد منهما إرثَ ولدٍ كامل، ويرثانه إرثَ أبٍ واحد) لما تقدم.

(وإن وُصِّي له) أي: الملحق باثنين (قَبِلا) الوصية له (جميعًا)

(1)

لم نجده في المطبوع من سنن سعيد بن منصور، وقد نقله ابن القيم في زاد المعاد (5/ 419) بإسناده ومتنه فقال: قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، عن عمر:

فذكره.

وهذا منقطع بين سليمان بن يسار وعمر، كما قال الشافعي في الأم (6/ 247)، وعنه البيهقي في معرفة السنن والآثار (14/ 370). كما أنه اختُلف فيه على سليمان بن يسار، فروي عنه كما تقدم، وأخرجه مالك (2/ 740)، والشافعي في الأم (6/ 247)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 161 - 162)، والبيهقي (10/ 263) وفي معرفة السنن والآثار (14/ 366 - 367) رقم 20317، عن مالك، وابن عيينة، ويونس، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار: أن عمر بن الخطاب قال للغلام: والِ أيهما شئت.

وأخرج الطحاوي (4/ 162) عن الشعبي، عن ابن عمر: أن رجلين اشتركا في طهر امرأة، فولدت، فدعا عمر القافة، فقالوا: أخذ الشبه منهما، فجعله بينهما؛ صحَّحه الطحاوي، وابن القيم في الطرق الحكمية ص/ 217.

(2)

أخرجه عبد الرزاق (7/ 359) رقم 13473، وابن أبي شيبة (11/ 378)، والطحاوي (4/ 164)، والبيهقي (10/ 268).

قال البيهقي: وروي عن علي مرسلًا، وفي ثبوته عن علي رضي الله عنه نظر. وقال في معرفة السنن والآثار (14/ 371): إنما رواه سماك، عن مجهول لم يسمه، عن علي، وقابوس - وهو غير محتج به - عن أبي ظبيان عن علي.

ص: 547

لأنهما بمنزلة أب واحد، وعلى قياس ذلك سائر التصرفات من نكاح وقول هبة ونحوها. قال الموضِّح: وهما وليان في غير ذلك، كنكاح وغيره.

(وإن خلَّف) الملحق باثنين (أحدَهما، فله إرث أب كامل، ونسبه ثابت من الميت) كما أن الجدة إذا انفردت، أخذت ما يأخذه الجدات، والزوجة كالزوجات (ولأمَّيْ أبوَيْه مع أُمِّ أُمّه نصفُ السُّدس) لأنهما بمنزلة أُم أب مع أُمِّ أم (ولها) أي: لأم أُمه (نصفه) أي: السدس.

(ولو توقفت القافة في إلحاقه بأحدهما، أو نَفَتْه عن الآخر، لم يلحق بالذي توقفت فيه) لأنه لا دليل له.

(ولا يلحق) الولد (بأكثر من أُمٍّ واحدة) لأنه يستحيل أن يكون من أُمَّين (فإن ألحقته القافة بأكثر من أُم، سقط قولها) ولم يلحق بواحدة منهما؛ لتبين خطأ القافة، وليست إحداهما أَولى من الأخرى.

(وإن ادَّعى نسبه رجلٌ وامرأةٌ، ألحق بهما) لأنه لا تنافي بينهما؛ لإمكان كونه منهما بنكاح، أو وطء شُبهة، فيكون ابنهما بمجرد دعواهما، كالانفراد.

(فإن قال الرجل: هو ابني من زوجتي، وادعتْ زوجتُه ذلك) أي: أنه ابنها منه، وادعت امرأة أخرى أنه ابنها (فهو ابنه) و (تُرجَّح زوجته على الأخرى) لأن زوجها أبوه، فالظاهر أنها أُمه.

(والقَافة قوم يعرفون الأنساب بالشَّبَهِ) جمع قائف (ولا يختص ذلك بقبيلة معينة) كبني مُدْلج (بل من عُرف منه المعرفة بذلك، وتكرَّرت منه الإصابة، فهو قائف) قال في "الصحاح"

(1)

: يقال: قفت وقَفَوْت، وقَاف

(1)

(4/ 1419، 6/ 2466) مادة (قوف) و (قفا).

ص: 548

واقْتَاف أثره، إذا اتَّبعه، وهو أقوف الناس. اهـ.

والقائف كالحاكم، فلو ألحق

(1)

بواحد، لم يصح إلحاقه منه أو من غيره بعد ذلك بآخر، وإن أقام الآخر بينة أنه ولده، حكم له به، وسقط قول القائف؛ لأنه بدل، فيسقط بوجود الأصل.

(وإن ادعاه) أي: نسب اللقيط ونحوه (أكثر من اثنين) كثلاثة فأكثر (فألحق) أي: ألحقته القافة (بهم، لحق بهم وإن كثروا) لأن المعنى الذي لأجله ألحق باثنين موجود فيما زاد عليه قياسًا.

وقولهم: إن إلحاقه باثنين على خلاف الأصل؛ ممنوع، وإن سلَّمناه، لكن ثبت لمعنىً موجود في غيره، فيجب تعدية الحكم إليه.

(والحكم كما تقدم) من أنه يرث كلَّ واحد منهم إرث ولد كامل، ويرثونه إرث أب واحد، ويقبلون له الوصية ونحوها.

(ولا يرجَّحُ أحدُهم بذكر علامة في جسده) لأنه قد يطلع عليها الغير، فلا تحصل الثقة بذكرها.

(وإن نفته القافة عنهم أو أشكَل عليهم، أو لم توجد قافة) يمكن الذهاب إليها (ولو بعيدة فيذهبون إليها) ضاع نسبه؛ لأنه لا دليل لأحدهم، أشبه من لم يدع نسبه (أو اختلف قائفان، أو) اختلف (اثنان وثلاثة فأكثر، ضاع نسبه) لعدم المرجِّح لأحد المدعيين، كما لو تعارضت بينتاهما.

(وإن اتفق) قائفان (اثنان، وخالفهما) قائف (ثالث؛ أخذ بهما) لكمال النصاب إن اعتبر التعدد، وإلا؛ فتعارض القائفين يقتضي تساقطهما، والثالث خلا عن معارض فيعمل به.

(1)

في "ح" و"ذ": "ألحقه".

ص: 549

(ومثله طبيبان وبَيْطاران في عَيْب) خالفهما ثالث، فيقدمان عليه (ولو رجعا) بعد التقويم، بأن قوَّماه بعشرة، ثم رجعا إلى اثني عشر، أو ثمانية؛ لم يُقبل. قال الحارثي: وينبغي حمله على ما بعد الحكم.

ولو رجع من ألحقته به القافة عن دعواه، لم يُقبل منه، ومع عدم إلحاقها بواحد من اثنين، فرجع أحدهما، يلحق بالآخر.

(ولو ألحقته) القافة (بواحد؛ لانفراده بالدعوى، ثم عادت فألحقته بغيره) كان للأول.

(أو ألحقته قافة بواحد، فجاءت قَافةٌ أخرى فألحقَتْه بآخر، كان للأول) لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، كحكم الحاكم

(1)

.

وإن أقام الآخر بينة أنه ولده، حكم له به، وسقط قول القائف؛ لأنه بدل، فسقط بوجود الأصل.

(وإن وَلدتِ امرأة ذكرًا، و) ولدت (أخرى أنثى، وادعت كلُّ واحدةٍ منهما أن الذَّكر ولدها دون الأنثى، عُرِضَتا مع الولدين على القافة، فيلحق كل واحد منهما بمن ألحقته به) القافة، كما لو لم يكن لها ولد آخر.

(فإن لم توجد قافةٌ، اعتُبر باللبن خاصة، فإن لَبَنَ الذَّكر يُخالف لَبَنَ الأنثى في طبعه وزِنَته، وقد قيل: إنَّ لبن الابن أثقل من لبن الأنثى، فمن كان لبنها لبن الابن، فهو ولدها، والبنت للأخرى، وإن كان الولدان ذكرين أو أنثيين، وادعتا أحدهما، تعين عَرْضُه) أي: الولد المتنازع فيه (على القافة) كما تقدم.

وإن ادَّعى اثنان مولودًا، فقال أحدهما: هو ابني، وقال الآخر: هو بنتي. نظر إن كان ذكرًا فلمدعيه، وإن كان أنثى فلمدعيها، سواء كان

(1)

"كحكم الحاكم" في "ذ"، بعد قوله: بوجود الأصل.

ص: 550

هناك بينة أو لا؛ لأن كل واحد منهما لا يستحق سوى ما ادعاه، وإن كان خنثى مشكلًا، عُرض معهما على القافة؛ لأنه ليس قول أحدهما أولى من الآخر.

(وإن وطئ اثنان امرأة بشُبهة، أو) وطئا (جاريةً مشتركةً بينهما في طُهْرٍ واحد، أو وُطِئتْ زوجة رجل، أو) وُطِئت (أُمُّ ولده، وأتت بولدٍ يمكنُ أن يكون منه) أي: الواطئ (فادَّعى الزوج أنه من الواطئ، أُري) الولد (القافة معهما) أي: الواطئين، إن كانا موجودين، وإلا؛ فمع أقاربهما، كاللقيط، وأُلحق بمن ألحقوه به منهما (سواء ادَّعياه، أو جحداه، أو) ادَّعاه (أحدهما) وجحده الآخر، وقد ثبت الفراش؛ ذكره القاضي وغيره، وهو المذهب؛ قاله الحارثي.

فقول المصنف: "فادَّعى الزوج أنه من الواطئ" تبعًا لأبي الخطاب و"المقنع" و"المستوعب": فيه نظر؛ إذ لا يلائم آخرَ كلامه، لكنه تبع صاحب "الإنصاف"، وعبارة "المبدع" - أيضًا - موهمة، وعلى قول أبي الخطاب ومتابعيه إن ادَّعاه الزوج وحده، اختص به؛ لقوة جانبه؛ ذكره في "المحرر"، وكذا لو تزوجها كل منهما تزويجًا فاسدًا، أو كان أحدهما صحيحًا، والآخر فاسدًا، أو بيعت أَمته، فوطئها المشتري قبل الاستبراء، وليس لزوج أُلحق به اللعانُ لنفيه.

(ونفقة المولود) المشتبه نسبه (على الواطئَين) لاستوائهما في إمكان لحوقه بهما.

(فإذا أُلحق) الولد (بأحدهما، رجَع) من لم يلحق به (على الآخر بنفقته) لتبين أنه محل الوجوب.

(ويُقبل قول. . . . . . . . . . . . . . .

ص: 551

القائف

(1)

في غير بُنُوةٍ، كأخوَّة وعمومة) وخؤولة؛ لحديث عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا علا ماؤها ماءَ الرَّجُل أشبَهَ الولدُ أخوالَهُ، وإذا علا ماءُ الرَّجُل ماءهَا أشبَهَ أعمامَهُ"

(2)

ذكره الحارثي، ولا يختص بالعصبات كما تقدم؛ لأن المقصود معرفة شبه المدعي للميت بشبه مناسبيه، وهو موجود فيما هو أعم من العصبات.

(ولا يُقبل قول القائف إلا أن يكون ذكرًا، عدلًا، مجرَّبًا في الإصابة) لأن قوله حكم، فاعتُبرت له هذه الشروط.

(ولا تُشترط حُريّتهُ) قال في "الإنصاف": هذا المذهب، وقدَّمه في "الفروع". قال الحارثي: وهذا أصح؛ لأن الرق لا يخلُّ بالمقصود، فلا يمنع القَبول، كالرواية والشهادة، وكالمفتي، بجامع العمل بالاجتهاد.

وقيل: تُشترط حريته؛ جزم به القاضي، وصاحب "المستوعب"، والموفق، والشارح، وذكره في "الترغيب" عن الأصحاب.

قال في "القواعد الأصولية"

(3)

: الأكثرون على أنه كحاكم، فتُعتبر حريته، وقدَّمه في "الرعاية الكبرى"، و"الحاوي الصغير"، وجزم به في "المنتهى".

قال في "المبدع": ولا الإسلام، وفي "المستوعب": لم أجد أحدًا من أصحابنا اشترط إسلام القائف، وعندي أنه يُشترط، وجزم باشتراطه في "شرح المنتهى" أخذًا من اشتراط العدالة.

قلت: مقتضى قول الأصحاب أنه كحاكمٍ، أو شاهدٍ، اعتبارُ

(1)

في "ح" و"ذ" ومتن الإقناع (3/ 61): "القافة".

(2)

أخرجه مسلم في الحيض، حديث 314 (33).

(3)

القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية، لابن اللحام (2/ 1161).

ص: 552

الإسلام قطعًا، والله أعلم.

(ويكفي قائف واحد) لما رُوي عن عمر

(1)

: أنه استقاف المُصْطَلِقي وحده. وكذلك ابن عباس

(2)

: استقاف ابن كلدة وحده، واستلحق به. ولأنه حكمٌ، فقُبِل الواحد فيه، كالحاكم (وهو كحاكم، فيكفي مجرَّد خبره) لقصة مُجزِّز

(3)

.

"تنبيه" قوله: "مجرَّبًا في الإصابة" أي: كثير الإصابة، فمن عَرف مولودًا بين نسوة ليس فيهنَّ أمُّه، ثم وهي فيهنَّ، فأصاب كلَّ مرة، فقائف. وقال القاضي: يُترك الصبيُّ بين عشرة رجال غير مُدَّعيه؛ فإن ألحقه بأحدهم سقط قوله، وإن نفاه عنهم تُرك مع عشرين منهم مدَّعيه؛ فإن ألحقه به عُلمت إصابته، وإلا؛ فلا.

وهذه التجربة عند عرضه على القائف للاحتياط في معرفة إصابته، ولو لم نجربه بعد أن يكون مشهورًا بالإصابة وصحة المعرفة في مرات كثيرة جاز، وقضية إياس بن معاوية

(4)

في ولد الشريف من جارية، شاهدةٌ بذلك.

(1)

أخرجه البيهقي (10/ 263).

(2)

أخرجه ابن حزم في المحلى (10/ 149).

(3)

تقدم تخريجها (9/ 546) تعليق رقم (5).

(4)

أخبار القضاة (1/ 369).

ص: 553