المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كلمة الإدارة الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلاة وأتمُّ التسليم على - التسهيل في فقه الإمام أحمد - وزارة الأوقاف الكويتية - المقدمة

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

‌كلمة الإدارة

الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلاة وأتمُّ التسليم على سيِّد الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. أمَّا بعدُ:

فيسُرُّ إدارة الإفتاء بدولة الكويت أن تُقدِّم هذا الكتاب: (التسهيل في فقه العبادات) والذي يَعرِضُ الفقه الحنبليَّ بأسلوب سهل، وعبارة سلسة، ومواضيع مجزَّأة في نقاط؛ تيسيراً على القارئ الكريم، الباحث عن الحكم الشرعيِّ المُدَلَّل عليه بالكتاب والسُّنَّة في المذهب الحنبليِّ.

وخِدمتُنا لهذا المذهب الجليل تنطلق من رؤية تَعدُّها الإدارة من أهمِّ أولويَّاتها؛ وهي خدمة المذاهب الفقهيَّة الأربعة ما تيسَّر لها ذلك، وإعادة صياغتها بالأسلوب السهل؛ تقريباً لعامَّة الناس، وطلبة العلم.

كما أنَّ اهتمامنا أيضاً بهذا المذهب ينطلق من إكمال المسيرة العلميَّة لفريق كبير من علماء الكويت الحنابلة رحمهم الله تعالى؛ حيث إنَّ المذهب الحنبليَّ

لا يُعدُّ غريباً أو طارئاً على أهل الكويت، بل إنَّ الكويت زخرت بالأفذاذ من أبنائها الذين انتسبوا إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تفقُّهاً وتعليماً، حتَّى علا كعبُهم بين أفراد المجتمع الكويتيِّ، وتبوَّؤوا في الدَّولة المناصب العُليا في القضاء والتدريس والإفتاء؛ فبالرجوع إلى عهد المغفور له بإذن الله الشيخ (صباح بن جابر) نجد أنَّ أول قاضٍ تولَّى منصب القضاء فيها هو الشيخ محمَّد بن عبد الوهاب بن عبد الله بن فيروز (ت 1135 هـ) الذي كان من

ص: 7

أبرز علماء الحنابلة في الكويت في زمانه.

ومن أعلام الحنابلة في الكويت الشيخ محمَّد بن عبد الله الفارس (ت 1326 هـ) شيخ فقهاء الكويت، الذي اشتهر علمه في الكويت، بل في الجزيرة العربيَّة.

وفي عهد الشيخ أحمد الجابر الصُّباح كان الشيخ عبد الله بن خَلَف آل دحيَّان (ت 1349 هـ) علَّامة الكويت الأوَّل الذي تتلمذ وتخرَّج على يده الأَجِلَّة من علماء الحنابلة في الكويت، وبسبب مكانته العلميَّة ألزمه الشيخ أحمد الجابر الصُّباح بتولِّي منصب القضاء.

ومن أعلام الحنابلة في الكويت الشيخ عبد العزيز الرشيد (ت 1356 هـ) الذي يُعدُّ من أبرز رجال النهضة التعليميَّة في الكويت، ومن العلماء المقرَّبين من الشيخ سالم بن مبارك الصُّباح.

ومنهم أيضاً الشيخ عبد الوهاب بن عبد الرحمن الفارس (ت 1403 هـ) الذي كان عَلَماً من أعلام الكويت في الفتيا والتدريس على مذهب الإمام أحمد، وكان صاحب هيبة في مجتمعه عند الشيوخ والأمراء.

ومنهم الشيخ عبد الوهاب بن عبد الله الفارس (ت 1395 هـ)، أحد فقهاء الحنابلة المبرِّزين.

ومنهم الشيخ محمَّد بن عبد المحسن الدعيج (ت 1396 هـ) الذي كان إماماً لمسجد العتيقي لمدَّة سبعين عاماً؛ يحدِّث ويفتي ويدرِّس على مذهب

ص: 8

الإمام أحمد.

ومنهم الشيخ محمَّد بن سليمان الجرَّاح (ت 1417 هـ) الذي يُعدُّ بحقٍّ فقيهَ الكويت وفَرَضِيَّها في زمانه.

ولم تتوقَّف مسيرة الحنابلة في الكويت عند هؤلاء الأعلام الأفذاذ، بل إنَّ غيرهم ممَّن حمل هذا العلم للمجتمع الكويتيِّ كثير.

وما زالت الكويت تُولِي عنايتها بمذهب الإمام أحمد الذي حظي بجانب كبير من اهتمامها؛ فاستضافت مشاهير علمائه، وأقامت له الدورات العلميَّة، واعتنت بطباعة مصنَّفاته، بالإضافة إلى عنايتها بالمذاهب الفقهيِّة الأخرى؛ استكمالاً لما أخذته على عاتقها من خدمة الدين الحنيف وعلومه.

هذا؛ وقد قام بإنجاز هذا العمل فريق وحدة البحث العلميِّ بإدارة الإفتاء، وهم:

الشيخ/ تركي عيسى المطيري رئيساً

د. أيمن محمَّد العمر عضواً

الشيخ/ نور الدِّين عبد السلام مسعي عضواً

الشيخ/ أحمد عبد الوهَّاب سالم عضواً

نسأل الله تعالى التوفيق والقبول، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إدارة الإفتاء

ص: 9

‌المقدمة

الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له وليُّ الصَّالحين، وأشهد أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه إمامُ المتَّقين وسيِّد الأوَّلين والآخِرين، أقام الحُجَّة، وكشف الله بِهِ الغُمَّة، وعلى البيضاء ترك الأمَّة، لا يزيغ عنها إلَّا هالك فاللَّهمَّ صلِّ عليه وسلِّم، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمَّا بعد: فإنَّ الفِقْه في الدِّين من أَشرَفِ العُلوم قَدْراً، وأَعظَمِها أَجراً، وأعَمِّها نَفْعاً، وهو طريق الخير كما نطق به الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم:(مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ)[رواه البخاري ومسلم].

وإنَّ من أسباب النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة؛ أن يُوَفَّقَ العَبدُ إلى حُسْنِ التَّعبد لله؛ فهي الغاية من خَلْق الخَلْق -إِنْسِهم وجِنِّهِم-؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات 56]. وهذه العبادة لا سبيل إلى تحقيقها إلَّا بالتعلُّم والتفقُّه في دين الله تعالى، ومعرفة الحلال والحرام، والتمييز بين الجائز والممنوع؛ إذ قد جرت العادةُ أن لا يُقْدِمَ الإنسانُ على عَملٍ حتَّى يكون على دِرايةٍ وعِلْمٍ بالطريقة التي يُؤَدَّى بها ذلك العَمل على الوَجه الصَّحيح؛ فكيف إذا كان هذا العملُ هو عبادةُ الله تعالى التي يتوقَّف عليها فَلاحُه في الدنيا، ونجاته في الآخرة.

ص: 11

والمسلم المُوَفَّق هو الذي يبذل جَهْدَهُ ويَستفرغ وُسْعَه في تحقيق مراد الله تعالى؛ يبذل الغالي والنَّفيس في تَعلُّمِ الدِّين والتَّفقه في أحكامه؛ فتراه يَقرأُ ويَسألُ ويُجالسُ العُلماء، ويَتَّصلُ بهم ليسأل عن أحكام دينه؛ إذ العلمُ أَحقُّ وأَجَلُّ ما تُصرَفُ فيه الأوقات.

ورغبة منا في أن يكون لنا نصيب من هذا الشرف الرفيع والأجر العظيم، جاء تأليف هذا الكتاب في فقه العبادات -التي عليها قوام الإسلام-، ومبنى أركانه العِظام-، على مذهب الإمام المبجَّل أحمد بن حنبل الشيباني رحمه الله، وأسميناه:

(التسهيل في فقه العبادات)

قصدنا به تقريب الفقه لعامَّة المسلمين بلُغة واضحة، وعبارات سهلة يسيرة، مقرونة بالدليل من القرآن أو السنَّة الصحيحة؛ ترغيباً لهم في تعلُّمه وتحصيله، ورفعاً للجهل عمَّن لا يُحسن تطبيقه، حتَّى يَعبدَ المسلمُ ربَّه على بَصيرة من أمره.

وإنَّنا نرجو أن يكون هذا الكتاب سلسلة متَّصلة بتلك الجهود المباركة التي بُذلت في تقريب الفقه وتيسيره؛ إحياءً لهذا الدِّين، والعمل بأحكامه في شتَّى الميادين.

•‌

‌ منهج العمل في الكتاب:

1) اعتمدنا في هذا الكتاب على المسائل التي ذكرها كتاب «دليل الطالب لنيل المطالب» لمؤلفه العَلَّامة مَرْعي بن يوسف الكَرْمي (ت 1033 هـ) رحمه الله.

2) جرى ترتيب المسائل الفقهيَّة بحسب ورودها في كتاب «دليل الطالب» ، إلَّا إذا اقتضى المقام تغيير ذلك الترتيب تقديماً أو تأخيراً.

ص: 12

3) اعتمدنا في التبويب والعنونة على ما ذكره صاحب الدليل، وأمَّا ما صدَّره ب (فصل) ولم يذكر له عنواناً، وضعنا له عنواناً يناسب ما تحته من مسائل.

4) اعتمدنا أسلوب الاختصار -غالباً- عند عرض المسائل الفقهيَّة دون استطراد أو شرح، إلَّا ما يقتضي المقام بيانه وتوضيحه؛ كتعريف مصطلح، أو توضيح معنى كلمة، أو تفصيل ما أُجْمِل، مع مراعاة صياغة العبارة بأسلوب ميسَّر يسهل فهمه على القارئ.

5) حذفنا المسائل التي لا يحتاجها الناس في حياتهم العمليَّة؛ كأحكام الرقيق، وما شابه ذلك.

6) أضفنا بعض المسائل التي تمسُّ إليها حاجة الناس، ولم يذكرها صاحب «دليل الطالب» ، إضافة إلى ذكر بعض القيود لبعض المسائل التي تحتاج إلى تقييد.

7) حرصنا على ذكر الدليل من القرآن والسنة لكلِّ مسألة من المسائل الواردة في الكتاب، لا سيَّما إذا كان الدليل ممَّا استدلَّ به الحنابلة في مصنَّفاتهم، فإن لم يوجد للمسألة نصٌّ شرعيٌّ؛ اعتمدنا ما ذكروه في كتبهم من أقيسة، أو أدلَّة عقليَّة.

8) اقتصرنا عند ذكر الأدلَّة -غالباً- على دليل واحد لكلِّ مسألة، إلَّا إذا اقتضى المقام ذكر أكثر من دليل.

9) اقتصرنا على موضع الشاهد من الدليل إذا كان نصُّ الدليل طويلاً.

10) إذا كان الدليل من القرآن الكريم؛ فإنَّنا نذكر بعده اسم السورة، ورقم الآية، وإذا كان الدليل حديثاً أو أثراً، فإننا نذكر من رواه اختصاراً؛ فإن كان في

ص: 13

الصحيحين، أو أحدهما اقتصرنا على ذلك، وإن كان في غيرهما ذكرنا بعض من خرَّجه دون قصد الاستيعاب.

11) إذا كان الحديث أو الأثر المستدَلُّ به من قسم المقبول؛ فإنَّنا نكتفي بعزوه إلى مصدره من غير إشارة إلى تصحيحه أو تحسينه. أمَّا إذا كان الدليل من قسم الضعيف؛ فإنَّنا نُبيِّن ضَعْفَه، ونذكر -أحياناً- من ضَعَّفه من أهل العلم.

12) إذا كان الحديث أو الأثر المستدَلُّ به ممَّا اختُلِف في تصحيحه وتضعيفه، واستدل به الحنابلة في كتبهم، ووُجِد من صحَّحه، أو حسَّنه من الأئمَّة المعتدِّ بهم، ممَّن لم يُعرَف بالتساهل في التصحيح والتضعيف؛ فإنَّنا نجعله من قسم المقبول.

13) إذا وُجِدَ في المذهب أكثر من رواية، وكانت الرواية غير المعتمدة في المذهب أقوى دليلاً؛ فإنَّنا نذكر أوَّلاً الرواية المعتمدة، ثمَّ نذكر بعدها الرواية الأخرى مع بيان دليلها.

14) اعتمدنا -غالباً- كتابي «الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف» للمَرْداوي، و «شرح منتهى الإرادات» للبُهوتي؛ في معرفة المعتمد والراجح في المذهب.

هذا ونسأل الله تعالى أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به عموم المسلمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وحدة البحث العلمي

بإدارة الإفتاء

ص: 14

‌التمهيد

• ترجمة الإمام المبجَّل أحمد بن حنبل.

• أماكن انتشار المذهب الحنبلي.

• دراسة الفقه الحنبلي وأهمُّ مصنَّفاته المعتمدة.

ص: 15

‌ترجمة الإمام المُبَجَّل أحمد بن حنبل

(1)

(164 هـ- 241 هـ)

*‌

‌ اسمُهُ ونَسَبُه:

هو أبو عبدِ الله أَحْمَدُ بن مُحَمَّدِ بن حَنْبَلِ بن هِلالِ الشَّيْبانيُّ، المَرْوَزِيُّ، البَغدَادِيُّ. أحدُ الأئمَّةِ الأعلام. يلتقي نسبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في: نِزار بن مَعْد بن عَدنان.

*‌

‌ مولِدُهُ ونشأَتُهُ:

وُلد الإمام أحمد في شهر ربيع الأول سنة أربعٍ وستين ومائة (164 هـ) ببغداد في خلافة المَهديِّ العباسي؛ حيث قَدِمَت به أُمُّه من مَرْو إلى بغداد وهي حامل به فولدته بها، وكان أبوه قد مات شاباً في حدود الثلاثين من عمره، والإمام أحمد لا يزال طفلاً صغيراً؛ فَوَلِيَتْهُ أُمُّه.

ونشأ الإمام أحمد ببغداد نشأة إيمانيّة صالحة قِوامها الدِّين والخُلق والعِلم حتّى إنَّه كان مَثَار إعجاب مَنْ حوله رغم صغر سِنِّه؛ يقول المرُّوذي -من أصحاب الإمام أحمد-: «قال لي أبو عفيف: كان في الكُتَّاب معنا -يعني الإمام أحمد- وهو غُليِّم نعرف فضله» .

(1)

ينظر في ترجمة الإمام أحمد:

«سير أعلام النبلاء» (21/ 212) وما بعدها؛ «مناقب الإمام أحمد» لابن الجوزي؛ «المنهج الأحمد» للعليمي (1/ 52) وما بعدها؛ «البداية والنهاية» (10/ 325) وما بعدها؛ «أصول مذهب الإمام أحمد» للدكتور عبد الله التركي (ص 17) وما بعدها.

ص: 17

*‌

‌ طلبُهُ للعِلْم ورَحلاتُهُ:

ابتدأ الإمامُ أحمد طلبه للعِلم في بغداد؛ فأخذ عن شيوخها، ثمَّ رحل إلى أقطار كثيرة من بلاد الإسلام لأخذ العلم عن شيوخها؛ فرَحل إلى الكُوفة، والبَصْرة، ومَكَّة، والمَدينة، واليَمن، والشام، والمغرب، وغيرها، والتقى كبار علماء عصره؛ فسمع منهم، وروى عنهم، ثمَّ رجع إلى بغداد وقد سَادَ أهلَ عصره، وفاقَ أقْرَانَه.

*‌

‌ صفاتُهُ الخِلْقيَّة والخُلُقيَّة:

كان الإمام أحمد رجلاً حَسَنَ الوَجْهِ، رَبْعَةً من الرجال -ليس بالطويل ولا بالقصير- يَخْضِبُ بِالحِنَّاءِ، فِي لِحْيَتِه شَعَرَاتٌ سُودٌ، يلبس ثياباً غليظة بيضاء، ويَعْتَمُّ بعمامة جليلة، مَهيباً.

وكان رحمه الله لا يخوض في شيء ممّا يخوض فيه الناس من أمر الدنيا؛ فإذا ذُكر العِلم تكلَّم، وكان حَسَنَ الخُلُق، حَسَنَ العِشْرة، يُؤْثِرُ الحِلْم والعَفو، عفيفاً، زاهداً في الدنيا، يكره المناصب والشُّهرة، ويعيش على الكفاف.

*‌

‌ شُيُوْخُهُ وتلاميذُهُ:

- أمَّا شيوخه: فكثيرون يصعب حصرهم؛ لأنَّه أكثر التِرْحَال إلى كثير من الأمصار، والتقى كثيراً من العلماء. ومن شيوخه المشهورين: محمَّد بن إدريس الشافعي، وسُفيان بن عُيَينة، ووكيع بن الجرَّاح، ويحيى بن سعيد القطَّان، وهَشِيم ابن بشير، وعبد الرزَّاق بن همَّام الصنعاني، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم.

ص: 18

- وأمَّا تلاميذه: فأكثر من أن يُحْصون؛ فقد رحل إليه الناس -لا سيَّما بعد المِحْنة وذيوع شهرته في الآفاق- من شتّى البقاع والأصقاع ليسمعوا منه، ومن تلاميذه المشهورين: أبو طالب أحمد بن حُميد المُشْكَاني، محمَّد بن إسماعيل البُخاريّ، أحمد بن محمَّد الطائيّ؛ أبو بكر الأَثْرم، مسلم بن الحجَّاج، أبو زُرْعَة الرَّازيّ، صالح بن أحمد ابن حَنْبَل، حَنْبَل بن إسحاق، عبد الملك بن عبد الحميد المَيْمونيّ، إسحاق بن إبراهيم ابن هانئ النَّيسابوريّ، أبو داود سليمان بن الأَشْعَث السجستانيّ، أحمد بن محمَّد بن الحَجَّاح؛ أبو بكر المَرُّوذِيْ، وبَقِيّ بن مَخْلَد الأندلسيّ، حَرْب بن إسماعيل الكَرْمانيّ، إبراهيم بن إسحاق الحَرْبيّ، عبد الله بن أحمد بن حَنْبَل، وغيرهم.

*‌

‌ مُصَنَّفَاتُهُ:

ترك الإمام أحمد للأمَّة موروثاً علميًّا هائلاً لا زالت - وستظلُّ- تنتفع به.

ومِنْ مُصنَّفاته:

المُسْنَد: وهو ثلاثون ألف حديث من أحاديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكان الإمام أحمد يقول لابنه عبد الله:«احتفظ بهذا المسند؛ فإنَّه سيكون للناس إماماً» .

وأَلَّف كتاب التفسير، والناسخ والمنسوخ، والمُقَدَّم والمُؤَخَّر في القرآن، وجوابات القرآن، والمناسك الكبير والصغير، وكتاب الزهد، والردّ على الجَهْميّة والزنادِقَة، والعِلَل والرِّجال، وكتاب الصلاة، وكتاب السُّنَّة.

وله مسائل عُرِفت بمسائل الإمام أحمد: وهي أجوبة على بعض مسائل الفقه برواية تلامذته؛ كأبي داود، وابن هانئ، والمرُّوذي، وابنيه صالح وعبد الله، وغير ذلك ممَّا خلَّفه لنا هذا الإمام المبارك.

ص: 19

*‌

‌ مكانتُهُ وثناءُ الناس عليه:

تَبَوَّأ الإمام أحمد مكانة عالية بين أئمَّة هذا الدِّين، فقد أثنى عليه أكابر علماء عصره، وشهدوا له بالإمامة والديانة وعُلوِّ المنزلة ورِفْعة القَدْر، ولا أدلَّ على ذلك من عبارة الإمام الشافعي رحمه الله فيه إذ يقول:«خَرَجتُ مِنْ بَغْدَادَ، فَمَا خَلَّفتُ بِهَا رَجلاً أَفْضَلَ، وَلَا أَعْلَمَ، وَلَا أَفْقَهَ، وَلَا أَتْقَى مِنْ أَحْمَد بنِ حَنْبَلٍ» .

وكان يقول: «أحمدُ إمامٌ في ثَمَانٍ: إِمامٌ في الحديث، إِمامٌ في الفِقْهِ، إِمامٌ في اللُّغَةِ، إِمامٌ في الْقُرْآنِ، إِمامٌ في الْفَقْرِ، إِمامٌ في الزُّهْدِ، إِمامٌ في الْوَرَع، إِمامٌ في السُنَّةِ» .

*‌

‌ محنتُهُ:

اُبْتُليَ الإمام أحمد رحمه الله كما هي سُنَّة الله الجارية في ابتلاء الصالحين، وكان بَلَاؤُه بسبب مسألة عُرفت ب «مسألة خَلْقِ القُرْآن» ؛ وذلك أنَّ الناس كانوا على معتقد السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم وتابعيهم في أنّ القرآن كلامُ الله عز وجل غير مخلوق؛ حتَّى ابتدعت المعتزلة -إحدى الفرق الضَّالة- هذه المقالة، وهي: أنَّ القرآن مخلوق. يقول الإمامُ الذهبيُّ رحمه الله: «فَإِنَّ الأُمَّةَ مَا زَالتْ عَلَى أَنَّ القُرْآنَ العَظِيْمَ كَلَامُ الله تَعَالَى وَوَحْيُه وَتَنْزِيْلُه، لَا يَعْرِفُوْنَ غَيْرَ ذَلِكَ، حَتَّى نَبَغَ لَهُمُ القَوْلُ بِأَنَّهُ كَلَامُ الله مَخْلُوْقٌ مَجْعُولٌ، وَأنَّه إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى الله تَعَالَى إِضَافَةَ تَشرِيفٍ؛ كَبَيتِ الله، وَنَاقَةِ الله. فَأَنكرَ ذَلِكَ العُلَمَاءُ»

(1)

.

وكان الخليفة في ذلك الوقت هو المأمون العباسيُّ (عبد الله بن هارون الرشيد)،

ص: 20

فَزيَّن له المعتزلةُ القولَ بخَلْق القرآن، وحَسَّنوه له؛ حتَّى صار إلى مقالتهم، وعزم على حَمْل الأُمَّة على هذا القول؛ فكتب إلى نائبه ببغداد -إذْ كان هو في الرّقَّة آنذاك- بامتحان العلماء عليه؛ فمن أجابه إليه نجا، ومن امتنع كان عقابه القتل،

أو الحبس، أو التعذيب؛ فعَمَّت الفتنة، وانتشر الشرُّ، وأصبحت هذه القضية هي شُغْل الدولة الشاغل، وفي ظلِّ هذه الأجواء المتوتِّرة، وتحت سياط التهديد والوعيد أجاب جُلُّ العلماء إلى هذه المقالة القبيحة مُكْرَهين، وامتنع من ذلك رجلان هما: أحمد بن حنبل، ومحمَّد بن نوح؛ فحُمِلا مُقَيَّدَين إلى الخليفة.

فأمَّا محمَّد بن نوح فمات في الطريق، وأمَّا الإمام أحمد فدَعا الله تعالى أن لا يجمع بينه وبين المأمون، فجاء الخبر بموت المأمون قبل أن يراه الإمام أحمد؛ فرجع به الحُرَّاس إلى سجنه ببغداد، وظلَّ في السجن ثمانية وعشرين شهراً.

ثمَّ تولَّى الخلافة بعده المعتصم -محمَّد بن هارون الرشيد- ومضى على نهج سلفه في القول بخلق القرآن، وامتحان العلماء عليه، واستدعى الإمام أحمد من مَحْبَسِه، وحاول جَهْده حَمْله على القول بخلق القرآن، والإمامُ يأبَى ويمتنع؛ فأمر بجَلْدِه جَلْداً شديداً، حتَّى أُغْمي عليه؛ فأمر بإعادته إلى منزله، وجِرَاحُه تنزف؛ حتَّى إنَّ الأطباء كانوا يتردَّدون عليه لعلاجه؛ خوفاً من أن يموت بجراحه.

ثمَّ مات المعتصم، وتولَّى بعده الواثق -هارون بن المعتصم- والفتنة لا زالت قائمة، ثمَّ مات الواثق، وتولَّى بعده المتوكِّل -جعفر بن المعتصم-، وكان على خلاف ما كان عليه أسلافه في هذه المسألة؛ إذ أظهر السُّنَّة، ونصر أهلها، ورفع المحنة، فعمَّ الفرح أرجاء العالم الإسلامي، وأكرم المُتوكِّل الإمامَ أحمد، وعظَّمه

ص: 21

وبَجَّلَه، وكان لا يُولِّي أحداً إلا بمَشُورته، ولُقِّب الإمام أحمد مِنْ يومها ب «إمام أهل السُّنَّة والجماعة» ؛ لثباته على الحقِّ، وصلابته فيه.

وظلَّ الإمام أحمد مُبَجَّلاً مُكَرَّماً، زاهداً في الدنيا والجاه، يُعلِّم الناس، ويَرْوي لهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى توفَّاه الله عز وجل.

*‌

‌ وَفاتُهُ:

مات رحمه الله تعالى يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأوَّل، سنة إحدى وأربعين ومائتين من الهجرة النبويَّة (241 هـ)، وله من العمر سبع وسبعون، ودُفِن ببغداد.

وكانت جنازته من أعظم الجنازات في تاريخ الإسلام والمسلمين، حتَّى قال الخَلاَّلُ:«سَمِعْتُ عَبْدَ الوَهَّابِ الوَرَّاقَ يَقُوْلُ: مَا بَلَغنَا أَنَّ جَمْعاً في الجَاهِلِيَّةِ وَلَا الإِسْلَامِ مِثْلُهُ -يعني من شَهِدَ الجنازَةَ- حَتَّى بَلَغَنَا أَنَّ المَوْضِعَ مُسِحَ وَحُزِرَ عَلَى الصَّحِيْحِ؛ فَإذَا هُوَ نَحْوٌ مِنْ أَلفِ أَلفٍ» .

رحم الله الإمامَ أحمد، ورضي عنه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

ص: 22

‌أماكنُ انتشارِ المذهبِ الحنبليِّ

(1)

تكَوَّنَ المذهبُ الحنبليُّ في بغدادَ؛ محلِّ مولدِ الإمامِ أَحمدَ ووفاتِه، ومنها انتشَر في أَنحاءِ العراقِ، وخاصَّة في الزبير، ولم ينتشِرْ خارجَ العراقِ إلَّا في القرنِ الرّابعِ فما بعدُ؛ حيثُ خَرَجَ المذهبُ إلى الشّامِ، وهو القاعدةُ الثانيةُ للمذهبِ، وفي القرنِ السّادسِ فما بعدَهُ دخَلَ المذهبُ إلى مصرَ، وكان له وجودٌ وانتشارٌ في: إقليمِ الدَّيْلمِ، والرّحابِ، وبالسُّوسِ من إِقليمِ خُوزِستانَ، وفي بلادِ الأَفغانِ، وفي جزيرةِ العربِ: في نجدٍ -وهي القاعدةُ الثالثةُ للمذهبِ-، وفي الحجازِ، والأَحساءِ، وقطرٍ، والبحرينِ، والإماراتِ العربيّةِ، وعُمَانَ، والكويتِ.

وإلى تفصيل هذا الإجمال:

‌1) في بغدادَ:

وهي: قاعدةُ المذهبِ الأُولى؛ ففيها كانتْ نشأةُ المذهبِ الحنبليِّ وظهورُه، وقوِيَ أمرُه بها في القرنِ الرّابعِ الهجريِّ، وصار يُنافسُ بقيّةَ المذاهبِ السُّنيّةِ، وصارَ للحنابلةِ حضورٌ علميٌّ كبيرٌ.

وأخَذ المذهبُ في القوّةِ والانتشارِ على يدِ تلاميذِ الإمامِ أَحمدَ، الّذينَ دوَّنُوا مذهبَه في كتبِ المسائلِ عنه، ثم جمَع الخلّالُ (ت: 311 هـ) ما أمكنَه منها في

ص: 23

كتابِ: «المسندِ الجامعِ للمسائلِ عن الإمامِ أَحمدَ» ، ثمّ تتابعَ النّاسُ على التّأليفِ حتّى بلَغ الإمامُ الحسنُ بنُ حامدٍ (ت: 403 هـ) في زمانِه مبلغاً عظيماً؛ تأليفاً، وقراءةً، وإقراءً، وصارَ من ثمارِه تلميذُه: أبُو يعلى محمّدُ بنُ الحُسينِ بنِ الفرّاءِ الحنفيُّ ثمّ الحنبليُّ، المولودِ سنة (380 هـ)، والمتوفّى سنةَ (458 هـ)؛ الّذي كثُر عنه الآخِذونَ، وانتشَر المذهبُ في عصرِه وازدهَر؛ حتّى كان بحقٍّ شيخَ الحنابلةِ ومحقِّقَ المذهبِ.

‌2) في الشَّامِ:

في بيتِ المقدسِ، وفلسطينَ، وفي طرابلسَ، وفي نابلسَ، وَقُرَاهَا: جَمَّاعيلَ، وجُرَاعةَ، ورامِينَ، وغيرِها.

ثمّ في دمشقَ، وأَعمالِها؛ مثلُ: أزْرُعَ، ودُوْمَا، والصالحيّةِ، وجبلِ قاسْيُونَ، وغيرِها، وفِي حلبٍ، وحماه، وحمص، وبعلبكَّ.

وأوّلُ شاميٍّ يُترجمُ في الحنابلةِ: ناصحُ الدِّينِ أبو الفرَجِ عبدُ الواحدِ بنُ محمّدٍ ابنِ عليٍّ بنِ أَحمدَ الأَنصاريُّ الخزرجيُّ الشِّيرازيُّ، ثمّ البغداديُّ، ثمّ المقدسيُّ، ثمّ الدِّمشقيُّ؛ شيخُ الإسلامِ في وقتِه، المتوفّى سنةَ (486 هـ) بمقبرةِ البابِ الصّغيرِ بدمشقَ.

ولهُ ذريّةٌ وعقِبٌ اشتُهِرُوا باسمِ: (بيتُ ابنِ الحنبليِّ)؛ أَخَذ عن القاضِي أَبي يعلى في بغدادَ، ثمّ رحَل إِلى بيتِ المقدسِ؛ فنشَرَ المذهبَ في القُدسِ وما حولَهُ، ثمّ انتقَل إلى دمشقَ؛ فانتشَر فيها المذهبُ، وتخرّجَ به الأصحابُ، وكان من بركتِه: آلُ قُدامةَ.

ص: 24

وبقي المذهبُ منتشراً في بلاد الشّامِ إلى زمنِ مجيءِ الدولةِ العثمانيّةِ التي يتمذهبُ سلاطينُها وقضاتُها وغيرُهم بالمذهبِ الحنفيِّ، مع ميلِهم إلى تقليدِ رعاياهم إياهُ؛ فلم يزلِ الحنابلةُ بعدها ببلادِ الشّامِ في اضمحلالٍ.

‌3) في مِصْرَ:

كان للمذهبِ وجودٌ قليلٌ فِيها، ومن ذلك الوجودِ القليلِ: الشّيخُ أَبو عَمرو عثمانُ بنُ مرزوقٍ القُرشيُّ، الفقيهُ الحنبليُّ، وكان قَدْ صحِب عبدَ الوهّابِ الجيليَّ بدمشقَ وتفقّهَ، واستوْطَنَ مصرَ، وأَقامَ بها حتّى ماتَ سنةَ (564 هـ). وهو أوّلُ حنبليٍّ مصريٍّ يترجمُ في الحنابلةِ.

كما ذَكرُوا في ترجمةِ عبدِ الغنيِّ بنِ عبدِ الواحدِ بنِ عليٍّ بنِ سرورٍ المقدسيِّ، المتوفّى سنةَ (600 هـ): أنّه دخَل مصرَ، والإسكندريّةَ، وأَقامَ مُدّةً في مصرَ، وكان له دورٌ في اتّساعِ المذهبِ.

وانتشَر المذهبُ في مصرَ على يدِ أَحدِ علماءِ (حَجَّةَ) من أعمالِ: (نابلسَ) فِي: القدسِ الشّريفِ؛ وهُو: موفّقُ الدِّينِ أَبو محمّدٍ عبدُ اللهِ بنُ محمّدٍ بنِ عبدِ الملكِ بنِ عبدِ الباقِي الحَجّاويُّ المقدسيُّ، ثمّ القاهريُّ، قاضِي قضاةِ الحنابلةِ في الدِّيارِ المصريّةِ؛ المتوفّى سنةَ (769 هـ)؛ إذْ تولّى قضاءَ الدِّيارِ المصريّةِ للحنابلةِ سنةَ (738 هـ)، واستمرَّ فيه إلى أَنْ ماتَ.

وكان الشّيخُ موسى الحَجّاويُّ المتوفّى سنةَ (968 هـ) صاحبُ: «الإقناعِ» و «زادِ المستقنعِ» من ذريّةِ ابنِ عمِّ موفق الدين المسمى بالمجدِ سالمٍ، وقيل: بل من

ص: 25

ذرية الموفق نفسه، وقد انتشَر المذهبُ في زمانِه، وكثُر فقهاءُ الحنابلةِ؛ حتّى غلبوا في القرنِ الحادي عشر على بعض القرى المصريّةِ؛ كقريةِ (بُهُوت)؛ القريبةِ من المحلّةِ الكبرى بمصرَ، والّتي خرج منها عددٌ من مشاهيرِ فقهاء الحنابلةِ، وعلى رأسِهم الشيخُ منصورُ بنُ إدريسَ البُهُوتيُّ المتوفّى سنة (1051 هـ)، صاحبُ «الرّوض المربع شرح زاد المستقنع» ، وغيرِه من الكتبِ النّافعةِ.

ويبدو أنّ المذهبَ أخَذ يضعفُ بعد موتِ فقهائِه المشاهيرِ هُناك؛ حتّى أصبحَ في مستهلِّ القرنِ الرابعِ عشَر لا يمثّلُهُ إلّا قلّةٌ قليلةٌ، ويمثّلُه في الجامعِ الأزهرِ عددٌ يسيرٌ من الشّيوخِ والطُّلَّابِ.

‌4) في بلادِ العجَمِ:

في مَرْوَ، والرَّيِّ، وآمِدَ، وأَصبَهانَ، وهَراةَ، وهمَذانَ، والدَّيلمِ، والسُّوسِ من إِقليمِ خُوزِستانَ، وفي بلادِ الأَفغانِ؛ كما يُعلمُ ذلك من تراجمِ عددٍ من علماءِ الحنابلةِ من القرنِ الرّابعِ فَمَا بعدُ، لاسيما في القرونِ: الخامسِ، والسّادسِ، والسّابعِ، والثّامنِ؛ كما في:«ذيل طبقات الحنابلة» لابنِ رجبٍ، وفي غيرِه.

‌5) في جزيرةِ العربِ:

أ - الحجازُ؛ وفيهِ الحرمانِ الشّريفانِ: وهو مظِنّةُ وُجودِ المذهبِ الحنبليِّ، ومن نظَر في كتبِ التّراجمِ المفردةِ لمكّةَ والمدينةِ رأى فيها تسميةَ منْ شاءَ اللهُ من الحنابلةِ.

ب- إقليمُ نجدٍ: والّذي يتأكّدُ أنّ المذهبَ الفقهيَّ الحنبليَّ كان سائدًا فيه منذُ

ص: 26

القرنِ الحادِي عشَر الهجريِّ، ولم يزلْ في تقدُّمٍ واضحٍ حتّى ظهَرتْ الدّولةُ السُّعوديّةُ الأُولى، والّتي تبنّتِ المذهبَ الحنبليَّ؛ فنما المذهبُ في قلبِ نجدٍ نموًّا مطّردًا، لاسيما وأنّ الحركةَ التجاريّةَ بين نجدٍ، والشّامِ، والعراقِ، والأحساءِ كانتْ مطّردةً؛ فاستقرَّ المذهبُ الحنبليُّ بقاعدتِه العريضةِ في نجدٍ.

ومِن نَجدٍ انتشَر إلى قَطرٍ، والأَحساءِ، والبَحرينِ، والكويت، والإماراتِ العربيّةِ؛ وبخاصّةٍ في الشّارقةِ، ورأسِ الخيمةِ، والفُجيرةِ، وعُمَانَ؛ لاسيما في جُعلانَ؛ بواسطةِ هجرةِ بعضِ الحنابلةِ من نجدٍ، ونُزوحِهم هُناك.

ص: 27

‌دراسةُ الفقهِ الحَنْبَليّ وأهمُ مصنَّفاتِهِ المعتمَدَةِ

حثَّ الله تعالى المسلمين على التفقّه في الدِّين، وجعَلَهُ من فروض الكفايات؛ فقال تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة 122]. ولذا كان الفقه في الدِّين، مِنَّة من الله تعالى يرزقها من يشاء من عباده ممَّن أراد بهم الخير؛ فعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، أنَّه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول:(مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ)[رواه البخاري ومسلم].

وحتّى تؤتي دراسةُ الفقه ثمارها، ويَطيبُ أُكلها، لا بدّ لطالب الفقه من اتّباع منهج عِلميٍّ في تلقِّي الفقه؛ يقوم على التدرّج في مراحل الطلب؛ بدءًا من المختصرات الفقهيّة، ثمّ المتوسّطات، وانتهاءً بالمطوّلات؛ يقول ابن خلدون رحمه الله: «اعلم أن تلقين العلوم للمتعلِّمين إنَّما يكون مفيداً إذا كان على التدرُّج شيئاً فشيئاً، وقليلاً قليلاً

»

(1)

.

ويقول الماوَرْدِيّ رحمه الله: «واعلم أنَّ للعلوم أوائل تؤدِّي إلى أواخِرها، ومَداخِل تُفضي إلى حقائقها؛ فليبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي إلى أواخِرها، وبمَداخِلها لتُفضي إلى حقائقها، ولا يَطلب الآخِر قبل الأوَّل، ولا الحقيقة قبل

ص: 29

المَدْخَل»

(1)

.

وينبغي على طالب العلم أن يراعي أثناء تدرّجِه في هذه المراحل عدّة أمور:

الأوَّل: إخلاص النيَّة لله تعالى؛ فيقصد بتعلّمه زوال الجهل، وحُسْن التعبّد لله تعالى، والعمل بما تعلّمَه، وتحصيل شرف العلم وفضله؛ فإنّ هذا العلم نور من الله تعالى يقذفه في قلوب المُخْلِصين الذين يبتغون به وجه الله والدار الآخرة، كما أنّ العلم من أشرف العبادات، والعبادات إنّما تصحُّ بالنيّة الخالصة.

الثاني: التلقِّي والتعلُّم على شيخ حاذِق مُتقن للعِلْم؛ كي يضبط له أصوله، ويشرح له ألفاظه، ويحلّ له مشكلاته، ويفتح عليه مُغلقاته؛ يقول النوويِّ رحمه الله:«قالوا: ولا تأخذِ العلمَ ممَّن كانَ أخْذُهُ له من بطونِ الكُتُبِ من غيرِ قراءةٍ على شيوخٍ أو شيخٍ حاذِقٍ؛ فمنْ لم يأخُذْه إلَّا مِنَ الكُتُبِ يقعُ في التصحيفِ، ويكثرُ منه الغَلَطُ والتَّحريفُ»

(2)

.

الثالث: أن لا يتعدَّى مرحلةً دون أن يصل إلى رسوخ القَدَم فيها؛ فلا ينتقل من مرحلة الابتداء إلا وهو يعلم أنه لا يحتاج إلى أن يعود إليها، وهكذا حتى يصل إلى مرحلة الانتهاء.

يقول ابن بَدْران رحمه الله: «وقد كانت هذه طريقة شيخنا العلَّامة الشيخ محمَّد بن عثمان الحنبلي المشهور بخطيب دُوما؛ المتوفَّى بالمدينة المنوَّرة سنة ثمان وثلاثمائة بعد الألف، وكان رحمه الله يقول لنا: لا ينبغي لمن يقرأ كتاباً أن يتصوَّر أنَّه يريد قراءته مرَّة ثانية؛ لأنَّ هذا التصوُّر يمنعه عن فهم جميع الكتاب، بل يتصوَّر

ص: 30

أنَّه لا يعود إليه مرَّة ثانية أبداً»

(1)

.

*‌

‌ الكتب المعتمدة في المذهب الحنبلي ومراتبها في الطلب:

من تأمَّل تصانيف الفقه يرى أنَّها ليست على درجة واحدة من حيث السَّبك وغزارة العبارة؛ ذلك أنَّ مصنِّفيها قد راعوا فيها رُتَب طلبة العلم من حيث الابتداء والتوسُّط والتقدُّم؛ بحيث يجد كلُّ طالب فقه ما يناسب إدراكه، ولا أدلَّ على ذلك من صنيع الإمام أبي عبد الله محمَّد بن أحمد بن قُدامة (ت 620 هـ)؛ حيث صنَّف كتباً أربعة هي:«العُمْدة» ، و «المُقْنِع» ، و «الكافي» ، و «المُغْني» ؛ مراعياً فيها مراحل الطلب؛ فوضع «العُمْدة» للمبتدئين، و «المُقْنِع» لمن ارتقى عن رتبة الابتداء ولم يبلغ رتبة المتوسِّطين، و «الكافي» للمتوسِّطين ممَّن لم يبلغ درجة المتقدِّمين، وأخيراً «المُغْني» لمن بلغ الغاية

(2)

.

وهم بصنيعهم هذا يأخذون بيد طالب الفقه ليسير على درب الطلب رُوَيْداً رُوَيْداً؛ كي تحصل له الفائدة، وتتحقَّق له المنفعة.

والمذهب الحنبلي كغيره من المذاهب غنيٌّ بالتصانيف المفيدة التي لا غنى لطالب العِلْم عنها في أيِّ مرحلة من مراحل التدرُّج في طلب علم الفقه، ولكن هذه الكثرة ربما أوقعت الطالب في حيرة من أمره؛ أيّ كتاب يبدأ به؟ وأيّها أنسب للطلب في مرحلته التي هو فيها؟ وربما اختار لنفسه من غير دراية أو توجيه فوقع في التخبُّط

(1)

«المدخل» لابن بدران (ص 266).

(2)

انظر: «المدخل» لابن بدران (ص 233)، «المَدْخَل المُفصَّل» لبكر أبو زيد (2/ 719).

ص: 31

وسوء التعليم؛ فأدَّى به إلى التكاسل والانحراف عن قبوله وهجرانه.

ولذا نجد أن ابن بَدْران رحمه الله أدرك هذه المشكلة، ونبَّه إليها؛ فقال: «اعلم أنَّ كثيراً من الناس يقضون السنين الطِّوال في تعلُّم العِلم، بل في عِلْم واحد، ولا يحصلون منه على طائل، وربما قضوا أعمارهم فيه، ولم يرتقوا عن درجة المبتدئين، وإنّما يكون ذلك لأحد أمرين:

أحدهما: عدم الذكاء الفِطْري، وانتفاء الإدراك التصوّري، وهذا لا كلام لنا فيه ولا في علاجه.

والثاني: الجهل بطرق التعليم

»

(1)

.

ولأجل ذلك وضع -رحمه الله تعالى- تصوُّراً لأهمِّ المصنَّفات التي ينبغي البدء

بها عند كلِّ مرحلة من مراحل الطلب، فقال:«فالواجب الديني على المعلِّم إذا أراد إقراء المبتدئين أن يُقرئهم أوَّلاً كتاب «أخصر المختصرات» أو «العُمْدة»

(2)

للشيخ منصور متناً إن كان حنبليًّا

ويجب عليه أن يشرح له المتن بلا زيادة ولا نقصان بحيث يفهم ما اشتمل عليه، ويأمره أن يصوِّر مسائله في ذهنه، ولا يشغله ممِّا زاد على ذلك

»

(3)

.

ثمَّ قال: «فإذا فرغ الطالب من فهم تلك المتون، نقله الحنبلي إلى «دليل الطالب»

والأَوْلى عندي للحنبليِّ أن يُبدل «دليل الطالب» ب «عمدة» موفَّق الدين المقدسي إن

(1)

«المدخل» لابن بدران (ص 265).

ولابن خلدون كلام نفيس في هذا المقام، انظره في كتابه «مقدِّمة ابن خلدون» (ص 533 - 534).

(2)

هو: «عمدة الطالب لنيل المآرب» .

(3)

«المدخل» لابن بدران (ص 266).

ص: 32

ظفر بها ليأنس الطالب بالحديث، ويتعوَّد على الاستدلال به؛ فلا يبقى جامداً

فإذا أتمَّ شَرْح ذلك أقرأه الحنبليُّ «الرَّوْض المُرْبِع بشرح زاد المُسْتَقْنِع»

فإذا انتهى من هذه الكتب، وشَرَحها شرْح من يفهم العبارات، ويُدرك بعض الإشارات؛ نقله الحنبليُّ إلى «شَرْح المُنْتَهى» للشيخ منصور

فإذا فرغ من هذه الكتب وشرحها بفَهْمٍ وإتقان؛ قرأ ما شاء، وطالع ما أراد؛ فلا حَجْر عليه بعد هذا»

(1)

.

وإتماماً للفائدة نذكر أهمَّ المصنَّفات

(2)

المعتمدة في المذهب الحنبلي بحسب رُتَبِها في مراحل الطلب: المختصرات، ثمَّ المتوسِّطات، ثمَّ المتقدِّمات.

‌أولاً: أهمُّ الكتب المعتمدة في المذهب لطبقة المبتدئين:

1) مختصر الخِرَقي: لأبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخِرَقي (ت 334 هـ).

2) عُمْدَة الفقه: لأبي عبد الله محمّد بن أحمد بن قُدامة المقدسي (ت 620 هـ).

3) التنقيح المُشْبِع في تحرير أحكام المُقْنِع: لعلاء الدين علي بن سليمان المَرْداوي (ت 885 هـ).

4) زاد المُسْتَقْنِع في اختصار المُقْنِع: لموسى بن أحمد بن سالم المقدسي الحَجّاوي (ت 960/ 968 هـ).

5) «دليل الطالب» و «غاية المُنْتَهى» : لمَرْعي بن يوسف الكَرْمي (ت 1033 هـ).

6) عُمْدَة الطالب لنَيْل المآرب: لمنصور بن يونس البُهوتي (ت 1051 هـ).

(1)

«المدخل» لابن بدران (ص 267).

(2)

يَقتصرُ ذِكر المصنَّفات المعتمدة في المذهب الحنبلي على المطبوع منها فقط.

ص: 33

7) أخْصَر المُخْتَصَرات: لمحمَّد بدر الدين البَلْباني البَعْلي (ت 1083 هـ).

‌ثانياً: أهمُّ الكتب المعتمدة في المذهب لطبقة المتوسِّطين:

1) المُقْنِع: لأبي عبد الله محمَّد بن أحمد بن قُدامة المقدسي (ت 620 هـ).

2) الكافي: لأبي عبد الله محمَّد بن أحمد بن قُدامة المقدسي (ت 620 هـ).

3) الإقناع لطالب الانتفاع: لشرف الدين أبي النجا موسى بن أحمد الحجاوي (ت 960/ 968 هـ).

4) مُنتهى الإرادات في الجمع بين المقنع مع التنقيح وزيادات: لتقيّ الدين محمَّد بن أحمد بن عبد العزيز الفُتوحي المصري؛ الشهير بابن النَّجار (ت 972 هـ).

5) الرَّوْض المُرْبِع بشرح زاد المُسْتَقْنِع: لمنصور بن يونس البُهُوتي (ت 1051 هـ).

‌ثالثاً: أهمُّ الكتب المعتمدة في المذهب لطبقة المتقدِّمين:

1) المغني: لأبي عبد الله محمَّد بن أحمد بن قُدامة المقدسي (ت 620 هـ).

وهذا الكتاب يأتي في مرحلة متقدِّمة، وهي مرحلة معرفة الخلاف بين أئمَّة المذاهب، وبيان أدلَّتهم، ومناقشتها مع الترجيح بينها.

2) الفُروع: لشمس الدين محمَّد بن مُفْلِح المقدسي (ت 763 هـ).

3) شرح الزَّرْكشي على مختصر الخِرْقي: لمحمَّد بن عبد الله الزَّرْكشي المصري (ت 772 هـ).

4) الإنصاف في معرفة الراجح من الخِلاف: لعليّ بن سليمان المَرْداوي (ت 885 هـ).

ص: 34

‌رابعاً: أهمُّ الكتب المعتمدة في مُفرَدات مذهب الإمام أحمد:

وهذه الكتب التي اعتنت بذكر الأقوال في المسائل التي انفرد بها المذهب الحنبلي عن غيره من المذاهب الأخرى، ومن أبرزها:

1) النَّظْم المُفيد الأحمد في مفردات الإمام أحمد: لمحمَّد بن علي الخطيب المقدسي (ت 820 هـ).

2) منح الشفاء الشافيات شرح المفردات

(1)

: لمنصور بن يونس البُهوتي (ت 1051 هـ).

‌خامساً: أهمُّ الكتب المعتمدة في معرفة الراجح من مذهب الإمام أحمد:

قد يجد طالب العلم في بعض مصنفات الفقه الحنبلي مسائل اختلف ترجيح المذهب فيها، فيحتاج إلى الرجوع إلى محققي المذهب؛ لمعرفة الراجح المعتمد من هذه الأقوال، ومن أبرز المصنفات التي اعتنت بتصحيح الخلاف في المذهب:

1) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف: لعلي بن سليمان المَرْداوي، وهو أوسع هذه الكتب وأشهرها.

2) التنقيح المُشْبِع في تحرير أحكام المُقْنِع: لعليّ بن سليمان المَرْداوي، وهو مختصر لكتابه السابق؛ حرره على المعتمد الراجح في المذهب.

3) مُنتَهى الإرادات في الجَمْع بين المُقْنِع مع التَّنْقِيح وزيادات: لمحمَّد بن أحمد ابن عبد العزيز، المعروف بابن النَّجار.

(1)

هذا الكتاب شرح ل «النظم المفيد الأحمد» ، وفيه بعض المفردات ليست المذهب عند المتأخِّرين.

ص: 35

4) التوضيح في الجَمْع بين المُقْنِع والتَّنْقِيح: لأحمد بن محمَّد بن أبي بكر الشُّوَيْكي (ت 939 هـ).

5) غاية المُنْتَهَى في الجَمْع بين الإقناع والمُنْتَهَى: لمَرْعي بن يوسف الكَرْمي. وهذا الكتاب قال عنه الإمام السفاريني (ت 1188 هـ): «عليك بما في «الإقناع» و «المنتهى» ، فإذا اختلفا فانظر ما يرجحه

(1)

صاحب «غاية المنتهى» »

(2)

.

6) الدرُّ المُنْتَقَى والجَوهَر المجموع في تصحيح الخِلاف المُطْلَق في الفُروع: لعليّ ابن سليمان المَرْداوي، وهذا الكتاب اشتهر باسم «تصحيح الفُروع» ؛ حيث صحَّح مؤلِّفُه المسائل التي أطلق فيها ابن مفلح الخلاف في كتاب الفروع. «والحقيقة أنَّه تصحيح لعامَّة كُتُب المذهب»

(3)

.

* * *

(1)

ليس كل ما رجحَّه صاحب «الغاية» هو المذهب، بل بعضه اجتهاد له، وهذا موجود ومتعقَّب من قِبَل الرحيباني في «مطالب أولي النُّهى» ، والشطّي في «تجريد الزوائد» .

(2)

مقدمة «كشَّاف القناع» (1/ 12).

(3)

«المَدْخَل المُفصَّل» لبكر أبو زيد (2/ 762).

ص: 36