الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الطّهارة
أولاً: تعريف الطّهارة:
الطهارة هي: ارتفاعُ الحدَثِ، وزوالُ الخبثِ.
والمراد بالحدثِ: الوصفُ القائمُ بالبدنِ المانعُ من الصّلاةِ وغيرها، وبالخبثِ: النّجاسةُ.
باب المياه
ثانياً: أقسامُ المياهِ:
أقسام المياه ثلاثةٌ:
أحدُها: الطَّهور:
وهو الماءُ المطلقُ الباقي على خِلْقَته التي خُلِق عليها، ولو حُكماً؛ سواء نَبَع من الأرض، أو نَزَل من السماء على أيِّ لونٍ كان.
وهو طاهرٌ في نفسه مُطهِّرٌ لغيره؛ فيرفع الحدَث، ويُزيل الخبَث؛ لقوله تعالى:{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]. وقال صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايايَ بالمَاءِ، وَالثَّلْجِ، والبَرَدِ)[رواه البخاري ومسلم]، وقال صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر:(هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، والنّسائي، وابن ماجه].
* أنواعُ الماء الطهور:
الماء الطهور أربعة أنواع:
1) ماءٌ يحرمُ استعمالُه، ولا يرفعُ الحَدَثَ، ويُزيلُ الخَبَثَ: وهو ما ليس مباحاً؛ كمغصوب ونحوه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)[رواه البخاري ومسلم].
2) ماءٌ يرفعُ حَدثَ الأُنْثى لا الرَّجلِ البالغِ والخُنْثى: وهو ما خَلَت به المرأةُ المكلّفة لطهارةٍ كاملةٍ عن حدثٍ؛ لحديث الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ المَرْأَةِ)[رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه]. وقول عبد الله بن سَرْجَس رضي الله عنه: (تَوَضَّأْ أَنْتَ هَا هُنَا وَهِيَ هَاهُنَا؛ فَأَمَّا إِذَا خَلَتْ بِهِ فَلَا تَقْرَبَنَّهُ)[رواه الأثرم].
3) ماءٌ يكرهُ استعمالُه عند عدمِ الاحتياجِ إليه: وهو يرفع الحَدَث، ويُزيل الخَبَث.
وذلك كماءِ بئرٍ بمقبرة، وماءٍ اشتدَّ حرُّه أو بردُه؛ لأنّه يُؤذي ويمنع كمال الطهارة، أو سُخّن بنجاسةٍ أو بمغصوبٍ؛ لأنّه لا يسلم غالباً من صعود أجزاءٍ لطيفةٍ إليه، وفي الحديث:(دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)[رواه الترمذي، والنّسائي]، أو استُعمل في طهارةٍ لم تجبْ كتجديدِ الوضوءِ وغُسلِ الجمعةِ، أو تغيّر بملح مائيّ كالملح البحري؛ لأنّه منعقدٌ من الماء، أو بما لا يُمازجه كتغيّره بالكافور
والدُّهن على اختلاف أنواعه؛ لأنّه تغيّر بمجاور، لا يمازج الماء، وكراهته خروجاً من الخلاف. وفي معناه ما تغيّر بالقَطِران والزِّفْتِ والشَّمْعِ؛ لأنّ فيه دُهنيةً يتغيّر بها الماءُ.
- ولا يكره ماء زمزم إلا في إزالة الخبَثِ؛ تعظيماً له.
4) ماءٌ لا يكرهُ استعماُله: كماء البحر، والآبار، والعيون، والأنهار؛ لحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال:(قِيلَ: يَا رَسُولَ الله أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الحِيَضُ وَلُحومُ الْكِلَابِ وَالنَّتَنُ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: الَماءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيءٌ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي].
- ولا يُكره ماءُ الحمّام -مكان الاستحمام-؛ لأنّ الصحابة رضي الله عنهم دخلوا الحمَّام ورخَّصوا فيه؛ فعن عمر رضي الله عنه: (أَنَّهُ كَانَ يُسَخَّنُ لَهُ مَاءٌ في قُمْقُمٍ فَيَغْتَسِلُ بِهِ)[رواه الدارقطني].
- ولا يُكره المسخّنُ بالشّمس؛ لعدم صحّة الحديث الذي ينهى عن ذلك، وأنّه يورث البرص.
- ولا يُكره الماءُ المتغيّر بطول المُكْثِ -وهو الآجِنُ-، وما تغيّر في آنية الأُدْم والنُّحاس؛ لأنّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسافرون وغالب أسقيتهم الأُدْم وهي تغير أوصاف الماء عادةً، ولم يكونوا يتَيمَّمُون معها.
وكذلك ما يتغيّر بالرائحة من ميتة مجاورة لم تقع فيه، ونحوها، أو بما يَشُقُّ صَونُ الماء منه؛ كالطُّحلب وورق شجر -ما لم يوضعا-، وكذلك ما تغيّر بمروره
على كبريتٍ ونحوه، وما تلقيه الرِّيح والسُّيول في الماء من الحشيش والتِّبن ونحوهما؛ لأنّه لا يمكن صون الماء عنه.
الثاني: الطّاهرُ غيرُ المُطَهِّر:
ويجوز استعمالُه في غيرِ رفعِ الحدث وإزالةِ الخبث، ونحوِهما، وهو: ما تغيّر كثيرٌ من لونه أو طعمه أو ريحه بشيء طاهر غيّر اسمه حتّى صار صِبغاً أو خلًّا
أو طُبخ فيه فصار مرقاً فيسلبه الطَّهورية؛ لأنّه أزال عنه اسم الماء فأشبه الخلّ.
فإن زال تغيُّرُه بنفسه عاد إلى طهوريّته.
- ومن الطّاهر: ما كان قليلاً واستعمل في رفع حدث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صَبَّ عَلَى جَابِرٍ مِنْ وَضُوئِهِ [رواه البخاري ومسلم]، ولكنّه غير مطهر؛ لأنّه أزال مانعاً من الصّلاة؛ فأشبه ما لو أزيلت به نجاسة.
- ومنه: الماءُ القليلُ الذي انغمست فيه كلُّ يد المسلمِ المكلَّفِ النَّائمِ ليلاً نوماً ينقضُ الوضوءَ قبل غسلها ثلاثَ مراتٍ بنيّة وتسمية عند أوّل الغسل، وذلك واجب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلْهُمَا في الإِنَاءِ ثَلاثاً؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ)[رواه البخاري ومسلم].
الثالث: النَّجِسُ:
يحرمُ استعمالُه إلا لضّرورةِ -كعطشٍ أو دفع لقمة غصّ بها-، ولا يرفعُ الحدثَ، ولا يُزيلُ الخبثَ، وهو: ما وقعت فيه نجاسةٌ وهو قليلٌ دون القُلَّتين، أو
كان كثيراً وتغيّر بها أحدُ أوصافِه: طعمه أو لونه أو ريحه؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ المَاءِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّباعِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِذَا كَانَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ)[رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه]. وفي لفظ ابن ماجه وأحمد: (لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيءٌ) وهذا يدلُّ على أنّ ما لم يبلغهما ينجس.
- وما تغيّر أحدُ أوصافِه بنجاسة: نجسٌ إجماعاً.
- فإن زال تغيّره بنفسِه، أو بإضافةِ طهورٍ كثيرٍ إليه يشقُّ نزحه، أو بنزحٍ منه ويبقى بعده كثير: عاد إلى طهوريّته.
- والكثير: قلّتان، واليسير: ما دونهما.
وهما: خمسُمائةِ رطلٍ بالعراقيّ تقريباً، وثمانون رطلاً، وسُبُعان ونصفُ سبعِ رطلٍ بالقدسيّ، ومساحتهما: ذراعٌ وربْعٌ طولاً وعرضاً وعمقاً.
والقلتان تسعان خمسَ قربٍ تقريباً، وذلك يساوي بالتقريب:(160.5) لتراً.
- فإذا كان الماء الطَّهور كثيراً ولم يتغيّر بالنّجاسةِ؛ فهو طهورٌ، ولو مع بقائها فيه؛ لحديث بئر بضاعة السابق.
وإن شكّ الشخص في كثرة الماء الذي وقعت فيه نجاسةٌ ولم تغيّره؛ فهو نَجِس.
* اشتباه أنواع المياه ببعضها:
وإن اشتبه الماءُ الذي تجوز به الطّهارة بماء لا تجوز به الطهارة لنجاسته: لم يَتَحرَّ فيهما، ويجتنبهما جميعاً، ويتيمّم بلا إراقة للماء؛ لأنّه اشتبه المباحُ بالمحظور فيما
لا تبيحه الضرورة؛ فلم يجز التحرّي؛ كما لو كان النجسُ بولاً، أو اشتبهت أختُه بأجنبيات.
ويلزمُ من علم بنجاسةِ شيءٍ من الماء أو غيره إعلامُ من أراد أن يستعمله في طهارةٍ، أو شربٍ، أو غيرهما؛ لحديث:(الدِّينُ النَّصِيحةُ)[رواه مسلم].
* * *
باب الآنية
أوَّلاً: تعريفُ الآنيةِ:
الآنيةُ لغةً وعُرفاً: الأَوْعِيَةُ، جمعُ إناءٍ ووِعاءٍ؛ كسقاءٍ وأسقيةٍ.
والوعاءُ: كلُّ ظرفٍ يمكنُ أن يستوعب غيره.
ثانياً: أحكامُ الآنيةِ:
- يُباح اتّخاذُ كلِّ إناءٍ طاهرٍ، واستعمالُه ولو ثميناً؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اغْتَسَلَ مِنْ جَفْنَةٍ-قَصْعَة-[رواه أبو داود والترمذي]، وتَوَضَّأَ مِنْ تَوْرٍ-قَدَحٍ- مِنْ صُفْرٍ-نُحاس-[رواه البخاري]، ومِنْ قِرْبَةٍ [رواه البخاري ومسلم].
- ويستثنى من هذا آنيةُ الذَّهبِ والفضّةِ والمموَّهِ بهما؛ لما روى حذيفة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (لا تَشْرَبُوا في آنِيَةِ الذَّهِبِ وَالفِضَّةِ وَلا تَأْكُلُوا في صِحَافِهَا؛ فَإِنَّهَا لَهُمْ في الدُّنْيا وَلَكُمْ في الآخِرَةِ)[رواه البخاري ومسلم]. وقال صلى الله عليه وسلم: (الَّذِي يَأْكُلُ
أَوْ يَشْرَبُ في آنِيَةِ الفِضَّةِ وَالذَّهَبِ إِنَّمَا يُجَرجِرُ في بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ) [رواه مسلم].
- ويستوي في النّهي عن ذلك الرِّجال والنِّساء لعموم الخبر.
* حكم التَّطهر بآنية الذهب والفضة:
- ومع تحريمهما تصحُّ الطهارةُ بهما، وبالإناءِ المغصوبِ؛ لأنّ الوضوءَ جريانُ
الماءِ على العضو؛ فليس بمعصيةٍ، إنّما المعصيةُ استعمالُ الإناءِ.
- ويُباح استعمالُ الإناءِ إذا ضُبِّب بضبّةٍ يسيرةٍ من الفِضّة لغير زينةٍ؛ لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْكَسَرَ؛ فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ
- يعني: الشَّقَّ- سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ) [رواه البخاري].
ثالثاً: حكمُ آنيةِ غير المسلمين وثيابِهم:
- آنيةُ غيرِ المسلمين وثيابُهم طاهرةٌ إذا جُهِل حالها؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أفرغ من مَزادَة امرأةٍ مشركةٍ ماءً؛ فسقى النّاسَ وأعطى رجلاً أصابته جنابةٌ ماءً ليغتسل به [رواه البخاري].
- ومن يستحلّ المَيْتاتِ والنَّجاساتِ منهم؛ فما استعملوه من آنيتِهم فهو نجسٌ؛ لما روى أبو ثعلبة الخُشَنيّ رضي الله عنه قال: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ؛ أَفَنَأْكُلُ في آنِيَتِهِمْ؟ قَالَ: إِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَ آنِيَتِهِمْ فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا ثُمَّ كُلُوا فِيهَا)[رواه البخاري ومسلم]. وما نَسجُوه أو صَبغوه فهو طاهر.
- ولا ينجسُ شيءٌ بالشكِّ ما لم تُعلم نجاستُه يقيناً؛ لأنّ الأصلَ الطّهارةُ.
رابعاً: حكمُ أجزاءِ الميْتةِ:
- عَظمُ الميتةِ، وقَرنُها، وظُفْرُها، وحَافِرُها، وعَصَبُها، وجِلْدُها: نجسٌ، ولا يَطهرُ بالدِّباغ؛ لقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، والجِلدُ جزءٌ منها. ولما
روى عبد الله بن عُكيم قال: (قُرِئَ عَلَيْنَا كِتَابُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في أَرْضِ جُهَيْنَةَ وَأَنَا غُلامٌ شَابٌ: أَلَّا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلا عَصَبٍ)[رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
- والشَّعْرُ، والصُّوفُ، والرِّيشُ طاهرٌ إذا كان من ميتةٍ طاهرةٍ في الحياةٍ، ولو غير مأكولةٍ كالهرِّ والفأرِ؛ قال تعالى:{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النّحل: 80]، والريشُ مَقيسٌ على المنصوص عليه.
خامساً: تغطيةُ الآنيةِ:
يُسَنُّ تغطيةُ الآنيةِ، وإيكاءُ-ربطُ- الأَسْقِيةِ؛ لحديث جابر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ - أَوْ أَمْسَيْتُمْ - فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ
…
وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ الله، وَلَوْ أَنْ تَعْرِضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا) [رواه البخاري ومسلم]. خمِّروا: أي غَطُّوا.
* * *
باب الاستنجاء وآداب التخلي
أوَّلًا: تعريف الاستنجاء:
الاستنجاء: إزالة ما خرج من السبيلين بماء طَهُور أو حَجَر طاهر مباح منقٍ.
والإنقاء بالماء معناه: أن يعود المكان طاهراً خَشِناً كما كان.
أما الإنقاء بالحجر فمعناه: أن يزيل الحجر النجاسة وبَلَّتها بحيث يخرج آخر حجر نقيًّا ولا يبقى بعده إلَّا أثرٌ لا يزيله إلَّا الماء.
ثانياً: حكم الاستنجاء:
الاستنجاء واجب لكل ما خرج من السبيلين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها: (إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ يَسْتَطِيبُ بِهِنَّ، فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ)[رواه أبو داود]. ولقوله صلى الله عليه وسلم في المذي: (يَغْسِلْ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ)[رواه البخاري ومسلم].
إلَّا إذا كان الخارج طاهراً؛ كالمنيِّ، والرِّيح، والولد بدون دم، أو كان الخارج نجساً لم يلوِّث المحلَّ؛ فلا يجب الاستنجاء؛ لأنَّ الاستنجاء إنَّما شرع لإزالة النجاسة، ولا نجاسة هنا.
ثالثاً: آداب الاستنجاء:
1) يجزئ في الاستنجاء الماء وحده، أو الحجر وحده، وكذا ما كان في معنى الحجر من كل جامد طاهر مزيل للنجاسة؛ كالخشب والخِرَق (القماش) وما في
معناهما؛ لحديث أنس رضي الله عنه: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ الخَلَاءَ فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ نَحْوِي إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً، فَيَسْتَنْجِي بِالمَاءِ)[رواه البخاري ومسلم].
ولحديث عائشة رضي الله عنها أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ يَسْتَطِيبُ بِهِنَّ، فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ)[رواه أبو داود].
2) والماء أفضل؛ لأنه أبلغ في التنظيف ويُطهِّر المحل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءٍ {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة 108]، قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالمَاءِ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةُ)[رواه أبوداود].
3) لا يجوز ولا يجزئ الاستنجاء بأقل من ثلاث مَسَحَات؛ وذلك باستعمال ثلاثة أحجار، أو حجر واحد له ثلاث شُعَب؛ فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَجْمِرْ ثَلَاثًا)[رواه أحمد]. وعن سلمان رضي الله عنه قال: (نَهَانَا -يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ) [رواه مسلم].
4) يكره الاستنجاء باليمين؛ لحديث سلمان السابق، وفيه: (نَهَانَا -يعني النبي صلى الله عليه وسلم
…
أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ).
5) يكره استقبال القبلة واستدبارها حال الاستنجاء؛ تعظيماً لها.
6) يحرم الاستنجاء بالروث، والعظم، والطعام؛ سواءً أكان طعاماً للآدمي أم للبهائم؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ وَلَا بِالْعِظَامِ؛ فَإِنَّهُ زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الجِنِّ)[رواه مسلم والترمذي -واللفظ له- والنسائي في الكبرى]. وتعليل النهي بكونه زاداً للجنِّ تنبيه على أنَّ طعام الإنسان وطعام دوابّهم
أولى بالنهي؛ لأنَّه أعظم حُرمةً.
فإن فعل واستنجى بهذه الأشياء لم يجزئه بعد ذلك إلَّا الماء، وكذا إذا تعدَّى الخارج من السبيلين الموضع المعتاد، لم يجزئه إلَّا الماء.
* * *
فصل في آداب التخلي
أوَّلًا: ما يُسنُّ لدخول الخلاء:
يُسنُّ لداخل الخلاء ما يلي:
1) البعد والاستتار عن الناس لاسيما عند الغائط؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ البَرَازَ انْطَلَقَ حَتَّى لَا يَرَاهُ أَحَدُ)[رواه أبو داود].
والبَراز: مكان قضاء الحاجة.
2) التَّسمية والاستعاذة عند الدخول إلى الكنيف -موضع قضاء الحاجة-، وعند تشمير الثياب حال قضاء الحاجة في الفضاء؛ لحديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سَتْرُ مَا بَيْنَ أَعْيُنِ الجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إِذَا دَخَلَ أَحَدُهُمُ الخَلَاءَ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللهِ)[رواه الترمذي وابن ماجه].
ولحديث أنس رضي الله عنه قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الخَلَاءَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ)[رواه البخاري ومسلم]. والخُبُث: بضم الباء جمع خبيث، والخبائث: جمع خبيثة، والمراد: ذكران الشياطين وإناثهم.
3) تقديم رجله اليسرى في الدخول، واليمنى في الخروج؛ لأن اليمين تُقدَّم إلى الأماكن الطيبة، واليسار لضدِّها، ثم يقول: غفرانك؛ لحديث عائشة رضي الله عنها (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الخَلَاءِ قَالَ: غُفْرَانَكَ)[رواه الترمذي وأبو داود].
4) أن لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، إلَّا لحاجة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ حَاجَةً لَا يَرْفَعُ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الأَرْضِ)[رواه أبو داود].
ثانياً: ما يكره حال التخلِّي:
يكره حال التخلي ما يلي:
1) استقبال الشمس والقمر؛ تكريماً لهما.
2) البول في مهب الريح؛ لئلا يرتد عليه فيتنجس بدنه أو ثيابه.
3) الكلام مطلقاً، إلا لما لابد منه كإرشاد أعمى يخشى عليه من التردِّي؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما (أَنَّ رَجُلاً مَرَّ وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَبُولُ فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْه)[رواه مسلم].
4) البول في الجحور والثقوب؛ لحديث قتادة عن عبد الله بن سَرْجَس رضي الله عنه قال: (نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَالَ فِي الجُحْرِ. قَالُوا لِقَتَادَةَ: مَا يُكْرَهُ مِنَ البَوْلِ فِي الجُحْرِ؟ قَالَ: إِنَّهَا مَسَاكِنُ الجِنِّ)[رواه أحمد وأبو داود].
5) البول في نار أو في رمادٍ؛ لأنه يورث السَّقم.
6) البول في المُسْتَحَم، أو في الماء الراكد؛ لحديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فِيهِ)[رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
وعن جابر رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي المَاءِ الرَّاكِدِ)[رواه مسلم].
7) دخول الخلاء بشيء فيه ذِكْرُ لله تعالى، إلّا لحاجة؛ إكراماً وإجلالاً لاسمه جلَّ
وعَلا، وقد قال الله عز وجل:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج 32].
- ولا يكره له البول قائماً إن أَمِنَ التلوَّث بنجاسة، وأَمِنَ أن لا يراه أحد؛ لحديث حذيفة رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِماً) [رواه البخاري ومسلم]. والسُّباطة بالضم: المكان الذي يلقى فيه التراب والقمامة.
ثالثاً: ما يحرم حال التخلي:
يحرم حال التخلي ما يلي:
1) استقبال القبلة واستدبارها، في الصحراء بلا حائل؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ عَلَى حَاجَتِهِ فَلَا يَسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا)[رواه مسلم].
- أما إذا كان يستتر بسُترة، أو ذيل ثيابه، أو كان في البنيان؛ فيباح له ذلك؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:(ارْتَقَيْتُ فَوْقَ بَيْتِ حَفْصَةَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ)[رواه البخاري ومسلم].
وعن مروان الأصفر قال: (رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ جَلَسَ يَبُولُ إِلَيْهَا. فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! أَلَيْسَ قَدْ نُهِىَ عَنْ هَذَا؟ قَالَ: بَلَى؛ إِنَّمَا نُهِىَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْفَضَاءِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُكَ فَلَا بَأْسَ)[رواه أبو داود].
2) البول أو التغوُّط في طريق الناس، أو في مكان يستظلون به، أو في مورد ماءٍ، أو تحت شجرة مثمرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتَّقُوا المَلَاعِنَ الثَّلَاثَ: البَرَازَ فِي المَوَارِدِ،
وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ) [رواه أبو داود وابن ماجه]، ولئلا يتنجس ما سقط من الشجرة المثمرة. والملاعن: أي ما يجلب لعنة الناس.
3) البول أو التغوُّط بين قبور المسلمين؛ لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (
…
وَمَا أُبَالِي أَوَسْطَ القُبُوِرِ قَضَيْتُ حَاجَتِي أَوْ وَسْطَ السُّوقِ) [رواه ابن ماجه]؛ فسوَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحكم بين قضاء الحاجة وسط السوق، وقضاء الحاجة وسط القبور.
4) المكث أكثر من قدر الحاجة؛ لأنَّه كشف للعورة بلا حاجة.
والرواية الأخرى في المذهب: أنَّه مكروه.
* * *
باب السِّواك
أوَّلًا: تعريف السِّواك:
السِّواك: بكسر السين؛ اسم للعود الذي يستوَّك به؛ لتطهير الفم وتنظيفه.
ثانياً: آداب استعمال السِّواك:
1) يُسنُّ استعمال السواك مطلقاً في كلِّ وقت، لغير صائم بعد الزَّوال؛ لحديث عائشة رضي الله عنها عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ)[رواه أحمد والنسائي].
2) تحصل سُنَّة التَّسوك بعود الأراك وبغيره مما يحقق نظافة الفم من غير أذى، والأراك أفضل لوروده في السُّنَّة.
3) يتأكّد استعمال السواك في مواضع هي:
أ) عند الوضوء: لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لَولَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّواكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ)[رواه مالك وأحمد وابن خزيمة].
ب) عند الصلاة: لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لَولَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ)[رواه مسلم].
ج) عند الانتباه من النوم: لحديث حذيفة قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ الَّليْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ)[رواه البخاري ومسلم].
د) عند تغيّر رائحة الفم: لعموم حديث عائشة السابق (السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ).
هـ) عند قراءة القرآن: لحديث عليٍّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ العَبْدَ إِذَا تَسَوَّكَ وَقَامَ يُصَلِّي قَامَ المَلَكُ خَلْفَهُ فَسَمِعَ لِقِرَاءَتَهِ، فَيَدْنُو مِنْهُ حَتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيهِ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ شَيءٌ إِلَّا صَارَ في جَوْفِ المَلَكِ، فَطَهِّرُوا أَفْوَاهَكُمْ لِلْقُرْآنِ)[رواه البزار].
و) عند دخول المنزل: لما روى شريح بن هانئ قال: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: بِأَيِّ شَيءٍ كَانَ يَبْدَأُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟ قَالَتْ: بِالسِّوَاكِ)[رواه مسلم].
4) يجوز أن يتسوَّك بالعود الواحد اثنان فأكثر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي، وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَأَبَدَّهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَصَرَهُ -يعني أطال النَّظر إليه-، فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَضَمْتُهُ وَنَفَضْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَنَّ بِهِ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم اسْتَنَّ اسْتِنَاناً قَطُّ أَحَسَنَ مِنْهُ)[رواه البخاري].
5) سُنَّة استعمال السوِّاك لا تقتصر على تنظيف الأسنان فقط، بل تشمل كلَّ ما في الفم ممَّا يحتاج إلى التنظيف كاللِّسان؛ لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال:(أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدْتُهُ يَسْتَنُّ بِسِوَاكٍ بِيَدِهِ يَقُولُ: أُعْ أُعْ، وَالسِّوَاكُ في فِيهِ كَأَنَّهُ يَتَهَوَّعُ)[رواه البخاري ومسلم]. ومعنى يتهوع: أي يتقيأ.
فصل في سنن الفطرة
أوَّلًا: تعريف سُنَن الفِطْرة:
سُنَنُ الفِطْرَة: هي الأعمال التي من فعلها والتزم بها فقد اتصف بالفطرة التي خلق الله تعالى الناس عليها، وهي من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم 30].
وقد وردت السنة النبوية ببيان هذه السنن، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:(الفِطْرَةُ خَمْسٌ، أَوْ خَمْسٌ مِنْ الفِطْرَةِ: الخِتَانُ، وَالاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِبِطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ)[رواه البخاري ومسلم].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ المَاءِ، وَقَصُّ الأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ- أي العُقَد التي في ظهور الأصابع، ومجتمع الوسخ-، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ المَاءِ -أي الاستنجاء بالماء-). قَالَ زَكَرِيَّاءُ: قَالَ مُصْعَبٌ: وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ المَضْمَضَةَ. [رواه مسلم].
ثانياً: بيان سُنَن الفِطْرة وأحكامها:
سُنَن الفِطْرة هي:
1) الاستحداد: وهو إزالة الشعر النابت حول قُبُل الرجل والمرأة بالحَلْق،
أو النتف، أو استعمال مزيل.
2) نتف الإبط: وهو إزالة الشعر النابت في باطن المنكب بالنتف، أو الحلق، أو استعمال مزيل.
3) تقليم الأظفار: وذلك بقطع ما زاد عن اللحم في أطراف أصابع اليدين
أو الرجلين.
4) قصُّ الشَّارب: وهو الشعر النابت فوق الشفة العليا. والسنّة في قصّ الشارب حفُّه؛ أي المبالغة في قصِّه.
- وإزالة هذه الأربعة يكون في مدة لا تتجاوز أربعين يوماً، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:(وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْليمِ الأَظْفَارِ وَنَتْفِ الإِبْطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)[رواه مسلم].
5) الخِتان: وهو في الرَّجُل: قطع الجِلدة التي فوق رأس الذَّكر، وفي الأنثى: قطع لحمة صغيرة زائدة فوق موضع الفَرْج كعُرْف الدِّيك، ولا تستأصل، بل يقطع منها بعضها.
- والخِتان واجب في حقِّ الذَّكر عند البلوغ؛ لأمره صلى الله عليه وسلم من أَسْلَم أن يختتن [رواه الطبراني في الكبير]. فإن خاف على نفسه التلف والهلاك؛ سقط عنه الوجوب.
أمَّا الأنثى فالصحيح أنَّ الخِتان في حقِّها مَكْرُمَة
(1)
؛ لحديث أمِّ عطيَّة رضي الله عنها: (أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَخْتِنُ بِالمَدِينَةِ، فَقَالَ لَها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لا تُنْهِكِي؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْظَى لِلمَرْأَةِ وَأَحَبُّ إِلى البَعْلِ)[رواه أبوداود]. ومعنى تنهكي: أي تبالغي في القطع.
(1)
المذهب: وجوب ختان الأنثى.
- أما وقته: فإنّه يُستحبُّ في الصغر إلى سنِّ التمييز، ويتعيَّن وجوبه في حقِّ الرجال بعد البلوغ؛ لحديث سعيد بن جبير قال:(سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: مِثْلَ مَنْ أَنْتَ حِينَ قُبِضَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَنَا يَوْمَئِذٍ مَخْتُونٌ، وَكَانُوا لا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ)[رواه البخاري].
6) إعفاء اللِّحية: وهو الشعر النابت على الخدَّين والذقن، بخلاف ما نبت على العنق؛ فإنَّه ليس من اللحية.
- وإعفاء اللحية واجب ويحرم حَلْقها؛ للأحاديث الآمرة بإعفائها؛ كحديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: (خَالِفُوا المُشْرِكِينَ، أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى)[رواه مسلم]، وفي رواية أخرى:(أَرْخُوا اللِّحَى)[رواه مسلم]، وفي رواية:(أَوْفُوا اللِّحَى)[رواه مسلم]، وفي رواية:(وَفِّرُوا اللِّحَى)[رواه البخاري].
- ولا يُكره أخذ ما زاد عن القبضة من اللحية؛ لما روى مروان بن سالم المقفع قال: (رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَيْقَطَعُ مَا زَادَ عَلَى الكَّفِ)[رواه أبو داود والنسائي في الكبرى].
وعن أبي زرعة قال: (كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا فَضُلَ مِنْها)[رواه ابن أبي شيبة في المصنف].
* ومن الآداب والسنن المُستحبَّة ما يلي:
1) التطيُّب: لحديث أنس رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُم النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلَاةِ)[رواه أحمد والنسائي].
2) الاكتِحال: وهو وضع الكُحل من إِثْمِد وغيره في العَين، أو دَلْك الأجفان به، سواء أكان للتزين أم للتداوي.
- والسنة في الاكتحال أن يكون وتراً؛ لحديث ابن عباس قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكْتَحِلُ بِالإِثْمِدِ كُلَّ لَيْلَةٍ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، وَكَانَ يَكْتَحِلُ في كُلِّ عَينٍ ثَلاثَةَ أَمْيالٍ)[رواه أحمد -واللفظ له- والترمذي وابن ماجه].
وعن أنس رضي الله عنه في صفة اكتحال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكْتَحِلُ في عَيْنِهِ اليُمْنَى ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَاليُسْرَى مَرَّتَينِ)[رواه ابن سعد في الطبقات، والطبراني في الكبير].
3) النظر في المرآة؛ ليزيل ما عسى أن يكون بوجهه من أذى، ويفطن إلى نعمة الله عليه في خلقه.
* * *
باب الوضوء
أوَّلًا: تعريف الوضوء:
الوضوء في الشرع: هو استعمال ماءٍ طَهُور في الأعضاء الأربعة، -وهي الوَجْه واليَدان، والرأس، والرِّجْلانِ- على صفة مخصوصة في الشَّرْع؛ بأنْ يَأْتي بها مُرتَّبةً مُتَواليةً مع باقي الفُروض.
ثانياً: حكم الوضوء:
الوضوء واجب على المُحْدِث إذا أراد الصلاة وما في حكمها؛ كالطواف ومسِّ المصحف؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة 6]، ولقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ)[رواه البخاري ومسلم].
ثالثاً: فضل الوضوء:
جاء في فضل الوضوء كثير من الأحاديث التي تُنبِّه على فضله، وعِظَم أَجْرِه، ومكانته عند الله عز وجل؛ منها: ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا تَوَضَّأَ العَبْدُ المُسْلِمُ -أَوِ الُمؤْمِنُ- فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ
خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ المَاءِ -أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ المَاءِ-، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ المَاءِ -أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ المَاءِ-، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ المَاءِ -أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ المَاءِ- حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ) [رواه مسلم].
رابعاً: شروط صحَّة الوضوء:
وهي ثمانية لا بدَّ من توافرها، وإلّا لم يصحّ الوضوء:
1) انقطاع ما يوجبه قبل ابتدائه؛ فلا يبتدئ الوضوء وهو لا يزال يَتبوَّل، أو يَتغوَّط، أو يخرج منه مذي، ونحو ذلك ممَّا يوجب الوضوء، بل لا بدَّ من انقطاع كلِّ ذلك قبل الوضوء، وإلّا لم يصحّ.
2، 3، 4) الإسلام، والعقل، والتمييز؛ فلا يصح من الكافر، ولا المجنون، ولا يكون معتبراً من الصغير الذي دون سن التَّمييز.
5) النِّيَّة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)[رواه البخاري ومسلم]. والمراد بالنيَّة هنا: قصد رفع الحدث، أو قصد ما تجب له الطهارة؛ كالصلاة، والطواف، ومَسِّ المصحف، أو قصد ما تُسن له الطهارة؛ كقراءة القرآن، وذكر الله عز وجل، والأذان، والنوم، ورفع الشكِّ في الوضوء، ورفع الغضب، والجلوس بالمسجد، وتدريس العلم، فمتى نوى شيئاً من ذلك ارتفع حدثه.
- ولا يضرُّ سبق لسانه بغير ما نوى؛ لأنّ محلّ النيّة القلب.
- ولا يضرُّ أيضاً شَكُّه في النية بعد الوضوء، أمّا إن شك في النيّة أثناء الوضوء فعليه أن ينوي ويتوضّأ من جديد؛ ليأتي بالعبادة بيقين، ما لم يكثر الشكّ فيصير كالوسواس، فحينئذٍ لا يلتفت إليه.
6) الماء الطهور المباح؛ فالماء النجس لا يصحّ الوضوء به، وكذا الماء المغصوب، أو الذي تحصَّل عليه بغير طريق شرعي لا يصحّ الوضوء به أيضاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)[رواه مسلم].
7) أن يسبقه استنجاء أو استجمار؛ وذلك في حقّ من لزمه الاستنجاء
أو الاستجمار لخروج شيء منه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث المقداد بن الأسود: (يَغْسِلْ ذَكَرَهُ، ثُمَّ لِيَتَوَضَّأْ)[رواه النسائي].
أمّا إذا لم يخرج منه شيء، أو كان الخارج طاهراً كالمنيّ أو الريح؛ فلا يلزمه الاستنجاء قبل الوضوء؛ لأن الاستنجاء إنّما شُرِعَ لإزالة النجاسة، ولا نجاسة هنا.
8) إزالة ما يمنع وصول الماء إلى الجلد؛ فلا بدّ للمتوضّئ أن يزيل ما على أعضاء الوضوء من طين، أو عجين، أو شمع، أو وسخ متراكم، أو أصباغ سميكة؛ ليجري الماء على جلد العضو مباشرة من غير حائل.
خامساً: فروض الوضوء:
وهي ستّة لا بدّ من الإتيان بها، وإلا لم يصحَّ الوضوء:
1) غسل الوجه بكامله؛ من شحمة الأذن إلى شحمة الأذن، ومن منبت الشعر إلى أسفل الذقن؛ لقوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، ومنه المضمضة والاستنشاق؛ لأن الفم والأنف من الوجه.
2) غسل اليدين مع المرفقين؛ لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة 6].
3) مسح الرأس كلّه مع الأذنين؛ لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة 6]، وقوله صلى الله عليه وسلم:(الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ)[رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه]. فلا يُجزئ مسح بعض الرأس دون بعض.
4) غسل الرجلين مع الكعبين؛ لقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة 6].
5) الترتيب؛ لأنَّ الله تعالى ذكر الوضوء مرتّباً، وقد توضّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتّباً على حسب ما ذكر الله سبحانه: الوجه، فاليدان، فالرأس، فالرجلان؛ كما ورد ذلك في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن زيد قال: قيل له: (تَوَضَّأْ لَنَا وُضُوءَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم. فَدَعَا بِإِنَاءٍ فَأَكْفَأَ مِنْهَا عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ وُضُوءُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم[رواه مسلم].
6) المُوالاة؛ بأن يكون غسل العضو عقب الذي قبله مباشرة بدون تأخير؛
بحيث لا يؤخِّر غسله حتّى يجفّ ما قبله بزمن معتدل، أو قدره من غيره.
وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضّأ متوالياً؛ كما جاء في صفة وضوئه، ولحديث خالد بن معدان رضي الله عنه:(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرَ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا المَاءُ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعِيدَ الوُضُوءَ)[رواه أحمد]، فلو
لم تكن الموالاة فريضةً لأمره بغسل ما فاته، ولم يأمره بإعادة الوضوء كلّه.
واللُّمْعَة: الموضع الذي لم يصبه الماء في الوضوء أو الغسل.
سادساً: واجبات الوضوء:
الوضوء له واجب واحد وهو التسمية؛ بأن يقول: «بسم الله» ؛ لحديث
أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ، وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ الله عَلَيْهِ)[رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه].
فلو ترك التَّسمية عمداً فوضوؤه غير صحيح، أمّا إن تركها سهواً فلا شيء عليه ووضوؤه صحيح؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)[رواه ابن حبان]، فإن تذكَّرها في أثناء الوضوء أتى بها، وأكمل وضوءه ولا شيء عليه.
سابعاً: سُنن الوضوء:
للوضوء سبع عشرة سُنَّة يستحبُّ للمتوضئ أن يفعلها؛ فإن فعلها أُجر عليها، وإن لم يفعلها فلا شيء عليه، ووضوؤه صحيح، وهي:
1) استقبال القبلة؛ وذلك لعموم الأدلّة الدالّة على استحباب التوجّه إلى جهة القبلة في الطاعات؛ كالدعاء، وكالإهلال بالعمرة أو الحجّ.
2) السِّواك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ)[رواه مالك وأحمد وابن خزيمة].
3) غسل الكفّين ثلاثاً في أوّل الوضوء؛ لحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه (أَنَّهُ دَعَا بِإِنَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا
…
) [رواه البخاري ومسلم].
4) البدء بالمضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه؛ لحديث عثمان المتقدم؛ وفيه: (ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْإِنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا).
5) المبالغة في المضمضة والاستنشاق لغير الصائم؛ لحديث لَقيط بن صَبُرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (أَسْبِغِ الوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ وَبَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِماً)[رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
6) المبالغة في غسل سائر الأعضاء مطلقاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: (أَسْبِغِ الوُضُوءَ).
والإسباغ هو الإنقاء؛ لما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أَنَّهُ كَانَ يَرَى الوُضُوءَ السَّابِغَ، الإِنْقَاءَ)[رواه البخاري معلقاً، وعبد الرزاق موصولاً].
7) الزيادة في ماء الوجه؛ لما ثبت عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه قال لابن عبّاس رضي الله عنهما: (أَلَا أَتَوَضَّأُ لَكَ وُضُوءَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بَلَى؛ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. قَالَ: فَوُضِعَ لَهُ إِنَاءٌ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدَيْهِ
فَصَكَّ بِهِمَا وَجْهَهُ وَأَلْقَمَ إِبْهَامَهُ مَا أَقْبَلَ مِنْ أُذُنَيْهِ، قَالَ: ثُمَّ عَادَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ بِيَدِهِ الْيُمْنَى فَأَفْرَغَهَا عَلَى نَاصِيَتِهِ ثُمَّ أَرْسَلَهَا تَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ
…
) [رواه أحمد وأبو داود].
8) تخليل اللِّحية الكثيفة؛ لحديث أنس رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَأَدَخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ فَخَلَّلَ بِهِ لِحْيَتَهُ، وَقَالَ: هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عز وجل [رواه أبو داود].
9) تخليل أصابع اليدين والرجلين؛ لحديث لقيط بن صبرة المتقدِّم وفيه: (وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ)
10) أخذ ماء جديد للأذنين؛ لما ثبت عن حبَان بن وَاسع الأنصاري أن أباه حدَّثهُ أنَّه سمع عبد الله بن زيد رضي الله عنه يذكر: (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ فَأَخَذَ لأُذُنَيْهِ مَاءً خِلَافَ المَاءِ الَّذِي أَخَذَ لِرَأْسِهِ)[رواه البيهقي].
وعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: (أَنَّهُ كَانَ إذَا تَوَضَّأَ يَأْخُذُ المَاءَ بِإِصْبَعَيْهِ لِأُذُنَيْهِ)[رواه مالك في الموطأ].
11) تقديم اليمنى على اليسرى؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ)[رواه البخاري ومسلم].
12) الزيادة في الغسل على محلّ الفرض؛ لما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه (تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ
الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ في السَّاقِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ. وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَنْتُمُ الْغُرُّ المُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ فَلْيُطِلْ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ) [رواه مسلم].
13) غسل الأعضاء مرَّتين أو ثلاثاً؛ فالواجب مرّة واحدة، ويستحبُّ مرّتين أو ثلاثاً؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه كما في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال:(تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً مَرَّةً)[رواه البخاري]، وحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ)[رواه البخاري]، وحديث عثمان رضي الله عنه الذي مَرَّ، وفيه وصف وضوئه صلى الله عليه وسلم وأنّه غسل أعضاء الوضوء ثلاثاً إلَّا الرأس مسحها مرَّة واحدة. [رواه البخاري].
14) استصحاب ذِكر النيّة إلى آخر الوضوء؛ لتكون أفعاله مقرونة بالنيّة.
15) الإتيان بالنيّة عند غسل الكفّين؛ لأنّه أوّل مسنونات الطهارة.
16) الذكر الوارد بعد الوضوء؛ وهو ما جاء في حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ -أَوْ فَيُسْبِغُ- الْوُضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ، إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ)[رواه مسلم].
17) يُباح للمتوضئ أن يستعين بأحدٍ في وضوئه؛ لحديث المغيرة بن شعبة قال: (ذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقُمْتُ أَسْكُبُ عَلَيْهِ المَاءَ -لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: فِي
غَزْوَةِ تَبُوكَ-؛ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَذَهَبَ يَغْسِلُ ذِرَاعَيْهِ، فَضَاقَ عَلَيْهِ كُمُّ الجُبَّةِ، فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتِ جُبَّتِهِ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ) [رواه البخاري].
ثامناً: صفة الوضوء:
صفة الوضوء تكون على النحو التالي:
أن ينوي، ثم يُسمّي، ويغسل كَفَّيه، ثم يتمضمض ويستنشق ويستنثر، ثمّ يغسل وجهه من منابت شعر الرأس المعتاد إلى الذقن، ويجب عليه أن يغسل ما تحت لحيته إذا كانت خفيفة بحيث تصف البشرة، وكذا ما تحت الشارب والعَنْفَقَة والحاجبين ونحو ذلك، أمّا إذا كانت لا تصف البشرة فيجزئه غسل ظاهرها، ثمّ يغسل يديه اليُمنَى ثمَّ اليُسرَى مع مرفقيه، ولا يضرُّ وسخٌ يسيرٌ تحت ظُفْر ونحوه؛ لأنّه يسير عادة، فلو كان واجباً لبَيَّنه صلى الله عليه وسلم، ثمّ يمسح جميع ظاهر رأسه من حدِّ الوجه إلى ما يسمى بالقفا، والبياض فوق الأذنين منه، ويُدخل سبّابتيه في صِمَاخ أُذنيه ويمسح بإبهاميه ظاهرهما، ثمّ يغسل رجليه اليُمنَى ثمَّ اليُسرَى مع كعبيه؛ وهما العظمان الناتئان في أسفل القدم.
تاسعاً: نواقض الوضوء:
نواقض الوضوء: هي الأشياء التي تُبطِلُ الوضوء وتُفسِدُه؛ وهي ثمانية على النحو التالي:
1) الخارجُ من السَّبيلَيْن؛ أي من مخرج البول والغائط، سواء كان الخارج منهما
بولاً، أو غائطاً، أو منيًّا، أو مذياً، أو دمَ استحاضة، أو ريحاً، قليلاً كان أو كثيراً؛ لقوله تعالى:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة 6]. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ)[رواه البخاري ومسلم]. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ)[رواه أحمد]، وقوله صلى الله عليه وسلم فيمن شكَّ هل خرج منه ريح أو لا؟ -:(فَلا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجِدَ رِيحاً)[رواه البخاري ومسلم].
2) خروجُ النجاسة من بقيّة البَدَن؛ فإن كان بولاً أو غائطاً نقض مطلقاً؛ لدخوله في النصوص السابقة، وإن كان غيرهما كالدم والقيء؛ فإن فحش وكَثُرَ انتقض الوضوء أيضاً؛ لأن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها لمّا جاءت إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقالت له: (إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: لَا إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالحَيْضَةِ
…
)، ثم قال لها:(تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ)[رواه الترمذي].
وعن مَعْدَان بن أبي طلحة عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَتَوَضَّأَ، فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: صَدَقَ أَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ)[رواه الترمذي]، أمّا إذا كان يسيراً فلا يُتوضّأ منه.
3) زوالُ العقل أو تغطيتُه بإغماء أو نوم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (العَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ، فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ)[رواه أبوداود وابن ماجه]. والوِكاءُ: هو الخيط الذي يربط به فم القربة، والسَّه: هو الدُّبُر. والمعنى: أنّ العينين في يقظتُهما بمنزلة الحَبْل الذي يُربَط به؛ فزوال اليقظة كزوال هذا الرباط.
- وأما الجنون والإغماء والسُّكْر ونحوها فينقض الوضوء إجماعاً.
- والنوم الناقض: هو المستغرق الذي لا يبقى معه إدراك على أي هيئة كان النوم. أما النوم اليسير من جالسٍ أو قائمٍ فإنّه لا ينقض الوضوء؛ لحديث قتادة قال: سمعت أنساً رضي الله عنه يقول: (كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَنَامُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّؤُونَ)[رواه مسلم].
أمَّا النوم اليسير مع احتباء، أو اتّكاء، أو استناد، أو اضطجاع؛ فإنَّه ينقض الوضوء مطلقاً.
4) مَسُّ فَرْج الآدمي باليد لا بالظُّفْر، أو مسُّ حَلَقة الدُّبر (سواء فَرْجه أو فَرْج غيره) بلا حائل؛ لحديث أبي أيوب وأم حبيبة رضي الله عنهما أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ)[رواه ابن ماجه].
- ولا فرق بين مسِّه لفرجه، أو مسِّه لفرج غيره؛ لأنَّ مسَّ ذكر غيره معصية وأدْعى إلى الشهوة وخروج الخارج، ثمّ إنّ حاجة الإنسان تدعو إلى مسِّ ذكر نفسه؛ فإذا انتقض بمسِّ نفسه فبِمَسِّ ذَكَر غيره أَوْلَى، وقد جاء في بعض الروايات عن بُسْرَة بنت صَفْوان أنَّه صلى الله عليه وسلم قال:(وَيَتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ)[رواه أحمد والنسائي].
- ولا فرق في كلِّ ذلك بين ذكر الصغير والكبير؛ لعموم الرواية السابقة.
- أما مسُّ الخِصْيتين فلا ينتقض به الوضوء؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خصَّ الفَرْج بنقضه للوضوء؛ فدلَّ ذلك على عدم انتقاض الوضوء بمسِّ غيره.
5) لمس الذَّكرِ بَشرَةَ الأنثى، أو الأنثى بَشرَةَ الذَّكر لشهوة من غير حائل، ولو كان الملموس ميتاً أو عجوزاً أو مَحْرَماً؛ لقوله تعالى:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة 6].
- فإن لمسها من وراء حائل، أو كان اللَّمس لشَعْرها، أو لِسِنِّها، أو لِظُفْرها، أو كانت دون سنِّ السابعة، لم ينتقض وضوؤه.
- ولا ينتقض وضوء الممسوس فرجُه، ولا الملموس بدنُه، ولو وَجَد شهوةً؛ لعدم تناول النصِّ له. وسئل الإمام أحمد عن المرأة إذا مَسَّت زوجَها؟ فقال:«ما سمعتُ فيه شيئاً، ولكن هي شقيقة الرجال؛ أحبُّ إليَّ أن تتوضَّأ» .
6) تغسيل الميِّتِ أو بعضِه؛ لقول ابن عمر رضي الله عنه: (إِذَا غَسَّلْتَ المَيِّتَ فَأَصَابَكَ مِنْهُ أَذىً فَاغْتَسِلْ، وَإِلَّا إِنَّمَا يَكْفِيكَ الوُضُوءُ)[رواه عبد الرزاق والبيهقي بإسناد ضعيف].
ولما روي عن عطاء قال: (سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعَلَى مَنْ غَسَّلَ مَيِّتاً غُسْلٌ؟ قَالَ: لَا، قَدْ إِذاً نَجَّسُوا صَاحِبَهُمْ، وَلَكِنْ وُضُوءٌ)[رواه عبد الرزاق والبيهقي].
والغاسل: هو الذي يُقلِّب الميت ويباشره، لا من يصب الماء ونحوه.
7) أكل لحم الإبل ولو نَيِّئاً؛ لحديث جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه: (أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأْ. قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ)[رواه مسلم].
والنقض خاصٌّ باللَّحم فقط، وما عداه من كَبِد وقَلْب وكَرْش وكُلْية ولِسان وسَنام ومَرَق، لا ينتقض به الوضوء؛ لأنّها ليست بلحم.
8) الرِّدَّة عن الإسلام؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة 5].
9) كلُّ ما يوجب الغُسل فإنَّه يوجب الوضوء، إلَّا الموت.
عاشراً: ما يَحرُمُ على المُحْدِث حَدَثاً أصغر:
يحرم على المُحدِث حَدَثاً أصغر -وهو من وجب عليه الوضوء فقط- ثلاثة أمور هي:
1) الصلاة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ
…
) [رواه مسلم].
2) الطواف؛ فرضاً كان أو نفلاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إِلَّا أَنَّ الله أَحَلَّ فِيهِ المَنْطِقَ، فَمَنْ نَطَقَ فَلَا يَنْطِقُ إِلَّا بِخَيْرٍ)[رواه ابن حبان والحاكم].
3) مس المصحف ببشرته بلا حائل؛ فإن كان بحائل لم يحرم لأن المسَّ يكون حينئذٍ للحائل، والأصل في ذلك قوله تعالى:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة 79]، ولقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(لَا يَمَسُّ القُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ)[رواه مالك والدارقطني والحاكم].
الحادي عشر: ما يَحرُمُ على المُحْدِثِ حَدَثاً أكبر:
يحرم على المُحدِث حَدَثاً أكبر-وهو من وجب عليه الغسل- بالإضافة إلى ما سبق أمران:
1) قِراءة القرآن؛ لحديث عليٍّ رضي الله عنه: (
…
وَلَمْ يَكُنْ يَحْجُبُهُ -أَوْ قَالَ: يَحْجُزُهُ- عَنِ القُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الجَنَابَةَ) [رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
2) المُكْثُ في المسجد بلا وضوء؛ لقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}
[النساء 43]، والسَّبيل: هو الطريق، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلا جُنُبٍ)[رواه أبو داود وابن ماجه].
- فإن توضأ الجُنب جاز له المكث فيه؛ لما روي عن عطاء بن يسار قال: (رَأَيْتُ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَجْلِسُونَ فِي المَسْجِدِ وَهُمْ مُجْنِبُونَ إِذَا تَوَضَّؤُوا وَضُوءَ الصَّلَاةِ)[رواه أحمد وسعيد بن منصور].
* * *
باب المسح على الخُفَّين
أوَّلًا: تعريفُ المَسْحِ على الخُفَّين:
يقصد بالمسح على الخفين: إمرار اليد المبلولة بالماء على ما يستعمل للرِّجْل من خُفٍّ ونحوه، بنيَّة التطهر تعبُّداً لله تعالى.
ثانياً: حُكْم المَسْحِ على ساتِرِ القَدَم وشُرُوطُه:
يجوز المسح على كل ما يستر القدمين سواء أكان من جلد أم صوف أم قطن أم كِتَّان، إذا توفرت فيها الشروط المعتبرة في المسح، وهي:
1) أن يلبسهما بعد كمال الطهارة بالماء؛ فيتوضّأ وضوءاً كاملاً، ثمّ يلبس الخفَّين
أو الجَوْرَبين ونحوهما، فإن انتقض وضوؤه بعد ذلك جاز له المسح؛ لحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال:(كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَتَوَضَّأَ، فَأَهْوَيتُ لأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُما طَاهِرَتَينِ)[رواه البخاري ومسلم].
2) سترهما لمحلِّ الفَرْض، بحيث لا يظهر شيء من القَدَم ممَّا يجب غسله عند الوضوء؛ لأنَّ حكم ما استتر المسح، وحكم ما ظهر الغسل، ولا سبيل إلى الجمع فغلب الغسل.
3) إمكان المشي بهما مشياً معتاداً؛ لأنَّ الحاجة إلى لبس الخفِّ إنّما يقصد بها إمكانية
المشي به.
4) ثبوتهما بنفسهما؛ لأنَّ لفظ الخفِّ إنَّما ينطبق على الخفِّ المعتاد الذي يثبت بنفسه، وهو الذي وردت الرخصة فيه، أمَّا ما لا يثبت بنفسه فليس في معنى الخفِّ؛ فلا يلحق به.
5) أن يكون الخفُّ مباحاً، فلا يصحُّ المسح على خفٍّ مغصوب أو مسروق
أو مصنوع من حرير -في حقِّ الرجال-؛ لأنَّ المسح رخصة، والرُّخَصُ
لا تُستباح بالمحرَّمات.
6) أن يكون الخفُّ طاهراً في عينه؛ فلا يكون مصنوعاً من جلد خنزير أو كلب
أو ميتة؛ لأنَّ النجس في عينه منهيٌّ عنه لذاته. والرُّخَصُ لا تُستباح بالمحرَّمات.
7) أن لا يصف البشرة تحته؛ وهو ما يظهر لون الجلد تحته؛ لأنَّه غير ساتر لمحلِّ الفرض، ولا تدعو الحاجة إليه.
ثالثاً: مُدَّةُ المَسْحِ:
وقَّت النبيُّ صلى الله عليه وسلم للمقيم أن يمسح يوماً وليلةً، وأمَّا المسافر فإنَّه يمسح ثلاثة أيام بلياليهنَّ؛ وذلك لما روى عليٌّ رضي الله عنه:(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيالِيهِنَّ لِلمُسَافِرِ، وَيَوماً وَلَيلَةً لِلمُقِيمِ)[رواه مسلم].
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالمَسْحِ عَلَى الخُفَّينِ في غَزْوَةِ تَبُوكَ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ وَلَياليهِنَّ لِلمُسَافِرِ، وَلِلمُقِيمِ يَومٌ وليلةٌ)[رواه أحمد].
أمَّا المسافر سفر معصية فإنَّه يمسح يوماً وليلةً كالمقيم؛ لأنَّ سفر المعصية
لا تُستباح به الرُّخَص؛ فجعل هذا السفر كعدمه، واليوم والليلة غير مختصَّة بالسفر، ولا هي من رُخَصِه.
رابعاً: ابتِداءُ المَسْحِ:
يبدأ وقت المسح من بَعد الحَدَث الذي يَطرأُ بعد اللّبس لا من وقت المسح؛ لحديث صفوان بن عسَّال رضي الله عنه قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَراً أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إلا من جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ من غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ)[رواه أحمد والترمذي]؛ فمفهومه أنها تنزع لثلاث يمضين من حصول الحدَث الذي هو الغائط أو البول أو النوم.
- إذا مسح المسافر ثمَّ بلغ موضع إقامته، أو مسح المقيم ثمَّ سافر، فكلاهما يحسب مدَّة المسح كالمقيم؛ لأنَّها عبادة تختلف بالحضر والسفر، وقد وُجِد أحدُ طَرَفَيْها في الحَضَر؛ فغلب فيها حكم الحَضَر.
- وإذا شكَّ الماسح في ابتداء المسح؛ هل مَسَحَ وهو مقيم أو وهو مسافر؟ فإنَّه يمسح مَسْحَ مقيم يوماً وليلة؛ لأنَّه لا يجوز المَسْح مع الشكِّ في إباحته.
خامساً: مَوْضِعُ المَسْحِ:
يكون المسح على ظاهر القَدم، أي أعلى الخُفِّ دون أسفله أو عَقِبِه، فيضع يده
على موضع الأصابع ثمَّ يجرُّها إلى ساقه خَطًّا بأصابعه ماسحاً أكثر القدم؛ لما ثبت عن عليٍّ رضي الله عنه قال: (لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْي لَكَانَ أَسْفَلُ الخُفِّ أَوْلَى بِالمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ رَأَيتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ)[رواه أبوداود].
سادساً: نَواقِضُ المَسْحِ:
ينتقض المسح بعِدَّة أمور:
1) حصول ما يوجب الغسل؛ كالجنابة والحيض؛ لحديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَراً أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إلا من جَنَابَةٍ
…
) الحديث.
2) نزع الخُفِّ أو انكشاف محلِّ الفرض من القدم بعد المسح من حَدَث؛ وذلك لأنَّ المسحَ أُقيمَ مقامَ الغسل؛ فإذا زال محلُّ المسح -وهو الخُفُّ- بطلت الطهارة.
3) انقضاء مُدَّة المسح؛ لأنَّ مفهوم أحاديث توقيت المسح تفيد بأنَّها طهارة مؤقَّتة تبطل بانتهاء وقتها.
* * *
فصل في المسح على الجَبيرة
أوَّلًا: تعريفُ الجَبِيرَة:
الجَبيرة: أخشاب ونحوها توضع على الكَسْر ليَنْجَبر. وفي حُكْمها اللفائف والعَصائب التي توضع على الجروح والحروق.
ثانياً: حُكْم المَسْحِ على الجَبيرَة:
يصحُّ المسح على الجَبيرَة؛ لما جاء في حديث جابر رضي الله عنه في قصة الرَّجل صاحب الشَّجَّة الذي أَصبح جُنباً فاغتسل فمات، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ-أَوْ يَعْصِبَ- عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ)[رواه أبو داود وابن ماجه].
ثالثاً: شُروطُ المَسْحِ على الجَبيرَة:
1) يشترط في المسح على الجَبيرَة أن يضعها على طهارة؛ قياساً على الخُفِّ.
والرواية الثانية في المذهب أنَّه لا يشترط أن يضعها على طهارة؛ لأنَّ طلب الطهارة حال الإصابة ووضع الجَبيرَة ممَّا يشقُّ على الناس جدًّا، ولا يمكن توقعه، ويؤيِّد ذلك ما جاء في حديث جابر رضي الله عنه في الذي أصابته الشجَّة، فإنَّه
قال: (إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيهَا)، ولم يذكر الطهارة.
2) أن لا تتجاوز موضع الحاجة؛ فإن تجاوزت موضع الحاجة وتضرَّر من نزعها تيمَّم له أيضاً.
رابعاً: صِفَةُ المَسْحِ على الجَبيرَة:
يغسل المجبور الجزءَ الظاهر من العضو الصحيح، ويمسح على الجَبيرَة بالماء بما يستوعبها كلَّها؛ فإن تَعذَّرَ نَزْعُ الجَبيرَة وكانت قد تجاوزت موضع الحاجة؛ وجب عليه التيمُّم للزائد، مع غسل الصحيح، والمسح على الجبيرة؛ لما جاء في حديث صاحب الشجَّة حيث قال صلى الله عليه وسلم:(إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ).
* * *
باب ما يُوجب الغُسل
أوَّلًا: تعريفُ الغُسْل:
الغُسْل: بضم الغين، وهو سَيَلان الماء الطهور على جميع البَدَن على صفة مخصوصة.
ثانياً: حُكْم الغُسْل:
الغُسْل مشروع، والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة.
فمن الكتاب قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء 43].
ومن السنَّة ما رواه أبو هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا؛ فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ)[رواه البخاري ومسلم].
ثالثاً: مُوجِباتُ الغُسْل:
يجب الغُسْل بواحد من ستَّة أمور:
1) خروج المنيِّ من مخرجه:
والمنيُّ: هو الماء الغليظ الدافق الذي يخرج عند اشتداد الشهوة، وهو عند الرَّجُل
أبيض ثخين، وعند المرأة أصفر رقيق، كما في حديث أم سُلَيْم رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءُ المَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ)[رواه البخاري ومسلم].
وأمَّا مخرج المنيِّ فهو ذَكَرُ الرَّجُل وقُبُل المرأة.
ويُشتَرَط في الماء الخارج المُوجِب للغُسْل أن يكون بلَذَّة ودَفْق، فلو خرج المنيُّ بغير لذَّةٍ ولا دَفْقٍ، كمرض أو بَرْد؛ فلا غُسْل عليه؛ لحديث عليِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له:(إِذَا فَضَخْتَ المَاءَ فَاغْتَسِلْ)[رواه أبو داود والنسائي].
فإن كان الخارج من مخرج المنيَّ أحمرَ كالدَّمِ بدَفْقٍ، فإنَّه يوجب الغُسْل؛ وذلك لأنَّه قد يخرج هكذا لقصور الشهوة عنه.
والنائم لا يشترط في حقه وجود الدفق واللذة، فيغتسل بمجرد رؤية الماء؛ لحديث أم سليم عندما سألت:(هَلْ عَلَى المَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ المَاءَ)[رواه البخاري ومسلم]، فعلَّق الحكم على رؤية الماء من غير اشتراط دفق أو لذة.
2) تغييب حَشَفَة أصليَّة في فَرْج أصليٍّ:
والحَشَفَة هي رأس الذَّكَر، فيجب الغُسْل إذا أدخل البالغ رأس ذَكَرِه الأصليِّ في فَرْج أصليٍّ، ولو لم يُنزل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ وَمَسَّ الخِتَانُ الخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ)[رواه مسلم]. وفي رواية: (وَجَبَ عَلَيْهِ الغُسْلُ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ)[رواه مسلم]، وهو كناية عن مجامعة الرجل
للمرأة وإن لم يَحْدُث إنزالٌ.
ولا فرق في وجوب الغسل إذا كان إدخال الحَشَفَةِ الأصليَّة في قُبُلٍ أو دُبُرٍ، لآدميٍّ أو بهيمةٍ، حيٍّ أو ميِّتٍ؛ لأنَّه إيلاجٌ في فَرْج أصليٍّ، فأشبه الآدميَّة.
أمَّا إذا غيب الحَشَفَة في الفَرْج بحائل غير رقيق فلا يوجب الغسل إلَّا إذا حصل إنزال للمنيِّ؛ أمَّا إذا كان بحائل رقيق بحيث تكمل اللذَّة فإنَّه يوجب الغُسْل؛ سواء أنزل أم لم ينزل.
ويجب الغُسْل بتغييب الحَشَفَة في الفَرْج على من بلغ عشر سنين من الذكور، وتسع سنين من الإناث، ولو لم يكونا بالغين.
ومعنى وجوب الغُسْل في حقِّ الصغير: أنَّه شَرْط لصحَّة الصلاة، أو الطَّواف، أو لإباحة مسِّ المصحف، أو قراءة القرآن، لا أنَّه يأثم بتركه.
3) إسلام الكافر؛ لحديث قيس بن عاصم رضي الله عنه قال: (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُرِيدُ الإِسْلَامَ فَأَمَرَنِي أَنْ أَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ)[رواه أبو داود والنسائي والترمذي]. والمرتد له حكم الكافر الأصليِّ.
4) خروج الحيض: وهو الدَّم الخارج من قَعْرِ رَحِم المرأة بعد البلوغ.
ويجب الغسل بخروج دم الحيض، ولا يصحُّ إلَّا بعد الطهر وانقطاع الدم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أنَّ فاطمة بنت أبي حُبَيْش رضي الله عنها سألتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالت:(إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّ ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي)
[رواه البخاري]. وأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّ حَبيبَة، وسَهْلَة بنت سُهِيْل، وحَمْنَة بنت جَحْش رضي الله عنهن بالاغتسال بعد الحيض.
5) خروج دم النفاس؛ وهو الدم الخارج بسبب الولادة، وحكمُه حكمُ دَمِ الحيض بالإجماع؛ فيجب فيه الغسل، ولا يصحُّ إلَّا بعد الطُّهر منه.
6) الموت؛ لحديث أمِّ عطيَّة الأنصاريَّة رضي الله عنها قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تُوفِّيَت ابنتُه فقال: (اغْسِلْنَهَا ثَلَاثاً، أَوْ خَمْساً، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُوراً أَوْ شَيْئاً مِنْ كَافُورٍ
…
) [رواه البخاري ومسلم].
أمَّا شهيد المعركة فلا يُغَسَّل؛ لحديث أنس رضي الله عنه: (أَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ لَمْ يُغَسَّلُوا، وَدُفِنُوا بِدِمَائِهِمْ
…
) [رواه أبو داود والترمذي].
* * *
فصل في شروط الغُسْل وفرائضُه واجباتُه وسُنَنُه
أوَّلًا: شُروطُ صِحَّة الغُسْل:
لا يصحُّ الغُسْل إلَّا بسبعة شروط:
1) انقطاع السَّبب الموجِب للغُسْل؛ فالحائض والنُّفَساء لا يصحُّ منهما غُسْل إلَّا بعد انقطاع الدَّمِ عنهما، لحديث عائشة رضي الله عنها:(أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي)[رواه البخاري].
2) النِّيَّة؛ وهو أن ينوي رفع الحدث سواء أكان جنابة أم حيضاً أم نفاساً، لحديث عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنِّمَا الأَعَمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)[رواه البخاري ومسلم].
3) الإسلام؛ وهذا شرط لصحة كل عبادة؛ إذ الكافر لا يصح له عمل مع بقائه على الكفر أو الشرك؛ لقول الله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54].
4) العَقْل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى
يَعْقِلَ) [رواه أبو داود وابن ماجه]، ولأنَّ الغُسْل عبادة تحتاج إلى نيَّة، وفاقد العقل لا قَصْد له ولا نيَّة.
5) التَّمييز؛ لأنَّ التمييز أقلُّ سِنٍّ يُعتبر فيه قَصْد الصغير شَرْعاً.
والمميِّز: هو من بلغ سَبْع سِنينَ، وقيل: هو من يفهم الخِطابَ، ويَرُدُّ الجوابَ، ولا ينضبط بسِنٍّ، بل يختلف باختلاف الأفهام.
6) الماء الطَّهور المباح؛ لأنَّ الطهارة عبادة لا تُستَباحُ بما هو محظور؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)[رواه مسلم].
والماء الطَّهور هو: الماء الباقي على أصل خِلْقَتِه ولم يُغيِّره شيءٌ؛ لا في لَوْنِه،
ولا طَعْمِه، ولا رَائِحَتِه. فلا يصحُّ الاغتسال بالماء النجس، أو الماء الذي اختلط بشيء من الطاهرات ممَّا غيَّر اسْمَه إلى ذلك الطاهر.
والماء المباح هو: الذي لا يكون مغصوباً أو مسروقاً؛ لأنَّ الغُسْل عبادة؛ فلا تُستباح بما هو محرَّم.
7) إزالة ما يمنع وصول الماء؛ كالطِّين، والعَجين، والأصباغ؛ لقوله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة 6]، ومفهوم الطهارة في الغُسْل تعميم البَدَن بالماء، وهذه الموانع تمنع وصول الماء إلى جميع البَدَن؛ فمن اغتسل مع وجود المانع لم يكن متطهِّراً.
ثانياً: فَرائِضُ الغُسْل:
أمَّا فرضُ الغُسْل فهو: تَعْمِيمُ المُغتَسِل جميعَ بَدَنِه بالماء.
ويدخل في ذلك: الفم، والأنف، والسُّرَّة، وما تحت الذقن، والإبطين، وما بين الأليتين، وباطن الرُّكْبة، وأسفل الرِّجلين، وما يظهر من فَرْج المرأة عند القعود، وما تحت الخاتم، ونحو ذلك.
كما يجب غَسْلُ ظاهِر الشَّعْر وباطنه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي المَاءِ فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعْرِهِ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ يُفِيضُ المَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ)[رواه البخاري ومسلم].
ثالثاً: واجِباتُ الغُسْل:
للغُسْل واجب واحد؛ وهو: التَّسمية، وهي قول:«بسم الله» ؛ قياساً على الوضوء، وقد ورد الأمر بالتَّسمية في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ اللهَ عَلَيهِ)[رواه أبوداود والترمذي].
فإن نَسِيَ التَّسمية سقط وجوبها؛ لأنَّ حديثَ التَّسمية يتناول الوضوء لا غيره.
ويجب على المرأة نقضُ شَعْرها في غسل الحيض والنفاس؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها -وكانت حائضاً-: (انْقُضِي شَعْرَكِ وَاغْتَسِلِي)[رواه ابن ماجه].
ولا يجب عليها نقض شعرها في غسل الجنابة؛ لحديث أمِّ سَلَمَة رضي الله عنها قالت: قلتُ: يا رسول الله، إنِّي امْرَأةٌ أشدُّ ضَفْر رَأْسِي، فَأَنْقُضُهُ لغُسْلِ الجَنَابَةِ؟ قَالَ:(لَا، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ المَاءَ فَتَطْهُرِينَ)[رواه مسلم].
ويكفي في إسباغ الغُسْل وتعميم البَدَن بالماء حصول غَلَبة الظنِّ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها في صفة غُسْل النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: (حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ)[رواه البخاري].
رابعاً: سُنَنُ الاغْتِسال:
يُسنُّ عند الاغتسال سبعة أمور؛ وهي:
1) إزالة ما لوَّثه بيده من أذى؛ لحديث ميمونة رضي الله عنها في صفة غسل النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: (ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالأَرْضِ)[رواه البخاري].
2) الوضوء قبل الاغتسال؛ لحديث عائشة رضي الله عنها في صفة غُسْل النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: (ثُمَّ يَتَوَضَأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ)[رواه البخاري ومسلم].
3) صبُّ الماء على الرَّأس ثلاثاً؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ)[رواه البخاري ومسلم].
4) البدء بغسل الجهة اليُمْنَى من جسده قبل الجهة اليُسْرَى؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ التَّيَامُنُ فِي تَرَجُّلِهِ، وَتَنَعُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ)[رواه البخاري ومسلم].
5) الموالاة؛ وهو غسل العضو قبل جفاف ما قبله.
6) الدَّلْك بإمرار اليد على الجسد؛ لأنَّه أنقى، ويتيقَّن به وصول الماء إلى جميع جسده.
7) إعادة غسل الرجلين بمكان آخر؛ لحديث ميمونة رضي الله عنه قالت: (ثُمَّ تَنَحَّى مِنْ مَقَامِهِ فَغَسَل قَدَمَيْهِ)[رواه البخاري].
* تَشْريكُ النيَّة في الطَّهارَة:
وهو أن ينوي غُسْلَيْن بنِيَّة واحدة، أو أن ينوي بغُسْلِه رَفْع الحَدَث الأكبر والأصغر بنِيَّة واحدة. ولها صور:
1) إذا نوى غُسْلاً مسنوناً أو غُسْلاً واجباً؛ أجزأ ما نواه عن الآخر.
2) أن ينوي بغُسْله رَفْع الحَدَثيْن الأكبر والأصغر معاً؛ أجزأ عنهما.
3) أن ينوي رَفْع الحَدَث مُطْلقاً من غير تعيين؛ أجزأ عنهما.
4) أن ينوي بغُسْله أمراً لا يُباح إلَّا بوضوء وغسل؛ كالصَّلاة، والطَّواف، ومسِّ المصحف؛ أجزأه عنهما.
5) أن ينوي بغُسْله أمراً لا يُباح إلا بالغُسْل؛ كالجلوس في المسجد، وقراءة القرآن؛ أجزأه عن الحَدَث الأكبر فقط.
6) أن ينوي بغُسْله غُسْلَيْن واجبين؛ أجزأه عنهما.
* مقدارُ الماء الذي يُستعمَل في الوُضوء والغُسْل:
يُسنُّ الوضوء بما يعادل مقدار المُدِّ، والاغتسال بما يعادل مقدار الصَّاع؛ لحديث
أنس رضي الله عنه قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِالمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ)[رواه البخاري ومسلم].
والمدُّ رُبْع صاع، وهو مِلْءُ الكَفَّين المتوسِّطتين، وهو يعادل بالمقاييس المعاصرة (0.687) لتراً، أمَّا الصَّاع فهو أربعة أمداد، ويعادل بالمقاييس المعاصرة (2.748) لتراً.
ويُكرَه للمُسْلم إذا أراد الوضوء أو الاغتسال أن يُسْرِف في استعمال الماء؛ لقول الله تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء 26، 27]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ على سَعْدٍ وهو يتوضَّأ فقال:(مَا هَذَا السَّرَفُ؟ فَقَالَ: أَفِي المَاءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ)[رواه ابن ماجه].
ويُجزئ في الوضوء أقلُّ من المُدِّ، وفي الاغتسال أقلُّ من الصَّاع، بشرط أن يحصل بهما الإسباغ في الغُسْل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت:(كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ يَسَعُ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ أَوْ قَرِيباً مِنْ ذَلِكَ)[رواه مسلم].
وعن أمِّ عِمارَة بنت كعب رضي الله عنها: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فَأُتِيَ بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ قَدْرَ ثُلُثَي المُدِّ)[رواه أبوداود والنسائي].
ومعنى الإسباغ في الوضوء والغسل: تعميم العضو بالماء بحيث يجري عليه ولا يكون مسحاً.
* الاغْتِسالُ في الحَمَّام:
الحمَّام: هو المكان المُعدُّ للاستحمام والاغتسال.
يُباحُ للمُغْتسِل أن يَغتَسِل في الحمَّامات العامَّة التي أُعِدَّت للاستحمام، وما في حُكْمِها كحمَّامات السِّباحة، إذا أَمِنَ الوقوع في المحرَّم؛ ككشف العَوْرَة، أو النظر إلى عَوْرات الآخرين؛ لما ثبت عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّه (دَخَلَ حَمَّام الجُحْفَة)[رواه ابن أبي شيبة، والبيهقي في المعرفة].
فإنْ خاف الوقوع في المحرَّم كُره له دخوله، وإنْ عَلِمَ وأَيقَنَ الوقوع في المحرَّم حَرُم عليه دخول الحمَّام؛ لما ثبت في حديث جابر رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلَا يَدْخُلِ الحَمَّامَ بِغَيْر إِزَارٍ)[رواه الترمذي والنسائي].
وعن أبي الدَّرداء رضي الله عنه أنه كان يدخل الحمام فيقول: (نِعْمَ الْبَيْتُ الحَمَّامُ؛ يُذْهِبُ الوَسَخَ، وَيُذَكِّرُ النَّارَ، وَيَقُولُ: بِئْسَ البَيْتُ الحَمَّامُ؛ لَأَنَّهُ يَكْشِفُ عَنْ أَهْلِهِ الحَيَاءَ)[رواه البيهقي في الكبرى].
فصل في الأغسال المستحبة
يستحب الاغتسال للأمور الآتية:
1) الاغتسال لصلاة الجمعة في يوم الجمعة، لكلِّ من حَضَرَها من الذكور، ولو كان عبداً، أو مسافراً؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غُسْلُ يَوْمِ الجُمْعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ)[رواه البخاري ومسلم].
2) الاغتسال من غَسْل المَيِّت؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (مَنْ غَسَّلَ مَيِّتاً فَلْيَغْتَسِلْ)[رواه أحمد وأبو داود والترمذي].
3) الاغتسال يوم العيد قبل الصلاة؛ لما ورد عن زاذان قال: (سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا رضي الله عنه عَنِ الغُسْلِ؟ قَالَ: اغْتَسِلْ كُلَّ يَوْمٍ إِنْ شِئْتَ. فَقَالَ: لَا، الغُسْلُ الَّذِي هُوَ الغُسْلُ. قَالَ: يَوْمُ الجُمُعَةَ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمُ الفِطْرِ)[رواه البيهقي في الكبرى].
4، 5) الاغتسال لصلاة الكسوف والاستسقاء؛ قياساً على الجمعة والعيد؛ لأنَّه يجتمع لها الناس.
6، 7) الاغتسال من الإغماء والجنون؛ لما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها في قصَّة مرض النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ فَقُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ. قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ
فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ. قُلْتُ: فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ. فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ) [رواه البخاري ومسلم].
ويقاس الجنون على الإغماء لأنَّه آكد من الإغماء.
8) اغتسال المستحاضة لكلِّ صلاة، ولا يجب عليها ذلك؛ لما جاء في حديث عائشة (أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ، فَأَمَرَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ تَغْتَسِلَ، فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ)[رواه البخاري ومسلم].
9) الاغتسال للإحرام بالحجِّ أو العُمْرة؛ لما جاء في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أنَّه (رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَجَرَّدَ لإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ)[رواه الترمذي].
10، 11) الاغتسال لدخول مكَّة وحَرَمِها؛ لما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّه (كَانَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ بَاتَ بِذِي طُوَى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ، ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ نَهَاراً، وَيَذْكُرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ فَعَلَهُ)[رواه مسلم].
12) الاغتسال للوقوف بعَرَفة، لما روى نافع عن ابن عمر أنَّه (كَانَ يَغْتَسِلُ لإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِدُخُولِ مَكَّةَ، وَلِوُقُوفِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ)[رواه مالك].
13 -
16) الاغتسال لطواف الإفاضة، والوداع، والمبيت بمزْدَلِفَة، ورَمْي الجمرات؛ لأنَّ هذه أنساكٌ يجتمع لها الناس، ويزدحمون فيَعْرَقون ويؤذي بعضُهم
بعضاً، فيُستَحَبُّ الاغتسال قياساً على الإحرام ودخول مكَّة.
فإنْ تعذَّر الاغتسال في هذه المواضع المستحبَّة؛ فيُشْرَع التيمُّم للحاجة، وكذلك يُشْرَع التيمُّم لما يُسنُّ له الوضوء إذا تعذَّر استعمال الماء أو فُقِدَ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَيَمَّمَ لِرَدِّ السَّلَامِ [رواه البخاري].
* * *
باب التَّيمُّم
أولاً: تعريفُ التيمُّم:
التيمم هو: مسحُ الوجهِ واليدينِ بترابٍ طَهورٍ على وجهٍ مخصوصٍ.
ثانياً: شروطُ صحَّة التيمُّم:
يُشترط لصحّةِ التيمُّمِ ثمانيةُ شروط:
1 -
5) النيّةُ، والإسلامُ، والعقلُ، والتّمييزُ، والاسْتِنجاءُ أو الاسْتِجْمارُ؛ لما تقدّم في الوضوء.
6) دخولُ وقتِ الصّلاةِ: فلا يصحُّ التيمّمُ لصلاةٍ قبلَ وقتِها، ولا لِنافِلةٍ في وقت النَّهْي؛ لحديث أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعاً:(جُعِلَتِ الأَرْضُ كُلُّهَا لِيَ وَلأُمَّتِي مَسْجِداً وَطَهُوراً؛ فَأَيْنَما أَدْرَكَتْ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي الصَّلاةُ؛ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَعِنْدَهُ طَهُورُهُ)[رواه أحمد].
7) تعذُّرُ استعمالِ الماءِ: إما لعدمِه؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]، وقوله صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ المُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ المَاءَ عَشْرَ سِنِينَ؛ فَإِذَا وَجَدَ المَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ)[رواه أحمد والترمذي].
أو لخوفِ الضَّررِ من استعماله؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} ، ولحديث عمرو ابن العاص رضي الله عنه قال:(احْتَلَمْتُ في لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ في غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا عَمْرُو! صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الاِغْتِسَالِ وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللهَ يَقُولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]؛ فَضَحِكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئاً)[رواه أحمد، وأبو داود].
8) أنْ يكونَ بترابٍ طَهورٍ مباحٍ غيرِ محترقٍ له غبارٌ يعلقُ باليدِ؛ لقوله تعالى:
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} . قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الصَّعِيدُ: تُرَابُ الحَرْثِ)[رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة].
وقال تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} ؛ وما لا غبارَ له لا يُمسحُ بشيءٍ منه.
وإن ضرب يدَهُ على بساطٍ، أو شعرٍ، ونحوه؛ فعَلَقَ به غبارٌ جاز؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم (أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ؛ فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ)[رواه البخاري ومسلم].
* وجوبُ طلبِ الماءِ وبَذْلِه:
- يجبُ على من عَدِم الماءَ إذا دخلَ وقتُ الصَّلاةِ: البحثُ عن الماءِ وطلبُه.
- ويجبُ بذلُ الماءِ لعطشانٍ من آدميٍّ أو بهيمةٍ محترمَيْن؛ لأنّ الله تعالى غفر لبَغِيٍّ بسَقْي كَلْبٍ؛ فالآدميُّ أَوْلَى.
قال ابنُ المنذر: «أجمع كلُّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ المسافرَ إذا كان معه ماءٌ، وخشي العطشَ أنّه يُبقي ماءَه للشربِ ويتيمّم» .
- ومن وَجَد ماءً لا يكفي لطهارتِه: استعمله فيما يكفي وجوباً، ثمَّ تيمَّم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[رواه البخاري ومسلم].
وإنْ وصلَ المسافرُ إلى الماءِ وقد ضاقَ الوقتُ، أو علمَ أنّ النوبةَ لا تصلُ إليهِ إلّا بعد خروجِ الوقت: عَدَلَ إلى التيمّم؛ محافظةً على الوقتِ.
- وأمّا غيرُ المسافرِ: فلا يَعدِلُ إلى التيمّم ولو فاته الوقتُ.
- ويحرم عليه إراقةُ الماءِ الذي معه في وقت الصلاة الحاضرة، أو أن يمرَّ به ويمكنُه الوضوءُ منه ولم يتوضّأ؛ إذا كان يعلم أنّه لا يجدُ غيرَه في الوقتِ؛ لما في ذلك من التّفريط.
فإن تيمّم بعد ذلك وصلَّى: لم يُعِدِ الصَّلاة.
- وإنْ وجدَ مُحدِثٌ -ببدنِه وثوبِه نجاسةٌ- ماءً لا يكفِي لإزالة النجاسة ورفع الحَدَث: وجب عليه غسلُ ثوبِه أوّلاً، ثمّ إنْ فضل شيءٌ غسلَ بدنَه، ثمّ إنْ فضل شيءٌ تطهّر، وإلّا تيمّم، وصلّى.
ثالثاً: ما يُتيمَّم له من الأحداثِ وغيرِها:
1) يَصِحُّ التَّيمّمُ لكلِّ حدثٍ؛ لعموم آية التيمّم، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمران ابن حصين رضي الله عنه:(عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ)[رواه البخاري ومسلم].
2) وللنّجاسةِ على البدنِ بعد تخفيفِها ما أمكن؛ لأنّها طهارةٌ على البدن مشترطةٌ
للصّلاة؛ فناب فيها التيمّمُ كطهارةِ الحدثِ.
فإن تيمّم لها قبلَ تخفيفِها: لم يصحَّ؛ كالتيمّم قبلَ الاستجمارِ.
رابعاً: صلاةُ فاقدِ الطَّهورَيْن (الماء والتّراب):
إن لم يجد فاقدُ الماءِ التّرابَ الطّهورَ المباحَ غيرَ المحترقِ: صلّى الفريضة فقط دون النّوافل على حسبِ حالِه، ولا يزيد في صلاته على ما يجزئ في الصّلاةِ؛ من قراءةٍ وغيرها، ولا إعادة عليه؛ لأنّه أتى بما أُمر به، ولحديث عائشة رضي الله عنها:(أَنَّها اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً فَهَلَكَتْ فَأَرْسَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي طَلَبِهَا، فَأَدْرَكَتْهُمْ الصَّلَاةُ فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَلَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ)[رواه البخاري ومسلم].
فصل واجباتُ التيمّمِ، وفروضُه، ومبطلاتُه، وصفتُه
أولاً: واجباتُ التيمّمِ:
واجبُ التيمّمِ: التسميةُ، وتسقط سهواً؛ قياساً على الوضوء.
ثانياً: فروضُ التيمم:
فروضُ التيمّمِ خمسةٌ:
1) مسحُ الوجهِ.
2) مسحُ اليدينِ إلى الكوعين (الرُّسْغين)؛ لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]، واليد عند الإطلاق في الشرع تتناول اليد إلى الكوع؛ بدليل قطع يد السارق، ولما ثبت في حديث عمّار رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال له:(إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا: ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمالَ عَلَى اليَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيهِ وَوَجْهَهُ)[رواه البخاري ومسلم والسياق له].
3) التّرتيبُ في الطّهارةِ الصُّغرى (الوضوء)، لا في الطهارة الكُبرى (الغُسْل): فيلزمُ مَنْ ببعض أعضاءِ وُض
وئِه جُرْحٌ إذا توضّأ: أن يتيمّم له عند غُسْله لو كان صحيحاً.
قال في الإنصاف: «قال الشيخ تقيُّ الدين: ينبغي أن لا يرتّب، وقال أيضاً:
لا يلزمه مراعاةُ التّرتيبِ، وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره».
4) الموالاةُ في غير الطّهارةِ الكُبرى؛ لأنَّ التيمُّم مبناه على الطهارة بالماء، والموالاة فرض في الوضوء دون ما سواه. فلو كان الجُرح في الرِّجْل؛ فتيمّم له عند غسلها، ثمّ خرج الوقت: بطل تيمّمه، وبطلت طهارته بالماء أيضاً؛ لفوات الموالاة؛ فيعيد غسل الصّحيح، ثمّ يتيمّم له عقبه.
5) تعيينُ النِّيّةِ لما تيمّم لهُ من حدثٍ أو نجاسةٍ؛ فلا تكفي نيّةُ أحدِهما عن الآخرِ، وإن نواهما جميعاً: صحّ تيمّمه، وأجزأه؛ لحديث:(إِنَّما الأَعْمالُ بِالنِّيَّاتِ)[رواه البخاري ومسلم].
ثالثاً: مبطلاتُ التيمم:
مبطلاتُ التَّيمُّمِ خمسةٌ:
1) كلُّ ما يُبطلُ الوضوءَ؛ لأنّه بدلٌ عنه.
2) وجودُ الماءِ إنْ كان تيمُّمه لعدمِه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فَإِذَا وَجَدَ المَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ).
3) خروجُ وقتِ الصّلاةِ؛ لما رُوي عن عليّ وابن عمر رضي الله عنهما في ذلك.
4) زوالُ المبيحِ لهُ.
5) خلعُ ما مسحَ عليه.
* وجود الماء في أثناء الصلاة:
- إن وجدَ الماءَ وهو في الصلاةِ: بَطَلَتْ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فَإِذَا وَجَدَ المَاءَ
فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ).
- وإن انقضتْ صلاتُه لم تجبِ الإعادةُ؛ لأنّه أدى فريضةً بطهارةٍ صحيحةٍ، ولحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال:(خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا، فَصَلَّيَا ثُمَّ وَجَدَا المَاءَ في الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ وَالْوُضُوءَ وَلَمْ يُعِدِ الآخَرُ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلَّذي لَمْ يُعِدْ: أَصَبْتَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ، وَقَالَ لِلَّذي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ: لَكَ الأَجْرُ مَرَّتَيْنِ)[رواه أبو داود والنّسائي، والسياق لأبي داود].
رابعاً: صفةُ التيمُّم:
صفةُ التَّيمُّمِ: أن ينويَ، ثم يُسمِّي، ويضربَ الترابَ بيديهِ مُفَرَّجَتَيْ الأصابعِ ضربةً واحدةً؛ لحديث عمار رضي الله عنه السّابق.
والأحوطُ ضربتانِ، بعدَ نزعِ خاتمٍ ونحوهِ؛ ليصلَ التُّرابُ إلى ما تحتَهُ.
قال المرداوي: «الصحيح من المذهب أن المسنون والواجب ضربةٌ واحدةٌ؛ نصّ عليه، وعليه جمهور الأصحاب، وقطع به كثيرٌ منهم» .
فيمسحُ وجهَهُ بباطنِ أصابعِهِ وكفَّيْهِ براحتَيْهِ؛ إن اكتفى بضربةٍ واحدةٍ، وإن كان بضربتينِ مسحَ بأُولاهُما وجهَهُ، وبالثانيةِ يديْهِ.
ويُسَنُّ لمنْ يرجُو وجودَ الماءِ تأخيرُ التَّيمُّمِ إلى آخرِ الوقتِ المُختارِ؛ لقول عليٍّ رضي الله عنه في الجُنُبِ: (يَتَلوَّمُ -ينتظرُ- مَا بَيْنَهُ وَبَينْ آخِرِ الوَقْتِ)[رواه ابن أبي شيبة والدارقطني بإسناد ضعيف].
ولهُ أن يصلِّيَ بتيمُّمٍ واحدٍ ما شاءَ من الفَرْضِ والنَّفْلِ، لكنْ لو تيمّمَ للنَّفلِ
لمْ يستبحِ الفَرْضَ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)[رواه البخاري ومسلم].
* * *
باب إزالة النَّجاسة
أولاً: تعريف النَّجاسة:
النَّجاسَة: هي القَذَارة التي يجب على المسلم أن يَتَنَزَّه عنها ويغسل ما أصابه منها. قال الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر 4]، وقال أيضاً:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة 222].
ثانياً: أنواع النَّجاسات:
دلّت الأدلّة الشرعيّة على نجاسة ما يلي:
1) الخَمْر وما في معناها من كلّ مشروب سائل مُسْكِر؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة 90].
وكذا الحشيشة المُسْكِرة؛ لأنّها في معنى الخَمْر، أمَّا المُسْكِرات غير السائلة كالحبوب المُخَدِّرة ونحوها فهي طاهرة.
2) الطيور والبهائم وسائر الحيوانات التي لا يُؤكل لحمُها ممَّا فوق الهِرَّة خِلْقةً؛ مثل: العِقاب، والصَّقْر، والبُومَة، والنَّسْر، والفيل، والبَغْل، والحِمَار، والأَسَد، والنَّمِر، والذِّئْب، والفَهْد، والكَلْب، والخِنْزير، والدُّبِّ، والقِرْد
…
ونحوها؛ لحديث ابن عمر: (سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ المَاءِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ فقال: إِذَا كَانَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ)، وفي رواية:(لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ) [رواه أبو داود والترمذي والنسائي
وابن ماجه].
فهذا يدلُّ على نجاسة هذه السِّباعوتلك الدوابّ، وإلّا لم يتنجَّس الماء إذا لم يبلغ قُلَّتين. ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحُمُر يوم خَيْبَر:(إِنَّها رِجْسٌ)[رواه مسلم]، ولأنَّ السِّباع والجوارح يغلب عليها أكلُ المَيْتات والنَّجاسات.
- أما ما كان دون الهِرَّة في الخِلْقَة؛ كالحيَّة، والفَأْر، والنِّمْس، والقُنْفُذ
…
ونحوها فطاهر؛ لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: (إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ)[رواه أبو داود والنسائي والترمذي]؛ فدَلَّ بلفظه على طهارة الهرة، وتعليله بأنها من الطوافين علينا يدل على طهارة غيرها مما يطوف علينا من الدواب.
3) الميتة: وهي ما مات حتف أنفه، أو قُتِلَ من غير ذكاة شرعيَّة، ودليل نجاستها قول الله عز وجل:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام 145].
ويُستثنَى من الميتة ما يلي:
أ- ميتة الآدميّ: فإنّها طاهرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ المُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ)[رواه البخاري ومسلم].
ب- ميتة السمك والجراد: فإنّها طاهرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في البحر: (هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ)[رواه أبو داود والترمذي والنسائي]. فلو كانت نجسة لم يحلَّ أكلُها.
ج- ميتة ما لا دَمَ له سائل: وهو نوعان:
- النوع الأوّل: ما يتولّد من الطاهرات؛ كالنَّملِ، والنَّحلِ، والبَقِّ، والخُنفُساء، والقَمْل، والبَراغيث، ونحو ذلك؛ فهو طاهر حيًّا وميتاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا وَقَعَ
الذُّبَابُ فِي شَرَابَ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لِيَنْزَعْهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً، وَالأُخْرَى شِفَاءً) [رواه البخاري]؛ فلو كان وقوع الذُّباب أو موته في الماء يُنجّسه لأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإراقته.
- النوع الثاني: ما يتولَّد من النجاسات؛ كدود الكنيف -دورة المياه- وصُراصِرِه؛ فهو نجس حيًّا وميتاً؛ لأنّه متولِّد من النجاسة؛ فكان نجساً.
4) بَوْلُ الآدمي وغائطُه وقَيؤُه: أمَّا نجاسة البَوْل؛ فلحديث أنس رضي الله عنه قال: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ المَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْه)[رواه البخاري ومسلم].
وأمَّا نجاسة الغائط؛ فلحديث أنس رضي الله عنه قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَتَبَرَّزُ لِحَاجَتِهِ فَآتِيهِ بِالمَاءِ فَيَتَغَسَّلُ بِهِ)[رواه مسلم].
وأمَّا نجاسة القَيْءِ؛ فلأنَّ القَيْءَ عبارة عن طعام اسْتَحالَ في الجَوْف إلى الفساد؛ فأشبه الغائط.
5) المَذْي والوَدْي: أمَّا المَذْي فهو: ماءٌ أبيض رقيقٌ لَزِجٌ يخرج عند التفكير في الجِمَاع، أو عند الملاعبة، ولا يكون دافقاً، ولا يَعْقبُه فُتور، وقد لا يشعر الإنسان بخروجه، ويكون من الرَّجُل والمرأة، إلَّا أنَّه من المرأة أكثر. ودليل نجاسته حديث عليٍّ رضي الله عنه قال:(كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً، وَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ)[رواه مسلم].
وأمَّا الوَدْي فهو: ماءٌ أبيض ثخينٌ يخرج بعد البَوْل، يقول ابن عبَّاس رضي الله
عنهما: (المَنِيُّ وَالوَدْيُ وَالَمذْيُ؛ أَمَّا المَنِيُّ فَهُوَ الَّذِي مِنْهُ الغُسْلُ، وَأَمَّا الوَدْيُ وَالمَذْيُ فَقَالَ: اغْسِلْ ذَكَرَكَ أَوْ مَذَاكِيرَكَ وَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ)[رواه ابن أبي شيبة والبيهقي موقوفاً].
وأمَّا المَنِيُّ فطاهرٌ؛ لقول عائشة رضي الله عنها: (كُنْتُ أَفْرُكُ المَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَيُصَلِّي فِيهِ)[رواه أبو داود]. لكن يُستحبُّ غَسْل رَطْبِه وفَرْكُ يابِسِه؛ لقول عائشة رضي الله عنها أيضاً: (كُنْتُ أَفْرُكُ المَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ يَابِسًا، وَأَغْسِلُهُ إِذَا كَانَ رَطْبًا)[رواه الدارقطني].
6) الخارج من الحيوان الذي حَرَّم الشرع أَكْلَه: من بَوْل، أو رَوْث، أو قَيْءٍ، أو مَذْي، أو مَنِيٍّ، أو لَبَن؛ فهو نجس؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه:(أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَتَى الخَلَاءَ. فَقَالَ: ائْتِنِي بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَأَتَيْتُهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: هِيَ رِجْسٌ)[رواه ابن ماجه].
أمَّا الخارج من الحيوان الذي يَحِلُّ أَكْلُه، ولم يكن أكثر عَلَفِهِ النجاسة، فهو طاهر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (صَلُّوا في مَرَابِضِ الغَنَمِ
…
) [رواه الترمذي وابن ماجه]. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم للعُرَنِيِّين: (إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَفَعَلُوا فَصَحُّوا .. )[رواه البخاري ومسلم].
7) الدَّمُ والقَيْحُ والصَّدِيد: نجس؛ لحديث أسماء رضي الله عنها (أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الثَّوْبِ يُصِيبُهُ الدَّمُ مِنَ الحَيْضَةِ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: حُتِّيهِ، ثُمَّ اقْرُصِيهِ بِالمَاءِ، ثُمَّ رُشِّيهِ وَصَلِّي فِيهِ)[رواه الترمذي]. فأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بغَسْل الثوب من الدَّم. والقَيحُ
والصَّديدُ مثل الدَّم، إلَّا أنَّ الإمام أحمد قال:«هو أسهل» .
لكن يُعفَى عن يسير الدَّم إذا كان من آدميٍّ، أو حيوان طاهرٍ في الحياة، وكذا دم الحيض والنفاس يُعفَى عن اليسير منه؛ لقول عائشة رضي الله عنها:(قَدْ كَانَ يَكُونُ لإِحْدَانَا الدِّرْعُ فِيهِ تَحِيضُ، وَفِيهِ تُصِيبُهَا الجَنَابَةُ، ثُمَّ تَرَى فِيهِ قَطْرَةً مِنْ دَمٍ فَتَقْصَعُهُ بِرِيقِهَا)[رواه أبو داود]. وهذا يدلُّ على العفو عن اليسير؛ لأن الرِّيق لا يُطهِّره.
وكذا ما بقي في اللحم من الدم فمَعفوٌّ عنه؛ لأنَّه إنَّما حُرِّم الدَّمُ المسفوح، وهذا ليس مَسْفوحاً، وأيضاً لأنَّه يَشُقُّ التَّحرُّز منه.
* طِينُ الشَّوارع والطُّرُقات:
وأمَّا الطِّين الذي يكون في الشوارع والطُّرقات فهو طاهر حتَّى ولو ظُنَّت نجاسته؛ لأنَّ الأصل فيه الطهارة، ولأنَّ الصحابة والتابعين رضي الله عنهم كانوا يخوضون المطر في الطُّرقات ولا يغسلون أرجلهم؛ ثبت ذلك عن عمر رضي الله عنه [رواه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان]، وثبت ذلك أيضاً عن عليٍّ رضي الله عنه [رواه البيهقي في الكبرى]. وقال ابن مسعود رضي الله عنه:(كُنَّا لَا نَتَوَضَّأُ مِنْ مَوْطِئٍ)[رواه أبوداود وابن ماجه].
* العَرَقُ وَالرِّيقُ:
العَرَقُ والرِّيقُ إذا خَرَجا من طاهر فهما طاهران، وإنْ خَرَجا من نجس فهما نجسان؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (
…
فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ
فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا. فَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ). [رواه مسلم]. فلو كانت النخامة نجسة لما أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمسحها في ثوبه ولا تحت قدمه وهو في الصلاة.
- ولا يُكرَه سُؤْرُ حيوان طاهر. والسُّؤْر: هو فَضْلُة طعامه وشرابه.
- وإذا أكلَ هِرٌّ ونحوه من الحيوانات الطاهرة؛ كالنِّمْس، والفَأْر، والقُنْفُذ، نجاسةً، ثمَّ شَرِب من مائع لم يضرّ؛ لعُموم البَلْوَى بذلك، ولمشقَّة التَّحرُّز.
ثالثاً: كيفية إزالة النَّجاسة:
أمَّا كيفية إزالة النَّجاسة فذلك يكون على النحو التالي:
1) تطهير النَّجاسة على غير الأرض:
يُغسَل الشيء المتنجِّس سبع مرات: فإذا كانت النَّجاسة بسبب الكَلْب أو الخِنزير؛ فيغسل سبع مرَّات إحداهنَّ بتراب طهور، أو بصابون ونحوه من المنظفات؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ في إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ)[رواه النسائي]. والخنزير مثل الكلب قياساً عليه.
- أمَّا إذا كانت النجاسة بغير الكلب أو الخنزير؛ فكذلك تُغسَل سبع مرّات لكن بدون التراب؛ قياساً على تطهير النجاسة من ولوغ الكلب.
و في المذهب رواية أخرى: أنَّ المتنجِّس بغير الكلب أو الخنزير يكفي لتطهيره مكاثرة الماء على موضع النَّجاسة حتَّى تزول، دون اشتراط عدد معيَّن من الغسلات؛
لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِصَبِّ دَلْوٍ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَوْلٍ الأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالِ في المَسْجِدِ [رواه البخاري ومسلم]، ولم يأمر بعدد معيَّن.
2) تطهير النَّجاسة على الأرض:
تجزئ المكاثرة بالماء في تطهير الأرض، والصخور، والأحواض التي تنجَّست بمائع، ولو من كلب أو خنزير، حتَّى يذهب لون النَّجاسة وريحها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في بول الأعرابي:(أَرِيقُوا عَلَيْهِ ذَنُوباً مِنْ مَاءٍ)[رواه البخاري ومسلم].
ولا تَطْهُرُ الأرض بالشمس، ولا بالرِّيح، ولا بالجفاف، ولا تطهر النَّجاسة بالنار؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُصَبَّ عَلَى بَوْلِ الأَعْرَابِيِّ ذَنُوباً مِنْ مَاءٍ.
3) إزالة عَيْنِ النَّجاسة وأثَرِها:
ولا بدَّ من إزالة عَيْن النَّجاسة بحيث لا يبقى لها طَعْم، فإنْ بَقِيَ بعد ذلك أثر من لونٍ أو ريحٍ فإنَّه لا يَضرُّ إن عجز عن إزالته؛ لحديث أبي هريرة:(أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ يَسَارٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله إِنَّهُ لَيْسَ لِي إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَأَنَا أَحِيضُ فِيهِ، فَكَيْفَ أَصْنَعُ قَالَ: إِذَا طَهُرْتِ فَاغْسِلِيهِ ثُمَّ صَلِّي فِيهِ، فَقَالَتْ: فَإِنْ لَمْ يَخْرُجِ الدَّمُ؟ قَالَ: يَكْفِيكِ غَسْلُ الدَّمِ وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ)[رواه أحمد وأبو داود].
4) تطهير ما أصابه بول الأطفال:
يجزئ النَّضحُ -أي: رشُّ الموضع بالماء، وغمره به، وإن لم يَقْطر منه شيء- في التطهير من بول الغلام (الطفل) الذي لم يأكل الطعام لشهوة، أمَا بول الجارية
(الطفلة) فيغسل سواء أكلت الطعام لشهوة أم لا؛ لحديث عليٍّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الجَارِيَةِ وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ)[رواه أبو داود والنسائي].
5) استحالة النَّجس إلى طاهر:
وهو حكم خاصٌّ بالخمر؛ فإذا انقلبت الخَمْرُ خَلًّا بنفسها دون معالجة؛ فإنّها تَطهُر؛ كالماء الذي تنجَّس فتغيَّر لونُه، أو طعمُه، أو ريحُه، ثمَّ زال هذا التغيُّر؛ فإن الماء يرجع طاهراً كما كان.
6) خفاء موضع النَّجاسة:
إذا خَفِيَ موضع النَّجاسة فإنَّه يغسل الشيء المتنجِّس حتَّى يتيقَّن أنَّه غَسَلَها؛ ليخرج من العُهدَة بيقين.
* * *
باب الحيض والنّفاس
أولاً: الحيض:
1) تعريفُه:
الحيض: دمٌ يُرخيهِ الرَّحِمُ؛ فيخرجُ من قعره، إذا بَلغت المرأة، ثم يَعتادُها في أوقات معلومة.
2) وقتُه:
- يبدأ الحيض إذا أتمَّت المرأة تسع سنين هجريّة، ولا حيض قبل ذلك؛ لقول عائشة رضي الله عنها:(إِذَا بَلَغَتِ الجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ امْرَأَةٌ)[رواه الترمذي والبيهقي معلّقاً].
- وينقطع الحيض ببلوغ المرأة سنّ الخمسين، ولا حيض بعد ذلك؛ لقول عائشة رضي الله عنها:(إِذَا بَلَغَتِ المَرْأَةُ خَمْسِينَ سَنَةً خَرَجَتْ مِنْ حَدِّ الحَيْضِ)[ذكره أحمد في رواية حنبل كما في شرح الزركشي].
وإذا كانت المرأة حاملاً فإنّها لا تحيض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لَا تُوْطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيرُ حَامِلٍ حَتَّى تَسْتَبْرِئَ بِحَيْضَةٍ)[رواه أحمد وأبو داود]؛ يعني تستعلم براءتها من الحمل بالحيضة؛ فدلّ على أنّها لا تجتمع معه.
فإذا رأت الدم قبل تمام تسع سنين، أو بعد بلوغها خمسين سنة، أو أثناء حَمْلها؛ فهو دم فساد، لا دم حيض.
3) مُدّتُه:
أقلُّ الحيض يومٌ وليلةٌ، وأكثره خمسة عشر يوماً؛ لأنّ الشرع علّق على الحيض أحكاماً ولم يبيّن قَدْره؛ فعُلِم أنّه ردّه إلى العادة؛ وقد قال عطاء:«رَأَيْتُ مَنْ تَحِيضُ يَوْماً، وَتَحِيضُ خَمْسَةَ عَشَرَ» [ذكره ابن قدامة في الكافي، وابن الجوزي في التحقيق]. ولم يوجد حيض معتاد أقلّ من يوم وليلة، ولا أكثر من خمسة عشر يوماً.
وغالب الحيض ستة أيّام أو سبعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لحِمْنة بنت جحش رضي الله عنها: (تَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ إِلَى سَبْعَةٍ فِي عِلْمِ الله ثُمَّ اغْتَسِلِي
…
) [رواه أحمد وأبو داود والترمذي].
4) مدّةُ الطُّهرِ بين الحيضتين:
أقلُّ الطُّهر الفاصل بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً؛ لما روى عامر الشعبيّ قال: (جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عَلِيٍّ تُخَاصِمُ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا، فَقَالَتْ: قَدْ حِضْتُ فِي شَهْرٍ ثَلَاثَ حِيَضٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِشُرَيْحٍ: اقْضِ بَيْنَهُمَا. قَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ وَأَنْتَ هَا هُنَا؟ قَالَ: اقْضِ بَيْنَهُمَا. قَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ وَأَنْتَ هَاهُنَا؟ قَالَ: اقْضِ بَيْنَهُمَا. فَقَالَ: إِنْ جَاءَتْ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا مِمَّنْ يُرْضَى دِينُهُ وَأَمَانَتُهُ تَزْعُمُ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ تَطْهُرُ عِنْدَ كُلِّ قُرْءٍ وَتُصَلِّي، جَازَ لَهَا وَإِلَّا فَلَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: قَالُونُ، وَقَالُونُ بِلِسَانِ الرُّومِ: أَحْسَنْتَ)[رواه البخاريُّ -معلّقاً-، والدّارميُّ واللفظ له].
وغالب الطّهر بقيّة الشهر بعد الحيض؛ لأنّ الغالب أنّ المرأة تحيض في كلّ شهر حيضة.
ولا حدّ لأكثر الطُّهر بين الحيضتين؛ لأنّه لم يرد تحديده في الشرع، ومن النساء من لا تحيض.
5) ما يحرم بالحيض:
يحرم بسبب الحيض أشياء:
أ - الجِماعُ؛ لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة 222].
ب- الطَّلاقُ؛ لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق 1].
ج- الصَّلاةُ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَقْبَلَتِ الحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ)[رواه البخاري ومسلم].
د - الصَّومُ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أَلَيْسَ إِحْدَاكُنَّ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تَصُمْ وَلَمْ تُصَلِّ؟ قُلْنَ: بَلَى)[رواه البخاري ومسلم].
هـ- الطَّوافُ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها لمّا حاضت: (افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي)[رواه البخاري ومسلم].
و - مسُّ المصحفِ؛ لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة 79].
ي- قراءة القرآن؛ لما رُوي من حديث ابن عمرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا تَقْرَأِ الحَائِضُ، وَلَا الجُنُبُ شَيْئًا مِنَ القُرْآنِ)[رواه الترمذي بإسناد ضعيف].
ك- اللُّبْث في المسجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لَا أُحِلُّ الَمسْجِدَ لِجُنُبٍ وَلَا حَائِضٍ)[رواه أبو داود وابن ماجه].
ويجوز للحائض المرور في المسجد إذا أمنت تلويثه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: (نَاوِلِينِي الخُمْرَةَ مِنَ المَسْجِدِ؛ فَقَالَتْ: إِنِّي حَائِضٌ؛ فَقَالَ: إِنَّ حَيْضَتَكَ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ)[رواه مسلم].
6) ما يوجبه الحيض:
إذا حاضت المرأة كان ذلك علامةً على بلوغها، ويوجب الحيض أموراً؛ منها:
أ- الغسل عند انقطاع دم الحيض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي)[رواه البخاري ومسلم].
ب- الكفارة على من جامع في الحيض؛ ولو كان مكرهاً أو ناسياً أو جاهلاً للحيض والتحريم. والكفارة دينار أو نصفه على التخيير؛ لما روى
ابن عبَّاس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض: (يَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ)[رواه أبو داود والنّسائي وابن ماجه]، وعلى المرأة الكفّارة أيضاً إذا هي طاوعت الرّجل على الجِمَاع.
والدينار يساوي: (4.25) غراماً من الذّهب، ونصفه يساوي:(2.13) غراماً، وقيمتُه تختلف باختلاف العملة التي يشترى بها.
7) ما يُباح بعد انقطاع الدّم وقبل الغُسل أو التّيمّم:
لا يباح بعد انقطاع دم الحيض وقبل غسل المرأة أو تيمّمها منه إلّا ثلاثة أشياء:
أ - الصّومُ؛ لأنّه يباح للجُنُب قبل اغتساله؛ فكذلك الحائض.
ب- الطّلاقُ؛ لأنّه إنَّما حُرِّم طلاق الحائض لتطويل العِدّة، وقد زال ذلك.
ج- اللُّبْث بوضوء -أو بالتيمّم عند عدم الماء- في المسجد؛ قياساً على الجُنُب.
8) علامة طُهْر الحائض:
إذا انقطع الدَّم عن الحائض؛ بحيث إذا احْتَشَت بقُطْنَة في زمن الحيض لا تتغيّر؛ فقد طهرت.
وإذا رأت الصُّفْرةُ والكُدْرةُ في زمن الحيض فهو حيضٌ؛ لما روى عَلْقَمَة عن أُمِّهِ: (أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُرْسِلْنَ بِالدِّرَجَةِ -وهو وعاء- فِيهَا الكُرْسُفُ -يعني القُطن- فِيهِ الصُّفْرَةُ إِلَى عَائِشَةَ، فَتَقُولُ: لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ القَصَّةَ البَيْضَاءَ)[رواه مالك وعلقه البخاري]. والقَصَّة: ماء أبيض يأتي بعد الحيضة.
وأمّا الصُّفْرةُ والكُدْرةُ في زمن الطُّهْر فهي طُهْرٌ، ولا تعتدُّ بها المرأة: لقول
أمِّ عَطيَّة رضي الله عنها: (كُنَّا لَا نَعُدُّ الصُّفْرَةَ وَالكُدْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ شَيْئاً)[رواه أبوداود والبخاري ولم يذكر «بعد الطهر»].
9) ما تقضيه الحائض والنّفساء بعد طُهْرِهما:
الحائض والنفساء بعد طُهْرِهما تقضيان الصوم، ولا تقضيان الصلاة؛ لحديث مُعاذَة أنَّها سألت عائشة رضي الله عنها:(مَا بَالُ الحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ)[رواه البخاري ومسلم].
ثانياً: الاستحاضة:
1) تعريفُها:
الاستحاضة: هي سَيَلانُ الدَّم في غير أوقاته المعتادة من مَرَضٍ وفَسَادٍ، من
عِرْقٌ فَمُه في أدنى الرَّحِم يسمى ذلك العِرْق: العَاذِل.
ومن جاوز دمُها خمسة عشر يوماً: فهي مستحاضة؛ لأنّه لا يصلح أن يكون دمُها حيضاً.
2) أحوالُ المستحاضة:
المستحاضة لها حالات:
الأولى: أن تكون لها عادةٌ منتظمةٌ قبل الاستحاضة؛ فإنّها تعمل عليها، سواءٌ كان عندها تمييزٌ لدم الحيض أو لا؛ فما زاد على أيّام عادتها من الدّم فهو استحاضةٌ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم لأمّ حبيبة رضي الله عنها:(امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي)[رواه مسلم].
الثانية: أن لا تكون لها عادةٌ أو كانت لها عادةٌ ولكن نسيتها؛ فإن كان دمُها متميّزاً بعضه أسود ثخين منتن وبعضه رقيق أحمر، وكان الأسود لا يزيد على أكثر الحيض ولا ينقص عن أقلِّه؛ فهي مميّزةٌ تدع الصّلاة زمن حيضها الأسود، ثم تغتسل وتصلّي؛ لحديث فاطمة بنت أبي حُبَيش رضي الله عنها قالت:(يَا رَسُولَ الله إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ؛ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: لَا! إِنَّ ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالحَيْضَةِ؛ فَإِذَا أَقْبَلَتِ الحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ؛ فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي)[رواه البخاري ومسلم]، وفي لفظ:(إِذَا كَانَ دَمُ الحَيْضِ فَإِنَّهُ أَسْوَدُ يُعْرَفُ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِي؛ فَإِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ)[رواه النّسائي].
الثالثة: أن لا يكون لها عادةٌ ولا تمييزٌ؛ فهي متحيّرةٌ؛ فتجلس من كلِّ شهر ستًّا
أو سبعاً تتحرّاها ثمّ تغتسل وتصوم وتصلِّي-بعد غسل المحلّ وتعصيبه-؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لحَمْنة بنت جَحْش رضي الله عنها -وكانت تُسْتحاض حَيْضَةً شديدةً-: (إِنَّمَا هَذِهِ رَكْضَةٌ مِنْ رَكَضَاتِ الشَّيْطَانِ؛ فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ إِلَى سَبَعَةٍ فِي عِلْمِ الله، ثُمَّ اغْتَسِلِي
…
) [رواه أحمد وأبو داود والترمذي].
3) أحكام المستحاضة:
للمستحاضة أحكام تخصّها؛ منها:
أ - أنّه يجب عليها أن تتوضّأ في وقت كلّ صلاة إن خرج شيء بعد الوضوء؛ لحديث فاطمة بنت أبي حُبيش، وفيه:(وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ)[رواه أبو داود والترمذي]. وتنوي بوضوئها الاستباحة؛ لأنّ حدثها دائم، وكذا يفعل كلُّ من حدثه دائم؛ كسلس البول والريح.
ب- لا يُباح وَطْءُ المستحاضة مع عدم خَوْف العَنَتِ، فإنْ وَطِئَها من غير عَنَتٍ فلا كفّارة.
ثالثاً: النِّفاس:
1) تعريفُه:
النَّفاس: هو الدَّم الخارج من قُبُل المرأة بسبب الولادة.
2) مدّتُه:
لا حدّ لأقلِّ النِّفاس؛ لأنَّه لم يرد تحديده؛ فرجع فيه إلى الوجود الفعليّ، وقد
وُجِدَ قليلاً وكثيراً.
وأمَّا أكثرُه فأربعون يوماً، وما زاد على ذلك فهو استحاضة؛ لحديث أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت:(كَانَتِ النُّفَسَاءُ تَجْلِسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ يَوْماً)[رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه].
ويثبت حكمه بوضع ما يَتَبيَّن فيه خَلْق إنسانٍ ولو خفيًّا، وأقلُّ ما يَتَبيَّن فيه واحدٌ وثمانون يوماً، وغالبه ثلاثة أشهر.
فإن تخلّل الأربعين نقاءٌ من الدّم فهو طُهْر، لكن يُكره أن يجامعَها زوجُها فيه؛ لأنّه لا يُؤمنُ عودُ الدّم؛ فيكون مجامعاً في النّفاس.
ومن وضعت وَلَدَيْن فأكثر؛ فأوّل مُدّة النّفاس من الأوّل، كما لو وضعت واحداً؛ فلو كان بينهما أربعون يوماً فلا نفاس للثاني؛ لأنّه تبعٌ للأول.
3) ما يحرمُ بالنِّفَاس:
يحرم بسبب النِّفاس جميعُ ما يحرم بسبب الحيض؛ ولذا فإنّ في جِمَاع النُّفَساء ما في جِماع الحائض من الكفَّارة.
كتاب الصلاة
أولاً: تعريف الصَّلاة:
الصلاة لغة: هي الدُّعاء، ومنه قوله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة 103]، ولقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(إذا دُعِيَ أحدُكُم فَلْيُجِبْ، فإنْ كانَ صَائِماً فَلْيُصلِّ، وإنْ كانَ مُفْطِراً فَلْيَطْعِمْ)، قال هشام بن حسَّان (الراوي): والصَّلَاةُ الدُّعَاءُ [رواه مسلم وأبو داود، واللفظ له].
وأمَّا تعريفها شرعاً: فهي التَّعَبُّد لله تعالى بأقوال وأفعال مُفْتَتَحَةٍ بالتَّكبيرِ مُخْتَتَمَةٍ بالتَّسْليمِ بشروط مخصوصة.
ثانياً: حُكم الصَّلاة:
الصَّلاة رُكن من أركان الإسلام وفرض من فرائضه، وهي واجبة بدلالة القرآن والسنة وإجماع الأمة.
فمن القرآن قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء 103].
ومن السُّنة ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ لِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)[رواه البخاري ومسلم].
وقد أجمعت الأمة على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة؛ وهي الفجر،
والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.
ثالثاً: حُكم تارك الصَّلاة:
من ترك الصَّلاة جاحداً ومُنكراً لوُجُوبها إنْ كان ممَّن لا يَجْهَل وُجوبَها، فقد كَفَر وارْتَدَّ عن الإسلام؛ لأنَّه مُكذِّب لله ورسوله، مخالف لما أجمعت عليه الأُمَّة، وقد بيَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حُكمَ تارك الصَّلاة فقال:(العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ)[رواه أحمد والترمذي والنسائي].
وتجري عليه أحكام المُرْتدِّين، فلا يُغسَّل، ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدْفَن في مقابر المسلمين، ولا يُورَث.
وأمَّا من تَرَكَها تهاوناً وتكاسلاً مع الإقرار بوجوبها، فهو مرتكبٌ لكبيرة من الكبائر، مُعرِّضٌ نفسه لعذاب الله وعقابه؛ كما قال تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم 59].
قال ابن قدامة: «وإن تركها تهاوناً أو كسلاً، دُعي إلى فعلها، وقيل له: إنْ صلَّيت، وإلَّا قتلناك. فإن صلَّى، وإلَّا وجب قتله. ولا يُقتَل حتَّى يُحبَس ثلاثاً، ويُضيَّق عليه فيها، ويُدعى في وقت كلِّ صلاة إلى فعلها، ويُخوَّف بالقتل، فإن صلَّى، وإلا قُتل بالسيف» . ثمَّ قال: «والرواية الثانية: يُقتَل حدًّا
(1)
، مع الحكم بإسلامه،
…
وهذا قول أكثر الفقهاء
…
وهو أصوب القولين، والله أعلم».
(1)
الرواية المعتمدة في المذهب أنَّه يُقتل كُفْراً. لكن لا يُحكم بكفره إلَّا إذا دعاه الإمام أو نائبه لفعلها، وأبى ذلك حتَّى تضايق وقت التي بعدها. ولا يقتل حتَّى يُستتاب ثلاثة أيام، ويدعى كل وقت صلاة إليها؛ فيأبى. انظر: الإنصاف (1/ 401، 403، 404)، شرح منتهى الإرادات (1/ 128).
رابعاً: من تجب عليه الصَّلاة، ومن لا تجب عليه:
تجبُ الصلاة على كلِّ مسلمٍ بالِغٍ عاقِلٍ سالِمٍ من الموانع.
- فلا تجبُ الصلاة على الكافر بالإجماع؛ بمعنى أنَّه لا يُؤمَر بأدائها؛ لأنَّه
لم يأت بأصل الإيمان، والكفر محبط لجميع الأعمال؛ قال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان 23].
- ولا تجبُ على غير البالغ، ولا المجنون؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ)[رواه أبوداود وابن ماجه].
- فإن كان الصغير غير مُمَيِّز -وهو من كان دون سبع سنين-؛ فلا تصحُّ منه الصلاة، وأمَّا المميِّز - وهو من بلغ سبع سنين- فتصحُّ منه الصلاة ويثاب عليها، وعلى وَليِّه أن يأمره بها إذا بلغ سبع سنين، ويضربه على تركها إذا بلغ عشر سنين؛ لما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْها وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ)[رواه أحمد وأبو داود].
- ولا تجبُ على الحائض ولا النفساء ولا تصحُّ منهما؛ لحديث مُعاذَة العَدَويَّة قالت: (سَأَلْتُ عَائِشِةَ فَقُلْتُ: مَا بَالُ الحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ وَلَكِنِّي أَسْأَلُ. قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ)[رواه البخاري ومسلم].
* * *
باب الأذانِ والإقامةِ
أوَّلاً: تعريفُ الأذانِ والإقامةِ:
الأذانُ في الشرعِ: هو الإعلامُ بدخولِ وقتِ الصلاةِ بذِكرٍ مخصوصٍ.
أمَّا الإقامةُ: فهي الإعلامُ بالقيامِ إلى الصلاةٍ بذِكرٍ مخصوصٍ وَرَدَ به الشرع.
ثانياً: حُكم الأذانِ والإقامةِ:
- الأذانُ والإقامةُ فرضُ كفايةٍ على الرِّجال الأحرار المقيمين في المُدُن والقُرَى، فإذا قام بهما من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإن لم يقم بهما أحد أَثِمَ الجميع؛ لحديث:(إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمُّكُمْ أَكْبَرُكُمْ)[رواه البخاري ومسلم]، والأمر يقتضي الوجوب، ولأنَّهما من شعائر الإسلام الظاهرة؛ فلا يجوز تعطيلهما.
- أمَّا النساء: فلا يجب عليهنَّ أذان ولا إقامة، بل يكرهان في حقِّ النساء، ولو بلا رفع صوت؛ لأنَّهما وظيفة الرِّجال.
- ويُشرَعُ الأذانُ والإقامةُ للمنفرد والمسافر؛ أمَّا المنفردُ فلحديث عُقْبَة بن عامِر رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ شَظِيَّةٍ بِجَبَلٍ يُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ وَيُصَلِّي، فَيَقُولُ الله عز وجل: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ الجَنَّةَ)[رواه أبو داود والنسائي]. والشَّظِية:
بالشين مفتوحة: القطعة من رأس الجبل.
- وأمَّا المسافر؛ فلحديث مالك بن الحُوَيْرِث رضي الله عنه قَالَ: (أَتَى رَجُلَانِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُرِيدَانِ السَّفَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَنْتُمَا خَرَجْتُمَا فَأَذِّنَا ثُمَّ أَقِيمَا ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا)[رواه البخاري].
ولا يجب عليهما؛ لأنَّ الأذان إنَّما شُرِع في الأصل للإعلام بالوقت ليجتمع الناس إلى الصلاة، ويدركوا الجماعة.
ثالثاً: شروطُ صحَّةِ الأذانِ والإقامةِ:
يشترط لصحَّة الأذان والإقامة عشرة شروط لا بدَّ من الإتيان بها، وهي:
1) الإسلامُ: فلا يصحَّان من الكافر؛ لأنَّه ليس له نيَّة، ولا تُقبل منه العبادة.
2، 3) العقلُ والتمييزُ: فلا يصحَّان من المجنون، ولا من الطفل غير المميِّز، كسائر العبادات؛ لأنَّهما من غير أهل العبادات.
4) النيَّةُ: لحديث: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)[رواه البخاري ومسلم].
5) الذُّكوريَّةُ: فلا يصحَّان من الأنثى؛ لأنَّه يُشرَع فيهما رفع الصوت، وليست من أهل ذلك.
6) أن يكون المؤذِّنُ أو المقيمُ ناطقاً: لينطق بهما.
7) العدالةُ ولو ظاهراً: فلا يصح أذان الفاسق؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم وصف المؤذِّنين بالأمانة فقال: (وَالمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ)[رواه أبو داود والترمذي].
8) أن يكون الأذان في وقتِ الصلاةِ: فلا يصحُّ قبل دخول وقتها، إلَّا الأذان
الثاني للفجر؛ فيجوز قبل الوقت بعد نصف الليل؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ؛ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ)[رواه البخاري ومسلم]. وتكون الإقامة عند إرادة القيام للصلاة.
9) أن يكون الأذانُ مُرتَّباً مُتوالياً، وكذا الإقامة: كما وردت بذلك السُّنَّة؛ لأنَّهما شُرِعا كذلك، فلا يجوز الإخلال بهما، فإن سكت سكوتاً طويلاً أو تكلم بكلام طويل؛ بطل الأذان أو الإقامة؛ للإخلال بالموالاة، فإن كان يسيراً لم يبطلا، قال البخاري في صحيحه:«وَتَكَلَّمَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ -وهو من الصحابة- في أَذَانِهِ» .
10) أن يكون الأذانُ من شخصٍ واحدٍ، وكذا الإقامةُ: فلا يصحُّ أن يؤذن شخص نصف الأذان، ثمَّ يأتي آخر فيُكمل؛ لأنَّهما عبادتان بدنيَّتان فلا يصحُّ أن يَبني فِعلَه على فِعل غيره.
- ورفعُ الصوتِ بالأذانِ ركنٌ؛ ليحصلَ الإعلامُ بالصلاة؛ إذ هو المقصودُ من الأذانِ، إلَّا إذا كان يؤذِّنُ لنفسِهِ؛ فلا يرفعُ صوتَه إلَّا بقدرِ ما يُسمعُ نفسَه، أو الحاضرَ معه، والإقامة يُسمع بها من حضر.
رابعاً: الصفاتُ المستحبَّةُ في المؤذِّنِ:
يستحبُّ في المؤذِّنِ عدَّة أمور، وهي:
1) أن يكون صَيِّتاً (أي: قويَّ الصوت)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد رضي الله عنه: (
…
فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ) [رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه]، ولأنَّ الصوت القويَّ أبلغ في إسماع الناس.
2) أن يكون أميناً؛ لأنَّ المؤذِّن مُؤتمَن يُرجع إليه في الصلاة والصيام، فلا يُؤْمَنُ أن يغرَّهم بأذانه إذا لم يكن كذلك، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:(أُمَنَاُء المُسْلِمِينَ عَلَى صَلَاتِهِمْ وَسُحُورِهِمْ المُؤَذِّنُونَ)[رواه البيهقي].
3) أن يكون عالماً بالأوقات؛ ليتحرَّاها فيؤذِّن في أوَّلها؛ لأنَّه إن لم يكن عالماً ربما غلط أو أخطأ.
4) أن يكون متطهِّراً من الحَدَث الأصغر والأكبر؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (لَا يُؤَذِّنُ إِلَّا مُتَوَضِّئٌ)[رواه الترمذي والبيهقي بإسناد ضعيف]. ولأنَّ الأذان ذِكْرٌ؛ فتستحبُّ له الطهارة.
5) أن يؤذِّن ويقيم قائماً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لبلال: (قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ)[رواه البخاري ومسلم]. فإن أذَّن قاعداً لعذر فلا بأس؛ لما رواه الحسن العَبْدي رحمه الله قال: (دَخَلْتُ عَلَى أَبِي زَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ -من الصحابة- فَأَذَّنَ وَأَقَامَ وَهُوَ جَالِسٌ
…
وَكَانَ أَعَرَجَ أُصِيبَتْ رِجْلُهُ فِي سَبِيلِ الله تَعَالَى) [رواه الأثرم وابن أبي شيبة والبيهقي].
- ويجوز الأذان على الراحلة؛ من دابة أو سيارة أو طائرة؛ لما رواه نافع قال: (كَانَ ابْنُ عُمَرَ رُبَّمَا أَذَّنَ عَلَى رَاحِلَتِهِ الصُّبْحَ ثُمَّ يُقِيمُ بِالأَرْضِ)[رواه البيهقي].
خامساً: ما يُسَنُّ في الأذانِ والإقامةِ:
1) أن يؤذن في أول الوقت؛ لحديث جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه قال: (كَانَ بِلَالٌ لَا يُؤَخِرُ الأَذَانَ عَنِ الوَقْتِ، وَرُبَّمَا أَخَّرَ الإِقَامَةَ شَيْئًا)[رواه ابن ماجه].
2) أن يكون على عُلُوٍّ؛ لأنه أبلغ في الإِعلام، ولما ثبت عن بلال رضي الله عنه
أَنَّهُ كَانَ يُؤَذِّنُ عَلَى سَطْحِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، بَيْتُهَا مِنْ أَطْوَلِ بَيْتٍ حَوْلَ المَسْجِدِ. [رواه أبو داود بمعناه].
3) أن يكون مستقبل القِبْلة؛ لما رواه عبد الرحمن بن أبى ليلى عن عبد الله بن زيد في رؤيا الأذان قال: (جَاءَ عَبْدُ الله بْنُ زَيْدٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله؛ إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلاً نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَقَامَ عَلَى جِذْمِ حَائِطٍ، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ
…
) فذكر الحديث [رواه إسحاق بن راهويه].
4) أن يرفع وجهه جاعلاً سبَّابتيه في أُذُنيه؛ لما ثبت عن أبي جُحَيْفة رضي الله عنه أنَّه قال: (رَأَيْتُ بِلَالًا يُؤَذِّنُ وَيَدُورُ وَأَتَتَبَّعُ فَاهُ هَاهُنَا وهاهنا، وَأُصْبُعَاهُ فِي أُذُنَيْهِ، قَالَ: وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي قُبَّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ)[رواه أحمد والترمذي].
5) أن يلتفت يميناً لحيَّ على الصلاة، وشمالاً لحيَّ على الفلاح؛ لحديث
أبي جُحَيْفة رضي الله عنه؛ وفيه:)
…
وَأَذَّنَ بِلَالٌ فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا - يَقُولُ يَمِينًا وَشِمَالاً - يَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ) [رواه مسلم].
6) أن يَتَرَسَّل في الأذان -أي يتمهَّل- ويَحْدُرُ الإقامة -أي يُسرع فيها-: لقوله صلى الله عليه وسلم لبلال: (يَا بِلَالُ! إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّل فِي أذَانِكَ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ
…
) [رواه الترمذي والبيهقي وابن عدي والحاكم وهو ضعيف الإسناد].
7) أن يقول بعد (حيَّ على الفلاح) في أذان الفجر: (الصلاة خيرٌ من النوم) مرَّتين، ويُسمَّى التَّثْويب؛ لحديث أبي مَحْذُورَة رضي الله عنه في الأذان وفيه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: (
…
فَإِنْ كَانَ صَلَاة الصُّبْحِ قُلْتَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) [رواه أبو داود والنسائي].
8) أن يتولَّى الأذان والإقامة شخص واحد ما لم يشق؛ لأنَّ بلالاً كَانَ هو
المُؤَذّن، والمقيم لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم.
- ومن أراد أن يجمع بين صلاتين أو يقضي صلوات فائته فإنَّه يؤذِّن للصلاة الأولى فقط، ويقيم للأخرى أو للباقي؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى الظُّهْرَ وَالعَصْرَ بِعَرَفَةَ بِأَذانٍ وَإِقامَتَينِ؛ كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه الطويل الذي رواه الإمام مسلم في وصف حجَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:(إِنَّ المُشْرِكِينَ شَغَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الخَنْدَقِ، فَأَمَرَ بِلَالاً فَأَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى المَغْرِبَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العِشَاءَ)[رواه الترمذي والنسائي].
سادساً: صفة الأذان والإقامة:
صفة الأذان والإقامة كما جاءت في حديث رؤيا الأذان التي رآها عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: (لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِالنَّاقُوسِ يُعْمَلُ لِيُضْرَبَ بِهِ لِلنَّاسِ لِجَمْعِ الصَّلَاةِ، طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ الله! أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ؟ قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ فَقُلْتُ: نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاةِ. قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى. قَالَ: فَقَالَ: تَقُولُ اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. قَالَ: ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ قَالَ: وَتَقُولُ إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ
اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ فَقَالَ: إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٌّ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ؛ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ، فَقُمْتُ مَعَ بِلَالٍ فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ عَلَيْهِ وَيُؤَذِّنُ بِهِ - قَالَ -: فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وَهُوَ في بَيْتِهِ فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَيَقُولُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ يَا رَسُولَ الله! لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ مَا رَأَى. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: فَلِلَّهِ الحَمْدُ) [رواه أبو دواد].
سابعاً: ما يقوله سامع الأذان، وما يدعو به بعده:
يستحبُّ لمن سَمِع الأذان أو الإقامة أن يفعل ما يلي:
1) أن يقول مثل ما يقول المؤذِّن أو المقيم؛ لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ المُؤَذِّنُ)[رواه البخاري ومسلم].
- إلِّا عند قول المؤذِّن (حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح)، فيقول:«لا حول ولا قوَّة إلا بالله» ؛ لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وفيه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (
…
ثُمَّ قَالَ: -أي المؤذِّن- حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قَالَ-أي السامع-: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الفَلَاحِ، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ
…
) [رواه مسلم].
- وعند قول المؤذِّن في الإقامة (قد قامت الصلاة)؛ يقول السامع: «أقامَها الله وأدامها» ؛ لما رُوِيَ عن بعض أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (أَنَّ بِلَالاً أَخَذَ فِي الإِقَامَةِ، فَلَمَّا أَنْ
قَالَ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أَقَامَهَا اللهُ وَأَدَامَهَا [رواه أبو داود بإسناد ضعيف].
2) أنْ يُصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذا فرغ ويقول: (اللهمَّ ربَ هذه الدعوة التامَّة والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوَسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته)؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللهُ عَلَيهِ بِهَا عَشْراً
…
) [رواه مسلم].
وعن جابر رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ القَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّداً الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ)[رواه البخاري].
3) أنْ يدعو؛ لحديث أنس رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَة)[رواه أحمد والترمذي].
- ويحرُم الخروج من المسجد بعد الأذان بلا عذر أو نيَّة الرجوع للمسجد مرَّة أخرى؛ لحديث أبي الشَّعثاء قال: (كُنَّا قُعُودًا في المَسْجِدِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَذَّنَ المُؤَذِّنُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ المَسْجِدِ يَمْشِى، فَأَتْبَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بَصَرَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنَ المَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم[رواه مسلم].
* * *
باب شروط صحَّة الصلاة
أوَّلاً: تعريفُ الشرطِ:
الشرطُ: ما تتوقّفُ عليه صحّةُ الشيءِ؛ عبادةً كان، أو معاملةً.
ثانياً: شروطُ صحَّةِ الصَّلاةِ:
يُشترط لصحَّةِ الصّلاةِ تسعة شروط:
1 -
3) الإسلامُ، والعقلُ، والتّمييزُ؛ فلا تصحّ الصّلاة من كافرٍ؛ لبطلان عَمَلِه، ولا مجنونٍ؛ لأنَّه لا نيَّة له، ولا من طفلٍ غير مميِّز؛ لمفهوم حديث:(مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ)[رواه أحمد وأبو داود]، ولأنَّ غير المميِّز لا نيَّة له.
4) الطهارةُ من الحدثِ مع القدرةِ عليها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةً بِغَيْر طُهُورٍ)[رواه مسلم].
5) دخولُ الوقتِ؛ لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء 78]. قال ابن عباس: «دُلُوكُهَا إِذَا فَاءَ الفَيْءُ» . وحديث جبريل حين أمَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بالصلوات الخمس في يومين، ثم قال:(مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ)[رواه أحمد والنسائي والترمذي].
- فوقت الظُّهر: من الزَّوال إلى أن يصير ظلُّ كلِّ شيءٍ مثلَه، سوى ظلِّ الزوال
(1)
.
(1)
أي: أقصرُ ما يبلغه ظلُّ الشاخص إذا زالت عليه الشمس؛ فإذا زالت عليه الشمس وبلغت الزيادة عليه قَدْر الشاخص؛ فقد انتهى وقت الظهر.
- ثمّ يلي وقتَ الظُّهر الوقتُ المختارُ للعصر حتّى يصير ظلُّ كلِّ شيء مثلَيْه، سوى ظلِّ الزَّوالِ، ثم هو وقت ضرورة إلى الغروب.
- ثم يليه وقتُ المغرب حتّى يغيبَ الشفقُ الأحمرُ.
- ثم يليه الوقتُ المختارُ للعِشاءِ إلى ثُلثِ الليلِ الأوّلِ، ثم هو وقتُ ضرورةٍ إلى طلوع الفجر.
- ثم يليه وقتُ الفجر إلى شروق الشمس.
* إدراكُ وقتِ الصَّلاةِ:
يُدرك الوقتُ بتكبيرة الإحرام؛ لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: (مَنْ أَدْرَكَ مِنَ العَصْرِ سَجْدَةً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، أَوْ مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا)[رواه مسلم]. والسجدة هنا: الركعة، والسجدة جزءٌ من الصّلاة؛ فدلّ على إدراكها بإدراك جزء منها.
ويحرمُ تأخير الصلاة عن وقت الجواز بلا عذر، ويجوز تأخيرُ فعلِها في الوقت مع العزم عليه؛ لأنّ جبريل عليه السلام صلّى بالنّبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني في آخر الوقت.
والصّلاةُ أوّلُ الوقتِ أفضلُ، وتحصل الفضيلة بالتأهُّب أوّل الوقت؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال:(كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالهَاجِرَةِ، وَالعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةً، وَالمِغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالعِشَاءَ أَحْيَاناً يُؤَخِّرُهَا، وَأَحْيَاناً يُعَجِّلُ؛ كَانَ إِذَا رَآهُمْ قَدْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ قَدْ أَبْطَأُوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ كَانُوا -أَوْ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ)[رواه البخاري ومسلم]؛ فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يؤدّي الصّلوات
في أوّل أوقاتها.
* قضاءُ الصَّلواتِ الفائتةِ:
يجبُ قضاءُ الصلاةِ الفائتةِ مرتّبةً فوراً ما لم يتضرَّر في بدنِه، أو معيشتِه؛ لما رُوي أنَّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم عامَ الأحزابِ صلَّى المغربَ فلمَّا فرغ قال:(هَلْ عَلِمَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنِّي صَلَّيْتُ العَصْرَ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ الله؛ مَا صَلَّيْتَهَا. فَأَمَرَ المُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى العَصْرَ ثُمَّ أَعَادَ المَغْرِبَ)[رواه أحمد، وضعّفه الذهبي]، ولحديث:(مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا)[رواه البخاري ومسلم].
ويسقط الترتيب بالنسيان؛ لحديث: (إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)[رواه ابن ماجه، والحاكم].
وبضيق الوقت؛ يُقَدِّم الحاضرة؛ لأنَّ فعلَها آكدُ.
ولا يصحُّ النَّفلُ المطلقُ قبل قضاء الصّلاة الفائتة؛ كما لا يصحُّ صومُ نفلٍ ممّن عليه قضاء رمضان، ولا يصلِّي سننها؛ لأنَّه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم يوم الخندق؛ إلّا إذا كانت الفوائت قليلة فلا بأس بقضاء سنّتها؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم لمَّا فَاتَهُ صَلاةُ الفَجْرِ صَلَّى سُنَّتَهَا قَبْلَهَا [رواه مسلم].
أمَّا سُنَّة الفجر فيقضيها ولو كثرت الفوائت؛ لتأكُّدها، وحث الشرع عليها.
6) سترُ العورةِ - مع القدرةِ - بشيءٍ لا يصفُ البشرةَ؛ لقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف 31]، وقوله صلى الله عليه وسلم:(لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلَّا بِخِمَارٍ)[رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه].
* حدودُ العورةِ:
عورةُ الرّجلِ البالغِ عشرَ سنين: ما بين السُّرَّة والرُّكْبةِ؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: (مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ عَوْرَةٌ)[رواه أحمد، والدارقطني].
وعورةُ ابنِ سبعٍ إلى عشرٍ: الفَرْجانِ؛ لقصوره عن ابن العشر، ولأنّه لا يمكن بلوغه.
والحرّةُ البالغةُ كلُّها عورةٌ في الصَّلاةِ إلّا وجهَها؛ لحديث: (المَرْأَةُ عَوْرَةٌ)[رواه الترمذي]. وقالت أمُّ سلمة: (يَا رَسُولَ الله! تُصَلِّي المَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ وَلَيْسَ عَلَيْهَا إِزَارٌ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَانَ سَابِغاً يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْها)[رواه أبو داود، والصّواب أنّه موقوف من قول أمّ سلمة].
ويُشترط في الرّجلِ البالغِ سترُ أحدِ عاتقيْه في صلاة الفرض بشيءٍ من اللِّباس؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لَا يُصَلِّي الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ)[رواه البخاري ومسلم].
* الصّلاةُ فِي الثّوبِ المغصوبِ وثوبِ الحريرِ:
لا تصحّ الصّلاةُ في الثّوب المغصوب وثوب الحرير، ومن صلّى في واحد منهما عالماً ذاكراً لم تصحّ صلاتُه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)[رواه البخاري ومسلم]. وإن كان ناسياً أو جاهلاً صحّت صلاتُه.
- فإن لم يجد إلّا ثوباً مغصوباً يستر به عورته في الصلاة؛ صلَّى عُرياناً؛ لأنَّ الثوب المغصوب يحرم استعماله بكلِّ حال.
- وإن لم يجد إلَّا ثوب حرير يستر به عورته في الصلاة؛ لبسه وصلَّى به؛ لأنَّه مأذون في لبسه في بعض الأحوال، ولا إعادة عليه.
* ما يحرمُ من اللِّباس:
يحرمُ على الذُّكور لا الإناث لُبْس المنسوجِ والمموّهِ بالذّهبِ أو الفضّةِ، ولُبس ما كلُّه أو غالبُه حرير؛ لحديث أبي موسى رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حُرِّمَ لِبَاسُ الحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي وَأُحِلَّ لإِنَاثِهِمْ)[رواه الترمذيُّ، والنّسائي].
ويُباح ما خالطه حريرُ، وأُلْحِم - نُسِج- بغيره، أو كان الحريرُ وغيرُه متساويَيْن في الظهور؛ لقول ابن عباس:(إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الثَّوْبِ المُصْمَتِ، أَمَّا العَلَمُ وسَدَا الثَّوْبِ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ)[رواه أبو داود].
7) اجتنابُ النَّجاسةِ لبَدَنِه وثوبِه وبقعتِه مع القدرة؛ لقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ} [المدثر 4]، وقوله صلى الله عليه وسلم:(تَنَزَّهُوا مِنَ البَوْلِ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ القَبْرِ مِنْهُ)[رواه الدارقطني]، وأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِصَبِّ ذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَوْلِ الأَعْرَابيِّ الَّذِي بَالَ في طَائِفَةِ المَسْجِدِ. [رواه البخاري ومسلم].
وإنْ صلّى في ثوبٍ طاهرٍ فمسَّ فراشاً، أو ثوباً نجساً، أو حائطاً نجساً -دون أن يستند إليه-، أو صلّى على مكانٍ طاهرٍ وكان جانِبُ المكان متنجِّساً، أو سقطتْ عليه نجاسةٌ فزالت أو أزالها بسرعة: صحّت صلاتُه؛ لأنّه ليس بحاملٍ للنّجاسة، ولا مُصَلٍّ عليها، ولحديث أبي سعيد رضي الله عنه: (بَيْنَما رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُما عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا
نِعَالَهُمْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَائِكُمْ نِعَالَكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ جِبْرِيلَ صلى الله عليه وسلم أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا. وَقَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى المَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى في نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا) [رواه أبو داود].
وتبطل الصّلاة إن عجز عن إزالتها في الحال، أو نَسِيَها ثمَّ عَلِم بها بعد الصّلاة؛ لأنّ اجتناب النجاسة شرط لصحّة الصلاة.
* المواضع المنهيّ عن الصّلاة فيها:
أ - الأرضُ المغصوبةُ: لحُرْمة لُبْثِه فيها.
ب- المقبرةُ، والحمّامُ-محلُّ الاستحمام-: لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً: (الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا المَقْبَرَةَ وَالحَمَّامَ)[رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه].
ج- المَجْزَرةُ، والمَزْبَلةُ، وقارعةُ الطّريقِ: لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم (نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: المَزْبَلَةُ، وَالمَجْزَرَةُ، وَالمَقْبَرَةُ، وَقَارِعَةُ الطَّرِيقِ، وَفِي الحَمَّامِ، وَفِي مَعَاطِنِ الإِبِلِ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ الله)[رواه الترمذي وابن ماجه، وضعّفه الترمذيُّ وغيرُه]، ولأنّها مظنّة النّجاسة؛ فأشبهت الحمّام والحشّ.
د - الحُشُّ (مكان قضاء الحاجة): لاحتمالِ النجاسة، ولأنّه لما منع الشرعُ من الكلام وذكر الله فيه كان منعُ الصلاة فيه أولى.
هـ- معاطنُ الإبلِ: لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أَنَّ رَجُلاً قَالَ:
يَا رَسُولَ الله! أَنُصَلِّى فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَنُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الإِبِلِ؟
قَالَ: لَا) [رواه مسلم].
و - سُطوحُ المواضعِ المنهيِّ عنها: لأنّها تتبعها في البيع ونحوه.
ولا تصحُّ صلاةُ الفريضة داخلَ الكعبةِ-والحِجْرُ منها-، ولا على ظهرِها؛ لأنّه يكونُ مستدبراً لبعضها.
وتصحُّ صلاةُ النَّذر فيها وعليها، وكذا صلاةُ النَّفل؛ بل تسنُّ؛ لأنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي البَيْتِ رَكْعَتَينِ [رواه البخاري ومسلم]، وأُلحق النَّذرُ بالنَّفل.
8) استقبالُ القبلةِ مع القدرةِ: لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة 144]، وحديث:(إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ)[رواه البخاري ومسلم].
فإنْ لم يجد المُصلّي من يخبره عن القِبلة بيقين صلّى بالاجتهاد؛ فإنْ أخطأَ فلا إعادةَ عليه؛ لما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ القِبْلَةَ؛ فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ حِيَالَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ فَنَزَلَ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة 115])[رواه التّرمذيّ].
وإنْ أمكنه معاينةُ الكعبةِ؛ فيجب عليه أن يستقبل في صلاته الكعبةَ بعينِها.
ويكفي البعيدَ إصابةُ الجهةِ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ قِبْلَةٌ)[رواه الترمذي ابن ماجه].
9) النيّةُ: ولا تسقطُ بحالٍ؛ لحديث عمر رضي الله عنه: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)[رواه البخاري ومسلم].
ومحلُّها: القلب.
وحقيقتُها: العزمُ على فعل الشيء.
وشرطُها: الإسلامُ، والعقلُ، والتّمييزُ؛ كسائر العبادات.
وزمنُها: أوّلُ العباداتِ أو قبلَها بيسير، والأفضلُ: قرنُها بالتّكبير؛ خروجاً من خلاف من شَرَط ذلك.
* تعيينُ الصَّلاةِ:
يُشترطُ مع نيّة الصّلاةِ تعيينُ ما يصلِّيه من ظهرٍ، أو عصرٍ، أو جمعةٍ، أو وترٍ، أو راتبةٍ؛ لتتميّز عن غيرها، وإلّا أجزأته نيّةُ الصّلاةِ إذا كانت نافلةً مطلقةً.
ولا يُشترطُ تعيينُ كونِ الصَّلاةِ حاضرةً، أو قضاءً، أو فرضاً؛ لأنّه إذا نوى ظهراً ونحوها عُلم أنّها فرضٌ.
* نيّةُ الإمامةِ، والائتمامِ، والمفارقةِ:
تُشترط نيّةُ الإمامةِ للإمامِ، ونيّةُ الائتمامِ للمأمومِ؛ لأنّ الجماعة تتعلَّق بها أحكامٌ خاصّة، وإنّما يتميّزُ المأمومُ من الإمامِ بالنيّة؛ فكانت شرطاً.
وتصحُّ نيّةُ المفارقةِ لكلٍّ من الإمامِ والمأمومِ لعُذر يبيحُ تركَ الجماعةِ-كمرضٍ أو تطويلٍ-؛ لقصّة معاذ رضي الله عنه حين أطَالَ بالنّاسِ في صَلاة العِشاءِ؛ فانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلّمَ، ثُمّ صَلَّى وَحْدَهُ وانْصَرَفَ. [رواه البخاري ومسلم].
ويقرأُ المأمومُ لنفسِه إذا فارق إمامَه في حال القيام قبل قراءة الفاتحة، أو يُكْملُ على قراءة إمامِه، وبعد قراءة الفاتحة كلِّها: للمأموم الركوع في الحال؛ لأنّ قراءةَ
الإمامِ قراءةٌ للمأمومِ.
* تغيير النيّة:
من أحرم بفرضٍ كالظُّهر، ثمّ قلبه نفْلاً كراتِبَتِها مثلاً: صحّ إن اتَّسع الوقتُ للنّفل والفرض، وكان لغرض صحيح؛ مثل: أنْ يُحرِم بالفَرْض منفرداً، فتقامُ الجماعة؛ فيجعلُ صلاتَه نَفْلاً، ويُصلّي الفَرْض مع الجماعة. أمَّا إنْ كان لغرض غير صحيح؛ فيُكْره له القلب
وأمّا إذا لم يتّسع الوقتُ للفَرْضِ والنّفلِ وقَلَبَ النيّة: فإنّه لا يصحّ النّفلُ، ويبطل الفرضُ؛ لأنّه أفسد نيّته.
أركان الصلاة
أولاً: تعريف أركان الصلاة:
المراد بالرُّكن: جزء الشيء الذي لا يتمُّ إلَّا به.
فأركان الصلاة: هي أجزاء الصلاة التي لا تتحقَّق الصلاة إلَّا بها، ولا توجد إلَّا بها؛ بحيث إذا فُقد منها جزءٌ فلا يقال لها صلاة. ولذا لا يسقط رُكنٌ من هذه الأركان عمداً ولا سهواً ولا جهلاً.
ثانياً: بيان أركان الصلاة:
أركانُ الصلاة أربعة عشر رُكناً وهي:
الرُّكن الأوَّل: القيامُ في صلاة الفَرْض للقادر عليه مُنْتَصِباً؛ لقوله تعالى:
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة 238]، وقوله صلى الله عليه وسلم لعِمْران بن حُصَيْن:(صَلِّ قَائِماً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِداً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ)[رواه البخاري].
- فإن وقف مُنْحَنِياً أو مائلاً لغير عُذْرٍ بحيث لا يُسمَّى قائماً لم تصحَّ صلاته؛ لأنَّه لم يأت بالقيام المفروض.
الرُّكن الثاني: تكبيرةُ الإحرام؛ وهي أن يقول: (الله أكبر)، ولا يُجزِئه غيرها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء في صلاته:(إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ)[رواه البخاري ومسلم].
- ولا بدّ أن يقولها قائماً إذا كان قادراً على القيام، فإنْ ابتدأها أو أتمَّها غير قائم
لم تصحّ إذا كان في صلاة الفَرْض، وتصحّ إذا كانت في صلاة النّفْل؛ لما تقدَّم من أنَّ القيام في الفَرْض رُكن.
- ويُبيّنُ التكبيرَ، ولا يَمُدُّ في غير موضع المَدِّ، فإن فعل بحيث تَغيَّر المعنى؛ مثل: أن يَمُدَّ الهمزة الأُولى فيقول: (آلله) فيجعلها استفهاماً، أو يَمُدَّ (أكبر) فيزيد ألفاً فتكون:(أكبار)، ونحو ذلك، لم يجز، ولم تنعقد صلاته؛ لمخالفة الأحاديث، ولأنَّ المعنى قد تغيَّر بذلك.
- والجَهْرُ بتكبيرة الإحرام بِقَدْرِ ما يُسْمِعُ نَفْسَهُ، فَرْضٌ، وكذا الجَهْرُ بكلِّ رُكن من أركان الصلاة وواجب من واجباتها، سواءً كان إماماً أو غيره، إلَّا أن يكون به عارض من طَرَشٍ أو ما يمنعه السماع؛ فيأتي به بحيث لو كان سميعاً
أو لا عارض به، سَمِعَه؛ لأنَّه ذِكْرٌ محلُّه اللِّسان، ولا يكون كلاماً بدون الصوت، والصوت ما يُسمَع، وأقرب السامعين إليه نفسُه، فمتى لم يَسمَعْه لم يُعلَم أنَّه أتى بالقول، ولا فرق بين الرَّجل والمرأة في ذلك.
الرُّكن الثالث: قراءةُ الفاتحة؛ فيلزمه أن يقرأ الفاتحة قراءةً صحيحةً مرتَّبةً غير مَلْحونٍ فيها لَحْناً يُغيِّر المعنى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ)[رواه البخاري ومسلم].
- فإنْ تَرَك ترتيبَها، أو شَدَّةً منها، أو لَحَنَ لَحْناً يُغيِّر المعنى؛ مثل: أنْ يَكْسِرَ كاف (إيَّاك)، أو يَضُمَّ تاء (أَنْعَمْتَ)، لم تصحّ قراءته، إلَّا أنْ يكون عاجزاً لا يستطيع أن يأتي بغير هذا.
- فإن لم يعرف إلَّا آيةً كَرَّرَها سبع مرَّات بقَدْر الفاتحة؛ لأنَّها بدل عنها، فإن
لم يُحْسِن شيئاً من القرآن، ولا أمكنه التعلُّم قبل خروج الوقت لَزِمَه أن يقول: «سبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إلهَ إلَّا الله، واللهُ أكبر، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله؛ لحديث عبد الله بن أبي أَوْفَى قال:(جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ شَيْئًا مِنَ القُرْآنِ فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فَقَالَ: قُلْ: سُبْحَانَ الله وَالحَمْدُ لله وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله)[رواه أبو داود والنسائي].
الرُّكن الرابع: الرُّكوع؛ لقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج 77]، ولقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء في صلاته:(ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً)[رواه البخاري ومسلم].
- وَأقلُّه: أن ينْحَنِيَ بحيث يمكنه مَسُّ رُكبَتَيْه.
الرُّكن الخامس: الرَّفْع من الرُّكوع؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: (ثُمَّ ارْفَعْ)[رواه البخاري ومسلم].
- ولا بدَّ أن يقْصِدَ الرَّفع من الرُّكوع، فلو قَصَدَ غيرَه؛ كما لو رفع فَزَعاً من شيءٍ مثلاً، لم يُجْزِئه؛ فعليه أن يرجع إلى الرُّكوع، ثمَّ يرفع بقَصْدِ الرَّفع من الرُّكوع.
الرُّكن السادس: الاعتدال قائماً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: (ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِماً)، ولا تَبْطُلُ الصلاة إن طال هذا الاعتدال؛ لقول أنس رضي الله عنه:(وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَامَ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَوْهَمَ)[رواه مسلم].
الرُّكن السابع: السُّجود؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج 77]، وقوله صلى الله عليه وسلم:(ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً).
- وأَقَلُّه: وضع جُزءٍ من كلِّ عُضْوٍ من الأعْظُمِ المذكورة على الأرض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: الجَبْهَةِ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ-، وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ القَدَمَيْنِ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ له].
- ومن عَجَزَ عن السجود على الجبهة لعارضٍ من مَرَض أو غيره، سقط عنه السجود على غيرها من أعضاء السجود؛ لأنَّها الأصل وغيرُها تَبَعٌ لها، فإذا سقط الأصل سقط التَّبَعُ؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِنَّ اليَدَيْنَ يَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الوَجْهُ، فَإِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَهُ فَلْيَرْفَعْهُمُا)[رواه أحمد وأبو داود والنسائي]. وعليه أن يُومِئَ برأسه قَدْرَ ما يمكنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بَأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[رواه البخاري ومسلم].
الرُّكن الثامن: الرَّفع من السجود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: (ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ)[رواه البخاري ومسلم].
الرُّكن التاسع: الجُلوسُ بين السجدتين؛ للحديث السابق: (ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً).
الرُّكن العاشر: الطُّمَأْنينَة؛ وهي سُكون الأعضاء وإنْ قَلَّ بقَدْر الإتيان بالواجب في كلِّ رُكن فِعْلِيٍّ؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: (ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ
رَاكِعاً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِماً، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً)، ولمَّا أخَلَّ بها قال له:(ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ).
الرُّكن الحادي عشر: التشهُّدُ الأخير، والصَّلاةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعدَه:
أمَّا رُكْنيَّة التشهُّد الأخير: فلحديث ابن مسعود رضي الله عنه: (كُنَّا نَقُولُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ: السَّلَامُ عَلَى الله، السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
لَا تَقُولُوا هَكَذَا، فَإِنَّ اللهَ عز وجل هُوَ السَّلَامُ، وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لله
…
) [رواه النسائي والدارقطني]. وهذا يدلُّ على أنَّه فُرِضَ بعد أنْ لم يكن مَفْروضاً.
وصيغة التشهُّد: ما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: عَلَّمَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ: (التَّحِيَّاتُ لِلّاهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه) وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا، فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا: السَّلَامُ -يعني- عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [رواه البخاري ومسلم]. وهناك صيغ أخرى.
وأمَّا رُكنيَّة الصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فلقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب 56]، ولحديث فَضَالَة بن عُبَيد قال: (سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدِ اللهَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: عَجِلَ هَذَا. ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحَمِيدِ رَبِّه جَلَّ وَعَزَّ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا
شَاءَ) [رواه أبوداود والنسائي والترمذي].
- والقَدْر المجزئ من الصلاة المفروضة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في التشهُّد أن يقول: «اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحمَّد» .
وأمَّا صيغة الكمال: فما جاء في حديث كَعْب بن عُجْرة رضي الله عنه وفيه: (
…
فَقُلْنَا يَا رَسُولَ الله كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ فَإِنَّ الله قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ؟ قَالَ: (قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)[رواه البخاري ومسلم].
الرُّكن الثاني عشر: الجُلوسُ للتشهُّد والتَّسليم: لأنَّه صلى الله عليه وسلم فَعَلَه وداوم عليه كما جاء في صفة صلاته، وقد قال:(وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)[رواه البخاري]. فلو تشهَّد غير جالسٍ، أو سَلَّم الأُولَى جالِساً والثانيةَ غير جالِسٍ لم تصحَّ صلاته.
الرُّكن الثالث عشر: التَّسليمُ: وهو أنْ يقول: السلامُ عليكم ورحمةُ الله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ)[رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه]. ولحديث ابن مسعود رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله)[رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
- ويكفي في صلاة النَّافِلَة تسليمةٌ واحدةٌ؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْصِلُ بَيْنَ الوِتْرِ وَالشَّفْعِ بِتَسْلِيمَةٍ وَيُسْمِعُنَاهَا)[رواه أحمد والطبراني وابن حبان].
- وكذا في صلاة الجَنَازة؛ يكفي فيها تسليمةٌ واحدةٌ عن يمينه؛ لحديث
أبي هريرة رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ، فَكَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعاً، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً)[رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي].
الرُّكن الرابع عشر: ترتيبٌ الأركان على هذا النحو الذي ذُكر؛ فلو سجد مثلاً قبل ركوعه عمداً بطلت صلاته، أمَّا إذا فعل ذلك سهواً لزمه الرجوع ليركع ثمَّ يسجد؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّاها مرتَّبة وقال:(وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)، وعَلَّمَها المُسيءَ في صلاته هكذا مرتَّبة.
واجباتُ الصلاة
أولاً: تعريفُ واجبات الصلاة:
الواجب: هو ما تبطل الصلاة بتَرْكِه عَمْداً مع العِلْمِ، ولا تبطل بتَرْكِه سَهْواً أو جهلاً، فإنْ تَرَكَه سَهْواً وجب عليه أنْ يسجدَ للسَّهْو. فالوَاجِبُ في الصلاة أقلُّ من الفَرْض.
ثانياً: بيانُ واجبات الصلاة:
واجباتُ الصلاة ثمانية:
الأوّل: التَّكبير لغير الإحرام بالصلاة: وهي تكبيرات الانتقال بين هيئات الصلاة من ركوع وسجود وجلوس وقيام
…
ودليله: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا، وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الجُلُوسِ)[رواه البخاري ومسلم].
وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا
…
) [رواه البخاري ومسلم]. وهذا أمرٌ منه صلى الله عليه وسلم بالتكبير، ومعلوم أنَّ الأمرَ للوجوب.
- أمَّا المسبوق: إذا كَبَّر تكبيرة الإحرام ولَحِقَ بالإمام راكعاً فتكبيرتُه هذه تُجْزِئُه عن تكبيرة الانتقال إلى الركوع؛ لما ثبت عن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنَّهما قالا: (إِذَا أَدْرَكَ الرَّجُلُ القَوْمَ رُكُوعاً فَإِنَّهُ يُجْزِيهِ تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ)[رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة]، ولم يُعرَف لهما مخالف في ذلك من الصحابة.
- فَإِنْ كَبَّرَ للركوع بعد تكبيرة الإحرام فقد أحسن.
الثاني: قول (سمع الله لمن حمده) للإمام والمنفرد؛ لحديث أبي هريرة السابق (ثُمَّ يَقُولُ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ).
- أمَّا المأموم فلا يجب عليه ذلك، وإنَّما يجب عليه قول:«ربَّنا ولك الحمد» كما سيأتي بعده.
الثالث: قول (ربَّنا ولك الحمد) للجميع؛ أي الإمام والمأموم والمنفرد؛ لحديث أبي موسى الأشْعَريِّ رضي الله عنه؛ وفيه (وَإِذَا قَالَ - يعني الإمام- سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ)[رواه مسلم].
الرابع والخامس: قول (سبحان ربِّيَ العظيم) مرَّة في الرُّكوع، و (سبحان ربِّيَ الأعلَى) مرَّة في السجود؛ لحديث حُذَيْفَةَ رضي الله عنه:(أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ يَقُولُ في رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، وَفِى سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى)[رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
السادس: قول (ربِّ اغفر لي) بين السجدتين؛ لحديث حذيفة رضي الله عنه؛ وفيه: (وَكَانَ يَقْعُدُ فِيمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ نَحْوًا مِنْ سُجُودِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي)[رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه].
السابع والثامن: التشهُّد الأوَّل والجلوس له؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا قَعَدْتُمْ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَقُولُوا: التَّحِيَّاتُ لله وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ)[رواه أحمد والنسائي].
وحديث رِفاعَة بن رَافِع رضي الله عنه؛ وفيه: (فَإِذَا جَلَسْتَ في وَسَطِ الصَّلَاةِ فَاطْمَئِنَّ، وَافْتَرِشْ فَخِذَكَ اليُسْرَى، ثُمَّ تَشَهَّدْ)[رواه أبو داود والبيهقي]. ولمّا نسي النبيُّ صلى الله عليه وسلم التشهُّد الأوَّل في صلاة الظُّهر سجد له سجود السهو، كما في حديث عبد الله بن بُحَيْنَة رضي الله عنه:(أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَامَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ، فَلَمَّا أَتَمَّ صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، فَكَبَّرَ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنْ الجُلُوسِ)[رواه البخاري ومسلم].
- ويسقطُ التشهُّد الأوَّل عن المأموم إذا قام إمامُه إلى الركعة الثالثة سَهْواً؛ لوجوب متابعته لإمامه.
سُننُ الصلاة
أولاً: تعريف سُنن الصلاة:
سُنن الصَّلاة هي: أقوالٌ وأفعالٌ لا تَبطلُ الصلاةُ بترك شيءٍ منها عمداً
أو سهواً، ويُباح للسَّهْو فيها سجود السَّهْو.
ثانياً: أقسامُ سُنن الصلاة:
تنقسم سنن الصلاة إلى سنن قولية، وسنن فعلية.
1) فالسُّنن القوليَّة هي:
أ - دعاء الاستفتاح: وهو الدعاء الذي يقال بعد تكبيرة الإحرام وقبل قراءة الفاتحة. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أكثر من صيغة، من ذلك ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت:(كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ -أي جَلَالُكَ وعَظَمَتُك- وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ)[رواه أبو داود والترمذي].
ب- الاستعاذة قبل البسملة والقراءة: لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، ولحديث أبي سعيد الخُدْرِيِّ رضي الله عنه: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ وَاسْتَفْتَحَ صَلَاتَهُ وَكَبَّرَ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، تَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ، ثُمَّ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ثَلَاثًا،
ثُمَّ يَقُولُ: أَعُوذُ بِالله السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ) [رواه أحمد وأبو داود].
ج- البَسْمَلَة: لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا قَرَأْتُم الحَمْدُ لله فَاقْرَؤُوا بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِنَّهَا أُمُّ القُرْآنِ، وَأُمُّ الكِتَابِ، وَالسَّبْعُ المَثَانِي، وَبِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِحْدَاهَا)[رواه الدارقطني والبيهقي].
والسُّنة أن يقولها سرّاً لا جهراً لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَداً مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)[رواه مسلم]، وفي رواية:(لَا يَجْهَرُونَ ب «بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»)[رواه أحمد].
د - التأمين: وهو قول (آمين) بعد قوله (ولا الضالين)؛ لما جاء في حديث وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا قَرَأَ: {وَلَا الضَّالِّينَ}؛ قال: «آمِين» وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ)[رواه أبو داود والترمذي].
هـ- قراءة سورة بعد الفاتحة؛ لما روى أبو قتادة قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ)[رواه البخاري ومسلم].
و - الجَهْرُ بالقراءة في الصلاة الجَهْريَّة؛ كصلاة الصُّبْح والجُمُعَة، والركعتين
الأُولَيَيْن من المغرب والعِشاء، والعِيدَيْن؛ وهذا بإجماع السَّلَف والخَلَف، لما ثبت من فِعْل النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
أمَّا المأمومُ فيُكرَه له الجَهْر في القراءة الجَهريَّة؛ لأنَّه مأمورٌ بالإنصات لقراءة الإمام، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه:(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةَ فَقَالَ: هَلْ قَرَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعِيَ آنِفاً؟ فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ يَا رَسُولَ الله. فَقَالَ: مَا لِي أُنَازِعُ القُرْآنَ؟ قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ القِرَاءَةِ مَعَهُ، فِيمَا جَهَرَ فِيهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ)[رواه أحمد وأبو داود والترمذي].
أمَّا المنفرد فيُخَيَّرُ بين الجَهْرِ والإسْرَار في القراءة؛ لأنَّه غير مأمورٌ بالإنصات لغيره.
ز - الدُّعاء بعد التحميد: (ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد)؛ لما روى عبد الله بن أَبي أَوْفَى رضي الله عنه قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ ظَهْرَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الحْمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيءٍ بَعْدُ)[رواه مسلم].
أمَّا المأموم فيُستحبُّ له الاقتصار على قوله (ربنا ولك الحمد) لقوله صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ)[رواه مسلم]؛ إذ لم يأمر المأموم بالزيادة على ذلك الدعاء.
ح- الزيادة في تسبيح الركوع والسجود وقول (رب اغفر لي) أكثر من مرة؛ لما ثبت من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا
رَكَعَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظِيمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) [رواه أبو داود والترمذي].
ولما روى حذيفة رضي الله عنه أيضاً أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: (رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي)[رواه النسائي وابن ماجه].
ط- الصلاة على آل النبيِّ صلى الله عليه وسلم والبَرَكة عليه وعليهم في التشهُّد الأخير؛ لحديث كَعْب بن عُجْرة رضي الله عنه قال: (خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)[رواه البخاري ومسلم].
ي- الدعاء بعد التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله؛ لما جاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً: (إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الأَخِيرِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِالله مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمْنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمْنْ شَرِّ المَسِيحِ الدَّجَّالِ)[رواه مسلم].
2) وأمَّا السُّنن الفِعْليَّة، وتُسمَّى الهيئات، فهي:
أ - رفع اليدين مع التكبير؛ في تكبيرة الإحرام، وبعض تكبيرات الانتقال؛ لما جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يُكَبِّرُ
لِلرُّكُوعِ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، وَيَقُولُ: سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ) [رواه البخاري ومسلم].
ب - وضع اليمين على الشمال تحت السُّرَّة؛ لما جاء في حديث وَائِل بن حُجْر (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ في الصَّلَاةِ كَبَّرَ، ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى)[رواه مسلم]، وعن علي رضي الله عنه قال:(مِنَ السُّنَّةِ في الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ وَضْعُ الأَيْدِي عَلَى الأَيْدِي تَحْتَ السُّرَّةِ)[رواه أحمد وأبو داود، وضعفه أبو داود والبيهقي والنووي وابن الملقن وابن حجر].
والرواية الأخرى في المذهب أنَّه يضعهما فوق السُّرَّة؛ لما صحَّ من حديث وائل ابن حُجْر (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ، ثُمَّ وَضَعَهُمَا عَلَى صَدْرِهِ)[رواه ابن خزيمة والبيهقي، واللفظ له].
ج - النظر إلى موضع السجود في الصلاة؛ لما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كَانَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَزَلَتْ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون 2]، فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ)[رواه الحاكم].
د - التَّفْرقَة بين القَدَميْن أثناء القيام للصلاة؛ لما روى ابن مسعود: (أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً صَفَّ بَيْنَ قَدَمَيْهِ -يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ- فَقَالَ: أَخْطَأَ السُّنَّة، وَلَوْ رَاوَحَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ)[رواه النسائي]. وراوح: أي اعتمد على هذه مرَّة، وعلى الأخرى مرَّة.
هـ- القبض على الركبتين مع التفريج بين الأصابع أثناء الركوع؛ لحديث أبي حُمَيْد رضي الله عنه في صفة رُكوع النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (ثُمَّ رَكَعَ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ
كَأَنَّهُ قَابِضٌ عَلَيْهِمَا، وَوَتَرَ يَدِيْهِ فَتَجَافَى عَنْ جَنْبَيْهِ) [رواه أحمد وأبو داود].
و - مدُّ الظَّهْر في الركوع مستوياً مع الرأس؛ لما جاء في حديث أبي حُمَيْد رضي الله عنه في صفة ركوع النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ)[رواه البخاري]، ومعنى هَصَرَ ظهره: أي ثناه في استواءٍ من غير تَقْويسٍ، وفي حديث عائشة رضي الله عنها:(وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأَسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ)[رواه مسلم].
ز - البدء بوضع الركبتين أثناء النزول إلى السجود قبل اليدين، ثمَّ الجبهة، ثمَّ الأنف؛ لما جاء في حديث وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال:(رَأَيْتُ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ)[رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي].
ح - تمكين أعضاء السجود من الأرض؛ لما ثبت في حديث أبي حُمَيْد أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: (كَانَ إِذَا سَجَدَ أَمْكَنَ أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ مِنَ الأَرْضِ)[رواه أبو داود والترمذي].
ومعنى التمكين: أن يتحامل على جبهته وأنفه بثقل رأسه، بحيث لو سجد على قطن أو حشيش انكبس وظهر أثره.
ط - ومن السنَّة أن يباشر المصلِّي بأعضاء السجود محلَّ سجوده؛ بأن لا يكون عليها حائل متَّصل به من قماش وجلد ونحوهما، ولا يجب عليه ذلك؛ لما روى أنس رضي الله عنه قال:(كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي شِدَّةِ الحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنَ الأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ)[رواه البخاري ومسلم].
أمَّا مباشرة الركبتين لموضع السجود فمكروه إجماعاً؛ لأنَّ الركبتين محلٌّ لما أُمِرَ ستره من العورة في الصلاة؛ فإذا باشر المصلِّي فيهما موضع السجود لزم منه انكشاف شيء من العورة.
ي- مجافاة العَضُدَيْن عن الجَنْبَيْن أثناء السجود؛ لما روى عبدُ الله بن بُحَيْنَة قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ)[رواه البخاري ومسلم].
ك- مجافاة الفخذين عن البطن، والفخذين عن الساقين؛ لحديث أبي حُمَيْد رضي الله عنه قال:(كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ فَرَّجَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ غَيْرَ حَامِلٍ بَطْنَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَخِذَيْهِ)[رواه أبوداود، وهو ضعيف بهذا السياق]. وعن أنس رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ)[رواه البخاري ومسلم].
ل- التفريق بين الركبتين في السجود؛ لحديث أبي حُمَيد رضي الله عنه قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ فَرَّجَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ)[رواه أبو داود، وهو ضعيف].
م- نَصْبُ القدمين أثناء السجود وإقامتهما مع جعل باطن الأصابع على الأرض مُفَرَّقة؛ لحديث أبي حميد رضي الله عنه قال: (فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضَهُمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ القِبْلَةَ)[رواه البخاري]، وفي رواية:(ثُمَّ جَافَى بَيْنَ عَضُدَيْهِ عَنْ إِبْطَيْهِ وَفَتَحَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ)[رواه الترمذي].
ن - وضع اليدين في السجود حذو المَنْكِبَيْن مبسوطة مضمومة الأصابع تّجاه
القَبْلة؛ لحديث أبي حُمَيد رضي الله عنه قال: (ثُمَّ سَجَدَ فَأَمْكَنَ أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ وَنَحَّى يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ)[رواه أبو داود والترمذي]، وفي حديث البراء رضي الله عنه قال:(فَبَسَطَ كَفَّيْهِ)[رواه أبو داود والنسائي]، وعن وائل بن حُجْر رضي الله عنه:(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَجَدَ ضَمَّ أَصَابِعَهُ)[رواه ابن خزيمة والحاكم]، وعن البراء رضي الله عنه قال:(وَإِذَا سَجَدَ وَجَّهَ أَصَابِعَهُ قِبَلَ القِبْلَةِ)[رواه البيهقي].
س - رفع اليدين أوَّلاً عند القيام إلى الركعة، مع القيام على صدور القدمين والاعتماد على الركبتين؛ لحديث وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال:(رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ)[رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي].
ع - الافتراش في الجلوس بين السجدتين وفي التشهد الأول:
ومعنى الافتراش: أن يثني رِجْلَه اليُسرى فيبسطها ويجلس عليها، وينصب رِجْلَه اليُمنى ويجعل بطون أصابعه على الأرض وأطراف أصابعها إلى القِبْلَة، وقد ورد بيان ذلك في حديث أبي حُمَيْد رضي الله عنه قال:(فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ اليُسْرَى وَنَصَبَ اليُمْنَى)[رواه البخاري].
ف - التَّوَرُّك في التشهد الثاني:
وصفة التَّوَرُّك أن ينصب رِجْلَه اليُمنى، ويجعل باطن رِجْلِه اليُسرى تحت فَخِذِه اليُمنى، ويجعل أليته (مقعدته) على الأرض؛ وهذه الصفة وردت في حديث أبي حُمَيد رضي الله عنه قال: (وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ، قَدَّمَ رِجْلَهُ اليُسْرَى
وَنَصَبَ الأُخْرَى وَجَلَسَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ) [رواه البخاري].
ص - وضع اليدين على الفخذين مبسوطتين مضمومتي الأصابع بين السجدتين وفي التشهُّد، إلا أنه في التشهد يقبض الخنصر والبنصر من يده اليمنى، ويحلق الإبهام مع الوسطى، ويشير بالسبابة عند ذكر الله؛ لما ثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما:(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَرَفَعَ إِصْبَعَهُ اليُمْنَى الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ فَدَعَا بِهَا، وَيَدُهُ اليُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ اليُسْرَى بَاسِطَهَا عَلَيْهَا)[رواه مسلم].
ق - الالتفات يميناً وشمالاً عند التسليم من الصلاة مع نيَّته به الخروج من الصلاة؛ لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كُنْتُ أَرَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى أَرَى بَيَاضَ خَدِّهِ)[رواه مسلم].
ر- الالتفات عن اليسار أكثر من اليمين؛ لحديث عمَّار رضي الله عنه قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الأَيْمَنِ، وَإِذَا سَلَّمَ عَنْ شِمَالِهِ يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الأَيْمَنِ وَالأَيْسَرِ)[رواه الدارقطني].
فصل فيما يكره في الصلاة
أوَّلاً: تعريفُ المكروه:
المكروه: هو ما يُثاب العبد على تَرْكِه امتثالاً، ولا يأثم على فِعْلِه. وفي الصلاة أعمال يُكره للمصلِّي فعلها؛ لأنَّها تُنقص من الخشوع، والإقبال على الصلاة.
ثانياً: مكروهاتُ الصلاة:
يُكْرَه للمصلِّي في الصلاة ما يلي:
1) الاقتصار في القراءة على الفاتحة؛ لأنَّه خلاف سُنَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصلاة؛ إذ كان عليه الصلاة والسلام يقرأ بعد الفاتحة ما تيسَّر له من القرآن في صلاة الفجر، والركعتين الأُولَيَيْن من الظُّهر والعَصْر والمَغْرِب والعَشاء.
2) تكرار الفاتحة في الركعة نفسها؛ لأنَّه لم يُنقَل عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه كرَّر قراءتها في ركعة واحدة؛ فكان مخالفة ذلك أمراً مكروهاً؛ وخروجاً من خلاف العلماء في أنَّ من كرَّر رُكناً متعمِّداً هل تبطل صلاته؟
3) الالتفات في الصلاة لغير حاجة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (سَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الاِلْتِفَاتِ في الصَّلَاةِ فَقَالَ: هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ)[رواه البخاري].
فإن كان التفاته لحاجة فلا يُكرَه؛ لما جاء في حديث سَهْل بن الحنظلية رضي الله عنه قال: (ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ -يَعْنِى صَلَاةَ الصُّبْحِ- فَجَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ- قال: أبوداود: وَكَانَ أَرْسَلَ فَارِسًا إِلَى الشِّعْبِ مِنَ اللَّيْلِ يَحْرُسُ)[رواه أبوداود].
4) رَفْعُ البصر إلى السماء أثناء الصلاة؛ لحديث جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ في الصَّلَاةِ أَوْ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ)[رواه مسلم].
5) تغميض العينين أثناء الصلاة؛ لما فيه من التشبه باليهود في صلاتهم، ولأنه مظنة جلب النوم، أما إن كان تغميض العينين لحاجةٍ؛ كمنع نفسه من النظر إلى محرَّم أو ما يتسبب في تشويش الصلاة عليه، فلا يكره.
6) أن يحمل ما يشغله عن الصلاة؛ لأنَّ ذلك يُذهِبُ خشوعه، والله تعالى يقول:{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون 2]. إلَّا أن يكون هناك حاجة لحمله؛ فلا يُكره؛ لحديث أبي قتادة رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ؛ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا)[رواه البخاري ومسلم].
7) أن يفترش ذراعيه أثناء السجود؛ والافتراش: أن يبسط المصلِّي مِرْفَقَيْه فيجعلهما ملاصقين للأرض. وقد ثبت النهي عن ذلك في حديث أنس رضي الله
عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ)[رواه البخاري ومسلم].
8) العبث والحركة في أثناء الصلاة؛ لأنَّ ذلك ينافي الخشوع المأمور به في الصلاة.
9) وضع يديه على خاصرته أثناء الصلاة؛ لما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: (نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِراً)[رواه البخاري ومسلم].
10) التَّمطِّي والتَّمغُّط أثناء الصلاة؛ لأنَّه يُخرِج المصلِّي عن هيئة الخشوع في الصلاة، ويُوحِي بالكسل، وهو من العبث الذي يجب تنزيه الصلاة عنه.
11) التثاؤب في الصلاة؛ لما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (التَّثَاؤُبُ في الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ)[رواه الترمذي].
12) أن يصلّي وأمامه ما يشغله أو يلهيه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ؛ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي)[رواه البخاري ومسلم]. والأنبجانيَّة: كساء لا عَلَم فيه.
13) أن يصلّي إلى صورة منصوبة، أو تمثال؛ لحديث عائشة رضي الله عنها:(أَنَّهُ كَانَ لَهَا ثَوْبٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ مَمْدُودٌ إِلَى سَهْوَةٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَخِّرِيهِ عَنِّي)[رواه البخاري ومسلم واللفظ له]، وفي رواية: (فَإِنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ فِي
صَلَاتِي) [رواه البخاري]؛ ولما فيه من التَّشبُّه بعُبَّادِ الأوثان.
والسهْوَة: شبيه بالرَّفِّ أو الطَّاق يوضع فيه الشيء.
14) أن يصلّي في مقابل وجه آدمي؛ لأنَّ ذلك ممَّا يشغل المصلّي ويلهيه عن صلاته.
15) أن يصلّي عند من يتحدَّث، أو عند نائم؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:(نُهِيتُ أَنْ أَصَلِّي خَلْفَ المُتَحَدِّثِينَ وَالنِّيَامِ)[رواه الطبراني].
16) أن يصلّي وأمامَه نارٌ؛ لما فيه من التَّشبُّه بالمجوس في عبادتهم النار.
17) مسُّ الحَصَى أو تسوية التراب أثناء الصلاة بلا عذر؛ لحديث مُعَيْقيبٍ قال: (ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المَسْحَ في المَسْجِدِ -يَعْنِي الحَصَى- قَالَ: إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلاً فَوَاحِدَةً)[رواه البخاري ومسلم].
18) استعمال مروحة يدويَّة ونحوها أثناء صلاته بلا حاجة؛ لأنَّ هذا من العبث، وهو يشتمل على حركة دائمة تشغل الإنسان عن صلاته.
19) فرقعة أصابعه أو تشبيكها أثناء الصلاة؛ أمَّا كراهة الفرقعة فلأنَّها من العبث في الصلاة، ولما يُحدِثه من تشويش على من حَوْلَه من المصلِّين؛ وعن شعبة مولى ابن عباس قال:(صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَفَقَعْتُ أَصَابِعِي، فَلَمَّا قَضَيْتُ الصَّلَاةَ قَالَ: لَا أُمَّ لَكَ! تَفْقَعُ أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ في الصَّلَاةِ؟)[رواه ابن أبي شيبة].
أمَّا التشبيك بين الأصابع فيُكرَه في الصلاة، لما ورد في حديث كعب بن عُجْرة
رضي الله عنه أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِداً إِلَى المَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ يَدَيْهِ؛ فَإِنَّهُ في صَلَاةٍ)[رواه أبو داود والترمذي]، فإذا كان يُنهَى عن التشبيك عند قَصْد المسجد، ففي داخل الصلاة أَوْلَى بالنهي.
20) مسُّ لحيته أثناء الصلاة؛ لأنَّه من العبث، وعدم الخشوع في الصلاة.
21) كفُّ ثوبه أثناء الصلاة؛ ومعنى كفُّ الثوب: أي جَمْعُه وَضمُّه؛ وقد ورد النهي عنه في حديث عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَلَا أَكُفَّ ثَوْبًا وَلَا شَعْرًا)[البخاري ومسلم].
22) أن يمسح ما عَلَق بجبهته من أثر السجود؛ لما ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال: (مِنَ الجَفَاءِ: أَنْ تَمْسَحَ وَجْهَكَ وَأَنْتَ فِي الصَّلاةِ)[رواه البيهقي].
23) أن يستند إلى شيء أثناء صلاته بلا حاجة؛ لأنَّه يزيل مشقَّة القيام.
أمَّا إذا استند إلى شيء بقوَّة بحيث لو أزيل ذلك الشيء لسقط المصلِّي؛ فإن الصلاة تبطل بذلك إذا كانت صلاة فريضة.
فإن كان محتاجاً إلى الاستناد إلى شيء من جدار أو عمود بسبب مرض ونحوه، جاز له الاستناد من غير كراهة؛ لما ثبت عن أمِّ قَيْس بنت مِحْصَن:(أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لمَّا أَسَنَّ وَحَمَلَ اللَّحْمَ اتَّخَذَ عَمُودًا في مُصَلَّاهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ)[رواه أبو داود].
24) أن يَحْمَدَ اللهَ إذا عَطَسَ في صلاته أو وَجَدَ ما يَسُرُّه، أو أن يَسْتَرجِع إذا وجد ما يَغُمُّه؛ لأنَّ من العلماء من يبطل الصلاة إذا أتى المصلِّي بكلام ليس من أذكار
الصلاة؛ فالقول بكراهة ذلك للمصلِّي خروجاً من الخلاف في هذه المسألة.
25) الصلاة بحَضْرَة الطعام، أو وهو حاقنٌ للبَوْل أو الغائط؛ لما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ)[رواه مسلم].
ويُكرَه للمصلِّي أن يدافع ما بداخله من ريح أثناء الصلاة؛ لأنَّه في معنى مدافعة البَوْل والغائط.
26) الإقعاء في الجلوس؛ وصفة الإقعاء المنهيّ عنه: أن يفترش قدميه، ويجلس على عَقِبَيه، أو أن يَلْصِق أَلْيَتَيْهِ بالأرض، وينصب ساقيه وفَخِذَيه، ويضع يديه على الأرض؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم (نَهَى عَنْ إِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الكَلْبِ)[رواه أحمد].
فصل فيما يُبطِل الصلاة
تبطُل الصلاة بأحد الأمور الآتية:
1) بُطلان الطهارة؛ بأيِّ سبب من الأسباب المبطِلَة للطهارة؛ كخروج البَوْل، أو الغائط، أو الرِّيح، أو النوم؛ لأنَّ الطهارة شرطٌ في صحَّة الصلاة، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ)[رواه البخاري ومسلم].
2) كشف العَوْرة عَمْداً؛ لأنَّ ستر العورة أيضاً من شروط صحَّة الصلاة، وسواء كان الانكشاف كثيراً أو يسيراً، طال زمانه أو قصر؛ فإنَّه يُبطِل الصلاة إذا كان عمداً.
أمَّا الانكشاف الفاحش عُرْفاً مع طُول زمانه فيُبطل الصلاة، وإن لم يتعمَّد كشفَها.
فإن كان الانكشاف فاحشاً عُرْفاً وقَصُر زمانه، لم يُبطِل الصلاة إذا لم يتعمَّد كشفَها. ومثله إذا انكشف شيء يسير من العَوْرة من غير عَمْد، فلا يُبْطِل الصلاة، لحديث عَمْرو بن سَلَمَة رضي الله عنه، وفيه:(فَكُنْتُ أَؤُمُّهُمْ وَعَلَيَّ بُرْدَةٌ لِي صَغِيرَةٌ صَفْرَاءُ، فَكُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَكَشَّفَتْ عَنِّى، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسَاءِ: وَارُوا عَنَّا عَوْرَةَ قَارِئِكُمْ. فَاشْتَرَوْا لِي قَمِيصًا عُمَانِيًّا .. )[رواه البخاري وأبوداود واللفظ له].
3) استدبار القِبْلَة مع القُدْرَة على استقبالها مُبطلٌ للصلاة؛ لأنَّ استقبال القِبْلَة من شروط صحَّة الصلاة، ولقول الله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة 144].
- ويسقط استقبال القِبْلَة في ثلاثة مواضع:
الأوّل: حال العَجْز عن استقبالها؛ كما لو كان مربوطاً إلى غير القِبْلَة، أو مريضاً عاجزاً عن استقبال القِبْلَة؛ فيصلِّي على حسب حاله؛ لقول الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن 16].
الثاني: حال اشتداد الخَوْف؛ كحال الْتِحام الصفوف في الحروب؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ هُوَ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا، قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَوْ رُكْبَانًا، مُسْتَقْبِلي الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا)[رواه البخاري].
الثالث: أداء المسافر لصلاة النافلة على الراحلة أثناء السَّير، ولكن يلزمه افتتاح الصلاة إلى القِبْلَة؛ لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه:(أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا سَافَر فَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ اسْتَقْبَلَ بِنَاقَتِهِ القِبْلَةَ، فَكَبَّرَ ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ وَجَّهَهُ رِكَابُهُ)[رواه أبو داود].
4) إصابة المصلِّي بالنجاسة مع عِلْمِه بها ولم يُزِلْهَا في الحال؛ لأنَّ إزالة النجاسة من الطهارة التي هي شرط لصحَّة الصلاة. فإن أزالها في الحال صحَّت صلاته؛ لحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: (بَيْنَمَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ الله
صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَائِكُمْ نِعَالَكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا) [رواه أبو داود].
5) العمل الكثير عادةً من غير جنس الصلاة، لغير ضرورة؛ كالمشي، والحكِّ، وتعديل الثياب، والنظر في الساعة، إذا كَثُرَ وكان متوالياً، أبطل الصلاة إجماعاً، ولأنَّه يقطع الموالاة، ويمنع متابعة الأركان، ويُذهِب الخشوع.
فإن كانت الحركة من غير جنس الصلاة لضرورة؛ كالخائف من عدو أو حيوان، أو حكة لا يصبر عنها، أو لقتل عقرب أو حية، لم تبطل الصلاة؛ لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم (اقْتُلُوا الأَسْوَدَيْنِ في الصَّلَاةِ الحَيَّةَ وَالعَقْرَبَ)[رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
ولا تبطل الصلاة كذلك إذا كان العمل متفرِّقاً غير متوالٍ؛ ويدلُّ لذلك حديث أبي قتادة رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
…
؛ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا) [رواه البخاري ومسلم].
6) الاعتماد بقوَّة على شيء أثناء صلاة الفريضة بغير عذر، بحيث لو أزيل هذا الشيء الذي يَعتَمِد عليه لسقط؛ لأنَّ القيام رُكْنٌ من أركان الصلاة، والمستَنِد بقوَّة في حكم غير القائم.
7) إذا قام للركعة الثالثة ونَسِيَ التشهُّد، ثمَّ رجع إليه بعد البَدْءِ بالقراءة وهو ذاكر عالم بالحُكْم؛ لأنَّه زاد فعلاً من جنس الصلاة، ولما روى زِيادُ بن عِلاقَة قال: (صَلَّى بِنَا المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَامَ وَلَمْ يَجْلِسْ، فَسَبَّحَ بِهِ مَنْ خَلْفَهُ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ
أَنْ قُومُوا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَلَّمَ وَسَجَدَ سَجْدَتَي السَّهْوِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: هَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم[رواه الترمذي]. أمَّا إن رجع ناسياً أو جاهلاً، فلا تبطل صلاته.
8) تعمُّد زيادة رُكْنٍ فِعْليّ في الصلاة؛ كالركوع والسجود؛ لأنَّ هذه الزيادة تُخِلَّ بنظم الصلاة وتُغيِّر هيأتَها، فلم تكن صلاة ولا فاعلها مصلياً؛ وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:(مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)[رواه البخاري ومسلم].
أمَّا لو كانت الزيادة سَهْواً فلا تبطل الصلاة بذلك؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (إِذَا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ)[رواه مسلم]. ولا تبطل أيضاً إذا زاد رُكناً قَوْليًّا؛ كقراءة الفاتحة مرتين؛ لأنَّها زيادة من جنس المشروع، لا تغيِّر هيئة الصلاة؛ فلا تبطل الصلاة بها، ولكنها تُكرَه.
9) تقديم بعض الأركان على بعض عَمْداً؛ كتقديم السجود على الركوع؛ لأن ترتيب أركان الصلاة رُكْنٌ في الصلاة، ولقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)[رواه البخاري].
أمَّا في حال السَّهْو، فلا تبطل الصلاة، ولكن يجب عليه أن يرجع إلى الرُّكْن الذي تركه.
10) السلام قبل إتمام الصلاة عَمْداً؛ لأنَّه قدَّم رُكناً عن موضعه؛ إذ التسليم لا يكون إلَّا بعد إتمام الصلاة، ولأنَّ الباقي قبل السلام إمَّا ركن، وإما واجب، وكلاهما تَبْطُل الصلاة بتَرْكِه عَمْداً.
11) إحالةُ المَعْنَى في القراءة عَمْداً؛ كالذي يَكْسِر الكاف في (إِيَّاكَ) أو يَضُمُّ
التاء في (أَنْعَمْتَ)، وسواء أكان اللحن في قراءة الفاتحة أو في غيرها، فإنَّها تُبطِل الصلاة إذا تعمَّد ذلك؛ لأنَّ هذا من الاستهزاء المحرَّم.
12) الدخول في الصلاة عُرْياناً لعدم وجود ما يستر به عَوْرَتَه، ثمَّ وَجَدَ سُتْرةً بعيدة عنه أثناء الصلاة؛ فهذا تَبْطُل صلاتُه؛ لأنَّه لا يمكنه أن يستتر إلَّا بعمل كثير ينافي حال الصلاة.
13) فَسْخُ النيَّة، والتردُّد فيها، والعَزْمُ على فَسْخِها؛ لأنَّ استدامة النيَّة شرط في صحَّة الصلاة، لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)[رواه البخاري ومسلم].
14) إذا شكَّ هل نَوَى للصلاة أو لا، فبَنَى صلاتَه على الشكِّ؛ لأنَّ الأصل عدم النيَّة.
15) الدعاء بملذَّات الدنيا؛ كقوله: (اللهم ارزقني زوجة حسناء، وطعاماً طيباً)؛ لأنَّه من كلام الآدميِّين؛ ولقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)[رواه مسلم].
* والرواية الأخرى في المذهب جواز الدُّعاء بحوائج الدنيا وملاذِّها؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ بَعْدُ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ يَدْعُو بِهِ)[رواه النسائي].
16) الضحك والقهقهة بصوت مرتفع في الصلاة؛ لحديث جابر رضي الله عنه موقوفاً: (مَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ أَعَادَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُعِدِ الوُضُوءَ)[رواه الدارقطني وقال: الصحيح عن جابر من قوله].
17) الكلام في الصلاة ولو سَهْواً؛ لحديث زيدِ بن أَرْقَم رضي الله عنه: (كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى نَزَلَتْ
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة 238]، فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ) [رواه البخاري ومسلم].
18) تقدُّم المأموم على الإمام؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ)[رواه البخاري ومسلم]، ولم يُنْقَل تقدُّم المأموم على الإمام عن أحد من السَّلَف أو الخَلَف.
19) بطلان صلاة الإمام يُبطِل صلاة المأموم خَلْفَه؛ لارتباط صلاة المأموم بصلاة إمامِهِ، وسواء كان سبب بطلان صلاة الإمام تَرْكُ رُكْنٍ، أو انتقاضُ طهارتِهِ.
20) تسليمُ المأموم قبل الإمام عَمْداً، أو سَهْواً إذا لم يُعِدِ التسليم بعد الإمام؛ لأنَّ مسابقة المأموم للإمام مُبْطِلَة للصلاة. فإن كان تسليمُه سَهْواً فالواجب عليه أن يُعِيدَ التسليم بعد تسليم الإمام، وإلا بَطَلَت صلاتُه.
21) الأكل والشُّرْب عالماً ذاكراً، ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير؛ لأنَّ الأكلَ والشُّرْب عملٌ من غير جنس الصلاة. وهذا بإجماع أهل العلم إذا كانت الصلاة فرضاً. قال ابن المنذر:«وأجمعوا على أنَّ من أكل وشرب في صلاته الفرض عامداً أنَّ عليه الإعادة» .
أمَّا ما عَلَق بين الأسنان من طعام فلا يُبْطِل الصلاة إذا بَلَعَه مع الرِّيق من غير مَضْغ؛ لأنَّه عملٌ يسيرٌ، ويَشُقُّ الاحتراز منه.
22) النفخ والنحنحة أثناء الصلاة بلا حاجة، إذا ظهر منه حرفان؛ لأنَّه صار كالكلام، وقد رُويَ عن ابن عبَّاس رضي الله عنه أنَّه قال:(النَّفْخُ فِي الصَّلَاةِ كَلَامٌ)[رواه عبد الرزاق، وقال ابن المنذر: لا يثبت عنه].
* والرواية الأخرى أنَّ النفخ لا يُبْطِل الصلاة؛ لما جاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثُمَّ نَفَخَ فِي آخِرِ سُجُودِهِ فَقَالَ: أُفٍّ أُفٍّ)[رواه أبو داود]. ومثل النفخ النحنحة فلا تُبطِل الصلاة؛ سواء بَانَ حَرْفانِ أم لا؛ لأنَّها لا تُسمَّى كلاماً، وتدعو إليها الحاجة في الصلاة.
23) الانتحاب والبكاء والتأوه والأنين أثناء الصلاة، لا بقصد الخشوع والخشية إذا بان منه حرفان؛ فإن كان خشية لله لم يبطل الصلاة؛ لقول الله تعالى:{خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم 58]، ولحديث عبد الله بن الشخير قال:(أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي، وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المِرْجَلِ -يَعْنِي يَبْكِي-)[رواه أحمد وأبو داود والنسائي].
وعن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: (سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَقْرَأُ مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ
…
) [رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة].
- إذا سَبَقَ على لسان المصلِّي كلامٌ غير القرآن أثناء القراءة، أو غَلَبَه سُعالٌ،
أو عُطاسٌ، أو تثاؤبٌ، أو بكاءٌ، فلا تَبطُلُ الصلاة بذلك؛ لأنَّ هذه الأمور لا يمكن التحرُّز منها، وقياساً على الناسي. وقد جاء عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه:
(أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَرَأَ (المُؤْمِنُونَ) فِي الصُّبْحِ حَتَّى جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ، فَرَكَعَ) [رواه البخاري تعليقاً، ومسلم].
* * *
باب سجود السَّهْو
أولاً: تعريف سجود السَّهْو:
السَّهْو في الصلاة هو: النسيان فيها؛ بأن ينسى المصلِّي فيُنقِصُ شيئاً من أعمال الصلاة، أو يزيد فيها، أو يَشكَّ هل أتى به أو لا.
وسجود السّهْو: سجدتان يسجدهما المصلِّي؛ لجبْر الخَلَل الحاصل في صلاته بسبب النسيان أو الشكِّ، وترغيماً للشيطان في وسوسته للعبد.
ثانياً: متى يُشرع سجود السَّهْو؟
لا يُشرع سجود السَّهْو في شيء من أعمال الصلاة إذا تركه الإنسان متعمِّداً، وإنَّما يُشرع حال السَّهْو والنِّسيان أو الشكِّ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا سَهَا أَحَدُكُمْ فَلَمْ يَدْرِ أَزَادَ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ
…
) [رواه النسائي في الكبرى].
وسجود السَّهْو قد يكون مباحاً، وقد يكون مسنوناً، وقد يكون واجباً.
- فيُباح سجود السَّهْو ولا يجب إذا سَهَا فترك شيئاً مسنوناً كان من عادته أن يأتي به؛ كما لو ترك دعاء الاستفتاح سهواً؛ أمَّا كونه مباحاً فلحديث ثوبان رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ)[رواه أبو داود وابن ماجه].
وأمَّا كونه يباح ولا يجب؛ فلأنَّه لا يمكن التحرُّز من تركها لكثرتها، ولو وجب لها سجود سهو لما خَلَتْ صلاة من سَهْو في الغالب.
- ويُسَنُّ سجود السَّهْو إذا سَهَا فأتى بقولٍ مشروع في غير محلِّه؛ كقراءة القرآن في الركوع، أو السجود، أو الجلوس، أو أن يأتي بالتشهُّد في القيام، أو الصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في التشهُّد الأوَّل.
- أما سجود السَّهْو الواجب فيكون في الحالات الآتية:
1) أن يزيد فعلاً من جنس أفعال الصلاة سهواً؛ كزيادة ركوع أو سجود أو قيام أو قعود؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: (صَلَّى الظُّهْرَ خَمْساً فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ في الصَّلاةِ؟ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْساً. فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ)[رواه البخاري ومسلم].
2) إذا سلَّم المصلِّي من صلاته قبل إتمامها سهواً، إذا تذكَّره في وقت قصير، أتَمَّ الناقص وسجد للسَّهْو؛ لحديث عِمْران بن حُصَيْن رضي الله عنه قال:(سَلَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في ثَلاثِ رَكعاتٍ مِنَ العَصْرِ، ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ الحُجْرَةَ، فَقَامَ رَجُلٌ بَسِيطُ اليَدَيْنِ فَقَالَ: أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ؟ فَخَرَجَ فَصَلَّى الرَّكْعَةَ الَّتِي كَانَ تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَي السَّهْوِ، ثُمَّ سَلَّمَ)[رواه مسلم].
3) إذا لَحَن في القراءة لَحْناً يُحيل المعنى ويُغيّره سهواً؛ لأنَّ اللَّحْن المتعمَّد يُبطِل الصلاة؛ فوجب السجود إذا كان اللَّحْن عن سَهْوٍ ونِسْيانٍ.
4) إذا ترك المصلِّي واجباً من واجبات الصلاة سهواً؛ كأن يترك التشهُّد الأوسط في الصلاة الرباعيَّة؛ لما جاء في حديث عبد الله بن بحينة قال: (إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَامَ مِنْ اثْنَتَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ لَمْ يَجْلِسْ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ)[رواه البخاري ومسلم].
5) إذا شكَّ المصلِّي في زيادةٍ وقْتَ فِعْلِها؛ لحديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ في صَلاتِهِ، فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُسَلِّم ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَينِ)[رواه البخاري ومسلم]، ولأنَّ الشكَّ فيه تردُّد وهو مُضْعِفٌ للنيَّة؛ فاحتاجت للجَبْر بالسجود.
أمَّا إذا كان شكُّ المصلِّي في زيادة بعد الانتهاء منها، فلا يجب عليه سجود السَّهْو؛ كما لو كان قائماً؛ فشكَّ هل زاد سجوداً؛ فلا يسجدُ هنا؛ لأنَّ الأصل عدم الزيادة؛ فيكون المشكوكُ فيه والحالةُ هذه كالمعدوم.
ثالثاً: موضع سجدتي السَّهْو:
يُشرَعُ سجودُ السَّهْو في آخر الصلاة، ويصحُّ فِعْلُه قبل السلام أو بعد السلام؛ لأنَّ الأحاديث وردت بالأمرين.
لكن إن سجدَ للسهوِ بعدَ السلامِ، يجبُ عليه بعدهما أن يتشهَّد ويُسلِّم؛ لحديث عِمْران بن حُصَين رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ فَسَهَا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ تَشَهَّدَ ثُمَّ سَلَّمَ)[رواه أبوداود والترمذي، والرواية الصحيحة من غير ذلك التشهُّد].
* والقول الآخر في المذهب أنَّه لا يجب عليه التشهُّد إذا سجد بعد السلام، وإنَّما يسجدُ ثمَّ يُسلِّم مباشرة، قال في الشرح الكبير:«ويُحتمل أن لا يجب التشهُّد؛ لأنَّ الحديثين الأوَّلين أنَّه سلَّم من غير تشهُّد، وهما أصحُّ من هذه الرواية» ، وهو اختيار ابن قُدامة وابن تيمية.
رابعاً: ترك سجود السَّهْو الواجب عَمْداً:
- إذا تعمَّد المصلِّي تَرْك سجود السَّهْو الواجب؛ فلا يخلو فيه الأمر من أحد حالتين:
الأولى: أن يكون موضع السجود الواجب قبل السلام، فتبطُل صلاتُه بتعمُّد تركه؛ لأنَّه واجب، وتَرْك الواجب في الصلاة متعمّداً يُبطِل الصلاة.
الثانية: أن يكون موضع السجود الواجب بعد السلام، فصلاتُه صحيحة، ولا تبطل بذلك؛ لأنَّ السجود بعد السلام خارجٌ عن الصلاة؛ فلم يؤثِّر تركُه في إبطالها. لكن يأثم بتعمُّد تركه.
خامساً: نسيان سجود السَّهْو:
- إذا نسي المصلِّي سجود السَّهْو ثمَّ ذكَرَه ولم يَطُل الفَصْل عُرْفاً، وهو ما زال في المسجد، فإنَّه يسجد للسهو؛ سواءٌ تكلَّم، أو لم يتكلَّم؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه:(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ سَجْدَتَي السَّهْوِ بَعْدَ السَّلامِ وَالكَلامِ)[رواه مسلم].
أمَّا إذا نسي سجود السَّهْو حتَّى طالت مُدَّة الفصل عُرْفاً بين سلامه وتذكُّره لسجود السَّهْو، أو خَرَج من المسجد، لم تبطُل صلاتُه، ويسقط عنه؛ لأنَّ سجود السَّهْو إنَّما شُرِع لتكميل الصلاة، فلا يأتي به مع طُولِ الفَصْل، ولأنَّ السَّهْو شُرِع للصلاة وهو خارج عنها، فلم تَفسُد بتَرْكِه.
وأمَّا سقوطه بالخروج من المسجد؛ فلأن المسجد محل الصلاة وموضعها، فيسقط سجود السَّهْو بمفارقته، كسقوط خيار البيع عند مفارقة المجلس.
- وإذا نسي المصلِّي سجود السَّهْو، ثمَّ أَحْدَثَ وبَطَلَت طهارتُه، فإنَّه يَسقُطُ عنه سجود السَّهْو أيضاً؛ لفوات محلِّه.
سادساً: سجود السَّهْو في صلاة الجماعة:
- إذا سها المأموم في صلاته مع الجماعة فلا سجود عليه إذا كان قد دخل مع الإمام في أوَّل الصلاة إجماعاً؛ وذلك لما ثبت من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه أنَّه تَكَلَّمَ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِسُجُودِ السَّهْو. [رواه مسلم بمعناه].
- أمَّا إذا وقع السَّهْو من الإمام، فيجب على المأموم متابعةُ الإمام في سَهْوِهِ، فإذا نسيَ الإمامُ السجودَ للسَّهْو وَجَبَ على المأموم السجود للسَّهْو؛ لأنَّه لم يوجد من الإمام ما يكمِّل به صلاة المأموم.
سابعاً: رجوع المصلِّي إلى فِعْل ما سَهَا عنه في الصلاة:
- إذا قام المصلِّي إلى ركعة زائدة في الصلاة، فإنَّه يجب عليه الرجوع إلى الجلوس والتشهُّد متى تذكَّر ذلك من غير تكبير؛ لأنَّه لو ترك الرجوع لزاد في الصلاة ما ليس منها عَمْداً، فتبطُل صلاتُه بذلك.
- أمَّا إذا قام المصلِّي إلى الركعة الثالثة ناسياً التشهُّد الأوَّل، فلا يخلو من ثلاثة أحوال:
1) أن يذكر التشهُّد قبل أن يعتدل قائماً، فيلزمه الرجوع ليتشهَّد؛ لما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ الرَّكْعَتَينِ،
فَلَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِماً، فَلْيَجْلِسْ، فَإِذَا اسْتَتَمَّ قَائِماً فَلا يَجْلِسْ وَيَسْجُدُ سَجَدَتَي السَّهْوِ) [رواه أبو داود وابن ماجه].
2) أن يذكر التشهُّد بعد أن يعتدل قائماً، وقبل الشروع في القراءة، فيُكْرَه له الرجوع للتشهُّد؛ لحديث المغيرة السابق.
3) أن يذكر التشهُّد بعد اكتمال قيامه والشروع في القراءة، فلا يجوز له الرجوع للتشهُّد؛ لحديث المغيرة السابق، ولأنَّه شَرَع في رُكْن، فلا يجوز له تَرْكُه من أجل فِعْل واجب.
- وفي جميع الحالات السابقة يترتَّب على المصلِّي سجود للسَّهْو.
- إذا ترك الإمام التشهُّد الأوَّل ناسياً، يلزم المأموم متابعة إمامه في القيام؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّما جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ)[رواه البخاري ومسلم]، ولحديث عبد الله ابن بُحَيْنَة رضي الله عنه قال:(صَلَّى لَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ سَلَّمَ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري].
ثامناً: الشكُّ في الصلاة:
من موجبات سجود السَّهْو حصول الشكِّ في الصلاة، وهو أن يتردَّد المصلِّي بين أَمْرَيْن في صلاته؛ كأن يشكَّ في رُكْنٍ هل أتى به أو لا، أو يشكَّ في عدد ما صلَّى من الركعات وهو في الصلاة.
- والشكُّ في الصلاة منه ما هو معتبر، ومنه ما لا يلتفت إليه.
1) أمَّا الشكُّ الذي لا يُلتَفَتُ إليه، فله ثلاثة أحوال:
أ - إذا كان بعد الانتهاء من الصلاة، إلَّا إذا تيقَّن الزيادة أو النقصان.
ب- إذا كان الشكُّ ممَّا يتوهَّمُه المصلِّي، أو طرأ على ذِهْنِه؛ فلا عبرة فيه؛ لأنَّه من الوسواس.
ج- إذا أكثرَ المصلِّي من الشكِّ حتَّى صار لا يَفعَلُ شيئاً إلَّا شكَّ فيه؛ فهذا
لا عبرة فيه؛ لأنَّه مرضٌ وعِلّةٌ.
2) أمَّا الشكُّ المعتبر في الصلاة؛ فلا يخلو من أحد حالين:
أ - أن يترجَّح عند المصلِّي أحد الأمرين، فيعمل بما ترجَّح عندَه ويتمّ صلاتَه بناء عليه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُسَلِّمْ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَينِ)[رواه البخاري ومسلم].
ب- أن لا يترجَّح عند المصلِّي أحد الأمرين، فيعمل باليقين ويبني على الأقلِّ، أو يبني على عدم الإتيان بالفعل، ويتمّ صلاته بناء عليه، ثمّ يسجد للسَّهْو قبل أن يُسلِّم، ثمَّ يُسلِّم.
* * *
باب صلاة التَّطوُّع
أولاً: تعريف صلاة التطوُّع وفضلها:
التّطوّع شرعاً: طاعةٌ غيرُ واجبةٍ.
وصلاةُ التّطوّعِ أفضلُ تطوُّعاتِ البدنِ بعد الجهادِ، وتعلّمِ العلمِ وتعليمِهِ؛ لأنّ الله تعالى قال في شأن الجهادِ:{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء 95].
وقال صلى الله عليه وسلم في شأن العلم: (فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ)[رواه الترمذي]، وقال صلى الله عليه وسلم عن الصّلاة:(وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ)[رواه ابن ماجه].
ثانياً: أفضل صلوات التطوُّع:
أفضلُ صلوات التَّطوُّعِ: ما سُنَّ فعلُه في جماعةٍ؛ لأنّه أشبهُ بالفرائضِ.
وآكدُ ما يسنُّ جماعةً: صلاةُ الكسوفِ؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم فعلَها وأمرَ بها، ثمّ صلاةُ الاستسقاءِ؛ لأنّه عليه الصلاة والسلام كان يستسقي أحياناً، ويترك أحياناً أُخرى، ثمّ صلاةُ التَّراويحِ؛ لأنّها تسنُّ لها الجماعةُ، ثمّ الوترُ؛ لأنّه تُشْرعُ له الجماعةُ في التّراويحِ، وهو سنّةٌ مؤكّدةٌ.
ثالثاً: صلاةُ الوِتْرِ:
1) عدد ركعات الوِتْر:
أقلُّ الوِتْرِ ركعةٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ)[رواه مسلم].
وأكثرُه إحدى عشْرةَ ركعةً؛ لقول عائشة رضي الله عنها: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِاللَّيلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً؛ يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ)[رواه البخاري ومسلم].
- وأدنى الكمالِ ثلاثُ ركعاتٍ؛ لحديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه مرفوعاً: قال: (الوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ؛ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ)[رواه أبو داود].
- وصفة الثلاث: أن يصليها بسَلامَيْنِ -يصلِّي ركعتيْنِ ويُسلِّمُ، ثم يأتي بواحدةٍ ويُسلِّمُ-؛ لما رواه نافع:(أنَّ عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالرَّكْعَةِ في الوِتْرِ حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ)[رواه البخاري].
- ويجوزُ صلاةُ الثلاث سَرْداً بسلامٍ واحدٍ؛ لحديث عائشة رضي الله عنه: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِثَلاثٍ لا يَفْصِلُ فِيهِنَّ)[رواه أحمد، وضعّفه].
2) وقت الوِتْر:
وقتُ الوِتْرِ ما بين صلاةِ العشاءِ وطلوعِ الفجرِ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ زَادَكُمْ صَلَاةً وَهِيَ الْوِتْرُ؛ فَصَلُّوهَا فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ)[رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، واللفظ لأحمد].
3) موضعُ القنوتِ في الوِتْرِ:
يستحبُّ أن يقنتَ في الوترِ بعد الركوعِ؛ لأنّه صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام من روايةِ أبي هريرة رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ)[رواه مسلم].
ولَو قَنَتَ بَعدَ القِراءةِ وقبلَ الركوعِ جازَ؛ لحديث عاصمٍ عن أنسٍ قال: (سَأَلْتُهُ عَنِ الْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَ الرُّكُوعِ؟ فَقَالَ: قَبْلَ الرُّكُوعِ. قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ. فَقَالَ: إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أُنَاسٍ قَتَلُوا أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهمُ الْقُرَّاءُ)[رواه مسلم] .. وروي ذلك عن عمر وعلي والبراء رضي الله عنهم، ولا يُعلم لهم مخالفٌ.
4) ما يدعو به في القنوت:
لا بأسَ أن يدعوَ المصلِّي في قنوتِ الوتْرِ بما شاءَ، وممّا وردَ في السُّنَّةِ: حديث الحسن بن علي رضي الله عنه قال: (عَلَّمَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كَلِماتٍ أَقُولُهُنَّ في قُنُوتِ الوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ؛ إِنَّكَ تَقْضِى وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ)[رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
ويقولُ في آخرِ قُنوتِهِ ما جاء في حديث علي رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ في آخِرِ وِتْرِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ
عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ) [رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
ثمّ يُصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لحديث الحسن بن عليٍّ رضي الله عنه في تعليم النبيِّ صلى الله عليه وسلم له دعاء القنوت، وفي آخره:(وصَلَّى اللهُ عَلَى النَّبِيِّ)[رواه النسائي].
- ويؤمِّنُ المأمومُ على دعاءِ إمامِهِ إنْ سمِعَهُ، ولا يُعلم في هذا خلافٌ.
- ثُمّ يمسحُ وجهَهُ بيديْهِ هُنَا فِي القنوتِ، وخارجَ الصَّلاةِ إذا دَعَا؛ لعموم حديث عمر رضي الله عنه:(كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَحُطَّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِما وَجْهَهُ)[رواه الترمذي وضعفه النووي وغيره].
5) القنوت في غير الوِتْر:
يُكرَهُ القنوتُ فِي صلاةِ الصُّبحِ وفي غيرِها من الصلواتِ سوى الوتْرِ، إلَّا إذا نزل بالمسلمين نازلة؛ فيجوز لوليِّ الأمر وحدَه أن يقنت.
ويدلُّ لكَراهَة القنوت في غير الوِتْر على الدوام حديث أبي مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: (قُلْتُ لأَبِي: يَا أَبَتِ! إِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَأَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمانَ وَعَليٍّ هَهُنا بِالكُوفَةِ نَحْواً مِنْ خَمْسِ سِنينَ؛ فَكَانُوا يَقْنُتُونَ في الفَجْرِ؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! مُحْدَثٌ)[رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، واللفظ له].
ودليل جوازه في النازلة حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: (لأُقَرِّبَنَّ بِكُمْ صَلاةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ في الظُّهْرِ، وَالعِشَاءِ الآخِرَةِ، وَصَلاةِ الصُّبْحِ، وَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَلْعَنُ الكُفَّارَ)[رواه البخاري ومسلم].
رابعاً: أفضلُ الرَّواتِبِ:
أفضلُ الرّواتبِ سُنّةُ الفَجْرِ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (رَكْعَتا الفَجْرِ خَيرٌ مِنَ الدُّنْيا وَمَا فِيهَا)[رواه مسلم]. ثمّ سنّةُ المغربِ؛ لما رواه رجلٌ عن عبيد مولى النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه سُئل: (أَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِصَلاةٍ بَعْدَ المَكْتُوبَةِ أَوْ سِوَى المَكْتُوبةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، بَينَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ)[رواه أحمد، وإسناده ضعيف]. ثمَّ باقي الرّواتبِ سواءٌ في الفضيلةِ.
خامساً: الرَّواتِبُ المُؤكَّدةُ:
الرّواتبُ المؤكَّدةُ عشرٌ، وهي: رَكْعتانِ قبلَ الظُّهرِ، ورَكْعتانِ بَعْدَها، ورَكْعتانِ بَعْدَ المَغْربِ، ورَكْعتانِ بَعْدَ العِشاءِ، ورَكْعتانِ قبلَ الفَجْرِ؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:(حَفِظتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْن بَعْدَها، ورَكْعتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ في بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ في بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبْحِ، وَكَانَتْ سَاعَةً لَا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا؛ حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَذَّنَ المُؤَذِّنُ وَطَلَعَ الفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ)[رواه البخاري ومسلم، واللّفظ للبخاري].
سادساً: قَضاءُ الرَّواتِبِ والوِتْر:
يُسَنُّ قضاءُ الرّواتبِ والوترِ؛ لحديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً: (مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُّصَلِيَها إذَا ذَكَرَهَا)[رواه البخاري ومسلم، واللّفظ لمسلم]، وهذا يعمّ كلّ صلاة، ولأنّه عليه الصلاة والسلام قضى الرّكعتين اللّتين بعد
الظهر بعد العصر، وقال لأمّ سلمة رضي الله عنها لما سألته عنهما:(إِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ القَيْسِ بِالإِسْلامِ مِنْ قَوْمِهِم، فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَينِ اللَّتَينِ بَعْدَ الظُّهْرِ؛ فَهُما هَاتَانِ)[رواه البخاري ومسلم].
ولكنْ الأَوْلى تركُ قضاءِ ما فاتَ منَ الرّواتبِ مع فرضِهِ وكان كثيراً؛ لحُصولِ المشقّةِ بقضائِهِ، إلّا سنّةَ الفجرِ فإنّهُ يَقضِيها مطلقاً؛ لتأكُّدِها.
سابعاً: صَلاةُ التَّطَوعِ في البَيتِ:
صلاةُ التَّطوُّعِ في البيتِ أفضلُ إلّا ما تُشرعُ لهُ الجماعةُ من النّوافل كالتراويح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (صَلُّوا أيُّها النَّاسُ فِي بُيُوتِكُم؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاةِ صَلاةُ المَرْءِ في بَيْتِهِ إِلَّا المَكْتُوبَةَ)[رواه البخاري ومسلم، واللّفظ للبخاري].
ثامناً: الفَصْلُ بَينَ الفَرْضِ وَالسُّنَّة:
يُسَنُّ للمُصلِّي أن يفصِلَ بين الفَرْضِ وسُنّتِهِ بقِيامٍ أو كَلامٍ؛ لحديث معاوية رضي الله عنه: (إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا بِذَلِكَ أَنْ لَا تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ)[رواه مسلم].
تاسعاً: صلاةُ التَّراويحِ:
وهي سنّةٌ مؤكّدةٌ، وعددُ ركعاتها عشرونَ ركعةً، تُصلّى جماعةً في ليالي شهرِ رمضانَ؛ وذلك لما جاء عن السائب بن يزيد قال:(كُنَّا نَقُومُ في زَمَنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً وَالوِتْرِ)[رواه البيهقي]. ولقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ
حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ) [رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
* وَقتُ صَلاةِ التَّراويح:
وَقْتُها مَا بينَ سُنَّة العِشاءِ والوِتْرِ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْراً)[رواه البخاري ومسلم].
فصل في صلاة اللَّيل والضُّحى وغيرهما
أولاً: صلاةُ اللّيلِ:
صَلَاةُ التطوُّع ليْلاً أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ التطوُّع نَهَاراً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ)[رواه مسلم].
والنِّصْفُ الأَخِيرُ من اللَّيلِ أفضلُ للصَّلاةِ مِنَ النِّصفِ الأوّلِ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى الله صَلَاةُ دَاوُدَ: كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ)[رواه البخاري ومسلم].
وَالتَّهُجُّدُ: هو القِيامُ للصَّلاةِ ليلاً بعد نَوْمٍ، قال تعالى:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل 6]. ورُوي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: «النَّاشِئَةُ القِيَامُ بَعْدَ النَّوْمِ» [ذكره البغوي في تفسيره].
1) حُكْمُها:
قيامُ اللَّيلِ مُسْتَحَبٌّ؛ لحديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ)[رواه الترمذي والحاكم].
2) كيفيَّتُها:
يُسَنُّ افتتاحُ التّهجُّدِ بركعتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ؛ لحديثِ أبِي هريرةَ رضي الله عنه عن
النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ)[رواه مسلم].
وَيُسَنُّ لهُ أن يَّنوِيَ القِيامَ عندَ النَّوْمِ؛ لقول أبي الدَّرْداء رضي الله عنه: (مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُو يَنْوي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ حَتَّى يُصْبِحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ)[رواه النسائي].
وَيَصِحُّ التَّطَوُّعُ بِرَكْعَةٍ؛ قياساً على الوِتْرِ، ولكنْ مَعَ الكَراهةِ. لما روى أبو ظبيان قال:(دَخَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ المَسْجِدَ، فَرَكَعَ رَكْعَةً. فَقِيلَ لَهَ. فَقَال: إِنَّمَا هُوَ تَطَوُّعٌ؛ فَمَنْ شَاءَ زَادَ، وَمَنْ شَاءَ نَقَصَ)[رواه عبد الرزاق، وإسناده ضعيف].
والرواية الأخرى في المذهب: أنَّه لا يصحُّ، وأنَّ أقلَّ التطوُّع ركعتان؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى)[رواه البخاري ومسلم]، ولأنَّه لم يرد الشرع بمثله.
- وأَجرُ منْ صَلَّى قاعداً منْ غيرِ عُذرٍ على النِّصفِ منْ أَجرِ منْ صلّى قائماً؛ لحديثِ عمرانَ بن حصينٍ رضي الله عنه قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن صلاةِ الرّجلِ وهو قاعدٌ؛ فقال: (مَنْ صَلّى قائماً فهُوَ أَفْضَلُ، ومَنْ صَلّى قَاعِداً فلَهُ نِصْفُ أَجْرِ القَائمِ)[رواه البخاري].
قال المرداوي: «فَأَمَّا إِنْ كانَ مَعْذُورًا لِمَرَضٍ أو نَحْوِهِ؛ فَإِنَّهَا كَصَلَاةِ الْقَائِمِ في الْأَجْرِ» .
وكَثْرةُ الرُّكوعِ والسُّجودِ أفضلُ منْ طُولِ القِيامِ؛ لأنّ السُّجودَ في نفسِهِ أفضلُ وآكَدُ؛ فإنّه يجبُ في الفرضِ والنّفلِ، والقِيامُ يسقُطُ في النّفلِ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (أَقْرَبُ
مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وهُوَ سَاجِدٌ) [رواه مسلم].
ثانياً: صَلاةُ الضُّحَى:
1) حُكْمُها:
هي مستحبّةٌ غير مؤكّدة؛ لحديثِ أبِي هريرةَ رضي الله عنه قال: (أَوْصَانِي خَلِيلي بثَلاثٍ: صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَي الضُّحَى، وأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنامَ)[رواه مسلم].
ولكن لا تستحبُّ المُداومةُ عليها، بل يُصَلِّيها في بعضِ الأَيّامِ دُونَ بَعْضٍ؛ لحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال:(كان النّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى حَتَّى نَقُولَ لَا يَدَعُهَا وَيَدَعُهَا حَتَّى نَقُولَ لَا يُصَلِّيهَا)[رواه الترمذي]، ولأنّها دونَ الفرائضِ والسُّننِ المُؤكَّدةِ؛ فلا تُشبَّه بها.
2) عددُ رَكْعَاتِها:
أَقَلُّهَا رَكْعَتانِ؛ لحديثِ أبي هريرةَ السّابقِ؛ فإنّ فيه: (وَرَكْعَتَي الضُّحَى).
وأَكْثَرُهَا ثَمَانِ رَكَعَاتٍ؛ لحديث أم هانئ رضي الله عنها قالت: (لمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَتَتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ. قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى غُسْلِهِ فَسَتَرَتْ عَلَيْهِ فَاطِمَةُ، ثُمَّ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَالْتَحَفَ بِهِ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ سُبْحَةَ الضُّحَى)[رواه البخاري ومسلم واللفظ له].
3) وَقْتُها:
وَقْتُ صلاةِ الضُّحَى منْ خُروجِ وقتِ النَّهْي إلى قُبَيْل الزَّوالِ؛ لحديث
أبي الدَّرْداء وأبي ذَرٍّ رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل قال: (ابنَ آدمَ ارْكَعْ لِي مِنْ أَوَّلِ النَّهارِ أَرْبَعَ رَكَعاتٍ أَكْفِكَ آخِرَهُ)[رواه التّرمذي].
وأَفْضَلُ أَوْقَاتِها: إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (صَلَاةُ الأَوّابينَ حِينَ تَرْمَضُ الفِصَالُ)[رواه مسلم]. أي: حين يجد الفصيل من الإبل حرّ الشمس من الرَّمْضاءِ.
ثالثاً: تحيّة المسجد:
تُسَنُّ تحيّةُ المسجدِ عندَ الدُّخولِ إليهِ؛ لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فلَا يَجْلِسْ حتّى يُصَلّيَ رَكْعَتَيْنِ)[رواه البخاري ومسلم].
- وتُجزِئُ صلاةُ الرّاتبةِ والفرِيضَةِ عن تحيّةِ المسجدِ.
- وَإنْ جلسَ قبلَ صلاةِ التّحيّةِ قامَ فأتَى بها إنْ لمْ يطلِ الفصلُ؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: (جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَجَلَسَ فَقَالَ لَهُ: يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ له]، فإنْ طالَ الفَصلُ فاتَ محلُّها.
رابعاً: سُنَّة الوضوء:
تُستحبُّ سنّةُ الوُضوءِ، وهيَ ركعتانِ عَقِبَه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لبلالٍ رضي الله عنه: (يا بِلالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْته فِي الْإِسْلَامِ؛ فَإِنِّي سَمِعْت دَفَّ نَعْلَيْك بَيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ؛ فَقَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي مِنْ
أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إلَّا صَلَّيْت بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ) [رواه البخاري ومسلم].
خامساً: الصلاة بين المَغْرِب والعِشَاء:
يُستحبُّ إِحْياءُ مَا بينَ العِشاءَيْنِ - المغرب والعشاء -؛ لحديث حذيفة رضي الله عنه في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فَصَلَّيْتُ مَعَهُ المَغْرِبَ فَلَمَّا قَضَى الصَلَاةَ قَامَ فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي حَتَّى صَلَّى العِشَاءَ ثُمَّ خَرَجَ)[رواه أحمد، والترمذيّ، واللفظ لأحمد].
وهذه الصّلاةُ تُعدُّ منْ قِيامِ اللَّيلِ؛ لأنّ اللّيلَ من المغربِ إلى طلوعِ الفجرِ، وقد ثبت عن أنسٍ رضي الله عنه في قوله تعالى:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات 17]: (كَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بينَ المغربِ والعِشاءِ)[رواه أبو داود].
* * *
فصل في سجود التِّلاوة والشُّكر
أولاً: سجودُ التِّلاوةِ:
1) حكمُهُ:
سجودُ التِّلاوةِ سنّةٌ مؤكّدةٌ لِلْقَارئِ والمُسْتمِعِ بشَرْطِ أن لَا يَطولَ الفاصلُ بين قِراءةِ السّجدةِ والسُّجودِ؛ لحديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ السَّجْدَةَ وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ؛ فَنَزْدَحِمُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا لِجَبْهَتِهِ مَوْضِعاً يَسْجُدُ عَلَيْهِ)[رواه البخاري ومسلم].
وأمَّا إِنْ طَالَ الفصلُ بين القِراءةِ والسُّجودِ لمْ يشرعِ السُّجودُ؛ لفَواتِ محلِّهِ.
ولا إثم على من ترك سجود التلاوة؛ لما جاء في حديثِ زيدِ بن ثابتٍ رضي الله عنه قالَ: (قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {وَالنَّجْمِ} فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا)[رواه البخاري ومسلم].
2) شروطُهُ:
يُشْترطُ لِسُجودِ التِّلاوةِ ما يُشترطُ لِصلاةِ النَّافلةِ من النِّيّةِ، والطّهارةِ، وسترِ العورةِ، واستقبالِ القِبلةِ؛ لأنَّهُ سُجودُ قُربةٍ لله تعالى؛ فكانَ صلاةً؛ يُشترطُ لها ما ذُكرَ كسُجودِ الصّلاةِ.
3) صفتُهُ:
يُكبِّرُ إذا أرادَ السُّجودَ بلا تكبيرةِ إحرامٍ، ولو كان خارجَ الصّلاةِ؛ لقولِ
ابنِ عمرَ رضي الله عنهما: (كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ؛ فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا مَعَهُ)[رواه أبو داود]، ولأنَّهُ سُجودٌ مُفردٌ فشُرع التّكبيرُ في ابتدائِهِ وفي الرّفعِ منه؛ كسُجودِ السَّهوِ.
ويقولُ في سُجودِهِ ما يقوُلُ في سجودِ الصَّلاةِ، وإنْ زادَ غيرَهُ ممّا ورد فحسنٌ، وممّا ورد:(سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ)[رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
وإذا رفعَ رأسَهُ من السُّجودِ كبّرَ؛ لأنّهُ رفعٌ من سجودٍ؛ فأشْبَه سجودَ الصّلاةِ وسجودَ السَّهوِ.
ويجلسُ ويُسلّمُ إذا رفعَ رأسَه تسليمةً واحدةً بلا تَشهُّدٍ؛ لعُمومِ حديثِ عليٍّ رضي الله عنه مرفوعاً: (تحريمُها التّكبيرُ، وتَحلِيلُها التّسليمُ)[رواه أبو داود والتّرمذي وابنُ ماجه].
4) سجودُ التِّلاوةِ خلفَ الإمامِ:
إذا سَجَد المأمومُ لِقراءةِ نفسِهِ، أو لقِراءةِ غيرِ إمامِهِ مُتَعمِّداً بَطَلتْ صلاتُه؛ لحديث:(إنَّما جُعِلَ الإِمَامُ ليُؤتَمَّ بِهِ؛ فَلا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ)[رواه البخاري ومسلم]، ولأنّهُ زاد في صلاتِهِ سجوداً.
ويجبُ على المأمومِ أن يُّتابعَ إمامَه إذا سجدَ للتِّلاوةِ فِي صلاةِ الجهرِ، ولوْ تَرَك متابعتَهُ عمداً بَطَلتْ صَلاتُهُ؛ للحديثِ السّابقِ.
5) سجودُ التِّلاوةِ خلفَ القارئِ:
- ويُشترطُ لاستحبابِ السّجودِ في حقِّ المُسْتمعِ: أن يكونَ القارئُ ممّن يَصلحُ
إماماً للمُستمعِ، وأنْ يسجُدَ هو للتّلاوةِ؛ فلا يسجُدُ المستمعُ إنْ لمْ يسجُدِ القارئُ، كما لا يسجدُ قُدّامَهُ، ولا عن يسارِهِ مع خُلُوِّ يمينِهِ؛ لأنّه إمامٌ لهُ، وقد جاء في حديثِ عطاءٍ بن يسارٍ:(أَنَّ غُلاماً قَرَأَ عِنْدَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم السَّجْدةً؛ فَانْتَظَرَ الغُلامُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْجُدَ؛ فَلَمَّا لمْ يَسْجُدْ قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَلَيْسَ في هِذِهِ السُّورَةِ سَجْدَةٌ؛ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: بَلَى! وَلَكِنَّكَ كُنْتَ إِمَامَنَا فيهَا؛ فَلَوْ سَجَدتَّ سَجَدْنَا)[رواه الشافعيُّ وابنُ أبي شيبة والبيهقيُّ، وإسناده ضعيف].
- ولا يسجدُ الرَّجلُ المستمعُ لتِلاوةِ المرأةِ والُخْنثى؛ لأنّهُ لا يصحُّ ائتمامُهُ بهما.
ويسجدُ لتِلاوةِ أمِّيٍّ وزَمِنٍ ومميِّزٍ؛ لأنّ قراءةَ الفاتحةِ والقِيامَ ليسا ركناً فِي السُّجودِ، ولأنّ المميِّزَ تَصِحُّ إمامتُهُ فِي النّافلةِ؛ فكذلك هُنا.
ثانياً: سجودُ الشُّكرِ:
يُسَنُّ سُجودُ الشُّكرِ لله تعالى عندَ تَجَدُّدِ النِّعَمِ وانْدفاعِ النِّقمِ؛ سواءٌ كانتْ النِّعمُ عامّةً أو خاصّةً؛ لحديث أبي بَكْرَة رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يَسُرُّهُ أَوْ يُسَرُّ بِهِ خَرَّ سَاجِداً شُكْراً لله تبارك وتعالى [رواه أبو داود والترمذيُّ وابنُ ماجه واللفظ له].
ولحديثِ البراء بنِ عازبٍ رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَليًّا إلَى أهلِ اليَمَنِ يَدْعُوهُم إلَى الإِسْلامِ
…
فَأَسْلَمَتْ هَمْدانُ جَميعاً، فَكتَبَ عَليٌّ رضي الله عنه إِلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِإِسْلامِهِمْ؛ فَلَمَّا قَرَأَ الكِتَابَ خَرَّ سَاجِداً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: السَّلَامُ
عَلَى هَمْدَانَ، السَّلَامُ عَلَى هَمْدَانَ) [رواه البيهقيُّ].
وإنْ سجدَ للشُّكرِ فِي صلاتِهِ وهو عالمٌ ذاكرٌ - غير جاهلٍ ولا ناسٍ- بَطَلتْ صلاتُهُ؛ لأنّ سببَ الشُّكرِ ليس له تعلُّقٌ بالصّلاةِ بخِلافِ سُجودِ التِّلاوةِ.
- وصفةُ سجودِ الشُّكرِ وأحكامُه مثلُ سجودِ التِّلاوةِ.
* * *
فصل في أوقات النَّهي
أولاً: المقصود بأوقات النَّهْي:
أوقات النَّهْي: هي الأوقات التي نَهَى الشَّرعُ عن صلاة التطوّع فيها. وهي ثلاثة أوقات:
1) من طلوع الفجر حتّى ارتفاع الشمس قيد رُمْح؛ لحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ)[رواه البخاري ومسلم].
2) من صلاة العَصْر إلى غُروب الشَّمس؛ لحديث أبي سعيد رضي الله عنه، وفيه:(لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ)[رواه البخاري ومسلم].
3) وعند قِيام الشَّمس في وسط السماء حتَّى تَزول؛ لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (ثَلاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ)[رواه مسلم].
ثانياً: حُكْمُ الصلاة في أوقات النَّهْي:
يحرُمُ على المسلم في هذه الأوقات أن يصلِّيَ تطوُّعاً؛ سواء كان تطوُّعاً مُطْلَقاً، أو مقيَّداً بسبب؛ فإن فعل لم تنعقد صلاتُه ولو كان جاهِلاً بوقت النّهي، أو جاهِلاً
بتحريم الصلاة فيه؛ وذلك لعموم النّهي الوارد عن الصلاة في هذه الأوقات، والنّهيُ يقتضي فساد تلك الصلاة.
لكن يُستثنى من ذلك ما يلي:
1) سُنَّة الفَجْر قبل فَرْضِها: لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإِقَامَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ)[رواه البخاري].
2) ركعتا الطَّواف: لحديث جُبَيْر بن مُطْعِم رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (يَا بَنِيعَبْدِ مَنَافٍ! لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا يَطُوفُ بِهَذَا البَيْتِ يُصَلِّى أَيَّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ
أَوْ نَهَارٍ) [رواه أبو داود والترمذي].
3) سُنَّة الظُّهْر البَعديَّة إذا جَمَع الظُّهْر مع العَصْر، سواء كان جَمْع تقديم أم جَمْع تأخير؛ لحديث أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت:(صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: شَغَلَنِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ)[رواه البخاري ومسلم].
4) الصلاة جماعة مرَّة أخرى إذا أُقيمت وهو في المسجد؛ لحديث يزيد بن الأسود عن أبيه رضي الله عنه قال: (شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم صَلاةَ الفَجْرِ في مَسْجِدِ الخِيفِ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ في آخِرِ القَوْمِ لَمْ يُصَلِّيا مَعَهُ، قَالَ: عَلَيَّ بِهِما، فَأُتِيَ بِهِما تَرْعَدُ فَرائِصُهُما، فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيا مَعَنا؟ قَالا: يا رَسُولَ الله إِنَّا قَدْ صَلَّيْنا في رِحَالِنا. قَالَ: فَلا تَفْعَلا، إِذَا صَلَّيْتُما في رِحَالِكُما ثُمَّ أَتَيْتُما مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيا مَعَهُمْ، فِإِنَّها لَكُما نَافِلَةٌ)[رواه أبو داود والترمذي والنسائي].
وحديث أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب على فَخِذي-:
(كَيْفَ أَنْتَ إِذَا بَقِيتَ فِي قَوْمٍ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا. قَالَ: قَالَ: مَا تَأْمُرُ؟ قَالَ: صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، ثُمَّ اذْهَبْ لِحَاجَتِكَ، فَإِنْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَأَنْتَ في المَسْجِدِ فَصَلِّ)[رواه مسلم].
5) قضاء الفرائض؛ لحديث أنس رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ نَسِيَ صَلاةً أَوْ نَامَ عَنْها فَكَفَّارَتُها أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ له].
6) فعل الصلاة المنذورة؛ لأنَّ الوفاء بالنَّذْر واجب؛ فأشبهت الصلاة المفروضة من حيث لزوم أدائها.
رابعاً: المعتبر في النَّهْي بعد الفَجْر والعَصْر:
الاعتبار في النَّهي بعد الفجر هو دخول وقت الفجر الصادق، فلا يجوز التطوع في هذا الوقت مطلقاً، إلا ما كان له سبب كتحية المسجد وسنة الفجر؛ لما جاء عن يسار مولى ابن عمر قال:(رَآنِي ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ، فَقَالَ: يا يَسَارُ! إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَيْنا وَنَحْنُ نُصَلِّي هَذِهِ الصَّلاةَ، فَقَالَ: لِيُبَلِّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُم، لا تُصَلُّوا بَعَدَ الفَجْرِ إِلاَّ سَجْدَتَينِ) -أي ركعتي الفجر-[رواه أبو داود].
أما الاعتبار في النهي بعد العصر فبفراغ المصلي من صلاته، لا بدخول وقتها أو بشروعه في الصلاة؛ فلو شرع في صلاة العصر ثم قلبها نفلاً لسبب من الأسباب، صح تنفله ذلك؛ لأنه لا يدخل النهي في حقه إلا بعد الانتهاء من صلاة العصر وهو لم يصلها بعد.
* * *
مسائل
في قراءة القرآن وحفظه
1) تُباحُ قراءة القرآن في الطريق؛ لما ورد عن إبراهيم التَّيْميِّ عن أبيه قال: (كُنْتُ أَعْرِضُ عَلَيْهِ وَيَعْرِضُ عَلَيَّ فِي السِّكَّةِ، فَيَمُرُّ بِالسَّجْدَةِ فَيَسْجُدُ، قَالَ: قُلْتُ أَتَسْجُدُ فِي السِّكَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ)[رواه أحمد ومسلم، واللفظ لأحمد].
2) تُباحُ قراءة القرآن مع الحَدَث الأصغر - من غير وضوء -؛ لحديث عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ مِنَ الخَلاءِ فَيَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَأْكُلُ مَعَنَا اللَّحْمَ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْجُبُهُ عَنِ القُرْآنِ شَيءٌ لَيْسَ الجَنَابَةَ)[رواه أبو داود والترمذي والنسائي].
3) تُباحُ قراءة القرآن مع نجاسة الثوب أو البدن أو الفم؛ وذلك لحديث عليٍّ رضي الله عنه السابق؛ إذ لم يكن يمنعه مانع من قراءة القرآن إلَّا حصول الحَدَث الأكبر وهو الجنابة.
4) حفظ القرآن فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وذلك بالإجماع.
أمَّا ما لا تصحُّ الصلاة إلَّا به وهو حفظ الفاتحة؛ فواجب على كلِّ مُكَلَّف بعينه؛ لأنَّها رُكْن في الصلاة، وما لا يتمُّ الواجب إلَّا به فهو واجب.
* * *
باب صلاة الجماعة
أولاً: حكمُ صلاةِ الجماعةِ:
تجبُ صلاةُ الجماعةِ على الرِّجالِ الأحرارِ القادرينَ؛ سواءً كانوا في الحضرِ أو في السّفرِ؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النّساء 102]. والأمر للوجوب، وإذا كان ذلك مع الخوف؛ فمع الأمن من باب أولى.
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (إِنَّ أَثْقَلَ صَلاةٍ عَلَى المُنافِقينَ: صَلاةُ العِشاءِ، وَصَلاةُ الفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِما لأَتَوْهُما وَلَوْ حَبْواً، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِيَ بِرِجالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ؛ فَأُحَرِّقَ عَلَيهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم].
ثانياً: أقلُّ ما تنعقدُ به الجماعةُ:
أقلُّ ما تنعقدُ به الجماعةُ اثنانِ: إمامٌ، ومأمومٌ -ولو أُنْثى-؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث رضي الله عنه:(إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ؛ فَأَذِّنَا ثُمَّ أَقِيمَا، وَلْيَؤُمَّكُما أَكْبَرُكُما)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم].
ولا تنعقدُ بالمميِّز -وهو ابنُ سبعٍ- في الفَرْض؛ لأنّ ذلك يُروى عن
ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما.
ثالثاً: الجماعةُ في المسجدِ:
تُسَنُّ الجماعةُ في المسجدِ؛ لقوله ابن مسعود رضي الله عنه: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَداً مُسْلِماً فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ؛ فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم سُنَنَ الهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الهُدَى)[رواه مسلم].
وتُسَنُّ الجماعةُ للنِّساءِ منفرداتٍ عن الرِّجال؛ لفعلِ عائشةَ وأمِّ سلمة رضي الله عنهما [رواهما عبد الرّزاق والدّارقطني]، وأَمْرِه صلى الله عليه وسلم أمَّ وَرَقةَ أن تؤمَّ أهلَ دارِها [رواه أبو داود].
ويحرمُ على الرَّجلِ أن يؤمَّ النّاسَ في مسجدٍ له إمامٌ راتبٌ، إلا مع إذنِه إنْ كان يكرهُ ذلك؛ ما لم يضقِ الوقتُ؛ لأنّه بمنزلةِ صاحبِ البيتِ، وهو أحقُّ بالإمامةِ ممّن سواهُ؛ لحديث:(لَا يَؤُمَنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدُ في بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ)[رواه مسلم]. والتَّكْرِمَة: الفراش الذي يبسط لصاحب المنزل ويخص به.
فإن كان لا يكرهُ ذلك أو ضاقَ الوقتُ صحَّتْ؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه صلّى حين غاب النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وفعله عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:(أَحْسَنْتُمْ)[رواه مسلم].
رابعاً: إدراكُ الجماعةِ:
منْ كبَّر قبلَ سلامِ الإمامِ التّسليمةَ الأولى فقد أدركَ الجماعةَ؛ لأنّه أدركَ جزءًا من صلاةِ الإمامِ؛ فأشبه ما لو أدركَ ركعةً.
ومن أدركَ الرُّكوعَ -غيرَ شاكٍّ- أدركَ الرَّكعةَ، واطمأنَّ في ركُوعِه، ثمّ تابعَ إمامَه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:(إِذَا جِئْتُمْ إِلى الصَّلاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا، وَلَا تَعُدُّوهَا شَيْئاً، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ)[رواه أبو داود]، وفي لفظ له:(مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ).
ويُسنُّ دخولُ المأمومِ مع إمامِه كيف أدركَهُ؛ لما تقدم.
وإنْ قامَ المسبوقُ لقضاءِ ما فاته قبلَ تسليمةِ إمامِه الثانيةِ، ولم يرجعْ: انقلبتْ صلاتُه نفلاً؛ لتركِه العَوْدَ الواجبَ لمتابعةِ إمامِه بلا عذرٍ؛ فيخرجَ عنِ الائتمامِ، ويبطلَ فرضُه.
وإذا أقيمتِ الصلاةُ الّتي يريدُ أن يصليَ مع إمامِها، وشرعَ في نافلةٍ: لم تنعقد نافلتُه؛ لحديث: (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلَا صَلاةَ إِلَّا المَكْتُوبَةُ)[رواه مسلم].
وإن أقيمتْ وهو في النّافلةِ: أتمّها خفيفةً إن أمن فوات الجماعة؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد 33].
ومنْ صلّى فرضَهُ، ثمّ أقيمتِ الجماعةُ وهو في المسجدِ: سُنَّ أن يعيدَ الصّلاةَ معهم، وصلاتُه الأُولى هي الفريضة؛ لحديث أبي ذر رضي الله عنه أنّ صلى الله عليه وسلم قال له:(صَلِّ الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا؛ فَإِنْ أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ مَعَهُمْ فَصَلِّ، وَلا تَقُلْ: إِنِّي قَدْ صَلَّيتُ فَلا أُصَلِّي)[رواه مسلم].
خامساً: ما يتحمّله الإمامُ عن المأمومِ:
يتحمل الإمامُ عن المأمومِ جملةَ أمورٍ؛ منها:
1) القراءةُ: لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف 204]، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إِنَّمَا الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا)[رواه أحمد].
2) سجودُ السَّهوِ: إذا دخلَ المأموم مع الإمامِ من أولِّ الصَّلاةِ.
3) سجودُ التِّلاوةِ: إذا قرأَ المأموم في صلاتِه آيةَ سجدةٍ، ولم يسجدْ إمامُه.
4) السُّتْرةُ: لأنّ سترةَ الإمامِ سترةٌ لمن خلفه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي بأصحابِه إلى سترةٍ، ولم يأمرْهُم أن يستتروا بشيء.
5) دعاءُ القنوت: حيث سمعه المأمومُ؛ فيؤمِّن فقط.
6) التّشهدُ الأوّلُ: إذا سُبق المأموم بركعةٍ في رباعيةٍ؛ لئلا يختلفَ على إمامِه.
سادساً: ما يسنُّ للمأمومِ خلفَ إمامِه:
يُسنُّ للمأمومِ أن يستفتحَ ويتعوَّذَ في الجهريّةِ؛ لأنّ مقصودَ الاستفتاحِ والتّعوُّذِ لا يحصلُ باستماعِ قراءةِ الإمامِ؛ لعدمِ جهرِهِ بهما بخلافِ القراءةِ.
ويُسَنُّ له أن يقرأَ الفاتحةَ وسورةً حيثُ شُرعتْ -أي السورةُ- في سكتاتِ إمامهِ، وهي:
- قبلَ الفاتحةِ في الركعةِ الأُولى فقطْ -حيث يستفتحُ ويستعيذُ-.
- وبعد الفاتحةِ -حيث يقرأُ الفاتحةَ-.
- وبعد الفراغِ من القراءةِ -حيث يقرأ السُّورةَ-؛ وذلك لحديث سَمُرَة رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْكُتُ سَكْتَتَيْنِ: إِذَا اسْتَفْتَحَ، وَإِذَا فَرَغَ مِنَ القِرَاءَةِ كُلِّهَا). وفي رواية: (سَكْتَةٌ إِذَا كَبَّرَ، وَسَكْتَةٌ إِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ) [رواه أبو داود، والتّرمذيّ بنحوه، وضعّفه الدارقطنيُّ وغيرُه].
ويقرأُ فيما لا يجهرُ فيه الإمامُ متى شاءَ، وكذلك فيما لم يسمعْه لبُعْدِهِ؛ لقول جابر رضي الله عنه:(كُنَّا نَقْرَأُ في الظُّهْرِ وَالعَصْرِ خَلْفَ الإِمَامِ في الرَّكْعَتَينِ الأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَفي الآخِرَتَيْنِ بِفَاتِحَةِ الكتابِ)[رواه ابن ماجه].
* * *
فصل فيمن أحرم قبل إمامِه
إذا أحرمَ المأمومُ مع إمامِه: بطلتْ صلاتُه، ولم تنعقدْ؛ لأنّه يُشترط أن يأتي بها بعدَ إمامِه وقد فاتَه. وكذا إذا أحرم قبلَ إتمامِ إمامِهِ تكبيرةَ الإحرامِ؛ لأنّه يكون قد ائتمَّ بمن لم تنعقدْ صلاتُه.
والأَوْلى للمأمومِ أن يشرعَ في أفعالِ الصَّلاةِ بعد إمامِه؛ لحديث: (إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ؛ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيهِ؛ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنا وَلَكَ الحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً أَجْمَعُونَ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم].
فإنْ وافقَهُ في أفعالِ الصّلاةِ، أو في السَّلامِ كُرِه؛ لمخالفةِ السُّنّةِ، ولم تفسدْ صلاتُه؛ لأنّه اجتمع معه في الرُّكنِ.
ويحرمُ سبقُ الإمامِ بشيءٍ من أفعالِ الصّلاةِ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِالسُّجُودِ، وَلَا بِالقِيامِ)[رواه مسلم].
فمنْ ركعَ، أو سجدَ، أو رفعَ قبلَ إمامِه عمداً لزمَهُ أن يرجعَ ليأتيَ بهِ معَ إمامِه؛ ليكونَ مؤتمًّا به؛ فإنْ أَبى الرجوع عالماً بوجوبه عمداً حتّى أدركه الإمام فيما سبقه فيه من ركوع أو سجود أو رفع، بطلتْ صلاتُه؛ لترك المتابعةِ الواجبةِ بلا عذرٍ، ولحديثِ أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ
قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ) [رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم].
ولا تبطلُ صلاةُ النّاسِي والجاهلِ؛ لحديث: (إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطأَ، وَالنِّسْيانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ)[رواه ابن ماجه، والحاكم وصحّحه، وضعّفه أحمد وغيره].
ويُسَنُّ للإمامِ التَّخفيفُ مع الإتمامِ للصّلاةِ؛ لحديثِ أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنّاسِ فَلْيُخَفِّفْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ السَّقِيمَ، وَالضَّعِيفَ،
وَذَا الحَاجَةِ، وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ) [رواه مسلم].
فإذا آثرَ واختارَ المأمومُ التطويلَ فلا بأس؛ لزوالِ علّةِ الكراهةِ، وهي التَّنفيرُ.
ويسنُّ للإمامِ أن ينتظرَ الداخلَ إلى الصّلاة إذا أحسّ به في ركوعٍ ونحوِه؛ بشرط أن لا يشقّ على من معه من المصلِّين؛ لأنّه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الانتظارُ في صلاةِ الخوفِ لإدراكِ الجماعةِ، وهذا المعنى موجود هنا، ولكن حُرمةُ مَنْ مع الإمامِ أعظمُ؛ فلا يشقُّ عليهم لنفعِ الدّاخلِ.
ومن استأذنَتْهُ امرأتُه أو أَمَتُه في الذّهابِ إلى المسجِدِ كُرِه لهُ منعُها، وصلاتُها في بيتِها خيرٌ لها؛ لحديث:(لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ الله مَسَاجِدَ الله، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنّ)[رواه مسلم].
* * *
فصلٌ في الإمامة
أوّلاً: الأوْلَى بالإمامةِ:
الأوْلَى بالإمامةِ: الأجودُ قراءةً الأفقهُ؛ لجَمْعِه المرتبتينِ، ثمّ يليهِ الأجودُ قراءةً الفقيهُ؛ لحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا كَانُوا ثَلاثَةً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بِالإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ)[رواه مسلم].
ثمّ يليه الأَجودُ قراءةً وإنْ لم يكن فقيهاً؛ إنْ كان يعرفُ فقهَ صلاتِه حافظاً للفاتحةِ؛ للحديث المذكور.
ويُقدَّمُ القارئُ الّذي لا يعلمُ فقهَ صلاتِه على الفقيه الأُمِّيِّ الذي لا يُحسِنُ الفاتحة؛ لحديث: (يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتابِ الله؛ فَإِنْ كَانُوا في القِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ؛ فَإِنْ كَانُوا في السُّنَّةِ سَوَاءً؛ فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً)[رواه مسلم].
ثمّ يُقَدَّمُ الأَسَنُّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ؛ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ)[رواه البخاري ومسلم].
ثمّ الأشرفُ نسباً؛ إِلحاقاً للإمامة الصُّغرى بالكُبرى، وحديث:(الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ)[رواه أحمد، والنّسائي في السّنن الكبرى].
ثمّ الأَتْقى والأَوْرعُ؛ لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات 13].
ثم يُقرع بينهم إذا تساووا فيما سبق؛ قياساً على الأذانِ.
وصاحبُ البيتِ الصّالحُ للإمامةِ أحقُّ بها ممّن حضره في بيتِهِ؛ لحديث:
(وَلَا يُؤَمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ)[رواه مسلم].
وإمامُ المسجدِ أحقُّ بالإمامةِ فيهِ؛ لأنَّ ابنَ عمر أتى أرضاً له وعندها مسجد يصلِّي فيه مَوْلَى له، فصلَّى ابنُ عمر معهم، فسألوه أن يؤمَّهم فأبى، وقال للمَوْلَى:(أَنْتَ أَحَقُّ أَنْ تُصَلِّيَ في مَسْجِدِكَ مِنِّي)[رواه الشّافعيُّ والبيهقيُّ].
والمقيمُ أوْلَى من المسافرِ؛ لأنّه ربّما قَصَر؛ ففاتَ المأمومينَ بعضُ الصَّلاةِ جماعةً.
والحضريُّ الناشئ بالمدن والقُرى أوْلَى من البدويِّ الناشيء بالبادية؛ لأنَّ الغالب على أهل البادية الجفاء، وقلّة المعرفة بأحكام الصلاة.
والبصيرُ أوْلَى من الأَعْمى؛ لأنّه أقدرُ على توقِّي النّجاسةِ، واستقبالِ القبلةِ بعلمِ نفسِهِ.
والمتوضِّئ أوْلَى من المتيمِّمِ؛ لأنّ الوضوءَ يرفعُ الحدثَ؛ بخلاف التيمّم فإنّه مبيحٌ.
وتكرهُ إمامةُ غير الأَوْلَى بلا إذنٍ من الأَوْلَى بالإمامة؛ لما في ذلك من التعدِّي عليهِ.
ثانياً: شروطُ صِحّةِ الإمامة:
1) العدالةُ: فلا تصحُّ إمامةُ الفاسقِ إلّا في جمعةٍ وعيدٍ تعذّر إقامتُهما خلفَ غيرِه؛ لقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة 18]، ولحديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً:(لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً، وَلَا أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِراً، وَلَا فَاجِرٌ مُؤْمِناً إِلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ يَخَافُ سَوْطَهُ وَسَيْفَهُ)[رواه ابن ماجه والبيهقي، وهو حديث ضعيف].
وتصحُّ إمامةُ الأعمى والأصمِّ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَخْلِفُ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ
يَؤُمُّ النَّاسَ، وَهُوَ أَعْمَى [رواه أبو داود]، وقِيسَ علاه الأَصمُّ.
وتصحُّ إمامةُ الأقلفِ-الذي لم يختتن-؛ لأنّه ذكرٌ، مسلمٌ، عدلٌ؛ قارئٌ؛ فصحتْ إمامتُه.
وتصحُّ إمامةُ كثيرِ اللَّحْنِ إذا كان خطؤه لا يُحيلُ ولا يغيّر المعنى، وإِمامةُ التَّمْتامِ الذي يكرِّرُ التاءَ، ولكنْ مع الكراهةِ في الكلِّ-الأعمى، والأصمّ، والأقلف، وكثير الّلحن-؛ للخلافِ في صحةِ إمامتِهم.
2) القدرةُ على الإتيانِ بالشروطِ والأركانِ: فلا تصحُّ إمامةُ العاجزِ عن شرطٍ
أو ركنٍ إلّا بمثلِه -لإخلالِه بفرضِ الصَّلاةِ-، إلّا الإمامُ الرّاتبُ بمسجدٍ ويُرجى زوالُ عجزِه وعلّتِه؛ فيصلِّي جالساً ويجلسون خلفَه، وتصحُّ قياماً؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى بهم جالساً فصلّى وراءَهُ قومٌ قياماً، فأشار إليهم أن اجلِسُوا، ثمّ قال: (إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ
…
، وَإِذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً أَجْمَعُونَ) [رواه البخاري ومسلم].
وإنْ تركَ الإمامُ رُكْناً أو شَرْطاً مختَلَفاً فيه مقلِّداً لغيرِه: صحَّتْ صلاتُه، ومن صلّى خلفَه معتقداً بطلانَ صلاتِه أعادَ؛ لأنّه تركَ ما تتوقّفُ عليه صحَّةُ صلاتِهِ.
والرواية الأظهر في المذهب واختارها الأكثر: عدم الإعادة؛ لأنَّ الصحابة رضي الله عنهم كان يصلِّي بعضُهم خلف بعض مع الاختلاف، ولأنَّ صلاته لنفسه صحيحة؛ فجاز الائتمام به، والله قد رفع الإثم عن المجتهد، وبذلك يحصل الغرض في مسائل الخلاف وهو الاجتهاد أو التقليد، ولا إنكارَ في مسائلِ الاجتهادِ؛ لعدمِ الدّليلِ.
3) الذُّكورةُ في حقِّ الرّجال: فلا تصحُّ إمامةُ المرأةِ بالرِّجالِ؛ لما تقدّم من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً: (لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً). ولأنَّها لا تؤذِّن للرجال، فلم يجز أن تؤمَّهُم.
4) البلوغُ: فلا تصحُّ إمامةُ المميِّزِ بالبالغِ في الفرضِ؛ لقول ابن مسعود رضي الله عنه: (لَا يَؤُمَّنَّ الغُلامُ حَتَّى تَجِبَ عَلَيهِ الحُدُودُ» [رواه الأثرم]، وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: (لَا يَؤُمَّنَّ الغُلامُ حَتَّى يَحْتَلِمَ)[رواه عبد الرّزاق والبيهقي بإسناد ضعيف]، ولم يُنقَل عن غيرهما من الصحابة رضي الله عنهم خلافُه. ولأنَّ الإمامة حال كمال، والصبيُّ ليس من أهلها، والإمام ضامن، والصبيُّ ليس من أهل الضمان.
وتصحُّ إمامتُه في النَّفلِ، وفي الفرضِ بمميِّزٍ مثلِه من غير البالغين؛ لأنّها نفلٌ في حقِّ كلٍّ منهم.
5) الطّهارة من الحدثِ والخبثِ (النّجاسة): فلا تصحُّ إمامةُ محدِثٍ، ولا نجسٍ يعلمُ ذلك؛ فإنْ جهلَ هُو والمأمومُ حتّى انقَضَتِ الصّلاةُ: صحّت صلاةُ المأمومِ وحدَهُ؛ لما ثبت عن عمر رضي الله عنه (أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الجُرْفِ فَوَجَدَ في ثَوْبِهِ احْتِلاماً؛ فَأَعَادَ الصَّلاةَ، وَلَمْ يُعِدِ النَّاسُ)[رواه مالك وعبد الرّزاق].
6) إحسانُ القراءة: فلا تصحُّ إمامةُ الأمِّيِّ -وهو من لا يحسنُ الفاتحةَ- إلا بمثلِه؛ لعجزِهِ عن ركنِ الصَّلاةِ.
- ويصحُّ النَّفلُ خلفَ من يُصلِّي الفرض؛ لحديث مِحْجَن بن الأَدْرَع رضي الله عنه قال: (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ في المَسْجِدِ؛ فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ فَصَلَّى فَقَالَ لي: أَلَا
صَلَّيْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله قَدْ صَلَّيْتُ في الرَّحْلِ ثُمَّ أَتَيتُكَ. قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتَ فَصَلِّ مَعَهُمْ، وَاجْعَلْهَا نَافِلَةً) [رواه أحمد].
- ولا يصحُّ الفَرضُ خلفَ من يصلّي نافلةً؛ لحديث: (إِنَّما جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيهِ)[رواه البخاري ومسلم].
وفي رواية عن الإمام أحمد يَصحُّ؛ لأنّ جابراً روى أن مُعَاذاً كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ [رواه البخاري ومسلم]، وَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في الخَوْفِ بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَينِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى بِالأُخْرَى رَكْعَتَينِ، ثُمَّ سَلَّمَ [رواه أبو داود]، وهو في الثانية مُتنفِّلٌ يؤمُّ مُفتَرضين.
- وتصحُّ الصّلاةُ المقضيّةُ خلفَ الصّلاةِ الحاضرةِ، والحاضرةُ خلفَ المقضيّةِ حيثُ تساوتا في الاسمِ -كظُهرٍ خلف ظُهرٍ-؛ لأنّ الصلاةَ واحدةٌ، وإنّما اختلفَ الوقتُ.
ولا يصحُّ عصرٌ خَلْف ظهرٍ، ولا عكسُه.
* * *
فصلٌ في مكانِ وقوفِ الإمامِ والمأمومِ
يصحُّ وقوفُ الإمامِ وسطَ المأمومينَ؛ لأنّ ابنَ مسعود رضي الله عنه صلّى بين علقمةَ والأسودِ، وقال:(هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَعَلَ)[رواه أبو داود].
والسُّنَّةُ وقوفُه متقدِّماً عليهم؛ لما ثبت أنّ جَابِراً وجَبَّاراً رضي الله عنهما وَقَفَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الصَّلاةِ: أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ؛ فَأَخَذَ بِأَيْدِيهِما حَتَّى أَقَامَهُما خَلْفَهُ. [رواه مسلم].
ويَقِفُ الرّجلُ الواحدُ عن يمينِ الإمامِ محاذياً لهُ؛ لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما حين صلّى مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وفيه:(فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَني عَنْ يَمِينِهِ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم].
ولا تصحُّ صلاةُ المأمومِ وحدَهُ خلفَ الإمامِ، ولا عن يسارهِ مع خلو يمينِه؛ لحديثِ وَابِصَةَ بنِ معبدٍ:(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يُصِلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ)[رواه أبو داود، والترمذيّ].
وتَقف المرأةُ خلفَ الإمام؛ لحديث أنس رضي الله عنه: أَنَّ جَدَّتَه مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمْ:(قُومُوا فَلِأُصَلِّيَ لَكُمْ)، قَالَ أَنَسٌ: وَصَفَفْتُ أَنَا وَاليَتِيمُ وَرَاءَهُ، وَالعَجُوزُ خَلْفَنَا، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ. [رواه البخاري ومسلم].
وإنْ صلّى الرجلُ ركعةً خلفَ الصّفِّ منفرداً فصلاتُه باطلةٌ؛ لحديث وَابِصَة السَّابق.
وإنْ أمكنَ المأمومَ الاقتداءُ بإمامِهِ ولو كان بينَهُما فوقَ ثلاثِ مائةِ ذراعٍ (140 متراً تقريباً) صَحَّ الائتمامُ؛ بشرط أن يَرى الإمامَ أو يَرى من وراءَهُ، وإلّا
لم يصحّ؛ لأنَّه لا يمكن الاقتداء به في الغالب، وقد رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لنساءٍ كُنَّ يُصلِّينَ في حُجْرتِها:(لا تُصَلِّينَ بِصَلاةِ الإِمَامِ؛ فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ في حِجَابٍ)[رواه الشافعي بإسناد ضعيف].
وإنْ كان الإمامُ والمأمومُ في المسجدِ لم تُشترطِ الرُّؤيةُ، ويَكفي سماعُ التّكبيرِ؛ لأنّ المسجدَ كلَّه موضعٌ للجماعةِ.
وإن كان بينَ الإمامِ والمأمومِ فاصلٌ عريضٌ كطريقٍ لم يصحَّ الاقتداءُ؛ لما تقدّم عن عائشة رضي الله عنها؛ إلّا لضرورةٍ؛ كازدحام المسجد بالمصلين يوم الجمعة والعيد إذا اتّصلتِ الصفوفُ.
ويُكرهُ علوُّ الإمامِ على المأمومِ؛ لأنّ حذيفة رضي الله عنه (أَمَّ النَّاسَ بِالمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ؛ فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ رضي الله عنه بِقَمِيصِهِ فَجَبَذَهُ؛ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: بَلَى! قَدْ ذَكَرْتُ حِينَ مَدَدْتَنِي)[رواه أبو داود].
ولا يُكرهُ علوُّ المأمومِ على الإمامِ؛ لأنّ أبا هريرة رضي الله عنه صَلَّى عَلَى سَطْحِ المَسْجِدِ بِصَلَاةِ الإِمَامِ. [رواه الشافعي وغيره].
ويُكرهُ لمنْ أكلَ بصلاً أو فُجْلاً ونحوَه حضورُ المسجدِ حتّى يذهب ريحه؛ لحديث جابر رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أَكَلَ البَصَلَ وَالثُّومَ وَالكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ المَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم].
* * *
فصل فيمن يُعذَر بترك الجُمُعة والجماعة
يُعذرُ بتركِ الجمعةِ والجماعةِ:
1) المريضُ: لأنّه صلى الله عليه وسلم لمّا مرضَ تخلّفَ عن المسجدِ، وقال:(مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ)[رواه البخاري ومسلم].
2) الخائفُ حدوثَ المرضِ: لأنّه في معنى المريضِ.
3) المُدافِعُ أحدَ الأخبثيْنِ: لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: (لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ)[رواه مسلم]. والأخبثان: البول، والغائط.
4) منْ لهُ ضائعٌ يَرْجُو وجودَهُ، أو يخافُ ضياعَ مالِه أو فواتَه أو ضرراً فيه،
أو يخافُ على مالٍ استُؤجِرَ لحفظِهِ كنِظارةِ -حراسة- بستانٍ: لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعاً: (مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ)[رواه ابن ماجه]. وفي رواية: (قَالُوا: فَما العُذْرُ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ)[رواها أبو داود، وضعّفها المنذريُّ وغيره].
والخوفُ ثلاثةُ أنواعٍ: على المالِ من لصٍّ ونحوِهِ، وعلى نفسِهِ من عدوٍّ وغيرِهِ، وعلى أهلِهِ وعيالِهِ؛ فيعذر في ذلك كلِّه؛ لعمومِ الحديثِ.
وكذا إن خاف موتَ قريبِهِ؛ لأَنَّ ابْنَ عُمَرَ (اسْتُصْرِخَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ
رضي الله عنهم وَهُوَ يَتَجَمَّرُ لِلْجُمْعَةِ؛ فَأَتَاهُ بِالعَقِيقِ، وَتَرَكَ الجُمْعَةَ) [رواه البيهقيّ].
5) منْ تأذَّى بمطرٍ، ووَحْلٍ، وثَلْجٍ، وجليدٍ، وريحٍ باردةٍ بليلةٍ مُظْلمةٍ: لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ المُنادِيَ فَيُنَادِي بِالصَّلاةِ: صَلُّوُا في رِحَالِكُمْ، في اللَّيْلَةِ البَارِدَةِ، وَفي اللَّيْلَةِ المَطِيرَةِ في السَّفَرِ)[متفق عليه]، وفي الصحيحين عن ابن عبّاس:(أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ في يَوْمٍ مَطِيرٍ: إِذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، فَلَا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قُلْ: صَلُّوا في بُيُوتِكُمْ. قَالَ: فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَاكَ. فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا؟ قَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، إِنَّ الجُمُعَةَ عَزْمَةٌ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ فَتَمْشُوا في الطِّينِ وَالدَّحْضِ)[والسياق لمسلم].
6) منْ تأذَّى بتطويلِ الإمامِ: لأَنَّ رَجُلاً صَلَّى مَعَ مُعَاذٍ، ثُمَّ انْفَرَدَ فَصَلَّى وَحْدَهُ لمَّا طَوَّلَ مُعَاذٌ؛ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَخْبَرَهُ [رواه البخاري ومسلم].
* * *
صلاة أهل الأعذار
أوّلاً: المقصودُ بأهلِ الأعذارِ:
الأعذارُ -جمع عُذْر-: وهو الحُجَّة التي يُعتذَّر بها، ممَّا يَرفَعُ اللَّوم عمَّن حقُّه أن يُلام؛ كالمريض، والمسافر، والخائف.
وهذه الأعذار إذا وُجِدَت في المصلَّي، فإنَّ الصلاة تختلف في بعض أحكامها من حيث الهيئة والعدد.
والأصل في ذلك قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة 286]، وقوله سبحانه:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج 78].
ثانياً: العاجزُ عن القيامِ:
- يجبُ على المريض القادر على القيام أن يصلِّيَ الفريضة قائماً ولو بالاستناد إلى شيء كعَصا أو جِدار؛ لأنَّ القيام في الفريضة رُكْنٌ من أركان الصلاة؛ فيجب الإتيان به عند القدرة وعدم المشقَّة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إِذَا أَمَرْتُكُمْ بَأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم)[رواه البخاري ومسلم].
- أمَّا إذا عجز عن القيام مُطْلَقاً أو شقَّ عليه، بسبب المرض، أو خشية زيادته، أو تأخُّر شفائه؛ فإنّه يُصلِّي قاعداً؛ لما جاء في حديث عِمْران بن حُصَين، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(صَلِّ قَائِماً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِداً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ)[رواه البخاري].
ثالثاً: العاجزُ عن الجلوسِ:
- فإن عجز المصلِّي عن الصلاة قاعداً، صلَّى على جنبه، ويكون وجهُه إلى القِبْلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ).
والأفضل أن يصلِّي على جَنْبِه الأيمن؛ لعموم حديث عائشة رضي الله عنها: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ التَيَمُّنُ في تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وفي شَأْنِهِ كُلِّهِ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري].
فإن شقَّ عليه الجنب الأيمن صلَّى على جَنْبِه الأيسر ووجهُه إلى القِبْلَة؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يحدِّد الجَنْبَ الذي يُصلِّي عليه؛ فقال: (فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ)؛ فأيُّ الجنبين كان أيسر له صلَّى عليه.
- وإن عجز عن الصلاة على جنبه، صلَّى مُستَلْقِياً على ظَهْرِه، وجعل رِجْلَيْه إلى القِبْلَة؛ لحديث عِمْرَان السابق؛ وفيه زيادة:(فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِياً)[عزاه المجد ابن تيمية والزيلعي وابن حجر للنسائي، وهي ليست في سننه الصغرى ولا الكبرى].
رابعاً: العاجزُ عن الرُّكوع والسُّجود والذِّكْر في الصلاةِ:
- إذا كان صاحب العذر قادراً على الركوع والسجود مع عجزه عن القيام؛ فإنَّه يجب عليه الإتيان بالركوع والسجود على صفتهما الكاملة؛ لأنَّ الميسور لا يسقطُ بالمعسور.
- وإذا كان قادراً على الإتيان بأحدهما؛ فإنَّه يجب عليه فعل ما يقدر عليه، ويومئ فيما يعجز عن الإتيان به.
- أمَّا إذا عجز عن الإتيان بهما؛ كحال من يصلِّي على جنبه؛ فإنَّه يُومِئ بالركوع
والسجود برأسه، ويجعل سجودَه أخفض من ركوعِه؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(صَلِّ عَلَى الأَرْضِ إِنِ اسْتَطَعْتَ. وَإِلَّا فَأَوْمِئْ إِيمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ)[رواه البزار والبيهقي]. وفي حديث علي مرفوعاً: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَسْجُدَ أَوْمَأَ وَجَعَلَ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ
…
).
- أمَّا إذا عجز المصلِّي عن الإيماء في الركوع والسجود؛ كمن أُصيب بشَلَل كامل؛ فإنَّه يُومِئُ بعَيْنَيْهِ مع استحضار الفِعْل بقَلْبِه؛ لأنَّه قادر على الإيماء؛ فأشبهَ من يُومِئُ برأسه، ولا تسقط الصلاة عنه ما دام سليم العقل؛ لقدرته على الإيماء مع النيَّة.
- وإذا كان المصلِّي عاجزاً عن القول بلسانه في أثناء الصلاة لخرس أو قطع لسان، فإنَّه يستحضر القول بقلبه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(إِذَا أَمَرْتُكُمْ بَأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم).
خامساً: تَبدّلُ حالِ العاجزِ أثناءَ الصلاة:
- من صلَّى على حالٍ ثمَّ قَدِرَ على ما هو أعلى منها، انتقل إليها؛ كمن صلَّى جالساً، ثمَّ قدر على القيام في أثناء الصلاة؛ فإنّه ينتقل إلى القيام، أو صلَّى على جَنْبِه ثمَّ قدر في أثناء الصلاة على الجلوس، انتقل إليه؛ لأنَّ العلّة التي من أجلها عمل بالرخصة قد زالت؛ فتعيَّن أن يعمل بالأصل.
- وكذا إن صلَّى على حال ثمَّ احتاج إلى ما هو أدنى منها، انتقل إلى الحال الأدنى؛ كمن صلَّى قائماً ثمَّ شقَّ عليه القيام، أو صلَّى قاعداً ثمَّ شقَّ عليه القعود، انتقل إلى القعود أو الاستلقاء بحسب حاله.
- ومن قدر على القيام إذا صلَّى منفرداً، ويعجز عنه إذا صلَّى في الجماعة؛ فإنَّه يُخيَّر بين الصلاة منفرداً أو حضور الجماعة؛ لأنَّه يفعل في كلٍّ منهما واجباً ويترك واجباً؛ فاستويا.
سادساً: الصلاةُ على الرَّاحلَةِ للعُذْرِ:
- تجوز صلاة الفريضة على الراحلة إذا تعذَّر النزول عنها بسبب التأذِّي بالمطر أو الوحل؛ لما رُوي عن يَعْلَى بن أُميَّة: (أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم انتَهَى إِلى مَضِيقٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَالسَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَالبِلَّةُ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُم، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَأَمَرَ المُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ فَصَلَّى بِهِم، يُومِئُ إِيماءً؛ يَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ)[رواه أحمد والترمذي، وإسناده ضعيف].
- كما تجوز الصلاة على الراحلة كذلك لمن خاف على نفسه من عدوٍّ أو سَبُعٍ، أو يخشى العجز عن الرجوع إن نزل، أو يخاف الانقطاع عن الرفقة في السفر؛ لأنَّ من هذا حاله يُعَدُّ خائفاً على نفسه؛ فأشبه الخائف من عدوه.
ولكن يجب عليه استقبال القِبْلَة، والإتيان بكل ما يقدر عليه من أعمال الصلاة.
- وإذا كان المصلِّي في ماء أو طين ولم يمكنه الخروج منه، ولا السجود عليه إلَّا بالتلوُّث والبَلَل، فله أن يصلِّي بالإيماء، ويجعل سجودَه أخفض من ركوعِه؛ لعموم قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(إِذَا أَمَرْتُكُمْ بَأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم).
أمَّا إذا كان البَلَل يسيراً لا أذى فيه، لزمه السجود؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِنْ صَلاتِهِ وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ المَاءِ وَالطِّينِ [رواه البخاري ومسلم].
* * *
فصل في صلاة المسافر
أولاً: قَصْرُ الصلاة في السَّفَر:
يُقصد بقَصْر الصلاة: أن يؤدِّي المصلِّي الصلاة الرُّباعيَّة -وهي الظُّهْر والعَصْر والعِشاء- ثنائيَّة؛ فيصلِّي كلَّ واحدة منها ركعتين ركعتين.
أمَّا صلاة المَغْرِب والصُّبْح، فيُصلِّيهما تامَّتين من غير قَصْرٍ إجماعاً.
- وقَصْر الصلاة قد دلَّت نصوص الشرع على مشروعيِّته؛ فقال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء 101]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:(فَرَضَ اللهُ الصَّلاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَينِ رَكْعَتَينِ في الحَضَرِ والسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ في صَلاةِ الحَضَرِ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري].
- وقَصْر الصلاة في السفر أفضل من إتمامها؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده داوموا على قَصْر الصلاة في أسفارهم، ومن ذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (صَحِبْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَكَانَ لا يَزِيدُ في السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَينِ، وأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثمانَ كذلك رضي الله عنهم [رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري].
ثانياً: شروط صحَّة القَصْر في السَّفَر:
يشترط لقَصْر الصلاة في السَّفر أربعةُ شروط، هي:
1) أن يكون السَّفر مُباحاً:
ويقصد بالسفر المباح كل سفر أجازه الشرع سواء كان واجباً، أو مندوباً،
أو مباحاً؛ كالسفر إلى الحج أو الجهاد، أو صلة الأرحام، أو زيارة الأصدقاء،
أو التجارة أو السياحة ونحو ذلك؛ وذلك لعموم قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الله وَضَعَ عَنِ المُسَافِرِ الصَّوْمَ، وَشَطْرَ الصَّلاة)[رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه].
أمَّا المسافر سفر معصية، فلا يباح له القَصْر؛ لأنَّ الرُّخُص الشرعيَّة شُرِعَت تخفيفاً وإعانة على المقصد، فلم تشرع في سفر المعصية؛ حتَّى لا يُعان العاصي على معصيته. ومثله إذا كان السفر مكروهاً؛ كسفر الرجل وحده بدون رفقة.
2) أن يكون المُسافِرُ قاصِداً السَّفَر إلى محلٍّ مُعَيَّن:
فلا يجوز القصر لمن هَامَ على وجهه لا يدري أين يذهب، ولو بلغ في سَيره مسافة تقصر معها الصلاة؛ وذلك لانتفاء القصد والنية؛ فهو لم يقصد السفر ابتداءً ولم ينوه، ولذا لم يبح له القصر لا في ابتدائه ولا في أثنائه.
3) أن يَبلغ سفره مَسَافة قَصْرٍ:
وتُقَدَّر مسافة القصر بسِتَّة عَشَر فَرْسَخاً، أو ثَمانِيةً وَأربَعينَ مِيلاً، وبالمقاييس المعاصرة ما يعادل أكثر من (80) كيلومتراً تقريباً، سواء كان السَّفَرُ بَرًّا أو بَحْراً أو جَوًّا؛ وذلك لما رُوي عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يَا أَهْلَ مَكَّةَ! لا تَقْصُرُوا في أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، مِنْ مَكَّةَ إِلى عُسْفَانَ)[رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد ضعيف، والصحيح أنَّه من قول ابن عباس].
4) أن يُغادِرَ عُمْران البَلَدِ:
وهو أن يُفارق بيوتَ المدينة أو البَلْدَة أو القَرْيَة؛ لقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء 101]، ومن لم يُفارق البيوت لم يَضْرِب في الأرض؛ فلا يُسمَّى مسافراً إلَّا إذا ارتحل، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما كان يَقْصُر صلاتَه إلَّا إذا ارتحل؛ كما في حديث أنس رضي الله عنه قال:(صَلَّيتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ بِالمَدِينَةِ أَرْبَعاً وَصَلَّيْتُ مَعَهُ العَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَينِ)[رواه البخاري ومسلم].
- ومن خرج مسافراً مسافة تُبيحُ القَصْر، ثمَّ بدا له أن يرجع قبل استكمال المسافة، فلا يُعيدُ الصلاة التي صلَّاها أثناء سفره؛ لأنَّ المعتبر نيَّة قطع مسافة القَصْر لا قطع المسافة نفسها؛ بدليل أنَّه يَبتَدِئ القَصْر بعد مغادرة عُمْران البلد، وهي ليست مسافة قَصْر.
ثالثاً: الأحوالُ التي لا يُشرَعُ فيها القَصْرُ للمُسافِر:
لا يُشرعُ للمصلِّي قَصْرُ الصلاة في الحالات الآتية:
1) إذا دخل وقت الصلاة وهو مقيم ثمَّ سافر؛ لأنَّ الصلاة وجبت في ذمَّته وهو مقيم غير مسافر، ومن كان هذا حاله فحقُّه الإتمام لا القَصْر؛ لحديث أنس رضي الله عنه قال:(صَلَّيتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ بِالمَدِينَةِ أَرْبَعاً وَصَلَّيْتُ مَعَهُ العَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَينِ)[رواه البخاري ومسلم].
والقول بالإتمام من مُفْرَدات المذهب.
وفي رواية موافقة لجمهور العلماء أنَّه يُباح له القَصْر؛ لأنَّ العِبْرة بوقت أداء الصلاة، لا بوقت وجوبها، وقد حكاه ابن المنذر إجماعاً.
2) إذا اقتدى المسافر بإمام مقيم؛ لما روى مُوسَى بن سَلَمَة قال: (كُنَّا مَعَ
ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَكَّةَ فَقُلْتُ: إِنَّا إِذَا كُنَّا مَعَكُمْ صَلَّيْنَا أَرْبَعًا، وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى رِحَالِنَا صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: تِلْكَ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم[رواه أحمد]. وقال نافع: «كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ صَلَّاهَا أَرْبَعاً، وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ صَلَّاهَا رَكْعَتَينِ» [رواه مسلم].
3) إذا لم يَنْوِ المسافر قَصْرَ الصلاة عند الإحرام بالصلاة؛ لأنَّ الأصل الإتمام، وإطلاقُ النيَّة وعدمُ تحديدها ينصرفُ إلى الأصل.
4) إذا نوى المسافر الإقامة مُطْلَقاً من غير تحديد؛ كالعُمَّال المقيمين للعمل، والتاجر المقيم للتِّجارة، والطالب المقيم للدِّراسة، ونحوهم؛ فهؤلاء حُكْمُهُم حُكْمُ المقيمين؛ لأنَّ السفر المبيح للقَصْر قد انقطع بنيَّة الإقامة.
5) إذا نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام، أو أقام لحاجة وظنَّ أنَّها لا تنقضي إلَّا بعد أربعة أيَّام؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قدم مكَّة صبيحة اليوم الرابع من ذي الحِجَّة، وأقام فيها إلى فَجْر اليوم الثامن، يَقْصُرُ الصلاة، ثمَّ خرج إلى مِنى؛ كما ثبت في الصحيحين من حديث جابر وأبي هريرة رضي الله عنهما؛ فيكون بذلك قد صلَّى إحدى وعشرين صلاة قَصْراً.
6) إذا أخَّر المسافر الصلاة بلا عُذْر حتَّى ضاق وقتها عنها؛ لأنَّه صار بتأخيره عاصياً، والرُّخَصُ لم تُبَحْ ليُتوسَّل بها إلى فعل المعاصي.
رابعاً: الأحوالُ التي يُشرَع فيها القَصْر للمُسافِر:
يُشرع للمُسافِر مسافةً تبيحُ القَصْرَ أن يَقْصُر الصلاة في الحالات الآتية:
1) إذا أقام في بلد لحاجة فوق أربعة أيام وهو لا ينوي الإقامة فيها، ولا يدري متى تنقضي حاجتُه.
كمن يأتي مسافراً إلى بلد لحاجة ويقول اليوم أخرج، غداً أخرج، فهذا له أن يَقْصُر الصلاة ولو بقي أكثر من أربعة أيام؛ لما جاء عن جابر رضي الله عنه قال:(أَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِتَبُوكَ عِشْرينَ يَوْماً يَقْصُرُ الصَّلاةَ)[رواه أحمد وأبو داود].
2) إذا أقام في بلد بسبب الحبس ظُلماً، أو لعُذر المطر، ولو أقام سنين؛ لما جاء عن نافع عن ابن عمر قال:(أَرْتَجَ عَلَيْنَا الثَّلْجُ وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ في غَزَاةٍ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَكُنَّا نُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ)[رواه عبد الرزاق والبيهقي، والسياق له].
* * *
فصل في الجَمْعُ بينَ الصَّلاتَين
أولاً: المقصودُ بالجَمْع:
المقصود بالجمع: ضمُّ إحدى الصلاتين إلى الأخرى تقديماً أو تأخيراً؛ فيجمع المصلي بين الظهر والعصر في وقت إحداهما، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما؛ إذا كان هناك عذر معتبر شرعاً.
ثانياً: الأحوالُ التي يُباحُ فيها الجَمْعُ بين الصَّلاتَيْن:
الأصل في المسلم أن يصلِّي الصلاة على وقتها؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء 103]، ولا يجوز للمسلم أن يُخرِجَ الصلاة عن وقتها إلَّا من عُذْر شَرْعِيٍّ.
- والأعذارُ المُبيحَة للجَمْع بين الصَّلاتَيْن، تنقسمُ إلى نوعين:
النوع الأوّل: أعذار تُبيحُ الجَمْع بين صلاتي الظُّهْر والعَصْر، وصلاتي المَغْرِب والعِشاء تقديماً أو تأخيراً، وهي:
1) السَّفر الذي تُقصَر فيه الصَّلاة: وهو السفر الطويل الذي يبلغ أكثر من (80 كم)؛ فيجوز أن يجمع بين الظُّهْر والعَصْر، وبين المَغْرِب والعِشاء، جَمْعَ تقديم أو جَمْعَ تأخير؛ وذلك لما ثبت من حديث مُعاذ بن جَبَل رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ الله
صلى الله عليه وسلم كَانَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَإِنْ يَرْتَحِلْ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَنْزِلَ لِلْعَصْرِ، وَفِى المَغْرِبِ مِثْلَ ذَلِكَ إِنْ غَابَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ جَمَعَ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَإِنْ يَرْتَحِلْ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ أَخَّرَ المَغْرِبَ حَتَّى يَنْزِلَ لِلْعِشَاءِ ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَهُمَا) [رواه أبو داود والترمذي].
2) المُقيمُ المريضُ الذي تلحقُه مَشَقَّة وضَعْف بتَرْكِ الجَمْع؛ لما ثبت عن
ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: (جَمَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَينَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، وَالمَغْرِبِ وَالعِشَاءِ بِالمَدِينَةِ، في غَيْرِ خَوْفٍ وَلا مَطَرٍ)، وفي رواية (في غَيْرِ خَوْفٍ وَلا سَفَرٍ)[رواه مسلم]. فالجَمْعُ بين الصلاتين لا بدَّ فيه من عُذْرٍ؛ فإذا كان جَمْعُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا الخَبَر لغير عُذْر الخوف أو المطر أو السفر، دلّ ذلك على أنَّ العُذْر الذي من أجله جَمَع هنا هو عُذر المرض.
وقد ثبت جواز الجمع للمستحاضة -كما سيأتي-؛ وهي نوع مرض.
3) المرأة المُرْضِع؛ إذا كان يَشُقُّ عليها غَسْل ثوبها الذي تصيبه النجاسة في وقت كلِّ صلاة؛ بشرط أن لا يُتَّخَذَ ذلك عادة.
4) العاجِزُ عن الطهارة أو التيمُّم لكلِّ صلاة؛ كالمستحاضة، ومن به سَلَسُ بَوْل، ومن ينزف جُرْحُه على الدوام؛ وذلك لحديث حَمْنة حين اسْتَفْتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في الاستحاضة فقال:(وَإِنْ قَوِيتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ، وَتُعَجِّلِي العَصْرَ، فَتَغْتَسِلِينَ ثُمَّ تُصَلِّينَ الظُّهْرَ وَالعَصْرَ جَمِيعاً، ثُمَّ تُؤَخِّرِي المَغْرِبَ وَتُعَجِّلِي العِشَاءَ، ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلاتَينِ فَافْعَلِي)[رواه أحمد وأبو داود والترمذي].
5) الشُّغْل الذي يُبيحُ تَرْكَ الجُمُعَة والجماعة، إذا كان يخاف بتَرْكه ضَرراً؛ كالطَّباخ والخبَّاز والحارس، بحيث لا يتَّخَذ ذلك عادة.
النوع الثاني: أعذارٌ تختصُّ بإباحة الجَمْع بين المَغْرِب والعِشاء فقط، وهي:
1) المطر الذي يَبُلُّ الثياب وتوجد معه مَشَقَّة؛ لما روى نافع (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ إِذَا جَمَعَ الأُمَرَاءُ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ في المَطَرِ جَمَعَ مَعَهُمْ)[رواه مالك]، ولما ثبت عن عُرْوَة بن الزُّبَيْر، وسعيد بن المُسَيّب، وأبي بكر بن عبد الرحمن المخزوميّ (أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَينَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ في اللَّيلَةِ المَطِيرَةِ إِذَا جَمَعُوا بَينَ الصَّلاتَينِ وَلا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ)[رواه البيهقي].
2) الثَّلج والبَرَد؛ لأنَّهما في معنى المطر.
3) الوَحَل والطِّين؛ لأنَّ المشقة تلحق المصلِّي في تلويث نعله وثيابه، ويتعرَّض فيه الإنسان للزَّلَق؛ فيتأذَّى في نفسه وثيابه، وهو في ذلك أعظم من البَلَل الذي يلحقه بالمطر.
4) الجليد؛ لأنَّه يجتمع فيه معنيان؛ أحدهما: المشقَّة بسبب شدَّة البَرْد؛ إذ الجليد لا يتكوَّن إلَّا مع البرودة الشديدة. والآخر: التعرُّض للزَّلَق فيتأذَّى به الإنسان كالوَحَل والطِّين.
5) الرِّيح الشديدة الباردة؛ لأنَّها عذر في ترك الجمعة والجماعة؛ كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُنادِي مُنادِيهِ في اللَّيلَةِ المَطِيرَةِ أَوْ
اللَّيلَةِ البَارِدَةِ ذَاتِ الرِّيحِ: صَلُّوا في رِحَالِكُمْ) [رواه ابن ماجه]. فدلَّ ذلك على أنَّ شدَّة البَرْد ممّا يُلحِق المشقَّة بالمصلِّي؛ فجاز الجمع بسببه.
ثالثاً: المفاضَلَةُ بين جَمْعِ التقديم وجَمْعِ التأخير:
لا مفاضلة بين جَمْع التقديم وجَمْع التأخير، وإنَّما الأفضل ما كان أرفق بالمعذور؛ لأنَّ الجَمْع إنَّما شُرِعَ لرفع الحرج والمشقَّة، وقد فعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأمرين بحسب الأرفق به؛ كما في حديث معاذ رضي الله عنه:(أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَإِنْ يَرْتَحِلْ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَنْزِلَ لِلْعَصْرِ، وَفي المَغْرِبِ مِثْلَ ذَلِكَ إِنْ غَابَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ جَمَعَ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَإِنْ يَرْتَحِلْ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ أَخَّرَ المَغْرِبَ حَتَّى يَنْزِلَ لِلْعِشَاءِ ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَهُمَا)[رواه أبو داود والترمذي].
رابعاً: شروطُ جَمْع التقديم:
إذا جَمَع المعذورُ جَمْع تقديم، فإنَّه يُشتَرَطُ لذلك ما يأتي:
1) نيَّة الجَمْع عند الإحرام بالصلاة الأُولَى؛ لأنَّ الجمع عمل، وهو مُفتقِرٌ إلى النيَّة؛ كما في الحديث:(إِنَّما الأَعْمالُ بِالنِّيَّاتِ)[رواه البخاري ومسلم].
2) أن لا يُفرِّق بين الصلاتين بنافلة؛ فينبغي لصحَّة الجمع أن يوالي بين الصلاتين ولا يفصل بينهما بفاصل طويل عُرْفاً؛ بنحو صلاة نافلة، بل بقَدْر إقامة أو وضوء خفيف؛ لأنَّ معنى الجمع المقارنة والمتابعة، وقد ثبت ذلك من حديث أسامة بن
زيد رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في صفة جَمْعِه في مُزْدَلِفَة قال: (فَلَمَّا جَاءَ المُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى المَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ في مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْعِشَاءُ فَصَلاَّهَا وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا)[رواه البخاري ومسلم].
- فإن فصل بين الصلاتين بأداء السُّنَّة بطل الجَمْع؛ لأنَّه فرَّق بينهما بصلاة.
3) أن يوجد العُذْر عند ابتداء الصلاتين وعند السلام من الأُولى؛ لأنَّ افتتاح الأولى موضع النيَّة، والسلام منها وافتتاح الثانية موضع الجمع؛ فوجود العُذْر هو السبب المبيح للجَمْع؛ فإذا زال العُذْر قبل افتتاح الأُولَى أو في أثنائها، أو قبل الفراغ من الثانية لم يصحّ الجَمْع لزوال سببه.
4) أن يستمرَّ العُذْرُ المبيح للجَمْع في غير جَمْع المطر ونحوه -كبرد وثلج- إلى الفراغ من الثانية؛ فلو أحرم بالأولى ناوياً الجمع لمطر، ثمَّ انقطع المطر ولم يَعُدْ، وحَصَلَ وَحَلٌ، جاز الجمع، ولم يؤثر انقطاع المطر؛ لأنَّ الوَحَل ناشئ عن المطر، وهو من الأعذار المبيحة. فإن لم يحصل وَحَلٌ بطل الجمع؛ لزوال العذر المبيح.
خامساً: شروطُ جَمْع التأخير:
وإذا جَمَعَ المعذورُ جَمْعَ تأخير، فإنَّه يشترط لذلك ما يأتي:
1) نيَّة الجَمْعِ بوقت الأُولَى ما لم يَضِقِ الوقتُ عن فِعْلِها؛ لأنَّه إذا أخَّر الصلاة الأُولَى عن وقتها بغير نيَّة الجَمْعِ صارت قَضاءً لا جَمْعاً، كما أنَّ تأخيرَها إلى أنْ يَضيقَ الوقتُ عن فِعْلِها حَرامٌ، وهو ينافي الرُّخْصَة.
2) بقاءُ العُذْرِ إلى دُخولِ وقت الثانية؛ لأنَّ وجودَ العُذْر سببُ إباحة الجَمْع،
فإذا لم يستمرَّ إلى وقت الثانية زال سبب الجَمْع، وإن استمرَّ إلى وقتها جاز له الجَمْع، ولو أخَّره إلى حين الوصول إلى بلده.
3) الترتيب؛ بأن يُقدِّم الأُولَى على الثانية.
ولا تشترط الموالاة بينهما؛ لأنَّ الثانية مؤدَّاة في وقتها بكلِّ حال.
سادساً: ما لا يُشتَرَط لصحَّة الجَمْع:
لا يُشتَرَط لصحَّة الجَمْع بين الصلاتين اتِّحادُ الإمام والمأموم؛ فيصحّ الجَمْع في الأحوال التالية:
1) أن يصلِّي المأموم الظُّهْرَ خَلْف إمامٍ والعَصْرَ خَلْفَ إمام آخر.
2) أن يجمعَ إمامٌ العَصْرَ بمأمومٍ غير الذي صلَّى معه الظُّهْرَ.
3) أن يجمعَ المأمومُ خَلْفَ إمامٍ لم يجمع.
4) أن يُصلِّي إحدى الصلاتين مُنفرداً والأخرى في جماعة.
5) أن يجمعَ الإمامُ بمأمومٍ لم يجمع.
سابعاً: صلاةُ السُّنَّة والوِتْر حال جَمْع التقديم:
- إذا جَمَعَ المصلِّي جَمْع تقديم، فله أن يُصلِّي سُنَّةَ الأُولَى وسُنَّة الثانية بعد الجَمْع؛ لأنَّ السُّنَّة الرَّاتبة تابعةٌ لفَرْضِها، وهو قد صلَّى الفَرْضَ.
- وإذا صلَّى المَغْرِب والعِشاءَ جَمْعَ تقديم، فَلَهُ أنْ يُوتِرَ قبل دخول وقت العِشاء؛ لأنَّ الوِتْر وقتُه ما بين صلاة العِشاء إلى الفَجْر، وقد صلَّى العِشاءَ؛ فدخل وقته.
* * *
فصلٌ في صلاة الخَوْف
أولاً: تعريفُ صلاةِ الخوفِ:
يُقصَدُ بصلاةِ الخوفِ: الصلاةُ المكتوبة الّتي يُؤدّيها المسلمونَ على هيئةٍ خاصّةٍ وردَ بها الشرعُ، عندَ حصولِ خوفٍ، أو ملاقاةِ عدوٍّ.
ثانياً: حكمُ صلاةِ الخوفِ:
تُشرَع صلاةُ الخوفِ وتصحُّ -إذا كان القتالُ مباحاً- حضراً وسفراً؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة 239]، ولفعلِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث صلّاها في غزوةِ ذاتِ الرِّقاعِ وغيرِها منَ الوقائِعِ [أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما]، ولإجماعِ الصّحابةِ رضي الله عنهم على فعلِها.
ثالثاً: شروط صحَّة صلاة الخوف:
تُشرعُ صلاةُ الخوفِ بشرطينِ:
الأوّل: أن يكونَ قتالُ العدوِّ قِتالاً مُباحاً؛ فلا تجوزُ في قتالٍ مُحرَّمٍ؛ لأنّها رخصةٌ فلا تُباحُ بمعصيةٍ.
الثاني: أن يُخاف هجوم العدوِّ على المسلمينَ حالَ الصلاةِ؛ لقولهِ تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، وقوله:{وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102].
رابعاً: صفةُ صلاةِ الخوفِ:
لا تأثيرَ للخوفِ في تغييرِ عددِ ركعاتِ الصّلاةِ؛ فيَقْصُرُ الخائفُ صلاتَهُ في حالِ سفرِهِ، ويُتِمُّ في حالِ إقامتِهِ، ولكنْ يؤثّرُ الخوفُ في صفةِ الصّلاةِ، وفي بعضِ شروطِها على نحوِ ما وردَ عنِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم من كيفياتِ صلاتِها؛ فقد قال الإمامُ أحمدُ
رحمه الله: «صحّتْ صلاةُ الخوفِ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من ستّةِ أوجهٍ، أمّا حديثُ سهلٍ فأنا أختارُهُ» .
ونذكرُ من صفاتِ صلاةِ الخوفِ صفتين:
الأُولى: إذا كان العدوُّ في غيرِ جهةِ القِبْلَة: وهذهِ الصفةُ موافقةٌ لظاهرِ القرآنِ، ووردتْ صفتها في حديثِ سَهْل بنِ أبي حَثْمةَ رضي الله عنه-الذي أشار إليه الإمامُ أحمدُ-؛ وكانت في يومَ ذاتِ الرِّقاعِ:(أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ وَطَائِفَةٌ وِجَاهَ الْعَدُوِّ؛ فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَصَفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى؛ فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، وَأَتَمُّوا لأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ)[رواه البخاري ومسلم].
الثانية: إذا كان العدوُّ في جهةِ القِبْلَة: ووردت صفتها في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الخَوْفِ؛ فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ؛ صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السُّجُودَ وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ المُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ فِي نُحُورِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم السُّجُودَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ؛ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا) [رواه مسلم].
- وإذا اشتدَّ الخوفُ بأنْ تواصلَ الضَّربُ والطَّعنُ، والكرُّ والفرُّ، ولم يمكنْ تفريقُ القومِ صفَّيْن، ولا صلاتُها على وجهٍ من وُجوهِها الأخرى، وحضَرَ وقتُ الصّلاةِ: لمْ تؤخَّر، وصَلَّوا رجالاً أو رُكباناً، متوجّهين للقبلةِ وغيرِها؛ للآيةِ السّابقةِ، ولقولِ ابنِ عمر رضي الله عنهما:(فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ هُوَ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَوْ رُكْبَانًا؛ مُسْتَقْبِلي الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا) قال نافعٌ: لا أرى عبدَ الله بنَ عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. [رواه البخاري]. ولا يلزمُهم في هذِهِ الحالةِ افتتاحُ الصّلاةِ إلى القبلةِ؛ ولو أمكنهُم ذلكَ.
وتكونُ صلاتُهم بالإيماءِ؛ يُومِئون بالرُّكوعِ والسُّجودِ بقدرِ طاقتِهم؛ لأنّهم لو أتمُّوا الرّكوعَ والسّجودَ لكانُوا هدَفاً لأسلحةِ العَدوِّ، معرّضين أنفسَهم للهلاكِ.
ويكونُ سجودُهم أخفضَ من ركوعِهِم، ولا يجبُ السّجودُ على ظهرِ الدّابّةِ.
خامساً: الحالاتُ الّتي تلحق بالصّلاةِ في شدّةِ الخوفِ:
يلحقُ بالصّلاةِ في شدّةِ الخوفِ الحالاتُ التاليةُ:
1) حالةُ الهرَبِ من عدوٍّ -إذا كان الهربُ مباحاً-، أو الهربِ من سَيْلٍ،
أو حيوانٍ صائلٍ، أو هربٍ من نارٍ، أو غريمٍ ظالمٍ.
2) الخوفُ من فواتِ وقتِ الوقوفِ بعرفةَ؛ إذا كان الحاجُّ قاصداً إليها، ولم يبقَ من وقتِ الوقوفِ إلا مقدارٌ يسيرٌ؛ بحيث لو صلّاها على الأرضِ فاتَهُ الوقوفُ؛ لأنّ الضّررَ الّذي يلحقُه بفواتِ الحجِّ لا ينقصُ عن الضّررِ الحاصلِ من الغريمِ الظّالمِ.
3) الخوفُ على نفسِهِ أو أهلِهِ أو مالِهِ، أو الذَّبِّ عن ذلك كلِّه، أو عن نفسِ غيرهِ؛ لما في ذلك من الضّرَرِ.
4) الخوفُ من فَوْتِ عدُوٍّ يطلبُهُ؛ لحديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال: (بَعَثَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الهُذَلِيِّ - وَكَانَ نَحْوَ عُرَنَةَ وَعَرَفَاتٍ-؛ فَقَالَ: اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ. قَالَ: فَرَأَيْتُهُ وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ؛ فَقُلْتُ: إِنِّي لأَخَافُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا إِنْ أُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ؛ فَانْطَلَقْتُ أَمْشِي وَأَنَا أُصَلِّي أُومِئُ إِيمَاءً نَحْوَهُ
…
) الحديث [رواه أبو داود].
- وإنْ خافَ شخصٌ عدواً إنْ تخلّفَ عن رفقتِهِ فصلّى صلاةَ خائفٍ، ثمّ بانَ لهُ أمنُ الطَّريقِ: لمْ يُعدْ؛ لعمومِ البَلوى بذلك.
- ومن دخلَ في صلاتِه وهو آمنٌ، ثمّ خافَ في أثنائِها لطارئٍ: كمّلها على هيئةِ صلاةِ الخائفِ، وبَنَى على ما صلّاهُ منها وهو آمنٌ، وإنْ دخلَ فيها وهو خائفٌ ثمّ أمنَ: كمّلها على هيئةِ صلاةِ الآمنِ، وبَنَى على ما صلّاهُ منها وهو خائفٌ؛ لأنّ بناءَه في كلا الحالتين على صلاةٍ صحيحةٍ.
- وتصحُّ صلاةُ الجمعةِ في الخوفِ حضراً لا سفراً، بشَرْطَينِ:
1) أنْ يكونَ عددُ كلُّ طائفةٍ أربعينَ فأكثرَ ممَّن تجبُ عليهِ الجمعةُ؛ لأنَّه يُشترَطُ لها الاستيطانُ والعَددُ.
2) أنْ يُحرِمَ بمنْ حَضَرتِ الخُطبةَ من الطائفتينِ؛ لأنَّه يُشتَرَط الموالاةُ بين الخُطْبةِ والصَّلاةِ.
- وتصحُّ صلاةُ الاستسقاءِ في الخوفِ للضَّرورةِ.
- وتصحُّ صلاةُ الكسوفِ، وصلاةُ العيدِ مع الخوفِ.
سادساً: ما يجوزُ فعلُه للمصلِّي أثناءَ صلاةِ الخوفِ:
يجوز للمصلي أثناء صلاة الخوف ما يلي:
1) الكَرُّ والفَرُّ، والتَّقدُّمُ والتَّأخُّرُ، والطَّعنُ والضَّربُ بحسَبِ المصلحةِ،
ولا تبطلُ الصّلاةُ بطولِ ذلك؛ لما ثبت في حديث ابن عمر في صلاةِ الخوفِ قال: (صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الخَوْفِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَينِ رَكْعَةً، وَالطَّائِفَةُ الأُخْرَى مُواجِهَةَ العَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَقَامُوا في مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلينَ عَلَى العَدُوِّ، وَجَاءَ أُولَئِكَ ثُمَّ صَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً، وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً)[رواه البخاري ومسلم]، وهذا فيه عملٌ كثيرٌ في الصّلاةِ.
2) حملُ نجسٍ لحاجةٍ؛ كسِلاحٍ مُلوّثٍ بدمِ؛ لقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء 102].
ولا يلزمُ المصلِّيَ إعادةُ صلاتِهِ.
* * *
باب صلاة الجُمُعة
أولاً: حُكمُها:
صلاةُ الجمعةِ فرضُ عينٍ على الرِّجال؛ لقوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].
ثانياً: من تجبُ عليه صلاةُ الجُمُعةِ:
1) تجب صلاةُ الجمعةِ على كلِّ ذكرٍ، مسلمٍ، عاقلٍ، بالغٍ، حُرٍّ، لا عذر لهُ في تركِها؛ لحديث طارقِ بنِ شهابٍ رضي الله عنه مرفوعاً:(الجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ في جَمَاعَةٍ إلَّا أَرْبَعَةً: عَبْدٌ، أَوْ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ)[رواه أبو داود].
2) تجبُ الجمعةُ كذلك على كلِّ مسافرٍ لا يباحُ له قصرُ صلاتِه؛ كالسّفرِ لمسافةٍ دون مسافةِ القصرِ، أو السَّفرِ في معصيةٍ.
3) تجبُ على المقيمِ خارجَ البلدِ إذا كان بينه وبين موضعِ إقامةِ الجمعةِ وقتَ فِعلِها فَرْسَخٌ (وهو يُقدَّر بأكثر من: 5000 متراً تقريباً) فأقلّ؛ لحديث: (الجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ)[رواه أبو داود].
والعبرةُ بمظِنَّةِ سماعِ النِّداء لا بالسّماعِ نفسِهِ، وقُدِّر الموضعُ بالفرسخِ؛ لأنّه الموضعُ الّذي يسمع منه النداءُ في الغالبِ إذا كان المؤذّنُ صيِّتاً، والموضعُ عالٍ،
والرياحُ ساكنةٌ، والأصواتُ هادئةٌ، والعوارضُ منتفيةٌ.
ثالثاً: من لا تجبُ عليه صلاةُ الجُمُعةِ:
1) لا تجبُ صلاةُ الجمعةِ على من يباحُ له القصرُ؛ لأنّه عليه الصلاة والسلام سافر هو وأصحابُه في الحجّ فلمْ يصلِّ أحدٌ منهم الجمعةَ فيه [ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما].
2) لا تجبُ الجمعةُ على امرأةٍ.
3) لا تجبُ أيضاً على صبيِّ، ولا مريض، ولا عبدٍ، ولا مُبَعَّضٍ - وهو الذي أُعتقَ بعضُه-؛ لحديث طارق ابن شهاب السّابق.
- ومنْ حضرَ الجمعةَ مِنْ هؤلاء أجزأتْهُ عن صلاةِ الظُّهر إجماعاً؛ لأنّ إسقاطَ الجمعةِ عنهم من بابِ التّخفيفِ؛ فإذا حضرُوها أجزأتْهُم.
رابعاً: شروطُ صحّةِ صلاةِ الجمعةِ:
يشترطُ لصحّةِ صلاةِ الجمعةِ أربعةُ شروطٍ:
الأوّلُ: دخول الوقتُ: وهو من أوّلِ وقتِ صلاة العيدِ -وهو ارتفاع الشمس قيد رمح- إلى آخرِ وقتِ الظُّهرِ؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الجُمُعَةَ، ثُمَّ نَذْهَبُ إِلَى جِمَالِنَا فَنُرِيحُها حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ)[رواه مسلم]، ولما رُويَ عن ابن مسعود ومعاوية وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم:(أَنَّهُمْ صَلَّوا الجُمُعَةَ ضُحًى)[رواه ابن أبي شيبة]، ولم يُنكرْ عليهم.
- وتجبُ الجمعةُ بالزَّوالِ؛ لأنّها بدلٌ عن الظُّهرِ، ولأنّه الوقتُ الّذي كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصلّي فيه الجمعةَ أكثرَ أوقاتِهِ؛ ففي حديثِ سلمةَ بن الأَكْوَع رضي الله عنه
قال: (كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَتَتَبَّعُ الفَيْءَ)[رواه البخاري ومسلم].
- وفعلُ الجمعةِ بعدَ الزّوالِ أفضلُ من فعلِها قبلَ الزّوالِ؛ خروجاً من الخلافِ. وما قبلَ الزوالِ وقتٌ للجوازِ لا للوُجوبِ.
الثّاني: أنْ تكونَ بقَرْيَةٍ مَبْنيَّةٍ بما جرتْ عادةُ أهلِها به، ولو كانَتْ من قصبٍ؛ فأمّا الخيامُ وبيوتُ الشَّعرِ فلا جمعةَ على ساكِنيها؛ لأنّ ذلك لا ينصبُ للاستيطانِ غالباً، ولأنّه ثبت بالاستقراء أنّ قبائل العرب حول المدينة لم يكونوا يقيمون الجمعة، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، لكن إذا كانوا مقيمين بموضعٍ يسمعون منه النداءَ: لزمَهُمْ السعيُ إليها.
- ويُشترطُ في القريةِ أن يستوطنَها أربعون رجلاً استيطانَ إقامةٍ؛ فلا يرحلون عنها صيفاً ولا شتاءً.
- وتصحُّ صلاةُ الجمعةِ فيما قاربَ البنيانَ من الصحراءِ، لا فيما بَعُد عن البُنيانِ؛ لشِبْهِهم بالمسافرين.
الثّالثُ: حضورُ أربعين ممّن تجبُ عليهم الجمعةُ؛ بما فيهم الإمام؛ لما ثبت في حديث عبد الرّحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أنّه رضي الله عنه قال: (أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِنَا أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ
…
، قَالَ: قُلْتُ: كَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ) [رواه أبو داود].
- فإن نقص العددُ عن أربعين قبل إتمام الجمعةِ: استأنفوها ظهراً؛ لأنّ العددَ شرطٌ لصحّتها؛ فاعتُبر في جميعها كالطّهارة.
- ولا يحسبُ العبدُ والمرأةُ والصبيُّ والمسافرُ، ولا من ليس من أهلِ البلدِ من الأربعين الّذين تنعقدُ بهم الجمعةُ، ولا تصحُّ إمامتُهم فيها؛ لأنّهم من غيرِ أهلِ الوجوبِ، وإنّما صحّتْ منهم تبعاً.
الرّابعُ: تَقدُّمُ خطبتينِ: لحديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا)[رواه البخاري ومسلم]. ومداومتُه عليه الصلاة والسلام على الخطبتينِ دليلٌ على وجوبِهما.
خامساً: شروطُ صحّةِ الخطبتينِ:
يُشرطُ لصحّةِ الخُطبتينِ خمسةُ أشياءَ:
1) دخول الوقتُ: فلا تصحُّ الخطبةُ قبلَ الوقتِ؛ لأنّهما بدلٌ عن ركعتينِ؛ فقد رُوي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال: (إِنَّما جُعِلَتِ الخُطْبَةُ مَكَانَ الرَّكْعَتَينِ)[رواه ابنُ أبي شيبة بإسناد ضعيف].
2) النيّةُ: لحديث: (إِنَّما الأَعْمالُ بِالنِّيَّاتِ)[رواه البخاري ومسلم].
3) وقوعُ الخُطبتينِ حَضَراً: فلو خطب الإمامُ في أربعينَ في سفينةٍ أو طائرة، ولم يَصِلُوا إلى القريةِ حتّى فرغ من الخُطبتينِ: أعادهما؛ لوقوعِهما في السّفرِ.
4) حضورُ الأربعينَ فأكثر مع الإمام: لما تقدم في شروطِ صحّةِ الجمعةِ.
5) أن يكونَ الخطيبُ ممّن تصحُّ إمامتُهُ فيها: فلا تصحُّ خطبةُ من لا تجبُ عليه الجمعةُ؛ كالمسافرِ والمرأةِ، ونحوهما ممن فقد في حقَّه شرط الوجوب.
ويُستثنى من ذلك المريض، والخائف؛ فإنهما إذا حضرا صحَّت منهما الخطبة؛
لأنَّ مانع الوجوب هو مشقَّة السعي إلى المسجد، وقد زالت.
سادساً: أركانُ الخطبتينِ:
أركانُ الخطبتين ستّةٌ:
1) حمدُ الله تعالى: وهو قول الخطيب: «الحمد لله» ؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ؛ يَحْمَدُ اللهَ وَيُثْنِي عَلَيهِ بِما هُوَ أَهْلُهُ)[رواه مسلم].
2) الصّلاةُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: لأنّ كلَّ عبادةٍ افتقرتْ إلى ذكرِ الله عز وجل افتقرتْ إلى ذكرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ كالأذان. ويتعيّنُ لفظُ الصّلاةِ.
3) قراءةُ آيةٍ كاملةٍ من كتاب الله تعالى: وذلك في كلّ خطبةٍ؛ لأنّهما بدلٌ عن ركعتينِ، ولحديثِ جابرِ بنِ سمرةَ رضي الله عنه قال:(كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خُطْبَتَانِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا؛ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَيُذَكِّرُ النَّاسَ)) [رواه مسلم].
4) الوَصيّةُ بتقوى الله عز وجل: لأنّ ذلك هو المقصودُ بالخطبةِ؛ فلمْ يَجُزْ للخطيبِ الإخلالُ بها.
5) موالاةُ جميعِ الخطبتينِ مع الصلاةِ: لفعلِهِ عليه الصلاة والسلام، ولم ينقلْ عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم خلافُ ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(وَصَلُّوا كَما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)[رواه البخاري]. فلا يفصلُ بين أجزاءِ الخطبتينِ، ولا بينَ إحداهما والأخرى بغيرِ الجلسةِ اليسيرةِ، ولا بين الخطبتينِ والصّلاةِ.
6) جهرُ الخطيبِ بالخُطبتينِ؛ بحيث يسمعهُ العددُ المعتبرُ للجمعةِ حيثُ
لا مانعَ لهم من سماعِهِ كنومٍ أو غفلةٍ أو مطرٍ؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: (كَانَ
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ) [رواه مسلم]. فإنْ لم يَسمعوه لخفضِ صوتِهِ أو لبُعدِهم عنه لمْ تصحّ؛ لعدمِ حصولِ المقصودِ من الخطبةِ.
سابعاً: سننُ الخطبتينِ:
يسنُّ في الخطبتين الأمورُ التّاليةُ:
1) الطّهارةُ من الحَدَثِ: فتُجزئُ خطبةُ الجنُبِ على الصّحيحِ؛ لأنّ لبثَه بالمسجدِ لا تعلُّقَ له بالعِبادةِ. ودليلُ السُّنيّةِ: أنّه لم ينقلْ عنه صلى الله عليه وسلم أنّه تطهّر بين الخطبةِ والصّلاةِ؛ فدلّ على أنّه كان لا يخطبُ إلّا متطهّراً.
2 -
3) سترُ العورةِ، وإزالةُ النّجاسةِ: قياساً على حالِ الصّلاةِ؛ لأنّ الخطبتينِ بدلٌ عن ركعتينِ.
4) الدُّعاءُ للمسلمينَ: لأنّ الدعاءَ لهم مسنونٌ في غيرِ الخطبةِ؛ ففيها من باب أولى.
5) أن يتولاهما مع الصّلاةِ رجلٌ واحدٌ: لأنّه لا يُشترطُ اتّصالُهما بها؛ فلمْ يُشترطْ أن يتولاهما واحدٌ؛ كصلاتينِ.
6) رفعُ الصوتِ بهما حسبَ الطّاقةِ: لحديث جابر رضي الله عنه السّابق، ولأنّه أبلغُ في الإعلامِ.
7) أن يخطبَ قائماً على مرتفعٍ؛ لقوله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11]، ولحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه السّابق، ولأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِهِ؛ كما جاء في أحاديث كثيرة عن جماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم [رواها البخاري ومسلم وغيرهما].
8) أن يعتمدَ على سيفٍ أو عصاً أو قوسٍ: لحديثِ الحكمِ بنِ حزنٍ الكُلَفِيّ رضي الله عنه قال: (وَفَدْتُّ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم سَابِعَ سَبْعَةٍ أَوْ تَاسِعَ تِسْعَةٍ
…
فَأَقَمْنَا بِهَا أَيَّاماً شَهِدْنَا فِيهَا الجُمْعَةَ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ مُتَوَكِّئاً عَلَى عَصَا أَوْ قَوْسٍ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيهِ
…
) الحديث. [رواه أبو داود].
9) أن يجلسَ بين الخُطبتينِ قليلاً: لحديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا)[رواه البخاري ومسلم].
فإنْ أَبَى الخطيبُ أن يجلسَ فَصَل بينهما بسَكتةٍ قَدْرَ جُلوسِهِ، وإن خطبَ جالساً فَصَلَ بينهما بسكتةٍ حتّى يحصلَ التّمييزُ بينهما؛ لأنّه ليس في الجلسةِ ذكرٌ مشروعٌ.
10) تقصيرُ الخطبتين: لحديث عمار رضي الله عنه مرفوعاً: (إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ؛ فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الخُطْبَةَ)[رواه مسلم]. وتكونُ الخطبةُ الثانيةُ أقصرَ من الأولى.
ولا بأس أن يخطبَ من صحيفةٍ؛ كالقراءةِ من المصحفِ في الصلاةِ.
* * *
فصلٌ في بعض أحكام الجُمُعة
أولاً: إنصاتُ المأمومينَ للخُطبةِ:
يجبُ الإنصاتُ للخطبةِ، ويحرمُ الكلامُ من المأمومين والإمامُ يخطبُ إذا كان المتكلِّمُ قريباً من الخطيبِ بحيثُ يسمعُهُ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ)[رواه البخاري ومسلم]. بخلافِ البعيدِ الذي لا يسمعُ الخطيبَ؛ لأنّ وجوبَ الإنصاتِ للاستماعِ، وهذا ليس بمستمعٍ.
وتباحُ الصلاةُ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم سِرًّا، ويجوزُ التّأمينُ على الدُّعاءِ، وحمدُهُ خُفيةً إذا عطَس، ويجوزُ تشميت العاطسِ، وردُّ السّلامِ نطقاً.
ويباحُ الكلامُ إذا سكتَ الخطيبُ بين الخُطبتينِ؛ لأنّه لا خطبةَ ينصتُ لها حينئذٍ، أو إذا شرع في الدُّعاءِ؛ لأنّه يكونُ قد فرغ من أركانِ الخطبةِ، والدُّعاءُ غيرُ واجبٍ؛ فلا يجبُ الإنصاتُ لهُ.
ويجوز للمأموم أن يكلِّم الخطيب، أو يكلِّمه الخطيب إذا كان في ذلك مصلحة؛ لحديث أنس رضي الله عنه قال:(بَيْنَمَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، قَحَطَ المَطَرُ؛ فَادْعُ اللهَ أَنْ يَسْقِيَنَا. فَدَعَا فَمُطِرْنَا، فَمَا كِدْنَا أَنْ نَصِلَ إِلَى مَنَازِلِنَا، فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ إِلَى الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ. قَالَ: فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله ادْعُ اللهَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري].
ثانياً: تعدُّد صلاةِ الجمعةِ في البلد الواحد:
تحرمُ إقامةُ صلاةِ الجمعةِ وإقامةُ صلاةِ العيدِ في أكثرَ من موضعٍ واحدٍ من البلدِ؛ لأنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَاءَهُ لَمْ يُقِيمُوا إِلَّا جُمُعَةً وَاحِدَةً. [قال ابن الملقّن في (البدر المنير): صحيح متواتر]. إلّا لحاجةٍ؛ كضيقِ مسجدِ البلدِ عن أهلِهِ، أو بُعدِهِ عن بعضهم، أو خوفِ فتنةٍ بين المصلّينَ إذا اجتمعوا في مسجدٍ واحدٍ لعداوةٍ بينهم؛ وذلك لأنّها تُفعل في الأمصارِ العظيمةِ في جوامعَ من غيرِ نكيرٍ فصار إجماعاً.
فإنْ تعددتِ الجمعةُ لغيرِ ما ذُكر من الأسبابِ: فالصّحيحةُ ما باشَرَها الإمامُ، أو أَذِنَ فيها لهم، ولو كانت مسبوقةً؛ لأنَّ غيرَها افتياتٌ عليهِ. فإنِ استوتا في الإذنِ، أو عدمِهِ؛ فالسّابقةِ بالإحرامِ هي الصحيحةُ منهنّ؛ وذلك لحصولِ الاستغناءِ بها؛ فأُنيط الحكمُ بها دون غيرها.
ثالثاً: أحكامُ المسبوقِ في صلاةِ الجمعةِ:
إذا أحرمَ المصلِّي بصلاةِ الجمعةِ في وقتِها وأدرك مع الإمامِ ركعةً منها أتمّ صلاتَهُ جُمُعةً؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ)[رواه البخاري ومسلم]، ولما صحّ عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره:(إِذَا أَدْرَكْتَ رَكْعَةً مِنَ الجُمُعَةِ فَأَضِفْ إِلَيهَا أُخْرَى؛ فَإِذَا فَاتَكَ الرُّكُوعُ فَصَلِّ أَرْبَعاً)[رواه ابن أبي شيبة].
وإنْ أدركَ المأمومُ مع إمامِه أقلَّ من ركعةٍ نوى ظُهراً عند إحرامِهِ.
رابعاً: الرّواتبُ يومَ الجمعةِ:
أقلُّ السُّنَّةِ الرّاتبةِ للجمعةِ بعدَها ركعتانِ؛ لحديث ابنِ عمر رضي الله عنهما: (أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّى بَعْدَ الجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ) [رواه البخاري ومسلم، واللّفظ لمسلم].
وأكثرُها ستُّ ركعاتٍ؛ لحديثِ عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه: (كَانَ إِذَا كَانَ بِمَكَّةَ فَصَلَّى الجُمُعَةَ تَقَدَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَلَّى أَرْبَعًا، وَإِذَا كَانَ بِالمَدِينَةِ صَلَّى الجُمُعَةَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يُصَلِّ في المَسْجِدِ؛ فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ ذَلِكَ)[رواه أبو داود].
خامساً: قراءةُ سورةِ الكهفِ والسَّجدةِ:
يُسنُّ قراءةُ سورةِ الكهفِ في يومِ الجمعةِ؛ لحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: (مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ في يَوْمِ الجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَهُ وبَيْنَ الْبَيْتِ العَتِيقِ)[رواه الدارمي والبيهقي].
ويُسنُّ أن يقرأَ في صلاةِ الفجرِ يومَ الجمعةِ بعد الفاتحةِ في الرّكعةِ الأولى:
{الم} السجدة، وفي الرّكعةِ الثانية:{هَلْ أَتَى} الإنسان؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ في الصُّبْحِ يَوْمَ الجُمُعَةِ بِ {الم (1) تَنْزِيلُ} في الرَّكْعَةِ الأُولَى، وَفي الثَّانِيَةِ:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} ) [رواه البخاري ومسلم، واللّفظ لمسلم].
وتكرهُ مداومتُهُ عليهما؛ لئلا يُظنَّ الوجوبُ، أو يظنَّ أنَّ صلاة الصُّبح يومَها مفضّلةٌ بسجدةٍ.
ويكرهُ القِراءةُ في عشاءِ ليلةِ الجمعةِ بسورةِ الجمعةِ.
* * *
باب صلاةُ العِيدَين
أولاً: تعريفُ العيدِ:
العيدُ: مأخوذ من العَوْدِ وهو التكرار؛ فلكونه يَعُود ويتكرَّر في أوقاته السنويَّة المعلومة سُمِّي عيداً. وعيدا المسلمين: الفطر والأضحى.
ثانياً: حكمُ صلاةِ العِيدَين:
صلاةُ العِيدَين فرض كفاية على المسلمين؛ فإذا قام بها بعض المسلمين ممَّن يظهر بهم هذه الشعيرة فإنّه يسقط الإثم عن الباقين وإلَّا أَثِم الجميع؛ لأنَّ الله عز وجل أمر بها في قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر 2]، والمراد بالصلاة هنا: صلاة العيد كما قال عِكْرِمَة وعَطاء وقَتادة، ولأنَّها من شعائر الإسلام الظاهرة فكانت واجبة، ولأنَّه ثبت بالاستقراء أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُواظِب عليها، وهذا يدلُّ على الوجوب.
ثالثاً: شروطُ صلاةِ العيدِ:
شروطها كشروط صلاة الجمعة -وقد مرَّت-؛ لأنَّ صلاة العيد شبيهة بصلاة الجمعة؛ فاشترط لها ما اشترط لصلاة الجمعة، إلَّا الخُطبتين فإنَّهما سُنَّة في صلاة العيد؛ ودليل ذلك حديث عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال: (شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الْعِيدَ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ: إِنَّا نَخْطُبُ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْلِسَ
لِلْخُطْبَةِ فَلْيَجْلِسْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ فَلْيَذْهَبْ) [رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه]. فلو كانت واجبة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجلوس لها والاستماع إليها.
رابعاً: وقتُ صلاةِ العيدِ:
وقتُها كوقتِ صلاةِ الضُّحَى: ويكون ذلك من ارتفاع الشمس قيد رُمْح إلى قُبيل زَوال الشمس؛ لفعله صلى الله عليه وسلم كما يدلَّ عليه حديث يَزِيد بن خُمَيرٍ الرَّحَبِي قال: (خَرَجَ عَبْدُ الله بْنُ بُسْرٍ رضي الله عنه صَاحِبُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مَعَ النَّاسِ في يَوْمِ عِيدِ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى فَأَنْكَرَ إِبْطَاءَ الإِمَامِ، فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا قَدْ فَرَغْنَا سَاعَتَنَا هَذِهِ، وَذَلِكَ حِينَ التَّسْبِيحِ)[رواه أبوداود وابن ماجه]. وعند الطبراني: (وَذَلِكَ حِينَ تَسْبِيحِ الضُّحَى) أي: حين صلاة الضُّحَى.
فإن لم يعلموا بالعيد إلَّا بعد الزَّوال فإنَّها تُصلَّى في اليوم الثاني في وقتها قَضاءً؛ لحديث أبي عُمَير بن أنس عن عُمُومةٍ له من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّ رَكْبًا جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ رَأَوُا الْهِلَالَ بِالأَمْسِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا وَإِذَا أَصْبَحُوا أَنْ يَغْدُوا إِلَى مُصَلاَّهُمْ)[رواه أبوداود والنسائي وابن ماجه].
خامساً: سُنَنُ صلاةِ العيدِ:
1) أن تُصلَّى بالصَّحْراء؛ لحديث أبي سعيد الخُدْريِّ رضي الله عنه قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إِلَى المُصَلَّى
…
) [رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري].
2) التبكير إليها في حقِّ المأموم: وذلك ليحصل له الدنو من الإمام، وانتظار الصلاة فيكثر ثوابه.
3) التأخير في حقِّ الإمام إلى وقت الصلاة: لفعله صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث أبي سعيد الخُدْريّ السابق قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إِلَى المُصَلَّى فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ
…
) [رواه البخاري ومسلم].
4) أن يذهب المصلِّي إليها من طريق ويرجع من طريق أخرى: لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ)[رواه البخاري].
5) أن يخرج المصلِّي إليها ماشياً: لحديث ابن عمر رضي الله عنهما (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ إِلَى العِيدِ مَاشِيًا وَيَرْجِعُ مَاشِيًا)[رواه ابن ماجه].
سادساً: مَكْروهاتُ صلاةِ العيدِ:
يُكره التَّنفل قبلَها وبعدَها قبل مفارقة المُصَلَّى؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا)[رواه البخاري ومسلم].
سابعاً: صِفَةُ صلاةِ العيدِ:
- صلاة العيد ركعتان؛ لقول عمر رضي الله عنه: (صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم[رواه أحمد وابن ماجه].
- يُكبِّر في الركعة الأولى بعد تكبيرة الإحرام وقبل التعوّذ ستّ تكبيرات، وفي الركعة الثانية يُكبِّر قبل القراءة خمس تكبيرات؛ لحديث عائشة رضي الله عنها:
(أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يُكَبِّرُ في الْفِطْرِ وَالأَضْحَى في الأُولَى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ وَفِى الثَّانِيَةِ خَمْسًا)[رواه أبو داود].
- يرفع يديه مع كلِّ تكبيرة؛ لحديث وائل بن حُجْرٍ الحَضْرمِيِّ قَالَ: (رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ التَّكْبِيرِ)[رواه أحمد، وقال: «أرى أنه يدخل فيه هذا كله»] أي: يدخل فيه تكبيرات العيد وتكبيرة صلاة الجنازة؛ لعموم هذا الحديث.
- يقول بين كلِّ تكبيرتين: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلَّى الله على محمَّد النبيِّ وآله وسلّم تسليماً؛ لما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه كَانَ يَحْمَدِ اللهَ وَيُثْنِي عَلَيهِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَينِ مِنْ تَكْبِيرَاتِ العِيدِ. [رواه معناه: الطبراني والبيهقي].
- ثمَّ يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ثمَّ يقرأ جهراً في الركعة الأولى: سورة الفاتحة، وسورة الأعلى، وفي الركعة الثانية: سورة الفاتحة، وسورة الغاشية؛ لحديث النُّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال:(كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ في الْعِيدَيْنِ وَفي الجُمُعَةِ بِ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) وَ (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ)) [رواه مسلم].
- ثم يُسلِّم، ويخطُب الإمام خُطبتين؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:(كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الخُطْبَةِ)[رواه البخاري ومسلم].
- وخُطبتا العيد كخُطبتي الجمعة: والدليل على ذلك حديث جابر رضي الله عنه في وصف خطبته صلى الله عليه وسلم في العيد، وفيه: (
…
ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ فَأَمَرَ بِتَقْوَى الله
وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ فَقَالَ: تَصَدَّقْنَ فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ
…
) [رواه مسلم].
لكن يُسَنُّ أن يستفتح الخطبة الأولى في العيد بتسع تكبيرات، ويستفتح الخطبة الثانية بسبع تكبيرات؛ لحديث عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد المؤذن قال: حدثني أبي عن أبيه عن جَدِّه قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُ بَيْنَ أَضْعَافِ الخُطْبَةِ، يُكْثِرُ التَّكْبِيرَ في خُطْبَة العِيدَيْنِ)[رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف]. ولأثر عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة قال: (يُكَبِّرُ الإِمَامُ إِذَا صَعَدَ المِنْبَرَ يَوْمَ العِيدِ قَبْلَ الخُطْبَةِ الأُولَى تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَقَبْلَ الثَّانِيَةِ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ)[رواه سعيد بن منصور بإسناد ضعيف].
* تنبيهان:
1) إذا صلَّى العيدَ كصلاةِ النافلةِ -أي بدون التكبيرات الزوائد، ودون الذِّكْر بينها- فصلاتُه صحيحة؛ لأنَّ التكبيرات الزوائد والذكر بينها سُنَّة لا تبطل الصلاة بترك شيء منه.
2) يُسنُّ لمن فاتته صلاة العيد مع الإمام أن يصلِّيَها ولو بعد الزوال؛ لحديث عُبَيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كَانَ أَنَسٌ إِذَا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ مَعَ الإِمَامِ جَمَعَ أَهْلَهُ فَصَلَّى بِهِمْ مِثْلَ صَلَاةِ الإِمَامِ في الْعِيدِ)[رواه البيهقي وإسناده ضعيف]، ولأنَّ صلاة العيد فرضٌ على الكفاية؛ فتكون على أفراد المكلَّفين على الاستحباب، وما كان مستحبًّا فإن قضاءَه مستحبٌّ.
* * *
فصل في التَّكبِيرِ في العِيدَين
- يُسنُّ للمسلم أن يُكبِّر الله عز وجل جَهراً في العيدِ، والتَّكبير في العيدِ على قِسمَين:
القسمُ الأوَّلُ: التكبيرُ المُطْلَقُ: وهو الذي لم يُقيَّد بأدبار الصلوات؛ فيُكبِّر في سُوقِه ومَمشاه ومجلسِه وفي بيتِه ونحوه، وهذا يستحبُّ الإتيان به في ليلتي العيدَين إلى فراغ الخُطبة؛ لقول الله عز وجل:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]، فهذه الآية فيها أنَّ التكبير يكون عند تمام عِدَّة الشهر، ويكون ذلك من رؤية الهلال، أو من ثبوت دخول شهر شوَّال بتمام عِدَّة رمضان؛ فيكبِّر اللهَ عند ثبوت رؤية الهلال وليلته تلك وصبيحته، حتَّى يَغدو إلى المسجد. وثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّه (كَانَ إِذَا غَدَا يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الفِطْرِ يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى يَأْتِيَ المُصَلَّى ثُمَّ يُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الإِمَامُ)[رواه الدارقطني].
- ويستحبُّ الإتيان به كذلك في كلِّ عشر ذي الحِجَّة؛ لما ثبت عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما أنَّهما كانا (يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا)[رواه البخاري معلقاً].
القسمُ الثاني: التكبيرُ المُقيَّد: وهو الذي يكون عقب كلِّ فريضة صلَّاها في جماعة، وهذا يستحبُّ الإتيان به في عيد الأضحى ابتداءً من صلاة فجر يوم عَرَفَة إلى عصر
آخر أيام التَّشريق، وهو يوم الثالث عشر من ذي الحِجَّة؛ ودليله إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك؛ كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
- فإن كان مُحرِماً فيبتدئ التكبير من صلاة ظُهْر يوم النَّحْر إلى عصر آخر أيَّام التَّشريق؛ لأنَّه مشغول قبل ذلك بالتلبية.
ويُكبِّر الإمامُ وهو مستقبل الناس؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ يُقْبِلُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ: عَلَى مَكَانِكُمْ، وَيَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَلله الحَمْدُ
…
) [رواه الدارقطني بإسناد ضعيف].
- صِفَةُ التَّكبيرِ:
صِفَةُ التكبيرِ أن يقول: اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلَّا الله، واللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ ولله الحَمْدُ؛ فقد ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه (كَانَ يُكَبِّرُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَلله الحَمْدُ) [رواه ابن أبي شيبة].
- ولا بأس بالتهنئة بالعيدِ بقوله: «تقبَّل الله منَّا ومنك» ؛ لثبوت ذلك عن أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى محمَّد بن زياد قال: (كُنْتُ مَعَ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانُوا إِذَا رَجَعُوا مِنَ العِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكَ)[ذكره ابن التركماني في «الجوهر النقي»].
* * *
باب صلاةُ الكُسوفِ
أوَّلاً: تعريفُ الكُسوفِ:
الكُسوفُ والخُسوفُ شيء واحدٌ وهو: ذهاب ضوء أحد النيِّرين -الشمس
والقمر- أو بعضه، يقال: انْكَسَفَتِ الشَّمسُ أو انْخَسَفَتْ، وانْكَسَفَ القَمَرُ
أو انْخَسَفَ، إذا ذهب نورهما أو شيء منه، وإن كان الغالب أن الكُسوفَ يُطلَق على الشمس، والخُسوف على القمر.
ثانياً: حكمُ صلاةِ الكُسوفِ:
صلاةُ الكُسوفِ سُنَّة مؤكَّدة عند وجود سببها؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها كما في حديث المغيرة بن شُعْبَة رضي الله عنه قال: (انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ النَّاسُ انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ)[رواه البخاري ومسلم].
ثالثاً: وقتُ صلاةِ الكُسوفِ:
يبدأ وقتُ صلاةِ الكُسوفِ من حين ابتداء الكُسوفِ حتَّى ذهابه وانجلائه؛ لقول النبيَّ صلى الله عليه وسلم كما في الحديث السابق: (
…
فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللهَ وَصَلُّوا
حَتَّى يَنْجَلِيَ)؛ فجعل الانجلاء غاية للصلاة ونهايتها.
فإن انجلت وهو في الصلاة أَتمَّها وخَفَّفَها.
وإذا انتهوا من الصلاة ولم ينجلِ؛ فإنَّهم يُكثرون من الذِّكر والدعاء.
رابعاً: صفةُ صلاةِ الكسوفِ:
- صلاةُ الكسوفِ ركعتان جَهْراً؛ لحديث عائشة رضي الله عنها (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَهَرَ في صَلَاةِ الخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ
…
) [رواه البخاري ومسلم].
- في كلِّ ركعة ركوعان؛ لحديث عائشة رضي الله عنها (أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ مُنَادِيًا «الصَّلَاةَ جَامِعَةً»، فَاجْتَمَعُوا وَتَقَدَّمَ فَكَبَّرَ، وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ في رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ)[رواه مسلم].
- يقرأ في الركعة الأولى: الفاتحة وسورة طويلة، ثمَّ يركع ويطيل في ركوعه، ثمَّ يرفع رأسه من الركوع ويقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ولا يسجد بل يقرأ الفاتحة وسورة طويلة لكنَّها دون الأولى، ثمَّ يركع طويلاً لكنَّه دون الأوَّل، ثمَّ يرفع رأسه ويقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثمَّ يسجد سجدتين طويلتين.
- يصلِّي الركعة الثانية كالركعة الأولى، لكنَّها تكون أخفَّ منها، ثمَّ يتشهَّد ويُسلِّم. والدليل على هذه الكيفية حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (خَسَفَتِ الشَّمْسُ في حَيَاةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى المَسْجِدِ فَقَامَ وَكَبَّرَ وَصَفَّ النَّاسُ وَرَاءَهُ، فَاقْتَرَأَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قِرَاءَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا
طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ:«سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ» . ثُمَّ قَامَ فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً هِيَ أَدْنَى مِنَ الْقِرَاءَةِ الأُولَى، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً هُوَ أَدْنَى مِنَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ:«سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ» . ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى اسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ
…
) [رواه مسلم].
- ويجوز له أن يأتي في كلِّ ركعة بثلاثة ركوعات، أو أربعة، أو خمسة على الكيفيَّة السابقة:
* أمَّا الثلاثة؛ فلحديث عائشة رضي الله عنها: (كُسِفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قِيَامًا شَدِيدًا يَقُومُ بِالنَّاسِ ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُومُ ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُومُ ثُمَّ يَرْكَعُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ في كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ، يَرْكَعُ الثَّالِثَةَ ثُمَّ يَسْجُدُ
…
) [رواه مسلم وأبو داود، واللفظ له].
* وأمَّا الأربعة؛ فلحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ صَلَّى في كُسُوفِ الشَّمْسِ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، وَالأُخْرَى مِثْلُهَا)[رواه مسلم].
* وأمَّا الخمسة؛ فلحديث أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه قال: (انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ فَقَرَأَ بِسُورَةٍ مِنَ الطُّوَلِ وَرَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ الثَّانِيَةَ فَقَرَأَ سُورَةً مِنَ الطُّوَلِ وَرَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ كَمَا هُوَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو حَتَّى انْجَلَى
كُسُوفُهَا) [رواه أبو داود وسكت عنه، وضعفه النووي وغيره].
- والقيام الثاني وكذا الركوع الثاني سُنَّة، ولذا من أدرك الإمام في القيام الثاني أو في الركوع الثاني لا يُعدُّ مُدْرِكاً للركعة، وكذا لا تبطل الصلاة بتركه متعمِّداً؛ لأنَّه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه صلى صلاة الكُسوف ركعتين كلّ ركعة بركوع واحد؛ كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلاةِ وَقَامَ الَّذِينَ مَعَهُ، فَقَامَ قِياماً فَأَطَالَ القِيامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَسَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَجَلَسَ فَأَطَالَ الجُلُوسَ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَامَ فَصَنَعَ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا صَنَعَ في الرَّكْعَةِ الأُولَى مِنَ القِيَامِ وَالرُّكُوع وَالسُّجُودِ وَالجُلُوسِ
…
) [رواه أحمد والنسائي].
- ويجوز له أن يصلِّيها كصلاة النافلة: ركعتين؛ في كلِّ ركعة ركوع واحد؛ للحديث السابق، ولأنَّ ما زاد عليه سُنَّة لا تبطل الصلاة بتركه كما مرَّ.
* تنبيهان:
1) صلاة الكسوف سُنَّة لا خُطْبة بعدها؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلاة والدعاء والتكبير والصدقة؛ فقال: (إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله
لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا
…
) [رواه البخاري ومسلم]. ولم يأمرهم بخُطْبة، ولو كانت سُنَّة لأمرهم بها، وإنَّما خَطَب النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة ليعلِّمَهم حُكمَها.
2) إذا فاتت صلاة الكسوف فلا تُقضَى؛ لأنَّه قد فات سببها، وقد مرّ قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (
…
فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ)؛ فجعل الانجلاء غاية للصلاة، ولأنَّ الصلاة إنَّما سُنَّت رغبةً إلى الله في ردِّها؛ فإذا حصل ذلك حصل مقصود الصلاة.
* * *
باب صلاةُ الاستِسْقاءِ
أوَّلاً: تعريفُ الاستِسْقاءِ:
الاستِسقاءُ: طلبُ السَّقْي؛ وذلك بنزول المطر ونحوه.
فصلاةُ الاستِسقاءِ: هي الصلاةُ المشروعةُ لطَلَبِ السُّقيا من الله تعالى.
ثانياً: حكمُ صلاةِ الاستِسْقاءِ:
صلاةُ الاستسقاءِ سُنَّةٌ مُؤكَّدةٌ؛ لحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى المُصَلَّى فَاسْتَسْقَى فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ)[رواه البخاري ومسلم].
ثالثاً: وقتُها وصفتُها وأحكامُها:
- وقتُ صلاةِ الاستِسْقاءِ كوقت صلاة العيد؛ من طلوع الشمس بارتفاعها قيد رمح إلى قُبيل زوال الشمس.
- وصفتُها كصفة صلاة العيد؛ تُصلّى في المصلى ركعتين، يُكّبر في الأولى سَبْعاً بتكبيرة الإحرام، وخَمْساً في الثانية دون تكبيرة الانتقال، ويقرأ جَهْراً في الأولى: الفاتحة وسورة الأعلى، وفي الثانية: الفاتحة وسورة الغاشية، ثمَّ يخطُب الإمام لكنَّها تكون خطبة واحدة؛ ودليل ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما لمَّا سُئل عن استسقاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مُتَبَذِّلاً مُتَواضِعاً
مُتَضَرِّعاً حَتَّى أَتَى المُصَلَّى، فَلَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ، وَصَلَّى رَكْعَتَينِ كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي العِيدِ) [رواه أبو داود والترمذي]، ولحديث عائشة رضي الله عنها في الاستسقاء: (
…
فَخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ
…
) [رواه أبو داود].
رابعاً: آدابُ الخروجِ للاستِسْقاءِ وما يُستحبُّ له:
إذا أراد الإمام الخروج للاستسقاء فيستحبُّ له مراعاة ما يلي:
1) أن يَعِظَ الناس ويأمرَهم بالتوبة والخروج من المظالم؛ لأنَّ المعاصي والمظالم سببٌ للقَحْط وزوال النِّعَم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (
…
وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا القَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا البَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا
…
) [رواه ابن ماجه]. والطاعة وتقوى الله عز وجل سبب للبركات، قال الله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف 96].
2) أن يتنظَّف لها بالغُسْل والسِّواك وإزالة الرائحة وتقليم الأظفار ونحوه؛ لئلَّا يؤذي الناس، وهو يوم يجتمعون له فأشبه الجمعة، ولا يتطيَّب؛ لأنَّه يوم استكانة وخضوع.
3) أن يخرج متواضعاً متخشِّعاً متذلِّلاً متضرِّعاً؛ لحديث ابن عباس السابق أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم (خَرَجَ مُتَبَذِّلاً مُتَواضِعاً مُتَضَرِّعاً حَتَّى أَتَى المُصَلَّى
…
)، ومتبذلًّا: أي غير متزيِّن في الهيئة.
4) أن يدعوَ أهل الصلاح والخير والمشهورين بالتقوى والعبادة والعلم ونحو
ذلك لحضورها؛ لأنَّ ذلك أسرع للإجابة؛ إذ يُتوسل إلى الله عز وجل بدعائهم وتأمينهم لإنزال المطر، كما كان عمر رضي الله عنه يفعل مع العباس عَمِّ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن أنس رضي الله عنه (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ ابْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيكَ بِنَبِيِّنا فَتَسْقِيَنَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنا فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ) [رواه البخاري]، وكما فعل معاوية رضي الله عنه مع يزيد بن الأسود؛ فعن سليم بن عامر (أَنَّ النَّاسَ قَحَطُوا بِدِمَشْقَ، فَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَسْقِي بِيَزِيدَ بْنِ الأَسْوَدِ)[رواه ابن عساكر].
5) ولا بأس بخروج الأطفال والعجائز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ)[رواه البخاري].
6) أن يصلِّي الإمام بهم ركعتين كركعتي العيد -كما تقدَّم-، ثمَّ يخطُب خُطبةً واحدة يفتتحها بالتكبير؛ لحديث عائشة رضي الله عنها السابق في الاستسقاء (
…
فخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَكَبَّرَ صلى الله عليه وسلم وَحَمِدَ اللهَ عز وجل ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ وَاسْتِئْخَارَ المَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ عز وجل أَنْ تَدْعُوهُ وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ
…
).
7) أن يُكثِر في خطبته من الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر به؛ لقوله تعالى:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود 52]، ولقوله تعالى أيضاً:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح 10، 11].
8) ثمَّ يرفع يديه ويجعل ظهورهما نحو السماء؛ لحديث أنس رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ)[رواه مسلم].
9) أن يدعو بدعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، ويُؤمّن المأمومون على دعائه؛ ومن دعائه صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء: ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: (الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إِلَى حِينٍ)[رواه أبو داود].
ومنه: ما جاء في حديث جابر رضي الله عنه: (اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيئًا، نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ، عَاجِلاً غَيْرَ آجِلٍ)[رواه أبو داود].
ومنه: ما جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّه قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَسْقَى قَالَ: (اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادَكَ وَبَهَائِمَكَ، وَانْشُرْ رَحْمَتَكَ، وَأَحْيِ بَلَدَكَ المَيِّتَ)[رواه أبو داود والبيهقي].
10) ثمَّ يَستَقبِل القِبْلَة في أثناء الخطبة ويقول سِرًّا: «اللهمَّ إنِّك أَمْرْتَنا بدُعائِك، ووَعَدْتَنا إجابَتَك، وقد دَعْوناكَ كما أَمَرْتَنا فاسْتَجِبْ لَنا كَما وَعَدْتَنا» ؛ لحديث عبَّاد ابن تميم المازِنيّ عن عمِّه قال: (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي، قَالَ: فَحَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو
…
) [رواه البخاري ومسلم].
وإنَّما يُستحبُّ الإسرار؛ ليكون أقرب إلى الإخلاص، وأبلغ في الخشوع والخضوع والتضرُّع، وأسرع في الإجابة؛ قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا
وَخُفْيَةً} [الأعراف 55].
11) ثمَّ يُحوّل رداءه بأن يجعل أيمن الرداء الواقع على الكتف الأيمن على الكتف الأيسر، ويجعل أيسره وهو الواقع على الكتف الأيسر على الكتف الأيمن؛ لحديث عبَّاد بن تميم عن عمِّه عبد الله بن زيد، وفيه: (
…
وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ؛ فَجَعَلَ عِطَافَهُ الأَيْمَنَ عَلَى عَاتِقِهِ الأَيْسَرِ، وَجَعَلَ عِطَافَهُ الأَيْسَرَ عَلَى عَاتِقِهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ دَعَا اللهَ عز وجل [رواه أبو داود والبيهقي]
وكذا الناس يفعلون ذلك؛ تأسِّياً به صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ ما ثبت في حقِّه عليه الصلاة والسلام يثبت في حقِّ سائر الأمَّة إلَّا إذا قام دليل على اختصاصه به.
والظاهر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حوّل رداءَه تفاؤلاً بأن تتحوَّل الأرض من الجَدْب إلى الخَصْب، ومن انقطاع المطر فيها إلى هطوله؛ كما قال جابر رضي الله عنه. [رواه البيهقي بمعناه].
12) ويتركون أرديتهم على هذه الحالة، فلا يردُّونها إلى ما كانت عليه حتَّى ينزعوا ثيابهم؛ لأنَّه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من صحابته أنَّهم غيَّروا أرديتهم حين رجعوا من الاستسقاء.
13) فإن سقاهم الله عز وجل، وأجاب دعاءهم، وإلَّا عادوا للاستسقاء مرَّة ثانية وثالثة؛ لأنَّ في ذلك مبالغةً في الدعاء والتضرُّع إلى الله عز وجل.
- وإذا مَنَّ الله عز وجل عليهم بنزول المطر؛ فيستحبُّ ما يلي:
14) الوقوف في أوَّل المطر ليصيب بدنه؛ لحديث أنس رضي الله عنه قال:
(أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مَطَرٌ فَحَسَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ المَطَرِ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: لأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى)[رواه مسلم].
15) الوضوء والاغتسال منه؛ لحديث يزيد بن الهاد: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَالَ السَّيْلُ قَالَ: اخْرُجُوا بِنَا إِلَى هَذَا الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ طَهُورًا فَنَتَطَهَّرُ مِنْهُ وَنَحْمَدِ اللهَ عَلَيْهِ)[رواه البيهقي بإسناد ضعيف].
16) أن يُبدِيَ شيئاً من ثيابه أو أثاثه أو متاعه ليصيبه المطر؛ لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما (أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ يَقُولُ: يَا جَارِيَة! أَخْرِجِي سَرْجِي، أَخْرِجِي ثِيَابِي، ويقول: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق 9])[رواه البخاري في الأدب المفرد].
والسَّرج: ما يكون على الدَّابة ممَّا يضعه الراكب عليها.
17) إذا كثرت الأمطار وزادت حتَّى خيف منها الضرر على البيوت أو المتاجر ونحو ذلك، فيستحبُّ له أن يدعو بدعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة:(اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ)[رواه البخاري ومسلم].
والآكام بفتح الهمزة تليها مَدَّة: جمع أَكَمَة وهي التَّلُّ. والظِّراب بكسر الظاء: جمع ظَرْب وهو الجبل الصغير. وبطون الأودية: هي الأماكن المنخفضة في الأودية. ومنابت الشجر: أي أصولها.
18) ويُسن له أن يقول: «مُطرنا بفضل الله ورحمته» ؛ لحديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قَالَ: (صَلَّى لَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ الله وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ
…
) [رواه البخاري ومسلم].
- ويحرم عليه أن يقول: «مطرنا بنَوْءِ كذا وكذا» ؛ للحديث السابق؛ وفيه: (
…
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ)، لكن له أن يقول:«مطرنا في نَوْءِ كذا وكذا» ، يقصد في وقت كذا وكذا؛ لأنَّه ليس فيه إضافة المطر إلى النَّوْءِ.
والنَّوْء: جمعه أنواء؛ وهي نجوم تظهر في السماء على مدار السَّنَة، ولها أسماء يعرفها العرب قديماً، كالثريَّا والدَّبَران والسِّماك، فإذا أنزل الله عز وجل المطرَ وصادف ذلك وجود نجم من هذه النجوم، نَسَبَ أهلُ الجاهلية هذا المطر إلى ذاك النجم فقالوا: مُطِرْنا بنجم كذا؛ فنهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
* * *
كتابُ الجَنائِز
أوَّلاً: تعريفُ الجَنائزِ:
الجَنائِز: جَمْعُ جَِنازَة -بفتح الجيم وكسرها-؛ اسم للميِّت أو للنَّعْش الذي عليه مَيِّت. وهو مشتقٌّ من جَنَزَ بمعنى سَتَر.
ثانياً: الاستعدادُ للمَوْتِ:
يُسنُّ للمسلم أن يُكثر من تذكُّر الموت، وأن يَستعِدَّ لملاقاته بالمبادرة إلى التوبة، والإقبال على الخير، ومجانبة الشرِّ، خشية أن يَفْجَأَه؛ فيمتثل أوامر ربِّه ويجتنب نواهيه؛ وقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(أَكْثرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ) يَعْنِي المَوْت. [رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، واللفظ لابن ماجه].
ثالثاً: الصبرُ على المَرَضِ والابتلاءِ:
- يُستحبُّ للمريض أن يصبر على مَرَضِهِ ووَجَعِهِ؛ لِما وَعَدَ الله الصابرين من الأجر؛ قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر 10].
- ويُكرَهُ الأنينُ -وهو صوتُ التوجُّع- إلا إذا غَلَبَه لشِدَّة الوجع؛ لما فيه من إظهار التشكِّي وعدم الصبر؛ ولما رُوي عن ليث قال: قلت لطلحة -ابن مُصَرِّف-: (إِنَّ طَاوساً كَانَ يَكْرَهُ الأَنِينَ، قَالَ: فَما سُمِعَ لَهُ أَنِينٌ حَتَّى مَاتَ)[رواه ابن أبي شيبة].
- ويُكرَه للمسلم تمنِّي الموت بسبب ما نزل به من الضُّرِّ والمرض؛ لما ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ المَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي)[رواه البخاري ومسلم].
- ويجوز تمنِّي الموت إذا خشي الإنسان على نفسه الفتنة في دينه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
…
وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْني إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ) [رواه الترمذي].
- كما يجوز تمنِّي الشهادة في سبيل الله؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ)[رواه البخاري ومسلم].
رابعاً: أحكامُ عِيادةِ المريضِ:
- يُسَنُّ للمسلم أن يَعودَ أخاهُ المسلمَ إذا مَرِضَ؛ لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ؛ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ المَرِيضِ
…
) الحديث [رواه البخاري ومسلم].
- ويُسنُّ له إذا دخل عليه أن يسأله عن حاله ويدعو له ويَرْقِيه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم (كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ الْبَاسَ، اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ
سَقَمًا) [رواه البخاري].
خامساً: ما يُستحبُّ فِعْلُه عندَ المُحْتَضِر:
1) تلقينُه الشَّهادَةَ: فيُستحبُّ لمن حضر عند المُحتَضِر أن يلقِّنه قول (لا إله إلَّا الله) مرَّة واحدة عند مرض موته؛ لحديث أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)[رواه مسلم].
2) أن لا يزيد في تلقينه عن مرَّة واحدة: حتَّى لا يتسبَّب في ضَجَرِه ومَلَلِه، إلَّا إذا تكلَّم المريض، فيُعيدُ تلقينه لتكون آخرَ كلامِه؛ كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ)[رواه أحمد وأبو داود].
3) أن يقرأ عنده الفاتحة: تخفيفاً عنه وتذكيراً له؛ قال الإمام أحمد: «ويَقرَؤُونَ عندَ الميتِ إذا حَضرَ ليُخفَّفَ عنه بالقُرآن» ، وأمَرَ بقراءة الفاتحة.
4) أن يقرأ عنده سورة (يس): لما رُوِيَ عن مَعْقِل بن يَسارٍ مرفوعاً: (اقْرَؤُوا (يَس) عَلَى مَوْتَاكُم) [رواه أبو داود والنسائي، وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم وحسَّنه السيوطيُّ، وضعَّفه جمع كبير من أهل التحقيق].
5) أن يوجِّهَه إلى القِبْلَة على جنبه الأيمن إذا كان في المكان متَّسع، وإلَّا فعلى ظهره؛ لقول حذيفة رضي الله عنه:(وَجِّهُونِي إِلى القِبْلَةِ)[رواه ابن أبي الدنيا]، وفي الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال عن البيت الحرام:(قِبْلَتُكُمْ أَحْياءً وَأَمْوَاتاً)[رواه أبو داود والنسائي].
سادساً: ما يُفعَلُ عندَ الميِّتِ:
1) تغميضُ عَيْنَي الميِّت؛ لحديث أمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قالت: (دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ
…
) [رواه مسلم].
2) قول: «بسمِ الله وعلى مِلَّة رسولِ الله» ؛ لقول بكر بن عبد الله المزني: (إِذَا غَمَّضْتَ المَيِّتَ فَقُلْ: بِسْمِ الله، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم[رواه ابن أبي شيبة والبيهقي].
3) تقبيلُ الميِّت والنظرُ إليه، ولو كان ذلك بعد تكفينه؛ لما ثبت عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَيِّتٌ)[رواه البخاري].
فصل في غَسْلِ الميِّت
أوَّلاً: حُكمُ تغسيلِ الميِّتِ:
غَسْلُ الميِّت -أو تيميمه لعذر- فرض على الكفاية بالإجماع؛ إذا قام به البعض سقط عن الباقين؛ لحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ، أَوْ قَالَ: فَأَوْقَصَتْهُ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ)[رواه البخاري ومسلم].
ثانياً: شروطُ صحَّةِ تغسيلِ الميِّتِ:
يُشترط لصحَّة غَسْلِ الميِّت عدَّة شروط:
أ - أن ينوي الغاسلُ غسلَ الميِّت؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ)[رواه البخاري ومسلم].
أ - أن يكون الغاسل مسلماً: لأنَّ الغسل عبادة تحتاج إلى نيَّة، والكافر لا تصحُّ منه النيَّة.
ب- أن يكون الغاسلُ عاقلاً: لأنَّ المجنون فاقدٌ للأهليَّة، فلا تصحُّ منه النيَّة.
ج- أن يكون الغاسلُ مُميِّزاً: لأنَّ المميِّز يصحُّ غسله لنفسه، فصحُّ غسله لغيره.
د - أن يُغسِّلَه بماءٍ طهور؛ كما في الوضوء وأنواع الغسل الأخرى، ولأنَّ الماء
الطهور هو الذي يرفع الحَدَث.
ب- أن يكون ماء الغسلِ مباحاً؛ فلا يصحُّ غسله بماءٍ مغصوب أو مسروق؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)[رواه مسلم].
ثالثاً: ما يُستحبُّ في المُغَسِّلِ:
يستحب في المغسِّل ما يلي:
أ - أن يكون ثقةً أميناً؛ ليستر ما يطلع عليه.
ب- أن يكون عارفاً بأحكام الغسل؛ ليحتاط فيه.
رابعاً: الأَوْلَى بتغسيلِ الميِّتِ:
- أولى الناس بتغسيل الميت وَصيُّه العَدْل؛ لأنَّ الوصيَّة حقُّ الميِّت فيجبُ تنفيذُها، وقد رُوي أنَّ (أَبَا بَكْرٍ أَوْصَى أَنْ تُغَسِّلَهُ أَسْماءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ امْرَأَتُهُ)[رواه ابن أبي شيبة والبيهقي، بإسناد ضعيف].
- ثمَّ أبو الميِّت؛ لما يختصُّ به من الحُنُوِّ والشفقة، ثمَّ جَدُّه وإن علا، ثمَّ الأقربُ فالأقربُ من عَصَبَتِه بحسب ترتيب الميراث، ثمَّ ذوو أرحامه. وقد رُوي في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
…
لِيَلِهِ أَقْرَبُكُم مِنْهُ) [رواه أحمد والطبراني، بإسناد ضعيف].
- وإن كان الميِّت امرأة، فأَوْلَى الناس بغسلها وَصِيُّها العَدْل، ثمَّ الأقربُ
فالأقربُ من نسائها.
خامساً: ما يَنبغي فِعْلُه عندَ الغَسْلِ:
1) سترُ عَوْرَةِ الميِّتِ:
فيجبُ على الغاسل سترُ عَوْرَةِ الميِّت، من غير خلاف. وحَدُّ العَوْرَةِ ما بين السُّرَّة والرُّكْبَة؛ وعن عليٍّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له:(لا تُبْرِزْ فَخِذَكَ، وَلا تَنْظُرْ إِلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ)[رواه أبو داود].
2) أن يَلُفَّ يَدَهُ بخِرْقَةٍ ويُنجِّيه بها:
لأنَّه لا يجوز له مسُّ عَوْرَتِه، كما أنَّه ممنوع من النظر إليها؛ وقد روي عن عبد الله بن الحارث قال:(غَسَّلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَليٌّ وَعَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَمِيصُهُ وَعَلَى يَدِ عَليٍّ خِرْقَةٌ يَغْسِلُهُ بِهَا يُدْخِلُ يَدَهُ تَحْتَ القَمِيصِ فَيُغَسِّلُهُ وَالقَمِيصُ عَلَيهِ)[رواه ابن أبي شيبه، وإسناده ضعيف].
وعن محمَّد بن سِيرين قال: (غَسَّلْتُ أَنَسَ بن مَالِكٍ، فَلَمَّا بَلَغْتُ عَوْرَتَهُ، قُلْتُ لِبَنِيهِ: أَنْتُمْ أَحَقُّ بِغَسْلِ عَوْرَتِهِ، دُونَكُمْ فَاغْسِلُوهَا، فَجَعَلَ الَّذِي يَغْسِلُهَا عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً وَعَلَيْهَا ثَوْبٌ، ثُمَّ غَسَلَ الْعَوْرَةَ مِنْ تَحْتِ الثَّوْبِ)[رواه الطبرني].
- يحرمُ على الغاسل مَسُّ عَوْرَةِ من بلغ سبعَ سنين من غير حائل؛ لأنَّه لا يجوز له أن ينظر إليها؛ فمن باب أَوْلَى أن لا يمسَّها.
3) غَسلُ ما به من النجاسة؛ لأنَّ المقصود من غَسلِ الميِّت هو تطهيرُه حسب الإمكان.
- ويُسَنُّ أن لا يَمَسَّ الغاسلُ سائر بدن الميِّت إلَّا بخِرْقَة؛ لحديث عبد الله بن الحارث المتقدِّم.
سادساً: تغسيلُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، والمرْأَةُ زَوْجَهَا:
- يجوز للرَّجلِ أن يُغسِّل زوجَتَه؛ لما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها؛ وفيه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَا ضَرَّكِ لَو مِتِّ قَبْلي فَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ ثُمَّ دَفَنْتُكِ)[رواه أحمد والنسائي في الكبرى وابن ماجه].
- ويجوزُ للمرأةِ تغسيلُ زوجِها؛ وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا غَسَّلَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم إلَّا نِسَاؤُهُ)[رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه].
- ويجوز للرجل أن يغسل أمَتَه، وللأمَةِ أن تغسل سيِّدَها؛ لوجود معنى الزوجية فيهما.
- ويجوز للرَّجلِ والمرأةِ غَسلُ من له دون سبعِ سنين؛ إجماعاً، لأنَّه لا عورة له.
سابعاً: صِفَةُ غَسْلِ الميِّتِ:
أحكامُ غَسلِ الميِّت فيما يَجب ويُسَنُّ كغسل الجنابة؛ فيُراعي في غسله النِّية والتَّسمية وستر العَوْرَة وجوباً، ثمَّ يَغْسِلُ عَوْرَتَهُ؛ فيلفُّ على يدِهِ خِرْقةً فينجِّيه بها، من غير أن يمسَّها بيده، ويغسلُ ما على بَدَنِه من نجاسةٍ، ثمَّ يوضؤه كوضوء الصلاة نَدْباً، ثمَّ يبدأُ بغَسلِ رأسِهِ، ثمَّ بشِقِّهِ الأيمنِ، ثمَّ بشِقِّهِ الأيسرِ؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم للنساء اللَّاتي غسَّلنَ ابنتَهُ:(ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا) [رواه
البخاري ومسلم].
- ويُستثنَى من ذلك غسل الفم والأنف، فلا يُدخِلِ الماءَ فيهما، بل يأخذ خِرْقَةً مبلولة فيمسح بها أسنانه ومَنْخِرَيْهِ؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(إِذَا أَمَرْتُكُمْ بَأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[رواه البخاري ومسلم]، ولأنَّ إدخال الماء إلى فمه أو أنفه ربما أدى إلى تحريك النجاسة في جَوْفِهِ، وربما أدى إلى المُثْلَة به.
ثامناً: عددُ مرَّات الغَسْلِ:
- يُسنُّ غَسلُ الميِّت ثلاثَ مرَّاتٍ، ويُكره الاقتصار في غسله على مرَّة واحدة ولو لم يخرج منه شيء؛ لما ثبت في حديث أمِّ عَطِيَّة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اغْسِلْنَهَا ثَلاثاً أَوْ خَمْساً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ
…
) [رواه البخاري ومسلم].
- أمَّا إن خرج من الميِّت نجاسةٌ من قُبُلِه أو دُبُرِه بعد الثلاث، وجبَ إعادةُ الغسل إلى سَبْعِ مرَّات؛ لأنَّ المقصود من غسل الميِّت أن يكون خاتمة أمره الطهارة الكاملة.
- فإن خرج منه شيء بعد السَّبْعِ حُشِيَ محلُّ الخارج بقُطْنٍ ليمنع خروجه.
- فإن لم يستمسك الخارج بعد الحَشْوِ بالقُطْنِ، فإنَّه يُحشَى بطِينٍ خالص؛ لأنَّ فيه قوَّةً تمنع الخارج، ثمَّ يغسل محلَّ النجاسة، ويوضَّأ الميِّت وجوباً، ولا يعاد غسله؛ لأنَّ الجُنُبَ إذا أَحْدَثَ بعد غسله أعاد وضوءَه دون الغسل، والميِّت كذلك.
- وإن خرج من الميِّت شيء بعد تكفينه لم يُعِدِ الوضوءَ ولا الغسلَ؛ لما في إخراجه من الكَفَنِ وإعادة غسله وتطهير أكفانه وتجفيفها أو إبدالها من المشقَّة
والحَرَج، لا سيِّما وأنَّه لا يُؤمَن أن يخرج منه شيء بعد ذلك.
تاسعاً: أحكامُ الشَّهيدِ:
شهيدُ المعركة -وهو الذي مات بسبب قتال الكفَّار في المعركة- يختصُّ عن غيره من الأموات بجملة من الأحكام، وهي:
1) لا يُغَسَّل ولا يُزال دَمُه وجوباً؛ لما يتضمنه الغسل من إزالة أثر العبادة المستطاب شرعاً، وفي الحديث عن جابر رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِدَفْنِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ في دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ. [رواه البخاري]. وعن جابر رضي الله عنه قال: (رُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فِي صَدْرِهِ فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابِهِ كَمَا هُوَ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم[رواه أحمد وأبو داود].
فإن كان شهيد المعركة جُنباً غُسِّل وجوباً؛ لأنَّ الغُسْلَ وجب لغير الموت، فلم يسقط به.
2) لا يكفَّن وإنَّما يُدرج في ثيابه؛ لحديث عبد الله بن ثَعْلَبَة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شهداء أُحُدٍ: (زَمِّلُوهُمْ في ثِيَابِهِم
…
) [رواه أحمد]. ولحديث جابر رضي الله عنه -السابق- في الرَّجُل الذي رُمِيَ بسهم في صدره فأُدْرِج في ثيابه.
3) لا يُصلَّى عليه؛ لحديث جابر رضي الله عنه -السابق- أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِدَفْنِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ في دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ.
4) المقتول ظلماً كالشهيد في الحُكْمِ؛ لا يُغسَّل ولا يُكفن ولا يُصلَّى عليه، إلَّا أن يكون جُنباً؛ لحديث سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ
فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) [رواه أبو داود والترمذي].
- أمَّا غيرهما من الشهداء؛ كالمبْطُون، والمَحْروق، والغَريق؛ فإنهم يُغسَّلون ويُكفَّنون ويُصلَّى عليهم، باتفاق أهل العلم.
5) إذا أصيب المسلم في المعركة ثمَّ حُمِل فأكل أو شرب أو نام أو بال أو تكلَّم
أو عَطَسَ أو طال بقاؤه عُرْفاً؛ فإنَّه يأخذ حُكْمَ الميِّت غير الشهيد؛ فيُغَسَّل ويُكَفَّن ويُصلَّى عليه؛ لأنَّ هذه الأحوال تدلُّ على استقرار حياته؛ وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ غُسِّلَ وكُفِّنَ وصُلِّيَ عَلَيهِ، وَكَانَ شَهِيداً)[رواه مالك].
6) من قُتِلَ وعليه ما يُوجِبُ الغُسْلَ؛ كالجنب والحائض والنفساء، فإنَّه يُغسَّل كغيره؛ لحديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِنَّ صَاحِبَكُمْ حَنْظَلَةَ تُغَسِّلُهُ المَلَائِكَةُ، فَسَلُوا صَاحِبَتَهُ. فَقَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ لَمَّا سَمِعَ الهَائِعَةَ)[رواه ابن حبان والحاكم].
عاشراً: أحكامُ السِّقْط:
السِّقْطُ: -بكسر السين وفتحها وضمِّها- هو المولود الذي سقط من بطن أمِّه قبل تمامه. وله أحكامٌ تخصُّه، وهي:
1) إذا بلغ السِّقط أكثر من أربعة أشهر غُسِّل وصُلِّي عليه، وإن لم يستهلَّ صارخاً؛ لأنَّه يُنْفَخُ فيه الرُّوح في هذه المدَّة؛ كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه:(ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ)[رواه البخاري ومسلم]؛ أي بعد الأربعة أشهر.
وعن المغيرة بن شُعْبَة رضي الله عنه مرفوعاً: (وَالسِّقْطُ يُصَلَّى عَلَيهِ)[رواه أبو داود والترمذي].
2) أمَّا إذا كان دون أربعة أشهر، فلا يُغسَّل ولا يُصلَّى عليه بلا خلاف، وإنَّما يُلفُّ في خِرْقَةٍ ويُدْفَنُ؛ لانتفاء حياته أصلاً؛ إذ هو قبل الأربعة أشهر لا يكون نَسَمَةً.
حادي عشر: تغسيلُ المسلمِ للكافِرِ:
- يحرمُ على المسلم تغسيلُ الكافرِ ولو كان ذِمِّيًّا، أو تكفينه أو الصلاة عليه
أو اتِّباع جنازته، ولا فرق في ذلك بين الكافر القريب أو الأجنبي؛ لأنَّ في ذلك من التعظيم والتطهير والتَّولِّي له، وقد نُهِيَ المسلمُ عن ذلك قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الممتحنة 13]؛ وقال تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة 84].
- فإن لم يوجد من يواري الكافر من جنسه، جاز للمسلم أن يواريه؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قتلى المشركين يوم بدر قال:(فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ)[رواه البخاري ومسلم]، وعن عليٍّ رضي الله عنه قال: أتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلت: (إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ قَالَ: اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ
…
) [رواه أبو داود والنسائي].
* * *
فصل في تكفينِ الميِّت
أوَّلاً: حكمُ تكفينِ الميِّت:
تكفينُ الميِّت فرضُ كفاية على المسلمين، إذا قام به بعضُهم سقط الإثمُ عن الجميع، وإن لم يقم به أحد أَثِم جميع من علم أنَّه دفن بلا غُسل؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمَرَ بتكفين الميِّت فقال صلى الله عليه وسلم كما جاء في قصَّة الأعرابيِّ الذي وَقَصَتْه ناقتُه فمات-:(وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ)[رواه البخاري ومسلم].
ثانياً: ما يُشترَطُ في الكَفَنِ:
1) يجبُ أن يكون الكَفَنُ ساتراً لجميع بَدَنِ الميِّت؛ لأنَّ هذه هي حقيقة التكفين، ولحديث أم عطيَّة الأنصاريَّة رضي الله عنها قالت: (فَلَمَّا فَرَغْنَا-تعني من غَسْلِ ابنَتِهِ صلى الله عليه وسلم أَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ
…
) [رواه البخاري ومسلم].
والحِقْوُ: الإزار. وأشعرنها إيَّاه: أي الْفُفْنَها فيه.
إلَّا إذا كان الميّت مُحْرِمَاً أو مُحْرِمَةً، فحينئذٍ لا يُغطّى رأسُ المُحْرِمِ، بل يبقى مكشوفاً؛ لأنَّه مُحْرِم، والمرأة لا يُغطَّى وجهُها؛ لأنَّها مُحْرِمة، وإحرامُ المرأة في وجهِها، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حقِّ من مات مُحْرِماً - كما في قصَّة الأعرابيِّ الذي وَقَصَتْهُ ناقَتُه فمات وهو مُحرِم-:(وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا).
2) أن لا يكون الكَفَنُ شفَّافاً بحيث يَصِفُ البشرة؛ وذلك حتَّى يستُرَ الميِّت، فالكَفَنُ الذي يَصِفُ البشرة غير ساترٍ؛ فيكونُ وجودُه كعَدَمِهِ.
3) أن يكون الثوب الذي يُكفّن به الميِّت من جنس ما يلبسُه مثلُه؛ فلا يكون مُكْلِفاً بحيث يكون فيه إجحاف في حقِّ الورثة، ولا يكون رديئاً بحيث يكون فيه إجحاف في حقِّ الميِّت، إلَّا إذا كان الميِّت قد أوصى قبل موته أن يكون كفنه أقلَّ من ملبوسِ مثلِه، فحينئذٍ تُنفّذ وصيَّتُه؛ لأنَّ هذا حقُّه وقد أسقطه، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه؛ تقول عائشة رضي الله عنها -وأبو بكر في مرض الموت- (فَنَظَرَ إِلَى ثَوْبٍ عَلَيْهِ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ، فَقَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبِي هَذَا وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ فَكَفِّنُونِي فِيهَا. قُلْتُ: إِنَّ هَذَا خَلَقٌ -أي صار قديماً بالياً- قَالَ: إِنَّ الحَيَّ أَحَقُّ بِالجَدِيدِ مِنْ المَيِّتِ
…
) [رواه البخاري].
ثالثاً: ما يُستحبُّ في التكفينِ:
1) أن يُكفَّنَ الرَّجلُ في ثلاث لَفائف بِيض من القُطن، ليس فيها قميص
ولا عمامةٌ، ولا يُزاد عليها ولا يُنقص منها، ثم تُوضع هذه اللَّفائف على الأرض بعضها فوق بعض، ثمَّ يُوضع عليها الميِّت مستلقياً على ظَهْرِه، ثمَّ يُردُّ طرف اللِّفافَة العُليا من الجانب الأيسر على شقِّه الأيمن، وطرفها من الجانب الأيمن على شقِّه الأيسر، وهكذا اللِّفافة الثانية والثالثة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ في ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَةٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهِنَّ قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ)[رواه البخاري ومسلم]، وفي رواية:(أُدْرِجَ فِيهَا إِدْرَاجًا)[رواه أحمد].
2) أن تكفَّنَ المرأةُ في خمسة أثواب من قطن (إزار -ويقوم مقامه السَّروايل-، وخِمَار يُغطى به الوجه والرأس، وقميص -وهو الثوب المعروف- ولِفافتين)؛ لحديث ليلى بنت قانِف الثَّقفية رضي الله عنها قالت: (كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّلَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عِنْدَ وَفَاتِهَا، فَكَانَ أَوَّلُ مَا أَعْطَانَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْحِقَاءَ ثُمَّ الدِّرْعَ ثُمَّ الْخِمَارَ ثُمَّ الْمِلْحَفَةَ، ثُمَّ أُدْرِجَتْ بَعْدُ في الثَّوْبِ الآخِرِ. قَالَتْ: وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عِنْدَ الْبَابِ مَعَهُ كَفَنُهَا يُنَاوِلُنَاهَا ثَوْبًا ثَوْبًا)[رواه أحمد وأبو داود].
والحِقَاء: بكسر الحاء وتخفيف القاف، جمع الحِقْو وهو الإزار. والدِّرْع: هو القميص.
3) أن يُكفَّنَ الصَّبيُّ في ثوب واحد؛ لأنَّه دون الرَّجُلِ، وإن كُفِّن في ثلاثة أثواب فلا بأس؛ لأنَّه ذَكَرٌ فأشبه الرَّجُلَ.
4) أن تُكفَّنَ الطفلةُ الصغيرة في قميص ولِفافَتين بلا خِمَار؛ لأنَّها دون المرأة، ولأنَّ ابن سيرين رحمه الله كفَّنَ بنتاً له قد أعصرت -أي قاربت المحيض- في قميص ولِفافَتين. [رواه ابن أبي شيبة بمعناه].
رابعاً: ما يُكرَهُ في التكفينِ:
1) تكفينُ الميِّت بشَعْر وصُوف؛ لأنَّه خلاف فِعْل السَّلف.
2) التكفينُ بمُزَعْفَرٍ ومُعَصْفَرٍ ومَنْقُوشٍ، ولو كان الميِّت امرأةً؛ لأنَّ هذا خلاف فعل السَّلف، ولأنَّه أيضاً لا يليق بحال الميِّت.
خامساً: ما يَحرُمُ في التكفينِ:
1) تكفينُ الميِّت بجِلْدٍ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ بنَزْع الجلود عن الشهداء، وأن يُدْفَنوا في ثيابهم؛ كما جاء في حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال:(أَمَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الحَدِيدُ وَالجُلُودُ وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ)[رواه أبو داود بإسناد ضعيف].
2) التكفينُ بحَريرٍ ومُذَهَّبٍ ولو كان الميِّت امرأةً؛ فيَحْرمُ تكفينُ الرَّجل بذلك؛ لأنَّ الحريرَ والذَّهَبَ مُحرَّمان عليه في الدنيا، وأمَّا المرأة فلأنَّ الحريرَ والذَّهَبَ إنَّما أُبيحا لها في حال الحياة؛ لأنَّها محلُّ الزينة والشهوة، وقد زال ذلك بموتها، مع ما في ذلك من إضاعة للمال.
* * *
فصل في الصلاةِ على الميِّت
أوَّلاً: حكمُ الصلاةِ على الميِّت:
الصلاةُ على الميّت فرضُ كفاية؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ بالصلاة على موتى المسلمين فقال -كما في حديث الذي مات مَدِيناً-: (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ)[رواه البخاري ومسلم]، ولما مات النجاشيُّ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ أَخًا لَكُمْ قَدْ مَاتَ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ)[رواه مسلم]، ولما أسلم الغلامُ اليهوديُّ الذي كان يخدم النبيَّ صلى الله عليه وسلم ثمَّ مات قال:(صَلُّوا عَلَى أَخِيكُم)[رواه النسائي في الكبرى والحاكم]. والأمر للوجوب كما هو معلوم.
- ويسقطُ هذا الفرضُ الكفائيُّ: بأن يُصلِّي على الميِّت رجلٌ واحدٌ مكلَّفٌ،
أو امرأةٌ واحدةٌ؛ لأنَّ الصلاة على الميِّت ليس من شروطها الجماعة بل هي سُنّة.
ثانياً: شروطُ صحَّة الصلاةِ على الميِّت:
يُشترطُ لصحِّة الصلاة على الميِّت ثمانيةُ شروط:
1) النيَّةُ؛ بأن ينويَ الصلاةَ على الميِّت.
2) التكليفُ؛ بأن يكون الذي يصلِّي على الميّت بالغاً عاقلاً.
3) استقبالُ القِبْلَةِ.
4) سَتْرُ العَوْرَةِ.
5) اجتنابُ النَّجاسَةِ؛ وذلك لأنَّها صلاة؛ فيُشتَرَطُ لصحَّتِها ما يُشتَرَطُ لغيرها من الصلوات.
6) حضورُ الميِّتِ إن كان موجوداً بالبَلَدِ؛ بأن يكون بين يدي المصلِّين عند الصلاة عليه؛ فلا تصحُّ الصلاة على جنازة محمولةٍ على الأعناق، أو على دابَّة،
أو من وراء حائل؛ كحائطٍ ونحوه.
7) إسلامُ المُصَلِّي والمُصَلَّى عليه؛ فلا يُصلَّى على كافر؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة 84].
8) طهارةُ المُصَلِّي والمُصَلَّى عليه ولو بالتراب في حالة العذر -كفَقْد الماء، أو عدم القُدْرَة على استعماله-؛ لأنَّ الطهارة شرطٌ لصحَّة الصلاة كما هو معلوم. ويُستثنَى من ذلك الشهيد.
ثالثاً: أركانُ الصلاةِ على الميِّتِ:
أركانُها سَبْعَةٌ:
1) القيامُ للقادرِ عليهِ؛ لأنَّها صلاةٌ مفروضةٌ؛ فوجب القيام فيها كسائر الصلوات المفروضة، إلَّا إذا عجز عن القيام.
2) التكبيرُ أربعَ تكبيراتٍ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كبَّر على النَّجاشي أربعاً؛ كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ في الْيَوْمِ الَّذِي
مَاتَ فِيهِ وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى المُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ) [رواه البخاري ومسلم].
3) قراءةُ الفاتحةِ بعدَ التكبيرةِ الأُولَى؛ لعموم قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ)[رواه البخاري ومسلم]، ولحديث طَلْحَة بن عبد الله بن عَوْف قال:(صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ: لِيَعْلَمُوا أنَّها سُنَّةٌ)[رواه البخاري].
4) الصلاةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعدَ التكبيرةِ الثانيةِ؛ لحديث أبي أُمامَة بن سَهْلٍ: أنه أخبره رَجُلٌ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (أَنَّ السُّنَّةَ في الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَازَةِ أَنْ يُكَبِّرَ الإِمَامُ، ثُمَّ يَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُولَى سِرًّا في نَفْسِهِ، ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
…
) [رواه الشافعي والبيهقي].
وصِفَةُ الصلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة كصفة الصلاة عليه في التشهُّد الأخير من الصلوات: «اللهُمَّ صلّ على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيمَ
…
».
5) الدُّعاءُ للميِّتِ -بعدَ التكبيرةِ الثالثةِ-؛ لحديث أَبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى المَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ)[رواه أبوداود وابن ماجه].
6) السَّلامُ؛ بأن يُسلِّم تسليمةً واحدةً عن يمينه؛ لحديث أَبي هريرة رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَكَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا وَسَلَّمَ تَسْلِيمَةً
وَاحِدَةً) [رواه ابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي].
وإنِ اقتصرَ على قول: (السَّلام عليكم) أجزأه ذلك؛ لحديث الحارث الأعور قال: (صَلَّيْتُ خَلْفَ عَليٍّ رضي الله عنه عَلَى جَنَازَةٍ فَسَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ حِينَ فَرَغَ: السَّلامُ عَلَيكُمْ)[رواه ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف].
7) الترتيبُ؛ بأن يُرتِّب هذه الأركان على هذا النحو، وسيتَّضح هذا أكثر عند بيان صفة صلاة الجنازة.
رابعاً: صفةُ الصلاةِ على الجَنازَةِ:
صفةُ صلاةِ الجَنازةِ على النحو التالي:
- أن ينوي الصلاة على هذا الميِّت، أو هؤلاء الموتى إن كانوا جماعة.
- ثمّ يُكبِّر التكبيرةَ الأُولى، ويقرأ بعدها بفاتحة الكتاب.
- ثمَّ يُكبِّر الثانية، ويصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم كما يصلِّي عليه في التشهُّد.
- ثمَّ يُكبِّر الثالثة، ويدعو للميّت بنحو: «اللهُمَّ اغفر له وارحمه
…
»، والأفضل أن يدعو بما جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثل:(اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ)[رواه مسلم].
ويدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين بما تيسَّر، أو بما جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثل: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِيمَانِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِسْلَامِ، اللَّهُمَّ
لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ) [رواه أبو داود والترمذي].
- ثمَّ يُكبِّر الرَّابعة، ويقف بعدها قليلاً لا سيَّما الإمام؛ ليُكبِّر آخر الصفوف، ثمَّ يُسلِّم.
وقد دلَّ على هذه الكيفيِّة لصلاةِ الجنازةِ حديثُ أبي أُمامَة بن سَهْل بن حَنيف: أنَّه أخبرهُ رَجُلٌ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (أَنَّ السُّنَّةَ في الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَازَةِ أَنْ يُكَبِّرَ الإِمَامُ، ثُمَّ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُولَى سِرًّا في نَفْسِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيُخْلِصُ الدُّعَاءَ لِلْجَنَازَةِ في التَّكْبِيرَاتِ لَا يَقْرَأُ في شَيْءٍ مِنْهُنَّ، ثُمَّ يُسَلِّمُ سِرًّا في نَفْسِهِ)[رواه الشافعي]، وفي رواية عند الحاكم والبيهقي:(وَالسُّنَّةُ أَنْ يَفْعَلَ مَنْ وَرَاءَهُ مِثْلَ مَا فَعَلَ إِمَامُهُ).
* تنبيهان:
الأوَّل: يجوزُ لمن فاتته الصلاة على الميِّت أن يُصلِّي على قبره بعد الدفن، ما لم يمض على دفنه شهر وشيء؛ كيوم ويومين؛ لما روى ابن عبَّاس رضي الله عنه:(انْتَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى قَبْرٍ رَطْبٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَصَفُّوا خَلْفَهُ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا)[رواه مسلم].
فإن مضى على دفنه أكثر من ذلك فتحرمُ الصلاةُ عليه؛ لأنَّ الميِّت لا يتحقَّقُ
بقاؤه بعد ذلك على حاله.
الثاني: المَذْهَبُ: أن يقفَ الإمامُ -عند الصلاةِ على الميِّت- عند صَدْرِ الرَّجُلِ، وعند وَسْطِ المَرأَة.
والروايةُ الثانية في المَذْهَبِ: أنْ يقف عند رأس الرَّجُل، ووَسْطِ المرأة؛ لحديث أبي غالب قال:(صَلَّيْتُ مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى جَنَازَةِ رَجُلٍ فَقَامَ حِيالَ رَأْسِهِ، ثُمَّ جَاءُوا بِجَنَازَةِ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: يَا أَبَا حَمْزَةَ! صَلِّ عَلَيهَا فَقَامَ حِيالَ وَسْطِ السَّريرِ، فَقَالَ لَهُ العَلاءُ بْنُ زِيادٍ: هَكَذَا رَأَيْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الجَنَازَةِ مَقَامَكَ مِنْهَا وَمِنَ الرَّجُلِ مَقَامَكُمْ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ)[رواه أبو داود والترمذي، واللفظ له].
* * *
فصل في حَمْلِ الميِّت ودَفْنِهِ
أوَّلاً: حكمُ حَمْلِ الميّتِ ودَفنِهِ:
حملُ الميّتِ ودفنُهُ فرضُ كفايةٍ؛ لقول الله عز وجل: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس 21]؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: «معناهُ: أكرمَهُ بدفنِهِ» ، ولأنّ في تركِه أذًى للنّاس، وهَتْكاً لحُرمةِ الميّتِ.
لكنْ يسقطُ الحملُ والدَّفنُ والتّكفينُ إذا وليَهم كافرٌ؛ لأنّه لا يُشترطُ الإسلامُ فيمَنْ يتولّى ذلك.
ثانياً: آدابُ حَمْلِ الجنازةِ:
1) يُسَنُّ أن يكونَ الماشِي أمامَ الجنازةِ؛ لحديثِ ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ)[رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه]. ولا يكرهُ خلفَها.
ويُسنُّ أن يكونَ الراكبُ خلفَ الجنازةِ؛ لحديث المغيرة بن شُعْبَة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (الرَّاكِبُ يَسِيرُ خَلْفَ الجَنَازَةِ، وَالمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا)[رواه التّرمذيّ].
ويُكرهُ أن يكونَ الراكبُ أمامَها؛ لحديث ثوبان رضي الله عنه قال: (خَرَجْنَا مَعَ
رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في جَنَازَةٍ فَرَأَى نَاساً رُكْبَاناً؛ فَقَالَ: أَلَا تَسْتَحْيُونَ؟ إِنَّ مَلَائِكَةَ الله عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَأَنْتُمْ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ) [رواه التّرمذيُّ، وأشار إلى ضعفه].
والقُرْبُ من الجنازةِ أفضلُ من البُعدِ عنها؛ كالقُربِ من الإمامِ في الصَّلاةِ.
2) يُكرَهُ القيامُ للجنازةِ؛ لحديث مسعودِ بنِ الحكمِ الأنصاريّ أنّه سمع عليَّ بنَ أبِي طالبٍ رضي الله عنه يقول فِي شأنِ الجنائزِ: (إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَامَ ثُمَّ قَعَدَ)[رواه مسلم].
3) يُكرَهُ رفعُ الصّوتِ والصِّياحُ مع الجنازةِ وعندَ رفعِها ولو بالذِّكرِ والقرآنِ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (لَا تُتْبَعُ الجَنَازَةُ بِصَوْتٍ وَلَا نَارٍ)[رواه أبو داود]. وعن قيس بن عباد أنّه قال: (كانَ أَصْحابُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَكْرهُونَ رَفعَ الصَّوتِ عِنْدَ الجَنَائِزِ)[رواه البيهقي].
ثالثاً: أحكامُ دَفْنِ الميّتِ:
1) يجبُ أن يستقبلَ بالميّتِ القبلةَ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم عنِ البيتِ الحرامِ: (قِبْلَتُكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً)[رواه أبو داود والنّسائي]. ويُسَنُّ أن يكونَ على جنبِهِ الأيمنِ؛ لأنّ الميّتَ يُشبِهُ النّائمَ، والنّائمُ سُنّتُه النّومُ على جنبِهِ الأيمنِ.
2) يُسَنُّ أن يعمّقَ القبرُ ويوسّعَ؛ لحديث هشامِ بن عامرٍ رضي الله عنه أنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لهم يوم أُحُدٍ: (احْفِرُوا وَأَعْمِقُوا)، وفي رواية:(وَأَوْسِعُوا)[رواه أبو داود والترمذيُّ]. والتَّوسعةُ: هي الزّيادةُ في الطُّولِ والعَرضِ. والعمقُ: هو الزِّيادةُ في النّزولِ.
وليس لذلك حَدٌّ؛ لعمومِ الحديثِ، وقال الإمام أحمدُ:«يُعَمَّقُ القَبْرُ إِلَى الصَّدْرِ؛ الرَّجُلُ وَالمَرْأَةُ في ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ كَانَ الحَسَنُ وَابْنُ سِيرينَ يَسْتَحِبَّانِ أَنْ يُعَمَّقَ القَبْرُ إِلَى الصَّدْرِ» .
ويكفِي ما يَمنعُ السِّباعَ والرَّائحةَ؛ لأنّه يحصلُ به المقصودُ.
3) يُسنُّ لمُدخِلِهِ القبرَ أن يقولَ: «بِسمِ الله وَعَلَى مِلّةِ رَسُولِ الله» ؛ لحديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا وَضَعَ الَميِّتَ فِي الْقَبْرِ قَالَ: بِسْمِ الله، وبِالله، وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ الله)[رواه الترمذي، وقال: «وقال مَرَّةً: وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ الله»].
4) يُسنُّ لكلِّ من حضرَ الدَّفنَ أن يَحْثُوَ التُّرابَ على الميّتِ ثلاثاً؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ، ثُمَّ أَتَى قَبْرَ المَيِّتِ فَحَثَى عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا)[رواه ابن ماجه]. ثمّ يُهالُ عليهِ التُّرابُ؛ لأنّ مُواراتَه فرضٌ، وبالحثو يصيرُ ممّن شارك في المُواراةِ.
5) يحرمُ دفنُ غيرِ الميّتِ عليهِ أو مَعَهُ في القبرِ إلاّ لضرورةٍ أو حاجةٍ؛ ككثرةِ الموتى وقلّةِ من يدفنُهم؛ لحديثِ هشامِ بنِ عامرٍ رضي الله عنه قال: (لمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ شَكَوا إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم القَرْحَ؛ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله عَلَيْنا الحَفْرُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ؟ قَالَ: احْفِرُوا وَأَعْمِقُوا وَأَحْسِنُوا وَادْفِنُوا الاثْنَينِ وَالثَّلاثَةَ في قَبْرٍ)[رواه النّسائي].
6) يُكرَهُ إدخالُ القبرِ خشباً إلّا لضرورةٍ، وأيَّ شيءٍ مَسَّتهُ نارٌ؛ كآجُرٍّ -تفاؤلاً أن لا يمسَّ الميّتَ نارٌ-، ودفنٌ في تابوتٍ، ولو كان الميّتُ امرأةً. قال إبراهيمُ النخعيُّ:
«كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ اللَّبِنَ وَيَكْرَهُونَ الآجُرَّ، وَيَسْتَحِبُّونَ القَصَبَ وَيَكْرَهُونَ الخَشَبَ» [رواه ابن أبي شيبة].
7) يُكرَهُ وضعُ فِراشٍ تحتَ الميّتِ، وجعلُ مِخَدَّةٍ تحتَ رأسِهِ؛ لأنّه لم ينقلْ عن أحدٍ من السّلفِ، ولما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما (أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُلْقَى تَحْتَ المَيِّتِ في القَبْرِ شَيْءٌ)[رواه الترمذيّ، وأشار البيهقي إلى ضعفه].
رابعاً: أحكامُ القَبْرِ:
1) يُسنُّ رَشُّ القبرِ بالماءِ، ووضعُ حَصًى صِغارٍ عليه؛ ليحفَظَ ترابَه؛ لحديث جعفرِ بن محمّد عن أبيه:(أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رَشَّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ مَاءً، ووَضَعَ عَلَيْهِ حَصْبَاءَ)[رواه الشافعي بإسناد ضعيف].
2) يُسنُّ رفعُ القبرِ قَدْرَ شِبرٍ؛ لحديث جابر رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رُفِعَ قَبْرُهُ مِنَ الْأَرْضِ نَحْواً مِنْ شِبْرٍ)[رواه ابن حبّان والبيهقيّ].
ويُكره رفعُه فوقَ شبرٍ؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه: (لَا تَدَع تِمْثَالاً إِلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ)[رواه مسلم].
3) يُكرَهُ تزويقُ القبرِ، وتجصِيصُهُ، وتبخيرُهُ؛ لحديث جابر رضي الله عنه:(نَهَى النّبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ)[رواه مسلم]، ولأنّ ذلكَ من زينةِ الدُّنيا فلا حاجةَ بالميّتِ إليهِ.
4) يُكرهُ تقبيلُ القبرِ؛ لأنّه منَ البدعِ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)[رواه مسلم].
5) يحرمُ الطّوافُ بالقبر؛ لحديثِ عائشةَ رضي الله عنها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ. قالت عائشةُ: يُحذِّرُ مَا صَنَعُوا، وَلَولا ذَلِك لأُبْرِزَ قَبرُهُ؛ غَيرَ أَنَّه خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِداً)[رواه البخاري ومسلم، واللّفظ للبخاريّ].
قال البُهُوتي في «شرح منتهى الإرادات» : «ويحرمُ الطوافُ بها؛ أي الحُجْرةُ النبويَّةُ؛ بل بغيرِ البيتِ العتيقِ اتفاقاً» .
6) يُكرهُ الاتّكاءُ على القبرِ؛ لحديثِ عمرو بن حزمٍ رضي الله عنه قال: (رَآنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مُتَّكِئٌ عَلَى قَبْرٍ؛ فَقَالَ: لَا تُؤْذِ صَاحِبَ الْقَبْرِ)[رواه أحمد والنسائي].
7) يُكرهُ المبيتُ عند القبرِ، والضَّحِكُ، والحديثُ فِي أمرِ الدُّنيا عنده؛ لأنّه غيرُ لَائِقٍ بالمحلِّ وحُرمتِهِ.
8) تُكرهُ الكتابةُ على القبرِ، والجلوسُ، والبناءُ عليه؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال:(نَهَى النّبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُجَصَّصَ الْقُبُورُ، وَأَنْ يُّكْتَبَ عَلَيْها، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا، وأَنْ تُوطَأَ)[رواه التّرمذي].
9) يُكرَهُ المشيُ بالنّعلِ بين القبورِ إلّا لخوفِ شَوْكٍ ونحوِهِ ممّا يُتأذى به؛ لحديثِ بشيرِ بن الخَصَاصِية رضي الله عنه قال: (بَيْنَمَا أَنَا أُمَاشِي رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقُبُورِ المُشْرِكِينَ
…
وَحَانَتْ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم نَظْرَةٌ، فَإِذَا رَجُلٌ يَمْشِي في الْقُبُورِ عَلَيْهِ نَعْلَانِ فَقَالَ: يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ وَيْحَكَ أَلْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ؛ فَنَظَرَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا عَرَفَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم خَلَعَهُمَا فَرَمَى بِهِما) [رواه أبو داود]، ولأنّ خلعَ النّعلينِ أقربُ إلى
الخُشوعِ، وزِيِّ أهلِ التّواضعِ، واحترامِ أمواتِ المسلمينَ.
10) يَحرمُ إِسْراجُ المقابرِ، والدَّفنُ بالمساجدِ، وبناءُ المساجدِ على القبورِ؛ لحديثِ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما:(لَعَنَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم زَائِرَاتِ الْقُبُورِ، وَالمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ)[رواه أبو داود والنسائي والترمذي وضعّفه ابنُ حجرٍ وغيرُه]، ولحديثِ عائشةَ رضي الله عنها السّابق:(لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)[رواه البخاري ومسلم]، ولأنّ في إسراجها تضييعاً للمالِ في غيرِ فائدةٍ، وتعظيماً لها يُشبه تعظيمَ الأصنامِ.
11) يحرمُ الدّفنُ في مُلكِ الغيرِ ما لمْ يأذنْ مالكُهُ، ويُنبَشُ من دُفنَ فيهِ، والأَوْلَى تركُهُ.
والدَّفنُ بالصحراءِ أفضلُ من الدّفنِ بالعُمرانِ؛ لما ثبتَ بالاستقراء: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَدْفِنُ أَصْحابَهُ رضي الله عنهم بِالبَقيعِ، ولم تزلِ الصحابةُ والتّابعونَ ومَنْ بعدَهُم يُقبِرونَ في الصَّحارِي.
خامساً: حكمُ مَنْ ماتتْ وفي بطنِها جَنينٌ:
إنْ ماتتِ امرأةٌ حاملٌ وفي بطنِها جنينٌ تُرجى حياتُهُ حَرُمَ شَقُّ بطنِها من أجلِهِ؛ لأنّ فيه هَتكاً لحُرمةٍ مُتيَقّنةٍ لإبقاءِ حياةٍ مُتوَهّمةٍ؛ إذ الغالبُ أنّ الولدَ لا يعيشُ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الحَيِّ)[رواه أبو داود وابن ماجه]. ولكن تسطو عليه القوابل فيُدخِلن أيديهنَّ في فرجها فيُخرجْنَه من بطنها.
فإن تعذَّر على النساءِ القوابلِ إخراجُ الجنينِ تُركَ حتَّى يموت، ولا يُشقُّ
بطنها. ولا يُسلّط عليها الرِّجال؛ لما فيه من هَتْك حُرمتها.
والذي تُرجى حياتُه: هو الذي تمَّ له ستَّة أشهرٍ، وكان يتحرَّك حركةً قويَّةً، وانتفخت المخارج.
- وفي المذهب احتمال بجواز شقٍّ بطن من ماتت وفي بطنها جنين يغلب على الظنِّ أن يحيا.
قال ابنُ قُدامةَ في «المغني» : «ويُحتمَلُ أن يُشقَّ بطنُ الأمِّ إنْ غلبَ على الظّنِّ أنّ الجنينَ يحيا. وهو مذهبُ الشّافعيّ؛ لأنّه إتلافُ جزءٍ من الميّتِ لإبقاءِ حيٍّ؛ فجاز كما لو خرج بعضُهُ حيًّا ولم يُمكنْ خروجُ بقيّتِهِ إلَّا بشقٍّ، ولأنّه يُشقُّ لإخراجِ المالِ منه؛ فلإبقاءِ الحيِّ أَوْلَى» .
- وإن خرجَ بعض الحَمْل حيًّا شُقَّ بطن الحامل لخروج الباقي؛ لأنَّه حصل اليقين بخروجه حيًّا بعد أن كان موهوماً.
سادساً: حكمُ أخذِ الأجرةِ على أعمالِ الجنازةِ:
يُكرَهُ أخذُ الأجرةِ على غَسلِ الميت، إلَّا أن يكون المغسِّل محتاجاً؛ فيُعطى من بيت المال، فإن تعذَّر أُعطيَ بقَدْر عمله.
كما يكره أخذ الأجرة على صلاة، وتكفين، وحملٍ ودفنٍ؛ لأنّها أعمال قُربَةٍ؛ وأخذُ الأجرةِ عليها يُذهبِ بالأجر.
* * *
فصل في أحكامِ التَّعزية
أوَّلاً: تعريفُ التَّعزيةِ:
التّعزيةُ: تسليةُ أهلِ الميّتِ، وحثُّهم على الصّبرِ بوعدِ الأجرِ، والدُّعاءِ للميّتِ المسلمِ والمصابِ.
ثانياً: حكمُ التّعزيةِ:
تُسنُّ تعزيةُ المسلمِ المصابِ بميّتٍ؛ لحديثِ عمرو بن حزمٍ رضي الله عنه مرفوعاً: (مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إلَّا كَسَاهُ اللهُ عز وجل مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[رواه ابن ماجه]. وتشرعُ قبل الدّفنِ وبعده.
ثالثاً: مدّةُ التّعزيةِ:
تمتدُّ التّعزيةُ ثلاثةَ أيّامٍ بليالِيهنّ؛ لإذنِ الشّارعِ في الإحدادِ إلى ثلاثٍ؛ بقوله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)[رواه البخاري ومسلم]. وتكرهُ بعدها إلا لغائبٍ؛ حتّى لا يتجدَّدَ له الحُزنُ.
رابعاً: ما يُقالُ في التّعزيةِ:
يُقالُ للمسلمِ المُصابِ بميّتٍ في التّعزيةِ: «أَعْظَمَ اللهُ أَجْرَكَ، وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ،
وَغَفَرَ لِمَيّتِكَ»، ولا يتعيّنُ ذلك؛ بل إن شاءَ قالَهُ، وإن شاءَ قالَ غيرَه؛ إذ الغرضُ الدُّعاءُ للمصابِ وميِّتِهِ. ويقولُ المُصابُ:«اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَكَ، وَرَحِمَنَا وَإِيَّاكَ» ؛ فقد ردَّ به الإمامُ أحمدُ رحمه الله.
خامساً: البُكاءُ والنَّدبُ والنِّياحةُ على الميّتِ:
1) لا بأسَ بالبُكاءِ على الميّتِ قبلَ الموتِ وبعدَهُ؛ بلا ندبٍ، ولا نياحةٍ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ اللهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا -وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ)[رواه البخاري ومسلم].
2) يَحرمُ النَّدبُ، وهو: البُكاءُ مع تَعدادِ مَحاسنِ الميّتِ. والنِّياحةُ، وهي: رفعُ الصّوتِ بذلكَ برَنّةٍ؛ لحديثِ أمّ عطيّة رضي الله عنها قالت: (لمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة 13]؛ كَانَ مِنْهُ النِّيَاحَةُ)[رواه مسلم]؛ فسمّاهُ معصيةً. وعنها رضي الله عنها قالت: (أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْبَيْعَةِ أَنْ لَا نَنُوحَ)[رواه البخاري ومسلم، واللّفظ للبخاريّ].
3) يَحرمُ شَقُّ الثّوبِ، ولَطمُ الخدِّ، ونَتفُ الشَّعرِ، ونَشْرُهُ، وحَلْقُهُ؛ لحديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ)[رواه البخاري ومسلم]. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: (أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بَرِئَ مِنْ الصَّالِقَةِ، وَالحَالِقَةِ، وَالشَّاقَّةِ)[رواه البخاري ومسلم].
والصَّالقةُ: بالصّادِ وفيها لغةٌ بالسّين، أي: الّتي ترفعُ صوتَها عند المصيبةِ،
وقيل: الّتي تضربُ وَجْهَها.
والحالقةُ: الّتي تحلِقُ شعرَها.
والشَّاقّةُ: الّتي تَشُقُّ ثوبَها.
سادساً: زيارةُ القُبورِ:
1) تُسَنُّ زيارةُ القبورِ للرِّجالِ؛ لحديث سُليمان بن بُرَيدَة عن أبيه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (قَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ؛ فَقَدْ أُذِنَ لمُحَمَّدٍ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ؛ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ)[رواه التّرمذي، وأصلُه في صحيح مسلم].
2) تُكرَهُ زِيارةُ القُبُورِ للنِّساءِ؛ لأنّ المرأةَ قليلةُ الصّبرِ، كثيرةُ الجزعِ، وفي زيارتِها للقبورِ تهييجٌ للحزنِ، وتجديدٌ لذكرِ مصابِها؛ فلا يؤمنُ أن يفضيَ بها ذلك إلى فعلِ ما لا يحلُّ؛ بخلافِ الرّجلِ.
وإنْ مرَّتِ المرأةُ بقبرٍ فِي طريقِها فسلّمتْ عليهِ، ودعتْ لهُ فحسنٌ؛ لأنّها
لمْ تخرجْ لذلك.
3) يُسَنُّ لمنْ زارَ القبورَ أو مرَّ بها أن يقولَ: «السَّلامُ عَلَيكُمْ دَارَ قَومٍ مُؤْمِنينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ، وَيَرْحَمُ اللهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَالمُسْتَأْخِرينَ، نَسْأَلُ اللهَ لَنا وَلَكُمُ العَافِيَةَ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنا أَجْرَهُمْ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ، وَاغْفِرْ لَنا وَلَهُمْ» ؛ لمجموعِ الأحاديثِ الواردةِ في ذلك عنِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم من روايةِ أبي هريرةَ وعائشة وبريدةَ رضي الله عنهم. [رواها أحمدُ ومسلمٌ وغيرُهما].
* * *
أحكامُ السَّلام على الحيِّ وتشميت العاطس
أوَّلاً: السَّلامُ:
ابتداءُ السّلامِ على الحيِّ المسلمِ قبلَ كلِّ كلامٍ سُنّةٌ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (لَا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)[رواه مسلم].
ورَدُّهُ فرضُ كفايةٍ على الجماعةِ المسلَّمِ عليهم؛ فإنْ كان واحداً كانَ فرضَ عينٍ عليه؛ لقولِهِ تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء 86]. ولحديث علي رضي الله عنه مرفوعاً: (يُجْزِئُ عَنِ الجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنِ الجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ)[رواه أبو داود].
ورفعُ الصّوتِ بالرَّدِّ واجبٌ قدرَ الإبلاغِ، وتُزادُ الواوُ في ردِّ السّلامِ وُجوباً.
ثانياً: تشميتُ العاطسِ:
تشميتُ العاطسِ المسلمِ إذا حَمِدَ اللهَ -بأن يُقالَ لهُ: «يَرحمُكَ اللهُ» ، أو:«يَرحمكُمُ اللهُ» -: فرضُ كفايةٍ، وردُّ العاطسِ على من شمَّتَهُ -بأن يقولَ:«يَهديكُمُ اللهُ، ويُصلحُ بالَكُمْ» -: فرضُ عينٍ؛ لحديثِ أبِي هريرةَ رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الحَمْدُ لله، وَلْيَقُلْ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ يَرْحَمُك الله، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللهُ، وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ)[رواه البخاري].
ويُكرَهُ أن يشمِّتَ من لم يحمدِ اللهَ؛ لحديث أبي موسى رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: (إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتُوهُ؛ فَإِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ فَلَا تُشَمِّتُوهُ)[رواه مسلم].
والتّشميتُ إلى ثلاثٍ، وفي الرّابعةِ يُدعى له بالعافيةِ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ ثَلَاثاً؛ فَمَا زَادَ فَهُوَ مَزْكُومٌ)[رواه ابنُ ماجه]. ولا يشمّتُ للرّابعةِ إلّا إذا
لمْ يكنْ شمّتَهُ قبلها ثلاثاً؛ إذ العبرةُ بفعلِ التّشميتِ، لا بعددِ العَطْساتِ.
* * *
كتاب الزكاة
أوَّلاً: تعريفُ الزَّكاةِ:
الزَّكاةُ في اللغة: النَّماءُ والزيادةُ والتَّطهيرُ. وسُمِّيَ المالُ المُخْرَجُ زكاةً؛ لأنَّه يزيدُ في المُخرَج منه بالبركةِ، ويَقيهِ من الآفاتِ، ويُطَهِّرُ صاحبَه بالمغفرةِ.
وفي الاصطلاح: حقٌّ واجبٌ في مالٍ خاصٍّ، لطائفةٍ مخصوصةٍ، في وقتٍ مخصوصٍ.
ثانياً: حكمُ الزَّكاةِ:
الزكاةُ أحدُ أركانِ الإسلامِ، وفرضٌ من فرائضِهِ العِظامِ، وهي واجبةٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ.
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة 43]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَالحَجُّ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ)[رواه البخاري ومسلم].
ثالثاً: حكمُ مانعِ الزكاةِ:
- يَحرمُ على من وَجَبَتْ عليه الزكاةُ الامتناعُ عن أدائِها؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ
فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا في نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ
…
) الحديث [رواه مسلم].
- ومنِ امتنعَ عن أدائها بُخْلاً أو تَهاوناً وجبَ على وَليِّ الأَمْر أخذُها منه عُنْوَةً؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا عز وجل [رواه أبو داود]. وعلى وليِّ الأمر أن يعاقبه ويعزِّره لارتكابه أمراً مُحرَّماً.
- فإن كانوا جماعة ولهم مَنَعَةٌ وقُوَّةٌ، قاتَلَهُم الإمامُ حتَّى يُؤدُّوها؛ لأنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه قاتَلَ مانِعِي الزكاةِ وقالَ:(وَالله لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَالله لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ)[رواه البخاري ومسلم].
- ومن جَحَدَ وجوبَ الزكاةِ وهو عالمٌ بوجوبِها فقد كَفَرَ وارتدَّ عن الإسلامِ، ولو أَخْرَجَها؛ لتكذيبه لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأُمَّة، ويجبُ استتابَتُهُ؛ فإن تابَ وإلَّا قُتِلَ.
رابعاً: الأموالُ التي تجبُ فيها الزَّكاةُ:
تجبُ الزكاةُ في خمسةِ أصنافٍ من المالٍ، وهي:
1) بَهيمةُ الأنعامِ: وهي الإبلُ والبَقرُ والغَنمُ.
2) الخارجُ من الأرضِ: وهي الزُّروعُ والثِّمارُ.
3) الأثمانُ: وهي الذَّهَبُ والفِضَّةُ.
4) عُروضُ التِّجارةِ: وهي السِّلَعُ والبضائِعُ التي أُعِدَّت للتِّجارَةِ.
وسيأتي بيان أحكامِها مفصَّلةً فيما يأتي.
خامساً: شروطُ وجوبِ الزكاةِ:
لا تجبُ الزكاةُ إلَّا عندَ تحقُّقِ شروطِها الخمسة، وهي:
الشرطُ الأوَّل: الإسلامُ؛ فيشترط في المُزكِّي أن يكون مسلماً، ولا تصحُّ من الكافر الأصليِّ أو المرتدِّ؛ لحديث معاذ رضي الله عنه حينما أرسله النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال له: (إِنَّكَ تَأْتِى قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنِّي رَسُولُ الله، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ الله افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ في فُقَرَائِهِمْ
…
) [رواه البخاري ومسلم]. فلم يأمرْهُم بالزكاة قبل أن يكونوا مسلمين.
الشرطُ الثاني: الحُرِّيِّة؛ فلا تصحُّ من العَبْدِ الرَّقيقِ ولو كان مُكاتَباً؛ لما روي عن جابر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لَيْسَ في مَالِ المُكاتَبِ زَكَاةٌ حَتَّى يُعْتَقَ)[رواه الدارقطني، بإسناد ضعيف]، ولأنَّ ما يملكه من المال هو مِلْكٌ لسيِّده؛ فتجبُ زكاةُ مالِهِ على سيِّده.
- أمَّا العبد المُبعَّضُ -وهو الذي أُعتِقَ بعضُه- فتجبُ الزكاةُ في القَدْر الذي يملِكُه باعتبار جُزئِه الحُرِّ.
الشرطُ الثالثُ: مِلْكُ النِّصابِ؛ فلا تجب الزكاة فيما دون النِّصابِ، وهو مقدارُ المالِ الذي لا تجبُ الزكاةُ في أقلّ منه، وهو يختلف باختلاف أجناس الأموال الزكويَّة، وسيأتي مفصَّلاً عند الحديث عنها.
الشرطُ الرَّابعُ: المِلْكُ التامُّ للمالِ؛ بأن يكون له التَّصرُّفُ فيه على حسب اختياره، وفوائدُه عائدةٌ عليه، ولا يتعلَّق به حقُّ غيره.
الشرطُ الخامسُ: تمامُ الحَوْلِ؛ وهو إتمام السَّنةِ الهجريَّة. وهذا في غير الزُّروعِ والثِّمارِ؛ لحديث عليٍّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (ولَيْسَ في مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيهِ الحَوْلُ)[رواه أبو داود].
- واحتسابُ الحَوْلِ يبدأُ عند اكتمالِ النِّصابِ ووجودِه من أوَّل الحَوْل إلى تمامِه؛ لحديث عليٍّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (فَإِذَا كَانَتْ لَكَ مِئَتَا دِرْهَمٍ، وَحَالَ عَلَيْها الحَوْلُ؛ فَفِيهَا خَمْسَة دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيءٌ-يَعْنِي: في الذَّهَبِ- حَتَّى يَكُونَ لَكَ عِشْرُونَ دِيناراً، فَإِذَا كَانَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَاراً، وَحَالَ عَلَيْهَا الحَوْلُ؛ فَفِيهَا نِصْفُ دَينَارٍ)[رواه أبو داود].
فإن نقصَ النِّصابُ في أثناء الحَوْلِ، بسببِ بيعٍ أو هِبةٍ أو سَدادِ دَيْنٍ، انقطعَ الحَوْلُ، ولم تجب الزكاة فيما بقي. فإنْ عادَ إليه المالُ واستكملَ النِّصابَ استأنفَ حَوْلاً جديداً، ما لم يكن قد أنقصَ النصابَ حِيلَةً لإسقاطِ الزكاةِ؛ فلا يستأنفُ وإنَّما يبني على ما سبقَ.
- أمَّا الزُّروعُ والثمارُ فتجبُ الزكاةُ فيها بحَصادِها؛ لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام 141].
- ولا يُؤثِّر في تمامِ الحَوْلِ نُقصانُه نصفَ يومٍ ونحوه؛ لأنَّه يسيرٌ.
سادساً: زكاةُ مالِ الصغيرِ والمجنونِ:
لا يُشترطُ في وجوبِ الزكاةِ كونُ المُكلَّف بالغاً أو عاقلاً؛ فتجبُ الزكاةُ في مالِ الصغيرِ والمجنونِ؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (أَلا مَنْ وَلِيَ يَتِيماً لَهُ مَالٌ، فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ وَلا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ)[رواه الترمذي، وضعفه]؛ وعن عمر رضي الله عنه قال: (ابْتَغُوا بِأَمْوَالِ اليَتَامَى، لا تَأَكُلْهَا الصَّدَقَةُ)[رواه ابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي].
سابعاً: الدَّيْن وأثره في الزكاة:
- إذا كان الدَّينُ ينقص النصاب، فإنه لا تجب الزكاة، سواء أكانت الأموال ظاهرة؛ كالمواشي، والحبوب، والثمار، وعروض التجارة، أم كانت باطنة؛ كالنَّقْدَيْن؛ لما روي عن السائب قال: سمعت عثمان رضي الله عنه يقول: (هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّ دَيْنَهُ، حَتَّى تَحْصُلَ أَمْوَالُكُمْ فَتُؤَدُّونَ مِنْها الزَّكَاةَ)[رواه مالك].
- من كان له دَينٌ على مِليءٍ أو غير مَليءٍ، فتجبُ زكاتُه، إلَّا أنَّه لا يلزمُه إخراجُ زكاتِهِ حتَّى يقبِضَهُ، ويُزكِّيهِ لما مَضَى من السِّنينَ؛ لأنَّ الزكاةَ تجبُ على طريق المواساةِ، وليس من المواساةِ أن يُخرِجَ زكاةَ مالٍ لا ينتفعُ به.
- ومن ماتَ قبلَ أن يُزكِّي مالَهُ الذي وجبت فيه الزكاةُ، أُخِذَتْ من تَرِكَتِهِ قبلَ تقسيمِها بين الوَرَثَةِ؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(فَدَيْنُ الله أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى)[رواه البخاري ومسلم].
ثامناً: زكاةُ المالِ المكتسبِ أثناءَ الحَوْلِ:
من استفادَ مالاً من جنسِ أموالِ الزكاةِ ممَّا يُعتبَرُ له الحَوْل؛ كالذَّهَبِ والفِضَّةِ،
وبَهيمَةِ الأنعامِ، وعُروضِ التِّجارَةِ، فلا يخلو من أحوال:
الأوَّل: أن يكونَ المالُ المكتَسَبُ ليس له سواهُ وقد بَلَغَ نِصاباً؛ فيكونُ حَوْلُهُ من حين تملَّكَه.
الثاني: أن يكونَ المالُ المكتسبُ يملكُ غيرَه ومن نفسِ جِنْسِهِ، فبلغَ المالُ نِصاباً باجتماع المالَيْنِ معاً؛ فيكونُ حَوْلُه من حينِ اكتمالِ النِّصابِ.
الثالث: أن يكونَ المالُ الذي عندَه بَلَغَ نِصاباً، واستفاد مالاً إضافيًّا أثناءَ الحَوْلِ، فهذا على ثلاثةِ أحوالٍ:
1) أن يكونَ المالُ المستفادُ من نَماءِ الأصلِ؛ كربحِ التِّجارَةِ، ونتاجِ السَّائِمَةِ، فيُضّمُّ المالُ المستفادُ إلى أصلِه ويُزكَّى زكاةَ مالٍ واحدٍ؛ لقول عمرَ رضي الله عنه لساعِيه:(اعْتَدْ عَلَيهِمْ بِالسَّخْلَةِ يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي عَلَى يَدِهِ)[رواه الشافعي، وإسناده ضعيف].
2) أن يكونَ المالُ المستفادُ من غير جنسِ النصابِ؛ فهذا لا يُضَمُّ إلى الأصلِ، وإنَّما يُحسَبُ له حَوْلٌ جديدٌ منذ مَلَكَه إن كان بَلَغَ نِصَاباً.
3) أن يكونَ المالُ المستفادُ من جِنْسِ النِّصابِ، ولكن استفادَهُ بسببٍ مُستَقِلٍّ عن الأصلِ؛ كالميراثِ، أو الهِبَةِ؛ فيُحسَبُ له حَوْلٌ جديدٌ من حيث تملَّكَه،
ولا يُزكَّى مع النِّصابِ الذي عندَهُ؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: (مَنِ اسْتَفادَ مَالاً فَلا زَكَاةَ حَتَّى يَحُولَ عَلَيهِ الحَوْلُ)[رواه الترمذي].
* * *
باب زكاة السائمَةِ
أوَّلاً: تعريفُ السَّائِمَةِ:
السَّائِمَةُ: مأخوذةٌ من السَّوْمِ؛ وهو الرَّعْي. فالسَّائِمَةُ هي الماشيةُ من الإبلِ، أو البَقَرِ، أو الغَنَمِ التي تُرْسَلُ فتَرْعَى بنفسِها، ولا تُعْلَفُ في أكثر أيَّامِ السَّنَةِ.
وتسمَّى أيضاً: بهيمة الأنعام؛ لأنَّها لا تتكلَّم.
ثانياً: شروطُ الزكاةِ في بهيمةِ الأنعامِ:
1) أن تُتَّخذ للدَّرِّ والنَّسل والتَّسمين، لا للعمل؛ لحديث عَليٍّ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(وَلَيْسَ عَلَى العَوَامِلِ شَيْءٌ)[رواه أبو داود]، وعن جابر رضي الله عنه قال:(لا يُؤْخَذُ مِنَ الْبَقر الَّتي يُحْرَثُ عَلَيْهَا مِنَ الزَّكَاة شَيْءٌ)[رواه الدارقطني والبيهقي].
2) أن تَسُومَ وتَرْعَى أكثر السَّنةِ؛ لحديث بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جَدِّه مرفوعاً: (في كُلِّ إِبِلٍ سَائِمَةٍ في كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ)[رواه أحمد وأبو داود]، وعن أبي بكرٍ رضي الله عنه مرفوعاً: (وَفِي الغَنَمِ في سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاةُ
…
) [رواه البخاري].
3) أن تبلغَ نِصَاباً؛ فلا تجب الزكاة في أقلّ من النِّصابِ الذي قرَّره الشرع، وهو يختلف باختلاف نوع السَّائِمَة، على النحو الآتي:
النوع الأوَّل: الإبِلُ:
لا تجبُ الزكاة في الإبلِ إذا كانت أقلّ من خمس، فالإبلُ من واحد إلى أربعة
لا زكاة فيها، فإن زادت عن الأربع فتجبُ فيها الزكاة حسب الجدول التالي:
عدد الإبل
مقدار الزكاة الواجبة
مقدار السن
5 - 9
شاة واحدة
-
10 - 14
شاتان
-
15 - 19
ثلاث شياه
-
20 - 24
أربع شياه
-
25 - 35
بنت مخاض
لها سنة واحدة
36 - 45
بنت لبون
لها سنتان
46 - 60
حِقَّة
لها ثلاث سنوات
61 - 75
جَذَعَة
لها أربع سنوات
76 - 90
بنتا لبون
-
91 - 120
حِقَّتان
-
121 - 129
ثلاث بنات لبون
-
فإذا بلغت الإبلُ مائة وثلاثين فأكثر، ففي كلِّ أربعين بنتُ لبون، وفي كلِّ خمسين حِقَّة؛ على النحو التالي:
عدد الإبل
مقدار الزكاة الواجبة
130 - 139
حِقَّة وبنتا لبون
140 - 149
حقتان وبنت لبون
150 - 159
ثلاث حِقاق
160 - 169
أربع بنات لبون
والدليل على نِصَابِ الإبلِ ما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في فريضة الصَّدَقة: (
…
فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنْ الْغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ يَعْنِي سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا أَرْبَعٌ مِنْ الْإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا
…
) [رواه البخاري].
النوع الثاني: البَقَرُ:
لا تجبُ الزكاةُ في البَقَرِ الأَهْلِيِّ أو الوَحْشِيِّ أو الجاموس إذا كان أقل من ثلاثين؛ فإذا بلغت ثلاثين فأكثر ففيها الزكاة على النحو التالي:
عدد البقر
…
مقدار الزكاة الواجبة
…
مقدار السن
30 -
39
…
تَبيع
…
ما له سنة واحدة
40 -
59
…
مُسنَّة
…
ما لها سنتان
60 -
69
…
تَبيعان
…
-
فإذا بلغت الأبقار سبعين فأكثر؛ ففي كل ثلاثين: تَبِيع، وفي كل أربعين: مُسنَّة.
عدد البقر
…
مقدار الزكاة الواجبة
70 -
79
…
تَبيع ومُسِنَّة
80 -
89
…
مُسِنَّتان
90 -
99
…
ثلاثة أَتْبِعَة
100 -
109
…
تَبيعان ومُسِنَّة
110 -
119
…
تَبيع ومُسِنَّتان
120 -
129
…
أربعة أَتْبِعَة أو ثلاث مُسِنَّات
ودليل نِصابِ البَقَرِ ما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه قال: (أَمَرَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ بَعَثَنِي إِلَى اليَمَنِ أَنْ لا آخُذَ مِنَ البَقَرِ شَيئاً حَتَّى تَبْلُغَ ثَلاثِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَلاثِينَ فَفِيهَا عِجْلٌ تَابِعٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ، حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ)[رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، واللفظ للنسائي].
* * *
النوع الثالث: الغَنَمُ (الضَّأْنُ والمَعِزُ):
- لا تجبُ الزكاة في الغَنَمِ سواء كانت أهليَّة أو وحشيَّة إذا كانت أقلّ من أربعين، فإذا بلغت أربعين فأكثر ففيها الزكاة على النحو التالي:
عدد الغنم
…
مقدار الزكاة الواجبة
…
مقدار السن
40 -
120
…
شاة
…
لها سنة واحدة
أو
جذعة من الضأن لها ستة أشهر
121 -
200
…
شاتان
ثمَّ بعد المائتين في كلِّ مائة من الغَنَم شَاةٌ، على النحو التالي:
عدد الغنم
…
مقدار الزكاة الواجبة
201 -
399
…
ثلاث شياه
400 -
499
…
أربع شياه
500 -
599
…
خمس شياه
600 -
699
…
ست شياه
700 -
799
…
سبع شياه
ودليل هذا التَّقسيم في الغَنَم، حديث أنس رضي الله عنه -السابق-: (وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِين وَمِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلَاثِ مِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِ مِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا
…
) [رواه البخاري].
فصل في خُلْطَة الماشِيَة
أوَّلاً: معنى الخُلْطَة وحُكمُها:
الخُلْطَة - بضم الخاء-: الشَّرِكَة، وهي أن يشتركَ اثنانِ أو أكثرُ من أهل الزكاةِ في النِّصَاب؛ بحيث يكون مجموعُ ما يملكانِه من الماشية يبلغُ نِصاباً، فيكونُ مالُهُما كمالِ الرَّجُل الواحدِ من حيث وجوبُ الزكاة فيه؛ لحديث أنس رضي الله عنه: (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ فَريضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم،
وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ) [رواه البخاري].
ولا يختلف حُكمُ الخُلْطَة بين كونها خُلْطَة أعيان؛ بأن يكون المال نصيباً مشاعاً بينهما، أو خُلْطَة أوصاف بأن يكون مالُ كلِّ واحدٍ منهما مميَّزاً فَخَلَطَاه واشتركا فيه.
كما لا يختلفُ حكمُ الخُلْطَة بين كون نصيب كلِّ واحد منهما متساوياً
أو متفاوتاً.
ثانياً: شروطُ وجوبِ الزكاةِ في المال المُخْتَلِط:
يُشتَرَطُ في وجوب الزكاة في المال المُخْتَلِط خُلْطَة أوصاف ما يلي:
1) اشتراكه في خمسة أوصاف وهي: المَبِيتُ والمَسْرَحُ والمَحْلَبُ والفَحْلُ والمَرْعَى؛ لأنَّ تميُّزَ كلِّ مالٍ بشيء من هذه الأمور لا يجعلهما كالمال الواحد في المُؤْنَة، وقد
رُوي عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لَا يُفَرَّقُ بَينَ مُجْتَمِعٍ وَلَا يُجْمَعُ بَينَ مُفَرَّقٍ، وَالخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَ في الحَوْضِ وَالرَّاعِي وَالفَحْلِ)[رواه الدارقطني، بإسناد ضعيف]. فالتنصيص على هذه الثلاثة تنبيه على سائرها.
أ - المَبِيتُ: وهو المَراحُ الذي تَروحُ إليه الماشية.
ب- المَسرَح: وهو ما تجتمع فيه الماشية لتذهبَ إلى المَرْعَى.
ج- المَحْلَب: وهو الموضع الذي تُحْلَبُ فيه الماشية؛ فيُشتَرَطُ أن يكون مكاناً واحداً، وليس المقصود خَلْطَ اللَّبَن في إناء واحد.
د - الفَحْل: وهو أن لا يكون فُحُولَةُ أحدِ المالين لا تَطْرُق غَيرَهُ.
هـ- المَرْعَى: وهو موضعُ الرَّعي ووقتُه، كما يشترط اشتراكهما في الرَّاعي؛ فلا يكون لكلِّ مالٍ راعٍ ينفردُ برعايته دون الآخر.
2) أن يكون الشريكان من أهل الزكاة؛ فإن كان أحدهما ذِمِّيًّا أو مُكاتَباً لم يعتد بخُلْطَتِه.
3) أن يكون الاختلاط في جميع الحَوْلِ؛ فإن ثبت لهما حكمُ الانفراد في بعض الحَوْلِ زكَّيَا زكاةَ المنفردَيْن؛ لأنَّه مالٌ ثبت له حكم الانفراد؛ فكانت زكاتُه زكاةَ المنفرد.
- لا تُشتَرَطُ النيَّة لصحَّة الخُلْطَة في المالَيْن؛ لأنَّ المقصودَ من الخُلْطَة هو الارتفاق وتخفيف المُؤْنَة، وهذا يحصل بدون النيَّة؛ فلم يُعتَبَر وجودها، كعدم اشتراطها في نيَّة السَّوْم في السائمة، ونيَّة السَّقي في الزروع والثمار.
ثالثاً: أثرُ الخُلْطَةِ في الزكاة:
للخُلْطَة أثرٌ في الزكاة؛ إمَّا تغليظاً أو تخفيفاً:
- فصورةُ التغليظِ: أن يكون للخَليطَيْن أربعون شاة، لكلٍّ منهما عشرون، فيلزمهما شاة واحدة حال اجتماعهما، في حين أنَّه لا يجب عليهما شيء حال تفرُّقهما.
- وصورة التخفيف: أن يكون ثلاثة خُلَطَاء اشتركوا في مائة وعشرين شاة، لكلِّ واحد منهما أربعون، فيلزمهم مجتمعين شاة واحدة، في حين أنَّه يجب على كلٍّ منهم شاة واحدة حال تفرُّقهم.
رابعاً: زكاةُ المالِ المُتَفَرِّقِ:
- لا أثرَ لتفريقِ المالِ أو خُلْطَتِهِ إن كان من النَّقْدَيْن، أو الزروع والثمار، أو عروض التِّجارة؛ فلا يُضَمُّ إلى بعضِه البعض في الزكاة، وإنَّما يُزكَّى كلُّ مالٍ على حسبه في جميع الأحوال؛ سواء اشتركوا فيه أم لم يشتركوا؛ وذلك لأنَّ هذه الأموال إنَّما تجبُ فيها الزكاة فيما زاد على النِّصَابِ بحِسابِه؛ فلا أثرَ لجَمْعِها، بخلاف الماشية التي تقلُّ تارةً وتكثرُ أُخرَى، والخُلْطَةُ فيها تؤثِّر في النفع والضَّرر.
- أمَّا السَّائِمَة فيختلفُ حُكْمُها بالنَّظَرِ إلى المسافة بين المَوْضِعَيْن اللَّذَيْنِ يوجد فيهما المال؛ فإذا كان للرَّجلِ سائمةٌ في مَحَلَّيْنِ بينهما مسافة قَصْر؛ فيُزكَّى كُلُّ مالٍ وحده. وإن كان المال في مَحَلَّيْنِ لا يَقْصُر بينهما الصلاةَ؛ فحُكمُهما حُكمُ المال المجتمع؛ يُزكِّيه كالمال المُخْتَلِط بلا خلاف.
مِثالُه: إذا كان لرَجُلٍ شِياهٌ في ثلاثة مواضعَ متباعدةٍ بينها مسافة تُقْصَر فيها الصلاة، وفي كلِّ مَحَلٍّ أربعون شاةً، فعليه ثلاثُ شِياهٍ؛ لكلِّ موضعٍ شَاةٌ. وإن كان في كلِّ موضعٍ أقلّ من أربعين؛ فلا شيء عليه.
أمَّا إذا كانت المواضعُ غيرَ متباعدةٍ، فتُعامَلُ معاملةَ المالِ المُخْتَلِطِ؛ فيلزمُه زكاةُ مجموعِها.
* * *
باب زكاة الخارجِ من الأرضِ
أوَّلاً: زكاةُ الحبوبِ والثِّمارِ:
تجبُ الزكاةُ في كلِّ حَبٍّ وثَمَرٍ يُكالُ (أي: يُقدَّر بالكَيْل وهو الصَّاع)، ويُدَّخَر (أي: ييبس ويبقى مدَّة طويلة لينتفع به).
فالحبّ: القمح، والشعير، والأرز، والذرة، والحمص، والعدس، وبزر القطن، والكتّان، وحبّ البطيخ، وغير ذلك من الحبوب التي تُكال وتُدَّخر.
والثمر: كالتمر، والزبيب، واللوز، والفستق، والبندق، وغير ذلك ممَّا يُكال ويُدَّخر؛ وذلك لعموم قول الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة 267]، ولقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ)[رواه البخاري]. والعَثَرِيُّ: هو الذي يَشربُ بِعُرُوقِهِ من غيرِ سَقْي.
- وإنَّما وَجَبَتِ الزكاةُ في الَحبِّ والثمر دون غيرهما ممَّا تُخرِجُه الأرض؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ فِي حَبٍّ وَلَا ثَمَرٍ صَدَقَةٌ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ)[رواه مسلم]. فدلَّ هذا بمفهومه على وجوب الزكاة في الحبّ والثمر، وانتفائها عن غيرهما.
- واشتُرط في الحبّ والثمر أن يكون ممَّا يُكال ويُدّخر.
أمَّا الكيل: فلقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ فِيمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ) [رواه البخاري
ومسلم]. فدلَّ ذلك على اعتبار التوسيق، وهو الكَيْل، فما لم يكن مكيلاً من الحبوب أو الثمار؛ فإنَّه لا زكاة فيه.
وأمَّا الادّخار: فلأنَّ غير المدَّخر لا يُتمكّن من الانتفاع به في المآل؛ ولذا لا تجب فيه زكاة.
ثانياً: زكاةُ الفواكه والخضروات:
لا تجب الزكاةُ في الفواكه ولا في الخضروات؛ كالعنب، والتين، والمشمش، والتفاح، والرمّان، والكمثرى، والخوخ، والموز، والخيار، والجزر، والباذنجان، وغير ذلك من سائر الفواكه والخضروات؛ لعدم توافر الأوصاف السابقة فيها، ولأثر موسى بن طلحة عن معاذ رضي الله عنه:(أَنَّهُ لَما قَدِمَ اليَمَنَ لَم يَأْخُذِ الزَّكَاةَ إِلاَّ مِنَ الحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ)[رواه ابن أبي شيبة].
ثالثاً: ما يُشتَرط في زكاة الحبِّ والثمر:
يشترطُ في زكاة الحبِّ والثمر -ممَّا يُكال ويُدَّخر- شرطان:
الشرط الأوَّل: أن يبلغ النِّصَاب:
ومقدار النِّصَاب -بعد تصفية الحبِّ وجفاف الثمر-: خمسة أَوْسُق؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ)[رواه البخاري ومسلم].
والوَسْق: يساوي ستّين صاعاً نبويًّا إجماعاً. فعلى ذلك يكون النصاب: ثلاثمائة صاعٍ نبويٍّ، والصَّاع يساوي: أربع حَفْنات بحَفْنة الرجل الوسط، وبالكيلوات
الحديثة يساوي: (2.040) كيلوين وأربعين جراماً تقريباً من القمح الجيّد. فعلى ذلك يكون النصاب بالكيلو جرام: ستمائة واثني عشر كيلو تقريباً من القمح الجيّد.
وهذا التقدير للنصاب على الأحوط، وإلَّا فهناك خلاف بين الفقهاء المعاصرين في مقدار الصَّاع بالكيلو جرام.
أمَّا غير القمح من الحبوب والثمار: فيمكن تقدير النِّصَاب فيها بالكيلوات الحديثة أيضاً، وذلك بأن تُملأ كفَّان بكفيّ الرَّجُل الوسط أربع مرَّات من الحَبِّ أو الثمر الذي تريد أن تُقَدِّره، ثمَّ تَزِنُه بالكيلو جرام، ثمَّ تضرب الناتج في ثلاثمائة، ويكون الناتج هو النصاب الخاصُّ بهذا النوع من الحبِّ، أو بذاك النوع من الثمر.
فمثلاً: لو قلنا أربع حَفْنات من الأرز تساوي كيلوين ونصف، فتُحسَب على النحو التالي:(5‚2× 300 = 750 كيلو جرام)؛ فيكون النِّصَابُ في الأرز: سبعمائة وخمسين كيلو جرام تقريباً، وهكذا في باقي الحبوب والثمار.
الشرط الثاني: أن يكون مَالِكاً للنِّصَاب وقت وجوبها:
ووقت الوجوب: هو بُدُوّ صلاح الثمر، واشتداد الحبّ في الزرع، فإذا اشتدَّ الحبُّ وأصبح قويًّا صَلْباً، وظهر صَلاحُ الثمر، وذلك بأن تَحْمَرّ أو تَصْفَرّ ثمار النخيل مثلاً، فإنَّ الزكاةَ تُصبحُ واجبة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أَنَّها قالت
-وَهِىَ تَذْكُرُ شَأْنَ خَيْبَرَ-: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُ عَبْدَ الله بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ فَيَخْرِصُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ)[رواه أبو داود بإسناد ضعيف]. ولأنَّ
الحبَّ حين يشتدّ، والثمر حين يظهر صلاحه، يقصدان حينئذٍ للأكل والاقتيات.
وخَرْص النَّخْل معناه: أن يُقدِّر ما على النخيل من الثمار؛ وذلك حتّى تُحْصَى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتُفَرَّق.
* * *
فصل في مسائلَ تتعلَّق بزكاةِ الخارجِ من الأرضِ
أوَّلاً: المقدارُ الواجبُ إخراجُه في زكاةِ الزروعِ والثمارِ:
يجبُ إخراج العُشْر إذا كان الزرع أو الشجر يُسْقَى بلا كلفة؛ كأن يُسقَى من مياه الأمطار، أو الأنهار، أو العيون، أو كان يَشربُ بعُروقِه، أمَّا إذا كان يُسْقى بكلفة؛ كأن يُسقَى بالآلات ونحوها ممَّا فيه كلفة فيجبُ فيه نصفُ العُشْر؛ للحديث السابق:(فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ)[رواه البخاري]. والنَّضْح: ما سُقِيَ بالسَّواقي.
ثانياً: وقتُ إخراجِ زكاةِ الزروعِ والثمارِ:
تقدَّم أنَّ وقت وجوب الزكاة هو: اشتداد الحبِّ، وظهور صلاح الثمر، فإذا اشتدَّ الحبُّ، وظهر صلاح الثمر فقد وجبت الزكاة، لكنَّها لا تستقرُّ في ذمَّة صاحب الحبِّ أو الثمر إلَّا إذا وضعها في البَيْدَر: وهو الموضع الذي تُجمَع فيه الثمار والحبوب.
أمَّا الحبوب: فلتصفيتها، وإزالة القِشْر عنها.
وأمَّا الثمار: فلتجفيفها لتذهب عنها الرُّطوبة، فتكون جافَّة.
فلا يستقرُّ الوجوب في ذمَّته إلَّا إذا جعلها في البَيْدر؛ لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام 141]، وعلى ذلك فلو تَلِفَت بعدَ بدوِّ الصلاح واشتداد الحبِّ، وقبل جعلها في البَيْدر، فإنَّها تسقط عنه؛ لأنَّها في حكم ما لم تثبت اليدُ عليه، ما لم يكن ذلك بتَعَدٍّ منه أو تفريط، فإنَّها لا تسقط عنه.
وإذا جعلها في البَيْدَر فإنَّها تجب عليه، حتَّى لو تلفت بغير تَعَدٍّ ولا تفريط؛ لأنَّه قد استقرَّ الوجوب في ذمَّته فصارت دَيْناً عليه.
يقول صاحب «الروض المربع» : «وإذا اشتدَّ الحبُّ، وبدا صلاح الثمر وجبت الزكاة؛ لأنَّه يقصدُ للأَكل والاقتيات كاليابس، فلو باع الحبَّ أو الثمرة، أو تلفا بتعدِّيه بعدُ، لم تسقط، وإن قطعهما أو باعهما قَبْلَه فلا زكاة إن لم يقصد الفرار منها. ولا يستقرُّ الوجوب إلَّا بجَعْلِها في البَيْدَر ونحوه، وهو موضع تَشْميسها وتَيْبيسها؛ لأنَّه قبل ذلك في حُكْمِ ما لم تثبت اليدُ
عليه، فإن تلفت الحبوب أو الثمار قَبْلَه؛ أي قبل جَعْلِها في البَيْدَر بغير تَعَدٍّ منه ولا تفريط، سقطت؛ لأنَّها لم تستقر».
- إذا صُفِّي الحبُّ من قِشْرِه وتِبْنِه، وجَفّ الثمر ويَبس بحيث أصبح الرُّطَبُ تمراً، والعِنَبُ زَبيباً؛ فحينئذٍ يجب إخراج الزكاة؛ لأنَّه أوان الكمال وحال الادّخار، ولحديث عتَّاب بن أَسِيدٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَه أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ، ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا)[رواه أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد ضعيف]. ولا يُسمَّى العِنَبُ زَبيباً، ولا الرُّطَبُ تمراً إلَّا إذا يَبِسا، وَقِيس باقي الحبوب والثمار عليهما. فلو خالف المُزَكِّي وأخرج الزكاة من الحبِّ قبل تصفيته، أو من الثمر قبل جفافه ويُبْسِه؛ لم يجزئه عن الزكاة الواجبة، ويكون
ما أخرجه صدقة.
- يُسَنُّ للإمام أن يبعثَ من يَخْرُص (يُقدِّر) ثمار النخيل والكَرْم (شجر العِنَب) فقط دون غيرهما، وذلك إذا ظهر صَلاحُها؛ حتَّى يعرف قَدْر الزكاة، ويعرف
المالك ذلك أيضاً. ويكفي خارصٌ واحد، بشرط أن يكون مسلماً أميناً خبيراً؛ لأنَّه صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ خَرَصَ حَدِيقَةً لامْرَأَةٍ بِمَكَانٍ يُقَالَ لَهُ وَادِي القُرَى. [والحديث بتمامه رواه البخاري ومسلم]. وأجرةُ الخارصِ تكون على صاحب الثمر؛ لأنَّ الخارصَ يعمل في مال صاحب الثمر عملاً مأذوناً فيه.
- يجبُ على الخارصِ أن يترك لربِّ المال الثُّلث أو الرُّبع؛ فيجتهد في أيِّهما يترك، وذلك بحسب المصلحة؛ لما روى سَهْل بن أبي حَثْمةَ رضي الله عنه قال:(أَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا خَرَصْتُمْ، فَجُذُّوا، وَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا، أَوْ تَجُذُّوا الثُّلُثَ، فَدَعُوا الرُّبْعَ)[رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وهو ضعيف].
ولأنَّ في تركه الثلث أو الربع توسعة على ربِّ المال؛ لما قد يحتاجه من الأكل، وإطعام أهله وضيوفه وجيرانه، وما يأكل منها المارَّة، وما ينتابه الطير، وما يسقط من الثمر.
- يجبُ على الإمام أن يبعثَ السُّعَاة قُرْبَ زمن وجوب الزكاة؛ وذلك لقبض زكاة المال الظاهر؛ كالماشية والزرع والثمر؛ لفعله صلى الله عليه وسلم؛ فقد صحَّ عنه أنَّه كان يبعثُ السعاة لقبض الزكاة؛ كما في بعثه عُمَرَ رضي الله عنه لقبض الزكاة، وكما في بعثه معاذاً رضي الله عنه إلى أهل اليمن. [رواهما البخاري ومسلم]، واسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ -رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ- عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ. [رواه البخاري ومسلم]، وغير ذلك كثير، ولأنَّ في الناس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه، وفيهم من يبخل؛ فوجب أن يبعث الإمام من يأخذ الزكاة.
ثالثاً: زكاةُ العَسَل:
تجبُ الزكاة في العَسَل إذا بلغ نصاباً؛ لحديث عَمْرو بن شُعَيْب عَنْ أَبِيه عَنْ جَدِّه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ مِنَ الْعَسَل الْعُشْرَ)[رواه ابن ماجه].
ونِصَاب العَسَل: عشرة أَفْرَاق؛ لما يُروى عن عمرَ رضي الله عنه (أَنَّهُ أَتَاهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ فَسَأَلُوهُ وَادِياً، فَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ إِنَّ فِيهِ نَحْلاً كَثِيراً. قَالَ: فَإِنَّ عَلَيْكُمْ في كُلَّ عَشَرَةِ أفْرَاقٍ فَرَقاً)[رواه عبد الرزاق بإسناد ضعيف، واحتج به الإمام أحمد].
والفَرَق بفتح الراء يساوي: ثلاثة آصع (جمع صاع)؛ فيكون مجموع العشرة أفْرَاق يساوي: ثلاثين صاعاً، فإذا كان عنده هذا المقدار وجب عليه أن يخرج العُشْر؛ للحديث السابق.
رابعاً: زكاةُ الرِّكازِ:
1) تعريفُ الرِّكازِ:
الرِّكاز هو: ما وُجد من دفن الجاهلية، ومعنى الجاهلية: أي ما قبل الإسلام.
فما يوجد مدفوناً في الأرض من الكنوز إن وجد فيه علامات الكفار: من كتابة أسمائهم، أو صورهم، أو صور ملوكهم، أو يكون عليها تاريخ ما قبل الإسلام، وما أشبه ذلك؛ فهو الركاز. أما إن وُجدت فيه علامات المسلمين، أو كان في البلاد الإسلامية وليس فيه علامة؛ فليس بركاز، وإنما هو لُقَطَة.
2) حُكمُ زكاةِ الرِّكازِ:
تجبُ الزكاةُ في الرِّكازِ -قليله وكثيره-؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (وَفِي الرِّكَازِ الخُمْسُ)[رواه البخاري ومسلم]. فلا يُشتَرَط فيه النِّصَاب؛ لعموم الحديث، ولا يُشتَرَط فيه كذلك مرور الحَوْل؛ بل بمجرَّد إخراجه من الأرض يجب إخراج زكاته.
3) المقدارُ الواجبُ إخراجُه من الرِّكازِ:
يجب في زكاة الرِّكازِ إخراج الخُمْس؛ للحديث السابق.
4) مَصْرِفُ خُمْس الرِّكازِ:
يُصْرَفُ خُمْس الرِّكاز كما يُصْرَفُ خُمْسُ الغَنيمَة؛ أي في مصالح المسلمين: من بناءٍ للمساجد، وإقامةٍ للطُّرُق والجسور، وتأليفٍ لقلوب بعض أعيان المسلمين، ونحو ذلك ممَّا يكون فيه مصلحة، فليس مصرفُه مصرفُ الزكاة؛ لأنَّه مَالُ كافرٍ أُخِذَ في الإسلام؛ فأشبه الغَنيمَة، ولما رُوِيَ عن الشَّعْبِيِّ:(أنَّ رَجُلاً وَجَدَ أَلْفَ دِينارٍ مَدْفُونَةً خَارِجاً مِنْ المَدِينَةِ، فَأَتَى بها عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، فَأَخَذَ مِنْها الخُمْسَ مَائَتِي دِينارٍ، وَدَفَعَ إِلَى الرَّجُلِ بَقِيَّتَهَا، وَجَعَلَ عُمَرُ يَقْسِمُ المَائَتَينِ بَينَ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ، إِلَى أَنْ أَفْضَلَ مِنْها فَضْلَةً، فَقَالَ عُمَرُ: أَيْنَ صَاحِبُ الدَّنانِيرِ؟ فَقَامَ إِلَيهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: خُذْ هَذِهِ الدَّنانِيرَ فَهِيَ لَكَ)[رواه أبو عبيد في كتاب الأموال بإسناد ضعيف]. فلو كان مصرفه مصرف الزكاة لخَصَّ به عمر رضي الله عنه أهل الزكاة، ولم يردّه على واجده.
* * *
باب زكاةُ الأثمانِ
أوَّلاً: تعريفُ الأثمانِ:
المرادُ بالأثمانِ: الذّهبُ والفضّةُ اللّذانِ تُقوّمُ بهما الأشياءُ.
ثانياً: القدرُ الواجبُ فيهما:
القدرُ الواجبُ في الذّهبِ والفضّةِ رُبعُ العشرِ؛ إذا بلغتْ نصاباً؛ لحديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَاراً فَصَاعِداً نِصْفَ دينارٍ)[رواه ابن ماجه]، ولحديثِ أنسٍ رضي الله عنه مرفوعاً:(وَفِي الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ)[رواه البخاري]. والرِّقّة: الفضّةُ الخالصةُ؛ سواءٌ كانت مضروبةً، أو غيرَ مضروبةً.
ثالثاً: نصابُ الذّهبِ:
نصابُ الذّهبِ بالمثاقيلِ عشرونَ مثقالاً؛ لحديثِ عمرِو بنِ شعيبٍ عن أبيهِ عن جدِّهِ مرفوعاً: (لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنَ الذَّهَبِ، وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ صَدَقَةٌ)[رواه أبو عبيد والدارقطني، واللفظ لأبي عبيد].
والمثقالُ في الأصلِ: مقدارٌ من الوزنِ، وقدّرُه المعاصرون بتقديراتٍ متقاربةٍ؛ أرجحُها أنّه يعادلُ (25‚4) غراماً
(1)
؛ فيكونُ نصابُ الذّهبِ (85) غراماً من
(1)
انظر: «فقه الزكاة» للقرضاوي (1/ 220 - 223).
الذّهبِ الخالصِ.
رابعاً: نِصَابُ الفِضّةِ:
نصابُ الفضّةِ: مائتا درهمٍ إسلاميّة؛ لحديثِ عمرو بن شعيبٍ السّابقِ، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ)[رواه مسلم].
والورِقُ: الفضّةُ. والأوقيةُ: أربعُونَ درهماً.
والدِّرهمُ قدَّره المعاصرُون بتقديراتٍ متقاربةٍ؛ أرجحُها أنّه (975‚2) غراماً؛ فيكون نصابُ الفضّةِ (595) غراماً
(1)
من الفضّةِ الخالصةِ.
خامساً: ضَمُّ الأثمانِ لتَكْميلِ النِّصَابِ:
يُضمُّ الذَّهبُ إلى الفضّةِ في تكميلِ النِّصابِ؛ لأنّ نفعَهما واحدٌ، والمقصودَ منهما متّحدٌ؛ فإنّهما أثمانُ الأشياءِ وقِيَمُها. فعلى هذا: إذا ملك نقداً من الذهب، ونقداً من الفضة، وكان كلُّ واحد منهما لا يبلغُ نصاباً، وبمجموعِهما يبلغانِ النِّصابَ؛ فإنّ الزكاةَ تجبُ عليهِ.
ويُخرجُ الزّكاةَ من أيِّهما شاءَ؛ فمنْ وجبتْ عليه زكاةُ عشرينَ مثقالاً من الذّهبِ أجزأَ إخراجُ قيمةِ ربعِ عشرِها من الفضّةِ، ومنْ وجبتْ عليه مائتي درهمٍ من الفضّةِ أجزأَ إخراجُ قيمةِ ربعِ عشرِها من الذّهبِ.
(1)
انظر: «فقه الزكاة» للقرضاوي (1/ 220 - 223).
سادساً: زكاةُ الحُلِيّ:
لا زكاةَ في حُلِيٍّ مباحٍ مُعدٍّ لاستعمالٍ أو إعارةٍ؛ لأثرِ جابر رضي الله عنه:
(لَا زَكَاةَ فِي الحُلِيِّ)[رواه ابنُ أبي شيبة، ورُوي مرفوعاً ولا يصحّ]. وقال الإمام أحمد رحمه الله:
«خمسةٌ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقولون: ليس في الحُلِيّ زكاةٌ؛ زكاتُه إعارتُه؛ وهم: أنسٌ، وجابرٌ، وابنُ عمر، وعائشةُ، وأسماءُ أختُها» ؛ وذلك لأنّه معدولٌ به عن جهةِ الاسْتِرباحِ إلى الاستعمالِ المباحِ؛ فأشبه ثيابَ البذلةِ، والبقرَ العواملَ.
وتجبُ الزّكاةُ في الحليِّ المحرّمِ؛ كآنيةِ الذّهبِ والفضّةِ؛ لأنّ الأصلَ وجوبُ الزكاةِ في الذّهبِ والفضّةِ، والصِّناعةُ لَّما كانتْ لمحرَّمٍ جُعلتْ كالعدمِ، ولم تصلحْ لإخراجِه عن أصلِهِ.
وتجبُ الزّكاةُ كذلك في الحليِّ المباحِ المعدِّ للتّأجير أو النّفقةِ؛ إذا بلغ وزنُه نصاباً؛ لأنّ سببَ سقوطِ الزّكاةِ فيما اتُّخِذَ لاستعمالٍ أو إعارةٍ هو خروجُه عن جهةِ النّماءِ؛ فيبقى ما عداهُ على الأصلِ.
وتُخرجُ زكاةُ الحليِّ المعدِّ للتّأجيرِ أو للنّفقةِ منْ قيمتِهِ إنْ زادتْ عنْ وزنِهِ
(1)
؛ لأنّ ذلك أحظُّ للفقراءِ.
* * *
(1)
وذلك لأنّ الصّناعة تزيدُ في قيمة الذّهبِ والفضّةِ.
فصل في حِلية الرِّجال والنِّساء
أوَّلاً: حِليةُ الرِّجالِ:
يُباحُ للذّكرِ الخاتمُ منَ الفِضّةِ؛ ولو زادَ على مثقالٍ -وهو يساوي (4.25) غراماً-؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم (اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ)[رواه البخاري ومسلم].
وجعلُ الخاتَمِ بخِنصرِ اليدِ اليُسرى أفضلُ من خِنصرِ اليُمنى؛ لحديث أنس رضي الله عنه قال: (كَانَ خَاتِمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فيِ هَذِهِ؛ وَأَشَارَ إِلَى الْخِنْصَرِ مِنْ يَدِهِ الْيُسْرَى)[رواه مسلم]، وقد ضعّف الإمامُ أحمدُ في روايةِ الأثرمِ وغيرِه حديثَ التّختُّمِ باليُمنى.
ويُكرَهُ لبسُه في السَّبابةِ والوُسطى؛ لحديث عليّ رضي الله عنه قال: (نَهَانِي نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ الخَاتَمِ فِي السَّبَّابَةِ أَوْ الْوُسْطَى)[رواه النّسائي].
ويُباحُ للذَّكَرِ قَبيعةُ السَّيفِ ولوْ مِنْ ذهبٍ؛ لحديثِ أبي أمامةَ بن سهلٍ رضي الله عنه قال: (كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ فِضَّةٍ)[رواه النّسائي]، والقَبيعةُ: ما يجعلُ على طرفِ القبضةِ. وذكر الإمامُ أحمد-رحمه الله: «أنّ عمرَ بنَ الخطابِ كان له سيفٌ فيهِ سَبائكُ من ذهبٍ، وعثمانَ بنَ حنيفٍ كان في سيفِه مسمارٌ من ذهبٍ» .
ويُباحُ له حِليةُ المِنْطقَةِ -وهي: الحزامُ الّذي يُشدُّ على الوسَطُ-؛ لأنّ الصحابة رضي الله عنهم اتّخَذُوا المَناطِقَ مُحَلَّاةً بِالْفِضَّةِ.
ويباحُ له حِلْيةُ الجَوْشَنِ -وهو الدِّرعُ-، والخُوذَةِ -وهي: المِغفرُ لوِقايةِ الرّأسِ- قياساً على المِنطَقةِ.
ولا تُباحُ حِلْيةُ الرِّكابِ واللِّجامِ والدَّواةِ ونحوِها؛ بل تحرمُ كالآنيةِ.
ثانياً: حِليةُ النِّساءِ:
يُباحُ للنِّساءِ ما جَرَتْ عادتُهنَّ بلُبسِه؛ كالخاتمِ، والقِلادةِ، والسِّوارِ، والقُرطِ، والخلخالِ، وما أشبه ذلك؛ قلَّ أو كثُرَ؛ ولو زادَ عن ألفِ مثقالٍ؛ لعمومِ قولِه صلى الله عليه وسلم:(حُرِّمَ لِبَاسُ الذَّهَبِ وَالحَرِيرِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، وَأُحِلَّ لِإِنَاثِهِمْ)[رواه التِّرمذيُّ]، ولعدمِ وُرودِ الشّرعِ بتحديدِهِ.
ثالثاً: ما يشتركُ فيه الرِّجالُ والنِّساء:
يُباحُ للرّجلِ والمرأةِ التَّحلِّي بالجوهرِ، والياقوتِ، والزَّبَرْجَدِ؛ لعدمِ النّهيِ عنه شرعاً.
ويُكرهُ تختُّمُ الرّجلِ والمرأةِ بالحديدِ، والنُّحاسِ، والرَّصاصِ؛ قال الإمامُ أحمدُ:«أكرهُ خاتمَ الحديدِ؛ لأنّه حِلْيةُ أهلِ النّارِ» ، وقد روى عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدّه:(أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَى بَعْضِ أَصْحابِهِ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَأَلْقَاهُ، وَاتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ؛ فَقَالَ: هَذَا شَرٌّ؛ هَذَا حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ؛ فَأَلْقَاهُ، فَاتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ؛ فَسَكَتَ عَنْهُ)[رواه أحمد، والبخاري في «الأدب المفرد»].
رابعاً: حُكمُ تحليةِ المسجِدِ:
تحرمُ تحليةُ المسجدِ بذهبٍ أو فضّةٍ؛ لأنّه سَرَفٌ، وتجبُ إزالتُه كسائرِ المنكراتِ؛ إلا إذا استُهلِك فلمْ يجتمعْ منه شيءٌ؛ فلا تجبْ إزالتُهُ؛ لعدمِ الفائدةِ فِيها، وقد رُويَ أنّه لمّا وَليَ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزِيزِ الخِلافَةَ أَرَادَ جَمْعَ مَا في مَسْجِدِ دِمَشْقَ مِمَّا مُوِّهَ بِهِ منَ الذَّهَبِ؛ فَقِيلَ: إِنَّهُ لا يَجْتَمِعُ مِنهُ شَيءٌ فَتَرَكَهُ. [ذكره ابن قدامة في المغني].
* * *
باب زكاةُ العُروض
أوَّلاً: تعريفُ العُروضِ:
العُروض هي: ما يُعَدُّ للبيعِ والشِّراءِ لأجلِ الرِّبحِ؛ من المتاعِ، والعقاراتِ، وأنواع الحيوانِ، وغيرِ ذلك.
ثانياً: حكمُ زكاتِها:
تجبُ الزّكاةُ فيِ عروضِ التِّجارةِ؛ إذا بلغتْ قيمتُها نِصاباً؛ لحديثِ سمرةَ بنِ جُندُبٍ رضي الله عنه قال: (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي نُعِدُّ لِلْبَيْعِ)[رواه أبو داود، وضعّفه الذّهبيُّ وابنُ حجرٍ]. وحكى الإمامُ ابنُ المنذرِ إجماعَ العلماءِ على وجوبِ الزّكاةِ فيها؛ فقال في «الإجماع» : «وأجمعُوا على أنّ في العُروضِ الّتي تُدارُ للتِّجارةِ الزّكاةُ؛ إذا حالَ عليها الحولُ» .
ثالثاً: كيف تُزَكَّى العُروضُ؟
تُقوَّمُ العروضُ إذا حالَ عليها الحولُ بالأحظِّ للمساكينِ من ذهبٍ أو فضةٍ، ولا يعتبرُ ما اشْتُريَتْ بهِ؛ فلو كانتْ قيمتُها تبلغُ نصاباً بأحدِ النّقدينِ دونَ الآخرِ؛ فإنّها تُقوَّمُ بما تبلغُ به نصاباً.
واستُدلّ على تقوِيمها بما رواهُ عبدُ الله بن أبي سَلَمة: أنّ أبا عَمرو بن حِماسٍ أخبرهُ: أنّ أباهُ حِماساً كانَ يبيعُ الأَدَمَ والجِعابَ، وأنّ عمرَ رضي الله عنه قالَ لهُ:
(يا حِماسُ أدِّ زَكَاةَ مَالِكَ. فَقَالَ: وَالله مَا لِي مَالٌ إِنَّما أَبِيعُ الأَدَمَ وَالجِعَابَ. فَقَالَ: قَوِّمْهُ وَأَدِّ زَكَاتَهُ)[رواه ابن أبي شيبة]. والأَدَمُ: جمعُ أَدِيم؛ وهو الجلدُ المدبوغُ. والجِعابُ: جمعُ جُعْبة؛ وهي: وعاءُ السِّهام والنِّبالِ.
ويُحسَبُ أولُ الحَوْلِ منْ حينِ بلوغِ القيمةِ نصاباً؛ فإذا بلغتِ القيمةُ نصاباً: وجبَ رُبعُ العشرِ؛ وإلا فلا زكاةَ فيها.
والنِّصَابُ مطلوبٌ في جميعِ الحَوْلِ؛ فلو نقصتْ قيمةُ النِّصَابِ في بعضِ الحَوْلِ؛ ثمّ زادتْ القيمةُ فبلغتْ النِّصابَ: ابتُدئ حينئذ حَوْلٌ جديدٌ؛ كسائرِ أموالِ الزّكاةِ.
ومن العُروضِ: أموالُ الصَّيارفِ؛ لأنّها مُعدَّةٌ للبيعِ والشراءِ؛ لأجلِ الرِّبحِ.
- ولا عبرةَ بقيمةِ صنعةِ آنيةِ الذّهبِ والفضّةِ؛ لتحريمِها، بلِ العبرةُ بوزنِها.
وكذا لا عبرةَ بما فيه صناعةٌ محرمّةٌ من غيرِ الآنيةِ-كبعضِ آلاتِ الملاهي-؛ فيقوّمُ عارياً عنِ الصّناعةِ؛ لأنّ وجودَها كالعدمِ.
- ومنْ كانَ عنده عرْضٌ مُعدٌّ للتِّجارةِ، أو ورِثهُ فنواهُ للقُنْيةِ -للانتفاعِ الشّخصيِّ-، ثمّ نواهُ للتِّجارةِ: لم يصرْ عرضاً تجاريًّا بمجرّدِ النِّيّةِ حتّى يحولَ عليه الحولُ على نيّةِ التِّجارةِ؛ وذلك لأنّ القُنيةَ هيَ الأصلُ؛ فلا يُنتقلُ عنها إلا بالنيّةِ؛ لحديثِ سمرةَ رضي الله عنه السّابقِ: (مِنَ الَّذِي نُعِدُّ لِلْبَيْعِ). واعتُبرتِ النيّةُ في جميعِ الحَوْلِ؛ قياساً على النِّصابِ.
ولكنْ يستثنى من ذلك: حُلِيُّ اللُّبسِ؛ لأنَّ التِّجارةَ أصلٌ فيهِ؛ فإذا نوَاهُ للتّجارةِ فقد ردَّهُ إلى الأصلِ؛ فيكفِي فيهِ مجرّدُ النِّيَّةِ؛ من غيرِ اشتراطِ الحَوْلِ فيه.
رابعاً: زكاةُ المعادنِ:
1) تعريفُها: المعدنُ: كلُّ متولِّدٍ من الأرضِ؛ ممّا ليسَ من جنسِها، ولا نباتٍ؛ كالذّهبِ، والفضّةِ، والكبريتِ، والحديدِ، والنُّحاسِ، والرّصاصِ، والنِّفطِ، وغيرِها. وهو غير الرِّكازِ؛ لأنّ الرِّكازَ: دفينُ الجاهليّةِ.
2) حكمُ زكاتِها:
ما استُخرجَ منَ المعادنِ: ففِيهِ بمجرّدِ إخراجِهِ ربعُ العُشرِ؛ إذا بلغتْ قيمتُه نصاباً بعدَ السَّبكِ والتّصفيةِ؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة 267]، ولما رواهُ ربيعةُ بنُ
أبي عبدِ الرّحمنِ عن غيرِ واحدٍ (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الحَارِثِ المُزَنِيِّ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ -وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرْعِ-؛ فَتِلْكَ المَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إِلاَّ الزَّكَاةُ إِلَى الْيَوْمِ)[رواه مالك وأبو داود، وضعّفه الشّافعيُّ وغيرُه].
وقُدِّرَ النِّصابُ فيها رُبعَ العُشرِ؛ لأنَّها زكاةٌ في أثمانٍ؛ فأشبه نِصابُها نصابَ سائرِ الأثمانِ.
ولم يشترطْ في إخراجِها الحولُ؛ لأنّها مالٌ مستفادٌ من الأرضِ؛ فلا يعتبرُ في وجوبِ حقِّه حولٌ؛ كالزَّرعِ والثِّمارِ.
* * *
بابُ زكاةِ الفِطْر
أوَّلاً: حُكمُها:
زكاةُ الفطرِ صدقةٌ واجبةٌ بالفِطرِ من رمضانَ على كلِّ مسلمٍ؛ لحديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: (فَرَضَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ المُسْلِمِينَ)[رواه البخاري ومسلم].
ثانياً: وقتُ وجوبِها:
تجبُ زكاةُ الفطرِ بغُروبِ الشّمسِ من ليلةِ العيدِ؛ فمنْ ماتَ أو أعسَرَ قبلَ الغُروبِ؛ فلا زكاةَ عليهِ. وإن حصلَ الموتُ أو الإعسارُ ونحوُهما بعد الغُروبِ؛ فإنّ الزّكاةَ تستقرُّ في ذمّتِه؛ لقولِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما: (فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ
…
) [رواه التّرمذي]. والفطرُ من جميعِ رمضانَ يكونُ بغروبِ الشَّمسِ ليلةَ العيدِ.
ثالثاً: على من تجبُ زكاةُ الفِطرِ؟
تجبُ زكاةُ الفطرِ على كلِّ مسلمٍ يجدُ ما يَفْضُلُ عنْ قُوتِهِ، وقُوتِ عِيالِه يومَ العيدِ وليلتَهُ؛ زائداً عمّا يحتاجُه منْ مسكنٍ، وخادمٍ، ودابّةٍ، وثيابِ بَذْلَةٍ -ما يمتهنُ من الثِّيابِ-، وكُتبِ علمٍ؛ لأنّ النّفقةَ أهمُّ فيجبُ البداءةُ بها؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم: (ابْدَأْ
بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا؛ فَإِنْ فَضَلَ شَيءٌ فَلِأَهْلِكَ
…
) [رواه مسلم].
- وتلزمُهُ عن نفسِه وعنْ منْ يمونُهُ من المسلمينَ؛ كزوجتِهِ، وولدِهِ؛ لحديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما:(أَمَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالحُرِّ وَالْعَبْدِ؛ مِمَّنْ تَمُونُونَ)[رواه الدارقطنيُّ].
فإنْ لمْ يجدِ المُعيلُ فِطْرةً تكفي لجميعِ من يعُولهم: بدأ بنفسِهِ؛ لأنّ الفطرةَ تنبني على النّفقةِ، وفي الحديث (ابْدَأْ بِنَفْسِكَ)[رواه مسلم].
- ثمّ بزوجتِهِ؛ لأنّ نفقتَها مقدّمةٌ على سائرِ النّفقاتِ، وواجبةٌ مع اليسارِ والإعسارِ.
- ثمّ رقيقِهِ؛ لوجوبِ نفقتِه مع الإعسارِ بخلافِ الأقاربِ.
- ثمّ أُمِّه؛ لأنّها مقدَّمةٌ في البرِّ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله! مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ -وفي رواية: من أبرُّ؟ - قَالَ: أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ له].
- ثمّ أبيهِ؛ للحديثِ السّابقِ.
- ثمّ ولدِه؛ لأنّ نفقتَه منصوصٌ عليها، ومجمعٌ عليها.
- ثمّ الأقربَ في الميراثِ؛ لأنّ الأقربَ أَوْلى من الأَبعدِ؛ فيُقَدَّمُ.
- وتجبُ الفِطرةُ على من تبرّعَ بمُؤنةِ شخصٍ-كمَنْ يكفلُ يتيماً- شهرَ رمضانَ؛ لعُمومِ حديثِ ابنِ عمر السّابقِ: (أَمَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ
…
مِمَّنْ تَمُونُونَ). فإنْ تبرّعَ بمُؤنتِهِ بعضَ رمضانَ؛ ولو آخرَهُ لمْ تلزمْهُ.
ولا تجبُ الفِطرةُ على منِ استأجرَ أجيراً بطعامِهِ؛ لعدمِ دخولِه في نصِّ الحديثِ،
ولأنّ الواجبَ ها هُنا الأجرةُ المشترطةُ في العقدِ؛ فلا يُزادُ عليها.
رابعاً: زكاةُ الفطرِ عنِ الجنينِ:
تُسنُّ زكاةُ الفطرِ عنِ الجنينِ؛ لما رواهُ حميدٌ الطويلُ: (أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يُعْطِي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنِ الحَبَلِ)[رواه ابن أبي شيبة]، ولأنّها صدقةٌ عمّن لا تجبُ عليهِ؛ فكانتْ مستحبّةً كسائرِ صدقاتِ التّطوّعِ.
* * *
فصل في إخراجِ زكاةِ الفِطر
أوَّلاً: وقتُ إخراجِها:
- يبدأُ وقتُ إخراجِها بغُروبِ الشَّمسِ ليلةَ العيدِ، وينتهي بغروبِ شمسِ يومِ العيدِ.
- والأفضلُ إخراجُ الفِطرةِ يومَ العيدِ قبلَ الصّلاةِ؛ لحديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: (فَرَضَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ
…
وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلى الصَّلَاةِ) [رواه البخاري ومسلم].
- ويُكرهُ إخراجُها بعدَ الصّلاةِ؛ خروجاً من الخِلافِ في تحريمِها، ولحديثِ ابنِ عمر مرفوعاً:(أَغْنُوهُمْ عَنْ طَوَافِ هَذَا الْيَوْمِ)[رواه الدارقطنيُّ، وضعّفه النّوويُّ وابنُ حجرٍ وغيرُهما]؛ فإذا أخّرها إلى ما بعدَ الصلاةِ لمْ يحصلِ الإغناءُ للفقراءِ في اليومِ كلِّهِ.
- ويحرمُ تأخيرُ الفِطرةِ عن يومِ العيدِ إلى غروب الشمس مع القُدرةِ؛ لأنّه تأخيرٌ للحقِّ الواجبِ عن وقتِهِ؛ فلا يجوزُ.
ثانياً: قضاؤُها بعد وقتِها:
منْ أخّرَ الفِطرةَ عن يومِ العيدِ فإنّه يقضِيها مع الإثمِ إن كانَ عامداً؛ لأنّها عبادةٌ؛ فلمْ تسقُطْ بخروجِ الوقتِ كالصّلاةِ، وهي حقٌّ ماليٌّ وجبَ في الذِّمّةِ؛ فلا
يسقطُ بفواتِ وقتِه كالدَّيْنِ.
ثالثاً: تعجيلُها:
تُجزئُ الفِطرةُ قبلَ العيدِ بيومينِ لا أكثرَ؛ لقولِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما: (وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ)[رواه البخاري].
رابعاً: مقدارُها:
الواجبُ في الفِطرةِ عنْ كلِّ شخصٍ: صاعُ تمرٍ، أو زبيبٍ، أو بُرٍّ، أو شعيرٍ،
أو أقِطٍ؛ لحديث أبِي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه قال: (كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ -اللّبنُ المجفّفُ-، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيب)[رواه البخاري ومسلم]. والصّاعُ يساوي كيلوين وأربعين غراماً (2.040 كغ) من القمح الجيِّد.
ويجزئُ دقيقُ البُرِّ والشَّعيرِ؛ إذا كانَ بمقدارِ وزنِ الحبِّ؛ لزيادةِ ابنِ عيينة في حديثِ أبي سعيدٍ السّابقِ: (أَوْ صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ)[رواه أبو داود، وقال: الزِّيادةُ وَهْمٌ من ابنِ عُيينة]. ولأنّ الدّقيقَ قد كُفيَ الفقيرُ مُؤنتَه فهو أولى بالإِجزاءِ؛ كتمرٍ نُزِعتْ نَواهُ.
- ومَنْ عدِمَ الأصنافَ الخمسةَ المذكورةَ: يُخرج ما يقومُ مقامَها من حبٍّ يُقتاتُ؛ كذُرَةٍ، وأرزٍ، وعدسٍ؛ لأنّه أشبهُ بالمنصوصِ عليهِ؛ فكانَ أولى من غيرِهِ.
قال المرداويُّ في «الإنصاف» : «وقيل: يُجزئُ كلُّ مَكيلٍ مَطعومٍ. وقال ابنُ تَميمٍ: وقد أومأَ إليه الإمامُ أحمدُ، واختارهُ الشيخُ تَقيُّ الدِّين: يُجزئُهُ من قُوتِ بلدِهِ مثلُ
الأُرْزِ وغيرِهِ؛ ولو قَدَرَ على الأصناف المذكورة في الحديث. وذَكَرَهُ روايةً، وأنَّه قَولُ أكثر العُلماء، وجَزَمَ به ابنُ رَزِينٍ وحكاهُ في الرِّعايةِ قولًا».
خامساً: إعطاءُ الجماعةِ فطرتَهم لواحدٍ:
يجوزُ أن تُعطيَ الجماعةُ فِطرتهم لواحدٍ؛ لأنّها صدقةٌ واجبةٌ؛ فجازَ أن يُدفعَ للواحدِ فيها ما يلزمُ الجماعةَ؛ كصدقةِ المالِ.
ويجوزُ أن يعطيَ الواحدُ فِطْرَتَه لجماعةٍ؛ لإطلاقِ آيةِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التّوبة 60].
قال أبو الفرج ابنُ قدامةَ في «الشرح الكبير» : «أمّا إعطاءُ الجماعةِ ما يلزمُ الواحدَ؛ فلا نعلمُ فيه خلافاً» .
سادساً: إخراجُ القِيمةِ في زكاة الفِطْر:
لا يجزئُ إخراجُ القيمةِ في الزّكاةِ مطلقاً؛ سواء كانت في المواشِي أو المعشَّراتِ أو زكاةَ فطرٍ؛ لمخالفتِه للنُّصوصِ الواردةِ في بيانِ ما تُخرجُ منه زكاتُها.
سابعاً: شراءُ الزّكاةِ:
يحرمُ على الشَّخصِ شِراءُ زكاتِهِ وصدقتِهِ؛ ولوْ اشْتَراها مِنْ غيرِ مَنْ أخذَها منه؛ لقولِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرَ بن الخطابِ رضي الله عنه -حين أراد أن يشتريَ فرساً جعله في سبيلِ الله-: (لَا تَشْتَرِي، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ؛ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ)[رواه البخاري ومسلم].
وإنْ رجعتْ إليهِ زكاتُهُ أو صدقتُهُ بإرثٍ، أو هبةٍ، أو وصيّةٍ: جازَ بلا كراهةٍ؛ لحديث بُريدة رضي الله عنه قال: (بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ؛ فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ، قَالَ: فَقَالَ: وَجَبَ أَجْرُكِ، وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ)[رواه مسلم].
* * *
باب إخراجِ الزَّكاةِ
أوَّلاً: إخراجُ الزَّكاةِ على الفَوْرِ:
يجبُ إخراجُ الزكاةِ على الفورِ عند وجودِ سَببِها وانتفاء موانِعِها؛ لأنَّ الشرع أمرَ بإخراجها، والأمرُ المُطْلَقُ يقتضي الفَوْرَ.
ثانياً: حالاتُ تأخيرِ الزَّكاةِ:
يجوز لمن وجبت الزكاة في مالِه أن يؤخِّرها زمناً يسيراً إذا كانت هناك حاجة لمثل هذا التأخير، ومن صور ذلك:
1) انتظارُ محتاجٍ قادمٍ من سَفَرٍ، أو الانتظار ليدفعها لمن حاجته أشدّ ممّن هو حاضر.
2) القريبُ والجارُ؛ لأنَّ الصدقة على القريب له فيها أجران؛ أجرُ الصدقة وأجر القرابة، والجارُ في معنى القريب.
3) تعذّرُ إخراج الزكاة؛ بسبب غياب المال، أو المنع من التصرُّف فيه بسبب غصبه، أو سرقته، أو كونه دَيْناً. فله تأخير الزكاة إلى حين قدرته عليها.
فإن كان له مالٌ آخر جاز له أن يخرج الزكاة منه ولا يجب؛ لأنَّ الأصل إخراج الزكاة من عين المال الذي وجبت فيه الزكاة، وإخراجها من غيره رُخصة،
والرُّخصة لا تنقلب تضييقاً.
ثالثاً: ادِّعاءُ المُزكِّي إخراجَ الزَّكاةِ:
من طُلِبَ منه الزَّكاةُ فادَّعى إخراجها، أو أنَّ المال لم يمضِ عليه الحَوْل كاملاً،
أو أنَّ نِصَابَ زكاة المال نَقَص، أو أنَّ مِلْكَه زال عن ذلك المال في أثناء الحَوْل، أو أنَّ ما بيده لغيره؛ فإنَّه يُصدَّق في قوله من غير أن يحلف يميناً؛ لأنَّ الزكاة عبادة مؤتمَنٌ عليها، فالقول قول من تجب عليه بغير يمين؛ كالصلاة والكفَّارات.
رابعاً: إخراجُ الزكاةِ من مالِ الصغيرِ والمجنونِ:
يجبُ على وليِّ الصغيرِ أو المجنونِ أن يُخرجَ زكاة مالهما الذي وجبت فيه الزكاة، لقول عمر رضي الله عنه:(ابْتَغُوا -وفي رواية: اتَّجروا- بِأَمْوَالِ اليَتَامَى، لا تَأَكُلْهَا الصَّدَقَةُ)[رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي]؛ لأنَّ الزكاة تتعلَّق بعين المال، والنصوص الآمرة بإخراج الزكاةِ لم تفرِّق بين المالِ الذي يملكُه الصغيرُ والكبيرُ، أو العاقلُ والمجنونُ، أو الذكرُ والأنثى؛ لا سيَّما وأنَّ إخراجَ الزكاةِ حقٌّ تدخلُه النيابة؛ كالنفقة عليهما أو تغريمهما.
خامساً: سُننٌ وآدابٌ في إخراجِ الزكاةِ:
1) إظهارُ الزكاةِ عند إخراجها؛ لتنتفي عنه التُّهمة ويُقتدَى به.
2) أن يقومَ ربُّ المالِ بتفريقها بنفسه؛ ليتيقَّن وصولها إلى مستحقِّيها.
3) أن يدعوَ آخذُ الزكاةِ للمزكِّي؛ كأن يقول: (آجَرَكَ الله فيما أَعطيتَ، وباركَ
لكَ فيما أبقيتَ، وجَعَلَه لكَ طَهُوراً)؛ لقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة 103]، ولما ثبت من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيهِمْ
…
»، فَأَتَاهُ أَبي أبو أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ:«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» ) [رواه البخاري ومسلم].
فصل في شروطِ إخراجِ الزكاةِ
يُشترَطُ لإخراجِ الزكاةِ شَرْطانِ:
1) الشرط الأوَّل: النيَّة من المكلَّف؛ لأنَّ الزكاة عبادة، فاشترط لها النيَّة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)[رواه البخاري ومسلم]. ويُستثنى من ذلك ما لو أُخِذَت قَهْراً فإنَّها تجزئ من غير نيَّة.
- فإن كان المالُ مملوكاً لصغير أو مجنون فينوي وليُّهما عنهما؛ لعدم أهليَّتهما لأداء الواجبات، ولأنَّ أداء الزكاة تصَرُّف ماليٌّ يُشترَط له التكليف، كما هو الحال في سائر التصرُّفات الماليَّة من بيع وشراء وإجارة وغيرها.
- الأفضلُ في حقِّ المزكِّي أن يَقْرِنَ نيَّة إخراج الزكاة بزمن دَفْعِها، ولو تقدَّمت النيَّة على الدفع بزمن يسير جاز.
- يجب أن تكون النيَّة محدَّدة؛ فينوي بإخراجها زكاةَ المالِ أو الصدقة الواجبة، ولا يجزئه أن ينوي صدقة مطلَقة ولو تصدَّق بجميع مالِه؛ لأنَّ من الصدقة ما يكون نَفْلاً؛ فوجب تمييز الواجب عن النَّفْل، وهذا لا يتعيَّن إلَّا بالنيَّة.
- لا تجبُ نيَّة الفَرْضِيَّة، لأنَّ الزكاة لا تكون إلَّا فَرْضاً، ولا يجب تعيين المال المزكَّى عنه.
* التوكيلُ في إخراجِ الزكاةِ:
- يجوزُ للمسلم أن يوكِّل غيرَه من المسلمين الثقات في إخراج الزكاة عنه، وتُجزئُ نيَّة المُوكِّل مع قُرْب زمن إخراج الزكاة؛ لأنَّ الفَرْضَ متعلِّق بالموكِّل، ولا يضرُّ تأخير الأداء زمناً يسيراً.
- وإذا كان الفاصل الزمنيُّ بين قُرْب زمن الإخراج وزمن التوكيل طويلاً، نوى الوَكيل عند الدَّفع أيضاً.
2) الشرط الثاني: أن يجعلَ الزكاةَ في فقراءِ بلدِ المالِ الذي وجبتْ فيه الزكاةُ: فعلى المزكِّي أو من ينوبه أن يجعلَ زكاةَ كلِّ مالٍ في فقراءِ بلدِه.
- ويَحرُم على المزكِّي نقلُ الزكاة إلى بلد غير بلدِ المالِ إذا كان بينهما مسافة قَصْر، وكان في بلدِ الوجوب مستحِقٌّ؛ لحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لمّا بعثه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له:(أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيائِهِمْ فَتُردُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ)[رواه البخاري ومسلم].
فإن أخرجها إلى غير بلد المال أجزأته وأثِمَ؛ لأنَّه دفعها إلى مستحقِّها فبرئت ذمَّتُه، ولقول النبيَّ صلى الله عليه وسلم لقَبيصَة بن مُخَارِق:(أَقِمْ حَتَّى تَأْتِينَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا)[رواه مسلم]، فدلَّ على أنَّ الصدقة كانت تُنقل إلى المدينة من غيرها من البلاد، فيفرِّقها في فقراء المهاجرين والأنصار.
* تعجيلُ إخراجِ الزكاةِ قبلَ موعدِها:
- يجوزُ للمزكِّي أن يُعجِّل إخراج زكاة مالِه لسنتين فقط، إذا كَمَل النِّصِاب؛ لحديث عليٍّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ تَعَجَّلَ مِنَ العَبَّاسِ صَدَقَةَ سَنَتَينِ)[رواه أبو عبيد في الأموال].
- وإن كان المالُ الذي وجبت فيه الزكاة ينقص فيه النِّصَاب إذا أَخرَج زكاةَ سَنَةٍ لا يصحُّ إخراجُه عن سنتين؛ كمن كان له أربعون شاةً، فلا يصحّ أن يُخرِجَ عن سنتين؛ لأنَّه إذا أخرج زكاة سَنَةٍ نقصَ الباقي عن النِّصَاب، فلا تجبُ فيه الزكاة. فإن زادت عن الأربعين جاز أن يُخرِجَ عن سنتين.
- إذا تلف النِّصَاب بعد إخراج الزكاة المعجَّلة، أو نقص قبل تمام الحَوْل، كان ما دفعه صدقة تطوُّع في حَقِّه.
* * *
باب أهلُ الزكاةِ
أوَّلاً: تعريفُ أهلِ الزكاةِ:
أهلُ الزكاةِ: هم الذين يجزئُ دَفْعُ الزكاةِ لهم؛ وهم ثمانية؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة 60]. وكلمة (إنَّما) تفيد الحَصْرَ، والحَصْرُ يقتضي إثباتَ الحُكْمِ في المذكور، ونفيَه عمَّن سواه.
وهم على النحو التالي:
1) الفقيرُ:
وهو الذي لا يجدُ شيئاً، أو يجدُ شيئاً يسيراً، لكنَّه لا يبلغُ نصفَ كفايته، كأنْ يجدَ رُبْعَ كفايتِه أو ثلثَها، فهو أشدُّ حاجةً من المسكين؛ لأنَّ الله عز وجل بدأ به، وإنَّما يُبْدأ بالأهمِّ فالمهمُّ.
2) المسكينُ:
وهو الذي يجدُ نصفَ كفايته، أو أكثرَها وذلك عن طريق الكَسْب ونحو ذلك؛ لقول الله تعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف 79].
فأخبر الله عز وجل أنَّ لهم سفينة يعملون بها، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى المسكنة واستعاذ به من الفقر؛ فقال:(اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِيناً وَأَمِتْنِي مِسْكِيناً وَاحْشُرْنِي في زُمْرَةِ المَسَاكِينِ يَوْمَ القِيامَةِ)[رواه الترمذي وابن ماجه]. واستعاذ من الفقر فقال: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ
…
) [رواه أبو داود]. ولا يجوز أن يسأل شدَّة الحاجة، ويستعيذ من حالة أصلح منها؛ فدلَّ ذلك على أنَّ الفقر أشدُّ من المسكنة.
3) العاملُ على الزكاةِ:
كالجابي: وهو الذي يجمع الزكاة من الأغنياء، والحافظ: وهو الذي يقوم بحفظ أموال الزكاة في المستودعات وغيرها، والكاتب، والقاسم: وهو الذي يُقسِّم الزكاة ويصرفها إلى مستحقِّيها. فهؤلاء جميعاً يدخلون تحت قول الله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} .
ويُشترط في العامل على الزكاة: أن يكون مسلماً، مكلَّفاً، أميناً، من غير ذوي القُرْبَى.
4) المؤلَّفُ قلبُه:
وهو السيِّدُ المُطاعُ في عشيرته ممَّن يُرْجَى إسلامُه، أو يُخشَى من شرِّه؛ فيُعطى منها تأليفاً لقلبه، أو دفعاً لشرِّه؛ لحديث أبي سعيدٍ الخُدْرىِّ رضي الله عنه قال: (بَعَثَ عَلِيٌّ رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذُهَيْبَةٍ فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ: الْأَقْرَعِ بْنِ
حَابِسٍ الحَنْظَلِيِّ ثُمَّ المُجَاشِعِيِّ، وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ، وَزَيْدٍ الطَّائِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي كِلَابٍ، فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ قَالُوا: يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا قَالَ: إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ) [رواه البخاري ومسلم].
- وكذا يُعطَى منها من كان يُرجَى بعَطيَّته قوَّة إيمانه؛ كأن يكون مسلماً ضعيف الإيمان، متهاوناً في فرائض الإسلام، لكنَّه لو أُعطي من الزكاة قَوِيَ إيمانُه وحَسُنَ؛ لقول ابن عبَّاس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل:{وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} : «هُمْ قَومٌ كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ الله قَدْ أَسْلَمُوا، فَكَانَ رَسُولُ الله يَرْضَخُ لَهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَإذَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ فَأَصَابُوا مِنْها خَيراً قَالُوا: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، فَإنْ كَانَ غَيرَ ذَلِكَ عَابُوهُ وَتَرَكُوهُ» . [رواه ابن جرير الطبري في تفسيره وإسناده ضعيف].
- وكذا يُعطَى منها من كان يُرجَى بعَطيَّته قوَّة على جباية الزكاة ممَّن امتنع من أدائها؛ لأنَّ ذلك من المصالح الشرعية.
- تركُ إعطاءُ المؤلَّفة قلوبُهم في عهد عمرَ وعثمانَ وعليٍّ رضي الله عنهم محمولٌ على عدم الحاجة إلى إعطائهم في زمنهم؛ لقوَّةِ الإسلام وظهورِه.
وأمَّا زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ رضي الله عنه، فكان إعطاؤهم للحاجة؛ فمتى رأى الإمام في إعطائهم مصلحة، والحاجة داعية إليه، صُرف لهم.
5) المكاتَبُ:
وهو العبدُ الذي اشترى نفسَه من سيِّدِه، وذلك بأنْ يتَّفق مع سيِّدِه على تحرير
رقبتِه مقابل أقساط معلومة من المال يدفعُها له، فإذا وفَّى له صار حرًّا.
فهذا المكاتَبُ يجوز أن يُعانَ على مكاتبَتِه من الزكاة، فيُعطَى من الزكاة ما يتمُّ به فَكاكُ رَقبَتِه.
وكذلك الرَّقيقُ غير المكاتَبِ: يجوز أنْ يُعتَق من مال الزكاة، وكذا الأسير المسلم يجوز أنْ يُفدَى من مال الزكاة؛ لعموم قوله تعالى:{وَفِي الرِّقَابِ} ، ولأنَّ فكَّ رقبةِ المسلم من الأسْرِ كفَكِّ رقبةِ العبد من الرِّقِّ.
6) الغارمُ:
وهو المَدِينُ من المسلمين؛ وهو على قسمين:
الأوَّل: الذي استدان من أجل الإصلاح بين الناس؛ كأن يتحمَّل دِيَةً أو مالاً؛ لتسكين فتنةٍ وقعت بين طائفتين، ويتوقَّفُ صُلْحُهم على من يتحمَّل ذلك. فهذا يُعطى من الزكاة ما يؤدِّي عنه ما تحمَّله، ولو كان غنيًّا؛ لما جاء في حديث قَبِيصَة بن مُخارِق الهِلالي رضي الله عنه قال:(تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَسْأَلُهُ فِيهَا فَقَالَ: أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا)[رواه مسلم]. والحَمَالة بفتح الحاء وتخفيف الميم: هي المال الذي يتحمَّله الإنسان، أي: يستدينه ويدفعه في إصلاح ذات البَيْن.
الثاني: من استدان لنفسه وعجز عن السداد؛ لفَقْرِه؛ فهذا يُعطى من الزكاة لسداد دَيْنِه؛ لقول الله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} .
7) الغازي في سبيلِ الله:
والمرادُ به الغازي المتطوِّعُ الذي ليس له راتبٌ في الدِّيوان -أي: في بيت المال- على غَزْوِه؛ فيجوز إعطاؤه من الزكاة ولو كان غنيًّا؛ لأنَّ غَزْوَه لحاجة المسلمين، ولقول الله تعالى:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} . أمَّا إذا كان له راتبٌ في الدِّيوان فلا يُعطَى من الزكاة، إلَّا إذا كان لا يكفيه؛ فحينئذٍ له أن يأخذ تمامَ ما يكفيه.
- يجوزُ إعطاءُ الفقير ما يَحجُّ به حَجَّ الفريضة ويَعتَمِر؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (الحَجُّ وَالعُمْرَةُ مِنْ سَبِيلِ الله)[رواه أحمد، وإسناده صحيح دون لفظ العمرة].
8) ابنُ السَّبيلِ:
وهو الغريبُ الذي انقطعَ به الطريقُ بغير بلده، وليس معه ما يوصله إلى بلده أو إلى منتهى قصده؛ لقول الله تعالى:{وَابْنِ السَّبِيلِ} أي: ابن الطريق، فيُعطَى من الزكاة ولو كان غنيًّا في بلده؛ لأنَّه عاجز عن الوصول إلى مالِهِ، وعن الانتفاع به؛ فأشبه مَنْ سقط متاعُه في البحر أو ضاعَ.
ثانياً: مقدارُ ما يُعطَى من الزَّكاةِ:
يُعطَى جميع من ذُكِر من أهلِ الزكاةِ منَ الزكاةِ بقدر الحاجة، إلَّا العامل عليها فيُعطى بقدر أُجْرَتِه؛ فيُعطَى الفقيرُ والمسكينُ ما يكفيهما لمدَّة عامٍ، ويُعطَى الغارمُ والمكاتَبُ ما يقضيان به دَيْنَهُما، ويُعطَى الغازي بقَدْرِ ما يحتاج إليه لغَزْوِه، ويُعطَى ابنُ السَّبيلِ بقَدْرِ ما يوصله إلى بلده، ويُعطَى المؤلَّفُ بقَدْر ما يحصل به التأليف، أمَّا
العامل عليها فيُعطَى بقَدْر أُجْرَتِه حتَّى لو كان غنيًّا؛ لأنَّ الذي يأخذه بسبب العمل؛ فوجب أن يكون بمقداره. ولحديث ابن السَّاعِدِي المالِكيِّ أنَّه قال: (اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا وَأَدَّيْتُهَا إِلَيْهِ أَمَرَ لي بِعُمَالَةٍ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا عَمِلْتُ لِله وَأَجْرِي عَلَى الله، فَقَالَ: خُذْ مَا أُعْطِيتَ فَإِنِّي عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَعَمَّلَنِي، فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكَ، فَقَالَ لي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ)[رواه البخاري ومسلم واللفظ له]. فهذا يدلُّ على أنَّها تُدفَعُ للعامل ولو كان غنيًّا.
ثالثاً: ما أُخِذَ من الزَّكاةِ بقوَّة السُّلطانِ:
من أخذها من السَّلاطين قَهْراً أو اختياراً، سواءً عَدَل فيها أو جِارَ؛ فإنَّها تُجزئُ عن صاحبها؛ لحديث سُهَيل بن أبى صالح عن أبيه:(أَنَّهُ أَتَى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ أُدْرِكَ لِي مَالٌ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَؤْدِّيَ زَكَاتَهُ وَأَنَا أَجِدُ لَهَا مَوْضِعًا وَهَؤُلَاءِ يَصْنَعُونَ فِيهَا مَا قَدْ رَأَيْتَ، فَقَالَ: أَدِّهَا إِلَيْهِمْ، قَالَ: وَسَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ: أَدِّهَا إِلَيْهِمْ، قَالَ: وَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ: أَدِّهَا إِلَيْهِمْ) [رواه
ابن أبي شيبة والبيهقي واللفظ له].
* * *
فصل في الذين لا يُجزِئُ دَفْعُ الزكاةِ لهم
أوَّلاً: الأصنافُ الذينَ لا يُجزِئُ دَفْعُ الزكاةِ لهم:
تقدَّم في الفصل السابق بيانُ أهلِ الزكاةِ المستحقِّين لها، أمَّا هذا الفصل ففيه بيانُ الأصنافِ الذين لا يُجزئُ دفعُ الزكاة لهم، وهم على النحو التالي:
1) الكافرُ: فلا يُجزئُ دَفْعُ الزكاة له؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه (
…
فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ [رواه البخاري ومسلم]. فنصَّ على أنَّ الزكاةَ تُرَدُّ على فقراء المسلمين. إلَّا إذا أُريدَ تأليفُه كما سبق؛ فيعطَى عند الحاجة إلى تأليفه.
2) الرَّقيقُ: وهو العبدُ؛ لأنَّ نفقتَه واجبةٌ على سيِّدِه، فهو غنيٌّ بغِناهُ. وما يُدفع إليه لا يملكُه، وإنَّما يملكُه سيده؛ فكأنَّه دُفِعَ إلى سيِّدِه، إلَّا إذا كان مكاتَباً فيجوزُ إعانتُه على أداء الكتابة؛ كما تقدَّم.
3) الغنيُّ: وهو الذي عنده ما تحصل به الكفاية على الدوام من كسبٍ، أو تجارةٍ، أو عَقارٍ، أو نحو ذلك؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِىٍّ)[رواه أبوداود والترمذي]. و (ذو مِرَّةٍ سَوِيٍّ) معناه: قويٌّ صحيحُ الأعضاء.
4) مَنْ تلزمُه نفقتُه: كزوجته، وأولاده، وأولاد أولاده وإن سَفلوا، وكذا وَالِدَيهِ وَجَدَّيهِ، وإن عَلَوا؛ فهؤلاء لا يجوز دفع الزكاة لهم؛ لأنَّ نفقتَهم واجبةٌ عليه، وقد نقل ابنُ المنذر الإجماعَ على ذلك. ولأنَّ دفع زكاته إليهم تغنيهم عن نفقته وتسقطها عنه، ويعود نفعها إليه؛ فكأنَّه دفعها إلى نفسه فلم تجز؛ كما لو قضى بها دَيْنَه.
أمَّا سائرُ الأقارب ممَّن لا تلزمُه نفقتُهم، فيجوزُ دفعُ الزكاة لهم، قال ابن قدامة في «المغني»:«قال الإمام أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم وإسحاق بن منصور، وقد سأله: يُعْطَى الأخُ والأختُ والخالةُ من الزكاة؟ قال: يُعطَى كلُّ القرابةِ إلَّا الأبوين» ؛ وذلك لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى المِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ؛ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ)[رواه النسائي والترمذي وابن ماجه]. فلم يَشترِط نافلةً
ولا فريضةً، ولم يُفرِّق بين الوارث وغيره.
5) الزَّوج: فلا تدفع المرأة زكاتها إلى زوجها؛ لأنَّها تعود إليها بإنفاقه عليها.
والرواية الأخرى في المذهب: أنّه يجوز لها دفع زكاتها لزوجها. وقدَّمها المرداوي وقال: «هي المذهب» ؛ وذلك لأنَّ الزوجة لا يجبُ عليها أن تنفق على زوجها، فلا تُمنَع من دفع الزكاة إليه كالأجنبي، ولأنَّ الأصل جواز الدفع؛ لدخول الزوج في عموم الأصناف الذين تحلُّ لهم الزكاة، وليس في المنع نصٌّ ولا إجماع، ويُستأنَس لذلك بما ثبت عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّها قالت: (يَا نَبِيَّ الله! إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ ابْنُ
مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ) [رواه البخاري].
6) بنو هاشِم: وهم ذُرِّيةُ هاشِمِ بن عبدِ مَنافٍ؛ لأنَّهم من آل محمَّد صلى الله عليه وسلم.
وآلُ محمَّد أشرفُ الناس نَسَباً؛ ولذا لا يُعْطَون من الزكاة إكراماً لهم؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لبعض بني هاشِم: (إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لآلِ مُحَمَّدٍ؛ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ)[رواه مسلم]. إلَّا إذا كانوا غُزاةً أو مُؤلَّفين أو غارمين؛ فيُعْطَون حينئذٍ من الزكاة؛ للمصلحة العامَّة.
ثانياً: حكمُ الزكاةِ إذا دَفَعَها لغيرِ من يستحقُّها:
إذا دفعَ المزكِّي الزكاةَ لغير من يستحقُّها؛ كما لو دَفَعَها إلى كافرٍ، أو إلى هاشميٍّ، وهو يجهل ذلك ثمَّ عَلِمَ؛ لم يجزئه ذلك عن الزكاة، وعليه أن يَسترِدَّها بنمائِها؛ لأنَّه دفعها لمن لا يستحقُّها ولا يخفى حالُه غالباً؛ فلا يُعذَر بجهالته. بخلاف ما لو دفعها لمن ظنَّه فقيراً، ثمَّ تبيَّن أنَّه غنيٌّ؛ فحينئذٍ تجزئه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم للرَّجلين اللَّذينِ سألاهُ الصَّدَقَة: (إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ
…
) [رواه أبو داود والنسائي]. فاكتفى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالظاهر، ولأنَّ الغِنَى يَخْفَى.
ثالثاً: تفريقُ الزكاةِ على من لا تلزمُه نَفَقَتُهُم:
يُسَنُّ للمُزكِّي أن يُفرِّق الزكاة على أقاربه الذين لا تلزمُه نفقتُهم، وعلى ذوي أرحامه؛ كعمَّته، وخالته، وبنت أخيه، وذلك على قَدْرِ حاجتهم؛ للحديث السابق (إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى المِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ؛ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ).
رابعاً: هل يجوزُ دَفْعُ الزكاةِ لمنْ ضَمَّه إلى عِيالِه وتبرَّع بنفقَتِه؟
* تنبيهان:
1) لا يجوزُ صَرْفُ الزكاةِ لغيرِ الأصنافِ الثمانية؛ فلا يجوز صَرْفُها في بناءِ المساجدِ، ولا في بناءِ المدارسِ، ولا في إصلاح الطُّرُق، ولا في تكفين المَوْتَى، ونحو ذلك؛ لأنَّ الله عز وجل فَرَضَها لهؤلاء الأصناف فقال:{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة 60].
2) يجوزُ للمُزكِّي أن يقتصرَ على صِنْفٍ واحدٍ من الأصناف الثمانية، ويجوز أن يُعطيَها شخصاً واحداً؛ ويدلُّ على ذلك حديث معاذٍ رضي الله عنه السابق:(تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ)؛ فأخبر أنَّه مأمورٌ بردِّ جُمْلَتِها في الفقراء، وهم صِنْفٌ واحدٌ، ولم يذكر سواهم، ولحديث قبيصة السابق:(أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا).
* * *
فصل في صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ
أوَّلاً: وقتُ صَدقَةِ التطوُّع:
تُستحبُّ صَدَقةُ التطوُّع في جميع الأوقات؛ لأنَّ الله تعالى أمر بها ورغّب فيها وحث عليها؛ فقال عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة 245]، وقال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري]. والفَلُوُّ: الصغيرُ من أولاد الفَرَس.
ثانياً: صَدقَةُ السِّرِّ والعَلَنِ:
صَدقَةُ السِّرِّ أفضل من صَدقَةِ العَلانِيَة؛ لقول الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة 271]، ولقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ
لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ
…
وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ
…
) [رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري].
ثالثاً: الصَّدَقَةُ في الأماكنِ والأزمانِ الفاضِلَة:
صَدَقةُ التطوُّع في الأماكنِ الفاضِلَة والأزمانِ الشريفة أفضلُ منها في غيرها،
كالحَرَمَيْن الشريفَيْن، والمسجدِ الأقْصَى، وشهرِ رَمَضان، وعشرِ ذِي الحِجَّة؛ وذلك لمضاعفَةِ الحَسَناتِ في هذه الأماكن وتلك الأزمان، ولحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال:(كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ)[رواه البخاري ومسلم].
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أيضاً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ -يعني أيام عشر ذي الحجة- قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ)[رواه البخاري].
رابعاً: الصَّدَقَةُ على ذَوِي الأرحامِ والجيرانِ:
الصَّدَقةُ على ذوي الأرحام أفضلُ من الصَّدَقةِ على غيرهم؛ لأنَّها صَدَقةٌ وَصِلَةٌ؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى المِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ؛ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ)[رواه النسائي والترمذي].
ثمَّ على الجارِ أفضلُ من غيره؛ لقوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء 36]، ولقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)[رواه البخاري ومسلم].
خامساً: الصدقة بالفاضل عن الحاجة:
تُستحبُّ صَدَقةُ التطوُّع بالفاضلِ عن حاجتِه وحاجةِ من يُنفِق عليه من زوجةٍ
وولدٍ ونحو ذلك؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ)[رواه البخاري ومسلم]. أي: أفضلُ الصَّدقَةِ ما كان زائداً على حاجتك وحاجة من تعولُه وتنفق عليه.
فإنْ تَصدَّق بما يُنْقص من حاجته أو حاجة من يَعولُهم، أو تصدَّق بما يَلحقُه أو يُلحقُ من يَعولهم ضرراً أَثِمَ بذلك؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(كَفَى بِالمَرْءِ إِثْماً أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ)[رواه أبو داود]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(لَا ضَرَر وَلَا ضِرَارَ)[رواه مالك وأحمد].
فإن وافقه عيالُه على الإيثار فهو أفضل؛ لقول الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر 9].
- يُكرَه لمن لا صَبْر له على الضِّيق، أو لا عادَةَ له به أن يُنْقصَ نفسه عن الكفاية التامَّة؛ لأنَّه نوع إضرار به، ولقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه:(إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ)[رواه البخاري ومسلم].
سادساً: حُكمُ المَنِّ بالصَّدقَةِ:
يحرم المنُّ بالصَّدقة؛ بل هو من كبائر الذنوب، ويبطل به الثواب؛ لقول الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة 264]، ولقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِرَارٍ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا
وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: المُسْبِلُ، وَالمَنَّانُ، وَالمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالحَلِفِ الْكَاذِبِ) [رواه مسلم].
* * *
كتاب الصِّيام
أوَّلاً: تعريفُ الصِّيامِ:
الصيام: إمساكٌ بنيّةٍ عن أشياءَ مخصوصةٍ، في زمنٍ مخصوصٍ، مِنْ شخصٍ مخصوصٍ.
والمرادُ بالأشياءِ المخصوصةِ: مفسداتُه الآتي بيانُها.
وبالزّمنِ المخصوصِ: مِنْ طلوعِ الفجرِ الثّانِي إلى غروبِ الشّمسِ.
وبالشّخصِ المخصوصِ: المسلمُ العاقلُ القادر، غيرُ الحائضِ والنُّفَساءِ.
ثانياً: حكمُهُ:
صومُ شهرِ رمضانَ فرضٌ؛ لقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة 183]، وهو أحدُ أركانِ الإسلامِ، ومبانيهِ العظامِ؛ لحديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ)[رواه البخاري ومسلم، واللّفظ للبخاريّ].
وقد فُرضَ الصِّيامُ في السّنةِ الثانيةِ من الهجرةِ النبويّةِ.
ثالثاً: متى يجبُ صومُ رمضانَ؟
يجبُ صومُ رمضانَ على جميعِ المسلمينَ والمسلماتِ برؤيةِ هلالِهِ؛ لقولِهِ تعالى:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة 185]، وقولِه صلى الله عليه وسلم:) صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ) [رواه البخاري ومسلم]. أو بكمالِ شعبانَ ثلاثينَ؛ قال شمسُ الدينِ ابنُ قدامة في «الشرح الكبير» : «كمالُ شعبانَ ثلاثينَ يوماً يجبُ به الصومُ؛ لأنّه يُتيقّنُ به دخولُ شهرِ رمضانَ؛ ولا نعلمُ فيه خلافاً» .
رابعاً: صومُ يومِ الشّكّ:
يجبُ الصومُ احتياطاً بنيّةِ رمضانَ على من حالَ دونهُم ودونَ مطلعِ الهلالِ غيمٌ أو قَتَرٌ-أي: غبارٌ- ليلةَ الثلاثينَ من شعبانَ؛ لحديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما مرفوعاً: (إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا؛ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ)[رواه البخاري ومسلم]؛ يعني: ضيّقُوا له العِدّةَ؛ من قوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق 7]؛ أي ضُيِّق عليه، وتضييقُ العدّةِ له أن يحسبَ شعبانُ تسعةً وعشرين يوماً.
قال نافعٌ: «فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا كَانَ شَعْبَانُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ نُظِرَ لَهُ؛ فَإِنْ رُئِيَ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يُرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرَةٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا؛ فَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ أَصْبَحَ صَائِمًا» [رواه أبو داود]. وابنُ عمر هو راوي الحديثِ، وعملُه بهِ تفسيرٌ لهُ.
وعن الإمامِ أحمدَ روايةٌ أخرى: أنّه لا يجبُ الصومُ إذا حالَ دون رؤيةِ هلالِ رمضانَ غيمٌ أو قَتَرٌ؛ قال المرداويُّ في «الإنصافِ» -باختصار-: «وعنهُ: لا يَجبُ صَوْمُهُ قبل رؤيةِ هِلالِهِ، أو إكمال شَعبانَ ثلاثين. ورَدَّ صاحب (الفُرُوع)
-ابنُ مُفلح- جميع ما احتجَّ به الأصحابُ للوُجُوب، وقال: لم أجد عن أحمدَ قولاً
صريحًا بالوُجُوب، ولا أمَرَ به؛ فلا يتوجَّهُ إضافتُهُ إليه».
ونقلَ قبلَ كلامِ ابنِ مفلحٍ قولَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابنِ تيمية: «هذا مذهبُ أحمدَ المنصوصُ الصَّريحُ عنه. وقال: لا أصل للوُجُوب في كلام الإمام أحمدَ،
ولا في كلام أحدٍ من الصّحابة».
* ما يترتّبُ على القولِ بوجوبِ صيامِهِ:
يترتّبُ على القولِ بوجوبِ صومِ يومِ الشّكِّ إذا حالَ دون رؤيةِ الهلالِ حائلٌ ما يلي:
1) يُجزئُ صيامُ هذا اليومِ إنْ ظَهَر أنّه منْ رمضانَ؛ بأن ثبتتْ رؤيةُ الهلالِ بموضعٍ آخرَ؛ لأنّ صيامَهُ وقعَ بِمُستنَدٍ شرعيٍّ.
2) تُصَلّى التراويحُ ليلتَهُ احتياطاً للقِيامِ؛ الّذي ورد الحثُّ عليه في قولِه صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)[رواه البخاري ومسلم].
3) تثبتُ تبعاً لوجوبِ صومِهِ بقيّةُ توابعِ الصّومِ؛ كوجوبِ الكفّارة على من وطئَ امرأتَه فيهِ، ووجوبِ الإمساكِ على من لمْ يبيّتِ النيّةَ، أو قدمَ من سفرٍ، ونحوِ ذلكَ؛ إلاَّ أن يُّتحقّقَ أنّ اليومَ من شعبانَ.
4) لا تثبتُ بقيّةُ الأحكامِ الشهريّةِ؛ فلا يحلُّ دينٌ مؤجّلٌ بدخولِهِ، ولا يقعُ طلاقٌ وعتقٌ معلَّقين بهِ، ونحو ذلك؛ عملاً بالأصلِ الّذي خولفَ في رمضانَ احتياطاً للعبادةِ.
خامساً: إثباتُ رؤيةِ الهلالِ:
تثبتُ رؤيةُ هلالِ رمضانَ بخبرِ مسلمٍ مُكلَّفٍ عَدْلٍ -ولو كان عبداً أو أنثى-؛ لحديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: (تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ)[رواه أبو داود].
ولا يقبلُ في بقيّةِ الشُّهورِ-كشوّالٍ وغيرِه- إلاَّ رجلانِ عَدْلانِ بلفظِ الشّهادةِ؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، وانْسِكُوا لها؛ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا ثَلاثِينَ؛ فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا)[رواه النّسائيّ]. ولما رُوي عن ابن عمرَ وابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّهما قالا: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يُجِيزُ عَلَى شَهَادَةِ الإِفْطَارِ إِلاَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ)[رواه البيهقيُّ، وضعّفه]، وفارقَ هلالُ رمضانَ بقيّةَ الشّهورِ؛ لما فيه منَ الاحتياطِ للعبادةِ.
* * *
فصل في شُروطِ وجوبِ الصَّومِ، وشُروطِ صحَّتِه، وفَرائضِه، وسُننِه
أوَّلاً: شُروطُ وجوبِ الصَّومِ:
شُروطُ وجوبِ الصَّوم أربعة:
1) الإسلامُ: لأنّ الله تعالى كتبَه على المسلمين؛ بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة 183]؛ فلا يجبُ على كافرٍ بحالٍ، ولو أسلمَ في أثناءِ الشّهرِ لمْ يلزمْهُ قضاءُ الأيّامِ السّابقةِ لإسلامِهِ.
2) البلوغُ: لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ)[رواه أبو داود -واللفظ له- والترمذي والنسائي وابن ماجه]؛ فلا يجبُ الصّومُ على منْ لمْ يبلغْ.
3) العقلُ: فلا يجبُ الصّومُ على مجنونٍ؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم في الحديثِ السّابقِ: (وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ).
4) القدرةُ على الصّيامِ: فلا يجبُ الصيامُ على من لا يقدرُ عليهِ؛ لقولِ الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة 286].
ومنْ عجزَ عن الصِّيامِ لكِبَرٍ أو مرضٍ لا يُرجى زوالُه: أفطرَ وأطعمَ عنْ كلِّ
يومٍ مسكيناً مُدَّ بُرٍّ أو نصفَ صاعٍ منْ غيرِ البُرِّ؛ لما رواهُ عطاء عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة 184]-: «لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ؛ هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالمَرْأَةُ الكَبِيرَةُ لا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا؛ فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا» [رواه البخاري]. وروى عكرمةُ عن ابنِ عبّاسٍ أيضاً قال: «إِذَا عَجَزَ الشَّيْخُ الكَبِيرُ عَنِ الصِّيَامِ أَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مُدًّا» [رواهما الدارقطنيُّ]. والحنطةُ: القمحُ. والمدُّ: حفنةٌ بكفَّي الرّجلِ المعتدلِ الكفّينِ.
والمريضُ غيرُ الميؤوسِ من بُرئِهِ إذا خافَ من صومِهِ ضرراً -كزيادةِ المرضِ أو طولِه-، أو كان صحيحاً فمرِضَ في يومِهِ، أو خافَ مرضاً لأجلِ عطشٍ أو غيرِه: سُنَّ له الفطرُ، وكُرهَ له الصومُ وإتمامُه؛ لقولِه تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة 184]؛ أي: فليُفطرْ، وليقضِ عددَ ما أفطرَ.
فإنْ صامَ المريضُ مع ما سبقَ: أجزأَهُ صومُه؛ لصدُورِه من أهلِه في محلِّهِ؛ كما لو أتمَّ المسافرُ.
ولا يفطرُ المريضُ الّذي لا يتضرّرُ بالصومِ؛ كمنْ بهِ جَرَبٌ، أو كَسْرٌ في يده، أو وَجَعُ ضِرسٍ أو أصبعٍ، ونحوِه.
ثانياً: شروطُ صحّةِ الصّومِ:
شروطُ صحّةِ الصّومِ ستّةٌ:
1) الإسلامُ: فلا يصحُّ من كافرٍ؛ لأنّ منْ شرطِ قَبولِ العملِ الإسلامَ؛ قال الله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ}
[التوبة 54].
2) انقطاعُ دمِ الحيضِ: لأنّ الحائضَ يحرُمُ عليها الصّومُ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تَصُمْ وَلَمْ تُصَلِّ؟ قُلْنَ: بَلَى)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري].
3) انقطاعُ دمِ النِّفاسِ: لأنّه يحرم بسبب النِّفاس جميعُ ما يحرُمُ بسببِ الحيضِ؛ كما تقدّمَ في بابِه.
4) التّمييزُ: فيجبُ على وليِّ المميّزِ المطيقِ للصّومِ أَمْرُه به لسَبعِ سنينَ، وضَرْبُه عليه لعشرٍ ليعتادَهُ؛ قياساً على الصّلاةِ.
5) العقلُ: لأنّ حقيقةَ الصّومِ الإمساكُ عن المفطّراتِ مع النيّةِ؛ لقوله سبحانه في الحديثِ القدسيّ: (يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي)[رواه البخاري ومسلم، واللّفظ للبخاريّ]؛ فأضافَ تركَ المفطّراتِ إليه، والمجنونُ لا يُضافُ الإمساكُ إليهِ؛ لأنَّه لا قصد له ولا نيَّة؛ فلمْ يجزِئه.
لكنْ لو نَوى العاقلُ ليلاً، ثمّ جُنَّ أو أُغميَ عليه جميعَ النَّهارِ، وأفاقَ منهُ جزءاً قليلاً: صحَّ صومُه؛ لوجودِ الإمساكِ فِي جُزءٍ من النّهارِ؛ كما لو نامَ بقيّةَ النّهارِ.
6) النِّيّةُ منَ اللّيلِ لكلِّ يومٍ في صومٍ واجبٍ: -سواءً كانَ واجباً بأصلِ الشّرعِ، أو أوجبَهُ الإنسانُ على نفسِهِ؛ كالنّذرِ-؛ لحديثِ حفصةَ رضي الله عنها مرفوعاً:(مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ)[رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
* فروعٌ تتعلّق بالنيّة:
1) مَنْ خطَرَ بقلبِهِ -من غيرِ تردُّدٍ- ليلاً أنّه يصومُ غداً، أو أكلَ وشربَ بنيَّةِ
الصومِ؛ فقد نَوى؛ لأنّ النّيّةَ محلُّها القلبُ.
2) لا يَضرُّ إنْ أتَى بعدَ النيّةِ بمنافٍ للصّومِ -من أكلٍ وشربٍ وجماعٍ وغيرِها-؛ لأنّ اللهَ عز وجل أباحَ الأكلَ إلى آخرِ اللّيلِ؛ فلو بطلتِ النّيّةُ بهِ لفاتَ محلُّها.
3) لا يضرُّ أيضاً إنْ قالَ: «غداً أصومُ إنْ شاءَ اللهُ» غيرَ متردِّدٍ؛ كما لا يفسدُ إيمانُه بقولِه: «أنا مؤمنٌ إنْ شاءَ اللهُ» ؛ فإنْ قصدَ بالمشيئةِ الشَّكَّ أو التّردُّدَ في العزمِ والقصدِ: فسدتْ نيّتُه؛ لعدمِ الجزمِ بها.
4) لا يضرُّ لو قالَ ليلةَ الثّلاثينَ منْ رمضانَ: «إنْ كانَ غداً منْ رمضانَ فهو فَرْضي، وإلاَّ فأنا مفطرٌ» ، وبانَ أنّه من رمضانَ، ويجزئُه؛ لأنّه بَنَى على أصلٍ لم يثبتْ زوالُه؛ وهو بقاءُ الشَّهرِ؛ فلا يضرُّ التردُّدُ في النيّةِ.
ويضرُّ إنْ قالَ ذلك في أوّلِ رمضانَ -ليلةَ الثّلاثينَ من شعبانَ-، ولا يجزئُه؛ لأنّه ليس هناك أصلٌ يُبنى عليهِ.
ثالثاً: فرائضُ الصّومِ:
فرضُ الصِّيامِ -سواءً كان فرضاً أو نفلاً-: الإمساكُ عنْ جميعِ المفطِّراتِ منْ طلوعِ الفجرِ الثّانِي إلى غروبِ الشّمسِ؛ لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة 187]، وحديثِ عمر رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ)[رواه البخاري ومسلم].
رابعاً: سُننُ الصّيامِ:
سُننُ الصِّيامِ ستّةٌ:
1) تعجيلُ الفطرِ إذا تحقّقَ الغروبُ؛ لحديثِ سهلِ بنِ سعدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ)[رواه البخاري ومسلم].
ويباحُ له الفطرُ إذا غلبَ على ظنِّه غروبُ الشّمسِ؛ لحديثِ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنها قالت: (أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ)[رواه البخاري]. ويحرمُ فطرُه مع شكِّهِ في الغروبِ؛ فإن أفطرَ ولم تغرُب لزِمَه القضاءُ.
والفطرُ قبلَ صلاةِ المغربِ أفضلُ؛ لقولِ أنسٍ رضي الله عنه: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُّصَلِّيَ
…
) [رواه أبو داود والتّرمذي].
2) تأخيرُ السُّحورِ ما لمْ يخشَ طلوعَ الفجرِ الثّانِي؛ لحديثِ زيدِ بنِ ثابتٍ رضي الله عنه قالَ: (تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ. قُلْتُ: كَمْ كَانَ قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: خَمْسِينَ آيَةً)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم].
والسُّحورُ سنّةٌ بإجماعٍ؛ قال الإمامُ ابنُ المنذرِ في «الإجماعِ» : «وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ السُّحُورَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ» .
3) الزيادةُ فِي أعمالِ الخيرِ؛ كقراءةِ القرآنِ، والذّكرِ، والصّدقةِ، وغيرِها؛ لحديثِ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال:(كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ؛ فَلَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ) [رواه البخاري ومسلم، واللّفظ
للبخاري].
4) قولُه جهراً إذا شُتِمَ: «إنِّي صائمٌ» ؛ لحديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه مرفوعاً، وفيه:(وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ؛ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)[رواه البخاري ومسلم].
5) قولُه عند فطرِهِ: «اللّهمَّ لكَ صمتُ، وعلى رزقِكَ أفطرتُ؛ سُبحانَكَ وبحمدِكَ؛ اللّهمَّ تقبّلْ منِّي إنّكَ أنتَ السّميعُ العليمُ» ؛ لحديثِ ابنِ عباسٍ وأنسٍ رضي الله عنهم قالا: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَفْطَرَ، قَالَ: بِسْمِ الله، اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ، وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ؛ تَقَبَّلْ مِنِّي؛ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[رواه أبوداود والطبرانيُّ في «الدُّعاء»، وضعّفه الهيثميُّ وغيره]. ويقولُ ما رواه ابنُ عمرَ رضي الله عنهما قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللهُ)[رواهُ الدّارقطنيّ].
6) فطرُهُ على رُطَبٍ؛ فإنْ لمْ يجِدْ فعلى تمرٍ؛ فإنْ لمْ يجدْ فعلى ماءٍ؛ لحديثِ أنسٍ رضي الله عنه قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُّصَلِّيَ عَلَى رُطَبَاتٍ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَعلى تَمَرَاتٍ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَمَراتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ)[رواه التّرمذي].
* * *
فصل في صيامِ أهلِ الأعذارِ
أوَّلاً: أقسامُ الناسِ في صيامِ رمضانَ:
ينقسم الناس في صيام رمضان إلى أقسام ثلاثة:
الأوَّل: من يَحرمُ عليه الفِطْرُ ويَجبُ عليه الصَّومُ:
وهو المسلمُ البالغُ العاقلُ المقيمُ القادرُ عليه. فمن لم يكن له عذرٌ يُبِيحُ الفِطرَ، يجبُ عليه الصومُ، ويحرمُ عليه الفِطرُ؛ لأنَّ صومَ رمضان فريضةٌ واجبةٌ، لا تبرأ الذمَّة إلَّا بأدائه.
- فإن أفطرَ عامداً في نهارِ رمضانَ، فيجبُ عليه أربعةُ أمورٍ:
1) الإمساكُ بقيَّة اليومِ؛ تعظيماً لشهر رمضان، ومراعاةً لحُرمتِه، ولأنَّه مأمورٌ بالإمساكِ جميعَ النهارِ؛ فمخالفتُه في بعضِه لا يبيحُ له المخالفةَ في الباقي.
2) قضاءُ اليومِ الذي أفطرَ فيه؛ لما جاء عن ابن عمرَ رضي الله عنهما قال: (مَنْ اسْتَقَاءَ وَهُوَ صَائِمٌ فَعَلَيهِ القَضَاءُ)[رواه مالك في الموطأ]؛ فبيَّن أنَّ من تعمَّد إبطالَ صومِه فإنَّ ذمَّته لا تبرأُ إلَّا بصيامِ يومٍ مكانَه قضاءً.
3) التوبةُ والاستغفارُ؛ لأنَّه بتعمُّدِه الفِطرَ قد أتى بمنكرٍ عظيمٍ، وارتكبَ كبيرةً من الكبائرِ، فيلزمُه أن يتوبَ إلى الله تعالى توبةً نصوحاً.
4) الكفَّارة لمن أفطر بالجماع. وسيأتي بيانها.
الثاني: من يجبُ عليه الفِطرُ ويحرمُ عليه الصومُ:
فهؤلاء يحرمُ عليهمُ الصومُ، ويجبُ عليهمُ الفِطرْ، وهم:
1) الحائضُ والنُّفَساءُ: لحديث مُعاذَة قالت: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: مَا بَالُ الحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ وَلَكِنِّي أَسْأَلُ. قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ)[رواه مسلم].
2) من يحتاجُ إلى الفِطرِ لإنقاذِ معصومٍ من مَهْلَكَةٍ؛ كإنقاذِ الغريقِ أو المحاصرِ بالنيران؛ لأنَّ هذه ضرورةٌ أبيحَ معها فِعلُ المحظور، ولأنَّ الصومَ يمكنُ تدارُكُه بالقضاء؛ بخلافِ النفسِ المعصومةِ فلا يمكنُ تدارُكُها إذا هَلَكَت.
الثالث: من يُسنُّ له الفِطرُ؛ وهم:
1) المسافرُ الذي يُباحُ له قَصْرُ الصَّلاةِ: وذلك لقولِ الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة 184].
- والأفضلُ في حقِّ المسافرِ الفِطْرُ؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لَيْسَ مِنَ البِرِّ أَنْ تَصُومُوا في السَّفَرِ)[رواه البخاري ومسلم]، فإن صامَ أجزأه؛ لحديث حمزة بن عمرو الأسْلَمِيّ رضي الله عنه أنه قال:(يَا رَسُولَ الله أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ في السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ الله فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ)[رواه مسلم].
2) المَريض: وهو الذي أُصيبَ بِعِلَّةٍ أو مَرضٍ يَشُقُّ معه الصَّوم، أو يُؤدِّي إلى تأخُّر شِفائه؛ فيُباحُ له الفِطرُ؛ لقول الله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة 184]. وقد سبق تفصيلُ أحوالِ المريضِ، وما يترتَّبُ عليه من قضاءٍ أو إطعامٍ.
الرابع: من يُباحُ له الفِطرُ؛ وهم:
1) المقيمُ إذا سافرَ في أثناءِ النهارِ سفراً مباحاً يبلغُ مسافةَ القصْر: لعموم قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة 184]. ولا يباح له الفِطْرُ إلَّا بعد مفارقة العمران. والأفضل في حقِّه إتمام الصيام.
2) الحَامِل والمُرْضِع: يباحُ للحاملِ والمرضعِ الإفطارُ في نهارِ رمضانَ لأحدِ سببين:
أ - أنْ تخافا على نَفسَيْهِما: فيباحُ لهما الفِطرُ، وعليهما القضاءُ فقط من غير إطعامٍ؛ لأنَّهما بمنزلةِ المريضِ الذي يخافُ على نفسِهِ.
ب- أنْ تخافا على وَلَدَيْهما: فيباحُ لهما الفِطرُ، ويجبُ عليهما القضاءُ؛ لأنَّهما يَطيقانِ الصيام، وعلى وليِّ الولدِ أن يُطعِمَ عن كلِّ يومٍ أفطرتاهُ مسكيناً؛ لقول الله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة 184]؛ قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: (
…
وَالحُبْلَى وَالمُرْضِعُ إِذَا خَافَتا - قال أبو داود: يعني عَلَى أَولادِهِما- أَفْطَرَتا وَأَطْعَمَتا) [رواه أبو داود].
ثانياً: أحكامُ زوالِ أعذارِ الصيامِ في نهارِ رمضان:
كلُّ من زالَ عُذرُه المانعُ من الصيامِ في أثناء نهارِ رمضان وهو مفطرٌ؛ كالكافر إذا أسلمَ، والحائضِ والنُّفساءِ إذا طهرتا، والمريضِ إذا بَرئ من مرضِه، والمسافرِ إذا قَدِمَ من سفرِه إلى محلِّ إقامتِه، والمجنونِ إذا أفاقَ من جنونِه؛ فيلزمُهم أمران:
1) الإمساكُ بقيَّة النهارِ؛ مراعاةً لحُرْمَة الشَّهرِ، وزوالِ السببِ المُبيحِ للفِطرِ؛ لأنَّ زوالَ السبب لو وُجِدَ قبل الفَجْر أَوْجَبَ الصيام، فإذا طرأ بعد الفَجْر أَوْجَبَ الإمساكَ؛ كما لو ثبتَ الشهرُ بالرؤية في أثناءِ النهارِ.
2) القضاءُ؛ فمن زال عذرُه قبل غروبِ الشمسِ عليه قضاءُ اليومِ الذي زالَ عذرُه فيه؛ لأنَّه أدركَ بعضَ وقتَ العبادةِ فلَزِمَه قضاؤها؛ كالذي يُدرِكُ بعضَ وقتِ الصلاةِ.
- ومن أفطرَ لعُذرٍ في رمضانَ، ليس له أن يصومَ غيرَه فيه؛ كصيام كفَّارةٍ،
أو تطوُّعٍ؛ لأنَّ صيامَ رمضانَ عبادةٌ وقتُها لا يسعُ غيرَ الفَرْضِ الذي فيه.
* * *
فصل في المفطِّراتِ
يَفسدُ الصومُ بإتيانِ شيءٍ من مُفطِّراتِ الصيام، وهي:
1) خروجُ دمِ الحيضِ والنفاسِ:
يبطلُ صيامُ المرأةِ إذا خرجَ دمُ الحيضِ أو النفاسِ قبل الغروب ولو بلحظة، بإجماع أهل العلم؛ والأصلُ في بطلانِ الصيامِ حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَم تُصَلِّ وَلَم تَصُمْ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري]، وحديث مُعاذَة لمّا سألت عائشةَ رضي الله عنها عن قضاءِ الحائضِ الصومَ دون الصلاةِ، فقالت:(كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ)[رواه مسلم].
2) الموتُ:
وهو مفسدٌ للصومِ؛ لأنَّ الموتَ يقطعُ عملَ الإنسانِ، ويُسقطُ التكليفَ؛ وفي الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثةٍ)[رواه مسلم].
3) الرِّدَّةُ:
وهي الرجوعُ عنِ الإسلامِ إلى الكُفْرِ باختيارِه؛ فمن ارتدَّ عن دينِ الله وكان صائماً، فَسَدَ صيامُه؛ لأنَّ الكُفْرَ يُحبِطُ الأعمالَ كلَّها؛ قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر 65]، وقال سبحانه:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان 23].
4) العَزْمُ على الفِطْرِ، والتردُّدُ في الصَّومِ:
إذا نوى الصائمُ الإفطارَ في أثناء النهارِ فقد فَسَدَ صَومُه؛ لأنَّ الصومَ عبادةٌ يُشتَرَطُ لها النيَّة في جميع أجزائِها؛ فإذا فَسَدَتِ النيَّةُ فَسَدَت معها العبادَةُ.
ويَفسُدُ الصومُ أيضاً إذا تردَّد في نيِّة الصومِ؛ لأنَّه لا بدَّ من الجَزْمِ بالنيَّةِ؛ بأنْ يكونَ عازماً على الصومِ.
5) القَيءُ عَمْداً:
يفطرُ الصائمُ إذا تعمَّدَ القَيءَ قليلاً كان أو كثيراً، ويستوي في ذلكَ تعمُّدُه القَيءَ بوضعِ أصبعِهِ في حَلْقِه، أو شمِّ رائحةٍ تثيرُه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (
…
وَمَنِ اسْتَقَاءَ عَمْداً فَلْيَقْضِ) [رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه، واللفظ للترمذي].
6) الاحتقانُ منَ الدُّبرِ:
يَفسدُ الصومَ إذا استعملَ الصائمُ حُقْنةً يحقنُ بها الدواءَ من الدُّبُرِ -وهو ما يُسمَّى بالحُقنِ الشَّرْجيَّة-؛ لأنَّ الدُّبُرَ طريقٌ موصِلٌ إلى الجَوفِ، والمدْخَلُ غير المعتادِ للجوفِ كالمدْخِلِ المعتاد في حُكمِ الواصلِ إليه.
7) بلعُ النُّخامَةِ إذا وَصَلَتْ إلى الفَمِ:
النُّخامَةُ: ما يُلقيه الرَّجُلُ من الصَّدْرِ، وهو البَلْغَمُ اللَّزِجُ، وتسمَّى النُّخاعَة.
فإذا خرجتِ النُّخامَة من الصَّدْر ووصلتِ إلى الفَمِ، فَبَلَعَها الصائمُ متعمِّداً، فقد أفسدَ صومَه؛ لأنَّه لا يَشُقُّ التحرُّزُ منها، وهي تختلفُ عن الرِّيقِ والبُصاقِ؛ لأنَّ مصدرَهُ الفم، بخلافِ النُّخامَةِ.
8) الحِجامَةُ:
وهي امتصاصُ الدَّمِ بالمِحْجَم -وهي القارورةُ التي يُجمعُ فيها دَمُ الحِجامَةِ-.
والحِجامَةُ يَفطُرُ بها الحاجِمُ والمَحجومُ؛ لحديث شدَّاد بن أَوْسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ)[رواه أبو داود وابن ماجه].
9) إنزالُ المَنِيِّ بتَكرارِ النَّظَرِ إلى ما يُثيرُ الشَّهْوَةَ:
- فيفسُدُ الصومُ بذلك؛ لأنَّه إنزالٌ بسببِ التلذُّذِ الذي يمكنُ التحرُّزُ منه.
- فإن أنزلَ من نظرةٍ واحدةٍ، أو بالتفكيرِ، أو الاحتلامِ، لم يفسدِ الصومُ؛ لأنَّ ذلك لا يمكنُ التحرُّزُ منهُ.
- ولا يَفسُدُ الصومُ بخروجِ المَذْي أيضاً، ولو كان بسبب تَكرارِ النظرِ؛ لأنَّه ليس فيه نصٌّ يدلُّ على الفِطْرِ به، وهو يختلفُ في طبيعتِهِ وأحكامِهِ عن المَنِيِّ؛ فيبقَى على الأصلِ.
10) خروجُ المَنِيِّ بشَهْوَةٍ:
يُفسِدُ الصائمُ صومَهُ إذا خرجَ منه المَنِيُّ بشَهْوَةٍ؛ بسببِ تقبيلٍ، أو لمسٍ، أو استِمْناءٍ، أو مباشرةٍ دون الفَرْجِ؛ لأنَّه إنزالٌ عن مباشرةٍ، فأشبَهَ الجِماعَ، وقدْ أومأتْ عائشةُ رضي الله عنها إلى هذا المعنَى فقالت: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ،
وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلَكِنَّهُ أَمْلَكُكُمْ لإِرْبِهِ) [رواه البخاري ومسلم].
11) الأكلُ والشُّرْبُ:
من أكلَ أو شربَ في نهار رمضانَ متعمِّداً فقد أبطلَ صومَهُ بالإجماعِ؛ لقول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة 187]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلي)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري].
12) كلُّ ما وصلَ إلى الجَوْفِ أو الحَلْقِ أو الدِّماغِ:
فكلُّ ما يُدخِلُهُ الصائمُ إلى جَوفِهِ ويصلُ إلى مَعِدَتِه باختيارِه، وكان ممَّا يمكنُه التحرُّزُ منه، فإنَّه يُبطِلُ الصومَ؛ كالقَطْرَةِ في الأَنفِ والأُذُنِ والعَينِ، أو الكُحْلِ في العَينِ، أو الدواءِ الذي يصلُ إلى الدِّماغِ -كما في الجُروحِ العَميقَةِ للرأسِ-، أو مَضَغَ عِلْكَةً (اللِّبان)، أو ذاقَ طعاماً، أو بَلعَ رِيقَه بعد أن وصلَ إلى ما بين شَفَتَيْهِ؛ فكلُّ ذلك يَفطُرُ به إذا عَلِمَ أنَّه يصلُ إلى جَوْفِهِ، أو وَجَدَ طَعْمَهُ في حَلْقِهِ؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم للَقِيطِ بن صَبُرَة:(وَبَالِغْ في الاسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِماً)[رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه]. فدلَّ على أنَّ المبالغةَ في الاستنشاقِ مَظنَّةُ دخولِ الماءِ إلى الجَوفِ فيَفسُدُ به الصيامُ.
- وكلُّ ما سبقَ من المفطِّرات إذا فَعَلَهُ الصائمُ ناسياً أو مكرَهاً؛ فإنَّه لا يَفسُدُ صومُه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّما أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ)[رواه البخاري ومسلم]. فنصَّ
على الأكلِ والشُّربِ، ويقاسُ عليهما بقيَّة المفطِّرات.
وأمَّا عدمُ الفِطرِ بالإكراهِ على تناول المفطِّرات؛ فقياساً على من ذَرَعَهُ القَيءُ وغَلَبَهُ؛ لقول ابن عمرَ رضي الله عنهما: (وَمَنْ ذَرَعَهُ القَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيهِ القَضَاءٌ)[رواه مالك في الموطأ].
- لا يَفسُدُ الصومُ بدخولِ الغُبارِ، أو الذُّبابِ، ونحوهما إلى الحَلْقِ بغير قَصْدٍ، وكذا إذا جَمَعَ الصائمُ رِيقَهُ فبَلَعَهُ؛ لأنَّ هذه الأمور ممَّا يشقُّ التحرُّزُ منها، والله تعالى لا يُكلِّف نفساً إلى وُسْعَها.
13) الجِمَاع:
الجماعُ المفسدُ للصومِ ما يكونُ بالتِقاءِ الخِتانَينِ وتغييبِ الحَشَفَةِ في أحدِ السَّبيلَيْنِ، سواء أَنْزَلَ أم لم يُنْزِلْ؛ فإذا جامعَ الصائمُ في نهارِ رمضانَ فسدَ صومُه، وترتَّب عليه القضاءُ والكفَّارةُ. وسيأتي مزيدُ بيانٍ لأحكامِهِ في الفصلِ الآتي.
* * *
فصل في كفَّارةِ الجِماعِ في نهارِ رمضانَ
أوَّلاً: حُكمُ الرَّجُلِ المُجامِعِ في نهارِ رمضانَ:
مَنْ جامع في نهارِ رمضانَ في قُبُلٍ أو في دُبُرٍ، وهو في حالةٍ يلزمُه فيها الإمساكُ؛ بأنْ لا يكون مسافراً ولا مريضاً، لزمَه القضاءُ والكفَّارةُ، سواءً كان عامداً أم ناسياً، مختاراً أم مُكرَهاً، وسواءً كان من جامَعَهُ آدميًّا -ولو ميِّتاً- أم غيرَه؛ كبهيمةٍ وطيرٍ ونحو ذلك؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:(بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله هَلَكْتُ قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لا! قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لا! فَقَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لا! قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ- وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ- قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أَنَا، قَالَ: خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ الله؟! فَوَالله مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا -يُرِيدُ الحَرَّتَيْنِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ)[رواه البخاري ومسلم].
وأمَّا وجوبُ القضاءِ؛ فلقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم للرَّجل الذي جامَعَ أهلَهُ -كما جاء في بعض روايات هذا الحديث: (
…
وَصُمْ يَوْمًا وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) [رواه أبو داود].
وأمَّا كونُ السَّاهي كالعامدِ، والمُكرَه كالمختار؛ فلأنَّه صلى الله عليه وسلم أمَرَ هذا الأعرابيَّ بالكفَّارة ولم يستفْصِلْهُ: أهو ناسي أم ذاكرٌ؟ أهو مكرَهٌ أم غير مكرَهٍ؟ أهو جاهلٌ أم عالمٌ؟ ولو افترق الحال لَسَألَهُ واستفْصَلَه؛ لأنَّ تأخيرَ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ لا يجوز، ولأنَّ الصومَ عبادةٌ يحرمُ الوطءُ فيها؛ فاستوَى فيه العَمْدُ وغيرُ العَمْدِ؛ كالجِماعِ في الحَجِّ.
ثانياً: حُكمُ المرأةِ التي جامَعَها زوجُها في نهارِ رمضانَ:
أمَّا الزوجةُ التي جامَعَها زوجُها في نهارِ رمضانَ: فإنْ طاوَعَتْهُ على الجِماعِ، ولم تكنْ ناسيةً أنَّها في نهارِ رمضانَ، أو جاهلةً بحُكمِ الجِماعِ في نهارِ رمضانَ؛ فعليها كذلك القضاءُ والكفَّارةُ؛ لأنَّها هَتَكَتْ صومَ رمضانَ بالجماعِ؛ فوَجَبَ عليها القضاءُ والكفَّارةُ، كالرَّجُلِ.
أمَّا إذا كانتِ المرأةُ مكرَهةً أو ناسيةً أو جاهلةً؛ فعليها القضاءُ فقط دون الكفَّارةِ؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:(إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ)[رواه ابن ماجه والحاكم].
ثالثاً: كفَّارةُ الجِماعِ في نهارِ رمضانَ:
والكفَّارةُ هي: عِتْقُ رَقَبَةٍ مؤمِنَةٍ، فإنْ لم يجد فصيامُ شهرينِ متتابعينِ، فإن
لم يستطعْ فإطعامُ ستِّينَ مِسكيناً، فإنْ لم يجدْ سقطتْ عنه الكفَّارة، ووجبَ عليه القضاءُ فقط؛ والدليلُ على ذلك حديثُ الأعرابيِّ السابقُ، بخلافِ سائرِ الكفَّاراتِ
الأخرى؛ ككفَّارةِ الظِّهارِ واليمينِ، وكفَّاراتِ الحَجِّ؛ فإنَّها لا تسقطُ بالعَجْزِ عنها، وإنَّما تبقَى في الذمَّةِ.
- والكفَّارةُ لا تكونُ في شيء من المُفَطِّراتِ في رمضانَ إلَّا في الجِماعِ؛ سواءً أنزلَ أم لم يُنْزِلْ، والمُساحَقَةُ -وهي التي تكونُ بين امرأتينِ- في حالِ الإنزالِ؛ قياساً على الجِماعِ، وما عدا ذلك من المُفطِّراتِ ففيه القضاءُ فقط على التفصيل الذي سَبقَ.
- والكفَّارةُ على الترتيب كما جاء في الحديث؛ فإذا قدرَ على العِتقِ فلا يجوزُ له الصيامُ، وإذا عجزَ عن العِتقِ وقدرَ على الصيامِ فلا يجوزُ له الإطعامُ.
* * *
فصل في قضاءِ ما فاتِ من رمضانَ
أوَّلاً: حُكمُ قضاءِ رمضانَ:
من فاتَه صيامُ رمضانَ كلُّه أو بعضُه لعُذْرٍ أو لغير عُذْرٍ، وجبَ عليه قضاءُ هذه الأيَّامِ الفائتةِ؛ لقول الله عز وجل:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة 185].
ثانياً: كيفيةُ قضاءِ صيامِ رمضانِ:
يستحبُّ له أن يقضيَ ما فاتَه من رمضانَ متتابِعاً على الفورِ -أي بعد انتهاءِ رمضانَ وزوالِ العُذْرِ-؛ لأنَّه أحوطُ وأسرعُ في إبراءِ الذمَّةِ، ويجوزُ له أن يَقضيَهُ مُفَرَّقاً؛ لأنَّ قولَ الله عز وجل:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} جاء مُطلقاً غير مقيَّدٍ بالتتابعِ، ولما ثبت عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّه قال في قضاءِ رمضانَ:(صُمْهُ كَيفَ شِئْتَ)[رواه ابن أبي شيبة].
- وإذا لم يبقَ من أيَّام شعبانَ إلَّا ما يتَّسِعُ للقضاءِ فقط؛ فحينئذٍ يجبُ عليه القضاءُ متتابعاً؛ وذلك لضيقِ الوقتِ، ولحديثِ عائشةَ رضي الله عنها قالت:(كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ في شَعْبَانَ)[رواه البخاري ومسلم].
ثالثاً: تأخيرُ قضاء صيامِ رمضانَ:
إنْ أخَّر القضاءَ لغيرِ عُذْرٍ حتَّى دخلَ عليه رمضانُ آخرُ، فعليه القضاءُ وإطعامُ مسكينٍ عن كلِّ يومٍ؛ لما ثبت عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّه قال:(مَنْ فَرَّطَ فِي صِيامِ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يُدْرِكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ، فَلْيَصُمْ هَذَا الَّذِي أَدْرَكَهُ، ثُمَّ لْيَصُمْ مَا فَاتَهُ، وَيُطْعِمْ مَعَ كُلِّ يَومٍ مِسْكِينًا)[رواه الدارقطني].
- فإنْ ماتَ دونَ أن يقضيَ ما عليه، فالواجبُ حينئذٍ أن يُطْعمَ عنه لكلِّ يومٍ مسكيناً؛ لحديث ابن عمرَ رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:(مَنْ مَاتَ وَعَلَيهِ صِيامُ شَهْرٍ فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكينًا)[رواه الترمذي وقال: الصحيح أنّه موقوف على ابن عمر]. ولا يُصامُ عنه؛ لأنَّ الصومَ الواجبَ بأصلِ الشَّرع لا يُقْضَى عنه؛ لأنَّه لا تَدْخُلُه النِّيابَةُ في الحياةِ، فكذا بعد الموتِ؛ كالصلاةِ.
- أمَّا إنْ كان التأخيرُ لعذرٍ؛ كمرضٍ، أو سَفَرٍ، ونحو ذلك، فلا يجبُ عليه الإطعامُ؛ لعدمِ الدليلِ على وجوبِه، وإنَّما يجبُ عليه القضاءُ بعد زوالِ العُذْرِ.
فإنْ ماتَ قبل زوالِ العُذْرِ فلا شيءَ عليهِ؛ لأنَّه حقٌّ لله تعالى وجبَ بالشَّرعِ، وقد ماتَ مَنْ وجبَ عليه قبلَ أن يتمكَّن من فِعْلِه؛ فيسقطُ إلى غير بَدَلٍ؛ كالحَجِّ.
رابعاً: تقديمُ القضاءِ على صيامِ التطوُّعِ:
لا يصحُّ صومُ التطوُّع قبل أنْ يقضيَ ما عليه من رمضانَ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (
…
وَمَنْ صَامَ تَطَوُّعاً وَعَلَيهِ مِنْ رَمَضَانَ
شَيءٌ لَمْ يَقْضِهِ فَإِنَّهُ لا يُتَقَبَّلْ مِنهُ حَتَّى يَصُومَهُ) [رواه أحمد بإسناد ضعيف]. وقياسًا على الحجِّ في عدمِ جوازِ أنْ يحجَّ عن غيرِه، أو يحجَّ تطوُّعًا قبل حَجِّ الفريضَةِ.
خامساً: تغييرُ نيَّةِ الصومِ من الواجبِ إلى النَّفْلِ:
إذا نَوَى صوماً واجباً أو قضاءً، ثمَّ قَلَبَهُ نفلاً، صحَّ ذلكَ؛ كما في الصلاةِ.
* * *
فصل في صيام التطوع
أوَّلاً: الصيام المستحبُّ:
يستحبُّ للمسلم صيامُ الأيامِ التالية:
1) صيامُ يومٍ وإفطارُ يومٍ؛ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى الله صِيَامُ دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا
…
) [رواه البخاري ومسلم].
2) صيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ من كلِّ شَهْرٍ، ويستحبُّ أن تكونَ أيَّام البِيضِ؛ وهي يومُ الثالثَ عَشَرَ، والرابعَ عَشَرَ، والخامِسَ عَشَرَ من كلُّ شَهْرٍ قَمَرِيٍّ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:(أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِثَلاثٍ: صِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ)[رواه البخاري ومسلم]. ولحديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا أَبَا ذَرٍّ! إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَصُمْ ثَلاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ)[رواه الترمذي والنسائي، واللفظ للترمذي].
وسميت هذه الأيام بيضاً؛ لأنها تبيضُّ ليلاً بالقمر، ونهارًا بالشَّمس.
3) صيامُ يوم الاثنينِ والخميسِ؛ لحديث أسامةَ بن زيدٍ رضي الله عنهما قال: (إِنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الخَمِيسِ، وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ تُعْرَضُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الخَمِيسِ)[رواه أبو داود -واللفظ له- والنسائي].
4) صيامُ سِتَّة أيَّامٍ من شَوَّال؛ لحديث أبي أيُّوب الأنصاريِّ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ)[رواه مسلم].
5) صيامُ شَهْرِ الله المُحَرَّم؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ الله المُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ)[رواه مسلم].
6) صيامُ يومِ عاشُوراءَ -وهو يومُ العاشِرِ من مُحرَّم-؛ لأنَّه يُكفِّرُ سَنَةً كاملةً؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (وصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى الله أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)[رواه مسلم].
7) صيامُ التسعةِ أيَّامٍ الأُولَى من ذِي الحِجَّةِ؛ لحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى الله عز وجل مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ -يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ-. قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله؟ قَالَ: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله، إِلَّا رَجُلًا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)[رواه أحمد وأبو داود والترمذي].
وعن هُنَيدَةَ بن خالدٍ عن امرأتِه عن بعض أزواجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ
…
) [رواه أبو داود -واللفظ له- والنسائي].
8) صيامُ يوم عَرَفَةَ -وهو يومُ التاسِعِ من ذِي الحِجَّة-؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى الله أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتي بَعْدَهُ
…
) [رواه مسلم]. إلَّا في حقِّ الحاجِّ فيستحبُّ له الفِطرُ يوم عَرَفَةَ؛ لفعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: الصيامُ المكروهُ:
يُكْرَهُ للمسلمِ صيامُ الأيَّام التاليةِ:
1) إفراد شهر رجب كاملاً بالصوم؛ لأنَّ أهلَ الجاهلية كانوا يُعظِّمونه، وقد ثبت عن عمرَ رضي الله عنه أنَّه كان (يَضْرِبُ أَكُفَّ الرِّجَالِ فِي صَوْمِ رَجَبٍ حَتَّى [يَضَعُوهَا] فِي الطَّعَامِ وَيَقُولُ: رَجَبٌ وَمَا رَجَبٌ، إِنَّمَا رَجَبٌ شَهْرٌ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلامُ تُرِكَ) [رواه ابن أبي شيبة والطبراني في «الأوسط»، واللفظ له].
- فإن أفطر فيه يوماً أو عدَّة أيَّام زالت الكراهة، قال ابن قُدامة في «المغني»:«قال أحمدُ: وإن صامَه رجلٌ أفطرَ فيه يوماً أو أيَّاماً بقدر ما لا يصومُه كلّه» .
2) صيامُ يوم الجُمُعةِ مُنْفرِداً؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِلاَّ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ)[رواه البخاري ومسلم].
3) صيامُ يوم السَّبتِ منفرداً؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلاَّ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ
…
) [رواه أبو داود والترمذي]، ولأنَّه يوم تُعظِّمُه اليهودُ؛ ففي إفرادِه تشبُّه بهم.
فإن صامَ معه غيره لم يُكْره؛ لحديث جُوَيرِيَة بنت الحارث رضي الله عنها (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَ: أَصُمْتِ أَمْسِ؟ قَالَتْ: لا! قَالَ: تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟ قَالَتْ: لا! قَالَ: فَأَفْطِرِي)[رواه البخاري].
- وكذلك إذا وافقَ يومُ السبتِ يوماً اعتادَ على صيامِهِ؛ كيومِ عَرَفَةَ، ويومِ عاشُورَاءَ؛ فلا كراهة حينئذٍ؛ لأنَّ العادةَ لها تأثير في ذلك.
4) صيامُ يومِ الشَّكِّ -وهو يومُ الثلاثين من شعبانَ إذا لم يكن في السماء غَيْمٌ، أو غبارٌ، ولم يتراءى الناسُ الهلالَ-؛ لقول عمَّار رضي الله عنه: (مَنْ صَامَ اليَومَ الِّذِي يَشُكُّ بِهِ النَّاسُ فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم[رواه البخاري معلقاً، ووصله أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
إلَّا إذا وافقَ هذا اليومُ يوماً تعوَّد الشخصُ صيامِه؛ كيومِ الاثنين، أو الخميس، ونحو ذلك، فلا كراهة حينئذٍ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(لا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ)[رواه البخاري ومسلم].
ثالثاً: الصيام المُحرَّم:
يحرمُ على المسلمِ صيامُ الأيَّام التالية:
1) صيامُ يومَي العِيدِ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الأَضْحَى وَيَوْمِ الْفِطْرِ)[رواه البخاري ومسلم واللفظ له].
2) صيامُ أيَّامِ التَّشريقِ -وهي يومُ الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحِجَّة-؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ)[رواه مسلم].
ويُستثنى مِنْ ذلك مَنْ لم يجدِ الهَدْيَ ممَّن وجبَ عليه الهَدْيُ من الحجَّاج.
* تنبيه:
- إذا صامَ الإنسانُ يوماً تطوُّعاً لم يجب عليه إتمامُه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (قَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ: يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيءٌ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله مَا عِنْدَنَا شَيءٌ. قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَتْ: فَخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَأُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ -أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ- قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ -أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ- وَقَدْ خَبَأْتُ لَكَ شَيْئًا. قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: حَيْسٌ. قَالَ: هَاتِيهِ. فَجِئْتُ بِهِ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا)[رواه مسلم].
والحَيْسُ: هو الخَليطُ من التَّمر والسَّمْن والأَقِطِ.
والزَّوْرُ: أي الزائرون.
- أمَّا إذا صامَ صَوماً واجِباً؛ كقضاءِ رمضانَ، أو صيام كفَّارة، أو نَذْرٍ، ونحو ذلك؛ فيجب عليه أن يُتِمَّه، ولا يجوز له أن يَخرجَ منه بغير عُذْرٍ؛ لأنَّه واجب في ذمَّتِه، وقد تعيَّن بدخولِه فيه؛ فوجبَ عليه أن يُتِمَّه حتَّى تَبرأَ ذمَّتُه، ويخرجَ من عُهْدَتِه؛ إلَّا إذا قَلَبَهُ تطوُّعاً؛ فحينئذٍ يثبتُ له حُكمُ التطوُّع.
* * *
كتابُ الاعتِكافِ
أوَّلاً: تعريفُ الاعتكافِ:
الاعتكافُ هو: لزومُ المسجدِ لطاعةِ الله عز وجل على صفةٍ مخصوصةٍ، منْ مسلمٍ، عاقلٍ، طاهرٍ ممّا يوجبُ غُسْلاً.
ثانياً: حُكمُ الاعتكافِ:
الاعتكافُ مستحبٌّ في كلِّ وقتٍ، وهو في رمضانَ آكدُ؛ خصوصاً في العَشْرِ الأواخرِ؛ لحديثِ عائشةِ رضي الله عنها:(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ عز وجل، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ)[رواه البخاري ومسلم].
ويجبُ الاعتكافُ بالنَّذْرِ؛ لحديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما: (أَنَّ عُمَرَ قَالَ:
يَا رَسُولَ الله! إِنِّي نَذَرْتُ في الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ. قَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ) [رواه البخاري].
قال الإمامُ ابنُ المنذرِ في «الإجماع» : «وَأَجمعُوا على أنّ الاعتكافَ لا يجبُ على النّاسِ فرضاً إلّا أن يُّوجبَه المرءُ على نفسِهِ؛ فيجبُ عليهِ» .
ثالثاً: شروطُ صحّةِ الاعتكافِ:
شروطُ صحّتِهِ سبعةُ أشياءَ:
1) النِّيَّةُ.
2) الإِسلامُ.
3) العقلُ.
4) التّمييزُ؛ كما هو الشّأنُ في سائرِ العباداتِ؛ فلا يصحُّ من كافرٍ، ولا مجنونٍ، ولا طفلٍ؛ لعدمِ النيّةِ المعتبرةِ شرعاً.
5) عدمُ ما يوجبُ الغُسْلَ: لقولِه صلى الله عليه وسلم: (لا أُحِلُّ الَمسْجِدَ لِجُنُبٍ، وَلا حَائِضٍ)[رواه أبو داود وابن ماجه]. فلا يصحُّ من جُنُبٍ ولو متوضِّئاً.
6) كونُ الاعتكافِ بمسجدٍ: لقولِه عز وجل: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة 187]. فلا يصحُّ بغير مسجدٍ؛ باتّفاق العلماء.
7) أن يَّكونَ المسجدُ ممّا تقامُ فيهِ الجماعةُ؛ في حقِّ منْ تلزمُه الجماعةُ؛ لئلّا يَتركَ الجماعةَ، وهي واجبةٌ عليهِ، أو يَتكرّرَ منه الخروجُ المنافِي للاعتكافِ، وهو يمكنه التّحرُّزُ منه.
* ما يدخلُ فيِ المسجدِ:
1) يدخلُ فيِ المسجدِ ما زِيدَ فيهِ؛ حتّى في الثّوابِ؛ كالمسجدِ الحرامِ، ومسجدِ المدينةِ أيضاً؛ لعمومِ الحديثِ:(صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ)[رواه البخاري ومسلم].
2) سَطْحُهُ؛ لعمومِ الآيةِ: {فِي الْمَسَاجِدِ} .
3) رَحْبَتُهُ المَحُوطَةُ؛ لأنّها معَهُ، وهي تابعةٌ لهُ.
4) منارتُهُ الّتِي هيَ أو بابُها في المسجِدِ؛ لأنّها في حكمِهِ، وهي تابعةٌ لهُ.
* نذرُ الاعتكافِ في مسجدٍ معيّنٍ:
منْ نذَرَ الاعتكافَ بمسجدٍ معيّنٍ غيرِ المساجدِ الثّلاثةِ -المسجد الحرام، والنّبويّ، والأقصى-: لم يتعيّنْ، ويُخيَّرُ بين الاعتكافِ بهِ أو بغيرهِ؛ لأنّ اللهَ تعالى لمْ يُعيّنْ لعبادتِهِ مكاناً؛ فلمْ يتعيَّنْ بالنّذرِ؛ كمنْ نذَرَ صلاةً بغيرِ المساجدِ الثلاثةِ.
ومن نَذَرَ اعتكافاً في أحدِ المساجدِ الثّلاثةِ لم يجزِئْهُ في غيرِهِ إلّا أن يّكونَ أفضلَ منهُ؛ فمن نَذَرَ فِي المسجدِ الحرامِ لمْ يجزِئْهُ غيرُهُ، ومنْ نذَرَ في مسجدِ المدينةِ أجزأَهُ فيهِ وفيِ المسجدِ الحرامِ، ومنْ نذَرَ فيِ الأَقْصَى أجزأَهُ في الثلاثةِ؛ لحديث جابر رضي الله عنه:(أَنَّ رَجُلاً قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! إِنِّي نَذَرْتُ لله إِنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ في بَيْتِ المَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: صَلِّ هَا هُنَا. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ: صَلِّ هَا هُنَا. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ: شَأْنَكَ إِذًا)[رواه أبو داود].
رابعاً: مُبطلاتُ الاعتكافِ:
يبطلُ الاعتكافُ بأحد الأمور التالية:
1) الخروجُ منَ المسجدِ لغيرِ عُذْرٍ؛ لحديثِ عائشة رضي الله عنها قالت: (كَانَ -تعني: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلاَّ لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا)[رواه البخاري ومسلم]. وقولِها: (السُّنَّةُ عَلَى المُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إِلاَّ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ)[رواه أبو داود]. وإذا خرَجَ ناسياً لم يبطُلْ.
2) نيّةُ الخروجِ من المسجدِ، ولَوْ لمْ يخرُجْ؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم:(إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)[رواه البخاري ومسلم].
3) الوطءُ فِي الفَرْجِ ولو ناسياً؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة 187]. وإذا حرُمَ الوطءُ في عبادةٍ أفسدَها؛ كالصّومِ والحجِّ.
4) الإنزالُ بالمباشرةِ دونَ الفَرْجِ؛ لعمومِ الآيةِ السّابقةِ.
5) الرِّدَّةُ؛ لقولِه تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر 65].
6) السُّكْرُ؛ لخروجِ السَّكرانِ عن كونِهِ منْ أهلِ العبادةِ.
* حكمُ الاعتكافِ إذا فسَدَ:
إذا بطلَ الاعتكافُ بخُروجٍ ونحوِهِ؛ فلا يخلُو من أن يكونَ تطوُّعاً أو نَذْراً:
1) فإنْ كانَ الاعتكافُ تطوُّعاً: خُيِّرَ بين الرجوعِ إلى المعتكَفِ وعدمِهِ؛ لعدمِ وجوبِ الاعتكافِ بالشُّروعِ فيهِ.
2) وإن كانَ الاعتكافُ نذراً، وجبَ الرجوعُ، ثمَّ لا يخلُو حالُ النَّاذِرِ من أحدِ ثلاثةِ أحوالٍ:
الأوّلُ: أن يكونَ النّذرُ غيرَ متتابعٍ ولا مقيَّدٍ بزمنٍ؛ كنَذْرِ عشرةِ أيّامٍ مع الإطلاقِ؛ فهذا لا يلزمُهُ قضاءٌ إلاّ اليوم الّذي أفسده، ويُتمُّ ما بقيَ عليهِ من الأيّامِ؛ معتدًّا بما مضى، ولا كفّارةَ عليهِ؛ لأنّه أتى بالمنذورِ على وجهِهِ.
الثّاني: أن يكونَ النّذرُ متتابعًا غيرَ مقيَّدٍ بزمنٍ؛ كأن يقولَ: «لله عليّ أن أعتكفَ عشرةَ أيّامٍ متتابعةٍ» -فاعتكفَ بعضَها، ثمّ خرج مثلاً-؛ فيخيّرُ بين البناءِ على ما مضى؛ بأن يقضيَ ما بقِيَ من الأيامِ فقط، وعليهِ كفارةُ يمينٍ؛ جبراً لفواتِ التّتابعِ، أو استئنافِ الاعتكافِ من جديد، ولا كفارةَ عليهِ؛ لأنّه أمكنَهُ الإتيانُ بالمنذورِ على وجهِهِ؛ فلمْ يلزمْهُ شيءٌ.
الثّالثُ: أن يكونَ النّذرُ مقيَّداً بزمنٍ معيّنٍ-كالعشرِ الأواخرِ من رمضانَ-؛ فعليهِ قضاءُ ما تركَ بعد رمضانَ؛ ليأتيَ بالواجبِ، وعليه كفارةُ يمينٍ؛ لتركِهِ فعلَ المنذورَ في وقتِهِ.
خامساً: ما يُباحُ للمعتكفِ، ولا يُبطِلُ الاعتكافَ:
يُباحُ للمعتَكِفِ ما يلي:
1) الخروجُ من المسجدِ لبولٍ، أو غائطٍ، أو طهارةٍ واجبةٍ، أو لإزالةِ نجاسةٍ، أو لجُمُعةٍ تلزمُهُ، ولا قضاءَ لزمنِ خروجِهِ، ولا كفَّارةَ عليهِ.
2) الخروجُ للإتيانِ بمأكلٍ أو مشربٍ؛ لعدمِ من يأتيهِ بهِ؛ لأنّ ذلك لا بُدَّ له منهُ؛ فيدخلُ في عمومِ الحديثِ السّابقِ: (كَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلاَّ لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا).
3) السؤالُ عنِ المريضِ وغيرِهِ فِي طريقِهِ دونَ أن يقفَ؛ لقولِ عائشةَ رضي الله عنها: (إِنْ كُنْتُ لأَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ وَالمَرِيضُ فِيهِ، فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إِلاَّ وَأَنَا مَارَّةٌ)[رواه البخاري ومسلم].
4) أن يمشيَ على عادتِهِ منْ غيرِ عَجَلةٍ إذا خرجَ لعذرٍ؛ لأنّ ذلكَ يشقُّ عليهِ.
سادساً: الاعتكافُ مُدَّةَ اللُّبثِ في المسجدِ:
يستحبُّ لمن قَصَدَ المسجدَ أن ينويَ الاعتكافَ مُدَّةَ لُبثِهِ فيهِ؛ لا سيِّما إنْ كانَ صائماً.
* * *
كتابُ الحَجِّ
أوَّلاً: تعريفُ الحَجِّ:
الحَجُّ: -بفتحِ الحاءِ وكَسْرِها، والفتحُ أشهرُ- لغةً: القَصْدُ.
وشَرْعاً: قَصْدُ مَكَّةَ للنُّسُكِ في زَمَنٍ مخصوصٍ.
ثانياً: حكمُ الحَجِّ:
الحجُّ أحدُ أركانِ الإسلامِ الخمسةِ؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْت، وَصَوْمِ رَمَضَانَ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ له].
والحجُّ واجبٌ مع العُمْرَةِ مرَّةً واحدةً في العُمُر على كلِّ مُسلمٍ ومُسلِمةٍ إذا توفَّرت شروطُ وجوبِهما؛ لقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران 97]، ولحديث أَبي هُريرةَ رضي الله عنه قال:(خَطَبَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ الله عَلَيْكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا. فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ الله؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ)[رواه مسلم]، ولحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:(قَدْ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ في الحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)[رواه أبو داود والترمذي، واللفظ له].
ثالثاً: شروطُ وجوبِ الحَجِّ:
يُشترَطُ لوجوبِ الحجِّ ستَّةُ شروطٍ:
1) الإسلامُ: فالكافر لا يجب عليه الحج، ولا يصحُّ منه؛ لأنَّه ليس من أهل العبادات، ولأنَّه ممنوعٌ من دُخولِ الحَرَمِ.
2) العقلُ: فلا يجبُ الحجُّ على المجنون ولا يصحُّ منه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ
…
وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ) [رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
3) البلوغُ: فلا يجبُ الحجُّ على الصبيِّ للحديث السابق، وفيه:(وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ). لكن يصحُّ منه الحجُّ حتّى لو كان غير مميِّزٍ؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: (رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله! أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ)[رواه مسلم].
ولا يجزئه ذلك عن حجَّة الإسلام وعُمْرتِه، فإذا بلغَ فعليه الحجُّ والعُمْرةُ إذا وجدَ إلى ذلك سبيلاً؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ، ثُمَّ بَلَغَ الْحِنْثَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى
…
) [رواه الحاكم والطبراني والبيهقي].
4) كمالُ الحُرِّيَّة: فلا يجبُ الحجُّ على العَبدِ، لكنَّه لو حجَّ فحَجُّه صحيح، إلَّا أنَّه لا يجزئه عن حجَّة الإسلام وعُمْرتِه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ، ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى)[رواه الطبراني والحاكم والبيهقي].
- إذا بلغَ الصبيُّ، أو عتق العبدُ أثناء الحجِّ، وأدركَ الوقوفَ بعَرَفَة؛ فإنَّ ذلك
يجزئه عن حجَّة الإسلام؛ لأنَّه أتى بالنُّسُك حالَ الكمالِ فيجزئه، ولما ثبت عن قَتادَةَ وعَطاءَ أنَّهما قالا:«إِذَا أُعْتِقَ المَمْلُوكُ، أَوِ احْتَلَمَ الغُلامُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَشَهِدَ المَوْقِفَ؛ أَجْزَأَ عَنْهُ» [رواه أبو بكر القطيعي في كتاب المناسك].
إلَّا في حالة ما لو أحرمَ الصبيُّ بالحجِّ فقط، أو قارِناً الحجَّ مع العُمْرة لكنَّه سَعَى بين الصَّفا والمروَةَ بعد طوافِ القدومِ، ثمَّ بلغَ الصبيُّ؛ فحينئذٍ لا يجزئه هذا الحجُّ عن حجَّة الإسلام؛ لوقوع السَّعي في غير وقتِ الوجوبِ؛ كما لو كبَّر للإحرام بالصلاة ثمَّ بلغَ. ولو أعادَ السَّعيَ بعد البلوغِ فإنَّه لا يجزئه كذلك؛ لأنَّه لا يُشرَعُ تَكرارُ السَّعي، ولا مجاوزة عَدَدِه.
- إذا بلغَ الصبيُّ أثناءِ العُمْرةِ قبل طوافها، ثمَّ طافَ وسَعَى؛ فإنَّ ذلك يجزئه عن عُمْرةِ الإسلامِ.
5) الاستطاعةُ: وهي مِلْك زَادٍ -من مأكَلٍ ومشْرَبٍ وملْبَسٍ-، وراحِلَةٍ-أي ما يركبُه في رحلته إلى الحجِّ- تصلحُ لمثلِه، أو يكون معه من المال ما يستطيع به تحصيل ذلك؛ لقول الله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ، وقد جاء بيانُ السَّبيل في حديث أنسٍ رضي الله عنه قال:(قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: الزَّاد وَالرَّاحِلَة)[رواه الدارقطني والحاكم]، ولأنَّ الحجَّ عبادةٌ تتعلَّق بقَطْعِ مسافةٍ بعيدةٍ؛ فاشُترِطَ لوجوبِه الزادُ والرَّاحلةُ؛ كالجهاد.
- لكن يُشترَطُ أن يكون ذلك فاضلاً عمّا يحتاجُه من كُتُب، ومَسْكَنٍ، وقَضاءِ دَيْنٍ، ونحو ذلك؛ لأنَّ هذه تعتبر حوائج أصليَّة له؛ فتُقدَّم على الحجِّ. وكذا أن يكون
فاضلاً عن نفقتِه ونفقةِ عِيالِه على الدوام؛ لأنَّ النفقةَ متعلِّقةٌ بحقوقِ الآدميِّين، وهم أحوجُ، وحقُّهم آكدُ، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:(كَفَى بِالمَرْءِ إِثْماً أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ)[رواه مسلم].
6) المَحْرَمُ بالنسبةِ للمَرأةِ: فيشترطُ لوجوبِ الحجِّ على المرأةِ أن تجدَ مَحْرَماً يخرجُ معها للحجِّ؛ سواءً كان زوجاً أو غيرَه من محارمِها؛ كأبٍ، أو أخٍ، أو عمٍّ،
أو ابنٍ، فإن لم تجد مَحْرَماً فلا يجب عليها الحجُّ؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَا تُسَافِرْ المَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري].
* ويُشترط في المَحْرَم شرطان:
أ - أن يكون مُكَلَّفاً: بأن يكون بالغاً عاقلاً؛ فلا يصحُّ أن يكونَ الصغيرُ والمجنونُ مَحْرَمين؛ لأنَّه لا يحصلُ بهما المقصودُ من حِفْظِ المرأةِ وصيانتِها. ويشترطُ كذلك أن يكون مُسلماً؛ لأنَّ الكافر لا يُؤمَنُ عليها.
ب- أن تَقْدِرَ المرأةُ على نفقتِه ونفقتِها في الحجِّ؛ لأنَّ ذلك من السَّبيلِ إلى الحجِّ فيُشترَطُ القدرةُ عليه. فإذا قَدِرت على نفقتِها ولم تقدرْ على نفقتِه فلا يجبُ الحجُّ عليها. وكذا لو تبرَّع المَحْرَمُ بنفقتِه فلا يجبُ عليها الحجُّ أيضاً؛ لأنَّ في ذلك مِنَّةً عليها.
- فإذا حجَّتِ المرأةُ بدون مَحرَمٍ فهي آثمةٌ؛ لأنَّها سافرت بلا مَحرَمٍ، وقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في الحديث السابق، لكنَّه يجزئها عن حجَّة الإسلامِ.
- فمن اكتملت له هذه الشروطُ، وكان الطريق آمناً، لزمه السعيُ بنفسه إلى الحجِّ فوراً -أي في العام نفسِه-، ولو أخَّرَهُ بدون عُذْرٍ يكون آثماً؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(تَعَجَّلُوا إلَى الحَجِّ -يَعْنِي الْفَرِيضَةَ- فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ)[رواه أحمد]. واعتبارُ أَمْنِ الطريق؛ لأنَّ إيجابَ الحجِّ مع كون الطريق غير آمنٍ فيه ضررٌ، والضررُ منفيٌّ شرعاً؛ كما هو معلوم.
رابعاً: النيابة في الحجِّ:
إذا توفَّرت هذه الشروطُ لكنَّه عجزَ عن الذهاب إلى الحجِّ لعذرٍ؛ كأن يكون كبيراً في السنِّ، أو يكون مريضاً مرضاً لا يُرجَى بُرؤه فحينئذٍ يلزمه أن يُقيم نائباً يحجُّ ويعتمرُ عنه، حتَّى لو كان هذا النائبُ امرأةً؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما، عن الفَضْل بن عبَّاس رضي الله عنه (أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله! إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلَيْهِ فَرِيضَةُ الله في الحَجِّ، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَحُجِّي عَنْهُ) [رواه البخاري ومسلم، واللفظ له]. فهذا يدلُّ على جوازِ نيابَةِ المرأةِ عن الرَّجلِ في الحجِّ عند العُذْرِ؛ فالرَّجلُ من باب أَولَى.
- ويجزئه حجُّ النائبِ عنه، إلَّا إذا زال عُذْرُه قبل إحرام نائبه؛ فحينئذٍ لا يجزئه حجُّ النائبِ عنه؛ لقُدْرتِه على الحجِّ قبل شروعِ نائبهِ في الإحرام بالحجِّ عنه.
- وإذا ماتَ -مَنْ لزمه الحجُّ- قبل أن يستنيبَ؛ فحينئذٍ يجبُ أن يُخْرَجَ من تَرِكَتِه ما يكفي لحجَّةٍ وعُمْرةٍ، وتُدفَعُ لمن يحجُّ ويعتمرُ عنه؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله
عنهما (أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللهَ فَاللهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ)[رواه البخاري].
خامساً: شروطُ صحَّة النيابَةِ في الحجِّ:
يشترطُ في النائبِ الذي يحجُّ عن غيرِه ما يلي:
1) أن يحجَّ من بلدِ الذي أنابَه؛ لأنَّه وجبَ عليه الحجُّ فيه؛ فمثلاً: إذا كان من أهلِ الكُويتِ، ووجبَ عليه الحجُّ وهو في الكُويتِ؛ فيجبُ عليه أن يقيمَ النائبَ من الكُويتِ، فلو أقام نائباً من بلدٍ آخر لم يجزئه.
2) أن يكونَ قد حجَّ عن نفسِهِ، فإن لم يكن قد حجَّ عن نفسِهِ فلا يصحُّ حجُّهُ عن غيره، فإن فعلَ انصرفَتْ هذه الحجَّة إلى نفسهِ؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ: مَنْ شُبْرُمَةَ؟ قَالَ أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي. قَالَ: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا! قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ) [رواه أبو داود وابن ماجه]. ولفظُ ابن ماجه: (فَاجْعَلْ هَذِهِ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ).
* * *
بابُ الإحرامِ
أوَّلاً: معنى الإحرامِ:
الإحرامُ هو: نيَّة الدُّخول في أحَدِ النُّسُكَين الحجِّ أو العُمْرةِ. وهي نيَّة خاصَّة تختلفُ عن نيَّة المسافر ليحجَّ أو يعتمِرَ، أو نيَّة التجرُّد من المَخيطِ، أو الامتناعِ عن المحظوراتِ.
ثانياً: مواقيتُ الإحرامِ المكانيَّة:
المواقيتُ المكانيَّة: هي تلك الأماكنُ التي لا يجوزُ لمن أراد الحجَّ والعُمْرةَ أن يتجاوزَها إلَّا وهو مُحرِمٌ.
فيجبُ على من أراد الحجَّ أو العمرة أن لا يتجاوزَ المواقيتَ التي حدَّدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَّا وهو مُحرِمٌ؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: (إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ. هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ
…
) [رواه البخاري ومسلم].
والمواقيتُ المكانيَّة خمسةٌ، وردَ بيانُها في حديث ابن عبَّاس -السابق-، وحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مُهَلُّ أَهْلِ المَدِينَةِ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَالطَّرِيقُ الآخَرُ الجُحْفَةُ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، وَمُهَلُّ أَهْلِ
نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ) [رواه مسلم]. وبيانها على التفصيل:
1) ذو الحُلَيْفَة: وتُسمَّى الآن (أَبْيار عليٍّ)، وهو ميقاتُ أهلِ المدينةِ، ومن مرَّ بها من غير أهلها متَّجهاً إلى مكَّةَ.
2) الجُحْفَة: وتقعُ قُربَ مدينة (رَابِغ) التي أصبحت فيما بعد ميقاتَ أهلِ الشامِ، ومِصرَ، والمغربِ، ومن جاء من طريقهم.
3) قَرْنُ المَنازِل: ويُطلَق عليها اسم (السَّيْل الكَبير)، وهو ميقاتُ أهل نَجْدٍ، ومن جاء من طريقهم.
4) يَلَمْلَمْ: وتُسمَّى الآن (السَّعْدِيَّة)، وهو ميقاتُ أهلِ اليَمَنِ، ومن جاء من طريقهم.
5) ذات عِرْق: وتُسمَّى الآن (الضَّريبَة) وهو ميقاتُ أهلِ العِراقِ، وشمالِ نَجْدٍ، ومن جاء من طريقهم.
ومن كان منزلُه دون هذه المواقيت، فميقاتُه منزلُه؛ فيجبُ عليه أن يُحرِمَ منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عبَّاس رضي الله عنه السابق-: (
…
وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ) [رواه البخاري ومسلم].
ثالثاً: ما لا يَنعَقِدُ معهُ الإحْرامُ:
لا ينعقدُ الإحرامُ إذا كان المُحرِمُ في حالِ الجنونِ، أو الإغْماءِ، أو السُّكْرِ؛ لأنَّ من كان هذا حالُه فلا يُتصوَّرُ وجودُ النيَّة منه مع غيابِ عَقْلِهِ.
رابعاً: ما يَبطلُ به الإحرامُ:
إذا انعقدت نيَّةُ الإحرامِ، فلا تبطلُ إلَّا إذا ارتدَّ المُحرِمُ عن الإسلامِ؛ لقوله تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر 65].
خامساً: ما يُفسدُ الإحرامَ:
أجمعَ العلماءُ على أنَّ الإحرامَ يفسدُ بالجِماع عمْداً أو سَهْواً، فإذا وَطِئَ المُحرِمُ بالحجَّ وكان قبل التحلُّلِ الأوَّلِ فَسَدَ حجُّه، ويلزمُه إتمامُ نُسُكِه، وعليه القضاءُ، -وهذا بخلافِ الحجِّ الباطلِ-؛ لما رُوي عن عمرَ وعليٍّ وأبي هُريرَةَ رضي الله عنهم أنَّهم سُئلوا عن رجلٍ أصابَ أهلَهُ وهو مُحرِمٌ بالحجِّ، فقالوا:(يَنْفُذَانِ يَمْضِيَانِ لِوَجْهِهِمَا حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا، ثُمَّ عَلَيْهِمَا حَجُّ قَابِلٍ وَالهَدْيُ)[رواها مالك في الموطّأ بلاغاً، وضعفها ابن الملقّن]، ولأنّه وَطْءٌ صادفَ إحراماً تامًّا فأفسدَه.
أمّا إذا كان الوطءُ بعد التّحلّلِ الأوّلِ؛ فإنّه لا يفسدُه.
- ولا تفسدُ العَمْرةُ بالوَطءِ إلّا إذا كان قبل الفراغِ من السَّعي؛ فإن كان بعدَ الفراغِ منه وقبلَ الحَلْق لم تَفسُد؛ كالوطءِ في الحجِّ بعد التّحلّلِ الأوّلِ.
سادساً: أنواعُ النُّسُكِ:
يقعُ الإحرامُ بالنُّسُكِ على ثلاثةِ وجوهٍ؛ هي:
1) الإِفْرادُ: وهو أن يُحرِمَ بالحجِّ وَحْدَهُ، فيقول:(لبَّيكَ اللهمَّ حَجًّا).
2) القِرَانُ: وهو أن يُحرِمَ بالحجِّ والعُمْرَةِ معاً، أو يُحرِمَ بالعُمْرَةِ ثمَّ يُدخِلُ عليها الإحرامَ بالحجِّ قبلَ الطوافِ.
فإنْ أحرمَ بالحجِّ أوَّلاً ثمَّ أرادَ أن يُدخِلَ عليه العُمْرَةَ لم يصحَّ، ولا يُعدُّ قارِناً بهذه الصفَةِ، ولا يترتَّب عليه شيءٌ؛ لأنَّه لم يَرِدْ بهِ النصُّ الشرعيُّ، ولم يستَفِدْ به فائدةً.
3) التَّمَتُّعُ: وهو أن يُحرِم الحاجُّ بالعُمْرةِ في أشهرِ الحجِّ، فإذا فرغَ منها وتحلَّل أحرمَ بالحجِّ من مكَّة في عامِهِ.
- والمسلمُ مخيَّرٌ بين هذه الأنساكِ الثلاثةِ؛ لما روت عائشةُ رضي الله عنها قالت: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، فَلَوْلَا أَنِّي أَهْدَيْتُ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ. قَالَتْ: فَكَانَ مِنَ الْقَوْمِ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِالحَجِّ. قَالَتْ: فَكُنْتُ أَنَا مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ
…
) [رواه البخاري ومسلم].
- وأفضلُ هذه الأنساكِ الثلاثةِ التمتُّعُ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمَرَ أصحابَه ممَّن أهَلَّ بالحجِّ أن يتحلَّلوا ويجعلوها عُمْرةً، إلَّا من كان قارِناً وساقَ الهَدْي، وقال:(وَلَولا هَدْيِي لَحَلَلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ، وَلَو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَم أَسُقِ الهَدْيَ فَحِلُّوا، فَحَلَلْنَا وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)[رواه البخاري ومسلم]. فنَقَلَهُم من الإفرادِ والقِرانِ إلى التمتُّع، ولا ينقلُهُم عليه الصلاة والسلام إلَّا إلى الأفضلِ.
- ومن أحرَمَ وأطلَقَ من غيرِ تحديدِ نُسُكِهِ، صحَّ إحرامُهُ، وصَرَفه إلى ما شاء؛ لأنَّ الإحرامَ يصحُّ مع الإبهام؛ وهو أن يقولَ:«أُحرِمُ بما أحرَمَ به فلان» ، فيصحُّ مع الإطلاق. وما عُمِلَ قبل التحديد فلَغْوٌ؛ لما روى جابرٌ رضي الله عنه قال:(فَقَدِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه بِسِعَايَتِهِ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بِمَ أَهْلَلْتَ يَا عَلِيُّ؟ قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ)[رواه البخاري ومسلم].
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: (قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُنِيخٌ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: هَلْ سُقْتَ مِنْ هَدْيٍ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، ثُمَّ حِلَّ. فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ
…
) [رواه البخاري ومسلم].
- والسُّنَّة لمن أراد نُسُكاً أن يُعَيِّنَه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها؛ وفيه: (فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالحَجِّ)[رواه البخاري ومسلم].
- ويُسنَّ له أن يَشترِطَ فيقول: (اللهمَّ إنِّي أريدُ النُّسكَ الفلانيَّ، فيسِّرهُ لي وتقبَّلْه منِّي، وإن حَبَسَني حابِسٌ، فَمَحِلِّي حيثُ حَبَسْتني)؛ لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَهَا: لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الحَجَّ؟ قَالَتْ: وَالله لَا أَجِدُنِي إِلَّا وَجِعَةً. فَقَالَ لَهَا: حُجِّي وَاشْتَرِطِي وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي)[رواه البخاري ومسلم].
* * *
باب محظورات الإحرامِ
أوَّلاً: تعريفُها:
محظوراتُ الإحرامِ: هي الأشياءُ الّتي يَحرُمُ على المُحرِمِ فِعلُها شَرْعاً.
ثانياً: أقسامُ المحظوراتِ:
هي تسعةُ أشياءَ:
أحدُها: تَعمُّدُ لُبسِ المخيطِ على الرّجالِ حتّى الخُفّينِ أو القُفّازينِ؛ لحديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ؟ قَالَ: (لَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعِمَامَةَ، وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ، وَلَا الخُفَّيْنِ إِلاَّ أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْهُمَا؛ حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ)[رواه البخاري ومسلم]. ويلحقُ بهذهِ الأشياءِ ما في معناها ممَّا يحيطُ بالبدنِ
أو ببعضِهِ؛ مثلُ: الجُبّةِ، والدَّرَّاعةِ، والتُّبانِ، ونحوِ ذلك.
وإذا لم يجدِ المُحرِمُ إزاراً فلهُ لُبسُ السّراويلِ، وإذا لم يجدِ نَعلينِ فلهُ لُبسُ الخُفّينِ، وإذا لبِسهما لا يقطعُهما ولا فديةَ عليهِ؛ لحديثِ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يَخطُبُ بعَرَفاتٍ: (مَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ؛ لِلْمُحْرِمِ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري].
الثّاني: تَعمُّدُ تغطيةِ الرّأسِ من الرَّجُلِ؛ ولو كانتِ التّغطيةُ بحِنّاءٍ ونحوِها،
أو استظلالٍ بمَحمَلٍ (وهو المظلّةُ)؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم في المُحرمِ الّذِي وقَصَتهُ -كسرَتْ عنقَهُ- ناقتُه: (وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا)[رواه البخاري ومسلم]، ولقولِ ابنِ عمر رضي الله عنهما:«أَضْحِ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ» [رواه البيهقي]؛ أي: ابرُزْ للشّمسِ.
وفي روايةٍ عن الإمام أحمد: أنّه يجوز له الاستظلالُ بالمحمَلِ؛ كما يجوزُ له الاستظلالُ بالخيمةِ، والثّوبِ على عودٍ أو شجرةٍ؛ لحديثِ جابر رضي الله عنه في صفةِ حجّتِهِ صلى الله عليه وسلم، وفيه:(وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ)[رواه مسلم]، وحديثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ رضي الله عنها قالت:(حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ؛ فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالاً وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَالآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ؛ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ)[رواه مسلم].
وإنْ حملَ المُحرمُ على رأسِهِ طبقاً، أو وضع يدَهُ عليهِ؛ فلا بأسَ بذلك؛ لأنّه
لا يُقصدُ به السَّترُ.
كما يحرمُ تعمُّدُ تغطيةِ الوجهِ من الأُنثى بنقابٍ وغيرِهِ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (وَلَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ)[رواه البخاري].
ولكنْ يجوزُ لها أن تسدلَ على وجهِها للحاجةِ -كمرورٍ رجالٍ بها-؛ لقولِ فاطمةَ بنتِ المنذرِ: (كُنَّا نُخَمِّرُ وُجُوهَنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ، وَنَحْنُ مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) [رواه مالك]، ولا يضرُّ لَمسُ المسدولِ لوجهِها.
الثّالثُ: قصدُ شمِّ الطِّيبِ، أو مسِّ ما يعلَقُ منه بالممسوسِ، أو استعمالِه في أكلٍ أو شربٍ؛ بحيثُ يظهرُ طعمُه أو ريحُه؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم في الّذِي وقَصَتهُ ناقتُه:(وَلَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ)[رواه البخاري ومسلم].
كما لا يجوزُ له لُبسُ ثوبٍ مطيَّبٍ؛ لأنَّ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم لما سُئلَ عمّا يُلبَسُ من الثيابِ في الإحرامِ قال: (وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ)[رواه البخاري ومسلم].
فمنْ لبِس أو تطيَّبَ أو غَطَّى رأسَه ناسياً أو جاهلاً أو مكرَهاً؛ فلا شيءَ عليهِ؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)[رواه ابن ماجه والحاكم].
ومتى زالَ عُذرُه؛ بأن ذكرَ النّاسي، أو علمَ الجاهلُ، أو زالَ الإكراهُ: وجب عليهِ إزالةُ المحظورِ في الحالِ، وإلّا وجبتْ عليهِ الفديةُ؛ لاستدامتِهِ المحظورَ من غيرِ عُذرٍ.
الرابعُ: إزالةُ الشَّعرِ من جميعِ البدنِ بحلقٍ أو بغيرِهِ، ولوْ من الأنفِ؛ لقولِه
عز وجل: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة 196]؛ فنصَّتِ الآيةُ على حلقِ شعرِ الرّأسِ، وأُلحقَ بهِ سائرُ شعرِ البدنِ.
الخامسُ: تقليمُ الأظفارِ من يدٍ أو رجلٍ بلا عُذرٍ؛ للإجماعِ على تحريمِ ذلكِ؛ فإنِ انكسَر فلهُ إزالتُه.
السّادسُ: قتلُ صيدِ البرِّ الوحشيِّ المأكولِ؛ لقولِهِ تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ} إلى قولِه: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة 95، 96].
وتحرمُ على المحرمِ الدِّلالةُ على الصّيدِ، والإعانةُ على قتلِهِ؛ لحديث أبي قتادة رضي الله عنه؛ حيثُ اصطادَ حماراً وحشيًّا ولم يكنْ مُحرِماً؛ فخشي الصّحابةُ الّذين كانوا مُحرِمينَ حُرمةَ أكلِه؛ فلمّا سألُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لهم:(أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا! قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا)[رواه البخاري ومسلم].
ويحرمُ عليهِ إفسادُ بيضِ الحيوانِ الوحشيِّ؛ لما رواهُ عكرمةُ عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه قال: (في بَيْضِ النَّعَامِ يُصيبُهُ المُحْرِمُ ثَمَنُهُ)[رواه عبد الرّزاق].
ويحرمُ عليهِ قتلُ الجَرادِ، والقَمْلِ؛ لأنّ الجرادَ طيرٌ بريٌّ؛ فأشبَهَ العصافيرَ، والقمْلَ يُتَرَفَّهُ بإزالتِهِ كإزالةِ الشّعرِ.
ولا يحرمُ على المحرمِ قتلُ البراغيثِ ونحوِها؛ بل يُسنُّ قتلُ كلِّ مُؤذٍ مطلقاً في الحرمِ والإحرامِ، ولا جزاءَ فيهِ؛ لحديثِ عائشةَ رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال:(خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ في الحَرَمِ: الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالحُدَيَّا، وَالْغُرَابُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ)[رواه البخاري ومسلم]. والعَقورُ: ما يَعْقِرُ: أي يجْرحُ ويَقْتُلُ؛ كالأسدِ، والنّمرِ، والذِّئبِ
(1)
.
السّابعُ: عقدُ النِّكاحِ؛ فلا يتزّوجُ المحرمُ، ولا يزوِّجُ غيرَهُ، ولا تُزوَّجُ المحرمةُ، ولا يصحُّ النِّكاحُ في شيءٍ من ذلكَ؛ لقولِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (لَا يَنْكِحُ المُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ
(1)
سيأتي بيان ما يحل قتله من الحيوان في فصل (صيد الحرم ونباته).
وَلَا يَخْطُبُ) [رواه مسلم]، وعن أبي غطفانَ عن أبيهِ:(أَنّ عُمَرَ فَرّقَ بَيْنَهُمَا؛ يَعْنِي رَجُلًا تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ)[رواه مالك، والدارقطني، واللفظ له].
الثّامنُ: وهو المحظورُ الوحيدُ الّذي يفسدُ به الحجُّ؛ وهو الوطءُ فِي الفرجِ؛ لقول الله عز وجل: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة 197]. قال ابنُ عبّاسٍ رضي الله عنهما: «الرَّفَثُ: الجِمَاعُ» [رواه البخاريُّ معلّقاً، ووصله ابنُ أبي شيبة وغيرُه].
التّاسعُ: المباشرةُ فيما دون الفرجِ، ودواعي الجماعِ، والاستمناءُ؛ فإنْ أنزلَ فعليهِ بَدَنةٌ، ولا يفسُدُ حجُّهُ؛ لأنّه استمتاعٌ لا يجبُ بنوعِهِ الحدُّ؛ فلمْ يُفسدِ الحجَّ؛ كما لوْ لمْ يُنزلْ.
ثالثاً: جزاءُ المحظوراتِ:
يجبُ في جميعِ المحظوراتِ المتقدِّمةِ الفِدْيةُ إلَّا قتلَ القملِ؛ لما رواهُ سالمٌ عن أبيه عبدِ الله بنِ عمرَ رضي الله عنهما: (أَنَّ رَجُلاً أَتَاهُ فَقَالَ: إِنِّي قَتَلْتُ قَمْلَةً وَأَنَا مُحْرِمٌ؛ فقال ابنُ عمرَ رضي الله عنهما: أَهْوَنُ قَتِيلٍ)[رواه البيهقي]، وإلّا عقدَ النِّكاحِ؛ لأنّه عقدٌ فسدَ لأجلِ الإحرامِ؛ فلمْ تجبْ بهِ الفديةُ؛ كشراءِ الصّيدِ.
- وفي البَيضِ والجَرادِ: قيمتُه مكانَ الإتلافِ؛ لما تقدّمَ عنِ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما في بيضِ النّعامِ، ولقولِ عمرَ رضي الله عنه لكعبٍ الأحبار حين أخذَ جَرادَتينِ فشَوَاهُما وهو مُحْرِمٌ:(مَا جَعَلْتَ فِي نَفْسِكَ؟ قَالَ: دِرْهَمَيْنِ. قَالَ: بَخٍ! دِرْهَمَانِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ جَرَادَةٍ؛ اجْعَلْ مَا جَعَلْتَ فِي نَفْسِكَ)[رواه الشّافعيُّ والبيهقيُّ، واللّفظُ له].
- وفي الشَّعرةِ الواحدةِ أو الظُّفرِ الواحدِ: إطعامُ مسكينٍ، وفي الاثنينِ: إطعامُ مسكينينِ اثنينِ؛ لأنّ أقلَّ ما يجبُ هو المُدُّ، وهو طعامُ مسكينٍ.
رابعاً: حكمُ ارتكابِ محظوراتِ الإحرامِ للضرورةِ:
الضروراتُ تُبيحُ للمُحرمِ المحظُوراتِ؛ ويَفدِي إذا فعلَها؛ لحديثِ كعبِ بنِ عُجرةَ رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَقَفَ عَلَيْهِ وَرَأْسُهُ يَتَهَافَتُ قَمْلاً؛ فَقَالَ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَاحْلِقْ رَأْسَكَ. قَالَ: فَفِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ؛ فَقَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ مَا تَيَسَّرَ) [رواه البخاري ومسلم]. والفَرَقُ: مِكيالٌ معروفٌ؛ يسعُ ثلاثةَ آصعٍ.
* * *
بابُ الفِدْيَةِ
أوَّلاً: تعريفُ الفِدْيَةِ:
الفِدْيَةُ في الحجِّ: ما يجبُ بسببِ فِعلِ محظورٍ، أو تَرْكِ واجبٍ، أو إحصارٍ، أو بسببِ النُّسُكِ (كالتّمتُّعِ والقِرَانِ).
ثانياً: أقسامُ الفِدْيَةِ:
الفِدْيَةُ تنقسم إلى قسمين: فِديةٌ على التّخييرِ، وفِديةٌ على التّرتيبِ.
- القسمُ الأوّلُ: فِديةُ التّخييرِ: وهي نوعان:
النوع الأوَّل: يُخَيَّرُ فيه المُحْرِمُ بين ثلاثةِ أمورٍ: ذبحِ شاةٍ، أو صيامِ ثلاثةِ أيَّامٍ، أو إطعامِ ستَّةِ مساكينَ؛ لكلِّ مسكينٍ مُدٌّ من القمحِ، أو مُدَّانِ من غير القمحِ؛ كالتّمرِ، والشعيرِ، والزبيبِ. والمُدُّ: ملءُ كَفَّي الرَّجُلِ الوسطِ.
وهذا النوعُ من فِديةِ التخيير يجبُ في نوعينِ منَ المحظوراتِ:
الأوَّلُ: محظوراتٌ يستوي فيها العَمْدُ وغيرُ العَمْدِ (الخطأُ والنسيانُ والإكراهُ): وهي ما يلي:
1) إزالةُ ثلاثِ شعراتٍ فأكثرَ من رأسهِ أو من بدنِهِ؛ لقول الله عزَّ جلَّ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة 196]، ولحديثِ كَعْبِ بن عُجْرَةَ رضي الله عنه قال: (أَتَى
عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَاحْلِقْ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ انْسُكْ نَسِيكَةً) [رواه البخاري ومسلم]. ولفظةُ (أو) تفيدُ التخييرَ. وقولُه (أو انْسُك نَسيكةً) أي: اذبحْ شاةً.
2) إزالةُ ثلاثةِ أظفارٍ فأكثرَ من أظافرِ يديهِ أو قدميهِ: فتجبُ فيها الفِديةُ؛ قياساً على حَلْقِ الشعرِ؛ لأنَّ حَلْقَ الشعرِ حَرُم للآية، ولأنّه نوعٌ من الرفاهيةِ في الحجِّ وهذا ينافي الإحرامَ؛ لكون المُحرِمِ أشعثَ أغبرَ، فقيس عليه إزالةُ الأظفارِ؛ لأنّه كذلك يحصلُ به الرفاهيةُ.
- أمّا إذا أزالَ أقلَّ من ثلاثِ شعراتٍ، أو أقلَّ من ثلاثةِ أظفارٍ فيجبُ عليه في كلِّ شعرةٍ أو ظفرٍ إطعامُ مسكين؛ لأنّه أقلُّ ما وجبَ شرعاً كفِديةٍ.
3) خروجُ المَنِيِّ بسببِ نظرةٍ واحدةٍ إلى النِّساء؛ لأنّه فعلٌ محرَّمٌ حالَ الإحرامِ؛ فوجبت فيه الفِديةُ.
فإنْ لم يُنزل فلا شيءَ عليهِ، وكذا إن فكَّرَ فأنزلَ فلا شيءَ عليهِ؛ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ الله تَجَاوَزَ لأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ)[رواه البخاري ومسلم].
4) المباشرةُ -من تَقبيلٍ وضمٍّ، ونحو ذلك- بغير إنزالٍ؛ لأنَّها أفعالٌ محرَّمةٌ بالإحرامِ؛ فوجبت فيها الفِديةُ.
الثاني: محظوراتٌ يجبُ فيها هذا النوع من الفِديَةِ في حالِ العَمْدِ فقط؛ وهي:
1) لُبسُ المخيطِ أثناءَ الإحرامِ: فتجبُ فيه الفِديةُ؛ قياساً على حَلْقِ الشَّعْرِ؛ لأنَّه حَرُم في الإحرامِ؛ إذ هو من التَرَفُّه، فأشبهَ حَلْقَ الشَّعْرِ. أمَّا الناسي أو الجاهلُ -الذي لا يعلم أنّ هذا محظورٌ في الإحرامِ- أو المُكرَهُ فلا فِديَةَ عليه؛ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ)[رواه ابن ماجه والحاكم].
2) التَّطيُّبُ: تجبُ فيه الفِديةُ أيضاً؛ قياساً على حَلْقِ الشَّعْرِ.
3) تغطيةُ الرأسِ: تجبُ فيها الفدية أيضاً؛ قياساً على حَلْقِ الشَّعْرِ.
- وإنّما اعتُبِرَ الخطأُ والنسيانُ والإكراهُ في لُبسِ المخيطِ وتغطيةِ الرأس والتطيُّبِ، ولم يُعتبر ذلك في الحَلْقِ وتقليمِ الأظفارِ؛ لأنَّ الحَلْقَ والتقليمَ حصل فيهما إتلافٌ، فاستوى فيهما العَمْدُ والخطأُ؛ كما لو أتلفَ مالَ آدميٍّ؛ فإنَّه يضمنُه؛ سواءً كان الإتلاف عمداً، أو خطأً.
النوعُ الثاني من فِدْيَةِ التّخييرِ: وهو خاصٌّ بقَتْلِ الصَّيدِ؛ سواءً قَتَلَهُ وهو مُحْرِمٌ،
أو قَتَلَهُ في الحَرَمِ، وسواءً كان عَمْداً، أو خَطَأً، أو نِسياناً؛ فيُخيَّر بين ثلاثةِ أمورٍ:
الأمرُ الأوَّلُ: أن ينظرَ إلى هذا الصيد الذي صادَه، ويأتي بما يماثلُه من بهيمةِ الأنعامِ -الإبلِ والبقرِ والغنمِ-، ويحكمُ بالمماثلَةِ ذوا عَدْلٍ من المؤمنين من أهل الخِبْرةِ، فيحكمانِ بأنَّ هذه البهيمة من النَّعَم تماثلُ هذا الصيدَ، ثمَّ يذبحُه ويوزِّعُه على فُقراء الحَرَمِ.
الأمرُ الثاني: أن يُقَوِّمَ هذا المِثْلُ من بهيمةِ الأنعامِ، ويَشتري بقيمتِه طعاماً -من جنس ما يُخْرَج في زكاة الفِطْرِ-، ثمَّ يُوزَّعُ على المساكينِ؛ لكلِّ مسكينٍ مُدٌّ منَ القمحِ، أو الأُرْزِ، أو مُدَّانِ من غيرهما.
الأمرُ الثالثُ: أن يصومَ عن كلِّ مسكينٍ يوماً؛ بمعنى: أن ينظر كم عددُ المساكين الذين كان سيطعمُهم لو اختار الإطعام -وكميةُ الطعامِ تختلفُ حسبَ قيمةِ الصيدِ الذي قَتَلَه-، ثمَّ يصومُ عن كلِّ مسكينٍ يوماً.
والدليل على هذا النوع من الفِديةِ قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة 95].
- وأمَّا وجوبُ الفِديةِ في الصيدِ مع الخطأِ والنسيانِ والجهلِ؛ فلأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ في الضَّبُعِ إذا صادَهُ المُحرِمُ كَبْشاً. [رواه أبو داود عن جابر رضي الله عنه]. ولم يُفَرِّق بين العَمْدِ وغيرِه، ولأنَّ فيه إتلافاً؛ فيستوي فيه العَمْدُ والخَطأُ كما سبق. قال
ابن قُدامَة: «قالَ الزُّهْريُّ: عَلَى المُتعمِّدِ بالكِتابِ، وعلى المُخْطِئ بالسُّنَّةِ» ؛ يعني: وجوبُ الفِديةِ في قَتْلِ الصيدِ ثابتةٌ على المتعمِّد بنصِّ الآيةِ، وعلى المُخطِئِ بالسُّنَّةِ.
- القسمُ الثاني من الفِدْيَةِ: الفِدْيَةُ على الترتيبِ:
بمعنَى أنَّه يجبُ عليه دَمٌ (ذبحُ شاةٍ، أو سُبْعِ ناقَةٍ، أو سُبْعِ بَقَرَةٍ، حيثُ تجزئُ الناقةُ عن سَبعَةٍ، والبقرةُ كذلكَ عن سَبعَةٍ)، فإن لم يجد، أو وجد لكنّه غير قادر على
الثَّمَنِ؛ فعليه صيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ في الحجِّ، وسَبعَةِ أيَّامٍ إذا رَجعَ إلى أهلِهِ.
وهذا يكونُ في الحالاتِ التاليةِ:
1) إذا حجَّ مُتمتِّعاً أو قارِناً، أو تركَ واجباً من واجباتِ الحجِّ؛ لقول الله عز وجل:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة 196]. والقِرَانُ داخلٌ في حُكمِ التمتُّعِ.
- يُستحبُّ في صيامِ الثلاثةِ أيَّامٍ التي تكونُ في الحجِّ أن يكونَ آخرُها يوم عَرَفَةَ؛ لما ثبت عن ابن عمرَ رضي الله عنهما قال: (الصِّيَامُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ إِلَى يَومِ عَرَفَةَ فَإِنْ لَمْ يَجِدِ هَدْياً وَلَمْ يَصُمْ صَامَ أَيَّامَ مِنًى)[رواه البخاري].
- يصحُّ صيامُ هذه الأيَّامِ الثلاثةِ في أيَّامِ التشريقِ؛ لقولِ ابن عمرَ وعائشةَ رضي الله عنهم: (لَمْ يُرَخَّصْ في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الهَدْيَ)[رواه البخاري].
2) المُحْصَر: وهو الذي مُنعَ من تمامِ النُّسُكِ؛ فيجبُ عليه دَمٌ؛ لقول الله تعالى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة 196]. فإنْ لم يجدْ صامَ عَشَرَةَ أيَّامْ بنيَّةِ التّحلُّلِ من إحرامِهِ؛ قياساً على المتمتِّع. فإذا صامَ عَشَرَةَ أيَّامٍ فقد تَحلَّل.
3) الجِماع قبلَ التحلُّل الأوَّلِ: فمن جامعَ قبلَ التحلُّلِ الأوَّل فَسَدَ حَجُّهُ، وعليه بَدَنَةٌ -بعيراً أو بَقَرَةً-؛ لما ثبت عن عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما (أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ بِأَهْلِهِ وَهُوَ بِمِنًى قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْحَرَ بَدَنَةً)[رواه مالك في الموطأ]، ولأنَّه جِمَاعٌ صادفَ إحراماً تامًّا؛ فوجبت به البَدَنَةُ.
- وكذا من أنزل مَنِيًّا بسببِ تكرارِ النظرِ، أو اللَّمْسِ لشَهْوَةٍ، أو تقبيلٍ، ونحو ذلك فعليه بَدنَةٌ؛ قياساً على الجِماعِ. فإنْ لم يجد بَدنَةُ، أو كان لا يستطيعُ ثمنَها؛
فعليه صيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ في الحجِّ، وسَبعَةٍ إذا رجعَ إلى أهلِهِ؛ كما في حجِّ التمتُّع.
فإنْ كانَ الجِماعُ بعدَ التحلُّل الأوَّل فعليهِ شاةٌ، ولا يفسدُ حجُّه؛ لأنَّ الإحرامَ قد خَفَّ بالتحلُّل الأوَّل؛ فينبغي أن يكونَ موجبُه دونَ موجبِ الإحرامِ التامِّ.
- أمَّا إذا جامعَ في العُمْرةِ بعدَ الفراغِ من السَّعْي، وقبلَ أن يتحلَّلَ منها؛ فلا تفسدُ، وعليهِ شاةٌ
(1)
؛ لأنَّ العُمْرةَ دون الحجِّ، فكانَ حكمُها دون حكمِهِ.
- التحلُّلُ الأوَّلُ في الحجِّ يحصل إذا فعل المُحْرم اثنين من هذه الأفعال: رمي جمرة العقبة والحلق والطواف، فإذا فعل اثنين منها فقد تحلل التحلل الأول، ويحل له به كل شيءٍ مما كان محظوراً عليه بالإحرام إلا النساء؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ الطِّيبُ وَالثِّيَابُ وَكُلُّ شَيءٍ إِلاَّ النِّسَاءَ)[رواه أحمد، وهو صحيح دون لفظة (وحلقتم)]. وعنها أيضاً رضي الله عنها قالت: (طَيَّبْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ هَاتَيْنِ حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ؛ وَبَسَطَتْ يَدَيْهَا)[رواه البخاري ومسلم].
- فإذا رَمَى جَمرةَ العَقبةِ، وحَلقَ، وطافَ، وسَعَى بين الصَّفا والمَروةِ لمن لم يكن قد سَعىَ؛ فقد تحلَّلَ التحلُّلَ الأكبرَ، ويحلُّ له به كلُّ شيءٍ حتَّى النِّساء؛ لقول ابن عمرَ رضي الله عنهما في حجَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (
…
ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ-يعني رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَفَاضَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ
…
) [رواه البخاري ومسلم].
(1)
يراجع فساد الحج والعمرة بالجماع في باب الإحرام.
فصل في صيدِ المُحْرِم
أوَّلاً: ما يجبُ على المُحرِمِ بقتلِ صيدِ البرِّ:
إذا قتلَ المُحْرِمُ صيدَ البرِّ فعليه جزاؤه؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة 95].
ثانياً: ما يخرجُهُ المُحرِمُ في جزاءِ الصيدِ:
ينقسمُ الجزاءُ في صيدِ المُحرِمِ إلى قسمينِ:
القسمُ الأوَّلُ: صيدٌ له مِثلٌ من النَّعَمِ:
وهو ما له مِثْلُ ونَظيرٌ من حيث الصورةُ، لا من حيث الحقيقةُ أو القيمةُ؛ فيجبُ على المُحرِمِ إخراجُ مِثْلِهِ؛ لقوله تعالى:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} .
وهذا القسمُ على نوعينِ:
الأول: ما قضى به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أو الصحابة رضوان الله عليهم: فيجب إخراج مثل ما قضوا به؛ لأنَّ المسلم مأمور بالاقتداء بهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فَعَلَيكُم بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ)[رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه].
- ففي صَيد النَّعَامَة: بَدَنَة؛ لأنَّها تشبه البعيرَ في الخِلْقَةِ، وقد حكمَ بذلك عمرُ
وعثمانُ وعليٌّ وزيدُ بن ثابتٍ ومعاويةُ رضي الله عنهم أجمعين [رواه الشافعيُّ في الأمِّ، وابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنَّفيهما، بإسناد ضعيف].
- وفي حِمَارِ الوَحْش: بَقَرَة. قضى بذلك عمرُ وابنُ مسعودٍ رضي الله عنهما. [رواه عبد الرزاق].
- وفي بَقَرِ الوَحْش: بَقَرَة. قضى بذلك ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه. [رواه عبد الرزاق في المصنف، والبيهقي].
- وفي الضَّبُع: كَبْشٌ. قضى به عمرُ وعليٌّ وابن عباسٍ رضي الله عنهما [رواه مالك والشافعي وعبد الرزاق]. وقد ثبت تحديدُ جزاءِ صيدِ الضَّبُعِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابرٍ رضي الله عنه قال: (جَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في الضَّبُعِ يُصِيبُهُ المُحْرِمُ كَبْشاً، وَجَعَلَهُ مِنَ الصَّيْدِ)[رواه أبو داود وابن ماجه].
- وفي الغَزالِ: شاةٌ أو عَنْزٌ. قضى به عمرُ وعبدُ الرحمنِ بن عوفٍ رضي الله عنهما [رواه مالك وعبد الرزاق]، وابن عبَّاس رضي الله عنه [رواه البيهقي في السنن الصغرى].
- وفي الضَّبِّ والوَبْرِ: جَدْيٌ له نصفُ سَنَةْ. قضى به عمرُ رضي الله عنه، وأَرْبَدُ ابن عبد الله رضي الله عنه في الضَّبِّ [رواه الشافعي في الأم، وعبد الرزاق في مصنفه]. وأمَّا الوَبْرُ فَبِالقِياس على الضبِّ.
والوَبْرُ: دُويبَةٌ كحلاءُ أصغر من السِّنَّورِ، ولا ذَنَبِ له.
- وفي اليَرْبوعِ: جَفْرَةٌ. قضى به عمرُ وابنُ مسعودٍ وجابرٌ رضي الله عنهم [رواه الشافعي في المسند، وعبد الرزاق في المصنف].
- وفي الأَرْنَبِ: عَنَاقٌ. قضَى به عمرُ رضي الله عنه [رواه عبد الرزاق]. ورُويَ عن
جابرٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (وَفي الأَرْنَبِ عَنَاقٌ، وَفي اليَرْبُوعِ جَفْرَةٌ)[رواه الدارقطني بإسناد ضعيف].
والعَناقُ: الأُنثَى من وَلَدِ المَعْزِ، وهي التي لها دون السَّنَةِ.
والجَفْرَة: الأُنثَى من ولدِ المَعْزِ، وهي التي بلغت أربعةَ أشهرٍ وفَصَلَتْ عن أُمِّها.
- وفي الحَمَام: شاةٌ. حكمَ به عمرُ وعثمانُ وابنُ عبَّاسٍ وعليٌّ رضي الله عنهم [رواه عبد الرزاق].
والمقصودُ بالحَمامِ: كلّ ما عَبَّ الماءَ؛ أي وضعَ مِنقارَه في الماءِ فيَكْرَعُ كما تَكْرَعُ الشاةُ، ولا يأخذُ قَطْرَةً قَطْرَةً كالدَّجاجِ والعصافيرِ.
ويدخلُ في الحَمامِ: القَطَا، والوَرَشانِ، والفَواخِتِ، والقُمْرِيِّ؛ ففيها شاةٌ؛ لأنَّ العَرَبَ تُسمِّيها حَماماً. وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما [رواه عبد الرزاق].
والقَطَا: طائرٌ مشهورٌ، سُمِّيت بصَوْتِها؛ حيثُ تقولُ: قَطَا قَطَا.
والوَرَشِين؛ ويقال: الوَرَاشين ووِرْشان: جمعُ وَرَشَان بالتحريك؛ طائرٌ يشبه الحَمامَ، أكبر منه قليلاً، لحمُهُ أخفُّ من الحَمامِ، ويُسمَّى أيضاً: ساقَ حُرٍّ.
والفَوَاخِت: جمعُ فاخِتَة، نوعٌ من الحَمامِ المُطوَّقِ، إذا مَشَى توسَّعَ في مَشيِهِ، وباعدَ بين جناحَيْهِ وإبْطَيْهِ وتمايَلَ.
والقُمْريُّ: ضربٌ من الحمامِ المطوَّقِ، حسنُ الصوتِ.
الثاني: ما لم يَقْضِ به الصحابةُ: فيُرجَعُ فيه إلى قولِ عَدْلينِ من أهلِ الخِبرَةِ؛ لقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} .
القسمُ الثاني: ما لا مِثْلَ لهُ من النَّعَمِ:
كلُّ ما لا مِثْلَ له من النَّعَمِ؛ كالطُّيورِ التي دونَ الحَمامِ، أو أكبرَ منه؛ كالإوَزِّ، والحُبارَى، والحَجَل، والكُرْكِيِّ، تجب فيه قيمتُه في موضعِه الذي أتلفَه فيه؛ لقول ابن عبَّاس رضي الله عنهما:(مَا كَانَ سِوَى حَمَامِ الحَرَمِ فَفِيهِ ثَمَنُهُ)[رواه البيهقي] أي: القيمة.
ثالثاً: ما يفعلُه المُحرِمُ في جزاءِ الصيدِ:
إذا كان الصيدُ الذي قتَلَهُ ممَّا له مِثْلٌ ونَظيرٌ، فإنَّ القاتِلَ يُخيَّرُ بين إخراجِ المِثْلِ من النَّعَمِ وبينَ إخراجِ قِيمَةِ النَّظيرِ والمِثْلِ. فإنِ اختارَ إخراجَ المِثْلِ فيذبَحُهُ ويتصدَّقُ به على مساكينِ الحَرَمِ؛ لأنَّ الله تعالى سمَّاه هَدْياً، والهَدْي يجبُ ذبحُه، قال تعالى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ، وذَبحُهُ يكون في الحَرَمِ.
وإنِ اختارَ القِيمَةَ؛ فإنَّه يَشتري بقيمَتِه طعاماً فيطعمُه المساكينَ؛ لكلِّ مسكينٍ مُدٌّ منَ البُرِّ، أو نصفُ صاعٍ من غيرِه، أو يصومُ مقابلَ كلِّ مُدٍّ يوماً؛ لقول الله تعالى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} .
أمَّا إذا لم يكن للصيدِ مِثلٌ أو نَظيرٌ؛ فيُخيَّرُ قاتلُهُ بين أن يشتريَ بقيمَتِهِ طعاماً فيطعمُه مساكينَ الحَرَمِ، أو يصوم مقابلَ كلِّ مُدٍّ يوماً.
* * *
فصل في صيدِ الحَرَم ونباتِهِ
أوَّلاً: تحريمُ صيدِ الحَرَمِ:
يَحرُمُ الصيدُ في حَرَمِ مكَّة على المُحْرِم والمُحِلِّ بالإجماع؛ لما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (حَرَّمَ اللهُ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلي وَلَا لأَحَدٍ بَعْدِي، أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ)[رواه البخاري].
ومن أتلفَ شيئاً من صيدِ الحَرَمِ سواء بالمباشرةِ، أو بالدلالة، أو بالإشارة؛ فحكمُه حكمُ صيدِ المُحْرِمِ من حيث لزومُ جزاءِ المِثْلِ فيما له مِثْلٌ، أو القيمةِ فيما لا نظيرَ له ولا مِثْلَ؛ وذلك لأنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم قَضُوا في حَمَام الحَرَمِ بشاةٍ؛ فعن
ابن عبَّاس رضي الله عنهما: (أَنَّهُ قَضَى في حَمَامَةٍ مِنْ حَمَامِ مَكَّةَ بِشَاةٍ)[رواه الشافعي وعبد الرزاق والبيهقي، واللفظ له].
ثانياً: تحريمُ قَطْعِ نباتِ الحَرَمِ وحَشيشِه:
يَحرمُ على المُحْرِم والمُحِلِّ قطعُ شجرِ الحَرَمِ وحَشيشِه الرَّطْب الذي لم يزرعه الآدميُّ؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما: (ولَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلا يُخْتَلَى خَلَاهَا)[رواه البخاري].
فقوله: (لا يُعضَدُ شَجَرُها) أي: لا يُقطَعُ، وقوله:(لا يُخْتَلَى خَلَاها) الخَلا: الرَّطْبُ من الحَشيشِ، والمعنَى: لا يُجزُّ الحَشيشُ ولا يُقطَعُ.
فمن أتلفَ شيئاً من شَجَرِ الحَرَمِ أو نَباتِه فعليه ضمانُه؛ الشجر الصغير -عُرفاً- فيه شاةٌ، والكبيرُ فيه بَقَرَةٌ؛ لما رُوي عن ابن الزُّبير رضي الله عنهما قال:(في الدَّوْحَةِ بَقَرَةٌ، وَفي الجَزْلَةِ شَاةٌ)[ذكره الشافعي في الأم بغير إسناد]. و (الدَّوْحَةُ): الشجرةُ العظيمةُ، و (الجَزْلَةُ): قطعةٌ كبيرةٌ من شجرةٍ.
أمَّا الحشيشُ والوَرَقُ فيُضْمَنُ بقيمتِه؛ لأنَّه مُتقوَّمٌ.
ثالثاً: ما يُباحُ قَتْلُهُ من الحيوانِ في الحَرَمِ:
يُباحُ من حيوانِ الحَرَمِ ما يلي:
1) الفَأرةُ والعَقْربُ والغُرابُ والحِدْأةُ والكلبُ العَقورُ؛ لحديث ابن عمرَ رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (خَمْسٌ لا جناح على من قتلهُنَّ في الحَرَمِ والإِحْرَامِ: الْفَارَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْغُرَابُ، وَالحِدَأَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ)[رواه مسلم]. و (الحِدَأة): نوعٌ من الطيورِ الجوارحِ ينقضُّ على الجُرْذانِ والدَّواجِن والأطعمة.
2) الحَيَّة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ في الحِلِّ وَالحَرَمِ: الحَيَّةُ، وَالغُرَابُ الأَبْقَعُ
…
) [رواه مسلم].
3) كلُّ مُؤْذٍ من الحيوانِ؛ كسباعِ البهائمِ والطيرِ، والمُستخْبَثُ من الحشراتِ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة:(خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ)؛ حيث دلَّ وَصْفُ الفِسْقِ على
إباحةِ قَتْلِ كلِّ ما فيه هذه الصِّفة. والمراد ب (الفِسْق) هنا: هو كلُّ ما من طبعُه الإيذاءُ أو الفسادُ.
4) ما ليس وَحْشِيًّا من الحيوانِ؛ كبهيمةِ الأنعامِ، والخَيلِ، والدَّجاجِ، بالإجماع. ولقول الله تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة 96]؛ فدلَّت الآيةُ على تحريمِ صيدِ الوَحشيِّ من الحيوانِ بالنصِّ، وإباحةِ غير الوحشيِّ بالمفهوم.
رابعاً: ما يُباحُ قَطْعُه من نباتِ الحَرَمِ:
يُباحُ من نباتِ الحَرَمِ ما يلي:
1) اليابسُ: فيجوزُ قطعُ اليابسِ من الشجرِ والحَشيشِ؛ لأنَّه بمنزلة الميِّت. كما يجوزُ الانتفاعُ بما انكسرَ من الأغصانِ، وانقلعَ من الشجرِ بفِعْلِ غير الآدميِّ.
2) ما زَرَعَهُ الآدميُّ: كالبُقولِ، والزروعِ، والرَّياحينِ، فيباحُ أخذُه؛ لأنَّ في تحريمِهِ ضَرَراً على من زَرَعَهُ، وقد جَرَى عملُ المسلمينَ على أَخْذِهِ، والانتفاعِ بكلِّ ما زَرَعَهُ الآدَمِيُّ.
3) الإِذْخِرُ: وهو حَشيشةٌ طيِّبةُ الرائحةِ، تُسقَّفُ بها البيوت فوق الخشبِ، وقد استثناها الشرعُ من التحريمِ؛ كما في حديث ابن عبَّاس رضي الله عنه -السابق- أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(لا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ رضي الله عنه: إِلَّا الْإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا. فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ). فأُبيحَ لحاجةِ الناس إليه في بِنائِهِم وقُبورِهِم.
خامساً: ما يُجزئُ من بهيمةِ الأنعامِ في الدَّمِ الواجبِ:
الدَّمُ الواجبُ: هو ما يترتَّبُ على الحاجِّ أو المُعْتمِرِ من فِدْيةٍ بسببِ ارتكابِه محظوراً من محظوراتِ الإحرامِ، أو تَرْكِ واجبٍ، أو جَزاءِ الصَّيدِ، أو الإحصارِ.
ولا يكونُ الدَّمُ الواجبُ إلَّا من بهيمة الأنعام، وهي: الإبلُ والبقرُ والغنمُ.
ويُجزئه أن يُخرِجَ الفِدْيةَ من أيِّ نوعٍ من بهيمة الأنعام، على النحو التالي:
1) يُجزئُ إخراجُ بَقَرةٍ بدلاً عن بَدَنَةٍ، ويُجزئُه إخراجُ بَدَنَةٍ بَدَلاً عن بَقَرَةٍ؛ لما ثبتَ من حديثِ جابرٍ رضي الله عنه قال:(خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مُهِلِّينَ بِالحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نَشْتَرِكَ في الإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا في بَدَنَةٍ)[رواه مسلم]. حيثُ جعلَ البقرَ مساوياً للإبلِ من حيثُ إجزاءُ كلٍّ منهما عن سَبْعَةٍ؛ فدلَّ ذلك على أنَّ أحدَهُما يُجزئُ عن الآخرِ.
2) يُجزئُ إخراجُ بَدَنَةٍ أو بَقَرَةٍ عن سَبْعِ شِياهٍ مُطلَقاً؛ سواء وَجَدَ الشِّياهَ أو
لم يَجِدْها، وإخراجُ سُبْع بَدَنَةٍ أو سُبْع بَقَرَةٍ عن شَاةٍ؛ لحديث جابرٍ رضي الله عنه السابق؛ فلسبْعةٍ أن يشتركوا في بَدَنَةٍ أو بَقَرَةٍ.
سادساً: المقصودُ بالدَّمِ الواجبِ عندَ الإطلاقِ:
المرادُ بالدَّمِ الواجبِ عند الإطلاقِ: ما يُجزئُ في الأُضحِيَةِ؛ وهو الجَذَعُ من الضَّأْنِ، أو الثَّنِيُّ من المَعْزِ، أو سُبْع بَدَنَةٍ، أو سُبْع بَقَرَةٍ؛ لقوله تعالى:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة 196]؛ قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما في تفسير الهَدْي: «جَزُورٌ
أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ شِرْكٌ في دَمٍ» [رواه البخاري].
سابعاً: الأفضلُ في الدِّماءِ الواجِبةِ:
ذَبْحُ البَدَنَةِ أو البَقَرَةِ أفضلُ من ذَبْحِ الشَّاةِ؛ لأنَّهما أكثرُ لَحْماً، وأنفعُ للفُقراءِ. فإنِ اختارَ ذَبْحَ البَدَنَةِ أو البَقَرَةِ وَجَبَتْ كُلُّها؛ لأنَّه اختار الأعلَى لأداءِ فَرْضِهِ؛ فكانَ وَاجِباً كُلُّه.
* * *
باب أركانِ الحجِّ وواجباتِه وسُنَنِه
أوّلاً: أركانُ الحجِّ:
الرُّكنُ: جُزءُ الشيءِ الّذي لا يَتمُّ إلّا بهِ.
وأركانُ الحجِّ أربعةٌ:
الرُّكن الأوّلُ: الإحرامُ؛ وهُو: نيّةُ الدُّخولِ في النُّسُكِ؛ فمنْ تركَ الإحرامَ لمْ ينعقدْ حجُّهُ؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)[رواه البخاري ومسلم].
الرُّكن الثّاني: الوقوفُ بعرفةَ؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: (الحَجُّ عَرَفَةُ)[رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
1) مكانُ الوقوفِ:
عرفةُ كلُّها موقفٌ إلّا بطنَ عُرنةَ؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: (وَقَفْتُ هَا هُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ)[رواه مسلم]، وقولِه:(وارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ)[رواه أحمد وابن ماجه]. وبطنُ عُرَنةَ: هو الوادِي الّذِي قبلَ عرفات، وعليه بُنيَتْ مقدِّمةُ مسجدِ نمرةَ، ومؤخّرتُهُ في داخلِ عرفات.
2) وقتُ الوقوفِ:
يبدأُ منْ طُلوعِ فجرِ يومِ عرفةَ إلى طلوعِ فجرِ يومِ النّحرِ؛ فمَنْ وَقَفَ في هذا الوقتِ بعَرَفةَ لحظةً واحدةً -وهُو أهلٌ للوقوفِ-؛ ولو كان مارًّا، أو نائماً، أو جاهلاً
أنّها عرفةُ، أو كانتِ المرأةُ حائضاً: صحَّ حجُّهُ؛ لحديثِ عُروةَ بنِ مضرِّسٍ رضي الله عنه قال: (أَتَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بالموقفِ -يَعْنِى بِجَمْعٍ (مزدلفة) - قُلْتُ: جِئْتُ
يَا رَسُولَ الله مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ؛ أَكْلَلْتُ مَطِيَّتِي، وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي، وَالله مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ إِلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْهِ؛ فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَأَتَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا؛ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ) [رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
والتَّفثُ: فعلُ ما كان مُحرَّماً على المُحْرِمِ؛ من إزالةِ الشّعرِ، وقصِّ الأظفارِ.
- وفي روايةٍ عن الإمام أحمد: أنّ الوقوفَ يَبدأُ من زوالِ الشّمسِ يومَ عرفةَ؛ لأنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم وقَفَ بعد الزّوالِ.
ولا يصحُّ الوقوفُ إن كانَ الواقفُ سكرانَ، أو مجنوناً، أو مغمى عليهِ-إلّا أن يفيق وهو بها، أو يعودَ إليها قبلَ خُروجِ وقتِ الوقوفِ-؛ لأنّه ليس من أهلِ العباداتِ.
- ولو وقَفَ النّاسُ كلُّهم، أو كلُّهم إلّا قليلاً في اليومِ الثَّامنِ أو العاشرِ خطأً لا عمداً: أجزأَهم الوقوفُ؛ لأنّه لو وجبَ القضاءُ لمْ يُؤمنُ وقوعُ الخطأ فيه أيضاً؛ فيشُقُّ عليهم.
وإن فعَل ذلكَ نفرٌ قليلٌ منهُم: فاتَهُمُ الحجُّ؛ لتفرِيطِهم، ولما ثبتَ: (أنَّ هَبَّارَ بْنَ الأَسْوَدِ جَاءَ يَوْمَ النَّحْرِ وَعُمَرُ رضي الله عنه يَنْحَرُ هَدْيَهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَخْطَأْنَا العِدَّة؛ كُنَّا نَرَى أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمُ عَرَفَةَ؛ فَقَالَ عُمَرُ: اذْهَبْ إِلَى مَكَّةَ فَطُفْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ، وَانْحَرُوا هَدْيًا إِنْ كَانَ مَعَكُم، ثُمَّ احْلِقُوا أَوْ قَصِّرُوا، وَارْجِعُوا؛
فَإِذَا كَانَ عَامٌ قَابِلٌ فَحُجُّوا وَأَهْدُوا
…
) [رواه مالك في الموطأ].
الرُّكن الثالثُ: طوافُ الإفاضةِ -ويُسمّى: طوافَ الزِّيارةِ-؛ لقولِهِ عز وجل: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج 29]؛ وعنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: (حَاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ بَعْدَ مَا أَفَاضَتْ؛ فَذَكَرْتُ حيضَتَهَا لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! إِنَّهَا قَدْ كَانَتْ أَفَاضَتْ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَ الإِفَاضَةِ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: فَلْتَنْفِرْ)[رواه البخاري ومسلم، واللّفظ له]؛ فهذا يدلُّ على أنّ طوافَ الإفاضةِ لا بُدَّ منهُ، وأنّ منْ
لمْ يأتِ بهِ يُحبسُ لأجلِهِ.
- وأوّلُ وقتِ طوافِ الإفاضةِ: منْ نصفِ ليلةِ النحرِ لمنْ وقفَ قبلَ ذلكَ بعرفاتٍ؛ لوُجوبِ المبيتِ بمزدلفةَ إلى ما بعدَ نصفِ اللّيل. ومنْ لمْ يكنْ وقفَ قبلَ نصفِ اللّيلِ؛ فأوّلُهُ في حقِّهِ بعد الوقوفِ.
ولا حَدَّ لآخرِ وقتِهِ، وفعلُهُ يومَ النحرِ أفضلُ؛ لقولِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما:(أَفَاضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ)[رواه البخاري ومسلم].
الرُّكن الرّابعُ: السَّعيُ بين الصَّفا والمروةِ؛ لقولِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم: (اسْعَوْا؛ فَإِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ)[رواه أحمد، وابن ماجه]، وقولِ عائشةَ رضي الله عنها:(مَا أَتَمَّ اللهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ)[رواه مسلم].
ثانياً: واجباتُ الحجِّ:
واجباتُ الحجِّ سبعةٌ:
1) الإحرامُ منَ الميقاتِ المعتبرِ؛ لأنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم وقّتَ المواقيتَ للمحرمِ.
2) الوقوفُ بعرفةَ إلى الغُروبِ لمنْ وقفَ نهاراً؛ لقولِ جابرٍ رضي الله عنه في حديثِهِ في صفةِ حجِّ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم: (فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفاً حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ)[رواه مسلم]، وقولِهِ صلى الله عليه وسلم فيها:(لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ؛ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ)[رواه مسلم].
3) المبِيتُ ليلةَ النّحرِ بمزدلفةَ إلى ما بعدَ نصفِ اللّيلِ؛ لقولِ جابرٍ رضي الله عنه في حديثِهِ: (حَتَّى أَتَى المُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا المَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ؛ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ)[رواه مسلم]. مع قولِهِ صلى الله عليه وسلم: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ).
4) المبِيتُ بمنىً في ليالِي أيامِ التَّشريقِ؛ لقولِ عائشةَ رضي الله عنها فيِ صفةِ حجِّهِ صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ)[رواه أبو داود]، ولمفهومِ حديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما:(أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ الله أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ)[رواه البخاري ومسلم]؛ فإذنُهُ له يدلُّ على أنّه واجبٌ في حقِّ غيرِهِ.
5) رميُ الجمارِ مرتّباً؛ بأنْ يرمِيَ يومَ النّحرِ جمرةَ العقبةِ بسبعِ حصياتٍ؛ كما فعلَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم في حجَّتِهِ [رواه مسلم].
ويرمي الجمراتِ الثّلاثِ في أيّامِ التشريقِ بعدَ الزّوالِ كلَّ جمْرةِ بسبعِ حَصَياتٍ؛ يبدأُ بالجمرةِ الأُولى (الصُّغرى)، ثمَ الوُسْطى، ثمّ جمرةِ العقبةِ (الكُبرى)؛ لقولِ
عائشةَ رضي الله عنها: (ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ يَرْمِى الْجَمْرَةَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ؛ كُلَّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ؛ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ)[رواه أبو داود]. فإنْ خالفَ هذا التّرتيبَ لم يجزِهِ.
6) الحلقُ أو التّقصيرُ؛ لقولِهِ عز وجل: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح 27]، ولأنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بذلك من لم يسُقِ الهديَ من أصحابِهِ؛ بقولِهِ:(وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ)[رواه البخاري ومسلم]، وفي حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (رَحِمَ اللهُ المُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: رَحِمَ اللهُ المُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: رَحِمَ اللهُ المُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: وَالمُقَصِّرِينَ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ له].
7) طوافُ الوَداعِ لغير المقيم بمكَّة؛ لقولِ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما: (أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الحَائِضِ)[رواه البخاري ومسلم].
ثالثاً: أركانُ العُمْرةِ وواجباتُها:
1) أركانُ العُمْرةِ:
أركانُ العُمْرةِ ثلاثةٌ:
أ - الإحرامُ؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)[رواه البخاري ومسلم].
ب- الطوافُ بالبيتِ؛ لقولِهِ تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج 29].
ج- السّعيُ بين الصّفا والمروةِ؛ لقوله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة 158]، وقولِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم:(اسْعَوْا؛ فَإِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ)[رواه أحمد، وابن ماجه].
2) واجباتُ العُمْرةِ:
واجباتُ العمرةِ شيئانِ:
أ - الإحرامُ بها منَ الحِلِّ؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم لعائشةَ رضي الله عنها: (اعْتَمِرِي مِنْ التَّنْعِيمِ)[رواه البخاري ومسلم، واللّفظ للبخاري].
ب- الحلقُ أو التّقصيرُ؛ لما سبق في واجباتِ الحجِّ.
رابعاً: سننُ الحجِّ:
يُسَنُّ للحاجِّ ما يلي:
1) المبيتُ بمنىً ليلةَ عرفةَ؛ لفعلِهِ صلى الله عليه وسلم؛ ففي حديث جابرٍ رضي الله عنه قال: (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى؛ فَأَهَلُّوا بِالحَجِّ وَرَكِبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ)[رواه مسلم].
2) طوافُ القُدومِ للمُفردِ والقارنِ؛ لحديثِ عُروةَ قال: أخبرتني عائشةُ رضي الله عنها: (أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ)[رواه البخاري ومسلم].
3) الرَّمَلُ في الثلاثةِ الأشواطِ الأُوَلِ منْ طوافِ القُدومِ؛ لحديثِ جابرٍ رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم طَافَ سَبْعاً؛ رَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعاً)[رواه النّسائي].
والرَّملُ: إسراعُ المشيِ مع مقاربةِ الخُطَى.
4) الاضطباعُ في طوافِ القدومِ؛ بأنْ يجعلَ وسطَ الرِّداءِ تحتَ عاتقِهِ الأيمنِ، وطرفيهِ على عاتِقهِ الأيسرِ؛ لحديثِ ابن عبَّاس رضي الله عنهما:(أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعْرَانَةِ؛ فَرَمَلُوا بِالْبَيْتِ وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ؛ قَدْ قَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمُ الْيُسْرَى)[رواه أبو داود].
5) تجرُّدُ الرّجلِ من المَخيطِ عندَ الإحرامِ، ولُبسُ إزارٍ ورداءٍ أبيضَيْنِ نظيفَيْنِ؛ لحديثِ ابنِ عمرَ مرفوعاً:(لِيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ)[رواه أحمد]. ولقوله صلى الله عليه وسلم: (الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ)[رواه أبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ].
6) التَّلبيةُ منْ حينِ الإحرامِ إلى رميِ جمرةِ العقبةِ؛ لحديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما: (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الحُلَيْفَةِ أَهَلَّ فَقَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ؛ إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ)[رواه مسلم]، وحديثِ الفضلِ بنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما:(لَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ)[رواه البخاري ومسلم].
خامساً: حكمُ تركِ الرُّكنِ والواجبِ والمسنونِ:
1) منْ ترَكَ رُكناً من الأركانِ في الحجِّ أو العُمْرةِ لمْ يتمَّ حجُّهُ إلّا بهِ؛ لما تقدَّمَ بيانُهُ. إلَّا الإحرام؛ من تركه لم ينعقد حجُّه، وإلَّا الوقوفَ بعَرَفَةَ؛ من تَرَكَهُ فقد بَطَلَ حَجُّه.
2) منْ ترَكَ واجباً لحجٍّ أو عُمْرةٍ ولو سَهْواً؛ فعليهِ دَمٌ، وحَجُّهُ صحيحٌ؛ لقولِ ابنِ عبّاس رضي الله عنهما:(مَنْ تَرَكَ نُسُكاً فَعَلَيْهِ دَمٌ)[رواه مالك في الموطأ].
3) منْ ترَكَ مسنوناً؛ فلا شيءَ عليهِ؛ لعدمِ ورودِ النّصِّ في ذلكَ.
فصل في شروطِ صحَّةِ الطوافِ وسُننِه
أوَّلاً: شروطُ صحَّةِ الطوافِ:
يُشترطُ لصحَّةِ الطوافِ أحدَ عشرَ شرطاً، لا بدَّ من الإتيان بها وإلَّا لم يصحَّ الطواف، وهي على النحو التالي:
الأوَّل: الإسلام؛ فلا يصحُّ الطوافُ من الكافرِ؛ لأنَّه ليس من أهلِ العبادةِ.
الثاني: النيَّة؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّما الأَعْمالُ بِالنِّيَّاتِ)[رواه البخاري ومسلم].
الثالث: العقلُ؛ فلا يصحُّ الطوافُ من المجنونِ؛ لأنَّه لا نيَّة له.
الرابع: دخولُ وقتِ الطوافِ؛ فلا بدَّ أن يُوقِعَ طوافَ الإفاضَةِ -وهو الرُّكن- في وقتِه، ووقتُه كما مرَّ يبدأُ من منتصفِ ليلةِ النحرِ لمنْ وقفَ بعَرَفَة، وإلَّا فبَعْدَ الوقوفِ.
الخامس: سترُ العَوْرَة؛ لحديث: (وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ)[رواه البخاري ومسلم].
السادس والسابع: اجتنابُ النجاسةِ، والطهارَةُ من الحَدَثِ الأصغرِ والأكبرِ؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(الطَّوَافُ حَوْلَ البَيْتِ مِثْلُ الصَّلاةِ، إِلاَّ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلا يَتَكَلَّمَنَّ إِلاَّ بِخَيرٍ)[رواه الترمذي]. فجعلَ الطوافَ مثل الصَّلاةِ، والصلاةُ يُشترطُ لها الطهارةُ من الحَدَثيْنِ، واجتنابُ النجاسةِ لبَدَنِه وثَوْبِه، فكذلك الطوافُ. ولقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعائشةَ رضي الله عنها لمّا حاضت في الحَجِّ:(افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي)[رواه البخاري ومسلم].
الثامن: أن يطوفَ سَبْعَةَ أشواطٍ كاملةٍ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم طاف سَبْعاً وقال: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُم؛ فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِه)[رواه مسلم]. فلو طافَ أقلَّ من سَبْعَةِ أشواطٍ فلا يصحُّ حتَّى يتمَّه.
ولا بدَّ أن يكون الطوافُ بجميع البيت، وإلَّا كان الطوافُ غيرَ صحيح؛ لقول الله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج 29]. وهذا يقتضي الطواف بجميعه.
- والْحِجْرِ من البيت؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (سَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحِجْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ له].
التاسع: أن يجعلَ البيتَ عن يَسارِهِ أثناءَ الطوافِ؛ لفعْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابرٍ رضي الله عنه -الطويل- في وَصْفِ حَجَّتِه عليه الصلاة والسلام، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُم؛ فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِه).
العاشر: أن يطوفَ ماشِياً إذا كان قادِراً على المَشْي؛ فلو طافَ راكِباً لغيرِ عُذْرٍ فطوافُه غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ الطّوافَ بالبيتِ صلاةٌ كما سبق. أمَّا إذا طافَ راكِباً لعُذْرٍ فطوافُه صحيحٌ؛ لحديثِ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قالت: (شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي. قَالَ: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ)[رواه البخاري ومسلم].
الحادي عشر: المُوالَاةُ في الطّوافِ؛ وذلكَ بأنْ يُوالِي بين الأشواطِ السَّبْعَةِ فلا يَفصِلُ بينَها؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم طافَ كذلك، وقد قالَ:(خُذُوا مَناسِكَكُم).
فلو تَرَكَ المُوالَاةَ بين أشواطِ الطّوافِ فطوافُه غيرُ صحيحٍ، وعليه أن يُعيدَ الطّوافَ، إلَّا إذا كانَ الفَصْلُ يَسيراً عُرْفاً، أو أُقيمتِ الصَّلاةُ، أُو حَضَرتْ جَنازَةٌ أثناءَ الطّوافِ؛ فإنَّه يُصلِّي ثمَّ يُكمِلُ طوافَه، ولا يستأنفُه من جديد؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:
(إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلاَّ المَكْتُوبَةُ)[رواه مسلم]. والطّوافُ صلاةٌ؛ فيدخلُ تحتَ عمومِ هذا الحديث.
- إذا أَحْدَثَ أثناءَ الطَّوافِ انقطعَ طَوافُه، وعليه أنْ يتطهَّرَ ويَبتدئَ الطَّوافَ من جديد؛ لأنَّ الطهارةَ شرطٌ لصحَّتِه كالصَّلاةِ -كما سبق-؛ فإذا أحدَثَ فقد بَطَلَ الطَّوافُ.
ثانياً: سُنَنُ الطَّوافِ:
يُسنُّ في الطّوافِ ما يلي:
1) استلامُ الحَجَرِ الأسودِ -أي مسحُه باليدِ- وتقبيلُه؛ لحديث نافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لَا يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ اليَمَانِيَ وَالحَجَرَ في كُلِّ طَوْفَةٍ. قَالَ -أي: نافع-: وَكَانَ عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ)[رواه أبو داود].
وأمَّا التّقبيلُ؛ فلِمَا ثبتَ عن عمرَ رضي الله عنه (أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الحَجَرِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ)[رواه أبو داود].
فإنْ شقَّ عليه تَقبيلُه، استلَمَه بيدِه وقبَّل يدَهُ؛ لما رواه نافِعٌ قَالَ:(رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَسْتَلِمُ الحَجَرَ بِيَدِهِ ثُمَّ قَبَّلَ يَدَهُ، وَقَالَ: مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ)[رواه مسلم].
فإنْ شَقَّ استلامُه بيدِهِ فإنَّه يُشيرُ إليهِ بيدِه أو بِعَصا دون تقبيلٍ لليَدِ أو للعَصَا؛ لحديثِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم طَافَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ وَكَبَّر)[رواه البخاري].
2) استلامُ الرُّكْنِ اليَمانِّي دون تقبيلِهِ؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنه -السابق- (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لَا يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ وَالحَجَرَ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ).
وأمَّا تقبيلُه: فلَمْ يَصحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فلا يُسنُّ. قاله ابن قُدامَة.
3) الاضْطِباعُ: مأخوذٌ من الضَّبْعِ وهو عَضُدُ الإنسانِ، وهو تَعْريَةُ المَنْكِبِ الأيمنِ، وجَمْعُ الرِّداءِ على الأَيْسَرِ؛ وذلك لحديث يعلى بن أميَّة رضي الله عنه (أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ بالْبَيْتِ مُضْطَبِعًا وَعَلَيْهِ بُرْدٌ)[رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه]. فإذا فَرَغَ من الطَّوافِ أعادَ إحرامَهُ إلى هيئتِهِ الطبيعيَّة.
4) الرَّمَلُ: وهو إسْراعُ المَشْي معَ تقارُبِ الخُطَى بلا وَثْبٍ. ويكونُ ذلك في الأشواطِ الثلاثَةِ الأُولَى فقط، أمَّا الأربعةُ الأخيرةُ فيمشِي فيها؛ لحديث ابن عمرَ رضي الله عنهما قال:(رَمَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الحَجَرِ إِلَى الحَجَرِ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا)[رواه مسلم].
- الرَّمَلُ والاضْطِباعُ مُستحَبَّان لغير أهلِ مكَّة في طوافِ القُدومِ-لمنْ حَجَّ مُتمتِّعاً-، وفي العُمْرَةِ، دون غيرهما من المناسكِ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنَّما اضْطَبَعوا ورَمَلوا فيهما فقط، ولحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
لَمْ يَرْمُلْ في السَّبْعِ الَّذِي أَفَاضَ فِيهِ) [رواه أبو داود وابن ماجه].
5) صلاةُ ركعتينِ بعدَ الطَّوافِ: فيُسنُّ للطّائفِ أن يُصلِّيَ ركعتين بعد فراغِهِ من الطَّوافِ، ويُستحَبُّ أن يَرْكَعْهُما خَلْفَ المقامِ؛ لقوله تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة 125]، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما: (قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، ثُمَّ صَلَّى خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ
…
) [رواه البخاري ومسلم].
ويُستحَبُّ أن يَقرأَ فيهما: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} في الأُولَى، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في الثانية؛ لحديث جابرٍ رضي الله عنه في وَصْفِ حَجَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ في الرَّكْعَتَيْنِ ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وب {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ})[رواه مسلم].
* * *
فصل في شروطِ صحَّةِ السّعْي بينَ الصَّفا والمَرْوَةِ وسُننِه
أوَّلاً: شروطُ صحَّةِ السَّعْي بين الصَّفا والمَرْوَةِ:
يُشْترطُ لصحَّة السَّعْي بين الصَّفا والمَرْوَةِ ثمانيةُ شروطٍ:
1 -
3) الإسلامُ، العقلُ، النِّيةُ: وهذه الشروطُ الثلاثةُ شرطٌ في سائرِ العباداتِ، وقد سبقَ الكلامُ عليها.
4) المُوَالاةُ: فيلزمُه أن يُوالِيَ في سَعْيِهِ بين الأشواطِ السَّبْعَةِ، ولا يَفْصِلَ بينها، وإلَّا بَطَلَ السَّعْي؛ قياساً على الطَّوافِ. إلَّا إذا كان الفَصْلُ يَسيراً عُرْفاً، أو أُقيمتِ الصَّلاةُ، أو حَضَرَتِ جنازةٌ للصَّلاةِ عليها؛ فلَهُ أن يُصلِّيَ ويُكمِلَ سَعْيَه؛ كما مرَّ في الطَّوافِ.
5) المشي مع القدرة: فلا يجوزُ لهُ أن يَسعَى راكباً إلَّا لعذرٍ وإلَّا بَطَلَ سَعْيُه؛ قياساً على الطَّوافِ.
6) أن يكونَ السَّعْيُ بعدَ طَوافٍ صحيحٍ -حتَّى لو كانَ هذا الطَّوافُ سُنَّةً؛ كطوافِ القُدومِ-؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سَعَى بعدَ طَوافِهِ، وقد قال:(لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُم؛ فَإِنَّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ)[رواه مسلم].
فلو سَعَى دون أن يُسْبَقَ هذا السَّعْيُ بطوافٍ فسَعْيُهُ غيرُ صحيحٍ، وكذا إذا سَعَى بعد طَوافٍ، لكن هذا الطَّوافُ لم يكنْ على طَهارةٍ؛ فسعيُه أيضاً غير صحيح؛ لبُطلانِ
الطّوافِ الذي تقدَّمَهُ.
- لا يُشْترطُ أن يكون السَّعْيُ بعدَ الطوافِ مباشرةً، بل ذلكَ سُنَّةٌ؛ فلو أخَّرَ السَّعْيَ إلى اللَّيلِ فلا بأسَ. قال في «المغني»:«قالَ الإمامُ أحمدُ: لا بأسَ أنْ يُؤخِّرَ السَّعْيَ حتَّى يَستريحَ، أو إلى العَشيِّ» .
7) أن يكونَ السَّعْيُ سَبْعَةَ أشواطٍ: فيجبُ عليه أن يَسْعَى بين الصَّفَا والمَرْوَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ؛ لفِعْلِه صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث ابن عمرَ رضي الله عنهما: (وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ سَبْعًا
…
) [رواه البخاري ومسلم].
- ويبدأُ بالصَّفا ويختمُ بالمَرْوَةِ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بدأَ بالصَّفا كما في حديث جابرٍ رضي الله عنه؛ وفيه: (فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ. فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِيَ عَلَيْهِ
…
) [رواه ومسلم]. فلو بدأَ بالمَرْوَةِ قبلَ الصَّفا لم يُعتدَّ بذلكَ الشوطِ، ولا يُحتسبُ.
- ويكونُ ذهابُه من الصَّفا إلى المَرْوَةِ شَوْطاً، ورُجوعُه من المَرْوَةِ إلى الصَّفَا شَوْطاً آخرَ؛ لفِعْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابرٍ رضي الله عنه في وَصْفِ حَجَّتِه عليه الصلاة والسلام.
8) استيعابُ ما بين الصَّفا والمَرْوَةِ: فيجبُ عليه أن يستوعبَ جميعَ المكانِ الذي بين الصَّفا والمَروَةِ بالسَّعْي؛ لفِعْلِه صلى الله عليه وسلم. وقد قال: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُم
…
). فلو تَرَكَ خُطوةً منه لم يصحَّ سَعْيُهُ.
ثانياً: سُنَنُ السَّعْي:
يُستحَبُّ في السَّعْي بين الصَّفا والمَرْوَةِ ما يلي:
1) الطَّهارةُ من الحَدَثين: فيُستحبُّ له أن يَسعَى على طهارةٍ؛ لأنَّه ذِكرٌ لله عز وجل، والذِّكرُ يُستحبُّ الإتيانُ به على طهارةٍ. فلو سَعَى وهو مُحْدِثٌ فسَعيُه صحيحٌ ويُجزئه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها لمّا حاضت:(افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفيِ بِالبَيَتِ حَتَّى تَطْهُرِي)[رواه البخاري ومسلم]. فمَنَعَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الطَّوافِ فقط وهي حائضٌ؛ فدلَّ ذلك على جوازِ السَّعْي وغيرِه من المناسكِ بغيرِ طهارةٍ.
2) المُوالاةُ بينَه وبينَ الطَّوافِ: وذلك بأنْ يَسْعَى بعدَ الطَّوافِ وصَلاةِ الرَّكعتينِ خَلْفَ المقامِ مباشرةً، ولا يُفَرِّق بينهما طويلاً؛ لفِعْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كما جاءَ في وَصْفِ حَجَّتِه.
ثالثاً: سُنَنٌ وآدابٌ في الحجِّ:
ومن السُّنَّنِ في الحَجِّ ما يلي:
1) أن يَشْربَ من ماءِ زَمْزَمَ لما أَحبَّ من أمورِ الدِّينِ والدُّنيا، ويَرُشَّ منه على بَدَنِه وثَوبِه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ)[رواه أحمد وابن ماجه]. ولحديث عليٍّ رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِسَجْل -الدَّلْوِ المَمْلُوءِ بِالمَاءِ- مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ مِنْهُ وَتَوَضَّأَ)[رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائده على المسند].
2) أن يَدْعُوَ عندَ الشُّرْبِ منه ويقول: «بسمِ الله، اللَّهمَّ اجعلْهُ لنا عِلْماً نافِعاً، ورِزْقاً واسِعاً، ورِيًّا وشِبَعاً، وشِفاءً من كلِّ داءٍ، واغْسِلْ بِهِ قَلْبِي، وامْلأْهُ منْ
خَشْيَتِكَ»؛ لأنَّ هذا الدعاء لائقٌ بهذا الفِعلِ، وهو شاملٌ لخَيرَي الدُّنيا والآخِرَةِ، ولأثرِ عِكرمَةَ عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال:(كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا شَرِبَ مَاءَ زَمْزَم قال: اللَّهُمَّ إِنَّي أَسألَك عِلْماً نَافِعاً، وَرِزْقاً وَاسِعاً، وَشِفاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ)[رواه الحاكم والدارقطني بإسناد ضعيف].
3) الصَّلاةُ في مسجدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ)[رواه البخاري ومسلم]. ولحديثِ أبي الدَّرْداءِ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (فَضْلُ الصَّلَاةِ في المَسْجِدِ الحَرَامِ عَلَى غَيْرِهِ مائَةُ أَلْف صَلَاةٍ، وَفي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلَاةٍ، وَفي مَسْجِدِ بَيْتِ المَقْدِسِ خَمْسُمائَةِ صَلَاة)[رواه البَزَّار والطحاوي والبيهقي في شُعَب الإيمان].
4) زيارةُ قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبِيْه أبي بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهما؛ لحديث (مَنْ زَارَ قَبْرِي، أَوْ قَالَ: مَنْ زَارَنِي كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا)[رواه الطيالسي والبيهقي بإسناد ضعيف].
* * *
باب الفواتِ والإحصارِ
أوَّلاً: معنى الفَواتِ:
الفَواتُ: مصدرُ فاتَ؛ إذا سُبِقَ فلم يُدرَك؛ والمقصود به هنا: «من فاتَهُ الوقوفُ بعَرَفَة ولم يُدْرِكُه قبلَ طلوعِ فَجْرِ يومِ النَّحْرِ» .
ثانياً: حُكمُ من فاتَه الوقوفُ بعَرَفَةَ:
من طَلَعَ عليه فَجْرُ يومِ النَّحْرِ -وهو اليومُ العاشرُ من ذي الحجَّة-، ولم يكن وَقَفَ بعَرَفَةَ، فقد فاتَه الحجُّ إجماعاً؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (الحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ
…
) [رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه]. وقالَ جابرٌ رضي الله عنه: (لَا يَفُوتُ الحَجُّ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ)[رواه البيهقي].
ولا فرقَ في حُكمِ الفواتِ بين من فاتَه الوقوفُ لعُذْرٍ أو لغيرِ عُذْرٍ؛ لما روى سُليمان بن يَسار (أَنَّ هَبَّارَ بنَ الْأَسْوَدِ جَاءَ يَوْمَ النَّحْرِ وَعُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ يَنْحَرُ هَدْيَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ! أَخْطَأْنَا الْعِدَّةَ كُنَّا نَرَى أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمُ عَرَفَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: اذْهَبْ إِلَى مَكَّةَ فَطُفْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ، وَانْحَرُوا هَدْيًا إِنْ كَانَ مَعَكُمْ، ثُمَّ احْلِقُوا أَوْ قَصِّرُوا وَارْجِعُوا، فَإِذَا كَانَ عَامٌ قَابِلٌ فَحُجُّوا وَأَهْدُوا، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ)[رواه مالك في الموطأ].
ثالثاً: ما يترتَّبُ على من فاتَه الوقوفُ بعَرَفَة:
يترتَّبُ على من فاتَه الوقوفُ بعَرَفَة ما يلي:
1) ينقلبُ إحرامُه من حجٍّ إلى عُمْرةٍ يتحلَّلُ بها؛ فيطوفُ ويسعَى ويحلِقُ أو يُقصِّرُ؛ لما روى سُليمانُ بن يَسارٍ (أنَّ أبا أيوبَ الأنصاريَّ رضي الله عنه خرجَ حَاجًّا، حتَّى إذا كان بالنَّازِيَةِ مِنْ طَريقِ مَكَّةَ أَضَلَّ رَواحِلَهُ، وإنّه قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: اصْنَعْ ما يَصْنَعُ المُعْتَمِرُ، ثُمَّ قَدْ حَلَلْتَ، فَإِذَا أَدْرَكَكَ الحَجُّ قَابِلاً فاحْجُجْ، وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ)[رواه مالك في الموطأ].
إلَّا أنَّ هذه العُمْرة لا تُجزئُ عن عُمْرةِ الإسلامِ؛ لأنَّه لم يَنْوها في ابتداءِ إحرامِه؛ فلم تَقعْ عنها.
2) يلزمُه دَمٌ، وهو ذَبْحُ شاةٍ؛ لأنَّ عمرَ رضي الله عنه أَمرَ أبا أيوبَ وهبَّار بن الأسودِ أن ينْحَرا هَدْياً لقاءَ ما فاتَهما من الوقوف بعَرَفَة.
- يجبُ الهَدْيُ من حينِ الفَواتِ، إلَّا أنَّ إخراجَهُ يكونُ في سَنَةِ القَضَاءِ.
- إنْ كانَ المُحْرِمُ قد ساقَ معه الهَدْي؛ نَحَرَهُ، إلَّا أنَّه لا يُجزئه عن هَدْي القضاءِ، فيلزمُه في سَنَةِ القضاءِ هَدْيٌ أيضاً؛ لأنَّ عمرَ رضي الله عنه أَمَرَ هبَّار بن الأسودِ أن ينحرَ هَدْيَه الذي ساقَهُ معَهُ، ثمَّ إذا كانَ في العامِ القابِلِ أمَرَهُ أن يَهدِيَ بعدَ القضاءِ.
3) يلزمُه القضاءُ في العامِ القابِلِ بحسبِ استطاعَتِه؛ لأنَّ عمرَ رضي الله عنه أَمَرَ أبا أيوبَ وهبَّار بن الأسودِ أن يَقضُوا حجَّهُم من العامِ القابِلِ.
- ومنْ كانَ قد اشترطَ عندَ إحرامِه (إنْ حبَسَني حابسٌ فمحلِّي حيثُ حبسْتَني)، لم يلزمه قضاءٌ ولا هَدْيٌ؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما (أَنَّ ضُبَاعَةَ بِنْتَ
الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ رضي الله عنها أَتَتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ، وَإِنِّي أُرِيدُ الحَجَّ؛ فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَهِلِّي بِالحَجِّ وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي) [رواه مسلم].
رابعاً: الإحصارُ:
الإحصارُ: هو الحَبْسُ والمنْعُ لسببٍ؛ وهو «أن يُحبَسَ أو يُمنَعَ المُحرِمُ عن إتمامِ أركانِ الحجَّ أو العُمْرةِ لسببٍ؛ كعَدُوٍّ، أو مَرَضٍ، أو حَقِّ الغَيرِ» .
خامساً: أحكامُ المُحْصَرِ:
- إذا صُدَّ المُحرِم عن إكمالِ نُسُكِهِ ولم يجدْ طَريقاً آمِناً حتَّى فاتَهُ الوقوفُ بعَرَفَةَ؛ فله حُكْمُ الفَواتِ؛ فيتحلَّل بعُمْرَةٍ ويلزمُه دَمٌ، وقضاءُ نُسُكِه من العامِ القابِلِ.
- فإنْ أمكنَهُ الوصولُ من طَريقٍ أُخرى آمِنَةٍ لم يُبَحْ له التّحلُّل، ولَزمَهُ سلوكُ ذلك الطريقِ؛ ولو كانت بعيدةً، أو خَشِي الفَواتَ.
- إذا صُدَّ عن الوقوفِ بعَرَفَةَ فتَحلَّلَ قبلَ فواتِ يومِ عَرَفَةَ؛ فلا قَضاءَ عليهِ، وعليهِ ذبح هَدْي يتحلَّل به؛ لقول الله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة 196].
- إذا حُصِر المُحْرِمُ عن البيتِ، ولو بعدَ الوقوفِ بعَرَفَةَ؛ فيلزمُه ذَبْحُ هَدْي ينوي به التحلُّل؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، ولما ثبتَ من حديث ابنِ عمرَ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالحُدَيْبِيَةِ)[رواه البخاري].
- ولا يتحلَّلُ المُحصَرُ إلَّا بعد أن ينْحَرَ الهَدْيَ؛ لما ثبت عن المِسْورِ بن مَخْرَمَة رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ)[رواه البخاري].
- يَنحَرُ المُحصَرُ الهَدْيَ في المكانِ الذي أُحصِرَ فيه؛ سواء كانَ في الحِلِّ أو في الحَرَمِ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه نَحروا هَدْيَهُم في الحُدَيْبِيَةِ وهي من الحِلِّ.
- إذا لم يَقدِرِ المُحصَر على الهَدْي؛ فعليه صيامُ عَشَرةِ أيَّامٍ بنيَّة التحلُّل؛ قياساً على من لم يجدِ الهَدْيَ في حجِّ التمتُّع، ولا يتحلَّلُ إلَّا بعد إتمامِ صيامِ العَشَرَةِ؛ قياساً على عدمِ تحلُّله إلَّا بعد نَحْرِ الهَدْي.
- إذا حُصِرَ المحرِمُ عن طوافِ الإفاضَةِ فقط، وكانَ قد رَمَى وحَلَقَ، فليسَ له أن يتحلَّل حتَّى يطوفَ بالبيتِ؛ لما ثبت عن ابن عمرَ رضي الله عنه أنَّه قال:(مَنْ حُبِسَ دُونَ الْبَيْتِ بِمَرَضٍ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ)[رواه مالك والشافعي]، ولأنَّ طوافَ الإفاضَةِ لا وَقتَ له، والإحرامُ فيه إنَّما هو عن النِّساءِ فقط، أمَّا التحلُّل الذي ورد الشرعُ به فهو من الإحرامُ التامُّ الذي يحرمُ جميعَ محظوراتِه. فمتى زالَ الحَصْرُ أَتَى بالطَّوافِ، وتمَّ حجُّه.
سادساً: الإحصارُ عن أداءِ الواجباتِ:
إذا أُحصِرَ المُحرِمُ عن أداءِ الواجباتِ؛ كرَمْي الجِمارِ، وطوافِ الوداعِ، والمبيتِ بمُزْدلِفَةَ؛ فليسَ له أن يتحلَّل من إحرامِه؛ لأنَّ تركَ الواجبِ لا يترتَّبُ عليه بطلانُ الحجِّ، وإذا فاتَه وجبَ فيه دمٌ.
* * *
باب الأضحِيَة
أوَّلاً: تعريفُ الأُضحِية:
الأُضحِية: ما يُذبحُ من الإبلِ أو البقرِ أو الغنمِ الأهليّةِ أيّامَ النَّحرِ الثّلاثةِ بسببِ العيدِ؛ تقرُّباً إلى الله تعالى.
ثانياً: حكمُ الأُضحِية:
1) هِيَ سُنّةٌ مؤكَّدةٌ؛ لحديثِ أنسٍ رضي الله عنه قال: (ضَحَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ)[رواه البخاري ومسلم]، والأملحُ: الأبيضُ الّذي يخالطُهُ سوادٌ.
ويُكرَهُ تركُ التّضحيةِ مع القدرةِ عليها.
2) تجبُ الأُضحِيةُ بالنَّذرِ؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ)[رواه البخاري].
وتتعيّنُ الأُضحِيةُ بقولِهِ: «هذِه أضحيةٌ، أو هذِهِ لله» ؛ لأنّ ذلكَ يقتضي الإيجابَ؛ فتتعيّنُ عليهِ كتعيُّنِ الهديِ.
ثالثاً: الأفضلُ في الأُضحيةِ:
الأفضلُ في الأُضحِيةِ: الإبلُ، فالبقرُ، فالغنمُ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ
فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ) [رواه البخاري ومسلم].
ولا تُجزئُ الأُضحِيةُ من غيرِ الإبلِ، والبقرِ، والغنمِ؛ لقولِهِ عز وجل:{لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج 34].
رابعاً: الأُضحيةُ الواحدةُ تجزئُ عن أهلِ البيتِ:
تجزئُ الشّاةُ الواحدةُ عن الرّجلِ الواحدِ، وعن أهلِ بيتِه وعيالِهِ؛ لقولِ أبي أيّوبٍ رضي الله عنه:(كَانَ الرَّجُلُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُضَحِّي بِالْشَّاةِ عَنْهُ، وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ)[رواه الترمذي وابن ماجه].
وتُجزىُ البَدَنةُ والبقرةُ عن سبعةٍ؛ لحديثِ جابرٍ رضي الله عنه قال: (نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَامَ الحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ)[رواه مسلم].
خامساً: السِّنُّ المُجزِئةُ في الأُضحِيةِ:
1) أقلُّ ما يجزئُ من الضَّأنِ: ما لهُ نصفُ سنةٍ (ستّةُ أشهرٍ)؛ لحديثِ عقبةَ بنِ عامرٍ رضي الله عنه قال: (قَسَمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِينَا ضَحَايَا فَأَصَابَنِي جَذَعٌ؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ أَصَابَنِي جَذَعٌ؛ فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ)[رواه البخاري ومسلم].
2) أقلُّ ما يُجزئُ منَ المَعْزِ: ما لهُ سنةٌ؛ لحديثِ جابرٍ رضي الله عنه مرفوعاً: (لَا تَذْبَحُوا إِلاَّ مُسِنَّةً إِلاَّ أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ)[رواه مسلم]. والمرادُ بالمُسِنَّةِ الثَّنيُّ، وهو في المَعزِ ما لهُ سنةٌ.
3) أقلُّ ما يُجزئُ منَ البقرِ والجامُوسِ: ما لهُ سنتانِ؛ للحديثِ السّابقِ.
4) أقلُّ ما يُجزئُ منَ الإبلِ: ما لهُ خمسُ سنينَ؛ للحديثِ السّابقِ أيضاً.
سادساً: ما يُجزئُ وما لا يُجزِئُ في الأُضحيةِ:
1) ما يُجزئُ في الأُضحيةِ:
يُجزئُ في الأُضحيةِ ما يلي:
أ - الجَمّاءُ: وهي الّتي لم يخلقْ لها قرنٌ.
ب- البَتْراءُ: وهي الّتي لا ذَنَبَ لها خِلْقةً أو مقطوعاً.
ج- الخصيُّ: وهو ما قطعتْ خصيتاهُ أو سلّتا أو رُضَّتا.
د- الحامِلُ.
هـ- ما خُلقَ بلا أُذُنٍ، أو ذهب نصفُ إِلْيتِهِ أو أُذُنِهِ.
لدخولِ ذلك كلِّهِ في عمومِ أحاديثِ الأُضحيةِ، ولحديثِ أبي رافعٍ رضي الله عنه قال:(ضَحَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجِيَّيْنِ خَصِيَّيْنِ)[رواه أحمد وابن ماجه]. والمُوجِيُّ: الخصيُّ.
- وتكرهُ المعيبةُ بخَرْقِ أذنِها أو شقِّها، أو قُطعَ منها أقلَّ من النِّصفِ؛ لقولِ عليٍّ رضي الله عنه:(أَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالأُذُنَيْنِ)[رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
2) ما لا يجزئُ في الأُضحيةِ:
أ - لا تُجزئُ في الأُضحيةِ: بَيِّنةُ المرضِ، ولا بيّنةُ العَوَرِ؛ بأن انخَسَفتْ عينُها،
ولا قائمةُ العينينِ مع ذَهابِ إِبصارِهما، ولا عجفاءُ؛ وهي الهزيلةُ الّتي لا مُخَّ فيها، ولا عَرْجاءُ؛ وهي الّتي لا تطيقُ مشياً مع صحيحةٍ؛ لحديثِ البراءِ بنِ عازبٍ رضي الله عنه مرفوعاً:(أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ في الأَضَاحِي: الْعَوْرَاءُ بَيِّنٌ عَوَرُهَا، وَالمَرِيضَةُ بَيِّنٌ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ بَيِّنٌ ظَلْعُهَا، وَالْكَسِيرُ -وفي روايةٍ: العَجْفاءُ- الَّتِي لَا تُنْقِي)[رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، واللّفظُ لأبي داود، والرّوايةُ الأخرى للتّرمذيّ والنّسائيّ]. ومعنى (لا تُنقِي): أي الهزيلة.
ب- ولا تجزئُ الهَتْماءُ؛ وهي الّتي ذهبَتْ ثناياها من أصلِها؛ لقُصورِها عن تغذيةِ نفسِها؛ فصارتْ في معنى العَجفاءِ.
ج- ولا تُجزئُ العضباءُ؛ وهي ما ذهبَ أكثرُ أذنِها أو قرنِها، ولا العصماءُ؛ وهي ما انكسرَ غلافُ قرنِها؛ لحديثِ علي رضي الله عنه:(أنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُّضَحَّى بِأَعْضَبَ الْقَرْنِ وَالْأُذُنِ)[رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه]. وقيستْ عليها العَصماءُ.
د - ولا يُجزئُ خصيٌّ مَجْبوبٌ؛ وهو ما قُطع ذكرُهُ وأُنثياهُ؛ لفقدِ عضوٍ من أعضائِهِ؛ فأشبهَ العَضْباءَ.
* * *
فصل في سُنَنِ ذبحِ الأضحِيةِ وآدابِها
أوَّلاً: صفةُ نَحْرِ أو ذَبْحِ الأُضحِيةِ:
1) يُسْتحبُّ في نَحْرِ الإبلِ أن تُنحَرَ-أي تُطعَنَ- في الوَهْدَة التي بين عُنُقِها وصَدْرِها، قائمةً معقولَةُ -مربوطةَ- اليدِ اليُسرَى؛ لقول الله تعالى:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج 36]. قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: {صَوَافَّ} «قِيَامًا» . [رواه البخاري]. ولحديث زياد بن جُبَير قَالَ: (رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا، قَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم[رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري]. ولحديث عبد الرحمن بن سابِط: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَةَ مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا)[رواه أبو داود].
2) يُستحبُّ في البَقَرِ والغَنَمِ ذبحُه بعد إضجاعِه على جنبِه الأيسرِ موجَّهاً إلى القِبلَة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة 67]، ولحديث أنسٍ رضي الله عنه قال:(ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا)[رواه البخاري ومسلم]. والصِّفاحُ: جمع صَفْحَة؛ وهى الجانب.
- ويقولُ عند الذبحِ: «باسمِ الله (وجوباً)؛ واللهً أكبرً، اللَّهمَّ هذا مِنْكَ ولَكَ (استحباباً)» ؛ لقول الله عز وجل: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام 121]، ولفعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لمّا ذَبَحَ الكَبْشيْنِ يوم الأَضْحَى قال:(اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، بِاسْمِ الله وَاللهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ ذَبَحَ)[رواه أبو داود وابن ماجه].
- يُستحبُّ له أن يَتولَّى الذبحَ بنفسِه هَدْياً كانت أو أُضحِيةً؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذبحَ أُضحيتَه بيدِه -كما في الحديث السابق-، ونَحَرَ من البُدُنِ التي أهداها في حَجِّة الوداعِ ثلاثاً وستِّينَ بَدَنَةً بيدِه، ولأنَّ فِعلَ الذبحِ قُرْبةٌ وتَوَلِّي القُرْبةَ بنفسِه أَولَى من الاستنابة فيها. فإنْ وكَّلَ من يذبحُ عنه فلا بأس؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم استنابَ عليًّا رضي الله عنه في نَحْرِ ما بقي من بُدْنِه.
ثانياً: وقتُ ذَبْحِ الأُضحِيةِ:
وقتُ الذبحِ يبدأُ بعد أوَّل صلاةِ عيدٍ بالبلدِ؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا ذَبَحَ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ المُسْلِمِينَ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ له].
- فإنْ ذبحَ قبل ذلك لم يُجزئه عن الأُضحِيةِ، وإنَّما هو لحمٌ لأهلِهِ؛ لحديث أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النَّحرِ: (مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ)[رواه البخاري ومسلم].
- ويستمرُّ وقتُ الذبحِ-ليلاً أو نهاراً- إلى آخرِ اليومِ الثاني من أيَّامِ التّشريقِ
-وهو يومُ الثاني عشرَ من ذي الحجَّة-؛ وعليه فلا يُجزئ الذبحُ في اليومِ الثالثِ من أيَّام التشريقِ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم (نَهَى أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الأَضَاحِي بَعْدَ ثَلَاثٍ)[رواه البخاري ومسلم، واللفظ له]. ومنْ غيرِ الجائزِ أنْ يكونَ الذبحُ مشروعاً في وقتٍ يَحرُمُ فيه الأكلُ.
- فإذا انتهى وقتُ الذبحِ -وذلك بغروبِ شمسِ يوم الثاني عشرَ من ذي الحجَّة- دون أن يُضحِّي، وكانت الأُضحِيةُ واجبةً؛ بأنْ كانت نَذْراً ونحو ذلك؛ فإنَّها لا تسقطُ، بل يجبُ ذَبحُها قضاءً؛ لأنَّ الذبحَ أحدَ مقصودَي الأُضحِيةِ؛ فلا يَسقطُ بفواتِ وقتِه. أمَّا إذا لم تكن واجبةً فحينئذٍ تسقطُ؛ لأنّها سُنَّة قد فاتَ محلُّها.
ثالثاً: الأكلُ من الأُضحِيةِ وتقسيمُها:
1) يُسْتحبُّ للمضحِّي أن يأكلَ من أُضحِيتِه؛ حتَّى لو كانت واجبة؛ كالمنذورَةِ مثلاً؛ لحديث ثوبانَ رضي الله عنه قال: (ذَبَحَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ضَحِيَّتَهُ ثُمَّ قَالَ: يَا ثَوْبَانُ أَصْلِحْ لحْمَ هَذِهِ. فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ المَدِينَةَ)[رواه مسلم].
2) والسُّنَّةُ في الأُضحِيةِ أن يَقسمَها ثلاثاً: ثلثٌ له ولأهله، وثلثٌ يهديه، وثلثٌ يتصدَّق به؛ لأنَّ الله تعالى قال:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج 36]. و (القانع): السائل. و (المعتر): هو الذي يعتريك؛ أي: يتعرَّض لك لتُطعِمَه دون أن يسأل. فذكر ثلاثةَ أصنافٍ؛ فينبغي أن تُقَسَّم بينهم أثلاثاً.
3) يجبُ عليه أن يتصدَّق بشيءٍ منها؛ ولو بأقلِّ ما يُطلَقُ عليه اسم اللَّحم؛ لقول الله عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} ، والأمرُ يقتضي الوجوب.
فإنْ لم يَفعَلْ ضَمِن القَدْرَ المُجزئَ، ومِنْ ثَمَّ يجبُ عليه أن يشتريَ ما يعادِلَه لحماً ويتصدَّق به؛ لأنَّه حقٌّ يجبُ عليه أداؤه. والمعتبرُ هو إعطاءُ الفقيرِ منها كالزكاةِ؛ فلا يكفي إطعامُه.
رابعاً: ما يَحْرُمُ في الأُضحِيةِ:
يَحرُمُ على من أرادَ أن يضحِّي ما يلي:
1) أن يأخذَ شيئاً من شَعْرِه أو أظفارِه إذا دخلتْ عشرُ ذي الحجَّة حتَّى يَذْبحَ؛ لحديثِ أمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ فَإِذَا أَهَلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ)[رواه مسلم].
فإذا ذبحَ فيُسنُّ له الحَلْقُ بعدَه؛ قال الإمامُ أحمدُ: «وهو على ما فَعَلَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما تَعْظِيماً لِذَلِكَ الْيَوْمِ» ، ولأنَّه كان ممنوعاً من ذلك قبل أن يُضَحِّي؛ فَاسْتُحبَّ له ذلك بعدَه كالمُحْرِمِ.
2) بيعُ شيءٍ من الأُضحِيةِ حتَّى شعرُها وجلدُها، وكذا يحرمُ إعطاءُ الجازِرِ منها شيئاً على سبيل الأُجرةِ؛ لحديث عليٍّ رضي الله عنه قال:(أَمَرَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِهَا، وَأَنْ لَا أُعْطِيَ الجَزَّارَ مِنْهَا. قَالَ: نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا)[رواه البخاري ومسلم]. والأَجِلَّة: جمع جُلٍّ، وهو الكِساءُ الذي يُطرحُ على ظَهْرِ البعيرِ.
لكن يجوزُ له أن يعطيَه منها على سبيلِ الهَدِيَّةِ، أو على سبيل الصَّدقَةِ إن كان فقيراً؛
لدخولِه في عمومِ من يحقُّ له الأخذُ منها، بل هو أَوْلَى؛ لأنَّه باشرَها وتاقتْ نفسُه إليها.
خامساً: الأكلُ من الهَدْي:
1) إذا ذبحَ الحاجُّ هَدْياً على سبيلِ التطوُّع فيُستحبُّ له أن يأكلَ منه شيئاً يَسيراً ويتصدَّقَ بالباقي؛ لفِعْلِه صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر رضي الله عنه الطويل في وَصْفِ حَجَّتِه صلى الله عليه وسلم وفيه: (ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ في قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلَا
-أي: هو وعليٌّ رضي الله عنه مِنْ لَحمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا
…
) [رواه مسلم].
2) إذا ذبح هَدْياً من أجلِ أنَّه حجَّ متمتِّعاً أو قارِناً -وهذا الهَدْيُ واجبٌ كما سبقَ- فيُباحُ له الأكلُ منه؛ لأنَّ أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم تمتَّعنَ معه في حجَّة الوداع، وأدخلت عائشةُ رضي الله عنها الحجَّ على العُمْرةِ فصارت قارِنةً، ثمَّ ذبحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عنهنَّ البقرَ فأكلنَ من لحومِها. [رواه البخاري ومسلم بمعناه عن عائشة]. ولأنَّهما دَمَا نُسُكٍ فأشبها دَمَ التطوُّع.
3) ما عَدا هَدْيَ التمتُّع والقِرَانِ من الدِّماءِ الواجبةِ لا يحلُّ له الأكلُ منها؛ لأنَّها وَجَبَتْ بسببِ فِعْلِ محظورٍ؛ فأشبهَ جزاءَ الصيدِ.
* * *
فصل في العَقيقَةِ
أوَّلاً: معنَى العَقيقَةِ:
العَقيقَةُ: هي الذَّبيحَةُ التي تُذْبَحُ عن المولودِ.
ثانياً: حُكمُ العَقيقَةِ:
العَقيقةُ سُنَّةٌ مؤكَّدَةٌ على الأبِ غنيًّا كان أو فقيراً؛ لما ثبتَ عن سَلْمانِ بنِ عامرٍ الضَّبِّيِّ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى)[رواه البخاري]، وعن سَمُرَةَ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُدَمَّى -وفي رواية: يُسَمَّى-)[رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
ثالثاً: ما يُجزئُ في العَقيقَةِ:
1) يُجزئُ في العَقيقةِ ما كان من بهيمة الأنعام؛ وهي الإبلُ والبَقرُ والغَنمُ،
ولا تجزئُ العقيقةُ من غير هذه الأجناسِ.
2) إذا كانتِ العقيقةُ من الغَنمِ؛ فيُستحبُّ أن يُذبَحُ عن الغلامِ شاتانِ، وعن الجاريةِ شاةٌ واحدةٌ؛ لحديث أمِّ كُرْز الكَعْبية رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ، لا يَضُرُّكُمْ أَذُكْرَاناً كُنَّ أَمْ إِنَاثاً)[رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه].
- ويُستحبُّ أن تكونَ الشاتانِ مُتماثلَتَيْن؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: (شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ). قال
الإمام أحمد: «يعني متقاربتين أو متساويتين» .
- فإن تعذَّر ذبحُ شاتَينِ عن الغُلامِ، أجزأَهُ ذبحُ شاةٍ؛ لما ثبت عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنِ الحَسَنِ وَالحُسَينِ كَبْشاً كَبْشاً)[رواه أبو داود].
- ولا فَرْقَ في الشاةِ أن تكونَ ذكراً أو أُنثَى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديثِ أمِّ كُرْز رضي الله عنها: (لا يَضُرُّكُمْ أَذُكْرَاناً كُنَّ أَمْ إِنَاثاً)[رواه أبو داود].
3) إذا كانتِ العقيقةُ من الإبلِ أو البقرِ، فلا يُجزئُ فيها إلَّا ما كان كاملاً؛ لأنَّها فِديَةٌ عن النَّفْسِ؛ فلا تقبلُ التشريكَ.
4) يُستحبُّ في العَقيقةِ أن يقطعَها من المفاصِلِ، ولا يَكسرَ عظمَها؛ تفاؤلاً بسلامَةِ أعضاءِ المولودِ؛ لما رُويَ عن عطاءٍ قال:(تُقَطَّعُ جُدُولاً، وَلا يُكْسَرُ لَهَا عَظْمٌ)[رواه البيهقي]. والجُدُول: جمع جَِدْل بالكسر والفتح، وهو العضو.
رابعاً: وقتُ العَقيقَةِ:
- يُسنُّ ذبحُ العقيقةِ عن المولودِ في اليوم السابعِ من ولادَتِه؛ لحديث سَمُرة بن جُندبٍ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (كُلُّ غُلامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وُيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُسَمَّى)[رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه]، فإنْ فاتَ اليومُ السابعُ فيذبحُ في اليوم الرابعِ عشرَ، فإنْ فاتَ ففي اليومِ الحادِيَ والعشرين؛ لقول عائشةَ رضي الله عنها:(وَلْيَكُنْ ذَاكَ يَومَ السَّابِعِ، فَإِنْ لَم يَكُنْ فَفِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَإِنْ لَم يَكُنْ فَفِي إِحْدَى وَعِشْرِينَ)[رواه الحاكم]. ثمَّ بعدَ ذلك يذبحُها متى تيسَّر له من غير اعتبارٍ للأسابيع.
- يُكرَهُ تلطيخُ رأسِ المولودِ بدمِ العَقيقةِ؛ لما ثبت عن بُريدَة رضي الله عنه قال: (كُنَّا في الجَاهِلِيَّةِ إِذَا وُلِدَ لأَحَدِنَا غُلَامٌ ذَبَحَ شَاةً وَلَطَّخَ رَأْسَهُ بِدَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ اللهُ بِالإِسْلَامِ كُنَّا نَذْبَحُ شَاةً وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ وَنَلْطَخُهُ بِزَعْفَرَانٍ)[رواه أبو داود]. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (وَكَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَةِ يَجْعَلُونَ قُطْنَةً في دَمِ الْعَقِيقَةِ وَيَجْعَلُونَهُ عَلَى رَأْسِ الصَّبِيِّ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجْعَلَ مَكَانَ الدَّمِ خَلُوقًا)[رواه أبو يعلى وابن حبان والبيهقي].
خامساً: آدابٌ وسُنَنٌ تتعلَّقُ بالمولودِ:
يتعلَّقُ بالمولودِ جملةٌ من السُّنَنِ والآدابِ هي:
1) الأَذانُ في أُذُنِه اليُمنَى، والإقامةُ في أُذُنِه اليُسرى؛ لما روى أبو رافعٍ رضي الله عنه قال:(رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَذَّنَ في أُذُنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ - بِالصَّلَاةِ)[رواه أبو داود والترمذي، وضعفه ابن حجر].
وعن عمرَ بن عبد العزيز أنَّه كان (إِذَا وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ أَخَذَهُ في خِرْقَةٍ؛ فَأَذَّنَ في أُذُنِهِ اليُمْنَى، وَأَقَامَ في اليُسْرَى)[ذكره ابن المنذر عنه، قال ابن الملقن: غريب، وقال ابن حجر: لم أره عنه مسنداً].
2) تحنيكُ المَولودِ، وهو مَضْغُ التَّمْرِ ونحوه، ثمَّ دَلْكُهُ بحَنَكِ المولودِ؛ فعن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قال: (وُلِدَ لِي غُلَامٌ فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ، فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ
…
) [رواه البخاري].
3) حَلْقُ رأسِ الغُلامِ في اليومِ السابعِ، ويُتَصَدَّقُ بوَزْنِه فِضَّةُ؛ لحديث سَمُرَةَ بن
جُنْدُبٍ رضي الله عنه السابق. أمَّا الأُنثَى فلا يُسنُّ حَلْقُ رأسِها.
4) تسميةُ المولودِ في اليومِ السابعِ؛ لحديث سَمُرَةَ بن جُنْدُبٍ رضي الله عنه السابق. ويجوزُ تسميتُه قبلَ اليومِ السابعِ؛ لحديث أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وُلِدَ لِيَ اللَّيْلَةَ غُلَامٌ فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ)[رواه مسلم]، وعن أنسٍ رضي الله عنه أيضاً أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لأَبِي طَلْحَةَ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ يَوْمَ وَلَدَتْهُ، فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَسَمَّاهُ عَبْدَ الله [رواه البخاري ومسلم].
سادساً: ما يُستحبُّ التَّسَمِّي به من الأسماءِ:
1) يُسنُّ تحسينُ اسمِ المولودِ، وأفضلُ الأسماءِ وأحبُّها إلى الله ما تضمَّن تعبيداً لله تعالى؛ لحديث ابن عمرَ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى الله عَبْدُ الله وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ)[رواه مسلم].
2) يُباحُ التسمِّي بأسماءِ الملائكةِ والأنبياءِ؛ لحديث أبي وَهْبٍ رضي الله عنه، وفيه: (تَسَمُّوا بِأَسْمَاءِ الأَنْبِياءِ
…
) [رواه أحمد أبو داود والنسائي، بإسناد ضعيف]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي)[رواه البخاري ومسلم]، وقد سَمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولدَه إبراهيمَ، وسمَّى ولدَ أبي موسى الأشعريِّ إبراهيمَ.
سابعاً: ما يَحرُمُ التّسَمِّي به من الأسماءِ:
1) التسمِّي بشيءٍ من أسماءِ الله تبارك وتعالى؛ لحديث هانئ بن شريح رضي الله عنه (أَنَّهُ لمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِي الحَكَمِ، فَدَعَاهُ
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ اللهَ هُوَ الحَكَمُ وَإِلَيْهِ الحُكْمُ
…
) [رواه أبو داود والنسائي]، وقد كنَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأبي شُرَيْحٍ أكبر أولاده.
2) التسمِّي بما فيه تعبيدٌ لغيرِ الله تعالى؛ كعبدِ النبيِّ، وعبد الكعبة، وعبد المسيح؛ لأنَّ العبوديةَ لا تنبغي إلَّا لله تعالى، وقد ثبت عن هانئ بن شريح رضي الله عنه قال: (وَفِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم في قَوْمِهِ، فَسَمِعَهُمْ يُسَمُّونَ رَجُلاً عَبْدَ الحَجَرِ، فَقَالَ لَهُ:
مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: عَبْدُ الحَجَرِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّما أَنْتَ عَبْدُ الله) [رواه ابن
أبي شيبة، والبخاري في الأدب المفرد].
ثامناً: ما يُكرَهً التسمِّي به من الأسماءِ:
1) التسمِّي بالأسماءِ القَبيحَةِ والتي فيها مَعصِيةٌ؛ كحَرْب، والعَاص، وشِهَاب، وحَنْظَلَة، ومُرَّة، وَحَزَن؛ لحديث أبي وهب رضي الله عنه -فيما يستحب ويكره من الأسماء-:(وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ ومُرَّة)[رواه أبو داود].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم غَيَّرَ اسْمَ عَاصِيَةَ، وَقَالَ: أَنْتِ جَمِيلَةُ)[رواه مسلم].
2) التسمِّي بالأسماءِ التي فيها تَزْكِيةٌ أو تَفْخِيمٌ أو تَعْظِيمٌ؛ كيَسَار، ومُبارك، ومُفْلح، وخَيْر، وسُرور؛ لحديث سَمُرَة بن جُنْدُبٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا تُسَمِّ غُلَامَكَ أَفْلَحَ، وَلَا نَجِيحًا، وَلَا يَسَارًا، وَلَا رَبَاحًا؛ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: أَثَمَّ هُوَ، أَوْ أَثَمَّ فُلَانٌ؟ قَالُوا: لَا)[رواه مسلم وأحمد واللفظ له].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أَنَّ زَيْنَبَ كَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ، فَقِيلَ: تُزَكِّي نَفْسَهَا.
فَسَمَّاهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ) [رواه البخاري ومسلم].
تاسعاً: اجتماعُ العَقيقةِ والأُضحِيةِ:
إذا اتَّفقَ وقتُ ذبحِ العَقيقةِ مع وقتِ الأُضحِيةِ، فعَقَّ أو ضَحَّى ونواهما جميعاً، أجزأَ ما ذبحَهُ عن الأُخرى؛ لأنَّهما عباداتان من جِنسٍ واحدٍ؛ فصحَّ دخولُ إحداهما في الأُخرى؛ كما لو اتَّفق يومُ عيدٍ ويوم جُمُعَةٍ فاغتَسَلَ لأَحَدِهما، وكما لو صلَّى ركعتين ينوي بهما تحيَّةَ المسجدِ وسُنَّةَ المكتوبَةِ، أو ذَبَحَ المتمتِّعُ والقارِنُ شاةً يومَ النحرِ أجزأَ عن دَمِ المُتعَةِ أو القِرانِ وعنِ الأُضحِيةِ.
* * *