الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة الإدارة
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمَّداً عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجمعينَ. أمَّا بعدُ:
فيسُرُّ إدارة الإفتاء بدولة الكويت أن تُقدِّم لكم هذا الإصدارَ الجديدَ (التَّسهيل في فقه المعاملات)، وهو القسمُ الثاني من سلسلةِ (التَّسهيل في فقه الإمام أحمد بن حنبل)، حيثُ تضمَّن هذا القسمُ أبوابَ المعاملات ومسائلَه الفقهيَّة على مذهب الإمام المبجَّل أحمد بن محمَّد بن حَنْبل الشيبانيِّ رحمه الله.
وقد سِرْنا فيه وَفْق المنهجيَّة العلميَّة التي جَرَيْنا عليها في الإصدار الأوَّل، من حيثُ سهولةُ العبارةِ، وتفقيرُ المسائلِ، والتَّدليلُ عليها من الأدلَّةِ الشرعيَّةِ المعتبرةِ التي استدلَّ بها فقهاءُ الحنابلةِ في كُتبِهم.
وقامَ بإنجازِ هذا العملِ فريقُ وحدةِ البحثِ العلميِّ بإدارةِ الإفتاءِ، وهم:
الشيخ/ تركي عيسى المطيري رئيساً
الدكتور/ أيمن محمَّد العُمَر عضواً
الشيخ/ أحمد عبد الوهَّاب سالم عضواً
وبعدَ الفَراغِ مِنَ العملِ العلميِّ في الكتاب؛ قامَتِ الإدارةُ بعَرْضِهِ على أصحابِ الفضيلةِ المشايخ:
الدكتور/ مطلق الجاسر.
والدكتور/ عبد السَّلام الفيلكاوي.
والأستاذ الشيخ/ خبَّاب الحمد.
فقاموا مشكورينَ بمُراجَعتهِ، واستدراكِ ما ينبغي استدراكُه، فجزاهمُ اللهُ خيراً.
ونسألُ اللهَ العَليَّ القديرَ التوفيقَ والقبولَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصَحبِهِ أجمعين.
إدارة الإفتاء
كتاب البيع
مقدِّماتٌ مهمَّةٌ
أوَّلاً: تعريفُ البَيْع:
البَيْعُ لغةً: أخذُ شيءٍ وإعطاءُ شيءٍ؛ مأخوذ من الباع -وهو مسافة ما بين الكَفَّين إذا انبسطت الذِّراعان يميناً وشمالًا-؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتبايعين يمدُّ باعه للأخذِ والإعطاءِ.
وشرعاً: هو مبادلةُ عينٍ ماليّةٍ، أو منفعةٍ مباحةٍ مطلقاً، بإحداهما، أو بمالٍ في الذِّمَّة؛ للتملُّك على التّأبيد، غيرَ رباً وقرضٍ.
ومعنى: (مبادلةُ عينٍ ماليّةٍ)؛ أي: دفعُها وأخذُ عِوَضِها؛ فلا يكون إلَّا بين اثنين فأكثر.
والعينُ الماليّةُ: كلُّ ما أُبيح نفعُه واقتناؤُه مطلقاً؛ فلا يدخلُ فيه ما لا نفع فيه شرعاً؛ كالخنزير والخمر.
ومعنى: (منفعةٍ مباحةٍ مطلقاً) أي: لا تختصُّ إباحتُها بحالٍ دون آخر -كممرٍّ في دار-، بخلاف ما تختصُّ إباحتُه ببعضِ الأحوال -كجلد ميتةٍ مدبوغٍ؛ لأنّه ينتفع به في اليابسات فحسب-؛ فهذا لا يُباع هو، ولا منفعتُه.
ومعنى: (بإحداهما) أي: بعينٍ ماليّةٍ، أو منفعةٍ مباحةٍ مطلقاً؛ كبيعِ كتابٍ بكتابٍ، أو بممرٍّ في دارٍ، أو بيعِ ممرٍّ في دارٍ بكتابٍ، أو بممرٍّ في دارٍ أخرى.
ومعنى: (أو بمالٍ في الذِّمّة) أي: مبادلةُ عينٍ ماليّةٍ أو منفعةٍ مباحةٍ مطلقاً بمالٍ في الذِّمَّة، من نقدٍ وغيره.
وقوله: (للتملُّك) احترازاً عن المبادلة لغير التملُّك؛ كأن يُعيرَه ثوبَه ليُعيرَه الآخرُ فَرَسَه.
وقوله: (على التّأبيد) بأن لا تُقيَّد مبادلةُ المنفعةِ بمدَّةٍ أو عملٍ معلومٍ؛ فتخرجُ بذلك الإجارةُ.
و (غير رباً وقَرْضٍ) إخراجٌ لهما؛ فلا يُسمَّيان بيعاً وإنْ وُجِدَت فيهما المبادلة؛ لأنّ الرِّبا محرَّمٌ، والقَرْض وإن كان فيه تملُّكٌ، إلَّا أنّ المقصود الأعظم منه الإرفاق.
ثانياً: حُكْمُ البيع:
البيعُ جائزٌ بدلالة الكتاب، والسنَّة، والإجماع.
- أمّا الكتابُ؛ فلقوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275].
- وأمّا السنّة؛ فلحديث حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا)[متّفق عليه].
- وأمّا الإجماع؛ فقد أجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة.
ثالثاً: أركانُ البيع:
أركانُ البيع ثلاثةٌ:
الأوَّلُ: العاقدان، وهما البائع والمشتري.
والثَّاني: المعقود عليه، وهو المبيع والثمن.
والثَّالث: المعقود به، وهو الصِّيغة، ولها صورتان: قوليَّةٌ، وفعليَّةٌ.
الأُولَى: القوليَّةُ: وهي: الإِيجابُ والقَبولُ: ويحصل بكلِّ لفظٍ دالٍّ على البيع
والشِّراء؛ كأن يقول البائع: بعتُك هذه السِّلعة بكذا، ويقول المشتري: قبلتُ، أو اشتريتُ.
الثَّانية: الفعليَّةُ: وهي: المُعاطاةُ: وهي: الأخذ والعطاء؛ كأن يقول المشتري: أعطِني بهذا الدِّينار خبزاً؛ فيُعطيه البائعُ ما يرضيه من الخبز، وهو ساكت. أو يقول البائع: خُذْ هذا الثوب بدِرْهَمٍ، فيأخذه المشتري ويُعطيه الدِّرْهَم، وهو ساكت. وقد تكون المعاطاةُ بسكوت الطَّرفَين؛ كما لو دفع المشتري ثَمَنَ السِّلعة إلى البائع؛ فأعطاه إيَّاها بغير قولٍ منهما.
ودليلُ صحَّة بيعِ المعاطاةِ: أنَّه جرى عليه عملُ المسلمين منذ عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عنه، ولا عن أصحابه رضي الله عنهم اشتراطُ الإيجاب والقبول في البيع.
وقال المرداوي: «قال الشيخ تقيُّ الدين: عبارةُ أصحابنا وغيرهم تقتضي أنَّ المعاطاة ونحوها ليس من الإيجاب والقبول، وهو تخصيص عُرْفيٌّ. قال: والصواب أنَّ الإيجاب والقبول اسم كلِّ تعاقد؛ فكلُّ ما انعقد به البيع بين الطرفين سُمِّيَ إثباته إيجاباً، والتزامه قبولًا» [الإنصاف (4/ 264)].
ويشترطُ في الصِّيغة أن يكون المتعاقدان قاصدين البيعَ، غير هازلينِ؛ فإذا كان أحدُهما هازلاً؛ فإنَّ البيعَ لا ينعقدُ لعَدَمِ الرِّضا، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)[متّفق عليه، واللَّفظ للبخاريِّ].
رابعاً: شروطُ البيعِ:
شروطُ البيع الَّتي تتوقَّف صحَّتُه عليها سبعةٌ، هي:
الأوَّل: الرِّضا به من المتبايِعَينِ: بأن يأتيا به اختياراً؛ لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النّساء: 29]، وقول النّبيِّ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ)[أخرجه ابن ماجه].
فلا يصحُّ البيع إذا أُكره عليه أحدُ المتبايعَينِ بغير حقٍّ، فإن كان الإكراهُ بحقٍّ؛ كأن يُكره الحاكمُ شخصاً على بيع ماله لوفاء دَينٍ عليه؛ صحَّ البيعُ؛ لأنّه حُمِل عليه بحقٍّ.
الثَّاني: أن يكون العاقدُ جائزَ التصرُّفِ؛ أي: حُرًّا، مكلَّفاً، رشيداً؛ لأنَّ البيع عقدٌ يعتبر له الرِّضا؛ فاعتبر له الرُّشد.
فلا يصحُّ البيعُ ولا الشِّراءُ من المجنون، والسَّكران، والنائم، والصَّغير غير المميِّز.
وأمَّا الصَّغير المميِّز، والسَّفيه؛ فإنْ أذِن لهما وليُّهما؛ صحَّ البيعُ، ولو في الكثير؛ لقوله سبحانه:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النِّساء: 6]. أي: اختبروهم لتَعْلَموا رُشْدَهم، وإنَّما يتحقَّق ذلك بتفويض البيع والشِّراء إليهما.
وينفذ تصرُّفهما في الشيء اليسير بغير إذن الوليِّ؛ لأنَّ الحكمة في الحَجْر هي خوف ضياع المال، وهو أمرٌ مفقودٌ في الشيء اليسير.
الثَّالث: أن يكونَ المبيعُ مالًا: والمال: ما يُباحُ نفعُه في جميعِ الأحوالِ، أو يُباحُ اقتناؤه بلا حاجة.
فلا يصحُّ بيعُ ما لا نفعَ فيه؛ كالحشرات، أو ما فيه نفعٌ محرَّمٌ؛ كالخمرِ، والخنزيرِ، أو ما لا يباح إلَّا عند الاضطرار كالميتة؛ لقول النّبيِّ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ، وَالمَيْتَةِ، وَالخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ)[متّفق عليه]، أو ما لا يُباح اقتناؤُه إلَّا لحاجةٍ؛ كالكلبِ؛ لحديث أبي مسعود الأنصاريِّ رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ
…
) [متّفق عليه].
أمَّا السُّمُّ المُستخرَجُ من الحشائش والنباتات؛ فإنْ كان لا يُنتَفَعُ به، أو كان يقتلُ قليلُه، لم يجز بيعُه؛ لعدم نَفْعِهِ. وإنِ انتُفِعَ بِهِ، وأمكن التداوي بيَسيرِه، جازَ بيعُهُ؛ لأنَّه طاهرٌ مُنتَفَعٌ به؛ فأشبه بقيَّة المأكولات.
الرَّابع: أن يكون المبيعُ مملوكاً للبائع وقتَ العقد، أو مأذوناً له في بيعه من المالك، أو من الشَّارع: كالوكيل، ووليِّ الصبيِّ. فلو باع ما لا يملكه؛ لم يصحَّ البيعُ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ)[رواه أحمد، وأبو داود، والتِّرمذيُّ، والنّسائيُّ، وابن ماجه].
فلا يصحُّ بيعُ الفضوليِّ -وهو: من يبيعُ مالَ غيرِه-، ولا شراؤه، ولو أُجيزَ بعد ذلك؛ لأنّه غيرُ مالكٍ، ولا مأذوناً له في البيع وقتَ العقدِ. إلَّا في حالة واحدة، وهي: إذا اشترى الفضوليُّ في ذمَّته -لا بعَيْنِ مالِه-، ونَوَى الشراءَ لشخصٍ لم يُسمِّه في العقد، ثمُّ يُجيزُه الذي اشتراه له؛ فيصحُّ شراؤه في هذه الحالة. فإنْ لم يُجزْه الذي اشترى له لزم المشتري الفضوليَّ أخذه لنفسه.
وفي رواية أخرى: يجوزُ بيعُ الفُضوليِّ وشراؤه، إذا أجازه المالك بعد ذلك؛ لحديث عُرْوَةَ البارقيِّ رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، وَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي
بَيْعِهِ) [رواه البخاريُّ].
الخامس: أن يكون المبيعُ مقدوراً على تسلِيمِه: فلا يصحُّ بيعُ الجَمَل الشَّارد، ولو لقادِرٍ على تحصيله، ولا سمكٍ في ماءٍ؛ لأنَّ غير المقدور عليه كالمعدوم؛ فلا يصحُّ بيعُه؛ لما فيه من التَّغرير بالمشتري، والنبيَّ صلى الله عليه وسلم:(نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ)[رواه مسلم]. إلَّا إذا كان مرئيًّا، مَحُوزاً في حوضٍ ونحوه، يسهل أخذه منه؛ لأنَّه معلومٌ يُمكن تسليمه؛ فإنْ عجز عن تسليمه لم يصحَّ بيعُه.
السَّادس: معرفة الثَّمن والمُثمَن للمتعاقدين: إمَّا بالمشاهدة حال العقد، أو قبله بزمنٍ يسيرٍ، لا يتغيَّر فيه المبيع عادةً، أو بالوصف فيما يجوز السَّلَمُ فيه.
وذلك لأنَّ الجهالة بالثَّمَن أو المُثْمَن غَرَرٌ؛ فيشمله عموم النَّهي عن بيع الغرر.
السَّابع: أن يكون البيع منجَّزاً: في الحال؛ فلا يصحُّ البيعُ ولا الشِّراءُ معلَّقاً؛ كبعتُك إذا جاء رأسُ الشَّهر، أو إن رضي زيدٌ؛ وذلك لأنَّ البيع عقد معاوضةٌ، ومقتضى المعاوضة نَقْلُ المِلك حالَ العقد، والتّعليق يمنع ذلك.
ويصحُّ البيعُ إذا قال البائعُ: بعتُ إن شاء الله، أو قال المشتري: قبلتُ إن شاء الله؛ لأنَّه يقصد به التبرُّك، لا التَّردُّد؛ فليس فيه غررٌ.
* مسألةُ تفريق الصَّفقة:
وهي أن يبيع شيئاً معلوماً وشيئاً مجهولاً في صفقة واحدة بثمن واحدٍ، ولها ثلاث صور:
الأُولَى: أن يبيع معلوماً ومجهولاً تُجهل قيمتُه؛ كما لو قال: بعتُك هذه الفَرَس،
وما في بطن هذه الفَرَس الأُخرى؛ فلا يخلو من إحدى حالتين:
أُولاهما: ألَّا يتعذَّر معرفة ثمن المجهول؛ فيصحُّ البيعُ في المعلومِ بقِسْطِه من الثمن، ويبطُل في المجهولِ؛ لأنّه لا يصحُّ بيعُه لجهالتِه.
ثانيهما: أن يتعذَّر معرفةُ ثمن المجهول؛ فيبطُل البيعُ في المجهول والمعلوم جميعاً؛ لأنّ ثمنَ المعلوم صار مجهولاً.
الثَّانية: أن يبيع جميع ما يملكُ بعضَه بغير إذن شريكه؛ كما لو باع أرضاً بينه وبين غيره بغير إذن شريكه بثمنٍ واحدٍ؛ فيصحُّ البيع في نصيب البائع بقِسْطِه من الثمن؛ لعدم جهالة الثمن، ولا يصحُّ في نصيب شريكه؛ لعدم إذنه.
وللمشتري الخيار بين ردِّ الأرض، أو الإمساك إن لم يعلم أنّ المبيع مشترك بينه وبين غيره؛ لتبعُّض الصفقة عليه، وللمشتري الأرش إن أمسك فيما يُنقصه التفريق.
الثَّالثة: أن يبيع ما يحلُّ مع ما لا يحلُّ؛ كأن يبيع خلًّا وخمراً بثمن واحد؛ فيصحُّ البيع في الخلِّ بقِسْطِه من الثمن؛ لأنّه مباحٌ يُنتَفَع به يصحُّ بيعه مفرداً، ولا يصحُّ في الخمر؛ لأنَّه يحرمُ بيعه، ويُقدِّر الخمرَ خلًّا؛ ليُقسِّط الثَّمن عليهما فيُسْقِطُ قيمة الخمر.
وللمشتري الخيار بين الفسخ والإمساك إن كان يجهل الحال وقت العقد؛ لتبعُّض الصفقة عليه.
باب الشروط في البيع
ما سبق من الشروط هي شروط صحَّة البيع، وتُسمَّى الشروط الشرعيَّة، وهناك نوعٌ من الشروط تُسمَّى الشروط في البيع، أو الشروط الجعليَّة؛ أي: التي جعلها العاقد في العقد.
أوَّلاً: تعريف الشَّرْطِ في البيعِ:
الشَّرْطُ في البيعِ: هو إلزامُ أحدِ المتعاقِدَين الآخرَ -بسبب العقد- ما له فيه منفعة.
ويعتبر لترتُّب الحكم عليه: أن يكون الشرط مقارناً للعقد.
ثانياً: مشروعيَّة الشُّروطِ في البيع:
الشُّروطُ في البيع جائزةٌ في الجملة؛ ما لم تخالف دليلاً شرعيًّا، أو تخالف مقتضى عقد البيع. وقد دلَّ على مشروعيَّتها ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ)[رواه أبو داود].
ثالثاً: أقسامُ الشُّروطِ في البيع:
تنقسم الشروط في البيع إلى قسمين:
القسم الأوَّل: شرطٌ صحيحٌ، ليس لمن اشتُرِطَ عليه فَكُّه. وهذا القسم ثلاثة أنواع:
1) شرطٌ يقتضيه العقد؛ بأن يشترط البائع أو المشتري شيئاً بحكم الشرع؛ كشرط تقابض الثمن وحلوله، أو تصرُّف كلِّ واحد منهما فيما يصير إليه من الثمن أو السلعة، أو ردِّ السلعة بعيب قديم.
وهذا النوع من الشروط لا أثر له في العقد؛ لأنَّه من مقتضياته، فذِكْرُه وعَدَمُه سواء، وهو إذا ذكر في العقد فمن باب البيان والتأكيد.
2) شرطٌ من مصلحة العقد؛ أي: مصلحة تعود على المُشتَرِط؛ كاشتراط صفةٍ في الثَّمَن؛ مثل: أن يكون الثَّمَنُ أو بعضُه مؤجَّلاً، أو اشتراط التوثيق برَهْنٍ، أو اشتراط ضامِنٍ، أو اشتراط صِفَةٍ في المبيع؛ مثل: اشتراط أن تكون السلعة من النوع الجيِّد، أو من صناعة بلدٍ معيَّن؛ لأنَّ في اشتراط هذه الصفات قصداً صحيحاً، وتختلف الرغبات باختلافها، فلولا صحَّة اشتراطها؛ لفاتت الحكمة التي لأجلها شُرِعَ البيعُ.
وهذا النوع من الشروط إذا وُجِدَ صارَ البيع به لازماً، ولا فسخ لصاحب الشرط، وإن لم يُوجَدْ كان له الخيارُ بين فسخ العقد، أو أَرْشِ فَقْدِ الصفة؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ)[رواه أبو داود].
3) أن يشترطَ أحدُ المتعاقدين على الآخر بَذْل منفعةٍ مباحةٍ في المبيع؛ كأن يشترط البائع على المشتري سُكْنَى الدار المبيعة مدَّة معيَّنة، أو أن يستعمل السيَّارة المبيعة مدَّة معيَّنة، أو أن يوصله بها إلى موضع معيَّن، أو أن يشتري منه سلعة بشرط أن ينقلها له إلى موضع معيَّن. فيصحُّ هذا النوع من الشروط، على أنْ لا يزيد على شرطٍ واحدٍ؛ لما جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ، فَكُنْتُ عَلَى جَمَلٍ ثَفَالٍ -بطيء السَّيْر-، إِنَّمَا هُوَ فِي آخِرِ القَوْمِ، فَمَرَّ بِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّاهِ، قَالَ: مَا لَكَ؟ قُلْتُ: إِنِّي عَلَى جَمَلٍ ثَفَالٍ، قَالَ: أَمَعَكَ قَضِيبٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَعْطِنِيهِ، فَأَعْطَيْتُهُ، فَضَرَبَهُ، فَزَجَرَهُ، فَكَانَ
مِنْ ذَلِكَ المَكَانِ مِنْ أَوَّلِ القَوْمِ، قَالَ: بِعْنِيهِ، فَقُلْتُ: بَلْ، هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللّاهِ، قَالَ: بَلْ بِعْنِيهِ؛ قَدْ أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى المَدِينَةِ) [رواه البخاري ومسلم].
فإن تعذَّر استيفاء المنفعة بسببٍ من الطرف المشروط عليه؛ فللطرف الآخر أجرةُ مثلِ المنفعة المستثناة؛ لأنَّه فوَّتها عليه.
وإن تعذَّر استيفاء المنفعة بسببٍ خارج عن الطرف المشروط عليه؛ لم يضمن شيئاً.
القسم الثَّاني: شرطٌ فاسِدٌ؛ وهو على ثلاثة أنواع:
1) شرطٌ فاسدٌ يُبطِلُ العَقْدَ من أَصلِهِ؛ كأن يشترط أحدهما على الآخر مع عقد البيع عقداً آخر؛ من بيعٍ، أو قرْضٍ، أو إجارةٍ، أو شركةٍ؛ مثل أن يقول: بعتك هذه السيارة بشرط أن تؤجِّرني دارك، أو: بعتك هذه السلعة بشرط أن تقرضني مبلغ كذا، أو: بعتك على أن تزوِّجني ابنتك، أو أُزوِّجك ابنتي؛ فمثل هذه الشروط فاسدة تعود على أصل العقد بالبطلان؛ للنهي الوارد عن أن يجمع عَقْدَين في عَقْدٍ واحد؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:(نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ)[رواه أحمد، والترمذي].
وكذلك إذا جمع بين شرطين في عقدٍ واحد؛ كشرط حَمْل حَطَبٍ وتكسيره؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ
…
) [رواه أبو داود، والترمذي]. إلَّا إذا كان الشرطان من مقتضى البيع؛ كاشتراط أن يكون الثمن حالًّا، وتصرُّف كلٍّ من المتعاقدين فيما يصير إليه، أو أن يكون الشرطان من مصلحة العقد؛ كاشتراط رَهْنٍ وضَمينٍ معيَّنين بالثمن؛
فيصحُّ.
2) شرطٌ فاسدٌ في نفسه، ولا يعود على أصل العقد بالبطلان، وهو الشرط الذي ينافي مقتضى العقد؛ كأن يشترط المشتري على البائع أنَّه إن خسر في السلعة ردَّها عليه، أو أن يشترط البائع على المشتري أن لا يبيع السلعة، أو أن لا يهبها، أو أن لا يوقفها؛ فهذا الشرط باطل، ويصحُّ معه البيع، ولا يعود على أصل العقد بالبطلان؛ لما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت:(جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، في كُلِّ عَامٍ وَقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي، فَقُلْتُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُوَنُ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلَهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ، فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الوَلَاءُ لَهُمْ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ؛ مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللّاهِ؟! مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ)[رواه البخاري ومسلم].
3) شرطٌ لا ينعقدُ معه البيعُ، وهو البيعُ المعلَّق على شرط؛ وقد سبق بيانه عند الكلام على شروط صحَّة البيع، (ص 12).
باب الخِيارُ في البَيع
أوَّلاً: تعريفُ الخِيار في البيع:
الخِيارُ في البيع وغيره: هو طلبُ أحدِ المتعاقِدَين خيرَ الأَمْرَين؛ من إمضاء العقد، أو فسخه.
ثانياً: حُكْمُ الخِيار في البيع:
الخيار في البيع من الأمور المشروعة، وقد دلَّ على مشروعيَّته السنَّة النبويَّة؛ ومن ذلك:
- حديث حَكيم بن حِزام رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، -أَوْ قَالَ: حَتَّى يَتَفَرَّقَا-؛ فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا)[رواه البخاري ومسلم].
- حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تَلَقَّوْا الجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ، فَهُوَ بِالخِيَارِ)[رواه مسلم]. والجَلَب -بفتح اللَّام وسُكونها-: هو الشيء المجلوب من محلٍّ إلى غيره ليُباع فيه.
ثالثاً: الحِكمةُ من مشروعيَّة الخِيار في البيع:
اقتضت حكمة التشريع أن تجعل لعقد البيع فترة زمنيَّة يتروَّى فيها المتبايعان في أمرهما، ويتبيَّنان مصلحتهما في إتمام البيع أو فسخه؛ نظراً لكون العقد قد يقع بغتة من غير تَرَوٍّ، ولا تفكير؛ فشُرع الخيار في البيع مراعاةً لمصالح الناس، ورفعاً للحرج والمشقَّة عنهم؛ حيث يُمنَح المتعاقدان فرصة لاسترداد المبيع، أو القيمة قبل
لزوم العقد وثبوته، عند عدم الرغبة في إتمام الصفقة لسبب من الأسباب، في مدَّة يقرِّرها الشرع، أو يقرِّرها المتبايعان أو أحدهما.
رابعاً: أقسامُ الخِيار في البيع:
ينقسم الخِيارُ في البيع إلى سبعة أقسام، هي:
الأوَّل: خِيارُ المَجْلِسِ: أي المكان الذي جَرَى فيه التبايع.
وهو حقٌّ ثابت لكلِّ واحد من المتعاقدين ما داما في مجلس العقد، فإذا وقع التفرُّق بينهما في الأبدان صار العقد لازماً.
ويدلُّ لهذا النوع من الخيار: ما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:(إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ يَتَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا البَيْعَ، فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ)[متفق عليه].
* ابتداءُ مدَّة خِيار المَجلِسِ وانتهاؤه:
- مدَّة هذا النوع من الخيار: من حين العقد -وهو الإيجاب والقبول- إلى أن يتفرَّقا بأبدانهما من مجلس العقد بغير إكراه لهما، أو لأحدهما.
- والتفرُّق مرجعُه إلى عُرْف الناس وعادتهم فيما يعدُّونه تفرُّقاً؛ فإن كانا في مكان واسع؛ فالتفرُّق يكون بأن يمشي أحدهما خطوات مستدبراً صاحبه، وإن كانا في دارٍ كبيرة ذات مجالس وغُرَف؛ فالتفرُّق يكون بمغادرة المجلس الذي هما فيه إلى مجلس آخر أو غُرْفةٍ أخرى، وإن كانا في دارٍ صغيرة؛ فالتفرُّق يكون بالخروج من الدار، وإن
كانا في سفينةٍ كبيرةٍ؛ فالتفرُّق يكون بأن يصعد أحدهما إلى أعلاها مثلاً.
- يحرم على أحد المتعاقدين مفارقة أخيه بقصد إسقاط خيار المجلس؛ خشية أن يستقيله؛ لما جاء في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(المُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي].
* العُقودُ التي يصحُّ فيها خِيار المَجلِسِ:
- محلُّ خيار المجلس العقود اللَّازمة؛ كعقد البيع، والإجارة، ولا مدخل له في العقود الجائزة؛ كعقد الشركة، والوكالة، والمساقاة، والمزارعة، والعارية؛ لأنَّ هذه العقود غير لازمة بأصل وضعها، تُمكِّن كلَّ طرف في العقد من فسخه دون الرجوع إلى رضا الآخر.
ولا يثبتُ خِيارُ المَجلِسِ في حَوالةٍ؛ لاستقلال أحدِ المتعاقدين بها، ولا في مسابقةٍ؛ لأنَّها جعالة.
* إنهاءُ خِيار المَجلِسِ وإسقاطُه:
- يجوز للمتعاقدين إسقاطُ خيار المجلس بينهما؛ فإن تبايعا على أن لا خيار بينهما، أو أسقطاه بعد البيع، وقبل التفرُّق، لزم البيع بمجرَّد الإيجاب والقبول.
- إن أسقط أحد المتبايعين حقَّه في خيار المجلس، بقي حقُّ الآخر في الخيار ثابتاً؛ لأنَّه لم يوجد منه ما يُبطل خياره.
- ينقطع خيار المجلس بموت أحد المتعاقدين؛ لأنَّ الميِّت يتعذَّر منه الخيار،
والباقي منهما يبطل خياره؛ للتفرُّق بسبب الموت؛ إذ هو أعظم فرقةً من التفرُّق بالأبدان.
- ولا ينقطع بجنون أحد المتعاقدين في المجلس، وهو باقٍ على خياره إذا أفاق من جنونه، حتى يجتمعا، ثم يتفرَّقا.
الثاني: خِيارُ الشَّرْطِ: وهو أن يشترط المتعاقدان أو أحدهما أنَّ له الخيار بين إمضاء العقد أو فسخه إلى مدَّة معلومة. ويكون اشتراط ذلك إمَّا في أثناء العقد، أو بعده في مدَّة خيار المجلس وقبل التفرُّق.
ويدلُّ له عموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ)[رواه أبو داود].
* العُقودُ التي يصحُّ فيها خِيارُ الشَّرْط:
يثبت خيارُ الشرطِ في البيع، وما في معناه؛ كالصُّلْحٍ بعِوَضٍ، والهِبَة بعِوَضٍ، والقِسْمةِ بعِوَضٍ؛ لأنَّها من صور البيع. ويثبت أيضاً في إجارةٍ في ذمَّةٍ؛ كخياطة ثوبٍ؛ لأنَّه استدراك لغبْنٍ، فأشبه خيار المجلس. ويثبت خيار الشرط كذلك في إجارة عينٍ مدَّة لا تلي العقد؛ لأنَّه يؤدِّي إلى فوات بعض منافع العين المعقود عليها.
ولا يصحُّ أن يكون خيار الشرط في عقدِ بيعٍ مؤجَّل جُعِل حيلةً ليربح في قرضٍ؛ لأنَّه وسيلة لِمُحَرَّم وهو الرِّبا.
ولا يصحُّ خيار الشرط أيضاً في بيعٍ قَبْضُ عِوَضِه شرطٌ لصحَّته؛ كالصَّرْف، والسَّلم، وبيع مالٍ ربويٍّ بجِنْسِه؛ لأنَّ موضوعها على أنْ لا يبقى عَلَقةٌ بعد التَّفرُّق بين المتبايعين، ولذا اشترط فيها القبض، وثبوت خيار الشرط ينافي ذلك.
* ابتداءُ مدَّة خِيار الشَّرْط وانتهاؤها:
- تبتدئ مدَّة خيار الشرط من حين العقد إذا شُرِط في صلبه، ومن حين الشرط إذا شُرِط بعد العقد زمن الخيار، وينتهي إلى المدَّة المشروطة.
- لا بدَّ في خيار الشرط أن يكون إلى مدَّة معلومة ولو طالت المدَّة، ولا يصحُّ أن تكون مدَّته مجهولة؛ كأن يشترطاه على الدوام والتأبيد، أو من غير تقييد بزمن معلوم؛ كأن يقول: اشتريت ولي الخيار متى شئت، أو متى قدم زيد، أو متى نزل المطر، أو قال: اشتريت وَلِيَ الخيار، ولم يعيِّن مدَّته، ونحو ذلك. فإن كان خيار الشرط مجهولاً فسد الشرط وصحَّ العقد.
- إذا كان خيار الشرط محدَّداً بزمن معيَّن؛ فإنَّه ينتهي بأول ذلك الزمن المعيَّن؛ كأن يشترطاه إلى الغد، فإن الغد لا يدخل في المدَّة؛ فيسقط الخيار بأوَّل الغد، وهو طلوع فجره، وإن شرطاه إلى الظهر، سقط الخيار بأول وقت الظهر هو الزوال؛ لأنَّ (إلى) لانتهاء الغاية، وما بعدها يخالف ما قبلها.
* التصرُّفُ في المَبيعِ والثَّمَنِ في مدَّة خِيار الشَّرْط:
- يحرم تصرُّف المتعاقدين في الثَّمَن والمُثْمَن في مدَّة الخيار، إذا كان الخيار لهما جميعاً، ولم يأذن أحدهما للآخر بالتصرُّف، ما لم يكن التصرُّف بقصد تجربة المبيع واختباره، أمَّا تصرَّفهما بالبيع، والهبة، ونحوهما؛ فلا يصحُّ، ولا ينفذ؛ لأنَّه ليس ملكاً للبائع فيتصرَّف فيه، ولم تنقطع عَلَقُه عنه حتَّى يتصرَّف فيه المشتري.
- إذا كان خيار الشرط للمشتري وحده، وتصرَّف في المبيع، سقط خياره، وصار البيع لازماً. أمَّا لو كان الخيار للبائع وحده، وتصرَّف في المبيع؛ فلا يصحُّ
تصرُّفه، ولا يعدُّ فسخاً للبيع؛ لأنَّ ملك المبيع انتقل للمشتري.
* نَماءُ المَبيع زَمَنَ خِيار الشَّرْط:
- إذا حصل نماءٌ منفصلٌ في المبيع -كالولد، واللَّبَن، والثَّمَرة- في مدَّة الخيار؛ فيكون للمشتري، سواء أمضيا العقد أو فَسَخاه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(الخَرَاجُ بالضَّمَانِ)[رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي]، ولأنَّ انتقال الملك في المبيع إلى المشتري يكون من حين العقد، لا من حين انتهاء زمن الخيار، وجواز فسخ العقد لا يوجب قصوره، ولا يمنع نقل الملك فيه.
وأمَّا النَّماء المتَّصلُ -كالسِّمَنِ، والكِبَر، وتعلُّم صنعةٍ، وحَمْل البهيمة- فهو تابع للمبيع؛ فإن أمضيا العقد صار للمشتري، وإن فسخاه؛ فهو للبائع.
* إنهاءُ خِيار الشَّرْط وإسقاطُه:
- ينتهي خيار الشرط ويسقط بواحد من الأمور التالية:
1) إمضاءُ العقد أو فسخه في زمن الخيار بالقول أو الفعل. ولا يفتقر فسخه إلى حضور الطرف الآخر، ولا رضاه.
2) انتهاءُ مدَّة الخيار المشروطة.
3) هلاكُ المبيع، أو حدوث عيب ظاهر به على يد من له الخيار؛ فإن كان الخيار للبائع بطل البيع، وإن كان للمشتري لزم البيع.
4) موتُ من اشتُرِط له خيار الشرط؛ لأنَّ خيار الشرط لا يُورَث، إلَّا إنْ طالب به مستحقُّه قبل موته؛ فإنَّه يُورَث.
الثَّالث: خِيارُ الغَبْن: وهو أن يُغْبَنَ -أي يُخْدَع- أحد المتعاقدين في سلعة أو ثمنها غَبْناً يخرج عن العادة؛ كأن يبيع سلعةً تساوي عشرة بخمسة، أو يشتري سلعةً تساوي خمسة بعشرة.
- وهذا الغَبْنُ والخِداعُ محرَّم؛ لنهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عنه -كما سيأتي-، ولما فيه من التغرير بأحد المتبايعين.
* صُورُ خِيارِ الغَبْنِ:
يثبت خيارُ الغَبنِ في ثلاث صورٍ:
1) تلقِّي الرُّكبان: وهم القادمون من خارج البلد وقد جلبوا معهم ما يبيعونه؛ فيتلقَّاهم مشترٍ فيشترى منهم أو يبيعُهم، سواء قصد المتلقِّي تلقِّيهم أو لم يقصد؛ لأنَّ الخيار شُرِع لإزالة ضررهم بالغَبْن، ولا أثر للقصد فيه.
فإذا نزلوا إلى السوق وعلموا أنَّهم قد غُبِنوا غَبْناً يخرج عن العادة؛ فيُخيَّرون بين الفسخ والإمساك. ويدلُّ له ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لَا تَلَقَّوْا الجَلَبَ؛ فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ)[رواه مسلم].
2) النَّجْش: هو أن يزيد في سعر السلعة وهو لا يريد شراءها؛ ليَغُرَّ المشتري، ولو كانت المزايدة بلا مواطأة مع البائع. ويدلُّ له ما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال:(نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّجْشِ)[رواه البخاري ومسلم].
وللمغبون في هذه الصورة الخيار بين الفسخ وإمضاء البيع.
3) بيع المُسْتَرسِل: وهو من يجهل قيمة المبيع من بائع ومشتر، وكان لا يُحسِنُ المُماكَسَة -أي: المطالبة بإنقاص الثمن-؛ فإذا غُبِن ثبت له الخيار؛ لأنَّ الغَبْن قد حصل بسبب جهله بالمبيع، ويُقْبل قوله بيمينه في جهل القيمة إن لم تُكذِّبه قرينةٌ.
* الأحكامُ الَّتي تتعلَّق بالغَبْنِ:
- تقدير الغبن مرجعه إلى العُرف والعادة؛ لأنَّ الشرع لم يَرِد بتحديده؛ فصار مرجعه إلى العُرف، وسؤال أهل الخبرة في ذلك.
- إذا حصل الغَبْن في بيع أو شراء ثبت للمغبون الخيار بين الفسخ أو الإمساك؛ فإن اختار الإمساك؛ فلا أَرْشَ للمغبون؛ لأنَّ الشرع لم يجعل الأَرْشَ في مقابل الغبن، ولأنَّه لم يَفُتْ عليه جزء من المبيع حتَّى يأخذ الأَرْشَ في مقابله.
- خيار الغَبْن على التراخي لا على الفور؛ لأنَّه ثبت لدفع ضرر متحقِّق؛ فلا يسقط بالتأخير، إلَّا بما يدلُّ على الرِّضا.
الرَّابع: خِيارُ التَّدْلِيسِ: والتدليس هو إظهار السلعة بصورةٍ مرغوبٍ فيها، وهو خالٍ منها؛ ليزيد في ثمنها؛ كجمع لبن الشاة وما في حُكْمِها في الضَّرْع بتركها بغير حَلْبٍ؛ ليظنَّها المشتري كثيرة اللبن، ووضع الخضار والفاكهة الجديدة في الصناديق فوق القديمة.
والتدليس في البيع مُحرَّم؛ لما فيه من الغشِّ والتغرير بالمشتري، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا)[رواه مسلم].
وعنه -أيضاً- أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ
بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا؛ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ) [رواه البخاري ومسلم].
* أحكامُ خِيار التَّدليس:
- إذا علم المشتري بالتدليس في السلعة، فله الخيار بين ردِّ السلعة، والإمساك من غير أَرْش؛ لأنَّ الشرع لم يجعل فيه أَرْشاً.
- يثبت حقُّ الردُّ بخيار التدليس للمشتري، سواء حصل التدليس بقصد، أو بدون قصد؛ لدفع الضرر عن المشتري، فأشبه العيب.
- إذا تصرَّف المشتري بالسلعة بعد العلم بالتدليس سقط خياره، وبطل ردُّه؛ لأنَّ تصرُّفه فيها يدلُّ على رضاه.
- خيار التدليس يكون على التراخي لا على الفور، إلَّا المصرَّاة -كما سيأتي-.
* أحكامُ المُصَرَّاة:
- إذا علم المشتري بتَصْرِيَةِ اللَّبن في ضرع بهيمة الأنعام التي اشتراها؛ فإنَّه يُخيَّر ثلاثة أيَّام منذ علمه بها؛ فإن علم بالعيب قبل حَلْبِها، ردَّها ولا شيء معها، وإن علم به بعد حَلْبِها، ردَّها وصاعاً من تَمْرٍ، ولو زادت قيمته أو نقصت؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ ابْتَاعَ شَاةً مُصَرَّاةً؛ فَهُوَ فِيهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا، وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ)[رواه مسلم].
- إذا لم يجد المشتري التَّمْر بمَحَلِّ رَدِّ المُصَرَّاة؛ فيلزمه قيمته في موضع العقد؛ لأنَّها بدلُ مثله عند إعوازه، ولزوم دفعه في موضع العقد؛ لأنَّه محلُّ الوجوب.
- يُقبل ردُّ اللبن المحلوب من مصرَّاة بَدَلَ التَّمْر إن كان اللبنُ بحاله لم يتغيَّر.
- إذا اشترى مصرَّاة، ثمَّ صار لبنها معتاداً، سقط الردُّ بالتصرية؛ لزوال العيب.
الخامس: خِيارُ العَيْبِ: العَيبُ نقصٌ في عين المبيع، ولو لم تنقص به قيمته؛ كالخِصاء في بهيمة الأنعام، أو نقصٌ في قيمته عادة، وإن لم تنقص عينه؛ كالمرض في الحيوان، والعُطْلِ الذي يُخِلِّ في كفاءة محرِّك السيارة، وسوء الأدب في الخادم، ونحو ذلك.
وإخفاء العيوب في المبيع محرَّم؛ لما جاء في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلَّا بَيَّنَهُ لَهُ)[رواه أحمد، وابن ماجه].
- والعيب الذي تُردُّ به السلعة هو ما أوجب نقصان ثمنها في عُرْف التجَّار وعادتهم، ويُرجع في معرفة العيب وتقديره إلى أهل الخبرة والاختصاص.
* ثبوتُ خَيار العَيْبِ:
- إذا علم المشتري بالعيب عند العقد؛ فلا خيار له؛ لأنَّه دخل على بيِّنة؛ فدلَّ على رضاه. أمَّا إذا علم بالعيب بعد العقد؛ فإنَّه يُخيَّر بين ردِّ المبيع، وبين إمساكه وأخذ أَرْش النقص والعيب؛ وهو الفرق ما بين قيمة السلعة سَليمةً وقيمتها مَعيبةً.
- إذا أدَّى أخذ الأَرْش إلى حصول الرِّبا؛ كأن يشتري ذَهَباً بذَهَبٍ؛ فيجد الذَّهَب الذي اشتراه معيباً، أو يشتري بُرًّا أو شَعيراً بجِنْسِه، ثمَّ يجده مَعيباً؛ فإنَّ المشتري يردُّ السلعة المَعيبة، أو يمسكها مجاناً بلا أَرْشٍ؛ لأنَّ أخذ الأَرْش يؤدِّي إلى
ربا الفَضْل.
- إذا اختار المشتري ردَّ السلعة المعيبة؛ فإنَّه يتحمَّل أجرة ردِّها؛ لأنَّه بذلك اختار انتقال الملك عنه، فتعلَّق به حقُّ التوفية.
ويسترجع كامل ثمن السلعة المعيبة؛ لأنَّه بذل الثمن لسلعة سليمة، فلمَّا كانت معيبة ثبت له الرجوع بالثمن.
* حُكمُ النَّماءِ في السِّلْعَةِ المَعِيبَة:
- إذا كان للسلعة المعيبة نماءٌ منفصلٌ؛ كولد الشاة، وثمر الشجر بعد قطفه؛ فهو للمشتري؛ لأنَّه في ضمانه، وأمَّا نماؤها المتَّصل؛ كالسِّمَن في الدابَّة، وحصول الثمرة على الشجر قبل بدوِّ صلاحها؛ فإنَّه يتبع أصله.
* تَلَفُ السِّلْعَةِ المَعِيبَة عندَ المُشتري:
- إذا تلفت السلعة المعيبةُ عند المشتري وهو والبائع لا يعلمان بالعيب؛ فيتعيَّن له أَرْشُ النقص، وسقط ردُّه؛ لتعذُّره والحالة هذه.
- أمَّا إذا كان البائع عالماً بالعيب، وكتمه ليدلِّس على المشتري، وتلفت السلعة عند المشتري؛ فيرجع المشتري على البائع بكامل الثمن، ولا شيء للبائع بدل تلف السلعة.
- خيار العيب على التراخي، ولا يبطل بالتأخير ولا يسقط؛ لأنَّه شُرع لدفع ضرر متحقِّق، إلَّا إذا تصرَّف المشتري في السلعة -عالماً بعيبها- بما يدلُّ على رضاه بها؛ كعرضها للبيع، أو هبتها، أو استغلالها.
- لا يسقط خيار العيب إذا تصرَّف المشتري في السلعة عالماً بعيبه، وكان تصرُّفه على سبيل التجربة والاختبار.
- لا يفتقر الفسخ بالعيب إلى حضور البائع ولا رضاه، ولا يفتقر إلى حكم قاض.
- تكون السلعة بعد الفسخ أمانة في يد المشتري؛ لا يضمنها إلَّا بالتعدِّي أو التقصير في ردِّها.
* اختلافُ المُتبايِعَيْن في حُصولُ العَيْبِ:
- إذا اختلفَ البائعُ والمشتري عند مَنْ حَصَلَ العَيْبُ؛ هل هو عند البائع، أو عند المشتري؟ مع تساوي الاحتمالين، ولا بيِّنة لأحدهما؛ فالقول قول المشتري مع يمينه إن لم يخرج عن يده؛ لأنَّه ينكر القبض في الجزء المعيب الذي فات عليه من السلعة، والأصل عدم قبضه؛ فيحلف أنَّه اشتراه وبه العيب، أو يحلف أنَّه ما حدث عنده.
وفي المذهب رواية -قال المرداويُّ في «الإنصاف» : وهي أنصُّها عن أحمد-: القول قول البائع مع يمينه على البتِّ أنَّه باعه وليس به عيب؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ؛ فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُ صَاحِبُ السِّلْعَةِ، أَوْ يَتَرَادَّانِ)[رواه أحمد].
- وإن كان حصول العيب لا يحتمل إلَّا قول أحدهما، كالإصبع الزائدة؛ فهنا يُقبل قول مشترٍ؛ أو جُرْحٍ طريٍّ لا يُحتمل أن يكون قبل العقد؛ فإنه يُقبلُ قول البائع؛ فيُقبَلُ قولُ أحدهما بلا يمين.
السَّادس: خِيارُ الخُلْفِ في الصِّفة: الخُلْف في الصِّفة: أن يجد المشتري المبيع الذي وُصِفَ له، أو رآه قبل العقد بزمنٍ يسيرٍ متغيِّراً تغيُّراً ظاهراً.
فإذا ثبت ذلك التغيُّر الظاهر، ثبت للمشتري حقُّ الفسخ؛ لأنَّ وجود التغيُّر بمنزلة العيب، فإن أمسكه فلا أَرْش له.
- إذا اختلف البائع والمشتري في وجود التغيُّر في صفته، أو تغيُّره عمَّا رآه عليه قبل العقد بيسير؛ حلف المشتري؛ لأنَّ الأصل براءة ذمَّته من الثمن.
- خيار الخُلْف في الصِّفة على التراخي؛ فلا يسقط خيار المشتري إلَّا بما يدلُّ على رضاه بالتغيُّر.
السَّابع: خِيارُ الخُلْف في قَدْرِ الثَّمَن: وهو أن يختلف البائع والمشتري، أو ورثتهما، أو أحد المتبايعين وورثة الآخر في قدْر الثمن؛ بأن يدَّعي البائع -مثلاً- أنَّه باعه بمائة، ويدَّعي المشتري أنَّه بثمانين.
- إذا وقع الاختلاف في قدْر الثمن، ولا بيِّنة لأحدهما، أو تساوت بيِّنتهما؛ حلف البائع أوَّلاً بادئاً بالنفي:«ما بعته بكذا، وإنَّما بعته بكذا» ، ثمَّ يحلف المشتري بادئاً بالنفي:«ما اشتريتُه بكذا، وإنَّما اشتريته بكذا» .
- إذا رَضِيَ أحدُهما بقول الآخر بعد التحالف، أو امتنع أحدهما عن اليمين، وحلف الآخر؛ أُقرَّ العقد؛ لأنَّ كلًّا من الرِّضا والامتناع عن اليمين يتضمَّن إقراراً بقول الآخر، والبيِّنة على صحَّة دعواه؛ فيسقط خيار من أقرَّ، أو قامت عليه البيِّنة.
- وإن لم يرضَ أحدُهما بقول الآخر بعد التحالف، كان لأحدهما فسخ العقد دون الرجوع إلى حكم حاكم؛ لأنَّه فسخٌ لاستدراك الظُّلامة، فأشبه ردَّ المعيب.
والرواية الأخرى في المذهب: أنَّ القول قول البائع مع يمينه؛ لما جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِذَا اخْتَلَفَ البَيِّعَانِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ؛ فَهُوَ مَا يَقُولُ رَبُّ السِّلعة، أَوْ يَتَتَارَكَانِ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي].
فصل آثارُ عقدِ البيعِ
إذا تمَّ الإيجابُ والقبولُ بين البائع والمشتري؛ فقد انعقد البيعُ، وصار لازماً، وترتَّب عليه الآثار التالية:
1) يملك المشتري المبيع بمجرَّد عقد البيع، سواء كان المبيع مَكِيلاً، أو مَوْزُوناً، أو مَعْدُوداً، أو مَذْرُوعاً، أو غير ذلك.
2) إذا كان المبيع موصوفاً، أو بِيعَ برؤيةٍ متقدِّمةٍ على العقد، أو كان مكيلاً،
أو موزوناً، أو معدوداً، أو مَذْرُوعاً؛ فلا يصحُّ تصرُّف المشتري فيه قبل قبضه؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ)[متَّفق عليه]، ولأنَّ الشيء الذي يحتاج إلى توفية إذا تلف قبل القبض فهو من ضمان البائع، وليس للمشتري أن يتصرَّف فيه إلَّا بعد القبض.
وما عدا ذلك فيصحُّ تصرُّف المشتري في المبيع قبل القبض؛ فيجوز له بيعُه، وهِبتُه، ووقْفُه، وإجارتُه؛ كأن يبيع داراً، أو شاةً، أو سيَّارةً؛ لأنَّها لا تحتاج إلى توفيةٍ بكَيْلٍ، أو وَزْنٍ، أو عَدٍّ، أو ذَرْعٍ.
3) يكون المبيع بعد العقد من ضمان المشتري؛ فإذا تلف كان من ضمانه؛ سواء تمكَّن من قبضه أو لم يتمكَّن، ما لم يمنعه البائع من قبضه، أو كان المبيع ثَمَراً على شجر، أو كان البيع بصفةٍ، أو رؤيةٍ متقدِّمةٍ؛ فإنَّه يكون من ضمان البائع؛ لانتفاء القبض في حقِّه.
4) إذا تلف المبيع المَكِيلُ، أو المَوْزونُ، أو المَعْدودُ، أو المَذْروعُ قبل قبض المشتري
له؛ فإنَّ المبيع يكون من ضمان البائع حتَّى يقبضه المشتري؛ لتلفه قبل تمام ملك المشتري عليه.
5) إذا تلف المبيع المَكِيلُ، أو المَوْزونُ، أو المَعْدودُ، أو المَذْروعُ بآفَةٍ سماويَّةٍ
-وهي ما لا صُنْعَ للآدميِّ فيها- قبل قبضه المبيع، انفسخ عقد البيع؛ لأنَّه من ضمان بائعه؛ ولحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما:(نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ)[أخرجه أحمد والنسائي]؛ أي: ربح ما بيع قبل القبض.
6) إذا بقي شيء من المبيع المكيل أو الموزون ونحوهما بعد تلفه بآفة سماوية؛ خيِّرَ المشتري بين أخذ ما بقي من المبيع بقِسْطِه، وبين الفسخ.
7) إذا تلف المبيع المكيل أو الموزون ونحوهما بفعل البائع، أو بفعل أجنبيٍّ؛ يخيَّر المشتري بين فسخ عقد البيع، والرجوع على البائع بما أخذ من الثمن؛ لأنَّه مضمون عليه إلى قبض المبيع، والتلف والعيب حصل في يده فضمنه، أو إمضاء البيع، ويطالب من أتلفه ببدله؛ فإن كان مِثْليًّا أخذ مثله، وإن كان مُتَقَوَّماً أخذ قيمته.
8) حكم ثمن المبيع المُعيَّن الذي لا يكون في الذمَّة، كالمبيع في جميع ما تقدَّم. أمَّا ما كان في الذمَّة؛ فللبائع أخذ بَدَلِه؛ لاستقراره في ذِمَّته.
9) يُسنُّ إقالة أحد المتعاقدين للآخر إذا ندم على البيع؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللهُ عَثْرَتَهُ) [أخرجه أبو داود،
وابن ماجه].
10) الإقالةُ فسخٌ للعقدِ لا بَيْعٌ؛ فتصحُّ في المبيع ولو قبل قبضِه، حتَّى في بَيعٍ بكيلٍ أو وزنٍ.
فصل صفةُ القَبْضِ في المَبيعِ
تختلفُ صفةُ قَبْضِ المبيعِ باختلاف أنواعه، وذلك كما يلي:
أوَّلاً: يحصلُ قبضُ المبيع المَكِيل بالكَيْل، والمَوْزون بالوَزْن،
والمَعْدود بالعَدِّ، والمَذْروع بالذَّرْع؛ لما جاء في حديث عثمان رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له:(يَا عُثْمَانُ إِذَا اشْتَرَيْتَ فَاكْتَلْ، وَإِذَا بِعْتَ فَكِلْ)[أخرجه أحمد، والبخاري تعليقاً].
- ولا يُشترَطُ نقل المبيع المَكِيلِ، أو المَوْزونِ، أو المَعْدودِ، أو المَذْروعِ لحصول القبض.
- ويُشترَطُ حُضورُ المستحقِّ أو نائبه للكَيْل، أو الوَزْن، أو العَدِّ، أو الذَّرْع.
ثانياً: يحصلُ قبضُ المبيع المنقول؛ كالثياب، والحيوان، والسيارات، بنقله إلى مكان المشتري
؛ لحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ، حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ)[رواه أحمد، وأبو داود -واللفظ له-].
ثالثاً: يحصلُ قبضُ ما يُتناول باليد؛ كالجواهر، والكتب، ونحوها؛ بتناول المشتري له بيده وحيازته.
رابعاً: يحصلُ قبضُ ما لا يمكن نقله من مكانه
؛ كالعقارات من بيوت، وأراضٍ، وثمرٍ على شجرٍ؛ بالتَّخْلية؛ بأنْ يُمكَّن منه المشتري، ويُخلَّى بينه وبينه ليتصرَّف فيه.
- أُجرة توفية الثَّمَن والمُثْمَن على باذله منهما؛ لأنَّه تعلَّق به حقُّ التوفية، وأجرة المنقولات على المشتري.
- لا ضمان على العامل الذي يَقُومُ بالكَيْل، أو الوَزْن، أو العَدِّ، أو الذَّرْع، أو النَّقْد، إذا كان حاذِقاً أميناً ووقَعَ منه خطأ؛ سواء كان متبرِّعاً، أو بأجرة؛ لأنَّه أمينٌ.
باب الربا
أوَّلاً: تعريف الرِّبا:
الرِّبا لغة: الزيادة.
وشرعاً: هو تَفاضُلٌ في أشياءَ (وهي المَكِيلات بجِنْسِها، والمَوْزُونات بجِنْسِها)، ونَسَاءٌ في أشياءَ (وهي المَكِيلات بالمَكِيلات ولو من غير جنسها، والمَوْزُونات بالمَوْزُونات ولو من غير جنسها)، مختصٌّ بأشياء (وهي المَكِيلات والمَوْزُونات).
ثانياً: حُكْمُ الرِّبا:
جاءت الشريعة بتحريم الربا، وبيَّنت أنَّه من كبائر الذنوب والمعاصي، وقد دلَّ على تحريمه الكتاب، والسنَّة، والإجماع:
فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
ومن السنَّة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللّاهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا
…
) الحديث [متفق عليه].
وقد وقع الإجماع على تحريم الربا؛ يقول ابن قدامة: «وأجمعت الأُمَّة على أنَّ الربا محرَّم» .
ثالثاً: الحِكْمَةُ من تحريم الرِّبا:
حرَّمت الشريعة أكل الربا والتعامل به؛ لما له من المفاسد العظيمة على الفرد والمجتمع؛ فالربا فيه ظُلْمٌ على المحتاجين، وهو سبب لوقوع الخصومة، والعداوة،
وإيغار الصدور، كما أنَّ فيه احتكاراً للمال في أيدي الأغنياء، وتضخُّمه بطريق غير مشروع.
رابعاً: الأعيانُ التي يجري فيها الرِّبا، وعِلَّة الرِّبا فيها:
نصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الأعيان التي يجري فيها الربا؛ وهي التي وردت في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ، أَوِ اسْتَزَادَ؛ فَقَدْ أَرْبَى، الآخِذُ وَالمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ)[رواه مسلم]. وهذه الأصناف مجمعٌ على جريان الربا فيها.
وعِلَّة الربا في الذَّهب والفضَّة: الوَزْنُ والجِنْسُ، وفي بقيَّة الأصناف الأربعة الأخرى: الكَيْلُ والجِنْسُ.
ويُلحق بهذه الأصناف كلُّ مَوْزونٍ ومَكِيلٍ؛ فيجري الربا في كلِّ موزونٍ من جنسٍ واحدٍ وإن كان غير مطعومٍ؛ كالحديد، والنحاس، والرصاص، والقطن، والحرير، أو كان مطعوماً؛ كالخبز، والجبن، واللحم، والزُّبد؛ فلا تباع بجنسها مُتفاضِلةً ولا آجِلةً.
كما يجري الربا في كلِّ مَكيلٍ من جِنْسٍ، سواء كان من المطعومات، أو من غير المطعومات؛ فيجري الربا في الحبوب؛ كالذُّرة، والأرز، والعدس، وفي الأبازير؛ كالكَمُّون، والفلفل، والقُرُنْفُل، والقِرْفَة، وفي المائعات؛ كاللَّبن، والخلِّ، والزيت، ونحوها، وفي الثمار؛ كالزبيب، والفستق، واللوز، والزيتون، والمشمش، وفي غير المطعومات؛ كالأُشْنان؛ فلا تباع بجنسها متفاضلةً، ولا آجلةً.
والرواية الأخرى في المذهب: أنَّ العلَّة في الذهب والفضَّة هي الثمنيَّة؛ أي كونهما ثمناً للأشياء، وقِيَماً لها؛ فيُلْحَقُ بها كلُّ ما كان ثمناً للأشياء؛ كالأوراق النقديَّة.
وأمَّا بقيَّة الأصناف فَعِلَّتُها كونها مطعومات تُكالُ أو تُوزَنُ؛ فكلُّ طعام يُكالُ أو يُوزَنُ، وكان من جنسٍ واحدٍ؛ فإنَّه يجري فيه الربا.
* أعيانٌ لا يجري فيها الرِّبا:
- الماء لا يجري فيه الرِّبا مطلقاً؛ لأنَّه مباحٌ أصلاً، وهو لا يُتَمَوَّلُ به عادة.
- كلُّ مَعْدودٍ، ومَذْروعٍ لا يجري فيه الرِّبا، ولو كان مطعوماً؛ كالبطيخ، والبَيضِ، والبُقُول، والحيوان؛ ويدلُّ له ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: وَلَيْسَ عِنْدَنَا ظَهْرٌ. قَالَ: فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبْتَاعَ ظَهْرًا إِلَى خُرُوجِ المُصَدِّقِ، فَابْتَاعَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ وَبِالأَبْعِرَةِ إِلَى خُرُوجِ المُصَدِّقِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم[رواه البيهقي].
- ما أَخرَجَتْهُ الصناعة عن كونه موزوناً، وكان من غير الذهب الفضَّة؛ فلا يجري فيه الربا؛ كالقطن إذا صار ثياباً، والحديد إذا صار سلاحاً، والنحاس إذا صار أواني. أمَّا الذهب والفضَّة فيجري فيهما الربا مطلقاً.
رابعاً: أنواعُ الرِّبا:
ينقسم الرِّبا إلى نوعين:
النوع الأوَّل: رِبا الفَضْل: وهو الزيادة في البيع بين عَيْنَيْنِ رَبويِّين من جنسٍ واحدٍ.
مثاله: أن يبيع خمسين غراماً من الذهب بمائة غرام من الذهب، أو يبيع صاعاً من القمح بصاعين من القمح، أو مُدًّا من التمر بمُدَّين من جنسه من التمر؛ فهذه الصور كلُّها يحرم البيع فيها؛ للتفاضل بين الجنسين الربويين، وعدم التماثل.
ويدلُّ له حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ)[رواه مسلم].
وعن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ)[رواه مسلم].
ولا يجوزُ بيعُ ربويٍّ بجِنسِه إلَّا بشَرْطَين:
الأوَّل: التساوي والتماثل في القَدْر بين الجنسين في الكيل والوزن.
الثَّاني: أن يكون البيع حالًّا غير آجل، فيتقابضا في مجلس العقد قبل التفرُّق.
فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ) يدلُّ على اشتراط التساوي والمماثلة بين الجنسين الربويين، وقوله:(يَداً بِيَدٍ) يدلُّ على الحلول والتقابض في مجلس العقد.
النوع الثاني: رِبا النَّسيئة: هو تأخيرُ القبض في بيع جنسين ربويِّين اتَّفَقا في عِلَّة الرِّبا. وله صورتان:
الأُولى: أن يكون لشخص في ذمة آخر دينٌ إلى أجل معلوم؛ سواء كان بسبب قَرْضٍ، أو بَيْعٍ، أو غير ذلك، فإذا حَلَّ الأجلُ، وعجز المدين عن السَّداد، زاد في
الدَّيْن مقابل الزيادة في الأجل.
مثاله: أن يُقْرِضَ رجلٌ آخرَ ألفَ دينارٍ إلى سنةٍ، فلمَّا انقضى الأجلُ عجز المَدينُ عن السَّداد، فقال الدائنُ: أزيدُ لك في الأَجَلِ شهرين آخرين على أن تسدَّني ألفاً ومئتين، أو يقول المَدينُ: أزيدُكَ مئتين وتُمْهِلُني فوق الأَجَلِ شهرين آخرين.
الثَّانية: بيعُ جِنْسَين متَّفِقَين في عِلَّة رِبا الفَضْل، مع تأخير قبضهما، أو قبض أحدهما؛ كأن يبيع ذهباً بفضَّة، أو بُرًّا بشعيرٍ، وقبضهما أو قبض أحدهما مؤجَّلٌ.
ورِبا النَّسيئة هو الذي كان مشهوراً في الجاهليَّة، وتحريمُه مُجمعٌ عليه بين أهل العلم. وممَّا يدلُّ على تحريمه:
حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أَلَا إِنَّما الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ)[أخرجه البخاري].
وعن أبي سعيد الخُدْريِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ)[أخرجه مسلم].
- وكلُّ ما حَرُمَ فيه ربا الفَضْل، فإنَّه يَحرُمُ فيه النَّسيئة، وليس كلُّ ما يَحرُم فيه ربا النَّسيئة يَحرُم فيه الفَضْل.
- وإذا بيعت الأصناف الربويَّة بغير جنسها؛ كالذهب بالفضَّة، والبرِّ بالشعير، والتمر بالملح؛ صحّ البيع متفاضلاً ومتساوياً؛ بشرط التقابض في مجلس العقد قبل التفرُّق، ويدلُّ له قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة السابق:(فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ).
- وإذا بيع المكيل بالموزون؛ كالبرِّ أو التمر بالذهب أو الفضَّة، جاز التفاضل
بين البَدَلَيْن، وجاز البيع بالأجل، ولا يشترط التساوي ولا التقابض في المجلس قبل التفرُّق.
* ما يُعرَفُ بِهِ الكَيلُ والوَزْن:
إذا أُطلِقَ الكيلُ فالمرجع فيه إلى عُرْف كَيْلِ المدينة النبويَّة على عهده صلى الله عليه وسلم، وإذا أُطلِقَ الوزن؛ فالمرجع فيه إلى عُرْف أهل مكَّة على عهده صلى الله عليه وسلم؛ لحديث عبد الله بن عُمرَ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المِكْيَالُ عَلَى مِكْيَالِ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَالوَزْنُ عَلَى وَزْنِ أَهْلِ مَكَّةَ)[رواه أبو داود والنسائي]، وكلامه صلى الله عليه وسلم على تبيين الأحكام، فما كان مكيلاً بالمدينة في زمنه صلى الله عليه وسلم انصرف التحريم بتفاضل الكيل إليه، فلا يجوز أن يتغيَّر بعد ذلك، وكذا الموزون. وما لا عُرْف له بهما اعتُبِرَ عُرْفُه في موضعه، فإن اختلفت البلادُ اعتُبِرَ الغالبةُ منها، فإن لم يكن، رُدَّ إلى أقرب الأشياء شَبَهاً بالحجاز، فإن تعذَّر رُفِعَ إلى عُرْف بلده.
* حُكمُ بيعِ المكيلِ بجِنْسِه وَزْناً والعَكْس:
لا يصحُّ بيع المكيل بجنسه وزناً؛ كأن يبيع رَطْلاً من تَمْرٍ برَطْلٍ من تَمْرٍ؛ لأنَّ التمر من المكيلات، فلا يصحُّ بيعه بجنسه وزناً.
ولا يصحُّ أيضاً بيع الموزون بجنسه كيلاً؛ كأن يبيع صاعاً من الحديد بصاعٍ من الحديد؛ لأنَّ الحديد من الموزونات.
ويدلُّ له ما جاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنَّه حدَّث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ كَيْلًا
بِكَيْلٍ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ كَيْلًا بِكَيْلٍ
…
) الحديث [أخرجه الطحاوي، والبيهقي]، ولأنَّه
لا يحصل العلم بالتساوي مع مخالفة المعيار الشرعي؛ إذْ إنَّ الجنس الواحد تختلف أنواعه خِفَّةً وثقلاً، وحجماً؛ فكان لا بدَّ من مراعاة المعيار الشرعيِّ.
أمَّا لو عُلِم التساوي بينهما في المعيار الشرعيِّ حال بيع المكيل بجنسه وزناً، أو الموزون بجنسه كيلاً؛ فإنَّ البيع يكون صحيحاً؛ لحصول العلم بالتماثل.
* بيعُ اللَّحمِ بجِنسِه وبغير جِنسِه:
اللَّحمُ من الأصناف الرَّبويَّة؛ لكونه من الموزونات، وهو أجناس تختلف باختلاف أصوله؛ فلحمُ الإبل جنس، ولحمُ البقر جنس، وهكذا، وكلُّ جنس منها تحته أنواع؛ فالإبل منها الكبار، والصغار، والعَرابيَّة، والبُخْتيَّة.
- فإذا بيع لحم بجنسه؛ فيجب فيه التماثل والتقابض؛ بعد نزع عظمه وجوباً.
- أمَّا إذا بيع بغير جنسه؛ فيجوز التفاضل؛ لاختلاف الجنس، ولكن لا بدَّ فيه من التقابض في مجلس العقد.
- ويجوز بيع اللَّحم بحيوان حيٍّ من غير جنسه؛ لأنَّه بيع ربويٍّ بغير جنسه ولا أصله؛ فلو باع مائة كيلوغرام من لحم الغنم ببقرة؛ جاز البيع، ولكن بشرط التقابض في مجلس العقد.
- ولا يصحُّ بيع اللَّحم بجنسه من حيوان حيِّ؛ لما رُوي عن سعيد بن المسيِّب قال: (نُهِيَ عَنْ بَيْعِ الحَيْوَانِ بِاللَّحْمِ)[أخرجه مالك، وعبد الرزاق، مرسلاً]، وما رُوي عن سَمُرة:(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الشَّاةِ بِاللَّحْمِ)[أخرجه الحاكم، والبيهقي].
ولأنَّ الحيَّ من الحيوان فيه اللَّحم، والكبد، والقلب، والطحال، وغيرها، وهذه
كلُّها أجناس مختلفة عن اللَّحم؛ ولا يصحُّ بيع ربويٍّ بجنسه، ومع أحدهما من غير جنسه.
* مراعاةُ الصِّفةِ عند بيع الأعيانِ الربويِّة بجِنْسِها:
يجوز بيع الربويِّ بجِنسِه، بشرط أن يكونا متماثلين، ويستويان في الصفة:
- فيجوز بيع دقيق البُرِّ بدقيقٍ من جِنسِه؛ إذا كانا متماثلين، واستويا في النعومة، أو الخشونة، وأن يكون التقابض في مجلس العقد.
- ويجوز بيع عنب بعنب، وزبيب بزبيب، ورُطب برُطب، وتمر بتمر؛ إذا كانا متماثلين، واستويا في الرطوبة، واليبوسة.
- ويجوز بيع ماء عنب بماء عنب، إذا تماثلا، واستويا في العصر.
- ويجوز بيع سَمْنٍ بقريٍّ بسَمْنٍ بقريٍّ، إذا تماثلا، واستويا في الطبخ.
فإن اختلفا في الصفة؛ كبيع رَطْبٍ بيابسٍ من جنس واحد؛ فلا يصحُّ البيع؛ لعدم التماثل؛ وتسمَّى المزابنة؛ وقد جاء النهي عنها؛ كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ المُزَابَنَةِ؛ وَالمُزَابَنَةُ: اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً، وَبَيْعُ الكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلاً)[رواه البخاري].
* بيعُ الفَرْعِ بأصْلِه من الأعيان الرَّبويَّة:
- لا يصحُّ بيع ربويٍّ بأصله من الأعيان الربويَّة؛ فلا يصحُّ بيع زَيتٍ بزَيتونٍ، ولا شَيْرَجٍ بسِمْسِمٍ، ولا جُبْنٍ بلَبَنٍ، ولا خُبزٍ بعَجينٍ؛ لأنَّ التساوي بين البدلين الربويَّين مجهول، والجهل بالتساوي كالعِلْم بالتفاضل.
- ولا يصحُّ بيعُ الحبِّ المشتدِّ في سُنْبُلِه بجنسه؛ وتسمَّى المحاقَلَة؛ لما جاء في حديث عبد الله بن عبِّاس رضي الله عنهما قال: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ المُحَاقَلَةِ وَالمُزَابَنَةِ)[رواه البخاري].
أمَّا لو اختلف الجنسان؛ كبيع حبِّ بُرٍّ مشتدٍّ في سنبله بحبِّ شعير؛ فإنَّه يصحُّ؛ لأنَّ اشتراط التساوي منتف مع الجنسين المختلفين، ولكن لا بدَّ من التقابض في مجلس العقد.
* مسألةُ مُدِّ عَجْوَةٍ ودِرْهَم:
لا يجوزُ بيعُ ربويٍّ بجِنْسِه ومعهما، أو مع أحدهما من غير جِنْسِهما؛ كأن يبيع مُدًّا من التَّمْر ومعه دِرْهم فضَّة، بدرهمين فضَّة، أو بمُدَّين من التَّمْر، أو بدرهمٍ ومُدٍّ، أو أن يبيع قِلادَة من ذهبٍ فيها خَرَزٌ، بقلادة أخرى من ذهبٍ خالصٍ؛ لما جاء في حديث فَضالَة بن عُبَيد الأنصاريِّ رضي الله عنه قال:(أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِخَيْبَرَ بِقِلَادَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ، وَهِيَ مِنَ المَغَانِمِ تُبَاعُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ فَنُزِعَ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ)[رواه مسلم].
- أمَّا إذا كان الذي مع الربويِّ يسيراً غير مقصود؛ كبيع خبز فيه ملح بمثله، أو بملح؛ فيصحُّ البيع؛ لأنَّ الملح يسيرٌ غير مؤثِّر في الوزن، ومثله لو باع حنطةً وقع فيها شيءٌ يسيرٌ من حبَّات الشعير، وهي لا تؤثِّر في الوزن.
أحكام الصَّرْف
أوَّلاً: تعريفُ الصَّرْف:
الصَّرْف لغةً: ردُّ الشيء عن وجهه أو إبداله بغيره. وهو أيضاً بمعنى الفَضْل.
وشرعاً: هو بيع نقدٍ بنقدٍ من جنسه، أو من غيره؛ كأن يبيع دنانير ذهبيَّة بدنانير، ذهبيَّة، أو بدراهم فضيَّة، ويدخل في ذلك كلُّ ما يقوم مقام الذهب والفضَّة من العملات النقديَّة الورقيَّة والمعدنيَّة.
ثانياً: شروطُ وضوابطُ عَقْدِ الصَّرْف:
لا تخرج أحكام عقد الصَّرْف عن أحكام الربا، ولهذا ينبغي عند التصارف بين النقود والعملات مراعاة الضوابط والشروط التالية:
1) التماثلُ في القَدْر عند اتّحاد الجِنْس:
إذا كان البدلان من جنس واحد، فيشترط فيهما التماثل؛ فيُصرَف الذهب بمثله من الذهب وزناً، والفضَّة بمثلها من الفضَّة وزناً، والدنانير الورقيَّة بمثلها من الدنانير المعدنيَّة.
فإذا اختلف الجنسان؛ فلا يشترط فيهما التماثل، ويصحُّ التفاضل؛ كأن يَصرِفَ ديناراً بريال، أو درهماً بدولار، أو ذهباً بفضَّة، بشرط مراعاة شرط التقابض الآتي.
2) التقابضُ في مجلسِ العَقْد:
يشترط في عقد الصَّرْف أن يكون البيع حالًّا غير آجل، وأن يتمَّ تقابض البدلين في مجلس العقد؛ وذلك لما روى أبو المنهال قال: (سَأَلْتُ البَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ عَنِ الصَّرْفِ،
فَقَالَ: سَلْ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ؛ فَهُوَ أَعْلَمُ، فَسَأَلْتُ زَيْداً، فَقَالَ: سَلِ البَرَاءَ؛ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَا: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الوَرِقِ بِالذَّهَبِ دَيْناً) [رواه مسلم]. ولا تعتبر المماثلة في القيمة، بل في معياره الشرعي وهو الوزن.
فإذا افترق المتصارفان قبل قبض الكلِّ، أو البعض؛ بطل العقد فيما لم يُقبض؛ كأن يشتري مائة درهم فضَّة بعشرة دنانير ذهب؛ فإذا سلَّمه خمسين درهماً فقط وتفرَّقا، صحَّ العقد في الخمسين درهماً، ويسلِّمه الآخر ما يقابلها وهي خمسة دنانير، ويبطل العقد في الباقي.
3) أنْ لا يشتملَ عَقْدُ الصَّرْفِ على خيارِ شَرْطٍ: فإذا اشتُرِطَ الخيارُ، فسدَ الشرط، ولزم العقد بالتفرُّق.
- وتصحُّ المصارفة في النقود الثابتة في الذمَّة؛ كأنْ يشتري أحد المتبايعين سلعة بمائة دينار إلى أجل، فلمَّا حلَّ الأجل قال المشتري للبائع: ليس عندي دنانير، ولكن عندي دراهم؛ فيجوز أن يعوِّضه مكان المائة دينار ما يقابلها من الدراهم، ولكن بسعر يوم السداد، ويدلُّ له حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:(كُنْتُ أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ؛ فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ، وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ؛ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّاهِ، رُوَيْدَكَ أَسْأَلُكَ؛ إِنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ؛ فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ)[أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي].
- ولا تصحُّ المصارفة على ما في الذمَّة؛ بأن كان لكلِّ واحد من المتصارفَيْن دَيْنٌ في ذمَّة صاحبه؛ كأن يكون لأحدهما في ذمَّة الآخر ذهب، وللآخر عليه فضَّة؛ فتصارفا بما في ذمَّتهما، فلا يصحُّ تصارفهما؛ ولو حلَّ الدينان معاً؛ وذلك لما رُوِيَ عن ابن عمر رضي الله عنهما:(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الكَالِئِ بِالكَالِئِ)؛ يعني: ديناً بدين. [أخرجه ابن أبي شيبة، والدارقطني، والطحاوي، والحاكم، بإسناد ضعيف]. ونقل ابن المنذر إجماع أهل العلم على أنَّ بيع الدَّيْن بالدَّيْن لا يجوز.
باب بيع الأصول والثِّمار
أوَّلاً: تعريفُ الأُصول والثِّمار:
الأُصول: جمع أَصْل، وهو ما يتفرَّع منه غيره، ويقصد به هنا الأشياء الثابتة من العقار؛ كالأراضي، والدُّور، والبساتين، والأشجار، ونحوها.
أمَّا الثِّمار؛ فهي جمع ثَمَر، واحدها: ثَمَرة، وهي ما يَنْتُج من الأشجار؛ كالتَّمْر، والعِنَب، ونحوهما.
والمقصود من هذا الباب بيان حُكْم ما يَتْبَعُ الأُصولَ في البيع، وما لا يَتْبَعُها؛ منعاً للتنازع بين البائع والمشتري عند الاختلاف: أيُّهما يستحقُّ هذه التوابع؟
ثانياً: أنواع الأُصول:
1) الدُّور:
إذا بيعت دارٌ، أو وُهِبَت، أو رُهِنَت، أو وُقِفَت، أو أُوصي بها، أو أُقِرَّ بها؛ فإنَّه يتبعها في ذلك من المرافق والتوابع ما يلي:
أ - الأرض التي بُنيت عليها، ويشمل ذلك: ما في باطنها من مَعْدَن جامد؛ لأنَّه من أجزائها.
ب- بناء الدَّار، ويشمل ذلك: سَقْفَها، وأَعْمِدَتَها، وجُدْرانَها؛ لدخول هذه الأشياء في مسمَّى الدار.
ويشمل أيضاً: كلَّ ما اتَّصل بها ممَّا هو من مصلحتها؛ كالأبواب المنصوبة وحِلَقِها،
والنوافذ المثبَّتة، والسَّلالم الثابتة، والرُّفوف الثابتة، والآلات المركَّبة فيها؛ كمضخَّات المياه، والأدوات الكهربائيَّة الثابتة، وقناديل الإضاءة، وخزَّانات المياه المدفونة في الأرض، أو المنصوبة فوق السطح، وشبكة أنابيب المياه، ونحو ذلك.
ج- فِناء الدَّار، وهي الرَّحْبَة التي تكون أمامَها، إن كان للدَّار فِناء.
د - الشَّجَر المغروس في الدَّار.
هـ- عَريش الدار، وهو الظُّلَّة التي تُنصَب فيها؛ لأنَّها متَّصلة بالدَّار.
- ولا يدخل في بيع الدَّار ما يلي:
أ - الكنز والحَجَر المدْفونَيْن؛ لأنَّهما مُودَعان فيها إلى حين النقل عنها؛ كالفِرَاش والستائر.
ب- ما كان منفصلاً عن الدَّار؛ كالحَبْل، والدَّلْو، والفَرْش.
ج- المعدن الجاري، وماء النبع؛ لأنَّه يجري من تحت الأرض إلى مِلْكِه؛ فأشبه الماء الجاري من النهر إلى مِلْكِه.
2) الأرض:
إذا بيعت أرضٌ، أو وُهِبَت، أو رُهِنَت، أو وُقِفَت، أو أُوصي بها، أو أُقِرَّ بها؛ فإنَّه يَتْبَعُها في ذلك ما فيها من شجر، وبناء.
وإذا كان في الأرض زَرْعٌ؛ فهو على نوعين:
أ - إذا كان الزرع لا يحصد إلَّا مرَّة واحدة؛ كالبُرِّ، والشَّعير، والبَصَل، والأُرْز، والعَدَس، والجَزَر، والفُجْل ونحوها؛ فإنَّه يكون للبائع؛ لأنَّه مودَعٌ في الأرض
يُراد للنَّقل، ويبقى في الأرض بعد البيع إلى وقت حصاده بلا أُجرة.
فإنِ اشترط المشتري ونحوه الزَّرْع لنفسه؛ فإنَّه يكون له، ولا يضرُّ الجهالة به؛ لأنَّه بِيعَ تابعاً للأرض.
ب- إذا كان الزرع ممَّا يُجَزُّ مرَّة بعد أُخرى، أو تُلْتَقَطُ ثَمَرَتُه مرَّة بعد مرَّة؛ كالبرسيم، والقِثَّاء، والباذنجان، والطماطم، والنَّعْنَاع، والبُقُول، ونحوها؛ فأصول الزرع للمشتري، أمَّا الجزَّة الظاهرة، أو اللَّقْطة الأُولى فللبائع، وعليه قطعها في الحال؛ لأنَّه ليس له حَدٌّ ينتهي إليه، وربَّما ظهر غير ما كان ظاهراً؛ فيتعذَّر التمييز.
وإذا اشترط المشتري ذلك كلَّه له دون البائع؛ كان له ذلك؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ)[رواه أبو داود].
3) الشَّجر:
إذا بيع شجرُ نَخْلٍ بعد تشقُّق طَلْعِه، ولو لم يؤبَّر، أو بيع شجرٌ ظهر ثَمَرُه؛ كالعنب، والتِّين، والتُّوت، والرُّمَّان، والجَوْز، والمَوْز، أو شجرٌ ظهر نَوْرُه؛ كالمِشْمِش، والتُّفاح، والسَّفَرْجل، واللَّوز، أو بيع شجرٌ خرجَ من أكمامه -أي غلافه- كالوَرْدِ، والقُطْن، وكذا الياسَمِين، والنَّرْجِس، والبَنَفْسَج؛ فيكون الثمر ونحوه للبائع، ويُترك إلى أوَّل وقت أخذه، إلَّا إذا اشترط المشتري أنَّه له.
أمَّا إذا بِيعَ الشجرُ قبل تشقُّق الطَّلْع، وظهور الثمر، والنَّوْر، ونحوها؛ فيكون للمشتري؛ لأنَّه تَبَعٌ للنَّخْل والشَّجَر؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ؛ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ
المُبْتَاعُ
…
) [متفق عليه]. ووجهه: أنَّه جعل التأبير حدًّا لمِلك البائع للثَّمرة، ونصَّ على التأبير مع أنَّ الحكم منوط بالتشقُّق؛ لملازمته له غالباً.
- وإذا تشقَّقَ بعض طَلْعٍ، أو ظهر بعضُ ثمرة، ولو من نوع واحد؛ فما ظهر يكون للبائع، وما لم يظهر يكون للمشتري.
- وورق الشجر للمشتري بكلِّ حال؛ لأنَّ الورق داخل في مسمَّى الشجر، ومن أجزائه، وخُلِق لمصلحته.
- ولا تدخل الأرض في البيع تبعاً للشجر؛ لأنَّ الأرض أَصْلٌ، والشجر تَبَعٌ؛ فلو اشترى شجرةً أو نخلةً، أو أكثر، لم تتبعها أرضها.
- وإذا اشترى شخصٌ شجراً، ولم يُشتَرط قَطعُها، أبقاها في أرض البائع بلا أُجْرةٍ، وإذا هلكت لم يغرس مكانها.
- وحكم سائر عقود المعاوضات كحكم البيع في ذلك؛ من حيث إلحاقُ الثَّمَر بأصله وعدم إلحاقه؛ كعقد الرَّهْن، والصلح، والهِبَة، والشُّفْعة، والأُجْرة، والصَّداق، وعِوَض الخُلْع.
أمَّا عقد الوَقْف والوَصِيَّة؛ فإنَّه تدخل فيهما الثمرة الموجودة يوم الوصيَّة إذا بقيت إلى يوم الموت، سواء أُبِّرت، أو لم تُؤَبَّر؛ لأنَّ القصد من وقف الشجرة والوصيَّة بها هو الانتفاع بثمرتها؛ فدخلت الثمرة في حقِّ الموقوف عليه، والموصى له، ولو بعد التشقُّق.
فصل بيعُ الثَّمَرةِ قبل بُدوِّ صَلاحِها
أوَّلاً: حُكمُ بيع الثَّمَرة قبلَ بُدُوِّ صَلاحِها:
لا يصحُّ بيع الثَّمَرةِ قبل بُدُوِّ صَلاحِها، ولا بيع الزَّرْع قبل اشتداد حَبِّه؛ لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:(أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ-أي ظهرت الحُمْرة أو الصُّفْرة-، وَعَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ -أي يشتدَّ ويبدو صلاحه-، وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ، نَهَى الْبَائِعَ وَالمُشْتَرِيَ)[رواه مسلم].
ويُستثنَى من هذا الحكم ثلاثُ حالاتٍ يصحُّ فيها بيع الثَّمَرَةِ قبل بدوِّ صلاحها، والزرع قبل اشتداد الحبِّ، وهي:
الأُولى: إذا بيعت الثَّمَرةُ لمالك الشجرة نفسها، وبيعَ الزَّرْعُ لمالك الأرض؛ لأنَّهما يملكان الأصل والقَرار؛ فصحَّ البيع، كما لو بِيعَا معهما.
الثَّانية: إذا بيعت الثَّمَرةُ مع أصلها، وبيع الزَّرْعُ مع الأرض؛ لأنَّهما دَخَلا في البيع تبعاً للأصل.
الثَّالثة: إذا بيعت الثَّمَرةُ أو الزَّرْعُ بشرط القَطْع في الحال، إذا كان يُنتَفَعُ بالثَّمَرةِ والزَّرْعِ حين العقد؛ كأن يؤخذَ عَلَفاً للبهائم والطيور. فإن لم يمكن الانتفاع بهما؛ كثمرة الجوز، وزرع التُّرْمُس، لم يصحَّ؛ لعدم الانتفاع بالمبيع.
ولا يصحُّ البيع بشرط القطع في الحال، إذا كان الثَّمَرُ والزَّرْع الذي يُنتفَعُ به مملوكاً للبائع ملكاً مشاعاً، لا يتميَّز فيه نصيبه عن نصيب شريكه؛ لأنَّه لا يمكنه
قطع ما يملكه إلَّا بقطع ما لا يملكهُ من حصَّة شريكه.
مثاله: أنْ يَرِثَ اثنان حقلًا مزروِعاً قمحاً، لكلٍّ منهما نصفه، وليس وِرْثُ أَحدِهِما متميِّزاً عن الآخر، فإذا أراد أحد الشريكين بيعَ نصيبِه من قبل اشتداد حبِّ القمح، لم يصحَّ ذلك قبل أن يشتدَّ حبه، ولو بشرط القطع.
ولا يشترط لصحَّة البيع صلاحُ جميع الثَّمَر؛ بل يصحُّ إذا صَلَحَ بعضُ الثَّمَر؛ لأنَّ صَلاحَ بعضِه صَلاحٌ لجميع نوعه على بقيَّة الشجر الذي في البستان.
ثانياً: ما يحصلُ به بُدُوُّ صَلاح الثَّمَر:
ويكون بدوُّ صَلاحِ كلِّ ثَمَرة بحسبها؛ فصلاحُ البَلَحِ أن يَحمَرَّ أو يَصفَرَّ، وصَلاحُ العِنَبِ أن يتَمَوَّه بالماء الحلو، وصلاحُ بقيَّة الفواكه؛ كالرُّمَّان، والمشمش، والخوخ، والجَوْز، ونحوها أن يَطِيبَ أكلُها، ويظهر نُضْجُها، وصلاحُ ما يظهر لَقْطَةً بعد لَقْطَةٍ؛ كالقِثَّاء، والخِيارِ؛ أن يكون صالحاً للأكل عادة، وصلاح الحبِّ أن يشتدَّ أو يبيضَّ.
ثالثاً: ضَمانُ ما تَلِفَ من الثَّمَرةِ على الشَّجَر:
إذا تلف الثَّمَرُ المبيع على الشجر دون أُصوله بجائحة سماويَّة -وهي ما لا صُنع لآدميٍّ فيها-، ولو بعد بدوِّ صلاحه، وقبل التمكُّن من أخذه؛ فضمانُه على البائع؛ لما جاء في حديث جابر رضي الله عنه:(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِوَضْعِ الجَوَائِحِ)[رواه مسلم]، وحديث جابر أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ
جَائِحَةٌ؛ فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا؛ بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ) [رواه مسلم]؛ ولأنَّ على البائع تتمَّة صلاحها؛ فوجب أن تكون من ضمانه.
وإذا بيع الثَّمَرُ مع أصله، أو بيع لمالك أصله؛ فتلف بآفة سماويَّة؛ فضمانه على المشتري؛ لحصول القبض التام، وانقطاع عُلَقِ البائع عن الثمر.
وإذا بيع الثَّمَرُ دون الأصل، وأخَّر المشتري أَخْذَه عن العادة، وتلف بآفة سماويَّة؛ فهو من ضمان المشتري أيضاً؛ لتفريطه.
وإذا تعيَّب الثَّمَرُ بالجائحة قبل أوان جِذاذه؛ خُيِّر المشتري بين فسخ البيع وأخذ الثمن كاملاً، أو إمضائه مع أخذ أَرْشِ النقص.
وإذا تلف الثَّمَرُ بصُنْع آدميٍّ؛ فإنَّ المشتري يخيَّر بين فسخ البيع، ومطالبة البائع بما قبضه من الثَّمَن، أو إمضاء البيع ومطالبة المتسبِّب ببدل التلف.
باب السَّلَم
أوَّلاً: تَعريفُ السَّلَم:
السَّلَمُ لغةً: الإعطاءُ، ويقال له أيضاً: السَّلَف. إلَّا أنَّ السَّلَم لغةُ أهل الحِجاز، والسَّلَف لغةُ أهل العِراق.
وشرعاً: هو عَقْدٌ على شيءٍ يصحُّ بيعه، مَوْصوفٍ في الذِّمَّة، مؤجَّلٍ، بثَمَنٍ مَقْبوضٍ في مجلس العَقْد.
ثانياً: حُكْمُ عقد السَّلَم وحِكمتُه:
عقد السَّلَم من العقود المشروعة في الإسلام؛ نظراً لحاجة الناس إليه؛ لأنَّ مُلَّاك الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتكمل، وقد تعوزهم النفقة، فأجيز لهم السَّلَم ليرتفقوا، وينتفع المسلِم بالاسترخاص.
وقد دلَّ على مشروعيته: الكتاب، والسنَّة، والإجماع.
- فمن الكتاب: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ المَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، إنَّ الله أحلَّه فِي كِتَابِهِ، وَأَذِنَ فِيهِ» ، ثمَّ قرأ الآية {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} . [أخرجه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة].
- ومن السُّنَّة: ما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: (قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ بالتَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ؛ فَقَالَ: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ؛ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ،
وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ) [أخرجه البخاري ومسلم].
- أمَّا الإجماع؛ فقد نقل ابن المنذر في «الإجماع» ، وأبو الحسن ابن القطان في «الإقناع» الإجماع على جواز السَّلَم في الجملة.
ثالثاً: الألفاظ التي ينعقد بها السَّلَم:
ينعقد السَّلَم بلفظه؛ كأَسْلَمْتُكَ هذه المائة دينار في مائة صاع من التَّمْر البرنيِّ، ويصحُّ بلفظ السَّلف؛ كأَسْلَفْتُكَ كذا بكذا.
وينعقد السَّلَم أيضاً بلفظ البيع، وكلِّ ما يقوم مقامه من ألفاظ؛ كأن يقول: بعتُك خمسين صاعاً من الأَرزِّ الهندي تحِلُّ بعد سنةٍ بمائة دينار؛ وذلك لأنَّ السَّلَم نوع من البيع؛ عُجِّل أَحَدُ بَدَلَيْه -وهو الثمن-، وأُجِّل الآخر -وهو السِّلْعَة-.
رابعاً: شروطُ صحَّة عقد السَّلَم:
يُشترَطُ لصحَّة عقد السَّلَم سبعة شروط زائدة عن الشروط التي في البيع، وهي:
الشرط الأوَّل: أن يكون المُسْلَم فيه ممَّا يمكن ضبطه بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها ظاهراً؛ لأنَّ ما لا يمكن ضبطه بالصفات يفضي إلى التنازع غالباً؛ لوجود الغرر والجهالة.
وما ينضبطُ بالصِّفات هو:
أ - المَوْزونُ: كالذَّهب، والفضَّة، والحديد، والنُّحاس، والقُطْن، والكَتَّان، والخُبز، ونحوها من الموزونات.
ب- المَكِيلُ: كالبُرِّ، والشَّعير، والتَّمْر، والدُّهن، واللَّبن، ونحوها من المكيلات.
ج- المَذْروعُ: كالأقمشة، والخيوط، والحِبال، ونحوها من المذروعات.
د - المَعْدودُ: من حيوان، ولو آدميًّا.
وكلُّ ما لا يمكن ضبطه بالصِّفة لا يصحُّ السَّلم فيه؛ كالفواكه التي تُباع بالعدِّ، وكالجواهر، وكجلود البهائم، ورؤوسها، وأطرافها، وكالبَيْضِ، والجَوْزِ، وكالأَواني التي تختلف رؤوسها وأوساطها؛ وذلك لعدم انضباط صفاتها؛ إذ إنَّ أثمانها تختلف اختلافاً كبيراً بالصغر والكبر، والثَّخَانة والرِّقَّة، ودَوْرِ أعلاه وأسفله.
وإذا أمكن ضبط شيءٍ من ذلك بالصِّفات التي لا يختلف فيها الثمن اختلافاً كبيراً -كما في الصناعات الحديثة-؛ فيصحُّ السَّلم فيه.
قال في الإنصاف -عند مسألة السَّلَم في الجلود والرؤوس ونحوها-: «والرِّواية الثانية: يصحُّ السَّلَم» ، ثمَّ ذكر من اختارها، وجزم بها، وصحَّحها من أئمَّة المذهب، ثمَّ قال:«قلت: وهو الصواب، فيما قاله المصنِّف كُلُّه حيث أمكن ضبطُه» .
قال في شرح المنتهى -عند مسألة السَّلَم في الأواني مختلفة الرؤوس والأوساط-: «فإن لم تختلف رؤوسها وأوساطها صحَّ السَّلَم فيها» .
الشرط الثَّاني: أن يُذْكَر جنسُ المُسْلَم فيه، ونوعُه، وصفاتُه التي يختلف بها الثمن غالباً؛ لأنَّه يشترط العلم بأحَدِ العِوَضَيْن إذا كان غير مُعَيَّن، ولا يُعْلَم إلَّا بمعرفة صفاته التي تُميِّزه عن غيره.
مثاله: أنْ يكون المُسْلَم فيه تَمْراً؛ فهذا جِنْسُه، ويَذْكُر نَوعَه؛ فيقول: من البَرْنِيِّ، أو العَجْوَةِ، ويبيِّن صفته من حيث الحداثة والقِدَم، والجَوْدَة والرَّداءَة، والصِّغَر والكِبَر، وغيرها من الصفات التي تُميِّزه عن غيره ممَّا يختلف به الثمن غالباً.
- ويجوز لربِّ السَّلَم أن يأخذ دون ما وُصِف له؛ لأنَّ الحقَّ له، وقد رَضِيَ بدونه، ويَلْزمُه أخْذُ ما هو أجود ممَّا وُصِف له من نوعه؛ لأنَّه أتاه بما تناوله العقد، وزاده نفعاً.
- ويجوز أن يأخذَهُ من نوعٍ آخر من الجِنْسِ نَفْسِهِ؛ لأنَّ النَّوْعَيْن مع اتِّحاد الجِنْسِ كالشيء الواحد.
- ولا يجوز أن يأخذ المُسْلَم فيه إذا كان من جِنْسٍ آخَرَ، ولو تراضيا؛ لما رُوي عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَسْلَمْتَ فِي شَيْءٍ، فَلَا تَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ)[أخرجه أبو داود، وابن ماجه، بإسناد ضعيف].
ولأنَّ أخذ العِوَضِ عن المُسْلم فيه من غير جِنْسِهِ بَيعٌ؛ فلم يجز، وهذا بخلاف ما لو أعطاه من جِنْسِ مَا أَسْلَم فيه خَيْراً منه أو دُونه في الصفات؛ فإنَّه يجوز؛ لأنَّه قضاءٌ للحقِّ، وليس بيعاً.
الشرط الثَّالث: أن يكون المُسْلَم فيه معلوم المقدار بمعياره الشرعي؛ فإذا كان المُسْلَم فيه مكيلاً؛ فيكون تقديرُه بالكَيْلِ المتعارَفِ عليه، وإذا كان موزوناً؛ فيكون تقديرُه بالوزن المتعارَفِ عليه، وإذا كان مذروعاً؛ فيكون تقديرُه بالذَّرْع المتعارَفِ عليه؛ لأنَّه إذا كان مجهولاً، تعذَّر الاستيفاء به عند التلف، فيفوتُ العِلْمُ بالمُسلَم فيه.
- ولا يصحُّ أن يُسْلمَ في مَكيلٍ وزناً، ولا في مَوزونٍ كيلاً؛ لأنَّه بيعٌ يشترط فيه معرفة قَدْرِه؛ فلم يجز بغير ما هو مُقَدَّر به في أصل الشرع؛ كما في بيع الربويَّات بعضها ببعض.
والرواية الأخرى: أنَّه يجوز ذلك؛ لأنَّ الغرض مَعرِفَة قَدْرِه، وخروجه من الجهالة، وإمكان تسليمه من غير تنازع؛ فبأيِّ قَدْرٍ قَدَّرَه جاز، وليس المقام مقام بيع ربويٍّ بجِنْسِه حتَّى يشترط التماثل فيهما كيلاً ووزناً.
الشرط الرَّابع: أن يكون المُسْلَم فيه في الذِّمَّة إلى أجلٍ معلوم، له وَقْعٌ في الثَّمَن عادَةً؛ كالشَّهْر، والسَّنَة؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ؛ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ)، ولأنَّ اعتبار الأجل يُقْصَد منه تحقيق الرِّفق، ولا يحصل الرِّفق بمُدَّةٍ لا وَقْع لها في الثَّمَن.
وعليه لا يصحُّ السَّلَم إذا كان الأجلُ مجهولًا؛ كزمن الحَصَاد، أو الجِذاذ، أو قُدوم الحاجِّ، أو نُزول المَطَر، ونحو ذلك.
- ولا يصحُّ السَّلَم إذا كان الزَّمَن قَريباً؛ كيوم، ويومين؛ لأنَّه لا وَقْعَ له في الثمن، إلَّا أنْ يُسْلِم في شيءٍ يأخذُه منه كلَّ يومٍ أجزاءَ معلومة؛ كالخبز، واللَّحم، ونحوهما ممَّا يصحُّ فيه السَّلَم؛ لأنَّ الحاجة تدعو إليه.
- ولا يصحُّ السَّلَم إذا كان المُسْلَم فيه عَيْناً، بل لا بدَّ أن يكون في الذِّمَّة؛ لأنَّ العين ربما تلفت قبل تسلميها، ولأنَّه يمكن بيعُها في الحال؛ فلا حاجة إلى السَّلَم فيها.
الشرط الخامس: أن يكون المُسْلَم فيه ممَّا يوجد غالباً عند حُلول الأَجَل؛ لأنَّه يجب تسليمه عند حلول ذلك الأجل.
فلا يصحُّ السَّلم في شيءٍ يكون المُسْلَم فيه مَعْدوماً عند حُلول الأَجَل؛ كالسَّلَم في العِنَب أو الرُّطَب يكون أجله في وقت الشتاء؛ لأنَّه لا يمكن تسليمه فيه،
ولا يوجد في ذلك الوقت غالباً.
ولا يصحُّ السَّلَم إنْ عيَّن أن يكون المُسْلَم فيه من قرية صغيرةٍ، أو بستان معيَّنٍ؛ لما رُوي عن عبد الله بن سَلَام رضي الله عنه قال:(أَسْلَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَرَجُلٍ مِنَ اليَهُودِ دَنَانِيرَ فِي تَمْرٍ مُسَمًّى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَقَالَ اليَهُودِيُّ: مِنْ تَمْرِ حَائِطِ بَنِي فِلَانٍ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا مِنْ تَمْرِ حَائِطِ بَنِي فَلَانٍ، فَلَا)[أخرجه ابن ماجه وأبو يعلى، بإسناد ضعيف]، ولأنَّه لا يُؤْمَنُ انقطاعُه، ولا تَلَفُه.
الشرط السَّادس: أن يكون رأسُ مال السَّلَم معلومَ المِقْدار، يمكن ضبطُه بالصِّفَة؛ لأنَّ عقد السَّلَم قد ينفسخ لسبب؛ كتأخُّر تسليم المُسْلَم فيه؛ فوجب ردُّ رأسِ المال، فإذا لم يكن رأسُ المال معلومَ المقدار، منضبط الصِّفات، تعذَّر ردُّه، أو ردُّ بَدَلِه.
ولا يكفي مجرَّدُ مشاهدة رأسِ المال في مجلس العقد؛ لأنَّ المشاهدة لا تستلزم معرفة مقداره، ولا ضبط صفاته.
الشرط السَّابع: أن يُقبضَ رأسُ مال السَّلَم حقيقةً قَبْل التفرُّق من مجلس العَقْد تفرُّقاً يُبْطِل خِيارَ المجلس؛ لأنَّه لو أُجِّلَ قَبْضُ رأسِ مال السَّلَم، صار بيع دَيْنٍ بِدَيْنٍ؛ إذْ يُصْبح الثَّمَن والمُثْمَن كلاهما مُؤجَّلًا، وهذا لا يَصحُّ؛ لأنَّه بَيْع كالِئٍ بكالِئٍ.
ولأنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: (فَلْيُسْلِف)؛ أي: فَلْيُعْطِ؛ لأنَّ اسم السَّلَف لا يصدُق حتَّى يُعطيَه ما أسلَفَه قبل أن يفارِقَه.
- ويَصحُّ السَّلَم لو كان رأسُ المال مَقْبوضاً حُكْماً؛ كأن يكون عند المُسْلَم إليه
مالٌ أمانةً، أو عاريةً للمُسْلَم له؛ فيجعلُها ربُّها رأسَ مال سَلَم؛ لأنَّ هذا في معنى القَبْض.
أمَّا إذا كان رأس مال السَّلَم ديناً في ذمَّة المُسْلَم إليه؛ فلا يَصحُّ؛ لأنَّ المُسْلَم فيه دَيْنٌ، وكونه في ذمَّته لا يجعله قبضاً، ولا في معناه.
- وإذا قبض المُسْلَم إليه بعضَ رأسِ مالِ السَّلَم، ثمَّ افترقا، صحَّ السَّلَم فيما قُبِض، وبَطَل فيما لم يُقْبَض.
- ولا يشترط لصحَّة عقد السَّلَم ذِكْر مكان الوفاء؛ لعدم ورود النصِّ بذلك؛ ولأنَّ الوفاء يجب بمكان عقد السَّلَم إذا كان مَحَلَّ إقامةٍ؛ لأنَّ مقتضى العقد التسليم في مكانه، إلَّا إذا اشترطا مكاناً غير مكان العقد؛ فيصحُّ ذلك.
فإنْ كان عقد السَّلَم في مكانٍ يَتَعَذَّر التَّسليم فيه؛ كبَرِّيَّة، أو على جَبَلٍ غير مَسْكون، أو في دار حَرْبٍ، أو في سَفينة؛ فيُشتَرط ذِكْر مكان الوفاء.
ويصحُّ تَسليم المُسْلَم فيه في غير المكان الذي شُرِطِ في العقد، إذا تَراضَيا على ذلك.
* حُكْمُ أَخْذِ الكَفالَة أو الرَّهْن على المُسْلَم فيه:
لا يَصحُّ أَخْذُ كَفالةٍ أو رَهْنٍ على المُسْلَم فيه؛ لأنَّ الرَّهْن إنَّما يجوز بشيء يُمكن استيفاؤه من ثَمَنِ الرَّهْن، والمُسْلَم فيه لا يمكن استيفاؤه من الرَّهْن، ولا من ذِمَّة الضَّامِن؛ لأنَّه سيُفْضي إلى صَرْف المُسْلَم فيه إلى شيء غيره، وقد ورد النَّهي عن ذلك في حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَسْلَمْتَ فِي شَيْءٍ، فَلَا تَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ)[أخرجه أبو داود، وابن ماجه، بإسناد ضعيف].
* حُكْم بَيْعِ المُسْلَم فيه، أو هِبَتِه، أو الحَوالَةِ به قبل قَبْضِه:
لا يَصحُّ بيع المُسْلَم فيه قبل قبضه لمن كان الدَّيْن في ذِمَّته، أو لغيره؛ سواءً كان المُسْلَم فيه طعاماً أو غيرَه؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ). [أخرجه البخاري، ومسلم -واللفظ له-]، ولأنَّه لم يدخل في ضمانه؛ فلم يجز بيعه؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه:(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ سَلَفٍ وَبَيْعٍ، وَشَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ، وَرِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ)[أخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي -واللفظ له-، وابن ماجه].
- ولا يصحُّ هبةُ المُسْلَم فيه قبل قبضه لغير من هو في ذمَّته؛ فإن وهَبَه لمن هو في ذمَّته صحَّ ذلك.
- ولا تصحُّ الحوالة بالمُسْلَم فيه قبل قبضه؛ لأنَّ الحوالة لا تجوز إلَّا على ديْن مستقرٍّ؛ والسَّلَم معرَّضٌ للفسخ.
* حُكْم الإقالة في المُسْلَم فيه، وتعذُّر الوفاء به:
تَصحُّ الإقالة في المُسْلَم فيه بالإجماع؛ لأنَّها فسخ للعقد وليست بيعاً.
- وتَصحُّ أيضاً في بعض المُسْلَم فيه؛ لأنَّ الإقالة مندوب إليها، وكلُّ مندوب إليه جاز في الجميع، جاز في البعض.
- ولا يشترط في التقايل قبض رأس مال السَّلَم أو بَدَلِه في مجلس الإقالة؛ لأنَّ الإقالة ليست بيعاً.
- وإذا تعذَّر حصول المُسْلَم فيه أو بعضه؛ يخيَّر رب مال السَّلَم بين الصَّبْر إلى
أن يُوجد؛ فيطالب به، أو أن يَفْسَخَ العقد مع الرجوع برأس ماله على المُسْلَم إليه إن وُجِدَ بعينه، أو بَدَلِهِ إن تَعَذَّر؛ فإن كان مثليًّا ردَّ مثله، وإن كان متقوَّماً ردَّ قيمته.
باب القَرْض
أوَّلاً: تَعريفُ القَرْض:
القَرْضُ لغةً: القَطْع.
وشرعاً: دفع مالٍ -على وجه الإرفاق- لمن ينتفعُ به، ويرُدُّ بَدَلَه.
ثانياً: حُكْمُ القَرْض:
القَرْض جائز؛ دلَّ على جوازه الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.
- فمن الكتاب: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]؛ فنصَّت الآية على مشروعية الدَّيْن، والقَرْض مِنْ الدَّيْن.
- أمَّا السُّنَّة: فما روى أبو رافعٍ رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ، فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًا، فَقَالَ: أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً)[رواه مسلم].
- أمَّا الإجماع: فقال الحسن ابن القطّان: «وأجمع كلُّ من يُحفَظ عنه من أهل العلم على أنَّ استِقْراض الدَّنانير، والدَّراهم، والقمح، والشَّعير، والتَّمر، والذَّهب، وكلَّ ما له مِثْلٌ من سائر الأطعمة؛ المكيل منها والموزون، جائز» .
وقال ابن قدامة: «ويجوز قرض المكيل والموزون بغير خلاف» .
ثالثاً: الحِكْمَة من مشروعيَّة القَرْض:
القَرْض من عقود الارتفاق التي يُقصَدُ بها الإحسان إلى المُقْتَرِض، وتفريج كُربته
ورفع الضِّيق عنه، وسدِّ حاجته؛ ولذا كان مندوباً إليه في حقِّ المُقْرِض؛ لما روى عبدُ الله بن عمرَ رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[متَّفق عليه]، وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ؛ إِلَّا كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّةً)[أخرجه ابن ماجه].
رابعاً: ما يصحُّ فيه الإقْراض:
كلُّ ما يصحُّ بَيْعُه من الأعيان يصحُّ قَرْضُه؛ سواءٌ كان مكيلاً، أو موزوناً، أو مذروعاً، أو معدوداً؛ كالبُرِّ، والتَّمر، والذَّهَب، والفِضَّة، والثِّياب، والحيوان.
- ويُستثنَى من ذلك قَرْضُ الآدميِّ -عبداً أو أمَةً-؛ فإنَّه وإن كان يصحُّ بيعه؛ إلَّا أنَّه لا يصحُّ قَرْضه؛ لأنَّه لم يُنْقل عن الصحابة أنَّهم كانوا يُقْرِضون الآدميَّ، ولا يُعدُّ قَرْضه من المرافق، وقد يترتّب على قَرْضه مفسدة؛ كما في إقراض الإماء.
- أمَّا ما لا يصحُّ بيعه، فلا يجوز قَرْضه؛ كالكلب، والميتة، والنجاسات، والمرهون، والموقوف.
- ولا يصحُّ قَرْض المنافع؛ مثل أن يحصد معه يوماً، ويحصد معه الآخر يوماً، أو يسكنه الآخر داراً بدلها؛ وذلك لأنَّ المنافع ليست بأعيانٍ، وقَرْضُها غير معهود في العُرْف وعادة الناس، ولأنَّ من شرط صحَّة القَرْض: العِلْم بقَدْرِه ليَرُدَّ المقْتَرِضُ بدَلَه، والمنافع يصعب تقديرها.
والرواية الأخرى: جواز قَرْض المنافع، واختارها شيخ الإسلام ابن تيميَّة؛ قياساً
على العاريَّة؛ فإنَّها تمليكٌ للمنافع، والقَرْض تمليكٌ ورَدُّ بدله، ومنه المنافع المُقْرَضَة، والأصل في المعاملات الإباحة، ولا دليل يمنع من قَرْض المنافع.
خامساً: شروطُ صحَّة عقدِ القَرْض:
يشترط لصحَّة القَرْض، الشروط التالية:
الأوَّل: العِلْمُ بقَدْر المال المُقْرَض بمقدَّرٍ معروف؛ من وَزْنٍ، أو كَيلٍ، أو عَدٍّ، أو ذَرْعٍ.
الثَّاني: العِلْمُ بصفة المال المُقْرَض؛ لأنَّه باقتراضه يثبت في حقِّه بدله؛ فإذا جهلت صفته، تعذَّر ردُّ بَدَلِه.
الثَّالث: أن يكون المُقْرِض جائز التصرُّف، وهو كلُّ من يصحُّ تبرُّعُه؛ كالمالك غير المحجور عليه، والمأذون له بالإقراض؛ فلا يصحُّ من المحجور عليه لسفهٍ أو فَلَسٍ، ولا يصحُّ من وليِّ اليتيم، والوصيِّ.
سادساً: الألفاظ التي يصحُّ بها عقدُ القَرْض:
يصحُّ القَرْض بلفظه، وبلفظ السَّلف؛ لورود الشرع بهما.
ويصحُّ بكلِّ لفظ يدلُّ على معناهما؛ كأن يقول: ملَّكتك أو أعطيك هذا على أن تردَّ بدله، أو أن تكون هناك قرينة تدلُّ على إرادة القَرْض؛ كأن يقول له: أَقْرِضْني كذا؛ فيعطيه.
سابعاً: ما يتمُّ به عقد القَرْض ويَلْزم:
يتمُّ عقد القَرْض بالإيجاب والقبول، كما في البيع، إلَّا أنَّه لا يكون لازماً إلَّا إذا
قَبَضَه المُقْتَرِضُ؛ فيكون مالكاً له، ويَلْزمُه ردُّه، أو ردُّ بَدَلِه، ولا يملك المُقْرِض استرجاعه قبل حلول أجله؛ لأنَّه عقدٌ يتوقَّف التصرُّف فيه على القَبْض؛ فتوقَّف تملُّكه على قبضه.
ثامناً: ما يلزم المُقْتَرِضَ ردُّه من القَرْض:
إذا صار عقد القَرْض لازماً في ذِمَّة المُقْتَرِض؛ فإنَّه يثبت للمُقْرِض استحقاق بَدَلِه حالًا وإنْ أجَّله؛ كما لو أتلف مال غيره؛ فإنَّه يلزمه ردُّ بَدَلِه حالاً.
وفي وجهٍ -اختاره ابن تيميَّة، وصوَّبه المرداويُّ-: صحَّة تأجيله، ولزومه إلى أجله.
- ويلزم المُقْتَرضَ ردُّ بَدَلِ ما اقترضه، سواء كان مثليًّا، أو متقوَّماً.
1) ردُّ المثليِّ: إذا كان المُقْتَرَض مثليًّا -كالمكيل والموزون الذي لم تدخله الصناعة - ردَّ المُقْتَرِض مثله؛ لحديث أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اسْتَسْلَفَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم بَكْرًا بِمِثْلِهِ)[رواه مسلم].
- وإذا أراد المُقْتَرِض ردَّ المثليِّ بعينه، وكان معيباً؛ كأنْ يُقْرِضه حِنْطةً
ولم يستعملها، فأصابها بلل، وأراد أن يردَّها؛ فلا يلزم المُقْرِض قبولها، ويستحقُّ قيمتها.
وكذلك إذا أَقْرَضَه فلوساً؛ ثمَّ حَرَّمَها الحاكمُ ومنع التعامل بها، وبقيت عنده؛ فلا يلزم المُقْرِضَ قبولها، ويستحقُّ قيمتها.
2) ردُّ المُتقوَّم: وإذا كان المُقْتَرَض مُتَقَوَّماً -كالجواهر، والكتب- ردَّ المُقْتَرِض قيمته.
- والمعتبر في القيمة: قيمة القَرْض يوم قبض المُقْتَرِض؛ لأنَّ القيمة تختلف في الزمن اليسير باعتبار كثرة الراغب وقِلَّته؛ فإذا نقصت وقع الضرر على المُقْرِض، وإذا زادت وقع الضرر على المُقْتَرِض.
تاسعاً: اشتراط المُقْرِض رَهْناً أو ضَميناً في القَرْض:
يجوز للمُقْرِض أن يشترط أخذ رَهْن أو ضمينٍ في القَرْض؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ)[متَّفق عليه].
عاشراً: قَرْضُ الماءِ بغير الكيل، والخُبزِ والخَمير بغير الوزن:
يصحُّ قَرْض الماء كيلًا، كما في سائر المائعات، ويصحُّ قَرْضه للسَّقْي إذا قُدِّر بأنبوبة ونحوها، إذا كان محدوداً يُعْرَف مقداره؛ لأنَّه يمكن ردُّ مثله.
ويصحُّ قَرْض الخبز وزناً، ويردُّه وزناً، ويصح قَرْضه عدداً، ويردُّه عدداً بلا قصد زيادة، ولا قصد جَوْدَة، ولا اشتراط ذلك؛ لما رُوي عن عائشة رضي الله عنها قالت:(سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الخَمِيرَةِ وَالْخبْز نُقْرِضُهُ الْجِيرَانَ، فَيَرُدُّونَ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ، فَقَالَ: لَيْسَ بِذَلِكَ بَأْسٌ، إِنَّمَا هُوَ أَمر مُوَافق بَيْنَ الْجِيرَانِ، وَلَيْسَ يُرَادُ بِهِ الْفَضْلَ)[أخرجه ابن الجوزي في «التحقيق»].
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ إقْرَاضِ الخَمِيرِ وَالخُبْزِ؛ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللّاهِ؛ هَذَا مِنْ مَكَارِم الْأَخْلَاق؛ فَخُذِ الصَّغِيرَ وَأَعْطِ الْكَبِيرَ، وَخُذِ الْكَبِيرَ وَأَعْطِ الصَّغِيرَ، خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً؛ سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذَلِكَ)
[أخرجه ابن عَديٍّ في «الكامل»؛ بإسناد ضعيف].
ولأنَّ قَرْضَ الخُبْز والخَمِير ممَّا تدعو الحاجة إليه، وهو من مرافق الناس التي لا يراد بها الفَضْل، فإنْ أقْرَضَه واشترط الزيادة، أو الجودة، وقصدهما؛ لم يصحَّ؛ لأنَّه قَرْضٌ جرَّ نفعاً.
حادي عشر: اشتراطُ مَنفعةٍ في القَرْض:
لا يصحُّ اشتراطُ أخذِ منفعةٍ في مُقابِل القَرْض؛ كأنْ يشترط أنَّه إذا أقْرَضَه أنْ يُسْكنه دارَه، أو يُعيرَه دابَّته، أو أن يقضيه خيراً ممَّا أعطاه؛ لأنَّ القَرْض عقدُ إرفاق وقُرْبة، واشتراط النفع يخرجه عن موضوعه، ولأنَّ كلَّ قَرْضٍ جرَّ نفعاً فهو رباً؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ)[أخرجه أبو داود والترمذي]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(مَنْ أَسْلَفَ سَلَفًا فَلَا يَشْتَرِطْ إِلَّا قَضَاءَهُ)[أخرجه مالك]، وعن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قال:(أَتَيْتُ المَدِينَةَ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلَامٍ رضي الله عنه، فَقَالَ: أَلَا تَجِيءُ فَأُطْعِمَكَ سَوِيقًا وَتَمْرًا، وَتَدْخُلَ فِي بَيْتٍ؟ ثُمَّ قَالَ: إِنَّكَ بِأَرْضٍ الرِّبَا بِهَا فَاشٍ، إِذَا كَانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَهْدَى إِلَيْكَ حِمْلَ تِبْنٍ، أَوْ حِمْلَ شَعِيرٍ، أَوْ حِمْلَ قَتٍّ؛ فَلَا تَأْخُذْهُ فَإِنَّهُ رِبًا)[أخرجه البخاري].
أمَّا إذا كانت المنفعة من غير اشتراط، أو قضاه خيراً ممَّا أعطاه بلا مواطأة؛ جاز ذلك؛ لحديث أبي رافع (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًا، فَقَالَ: أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ
قَضَاءً) [أخرجه مسلم].
ثاني عشر: بَذْل المُقْتَرِض ما عليه في غير بَلَدِ المُقْرِض:
إذا بذل المُقْتَرض ما عليه للمُقْرِض في غير بَلَدِ المُقْرِض، صحَّ ذلك، ولزمه قبوله؛ بشرطين:
الأوَّل: أنْ لا يكون لحَمْله مُؤنةٌ ولا كُلْفةٌ على المُقْرِض.
الثَّاني: أنْ يكون البلد الذي قضاه فيه، والطريق إلى بلد المُقْرِض آمنين.
وذلك لئلَّا يلحق المُقْرِض ضررٌ في دفع أُجرة نقله، أو ضياعه بسرقة أو غصب، وفي الحديث عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ)[أخرجه أحمد، وابن ماجه].
- وإذا أراد أجنبيٌّ قضاء دَيْنٍ عن غيره؛ فأبى ربُّ الدَّين قبْضَه من غير المدين، فله ذلك، ولا يجبرُ على قبوله؛ لأنَّ فيه شيئاً من المِنَّة، ولأنَّ المَدينَ إذا كان قادراً على الوفاء؛ وجب عليه ذلك، وإلَّا لم يلْزمه شيء.
- وإذا مَلَّك الأجنبيُّ المَدِينَ ما عليه من دَيْنٍ لغيره؛ فقبضه، ثمَّ دفعه المَدِينُ لربِّ الدَّين، فإنَّه يلزم الدائنَ قبوله.
باب الرَّهْن
أوَّلاً: تَعريفُ الرَّهْن:
الرَّهْن لغةً: الثبوتُ والدَّوامُ.
وشرعاً: توثيق دَيْنٍ بعَيْنٍ يمكن استيفاؤه، أو استيفاء بعضه منها، أو من ثمنها.
ثانياً: حُكْمُ الرَّهْن:
الرَّهْنُ جائز؛ بدلالة الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.
- فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283].
- ومن السُّنَّة: حديث عائشة رضي الله عنها: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعَه)[متَّفق عليه].
- أمَّا الإجماع: فقال ابن المنذر: «وأجمعوا على أنَّ الرَّهْن في السَّفَر والحَضَر جائز» .
- ويصحُّ عقد الرَّهن في السَّفر والحضر؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا رَهَنَ دِرْعَهُ عند اليهودي، كان في المدينة، وهي بلد إقامته، وذِكْرُ السَّفر في الآية خَرَج مخرَجَ الغالب؛ لأنَّ الكاتب يُعدَم في السفر غالباً، ولأنَّه لا يشترط عدم الكاتب في جواز الرَّهن، مع أنَّه ذُكر في الآية.
ثالثاً: الحِكْمَة من مشروعيَّة الرَّهْن:
شُرِع الرَّهْن توثقةً للدُّيون التي تكون بين العباد؛ لئلَّا يضيع حقُّ الدائن إذا ما عجز المَدين عن الوفاء بما عليه من الدُّيون التي في ذمَّته للدائن؛ فكان في عقد الرَّهن
حفظٌ للمال من الضياع.
رابعاً: أركانُ عَقْدِ الرَّهْن:
لعقد الرَّهْن خمسة أركان؛ هي:
1) الرَّهْن: وهو العين المعلومة التي تُجْعل وثيقةً في مقابل الدَّيْن، ويصحُّ بيعها؛ كالدَّار، والدَّابة، والمتاع، ونحو ذلك.
2) الرَّاهِن: وهو المدين الذي يكون عليه الدَّيْن؛ فيُعطي الدائنَ رَهْناً في مقابل ما له في ذِمَّته من الدَّيْن.
3) المرتَهِن: وهو صاحب الدَّين (الدائن) الذي أَعطى المالَ للمَدين، ويأخذ في مقابله رَهْناً.
4) الصِّيغة: وهي الإيجاب والقبول، وما يؤدِّي معناهما من الرَّاهِن والمُرْتَهِن.
5) المرهون به: وهو الدَّين الذي بسببه يأخُذُ الدَّائن من المَدِين رَهْناً.
خامساً: شروطُ عَقْدِ الرَّهْن:
يُشترَط لصحَّة الرَّهن، خمسةُ شروط:
الأوَّل: أن يكون الرَّهن منجَّزاً؛ فلا يصحُّ أن يكون الرَّهن مُعلَّقاً على شرط؛ كأن يقول: أقرضني ألف دينار، وأُعطيك سيَّارتي رَهْناً إن رَضِيَ والدي.
الثَّاني: أن يكون الرَّهْنُ مع ثبوت الدَّيْن؛ كأن يقول البائع: بعتُك هذا البُستان بألف دينار مؤجَّلةٍ إلى سَنَةٍ، وترهَنُني دارَك هذه؛ فيقول المشتري: اشتريتُ، ورهَنْتُ داري.
أو أن يكون الرَّهْن بَعدَ ثبوت الدَّين؛ لقوله تعالى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ؛ حيث جعل الرَّهْن بدلاً عن الكتابة؛ فيكون في محلِّها؛ وهو بعد وُجوب الحقِّ. ومثاله: أن يُقرض رجلٌ آخر مالاً، ثمُّ يطالبُه بقضاء دينه عند حلول أجله؛ فيقول المُقْتَرِضُ: ليس عندي ما أقضيكَ به دَيْنَك؛ فيقول المُقْرِضُ: إذاً ارْهَنِّي سَيَّارتَك؛ فيقول: المُقْتَرِضُ: رَهَنْتُك سَيَّارتي.
- ولا يصحُّ الرَّهْن قبل ثبوت الدَّيْن؛ لأنَّ الرَّهْنَ تابعٌ له؛ فلا يصحُّ تقدُّمه عليه.
الثَّالث: أنْ يكون الرَّاهن ممَّن يصحُّ بيعُه وتبرُّعُه؛ لأنَّ الرَّهن تصرُّفٌ في المال؛ فلا يصحُّ إلَّا من جائز التصرُّف؛ وهو البالغ، العاقل، الرَّشيد.
الرَّابع: أنْ يكون الرَّاهن مالكاً للرَّهْن، أو مأذوناً له في رَهْنه؛ قال ابن المنذر:«وأجمعوا على أنَّ الرَّجُلَ إذا استعارَ من الرَّجُل الشيءَ يرهنُه على دنانير معلومة، عند رَجُلٍ سُمِّيَ له، إلى وقتٍ معلوم، فرَهَنَ ذلك على ما أُذِنَ له فيه، أنَّ ذلك جائز» .
الخامس: أن يكون الرَّهْن معلوم الجِنْس، والصِّفة، والقَدْر؛ لأنَّه عقدٌ على مال؛ فيُشترَط العِلْم به، كما يُشترَط العِلْم بالمبيع، ولأنَّ المرتَهِن مأمور بردِّه بعد الوفاء بالدَّيْن؛ فإذا جُهِلَ ما يَتميَّز به عن غيره، تعذَّر رَدُّه، وأفضى إلى النِّزاع.
سادساً: ما ينعقدُ به الرَّهْن:
لا ينعقد الرَّهن إلَّا بإيجاب وقبول، أو ما يدلُّ عليهما من الرَّاهن والمرتهن؛ كأن يقول الرَّاهن: رَهَنْتُك هذه السيارة بما لك عليَّ من هذا الدَّيْن، فيقول
المُرتَهِن: قَبِلْتُ. أو يقول الرَّاهنُ: خُذْ هذا المِقْدارَ من الذَّهب بما لك عليَّ من دَيْن؛ فيأخذه المُرتَهِن.
سابعاً: ما يَصحُّ رَهْنُه وما لا يَصحُّ:
يصحُّ رَهْن كلِّ عينٍ يصحُّ بيعها؛ كالدَّار، والسيَّارة، والسِّلاح، والإبل، والبقر، والآلات، والأواني، ونحو ذلك.
وأمَّا ما لا يصحُّ بيعُه فلا يصحُّ رهنه؛ كالخمر، والكلب، والخنزير، والموقوف، والمجهول؛ لأنَّ القصد من الرَّهن استيفاء الدَّين من ثمنه عند تعذُّر الوفاء، فإذا كان الرَّهْن ممَّا لا يصحُّ بَيعُه؛ لم يتحقَّق المقصد منه.
ويُستثنَى من ذلك: رَهْنُ الثمرة قبل بُدوِّ صَلاحها، والزرع قبل اشتداد حبِّه؛ فيصحُّ ذلك وإن كان لا يصحُّ بيعه؛ لأنَّ الرَّهن توثقةُ دينٍ، وليس بَيْعاً، وتقديرُ تَلَفِها لا يُفوِّت حقَّ المرتَهِن؛ لتعلُّق الدَّيْن بذمَّة الرَّاهن.
فإذا حلَّ الأجلُ، وكان قد بدا صلاحُ الثمرة، واشتدَّ الحبُّ، أمكن البيع، وإلَّا انتظر حتَّى يبدو صلاحُ الثمرة، ويشتدَّ الحبُّ؛ فلا يضيع حقُّ المرتَهِن.
وممَّا لا يصحُّ رهنه أيضاً:
- رَهْنُ المصحف؛ لأنَّه وسيلة إلى بيعه، وهو محرَّم.
- رَهْنُ مالِ اليتيم لفاسقٍ؛ لما فيه من تعريض ماله للهلاك؛ إذ قد يجحدُه الفاسق، أو يضيِّعه.
فصل لزوم الرَّهن، ونماؤه، وصفته بيد المرتهن
* لزومُ الرَّهن:
لا يكون الرَّهن لازماً إلَّا إذا قبضه المرتَهِن من الرَّاهن؛ لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ؛ فيكون الرَّهن لازماً في حقِّ الرَّاهن، جائزاً في حقِّ المرتَهِن؛ فالرَّاهن بعد قبض المرتَهِن للرهن ليس له الرجوع فيه، ولا فسخه، ولا يصحُّ تصرُّفه فيه بلا إذن المرتَهِن.
* كسبُ الرَّهن ونَماؤهُ:
كسْبُ الرَّهن، ونماؤه المتَّصل وغير المتَّصلِ يُعامَلُ معاملة الرَّهْن؛ فيكون رَهْناً، ويُباع معه لوفاء الدَّين؛ لأنَّه تبعٌ للرَّهْن، ولأنَّ النماء حُكْمٌ ثبت في العين بعقد المالك؛ فيدخل فيه النماءُ والمنافعُ.
ومثال كسب الرَّهن: أن يرهن شخصٌ داراً، أو سيَّارة، ويأْذَنَ للمُرتَهِن أن يؤجِّرهما؛ فالأجرة تكون رَهْناً.
ومثال نماء الرَّهن: أن يرهن شاةً؛ فتسمَن، أو تلد، أو يُجَزُّ صوفها، أو تُحْلَب، أو يَرْهَن بستاناً؛ فيُثْمِر شجرُه عند المُرتَهِن؛ فالنماء يكون رَهْناً أيضاً؛ كأصله.
ويتبع الرَّهنَ أيضاً: أَرْشُ الجناية عليه؛ لأنَّ الأَرْش بَدَلُ جُزْئِه؛ فكان منه؛ كقيمته لو أُتْلِف. كما لو كان الرَّهنُ شاةً، فاعتدى عليها إنسان وكَسَرَ رِجْلَها، فنقصت قيمتها، فللرَّاهن صاحبِ الشاةِ أخذُ أَرْشِ النقص من المعتدي، فيكون
ذلك الأَرْشُ رهناً.
* صِفَةُ الرَّهْنِ بِيَدِ المُرْتَهِنِ:
الرَّهنُ أمانة بيد المُرتَهِن، أو من ينوب عنه؛ سواء كان بيده قبل عقد الرَّهن، أو بعدَ وفاء الدَّيْن، أو الإبراء منه، ولا يضمنه إلَّا إذا تَعَدَّى على الرَّهن، أو فَرَّط في حِفْظِه؛ لما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:(لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ)[أخرجه الشافعي، والدارقطني مرفوعاً، والصواب أنَّه مرسل]، ولأنَّه لو ضَمِنَ لامتنع الناس عن الرَّهن خوفاً من ذلك؛ فتتعطَّل المداينات، وهذا فيه ضررٌ عظيمٌ.
ويُقبَل قولُ المُرتَهِن مع يمينه في عدم التعدِّي، أو عدم التفريط في تلف الرَّهن.
وإذا ادَّعى المُرتَهِن تلف الرَّهن بحادثٍ ظاهر؛ كحريق، ونَهْب؛ فيُقبَل قوله ببيِّنة تشهد وقوع الحادث، ثمَّ يُقبل قوله بيمينه في تلف الرَّهن فيه بدون بَيِّنة.
أمَّا إذا لم تقم بيِّنة بما ادَّعاه من السبب الظاهر، لم يُقبَل قوله؛ لأنَّ الأصل عدمُه، ولا تتعذَّر إقامة البيِّنة عليه.
- وإذا ادَّعى تلفه بسبب خفيٍّ؛ كالسَّرقة، أو لم يُعيِّن سبباً لتلفه؛ قُبِل قوله مع يمينه؛ لأنَّه أمين.
- وإذا تلف بعض الرَّهن، وبقي بعضه؛ فالباقي منه يكون رَهْناً بجميع الحقِّ الذي له على الرَّاهن؛ لأنَّ الحقَّ كلَّه متعلِّق بجميع أجزاء الرَّهن.
- لا ينفكُّ شيء من أجزاء الرَّهن، حتى يقضي الرَّاهن الدَّيْن كُلَّه؛ إجماعاً، ولأنَّ الرَّهن وثيقة بالدَّين كلِّه؛ فكان متعلِّقاً بجميع أجزائه.
- إذا حلَّ أجلُ الدَّين، وكان الرَّاهن قد شرط للمرتَهِن أنَّه إن لم يأته بحقِّه عند حلول الأجل؛ فالرَّهن له؛ لم يصحَّ الشرْط؛ لحديث:(لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ)؛ أي: لا يستحقُّه المرتَهِن إذا لم يتمكَّن صاحبُه من فكِّه.
ويلزم الرَّاهن الوفاء بالحقِّ الذي عليه، أو يأذن للمُرتَهِن في بيع الرَّهْن، أو يبيعه هو بنفسه؛ ليوفِّي المرتَهِن حقَّه.
وليس للمرتَهِن بيعُ الرَّهن بغير إذن الرَّاهن، أو القاضي.
فإذا امتنع الرَّاهن عن بيع الرَّهن، ووفاء الدَّيْن؛ حَبَسَه القاضي، أو عَزَّره حتى يُوفِّي دَيْن المُرتَهِن، أو يبيعَ الرَّهن لتوفيته الدَّيْنِ الذي له في ذِمَّته.
فإن أصرَّ الرَّاهنُ على الامتناع؛ باع القاضي الرَّهْن بنفسه أو أمينه؛ لأنَّه تعيَّن طريقاً لأداء الواجب الذي عليه؛ فوجب فعله، ووفاء دَيْنه.
فصل انتفاعُ المُرتَهِن بالرَّهن
لا يصحُّ الانتفاع بالرَّهْن إلَّا في صورتين:
الأُولَى: أن يكون الرَّهن مركوباً؛ كالفرس، والبعير، والسيَّارة، ونحو ذلك.
الثَّانية: أن يكون الرَّهن محلوباً؛ كالناقة، والبقرة، والشاة.
فإذا كان الرَّهن مركوباً أو محلوباً؛ فإنَّ للمُرتَهِن ركوب المركوب، وحَلْب المحلوب من غير أن يُلْحِق بالرَّهن ضرراً؛ لما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ)[أخرجه البخاري].
وعنه -أيضاً- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا كَانَتِ الدَّابَّةُ مَرْهُونَةً، فَعَلَى المُرْتَهِنِ عَلَفُهَا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ، وَعَلَى الَّذِي يَشْرَبُهُ نَفَقَتُهُ، وَيَرْكَب)[أخرجه أحمد].
- ويكون ركوب المرتَهِن للمركوب، وحلب المحلوب بقدر نفقته عليه؛ فلو رَهن بعيراً، وأراد المُرتَهِن استئجاره للركوب مدَّة أسبوع؛ وكانت أُجرة ركوبه لسبعة أيام خمسين ديناراً، وكان المُرتَهِن قد أنفق على البعير خمسين ديناراً؛ فحينئذ له أن يركب البعير بقدر الخمسين ديناراً، لا أكثر.
وإن كانت أُجرتُه أكثرَ من النفقة؛ فحينئذ يدفع المُرتَهِن ما زاد على النفقة للرَّاهن، وإن كانت أُجْرتُه أقلَّ من النفقة؛ فيَرجع المُرتَهِن على الرَّاهن بالزيادة.
ولا يحتاج المُرْتَهِن في ذلك إلى إذْنِ الرَّاهن، ولو كان حاضراً؛ لأنَّه مأذونٌ له فيه من الشرع.
- أمَّا إذا كان الرَّهن غير مركوبٍ، ولا محلوبٍ؛ كالثَّور، والبيت، والكتاب، والقلم؛ لم يجزْ للمُرتَهِن أن ينتفع به إلّا بإذن الراهن؛ لأنَّ الإنسان ليس له أن ينتفع بملك غيره إلَّا بإذنه؛ ولمَّا كان الرَّهن مِلْكاً للرَّاهن؛ لم يكن للمُرتَهِن أن ينتفع به إلَّا بإذن الرَّاهن. وخرج المركوب والمحلوب؛ لدلالة النصِّ.
- وللمُرتَهِن الانتفاع بالرَّهن بغير عِوضٍ إذا أذِنَ له الرَّاهن، إلَّا إذا كان الدَّين قرضاً؛ فيَحْرُم؛ لأنَّه يكون من باب القرض الذي جرَّ نفعاً. ويكون الرَّهن في يد المُرْتهن مضموناً عليه إذا انتفع به؛ لأنَّه صار عاريَّةً.
* نَفَقَةُ الرَّهْنِ:
كلُّ ما يحتاجه الرَّهن من نفقة، ومؤنةٍ، وأجرة؛ فإنَّها تكون على مالكه؛ لما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ).
وإذا تعذَّر إنفاق الرَّاهن عليه؛ لعُسْرته، أو غَيبَتِه، ونحو ذلك؛ بِيعَ من الرَّهنِ بقدر حاجته إلى النفقة، أو بِيعَ كلُّه إن خيف أن تستغرق النفقة ثمنه؛ لما فيه من مصلحة الرَّاهن والمرتَهِن.
- وإذا أنفق المُرتَهِن على الرَّهن بلا إذن من الرَّاهن، مع قدرته على استئذانه، وهو ينوي الرجوع عليه؛ فإنَّه يكون متبرِّعاً بالنفقة؛ لأنَّه مُفرِّط بعدم الاستئذان؛ إذِ الرجوعُ فيه معنى المعاوضة؛ فافتقر إلى الإذن والرِّضا.
أمَّا إذا أنفق على الرَّهن بنيَّة الرجوع، مع إذن الراهن؛ كان له أن يرجع عليه؛ لأنَّه نائب عنه؛ فأشبه الوكيل.
وإن تعذَّر استئذانه، وأنفق المُرتَهِن على الرَّهن بنِيَّة الرجوع على الرَّاهن؛ فله
الرجوع عليه بما أنفق، أو بنفقةِ مثلِه؛ أيُّهما أقلُّ، ولا يحتاج إلى إذن القاضي؛ لأنَّه بذلك محتاج إلى حراسة حقِّه.
فصل الاختلافُ في ردِّ الرَّهن
إذا اختلف الرَّاهن والمرتَهِن في ردِّ العين المرهونة؛ فادَّعى المرتَهِن ردَّ العين، وأنكر الرَّاهن ذلك؛ فالقول قول الرَّاهن؛ لأنَّ الأصل عَدَمُ الرَّدِّ، ولأنَّ المُرتَهِن قبض الرَّهن لحظِّ نفسه ومنفعتِها؛ فلم يُقبَل قولُه في الردِّ؛ كالمستعير، والمستأجر، والمقترض، وغيرهم.
باب الضَّمان
أوَّلاً: تعريفُ الضَّمان:
الضَّمانُ لغةً: الالتزام؛ مأخوذ من الضِّمْن؛ أي: تكونُ ذِمَّةُ الضامِنِ في ضِمْنِ ذِمَّةِ المضمون.
وشرعاً: هو التزامُ شخصٍ جائزِ التَّصرف ما وَجَبَ أو يجِبُ على غيرِه، من حقِّ ماليٍّ.
ومثال التزام ما وجب: أن يكون شخص مديناً لآخر بِدَيْنٍ؛ فيقول له الدائن: أعطني دَيْنِي وإلَّا رفعتُ أَمْرَكَ إلى القاضي، فيتبرَّع رجلٌ من أهل الخير قائلاً: أنا أضمن دَيْنه.
ومثال التزام ما يجب: أن يأتي رجلٌ إلى صاحب دكَّان؛ يريد أن يشتري بضاعة منه، وليس معه نقود، فيضمن رجلٌ آخر دَيْنَهُ؛ قائلاً: ما استدانَهُ هذا الرَّجل من هذا المحلِّ فضمانُه عليَّ.
ثانياً: حُكْمُ الضَّمان:
الضَّمان جائز بالكتاب، والسنَّة، والإجماع.
- فمن الكتاب: قول الله عز وجل: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]. قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: الزعيم: الكفيل.
- ومن السُّنَّة: حديث أبي أُمامة الباهليِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (الزَّعِيمُ غَارِمٌ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه]؛ أي: ضامن.
- وأجمع العلماءُ على جواز الضَّمان في الجملة.
ثالثاً: حِكْمةُ مشروعيّة الضَّمان:
الضَّمان من محاسن الشَّريعة؛ إذ فيه تقوية أواصر المحبَّة والإخاء، كما أنَّ فيه تبادل المصالح، وتيسير أمور الناس ومصالحهم.
رابعاً: أركانُ الضَّمان:
أركانُ الضَّمان خمسةٌ:
الأوَّل: ضامِنٌ: وهو الذي تبرَّع بالتزام الدَّين في ذمَّته، ويشترط فيه:
أ - أن يكون جائز التصرف؛ بأن يكون بالغاً، عاقلاً، رشيداً؛ فلا يصحُّ من صغيرٍ -سواء كان مميِّزاً أو غير مميِّز-، ولا مجنونٍ، ولا سفيهٍ؛ لأنَّه إيجاب مال بعقدٍ، فلم يصحَّ إلَّا من جائز التَّصرف.
ويُستثنَى من ذلك المحجور عليه لفَلَس؛ فإنَّه يصحُّ ضمانه؛ لأنَّه تصرُّفٌ متعلِّق بذمَّته وهو أهلٌ له فيصحّ.
ب- أن يكون مختاراً؛ لأنَّ الضمان تبرُّع بالتزام الحقِّ، فلا يصحُّ بغير رضا الملتزم. فإنْ أُكره عليه لم يصحَّ.
- ولا يُشترَط معرفة الضامن للمضمون عنه، ولا المضمون له؛ لأنَّه لا يُعتبَرُ رِضاهُما -كما سيأتي-؛ فكذا معرفتهما.
الثَّاني: مَضْمونٌ لَهُ: وهو الدائن، أو مَنْ له الحقُّ. ولا يعتبر رضاه؛ لحديث سَلَمَة بن الأَكْوَع رضي الله عنه قال: (كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ، فَقَالُوا:
صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ؛ فَصَلَّى عَلَيْهِ) [رواه البخاري]؛ فقد ضمن أبو قتادة رضي الله عنه من غير رِضَا المضمون له، ولا المضمون عنه، وأجازه النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
الثَّالث: مضمونٌ عَنْهُ: وهو المَدِين. ولا يعتبر رضاه؛ للحديث السابق، ولأنَّه لو قُضِيَ الدَّين عنه بغير إذنه ورضاه صحَّ، فكذلك إذا ضمن عنه.
الرَّابع: مضمون: وهو الدَّيْن، ويشترط فيه: أن يكون واجباً، أو مآلُه إلى الوجوب؛ فإن لم يكن كذلك؛ كضمان الأمانات -كما سيأتي-؛ فإنَّه لا يصحُّ.
الخامس: الصيغة: وهي اللفظ الذي يحصل به الضَّمان؛ كأنا ضمين، أو كفيل، أو زعيم، أو ضمنتُ دَيْنك، أو تحمَّلتُه، أو ضمنتُ إيصاله، أو هو عليَّ، أو تكفَّلت به، ونحو ذلك ممَّا يؤدِّي معنى التزامه ما عليه. أمَّا إنْ قال: أنا أؤدِّي ما عليه، أو: أنا أُحضر ما عليه؛ لم يصر ضامناً بذلك؛ لأنه وعد وليس بالتزام.
- ويصحُّ الضَّمان بصيغة التَّنجيز؛ كأن يقول: أنا ضامن له الآن، وبصيغة التعليق؛ كأن يقول له: إنْ أعطيتَهُ كذا فأنا ضامنٌ لك ما عليه. وبصيغة التوقيت؛ كأنْ يقول له: إذا جاء رأس الشهر فأنا ضامن لك.
- ويصحُّ ضمان الأخرس إذا كان بإشارة مفهومة؛ لأنَّها كاللفظ في الدلالة على مراده. فإنْ لم تكن بإشارة مفهومة فلا يصحُّ ضمانه. وكذا لا يصحُّ ضمانه بالكتابة إلَّا إذا كانت مع إشارة مفهومة؛ لأنَّه قد يكتب عبثاً، أو تجربة قلم.
خامساً: ما يصحُّ فيه الضَّمان، وما لا يصحُّ:
- يصحُّ الضَّمان في كلِّ حقِّ من الحقوق الماليَّة الواجبة، أو التي تؤول إلى الوجوب؛ كضمان المهر قبل الدخول؛ لأنَّه يؤول إلى الوجوب بل وجب بالعقد، لكنَّه لا يستقرُّ إلَّا بالدخول، وكذا ضمانه بعد الدخول، لأنَّه صار حقًّا مستقرًّا، وكضمان أُجرة العين المؤجَّرة، وضمان ثمن المبيع في مدِّة الخيار، ونحو ذلك؛ لأنَّها تؤول جميعها إلى الوجوب واللزوم.
- ويصحُّ ضمان المجهول إذا آل إلى العِلْم؛ كما لو قال له: أنا ضامن لك مالك على فلان، أو ما يُقضى به عليه، أو ما تقوم به البيِّنة، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، وحِمْل البعير غير معلوم؛ لأنَّه يختلف باختلاف البعير؛ فقد يزيد وقد ينقص؛ لكنه يؤول إلى العلم. أمَّا إذا لم يؤل إلى العلم فإنَّه لا يصحُّ ضمانه؛ كضمان متلفاتٍ لشخصٍ لا يدري ما هي؛ فلو أتلف إنسان مُتلفاتٍ عظيمة، ولا يدري كم قيمتها؛ هل تساوي مليوناً، أو عشرة دنانير، ولا سبيل إلى معرفة ذلك، فهذا مجهول لا يمكن العلم به، فلا يصحُّ ضمانه؛ لأنَّ الضَّامن لا يَدري ماذا يؤدِّي.
- ويصحُّ ضمان دين الميِّت وإن لم يترك شيئاً يُستوفى منه دَيْنه؛ لحديث سَلَمَة بن الأَكْوَع السابق؛ وفيه أنَّ أبا قتادة رضي الله عنه ضمن دين ميِّت لم يترك وفاءً لدينه، وأقرَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولأنَّه دَيْنٌ ثابتٌ فصحَّ ضمانُه كما لو ترك وفاءً له. ولا تبرأ ذمَّة الميِّت حتَّى يُقضَى عنه دَيْنُه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(نَفْسُ المُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ)[رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه].
- ويصحُّ ضمان دَيْن المُفْلِس؛ لعموم قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (الزَّعِيمُ غَارِمٌ)، وقياساً على ضمان دَيْن الميت.
- ويصحُّ ضمان العاريَّة؛ كما لو استعار من شخص سيارة ليسافر بها إلى بلدٍ، فيقول صاحب السيارة: أريد ضامناً يضمن لي السيارة، فيصحُّ ذلك؛ لأنَّ العاريَّة مضمونة على المستعير فرَّط أم لم يفرِّط. وكذا يصحُّ ضمان المغصوب؛ كما لو غصب منه ساعته وهرب، ثمَّ أمسكه وأراد تسليمه للشرطة لتقوم بسجنه، فتقدَّم رجل آخر، وقال: أنا أضمن لك هذه الساعة، فيصحُّ الضمان، ويخلِّيه حينئذٍ؛ لأنَّ المغصوب مضمون في يد غاصبه في جميع الأحوال، فلذا صحَّ ضمانه. والمقصود بضمان المغصوب أو العاريَّة هنا: ضمان ردِّها وإرجاعها إلى صاحبها، أو ضمان قيمتها في حال التلف.
وهذا بخلاف ضمان الأمانات؛ كالوديعة، والعين المؤجَّرة، ومال الشركة، والعَيْن التي يدفعها إلى الخياط أو القصَّار ونحو ذلك؛ فإنَّه لا يصحُّ ضمانها؛ لأنَّها غير مضمونة على الآخذ وهو الأصل؛ لأنَّه مؤتمَن؛ لا يضمن إلَّا بالتعدِّي، فلا تُضمن على الفرع؛ وهو الضامن.
أمَّا في حال التعدِّي فإنَّه يصحُّ ضمانها؛ كأن يقول له: أَضَعُ هذه الأمانةَ عندكَ بِشَرْط أنَّك متى تعدَّيت عليها أو فرَّطْتَ، فإنَّ الضمان عليك، ثمَّ يَطلُب ضَميناً على ذلك، فيصحُّ؛ لأنَّها حينئذٍ تكون مضمونةً عليه أصلاً، فيجوز الضمانُ عليها فَرْعاً.
- ويَصِحُّ ضَمانُ عُهدَةِ الثَّمن والمُثمَن في البيع: وذلك بأن يضمن الضامنُ
الثَّمن عن المشتري للبائع، وأن يضمن الضامنُ الثَّمن عن البائع للمشتري؛ فمثال الأوَّل: أن يقول للبائع: أعط فلاناً هذه السلعة التي تبايعتما عليها، وإنْ
لم يُسلِّمك الثَّمن فهو في ضماني.
ومثال الثَّاني: أن يقول للمشتري: أعطى البائع الثمن؛ فإن ثبت أنَّ السلعة ليست له، وأنَّه مغتصب لها، أو أنها مَعيبة فالضَّمان عليَّ. فيصحُّ ذلك؛ لأنَّ الحاجة داعية إليه؛ إذْ فيه راحة واطمئنان لكلا الطرفين، وفيه تيسير لمعاملات الناس، وإلَّا لتوقَّفت المعاملة مع مَنْ لم يُعرف.
- ويصحُّ ضمانُ المقبوض على وَجْهِ السَّوْمِ: وذلك كأنْ يذهب إلى السُّوق مثلاً ويَسُوم سِلْعة، ثم يقول للبائع: دعني حتَّى أستشير فيها، وأُريها بعض الناس ويأخذها. فهذا هو المقبوض بسَوْمٍ؛ فيصحُّ الضمان فيه؛ بأن يقول البائع له: لن أُقبِضَك إيَّاه حتَّى تأتي بضمين يضمنك حتى ترجعه إليَّ؛ وذلك لأنَّ يد القابض هنا ضامنة في حال التلف، سواءً تعدَّى أم لم يتعدَّى؛ لأنَّه مقبوض على وجه البدل والعِوَض، وما كان كذلك يصحُّ الضمان فيه.
أمَّا إنْ قبضه من غير سَوْم فلا يصحُّ الضمان فيه؛ لأنَّه حينئذٍ يكون من باب الأمانات، ويد الأمين غير ضامنة إلَّا بالتعدِّي كما مرَّ آنفاً.
سادساً: لزومُ الضَّمان:
- إذا صحَّ الضَّمان صار لازماً، وكان لربِّ الحقِّ مطالبة الضَّامن والمضمون عنه معاً، أو أيِّهما شاء منهما، في حال الحياة أو الموت؛ بالمطالبة من التركة؛ وذلك لثبوت الحقِّ في ذمَّتهما.
-ولو ضمن شخصٌ دَيْناً حالًّا إلى أجل معلوم صحَّ الضَّمان، وكان حالًّا على المضمون عنه، مؤجَّلًا على الضَّامن، وليس لصاحب الحقِّ مطالبته قبل الأجل؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما:(أَنَّ رَجُلاً لَزِمَ غَرِيمًا لَهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا عِنْدِي شَيءُ أُعْطِيكَهُ. فَقَالَ: لَا وَاللّاهِ، لَا أُفَارِقُكَ حَتَّى تَقْضِيَنِي أَوْ تَأْتِيَنِي بِحَمِيلٍ، فَجَرَّهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كَمْ تَسْتَنْظِرُهُ؟ فَقَالَ: شَهْرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَأَنَا أَحْمِلُ لَهُ. فَجَاءَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مِنْ أَيْنَ أَصَبْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ مَعْدِنٍ. قَالَ: لَا خَيْرَ فِيهَا. وَقَضَاهَا عَنْهُ)[رواه أبو داود، وابن ماجه؛ واللفظ له].
سابعاً: قضاءُ الدَّين والرجوع على المضمون عنه:
- إذا قضى الضَّامن ما على المضمون عنه -المدين- ونوى الرجوع عليه؛ فإنَّ له الرجوع واستيفاء ما قضاه عنه؛ سواء كان الضَّمان بإذن المضمون عنه أو بغير إذنه؛ لأنَّه قضاءٌ عن دين واجب. أمَّا إذا لم يكن قد نوى الرجوع عليه، فليس له حينئذٍ الرجوع عليه بما قضاه عنه؛ سواء ضمن بإذنه أو بغير إذنه؛ لأنَّه متطوِّع بذلك، فأشبه الصَّدقة.
- وكذا الحكم في حقِّ كلِّ مَنْ أدَّى عن غيره ديناً واجباً لا يفتقر إلى نيَّة؛ كمن أنفق على زوجة غيره ونوى الرجوع؛ فإنَّ له ذلك، وإلَّا فلا. أمَّا إنْ كان يفتقر إلى نيَّة؛ كالزكاة ونحوها، فليس له الرجوع على المؤدَّى عنه حتَّى وإنْ نواه، لأنَّه لا يجزئ عن المؤدَّى عنه إلَّا بالنيَّة.
- وإن برئ المضمون عنه بأداء ما عليه، أو بإبراء الدائن له، ونحو ذلك، فإنَّه
يبرأُ ضامنه؛ لأنَّه تبعٌ له، والضَّمان وثيقة، فإذا برئ الأصل زالت الوثيقة كالرهن. بخلاف ما لو برئ الضَّامن؛ كأن أبرأه صاحب الحقِّ، فلا يبرأُ المضمون عنه؛ لأنه أصلٌ؛ فلا يبرأ بإبراء التَّبع، ولأنَّه وثيقة انحلَّت من غير استيفاء الدَّين منها، فلم تبرأ ذمَّة الأصيل؛ كالرَّهن إذا انفسخ من غير استيفائه.
- ويجوز أن يضمن الحقَّ عن الرجل الواحد اثنان أو أكثر؛ فلو ضَمِنَهُ اثنان، وقال كلُّ واحد منهما: ضَمِنْتُ لك الدَّين، كان لصاحب الحقِّ مطالبة كلِّ واحد منهما بالدَّين كلِّه؛ لثبوته في ذمَّة المدين أصالة، وفي ذمَّة الضامنين تبعاً. ويبرؤون بأداء أحدهم، أو بإبراء المضمون عنه.
أمَّا إن قالا: ضَمِنَّا لك الدَّيْن؛ فيكون بينهما مناصفةً؛ لأنَّ مقتضى الشَّركة التَّسوية.
باب الكفالة
أوَّلاً: تعريفُ الكَفالَةِ:
الكَفالةُ لغةً: الالتزام والضَّمان.
وشرعاً: هي التزامُ شخصٍ جائزٍ التصرُّف إحضارَ بَدَنِ مَنْ عليه حقٌّ ماليٌّ إلى صاحبِ الحقِّ.
ومثالها: رجلٌ في ذمَّته لشخص ألف دينار، فطالبه صاحب الحقِّ، وأمسك به، وقال: أَوْفِنِي، وإلَّا رفعتُ أمركَ للقضاء، والمَدينُ ليس معه ما يوفيه دَيْنَهُ الآن، فتقدَّم رجلٌّ مُحسِنٌ، وقال: أنا أكفل الرَّجل؛ يعني إحضاره، فهذا يصحُّ.
والفرق بينها وبين الضَّمان؛ أنَّ الضَّمان: التزامٌ بإحضار الدَّين. أمَّا الكفالة: فالتزام بإحضار بَدَنِ المَدينِ، أو مَنْ عليه الحقِّ.
ثانياً: حُكْمُ الكَفالَةِ:
الكفالةُ جائزةٌ بدلالة الكتاب والسنَّة.
- فمن الكتاب: قول الله عز وجل: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66].
- أمَّا من السنَّة: فما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ؛ فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ. فَقَالَ: كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا. قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ. قَالَ: كَفَى بِاللهِ كَفِيلاً
…
) [أخرجه البخاري].
- ولعموم حديث أبي أُمامة الباهليِّ، أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(الزَّعِيمُ غَارِمٌ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه].
ثالثاً: حِكْمَةُ مشروعيَّة الكَفالَةِ:
شُرِعَت الكفالة تيسيراً على النَّاس في إنجاز مصالحهم ومعاملاتهم؛ لأنَّ الحاجة داعية إلى الاستيثاق؛ بضمانِ المال والبدن، وضمانُ المال يمتنع منه كثير من الناس، فلو لم تَجُزِ الكفالة بالنَّفْس لأدَّى ذلك إلى الحَرَج، وتعطُّل المعاملات التي يحتاجها الناس.
رابعاً: أركانُ الكَفالَةِ:
أركانُ الكَفالَةِ أربعة:
الأوَّل: الكفيلُ: وهو الذي التزم إحضار بَدَنَ المَدين أو مَنْ عليه الحقُّ. ويشترط فيه:
- أن يكون بالغاً، عاقلاً، رشيداً؛ فلا تصحُّ من الصبيِّ، ولا المجنون، ولا السفيه.
أمَّا المحجور عليه لفَلَسٍ فتصحُّ منه الكفالة؛ لما سبق في باب الضمان من أنَّه تصرُّفٌ متعلِّق بذمَّته، وهو أهلٌ له؛ فيصحّ.
- أن يكون ذلك برضاه؛ لأنَّه متبرِّع ابتداءً بالتزام إحضار المكفول، فلا يلزمه ذلك إلَّا برضاه، وإلَّا لم تصح الكفالة.
الثَّاني: المكفولُ، أو المكفولُ به، أو المكفولُ عنه: وهو المدين أو مَنْ عليه الحقُّ. ولا يشترط رضاه؛ لحديث سَلَمَة بن الأَكْوَع رضي الله عنه قال: (كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَهَلْ
عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ) [رواه البخاري]؛ فقد ضَمِنَ أبو قتادةَ رضي الله عنه من غير رضا المضمون له ولا المضمون عنه، وأجازه النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فكذلك الكفالة؛ إذ هي نوع من الضَّمان.
الثَّالث: المكفولُ له: وهو الدائن أو صاحب الحقِّ. ولا يشترط رضاه أيضاً؛ للحديث السابق، ولأنَّها وثيقة له لا قبض فيها؛ فأشبهت الشهادة. كما أنَّها التزام حقِّ له من غير عِوَض، فلم يفتقر ذلك إلى رضاه.
الرَّابع: الصِّيغةُ: وهي اللفظ الذي تنعقد به الكفالة. وهي تنعقد بما ينعقد به الضَّمان من الألفاظ؛ إذ هي نوع منه؛ كأنا كفيل بفلان، أو ببدنه، أو بنفسه، أو ضمين، أو زعيم، أو تكفَّلت بإحضاره، أو ضمنت إحضار بدنه، أو عليَّ إحضاره، ونحو ذلك من الألفاظ.
- وتصحُّ الكفالة بصيغة التَّنجيز؛ كأن يقول: أنا كفيل به الآن. وبصيغة التِّعليق؛ كأن يقول له: إنْ أعطيتَهُ كذا فأنا كافل لك بدنه. وبصيغة التَّوقيت؛ كأنْ يقول له: إذا جاء رأس الشهر فأنا كفيل به.
خامساً: ما تصحُّ فيه الكَفالَةُ، وما لا تصحُّ:
- تصحُّ الكفالة ببَدَنِ مَنْ عليه دَيْن؛ سواء كان دَيْنُه معلوماً أو مجهولاً لكنَّه يؤول إلى العلم؛ كما تقدَّم في الضَّمان.
- وتصحُّ الكفالة ببَدَنِ مَنْ عنده عينٌ مضمونة؛ كالعاريَّة والغصب ونحوهما؛ فلو قال له: لا أُعيرك هذه العَيْن حتَّى تأتي بكفيل صحَّت الكفالة؛ فكلُّ عينٍ
تُضمن تصحُّ فيها الكفالة.
- وتصحُّ الكفالة ببَدَنِ المحبوس والغائب؛ لأنَّ كلَّ وثيقة صحَّت مع الحضور، صحَّت أيضاً مع الغيبة والحبس؛ لأنَّ الحبس لا يمنع من التَّسليم؛ إذِ المحبوسُ يمكن تسليمه بأمر الحاكم، أو بأمر من حبسه، ثمَّ يُعاد إلى الحبس بالحقَّين جميعاً. وأمَّا الغائب فيمضي إليه الكفيل لإحضاره إن كان يعلم خبره، فإن لم يعلم خبره لزمه ما عليه.
- ولا تصحُّ الكفالة ببَدَنِ من عليه حَدٌّ؛ سواء كان حقًّا لله تعالى؛ كحدِّ الزنا والسَّرقة، أو حقٌّ لآدميٍّ؛ كحدِّ القذف والقصاص؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ)[رواه البيهقي، وابن عَدي؛ بإسناد ضعيف]. ولأنَّ مبنى الحدود على الإسقاط والدرء بالشبهة؛ فلا يدخله الاستيثاق، كما أنَّه لا يمكن استيفاؤه من الكفيل إذا تعذَّر عليه إحضار المكفول به؛ فمثلاً: رجل سارقٌ، أمسكته الجهات المسؤولة لتُقيم عليه حدَّ السَّرقة، فقال: ذروني أذهب إلى أهلي، وأخبرهم بأنِّي مستحقٌّ لقطع اليد، فقالت الجهات المسؤولة: لا نتركك،
لا بدَّ من القطع الآن، فقال السارق: هناك مَنْ يكفلني إلى أن أرجع، فتقدَّم رجل وقال: أنا أكفله. فهذا لا يصحُّ؛ لأنَّه لو تعذَّر الاستيفاء من السَّارق، لم يمكن الاستيفاء من الكفيل، فأيُّ فائدة في الكفالة حينئذٍ؟!
- ولا تصحُّ الكفالة بزوجةٍ لزوجِها، في حقِّ الزوجيَّة له عليها، ولا بشاهد ليشهد له؛ لأنَّ الذي عليهما أداؤه من الحقِّ ليس بماليٍّ، ولا يمكن استيفاؤه من الكفيل.
- ولا تصحُّ كفالة الابنِ لأبيه؛ لأنَّها تتطلَّب إحضار المكفول إلى مجلس القضاء،
والولد لا يملك ذلك على أبيه، ولا يملك رفع الدعوى عليه، إلَّا في النفقة الواجبة.
- ولا تصحُّ الكفالة في الأمانات؛ كالوديعة، ومال الشركة، وأُجرة العين المؤجَّرة، ونحو ذلك؛ لأنَّها غير مضمونة على مَنْ هي بيده؛ لأنَّه أمين. إلَّا في حال التَّعدِّي والتَّفريط، فتصحُّ حينئذٍ؛ كما تقدَّم في باب الضَّمان.
- ولا تصحُّ الكفالة بشخصٍ مجهولٍ؛ لأنَّه غير معلومٍ في الحال ولا في المآل؛ فلا يمكن تسليمه.
- ولا تصحُّ الكفالة إلى أجل مجهول؛ كما لو قال: ضمنته أو كفلته إلى مجيء المطر أو هبوب الرياح؛ لأنَّه ليس له وقت يستحقّ مطالبته فيه.
سادساً: متى يَبْرأُ الكَفيلُ؟
يبرأ الكفيل في الحالات التالية:
1) إذا سلَّم الكفيلُ المكفولَ به (المَدين) للمكفولِ له (الدائن) بمحلِّ العقد، وقد حَلَّ أَجَلُ الكفالة بَرِئَ الكفيلُ؛ لأنَّ الكفالة عقدٌ على عَمَلٍ؛ فإذا سلَّمه فقد أدَّى ما عليه.
أمَّا إنْ سلَّمه في غير محلِّ العقد أو في غير موضع شَرْط المكفول له؛ لم يبرأ؛ لأنَّ ربَّ الحقِّ قد لا يقدر على إثبات حُجَّته فيه؛ لغياب الشُّهود -مثلاً-، ونحو ذلك.
2) إذا سلَّم الكفيلُ المكفولَ به للمكفول له قبل حلول الأجل، ولا يترتَّب على ذلك ضررٌ على المكفول له، برئ الكفيل أيضاً؛ لأنَّه قد زاده خيراً بتعجيل حقِّه.
أمَّا إنْ ترتَّب على تسليمه قبل حلول الأجل ضررٌ للمكفول له؛ كغياب وثائقه
أو شهوده -مثلاً-، أو لم يكن يوم مجلس الحكم، ونحو ذلك، لم يبرأ الكفيل.
3) إذا سلَّم المكفول به (المدين) نفسه لربِّ الحقِّ؛ لأنَّ الأصيل (المكفول به) أدَّى ما عليه.
4) إذا مات المكفول به؛ لأنَّه سقط إحضاره بموته.
5) إذا تلفت العين المضمونة -التي تكفَّل ببَدَنِ من هي عنده- بفعل الله تعالى قبل طلب إحضاره؛ لأنَّه بمنزلة موت المكفول به.
6) إذا أحضر الكفيل المكفول به، فامتنع الكفول له من تسلُّمه بلا ضرر، ولو لم يُشهد على امتناعه من تسلَّمه.
- أمَّا إذا تعذَّر على الكفيل إحضار المكفول به مع كونه حيًّا؛ كأنْ توارى، أو غاب عن البلد ونحو ذلك، ومضى زمنٌ يمكن ردُّه فيه، أو امتنع الكفيل من إحضاره؛ ضمن الكفيل ما عليه؛ لعموم قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(الزَّعِيمُ غَارِمٌ)، إلَّا إذا شَرَطَ الكفيل لنفسه البراءة من المال عند تعذُّر إحضاره؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ)[رواه أبو داود]. ولأنَّه إنَّما التزم إحضاره على هذا الوجه فلا يلزمه غير ما التزمه.
- ومن كفله اثنان، فسلَّمه أحدهما لم يبرأ الآخر؛ وذلك لأنَّ إحدى الوثيقتين انحلَّتْ من غير استيفاءٍ، فلم تنحلَّ الأخرى، كما لو أبرأ المكفول له أحدَهُما ولم يُبرئ الآخر. أمَّا إذا سلَّم المكفول به نفسه برئ الكفيلان؛ لأنَّه أدَّى ما يلزم الكَفيلَيْن لأَجْلِه، وهو إحضارُ نفْسِهِ؛ فبرئت ذمَّتهما.
بابُ الحَوالَة
أوَّلاً: تعريفُ الحَوَالَةِ:
الَحِوالةُ لغةً: بفتح الحاء وكَسْرها؛ مشتقَّة من التحوُّلِ؛ لأنَّها تُحَوِّلُ الحقَّ مِنْ ذِمَّةِ المُحيل إلى ذِمَّةِ المُحال عليه.
وشرعاً: نقل دَيْنٍ من ذِمَّة إلى ذِمَّة أخرى.
- وصورتها: أن يكون لزيدٍ ألف دينار على عمرٍو، ولعمرٍو ألف دينار على بَكْرٍ، فيأتي زيدٌ ليطلب حقَّه من عمرٍو، فيقول له عمرٌو: أحَلْتُك به على بَكْرٍ الذي لي عنده ألف دينار؛ فهذا يُسمَّى حوالة؛ لأنَّ الحقَّ الَّذي في ذِمَّة عمرٍو تحوَّل إلى ذمَّة بَكْرٍ.
- وعقد الحوالة ليس من جنس عقود البيوع، ولا في معناها، وإنَّما هو عقد منفردٌ بنفسه، من جنس إيفاء الحقوق، وبراءة الذِّمم؛ لأنَّ هذا الذي في ذمَّته الحقُّ تبرأ ذمَّتُه بنقل هذا الحقِّ إلى ذمَّة شخص آخر.
ثانياً: حُكْمُ الحَوَالَةِ:
الحوالة جائزة بالسنّة، وبالإجماع:
- فمن السُّنَّة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ)[متَّفق عليه]. وفي لفظٍ: (وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ)[رواه أحمد].
- وأمَّا الإجماع: فقد أجمع العلماء على جوازها في الجملة. كما ذكر ذلك ابن قدامة
في «المغني» .
ثالثاً: الحِكْمةُ من مشروعيَّة الحَوَالَةِ:
شُرِعَت الحوالةُ لما فيها من ترَفُّقٍ بالعباد، وتيسيرِ أداء ما عليهم من حقوق، وعونٍ على إبراء الذِّمم، واستيفاء الحقوق.
رابعاً: أركانُ الحَوَالَةِ:
للحوالة خمسة أركان:
الأوَّل: المُحيل: وهو المَدينُ الأوَّل؛ أي: من عليه دَيْن.
الثَّاني: المُحتالُ: وهو الدائن، أو صاحب الحقِّ.
الثَّالث: المُحال عليه: وهو المدين الثاني؛ فهو الذي عليه دين للمَدين الأوَّل.
الرَّابع: المُحالُ به: وهو الدَّيْن الذي في ذمَّة المُحيل.
الخامس: الصيغة: وهي اللَّفظ الذي تنعقد به الحوالة؛ كأَحَلْتُك بدَيْنِك، أو ما في معناها؛ كأتْبَعْتُك بدَيْنِك على فلان، أو خُذْ دَيْنَك من فلان، أو اطْلُبْه منه، ونحو ذلك ممَّا يدلُّ على المقصود.
خامساً: شروطُ الحَوَالَةِ:
يُشترَطُ لصحَّة الحوالة خمسة شروط:
الشرط الأوَّل: اتِّفاق الدَّيْنين في الجنس، والصِّفة، والحلول، والأَجَل، والقَدْر:
- فيُشترَطُ اتِّفاق الدَّيْن الذي في ذمَّة المُحيل مع الدَّيْن الذي في ذمَّة المُحال عليه في الجنس؛ بأن يكون كلاهما ذهباً، أو فضةً، أو بُرًّا أو شعيراً، أو دنانير، أو
دراهم، أو دولارات
…
؛ فإن كان أحدهما ذهباً والآخر فضة، أو أحدهما بُرًّا، والآخر شعيراً، أو أحدهما دنانير والآخر دولارات؛ لم تصحَّ الحوالة.
- وكذا اتفاقهما في الصِّفة؛ بأن يكون كلاهما جيِّداً، أو رديئاً، أو وَسَطاً، أو كلاهما دنانير سليمة أو مُكسَّرة؛ فإنْ كان أحدهما جيِّداً والآخر رديئاً، أو أحدهما دنانير سليمة والآخر مكسَّرة؛ لم تصحَّ الحوالة.
- وكذا اتِّفاقهما في الحلول والأجل؛ بأن يكون كلاهما حالًّا، أو مؤجَّلاً؛ فإن كان أحدهما حالًّا، والآخر مؤجَّلاً، أو أحدُهما إلى شهرٍ والآخرُ إلى شهرين، لم تصحَّ الحوالة.
- وكذا اتَّفاقهما في القَدْر؛ كأن يكون كلاهما ألفاً، أو مائةً، فيُحيل بألفٍ على ألفٍ، أو بمائةٍ على مائةٍ. فلو أحال بألفٍ على خمسمائةٍ، أو بمائةٍ على ثمانين لم تصحَّ الحوالة. وكذا لو أحال بالأقل على الأكثر؛ كما لو أحال بخمسمائةٍ على ألفٍ، أو بثمانين على مائةٍ؛ فإنَّ هذا لا يصحُّ أيضاً؛ لاختلاف الدَّيْنَيْنِ، ولأنَّه لا يصحُّ بيع الدَّيْن بالدَّيْن.
لكن لو كان عليه مائة مثلاً، وله على المُحال عليه مائتان، فيصحُّ أن يحيل المائة التي عليه على مائة من المائتين التي له، وتبقى الزيادة في ذمَّة المُحال عليه.
وكذا يصحُّ العكس؛ كما لو كان عليه مائتان، وله مائة، فيصحُّ أن يحيل بمائة من المائتين التي عليه، على المائة التي له، والمائة الباقية في ذمَّته للمُحتال (صاحب الدَّيْن).
وذلك لأنَّ الحوالة تحويلٌ للحقِّ، ونقلٌ له؛ فيُنْقَل على صفته، ولأنَّها من عقود الإرفاق كالقرض، وليست من عقود المعاوضة؛ فلو جازت مع الاختلاف وعدم
التماثل لصار المطلوب منها التماس الفضل؛ فتخرج عن موضوعها، وهو الإرفاق، وهذا لا يجوز، كما لا يجوز في القرض.
- وإذا اجتمعت هذه الأمور، وصحَّت الحوالة، وتراضيا بأنْ يدفع المُحال عليه خيراً من حقِّه، أو رضي المُحتال بدون الصفة، أو رضي مَنْ عليه المؤجَّل بتعجيله، أو رضي مَنْ له الحالُّ بتأجيله، أو رضي المُحتال بأخذ عِوَضِه، جاز ذلك؛ لأنَّه يجوز في القرض، ففي الحوالة من باب أَوْلَى. لكن إن جرى بين العِوَضَيْن رِبا النَّسيئة؛ كما لو كان الدَّيْن المُحال به من الموزونات فعَوَّضه فيه مَوْزوناً من غير جِنْسِه، أو كان مَكيلاً فعَوَّضَه عنه مَكيلاً من غير جِنْسِه اشتُرِط فيه التقابض في مجلس التعويض.
الشرط الثَّاني: عِلْمُ قَدْر كلٍّ من الدَّيْنين؛ فلا تصحُّ الحوالة مع جهالة قَدْر الدَّيْنَين؛ لأنَّها إبراء للذِّمم، واستيفاء للحقوق؛ والجهالة تمنع ذلك، فلا بدَّ أن تكون بالمعلوم.
الشرط الثَّالث: استقرار الدين في ذمَّة المُحال عليه؛ بأن يكون ثابتاً مستقرًّا في ذمَّته؛ كثمن المبيع في بيع لازم مثلاً؛ فإنَّه قد استقرَّ في ذمَّة المشتري؛ فللبائع أن يحيل به؛ وذلك لأنَّ مقتضى عقد الحوالة أن يلتزم المُحال عليه بالدَّيْن الذي قد أُحيل عليه به؛ فإذا كان الدَّيْن غير مستقرٍّ؛ فهو عُرْضَةٌ للسقوط، فكيف تبرأ ذمَّة الأوَّل وتتعلَّق به ذمَّة الثَّاني مع عدم استقراره، فحينئذٍ يكون قد التزم والدَّين ليس بلازم.
ومن أمثلة عدم استقرار الدَّيْن: ما لو أحال البائع بثمن المبيع على المشتري في مدَّة الخيار، فلا تصحُّ الحوالة؛ لعدم استقرار الثَّمن في ذمَّة المشتري. وكذا لو أحال المؤجِّر على أُجرة العين المؤجَّرة بالعقد قبل استيفاء المنفعة، لم تصحَّ الحوالة؛ لعدم
استقرار الأُجرة في ذمَّة المستأجر. وكذا لو أَحالت الزوجة على صَدَاقِها الذي على الزوج قبل الدخول بها؛ لم تصحُّ الحوالة؛ لعدم استقراره في ذمَّة الزوج. وهكذا سائر الديون غير المستقرَّة لا يصحُّ الحوالة عليها.
- بخلاف المُحال به؛ وهو الدَّيْن الذي على المُحيل؛ فلا يشترط استقراره؛ فلو أحال الزَّوج زوجته بمهرها قبل الدخول على شخص يطلبه صحَّت الحوالة؛ فمثلاً: رجل تزوج امرأة على صداقٍ قَدْرُه عشرة آلاف دينار، وهذا الزوج له دَيْنٌ على رجل آخر قَدْرُه عشرة آلاف دينار، فللزَّوج أن يُحيل امرأتَه بصَدَاقِها على هذا الرَّجل قبل الدخول بها؛ لأنَّه يجوز له تسليمه إليها قبل استقراره، وحوالته به تقوم مقام تسليمه. وكذا لو أَحال المشتري البائِعَ بثمن المبيع في مدَّة الخيار على آخر مَدِينٍ له، صحَّ ذلك، رغم عدم استقراره في ذمَّة المشتري؛ لأنَّ المَدِين له تسليم الدَّيْن قبل استقراره.
- ولا تصحُّ حوالة الولد على أبيه؛ لأنَّ الولد لا يملك طلب أبيه.
الشرط الرَّابع: أن يكون المال المُحال عليه ممَّا يصحُّ السَّلَمُ فيه؛ وهو ما يُضبَطُ بالصفات؛ سواء كان له مِثْلٌ؛ كالحبوب، والأدهان، والثمار، أو لم يكن له مِثْلٌ؛ كالحيوان، والثياب.
الشرط الخامس: رضا المُحيل؛ فليس للدَّائن أن يُلْزِمَ المَدِين بالحوالة، لأنَّ له استيفاء دَيْنِه دون أن يُلْزِم المَدِينَ بجهةٍ معيَّنةٍ.
- ولا يشترط رضا المُحال عليه، وذلك لأنَّ المُحيل هو صاحب الدَّيْن، فله أن يستوفي حقَّه في ذمَّة المُحال عليه بنفسه أو بوكيله، وقد أقام المُحتال (الدَّائن)
مقام نفسه؛ فكان كالوكيل عنه؛ فيلزم المُحال عليه حينئذٍ الدفع إليه.
ولا يُشترَطُ أيضاً رضا المُحتال؛ إنْ كان المُحال عليه مَليئاً؛ وهو الذي له قُدْرَةٌ على الوفاء وليس مُماطلاً، ويمكن حضوره لمجلس القضاء والحكم؛ فيجب عليه حينئذٍ أن يحتال؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:(وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ)، ولأنَّ للمُحيل وفاء ما عليه من الحقِّ بنفسه وبمن يقوم مقامه، وقد أقام المُحال عليه مقام نفسه في إيفاء دَيْنِه، فلزم المُحتال القبول. فإن امتنع أُجبر على قبولها. وهذا من مفردات المذهب.
- فإن أحاله على غير مليء فلا يجب عليه أن يحتال إلَّا برضاه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ)، ومفهومه: أنَّه إذا أحيل على غير مليءٍ لا يلزمه الاحتيال؛ كما لو أحاله على والده، أو أحاله على من هو في غير بلده؛ لأنَّه لا يمكنه إحضاره إلى مجلس الحكم. وكذا لو أحاله على مُماطِلٍ أو جاحِدٍ للحقٍّ، أو من لا يستطيع الوفاء؛ فلا يلزمه أن يحتال.
- وإن أحاله بغير رضاه على مليءٍ، ثمَّ ظهر أنَّه مُفْلِسٌ، فله أن يرجع بدَيْنِه على المُحيل؛ لأنَّ الفَلَسَ عيبٌ، وهو لم يرضَ به؛ كالمبيع إذا ظهر أنَّه معيب.
وكذا إنْ أحاله برضاه، لكنَّه اشترط مَلاءَةَ المُحال عليه، ثمَّ ظهر أنَّه غير مليءٍ، فله الرجوع عليه أيضاً. بخلاف ما لو أحاله برضاه، ولم يشترط مَلاءَةَ المُحال عليه، ثمَّ ظهر أنَّه غير مليءٍ، فليس له الرجوع على المُحيل؛ وذلك لتفريطه بترك اشتراطها.
- فإذا صحَّت الحوالة واجتمعت شروطها برئت ذمَّة المُحيل، وانتقل الحقُّ إلى ذمَّة المُحال عليه؛ فلا يملك المُحتال الرجوع عليه بحال؛ لأنَّ الحقَّ انتقل،
فلا يعود بعد انتقاله هذا، حتَّى لو أفلسَ المُحال عليه بعد ذلك، أو مات، أو جَحَدَ الدَّيْن؛ إذِ الحوالة بمنزلة الإيفاء.
وهذا ممَّا تختلف فيه الحوالة عن الضمان والكفالة؛ فالضمان والكفالة لا ينقلان الحقَّ من ذمَّة المضمون عنه أو المكفول إلى ذمَّة الضامن أو الكفيل. أمَّا الحوالة فتنقله، ويبقى المُحيل بريئاً.
- ومتى اختلَّ شرط من هذه الشروط فإنَّ الحوالة لا تصحُّ، وتكون صورتها حينئذٍ من باب الوكالة.
سادساً: الحَوَالةُ بثمنِ بيعٍ باطلٍ، وبيعٍ مفسوخٍ لعَيْبٍ أو تدليسٍ ونحوهما:
- إذا أحالَ المشتري البائعَ بالثمن على مدينٍ له، أو أحال البائعُ مَديناً له على المشتري بثمن مبيعه، فظهر أنَّ البيع باطلٌ، بطلت الحوالة؛ لأنَّه إذا بطل البيع فلا ثمن حينئذٍ على المشتري، والحوالة فرع عن الثمن؛ فإذا بطل الأصل بطل فرعه تبعاً له؛ إذ هو مبنيٌّ عليه.
مثاله: لو اشترى عمرٌو كتاباً من زيدٍ بعشرة دنانير، وأحاله عمرٌو على بَكْرٍ؛ لأنَّه كان مَديناً له؛ فتبيَّن بطلان البيع؛ لكون الكتاب وَقْفاً، والوقف لا يُباع؛ فهنا تَبْطُل الحوالة، والبائع يرجع على المشتري بالمبيع، وهو هنا زيد، فيأخذ كتابه وينتهي الأمر.
بخلاف ما لو فُسِخَ البيع لعيبٍ، أو تدليس، ونحو ذلك؛ فإنَّ الحوالة لا تبطل؛ لأنَّ عقد البيع لم يرتفع من أصله؛ فلم يسقط الثمن، ومِنْ ثَمَّ لم تبطل الحوالة.
مثاله: لو اشترى عمرٌو الكتاب من زيدٍ، فوجد فيه عيباً، فردَّه لعيبه، فهذا فسخ
للعقد؛ فلا تبطل الحوالة حينئذٍ، ولزيدٍ أن يطالب بَكْراً بالثمن؛ لأنَّ حقَّه انتقل إلى ذِمَّته، فله مطالبته، ولكنَّه إذا قبضه يردُّه إلى المشتري وهو عمرٌو؛ لأنَّ البيع قد فُسِخ.
سابعاً: التنازعُ والاختلافُ بين المُحيل والمُحتالِ:
- إذا اختلف المُحيل والمُحتال؛ فقال المُحيل: أَحَلْتُك، وقال المُحتال: بل وكَّلتني في القبض، أو العكس؛ بأنْ قال المُحيل: وكَّلتك في القبض، فقال المُحتال: بل أَحَلْتني؛ فالقول قول مدَّعي الوكالة؛ وذلك لأنَّ الوكالة فيها إبقاء الحقِّ، والحوالة فيها نقل للحقِّ، والأصل هو إبقاء الحقِّ على ما كان.
- إذا اتَّفق الدائن والمدين على قول المدين للدائن: أَحَلْتك على زيدٍ، أو أَحَلْتك بديْني على زيد، وادَّعى أحدهما إرادة الوكالة، وادَّعى الآخر إرادة الحوالة، فالقول قول مدِّعي إرادة الوكالة بيمينه؛ لأنَّ الأصل بقاء الدَّيْن على كلٍّ من المُحيل والمُحال عليه، ومدِّعي الحوالة يدَّعي نقله، ومدِّعي الوكالة ينكره، ولا موضع للبيِّنة هنا؛ لأنَّ الاختلاف في النيَّة.
بخلاف ما لو اتَّفقا على قول المدين للدائن: أَحَلْتك بديْنك، وادَّعى أحدهما إرادة الحوالة، والآخر إرادة الوكالة، فالقول قول مدَّعي الحوالة؛ لأنَّ الحوالة بدينه لا تحتمل الوكالة هنا، فلا يقبل قول مدَّعيها.
- إذا قال زيدٌ لعمرٍو: أَحَلْتني بديْني على بَكْرٍ، واختلفا -أي: زيدٌ وعمرٌو- هل جرى بينهما لفظ الحوالة، أو غيره؛ كالوكالة؛ فقال زيدٌ: أَحَلْتني بلفظ
الحوالة، وقال عمرٌو: وكَّلْتك بلفظ الوكالة؛ فإنْ كان لأحدهما بيَّنة عُمل بها؛ لأنَّ الاختلاف هنا في اللَّفظ.
وإنْ لم يكن لأحدهما بيِّنة؛ فالقول قول عمرٍو بيمينه؛ لأنَّه يدَّعي بقاء الحقِّ على ما كان، وهو الأصل.
باب الصُّلْح
أوَّلاً: تعريفُ الصُّلْح:
الصُّلْحُ لغةً: التَّوفيقُ وقَطْعُ المنازعة.
وشرعاً: هو معاقدة يُتوصَّل بها إلى إصلاحٍ بين المتخاصمين.
ثانياً: حُكمُ الصُّلْح والحِكْمَةُ من مشروعيَّته:
الصُّلْح مشروعٌ بالكتاب، والسنَّة، والإجماع.
- فمن الكتاب: قوله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، وقوله سبحانه:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].
- ومن السُّنَّة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه].
- وأمَّا الإجماع: فقد أجمعت الأُمَّة على جوازه، كما حكاه ابن قدامة في «المغني» .
والصُّلْحُ من العقود التي شُرِعَتْ لقطع النِّزاع والشِّقاق بين المتخاصمين والمتنازعين، والتوفيق بينهم.
ثالثاً: شُروطُ الصُّلْح:
يُشترطُ في الصُّلح أن يكون المُصالِح ممَّن يصحُّ تبرُّعه؛ فإن كان ممَّن لا يصحُّ تبرُّعه؛ كالصغير، أو السفيه، أو المجنون، أو وَلِيِّ اليتيم، ونحوهم، لم يصحَّ الصُّلح؛ لأنَّه تبرُّع، وهم لا يملكونه. إلَّا إذا أنكر مَنْ عليه الحقُّ، ولا بيِّنة للمدَّعِي، ويُخشى
ضياع الحقِّ؛ فيصحُّ الصُّلح في هذه الحال؛ لأنَّ استيفاء البعض عند العجز عن استيفاء الكلِّ أَوْلَى من تركه.
رابعاً: أنواعُ الصُّلْح:
الصُّلْح خمسة أنواع:
الأوَّل: صُلْحٌ بين مسلمِينَ وأهلِ حَرْب.
الثَّاني: صُلْحٌ بين أهل عَدْلٍ وأهل بَغْي.
الثَّالث: صُلْحٌ بين زوجين لشِقاقٍ بينهما، أو خافت الزوجة إعراضَ الزوج عنها.
الرَّابع: صُلْحٌ بين متخاصِمَيْنِ في غير مالٍ.
الخامس: صُلْحٌ بين متخاصِمَيْنِ في مالٍ.
وهذا النوع الخامس هو المقصود هنا، وهو على نوعين:
أ - صلحٌ مع الإقرار.
ب- وصلحٌ مع الإنكار.
بمعنى أنَّ الصُّلْح يكون على شيء أقرَّ به مَنْ عليه الحقُّ، ويكون على شيء أنكره مَنْ عليه الحقُّ.
أ - الصُّلْحُ مع الإقرار:
وهو على نوعين:
1) صلحٌ على جنس الحقِّ المقرِّ به.
2) صلحٌ على غير جنس الحقِّ المقرِّ به.
فأمَّا الأوَّل: وهو الصُّلْحُ على جنس الحقِّ المقرِّ به: وذلك بأن يدَّعي عليه دَيْناً أو عَيْناً؛ فيقرُّ له بذلك، ثمَّ يصالحه عليه من جنسه.
مثاله: لو ادَّعى عمرٌو على زيدٍ أنَّ له عليه مائة دينار، أو أنَّ هذه الدار التي يسكنُها حقٌّ له؛ فيقرُّ له زيدٌ بذلك، ثمَّ يتصالحا على أنْ يُسقِطَ عنه من المائة خمسيناً، أو أنْ يهبَه نصف الدار؛ فيصحُّ ذلك بشرط أن يكون بلفظ الهِبَة؛ لأنَّ الإنسان
لا يُمنَع من إسقاط بعض حقِّه أو هِبَتِه؛ كما لا يُمْنَعُ من استيفائه.
ولا يصحُّ بلفظ الصُّلْح؛ إذْ المعاوضة عن الشيء ببعضه محظور؛ لأنَّ معناه: صالحني عن المائة بخمسين؛ أي: بعني، وذلك غير جائز؛ لأنَّه رباً، وهضم للحقِّ، وأكل مالٍ بالباطل.
وأما الثَّاني: وهو الصُّلْح على غير جنس الحقِّ المقرِّ به: وذلك بأن يدَّعي عليه دَيْناً أو عَيْناً؛ فيقرُّ له بذلك، ثمَّ يصالحه عليه من غير جنسه ممَّا يجوز التعويض به.
مثاله: لو ادَّعى عليه مائة دينار دَيْناً، أو أنَّ هذه الدَّار التي يسكنها حقٌّ له، فيُقرُّ المدَّعَى عليه بذلك، ثمَّ يتصالحا على أن يعطيه عِوَضاً عن المال ثوباً، أو أرضاً، أو أن يعطيه عِوَضاً عن الدَّار بستاناً، أو أرضاً، أو مالاً، ونحو ذلك؛ فيصحُّ ذلك بلفظ الصُّلْح، ويكون بيعاً، وتجري فيه أحكام البيع وشروطه.
ومن صور ذلك ما يلي:
1) أن يصالحه عن الدَّيْن بعَيْنٍ، ويتَّفقا في علَّة الربا؛ كما لو صالحه عن الذهب بفضَّة، أو عن الفضَّة بذهب؛ فيصحُّ الصلح، لكن بشرط أن يكون قبض العِوَض في مجلس العقد؛ لأنَّ هذه المصالحة من باب الصَّرْف؛ لأنَّها بيعُ أحد النقدين بالآخر؛
فيُشترَطُ لها ما يُشتَرَطُ للصَّرْف من التقابُضِ بالمجلسِ.
وكذا لو صالحه عن القمح شعيراً، أو عن الشعير قمحاً، ونحو ذلك ممَّا يحرُمُ بيعه به نسيئة، صَحَّ الصُّلْح، واشتُرطَ القبض في مجلس العقد.
2) أن يصالحه عن النَّقْد بعَرْض، أو عن العَرْض بنقدٍ، أو عن العَرْض بعَرْض؛ كأن يكون له عليه مائة دينار، فيصالِحُه عِوَضاً عنها بثيابٍ، أو بفَرَسٍ، ونحو ذلك، أو العكس؛ كأن يكون له عنده فَرَسٌ أو ثيابٌ، فيصالحه عِوَضاً عنها بذَهَبٍ أو فضَّةٍ، أو يكون له عنده ثيابٌ، فيصالحه بثيابٍ؛ فهذه المصالحة تُعَدُّ بَيْعاً؛ فيُشترَطُ لها شروط البيع؛ من العِلْم بالمصالَحِ به، والمصالَحِ عنه، والرِّضا، والقُدْرة على التسليم، ونحو ذلك من شروط البيع.
3) أن يصالحه عن النَّقْد أو العَرْض بمنفعة؛ كسُكْنى دار مثلاً، أو أن يعمل له عملاً معلوماً؛ كخياطة ثوبٍ، أو بناء بيتٍ، ونحو ذلك؛ فهذه المصالحة إجارةٌ؛ لأنَّ حقيقتها بيع المنفعة؛ فيشترط لها ما يشترط للإجارة.
ب- الصُّلْح مع الإنكار:
وهو أن يُنكر المدَّعَى عليه ما ادَّعاه عليه المدَّعِي من دَيْن، أو عيْن، ونحو ذلك، أو يسكت وهو يجهل ثبوت المدَّعَى به، فيصالحه على شيء من المال أو العِوَض، أو يهبه بعضها إن كانت أرضاً، أو داراً، ونحو ذلك؛ قَطْعاً للخصومة، وإبراءً للذمَّة، وليس عن إقرار؛ فيصحُّ هذا الصُّلْح، حالًّا كان العِوَض أو مؤجَّلاً؛ وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:(الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ).
ويكون هذا الصلح بَيْعاً في حقِّ المدَّعِي؛ لأنَّه يعتقدُه عِوَضاً عن ماله، وتترتَّب
عليه آثار البيع؛ فله ردُّه بالعيب؛ فمثلاً: لو كان ما يدَّعيه فَرَساً وصالحه المدَّعَى عليه بجَمَلٍ، فوجد به عيباً فله ردُّه والمطالبة بفرسه. وأيضاً لو كان ما يدعيه داراً فصالحه المدَّعَى عليه على نصيبه من أرضٍ له نصفها، ولشريكه النصف الآخر، فينتقل هذا النصف إلى ملك المدَّعِي، ويكون لشريك المدَّعَى عليه حقُّ الشُّفعة على المدَّعِي، فله أخذها منه بالشفعة.
بينما يكون هذا الصلح في حقِّ المدَّعى عليه إبراءً؛ لأنَّه ليس في مقابلة حقِّ ثبت عليه، فلا تترتَّب عليه آثار البيع؛ فليس له الردُّ بالعيب؛ فلو وجد في الفَرَس الذي ادَّعاه عليه المدَّعي -وأنكره هو- عيباً؛ فليس له ردُّه؛ لأنَّ هذا مقتضى الإقرار والإنكار، وهو ينكر كونه للمدَّعي بل يعتقد أنَّه ملكه.
كما يسقط حقُّ الشفعة؛ كما لو ادَّعى عليه نصف أرضه، فأنكر ذلك، لكنَّه صالحه على مبلغٍ من المال، فليس لشريك المدَّعى عليه في النصف الآخر حقُّ الشفعة، لأنَّه ليس بيعاً في حقِّ المدعى عليه، بل ملكه كما يعتقد، وإنَّما دفع هذا العِوَض؛ قطعاً للخصومة، وحسماً للنزاع.
- وهذا الصلح مبنيٌّ على صِدْق ادَّعاء كلٍّ منهما؛ المدَّعي في دعواه، والمدَّعى عليه في إنكاره؛ أمَّا إن كان أحدهما يعلم أنَّه كاذب، فالصلح حينئذٍ يكون باطلاً في حقِّه؛ لأنَّه إن كان الكاذب هو المدَّعي؛ فإنَّ الصلح مبنيٌّ على دعواه الباطلة، وإن كان هو المدَّعى عليه فإنَّ الصلح مبنيٌّ على جَحْدِه حقَّ المدَّعي. وحينئذٍ يكون ما أخذه الكاذب منهما حراماً لا يحلُّ له؛ لأنَّه أَكْلُ مال الغير بالباطل، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(إِلَّا صُلْحاً حَرَّمَ حَلَالاً، أَوْ أَحَلَّ حَرَاماً).
- إذا قال المدَّعَى عليه للمدَّعِي: صالحني عمَّا تدَّعيه، لم يكن هذا إقراراً له بالحقِّ الذي ادَّعاه؛ لأنَّه يحتمل أنَّه أراد صيانة نفسِهِ عن التبذّل، أو عن حضور مجلس الحُكْم بذلك؛ فإنّ ذوي المروءات يصعب عليهم ذلك، ويرون رفع ضررها عنهم من أعظم مصالحهم.
- إذا صالَحَ أجنبيٌّ عن مُنكِرٍ للدَّعوى، صحَّ الصلح، أَذِنَ له المنكِر أو لا؛ كما لو ادَّعى زيد على عمروٍ أنَّ الدار التي بيده حقٌّ له، فأنكر ذلك عمرٌو، فصالح بَكْرٌ زيداً على شيء من المال مقابل قطع هذه الخصومة عن عمرٍو، فيجوز ذلك؛ أَذِنَ عمرٌو لبَكْرٍ أو لم يأذن؛ وذلك لجواز قضاء الدَّين عن الغير بإذنه وبغير إذنه، وقد مرَّ دليل ذلك في باب الضمان؛ من إقرار النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة على ذلك.
لكنَّه إذا أدَّى عنه بَكْرٌ بغير إذنه فليس له الرجوع عليه؛ لأنَّه أدَّى عنه ما
لا يلزمه، فكان كالمتبرِّع. بخلاف ما لو أَذِنَ له عمرٌو في الصلح أو الأداء، وقد نوى بَكْرٌ الرجوع على عمرٍو، فله الرجوع عليه حينئذٍ؛ لأنَّه في حكم الوكيل عنه.
خامساً: مسائلُ في الصُّلْح:
- إذا صالَحَه عن عيبٍ في المبيعِ بشيءٍ معين؛ كعشرة دنانير مثلاً، أو منفعةٍ؛ كسكنى دارٍ معيَّنةٍ شهراً، صحَّ الصلح؛ لأنَّه يجوز أخذُ العِوَضِ عن عيب المبيعِ، لكن لو زال العيب سريعاً بِلَا كُلْفَةٍ ولا تعطيل نفعٍ عَلَى مُشْتَرٍ؛ بأن كان المبيعُ مريضاً فعُوفِي، أو تبيَّن أنَّه لم يكن عيباً، رجَعَ البائع على المشتري بما دفعه؛ لأنَّه تبيَّن عدم استحقاقه.
- إذا صالحَه عن دَيْنِه بشيءٍ في الذمَّة؛ كأنْ يكون له عنده خمسون ديناراً فيصالحه
عن ذلك بإرْدَبِّ قمح، أو شعير، ونحو ذلك، في ذمَّته، فيصحُّ الصلح، لكنَّه يبطل إذا تفرَّقا قبل القبض؛ لأنَّه إذا حصل التفرُّق قبل القبضِ كان كلُّ واحدٍ من العِوَضَيْنِ دَيْناً، لأنَّ محلَّهُ الذِّمَّة، فيصير بيع دَيْنٍ بدَيْنٍ، وهو منهيٌّ عنه شرعاً.
- لا يَصِحُّ الصُّلحُ عن دَيْنٍ مؤجَّل ببعضه حالًّا؛ كما لو كان لرجل على آخر ألف دينار مؤجَّلة إلى سنة، وفي أثناء تلك السَّنَة قال الدَّائن للمَدين: أعطني خمسمائة حالَّة وأُبرئك من الباقي، فهذا الصلح لا يجوز؛ لأنَّ المحطوط عِوَضٌ عن تعجيل ما في ذمَّته، ولا يجوز بيع الحلول والأجل.
- يَصِحُّ الصُّلحُ عن المجهول الذي تعذَّر معرفته -سواءً كان ديناً أو عيناً- بمعلومٍ حالًّا ومؤجَّلاً؛ كرجلين بينهما معاملة، وحساب مضى عليه زمن، ولا علم لواحد منهما بما عليه لصاحبه، فلهما أن يصطلحا على شيءٍ ويتراضيا به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لرجلين اختصما في مواريث دَرَسَتْ بينهما:(فَاذْهَبَا فَاقْتَسِمَا، ثُمَّ تَوَخَّيَا الحَقَّ، ثُمَّ اسْتَهِمَا، ثُمَّ لِيَحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ)[رواه أحمد وأبو داود]، ولأنَّه إسقاط حقٍّ فصحَّ في المجهول؛ للحاجة، ولما فيه من إبراء الذمم، وإيفاء ما يمكن من الحقوق. وهذه الصورة مستثناةٌ من صور بيع الدَّيْن بالدَّيْن.
فأمَّا إذا أمكن معرفته ولم تتعذَّر؛ كما لو صالح الورثة زوجة أبيهم على شيء من المال لتتنازل عن حقِّها من الإرث ولا يُعلم قدر حقِّها، لكن يمكن معرفته؛ وذلك بحصر مال مورِّثها، فقولان: أشهرهما الجواز؛ قطعاً للنزاع.
- إذا قال الدَّائن للمَدِين: أَقِرَّ لي بدَيْنِي، وأعطيك منه مائة، أو أقرَّ لي بدَيْنِي وخُذْ منه مائةً -مثلاً-، فأقرَّ، صَحَّ الإقرار، ولزمه الدَّيْن؛ لأنَّه حقٌّ ثابتٌ قد أقرَّ
به، ولا يحلُّ له إنكارُه. ولا يَصِحُّ الصلح حينئذٍ؛ لأنَّه يجب عليه الاقرار بما عليه من الحقِّ؛ فلم يحلّ له أَخْذُ العِوَض عمَّا يجب عليه؛ فإنْ أَخَذَ شيئاً ردَّه.
- إذا صالح المدَّعَى عليه المدَّعِي عن دارٍ، أو أرضٍ، أو سيارةٍ، أو ثوبٍ، ونحو ذلك، بعِوْضٍ؛ كفَرَسٍ، أو جَمَلٍ، ونحو ذلك، ثمَّ تبيَّن أنَّ هذا العِوَضَ مُستَحَقٌّ للغير ولا يملكه المدَّعَى عليه، فَسَدَ الصلح؛ لفساد عِوَضِه، وحينئذٍ يرجع المدَّعِي على المدَّعَى عليه بالدَّار، أو الأرض، أو السيارة، أو الثوب، إن كانت باقية، وبقيمتها إن كانت تالفة. وهذا في حال إقرار المدَّعى عليه ابتداء بالدَّعوَى، أمَّا إنْ كان مُنكِراً لها فَسَدَ الصلح أيضاً؛ لفساد عِوَضِه، ويرجع المدَّعي إلى دعواه قبل الصلح، فيعود الأمر إلى ما كان عليه قبل عقد الصلح.
* الصُّلْحُ عمَّا ليس بمالٍ ولا يؤول إليه:
ومن صور ذلك ما يلي:
- الصُّلحُ على خيار البيع أو الإجارة: كأنْ يكون مدَّة الخيار بين البائع والمشتري، أو بين المؤجِّر والمستأجر شهراً؛ فيصالح البائعُ المشتريَ، أو المؤجِّرُ المستأجرَ على إسقاط حقِّه في الخيار في مقابل عِوَضٍ ماليٍّ، فهذا لا يجوز ولا يصحُّ الصلح فيه؛ لأنَّ الخيار لم يُشرع لاستفادة المال، وإنَّما شُرع لينظر في الأحظِّ له، فلا يصحُّ أخذ العوض عنه.
- الصُّلحُ على حقِّ الشُّفْعَة: وذلك بأنْ يصالح المشتري مَنْ له حقُّ الشفعة على إسقاط حقِّه في الشفعة بعِوَضٍ ماليٍّ، فهذا لا يجوز؛ فمثلاً: اشترك محمَّدٌ وعليٌّ في أرضٍ، فباع محمَّدٌ نصيبه لزيدٍ، فحقُّ الشفعة يثبت للشريك الذي لم يبع وهو عليٌّ،
فيأتيه المشتري وهو زيدٌ، فيقول له: أَسْقِطْ حقَّك في الشفعة وسأُعَوِّضك بعشرة آلاف دينار؛ فهذا لا يجوز، ولا يصحُّ الصلح فيه؛ لأنَّ الشفعة إنَّما شُرِعت لإِزالة الضَّررِ عمَّن يحقُّ له الشفعة، فإذا رَضِيَ بالعِوَضِ تبيَّن أنَّه لا ضرر، فلا استحقاق حينئذٍ، ويبطل العِوَضُ، لبطلان معوَّضِه.
- الصُّلحُ عن حدِّ القَذْف -ومثله السَّرِقة-: كأنْ يقذف رجلٌ آخر، فيقولُ القاذفُ للمقذوف: لا ترفع أمري للقضاء، وسأعطيك عشرة آلاف دينار مثلاً؛ فهذا لا يجوز، ولا يَصِحُّ الصلحُ فيه؛ لأنَّ حدَّ القذف شُرِعَ للزَّجْر عن الوقوع في أعراض الناس، ثمَّ إنَّه ليس له الاعتياض عنه؛ لأنَّه ليس بمالٍ، ولا يؤول إليه؛ فإمَّا أن يُرفَعَ أمرُه للقضاء أو يُتْرَكَ دون مقابلٍ، بخلاف الصُّلْح في القَصاص فإنَّه يجوز؛ لأنَّه يُستعاضُ عنه بالمال؛ فجاز الصلح فيه.
ومع عدم جواز الصلح في هذه الأمور المتقدِّمة (الخيار، الشُّفْعَة، حدُّ القَذْف)، إلَّا أنَّه في هذه الحال تسقطُ جميعُها؛ فيسقط حقُّه في الخيار والشُّفْعَة والقَذْف؛ لأنَّه رَضِيَ بتركها.
- الصُّلحُ على إطلاق شارب الخَمْر، أو السَّارِق، أو الزَّاني: فلو أمسك شخصٌ سارقاً، أو زانياً، أو شاربَ خَمْر، فصالحه (السارق، أو الزاني، أو الشارب) على عدم رفعه لوليِّ الأمر، على أن يعطيه مبلغاً من المال، فهذا لا يجوز ولا يَصِحُّ الصلح فيه؛ فإمَّا أن يرفعَ أمرَه، أو يتركَه ويسترَ عليه إن رأى في ذلك مصلحةً؛ لأنَّ الرَّفع إلَى السلطان أو وليِّ الأمر ليس حَقًّا يجوز الاعتياض عنه. كما أنَّ الصلح في ذلك يفوِّت الحِكْمة من مشروعيَّة هذه الحدود؛ وهي الزَّجر عن الوقوع فيها والتلبُّس بها.
- الصُّلحُ على كتمان الشهادة، أو الشهادة بالزور؛ كما لو صالح شاهداً بمبلغ من المال على أنْ يكتم شاهدته عليه بحقِّ آدمي، أو حقٍّ لله تعالى، أو أنْ يشهد له زوراً؛ فهذا لا يجوز؛ لأنَّه صلح على محرَّمٍ، أو على ترك واجبٍ.
* فائدة: ضابطٌ فيما يصحُّ الصُّلحُ فيه وما لا يصحُّ:
كلُّ ما يجوز أخذُ العِوَض عنه صحَّ فيه الصلحُ، وما لا يجوز أخذُ العِوَض عنه فلا يجوز الصلحُ فيه.
فصل في أحكام الجوار
أوَّلاً: تعريفُ الجِوَارِ:
المراد بالجِوَارِ هنا: المجاورة والملاصقة في السكن ونحوه؛ كالبستان والأرض والدُّكان ونحو ذلك.
ثانياً: عنايةُ الشَّريعَةِ بحقوقِ الجِوارِ:
راعت الشَّريعة حقوق الجوار؛ فبيَّنتْ أحكامه ومسائله -وهذا من محاسنها-؛ لأنَّ حقَّ الجار على جاره عظيم؛ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ)[رواه البخاري، ومسلم]. وقال: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)[رواه البخاري، ومسلم]. ولأنَّ أداء هذه الأحكام، ورعاية تلك الحقوق يفضي إلى تحقيق المودَّة والأُلفة، وهو مقصد عظيم من مقاصد الشرع الحنيف.
ثالثاً: مناسبةُ إلحاقِهِ بباب الصُّلْح:
لمَّا كانت غالب النزاعات والخصومات الحاصلة بين الجيران أو المتجاورين؛ تُحلُّ عن طريق المصالحة؛ كان من المناسب إلحاق أحكامه ومسائله بباب الصُّلح.
رابعاً: مِنْ أحكامِ الجِوَارِ:
- يحرمُ على الشخصِ أن يُجرِيَ ماءً في أرضِ غيره أو سَطْحِهِ بلا إذنه؛ لأنَّ فيه
تصرُّف في ملك الغير دون إذنه، وهو لا يجوز، ولأنَّه قد يتضرَّر بذلك في أرضه أو سَطْحِه، وقاعدة الشرع: أنَّه لا ضرر ولا ضرار.
وله أن يصالحه على ذلك بعِوَضٍ؛ لأنَّ المصالحة والحال هذه إمَّا بيع أو إجارة، وكلاهما جائز.
- يَحرُمُ على الجارِ أنْ يُحدِثَ بمِلكه ما يضرُّ بجارِه؛ كحمَّام يضرُّ ماؤه بحائطه، أو كنيفٍ يتأذَّى جارُه برائحته، أو تنُّورٍ يؤذيه باستدامة دُخانه، أو دكان جزارةٍ أو حِدادةٍ يتأذى بكثرةِ دَقِّه، أو اهتزاز حائطه جرَّاء ذلك، أو حفر بئرٍ تتسبَّب في قطع الماء عن جارِه، ونحو ذلك من كلِّ ما فيه أذىً للجار؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)[رواه أحمد وابن ماجه]. ويحقُّ للجار في هذه الحال أن يمنعه من ذلك.
فإذا أحدث الشخصُ في ملكه شيئاً من ذلك، فتلف بسببه شيء لجاره فإنَّه يضمنه؛ لأنَّه متعدٍّ.
لكن يستثنى ممَّا سبق: ما يتعلَّق بالطَّبْخ والخَبْزِ من دخانٍ ونحوه؛ فلا يمنع منه الجار في مِلْكه؛ لأنَّ ضرره يسيرٌ، والحاجة تدعو إليه، فيُتسامح فيه.
- يحرمُ على الشخص التصرُّف في جِدارِ جاره أو في جِدارٍ مشتركٍ بينه وبين جارِه؛ وذلك بفتح نافذة أو طاقٍ أو بابٍ، أو ضَرْبِ وَتَدٍ ونحوه إلَّا بإذنه؛ لأنَّ ذلك انتفاع بمِلْك غيره، وتَصرُّفٌ فيه بما يضرُّ به.
وكذا يحرمُ عليه وضعُ خشبٍ على جِدار جاره، أو الجِدار المشترك بينهما، إلَّا إذا لم يمكن تسقيف بيته إلَّا بذلك، فيجوز بشرط ألَّا يلحقَ بجاره ضررٌ. ويُجْبَرُ جارُه في هذه الحال على تمكينه من ذلك إنْ أَبَى؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَضَعَ خَشَبَةً عَلَى جِدَارِهِ)[رواه البخاري، ومسلم]، ولأنَّه انتفاع بحائط جاره على وجه لا يضرُّه، فأشبه ما لو استند إليه.
والفَرْق في هذه الحال بين فتح النافذة والطاق في الجِدار وبين وضع الخشب عليه؛ أنَّ الخشب يمسك الحائط، بينما النافذة والطاق ونحوهما يضعفه، كما أنَّ وضع الخشب تدعو الحاجة إليه، بخلاف النافذة والطاق ونحوهما؛ إذ يمكن الاستغناء عنهما. وجِدار المسجد كجِدار الدار في ذلك؛ لأنَّه إذا جاز ذلك في ملك الآدمي مع شُحِّه وضيقه، فجوازه في حقِّ الله من باب أَوْلَى.
- إذا كان للشخصِ سَطْحٌ أعلى من سَطْحِ جارِهِ، فليس له الصعود على سَطْحِهِ بحيث يُشْرفُ ويطَّلعُ على سَطْحِ جارِهِ؛ لأنَّ في ذلك إضراراً بجارِهِ، واطِّلاعاً على حُرُمِهِ، ويدلُّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(لَوْ أَنَّ رَجُلاً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ)[رواه البخاري، ومسلم]، إلَّا أن يَبْنِيَ سُتْرةً تمنع إشرافه على جارِهِ؛ فحينئذٍ لا بأس؛ لزوال المحذور.
أمَّا إذا استويا في العلوّ؛ فلم يكن سَطْحُ أحدهما أعلى من سَطْحِ الآخر؛ فإنَّهما يشتركان في بناء السُّتْرة؛ لأنَّه لا أولويَّة لأحدهما على الآخر. فإن امتنع أحدُهما من ذلك أُجبرَ عليه؛ لأنَّه حقٌّ عليه، فيُجبَرُ عليه كسائر الحقوق.
- للشخصِ أن يَستَنِدَ إلى حائطِ غيرِه ويستظلَّ بظلِّه دون إذْنِه، وله أن يسند إليه قماشه الذي يعرض عليه بضاعته دون إذنه، وله أن ينظر في ضوء سِراجِه أيضاً دون إذنه؛ لأنَّ التحرُّز من ذلك فيه مشقَّة، كما أنه لا ضرر يلحق صاحب الحائط أو السِّراج بذلك.
خامساً: أحكامُ المَرافِقِ العامَّة والمُشتركَة:
ومن ذلك ما يلي:
- يحرمُ على الشخص التصرُّف في طريق نافذٍ بما يضرُّ المارَّة؛ كإخراج دُكانٍ، وهو الحانوت، ودَكَّةٍ: وهي المكان المرتفع الذي يُبْنَى عند الدار ويجلس عليه، ويسمَّى بالعَتَبة أو المصْطَبة. وقيل: الدُّكَّان والدَّكَّة بمعنىً واحد، وهو: بِنَاءٌ يُسَطَّحُ أَعْلَاهُ لِلْمَقْعَدِ.
فيحرم إخراج ذلك ولو كان الطريق واسعاً، سواء أضرَّ بالمارَّة أو لا، أذِنَ فيه الإمامُ أو لا؛ لأنَّه بناء في مِلْكِ الغير، ولأنَّه إنْ لم يَضُرَّ حالاً فقد يضرُّ مآلاً، وليس للإمام أنْ يأْذَنَ فيما ليس فيه مصلحة. فإذا فعلَ الشخصُ شيئاً من ذلك، فتسبَّب في تلف شيءٍ فإنَّه يضمنُه؛ لأنَّه مُتعَدٍّ.
- وكذا يحرم إخراج جَناحٍ وسَابَاطٍ ومِيزَابٍ في طريق نافذٍ.
الجناح: هو أن يدفن شيئاً من الخشب ونحوه في الحائط؛ فيمتد إلى الخارج، ثمَّ يبني عليه ما يقارب المتر أو المترين ونحو ذلك.
والساباطُ: هو أن يجعل سقيفةً بين حائطينِ تحتها طريق. والميزَاب: هو الذي ينفذ من خلاله الماء المتجمِّع على سطح الدار، فيصبُّه في الطريق، ويسمَّى مَثعباً.
فيحرُم إخراج هذه الأشياء إلى الطريق العام؛ لأنَّه بناء في ملك الغير دون إذنٍ، ولأنَّ المارَّة قد يتضرَّرون بذلك؛ وخاصَّة الساباط؛ فإنَّه يُظلم الطريق، ويَسُدُّ الضَّوْءَ، وربَّما سقط على المارَّة، أو سقط شيء منه.
إلَّا إذا أَذِنَ الإمامُ أو مَنْ يقوم مقامه في إخراجها؛ فإنْ أَذِنَ ولم يكن في ذلك
ضررٌ على المارَّة جاز إخراجها؛ لأنَّه نائبُ المسلمين فإذْنُهُ كإذْنِهِم. ولحديث عمر رضي الله عنه لمَّا اجتاز دار العبَّاس بن عبد المُطَّلِب وقد نصب ميزاباً، فأصابه الميزاب، فأمر عُمَرُ بِقَلْعهِ، فأتاه العبَّاسُ فقال:(وَاللهِ إِنَّهُ لَلْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ عُمَرُ لِلْعَبَّاسِ: وَأَنَا أَعْزِمُ عَلَيْكَ لَمَا صَعَدْتَ عَلَى ظَهْرِي حَتَّى تَضَعَهُ فِي المَوْضِعِ الَّذِىي وَضَعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَفَعَلَ ذَلِكَ الْعَبَّاسُ)[رواه أحمد]. ولأنَّ عادة الناس قد جرت بعملها.
أمَّا إنْ ترتَّب على إخراجها ضررٌ، كأن لا يستطيع الراكب المرور تحتها إلَّا مُنحَنِياً، أو يمرَّ الراكب تحتها فيرمي الساباطُ مثلاً عِمامَتَهُ أو يَشُجَّ رَأسَهُ، أو لا يمكن للسيارة المرتفعة المرور تحتها إلَّا بتضرُّرٍ؛ فحينئذٍ لا يجوز وضعها، ولا يجوز للإمام أن يأْذَنَ في ذلك.
- والفرق بين عدم جواز إخراج الدَّكَّة والدُّكان مطلقاً، وبين جواز إخراج الجناح والساباط والميزاب بإذن الإمام ما لم يكن ضرر: أنَّ إخراج الدَّكَّة والدُّكان يكون من الأسفل فيضيق الطريق بإخراجها، ويشقُّ على المارة، بخلاف الجناح والساباط والميزاب فإنَّ إخراجها يكون من الأعلى.
- يحرمُ إخراج ما سبق من (دَكَّة، ودُكَّان، وجناح، وساباط، وميزاب) في ملك الغير أو هوائه إلَّا بإذنه؛ لأنَّه تصرُّفٍ في ملك الغير على وجه يتضرّر به، فلم يجز إلَّا بإذن مالكه.
- وكذا يحرمُ إخراجها في دَرْبٍ غير نافذٍ إلَّا بإذن أهله؛ لأنَّ هذا الدَّرْبَ ملك لهم؛ فلم يجز إلَّا بإذنهم، لأنَّ الحقَّ لهم.
- وكذا يحرمُ على الشخص فتح بابٍ في ظهر داره في ملك غيره إلَّا بإذنه. وكذا يحرم فعل ذلك في دربٍ غير نافذٍ إذا كان بقصد الاستطراق؛ إلَّا بإذن أهل ذلك الدَّرب؛ لأَنَّ الدَّرْب مِلْكُهُم فلم يجُز التصرُّف فيه إلَّا بإذنهم. ويجوز الصلح على ذلك بعِوَض؛ لأنَّ ذلك حقٌّ لمالكه أو لأهل الدَّرب، فجاز أخذ العِوَض عليه كسائر الحقوق.
أمَّا إن كان لغير الاستطراق؛ بأن يكون القصد منه وصول الضوء والهواء إليه، فيجوز له فتحه دون إذنهم؛ لأنَّ الحق لأهل الدَّرب في الاستطراق، ولم يزاحمهم فيه. ولأنَّ غايته التصرُّف في ملك نفسه بإزالة بعض حائطه؛ فجاز له دون إذنٍ.
- يُجبَرُ الشريك على العمارة مع شريكه في الملك أو الوقف المشترك بينهما؛ فإذا انهدم جدارهما، أو سقفهما، أو خيف ضرره بسقوطه؛ فطلب أحدهما الآخر أن يعمره معه، أُجبر على عمارته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ). ولأنَّه إنفاقٌ على ملكٍ مشترك يزيل الضرر عنهما، فأُجبر عليه. فإن امتنع أخذ الحاكم من ماله، أو باع من متاعه إن لم يكن له مال، وأنفق منه على حصَّته مع شريكه؛ لأنَّ الحاكم في هذه الحال يقوم مقامه؛ لامتناعه.
-إذا هدم الشريك البناء المشترك بينه وبين شريكه، وكان ذلك منه لخوف سقوطه فلا ضمان عليه؛ لأنَّه محسنٌ؛ حيث أزال الضرر الحاصل بسقوطه. أمَّا إذا لم يكن لخوف سقوطه فإنَّه يلزمه إعادته كما كان؛ لتعدِّيه على حصَّة شريكه.
- إذا اتَّفقَ الشريكان على بناء حائِطِ بُستانٍ؛ فبنَى أحدُهما ما عليه، وأهملَ الآخرُ، فما تلف من الثَّمَرَة بسبب إهمالِه؛ فإنَّه يضمن نصيب شريكه؛ لأنَّه تلف بسببه.
باب الحَجْر
أوَّلاً: تعريفُ الحَجْر:
الحَجْرُ لغةً: -بفتح الحاء وكسرها-: المنع والتضييق.
وشرعاً: هو منعُ الإنسانِ من التصرُّف في مالِهِ لمسوِّغٍ شرعيٍّ.
ثانياً: حُكْمُ الحَجْر:
الحَجْر جائز عند وجود مسوِّغه، والأصل في جوازه الكتاب والسنَّة:
- فمن الكتاب: قول الله عز وجل: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]؛ أي: أموالَهم، وإنَّما أضافها إلى الأَوْلِياء؛ لأنَّهم هم القائمون عليها، والمُدَبِّرون لها.
وقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].
- ومن السُّنَّة: حديث كعب بن مالكٍ رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ، وَبَاعَهُ في دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ)[رواه الدارقطني، والبيهقي، وغيرهما، وقد ضعَّفه جماعة].
ثالثاً: الحِكْمَة من مشروعيَّة الحَجْر:
تشريع الحَجْر من محاسن الشريعة؛ لما يترتَّب عليه من المصالح الخاصَّة والعامَّة؛ إذ فيه حفظٌ للحقوق والأموال من الضياع؛ سواء في حقِّ المحجور عليه لحظِّ نفسه
أو المحجور عليه لحظِّ غيره، كما أنَّ فيه إبراءً للذمَّة من الدَّين.
رابعاً: أقسام الحَجْر:
ينقسمُ الحَجْر إلى قسمين:
القسم الأوَّل: الحَجْر لحقِّ الغير؛ وذلك بأن يُحجَر عليه لتعلُّق حقِّ الغير به؛ ومن صوره ما يلي:
1) الحَجْر على المُفْلِس -وهو مَنْ كان دَيْنه أكثر من ماله- فيُحجر عليه؛ صَوْناً لحقِّ غرمائه ودائنيه.
2) الحَجْر على الراهن -في حالة لزوم الرَّهْن- صوناً لحقِّ المرتهن.
3) الحَجْر على المريض مَرَضَ المَوْتِ المَخُوف فيما إذا تبرَّع بأكثر من ثلث ماله؛ وذلك صوناً لحقِّ الورثة.
4) الحَجْر على المرتدِّ؛ وذلك صَوْناً لحقِّ المسلمين في ماله؛ لأنَّ أمواله -بعد رِدَّته- صارت فَيْئاً للمسلمين.
القسم الثاني: الحَجْرُ لحقِّ النَّفس: وذلك بأن يُحْجَر عليه؛ صوناً لماله، وحفظاً له من الضياع؛ وذلك كالحجر على السفيه، والمجنون، والصغير الذي لم يبلغ؛ إذْ المصلحة في منعهم من التَّصرُّف هنا عائدة عليهم.
والفرق بين بين الحَجْر لحقِّ النفس والحَجْر لحقِّ الغير: أنَّ الحَجْر في الأوَّل يشمل المال والذمَّة؛ فليس له أن يتصرَّف في ماله ولا في ذمَّته؛ فلا يقترض، ولا يشتري بدينٍ ونحو ذلك. بخلاف الثَّاني (الحَجْر لحقِّ الغير) فإنَّه يختص بالمال دون الذمَّة؛
فله أن يتصرَّف في ذِمَّته، لكن ليس له أن يتصرَّف في ماله.
خامساً: أحكام الحَجْر على المَدِين:
من أحكام الحَجْر على المدين ما يلي:
- تحرُمُ مُطالبةُ المدين والحَجْر عليه بدَيْنٍ -غير قَرْضٍ- لم يحلّ؛ لأنَّه لا يلزمه أداؤُهُ قبل حلول أجله، فلا يُطالبُ به، ولا يُحجَرُ عليه من أجله.
- إذا أراد المدين السفر، ولم يوثِّق دَيْنَه برَهْنٍ يفي بالدَّين، أو بكفيلٍ مليءٍ (غنيٍّ)، فللدَّائن منعه من السفر، سواء كان الدَّيْن يَحِلُّ قبل عودته من سفره أم لا، وسواء كان السَّفر مَخُوفاً؛ كالسفر لجهاد -غير متعيَّن- ونحوه، أو غير مَخُوفٍ؛ لأنَّ الدائن سيتضرَّر بتأخير حقِّه، كما أنَّ قدوم المدين غير متيقَّن. أمَّا إذا وثَّق دَيْنه برَهْنٍ يفي بالدَّين، أو بكفيلٍ مليءٍ، فليس للدائن حينئذٍ منعه من السفر؛ وذلك لانتفاء الضرر.
- لا يحلُّ الدَّيْن المؤجَّل إذا طرأ على المدين جنون؛ لأنَّ الأجل حقٌّ له؛ فلا يسقط بجنونه.
وكذا لا يحلُّ الدَّيْن بموت المدين؛ لأنَّ الأجل حقٌّ للميِّت، فينتقل إلى ورثته؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(مَنْ تَرَكَ حَقًّا أَوْ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ)
(1)
. لكن يُشترط أن يقوم الورثة بتوثيق هذا الدَّين برَهْنٍ يفي به، أو بكفيلٍ مَليءٍ؛ وذلك صوناً لحقِّ الدائن من الضياع؛ لأنَّ انتقال المال إلى الورثة مظنَّة ضياع الحقِّ، فيُحتاط لذلك بتوثيقه. فإنْ
(1)
استدلَّ الحنابلة على قولهم في المسألة بهذا الحديث، ولم نقف عليه بهذا اللفظ. وإنَّما رواه البخاريُّ ومسلمٌ وغيرهما بلفظ «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ
…
». ولذا قال الحافظ ابن حجر في «التلخيص الحبير» (3/ 137): «أورده الشافعي هنا بلفظ: (من ترك حقًّا)، ولم أره كذلك» .
لم يُوثَّق بما ذُكر فإنَّه يصبح حالًّا.
وإنَّما فُرِّقَ بين المجنون والميِّت في توثيق الدَّيْنِ؛ فاشتُرط في الثَّاني ولم يشترط في الأوَّل؛ لأنَّ المجنون يُحجر على ماله؛ حفظاً له من الضياع، فإذا حلَّ أجل الدَّيْن كان الوفاء من ماله، بخلاف الميِّت؛ فإنَّ ماله يُوزَّع بين ورثته، فإذا حلَّ الأجل كان حقُّ الدائن مَظِنَّةً للضياع، فاحتيج هنا إلى التَّوثيق.
- يجب على المدين القادر وفاء دَيْنِهِ فوراً إذا كان حالًّا، أو كان مؤجَّلاً ابتداءً ثمَّ حلَّ أجله، وطالبه به ربُّه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ)[رواه البخاري ومسلم]. والمماطلة إنَّما تتحقَّق بالطَّلب؛ فمماطلة المدين بعد طلبه مع قدرته على الوفاء ظلمٌ لصاحب الحقِّ، فإنْ لم يطالبه به فلا يجب عليه قضاؤه على الفور.
فإنْ مَطَله المدين حتَّى شكاه إلى القاضي، وجب على القاضي أنْ يأمره بالوفاء، وما غَرِمه الدائن في شكايته بسبب مماطلة المدين يرجع به على المدين؛ لِتسبُّبه فِي غُرْمه.
فإنْ أبى المدين الوفاء بعد أَمْرِ القاضي له، حبسه القاضي؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ)[رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه]. قال الإمام أحمد: «قال وَكيعٌ: عِرْضُه؛ شَكْواهُ. وعُقوبَتُه؛ حَبْسُه» .
ولا يجوز للقاضي إخراجه من الحبس؛ لأنَّ حبسه حُكْمٌ، فليس له رفعه دون رضا المحكوم له، إلَّا إذا تبيَّن أنَّه مُعْسِرٌ لا يستطيع الوفاء، أو يؤدِّى ما عليه، أو يُبْرئه صاحب الحقِّ، أو يرضى بخروجه؛ لأنَّ حبسه حقٌّ لربِّ الدَّيْن، وقد أَسْقطه.
فإذا تبيَّن أنَّه مُعْسِرٌ، وجب إطلاقه وتخليته؛ رضي خصمه بذلك أم لا؛ لقول الله عز وجل:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، فقد أوجب
الله تعالى إنظاره، فحَرُم حَبْسُه.
ويَحرُم حينئذٍ مطالبته بما عجز عنه، أو الحَجْر عليه؛ للآية السابقة، ولحديث أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال:(أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا؛ فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِغُرَمَائِهِ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ)[رواه مسلم].
وفي إنظار المعسر فضلٌ عظيمٌ؛ من ذلك ما جاء في حديث بُرَيْدَة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ). قَالَ: ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ). قُلْتُ: سَمِعْتُكَ يَا رَسُولَ اللهِ تَقُولُ: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ)، ثُمَّ سَمِعْتُكَ تَقُولُ:(مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ). قَالَ: (لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ؛ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ)[رواه أحمد].
- إذا كان للمدين مالٌ لا يفي بديونه، فسأل غرماؤه -كلُّهم أو بعضُهم- القاضي الحَجْر عليه، لزمه إجابتهم إلى الحَجْر عليه؛ لحديث كعب بن مالك السابق في الحَجْر على مال معاذٍ رضي الله عنه. فإنْ لم يسأل أحدٌ منهم الحَجْر عليه، لم يَجُزْ للقاضي أنْ يَحْجُرَ عليه؛ لأنَّ الحَجْر حقٌّ لهم، فلا يُحْكَمُ به بغير طلبهم.
- يُسَنُّ إظهار الحَجْر بسبب الفَلَس أو السَّفَه، والإعلان عنه بين الناس؛ حتى يكونوا على بيِّنة وبصيرةٍ في التعامل مع المحجور عليه؛ فلا يتصرَّفون معه تصرُّفاً يضرُّ بهم.
فصل في فائدة الحَجْر
يتعلَّق بالحَجْر على المُفْلِس أربعة أحكام:
الأوَّل: تعلُّق حقِّ الغرماء بالمال؛ بمعنى أنَّ أموال المحجور عليه صارت مشغولة بحقوق غرمائه، فلا يصحُّ تصرُّفه فيها بأيِّ تصرُّفٍ؛ لا ببيعٍ، ولا شراءٍ، ولا إجارةٍ، ولا هبةٍ، ولا رهنٍ، ولا وقفٍ، ولا غير ذلك من أنواع التصرُّفات المتعلِّقة بالمال؛ لأنَّه قد تعلَّقت به حقوق غرمائه، وهذه فائدة الحَجْر؛ وإلَّا لم يكن له فائدة.
فمثلًا: لو حُكم على رجل بالحَجْر، وعنده مزرعةٌ كان قد عَرَضَها للبيع قبل الحَجْر عليه، أو سيارةٌ وضعها في المعرض للبيع قبل الحَجْر عليه، ثمَّ حُكِمَ عليه بالحَجْر، فلا يمكنه حينئذٍ بيعها؛ لتعلُّق حقِّ الغرماء بها، فلا يمكنه التصرُّف فيها. إلَّا إذا كان بيعه قبل الحَجْر؛ فإنَّه نافذٌ؛ لأنَّ سبب المنع الحَجْر، فلا يتقدَّم سببه عليه.
أمَّا التصرُّفات المتعلِّقة بذمَّته؛ كأنْ يشتري شيئاً بثمنٍ مؤجَّل، أو أنْ يقترض، أو أنْ يضمن أحداً في دَيْنِه، أو أن يُقرَّ لأحدٍ بشيءٍ في ذمَّته ونحو ذلك، فتصحُّ منه، لأنَّه أهلٌ للتصرُّف، والحَجْر إنَّما يتعلّق بماله دون ذمَّته. لكنَّه لا يُطالب بما لزمه في ذمَّته إلَّا بعد فكِّ الحَجْر عنه؛ لأنَّ المال المحجور عليه صار حقًّا للغرماء.
فمثلاً: لو اشترى سيارةً من شخصٍ بثمنٍ مؤجَّلٍ في ذمَّته، فيصحُّ شراؤه، لكنْ لا يدفع ثمنَها من هذا المال الذي حُجِر عليه؛ لتعلُّقه بحقوق خصومه، فإذا رُفع الحَجْر عنه أعطى البائع ثمنَها.
الثَّاني: أنَّ من وجد عَيْنَ ما باعَه أو أقْرَضَه للمُفْلِس (المحكوم عليه بالحَجْر)
عنده فهو أحقُّ به؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهْوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ)[رواه البخاري، ومسلم]، لكن يشترط لذلك عدَّة شروط:
1) ألَّا يكون عالماً بالحَجْر عليه، أمَّا إنْ كان عالماً بالحَجْر عليه، فليس له أن يأخذها؛ لأنَّه عامله على بيِّنة وبصيرة بأمره، فلا عذر له، ويُعَوَّض ببَدَلِها بعد فكِّ الحَجْر عنه.
2) أن يكون المُفْلِس حيًّا إلى وقت أخذها؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا، فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ، وَلَمْ يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا، فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ؛ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ المُشْتَرِي؛ فَصَاحِبُ المَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ)[رواه أبو داود، وقد ضعفه جماعة]. فلو مات المفلس قبل أخذها، لم يكن للبائع أو المقرض الرجوع بها؛ لأنَّه بالموت قد انتقل الملك عن المفلس إلى الورثة؛ أشبه ما لو باعها.
3) أن يكون عِوَض العَيْن كلُّه باقياً في ذمَّة المُفْلِس؛ فإنْ كان المفلس قد أدَّى بعض ثمنها، أو أُبرئ منه، لم يكن للبائع الرجوع بها، ويكون حاله كحال غيره من الغرماء؛ للحديث السابق، وفيه (
…
وَلَمْ يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا، فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ؛ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ
…
).
4) أن تكون السلعة أو العَيْن كلُّها باقية في مِلْكِ المُفْلِس؛ فلو خرج عن ملكه منها شيء؛ كما لو باع بعض الدار، أو الأرض، أو وهبها، أو وقف شيئاً منها، لم يكن للبائع أو المُقْرِض الرجوع بها، وكان حاله كحال غيره من الغرماء؛ لأنَّه حينئذٍ لم يدرك سلعته أو متاعه، وإنَّما أدرك بعضه، ولا يحصل له بأخذ البعض
فصل الخصومة، وانقطاعها بينهما.
5) أن تكون العين أو السلعة بحالها؛ وهذا يشمل ما يلي:
- ألَّا يتلف منها شيء يُنقِصُ من قيمتها؛ كما لو انهدم بعض الدار، أو تلف بعض الثوب، ونحو ذلك.
- ألَّا تتغيَّر صفتها بما يزيل اسمها؛ كما لو كانت السلعة خشباً، فتمَّت نجارته أبواباً، أو كانت قماشاً، فتمَّت خياطته أثواباً، أو كانت دقيقاً فتمَّ خبزه، ونحو ذلك.
- ألَّا تكون قد زادت زيادة متَّصلة؛ كما لو كانت السلعة شاة، أو بقرة فسمِنَت، أو كانت نخلاً فنمت وكبرت، ونحو ذلك.
- ألَّا تكون قد خُلطت بما لا يتميَّز؛ كما لو كانت السلعة زيتاً فخُلطت بزيتٍ، أو كانت قمحاً فخلطت بقمحٍ، ونحو ذلك.
فإنْ تغيَّرت السلعة عن حالها بشيءٍ ممَّا سبق لم يكن له الرجوع بها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ
…
)، وهذا لم يجده بعينه.
6) ألَّا يتعلَّق بها حقٌّ للغير؛ فإنْ تعلَّق بها حقٌّ للغير؛ كما لو كان المفلس قد رهنها مثلاً ثمَّ أفلس، فليس لربِّها الرجوع بها؛ لأنَّ حقَّ المرتهن أسبق، ولأنَّ في رجوعه بها إضراراً بالمرتهن، ولا يُزال الضرر بالضرر. فإنْ ردَّ المرتهن العين المرهونة، فلربِّها حينئذٍ أنْ يأخذها.
الثَّالث: أنَّه يجب على القاضي أن يقوم بقَسْم أموال المُفْلِس التي من جنس دَيْنه بين غرمائه؛ فلو كان دَيْنَه قمحاً -مثلاً- فيقسم ما عنده من القمح، أو كان دَيْنُه
نقداً فيقسم ما عنده من النقد.
وأمَّا أمواله التي ليست من جنس دَيْنه؛ كما لو كان دَيْنه مالاً، وهو يمتلك قمحاً -مثلاً-؛ فيجب على القاضي أن يبيع هذا القمح بسعر مثله، ثمَّ يقسم ثمنه بين الغرماء (الدائنين)، والقسمة على الغرماء تكون بحسب ديونهم؛ فمثلاً: لو كان الدَّيْنُ الذي عليه عشرة آلاف دينار، والموجود ثمانية، فيكون نسبة الثمانية إلى العشرة أربعة أخماس؛ فيُعطَى كلُّ واحد من الغرماء أربعة أخماس ماله؛ فمَنْ كان له ألف يأخذ ثمانمائة، ومَنْ كان له مائة يأخذ ثمانين، ومَنْ كان دَيْنه عشرة يأخذ ثمانية، ومَنْ كان دَيْنه خمسة يأخذ أربعة، وهكذا
…
والأصل في ذلك حديث معاذٍ رضي الله عنه السابق؛ فقد باع النبيُّ صلى الله عليه وسلم ماله وقَسَمه بين غرمائه. ولأنَّ هذا جلُّ المقصود من الحجر.
- ويجب القَسْم على الفور؛ فلا يجوز للقاضي التأخير؛ لأنَّ التأخير مَطلٌ، وفيه ظلمٌ للغرماء. ولا يجوز للقاضي أو المفلس أنْ يعطي بعضهم دون بعض؛ فإنْ فعل ذلك لم يصحَّ؛ لأنَّهم جميعا شركاء في الدَّيْن.
- ولا يجب على الغرماء إثبات أنَّه لا يوجد غريم سواهم؛ لأنّ هذا يخفى غالباً. ثمَّ إنْ ظهر بعد ذلك غريمٌ دَيْنُه حالٌّ، فإنَّه يرجع على كلِّ واحد من الغرماء بقدر حصَّته كما لو كان موجوداً معهم حال القِسْمة؛ لأنَّه لو كان حاضراً لقاسمهم، فكذلك إذا ظهر.
فمثلاً: لو كان الدَّيْن ثمانية آلاف، والموجود ستة آلاف، فقسمنا الستة بين الغرماء، ثمَّ ظهر بعد ذلك غريمٌ له دَيْن مقداره أربعة آلاف، ففي هذه الحال تُضم
هذه الأربعة إلى الدَّيْن السابق (ثمانية آلاف) فيكون مجموع الدَّيْن اثني عشر ألفاً، ونسبة الدَّيْن الذي ظهر إلى مجموع الدَّيْن يساوي الثلث؛ فحينئذٍ يرجع على كل واحد بثلث نصيبه.
- يجب على القاضي أنْ يُجري للمُفْلِس ولمن تلزمُه نفقتُه؛ من زوجةٍ، وولدٍ، ونحو ذلك -أثناء الحَجْر على ماله- من ماله أدنى نفقةِ مِثْلِهم بالمعروف؛ من مأكلٍ، ومشربٍ، وكسوةٍ، وتجهيز ميِّتٍ، ونحو ذلك، حتَّى يُقسَّم ماله؛ لأنَّ ملكه لا يزال باقياً عليه قبل القِسْمة.
- يجب أن يُترك للمُفْلِس -عند قَسْم أمواله بين الغرماء- من ماله ما تدعو إليه حاجته؛ من مسكنٍ صالح لمثله، ونحو ذلك؛ لأنَّه ممَّا لا غنى له عنه؛ فلا يجوز بيع مسكنه في دَيْنِه؛ كما لا يجوز بيع لباسه وقُوتِهِ، إلَّا إذا كان مسكنه عين مال غرمائه أو أحدهم؛ فلا يُترك له؛ لأنَّ مَنْ وجد عين ماله فهو أحقُّ به؛ كما مرَّ بشروطه. ويُترك للمفلس من ماله بدله؛ دفعاً لحاجته.
ويجب أن يُترَكَ له أيضاً شيءٌ من ماله ليتَّجِر به إن كان تاجراً، أو تترك له آلته إن كان صانعاً؛ لأنَّ حاجته تدعو إلى ذلك؛ تحصيلاً لأسباب معيشته. قال الإمام أحمد -في رواية المَيْمُونِيِّ-:«يُتْرَكُ لَهُ قَدْرُ مَا يَقُومُ بِهِ مَعَاشُهُ وَيُبَاعُ الْبَاقِي» .
الرَّابع: انقطاع الطَّلب عن المفلس؛ بمعنى أنَّه إذا حُكم على المفلس بالحَجْر، فلا يملك مَنْ باعه أو أقرضه عالماً بالحجر عليه أنْ يطلبه بثمن مبيعه أو بعوض قَرْضه حتَّى يُرفَعَ عنه الحَجْر؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، وهو خبر بمعنى الأمر؛ أي: فأنظروه إلى مَيْسرته. ولحديث: (خُذُوا
مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ) [رواه مسلم]، ولأنَّه هو الذي أتلف ماله بمعاملة مَنْ لا شيءَ معه، ولأنَّ مال المحجور عليه قد تعلَّق به حقُّ غرمائه، لكن إنْ وجد البائعُ أو المُقْرِض عين ماله فله أَخْذُه -كما سبق- إنْ كان جاهلاً بالحَجْر عليه.
فصل
في مَنْ دَفَعَ مالَهُ إلى صَغيرٍ أو مَجنونٍ أو سَفِيهٍ
- من دفع ماله -بيعاً، أو قرضاً، أو عاريَّة، أو غير ذلك- إلى صغير، أو مجنون، أو سفيه؛ فأتلفه؛ لم يكن عليه ضمانه؛ سواء كان ذلك بتعدٍّ وتفريطٍ منه أو لا، وسواء علم الدافع بالحجر عليه أم لا؛ فلو أعار زيدٌ ساعته لسفيهٍ فأتلفها، فإنَّه لا يضمنها له. وكذا لو أقرضه مائة دينار فأتلفها فإنَّه لا يضمنها له؛ لأنَّه سلَّطه على ماله باختياره، ولأنَّه مفرِّط؛ إذْ الحَجْر عليه - أي: السفيه، أو الصغير، أو المجنون- مَظِنَّةِ الشُّهْرَة، فلا يُعذر فيه بالجهل.
بخلاف ما لو أتلف شيئاً لم يُدفع إليه؛ كما لو تعدَّى المجنون على سيارة زيدٍ أو ساعته، أو غَصَبَها؛ فإنَّه يضمنها في ماله؛ لأنَّه لا تفريط من المالك حينئذٍ، وضمان المُتلَف يستوي فيه صاحبُ الأهليَّة وفاقدُها.
- ومَنْ أَخَذَ مِنْ أَحَدِهِمْ (الصغير أو المجنون أو السفيه) مالًا من نقدٍ أو عينٍ ونحو ذلك، دون إذن وليِّه فإنَّه يضمنه إذا تلف؛ فرَّط أو لم يفرِّط؛ لأنَّه متعدٍّ؛ إذْ قَبَضَ ممَّن لا يصحُّ منه الدَّفْعُ. ويُسلِّمه لوليِّه؛ لأنَّه هو الذي يصحُّ قَبْضُهُ.
بخلاف ما لو أخذه ليحفظه من الضياع، فتلف دون تفريطٍ فإنَّه لا يضمن؛ فمثلاً: لو وجد سيارةً لصغيرٍ أو مجنونٍ أو سفيهٍ غَصَبَها عمرٌو، فأخذها ليحفظها له، فتلفت عنده دون تفريطٍ فإنَّه لا يضمن؛ لأنَّ فِعْلَه إحسانٌ؛ إذْ فيه إعانة على ردِّ الحقِّ لمستحقِّه. بخلاف ما لو فرَّط فإنَّه يضمن حينئذٍ؛ لتفريطه.
- إذا بلغ الصغير، أو عقل المجنون، وكانا راشِدَيْن -ذَكَرَيْنِ أو أُنْثَيَيْنِ-؛ انْفَكَّ
الحَجْرُ عنهما بلا حُكْمٍ من القاضي؛ لقول الله عز وجل: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6]. ولأنَّ الحَجْر إنَّما كان للعجز عن التصرُّف في المال؛ حفظاً له، وقد زال ذلك بالبلوغ والرُّشْدِ، أو بالعقل والرُّشْدِ، فيزول الحَجْر حينئذٍ؛ لزوال علَّته. ويُدْفَع إليهما مالهما؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].
وأمَّا قبل البلوغ مع الرشد، أو العقل مع الرشد؛ فلا يدفع إليهما المال، ولو صارا شيخين كبيرين؛ لظاهر الآية السابقة. وروى الجُوزَجانِيُّ في كتابه «المُتَرجِمِ» قال:«كان القَاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ يَلي أَمرَ شَيخٍ من قُرَيشٍ ذي أَهلٍ ومالٍ؛ لِضَعْف عَقْلِه» .
* المقصود بالرُّشد هنا:
يقصد بالرُّشد هنا: إصلاح المال، وصونُه عمَّا لا فائدة فيه؛ لقول ابن عبَّاس رضي الله عنهما:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6]؛ يَعني: صَلاحاً في أموالهم. فلا يُشترط صلاح الدِّين في هذا الباب؛ فلو كان فاسقاً، لكنَّه في باب الأموال صالحٌ فهو رشيد، يُدفع إليه المال.
* علاماتُ البُلوغِ:
- يبلغ الذَّكَر بواحد من ثلاثة أشياء:
1) إنزالُ المَنِيِّ؛ يقظةً أو مناماً؛ بجماعٍ، أو احتلام أو غير ذلك؛ لقول الله عز وجل:{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ
…
وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ) [رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي،
والنسائي، وابن ماجه].
2) تمامُ خمسَ عشرةَ سنةً؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (عَرَضَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقِتَالِ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعَرَضَنِي يَوْمَ الخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي)[رواه البخاري ومسلم].
3) نَبَاتُ الشَّعْر الخَشِنِ القَويِّ حول الْقُبُلِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لما حَكَّم سعد بن معاذ رضي الله عنه في بني قُريظَة، فحَكَمَ بقتل مقاتِلَتِهم، وسَبْي ذَراريهم، وأمر بأن يُكشَفَ عن مُؤْتَزَرهم؛ فمن أنْبتَ فهو من المُقاتِلة، ومن لم يُنبِتْ أُلحق بالذريَّة [رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه]، وقد قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:(قَضَيْتَ بِحُكْمِ اللّاهِ). [رواه البخاري ومسلم].
- أمَّا الأُنثى فتبلغُ بما يبلغُ به الذَّكَرُ، وتزيد عليه بأمرين:
1) الحَيْض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه].
2) الحَمْل؛ لأنَّ حَمْلَها دليلٌ على إنزالها المَنِيِّ؛ لأنَّ الله جَلَّت قُدْرَتُه قدَّر خَلْقَ الولد من ماء الذَّكَر والأُنثى؛ قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5 - 7].
فصل في الولاية على الصَّغير والمجنون والسَّفيه
تثبت الولاية على الصغير، والبالغ السفيه، والمجنون، للأب الرشيد العدْل؛ وذلك لكمال شفقته، وحرصه على صيانة مال ولده، ولأنَّها ولايةٌ كولاية النكاح، فيُقدَّم فيها الأب. واشتُرط فيه الرُّشد والعدل ولو ظاهراً؛ لأنَّه لو لم يكن كذلك لكان إسناد الولاية إليه تضييع للمال. والمراد بالأب هنا: الأب المباشر؛ وهو الذي جاءوا من صلبه.
- فإن لم يكن له أب، أو كان موجوداً لكنَّه غير متَّصف بالوصف المذكور من رُشْدٍ وعدالةٍ؛ فوصيُّ الأب؛ وهو الذي أوصى إليه الأبُ بالقيام على أمر هؤلاء؛ لأنَّه نائبه والقائم مقامه، أشبه ما لو كان وكيله حال الحياة.
- فإن لم يكن أبٌ ولا وصيُّه انتقلت الولاية للقاضي؛ لأنَّها انقطعت من جهة الأب فتكون للقاضي؛ كولاية النكاح؛ لأنَّه وليُّ من لا وليَّ له.
- فإنْ لم يوجد قاضي أو وُجد لكنَّه غير متَّصف بالصفات المعتبرة من الرُّشد والعدالة الظاهرة، انتقلت الولاية إلى أمينٍ يتمُّ اختياره ليقوم مقام القاضي في النظر على هؤلاء.
- ولا ولاية للجدِّ، ولا للأمِّ، ولا لسائر العَصَبات على أحدٍ من هؤلاء (الصغير والسفيه والمجنون) إلَّا إذا أوصى الأبُ إلى أحدٍ منهم؛ وذلك لقصور شفقتهم، ولأنَّ المال محلٌّ للخيانة، فلا يُؤْمَنون عليه.
- يَحرُمُ على وَليِّ الصغير والسفيه والمجنون أن يتصرَّف في أموالهم إلَّا بما فيه نفع
ومصلحة لهم؛ لقول الله عز وجل في حقِّ اليتيم: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34]، والسفيه والمجنون في معناه؛ فمثلاً: إذا احتاج الصغير إلى بيع عقارٍ أو أرضٍ ونحو ذلك فعلى الوليِّ ألَّا يتعجَّل في البيع، بل يتريَّث حتَّى يقف على الأحظِّ والأنفع له في السِّعْر، ونحو ذلك.
وعلى ذلك؛ فليس للوليِّ أنْ يَهَبَ أو يتصدَّقَ من ماله، أو يُحابي في بيعٍ أو شراءٍ؛ فيبيع بأنقص، أو يشتري بأزْيَدَ محاباةً، فإنْ فعل شيئاً من ذلك ضمن ما تبرَّع أو حابى به؛ لأنَّه مفرِّط.
- إذا تصرَّف الصغير أو المجنون أو السفيه في ماله ببيعٍ أو شراءٍ أو هبةٍ أو وقفٍ أو إقرارٍ، لم يصح تصرُّفه؛ لقول الله عز وجل:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]. ولأنَّهم محجور عليهم لحظِّ أنفسهم؛ فلا يصحُّ تصرُّفهم في مالهم ولا في ذِممهم؛ كما سبق.
لكنَّ السفيه إذا أقرَّ على نفسه بما يوجب إقامة الحدَّ عليه من زناً، أو قَذْفٍ، أو شُرْبِ خَمْرٍ، أو سرقةٍ، ونحو ذلك، أو أقرَّ بنَسَب ولدٍ له، أو بطلاق امرأته، أو بقصاصٍ على نفسه، صحَّ إقراره، وأُخِذَ به في الحال؛ فلا تتوقَّف إقامة الحدِّ على فكِّ الحَجْر عنه؛ لأنَّ الحَجْر متعلِّق بماله لا بنفسه.
قال ابن المنذر: «وأجمع كلُّ من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن إقرار المحجور عليه على نفسه جائز، إذا كان إقراره بزنى، أو سرقةِ، أو شرب خمرِ، أو قذفِ، أو قتلِ، وأنَّ الحدود تقام عليه» [الإشراف على مذاهب العلماء (6/ 224)].
وكذا إذا أقرَّ على نفسه بمالٍ للغير؛ كاقتراضٍ منه، أو ثمن مبيعٍ له، ونحو ذلك
صحَّ إقراره؛ لأنَّه مكلَّف، يلزمه ما أقرَّ به، لكن لا يؤاخذ به إلَّا بعد رَفْعِ الحَجْرِ عنه؛ حتَّى لا يزول معنى الحَجْر؛ لأنَّه لو أُخذ به في الحال لم يكن للحَجْر فائدة؛ لأنَّه إذاً يتصرَّف في ماله. لكن إنْ عَلِمَ الوَلِيُّ صحَّة إقراره لزمه -أي الوَلِيُّ- أداؤه في الحال.
فصل في تصرُّفات الوليِّ
- يجوز لوليِّ الصغير والسفيه والمجنون أن يأكل من مالهم إذا كان محتاجاً؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]، ولحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه: (أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي فَقِيرٌ لَيْسَ لِي شَيءٌ، وَلِي يَتِيمٌ. قَالَ: فَقَالَ: كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ وَلَا مُبَادِرٍ وَلَا مُتَأَثِّلٍ -أي مُدَّخِرٍ-» [رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه].
ويقدَّر ذلك بالأقلِّ من أجرة مثله، أو كفايته؛ فمثلاً: لو قُدِّر أنَّ كفايته مائة دينار، وأُجْرَتُه ستُّون ديناراً، لا يأخذ إلَّا الستِّين؛ لأنَّها الأقلُّ، وكذا العكس؛ فلو قُدِّر أنَّ كفايته ستُّون ديناراً، وأجرته مائة، لم يأخذ أيضاً إلِّا الستِّين؛ لأنَّه مستحقٌّ للمال من الجهتين؛ من جهة قيامه على حفظ المال ورعايته، ومن جهة فَقْرِه وحاجته، لكن لا يأخذ إلَّا الأقلَّ منهما؛ لأنَّ الأصل حفظ المال لليتيم أو السفيه أو المجنون، وإباحة الأكل إنَّما كانت لوجود الحاجة، وما أُبيح للحاجة يُقَدَّر بقَدْرِه.
- فإنْ لم يكن محتاجاً؛ بأن كان غنيًّا؛ فلا يجوز له أن يأكل من أموالهم شيئاً؛ لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6]، إلَّا إذا فرض القاضي له شيئاً منها لمصلحةٍ يراها؛ فلا بأس حينئذٍ أن يأخذ ما فَرَضَه له القاضي، ولو كان غنيًّا؛ إعمالاً للمصلحة.
- يجوز للزوجة، وكذا كلُّ متصرِّف في بيتٍ؛ كالخازن، والأجير، والخادم، ونحو ذلك أن يتصدَّق منه دون إذن صاحب البيت بما لا يضرُّ؛ كبيضة، ورغيف،
ونحو ذلك؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَنْفَقَتِ المَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا)[رواه البخاري، ومسلم]، ولأنَّ العادة جرت بسماح النفس وطيبها بمثل ذلك دون إذنٍ.
إلَّا إذا منع ربُّ البيت من ذلك، أو كان بخيلاً، ويُشَكُّ في رضاه؛ فيحرُم حينئذٍ التصدُّق من ماله دون إذنه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ)[رواه أحمد].
باب الوكالة
أوَّلاً: تعريفُ الوَكالَة:
الوَكالَة لغةً: بفتح الواو وكسرها؛ الحفظ والتفويض.
وشرعاً: استنابةُ شخصٍ جائزِ التَّصرُّفِ شخصاً آخرَ جائزَ التَّصرُّفِ فيما تَدْخُلُه النِّيابَةُ.
ثانياً: حُكْمُ الوَكالَة:
الوكالة جائزةٌ بالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، والمعقول.
- فمن الكتاب: قوله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60]؛ أَيْ على الزَّكَاةِ؛ فقد جوَّز الله عز وجل العمل عليها، وهذه تُعدُّ وكالة -في الجملة- عن المستحقين.
وقوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19]؛ فهذه وكالة في الشراء.
- ومن السُّنَّة: فِعْلُه صلى الله عليه وسلم؛ فَقَدْ وَكَّلَ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الجَعْدِ رضي الله عنه فِي شِرَاءِ شَاة. [رواه البخاري]، ووكَّل أبا رافع رضي الله عنه في زواجه بميمونة رضي الله عنها. [رواه مالك، والترمذي].
- وأمَّا الإجماع: فقد أجمعت الأُمَّة على جوازها.
ثالثاً: الحِكْمَةُ من مشروعيَّة الوَكالَة:
لما كان الإنسانُ عاجزاً عن فعل كلِّ ما يحتاجه بنفسه، بل يحتاج أحياناً إلى من
يقوم عنه في بعض شؤونه؛ من بيع، أو شراء، ونحو ذلك؛ جاء تشريع الوكالة في الإسلام مراعاة لهذه الحاجة.
رابعاً: ما تجوزُ الوَكالَة فيه:
أ - التَّوْكِيل فِي كُلِّ حَقِّ آدَمِيٍّ؛ ومِنْ ذلك:
1) التوكيلُ في عُقودِ البَيعِ والشِّراءِ؛ لما مرَّ آنفاً من توكيله صلى الله عليه وسلم عُرْوةَ في الشراء، ولأنَّ الحاجة داعية إلى التَّوكِيل في ذلك؛ لأنَّه قد يكون ممَّن لا يُحْسن البيع والشِّراء، أو لا يُمكنه الخروج إلى السُّوق، فأباحها الشَّرع دفعاً للحاجة، وتحصيلًا للمصلحة.
ويلحق بالتوكيل في البيع والشراء سائر العقود؛ كالقَرْضِ، والإجارَةِ، والشَّرِكَة، والمُضارَبَة، والمُساقاة، والهِبَة، والوَصِيَّة، والصُّلْح، وغير ذلك، فتجوز فيها الوكالة؛ لأنَّها في معنى البيع في الحاجة إلى التَّوكيل فيها، فيثبت فيها حُكمه.
2) التوكيلُ في عقد النِّكاح؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم وكَّل فيه؛ كما مرَّ. ولأنَّ الحاجة تدعو إليه؛ فإنَّ الإنسان رُبَّما رغب في التَّزوُّج من مكان بعيد، ولا يُمْكِنُه السَّفر إليه، وقد تزوَّج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ حبيبة رضي الله عنها، وهي يومئذ بأرض الحبشة. [رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي].
3) التوكيلُ في الفَسْخِ؛ كالخُلع، والإِقالة في البيع؛ فله أن يوكِّل مَنْ يخالع زوجته، ومَنْ يُقيل بيعاً له، ونحو ذلك؛ لأنَّ ما جاز التَّوكيل في عَقْده جاز في حَلِّه من باب أَوْلَى.
4) التوكيلُ في الطَّلاقِ؛ فله توكيل مَنْ يُطلِّق عنه؛ لأنَّه إذا جاز التوكيل في عقد
النِّكاح؛ جاز التوكيل في حَلِّه كما مرَّ.
5) التوكيلُ في الرَّجْعَةِ؛ فله أنْ يُوكِّل مَنْ يراجع زوجته؛ لأنَّه يملك بالتَّوكيل ما هو أقوى من الرَّجعة، وهو إنشاء النكاح ابتداءً، فكان التوكيل في الأضعف
-وهو الرَّجعة- أَوْلَى.
ب- التوكيلُ في العبادات التي تَدْخُلُها النِّيابَةُ؛ ومِنْ ذلك:
1) التوكيلُ في الحجِّ والعُمْرَةِ؛ فله أن يوكِّل مَنْ يقوم بهما عنه؛ وذلك في نافلة الحجِّ والعمرة، أمَّا في فَرْضَيْهما فلا يجوز له التوكيل إلَّا إذا كان عاجزاً؛ وذلك لما تقدَّم في باب الحجِّ من جواز الاستنابة في الحجِّ والعمرة في حال العجز؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما:(أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّاهِ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ)[رواه البخاري، ومسلم].
2) التوكيلُ في ذبح الأُضحية، ونَحْر الهَدْي، ونحو ذلك؛ لحديث عليٍّ رضي الله عنه، قال:(أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا، وَجُلُودِهَا، وَأَجِلَّتِهَا، وَأَنْ لَا أُعْطِىَ الجَزَّارَ مِنْهَا)[رواه مسلم].
3) التوكيلُ في العبادات الماليَّة؛ كتفريق الزَّكاة، والصدقات، والنذور، والكفَّارات؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم كان يبعث عُمَّاله لقبض الصدقات، وتفريقها؛ كما في حديث معاذ رضي الله عنه؛ وفيه: (فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ؛ تُؤْخَذُ
مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ) [رواه البخاري، ومسلم].
ج- التوكيلُ في الحدود؛ إثباتاً واستيفاءً:
فيجوز للحاكم أنْ يُوَكِّل مَنْ يقوم بالنَّظر في الأدلَّة التي تُثبت الحدَّ على الجاني، ويجوز له أن يُوَكِّل من يستوفي الحدود؛ فيقيمها على أربابها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا؛ فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا. فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا)[رواه البخاري، ومسلم].
د - التوكيلُ في المطالبة بالحقوق الماليَّة، وإثباتها، والمحاكمة فيها:
فله التوكيل في المطالبة بالحقوق الماليَّة، وإثباتها، والمحاكمة فيها؛ سواء كان الموكِّل حاضراً أو غائباً، صحيحاً أو مريضاً؛ لأنَّه حقٌّ تجوز النِّيابة فيه، ولأنَّ عليًّا رضي الله عنه كان إذا كانت له خصومة يُوَكِّل عَقيل بن أبي طالب، أو عبد الله بن جعفر، وكان يقول:«مَا قُضِيَ لِوَكيلِي فَلِي، وَمَا قُضِيَ عَلَى وَكِيلِي فَعَلَيَّ» [رواه ابن أبي شيبة؛ بإسناد ضعيف].
ولأنَّ الحاجة تدعو إلى ذلك؛ فقد يكون للرجل حقٌّ، أو يُدَّعى عَليْه، وهو لا يُحسِن الخصومة، أو لا يُحبُّ أَنْ يتولَّاها بنفسه.
خامساً: ما لا تجوزُ الوَكالةُ فيه:
لا تجوز الوكالة فيما لا تدخله النيابة؛ ومِنْ ذلك:
1) العبادات البدنيَّة المحضة؛ كالصَّلاة، إلَّا رَكْعتي الطَّواف؛ فيجوز النيابة فيهما؛ لأنَّهما تَبعٌ للحجِّ.
وكذا لا تجوز الوكالة في الصِّيام، والطَّهارة مِنْ الحَدَث، والاعتكاف، والاغتسال للجمعة، ونحو ذلك؛ لأنَّها تتعلَّق ببدن المكلَّف، إذْ المقصود فعلها ببَدَنِه؛ فلا يقوم غيرُه مقامَه فيها.
2) الأَيْمان، والنذور، واللِّعان، والإيلاء، ونحو ذلك؛ فلا تجوز الوكالة فيها؛ لأنَّها تتعلَّق بعَيْن الحالف والنَّاذر؛ فلا تدخلها النِّيابة؛ كالعبادات البدنيَّة.
3) الشهادة؛ فلا تجوز الوكالة فيها؛ لأنَّها تتعلَّق بِعَيْن الشَّاهد؛ لكونها خبراً عمَّا رآه، أو سمعه، ولا يتحقَّق هذا المعنى في نائبه.
سادساً: صيغةُ انْعِقَادِ الوَكالَة:
- تنعقد الوكالة بكلِّ ما يدلُّ عليها من قول أو فعل؛ كوكَّلتك في بيع هذا البيت، أو فوَّضتك، أو أَذِنت لك في بيعه، أو أقمتُك مقامي، أو جعلتُك نائباً عنِّي في بيعه، أو بعْ لي هذا البيت، أو اشتره لي، أو يعطيه ثوبه بما يُفْهَم منه توكيله في خياطته، أو تغسيله، أو بيعه، ونحو ذلك من الأقوال أو الأفعال؛ لأنَّه لفظٌ أو تصرُّفٌ دالٌّ على الإذن؛ فجرى مجرى لفظ الوكالة الصريح.
- ويصح قبولها بكلِّ قولٍ أو فعلٍ يدلُّ على القبول؛ كأن يقول له: قبلتُ، أو قد فَعَلْتُ، ونحو ذلك، أو يقول له: وكَّلتُك في بيع هذه السلعة؛ فيأخذها منه بما يدلُّ على رضاه؛ فتصحُّ الوكالة وتنعقد.
وسواءٌ كان القبول على الفور أو التراخي؛ كما لو قال له: بِعْ لي هذه الدار، فقال: قبلتُ، أو كان قبوله متراخياً؛ كأنْ يَبْلُغَه بعد زمن أنَّ فلاناً قد وكَّله في بيع هذه الدار؛ فيقول: قبلتُ، أو يبيعها؛ لأنَّ قبول وكلاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لوكالته كان
بفعلهم، وكان مُتراخياً عن توكيله إيَّاهم، ولأنَّه إذنٌ في التصرُّف، والإذن لا يزال قائماً، إلَّا إذا كان قد رجع عنه قبل القبول.
سابعاً: تَعْليقُ الوَكالَة وتَنْجيزُها:
تصحُّ الوكالةُ مُنجَّزة؛ كأن يقول له: أنت وكيلي الآن.
وتصحُّ مؤقَّتة؛ كأن يقول له: أنتَ وكيلي مدَّة شهر، أو سنة في بيع كذا، أو شرائه.
وتصحُّ الوكالة معلَّقة على شرط؛ كأن يقول له: إذا دخل شهر رمضان فأنت وكيلي في كذا، أو إذا جاء الشتاء فبِعْ لي هذه الدار، أو إذا طلب منك أهلي شيئاً فادْفَعْه إليهم، ونحو ذلك؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال -في غزوة مؤتة-:(إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ)[رواه البخاري]، وهذا في معناه.
ثامناً: شروطُ صحَّة الوَكالَة:
يُشترَطُ لصحَّة الوكالة ما يلي:
1) أن يكون كلٌّ من الموكِّل والوكيل جائزي التصرُّف فيما وَكَّل أو وُكِّل فيه؛ بأنْ يكونا بالغين، عاقلين، راشدين في التصرُّفات الماليَّة؛ سواء كانا ذَكَرَيْنِ أو أُنْثَيَيْن، أو أحدُهما ذكرٌ والآخر أُنثى.
2) تعيين الوكيل؛ بأنْ يقول الموكِّل: وكَّلت فلاناً، فإن قال: وكَّلت أحد هذين، أو وكَّل أحداً لا يعرفه، أو كان الوكيل لا يعرف الموكِّل؛ بأن قيل له: وكَّلك زيدٌ، وهو لا يعرفه؛ لم تصحَّ الوكالة؛ وذلك للجهالة.
ولا يشترط لصحَّة الوكالة عِلْم الوكيل بها؛ فمثلاً: لو باع عمرٌو سيارة زيدٍ، وكان
هذا التصرُّف منه فضوليًّا، ثمَّ تبيَّن أنَّ عَمْراً كان قد وكَّله في بيعها قبل البيع، صحَّت الوكالة، وصحَّ البيع؛ لأنَّ العِبْرَةَ بما في نفس الأمر، لا بما في ظنَّ المكلَّف.
3) أن تكون الوكالة في تصرُّفٍ معلوم؛ فلو قال له: وكَّلتك في كلِّ قليلٍ وكثيرٍ، أو وكَّلتك فِي كُلِّ تصرُّفٍ يجوز لي، (وهي ما تسمَّى بالوكالة المفوَّضة)؛ لم تصحَّ؛ لأنَّ هذه الصيغة تشمل كلَّ شيء يتعلَّق بتصرُّفات الموكِّل؛ من هِبَة أمواله، وطلاق نسائه، وغير ذلك؛ ولا يخفى ما في ذلك من الغرر والضرر.
وتصحُّ الوكالة في بيع المال كلِّه؛ فللموكِّل أن يوكِّل غيره في بيع ماله كلِّه؛ لأنَّه يعرف ماله، فلا غرر حينئذٍ. وله أن يوكِّل في بيع بعضه؛ لأنَّه إذا جاز التَّوكيل في كلِّه، ففي بعضه أَوْلَى.
وتصحُّ الوكالة أيضاً في المطالبة بحقوقِهِ كلِّها، أو ما شاء منها، وبالإِبراءِ منها كلِّها، أو ما شاء منها.
4) ألَّا تكون الوكالة في عقدٍ فاسدٍ؛ فإنْ كانت في عقدٍ فاسدٍ؛ كنكاحٍ بدون وليٍّ، أو بيعٍ اشتمل على محرَّمٍ؛ كخمرٍ، أو رِباً، ونحو ذلك، لم تصحَّ؛ لأَنَّ الشرَّع حرَّم ذلك؛ فلا يملك الموكِّل أن يوكِّل فيه.
تاسعاً: توكيلُ الوَكيلِ غَيرَه:
إذا أراد الوكيل توكيل غيره فيما وُكِّل فيه؛ فلا يخلو ذلك من أحوال ثلاثة:
الحالة الأُولى: أن يأذن له الموكِّل في ذلك؛ بأن يقول له: وكَّلتك في كذا، ولك أن توكِّل من تشاء؛ فيجوز له حينئذٍ أن يوكِّل غيره؛ لأنَّه عقدٌ أَذِنَ له فيه مَنْ يملكُه.
الحالة الثَّانية: أن يمنعه الموكِّل من ذلك؛ بأن يقول له: وكَّلتك في كذا، لكن
ليس لك أن توكِّل أحداً سواك؛ ففي هذه الحال لا يجوز له توكيل غيره؛ لأنَّ ما نهاه عنه غير داخل في إِذْنه له بالتَّصرُّف.
الحالة الثَّالثة: أنْ يُطْلِقَ الموكِّل في الوكالة؛ فلا يصرِّح له بإذنٍ ولا منعٍ؛ فيقول له: وكَّلتك في كذا؛ فهذه الحال لها صور ثلاث:
الصورة الأُولى: أن يكون ما وُكِّل فيه ممَّا يتولَّاه الوكيل بنفسه، ويليق بمثله، ولا يعجز عنه؛ كما لو وكَّله في بيع سيارته، أو أرضه، أو داره، ونحو ذلك؛ فحينئذٍ لا يجوز له توكيل غيره إلَّا بإذن الموكِّل؛ لأنَّه قد استأمنه فيما يمكنه القيام به؛ لثقته فيه، فلعله لا يثق في غيره.
الصورة الثَّانية: أن يكون ما وُكِّل فيه ممَّا يترفَّع عنه، ولا يليق بمثله من الأعمال الوضيعة والدَّنِيَّة؛ كما لو وكَّله أن يشتري علفاً لدوابِّه كلَّ يوم؛ فيجوز له في هذه الحال أن يوكِّل غيره؛ لأنَّ الإذن في الوكالة ينصرف إلى ما جرت به العادة، وقد جرت العادة ألَّا يتولَّى أمثال هذا الوكيل ذلك العمل بنفسه.
الصورة الثَّالثة: أن يكون ما وكِّل فيه ممَّا يتولَّاه الوكيل بنفسه، ويليق بمثله، لكنَّه يعجز عن القيام به كلِّه؛ لكثرته وانتشاره؛ كما لو وكَّله في بيع عقارات كثيرة له في وقت محدَّد؛ كموسم الصيف، وهذه العقارات منتشرة في أماكن أو بلدان كثيرة، ويعجز عن القيام بذلك خلال هذا الوقت؛ فيجوز له في هذه الحال أن يوكِّل غيره في ذلك؛ لأنَّ هذا وإنْ لم يأذن فيه الموكِّل لفظاً، فهو كالمأذون فيه عُرْفاً؛ فدلالة الحال تدلُّ على الإذن فيه.
عاشراً: ما لا يَصِحُّ تصرُّفُ الوكيلِ فيه إلَّا بإِذْنِ المُوِكِّل:
- ليس للوكيل أن يعقد مع فقير، أو قاطع طريق، ونحو ذلك ممَّن يعسُر أخذ العِوَض منهم، إلَّا بإذن الموكِّل، فإن فعل ذلك لم يصحَّ العقد؛ لأنَّ في ذلك تغرير بمال موكِّله، وتعريضه للضياع.
- وليس له أن يبيع بعَرْض أو بمنفعةٍ، إلَّا بإذن الموكِّل؛ كما لو وكَّله في بيع سيارته؛ فباعها بإبلٍ، أو شياهٍ، ونحو ذلك، أو باعها بمنفعةٍ؛ كتأجير محلٍّ لمدَّة سنة مثلاً؛ فإنَّ ذلك لا يصحُّ؛ لأنَّ إطلاق عقد الوكالة يُحمَل على العُرْف، والعُرْف يقتضي أن يكون الثمن من الدَّراهم، أو الدَّنانير.
- وليس له أن يبيع بثمن مؤجَّلٍ، أو أن يبيع بغير عُمْلَة البلد، إلَّا بإذن الموكِّل، فإنْ فعل ذلك لم يصحَّ؛ كما لو وكَّله في بيع داره بمائة ألف دينار مثلاً، فباعها بمائة ألف دينار، لكنَّها مؤجَّلة إلى شهر، أو شهرين؛ فإنَّ العقد حينئذٍ لا يصحُّ؛ لأنَّ عقد الوكالة يقتضي أن يكون الثمن حالًّا لا مؤجَّلاً.
وكذا لو باعها بثلاثمائة ألف دولار مثلاً؛ فإنَّ العقد أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ عقد الوكالة يقتضي أن يكون الثمن بعُمْلَة بلده.
حادي عشر: ما تَبطُل به الوَكالَة:
عقد الوكالة من العقود الجائزة من الطرفين المتعاقدين، وليس من العقود اللَّازمة؛ لأنَّ غايته إِذْنٌ من جهة الموكِّل، وبذلُ نفعٍ من جهة الوكيل، وكلاهما جائز، ومِنْ ثَمَّ يحقُّ لكلٍّ منهما فسخُه في أيِّ وقت دون رضى الآخر.
وإذا لم يفسخه أحدُهما فإنَّها تبطل بما يلي:
1) موت أحدهما، أو جنونه جنوناً مطْبِقاً: فإذا مات أحدهما -الموكِّل أو الوكيل-، أو جُنَّ جنوناً مُطْبِقاً، بطلت الوكالة؛ لأنَّه بالموت أو الجنون زالت عنهما أهليَّة التصرُّف، وقد مرَّ أنَّ من شروط الوكالة: أن يكون الموكِّل والوكيل جائزي التصرُّف.
2) الحَجْر على أحدهما لسَفَهِه؛ فإذا حُجِر على الموكِّل أو الوكيل لسَفَهٍ؛ فإنَّ الوكالة تبطل بذلك؛ لأنَّ السفيه ليس له أهليَّة التصرُّف. لكنَّ ذلك مقيَّد بالتصرُّفات التي يُشتَرَط لها الرُّشد؛ كالتصرفات الماليَّة؛ من بيع، وشراء، وقَرْض، وصُلْحٍ، ونحو ذلك. أمَّا التصرُّفات التي لا يُشتَرَط لها ذلك؛ كالوكالة في الطلاق، أو الرجعة، ونحو ذلك؛ فإنَّها لا تبطل بالحَجْر على أحدهما لسَفَهٍ.
3) طروءُ فِسْقٍ على أحدهما؛ كما لو شرب أحدهما الخمر؛ فإنَّ الوكالة تبطل فيما ينافيه الفسق فقط؛ كالوكالة في إيجاب عقد النكاح، أو في إثبات حدٍّ، أو استيفائه، ونحو ذلك؛ لأنَّ الفسق أخرجه عن أهليَّة التصرُّف.
أمَّا ما لا ينافيه الفسق؛ كالوكالة في قبول النكاح، أو في البيع والشراء، ونحو ذلك؛ فإنَّ الوكالة لا تبطل؛ سواء طرأ الفسق على الموكِّل أو الوكيل؛ لأنَّ الوكيل يجوز له أن يلي هذه الأمور لنفسه وإنْ كان فاسقاً؛ فجازت وكالته فيها لغيره.
4) الحَجْر على الموكِّل لفَلَسِه؛ فإذا حُجِر على الموكِّل بسبب فَلَسِه، فإنَّ الوكالة تبطل إذا كانت في أعيان ماله التي ثبتَ الحَجْر عليها؛ وذلك لانقطاع أهليَّته للتصرُّف فيها حينئذٍ؛ فمثلاً: لو وَكَّل زيدٌ عَمْراً في بيع بيته، ثمَّ تكاثرت الديون على زيدٍ، حتَّى صار دَيْنه أكثر من ماله؛ فحُجِر على أمواله؛ فعندئذٍ تبطل وكالتُه لعمروٍ؛ فلا يملك عمرٌو بيع البيت؛ لأنَّ موكِّله (زيدٌ) لا يملك الآن بيع بيته؛
فلا يملكه عمرٌو من باب أَوْلى.
أمَّا إذا لم تكن الوكالة في أعيان ماله؛ بل كانت في غير ذلك؛ كما لو كانت متعلِّقة بذمَّته؛ كتوكيله في شراء شيءٍ في الذِّمة، أو في ضمانٍ، أو اقتراضٍ، ونحو ذلك، أو كانت الوكالة في نكاحٍ، أو طلاقٍ، أو خُلْعٍ، ونحو ذلك؛ فإنَّها لا تبطل؛ لأنَّه جائز التصرُّف فيها.
5) رِدَّةُ الموكِّل عن الإسلام؛ فإذا ارتدَّ الموكِّل عن الإسلام -عياذاً بالله- بطلت الوكالة؛ لأنَّه ممنوع من التصرُّف في ماله حال رِدَّته؛ وذلك لتعلُّق حقِّ الغير به؛ لأنَّه إِنْ قُتِل أو مات كان ماله فَيْئًا للمسلمين.
وهذا بخلاف الوكيل؛ فإنَّ الوكالة لا تبطل برِدَّته؛ لأنَّ رِدَّته لا تُؤَثِّر في تصرُّفه، وإنَّما تُؤثِّر في ماله، إلَّا إذا كانت الوكالة في عمل يتنافى مع كون الوكيل مرتدًّا؛ كما لو وُكِّل في إيجاب أو قبول نكاح امرأة مسلمة.
6) وَطءُ زوجةٍ كان قد وَكَّل في طلاقها؛ كما لو وكَّل زيدٌ عَمْراً في طلاق امرأته، ثمَّ جامعها زيدٌ قبل إيقاع الطلاق؛ فإنَّ الوكالة تبطل بذلك؛ لأنَّ وطأه إيَّاها دلالة على رغبتِهِ فيها، واختيارِهِ إمساكها، بخلاف القُبْلة ونحوها؛ فإنَّ الوكالة لا تبطل بها.
7) حدوثُ ما يدلُّ على رجوع أحدهما عن الوكالة؛ فإذا وُجِدَ من الموكِّل أو الوكيل ما يدلُّ على رجوعه عن الوكالة -كما في المثال السابق في حقِّ الموكِّل-؛ فإنَّ الوكالة تبطل بذلك.
ومثاله في حقِّ الوكيل: لو قَبِل الوكيل وكالة زيدٍ في شراء بيت عمرٍو، ثمَّ بعد
ذلك قَبِل الوكيل وكالة عمروٍ في تأجير بيته؛ فإنَّ الوكالة الأُولى تَبطُل حينئذٍ؛ لأنَّ قبوله وكالةَ عمروٍ في تأجير بيته دلالة على رجوعه عن وكالة زيد في شرائه.
8) تلفُ العَيْن التي وُكِّل في التَّصرُّف فيها؛ فلو وكَّله في بيع شياهٍ أو إبلٍ، ثمَّ هَلكتْ؛ فقد بطلت الوكالة؛ لأنَّ محلَّها قد ذهب.
ثاني عشر: عَزْلُ الوَكيلِ:
ينعزلُ الوكيلُ بموتِ موكِّلِهِ، أو عَزْلِهِ له، ولو لم يعلمْ بموته، ولا عزله إيَّاه؛ لأنَّ الوكالة عقدٌ جائزٌ بين طرفين؛ لا يُفتَقِر في فسخه إلى رضا الطرف الآخر؛ فكذلك لا يُفتَقِر إلى عِلْمِه.
فإذا وكَّل زيدٌ عَمْراً في بيع دارٍ، أو أرضٍ له، ثمَّ مات زيدٌ، أو عَزَل وكيلَه عَمْراً، ولم يعلم عمرٌو بموته، أو عَزْلِه؛ فإنَّه ينعزل، وتبطل الوكالة.
- ويترتَّب على ذلك: أنَّ ما بقي بيده من أموال الموكِّل تكون أمانة في يده؛ لا يضمن تلفها إلَّا بالتعدِّي أو التفريط، أو التصرُّف فيها؛ كما لو نقلها من مكان إلى آخر فتَلِفَت؛ فإنَّه يضمنها؛ لأنَّ تصرفه حينئذٍ باطلٌ؛ لعَزْلِه، إلَّا في العفو عن القصاص بعد إنفاذه؛ فإنَّه لا يضمن.
وصورته: أن يكون وكيلاً في القصاص، فيستوفيه بمقتضى الوكالة، لكنَّ الموكِّل كان قد عزله، وعفا عن القصاص قبل استيفائه، ولم يعلم الوكيل بذلك؛ ففي هذه الحال لا ضمان عليه؛ لأنَّ العفو حصل على وجه لا يمكن استدراكه.
فصل
في ضمان الوكيل إذا خالف
- إذا باع الوكيلُ السِّلعةَ الموكَّل في بيعها بأقلَّ ممَّا قدَّره له الموكِّل، أو بأقلَّ من ثمن المثل -إذا لم يُقدِّر له الموكِّل ثمناً-؛ كما لو قال له الموكِّل: بِعْ لي هذه السيارة بعشرة آلاف دينار؛ فباعها بتسعة، أو بتسعة ونصف، أو لم يُقدِّر له الموكِّلُ ثمناً؛ فباعها بتسعة آلاف، أو بتسعة ونصف، ومثلُها يساوي عشرة؛ فإنَّ البيع صحيح؛ لأنَّ مَنْ صحَّ بيعه وشراؤه بثمنٍ، صحَّ بأنقص منه وَأَزْيدَ، لكنَّ الوكيل يضمن له هذا النقص؛ وذلك لتفريطه؛ بترك الاحتياط، وطلب الأحظِّ له.
إلَّا في حالة عدم تقدير الثمن له، وكان النقص قليلاً، يُتغافل عنه في العادة؛ فإنَّه لا يضمن شيئاً؛ كما لو باعها بعشرة آلاف إلَّا خمسين، أو إلَّا ثلاثين؛ لأنَّ مثل هذا معفوٌّ عنه؛ إذ لا يمكن التحرُّز منه.
- وكذا لو اشترى بأكثر ممَّا قدَّره له الموكِّل، أو بأكثر من ثمن المثل -إذا لم يقدِّر له الموكِّل ثمناً-؛ فلو قال له: اشتر لي سيارة؛ نوعها كذا، ووصفها كذا، بعشرة آلاف دينار؛ فاشتراها له بأحد عشر ألفاً. أو لم يحدِّد له ثمناً للشراء؛ فاشتراها بأحد عشر ألفاً، وسعر مثلها يساوي عشرة آلاف؛ فالبيع هنا أيضاً صحيح، لكنَّه يضمن هذه الزيادة لموكِّله على النحو السابق.
- إذا قال الموكِّل لوكيله: بِعْ هذه الأرض، أو الدار، أو غير ذلك لزيدٍ؛ فباعها لغيره، فإنَّ البيع باطل؛ لأنَّه قد يكون له غرضٌ في تمليكِ زيدٍ إياها دون غيره؛ فلا تجوز مخالفته، إلَّا إذا علم الوكيل صراحة أو بقرينة أنَّه لا غرض له في عين زيدٍ،
فيصحُّ البيع حينئذٍ.
- إذا أَمَر الموكِّل وكيله أنْ يدفع ثوباً ونحوه إلى خياطٍ معيَّن؛ ليَخِيطَه، أو يُقَصِّرَهُ، ونحو ذلك، فدفعه إليه، ثمَّ نَسِيَه عنده، فضاع الثوب؛ لم يضمنه للموكِّل؛ لأنَّه أُمِرَ بدفعه إليه فقط، ففعل؛ فلم يتعدَّ ولم يُفرِّط حتَّى يضمن.
وإذا لم يُعيِّن له الموكِّل خيَّاطاً بعينه، بل أعطاه الثوب، وقال له: ادفعه إلى مَنْ يَخِيطه، أو يُقصِّره؛ فدفعه الوكيل إلى خيَّاطٍ لا يعرفه، ولا يعرف اسمه، ولا دُكَّانه، فضاع الثوب؛ فإنَّه يضمنه للموكِّل؛ لأنَّه في هذه الحالة مُفَرِّط.
- الوكيل أمينٌ على ما تحت يده من أموال المُوَكِّل؛ فلا يضمنُ ما تَلِفَ عنده منها إلَّا بالتعدِّي، أو التفريط؛ فمثلاً: إذا باع ما وُكِّل في بيعه من أرضٍ، أو دارٍ، أو غير ذلك، وقَبَض الثمن، ثمَّ غُصِب منه، أو سُرِق -وقد حفظه في حِرْزٍ-؛ فإنَّه لا يضمن؛ لأنَّه لم يفرِّط.
أمَّا إذا تعدَّى؛ كما لو قبض الثمن، ثمَّ أقرضه غيره، أو تصرَّف فيه، وضاع المال؛ فإنَّه يضمنه؛ لتعدِّيه. وكذا لو قَبَض الثمن، وتركه في مكانٍ غير آمنٍ، فضاع، أو سُرِق؛ فإنَّه يضمنه؛ لتفريطه.
- إذا ادَّعى الوكيل أنَّ المال أو العَيْن الموكَّل بها قد تلفت، وأنَّه لم يُفرِّط؛ فالقول قوله بيمينه؛ لأنَّه أمين؛ فالأصل براءة ذِمَّته، ولا يُكَلَّف إقامة البيِّنة على ذلك؛ لأنَّ هذا ممَّا يَتعَذَّر إقامةُ البيِّنة عليه، ولأنَّه لو كُلِّف ذلك لامتنع الناسُ من الدخولِ في الأماناتِ، مع حاجاتهم إليها؛ فيلحقهم الضَّرر بذلك.
إلَّا إذا ادَّعى تلف المال بسببٍ ظاهرٍ؛ كحدوث حريقٍ، أو نَهْبٍ، ونحو ذلك ممَّا
لا يخفى، في داره، أو دُّكانه، أو شَرِكَته؛ فحينئذٍ لا يُقْبَلُ قولُه إلَّا بإقامة البيِّنة على حدوث ذلك؛ لأنَّه أمرٌ ظاهرٌ لا يخفى؛ فلا تتعذَّر إقامة البيَّنة عليه.
ثُمَّ يُقبَل قولُه بيمينه في أنَّ تلف المال كان بسبب هذا الحريق، أو ذاك النَّهب؛ وذلك لتعذُّر إقامة البيِّنة على تلفه به.
- إذا ادَّعى الوكيل أنَّ موكِّله قد أَذِنَ له في البيع بالأجل، أو بغير عُمْلَة البلد، وأنكر ذلك الموكِّل؛ فالقول قول الوكيل؛ لأنَّه أمين في التَّصرُّف؛ فكان القول قوله في صفة هذا التصرُّف.
- إذا ادَّعى الوكيل أنَّه قد ردَّ العَيْن الموكَّل بها إلى الموكِّل، أو ادَّعى ردَّ ثمنها إليه، وأنكر ذلك الموكِّل؛ فالقول قول الوكيل بيمينه، إنْ كان متبرِّعاً بالوكالة؛ لأنَّه إنَّما قَبِل الوكالة لنفع الموكِّل، لا لحظِّ نفسه؛ فيُقبَل قوله في الردِّ؛ كالمودَع والوصيِّ.
بخلاف ما لو كانت وكالتُه في مقابل جُعْلٍ؛ فلا تُقْبَل دعواه الرَّد إلَّا ببيِّنة؛ لأنَّ وكالته كانت لنفع نفسه؛ فلم تُقبل دعواه؛ كالمستعير.
وكذا لو ادَّعى ردَّ العَيْن أو ثمنها إلى ورثة الموكِّل؛ كزوجةٍ، أو أبناءٍ، ونحو ذلك؛ فلا تُقبل دعواه مطلقاً؛ سواءً كانت الوكالة بجُعلٍ، أم كان متبرِّعاً بها، إلَّا إذا أقام البيِّنة على دعواه؛ لأنَّهم لم يأْتَمِنوه ابتداءً عليها؛ فلا يُقبل منه مجرَّد الدعوى.
- إذا كان على الشخص حقٌّ لغيره؛ كديْنٍ، أو عاريةٍ، أو وديعةٍ، ونحو ذلك، فجاءه رجل آخر، وادَّعى أنَّه وكيلٌ لصاحب الحقِّ في قَبْضِه، وصَدَّقه المَدِين، أو مَنْ عنده الحقُّ، لم يلزمه دَفعُه إليه؛ لأنَّه لا يبرأُ بهذا الدفع؛ لجواز أن يُنكرَ صاحب الحقِّ هذه الوكالَة؛ فتلحقه تبعة ذلك.
أمَّا إذا ادَّعى موت صاحب الحقِّ، وأنَّه وارثه، فصدَّقه المدين، أو مَنْ عنده الحقُّ؛ فإنَّه يلزمه دفعه إليه؛ لأنَّه قد أقرَّ له بهذا الحقِّ، وأنَّه قد انتقل إليه، وحينئذٍ يبرأ بدفعه إليه.
وإنْ كذَّبه في موت صاحب الحقِّ، أو في أنَّه وارثه؛ لزمه الحلف على ذلك؛ أي: أنَّه لا يعلم صحَّة ما ادَّعاه؛ من موت صاحب الحقِّ، أو أنَّه وارثه؛ لأنَّه إذا لزمه الدفع حال إقراره له بصحَّة ذلك؛ فإنَّه يلزمه اليمين حال إنكاره، وحينئذٍ لا يلزمه دفعه إليه.
كتاب الشَّرِكَة
أوَّلاً: تعريفُ الشَّرِكَة:
الشَّرِكة: -بفتح الشين مع كسر الرَّاء وسكونها، وبكسر الشين مع سكون الرَّاء- مشتقَّة من الاشتراك الذي هو الاجتماع.
وشرعاً: هي اجتماعٌ في استحقاقٍ، أو اجتماع في تصرُّفٍ.
ثانياً: حُكمُ الشَّرِكَة:
الشركةُ جائزة بالكتاب، والسُنَّة، والإجماع.
- فمن الكتاب: قوله عز وجل: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]. وقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، والخلطاء هم الشركاء.
- ومن السُّنَّة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ يَقُولُ: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ؛ فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا)[أخرجه أبو داود، وجوَّد إسناده ابن الملقِّن، وأعلَّه ابن القطَّان والدارقطني].
ولحديث أبي المِنْهَالِ قال: (اشْتَرَيْتُ أَنَا وَشَرِيكٌ لِي شَيْئًا يَدًا بِيَدٍ وَنَسِيئَةً، فَجَاءَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فَسَأَلْنَاهُ. فَقَالَ: فَعَلْتُ أَنَا وَشَرِيكِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَسَأَلْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: (مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَخُذُوهُ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَذَرُوهُ)[رواه البخاري].
- وأمَّا الإجماع؛ فقد أجمع العلماء على جوازها في الجملة.
ثالثاً: الحِكمَةُ من مشروعيَّة الشَّرِكَة:
تشريع الشَّركة من محاسن هذه الشَّريعة؛ لما يترتَّب عليها من المصالح لكلا الشريكين؛ فقد يمتلكُ الرَّجلُ أموالاً كثيرة لكنَّه لا يستطيع إدارتها والاتِّجار بها، فيدفعها إلى آخر يمتلكُ الخِبرة والإدارة، فيُديرها ويتَّجر بها، ويحصل الرِّبح؛ فيقتسماه، وتعود الفائدة والمصلحة عليهما جميعاً.
ثالثاً: أنواعُ الشَّرِكَة:
الشركةُ نوعان:
النوع الأوَّل: شركة أملاك واستحقاق؛ بمعني أن يجتمع أو يشترك شخصان أو أكثر في استحقاقٍ؛ تملَّكاه بطريق الميراث، أو الهبة، أو الوصيِّة، ونحو ذلك.
مثاله: أن يرث الورثة عن مورِّثهم عقاراً أو أرضاً؛ فهم شركاء في ذلك، أو يوصي زيدٌ لعمروٍ ومحمَّدٍ بدارٍ، أو يهبها لهما، ونحو ذلك؛ فهي بينهما نصفين.
وهذا النَّوع من الشركة هو المراد بقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]. وليس هو المراد عند إطلاق الفقهاء للفظة الشَّركة.
النوع الثَّاني: شركة تصرُّف أو عقود؛ بمعنى أن يتعاقد اثنان أو أكثر في شيءٍ يشتركان فيه؛ فلا تثبت إلَّا بعقدٍ بينهما.
وهذا النوع هو المراد هنا. وهو على خمسة أقسام، وبيانها على النحو التالي:
القسم الأول: شَرِكةُ العِنَان:
1) تعريفُها:
هي: أن يشترك شخصان أو أكثر في مالٍ يتَّجران فيه، ويكون الربح بينهما بحسب ما يتَّفقان عليه، وما كان من نقصٍ فهو عليهما.
وسُمِّيت بالعِنان؛ أخذاً من عِنان الفرس؛ وهو السير الذي يرتبط باللِّجام ويُمسك به الفارس؛ وذلك لأنَّ الشريكين فيها يتساويان في التصرُّف في مال الشّركة؛ كفارِسَيْن استويا على فَرَسَيْنِ وتساويا في السَّيْر. فعِنان كلِّ واحدٍ منهما يكون مساوياً لعِنان الآخر.
ففي شركة العِنان يحقُّ لكلِّ واحدٍ من الشَّريكين أن يتصرَّف في جميع مال الشَّركة بما فيه مصلحتها؛ فيبيع ويشتري، ويأخذ ويعطي، ويطالب ويخاصم، ونحو ذلك من كلِّ ما فيه حظٌّ للشَّركة؛ لأنَّ تصرُّفه في نصيبه بحكم مِلكيَّته له، وتصرُّفه في نصيب شريكه بحكم الوكالة التي يقتضيها عقد الشَّركة، ولا يحتاج إلى إذنٍ في ذلك؛ لأنَّ مقتضى عقد الشَّركة ولازمه: التصرُّف في هذا المال المشترك.
مثالها: أن يشترك عمروٌ وزيدٌ في مالٍ؛ فيدفع عمروٌ عشرة آلاف دينار، ويدفع زيدٌ مثله، أو يدفع عمروٌ عشرين ألفاً، وزيدٌ عشرة آلاف، ويتَّجران في هذا المال؛ فيعمل هذا، ويعمل ذاك، ويكون الرِّبح بينهما بحسب ما يتَّفقان عليه؛ فهي إذاً شركة في المال والعمل.
2) حُكمُها:
شركة العِنان جائزة بالإجماع إذا كانت ممَّن يجوز تصرُّفه؛ بأنْ يكون بالغاً،
عاقلاً، رشيداً، وإن كان هناك خلاف في بعض شروطها.
3) شروطُها:
يشترط لصحَّة شركة العِنان أربعة شروط:
الشَّرط الأوَّل: أن يكون رأس المال من النقدين (الذَّهب والفضَّة) المضروبين -أي الدراهم والدنانير-، أو ما يقوم مقامهما من الأوراق الماليَّة المعاصرة؛ لأنَّهما ثمن المبيعات، وقِيم المتلفات، والناس يشتركون بهما منذ زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا دون نكيرٍ.
* هل يصحُّ أن يكون رأس المال من العُرُوض؟
لا يصحُّ أنْ يكون رأس المال من العُرُوض؛ كالثِّياب أو الطَّعام، أو السيَّارات، أو العقارات؛ لأنَّ قيمتها غير منضبطة؛ فقد تزيد وقد تنقص، وقد تزيد قيمة عُروض أحدهما، وتنقص قيمة عُروض الآخر؛ فإذا أراد الشريكان -مثلاً- فسخ الشركة بعد مدَّة، وأنْ يرجع كلُّ واحد منهما برأس ماله ونصيبه من الربح، وقد زادت قيمة هذه العقارات أو السيارات، أو نقصت؛ فعلى أيِّ أساسٍ يتمُّ حساب قيمتها وقت فسخ الشركة؛ على أساس الزيادة، أو النقصان، أو على قيمتها وقت عقد الشركة؟
ولو زادت قيمة عقارات أحدهما؛ فربما استوعب الربح كلَّه، ولا يبقى لشريكه شيءٌ في الربح. وقد تنقص؛ فيشاركه الآخر في رأس ماله الذي هو قيمة عقاره
…
؛ فمثل هذا يُفضي إلى الغرر؛ فلا يجوز أن يكون رأس المال من العُرُوض.
والرواية الأخرى: أنَّه يجوز أن يكون رأس المال من العُرُوض، وتكون قيمتها
وقت العقد هي رأس المال؛ فينتفي بذلك الغرر.
* هل يشترطُ اتِّفاقُ مالِ الشريكين في جِنْسِ النَّقْدِ؟
- لا يشترط هنا الاتِّفاق في جنس النَّقد؛ فلأحدهما أن يدفع بالدينار، والآخر بالدراهم، أو يدفع أحدهما بالدولار، والآخر بالجنيه الاسترليني، ونحو ذلك؛ لأنَّ المقصود هو الربح، وهو حاصل، وإنْ اختلف جنس النقد.
- ولا يشترط أيضاً التَّساوي في المال؛ فيجوز أن يشترك أحدهما بعشرة آلاف دينار -مثلاً-، والآخر بخمسة آلاف.
الشَّرط الثَّاني: أن يكون مال كلٍّ من الشَّريكين أو الشُّركاء معلوماً قَدْراً وصِفَةً؛ فيكون لزيدٍ -مثلاً- عشرة آلاف دينار، ولعمرٍو عشرة آلاف دينار، أو يكون لزيدٍ عشرة آلاف دينار، ولعمرٍو عشرة آلاف درهم، ولمحمَّدٍ عشرة آلاف دولار
…
، وهكذا؛ فلا يصحُّ أن يكون رأس مال أحدهما مجهولاً؛ لأنَّ جهالته غرر، وقد نهت الشَّريعة عن الغرر، ولأنَّه عند فسخ الشركة سيرجع كلُّ شريكٍ بماله، ولا يمكن معرفة نصيب كلِّ واحدٍ منهم إلَّا إذا كان أصل ماله الذي دخل به الشَّركة معلوماً قَدْراً وصِفَةً.
الشَّرط الثَّالث: حضور المَالَيْن وقت عقد الشَّركة؛ فلا تصحُّ الشَّركة على مال غائبٍ، ولا على مالٍ في الذمَّة؛ فلو اتفق زيد وعمرٌو على عقد شركةٍ بينهما، وفي ذمَّة كلِّ واحد منهما عشرة آلاف لم تصحَّ الشَّركة، ولم تنعقد؛ لأنَّ مقصود الشَّركة هو التَّصرُّف في المال في الحال، وهو متعذِّر هنا؛ لعدم وجوده.
* هل يشترطُ خَلْط المَالَيْن معاً؟
لا يشترط لصحَّة الشَّركة خَلْط المَالَيْن معاً، ولا أنْ يكون المال بأيدي الشُّركاء؛ فيصحُّ أن يبقى مال كلِّ واحدٍ من الشَّريكين أو الشُّركاء بيده؛ لأنَّ المقصود من هذه الشَّركة هو الرِّبح؛ فسواءٌ كان المالان مُختَلِطَيْن أو مُتميِّزَيْن، لا أثر لذلك على الرِّبح. ولأنَّ الشَّركة عقد على التَّصرُّف في المال والاتِّجار به، وليس من شرط التَّصرُّف خلط المَالَيْن؛ ولهذا صحَّت الشَّركة على نَقدَيْن مختلفين.
الشَّرط الرَّابع: أن يَشْرُطا لكلِّ واحدٍ منهما جزءًا معلوماً مشاعاً من الرِّبح؛ كنصفٍ، أو ثلثٍ، أو ثلثين، أو رُبْعٍ، أو 50%، أو 30%، ونحو ذلك؛ لأنَّ الربح هو المقصود؛ فلا تصحُّ الشَّركة مع جَهْله؛ وسواءٌ كان الربح على قدر المال، أو كان أكثر، أو أقلَّ؛ لأنَّهما قد يتفاضلان في العمل؛ فيكون أحدهما أحذق وأنشط من الآخر.
فمثلاً: لو اشترك عمرٌو وزيدٌ؛ فدفع عمرٌو عشرة آلاف دينار، ودفع زيدٌ عشرة آلاف، لكنَّ زيداً أنشط وأحذق في التِّجارة من عمرٍو؛ فاتَّفقا على أن يكون لزيدٍ ثلثا الربح، ولعمرٍو ثلثه؛ فيصحُّ ذلك ولا بأس؛ لأنَّ العمل والجهد يُستحقُّ في مقابلهما من الربح.
فإنْ لم يُذكر الربح، أو كان مجهولاً؛ كما لو تعاقد عمرٌو وزيدٌ في شركةٍ، على أن يكون بعض الربح لعمرٍو، وبعضه لزيدٍ؛ لم تصحّ الشَّركة، أو اتَّفقا على أن يكون لأحدهما ربح محدَّد (غير مشاعٍ)؛ كأن يتَّفقا على أن يكون لزيدٍ مائة دينار من الربح، والباقي لعمرٍو؛ لم تصحَّ الشركة أيضاً؛ لأنَّه قد لا يكون ربح غير هذه المائة؛
فيكون زيدٌ قد أخذ جميع الرِّبح، وقد لا يربحا؛ فيكون زيدٌ قد أخذ جُزْءًا من رأس المال، وقد يربحا كثيراً وليس لزيدٍ إلَّا المائة؛ فيتضرَّر كثيراً بذلك.
* ما يترتَّبُ على فسادِ الشَّرِكَة:
إذا فسدت شركة العِنان بفقد شرط من شروطها -آنفة الذِّكْر-؛ فإنَّ الربح يُقسَّم بينهما على قدر مال كلٍّ منهما، وليس على ما شَرَطاه؛ لأنَّها شركة فاسدة؛ فلو كان لأحدهما ثلثا المال، وللآخر الثلث، واتَّفقا على أنَّ الربح بينهما مناصفة، ثمَّ تبيَّن بعد ذلك أنَّ الشَّركة فاسدة؛ لاختلال أحد شروطها؛ فحينئذٍ يكون لصاحب الثلثين ثلثا الربح، ولصاحب الثلث ثلثه.
لكن يرجع كلُّ واحدٍ منهما على الآخر بنصف أُجرة عمله؛ وذلك نظير عمله في مال شريكه؛ لأنَّه عَمِل في مال شريكه بعقدٍ يبتغي به الفضل؛ فوجب أن يقابل العمل فيه بعوض؛ فإذا كانت أجرة عمل أحدهما تساوي -مثلاً- ألف دينار، والآخر خمسمائة؛ فيكون لصاحب الألف خمسمائة، ولصاحب الخمسمائة مائتان وخمسون؛ ويتقاصَّا حينئذٍ؛ فتسقط المائتان وخمسون من الخمسمائة، ويُعطى صاحب الخمسمائة مائتين وخمسين.
* هل يضمنُ الشَّريكُ ما تَلف من مال الشَّركَة؟
- لا يضمن الشَّريك ما تلف من مال الشركة إلَّا بالتعدِّي أو التَّفريط؛ لأنَّه أمين؛ فلا يضمن إلَّا إذا تعدَّى أو فرَّط؛ لأنَّه تصرَّف في مِلك غيره بما لم يأذن فيه؛ كالغاصب.
وكذا كلُّ عقدٍ لا ضمان في صحيحه إلَّا بالتَّعدِّي أو التَّفريط؛ كعقود الشَّركة، والوكالة، والوديعة، والرهن، والهبة، والوقف، ونحو ذلك، لا ضمان أيضاً في فاسده إلَّا بالتَّعدِّي أو التَّفريط. والعكس صحيح؛ فكلُّ عقد يجب الضمان في صحيحه -فرَّط أم لا-؛ كالبيع والإجارة ونحوهما، يجب الضمان كذلك في فاسده.
القسم الثَّاني: شركةُ المُضارَبَة:
1) تعريفُها:
هي دَفْعُ نَقْدٍ معلومٍ لمن يتَّجِرُ فيه، بِجُزءٍ مُشاعٍ مَعلومٍ مِنْ رِبْحِهِ.
مثال ذلك: أن يدفع عمرٌو إلى زيدٍ مائة ألف دينار، ويقول له: اتَّجر فيها ولك نصف الربح، أو رُبْعُه، أو ثُلُثُه
…
وسمِّيت بذلك؛ أخذاً منَ الضَّرب في الأرض؛ أي السَّفَر فيها للتِّجارة؛ قال الله عز وجل: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
وتُسمَّى أيضاً (قِرَاضاً) من القَرْض؛ بمعنى القَطْع؛ فكأنَّ ربَّ المال اقتطع من ماله قطعةً وسلَّمها إلى العامل، واقتطع له قطعةً من ربحها.
2) حُكمُها:
المضاربة جائزة؛ لحديث زيد بن أَسْلَم عن أبيه قال: (خَرَجَ عَبْدُ اللهِ وَعُبَيْدُ اللهِ ابْنَا عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فِي جَيْشٍ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَمَّا قَفَلَا مَرَّا عَلَى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ، فَرَحَّبَ بِهِمَا وَسَهَّلَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَقْدِرُ لَكُمَا عَلَى أَمْرٍ أَنْفَعُكُمَا بِهِ
لَفَعَلْتُ. ثُمَّ قَالَ: بَلَى هَا هُنَا مَالٌ مِنْ مَالِ اللهِ أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، فَأُسْلِفُكُمَاهُ، فَتَبْتَاعَانِ بِهِ مَتَاعًا مِنْ مَتَاعِ الْعِرَاقِ، ثُمَّ تَبِيعَانِهِ بِالمَدِينَةِ، فَتُؤَدِّيَانِ رَأْسَ المَالِ إِلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ لَكُمَا. فَقَالَا: وَدِدْنَا ذَلِكَ. فَفَعَلَ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا المَالَ. فَلَمَّا قَدِمَا بَاعَا فَأُرْبِحَا، فَلَمَّا دَفَعَا ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ قَالَ: أَكُلُّ الجَيْشِ أَسْلَفَهُ مِثْلَ مَا أَسْلَفَكُمَا؟ قَالَا: لَا. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ابْنَا أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ فَأَسْلَفَكُمَا؛ أَدِّيَا المَالَ وَرِبْحَهُ. فَأَمَّا عَبْدُ اللهِ فَسَكَتَ، وَأَمَّا عُبَيْدُ اللهِ فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لَكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ هَذَا؛ لَوْ نَقَصَ هَذَا المَالُ أَوْ هَلَكَ لَضَمِنَّاهُ. فَقَالَ عُمَرُ: أَدِّيَاهُ. فَسَكَتَ عَبْدُ اللهِ وَرَاجَعَهُ عُبَيْدُ اللّاهِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ عُمَرَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ لَوْ جَعَلْتَهُ قِرَاضًا. فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ جَعَلْتُهُ قِرَاضًا. فَأَخَذَ عُمَرُ رَأْسَ المَالِ وَنِصْفَ رِبْحِهِ، وَأَخَذَ عَبْدُ اللهِ وَعُبَيْدُ اللهِ ابْنَا عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ نِصْفَ رِبْحِ المَالِ). [أخرجه مالك].
وقد أجمع العلماء على جوازها ممَّن يجوز تصرُّفه. نقل الإجماعَ الإمامُ ابنُ حزْمٍ في كتابه «مراتب الإجماع» .
* الفرقُ بينَها وبينَ شَرِكَة العِنان:
الفرق بين شركة المضاربة وشركة العِنان: أنَّ المال هنا من أحدهما، والعمل من الآخر، بخلاف شركة العِنان؛ فإنَّ الشريكين فيها يشتركان في المال والعمل.
3) شُروطُها:
يُشترَطُ لشركة المضاربة ثلاثة شروطٍ:
الشَّرط الأوَّل: أن يكون رأس المال من النَّقْدَيْن -الذَّهَب والفِضَّة- المضروبين
-أي الدراهم والدنانير-، أو ما يقوم مقامهما من الأوراق الماليَّة المعاصرة؛ كما تقدَّم في شركة العِنان.
الشَّرط الثَّاني: أن يكون رأس المال معيَّناً، معلوماً قدره؛ فإن كان رأس المال غير معيَّن؛ كما لو أعطاه ظرفين فيهما مال، وقال له: ضارِبْ بما في أَحدِ هذين الظرفين لم تصحّ؛ سواءٌ تساوى ما فيهما من المال أو اختلف، وسواءٌ عَلِمَا بما فيهما أو جَهِلاه؛ لأنَّها عقدٌ تمنع صحَّتَهُ الجهالةُ، فلا يصحُّ على غير معيَّن.
وكذا لو كان رأس المال لا يُعلَم قَدْرُه؛ كما لو دفع إليه صندوقاً فيه دنانير لا يُعلَم قَدْرُها؛ ليتَّجر بها؛ لم تصح؛ لأنَّه إذا فُسخت الشركة فلا بدَّ من الرجوع إلى رأس المال حتَّى يُعلَم الربح، ولا يمكن ذلك مع الجهل بمقدار رأس المال.
* هل يشترطُ تسليمُ رأسِ المالِ في مجلسِ العَقْدِ؟
- لا يشترطُ لصحَّة المضاربة قبض العامل لرأس المال في المجلس؛ فيصحُّ عقد المضاربة وإن بقي المال بيد صاحبه؛ فلو كان لزيدٍ عشرة آلاف دينار؛ فاتَّفق مع عمروٍ على أن يتَّجر بها والربح بينهما نصفين، لكنَّه لن يسلِّمه المال، بل سيبقى في يده -زيد-؛ يعطيه منه متى ما احتاج أثناء عمله، صحَّ عقد المضاربة؛ لأنَّ المقصود بعقد المضاربة هو العمل في مال المالك، وهذا يقتضي إطلاق يد العامل في التصرُّف في مال المالك بجزء مشاع من ربحه، وهو حاصلٌ مع التسليم وبدونه؛ إذْ عدم تسليمه المال لا يمنعه من العمل، ما دام سيأخذ متى ما احتاج.
- ولا يشترط أيضاً قول العامل في مجلس العقد: قبلت ونحوها، بل يكفي مباشرته للعمل.
الشَّرط الثَّالث: أن يُشرَطَ للعامل جزءٌ معلومٌ مشاعٌ من الربح؛ كنصفه، أو رُبْعه، أو ثُلُثه، ونحو ذلك، أو 50%، أو 30%، ونحو ذلك. فإن لم يذكر الربح، أو كان مجهولاً، أو حدَّد له مبلغاً معيَّناً؛ كمائة دينار مثلاً؛ فسدت المضاربة؛ كما تقدَّم في شركة العِنان.
* ما يترتبُ على فسادِ عقدِ المضارَبَة:
إذا فُقد شرطٌ من شروط المضاربة، كانت فاسدة، ويترتب على فسادها ما يلي:
أ - أنَّ للعامل أُجرة مِثْلِه؛ لأنَّه عَمِل في مقابل عِوضٍ لم يُسلَّم له؛ لفساد عقد الشركة؛ فوجب له قيمته؛ وهي أجرة مثله.
ب- أنَّ ما حصل من ربحٍ فجميعه لربِّ المال؛ لأنَّه نماء ماله.
ج- أنَّ ما حصل من خسارةِ يتحمَّلها المالك وحده؛ لأنَّ العامل أمين؛ لا يضمن إلَّا بالتعدِّي أو التقصير. وقد تقدَّم: أنَّ كلَّ عقدٍ لا ضمان في صحيحه، لا ضمان أيضاً في فاسده إلَّا بالتعدِّي أو التفريط.
* نفقةُ العامِلِ أو المُضارِبِ:
ليس للعامل نفقةٌ في مال المضاربة؛ لأنَّه تعاقد مع المالك على أنَّ له في الربح جزءًا؛ فلا يستحقُّ غيره، إلَّا إذا شَرَط ذلك على ربِّ المال؛ فحينئذٍ له النفقة؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ)[أخرجه أبو داود].
ويستحبُّ تقديرها؛ قَطْعاً للخلاف والمنازعة. فإن لم تُقدَّر، وتُركت مطلقةً،
فاختلفا في قَدْرِها؛ فله نفقة مِثْلِه عُرْفاً من طعام وكسوة؛ لأنَّ إطلاق النفقةِ يقتضي جميع ما هو من ضروراته المعتادة.
* متى يملكُ العامِلُ حصَّته من الرِّبح؟
- يملك العامل أو المضارب نصيبه من الربح بمجرَّد ظهور الربح، وقبل قسمته مع ربِّ المال؛ لأنَّ المعاملة صحيحة، وشرطها صحيح؛ وهو أن يكون له جزء مشاع من الربح، فإذا وُجِدَ وَجَبَ أن يملكه بحُكْمِ الشرط. ولأنَّ هذا الجزء من الربح مملوك، ولا بدَّ له من مالك، ورَبُّ المال لا يملكه اتفاقاً؛ فلزم أن يكون للعامل.
لكن لا يملك العامل الأخذ منه إلَّا بإذن ربِّ المال؛ لأنَّه لا يزال مشاعاً بينه وبين ربِّ المال، وليس له أن يقاسم نفسه. ولأنَّ مِلْكَه له لم يستقرَّ بعدُ؛ لأنَّه قبل القِسمة عُرْضةٌ لأنْ يخرج عن يده لِجُبْران الخسارة إذا حصلت.
* فسخُ المضارَبَةِ:
يجوز لكلٍّ من العامل وربِّ المال فسخ عقد المضاربة في أيِّ وقت؛ لأنَّها من العقود الجائزة؛ كما مرَّ قبل ذلك.
فإذا اتَّفقا على الفسخ، أو أراد أحدهما ذلك، وكان المال عُروضاً (أي: بضائع وسِلَعاً)؛ ففي هذه الحال: إنْ رضي ربُّ المال بأخذ البضائع كما هي؛ فإنَّه يقوِّمها (يقدِّرها بالمال)، ويُعطي للعامل نصيبه من الربح بحسب ما اتَّفقا عليه.
وإن لم يَرْضَ ربُّ المال بأخذها عُرُوضاً، وجب على العامل بيعها، وقبض ثمنها، ثمَّ يسلِّمه إلى ربِّ المال؛ لأنَّه يجب عليه أن يردَّ المال على الصِّفة التي أخذه
عليها، ثمَّ يقتسما الربح على حسب ما اتفقا عليه.
* اختلافُ العامِلِ ورَبِّ المالِ:
الأصل أنَّ العامل في مال المضاربة أمين؛ لأنَّه يتصرَّف فيه بإذن مالكه، ولا يختصُّ بنفعه؛ فكان أميناً فيه كالوكيل؛ فإذا اختلف العامل مع ربِّ المال في قَدْر رأس المال، ولا بيِّنة لربِّ المال؛ فالقول قول العامل بيمينه.
فمثلاً: لو جاء العامل بألفي دينار، وقال: رأس المال ألف دينار، والرِّبح ألف دينار، فقال ربُّ المال: بل الألفان رأس المال. ولا بيِّنة له؛ فالقول قول العامل بيمينه؛ لأنَّه أمين، ولأنَّ ربَّ المال يدَّعي عليه الزيادة، وهو ينكرها، والأصل عدمها.
- وكذا لو اختلفا في قدر الرِّبح؛ فادَّعى ربُّ المال أنَّه ألفٌ -مثلاً-، وقال العامل: بل خمسمائة. ولا بيِّنة لربِّ المال. أو اختلفا في الربح وعدمه؛ فادَّعاه ربُّ المال، وأنكره العامل. أو اختلفا في هلاك المال؛ فادَّعى العامل هلاكه، وأنكر ذلك ربُّ المال، ولا بيِّنة. أو اختلفا في الخسارةٍ؛ فادَّعاها العامل، وأنكرها المالك، ولا بيِّنة للمالك. أو أقرَّ العامل بالرِّبح أوَّلاً، ثمَّ ادَّعى هلاك المال أو الخسارة؛ فالقول في هذه الصور جميعها للعامل بيمينه؛ لأنَّه مؤتمن، وهذا يقتضي تصديقه. فإنْ أقام ربُّ المال البيِّنة على ما يدعيه فالقول قوله.
- أمَّا إذا اختلفا في مقدار ما شرطه ربُّ المال للعامل؛ كما لو ادَّعى ربُّ المال أنَّه شرَط للعامل ثلث الرِّبح، وادَّعى العامل أنَّه شرط له النصف؛ فالقول قول ربِّ المال بيمينه؛ لأنَّ العامل يدَّعي الزيادة، والمالك ينكرها؛ والقول قول المنكر، إلَّا إذا أقام العامل بيِّنة تشهد له؛ فالقول حينئذٍ قوله. حتَّى لو أقام المالك بيِّنة، وأقام
العامل بيِّنة؛ قُدِّمت بيِّنة العامل؛ لأنَّ معها زيادة عِلْمٍ.
القسم الثَّالث: شركةُ الوُجُوه:
1) تعريفُها:
هي أن يشتركَ اثنان أو أكثر لا مالٍ لهما في ربح ما يشتريان في ذِممهما بجاههما، والرِّبح بينهما بحسب ما يتَّفقان عليه.
سمِّيت بذلك؛ لأنَّه ليس لها رأس مال، وإنَّما المعاملة فيها قائمة على الإعطاء بالجاه، وثقة التُّجار فيهما.
صورتُها: أن يتَّفق رجلان -أو أكثر- لا يملكان مالاً، لكنْ لهما وجاهةٍ وقَدْرٍ وثقةٍ بين التُّجار، على أن يشتريا بضاعة بالأَجَل، ثمَّ يقومان ببيعها نقداً، وسداد ما في ذمَّتهما، واقتسام الرِّبح بينهما على حسب ما اتَّفقا عليه.
فمثلاً: زيدٌ وعمرٌو لا يَمْلِكان مالاً، لكنَّهما وَجيهان، ومحلُّ ثقةٍ عند تجار السيَّارات، فيتَّفقان على أن يشتريا منهم مجموعةً من السيارات بثمنٍ مؤجَّلٍ على أن يقوما ببيعها نقداً، وما حصل من ربحٍ يكون بينهما نصفان، أو لزيدٍ ثلثاه؛ لكونه أوجه وأحذق في البيع والشِّراء، ونحو ذلك، ولعمروٍ الثلث.
2) حُكمُها:
شركةُ الوجوه جائزةٌ؛ لاشتمالها على مصلحةٍ بغير مفسدة، ولأنَّها لا تخرج في حقيقتها عن الجمع بين الوكالة والضَّمان أو الكفالة؛ فكلُّ شريك فيها وكيل عن شريكه في شراء السلعة وبيعها وضمان ثمنها، والوكالة والضَّمان جائزان؛ فما
اشتمل عليهما فهو جائز أيضاً.
3) المِلْكُ والرِّبحُ والخسارةُ في شَركَة الوُجوه:
- يكون المِلك والربح في شركة الوجوه بحسب ما اتَّفق عليه الشَّريكان أو الشُّركاء؛ ففي المثال السابق؛ اتَّفق زيدٌ وعمرٌو على شراء مجموعة من السيَّارات بالأَجَل، واتَّفقا على أنَّ حصَّة زيدٍ في مِلكيَّتها الثلثان، وحصَّة عمرٍو الثلث، فيصحُّ ذلك؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق:(المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ)، ولأنَّها مبنيَّة على الوكالة؛ فتتقيَّد بما وقع الإذن والقبول فيه.
- وإذا اتَّفقا أيضاً على أنَّ الرِّبح بينهما؛ نصفه لزيدٍ ونصفه لعمرٍو، أو ثلثاه لزيدٍ وثلثه لعمرٍو؛ صحَّ ذلك؛ لما سبق من أنَّ أحدهما قد يكون أوثق عند التُّجار، وأحذق في أمور التِّجارة، ونحو ذلك.
- أمَّا الخسارة فتكون على قَدْر مِلْك كلٍّ منهما في هذه البضائع أو الأموال، وليس على ما اتَّفقا عليه؛ فلو كانت حصَّة زيدٍ في مِلكيَّة هذه السيَّارات الثلثين، وحصَّة عمرٍو الثلث، وخسرت هذه التِّجارة؛ فيتحمَّل زيدٌ ثلثي الخسارة. ويتحمَّل عمرٌو ثلثها؛ لأنَّ الخسارة على قَدْر المال في جميع أنواع الشَّركة.
القسم الرَّابع: شَرِكةُ الأبْدَان:
1) تعريفُها:
هي أن يشترك اثنان أو أكثر فيما يتملَّكانه بأبدانهما من المباح، أو يتقبَّلاه في ذِممهما من العمل. وسمِّيت بذلك؛ لاشتراكهما في عمل أبدانهما.
2) حُكمُها:
شركة الأبدان جائزة؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (اشْتَرَكْتُ أَنَا وَعَمَّارٌ وَسَعْدٌ فِيمَا نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ، وَلَمْ أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ)[رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه؛ وإسناده منقطع]. قال الإمام أحمد: أشرَكَ بَينهُم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم. فدلَّ ذلك على جواز شركة الأبدان. ولأنَّ العمل أحد جِهَتَيْ شركة المضاربة، وهي صحيحة؛ فتصحُّ الشَّركة عليه كالمال.
3) أقسامُها:
تنقسم شركة الأبدان إلى قسمين:
الأوَّل: أن يشتركا فيما يتملَّكانه بأبدانهما من المباح؛ كالصيد، أو استخراج المعادن من باطن الأرض، أو حمل الأمتعة والبضائع للناس، ونحو ذلك من المباحات، ويكون الكسب بينهما بحسب ما يتَّفقان؛ كما لو اتَّفق زيدٌ وعمرٌو على أنَّ ما صاداه من صيدِ البرِّ أو البحر فهو شركة بينهما نصفين، أو لزيدٍ ثُلُثاه ولعمرٍو ثُلُثه. أو اتَّفقا على أنَّ ما استخرجاه من باطن الأرض من المعادن فهو بينهما نصفين، أو لزيدٍ رُبعُه، وثلاثة أرباعه لعمرٍو. أو كان لكلِّ واحدٍ منهما سيَّارة لحمل البضائع والسِّلَع؛ فاتَّفقا على أن يشتركا في ذلك، ويكون الربح بينهما نصفين، أو لزيدٍ ثُلُثاه، ولعمرٍو ثُلُثه، ونحو ذلك؛ صحَّت الشركة في الجميع، وصحَّ التفاضل في الرِّبح بينهما؛ لأنَّ أحدهما قد يكون أنشط وأحذق من صاحبه، كما مرَّ.
الثَّاني: أن يشتركا في كَسْب ما يتقبَّلاه في ذِممهما من عملٍ؛ كالخياطة، والحدادة، والنجارة، ونحو ذلك من الأعمال المباحة، ويكون الكسب بينهما بحسب ما
يتَّفقان عليه أيضاً؛ كما لو اشترك نجَّاران في ورشة نجارة يعملان فيها، أو حدَّادان في ورشة حدادة، أو خيَّاطان في محلِّ خياطة، ونحو ذلك، واتَّفقا على أنَّ ما اكتسباه؛ فهو بينهما على النصف، أو الثلثين والثلث، ونحو ذلك؛ فهي شركة صحيحة.
- وكذا لو اختلفت الصنعة؛ كما لو كان أحدهم نجَّاراً، والثَّاني خيَّاطاً، والثَّالث بنَّاءً، ونحو ذلك؛ فاتَّفقوا على ما أنَّ ما اكتسبوه في مقابل عملهم فهم جميعاً شركاء فيه، على أن يكون لكلٍّ منهما الثُّلُث، أو يكون للنَّجار النصف، ولكلٍّ من الخيَّاط والبنَّاء الرُّبع؛ صحَّ ذلك؛ لأنَّهم اشتركوا فِي كَسْبٍ مباحٍ، وإن اختلفت الصنعة.
القسم الخامس: شَرِكَةُ المفاوَضَة:
1) تعريفُها:
هي أن يفوِّض كلُّ واحدٍ من الشَّريكين أو الشُّركاء إلى صاحبه كلَّ تصرُّف ماليٍّ وبدنيٍّ من أنواع الشَّركات (بيعاً، وشراءً، ومضاربةً، وتوكيلاً، وابتياعاً في الذمَّة، وسفراً بالمال، وارتهاناً، وضماناً).
أو هي: أن يشترك رجلان أو أكثر في جميع أنواع الشَّركات؛ فيجمعان بين شركة العِنان، والمضاربة، والوجوه، والأبدان.
ويكون كلُّ واحد من الشَّريكين شريكاً في مال شريكه، ومفوَّضاً فيه؛ يتصرَّف فيه بكلِّ تصرُّفٍ ماليٍّ وبدنيٍّ من أنواع الشركة؛ فيبيع من مال شريكه، ويشتري له، ويضارب بماله، ويشتري له في ذمَّته، ونحو ذلك
…
مثال ذلك: أن يتَّفق شريكان مهندسان على إقامة شركة مفاوضة؛ تضمُّ جميع أنواع الشَّركة (العِنان، والمضاربة، والوجوه، والأبدان)؛ فيدفع كلُّ واحد منهما
مائة ألف دينارٍ كرأس مال للشَّركة، ويتَّفقان على التِّجارة في السيَّارات، والربح بينهما نصفين؛ فهذه شركة عِنان، ويتَّفقان أيضاً على فتح ورشة لتصليح السيَّارات، والربح بينهما نصفين؛ فهذه شركة أبدان، وتورِّد لهما شركات السيَّارات (بيعاً) سيارات في ذمتهما؛ نظراً لوجاهتهما وكونهما أهلًا للثقة، فيبيعانها نقداً؛ فهذه شركة وجوه، ويتَّفقان أيضاً مع عامل على أن يعطياه مبلغاً معيَّناً معلوماً؛ كأربعين ألفاً -مثلاً- على أن يتاجر بها في قطع غيار السيارات، والربح بينهم على الثلث؛ لكلِّ واحدٍ منهم؛ فهذه شركة مضاربة.
فهذه الشركة جمعت أنواع الشركات في شركة واحدة، وكلُّ شريك فيها مفوَّض في مال شريكه بكلِّ تصرُّفٍ ماليٍّ وبدنيٍّ تقتضيه هذه الشَّركات.
2) حُكمُها:
شركة المفاوضة جائزة؛ لأنَّها لا تخرج عن شركة العِنان، والمضاربة، والوجوه، والأبدان، وكلُّ واحدة منها جائزة إذا انفردت؛ فكذلك إذا اجتمعت.
3) الرِّبْحُ والخَسارَةُ في شَرِكَةِ المفاوَضَةِ:
يكون الربح في شركة المفاوضة بحسب ما اتَّفقا عليه؛ على أن يكون ربحاً معلوما مشاعاً؛ كالنصف، أو الثلث، أو الربع؛ على ما تقدَّم.
وأمَّا الخسارة فتكون على قَدْر حصَّة كلِّ واحدٍ منهما في رأس مال الشركة؛ فصاحب النصف يتحمَّل نصف الخسارة، وصاحب الرُّبع يتحمَّل رُبعها
…
وهكذا.
* مسائلُ متفرِّقَةٌ:
- يجوز للإنسان أن يدفع دابَّته، أو سيَّارته، أو آلةً عنده لمن يعمل بها مقابل جزءٍ معلومٍ من ربحها؛ كما لو دفع زيدٌ سيَّارته إلى سائقٍ ليعمل عليها في توصيل الناس إلى دُورِهِم وأماكن عملهم، ونحو ذلك، وله رُبعُ كَسْبِها، أو ثُلُثُه؛ صحَّ ذلك؛ لأنَّها عينٌ تُنَمَّى بالعمل؛ فجاز العقد عليها ببعض نمائها؛ كما في المساقاة والمزارعة؛ إذ يجوز التعاقد على القيام بمصالح الشجر، أو زرع الأرض، والقيام عليها بجزء معلومٍ ممَّا يخرج منها.
- وكذا لو دفع قِماشاً إلى خيَّاطٍ لِيُفَصِّلَه قُمْصانًا ليبيعها، وله نصف ربحها، أو دفع خَشباً إلى نجَّارٍ لنَجْرِه أبواباً، وبيعها مقابل نصف ربحها، أو قاول مزارعاً على أنْ يحصد زرعه، وله رُبعُه أو ثُلثه، أو دفع سيَّارته إلى تاجرٍ ليبيعها له، وللتاجر نصف ربحها أو ثُلثه؛ صحَّ ذلك؛ لما تقدَّم.
- يجوز للإنسان أيضاً أن يدفع دابَّته أو نَحْله لمن يقوم عليه مدَّةً معلومةً، وله نصفه أو ربعه.
فمثلاً: لو دفع زيدٌ عشرة من الماشية إلى عمروٍ ليقوم على رَعْيها وسقيها، ونحو ذلك من خدمةٍ لمدَّة سنة، أو دفع إليه مَنْحَلاً ليقوم على شؤونه لمدَّة سنة، على أن يكون له نصف هذه الماشية، أو ثُلُثها، أو نصف هذا النحل، أو ثُلثه؛ صحَّ ذلك، وما حصل من نماءٍ لهذه الماشية أو النَّحل؛ كولادة صغارٍ، ونحو ذلك؛ فهو بينهما بحسب حصَّة كلِّ منهما؛ فصاحب الثلثين له ثُلُثاها، وصاحب الثلث له ثُلُثها؛ لأنَّه نماء مِلْكهما.
بخلاف ما لو دفع إليه الماشية أو النَّحل بجزءٍ من النَّماء؛ كما لو اتَّفق معه على أنْ يقوم على هذه الماشية أو النَّحْل سنة، وله نصف النَّسل، أو له نصف ما يخرج من اللَّبَن أو العَسَل؛ فهذا لا يجوز؛ لأنَّ هذا النَّماء أو النَّسل لم يحصل نتيجة لعمله؛ لأنَّه يحصل بدون عمل؛ فلا يستحقُّ منه شيئاً.
وللعامل حينئذٍ أُجرة مِثْلِه؛ لأنَّه قام على شؤون هذه الماشية، أو هذا النَّحل في مقابل عِوَضٍ لم يُسلَّم له؛ لفساد هذا العقد؛ فتُفرض له أُجرة المِثْل.
باب المُساقاة وَالمُزارَعَة
أوَّلاً: المُساقاة:
1) تعريفُ المَساقاة:
المساقاة لغة: مفاعلة من السَّقْي.
وشرعاً: هي دفع شجرٍ مغروسٍ لمن يقوم بمصالحه؛ من سقيٍ وتأبيرٍ ورعايةٍ ونحو ذلك بجزءمُشَاعٍ معلومٍ من ثَمَرِه.
مثال ذلك: أن يدفع زيدٌ بستان نخلٍ مثلاً إلى عمرٍو ليقوم على مصالحه من سقيٍ وتأبيرٍ وإصلاح شأن الثمر ونحو ذلك، على أن يكون له رُبع ثمره أو ثُلثه.
2) حُكمُ المُساقاةِ:
المساقاةُ جائزةٌ إذا كانت ممَّن يجوز تصرُّفه؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ)[أخرجه البخاري ومسلم].
3) الحِكمَةُ من مشروعيَّة المُساقاةِ:
تشريعُ المساقاة من محاسن هذه الشريعة؛ لما في ذلك من دفع حاجتي ربِّ الشجر والعامل؛ لأنَّ الإنسان قد يكون عنده عدَّة بساتين مثمرة، ويعجز عن القيام بشؤونها جميعاً؛ فيحتاج إلى دفعها، أو دفع بعضها لمن يقوم على سقيها ورعايتها، مقابل جزءٍ من ثمرها لهذا العامل الذي يحتاج إلى الثمر؛ فكان في تجويزها دفعٌ للحاجتين، وتحصيلٌ لمصلحة الفئتين.
4) شروطُ صحَّة المساقاةِ:
يُشترَط لصحَّة المساقاة ثلاثة شروط:
الشرط الأوَّل: أن يكون الشَّجر معلوماً بالرؤية أو بالوصف؛ فلو كان غير معلومٍ؛ كما لو عاقده على بستانٍ لم يره ولم يوصف له، لم تصحّ؛ لأنَّه عقد على مجهول، والجهالة تمنع صحَّة العقد. وكذا لو عاقده على أحد هذين البستانين، أو على أحد بساتينه، أو قال له: أعاقدك على ما شئتَ من نخلي أو شجري، لم تصحّ المساقاة أيضاً؛ لأنَّها عقد معاوضة يختلف الغرض فيها باختلاف العين المعقود عليها؛ فلزم تعيينها.
الشرط الثَّاني: أن يكون له ثَمَرٌ يُؤكل؛ سواءً كان نخلاً أو غيره؛ كالعنب والبرتقال والرمَّان والتفاح وغير ذلك. فإنْ كان الشَّجر لا ثَمَرَ له، أو كان له ثَمَرٌ لكنَّه لا يؤكل؛ كشجر الصَّفْصاف، أو شجر السَّرْوِ -وهو شجرٌ قويٌّ كبير، تُتَّخذُ منه الأبواب لكن ليس له ثَمَرٌ-، أو الوَرْد، ونحو ذلك ممَّا لا يؤكل ثَمَرُه؛ لم تصحَّ المساقاة؛ لأنَّ المساقاة إنَّما تكون في مقابل جزءٍ من الثَّمَرَةِ، وهذا لا ثَمَرَةَ له.
الشرط الثَّالث: أن يُشْرَطَ للعاملِ جزءٌ مشاعٌ معلومٌ من ثَمَرِهِ؛ بأنْ يقول له: لك رُبع الثَّمَر أو ثُلُثُه أو نِصْفُه، ونحو ذلك؛ لحديث ابن عمر السابق:(عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ).
فإن لم يَشْرِط له، أو شَرَطَ له جزءًا مبهماً؛ كما لو قال له: هذا بستاني من النَّخْل اعْمَلْ فيه ولك نصيبٌ مِنْ ثَمَرِهِ، أو لك حصَّة في ثَمَرِهِ، لم تصحَّ المساقاة؛ وذلك
للغَرَر والجهالة؛ لأنَّ الربح إذا لم يكن معلوماً لا يمكن القسمة بينهما؛ لأنَّ نصيب كلٍّ منهما مجهولٌ. وكذا لو شَرَطَ له ثَمَرَ عددٍ من الشجر، أو ثَمَرَ جهةٍ من البستان؛ كما لو قال له: اعْمَلْ في هذا البستان ولك ثَمَرُ هذه الشجرات العَشْرِ، أو لك ثَمَرُ هذه الجهة، فلا يصحُّ أيضاً؛ لما فيه من الغَرَر؛ فقد لا تُنْتِج هذه الشجرات العَشْر، فلا يأخذ العامل شيئاً، وقد تُنْتِج هذه الجهة ولا تُنْتِج الجهة الأُخرى؛ فيتضرَّر أحدهما.
5) صيغةُ عقدِ المُساقاة:
تصحُّ المساقاة بلفظ المساقاة، وبكلِّ لفظٍ يؤدِّي معناها؛ كعاملتك على بستاني هذا، أو اعْمَلْ في بستاني هذا، ونحو ذلك؛ لأنَّ القصد المعنى؛ فإذا دلَّ عليه بأيِّ لفظٍ صحَّت المساقاة.
ثانياً: المُزارَعَة:
1) تعريفُ المُزارَعَة:
هي دفع أرضٍ وحبٍّ لمن يزرعه ويقوم بمصالحه، أو مزروعٍ ليعمل عليه، بجزء مشاعٍ معلومٍ من المُتحصَّل.
2) حُكم المُزارَعَة:
المزارعةُ جائزة ممَّن يجوز تصرُّفه؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما السابق: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ).
والفرق بينها وبين المساقاة: أنَّ المساقاة تكون على الشجر. أمَّا المزارعة: فتكون على الزرع؛ من قمحٍ وشعيرٍ وأرزٍ ونحو ذلك.
3) الحِكْمَةُ من مشروعيَّة المُزارَعَة:
الحكمةُ من مشروعيِّتها -كما تقدَّم في المساقاة- دفعُ حاجة كلا الطرفين؛ ربِّ الأرض والعامل؛ فمن النَّاس من يمتلك أرضاً لكنَّه لا يستطيع زراعتها والعمل فيها، ومنهم من يستطيع العمل في الزراعة ولا يملك أرضاً؛ فاقتضت الحكمة تجويزها؛ لينتفع الطرفان.
4) شروطُ صحَّة المُزارَعَة:
يُشترَطُ لصحَّة المزارعة ثلاثة شروط:
الشرط الأوَّل: أن يكون البَذْر معلوماً؛ جِنْساً وقَدْراً؛ بأن يُعْلَم أنَّ هذا البذر الذي سيُزرع قمحٌ، أو أَرُزٍّ، أو ذُرَة، ونحو ذلك، وأنَّ مقداره مثلاً عشرون صاعاً أو ثلاثون
…
، وذلك ليصير الأجر معلوماً؛ فإذا جُهل جنسُ البَذْر أو قَدْرُه لم تصحَّ المزارعة؛ لأنَّها عقد على عمل، فوجب أن يكون معلوم الجنس والقَدْر؛ كما في الإجارة.
الشرط الثَّاني: أن يكون البَذْر من ربِّ الأرض؛ فلو كان البَذْر من العامل أو منهما، أو كان البَذْر من أحدهما، والأرض لهما؛ لم تصحَّ المزارعة؛ لأنَّهما شريكان في نماء هذا البَذْر، وهذا يقتضي أن يكون رأس المال كلُّه من أحدهما، والعمل من الآخر؛ قياساً على المضاربة؛ فكما أنَّ رأس المال فيها يكون من ربِّ المال، والعمل
يكون من العامل؛ فكذلك هنا؛ يكون البذر من ربِّ الأرض والعمل من العامل.
والرواية الثَّانية: أنَّه لا يشترط كون البذر من ربِّ الأرض؛ فيجوز أن يكون من العامل؛ لأنَّ الأصل المعوَّل عليه في المزارعة قضية خيبر، ولم يذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيها أنَّ البذر على المسلمين، ولو كان ذلك شرطاً لذكره، ولنُقل إلينا، لكن ذلك لم يحصل. بل جاء في بعض روايات الحديث ما يدل على أنَّه جعل البذر عليهم؛ قال ابن عمر:(دَفَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا عَلَى أَنْ يَعْتَمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم شَطْرُ ثَمَرِهَا)[أخرجه مسلم].
- ومن الصور الجائزة أيضاً في المزارعة: أنَّ تكون الأرض والبذر والبقر -أي بقر العمل، أو آلة العمل- من أحدهما، والعمل من الآخر؛ قياساً على المضاربة؛ إذِ المزارعة عقدٌ على العمل في أرضٍ ببعض نمائها، فأشبهت المضاربة، والمعاملة في المضاربة قائمة على كون رأس المال كلّه من أحدهما، والعمل من الآخر؛ فكذا هنا؛ رأس المال (الأرض، والبذر، وآلة العمل) من أحدهما، والعمل من الآخر؛ فصحَّت.
الشرط الثَّالث: أن يُشْرَطَ للعاملِ جزءٌ مشاعٌ معلومٌ ممَّا يخرج من الزرع؛ كرُبْعِه أو ثُلُثه أو نصفه، ونحو ذلك؛ فلو كان نصيب العامل مجهولاً؛ كما لو قال له: ازرع هذه الأرض ولك بعض الزرع، أو بعض الغلَّة؛ لم تصحَّ؛ للجهالة والغَرَر؛ إذ كيف يقتسمان الغلَّة ونصيب كلٍّ منهما مجهول؟
وكذا لو كان نصيب العامل غير مشاع؛ بأن حدَّده له فقال: ازرع هذه الأرض
ولك مائة صاع ممَّا يخرج منها؛ فسدت المزارعة؛ لأنَّه قد لا يخرج من الأرض إلَّا مقدار هذه الآصع، فيتضرر صاحب الأرض.
5) صيغةُ عقدِ المُزارَعَة:
تصحُّ المزارعة بلفظها، وبكلِّ لفظٍ يؤدِّي معناها؛ كأن يقول: زارعتُك على أرضي، أو عاملتُك، أو عَهِدتُ إليك بها، أو أَسْلَمْتُكَ أرضي، ونحو ذلك من كلِّ لفظٍ يؤدِّي معناها؛ لأنَّ المقصود هو المعنى، فإذا دلَّ عليه بأيِّ لفظٍ كانت المزارعة صحيحة.
6) فسادُ عقدِ المُساقاة والمُزارَعَة وما يترتَّب على ذلك:
يفسدُ عقدا المساقاة والمزارعة إذا تخلَّف شرط من شروطهما السابقة، ويترتَّب على فسادهما ما يلي:
أ - أنَّ الثَّمر يكون لربِّ الشجر، والزرع يكون لربِّ الأرض والبذر؛ لأنَّ كلًّا من الثَّمَر والزَّرْع نماءُ مالِهِما، ولا شيء فيهما للعامل؛ لفساد العقد.
ب- أنَّ للعامل أُجرة المثل نظير عمله؛ لأنَّه عمل في مقابل عِوَضٍ لم يُسلَّم له؛ لفساد العقد، فوجب له بدله؛ وهو أجرة مثله.
7) فسخُ عقدِ المساقاةِ والمزارعَةِ وما يترتَّب على ذلك:
المساقاة والمزارعة من العقود الجائزة؛ فيجوز لكلا الطرفين فسخ العقد في أيِّ وقتٍ شاءا؛ وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما في قصة خيبر: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لليهود: (أُقِرُّكُمْ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا)؛ فدلَّ ذلك على أنَّهما من العقود الجائزة؛ إذْ
لو كان عقدهما لازماً لما جازا بغير تحديد مدَّة.
وإذا فُسخ عقد المساقاة أو المزارعة فإنَّه لا يخلو من حالتين:
الحالة الأُولى: أن يكون الفسخ بعد شروع العامل في العمل، وقبل ظهور الثَّمرة أو الزَّرع، وهذا لا يخلو من أمرين:
الأمر الأوَّل: أن يكون الفسخ من جهة العامل؛ فحينئذٍ لا يستحق العامل شيئاً مقابل عمله؛ لأنَّه -بفسخه العقد قبل ظهور الثَّمرة أو الزَّرع- قد رضي بإسقاط حقِّه؛ كعامل المضاربة إذا فسخها قبل ظهور الربح. وكذا لو هرب العامل قبل ظهور الثَّمرة أو الزَّرع؛ فلا شيء له.
الأمر الثَّاني: أن يكون الفسخ من جهة ربِّ الشجر أو ربِّ الأرض؛ ففي هذه الحال يستحقُّ العامل الأُجرة مقابل عمله؛ لأنَّ العقد يقتضي العِوَض المسمَّى للعامل، وقد منعه المالك من إتمام العمل؛ بفسخه للعقد، وحيث تعذَّر العِوَض المسمَّى للعامل هنا؛ فتجب له أُجرة المِثْل.
وكذا لو مات العامل أو ربُّ الشجر أو الأرض، فللعامل أيضاً أُجرة المثل؛ لأنَّ الموت لم يأته باختياره، وقد عمل في الشَّجر أو الزَّرع عملاً مُفْضِياً إلى ظهور الثَّمرة أو الزَّرع غالباً، فاستحقَّ الأُجرة في مقابل ما أدَّاه من العمل.
الحالة الثَّانية: أن يكون الفسخ بعد ظهور الثَّمرة أو الزَّرع؛ ففي هذه الحال يكون الثَّمَر والزَّرع بينهما بحسب ما اتفقا عليه في العقد؛ قياساً على المضاربة؛ فإنَّ العامل هناك يملك حصَّته في الرِّبح بظهوره؛ فكذا العامل هنا.
لكن يلزم العامل أن يستمرَّ في عمله؛ ممَّا فيه نموٌ وصلاحٌ للثَّمَر أو الزَّرع؛ من
سَقْيٍ، وإصلاحِ طريقٍ، وتَلْقيحٍ، وقَطْعِ حَشيشٍ يَضُرُّ، ونحو ذلك حتَّى يتمَّه؛ قياساً على المضاربة؛ فإنَّ العامل هناك يلزمه -حال فسخ المضاربة بعد ظهور الربح- أن يبيع العروض؛ ليردَّ المال إلى صاحبه نقداً كما أخذه.
* على مَنْ يكونُ حصادُ الزَّرْعِ وجِذَاذُ الثَّمَر؟
حصاد الزرع يكون على العامل؛ لأنَّه جزء من عمله؛ فكان عليه. وأمَّا جِذَاذ الثَّمَر -أي قطعه من الشجر- فيشترك فيه العامل وربُّ الشجر؛ كلٌّ بحسب حصَّته في الثَّمرة؛ فصاحب الثُلُثين يتحمَّل ثُلُثَ الجِذاذ، وصاحب الثُّلُث يتحمَّل الثُّلث
…
وهكذا؛ لأنَّ الجِذاذ لا يكون إلَّا بعد تكامل الثَّمَرَة وانتهاء العقد بينهما، فلم يَعُدْ من عمل العامل؛ فأشبه نقل الثَّمَرِ إلى المنزل. وعليه؛ يتحمَّل كلُّ طرفٍ ما يخصُّه.
والرواية الثَّانية: أنَّه على العامل؛ لأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم دفع خيبر إلى يهود خيبر على أن يعملوها من أموالهم؛ كما مرَّ في الحديث، ولأنَّ هذا جزء من عمل العامل.
إلا إذا اشترط ربُّ الشَّجر أو الأرض أنَّه على العامل، فيصحُّ شرطه ويُعمل به؛ لأنَّه شرطٌ لا يُخِلُّ بمقصود العقد، ولا مفسدة فيه؛ فصحَّ.
* هل يتحمَّلُ المالكُ ما تفرِضُه الدَّولةُ من ضَريبةٍ ونحوها على الزُّروع أو الثِّمار؟
إذا كانت الدَّولة تفرض على الزُّروع أو الثِّمار بعض الأموال أو الضَّرائب ونحو ذلك؛ فإنَّه يُرجع إلى عُرْف الناس فيمن يتحمَّل ذلك؛ فما عُرِفَ أخذُه من ربِّ المال فهو عليه. وما عُرف أَخْذُه من العامل فعليه. وإذا جرى العُرْف على أن يتحمَّلها الطرفان مناصفة فإنَّه يُعمل بذلك؛ ويدفعها الطرفان مناصفة. أو جرى العُرْف على أن يتحمَّلها
المالك وحده، أو العامل وحده؛ فإنَّه يُعمل بذلك أيضاً.
إلَّا إذا كان هناك شرطٌ بينهما بخلاف العُرْف؛ فيعمل بالشَّرط؛ فلو كان العُرْف يقضي بأنَّ الذي يدفعها هو العامل، لكنَّ العامل اشترط على ربِّ الشَّجر أو الأرض أن يدفعها هو، واتَّفقا على ذلك؛ فإنَّه يُعمل بهذا الشَّرط؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ)[أخرجه أبو داود].
باب الإجارة
أوَّلاً: تعريفُ الإجارَةِ:
الإجارةُ لغةً: مشتقَّة من الأَجْر، وهو العِوَض.
وشرعاً: عقدٌ على منفعةٍ مباحةٍ، معلومةٍ، مدَّةً معلومةً، من عَيْنٍ معيَّنة، أو موصوفةٍ بالذمَّة، أو عملٍ معلومٍ، بعِوَضٍ معلومٍ.
ثانياً: حُكْمُ الإجارَةِ:
الإجارةُ جائزة بالكتاب، والسنَّة، والإجماع، والمعقول.
فمن الكتاب: قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6].
ومن السُّنَّة: ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ، هَادِيًا خِرِّيتًا -أي ماهراً-)[رواه البخاري].
أمَّا الإجماع: فقد أجمعت الأمَّة على جواز الإجارة في الجملة.
وأمَّا المعقول: فلأنَّ الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان؛ فلمَّا جاز العقد على الأعيان، جاز العقد على المنافع.
ثالثاً: الحِكْمَةُ من مشروعيَّة الإجارَةِ:
لمَّا كان الناس يتفاوتون في القدرة على شراء الأعيان وتملُّكها، وكذا يتفاوتون في القدرة على ممارسة بعض المهن والحرف ومزاولتها، أباحت الشريعة الإجارة على منافع الأعيان، وأرباب المهن؛ تيسيراً على الناس، وقضاءً لحاجاتهم.
رابعاً: أركانُ عقدِ الإجارَةِ:
أركان الإجارة خمسة:
1، 2) المتعاقدان: وهما المؤجِّر، والمستأجر.
3، 4) العِوَضان: وهما المنفعة، وثمنها.
5) الصِّيغَةُ: وهي الإيجاب والقبول؛ وتنعقد بلفظ: أجَّرتُك، وأكْرَيتُك، وما في معناهما؛ كأعطيتُك نَفْعَ هذه الدار، أو ملَّكتُك نَفْعَ هذه الدابَّة.
خامساً: شروطُ عقدِ الإجارَةِ:
يُشتَرَطُ لصحَّة عقد الإجارة جملة من الشروط، هي:
1) أن تكون الإجارة من جائز التصرُّف؛ بأن يكون كلًّا من المؤجِّر والمستأجر بالِغَيْن، عاقِلَيْن، راشِدَيْنِ، حُرَّيْن، مختارَيْن غير مُكْرَهَيْن.
2) أن يكون المؤجِّر مالكاً للشيء الذي يؤجِّره، أو مأذوناً له في تأجيره.
3) أن تكون المنفعة المعقود عليها، معلومةً لطرفي العقد؛ المؤجِّر والمستأجر؛ إمَّا بعُرفٍ، أو تعيين، أو وصف يرفع الجهل بها؛ لأنَّ المنفعة هي المعقود عليها؛ فاشترط العلم بها؛ كالعلم بالمبيع.
4) أن تكون الأجرة معلومة غير مجهولة؛ لحديث أبي سعيد أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم (نَهَى عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ حَتَّى يُبَيَّنَ لَهُ أَجْرُهُ)[رواه أحمد بإسناد ضعيف]، ولأنَّها أحد العِوَضَيْن؛ فاعتبر العلم به، كثمن المبيع.
5) أن تكون المنفعة مباحةً غير محرَّمة؛ فلا تصحُّ الإجارة على الزنا، أو القتل،
أو استئجار آلات اللَّهو والطرب، أو استئجار دارٍ لجعلها كنيسة، أو خَمَّارة.
6) أن تكون أُجرة المنفعة مباحة؛ فلا يصحُّ أن يكون الثمن خمراً، أو خنزيراً.
7) أن تكون المنفعة مقصودة؛ أي لها غرض صحيح شرعاً وعقلاً؛ فلا يجوز استئجار طير ليوقظه للصلاة، أو لسماع صوته، أو استئجار تفَّاحة ليشمَّها، ونحو ذلك ممَّا لا غرض له صحيح إلَّا السَّفّه والتباهي.
8) أن تكون المنفعة قابلة للاستيفاء؛ فلا تصحُّ الإجارة على شيء يتعذَّر استيفاء المنفعة منه؛ كاستئجار أعمى لحفظ ما يحتاج إلى رؤية، أو إجارة دابَّة مسروقة.
9) أن تبقى العين المؤجَّرة بعد استيفاء المنفعة؛ فلا يصحُّ إجارة الطعام لأكله،
أو الشمع ليشعله.
10) أن تكون مدَّة الإجارة معلومة؛ بحيث يغلب على الظنِّ بقاء العين المؤجَّرة فيها، وإن طالت.
سادساً: أنواعُ الإجارَةِ:
الإجارةُ نوعان:
النوع الأوَّل: إجارة على منفعةِ عَينٍ؛ وهي صنفان:
أحدهما: أن تكون العين مُعيَّنة؛ أي حاضرة مشاهدة؛ فتصحُّ إجارتها بالشروط التي سبق بيانها؛ كاستئجار دار معيَّنة للسكنى مدَّة محدّدة.
الثَّاني: أن تكون العين موصوفة؛ أي غير حاضرة ولا مشاهدة، فيشترط لها مع الشروط التي سبق ذكرها أن تكون منضبطة بالصفات التي ترفع الجهالة والغرر، وتمنع التنازع؛ نحو: استأجرت منك بعيراً صفته كذا وكذا، لأركبه سنةً بكذا وكذا، أو إلى بلد كذا وكذا.
النوع الثَّاني: إجارة على منفعة في الذمَّة؛ كخياطة ثوب، وبناء جدار.
ويشترط لصحَّتها ثلاثة أمور:
الأوَّل: أن تكون المنفعة منضبطة بوصفٍ لا يختلف به العمل؛ ففي خياطة الثوب يذكر جنس الثوب، وقَدْرَه، وصفة الخياطة، ونحو ذلك، وفي بناء الجدار يذكر طوله، وعرضه، وسُمْكَه، ونوع الحِجارة، ونحو ذلك.
الثَّاني: أنْ لا يجمع بين المُدَّة والعمل؛ كأن يقول: استأجرتك لتخيط ثوباً في يوم؛ لما فيه من الغرر؛ لأنَّه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء اليوم؛ فيكون استعمال الأجير بقيَّة اليوم زيادة على ما وقع عليه العقد، وإن لم يعمل الأجير فيما بقي من اليوم، كان تاركاً للعمل في بعض زمنه، وهذا من الغرر الذي يمكن التحرُّز منه.
الثَّالث: أن يكون العمل ممَّا لا يُشترط أن يكون فاعله مسلماً؛ كتعليم العلوم الدنيويَّة.
* الإجارةُ على الطَّاعاتِ:
لا يصحُّ أخذ الأجرة على الأعمال التي تختصُّ أن يكون فاعلُها من أهلِ القُرْبة؛ كالأذان، وإمامة الصلاة، وتعليم القرآن، وتعليم العلوم الشرعيَّة، والنيابة في الحجِّ والعُمْرة، ونحو ذلك؛ لحديث عثمان بن أبي العاص أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له:(وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا)[رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه].
وعن أُبَيِّ بن كعب قال: عَلَّمْتُ رَجُلًا الْقُرْآنَ، فَأَهْدَى إِلَيَّ قَوْسًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:(إِنْ أَخَذْتَهَا أَخَذْتَ قَوْسًا مِنْ نَارٍ)؛ فَرَدَدْتُهَا. [رواه ابن ماجه].
- وتجوز الجعالة على هذه الأعمال؛ لأنَّ الجعالة أوسع من الإجارة.
- ويجوز الأخذ على هذه الأعمال من أرزاق بيت المال، أو من الأوقاف؛ لأنَّها ليست بعِوَض، وإنَّما هي من المصالح والأرزاق للإعانة على الطاعة.
- ولا يصحُّ أخذ الأجرة على الرُّقية؛ لما سبق، ويجوز أخذ الجعالة عليها؛ لحديث أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه:(أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا فِي سَفَرٍ، فَمَرُّوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَلَمْ يُضِيفُوهُمْ، فَقَالُوا لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ رَاقٍ؟ فَإِنَّ سَيِّدَ الحَيِّ لَدِيغٌ أَوْ مُصَابٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: نَعَمْ، فَأَتَاهُ فَرَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَبَرَأَ الرَّجُلُ، فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِنْ غَنَمٍ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: حَتَّى أَذْكُرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّاهِ، وَاللهِ مَا رَقَيْتُ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ ثُمَّ قَالَ: خُذُوا مِنْهُمْ، وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ). [رواه البخاري، ومسلم؛ واللفظ له].
فصل استيفاء المستأجر المنفعة
للمستأجر استيفاء المنفعة من العين التي وقع عليها عقد الإجارة إمَّا بنفسه، وإمَّا بغيره ممَّن يقوم مقامه في الاستيفاء؛ لأنَّه صار مالكاً للمنفعة؛ فجاز له أن يستوفيها بنفسه، أو بمن ينوب عنه.
ويشترطُ في القائم مقام المستأجر أن يكون مثل المستأجر في الانتفاع أو دونه، بحيث لا يترتّب على انتفاعه ضرر أشدُّ؛ فلو استأجر شخصٌ داراً للسُّكنى؛ فله أن يُسْكِنَها من هو مثله في الاستعمال، ولا يجوز أن يعطيها لمن يجعلها محلًّا للحدادة، أو النجارة؛ لأنَّ هذه المنفعة أشدُّ ضرراً على الدار من السُّكنى.
ولو استأجر دابَّة ليحمل عليها، أو ليركبها إلى موضع معيَّن؛ فيجوز له أن يُعِيرَها إلى غيره ممَّن ينتفع بها الانتفاع نفسه أو دونه، ولا يجوز أن يُعِيرَها لمن يحمل عليها حملاً أثقل، أو يسير بها إلى موضع أبعد.
- لو اشترط المؤجِّر أنْ لا يستوفي المستأجر المنفعة إلَّا بنفسه؛ فإنَّ الشرط باطل، وله أن يستوفيها بمن يقوم مقامه؛ لمنافاته مقتضى العقد، وهو ملك النفع والتسليط عليه بنفسه أو نائبه.
* التزاماتُ المؤجِّرِ والمستأجِرِ:
- يلزم المؤجِّر تأمين كلِّ ما يتوقَّف عليه انتفاع المستأجر من العين المؤجَّرة، ممَّا جرت به العادة والعُرْف؛ فإن كانت العين المؤجَّرة داراً؛ فعليه معالجة كلِّ ما يمنع
الانتفاع منها؛ فيقوم بترميمها، وإصلاح الشقوق في جدرانها، وإقامة المائل منها، وإصلاح شبكة المياه، والصرف الصحيِّ، ومعالجة أسباب تسريب مياه الأمطار من سقفها، ونحو ذلك.
- أمَّا المستأجر فيلزمه كلُّ ما جرت العادة والعُرْف أن يتحمَّله هو، ممَّا لا يلزم المؤجِّر، كما يلزمه المحافظة على العين المؤجَّرة، وصيانتها من كلِّ ما يلحقها من ضرر، أو تلف بسببٍ منه؛ كرفع القمامة، وكنس الأوساخ، واستبدال المصابيح، وأقفال الأبواب التي تلفت باستعماله، ونحو ذلك.
فصل فسخُ عقْدِ الإجارةِ
عقدُ الإجارَةِ من العقود اللَّازمة التي لا تنفسخ إلَّا برِضَا الطرفين؛ لأنَّه عقد معاوضة؛ كعقد البيع؛ فلا يجوز لأحد طرفي العقد فسخه بلا موجب.
- أمَّا موجباتُ فَسْخِ عقدِ الإجارَةِ؛ فهي:
1) تَلَفُ أو هلاكُ العين المعقود عليها، أو انقطاع نفعها؛ كانهدام الدار، أو موت الخادم، أو جفاف لبن المُرْضِع؛ وذلك لتعذُّر استيفاء المنفعة بتلف المعقود عليه.
2) انتهاءُ العمل الذي عُقِدَت عليه الإجارة؛ كاستئجار طبيب لمداواة مريض، فبرئ المريض، أو مات.
ومثله إذا فات محلُّ استيفاء المعقود عليه قبل العمل؛ كانقلاع ضِرْسٍ استؤجر طبيبٌ لقَلْعِه.
3) إذا وَجَدَ المستأجرُ العينَ المؤجَّرة مَعيبةً.
- ولا ينفسخُ عقدُ الإجارَةِ في الحالات التالية:
1) موتُ المتعاقدين، أو موتُ أحدهما، إذا كان المعقود عليه سليماً؛ لأنَّ ملك المنفعة، واستحقاق الأجر كاملاً حصل بموجب العقد، ووجوب الأجر بسبب المنفعة، وهي باقية، لا بسبب وجود المستأجر الذي يمكن أن يقوم غيره مقامه؛ كورثته.
2) تلفُ المحمول؛ كما لو تلف المتاع المحمول على الدابَّة أو السيارة، أو مات الرَّاكب؛ سواء كان له من يقوم مقامه، أو لم يكن، وسواء كان هو المستأجر أو غيرُه؛ لأنَّ المعقود عليه هو المنفعة، دون الراكب، وهي ممكنة وقائمة.
3) وقف العين المؤجَّرة، أو انتقال ملكيَّتها إلى غير المؤجِّر؛ لأنَّ الوقف يَرِدُ على ما يملكُه المؤجِّر من العين المسلوبة النفع زمن الإجارة.
* تعذُّر استيفاءِ المنفعَةِ:
إذا تعذَّر استيفاء المنفعة من العين المؤجَّرة، أو تعذَّر استيفاء بعضها؛ فلا يخلو سبب التعذُّر من أحد ثلاثة أحوال:
الأُولى: أن يكون تعذُّر استيفاء النفع لسببٍ من جهة المؤجِّر؛ كأن يمتنع عن تسليم العين المؤجَّرة في أثناء مدَّة العقد؛ فلا يستحقُّ المؤجِّر شيئاً من الأجرة.
الثَّانية: أن يكون تعذُّر استيفاء النفع لسببٍ من جهة المستأجِر؛ فعليه جميع الأجرة.
الثَّالثة: أن يكون تعذُّر استيفاء النفع لسببٍ خارج عنهما؛ كانهدام الدار، أو سرقة السيارة؛ فإنَّه يجب على المستأجر من الأجرة بقدر ما استوفى من المنفعة قبل حصول السبب.
- إذا كانت العين المؤجَّرة تحتاج إلى نفقة من جهة المؤجِّر، وتركها وهرب؛
فلا يخلو الأمر من إحدى حالتين:
الأُولى: إن كان للمؤجِّر مالٌ؛ فإنَّه ينفق على العين من ذلك المال بأمر القاضي.
الثَّانية: إن لم يكن له مال، وأنفق عليها المستأجر بنيَّة الرجوع على مالكها، فله
الرجوع، ولو لم يستأذن الحاكم أو القاضي، ولا يلزمه أن يُشهد على نيَّة الرجوع. فإن لم ينو الرجوع، لم يرجع بما أنفقه؛ لأنَّه متبرِّعٌ.
- إذا رجعَ المستأجرُ على المؤجِّر فيما أنفق على العين المؤجَّر، واختلفا فيما أُنْفِق على العين المؤجَّرة، وكان القاضي قد قَدَّر النفقة؛ فإنَّه يُقبَل قول المستأجر في القَدْر الذي قدَّره القاضي، دون ما زاد.
وأمَّا إذا لم يُقدِّر له؛ فإنَّه يُقبَلُ قول المستأجر في قَدْر النفقة بالمعروف؛ لأنَّه أمين.
- إذا انْقَضَتِ الإجارة ولم يرجع المؤجِّر، باع القاضي العين المؤجَّرة، ووفَّى المستأجر ما أنفقه عليها، وحفظ باقي ثمنها لصاحبها؛ لما في ذلك من تخليص ذمَّة الغائب، وإيفاء صاحب النفقة نفقته.
فصل
أقسامُ الأجير
ينقسمُ الأجيرُ إلى قسمين:
الأوَّل: أجيرٌ خاصٌّ: وهو الذي يستأجرُه شخصٌ لنفسِه؛ ليعمل له في مدَّة معلومة، يستحقُّ المستأجر نفعه في جميع المدَّة؛ كالعامل الذي يُستأجر للخدمة، أو للبناء، أو للخياطة، مدَّة يوم، أو أسبوع، ونحو ذلك، ليعمل خلال هذه المدَّة للمستأجر خاصَّة دون غيره.
الثَّاني: أجيرٌ مُشترَكٌ: وهو الذي قُدِّرَ نفعه بالعمل؛ كخياطة ثوب، وبناء حائط، أو على مدَّة لا يستحقُّ نفعه في جميعها؛ كالطَّبيب ونحوه.
فالأجير المشترك يشترك الناس في استئجاره لأعمالهم؛ ويتقبَّل الأعمال للجماعة في وقت واحد.
فالأجير الخاصُّ يده يد أمانة؛ لا يضمن ما تلف بيده إلَّا بالتعدِّي أو التقصير؛ لأنَّه نائب عن المالك في صرف المنافع إلى ما أُمِر به.
وأمَّا الأجير المشترَك فَيَدُهُ يَدُ ضمان؛ يضمن ما تلف بفعله مطلقاً، أمَّا ما تلف بفعل غيره؛ فلا ضمان عليه فيه إذا لم يقصِّر في حفظه؛ كما لو سُرِق من حِرْزِ مِثْلِه، أو تلف المحمول على الدابَّة بسبب فعلها؛ بأن تعثَّرت أو زلقت، ونحو ذلك، ما لم يكن ذلك بسببِهِ؛ بأن سلك بها في طريق زلقٍ، ونحوه.
ولا أجرة للأجير؛ سواء كان خاصًّا أو مشتركاً فيما عمله وتلف قبل تسليمه لصاحبه، وسواء عمله في بيت المستأجر، أو في بيته هو.
- لا ضمان على حَجَّام، أو خَتَّان، أو طبيبٍ خاصٍّ أو مشترَكٍ، إذا تحقَّقت الشروط التالية:
الأوَّل: أن يكون حاذقاً في صنعته؛ لأنَّه إذا لم يكن كذلك لم يحلُّ له مباشرة الفعل؛ فيضمن بسِرايَتِه.
الثَّاني: أنْ لا يتجاوز بفعله ما لا ينبغي تجاوزه؛ كتجاوز محلِّ القطع، أو كان الوقت غير صالح، أو كانت الآلة غير حادَّة، ونحو ذلك.
الثَّالث: أنْ يكون مأذوناً له من مُكلَّف، أو وَليِّ غير المكلَّف.
فصل
استحقاقُ الأجرة
تثبتُ الأُجرةُ لمستحقِّها بمجرَّد العقد، ولا يملك المطالبة بها إلَّا بعد استيفاء المنفعة؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(قَالَ اللهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، وذكر منهم:(وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ)[رواه البخاري]، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ)[رواه ابن ماجه].
- ودَفْعُ الأُجرةِ إلى مستحقِّها له أحوال:
1) أن تكون الإجارة على عمل؛ فتعطى الأجرة بعد الفراغ من العمل الذي في ذمَّته، وتسليمه؛ كما لو استأجر طبَّاخاً لطبخ طعامٍ؛ فطبخه وفرغ منه وسلَّمه.
2) أن تكون الإجارة على مدَّة؛ فتعطى الأجرة بعد انتهاء المدَّة؛ كأن يستأجر داراً مدَّة شهر، ولا مانع يحول دون استيفاء المنفعة؛ فيعطى الأجرة بعد استيفاء المدَّة.
ومثله: إذا بذل المؤجِّر العين المؤجَّرة لعملٍ في الذمَّة، ومضت مدَّة يمكن للمستأجر استيفاء المنفعة فيها، ولم يفعل؛ كما لو استأجر منه سيَّارة ليركبها من بلد إلى بلد ذهاباً وإياباً، وسلَّمها إليه المؤجِّر، ومضت مدَّة يمكن للمستأجر عادةً أن يذهب فيها ويرجع، ولم يفعل؛ فيعطى الأجرة بعد استيفاء المدَّة.
3) أن تكون الإجارة على استيفاء منفعةٍ؛ فتعطى الأجرة بعد استيفاء المنفعة؛ كما لو استأجر سيارة للركوب من موضع إلى موضع؛ فتعطى الأجرة بعد الوصول إلى الموضع المقصود.
- يصحُّ تعجيل الأُجرة قبل استيفاء المنفعة إذا شُرِطَ ذلك؛ كما لو استأجرَ عقاراً للسَّنَة القادمة في السَّنَة الحالية، وكما هو حاصل في استئجار الفنادق، والشُّقَقِ السَّكنيَّة، وأُجرة رُكوب الطائرة أو الحافلة، ونحو ذلك.
* اختلافُ المؤجِّرِ والمستأجِرِ:
إذا اختلف المؤجِّر والمستأجر في قَدْر الأجرة أو المنفعة، ولا بيِّنة لأحدهما، أو لكلٍّ منهما بيِّنة تؤيِّده، تحالفا؛ فيحلف المؤجِّر: ما أجَّرتك بكذا، وإنَّما أجَّرتك بكذا، ثمَّ يحلف المستأجر: ما استأجرت بكذا، وإنَّما استأجرت بكذا.
فإن نكل أحدُهما لزمه ما قال صاحبه بيمينه، وإن لم يرض أحدهما بقول صاحبه تفاسخاً بلا حكم حاكم.
فإذا كان المستأجر قد استوفى ما له أجرةٌ، فعليه أجرةُ المِثْل.
* الاشتراطُ في عقدِ الإجارَةِ:
1) يصحُّ في عقد الإجارة اشتراط تعجيل الأُجرة أو تأخيرها -كما سبق-.
2) لو شَرَطَ المستأجر على نفسه الضَّمان، أو شَرَطَهُ المؤجِّر؛ فالشَّرْطُ فاسدٌ؛ ولا يضمن إلَّا بالتعدِّي أو التقصير؛ لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(لَا يَصْلُحُ الكِرَى بالضَّمَانِ)[رواه الأثرم، ولا يعلم سنده].
ويُقبل قول المستأجر في أنَّه لم يفرِّط، أو أنَّ ما استأجره مرض، أو مات، أو هرب، أو سُرِق؛ لأنَّ الأصل عدم التفريط، وبراءته من الضمان.
3) لو اشترط المؤجِّر على المستأجر شرطاً له غرضٌ صحيح -كما لو شرط عليه
أنْ لا يسير بالدابَّة أو السيارة في آخر الليل، أو أن لا يسلك بها طريقاً معيَّناً-؛ فخالف المستأجرُ؛ فإنَّه يكون ضامناً لما تلف بسبب مخالفته.
* ما يلزمُ المستأجِرَ عند انقضاءِ الإجارَةِ:
يلزم المستأجر إذا انقضت الإجارة أن يرفع يده عن العين المؤجَّرة، ولا يلزمه ردُّها، ولا مُؤْنةُ الردِّ؛ لأنَّ عقد الإجارة عقدٌ لا يقتضي الضَّمان؛ فلا يقتضي ردَّ المؤجَّر ولا مُؤْنَتَه، كالمُودَع.
- تكون العين المؤجَّرة في يد المستأجر بعد انقضاء مدَّة الإجارة أمانةً، لا ضمان عليه إنْ تلفت بغير تفريط.
باب المُسابَقَة
أوَّلاً: تعريفُ المُسابَقَة:
المسابقةُ لغةً: مفاعلةٌ من السَّبْق -بسكون الباء-؛ وهي بلوغ الغاية قَبْل غيرِه، وهي المجاراة بين الحيوانات ونحوها؛ كالأشخاص، والدرَّاجات، والسُّفُن.
وأمَّا السَّبَقُ -بفتح الباء-؛ فهو العِوَض، أو الجُعْل الذي يُسابق عليه.
ثانياً: حُكْمُ المُسابَقَة:
المسابقة جائزة بالسُّنَّة، والإجماع.
أمَّا من السنَّة: فلحديث ابن عمرَ رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَابَقَ بَيْنَ الخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ -أي الهَزيلة- مِنَ الحَفْيَاءِ، وَأَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمِرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ)[متفق عليه].
وقد أجمع المسلمون على جواز المسابقة في الجملة.
ثالثاً: أنواعُ المُسابَقَة:
تنقسم المسابقة إلى نوعين:
النوعُ الأوَّل: مسابقةٌ بغير عِوَض.
وهذا النوع يجوز مطلقاً من غير تقييد بشيء معيَّن، طالما أنَّها على شيء مباح؛ كالمسابقة على الأقدام، والمسابقة بالسُّفُن، والطُّيور، والرَّمْي بالرِّماح، أو السِّهام، ونحو ذلك؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قال: (خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ لَمْ أَحْمِلِ اللَّحْمَ، وَلَمْ أَبْدُنْ؛ فَقَالَ لِلنَّاسِ: تَقَدَّمُوا، فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ لِي:
تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ، فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ، فَسَكَتَ عَنِّي حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وَبَدُنْتُ وَنَسِيتُ، خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: تَقَدَّمُوا، فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ، فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي، فَجَعَلَ يَضْحَكُ وَهُوَ يَقُولُ: هَذِهِ بِتِلْكَ) [رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي في «الكبرى»، وابن ماجه].
النوع الثَّاني: مسابقةٌ بعِوَض.
وهذه لا تجوز إلَّا بين الخيل، أو الإبل، أو في الرَّمي؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ، أَوْ نَصْلٍ، أَوْ حَافِرٍ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه].
والمعنى: لا عِوَضَ في المسابقة إلَّا في هذه الثلاثة، وحَمْلُه على معنى العِوَض؛ لأنَّ الإجماع منعقدٌ على جواز المسابقة بغير عِوَضٍ في غير هذه الثلاثة، وبذلك تجتمع النصوص.
رابعاً: شروطُ جوازِ المُسابَقَة:
إذا كانت المسابقة على عِوَضٍ أو جُعْلٍ؛ فلا تجوز إلَّا بخمسة شروط:
1) تعيين المركوبَيْن أو الرَّامِيَيْن بالرُّؤية؛ سواء كانا اثنين، أو جماعتين، ولا يُشترط تعيين الرَّاكبَيْن أو القوسَيْن.
2) اتِّحادُ المركوبَيْن أو القوسَيْن؛ وذلك بأنْ يكونا من نوعٍ واحدٍ؛ فلا يصحُّ بين خيلٍ عربيٍّ وهَجين، ولا بين قَوْسٍ عربيٍّ وفارسيٍّ.
3) تحديدُ المسافة بما جرت به العادة؛ إمَّا بالمشاهدة، أو بالقياس.
4) العلمُ بالعِوَض أو الجُعْل؛ إمَّا بمشاهدةٍ، أو وصْفٍ يتميَّز به، وسواء كان
حالًّا، أو مؤجَّلًا.
كما ينبغي أن يكون العِوَضُ مباحاً؛ فلا يصحُّ أن يكون شيئاً محرَّماً.
5) الخروجُ عن شَبَه القِمار؛ بأن يكون الجُعْلُ أو العِوَضُ من أحدِ المتسابِقَيْن، أو من أحدٍ غيرهما؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:(سَبَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الخَيْلِ، وَأَعْطَى السَّابِقَ)، وفي روايةٍ:(سَبَّقَ بِالخَيْلِ وَرَاهَنَ)[رواهما أحمد].
فإنْ كان العِوَضُ منهما معاً لم يجز، وكان قِماراً، إلَّا إذا كان بينهما ثالثٌ مُحلِّلٌ لا يُقدِّمُ شيئاً؛ فتجوز المسابقة؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ أَدْخَلَ فَرَساً بَيْنَ فَرَسَيْنِ -يعني: وهو لا يُؤْمَنُ أنْ يَسْبِقَ- فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَساً بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أُمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ)[رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، بإسناد ضعيف].
* أحكام تتعلَّقُ بالمُحَلِّل:
1) لا يجوز أن يكون المُحَلِّلُ أكثر من واحد؛ لأنَّ الحاجة تندفع بواحد.
2) ينبغي أن يكافئ مركوبُ المُحِلِّل مركوب المتسابقَيْن الآخَرَيْن، ورَمْيُه رَمْيَيْهما؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق:(وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَساً بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أُمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ).
* أحوالُ المحلِّل مع المتسابقين:
لا يخلو السابق في حال وجود المُحلِّل من ثلاثة حالات:
الأُولَى: أن يكون السابق كِلا المتسابِقَيْن معاً دون المُحلِّل؛ فلا يأخذُ المُحلِّلُ
شيئاً، ويأخذ كلُّ واحد من المتسابِقَيْن جُعْله؛ لأنَّه لا سابق منهما، ولا يجوز لهما أخذُ شيء من المحلِّل، وإلَّا كان قماراً.
الثَّانية: أن يكون السابق أحد المتسابِقَيْن وحده، أو المُحلِّل وحده؛ فالسابق يُحرِزُ الجُعْلَين؛ لأنَّهما جُعِلا لمن يسبق.
الثَّالثة: أن يكون السابق أحد المتسابِقَيْن ومعه المحلِّل؛ فيأخذ السابق جُعْله، ويكون جُعْل الآخر بينهما (أي السابق والمُحلِّل).
* أحكامٌ تتعلَّقُ بعَقْد المُسابَقَة:
1) المسابقة نوعٌ من الجُعالة؛ لأنَّ العِوَض يكون في نظير عَمَلٍ.
2) لا يجوزُ الرَّهْنُ ولا الكفالةُ على العِوَضِ في عقد المسابقة؛ لأنَّها عقدٌ على ما لم تُعْلَم القدرةُ على تسليمه، وهو السَّبْق أو الإصابة؛ أشبه الجُعالة على ردِّ الآبق.
3) المسابقة من العقود الجائزة غير اللَّازمة؛ فيجوز لأيِّ طرف فسخه دون الرجوع إلى الآخر أو رضاه، إلَّا إذا ظهر فضل أحد المتسابِقَيْن أثناء المسابقة؛ فيكون للفاضل حقُّ الفسخ دون المفضول؛ لئلَّا يفوِّت عليه غرض المسابقة.
4) تبطلُ المسابقة بموت أحد المتسابِقَيْن، أو أحد المركوبين.
باب العاريَّة
أوَّلاً: تعريفُ العاريَّة:
العاريَّة لغة: -بتشديد الياء، وحُكي تخفيفها-؛ هي: اسمٌ لما يُعار، مأخوذ من عار؛ إذا ذهب وجاء، وقيل: من التعاور؛ أي التداول أو التناوب مع الردِّ.
وشرعاً: هي: العين المأخوذة للانتفاع بها بلا عِوَضٍ.
أو: هي إباحة الانتفاع بعينٍ من أعيان المال التي يصحُّ الانتفاع بها مع بقاء عينها.
ثانياً: حُكمُ العاريَّة:
العاريَّة مشروعة استحباباً، وقد دلَّ لمشروعيَّتها: القرآن، والسُّنَّة، والإجماع.
- فمن القرآن: قوله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]؛ فالعاريَّة من البرِّ والإحسان والمعروف. وقد قال الشوكانيُّ في تفسير قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]: «قال أكثر المفسِّرين: (الماعون) اسم لما يتعاوره الناس بينهم؛ من الدلو، والفأس، والقِدْر» .
- ومن السُّنَّة: ما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أنَّ رجلاً قال:(يَا رَسُولَ اللّاهِ، مَا حَقُّ الْإِبِلِ؟ قَالَ: حَلَبُهَا عَلَى المَاءِ، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا -الذي يُستخرج به الماء، وتسقى به-، وَإِعَارَةُ فَحْلِهَا، وَمَنِيحَتُهَا، وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ الله)[رواه مسلم].
وعن صفوان بن أُمَيَّة رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَدْرَاعًا؛ فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ)[رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي في «الكبرى»].
- وقد أجمع المسلمون على جواز العاريَّة واستحبابها.
ثالثاً: أركانُ العاريَّة:
للعاريَّة أربعة أركان؛ هي:
1) المُعير: وهو مالك العين المعارَة، أو مالك منفعتها.
2) المُستَعير: وهو آخذ العين لينتفع بها.
3) المُعار: وهي العين المعارة التي ينتفع بها المستعير.
4) الصيغة: وهي كلُّ ما يدلُّ على الإيجاب والقبول بين الطرفين من قول أو فعل.
* الألفاظُ التي تنعقدُ بها العاريَّة:
تنعقد العاريَّة بكلِّ قولٍ أو فعلٍ يدلُّ عليها؛ لأنَّه إباحةٌ للتصرُّف؛ فيصحُّ بالقول والفعل الدالِّ عليه؛ نحو: أَعَرْتُك هذا، أو أن يعطيه شيئاً قائلاً: خُذْ هذا استعمله، أو انتفع به، أو أَبَحْتُكَ الانتفاع به، أو يقول المستعير: أَعِرْني هذا، أو أَعْطِني إيَّاه أنْتَفِعُ به؛ فيسلِّمه إليه.
- تجوز إعارة الشيء للانتفاع به مطلقاً ومقيَّداً؛ لأنَّها إباحة، والجهالة إنَّما تؤثِّر في العقود اللَّازمة؛ فيجوز -مثلاً- إعارة أرض مطلقاً، ويكون للمستعير مُطلَق المنفعة منها؛ فيفعل فيها كلَّ ما هي مُعَدَّة له من الانتفاع؛ من زرع، أو غرس، أو بناء، وإذا أعاره أرضاً لغراس؛ فله أن يزرع فيها ما شاء.
- مدَّة العارية تصحُّ مطلقة أو مقيَّدة؛ فإن كانت مطلقة غير مقيَّدة بزمن؛ فللمستعير الانتفاع بها ما لم يطلبها المعير، وإن كانت مقيَّدة بزمن؛ فللمستعير الانتفاع بها ما لم يطلبها المعير، أو ينقضي الزمن المأذون فيه.
رابعاً: شروطُ صحَّة العاريَّة:
لا تصحُّ العاريَّة إلَّا بشروط:
الأوَّل: أن يكون المعير ممَّن يجوز تبرُّعُه؛ لأنَّ الإعارة نوع من التبرُّع؛ فلا تصحُّ من مجنون، ولا صغير، ولا سفيه، ولا وليِّ اليتيم
الثَّاني: أن يكون المستعير أهلاً للتبرُّع له، بأن يصحَّ منه قبول؛ فلا يصحُّ إعارة المصحف لكافر، ولا إعارة مجنون، ولا صغير غير مميِّز؛ لأنَّه لا يؤمن منهم الضرر.
الثاَّلث: أن تكون العين المعارة ممَّا يصحُّ الانتفاع بها؛ فلا يصحُّ إعارة الذَّهب لرجل يلبسُه، أو إعارة إناء من ذهب أو فضَّة للأكل أو الشرب فيه، أو إعارة آلات اللهو والمعازف.
الرَّابع: أن تبقى العين بعد الانتفاع بها، ولا تتلف؛ كالعقار، والخَدَم، والدوابِّ، والثياب، والحُلِيِّ للُّبس، والآلات؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:(كَانَ بِالمَدِينَةِ فَزَعٌ؛ فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ: مَنْدُوبٌ؛ فَرَكِبَهُ)[متّفق عليه]، واسْتَعَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ صَفْوانِ بن أُمَيَّة أَدْرُعاً. [رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي في «الكبرى»].
أمَّا ما يتلف بعد الانتفاع به؛ فلا تصحُّ إعارته؛ كإعارة الطعام لأكله، أو إعارة الشمع للاستضاءة به.
* حكمُ الرُّجوع في العاريَّة:
العاريَّة من العقود الجائزة غير اللَّازمة؛ فيجوز للمعير الرجوع في عاريَّته أيَّ
وقت شاء، سواء كانت مُطْلَقة أو مقيَّدة؛ لأنَّ المنافع المستقبَلة لم تحصل في يد المستعير؛ فجاز الرجوع فيها؛ كالهبة قبل القبض.
فإن ترتَّب على رجوع المعير ضررٌ بالمستعير؛ فليس له الرجوع؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)[رواه أحمد، وابن ماجه]؛ كمن استعار سفينة لينقل عليها بضاعته؛ فليس للمعير الرجوع في العاريَّة والحِمْلُ في عُرْض البحر، إلَّا إذا خالف المستعير شرط المعير في المنفعة المباحة.
- لا أُجرةَ للمُعِيرِ بعد رجوعه عمَّا يكون في يد المستعير، إلَّا في الزرع؛ فإذا رجع المُعِيرُ قبل أوان حصاده، وكان الزرع ممَّا لا يُحصد قَصيلاً - أي أخضر-؛ فله أُجرةُ مثل الأرض من زمن رجوعه إلى حصاد الزرع؛ لوجوب بقاء الزرع فيها قهراً عليه؛ لأنَّه لم يرض بذلك.
وإذا كان الزرع يُحصد قَصيلاً؛ فإنَّ على المستعير قطعه في وقتٍ جرت العادة بقطعه فيه؛ لانتفاء الضرر حينئذ.
فصل في استيفاءِ منفعةِ العاريَّة وضَمانِها
- للمستعير الانتفاع بالعاريَّة بالمعروف ممَّا جرت به عادة الناس؛ سواء انتفع بها بنفسه، أو بمن يقوم مقامه؛ لأنَّه يملك التصرُّف فيها بإذن مالكها، فيملك ما يقتضيه الإذن.
- إذا عيَّن المعير للمستعير قَدْر المنفعة من العاريَّة؛ فليس للمستعير أن يتجاوز حدود ما عيَّن له المُعِيرُ.
- لا يجوز للمستعير إعارة العين المُعارة، ولا تأجيرها للغير إلَّا بإذن المُعِيرِ؛ لأنَّه لا يملك منافع العين المُعارَةِ.
فإنْ تصرَّف فيها بما لا يملك الإذن فيه؛ كإعارةٍ، أو إجارةٍ، فتلفت عند الثاني؛ فللمالك تضمين أيِّهما شاء، ويستقرُّ الضَّمان على الثاني؛ فيرجعُ المستعير الأوَّل على الثاني؛ لأنَّه قَبَضَها على أنَّه ضامن لها، وقد تَلِفَت في يده.
* ضمانُ العاريَّة:
يدُ المستعير على العاريَّة يد ضمان؛ فإذا قبضها صارت مضمونةً عليه؛ سواء تلفت بتفريط منه، أو بغير تفريط؛ لحديث سَمُرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ)[رواه أحمد، أبو داود، والترمذي، والنسائي في «الكبرى»، وابن ماجه؛ بإسناد ضعيف].
ولو اشترط المستعير عدم ضمان العاريَّة؛ فالشرط لغوٌ، ويضمنها؛ سواء
تعدَّى المستعير أو لم يتعدَّ.
ثمَّ يُنظَرُ في العاريَّة:
- فإن كان لها مِثْلٌ؛ ضَمِنَها المستعير بمثلها من نوعها؛ كمن استعار وعاءً من نحاس ليَزِن به؛ فتلف؛ فإنَّه يضمنه بمثل وزنه من نوعه.
- وإن لم يكن لها مثل؛ فتُضْمَن بقيمتها يوم التلف؛ لأنَّ القيمة بدل عنها.
يسقطُ الضمانُ في العاريَّة في أربع مسائل إلَّا بالتفريط:
1) إذا كانت العاريَّة وَقْفاً؛ ككتب العِلْم، وأدوات الحرب من سلاح، ودروع؛ لكون المِلْك فيها غير معيَّن، والموقوف عليه من جملة المستحقِّين له.
2) إذا أعار المستأجر العين المؤجَّرة؛ لأنَّ المستعير يقوم مقام المستأجر في استيفاء المنفعة؛ فحكمه كحكمه في عدم الضمان.
3) إذا بَلِيَتِ العين المُعارة فيما تقتضيه استعارتها، إذا استعملها بالمعروف؛ لأنَّ الإذن في استعمالها تضمَّن الإذن في إتلافها، وما أُذِن في إتلافه لا يُضمن؛ كمن يستعير ثوباً ليلبسه؛ فيحصل له شيء من التلف.
4) إذا أركب إنسانٌ دابَّتَه إنساناً انقطع به السبيل؛ فتلفت الدابَّة تحت المنقطع؛ لأنَّها بيد صاحبها، ولم ينفرد الراكب بحفظها.
- إذا استعار رجلٌ عاريَّة ليرْهَنَها؛ فإنَّ يد المرتهن عليها يد أمانة؛ لا يضمن إلَّا بالتعدِّي أو التقصير. أمَّا المستعيرُ فيضمنُها مطلقاً؛ سواء تلفت تحت يده، أو تحت يد المرتهن.
باب الغصب
أوَّلاً: تعريفُ الغَصْبِ:
الغَصْبُ لغةً: بفتح الغين وسكون الصاد؛ أخذ الشيء ظُلْماً.
وشرعاً: هو استيلاء غير حربيٍّ على حقِّ غيره من مالٍ أو اختصاصٍ، قَهْراً بغير حقٍّ؛ فيشمل الاستيلاء على أموال الغير بالقوَّة والقَهْر، أو بالخصومة الباطلة، والأَيْمان الفاجرة.
والمراد بالاختصاص: ما يَستَحِقُّ مَنْ يَدُه عليه الانتفاع به، ولا يملكُ أحدٌ مزاحمته فيه، مع عدم قبوله للتموُّل والمعاوضة؛ ككلب الصيد، وخمر ذمِّيٍّ.
ثانياً: حُكمُ الغَصْبِ:
الغصبُ محرَّم بدلالة الكتاب، والسنَّة، والإجماع.
- فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
- ومن السُّنَّة: حديث أبي بَكْرَة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، عَلَيْكم حَرَامٌ)[متَّفق عليه].
وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ ظُلْمًا، فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ)[متَّفق عليه].
وقد أجمع المسلمون على تحريم الغصب في الجملة، كما ذكر ابن قدامة في «المغني» .
ثالثاً: ما يجبُ على الغاصِبِ للمَغْصوبِ منه:
- يجب على الغاصب بعد التوبة إلى الله عز وجل أن يردَّ المغصوب إلى مالكه إذا كان باقياً على حاله؛ لما روى السائب بن يزيد، عن أبيه، أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:(لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا، وَلَا جَادًّا، وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي].
- كما يجب على الغاصب ردُّ نماء المغصوب؛ سواء كان النماء متَّصلاً، أو منفصلاً؛ لأنَّ نماء المغصوب تبعٌ له؛ فيكون لمالكه كأصله.
- ويجب على الغاصب مؤنة ردِّ المغصوب، ولو بلغت أضعاف قيمته، أو لحقه بها ضرر؛ لأنَّ الضرر حصل بسبب تعدِّيه؛ كما لو غصب فصيلاً من الإبل، وأدخله دارَه، ثمَّ كبر وصار لا يمكن إخراجه لضيق الباب؛ فإنَّه ينقض الباب ويوسِّعه مجَّاناً؛ لإخراج الفصيل وردِّه إلى مالكه.
- إذا غَصَبَ إنسانٌ أرضاً وزرعها، ثمَّ ردَّها وقد حصد زرعه؛ فليس لمالكها بعد حصد الزرع إلَّا أجرة المثل عن الأرض، من حين غصبها إلى حين تسليمها له.
وإن ردَّها قبل حصد الزرع؛ فيُخيَّر المالك بين ترك الزرع إلى الحصاد وأخذ أجرة الأرض، أو تملُّك الزرع ويدفع للغاصب ما أنفقه من بذر، وحرث، وسقي، ونحوها؛ وذلك لحديث رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ زَرَعَ في أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ؛ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَيْءٌ، وَلَهُ نَفَقَتُهُ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه]، ولأنَّه أمكن الجمع بين الحقَّين بغير إتلاف؛ فلم يجز الإتلاف.
- إذا غرس غاصبٌ أرضاً، أو بنى فيها؛ فإنَّه يُلزَمُ بقَلْع الغَرْس أو البناء،
وتسوية الأرض، إذا طالب المالك بذلك؛ لحديث سعيد بن زيد رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ)[رواه أبو داود، والترمذي].
فصل في ضمان الغاصب
يجبُ على الغاصب أَرْش النقص الذي طرأ على المغصوب؛ سواء نقص بسبب الغاصب، أو بسبب غيره؛ فيُقوَّم المغصوب صحيحاً وناقصاً، ويُغرَّم الغاصب مقدار الفرق بينهما.
- إذا كان للمغصوب منفعة تصحُّ إجارتها؛ فإنَّ الغاصب يضمن أجرة مثلها مدَّة بقاء المغصوب بيده، سواء استوفى منافع المغصوب، أو لم يستوفها.
وإن كان المغصوب ممَّا لم تَجْرِ العادة بإجارته؛ كغنم، وشجرٍ لا منافع له يُستحقُّ بها عوضٌ غالباً، لم يلزم الغاصب له أُجرة؛ لأنَّ منفعته حينئذٍ غير متقوَّمة.
- إذا تلف المغصوب وله مثل؛ كالدراهم، والدنانير، والحبوب، والأدهان؛ فإنَّ الغاصب يضمنه بمثله؛ لأنَّه لمَّا تعذَّر ردُّ العين؛ لزم ردُّ ما يقوم مقامها، والمثل أقرب إليها من القيمة؛ لمماثلتها.
وإن كان متقوَّماً غير مثليٍّ؛ كالأحجار الكريمة، والأطعمة، والحيوانات، والآثار القديمة، والأدوات التي تصنع باليد؛ فإنَّه يضمنه بقيمته يوم تَلَفِه في بلد غَصْبِه؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ أَعْتَقِ شِرْكاً لَهُ في عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ؛ قُوِّمَ العَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلِ؛ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ العَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ)[متفق عليه].
- إذا كان المغصوب مَصاغاً مباحاً من ذهب أو فضَّة؛ كحُلِيِّ النساء؛ فتلف؛ فالغاصب يضمنه بالأكثر من قيمته أو وزنه؛ فإن زادت قيمته على وزنه أخذ القيمة
من غير جنسه؛ لئلَّا يؤدِّي إلى الرِّبا، وإن زاد الوزن على القيمة أخذ الوزن.
أمَّا المصاغ المُحَرَّم صناعته؛ كالذي يُصنَع على هيئة تماثيل من ذوات الأرواح، وأواني الذهب والفضَّة، وحُليِّ الرِّجال؛ فإنَّه يضمنه بوزنه من جنسه؛ لأنَّ صناعته محرَّمة، والمحرَّم لا قيمة له شرعاً.
- إذا اختلف الغاصب والمغصوب منه في قيمة المغصوب التالف، أو قَدْره، أو صفته، ولا بيَّنة مع أحدهما، أو تساوت البيِّنات؛ فيقبل قول الغاصب مع يمينه؛ لأنَّه غارم، والأصل براءة ذمَّته من الزائد.
وأمَّا إذا كان اختلافهما في تعيُّب المغصوب، أو ردِّه لمالكه، ولا بيِّنة مع أحدهما، أو تساوت البيِّنات؛ فالقول قول المالك مع يمينه؛ لأنَّ الأصل السلامة من العيب، وعدم الردِّ.
* ضمانُ الغاصِبِ ما جَنَاهُ المَغْصوبُ وأَتْلَفَهُ:
إذا جَنَى المغصوبُ على مالكه، أو غيره، أو أتلف ماله، وهو في يد الغاصب؛ فضمان جنايته وإتلافه على الغاصب؛ فيضمنه بالأقلِّ من أرش الجناية، أو قيمة المغصوب؛ فلو غصب رجل دابَّة؛ فأتلفت نخلاً؛ فإنَّ الغاصب يضمن ما تلف من النخل بالأقلِّ من أرش نقص النخل، أو قيمة الدابَّة.
أمَّا لو كانت جناية الدابَّة المغصوبة على الغاصب، أو على ماله؛ فإنَّه هدر.
* تصرُّفُ الغاصِبِ في المَغْصوبِ بإطعامِهِ للغَير، أو بَيْعِهِ له:
إذا أطعم الغاصبُ ما اغتصبه لمالكه، أو لغير مالكه؛ فأكله وهو لا يعلم أنَّه
مغصوب؛ فإنَّ ذمَّة الغاصب لا تبرأ من ضمان المغصوب؛ لأنَّ الظاهر أنَّه تصرَّف فيما يبدو أنَّه يملكه، وهو غير مأذون له بالتصرُّف فيه؛ والآكل أكله على أنَّه لا يضمنه؛ فاستقرَّ الضمان على الغاصب؛ لأنَّه غرَّر الآكلَ بأنَّه يملك المغصوب.
أمَّا إن كان الآكل يعلم أنَّه مغصوب؛ فإنْ كان الآكل هو المالك؛ فإنَّ ضمان المغصوب يستقرَّ عليه؛ لأنَّه أتلف ماله عالماً به، ولا ضمان على الغاصب.
وإن كان الآكل غير المالك؛ فإنَّ الضمان يستقرُّ على الآكل؛ لأنَّه أتلف مال غيره بلا إذنه من غير تغرير؛ وللمالك تضمين الآكل؛ لأنَّه قبضه من يد ضامنه، وأتلفه بغير إذن مالكه، وله تضمين الغاصب؛ لأنَّه حال بينه وبين ماله، ويرجع الغاصب على الآكل؛ لاستقرار الضمان عليه.
ومن اشترى أرضاً فغرس فيها، أو بنى فيها؛ ثمَّ بانت مستَحَقَّة للغير، وليس لبائعها ولاية بيعها، وقُلِعَ غَرْسُ المشتري، أو بناؤه، رجع المشتري على البائع بجميع ما غرمه بسبب ذلك؛ لأنَّه غرَّه ببيعه، وأوهمه أنَّه ملكه.
فصل في الإتلافات
* الضمانُ بالمباشَرةِ والسَّبَبِ:
- من أتلف مالاً محترماً لغيره بغير إذنه، فضمانه على المتلِف، سواء كان المتلِف صغيراً أو كبيراً، حيواناً أو غير حيوان، وسواء كان الإتلاف عمداً أو سهواً؛ لأنَّه فوَّته على صاحبه، وأفسده عليه؛ وكذا لو أتلف إنسانٌ مالاً يظنُّه مال نفسه؛ فتبيَّن أنَّه مال غيره؛ فعليه الضمان.
أمَّا لو وقع الإتلاف منه على وجه الإكراه؛ فالضمان يكون على المُكْرِه.
- كلُّ من تسبَّبَ في إتلاف مالِ الغَير بسببٍ يقتضي الإتلافَ؛ فضمانُه على المتسبِّبِ، إذا لم يكن معه مُباشِرٌ. ومن أمثلة ذلك:
أ - إذا فتح شخص قفصاً عن طائر؛ فطار؛ فضمانه على من فتح القفص.
ب- إذا حَلَّ شَخصٌ قَيدَ أسيرٍ، أو قَيدَ حَيوانٍ مربوطٍ؛ فذهب؛ فضمانه على من حلَّ القيد.
ج- إذا حَلَّ شخصٌ وِكاءَ وِعاءٍ فيه مائعٌ من دهن، أو عسل؛ فاندلق بسببه،
أو بسبب ريح؛ فالضمان على من حلَّ الوكاء.
- إذا اجتمعَ مع المتسبِّبِ مباشِرٌ؛ فالضَّمانُ على المباشِرِ؛ ومن صور ذلك:
أ - إذا فتح شخص قفصاً عن طائر، أو حلَّ قيد حيوان؛ فبقي الطائر والحيوان بعد فتح القفص، ثمَّ جاء إنسان آخر فنفَّرهما؛ فالضمان على المنفِّر وحده؛ لأنَّه مباشِرٌ
للإتلاف، وسببه أقوى وأخصُّ، فاختصَّ الضمان به.
ب- إذا حَلَّ شَخْصٌ وِكَاءَ وِعَاءٍ فيه مائع؛ فجاء آخر فدَلَق الوعاء؛ فالضمان على المباشر دون المتسبِّب.
- لا يضْمَنُ المتسبِّبُ حالَ اجتماعِهِ معَ المباشِرِ، إلَّا إذا كانت المباشَرَةُ مَبْنِيَّةً على السَّبَبِ، وناشِئةً عنه؛ ومن صور ذلك:
أ - أن يُقدِّم شخص إلى آخر طعاماً مسموماً عالماً به؛ فأكله الآخر وهو لا يعلم؛ فالضمان على المتسبِّب؛ وهو من قدَّم الطعام، وعليه القصاص أو الدية.
ب- إذا فتح شخص الباب عن شاةٍ، فخرجت، وأكلت زرع إنسان؛ فضمان ما تلف من الزرع على المتسبِّب؛ وهو من فتح عنها الباب.
* ضمانُ الطريق:
- من أوقف دابَّةً له أو لغيره ويدُه عليها، بطريق واسع أو غير واسع، وسواء ربطها أو لم يربطها؛ فأدَّى ذلك إلى تلف مالٍ محترمٍ للغير، ضَمِنَ مَنْ أوقفها ما تلف بسبب فعله؛ لأنَّه متعدٍّ بفعله.
ومثله لو ترك في الطريق خشبة، أو حجراً، ونحو ذلك؛ ضمن ما تلف بسبب فعله؛ لأنَّه لا حقَّ له في الطريق.
وإن كانت الدابَّة بطريق واسع؛ فجاء إنسان فضربها، فرفسته؛ فلا ضمان على واضعها؛ لعدم حاجة الضارب إلى ضربها.
ونحو ذلك: إيقاف السيارات في الطريق؛ فإن أوقفها في مكان واسع لا يتضرَّر به عُرْفاً، وليس في طريق الناس؛ فعثر بها إنسان؛ فلا ضمان على صاحب السيارة؛
لأنَّه غير معتدٍ، أمَّا لو أوقفها في مكان واسع، ولكن في طريق الناس؛ فعليه الضمان؛ لأنَّه متعدٍّ. أمَّا لو أوقف الدابَّة أو السيارة بطريق ضيِّق، فضربها، فحصل بذلك ضرر أو تلف؛ فالضمان على من وضعها.
* ضمانُ ما تلفَ بسببِ اقتناءِ الحيوانِ المُؤذِي بطَبْعِهِ:
- من اقتنى حيواناً يؤذي بطبعه؛ كالكلب العقور، أو الأَسْوَد البهيم، أو حيوان مفترس؛ كالأسد، أو النمر، أو الذئب، أو طير جارحٍ؛ فاعتدى ذلك الحيوان على من دخل بيت المقتني بإذنه، أو على من كان خارج المنزل؛ كان ضمانه على من اقتناه؛ لأنَّه متعدٍّ باقتنائه؛ لحرمة ذلك. ولا فرق في الضمان بين الإتلاف في الليل أو النهار، بخلاف البهائم -كما سيأتي-.
أمَّا إذا كان المقتني قد نبَّه من دخل إلى بيته بإذنه أنَّ الكلب ونحوه عقور، أو غير موثوق، فإنَّ المقتني لا يضمن؛ لأنَّه أدخل الضرر على نفسه على بصيرة.
فإن دخل إنسان بيت مالك الحيوان بغير إذن صاحب البيت؛ فاعتدى عليه الحيوان؛ فلا ضمان على مقتنيه؛ لأنَّ الداخل معتدٍ بدخوله بغير إذن صاحبه.
- إذا كان لإنسان هرِّةٌ اعتادت أَكْلَ الطيور، وقَلْب القُدور؛ فإنَّ صاحبها يضمن ما تلف بفعلها؛ لأنَّه يجب عليه حبسها، وهو مُتعدٍّ باقتنائها.
أمَّا إذا لم يكن من عادتها أنَّها تتعدَّى؛ فلا ضمان على صاحبها؛ لعدم عدوانه باقتنائه ما لا عادة له بذلك.
* ضمانُ ما تلفَ بسِرَايَةِ فِعْلٍ مُعتادٍ، أو غير مُعتادٍ:
- من أوقد ناراً في ملكه؛ فتعدَّت النار إلى ملك غيره، أو سقى أرضه ماءً؛
فجرى الماء إلى أرض جاره فأغرقها؛ فإنَّه لا يضمن إذا كان فعله ممَّا جرت به العادة من غير تفريط منه؛ لأنَّه غير معتدٍ، وما حدث سِرَايَة فعلٍ مباح.
أمَّا إذا سَرَى الضرر الناشئ عن فعله بتفريط منه؛ كأن أوقد ناراً في يوم ريح شديد تحملها، أو كانت النار كثيرة بحيث تسري إلى غيرها عادة، أو نام تاركاً النار مشتعلة، أو فتح الماء أكثر ممَّا يحتاج عادة، أو فتحه وغفل عنه بنوم؛ فيضمن ما تلف بسبب فعله؛ لأنَّه متعدٍّ. فإن طرأت الريح بعد إشعال النار؛ فلا ضمان عليه فيما أتلفت؛ لأنَّه ليس بتفريطه، ولا فعله.
* ضمانُ ما تلفَ بسببِ فِعْلٍ مباحٍ، أو فيه مصلحةٌ عامَّة:
إذا تصرَّف إنسان تصرُّفاً مأذوناً له فيه، أو كان فيه تحقيق مصلحة عامة، أو منفعة للناس؛ فتلف بسبب تصرُّفه شيء؛ فلا ضمان عليه بسبب تصرُّفه؛ ومن صور ذلك:
أ - إذا وضع إنسان في مسجد فرشاً، أو نصب باباً، أو أوقد قنديلاً، أو وضع رفًّا؛ لمصلحة الناس ونفعهم؛ لم يضمن ما تلف بسببه؛ لأنَّه محسنٌ بفعله.
ب- إذا جلس إنسان في طريقٍ واسع، أو اضطجع فيه؛ فعثر به حيوان؛ فلا ضمان لما تلف بسببه؛ لأنَّ جلوسه واضطجاعه في مثل هذا الطريق فعل مباح، لم يتعدَّ فيه على أحد في مكان له فيه حقُّ.
ج - إذا وضع حجراً في طريقٍ فيه طينٌ؛ ليطأ عليه الناس؛ لم يضمن ما تلف بسبب فعله؛ لأنَّ في فعله نفعاً للمسلمين.
فصل
ضمان ما تُتلِفُه البهائم
إذا أَتلَفَت بهيمةٌ غير ضارية شيئاً من الأموال أو الأبدان نهاراً؛ فليس على صاحبها ضمان، إذا لم تكن يده عليها؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(العَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ)[متفق عليه]-أي: إتلافها هَدْرٌ-.
فإنْ كانت يده عليها؛ فإنَّه يضمن ما أتلفته نهاراً.
وإن أتلفت البهائم شيئاً من الأموال أو الأبدان ليلاً؛ فعلى صاحبها ضمان ما أتلفت إذا فرَّط في حفظها؛ لأنَّ العادة أنَّ أهل المواشي يرسلونها نهاراً للرعي، ويحفظونها ليلاً، وعادة أهل الحوائط حفظها نهاراً، وقد روى حَرام بن مُحَيِّصَة الأنصاريِّ، عن البراء بن عازب قال:(كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ، فَدَخَلَتْ حَائِطاً فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا؛ فَقَضَى أَنَّ حِفْظَ الحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ المَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ)[رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه].
فإن كانت البهيمة في يد مستعير، أو مستأجر، أو من يحفظها؛ فضمان ما أتلفته عليهم؛ لأنَّ يد كلِّ واحدٍ عليها؛ فكانت في ضمانه.
- إذا كان للبهيمة سائق يسوقها من خلفها، أو قائد يقودها من أمامها، أو كان عليها راكب، وكانوا قادرين على التصرُّف فيها؛ فضمان ما جنت يَدُها، وفَمُها، ووَطِئَتْ برِجْلِها على المُتصرِّف فيها؛ لحديث النُّعمان بن بَشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَوْقَفَ دَابَّةً في سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ المُسْلِمِينَ، أَوْ في سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، فَأَوْطَأَتْ بِيَدٍ، أَوْ رِجْلٍ؛ فَهُوَ ضَامِنٌ)[رواه الدارقطني، والبيهقي، بإسناد ضعيف جدًّا].
ولا ضمان عليهم فيما ضربت بحَدِّ حافرها من غير سبب؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(الرِّجْلُ جُبَارٌ)[رواه أبو داود، بإسناد ضعيف]، ولأنَّ المتصرِّف فيها يمكنه منعها من الوطء لما لا يريد، ولا يمكنه منعها من الضرب برجلها.
وإذا تعدَّد راكب البهيمة؛ فالضمان على المتصرِّف فيها المنفرد في تدبيرها؛ فإن كان الأوَّل هو المتصرِّف؛ فالضمان عليه وحده، وإن كان الأوَّل صغيراً، أو مريضاً، كان الضمان على من خلفه إذا انفرد بالتصرِّف فيها وتدبيرها.
وإن اشترك في تدبيرها والتصرِّف فيها أكثر من واحد؛ فالضمان عليهما جميعاً؛ كأن يكون لها قائد وسائق؛ لأنَّ كلًّا منهما لو انفرد لضَمِنَ، فإذا اجتمعا ضمنا معاً.
* دَفْعُ الصَّائِلِ، وإتلافُ المُحَرَّمَاتِ:
الصائل: هو القاصد الوثوب على غيره عدواناً.
إذا صال آدميٌّ أو حيوانٌ عدواناً على إنسان معصوم، أو على ماله؛ ولم يمكن دفعه إلَّا بقتله؛ فلا ضمان على من قتله؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَقَاتَلَ فَقُتِلَ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي].
- إذا أتلف إنسان مالاً محرَّماً بيعُه أو اقتناؤه؛ فلا ضمان على المتلِف؛ كمن أتلف آلة لهوٍ محرَّمة، أو مزماراً، أو كلباً، أو كسر آنيةً فيها خمر مأمور بإراقته، أو آنية ذهب أو فضَّة، أو أدوات سحر، أو تنجيم، أو كتب بدعةٍ مُضِلَّة، أو كتب فسق ومجون؛ وذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ آتِيهِ بِمُدْيَةٍ؛
-وَهِيَ الشَّفْرَةُ- فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَأَرْسَلَ بِهَا فَأُرْهِفَتْ -أي: سُنَّت-، ثُمَّ أَعْطَانِيهَا وَقَالَ: اغْدُ عَلَيَّ بِهَا، فَفَعَلْتُ، فَخَرَجَ بِأَصْحَابِهِ إِلَى أَسْوَاقِ المَدِينَةِ وَفِيهَا زِقَاقُ خَمْرٍ قَدْ جُلِبَتْ مِنَ الشَّامِ؛ فَأَخَذَ المُدْيَةَ مِنِّي؛ فَشَقَّ مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الزِّقَاقَ بِحْضَرْتِهِ، ثمَّ أَعْطَانِيهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَنْ يَمْضُوا مَعِي، وَأَنْ يُعَاوِنُونِي، وَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الأَسْوَاقَ كُلَّهَا، فَلَا أَجِدُ فِيهَا زِقَّ خَمْرٍ إِلَّا شَقَقْتُهُ؛ فَفَعَلْتُ؛ فَلَمْ أَتْرُكْ فِي أَسْوَاقِهَا زِقًّا إِلَّا شَقَقْتُهُ) [رواه أحمد].
باب الشُّفْعَة
أوَّلاً: تعريفُ الشُّفْعَة:
الشُّفْعَة لغةً: بضمِّ الشين، وسكون الفاء، وفتح العين؛ مأخوذة من الشَّفْع، وهو ضدُّ الوتر.
وشرعاً هي: استحقاق الشريك انتزاع حِصَّة شريكه المنتقلة عنه من يد من انتقلت إليه، بعِوَضٍ ماليٍّ، بثمنه الذي استقرَّ عليه العقد.
ثانياً: حُكْمُ الشُّفْعَة:
الشُّفْعَةُ جائزةٌ ومشروعةٌ بالسنَّة والإجماع.
فمن السنَّة: ما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ، وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ؛ فَلَا شُفْعَةَ)[رواه البخاري ومسلم].
وعن جابر رضي الله عنه قال: (قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شِرْكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ، رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ)[رواه مسلم].
وأمَّا الإجماع، فقد قال ابن المنذر:«وأجمعوا على أنَّ إثبات الشُّفْعة للشريك الذي لم يقاسم؛ فيما بيع من أرض أو دار أو حائط» .
- ويحرم التحيُّل لإسقاط الشُّفْعة، ولا تسقط به؛ لما في ذلك من إبطال الحقِّ الثابت بالشرع، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تَرْتَكِبُوا مَا
ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ) [رواه ابن بطَّة في «إبطال الحيل»].
ثالثاً: حِكْمَةُ مَشروعيَّة الشُّفْعَة:
شُرعت الشُّفْعة دفعاً للضرر عن الشريك؛ بأن لا يلحقه أذى بمشاركة عدوٍّ، أو فاسد.
رابعاً: شُروطُ حقِّ الشُّفْعَة:
تثبت الشُّفْعة للشريك على شريكه بخمسة شروط:
الأوَّل: أن يكون الشِّقْص المنتقل عن الشريك مبيعاً؛ لأنَّ الشفيع يأخذه بمثل الثمن الذي انتقل به، وهذا لا يمكن في غير المبيع.
- يُلحق بالمبيع ما كان في معناه؛ كالصلح عن إقرارٍ بمال، أو جنايةٍ توجب مالاً، والهبة المشروط فيها ثواب معلوم؛ لأنَّ ذلك في حقيقته بيع.
- لا شفعة فيما انتقل عن ملكه بغير بيع؛ كما لو انتقل بهبةٍ بلا عِوَض، أو وصيَّة، أو إرثٍ، أو صَداق، وعِوَض الخلع، أو دية، ونحو ذلك.
الثَّاني: أن يكون شِقْصُ الشريك المباع مشاعاً غير مقسوم من عقار يمكن قسمته قسمة إجبار؛ فلا شُفْعة للجار في مقسوم محدود، ولا فيما لا يمكن قسمته؛ كالبئر، والطريق الضيِّقة، ولا فيما ليس بعقار؛ كالشجر، والحيوان، ونحوها من المنقولات؛ لحديث جابر رضي الله عنه:(قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ، وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ؛ فَلَا شُفْعَةَ)، ولأنَّ ضرر الشريك لا يبقى على الدوام في المنقولات، بخلاف الأرض.
- يتبع الأرض في الشُّفْعة ما فيها من غرس وبناء؛ لقول جابر رضي الله عنه: (قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شِرْكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ، رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ
…
) الحديث.
- أمَّا الزرعُ والثَّمَرةُ الظاهرة؛ فلا شُفْعَة فيها تبعاً ولا أصلاً؛ لأنَّها لا تدخل في البيع تبعاً؛ فلا تدخُلُ في الشُّفْعة.
الثَّالث: أن يطلب الشفيع الشُّفْعة ساعة علمه بالبيع؛ لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: (الشُّفْعَةُ كَحَلِّ العِقَالِ)[رواه ابن ماجه؛ بإسناد ضعيف جدًّا]. فإن أخَّر طلب الشُّفْعة بلا عذرٍ سقط حقُّه في الشُّفْعة.
والجهل بأنَّ التأخير يُسقط الشفعة عذرٌ إذا كان مثله يجهل ذلك؛ لأنَّ الجهل ممَّا يُعذر به، أشبه ما لو ترك الشفعة لعدم علمه بها.
الرَّابع: أن يأخذ الشفيع جميع الحصَّة المباعة؛ فلا شُفْعة له إذا أراد أخذ بعضها؛ لأنّ في تبعيض الصفقة ضرراً على المشتري، ولأنَّ الشفعة شُرِعَت دفعاً لضرر الشَّركة؛ فإذا أخذ بعض الحصَّة المباعة، لم يندفع الضرر.
- إذا تعدَّد الشركاء؛ فتثبت الشُّفْعة لكلِّ واحد منهم على قَدْر مِلْكِه، فإن تركها بعضهم، فليس للباقي إلَّا أخذ الجميع.
الخامس: أن يكون مِلْك الشفيع لجزئه من العقار المبيع سابقاً على مِلْك المشتري؛ فإن كانا قد اشتريا العقار صفقة واحدة؛ فلا شُفْعة لأحدهما؛ لأنّه لا مَزيَّة لأحدهما على الآخر؛ لاستوائهما في البيع في زمن واحد.
مثاله: لو اشترى اثنان حصَّة في أرض لشخص صفقة واحدةً؛ فليس لأحدهما أن يشفع على الآخر؛ لأنَّ تملُّك أحدهما للحصَّة المشتراة من الأرض ليس سابقاً
على تملُّك الآخر؛ لكونهما اشترياها صفقة واحدة.
خامساً: تصرُّفُ المشتري في العَقارِ المشفوع فيه:
إذا تصرَّف المشتري في العقار المشفوع فيه بهبةٍ، أو وقف، أو صدقة، أو جعله مهراً، أو عوض خلع، ونحو ذلك، فلا يخلو تصرُّفه من أحد حالين:
الأوَّل: أن يتصرَّف فيه المشتري بعد طلب الشَّفيع الشُّفْعة؛ فيكون تصرُّفه باطلاً؛ لأنَّ ملك الجزء المشفوع انتقل إلى الشفيع بالطلب.
الثَّاني: أن يتصرَّف فيه المشتري قبل طلب الشَّفيع الشُّفْعة؛ فيكون تصرُّفه صحيحاً، ويسقط حقُّ الشفيع بالشفعة؛ لأنَّ في الشُّفْعة إضراراً بالمأخوذ منه بسبب زوال ملكه عنه بغير عِوض؛ لكون الثمن إنَّما يأخذه المشتري، والضرر لا يزال بالضرر.
- إذا تصرَّف المشتري في العقار الذي ثبت فيه حقُّ الشُّفْعة ببيع؛ فللشفيع أخذه بثمن أيِّ البيعين شاء؛ فله أن يأخذه بالثمن الأوَّل الذي باع به شريكه، أو بالثمن الثاني الذي باع به المشتري من شريكه لمشترٍ آخر.
- يلزم الشفيع أن يدفع للمشتري الثمن الذي وقع عليه العقد؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَيُّمَا قَوْمٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ رِبَاعَةٌ أَوْ دَارٌ، فَأَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ، فَلْيَعْرِضْهُ عَلَى شُرَكَائِهِ؛ فَإِنْ أَخَذُوهُ فَهُمْ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ)[رواه أحمد، بإسناد ضعيف].
- إذا كان الثمن مثليًّا دفع له مثله، أمَّا إذا كان الثمن متقوَّماً؛ دفع له قيمته وقت الشراء.
سادساً: ما يسقطُ به حَقُّ الشُّفْعَة:
تسقط الشُّفْعة في الحالات التالية:
الأوَّل: إذا تأخَّر الشفيع في مطالبة شريكه بحقِّ الشُّفْعة بلا عذر.
الثَّاني: إذا عجز الشفيع عن أداء ثمن الحصَّة المباعة كلِّه أو بعضه، بعد إنظاره ثلاثة أيَّام.
الثَّالث: إذا جُهِل ثمن الجزء المشفوع، أو عُلِم قَدْرُه عند الشراء ثمَّ نُسِي، سقطت الشُّفْعة، إلَّا أن يكون في الأمر حيلة؛ فلا تسقط.
الرَّابع: إذا طالب الشفيع ببعض نصيب شريكه.
الخامس: إذا مات الشفيع قبل طلب الشُّفْعة، فلا ينتقل حقُّ الشُّفْعة إلى الورثة.
باب الوديعة
أوَّلاً: تعريفُ الوَديعَة:
الوديعة لغةً: من وَدَع الشيء؛ إذا تَرَكَهُ، وأصلها من الدَّعَة؛ وهي الراحة.
وشرعاً: هي المال المدفوع إلى من يحفظه بلا عوضٍ.
ثانياً: حُكْمُ الوَديعَة وحِكْمةُ مشروعيَّتها:
الوديعة جائزة بالكتاب والسنَّة والإجماع.
- فمن الكتاب: قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]، وقوله سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].
- ومن السنَّة: ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي].
وعن عبد الرحمن بن عُوَيْم بن ساعدة قال: (
…
فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه ثَلَاثَ لَيَالٍ وَأَيَّامَهَا حَتَّى أَدَّى عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْوَدِائِعَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنَّاسِ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا لَحِقَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم[رواه البيهقي].
وقد أجمع العلماء على جواز الإيداع والاستيداع.
والحكمة من مشروعيَّتها: قيام الحاجة إليها؛ لأنَّه يتعذَّر على جميع الناس حفظ أموالهم بأنفسهم؛ فكانوا محتاجين إلى من يحفظها لهم.
وعقد الوديعة من العقود الجائزة؛ يجوز لأيٍّ من طرفي العقد فسخه دون رضا الآخر؛ فلو أراد المودِعُ أَخْذَ وديعته، لزم المودَع ردَّها إليه، وإذا أراد المودَع ردَّ الوديعة إلى صاحبها، لزمه قبولها.
ثالثاً: شُروطُ صحَّة الوَديعَة:
يُشترطُ لصحَّة عقد الوديعة ما يشترط لصحَّة الوكالة؛ لأنَّها نوعٌ منها، وهذه الشروط هي:
الأوَّل: أن تكون الوديعة مالاً محترماً، أو ما في حكمه؛ كالكلب الذي أباحت الشريعة اقتناءه؛ فلا تصحُّ الوديعة إذا كان المال غير محترمٍ؛ كما لو استودعه خمراً، أو خنزيراً، أو كلباً لم تبح الشريعة اقتناءه.
الثَّاني: أن يكون كلًّا من المودِع والمودَع أهلاً للتصرُّف؛ بأن يكونا بالغين، عاقلين، راشدين؛ فلا تصحُّ الوديعة إذا كان كلا الطرفين أو أحدهما فاقداً للأهليَّة؛ كالصغير، والمجنون، والسفيه؛ فإذا أودع أَهْلٌ للتصرُّف وديعةً عند فاقدٍ للأهليَّة فأتلفها، فلا ضمان على المتلِف؛ لأنَّ المودِع مفرِّط بدفع ماله لفاقد الأهليَّة.
وإذا قَبِلَ أَهْلٌ للتصرُّف وديعةً من فاقدٍ للأهليَّة، صار ضامناً لها إذا تلفت؛ لأنَّه تعدَّى بقبول الوديعة بغير إذن شرعيٍّ، ولا تبرأ ذمَّته إلَّا بردِّ الوديعة إلى الوليِّ.
- لا ضمان على المودَع إذا كان المودِع صغيراً مأذوناً له في الإيداع، أو خاف المودَع تلف الوديعة إن لم يأخذها منه.
الثَّالث: تعيينُ المودَع والوديعة؛ إمَّا بنسبةٍ تميِّزهما، أو إشارةٍ إليهما، أو نحو
ذلك ممَّا يحصل به التعيين، ويرفع الجهالة.
فلا يصح أن يقول: أودعت أحد هذين الرجلين مائة دينار، أو أودعت رجلاً مائة دينار -من غير تعيين-؛ لجهالة المودَع.
كما لا يصحُّ أن يقول: أودعتك أحد هذين المالين؛ لأنَّ الوديعة غير معيَّنة، فصارت مجهولة.
رابعاً: حِفْظُ الوَديعَة:
يُستحبُّ لمن يعلم من نفسه القُدرة على حفظ الأمانات لأهلها أن يقبل حِفظَ الوديعة؛ لما فيه من قضاء حاجة الناس، ومعاونتهم، وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)[رواه مسلم].
فإذا قَبِلها فإنَّه يلزمه أن يحفظَها في حِرْز مثلها؛ أي: في مكان مناسب لحفظِها ممَّا جرت به عادة الناس أن يحفظوا فيه أموالهم الخاصَّة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. ووجه الدلالة: أنَّه لا يمكنه أداؤها بدون حفظها، والمقصود من الإيداع الحفظ.
والأصلُ أنْ يحفظَ المودَع الوديعة بنفسه، وله أنْ يدفَعَها إلى من يقوم مقامه في الحِفظِ؛ كزوجته، أو ولده، أو خادمه، أو خازنه، إن كانوا أهلاً لحفظها؛ فإن تلفت في يد واحد منهم من غير تعدٍّ أو تقصير، لم يضمن؛ لأنَّه مأذون فيه عادة.
ولو دفع المودَع الوديعة إلى غيره من الثقات لعذرٍ؛ كسفرٍ لا يمكنه حفظها
معه، أو حضره مرض الموت؛ فإنَّه لا يُعدُّ مفرِّطاً، ولا متعدِّياً، ولا ضمان عليه.
خامساً: ضمانُ الوَديعَة:
الأصلُ في يد المودَع أنَّها يد أمانة؛ فإذا تلفت الوديعة عنده من غير تعدٍّ عليها، أو تقصير في حفظها؛ فإنَّه لا ضمان عليه؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ)[رواه ابن ماجه].
وممَّا يندرج تحت هذا الأصل من الصور ما يلي:
1) إذا عيَّن المودِع للمودَع محلًّا لحفظ الوديعة، فحفظها في محلٍّ مثله، فتلفت، لم يضمن؛ لأنَّ تعيين الحِرْز يقتضي الإذن في مثله.
ولا يضمن أيضاً إذا حفظها في حِرْزٍ فوقه، فتلفت؛ لأنَّه أحفظ لها؛ فكان غير مفرِّط.
2) إذا نهى المودِع المودَع عن إخراج الوديعة من الحِرْز الذي يحفظها فيه، فأخرجها إلى حِرْزٍ آخر مثله أو فوقه؛ لوجود شيءٍ الغالب منه حصول تلف الوديعة أو هلاكها؛ كحريق، أو سرقة؛ فتلفت في المحلِّ المنقولة إليه، لم يضمن؛ لأنَّ في تركها تضييعاً لها.
3) إذا نهى المودِع المودَع عن إخراج الوديعة من الحِرْز الذي يحفظها فيه، ووُجد شيءٍ الغالب منه حصول تلف الوديعة أو هلاكها؛ فأخرجها إلى حرزٍ آخر دونه؛ لتعذُّر إحرازها بمثل الحِرْز الأول أو فوقه، لم يضمن؛ لأنَّ نقلَها إليه أحفظ لها من تركها بمكانها، وليس في وسعه سواه.
4) إذا نهى المودِع المودَع عن إخراج الوديعة من حِرْزها ولو خاف عليها التلف؛ فحصل خوف، وتركها؛ فإنَّه لا يضمن؛ لأنَّه عمل بأمر صاحبها؛ فهو كما لو أمره بإتلافها.
5) إذا نهى المودِع المودَع عن إخراج الوديعة من حِرْزها ولو خاف عليها التلف؛ فحصل خوف، وأخرجها إلى حِرْز آخر مثله أو فوقه؛ فلا ضمان عليه؛ لأنَّه زاده خيراً وحفظاً.
6) إذا هجم على الوديعة ناهِبٌ، أو غاصِبٌ ونحوهما، فألقاها المودَع في مكانٍ ليخفيها عنه، لم يضمنها؛ لأنَّه من عادة الناس في حفظ أموالهم.
7) إذا أُكره المودَع على دفع الوديعة لغير مستحقِّها، لم يضمن.
ويضمنُ المُودَع الوَديعَة إذا تعدَّى عليها بغير إذنٍ من المُودِع، أو قصَّر في حفظها، ومن صور ذلك ما يلي:
1) إذا عيَّن المودِع للمودَع محلًّا لحفظ الوديعة، فحفظها في محلٍّ دونه وتلفت، ضمن الوديعة؛ لأنَّه مفرِّط.
2) إذا ترك المودَع الوديعة في حِرْزِها مع طروء ما يخاف منه هلاكها أو تلفها في ذلك المحلِّ غالباً، ولم يخرجها؛ فتلفت؛ فإنَّه يضمنها.
3) إذا نهى المودِع المودَع عن إخراج الوديعة من حِرْزها؛ فأخرجها من حِرْزها إلى حرزٍ آخر، لغير خوف هلاك أو تلف، فتلفت؛ فإنَّه يضمنها، سواء أخرجها إلى حِرْز مثله، أو فوقه؛ لمخالفته أمر المودِع بلا حاجة.
4) إذا كانت الوديعة بهيمة؛ فماتت جوعاً أو عطشاً بتقصيرٍ من المودَع، ضمنها؛ لأنَّ علفها وسقيها هو أساس حفظها.
5) إذا ركب المودَع دابَّة مودَعةً عنده ترفُّهاً، لا لحاجة صيانتها، فتلفت، فإنّه يضمنها.
6) إذا استعمل المودَع ثياباً مودعةً تزيُّناً، لا لحفظها من الآفة، أو أتلفتها آفة لعدم نشرها، فإنَّه يضمنها؛ لأنَّه متعدٍّ ومفرِّط.
7) إذا أخرج المودَع نقوداً مودعة عنده لينفقها، أو لينظر إليها، أو كَسَر ختْم محفظتها، أو حلَّ كيسها ولو لم يخرجها، صار ضامناً لها؛ لأنَّه متعدٍّ بهتك حِرْزها.
8) إذا خلط المودَع الوديعة بما لا تتميَّز عنه؛ فإنَّه يضمنها؛ لأنَّه يعجز عن ردِّها.
9) إذا امتنع المودَع من ردِّ الوديعة لمن يستحقُّها عند طلبها، أو أخَّرها من غير عذر، صار ضامناً لها؛ لأنَّه أشبه الغاصب في إمساكه مال غيره بلا إذنٍ منه.
- ومتى تعدَّى المودَع على الوديعة بَطَلَت، ووجب عليه ردُّها إلى مالكها فوراً؛ لأنَّها أمانة محضة، وقد زالت بالتعدِّي، ولا تعود أمانة إلَّا بعقد جديد.
- ويصحُّ قول المودِع للمودَع: كلَّما خُنْتَ ثمَّ عُدْتَ إلى الأمانة فأنت أمينٌ؛ لأنَّه يصحُّ تعليق الإيداع على الشرط، كالوكالة.
فصل
سفر المودَع بالوديعة
- إذا أراد المودَع السفر، وخاف على الوديعة عنده من الهلاك أو التلف، ردَّ الوديعة إلى مالكها، أو إلى وكيله، أو إلى من يحفظ مالَ مالكَ الوديعة عادةً.
- فإذا تعذَّر على المودَع دفع الوديعة إلى مالكها أو من يقوم مقامه، ولم يخف عليها معه في السفر، سافر بها، ولا ضمان عليه؛ لأنَّ إيداع المالك يقتضي الإذن في السفر بالوديعة.
- أمَّا إذا خاف عليها التلف أو الضياع إذا سافر بها معه؛ فإنَّه يدفعها إلى الحاكم المأمون، فإن تعذَّر الحاكم، فيدفعها إلى ثقة.
فصل
التنازع في الوديعة
- إذا وقع تنازع بين المودِع والمودَع في التعدِّي على الوديعة، أو التقصير في حفظها، أو خيانتها، أو في ردِّها إلى المودِع، أو من يقوم مقامه؛ فالقول قول المودَع مع يمينه؛ لأنَّ يده يد أمانة، ولا منفعة له في قبضها.
- ويُقبل قول المودَع مع يمينه في أنَّها تلفت، أو أنَّه دفعها لآخر بإذن المودِع، ولو أنكر المودِعُ ذلك الإذن.
- وإذا ادَّعى المودَع ردَّ الوديعة بعد مماطلته في ردِّها إلى مستحقِّها بلا عذر؛ لأنَّه صار كالغاصب، ولو ادَّعى ورثة المودَع ردَّ الوديعة، لم يقبل قولهم إلَّا ببيِّنة؛ لأنَّهم غير مؤتمنين عليها من قِبَل مالكها.
- وإذا أنكر المودَع أنَّ المودِع أودعه شيئاً، ثمَّ أقرَّ به، أو ثبت ببيِّنة أنَّه أودعه إيَّاها، ثمَّ ادَّعى المودَع أنَّه ردَّ الوديعة للمودِع، أو أنَّها تلفت قبل يوم الجحود؛ لم يقبل قوله، وإن أقام بذلك بيِّنة؛ لأنَّه صار ضامناً بجحوده، ولا تسمع بيِّنته؛ لتكذيبه لها بجحوده.
مثاله: أن يدَّعي عليه الوديعة يوم الجمعة؛ فينكرها، ثمَّ يقرُّ، أو تقوم بيِّنة بها؛ فيُقيم بيِّنة بأنّها تلفت، أو ردَّها يوم الخميس أو قبله، فلا يقبل قوله ولا بيِّنته.
أمَّا إن ادَّعى ردَّها أو تلفها بعد يوم الجحود ببيِّنةٍ، قبلت بيِّنته؛ لعدم تكذيبه لها.
باب إحياء الموات
أوَّلاً: تعريفُ إحياءِ المواتِ:
الموات لغةً: مشتقٌّ من الموت، وهو هَدْمُ الحياة.
والأرض المَوَاتُ شرعاً: هي الأرضُ المُنفَكَّةُ عن الاختصاصات، وملك معصومٍ؛ فهي: الأرض الخراب المُنْدَرِسَةُ التي ليس لها مالكٌ، ولا بها أثر عِمارةٍ، أو وجد بها أثر مِلْكٍ وعِمارةٍ؛ كالخِرَب التي ذهبت أنهارها، واندَرَسَت آثارها، ولم يُعلم لها مالك، وكآثار الأمم البائدة.
وإحياؤها: استصلاحها وعمارتها بما يجعلها صالحة للانتفاع بها.
ثانياً: حُكْمُ إحياء الموات:
إحياءُ الموات جائز، قد دلَّت السنَّة على مشروعيَّته؛ ومن ذلك:
ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ)[رواه البخاري].
وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي].
ثالثاً: شروطُ صحَّة إحياء الموات:
يُشترَطُ لصحَّة إحياء الأرض الموات ما يلي:
الأوَّل: أنْ لا تكون الأرض مِلْكاً لمعصوم؛ سواء أكان ذلك المالك مُسلِماً، أم ذمِّيًّا، أم مستأمناً.
ويستثنى من الموات غير المملوك: موات الحَرَم، وعَرَفات، ومِنًى، ومُزْدَلِفَة؛ فلا يُمْلَكُ بالإحياء؛ لما فيه من التضييق على الحُجَّاج في أداء المناسك، واختصاصه بمحلٍّ يستوي الناس فيه.
الثَّاني: أن تكون الأرض مُنفكَّة عن الاختصاصات؛ وهي ما تعلَّقت به منفعة عامَّة؛ كالطُّرُق، والأَفْنِيَة، ومَسيلِ الماء، وأماكن دَفْنِ الموتَى، ومواضع القُمامة، والبِقاع المُعَدَّة لصلاة العيد والاستسقاء، والمَراعي، ونحو ذلك.
رابعاً: صِفَةُ الإحياءِ وكيفيَّتُه:
يحصل إحياء الأرض الموات بأحد الأمور التالية:
1) أن يحيط الأرض بحائط منيع ممَّا جرت العادة به أن يمنع ما وراءه؛ لما روى جابر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ؛ فَهِيَ لَهُ)[رواه أحمد، وأبو داود].
2) أن يُجرِيَ في الأرض الموات ماءً من عَينٍ، أو بئرٍ، أو نهرٍ، لا تُزرَعُ الأرض إلَّا به؛ لأنَّ نفع الأرض يحصل بذلك أكثر من حصوله بإحاطتها.
3) أن يحبس الماء عن أرضٍ لا يمكن زَرْعُها بوجوده؛ كالأرض التي تَفسُد بكثرة الماء؛ فيكون إحياؤها بِسَدِّه عنها، بحيث يمكن زرعها.
3) أن يَحفِرَ في الأرض الموات بئراً، فَيَصِل إلى مائها.
4) أن يَغْرِس في الأرض الموات شجراً؛ لأنَّ غرس الشجر يُراد للبقاء؛ فكان كبناء الحائط.
ومن أحيا مواتاً فإنَّه يملكه، سواءٌ أحياه بإذن الإمام، أو بغير إذنه؛ فيجوز له بيعه وهبته.
خامساً: تَحْجيرُ الموات:
يحصل تحجير الموات بأن يدير حوله أحجاراً، أو تراباً، أو شوكاً، أو حائطاً غير منيع، ولا يستر ما وراءه، أو أن يحفر بئراً لم يصل إلى مائها، أو سقى شجراً مباحاً، أو أصلحه ولم يُرْكِبْهُ، أو حَرَثَ الأرض، أو حَفَرَ خَنْدَقاً حولها، ونحو ذلك.
- ومن تحجَّر مواتاً لم يملكه؛ لأنَّ تملَّك الموات يكون بالإحياء، وهو لم يوجد، إلَّا أنَّه يكون أحقّ به من غيره؛ لحديث:(مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ).
ويكون وارثه أيضاً أحقَّ به من بعده؛ لأنَّه حقٌّ للمَوْروث؛ فقام فيه وارثه مقامه، كسائر حقوقه.
- إذا أعطى المُحَجِّر ما تَحَجَّره من الموات لأحدٍ غيره؛ كان المعطَى أحقَّ به، وورثته من بعده؛ لأنَّ صاحب الحقِّ آثره به، وأقامه مقامه فيه.
- إذا طالت مدَّة التحجُّر عُرْفاً، ولم يتمَّ إحياؤه، وكان هناك من يتشوَّق لإحيائه، خيَّره الإمام أو نائبه بين إحيائه أو تركه لغيره يحييه؛ لأنَّه بتأخيره يكون قد ضيَّق على الناس في حقٍّ مشترك بينهم.
سادساً: إحياءُ المواتِ من المعادِنِ، أو تَحْجيرُها، أو إِقْطاعُها:
- لا تُملَكُ المعادِنُ الظاهرة والباطنة بالإحياء، ولا بالإقطاع، ولا بالتَّحجير؛
كالنِّفط، والقار، والكبريت، والياقوت، والملح، والحديد، والنُّحاس، والذَّهب، والفضَّة، ونحوها؛ لأنَّها من مصالح المسلمين العامَّة، وفي تملُّكها ضررٌ بالمسلمين، وتضييق عليهم.
- ومن مَلَكَ أرضاً مَواتاً بالإحياء مَلَكَها بما فيها من المعادن الباطنة (كالملح، والكُحْل)، والظاهرة (كالذَّهب، والفضَّة، والحديد)؛ لأنَّها تبعٌ للأرض؛ فملكها بجميع أجزائها وطبقاتها.
- وإذا تحجَّرَ أرضاً، أو قَطَعَها؛ فظهر فيها معدنٌ قبل إحيائها؛ كان له إحياؤها، ويملكها بما فيها؛ لأنَّه صار أحقَّ بتحجُّره وإقطاعه، فلم يُمنع من إتمام حقِّه.
- وإذا ظهر في المُحْيا من الأرض عين ماء، أو معدن جارٍ؛ كالنفط والقار، أو ظهر فيها كلأٌ، أو شجرٌ، فهو أحقُّ به بغير عوض؛ لحديث أسْمَر بن مُضَرِّس قال:(أتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فبايعتُه، فقال: مَنْ سَبَقَ إِلَى مَاءٍ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ)[رواه أبو داود، بإسناد ضعيف]. إلَّا أنَّه لا يملكه؛ لحديث أبي خِدَاشٍ عن رجل من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ في ثَلَاثٍ: في المَاءِ، وَالْكَلَإِ، وَالنَّارِ)[رواه أحمد، وأبو داود].
سابعاً: إقطاعُ الإمام الموات لمن يُحْييهِ:
- لا يشترط لصحَّة إحياء الموات إذن الإمام؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ).
- وللإمام أن يُقْطِع الأرضَ الموات لمن يُحييها؛ لما جاء في حديث وائل بن حُجْر
(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَهُ أَرْضًا بِحَضْرَمَوْتٍ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي]، و (أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الحَارِثَ العَقِيقَ أَجْمَعَ)[رواه أبو داود، وابن خزيمة، والبيهقي، بإسناد ضعيف].
- من أقطعه الإمام مواتاً لم يملكه بمجرَّد الإقطاع، وإنَّما يملكه بالإحياء؛ فإن عجز عن إحيائه؛ فللإمام استرجاعه، وإقطاعه لغيره ممَّن يقدر على إحيائه؛ لما جاء في حديث بلال بن الحارث:(أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الحَارِثِ الْعَقِيقَ أَجْمَعَ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ لِبِلَالٍ: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يُقْطِعْكَ إِلاَّ لِتَعْمَلَ. قَالَ: فَأَقْطَعَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه لِلنَّاسِ الْعَقِيقَ).
ثامناً: السَّبْقُ إلى حِيازَةِ المُباحاتِ:
من سَبَق إلى مباح فهو له، يملِكُه بأَخْذِه؛ كالصَّيْدِ، والعَنْبَر، واللُّؤلُؤ، والمَرْجان، والحَطَبِ، والثَّمَرِ، وما يتركه أهل الحصاد رغبة عنه، والنِّثار في الأعراس، والعَظْم يكون به شيء من لحم رُغِبَ عنه.
- لا فرق في تملُّك السابق إلى المباح بين المسلم والذمِّيِّ.
- إذا سبق إلى المباح أكثر من واحد؛ فيقسَّم بينهم؛ لاستوائهم في السبب.
- مِلْكُ السابق إلى المباح مقتصرٌ على القَدْر المأخوذ؛ أمَّا ما لا يحوزه فلا يملكه، ولا يمنع غيره منه.
باب الجعالة
أوَّلاً: تعريفُ الجعالَةِ:
الجعالة لغةً: مثلَّثة الجيم؛ من الجَعْل؛ بمعنى التسمية.
وشرعاً: هي أن يجعل شيئاً معلوماً من المال لمن يعمل له عملاً مباحاً ولو مجهولاً، مُدَّةً ولو مجهولة.
وصورة عقد الجعالة: أن يقول إنسان: من بنى لي هذا الحائط، أو ردَّ عليَّ سيارتي المفقودة؛ فله كذا من المال، أو له عن كلِّ يومٍ كذا من المال. فمن فعل ذلك استحقَّ ذلك العِوَض أو الجعل.
والجعالة نوع من الإجارة؛ لأنَّ العِوَض يقع في مقابل منفعة، إلَّا أنَّها تختلف عن الإجارة من عدَّة وجوه:
1) أنَّها عقدٌ جائزٌ، لا يلتزم الفاعل فيه بالعمل.
2) أنّه يصحُّ وقوع العقد في الجعالة مبهماً من جهة العمل، والمدَّة، ومن جهة العامل.
3) أنَّ العمل فيها قائمٌ مقام القبول؛ لأنَّه يدلُّ عليه، كالوكالة.
4) أنَّه يجوز الجَمْعُ فيها بين تقدير المُدَّة والعَمَل.
ثانياً: حُكْمُ الجعالَةِ:
الجعالة عقدٌ مشروعٌ؛ دلَّ على مشروعيَّته الكتاب، والسنَّة.
- فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72].
- ومن السُّنَّة: حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: (انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا؛ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ؛ فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، لَا يَنْفَعُهُ؛ فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ وَاللّاهِ؛ إِنِّي لَأَرْقِي، وَلَكِنْ وَاللهِ لَقَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا؛ فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ الحَمْدُ لِلّاهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ، قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لَا تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ؛ فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَصَبْتُمُ؛ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا؛ فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم[رواه البخاري ومسلم].
ثالثاً: حِكْمَةُ مشروعيَّة الجعالَةِ:
شُرِعَ عقدُ الجعالة نظراً لحاجة الناس إلى إنجاز العديد من الأعمال التي لا تصحُّ معها الإجارة؛ نظراً لعدم توفُّر شروطها؛ كردِّ ما يفقدونه من أموالهم؛ نظراً لجهالة العمل؛ لذلك دعت الحاجة إلى إجازة العِوَض مع جهالة العمل؛ تيسيراً على الناس، ورفعاً للحرج عنهم، وهذه هي صورة الجعالة.
رابعاً: شروطُ صحَّةِ الجعالَةِ:
لا تصحُّ الجعالة إلَّا بالشروط التالية:
الأوَّل: أن يكون الجاعل أهلاً للتصرُّف؛ وهو البالغ، العاقل، الرشيد؛ فلا يصحُّ من الصغير، والمجنون، والمحجور عليه لسفهٍ.
الثَّاني: أن يكون الجعل (العِوَضُ) معلوماً؛ فلا يصح أن يقول: من ردَّ عليَّ ضالتي فله نصفها. وإلَّا فيكون للعامل أُجرة المِثْل.
الثَّالث: أن يكون الجعل (العِوضُ) مالاً مباحاً؛ فلا يصحُّ أن يكون خمراً، أو خنزيراً. وإلَّا فيكون للعامل أُجرة المِثْل.
الرَّابع: أن يكون العمل الذي عليه الجعل مباحاً؛ فلا يصحُّ على محرَّم؛ كأن يكون العمل غناءً، أو زمراً، أو صناعة مسكرٍ، أو سرقةً، أو عملَ سِحْرٍ، أو نياحةً.
- ويصحُّ عقد الجعالة إذا كان العمل الذي عليه الجعل مجهولاً؛ كأن يقول: من خاط لي هذا الثوب فله كذا؛ من غير أن يبيِّن صفة خياطة الثوب.
- ويصحُّ عقد الجعالة أيضاً إذا كانت مدَّة العمل مجهولة؛ كأن يقول: من حَرَسَ زَرْعِي فله كلُّ يوم كذا.
- ويصحُّ عقد الجعالة إذا كان العامل غير معيَّن؛ كأن يقول: من ردَّ عليَّ ضالَّتي فله كذا.
- ويصحُّ عقد الجعالة على أعمال القُرَب والطاعات التي يتعدَّى نفعها، ويشترط إسلام فاعلها؛ كالأذان، والإمامة، وتعليم القرآن، والفقه، والقضاء، والرُّقية؛ لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه السابق.
خامساً: استحقاقُ العامِلِ الجعلَ:
لا يخلو حال العامل في عقد الجعالة من إحدى الصور التالية:
الأُولَى: أن يعمل العمل بعد أن بلغه عقد الجعالة؛ فهذا يستحقُّ العوض كلَّه؛ لأنَّ العقد استقرَّ بتمام العمل؛ فاستحقَّ ما جُعِل له.
الثَّانية: أن يبلغه عقد الجعالة أثناء العمل؛ فإنَّه يستحقُّ حصَّة تمامه إذا أتمَّه بنيَّة الجعل؛ فيستحقُّ من الجعل بقَدْر ما بقي من العمل فقط؛ لأنَّ عمله قبل أن يبلغه العقد تبرُّع، وهو غير مأذون له فيه؛ فلم يستحقَّ عنه عوضاً.
الثَّالثة: أن يبلغه عقد الجعالة بعد الفراغ من العمل؛ فهذا لا يستحقُّ شيئاً من العِوَض؛ لأنَّه غير مأذون له فيه، وفَعَلَه متبرِّعاً، ولأنَّه إذا وجده وجب عليه ردُّه، ولا يجوز له أخذ عِوَضٍ على الواجب.
ويُستثنَى من ذلك ما إذا عَمِلَ شخصٌ على تخليص متاعِ غيرِه من مَهلَكَةٍ يُظَنُّ هلاكه بتركه؛ فيكون له أجرةُ المِثْلِ؛ لأنَّه يخشى هلاكه وتلفه على مالكه، وفيه حثٌّ وترغيبٌ في إنقاذ الأموال من الهلكة.
- إذا عَمِلَ شخصٌ ممَّن أعدَّ نفسه للتكسُّب بالعمل، وأذن له المعمول له في العمل؛ فله أجرة المثل؛ لدلالة العُرف على ذلك.
- إذا زادَ الجاعلُ في جعلٍ، أو نقص منه قبل شروع العامل في العمل جاز، وعُمِل به؛ لأنَّه عقد جائز.
- وإذا اشترك جماعةٌ في العمل اشتركوا في الجعل؛ فلو قال: من بنى هذا الجدار فله دينار؛ فاشترك في بنائه ثلاثة، اشترك الثلاثة في الدينار.
- إذا كان العامل معيَّناً، فقال له الجاعل: إن رددت عليَّ لُقَطَتي فلك كذا، استحقَّ العامل المعيَّن الجعل وحده إذا ردَّها، ولا يستحقُّه غيره إذا ردَّها ذلك الغير؛ لأنَّ الجاعل خصَّ المعيَّن في استحقاق الجعل.
سادساً: فَسْخُ عقدِ الجعالَةِ:
عقد الجعالة من العقود الجائزة؛ فيجوز لكلا الطرفين فسخه دون رضا الطرف الآخر؛ ويترتَّب على فسخه من الأحكام ما يلي:
1) إذا فسخ الجاعل أو العامل المعيَّن العقد قبل الشروع في العمل، انفسخ العقد، ولا شيء للعامل.
2) إذا فسخ الجاعلُ العقدَ بعد شروع العامل في العمل، انفسخ العقد، وللعامل أجرة المثل على ما عمله.
3) إذا فسخ العاملُ عقدَ الجعالة بعد الشروع في العمل وقبل تمامه، انفسخ العقد، ولا شيء للعامل؛ لأنَّه أسقط حقَّ نفسه، ولم يوف ما شُرِط عليه.
سابعاً: اختلافُ الجاعِلِ والعامِلِ في عقد الجعالَةِ:
- إذا اختلف الجاعل والعامل في أصل الجعل وتسميته؛ فالقول قول المنكر مع يمينه؛ لأنَّ الأصل عدم الجعل، وبراءته ممَّا لم يعترف به.
- وإذا اختلف الجاعل والعامل في قَدْر الجعل، أو قَدْر المسافة؛ فالقول قول الجاعل؛ لأنَّ الأصل براءته ممَّا لم يعترف به.
باب اللُّقَطة
أوَّلاً: تعريفُ اللُّقَطَة:
اللُّقَطَة لغةً: اسمٌ لما يُلْتقطُ؛ يقال: لُقَطَة بضمٍّ ثمَّ فتحٍ، ولُقْطَة بضمٍّ ثمَّ سكون، ويقال: لُقَاطَة.
وشرعاً: هي اسمٌ لمالٍ، أو مختصٍّ، ضاعَ -أو ما في معناه-، لغير حربيٍّ.
ويُقصدُ ب (المختصِّ): ما يختصُّ به الإنسان بدون مِلْك؛ فلا يصحُّ تملُّكه، ولا أخذ العِوَض عنه؛ ككلب الحراسة، والصيد، وخَمْر ذمِّيٍّ، ونحو ذلك.
ويقصد بما هو (في معنى الضائع): المتروكُ قَصْداً لمعنى يقتضيه؛ كمن ترك دابَّته بمهلكة ليأسه، ومن ألقى متاعه في البحر خوفاً من الغرق، والمدفون المنسي.
ثانياً: حُكْمُ اللُّقَطَة:
اللُّقَطة مشروعة؛ والأصل في مشروعيَّتها حديث زيد بن خالد الجهنيِّ رضي الله عنه: (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللُّقَطَةِ، قَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا، وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا؛ فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّاهِ؛ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: خُذْهَا؛ فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللّاهِ؛ فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، أَوْ احْمَرَّ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؛ مَعَهَا حِذَاؤُهَا، وَسِقَاؤُهَا، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا)[متَّفق عليه].
ثالثاً: أقسامُ اللُّقَطَة:
تنقسم اللُّقَطة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوَّل: ما يباح التقاطُه، وأخذُه والانتفاع به بلا تعريف:
وهو ما لا تتعلَّق به نفوس أوساط الناس، ولا يهتمُّون في طلبه؛ لحقارته، وقلَّة ثمنه؛ كقلَمٍ سعره زهيد، ورغيف خبز، وتمرةٍ، وعصا، ونحوها؛ فيباح له أخذه وتملُّكه؛ وذلك لما رُوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:(رَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَصَا، وَالسَّوْطِ، وَالحَبْلِ، وَأَشْبَاهِهِ، يَلْتَقِطُهُ الرَّجُلُ يَنْتَفِعُ بِهِ)[أخرجه أبو داود، بإسناد ضعيف]. والأفضل أن يتصدَّق به.
لكن إن وَجَدَ الملتقطُ صاحبَها؛ فإنَّه يدفعها إليه إن كانت باقيةً، وإلَّا لم يلزمه ضمانها.
- ومن تركَ دابَّة في مهلكةٍ، أو أرض فَلاةٍ، وقد يئس من سلامتها، أو بسبب عجزها عن السَّيْر، أو عَجْزه عن علَفها؛ فإنَّها تكون ملكاً لمن أخذها؛ لما رَوى الشعبيُّ مرفوعاً؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ وَجَدَ دَابَّةً قَدْ عَجَزَ عَنْهَا أَهْلُهَا أَنْ يَعْلِفُوهَا فَسَيَّبُوهَا فَأَخَذَهَا فَأَحْيَاهَا فَهِيَ لَهُ)[أخرجه أبو داود].
- وإذا ألقى شخص متاعاً ونحوه من سفينة؛ خوفاً من الغرق؛ فإنَّه يكون مِلْكاً لمن أخذه؛ لأنَّه مال ألقاه صاحبه اختياراً فيما يتلف بتركه؛ كما لو ألقاه رغبةً عنه.
القسم الثَّاني: ما لا يجوز التقاطه، ولا يُملَكُ بالتعريف:
وهو الضوالُّ التي تمتنع عن صغار السِّباع؛ إمَّا لقُوَّتها وتحمُّلها؛ كالإبل، والبقر، وإمَّا لسُرعة جَرْيها؛ كالخيل، والظباء، وإمَّا لطيرانها؛ كالحَمام؛ فهذه يحرُم التقاطها، ولا يملكها بالتعريف؛ لحديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه السابق-؛ وفيه: (قَالَ: يَا رَسُولَ اللّاهِ؛ فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى احْمَرَّتْ
وَجْنَتَاهُ، أَوْ احْمَرَّ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؛ مَعَهَا حِذَاؤُهَا، وَسِقَاؤُهَا، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا).
- فإذا أخذها ملتقط؛ فإنَّه يلزمه ضمانها إن تلفت، أو نقصت؛ كالغاصب؛ لأنَّه غير مأذون له بذلك شرعاً، ولا تبرأ ذمَّتُه، أو يزول ضمانه إلَّا بدفعها إلى الإمام، أو نائبه؛ لأنَّ له نظراً في حفظ مال الغائب، أو أنْ يردَّها الآخذ إلى مكانها بإذنٍ من الإمام؛ لما جاء عن ثابت بن الضحَّاك الأنصاريِّ (أَنَّهُ وَجَدَ بَعِيرًا بِالحَرَّةِ فَعَقَلَهُ، ثُمَّ ذَكَرَهُ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ؛ فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يُعَرِّفَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ: إِنَّهُ قَدْ شَغَلَنِي عَنْ ضَيْعَتِي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَرْسِلْهُ حَيْثُ وَجَدْتَهُ)[أخرجه مالك، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة]، ولأنَّ الأمر بِرَدِّه كأخذه منه.
- ومن التقط شيئاً ممَّا لا يجوز التقاطه، وكتمه عن مالكه، ثمَّ ثبت ببيِّنة، أو إقرارٍ، فتلف؛ فإنَّه يلزم المُلتقِطَ قيمةُ اللُّقَطة مرَّتين يدفعها لمالكها؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(ضَالَّةُ الْإِبِلِ المَكْتُومَةِ غَرَامَتُها وَمِثْلُهَا مَعَها)[أخرجه أبو داود].
- وإذا تَبِعَ شيءٌ من هذه الضوالِّ دوابَّ شخص؛ فطَرَدَها، أو دخلت دارَه؛ فأخرجها؛ فإنَّه لا ضمان عليه؛ لأنَّه لم يأخذها، ولم تثبت يده عليها.
- ولا يجوز التقاطه ما يتحفَّظ بنفسه؛ كأحجار الطَّواحين، والقُدُور الضخمة، والأخشاب الكبيرة، ونحو ذلك؛ لأنَّها لا تكاد تضيع عن صاحبها، ولا تبرح من مكانها، بل هي أَوْلَى من الضوالِّ التي يمكن أن تتعرَّض في الجملة للتلف؛ إمَّا بسَبُعٍ، أو جوعٍ، أو عطشٍ، ونحو ذلك.
القسم الثَّالث: ما يجوز التقاطُه، ويُملَك بالتعريف المعتبر شرعاً:
وهو كلُّ ما سوى القسمين السابقين؛ كالذَّهب والفِضَّة، والثياب، والأواني، والكتب، وما لا يمتنع عن صغار السِّباع؛ كالغنم، وولد الناقة، وولد البقرة، والطيور التي لا تطير؛ كالإوَزِّ، والدجاج؛ فهذه يجوز التقاطها إذا كان المُلتَقِطُ أميناً، وقادراً على تعريفها؛ لما جاء في حديث خالد الجهني رضي الله عنه قال:(سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللُّقَطَةِ؛ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ؛ فَقَالَ: اعْرِفْ وِكَاءَهَا، وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً؛ فَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ فَاسْتَنْفِقْهَا، وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ؛ فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ؛ فَأَدِّهَا إِلَيْهِ. وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ؛ فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا، دَعْهَا؛ فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا، وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ المَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا. وَسَأَلَهُ عَنْ الشَّاةِ؛ فَقَالَ: خُذْهَا؛ فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ)[أخرجه مسلم].
- والأفضل له مع أمانته وقدرته على التعريف ترْكُها؛ لما جاء عن عبد الله بن دينار قال: (قُلْتُ لابْنِ عُمَرَ: وَجَدْتُ لُقَطَةً، قَالَ: وَلِمَ أَخَذْتَهَا؟)[أخرجه ابن أبي شيبة]، وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال:(لَا تَرْفَعْهَا مِنَ الأَرْضِ؛ فَلَسْتَ مِنْهَا في شَيْءٍ)[أخرجه ابن أبي شيبة، بإسناد ضعيف]، ولأنَّ فيه تعريض نفسه لأكل الحرام، وتضييع الواجب من تعريفها، وأداء الأمانة فيها؛ فكان ترْكُها أَوْلى وأسلم.
- أمَّا إن كان لا يأمن نفسه عليها؛ فلا يجوز له أخذها بحال؛ لما فيه من إضاعتها على ربِّها؛ كما لو أنَّه أتلفها، أو نوى كتمانها. فإنْ أخذها ضَمِنَها إن تلفت، ولو بغير تفريط؛ لأنَّه أخذ مال غيره على وجه لا يجوز له أخذُه؛ فكان كالغاصب.
- وإن كان عاجزاً عن تعريفها؛ فلا يجوز له أخذها أيضاً، ولو بنيَّة الأمانة؛ لأنَّه
لا يحصل بأخذها المقصود من وصولها إلى ربِّها.
رابعاً: الأحكامُ التي تترتَّبُ على أخذ اللُّقَطَةِ من القسم الثالث:
1) اللُّقطة التي من القسم الثالث على ثلاثة أنواع:
النوع الأوَّل: أن تكون اللُّقَطةُ حيواناً مأكولاً؛ كشاة، وولد ناقة، وولد بقرة، ودجاجة، ونحوها؛ فإنَّه يلزم الملتقط فعلُ الأفضل والأحظِّ من ثلاثة أمور:
أ - أن يأكله، ويضمن قيمته في الحال؛ لحديث خالد بن زيد؛ وفيه:(قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّاهِ؛ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: خُذْهَا؛ فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ)؛ فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الشاة للآخذ في الحال؛ لأنَّه سوَّى بينه وبين الذئب الذي لا ينتظر في أكلها؛ ولأنَّ في أكلها حالاً استغناء عن الإنفاق عليها، وحراستها.
ب- أن يبيع الحيوان ويحفظ ثمنه لصاحبه؛ لأنَّه إذا جاز أكله، جاز بيعه من باب أَوْلى.
ولا يحتاج في أكله، أو بيعه إلى إذن الإمام؛ لظاهر الحديث السابق، إلَّا أنَّه يلزمه حفظ صفة اللُّقطة قبل الأكل، أو البيع؛ ليتمكَّن من الردِّ إذا وصفها ربُّها.
ج- أن يحفظ الحيوان، وينفق عليه من ماله؛ لما في ذلك من حفظه لصاحبه، ولا يتملَّكُه بموجب تلك النفقة. وله أن يرجع على صاحبه بما أنفقه إن كان قد نوى الرجوع عليه بذلك. وإن لم ينو الرجوع بما أنفقه؛ فليس له الرجوع على صاحبه؛ لأنَّه يكون بذلك متبرِّعاً.
وإذا ترك المُلتَقِطُ الحيوان ولم ينفق عليه حتَّى تلف، ضمِنه؛ لأنَّه مفرِّط.
- إذا استوت هذه الأمور الثلاثة في الأفضلية في نظر المُلتَقِط؛ فإنَّه يُخيَّر في فعل
أيٍّ منها.
النوع الثَّاني: أن تكون اللُّقَطة ممَّا يُخشى فساده بإبقائه؛ كالثِّمار، والفواكه، والخضروات، ونحوها؛ فيلزم المُلتقِط فعل الأفضل والأصلح من ثلاثة أمور:
أ - أكله، بلا إذن حاكم، وعليه قيمته لصاحبه.
ب- بيعه، بلا إذن حاكم، وعليه حفظ ثمنه لصاحبه.
ج- تجفيف ما يُجفَّف منه؛ كالعنب، والرُّطَب، والحبِّ.
فإذا استوت هذه الأمور الثلاثة، خُيِّر المُلْتقِط في فِعْل أيٍّ منها.
النوع الثَّالث: أن تكون اللُّقَطة من سائر الأموال التي هي من غير النوعين السابقين؛ كالأثمان، والمتاع، والأواني، ونحو ذلك؛ فيلزم المُلتقِط حفظها كما يحفظ غيرها من النوعين السابقين، ويلزمه تعريفها على الفور، كما يلزمه تعريف غيرها من النوعين السابقين؛ لظاهر الأمر في حديث خالد بن زيد الجهني رضي الله عنه:(أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللُّقَطَةِ، قَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً)[متَّفق عليه]؛ إذ مقتضاه الفور، ولأنَّ صاحبها يطلُبُها عقب ضياعها فوراً.
والتعريف: أن ينادي عليها بنفسه، أو بنائبه، في مجامع الناس؛ كالأسواق، وأبواب المساجد أدبار الصلوات؛ لأنَّ المقصود إشاعة ذِكْرها.
- ولا يصفُ المنادي ما يُعَرِّفها، وإنَّما يقول: من ضاع منه شيء؟ أو من ضاع منه نفقة؟ لأنَّه لا يُؤْمَن أن يدَّعيها بعض من سمع صفتها؛ فتضيع على مالكها.
- أُجرة المنادي يتحمَّلها المُلتقِط؛ لأنَّه سبب في العمل.
ويُكره النداء عليها في المساجد؛ لما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي المَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّ المَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا)[أخرجه مسلم].
ويكون التعريف حَوْلاً هلاليًّا كاملاً؛ لحديث زيد بن خالد السابق، ويكون في وقت النهار، كلَّ يوم مرَّة مدَّة أسبوع؛ لأنَّ الطلب فيه أكثر، ثمَّ على عادة الناس فيما تبقَّى من الحَوْل؛ كأن ينادي مرَّة في كلِّ أسبوع مدَّة شهر، ثمَّ مرَّة في كلِّ شهر، حتَّى يتمَّ الحَوْل.
2) إذا عرَّف المُلتقِط اللُّقطة حولاً كاملاً فوراً، ولم تُعَرَف، دخلت في مِلْكِه قَهْراً عليه؛ وله أن يتصرَّف فيها بما شاء، ويضمنها لصاحبها إذا جاء يطلبها؛ لما جاء في حديث خالد بن زيد:(فَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ فَاسْتَنْفِقْهَا، وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ؛ فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ فَأَدِّهَا إِلَيْهِ)[أخرجه البخاري، ومسلم، واللَّفظ لمسلم].
- وإذا أخَّر المُلْتَقِط التعريف عن الحَوْل، أو عن بعضه من غير عذرٍ، أثِمَ؛ لتركه واجباً، ولم يملك اللُّقطة بالتعريف بعد الحَوْل؛ لأنَّ شرط الملك التعريف في الحَوْل، وهو لم يوجد، وصاحبُ اللُّقَطَة بعد الحَوْل يتركُ طَلَبَها غالباً؛ فلا تتحقّق فائدة التعريف بعد مضيِّ زمنه.
3) يحرم على المُلتقِط أن يتصرَّف في اللُّقَطة بعد تعريفها حولاً، حتَّى يَعْرِف منها ما يلي:
أ - وعاءَها: وهو الظرف الذي وضعت فيه؛ هل هي في كيس، أو خِرْقة، أو في قِدْر، أو إناءٍ، ونحو ذلك.
ب- وكاءَها: وهو الخيط أو السَّيْر الذي تُشدُّ وتُربَط به؛ فيَعْرِف كونه خيطاً،
أو سيراً، ونوع الخيط هل هو من الحرير، أو القطن، أو الجلد، ونحو ذلك.
ج- عِفاصَها: وهو أن يعرف صفة الشدِّ والعَقْد؛ فيعرف هل هي عُقْدة، أو عقدتان، أو أُنْشوطَة، أو غيرها.
د - قدْرَها: أي يعرف قَدْر اللُّقَطَة بمعيارها الشرعي؛ من كيل، أو وزن، أو ذَرْع، أو عدٍّ.
هـ- جِنْسَها، وصِفَتَها، ونوعها، ولونها، وكلَّ ما تتميَّز به.
وقد دلَّ على ذلك كلِّه حديث خالد بن زيد رضي الله عنه، وفيه:(فَإِنْ اعْتُرِفَتْ فَأَدِّهَا، وَإِلَّا فَاعْرِفْ عِفَاصَهَا، وَوِكَاءَهَا، وَعَدَدَهَا)[أخرجه مسلم].
- ويُسنُّ للمُلتقطِ إشهاد عدْلين على اللُّقَطَة؛ لما جاء في حديث عِياض بن حِمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً، فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ)[أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه].
4) إذا جاء صاحب اللُّقَطَة يطلبها في أيِّ يومٍ من الدَّهر ولو بعد الحَوْل، وقد ذكر أوصافها؛ لزم المُلتقِط أن يدفعها إليه إن كانت عنده، من غير بيِّنة ولا يمين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ فَأَدِّهَا إِلَيْهِ)[أخرجه مسلم].
وإن لم يجدْها طالبُها عند المُلتَقِط؛ لكونها خرجت عن مِلْكِه ببيع، أو هِبَة، أو وَقْف، ونحو ذلك، بعد أن عرَّفها حولاً كاملاً، ثمَّ ملكها؛ فلا رجوع لطالبها عليه في عينها، وله أن يطالب ببدلها؛ فيأخذ مثلها إن كانت مثليَّة، أو قيمتها إن كانت متقوَّمةً.
5) إذا حصل في اللُّقطة نماء؛ فلا يخلو أن يكون النماء متَّصلاً، أو منفصلاً.
أ - أمَّا النماء المتَّصل؛ فإنَّه يكون لصاحب اللُّقطة؛ لأنَّه مِلْكٌ لمالكها، ولا يمكن
انفصاله عنها، وهو تابع له في العقود والفسوخ.
ب- أمَّا النماء المنفصل؛ فإن كان النماء قد حصل قبل انقضاء حَوْل التعريف؛ فهو لمالك اللُّقَطَة؛ لأنَّه نماءٌ حصل في مِلْكه.
وإن كان النماء قد حصل بعد انقضاء حَوْل التعريف؛ فهو لواجد اللُّقطة؛ لأنَّه مَلَكها بعد مُضيِّ الحَوْل؛ فكان نماؤها نماءً لما يملكه، ولأنَّ ضمان النقص بعد الحَوْل عليه؛ فكانت الزيادة والنماء له؛ لأنَّ الخراج بالضمان.
6) من وجد في حيوان نقداً، أو دُرَّة؛ فهو لُقطَة لمن وجدَه؛ يلزمه تعريفها كسائر الأموال الضائعة.
مثاله: أن يشتري شخص شاةً، ويجد في جوفها نقوداً؛ فالنقود تكون لُقَطَة؛ فيلزمه تعريفها؛ ويبدأ في التعريف بالبائع؛ لأنَّه يُحتمَل أن تكون الشاة ابتلعتها في ملكه.
وإن اصطاد سمكة من البحر؛ فوجد في بطنها دُرَّة غير مثقوبة؛ فهي للصائد؛ لأنَّ الظاهر أنَّها ابتلعتها من الدُّرِّ الذي يكون في البحر.
وإن وجد في بطنها مالاً من دراهم أو دنانير، أو كان في بطنها درَّة مثقوبة، أو متّصلة بذهب أو فضة؛ فهو لقطة يلزمه تعريفها؛ لأنَّ مثل هذا لا يكون إلَّا لآدميٍّ.
- ومن أُخذ متاعه، أو ثيابه، أو نعاله من حمَّامٍ، أو مسجد، وتُرِك له بدلُهُ؛ فما تُرِك يكون لُقَطَة، لا يملكه بذلك؛ لأنَّ الآخذ لم يجْر بينه وبين مالكها معاوضة تقتضي زوال ملكه عنها؛ فإذا أخذها يكون قد أخذ مال غيره. ولمَّا كان صاحبها غير معروف؛ كانت لُقَطةً يجب تعريفها.
- إذا استيقظ نائم، أو مغمًى عليه؛ فوجد في ثوبه مالاً لا يدري من وضعه فيه؛
فهو له، ولا يلزمه تعريفه؛ لأنَّ قرينة الحال تقتضي تمليكه له.
- من أخذ من نائم، أو من غافلٍ شيئاً، فإنَّه لا يبرأ بردِّه له وهو نائم، أو غافل، ولا يبرأ إلَّا بتسليمه له بعد انتباهه؛ لأنَّ الآخذ متعدٍّ؛ كالسارق، والغاصب؛ فلا يبرأ من عهدته إلَّا بردِّه في حالٍ يصحُّ قبضُ مالكه له فيها.
7) حُكْمُ لُقَطَةِ الحَرَم:
لُقَطَةُ الحَرَم كغيرها من اللُّقطة في غير الحرم؛ تُمْلَك بعد التعريف بها حَوْلاً؛ لعموم الأحاديث الواردة في اللُّقَطَة، ولأنَّها أمانة؛ فلم يختلف حُكْمُها بالحلِّ والحَرَم؛ كما في الوديعة.
وفي المذهب رواية أخرى -اختارها ابن تيميَّة رحمه الله؛ وهي: أنَّ لُقَطَة الحَرَم لا تُمْلك بحالٍ، وإنَّما يجوز التقاطها ليُعرِّفها حتَّى يأتي صاحبُها، مهما طال الزمن؛ لما جاء في حديث عبد الرحمن بن عثمان التيميِّ رضي الله عنه:(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الحَاجِّ)[أخرجه مسلم].
ولحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:(وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ)[متَّفق عليه].
- أمَّا لُقَطَةُ حَرَم المدينة فحكمُها حكم سائر اللُّقطة التي تكون في الحلِّ؛ تُمْلَك بعد التعريف بها حَوْلاً.
8) لُقَطَة الصَّبيِّ، والسَّفيه، والمجنون:
إذا كان واجد اللُّقَطَة صغيراً، أو سفيهاً، أو مجنوناً؛ صحَّ التقاطه؛ لأنَّه نوع من
التكسُّب؛ فصحَّ كالصيد، ولكن يقوم وليُّه بتعريفها حَوْلاً، وبعد التعريف بها تكون ملكاً لمن وجدها.
- وإذا تلفت اللُّقَطَة بيد أحدهم، وكان قد فرَّط في حفظها؛ ضمنها من ماله؛ كما لو أتلفها.
وإن تلفت بتفريط الوَليِّ؛ فضمانها عليه؛ لأنَّه مُضيِّع لها بتركها مع من ليس أهلاً لحفظها.
9) ضَمانُ اللُّقَطَة:
المُلْتَقِط في القسم الثالث أمينٌ، لا يضمن اللُّقطة إلَّا بالتعدِّي؛ فإذا أخذ اللُّقطة لزمه حِفْظُها.
وأمَّا إذا أخذها، وكان قادراً على تعريفها؛ ثمَّ ردَّها إلى موضعها؛ ضَمِنَها إذا تلفت، أو نقصت، ما لم يكن رَدَّها بإذن الإمام أو نائبه؛ لأنَّ للإمام نظراً في حفظ المال الذي لا يُعلم مالكه.
وإن ضاعت اللُّقَطَة من المُلتَقِط من غير تفريط، أو تقصير، في أثناء حَوْل التعريف؛ فلا ضمان عليه؛ لأنَّها أمانة في يده.
أمَّا لو تلفت، أو نقصت بعد انقضاء الحَوْل؛ فإنَّه يضمنها مُطْلَقاً، ولو لم يكن منه تقصيرٌ، أو تفريطٌ، وسواء تلفت بفعله، أو بفعل غيره؛ لأنَّها بعد الحَوْل تكون قد دخلت في مِلْكِه؛ فيضمنها بمثلها إن كانت مثليَّة، وبقيمتها يوم عَرَّف بها إن لم يكن لها مثل.
باب اللَّقيط
أوَّلاً: تعريفُ اللَّقِيط:
اللَّقِيط: هو طِفْلٌ لا يُعْرَف نَسَبُه ولا رِقُّه، نُبِذَ، أو ضلَّ، إلى سنِّ التمييز. وقيل: إلى سنِّ البلوغ.
ومعنى قوله: (نُبِذَ) أي: طُرح في شارع، أو على باب مسجد، ونحو ذلك.
وقوله: (ضلَّ) أي: ضاعَ أو تاه في الطريق، ولم يهتد لقومه.
ثانياً: حُكْمُ الْتِقاطِ اللَّقِيط:
الْتقاطُ اللَّقيط واجبٌ كفائيٌّ؛ إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإلَّا أثموا جميعاً مع إمكان أخذهم له.
ودليل وجوبه: قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، ولأنَّ فيه إحياء نفسٍ معصومةٍ؛ فكان واجباً؛ كوجوب إطعام المضطرِّ، وإنقاذ الغريق.
ثالثاً: أحكامُ اللَّقِيط:
1) ديانةُ اللَّقيط:
اللَّقيطُ إمَّا أن يُوجد في دار إسلام، أو في دار كُفْر.
أ - فإذا وُجِدَ اللَّقيط في دار إسلام؛ فلا يخلو الحال ممَّا يلي:
- أن يكون أهل دار الإسلام كلُّهم من المسلمين، وفيهم من يمكن كونه منه؛ فإنَّه يُحكمُ بإسلامه؛ اعتباراً بظاهر الحال، وتغليباً للإسلام؛ فإنَّه يعلو ولا يُعلَى عليه.
- أن يكون أهل دار الإسلام كلُّهم أهلُ ذمَّة؛ فيُحكم بكفره تبعاً لأهل الدار؛ لأنَّه لا يوجد فيها مسلم يُحتمل كونه منه.
- أن يكون غالب أهل دار الإسلام من أهل الذمَّة، وفيهم مسلم يمكن كون اللَّقيط منه؛ فيُحكم بإسلامه؛ تغليباً للإسلام، ولظاهر الدار.
ب- وإذا وُجدَ اللَّقيط في دار كفر؛ فلا يخلو حاله ممَّا يلي:
- أن يكون أهل دار الكُفْرٍ كلُّهم غير مسلمين، أو فيهم قلَّة من المسلمين؛ فيُحكَمُ بكفر اللَّقيط؛ لأنَّ الدار لهم؛ وتغليباً لعددهم.
- أن يكون أهل دار الكُفْر فيهم مسلمون كثيرون؛ فيُحكم بإسلام اللَّقيط؛ تغليباً للإسلام.
2) حُرِّيَّة اللَّقيط ورِقُّه:
يُحكمُ بحُرِّيَّة اللَّقيط سواءٌ وُجد في دار إسلام، أو دار كفر؛ لأنَّ الأصل في الآدميِّين الحُرِّيَّة؛ إذ إنَّ الله عز وجل خلقهم كذلك، والرِّقُّ عارِضٌ، والأصل عدمُه. وقد حَكَمَ عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه بحرِّيَّته؛ فعن سُنَيْنٍ أَبِي جَمِيلَةَ -رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ-:(أَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذًا فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَخْذِ هَذِهِ النَّسَمَةِ؟ فَقَالَ: وَجَدْتُهَا ضَائِعَةً فَأَخَذْتُهَا، فَقَالَ لَهُ عَرِيفُهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَكَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ عُمَرُ بْنِ الخَطَّابِ: اذْهَبْ؛ فَهُوَ حُرٌّ، وَلَكَ وَلاؤُهُ، وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ)[أخرجه مالك].
3) النَّفقةُ على اللَّقيط:
- إذا وُجدَ مع اللَّقيط مالٌ؛ فهو مِلكٌ له؛ لأنَّ يده عليه، والطفل يملك مِلكاً صحيحاً، ويُنفِقْ عليه مُلْتَقِطُه ممَّا وُجِد معه؛ لأنَّ النفقة تجب عليه من ماله.
- فإن لم يكن معه شيء؛ فتكون نفقته على بيت المال؛ كما دلَّ له أثر سُنَيْنٍ أَبِي جَمِيلَةَ؛ وفيه قول عمر رضي الله عنه: (اذْهَبْ؛ فَهُوَ حُرٌّ، وَلَكَ وَلاؤُهُ، وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ).
- وإذا تعذَّر الإنفاق عليه من بيت المال، اقترض الحاكم على بيت المال، وأنفق عليه. فإن تعذَّر الاقتراض على بيت المال؛ كانت نفقته على من عَلِمَ بحاله؛ لقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، ولأنَّ في الإنفاق عليه حِفْظاً له من الهلاك، وهو أمرٌ واجبٌ، ويكون المُنفِقُ في هذه الحال متبرِّعاً.
4) حَضانَةُ اللَّقيط:
الأحقُّ والأَوْلَى بحضانة اللَّقيط مَنْ وَجَدَه؛ لأنَّ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه دفع اللَّقيط إلى سُنَيْنٍ أبي جَميلة، وهو الذي وجده؛ فكان أَوْلَى به.
إلَّا أنَّه يشترط في الحاضن أن يكون:
أ - حُرًّا: فلا حضانة لعبدٍ، ولا مدبَّرٍ، ولا مكاتَب، ولا من كان عِتْقُه معلَّقاً على صفة، ونحو ذلك؛ لأنَّهم ناقصوا الأهليَّة، وليس لأيٍّ منهم التبرَّع بماله، ولا بمنافعه إلَّا بإذن سيِّده.
ب- مكلَّفاً: فلا حضانة لصغير، ولا مجنون، ولا يقرُّ في يد أيٍّ منهم؛ لأنَّه ليس لهما أن يَلِيا أمر نَفْسَيْهِما؛ فلا يَلِيان أمر غيرهما من باب أَوْلَى.
ج- رشيداً: فلا حضانة لسفيه؛ لأنَّه لا ولاية له على نفسه؛ فغيرُه من باب أَوْلَى.
د - أميناً: فلا حضانة لفاسق، ولا لمن اشْتُهِر بأخذ أموال الناس وسَلْبِها؛ فإنَّ عمر رضي الله عنه أقرَّ اللَّقيط في يد سُنين أبي جَميلة؛ حين قاله له عَريفُه:(إنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ). ولأنَّ المقصود بالحضانة حِفْظُ المحضون، والقيامُ على مصالحه، وهو لا يتحقَّق بوجوده عند غير الأمين.
- ولا حضانة لكافرٍ على لقيط مسلم؛ لأنَّ الكافرٍ لا ولاية له على مسلم، ولا يُؤمَنُ عليه أن يَفتِنَه في دِينِهِ.
هـ- عَدْلاً؛ ولو في الظاهر: لأنَّ الأصل في المسلمين العدالة، والعَدْل ظاهراً، كالعَدْل ظاهراً وباطناً في أكثر الأحكام.
5) حُكْمُ ما وُجِدَ مع اللَّقيط:
كلُّ ما وُجد مع اللَّقيط من مالٍ، أو متاعٍ، أو لباسٍ، أو حيوان؛ فهو له؛ إذا كان متَّصلاً به، أو قريباً منه؛ كأن يكون تحته، أو فوقه، أو في جيبه، أو مربوطاً به، أو مدفوناً تحته طريًّا، أو وضع إلى جنبه قريباً منه؛ لأنَّ الطِّفلَ يَملِك مِلْكاً صحيحاً؛ فيثبت مِلْكُه له لثبوت يده عليه؛ كالبالغ.
فإن كان منفصلاً بعيداً عنه، أو مدفوناً تحته غير طريٍّ، لم يكن له؛ اعتماداً على القرينة؛ فيكون لُقَطَةً لواجده.
6) ميراثُ اللَّقيط ودِيَتُه:
إذا مات اللَّقيط فترك ميراثاً، ولم يكن له وارث؛ فتَرِكَتُه لبيت مال المسلمين، ولا يرث المُلْتَقِط شيئاً؛ لأنَّ المورِّث إذا لم يكن له رَحِمٌ، ولا نكاحٌ؛ فالإرث
بالولاء؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ)[متَّفق عليه]؛ ولمَّا لم يثبت على اللَّقيط رِقٌّ، لم يكن للمُلتَقِط ولاؤه؛ فلم يكن له ميراثه. وقول عمرَ لسُنَينٍ أبي جَميلة:(وَلَكَ وَلَاؤُهُ)؛ أي: لك ولايتُه.
أمَّا لو تَرَك اللَّقيط وارثاً من أصحاب الفروض ممَّن لا يُرَدُّ عليه في الميراث؛ كالزوج، أو الزوجة؛ فيأخذ الوارث فرضه، والباقي لبيت المال.
وإن كان له وارث بالتعصيب؛ كابنٍ، أو وارث بالفرض ممَّن يُردُّ عليه في الميراث؛ كبنْتٍ، أو لم يكن له إلَّا ذا رَحِم؛ كابْنِ بنتٍ، أو بنْتِ بنْتٍ؛ أخذ الوارث جميع المال؛ لاستغراق العَصَبة جميع المال، ولأنَّ الرَّدَّ، وذا الرَّحِم مقدَّم على بيت المال.
- والحُكْم في دِيَة اللَّقيط إذا قُتِل كالحُكْم في ميراثه؛ لأنَّها من ميراثه، كسائر ماله.
7) ما يثبتُ به نَسَبُ اللَّقيط:
- إذا ادَّعى نَسَبَ اللَّقيطِ -ولو بعد موته- شخصٌ واحدٌ، يمكن كون اللَّقيط منه؛ فلا يخلو حال المدَّعِي ممَّا يلي:
أ - أن يكون المدَّعِي رجلاً مسلماً حُرًّا؛ فيُلْحَق به اللَّقيط بدون بيِّنة؛ لأنَّ الإقرار بالنَّسَبِ مصْلَحة محْضَة للَّقيط؛ لما فيها من اتِّصال نَسَبِه، ولا مَضَرَّة فيه على غيره.
ب- أن يكون المدَّعِي أُنثى مسلمةً حُرَّةً؛ فيُلْحَق بها اللَّقيط بدون بيِّنة؛ لأنَّ المرأةَ أحدُ الأبوين؛ فيثبتُ النَّسَبُ بدَعْوَاها؛ كالأب، ولأنَّه يمكن أن يكون منها؛ لأنّها قد تأتي به من زوج آخر، وقد تأتي به من وطء شُبْهة، ويلحقها وَلَدُها من الزنا، دون الرَّجُل.
ج- أن يكون المدَّعِي ذمِّيًّا -ذكراً أو أنثى-؛ فيُلْحَق به نَسَبُ اللَّقيط بدون بيِّنة، ولكن لا يتبعه في الدِّين إلَّا إذا أقام بيِّنة أنَّه وُلِدَ على فراشه؛ فيلْحَقُه في دِينِهِ لثبوت أنَّه وُلِد لذمِّيَّين، ولا حقَّ له في حضانته، إلَّا إذا أقام بيِّنة على تبعيَّته في الدِّين؛ لأنَّه قبل البيِّنة محكوم بإسلامه؛ فلا يُقبل قول الذمِّيِّ في كفره؛ لأنَّها دعوى تخالف الظاهر؛ فلم تقبل بمجرَّدها بدون بيِّنة.
- وإذا ادَّعى نَسَبَ اللَّقيط اثنان أو أكثر معاً، سُمِعت الدَّعوى، من غير فَرْقٍ بين مسلمٍ وكافرٍ، وحرٍّ وعبدٍ. فإن كان مع أحدهم بيِّنة، قُدِّم من كانت له بيِّنة؛ لأنَّها علامة تُظْهِرُ الحقِّ وتُبيِّنُه.
- فإنْ لم يكن لهم بيِّنة، أو تساوت بيِّناتُهم؛ عُرض اللَّقيط مع كلِّ مدَّعٍ، أو مع أقاربه -عند فقد المدَّعي- على القافة الذين يعرفون الأنساب بالشبه؛ فمن ألحقته به لحقه؛ لما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت:(إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا، تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ)[متَّفق عليه]؛ فسرور النبيِّ صلى الله عليه وسلم من كلام القائف يدلُّ على جواز الاعتماد على قوله.
وعن عروة بن الزُّبير: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ دَعَا الْقَافَةَ فِي رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا وَلَدَ امْرأَةٍ وَقَعَا عَلَيْهَا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ)[أخرجه عبد الرزاق].
وإنْ ألحقته القافة بالجميع لحقهم جميعاً، وكان ابناً لهم يرثهم، ويرثونه؛ لما جاء عن ابن عمرَ رضي الله عنهما:(أَنَّ رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا فِي طُهْرِ امْرَأَةٍ، فَوَلَدَتْ، فَدَعَا عُمَرَ الْقَافَةِ؛ فقالوا: أَخَذَ الشَّبَهَ مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ فَجَعَلَهُ بينهما)[أخرجه الطحاوي]، وفي
رواية: (فَجَعَلَهُ لَهُمَا، يَرِثَانِهِ وَيَرِثُهُمَا)[أخرجها البيهقي].
- أمَّا إذا أشكل أمرُه على القافة، أو لم يوجد قافة، أو نَفَتْه القافة عنهم، أو تعارضت أقوالهم؛ ضاع نسبه؛ لتعارض الأدلَّة، ولا مُرجِّح لمدَّعٍ على آخر.
- ويكفي في إلحاق نَسَبِ اللَّقيط قائفٌ واحدٌ؛ لأنَّ قوله كحُكْم الحاكم؛ فيكفي مجرَّد خَبَرِه.
- ويشترط في القائف ما يلي:
أ - أن يكون ذَكَراً؛ لأنَّ القافة حُكْمٌ يستند إلى النظر والاستدلال؛ فاعتُبِرَت فيه الذُّكُورَة؛ كالقضاء.
ب- أن يكون عَدْلاً؛ لأنَّ الفاسق لا يُقبَل خَبَرُه، ومقتضى هذا أن يكون مُسْلِماً.
ج- أن يكون حُرًّا؛ لأنَّه كالحاكم؛ فلا يصحُّ أن يكون عَبْداً.
د - أن يكون مشهوراً ومُجَرَّباً في الإصابة؛ لأنَّه أمرٌ عِلْميٌّ؛ فلا بدَّ من العِلْم بعِلْمِه له، وطريق ذلك التَّجرُبَة فيه، ويكفي في ذلك اشتهاره بالإصابة.
كتاب الوَقْف
أوَّلاً: تعريفُ الوَقْفِ:
الوقفُ لغةً: الحَبْسُ.
وشرعاً: هو تحبيسُ مالكٍ مطلقِ التَّصرفِ مالَه المُنتفَعَ به مع بقاء عَيْنِه، وتَسْبيلِ منفعته من غلَّةٍ، وثَمَرَةٍ، وغيرها على جِهَةِ برٍّ أو قُرْبَةٍ.
بمعنى أن يقوم المالك بحَبْسِ دارٍ، أو أرضٍ، أو بستانٍ، أو سيارةٍ، ونحو ذلك ممَّا يُمكن الانتفاع به؛ فيمنعُها عن كلِّ ما يَنْقِلُ مِلكيَّتها من بيعٍ، وشراءٍ، وهبةٍ، وميراثٍ، ونحو ذلك، ويجعل فوائدها من أُجرةٍ، أو غلَّةٍ، أو رَيْعٍ، وغير ذلك مصروفةً إلى جهة بِرٍّ أو قُربةٍ؛ كالفقراء والمساكين، أو المرضى، أو المساجد، أو الأقارب، أو فقراء آل زيدٍ، أو فقراء قبيلة عمروٍ، ونحو ذلك.
ثانياً: حكمةُ الوَقْفِ ومحاسنُه:
الوقفُ ممَّا اختصَّ به المسلمون؛ فلم يوجد قبل هذه الأمَّة، وهذا من مفاخر الإسلام وتشريعه الحكيم؛ إذ فيه من المصالح ما لا يوجد في سائر الصدقات؛ فقد يُنْفِقُ الإنسان أموالاً كثيرة في سبيل الله؛ على الفقراء، والمساكين، والأيتام وغير ذلك، ثمَّ يفنى المال؛ فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى، ويجيءُ آخرون من الفقراء فيبقوا محرومين، بخلاف ما لو حَبَسَ شيئاً من ماله؛ كعقارٍ أو أرضٍ ونحو ذلك عليهم أو على غيرهم من مصارف البِرِّ والصدقات، فتكون لهم منافِعُه وغلَّتُه، ويبقى أصله، ينتفع به جيلٌ بعد جيلٍ؛ فيعمُّ الخيرُ، ويكثُر البِرُّ، ويدوم
الأَجْرُ للواقف بعد وفاته.
ثالثاً: حكمُ الوَقْفِ:
الوقف قُربةٌ مستحبَّةٌ؛ لقول الله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].
ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضًا فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ، فِي الْفُقَرَاءِ، وَالْقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللّاهِ، وَالضَّيْفِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ). [أخرجه البخاري ومسلم].
رابعاً: أركانُ الوَقْفِ:
للوقف أربعةُ أركان: واقفٌ، وموقوفٌ، وموقوفٌ عليه، وصيغةٌ ينعقد بها.
خامساً: صيغةُ الوَقْفِ:
الصيغة التي ينعقد بها الوقف أحد أمرين:
الأمر الأوَّل: القول؛ وهو إمَّا صريح، وإمَّا كناية.
فالصَّريح: قوله: (وَقَفْتُ، أو حَبَسْتُ، أو سَبَّلْتُ). فهذه الألفاظ الثلاثة صريحة في الوقف؛ لأنَّها لا تحتمل غيره عُرْفاً وشَرْعاً؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: (إنْ
شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَسَبَّلْتَ ثَمَرَتَهَا)؛ فإذا قال: وقفتُ داري، أو حبستُ داري، أو سَبَّلتُ داري؛ فقد صارت وَقْفاً.
والكناية: كقوله: (تَصَدَّقْتُ، وَحَرَّمْتُ، وَأَبَّدْتُ)؛ فهذه ألفاظ كناية؛ لأنَّها تحتمل الوقف وغيره. ولذا يُشترط فيها نيَّة الوقف؛ لتصير وقفاً. فإذا قال: تصدَّقتُ بداري أو أرضي، أو حَرَّمتُ، أو أَبَّدْتُ، ونوى بذلك الوقف صارت داره أو أرضه وقفاً.
إلَّا إذا اقترن باللَّفظ الكنائيِّ لفظٌ من ألفاظ الوقف الصريحة؛ كأنْ يقول: تصدَّقتُ بكذا صدقةً موقوفةً، أَوْ مُحبَّسةً، أَوْ مُسبَّلةً. أو يقْرِن بلفظ الصدقة باقي ألفاظ الكناية؛ كأنْ يقول: تصدَّقْتُ بكذا صدقةً مُحرَّمةً، أو مُؤبَّدةً. أو يَقْرِن لفظ الكناية بحكم الوقف؛ كأنْ يقول: تصدَّقتُ بكذا صدقةً لا تُباع، أو لا تُوهب. أو يقول: تصدَّقتُ بداري على قبيلة كذا، أو طائفة كذا؛ فلا تشترط النيَّة حينئذٍ؛ لأنَّ هذه الصيغ لا تستعمل في غير الوقف؛ فأشبه ما لو أتى بلفظه الصريح.
وينعقد الوقف كذلك بالإشارة المُفْهِمة من الأخرس؛ لأنَّها تقوم مقام القول من النَّاطق.
الأمر الثَّاني: الفعل مع دليل يدلُّ عليه عُرفاً؛ كأنْ يبني بنياناً على هيئة المسجد، ويأذن للنَّاس إذناً عامًّا بالصَّلاة فيه، أو يجعل أرضه مقبرةً ويأذن إذناً عامًّا بالدفن فيها، أو يضع مُبَرِّدةُ ماءٍ على الطريق، أو في المسجد، ونحو ذلك؛ لدلالة الحال على تَسْبِيلِه ووَقْفِه. ولأنَّ الفعل مع وجود ما يدلُّ على الوقف كالقول؛ إذْ هما يشتركان في الدَّلالة على الوقف.
سادساً: شروطُ صحَّة الوَقْفِ:
يشترط لصحَّة الوقف سبعة شروط:
الشَّرط الأوَّل: أن يكون الوقف من جائز التَّصَرُّف؛ وهو البالغ العاقل الحرُّ الرَّشيد، المالك للعين الموقوفة أو وكيله؛ فلا يصحُّ الوقف من الصغير، أو المجنون، أو الرَّقيق، أو السَّفيه؛ كسائر تصرُّفاتهم الماليَّة، لا يصحُّ أن يقف الإنسان مِلك غيره دون إذنه.
الشَّرط الثَّاني: أن يكون الموقوف عيناً يصحُّ بيعها، والانتفاع بها انتفاعاً مباحاً مع بقائها؛ كالعقار؛ من أرضٍ، ودارٍ، وعِمارةٍ، ودُكَّانٍ، وبستانٍ، ونحو ذلك، وكالحيوان؛ من خيلٍ، وإبلٍ، وبقرٍ، وغنمٍ، ونحو ذلك، وكالسيَّارات لنقل النَّاس، أو لنقل المرضى، أو الموتى، ونحو ذلك، وكالسِّلاح للجهاد في سبيل الله، ونحو ذلك، وكالأثاث؛ من بِساطٍ، وسجَّادٍ لفَرْش المساجد، ونحو ذلك، وككتب العِلْم، والمصاحف، وغير ذلك.
أمَّا ما في الذمَّة فلا يصحُّ وقفه ولو كان موصوفاً؛ كما لو قال: وقفت داراً صفتها كذا، أو حيواناً صفته كذا، أو سيَّارة صفتها كذا؛ لأنَّه ليس بمعيَّن، والوقف نَقْلٌ للمِلك على وجه القُرْبَةِ والصَّدَقَةِ؛ فلم يصحَّ في غير المعيَّن، كما في الهِبَةِ.
ولا يصحُّ وقف ما لا يصحُّ بيعه؛ كالكلب، والخنزير، والمرهون، ونحو ذلك؛ لأنَّ الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وما لا منفعة فيه مباحة لا يحصل فيه تسبيل للمنفعة.
وأمَّا المرهون؛ ففي وقفه إبطال لحقِّ المرتهن منه، وهذا لا يجوز.
ولا يصحُّ وقف ما لا ينتفع به إلَّا بذهاب عَيْنه؛ كالمطعوم والمشروب -ما عدا الماء-، وكالدَّراهم والدَّنانير -لينتفع باقتراضها مثلاً-، ومثل مصابيح الإضاءة للمساجد، أو مواد النظافة، ونحو ذلك؛ لأنَّه لا يمكن الانتفاع بها إلَّا بتلف عينها. والوقف إنَّما هو تحبيس للأصل وتسبيل للمنفعة، وما لا ينتفع به إلَّا بإتلافه لا يصحُّ فيه ذلك. ولأنَّ الوقف يُرادُ للدَّوام؛ ليكون صدقةً جارية، ولا يتحقَّق ذلك فيما
لا تبقى عينه. بخلاف ما لو وقف على المسجد مثل النَّجفات أو الثُّريَّات التي تركَّب عليها مصابيح الإنارة؛ فهذه تسمَّى وقفاً؛ لأنَّه يُنتفع بها مع بقائها.
أمَّا الماء فيجوز وقفه؛ لحديث عثمان بن عفَّان رضي الله عنه: (أَنَّهُ اشْتَرَى بِئْرَ رُومَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَهَا لِلْغَنِيِّ وَالفَقَيرِ وَابْنِ السَّبِيلِ)[أخرجه الترمذي، والنسائي، وأصله عند البخاري]، وفي رواية: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: (فَاجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَأَجْرُهَا لَكَ)[أخرجها النسائيُّ].
وكذا لا يصحُّ وقف ما لا ينتفع به انتفاعاً مباحاً؛ كقناديل الذَّهب والفضَّة؛ فلا يجوز وقفها على المساجد؛ لأنَّ الانتفاع بها على هذا النحو غير مباح، بل تُكْسَر وتُصْرَف.
الشَّرط الثَّالث: أن يكون الوقف على جهة برٍّ وقُرْبَة؛ كالوقف على الفقراء، والمساكين، والأيتام، والأقارب، والمساجد، والجسور، والسِّقايات، والعُلماء، وطَلَبة العِلْم، وكُتُب العِلْم، والمدارس، والمستشفيات، والمجاهدين في سبيل الله -حقًّا-، ونحو ذلك؛ لأنَّ المقصود بالوقف التقرُّب إلى الله عز وجل؛ فإذا لم يكن على بِرٍّ
لم يحصل مقصوده الذي شُرع لأجله.
وعليه؛ فلا يصحُّ الوقف على معابد غير المسلمين؛ من كنائس، وبِيَعٍ، وصوامع، وبيوت نار، وغير ذلك؛ لأنَّه إعانة على المعصية وإظهار الكفر؛ فليس من البرِّ في شيء.
ولا يصحُّ الوقف على اليهود والنصارى؛ لأنَّه لا قربة في ذلك، بل الوقف عليهم إعانة لهم على كفرهم.
ولا يصحُّ الوقف على جنس الفُسَّاق وقُطَّاع الطريق؛ لأنَّه ليس من البرِّ، وفيه إعانةٌ لهم على فُجورِهِم.
وكذا لا يصحُّ الوقف على جنس الأغنياء؛ لأنَّه ليس من البرِّ.
بخلاف ما لو وقف على ذمِّيٍّ معيَّنٍ أو فاسقٍ معيَّنٍ أو غنيٍّ معيَّنٍ فإنَّه يصحُّ؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أَنَّ صَفِيَّةَ ابْنَةَ حُيَيٍّ أَوْصَتْ لِابْنِ أَخٍ لَهَا يَهُودِيٍّ)[أخرجه عبد الرزَّاق]. ولأنَّه يجوز بِرُّه والصَّدَقة عليه؛ فجاز الوقف عليه.
الشَّرط الرَّابع: أن يكون الوقف على معيَّنٍ؛ سواء كان جهةً؛ كمسجد كذا ونحوه، أم شخصاً كزيدٍ مثلاً. بشرط أن يكون الشخص ممَّن يصحُّ تملُّكه؛ فيقول مثلاً: وقفت أرضي على فلان، أو على أولادي، أو على مسجد كذا، أو على طَلَبة العِلْم، أو على الفقراء، أو المجاهدين، ونحو ذلك؛ إذْ لا يصحُّ الوقف على مجهولٍ أو مُبْهَمٍ؛ كما لو قال: وقفتُ على رَجُلٍ، أو على مسجدٍ، ونحو ذلك؛ لأنَّ ذلك يَصْدُقُ على كلِّ رَجُلٍ، وعلى كلِّ مسجدٍ. أو يقول: وقفتُ على أحد هذين الرَّجُلَيْن، أو على أحد هذين المسجِدَيْن، أو على إحدى هاتين القَبيلَتَيْن، ونحو ذلك؛ لأنَّ الوقفَ تمليكٌ، وتمليكُ غير المُعيَّن لا يصحُّ؛ كما في الهِبَةِ.
وكذا لا يصحُّ الوقف على مَنْ لا يصحُّ تملُّكه؛ كما لو قال: وقفت على فلان الميِّت، أو على فلان الرَّقيق، أو يقول: وقفت على جبريل عليه السلام، أو على الملائكة، أو على البهائم؛ لأنَّ هؤلاء لا يصحُّ تملُّكهم، والوقف تمليكٌ؛ فلم يصحَّ على مَنْ لا يملك.
* حُكْمُ الوَقْفِ على الحَمْل:
لا يصحُّ الوقف على الحَمْل استقلالاً؛ كأنْ يقول: هذا وقف على ما في بطن هذه المرأة؛ لأنَّ الحمل لا يصحُّ تمليكه بغير الإرث والوصيَّة؛ فلا يصحُّ الوقف عليه. بخلاف ما لو قال: هذا وقف على هذه المرأة وما في بطنها، أو هذا وقف على فلان ومن يُولد له، فيصحُّ؛ لأنَّه حينئذٍ ليس مستقلاًّ بل تبعٌ.
* حُكْمُ الوَقْفِ على النَّفْسِ:
لا يصحُّ الوقف على النَّفس؛ كما لو قال: وقفت على نفسي بيتي الفلانيَّ، أو أرضي، أو عِمارتي، ثمَّ على أولادي من بعدي، ونحو ذلك؛ لأنَّ الوقف تمليكٌ؛ إمَّا للعين، وإمَّا للمنفعة، وكلاهما لا يصحُّ هنا؛ إذْ لا يجوز له أن يُملِّك نَفْسَه مِنْ نَفْسِه، كما لا يجوز له أن يبيع ماله مِنْ نَفْسِه.
ويَنصرفُ الوقف إلى من بعدَه في الحال؛ فإذا وقف على نَفْسِه، ثمَّ على أولاده -مثلاً-، فإنَّه يُصرَفُ في الحال إلى أولاده؛ لأنَّ وجود مَنْ لا يصحُّ الوقف عليه كعدمه، فكأنّه وقفه على مَنْ بعده ابتداءً.
والرواية الثَّانية: أنَّه يصحُّ الوقف على النَّفس؛ لأنَّه يصحُّ أن يقف وقفاً عامًّا؛
كمسجدٍ أو مقبرةٍ، وينتفع بهما كغيره، فكذلك إذا خصَّ نفسه بانتفاعه، ولأنَّ فيه مصلحةً عظيمةً، وترغيباً في فعل الخير؛ لأنَّه إذا عَلِمَ أنَّه يجوز له أن يوقِفَ شيئاً من ماله ويستفيد من ريعه في حياته؛ فإنَّ هذا يكون مرغِّباً له فيه.
قال المرداوي: «قلت: وهذه الرِّواية عليها العمل في زماننا وقَبْلَه عند حُكَّامنا، من أزمنةٍ متطاولةٍ، وهو الصواب، وفيه مصلحة عظيمة، وترغيب في فعل الخير، وهو من محاسن المذهب» [الإنصاف (7/ 16)].
الشَّرط الخامس: أن يكون الوقف منجَّزاً؛ بمعنى أن يكون غير معلَّقٍ،
ولا مؤقَّتٍ، ولا مشروط فيه خيارٌ ونحوه؛ فلو قال: وقفت داري إن شفى الله مريضي، أو إن جاء زيدٌ من سفره. أو قال: داري وقفٌ إلى أن يرجع زيدٌ من سفره، أو إلى أن يُولَدَ لي وَلدٌ. أو قال: إذا جاء شهر رمضان فَدَارِي وقفٌ على كذا. أو قال: وقفتُ داري مدَّة سنة أو خمس سنوات، ونحو ذلك؛ لم يصحَّ الوقف؛ لأنَّه نَقْلٌ للمِلْكِ، فلم يَجُزْ تعليقُه على شرطٍ في الحياة؛ كما في الهِبَةِ.
إلَّا إذا علَّقه على موته؛ بأنْ قال -مثلاً-: إذا أنا مِتُّ فَدَارِي وقفٌ على الفقراء، أو الأيتام، ونحو ذلك؛ فيصحُّ الوقف حينئذٍ؛ لما جاء في وصيَّة عمر رضي الله عنه؛ حيث قال:(هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللهِ عُمَرُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، إِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ أَنَّ ثَمْغًا وَصِرْمَةَ ابْنِ الْأَكْوَعِ صَدَقَةٌ)[أخرجه عبد الرزَّاق، وأبو داود]. وثَمْغٌ -بفتح الثاء وسكون الميم- أرضُ نخلٍ تلقاء المدينة. وصِرْمَةُ: القطعة اليسيرة من النخل. وقيل: من الإبل، وكانتا لعمر رضي الله عنه فوقفهما. ولأنَّ هذا تبرع مشروطٌ بالموت فيصحُّ كالهبة والصَّدقة.
ويكون هذا الوقف لازماً من حين صدوره منه لا من حين موته؛ لأنَّ من أحكام الوقف لزومه في الحال، وذلك إذا كان في حدود الثلث؛ لأنَّه في حكم الوصيَّة، فإنْ زاد عن الثُّلث كان الوقف لازماً في الثُّلث، وكان لزوم الوقف في الزائد موقوفاً على إجازة الورثة.
الشَّرط السَّادس: أنْ لا يُشترط في الوقف ما ينافيه؛ كما لو قال: وقفت داري، أو دكَّاني، أو سيَّارتي على أنْ أبيعها أو أهبها متى شئتُ؛ أو على أن يكون لي الخيار فيها أبداً، أو مدَّة سنة، أو بشرط أن يكون لي تحويلها من جهة إلى جهة، أو بشرط أن أرجع متى شئت، ونحو ذلك؛ فلا يصحُّ الوقف حينئذٍ؛ لأنَّ هذا الشَّرط ينافي مقتضى الوقف.
الشَّرط السَّابع: أن يكون الوقف على التأبيد؛ فلو قال مثلاً: وقفتُ داري هذه شهراً، أو سنةً، أو عشر سنوات؛ لم يصحَّ الوقفُ؛ لمنافاة ذلك لمقتضاه؛ إذْ مقتضى الوقف التأبيد.
* حُكْمُ الوَقْفِ إذا لم يُعَيِّن الواقفُ له مَصْرِفًا:
يصحُّ الوقف إذا لم يعيِّن الواقف له مَصْرِفاً؛ بأنْ قال: وقفت داري، أو أرضي، أو سيَّارتي، وسكت؛ لأنَّ الوقف إزالة مِلكٍ على وجه القُربة؛ فيصحُّ مطلقاً؛ كالأضحيَّة والوصيَّة.
وينصرف إلى ورثته من جهة النَّسب لا من جهة النِّكاح؛ لأنَّ الوقف مصرفه البِرُّ، وورثته أولى النَّاس ببِرِّه، فكأنَّه عيَّنهم لصرفه. وقد قال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقَّاصٍ:
(إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ)[أخرجه البخاري، ومسلم].
ويكون لهم رَيْعه على قَدْرِ ميراث كلِّ واحدٍ منهم من الواقف، ولا يملكون في هذه الحال نَقْلَ المِلْكِ في رقبته؛ لأنَّه صار وقفاً.
فإنْ لم يكن له ورثةٌ انصرف الوقف إلى الفقراء والمساكين وقفاً عليهم؛ لأنَّ القصد بالوقف الثَّواب الجاري على وجه الدَّوام، وإنَّما قُدِّم الأقارب؛ لكونهم أَوْلَى، فإذا لم يكونوا، فالفقراء والمساكين أهلٌ لذلك.
* هل يَملِكُ الموقوفُ عليه الوَقْفَ؟
لا يخلو ذلك من حالتين:
الأُولى: أن يكون الموقوف عليه جهة عامَّة؛ كمسجد، أو مدرسة، أو الفقراء، أو الأيتام، أو طلبة العِلْم، ونحو ذلك؛ فهنا يكون مِلْكُه لله تعالى، وينتفع بالوقف من وُجِدَ فيه الوصف الذي اشترطه الواقف؛ من فَقْرٍ، أو يُتْمٍ، أو طَلَبِ عِلْمٍ، وغير ذلك؛ كما لو قال: هذه السيَّارة وقفٌ على الدُّعاة إلى الله، فهنا لا يملكها أحدهم، وإنَّما يَنتَفِعُ بها، ثمَّ يَرُدُّها إلى النَّاظر على الوقف.
الثَّانية: أن يكون الوقف على شخص معيَّن؛ كزيدٍ، أو عمرٍو، أو على جَمْعٍ محصورٍ؛ كأولادي، أو أولاد زيدٍ؛ فهنا يملك الموقوف عليه الوقف؛ لأنَّ الوقف سببٌ لنقل المِلك عن الواقف؛ فوجب أن ينتقل إلى الموقوف عليه في الحال؛ كما في البيع والهِبَةِ، ولأنَّ الوقفَ لو كان تمليكاً للمنفعة المجرَّدة لما كان لازماً، ولما زال
مِلْكُ الواقف عنه.
لكن لا يُباح للموقوف عليه التَّصرُّف فيه إلَّا بحسب ما أَذِن فيه الشَّرع؛ لأنَّه موقوف؛ فلو قال الواقف -مثلاً-: هذا البيت وقفٌ على زيدٍ؛ فلزيدٍ أن يَسكنَ فيه، أو أن يؤجِّره، أو أن يَهَبَ السُكنى فيه لمن يشاء، ونحو ذلك؛ لأنَّه يملكُ التصرُّف في منافعه، لكنَّه لا يملكُ التصرُّف في أصله؛ فليس له بيعه، أو هِبَتُه، أو الوصيَّة به، ونحو ذلك؛ لأنَّه موقوف.
* النَّاظِرُ على الوَقْفِ:
لا يخلو ذلك من أحوال ثلاثة:
الأُولَى: أن يكون الواقف قد عينَّ ناظراً بعينه على الوقف، فيكون هو الناظر حينئذٍ؛ سواءً كان الوقف على معيَّن أو على جهة عامَّة؛ لحديث عمر رضي الله عنه
-في وَقْفه- وفيه: (
…
تَلِيهِ حَفْصَةُ مَا عَاشَتْ، ثُمَّ يَلِيهِ ذُو الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا
…
) [أخرجه أبو داود]؛ فجعل النِّظارة لحفصة رضي الله عنها، ثمَّ لذَي الرأي من أهلها. ولأنَّ مَصْرِف الوقف يُتْبع فيه شرط الواقف؛ فكذلك النَّاظر فيه.
الثَّانية: أنْ لا يعيِّن الواقف ناظراً بعينه، والوقف على شخص معيَّنٍ، أو أشخاصٍ معيَّنين، ففي هذه الحال يكون الموقوف عليه هو الناظر على الوقف؛ كُلٌّ منهم يكون ناظراً على حصَّته إنْ كان أهلاً لذلك؛ بأن كان بالغاً عاقلاً رشيداً؛ لأنَّه مِلكه وغلَّته له. فإنْ لم يكن أهلاً للنَّظر على الوقف؛ بأنْ كان صغيراً أو مجنوناً أو سفيهاً، كان وليُّه هو النَّاظر عليه.
الثَّالثة: أنْ لا يعيِّن الواقف ناظراً بعينه، والوقف على جهة عامَّة؛ كالفقراء، أو الأيتام، أو طلبة العِلْمِ، ونحو ذلك؛ ففي هذه الحال يكون النَّاظر على الوقف هو الإمام أو من يُنيبه؛ لأنَّه ليس له مالكٌ معيَّن ينظر فيه.
* صَرْفُ الوَقِفِ إلى الجِهَةِ التي وُقِفَ عليها:
يتعيَّن صَرْفُ الوقف إلى الجهة التي وُقِفَ عليها في الحال؛ فلو وقف كتباً على طلبة العِلْم -مثلاً-، وَجَبَ صَرْفُها إليهم دون غيرهم بمُجرَّد الوقف. أو وقف عمارة على الأيتام أو الأرامل وجب صرف ريعها إليهم في الحال؛ وكذا لو وقف ماءً للشُّرب لم يجُز الوضوء ولا الغسل به، وهكذا؛ لأنَّ تعيينه لهذه الجهة صَرْفٌ لها عمَّا سواها؛ ولو لم يجب اتِّباع تعيينه لم يكن له فائدة.
إلَّا إذا استثنى الواقف منفعته أو ريعه أو غلَّته لولده أو لصديقه -مثلاً- مدَّة حياته، أو مدَّة معلومة -كسَنةٍ مثلاً-؛ فيُعمل بذلك؛ فلو قال: وقفت هذه العمارة على مسجد كذا على أن يكون ريعها مدَّة حياتي لي، أو لأولادي، أو لأولاد فلان؛ صحَّ الوقف، ويُعمل بما قاله؛ لحديث عمر رضي الله عنه السابق؛ وفيه:(لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ)؛ فشرط أَكْل الوالي منها، وكان هو الوالي عليها إلى أن مات. ولأنَّه لو وقف وقفاً عامَّا؛ كالمساجد أو القناطر (الجسور) -مثلاً- كان له الانتفاع به، فكذلك هنا.
فإن مات الواقف أثناء المدَّة التي اشترط نفعها له، كان لورثته الانتفاع بما اشترطه بقيَّة المدَّة؛ كما لو باع داراً واستثنى سُكناها سنة، ثمَّ مات في أثنائها.
* إذا انقطعتِ الجِهَةُ الموقوف عليها والواقِفُ لا يزال حيًّا؛ فهل يعود إليه الوقف؟
إذا انقطعت الجهة الموقوف عليها والواقف على قيد الحياة؛ كما لو وقف داراً على أولاده فقط، أو على أولاد زيدٍ فقط، فماتوا في حياته؛ رجعت إليه الدار مرَّة أخرى وقفاً عليه؛ يتصرَّف فيها مدَّة حياته - بغير بيع ولا هبة ونحو ذلك؛ لأنَّها خرجت عن مِلكه-؛ لأنَّه الأقرب إلى الموقوف عليهم. فإذا مات كانت للفقراء والمساكين.
* مَنْ وَقَفَ على الفقراءِ ثمَّ افْتَقَرَ:
- من وقف على الفقراء وقفاً كدارٍ أو أرضٍ ونحو ذلك، ثمَّ افتقر بعد ذلك؛ جاز له أن يأخذ من ريع أو غلة ما وقف؛ وذلك لوجود الوصف الذي شرطه في الموقوف عليهم؛ وهو الفقر؛ فيشمله الوقف حينئذٍ.
* شَرْطُ الوَاقِفِ:
نصُّ الواقف كنصِّ الشارع في جوب العمل والاتِّباع؛ فيجب العمل بجميع ما شرطه الواقف ما لم يخالف الشَّرع، أو يفضي إلى مخالفة مقصوده؛ لقول الله عز وجل في الوصيَّة:{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 181]؛ فبيَّن الله عز وجل أنَّ من بدَّل الشَّرط الذي اشترطه الموصي في نقل مِلكه بعدما سمعه فعليه الإثم، فدلَّ ذلك على وجوب اتِّباع شَرْطه والعمل به؛ لحديث عمر رضي الله عنه السابق؛ إذْ اشترط في وقفه شروطاً؛ فقال: (
…
فِي الْفُقَرَاءِ، وَالْقُرْبَى، وَالرِّقَابِ،
وَفِي سَبِيلِ اللّاهِ، وَالضَّيْفِ، وَابْنِ السَّبِيلِ
…
). وقال أيضاً: (
…
تَلِيهِ حَفْصَةُ مَا عَاشَتْ، ثُمَّ يَلِيهِ ذُو الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا
…
)؛ فلولا أنَّه يجب تنفيذها لكان اشتراطه لها لا فائدة منه. ولأنَّ ابتداء الوقف مفوَّض إلى واقفه؛ فيتَّبع شرطه فيه.
ومن الأمور التي يجب العمل فيها بشرط الواقف ما يلي:
- مَصْرِف الوَقْفِ؛ فإذا قال: وقفت هذه العمارة على الأيتام أو على المطلَّقات، لم يجُز صرفها إلى غيرهم، أو قال: وقفته على زيدٍ وعمروٍ، لم يجُز صرفه إلى غيرهما. أو قال: وقفته على أولادي لصُلْبي، لم يكن لأولادهم شيئاً؛ لوجوب العمل بشرط الواقف.
- قِسمة غَلَّة الموقوف؛ كما لو قال: وقفت هذه العمارة على أن يكون ثلاثة أرباعها للفقراء وربعها لأبنائي، أو قال: على زيدٍ وعمروٍ؛ على أن يكون لزيدٍ ثلثا ريعها، ولعمروٍ الثُّلث، فإنَّه يُعمل بشرطه.
فإن جُهل شرطه في ذلك ولم يُعرف؛ فإنَّه يُعمل بالعادة الجارية في قِسمة الوقف؛ فلو كانت العادة الجارية -مثلاً- أن يكون الثُّلثان لأولاد الواقف والثُّلث للفقراء والمساكين عُمل بذلك. فإنْ لم تكن عادة جارية؛ رُجع إلى العُرْف المستقرِّ بين النَّاس؛ فلو كان العُرْف يقضي بأن يكون الثُّلثان للفقراء -مثلاً- والثُّلث للأبناء؛ فإنَّه يعمل بذلك؛ لأنَّ العادة المستمرَّة والعُرْف المستقرَّ في الوقف يدُلَّان على شرط الواقف أكثر من دلالة لفظ الاستفاضة (الشُّهرة).
فإن لم تَكن عادةٌ جاريةٌ، ولا عُرْفٌ مستقرٌّ ببلدِ الواقف؛ كما لو كان يعيش في البادية -مثلاً-، فيُسَاوى حينئذٍ في صَرْف الوقف بين المستحقِّين؛ لثبوت الشَّرِكة فيه بين المستحقِّين دون تفضيل، وهذا يقتضي المساواة.
- التَّرتيبُ بين مستحقِّي الوَقْفِ؛ فلو قال -مثلاً-: وقفتُ هذا البيت على أولادي، ثمَّ أولادهم؛ فيكون ريع الوقف كلُّه لأولاده، ولا يستحق أولاد الأولاد شيئاً ما دام أحد الأولاد حيًّا. وكذا لو قال: وقفت هذا البيت على زيدٍ ثمَّ عمروٍ؛ فلا يستحقُّ عمرو منه شيئاً ما دام زيدٌ حيًّا.
- الجَمْعُ أو الاشتراكُ بين المستحقِّين؛ كما لو قال: وقفت هذه الأرض على أولادي وأولادهم، أو على أولادي وأولاد زيد؛ فيشترك الجميع حينئذٍ في الوقف؛ على التساوي بين الجميع.
- التَّقديمُ والتَّأخيرُ؛ فلو قال -مثلاً-: وقفتُ على زيدٍ وعمرٍو، على أن يُبدأ بزيدٍ فيُعطى مائة دينار أو ألفاً، فيُعمل بذلك ويُبدأ بزيدٍ؛ فيُعطى المقدَّر له، فإنْ بقي بعد ذلك شيء كان لعمرٍو، وإلَّا فلا شيء له.
- إيجارُ الوَقْفِ وعدمُه، ومُدَّتُه؛ فلو قال: وقفت هذه العمارة على أولادي وأولادهم للسُّكنى فقط؛ فيُعمل بذلك؛ فلا يجوز تأجيرها. أو قال: وقفتُها على أولادي وأولادهم على ألَّا تُؤَجَّر أكثر من سنةٍ، عُمِلَ بشرطه؛ فلا يجوز تأجيرها أكثر من ذلك إلَّا عند الضَّرورة؛ كما لو تعطَّلت منافع الموقوف، ولم يمكن تعميره إلَّا بذلك؛ فتجوز الزيادة في المدَّة بحسب ما تقتضيه الضَّرورة؛ لأنَّ عمارة الوقف واجبة، وما لا يتمُّ الواجب إلَّا به فلا بدَّ من فعله، وهذا واجب بالشَّرع، وعلى ذلك عمل القضاة من أزمنة طويلة.
- تعيينُ النَّاظِرِ على الوَقْفِ؛ وقد تقدَّم ذلك.
- إذا شرط ألَّا ينزل في الوقف فاسقٌ -سواء كان فِسقُه بظُلْمِه للخلق، وتعدِّيه
عليهم بقوله أو فعله، أو كان فسقه بتعدِّيه حدود الله-، أو مبتدعُ، أو شرِّيرُ، أو ذو جاهٍ، أو ذو منصبٍ؛ فهذا شرطٌ صحيح؛ فيجبُ العمل به.
- إذا خصَّص مقبرةً أو مدرسةً بأهل مذهبٍ معيَّنٍ؛ كالحنابلة، أو الشافعيَّة، أو شرطها لأهل بلدٍ معيَّنٍ؛ كالكويت، أو العراق، أو مصر، أو شرطها لقبيلةٍ بعينها؛ كبني تميمٍ، أو بني كعبٍ، ونحو ذلك، أو وقف مسجداً وشرط إمامته أو الخطابة فيه لأهل مذهبٍ معيَّن، أو بلدٍ معيَّن، أو قبيلةٍ بعينها؛ فإنَّه يُعمَلُ بشرطه في ذلك كلِّه.
* إذا خالَفَ شَرطُ الواقفِ الشَّرعَ أو مقصودَه:
إذا كان شرط الواقف مخالفاً للشرع أو مقصوده فإنَّه لا يعمل به؛ كما لو وقف مسجداً وشرط لإمامته صاحب مذهب مخالفٍ -في شيءٍ من أحكام الصلاة- لصريح السُّنَّة أو لظاهرها؛ سواء كان خلافه لعدم الاطِّلاع على السُّنَّة أو لتأويلٍ ضعيفٍ؛ إذْ لا يجوز اشتراط مثل هذا.
- وكذا لو وقف مسجداً وشرط ألَّا يصلِّي فيه إلَّا أهلُ مذهبٍ بعَيْنِه، أو قبيلةٍ بعَيْنِها؛ فإنَّه لا يُعمَلُ بشرطه، وكان لغيرهم الصَّلاة فيه؛ لأنَّ إثبات المَسْجِدِيَّة تقتضي عدم الاختصاص؛ إذْ المسجد بُنِيَ لإقامة الصَّلاة، وهي ليست لقومٍ دون قومٍ.
- وكذا لو شرط في وقفه ألَّا يُعْطَى منه مَنْ سلك طريق الصلاح والاستقامة؛ كما لو قال: وقفتُ هذه العمارة على أولادي، على ألَّا يُعطَى منها للصالح من أولادي؛ لم يُعمل بشرطه؛ لأنَّ هذا يخالف مقصود الشَّرع. أو يقول: وقفت هذه
العمارة على أهل العُزوبة فقط؛ فلا يستفيد منها المتزوجون؛ فلا يُعمل بشرطه؛ لأنَّ المتزوج أحقُّ من المتعزِّب إذ استويا في الصِّفات.
* شروطُ النَّاظِرِ على الوَقْفِ:
يشترط في النَّاظر على الوقف خمسة شروط:
1) الإسلامُ؛ فلا يجوز أن يكون النَّاظر على الوقف كافراً إذا كان الموقوف عليه مسلماً، أو كان جهة من جهات الإسلام؛ كمسجد ومدرسة ونحو ذلك؛ لقول الله عز وجل:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]. أمَّا إن كان الموقوف عليه كافراً معيَّناً -وقد مرَّ جواز الوقف عليه- فله أو لوليِّه النِّظارة عليه؛ لأنَّه مِلْكُه.
2) التَّكليفُ؛ بأن يكون بالغاً عاقلاً رشيداً؛ لأنَّ غير المكلَّف لا ينظر في مِلكه المطلق، ففي الوقف من باب أَوْلَى، ولأنَّ السَّفيه محجورٌ عليه في تصرُّفاته في ماله؛ فلا يتصرَّف في مال غيره.
3) الكفايةُ في التَّصرُّف؛ بأن يكون كُفئاً؛ قادراً على التَّصرُّف وضبط أمور الوقف وأشتاته.
4) القوَّةُ عليه؛ بأنْ يكون قويًّا؛ بحيث يتمكَّن من الحفاظ على الوقف، واستخلاص رَيْعه وصرفه في مصارفه.
5) الخِبرةُ به؛ بأنْ يكون ذا علم ودراية بكيفيَّة إدارة الوقف؛ لأنَّ مراعاة حفظ الوقف مطلوبةٌ شرعاً. فإنْ لم يكن النَّاظر متَّصفاً بهذه الصِّفات لم يمكنه مراعاة حفظ الوقف.
فإنْ كان النَّاظر ضعيفاً -سواء عيَّنه الواقف أو تعيَّن لكون الوقف عليه-؛ فإنَّه يُضمُّ إليه ناظرٌ قويٌّ أمينٌ؛ ليُكمل ما نقص ويحصل المقصود.
* اشتراطُ الذُّكورَةِ في النَّاظِرِ:
لا يشترط في النَّاظر الذكورة؛ فيجوز أن تكون المرأة ناظراً على الوقف؛ لأنَّ عمر رضي الله عنه أوصى بالنَّظر على الوقف إلى حفصة رضي الله عنها.
* اشتراطُ العَدالَةِ في النَّاظِرِ:
لا يخلو ذلك من أحوال:
الحالة الأُولَى: أن يكون الواقف قد عيَّن ناظراً -غير الموقوف عليه-؛ فلا تشترط فيه العدالة؛ لأنَّ الواقف شرَطَه؛ لكن إن كان فاسقاً ضُّمَّ إليه ناظر عَدْلٌ؛ لما في ذلك من العمل بشرط الواقف، وحفظ الوقف.
الحالة الثَّانية: أن يكون الموقوف عليه هو النَّاظر؛ سواء عيَّنه الواقف أو لم يعيِّنه؛ لكنَّه تعيَّن؛ لكون الوقف عليه، وكان أهلاً للنّظارة وإلَّا قام وليُّه مقامه -كما تقدَّم-؛ فلا تشترط العدالة حينئذٍ؛ لأنَّه يملك الوقف، فهو ينظر لنفسه.
الحالة الثالثة: أنْ لا يعيِّن الواقف ناظراً، والوقف على جهةٍ؛ كمسجد، أو مدرسةٍ، ونحو ذلك، أو على أشخاصٍ غير محصورين؛ كالفقراء، أو طلبة العِلْمِ، ونحو ذلك، فتكون النِّظارة للحاكم، أو من يُعيِّنه، فإذا عيَّن الحاكم ناظراً؛ اشتُرطت فيه العدالة؛ لأنَّها ولاية على مالٍ فاشترط لها العدالة؛ كالولاية على مال اليتيم.
وليس للحاكم النَّظر في الوقف مع وجود ناظره؛ وليس له الاعتراض عليه أو
منعه؛ ما دام قائماً بأمر الوقف، ساعياً في مصلحته؛ إلَّا إذا فعل النَّاظر في الوقف ما لا يسوغ فعله؛ كما لو خالف شرط الواقف، أو أجَّر الوقف على من يستعين به في المعصية، أو أراد هدم الوقف أو تكسيره دون مصلحةٍ؛ فللحاكم حينئذٍ منعه والاعتراض عليه؛ وذلك لعموم ولايته.
* وظيفةُ النَّاظِرِ على الوَقْفِ:
يتعيَّن على النَّاظر أن يقوم بحفظ الوقف وعمارته، وإيجاره، وزرعه إن كان أرضاً، والمخاصمة فيه؛ من مطالبةٍ بحقوقه، وتخاصمٍ إلى القضاء إن احتاج إلى ذلك، وتحصيل رَيْعه؛ من أُجرةٍ، أو زرعٍ، أو ثَمَرٍ، والاجتهاد في تنميته، وصرف الرَّيْع في جهاته؛ من عمارةٍ، وإصلاحٍ، وترميمٍ، وإعطاء المستحقِّين له، ونحو ذلك؛ لأنَّ النَّاظر هو الذي يلي الوقف، وحفظه، وحفظ ريعه، وتنفيذ شرط واقفه، وطلب الحظِّ فيه مطلوب شرعاً، فكان ذلك إلى النَّاظر.
* تصرُّفاتُ النَّاظِرِ:
- إذا أجَّر الناظر الوقف بأنقص من أُجرة مثله؛ كما لو كان الموقوف عمارة، تحتوي على عدد من الشُّقق تؤجَّر، فقام النَّاظر بتأجيرها بأقلَّ من أُجرة مثلها، صحَّ عقد الإجارة، لكنَّ النَّاظر يضمن هذا النقص؛ لأنَّه يتصرَّف في مال غيره على وجه الحظِّ وطلب المصلحة له، فيضمن ما نقصه بعقده؛ كما في الوكالة؛ فإنَّ الوكيل إذا باع بدون ثمن المِثْل، أو أَجَّر بدون أُجرة المِثْل، ضمن ذلك للمُوكِّل، إلَّا في حالتين؛ لا يضمن الناظر فيهما:
الحالة الأُولَى: أن يكون هذا النقص يسيراً؛ لأنَّه يُتسامح فيه عادةً، ولا يُلتفت إليه.
الحالة الثَّانية: أن يكون هو المستحقُّ لهذه الأجرة؛ كأنْ يكون هو الموقوف عليه، وهذا الريع أو هذه الأجرة ترجع إليه، فلا يضمن حينئذٍ؛ لأنَّه ماله؛ يتصرَّف فيه كما يشاء.
- للنَّاظر أن يأكل من مال الوقف بالمعروف؛ فلا يضرُّ بالوقف ولا بالموقوف عليهم، ولو لم يكن محتاجاً؛ لحديث عمر رضي الله عنه السابق، وفيه:(وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالمَعْرُوفِ).
- للنَّاظر أن يقرِّر في وظائف الوقف؛ فيُنَصِّب مَنْ يقوم بوظائفه؛ من إمامٍ، ومؤذِّنٍ، ومدرِّس، ومحفِّظٍ، ومحاسبٍ، وعاملٍ، وحارسٍ، ونحو ذلك؛ لأنَّ ذلك من مصالح الوقف التي يُوكَلُ إلى الناظر القيام بها.
- إذا عُيِّن أحدٌ في وظيفةٍ من وظائف الوقف، وكان تعيينه على وَفْق الشرع؛ بأن كان مستحقًّا لذلك، أهلاً لتولِّيها والقيام بها؛ فإنَّه يحرم على النَّاظر وغيره إخراجه منها بلا موجب شرعيٍّ يقتضي عزله؛ كطروء فسق عليه ينافي وظيفته، أو تفريطه في وظيفته وعدم قيامه بها.
- من تعيَّن في وظيفةٍ من وظائف الوقف؛ كإمامةٍ، أو خطابةٍ، أو تدريسٍ، ونحو ذلك، ثمَّ تنازل عنها لمن هو أهلٌ للقيام بها؛ صحَّ ذلك، وكان أحقَّ بها من غيره؛ لأنَّه حَقٌّ للنازل نَقَلَهُ إلى غيرِه، إلَّا إذا رفض ذلك مَنْ له حقُّ الولاية على الوقف؛ كالناظر؛ فتعود الوظيفة ثانيةً إلى النَّازل عنها؛ لأنَّه لم يحصُل منه رغبة
مطلقة عن وظيفته، بل مقيَّدة بحصوله للمنزول له، ولم يحصل.
- ما يأخذه الفقهاء أو المدرسون في مدارس الوقف في مقابل عملهم، أو الأئمة أو المؤذنون العاملون في مساجد الوقف، إنَّما هو كالرِّزْق من بيت المال للإعانة على الطاعة، والعِلْمِ، ودفع الحوائج، وليس كأُجرة أو جُعالة استُحِقَّت في مقابل عمل. ولا يُخْرِج ذلك عمَلَهُم عن كونه قربةً لله عز وجل، كما لا يقدح في إخلاصهم؛ لأنَّه لو قدح ما اسْتُحِقَّت الغنائم في المعارك والغزوات. وقد مرَّت مسألة أخذ الأجرة على أعمال القُرب بتمامها في باب الإجارة.
* ألفاظُ الواقِفِ في الموقوف عليهم:
- إذا وقف الواقف على ولده، أو أولاده، أو على أولاد غيره؛ كما لو قال: وقفت على ولدي، أو أولادي، ثمَّ على المساكين، أو قال: وقفت على أولاد زيدٍ، ثمَّ على المساكين، كان الوقف لأولاده أو لأولاد زيدٍ الموجودين حال الوقف فقط -ولو كان حَمْلاً-، ذكوراً كانوا أو إناثاً أو خُنَاثى -جمع خنثى-؛ لأنَّ اللفظ يشملهم؛ لأنَّ الولد مصدرٌ أريد منه اسم المفعول؛ أي المولود؛ قال الله عز وجل:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]؛ فجعل الأنثى من الأولاد، لكنَّ الحَمْل لا يستحقُّ من ريع الوقف إلَّا بعد ولادته؛ لأنَّه لا يُسمَّى ولداً قبلها.
ويكون الوقف بينهم بالسويَّة؛ لأنَّ الواقف جعله شِرْكاً بينهم، وإطلاق التَّشريك يقتضي التَّسوية؛ فيكون للأنثى مثل ما للذَّكَر.
أمَّا من وُلِدَ بعد ذلك؛ بأنْ حَمَلَتْ به أُمُّه بعد صدور الوقف فلا حقَّ له فيه؛
لأنَّه لم يكن موجوداً مع مَنْ وقع عليهم الوقف مسبقاً.
والرواية الثَّانية: أنَّ من وُلد بعد ذلك له أو لزيدٍ دخل في الوقف كالموجودين؛ بدليل دخول أولاد الأولاد الذكور في قول الواقف: (وقفت على أولادي) -كما سيأتي-؛ فإذا دخل أولاد الأولاد في الوقف وقد وُلِدوا بعد الوقف، كان دخول أولاده -لصلبه- الحادثين بعد الوقف أَوْلَى؛ لأنَّهم أولاده حقيقة.
بخلاف ما لو صرَّح؛ فقال: وقفت على ولدي ومَنْ يولد لي؛ فيدخل حينئذٍ في الوقف أولاده الموجودون حالة الوقف، ومن سيولد له بعد ذلك؛ لأنَّه نصَّ على ذلك.
- ويدخل في الوقف أيضاً أولاد أولاده البنين -الموجودين- وإنْ سفلوا، سواء وجدوا حالة الوقف أو لا؛ لأنَّ ولدَ ابنه ولدٌ له؛ لقول الله عز وجل {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(ارْمُوا بَنِى إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا)[أخرجه البخاري]. ولأنَّ كلَّ موضعٍ ذَكر الله تعالى فيه الولد دخل فيه ولد البنين، فكذا المطلق من كلام الآدمي إذا خلا عن قرينةٍ فإنَّه يُحمل على المطلق من كلام الله تعالى، ويُفسَّر بما يُفسَّر به. ويستحقُّونه مرتَّباً بعد آبائهم؛ فلا يُعطى أولاد الأبناء مع وجود الأبناء.
إلَّا إذا قيَّد ذلك الواقف؛ كما لو قال: وقفت على ولدي لصُلبي، أو على أولادي الذين يلونني؛ فلا يشملهم الوقف حينئذٍ.
وأمَّا أولاد البنات فلا يدخلون في الوقف؛ لأنَّهم لا يُنسبون إلى الواقف، وإنَّما يُنسبون إلى آبائهم؛ قال تعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 15].
وقال الشاعر:
بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ.
وسواء كان أولاد أولاده الذُّكور موجودين حالة الوقف، أو وُلدوا بعد ذلك في حياة الواقف. أمَّا من وُلد بعد موت الواقف فلا يدخل معهم في الوقف حينئذٍ؛ لعدم وجوده عند موت الواقف؛ كما في الوصيَّة.
- إذا قال: وقفت على عَقْبي، أو على نَسْلي، أو على ولد ولدي، أو على ذُرِّيَّتي؛ دخل في ذلك أولاده الذُّكور والإناث، وأولاد أولاده الذكور وإنْ سفلوا، ولا يدخل في ذلك أولاد الإناث؛ لما تقدَّم؛ إلَّا بقرينة؛ كما لو قال: وقفت كذا على أولادي ومَنْ مات عن ولدٍ فنصيبه لولده، فيدخل أولاد البنات في ذلك؛ لأنَّه قال: من مات عن ولدٍ، والبنت قد تموت عن أولادها فيدخلون، ويكون نصيبها لهم.
وكذا لو قال: وقفت على أولادي؛ فلان، وفلان، وفلانة، ثمَّ أولادهم، أو قال: هذا وقف على أولادي، ويُفَضَّل أولاد الأبناء، أو قال: هذا وقف على أولادي على أن يكون لولد الذكر سهمان، ولولد الأنثى سهم، ونحو ذلك؛ فيدخل حينئذٍ ولد الأنثى؛ للقرينة الدَّالة على دخوله.
- من وقف على بَنِيهِ أو على بَنِي زيدٍ -مثلاً-، كان ذلك خاصًّا بالذُّكور؛ لأنَّ لفظ البنين وضع لذلك حقيقة؛ كما قال الله عز وجل:{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات: 153]. ولا يدخل فيه الخُنْثى؛ لأنَّه لا يُعلم هل هو ذكرٌ أم لا.
وإنْ خصَّ بناته فقط؛ كما لو قال: وقفت على بناتي؛ كان لهنَّ خاصة؛ دون الذكور أو الخُناثى.
إلَّا إذا كان الوقف على قبيلةٍ كبيرةٍ؛ كبني هاشمٍ، أو بني تميمٍ، ونحو ذلك، فيشمل الوقف النِّساء حينئذٍ -دون أولادهن من غير رجال القبيلة-؛ لقوله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]. وهذا يشمل الذَّكر والأُنثى. ولأنَّ اسم القبيلة يشمل ذَكَرَها وأُنثاها.
* التَّفْضيلُ في الوَقْفِ على الأولاد:
- يُكره في الوقف تفضيل بعض الأولاد على بعضٍ، أو تخصيص بعضهم بالوقف دون بعضٍ لغير سببٍ شرعيٍّ؛ لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى التقاطع بينهم.
والسُّنَّة أنْ لا يُزاد الذَّكر على الأنثى، وإنَّما يقسمه الواقف على أولاده؛ للذَّكر مثل حظِّ الأنثى؛ لأنَّ القصد هو القربة على وجه الدَّوام، وقد استووا في القرابة.
أمَّا إذا كان التخصيص أو التفضيل لسببٍ يقتضي ذلك؛ كما لو كان بعضهم
ذو عيالٍ، أو به فقر أو عجز عن التكسُّب، أو مشتغلاً بطلب العلم، أو كان من أهل الديانة والصلاح؛ فلا بأس حينئذٍ من التَّخصيص أو التَّفضيل؛ لأنَّه لِغَرَضٍ مقصودٍ شرعاً. لحديث عائشة رضي الله عنها قالت:(إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ نَحَلَهَا جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقاً مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ)[أخرجه مالك، وعبد الرزَّاق].
* لزومُ الوَقْفِ:
الوقف عقد لازم؛ يلزم بمجرَّد صدوره من الواقف؛ سواء كان بلفظٍ أو بفعلٍ يدلُّ عليه، ويزول عنه مِلك الواقف، ولا يشترط للزومه خروجه عن يد الواقف، ولا قبول الموقوف عليه إن كان شخصاً معيَّناً؛ لأنَّه تبرُّع يمنع البيع والهبة؛ فيلزم
بمجرَّده. ولا ينفسخ برجوعٍ ولا بإقالةٍ ولا بغير ذلك؛ لأنَّه عقد يقتضي التأبيد.
ولا يصحُّ بَيعُه، ولا هِبَتُه، ولا رَهْنُه، ولا إِرْثُه، ولا إبْدالُه -ولو بخيرٍ منه-؛ لحديث عمر رضي الله عنه السابق-، وفيه:(فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ).
إلَّا إذا تعطَّلت منافعه المقصودة به بالكُلِّيَّة؛ بحيث أصبح لا يُنتفع به لخرابٍ أو غيره؛ كما لو انهدمت العمارة الموقوفة، أو المدرسة الموقوفة، أو خرِبت الأرض الموقوفة للزراعة، ولا يوجد فِي رِيع الوقف ما تُعمَّر به، أو كان الموقوف مسجداً، وتعذَّر الانتفاع به؛ بأنْ ضاق على أهله؛ وتعذَّرت الصَّلاة فيه، ولا يُمكن توسعته، أو كان المسجد في بلدةٍ فخرِبت ولم يبق فيها ساكنٌ، بل أصبحت مزارع وبساتين -مثلاً-، أو صار موضعه قذراً، ولا يمكن الصَّلاة فيه، ونحو ذلك؛ فحينئذٍ يجب بيع الوقف؛ لأنَّ عمرَ رضي الله عنه كتب إلى ابن مسعودٍ رضي الله عنه لما بلغه أنَّ بيت المال الذي في الكوفة نُقِب-:(أَنِ انْقُلِ المَسْجِدَ، وَاجْعَلْ بَيْتَ المَالِ مِمَّا يَلِي القِبْلَةَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ في المَسْجِدِ مَنْ يُصَلِّي. فَنَقَلَهُ عَبْدُ الله)[أخرجه الطبراني في الكبير]؛ فقد أمره عمرُ رضي الله عنه بنقله من مكانه؛ فدلَّ على جواز نقل الوقف من مكانه وإبداله بمكان آخر، وهذا معنى البيع. ولأنَّ الوقف مؤبَّد، فإذا لم يمكن تأبيده بعينه استبقينا الغرض منه؛ وهو الانتفاع على وجه الدَّوام في عينٍ أخرى.
ويُشترى بثمنه مِثْلَه إن أمكن؛ فتُشترَى عمارة أخرى، أو مدرسة أخرى، أو أرض أخرى لتزرع، أو أرض ليقام عليها مسجد آخر، ونحو ذلك؛ لأنَّ في إقامة البدل مقامه تأبيداً له، وتحقيقاً للمقصود منه. فإنْ لم يمكن شراء مثله؛ فبعض مثله؛
لأنَّه أقرب إلى غرض الواقف.
- ويصير البديل وقفاً بمجرَّد الشِّراء ولزوم البيع؛ لأنَّ القائم على الوقف هنا؛ سواء كان الحاكم أو نائبه أو ناظر الوقف كالوكيل في الشِّراء، وشراء الوكيل يقع لموكِّله، فكذلك هنا؛ يقع الشِّراء للجهة المشترى لها، ولا يكون ذلك إلَّا وقفاً.
- يجوز نقل مكوِّنات المسجد -الذي يجوز بيعه-؛ من حجارةٍ، وفَرْشٍ، وأبوابٍ، وخشبٍ، ومصاحف، وأجهزة كهربائيَّة، ونحو ذلك، إلى مسجد آخر يحتاج إليها؛ لما تقدَّم من نقل عبد الله بن مسعود للمسجد الذي بالكوفة. وذلك أَوْلَى من بيعه؛ لبقاء الانتفاع بها من غير خلل؛ فكان أقرب لمقصود الواقف.
- يجوز نقض منارة المسجد وجعلها في حوائطه؛ وذلك إذا اختلَّت هذه الحوائط، وكانت في حاجة إلى تحصينٍ وتقويةٍ، أو سدٍّ لبعض الثقوب فيها، ونحو ذلك؛ لأَّن هذا كلَّه في مصلحة المسجد؛ فيُتنازل عن النفع الأقلِّ لمصلحة النفع الأكبر.
- من وقف على ثغرٍ (وهو الموضع الذي يُخاف منه هجوم العدوِّ، ولذا يُجعل عنده من يحرسه)، فتعطَّل هذا الثَّغر؛ كأنْ أصبح أَمِناً، ولم يحتج إلى مَنْ يحرسه، فإنَّه يُصرف ريع الموقوف إلى ثغر آخر. وكذا لو وقف على مسجدٍ، أو مدرسةٍ، أو سقايةٍ، ونحو ذلك، فتعطَّل الانتفاع بها، صُرِف ريعُ الموقوف إلى مسجد آخر، أو مدرسة أخرى، أو سقاية أخرى؛ لأنَّ هذا أقرب إلى مقصود الواقف.
- يَحرُمُ حفر الآبار، وغرس الأشجار في المساجد، ولو كان لمصلحة عامَّة؛ لأنَّ بقعة المسجد مخصَّصة للصلاة فيها؛ فتعطيل ذلك عدوان وظلم. ولأنَّ المسجد
لم يُبْنَ لهذا، وإنَّما بُنِيَ لذِكْرِ الله، والصَّلاة، وقراءة القرآن. ولأنَّ الشجرة ربَّما يسقط
وَرَقُها وثَمَرُها في المسجد، وتسقط عليها العصافير والطير فتبول في المسجد، وربَّما اجتمع الصبيان في المسجد من أجلها، ورموها بالحجارة ليسقط ثَمَرُها، ونحو ذلك ممَّا لا يليق بالمسجد.
والوجه الآخر في المذهب: أنه يحرم ذلك إذا كان ليس فيه مصلحة راجحة؛ قال السفَّاريني: «وأمَّا مسألة حفْر البئر؛ فجزم في الإقناع والمنتهى بعدم جواز ذلك. قال في شرح المنتهى: ولو للمصلحة العامَّة؛ لأنَّ البقعة مستحقَّة للصلاة، فتعطيلها عدوان. وفي الإقناع: يتوجَّه جوازُ حفْر بئر إن كان فيه مصلحة، ولم يحصل به ضيق، وجزم به في الغاية
…
»، ثمَّ قال:«والمختار من هذا المنقول ما اعتمده الشيخ مَرْعِي في غايته من جواز حفر البئر، وغرس الشجرة للمصلحة الرَّاجحة، حيث كانتا في غير بُقَعِ المصلِّين» . [غذاء الألباب (2/ 249)].
- وهذا بخلاف ما لو غُرِسَت الشجرة قبل بنائه، ووُقِفَت معه؛ فإنْ عيَّن الواقف مَصْرِفَها؛ بأن قال: تُصرَف ثَمَرَتُها للمساكين، أو للأيتام، ونحو ذلك، عُمِلَ به، وإلَّا يُعيَّن مَصْرِفُها كوقفٍ منقطعٍ، تُصرَفُ ثَمَرَتُها لورثة الواقف نَسَباً وَقْفاً، فإن لم يكن له ورثة، أو انقرضوا، فللمساكين.
باب الهِبَة
أوَّلاً: تعريفُ الهِبَة:
الهِبَةُ لغةً: التبرُّع، والعطيَّة بلا عِوَضٍ، مأخوذ من هُبوب الرِّيح، أي مُرورها.
وشرعاً: هي تمليكُ جائزِ التصرُّف مالًا معلوماً أو مجهولًا تَعَذَّر عِلْمُه، موجوداً، مقدوراً على تسليمه، غيرَ واجبٍ، في حال الحياة، بلا عِوَضٍ، بما يُعدُّ هبةً عُرْفاً.
ثانياً: حُكمُ الهِبَة:
جنسُ الهِبَةِ مندوبٌ إليه؛ لأنَّها تُذْهِبُ الحِقْدَ، وتَجْلُبُ المحبَّة؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَهَادُوا تَحَابُّوا)[أخرجه البخاري في «الأدب المفرد»]، ولأنَّ فيها معنى التوسعة على الغير، ونفي الشحِّ عن النَّفس.
ويثبتُ الفضلُ فيها إذا قُصِدَ بها وجهُ الله؛ كالهِبَةِ للعلماءِ، والصالحينَ، والفقراءِ، وما قُصِدَ به صلةُ الرَّحِمِ.
أمَّا إذا قُصد بها المباهاة أو الرِّياء أو السُّمعة فهي مكروهة؛ لحديث جُنْدُبٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُسَمِّعْ يُسَمِّعِ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ)[أخرجه البخاري، ومسلم].
ثالثاً: الفرقُ بين الهِبَة، والصَّدَقة، والهَدِيَّة:
تشتركُ الهِبَةُ والصَّدَقةُ والهَدِيَّة في أنَّ جميعها تمليكٌ في الحياة بغير عِوَضٍ، لكنَّها تختلف من حيث المقصود بها؛ فإنْ قَصَدَ بها ثوابَ الآخرة فقط فهي صَدَقَةٌ، وإن قَصَدَ بها التودُّد، أو الإكرام، أو المحبَّة، أو المكافأة، ونحو ذلك، فهي هديَّة، وإنْ
لم يقْصِدْ بها شيئاً ممَّا سبق، بل مُجرَّد النَّفع للمُعْطَى فهي هِبَةٌ، وعَطِيَّة، ونِحْلةٌ.
رابعاً: صيغةُ الهِبَة:
تنعقد الهِبَةُ بكُلِّ قولٍ أو فعلٍ يدلُّ عليها؛ كوَهَبْتُك، أو مَلَّكْتُك، أو أَعْطَيْتُك، أو هذا لَكَ، ونحو ذلك. أو يدفع إليه شيئاً بما يُفْهَمُ منه أنَّه هِبَة فيأخذه منه، أو يُرْسِلْ إليه بشيءٍ؛ كما لو أرسل إليه شاةً -مثلاً- وعنده ضِيفان، دون أن يقول له شيئاً، فيأخذها منه؛ فهي هِبَة؛ لدلالة الحال عليها. فليس للهِبَة صيغة معيَّنة، ولا لفظٌ معيَّن، بل كلُّ لفظٍ أو فِعْلٍ دلَّ عليها انعقدت به؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم كان يُهدِي وَيُهدَى إليه، ويُعطِي ويُعطَى له، وكان أصحابُه يفعلون ذلك، ولم يُنقَل عنهم في ذلك لفظُ إيجابٍ ولا قبولٍ، ولا أمْرٌ به ولا بتعليمه لأحدٍ، ولو كان ذلك شرطًا لَنُقِلَ عنهم نقلًا مشهوراً، بل كانوا يكتفون بأيِّ لفظٍ أو فِعْلٍ يدلُّ على ذلك، ولأنَّ دَلالة الرِّضا بنقل المِلك تقوم مقام الإيجاب والقبول.
خامساً: شروطُ صحَّة الهِبَة:
يشترط في الهبة ثمانية شروطٍ:
الشَّرط الأوَّل: أن تكون من جائز التَّصرف؛ بأن يكون الواهب بالغاً عاقلاً حرًّا رشيداً؛ فلا تصحُّ من الصغير، ولا المجنون، ولا العبد، ولا السَّفيه؛ لأنَّها تبرُّع، فلا تصحُّ إلَّا ممَّن يصحُّ تبرُّعه.
الشَّرط الثَّاني: أن يكون مختاراً غير هازلٍ؛ فلا تصحُّ من مُكْرَهٍ، ولا هازلٍ؛ لحديث أبي حُرَّةَ الرُّقَاشِي عن عمِّه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلاَّ بِطِيبِ
نَفْسٍ مِنْهُ) [رواه أحمد والدَّارقطني].
الشَّرط الثَّالث: أن يكون الموهوب ممَّا يصحُّ بيعُه. فإنْ كان ممَّا لا يصحُّ بيعه؛ كالكلب، أو جلد الميتة، أو المرهون، أو الموقوف ونحو ذلك، لم تصحّ الهبة؛ لأنَّ الهبة عقد يُقصد به تمليك العين، فأشبه البيع؛ فصحَّت فيما صحَّ فيه.
فإن كان الكلبُ ممَّا يباح اقتناؤه؛ ككلب الصيد، والماشية، والحراسة، ونحو ذلك؛ فيجوز نقل اليد فيه، وليس هبةً حقيقةً.
* حُكمُ هِبَةِ المجهول:
لا تصحُّ هبة المجهول الَّذي لا يتعذَّر علمه ومعرفته -سواء كان مجهولاً في نفسه، أو كان مجهولاً لهما-؛ فلو قال له: وهبتك الجمل في بطن هذه النَّاقة، أو وهبتك اللَّبن الذي في ضرعها، أو وهبتك شاة من الشياه، أو وهبتك ما في هذا الصندوق من دراهم -ولا يعلم مقدار ما فيه- لم تصحَّ الهبة؛ لأنَّها تمليك؛ فلم تصحَّ في المجهول كما في البيع؛ لما فيه من الغرر والجهالة.
إلَّا إذا كان مجهولاً يتعذَّر علمه؛ كالأعيان المشتبهة إذا تعذَّر تمييزها؛ كما لو اختلطت ثيابه بثيابه، أو زيته بزيته، أو دقيقه بدقيقه وتعذَّر تمييزها، فوهب أحدهما نصيبه للآخر، صحَّت الهبة حينئذٍ مع الجهالة؛ قياساً على الصُّلح؛ لأنَّ الحاجة تدعو إلى ذلك.
الشَّرط الرَّابع: أن يكون الموهوب له ممَّن يصحُّ تملُّكه؛ فلا تصحُّ الهبة للملائكة، أو للحَمْل؛ لأنَّه لا يصحُّ تملُّكهم، ولأنَّ تمليك الحَمْل معلَّقٌ على خروجه حيَّاً، والهِبَةُ لا تَقْبَلُ التَّعليق.
الشَّرط الخامس: أن يقبل الموهوبُ له الموهوبَ -سواءً بالقول، أو بالفعل الدَّال عليه- قبل تشاغلهما بما يقطع البيع عُرفاً؛ فلو انشغلا بما يُقْطَعُ به البيع في العُرْفِ، أو تفرَّقا من المجلس الذي حصلت فيه الهِبَة قبل حصول القبول من الموهوب له لم تتمَّ الهِبَة؛ قياساً على البيع.
الشَّرط السَّادس: أن تكون الهبة منجَّزة؛ فلا يصحُّ تعليقها على شرطٍ في المستقبل؛ كما لو قال: إذا جاء شهر رمضان مثلاً وهبتك كذا، أو إذا قدم فلان من سفره وهبتك كذا؛ لأنَّها تمليك لمعيَّن في الحياة؛ فلم يجُز تعليقها على شرطٍ؛ كما في البيع. إلَّا إذا علَّقها على موته؛ كما لو قال: إذا أنا مِتُّ فسيَّارتي هِبَة لك، فتصحُّ، وتكون وصيَّة.
الشَّرط السَّابع: أن تكون غير مؤقَّتة؛ فلو قال له: وهبتك كذا شهراً أو سنة؛ فلا تصحُّ؛ لأنَّها عقد تمليكٍ لعينٍ؛ فلم يصحَّ مؤقتاً؛ كما في البيع. إلَّا إذا وقَّتها بعُمر أحدهما، وهو ما يسمَّى (العُمْرَى)؛ لتقييدها بالعُمر؛ كما لو قال له: وهبتك هذه الدَّار أو هذه الفرس مدَّة عمرك أو حياتك، أو مدَّة عمري أو حياتي، فتصحُّ الهبة حينئذٍ، ويُلغى التوقيت، وتكون للموهوب له ولورثته من بعده؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِي لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا وَلِعَقِبِهِ)[رواه مسلم]. فإنْ لم يكن للموهوب له ورثة كانت لبيت المال؛ كسائر الأموال المتخلِّفة.
* حُكمُ اشتراطِ الوَاهِبِ عدمَ بَيْعِ الهِبَةِ أو هِبَتِها:
لا يصحُّ أن يشترط الواهب على الموهوب له ألا يبيع الموهوب أو ألا يهبه ونحو
ذلك؛ لأنَّ الهبة تمليك، ومقتضى المِلك التَّصرُّف المطلق؛ فاشتراط عدم البيع أو الهبة ينافي مقتضاه. وتصحُّ الهبة في هذه الحال مع فساد الشرط؛ كما لو باعه شيئاً بشرط ألا يخسر فيه؛ فيصحُّ البيع ويفسد الشرط.
الشَّرط الثَّامن: أن تكون بغير عوض؛ لأنَّها تبرُّع؛ وهذا يقتضي انتفاء العوض والمقابل. فإن اشترط الواهب أن يأخذ عوضاً على هبته؛ كما لو قال له: وهبتك داري على أن تهبني سيارتك مثلاً لم تكن حينئذٍ هبة وإنَّما بيعٌ بلفظ الهبة. وهو صحيح إذا كان العِوض معلوماً، ويثبت له أحكام البيع؛ من خيار المجلس، والرَّدِّ بالعيب ونحو ذلك؛ لأنَّه تمليك بعوض معلومٍ؛ أشبه ما لو قال له: بِعتك أو ملَّكتُك هذا بهذا. أمَّا إذا كان العوض مجهولاً؛ كما لو قال له: وهبتك سيارتي على أن تقضي لي حاجة أو تعطيني شيئاً؛ فلا تصحُّ الهبة حينئذٍ؛ لأنَّه عِوض مجهول في معاوضة؛ فلم يصحَّ العقد؛ كما في البيع.
* حُكمُ من أَهْدَى ليُهدَى له أكثر:
من أهدَى شيئاً ليُهدَى له أكثر منه؛ كمَنْ يُهدِي الملوك أو الأغنياء ليعطوه أكثر؛ فلا بأس بذلك لغير النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لقول شريحٍ: «
…
وَالجَانِبُ المُسْتَغْزر يُثَابُ مِنْ هِبَتِهِ، أَوْ تُرَدُّ عَلَيْهِ» [أخرجه عبد الرزَّاق، وابن أبي شيبة].
قال ابن الأثير في «النِّهاية» : «الجانِبُ: الغَرِيبُ. يقال: جَنَبَ فلان في بَنِي فُلان يَجْنُب جَنابة فهو جَانِب: إذا نزل فيهم غَرِيباً؛ أي أنَّ الغَرِيب الطَّالب إذا أهْدَى إليك شَيْئاً ليَطْلُب أكْثَر منه فأعْطِه في مُقابَلَة هَدِيَّتِه. ومَعْنَى المسْتَغْزِر: الذي يَطْلُب أَكْثَر ممَّا أعْطَى» .
أمَّا النَّبي صلى الله عليه وسلم فممنوع من ذلك؛ لقول الله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]؛ أي: لا تُعطِ شيئاً لتأخذ أكثر منه. ولما في ذلك من الحرص والمنَّة، والنَّبي صلى الله عليه وسلم مأمور بأشرف الأخلاق وأجلِّها.
سادساً: حُكْمُ رَدِّ الهَدِيَّة:
يكره ردُّ الهديَّة وإن كانت قليلة؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَجِيبُوا الدَّاعِيَ، وَلَا تَرُدُّوا الهَدِيَّةَ
…
) [أخرجه أحمد، والبخاري في «الأدب المفرد»]، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:(لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ)[أخرجه البخاري].
بل السُّنَّة أن يكافَئ المُهْدِي على هديَّته؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قال: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا)[أخرجه البخاري]. فإن لم يستطع أن يكافئه فليدعو له؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
…
وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ) [أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي]. إلا إذا علم المُهْدَى له أنَّه أَهدى له حياءً؛ فيجب ردُّ الهديَّة حينئذٍ؛ لأنَّ المقاصد في العقود معتبرة.
سابعاً: تملُّكُ الهِبَةِ:
يملك الموهوب له الموهوب بمجرَّد العقد؛ أي الإيجاب والقبول؛ سواء كان ذلك بقولٍ أو فعلٍ دالٍّ عليها؛ كما تقدَّم. فإذا قال: وَهَبْتُك هذه الدَّار أو هذه الفَرَس، فقال: قَبِلْتُ. أو أعطاه سيَّارةً، أو ناقةً بما يفهم منه أنَّها هِبَة، انعقدت الهِبَة
وصارت مِلك الموهوب له، لكنَّها لا تلزم إلَّا بالقبض؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت:(إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ نَحَلَهَا جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ؛ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: وَاللهِ يَا بُنَيَّةُ مَا مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْكِ، وَلَا أَعَزُّ عَلَيَّ فَقْرًا بَعْدِي مِنْكِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا، فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ، وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ؛ فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللّاهِ)[أخرجه مالك].
فدلَّ قوله: (فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ) على أنَّ الهبة تلزم بالقبض. وعلى ذلك فللواهب الرجوع فيها قبل القبض، أمَّا إذا قبضها الموهوبُ له فقد صارت لازمة، ولا يملك الواهبُ الرجوع فيها حينئذٍ، وما حصل فيها من نماءٍ بعد العقد -كما لو ولدت الفَرَس أو النَّاقة-، فهو للموهوب له؛ لأنَّه نماء ملكه، وعلى الواهب تسليمه إياه.
ويشترطُ في القبض أن يكون بإذن الواهب، فإذا قبضها الموهوب له بغير إذنه لم تتمَّ الهِبَة، ولم يصحَّ القبض؛ لأنَّه قبضٌ غير مستحقٍّ على الواهب؛ فلم يصحَّ بغير إذنه؛ كأصل العقد.
ويحصل القبض بحسب نوع الموهوب؛ كما في قبض المبيع؛ فإن كان مكيلاً؛ كالبُرِّ، والأَرُزِّ، والذُّرة، ونحو ذلك؛ فقَبْضُه يكون بكَيْلِه. وإن كان موزوناً؛ كالذَّهب، والفضِّة، والحديد، واللُّحوم، ونحو ذلك ممَّا يوزن، فقَبْضُه يكون بوَزْنِه. وإن كان مذروعاً -كالأقمشة مثلاً-؛ فقَبْضُه يكون بذَرْعه. وإن كان معدوداً؛ كالبطيخ، والقَرْع، ونحو ذلك، فقَبْضُه يكون بِعَدِّه. وإن كان الموهوب ممَّا يُنْقَلُ؛
كما لو وَهَبَهُ حيواناً، أو ثياباً، أو سيَّارة، أو ثلاجة، ونحو ذلك؛ فقَبْضُه يكون بنَقْلِه. وإن كان ممَّا يُتناول باليد؛ كما لو وَهَبَه نُقوداً، أو كتاباً، أو ساعة، أو قلماً، ونحو ذلك؛ فقَبْضُه يكون بتناوله. وإن كان الموهوب غير ذلك ممَّا لا يُنْقَلُ؛ كالدُّور، والأراضي، والمزارع، والبساتين، ونحو ذلك؛ فقَبْضُه يكون بتَخْلِيَتِه؛ بأنْ يُخَلِّي الواهبُ بينه وبين الموهوب له.
ثامناً: الهِبَةُ للصغير والمجنون:
إذا وُهِبَ شيءٌ لصغيرٍ، أو مجنونٍ، أو سفيهٍ، صحَّت الهِبَةُ، وتولَّى وَلِيُّهم القائم بمصالحهم؛ من أبٍ، أو وصيٍّ -إن عُدم الأب الأمين-، أو حاكمٍ، أو أمينه القبول والقبض عنهم؛ لفقدانهم أهليَّة التصرُّف فكان ذلك إلى وليِّهم؛ لأنَّه قبول لما للمحجور عليه فيه حظٌّ ومصلحة.
لكن يصحُّ من الصغيرِ والمجنونِ والسفيه قبضُ المأكول الذي يُدْفَعُ مثلُه للصغير عادة؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاءُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا
…
، قَالَ: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لَهُ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ) [أخرجه مسلم].
وإذا وهبَ الأبُ لولده الصغير شيئاً تولَّى هو القبضَ عنه؛ ولا يحتاج إلى توكيل مَنْ يقوم مقام وَلَدِه في القبول والقبض؛ لانتفاء التُّهْمَة عنه؛ قال ابن المنذر: «أجمعَ كلُّ مَنْ نحفظُ عنه مِنْ أهلِ العِلْمِ على أنَّ الرَّجُلَ إذا وَهَبَ لوَلَدِهِ الطِّفلِ داراً بِعَيْنِها، أو عبداً بِعَيْنِهِ، وَقَبَضَهُ له مِنْ نفْسِه، وأَشْهَدَ عليه، أنَّ الهِبَةَ تامَّةٌ» [الإشراف على مذاهب العلماء (7/ 83)].
تاسعاً: إذا وَهَبَ شيئاً واستثنى نَفْعَهُ مُدَّة معلومةً:
يجوز للواهب أن يَهَبَ شيئاً ويستثني نَفْعَهُ مُدَّةً معلومةً؛ كما لو قال له: وَهَبْتُك هذه الدَّار على أن أنتفع بسُكْناها سَنَةً، أو وَهَبْتُك هذه السيَّارة على أنْ أستعمِلَها شهراً؛ فيصحُّ ذلك؛ قياساً على البيع؛ فقد (بَاعَ جَابِرٌ رضي الله عنه جَمَلاً إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهُ إِلَى المَدِينَةِ)[أخرجه البخاري، ومسلم]؛ فيجوز هذا في الهبة من باب أَوْلَى.
عاشراً: إذا وَهَبَ شيئاً وشَرَطَ الرجوعَ متى شاء:
- إذا وَهَبَ شيئاً وشَرَطَ على الموهوب له أنَّ له الرجوع متى شاء؛ كما لو قال له: وَهَبْتُك هذه السيَّارة على أنْ أَرْجِعَ في ذلك متى شِئتُ، صَحَّتِ الهِبَةُ وأُلغِيَ الشرطُ؛ لفساده؛ لأنَّه شَرْطٌ ينافي مقتضاها، كما لو قال له: أبيعكُ بشرطِ ألَّا تخسر؛ فيصحُّ البيعُ، ويُلْغَى الشَّرط.
حادي عشر: هِبَةُ الدَّيْن:
- تصحُّ هِبَةُ الدَّائن دَيْنه لمن هو عليه؛ فلو قال الدَّائن للمدين: دَيْنِي عليك هِبَةٌ لك، أو أَحْلَلْتُك منه، أو تَرَكْتُهُ لكَ، أو أَسْقَطُّه عنكَ، ونحو ذلك، صحَّت الهِبَةُ، ولزم الإبراءُ بمجرَّد ذلك، ولو لم يقبله المدين؛ لأنَّه إسقاط حقٍّ فلا يتوقَّف على قبوله؛ كإسقاط القَصاص والشُّفْعَة، ولو كان ذلك قبل حلول موعد الدَّيْن؛ لأنَّ الدَّين ثابتٌ في الذمَّة، فتأجيلُه لا يمنع من ثبوته.
ويصحُّ الإبراء من الدَّيْن أيضاً، ولو جَهِلا -الدائن والمدين، أو أحدهما- قَدْره،
أو صفته، أو جُهل القَدْر والصفة معاً، بل يصحُّ الإبراء ولو لم يتعذَّر معرفة قَدْر الدَّين أو صفته؛ لحديث أمِّ سلمة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لرَجُلَيْنِ بينهما خصومة في ميراثٍ: (فَاقْتَسِمَا وَتَوَخَّيَا الحَقَّ، ثُمَّ اسْتَهِمَا، ثُمَّ تَحَالَّا [أخرجه أبو داود]. ولأنَّه إسقاط حقٍّ فينفُذ مع العلم والجهل.
إلَّا إذا جَهِلَه الدَّائن وعَلِمَه المدين لكنَّه كتمه عن الدَّائن؛ خوفاً من أنَّه لو عَلِمَه لم يبرئه منه؛ فلا يصح الإبراء حينئذٍ؛ لأنَّه هضمٌ للحقِّ، وتغرير لصاحبه، وهو بمثابة إذن المُكرَه.
أمَّا هبة الدَّيْن لغير من هو عليه فلا تصحُّ؛ كما لو قال لزيدٍ مثلاً: وهبتك الدَّين الذي في ذِمَّة عمروٍ؛ لأنَّه غير مقدور على تسليمه. إلَّا إذا كان ضامناً للدَّين، فتصحُّ هبته له؛ لأنَّ الدَّين متعلِّق بذمِّته كالمدين.
ثاني عشر: الرُّجوعُ في الهِبَةِ:
للواهب أن يرجع في هبته إذا كان ذلك قبل قبضها من قِبل الموهوب له؛ لأنَّ مِلك الواهب عليها لا يزال باقياً؛ إذْ إنَّها لا تلزم إلَّا بالقبض -كما تقدَّم-. لكن يُكره له ذلك؛ خروجاً من خلاف مَنْ قال: إنَّها تلزم بمجرَّد العقد.
ولا يكون الرجوع إلَّا بالقول؛ كأن يقول: رَجَعْتُ في هبتي، أو ارتجعتُها، أو رددتُها، أو أَعَدْتُها إلى مِلْكي، ونحو ذلك ممَّا يدلُّ على الرُّجوع، فلا يكفي الرُّجوع بالنيَّة، ولا بفعلٍ يدلُّ على الرجوع؛ لأنَّ مِلك الهبة قد ثبت للموهوب له يقيناً، فلا يزول إلَّا بيقينٍ، وهو التَّصريح بالرُّجوع.
أمَّا بعد قبضها فلا يصحُّ رجوعه، بل ويَحْرُم عليه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما
أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: (الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ)[أخرجه البخاري، ومسلم].
إلَّا إذا كان الواهب هو الأبُ، فيجوز له الرجوع في هبته لوَلَدِه؛ سواء قصد برجوعه التَّسوية بين أولاده أم لا؛ لحديث ابن عمرَ وابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً، أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا، إِلاَّ الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ)[أخرجه أحمد، وأبو داود، والتَّرمذي، والنَّسائي، وابن ماجه].
لكن يُشترَطُ لرجوع الأب في هِبَتِه لوَلَدِه أربعة شروط:
الشَّرط الأوَّل: أنْ لا يُسقط حقَّه في الرُّجوع؛ فإن أسقطه سقط؛ كما لو قال: وَهَبْتُ هذه السيَّارة لوَلَدِي فلان، وليس لي الحقُّ في الرجوع فيها؛ لأنَّ الرجوع حقٌّ له وقد أسقطه.
الشَّرط الثَّاني: ألَّا تزيد زيادة متَّصلة؛ فإن زادت زيادة متَّصلة؛ كما لو وهبه ناقة فسَمِنَت، أو نخلة فكبرت، لم يكن له الرجوع؛ لأنَّ الزِّيادة صارت للموهوب له؛ لأنَّها نماء مِلكه، ولم تنتقل إليه من جهة أبيه، فلم يملك الأب الرُّجوع فيها. وهذا بخلاف الزِّيادة المنفصلة فإنَّها لا تمنع رجوع الأب في هبته؛ كما لو وَهَبَ وَلَدَه ناقةً فوَلَدَت عنده، أو وَهَبَهُ نَخْلاً فأَثْمَرَ وجَذَّه الوَلَد؛ لأنَّ الرُّجوع في الأصل دون النَّماء.
الشَّرط الثَّالث: أنْ تكون باقية في مِلك الولد؛ فإن خرجت عن مِلكه؛ كما لو باعها، أو وَهَبَها، أو وَقَفَها ونحو ذلك، لم يكن للأب الرجوع حينئذٍ؛ لأنَّ الرجوع فيها بعد خروجها عن مِلكه إبطال لمِلك غيره.
الشَّرط الرَّابع: أنْ لا يرهنها الولد؛ فإنْ رهنها، لم يكن للأب الرُّجوع فيها؛ لأنَّ في رجوعه إبطالاً لحقِّ المرتهن وإضراراً به، وهو ممنوع شرعاً.
ثالث عشر: هل للوَالدِ أن يتملَّكَ من مال وَلَدِه؟
يجوز للأب الحرِّ أن يأخذ من مال ولده ما شاء ويتملَّكه ولو كان غير محتاج؛ سواء كان الولد صغيراً أم كبيراً، ذكراً أم أنثى، راضياً أم ساخطاً، بعلمه أم بغير علمه؛ لحديث جابرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ)[أخرجه ابن ماجه].
لكن يشترط لذلك خمسة شروط:
الشَّرط الأوَّل: ألَّا يضرُّه بذلك؛ فإن أضرَّه؛ كأن يأخذ ما تعلَّقت به حاجته؛ كسيَّارته التي يستخدمها، أو بيته الذي يسكنه، أو آلته التي يتكسَّب بها، أو رأس مال تجارته، ونحو ذلك ممَّا يتضرَّر به الولد، فليس له الأخذ حينئذٍ؛ لحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)[أخرجه ابن ماجه]. ولأنَّ حاجة الإنسان مقدَّمة على دَيْنه، فلأن تُقدَّم على أبيه أَوْلَى.
الشَّرط الثَّاني: ألَّا يكون التملُّك في وقت مرض أحدهما مرض الموت؛ لأنَّه بالمرض المخُوف قد انعقد سبب الإرث، وهو مانع من التملُّك؛ لتعلُّقه بحقوق الآخرين.
الشَّرط الثَّالث: ألَّا يتملَّكه ليعطيه لوَلَدٍ آخر؛ كما لو أخذ من مال وَلَدِه زيدٍ ليعطيه لوَلَدِه عمرٍو؛ لأنَّه ممنوع من تخصيص بعض وَلَدِه بالعطيَّة، فلأنْ يُمْنَعَ من تخصيصه بما أخذه من مال وَلَدِه الآخر أَوْلَى.
الشَّرط الرَّابع: أنْ يكون التملُّك بقبض الأب لما يتملَّكه مع قولٍ أو نيَّة؛ بأنْ
يقول: تملَّكتُه، ونحو ذلك، أو ينوي تملُّكه؛ لأنَّ القبض يكون للتملُّك ولغيره؛ كالاستعارة مثلاً، فاحتيج إلى القول أو النيَّة لتعيين وجه القبض وأنَّه للتملُّك. فلا يصحُّ تملُّكه قبل القبض مع القول أو النيَّة؛ لأنَّ ملك الابن لا يزال تامًّا على مال نفسه.
الشَّرط الخامس: أنْ يكون ما يتملَّكه الأبُ عَيْناً موجودة وقت التملُّك؛ فلا يصحُّ أن يتملَّك دَيْن وَلَدِه الذي له على زيدٍ -مثلاً-، ولا أن يتملَّك ما في ذمَّته لولده، ولا أن يبرئ نفسه من دينٍ عليه لولده؛ لأنَّ الولد لا يملك الدَّيْن إلَّا بقبضه.
رابع عشر: حُكْمُ مطالَبَةِ الابْنِ أبَاهُ بقَضاءِ دَيْنِهِ الذي له عليه:
إذا كان للابنِ دَيْنٌ له على أبيه؛ سواءً كان قَرْضاً، أو ثَمَنَ مَبيعٍ، أو قيمة مُتْلَفٍ أتلفه الأبُ، أو أُجرة دار سَكَنَها، ونحو ذلك؛ فليس له أن يطالبه بقضائه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها:(أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخَاصِمُ أَبَاهُ فِي دَيْنٍ عَلَيْهِ، فقَالَ نَبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ)[أخرجه ابن حبان]. ولا يملكُ الابن إحضار الأب لمجلس القضاء بسبب ذلك.
لكن يكون هذا الدَّين ثابتاً للابن في ذمَّة أبيه، فإذا مات الأب أخذه من التركة، قبل قسمتها على الورثة؛ كسائر الدُّيون؛ لأنَّه حقٌّ ثابت على الأب لا تهمة فيه؛ فكان كدَيْن الأجنبي.
فإذا مات الأب، ووجد الابن عين ماله الذي أقرضه لأبيه أو باعه ونحو ذلك، فله أخذه من التركة قبل قسمتها على الورثة؛ كسائر الدِّيوان؛ وذلك لتعذُّر العِوَض.
وهذا بخلاف نفقة الابن الواجبة له على أبيه، فله أن يطالبه بها إذا كان فقيراً وعاجزاً عن الكَسْبِ؛ لحديث هِنْد بنت عُتْبَة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لها:(خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ)[أخرجه البخاري، ومسلم].
وإن وَجَدَ الابنُ عَيْنَ ماله الذي له بيد أبيه، فله مطالبته به.
خامس عشر: قِسْمَةُ المالِ بين الوَرَثَةِ في الحياة:
يباحُ للإنسان أنْ يقسِّم مَالَه بين ورثته في حال حياته على قَدْرِ ما فَرَضَهُ الله عز وجل لكلِّ واحدٍ منهم؛ فصاحب الثُّلث يعطيه الثُّلث، وصاحب النِّصف يعطيه النِّصف، وصاحب الثُّلُثين يعطيه الثُّلُثين وهكذا؛ لأنَّها قِسمةٌ ليس فيها جَوْرٌ؛ فجازت في جميع ماله كما جازت في بعضه. فإنْ حَدَثَ وارثٌ له بعد القِسْمَةِ، وَجَبَ عليه أن يُعطِيَهُ حصَّته؛ ليحصل التَّعديل الواجب.
سادس عشر: التَّسْويَةُ بين الوَرَثَةِ في العَطِيَّة:
يجبُ على الواهبِ -ذكراً كان أو أنثى- أن يَعدل في هبته أو عطيَّته بين ورثته؛ من جهة القرابة لا من جهة الزوجيَّة؛ كأولاده، وأبيه، وأمِّه، وإخوته، وبنيهم، وأعمامه، وبنيهم، ونحوهم من قرابته؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال:(قَالَتِ امْرَأَةُ بَشِيرٍ: انْحَلِ ابْنِي غُلَامَكَ وَأَشْهِدْ لِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ ابْنَةَ فُلَانٍ سَأَلَتْنِي أَنْ أَنْحَلَ ابْنَهَا غُلَامِي، وَقَالَتْ أَشْهِدْ لِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَلَهُ إِخْوَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَكُلَّهُمْ أَعْطَيْتَ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَيْسَ يَصْلُحُ هَذَا، وَإِنِّي لَا أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ)[أخرجه البخاري، ومسلم، واللفظ له]. وفي لفظٍ قال:
(اتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ. قال النُّعمان: فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ)[أخرجه مسلم]. وفي لفظ قال: (لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ)[أخرجه البخاري].
فَدَلَّ هذا على وجوب العدل بينهم في العطيَّة؛ إذْ سمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم التخصيص جَوْراً، والجَوْرُ حرامٌ. وقِيسَ الأقارب على الأولاد؛ بجامع القرابة.
ويكون التعديل الواجب بإعطائهم بقَدْر إرثهم منه؛ فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين؛ اقتداءً بقِسمة الله تعالى، وقياساً لحالة الحياة على حالة الموت. قال عطاء:«فَمَا كَانُوا يَقْسِمُونَ إلَّا عَلَى كِتَابِ اللهِ تَعَالَى» [أخرجه عبد الرزَّاق].
فإنْ خصَّ بعضهم بالعطيَّة، أو فضَّله في الإعطاء، أو زوَّج أحدهم دون إذن الباقي، فإنَّه يأثم بذلك؛ لحديث النُّعمان السَّابق، وفيه:(لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ).
ويجب على الأب فقط الرجوع، دون الأمِّ وغيرها؛ كالجَدِّ، والابنِ، والإخوةِ، والأعمامِ، فلا يجب عليهم الرجوع؛ لأنَّ الأب له ولاية على ولده، وقد يحوز جميع المال في الميراث، بخلاف الأمِّ وغيرها.
ووجوبُ رجوع الأبِ مقيَّدٌ بما إذا أمكن ذلك؛ بأنْ كانت العطيَّة باقية وقَدِرَ على استرجاعها، أو يعطي الباقين حتَّى يستووا بمن خصَّه أو فضَّله؛ لحديث النُّعمان:(اتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ).
فإنْ مات الواهب أو المعطي قبل أن يُسوِّي بينهم، ولم تكن عطيَّته تلك في مرض موته المخُوف، فإنَّها تثبت للذي خُصَّ أو فضِّل بها؛ فلا يشاركه فيها بقيَّة الورثة؛ لحديث الصِّديق -السابق- في هبته لعائشة رضي الله عنها:(فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ).
أمَّا إنْ كانت العطيَّة في مرض موته فإنَّها تكون حينئذٍ موقوفةً على إجازة الورثة؛ فإن أجازوها ثبتت لمن خَصَّه وإلَّا فلا؛ لأنَّها في حكم الوصيَّة. وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)[أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه].
وهذا ما لم يجعلها الواهب أو المعطي وقفاً عليه؛ فإن جعلها وقفاً عليه فإنَّها تصحُّ؛ لحديث عمر رضي الله عنه في وقفه؛ حيث قال: (هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ الله عُمَرُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ إِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ: أَنَّ ثَمْغًا، وَصِرْمَةَ ابْنَ الأَكْوَعِ، وَالْعَبْدَ الَّذِي فِيهِ، وَالْمِائَةَ سَهْمٍ الَّتِي بِخَيْبَرَ، وَرَقِيقَهُ الَّذِي فِيهِ، وَالْمِائَةَ الَّتِي أَطْعَمَهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بِالْوَادِي، تَلِيهِ حَفْصَةُ مَا عَاشَتْ، ثُمَّ يَلِيهِ ذُو الرَّأْي مِنْ أَهْلِهَا؛ أَنْ لَا يُبَاعَ وَلَا يُشْتَرَى، يُنْفِقُهُ حَيْثُ رَأَى مِنَ السَّائِلِ، وَالمَحْرُومِ، وَذِي الْقُرْبَى
…
) [أخرجه أبو داود]. فعلَّقه بالموت، وجعل من جملة الموقوف عليهم ذوي القربى. ولأنَّ الوقف لا يُباع، ولا يورث، ولا يملكه الورثة؛ فكان للموقوف عليه دون غيره. وتنفُذ له العطيَّة حينئذٍ إذا كانت في حدود الثُّلث؛ كما في الوصيَّة.
سابع عشر: عَطِيَّةُ المريضِ:
المريضُ لا يخلو من حالين:
الحال الأُولَى: أن يكون مرضه غير مرض الموت؛ بأنْ لا يكون مرضه سبباً صالحاً للموت عادة؛ كالصُّداع، ووجع الضِّرس، ومغص البطن، والرَّمد، والحمَّى اليسيرة، والإسهال اليسير من غير دمٍ ونحو ذلك، فهبته وتبرعه والحالة هذه نافذ في جميع ماله؛ كالصَّحيح؛ لأنَّ مثل هذه الأمراض لا يخشى منها في العادة. حتَّى لو مات
منه بعد ذلك، فتبرُّعه أيضاً نافذ؛ اعتباراً بحاله عند العطيَّة؛ لأنَّه إذْ ذاك في حكم الصحيح.
الحال الثَّانية: أن يكون مرضه مرض الموت المَخُوف؛ كالسَّرطان، والطاعون، والإيدز، وأمراض القلب الشديدة، ونحو ذلك من الأمراض المخُوفة التي تفضي إلى الموت في العادة، - عافانا الله-، أو قُدِّم للقتل، أو حُبس له فتبرَّع، أو جُرح جُرحاً مهلكاً وعَقْلُه ثابتٌ، أو كان بين الصَّفَّيْن في وقت الحرب والقتال فتبرَّع، ونحو ذلك؛ نفذ تبرُّعه في حدود الثُّلث فقط لغير الوارث؛ كما في الوصيَّة؛ لحديث عِمْران بن حُصَين رضي الله عنه:(أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً)[أخرجه مسلم]. فإذا لم ينفذ العتق مع سِرايَتِه إلَّا في الثَّلث فغيره من باب أَوْلَى، وللحديث السَّابق:(إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ).
فإن لم يمت من هذا المرض المخوف؛ رجع كالصَّحيح في نفوذ عطاياه كلِّها، وصحَّة تصرُّفه؛ إذْ لا مانع حينئذٍ.