المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

كلمة الإدارة الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا - التسهيل في فقه الإمام أحمد - وزارة الأوقاف الكويتية - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

كلمة الإدارة

الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمَّداً عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجمعينَ. أمَّا بعدُ:

فيسُرُّ إدارة الإفتاء بدولة الكويتِ أن تُقدِّم لكم الجزءَ الثالثَ من سلسلةِ كتاب (التَّسهيل في فقه الإمام أحمد بن حنبل)، الخاصِّ بما يُسمَّى -حديثاً- (الأحوال الشخصيَّة)؛ حيث ضمَّ أغلب الأبواب والمسائل المهمَّة التي تتعلَّق بالأحكام الشرعيَّة للأُسرة؛ كالوَصيَّة، والميراث، والنكاح، والطَّلاق، والنَّفقات، والحَضانة، وغير ذلك.

وقد سِرْنا في الكتابِ وَفْق المنهجيَّة العلميَّة التي جَرَيْنا عليها في الجزئين السابقين المتعلِّقين بفقه العبادات، وفقه المعاملات؛ من حيث سهولةُ العبارةِ، وتفقيرُ المسائلِ، واعتمادُ القول الراجح في المذهب، والتَّدليلُ عليه من الأدلَّةِ الشرعيَّةِ المعتبرةِ.

وقد قامَ بإنجازِ هذا العملِ فريقُ وحدةِ البحثِ العلميِّ بإدارةِ الإفتاءِ، وهم:

الشيخ/ تركي عيسى المطيري رئيساً

الدكتور/ أيمن محمَّد العُمَر عضواً

الدكتور/ أحمد عبد الوهَّاب سالم عضواً

كما شارك فيه من خارج وحدةِ البحثِ العلميِّ؛ كلٌّ من:

ص: 4

الشيخ/ د. محمود محمَّد الكَبْش: الأستاذ المشارك في جامعة أمِّ القرى.

والشيخ/ خبَّاب مَروان الحَمَد، الباحث في الفقه الحنبليِّ وأصوله.

وبعد الفراغِ من العَمَل العِلْميِّ في الكتاب؛ قامت الإدارة بعَرْضِه على صاحبي الفَضيلَة:

- الشيخ/ د. عُثمان محمَّد الخَميس.

- والشيخ/ وليد علي الدّيولِي.

فقاما مشكورَيْنِ بمُراجَعتِه، واستدراكِ ما ينبغي استدراكُه، فجَزاهُما اللهُ خيرَ الجزاءِ.

كما لا يفوتنا في هذا المقام أن نتوجَّه بالشكر الخالص لفضيلة الشيخ/

د. مُطْلَق بن جاسِر الجاسِر، العميد المساعد للشؤون الطُّلابيَّة بكُليَّة الشريعة -جامعة الكويت- على قراءة الكتاب والتقديم له على الرغم من ضيق وقته، وتزاحم أشغاله، فجزاه الله خيراً.

وختاماً؛ نسألُ اللهَ العَليَّ القديرَ التوفيقَ والقبولَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصَحبِهِ أجمعين.

إدارة الإفتاء

ص: 5

‌كتاب الوَصيَّة

‌أوَّلًا: تَعريفُ الوَصِيَّة:

الوَصِيَّةُ لُغةً: الأَمْرُ، كقوله تعالى:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة: 132]، أي: أَمَرَهُم، وقوله تعالى:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام: 151] أي: أَمَرَكُم.

واصطلاحاً: الأمرُ بالتَّصَرُّف بعد الموت.

وأمَّا الوصيَّة بمالٍ: فهو التبرُّع به بعد الموت.

‌ثانياً: مشروعيَّة الوَصِيَّةِ:

الوصيَّة مشروعة بالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.

- فمن الكتاب: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]، وقوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12].

- ومن السُّنَّة: ما ثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوْصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ)[رواه البخاري ومسلم].

- أمَّا الإجماع: فقال ابن قُدامة: «وأجمع العُلماء في جميع الأمصار والأَعصار على جواز الوصيَّة» .

ص: 7

ويُسنُّ للمرء أن يكتب وصيَّته؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما

السابق.

ويُستحبُّ أن يُشْهِدَ عليها؛ لأنَّه أحوط لها، وأحفظ لما فيها.

فإذا ثبتت الوصيَّة ثبت حُكْمُها، ووجب العملُ بها، حتَّى وإن طالت المُدَّة بين كتابتها ووفاة كاتبها.

‌ثالثاً: أركانُ الوَصِيَّةِ:

للوصيَّة أربعة أركان؛ هي:

أ - المُوصِي: وهو من صدرت منه الوصيَّة.

ب- الصِّيغة: وهي الإيجاب من الموصِي، والقبول من الموصَى إليه.

ج- المُوصَى به: وهو المال، أو التصرُّف.

د - المُوصَى له: وهو من تبرَّع له الموصِي بمالٍ بعد وفاته.

‌رابعاً: شُروطُ الوَصِيَّةِ:

يُشترط في الوصيَّة عدَّة شروط:

أ - إذا كانت ملفوظةً فلا بُدَّ أن تكون بلفظٍ مسموعٍ.

ب- إذا كان المُوصِي أَخْرَسَ؛ فتصحُّ منه إن كانت إشارتُه مفهومةً، وإلَّا فلا؛ لأنَّ تعبيره إنَّما يحصلُ بذلك عُرْفاً، فكانت كاللَّفظ من قادرٍ عليه.

ص: 8

ج- إذا كانت بخطِّ المُوصِي فيُشترطُ ثبوته بإقرار الوَرَثة، أو بإقامة بيِّنةٍ أنَّه خطُّه، ويُعمَلُ بها وجوباً، ما لم يُعلَم رُجوعه عنها.

د- أن يَقْبَل المُوصَى له الوصيَّة بعد موت الموصِي؛ إذا كان الموصى له شخصاً، أو جمعاً محصوراً؛ كأولاد زيدٍ -مثلًا-، فإن ردَّها الموصى له بعد موت الموصي بطلت الوصيَّة.

أمَّا إذا كان الموصى له جَمْعاً غير محصورٍ؛ كالفقراء، والمساكين، والعُلماء، أو كان جهةً غير محدَّدةٍ أو غير مُعيَّنةٍ؛ مثل: المساجد، أو أعمال الخير؛ فلا يُشتَرط القبول؛ لأنَّ اعتبار القبول منهم متعذِّرٌ، وتلزم بمجرَّد موت الموصي.

‌خامساً: مَنْ تَصِحُّ منه الوَصِيَّةُ:

أ - تصحُّ الوصيَّة من كُلِّ عاقلٍ لم يُعاين مَلَكَ الموت؛ لأنَّ هِبَتهم صحيحة، فالوصيَّة أولى.

فإذا عاين مَلَكَ الموت لم تصحَّ وصيَّتُه؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ)[رواه البخاري ومسلم].

ولأنَّ من عاين مَلَك الموت لا قَوْل له، والوصيَّة قَوْل.

ب- وتصحُّ الوصيَّة من كُلِّ مُميِّزٍ يعقل الكلام؛ لما روى أبو بكر بن حَزْم: (أَنَّ غُلَامًا مِنْ غَسَّانَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بِالمَدِينَةِ وَوَارِثُهُ بِالشَّامِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَانًا يَمُوتُ، أَفَيُوصِي؟ قَالَ: فَلْيُوصِ)

قَالَ أَبُو بَكْرٍ:

ص: 9

وَكَانَ الْغُلَامُ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ، أَوْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً [رواه مالك].

أمَّا الطِّفْل فلا تصحُّ منه الوصيَّة؛ لأنَّه لا يعقل معناها، ولا حُكم لكلامه.

ج- وتصحُّ الوصيَّة من سَفيهٍ، أو ضعيفِ عَقْلٍ ضَعْفاً يمنعُ رُشْدَه؛ لتمحُّضها نفعاً له بلا ضرر؛ إذ الحَجْرُ عليه لحِفْظِ مالِهِ، والوصيَّة لا إضاعة فيها له؛ لأنَّ المال له ما دام حيًّا، وإن مات فله ثوابه.

‌سادساً: الأحكامُ التكليفيَّة الخَمْسةُ في الوصيَّة:

تَعْتَري الوصيَّةَ الأحكامُ التكليفيَّةُ الخَمْسةُ؛ فقد تكون مُستحبَّةً، وقد تكون مكروهةً، أو مُباحةً، أو واجبةً، أو مُحرَّمةً.

أ - الوصيَّة المستحبَّةُ:

تُستحبُّ الوصيَّة إذا تَرَكَ الإنسان خَيْراً؛ وهو المالُ الكثيرُ عُرْفاً، فيُسنُّ له أن يوصي بخُمُسِ مالِهِ؛ لما جاء عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال:(الَّذِي يُوصِي بِالخُمُسِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يُوصِي بِالرُّبُعِ، وَالَّذِي يُوصِي بِالرُّبُعِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يُوصِي بِالثُّلُثِ)[رواه البيهقي].

ويستحبُّ أن تكون الوصيَّة بالخُمُس لقريبٍ فَقيرٍ لا يَرِثُ؛ لقوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26]، ثُمَّ لمسكينٍ وعالِمٍ فقيرٍ، ودَيِّنٍ فقيرٍ، ونحوهم.

والأَوْلَى أن تكون الوصيَّة بأقلَّ من الثُّلُث؛ لما روى ابن عبَّاس رضي الله

ص: 10

عنهما قال: (لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى الرُّبِعِ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ)[رواه البخاري ومسلم].

ب- الوصيَّة المكروهةُ:

تُكرهُ الوصيَّةُ من فقيرٍ -وهو من لم يترك مالًا كثيراً- إذا كان له ورثةٌ مُحتاجون؛ لأنَّ مراعاة القريب الفقير المحتاج أَوْلَى، وقد شرع الله الوصيَّة لمن تَرَكَ مالاً كثيراً؛ ولحديث سعد بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إِنَّكَ أَنْ تَتْرُكَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ)[رواه أحمد، وأبو داود].

ج- الوصيَّة المباحةُ:

- تُباح الوصيَّة من الفقير إن كان ورثتُه أغنياء.

- وتجوز وتصحُّ بجميع ماله، إذا لم يكن للميِّت ورثةٌ؛ لأنَّ المنع من الزيادة عن الثُّلُث إنَّما هو لحقِّ الورثة؛ لتعلُّق المال بحقِّهم، فإن لم يوجد وَرَثَةٌ جاز الزيادة على الثُّلُث.

ولا يَحرُمُ أن يُوصي لأجنبيٍّ بزائدٍ عن الثُّلُث إذا كان الزَّوج ليس له وارثٌ إلَّا الزَّوجة، أو العكس؛ لأنَّهما لا يُردُّ عليهما، فلا تمتنع الوصيَّة بما زاد عن فَرْضِهما؛ إذ لو ردَّ أحدُ الزوجين الوصيَّة بما زاد عن الثُّلُث، بطلت الوصيَّة في قَدْرِ فَرْضِه من ثُلُثَيْه.

ص: 11

د - الوصيَّة الواجبةُ:

تجبُ الوصيَّة على من عليه حقٌّ لله تعالى، أو لآدميٍّ بلا بيِّنةٍ؛ كزكاةٍ، أو حجٍّ، أو كفَّارةٍ، أو نَذْرٍ، أو دَيْنٍ، أو كان عنده وديعةٌ بلا بيِّنةٍ؛ وذلك لكَيْ لا تضيع الحقوق والودائع؛ لأنَّ أداءها واجبٌ.

هـ- الوصيَّة المحرَّمةُ:

تَحرُمُ الوصيَّة لوارثٍ، سواءٌ وَرِثَ بفَرْضٍ، أو بِعَصَبَةٍ، أو رَحِمٍ، لحديث أبي أُمامَةَ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)[رواه أحمد، وأبو داود].

لكنْ إن أجازها الورثةُ صحَّت الوصيَّة؛ لما روي عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ)[رواه الدارقطني]. ولأنَّ المنع لحقِّ الورثة، فإذا رضوا بإسقاطه نفذ.

‌سابعاً: أحكامٌ تتعلَّقُ بإجازَةِ الوَصِيَّةِ:

- إجازةُ الورثةِ للوصيَّةِ تنفيذٌ لما وصَّى به المورِّث، وليست هِبَةً مُبتدَأَةً؛ لقوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11].

- لا تصحُّ الإجازةُ إلَّا من جائزِ التصرُّف؛ إلَّا السَّفيه والمُفْلِسُ فتصحُّ منهما.

- لا تصحُّ إجازة الوصيَّة من الورثة إلَّا بعد موت الموصِي.

- تَلْزَمُ الوصيَّة بعد إجازة الورثة بغير قبول من المُجازِ له، وبغير قَبْضٍ؛

ص: 12

لأنَّها تنفيذٌ لقول الموصِي لا ابتداء عطيَّة.

‌ثامناً: مُبْطِلاتُ الوَصِيَّةِ:

تَبطُلُ الوصيَّة بخمسةِ أشياء:

أ - رجوع المُوصِي في وَصِيَّتِه بقولٍ أو فِعْلٍ؛ لقول عمر رضي الله عنه: (يُحْدِثُ الرَّجُلُ فِي وَصِيَّتِهِ مَا شَاءَ، وَمِلَاكُ الْوَصِيَّةِ آخِرُهَا)[رواه الدارمي].

- فالرُّجوعُ بالقَوْل مثل أن يقول: «رَجَعْتُ عن وَصِيَّتي» ، أو «أَبْطَلْتُها» ، أو «رَدَدْتُها» ، أو «فَسَخْتُها». أو أن يقول مُوصٍ في مُوصَى به:«هذا لوَرَثَتِي» ، أو «في مِيراثِي». أو أن يقول:«ما وصَّيْتُ به لزَيدٍ فهو لعَمْرٍو» ؛ فإنَّه رجوعٌ عن الوصيَّة الأُولَى؛ لمُنافاتِه لها.

لكن إن وصَّى بشيءٍ لإنسانٍ، ثمَّ وصَّى به لآخَرَ، ولم يقل:«ما وصَّيتُ به لزيدٍ فهو لعمرٍو» ؛ فالمُوصَى به بينهما.

- والرُّجوعُ بالفِعْل مثل: أن يُزيلَ اسمَ المُوصَى به، أو يُغيِّر من هيئته، أو عَيْنِه؛ كأن يَطْحَن الحِنْطَة، أو يَنْسِجَ الغَزْلَ، أو أن يكون وَصَّى لفلانٍ بسيَّارة ثمَّ باعَها؛ فكلُّ هذا رجوعٌ عن الوصيَّة، بل لو عَرَضَ السيارةَ للبيع وكان قد أوْصَى بها، فإنَّ هذا يُعدُّ رجوعاً؛ لأنَّه قرينةٌ على الرجوع.

ب- مَوْتُ المُوصَى له قَبْلَ المُوصِي؛ لأنَّها عَطِيَّةٌ صادفت المُعطَى له مَيِّتاً؛ فلم تَصحَّ؛ كما لو وَهَبَ مَيِّتاً؛ ولأنَّ من شروط صحَّة الوَصِيَّة القَبول، وهنا انعدم المَحَلُّ، فكان لا شيء.

ص: 13

فإن كانت الوصيَّة بقضاء دَيْن الموصَى له، فلا تَبطلُ بموته؛ لبقاء اشتغال ذِمَّة الموصَى له بالدَّيْن حتَّى يؤدَّى.

ج- قَتْلُ المُوصَى له للمُوصِي قَتْلاً مَضْموناً بقِصاصٍ، أو دِيَةٍ، أو كَفَّارَةٍ، أو قَتْله له خَطَأً؛ لأنَّ القَتْلَ يمنع الميراثَ، وهو آكدُ من الوصية؛ فهي أَوْلَى.

والجامع: أنَّ كلًّا منهما قد استعجل أمراً قبل أوانه فعُوقِبُ بحِرْمانِه. وللمصلحة؛ حيث إنَّ ذلك فيه منعٌ لقتل الناس مُورِّثيهم، والمُوصِينَ لهم بشيءٍ.

ويخرجُ من ذلك: ما لو كان المُوصَى له هو الذي يضرب بالسيف لإقامة القصاص، أو كان قاضياً وحَكَم على المُوصِي بالقَتْل، فلا تبطلُ بذلك؛ لأنَّه قَتْلٌ غير مضمونٍ.

د - ردُّ المُوصَى له للوصيَّة بعد موت الموصِي، إذا كان المُوصَى له واحداً، أو جمعاً محصوراً؛ لأنَّه أسقط حقَّه في حالٍ يملك قبوله وأخذه.

فإن كان الردُّ بعد قبولها، لم يصحَّ الرَّدُّ، سواء قبضها أو لم يقبضها؛ لاستقرار ملكه عليها بالقبول كسائر أملاكه.

هـ- تَلَفُ العَيْن المعيَّنة المُوصَى بها؛ كما لو أوصى بدارٍ فانهدمت، أو أوصى بشاةٍ فماتت قبل موت المُوصِي أو بَعْدَه قَبْلَ قبولها؛ لأنَّ حقَّ المُوصَى له لم يتعلَّق بغير العَيْن؛ فإذا ذهبت زال حقُّه. لكن إن أتلفها وارثٌ أو غيره بعد قبول المُوصَى له فعلى مُتْلِفِها ضمانُها له.

ص: 14

‌باب المُوصَى له

‌أوَّلًا: من تصحُّ الوَصِيَّةُ له:

أ - تصحُّ الوَصِيَّةُ لكُلِّ مَنْ يصحُّ تمليكُه، سواء أكان مُسلماً مُعيَّناً، أو غير مُعيَّنٍ كالفقراء، أو كان كافراً مُعيَّناً -ولو مُرْتدًّا، أو حَرْبيًّا-؛ لقوله تعالى:{إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 6].

أمَّا الوصيَّة لكافرٍ غير معيَّنٍ، فلا تصحُّ؛ كالتوصية لعامَّة النصارى، أو عامَّة اليهود، أو فقرائهم؛ قياساً على عدم صحَّة الوقف عليهم.

وكذلك لا تصحُّ التوصيةُ لكافرٍ بمُصحَفٍ، أو سِلاحٍ، أو عبدٍ مُسلِمِ؛ لأنَّه لا يصحُّ تمليكه ذلك.

وكذا لا تصحُّ التوصية للكافر بحَدِّ قَذْفٍ يستوفيه لمسلمٍ مقذوف؛ لأنَّه لا يملك استيفاء ذلك لنفسه، فلغيره أَوْلَى.

ب- وتصحُّ الوصيَّة للحَمْل إذا تحقَّق وجودُه حين صدور الوصيَّة؛ بأن تضعه أمُّه حيًّا قبل تمام ستَّة أشهر من الوصيَّة وكانت فراشاً لزوجٍ أو سيِّدٍ، أو وضعته لأقلَّ من أربع سنين إن لم تكن فراشاً لزوجٍ أو سيِّدٍ؛ لأنَّ الحَمْل يَرِثُ، والوصيَّة في معنى الإرْث من جهة الانتقال عن الميِّت مجَّاناً إن كان موجوداً حال الوصيَّة؛ لأنَّها تمليك.

ج- وتصحُّ الوَصِيَّة لبهيمةٍ، لكن يُصْرَفُ في عَلَفِها؛ لأنَّ الوصيَّة لها أمرٌ

ص: 15

بصرف المال في مصالحها.

د - وتصحُّ الوَصِيَّة للمساجد، والقناطر، ونحوها، وتُصْرَف في مصالحها؛ لأنَّه العُرْف، كما في الوَقْف عليها. ويبدأُ النَّاظِرُ بالأَهَمِّ والأَصْلَح باجتهادٍ.

هـ- وتصحُّ الوصيَّة لله ورسوله، وتُصْرَف في المصالح العامَّة؛ كالفَيْء.

و - ويصحُّ أن يوصِي ببناءِ ما يسكنه المُجتازُ -من يمرُّ بك مسافراً- من ذمِّيٍّ وحَرْبيٍّ؛ لأنَّ بناء مساكنهم ليس بمعصيةٍ.

‌ثانياً: من لا تصحُّ الوصيَّة له:

أ - لا تصحُّ الوصيَّة لكنيسةٍ، أو لبَيْتِ نارٍ، أو مكانٍ من أماكن الكُفْر، سواء كان المُوصِي مُسلماً أو كافراً -ولو ذمِّيًا-؛ ولا لحُصُرِها، وقَنادِيلِها؛ لأنَّ ذلك إعانةٌ على معصيةٍ.

ب- ولا تصحُّ الوصيَّة لكَتْب التَّوراة والإنجيل؛ لأنَّهما منسوخان، والاشتغال بهما غير جائز؛ لما فيهما من التغيير والتبديل.

ج- ولا تصحُّ الوصيَّةُ لمُبْهَمٍ؛ كأن يقول: «أوصيتُ لأحَدِ هذين» ، أو «أحد هذين المسْجِدَين» ؛ فتعيينه شرطٌ لصحَّتها، وإذا فُقِدَ الشرط فُقِدَ المشروط؛ كما في البيع على مُبْهَمٍ؛ بجامع الغَرَر والجَهْل.

فإن كانت هناك قرينةٌ أنَّه أراد معيَّناً منهما، صحَّت الوصيَّة.

ص: 16

د - ولا تصحُّ الوصيَّة لمعدومٍ؛ كأن يوصي لحملٍ غير موجودٍ؛ لأنَّ الوصيَّة تمليكٌ، فلا تصحُّ لمعدوم.

هـ- ولا تصحُّ الوصيَّةُ لمن لا يملك؛ كما لو وصَّى لمَلَكٍ، أو لجنِّيٍّ، أو لحائطٍ؛ لأنَّهم لا يملكون، أشبه ما لو وصَّى لحجر.

فإن أوصى لمن يملك ومن لا يملك؛ كأن يوصِي لإنسانٍ وجانٍّ؛ ذهب الموصَى به كلُّه لمن يملك؛ لأنَّ من أَشْرَكَهُ معه لا يَملِكُ؛ فلم يصحُّ التَّشْريكُ.

أمَّا لو أَوْصَى لحَيٍّ ومَيِّت، كان للحَيِّ النصف فقط من المُوصَى به؛ لأنَّه أضاف الوصيَّة إليهما؛ فإن لم يكن أحدُهما أهلًا للتمليك، بَطَلَت الوصيَّة في نصيبه دون نصيب الحيِّ، لخُلُوِّه عن المعارض؛ كما لو كانت لحيَّيْن، فمات أحدهما.

ص: 17

‌باب المُوصَى به

‌أوَّلًا: الأشياءُ التي تَصِحُّ الوَصِيَّةُ بها:

أ - تَصِحُّ الوصيَّة بما لا يَصِحُّ بيعُه لعدم القُدْرَةِ على تَسْلِيمِهِ، ومن ذلك:

1) الوصيَّة بالعبد الآبِقِ، والشَّارِدِ من الدوابِّ، والمَغْصوبِ، وبالطَّيْر في الهواء؛ لأنَّ الوصيَّة تجري مجرى الإرث، وما يعجز عن تسليمه يورث عن الميِّت. ولأنَّ الوصيَّة بالمعدوم تصحُّ -كما سيأتي-، فهذه أَوْلَى.

2) الوصيَّة بالحَمْلِ في البَطْنِ، سواء كان الحَمْل حَمْلَ بهيمةٍ أو أَمَةٍ، تحقَّقَ وجودُه حين الوصيَّة؛ لجريانها مجرَى الإرث.

3) الوصيَّة باللَّبَنِ في الضَّرْع، والسَّمك في اللُّجَّةِ.

وللمُوصَى له -في جميع ما سبق- السعي في تحصيله؛ فإنْ قدر عليه أخذه إن خرج من الثُّلُث.

ب- تَصِحُّ الوصيَّة بالمعدوم؛ كأن يُوصِي بما ستَحمِلُ شجرَتُه أبداً، أو بما ستحمِلُ مُدَّةً مُعيَّنةً معلومةً، كسَنَةٍ أو سنتين؛ لأنَّه يجوز ملك المعدوم بالسَّلَم، والمضاربة، والمساقاة، فجاز ملكه بالوصيَّة.

فإن حصل شيءٌ ممَّا وصَّى به من المعدوم؛ فللمُوصَى له بمقتضى الوصيَّة؛ وإن لم يحصلُ شيءٌ من ذلك؛ بطلت الوصيَّة؛ لأنَّها لم تُصادف محلًّا.

ج- تصحُّ الوصيَّة بغير مالٍ؛ ككَلْبٍ مباحِ النَّفْع؛ وهو كَلْب صيدٍ، أو

ص: 19

ماشيةٍ، أو حَرْثٍ، أو زرعٍ، أو جروِ يُربَّى لما يُباح اقتناؤه له؛ لأنَّ فيه نفعاً مباحاً، وتُقرُّ اليدُ عليه. ويُستثنى من ذلك الكَلْب الأسود البهيم؛ لأنَّه لا يُباح صيده ولا اقتناؤه.

د - تصحُّ الوصيَّة بالمنفعة المُفرَدَةِ عن الرَّقَبَة؛ كأُجْرة الدَّار، وخِدْمة العَبْد، وثَمَرة البستانٍ، ونحو ذلك؛ لأنَّه يصحُّ تمليكُها بعَقْدِ المعاوضة؛ فصحَّت الوصيَّة بها كالأعيان، سواء وصَّى بذلك مدَّةً معلومةً كسَنَةٍ، أو وصَّى بجميع الثَّمَرةِ والمنفعة في الزمان كُلِّه؛ لأنَّ غايته جهالة القَدْر، وجهالته لا تقدَحُ.

ولو قال: «وَصَّيتُ بمنافعه» وأطلق؛ أفاد التأبيد أيضاً؛ لوجود الإضافة المُعمِّمَة.

هـ- تصحُّ الوصيَّة بالمُبْهَم؛ كثوبٍ، ويُعطَى المُوصَى له ما يقع عليه اسم الثوب؛ لأنَّه اليقين، فيكون كالإقرار، سواء كان منسوجاً من حريرٍ، أو كتَّانٍ أو قُطْنٍ، أو صوفٍ، أو شَعْرٍ، ونحوه، مصبوغاً أو لا، صغيراً أو كبيراً، لأنَّها إذا صحَّت بالمعدوم فالمجهول أَوْلَى.

‌ثانياً: الاختلافُ في الموصَى به بين العُرْف واللُّغة:

إن اختلف الاسم المُوصَى به بين العُرْف والحقيقة اللُّغويَّة؛ تُغلَّب الحقيقة اللُّغويَّة على العُرْف؛ لأنَّها الأصل؛ ولهذا يُحمَلُ عليها كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 20

فلو أوصَى بشاةٍ، أو بقرةٍ، أو بعيرٍ، فهو يَصدُقُ على الذَّكر والأُنثى من صغيرٍ وكبيرٍ.

ولو أوصَى بناقةٍ، أو نعجةٍ، فهو يَصدُقُ على أُنثى البعير، وأُنثى الضأن.

ص: 21

‌باب الموصَى إليه

(أحكام الناظر على الوصيَّة)

‌أوَّلًا: تعريفُ المُوصَى إليه:

الموصَى إليه: هو المأذون له بالتَّصرُّف بعد الموت في المال وغيره؛ ممَّا للمُوصِي التصرُّف فيه حال الحياة، وتَدْخُلُه النِّيابةُ؛ لأنَّ الموصَى إليه نائبٌ عن الموصِي في ذلك. ويُطلَق عليه: الناظِرُ على الوصيَّة.

‌ثانياً: حُكْمُ قَبُول المُوصَى إليه النَّظَر عَلَى الوَصِيَّة:

لا بأس بالدخول في الوصيَّة لمن قَوِيَ عليها ووَثِقَ من نفسه؛ لأنَّه قُرْبةٌ يُثابُ عليها، ولكونه من باب التعاون على البِرِّ والتقوى؛ لقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، ولفعل الصحابة رضي الله عنهم؛ فعن إسماعيل بن قَيْسٍ قال:(كَانَ أَبُو عُبَيْد عَبَرَ الفُرَاتِ فَأَوْصَى إلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ)[رواه ابن أبي شيبة].

وعن هشام بن عروة عن أبيه: (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ، وَعُثْمَانَ، وَالْمِقْدَادَ ابْنَ الأَسْوَدِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَن بْنَ عَوْفٍ، وَمُطِيعَ بْنَ الأَسْوَدِ، أَوْصَوا إلَى الزُّبَيْرِ ابْنِ الْعَوَّامِ. قَالَ: وَأَوْصَى إلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ)[رواه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني»].

إلَّا أنَّ عَدَم الدُّخول فيها أَوْلَى، لا سيَّما في هذه الأزمنة؛ لما فيها من الخَطَر.

ص: 23

‌ثالثاً: الألفاظُ التي تَنعَقِدُ الوصيَّة بها للمُوصَى إليه:

تنعقدُ الوصيَّة بقول الموصي: «فَوَّضْتُ، أو أوصيتُ إليك، أو إلى زيدٍ بكذا» ، أو «هو وَصِيِّي» ، أو «جَعلْتُكَ وصيِّي» ، أو «جَعلْتُك وصيِّي على كذا» ، ونحو ذلك؛ فمتى قَبِلَ صار وصيًّا. ولو تَصرَّف مُوصَى إليه قبل القبول قام مقام القبول.

‌رابعاً: مَنْ تصحُّ الوَصِيَّةُ إليهم:

أ - أجمع العلماء على أنَّه تصحُّ وصيَّة المسلم إلى كُلِّ مسلمٍ:

1) مُكَلَّفٍ؛ فلا تصحُّ الوصيَّة إلى مجنونٍ، أو طفلٍ، أو مُراهِقٍ، أو أَبْلَه؛ لأنَّهم ليسوا أهلًا للتصرُّفٍ في أموالهم، فلا يلون على غيرهم.

2) رَشيدٍ؛ فلا تصحُّ إلى سَفيهٍ؛ لأنَّه لا يصحُّ توكيله.

3) عَدْلٍ، ولو كان مستوراً ظاهرَ العَدالة؛ لأنَّه أهلٌ للائتمان.

- وتصحُّ أن تكون الوصيَّة إلى الأعمى والعاجز؛ لأنَّهما من أهل الشهادة

والتصرُّف والأمانة، فأشبها البصير.

ويُضَمُّ إليه قويٌّ أمينٌ مُعاوِنٌ، ولا تُزالُ يدُه عن المال ولا نظره، ويكون الأوَّل -وهو الأعمى أو العاجزُ- هو الوَصِيُّ دون الثاني؛ لأنَّ التصرُّف للأوَّل وحده وهو الوَصِيُّ؛ والثاني هو المُعِينُ.

- وتصحُّ الوصيَّة إلى المرأة؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما (أَنَّ عُمَرَ أَوْصَى إِلَى حَفْصَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ)[رواه الدارمي]؛ ولأنَّ المرأة من أهل الشهادة؛

ص: 24

فيصحُّ الإيصاء لها كالرَّجُل.

ب- وتصحُّ الوصيَّة من كافرٍ إلى كافرٍ عَدْلٍ في دِينِه؛ لأنَّه يَلِي على غيره بالنَّسَبِ؛ فيَلِي بالوصيَّة كالمسلم.

‌خامساً: مَحلُّ اعتِبارِ صِفاتِ المُوصَى إليه:

أ - يُعتبر في الموصَى إليه وجودُ صفاتِ: الإسلام، والتَّكليف، والرُّشد، والعَدالَة عند صدور الوصيَّة؛ لأنَّها شروطٌ للعَقْد فاعتُبِرَت حال وجوده.

ب- ويُعتبر وجود هذه الصِّفات كذلك عند موت المُوصِي؛ لأنَّ الموصَى إليه إنَّما يتصرَّف بعد موت المَوصِي؛ فاعتبر وجودها عنده.

‌سادساً: أحكامُ قَبولِ الوَصِيَّة:

أ - للموصَى إليه أن يقبل الإيصاء إليه في حال حياة المُوصِي؛ لأنَّه إذْنٌ في التصرُّف؛ فصَحَّ قَبولُه بعد العقد؛ كالوكالة؛ بخلاف الوصيَّة بالمال؛ فإنَّها تمليكٌ في وقتٍ؛ فلم يصحَّ القَبول قَبْلَ الوقت.

ب- ويصحُّ القَبول أيضاً بعد موت المُوصِي؛ لأنَّها نوعُ وَصِيَّةٍ؛ فصَحَّ قَبولها كوصيَّة المال؛ فمتى قَبِلَ؛ صار وَصِيًّا؛ ويقوم فِعْلُ التصرُّف مقام اللَّفظ، كما في الوكالة.

ج- للمُوصَى إليه أن يَعزِلَ نفسَه متى شاء؛ مع القُدْرة والعَجْز، في حياة المُوصِي وبعد موته؛ وفي حُضورِه وغَيْبَتِه؛ لأنَّه مُتصرِّفٌ بالإِذْن كالوكيل.

ص: 25

‌سابعاً: شُروطُ صِحَّة الوَصِيَّةِ للمُوصى إليه:

يُشترط لصحَّة الوصيَّة للمُوصَى إليه ما يلي:

أ - أن تكون الوصيَّة في شيءٍ معلومٍ؛ ليَعلَمَ الموصَى إليه ما وُصِّي به إليه ليحفظَهُ، ويتصرَّفَ فيه كما أمر.

ب- أن يَملِكَ المُوصِي فِعْلَ ما أوصَى به؛ لأنَّه أصيلٌ، والوَصِيُّ فَرْعُه، ولا يملِكُ الفَرْعُ ما لا يملِكُه الأصلُ. وذلك مثل: قضاء الدَّيْن، وتفريق الوصيَّة، وردِّ الحقوق إلى أهلها؛ كغَصْبٍ، وعاريةٍ، وأمانةٍ.

‌ثامناً: تَعليقُ الوَصِيَّةِ وتأْقِيتُها:

أ - تصحُّ الوصيَّة للمُوصَى إليه مُعلَّقةً؛ كقوله: «إذا بَلَغَ، أو حَضَرَ، أو رَشَدَ، أو تاب من فِسقِه، أو صَحَّ من مَرضِه، أو اشتغل بالعِلْم، أو صالَح أُمَّهُ، أو أصبح راشداً؛ فهو وَصِيِّي» ؛ أو أن يقول: «إن مات زيدٌ فعمرٌو مكانه» ، وتُسمَّى الوصِيَّة لمنتَظَرٍ.

ب- وتصحُّ الوصيَّة مؤقَّتةً؛ كأن يقول: «زيدٌ وصِيِّي سَنةً، ثمَّ عمرٌو وَصِيٌّ بعده» ؛ لما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: (وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إِلَى مُؤْتَةَ فَاسْتَعْمَلَ زَيْدًا، فَإِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، فَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَابْنُ رَوَاحَةَ)[رواه أحمد]. والوصيَّة كالتأمير.

ج- يجوز أن يُوصِي إلى نَفْسَين؛ لما روى عامر بن عبد الله بن الزُّبير قال:

ص: 26

«أَوْصَى عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَكَتَبَ: إِنَّ وَصِيَّتِي إِلَى اللّاهِ، وَإِلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَإِلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ» [رواه البيهقي].

وإن وَصَّى إلى رَجُلٍ وبَعدَهُ إلى آخر فهما وَصيَّان، إلَّا أنْ يَعْزِلَ الأوَّل، وليس لأحدهما الانفرادُ بالتصرُّف إلَّا أن يجعل ذلك إليه.

د - ليس للموصَى إليه أن يُوصِيَ إلَّا إنْ جعل الموصِي له ذلك؛ فيملكُه كالوكيل، وذلك نحو أن يقول:«أَذِنْتُ لكَ أن تُوصِيَ إلى من شِئتَ» .

‌تاسعاً: ما لا تَصِحُّ الوصِيَّة فيه:

أ - لا تصحُّ الوصيَّةُ باستيفاء الدَّين مع رُشْدِ وارثه وبلوغه؛ لأنَّ المال انتقل عن الميِّت إلى ورثته الذين لا ولاية له عليهم؛ فلم تَصِحَّ الوصيَّة باستيفائه.

ب- لا تصحُّ وصيَّةُ الرَّجُل بالنَّظر على بالغٍ عاقلٍ رشيدٍ؛ لعدم ولاية المُوصِي حال الحياة، فلا يكون ذلك لوصيِّه بعد الممات.

‌عاشراً: التصرُّف بالوصَيَّة المأذونِ بها:

من وُصِّيَ في شيءٍ لم يَصِرْ وَصيًّا في غيره؛ لأنَّه استفاد التصرُّفَ بالإذن، فكان مقصوراً على ما أُذِنَ له فيه؛ كالوكيل.

مثاله: إذا أَوصَى زَيْدٌ بَكْراً في تعليم أولاده الصِّغار -مثلًا-: فلا يكون بَكْرٌ وَصيًّا في التصرُّف في أمواله.

ص: 27

‌كتاب الفرائض

‌أوَّلًا: تَعريفُ الفَرائِضِ:

الفَرائضُ لُغةً: جَمْعُ فَريضَةٍ، اسمُ مَصْدَرٍ مِنْ فَرَضَ وَأَفْرَضَ، بمعنى التقدير؛ كما في قوله تعالى:{فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]؛ أي: قدَّرْتُم. ويأتي بمعنى القَطْع؛ كما في قوله سبحانه: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7].

واصطلاحاً: هو العِلْمُ بقِسْمَةِ المَوَاريثِ؛ أي فقه المواريث، ومعرفة الحساب المُوصِلِ إلى قِسمَتِها بين مُستَحِقِّيها.

والمواريث: جمع ميراث، وهو المال المُخَلَّف عن الميِّت. وتُسمَّى التَّرِكَة.

‌ثانياً: مشروعيَّةُ الفَرائِض وحُكْمها:

تعلُّم الفرائض والمواريث من فروض الكفايات؛ وقد تولَّى الله عز وجل بيانها بنفسه، وقسَّمها بين الورثة على مقتضى العدل والرحمة والمصلحة. وقد ثبتت مشروعيَّتها بالكتاب العزيز، والسنَّة المطهَّرة، والإجماع.

- فمن القرآن: قول الله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7]، وآيات المواريث الأخرى في سورة النساء.

- ومن السُّنَّة: ما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ)[رواه البخاري، ومسلم].

ص: 29

- وقد أجمع العلماء -في الجملة- على مشروعيَّة الفرائض؛ فإنَّ كثيراً من مسائله هي محلُّ إجماع بين العلماء.

‌ثالثاً: الحُقوقُ المتعلِّقة بالتَّرِكَة:

يتعلَّق بالتركة أربعة حقوق، تنفَّذ مرتَّبة -إن وجدت- على النحو التالي:

أ - مُؤْنَةُ تجهيز الميِّت: وهي كلُّ ما يُحتاج للميِّت من ثَمَن الكَفَن والحَنوط، وأُجْرَة المُغَسِّل وحافر القَبْر، ونحو ذلك ممَّا يُجهَّز به الميِّت؛ فيُشترَى من صُلْب ماله -بالمعروف- من غير إسراف ولا إنفاق في ما لم يَشْرعه الله تعالى، سواء تعلَّق بماله حقُّ رهنٍ، أو أَرْشُ جناية، أو لم يتعلَّق به شيءٌ من ذلك.

ب- قضاءُ دُيون الميِّت: إذا بقي من مال الميِّت شيءٌ بعد تجهيزه بالمعروف، تُقْضَى دُيونه، سواء وَصَّى بها أو لم يُوْصِ. وهي نوعان:

الأوَّل: ما تعلَّق بعين التركة؛ كدينٍ برَهْنٍ، وأَرْش جِنايةٍ، فيبدأ بها أوَّلًا.

الثاني: الدُّيون المُرسَلَة في الذِّمَّة؛ سواء كانت الدُّيون لله تعالى؛ كزكاة المال، وصدقة الفطر، والكفَّارات، والحجِّ الواجب، والنَّذْر. أو كانت للآدميِّين؛ كالقَرْض، والأُجْرة، وثَمَن المَبيع، ومَهْر الزَّوجة، ونحو ذلك.

ج- تنفيذُ وَصايا الميِّت: إذا بقي بعد قضاء الدُّيون شيءٌ وللميِّت وصايا، أُنْفِذت وصاياه لغير وارثٍ من ثُلُث المتبقِّي، إلَّا أن يُجيز الوَرَثة ما زاد على الثُّلُث، فتنفذ.

ص: 30

د - تقسيمُ التَّركة على الوَرَثة: إذا بقي بعد تنفيذ الوصايا شيءٌ من المال؛ فإنَّه يُقسَّم بين الوَرَثة بحسب أنصبتهم الشرعيَّة؛ لقوله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12].

ص: 31

‌فصل أركان الإرث وأسبابه وموانعه

‌أوَّلًا: أرْكانُ الإِرْثِ:

أركانُ الإرْث ثلاثةٌ:

الأوَّل: المُوَرِّثُ: وهو الميِّت تحقيقاً أو حُكماً أو تقديراً، وترك أموالًا أو حقوقاً له على غيره.

الثاني: الوَارِثُ: وهو الحيُّ عند موت المورِّث تحقيقاً أو تقديراً، ويرتبط بالمورِّث بسبب واحد أو أكثر من أسباب الإرث.

الثالث: المَوْرُوثُ: وهو ما يتركُه الميِّت من مال عَيْناً أو حقًّا له على غيره.

‌ثانياً: شُروطُ الإِرْث:

شروط الإرْث ثلاثةٌ:

الأوَّل: تحقُّق موت الموَرِّث؛ حقيقةً: بمشاهدةٍ، أو شهادة عَدْلين، أو خبرٍ مستفيض.

أو حُكْماً: كالمفقود الذي حُكِمَ بموته، أو تقديراً؛ كالجنين إذا سقط ميِّتاً بسبب جنايةٍ على أُمِّه؛ فتُقَدَّر حياتُه وإن لم تتحقَّق بعدُ، ويرثُ وَرَثَتُه الدِّية.

الثاني: تحقُّق حياة الوارث بعد موت مُورِّثه؛ حقيقةً: بمشاهدةٍ، أو شهادة عَدْلَين، أو خبرٍ مستفيضٍ.

ص: 33

أو تقديراً: كالحَمْل، ولو كانت حياته للحظة.

الثالث: العِلْمُ بمقتضى الإرْث؛ وذلك بمعرفة سبب الإرْث، وتعيين جهة القَرابة ودرجتها، وقوَّتها.

‌ثالثاً: أسبابُ الإِرْثِ:

أسبابُ الإرْث ثلاثةٌ:

أ - النَّسَبُ: أي القرابة؛ وهي صِلةٌ بين اثنين سببُها ولادةٌ قريبةٌ أو بعيدةٌ؛ لقول الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75].

وجهاتُ النَّسَب ثلاثة:

1) الأُصول: وهم من ينتمي إليهم الشخص بولادتهم إيَّاه. وهم الآباء والأمَّهات، والأجداد والجدَّات وإن علوا.

2) الفُروع: وهم من ينتمون إلى الشخص بولادته إيَّاهم. وهم: أولاده

-ذكوراً وإناثاً-، وأولاد بنيه وإن نزلوا.

3) الحَواشي: وهم من ينتمون إلى أبوي الشخص وأجداده؛ وهم الإخوة والأخوات الأشقَّاء، أو لأب، أو لأم، وبنو الإخوة الأشقَّاء أو لأب وإن نزلوا، والأعمام الأشقَّاء أو لأب وإن علوا، وبنوهم وإن نزلوا.

ب- النِّكاح الصحيح: وهو عقد الزوجيَّة الصحيح، ولو لم يحصل بعده وطءٌ ولا خَلْوَةٌ؛ لقوله تعالى:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} ، وقوله:

ص: 34

{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12]. فلا توارث في نكاحٍ باطلٍ، أو فاسِدٍ.

ج- الوَلَاء: وهو عُصوبةٌ سببُها نعمةُ المُعتِق على رَقيقه بالعِتْق؛ لما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ)[رواه ابن حبَّان، والحاكم]، فشبَّه الولاء بالنَّسَب، والنَّسبُ يورث به، فكذا الولاء.

ويُورَثُ بالولاء من جانبٍ واحدٍ؛ فيَرثُ المُعتِقُ عَتيقَه دون العكس.

‌رابعاً: موانعُ الإِرْثِ:

موانع الإرْث ثلاثة:

أ - القَتْل: وهو إزهاقُ الوارث -ولو غير مُكَلَّفٍ- روح مورِّثه بغير حقٍّ؛ وهو كلُّ ما يوجب القصاص، أو الدِّية، أو الكفَّارة؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنَ الِميرَاثِ شَيْءٌ)[رواه النسائي في «الكبرى»، والدارقطني]. فلا فَرْق في القَتْل المانع من الميراث بين العَمْد، أو شِبْه العَمْد، أو الخَطَأ.

ب- الرِّقُّ: وهو وَصْفٌ يكون به الشخص مملوكاً؛ فالرقيق مِلْكٌ لسيِّده، ولهذا ليس له ميراثٌ بالإجماع. ولا فرق بين القِنِّ، والمُكاتَب، والمُدَبَّر.

ج- اختلافُ الدِّين: وهو أن يكون دِينُ الوارث غير دِينِ المُوَرِّث؛ كأنْ

ص: 35

يكون أحدُهما مسلماً والآخرُ كافراً، أو أحدُهما يهوديًّا والآخرُ نصرانيًّا، لما جاء في حديث أُسامة بن زَيْد رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ المُسْلِمَ)[رواه البخاري، ومسلم]، وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى)[رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه].

‌خامساً: المُجْمَعُ على تَوْريثِهِم:

أ - المُجْمَعُ على توريثهم من الذُّكور عَشَرَةٌ:

1) الابن؛ لقول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11].

2) ابن الابن وإن نزل بمحض الذكورة؛ للآية السابقة.

3) الأب؛ لقوله عز وجل: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11].

4) أب الأب وإن علا بمحض الذُّكورة؛ للآية السابقة.

5) الأخ لأبوين، أو لأب، أو لأمٍّ؛ لقوله تعالى:{وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12]، وقوله:{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176].

6) ابن الأخ لأبوين، أو لأب بمحض الذُّكورة؛ لأنَّهما عَصَبَةٌ.

7) العمُّ لا من جهة الأُمِّ؛ لحديث: (أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا تَرَكَتِ

ص: 36

الفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ) [رواه البخاري ومسلم].

8) ابن العمِّ لا من جهة الأُمِّ؛ للحديث السابق.

9) الزَّوْج؛ لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12].

10) المُعتِق وعَصَبَتُه المُتَعَصِّبون بأنفسهم؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق: (الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ).

ب- المُجْمَعُ على توريثهم من النِّساء سَبْعٌ:

1) البنت؛ لقول الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11].

2) بنت الابن وإن نزل أبوها بمحض الذكورة؛ للآية السابق، و لما روى هُزَيْل بن شُرَحْبيل قال:(سُئِلَ أَبُو مُوسَى عَنْ بِنْتٍ، وَابْنَةِ ابْنٍ، وَأُخْتٍ، فَقَالَ: لِلبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلأُخْتِ النِّصْفُ، وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ، فَسَيُتَابِعُنِي، فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ المُهْتَدِينَ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لِلاِبْنَةِ النِّصْفُ، وَلِابْنَةِ ابْنٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ)[رواه البخاري].

3) الأُمُّ؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11].

ص: 37

4) الجدَّة لأبٍ، والجدَّة لأمٍّ؛ للآية السابقة.

5) الأخت لأبوين، أو لأب، أو لأُمٍّ؛ لقوله سبحانه:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12]، وقوله:{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176].

6) الزَّوجة؛ لقوله جلَّ ثناؤه: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء: 12].

7) المُعْتِقَة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق: (الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ).

ص: 38

‌فصل

أنواع الورثة

‌أوَّلًا: أقسامُ الوَرَثَة باعتبار أنواعِ الإِرْثِ:

ينقسمُ الورثة باعتبار أنواع الإرث إلى ثلاثة أقسام:

أ - أصحابُ الفُروض: وهم الذين يَرِثُون نصيباً مقدَّراً شرعاً، لا يزيد إلَّا بالردِّ، ولا ينقص إلَّا بالعَوْل.

ب- العَصَبَاتُ: وهم الذين يَرِثُون بلا تقدير.

ج- ذوو الأَرْحام: وهم الذين يَرِثُون عندما لا يوجد صاحب فَرْضٍ -غير الزوجين-، ولا يوجد عَصَبَة.

‌ثانياً: أقسامُ الوَرَثَة باعتبارِ الفَرْض والتَّعْصيب:

ينقسمُ الورثة باعتبار الفَرْض والتَّعْصيب إلى ثلاثة أقسام:

أ - من يرث بالفَرْض فقط، وهم خمسة:

1) الزوج 2) الزوجة 3) الأمُّ

4) الجدَّة 5) الإخوة من الأمِّ.

ب- الوارثون بالتَّعْصيب فقط، وهم اثنا عشر:

1) الابن 2) ابن الابن 3) الأخ لأبوين

4) الأخ لأب 5) ابن الأخ لأبوين 6) ابن الأخ لأب

ص: 39

7) العم الشقيق 8) العم لأب 9) ابن العم الشقيق

10) ابن العم لأب 11) المُعتِق 12) المُعتِقة.

ج- الوارثون بالفَرْض تارةً، وبالتَّعْصيب تارة، ويرثون بهما معاً تارة أخرى، وهم اثنان:

1) الأب 2) أبو الأب

د - الوارثون بالفَرْض تارة، وبالتَّعْصيب تارة، ولا يرثون بهما معاً، وهم أربعة:

1) البنت فأكثر 2) بنت الابن فأكثر

3) الأخت لأبوين فأكثر 4) الأخت من الأب فأكثر.

‌ثالثاً: أصحابُ الفُروض:

أصحاب الفروض عشرةٌ؛ هم:

1، 2) الزوج، والزوجة.

3، 4) الأب، والأم.

5، 6) الجدُّ، والجدَّة مطلقاً.

7، 8) البنت، وبنت الابن.

9، 10) الأخت الشقيقة أو لأب أو لأم، والأخ من الأمِّ.

والفروض المقدَّرة ستَّةٌ؛ وهي:

ص: 40

أ - النِّصْف: وهو فَرْضٌ لخمسةٍ:

1) الزَّوج إذا لم يكن للزَّوجة فَرْعٌ وارثٌ؛ لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12].

2) البنت إذا لم يكن معها أختها، أو أخٌ لها يعصِّبها؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11].

3) بنت الابن إذا لم يكن معها أختها، أو أخٌ لها يعصِّبها، وعدم الفَرْع الوارث الأعلى منها.

4) الأخت الشَّقيقة مع عدم الفَرْع الوارث، وعدم الأصل الوارث، وعدم المشارك لها وهو أختها، وعدم المُعَصِّب لها وهو أخوها؛ قال تعالى:{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176].

5) الأخت لأبٍ إذا لم يكن معها أصلٌ وارثٌ، ولا فَرْعٌ وارثٌ، ولا أخت تشاركها، ولا أخٌ يُعصِّبها، وعدم الإخوة الأشقَّاء؛ للآية السابقة.

ب- الرُّبُع: وهو فَرْضٌ لاثنين:

1) الزَّوج: إذا كان للزَّوجة فَرْعٌ وارثٌ؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} [النساء: 12].

2) الزَّوجة فأكثر: عند عدم الفَرْع الوارث؛ لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء: 12].

ص: 41

ج- الثُّمُن: وهو فَرْضٌ للزَّوجة فأكثر إذا كان للزَّوج فَرْعٌ وارثٌ؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12].

د - الثُّلُثان: وهو فَرْضٌ لأربعةٍ:

1) البِنْتان فأكثر إذا لم يكن معهما مُعصِّبٌ؛ وهو أخوهنَّ؛ قال تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11].

2) بِنْتا الابن فأكثر مع عدم ولد الصُّلْب، وعدم المُعَصِّب وهو أخوهنَّ؛ لأنَّ بنات الابن كبنات الصُّلْب.

3) الأُختان الشَّقيقتان فأكثر مع عدم الفَرْع الوارث، وعدم الأَصْل الوارث من الذُّكور، وعدم المُعَصِّب لهنَّ؛ وهو أخوهنَّ؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176].

4) الأُختان لأبٍ فأكثر مع عدم الأخ الشقيق، وعدم المُعَصِّب لهنَّ؛ وهو أخوهنَّ، وعدم الأَصْل الوارث من الذُّكور، وعدم الفَرْع الوارث؛ للآية السابقة؛ قال ابن قدامة:«والمراد بهذه الآية ولد الأبوين، أو ولد الأب بإجماع أهل العلم» .

هـ- الثُّلُث: وهو فَرْضٌ لاثنين:

1) ولدا الأُمِّ فأكثر، سواء كانوا ذُكوراً أو إناثاً؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ

ص: 42

كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]. قال البهوتي: «وقد أجمع العلماء على أنَّ المراد بالأخ والأخت هنا ولدُ الأمِّ» .

2) الأُمُّ: إذا لم يكن للميِّت فَرْعٌ وارثٌ، ولا جَمْعٌ من الإخوة والأخوات؛ لقوله تعالى:{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11].

- وللأمِّ ثُلُث الباقي إذا كان للميِّت أبٌ وأمٌّ، مع أحد الزَّوجين؛ لقضاء عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال:(إنَّ عُمَرَ كَانَ إذَا سَلِكَ طَرِيقًا فَسَلِكْنَاهُ وَجَدْنَاهُ سَهْلًا، وَأَنَّهُ أُتِيَ فِي امْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ، فَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الرُّبْعُ، وَلِلأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، وَمَا بَقِيَ لِلأَبِ)[رواه ابن أبي شيبة].

وتُسمَّى: العُمَريَّتان أو الغَرَّاوان.

و - السُّدُس: وهو فَرْضٌ لسبعةٍ:

1) الأُمُّ مع وجود الفَرْع الوارث، أو جَمْعٍ من الإخوة والأخوات؛ قال تعالى:{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11].

2) الجدَّة فأكثر إلى ثلاثٍ

(1)

إن تساوين

(2)

، مع عدم وجود الأمِّ؛ لما جاء في حديث قبيصة بن ذُؤيب أنَّه قال: (جَاءَتِ الجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، تَسْأَلُهُ

(1)

هنَّ: أمُّ الأمِّ، وأمُّ الأب، وأمُّ أب الأب، من كان من أمَّهاتهنَّ وإن علون أمومةً.

(2)

الجدَّات المتساويات: مثل اجتماع أمِّ أمِّ الأمِّ، وأمِّ أمِّ الأب، وأمِّ أب الأب.

ص: 43

مِيرَاثَهَا؟ فَقَالَ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ، فَسَأَلَ النَّاسَ، فَقَالَ المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، حَضَرْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهَا السُّدُسَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ؟ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جَاءَتِ الجَدَّةُ الأُخْرَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا، فَقَالَ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى شَيْءٌ، وَمَا كَانَ القَضَاءُ الَّذِي قُضِيَ بِهِ إِلَّا لِغَيْرِكِ، وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ فِي الفَرَائِضِ، وَلَكِنْ هُوَ ذَلِكَ السُّدُسُ، فَإِنِ اجْتَمَعْتُمَا فِيهِ فَهُوَ بَيْنَكُمَا، وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا) [رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه].

وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: (يَرِثُ ثَلَاثُ جَدَّاتٍ: جَدَّتَانِ مِنْ قِبَلِ الأُمِّ، وَجَدَّةٌ مِنْ قِبَلِ الأَبِ)[رواه ابن أبي شيبة].

3) ولد الأمِّ الواحد؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12]. والمراد بالأخ والأخت هنا ولد الأمِّ بالإجماع.

4) بنت الابن فأكثر مع بنت الصُّلْب؛ لما روى هُزَيْل بن شُرَحْبيل أنَّ ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: (أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لِلاِبْنَةِ النِّصْفُ، وَلِابْنَةِ ابْنٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ)[رواه البخاري].

5) الأخت لأب مع الأُخت الشقيقة؛ قياساً على بنت الابن مع بنت الصُّلْب.

ص: 44

6) الأب مع الفَرْع الوارث؛ لقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11].

7) الجدُّ مع الفَرْع الوارث وعدم الأب؛ لأنَّه بمنزلة الأب.

ولا ينزل الأبُ والجدُّ عن السُّدُس بحالٍ؛ للآية السابقة.

ص: 45

‌فصل

أحكام الجدِّ مع الإخوة

‌أوَّلًا: المرادُ بالجدِّ والإخْوَة في هذه المسألة:

- يقصد بالجدِّ هنا: هو الجدُّ الصحيح أبو الأب وإن علا بمحض الذكورة.

- ويقصد بالإخوة هنا: الإخوة والأخوات الأشقَّاء، والإخوة من الأب. ولا يدخل الإخوة من الأمِّ؛ لأنَّهم محجوبون بالجدِّ اتِّفاقاً.

‌ثانياً: حالاتُ ميراثِ الجدِّ مع وجودِ الإخْوَة:

إذا اجتمع الجدُّ مع الإخوة في الميراث، فلا يخلو ميراث الجدِّ من حالين:

أحدهما: أن لا يكون معهم صاحب فَرْضٍ؛ فيخيَّر الجدُّ بين أحظِّ أمرين:

أ - مقاسمة الإخوة والأخوات كأنَّه واحدٌ منهم -للذَّكَر مثل حظِّ الأُنثيين-. وتكون هي الأحظَّ إذا كان الإخوة أقلَّ من مثلَي الجدِّ.

وتنحصر صُوَرُه في خَمْسٍ: (جدٌّ وأخٌ)، و (جدٌّ وأختٌ)، و (جدٌّ وأختان)، و (جدٌّ، وأخٌ، وأختٌ)، و (جدٌّ، وثلاث أخوات).

ب- أَخْذُ ثُلُث جميع المال. والباقي بين الإخوة للذَّكَر مثل حظِّ الأُنثيين. ويكون هو الأحظَّ إذا كان الإخوة أكثر من مِثْلَي الجدِّ؛ ومن صُوَرِها: (جدٌّ، وأربع إخوة)، و (جدٌّ، وعشرةُ إخوة)، وهكذا.

فإن كان الإخوة مِثْلَي الجدِّ، استوى له المقاسمة وثلثُ جميع التركة،

ص: 47

وتنحصر صورُهُ في ثلاث: (جدٌّ، وأخوان)، و (جدٌّ، وأربعُ أخوات)، و (جدٌّ، وأخٌ، وأختان).

الثاني: أن يكون معهم صاحب فَرْض؛ فيُخيَّر الجدُّ بين أحظِّ ثلاثة أمور:

أ - مقاسمة الإخوة والأخوات، كأنَّه أخٌ منهم. وتكون هي الأحظَّ في الصور التالية:

1) إذا كان الباقي بعد الفروض النِّصْف أو أكثر، وكان الإخوة أقلَّ من مِثْلَي الجدِّ. ومن صُوَرِها:(زوجةٌ، وجدٌّ، وأختٌ)، أو (بنتٌ، وجدٌّ، وأختٌ).

2) إذا كان الباقي أقلَّ من النِّصْف وأكثرَ من الثُّلُث، والإخوة مثل الجدِّ أو أقلَّ. ومن صُوَرِها:(أمٌّ، وزوجةٌ، وجدٌّ، وأخٌ).

3) إذا كان الباقي الثُّلُث، والإخوة أقلُّ من مِثْلَي الجدِّ. ومن صُوَرِها:(بنتان، وجدٌّ، وأختٌ).

ب- أَخْذُ ثُلُث الباقي من المال بعد صاحب الفَرْض. ويكون هو الأحظَّ إذا كان الباقي أكثر من النِّصْف، والإخوة أكثر من مِثْلَي الجدِّ. ومن صورها:(أمٌّ، وجدٌّ، وثلاثةُ إخوةٍ)، أو (زوجةٌ، وجدٌّ، وثلاثةُ إخوةٍ).

ج- أَخْذُ سُدُس جميع المال. ويكون هو الأحظَّ في الصور التالية:

1) إذا كان الباقي أقلَّ من النِّصْف وأكثر من الرُّبُع، والإخوة أكثر من مثل الجدِّ. ومن صورها:(بنتٌ، وأمٌّ، وجدٌّ، وأخٌ، وأختٌ)، أو (بنتُ ابنٍ،

ص: 48

وزوجةٌ، وجدٌّ، وثلاثُ أخواتٍ).

2) إذا كان الباقي الرُّبُع فقط، والإخوة مثل الجدِّ أو أكثر. ومن صورها:(بنتٌ، وزوجٌ، وجدٌّ، وأخٌ).

3) إذا كان الباقي أقلَّ من الرُّبُع؛ فيكون السُّدُس أحظَّ للجدِّ مطلقاً. ومن صورها: (بنتان، وزوجةٌ، وجدٌّ، وأختٌ).

- إذا لم يبق من المال -بعد أَخْذِ صاحب الفَرْض- إلَّا السُّدُس، أَخَذَه الجدُّ وسَقَط الإخوة، إلَّا فيما يُسمَّى بالمسألة الأَكْدَريَّة؛ وسقوط الإخوة لأنَّ أصحاب الفروض استغرقوا التركة؛ والجدُّ لا ينقصُ عن سُدُس جميع المال.

* المسألةُ الأَكْدَريَّة:

سُمِّيت الأكدريَّة؛ لأنَّها كَدَّرت أُصولَ زَيْدِ بن ثابتٍ رضي الله عنه في الجدِّ؛ حيث أعالها، ولا عول عنده في مسائل الجدِّ والإخوة.

وصورتها: أن يجتمع من الوَرَثة: زوجٌ، وأمٌّ، وجدٌّ، وأخت (شقيقة أو لأب).

فيكون للزوج (النِّصْف)، وللأمِّ (الثُّلُث)، وللجدِّ (السُّدُس)، وللأخت (النِّصْف)، وتعول المسألة إلى (تسعة). ثمَّ يُجمعُ نصيبُ الجدِّ ونصيبُ الأخت، ويُقسَّم بينهما أثلاثاً؛ للجدِّ (ثُلُثان)، وللأُخت (ثُلُث).

ثمَّ نصحِّحُ المسألة بناءً على عدد رؤوس الجدِّ مع الأُخت، وهو (ثلاثة)، ثمَّ نضربُ المسألة كلَّها في (ثلاثة)؛ فتصحُّ المسألة من (سبع وعشرين)، ثمَّ نضرب

ص: 49

نصيب كلِّ وارثٍ في (ثلاثة).

الأصل

المصح

الوارث

الفروض

6 • 9

9×3 = 27

زوج

1/ 2

3

9

أم

1/ 3

2

6

جد

1/ 6

1

4

8

خت

1/ 2

3

4

* اجتماعُ الإخوة الأشقَّاء والإخوة لأب مع الجدِّ:

إذا اجتمع مع الجدِّ إخوةٌ أشقَّاء وإخوةٌ لأب؛ فلذلك حالتان:

الأولى: أن يكون الإخوة الأشقاء مثلي الجدِّ فأكثر، أو يكون الباقي بعد أصحاب الفروض الرُّبُع فأقلّ؛ فعندئذٍ لا يعتدُّ بوجود الإخوة لأب؛ لأنَّ الجدَّ لا يتأثَّر بوجودهم.

مثاله: جدٌّ، وأخوان شقيقان، وأخ لأب؛ فيأخذ الجدُّ الثُّلُث؛ لأنَّه الأحظُّ له، والباقي للأخوين الشَّقيقين، ولا شيء للأخ لأب. فهنا لا فائدة من عدِّ الأخ لأب مع الشَّقيق؛ لأنَّ الجدَّ يلتجئ إلى الأحظِّ -وهو الثُّلُث- عندما يشعر أنَّ الشقيق سيَعُدُّ عليه الأخ لأب للإضرار به.

الثانية: أن يكون الإخوة الأشقَّاء أقلَّ من مِثْلَي الجدِّ، ويكون الفاضل من التركة بعد أصحاب الفروض أكثر من الرُّبُع؛ فحينئذٍ يعدُّ الإخوة لأب مع

ص: 50

الشَّقيق على الجدِّ، فيأخذ الجدُّ نصيبه، ثمَّ يحجب الأخ الشَّقيقُ الإخوةَ لأب فلا يأخذون شيئاً، كما لو لم يكن معهم جدٌّ، وتسمَّى (المُعادَّة)؛ لأنَّ إدخال الإخوة لأب في المقاسمة للإضرار بالجدِّ؛ ليكون نصيبه أقلَّ.

مثاله: جدٌّ، وأخٌ شقيقٌ، وأخٌ لأبٍ؛ فيستوي للجدِّ المقاسمة والثُّلُث، فيأخذ ثُلُثه، والباقي للإخوة، ثمَّ يأخذ الشقيق ما في يد الأخ لأبٍ؛ لأنَّه أقوى منه تعصيباً، ويكون نصيبه ضعف نصيب الجدِّ.

فإن كان مع الجدِّ والأخ لأبٍ أختٌ شقيقةٌ؛ فيأخذ الأخ لأبٍ ما زاد بعد أَخْذِ الأختِ الشَّقيقة نِصْفَها؛ ومن صُوَرِها: الزَّيْديَّات الأربع؛ نسبةً إلى زيد ابن ثابتٍ رضي الله عنه؛ وهي:

أ - العَشْرِيَّة، وهي:(جدٌّ، وأخت شقيقة، وأخ لأب).

تقسم المسألة على رؤوسهم (خمسة): فيأخذ الجدُّ (2) مقاسمة؛ لأنَّه الأحظُّ، والباقي (3) للشَّقيقة والأخ لأب. ولما كان للشَّقيقة (النِّصْف) من (خمسة)، تصحَّح المسألة بضَرْب أصلها في مخرج النِّصْف:(2)، فتصحُّ المسألة من (عشرة)؛ للجدِّ (4)، وللشَّقيقة (5)، وللأخ لأب الباقي (1).

ب- العِشْرينيَّة، وهي:(جدٌّ، وأخت شقيقة، وأختان لأب).

تقسم المسألة من (خمسة): للجدُّ (2) مقاسمةً وهو الأحظُّ هنا، والباقي (3) مشترك بين الأخوات، ثمَّ نضرب أصل المسألة في (2)، لتصحَّ المسألة من (عشرة): للجدِّ (4)، وللشَّقيقة النِّصْف (5)، والباقي للأختين لأب

ص: 51

(1)

، ثمَّ نضرب المسألة في (2)، فتصحُّ من (عشرين): للجدِّ (8)، وللشَّقيقة (10)، والباقي (2)، لكُلِّ واحدة منهما (1).

ج- مُختَصَرةُ زَيْدٍ، وهي:(أمٌّ، وجدٌّ، وأختٌ شقيقةٌ، وأخٌ وأختٌ لأب).

ففي هذه المسألة يستوي للجدِّ المقاسمة وثلث الباقي. وسمِّيت بذلك لأنَّ زيداً رضي الله عنه حَلَّها على طريقة المقاسمة، ثمَّ اختصرها، وذلك على النحو التالي:

1) إذا كان للجدِّ ثُلُث الباقي: فللأمِّ السُّدُس (1)، والباقي (5) مشترك بين الجدُّ والإخوة، فنضرب أصل المسألة والأسهم في (3)، فتصحُّ من (ثمانية عشر): للأمِّ (3)، والباقي (15) ثُلُثها (5) للجدِّ، ونصف جميع المال للشَّقيقة (9)، والباقي (1) للإخوة من الأب؛ للذَّكَر مثل حظِّ الأُنثيين، فنصحِّح المسألة، فنضرب رأس المسألة والأسهم في (3)، وهو عدد رؤوس الإخوة من الأب، فتصحُّ المسألة من (أربعة وخمسين): للأمِّ (9)، وللجدِّ (15)، وللشَّقيقة (27)، وللإخوة من الأب (3): للأخ (2)، وللأخت (1).

2) إذا كان الجدُّ يقاسم الإخوة: فللأمِّ السُّدُس (1)، والباقي (5) مشترك بين الجدِّ والإخوة، نصحِّح المسألة بناء على عدد رؤوسهم، فنضرب المسألة في (6)، فتصحُّ من (ستَّةٍ وثلاثين): للأمِّ (6)، والباقي (30): للجدِّ سهمان (10)، ونصف كُلِّ المال للشَّقيقة (18)، والباقي (2) لأولاد الأب، ثمَّ نصحِّح المسألة بضربها بعدد رؤوسهم (3)، فتصحُّ المسألة من (مائة وثمانية):

ص: 52

للأمِّ (18)، وللجدِّ (30)، وللشَّقيقة (54)، وللإخوة من الأب (6): للأخ (4)، وللأخت (2). وإذا اختصرنا مصحَّ المسألة مع سهام الورثة بقِسْمَتها على (2)، صار مصحُّ المسألة (أربعة وخمسين): للأمِّ (9)، وللجدِّ (15)، وللشَّقيقة (27)، وللأخ من الأب (2)، وللأخت من الأب (1). كما في الحالة الأولى.

د - تِسْعِينيَّة زَيْدٍ، وهي:(أمٌّ، وجدٌّ، وشقيقةٌ، وأخوان لأب، وأخت لأب).

للأمِّ (السُّدُس)، وللجدِّ الأحظ وهو (ثُلُث الباقي)، وللشَّقيقة (نصف جميع المال)، والباقي للإخوة من الأب؛ فيكون أصل المسألة من (ستَّة)، للأم (1)، والباقي (5) يشترك فيه الجدُّ مع الإخوة والأخوات، ولمعرفة ثُلُث الباقي نضرب كُلَّ مسألة في (3)، فتصحُّ من (ثمانية عشر): للأمِّ (3)، والباقي (15): ثُلُثها (5) للجدِّ، وللشَّقيقة نصف جميع المال (9)، والباقي (1) للإخوة من الأب. ثمَّ نضرب رؤوسهم الخمسة في (18)، فتصحُّ من (تسعين): للأمِّ (15)، وللجدِّ (25)، وللشَّقيقة (45)، وللإخوة من الأب (5): للأخوين (4)، ولأختهم (1).

ص: 53

‌باب الحَجْب

‌أوَّلًا: تَعريفُ الحَجْب:

الحَجْبُ لُغةً: المَنْعُ.

واصطلاحاً: مَنْعُ مَنْ قامَ به سَبَبُ الإرْثِ من الإرْثِ بالكُلِّيَّة، أو مِنْ أَوْفَرِ حَظَّيْه.

‌ثانياً: أسبابُ الحَجْب:

للحَجْب سببان:

الأوَّل: حَجْبٌ بسبب وَصْفٍ: وهو أن يتَّصف الوارث بأحد موانع الإرث الثلاثة: الرِّقُّ، أو القَتْل، أو اختلاف الدِّين. فمن اتَّصف بأحد هذه الأوصاف لا يَرِثُ ولا يَحْجبُ غيره، ولا يُعصِّبُ غيره. وهو وصفٌ يمكن دُخوله على جميع الوَرَثة.

الثاني: حَجْبٌ بسبب شَخْصٍ: وهو كون شخصٍ سبباً لمنع آخر من بعض إرْثِه أو كُلِّه. وهو ينقسم إلى قسمين:

القسم الأوَّل: حَجْب نُقْصان: وهو كون شخص سبباً لمنعِ آخرَ بعضَ إرْثِه. ويدخل على جميع الوَرَثة أيضاً. وهو نوعان: ازدحام، وانتقال.

أ - النوع الأوَّل: الازدحام: وله ثلاثة أحوال:

1) ازدحامٌ في فَرْضٍ: ويكون في حقِّ الوَرَثة الذين يشتركون في فَرْضٍ

ص: 55

واحدٍ؛ كاشتراك الزَّوجات في الرُّبُع أو الثُّمُن، وكالجدَّات في السُّدُس، وكالبنات، وبنات الابن، والأخوات الشَّقيقات، والأخوات لأب في الثُّلُثين، وكبنات الابن، والأخوات من الأب في السُّدُس، وكالإخوة للأمِّ في الثُّلُث. فاشتراك عددٍ من الوَرَثة في فَرْضٍ واحدٍ سببُ نقص بعض الإرْث على أفراد العدد.

2) ازدحامٌ في تَعْصيبٍ: ويكون في حقِّ كلِّ وارثٍ يشترك في تَعْصيبٍ؛ كالأولاد، وأولاد البنين وإن نزلوا، والإخوة والأخوات الأشقَّاء أو لأب، وبني الإخوة الأشقَّاء أو لأب، والأعمام الأشقَّاء أو لأب وإن علوا، وبنيهم وإن نزلوا، والمعتِقين والمعتِقات وعَصَبَتِهم بالنَّفْس.

3) ازدحامٌ في عَوْلٍ: ويكون ذلك عند ازدحام فروضٍ تكاثرت في مسألةٍ، فزادت سهامهم على أصل المسألة.

مثاله: أن تموت امرأةٌ عن زوجٍ، وأمٍّ، وأختين شقيقتين، وإخوةٍ لأمٍّ.

فللزَّوج النِّصْف، وللأمِّ السُّدُس، وللأختين الشَّقيقتين الثُّلُثان، وللإخوة من الأمِّ الثُّلُث. فازدحمت سهام فروض المسألة، فزادت على أصلها، وعالت المسألة من ستَّةٍ إلى عشرةٍ.

ب- النوع الثاني: الانتقال: وله أربعة أحوال:

1) انتقالٌ من فَرْض إلى فَرْض أقلَّ منه: ويكون في حقِّ كلِّ من له فَرْضان؛ كأحد الزَّوجين، والأُمِّ؛ فينتقل نصيب الزَّوج من النِّصْف إلى الرُّبُع، ونصيب

ص: 56

الزَّوجة من الرُّبُع إلى الثُّمُن، ونصيب الأمِّ من الثُّلُث إلى السُّدُس.

وكبنات الابن مع فَرْعٍ أُنثى وَرِثَتِ النِّصْف، فينتقل بناتُ الابن من النِّصْف أو الاشتراك في الثُّلُثين إلى السُّدُس.

وكالأخوات من الأب مع أختٍ شقيقةٍ ورثت النِّصْف فَرْضاً؛ فينتقل الأخوات لأبٍ من النِّصْف أو الاشتراك في الثُّلُثين إلى السُّدُس.

2) انتقالٌ من فَرْضٍ إلى تَعْصيبٍ أقلَّ منه: ويكون ذلك في حقِّ ذوات النِّصْف إذا انتقلن من فَرْض النِّصْف إلى التَّعْصيب بالغير.

كالبنت إذا كان معها أخوها؛ فتنتقلُ من النِّصْف فرضاً إلى الثُّلُث تعصيباً.

3) انتقالٌ من تَعْصيبٍ إلى تَعْصيبٍ أقلَّ منه: ويكون ذلك في حقِّ العَصَبَة مع الغير عندما ينتقلن منها إلى العُصوبة بالغير.

كالأخت الشَّقيقة ترث النِّصف مع البنت تعصيباً مع الغير، فإن كانت مع أخيها ورثت الثلث تعصيباً أيضاً.

4) انتقالٌ من تَعْصيبٍ إلى فَرْضٍ أقلَّ منه: ويكون ذلك في حقِّ الأب، وأب الأب وإن عَلا، إذا انتقل أحدُهم من إرثِ المال بالتَّعْصيب إلى فَرْضِ السُّدُس.

القسم الثاني: حَجْبُ حِرْمان: وهو كون شخص سبباً لحرمان آخر من الإرث كلِّه. وهذا القسم مبنيٌّ على ثلاث قواعد:

القاعدة الأُولى: الفروعُ لا يحجبهم إلَّا الفُروع. ويتفرَّع عنها قاعدتان:

ص: 57

1) كلُّ فَرْعٍ ذَكَرٍ يَحجبُ من هو أَنْزَل منه، ذَكَراً كان أو أُنثى؛ فالابن الذَّكَر يحجبُ جميع أولاد البنين، وابن الابن يحجبُ كلَّ ابنَ ابنٍ أنزل منه.

2) الأُنثى من الفُروع لا تحجبُ أحداً من الفُروع؛ فالبنتُ أو البناتُ لا يَحجبن أولاد البنين.

لكن بنات الابن يَسقُطْن ببنتي الصُّلْب فأكثر، ما لم يكن معهنَّ من يعصِّبهنَّ من ولد الابن.

القاعدة الثانية: الأُصولُ لا يحجبهم إلَّا الأُصول. ويتفرَّع عنها قاعدتان:

1) الذُّكور الأُصولُ لا يَحجبُهم إلَّا ذُكور الأُصول؛ فالأبُ يحجب الجدَّ، وكلُّ جدٍّ أبعد يَسقطُ بالأقرب منه. أمَّا الجدَّة فلا تَحجِبُ الجدَّ؛ لأنَّها من إناث الأُصول.

2) إناثُ الأُصول لا يَحجبُهنَّ إلَّا إناثُ الأُصول؛ فالجدَّة تَحجبُها الأمُّ، ولا يَحجبُها الأبُ، ولو كانت من قِبَلِه. وكلُّ جدَّة بُعْدَى تسقطُ بجدَّة قُرْبى.

القاعدة الثالثة: الحواشي يَحجبُهم الفُروع والأُصول والحواشي. ويتفرَّع عنها القواعد التالية:

1) كلُّ ذَكَرٍ من الفُروع يَحجبُ جميع الحواشي. فابن الابن وإن نزل يحجبُ الأخَ الشَّقيق أو لأب، والعمَّ الشَّقيق أو لأب، ومَنْ دونهما.

2) الأُنثى من الفُروع لا تَحجبُ من الحواشي غير أولاد الأُمِّ. فالبنتُ لا

ص: 58

تحجبُ ابنَ العَمِّ وإن نَزَل؛ إذ يكون لها النِّصْف، والباقي لابن العَمِّ تَعْصيباً.

3) كلُّ ذَكَرٍ من الأُصول يَحجبُ جميع الحواشي، إلَّا الجدَّ مع الإخوة لغير الأمِّ، فإنَّه لا يَحجبُهم.

4) الأُنثى من الأصول لا تَحجبُ أحداً من الحواشي؛ كالأمِّ مع ابن عَمٍّ نازلٍ، ومع أختٍ من الأمِّ، فإنَّها لا تَحجبُهم.

5) كلُّ فَرْدٍ من الحواشي (ذَكَراً أو أُنثى) يَحجبُ كلَّ من دُونَه جِهَةً أو دَرَجَةً أو قُوَّةً، إذا كان وارثاً بالتَّعْصيب، إلَّا ولد الأُمِّ فلا يَحجبُه إلَّا الفَرْع الوارث مُطلَقاً، أو الأَصْلُ الذَّكَرُ الوارث.

مثاله: الإخوةُ لأبٍ محجوبون بالأخ الشَّقيق؛ لقوَّته بزيادة القُرْب من الميِّت؛ وعن عليٍّ رضي الله عنه أنَّه قال: (إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الوَصِيَّةِ، وَإِنَّ أَعْيَانَ بَنِي الأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي العَلَّاتِ، الرَّجُلُ يَرِثُ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ دُونَ أَخِيهِ لِأَبِيهِ)[رواه الترمذي].

- والأعمامُ محجوبون بأبناء الإخوة وإن نزلوا؛ لأنَّهم أقرب جهةً.

- والأخُ لأبٍ محجوبٌ بالأخت الشَّقيقة إذا صارت عَصَبَةً مع البنت أو بنت الابن؛ لأنَّها تصير بمنزلة الأخ الشَّقيق.

* الأخواتُ لأبٍ يَسقُطْنَ بالأختين الشَّقيقتين فأكثر؛ لاستكمال الثُّلُثين،

ص: 59

ما لم يكن معهنَّ أخوهنَّ فيعصِّبهُنَّ في الباقي؛ للذكر مثل حظِّ الأُنثيين.

* حَجْبُ الحِرْمان لا يدخلُ على سِتَّةٍ من الوَرَثة؛ هم:

الزَّوجان (الزَّوْج والزَّوجة)، والأبوان (الأب والأم)، الوَلَدان (الابن والبنت).

* من لا يَرِثُ لمانعٍ لا يَحجبُ أحداً مُطْلقاً، لا حَجْبَ حِرمانٍ ولا نُقصانٍ؛ إلَّا الإخوة مُطْلقاً؛ سواء كانوا أشقَّاء، أو لأبٍ، أو لأمٍّ؛ فقد لا يرثون؛ لوجود الأب أو الابن، إلَّا أنَّهم يَحجبون الأُمَّ حَجْبَ نُقْصان من الثُّلُث إلى السُّدُس.

ص: 60

‌باب العَصَبات

‌أوَّلًا: تَعريفُ العَصَبَة:

العَصَبَةُ لُغةً: جمع عاصِبٍ، مأخوذ من العَصَب؛ وهو الشَّدُّ، ومنه سُمِّيت العِمامَةُ عِصَابةً، وسُمِّيَ العَصَب عَصَباً؛ لأنَّه يَشُدُّ الأعضاء، وعِصَابة القوم لاشتداد بَعْضِهم ببَعْضٍ.

أمَّا في الاصطلاح: فالعَصَبة هم الوارثون بلا تَقْديرٍ؛ فيأخذ العاصِبُ المال كُلَّه، أو ما أَبْقَتِ الفُروض.

‌ثانياً: أسبابُ التَّعْصيب:

للتَعْصيب سببان، هما:

أ - النَّسَب: وهم جميع القرابة الذكور الوارثين -عدا أولاد الأمِّ-، والبنات، وبنات الابن وإن نزل أبوهنَّ، والأخوات الشَّقيقات، والأخوات لأب.

ب- الوَلاء: وهو المُعْتِقُ والمُعْتِقَةُ، وعَصَبَتُهما بالنَّفْس.

‌ثالثاً: أقسامُ العَصَبَةِ:

تنقسم العَصَبة إلى ثلاثة أقسام:

الأوَّل: عَصَبةٌ بالنَّفْس: وهم كلُّ ذَكَرٍ ليس بينه وبين الميِّت أثنى. وهم أربعة عشر:

ص: 61

1) الابن 2) ابن الابن وإن نزل

3) الأب 4) أب الأب وإن علا

5) الأخ الشَّقيق 6) الأخ لأب

7) ابن الأخ الشَّقيق وإن نزل 8) ابن الأخ لأب وإن نزل

9) العم الشَّقيق وإن علا 10) العمُّ لأب وإن علا

11) ابن العمِّ الشقيق وإن نزل 12) ابن العمِّ لأب وإن نزل

13) المُعتِق 14) المُعتِقَة

الثاني: العَصَبة بالغير، وهم أربعة:

1) البنت إذا كان معها أخوها.

2) بنت الابن إذا كان معها أخوها.

3) الأخت الشَّقيقة إذا كان معها أخوها الشَّقيق.

4) الأخت من الأب إذا كان معها أخوها من الأب.

الثالث: العَصَبة مع الغير، وهم اثنان:

1) الأخوات الشَّقيقات مع الفروع الإناث (بنت أو بنت ابن فأكثر).

2) الأخوات من الأب مع الفروع الإناث (بنت أو بنت ابن فأكثر).

‌رابعاً: أحكامٌ تختصُّ بالعَصَبة:

أ - الوارث بالتَّعْصيب يأخذ ما بقي بعد أصحاب الفروض؛ لحديث ابن

ص: 62

عبَّاس رضي الله عنهما -السابق- عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ).

ب- إذا لم يبق للعَصَبَة شيءٌ بعد أصحاب الفُروض سقطوا؛ لمفهوم الحديث السابق.

ج- إذا انفرد أحدٌ من العَصَبَة أخذ جميع المال؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176].

د - العَصَبَة بالغير يقتسمون ما وَرِثوا: للذَّكَر مثل حظِّ الأُنثيين؛ لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]؛ وقوله: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176].

هـ- للأب والجدِّ ثلاث حالات:

1) يرثان بالتَّعْصيب فقط عند عدم الفرع الوارث.

2) يرثان بالفَرْض فقط عند وجود الفرع الوارث الذَّكَر.

3) يرثان بالفَرْض والتَّعْصيب عند وجود الفَرْع الوارث الأُنثى.

* المسألة المُشَرَّكة:

وصورتها: زوجٌ، وأمٌّ، وإخوةٌ لأمٍّ اثنان فأكثر، وإخوةٌ أشقَّاء، فتقسم المسألة من ستَّة؛ للزوج النِّصْف (ثلاثة)، وللأمِّ السُّدُس (واحد)، وللإخوة للأمِّ الثُّلُث (اثنان)، ولا شيء للإخوة الأشقَّاء؛ لأنَّهم عَصَبَة، ولم يبق لهم من

ص: 63

التركة شيءٌ بعد أن أخذ أصحاب الفروض فَرْضهم.

الورثة

الفروض

الأسهم

زوج

1/ 2

3

أم

1/ 6

1

إخوة لأم

1/ 3

2

إخوة أشقاء

ع

-

وسُمِّيت المشرَّكة؛ لأنَّ بعض أهل العلم شرَّك فيها بين الإخوة الأشقاء والإخوة للأم، فجعل الثُّلُث بينهم.

وتُسمَّى أيضاً: «الحماريَّة» ؛ لأنَّه يُروى أنَّ عمر رضي الله عنه أسقط الإخوة الأشقَّاء، فقال بعضهم:«يا أمير المؤمنين: هَبْ أنَّ أبانا كان حِماراً، أليستْ أُمُّنا واحدةً» ؛ فشرَّك بينهم.

ص: 64

‌فصل

فيمن يرث عند الاجتماع

أ - إذا اجتمع كلُّ الذُّكور، وَرِثَ منهم ثلاثةٌ: الابن، والأب، والزَّوج.

ب- إذا اجتمع كلُّ الإناث، وَرِثَ منهنَّ خمسةٌ: البنت، وبنت الابن، والأمُّ، والزَّوجة، والأخت الشَّقيقة.

ج- إذا اجتمع من يُمكن اجتماعُه من الرِّجال والنِّساء، وَرِثَ منهم خمسةٌ: الأب والأمُّ، والابن والبنت، وأحدُ الزَّوجين.

د - إذا كان العاصِبُ هو عمُّ الميِّت، أو ابن عمِّه، أو ابن الأخ: انفرد بالإرْث دون أَخَواته؛ لأنَّهنَّ من ذوي الأرحام، والعَصَبة مقدَّمٌ على ذوي الأرحام.

هـ- إذا عُدِمَت العَصَبات من النَّسَب، وَرِث المَوْلَى المُعتِق ولو كان أُنثى، ثمَّ عَصَبته الذُّكور الأقرب فالأقرب على ترتيب النَّسَب؛ لأنَّهم يُدْلون بالعِتْق، والولاء مشبَّهٌ بالنَّسَب، فأُعطِيَ حكمه.

و- إذا لم يكن للميِّت عَصَبةُ نَسَبٍ ولا ولاءٍ، رُدَّ الباقي على ذوي الفروض. فإن لم يكن ذو فَرْضٍ كان الميراث لذوي الأرحام؛ لأنَّ سبب الميراث القَرابَة، وهو موجودٌ في ذوي الأرحام؛ قال تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75].

ص: 65

‌باب الردِّ وذوي الأرحام

‌أوَّلًا: تَعريفُ الرَّدِّ:

الرَّدُّ لغةً: الإعادةُ والصَّرْف، والإرْجاعُ.

واصطلاحاً: زيادةٌ في الأنْصِباء، ونَقْصٌ في السِّهام.

‌ثانياً: شُروطُ الرَّدِّ:

يُشترطُ للرَّدِّ شرطان:

الأوَّل: أن تكون سِهام الفروض أقلَّ من أصل المسألة.

الثاني: أن لا يوجد عاصِبٌ في الورثة.

فإذا تحقَّق الشَّرطان رُدَّ الزائد من التركة على كلِّ صاحب فَرْض بقَدْر فَرْضِه. إلَّا الزَّوجين؛ فلا يُردُّ عليهما من حيث الزَّوجيَّة؛ لأنَّهما ليسا من ذوي القَرابة.

‌ثالثاً: أحوالُ مسائلِ الرَّدِّ:

الحالة الأولى: أن لا يكون للميِّت إلَّا وارثٌ واحدٌ بالفَرْض، فيأخذ الوارث كلَّ المال فَرْضاً، ورَدًّا؛ لأنَّه ليس له مُزاحِمٌ من الوَرَثَةِ.

مثاله: توفي عن أُمٍّ. فتأخذ الأمُّ الثُّلُث فَرْضاً، والباقي ردًّا.

الحالة الثانية: أن يكون الوارثون جماعةً من جِنْسٍ واحدٍ؛ كالبنات، أو

ص: 67

الجدَّات، أو الأخوات؛ فيأخذون بالفَرْض، ويُرَدُّ الباقي عليهم بالسَّوِيَّة؛ لاستوائهم في مُوجِب الإرْثِ.

مثاله: مات عن خمسة إخوةٍ من الأمِّ؛ فيقسم المال بينهم أخماساً؛ الثُّلُث فَرْضاً، والباقي رَدًّا.

الحالة الثالثة: أن يكون الورثة جماعةً يختلفون في الجِنْس؛ كما لو اجتمع بنت وبنت ابن؛ فتؤصَّل المسألة مرَّتين:

1) تؤصَّل على حسب الفُروض، ولا يكون إلَّا من ستَّة؛ لأنَّه ليس في الفروض كلِّها ما لا يوجد في الستَّة، إلَّا الرُّبع والثُّمن، ولا يكونان إلَّا للزَّوجين، وهما ليسا من أهل الردِّ.

2) يؤتى بأصلٍ ثانٍ؛ وهو مجموع سهام الفُروض من الأصل الأوَّل ويُصْرَف النَّظَر عن الأصل الأوَّل.

* تنبيه: ينحصر الأصل المُرَدُّ في أربعة أصول: (اثنان) أو (ثلاثة) أو (أربعة) أو (خمسة).

- إذا وقع انكسار بين السِّهام والرُّؤوس تحتها تُصحَّحُ المسألة.

أمثلة للحالة الثالثة:

1) مثال للأصل (اثنين): توفي عن (جدَّة، وأخٍ لأمٍّ).

ص: 68

أصل المسألة

الأصل المُرَدُّ

الوارثون

الفروض

6

2

جدَّة

1/ 6

1

1

أخ لأم

1/ 6

1

1

2) مثال للأصل (ثلاثة): توفي عن (أمٍّ، وأخٍ لأمٍّ).

أصل المسألة

الأصل المردُّ

الوارثون

الفروض

6

3

أم

1/ 3

2

2

أخ لأم

1/ 6

1

1

3) مثال للأصل (أربعة): توفي عن (أخت شقيقة، وأخت لأب).

أصل المسألة

الأصل المردُّ

الوارثون

الفروض

6

4

أخت شقيقة

1/ 2

3

3

أخت لأب

1/ 6

1

1

4) مثال للأصل (خمسة): توفي عن (بنتين، وأمٍّ).

أصل المسألة

الأصل المردُّ

الوارثون

الفروض

6

5

بنتان

2/ 3

4

4

أم

1/ 6

1

1

ص: 69

الحالة الرابعة: أن يكون الوارث صاحب فَرْضٍ واحدٍ، ومعه أحدُ الزَّوجين. والعمل فيها كما يلي:

أ - تُؤصَّل المسألة من مَخْرَج فَرْض أحدِ الزَّوجين، وهي:(اثنان أو أربعة أو ثمانية).

ب- يُعْطَى الوارثُ من الزوجين نصيبه، ثمَّ يُعْطَى الباقي للوارث من أصحاب الردِّ فَرْضاً ورَدًّا.

أمثلة للأصول الثلاثة: (زوجٌ وأمٌّ)(زوجةٌ وجدَّةٌ)(زوجةٌ وبنتٌ)

الأصل

الأصل

الأصل

الوارث

الفروض

2

الوارث

الفروض

4

الوارث

الفروض

8

زوج

1/ 2

1

زوجة

1/ 4

1

زوجة

1/ 8

1

أم

1/ 3

1

جدة

1/ 6

3

بنت

1/ 2

7

ففي المسألة الأولى أخذت الأمُّ الثُّلُث فَرْضاً، والباقي رَدًّا، وفي الثانية أخذت الجدَّة السُّدس فَرْضاً، والباقي رَدًّا، وفي الثالثة: أخذت البنت النِّصْف فَرْضاً، والباقي رَدًّا.

- إذا اجتمع أكثر من زوجةٍ في المسألة صُحِّحت المسألة بضرب أصل المسألة في عدد رؤوس الزوجات.

مثاله: توفِّي عن (ثلاث زوجات، وأُمٍّ).

ص: 70

الأصل

تصحيح

الوارث

الفروض

4

4×3= 12

3 زوجة

1/ 4

1

3

أم

1/ 3

3

9

الحالة الخامسة: أن يكون الوارثون جماعةً من جِنْسٍ واحدٍ، ومعهم أحد الزَّوجين. والعمل فيها كما يلي:

أ - تؤصَّل المسألة من مَخْرَج فَرْض أحد الزَّوجين.

ب- يُعطَى أحدُ الزَّوجين نصيبه من أحد الأصول الثلاثة (اثنان أو أربعة أو ثمانية)، أو من مَصَحِّها عند تعدُّد الزوجات.

ج- يقسم الباقي على العدد الوارث من أصحاب الردِّ.

- مثاله مع انقسام الباقي على أهل الردِّ: (زوجٌ وثلاث بنات).

- مثاله مع عدم انقسام الباقي على أهل الردِّ: (زوجةٌ وثلاث بنات).

الأصل

الأصل

مصح

الوارث

الفَرْض

4

الوارث

الفَرْض

8

8×3= 24

زوج

1/ 4

1

زوجة

1/ 8

1

3

3 بنات

2/ 3

3

3 بنات

2/ 3

7

21

الحالة السادسة: أن يكون الورثة جماعةً يختلفون في الجِنْس، ومعهم أحدُ

ص: 71

الزَّوجين. والعمل فيها كما يلي:

أ - تؤصَّل المسألة من مَخْرَج فَرْض أحدِ الزَّوجين.

ب- يُعطَى الوارث من الزَّوجين نصيبه من أحد الأصول الثلاثة: (اثنان أو أربعة أو ثمانية).

ج- يُوقَفُ الباقي للنَّظر فيه لتوزيعه على أهل الرَّدِّ حسب فُروضِهِم، والباقي إمَّا (واحد) إذا كان فَرْض الزَّوج (النِّصْف)، وإمَّا (ثلاثة) إذا كان فَرْض أحد الزَّوجين (الرُّبع)، وإمَّا (سبعة) إذا كان فَرْض الزَّوجات (الثُّمُن).

د - تُؤَصَّل لأصحاب الرَّدِّ مسألةٌ مستقلَّةٌ إلى جانب مسألة الزَّوجيَّة، كما لو كان الميِّت مات عنهم فقط، ويُعمَل فيها كما سبق فيما لو كان أهل الرَّدِّ أكثر من صِنْفٍ وليس معهم أحد الزَّوجين، وتُصَحَّح المسألة إذا احتاجت إلى تصحيح.

هـ- يُنْظَر بين الباقي من مسألة الزَّوجيَّة، وبين مسألة أصحاب الرَّدِّ، كما يلي:

1) إذا انقسم الباقي من مسألة الزَّوجيِّة على مسألة الرَّدِّ، صحَّت مسألة الرَّدِّ من مسألة الزَّوجيَّة، وتكون مسألة الزَّوجيَّة جامعةَ المسألتين، وتَصِحَّان منها.

مثاله: توفِّي عن (زوجة، وأمٍّ، وأخٍ لأمٍّ).

مسألة الزوجية

الأصل

مسألة الرد

الأصل

الجامعة

الوارث

الفروض

4

الوارث

الفروض

6 • 3

4

زوجه

1/ 4

1

-

-

-

1

أم

الباقي

3

أم

1/ 3

2 فَرْضاً وردًّا

2

أخ لأم

أخ لأم

1/ 6

1 فَرْضاً وردًّا

1

ص: 72

2) إذا كان الباقي بعد نصيب أحد الزَّوجين لا ينقسم على مسألة الرَّدِّ، فتُضْربُ مسألة الرَّدِّ في مسألة الزَّوجيَّة. ثمَّ من له شيءٌ من مسألة الزَّوجيَّة أخذه مضروباً في مسألة الرَّدِّ. ومن له شيء من مسألة الرَّدِّ أخذه مضروباً في الفاضل عن مسألة الزَّوجيَّة. والناتج جامعة المسألتين، وتسمى (جامعة الردِّ).

مثاله: توفي عن (زوج، وجدَّة، وأخٍ لأمٍّ).

مسألة الزوجية

الأصل

مسألة الرد

الأصل

الجامعة

الوارث

الفروض

2

الوارث

الفروض

6 • 2

2×2=4

زوج

1/ 2

1

-

-

-

2

جدة

الباقي

1

جدة

1/ 6

1 فَرْضاً وردًّا

1

أخ لأم

أخ لأم

1/ 6

1 فَرْضاً وردًّا

1

ص: 73

‌فصل

في ذوي الأرحام

‌أوَّلًا: تَعريفُ ذَوِي الأَرْحَام:

ذوو الأَرْحامِ لُغةً: الأرْحامُ جمع رَحِم، وهو مَنْبَتُ الوَلَدِ وَوِعاؤُه، ويُطْلَق على القَرابَةِ، أو أصْلِها، أو أسبابها.

واصطلاحاً: كلُّ قَرابةٍ ليس بذي فَرْضٍ ولا عَصَبةٍ.

‌ثانياً: مَشروعيَّةُ تَوريثِ ذَوِي الأَرْحَام:

دلَّ الكتاب والسُّنة على مشروعيَّة توريث ذوي الأرحام.

- فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6].

- ومن السُّنَّة: عن المِقْدَام الشَّامِيِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَالخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، يَعْقِلُ عَنْهُ، وَيَرِثُهُ)[رواه أبو داود، وابن ماجه].

‌ثالثاً: شُروطُ تَوريثِ ذَوِي الأَرْحَام:

يُشترط لتوريث ذوي الأرحام أن لا يوجد للميِّت وارثٌ بفَرْضٍ من أهل الردِّ، ولا وارث بالتَّعْصيبِ. أمَّا الزوجان فلا يمنعان توريث ذوي الأرحام.

‌رابعاً: أصنافُ ذَوِي الأَرْحام:

ذوو الأرحام أحد عشرة صنفاً، وهم:

ص: 75

1) ولد البنات؛ وولد بنات البنين (وإن نزلوا).

2) ولد الأخوات مطلقاً.

3) بنات الإخوة، وبنات بني الإخوة مطلقاً.

4) بنات الأعمام مطلقاً (وإن علوا).

5) ولد الأخ لأمٍّ.

6) العمُّ لأمٍّ (وإن علا).

7) العمَّات مُطْلَقاً (وإن علون).

8) الأخوال والخالات مُطْلَقاً (وإن علوا).

9) أبو الأمِّ (وإن علا).

10) كلُّ جدَّةٍ أدْلَت إلى الميِّت بأنثى (وإن علت) -كأمِّ أبي الأمِّ-، أو الجدَّة التي أدْلَت إلى الميِّت بأبٍ أعلى من أبِ الأب.

11) من أدْلى بصنْفٍ من هؤلاء؛ كعمَّة العمَّة، وخالةِ الخالة، وعمِّ العمِّ لأمٍّ، وأخيه وعمِّه لأبيه، وأبي أبي الأمِّ، ونحو ذلك.

‌خامساً: كَيفيَّة تَوريثِ ذَوِي الأَرْحَام:

يرثُ ذوو الأرحام بتنزيلهم منزلة الوارث الذي يُدْلي به؛ لما رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (العَمَّةُ بمَنْزِلَةِ الأَبِ، وَالخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ، وَبِنْتُ الأَخِ بِمَنْزِلَةِ الأَخِ، وَكُلُّ ذِي رَحِمٍ يَنْزِلُ بِمَنْزِلَةِ رَحِمِهِ الَّتِي يَرِثُ بِهَا، إِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ ذُو قَرَابَةٍ)[رواه عبد الرزاق].

ص: 76

مثاله: توفِّي عن (ولد بنت، وولد بنت ابن، وعمَّةٍ).

الأصل

الورثة

الفروض

6

ولد بنت

1/ 2

3

ولد بنت ابن

1/ 6

1

عمَّة

ع

2

- إذا أدلى جماعة من ذوي الأرحام بوارثٍ بفَرْضٍ أو تَعْصيبٍ، واستوت منزلتهم منه؛ فنصيبُه لهم بالسويَّة؛ الذَّكر كالأنُثى؛ لأنَّهم يرثون بالرَّحِم المجرَّدة، فاستوى ذَكَرهم وأُنثاهم.

مثل: أن يترك أولاد بنتٍ واحدةٍ ذكوراً وإناثاً؛ فيكون المال بينهم على عدد رؤوسهم بالسَّويَّة.

* تركةُ من لم يَتْرُك وارِثاً:

من لا وارث له معلومٌ بفَرْضٍ أو تَعْصيبٍ أو رَحِمٍ، يكون مالُه لبيت المال، يحفظه كما يحفظ المال الضائع والفيء؛ وهو ليس وارثاً له، وإنَّما هو جهةٌ ومصلحةٌ، فيُصْرَف المال في مصالح المسلمين؛ لأنَّ اشتباه الوارث بغيره لا يوجب الحُكْم بالإرْث للكلِّ، فيُصْرَف في المصالح؛ للجهل بمستحقِّه عَيْناً.

ص: 77

‌باب أصول المسائل

‌أوَّلًا: تَعريفُ أُصولِ المَسائِل:

أُصولُ المسائِل: هي المَخارِجُ التي تَخرُجُ منها فُروضُ المسائل.

أو: هي أقلُّ عددٍ تُستخرج منه سِهامُ فُروض المسألة بلا كَسْرٍ.

‌ثانياً: عَدَدُ أُصولِ المَسائِل:

أصولُ المسائل سبعةٌ، مأخوذة من الفروض التي نصَّ الله تعالى عليها في كتابه، وهي ستَّة: النِّصْف، والثُّلُثان، والثُّلُث، والرُّبع، والثُّمُن، والسُّدُس.

ومخارجُ هذه الفروض خمسةٌ:

1) النِّصْف مخرجه (اثنان).

2) الثُّلُث والثُّلُثان مخرجهما (ثلاثة).

3) الرُّبُع مخرجه (أربعة).

4) السُّدُس مخرجه (ستة).

5) الثُّمُن مخرجه (ثمانية).

ويضاف إلى ذلك:

6) الرُّبُع مع الثُّلُث، أو مع السُّدُس، أو مع الثُّلُثين مخرجهما (اثنا عشر).

7) الثُّمُن مع السُّدُس، أو مع الثُّلُثين مخرجهما (أربعة وعشرون).

فصارت أصولُ المسائل سبعةٌ.

ص: 79

‌ثالثاً: العَوْلُ في أُصولِ المَسائِل:

العَوْلُ لغةً: هو زيادةٌ في السِّهام ونَقْصٌ في الأنصباء.

ويكون ذلك عند تعدَّد الفروض، فيتجاوز مجموع سهام الفروض أصل المسألة، فيترتَّب عليه نَقْص أنصبة الوَرَثة من أصحاب الفروض.

‌رابعاً: الأُصولُ العائِلَة:

يَعولُ من الأصول ثلاثة، وهي:(سِتَّة)، (اثْنا عَشَر)، (أربعةٌ وعِشْرون).

الأصلُ الأوَّل: (سِتَّة): وتعول أربعة عولات:

1) تعول إلى سَبْعَةٍ: ومثاله: (زوج، وأخت شقيقة، وجدَّة).

أصل المسألة

العول

الوارثون

الفروض

6

7

زوج

1/ 2

3

3

شقيقة

1/ 2

3

3

جدة

1/ 6

1

1

2) وتعول إلى ثمانية: ومثاله: (زوج، وأمٌّ، وأخت شقيقة).

وتسمَّى (المُباهَلَة)؛ لأنَّ عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما أراد مباهلة من خالفه من الصحابة في هذه المسألة [رواه البيهقي، والخطيب في «الفقيه والمتفقه»]، وكان لا يرى العَوْل فيها، خلافاً لرأي عمر بن الخطَّاب والعبَّاس بن عبد المطَّلِب، ومن معهما رضي الله عنهم.

ص: 80

قال ابن قدامة: «ولا نعلم اليوم قائلًا بمذهب ابن عبَّاسٍ، ولا نعلم خلافاً بين فقهاء الأمصار في القول بالعول بحمد الله ومنَّه» .

أصل المسألة

العول

الوارثون

الفروض

6

8

زوج

1/ 2

3

3

أم

1/ 3

2

2

شقيقة

1/ 2

3

3

3) وتعول إلى تسعة: مثاله: (زوج، أخوان لأمٍّ، وأختان شقيقتان).

وتُسمَّى (الغرَّاء)؛ لأنَّها حدثت بعد (المباهلة)، واشتهر بها العول بين العلماء كالنَّجم الأغَرِّ.

وسُمِّيت (المروانيَّة)؛ لأنَّها حدثت زمن مروان بن الحكم.

أصل المسألة

العول

الوارثون

الفروض

6

9

زوج

1/ 2

3

3

2 إخوة لأم

1/ 3

2

2

2 شقيقة

2/ 3

4

4

4) وتعول إلى عشرة: مثاله: (زوج، وأمٌّ، وأختان لأمٍّ، وأختان شقيقتان).

وتُسمَّى (أمَّ الفروخ)؛ لأنَّها أكثر المسائل عولًا، تشبيهاً لأصلها بالأمِّ، وعولها بفروخها.

ص: 81

وتُسمَّى (الشُرَيحيَّة)؛ لأنَّها حدثت في زمن شُرَيحٍ القاضي، فكان أوَّل من أفتى بها.

أصل المسألة

العول

الوارثون

الفروض

6

10

زوج

1/ 2

3

3

أم

1/ 6

1

1

2 شقيقة

2/ 3

4

4

2 أخت لأم

1/ 3

2

2

الأصلُ الثاني: (اثنا عشر): وتعول ثلاثة عولات كلُّها أفراد:

1) تعول إلى ثلاثة عشر:

مثاله: (زوج، وبنتان، وأمٌّ).

أصل المسألة

العول

الوارثون

الفروض

12

13

زوج

1/ 4

3

3

2 بنت

2/ 3

8

8

أم

1/ 6

2

2

2) وتعول إلى خمسة عشر:

مثاله: (زوج، وبنتان، وأمٌّ، وأبٌ).

ص: 82

أصل المسألة

العول

الوارثون

الفروض

12

15

زوج

1/ 4

3

3

2 بنت

2/ 3

8

8

أمٌّ

1/ 6

2

2

أبٌ

1/ 6

2

2

3) وتعول إلى سبعة عشر: مثاله: (ثلاث زوجات، وجدَّتان، وأربع أخواتٍ لأمٍّ، وثماني أخواتٍ شقيقات). وتسمَّى (أمَّ الأرامل)؛ و (أمَّ الفروج)؛ لأنَّ جميع من فيها من الإناث.

أصل المسألة

العول

الوارثون

الفروض

12

17

3 زوجات

1/ 4

3

3

2 جدَّة

1/ 6

2

2

4 خت أم

1/ 3

4

4

8 شقيقات

2/ 3

8

8

الأصلُ الثالث: (أربعة وعشرون): وتعول مرَّةً واحدةً إلى سبعةٍ وعشرين:

مثاله: (زوجة، وبنتان، وأب، وأمٌّ). وتُسمَّى (المنبريَّة).

وسُمِّيت (البخيلة)؛ لأنَّها لم تَعُلْ إلَّا مرَّةً واحدةً.

ص: 83

أصل المسألة

العول

الوارثون

الفروض

24

27

زوجة

1/ 8

3

3

2 بنت

2/ 3

16

16

أمٌّ

1/ 6

4

4

أبٌ

1/ 6

4

4

ص: 84

‌باب ميراث الحَمْل

‌أوَّلًا: تعريفُ الحَمْل:

الحَمْل: بفتح الحاء؛ ما يكون في رَحِم الآدميَّة من ولد.

‌ثانياً: شُروطُ مِيراثِ الحَمْل:

الحملُ يَرِثُ ويُورَثُ في الجملة بلا نزاع، ويُشْترَطُ لإرْثِه شرطان:

الأوَّل: تحقُّق وجودُ الحَمْل -ولو نُطْفَةً- في بَطْن أُمِّه عند موت مورِّثه، بأن تأتي به أُمُّه لأقلَّ من ستَّة أشهر من موت مورِّثه؛ لأنَّه لا يمكن أن يولد حَمْلٌ قبل ستَّة أشهر ويعيش.

فإن أتت به لأكثر من ستَّة أشهر من موت مورِّثه، وكان لها زوج يَطَؤُها، لم يَرِث إلَّا أن يُقِرَّ الوَرَثَة أنَّه كان موجوداً حال الموت. وإن كانت لا تُوطَأُ لعدم الزَّوْج، أو لغَيْبَتِه، أو عَجْزِه، ونحو ذلك، وَرِثَ ما لم يُجاوز أكثر مُدَّة الحَمْل، وهي أربع سنين.

الثاني: تحقُّق خروجه كُلِّه من بطن أمِّه حيًّا، بأن يسْتَهِلَّ صارخاً؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِذَا اسْتَهَلَّ المَوْلُودُ وُرِّثَ)[رواه أبو داود]. وكذا لو عطَسَ، أو تَنفَّسَ، أو رَضَعَ، أو وُجِدَ منه ما يدلُّ على الحياة؛ كالحركة الطويلة، والسُّعال.

أمَّا لو خرج بعض الجنين، فاستهلَّ صارخاً، ثمَّ انفصل ميِّتاً، لم يَرِث؛ لأنَّه

ص: 85

لم تثبت له أحكام الدُّنيا وهو حيٌّ.

‌ثالثاً: كيفيَّةُ تَقسيمِ الإرْثِ عندَ وُجودِ الحَمْل:

إذا مات شخصٌ عن حَمْلٍ يرثه لو قُدِّر حيًّا؛ كأن يموت رجلٌ وله زوجة حامل، ومع الحمل وَرَثةٌ آخرون، فطلب بقيَّة الورثة قسمة التركة؛ فلا يخلو الأمر من أحد حالين:

الأوَّل: أن يصبروا ويوقفوا القِسْمةَ حتَّى يُولَد الجنين ويتبيَّن جِنْسُه؛ فهذا هو الأَوْلَى؛ خروجاً من الخلاف، ولتكون القسمة مرَّةً واحدةً.

الثاني: أن يطلبوا القِسْمَة قبل وضع الحَمْل؛ فلا يُجبَرون على الصَّبْر، ويجابون للقِسْمَة، وتكون على النحو التالي:

أ - يُوْقَفُ للحَمْل الأكثرُ من إرْثِ ذَكَرَيْن أو أُنْثَيَيْن؛ لأنَّ الحَمْل باثنين معتادٌ، والزيادة عن اثنين نادِرٌ.

- مثاله لو كان نصيب الذَّكَرَيْن أكثر:

مات رجلٌ عن (زوجة حامل، وابن)؛ فللزَّوجة (الثمن)، و (الباقي) للابن والحَمْل تعصيباً.

فتكون المسألة من (8)، وتصحُّ من (24)؛ فيكون للزوجة (3)، وللحمل نصيب ذكرين (14)؛ لأنَّه أكثر من نصيب أُنثيين، وللابن (7).

- مثاله لو كان نصيب الأُنثيين أكثر:

ص: 86

مات رجلٌ عن (زوجة حامل، وأب، وأمٍّ)؛ فللزَّوجة (الثمن)، وللأم (السدس)، وللأب (السدس)، وللحمل نصيب أنثيين (الثلثان)؛ لأنَّه أكثر من نصيب ذكرين.

فتكون المسألة من (24)، وتصحُّ من (27)؛ للزوجة (3)، وللأم (4)، وللأب (4)، وللحمل (16).

ب- يُدْفَعُ لمن لا يحجبه الحَمْل إرثه كاملًا.

مثاله: أن يترك (زوجةً وحملًا وابناً)؛ فتعطى الزوجة (الثُّمُن)؛ لأنَّ خروج الحمل حيًّا أو ميِّتاً لا يؤثِّر في نصيب الزوجة؛ إذ لها (الثُّمُن) في جميع الأحوال؛ لوجود الفرع الوارث وهو (الابن).

ج- يُدْفَعُ لمن يحجبه الحَمْل حَجْب نُقْصان أقلَّ ميراثه.

مثاله: أن يترك (زوجةً وحملًا)؛ فتعطى الزوجة أقلَّ ميراثها وهو (الثُّمُن)؛ على اعتبار خروج الجنين حيًّا، فإن خرج ميِّتاً أعطيت (الرُّبُع).

د - لا يُدْفَع لمن يُسقطُه الحَمْل شيءٌ من التَّرِكة.

مثاله: أن يترك (زوجةً وحملًا وثلاث أخوات)؛ فلا يعطى الأخوات شيئاً؛ لأنَّ الجنين قد يكون ذكراً، والذَّكر يُسقِطُهنَّ.

هـ- إذا وُلِدَ الجنين أَخَذَ نصيبه، وإن بقي شيء رُدَّ لمستحقِّيه.

وإن نَقَصَ نصيبُ الحَمْل رجع على من هو في يده؛ كما لو وُقِفَ للحمل نصيب ذَكَرَيْن، فولدت ثلاثةً.

ص: 87

‌باب ميراث المفقود

‌أوَّلًا: تَعريفُ المَفْقودِ:

المَفْقودُ لُغةً: مِنْ فَقَدَ الشيءَ يَفْقِدُه فَقْداً وفِقْداناً؛ أي: عَدِمَه، أو ضاع منه.

واصطلاحاً: هو من لا تُعْلَم له حياةٌ ولا موتٌ؛ لانقطاع خبره.

‌ثانياً: أحوالُ المَفْقودِ:

لا يخلو من انقطع خَبَرُه لغَيْبةٍ من إحدى حالتين:

الأُولَى: أن تكون غيبتُه ظاهرُها السَّلامةُ؛ كمن غاب عن أهله بسبب الأَسْر، أو التجارة، أو السياحة، أو طلب العلم.

وهذا حُكمُه أن يُعدَّ حيًّا، ويُنتَظَرُ إلى أن يتمَّ تسعين سنةً من ولادته، ثمَّ يحكمُ الحاكمُ بموته؛ لأنَّ الغالب أنَّه لا يعيش أكثر من هذا.

فإن فُقِدَ وعمرُه تسعون سنةً، اجتهد الحاكمُ في تحديد مدَّة الانتظار.

الثانية: أن تكون غيبتُه ظاهرُها الهلاكُ؛ كمن فُقِد في مَهْلكةٍ، أو حَرْبٍ، أو غَرَقٍ، أو حريقٍ.

وهذا حُكمُه أن يُنتَظَر به حتَّى تمام أربع سنين من وقت فَقْدِه، ثمَّ يَحكمُ الحاكم بموته؛ لأنَّها مُدَّةٌ يتكرَّر فيها تردُّد المسافرين والتجار، فانقطاع خَبَرِه عن أهله مع غيبته على هذا الوجه يُغلِّب ظنَّ الهلاك.

ص: 89

‌ثالثاً: أحوالُ المَفْقودِ مُوَرِّثاً ووارِثاً:

أ - إذا كان المفقود مُوَرِّثاً، وحكم الحاكم بموته بعد انتهاء مدَّة الانتظار

-في الحالتين- قُسِّم مالُه على الأحياء من ورثته وقت الحُكْم عليه بالموت. ولا يرث شيئاً من مات منهم قبل وقت الحكم عليه؛ لأنَّه بمنزلة من مات في حياته.

ب - إذا قَدِمَ المفقود بعد قسم تركته، أَخَذَ ما وجده بأيدي الوارثين أو غيرهم من عَيْن ماله، ورجع عليهم بمثل الباقي إن كان مثليًّا، أو بقيمته إن كان متقوَّماً؛ لأنَّه قد تبيَّن عدم انتقال مِلْكِه عنه.

ج- إذا كان المفقود وارثاً، فمات مورِّثه في مدَّة انتظاره، ولم يكن له وارثٌ غير المفقود، وُقِفَ المالُ كلُّه حتَّى يتبيَّن حال المفقود.

د - وإذا كان مع المفقود وارثٌ يزاحمه في الميراث، أخذ كلُّ وارث غير المفقود نصيبه المتيقَّن؛ وهو ما لا يمكن أن ينقص عنه مع حياة المفقود أو موته. ووُقِفَ الباقي للمفقود حتَّى يتبيَّن أمره أو تمضي مُدَّة الانتظار؛ لأنَّه مالٌ لا يُعْلَمُ مستحقُّه.

مثاله: توفيت عن (زوج، وأمٍّ، وشقيق مفقود، وأخ لأب).

ص: 90

أصل المسألة

الجامعة

الوارثون

حي

6

ميِّت

6

6

زوج

1/ 2

3

1/ 2

3

3

أم

1/ 6

1

1/ 3

2

1

شقيق (د)

ب

2

-

-

2 موقوف

أخ لأب

-

-

ب

1

-

فحلُّ المسألة على الاحتمالين، كما يلي:

1) حياة المفقود: للزوج النصف، وللأم السدس، وللشقيق المفقود الباقي، ولا شيء للأخ من الأب. فتكون المسألة من (6)، للزوج (3)، وللأمِّ (1)، وللشقيق المفقود (2).

2) موت المفقود: للزوج النصف، وللأمِّ الثلث، وللأخ من الأب الباقي؛ فتكون المسألة من (6)، للزوج (3)، وللأمِّ (2)، وللأخ من الأب (1).

ولما كان أصل المسألتين متَّفِقاً، صحَّت الجامعة من (6)؛ فيعطى الزوج (3)؛ لأنَّ ميراثه لا يتأثَّر بموت المفقود وحياته. وتعطى الأمُّ السدس (1)؛ لأنَّه الأقل، ولا شيء للأخ من الأب؛ لأنَّه الأضر له، ويوقف الباقي (2) حتى يتبيَّن حياة المفقود فيأخذه، أو يتبيَّن موته، فيوزَّع بين الأمِّ والأخ لأب.

مثال آخر: توفي عن (ابن، وبنتين إحداهما مفقود).

فحلُّ المسألة على الاحتمالين:

1) حياة المفقود: الوارثون ولد وبنتان، عدد رؤوسهم (4)، للذكر مثل

ص: 91

حظِّ الأنثيين، للولد (2)، وللبنتين (2) لكل واحدة منهن (1).

2) موت المفقود: الوارثون ولد وبنت عدد رؤوسهم (3)؛ للذكر مثل حظِّ الأنثيين؛ فيكون للولد (2)، وللبنت (1).

عند النظر في رؤوس المسألتين (4) و (3) فإنَّ بينهما مباينة، فنضرب أحدهما بالآخر (4×3 = 12)؛ فيكون أصل المسألة الجامعة هو (12).

ثم نقسم الجامعة (12) على أصل المسألتين، ويُسمَّى جزء المسألة.

12÷4 = 3 (جزء مسألة الحي) • 12÷3 = 4 (جزء مسألة الميت).

ثم نضرب كلَّ جزءِ سَهْمٍ في السِّهام التي تحته، ونعطي الورثة الأقلَّ.

أصل المسألة

الجامعة

جزء سهم الحي

جزء سهم الميت

الجامعة

الوارثون

4

3

12

12÷4=3

12÷3=4

12

ابن

2

2

3×2=6

4×2=8

6

بنت

1

1

3×1=3

4×1=4

3

بنت (د)

1

-

-

3 موقوف

حي

ميِّت

فإن تبيَّن أنَّ البنت المفقودة حيَّةٌ، كان لها (3) الموقوفة، وللابن (6)، وللبنت (3).

وإن تبيَّن أنَّها ميِّتةٌ فإنَّ ال (3) الموقوفة توزَّع على الورثة؛ فيُعطَى الابن منها (2) ويكون نصيبه (8)، وتُعطَى البنت منها (1) ويكون نصيبها (4).

ص: 92

‌باب ميراث الخنثى

‌أوَّلًا: تَعريفُ الخُنْثَى:

الخُنْثى لُغةً: بضمِّ الميم وسكون النون، مَنْ فيه انْخِناثٌ؛ أي: تَكَسُّرٌ وتَثَنٍّ. واصطلاحاً: هو من له شكلُ ذَكَرِ الرَّجُل، وشكْلُ فَرْج المرأة، أو ثُقْبٌ في مكان الفَرْج يخرج منه البول، ومن لا آلة له.

‌ثانياً: الجهاتُ التي يمكن وجودُ الخُنْثَى فيها:

يمكن وجود الخنثى في جهة: البُنوَّة، والأُخوَّة، والعُمومَة، والوَلاء.

ولا يمكن أن يكون في الأبوين أو الزوجين؛ لأنَّه بذلك لا يكون مُشْكِلًا لاتِّضاح أمره، وزوال إشكاله بالولادة.

‌ثالثاً: العلاماتُ التي يتميَّز بها جِنْس الخُنْثَى:

أجمع العلماء على أنَّ الخنثى يَرِثُ ويُورَثُ بحسب مَخْرَج بَوْلِه، وذلك على النحو التالي:

أ - إن بالَ من آلة الرَّجُل، وَرِثَ ميراث رَجُلٍ، وإن بال من آلة الأُنْثَى، وَرِثَ ميراث أُنْثَى؛ لأنَّ دلالة البول على الذكورة والأنوثة دلالة واضحة، وهي موجودة في الصغير والكبير.

ب- إن بالَ من الآلتين معاً، اعتُبِر الأسبق خروجاً من أحدهما.

ج- وإن بالَ من الآلتين معاً ولم يسبق أحدهما، اعتُبِر الأكثر خروجاً منهما؛

ص: 93

لأنَّ الأكثر أقوى في الدلالة.

د - إن كان في أوَّل أمره يبول من آلةٍ واحدةٍ، ثمَّ صار يبول من الآلتين، فالعبرة بالآلة التي ابتدأ منها البول.

هـ- إن استوت الآلتان في قَدْر خروج البول منهما، كان مُشْكِلًا، وينتظر ظهور علامةٍ أخرى عند البلوغ؛ وهي:

1) علامات الذُّكورة: إنبات اللِّحية، وخروج المَنِيِّ من الذَّكَر.

2) علامات الأُنوثة: خروج دم الحَيْض، استدارة الثَّدْي وبروزه، وخروج المنيِّ من الفَرْج.

- فإن رُجِيَ كشف إشكاله بعد بلوغه أُعطي الخنثى ومن معه من الورثة اليقين من التركة، وهو ما يرثونه بكُلِّ تقدير، ووُقِفَ الباقي من التركة حتَّى يبلغ، وتظهر علامةٌ من العلامات الدالَّة على ذكورته أو أنوثته.

‌رابعاً: أحوالُ تَوْريث الخُنْثَى المُشْكِل:

أ - إذا كان يُرْجَى انكشاف أمره:

تُحلُّ مسألة الخنثى مرَّةً باعتبار الذكوريَّة، ومرَّة باعتبار الأنثويَّة. ويُوقَفُ الباقي لتوزيعه على مستحقِّيه حسب ما يتبيَّن أمر الخنثى.

مثاله: توفي عن (ابن، وبنت، وولد خنثى).

فمسألة ذكوريَّته من (5)، ومسألة أنوثيَّته من (4)، فنضرب أصل كلِّ

ص: 94

مسألة في الأخرى لتباينهما، فإن كان أصل كلِّ مسألةٍ مساوياً للآخر، اكتفينا بأحدهما وكان هو الجامعة، فيكون أصلها من (20) وهي الجامعة.

ثمَّ تقسم الجامعة على أصل كلِّ مسألةٍ، فيكون الناتج هو جزء السَّهم، ثمَّ نضرب جزء سهم كلِّ مسألةٍ في سهم كلِّ وارثٍ باعتبار الذُّكورة وباعتبار الأنوثة. ويكون لكلِّ وارثٍ الأضرُّ منهما، وما بقي يكون موقوفاً إلى حين تبيُّن حال الخنثى، ويُوزَّع على الورثة بهذا الاعتبار.

مسألة 1

مسألة 2

جزء سهم الذكورة

جزء سهم الأنوثة

جزء السهم

20÷5=4

20÷4=5

الجامعة

أصل المسألة

5

4

مسألة الجامعة: 5×4= 20

20

ابن

4×2=8

5×2=10

4×2=8

5×2=10

8

بنت

4×1=4

5×1=5

4×1=4

5×1=5

4

خنثى

4×2=8

5×1=5

4×2=8

5×1=5

5

ذكر

أنثى

3 الموقوف

ب- إذا كان الخنثى مشكلًا؛ وذلك بأن مات قبل ظهور أمره، أو بلغ ولم تظهر أمارةٌ تميِّز ذكوريَّته أو أنوثيَّته، وكان إرثه ممَّا يختلف باختلاف حاله: أَخَذَ نصفَ ميراث ذَكَرٍ، ونصفَ ميراث أُنْثَى.

وطريقة حلِّها -كما في المثال السابق-:

1) نضرب الجامعة (20) في (2)، فتكون المسألة من (40).

ص: 95

2) ثمَّ نضرب سهام كلِّ وارث في جزء سهمه حال الذكوريَّة، وسهامه في جزء سهمه حال الأنثويَّة.

3) ثمَّ نجمع الناتج بين الرقمين في حال الذكوريَّة وحال الأنوثيَّة، فيكون الناتج هو نصيب كلِّ وارث من جامعة عدم الرجاء.

مسألة 1

مسألة 2

ج/ س الذكورة

ج/ س الأنوثة

يرجى

لا يرجى

جزء السهم

20÷5=4

20÷4=5

جامعة الرجاء

جامعة عدم الرجاء

أصل المسألة

5

4

20

20×2=40

ابن

2

2

4×2=8

5×2=10

8

8+10=18

بنت

1

1

4×1=4

5×1=5

4

4+5=9

ولد خنثى

2

1

4×2=8

5×1=5

5

8+5=13

ذكر

أنثى

3 قف

ص: 96

‌باب ميراث الغَرْقَى ومن في حكمهم (الموت الجماعي)

‌أوَّلًا: تَعريفُ الموتِ الجَماعِيِّ:

يُقصَدُ به في باب الفرائض: كلُّ جماعةٍ متوارثين ماتوا بحادثٍ عامٍّ؛ كغَرَقٍ، أو حَرْقٍ، أو هَدْمٍ، أو وَباءٍ، أو حَرْبٍ ونحو ذلك، ولم يُعْلَم أيُّهم مات أوَّلًا.

‌ثانياً: أحوالُ الموتِ الجَماعِيِّ للمُتوارِثينَ:

لا يخلو الموت الجماعي للمتوارثين من الأحوال التالية:

الأُولَى: أن يُعْلَم موت المُتوارِثَيْن معاً في آنٍ واحدٍ. فلا تَوارَثَ بينهما بالإجماع، لأنَّ من شرط الإرث تحقُّق حياة الوارث بعد موت المورِّث، وهو منتفٍ هنا.

الثانية: أن يُعْلَم تعاقب الوارِثَيْن مَوْتاً مع تعيينهما، فيَرِثُ المتأخِّرُ المتقدِّمَ بالإجماع.

الثالثة: أن يُجهَل أيُّ المتوارِثَيْن مات أوَّلًا، أو يُعلَم ثمَّ يُنسى، أو أن يُجهَل عَيْن السابق منهما، أو حاله، وهذه الحالة لا يخلو حال الورثة فيها من أحد أمرين:

أ - أن يدَّعي ورثة كلٍّ منهما تأخُّر موت مورِّثهم، ولا بيِّنة لأحدهم، أو لكلٍّ منهم بيِّنةٌ فتعارضت البيِّنات وتحالفوا، فلا توارث بين الأموات؛ لفقد شرط تحقُّق حياة الوارث بعد موت المورِّث. ويكون ميراثُ كُلِّ واحدٍ منهما

ص: 97

للأحياء من وَرَثَته فقط.

ب- أنْ لا يَدَّعي ورثةُ كلٍّ منهما تأخُّر موت مورِّثهم، فإنَّه في هذه الحال يَرِثُ كُلُّ ميِّتٍ صاحبَه، من تِلَادِ ماله؛ وهو ماله القديم الذي كان يملكه قبل الموت، دون المال الذي تجدَّد له بسبب ما ورثه من الميِّت معه؛ لكي لا يؤدِّي إلى توريث الإنسان نفسه. وهذا من مفردات المذهب.

ثمَّ يُقْسَمُ ما ورثه كلُّ ميِّت على الأحياء من ورثته.

ص: 98

‌باب ميراث أهل المِلَل

‌أوَّلًا: تَعريفُ أَهْلِ المِلَلِ:

المِلَلُ: جمع مِلَّةٍ -بكسر الميم في الإفراد والجمع-، هي الدِّين والشَّريعة.

فأهلُ كلِّ دِينٍ مِلَّةٌ.

‌ثانياً: أحكامُ التَّوارُثِ بين أَهْلِ المِلَل والأَدْيان:

أ - التوارثُ بين المسلم والكافر:

لا توارث بين المسلم والكافر؛ فلا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم؛ لما روى أسامة بن زيدٍ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ المُسْلِمَ)[رواه البخاري، ومسلم]، وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى)[رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه].

ويُستثنى من ذلك الولاء؛ فيرثُ المسلمُ الكافرَ، والكافرُ المسلمَ بالولاء؛ لما روى أبو الزُّبير أنَّه سَمِعَ جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول:(لَا يَرِثُ المُسْلِمُ اليَهُودِيَّ وَلَا النَّصْرَانِيَّ، وَلَا يَرِثُهُمْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدَ رجلٍ أَوْ أَمَتَهُ)[رواه عبد الرزاق]. ولأنَّ ولاءه له، وهو شعبةٌ من الرِّقِّ، فورثه به كما يرثه قبل العتق.

ويُستثنى من ذلك أيضاً: ما لو أسلم الوارث الكافر -ولو كان مرتدًّا-

ص: 99

قبل قَسْم ميراث مورِّثه المسلم؛ فيرثُ منه؛ لما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ قَسْمٍ قُسِمَ فِي الجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُسِمَ لَهُ، وَكُلُّ قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الإِسْلَامُ فَهُوَ عَلَى قَسْمِ الْإِسْلَامِ)[رواه أبو داود]. وعن عبد الله بن أرقم أنَّه قال: (كَانَ عُمَرُ يَقْضِي: مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مِيرَاثٍ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ، فَإِنَّ لَهُ مِيرَاثَهُ وَاجِبًا بِإِسْلَامِهِ)[رواه عبد الرزاق].

ب- التوارثُ بين أهل المِلَل والأَدْيان:

الكُفَّار مِلَلٌ شَتَّى؛ فاليهود مِلَّة، والنَّصارى مِلَّةٌ، والمجوسُ ملَّةٌ؛ فإن كان المتوارثون من ملِّةٍ واحدةٍ، ووُجِدَتِ أسبابُ توارثهم من رَحِمٍ، أو نكاحٍ، أو ولاءٍ، وَرِثَ بعضُهم بعضاً، ولو كان أحدهما ذمِّيًّا والآخر حربيًّا، أو كان أحدهما مستأمناً والآخر ذميًّا أو حربيًّا؛ لأنَّ العمومات من النصوص تقتضي توريثهم، ولم يَرِدْ بتخصيصهم نصٌّ ولا إجماعٌ.

فإن اختلفت مِلَلُهم، فلا يتوارثون فيما بينهم؛ فلا توارث بين اليهود والنصارى، ولا بينهم وبين المجوس، ولا الوثنيِّين، وهكذا كلُّ أهل مِلَّةٍ لا يتوارثون من أهل مِلَّة أخرى؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق:(لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى).

ج- ميراثُ من حُكِمَ بكُفْرِه:

من حُكِمَ بكُفْرِه من أهل البِدع المُضِلَّة، والمرتدُّ، والزِّنديقُ -وهو المنافق

ص: 100

الذي يُبطِنُ الكفرَ ويُظهِرُ الإسلام، ولا تقبلُ توبتُه ظاهراً-؛ فتجري عليه الأحكام التالية:

1) لا يَرِثونَ أحداً ولا يَرِثُهُم أحدٌ؛ لأنَّهم لا يُقَرُّون على ما هم عليه، فلا يثبت لهم حكم دينٍ من الأديان.

2) تكون أمواله فَيْئاً للمسلمين، تُصْرف في مصارف الفيء؛ لأنَّه لا يرثُه أحدٌ من أقاربه المسلمين أو الكفَّار؛ لأنَّه يخالفُهم في حُكمِهم.

د - التوارثُ بين المَجُوس:

إذا أسلم المجوسيُّ ونحوه ممَّن يرى حِلَّ نكاح ذوات المحارم، وكان يُدْلي بقرابتين؛ فإنَّهم يرثون بالقرابتين جميعاً إن أمكن ذلك. وكذلك إذا تحاكموا إلى المسلمين قبل إسلامهم.

فلو خلَّف أُمَّهُ، وهي أختُه من أبيه في الوقت نفسه، ورِثَتِ الثُّلُثَ بكونها أُمًّا، وورِثَتِ النِّصْفَ بكونها أُختاً؛ لأنَّ الله فرض للأُمِّ الثُّلُث، وللأُخت النِّصْف، فوجب إعطاؤها ما فَرَضَ الله لها في الآيتين كالشخصين، ولأنَّهما قَرابَتان تَرِثُ بكلِّ واحدةٍ منهما منفردةً، لا تحجبُ إحداهما الأخرى، ولا ترجح بها، فتَرِثُ بهما مجتمعتين؛ كما لو كان زوجٌ هو ابن عمٍّ.

ص: 101

‌باب ميراث المطلَّقة

‌أوَّلًا: تَعريفُ المُطلَّقة:

المُطَلَّقة لُغةً: بتشديد اللَّام؛ اسمُ مفعولٍ مِنْ «طَلَّق» ، مصدره «طَلَاقٌ» بمعنى تَخْلِيَةِ الشيء، وتَسْريحِه، وفَكِّ قَيْدِه.

واصطلاحاً: المرأةُ التي حُلَّ قيدُ نِكاحِها أو بَعْضُه.

‌ثانياً: أنواعُ المُطلَّقات:

تنقسم المطلَّقات إلى نوعين:

أ - الرَّجعيَّةُ: وهي من يجوز لزوجها ردُّها ما دامت في عِدَّتها من غير استئناف عقدٍ جديد.

ب- البائنُ: وهي من لا يحقُّ للزَّوج ارتجاعها بعد الطلاق إلَّا برضاها، وبعقدٍ جديد. وهو قسمان:

1) بينونةٌ صُغْرَى: وهو الذي يمكن للزَّوج فيه ارتجاع مطلَّقته بعقدٍ جديدٍ، سواء كانت في عِدَّتها، أو بعد انتهاء عِدَّتها.

2) بينونةٌ كُبْرى: وهي من طلَّقها زوجها ثلاث تَطْليقات.

‌ثالثاً: مِيراثُ المُطلَّقة:

لا يخلو حال المطلَّقة الرجعيَّة أو البائن من أن يطلِّقها زوجها حال صحَّته، أو حال مَرَضِه مَرَضَ المَوْت المَخُوفِ.

ص: 103

أ - فإن طلَّقها طلاقاً رجعيًّا؛ فإنَّها تَرِثُ منه، ويَرِثُ منها، ما دامت في العِدَّة، وسواءٌ طلَّقها في حال صِحَّتِه، أو حال مَرَضِه مَرَضَ الموت، إجماعاً؛ لأنَّ الرجعيَّة في حُكْم الزَّوجة ما دامت في العِدَّة، فتلحقها أحكامها من طلاقٍ، وظهارٍ، وإيلاءٍ، ويملكُ إمساكها بالرَّجعة بغير رضاها، ومن غير وليٍّ، ونحو ذلك.

ب- وإن طلَّقها طلاقاً بائناً؛ فإن كان طلَّقها في حال الصحَّة، أو في مَرَضِه غَيْر المَخُوفِ؛ فإنَّها لا تَرِثُ منه، ولا يَرِثُ منها، إجماعاً؛ لانقطاع الزَّوجيَّة، وانقطاع أحكامها بينهما.

ج- وإن طلَّقها طلاقاً بائناً في مَرَضِ مَوْتِه المَخُوفِ، وهو غير متَّهمٍ بقَصْد حِرْمانِها من الميراث، فلا توارث بينهما كذلك؛ كأن تسأله الطلاق وهو في مرض الموت، فيطلِّقها وتنقضي عِدَّتها.

د - وإن طلَّقها طلاقاً بائناً في مَرَضِ مَوْتِه المَخُوف ابتداءً، وهو متَّهمٌ فيه بقَصْد حِرْمانِها من الميراث؛ فإنَّها تَرِثُ منه، ولا يَرِثُ منها، سواء كانت في عِدَّتها أو بعد انقضائها؛ لما روى أبو سَلَمَة بن عبد الرحمن بن عَوْفٍ (أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ ابْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَوَرَّثَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانٍ مِنْهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ)[رواه مالك].

- وتَرِثُ منه أيضاً إذا سألته في مَرَضِه المخوف طلاقاً رجعيًّا، فطلَّقها طلاقاً بائناً؛ لقرينة التهمة.

ص: 104

- وتَرِثُ منه كذلك: إذا علَّق طلاقها أثناء مَرَضِهِ المَخُوف على ما لا بدَّ منه شَرْعاً أو عَقْلًا؛ كالصلاة المفروضة، أو الصِّيام المفروض، أو الأكل، أو النوم؛ مثل أن يقول:«إنْ صَلَّيْتِ فأنت طالقٌ» ، أو:«إن أَكْلْتِ فأنت طالقٌ» .

وتَرِثُ أيضاً: إن أقرَّ في مَرَضِه المَخُوف أنَّه طلَّقها سابقاً طلاقاً بائناً في حال صحَّته.

- وتَرِثُ منه إنْ وكَّل في صِحَّته من يطلِّقها طلاقاً بائناً متى شاء، فطلَّقها في مَرَضِ مَوْتِه؛ لأنَّه يحتمل أنَّه واطأه على إبانتها في مرضه المخوف، فكان محلَّ تهمةٍ.

- فإن تزوَّجت البائنُ زوجاً غير الأوَّل، لم تَرِثْ من الأوَّل، سواء أَبانَها الثاني أو لا. وكذا لو ارتدَّت عن الإسلام، لم تَرِثْ منه، ولو أَسْلَمَتْ بعد ذلك؛ لأنَّها فَعَلَت باختيارها ما يُنافي نكاح الأوَّل، فلم تَرِثْهُ.

- ولو طلَّق الزَّوج المتَّهمُ بقصد حرمان الميراث أربعَ زوجاتٍ كُنَّ معه، وانقضتْ عِدَّتُهُنَّ منه، ثمَّ تزوَّج أربعاً غيرهنَّ، ثمَّ مات، ورث منه الزَّوجات الثمان على السواء؛ وهنَّ المطلَّقاتُ الأربع، والمنكوحاتُ الأربع بعدهنَّ؛ لأنَّ المطلَّقة وارثةٌ بالزَّوجيَّة، فكانتْ أسوةَ من سواها، بشرط أن لا تتزوَّج المطلَّقة، أو ترتدَّ.

‌رابعاً: مِيراثُ الزَّوجِ من المُطلَّقة ونحوها:

- يثبتُ للزَّوج الميراثُ من زوجته المطلَّقة طلاقاً رجعيًّا ما دامت في العِدَّة؛

ص: 105

لأنَّ حكم الزَّوجيَّة باقٍ لم ينقطع، فثبت له حكم الميراث لوجود سببه -كما سبق بيانه-.

ويثبتُ له الميراثُ من زوجته دونها إذا فَعَلَت الزَّوجة في مرض مَوْتها المَخُوف ما يفسخُ نكاحها -كأن تُرْضِع ضرَّتها الصغيرة-؛ وذلك بشرطين:

1) موت الزَّوجة وهي في عِدَّتها.

2) وجود التُّهمة؛ وهي قَصْد حِرْمانه من الميراث.

فإن ماتت بعد انتهاء العِدَّة، أو انتفت تهمة قصد الحرمان من الميراث، لم يَرِثْ منها.

ص: 106

‌باب الإقرار بمشارك في الميراث

إذا أقرَّ الورثة كُلُّهم -وكانوا مُكلَّفين- بمن يشاركهم في الميراث، أو أقرُّوا بمن يَحْجبهم حجْبَ حِرْمانٍ؛ كأخٍ أقرَّ بابنٍ للميِّت، أو حجْب نُقْصان؛ كابْنٍ أقرَّ بابنٍ للميِّت، فإنَّه يصحُّ الإقرار، ويترتَّبُ عليه ما يلي:

أ - صحَّة نَسَب المُقَرِّ به من الميِّت.

ب- ثبوتُ الإرْث للمُقَرِّ به.

ج- ثبوت الحَجْب على المُقِرِّ إن كان يحجبُه.

وذلك لأنَّ الورثة يقومون مقام الميِّت في ماله وحقوقه، وهذا من حقوقه.

ويُشترطُ لثبوت نَسَبِه من الميِّت، واستحقاقه للميراث ما يلي:

أ - أن يكون المُقَرُّ به مجهول النَّسَب. فإن كان معلوم النَّسَب فلا يُقْبَلُ إقرارُه؛ لأنَّه يستلزم إبطال نَسَبِه المعروف.

ب- أن يكون الإقرار من جميع الوَرَثة، ولو كان الوارث واحداً، حتَّى الزَّوج، وولد الأمِّ، والمَوْلَى. أو أن يَشْهَد عَدْلان من الورثة أو من غيرهم بنَسَبِه من الميِّت.

ج- أن يُصدِّق المُقَرُّ به إقرار الورثة. فإن كان صغيراً أو مجنوناً، فلا عبرة بتصديقهما أو تكذيبهما؛ لأنَّه لا حكم لأقوالهما.

د - إمكان صِدْق الدَّعوى؛ بأن يكون المُقَرُّ به ممَّن يمكن إلحاقه بالميِّت نَسَباً.

ص: 107

فإن كان الميِّتُ دون ابن عشر سنين، لم يصحَّ الإقرار بولدٍ له.

هـ- أنْ لا يُنازِعَ المُقِرَّ في نَسَبِ المُقَرِّ به منازعٌ، بأنْ يدَّعي آخر نَسَبَه؛ لأنَّه إذا نوزع فيه فليس إلحاقه بأحدهما أَوْلَى من الآخر.

فإن أقرَّ بنَسَبِه بعضُ الوَرَثة ولم يُقِرَّ آخرون، وليس هناك شاهدا عدلٍ يشهدان بنَسَبِه؛ فإنَّ نَسَبَ المُقَرِّ به وإرثه يثبت ممَّن أقرَّ به فقط، دون الميِّت وبقية الورثة؛ لأنَّ النَّسَب حقٌّ أقرَّ به الوارث على نفسه، فلزمه كسائر الحقوق، فيشاركه فيما بيده، أو يأخذ الكُلَّ إن أسقطه.

مثاله: لو أقرَّ أحدُ ابني الميِّت بأخٍ لهما، ولم يُقِرَّ الآخر، فيرثُ المُقَرُّ به ثلث ما بيد المُقِرِّ؛ لأنَّ إقراره تضمَّن أنَّه لا يستحقُّ أكثر من ثلث التركة، والمُقِرُّ بيده نصف التركة، فيكون للمُقَرِّ به سُدُس ما بيد المُقِرِّ.

ولو كان للميِّت أخٌ أقرَّ بابنٍ للميِّت، فإنَّ المُقَرَّ به يَرِثَ التركة كلَّها؛ لأنَّ الوارث أقرَّ بأنَّه محجوبٌ بالابن عن الإرث.

ص: 108

‌باب ميراث القاتل

لا يخلو قَتْلُ الوارث مُوَرِّثَه من إحدى حالتين:

الحالة الأُولَى: أن يَقتُلَ الوارثُ مُورِّثه بغير حقٍّ، أو أن يُشارك في قَتْله قَتْلًا يُوجب قِصاصاً، أو دِيَةً، أو كَفَّارةً؛ سواء كان القتل عن عَمْدٍ، أو شِبْهِ عَمْدٍ، أو خطأ، بمباشرةٍ أو سببٍ، وسواءٌ كان القاتل صغيراً أو كبيراً. فإنَّ القاتل لا يَرِثُ من المقتول. والأصل فيه ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنَ الِميرَاثِ شَيْءٌ)[رواه النسائي في «الكبرى»، والدارقطني]، فلفظ (القاتل) عامٌّ يدخل فيه كلُّ قاتلٍ، سواء كان متعمِّداً أو مخطئاً، مباشراً أو متسبِّباً، صغيراً أو كبيراً.

ولأنَّ توريث القاتل يُفضي إلى تكثير القتل استعجالًا لموت مورِّثه ليأخذ ماله، فمنع سدًّا للذريعة، وصيانةً للدماء.

- وإذا فعل الوالد بولدهِ فعلًا لحاجةٍ؛ كأن يسقيه دَواءً، أو يؤدِّبه، أو يفْصِدَه، أو يُحجِّمه، فيموت الولد من ذلك، لم يرثه؛ لأنَّه قاتل

(1)

.

- وإذا شربت المرأة دواءً فأسقطت جنينها، لزمها الدِّيَةُ، وهي غُرَّة عبدٍ أو أمةٍ قيمتها خمس من الإبل. ولا ترث منها شيئاً؛ لأنَّها قاتلة.

(1)

قال اللَّبدي في (حاشيته على نيل المآرب): «اعترضه المُوفَّقُ بأنَّ هذا قَتْلٌ غير مضمونٍ بقِصاصٍ، ولا دِيَةٍ، ولا كَفَّارةٍ،

فكان مقتضاه عدمَ المنع من الإرث. وصوَّب ذلك في (الإقناع). وهو الموافق لقاعدة المذهب. واختاره الشارح أيضاً. قلت: وهو الذي يجبُ المصير إليه».

ص: 109

الحالة الثانية: أن يقتل الوارث مُورِّثه بحقٍّ؛ كالقتل قِصاصاً، أو القتل حدًّا، أو القتل دَفْعاً عن نفسه، ولم يندفع إلَّا بالقتل، فإنَّ القاتل يرث من المقتول في هذه الحال؛ لأنَّ القتل هنا غير مضمون بقصاصٍ، ولا ديةٍ، ولا كفَّارة.

- ولا يَمنع من الإرث قَتْلُ الباغي العادلَ في الحَرْب، أو قَتْلُ العادلِ الباغيَ؛ لأنَّه فِعْلٌ مأذون فيه شرعاً، فيَرِثُ الباغي العادلَ، والعادلُ الباغِيَ.

ص: 110

‌باب ميراث المُعتَق بعضه

- الأصلُ في الرَّقيق بجميع أنواعه أنَّه لا يَرِثُ ولا يُورَثُ، سواءٌ كان مُدبَّراً، أو مُكاتَباً، أو أمَّ ولد، أو معلَّقاً عِتْقُه على صفةٍ؛ لأنَّه ملكٌ لسيِّده، فما يملكه يكون مِلْكاً لسيِّده.

- أمَّا المُبَعَّض: وهو من كان بعضُه حرًّا، وبعضُه رقيقاً؛ فإنَّه يَرِثُ ويُورَثُ ويَحْجُبُ بقَدْر ما فيه من الحرِّيَّة؛ لما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما:(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي المُبَعَّضِ يُعْتَقُ بَعْضُهُ: يَرِثُ وَيُورَثُ عَلَى قَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ)[رواه عبد الله بن أحمد]. ولأنَّه يجبُ أن يثبت لكل بعضٍ حكمه.

مثاله: مات عن (بنتٍ وأمٍّ نصفهما حرٌّ، وأبٍ حُرٍّ).

- فللبنت بنصف حرِّيَّتها نصف ميراثها، وهو الربع.

- وللأمِّ مع حُرِّيَّتها ورِقِّ البنت: الثُّلُث، ولها السُّدُس مع حُرِّيَّة البنت؛ لأنَّها محجوبة عن السُّدُس بسبب جزء حُرِّيَّة البنت. فيبقى للأمِّ الربع لو كانت حُرَّةً، فيبقى لها بنصف حُرِّيَّتها نصف الرُّبُع، وهو الثُّمُن.

- والباقي؛ وهو نصفٌ وثُمُنٌ للأب فرضاً وتعصيباً.

وإذا كان بين المُبعَّض وبين سيِّده مهايأة

(1)

؛ فكان يخدِمُ سيِّده بنسبةِ مِلْكِه، ويكْتَسِبُ بنِسْبةِ حُرِّيَّته، فإنَّ كُلَّ تَرِكَتِه التي جمعها بجزئه الحرِّ تكون لوارثه؛

(1)

قال في (المطلع على أبواب المقنع)(ص 160): «من الهيأة، أي: يتَّفقون على صورة معيَّنةٍ» .

ص: 111

لأنَّه لم يبق لسيِّده معه حقٌّ.

فإن لم يكن بينه وبين سيِّده مهايأةٌ، فتركته بين وارثه وبين سيِّده بالحصص.

ص: 112

‌باب الوَلاء

‌أوَّلًا: تَعريفُ الوَلاء:

الوَلاءُ لُغةً: -بفَتْح الواو مَمْدوداً- بمعنى المِلْك والقَرابة والنُّصْرَة.

واصْطِلاحاً: عُصوبَةٌ ثابتةٌ بِعِتْقٍ، أو تَعاطِي سَببِهِ؛ كاسْتيلادٍ، وتَدْبيرٍ.

أو هي: عُصوبَةٌ سَبَبُها نِعْمَةُ المُعْتِقِ على رَقيقِهِ بِالعِتْقِ.

ومعناه: أنَّ من أَعْتَقَ عَبْداً أو أَمَةً صارَ المُعْتِقُ عاصِباً للمُعْتَقِ، فيستحقُّ جميع أحكام التَّعْصيب عند عدم وجود عَصَبَةٍ له من النَّسَب؛ فيكون له ميراثُه، ويكون وليًّا له في النِّكاح، وغير ذلك.

‌ثانياً: أدلَّة ثُبوتِ الوَلاء لمن أَعْتَقَ:

الأصلُ في ثبوت الوَلاء لمن أَعْتَق القرآن، والسُّنَّة، وإجماع الأُمَّة.

- فمن الكتاب: قول الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5].

- ومن السُّنَّة المطهَّرة: ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ الوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَق)[رواه البخاري ومسلم].

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن قُدامة: «أجمع أهلُ العِلْم على أنَّ من أَعْتَقَ عَبْداً، أو عَتَقَ عليه، ولم يَعْتِقْه سائبةً -أي لله-، أنَّ له عليه الوَلاءَ» .

ص: 113

‌ثالثاً: أَحكامُ ثُبوتِ الإِرْثِ بالوَلاءِ:

أ - إذا عُتِقَ العَبْدُ بأيِّ سببٍ من أسباب العِتْق؛ كالرَّحِم، أو المكاتبةِ، أو التدبير، أو الإيلاد، وغير ذلك؛ فإنَّه يترتَّب عليه الأحكامُ التالية:

الأوَّل: ثُبوتُ الوَلاءِ للمُعْتِق؛ لحديث عائشة -السابق-: (إِنَّ الوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَق).

الثاني: ثُبوتُ الوَلاءِ للمُعْتِقِ على أولاد العَتِيقِ، بشَرْط كَوْنِهم من زَوْجةٍ عَتيقَةٍ للعتيق أو لغيره، أو كَوْنِهم مِنْ أَمَةٍ له.

الثالث: ثُبوتُ الوَلاءِ للمُعْتِقِ على مَنْ للعَتِيقِ أو لأولاده -وإن سَفَلوا- وَلاؤُه؛ لأنَّه وليُّ نعمتهم، وبسببه عتقوا، ولأنَّهم فرعٌ، والفرعُ يتبعُ أصله، فأشبه ما لو باشَرَ عِتْقَهُم.

ب- يَرِثُ من له الوَلاءُ بالوَلاءِ -ولو مع التباين في الدِّين - بشرطين:

الأوَّل: أنْ لا يكون للعَتيق عَصَبةٌ من النَّسَب؛ كأبٍ، وابنٍ، وابن ابنٍ، وأخٍ.

الثاني: أن لا يكون للعَتيق ورثةٌ من ذوي الفُروض تستغرقُ فُروضُهم التركة؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ)[رواه البخاري، ومسلم]، والوَلاء دون النَّسَب؛ لأنَّه مشبَّهٌ به، فتُقدَّم العَصَبةُ من النَّسَب على العَصَبةِ من الولاء.

فإن كان أصحاب الفروض لا يستغرقون التركة، وليس ثمَّة عَصَبةٌ

ص: 114

بالنَّسَب، فالباقي يكون للمَوْلى المُعتِقُ؛ لحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما السابق.

فإن كان المَوْلَى المُعتِقُ ميِّتاً كانت التركة لأقرب عصبته، سواء كان ولداً، أو أباً، أو أخاً، أو عمًّا، أو غيره من العصبات، وسواء كان المُعتِق ذكراً أو أنثى. فلو كان للمُعتِق ابنٌ وابن ابنٍ، فالكُلُّ للابن، أو كان له أخٌ شَقيقٌ، وأخٌ لأبٍ؛ فالكلُّ للشقيق، وهكذا.

- وحُكْم ميراث الجدِّ مع الإخوة في الوَلاء كحُكْم ميراثه معهم في حال النَّسَب.

ص: 115

‌كتاب العتق

‌أوَّلًا: تَعريفُ العِتْق:

العِتْق لُغةً: الخُلُوص، ومنه سُمِّي البيتُ الحَرامُ عَتيقاً؛ لخُلوصِهِ من أيدي الجبابرة.

واصطلاحاً: تحريرُ الرَّقبة، وتخليصُها من الرِّق.

وإنَّما خُصَّت الرَّقبة به، وإن كان يتناول جميع البَدَن، لأنَّ مِلْكَ السيِّد له كالغُلِّ في رقبته المانع له من التصرُّف، وإن كان العِتْق لجميع بَدنِهِ.

‌ثانياً: مَشروعيَّة العِتْق وفَضلُه في الإسلام:

الأصلُ في مشروعيَّة العِتْق: الكتابُ، والسُّنَّة، والإجماع.

- أمَّا الكتاب: فقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، وقوله سبحانه:{فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13].

- وأمَّا السُّنَّة: فما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً، أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ)[متّفق عليه].

- وأمَّا الإجماع: فيقول الزركشيُّ: «وأجمع المسلمون على مشروعيَّة ذلك، وأنَّه قُرْبةٌ في الجملة» .

والعِتْق من أعظم القُرَب التي نَدَبَ إليها الشَّارع ممَّا يَتقرَّب العبدُ به إلى الله؛

ص: 117

إِذَا اقترنت به النِّيَّةُ المعتبرة الصَّحيحة:

- لأنَّ الله تعالى جعلَهُ كفَّارةً للقتلِ، واليمينِ، والظِّهار، وغيرِها.

- ولِمَا فيه من تخليص الآدميِّ المعصوم من ضَرَر الرِّقِّ، ومِلْك نَفْسِه، ومنافِعِه، وتكميل أحكامه، وتمكينه من التصرُّف في نَفْسِه، ومنافعه على حسب اختياره.

وأفضلُ الرِّقاب: أَنْفَسُها عند أهلها، وأغلاها ثَمَناً. وإعتاق الذَّكَرِ أفضل من إعتاق الأنثى، وإعتاق المتعدِّد ولو من إناثٍ أفضلُ من إعتاق واحدٍ، ولو كان ذكراً.

‌ثالثاً: حُكمُ العِتْق:

يختلف حُكْمُ العِتْق بحسب الحال:

أ - فيُسَنُّ عِتْقُ الرَّقيق: إن كان له كَسْبٌ؛ لانتفاعه بمِلْك كَسْبِهِ بالعِتْق.

ب- ويُكره عِتْق الرَّقيق: إن كان لا قوَّة له، ولا كَسْب؛ لأنَّه بإعتاقِهِ يتضرَّرُ بسقوط نفقتِهِ الواجبة، فيُخْشَى أن يتحوَّل إلى فقيرٍ يسأل الناس؛ فيكون عِبئاً على الناس والمجتمع.

- ويُكْرَهُ أيضاً إن كان يُخافُ منه الزِّنا أو الفساد، وكذا إن خِيفَ أن يرتدَّ ويَتركَ الدِّين، ويَلْحقَ بدار الحربِ.

ج- ويَحرم عِتْق الرَّقيق: إنْ عُلِم، أو غَلَبَ على الظنِّ ارتكابه المُحَرَّم؛

ص: 118

لأنَّ التوسُّل إلى المُحرَّم حَرامٌ.

وإن أعتقه مع ذلك صحَّ العِتْق؛ لصدوره من أَهْلِه في مَحلِّه.

ومثل الإعتاق: المُكاتَبةُ؛ في الحُكْم المذكور.

‌رابعاً: وقوعُ العِتْق:

يحصلُ العِتْق بأحدِ الأمورِ التالية:

أ - بالقَوْلِ؛ وينقسم من أجل كونِهِ إزالةَ ملكٍ إلى: (صريح) و (كناية)؛ كالطَّلاق.

1) فصَريحُه: لفظُ «العِتْق» ، و «الحُرِّيَّة» ؛ لأنَّ الشَّرع ورَدَ بهما، فوجب اعتبارُهما.

فمن قال لرقيقِهِ: «أنتَ حُرٌّ» ، أو «مُحرَّرٌ» ، أو «قد حَرَّرْتُك» ؛ أو «أنت عتيقٌ» ، أو «مُعْتَقٌ» أو «قد أعتقْتُكَ»: عَتَقَ، ولو لم يَنْوِ عِتْقَه بذلك.

2) وكنايتُهُ: ويشترطُ فيها: أن تكون معَ نيَّةِ العِتْق. وهي ألفاظ كثيرة؛ منها: «خَلَّيتُكَ» ، و «أطلقتُكَ» ، و «الحقْ بأهلك» ، و «اذهبْ حيثُ شئتَ» ، و «لا سبيلَ لي عليك» ، أو «لا سلطانَ لي عليك» ، أو «لا مِلكَ لي عليك» ، أو «لا رِقَّ لي عليك» ، أو «لا خِدْمَةَ لي عليك» ، أو «وَهبتُك لله» ، و «أنتَ لله» ، و «رفعتُ يدي عنك إلى الله» .

وتزيد الأمَةُ على العَبْدِ ب: «أنتِ طالقٌ» ، أو «أنتِ حَرامٌ عَليَّ» .

ص: 119

ب- ويحصل العِتْق بالفعلِ: فمَنْ مَثَّلَ برقيقِهِ -ولو بلا قصدٍ-؛ فجَدَعَ أنْفَه، أو أُذُنَه، أو خَصَاه، أو حَرَق عضواً منه، أو استكرهه على الفاحشة، أو وَطِئَ من لا يُوْطَأُ مثلُها لصِغَرٍ: عَتَقَ في الجميع؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه: (أَنَّ زِنْبَاعًا أَبَا رَوْحٍ وَجَدَ غُلَاماً لَهُ مَعَ جَارِيَةٍ لَهُ فَجَدَعَ أَنْفَهُ وَجَبَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكَ؟ قَالَ زِنْبَاعٌ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْعَبْدِ: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ)[رواه أحمد].

ولكن لا يكون العِتْق بخَدْشٍ، وضَرْبٍ غير مُبرِّحٍ، أو لَعْنٍ؛ لأنَّه لا نصَّ فيه، ولا هو في معنى المنصوص، فلم يُعتَق بذلك، كما لو هدَّده.

ج- ويحصلُ العِتْق بمِلْكِ مُكَلَّفٍ رَشيدٍ وغيره لذي رحِمٍ مُحرَّمٍ من النَّسب؛ كأبيهِ وجدِّه وإن علا، وولده وولد ولده وإن سفل، وأخيه وأخته وولدهما وإن نزل، وعمِّه وعمَّته، وخاله وخالته؛ لما روى الحَسَن عن سَمُرَة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ؛ فَهُوَ حُرٌّ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه].

- ويُعتَقُ عليه ذو الرَّحِم المُحرَّم ولو كان حَمْلاً.

- ويُعتَقُ عليه كذلك إن مَلَكَ بعضه بشِراءٍ، أو هِبَةٍ، أو نحوهما؛ فيُعْتَقُ البعض الذي مَلَكَه، ويُعتَقُ الباقي بالسِّرايةِ إن كان موسِراً، ويَغْرم حِصَّة شريكه.

ص: 120

‌خامساً: صُدورُ العِتْق من هازِلٍ أو نائِمٍ، ومَن في حكمِهِ:

يَقَعُ العِتْق من الهازِل؛ كما في الطَّلاق، ولا يَقَعُ مِنْ نائمٍ ومجنونٍ ومُغْمًى عليه؛ لأنَّهم لا يَعْقِلون ما يَقولون.

‌سادساً: حُكْمُ تَعليقِ العِتَاقِ بصِفَةٍ أو شَرْطٍ أو عِوَضٍ:

- يصحُّ تعليقُ العِتْق بالصِّفة؛ كما لو قال لرقيقِهِ: «إن فَعَلْتَ كذا؛ فأنتَ حُرٌّ» ؛ ومنه أيضاً: تعليقُهُ على دخولِ الدَّارِ، ومجيءِ الأمطار، لأنَّه عِتْقٌ بصفةٍ؛ فيصحُّ كالتدبير.

ويَبطل التَّعليقُ بموتِهِ؛ لزوال مِلْكِهِ زوالاً غير قابلٍ للعودة.

فإن وقَفَهُ أو باعَهُ قبل تحقُّقِ الصِّفَة: لم يُعْتَق إن وُجِدَتِ الصِّفَة؛ لأنَّه لا مِلْكَ له عليه؛ فلا يقع عليه عِتْقُه؛ لما روى عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا طَلَاقَ إِلَّا فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ إِلَّا فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا بَيْعَ إِلَّا فِيمَا تَمْلِكُ)[رواه أبو داود، والترمذي].

- ولو أوْصَى بإعتاقِهِ بعد موتِهِ: صَحَّ وعَتَقَ؛ وكذا لو قال: «أنت حُرٌّ بعد موتي بشهر» ؛ فلا يملكُ الوارث بيعه قبل مضيِّ الشهر، وكَسْبُه قَبْلَه للورثة؛ ككَسْبِ أمِّ الوَلَدِ حياة سيِّدها.

- وكذلكَ يَصحُّ قولُهُ: «كلُّ مملوكٍ أملكُه؛ فهوَ حُرٌّ» ؛ فكلُّ مَنْ ملكَهُ عَتَقَ؛ سواء كان مُدبَّراً، أو مُكاتَباً، أو أمَّ ولدٍ، مَلَك شِقْصاً فيه؛ وذلك لعموم لفظه فيهم؛ كما لو عيَّنهم.

ص: 121

- وإنْ قالَ السيِّدُ لرقيقِهِ: «أنت حُرٌّ، وعليك ألفٌ» ؛ عَتَقَ في الحال بلا شيء؛ لأنَّه أعتقه بغير شَرْطٍ، وجعل عليه عِوَضاً لم يقبله، فعَتَقَ ولم يلزمه شيءٌ.

- وأمَّا إن قالَ لرقيقِهِ: «أنت حُرٌّ على ألفٍ أو بألفٍ» : لا يُعْتَق حتَّى يقبل؛ لأنَّه أعتقَهُ على عِوَضٍ، فلا يعتق بدونِ قبولِهِ، ويلزمه الألف.

ولو قال: «على أن تخدمني سَنةً» : يُعتَق بلا قبول، وتلزمه الخِدْمة؛ لأنَّه في معنى العتق واستثناء الخدمة.

- ويصحُّ أن يعتقه، ويستثني أن يخدمه مدَّةَ حياتِهِ، أو مدَّةً معلومةً؛ كشهرٍ أو سَنةٍ؛ فإذا مات أو انتهت المُدَّة: عَتَقَ؛ لما روى سفينة أبو عبد الرحمن قال: «أَعْتَقَتْنِي أُمُّ سَلَمَةَ وَاشْتَرَطَتْ عَلَيَّ أَنْ أَخْدُمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا عَاش» [رواه أحمد وابن ماجه].

- ومَن كان يملكُ أكثرَ مِنْ رقيقٍ؛ فقالَ: «رقيقي حُرٌّ» ، ولم ينو من عبيده معيَّناً: عَتَقَ كلُّ عبيدِهِ؛ لأنَّه مفردٌ مضافٌ؛ فيعمُّ كلَّ رقيقٍ.

ص: 122

‌باب التَّدبير

‌أوَّلًا: تَعريفُ التَّدْبيرِ:

التَّدْبيرُ لُغةً: مشتقٌّ من الدَّبْر، وهو الموت، وأدْبَرَ الرجلُ: إذا مات. والتَّدْبيرُ في الأمر: النَّظرُ في عاقبةِ الأُمور.

واصطلاحاً: تعليقُ العِتْق بالموت. كقول السيِّد لرقيقِهِ: «إن مِتُّ فأنتَ حُرٌّ بعد موتي» ، أو «مُعْتَقٌ» ، أو «مُدبَّرٌ» .

وسُمِّي تَدبيراً؛ لأنَّ الموتَ إنَّما يكون دُبُرَ الحياة؛ فلا يُستعمل في وصيَّةٍ ولا وَقْفٍ.

‌ثانياً: حُكم التَّدبير:

التَّدْبيرُ مشروع بدلالة السُّنَّة، والإجماع.

- أمَّا السُّنَّة: فحديثُ جابرٍ رضي الله عنه: (أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ)[رواه البخاري ومسلم].

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن المنذر: «وأجمعوا على أنَّ من دَبَّر عَبْدَهُ أو أَمَتَهُ ولم يَرْجِعْ عن ذلك حتَّى ماتَ، فالمُدَبَّر يُخْرَجُ من ثُلُث مالِهِ بعدَ قَضَاءِ دَيْنٍ، إنْ كان عليه، وإنْفاذِ وَصايا إنْ كان أوصى بِها» .

ص: 123

‌ثالثاً: شُروطُ صحَّةِ التَّدْبير:

يُشترطُ لصحَّة التدبير شرطان:

الأوَّل: أن يَصدُرَ التَّدبير ممَّن تصحُّ وصيَّتُه؛ لأنَّه تبرُّعُ بالمال بعد الموت، فأشبه الوصيَّة. فيصحُّ مِنْ محجورٍ عليهِ لسَفَهٍ، وفَلَسٍ، ومن مُميِّزٍ يعقل التَّدْبير. ولا يصحُّ من مجنونٍ، ولا سكرانَ، ولا طفلٍ.

الثاني: أن يكونَ التَّدبير مِنْ ثُلُثِ مال السَّيِّد المُدَبِّر يوم موته، سواءً كان التدبير في الصِّحَّة أو المَرَض؛ لأنَّه تبرُّعٌ بعد الموت، أشبه الوَصِيَّة في اشتراطِ الثُّلُث.

‌رابعاً: ألفاظُ التَّدْبير:

للتَّدبير ألفاظٌ صريحةٌ، وألفاظٌ كنائيَّةٌ؛ كالعِتْق فيمَا مَضَى.

أ - فمِن صريحِه: قوله: «أنتَ حُرٌّ بعد موتي» ، و «أنتَ عَتيقٌ بعد موتي» ، «أنتَ مُدَبَّر» .

ب- ومِن كناياتِه: قوله: «إن مِتُّ فأَنْتَ لله» ، أو «فأنتَ سائبةٌ» ، أو «الْحَقْ بأهلِكَ بعد موتي» . ويُشترط في الكناية النِّيَّة، وإلَّا لم يحصل العِتْق بالموت.

‌خامساً: أنواعُ التَّدبيرِ وأحكامُها:

ينقسم التدبير إلى عدَّة أنواع:

أ - فيَصحُّ مُطْلقاً من غير قيْدٍ ولا تعليقٍ؛ كأن يقول لرقيقِهِ: «أنتَ مُدبَّر» .

ص: 124

ب- ويصحُّ مُقيَّداً؛ كأن يقولَ لرقيقِهِ: «إن مِتُّ في عامي هذا، أو مرضي هذا؛ فأنت مُدَبَّرٌ» .

ج- ويصحُّ مُعَلَّقاً، كأن يقول لرقيقِهِ:«إذا قَدِمَ زيدٌ فأنتَ مُدَبَّرٌ» ، ولا يصيرُ مُدَبَّراً حتَّى يوجدَ الشَّرطُ في حياة سيِّدِهِ.

د - ويصحُّ مُؤقَّتاً، كأن يقول لرقيقه:«أنتَ مُدَبَّرٌ اليومَ» ، أو «سَنَةً» .

‌سادساً: ما يَصحُّ في المُدبَّر من المعاملاتِ:

أ - يصحُّ بيعُ المدبَّر وهِبَتُهُ: لحديث جابر رضي الله عنه، وقد سبق.

ب- ويصحُّ وقْفُهُ ورَهْنُه كذلك؛ قياساً على البيع.

‌سابعاً: ما يَبطل به التَّدبير:

يبطل التَّدبير بثلاثةِ أشياء:

أ - وَقْفُ المُدَبَّرِ؛ لأنَّ الوَقْفَ يجبُ أن يكون مُستَقِرًّا.

ب- قتلُهُ لسيِّدِهِ؛ لأنَّه استعجَلَ ما أُجِّلَ له، فعوقِبَ بنقيض قَصْدِهِ، كحِرْمان القاتل من الميراث. ولئلَّا يُتَّخذ ذلك وسيلةً لأجلِ العِتْق.

ج- إيلادُ الأَمَةِ مِنْ سَيِّدِها؛ أيْ: أنَّ الأَمَةَ المُدَبَّرة متَى وَلَدتْ من سيِّدها بَطَل تَدْبيرُها، وصارتْ أمَّ وَلَدٍ؛ لأنَّ مقتضى التَّدبير العِتْق من الثُّلُث، والإيلاد: العِتْقُ من رأس المال، ولو لم يملك غيرَها، فالاستيلاد أقوى، فيبطل به الأضعفُ.

ص: 125

‌باب الكتابة

‌أوَّلًا: تَعريفُ الكتابةِ:

الكتابةُ لُغةً: اسمُ مصدرٍ، بمعنى المكاتبَةِ. وأَصْلُها من الكَتْب، وهو الجَمْعُ، لأنَّها تجمَعُ نجوماً.

واصطلاحاً: بيعُ السيِّدِ رَقيقَه نَفْسَهُ أو بعضَه بمالٍ في ذمَّته، مباحٍ معلومٍ، يصحُّ السَّلَم فيه، مُؤَجَّلٌ بأجلَيْنِ فأكثر، يَعلمُ قَدْرَ كُلِّ أَجَلٍ ومُدَّتَهِ.

‌ثانياً: حُكْمُ الكِتابَةِ:

الكتابةُ مشروعة في الجملة، وتُسنُّ كتابةُ مَنْ عُلِمَ فيه خيرٌ، وقد دلَّ على ذلك: الكتاب والسُّنَّة والإجماع.

- فمن القرآن: قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]؛ يعني: كَسْباً وأمانةً، في قول أهل التفسير. وقال الإمام أحمد:«الخير: صِدْقٌ وصَلاحٌ ووفاءٌ بمال الكتابة» .

- ومن السُّنَّة: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دَخَلَتْ عَلَيَّ بَرِيرَةُ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ، فَقَالَتْ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ اشْتَرِينِي، فَإِنَّ أَهْلِي يَبِيعُونِي، فَأَعْتِقِينِي قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِنَّ أَهْلِي لَا يَبِيعُونِي حَتَّى يَشْتَرِطُوا وَلَائِي، قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ، فَسَمِعَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ بَلَغَهُ- فَقَالَ: مَا شَأْنُ بَرِيرَةَ؟ فَقَالَ: اشْتَرِيهَا، فَأَعْتِقِيهَا وَلْيَشْتَرِطُوا مَا شَاءُوا

) الحديث. [رواه البخاري ومسلم].

ص: 127

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن قدامة: «وأجمعت الأمَّةُ على مشروعيَّة الكتابة» .

‌ثالثاً: شَرْطُ الكِتابَةِ:

يُشترط لصحَّة الكتابة ما يلي:

أ - أن تَصْدُرَ من جائزِ التَّصرُّف مع قبولِ المُكاتَب، فلا تصحُّ من المجنون، ولا الطفل؛ لأنَّها عقدُ معاوضةٍ؛ كالبيع.

ولا تصحُّ الكتابةُ من مميِّزٍ لرقيقه إلَّا بإذن وليِّه؛ لأنَّها تصرُّفٌ في المال، فلم يصحَّ إلَّا بإذن وليِّه، كالبيع.

لكن تصحُّ كتابة رقيقٍ مميِّزٍ؛ لأنَّه يصحُّ تصرُّفُه وبيعُه بإذن سيِّده، فصحَّت كتابتُه كالمُكلَّف. وإيجابُ سيِّدِه الكتابة له إذنٌ له في قبولها.

ب- أن تكون بالقولِ: بأن يقول السَّيِّدُ لمن يريد أن يكاتبه: «كاتبتُكَ على كذا» ؛ لأنَّها إمَّا بيعٌ، أو تعليقٌ للعِتْق على الأداء، وكلاهما يشترط له القول، ولا مَدْخَل للمعاطاة هنا، لأنَّ المعاطاة لا تكون فيها صريحاً.

‌رابعاً: الأثرُ المترتِّبُ على الأداءِ أو الإبراءِ:

يُعتَق المكاتَبُ إذا تحقَّقُ أحد الحالين:

أ - إذا أدَّى المكاتَبُ ما عليه لسيِّده؛ فقبضَهُ منه سيِّدُه أو وَلِيُّه -إن كان محجوراً عليه-؛ لمفهوم حديث عمرو بن شُعَيبٍ عن أبيه عن جدِّه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (المُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ)[رواه أبو داود]؛ فدلَّ

ص: 128

بمفهومِهِ على أنَّه إذا أدَّى جميعَ كتابته لا يبقى عَبْداً.

ب- إذا أبرأ السيِّدُ المكاتَبَ من مال الكتابة؛ لأنَّه لم يبق عليه لسيِّده شيءٌ منها.

- وما بقي بيد المكاتب بعد أدائه ما عليه من مال الكتابة فهو له؛ لأنَّه كان له قبل عتقِهِ، فبقي على ما كان.

‌خامساً: ما يَمْلِكُهُ المُكاتَبُ وما لا يَمْلِكُه:

يملِكُ المكاتب ما يلي:

أ - كَسْبَهُ.

ب- ونَفْعَهُ.

ج- وكُلَّ تصرُّفٍ يُصلِحُ مالَهُ: كالبيعِ، والشِّراءِ، والإجارةِ، والاستدانة؛ لأنَّ الكتابة وُضِعَت لتحصيل العِتْق، ولا يحصلُ العِتْق إلَّا بالأداء، ولا يمكنه الأداء إلَّا بالتَّكَسُّب، وهذه أقوى أسبابه.

ولا يملِكُ ما يلي:

أ - أن يُكفِّر بمالٍ إلَّا بإذن سيِّده؛ لأنَّه في حُكم المعسِرِ.

ب- أن يسافر لجهاد؛ لأنَّ فيه تفويتاً لحقِّ سيِّده.

ج- أن يتزوَّج إلَّا بإذن سيِّده؛ لأنَّه عبدٌ.

د - أن يتبرَّع أو يُقْرِضَ، وغير ذلك، إلَّا بإذن سيِّده في الكُلِّ، لأنَّ حقَّ سيِّدِه لم ينقطع عنه، لأنَّه ربما عَجَزَ فعاد إليه كُلُّ ما في مِلْكِه.

ص: 129

‌فصل أَحكامُ عقد الكتابة وفَسْخه

أ - الكتابةُ عقدٌ لازمٌ مِنْ الطَّرفَيْن؛ لأنَّها بيعٌ، ولا يملك أحدهما فسخها كسائر العقود اللَّازمة.

ب - لا تنفسِخُ الكتابةُ بموتِ السيِّد، ولا جنونه، ولا إذا حُجِر عليه لسَفَهٍ فيه أو فَلَسٍ؛ كبقيَّةِ العقودِ اللَّازمةِ.

ج- يُعْتَقُ المكاتَبُ بالأداء إلى من يقومُ مقامَ السيِّد من وَلِيِّه ووكيلِه، أو الحاكم مع غيبة سيِّدِه، أو إلى وارثِه إن ماتَ.

د - إذا حَلَّ على المكاتَب أجَلٌ من مال الكتابة؛ فلم يؤدِّ ما عليه في وقتِهِ وعلى صورتِهِ، فلسيِّدِه الفَسْخُ بلا حُكْمِ حاكِمٍ؛ كما لو أعْسَرَ المشتري ببعضِ ثمنِ المبيعِ قبلَ قبضِهِ.

هـ- يلزَمُ السَّيِّدَ إنظارُ المكاتَبِ قبلَ فَسْخِ الكتابةِ ثلاثَ ليالٍ بأيَّامِها إن استنظَرَهُ المكاتَبُ لبيع عَرْضٍ، ولمالٍ غائبٍ دون مسافة القَصْر يرجو قدومه؛ قَصْداً لحظِّ المكاتَب والرِّفْق به، مع عدم الإضرارِ بالسَّيِّد.

و - بعدَ قبضِ جميعِ مالِ الكتابةِ؛ يجبُ على السَّيِّد أن يدفع للمكاتَبِ رُبع مالِ الكتابةِ؛ لقولِهِ تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]، وظاهر

ص: 131

الأمر الوجوب.

وأمَّا كونُه رُبعَ مال الكتابة: فلما رُوِي عن عليٍّ رضي الله عنه في قولِهِ تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} ؛ قال: «رُبُعُ الكِتَابَةِ» [رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة].

ز - يَصحُّ فَسْخُ الكتابَةِ باتِّفاقِ المكاتَبِ والسَّيِّد؛ فيَصِحُّ أن يتقايَلَا أحكامَها؛ قياساً على البيعِ.

ص: 132

‌باب أحكام أمِّ الوَلَد

‌أوَّلًا: تَعريفُ أمِّ الوَلَد:

الأصلُ اللُّغويُّ لأمَّهات: أُمَّهَةٌ؛ ولذلكَ جُمِعَتْ على أمَّهات باعتبارِ الأصلِ.

واصطلاحاً: مَنْ وَلَدَتْ مِنْ مَالِكِهَا -سواء مَلَكَ كُلَّها أو بعضَها- ما فيه صُورةٌ، ولو خَفِيَّةٌ.

‌ثانياً: شُروطُ أُمِّ الوَلَد:

أمُّ الوَلَدِ من اجتَمَعَ فيها شَرْطانِ:

الشَّرْطُ الأوَّل: أنْ تَضَعَ ما يَتبيَّن فيه خَلْقُ إنسانٍ، ولو كانت صورتُهُ خَفيِّةً، ولو كان ما ولدته ميِّتاً؛ لقول عمر رضي الله عنه:(الأَمَةُ يُعْتِقُهَا وَلَدُهَا، وَإِنْ كَانَ سَقْطاً)[رواه عبد الرزاق].

فإن وَضَعَت جِسْماً لا تخطيط فيه؛ كمُضْغَةٍ ونحوها؛ لم تَصِرْ به أمَّ وَلَدٍ؛ لأنَّه ليس بولد، وعِتْقُها مشروطٌ بصَيْرورَتِها أمَّ وَلَدٍ.

الشَّرْطُ الثَّاني: أن تَحمِلَ به في مِلْكِه، سواء كان من وَطْءٍ مُباحٍ أو مُحرَّمٍ؛ كالوَطءِ في الحيض، والنفاس، والإحرام، والظِّهار، ولو كان مالِكاً جُزءًا يسيراً منها.

ص: 133

‌ثالثاً: ما تُوافِقُ فيه أُمُّ الوَلَدِ الأَمَةَ:

أحكامُ أمُّ الولَدِ كأحكام الأَمَةِ غير المُستولَدَة؛ من: وطءٍ، وخِدْمةٍ، وإجارةٍ، وتزويجٍ، وعِتْقٍ، ومِلْكِ كَسْبِها، وحَدِّها، وعَوْرَتها، وغيره من أحكام الإماء؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ)[رواه أحمد، وابن ماجه].

فأُمُّ الولد باقيةٌ على الرِّقِّ مدَّة حياة سيِّدها، إِلَّا في أمرَيْن:

أ - في التَّدْبير؛ فلا يصحُّ تدبيرها؛ لأنَّه لا فائدة فيه؛ إذ الاستيلاد أقوى من التَّدْبير؛ لأنَّ مقتضى الاستيلاد العِتْق من رأس المال وإن لم يملك غيرها، ومقتضى التَّدْبير: العِتْق من الثُّلُث؛ فيَبْطُلَ الأضعفُ وهو التَّدْبير.

ب - في نَقْلِ المِلْكِ في رَقَبَتِها؛ كبيعٍ

(1)

، وهِبةٍ، ووَقْفٍ، أو ما يُرادُ له؛ كرَهْنٍ؛ لما روى ابن عمر عن عمرَ رضي الله عنهما:(أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَا يُوهَبْنَ وَلَا يُورَثْنَ، يَسْتَمْتِعُ بِهَا سَيِّدُهَا حَيَاتَهُ، فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ)[رواه الدارقطني].

وأمَّا عدم جواز رهنها؛ فلأنَّ القصد من الرَّهن بيعها في الدَّيْن، ولا سبيل إليه.

(1)

(الرواية الأخرى في المذهب: أنَّه يجوز بيعُهنَّ؛ لما روى جابرٌ رضي الله عنه قال: (بِعْنَا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ نَهَانَا؛ فَانْتَهَيْنَا)[رواه أبو داود].

ص: 134

‌رابعاً: عِتْقُ أُمِّ الوَلَد:

تُعْتَقُ أمُّ الولَدِ -مُسلِمَةً كانت أو كافِرَةً- بموت سيِّدِهَا؛ ولو لم يملك غيرها.

أمَّا كونُها تُعْتَقُ وإن لم يملك غيرها؛ فلظواهِرِ الأحاديث؛ كما سبق في حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما مرفوعاً: (أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ).- وعن عكرمة عن عمر رضي الله عنه قال: (أُمُّ الوَلَدِ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا وَإِنْ كَانَ سِقْطًا)[رواه ابن أبي شيبة].

- ولأنَّ الاستيلادَ إتلافٌ حَصَلَ بسببِ حاجةٍ أصليَّةٍ، وهي الوطء، فكان من رأسِ المال، كمَن أتلفَ طعاماً يأكلُه؛ فإنَّه يُحسَبُ من رأس مالِهِ؛ فهذا هو القياس، والجامعُ: الإتلاف في كلٍّ.

‌خامساً: متفرِّقات في أَحْكامِ أُمِّ الوَلَدِ:

أ - من مَلَك أَمَةً حاملًا من غيره، فوطئها قبل وضعها، حَرُمَ عليه بيع ذلك الولد، ويلزمه عتقه؛ لأنَّه قد شَرِك فيه؛ لأنَّ الماء يزيدُ في الولد.

ب- من قال لأَمَتِه: «أنت أمُّ ولدي» ، أو «يَدُكِ أمُّ ولدي» ، صارت أمَّ ولدٍ؛ لأنَّه إقرار منه، وإذا أقرَّ جزءًا منها مُستَوْلَدٌ سَرَى إقراره بالاستيلاد إلى جميعها.

ومثله لو قال لابنها: «أنت ابني» ، أو «يَدُكَ ابني» ، ويثبت النَّسبُ.

ص: 135

ج- لا يَبْطُلُ الإيلاد بحالٍ، ولو بقتل أمِّ الولد سيِّدَها.

د - حكمُ ولد المملوكة من غير سيِّدها إن أتت به بعد إيلادها وصيرورتها أُمَّ ولد، كحكم أُمِّه، ويجوز فيه من التصرُّفات كلُّ ما يجوز في أمِّ الولد، ويمتنع فيه من التصرُّفات ما يمتنع في أمِّ الولد؛ لأنَّ الولد يتبع أمَّه في الحرِّيَّة والرِّقِّ، فكذلك في سبب الحرِّيَّة.

لكن لا يُعتَق ولدُها بإعتاقها؛ لأنَّها عتقت بغير السبب الذي يتبعها فيه، ويبقى عتقه موقوفاً على موت سيِّدها.

هـ- إذا مات سيِّدها وهي حاملٌ منه، فنفقتها مدَّة الحمل من مال حملها؛ لأنَّ الحَمْل له نصيبٌ من الميراث، فتجبُ نفقته في نصيبه. وإلَّا كانت نفقته على وارثه؛ لقوله تعالى:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233].

و - إذا أسلمت أمُّ ولدٍ لكافرٍ، مُنِع من غشيانها، وحِيلَ بينه وبينها؛ لتحريمها عليه بالإسلام.

ص: 136

‌كتاب النِّكاح

‌أوَّلًا: تَعريفُ النِّكاح:

النِّكاح لُغةً: الضمُّ والجَمْع، ومنه قولهم: تَناكَحَتِ الأشجارُ، إذا انْضَمَّ بعضُها إلى بعض.

واصطلاحاً: عَقْدُ التزويج. أي: عَقْدٌ يُعتبَرُ فيه لَفْظُ نِكاحٍ، أو تَزْويجٍ، أو ترجمته.

وقد يُطلَقُ النكاحُ على الوَطْءِ المباح، وقد يكون بمعنى العَقْد؛ فإن قيل:«نكح فلانة» ؛ أي: تزوَّجها، وعَقَدَ عليها، وإن قيل:«نكح امرأتَه» ؛ أي: جامَعها؛ لوجودِ القرينة.

والمعقودُ عليه: منفعةُ الاستمتاع، لا مِلْكُ المنفعة، ولهذا يقع الاستمتاعُ من جهة الزَّوجة معَ أنَّه لا مِلْكَ لها.

‌ثانياً: مَشْروعيَّةُ النِّكاح:

ثبتت مشروعية النِّكاح في الكتابِ، والسُّنَّة، والإجماع:

- فمن الكتاب: قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]. وغيرها من الآيات.

- ومن السُّنَّة: حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 137

(يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)[رواه البخاري، ومسلم]. وغيرها من الأحاديث.

- وأمَّا الإجماع: فقال الزركشيُّ: «وهو مشروعٌ بالإجماع القطعي في الجملة» .

‌ثالثاً: حُكْمُ النِّكاح:

النّاسُ في النِّكاح على أربعةِ أقسامٍ:

القسمُ الأوَّل: من يُسنُّ له النِّكاح، وهو صاحب شَهْوةٍ لا يخافُ الزِّنا مِنْ الرِّجالِ والنِّساء، ولو كان فقيراً عاجزاً عن الإِنفاق؛ لحديث ابن مسعودٍ

رضي الله عنه السابق، ولحديث سَهْل بن سعدٍ رضي الله عنه قال: (أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلّاهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ. فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا، قَالَ: أَعْطِهَا ثَوْبًا، قَالَ: لَا أَجِدُ، قَالَ: أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَاعْتَلَّ لَهُ

) [رواه البخاري]. فالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم زوَّج هذا الرجل وهو فقيرٌ لم يقدر على ثوبٍ ولا خاتم من حديد.

واشتغالُ هذا بالنِّكاح أفضلُ له من التَّخلِّي لنوافلِ العبادات؛ لظاهر قول الصحابة وفعلهم، فعن سَعيدِ بن جُبَيْرٍ قال: قال لي ابن عبَّاس: (هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَتَزَوَّجْ فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً)[رواه البخاري].

ص: 138

القسمُ الثَّاني: من يجبُ عليه النِّكاح؛ وهو مَنْ يخافُ الزِّنا بتركِ النِّكاح -ولو كان ظنًّا-، مِنْ الرِّجال والنِّساء؛ لأنَّ نكاحه طريقٌ لإعفافِ نفسِهِ وصونِها عن الحرام.

ولذا إذا تعارض زواجه في هذه الحالة معَ وجوب الحجِّ عليه؛ فإنَّه يُقدَّمُ حينئذٍ على الحجِّ الواجبِ؛ لخشيةِ الوقوعِ في المحذور بتأخُّرِهِ، بخلافِ الحجِّ.

القسمُ الثَّالث: مَنْ يباحُ النِّكاح له؛ وهو:

أ - من لا شهوةَ له أصلًا؛ كالعِنِّينِ.

ب- أو كانتْ له شهوةٌ، وذهبتْ لعارضٍ؛ كالمرضِ والكِبَرِ.

لأنَّ العِلَّةَ التي يجب لها النِّكاح، أو يستحبُّ -وهو خوفُ الزنا، أو وجودُ الشهوة- غير موجودةٍ فيه.

ولأنَّ المقصودَ من النِّكاح الولدُ وتكثيرُ النَّسلِ، وهو غير موجودٍ فيمنْ لا شهوةَ له، فلا ينصرفُ إليه الخطاب به، إلَّا أنَّه يكون مباحاً في حقِّهِ، كسائِرِ المباحاتِ، لعدمِ مَنْعِ الشرعِ منه.

القسمُ الرَّابع: مَنْ يَحرُمُ بحقِّه النِّكاح، وهو الذي بدارِ الحَرْب لغير ضرورة؛ لأنَّه أقربُ لسلامة الولد من أن يُستعبد ويصير على دينهم.

فإن اضطرَّ جاز له نكاحُ مسلمةٍ، ويعزل عنها ندباً.

ولا يصحُّ أن يتزوَّج من الكفَّار وهو في دار الحرب.

ص: 139

ولكن يُستثنى الأسيرُ؛ فلا يحلُّ له ولو لضرورةٍ؛ لأنَّه يُمنَع من وطء امرأته إذا أُسِرَت معه مع صحَّة نكاحهما؛ لئلَّا يُستعْبَدَ الولد، فغيرُها أَوْلَى.

أمَّا إذا كان في جيش المسلمين، فله أن يتزوَّج؛ لأنَّ الكفَّار لا يد لهم عليه، أشبه من في دار الإسلام.

‌رابعاً: حُكْمُ الزَّواج بأَكثَرَ مِنْ واحِدَةٍ:

يُسنُّ أن يقتَصِرَ الرَّجُلُ على زوجةٍ واحدةٍ إن حصَل بها الإعفاف؛ لأنَّه أسلَمُ للذِّمَّة من الجَوْرِ؛ فقد لا يستطيع الزَّوج العَدْلَ بين زوجتيه أو زوجاته إذا كان له أكثر من زوجةٍ. ففي الزِّيادة على الزَّوجة الواحدة تَعريضٌ للمحرَّم بالميل لإحداهما؛ وقد قال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى؛ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ)[رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي].

- وتُستحب الزيادة إن لم تعفَّه الواحدة، إن كان قادراً على كُلْفة ذلك، مع تَوَقَانِ النَّفْس إليه، ولم يترتَّب عليه مفسدةٌ أعظمُ من فِعْلِه، وإلَّا فَلَا.

‌خامساً: صفاتُ المرأةِ التي يُسَنُّ نِكاحُها:

يُسنُّ للرَّجُل أن يَتَخيَّر من النِّساء الأفضل في الصِّفات، وممَّا يُسنُّ وجودُهُ من تلك الصِّفات:

ص: 140

أ - أن تكون من ذواتِ الدِّين: لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)[رواه البخاري، ومسلم].

ب- أن تكون وَلُوداً؛ أي: من نساءٍ يُعْرَفْنَ بكَثْرَة الأولاد؛ لحديثِ مَعْقِل ابن يَسارٍ رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ)[رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي].

ج- أن تكون بِكْراً؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم لجابرٍ رضي الله عنه: (فَهَلَّا بِكْرًا، تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ)[رواه البخاري، ومسلم].

د - أن تكون حَسِيبةً؛ أي: نَسيبَةً؛ وهي الطَّيِّبةُ الأصل؛ ليكون وَلَدُها نَجيباً من بيت معروف بالدِّين والصَّلاح.

هـ- أن تكون أجنبيةً؛ فإنَّ وَلَدَها يكون أَنْجَب، ولأنَّه لا يؤمَنُ الطَّلاقُ، فيُفْضي مع القَرابَةِ إلى العداوة، وإلى قطيعةِ الرَّحِم المأمور بصِلَتِها.

و - أن تكون جميلةً؛ لأنَّه أسكنُ لنفسِهِ، وأغضُّ لبَصَرِه، وأكملُ لموَدَّتِه.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيلَ: يا رسول الله: أيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قال: (الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطَيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا، وَلَا فِي مَالِهِ بِمَا يَكْرَهُ)[رواه أحمد والنسائي].

ص: 141

‌أحكام الخِطبة

‌أوَّلًا: تَعريفُ الخِطْبَة:

الخِطْبَةُ لُغةً: -بكسر الخاء-؛ مصدر خَطَبَ، وهو طَلَبُ الزَّواج بالمرأةِ، منها، أو من وَلِيِّها.

ولا يخرج التعريف الاصطلاحي عن معناه اللُّغوي.

‌ثانياً: حُكْمُ النَّظَرِ إلى المَخْطوبَةِ:

يُباحُ لمن أرادَ خِطبة امرأةٍ، وغلبَ على ظنِّه الموافقة: أن ينظرَ منها إلى ما يظهر غالباً؛ كوجهٍ، ورقبةٍ، ويدٍ، وقدمٍ؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ المَرْأَةَ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ). [رواه أحمد، وأبو داود].

- أمَّا النَّظر إلى ما لا يظهر غالباً؛ فلا يجوز.

- وله أن يُكرِّر النَّظَر إذا احتاج إلى ذلك؛ للحديث السابق؛ فإذا لم يجد ما يدعوه إلى نكاحها في أوَّل مرَّة؛ فله أن ينظر مرَّةً ثانيةً، وثالثةً، وهكذا.

‌ثالثاً: شُروطُ النَّظَر إلى المَخْطوبَةِ:

يُشتَرَطُ لإباحَةِ النَّظَر لمن عَزَم على خِطْبة امرأةٍ شروطٌ:

الأوَّل: أن يَغلِبَ على ظنَّه إجابتُهُ، فإنْ ظنَّ عدم إجابته للنكاح لو خَطَبَ، أو شَكَّ في ذلك؛ لم يجز له النَّظر؛ لأنَّ الأصل تحريم النَّظر إلى الأجنبيَّة،

ص: 143

ولم يوجد ما يُبيحُه.

الثاني: أن يكون نَظَرُه إلى ما يظهرُ من المرأة غالباً؛ كالوجه، والرَّقبة، واليد، والقَدَم؛ لحديث جابر رضي الله عنه السابق، وفيه: (

فَخَطَبْتُ جَارِيَةً، فَكُنْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا حَتَّى رَأَيْتُ مِنْهَا مَا دَعَانِي إِلَى نِكَاحِهَا وَتَزَوُّجِهَا، فَتَزَوَّجْتُهَا).

فلمَّا أَذِنَ في النَّظَرِ إليها من غير عِلْمِها، عُلِمَ أنَّه أَذِنَ في النَّظَر إلى جميع ما يظهر غالباً.

الثالث: أن يكون بلا خَلْوَةٍ؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، وَلا تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ)[رواه البخاري، ومسلم].

الرابع: أن يَأْمَنَ ثَوَرانَ الشَّهْوَةِ؛ لأنَّ المقصود من النَّظر هنا الاستعلامُ لا الاستمتاع.

ولا يُشترطُ إِذْنُ المَخْطوبَةِ في النَّظَر إليها وتأمُّلِ محاسنها.

‌رابعاً: حُكْمُ التَّصْريحِ بخِطْبَةِ المُعْتدَّةِ:

المقصودُ بالتَّصريح: هو ما لا يحتمل غير النكاح؛ كقول الخاطِب: «أريد أن أتزوَّجك» ، أو «إذا انقضَتْ عِدَّتُكِ تَزَوَّجتُكِ» ، أو «زوِّجيني نَفْسَكِ» ، ونحو ذلك.

فيَحْرُمُ التَّصريحُ بخِطْبة المُعتدَّة من وَفاةٍ، أو مَنْ بانَتْ مِنْ زوجِهَا حال

ص: 144

حياتِهِ؛ وهي: المُطلَّقة ثلاثاً؛ بالإجماع؛ لمفهوم قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235]، ففيها دليلٌ على تحريم التَّصريح؛ لأنَّ التَّصريح لا يحتمل غير النِّكاح؛ فلا يُؤمَنُ أن يحملها الحرصُ عليه على الإخبار بانقضاء عِدَّتِها قبل انقضائِها.

- ويُباحُ التصريحُ بخِطْبة المعتدَّة إذا كان من زوجٍ تحلُّ له؛ كالمخلوعة، والمطلَّقة دون ثلاثٍ على عِوَضٍ؛ لأنَّه يُباح له نكاحها في عِدَّتها، أشبهت غير المعتدَّة بالنسبة إليه.

‌خامساً: حُكْمُ التَّعْريضِ بخِطْبَةِ المُعْتَدَّةِ:

المقصودُ بالتَّعْريضِ: ما يُفهمُ منه النكاح مع احتمال غيره؛ كقول الخاطب: «إنِّي في مثلك لراغبٌ» ، و «لا تفوِّتيني بنفسك» .

وتجيبُهُ المرأة المُعتدَّةُ -تعريضاً- إذا كانت بائناً: «ما يُرْغَبُ عنك» ، و «إن قضي شيءٌ كان» ، ونحو ذلك.

فلا يَحرم التَّعريضُ في عِدَّةِ وَفاةٍ، أو لمُبانةٍ؛ للآية السابقة.

أمَّا الرَّجعيَّةُ؛ فإنَّه يَحرُم التَّعريضُ -كالتَّصريحِ-؛ لأنَّها في حُكم الزَّوجات؛ فأشبهت التي في صُلْب النِّكاح.

‌سادساً: حُكْمُ الخِطْبَةِ عَلَى الخِطْبَةِ:

- يحرُمُ على الرَّجُل أن يَخطِب على خِطْبة أخيه إن كان يعلمُ أنَّه أُجَيبَ

ص: 145

بالقبول، تصريحاً أو تعريضاً؛ لما رَوَى أبو هريرةَ رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا يَخْطِبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ)[رواه البخاري، ومسلم].

ولأنَّ في ذلك إفساداً على الخاطِبِ الأوَّل، وفيه إيقاع العداوة بين الناس.

- ويجوز للخاطِب الثاني الخِطبة على خِطبة الأوَّل في الأحوال التالية:

أ - إذا رُدَّ الخاطبُ الأوَّل؛ لحديث فاطمة بنت قَيْسٍ: (أَنَّهَا أَتَتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فذَكَرَتْ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَاهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَلَى عَاتِقِهِ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ)[رواه البخاري، ومسلم].

ب- إذا تَرَكَ الخاطبُ الأوَّل؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه -السابق-: (حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ).

ج- إذا أَذِنَ له الخاطبُ الأوَّل بذلك؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول:(وَلَا يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتَّى يَتْرُكَ الخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الخَاطِبُ)[رواه البخاري]. ولأنَّ الأوَّل أسقط حقَّه.

د - إذا كان الثاني لا يعلمُ بإجابة الأوَّل؛ لأنَّه معذورٌ.

‌سابعاً: حُكْمُ العَقْد في الأَحْوالِ المُحَرَّمَةِ ممَّا سَبَقَ:

إنْ خُطِبَتِ المُعْتدَّةُ تصريحاً، أو الرَّجعيَّةُ -ولو تعريضاً-، أو خَطَبَ الرَّجُلُ

ص: 146

على خِطْبةِ أخيهِ الذي أُجيب: فإنَّ العَقْد يَصحُّ مع تحريمِ الخِطْبة، لأنَّ المحرَّم لا يقارن العَقْد، فلم يؤثِّر فيه.

‌ثامناً: ممَّا يُستحَبُّ في العَقْد:

أ - يُسنُّ في العَقْد أن يكون مساءَ يوم الجمعة؛ أي: في آخر النَّهار؛ لأنَّه يومٌ شريفٌ، ويوم عيدٍ، وفي آخره ساعة الإجابة، فاستحبَّ العقد فيها؛ لأنَّها أعظم بركةً، وأحرى لإجابة الدعاء لهما، وقد استحبَّه جماعة من السلف.

ب- ويُسنُّ أن يخطُبَ بخُطبَةِ ابن مسعود رضي الله عنه وهي المعروفة بخُطْبةِ الحاجة؛ فيقول: «إنَّ الحمد لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفُسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالنا، من يهدِ الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهَدُ أن لا إله إلَّا الله وحدَهُ لا شَريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُه ورَسولُه.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71].

ص: 147

أمَّا بعدُ.

ثمَّ يَقول حاجتَهُ.

‌تاسعاً: مِنْ أحْكامِ النَّظَر بين الجِنْسَيْن:

يَجبُ غَضُّ البَصَر عن كلِّ ما حَرَّم الله تعالى، ويحرُمُ النَّظرُ لشهوةٍ وتلذُّذٍ، أو مع خوفِ ثَوَرانِ الشَّهوةِ؛ لقولِهِ تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، وقوله:{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:(وَالعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ) الحديث [رواه البخاري، ومسلم].

وليحذر العاقلُ إطلاقَ البَصَر، فإنَّ العينَ ترى غير المقدور عليه على غير ما هو عليه، وربما وقع من ذلك العشق، فيهلك البدن والدِّين، فمن ابتلي بشيءٍ من ذلك فليفكِّر في عيوب النساء.

فلا ينظرُ إلَّا إلى ما ورد الشرعُ بجوازه.

والنَّظر -هنا- أقسامٌ؛ منها:

أ - نَظَرُ الرَّجل البالغ -ولو كان مجبوباً قد تعطَّل عضوه- للمرأة الحرَّة البالغةِ الأجنبيَّة عنه؛ لغيرِ حاجةٍ؛ فلا يجوز أن ينظر إلى شيء منها؛ لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30].

ب- نَظَرُ الرَّجُلِ للشَّهادة عليها، أو لمعاملتها، فيجوز له النظر لوجهها؛

ص: 148

ليعرفها بعينها، لتجوز الشهادة عليها، أو ليرجع عليها بالدرك.

وكذا يجوز له النظر لكفَّيْها، إذا كان لحاجةٍ.

ج- نَظَرُ الرَّجُلِ البالغ الطَّبيب إلى المرأةَ للمداواة، فيجوزُ أن ينظر إلى المواضِع التي يحتاج إليها، ويجوز لمسُها، حتَّى الفَرْج.

ويُشترط ذلك أن يكونَ معَ حضور مَحْرَمٍ أو زَوجٍ، ويَستُرَ منها ما عَدَا الحاجة.

- ومِثْلُ الطَّبيب من يلي خِدمةَ مريضٍ أو مريضةٍ في وضوءٍ، واستنجاءٍ، وغيرِهما، وكَتخليصِهَا من غَرَقٍ، وحَرَقٍ، ونحوِهِما.

د - نَظَرُ الصَّبيِّ المُميِّز الذي لا شهوة له للمرأة؛ فيُباحُ لقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31].

هـ- نظرُ المرأة للمرأة -ولو كانت كافرةً مع مسلمةٍ-؛ لأنَّ النساء الكافرات كُنَّ يدخلن على نساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولم يكنَّ يحتجبن، ولا أَمرهُنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالحجاب.

و - نَظَرُ الرَّجُلِ إلى زوجته وهي إليهِ -ولو لشهوةٍ- إلى جميعِ بدَنِها، ولمسُهُ بلا كراهةٍ حتَّى الفرْج، لأنَّ الفَرْج مَحلُّ الاستمتاع، فجاز النظرُ إليه كبقيَّةِ البدن؛ لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 - 6].

ص: 149

وعن بَهْزِ بن حَكيمٍ عن أبيه عن جَدِّه قال: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّاهِ؛ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ)[رواه أبوداود، والترمذي، وابن ماجه].

- وحُكم السَّيِّد مع أَمَتِهِ المباحة له حُكْمُ الرَّجُلِ مع زوجته في النَّظَر واللَّمس.

ص: 150

‌باب أركان النِّكاح وشروطه

‌أوَّلًا: المقصودُ بالأَرْكانِ والشُّرُوطِ في هذا البابِ:

للنكاح أركانٌ، وله شروطٌ.

ويرادُ بأركانِهِ: مجموعُ ما يتكوَّن منه، وأركانُ الشَّيءِ أجزاؤُهُ الذي يتكوَّن منها، ويُعرِّفون الرُّكنَ: بأنَّه جزءُ ماهيَّةِ الشَّيءِ، كأركان البيتِ أو المسجدِ، وهي: حيطانُهُ التي يتكوَّن منها.

ويرادُ بشُروطه: جمع شَرْطٍ، وهو: ما يَلْزمُ من عَدَمِه العَدَمُ، ولا يلزم من وجوده وجودٌ ولا عَدَمٌ لذاته، فإذا عُدِمَ الشرطُ عُدِمَ المشروط، ولكن إذا اجتمعت الشروط فقد يتخلَّف المشروط، فههنا الشُّروط في النِّكاح هي لوازم النِّكاح التي لا يتمُّ إلَّا بها، وهي أيضاً شروط للعقد.

‌ثانياً: أركانُ النِّكاح:

للنِّكاحِ أركانٌ ثلاثةٌ:

الرُّكنُ الأوَّل: الزَّوجان؛ أي: الزَّوج والزَّوجة؛ إذ لا يتصوَّر عقد نكاح بدون الزَّوجين.

الرُّكن الثَّاني: الإيجاب؛ وهو: اللَّفظ الصَّادر من الوَلِيِّ، أو من يقوم مقامه بلفظ النِّكاح، أو التَّزويج؛ لأنَّهما اللَّفظان الوارد بهما القرآن؛ في قوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وقولِهِ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا

ص: 151

زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37].

وسُمِّي إيجاباً؛ لأنَّه أوْجَب به العَقْد.

الرُّكن الثَّالث: القَبول؛ وهو: اللَّفظ الصَّادرُ من الزَّوج، أو من يقوم مقامه، بلفظ:«قَبِلْتُ أو رَضِيْتُ هذا النِّكاح» ، أو «قَبِلْتُ» أو «رضيت» فقط.

* ولا بُدَّ أن يكون الإيجاب والقبول بلفظٍ عربيٍّ على نحو ما سبق لمن يُحسِنُ العربيَّة؛ فإن كان عاجزاً عن العربيَّة أتَى بأيِّ لفظٍ يُفيد هذا المعنى، ويَصحُّ؛ لأنَّ في لغته نظير الإنكاح والتزويج، ولا يُكلِّف الله نفساً إلَّا وسعها.

فيقولُ الوليُّ -كالأب، أو الأخ-:«زَوَّجْتك ابنتي» ، أو «زَوَّجْتك أختي» ، ويقول الزوج:«قَبلتُ» ، أو «رَضيتُ» ، أو «تَزوجتُ» .

أمَّا الأخرس؛ فيصحُّ منه الإيجاب والقبول بالإِشارةِ؛ لأنَّ النِّكاح معنًى لا يستفادُ إلاَّ من جهته، فصحَّ بإشارتِهِ، كما في بيعه، وطلاقه.

* ولا بُدَّ أن يكون صدورُ الإيجابِ والقبول مرتَّبَيْنِ؛ لأنَّ القبول إنَّما هو للإيجاب، فيُشترَطُ تأخُّرُه عنه، فلا يَصحُّ النِّكاح إنْ تقدَّم قبولٌ على إيجابٍ.

وإن تراخى القبولُ عن الإِيجابِ حتَّى تفرَّقا أو تشاغَلَا بما يقطعه عُرْفاً: بَطَل الإِيجابُ؛ للإعراض عنه بالتفرُّق، أو الاشتغال.

‌ثالثاً: الإيجابُ والقَبولُ من الهازِلِ:

إذا حصل الإيجابُ والقبولُ؛ انعقد النِّكاح، ولو كان المتلفِّظ هازلًا

ص: 152

لم يقصد معناه حقيقةً؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكاح، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ)[رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه].

‌رابعاً: شُروطُ صِحَّةِ النِّكاح:

للنِّكاحِ شُروطٌ خمسَةٌ:

الشَّرطُ الأوَّل: تعيينُ الزَّوجين في العقد؛ لأنَّ النِّكاح عقد معاوضة، أشبه تعيين المبيع في البيع.

وعليه؛ فلا يَصِحُّ النكاح إنْ قال الوليُّ: «زوجتُك بنتي» ، وله بنتٌ غيرها، ولا قوله:«قَبِلْتُ نكاحها لابني» ، وله ابنٌ غيره، حتَّى يُميَّزَ كُلٌّ منهما باسمه، أو صفته التي لا يشاركه فيها أحد؛ لأنَّ التعيين لا يحصل بدونه.

فإن كانت المرأةُ حاضرةً، فقال:«زوجتك هذه» ، أو قال:«زوجتك بنتي» ، ولم يكن له غيرُها، صحَّ؛ لحصول التعيين.

الشَّرطُ الثَّاني: رِضَا كُلٍّ من الزَّوجين بالآخر؛ فيُشترط رِضَا زوجٍ مكلَّفٍ؛ أي: بالغٍ عاقلٍ رشيدٍ، ورِضَا زوجةٍ حُرَّةٍ عاقلةٍ ثيِّبٍ، تمَّ لها تسع سنين، ولها إذنٌ صحيحٌ معتبرٌ.

فلا يَصحُّ إن أُكْرِهَ أحدُهما عليه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ. قَالُوا:

ص: 153

يَا رَسُولَ اللّاهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ) [رواه البخاري، ومسلم].

والتَّحديد بتسع سنين؛ لأنَّها بلغت سنًّا يمكن أن تحيض فيه، ويكون لها حاجة إلى النكاح، فكانت كالبالغة.

ويُستثنى من اشتراط الرِّضا: من يجوز للأبِ أو وصيِّهِ أن يجبرهم على التّزويج؛ وهُم:

أ - الثَّيِّبُ دونَ تِسع سنِين؛ لأنَّ إذنها غير معتبر.

ب- البِكْرُ، وإن كانتْ مكلَّفة؛ فلأبيها أن يجبرها على النِّكاح سواءً كانت صغيرةً أو كبيرةً؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا)[رواه مسلم]، فلما قَسَّم النِّساء قسمين، وأثبت الحقَّ لأحدهما، دلَّ على نفيه عن الآخر، وهي البِكْر، فيكون وليُّها أحقَّ منها بها.

إلَّا أنَّه يُستحبُّ استئذانها إذا تمَّ لها تسع سنين؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما السَّابق.

ويُشترط في استئذانها: تسميةُ الزَّوج لها على وجهٍ يحصل لها به معرفته؛ لتكون على بصيرةٍ في إذنها بتزويجه، ولا يُعتبرُ تسميةُ المَهْر.

ج- المَجْنونةُ؛ فللأبِ ووصيِّه إجبارها على الزواج ولو كانت بلا شهوةٍ، أو كانت ثيِّباً أو بالغةً؛ لأنَّ ولاية الإجبار انتفت عن المرأة العاقلة لعَقْلِها ونظرِها لنفسِها، بخلاف المجنونة.

ص: 154

ومع شهوتها يزوجها كلُّ وليِّ؛ لأنَّها بحاجةٍ إلى النكاح لدفع ضرر الشهوة عنها، وإعفافها، وصيانتها عن الوقوع في الفجور، وغير ذلك من مصالحها.

د - الصَّغيرُ غير البالغ؛ لما روى سُليمان بن يَسار: (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما زَوَّجَ ابْناً لَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَابْنُهُ صَغِيرٌ يَوْمَئِذٍ)[رواه البيهقي].

فإن كان قد قارب البلوغ؛ فله إذنٌ معتبرٌ، فيصحُّ تزويجه بإذْنِه؛ لأنَّه صار يَعرِفُ مصالِحَ النِّكاح.

هـ- البالِغُ المعتُوهُ؛ وهو: ناقص العَقْل، يزوِّجُه أَبوهُ ووَصِيُّه -كما سبق- بدون رِضَاه؛ لأنَّه غيرُ مكلَّف؛ فأشبهَ الصَّغير.

الشَّرْطُ الثَّالث: الوَلِيُّ؛ لحديثِ أبي موسى الأَشْعَريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ)[رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه].

وعن عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ)[رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه].

* ويُشترطُ في الوَلِيِّ ستَّة شروط:

أ - الذُّكوريَّة؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا تُزَوِّجُ المَرْأَةُ المَرْأَةَ)[رواه ابن ماجه]، ولأنَّ المرأة لا ولاية لها على نفسها في

ص: 155

عقد النكاح، فعلى غيرها من باب أَوْلَى.

ب- التَكلِيفُ؛ بأن يكون بالغاً عاقلًا؛ لأنَّ غير المُكلَّف أحوجُ إلى مَنْ ينظر له، فلا ينظرُ لغيره.

ج- كمالُ الحُرِّيَّة؛ لأنَّ العَبْد لا ولاية له على نفسِه، فعلى غيره من باب أَوْلَى.

د - الرُّشْدُ في العَقْل، بأن يَعْرِفَ الكُفْءَ من غير الكُفْءِ، ومصالح النِّكاح؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما:«لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» [رواه البيهقي].

هـ- اتِّفاقُ الدِّين بين الوَلِيِّ ومولِيَّتِهِ، واختلافُ الدِّين له ثلاثِ أحوال:

1) أن يكون الوَليُّ كافراً، وموليَّتُهُ مسلمة: فلا ولاية له عليها بالإجماع؛ لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، فدلَّت الآية على أنَّ غير المؤمنين ليسوا أولياء للمؤمنين.

2) أن يكون الوَليُّ مُسْلِماً، وموليَّتُهُ كافرة: فلا ولاية له عليها؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73]. إلَّا إذا كانت من أهل دار الإسلام ولا وليَّ لها، فيزوِّجها السلطان؛ لعموم ولايته على أهل دار الإسلام، فتثبت له الولاية عليها.

3) أن يكونا كافرين؛ كأن يكون الوليُّ نصرانيًّا، وموليَّته مجوسيَّة، ونحو ذلك: فلا ولاية له عليها؛ لأنَّه لا توارث بينهما بالنَّسب.

ص: 156

و - العَدالةُ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ)[رواه ابن حبَّان]، ولأنَّها ولاية تحتاج إلى النظر والتقدير، فلا يستبدُّ بها الفاسق؛ كولاية المال.

ويكفي في الوليِّ أن يكون مستور الحال؛ لأنَّ اشتراطَ العَدْل ظاهراً وباطناً فيه حَرَجٌ ومَشقَّةٌ، ويفضي إلى بطلان غالب الأنكحة.

* تَرْتيبُ الأَوْلياءِ في نِكاحِ الحُرُّة:

أحقُّ الأولياء بتزويج الحرَّة هم:

أ - الأبُ؛ لأنَّه أكمل نظراً وأشدُّ شفقةً، ولأنَّ الولد موهوبٌ لأبيه؛ كما قال تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} [الأنبياء: 90]، وإثبات ولاية الموهوب له على الموهوب أَوْلَى من العكس.

ب- ثمَّ وصيُّ الأبِ؛ لأنَّه يقوم مقامه.

ج- ثُمَّ جدٌّ لأبٍ وإِن علَا، الأقرب فالأقرب؛ لأنَّ له إيلاداً وتعصيباً؛ فأشبهَ الأبَ.

د - ثُمَّ الابن وإنْ نَزَل؛ الأقرب فالأقرب؛ لما روت أمُّ سَلَمَة رضي الله عنها (أنَّها لما انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، أَرْسَلَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطِبُهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّاهِ؛ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِداً. قَالَ: فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِكِ شَاهِدٌ، وَلَا غَائِبٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ. فَقَالَتْ لِابْنِهَا: قُمْ يَا عُمَرُ فَزَوِّجْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَزَوَّجَهُ)[رواه أحمد، والنسائي]، فدلَّ على أنَّ لها وليًّا حاضراً في الجملة. ولأنَّه عدْلٌ من

ص: 157

عصبتها، فقُدِّم على سائر العصبات؛ لأنَّه أقربهم نسباً، وأقواهم تعصيباً.

هـ- وهكذا على ترتيبِ الميراث، فيُقدَّمُ -بعد الابن وإن نزل-: الأخُ لأبوين، ثمَّ لأب، ثمَّ بنوهما وإن نزلوا، ثمَّ العمُّ لأبوين، ثمَّ لأب، ثمَّ بنوهما، ثمَّ أقرب العَصَبات على ما سبق في الميراث؛ لأنَّ مبنى الولاية على الشفقة والنَّظر، ومظنَّة ذلك القرابة، والأحقُّ بالميراث هو الأقرب، فيكون أحقُّ بالولاية.

و - ثمَّ المولَى المُنعم بالعِتق؛ لأنَّه يرثها ويَعقل عنها، فكان له أن يزوجها عند عدم عصبتها.

ز - ثمَّ عصبةُ المولَى المُعتِق بعده؛ الأقرب فالأقرب؛ كما في الميراث.

ح- ثمَّ مولى المولى، ثمَّ عصباته؛ الأقرب فالأقرب، وهكذا كما في الميراث.

ط- ثمَّ السُّلطَانُ؛ وهو الإمام أو نائبه، أو من فوَّضا إليه الأنكحة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها -السَّابق-: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ

) وفيه: (فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ).

ح - فإن عُدِمَ الكُلُّ في المحلِّ الذي هي فيه؛ زوَّجها ذو سلطانٍ في ذلك المكان؛ كوالي البَلَد، أو كبيره، أو أمير القافلة ونحوه؛ لأنَّ له سلطنة؛ فيدخل في عموم الحديث.

ط - فإن تعذَّر ذو سلطان في مكانها وكَّلَت عَدْلًا في ذلك المكان يُزوِّجها بإذنها؛ لأنَّ اشتراطَ الوليِّ في هذه الحالة يمنع النِّكاح بالكُلِّيَّة، فلم يجز، كاشتراط كون الوليِّ عصبةً في حقِّ مَنْ لا عَصَبَةَ لها.

ص: 158

* تنبيهان:

الأوَّل: لا ولاية لغير العَصَبات النَّسَبيَّة أو السَّبَبيَّة مِنْ الأقارب؛ مثل: الأخ من الأمِّ، والخال، وأبي الأمِّ، وعمِّها، ونحوهم؛ لقول عليٍّ رضي الله عنه:«إِذَا بَلَغَ النِّسَاءُ نَصَّ الحَقَائِقِ -أي: الإدراك-، فَالْعَصَبَةُ أَوْلَى» [رواه البيهقي].

الثاني: إذا زوَّج الأبعدُ، أو زوَّجَ أجنبيٌّ -ولو كانَ حاكماً- من غيرِ عذرٍ للأقرب: لم يصحَّ النِّكاح؛ لأنَّه لا ولاية للحاكم والأبعد مع وجود من هو أحقُّ منهما؛ لأنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: (إِلَّا بِوَلِيٍّ) وصف مشتقٌّ من الولاية، فيقتضي أن يكون الأحقُّ الأَوْلَى فالأَوْلَى، وكُلُّ حُكمٍ عُلِّقَ على وَصْفٍ فإنَّه يَقْوَى الحُكْمُ بقوَّة هذا الوصف فيه.

* اسْتِواءُ الأَوْلِياءِ في النِّكاح:

إذا استوى وليَّان فأكثر لامرأةٍ، بحيث كانوا في درجةٍ واحدةٍ، كإخوةٍ لها من الأبوين، أو كلُّهم لأب، أو أعمام، وقد أذنت لهم في تزويجها صحَّ التزويج من كلِّ واحدٍ منهم؛ لأنَّ سبب الولاية موجودٌ في كلِّ واحدٍ منهم.

فإن أَذِنَت لأحدهم تَعيَّن وليًّا للتزويج، ولم يصحَّ نكاح غيره من الأولياء.

* ما يُسقِطُ الوِلايَة:

تسقطُ ولاية الوليِّ بأحد الأسباب التالية:

أ - العَضْلُ: ومعناه: منعُ المرأة من التزويج بكُفْءٍ رضيته، ورَغِب كلٌّ

ص: 159

منهما في الآخر بما صحَّ مَهْراً، ولو كان بدون مَهْر مثلها.

والعَضْلُ مُحرَّم، ويُفسَّق به الوليُّ إن تكرَّر منه؛ لقوله تعالى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232].

ب- الغَيبة المُنقَطِعة: وهي ما لا تُقطَعُ إلِّا بكُلْفَةٍ ومشقَّة، سواءً كانت غيبته فوقَ مسافةِ قَصْرٍ أو دونَها؛ لأنَّ التحديد بابه التوقيف، ولا توقيف.

ج- إذا تعذَّرَت مراجعته؛ بأَسْرٍ، أو حَبْسٍ، أو كان غائباً لا يُعلَم مكانُه؛ لأنَّه صار كالبعيدِ المنقطعِ.

فإذا سقطت ولاية الأقرب بأحد هذه الأسباب انتقلت الولاية إلى الأبعد؛ لحديث عائشة رضي الله عنها السابق: (فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ).

* التوكيلُ في التزويج:

وكيل الوليِّ يقوم مقامه، سواء كان الوليُّ حاضراً أو غائباً، مجبِراً أو غيرَ مجبِرٍ؛ لأنَّه عقدُ معاوضةٍ فجاز التوكيل فيه كالبيع، وقياساً على توكيل الزَّوج؛ لَأنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَكَّلَ أَبَا رَافِعٍ فِي تَزْوِيجِهِ مَيْمُونَةَ. [رواه مالك].

ولا يفتقر توكيله إلى إذن موليَّته؛ لأنَّه إذن من الوليِّ في التزويج، فلا يفتقر إلى إذن المرأة، ولا الإشهاد عليه، كإذن الحاكم.

لكن لا بدَّ من إذن غير المجبَرةِ لوكيل وليِّها بالتزويج، ويكون إذنها بعد توكيله؛ لأنَّه قبل ذلك أجنبيٌّ.

ص: 160

- يُشترط في وكيل الوليِّ ما يشترط في الوليِّ من الشروط؛ من ذكورة، وبلوغ، وعقل، وعدالة، ورشدٍ، وغيرها؛ لأنَّها ولاية، فلا يصحُّ أن يباشرها غير أهلها.

- ويصحُّ توكيل الفاسق في قبول النِّكاح؛ لأنَّه يصحُّ قبوله النِّكاح لنفسه، فيصحُّ لغيره.

- ويصحُّ التوكيل في إيجاب النِّكاح توكيلًا مقيَّداً؛ كأن يقول: «زوِّج زيداً» ، أو «زوِّج هذا». فليس له أن يزوِّج غيره. ويصح توكيله توكيلًا مُطْلَقاً؛ كأن يقول لوكيله:«زوِّج مَنْ شئت» ، ويتقيَّد الإطلاق بالكُفء.

- يُشترط لصحَّة النِّكاح مع وجود التوكيل عند الإيجاب والقبول أن يقول الوليُّ لوكيل الزَّوج، أو وكيل الوليِّ لوكيل الزَّوج:«زوَّجتُ فلانةً فلاناً» ، أو «زوَّجتُ فلانةً لفلان» ، ويصفه بما يتميَّز به.

ويُشترط قول وكيل الزَّوج: «قَبِلتُه لموكِّلي فلان» ، أو «قَبِلتُه لفلان» .

ولا يصحُّ إن لم يقل: «لفلان» ؛ لفوات شرطٍ من شروطه، وهو تعيين الزَّوجين.

* تولِّي الوَليِّ طَرَفي العَقْد:

يصحُّ أن يتولَّى الوليُّ طرفي عقد النِّكاح إذا كان وليًّا للطرفين؛ كأن يزوِّج ابنه من بنت أخيه، أو وكَّل الزَّوج وليَّ المرأة في قبول نكاح الزَّوج من الوليِّ نفسه، ونحو ذلك.

ص: 161

ولا يُشترط فيمن يتولَّى طرفي عقد النِّكاح أن يأتي بالإيجاب والقبول، ويكفي أن يقول:«زوَّجتُ فلاناً فلانةً» ، من غير أن يقول:«قَبِلتُ نكاحها» ، أو «تزوَّجتها» .

الشَّرْط الرابع: الشهادة على النِّكاح؛ لحديث عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما -السابق-: (لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ).

ولأنَّه عقْدٌ يتعلَّق به حقُّ غير المتعاقِدَيْن، وهو الولَدُ، فاشترط فيه الشَّهادة؛ لئلَّا يجحده أبوه فيَضيعَ نَسَبُه، بخلاف غيره من العقود.

ويُشترَطُ في الشُّهود شروط؛ وهِيَ:

أ - أن يكونا اثنين؛ لخبر ابن عبَّاس رضي الله عنهما المتقدِّم: (لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ)، فلا يكفي شاهدٌ واحدٌ.

ب- الإسلامُ: فلا ينعقد نكاحُ مسلمٍ بشهادة ذمِّيَّيْن، ولا بشهادة مسلمٍ وذمِّيٍّ، ولو كانت الزوجة ذمِّيَّةً كتابيَّة، أبواها كتابيَّان؛ لقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وللخبر السَّابق.

ج- أن يكونا ذَكَرَيْنِ؛ لأنَّه عَقْدٌ ليس بمال، ولا يقصد به المال، وهو ممَّا يطَّلع عليه الرِّجال غالباً، فلم ينعقد بشهادة النساء؛ كالحدود.

د - أن يكونا مُكلَّفَيْن؛ أي: بالغين عاقلين؛ لأنَّ الصبيَّ والمجنون ليسَا من أهل الشهادة، ولا لهما قولٌ يُعتبر.

ص: 162

هـ- أن يكونا عَدْلَين ولو في الظاهر دون الباطن؛ لخبر ابن عبَّاس رضي الله عنهما -السَّابق-؛ فينعقد النِّكاح بشهادة مستوري الحال؛ لأنَّ النِّكاح يكون في القُرَى والبادية، وبين عامَّة الناس، فاعتبار العدالة في الباطن يشقُّ، فاكتفي بظاهر الحال.

و- أن يكونا من غير أصل الزَّوجين وفرعيهما؛ فلا تصحُّ شهادة أبي الزَّوجة، أو جَدِّها فيه، ولا شهادة ابنها وابنه فيه، ولا شهادة أبي الزَّوج، وجَدِّه، وابنه وابن ابنه وإن نزل؛ وذلك لمحلِّ التُّهمة.

ز - أن يكونا سَمِيعَيْن؛ لأنَّ الأصمَّ لا يَسمع العَقْد؛ فيشهد به.

ح- أن يكونا نَاطِقَيْنِ؛ لأنَّ الأخرس لا يتمكَّن من أداء الشهادة.

ولا يُشترط كون الشاهدين بصيرين، فتصحُّ شهادتهما ولو كانا ضريرين إذا حصل التيقُّن من صوت العاقدين، بحيث لا يُشكُّ فيهما؛ لأنَّها شهادة على قولٍ، أشبهت الاستفاضة.

الشرط الخامس: خلوُّ الزَّوجين من الموانع؛ بأن لا يكونَ بِهما، أو بأحدهما ما يَمنع التَّزويج من نسبٍ، أو سببٍ؛ كرضاعٍ، ومصاهرةٍ، أو اختلافِ دينٍ؛ كأن يكون مسلماً وهي مجوسيَّة، وغير ذلك على ما سيأتي في باب المحرَّمات.

‌خامساً: الكَفاءَةُ في النِّكاح:

الكفاءة لغةً: المماثلة والمساواة.

ص: 163

وهي ليست شرطاً لصحَّة النِّكاح: بل هي شرطٌ للزومِه، فيصحُّ النِّكاح مع فَقْدها؛ لقوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

و (لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أَنْ تَنْكِحَ أُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ، فَنَكَحَهَا بِأَمْرِه)[رواه مسلم]، وفاطمة قرشيَّة، وأسامة مولًى.

وعن عائشة رضي الله عنها: «أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ تَبَنَّى سَالِماً، وَأَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ» [رواه البخاري].

- وإذا زُوِّجت امرأةٌ بغير كفءٍ فلها أن تفسخ نكاحها، ولو متراخياً، ما لم تَرْضَ بقولٍ أو فعلٍ؛ لأنَّه لنقصٍ في المعقود عليه، أَشْبَهَ خيارَ العيب.

وكذا لأوليائِهَا الفسْخُ؛ لأنَّ العار في تزويج من ليس بكفءٍ يلحقهم جميعاً. ما لم يسقطوا حقَّهم بقولٍ؛ كأن يقولوا: «أسقطنا الكفاءة» ، أو «رضينا به غير كفءٍ»

ولو رضيت، أو رضي بعض الأولياء، فلمن لم يرضَ الفسخ، ويملكه الأبعد مع رضا الأقرب.

ولو زالت الكفاءة بعد العَقْد، فللزوجة فقط حقُّ الفسخ دون أوليائها؛ لأنَّ حقَّ الأولياء في ابتداء العَقْد، لا في استدامته.

* الأمورُ التي تُعتَبر فيها الكَفاءَةُ:

الكفاءةُ معتبرةٌ في خمسة أشياء، هي:

ص: 164

أ - الدِّيانَةُ: لحديث أبي حاتم المُزَنيِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّاهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ؟ قَالَ: إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-). [رواه الترمذي].

وتكون الدِّيانةُ بأداء الفرائض واجتناب النواهي؛ فلا تُزوَّجُ عفيفةٌ بفاسق ولا فاجرٍ؛ لأنَّه مردود الشهادة والرواية، وذلك نقص في إنسانيَّته، فلا يكون كفئاً لعَدْلٍ؛ لقوله تعالى:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18].

ب- النَّسَبُ، فلا يكون العَجَمِيُّ كفئاً لعربيَّةٍ؛ لأنَّ العرب يعدُّون الكفاءة في النَّسَب، ويأنفون من نكاح الموالي، ويرون ذلك نقصاً وعاراً.

ج- الحُرِّيَّةُ؛ فلا يكون العبدُ كفئاً لحُرَّةٍ -ولو معتَقَةً-؛ لأنَّه منقوصٌ بالرِّقِّ، ممنوعٌ من التَّصرُّف في كَسْبِه، ولا يملكه؛ فلا يساوي الحُرَّة. و (لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَيَّر بَرِيرَةَ حِينَ عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ)[رواه البخاري، ومسلم]، فإذا ثبت الخيار في الاستدامة، ففي الابتداء أَوْلَى.

د - الصِّناعَةُ؛ فصاحب الصناعة الدنيئة؛ كالحجَّام، والزبَّال ليس كُفئاً لبنت من هو أعلى منه صناعةً؛ كالتَّاجر، وصاحب العقار، ونحو ذلك؛ لأنَّ ذلك يُعدُّ في عُرْف الناس نَقْصاً، فأشبه نقص النَّسَب.

ص: 165

هـ- المَيْسَرَةُ؛ وهو اليَسار بمالٍ بحسب ما يجب لها من المَهْر والنَّفَقَة؛ لأنَّ هذا القدر من المال هو الذي يُحتاج إليه. فلا يكون المُعْسِرُ كفئاً لمُوسرةٍ؛ لأنَّ ذلك يُعدُّ في عُرْف الناس نَقْصاً، وهم يتفاضلون فيه كتفاضلهم في النَّسَب. ولأنَّ على المُوسِرَة ضرراً في إعسار زوجها؛ لأنَّه يخلُّ بنفقتها، ومُؤْنَة أولاده. ولهذا كان لها الفسخ بإعساره بالنفقة.

ص: 166

‌باب المحرّمات في النِّكاح

‌أوَّلًا: أقسامُ المُحرَّمات في النِّكاح:

تنقسمُ المحرَّمات من النساء في النِّكاح إلى صنفين:

‌الصنف الأوَّل: المحرَّمات على التأبيد:

وهُنَّ من يَحرمُ نكاحهنَّ مطلقاً؛ إمَّا لنَسَبٍ، أو رَضاعٍ، أو مُصاهرةٍ. وهنَّ كما يلي:

‌القسم الأوَّل: المُحرَّمات بالنَّسَبِ، وهُنَّ سَبْعٌ:

أ - الأُمُّ، والجَدَّةُ -وإِن عَلَت- مِنْ كلِّ جهةٍ؛ سواء من جهة الأب أو الأمِّ؛ لقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، وأمَّهاتكم هنا: كلُّ مَنْ انتسبتَ إليها بولادةٍ؛ لقول أبي هريرة رضي الله عنه لما ذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم هاجرَ أمَّ إسماعيل: (تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ)[رواه البخاري، ومسلم].

ب- ابنةُ الصُّلْب، وبنتُ الولدِ؛ ذَكَراً كان الولد أو أُنثى -وإن سَفَلَ-، وهي: كلُّ من انتسبتْ إليك بولادة؛ لقوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23].

ويستوي في التحريم: البنت من حلالٍ، أو مِنْ حَرامٍ، أو من شُبهةٍ، أو منفيَّة بلِعانٍ؛ لدخولِهنَّ في عمومِ لفظٍ:{وَبَنَاتُكُمْ} .

وكذا يقال في الأخوات وغيرهنَّ ممَّن يأتي من الأقسام.

ج- الأختُ مِنْ كلِّ جهةٍ؛ شقيقة، أو لأبٍ، أو لأمٍّ؛ لقول الله تعالى:{وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23].

ص: 167

د- بنتُ الأختِ الشقيقة، أو لأبٍ، أو لأمٍّ، وبنت وَلَدِها؛ أي: بنت ابن الأخت، وبنت بنت الأخت وإن سَفَلَت؛ لقوله تعالى:{وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23].

هـ- بنت الأخ الشقيق، أو لأبٍ، أو لأمٍّ، وبنتها، أيْ: بنتُ بنتِ الأخِ، وبنتُ ولدِها، وإن نزلْنَ؛ لقولِهِ تعالى:{وَبَنَاتُ الْأَخِ} [النساء: 23].

و، ز- العمَّةُ والخالةُ مطلقاً؛ أي: مِنْ كلِّ جهةٍ، وهنَّ جميعُ أخواتِ آبائِكَ وأمَّهاتك، وأجدادِكَ وجدَّاتِكَ، وإن عَلَوْنَ؛ لقولِهِ تعالى:{وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ} [النساء: 23].

‌القسم الثَّاني: المُحرَّماتُ بالرَّضاعِ؛ وهُنَّ سبعٌ:

فكلُّ امرأةٍ حَرُمَت من النَّسَب حَرُمَ مثلُها بالرضاع؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ)[رواه البخاري، ومسلم].

أمَّا الأمَّهات والأخوات من الرَّضاع، فقد نُصَّ عليهنَّ في قول الله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، والباقيات يدخلْنَ في عموم لفظ سائر المحرَّمات.

وعليه؛ فيكون المحرَّمات بسبب الرَّضاع هنَّ:

- الأمَّهات وإن عَلَوْن.

ص: 168

- والبنات وإن نَزَلْن.

- والأخوات.

- والعمَّات والخالات.

- وبنات الأخ وبنات الأخت.

‌القسم الثَّالث: المُحرَّمات بالمُصاهَرَةِ، وهُنَّ أربعٌ:

ثلاثٌ منهنَّ يَحرُمْن بمجرَّدِ العَقْد، وإن لم يحصل دخولٌ ولا خَلْوة، وهنَّ:

أ - زوجاتُ آبائِهِ وإن عَلَو: وهنَّ كلُّ مَنْ تزوَّجها أبوه، أو جدُّه لأبيه أو لأمِّه، مِنْ نَسَبٍ أو رَضاعٍ، ماتَ عنها أو فارقها؛ لقول الله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22].

ب- زوجاتُ أبنائه وإن نَزَلوا: وهنَّ كلُّ من تزوَّجها أحدٌ من أبنائه، أو من بنيهم، من البَنِين أو البنات، من نَسَبٍ أو رَضاعٍ؛ لقوله تعالى:{وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23].

ج- أمَّهاتُ زوجاتِه من نَسَبٍ أو من رَضاعٍ -وإن عَلَوْن-؛ لقولِهِ عز وجل: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23]، والمعقود عليها تُعدُّ من نسائه، فتدخل أمُّها في عموم الآية، قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما:«هِيَ مُبْهَمَةٌ، فَأَرْسِلُوا مَا أَرْسَلَ اللهُ، وَاتَّبِعُوا مَا بَيَّنَ اللهُ عز وجل» [رواه سعيد بن منصور]، ومعناهُ: عمِّموا حُكْمَها في كلِّ حالٍ، ولا تفصِّلوا بين المدخول بها وغيرها.

ص: 169

وأمَّا الرابعة من المحرَّمات بالمصاهرة فلا تحرُمُ إلَّا بالدُّخول؛ وهي:

د - بنتُ زوجتِهِ التي دَخَل بها، وهي: رَبيبتُهُ، وبنتُ رَبيبتِهِ، وبنتُ ولدِها مِنْ الذُّكور والإِناث وإن نزلَتْ، مِنْ نسبٍ أو رَضاعٍ؛ لقوله سبحانه وتعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، ولا يشترط كونهنَّ في حِجْرِه؛ لأنَّ التربية لا تأثير لها في التحريم.

فإن ماتت الزَّوجة، أو أبانها بطلاقٍ أو فسخٍ أو نحوه، قبل الدخول: لم تحرُم بناتها، ولو بعد الخلوة؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23].

*‌

‌ أثرُ الوَطْءِ بغيرِ عَقْدٍ:

إذا وَطِئَ الرَّجلُ امرأةً وطأً مُحرَّماً؛ كزِناً، أو وَطْءٍ في الدُّبر: فإنَّه يثبت به التَّحريم بالمصاهرة؛ فإذا زنى بامرأةٍ حرمت على أبيه وابنه، وحرمت عليه أمُّها وابنتها، ونحو ذلك؛ لأنَّ الوطءَ يُسمَّى نكاحاً، فيدخل في عموم قوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22].

‌الصنف الثاني من أقسام المحرَّمات: المُحرَّمات إلى أَمَدٍ:

وهنَّ كلُّ من حَرُمَ نكاحهنَّ لوجود سببٍ عارضٍ يمنع من ذلك، وهنَّ على قسمين:

‌القسم الأوَّل: المُحرَّمات لأجلِ الجمْع،

وهنَّ:

ص: 170

أ - الجمْعُ بينَ الأُخْتَيْن: سواءً كانت أختَها مِنْ نسبٍ أو رضاع، وسواء كان ذلك قبل الدُّخول أو بعده، وكذلك أختُ مُعتدَّتِهِ قبل انقضاء عِدَّتها؛ لأنَّها في حكم الزَّوجة؛ لعموم قوله تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23].

ب- الجمْعُ بين المرأة وعمَّتها، أو خالتها، وإن عَلَتا من كُلِّ جهةٍ، مِنْ نسبٍ أو رَضاعٍ؛ إجماعاً؛ لعموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يُجْمَعُ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ المَرْأَةِ وَخَالَتِهَا)[رواه البخاري، ومسلم].

*‌

‌ حُكم مَنْ جمَعَ بينَ مَنْ سَبَقَ:

- من تزوَّج أُختَيْن أو نحوهما -ممَّا سبق- في عقدٍ أو عقدَيْن معاً: بَطَل العَقْدان؛ لأنَّه لا يمكن تصحيحُهما، ولا مزيَّة لإحداهما على الأخرى، فبطَل فيهما.

- وإن تزوَّجهما في عقدين في زمنين، وعُلِم السَّابق: صحَّ العقد الأوَّل فقط؛ لأنَّه لا جَمْع فيه، وبطلَ الثَّاني، لأنَّ الجمع حصل بِهِ.

- فإن جُهل أسبقُ العَقْدين: فَسَخَهُما حاكمٌ إن لم يُطلِّقْهما؛ لبطلانِ النِّكاح في أحدهما وتحريمها عليه، ونكاح إحداهما صحيح، ولا يُتَيقَّن بينونتها منه إلَّا بطلاقهما، أو فسخ نكاحهما، فوجب ذلك.

ج- الجمْعُ بين أكثرَ من أربع زوجات؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما:

ص: 171

أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لغَيْلانَ بن سَلَمة رضي الله عنه حين أسلم وتحته عشر نِسْوة: (اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعاً)[رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه]، فلما منعه النبيَّ صلى الله عليه وسلم من استدامة ما زاد على أربع، دلَّ ذلك على أنَّ المنع من ابتداء ذلك أَوْلى.

- وخُصَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بجواز ذلك؛ فكان له أن يتزوَّج بأيِّ عدد شاء؛ تكرمةً له من الله تعالى.

- ومن طلَّق واحدةً من أربعٍ، حَرُمَ عليه تزوُّج بَدَلَها حتَّى تنقضي عِدَّتها؛ لأنَّ المعتدَّة في حكم الزَّوجة. بخلاف ما لو ماتت فله أن ينكح بَدَلها في الحال؛ لأنَّه لم يبق لنكاحها أثرٌ.

* حُكمُ الجَمعِ -فيما سبق- مع وَطْءِ شُبهةٍ أو زِناً:

- مَنْ وطِئَ امرأةً بشبْهةٍ أو زِنًا: حَرُم في زَمَنِ عِدَّتها نكاحُ أُختِها، أو عمَّتها، أو خالتِها.

- وحَرُمَ أن يزيدَ على ثلاثٍ غيرَها بعقدٍ. فإن كان له ثلاثُ زوجاتٍ لم يحلَّ له نكاح رابعة، حتَّى تنقضي عِدَّة من وَطِئَها بشبهةٍ أو زناً.

ولو كان له أربعُ زوجاتٍ: لم يحلَّ له أن يطأَ منهنَّ أكثر من ثلاث، حتَّى تنقضي عدَّة من وَطِئها بشبهةٍ أو زناً، لِئلَّا يُجمع ماؤُه في أكثر من أربع نسوة.

‌القسم الثَّاني من المُحرَّمات لأَمَدٍ: ما كان سببُ التَّحريمِ فيه عارضاً، ويمكن أن يَزولَ،

وهُنَّ أنواع:

ص: 172

أ - تَحرُم الزَّانيةُ على الزَّاني وغيرِهِ؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه:(أنَّ مَرْثَدَ بنَ أبي مَرْثَدٍ الغَنَويَّ كَانَ يَحْمِلُ الأُسَارَى بِمَكَّةَ، وَكَانَ بِمَكَّةَ بَغِيٌّ يُقَالَ لَهَا: عَنَاقُ، وَكَانَتْ صَدِيقَتَهُ، قَالَ: جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّاهِ، أَنْكِحُ عَنَاقَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي، فَنَزَلَتْ: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]؛ فَدَعَانِي فَقَرَأَهَا عَلَيَّ، وَقَالَ: لَا تَنْكِحْهَا)[رواه أبوداود، والترمذي، والنّسائي].

ولا يُباح نكاحها إلَّا بِشرطَيْن:

1) أن تَتُوب من الزِّنا؛ فيزولُ الحكمُ عنها. وتوبتُها: بأن تُراودَ على الزنا فتمتنع.

2) أن تنقضِي عِدَّتُها من نكاح الزِّنا.

ب- وتَحرم مُطَلَّقَتُهُ ثلاثاً حتَّى تنكح زوجاً غيرَه، نكاحاً صحيحاً، ويطأها في قُبُل، مع انتشار، ويطلِّقَها الثاني وتنقضيَ عدَّتها؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230].

ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ القُرَظِيِّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ، فَطَلَّقَنِي، فَأَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنَ ابنَ الزَّبِيرِ، إِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ)[رواه البخاري، ومسلم].

ص: 173

ج- وتَحرُمُ المُحْرِمَةُ حتَّى تَحِلَّ من إحرامها؛ لحديث عثمان رضي الله عنه: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لَا يَنْكِحُ المُحْرِمُ، وَلَا يُنْكَحُ، وَلَا يَخْطُبُ)[رواه مسلم].

د - وتَحرُمُ مُسلِمةٌ على كافرٍ حتَّى يُسْلِم، إجماعاً؛ لقوله تعالى:{وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221].

هـ- وتَحرُمُ كافرةٌ غير كتابيَّة على مُسلِمٍ -ولو كان عبداً- حتَّى تُسلِمَ؛ لقولِهِ تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221].

أمَّا حرائرُ أهل الكتاب فيباحُ نكاحهنَّ بالإجماع، إذا كُنَّ من أبوين كتابيَّين؛ لقوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5].

فإن كان أحدُ أبويها غير كتابيٍّ، فلا يحلُّ لمسلمٍ أن يتزوَّجها؛ تغليباً لجانب الحظر؛ لأنَّها لم تتمحَّض كتابيَّة.

وأهل الكتاب: هم من يَدينُ بالتوراة والإنجيل خاصَّة، ولو كان من بني تَغْلِبَ، ومن في معناهم من نصارى العرب ويهودهم.

و - وتَحرُمُ زوجةُ غيرِهِ؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24].

ز - وتَحرُمُ المعتدَّة من غيره؛ لقوله: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235].

ح- وتَحرُمُ المُستَبْرَأة من غيره؛ لأنَّها في معنى المعتدَّة، وتزوُّجُها زمن

ص: 174

الاستبراء يُفضي إلى اختلاط المياه والأنساب.

ط- ويَحرُمُ نكاحُ خُنْثَى مُشْكِل قبل تبيُّنِ حالِهِ؛ لعدم تحقُّق ما يُبيحُ النِّكاح؛ فغُلِّب الحَظْر، كما لو اشتبهت أختُه بأجنبيَّات. ولا يصحُّ إن كان قبل التحقُّق.

ي- ولا يحلُّ لمسلمٍ كامل الحرِّيَّة نكاح أَمَةٍ مُسلمةٍ، إلَّا بشرطين:

1) أن لا يجد طَوْلًا -أي مالًا- حاضراً، يكفي لنكاح حرَّةٍ، ولو كانت كتابيَّةً، وكان لا يَقْدِرُ على ثَمَن أَمَةٍ ولو كتابيَّةً.

2) أن يخاف على نفسه العَنَت؛ وهو مشقَّة ترك النكاح.

لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25].

ص: 175

‌باب الشُّروط في النِّكاح

‌أوَّلًا: المقصودُ بالشُّروط في النِّكاح:

المقصودُ بالشُّروط في النِّكاح: ما يَشترطُهُ أحدُ الزَّوجين في عقد النكاح على الآخر ممَّا له فيه غرَضٌ صحيحٌ، وليس بمنافٍ لمقتضى العَقْد.

ومحلُّ الصحيح منها:

أ - ما كان في صُلْبِ العَقْد.

ب- أو اتَّفقَا عليه قبل العَقْد.

أمَّا لو وقع الشرط بعدَ لُزُوم العَقْد: لم يلْزَمْ؛ لفوات محلِّهِ.

‌ثانياً: أقسامُ الشُّروط في النِّكاح:

الشُّروطُ في النِّكاح قِسمانِ:

الأوَّل: شرطٌ صَحيحٌ.

الثَّاني: شرطٌ فاسِدٌ.

القسم الأوَّل: الشَّرْط الصَّحيحُ في النِّكاح؛ وهو نوعان:

الأوَّل: شرطُ ما يقتضيه العَقْد، بأن يكون هو مقتضى العقد؛ كتسليم الزوجة إليه، وتمكينه من الاستمتاع بزوجته، وتسليم المهر إليها؛ فوجودُ مثل هذا الشَّرْط كعدمِهِ؛ لأنَّ العقد يقتضي ذلك.

الثاني: شَرْطُ ما تنتفعُ به المرأةُ، ولا ينافِي العَقْد؛ كزيادة معلومةٍ في مَهْرها،

ص: 177

أو أن يكون مهرها من نقدٍ معيَّنٍ، أو زيادةٍ في نفقتها الواجبة، أو أن لا يخرجها من دارها أو بَلَدِها، أو لا يسافر بها، أو لا يتزوَّج عليها، أو لا يُفرِّق بينها وبين أَبَوَيْها أو أولادها، أو أن تُرْضِع وَلَدَها.

فهذا النَّوع من الشُّروط صحيحٌ لازمٌ للزَّوجِ ليس له فكُّه؛ بمعنَى ثبوت الخيار للزَّوجة بعدمه؛ لأنَّ لها فيه قصداً صحيحاً؛ ويدلُّ له ما روى عبد الرحمن ابن غَنْمٍ قال: (شَهِدْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه وَاخْتُصِمَ إِلَيْهِ فِي امْرَأَةٍ شَرَطَ لَهَا زَوْجُهَا أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ دَارِهَا، قَالَ عُمَرُ: لَهَا شَرْطُهَا. قَالَ رَجُلٌ: لَئِنْ كَانَ هَكَذَا لَا تَشَاءُ امْرَأَةٌ تُفَارِقُ زَوْجَهَا إِلَّا فَارَقَتْهُ. فَقَالَ عُمَرُ: المُسْلِمُونَ عِنْدَ مَشَارِطِهِمْ، عِنْدَ مَقَاطِعِ حُدُودِهِمْ)[رواه عبد الرزاق].

ويؤيِّدُهُ حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوجَ)[رواه البخاري، ومسلم].

- يسنُّ للزوج الوفاء بهذا النوع من الشروط ولا يجب؛ لأنَّ عمر رضي الله عنه لم يجبر الزوج عليه، بل قال:(لَهَا شَرْطُهَا).

- فمتى لم يفِ الزَّوج بما شُرِطَ كان لها الفَسْخُ على التَّراخِي؛ لما تقدَّم من قول عمرَ رضي الله عنه: (المُسْلِمُونَ عِنْدَ مَشَارِطِهِمْ، عِنْدَ مَقَاطِعِ حُدُودِهِمْ)، ولأنَّه شرْطٌ لازمٌ في عَقْدٍ، فثبت حقُّ الفَسْخِ بتَرْكِ الوفاء به؛ كالرَّهنِ في البيع.

وكونه على التَّراخي؛ لأنَّه خيارٌ يثبتُ لدَفْع الضَّرر، فكان على التراخي

ص: 178

تحصيلًا لمقصودها؛ كخيار العَيْب والقِصاص.

- لا يَسقط حقُّ الزوجة في الفَسْخِ إلَّا بما يدلُّ على رضاها من قولٍ، أو تمكينٍ منها مع عِلْمِها بعدم وفائه لها بما شَرَطَتْ عليه.

- لا تلزمُ هذه الشروط إلَّا في النكاح الذي شُرِطَت فيه؛ فإن أبانها الزوج منه، ثمَّ تزوجها ثانيةً، لم تعتبر هذه الشروط؛ لأنَّه إذا زال العقد زال ما ارتبط به.

القسم الثَّاني: الشَّرطُ الفاسِدُ في النِّكاح؛ وهو: ما يُنافِي مقتضى العَقْد؛ لكن قد يبطلُهُ، وقد لا يُبطله.

وهُو على نوعين:

النَّوع الأوَّل: شَرْطٌ يُبْطِلُ النِّكاح من أصله؛ وهو أربعة أقسام:

أ - نكَاحُ الشِّغار: بكسر الشين؛ مِنْ شَغَر الكلبُ؛ إذا رفع رِجْلَه ليبولَ؛ تَشبيهاً له في القُبْح برفع الكلبِ رِجْلَه للبَوْل.

وهو من الأنكحة الفاسدة التي نهى عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وله صورتان:

1) أن يزوِّج رَجُلٌ رَجُلًا مَوليَّته؛ كبِنْتِه أو أُختِه، على أن يزوِّجه الآخرُ مَوليَّته، بلا مَهْرَ بينهما، سواء سكتا عنه أو شَرَطا نفيه؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما:(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الشِّغَارِ). وَالشِّغَارُ: أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآخَرُ ابْنَتَهُ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقُ. [رواه البخاري، ومسلم].

2) أن يجعل بُضْع كلِّ واحدةٍ منهما مع دراهم معلومة مهراً للأخرى؛ لما

ص: 179

روى عبد الرحمن بن هُرْمُز الأَعْرَج: (أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنْكَحَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الحَكَمِ ابْنَتَهُ، وَأَنْكَحَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنَتَهُ، وَقَدْ كَانَا جَعَلَا صَدَاقًا، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ خَلِيفَةٌ إِلَى مَرْوَانَ يَأْمُرُهُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: هَذَا الشِّغَارُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم[رواه أحمد، وأبو داود].

ب- نكاحُ المُحَلِّلِ: وهو -في الجملة- أن يتزوَّج رجلٌ امرأةً مطلَّقةً ثلاثاً بقصد تحليلها للزوج الأوَّل. وهو نكاحٌ محرَّمٌ باطلٌ، لا يحصل به التحليل للزَّوج الأوَّل؛ لما روى عليٌّ رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ، وَالمُحَلَّلَ لَهُ)[رواه أبو داود، والتّرمذي، وابن ماجه].

وله ثلاثُ صور:

1) أن يتزوَّج المطلَّقةَ ثلاثاً بشَرْطِ أنَّه متى أَحَلَّها لزوجها الأوَّل: طَلَّقَها لهُ.

2) أن ينويَ المُحَلِّلُ أنَّه متى أحلَّها للزوج الأوَّل طلَّقها له، دون أن يذكر الشَّرْط في العَقْد، ولم يرجع عن نيَّته عند العَقْد. ويدلُّ له ما روى نافعٌ قال: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَهَا أَخٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُؤَامَرَةٍ مِنْهُ؛ لِيُحِلَّهَا لِأَخِيهِ، هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا نِكَاحُ رَغْبَةٍ، كُنَّا نَعُدُّ هَذَا سِفَاحًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم[رواه الحاكم].

3) أن يتَّفقَ الزَّوْجان على التحليل والطلاق قبل العَقْد، دون أن يُذكر ذلك

ص: 180

حال العقد، ولم يرجع عن نيِّته عند العَقْد؛ لعموم حديث (لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ، وَالمُحَلَّلَ لَهُ).

لكنْ إنِ اتَّفقَا على شَرْط التَّحليل قبل العَقْد، ثمَّ نوى الزَّوج عند العَقْد أنَّه نكاح رغبةٍ: صحَّ منه؛ لخُلُوِّه عن نيَّة التَّحليل.

ج- نكاحُ المُتْعةِ؛ وسُمِّي بذلك: لأنَّ الرَّجُلَ يتزوَّج المرأة لِيتمتَّع بها إلى أَمَدٍ، وله عدَّة صورٍ:

1) أن يتزوَّجَ المرأةَ إلى مُدَّةٍ معلومةٍ أو مجهولةٍ، كأن يقولَ الوليُّ:«زوَّجتُك ابنتي شهراً» ، أو «زوجتُكَها إلى انقضاء الموسِم» . أو يتزوَّج المرأة ويشترط طلاقها في العقد بوقت كذا.

2) أن يقولَ الرَّجُل للمرأة: «أَمْتِعيني نَفْسَك» ، فتقول:«أَمْتَعْتُك نَفْسي» ، بلا وَليٍّ ولا شهودٍ.

والنِّكاح في هاتين الصُّورتين باطلٌ؛ لما روى سَبْرة الجُهنيِّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ نِكَاحِ المُتْعَةِ، وَقَالَ: أَلَا إِنَّهَا حَرَامٌ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَانَ أَعْطَى شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ)[رواه مسلم].

3) أن ينوي الزَّوجُ طلاقَها في وقت محدَّدٍ بقلبِهِ، أو يتزوَّج الغريبُ امرأةً بنيَّة طَلاقِها متى ما أراد أن يعودَ إلى بلدِهِ.

والنِّكاح في هذه الصورة باطلٌ أيضاً؛ لأنَّه أشبَهَ المُتْعَةَ فَحَرُمَ، إذِ الضَّررُ

ص: 181

الحاصلُ للزَّوجة بهذا النِّكاح هو نفسُهُ الحاصل بنكاح المُتْعَةِ.

د- النِّكاح المُعَلَّق على شَرْطٍ في المستقبل -غير مشيئةِ الله تعالى-؛ كأن يقول الوليُّ: «زوَّجتُك ابنتي إذا جاء رأس الشهر» ، أو «إن رَضِيَتْ أُمُّها» .

فهذا النكاح باطلٌ؛ لأنَّه عقد معاوضة؛ فلا يَصحُّ تعليقه على شرطٍ مستَقبَلٍ؛ كالبيع، ولأنَّه وقفٌ للنِّكاح على شرطٍ، ولا يَجوز وقفه على شرطٍ.

- ويصحُّ إذا عُلِّق على شَرْطٍ حاضِرٍ؛ كقوله: «زوَّجْتُكَها إن شئتَ» ؛ فقال: «شئتُ وقبلتُ» .

- ويصحُّ إذا عُلِّق على شَرْطٍ ماضٍ؛ كقوله: «زَوَّجتُكها إنْ كانت بِنْتِي» ، وهي ابنته في اعتقاد العاقِدَيْن، أو قال:«زَوَّجتُكَها إنِ انْقَضَتْ عِدَّتُها» ، فإن انقضت عدَّتها: صحَّ؛ لأنَّه ليس بتعليقٍ حقيقةً، بل توكيدٌ.

- ويصحُّ إذا عُلِّق على مشيئة الله؛ كأن يقول: «زوجتُكَها إن شاء الله» ؛ لأنَّ مقصود التَّعليق بالمشيئة التَّبرُّك، لا التَّردُّد في الغالب.

النَّوع الثَّاني من الشروط الفاسدة: شَرطٌ لا يُبطِل النِّكاح؛ وله صورٌ، منها:

1) أن يَشترِطَ الزَّوجُ أَنْ لَا مَهْرَ لها.

2) أن يَشترطَ أن لا نفقةَ لزوجتِهِ.

3) أن يَشترطَ أن يَقسِمَ لها أقلَّ من ضَرَّتها، أو أكثرَ.

4) أن يَشترطَ أن لا يطأها، أو يَعْزِل عنها، أو شَرَطَت هي ذلك، أو أن

ص: 182

لا يَقْسِمَ لها إلَّا في النَّهار دون الليل.

5) أن يشترط الزوجان أو أحدهما الخيار في النِّكاح؛ كأن يقول الوليُّ: «زوَّجتُك بشرط الخيار أبداً، أو مدَّةً معلومة، أو مجهولة» .

6) أن تشترط أن لا تُسلِّم نفسَها إليه إلَّا بعد مدَّة معيَّنةٍ، أو أن تستدعيه إلى الجماع وقت حاجتها أو إرادتها.

ففي جميع هذه الصور ونحوها يصحُّ النِّكاح، ويَبطلُ الشَّرط؛ لأنَّ هذه الشروط تنافي مقتضَى العَقْد، وتتضمَّن إسقاطَ حقوق تجبُ بالعَقْد قبل انعقاده؛ كما لو أسقط الشَّفيع شُفْعته قبل البيع، ولما في بعضها من الظلم والاعتداء على حقِّ الغير.

وأمَّا صحَّة عقد النِّكاح؛ فلأنَّ هذه الشروط تعود إلى معنًى زائد في العَقْد، لا يشترط ذِكْرُه، ولا يضرُّ الجَهْل به، فلم يُبْطِلْه. ولأنَّ النكاح يصحُّ مع الجهل بالعِوض، فجاز أن ينعقد مع الشرط الفاسد.

- وإن شَرَط الزَّوجُ أن تكون الزَّوجةُ مسلمةً، أو بِكْراً، أو جميلةً، أو نسيبةً، أو شَرَط نَفْي عيبٍ في الزَّوجة لا يُفسخ به النكاح؛ كأن تكون سميعةً، أو بصيرةً، أو طويلةً، ونحو ذلك؛ فبانت بخلاف ذلك، فللزوج الخيار في الفسخ؛ لأنَّه شرطَ صفةً مقصودةً، ففاتت، أشبه ما لو شَرَطَها حُرَّةً فبانت أَمَةً.

ص: 183

- وإن شَرَط فيها صفةً فبانت أحسن منها أو أعلى، فلا خيار له؛ كأن يشترطها كتابيَّةً، فبانت مُسلِمةً؛ لأنَّه زيادة خير فيها.

ص: 184

‌باب حكم العيوب في النِّكاح

‌أوَّلًا: تَعريفُ العُيوبِ:

العُيوبُ لُغةً: جمع عَيْبٍ؛ وهو النَّقْص.

والمقصودُ بِهِ هُنا: بيانُ العيوبِ التي يثبتُ بها الخيارُ، والتي لا يثبت بها.

‌ثانياً: ثبوتُ خيارِ العَيب في النِّكاح:

يثبت خيار العيب لكلِّ واحدٍ من الزَّوجين في الجملة؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه قال: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ غُرَّ بِهَا رَجُلٌ، بِهَا جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ؛ فَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا، وَصَدَاقُ الرَّجُلِ عَلَى وَلِيِّهَا الَّذِي غَرَّهُ» [رواه الدارقطنيّ]، ونحوه عن ابن عمر، وابن عبَّاس رضي الله عنهم.

ولأنَّه عيبٌ يمنع الوطء، فأثبت الخيار؛ كالجَبِّ والعُنَّة.

‌ثالثاً: أقسامُ العُيوبِ المُثْبِتةِ للخِيار:

تنقسمُ العيوبُ المثبِتةُ للخِيارِ إلى ثلاثة أقسامٍ:

القِسمُ الأوَّل: ما يَختصُّ بالرَّجُل؛ وهو ثلاثة عيوب:

أ - الجَبُّ؛ وهو: كونه قد قُطِعَ ذَكَرُه كلُّه أو بعضُه، بحيث لم يَبْقَ منه ما يطأُ به؛ فيتعذَّر معه الجماع والاستمتاع المقصود بالنِّكاح، فكان كالعُنَّةِ، بل هو أَوْلى؛ لأنَّه ميؤوسٌ من زوالِهِ.

ص: 185

ب- قَطْعُ الخُصْيَتَيْن، ومثله: من رُضَّت بَيْضَتاه، أو سُلَّتا؛ لأنَّ فيه نقصاً يمنع الوطء، أو يُضْعِفه.

ج- العُنَّةُ؛ وهو العَجْز عن الوَطْءِ، ولو لكِبَرٍ أو مَرَضٍ لا يُرجى بُرْؤُه، مأخوذٌ مِنْ: عَنَّ الشيءَ يَعِنُّ، إذا اعترَضَ؛ فذَكَرُهُ يَعِنُّ -أي: يعترض- إذا أراد أن يُولِجَهُ في فَرْجِ المرأة.

ويثبت الخيار لامرأة العِنِّين بعد تأجيلِهِ سَنَةً، قد ورَدَ ذلك عن جَمْعٍ من الصحابة؛ منهم: عمرُ، وعليٌّ، وابنُ مسعودٍ، والمغيرةُ بن شُعْبَةَ رضي الله عنهم [روى ذلك عبدُ الرزاق]، وليس لهم مخالفٌ.

ولأنَّه عيبٌ يمنع الوطء، فأثبت الخيار، كالجَبِّ.

* طُرُق ثُبوت العُنَّةِ، وما يترتَّبُ عليه:

تثبتُ عُنَّةُ الزَّوج بإقرارِه، أو ببيِّنةٍ. فإن عُدِمتا وطلبت امرأتُه يمينَهُ فنَكَلَ، ولم يَدَّع وَطْأً سابقاً على دعواها: أُجِّلَ سَنَةً هلاليَّة؛ لأنَّها المعتبرة في الأحكام الشرعيَّة، من حينِ تَرْفعُ الزَّوجة أمرَه إِلى القاضِي، فيضربُ القاضي له المدَّةَ، لا غيرُهُ؛ لوروده عن عمرَ، وعليٍّ، وابنِ مسعودٍ، والمغيرةِ بن شُعْبةَ رضي الله عنهم، كما سبق.

- ولأنَّه قد يكون عاجزاً لعُنَّةٍ، وقد يكون لمرَضٍ؛ فتمرُّ بِهِ الفصول الأربعةُ، فإن كان مِنْ يُبْسٍ زالَ في فصل الرُّطوبة، وهكذا بالعكس، وإن كان من

ص: 186

انحرافِ مزاج زالَ في فصل الاعتدالِ، فإن مضت الفصول الأربعة ولم يَزُل: عُلِم أنَّها خِلْقَة

(1)

.

ثمَّ إِنْ لم يطأها الزَّوج في هذه السَّنَةِ؛ فللزَّوجة الفَسْخُ؛ لما تقدَّم، وإلَّا لم يكن عِنِّيناً.

القِسمُ الثَّاني: ما يَختصُّ بالمرأة؛ وهو شيئان:

أ - كَوْن فَرْجِها مَسدوداً؛ بحيث لا يَسلُكُه الذَّكَر.

- فإن كان ذلك بأصل الخِلْقةِ؛ فهو: رَتَقٌ؛ وهو تلاحم الشَّفْريْن. والمرأة رَتْقاءُ.

- وإن لم يكن ذلك بأصلِ الخِلْقةِ؛ فهي: قَرْناء أو عَفْلَاء.

والقَرَن: لحمٌ زائدٌ يسدُّ الفَرْج.

والعَفَلُ: ورمٌ يكون في اللَّحْمَة التي بين مسلَكَي المرأة، فيضيقُ فَرْجُها، فلا يَسلُكُ فيه الذَّكَر.

ويثبُتُ به الخيار؛ لأنَّه يمنع الوَطْء المقصود من النِّكاح.

ب - أن يكون في فَرْجِها بَخَرٌ؛ وهو نتنٌ في الفَرْج يثور عند الوطء، أو في فَرْجِها قُروحٌ سيَّالةٌ، أو كونها فَتْقاء؛ وهو انخراق ما بين السَّبيلين، أو كونها مُستحاضَة؛ فيثبت الخيار للزوج؛ لما سبق.

(1)

(وفي وقتنا الحاضِرِ، ومع تطوُّر الطِّبِّ: يُمكن التَّأكُّد بالفحص الطِّبِّيِّ مع ضَرْب المدَّة.

ص: 187

القسمُ الثَّالث: ما هو مُشترَكٌ بينهُما؛ أي: بينَ الرَّجُل والمرأةِ، وهو:

أ - الجنونُ، ولو أحياناً؛ لأثر عمر رضي الله عنه السابق، ولأنَّ النَّفْس لا تَسكُنُ إلى من هذه حالُه.

ب- الجُذامُ: وهو داءٌ تتهافَتُ منه الأطراف، ويتناثر منه اللَّحْم. وحكمُه كالجنون؛ لما تقدَّم.

ومن العُيوب المشتركة بينهما مع ما ذُكِر:

ج- البَرَصُ.

د - بَخَرُ الفَمِ (الرائحة المنتنة).

هـ - الباسورُ؛ وهو داء يُصيبُ المقعدة، منه ما هو ناتئ، ومنه ما هو داخل المقعدة، ومنه ما يسيل، ومنه ما لا يسيل.

و - النَّاصورُ؛ وهو عِلَّةٌ تحدثُ في البَدَن من المقعدة وغيرها بمادةٍ خبيثةٍ ضيِّقةِ الفَم يَعْسُر بُرْؤها، أو يقال: كُلُّ قُرْحَةٍ تُزْمِن في البَدَن؛ فهي: ناصور.

ز - استطلاقُ البَوْل أو الغائط.

ح - كونُ أحدهما خُنْثى غير مُشْكِلٍ.

فيثبت الفسخ بكلِّ ما ذُكر من هذه العيوب -ولو حدث بعد الدُّخول-؛ لما فيه من النُّفْرة، أو النقص، أو خشية تعدية أذاه، أو نجاسته.

ص: 188

وثبوت الفسخ بحدوثه بعد الدخول؛ لأنَّه عيبٌّ في النكاح يثبت به الخيار حال كونه مقارناً للعقد، فيثبت طارئاً، كما يثبت الفسخ بالإعسار، ولأنَّه عقدٌ على منفعةٍ، فحدوث العيب بها يُثبت الخيار، كما في الإجارة.

‌رابعاً: حُكمُ ثُبوتِ الخِيارِ بغيرِ ما ذُكِرَ مِنْ العُيُوب:

لَا يَثبت خِيارٌ لأحدِ الزَّوجين بغير ما ذُكِرَ من العيوب؛ كالعَور، والعَرج، وقَطْعِ اليد والرِّجْل، والعَمَى، والخَرَس، والطَّرَش؛ لأنَّ ذلك كُلَّه لا يمنع الاستمتاع، ولا يُخشَى تعدِّيه.

ص: 189

‌فصل في فسخ الأنكحة بالعيوب

‌أوَّلًا: حقُّ الفَسْخِ بين التَّراخِي والفَوْرِيَّة:

يكون الخيارُ في الفسخ على التَّراخي؛ لأنَّه لدَفْع ضَرَرٍ مُتَحقِّق، فكان على التَّراخي؛ كخيارِ القصاص.

ولأنَّه لنقصٍ في المعقود عليه؛ أشبه خيار العيب، ولذا لا يسقط.

‌ثانياً: سُقوطُ حَقِّ الفَسْخِ:

يَسقطُ حقُّ فَسْخ النِّكاح لكلا الزَّوجين أو لأحدهما بالأمور التالية:

أ - إذا زالَ العيبُ بعدَ العَقْد؛ لِزوالِ سَبَبِهِ، وهو الضَّرر النَّاتج عنه.

ب- إذا كان عالماً بالعيب وقتَ العَقْد؛ وذلك لدخولِهِ على بصيرةٍ، فأشبَهَ مَنْ اشتَرَى ما يَعلم عيبَه.

ج- أن يرضَى بالعَيْب في غير العُنَّة؛ ويكون ذلك:

1) بقولٍ؛ كأن يقول: «أسْقَطْتُ الفسخ» ، أو:«رَضيتُ» .

2) أو بِفعلٍ؛ كوطءٍ إذا كان الخيار للزَّوج؛ لأنَّه يدلُّ على رغبتِه فيها، أو تمكينٍ مِنْ وطءٍ مع العِلْم بالعَيْب إن كان الخيار للزَّوجة؛ لأنَّه يدلُّ على رضاها به.

د - ويَسقطُ حقُّ فَسْخ النكاح بالعُنَّةِ بقولِ امرأةِ العِنِّين: «أسقطتُ حقِّي من الخيار لعُنَّتِهِ» ، أو «رَضيتُ به عنِّيناً» ، ونحو ذلك؛ لأنَّ العِلْم بعدم قُدْرته

ص: 191

على الوطء لا يكون بدون التَّمكِين، فلم يكن التَّمكين دليل الرضا، فلم يبق إلَّا القول.

ويسقطُ حقُّها في الفَسْخ كذلك باعترافها بوطئه في قُبُلها، لا بتمكينها من الوطء؛ لأنَّه واجبٌ عليها لتعلمَ أزالتْ عُنَّتُه أم لا.

‌ثالثاً: دورُ القَضاء في الفَسْخِ بينَ الزَّوجين:

الفُسوخ قسمانِ:

أ - متَّفقٌ على ثبوتِ أصل الفسخِ فيهِ؛ كفَسْخ المعتَقَةِ تحت عَبْدٍ؛ فهذا لا يُشترط فيه حُكْمُ حاكم.

ب- مختَلَفٌ فيه؛ كالعُنَّة، وعيوبِ النِّكاح الأخرى، فيَفسَخُ النِّكاحَ الحاكمُ بطلبِ مَنْ له الخيار، أو يَرُدُّه الحاكم إلى من له الخيار، فيفسخُهُ، ويكونُ كحُكْمِهِ.

فلا يَصحُّ فسخُ النِّكاح بهذه العيوب المختلف فيها إلَّا مِنْ خلال حُكم الحاكم، ولا يَستقلُّ الزَّوجان بالفسخ؛ لأنَّه فسخٌ مُجتَهدٌ فيه يقع فيه الخلاف، كالفسخ للإعسار بالنفقة.

‌رابعاً: حُكمُ المَهْرِ بعدَ فَسْخِ النِّكاح بالعَيْبِ:

لا يخلو فَسْخُ النِّكاح مِنْ حالَيْن:

أ - أن يكون الفَسْخ قبل الدُّخولِ: فَليس للمرأة مهرٌ، سواء كان الفسخ من الزَّوج، أو الزَّوجة؛ لأنَّ الفسخ إن كان منها؛ فالفُرقة من جهتِها؛ كرِدَّتِها،

ص: 192

وإن كان منه؛ فإنَّما فسخ لعيبٍ بها دلَّسَته بالإخفاءِ، فصار الفسخ كأنَّه منها.

ب- أن يكون الفَسخُ بعدَ الدُّخول، أو بعد الخلوةِ، ونحو ذلك ممَّا يُقرِّر المهر؛ فلها المهرُ المسمَّى كلُّه؛ لقول عمر رضي الله عنه السابق:(أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَبِهَا جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ، فَمَسَّهَا، فَلَهَا صَدَاقُهَا كَامِلًا، وَذَلِكَ لِزَوْجِهَا غُرْمٌ عَلَى وَلِيِّهَا).

ولأنَّه نكاح صحيحٌ وُجِدَتْ أركانُه وشروطُه، فترتَّب عليه أحكام الصحَّة، ولأنَّ المهر يجب بالعَقْد ويستقرُّ بالدُّخول، فلا يسقط بحادثٍ بعده.

‌خامساً: حُكمُ الرُّجوع بالمَهْر بسبب العَيْب على من غَرَّهُ (غَشَّهُ):

يَرْجعُ الزَّوج بالمَهْر على المُغِرِّ له؛ وهو من عَلِم بالعَيْب وكَتَمَه، سواء كانَ الغارُّ زَوجةً عاقلةً، أو وَليَّها، أو وكيلها؛ لقول عمر رضي الله عنه-السابق.

- فإن كان التغريرُ من أحدهم؛ بحيث لا يعلم به غيره، كأن يكون التغرير من المرأة، والوليُّ لا يعلم: فليس على الوليِّ شيءٌ؛ لأنَّه لم يعلم، فيرجع عليها بجميع الصَّداق.

- وإن كان التغرير من المرأة العاقلة ووَلِيِّها بالاشتراك؛ فالضَّمان على الوليِّ؛ لأنَّه المباشرُ للعَقْدِ، إذ ليس من العادة أنَّ المرأة تخرج إلى الزَّوج، وتقول: إنَّ فيها العيبَ الفلانيَّ.

- وإن كان التغرير من المرأة العاقلة ووكيلها: فالضَّمان بينهما نصفان؛ لأنَّ

ص: 193

فِعْل الوكيل كفِعْل المُوكِّل، فالتغرير قد صدر منهما، فيكون بينهما نصفان، بخلاف الوَليِّ، فليس فِعْلُه فعل مولاه.

- وإذا حصلت الفرقةُ بين الزوجين من غير فسخٍ؛ بموتٍ، أو طلاقٍ، فلا يرجعُ به على غارٍّ ولا غيره؛ لأنَّ سبب الرجوع على الغارِّ الفسخُ، وهو لم يوجد.

- ليس لوليِّ الصغير أو المجنون أو الرَّقيق تزويجه بمن به عيبٌ يُردُّ به في النكاح؛ لأنَّ الوليَّ ناظرٌ لهم بما فيه الحظُّ والمصلحةُ، وهو منتفٍ في هذا العقد.

فإن زوَّج الوليُّ غير المكلَّف بمعيبٍ يُردُّ به في النكاح، لم يصحَّ النكاح إن كان يعلم أنَّه معيبٌ؛ لأنَّه عَقَدَ لهم عقداً لا يجوز عَقْدُه.

وإن كان لا يعلم أنَّه معيبٌ، صحَّ العقدُ، وله الفسخ إذا علم العيب.

ص: 194

‌باب نكاح الكفَّار

‌أوَّلًا: المقصودُ بالكفَّار:

المقصود بالكفَّار هنا: أهلُ الكتاب وغيرُهم؛ كالمجوس، والوثنيِّين.

والمراد من هذا الباب: بيان حكم أنكحة الكُفَّار، وما يُقرُّون عليه لو ترافعوا إلينا، أو أسلموا.

‌ثانياً: حُكمُ نكاحِ الكفَّار:

تتعلَّق بأنكحة الكفَّار أحكامُ النِّكاح الصَّحيح: من وقوع الطَّلاق، والظِّهار، والإباحة للزوج الأوَّل، والإحصان، وغير ذلك؛ لقولِ الله تعالى:{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4]، وقال:{امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9]؛ فقد أضاف النِّساء إليهم، وحقيقةُ الإضافة تقتضي زوجيَّةً صحيحةً.

وعن جعفر بن محمَّد عن أبيه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(أُخْرِجْتُ مِنْ نِكَاحٍ، وَلَمْ أُخْرَجْ مِنْ سِفَاحٍ)[رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة].

وإذا ثبتَت الصِّحةُ ثبتت أحكامُها.

‌ثالثاً: شُروطُ إقْرار الكُفَّار على أَنْكِحَتِهم:

يُقَرُّ الكُفَّارُ على أنكحتهم المُحرَّمَةِ والفاسِدَة، والمخالِفَةِ لأنكحة المسلمين بشرطَيْن:

الأوَّل: أن يكونوا معتقدِين حِلَّها في شَرْعِهم. أمَّا ما لا يعتقدون حِلَّه

ص: 195

-كالزِّنا- فلا يُقرون عليه؛ لأنَّه ليس من دينِهم.

الثاني: أن لا يترافعوا إِلَينا؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]، حيث دلَّت الآية على أنَّهم يُخلَّوْن وأحكامَهم إن لم يجيئوا إلينا.

ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم (أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرٍ)[رواه البخاري، ومسلم]، ولم يتعرَّض لأنكحتهم، مع علمه أنَّهم يستبيحون نكاحَ محارمِهم.

‌رابعاً: حُكمُ أَنْكِحَة الكُفَّار إذا تَرافَعوا إلينا:

إذا ترافعَ الكُفَّار إلينا فلا يخلُو ذلكَ مِنْ أمرَين:

الأوَّل: أن يأتوا إلينا قبل عَقْد النِّكاح فيما بينَهم؛ فنعقده لهم كأنكحة المسلمين؛ بإيجابٍ، وقبولٍ، ووليٍّ، وشاهدَيْ عَدْلٍ من المسلمين؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42]. ولأنَّه لا حاجة إلى عقدٍ يخالف ذلك.

الثَّاني: أن يأتوا إلينا بعد العَقْد فيما بينهم، أو أسلم الزَّوْجان على نكاحٍ: فلا نتعرَّض لكيفيَّة العقد؛ إجماعاً، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان قد أقرَّ خَلْقاً كثيراً ممَّن أَسْلَمَ في عَصْره على أنكحتهم، ولم يسأل عن كيفيَّة عقدها، ولا عن شروط النِّكاح؛ على ما سبق.

لكن ننظر في هذه الحالة:

ص: 196

أ - فإن كانت المرأةُ وقت التَّرافع إلينا أو الإسلام ممَّن يجوز ابتداءُ نكاحِها؛ كأن يعقد عليها وهي في العِدَّة، ولم يترافعا إلينا إلَّا بعد أن فَرَغت من عِدَّتها، أو أن يعقد على أخت زوجته ثمَّ تموتُ زوجته قبل الترافع، أو وَقَعَ العَقْدُ بلا إيجابٍ وقبولٍ، أو بلا وَليٍّ، أو بلا شهودٍ؛ ففي هذه الحالة يُقَرَّانِ على نكاحهما، إجماعاً؛ لما تقدَّم، ولأنَّ ابتداء النِّكاح حينئذ لا مانع منه، فلا يمنع ذلك من استدامته من باب أَوْلَى.

ب- وإن كانت الزَّوجة وقت التَّرافع إلينا أو الإسلام ممَّن يحرمُ ابتداءُ نِكاحِها؛ كأن تكون ذَاتَ مَحْرَمٍ من نَسَبٍ، أو رَضاعٍ، أو مُصاهَرَةٍ، أو أن تكون مُعتَدَّةً من غيره، أو تكون مطلَّقةً منه ثلاثاً ولم تنكح زوجاً غيره؛ فإنَّه يُفرَّقُ بينهما؛ لأنَّه يُمْنَعُ من ابتداء العَقْد في هذه الحال، فيُمْنَعُ من استدامتِهِ؛ كنكاح ذوات المحارم.

‌خامساً: حُكمُ النِّكاح مع إسْلَام الزَّوْجَين أو أَحَدِهما:

إذا أسلَمَ الزَّوجان معاً أو أحدُهما؛ فلا يَخلو ذلكَ مِنْ أحوال:

أ - أن يُسلِمَ الزَّوجان معاً: بأن تلفَّظا بالإسلام دفعةً واحدةً: فيُقرَّان على نكاحِهما؛ لأنَّه لم يوجد بينهما اختلافُ دِينٍ، ولأنَّه أسلمَ خَلْقٌ كثيرٌ في عصر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فأقرَّهم على أنكحتهم، ولم يسأل عن كيفيَّتها.

ب- أن يُسلِمَ زَوجُ الكِتابيَّة: سواء كان كتابيًّا أو غير كتابيٍّ؛ فيُقرَّان علَى

ص: 197

نكاحِهما؛ لأنَّ للمُسلِم ابتداء نكاح الكتابيَّة.

وسواءً كان قبلَ الدُّخول أو بعدَه في الحالتَيْن.

ج- أن تُسْلِمَ الكتابيَّةُ تحتَ زوجِها الكافر، أو يُسْلِمَ أحدُ الزَّوجين غير الكتابِيَّيْن -كالمجوسِيَّيْنِ-؛ فلا يخلُو ذلك من حالَيْن:

1) أن يكون ذلك قبلَ الدُّخول: فإنَّ النِّكاح باطلٌ وينفسِخُ، ولا يكون طَلاقاً؛ حكاه ابن المنذر إجماعاً؛ لأنَّه لا يجوز لكافرٍ ابتداءُ نكاحِ مسلمةٍ، فاستدامته أوْلَى.

ولقولِهِ تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، وقالَ:{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10].

2) أن يكون ذلك بعدَ الدُّخول: فيُوقَفُ الأمرُ إلى انقضاء العِدَّة؛ لما رُوِي عن ابن شِهابٍ قال: «كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِ صَفْوَانَ وَبَيْنَ إِسْلَامِ امْرَأَتِهِ نَحْوٌ مِنْ شَهْرَيْنِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ امْرَأَةً هَاجَرَتْ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ مُقِيمٌ بِدَارِ الْكُفْرِ إِلَّا فَرَّقَتْ هِجْرَتُهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، إِلَّا أَنْ يَقْدَمَ زَوْجُهَا مُهَاجِرًا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا» [رواه مالك. قال ابن عبد البر: «شهرةُ هذا الحديث أقوى من إسناده»].

فإن أسلم المتأخِّرُ عن الإسلام قبل انقضاء العدَّة، فهما على نكاحهما، وإلَّا انفسخ النكاح منذ أسلم الأوَّل منهما، لاختلاف الدِّين، ولا تَحتاج لعِدَّةٍ ثانيةٍ.

ص: 198

‌سادساً: حُكمُ المَهْر إنْ فُرِّقَ بينهما بإسْلام أَحَدِهما:

- إن سبقتِ الزوجةُ زوجَها بالإسلام، وكان ذلك قبل الدُّخول، فلا مهْرَ لها؛ لمجيءِ الفُرْقَة من قِبَلها.

وإن سبَقَها هو بالإسلام: فلَها نصفُ المهرِ؛ لمجيءِ الفُرقَةِ من قِبَله، كما لو طلَّقها.

- وأمَّا إن كان إسلامُ أحدِهما قبلَ الآخر بعد الدُّخول: فيَجب لها المهرُ بكلِّ حال؛ لاستقرارِهِ بالدُّخول.

فإن كان المُسمَّى صحيحاً: فهو لها.

وإن كان مُحرَّماً وقد قَبَضَتْه: فليس لها غيرُه؛ لأنَّا لا نتعرَّض لما مضى ممَّا تقابضاه، وإن لم تكن قبضته، فلها مَهْرُ المِثْل.

ص: 199

‌فصل

فيمن أسلم وتحته من يَحرُم جَمْعُهنَّ

‌أوَّلًا: حُكمُ النِّكاح إذا أَسْلَمَ وتحتَه أكثرُ من أربع زوجات:

إذا أَسْلَمَ الكافرُ وتحتَه أكثر من أربعٍ من النِّساء؛ فأسلمْنَ في عِدَّتهنَّ أو كُنَّ كتابيَّاتٍ: لم يكن له إمساكُهُنَّ كلُّهنَّ، بغير خلافٍ.

- ويَجِب علَيهِ أن يختار منهنَّ أربعاً إن كان مُكَلَّفاً، ويفارِقُ سائرَهُنَّ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما (أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَخَيَّرَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ)[رواه الترمذي، وابن ماجه]. وسواء تزوَّجهنَّ في عَقْدٍ أو عقود، وسواءً اختار الأوائل أو الأواخر.

- فإذا أَبَى الاختيار: أُجْبِرَ بِحَبْسٍ، ثمَّ تعزيرٍ؛ لِيختار؛ لأنَّه حقٌّ عليه، فأُجبرَ على الخروج منه إذا امتنع؛ كسائر الحقوق.

- وعليه نفقتُهنَّ إلى أن يختار؛ لوجوب نفقة زوجاته عليه. وقبل الاختيار لم تتعيَّن زوجاتُه من غيرهنَّ بتفريطه، وليست إحداهُنَّ أَوْلَى بالنَّفقة من الأخرى.

- ويحصل الاختيار بينهنَّ:

1) بالقول: كأن يقول: «أمسكتُ هؤلاء، وتركتُ هؤلاء» ، أو: «أبقيتُ

ص: 201

هؤلاء، وباعدتُ هؤلاء»، ونحو ذلك.

2) أو الوطء؛ لأنَّ الوطءَ لا يكون إلَّا في زوجةٍ.

فإن وَطِئَ الكُلَّ قبلَ الاختيار بالقول: تعيَّنَ الأربعُ الأُوَل الموطُوآت منهنَّ أوَّلًا للإمساكِ، وما بعدَهنَّ للتَّرك.

3) أو الطَّلاق؛ فمن طلَّقها فهي مختارةٌ؛ لأنَّ الطلاق لا يكون إلَّا في زوجةٍ.

ولا يحصل الاختيارُ بظِهارٍ أو إيلاءٍ؛ لأنَّهما كما يدلَّان على التَّصرُّف في المنكوحة يدلَّان على اختيار تَرْكِها، فيتعارضُ الاختيارُ وعدمُهُ؛ فلا يثبت واحدٌ منهما.

‌ثانياً: حُكمُ النِّكاح إن ارتدَّ أحدُ الزَّوجين أو كلاهما:

إذا ارتدَّ أحدُ الزَّوجين، أو هما معاً؛ فلا يخلو ذلك من حالين:

أ - أن تكونَ الرِّدَّةُ بعدَ الدُّخول: فيُوقَفُ الأمرُ على انقضاء العِدَّةِ؛ لأنَّ الرِّدَّةَ اختلافُ دِينٍ بعد الإصابة؛ فلا يوجب فسخه في الحال، كإسلام كافرة تحت كافر.

فإن تابَ من ارتدَّ قبل انقضاء العدَّة؛ فهما على نكاحهما، وإلاَّ تبيَّنَّا فسخَهُ منذ ارتدَّ.

ب- أن تكون الرِّدَّةُ قبل الدُّخول: فيبطلُ النِّكاح؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، وقولِهِ:{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}

ص: 202

[الممتحنة: 10]، ولاختلافِ دِينهما.

- ويجب لها نصفُ المَهْر إن سَبَقَها بالرِّدَّة، أو ارتدَّ الزَّوج وَحْدَه دونَها؛ لمجيء الفُرْقة من جهته، فأشبه الطَّلاق.

ص: 203

‌كتاب الصَّداق

‌أوَّلًا: تَعريفُ الصَّداق:

الصَّدَاق لُغةً: بفتح الصَّاد وكَسْرها: المَهْرُ. يقال: أَصْدَقْتُ المرأة ومَهَرْتُها، وأَمَهْرتُها.

واصطلاحاً: العِوَض المُسمَّى في عَقْد النِّكاح وبَعْدَه، أو في وَطْءِ شُبْهةٍ، وزِناً بمُكرَهَةٍ.

ومن ألفاظه: المَهْرُ، والصَّدُقَةُ، والنِحْلَةُ، والفَرِيضَةُ، والأَجْرُ، والعَلَائِقُ، والعُقْرُ، والحِبَاءُ.

‌ثانياً: مشروعيَّةُ الصَّداق:

الصَّداق مشروعٌ بنصِّ القرآن، والسُّنَّة، وإجماع الأُمَّة.

- فمن القرآن: قول الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4].

- ومن السُّنَّة: ما روى أنسُ بن مالكٍ رضي الله عنه (أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا؟ قَالَ: زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ)[رواه البخاري، ومسلم].

- أمَّا الإجماع: فقال ابن قُدامة: «أجمع المسلمون على مشروعيَّة الصَّداق في النكاح» .

ص: 205

‌ثالثاً: أحكامُ الصَّداق:

1) تَسْميةُ الصَّداق:

- تُستحبُّ تسميةُ الصَّداق أثناء عقد النِّكاح؛ لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]. ويُكرَهُ تَرْكُها؛ لأنَّه قد يؤدِّي إلى التنازع.

- وليست التَّسمية شَرْطاً في عقد النكاح؛ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236].

2) مِقْدارُ الصَّداق:

- ليس للصَّداق مقدارٌ معيَّن، فيصحُّ بكلِّ ما جاز أن يكون ثمناً أو أُجرةً، سواء كان قليلًا أو كثيراً؛ لحديث سَهْل بن سَعْد رضي الله عنه قال:(أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلّاهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ. فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا، قَالَ: أَعْطِهَا ثَوْبًا. قَالَ: لَا أَجِدُ، قَالَ: أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَاعْتَلَّ لَهُ، فَقَالَ: مَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ)[رواه البخاري ومسلم]؛ فيصحُّ النكاح على عَيْنٍ، أو دَيْنٍ حالٍّ أو مؤجَّلٍ، أو منفعةٍ معلومةٍ مُدَّةً معلومةً؛ كرِعايةِ ماشِيَتِها، أو عَمَلٍ معلومٍ؛ كأن يجعلَ صَداقَها تعليمَها عِلْماً معيَّناً؛ من فقه، أو حديث، أو شعرٍ، أو أدبٍ، أو تعليمَ صَنْعةٍ معيَّنةٍ.

ص: 206

ولا يصحُّ أن يجعل صَداقها تعليمَ القُرآن، أو شيئاً مُعيَّناً منه؛ لأنَّ الفُروج لا تُستباح إلَّا بالأموال؛ لقوله تعالى:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، ولأنَّ تعليم القرآن قُرْبةٌ، ولا يصحُّ أن يكون صَداقاً.

وأمَّا قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ)؛ فمعناه: زوجتكها لأنَّك من أهل القرآن، كما زوَّج أبا طلحة على إسلامه، وليس في الحديث ذكر التعليم. وقد يكون خاصًّا بذلك الرجل.

- يُستحبُّ تخفيفُ الصَّداق وعدمُ المغالاة فيه؛ لما روت عائشة رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مِنْ يُمْنِ المَرْأَةِ تَسْهِيلُ أَمْرِهَا، وَقِلَّةُ صَدَاقِهَا)[رواه ابن حبان والبيهقي].

3) ما لا يَصِحُّ في الصَّداق:

أ - لا يصحُّ أن يكون الصَّداق مجهولًا غير معلومٍ قَدْراً وصِفةً؛ كأن يُصْدِقها داراً أو ثوباً غير مُعيَّنين، أو أن يُصْدِقها شيئاً معدوماً؛ كسَمَكٍ في ماءٍ، أو أن يُصدِقها شيئاً لا يُتموَّل به عادةً؛ كحبَّة حِنْطةٍ؛ لأنَّ الصَّداق عِوَضٌ في عَقْد معاوَضَةٍ، فيُشترطُ كونُه معلوماً، كالعِوَض في البيع.

ولا تضرُّ الجهالةُ اليسيرةُ في الصَّداق؛ مِثْل أن يُصْدِقها بيتاً من بيوته؛ فيصحُّ؛ لأنَّه يمكن تعيينه بالقُرْعة.

ب- لا يصحُّ أن يجعل صَداقها طلاقَ زوجةٍ له، أو أن يجعله إليها إلى مدَّةٍ

ص: 207

معلومةٍ؛ لما روي عن عبد الله بن عَمْرو أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَا يَحِلُّ أَنْ يَنْكِحَ المَرْأَةَ بِطَلَاقِ أُخْرَى)[رواه أحمد]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تَسْأَلُ طَلَاقَ أُخْتِهَا، لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا، فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا)[رواه البخاري ومسلم]؛ وما نهى عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يصحُّ أن يُجعَل صداقاً ينتفع به. ولأنَّ خروج البضع من الزوج ليس بمتموَّل، فهو كما لو أصدقها خمراً.

ج- لا يصحُّ أن يجعل صَداقها شيئاً مُحرَّماً؛ كخَمْر، أو خنزير، أو مالًا مغصوباً يعلمانه. إلَّا أنَّ عقد النكاح صحيحٌ، ويكون لها مَهْر المِثْل؛ لأنَّ فساد العِوَض لا يزيد على عدمه، ولو عُدِمَ العِوَضُ فالنكاح صحيح، فكذا إذا فسد، ولها مهر المثل.

- فإن لم يعلما أنَّ الصداق مغصوبٌ، صحَّ النكاح، ولها قيمته يوم العقد؛ لأنَّ العقد وقع على التسمية، وهي رَضِيَت بما سُمِّي لها، فلمَّا امتنع تسليمه لعدم قابليَّة كونه صداقاً، وجب الانتقال إلى قيمته يوم العقد؛ لأنَّه بدله.

- وإن أصدقها عصيراً فبان خمراً، صحَّ العقد، ولها مثله؛ لأنَّ العصير مثليٌّ، وهو أقرب إليه من القيمة، ولهذا يُضمَن بالمثل في الإتلاف.

- وكلُّ موضعٍ لم يَصحَّ فيه تسميةُ الصَّداق، أو خلا عقدُ النكاح عن ذِكْرِه؛ فإنَّه يجبُ فيه للمرأةِ مَهْر المِثْل بالعقد؛ لأنَّ المرأةَ لا تُسلِّم نفسَها إلَّا ببَدَلٍ، ولم يُسلَّم البَدَل، ورَدُّ العِوَض مُتَعذِّرٌ، فوجب بَدَلُه، وهو مَهْر المِثْل.

ص: 208

* ما يعتبر به مَهْر المِثْل:

- مَهْر المِثْل مُعتبرٌ بمن يساوي المرأة من جميع أقاربها؛ كأمِّها، وخالتها، وعمَّتها، وأختها، وبنت أخيها، وبنت عمِّها، وغيرهنَّ القُرْبى فالقُرْبى؛ لما روى عَلْقَمَةُ قال:(أُتِيَ عَبْدُ اللهِ فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ فَتُوُفِّيَ وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا. قَالَ: فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَرَى لَهَا مِثْلَ صَدَاقِ نِسَائِهَا، وَلَهَا المِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا العِدَّةُ، فَشَهِدَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الأَشْجَعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ بِمِثْلِ هَذَا)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه].

- ويُعتبرُ التساوي في المال، والجمال، والعَقْل، والأدب، والسِّنِّ، والبَكارَة أو الثُّيوبَة، والبَلَد، وصَراحَةُ النَّسَب، وكلُّ ما يختلف لأجله المَهْر؛ لأنَّ مَهْر المِثْل بدلُ مُتْلَفٍ، وهذه الصفات مقصودةٌ فيه، فاعتبرت.

- فإذا لم يكن في نسائها إلَّا من هو دونها زِيد لها في مَهْرِها بقَدْر فضيلتها؛ لأنَّ زيادة فضيلتها تقتضي زيادة مَهْرها.

وإن لم يوجد في نسائها إلَّا من هو فوقها، نقصتْ بقدْر نَقْصِها؛ كما في أرش العيب يُقدَّرُ بقَدْر نَقْص المبيع.

- وإذا اختلفت المُهور، أُخذَ بأوسط الأحوال.

ص: 209

‌فصل

في التَّزويج بدون صَداق المِثْل

- للأب تزويجُ ابنته مُطْلقاً -بِكْراً أو ثَيِّباً، صغيرةً أو كبيرةً- بدون صَداق مِثْلها، وإن كَرِهت ذلك؛ لما روى أبو العَجْفاء السُّلَميُّ قال: (سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ يَخْطُبُ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا لَا تُغَالُوا فِي صُدُقِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا، أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللّاهِ، كَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَا أَصْدَقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ، وَلَا أُصْدِقَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ فَوْقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً

) الحديث [رواه الدارمي]. وكان هذا بمحضرٍ من الصحابة، ولم يُنْكر، فكان اتِّفاقاً منهم على أنَّ له أن يزوِّج بذلك، وإن كان دون صَداق مِثْلها. وهذا من مُفْردات المذهب.

ولأنَّ المقصود من النكاح ليس العوض، بل حصول السكن، والازدواج، ووضع المرأة في منصبٍ عند من يكفيها ويصونها ويُحسِن عِشْرَتها. والظاهر أنَّ الأبَ مع شفقته لا يُنقصها من صداقها إلَّا لتحصيل المعاني المقصودة بالنكاح.

- وليس للمرأة إلَّا ما وقع عليه العقد، ولا يَلْزَم أحداً تتمَّة مَهْر المِثْل.

- وإذا زوَّج غيرُ الأبِ مَولِيَّته بأقلَّ من مَهْر المِثْل؛ فلا يخلو ذلك من حالين:

الأولى: أن يكون ذلك بإذْنِها مع كَوْنها رَشِيدَةً؛ فيصحُّ، وليس لأحدٍ الاعتراض؛ لأنَّ الحقَّ لها، وهي رَضِيَت بإسقاطه.

ص: 211

الثانية: أن يكون بغير إِذْنها، فلا يصحُّ، ويَلْزَم الزَّوج تكملة مَهْر المِثْل؛ لفساد التَّسْمية؛ لكونها غير مَأْذونٍ فيها شَرْعاً. ويرجع الزَّوج على الوليِّ بضمان مَهْر المِثْل؛ لأنَّه المفرِّط، كما لو باع سِلْعةً لها بدون ثَمَن المِثْل.

- إذا أَذِنَت المرأةُ لولِيِّها بتزويجها بمَهْر مُقَدَّرٍ، فزوَّجها بدونه، ضَمِنَ الوليُّ النقص، ولو كان أكثرَ من مَهْر المِثْل؛ لأنَّه ضَيَّعه بتزويجها بدونه.

- إذا زوَّج الأبُ ابنه الصغير بأكثرَ من مَهْر المِثْل، صحَّ؛ لأنَّ تصرُّف الأب ملحوظٌ فيه المصلحة، ولزم الصداق الابن؛ لأنَّ العقد له، فإن تعسَّر الابن لم يضمنه الأبُ؛ لأن الأب ينوب عنه في التزويج، فأشبه الوكيل في شراء سلعةٍ.

وأمَّا إن زوَّجه، فقيل له: ابنُكَ فقيرٌ، من أين يُؤْخَذُ الصَّداقُ؟ فقال الأبُ: عندي. ولم يَزِدْ على ذلك. لَزِمَه؛ لأنَّه صار ضامناً بقوله هذا. وغيرُ الأبِ مِثْلُه. وكذا لو ضمنه عنه غير الأب، فيلزمه.

* قَبْضُ صَداقِ المرأة:

قبضُ الصَّداق حقٌّ للمرأةِ إن كانت مكلَّفة رشيدةً، ولو كانت بِكْراً؛ فليس للأب قَبْضُه إلَّا بإذْنِها، وغيره من باب أَوْلَى؛ لأنَّها المتصرِّفة في مَالِهَا، فاعتُبِرَ إذنُها في قبضه، كما في قبضها ثَمَن مبيعها.

فإن سَلَّم الزَّوج الصَّداقَ لأبيها بغير إذْنِها، لم يَبْرأ الزَّوج بتسليمه له، وترجعُ الزَّوجةُ على الزَّوج؛ لأنَّه مُفَرِّطٌ، ثمَّ يرجع هو على الأبِ بما غَرِمَه.

أمَّا إن كانت المرأةُ غير رَشِيدةٍ، فإنَّ الزَّوج يُسلِّم صَداقها إلى وَلِيِّها الذي

ص: 212

يلي مَالَها؛ لأنَّ الصَّداق مالٌ، فأشبه ثَمَن مبيعها.

- إذا تزوَّج العبدُ بإذْنِ سيِّدِه على صداقٍ مسمًّى صحَّ، وعلى سيِّدِه المَهْر والنَّفَقَةُ والكِسْوَةُ والمَسْكَنُ؛ لأنَّ ذلك حقٌّ تعلَّق بعقدٍ بإذن سيِّده، فتعلَّق بذمَّة السيِّد.

وإن تزوَّج بلا إذْنِه لم يصحَّ النكاح؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَهُوَ عَاهِرٌ)[رواه أحمد، والترمذي].

ص: 213

‌فصل

في تملُّك الصَّداق

- تملِكُ الزَّوجةُ جميع الصَّداق المُسَمَّى -حالًّا كان أو مؤجَّلًا- بمجرَّد العقد؛ لما جاء في حديث سهل بن سعدٍ الساعديِّ رضي الله عنه في قصَّة المرأة الواهبة نفسها، وفيه:(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إِيَّاهُ؟ فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي هَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِزَارَكَ جَلَسْتَ وَلَا إِزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا)[رواه أحمد، وأبو داود]؛ فقوله هذا يدلُّ على أنَّ جميع الإزار للمرأة، ولا يبقى للرَّجُل فيه شيء.

- إذا كان الصَّداق مُعَيَّناً؛ فللزوجة نماؤه المتَّصل والمنفصل، ولها حقُّ التصرُّف فيه، وعليها زكاته، وضمانه، ونقصُه، سواء قبضته أو لم تقبضه، إلَّا إذا منعها قبضه؛ لأنَّ هذه الأمور كُلَّها من مقتضيات الملك؛ فكان كسائر أملاكها. ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخَرَاجُ بِالضَّمَانِ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه].

فإن منعها الزَّوج قَبْض صَداقها فتَلِفَ بغير فِعْلِها، أو نَقَصَ بعَيبٍ، فإنَّ ضمانه عليه؛ لأنَّه بمنزلة الغاصب. أمَّا إن زاد الصَّداق فالزيادة لها.

- وإن كان الصَّداق غير معيَّنٍ؛ كشَقَّةٍ في عمارةٍ، مَلَكَت الصَّداق بالعقد أيضاً، إلَّا أنَّها لا تملك التصرُّف فيه، ولا يدخل في ضمانها إلَّا بقَبْضِه أو تعيينه، قياساً على التصرُّف في المبيع قبل قَبْضِه أو تعيينه.

ص: 215

- إذا قَبَضَتِ المرأة صَداقها، ثمَّ طلَّقها الزَّوج قبل الدُّخول، وكان الصَّداق باقياً بحاله فإنَّ لها نِصْفَه، ويرجع الزَّوج عليها بنِصْفِه الآخر؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237].

فإن زاد الصَّداق زيادةً منفصلةً؛ مِثْل أن يجعل صداقها غنماً، فحَمَلَت عندها ووَلَدَت، فالزيادة التي نتجت تكون للزوجة؛ لأنَّه نماءُ مِلْكِها، ويرجع في نصف الأصل؛ لعدم ما يمنعه.

أمَّا إن زاد الصَّداق زيادة متَّصلةً؛ مِثْل أن تَسْمَن الأغنامُ التي أَصْدَقها إيَّاها، وكانت المرأة غير مَحجورٍ عليها، خُيِّرت بين دَفْع نِصْف المَهْر زائداً، وبين دَفْع نِصْف قيمته يوم العَقْد إن كان متميِّزاً. فإن كان غير متميِّزٍ فللزَّوج نِصْف قيمة المَهْر يوم الفُرْقَة على أدنى صفةٍ من وقت العَقْد إلى وقت القَبْض.

فإن كانت المرأة محجوراً عليها، فلا يعطيه وليُّها إلَّا نِصْف القيمة حال العَقْد إن كان متميِّزاً، وإن لم يكن متميِّزاً فيعطيه نصف القيمة يوم الفُرْقَة على أدنى صفةٍ من وقت العَقْد إلى وقت القَبْض.

- إذا تصرَّفت المرأة في الصَّداق ببيعٍ، أو هبةٍ مقبوضةٍ، أو رَهْنٍ، ونحو ذلك، امتنع الرجوع في نِصْفِه؛ لأنَّ تصرُّفها فيه ينقل المِلْك، أو يمنع المالك من التصرُّف، ويرجعُ الزَّوج عليها في المِثْليِّ بنِصْف مِثْله، وفي المُتَقَوَّم بنِصْف قيمته يوم العَقْد.

ص: 216

* من بيده عُقْدَة النكاح:

الذي بيده عُقْدةُ النكاح في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]: هو الزَّوج لا وليُّ الصغيرة؛ لما روى شُريحٌ قال: قال لي عليٌّ: (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ؟ قُلْتُ: وَلِيُّ المَرْأَةِ. قَالَ: لَا، بَلْ هُوَ الزَّوج)[رواه الدارقطني].

ولأنَّ الذي بيده عقدةُ النكاح بعد العقد هو الزَّوج؛ لتمكُّنه من قطعه وإمساكه، وليس إلى الوليِّ منه شيء.

* التصرُّف بالصَّداق قبل الدُّخول:

- إذا طلَّق الزَّوج قبل الدُّخول، فأيُّ الزَّوجين عفا لصاحبه عمَّا وجب له من المَهْر، وهو جائزُ التصرُّف في مالِهِ، بَرِئَ منه صاحبُه؛ للآية السابقة، ولقوله سبحانه:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4].

- وإذا وهبت الزَّوجة صَداقها قبل فُرْقَةِ زوجها لها، أو باعته لزوجها، ثمَّ حصل ما يوجب للزَّوج نِصْفَ المَهْر -كالطلاق أو الخُلْع قبل الدُّخول-، رَجَعَ الزَّوج عليها ببَدَل نِصْف المَهْر.

- وإن حصل بعد هبتها إيَّاه، أو بيعها له ما يُسْقِطُ المَهْرَ -كرِدَّتها قبل الدُّخول-، رَجَع الزَّوج عليها ببَدَل جميع المَهْر؛ لأنَّ الجهة التي استحقَّ بها الزَّوج الصَّداق حال الطلاق أو الردَّة غير الجهة التي استحق بها أوَّلًا؛ وهي الهبة أو البيع، كما لو أَبْرأ إنسانٌ آخر من دَيْنٍ، ثمَّ ثبت عليه مِثْلُه من وجهٍ آخر.

ص: 217

‌فصل

فيما يُسقطُ الصَّداق ويُنصِّفه ويُقرِّره

‌أوَّلًا: ما يَسْقطُ به المَهْر كُلُّه:

يسقطُ الصَّداقُ كُلُّه، ولا يجبُ للمرأة شيءٌ بدلًا عنه، لا مُتْعَةٌ ولا غيرها، وذلك في الأحوال التالية:

أ - الفُرْقَةُ باللِّعان قبل الدُّخول؛ لأنَّ الفسخ من قِبَلِها، وهو لا يكون إلَّا إذا تمَّ لِعانُها.

ب- فَسْخُ الزَّوج النكاح قَبْل الدُّخول لعَيْبٍ في المرأة يوجِبُ الفَسْخ؛ كأن تكون رَتْقاءَ، أو بَرْصاءَ، أو جَذْماءَ؛ لأنَّ المُعَوَّضَ قد تَلِفَ قبل تَسَلُّمه، فسقط العِوَضُ كُلُّه.

ج- الفُرْقةُ من قِبَلها، ولها صور عدَّة:

1) أن تُسلِمَ وزوجُها كافرٌ، أو ترتدَّ وزوجُها مُسلمٌ، وذلك قَبْل الدُّخول.

2) أن تَفْسَخَ النكاحَ قَبْل الدُّخول لعَيْبٍ في الزَّوج، أو إعْسارِه، أو عدم وَفائه بشَرْطٍ من شروط النكاح، أو اختيارها الفَسْخ لنَفْسِها بجَعْل الزَّوج لها ذلك، بسؤالها إيَّاه.

3) أن تُرضِع من ينفسخُ برضاعها نكاحها؛ كأن تُرضِع زوجةً صغيرةً له قبل الدُّخول.

ص: 219

فيسقطُ المهر في الصور السابقة؛ لحصول الفُرْقَة بفعلها، وهي المستحقِّة للصداق، فسقط.

‌ثانياً: ما يَتَنَصَّفُ به المَهْر:

يَتنصَّف الصَّداقُ في الأحوال التالية:

أ - إذا كانت الفُرْقَة من قِبَل الزَّوج قبل الدُّخول؛ وله صور:

1) طلاق الزَّوج لزوجته قبل الدُّخول.

2) خُلْع الزَّوج إيَّاها قبل الدُّخول، ولو بسؤالها إيَّاه.

3) إسلام الزَّوج قبل الدُّخول أو الخَلْوَة، إذا كانت الزَّوجة غير كتابيَّة.

4) ردَّة الزَّوج عن الإسلام قبل الدُّخول والزَّوجة مسلمة.

5) وطء الزَّوج أمَّ زوجته أو ابنتها قبل الدُّخول بشبهةٍ أو زِنًا.

فتأخذ الزوجة -فيما سبق من الصور- نصف الصَّداق؛ لأنَّ الفُرْقَة حصلت قبل الدُّخول بسببٍ من الزَّوج، فاستحقَّت المرأة نصف المهر، كما في الطلاق، والباقي يقاس عليه.

ب- إذا كانت الفُرْقَة بسببٍ أجنبيٍّ؛ كما لو أَرْضَعَت أختُ الزَّوج أو أُمُّه زوجتَه الصغيرة رَضاعاً مُحَرِّماً قبل الدُّخول، وكما لو وَطِئَ ابنُ الزَّوج أو أبوهُ الزَّوجة قبل الدُّخول؛ والأصل في ذلك كلِّه قوله تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]. فثبت في الطلاق، والباقي قياساً عليه؛ لأنَّه في معناه.

ص: 220

ولأنَّه لا فعل للزَّوجة في ذلك حتَّى يسقط به صداقها.

وأمَّا تنصُّفه في الخُلْع؛ فلأنَّ المُغَلَّب فيه جانب الزَّوج، بدليل أنَّ بذل عِوَضِه يصحُّ منها ومن غيرها، فصار الزَّوج كالمنفرد به.

‌ثالثاً: ما يَتَقَرَّرُ به المَهْر كاملًا:

يَتقرَّرُ المَهْر كاملاً في الحالات التالية:

أ - موتُ أحد الزَّوجين، ولو بقَتْل أحدهما الآخر، أو قَتْل نفسه؛ لحديث عَلْقَمة -السابق- قال: (أُتِيَ عَبْدُ اللهِ فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ فَتُوُفِّيَ وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا. قَالَ: فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَرَى لَهَا مِثْلَ صَدَاقِ نِسَائِهَا،

، فَشَهِدَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الأَشْجَعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ بِمِثْلِ هَذَا) الحديث. ولأنَّ الموتَ أوجبَ العِدَّة، فوجب لها كمال المهر.

ب- وَطْءُ الزَّوج زوجتَه وهي حَيَّةٌ، ولو في الدُّبُر؛ لأنَّه قد وُجِدَ استيفاء المقصود، فاستقرَّ العِوَضُ.

ج- لمسُ الزَّوج زوجته بشهوةٍ، ولو لم يخلُ بها.

د- نظرُ الزَّوج إلى فَرْج زوجته بشهوةٍ، ولو لم يخلُ بها.

هـ- تقبيلُ الزَّوج زوجته ولو بحضرة الناس؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]،

ص: 221

وحقيقة اللَّمس الْتقاءُ البَشَرتَين. ولأنَّ اللَّمس والنظر والتقبيل نوع استمتاعٍ، فأُجْري مَجْرَى الوَطْءِ، وقد نال بها الزَّوج شيئاً لا يُباح لغيره.

و- طلاقُ الزَّوج لها وهو في مَرَض مَوْتِه المَخُوف الذي تَرِثُه فيه؛ معاملةً له بنقيض قصدِه، ولأنَّه يجب عليها عِدَّة الوفاة، فوجب كمال المَهْر، ما لم تتزوَّج قبل موته، أو ترتدَّ.

ز- خَلْوةُ الزَّوج بزوجته وإن لم يحصل بينهما وَطْءٌ؛ لقول زُرارَة بن أَوْفَى قال: (قَضَى الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ المَهْدِيُّونَ أَنَّهُ مَنْ أَغْلَقَ بَابًا، وَأَرْخَى سِتْرًا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ المَهْر)[رواه عبد الرَّزاق، وابن أبي شيبة]. فإن منعته من الوطء لم يتقرَّر كامل المَهْر؛ لعدم التمكين التام.

ويُشترط للخَلْوة المُقرِّرة للمَهْر أن تكون مِنْ مُميِّزٍ، يَطَأُ مِثْلُه؛ وهو ابن عشر سنين، والزَّوجة ممَّن يُوطَأُ مِثْلُها وهي ابنة تسع سنين.

ص: 222

‌فصل

في اختلاف الزَّوجين في الصَّداق

إذا وقعَ خِلافٌ في الصَّداق بين الزَّوجين، أو وَرَثَتِهما، أو أحد الزَّوجين ووَرَثةِ الآخر، أو الزَّوج ووليِّ صغيرةٍ، أو وليِّ الزَّوج الصغير مع الزَّوجة الرشيدة، فلا يخلو ذلك من أحوال:

أ - أن يختلفا في قَدْر الصَّداق، أو عَيْنِه، أو جِنْسِه، أو صِفَتِه، أو فيما يستقرُّ به، وليس لأحدهما بيِّنة؛ فالقول قول الزَّوج أو من يقوم مقامه بيمينه؛ لأنَّ الزَّوج منكرٌ؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ)[رواه البيهقي].

ب- أن يختلفا في قَبْض الصَّداق، أو تَسْمية مَهْر المثل، فالقول قول الزَّوجة، أو من يقوم مقامها مع اليمين؛ لأنَّ الأصل عدم القَبْض، والظاهر التَّسمية.

- إذا تزوَّج رجلٌ امرأةً على صَداقَيْن: سِرٍّ وعلانيةٍ، وكان أحدُهما زائداً عن الآخر، أُخِذَ بالصَّداق الزائد مطلقاً؛ لأنَّه إن كان السِّرُّ أكثر فقد وَجَبَ بالعَقْد، ولم يُسْقِطْه العلانية، وإن كان العلانية أكثر فقد بَذَل لها الزائد فلزمه.

ويَلْحَقُ بالمَهْر كلُّ زيادةٍ بعد العقد ما دامت المرأة في حِبَالِه، فيما يُقرِّر المَهْر كاملاً أو ينصِّفه؛ لقوله تعالى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24]. وتملكُها من حين الزيادة، لا من حين العقد؛ لأنَّ المِلْكَ

ص: 223

يثبت عَقِبَ وجود سببه، وهو الإعطاء، ولا يجوز تقدُّمه على سببه، ولا وجوده في حال عدمه.

فإن طلَّقها قبل الدُّخول، فلها نصفُ الصَّداق الأوَّل، ونصفُ الزِّيادةِ.

* هَدايا الزَّوج:

ما يُهْديه الزَّوج للمرأة قبل العَقْد أو بعده لا يدخل في المَهْر؛ لأنَّ الهديَّة ليست ممَّا يُتَّفق عليها.

فإن أهدى الزَّوج المرأةَ هديَّة قبل العَقْد بناءً على وَعْد أوليائها أن يزوِّجوه، ولم يَفُوا بوَعْدِهم، رجع بهديَّته؛ لأنَّه بَذَلَ الهديَّة في نظير النكاح ولم يُسَلَّم له.

فإن كان الإعراض منه، أو ماتت المرأة قبل العَقْد، فليس له استرجاع ما أعطاهم؛ لأنَّ عدم التَّمام ليس من جهتهم.

وما قبضه أحدُ أقرباء المرأة بسبب النكاح؛ كالذي يعطيه الزَّوج لبعض أقرباء الزَّوجة طُعْمةً، أو كِسْوةً، فحكمه حكم المَهْر فيما يقرِّره، أو ينصِّفه، أو يُسقطه.

وإن أهدى الزَّوج المرأة هديَّة بعد العقد، وحصلت فُرقَةٌ اختياريَّةٌ مُسقِطَةٌ للمَهْر كُلِّه؛ كالفَسْخ بالعَيْب أو فقد الكفاءة، أو اللِّعان قبل الدُّخول، فترجع الهديَّة إليه؛ لأنَّ دلالة الحال أنَّه أهدى بشرط بقاء عقد النكاح، فإذا زال مَلَك الرجوع.

ص: 224

وليس للزَّوج الرجوع في الهديَّة في فُرْقةٍ أو فسخٍ مُقرِّرٍ للمَهْر أو لنصفه؛ لأنَّ زوال العَقْد ليس من قِبَل المرأةِ، وإنَّما هو المُفَوِّت على نفسه.

ص: 225

‌فصل

في تَفْويض المَهْر

‌أوَّلًا: تَعريفُ التَّفْويضِ:

التفويضُ لُغةً: الإهمالُ؛ كأنَّ المَهْر أُهمِل حيث لم يُسمَّ، ويقال للمرأة: المفوِّضة، أو المفوَّضة، بكسر الواو وفتحها.

واصطلاحاً: هو عدمُ تسمية المَهْر للمرأة.

‌ثانياً: أنواعُ التَّفْويضِ:

التفويضُ نوعان:

الأوَّل: تفويضُ بُضْعٍ -وهو الذي ينصرفُ إليه اللَّفظ عند الإطلاق-، ومعناه: أن يزوِّج الأبُ ابنتَه المُجْبَرة أو غيرها بلا مَهْر، أو أن تأذن المرأةُ لوليِّها أن يزوِّجها بلا مَهْر.

الثاني: تفويضُ مَهْر: وهو أن يُجعَل المَهْر إلى رأي أحد الزَّوجين أو غيرهما؛ كأن يقول الوليُّ للزوج: «زوَّجتك بنتي أو أختي على ما شاءت» ، أو «على ما شئتَ» ، أو «على ما شاء فلان» ؛ سواء كان قريباً للزوجين أو أجنبيًّا عنهما.

‌ثالثاً: الأحكامُ التي تترتَّبُ على تَفْويضِ المَهْر:

من زُوِّجت بلا مَهْر، أو بمَهْر فاسدٍ فإنَّه يترتَّب على ذلك ما يلي:

أ - صحَّة عقد النكاح؛ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ

ص: 227

تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236].

ولما ثبت عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه (أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا العِدَّةُ، وَلَهَا المِيرَاثُ. فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الأَشْجَعِيُّ، فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ امْرَأَةٍ مِنَّا مِثْلَ الَّذِي قَضَيْتَ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه].

ب- وجوب مَهْر المِثْل؛ لأنَّها لم تأذن في تزويجها إلَّا على صداق، لكنَّه مجهول، فسقط لجهالته، ووجب به مَهْر المِثْل.

ج- للمرأة مع فَساد المَهْر المُسَمَّى طلبُ فَرْضِه قبل الدُّخول وبعده، فإن امتنع أُجبِرَ عليه؛ لأنَّ النكاح لا يخلو من مَهْرٍ.

د - إذا تَراضى الزَّوجان -جائزا التصرُّف- فيما بينهما على مَهْر كثير أو قليلٍ، صحَّ ولزم، وصار حُكمه حُكم المَهْر المسمَّى في العقد؛ لأنَّه إن فَرَض الزَّوج لها مَهْراً كثيراً، فقد بَذَل لها من ماله فوق ما يلزمه برضاه، وإن فَرَض لها يسيراً فقد رَضِيَت بدون ما يجبُ لها.

هـ- إذا لم يتراضَ الزَّوجان على شيءٍ، فَرَضَ لها الحاكم مَهْر المِثْل؛ لأنَّ الزيادة على مَهْر المِثْل ميلٌ على الزَّوج، والنقص عنه ميلٌ على الزَّوجة، ولا يجوز الميل. ويكون ما فرضه الحاكم ملزماً لهما.

ص: 228

و - إذا فَرَضَ غير الزَّوج والحاكم للزَّوجة مَهْر مِثْلها، فرَضِيَتْه، لم يصحَّ فَرْضُه؛ لأنَّه ليس بزوجٍ ولا حاكمٍ.

ز - إذا فارق الزَّوج زوجته المفوّضة بفُرْقَة مُنصِّفةٍ للصَّداق قَبْل فَرْضِه، أو قبل تراضيهما، فليس للزوجة إلَّا المتعة؛ لعموم قوله تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]، والأمر يقتضي الوجوب.

ح- المتعةُ معتبرةٌ بحسب حال الزَّوج من حيث يَسارُه وإعْسارُه؛ فتجب على الزَّوج بحسب مَقْدِرَته وسَعَتِه؛ لما نصَّت عليه الآية السابقة. وأعلاها خادمٌ إذا كان الزَّوج موسِراً، وأدناها كِسْوةٌ تُجزئها في صلاتها، إذا كان مُعْسِراً؛ لقول ابن عبَّاس رضي الله عنهما:(مُتْعَةُ الطَّلَاقِ أَعْلَاهُ الخَادِمُ، وَدُونَ ذَلِكَ الوَرِقُ، وَدُونَ ذَلِكَ الكِسْوَةُ)[رواه الطبريُّ في «التفسير»].

- تُستحبُّ المتعة لكلِّ مطلَّقةٍ غير المفوّضة؛ لقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241].

- وتسقطُ المتعة في كلِّ موضعٍ يسقط فيه كلُّ المهر. وتجبُ للمفوّضة في كلِّ موضعٍ يتنصَّف فيه المسمَّى.

ص: 229

‌فصل

في المَهْر في النِّكاح غير الصحيح

ينقسمُ النكاحُ غيرُ الصَّحيح إلى:

أ - نكاحٍ فاسِدٍ: وهو النكاح المُختلَف في صحَّته؛ كالنكاح بلا وَلِيٍّ، والنكاح بلا شُهود. فإذا كان النكاح فاسداً؛ فلا يكون للمرأة فيه مَهْر إلَّا إذا خَلا بها أو وَطِئها؛ فيجب لها المَهْر المسمَّى، وإلَّا فلها مَهْر المِثْل إن لم يُسمَّ؛ لما جاء في حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا نُكِحَتِ المَرْأَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ مَوْلَاهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا)[رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه].

ب- نكاحٍ باطلٍ: وهو النكاح المتَّفق على بطلانه؛ كنكاح خامسةٍ وعنده أربعُ نَسْوَة، أو أن ينكح امرأةً متزوِّجةً أو معتدَّةً.

والنكاح الباطل يُوجِبُ مَهْر المثل إذا حصل الوَطْء فيه في القُبُل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها السابق؛ وذلك حيث كانت المرأة تجهل تحريم ذلك، أو تجهل كونها في عدِّةٍ، وإلَّا فلا مَهْر لها؛ لأنَّه زناً يوجبُ الحدَّ.

وإن وطئها في الدُّبر فلا مَهْر لها.

- ويجبُ مَهْر المِثْل أيضاً للموطوءة بشبهةٍ في القُبُل؛ كمن وَطِئَ امرأةً ليست زوجةً له يظنُّها زوجته.

ص: 231

- ويجب مَهْر المِثْل للمُكرَهة على الزِّنا الموطوءة في القُبُلٍ، ولو كانت من مَحارِمه، أو مَيِّتةً. ولا يجب شيء للمُطاوِعَة؛ لأنَّه في المكرَهَة بدل مُتْلَفٍ، والمطاوعة أتلفت بُضْعها برضاها.

فإن كان المزنيُّ بها أَمَةً مُطاوِعَةً أو مُبعَّضَةً؛ فلا يسقط مَهْرها بطواعيَّتها؛ لحقِّ سيِّدها.

* إزالةُ البَكارَة بغير الوَطْء:

- من أزال بكارة امرأةٍ أجنبيَّةٍ بلا وطء، فعليه أَرْشُ البَكارَة -وهو الفَرْق ما بين مَهْر البِكْر والثيِّب-، ولا يجب لها مَهْر المِثْل؛ لأنَّه لم يطأها، وهو إتلافُ جزءٍ لم يَرِدِ الشَّرْع بتقدير عِوَضِه، فيُرْجَعُ فيه إلى الأَرْش كسائر المُتْلَفات.

- وإذا أزال الزَّوجُ البكارةَ بغير وطءٍ -بضَرْبٍ أو دَفْعٍ-، ثمَّ طلَّق قبل الدُّخول، فلا يجب عليه إلَّا نصف المَهْر المُسمَّى؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]. وهذه مطلَّقةٌ قبل المسيس وقبل الخلوةِ.

فإن لم يُسَمَّ المَهْر، فلها المُتْعَة؛ لقوله عز وجل:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236].

* تَزويجُ من نِكاحُها فاسِدٌ:

لا يصحُّ تزويجُ من نكاحُها فاسِدٌ قبل الفُرْقة بطلاقٍ أو فَسْخٍ؛ لأنَّه نكاحٌ

ص: 232

يسوغ فيه الاجتهاد، فاحتيج في التفريق إلى إيقاع فُرْقَةٍ كالصحيح المختلف فيه، ولأنَّ تزويجها من غير فُرْقةٍ يُفضي إلى تسليط زوجين عليها، كُلُّ واحدٍ يعتقد صحَّة نكاحه وفساد نكاح الآخر.

فإن أبى الزَّوج الطلاق، فَسَخَه الحاكمُ؛ لقيامه مقام الممتنع ممَّا وجب عليه.

ص: 233

‌باب الوليمة وآداب الأكل والشرب

وما يتعلق بذلك

‌أوَّلًا: تَعريفُ الوَلِيمَةِ:

الوَليمَةُ لُغةً: تمامُ الشيءِ واجْتِماعُه.

واصطلاحاً: اجتماعٌ لطعامِ عُرْسٍ خاصَّةً. سُمِّيت بذلك لاجتماع الزوجين.

‌ثانياً: حُكمُ طَعام الوَليمَة:

وَليمةُ العُرْس سُنَّةٌ مُؤكَّدةٌ؛ فَعَلَها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَمَرَ بها؛ كما في حديث عبد الرحمن بن عوفٍ حين تَزَوَّج فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ)[رواه البخاري، ومسلم].

ووقتها المستحبُّ موسَّعٌ من عقد النكاح إلى انتهاء أيَّام العُرْس. ويستحبُّ ألَّا تنقص عن شاةٍ؛ للحديث السابق.

‌ثالثاً: حُكمُ إجابَة دَعوةِ الوَليمَة:

الإجابة إلى وليمة العُرْس واجبةٌ في المرَّة الأُولى لمن عيَّنه بالدَّعوة؛ بأن يدعوه في اليوم الأوَّل، وذلك لمن لا عذر له، ولا منكر فيها؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا، وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ)[رواه البخاري ومسلم].

ص: 235

أمَّا إذا لم يُعيِّنه صاحب دعوة الطعام؛ بأن دعاه الجَفَلى كقوله: «يا أيُّها الناس هلمُّوا إلى الطعام» ؛ لم تجب الإجابة.

وفي اليوم الثاني: تُسَنُّ إجابة من عيَّنه الداعي للوليمة.

وفي اليوم الثالث: تكره إجابته.

‌رابعاً: شُروطُ وُجوبِ إجابَة الدَّعْوَة:

تجبُ إجابة الداعي بالشروط التالية:

أ - أن يكون الداعي مسلماً، يَحرمُ هَجْره. فإن كان لا يحرمُ هجره؛ كالمبتدع، والفاسق؛ لم تجب إجابته؛ لأنَّ ذلك من لوازم هجره.

ب- أن يكون كَسْبُ الداعي طَيِّباً حلالًا؛ فإن كان في ماله حرامٌ كُرِهَتْ إجابته؛ كأَكْلِه منه.

وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقِلَّته.

وإن لم يعلم أنَّ في المال حراماً؛ فالأصل إباحة الأكل، وتجب إجابة الدعوة حينئذٍ.

أمَّا لو كان كلُّ ماله حرامٌ؛ حَرُمَت إجابتُه والأكلُ من ماله بلا ضرورة، وحَرَمُت كذلك معاملتُه، وقبولُ هديَّته وهِبَتِه.

ج- أن لا يترتَّب على إجابة الدعوة خَلْوةٌ مُحرَّمةٌ.

ص: 236

‌خامساً: الأَعْذارُ التي تَمنَعُ من إجابَةِ الدَّعوَةِ:

يُعذَر المرءُ بعدم إجابة الدَّعوة في الأحوال التالية:

أ - إذا كان المدعو مريضاً؛ أو مشغولًا بحفظ مالٍ، أو كان في شدَّة حرٍّ أو بَردٍ، أو مَطَرٍ يبلُّ الثياب، أو وَحَلٍ، أو كان أجيراً ولم يأذن له المستأجر؛ لم تجب الدَّعوة.

ب- إذا كان في الدَّعوة منكرٌ؛ كزَمْرٍ، وخَمْرٍ، وآلةِ لَهْوٍ، فلا يجوز له الحضور.

فإن عَلِمَ وقَدَرَ على تغييره؛ حَضَر وجوباً وغَيَّره؛ لأنَّه يجمع بين واجبين: إجابة أخيه المسلم، وإزالة المنكر.

وإن لم يمكنه الإنكار فلا يجوز له الحضور؛ لحديث عمر رضي الله عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلَا يَقْعُدُ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الخَمْرُ)[رواه أحمد].

وإن علم بالمنكر ولم يره ولم يسمعه، فله الجلوس والأكل؛ لأنَّ المحرَّم رؤية المنكر أو سماعه، ولم يوجد. وله الانصراف؛ فيُخيَّر؛ لإسقاط الداعي حرمة نفسه بإيجاد المنكر.

* تنبيهاتٌ لحضور الوَلائِم:

الأوَّل: إن دعاه اثنان فأكثر فتكون إجابته على النحو التالي:

أ - يجبُ عليه إجابة الكُلِّ؛ إن أمكنه الجمعُ بينهم.

ص: 237

ب - إن لم يُمكن الجمع أجاب الأسبق قولاً؛ لوجوب إجابته بدعائه؛ فلا يسقط بدعاء من بعده، ولم تجب إجابة الثاني؛ لأنَّها غير ممكنةٍ مع إجابة الأوَّل.

ج- إن لم يكن سَبْقٌ، أجاب دعوة الأَدْيَن؛ لأنَّه أكرم عند الله. فإن استووا في الدِّين، فالأقرب رَحِماً؛ لما في تقديمه من صِلَتِه.

د - إن استووا في القَرابَة وعَدَمِها؛ فالأقرب جِواراً؛ لما رُوِي أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا اجْتَمَعَ الدَّاعِيَانِ فَأَجِبْ أَقْرَبَهُمَا بَابًا، فَإِنَّ أَقْرَبَهُمَا بَابًا أَقْرَبَهُمَا جِوَارًا

) [رواه أحمد، وأبو داود]. ولأنَّه من باب البِرِّ؛ فيُقدَّم لهذه المعاني.

هـ- إن استووا في ذلك، فإنَّه يُقْرَعُ بينهم؛ فيُقدَّم من خرجت له القُرْعَة؛ لأنَّها تُميِّزُ المُستحِقَّ عند استواء الحقوق.

الثاني: إن كان المدعوُّ صائماً تطوُّعاً، وكان في تَرْكِ الأَكْل كَسْرٌ لقلب الداعي؛ استُحبَّ له أن يُفطر؛ لأنَّ في أَكْلِه إدخالَ السُّرور على قلب أخيه المسلم، لما روى أبو سعيد الخُدْريُّ رضي الله عنه قال:(صَنَعْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا، فَأَتَانِي هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمَّا وُضِعَ الطَّعَامُ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ وَتَكَلَّفَ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَفْطِرْ وَصُمْ مَكَانَهُ يَوْمًا إِنْ شِئْتَ)[رواه البيهقي].

الثالث: إن كان المدعوُّ صائماً صوماً واجباً فإنَّه لا يأكل؛ لأنَّه يحرُمُ قَطْعُه؛ لقول الله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. ولما روى أبو هريرة رضي

ص: 238

الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ، فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا، فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا، فَلْيَطْعَمْ)[رواه مسلم].

وإن أحبَّ المجيبُ دعا وانصرف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق: (فَإِنْ كَانَ صَائِمًا، فَلْيُصَلِّ)، والصلاة: الدعاء.

ويستحبُّ إعلامُهم بصيامه؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ)[رواه مسلم]. وليعلموا عُذْرَه؛ وتزول التُّهْمة.

الرابع: يُكرَه النِّثارُ والتقاطُه؛ والنِّثار: ما يُرْمى ويُنثَرُ في الهواء من طعامٍ، أو دراهم، ونحو ذلك؛ فيُكرهُ؛ لما فيه من التزاحم والدَّناءة، وامتهان النِّعمة، ولأنَّه شبيهٌ بالنُّهْبَة؛ فعن عبد الله بن زيدٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(أَنَّهُ نَهَى عَنِ النُّهْبَةِ وَالمُثْلَةِ)[رواه البخاري]. والنُّهْبة: أَخْذُ الشيء من أحدٍ عياناً قَهْراً.

ومن أخذ شيئاً من النِّثار، أو وقع في حِجْره فهو له؛ لأنَّ مالكه قصد تمليكه لمن حازه أو حصل في حجره، فيملكه بذلك.

ص: 239

‌آداب الأكل والشرب

‌أوَّلًا: سُنَنٌ ومُسْتحبَّاتٌ في الطَّعامِ والشَّرابِ:

1) تُسنُّ التَّسمية جَهْراً على الطعام والشراب؛ لحديث عائشة رضي الله عنه عنها -مرفوعاً-: (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ، فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ)[رواه أبو داود، والترمذي]، وقيس عليه الشرب.

فيقول: «بسم الله» . وإن زاد: «الرحمن الرحيم» كان حَسَناً؛ فإن كانوا جماعة سمُّوا كُلُّهم.

ويُسمِّي المُميِّز؛ لحديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له:(يَا غُلَامُ، سَمِّ اللّاهَ)[رواه البخاري، ومسلم].

ومن لا عقل له ولا تمييز يُسمَّى عنه؛ لتعذُّر ذلك منه.

ويُسمِّي الآكل والشارب عند كلِّ ابتداءٍ، ويحمدُ عند كلِّ قَطْعٍ.

2) يُسنُّ للآكل أن يجلس على رجله اليُسرى مفترشاً لها، وينصب اليُمنى، أو يتربَّع؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم جَثَا عند الأكل؛ فعن عبد الله بن بُسْر رضي الله عنه قال:(أَهْدَيْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَاةً، فَجَثَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَأْكُلُ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا، وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا)[رواه أبو داود، وابن ماجه]، وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا آكُلُ مُتَّكِئاً)[رواه البخاري]؛ أي: لا آكل أَكْل من يريد الاستكثار من الطعام

ص: 241

ويقعد متمكِّناً، بل أقعد مستوفزاً وآكل قليلاً.

3) يُسنُّ أن يأكل بيمينه بثلاث أصابع، ممَّا يليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعُمُر بن أبي سَلَمة: (

وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ) [رواه البخاري ومسلم]. وحديث كعب بن مالك قال:(كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا)[رواه مسلم].

4) يُستحبُّ له أن يمسحَ الصَّحْفَةَ التي أَكَل فيها؛ لحديث جابرٍ رضي الله عنه، (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ، وَقَالَ: إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّهِ الْبَرَكَةُ)[رواه مسلم].

5) يُستحبُّ له أن يأكلَ ما تناثر منه، أو سقط من اللُّقم بعد إزالة ما عليه من الأذى؛ لحديث جابرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا، فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ

) [رواه مسلم].

6) يُستحبُّ أكْلُه عند حضور ربِّ الطعام وإذْنِه.

7) يُسنُّ لَعْقُ الأصابع بعد الفراغ من الأَكْل قبل مَسْحِها؛ لحديث جابر رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا، فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، وَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ)[أخرجه مسلم].

8) يُستحبُّ لمن يشرب الماء أن يشربه مقطَّعاً ثلاثاً؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم كان يفعل

ص: 242

ذلك، ويقول:(إِنَّهُ أَرْوَى، وَأَبْرَأُ، وَأَمْرَأُ)[رواه مسلم]. ولا يتنفَّس في الإناء؛ لما روى أبو قتادة رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ)[رواه البخاري، ومسلم]. ولئلَّا يعود إلى الإناء شيء فيُقذِّره.

‌ثانياً: مَكْروهاتُ الأَكْلِ والشَّرابِ:

1) يُكره نَفْخُ الطعام والشَّراب، ولو لتبريده؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:(نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الإِنَاءِ، أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي].

2) يُكره أَكْلُ الطعام حال كونه حارًّا؛ لأنَّه لا بَرَكَة فيه، وللمصلحة؛ حيث إنَّ أَكْلَ الطعام الحارِّ قد يؤذي الآكِلَ؛ إذ قد يُصيب الحَلْقَ، أو المَعِدَة بجُرْحٍ لا يَنْدَمِل؛ فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما:(أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا ثَرَدَتْ غَطَّتْهُ شَيْئًا حَتَّى يَذْهَبَ فَوْرُهُ ثُمَّ تَقُولُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ)[رواه أحمد، وابن حبَّان]. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (لَا يُؤْكَلُ طَعَامٌ حَتَّى يَذْهَبَ بُخَارُهُ)[رواه البيهقي].

3) يُكره أن يأكُلَ أو يَشْرَب بشماله بلا ضرورة؛ لأنَّه تشبُّهٌ بالشيطان؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ)[رواه مسلم].

ص: 243

4) يُكره أكْلُه من أعلى الصَّحْفَة أو وَسْطِها؛ لحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَأْكُلْ مِنْ أَعْلَى الصَّحْفَةِ، وَلَكِنْ لِيَأْكُلْ مِنْ أَسْفَلِهَا، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ مِنْ أَعْلَاهَا)[رواه أبو داود، والترمذي].

5) يكره أن يأكل ممَّا يلي غيره إن كان الطعام نوعاً واحداً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر ابن أبي سَلَمَة رضي الله عنه: (

وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ

) [رواه البخاري، ومسلم].

فإن كان أنواعاً، أو فاكهةً، أو كان يأكل وحده، فلا بأس.

6) يُكره نفض يده في القَصْعَة؛ لما فيه من الاستقذار.

7) يُكره تقديم رأسه إلى القَصْعَة عند وضع اللُّقْمَة في فمه؛ لأنَّه ربما سقط منه شيءٌ فيها فيُقْذِّرها.

8) يُكره أَكْلُه متَّكئاً؛ لحديث أبي جُحَيفة رضي الله عنه -السابق- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَا آكُلُ مُتَّكِئاً)[رواه البخاري].

9) يُكره أَكْلُه مضطجعاً؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ مَطْعَمَيْنِ: عَنِ الجُلُوسِ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الخَمْرُ، وَأَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ وَهُوَ مُنْبَطِحٌ عَلَى بَطْنِهِ)[رواه أبو داود].

10) يُكره أَكْلُه كثيراً بحيث يؤذيه الطعام، أو قليلًا بحيث يضرُّه؛ لحديث

ص: 244

المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ

) الحديث [رواه أحمد، والترمذي]. ولحديث: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَاَر)[رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه].

فإن لم يؤذِهِ الأكل الكثير جاز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: (اشْرَبِ -أي من اللَّبَنَ- فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: اشْرَبْ، حَتَّى قَلْتُ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلكاً)[رواه البخاري].

11) يُكره الشُّرْب من فَمِ السِّقاء؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ)[رواه البخاري].

12) يُكره الشُّرْب من ثُلْمَة الإناء؛ لما روى أبو سعيدٍ الخُدريُّ رضي الله عنه قال: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنِ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ القَدَحِ)[رواه أحمد، وأبو داود]. والثُّلْمة: هي الكَسْر الذي يكون في أحد جوانب القدح من أعلاه، الذي تُوضَع عليه الشِّفاهُ للشُّرْب.

‌ثالثاً: آدابُ الانْتِهاءِ مِنَ الطَّعامِ:

1) يُسنُّ أن يحمد الله تعالى جَهْراً إذا فَرَغَ من أَكْلِه أو شُربِه؛ لما روى أنسُ ابن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا)[رواه مسلم].

ويقول: «الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورَزَقَنِيه من غير حَوْلٍ منِّي ولا

ص: 245

قوَّةٍ»؛ لحديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ أَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ قَالَ: الحَمْدُ لِلّاهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ، وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)[رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه].

2) ويُستحبُّ أن يدعوَ لصاحبِ الطعام؛ لما روى أنسٌ رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ، فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ المَلَائِكَةُ)[رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه]. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ)[رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي].

ص: 246

‌فصل في آداب النكاح

1) يُسنُّ إعلان النكاح وإظهاره؛ لحديث عبد الله بن الزُّبير رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(أَعْلِنُوا النِّكَاحَ)[رواه أحمد، وابن حبَّان]. ولحديث محمَّد بن حاطبٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَصْلُ مَا بَيْنَ الحَلَالِ وَالحَرَامِ: الدُّفُّ، وَالصَّوْتُ فِي النِّكَاحِ)[رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه].

2) يُسنُّ الضَّرْب بدُفٍّ في النكاح للنِّساء والرِّجال

(1)

، ولا يكون فيه حِلَقٌ ولا صُنوجٌ؛ وهي: ما يُجعَلُ في إطار الدُّفِّ من النُّحاس المُدَوَّر صِغاراً.

3) تَحرُمُ كُلُّ مَلْهاةٍ سوى الدُّفِّ؛ كمِزْمارٍ، وطُنْبورٍ، وجُنْكٍ، وعُودٍ، ورَبابٍ.

4) لا بأس بالغَزَل في العُرْس، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار:

أتيناكم أتيناكم

**

فحيُّونا نُحيّيكم

ولولا الذهب الأحمر

**

لما حلّت بواديكم

ولولا الحبَّة السوداء

**

ما سرَّت عذاريكم

[رواه أحمد، وابن ماجه]

(1)

(ذهب في «الإقناع» ، و «الزاد» ، و «الدليل» إلى كراهة الضرب بالدُّفِّ في النكاح للرِّجال، وهو اختيار ابن حمدان في «الرعاية» ، والموفَّق ابن قدامة، حيث خصَّصاه بالنساء. وقال في «الفروع»:«وظاهر نصوصه، وكلام الأصحاب: التسوية» . وهو ما ذهب إليه في «المنتهى» و «الغاية» .

ص: 247

5) يُستحبُّ أن يُعلَنَ الخِتان، وقدومُ الغائب، ونحو ذلك، بالدُّفِّ غير الصارخ؛ قياساً على إظهار الزواج.

ص: 248

‌باب عِشرة النساء

‌أوَّلًا: تَعريفُ العِشْرَة:

العِشْرَة لُغةً: بِكسر العين؛ اسمٌ من المُعاشَرَةِ والتَّعاشُرِ، وهي المُخالَطَةُ.

واصطلاحاً: ما يكون بين الزَّوجين من الأُلْفَةِ والمُؤانَسَةِ، والانْضِمام والاجتماع.

‌ثانياً: أحكامُ عامَّةٌ في عِشْرَة النِّساءِ:

أ - يلزم كلًّا من الزَّوجين معاشرة الآخر بالمعروف؛ من الصُّحبة الجميلة، وكفِّ الأذى؛ لقوله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقوله عز وجل:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً)[رواه مسلم].

ب- ينبغي للزَّوج إمساك زوجته مع كراهته لها؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]، قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما:«ربما رُزق منها ولداً، فجعل الله فيه خيراً كثيراً» .

ج- حقُّ الزَّوج على زوجته أعظمُ من حقِّها عليه؛ لقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ

ص: 249

عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228].

وعن قَيْس بن سَعْدٍ رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لِأَزْوَاجِهِنَّ؛ لِمَا جَعَلَ اللهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنَ الحَقِّ)[رواه أبو داود].

د - على الزَّوج أن يكون غيوراً من غير إفراط؛ لحديث جابر بن عَتيك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللهُ، وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللهُ، وَمِنْ الخُيَلَاءِ مَا يُحِبُّ اللهُ، وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللهُ؛ فَالْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّ اللهُ الْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَالْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُ اللهُ الْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ)[رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي].

هـ- يُكرَهُ مَطْلُ كُلِّ واحدٍ من الزَّوجين بما يلزمُه للزَّوج الآخر مع قدرته؛ من نفقةٍ، أو خدمةٍ، أو وطءٍ، ونحو ذلك من الواجبات، ولا يظهر الكَراهة لبَذْلِه، بل يُظهر البِشْر والطَّلاقة.

‌ثالثاً: حُقوقُ الزَّوجةِ:

للزَّوجة على زوجها حقوقٌ يجب أن يؤدِّيها إليها، وهي:

أ - النَّفَقَة وتوابعها؛ لما روى جابرٌ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ)[رواه مسلم]. وسيأتي الكلام على النفقة وتوابعها مفصَّلًا في كتاب النَّفقات.

ص: 250

ب- الوَطْء مرَّةً في كُلِّ ثُلُث سَنَةٍ إن قدر على ذلك، بطلب الزَّوجة؛ مسلمةً أو ذِمِّيةً؛ لأنَّ الله تعالى قدَّر ذلك بأربعة أشهر في حقِّ المُولِي، فكذلك في غيره؛ لأنَّ اليمين لا تُوجِبُ ما حَلَف عليه، فدلَّ على أنَّ الوَطْء واجبٌ بدونها؛ فإن سافر زوجها فوق نصف السَّنَةِ في غير حَجٍّ، أو في غير غَزْوٍ واجِبَيْن؛ أو طَلَبِ رِزقٍ يحتاجه، وطَلَبَت زوجتُه قُدومه، وقَدِرَ على القُدوم، لِزَمَه ذلك؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ لِحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رضي الله عنهما: كَمْ أَكْثَرُ مَا تَصْبِرُ المَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا؟ فَقَالَتْ: سِتَّةَ أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.

فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَا أَحْبِسُ الجَيْشَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا) [رواه البيهقي].

فإن أَبَى ذلك الواجب من مَبيتٍ أو وَطْءٍ أو قُدومٍ بلا عُذرٍ؛ فرَّق الحاكم بينهما بطَلَبِها ذلك؛ لأنَّه ترك حقًّا عليه يتضرَّر به، فأشبه المُولِي.

ج- المبيت ليلةً من أربعٍ إن كانت حُرَّةً وطلبت منه ذلك، والقَسْم لها إن كان معه غيرها؛ لما روى الشعبيُّ قال:(جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَتْ: زَوْجِي خَيْرُ النَّاسِ يَقُومُ اللَّيْلَ، وَيَصُومُ النَّهَارَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ أَحْسَنْتِ الثَّنَاءَ عَلَى زَوْجِكَ. فَقَالَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ: لَقَدِ اشْتَكَتْ فَأَعَرَضَتِ الشَّكِيَّةَ. فَقَالَ عُمَرُ: اخْرُجْ مِمَّا قُلْتَ. قَالَ: أَرَى أَنْ تُنْزِلَهُ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، وَلَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ)[رواه عبد الرزاق].

ص: 251

‌رابعاً: شُروطُ تَسْليم الزَّوجةِ نَفْسَها لبيت زَوْجِها:

إذا تمَّ عَقْدُ الزواج بالمرأة وجب على المرأة تسليم نفسها لبيت زوجها، وذلك إذا توفَّرت الشروط التالية:

أ - أن تكون الزَّوجة حُرَّةً؛ لأنَّ الأَمَة لا يجب تسليمها إلَّا بالليل؛ إذ هي مملوكةٌ عُقِد على إحدى منافعها، فلم يلزم تسليمها في غير وقتها، والحُرَّة ليست كذلك.

ب - أن يكون زوجها قد طَلَبها للمَجيء إلى بيته، أو طلبت هي ذلك. كما يجبُ تسليمها الصَّداقَ إن طَلَبَته؛ لأنَّه بالعقد يستحقُّ الزَّوج تسليم المعوَّض، كما تستحقُّ المرأة تسليم العِوَض، كما في عقد الإجارة.

ج- أن يُمكن الاستمتاع بها؛ كبنت تِسْع سنوات؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بَنَى بِعَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ تَسْعِ سِنِينَ [رواه مسلم]. ولأنَّها ليست محلًّا للاستمتاع.

وإن كانت ابنة تِسْع سنوات لكنَّها نِضْوَةُ الخِلْقَة (مهزولة الجسم)؛ ويُخشى عليها من الوَطْءِ: الإفضاءُ، دُفِعَت إليه، لكنَّه يُمنَعُ من وَطْئها؛ لحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)[رواه ابن ماجه]، ويَسْتَمْتِع بها فيما دون الفَرْج؛ ولا يثبتُ خيارُ الفَسْخ، وعليه النفقة؛ لأنَّ منْعَها لنفسها لعُذْرٍ.

د - ألَّا تشترط في العَقْد البقاء في دارها؛ فإن شَرَطَتْه فلها الفَسْخُ إذا نَقَلَها

ص: 252

عنها؛ للزوم الشَّرْط.

‌خامساً: الحالاتُ التي لا يَجبُ أن تُسلِّم المرأةُ نَفْسَها لبيت زَوْجِها:

لا يلزم الزوجة ولا وليَّها تسليمها إلى بيت زوجها قبل الدخول، وذلك في الحالات التالية:

أ - إن طَلَبَها زوجُها وهي مُحرِمَةٌ بحَجٍّ أو عُمْرةٍ.

ب- إن طَلَبَها زوجُها وهي حائض، حتَّى لو وَعَدَها وقال لها: لن أَطَأَكِ.

ج- إذا كانت مريضة مَرَضاً يُرجى زوالُه.

د - إذا كانت صغيرةً لا تتحمَّل الوطء؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)؛ حيث إنِّ وَطْأها وهي مريضة، أو صغيرة سيُلْحِقُ الضَّرَر بها؛ فلِذا نهى الشارع عن ذلك عن طريق العموم.

فهذه الأعذار تمنع الاستمتاع بها، ويُرجى زوالها؛ أشبه ما لو طلب تسليمها في نهار رمضان.

فإن طرأ الإحرام، أو المرض، أو الحيض بعد الدخول فليس لها منع نفسها من زوجها ممَّا يُباح له منها.

ص: 253

‌فصل

في آداب الجِماع

‌أوَّلًا: ما يُسنُّ أثناءَ الجِماع:

أ - أن يُلاعب الزوج زوجته قبل الوَطْء؛ لتنهض شهوتها، فتنال من لذَّة الجماع مثل ما يناله.

ب- أن يقول عند الوطء: «بسم الله، اللَّهُمَّ جَنِّبنا الشيطانَ، وجَنِّب الشيطان ما رَزَقْتَنا» ؛ لما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ حِينَ يَأْتِي أَهْلَهُ: بِاسْمِ اللّاهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، ثُمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ، أَوْ قُضِيَ وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا)[رواه البخاري، ومسلم]. وهذا مسنونٌ للزَّوجين.

ج- أنْ تتَّخِذَ المرأةُ خِرْقَةً تُناولها للزَّوج بعد فراغه من الجماع؛ لقول عائشة رضي الله عنها: (يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ عَاقِلَةً أَنْ تَتَّخِذَ خِرْقَةً، فَإِذَا جَامَعَهَا زَوْجُهَا نَاوَلَتْهُ فَيَمْسَحُ عَنْهُ، ثُمَّ تَمْسَحُ عَنْهَا، فَيُصَلِّيَانِ فِي ثَوْبِهِمَا ذَلِكَ مَا لَمْ تُصِبْهُ جَنَابَةٌ)[رواه البيهقي].

‌ثانياً: ما يُباحُ أثناءَ الجِماع:

أ - يُباحُ للزَّوج أن يُجامع زوجته كلَّ وقتٍ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَاتَ

ص: 255

غَضْبَانَ عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا المَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ) [رواه البخاري، ومسلم].

وله أن يُجامعها على أيِّ صفةٍ كانت، ويباشرها من أيِّ جهةٍ عدا الدُّبُر؛ لاختصاص التحريم بالدُّبُر دون ما سواه؛ لقوله تعالى:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، قال جابرٌ رضي الله عنه:«مَنْ بَيْنِ يَدَيْهَا، وَمِنْ خَلْفِهَا، وَلَا يَأْتِيهَا إِلَّا فِي المَأْتَى» [رواه النسائي في «الكبرى»، وابن حبَّان، والبيهقي].

ب- إذا كان الزوجُ يُضرُّ بزوجته أثناء الجماع؛ فلا يجوز له أن يُجامعها حينئذٍ؛ لأنَّه ليس من المعاشرة بالمعروف.

وليس له أن يُشْغِلَها عن فَرْضٍ لأجل الجماع.

ج- يَحرُمُ على الزَّوجة أن تمتنع عن زوجها حيث لم يضرَّها، ولم يُشْغِلْها عن فَرْضٍ، ولو كانت على تَنُّورٍ، أو ظهر قَتَبٍ (رَحْلٌ صغيرٌ على قَدْر سَنام البعير)؛ لحديث طَلْق بن عليٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ مِنْ امْرَأَتِهِ حَاجَةً، فَلْيَأْتِهَا وَلَوْ كَانَتْ عَلَى تَنُّورٍ)[رواه البخاري، ومسلم].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا بَاتَتِ المَرْأَةُ، هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا، لَعَنَتْهَا المَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ)[رواه البخاري، ومسلم].

د - لا يُكره الوَطْء في يوم من الأيَّام، ولا في ليلةٍ من اللَّيالي، ما لم يضرَّ بها، أو يشغلها عن فَرْضٍ.

هـ- إذا استمهل أحدُ الزَّوجين الآخرَ، ليُصْلِح أمرَه قبل الجماع، أُمْهِلَ العادةَ وجوباً.

ص: 256

‌ثالثاً: ما يَحرُمُ أثناءَ الجِماع:

أ - يَحرُمُ وَطْءُ الزَّوج زوجته في الدُّبر؛ لحديث خُزَيمة بن ثابتٍ رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ)[رواه أحمد، وابن ماجه]. ويُعزَّر عليه الزَّوج؛ لارتكابه معصيةً لا حَدَّ فيها، ولا كفَّارة؛ إذا كان يعلم بتحريمه.

وإن تطاوعا على ذلك، أو أكرهها زوجها على أن يأتيها في دُبُرِها؛ ونُهِيَ فلم يَنْتَهِ؛ فُرِّق بينهما؛ كما يُفرَّقُ بين الرَّجُل الفاجر وبين من يَفْجُر به.

ب- يَحرُمُ وَطْءُ الزَّوج زوجته وهي حائض، إجماعاً؛ لقول الله عز وجل:{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَتَى حَائِضاً أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا، أَوْ كَاهِناً فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم[رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه].

ج- يَحرُمُ الوَطْء في النِّفاس، وكذا بعده قبل أن تغتسل المرأة أو تتيمَّم.

د - يَحرُمُ عَزْلُ الزَّوج عن زوجته إلَّا بإذنها؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَعْزِلَ عَنِ الحُرَّةِ إِلَّا بِإِذْنِهَا)[رواه أحمد، وابن ماجه]. والعَزْل: أن ينزع ذَكَرَه الذي أَوْلَجَه في فَرْجِها إذا قارب الإنزال، فيُنْزِلُ خارجاً عن الفَرْج.

ص: 257

‌رابعاً: ما يُكرَهُ أثناءَ الجِماع:

أ - أن يُقبَّل الزَّوج زوجته أو يباشرها عند الناس؛ لأنَّه دناءةٌ.

ب- أن يُحدِّثا بما جرى بينهما، ولو أنْ تُحدِّث به الزَّوجة لضرَّتها؛ لما جاء في حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها (أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ قُعُودٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ: لَعَلَّ رَجُلًا يَقُولُ مَا يَفْعَلُ بِأَهْلِهِ، وَلَعَلَّ امْرَأَةً تُخْبِرُ بِمَا فَعَلَتْ مَعَ زَوْجِهَا، فَأَرَمَّ الْقَوْمُ. فَقُلْتُ: إِي وَاللهِ يَا رَسُولَ اللّاهِ؛ إِنَّهُنَّ لَيَقُلْنَ، وَإِنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ. قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا، فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِثْلُ الشَّيْطَانِ لَقِيَ شَيْطَانَةً فِي طَرِيقٍ فَغَشِيَهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ)[رواه أحمد]. ولأنَّه من السِّرِّ، وإفشاء السِّرِّ حرامٌ.

ج - أن ينْزِعُ الزَّوج قبل فَراغِها؛ لأنَّ فيه ضرراً عليها، ومنعاً لها من قضاء شهوتها.

‌خامساً: حُكْمُ تطوُّع الزَّوجة في حُضُورِ زَوْجِها:

لا يجوز للزَّوجة أن تتطوَّع بصلاةٍ أو صومٍ وزوجها حاضرٌ إلَّا بإذنه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ

) [رواه البخاري].

ص: 258

‌فصل

في حقوق الزَّوج

‌أوَّلًا: حُكمُ خِدمَة الزَّوجةِ زَوْجَها:

المقصود من عقد الزواج هو تحليل بُضْع الزَّوجة للوطء فقط، وليس من مقاصده أن تخدم الزَّوجة زوجها.

ولكن يستحبُّ لها خدمة زوجها في عَجْنٍ، وخَبزٍ، وطَبْخٍ، وتنظيف الدار وترتيبها، لأنَّ هذا ما جرت العادة بقيامها به، ولا تصلح الحال إلَّا به، ولا تنتظم المعيشة بدونه، وهو سببٌ لاستمرار حُسْن المعاشرة بين الزَّوجين، ودوام الأُلْفةِ والمحبَّة بينهما.

وأمَّا خدمة نفسها في ذلك؛ فعليها هي ولا يلزمه، إلَّا أن يكونَ مِثْلُها

لا تخدم نفسها، فعليه خادمٌ لها.

‌ثانياً: أَحْكامُ إجْبارِ الزَّوجِ زَوجَتَه:

أ - للزَّوج إجبارُ زوجته -ولو ذمِّيَّةً- على غُسْل حيضٍ ونِفاس إذا كانت مُكلَّفة؛ لاستوائهما في حصول النُّفْرة ممَّن ذلك حالُها؛ إذ الدَّم يمنع الاستمتاع الذي هو حقٌّ له، فملك إجبارها على إزالة ما يمنع حقَّه.

ب- للزَّوج إجبار زوجته المسلمة البالغة على غُسْل جنابةٍ ونجاسة؛ لأنَّ الصلاة واجبةٌ عليها، ولا تتمكَّن من ذلك إلَّا بالغسل.

ص: 259

ج- للزَّوج إجبار زوجته -ولو ذمِّيَّةً- على إزالة نجاسة عليها، واجتناب مُحرَّم، وإزالة وَسَخٍ ودَرَنٍ. فإن اتَّحدَ مذهب الزَّوجين على هذا فظاهر الإلزام. وإن اختلف مذهبهما، وكان كلٌّ منهما عارفاً بمذهبه، عاملاً به، فيعمل كلٌّ بمذهبه، وليس له الاعتراض على الآخر؛ لأنَّه لا إنكار في مسائل الاجتهاد. ويجوز له أن يُصلِّي فيما طهَّرته على مذهبها، وعكسه.

أمَّا إذا كانت زوجته عاميَّةً لا مذهب لها؛ فإنَّه يلزمها بمذهبه.

د - للزَّوج أن يُجبر زوجته على أَخْذ ما تعافه النَّفْس من شَعْرِ عانةٍ، وقصِّ أظفارٍ ولو طالا قليلاً بحيث تعافه النَّفْس؛ لأنَّ ذلك يمنع كمال الاستمتاع.

هـ- للزَّوج منع زوجته من تناول ما يُمْرِضُها.

و - للزَّوج منع زوجته من أَكْل ما فيه رائحة كريهة كثومٍ، وبصلٍ؛ لأنَّه يمنع القُبْلَةَ، وكمال الاستمتاع.

‌ثالثاً: أَحْكامُ خُروج المَرْأَة مِنْ بَيْت زَوْجِها، وأَحْكامُ تَعامُلِها مَعَ أَهْلِها:

أ - يَحرمُ على زوجته الخروج من منزله بلا إذنه؛ لعموم النصوص الدالَّة على وجوب طاعة الزوجة لزوجها.

ب- يُستحبُّ إذْنُ الزَّوج لزوجته في عيادة والِدَيْها، وشهود جنازتهما؛

لما فيه من صلة الرَّحم، والمعاشرة بالمعروف، ومنعُها يؤدِّي إلى النفور،

ص: 260

ويُغري العقوق.

ج- إن خرجت المرأة بغير إذنه؛ فلا نفقة لها مدَّة خروجها إن لم تكن حاملاً، ومحلُّ ذلك أيضاً إذا كان قائماً بحوائجها، وإلَّا فلا.

د - إذا كانت الزَّوجة تخرج لقضاء حوائجها حيث لم يقم زوجها بها جاز ذلك؛ لأنَّه لا بدَّ لها من الخروج للضرورة؛ فلا تسقط نفقتها به.

هـ- ليس للزَّوج منع الزَّوجة من كلام أبويها، ولا منعهما من زيارتها؛ لما فيه من قطيعة الرَّحِم؛ ولأنَّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. إلا إذا خاف الزَّوج حدوث ضررٍ بذلك -ولو بقرائن الحال-؛ فإنَّ له المنع.

و - يُسَنُّ إذْنُ الزَّوج لها في الخروج إن مرض مَحْرَمُها لتعودَه، كأخيها وعمِّها، أو إذا مات مَحْرَمُها لتشهد جنازته؛ لما في ذلك من صلة الرَّحِم.

ز - لا يلزم الزَّوجة طاعة أبويها في فِراق زوجها؛ ولا طاعتهما في زيارتها لهما؛ لأنَّ طاعة الزَّوج أَوْلَى وأحقُّ؛ وكذلك لو أَمَراها بعِصْيان زوجها، فلا يلزمُها طاعتُهما؛ بل زوجها أحقُّ؛ لوجوب طاعتها له.

ح- للزَّوج منع زوجته من إجارة نفسها، ومن رضاع وَلَدِها من غيره إلَّا لضرورة الولد؛ بأنْ لم يقبل ثَدْي غيرها؛ فليس له منعها إذاً؛ لما فيه من هلاك نَفْسٍ معصومةٍ.

ص: 261

ط- إن أبتِ الزَّوجة المبيت مع زوجها بدون عُذْرٍ؛ أو أبت السفر معه، أو سافرت بغير إذنه؛ سقط قَسْمها ونفقتها.

ص: 262

‌فصل في أحكام القَسْم بين الزَّوجات

من كان له زوجتان فأكثر، فإنَّ عليه مراعاة الأحكام التالية في القَسْم بينهنَّ:

أ - على الزَّوج التسوية بين زوجاته في المبيت وجوباً؛ وهو توزيع الزمان على الزَّوجتين فأكثر إن كُنَّ حرائر كلّهن؛ لقول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وزيادة إحداهنَّ في القسم مَيْلٌ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا، جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ)[رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي].

وقال ابن المنذر: «وأجمعوا على أنَّ القَسْم بين المُسلمة والذمِّيَّة سواء» .

ب- عمادُ زمان القَسْم المعتمد ومقصوده هو اللَّيلُ لمن معاشه بالنهار، ومن معيشته بليلٍ كحارسٍ؛ فإنَّه يقسم بين نسائه نهاراً، ولو كان خصيًّا أو عنيناً، أو مجبوباً، أو مريضاً؛ فإن شقَّ على المريض، استأذن أزواجه أن يكون عند إحداهنَّ؛ فإن لم يأذنَّ له، أقام عند إحداهنُّ بقُرْعةٍ؛ أو اعتزلهنَّ جميعاً.

ج- يكون القسم بين زوجاته في المبيت ليلةً وليلةً؛ لفعله صلى الله عليه وسلم مع نسائه، ولأنَّ في قَسْمِه ليلتين فأكثر تأخيراً لحقِّ من لها اللَّيلة الثانية لا التي قبلها؛ إلَّا أن يرضين بأكثر من ليلةٍ وليلةٍ؛ لأنَّ الحقَّ لا يعدوهنَّ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لأمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها:(وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي)[رواه مسلم].

ص: 263

د - النهار يدخل تبعاً للَّيل؛ لما روت عائشة رضي الله عنها: (أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ)[رواه البخاري، ومسلم]. ولقول عائشة رضي الله عنها: (إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيَّ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي، وَفِي يَوْمِي)[رواه البخاري، ومسلم]. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كان قد قُبِضَ نهاراً.

هـ- يَحرُمُ على الزَّوج دخوله في نَوبةِ واحدةٍ إلى غيرها إلَّا لضرورة؛ كأن تكون في حال الاحتضار؛ فيُريد أن يحضرها، أو توصي إليه.

و - يَحرُمُ على الزَّوج كذلك أن يدخل إلى زوجته في نهارِ ليلةِ غيرِها إلَّا لحاجة؛ كعيادةٍ، أو سؤالٍ عن أمرٍ يُحتاج إليه، أو دَفْع نفقةٍ، أو زيارةٍ لبُعد عهدٍ بها. فإن دخل إليها ولم يمكث طويلًا، لم يقضِ للأخرى؛ لأنَّه زمن يسير.

ز - إذا لبث عندها في نهارِ ليلةِ غيرها فوق حاجته أو جامَعَ؛ لَزِمَه قضاءُ لُبْثٍ وجِماعٍ، بأن يَدْخُل على المظلومة في ليلةِ الأخرى؛ فيمكث عندها بقَدْر ما مَكَث عند تلك، أو يُجامعها -إن كان جامَعَ- ليعدل بينهما؛ لأنَّ اللُّبث اليسير مع الجماع يحصل به السَّكن، فأشبه الزمن الكثير.

ح- لا يلزمه قضاء قُبْلةٍ ونحوها من حقِّ الأخرى، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت:(كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ عَلَيَّ فِي يَوْمِ غَيْرِي؛ فَيَنَالُ مِنِّي كُلَّ شَيءٍ إِلَّا الجِمَاعَ)[رواه أبو داود].

ط- إن طلَّق زوجٌ لامرأتين واحدةً منهنَّ وقت نوبتها -أي قسمها- أثم؛

ص: 264

لأنَّه وسيلة لإبطال حقِّها من القسم، ويقضيها متى نكحها وجوباً؛ لقُدرته عليه؛ لتمكنه من إيفائها حقَّها، كالمعسر بالدَّيْن إذا أَيْسَرَ.

ي- لا يجبُ أن يسوِّي بينهنَّ في الوَطْء ودواعيه؛ لأنَّ ذلك طريقه الشهوة والميل، ولا سبيل إلى التسوية بينهنَّ في ذلك؛ قال تعالى:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] قال ابن عباس: في الحبِّ والجماع. لكن يُسنُّ أن يُسوِّي بينهن في وَطْءٍ، لأنَّه أبلغ في العَدْل بينهنَّ.

ك- لا يجبُ أن يسوِّي بينهنَّ في النفقة والكُسْوة إذا قام بالواجب. وإن أمكنه ذلك كان حسناً؛ لأنَّه أبلغ في العَدْل بينهنَّ.

ل- يجبُ القَسْم لحائضٍ؛ ونُفَساء، ومَريضة، ومَعيبةٍ كجَذْماء، ورَتْقاء، وكتابيَّةٍ، ومُحْرِمَةٍ، ومميِّزةٍ، ومجنونةٍ مأمونةٍ لا يُخاف ضررها؛ ومن آلى أو ظاهر منها، أو وُطئت بشبهةٍ زمن عِدَّتها؛ لأنَّ القصد بالقَسْم الأُنْسُ لا الوَطْء.

م - يجوز لإحدى زوجاته هِبَةُ قِسْمتها لضرَّتها بإذن الزَّوج؛ لفعل سَوْدَة بنت زَمْعَة رضي الله عنها حين وَهَبَت يومها لعائشة رضي الله عنها. ولها هِبَةُ قَسْمِها لزوجها وأن يجعله لمن شاء من زوجاته، وللواهبة الرجوع في المستقبل؛ لأنَّها هِبةٌ لم تُقْبَض؛ بخلاف الماضي فقد استقرَّ حُكمُه.

ص: 265

‌فصل في حقِّ الزَّوج في المَبيت والتَّأديب

‌أوَّلًا: حقُّ الزَّوج في المَبيتِ والتَّأديبَ:

أ - إذا تزوج بِكْراً وله زوجةٌ غيرها أقام عندها سبعاً، وإن تزوَّج بثيِّبٍ أقام عندها ثلاثاً، ثمَّ يدور ويعود إلى القَسْم بينهنَّ، وتصير الجديدة آخرهنَّ نوبةً؛ لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ البِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعاً، وَقَسَمَ. وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى البِكْرِ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثاً ثُمَّ قَسَمَ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: لَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ: إِنَّ أَنَساً رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم[أخرجه البخاري ومسلم].

ب- للزَّوج تأديب زوجته على ترك الفرائض؛ كصلاةٍ أو صومٍ.

‌ثانياً: أَحْكامُ النُّشُوز:

النُّشوزُ: مأخوذٌ من نَشَزَ، وهو ما ارتفع من الأرض، فكأنَّها ارتفعت وتعالت عمَّا فَرَضَه الله عليها من المعاشرة بالمعروف.

والنُّشوز معصيتها إيَّاه فيما يجب عليها طاعته فيه؛ كأن تمنعه من الاستمتاع بها، أو تجيبه متبرِّمةً متضجِّرةً متثاقلةً إذا دعاها؛ أو لا تُجيبه إلَّا بِكُرْهٍ.

فمن نشزت زوجته وعصته؛ فإن عليه:

أ - أن يعِظَها ويُخوِّفها بالله، ويُذكِّرها بما يُلين قَلْبَها من ثوابٍ وعقابٍ، ويذكُر

ص: 267

لها ما أوْجَبَ الله عليها من الحقِّ والطاعة، وما يلحقها من الإثم بالمخالفة، وما يسقط به من النَّفقة والكِسْوة، وما يُباح من هَجْرها وضَرْبها؛ لقوله تبارك وتعالى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34].

ب- فإن أصرَّت ناشزةً بعد وَعْظِها؛ هَجَرها زوجُها في المَضْجَع -وهو مكان الاضطجاع-، وترك مُضاجَعَتها ما شاء من مُدَّة؛ ما دامت كذلك. قال ابن عباس:«لَا تُضَاجِعْهَا فِي فِرَاشِكَ» [رواه ابن أبي حاتم]، وقد (هَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ؛ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِنَّ شَهْراً)[رواه البخاري، ومسلم].

ج- للزَّوج أن يَهْجُر زوجَتَه الناشِزَ فلا يتكلَّم معها مُدَّة ثلاثة أيَّامٍ فقط؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ)[رواه البخاري ومسلم].

د - إن أصَرَّت الزَّوجة على النُّشوز، مع هَجْرِها في المَضْجع والكلام، ضَرَبَها ضَرْباً غير شديدٍ؛ لحديث عمرو بن الأَحْوَص مرفوعاً وفيه:(فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ)[رواه الترمذي، وابن ماجه].

هـ- يجبُ على الزَّوج أن يتجنَّب الوَجْه والمواضع المَخوفَة والمُسْتَحْسَنة؛ لأنَّ القصد من الضرب التأديب؛ لا الإتلاف. ولما روى مُعاوية القُشَيْريُّ رضي الله عنه، أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ

ص: 268

إِلَّا فِي الْبَيْتِ) [رواه أحمد، وأبو داود].

و - إذا ضرب الزَّوج زوجته ضرباً شديداً فتلفت، ضمن.

ز - لا ليس للزَّوج ضرب زوجته الناشز إلَّا بعد الوعظ والهجر في الفراش والكلام؛ فلا يجوز قبل ذلك. وهو ظاهر الآية الكريمة: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} ؛ إذ الواو وقعت فيها للترتيب، إمَّا لأنَّ ذلك من مقتضاها، أو لدليلٍ من خارجٍ، وهو أنَّ المقصود زوال المفسدة، فيُدفَعُ بالأسهل فالأسهل، وهو مقتضى حديث عمرو بن الأَحوَص رضي الله عنه السابق.

ح- يمنع الزَّوج من هذه الأشياء -الهَجْر في المضجع، وهَجْر كلامها، وضَرْبها- إن منع زوجته حقَّها حتَّى يوفِّيه لها؛ لظُلْمِه بطَلَبِه حقَّه مع منع حقِّها.

ص: 269

‌كتاب الخُلْع

‌أوَّلًا: تَعريفُ الخُلْع:

الخُلْع لُغةً: -بضم الخاء- اسمٌ من الخَلْع -بفتحها- بمعنى النَّزْع.

واصطلاحاً: فِرَاقُ الزَّوْجَة بعِوَضٍ يأخذه الزَّوْج منها، أو من غيرها، بألفاظٍ مخصوصةٍ.

وسُمِّي الخُلْع بذلك؛ لأنَّ المرأة تخلع نفسها من الزَّوج كما تخلع اللِّباس من بَدَنها؛ قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187].

‌ثانياً: مشروعيَّةُ الخُلْع:

الخُلْع جائزٌ مشروعٌ، والأصل في مشروعيَّته: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.

- فأمَّا الكتاب: فقول الله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].

- وأمَّا السُّنَّة: فقد ثبت من حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: (جَاءَتِ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّاهِ، مَا أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ، إِلَّا أَنِّي أَخَافُ الكُفْرَ، فَقَالَ رَسُولُ ا اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَرَدَّتْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا)[رواه البخاري].

- وأمَّا الإجماع: فقد قال الحافظ ابن عبد البَرِّ: «لا نعلم أحداً خالف فيه؛

ص: 271

إلَّا بكر بن عبد الله المُزَنِي؛ فإنَّه زعم أنَّها منسوخة بقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20].

‌ثالثاً: الأحْوالُ التي يُباحُ فيها الخُلْع:

يُباح الخُلْع على عِوضٍ تُقدِّمُه المرأة لزوجها، في الأحوال التالية:

أ - سوء العِشْرَة بين الزَّوجين؛ بأن صار كلٌّ منهما كارهاً للآخر، لا يُحسِنُ صُحبته؛ لقول الله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].

ب- كراهة المرأة لخُلُق زوجها أو خَلْقِه وخَشِيَت أنَّها لا تؤدِّي حقَّ الله في طاعته، فتأثم بذلك؛ لحديث امرأة ثابت بن قَيْس بن شَمَّاس السابق.

ج- نَقْصُ دِين زَوْجها.

أمَّا إذا كان زوجها يُحبُّها وهو على أحواله تلك؛ فيُسنُّ صَبْرها عليه، وعدم افتدائها منه؛ دفعاً لضرره.

‌رابعاً: مَكْروهاتُ الخُلْع:

أ - يُكره الخُلْع مع استقامة الحال؛ لحديث ثَوْبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلَاقًا فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ، فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الجَنَّةِ)[رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه]، ولأنَّه عبثٌ.

فإن خالع وقع الخُلْع؛ لعموم قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ

ص: 272

هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4].

ب- يُكرَهُ الخُلْع بأكثر ممَّا أعطاها -وهو من مفردات المذهب-؛ لما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما: (أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ سَلُولَ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: وَاللهِ مَا أَعْتِبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا. فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَدِيقَتَهُ وَلَا يَزْدَادَ)[رواه ابن ماجه]. لكنَّه لا يَحْرُم؛ لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} . وقالت الرُّبيِّع بنت مُعوِّذ رضي الله عنها: «اخْتَلَعْتُ فِيمَا دُونَ عِقَاصِ رَأْسِي، فَأَجَازَ عُثْمانُ ذَلِكَ). والعِقاص: خيطٌ تُشدُّ به أطراف الذوائب. والمعنى: أن المخالع له أن يأخذ كلَّ ما تملكه المرأة حتَّى ما دون عقاص رأسها إذا افتدت منه بذلك.

‌خامساً: مُحَرَّماتُ الخُلْع:

يَحرُمُ الخُلْع إذا عَضَل الزَّوج زوجتَه لتَخْتَلِع، فإن عَضَلَها؛ بأن ضَرَبَها، أو ضيَّق عليها، أو منعها حقَّها من نفقةٍ، أو كِسْوةٍ، أو قَسْمٍ، ونحو ذلك، لتَخْتَلِع منه، لم يصحَّ الخُلْع؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19].

ولأنَّها مُكرهةٌ على بذل العِوَض بغير حقٍّ، فلم يستحقَّ أَخْذَه منها؛ للنهي عنه، والنَّهي يقتضي الفساد.

ص: 273

- فإنْ عَضَلَها زوجُها بحقٍّ صحَّ العَضْل ولم يَحْرُم؛ كما لو نَشَزَت، أو تَرَكَت فَرْضاً من صلاةٍ أو صيامٍ ونحوهما؛ فهنا يُباح الخُلْع وعِوَضُه؛ لأنَّه بحقٍّ، وكذا مع زِناها؛ لقوله تعالى:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} ، والاستثناء من النهي إباحة. وقد قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما في معنى الآية:«يعني الرَّجُل تكون له امرأةٌ، وهو كارهٌ لصُحْبَتِها، ولها عليه مَهْرٌ؛ فيُضِرُّها لتَفْتَدي» ، ثم قال في معنى قوله تعالى:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} : «يعني: إذا زنت؛ فلَكَ أن تَسْتَرْجِع منها الصَّداقَ الذي أعطيتها؛ وتُضاجِرُها حتَّى تتركه لك، وتُخالعها» [ذكره

ابن كثير في «التفسير» ].

‌سادساً: أحكامٌ عامَّة متعلِّقةٌ بالخُلْع:

أ - لا يفتقر الخُلْع إلى حُكم حاكمٍ؛ فعن عبد الله بن شهابٍ الخَوْلانيِّ: (أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَرُفِعُ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ: بَاعَكِ زَوْجُكِ طَلَاقًا بَيْعًا. وَأَجَازَهُ عُمَرُ)[رواه البيهقي].

ب- يُستحبُّ للزَّوج إجابة المرأة إلى الخُلْع حيثُ أُبيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لثابت ابن قَيْس: (اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً)[رواه البخاري].

ج- لا بأس بالخُلْع في الحيض والطُّهْر الذي أصابها فيه؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يسأل المختلعة عن حالها.

ص: 274

‌سابعاً: شُروطُ الخُلْع:

شروطُ الخُلْع سبعةٌ:

الشرطُ الأوَّل: أن يقعَ من زوجٍ يصحُّ طلاقُه؛ وسواء كان الزوج مُسلماً أم ذمِّيًّا، حُرًّا أو عَبْداً؛ كبيراً أو صغيراً يعقله؛ لأنَّه إذا مَلَك الطلاق -وهو مجرَّدُ إسقاطٍ لا تحصيل فيه-، فلأَنْ يملكه مُحصِّلاً لعِوَضٍ أَوْلَى.

الشرط الثاني: أن يكون على عِوَضٍ؛ لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس لمَّا طلبت زوجته مخالعته:(اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا)؛ حيث دلَّا على اشتراط العِوَض في الخُلْع.

فإن خالعها بغيرِ عِوَضٍ لم يصحَّ؛ لأنَّ الخُلْع فسخٌ، ولا يملكُ الزَّوج فَسْخ النكاح بلا مقتضٍ، بخلاف ما لو كان على عِوَضٍ، فيصير معاوضةً، فلا يجتمع لها العَوِضُ والمعَوَّضُ.

وإن خلا عن العِوَض وخالع ولم ينو به طلاقاً، فهو لغوٌ.

وإن نوى به الطلاق، وقع رجعيًّا ما لم يكن مُكمِّلاً لما يملكه من الطلاق؛ لأنَّ الخُلْع من كنايات الطلاق، فإذا نواه وقع به، وقد خلا عن العِوَض، فكان رجعيًّا.

ولهذا الشرط عدَّة مُقيِّدات:

أ - لا بأس إذا كان العِوَض في الخُلْع مجهولاً؛ كأن تقول: «على سيَّارةٍ من

ص: 275

سيَّاراتها»، أو «على ما بخزانتها من مالٍ» ؛ وذلك مثل الوصيَّة؛ لأنَّه إسقاطٌ لحقِّه من البُضْع، وليس بتمليك شيءٍ. والإسقاط تدخله المسامحة.

ب- أن يكون العِوَضُ ممَّن يصحُّ تبرُّعه من أجنبيٍّ، أو زوجةٍ؛ وهو الحرُّ الرَّشيد (المُكلَّف)، غيرُ المحجور عليه؛ لأنَّه بذل مالٍ في مقابل ما ليس بمالٍ ولا منفعةٍ، فأشبه التبرُّع.

الشرط الثالث: أن يقع مُنجَّزاً: فلا يصحُّ الخُلْع مُعلَّقاً على شَرْطٍ مستقبَلٍ، ما عدا قوله:«إن شاء الله» ؛ فلو قال: «خلعتُك إذا جاء رأسُ الشَّهْر» ، أو «إن رضي زيدٌ» ؛ فهذا لا يصحُّ.

ومثله لو قال: «إن بَذَلْتِ لي كذا من المال فقد خالعتُك» ؛ فلا يصحُّ؛ إلحاقاً له بعقود المعاوضات، لاشتراط العِوَض فيه؛ وعقود المعاوضات لا تصحُّ معلَّقةً على شَرْطٍ.

فإن كان قد نوى بالخُلْع الطلاق، فهو طلاقٌ مُعلَّق، وإلَّا فلَغْوٌ.

الشرط الرابع: أن يقع الخُلْع على جميع الزوجة: فلا يصحُّ أن يخلعَ جزءًا منها مُشاعاً؛ كنِصْفِها، أو جزءًا مُعيَّناً؛ كيَدِها؛ لأنَّه فَسْخٌ، وكما يُشترط إيقاع الطلاق على جميع بَدَن الزَّوجة وأجزائها؛ فكذلك يُشترط ذلك في الخُلْع؛ لأنَّ الزوجة لا تتجزأ، فإمَّا أن تبقى جميعها، أو تُفارَق جميعها.

الشرط الخامس: أن لا يقعَ حِيلةً للفرار من وقوع الطلاق المعلَّق على

ص: 276

مستقبل: فإن وقع كذلك؛ حَرُمَ، ولا يصحُّ الخُلْع؛ لأنَّ الحِيَلَ خِداعٌ لا تُحِلُّ ما حَرَّم الله.

صورةُ ذلك: أنَّه إذا حَلَف عليها -مثلاً- بالطَّلاق أن لا تذهبَ إلى بيتِ أخيها، ثمَّ إنَّه نَدِم على ذلك فخالَعَها، واعتدَّت من الخُلْع، ثمَّ دخلت بيت أخيها في حال كونها ليست زوجةً له، ثم عَقَدَ عليها ودخل بها، فلا تنحلُّ يمينُه بدخولها الأوَّل حالة كونها ليست زوجةً له؛ فلو دخلت أخيراً وهي في عصمته وقع عليها طلاقُه الأوَّل.

الشرط السادس والسابع: أن لا يقع الخُلْع بلفظ الطلاق، ولا بلفظ الخُلْع مع نيَّة الطلاق؛ لأنَّه حينئذٍ لا يكون خُلعاً، بل يكون طلاقاً ينقص به عدد الطلقات؛ وبيانه على النحو التالي:

أ - إذا كان الخُلْع بلفظ الطلاق، أو بلفظ الخُلْع ناوياً به الطلاق، فإنَّه يقع طلاقاً بائناً إذا كان على عوضٍ.

ب- إذا كان الخُلْع بلفظ الطلاق، أو بلفظ الخُلْع ناوياً به الطلاق، وقد خلا عن العِوَض، أو كان العِوَض فاسداً -كأن تكون الزوجة مكرهةً على دفع العِوَض-؛ فإنَّه يقع طلاقاً رجعيًّا إذا كان دون ثلاث طلقاتٍ.

ويقع طلاقاً بائناً إذا تمَّ به ثلاث تطليقات، سواء وقع بعِوَضٍ أو لا.

فلا بدُّ أن يكون الخُلْع بلفظ الخُلْع، أو الفَسْخ، أو المُفاداة، ولا ينوي به الطلاق، فيكون بذلك فَسْخاً لا ينقصُ به عدد الطلاق.

ص: 277

- متى توفَّرت هذه الشروط؛ كان فَسْخاً بائناً؛ لا يَنقصُ به عدد الطلاق، وتبطلُ به الرَّجعة، ولو كانت الزَّوجة في العِدَّة؛ وذلك لما روي عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: «إنَّمَا هُوَ فُرْقَةٌ وَفَسْخٌ، لَيْسَ بِطَلَاقٍ، ذَكَرَ اللهُ الطَّلَاقَ فِي أَوَّلِ الآيَةِ، وَفِي آخِرِهَا، وَالخُلْعَ بَيْنَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ؛ قَالَ اللهُ:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]) [رواه ابن أبي شيبة]. وذلك أنَّ الله تعالى ذكر بعد هاتين التطليقتين الخلع، فقال:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، ثم ذكر تطليقة ثالثة، فقال:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]. فلو كان الخُلْع طلاقاً لكان رابعاً، ولا خلاف في تحريمها بثلاثٍ. ولأنَّه ليس بصريحٍ في الطلاق؛ ولا نوى به الطلاق؛ فصار فسخاً كسائر الفسوخ.

‌ثامناً: صيغةُ الخُلْع:

تنقسم صيغ الخلع إلى: صريحةٍ، وكنائيَّةٍ:

فأمَّا صِيَغُه الصَّريحة فلا تحتاج إلى نيَّةٍ؛ لأنَّ الصريح لا يحتاج إليها.

والألفاظ الصريحة مثل:

(خَلَعْتُ)؛ أي خلعتُ زوجتي؛ فهي للخلع الصريح؛ لثبوت العُرْف به في هذه الصيغة.

و (فَسَخْتُ)؛ أي فسختُ نكاحها؛ لأنَّها صيغةٌ حقيقيَّةٌ فيه.

ص: 278

و (فادَيْتُ)؛ أي: فاديت زوجتي؛ لوروده في القرآن بقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} .

وأمَّا صيغ الخُلْع الكنائيَّة: فهي التي تُستعمل في الخُلْع وغيره، فيقع بها الخلع إذا نواه، أو دلَّت عليه قرينة الحال ولو بغير نيَّةٍ، نحو:«بارَيْتُكِ» ، و «أبْرَأْتُكِ» ، و «أبَنْتُكِ» .

- فيصحُّ الخُلْع بلفظ كنايةٍ مع سؤال الزوجة إيَّاه، وبَذْلها العِوَض، بلا نيَّة؛ لأنَّ دلالة الحال من سؤال الخُلْع وبَذْلِ العِوَض صارفةٌ إليه، فأغنى عن النيَّة فيه.

فإذا لم يكن الخُلْع عن سؤالٍ، ولا بَذْلٍ للعوض؛ فلا بدُّ من النيَّة لمن أتى بلفظ كنايةٍ؛ كالطلاق وغيره.

‌تاسعاً: الخُلْع بغير العربيَّة:

يصحُّ الخُلْع بكلِّ لُغةٍ من أهل تلك اللُّغة، وتصحُّ من العارف بها؛ وإن لم يكن من أهلها؛ لعَدَم التعبُّد بلفظه؛ وذلك مثل: عربي يعرف معنى الخُلْع بالإنجليزيَّة، أو التركيَّة، وأتى بها كذلك؛ لأنَّهم يُشبِّهونه بالطلاق، وهو يقع من العربي بلغة العَجَم، إذا كان عارفاً بمدلول تلك الصيغة عند أهلها.

‌عاشراً: ما لا يصحُّ فيه الخُلْع:

أ - لا يحصلُ الخُلْع بمجرَّد بَذْل المال وقبوله من غير لفظٍ من الزَّوج؛

ص: 279

ك «خلعتُكِ» ، ولفظٍ من الزوجة؛ ك «رَضيتُ»؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قَيْس رضي الله عنه:(اقْبْلِ الحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً).

ب- لا يصحُّ شرطُ رجعةٍ، ولا شرطُ خيارٍ في الخُلْع؛ لأنَّه ينافي مقتضى الخلع. ويُلغَى الشرط دون الخُلْع؛ كالبيع بشرطٍ فاسدٍ.

ج- لا يقع بمعتدَّةٍ من خُلْعٍ طلاقٌ، ولو واجهها به؛ قاله ابن عبَّاس وابن الزُّبير [رواه ابن أبي شيبة]، ولا يُعرَف لهما مخالف في عصرهما، فكان إجماعاً؛ ولأنَّه لا تحلُّ له إلَّا بعقدٍ جديد، فلم يلحقها طلاقُه، كالمطلقة قبل الدخول.

د - إن خالعها بمُحرَّم يعلمانه؛ كخمرٍ، أو شيءٍ مغصوبٍ؛ وقع طلاقاً رجعيًّا إذا كان بلفظ الطلاق أو نيَّته؛ لأنَّ الخلع من كنايات الطلاق، فإذا نواه به وقع، لخُلوِّه عن العِوَض. فإن لم ينو به طلاقاً فلغوٌ.

هـ- ليس للأب خَلْع زوجة ابنه الصغير ولا طلاقها؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ)[رواه ابن ماجه].

و - ليس للأب خَلْع ابنته الصغيرة بشيءٍ من مالها؛ لأنَّ تصرُّفه منوط بما لها فيه حظٌّ ومصلحة، ولا حظَّ لها في ذلك، بل فيه إسقاط حقِّها الواجب.

ص: 280

‌كتاب الطَّلاق

‌أوَّلًا: تَعريفُ الطَّلاق:

الطَّلاقُ لُغةً: معناه التَّخْلِيَةُ، والحَلُّ، والإرْسال، ورَفْعُ القَيْدِ حِسًّا أو معنًى. وطَلقتِ المَرأةُ -بفتح اللَّام وضَمِّها-، أي: بانَتْ من زوجها.

واصطلاحاً: حَلُّ قَيْد النِّكاح بإيقاع نهايةِ عدَدِهِ، أو حَلُّ بعضِه بإيقاع ما دون النهاية.

‌ثانياً: حُكمُ الطَّلاق:

الأصل في الطلاق أنَّه مشروعٌ، وقد دلَّ على مشروعيَّته: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع:

- فمن الكتاب: قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. وقوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. وغيرهما من الآيات.

- ومن السُّنَّة: ما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ)[رواه البخاري، ومسلم].

ص: 281

- وأمَّا الإجماع: فقال البهوتي: «وأجمعوا على مشروعيته بالكتاب والسُّنَّة» .

‌ثالثاً: الحِكمَةُ من مَشْروعِيَّة الطَّلاقِ:

شرع الله تعالى الطلاق؛ لأنَّه قد يقع بين الزَّوجين من التنافر والتباغض ما يوجب الخصومة الدائمة، فلزوم النكاح ودوامه يكون فيه ضررٌ في حقِّ المرأة، ومفسدةٌ محضةٌ بلا فائدة، فوجب إزالتها ليخلص كلٌّ من الضرر.

‌رابعاً: الأحكامُ التي تَعْتَري الطَّلاقَ:

يختلف حكمُ الطلاق باختلاف الأحوال؛ ولذا فإنَّه تعتريه الأحكام التكليفيَّة الخمسة، وذلك على النحو التالي:

أ - فيُباح طلاقُ المرأةِ لسوءِ خُلُقِها وعِشْرَتها، والتَّضَرُّر بها من غير حصول الغرض بها؛ دفعاً للضَّرر عن نفسه.

ب- ويُسنُّ طلاقها إن كانت غير عفيفة؛ لأنَّ في إمساكها نَقْصاً ودَناءَةً، ولا يأمن إفساد فِراشِه، وإلحاقها به ولداً من غيره.

- ويُسنُّ طلاقها كذلك إذا كانت مُفرِّطة في حقوق الله؛ كالصلاة إذا لم يُمكنه إجبارها عليها، ولأنَّ فيه نقصاً لدينه.

- ويُسنُّ طلاقها لتضرُّرها ببقاء النكاح، كما في حال الشِّقاق بين الزَّوجين، أو كراهتها له، وكما في الحال الذي يُحْوجُ المرأةَ إلى المخالعة؛ ليزيل ضررها.

ج- ويُكرَهُ الطَّلاق من غير حاجة؛ لإزالة النكاح المشتمل على المصالح المندوب إليها؛ ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أَبْغَضُ الحَلَالِ إِلَى

ص: 282

اللهِ الطَّلَاقُ) [رواه أبو داود، وابن ماجه].

د - ويَحرُمُ الطَّلاق -إجماعاً- في الحيض أو النِّفاس، أو في طُهْرٍ وَطِئها فيه، ويُسمَّى طلاقَ بِدْعَةٍ؛ لمخالفته الشرع. إلَّا أنَّه يقع الطَّلاق.

هـ - ويجبُ الطَّلاق على المُؤلِي بعد التربُّص إن أَبَى الفَيْئَةَ؛ بأن امتنع من الوَطْء. وطلاق الحَكَمَيْن في الشِّقاق إذا رأياه.

‌خامساً: شُروطُ صحَّةِ وُقوعِ الطَّلاق:

يُشترط لصحَّة وقوع الطَّلاق ما يلي:

الشرط الأوَّل: أن يكون من الزَّوج أو وكيله؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّاهِ، سَيِّدِي زَوَّجَنِي أَمَتَهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا. قَالَ: فَصَعِدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمِنْبَرَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا؟! إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ)[رواه ابن ماجه].

ويصحُّ الطلاقُ من حاكمٍ على مُولٍ بعد التربُّص إن أبى الفيئة والطلاق.

الشرط الثاني: أن يكون من مُميِّزٍ؛ فيقعُ طلاقُ المُمَيِّز إن عَقَلَ الطَّلاق؛ بأن يعلمَ أنَّ زوجته تَبِينُ منه وتَحْرُم عليه إذا طلَّقها؛ لعموم حديث: (إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ)، ولما صحَّ عن عليٍّ رضي الله عنه أنَّه قال:(كُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاق المَعْتُوهِ)[رواه البخاري تعليقاً].

ص: 283

ولأنَّه طلاقٌ من عاقلٍ صادف محلَّ الطلاق، فأشبه طلاق البالغ.

وعلم منه: صحَّة طلاق السَّفيه ولو بغير إذن وليِّه، وطلاق العَبْد ولو بغير إذن سيِّده.

الشرط الثالث: أن يكون من عاقلٍ؛ فلا يقع طلاقُ من تلفَّظ به حال زوال عقله وهو معذورٌ؛ كالمجنون، والمغمى عليه، والنائم، ومن أصابه مرضٌ أزال شعوره؛ لأنَّ العقل مناط الأحكام، ولأثر عليٍّ رضي الله عنه السابق.

ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ)[رواه النسائي، وابن ماجه].

* طلاق السَّكران:

أمَّا من زال عقله بتعاطيه مُسْكِراً مائعاً أو نحوه ممَّا يَحرُم استعماله، بلا حاجةٍ إليه، وهو عالمٌ به، مختارٌ غير مُكْرهٍ، ثمَّ طلَّق وهو سكران؛ فطلاقه واقعٌ، ولو خَلَطَ في كلامه، أو سَقَطَ تمييزُه بين الأعيان، ويُؤاخَذُ بسائر أقواله، ويُؤاخَذُ بكُلِّ فعلٍ يُعتبر له العَقْل؛ كإقرارٍ، وقَذْفٍ، وقَتْلٍ، وسَرقَةٍ.

فإن كان السَّكْران مُكْرَهاً على شُرْبِه، أو شَرِبَهُ وهو لا يعلمه، فَسَكِرَ وطَلَّق امرأتَه وهو سَكْران: فلا يقعُ طلاقُه؛ لأنَّه غير آثمٍ.

وهذا إذا لم يزد على ما أُكْرِه عليه، وإلَّا وَقَع؛ لأنَّه آثمٌ بالزِّيادة.

ومن شَرِبَ مُسْكِراً لدَفْع لُقْمَةٍ غَصَّ بها، فَسَكِرَ، لا يقعُ طلاقُه؛ لأنَّه غيرُ آثمٍ.

ص: 284

وممَّا يُحتَرَزُ به عن طلاق السَّكْران: ما لو شَرِبَ غيرَ الخَمْر والنَّبيذِ ممَّا يُزيلُ العَقْل؛ للتَّداوي؛ فإنَّه لا يقعُ طلاقُهُ.

ودليلُ وقوع طلاق السَّكْران: ما رواه وَبَرَةُ الكَلْبِيُّ، قال:(أَرْسَلَنِي خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه، فَأَتَيْتُهُ وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنهما، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ رضي الله عنهم، وَهُمْ مَعَهُ مُتَّكِئُونَ فِي المَسْجِدِ، فَقُلْتُ: إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ انْهَمَكُوا فِي الخَمْرِ، وَتَحَاقَرُوا الْعُقُوبَةَ فِيهِ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: هُمْ هَؤُلَاءِ عِنْدَكَ فَسَلْهُمْ. فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: نُرَاهُ إِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى المُفْتَرِي ثَمَانُونَ. قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: أَبْلِغْ صَاحِبَكَ مَا قَالَ)[رواه الدارقطني، والبيهقي]، فجعلوه كالصَّاحي في فِرْيَته، وأقاموا مَظِنَّة الفِرْية مقامها. ولأنَّه فرَّط بإزالة عقله فيما يدخل فيه ضرراً على غيره.

* طلاقُ من تَعاطَى البَنْجَ وَالحَشِيشَةَ:

لا يقعُ طلاقُ من سَكِرَ بجامدٍ؛ كالبَنْج، سواء تعاطاه لتداوٍ أو غيره؛ لأنَّه لا لذَّة به، ولا يُشتهَى.

وأمَّا من تعاطى الحَشيشةَ المُسكِرَة فطلَّق، فمثله مثل السَّكْران طلاقه واقعٌ.

الشرط الرابع: أن يكون مختاراً غير مُكْرَهٍ؛ فإن أُكْرِه على الطلاق لم يقع طلاقه؛

ص: 285

لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لَا طَلَاقَ وَلَا عِتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ)[رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه]، والإغلاق: الإكراه.

ولحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)[رواه ابن ماجه].

والإكراه الذي لا يقعُ به الطلاق هو الإكراه المُلْجِئُ الذي تحقَّقت شروطه، وهي:

أ - أن يكون الإكراه ظُلْماً بغير حقٍّ. فإن أُكْرِهَ بحقٍّ وقع طلاقه؛ كما لو أَكْرَهَ الحاكمُ المُولِي على الطلاق بعد التربُّص إذا لم يفِ، وكإكراه الحاكم رجلين زوَّجهما وليَّان، ولم يُعلَم السابق منهما.

ب- أن يكون الإكراه من قادِرٍ على إنفاذ ما هدَّد به؛ كالسلطان، أو اللِّصِّ المتغلِّب، ونحوهما.

ج- أن يَغْلِبَ على ظنِّ المُكْرَه إيقاعُ المُكْرِه ما هدَّده به، وعَجْزِه عن دَفْعِه، أو الهرب منه؛ كأن يناله شيءٌ من العذاب، والخَنْق، والعَصْر، والحَبْس، والغَطِّ في الماء مع الوعيد. ولا يكون التوعُّدُ وحدَه إكراهاً.

د- أن يكون ما توعَّدَه به المُكرِهُ ممَّا يستضرُّ به المُكرَه ضرراً كثيراً؛ كالقَتْل، والضَّرْب الشديد، والحَبْس والقَيْد الطَّويلَيْن، وأَخْذِ المال الكثير.

أمَّا السبُّ والشَّتْم، وأَخْذُ المال اليسير، فليس بإكراهٍ، وكذا الضَّرْب في حَقِّ من لا يبالي.

ص: 286

ومن الإكراه الذي لا يقع به الطَّلاق: الضَّرْبُ اليَسيرُ لذي المُروءَةِ على وَجْهٍ يكون فيه إهانةٌ لصاحبه، وغضاضةٌ وشُهْرَةٌ في حقِّه.

هـ- أن لا يقصد المُكْرَهُ إيقاع الطَّلاق، وإنَّما دفع الإكراه.

ومن أُكرِه على طلاقِ مُعيَّنةٍ من نسائه، فطلَّق غيرها، أو أُكره على طَلْقةٍ واحدةٍ، فطلَّق أكثر من طَلْقةٍ، وقع طلاقه.

و- أن يكون الإكراه واقعاً على نفس المكرَه، أو ولده. فإن كان الإكراه على غيره من الأقارب وطلَّق، وقع طلاقه.

ص: 287

‌فصل في التَّوكيل في الطَّلاق

أ - من صحَّ طلاقُه -وهو العاقل المختار، ولو كان مُميِّزاً يعقله-؛ صحَّ أن يُوكِّل غيرَه فيه؛ وأن يتوكَّل فيه عن غيره؛ لأنَّ من صحَّ تصرُّفه في شيءٍ وكان ممَّا تدخله النيابة، صحَّ توكيله فيه وتوكُّلُه، ولأنَّ الطَّلاق إزالةُ مُلكٍ فصحَّ التوكيلُ، والتوكُّل فيه؛ كالعتق.

ب- للوكيل الذي لم يحدَّ له موكِّلُه حدًّا أن يُطلِّق متى شاء، لا وَقْتَ بِدْعةٍ من حيضٍ، أو طُهْرٍ وَطِئَ فيه، فإن فعل حَرُمَ ولم يَقَعْ؛ لأنَّ لفظ التوكيل يقتضي الإطلاق، كالوكيل في البيع.

فإنْ حدَّ له الموكِّلُ حدًّا؛ وعيَّن له وقتاً للطلاق، فلا يتعدَّاه، وعليه أن يفعل ما أُذِنَ له؛ لأنَّ الأمر للمُوكِّل في ذلك، فلو قال:«طلِّقها اليوم» ، لم يملكه في غيره؛ لأنَّه إنَّما ثبتت له الوكالة على حسب ما يقتضيه لفظ الموكِّل.

ج- يملكُ الوكيل طلقةً واحدةً لا أكثر، ما لم يجعل له الموكِّل ذلك؛ لأنَّها السُّنَّةُ؛ فينصرف الإطلاق إليها، لأنَّ الأمرَ المُطْلَق يتناولُ أقلَّ ما يقع عليه الاسم، وما زاد مشكوكٌ فيه، والأصل عدم الإِذْن، فلا يقع أكثرُ من واحدةٍ.

د - إذا قال الزَّوج لامرأته: «طلِّقي نفسَك» ، كان للزَّوجة طلاقُ نَفْسِها متى شاءت، كما لو وكَّل غيرَها؛ لأنَّه مقتضى اللَّفظ والإطلاق.

ص: 289

ولا تملك بقوله لها: «طلِّقي نفسَك» أكثر من طَلْقةٍ واحدةٍ؛ لأنَّ الأمر المُطلَق يتناول ما يقع عليه الاسم.

هـ- تملكُ الزَّوجة الطَّلاق بالثلاث إن قال الزَّوجُ لها: «طلاقُك أو أَمْرُك بيدك» ، أو «وكَّلتُك في طلاقك، أو في الطلاق» ؛ لأنَّ اللَّفظ الأوَّل مفردٌ مضافٌ، فيعمُّ جميع أمرها، فيتناول الثلاث، وفي اللَّفظ الثاني اقترن بأل الاستغراقيَّة، فأفاد العموم والاستغراق، فيعمُّ الثلاث.

ولما روي عن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه أنَّه قال: (فِي «أَمْرُكِ بِيَدِكِ»: القَضَاءُ مَا قَضَتْ)[رواه ابن أبي شيبة، والبخاري في «تاريخه»]. وهو قول عليٍّ، وابن عمر، وابن عبَّاس، وفَضَالَة رضي الله عنهم.

و - يبطلُ التوكيل بالطلاق في أحد حالين:

الأوَّل: رجوع الزَّوج عنه.

ويُقبَل دعوى الزوج بعد إيقاع الوكيل الطَّلاق أنَّه كان رَجَع عن الوكالة قبل إيقاع الطَّلاق.

الثاني: وَطْءُ الزَّوجةِ التي وَكَّلَ في طلاقها؛ لدلالة الحال على الرجوع عن الطلاق، لأنَّ الرُّجوع أو الوطء بمثابة العَزْل، فأشبه عَزْل سائر الوكلاء.

ص: 290

‌باب سُنَّة الطَّلاق وبِدْعَته

ينقسمُ الطلاق من حيث مشروعيَّته وعدمها إلى قسمين:

الأوَّل: طلاقُ سُنَّةٍ؛ وهو إيقاع الطَّلاق على وجهٍ مشروعٍ.

فالسُّنَّة لمن أراد طَلاق زوجته أن يُطلِّقها طلقةً واحدةً في طُهْر لم يُجامعها فيه؛ لقوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، قال ابن مسعود وابن عبَّاس رضي الله عنهما:«طَاهِراً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ» [رواه ابن جرير].

الثاني: طلاقُ بِدْعَةٍ؛ وهو إيقاع الطَّلاق على وجهٍ مُحرَّمٍ منهيٍّ عنه، وله أحوالٌ:

أ - طلاقُ الثلاث: إذا طلَّق الزَّوج امرأته ثلاثاً ولو بكَلِماتٍ، في طُهْرٍ لم يُصبْها فيه، أو طلَّقها ثلاثاً في أطهارٍ قبل رجعةٍ، حَرُمَ ذلك؛ لقوله تعالى بعد الطلاق:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، وقوله:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]. ومن جَمَعَ الثلاث لم يجعل الله له مخرجاً، ولا من أمره يُسراً.

وقد رُوي ذلك عن عمر، وعليٍّ، وابن مسعود، وابن عبَّاس رضي الله عنهم. [رواها البيهقي في «الكبرى»].

- وإذا طلَّق زوجته ثلاثاً بكلمةٍ واحدةٍ وقعتْ ثلاثاً؛ لما روى مجاهد قال: «كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ رَادُّهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ، فَيَرْكَبُ الحُمُوقَةَ ثُمَّ يَقُولُ:

ص: 291

يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَإِنَّ اللهَ قَالَ:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، وَإِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللّاهَ، فَلَمْ أَجِدْ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ» [رواه أبو داود].

ب- طلاق الحائض والنُّفساء: إذا طلَّق الزَّوج امرأته في زمن الحيض، أو النِّفاس، فهو طلاقٌ بِدْعيٌّ مُحرَّمٌ؛ لمخالفته قول الله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} .

وعن ابن عمر رضي الله عنهما (أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ)[رواه البخاري، ومسلم].

ولأنَّ ذلك يوجب تطويل العدِّة؛ لأنَّه لا يحتسب بالحيضة التي طلَّقها فيها.

ج- الطلاق في طُهْرٍ وَطِئَها فيه: إذا طلَّق الزَّوج امرأته في طُهْرٍ وَطِئَها فيه؛ فهو كذلك طلاقٌ بِدْعيٌّ مُحرَّم؛ لمخالفته لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ؛ قال عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: «الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ: طَاهِراً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ» .

ولأنَّها تتضرَّر بذلك وتَرْتاب، فلا تدري أَحَمَلت فتَعْتدُّ بوَضْع الحَمْل، أم هي حائل فتَعْتدُّ بالأَقْراء. ولأنَّه يحتمل تَبيُّن حَمْلها فيندم على فِراقها، ولهذا لو استبان حَمْلُها أُبيح الطَّلاق.

ص: 292

- ويقع الطَّلاق البِدْعيُّ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ فيه بالرَّجعة، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما:(مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا)، والرَّجعة لا تكون إلَّا بعد طلاق. ويؤيِّده قول سالم بن عبد الله بن عمر:«وَكَانَ عَبْدُ اللهِ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا» [رواه مسلم].

- يُباحُ الطَّلاق والخُلْع زَمَنَ البِدْعَةِ بسؤال الزوجة ذلك؛ لأنَّ المنع منه إنَّما شُرِع لحقِّ المرأة؛ فإذا رَضِيَت بإسقاط حقِّها، زال المنع.

* الطَّلاق الذي لا سُنَّةَ فيه ولا بِدْعَةَ:

من الطَّلاق ما لا يُوصَفُ بسُنَّة ولا بِدْعةٍ، وذلك في الصور التالية:

أ - طلاقُ غير المدخول بها؛ لأنَّها لا عِدَّة لها فتتضرَّرُ بتطويلها.

ب- طلاقُ الصغيرة والآيِسَة؛ لأنَّها لا تعتدُّ بالأَقْراء؛ فلا تختلف عِدَّتُها، ولا ريبة لهما، ولا ولد يندم المُطلِّق على فِراقِه.

ج- طلاق الحامِل؛ لأنَّ انقضاء عِدَّتها بوضع حَمْلِها؛ فلا يكون لها حالةُ سُنَّةٍ، ولا حالة بِدْعَةٍ.

ص: 293

‌باب صريح الطلاق وكنايته

المعتبرُ في الطلاق اللَّفظ دون النيَّة التي لا يُقارنها لفظ؛ لأنَّ اللَّفظ هو الفعل المُعبِّر عمَّا في النَّفْس من الإرادة والعَزْم، والقَطْعُ بذلك إنَّما يكون بعد مقارنة القول للإرادة، فلا تكون الإرادة وَحْدَها من غير قولٍ فعلاً.

ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ عز وجل تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَتَكَلَّمْ بِهِ)[متفق عليه]، فلذلك لا تكون النيَّة وَحْدَها مؤثِّراً في الوقوع.

وبناء عليه؛ فإنَّه يُعتَبرُ للطلاق اللَّفظ، أو ما يقوم مقامه، كالإشارة المفهومة من الأَخْرَس، وكتابةُ الطلاق.

فلا يقع الطلاق بغير لفظٍ؛ فلو نواهُ بقَلْبِه من غير لفظٍ لم يقع؛ لأنَّه إزالةُ مِلْكٍ، فلم يحصل بمُجَرَّد النيَّة؛ كالعِتْق.

‌أوَّلًا: أَقْسامُ اللَّفْظِ في الطَّلاقِ:

ينقسمُ اللَّفْظُ في الطلاق إلى صريحٍ، وكِنايَةٍ.

والصريحُ: ما لا يحتملُ غيرَه، من كُلِّ شيءٍ وضع له اللَّفظ؛ من طلاقٍ، وعِتْقٍ، وظِهارٍ، وغيرها.

وصريح الطلاق لا يحتاج إلى نيَّةٍ؛ لأنَّ سائر الصرائح لا تفتقر إلى نيَّة؛ فكذا صريح الطلاق.

ص: 295

واللَّفظ الصريح في الطلاق هو قول الرجل لزوجته: «أنت طالقٌ» ، وما تصرَّف منه: ك «مُطلَّقة» ، و «طَلَّقْتُك» .

فلو قال لزوجته: «أنت طالقٌ» ولم يَنْوِ الطلاق، فإنَّها تَطْلُق منه؛ لأنَّ إيجادَ هذا اللَّفظ من العاقل دليلُ إرادته.

أمَّا إذا كان لفظ الطلاق أمراً لها؛ كقوله لها: «طَلِّقي» ، أو استفهاماً؛ كقوله لها:«هل طلقت؟» ، أو تمنٍّ؛ كقوله:«ليتك طالق» ، فإنَّها لا تكون بذلك طالقاً؛ لأنَّها لا تدلُّ على الإنشاء.

وكذلك لو كان يترجَّى زوجته بالطلاق، أو كان ذلك بالتحضيض.

وإذا كان الكلام معها بقوله لها بالفعل المضارع: «تَطْلُقين» ، أو قوله لها باسم الفاعل:«مُطلِّقة» ؛ فلا يقع الطلاق بهذه جميعاً؛ لأنَّ لفظ الإطلاق وما تصرَّف منه نحو: «أَطْلَقْتُكِ» ، ليس بصريحٍ، بل كنايةٌ.

‌ثانياً: طَلاقُ الهَازِلِ:

الهازلُ: هو من يتكلَّم الكلامَ من غير قصدٍ لمُوجِبِه وحقيقته، ويكون ذلك على وجه اللَّعِب.

فإذا قال الزوج لزوجته: «أنت طالقٌ» طَلُقَت؛ هازلاً كان أو جادًّا، أو لاعباً؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:(ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهَنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ)[رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه].

قال ابن المنذر: «وأجمعوا على أنَّ جِدَّ الطلاق وهَزْلَه سواء» .

ص: 296

‌ثالثاً: الكَذِبُ في الطَّلَاقِ:

لو قيل للزَّوج: «أَطَلَّقْتَ امرأتَكَ» ؟ فقال: «نعم» ؛ يريدُ الكَذِب بذلك؛ فإنَّها تَطْلُقُ؛ لأنَّ «نعم» صريحٌ في الجواب، والجوابُ الصريح للَّفظ الصريح صريحٌ؛ إذ لو قيل:«ألزيدٍ عليك ألفٌ» ؟ فقال: «نعم» . كان إقراراً.

ولو قيل: «أَلَكَ امرأةٌ» ؟ فقال: «لا» ، وأراد الكَذِب، لم تَطْلُق إن لم يَنْوِ به الطَّلاق؛ لأنَّه كنايةٌ تفتقر إلى نيةٍ، ولم توجد مع إرادة الكذب.

‌رابعاً: سَبْقُ اللِّسانِ في الطَّلَاقِ:

إذا سَبَق لسانُ الزَّوج بلفظ الطلاق الصَّريح؛ كما لو أراد أن يقول: «طاهراً» أو «طاعناً» ، فسبق لسانه ب «طالقٍ» ، وادَّعى أنَّه لم يُرد طلاقاً؛ لم تطلق ديانةً -أي فيما بينه وبين الله تعالى- إن كان صادقاً؛ لأنَّه أعلم بما أراد، ولا يُمكن الاطِّلاع على ذلك إلَّا من جهته. فإن رُفِع الأمر إلى القاضي حكم بوقوع الطلاق؛ لأنَّ ذلك خلاف ما يقتضيه الظَّاهر في العُرْف، فتَبْعُدُ إرادته ما ذَكَر؛ كما لو أَقَرَّ بعشرة دراهم، ثمَّ قال: أردتُ عشرة دراهم مغشوشة؛ فإنَّه لا يُقبل ذلك منه قضاءً.

وكذا لو قال: «طالقاً» ، وقال: أردتُ: من وَثاقٍ، أو أردتُ: من زوجٍ كان قَبْلي. أو قال: «أنتِ طالقٌ» ، وقال: أردتُ: إن قُمْتُ، فتَركْتُ الشَّرط، ولم أُرِدْ طلاقًا؛ لم يقع طلاقه دِيانةً إن كان صادقاً، ويقع قضاءً؛ لما سبق.

ص: 297

‌خامساً: الحَلِفُ بالطَّلاقِ:

- من قال: «حَلَفْتُ بالطلاق لأن أفعل كذا» ، أو «لا أفعل كذا» ، وأراد الكذب؛ بأن لم يكن حَلَفَ بالطلاق. فإن فعل ما حلف عليه، وقع الطلاقُ حُكْماً؛ مؤاخذةً له بإقراره؛ لأنَّه يتعلَّق به حقُّ آدميٍّ معيَّنٍ، فلم يُقبل رجوعه عنه؛ كإقراره له بمالٍ، ثم يقول: كذبت. ودُيِّن فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنَّه لم يحلف، واليمين إنَّما تكون بالحلف.

- وإن نوى أنَّه كان طَلَّقَها من نكاحٍ سابقٍ؛ دُيِّنَ فيما بينه وبين الله؛ لأنَّ الله أعلمُ بنيَّتِه، وأمَّا في حُكْم الطلاق؛ فإن كان وُجِدَ منه طلاقٌ سابقٌ؛ قُبِلَ قوله، وإلَّا فلا.

- ولو قالت زوجته: «حَلَفْتَ بالطلاق الثلاث» ؟ فقال: «لم أَحْلِفْ إلَّا بواحدةٍ» . أو قالت: «عَلَّقْتَ طلاقي على قُدوم زيدٍ» ؟ فقال: «لم أُعلِّقْه إلَّا على قدوم عمرٍو» . كان القولُ قولَه، لأنَّه مُنكِرٌ لما تقوله، وهو أعلمُ بحال نفسه.

‌سادساً: قَولُ «عَلَيَّ الطَّلاقُ» ، أو «يَلْزَمُنِي الطَّلاقُ» ونحوهما:

إذا قال الزَّوج لزوجته: «عليَّ الطَّلاقُ» ، أو «يَلَزمُني الطَّلاقُ» ؛ فهو من صريح الطَّلاق، ولا يُحتاج منه إلى نيَّةٍ، سواءٌ أكان:

1) مُنَجَّزاً؛ كقوله: «أنتِ الطَّلاقُ» ، ويقع الطلاق بمُجرَّد قوله ذلك؛ لأنَّه بمنزلة «هي طالقٌ» .

ص: 298

2) أو مُعلَّقاً بشَرطٍ؛ نحو قوله: «عليَّ الطَّلاقُ إن دخلتِ الدَّار» ، أو «أنتِ الطَّلاقُ إن دخلتِ الدَّار» ، أو «أنتِ الطَّلاقُ لأقومَنَّ» ، فهي طالقٌ.

3) أو مَحْلوفاً به؛ نحو قوله: «عليَّ الطَّلاقُ لأقومَنَّ» ، أو «أنتِ الطلاق لأخرجنَّ» ، أو «يَلْزمُني الطَّلاقُ لا أفعل كذا، أو لأفعلَنَّ كذا» ؛ فهي طالق.

ووقوع الطلاق صريحاً بما سبق؛ لأنَّه قد اشتهر استعمالُه في إيقاع الطلاق، وهو مستعملٌ في عُرْفِهِم، وكونه مجازاً لا يمنع كونه صريحاً؛ لتعذُّر حَمْلِه على الحقيقة؛ ولا محلَّ له يظهر سوى هذا المحلِّ؛ فيتعيَّن فيه.

ويقع به واحدةً، ما لم يَنْوِ أكثر؛ لأنَّ أهل العُرْف لا يعتقدونه ثلاثاً،

ولا يعرفون أنَّ الألف واللَّام للاستغراق.

‌سابعاً: أَحْكامٌ مُتَعلِّقةٌ بكلمةِ «عليَّ الحَرامُ» وما جَرَى مَجْراها:

- إن قال: «عَلَيَّ الحَرام» ، أو «يَلْزَمُنِي الحَرامُ» ، أو «الحَرامُ لازمٌ لي» ، ونَوَى امرأته، أو دلَّت قرينةٌ على إرادة ذلك؛ فهو ظِهارٌ؛ حتَّى وإن قال: نَوَيْتُ الطَّلاقَ؛ فإنَّه ظِهارٌ؛ لأنَّه صريحٌ في تحريمها.

وإن لم يَنْوِ امرأَتَهُ فلَغْوٌ لا يَصِحُّ أن يكون ظِهاراً.

‌ثامناً: مَنْ طَلَّقَ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ وَشَرَّكَ مَعَها ضَرَّتها:

من طَلَّق زوجَتَه، أو ظَاهَرَ منها، ثمَّ قال عَقِبَهُ لضَرَّتها:«شَرَّكْتُكِ» ، أو «أنتِ شَريكَتُها فيما أَوْقَعْتُ عليها من طلاقٍ أو ظِهارٍ» ، أو قال لضَرَّتها: «أنتِ

ص: 299

مِثْلُها»، أو «أنتِ كَهِيَ» ؛ فقد وَقَعَ على الضَّرَّتَيْن بما قاله لهما طلاقٌ أو ظِهارٌ؛ لأنَّه صريحٌ فيهما، ولا يحتاج إلى نيَّةٍ؛ لأنَّه جَعَل الحُكْم فيهما واحداً، وهذا لا يحتمل غير ما فُهِمَ منه، أشبه ما لو أعاده بلَفْظِه على الثانية.

‌تاسعاً: مَنْ قَالَ: «عَلَيَّ الطَّلاق» ، وله عِدَّة نِسْوَةٍ:

- إن قال: «عليَّ الطلاق» ، أو «امرأتي طالِقٌ» ، وله أكثرُ من زوجةٍ؛ فإن نَوَى مُعَيَّنةً انصرف إليها.

وإن نَوَى واحدةً مُبْهَمَةً أُخرِجَتْ بقُرْعَةٍ؛ لأنَّها طريقٌ شَرْعِيٌّ لإخراج المجهول، كمن طَلَّق إحدى زَوْجَتَيْه مُعَيَّنةً، ثمَّ نَسِيَها؛ فيُقْرَعُ بينهما، وتجبُ نَفَقَتُهما إلى القُرْعَةِ.

وإنْ تبيَّن للزَّوج أنَّ المُطلَّقة غيرُ التي خرجت قرعتها؛ بأن تذكَّر ذلك، رُدَّت إليه، ما لم تتزوَّج، أو تكن القُرْعة بحاكمٍ؛ فلا تُردُّ إليه.

- وإذا قال: «عليَّ الطَّلاقُ» ولم ينو شيئاً، لا مُعيَّنةً من زوجاته ولا مُبْهمَةً، ولم يكن هناك سببٌ يقتضي تعميماً أو تخصيصاً؛ وَقَعَ الطَّلاقُ على الكُلِّ؛ لأنَّ الكُلَّ امرأته، وهي محلٌّ لوقوع طلاقه عليها، ولا مُخَصِّصَ.

‌عاشراً: الطَّلاقُ في النَّفْسِ:

إذا طلَّق في نفسه، لم يقع طلاقُه؛ ما لم يتلفَّظ أو يُحرِّك لسانه؛ وذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ

ص: 300

بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ) [رواه البخاري، ومسلم]. فإن تلفَّظ به أو حرَّك لسانه، وقع ولو لم يسمعه؛ لأنَّه تكلَّم به.

‌حادي عشر: الطَّلاقُ بالكِتابَةِ والإشارَةِ:

أ - من كتبَ صريحَ طلاقِ زوجتِه وَقَعَ الطَّلاقُ وإن لم يَنْوِه؛ لأنَّ الكتابة صريحةٌ فيه، لأنَّها حروفٌ يُفْهَمُ منها المعنى، وتقومُ مقام قول الكاتب، بشرط أن تكون الكتابة واضحةً بيِّنةً في الطَّلاق.

فلو كَتَبَ الطلاق بإصبعه على وِسادَةٍ، أو على شيءٍ لا يَثْبُتُ عليه خَطٌّ؛ كالكتابة على الماء، أو في الهواء؛ فإنَّه لا يقع؛ لأنَّ هذه الكتابة بمنزلة الهَمْس بلسانه بما لا يُسمَع.

- أمَّا ما كان من كنايةِ الكتابة، فلا يُعدُّ طلاقاً.

ولو كَتَبَه صريحاً وقال: لم أُرِدْ إلَّا تَجويدَ خَطِّي، أو غَمَّ أَهْلي، أو قَرَأَ ما كَتَبَهُ وقال: لم أَقْصِد إلَّا القراءةَ والحِكايةَ للمكتوب؛ فإنَّه يُقْبَلُ حُكْماً؛ لأنَّه أَعْلَمُ بنيَّتِه، وقد نَوَى محتملًا غير الطلاق.

ب- ويقع الطَّلاقُ بإشارةٍ مفهومةٍ من الأَخْرَس؛ ويقعُ من العَدَد ما أشار إليه؛ لقيامها مقام نُطْقِه.

ص: 301

‌فصل الطَّلاق بالكناية

‌أوَّلًا: مَعْنَى الطَّلاق بالكِنايَةِ:

الطلاق بالكناية: أن يأتي الزَّوج بلفظ يحتمل معنى الطلاق وغيره، ويدلُّ على معنى الصريح؛ كقوله:«أنت خَلِيَّة» ، و «أنت بَرِيَّة» ، «وأنت حُرَّة» ، و «اخرجي» ، و «الحقي بأهلك» ، و «اذهبي» ، ونحو ذلك.

‌ثانياً: حُكمُ وُقوعِ الطَّلاقِ بالكِنايَةِ:

كناية الطلاق لا بدَّ فيها من نيَّة الطلاق؛ لأنَّ الكناية لمَّا قَصرت رُتبتها عن الصريح؛ وقف عملُها على نيَّة الطلاق؛ تقويةً لها؛ ولأنَّها تحتمل غير معنى الطلاق؛ فلا تتعيَّن بدون النيَّة.

ويُشترط أن تكون النيَّة مقارِنَةً للفظ الكناية؛ فلو تلفَّظ بالكناية غيرَ ناوٍ للطلاق؛ ثمَّ نوى بها الطلاق بعد ذلك، لم يقع.

‌ثالثاً: أَقْسامُ كِنايَةِ الطَّلاقِ:

كناية الطلاق قسمان:

الأوَّل: كنايةٌ ظاهرةٌ؛ وهي الألفاظ الموضوعة للبينونة؛ لأنَّ معنى الطلاق فيها أظهر، فيقع بها ثلاث طلقات وإن نوى واحدةً، يُروى ذلك عن عليٍّ، وابن عمر، وزيدٍ [رواها البيهقي]، ولم يُنقل خلافهم في عصرهم؛ فكان إجماعاً.

ص: 303

والثاني: كنايةٌ خَفِيَّةٌ؛ لأنَّها أخفى في الدلالة من الأُولَى؛ وهي الألفاظ الموضوعة لطلقةٍ واحدةٍ، ما لم ينو أكثر؛ لأنَّ مقتضاه الترك دون البينونة كصريح الطلاق، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لابنة الجُونِ:(الْحَقِي بِأَهْلِكِ)[متفق عليه]، ولم يكن ليُطَلِّقَ ثلاثاً وقد نَهَى عنه. وقال لسَوْدَةَ:(اعْتَدِّي، فَجَعَلَهَا طَلْقَةً)[متفق عليه].

فأمَّا ألفاظ الكناية الظاهرة فكثيرةٌ، وأبرزها:

1) «أنتِ خَلِيَّة» . والخليّة هي الناقة تُطلق من عِقالها ويُخلّى عنها، ثمّ كني بها عن الطلاق.

2) «أنت بَرِيَّةٌ» ؛ أي: من النكاح، أو من الزَّوج.

3) «أنت بائنٌ» ؛ أي: منقطعة عن الأزواج.

4) «أنت بَتَّةٌ» ؛ أي: مقطوعة.

5) «أنت بَتَلَةٌ» ؛ أي: منقطعة.

6) «أنت حُرَّةٌ» ؛ يعني: من رِقِّ النكاح.

7) «أنت الحَرج» ؛ أي: أنت الإثم، من باب الوصف بالمصدر؛ مبالغةً على حذف المضاف؛ أي: ذات الحَرَج. والحرج هو الإثم. وأصله الِّضيق؛ فكأنَّه حرَّمها، وأثَّم نفسَه بطلاقها، وصار في ضِيقٍ من أمرها، وإنَّما يكون كذلك إذا طلَّقها ثلاثاً.

8) «حَبْلُكِ عَلى غَارِبِكِ» ، ومعناه: مُرسلةٌ مُطْلَقةٌ غير مشدودةٍ، ولا مُمسَكةٍ بالنكاح.

ص: 304

9) «لا سُلْطان لي عَلَيْكِ» ؛ أي: لا ولاية لي عليك.

10) «تَزَوَّجي من شِئْتِ» .

11) «حَلَلْتِ للأزواج» .

12) «لا سبيل لي عَلَيْكِ» .

14) «أَعْتَقْتُكِ» .

15) «غَطِّي شَعْرَكِ» .

16) «تَقَنَّعِي» .

وأمَّا ألفاظ الكناية الخَفِيَّة فكثيرةٌ أيضاً، ومن أبرزها:

1) «اخْرُجِي» .

2) «اذْهَبِي» .

3) «ذُوقي وتَجَرَّعي» ؛ أي: ذوقي الطلاق، وتَجرَّعي مَرارَته.

4) «خَلَّيْتُك» .

5) «أنت مُخَلَّاةٌ» ؛ أي: مُطلَّقة؛ من قولهم: خَلَّى سَبيلَه؛ فهو مُخَلٌّ.

6) «أنت واحدةٌ» ؛ أي: منفردةٌ عن زوجٍ، أو ذات طلقةٍ واحدةٍ.

7) «لستِ لي بامرأة» .

8) «اعْتَدِّي» ، ولو غير مدخولٍ بها؛ لأنَّها محلُّ العِدَّة في الجُملة.

9) «استبرئي» .

10) «اعتزلي» ؛ أي: كوني وَحْدَك في جانب.

ص: 305

11) «الْحَقِي بأهْلِكِ» .

12) «لا حاجةَ لي فِيكِ» .

13) «ما بقي شيءٌ» .

14) «أغْناكِ اللهُ» .

15) «إنَّ الله قد طَلَّقَكِ» .

16) «الله أَراحَكِ مِنِّي» .

17) «جَرَى القَلَمُ على ما حَكَم» ، وكذا «فَرَّقَ اللهُ بيني وبَيْنَكِ في الدُّنيا والآخِرَة» ، أو «أبْرَأَكِ اللهُ» ، أو «إنَّ الله قد باعَكِ أو أَقالَكِ» .

18) «فِراقٌ» .

19) «سَراحٌ» .

‌رابعاً: أَحْكامٌ مُتَعلِّقةٌ بِكِنايَةِ الطَّلاقِ:

- لا تُشترط النيَّة لكنايةٍ في الطلاق حال الخصومة، أو الغضب، أو إذا سألته الزَّوجة طلاقها؛ اكتفاءً بدلالة الحال؛ لأنَّها تُغيِّر حكم الأقوال والأفعال.

فلو قال في حالة الخصومة، أو الغضب، أو السؤال من زوجته بطلاقها:«لم أُرِد الطلاق بالكناية» ؛ دُيِّن فيما بينه وبين الله، فإن صَدَق لم يقع عليه شيءٌ. ولم يُقْبَل حُكْماً؛ لتأثير دلالة الحال في الحكم، كما يُحمَلُ الكلامُ الواحد على المَدْح تارةً، والذَّمِّ أُخرى بالقَرائن.

ص: 306

‌باب

ما يختلف به عدد الطَّلاق

المعتبرُ في عدد الطَّلاق هو حال الرَّجُل من حيث كونه حُرًّا أو رَقيقاً؛ لأنَّ الطَّلاق خالصُ حقِّه؛ إذ جعل الله مِلْكَ الطَّلاق وأمرَه بيد الرَّجُل؛ فقال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230]، وقال عز وجل:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237].

وقد رُوي هذا عن عمر، وعثمان، وزيد، وابن عبَّاس رضي الله عنهم. [رواها عبد الرزاق، وابن أبي شيبة].

‌أوَّلًا: عَدَدُ ما يَمْلِكُه الحُرُّ والعَبْدُ من الطَّلاقِ:

أ - إذا كان المُطلِّق حُرًّا أو مُبعَّضاً؛ فإنَّه يملك ثلاث طلقات؛ سواء كان تحته حُرَّةٌ أو أَمَةٌ.

أمَّا الحُرُّ؛ فلقول الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إلى قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] أي: الطلقة الثالثة.

وأمَّا المُبَعَّض؛ فلأنَّ قسمة الطَّلاق في حقه غير ممكنة؛ الطَّلاق لا يتبعَّض؛ فإمَّا ثلاث وإمَّا اثنتان، فيكمل في حقِّه العدد.

ب- وإن كان المُطلِّق عَبْداً رقيقاً؛ فيملك طلقتين؛ سواء كان تحته حُرَّةٌ

ص: 307

أو أَمَةٌ؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: (إِذَا طَلَّقَ الْعَبْدُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً)[رواه مالك].

ولأنَّ الرَّقيق على النِّصف من الحُرُّ؛ كما في عدَّة المطلَّقة، وجَلْد الزاني. ولكن لما كان عدد الثلاث لا يتبعَّض، فيكمل العدد إلى اثنين.

‌ثانياً: مسائلُ البَيْنونَةِ الصُّغْرى والكُبْرى في الطَّلاق:

يقع الطَّلاق بائناً بينونةً صُغْرى في ثلاث صورٍ:

أ - إذا كان على عِوَضٍ؛ كالخُلْع، لأنَّ القصد إزالة الضَّرر عنها، ولو جازت رَجْعَتُها لعاد الضَّرر.

ب- إذا كان قَبْل الدُّخول والخَلْوةِ في عقدٍ صحيحٍ؛ لأنَّ الرجعة لا تُمْلَكُ إلَّا في العِدَّة، وغير المدخول بها لا عِدَّة عليها؛ لقوله تعالى:{ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، ولا يملك الرجوع إليها إلَّا بعقدٍ جديدٍ.

فإن قال لغير المدخول بها، وقبل خلوته بها:«أنتِ طالقٌ، أنتِ طالقٌ» ثنتين؛ فإنَّها تَبينُ بالأُولى، سواء نوى بالثانية الإيقاع أو لا، وسواء كان متَّصِلًا أو لا.

أمَّا المدخول بها، أو المُخْتلَى بها؛ فإنَّه يقع بذلك ثنتان، لأنَّ اللَّفظ للإيقاع؛ فيقتضي الوقوع، كما لو لم يتقدَّمه مثله، إلَّا أن ينوي بتكراره تأكيداً متَّصلاً،

أو إفهاماً.

ص: 308

ج- إذا كان في نكاحٍ فاسدٍ؛ كأن ينكحها بلا وليٍّ، أو بلا شهودٍ؛ لأنَّها إذا لم تحلَّ بالنكاح لعدم صحَّته، وجب أن لا تحلَّ بالرَّجعة فيه.

ولا يحلُّ نكاحها في هذه المسائل الثلاث إلَّا بعقدٍ جديدٍ بشروطه.

ويقع بائناً بينونةً كُبْرى: إذا كان الطَّلاق بالثلاث دفعةً واحدةً أو دفعات؛ بأن قال لها: «أنت طالقٌ بالثلاث» ، أو «أنت طالق ثلاثاً» ، أو «طالقٌ طالقٌ طالقٌ» ؛ فإنَّه يقع طلاقاً بائناً بينونةً كُبرى، ولا تحلُّ له حتَّى تنكحَ زوجاً غيره؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230].

‌ثالثاً: الألفاظُ التي يَقَعُ بها طَلاقُ الثلاثَةِ:

يقعُ الطَّلاق ثلاثاً في الأحوال التالية:

أ - إذا صرَّح بالعدد -كما سبق-.

ب - إذا وَصَفَ الطَّلاق بما يقتضي الإبانة؛ ومن ذلك:

1) أن يقول لها: «أنت طالقٌ بلا رَجْعَةٍ» ؛ فإنَّ المطلَّقة موصوفةٌ بعدم الرَّجعة فيها، وليس ثَمَّ ما يقتضي البينونة الصُّغرى، فتعيَّنت الكبرى.

2) أن يقول لها: «أنت طالقٌ البَتَّة» ؛ فإنَّ البَتَّ: القَطْع، والقَطْعُ للنكاح إنَّما يكون بالبينونة، وليس ثَمَّ ما يقتضي البينونة الصغرى، فتعيَّنت الكبرى.

3) أن يقول لها: «أنت طالقٌ طَلاقاً بائناً» ، أو «أنت طالقٌ بائنٌ» ؛ إذ هو

ص: 309

لفظٌ ظاهرٌ في اقتضاء البينونة؛ لأنَّ معناها خلوُّها من الأزواج.

ج- إذا قال: «أنت الطَّلاق» ونوى به ثلاثاً؛ فيقع ما نواه؛ لأنَّه نوى بلفظه ما يحتملُه.

أمَّا إن نواه واحدةً أو لم ينو، فيقع واحدةً؛ لأنَّ أهل العُرْف لا يعتقدونه ثلاثاً.

د - إذا قال: «أنت طالقٌ كُلَّ الطَّلاق» ، أو «أكثر الطَّلاق» ، أو «عدد الحَصَى» ، ونحو ذلك ممَّا يتعدَّد؛ فيقع ثلاثاً ولو نوى واحدةً؛ لأنَّ هذا اللفظ يقتضي عدداً، والطَّلاق له أقل وأكثر؛ فأقلُّه واحدةٌ، وأكثره ثلاثٌ.

هـ- إذا قال لها: «يا مائةَ طالقٍ» ، ولو نوى واحدة؛ لأنَّ ذلك لا يحتمله لفظه.

‌رابعاً: الأَلْفاظُ التي يَقَعُ بها الطَّلاقُ واحِداً:

يقع الطلاق واحداً في الأحوال التالية:

أ - إذا قال لزوجته: «أنتِ طالقٌ» ، أو «عليَّ الطَّلاقُ» ، أو «يَلْزمُني الطَّلاقُ» ؛ لأنَّه صريحٌ في المنصوص لا يحتاج إلى نيَّة، سواء كان مُنَجَّزاً، أو مُعلَّقاً، أو محلوفاً به، كما سبق.

ب- إذا قال لزوجته: «أنت طالقٌ أشدَّ الطَّلاق» ، أو «أغْلَظَهُ» ، أو «أطْوَلَهُ» ، أو «أعْرَضَهُ» ، أو «مِلْءَ الدُّنيا» ، أو «مِلْءَ البيت» ، أو «مثل الجَبَل» ، أو «على سائر المَذاهِب» ، وقعت طلقةً واحدةً، ما لم ينوِ أكثر؛ لأنَّ هذا الوصف لا

ص: 310

يقتضي عدداً، فالطَّلقة الواحدة تتَّصفُ بكونها يملأُ الدنيا ذِكْرُها، وأنَّها أشدُّ الطَّلاق عليها، فلم يقع الزائد بالشكِّ.

وتكون الطلقة رجعيَّةً في مدخول بها إن لم تكن مكمِّلةً لعدد الطَّلاق؛ فإن نوى أكثر، وقع ما نواه.

ص: 311

‌فصل في تعدُّد لفظ الطَّلاق

وما تختلف فيه المدخول بها عن غيرها

قد يتعدَّد لفظُ الطَّلاق من الرَّجُل في لفظٍ واحدٍ، ولذلك صورٌ، منها:

أ - أن يقول الرَّجُل لامرأته: «أنتِ طالقٌ، لا بل أنتِ طالقٌ» ، فيقع طَلْقةً واحدةً؛ لأنَّه صرَّح بنفي الأُولَى، ثمَّ أثبتها بعد نفيها، فيكون المثبتُ هو المنفيُّ بعينه، وهو الطَّلْقة الأُولَى، فلا يقع به طَلْقة ثانية.

ب- أن يقول: «أنت طالقٌ، طالقٌ، طالقٌ» : فهي طلقةٌ واحدةٌ؛ لأنَّه كرَّر الجملة من غير عطفه، وهو لا يقتضي المغايرة، فحُمِلَ على أنَّه تأكيدٌ للطَّلْقة الأُولَى. والأصل عدم وقوعه ثلاثاً بلفظٍ محتملٍ.

أمَّا إذا كان قد نوى بلفظه هذا أكثر من واحدة، فيقع ما نواه.

ج- أن يقول: «أنتِ طالقٌ، أنتِ طالقٌ» مرَّتين؛ فإنَّه يقع به طلقتان إن كانت المرأةُ مدخولًا بها بوطءٍ، أو خَلْوَةٍ في عقدٍ صحيحٍ؛ لأنَّ اللَّفظَ للإيقاع، فيقتضي الوقوع، كما لو لم يتقدَّمْه مثلُه.

فإن نوى به تأكيداً مُتَّصِلًا، أو إفهاماً لها، فيقعُ واحدةً؛ لانصرافه عن الإيقاع بنيَّة التأكيد والإفهام.

أمَّا غيرُ المدخول بها فإنَّها تَبينُ باللفظ الأوَّل، سواءٌ نوى بالثانية الإيقاع أو لا، وسواءٌ كان اللفظ متِّصلًا أو لا؛ لأنَّها إذا بانت بالأُولَى صارت كالأجنبيَّة،

ص: 313

فلا يلحقها ما يقع بعد ذلك من الطَّلاق. روي ذلك عن عليٍّ، وزيد بن ثابت، وابن مسعود. [رواها البيهقي في «الكبرى»].

د - أن يقول الرَّجُل لامرأته المدخول بها: «أنتِ طالقٌ» ، وسَكَتَ مُدَّة يمكنه الكلام فيها، ثمَّ أعاده لها، طَلُقَت ثانيةً، ولو نوى التأكيد؛ لأنَّه تابعٌ، وشَرْطُه الاتصال، كسائر التوابع.

هـ- أن يقول لامرأته: «أنتِ طالقٌ فطالقٌ» ، أو «أنتِ طالقٌ ثمَّ طالقٌ» ، فإن كانت مدخولًا بها وقعت طَلْقتان؛ لأنَّ حروف العطف تقتضي المغايرة.

أمَّا غير المدخول بها فتَبينُ بالطَّلْقة الأُولى، ولا يلزمها ما بعدها؛ لأنَّها تصير كالأجنبيَّة.

و- أن يقول الرَّجُل لامرأته: «أنتِ طالقٌ، وطالقٌ، وطالقٌ» ، فتقع ثلاث طلقات معاً، من غير فَرْقٍ بين المدخول بها وغير المدخول بها؛ لأنَّ الواو لمُطْلَق الجمع بلا ترتيب؛ فكأنَّه قال:«أنتِ طالقٌ ثلاثاً» .

ص: 314

‌فصل

في الاستثناء في الطَّلاق

‌أوَّلًا: تَعريفُ الاستثناء:

الاستثناءُ لُغةً: من الثَّنْي؛ وهو الرجوع؛ يُقالُ: ثَنَى رأسَ البعيرِ؛ إذا عَطَفَهُ إلى ورائه، فكأنَّ المُستَثنِي رَجَعَ في قوله إلى ما قَبْلَه.

واصطلاحاً: إخراجُ بعض الجُمْلَة ب (إلَّا) أو ما قامَ مَقامَها؛ ك «غير، وسِوَى، وليس، وعَدا، وحاشا» ، من مُتكَلِّمٍ واحدٍ.

‌ثانياً: شَرْطُ اعْتِبارِ الاسْتِثْناءِ في الطَّلاقِ:

يُشترطُ في الاستثناء ما يلي:

أ - أن يكون الاستثناءُ متَّصلًا اتِّصالًا مُعتاداً؛ لأنَّ غير المتَّصل يقتضي رَفْعَ ما وَقَعَ بالأوَّل، والطلاق إذا وقع لا يمكن رفعه، بخلاف المتَّصل؛ إذ الاتَّصال يجعلُ اللَّفظ جُملةً واحدةً، فلا يقعُ الطَّلاق قبل تمامها، ولولا ذلك لما صحَّ التعليق.

ولهذا الاتِّصال قسمان:

1) أن يكون الاتِّصال المعتاد لفظاً؛ بأن يأتي به متوالياً.

2) أن يكون الاتِّصال المعتاد حُكْماً؛ كانقطاع الاستثناء عمَّا قَبْلَه بعُطاسٍ، أو سُعالٍ، أو تَنَفُّسٍ، ونحو ذلك؛ فلا يُبطِلُه الفَصْل اليسير عُرْفاً، ولا ما

ص: 315

عَرَضَ من سُعالٍ ونحوه، ولا طُولُ كلامٍ متَّصِلٍ بعضُه ببعضٍ. بخلاف انقطاعه بكلامٍ مُعْتَرضٍ، أو سكوتٍ طويلٍ.

ب- أن ينوي الاستثناء قبل تمام المستثنى منه.

‌ثالثاً: أَحْكامُ الاسْتِثْناءِ في الطَّلاقِ:

أ - يصحُّ الاستثناءُ في النِّصف فأقلَّ من مُطَلَّقاتٍ وطَلَقاتٍ؛ كأن يقول: «زوجتاي طالقتان، إلَّا فلانة» ، أو «زوجاته الأربع طوالق، إلَّا فلانة وفلانة» ، وكما لو قال:«أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلَّا واحدةً» ، أو يقول:«أنت طالقٌ أربعاً إلَّا ثنتين» ؛ لأنَّه كلامٌ متَّصلٌ أبان به أنَّ المُستثنَى غيرُ مُرادٍ بالأوَّل، إذ الاستثناء ليس رافعاً لواقعٍ، وإنَّما هو مانعٌ لدخول المُستثنَى في المُستثنَى منه.

ب- إذا قال الرَّجُل لامرأته: «أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلَّا ثلاثاً» لم يصحَّ بلا خلاف؛ لأنَّ الاستثناء لرَفْع المُستثنَى منه، فلا يصحُّ أن يُرْفَع جميعُه.

ج- ولو قال: «أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلَّا ثنتين» وقعت ثلاثاً؛ لأنَّه لا يصحُّ استثناء الأكثر؛ لأنَّه لم يرد في لسان العرب الاستثناء إلَّا في الأقل، وأنكروا استثناء الأكثر.

ص: 316

‌فصل في طلاق الزَّمَن

المراد بالزَّمَن هنا: أوقاته الثلاثة؛ الماضي، والحال، والمستقبل؛ والمعنى بيان حكم الطَّلاق إذا قُيِّد بأحد هذه الأزمان الثلاثة.

‌أوَّلًا: الطَّلاق في الزَّمَن الماضِي:

ولذلك صور؛ منها:

أ - إذا قال الرجل لامرأته: «أنت طالقٌ أمس» ، أو «في الشهر الماضي» ، أو «الجمعة الماضية» ، أو قال:«أنت طالق قبل أن أتزوَّجك» ، ونوى بذلك وقوع الطَّلاق وقت القول؛ فإنَّ الطَّلاق يقع في الحال؛ لإقراره على نفسه بما هو أغلظ في حقِّه.

فإذا لم ينو وقوعه؛ بأن أطلق، أو نوى إيقاعه في الماضي، فلا يقعُ؛ لأنَّ الطَّلاق رَفْعٌ للاستباحة، ولا يمكن رَفْعُها في الماضي.

ب- إذا قال لامرأته: «أنت طالقٌ اليوم إذا جاء الغد» ، فيُعدُّ لغواً، ولا يقعُ به الطَّلاق اليوم ولا في غدٍ؛ لأنَّه لا يقع في اليوم لعدم تحقُّق شَرْطِه؛ إذ لا يجيءُ الغدُ إلَّا بعد ذهاب اليوم الذي هو محلُّ الطَّلاق؛ لأنَّه زمنٌ ماضٍ.

‌ثانياً: الطَّلاق في الزَّمَن المُستَقْبَل:

ومن صور ذلك:

ص: 317

أ - إذا قال الزوج لامرأته: «أنت طالقٌ غداً» ، أو «يوم كذا» ؛ وقع الطَّلاق بحلول أوَّل وقتهما؛ وهو طلوع فجرهما؛ لأنَّه جَعَلَ «الغَدَ» أو «يومَ كذا» ظَرْفاً للطَّلاق، فكُلُّ جزءٍ منهما صالحٌ للوقوع فيه، فإذا وُجِدَ ما يكونُ ظَرْفاً له منهما، وقع.

ولا يُقْبَلُ حُكْماً ولا يُدَيَّن، إن قال: أردتُ آخر الغد، أو آخر يوم كذا؛ لأنَّ لفظه لا يحتمله.

ب- إذا قال لامرأته: «أنت طالقٌ في غدٍ» ، أو «في رَجَبٍ» ؛ يقعُ بأوَّلهما، وأوَّلُ الشَّهْر غُروبُ الشمس من آخر الشهر الذي قَبْلَه.

وإن قال: أردتُ آخرهما. قُبِلَ منه حُكْماً ودُيِّن؛ لأنَّ آخر هذه الأوقات وأوسطها منها كأوَّلها؛ فإرادته بذلك لا تُخالف ظاهر لفظه، إذا لم يأتِ بما يدلُّ على استغراق الزَّمَن للطلاق.

ج- إذا قال: «أنت طالقٌ كلَّ يومٍ» ، أو «أنت طالق اليوم وغداً وبعدَ غدٍ» ، فيقعُ طلقةً واحدةً؛ لأنَّه إذا طلقت اليوم كانت طالقاً غداً وبعده.

د - إذا قال: «أنت في طالق اليوم، وفي غدٍ، وفي بعده» ، فتطلق في كلِّ يومٍ واحدةً إذا كان مدخولًا بها، فيقع ثلاثٌ، في كلِّ يومٍ واحدة؛ لأنَّ إتيانه ب (في) وتكرارها يدلُّ على تكرار الطَّلاق. ومثله لو قال:«أنت طالق في كلِّ يومٍ» .

فإن لم يكن مدخولًا بها بانت بالأُولى، ولا يلحقها ما بعدها.

هـ- إذا قال: «أنت طالقٌ إذا مضى شهرٌ» ، فتطلق بمضي ثلاثين يوماً. وإذا

ص: 318

قال: «أنت طالق إذا مضى الشهر» ، فتطلق بمُضيِّ الشهر وانسلاخه.

و - إذا قال: «أنت طالقٌ إذا مَضَتْ سنةٌ» ، فتكون طالقاً بمضيِّ اثني عشر شهراً بالأهلَّة تامَّةً كانت أو ناقصةً، إن كان حَلِفُه أوَّل الشهر؛ لقوله تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36]، ويكمل ما حلف في أثنائه بالعدد ثلاثين يوماً.

ز - إذا قال: «أنت طالقٌ إذا مضت السَّنَةُ» ؛ فتطلق بانسلاخ ذي الحِجَّة من السَّنَةِ المُعَلَّق فيها الطَّلاق؛ لأنَّه عَرَّفها بلام التعريف العهديَّة، (العهد الحضوري)، والسَّنَةُ المعروفةُ آخرُها ذو الحِجَّة، وكذا لو قال:«إذا مضت هذه السَّنَةُ» .

ص: 319

‌باب تعليق الطَّلاق

‌أوَّلًا: تَعريفُ تَعْليقِ الطَّلاقِ:

تعليقُ الطَّلاق: هو ترتيبُ وقوع الطَّلاق على شيءٍ حاصلٍ، أو غير حاصلٍ ب (إنْ)، أو إحدى أخواتها.

فترتيبُ وقوع الطَّلاق على شيءٍ حاصل. مثل أن يقول: «إن كنتِ حاملاً؛ فأنتِ طالقٌ» ، وكانت كذلك فعلاً.

وأمَّا ترتيبُه على شيءٍ غير حاصل. فمثل أن يقول: «إن دَخَلْتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ» .

‌ثانياً: شُروطُ صِحَّةِ تَعْليقِ الطَّلاقِ:

يُشترط لصحَّة تعليق الطَّلاق الشروط التالية:

الأوَّل: أن يكون التعليق من زَوْجٍ يَعْقِلُ الطَّلاق؛ فلو قال: «إن تَزَوَّجْتُ امرأةً أو فُلانةً فهي طالقٌ» ، لم يقع الطَّلاق بتزوُّجها؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، حيث دلَّ حرف (ثُمَّ) على أنَّه لا يقع طلاقُ امرأةٍ إلَّا بعد عقد النكاح عليها؛ لأنَّ (ثُمَّ) تُفيدُ التراخي والترتيب.

وعن عمرو بن شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا نَذْرَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا

ص: 321

يَمْلِكُ، وَلَا طَلَاقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ

) [رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي].

الثاني: أن يَنْوِيَهُ قَبْلَ الفَراغِ من التلفُّظ بالطَّلاق؛ فلو طلَّق غير ناوٍ التعليق، ثمَّ عَرَضَ له فقال:«إنْ قُمْتِ» ، لم ينفعه التعليق، ووقع الطَّلاق؛ لأنَّ الطَّلاق إذا وقع لا يُمكن رَفْعُه.

الثالث: أن يكون مُتَّصِلاً لَفْظاً أو حُكْماً؛ فلا يَضُرُّ فَصْلٌ بين شَرْطٍ وجَوابِهِ بعُطاسٍ، أو سُعالٍ، أو تَنَفُّسٍ، أو قَطَعَهُ بكلامٍ مُنْتَظِمٍ؛ كقوله: «أنت طالقٌ

-يا فاسقة- إن قُمْتِ»، أو «إن قَعَدْتِ -يا فاسقة- فأنت طالق» ؛ لأنَّه متَّصِلٌ حُكْماً.

فإن قَطَعَهُ بسُكُوتٍ يمكنُه الكلامُ فيه، ولو قَلَّ، أو قَطَعَهُ بكلامٍ غير مُنْتَظِمٍ؛ كقوله بين الشرط وجوابه:«سبحان الله» ونحو ذلك؛ كالتهليل، والتحميد، والتكبير، طَلقت في الحال، ويكونُ مُنجَّزاً؛ لقطع التعليق؛ ولأنَّ غير المتصل يقتضي رَفْعَ ما وَقَعَ بالأوَّل، والطَّلاق إذا وقع لا يُمكن رفعه؛ بخلاف المُتَّصِل؛ فإنَّ الاتِّصال يجعلُ الكلامَ جملةً واحدةً، فلا يقع الطَّلاق قبل تمامها.

‌ثالثاً: صِيَغُ تَعْليقِ الطَّلاقِ:

أ - أدواتُ الشَّرْطِ المُستَعْمَلَةِ في تعليق الطَّلاق -غالباً- سِتٌّ، وهي:«إنْ» ، و «إذا» ، و «مَتَى» ، و «مَنْ» ، و «أَيٌّ» ، و «كُلَّما» التي تستعمل وحدها للتكرار.

وكلُّ أدوات الشرط الستِّ، و «مهما» ، و «حيثما» تفيد التراخي إذا تجرَّدت

ص: 322

عن (لَمْ)، أو نِيَّةِ الفَوْرٍ، أو قَرِينَته؛ لأنَّها لا تقتضي وقتاً بعينه دون غيره، فهي مطلقةٌ في الزَّمان كلِّه.

فإنِ اتَّصلَت ب: (لَمْ) صارت على الفَوْر، إلَّا مع نِيَّة تراخٍ أو قَرينته. إلَّا (إنْ) فقط فهي على التراخي ولو اقترنت ب:(لَمْ)، مع عدم نِيَّة الفَوْر، أو قَرينته.

ب- إذا علَّق الزَّوج طلاقَ زوجته على شرطٍ متقدِّمٍ على لفظ الطَّلاق؛ كقوله: «إن قُمْتِ فأنتِ طالقٌ» ، فيصحُّ التعليق، ويقع الطلاق بقيامها.

وإذا علَّقَه على شَرْطٍ متأخِّر عن لفظ الطَّلاق؛ كقوله: «أنت طالقٌ إن قُمْتِ» ، فيصحُّ التعليق أيضاً؛ للاستقراء؛ حيث ثبت بعد استقراء وتتبُّع كلام العرب أنَّ الشَرْط اللُّغَويَّ يصحُّ أن يتقدَّم، ويصحُّ أن يتأخَّر، ويكون معنى ذلك واحداً.

‌رابعاً: أَحْكامٌ مُتَفرِّقةٌ في تَعْليقِ الطَّلاقِ:

أ - إذا علَّق الزَّوجُ وقوعَ الطَّلاق على وجودِ فِعْلٍ مستحيلٍ عادةً؛ لا يُتصوَّرُ في العادة وجودُه، وإن وُجِدَ كان خارقاً للعادة؛ مثل قوله:«إن صَعَدْتِ السماء، أو إن طِرْتِ بنَفْسِك، أو إذا شاءَ الميِّتُ فأنتِ طالقٌ» ، أو «إن قَلَبْتِ الحَجَرَ ذَهَباً، أو شَربتِ ماء النَّهْر فأنتِ طالقٌ» ؛ فإنَّها لا تَطْلُق؛ لأنَّه عَلَّق الطَّلاق على صفةٍ

لم تُوجَد؛ ولأنَّه قَصَدَ تَبْعيدَ طلاقهِ فأتى بتعليقه على شيءٍ مستحيل.

ص: 323

ب- إذا علَّق الزَّوجُ الطَّلاق على عدم وجود الشيءِ المستحيل؛ كقوله: «إن لم تصعدي إلى السماء فأنت طالق» ؛ فإنَّ زوجته تَطْلُق في الحال؛ لأنَّه علَّق الطَّلاق على عدم فِعْل المستحيل، وعدمُه معلوم في الحال وبعده.

ج- إذا علَّق الزَّوجُ الطَّلاق على فِعْلٍ غير مستحيلٍ، لم تطلق إلَّا بالإياس ممَّا عَلَّق عليه الطَّلاق؛ ما لم يكن هنالك نيَّةٌ، أو قرينةٌ تدلُّ على الفَوْر، أو يُقيَّد بزَمَنٍ؛ فيُعمَلُ بالنيَّة على وقوع الطَّلاق فوراً، أو القرينة.

مثاله: إذا قال الزَّوجُ: «إنْ لم أَطْلُبِ العِلْمَ فأنْتِ طالقٌ» من غير تعيين زمنٍ معلومٍ. أو إذا قال: «إنْ لم أُطلِّقك؛ فأنت طالقٌ» ، ولم ينوِ وقتاً، ولم تقم قرينةٌ على إرادة الفَوْر. ولم يطلب العِلْم، ولم يُطلِّقها؛ فإنَّها تَطْلُق في آخر حياةِ أوَّلِهِما مَوْتاً؛ لأنَّه علَّق الطَّلاق على تَرْك الطَّلاق. فإذا مات الزَّوجُ فقد وُجِدَ التَّرْك منه، وإن ماتت هي فاتَ طلاقُها بموتها.

د - من حَلَفَ بالطَّلاق لا يدخلُ دار زَيْدٍ مثلاً، ثمَّ ماتت زوجتُه أو بانت، فتزوَّج أُخرَى، ودَخَلَ دار زَيْدٍ؛ فلا يقع عليها شيءٌ؛ كقوله لأجنبيَّةٍ:«إن فَعَلْتِ كذا فأنتِ طالقٌ» ، فتزوَّجها ثمَّ فعلَتْه، فإنَّه لا يقعُ الطَّلاق.

هـ- من عَلَّق طلاقَ زوجَتِه ثلاثاً على وَطْئِها أُمِرَ بطلاقها، وحَرُمَ عليه وَطْؤها؛ لوقوع الثلاث بإدخال ذَكَرِه؛ فيكون نَزْعُه في أجنبيَّه، والنَّزْعُ جماعٌ. فإنْ وَطِئَ وتَمَّمَ وَطْأَهُ لَحِقَهُ نَسَبُهُ، ولَزِمَهُ المَهْرُ، ولا حَدَّ.

ص: 324

وإن نَزَعَ في الحال فلا حَدَّ ولا مَهْرَ. وإن كان المُعلَّق طَلقَةً وقع رجعيًّا ولو غير مدخول بها.

ص: 325

‌فصل

مسائل متفرِّقة في تعليق الطَّلاق

‌أوَّلًا: تَعْليقُ الطَّلاقِ على إِذْنِ الزَّوْج:

أ - إذا قال الزَّوج: «إن خَرَجْتِ من بيتي بغير إذني فأنتِ طالقٌ» ؛ ثمَّ أَذِنَ لها في الخروج، وعَلِمَت بذلك وخرجت، لم تَطْلُق.

ب - وإذا قال الزَّوج: «إن خَرَجْتِ من بيتي بغيرِ إذني فأنتِ طالق» ؛ فأذِنَ لها ولم تَعَلَمْ بالإذن وخرجت، فقد طَلُقَت؛ لأنَّ الإذن هو الإعلام، ولم يُعلِمْها؛ وإذْنُ الشارع وأوامره ونواهيه لا يثبتُ حُكْمُها إلَّا بعد العِلْم بها؛ فكذا إِذْنُ الآدميِّ.

ولأنَّها قصدت بخروجها مخالفته وعصيانه، أشبه ما لو لم يأذن لها في الباطن؛ لأنَّ العبرة بالقصد لا بحقيقة الحال.

ج- إذا قال: «إن خَرَجْتِ من بيتي بغير إذني فأنت طالق» ؛ ثمَّ أَذِنَ لها في الخروج وخرجت؛ ثمَّ خَرَجَتْ مرَّةً ثانيةً بلا إذنه، طَلُقَتْ؛ لخروجها بلا إذنه. إلَّا إن نوى:«إلَّا إن أذنت لك مرَّة» ؛ فإنه إذا أذن لها مرَّة انحلَّت يمينه، فلا يحنث بخروجها بعد؛ لأنَّه علَّق البرَّ على وجود الإذن مرَّة، وقد وُجد، فتنحلُّ يمينه.

وكذا لو أذن لها في الخروج كلَّما شاءت؛ فلا يحنث بخروجها كما لو قال: «اخرجي كُلَّما شئتِ» ؛ لوجود الإذن، ما لم يُجدِّد حَلِفاً أو ينهاها.

ص: 327

د - إن قال: «إن خَرَجْتِ بغير إذْنِ زَيْدٍ فأنت طالقٌ» ؛ فماتَ زَيْدٌ؛ وخَرَجَتْ؛ لم تَطْلُق؛ لبُطْلان إذْنِه وقتئذٍ.

هـ- إن قال: «إن خَرَجْتِ إلى غير الحَمَّام بغير إذني فأنت طالق» ؛ فخَرَجَتْ للحَمَّام؛ ثمَّ بَدَا لها أثناء الخروج أن تذهب لغيره؛ كالمسجدِ، أو دار أهلها؛ طَلُقَت؛ لأنَّه صَدَقَ عليها أنَّها خَرَجَتْ إلى غير الحمَّام.

ولأنَّ ظاهرَ يَمينِهِ مَنْعُها من غير الحمَّام، فكيفَما صارت إليه حنث.

‌ثانياً: تعليقُ الطَّلاق بالمَشِيئَةِ:

أ - إذا قال الزَّوج: «زوجتي طالقٌ إن شاءَ الله» ، طَلُقَتْ، سواء قدَّم المشيئة أو أخَّرها.

ب- وإن قال: «زوجتي طالقٌ إلَّا أنْ يشاءَ الله» ، أو «أنتِ طالقٌ إنْ لم يشأ الله» ، أو «ما لم يشأ الله» لم تنفعه المشيئةُ شيئاً ووقع الطَّلاق؛ إذ لو لم يشأ الله ذلك لما أتى بصيغتهما. وثبت عن الحَسَن البصريِّ أنَّه قال:«إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لامْرَأَتِهِ: هِيَ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَهِيَ طَالِقٌ، وَلَيْسَ اسْتِثْنَاؤُهُ بِشَيْءٍ» [رواه ابن أبي شيبة]؛ لأنَّه تعليقٌ على ما لا سبيل إلى عِلْمِه، فبطل؛ كما لو علَّقه على شيءٍ من المستحيلات، ولأنَّه استثناءٌ يرفع جُمْلَةَ الطَّلاق حالًا ومآلًا؛ فلم يصحَّ، كاستثناء الكُلِّ.

ج- إذا قال لزوجته: «إن دَخَلْتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ إنْ شاء الله» ، أو «أنتِ

ص: 328

طالقٌ إنْ دَخَلْتِ الدار إنْ شاء الله تعالى»؛ فدَخَلَتْ؛ فإنْ نَوَى رَدَّ المشيئة إلى الفِعْلِ لم يقع الطَّلاق؛ لأنَّ الطَّلاق هنا بَيِّنٌ؛ إذ هو تعليقٌ على ما يمكن فعله أو تركه، فإذا أضافه إلى مشيئة الله تعالى لم يقع؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ فَقَدِ اسْتَثْنَى، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه].

وإن نوى ردَّ المشيئة إلى الطَّلاق، أو لم ينو به شيئاً، وَقَعَ؛ لما سبق من قول الحسن البصريِّ.

د - وإذا قال الزَّوج: «أنتِ طالقٌ إنْ شاءَ فلانٌ» ؛ فهو طلاقٌ مُعلَّق، لم يقع إلَّا أن يشاء فلانٌ، حتَّى لو كان مُميِّزاً يعقل المشيئة حينها.

فإذا مات فلانٌ أو جُنَّ؛ لم تَطْلُق؛ لأنَّ شَرْطَ الطَّلاق لم يُوجَد.

وإنْ خَرِسَ فلانٌ بعد التعليق، أو كان أخرس حين التعليق، وفُهِمَت إشارَتُه كانت كَنُطْقِه؛ لقيامها مقامه، وإن لم تُفهم إشارته؛ لم تَطْلُق.

ولو غاب هذا الشخصُ المعلَّقَةُ مشيئتُه على تنفيذ الطَّلاق، لم تطلق المرأةُ حتَّى تَثْبُتَ مشيئتُه.

هـ- إذا قال الزَّوج: «أنتِ طالقٌ إنْ شاء فلانٌ» ، فشاء وهو سَكْران؛ طَلُقَتْ؛ لأنَّه يصحُّ منه الطلاق، فصحَّت مشيئته له.

و - إذا قال الزَّوج: «أنتِ طالقٌ إلَّا أنْ يشاءَ زَيْدٌ» ، كان وقوع الطَّلاق

ص: 329

موقوفاً على مشيئته؛ فإنْ أَبَى زَيْدٌ المشيئة، أو جُنَّ، أو مات، وقع الطَّلاق إذن؛ لأنَّه أَوْقَعَ الطَّلاق وعَلَّق رَفْعَه بشرطٍ، ولم يُوجَد.

ز - وإن قال: «أنتِ طالقٌ إنْ رأيتِ الهِلالَ عِياناً» ؛ أي: بإدراكه بحاسَّةِ البَصَر منها أو من غيرها؛ فرأته في أوَّل ليلةٍ، أو ثاني أو ثالثَ ليلةٍ، وقع الطلاق؛ لأنَّه هلالٌ. وإن رأته بعد اللَّيلة الثالثة لم يقع؛ لأنَّه بعد الثالثة يُسمَّى قَمَراً.

ح- وإن قال: «أنتِ طالقٌ إنْ فَعَلْتِ كذا، أو فَعَلْتُ أنا كذا» ، ففعَلَتْه، أو فَعَلَه حال كَوْنِ الفاعل منهما مُكْرهاً لم يقع الطَّلاق؛ لعدم إضافة الفعل إليه.

ط - وإن قال: «أنتِ طالقٌ إن فَعَلْتِ كذا، أو فَعَلْتُ أنا كذا» ؛ ففعلَتْه، أو فعلهُ حال كون الفاعل منهما مجنوناً، أو مغمًى عليه، أو حال كونه نائماً؛ لم يقع الطَّلاق؛ لكونه مُغطًّى على عَقْلِه في هذه الأحوال؛ ولحديث عليٍّ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ المَجْنُونِ المَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي].

ي- وإذا قال الزوج: «أنت طالقٌ إنْ فَعَلْتِ كذا، أو فَعَلْتُ أنا كذا» ؛ ففعلَتْه أو فعلَهُ ناسياً لحَلِفِه، أو جاهلًا أنَّه المَحلُوف عليه؛ أو جاهلًا الحِنْثَ به؛ وَقَعَ الطَّلاق؛ لأنَّه مُعلَّق بشرطٍ وقد وُجِدَ؛ ولأنَّه تعلَّق به حقُّ آدميٍّ، فاستوى فيهما

ص: 330

العَمْدُ والنِّسيانُ والخَطَأُ، كالإتلاف. وهذا بخلاف اليمين بالله سبحانه المُكفَّرة؛ فلا يحنث فيها نصاً؛ لأنَّه محض حقٍّ لله؛ فيدخل في حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)[رواه ابن ماجه].

ك- ومن حَلَف على شيءٍ يَظُنُّ صِدْقَ نفسِه، كمَنْ حلف:«لا فعلتُ كذا» ، أو «لم أفعل كذا» ، ظانًّا أنَّه لم يفعله فبان بخلافه، يحنث في طلاق وعتاقٍ، ولا يحنث في اليمن المُكفَّرة، لما سبق.

ل- وإذا قال الزَّوج: «إنْ لم تفعلي كذا فأنتِ طالقٌ» ، أو «إنْ لم أَفْعَلْ كذا فأنت طالقٌ» ، فلم تفعلْه، أو لم يفعلهُ هو، أو لم يفعلا بعضه؛ يحنث حتَّى يفعلَه كُلَّه.

فمن حلف على امرأته: «لا تدخل بيت أختها» لم تطلق حتى تدخل كلُّها؛ لأنَّ اليمين تناولت عدم فِعْلَ الجميع، فلم يحنث إلَّا بفِعْلِه.

ولأنَّ عائشة رضي الله عنها قالت: صلى الله عليه وسلم: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اعْتَكَفَ، يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ)[رواه البخاري، ومسلم]؛ فدلَّ على أنَّ دخول البعض لا يكون دخولًا للكلِّ.

ص: 331

‌فصل في الشكِّ في الطَّلاق

‌أوَّلًا: المَقْصودُ بالشَّكِّ في الطَّلاقِ:

الشكُّ في الطَّلاق: هو مُطْلَقُ التردُّد بين وجود المشكوك فيه من طَلَاقٍ،

أو عَدَدِه، أو شَرْطِه، أو عَدَمِه؛ فيدخل فيه الظنُّ والوَهْمُ.

‌ثانياً: أَحْكامُ الشَّكِّ في الطَّلاقِ:

أ - من شكَّ وتردَّد في وجود لفظ طلاقٍ، أو شكَّ في وجود شَرْطِه المعلَّق عليه، لم يَلْزَمْهُ الطَّلاق؛ لأنَّ النكاح متيقَّنٌ، فلا يزول بالشَكِّ الطَّارِئ. كالمتطهِّر يَشُكُّ في الحَدَثِ، ولحديث الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما، قال:(حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)[رواه أحمد، والترمذي، والنسائي].

ب- إن كان الطَّلاقُ المشكوك فيه رَجْعيًّا راجعها ما دامت في العدَّة إن كانت مَدْخولًا بها.

وإن كانت غير مدخولٍ بها، أو مدخولًا بها وانْقَضَتْ عِدَّتُها، جَدَّد نكاحها؛ قطعاً للشكِّ، من باب الورع.

ج- إن شكَّ في طلاق ثلاثٍ، طلَّقها واحدةً، وتَرَكَها حتَّى تنقضي عِدَّتها، فيجوز لغيره نكاحها؛ لأنَّه إذا لم يُطلِّقها فيَقينُ نكاحِه باقٍ؛ لأنَّه لم يوجد ما

ص: 333

يعارضه، فلا تَحِلُّ لغيره.

د - من حَلَفَ بالطَّلاق لا يأكُلُ تَمْرَةً أو جَوْزَةً؛ فاشتبهت بغيرها من نوع الصنف نفسه، وأكل الجميع إلَّا واحدة، لم يحنث؛ لأنَّه لا يتحقَّق حنثه حتَّى يأكل التَّمْر كُلَّه، لأنَّه إذا بقيت منه واحدة، احتُمِل أنَّها المحلوف عليها، ويقينُ النكاح ثابتٌ؛ فلا يزولُ بالشك.

هـ- من شكَّ في عدد ما طلَّق بأن عَلِم أنَّه طلَّق ولم يَدْرِ عدَدَه؛ بنى على اليقين وهو الأقلُّ؛ فمن شكَّ هل طلَّق واحدةً أو اثنتين؟ وقع واحدةً؛ عملاً باليقين وطَرْحاً للشكِّ.

هـ- من أوقع بزوجته كلمةً وشكَّ هل هي طلاقٌ أو ظِهارٌ، لم يلزمه شيءٌ؛ لأنَّ الأصل عدمها، ولم يتيقَّن أحدهما.

و - إن شكَّ الزَّوج هل ظاهَرَ من زوجته، أو حَلَفَ بالله تعالى لا يطؤها، لزمه إذا حَنَثَ بوطئها أَدْنى كفَّارتيهما، وهو كفَّارة اليمين بالله؛ لأنَّه اليقين، وما زاد مشكوكٌ فيه.

ص: 334

‌باب الرَّجْعة

‌أوَّلًا: تَعريفُ الرَّجْعَةِ:

الرَّجْعةُ لُغةً: بالفتح؛ المرَّةُ من الرُّجُوعِ، بمعنى العَوْد.

واصطلاحاً: إعادةُ الزَّوجِ زوجتَه المطلَّقة طَلاقاً غير بائنٍ إلى ما كانت عليه قبل الطلاق بغير عَقْدٍ.

‌ثانياً: حُكمُ الرَّجْعَةِ:

الرَّجعةُ ثابتةٌ بالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.

- فمن الكتاب: قول الله عز وجل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228].

- ومن السُّنَّة: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه -لمَّا طلَّق ابنه عبد الله امرأته-: (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا)[رواه البخاري، ومسلم].

- وأمَّا الإجماع؛ فقال ابن المنذر: «وأجمع أهل العلم على أنَّ الحُرَّ إذا طلَّق الحُرَّة دون الثَّلاث، أو العبد إذا طلَّق دون الاثنتين، أنَّ لهما الرَّجعة في العِدَّة» .

‌ثالثاً: شُروطُ الرَّجْعَةِ:

يُشترطُ في الرَّجعة شروطاً؛ منها:

أ - أن يُطلِّق في نكاحٍ صحيحٍ؛ لأنَّ الطلاق الفاسد تَبِينُ منه الزَّوجةُ، فلا

ص: 335

تمكن الرَّجعة.

ب- أن يكون الزَّوجُ قد دَخَل أو خلا بها، لأنَّ الرَّجعة إنَّما تكون في العِدَّة، وغير المدخول بها لا عِدَّة عليها؛ لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا

} [الأحزاب: 49]. وقال ابن قدامة: «وأجمع أهل العِلْم على أنَّ غير المدخول بها تَبِينُ بطَلْقةٍ واحدةٍ، ولا يستحقُّ مُطلِّقها رجعتها» .

ج- ألَّا يكون الطَّلاق بائناً؛ فإن كان بائناً فلا رجعة؛ كما لو طلَّقها ثلاث طلقات، فإنَّها لا تحلُّ له حتى تنكح زوجاً غيره؛ ولذا لا يمكن رجعتها. أو طلَّقها بعِوَضٍ؛ لأنَّ العِوَض في الطلاق إنَّما جُعل لتفتدي به المرأة نَفْسَها من الزَّوج، ولا يحصل ذلك مع ثبوت الرَّجعة.

د - أن تكون الرَّجعة في العِدَّة؛ فإذا انقضت العِدَّة فلا رجعة؛ لمفهوم قول الله عز وجل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} ، أي: في العِدَّة.

وتصحُّ الرَّجعة بعد انقطاع دم الحيضة الثالثة إذا لم تغتسل؛ لأنَّ وطء الزَّوجة قبل الاغتسال حَرامٌ؛ لوجود أثر الحيض الذي يمنع الزَّوج من الوَطْءِ، كما يمنعه الحيض؛ فوجب أن يمنع ذلك ما يمنعه الحيض ويوجب ما أوجبه الحيض، ومن ذلك بقاء العِدِّة.

وتصحُّ الرَّجعة قبل وضع الولد الأخير إذا كانت حاملًا بأكثر من واحد؛

ص: 336

لبقاء العِدَّة.

ولا يُشترط في الرَّجعة رضا المرأة، ولا عِلْمها، كما لا يشترط فيها وَليٌّ ولا صداقٌ إجماعاً؛ لأنَّ الرَّجعة إمساكٌ للمرأة بحكم الزَّوجيَّة؛ فلا يعتبر فيها شيء من ذلك.

‌رابعاً: كَيفيَّةُ الرَّجْعَةِ:

تحصلُ الرَّجعةُ بالقول والوَطْء.

فتحصل بقول الزَّوج: «راجعتُ امرأتي» ، و «رجَّعتها» ، و «ارتجعتها» ، و «أمسكتُها» ، و «رَدَدْتها» ، ونحو ذلك من الألفاظ الدَّالة عليها. بخلاف قوله:«نَكحْتُها» أو «تزوَّجْتُها» ؛ لأنَّ هذا كناية، والرَّجعةُ استباحةُ بُضْعٍ مقصودٍ، فلا تحصل بالكناية، كالنكاح.

وتحصل الرَّجعةُ أيضاً بوطء الزَّوج لها؛ سواء نوى بذلك رَجْعَتَها أو لم ينو؛ لأنَّها زوجة يلحقها الطَّلاق، والظِّهار، والإيلاء، ويَرِثُ أحدُهما صاحبه إن مات، إجماعاً، فالوطءُ دليلٌ على رغبته فيها.

‌خامساً: مِنْ أحْكامِ الرَّجْعَةِ:

أ - يجوز للمطلَّقة رَجْعيًّا أن تتعرَّض لِمُطلِّقها؛ بأن تُرِيَه نفسَها، وأن تتزيَّن له كما تتزيَّن النِّساء لأزواجهنَّ، وللمُطلِّق أن يسافر بها، وأن يخلو بها، وأن يطأها -وبه تحصل الرَّجعة ولو لم ينوها؛ كما سبق-؛ لأنَّها في حُكم الزَّوجة.

ص: 337

ب- إذا اغتسَلَتِ المطلَّقة رَجْعيًّا من الحيضةِ الثالثةِ، ولم يرتجعْها زوجها، فقد بانت منه، ولا تحلُّ له إلَّا بعقدٍ جديدٍ مستكملٍ لشروطه، إجماعًا؛ لمفهوم قوله تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} ، أي: في العِدَّة.

ج- إذا راجع الزَّوج زوجته في العِدَّة، أو لم يراجعها حتَّى انتهت عِدَّتُها، فتزوَّجها بعقدٍ جديدٍ؛ فإنَّها تعود إليه على ما بقي من مرَّات طلاقِها، ولو كان عَوْدُها بعد وَطْءِ زوجٍ آخر لها؛ لأنَّ وَطْءَ الثاني لا يُحتاج إليه في الإحلال للزَّوج الأوَّل؛ فلا يُغيِّر حكم الطلاق.

ص: 338

‌فصل

في ما تحلُّ به المطلَّقة ثلاثاً

إذا طَلَّق الحُرُّ زوجته ثلاث طَلَقات، أو طَلَّق العَبْد الأَمَةَ ثنتين لم تحلَّ له إلَّا بشروطٍ:

الأوَّل: أن تنكحَ زوجاً غيره نكاحاً صحيحاً؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] بعد قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229].

الثاني: أن يطأها الزَّوجُ الثاني في قُبُلها مع الانتشار ولو لم يُنْزل؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لامرأة رِفاعَة القُرَظِيِّ- وقد بانت منه وتزوَّجت بغيره-: (أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ)[رواه البخاري، ومسلم]. والعُسَيْلَة هي الجِماع. ولأنَّ الوطء المعتبر في الزَّوجة لا يكون في غير القبل.

الثالث: ألَّا يكون وَطْؤُه لها حال الحيض، أو النِّفاس، أو الإحرام، أو في صوم الفَرْض، وإلَّا لم تحلَّ؛ لأنَّه وطءٌ حُرِّم لحقِّ الله تعالى؛ فلم يُحِلَّها؛ كالوَطْء في النِّكاح الباطل.

فإذا توفَّرت هذه الشروط حصل التَّحليل، وتعود إليه -إن طلَّقها الزَّوج الثَّاني- على ثلاث طلقات. حكاه ابن المنذر إجماعاً.

ص: 339

- إذا طلَّقها الزَّوج الثَّاني، وادَّعت أنَّه وَطِئَها، فكَذَّبها، فالقول قوله في تنصيفِ المَهْر؛ لأنَّ الأصل براءته، إلَّا إذا أقرَّ بالخَلْوَة بها؛ فلها المَهْر كاملاً.

والقولُ قولُها في وجود الوَطْءِ؛ لإباحتها للأوَّل؛ لأنَّها مؤتمنةٌ على نفسها، وعلى ما أخبرت به عنها، ولا سبيل إلى معرفة ذلك حقيقةً إلَّا من جهتها، فتعيَّن الرُّجوع إلى قولها؛ كما لو أخبرت بانقضاء عِدَّتها.

إلَّا إذا كذَّبها الأوَّل في ادِّعاء وَطْءِ الثَّاني لها، فإنَّها لا تحلُّ له؛ لأنَّه مقِرٌّ على نفسه بتحريمها عليه.

ص: 340

‌كتاب الإيلاء

‌أوَّلًا: تَعريفُ الإِيلَاءِ:

الإِيلاءُ لُغةً: الحَلِف، من آلَى يُولِي؛ إذا حَلَف، والأَلَيَّةُ هي اليمين.

واصطلاحاً: الحَلِفُ على تَرْك وَطْءِ الزَّوجةِ أكثر من أربعة أشهرٍ.

‌ثانياً: حُكمُ الإِيلَاءِ:

الإيلاءُ حَرامٌ؛ لأنَّه يمينٌ على ترك واجبٍ؛ وهو الوَطْء، ولأنَّ فيه إضراراً بالمرأة، وسُوء عِشْرةٍ. والأصل فيه قول الله عز وجل:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]. قال ابن قتيبة: «يُؤلونَ من نِسائِهم: يَحْلِفون» .

قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: «كَانَ إِيلَاءُ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَوَقَّتَ اللهُ عز وجل لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» [رواه الطبراني، والبيهقي].

‌ثالثاً: شُروطُ صِحَّة الإِيلَاءِ:

يُشترطُ لصحَّة الإيلاء الشروط التالية:

أ - أن يكون من زوجٍ يصحُّ طلاقُه؛ فلا يصحُّ من غير الزوج؛ لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} . كما لا يصحُّ من المغمى عليه أو المجنون؛ لأنَّه لا قصد لهما، ولا حكم ليمينهما.

ب- أن يكون الزَّوج ممَّن يمكنُه الوَطْء؛ فلا يصحُّ الإيلاء من العاجز عن

ص: 341

الوَطْء؛ لأنَّ الإيلاء هو اليمين المانعة من الجماع، ويمين مَنْ لا يُمكنه الجماع لا تمنعه؛ بل فعل ذلك متعذِّر منه.

ج- أن يَحلفَ الزَّوجُ على تَرْك الوَطْء في القُبُل.

د - أن يكون الحَلِفُ بالله تعالى، أو بصِفَةٍ من صِفاته؛ فإن حَلَفَ على تَرْك الوطء بنَذْرٍ؛ كما لو قال -مثلاً-:«عليَّ صوم الدَّهر إن وَطِئتُكِ قبل سَنَةٍ» ، أو حَلَف بطلاقٍ؛ كما لو قال:«عليَّ الطَّلاق ألَّا أطأ زوجتي مدَّة سَنَةٍ» ، ونحو ذلك، لم يكن مُولياً؛ لأنَّ الإيلاء المُطْلَق إنَّما هو القَسَم، والتعليق بشَرْطٍ ليس بقَسَم.

هـ- أن يَحلِفَ على تَرْك الوَطْءِ أكثر من أربعة أشهرٍ؛ فإن حَلَفَ على أربعةٍ فما دونها لم يكن مُولياً؛ لظاهر قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} ؛ فدلَّ على أنَّه لا يكون مُولِياً بما دونها.

‌رابعاً: أحكامُ الإِيلَاءِ:

إذا توفَّرت الشروط السابقة؛ بأن حَلَفَ الزَّوجُ -الذي يمكنه الوَطْءُ- بالله تعالى، أو بصِفةٍ من صِفاته ألَّا يطأ زوجته أبداً، أو مدَّةً تزيد على أربعة أشهرٍ، كان الزوج مُولياً؛ فيُضرَبُ له حينئذٍ أجلُ الإيلاء (أربعة أشهر) من حين يمينه، ولا يُطَالب بالوَطْءِ فيهنَّ؛ لقوله تعالى:{تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} .

فإذا مضت تلك المدَّة دون وَطْءٍ، ورَفَعَت الزَّوجةُ أَمْرَها إلى القاضي، أَمَرَهُ القاضي بالفَيْئَة؛ أي: الرُّجوع إلى الجماع، ويُكفِّر عن يمينه؛ لحديث أبي هريرة

ص: 342

رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ)[رواه مسلم].

فإن أَبَى الجماع؛ أَمَرَه القاضي بالطَّلاق إن طلبته المرأة؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227]، ولقوله:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، ومَنْ امتنع من بَذْل ما وَجَبَ عليه لم يُمسِك بمعروفٍ؛ فيؤمَرُ بالتَّسريح بإحسانٍ.

فإن أَبَى الطلاق؛ طلَّقها عليه القاضي طَلْقةً واحدةً، أو ثلاث طلقاتٍ؛ لأنَّ الطَّلاق تدخُلُه النِّيابة وقد تَعيَّن مُستحقُّه؛ فقام فيه القاضي مقام الزَّوج الممتنع؛ كأداء الدَّيْنِ.

ص: 343

‌كتاب الظِّهار

‌أوَّلًا: تَعريفُ الظِّهار:

الظِّهار لُغةً: مشتقٌ من الظَّهر. وخُصَّ به؛ لأنَّه موضع الرُّكوب.

واصطلاحاً: هو أن يشبِّه الزَّوجُ امرأتَهُ، أو عضواً منها بمن يَحرُمُ عليه -ولو إلى أمدٍ- من رجلٍ أو امرأةٍ، أو بعضو أيٍّ منهما.

‌ثانياً: حُكْمُ الظِّهار:

الظِّهار محرَّم؛ لقول الله تعالى -لمَّا ظاهَرَ أَوْسُ بن الصَّامِت رضي الله عنه من زوجته -: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2]، وقول المنكر والزُّور من أكبر الكبائر.

وحكى ابن المنذر الإجماع على تحريمه.

‌ثالثاً: ألفاظُ الظِّهار:

ألفاظُ الظِّهار منها ما هو صريحٌ لا يحتاج إلى نيَّةٍ أو قرينةٍ، ومنها ما هو كناية؛ يحتاج إلى ذلك:

- فأمَّا ألفاظه الصريحة؛ فمثل أن يقول لها: «أَنْتِ، أو يَدُكِ كظهر أُمِّي» ، أو

ص: 345

«كبطن أُمِّي» ، أو «بطن، أو عين عمَّتي، أو خالتي» ، أو «أنت عليَّ كفلانةٍ» الأجنبيَّة، أو «كظهر أخت زوجتي، أو عمَّتها» ، أو يقول لها:«أنتِ عليَّ حرامٌ» ، أو قال:«الحِلُّ عليَّ حرامٌ» ، ونحو ذلك من الألفاظ الصَّريحة التي لا تحتمل غير الظِّهار.

- وأمَّا ألفاظه غير الصريحة؛ فمثل أن يقول لها: «أنتِ أُمِّي، أو كأُمِّي» ، أو «عليَّ الظِّهار» ، أو «يلزمني الظِّهار» أو «عليَّ الحرام» ، ونحو ذلك من الألفاظ؛ فلا يكون ظِهاراً إلَّا مع النيَّة، أو القرينة الدَّالة عليه؛ كأن يقول ذلك حال الخصومة، أو الغضب؛ لأنَّ هذه الألفاظ تحتمل الظِّهار وغيره، فاشتُرطت النيَّة لتعيينه، والقرينة تقوم مقام النيَّة.

- وإن قال لها: «أنتِ عليَّ كأُمِّي أو مثل أُمِّي» ، أو «أنتِ عندي كأُمِّي أو مثل أُمِّي» ، أو «أنتِ معي كأُمِّي» أو «معي مثل أُمِّي» ، ولم ينوِ به ظِهاراً ولا غيره؛ فهو ظِهارٌ؛ لأنَّه المتبادر من هذه الألفاظ.

فإن نوى بهذه الألفاظ غير الظِّهار؛ كالكَرامة والمحبَّة ونحو ذلك قُبِلَ منه ذلك حُكْماً؛ فلا يُعدُّ ظِهاراً؛ لأنَّ هذه الألفاظ تحتمل ذلك، وهو أعلم بمراده.

- وإن قال لها: «أنتِ عليَّ كالميتة، أو الدَّم، أو الخنزير» ، وقع به ما نواه؛ فإن نوى به طلاقاً؛ كان طلاقاً، لأنَّه يصلح أن يكون كناية فيه.

وإن نوى به ظِهاراً؛ كان ظهاراً، لأنَّه يشبهه.

ص: 346

وإن نوى به يميناً؛ بأن لا يطأها، كان يميناً؛ لأنَّ اللَّفظ يحتمله، وتجب فيه الكفَّارة بالحِنث.

فإن لم ينوِ شيئًا من هذه الأمور كان ظِهاراً؛ لأنَّ معناه: أنتِ عليَّ حرامٌ كالميتة، والدَّم، والخنزير.

‌رابعاً: مَنْ يَصِحُّ ظِهَارُهُ:

يصحُّ الظِّهار من كلِّ من يصحُّ منه الطلاق؛ وهو الزَّوج العاقل المُميِّز؛ لأنَّ الظِّهار تحريمٌ كالطَّلاق؛ فجرى مجراه، وصحَّ ممَّن يصحُّ منه.

‌خامساً: مَنْ يَصِحُّ الظِّهارُ مِنْهَا:

يصحُّ الظِّهار من كلِّ زوجةٍ؛ كبيرةً كانت أو صغيرةً، مسلمةً كانت أو ذمِّيَّةً، يمكن وطؤها أو لا يمكن؛ لعموم قول الله تعالى:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} ، ولأنَّها زوجة يصحُّ طلاقها فصحَّ ظِهارها.

‌سادساً: تَنْجيزُ الظِّهار وتَعْليقُه وتَأْقيتُه:

- يصحُّ الظِّهار مُنجَّزاً؛ كما لو قال لزوجته: «أنتِ عليَّ كظَهْر أُمِّي» .

- ويصحُّ معلَّقاً بشرطٍ؛ كما لو قال لها: «إنْ دخلتِ الدَّار فأنتِ عليَّ كظَهْر أُمِّي» . ويصحُّ إذا حلف به وحنث؛ كما لو قال: «عليَّ الظِّهار إن دَخَلْتِ الدَّار» ، ودَخَلَتْ.

ص: 347

- ويصحُّ الظِّهار مؤقَّتاً؛ كما لو قال لها: «أنتِ عليَّ كظهر أمي شهراً» ، أو «حتَّى ينقضي شهرُ رمضان» ، فإذا مضى الوقت زال حُكم الظِّهار، وحَلَّت المرأة بلا كفَّارة؛ لأنَّ التَّحريم صادف ذلك الزَّمن دون غيره، فوجب أن ينقضي بانقضائه، ولا تلزمه الكفَّارة إلَّا بالوطء في المدَّة؛ لحديث سَلَمَة (أو سَلْمان) بن صَخْر البَياضِيّ رضي الله عنه أنَّه:(جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ حَتَّى يَمْضِيَ رَمَضَانُ، فَلَمَّا مَضَى نِصْفٌ مِنْ رَمَضَانَ وَقَعَ عَلَيْهَا لَيْلاً، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْتِقْ رَقَبَةً، قَالَ: لَا أَجِدُهَا، قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، قَالَ: لَا أَجِدُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِفَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو: أَعْطِهِ ذَلِكَ العَرَقَ -وَهُوَ مِكْتَلٌ يَأْخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ صَاعًا- إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا)[رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه]، فَلم يُنْكِرْ تَقَيُّدَهُ.

- إذا قال الرَّجل لامرأةٍ أجنبيةٍ عنه: «أنتِ عليَّ كظهر أُمِّي» ، أو قال لها:«أنتِ عليَّ حرامٌ» ونوى أبداً، صحَّ ذلك ظِهاراً؛ لأنَّه إذا تزوج بها تحقَّق معنى الظِّهار فيها، ولأنَّ الظِّهار يمينٌ مُكفَّرة؛ فصحَّ عقدها قبل النكاح؛ كاليمين بالله تعالى.

فإن تزوَّجها لم يطأها حتَّى يُكفِّر كفَّارة الظِّهار، بخلاف ما لو قال لها:«أنتِ عليَّ حرام» ، ولم ينوِ أبداً، فلا يكون ظِهاراً؛ لأنَّه صادق في حرمتها عليه

ص: 348

قبل عقد النكاح.

‌سابعاً: الأحكامُ المترتِّبةُ على الظِّهار:

أ - إذا صحَّ الظِّهار حَرُمَ على المظاهِر والمظاهَرِ منها الوطء ودواعيهِ؛ كالقُبْلة ونحوها قبل التَّكفير؛ لقول الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، وقوله:{فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4]، ولو كان تكفيره بإطعامٍ؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما:(أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّاهِ، إِنِّي قَدْ ظَاهَرْتُ مِنْ زَوْجَتِي، فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ، فَقَالَ: وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللهُ؟ قَالَ: رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ القَمَرِ، قَالَ: فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللهُ بِهِ)[رواه الترمذي]. ولأنَّ ما حَرَّم الوطءَ من القول حَرَّم دواعيه، كالطلاق والإحرام.

ب- إذا وَطِئَها أو قَبَّلها ونحو ذلك قبل التَّكفير أثِم؛ لأنَّه عصى ربَّه بمخالفة أمره، وثبتت الكفَّارة في ذمَّته ولو جُنَّ بعد أن ظاهر؛ لقوله تعالى:{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} والعَوْدُ: هو الوطء؛ لأنَّ المُظاهِر حَرَّم الوطء على نفسه ومنعها منه، فالعَوْد فِعْلُه؛ فأوجب الله تعالى الكفَّارة عقب العَوْدِ؛ وذلك يقتضي تعلُّقها به.

ص: 349

وأمَّا قبل الوَطْءِ؛ فإنَّ الكفَّارة لم تكن واجبةً، وإنَّما كانت شَرْطاً لحِلِّه.

ويستمرُّ تحريم وطئها حتَّى يكفِّر لِظِهاره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق-: (فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللّاه بِهِ).

ج- لا يجب على المُظاهِر أكثر من كفَّارة، ولو تكرَّر منه الوَطْء؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر سَلَمَة بن صخر بأكثر منها.

د - إذا مات المُظاهِر أو ماتت زوجته المُظاهَر منها، أو طلَّقها قبل الوطء، سقطت كفَّارة الظِّهار؛ لأنَّه لم يوجد الحِنث.

‌ثامناً: كفَّارةُ الظِّهار:

كفارة الظِّهار على الترتيب، وهي كما يلي:

أ - عِتْقُ رَقَبَةٍ؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، ويشترط فيها:

1) أن تكون مُؤمِنةً؛ لقول الله تعالى في كفَّارة القتل الخطأ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وأُلحِق بذلك سائر الكفارات؛ حملاً للمُطْلَق على المقيَّد.

2) أن تكون سالمةً من العُيوب المُضِرَّة في العمل ضَرراً بَيِّناً، كعَمى، وشلل يدٍ، ونحو ذلك؛ لأنَّ المقصود تمليك العَبْد منفعته، وتمكينه من

ص: 350

التَّصرف لنفسه، ولا يحصل هذا مع العيب المذكور.

ومن العيوب المانعة من صحَّة الإجزاء: أن يكون العَبْدُ أخرسَ أصمَّ، ولو فُهمَتْ إشارتُه؛ لأنَّه ناقصٌ بفقد حاسَّتين تنقصُ بنقصهما قيمته نقصاً كثيراً.

ومنها: أن يكون مجنوناً جنوناً مُطْبِقاً، وكذا الزَّمِنُ، والمُقْعَد؛ لعدم تمكُّنهم من العمل في أكثر الصنائع، أو كُلِّها.

ومنها: أن يكون جَنيناً؛ لأنَّه لم تثبت له أحكام الحياة.

ب- فإن لم يجد رقبةً ليشتريها، أو وجدها لكنَّه لا يملكُ مالًا فاضلًا عن حاجته وحاجة من تلزمه نفقته لشرائها؛ صام شهرين متتابعين؛ لقول الله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3].

ويُشترط فيه تَبْييتُ النيَّة من اللَّيل لصوم كلِّ يومٍ؛ لأنَّه صوم واجب، ويلزمه تعيينه لجهة الكفارة؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)[رواه البخاري].

ويَلزمُه التَّتابع في صيام الشَّهرين؛ بأن لا يُفرِّق الصوم حتَّى يقضي صيام الشهرين. فإن وطئ المُظاهِرُ امرأته المُظاهَرُ منها، ولو كان ناسياً، أو مع عذر المرض، أو السفر المبيح للفطر، أو كان وطؤه ليلًا، انقطع التتابع، واستأنف

ص: 351

صياماً جديداً؛ لعموم الآية، ولأنَّه تحريم للوطء، فلا يختص بنهارٍ، ولا بتذكُّرٍ.

وينقطع تتابعه بصوم غير شهر رمضان؛ لأنَّه فرَّقه بشيءٍ يمكن تحرُّزه منه، فصار كمن أفطر بلا عذرٍ، ويقع صومه عما نواه؛ لأنَّه زمانٌ لم يتعيَّن للكفَّارة.

ج- فإن لم يستطع الصوم لكِبَرٍ، أو مَرَضٍ، أو لشَبَقٍ؛ بحيث لا يصبر فيه عن جماع زوجته؛ لزمه إطعام ستِّين مسكيناً؛ لقول الله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 3]. ولمَّا أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم سَلَمَة بن صَخْر رضي الله عنه بالصِّيام قال: (يَا رَسُوُلَ اللّاهِ، وَهَلْ دَخَلَ عَلَيَّ مَا دَخَلَ مِنْ الْبَلَاءِ إِلَّا بِالصَّوْمِ؟ قَالَ: فَتَصَدَّقْ، أَوْ أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا)[رواه ابن ماجه]؛ فنقله إلى الإطعام لَمَّا أخبره أنَّ به من الشَّبَق والشَّهوة ما يمنعه من الصِّيام.

فيُعطَى كلُّ مسكينٍ مُدَّ بُرٍّ، أو نصف صاعٍ من غير البُرِّ؛ قال به زيدٌ، وابن عبَّاس، وابن عمر، وأبو هريرة رضي الله عنهم، ولم يُعرف لهم مخالف من الصحابة، فكان إجماعاً.

- ويُشترطُ في المسكين: أن يكون مُسلِماً، حُرًّا، ولو أنثى؛ قياساً على الزكاة.

- ولا يجزئ من الطعام إلَّا ما يجزئ في زكاة الفِطْر؛ من البُرِّ، والتَّمر، والشَّعير، والزَّبيب، والأَقِط؛ لأنَّ الكفَّارة وَجَبَت طُهْرةً للمُكفَّر عنه، كما أنَّ زكاة الفِطْر طُهْرةٌ للصائم، فاستويا في الحكم.

ص: 352

- لا يُجزئ في الكفَّارة إخراجُ القيمة؛ لأنَّ الواجب هو الإطعام، وإعطاء القيمة ليس بإطعام.

- ولا يُجزئ أن يُغَدِّيَ المساكين أو يُعَشِّيهم؛ لأنَّ المنقول عن الصَّحابة إعطاؤهم.

- ويُشترط في كفَّارة الظِّهار النيَّة؛ فلا يجزئ العِتْق، ولا الصَّوم، ولا الإطعام إلَّا بالنيَّة؛ وهو أن ينوي ذلك عن جهة الكفَّارة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)[البخاري].

ومحلُّ النيَّة في الصوم اللَّيل -كما سبق-، وفي العِتْق والإطعام معه أو قبله بيسيرٍ.

ص: 353

‌كتاب اللِّعان

‌أوَّلًا: تَعريفُ اللِّعانِ:

اللِّعانُ لُغةً: مشتقٌّ من اللَّعْنِ؛ وهو الطَّرْدُ والإبْعادُ.

واصطلاحاً: هو شَهاداتٌ مُؤكَّداتٌ بأَيْمانٍ من الجانبين -الزَّوج والزَّوجة- مقرونةٌ بلَعْنٍ من الزَّوج، والدُّعاء بغَضَب الله من الزَّوجة.

‌ثانياً: سَبَبُ اللِّعانِ:

سببُ اللِّعان: هو قَذْفُ الرَّجل لزوجته بالزِّنا، والأصل أنَّ من قذف غيره بالزِّنا فكذَّبه أن يأتي بالبيِّنة على ذلك؛ وهي أربعة شهود، أو يقام عليه حَدُّ القَذْف إن كان المقذوف مُحْصَناً؛ أي: مُسلماً، حُرًّا، عاقلاً، عفيفاً عن الزِّنى؛ لقول الله عز وجل:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]. فإن لم يكن مُحْصَناً عُزِّرَ؛ رَدْعاً له عن أَعْراض المعصومين، وكَفًّا له عن إيذائهم.

والزَّوج كذلك إذا رَمَى زوجته بالزِّنا، إلِّا أنَّه زِيدَ في حقِّه اللِّعان؛ فمن رَمَى زوجته بالزِّنا وكَذَّبته، فعليه أن يُقيمَ البيِّنة أو يُلاعنَها، وإلَّا أُقيم عليه الحدُّ، أو التعزير؛ لقول الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6].

ص: 355

‌ثالثاً: حُكْمُ اللِّعانِ:

اللِّعان مشروعٌ بالكتاب، والسُّنَّة.

- فمن الكتاب: قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} .

- ومن السُّنَّة: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أَنَّ رَجُلًا رَمَى امْرَأَتَهُ فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَلَاعَنَا، كَمَا قَالَ اللهُ، ثُمَّ قَضَى بِالوَلَدِ لِلْمَرْأَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ المُتَلَاعِنَيْنِ)[رواه البخاري].

ولأنَّ الزَّوج يُبتلَى بقَذْف امرأته؛ لينفي العار والنَّسب الفاسد، وتتعذَّر عليه البيِّنة، فجُعل اللِّعان بيِّنةً له، ولهذا لمَّا نزلت آية اللِّعان، قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:(أَبْشِرْ يَا هِلَالُ فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا)[رواه أحمد، وأبو داود].

‌رابعاً: صِفَةُ اللِّعانِ:

صفة اللِّعان؛ أن يقول الزَّوج أربع مرَّات: «أشهدُ بالله إنِّي لمن الصادقين فيما رميتُها به من الزِّنا» ، ويشير إليها إن كانت حاضرة، أو يُسمِّيها إن كانت غائبة، ثمَّ يقولها في المرَّة الخامسة، ويزيد عليها:«وأنَّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين» .

ثمَّ تقول الزوجة -أربع مرَّات-: «أشهدُ بالله إنَّه لمن الكاذبين فيما رَماني به

ص: 356

من الزِّنا» وتشير إليه إن كان حاضراً، وتسمِّيه إن كان غائباً، ثمَّ تزيد في الخامسة:«وأنَّ غضب الله عليها إن كان من الصادقين» ؛ وذلك لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6 - 9].

‌خامساً: سُنَنُ اللِّعانِ:

يُسنُّ في اللِّعان ما يلي:

أ - أن يتلاعنا قياماً؛ لما جاء في حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما -في قصَّة قَذْف هِلال بن أُميَّة امرأته-: (فَجَاءَ هِلَالٌ فَشَهِدَ

ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ) [رواه البخاري].

ب- أن يكون اللِّعان بحضرة جماعة؛ لأنَّ جَمْعاً من الصحابة حضروه مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما في حديث سَهْل بن سَعْدٍ رضي الله عنه (فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم[رواه البخاري]. ولأنَّ اللِّعان بُنِيَ على التَّغليظ، مبالغةً في الرَّدع به والزَّجر، وفِعْلُه في الجماعة أبلغ في ذلك.

ج- ألَّا يقلَّ عدد الحضور عن أربعة رجال؛ لأنَّ الزوجة ربما أقرَّت بالزِّنا؛ فيشهدون عليها.

ص: 357

د - أن يتلاعنا بوقتٍ ومكانٍ معظَّمين؛ كبعد العصر يوم الجمعة، وبين الرُّكن والمقام بمكَّة، وعند المنبر في باقي المساجد.

هـ- أن يأمر القاضي مَنْ يضع يده على فم الزَّوج والزَّوجة عند الخامسة، ويقول:«اتقِ الله؛ فإنَّها الموجِبة -أي: الموجِبة للَّعنة أو الغضب على الكاذب منهما-، وعذابُ الدنيا أهون من عذاب الآخرة» ؛ لما جاء في قصَّة هِلال بن أُميَّة، وفيه: (فَلَمَّا كَانَتِ الخَامِسَةُ قِيلَ لَهُ يَا هِلَالُ: اتَّقِ اللّاهَ؛ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ هَذِهِ المُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكَ الْعَذَابَ، فَقَالَ: وَاللهِ لَا يُعَذِّبُنِي اللهُ عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي عَلَيْهَا، فَشَهِدَ الخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، ثُمَّ قِيلَ لَهَا: اشْهَدِي، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّاهِ، إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، فَلَمَّا كَانَتِ الخَامِسَةُ قِيلَ لَهَا: اتَّقِي اللّاهَ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ هَذِهِ المُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكِ الْعَذَابَ

) [رواه أحمد، وأبو داود].

والحكمة في ذلك هي تخويفهما؛ ليتوب الكاذب منهما ويرتدع.

‌سادساً: شُروطُ اللِّعانِ:

يُشترط في اللِّعان ثلاثة شروط:

أ - أن يكون بين زوجين مُكلَّفيْن (عاقِلَيْن بالِغَيْن)؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} .

ص: 358

وأمَّا اعتبار التكليف، فلأنَّ قَذْف غير المكلَّف لا يُوجب حدًّا، واللِّعان إنَّما وَجَبَ لإسقاط الحدِّ.

ب- أن يتقدَّمه قَذْفٌ بالزِّنا لَفْظاً، ولو في دُبُرٍ؛ بأن يقول لها:«زنيتِ» ، أو «يا زانية» ، أو «رأيتُك تزنين» ، ونحو ذلك؛ لأنَّه قَذْف يجبُ به الحدُّ. فإن لم يقذفها بالزِّنا أو قال لها: وُطِئتْ مكرهةً، أو وُطِئتْ نائمةً، أو وُطِئتْ مع إغماءٍ، ونحو ذلك، فلا لِعانَ بينهما؛ لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} ، ولأنَّه لم يقذفها بما يُوجِبُ الحدَّ.

ج- أن تكذِّبه الزَّوجةُ في قَذْفِه إيَّاها، ويستمرَّ تكذيبُها إلى انقضاء اللِّعان؛ لأنَّ اللِّعان إنَّما يُشرع حيث تُنكر المرأة، أمَّا إن صدَّقته فيما رماها به من الزِّنا، أو سكتت؛ فلا لعان حينئذٍ؛ لعدم وجود شرطه، ولحقه النَّسَب؛ لأنَّ الولد للفراش.

‌سادساً: ما يترتَّبُ على اللِّعانِ:

إذا تمَّ اللِّعان بين الزَّوجين ترتَّب عليه أربعةُ أحكامٍ:

أ - سُقوطُ الحدِّ أو التَّعزير الذي أوجبه القَذْف؛ فلا يقام الحدُّ على الزوج؛ لأنَّ لِعانه أُقيم مقام بيِّنته؛ والبيِّنة تُسقِطُ الحدَّ؛ فكذا اللِّعان. وكذا لا يقام الحدُّ على الزَّوجة؛ لقول الله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8].

ب- التَّفريقُ بينهما؛ لقول عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: (المُتَلَاعِنَانِ يُفَرَّقُ

ص: 359

بَيْنَهُمَا وَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا) [رواه ابن أبي شيبة].

ج- التَّحريمُ المؤبَّد؛ فلا تحلُّ له بعد ذلك أبداً؛ لقول سَهْل بن سَعْدٍ رضي الله عنه: (فَمَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي المُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا)[رواه أبو داود].

د - انتفاءُ الوَلَدِ عنه؛ فلا يُنْسَبُ إليه؛ لما جاء في حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما -في قصَّة قَذْف هِلال بن أُميَّة امرأتَه-: (فَفَرَّقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، وَقَضَى أَنْ لَا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ، وَلَا تُرْمَى وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الحَدُّ)[رواه أبو داود].

لكن يُشترط ذِكْرُ ذلك صراحةً في اللِّعان؛ بأن يقول في كلِّ مرَّةٍ: «أشهدُ بالله لقد زَنَتْ، وما هذا وَلَدِي» ، أو يَذْكُرُه ضِمْناً؛ كأن يقول:«أشهدُ بالله لقد زَنَتْ في طُهْرٍ لم أُجامعها فيه» .

كما يُشترط لنفي الولد باللِّعان أن لا يسبقه إقرارٌ، أو ما يدلُّ على إقراره به؛ كأن يُهنَّأ به، فيسكت، أو يُؤمِّن على الدُّعاء، ونحو ذلك.

ص: 360

‌فصل

فيما يلحق من النَّسب

أ - مَنْ وَلَدَت زوجتُه بعد ستَّة أشهر -وهي أقلُّ مدَّةٍ للحَمْل- منذ أمكن اجتماعه بها، أو وَلَدَت لدون أربع سنوات -وهي أكثر مدَّةٍ للحَمْل- منذ أبانها زوجها: لَحِقَهُ نَسَبُه؛ ولو كان الزَّوج ابن عشر سنين؛ لما روت عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ)[متفق عليه]. ولإمكان كونه منه؛ فيُحتاط؛ حِفْظاً للنَّسَب.

ب- لا يترتَّب على لُحوق النَّسَب به الحكم ببلوغه إن كان مشكوكاً فيه؛ لأنَّ الحكم بالبلوغ؛ يستدعي يقيناً؛ لما يترتَّب عليه من الأحكام والتكاليف، ووجوب الغرامات، فلا يُحكم به مع الشكِّ.

ج- كما لا يترتَّب عليه ثبوت كامل المَهْر للزَّوجة، إلَّا إذا ثبت الدُّخول أو الخَلْوة؛ لأنَّ الأصل براءة ذِمَّته، فلا يثبت عليه دون ثبوت سَبَبه المُوجِب له.

د - وكذا لا يثبتُ به عِدَّةٌ ولا رَجْعةٌ؛ لأنَّ السَّبَب المُوجِب لهما غير ثابتٍ، فلو طلَّقها بعد أن وَلَدت، وكان ذلك قبل الدُّخول أو الخَلْوة، فلا عِدَّة عليها، بل لها أن تتزوَّج في الحال. وكذا لا يملك رجعتها، بل تَبِين بطَلْقةٍ، لأنَّ مُوجِبَ العِدَّة وثبوت الرَّجعة هو الدُّخول أو الخَلْوة، وذلك غير محقَّقٍ، وإنَّما

ص: 361

أُلحِقَ الوَلَد به؛ حِفْظاً للنَّسَب واحتياطاً.

هـ- أمَّا إن وَلَدَت لأقلَّ من ستَّة أشهرٍ -وعاش المولود-: لم يَلْحَقْه نَسَبُه؛ لأنَّها مدَّةٌ لا يمكن أن تَحمِلَ وتَلِدَ فيها، فعُلِمَ أنَّها كانت حاملاً به قبل زواجه بها.

وكذا لو وَلَدَت لأكثر من أربع سنوات منذ أبانها لم يلحقه نَسَبُه؛ للعِلْم بأنَّها حَمَلَت به بعد بينونتها؛ إذ لا يمكن بقاؤها حاملًا به بعد البينونة إلى تلك المدَّة.

وكذا لو عُلِمَ أنَّه لم يجتمع بها؛ كما لو تزوَّجها بحضرة جماعةٍ، ثمَّ أبانها في المجلس أو مات، لم يَلْحَقْه نَسَبُه؛ للعِلْم بأنَّه ليس منه.

و - يَتبعُ الوَلَدُ أباه في النَّسَب إجماعاً؛ لقول الله عز وجل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5].

ز - ويَتبعُ في الدِّين؛ خَيْرَهما دِيناً؛ فلو تزوَّج المُسلِمُ من كِتابيَّةٍ؛ فإنَّ وَلَدَه منها يكون مُسلِماً.

ص: 362

‌كتاب العِدَّة

‌أوَّلًا: تَعريفُ العِدَّة:

العِدَّةُ لُغةً: -بكَسْر العَيْن- مأخوذةٌ من العَدَد، وهي ما تَعُدُّه المرأةُ من أيَّام أَقْرائِها أو حَمْلِها.

واصطلاحاً: مُدَّةٌ معلومةٌ تَتربَّصُ -أي تنتظر- فيها المرأةُ بسببِ فُرْقَةِ نكاحٍ، وما أُلْحِقَ به.

‌ثانياً: حُكمُ العِدَّة:

العِدَّة واجبةٌ بالكتاب، والسنَّة، والإجماع.

فأمَّا الكتاب: فقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وقوله سبحانه:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].

- ومن السُّنَّة: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قَيْسٍ رضي الله عنها: (اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ)[رواه أبو داود].

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن قُدامة: «وأجمعت الأُمَّةُ على وجوب العِدَّة في الجملة» .

ص: 363

‌ثالثاً: الحِكْمَةُ مِنْ مَشْروعِيَّة العِدَّة:

فُرِضَت العِدَّة لحِكَمٍ جليلةٍ، ومقاصدَ عظيمةٍ؛ منها:

أ - معرفةُ بَراءة رَحِم المرأةِ من الحَمْل قبل أن تتزوَّج بآخر، كي لا تختلط الأنساب.

ب- بيانُ عِظَم حقِّ الزَّوج.

ج- بيانُ عِظَم عَقْد الزَّواج، وأنَّ حَلَّهُ ليس بالأمر السَّهل.

د - تطويلُ زمن مدَّة الرَّجعة، لعلَّ الزَّوج يُراجع فيها زوجته.

‌رابعاً: أقسامُ العِدَّة وأحكامُها:

المرأةُ التي فارقها زوجها لا تخلو من حالين:

الحال الأُولى: المفارَقَةُ بالوفاة: وهي المرأة التي مات عنها زوجها، فتجب عليها العِدَّة مطلقاً؛ سواء كان الزَّوج صغيراً أو كبيراً، دَخَل بها أو لا، يمكنه الوَطْءُ أو لا، كبيرةً كانت الزَّوجة أو صغيرةً؛ لعموم قول الله عز وجل:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ، ولقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في رَجُلٍ تزوَّج امرأةً فمات عنها، ولم يَدْخُل بها، ولم يَفْرِضْ لها الصَّداق، فقال:(لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ)[رواه أبوداود].

وهذه المرأة التي تُوفِّي عنها زوجها لا تخلو من حالين:

أ - أن تكون حاملاً من الميِّت؛ فهذه عِدَّتها إلى أن تضع كُلَّ حَمْلِها، أو الأخير من عددٍ، طال الزَّمَن أو قَصُر، حُرَّةً كانت أو أَمَةً؛ لقول الله تعالى:

ص: 364

{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .

والحَمْلُ الذي تنقضي به العِدَّة: ما يَتبيَّن فيه شيءٌ من خَلْق الإنسان؛ كالرَّأس، واليد، والرِّجْل؛ قال ابن المنذر:«أجمع كلُّ مَنْ نحفظ عنه من أهل العِلْم على أنَّ عِدَّة المرأة تنقضي بالسَّقْط إذا عُلِم أنَّه وَلَدٌ» .

ب- أن لا تكون حامِلاً من الميِّت، ولها حالتان:

1) أن تكون حُرَّة؛ فهذه تكون عِدَّتها أربعة أشهر وعشر ليالٍ بأيَّامها؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ، ولما روت زينبُ بنت أبي سَلَمَة رضي الله عنها، أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)[متفق عليه].

2) أن تكون أَمَةً؛ فهذه عِدَّتها على النصف من عِدَّة الحُرَّة؛ أي: شَهْران وخمسة ليالٍ بأيَّامها؛ لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على أنَّ عِدَّة الأَمَةِ على النِّصف من عِدَّة الحُرَّة في الطلاق، فكذا في عِدَّة الوفاة.

الحال الثَّانية: المفارقة حال الحياة: وهي المرأة التي فارقها زوجها بطلاقٍ، أو فَسْخٍ، أو غير ذلك، فتجبُ عليها العِدَّة بشروط:

أ - أن يكون الزَّوج قد وَطِئَها أو خَلَا بها؛ لما رُوِيَ عن زُرارة بن أَوْفَى قال: (قَضَى الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ المَهْدِيُّونَ أَنَّهُ مَنْ أَغْلَقَ بَابًا، أَوْ أَرْخَى سِتْرًا، فَقَدْ وَجَبَ المَهْرُ، وَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ)[رواه ابن أبي شيبة].

ص: 365

فإنْ طلَّقها قبل الدُّخول أو الخَلْوة فلا عِدَّة عليها؛ لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49].

ب- أن يكون الزَّوج ممَّن يَطَأُ مثلُه؛ وهو ابن عشر سنين.

ج- أن تكون الزَّوجة ممَّن يُوطَأُ مثلُها؛ وهي بنت تسع سنين؛ لأنَّه مظنَّة لاشتغال الرَّحِم بالحَمْل، فتجب العِدَّة لاستبرائه.

فإن وَطِئَ من كان دون العشر، أو وُطِئَت من كانت دون التِّسْع، فلا عِدَّة لذلك الوَطْءِ؛ لتحقُّق براءة الرَّحِم من الحَمْل.

فإذا تحقَّقت هذه الشروط وَجَبَت العِدَّة على الزَّوجة، وذلك على النحو التالي:

أ - أن تكون حامِلاً؛ فعدَّتها بوضع الحَمْل؛ لقول الله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .

ب- وإن لم تكن حاملًا، فلا يخلو ذلك من أحوال:

1) أن تكون من ذوات الحَيْض؛ فعدَّتها ثلاث حيضات إن كانت حُرَّة؛ لقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ، والقُرْءُ: الحَيْض.

وإن كانت أَمَةً فعِدَّتها حَيْضَتان؛ لقول عمر رضي الله عنه: (عِدَّةُ الْأَمَةِ إِذَا لَمْ تَحِضْ شَهْرَيْنِ، وَإِذَا حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ)[رواه البيهقي]، ولقول ابن عمر رضي

ص: 366

الله عنهما: (وَعِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ)[رواه مالك، والدارقطني]. ولا يُعرَف لهما مخالف من الصحابة، فكان إجماعاً.

2) أن لا تكون من ذوات الحَيْض؛ بأن كانت صغيرةً، أو بالغةً لكنَّها لم تَرَ حَيْضاً ولا نِفاساً، أو كانت آيِسَةً -وهي من بلغت خمسين سنةً فانقطع حيضها عن عادتها- فعدَّتها ثلاثة أشهر من وقت الفُرْقة إن كانت حُرَّة؛ لقول الله تعالى:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} . وشهران إن كانت أَمَةً؛ لقول عمر رضي الله عنه السابق: (عِدَّةُ الْأَمَةِ إِذَا لَمْ تَحِضْ شَهْرَيْنِ).

3) أن تكون المُطَلَّقة من ذوات الحَيْض، ثمَّ ارتفع حَيْضُها قبل أن تَبْلغَ سِنَّ الإِياس، ولم تعلمْ سَبَب رَفْعِه، فإنَّها تتربَّص غالب مدَّة الحَمْل، وهو تسعة أشهر؛ لتعلم براءة رَحِمِها، فإن تبيَّن حَمْلٌ أكملت عِدَّة الحامل، وإن نزل الحيض اعتدَّت به، وإلَّا جلست بعد ذلك عِدَّة الآيسة؛ ثلاثة أشهر؛ لقول عمر رضي الله عنه:(أَيُّمَا امْرَأَةٍ طُلِّقَتْ فَحَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ، ثُمَّ رَفَعَتْهَا حَيْضَتُهَا، فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ بَانَ بِهَا حَمْلٌ فَذَلِكَ، وَإِلَّا اعْتَدَّتْ بَعْدَ التِّسْعَةِ أَشْهُرٍ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ حَلَّتْ)[رواه مالك].

وإن عَلِمَت سببَ رَفْعِه؛ من مَرضٍ، أو رَضاعٍ، ونحو ذلك؛ فإنَّها تتربَّص حتَّى يعود الحيض فتعتدَّ به، وإن طالت المدَّة؛ لأنَّها مطلَّقة، ولم تيأس من الحيض، فيتناولها عموم قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ،

ص: 367

ولقضاء عثمان رضي الله عنه بذلك في قصَّة حبَّان بن مُنْقِذ رضي الله عنه لمَّا طَلَّق امرأته. [رواه الشافعي، والبيهقي].

فإن لم يَعُدِ الحيضُ حتَّى بلَغَت سِنَّ الإياس؛ فإنَّها تعتدُّ عِدَّة الآيسة؛ كغيرها من الآيسات.

* أحكام عِدَّة المَوْطوءَة بشُبْهَةٍ أو زِناً:

- إذا زنا رَجَلٌ بامرأةٍ في حال عِدَّتها، أو وَطِئها بشُبهةٍ، أو بنكاحٍ فاسدٍ، فإنَّها تُتِمُّ عِدَّة الأوَّل، ثمَّ تعتدُّ للثاني؛ لأنَّهما حقَّان اجتمعا لرَجُلَين، فلم يتداخلا، وقُدِّم أسبقهما.

ولأنَّ عليًّا رضي الله عنه «قَضَى فِي الَّتِي تَتَزَوَّجُ فِي عِدَّتِهَا أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، وَتُكْمِلُ مَا أَفْسَدَتْ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ، وَتَعْتَدُّ مِنَ الآخَرِ» [رواه الشافعي، والبيهقي]. إلَّا إذا حَمَلَت من الثَّاني؛ فإنَّها تنقضي عِدَّتها منه بوَضْع الحَمْل، ثمَّ تُتمِّم عِدَّة الأوَّل.

- وإن وَطِئَها عمداً من أبانها من غير شبهةٍ، فكالأجنبي؛ تُتمُّ العِدَّة الأُولَى، ثمَّ تبتدئ العِدَّة الثانية للزِّنا؛ لأنَّهما عِدَّتان من وَطْأَيْن، يَلْحَقُ النَّسَب في أحدهما دون الآخر، كما لو كانا من رَجُلَيْن.

فإن كان وَطْؤه لها بشُبهةٍ استأنفت العِدَّة من جديد؛ لأنَّ الوطء قَطَع العِدَّة الأُولَى، ودخلت فيها بقيَّة العِدَّة الأُولَى؛ لأنَّهما عِدَّتان من واحدٍ لوَطْأَيْن،

ص: 368

يَلْحَقُ النَّسَب فيهما لحوقاً واحداً فتداخلا، كما لو طَلَّق الرَّجعيَّةَ في عِدَّتها بعد أن راجعها، فإنَّها تستأنف العِدَّة.

- تتعدَّدُ العِدَّةُ بتعدُّد الواطئ بالشُّبْهة؛ فلو وَطِئها أكثرُ من واحدٍ في نكاح شُبْهةٍ، فإنَّها تعتدُّ لكُلِّ واحدٍ عِدَّةً مستقِلَّةً؛ لقول عمر رضي الله عنه:(أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا، فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا الَّذِي تَزَوَّجَهَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، ثُمَّ كَانَ الْآخَرُ خَاطِبًا مِنْ الخُطَّابِ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ الْأَوَّلِ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنْ الْآخَرِ)[رواه مالك].

ولأنَّ كلَّ واحدٍ من الواطِئِين له حَقٌّ في عِدَّته، للحوق النسب في وطء الشُّبْهة.

بخلاف ما لو كان تعدُّد الوَطْء من زناً؛ فإنَّ العِدَّة لا تتعدَّد؛ لعدم لُحُوق النَّسَب في الزِّنا، فيبقى القَصْد إلى العِلْم ببراءة الرَّحِم، وهذا يحصل باعتدادها من آخر وَطْءٍ.

- من وُطِئَتْ زوجتُه بزناً، أو بنكاح شُبْهةٍ، فإنَّه يَحرُم عليه وَطْؤها في الفَرْج حتَّى تعتدَّ من هذا الوَطْء؛ لئلَّا تختلط الأنساب.

ص: 369

‌فصل في الإحداد

‌أوَّلًا: تَعريفُ الإحْدادِ:

الإحْدادُ لُغةً: المَنْعُ؛ إذِ المرأةُ تَمنَعُ نَفْسَها ممَّا كانت تتهيَّأُ به لزَوْجِها من تَطَيُّبٍ وتَزَيُّنٍ.

واصطلاحاً: اجتنابُ المرأةِ كُلَّ ما يَدْعو إلى الزَّواج بها، ويُرَغِّبُ في النَّظَرِ إليها.

‌ثانياً: حُكمُ الإحْداد:

- الإحدادُ واجبٌ على المرأة التي تُوفِّي عنها زوجها في نكاحٍ صحيحٍ ما دامت في العِدَّة؛ لحديث أمِّ حَبيبة رضي الله عنها، أنَّها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)[رواه البخاري ومسلم].

وعن أمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قالت: (جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّاهِ، إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا، أَفَتَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَا -مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا-، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ)[رواه البخاري ومسلم].

- ويُباحُ الإحدادُ للمرأة البائن؛ كالمطلَّقة ثلاثاً والمختلعة؛ بالإجماع، لكنَّه ليس بسُنَّة.

ص: 371

‌ثالثاً: ما تَجْتَنبُه المرأةُ المُحادَّة:

يجبُ على المرأة المحادَّة اجتناب ما يلي:

أ - الطِّيب؛ لحديث أمِّ عطيَّة الأنصاريَّة رضي الله عنها، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في شأن المحادَّة:(وَلَا تَمَسُّ طِيبًا)[رواه البيهقي].

ويدخل في ذلك استعمال الأَدْهان المُطيِّبة، كدُهن الوَرْد، والبَنَفْسَج، والياسمين، ونحو ذلك؛ لأنَّ الادِّهان بذلك استعمالٌ للطِّيب.

ب- الزِّينة؛ وهي كلُّ ما يُتزيَّن به، ومن ذلك:

1) لبس الحُليِّ ولو كان خاتماً؛ لحديث أُمِّ سَلَمَة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (المُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ المُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَابِ

وَلَا الحُلِيَّ

) [رواه أبو داود].

2) الملوَّن من الثياب للزينة؛ كالأحمر، والأصفر، والأخضر، ونحو ذلك؛ للحديث السابق: (المُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ المُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَابِ

).

ويجوز لها لبس الأبيض، ولو كان حريراً؛ لأنَّ حُسْنَهُ من أصل خِلْقَته، فلا يلزم تغييره؛ كالمرأة حسناء الخِلْقة لا يلزمها تغيير نفسها في عِدَّة الوفاة ولا تشويهها.

3) التجمُّل بالحِنَّاء، والمكياج، وحَفِّ الوجه، ونحو ذلك؛ لحديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها:(وَلَا تَخْتَضِبُ)، ولأنَّه يدعو إلى الجِماع، أشبه الحُليَّ، بل هو أَوْلَى.

ص: 372

4) الاكتحالُ بالأسود لغير حاجة؛ لحديث أمِّ سَلَمَة السابق: (وَلَا تَكْتَحِلُ)، ولأنَّه أبلغُ في الزِّينة، فإن كان لحاجةٍ؛ كدواءٍ ونحوه جاز لها.

‌رابعاً: المكانُ الذي يجبُ فيه قَضاءُ العِدَّة:

- يجبُ على المرأة قضاء عِدَّة الوفاة في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنةٌ فيه؛ سواء كان مملوكاً لزوجها، أو مؤجَّراً، أو مُعاراً؛ لحديث الفُرَيعَة بنت مالكٍ رضي الله عنها، وفيه:(امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ. قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)[رواه أبوداود، والترمذي].

إلَّا لحاجة تدعو إلى خروجها منه؛ كخوفها على نفسها أو مالها، أو لا تجد أُجرة كِرائه، ونحو ذلك، فتنتقلُ حيث شاءت؛ للضَّرورة، ولسقوط الواجب؛ للعُذْر.

‌خامساً: خُروجُ المُعتدَّة وسَفَرُها أثناء العِدَّة:

- لا تخرجُ معتدَّةٌ لوفاةٍ إلَّا نهاراً لحاجتها؛ من بيعٍ، أو شراءٍ، ونحو ذلك، ولو كان لها من يقوم بمصالحها؛ لأنَّ اللَّيل مظنَّة الفساد.

- ومن سافرت بإذن زوجها، أو سافرت معه؛ لتنتقل من بلده إلى بلدٍ آخر، فمات قبل مفارقة البنيان، رجعت واعتدَّت في منزله؛ لأنَّها في حكم المقيمة.

- ولو سافرت المعتدَّة لتجارةٍ، أو زيارةٍ، أو حجٍّ ولم تُحرِم، ومات زوجُها

ص: 373

قبل مسافة القَصْر، رجعت واعتدَّت في منزله؛ لما روى سعيد بن المسيِّب قال:«رَدَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ نِسَاءً حَاجَّاتٍ -أَوْ مُعْتَمِرَاتٍ- تُوُفِّيَ أَزْوَاجُهُنَّ، مِنْ ظَهْرِ الكُوفَةِ» [رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة]. ولأنَّها أمكنها أن تعتدَّ في منزلها قبل أن تبعد، فلزمها؛ كما لو لم تفارق البنيان.

- وإن مات زوجُها بعد مفارقة البنيان إن كان سفرها للانتقال، أو بعد مسافة القَصْر إن كان لغير الانتقال، خُيِّرت المرأة بين الرُّجوع فتعتد في منزلها، وبين المضيِّ إلى مقصدها؛ لأنَّ كلا البلدين سواء بالنسبة لها؛ لأنَّها كانت ساكنةً في الأوَّل، ثمَّ خرج عن كونه منزلًا لها بإذنه لها بالانتقال عنه. والثاني لم يَصِرْ منزلًا لها؛ لأنَّها لم تسكنه.

- وإن أَحْرَمَت للحجِّ بإذن زوجها ومات قبل مسافة القَصْر، وأمكن الجمعُ بين اعتدادها بمنزلها وبين الحجِّ؛ بأن كان في الوقت مُتَّسعٌ لهما؛ فإنَّها تعود لمنزلها فتعتدُّ به.

وإن لم يُمكن الجمعُ قُدِّم الحجُّ مع بُعْدِها عن بلدها؛ بأن كانت سافرت مسافة قَصْرٍ فأكثر؛ لوجوب الحجِّ بالإحرام. ولأنَّ في منعها من إتمام سفرها ضررٌ عليها بتضييع الزَّمان، والنَّفقة، ومنع أداء الواجب. ومتى رجعت من الحجِّ وبقي من عدَّتها شيءٌ أتمَّته في منزلها.

وإن لم تبتعد مسافة قَصْرٍ، فإنَّها تُقدِّم العِدَّة؛ لأنَّها في حكم المقيمة؛ وتبقى على إحرامها حتَّى تنقضي عِدَّتها، ثمَّ تتحلَّل بعُمْرةٍ لفوات الحجِّ.

ص: 374

‌سادساً: انْقِضاءُ عِدَّة الوَفاةِ:

- تنقضي عدَّة الوفاة بمضيِّ زمانها حيث كانت المرأة؛ لأنَّ المكان ليس شَرْطاً لصحَّة الاعتداد.

ص: 375

‌كتاب الرَّضاع

‌أوَّلًا: تَعريفُ الرَّضَاعِ:

الرَّضَاعُ لُغةً: بفَتْح الرَّاء وكَسْرِها: مصدرُ رَضَعَ الثَّدْيَ؛ إذا مَصَّهُ.

واصطلاحاً: مَصُّ مَنْ دونَ الحَوْلَيْنِ لَبَناً اجتمعَ عَنْ حَمْلٍ، مِنْ ثَدْي امْرَأَةٍ، أو شُرْبِه، أو نحوه.

‌ثانياً: أَثَرُ الرَّضاعِ في نَشْر الحُرْمةِ:

الرَّضاع يُحرِّمُ كالنَّسبِ؛ دلَّ على ذلك الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.

- فمن الكتاب: قوله تعالى في المُحرَّمات من النساء: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23].

- ومن السُّنَّة: ما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ)[رواه البخاري ومسلم].

- وأمَّا الإجماع: فيقول البهوتي: «وأجمعوا على أنَّ الرَّضاع مُحرِّمٌ في الجملة» .

فإذا أرضعت المرأةُ طفلاً في الحَوْلين؛ ذَكَراً كان أو أُنثى، بلبن حَمْلٍ لاحقٍ نَسَبُه بالواطئ، كانت المُرضِعَةُ والواطئ أبويه في تحريم النكاح، وثبوت المَحْرَمِيَّة، وإباحة النَّظَر، والخَلْوة، وصار الرَّضيع ولَدَهما في ذلك، وأولاده أولاد ولَدِهما، وصار أولاد كُلٍّ من المُرضِعة والواطئ إخوانه وأخواته،

ص: 377

وصار إخوانُهما وأخواتُهما أعمامَهُ وعمَّاتِه، وأخوالَه وخالاتِه، وهكذا؛ لأنَّ ذلك كُلَّه فرعُ ثُبوت الأُمومَة والأُبوَّة.

لكن لا يثبتُ به بقيَّة أحكام النَّسَب؛ كالنَّفقة، والإرث، وولاية النِّكاح والمال، ونحو ذلك؛ لأنَّ النَّسَب أقوى من الرَّضاع؛ فلا يساويه إلَّا فيما ورد فيه النَّصُّ؛ وهو التَّحريم وما يتفرَّع عليه من المَحْرَمِيَّة والخَلْوة.

ولا تنتشرُ حُرْمَةُ الرَّضاع إلى من هم بدرجة المُرتَضِع أو فوقه؛ وهم: أصوله وحواشيه؛ من أبٍ، وأُمٍّ، وأخٍ، وأختٍ، وعمٍّ، وعمَّةٍ، وخالٍ، وخالةٍ من النَّسَب؛ فتحلُّ مرضعة الولد لأبيه وأخيه من النَّسَب، وتحلُّ أمُّه وأخته من النَّسَب لأبيه وأخيه من الرَّضاع، إجماعاً.

‌ثالثاً: شُروطُ التَّحْريمِ بالرَّضاعِ:

يُشترطُ في التَّحريم بالرَّضاع شرطان:

الأوَّل: أن يكون الرَّضاع في العامَيْن الأوَّلين؛ لقول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]. ولحديث أمِّ سَلَمَة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرِّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الفِطَامِ)[رواه الترمذي].

الثاني: أن يَرْتَضِعَ الطفلُ خَمْس رضعاتٍ فأكثر، فإن ارتضع أقلَّ من خمسٍ لم يثبت التحريم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: (كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ، بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ،

ص: 378

فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ) [رواه مسلم].

فلو ارتضع الطفلُ بعد العامَيْن ولو بلحظةٍ، أو ارتضع الخامسة بعد مضيِّ العامين، لم يثبت التَّحريم؛ لأنَّ الله تعالى جعل تمام الرَّضاعة حَوْلَيْن، فدلَّ على أنَّه لا حُكْم للرَّضاع بعدهما.

‌رابعاً: مِنْ أَحْكَامِ الرَّضَاعِ:

أ - يُكرَهُ استرضاعُ الكافِرَةِ والفاجِرَةِ؛ لما جاء عن عمر بن عبد العزيز قال: (اللَّبَنُ يُشْبِهُ عَلَيْهِ)[رواه البيهقي]؛ أي: أنَّ الرَّضيع ربما نَزَع به الشَّبَهُ إلى مُرضِعَتِه. كما أنَّ الارتضاع من الكافِرَةِ يجعلُها أُمًّا لها حُرْمَة الأُمِّ مع شِرْكها، فربَّما مال إليها في محبَّة دِينها.

وكذا يُكرَه استرضاعُ سيِّئةِ الخُلُق؛ لأنَّ الرَّضاع يغيِّر الطِّباع، فيُخشَى تَعدِّي الضَّرر إلى الرَّضيع.

كما يُكرَه استرضاعُ الجَذْماء والبَرْصاء؛ خشية وصول أثر ذلك إلى الرَّضيع.

ب- إذا امتصَّ الطفلُ الثَّدْي، ثمَّ قَطَعَه ولو قَهْراً، أو لتنفُّسٍ، أو للانتقال عن مُرضِعَةٍ إلى أخرى، ونحو ذلك؛ فتلك رضعةٌ تُحسَبُ من الخَمْس، فإن عاد فامتصَّ الثَّدْي ثانيةً فرَضْعَةٌ أُخرى؛ لأنَّ المَصَّة الأُولَى زال حُكْمُها بتَرْكِ الارتضاع، فإذا عاد فامتصَّ، فهي غير الأُولَى.

ولأنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: (لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَالمَصَّتَانِ)[رواه مسلم] يدلُّ على أنَّ لكُلِّ

ص: 379

مَصَّة أثراً.

ج- إذا صُبَّ اللَّبن في أَنْف الرَّضيع مِنْ إنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ -وهو ما يُسمَّى بالسَّعوط-، أو صُبَّ في حَلْقه من غير الثَّدْي -وهو ما يُسمَّى بالوَجُور-، فهو كالرَّضاع من الثَّدْي في التَّحريم؛ لوصول اللَّبَن بذلك إلى جَوْفِه، كوصوله بالارتضاع، ولقول ابن مسعودٍ رضي الله عنه:(لَا رِضَاعَ إِلَّا مَا شَدَّ الْعَظْمَ، وَأَنْبَتَ اللَّحْمَ)[رواه أبو داود]. وهذا يحصلُ به إنباتُ اللَّحم، وشدُّ العَظْم، كما يحصلُ بالرَّضاع.

وكذا لو صار اللَّبن جُبْناً فأكَلَه الرَّضيعُ، أو خُلِطَ بماءٍ مع بقاء صِفاته من لونٍ، وطعمٍ، ورائحةٍ، فإنَّه يثبت به التَّحريم؛ لأنَّ الحكم للأغلب، ولأنَّه واصلٌ من الحَلْق يحصل به إنبات اللَّحم، وشدُّ العَظْم.

فإن غَلَبَه ما خالطه لم يثبتُ به التحريم؛ لأنَّه لا يُنبِتُ اللَّحمَ، ولا يَشُدُّ العَظْمَ.

د - إذا شُكَّ في وجود الرَّضاع؛ هل حَصَل رَضاع أو لا؟ فإنَّه يُبنَى على اليقين؛ لأنَّ الأصل عدم الرَّضاع.

وكذا لو شُكَّ في عدد الرَّضعات؛ هل هي خَمْس أو أقلُّ؟ فإنَّه يُبنَى على اليقين، وهو الأقلُّ؛ لأنَّ الأصل عدم الرَّضاع المُحَرِّم؛ فلا ينتقل عنه إلَّا بيقين.

وكذا لو شكَّ في وقوعه في العامَيْن، ولا بَيِّنة، فلا تحريم.

ص: 380

هـ- إذا شَهِدت امرأةٌ مَرْضِيَّةٌ في دِينها أنَّها أَرضَعَتْه خَمْساً في الحَوْلين، أو أنَّ فلانة أرضَعَتْه خَمْساً في الحَوْلين؛ ثبتَ التَّحريم بشهادتها؛ لحديث عُقْبة بن الحارث رضي الله عنه قال:(تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ لِي: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، وَهِيَ كَاذِبَةٌ. فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، قُلْتُ: إِنَّهَا كَاذِبَةٌ، قَالَ: كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا! دَعْهَا عَنْكَ)[رواه البخاري].

و - كلُّ امرأةٍ يَحرُمُ عليك ابنتُها من النَّسب؛ كالأُمِّ، والجَدَّة، والأُخت، والبنت، ونحو ذلك، إذا أَرْضَعَتْ طفلةً حَرَّمَتْها عليك أبداً؛ لأنَّها صارت ابنتَها من الرَّضاع.

فلو أرضعت الأُمُّ طفلةً، كانت هذه الطفلةُ أختك من الرَّضاع.

ولو أرضعت الجَدَّةُ طفلةً، كانت عَمَّتَك أو خالَتَك من الرَّضاع.

ولو أرضعت الأُختُ طفلةً، كانت ابنة أُختِكَ من الرَّضاع، وهكذا

ز - وكلُّ رَجُلٍ تَحرُم عليك ابنتُه من النَّسب؛ كالأخ، والأب، والابن ونحو ذلك، إذا أرضعت امرأتُه بلَبَنِه طفلةً، خَمْس رَضعاتٍ، حَرَّمَتْها عليك أبداً؛ لأنَّها صارت ابنةَ من تَحرُم ابنتُه عليك.

فلو أرضعت زوجةُ الأخ طفلةً، صارت هذه الطفلةُ ابنة أخيك من الرضاع.

ولو أرضعت زوجةُ الأب طفلةً، كانت أختك من الرضاع، وهكذا

ص: 381

والأصل في ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ)[رواه أحمد، والنسائي].

ص: 382

‌كتاب النَّفقات

‌أوَّلًا: تَعريفُ النَّفَقات:

النَّفَقاتُ لُغةً: جمعُ نَفَقَةٍ؛ وهي الدَّراهِمُ ونحوها من الأَمْوالِ.

واصطلاحاً: كِفايةُ مَنْ يَمُونُه قُوتاً، ومَسْكَناً، وكِسْوَةً، وما يَتْبَعُ ذلك.

‌ثانياً: أنواعُ النَّفَقات:

النَّفقةُ أنواع؛ فمنها نَفقةُ الزَّوْجات، ومنها نَفقةُ الأقارب، ومنها نَفقةُ البَهائِم.

النوع الأوَّل: نَفَقةُ الزَّوْجات:

أ - حُكمُها:

يجبُ على الزَّوج أن يُنْفِقَ على زوجته بالمعروف، وقد دلَّ على ذلك الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.

- فمن الكتاب: قول الله عز وجل: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، وهي في سياق أحكام الزَّوجات.

- ومن السُّنَّة: حديث جابرٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ)[رواه مسلم].

- وقد أجمع العُلماء على وجوب نفقة الزَّوجة على الزَّوج إذا كانا بالغين ولم تكن ناشزًا؛ وهي العاصية لزوجها فيما له عليها ممَّا أوجبه له النِّكاح؛

ص: 383

كالتي تمتنع من فِراشِه، أو من الانتقال معه إلى مَسْكَنِ مثلها، أو خرجت من منزله بغير إذنه، أو أَبَتِ السَّفَر معه، ونحو ذلك.

ب- ما يَجبُ على الزَّوجِ نَفَقَتُه لزَوجَتِه:

يجبُ على الزَّوج أن يَبْذل لزوجته ما يلي:

1) ما لا غِنَى لها عنه بالمعروف؛ من مَأْكَلٍ، ومَشْربٍ، ومَلْبَسٍ، ومَسْكَنٍ؛ للحديث السابق:(وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ). فإن تنازعا في قَدْر ذلك، أو صِفَتِه، رُجِعَ فيه إلى تقدير القاضي؛ لأنَّه أمرٌ يختلفُ باختلاف حال الزَّوجين، فرُجِعَ فيه إلى اجتهاد القاضي؛ كسائر المختلفات. ويُقدِّره القاضي بحسب حالهما يَساراً وإعساراً، أو يَسارِ أَحَدِهما وإعسار الآخر؛ لقوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].

2) مَؤونَةُ نَظافَتِها؛ من صابونٍ ونحوه، ودُهْنٍ لرأسها، وثَمَنِ ماءٍ للشُّرْب، وللطَّهارة من الحَدَث والخَبَث، وغَسْل الثياب، وثَمَن مُشْطٍ، وأُجرَة الماشِطَة، ونحو ذلك ممَّا يعودُ بنظافتها؛ لأنَّ ذلك كلَّه من حوائجها المعتادة.

3) تَعيينُ خادِمٍ لها إن كانت ممَّن يُخدَمُ مثلُها؛ لأنَّ ذلك من المعاشرة بالمعروف، ولأنَّه من حاجتها، كالنَّفقة.

4) تَعيينُ مُؤْنِسَةٍ لها إذا احتاجت إلى ذلك؛ كما لو كانت بمكان مَخوفٍ، أو

ص: 384

كان لها عدوٌّ تخاف على نفسها منه؛ لأنَّه ليس من المعاشرة بالمعروف أن تُقيمَ وَحْدَها بمكانٍ لا تأمَنُ على نفسها فيه.

ج- نَفَقَةُ المُطَلَّقة والمُتوَفَّى عنها زَوجُها:

1) تجبُ النَّفقةُ -من مَأْكلٍ، ومَسْكَنٍ، وكِسْوَةٍ- للمُطلَّقة رَجعيًّا، سواءً كانت حاملاً أو غير حامل؛ لأنَّها زوجة؛ لقول الله تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228].

2) أمَّا البائنُ بطلاقٍ، أو فَسْخٍ، فلا شيءَ لها؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس -لمَّا أَبانَها زوجُها-:(لَا نَفَقَةَ لَكِ، وَلَا سُكْنَى)[رواه مسلم]. إلَّا إذا كانت حاملاً؛ فيجب لها ما يجبُ للزَّوجة من المأْكَل، والمَسْكَنِ، والكِسْوَةِ؛ لقول الله تعالى:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]. ولأنَّ الحَمْل وَلَدُه، والإنفاقُ عليه دونها مُتَعَذِّرٌ، فوجب كما وَجَبَت أُجْرةُ الرَّضاع.

3) وكذا الزوجةُ النَّاشِزُ؛ لا شيء لها؛ لأنَّ النَّفقة في نظير تمكينها له من الاستمتاع، وهي ممتنعةٌ. إلَّا إذا كانت حاملاً منه، أو كان لها منه وَلَدٌ؛ فتجبُ عليه نفقته؛ لأنَّ النَّفقةَ واجبةٌ لوَلَدِه للقَرابَةِ؛ فلا يَسقُطُ حقُّه بمَعصِيتِها.

4) وأمَّا المتوفَّى عنها زوجها فلا نفقة لها من تَرِكَة زوجِها، ولو كانت حاملاً؛ لأنَّ التَّرِكة قد انتقلت للوَرَثة، وإنَّما يُنْفَقُ على الحَمْل من نَصيبِه من التَّرِكَة، لأنَّه مُوسِرٌ، فلا تجبُ نفقتُه على غيره، فإن لم يكن له ميراثٌ؛ وَجَبَتِ النَّفقة على وارِثِ الميِّت المُوسِرِ؛ للقَرابة.

ص: 385

د - من أَحكامِ نَفَقَةِ الزَّوجات:

1) من سافرت لحاجتها، أو لنُزهةٍ، أو زِيارةٍ، ولو بإذن الزَّوج؛ فلا نفقةَ لها واجبة؛ لأنَّها فَوَّتَتْ عليه التَّمكينَ من الاستمتاع بها؛ لحَظِّ نَفْسِها، وقضاء أَرَبِها، إلَّا أن يكون مسافراً معها، متمكِّناً من الاستمتاع بها، فلا تسقط حينئذٍ، لأنَّها لم تُفوِّت التمكين.

2) إذا اختلف الزَّوجان في النَّفقة؛ فادَّعَى الزَّوج الإنفاق عليها، أو أنَّها أخذت نَفَقَتَها، أو أنَّها ناشِزٌ، فأنكرت؛ فالقولُ قولُها بيمينها؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ ذلك.

3) إذا أَعْسَرَ الزَّوجُ بالنَّفقة الواجبة، أو أَعْسَرَ ببعضِها، أو سافَرَ الزَّوجُ المُوسِرُ لكنَّه لم يترك نفقةً، وتَعَذَّر على الزَّوجة النَّفقةُ بالاستدانة وغيرها، فإنَّ لها فَسْخَ النِّكاح فوراً ومتراخياً؛ لقول الله تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، والإمساك مع تَرْك النَّفقة ليس إمساكاً بالمعروف، فيتعيَّن التَّسريحُ بالإحسان، ولِلُحوقِ الضَّرر الغالب بذلك بها؛ إذ البَدَنُ لا يقومُ بدون كفايته.

- ولا يصحُّ الفَسْخُ دون حُكْم الحاكم أو القاضي؛ لأنَّه فَسْخٌ مختلفٌ فيه، فلم يجز بغير الحاكم، ولا يفسَخُه الحاكم إلَّا بطَلَبِها؛ لأنَّه لِحَقِّها؛ فلم يجز من غير طَلَبِها.

4) إذا امتنعَ الزَّوج المُوسِرُ عن النَّفقة أو الكِسْوَة أو بعضهما، وقَدِرَت الزَّوجة

ص: 386

على أخذ ذلك من ماله، فلها الأَخْذُ منه بلا إِذْنِه بقَدْرِ كِفايَتِها وكفاية وَلَدِها الصغير؛ لحديث عائشة رضي الله عنها:(أَنَّ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّاهِ؛ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَقَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ، بِالمَعْرُوفِ)[رواه البخاري ومسلم]، فرخَّص لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أَخْذِ تمام الكفاية بغير عِلْمِه، لأنَّه موضع حاجةٍ؛ إذ لا غِنَى عن النَّفقة، ولا قوام إلَّا بها، فإذا لم يدفعها الزَّوج ولم تأخذها أَفْضَى ذلك إلى ضَياعِها وهَلاكِها. كما أنَّها تتجدَّد بتجدُّد الزَّمَن فتَشُقُّ المرافعة بها إلى الحاكم، والمطالبة بها كلَّ يوم.

النوع الثاني: نَفَقَةُ الأَقارِب:

أ - حُكمها:

تجبُ النَّفقة -من مَأْكَلٍ، ومَسْكَنٍ، وكِسْوَةٍ- لأقارِبِ الرَّجُل الذين يَرِثُهُم بفَرْضٍ، أو تَعصيبٍ، وهم على النحو التالي:

1) الوالِدان وإن عَلَوا؛ لقول الله عز وجل: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]، ومن الإحسان: الإنفاقُ عليهما عند حاجتهما. ولحديث عائشة رضي الله عنها عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ)[رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي]، وقد سَمَّى الله عز وجل الجَدَّ أَباً؛ كما في قوله تعالى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78].

قال ابن المنذر: «أجمع أهل العلم على أنَّ نفقة الوالدين الفقيرين، الذين

ص: 387

لا كسب لهما ولا مال، واجبةٌ في مال الوَلَد».

2) الأولادُ وإن نَزَلوا؛ لقول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، ولأنَّ وَلَدَ الإنسان بعضُه؛ فكما يجبُ عليه أن يُنفِقَ على نَفْسِه وأهلِه، كذلك يجبُ أن يُنفِقَ على بعضه.

قال ابن المنذر: «وأجمع كلُّ من نحفظ عنه من أهل العِلْم على أنَّ على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم» .

3) كلُّ قَريبٍ يَرِثُه بفَرْضٍ أو تَعْصيبٍ؛ كأخيه، وأُخته، وعمِّه، وعمَّته، وأخيه لأُمِّه، ونحو ذلك؛ لقول الله عز وجل:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ثمَّ قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} ، فأوجب على الأب نفقة الرَّضاع، ثمَّ أوجب على الوارث مثل ما أوجبه على الأب.

ولحديث كُلَيْبِ بن مَنْفَعَة، عن جَدِّه (أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّاهِ؛ مَنْ أَبَرُّ؟، قَالَ: أُمَّكَ، وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ، وَأَخَاكَ، وَمَوْلَاكَ الَّذِي يَلِي ذَاكَ حَقٌّ وَاجِبٌ، وَرَحِمٌ مَوْصُولَةٌ)[رواه أبو داود]. فألزمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم البِرَّ والصِّلَة، والنَّفقة من الصِّلَة، وقد جعلها حقًّا واجباً.

ب- شُروطُ النَّفَقَة على الأَقارِب:

يُشترطُ لوجوب النَّفقة على الأقارب ثلاثة شروط:

الشَّرط الأوَّل: أن يكونوا فقراء، لا مال لهم ولا كَسْب يُغْنيهم عن إنفاق

ص: 388

غيرهم، فإن كانوا موسرين بمالٍ أو كَسْبٍ يكفيهم، فلا نفقة لهم؛ لأنَّ النَّفقة إنَّما تجبُ على سبيل المواساة، والغَنيُّ يملِكُها، والقادِرُ بالتَّكسُّب مُسْتَغْنٍ عنها.

الشَّرط الثَّاني: أن يكون المُنفِقُ غنيًّا بمالِهِ أو كَسْبِهِ، وأن يَفْضُلَ عن قُوتِ نَفْسِه وزوجته ورَقيقِه يومه وليلته، وعن كِسْوتهم وسُكناهم؛ لما روى جابرٌ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فَقِيرًا فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ فَعَلَى عِيَالِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ فَعَلَى ذِي قَرَابَتِهِ)[رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي].

ولأنَّ وجوب نفقة القريب على سبيل المواساة، فلا تجبُ على المحتاج.

الشَّرط الثَّالث: أن يكون المُنفِقُ وارثاً لهم بفَرْضٍ أو تعصيبٍ؛ لقوله تعالى في الآية السابقة: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . فإن لم يكن وارثاً لهم؛ كما لو وُجِدَ من هو أقربُ منه فحَجَبَه، فلا تجبُ عليه النَّفقة حينئذٍ، وإنَّما تجبُ على الوارث.

ويُستثنى من ذلك الأصولُ والفروعُ؛ من الآباء وإن عَلَوا، والأبناء وإن نَزَلوا؛ فتجبُ النَّفقةُ لهم وعليهم مطلقاً؛ سواء وَرِثوا أو لا؛ لعموم الأدلَّة السابقة.

ج- من أحكام النَّفَقَة على الأَقارِب:

1) إذا كان للقَريب الفقير ورثةٌ غير الأب، فتُوزَّع النَّفقة بينهم على قَدْر إرْثِهم منه؛ لأنَّ الله تعالى رَتَّب النَّفقة على الإِرث، بقوله سبحانه وتعالى:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} ، فوجب أن يُرَتَّب مقدارُ النَّفقة على مقدار الإرث. فلو

ص: 389

كان يَرِثُه أمُّه وجَدُّه لأبيه -مثلاً-، فيجبُ على الأُمِّ ثُلُثُ النَّفقة، ويجب على الجَدِّ الباقي؛ لأنَّهما يرثانه كذلك.

وكذا لو كان وارثُه أُمًّا وابناً -مثلاً-، وَجَبَ على الأُمِّ سُدُسُ النَّفقة، والباقي على الابن؛ كإرْثِهِما له.

أمَّا إذا كان وارثه أباً مُوسِراً، فإنَّه ينفردُ بوجوب النَّفقة كُلِّها؛ لقول الله عز وجل:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لهِنْد بنت عُتْبَة رضي الله عنها السابق:(خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ).

2) إذا كان بعضُ وَرَثَتِه موسِراً، وبعضهم مُعسِراً؛ كما لو كان له أخوان؛ أحدُهما موسِرٌ، والآخرُ مُعسِرٌ؛ فلا يجبُ على الموسِرِ منهما في النَّفقة إلَّا بقَدْر إرْثِه فقط؛ لأنَّ الموسِرَ إنَّما يجبُ عليه مع يَسارِ الآخَرِ ذلك القَدْر، فلا يتحمَّلُ عن غيره إذا لم يجد الغيرُ ما يجبُ عليه، إلَّا إذا كان وارِثُه من عَمُودَي النَّسَب؛ كالجدِّ، أو الابن، وهو موسِرٌ، وغيرُه من الوَرَثَة مُعسِرٌ؛ فإنَّ النَّفقة كلَّها تجبُ عليه؛ لقوَّة القَرابة.

3) من لَزِمَتْهُ النَّفقة، وكان قادراً على التَّكَسُّب والعمل أُجْبِرَ عليه؛ لنفقة من تجبُ عليه نفقتُه من قريبٍ وزوجةٍ؛ لأنَّ تَرْك التَّكَسُّب مع قُدْرَتِه عليه تضييعٌ لمن يَعُول، وهو منهيٌّ عنه.

4) من وجبت عليه النَّفقة فامتنع منها، جاز لمستحقِّها أن يأخذ من ماله ما يكفيه بالمعروف بلا إذنه؛ لحديث هِنْدٍ رضي الله عنها -السابق-: (خُذِي

ص: 390

مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ)، وقِيسَ عليه سائر من تجب له النَّفقة.

5) إذا امتنع الزَّوجُ من النَّفقة على زوجته، أو امتنع القريبُ من النَّفقة على قريبه، فأنفقَ عليهما أجنبيٌّ بنِيَّة الرُّجوع عليه بها، رَجَع؛ لأنَّه أدَّى عنه الواجب؛ كما لو قَضَى عنه دَيْنَه.

6) إذا كان دِينُ القَريبَيْن مختلفاً؛ فلا نفقة لأحدهما على الآخر؛ لأنَّه لا توارث بينهما، ولا ولاية، إلَّا الوارث بالولاء؛ فإنَّه تجبُ النَّفقةُ للعَتيق على مُعتِقِه وإن اختلف دِينُه؛ لثبوت إرْثِه من عَتيقِه مع اختلاف دِينهما.

د - ترتيبُ النَّفَقَةِ على الأَقارِبِ:

إذا لم يجد من النَّفقة ما يكفي لجميع من يجبُ عليه نفقتُه، فإنَّ النَّفقةَ تُرتَّب على النحو التالي:

1) يبدأُ بنَفْسِه؛ لما روى جابرٌ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا)[رواه مسلم].

2) ثمَّ زَوجَتِه؛ لأنَّ نفقة الزَّوجة تجبُ على سبيل المعاوَضَةِ، فقُدِّمت على ما وَجَب مواساةً؛ كنفقة القريب، ولذا تجبُ نفقتُها مع اليَسارِ والإِعْسارِ، بخلاف نفقة القريب.

3) ثمَّ رَقيقِه؛ لأنَّ نفقته تجبُ مع اليَسارِ والإعْسارِ؛ كنفقة الزَّوجة؛ فقُدِّمت على ما وَجَبَ مواساةً.

ص: 391

4) ثمَّ وَلَدِه؛ لوجوب نفقته بالنصِّ.

5) ثمَّ أَبِيهِ؛ لانفرادهِ بالولاية على وَلَدِه، واستحقاق الأَخْذِ من ماله، ولإضافة النبيِّ صلى الله عليه وسلم الوَلَدَ ومالَهُ لأبيه بِقَوْلِهِ:(أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ)[رواه أحمد، وابن ماجه].

6) ثمَّ أُمِّه؛ لما لها من فضيلة الحَمْل، والرَّضاع، والتربية.

7) ثمَّ وَلَدِ ابْنِه؛ لأنَّه يَرِثُ ميراثَ ابنٍ، ولأنَّ وجودَه يُسقِطُ تعصيبَ الجَدِّ، فيقُدَّم عليه.

8) ثمَّ جَدِّه؛ لأنَّ له مَزِيَّةَ الولادة والأُبوَّة.

9) ثمَّ أَخِيهِ، ثمَّ الأقرب فالأقرب؛ لأنَّ النَّفقة صِلَةٌ وبِرٌّ، ومَنْ قَرُب أَوْلَى بالبِرِّ ممَّن بَعُد.

النوع الثالث: نَفَقَةُ البَهائِم:

أ - حُكمُها:

يجبُ على مالك البهيمة إطعامها وسَقْيها، أو إقامة من يرعاها؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا، إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ)[رواه البخاري، ومسلم].

فإن امتنع من الإنفاق عليها أجبره الحاكم أو القاضي عليه؛ لأنَّه واجبٌ

ص: 392

عليه؛ كسائر الواجبات.

فإن أبى الإنفاق، أو عَجَزَ عنه، أجبرهُ الحاكمُ على بيعها، أو إجارتها، أو ذَبْحِها إن كانت تُؤكَل؛ لأنَّ بقاءها في يده مع تَرْك الإنفاق عليها ظُلْمٌ، والظُّلْمُ تجبُ إزالتُه، ولأنَّها تَتْلَفُ إذا تُرِكُت بلا نفقةٍ، وإضاعةُ المال منهيٌّ عنها.

ب- ما يَحرُمُ في البَهائِم:

يَحرُمُ في البهائم ما يلي:

1) لَعْنُها؛ لحديث عِمْران بن حُصَينٍ رضي الله عنه قال: (بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَامْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ، فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا، فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ. قَالَ عِمْرَانُ: فَكَأَنِّي أَرَاهَا الْآنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ، مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ)[رواه مسلم].

2) تَحميلُها شيئاً شاقًّا؛ لأنَّ في ذلك تعذيباً لها، وإضراراً بها.

3) حَلْبُها ما يَضُرُّ بوَلَدِها؛ لما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)[رواه ابن ماجه]، ولأنَّ لَبَنَها مخلوقٌ له، وكِفايتُه واجبةٌ.

4) ضَرْبُها في وَجْهِها، ووَسْمُها فيه؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال:(نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ، وَعَنِ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ)[رواه مسلم].

5) ذَبْحُها إن كانت غير مأكولةٍ؛ لأنَّها مالٌ ما دامت حيَّةً، وذَبحُها إتلافٌ

ص: 393

لها، وقد نُهِيَ عن إتلاف المال.

ج- ما يَجوزُ في البَهائِم:

يجوزُ في البهائم استعمالها في غير ما خُلِقَت له؛ كما لو استعمل البقر للرُّكوب والحَمْل، أو استعمل الإبل والحُمُر للحَرْث، ونحوه؛ لأنَّ مقتضى المِلْك جوازُ الانتفاع بها فيما يُمكن، وهذا ممكنٌ؛ كالذي خُلِقَت له، وقد جَرَت به عادةُ بعض الناس.

ص: 394

‌باب الحضانة

‌أوَّلًا: تَعريفُ الحَضانَةِ:

الحَضانةُ لُغةً: الضمُّ إلى الحِضْن، مأخوذةٌ من الحِضْن وهو الجَنْب؛ لأنَّ المُرَبِّيَ والكافِلَ يضُمُّ الطفل إلى حِضْنِه.

واصطلاحاً: حِفْظُ صَغيرٍ ونحوه عمَّا يَضرُّه، وتربيتُه بعملِ مصالحه.

‌ثانياً: حُكمُ الحَضانَةِ:

الحضانةُ واجبةٌ للصَّغير ومَنْ في حُكْمِه من مجنونٍ ومعتوهٍ -وهو مُخْتلُّ العَقْل اختلالًا لا يصلُ إلى حَدِّ الجنون-؛ لأنَّهم يَهلَكونَ بتَرْكِها؛ فوَجَبَ حِفْظُهم عن الهَلاك، وإنجاؤهم من المَهالِك والضَّياع؛ كما يجبُ الإنفاق عليهم.

‌ثالثاً: الحِكْمَةُ من مَشروعِيَّة الحَضانَةِ:

شُرِعَتِ الحضانةُ للصَّغير ومن في حُكْمِه؛ لأنَّهم لا يستطيعون رعايةَ أنفسهم، ولا القيام بشؤونهم؛ لقُصورِهِم وعَجْزِهم؛ فكان من حِكْمَةِ الشارع الحكيم تشريعُ ولاية الحضانة؛ حِفْظاً لهؤلاء المحتاجين، ورحمةً بهم -لا سيما في حال فِراق الزَّوجين -؛ حتَّى لا يهلكوا، أو يضيعوا.

‌رابعاً: ترتيبُ المُستَحِقِّينَ للحَضانَةِ:

تجبُ الحضانةُ لمستحقِّيها على الترتيب التالي:

ص: 395

أ - الأُمُّ -ولو بأجرة مثلها مع وجود متبرِّعة-؛ لحديث عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما: (أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّاهِ، إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي)[رواه أحمد، وأبو داود].

ولأنَّ الأب لا يَلِي حضانته بنفسه، وإنَّما يدفعه إلى امرأته، أو غيرها من النِّساء، وأُمُّه أَوْلَى ممَّن يدفعه إليها؛ لشَفَقَتِها.

ب- ثمَّ أُمَّهاتُها (أمُّ الأمِّ وإن عَلَت) القُرْبَى فالقُرْبَى؛ لأنَّهن في معنى الأُمِّ من حيث كمال الشَّفَقة على المحضون، والأقرب أكمل شفقةً من الأبعد.

ج- ثمَّ الأبُ؛ لأنَّه أصل النَّسب إلى الطفل، وأقرب من غيره، وأحقُّ بولاية مالِهِ.

د - ثمَّ أمَّهاتُه (أمُّ الأب وإن عَلَت) القُرْبَى فالقُرْبَى؛ لأنَّهنَّ يُدْلِين بعَصَبةٍ قريبةٍ.

هـ- ثمَّ الجَدُّ لأبٍ الأقرب فالأقرب؛ لأنَّه في معنى الأب.

و - ثمَّ أمَّهاتُه (أم الجدِّ لأب، وإن عَلَت) القربى فالقربى؛ لأنهنَّ يدلين بعصَبة.

ز - ثمَّ الأُخت لأَبَوَيْن؛ لقوَّة قَرابتها، ومشاركتها له في النَّسَب.

ص: 396

ح- ثمَّ الأُخت لأُمٍّ؛ لإدلائها بالأُمِّ؛ فكانت أَوْلَى ممَّن يُدْلي بالأب؛ كالجَدَّات.

ط- ثمَّ الأُخت لأبٍ؛ لأنَّها تقوم مقام الأُخت الشقيقة، وتَرِثُ ميراثها.

ي- ثمَّ الخالَة لأبوين، ثمَّ لأمٍّ، ثمَّ لأبٍ؛ لأنَّ الخالات يُدْلِين بالأُمِّ.

ك- ثمَّ العَمَّة لأبوين، ثمَّ لأمٍّ، ثمَّ لأبٍ؛ لأنَّهنَّ يُدْلِين بالأب.

ل- ثمَّ خالَةُ الأُمِّ لأبوين، ثمَّ لأمٍّ، ثمَّ لأبٍ، ثمَّ خالات الأب كذلك، ثمَّ عَمَّات الأب كذلك؛ لأنَّهنَّ نساءٌ من أهل الحضانة، فقُدِّمْنَ على مَنْ بِدَرَجَتِهنَّ من الرِّجال؛ كتقديم الأُمِّ على الأب.

وتقديمُ الخالات على عَمَّات الأب؛ لأنَّهنَّ يُدْلِين بالأُمِّ، والعَمَّات يُدْلِين بالأب، فقُدِّم من يُدْلي بالأُمِّ.

م- ثمَّ بناتُ إخْوَتِه وأخواتِهِ، ثمَّ بناتُ أعمامِهِ وعَمَّاته، ثمَّ بناتُ أعمام أبيه وبناتُ عَمَّات أبيه، على التفصيل السابق؛ فتُقدَّم لأبوين، ثمَّ لأمٍّ، ثم لأبٍ.

ن- ثمَّ باقي العَصَبة؛ الأقرب فالأقرب؛ فيُقدَّم الإخوة الأشقَّاء، ثمَّ لأبٍ، ثمَّ بَنوهُم كذلك، ثمَّ الأعمام، ثمَّ بنوهم كذلك، ثمَّ أعمام الأب، ثمَّ بَنوهُم كذلك، ثمَّ أعْمامُ الجَدِّ، ثمَّ بَنوهُم كذلك، وهكذا؛ لأنَّ لهم ولايةً وتعصيباً بالقرابة، فتَثْبُتُ لهم الحضانة كالأب.

- إذا كان المحضون أنثى بلغت سبع سنين، فيشترط في الحاضن أن يكون

ص: 397

مَحْرَماً للمحضون، ولو برضاعٍ، أو مصاهرةٍ؛ لأنَّها محلُّ الشهوة.

س- ثمَّ لِذِي رَحِمٍ ذَكَرٍ وأُنثَى غير ما تقدَّم؛ لأنَّ لهم رَحِماً وقَرابةً يَرِثون بها عند عدم من تقدَّم.

‌خامساً: موانعُ استحقاق الحَضانَةِ:

تسقطُ الحضانةُ عن مستحقِّها إذا وُجِدَ فيه مانعٌ من الموانع التالية:

أ - الرِّق؛ فلا حضانة لمن كان فيه رِقٌّ؛ لأنَّ الحضانة ولاية كولاية النكاح؛ والرَّقيق ليس أهلاً لها.

ب- الفِسْق؛ فلا حضانة لفاسقٍ؛ لأنَّه لا يُوثَقُ به في أداء واجب الحضانة، وربما نشأ المحضون على أحواله.

ج- الكُفْر؛ فلا حضانة لكافرٍ على مسلمٍ؛ لأنَّها إذا لم تثبت للفاسق فالكافِرُ أَولَى، ولأنَّه ربما فَتَنَهُ عن دِينِه.

د - المرأةُ المتزوِّجةُ بأجنبيٍّ من المحضون؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: (أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي)، ولأنَّها تشتغل عن حضانته بحَقِّ الزَّوج. بخلاف ما لو تزوَّجت بقريبِ المحضون؛ كعَمِّه مثلًا؛ فإنَّ حضانتها لا تسقط؛ لأنَّ الزَّوج القريب يشاركها في القرابة والشَّفقة عليه.

- إذا زال المانع من استحقاق الحضانة؛ كما لو أُعتِقَ الرَّقيقُ، أو أَسْلَم الكافر، أو تاب الفاسق، أو طُلِّقت المرأة من الأجنبيِّ، أو أسقط الأحقُّ بها

ص: 398

حقَّه منها، ثمَّ عاد فطَلَبَها، عاد الحقُّ لهم في الحضانة، لأنَّ سببها قائم، وهو القرابة، وإنَّما امتنعت لمانعٍ، فإذا زال المانع عادَ الحقُّ بالسَّبب السابق.

- إذا أراد أحد أبوي المحضون السفر لحاجة ثمَّ يرجع؛ فالمقيم منهما أحقُّ بالحضانة؛ لأنَّ في السفر بالولد إضراراً به، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:(لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)[رواه ابن ماجه].

أمَّا إذا كان السَّفر إلى بلدٍ بعيد -مسافة القَصْر فأكثر من البلد الآخر- للسُّكْنَى فيه، فالأبُ هو الأحقُّ بالحضانة؛ لأنَّه الذي يقوم في العادة بتأديب الصغير، وحِفْظ نَسَبِه، فإذا لم يكن الولد في بَلَدِ أبيه ضاع. إلَّا إذا قَصَدَ الأبُ بذلك مُضارَّة الأُمِّ، وانتزاع الولد منها، فالأُمُّ حينئذٍ أحقُّ بالحضانة.

وإن كان السَّفَر للسُّكنى إلى بلدٍ قريبٍ -دون مسافة القَصْر- فالأُمُّ أحقُّ بالحضانة؛ لأنَّها أتمُّ شَفَقةً، ولأنَّ مراعاة الأب له ممكنةٌ.

‌سادساً: الحَضانَةُ بعد سِنِّ السَّابِعَة:

أ - حضانةُ الصَّبيِّ إذا بَلَغَ سَبْعَ سِنين:

إذا بلغ الصبيُّ المحضون سبعَ سنين عاقلاً، خُيِّر بين أبويه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه:(أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، وَقَدْ نَفَعَنِي وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، فَجَاءَ زَوْجُهَا وَقَالَ: مَنْ يُخَاصِمُنِي فِي ابْنِي؟ فَقَالَ: يَا غُلَامُ، هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ. فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ)[رواه أبو داود والنسائي].

ص: 399

ولأنَّه إذا مال إلى أحد أبويه دلَّ على أنَّه أرفق به، وأشفق عليه.

1) فإن اختار أباهُ كان عنده ليلًا ونهاراً؛ ليَحْفظه ويُعلِّمه ويؤدِّبه، وليس له أن يمنعه من زيارة أُمِّه، ولا يمنع أُمَّه من زيارته؛ لما في ذلك من الإغراء بالعُقوق وقطيعة الرَّحِم، إلَّا إذا خِيفَ أن تُفْسِدَ قَلْبَه، فتُمنَعُ من الخَلْوة به.

2) وإن اختار أُمَّه؛ كان عندها ليلًا فقط؛ لأنَّه وقتُ السَّكَن إلى البيوت، ويكون عند أبيه نهاراً؛ ليؤدِّبه ويعلِّمه؛ لئلَّا يضيع.

ب- حضانةُ الأُنْثَى إذا بَلَغَتْ سَبْعَ سِنين:

إذا بلغت الأُنثى المحضونة سبعَ سنين، كانت عند أبيها وُجوباً إلى أن تتزوَّج؛ لأنَّه أحفظُ لها، وأحقُّ بولايتها من غيره، فوجب أن تكون تحت نَظَرِه؛ ليأْمَنَ عليها.

ولا تُمنَعُ الأُمُّ من زيارتها، ولا هي من زيارة أُمِّها على العادة، لأنَّ الحاجة داعيةٌ إلى ذلك، إلَّا إذا خِيفَ أن تُفْسِد قَلْبَها فتُمنَعُ حينئذٍ من الخَلْوةِ بها.

‌سابعاً: حَضانَةُ المَجْنونِ والمَعْتوهِ:

- إذا كان المحضونُ مجنوناً، أو معتوهاً، فإنَّه يكون عند أُمِّه مُطلقاً؛ صغيراً كان أو كبيراً، ذَكَراً كان أو أُنثى؛ لحاجته إلى من يخدمه ويقوم بأمره، والنِّساء أعرفُ بذلك، وأُمُّه أشفقُ عليه من غيرها.

‌ثامناً: انتقالُ الحَضانَةِ:

- إذا كان الحاضنُ لا يصون المحضون ولا يقوم بمصالحه؛ فإنَّ الحضانة

ص: 400

تنتقلُ عنه إلى من يليه؛ لأنَّ وجودَه كعدَمِه، والقاعدة في الحضانة هي القيام بمصلحة المحضون، فإذا لم يقم بها الحاضن انتقلت إلى مَنْ بعده؛ ليقوم بها.

ص: 401