المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

كلمة الإدارة الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا - التسهيل في فقه الإمام أحمد - وزارة الأوقاف الكويتية - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

كلمة الإدارة

الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمَّداً عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجمعينَ. أمَّا بعدُ:

فيسُرُّ إدارة الإفتاء بدولة الكويتِ أن تُقدِّم لكم الجزءَ الرابعَ من كتاب (التسهيل في فقه الجنايات والحدود وما بقي من أبواب الفقه)، وهو الجزء الأخير من سلسلة كتاب (التَّسهيل في فقه الإمام أحمد بن حنبل)، حيث تضمَّن هذا القسم أبواب الجنايات، والديات، والحدود، والجهاد، والأطعمة، والصيد، والأيمان، والقضاء، والشهادات، والإقرار.

وقد سِرْنا في هذا الكتابِ وَفْق المنهجيَّة العلميَّة التي جَرَيْنا عليها في الأجزاء الثلاثة السابقة المتعلِّقة بفقه العبادات، وفقه المعاملات، وفقه الأحوال الشخصيَّة؛ من حيث اعتمادُ القول الراجح في المذهب، والتَّدليلُ عليه من الأدلَّةِ الشرعيَّةِ المعتبرةِ، وسهولةُ العبارةِ، وتفقيرُ المسائلِ.

وقد قامَ بإنجازِ هذا العملِ وحدةِ البحثِ العلميِّ بإدارةِ الإفتاءِ، المكوَّنة من:

الشيخ/ تركي عيسى المطيري رئيساً

الدكتور/ أيمن محمَّد العُمَر عضواً

الدكتور/ أحمد عبد الوهَّاب سالم عضواً

ص: 4

وبعد الفراغِ من العَمَل العِلْميِّ في الكتاب؛ قامت الإدارة بعَرْضِه على الشيخَين الفاضِلَين:

- الشيخ/ د. عُثمان محمَّد الخَميس.

- والشيخ/ وليد محمَّد الدّيولِي.

فقاما مشكورَيْن بمُراجَعتِه، واستدراكِ ما ينبغي استدراكُه، فجَزاهُما اللهُ خيرَ الجزاءِ.

ونسألُ اللهَ العَليَّ القديرَ أن يجعلَ هذا العملَ صالحاً، ولوجه خالصاً، وأن يكتبَ له القبولَ، وأن ينفعَ به عمومَ المسلمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصَحبِهِ أجمعين.

إدارة الإفتاء

ص: 5

‌كتاب الجنايات

‌أوَّلًا: تعريفُ الجِنايَة:

الجِنايةُ لغةً: بكسر الجيم، مصدر جَنَى يَجْنِي، بمعنى الذَّنْب والجُرْم، وهي ما يفعلُه الإنسانُ على وجه التعدِّي على نفسٍ، أو مالٍ، أو عِرْضٍ.

واصطلاحاً: التعدِّي على البَدَنِ بما يُوجِبُ قِصاصاً، أو يُوجِبُ مالًا.

والمراد بيان حُكْمِه هنا: هو الاعتداءُ على النَّفْس بإزهاقِها، أو إتلاف عضوٍ من أعضائها، أو إصابته بجرحٌ، بغير حقٍّ.

‌ثانياً: تعريفُ القَتْل وحُكْمُه:

القَتْل: هو فِعْلُ ما يكون سبباً لزُهوق النَّفْس، وهو مفارقة الرُّوح البَدَن.

وقتل النَّفْس بغير حَقٍّ محرَّمٌ في شرع الله تعالى، وكبيرةٌ من كبائر الذُّنوب، وقد دلَّ على ذلك الكتاب، والسُّنَّة، وإجماع الأُمَّة.

- فمن الكتاب: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].

- ومن السُّنَّة: ما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللّاهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ

ص: 7

لِلْجَمَاعَةِ) [رواه البخاري، ومسلم].

- أمَّا الإجماع: فقال ابن قدامة: «أجمع المسلمون على تحريم القَتْل بغير حقٍّ» .

‌ثالثاً: أقسامُ القَتْل:

القَتْل ثلاثة أقسام:

الأوَّل: القَتْل العَمْدُ العُدْوان؛ ويدلُّ له قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93].

الثاني: القَتْل شِبْهُ العَمْدِ؛ ويدلُّ له حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلُ عَقْلِ الْعَمْدِ، وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ؛

وَذَلِكَ أَنْ يَنْزُوَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ النَّاسِ، فَتَكُونُ دِمَاءٌ فِي عِمِّيَّا فِي غَيْرِ ضَغِينَةٍ وَلَا حَمْلِ سِلَاحٍ) [رواه أحمد، وأبو داود].

الثالث: القَتْل الخطأُ؛ ويدلُّ له قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92].

القسم الأوَّل: القَتْل العَمْدُ العُدْوان:

أ - تعريفُه:

هو أن يقْصِد الجاني مَنْ يَعْلَمُه آدميًّا معصوماً، فيقتُلَه بما يَغْلِب على الظنِّ موتُه به.

ص: 8

ب- شُروطُه:

- يشترط لاعتبار القَتْل عَمْداً عُدْواناً ما يلي:

1) إرادة القاتل القَتْل وقَصْدُه.

2) علمُ القاتل أنَّ المقتول آدميٌّ معصوم الدَّم.

3) أن تكون آلةُ القَتْل التي قتل بها ممَّا يقتلُ عادةً.

ج- صُورُه:

للقتل العَمْد العدوان تسعُ صورٍ، عُلِمَت بالاستقراء؛ وهي:

1) أن يجرحه بمُحدَّدٍ له نفوذٌ في البدن؛ كسكِّينٍ، وسَيْفٍ، وإبرةٍ عظيمةٍ، ونحو ذلك.

- وكذا لو جَرَحَه جُرْحاً صغيراً كشرطِ حجَّامٍ، فمات، أو كان الجُرْح في غير مقتل.

- وكذا لو جَرَحَه بشيءٍ صغيرٍ؛ كإبرةٍ، وشوكةٍ صغيرةٍ في مقتل كالقلب، والخُصْيتين، أو في غير مقتل كالفخذ، واليد، فتطول علَّته من ذلك، أو يصير يتألَّم من ذلك إلى أن يموت.

2) أن يَضْرِبَه بمُثقَّلٍ كبيرٍ أكبر من عمود الفُسْطاط (الخيمة العظيمة)، لما روى المُغيرة بن شُعْبَة: (أَنَّ امْرَأَةً قَتَلَتْ ضَرَّتَهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ، فَأُتِيَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى عَلَى عَاقِلَتِهَا بِالدِّيَةِ

) [رواه مسلم]. فلمَّا قضى على العاقلة بالدِّية، دلَّ على أنَّ القتل بعمود الفسطاط ليس بعَمْدٍ؛ لأنَّ

ص: 9

العاقلة لا تحمل العَمْد، فإن كان أعظم من عمود الفسطاط فهو عمدٌ؛ لأنَّه يقتل غالباً.

وكذا لو ضَرَبَه بما يَغلِبُ على الظنِّ موتُه به لثِقَلِه؛ كسَنْدان الحدَّاد، والحَجَر الكبيرٍ ونحوهما. ويدلُّ له ما روى أنسُ بن مالكٍ رضي الله عنه قال: (خَرَجَتْ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا أَوْضَاحٌ بِالمَدِينَةِ، قَالَ: فَرَمَاهَا يَهُودِيٌّ بِحَجَرٍ،

فَدَعَا بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَتَلَهُ بَيْنَ الحَجَرَيْنِ) [رواه البخاري، ومسلم].

ومثل ذلك: ما لو دَهَسَه بسيَّارةٍ، أو أسقط عليه جداراً، أو ألقاه من شاهقٍ، ونحو ذلك؛ فقتله؛ لأنَّ ذلك يقتلُ غالباً.

3) أن يُلقِيَه إلى حيوانٍ مفترسٍ بحفرته؛ كأسدٍ، أو نَمِرٍ، فيقتله، أو يجمع بينه وبين حيَّةٍ في مضيقٍ فتنهشه فيموت.

4) أن يُلقيَه في ماءٍ يُغْرِقُه، أو نارٍ تُحرقُه، ولا يمكنه التخلُّص، فيموت. فإن أمكنه التخلص فيهما ولم يتخلَّص، فهدْرٌ؛ لأنَّه مهلكٌ لنفسه.

5) أن يخْنُقَه بحَبْلٍ أو غيره، فيموت، أو يخْنُقَه بِسَدِّ فَمِهُ وأَنْفِه زمناً يموت في مثله عادة؛ فيموت.

6) أن يَحبِسَه ويَمنَعَه الطعامَ والشَّرابَ، فيموت بذلك في زمنٍ يموت فيه غالباً، ولا يمكنه الطَّلب.

7) أن يَسقِيَه سُمًّا يقتلُ غالباً، لا يعلمُ به شاربُه، أو يخلطه بطعامٍ، أو يُطعِمَه

ص: 10

لمن لا يَعلَم به.

8) أن يَقتُلَه بسِحْرٍ يقتلُ غالباً.

9) أن يَتعمَّدَ شهودٌ قَتْلَ شخصٍ، بأن يشهدوا عليه بما يُوجِبُ قَتْلَه؛ من زنًا، أو رِدَّةٍ، فيُقتَل، ثمَّ يرجع الشهودُ عن شهادتهم.

د - أحكامُه:

1) يختصُّ القَتْل العَمْد العُدْوان بالقَوَد؛ وهو قَتْلُ القاتِلِ بمَنْ قَتَلَهُ. فلا يثبت في غيره من أنواع القَتْل، لا شِبْه العَمْد، ولا الخطأ.

2) يُخيَّرُ وَليُّ المقتول بين القَوَدِ، أو أخذ الدِّيَة -وهي المال المؤدَّى إلى المجنيِّ عليه أو وَلِيِّه بسبب جنايةٍ-؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إِمَّا يُودَى، وَإِمَّا يُقَادُ)[رواه البخاري، ومسلم]. ولأنَّ الدِّيَة أحد بَدَلَي النَّفْس؛ لأنَّها تتعيَّن وجوباً في كلِّ موضعٍ لا يمكن القِصاص فيه.

3) لوليِّ المقتول أن يعفو عن القاتل مجَّاناً من غير أن يأخذ شيئاً، وهو أفضل؛ لقوله تعالى:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]. ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(وَلَا عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلَمَةٍ إِلَّا زَادَهُ اللهُ عِزًّا)[رواه أحمد]. وليس على الجاني بعد العفو تعزيرٌ.

4) إذا اختار الوليِّ الدِّية ابتداءً تعيَّنت وسقط القصاص، وإن اختار

ص: 11

القصاص أوَّلًا فله أن يُصالح القاتل على أكثر من الدِّيَة، ويكون ذلك حينئذٍ بدلًا عن القصاص وليس الدِّيَة الواجبة بالقتل.

5) إذا تعمَّد جماعةٌ قتلَ شخصٍ واحدٍ؛ فإن كان فِعْلُ كلِّ واحدٍ منهم يَصلُحُ للقَتْل لو انفرد، قُتِلوا به جميعاً؛ لعموم قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]؛ فلو لم يُشرع القصاص في الجماعة بالواحد، لبطلت الحكمة من مشروعيَّة القِصاص.

ولما روى سعيد بن المسيِّب: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَتَلَ نَفَرًا خَمْسَةً أَوْ سَبْعَةً بِرَجُلٍ وَاحِدٍ، قَتَلُوهُ قَتْلَ غِيلَةٍ. وَقَالَ عُمَرُ: لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا)[رواه مالك].

6) إذا جَرَحَ واحدٌ شخصاً جُرْحاً، وجَرَحهُ الآخر مائة جرحٍ، فمات منها جميعاً، فهما سواء في القصاص أو الدِّية؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما فَعَل فِعْلًا يَصلُحُ لإزهاق النَّفْس لو انفرد، وزهوق النَّفْس لا يتبعَّض ليُقْسَم على الفعل، فوجب تساويهما في موجَبِه.

7) إذا جَرَحَ ثلاثةٌ شخصاً، فمات بسبب فِعْلِهم، فلوليِّ المقتول أن يقتصَّ منهم جميعاً؛ لاشتراكهم في القَتْل، وله العفو عنهم إلى الدِّية، فيأخذ من كلِّ واحدٍ ثُلُثَ الدِّية، وله أن يعفو عن واحدٍ منهم، فيأخذ ثُلُثَ الدِّية، ويقتصَّ من الآخرَيْن، وله أن يعفو عن اثنين، فيأخذ منهما ثُلُثَي الدِّية، ويقتصَّ من الثالث.

ص: 12

8) من قَطَعَ أو شَقَّ سِلْعَةً خطِرَةً من آدميٍّ مكلَّف بغير إذنه، أو من غير مكلَّفٍ بغير إذن وَلِيِّه؛ ليُخرِجَ ما فيها، فمات، فعليه القَوَد؛ لتعدِّيه بجرحه بلا إذنٍ.

والسِّلْعَةُ: غُدَّةٌ تظهر بين الجِلْد واللَّحم، تتحرَّك إذا حُرِّكت.

9) إذا أمسك شخصٌ إنساناً لآخر، يعلمُ أنَّه يقتُلُه، حتَّى قتله أو قطع طرفه، فمات، أو فتح فمه حتَّى سقاه سُمًّا، فمات، قُتِل القاتلُ؛ لأنَّه قَتَل عَمْداً من يكافئه بغير حقٍّ، وحُبِس المُمْسكُ حتَّى الموت؛ لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً:(إِذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ وَقَتَلَهُ الآخَرُ، يُقْتَلُ الَّذِي قَتَلَ، وَيُحْبَسُ الَّذِي أَمْسَكَ)[رواه الدارقطني].

القسم الثاني: القَتْل شِبْه العَمْد:

أ - تعريفُه:

هو: أن يقْصِدَ الجناية على شخصٍ بما لا يقتُلُ غالباً، ولم يَجرَحْه بها؛ فيموت بها، سواء كان ذلك بقَصْد العدوان عليه، أو بقَصْد التأديب، فيُسْرِف في ذلك.

وسُمِّي شِبْه العَمْد؛ لأنَّ الجاني قَصَدَ الفِعْل، وأخطأ في القَتْل. ويُسمَّى أيضاً:«خطأ العَمْد» ، و «عَمْد الخطأ» ؛ لاجتماعهما فيه.

مثاله: كمن ضرب شخصاً بسَوْطٍ، أو عصًا، أو حجرٍ صغيرٍ، أو ألقاهُ في ماءٍ قليلٍ لا يُغْرِقُه مثلُه غالباً، أو ضَرَبَه بيده في غير مقتلٍ، أو صاحَ بغافلٍ على سطحٍ فسقط فمات، ونحو ذلك.

ص: 13

ب- أحكامُه:

من قَتَل آدميًّا معصوماً قَتْل شِبْه عَمْدٍ؛ وجب عليه أمران:

1) الكفَّارة في مال الجاني على الترتيب، وهي: عتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ، فإن لم يجد، أو وجدَ ولم يقدر على ثمنها، صام شهرين متتابعين، كما في قتل الخطأ؛ لقول الله عز وجل:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} إلى قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92]؛ إذ الخطأ موجود في صورة شِبْه العَمْد؛ لأنَّه لم يقصد قَتْلَه بفعله ذلك.

2) الدِّيَةُ مغلَّظةً في مالِ عاقِلَةِ الجاني؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ؛ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى أَنَّ دِيَةَ المَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا)[رواه البخاري، ومسلم].

القسم الثالث: قَتْلُ الخَطَأ:

أ - أنواعُه:

ينقسم قَتْل الخطأ إلى نوعين:

الأوَّل: خَطأٌ في الفِعْل: وهو أن يفعلَ ما يجوزُ له فِعْلُه؛ كأن يَدُقَّ شيئاً، أو يرميَ صَيْداً أو هَدَفاً، فيصيبُ آدميًّا معصوماً لم يقصده، أو ينقلب وهو نائمٌ على

ص: 14

إنسانٍ، فيموت بذلك.

الثاني: خَطأٌ في القَصْد: مثل أن يرميَ ما يظنُّه صَيْداً، أو من يظنُّه مباحَ الدَّمِ؛ كالحَرْبيِّ والمرتدِّ، فيقتلُ آدميًّا معصوماً.

ب- أحكامُه:

1) يجبُ بالقَتْل الخطأ شيئان: الكفَّارة في مال القاتل على الترتيب -كما سبق في شِبْه العَمْد-، والدِّيَةُ في مالِ عاقِلَةِ الجاني؛ لقوله تبارك وتعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92].

أمَّا وجوب الدِّيَة على عاقلة القاتل؛ فلما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لَحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةٍ؛ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، ثُمَّ إِنَّ المَرْأَةَ الَّتِي قَضَى لَهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ العَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا)[رواه البخاري، ومسلم]. أي: عصبة الجانية.

2) عَمْدُ الصغير والمجنون يجري مجرى القَتْل الخطأ؛ لأنَّه ليس لهما قصدٌ؛ فهما كالمكلَّف المخطئ.

3) ويجري مجرى القَتْل الخطأ أيضاً: القَتْل التسبُّب؛ مثل أن يحفر شخصٌ بئراً أو حفرةً في طريقٍ، فيتلف بسبب ذلك إنسانٌ معصومٌ.

4) من قتل مسلماً في صفِّ الكفَّار يظنُّه كافراً؛ فلا يجب فيه إلَّا الكفَّارة، ولا

ص: 15

دِيَة تلزمه؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].

5) إذا قتل مسلمٌ معاهداً خطأً؛ وجبت الكفَّارة في مال القاتل، والدِّية على عاقلته؛ لقول الله تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].

ج- أحكامٌ متفرِّقةٌ في القَتْل:

1) إذا قال إنسانٌ لآخر: «اقتلني» ، أو «اجرحني» ، فقتله أو جرحه، لم يلزم الفاعل شيءٌ؛ لأنَّ ذلك جنايةٌ أذِنَ له المجنيُّ عليه فيها، فسقط ضمانها.

2) لو دفع إنسانٌ آلة قَتْلٍ لغير مكلَّفٍ؛ صغيرٍ أو مجنونٍ، ولم يأمره بالقَتْل، فقتل بالآلة إنساناً، لم يلزم مَنْ دَفَع له الآلةَ شيءٌ؛ لأنَّ الدَّافع ليس بآمرٍ، ولا مباشرٍ.

ص: 16

‌باب شروط القصاص في النَّفس

أجمع العلماءُ على مشروعيَّة القصاص في القَتْل العَمْد؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179].

ويُشترطُ لوجوب القصاص في النَّفْس (القَوَد) أربعة شروطٍ:

الشرط الأوَّل: أن يكون القاتلُ مكلَّفاً: بأن يكون بالغاً عاقلًا قاصداً، فلا قصاص على صغيرٍ، ولا مجنونٍ، ولا معتوهٍ، ولا زائل عقلٍ بسببٍ يُعْذَرُ فيه؛ كالنائم، والمغمَى عليه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ)[رواه أبو داود]. ولأنَّ القصاص عقوبةٌ مغلَّظةٌ، فلم تجب على غير المكلَّف، كالحدود؛ ولأنَّه ليس له قصدٌ صحيحٌ؛ فهو كالقاتل خطأً.

ومع عدم وجوب القصاص على غير المكلَّف، إلَّا أنَّه تجبُ الكفَّارة في مالِهِ، والدِّية على عاقلته؛ كما في القتل الخطأ.

الشرط الثاني: عِصْمَةُ المَقْتولِ: بأن لا يكون مُهْدَرَ الدَّم؛ كالكافر الحربيِّ، أو المرتدِّ قبل توبته، أو الزاني المُحْصَن؛ لأنَّ القصاص شُرع لحَقْن الدِّماء، ومُهْدَرُ الدَّم غير محقونٍ.

ص: 17

والقاتل المُستَحِقُّ للقتل معصومُ الدَّم بالنسبة لغير وليِّ المقتول؛ لأنَّه لا سببَ فيه يُبِيحُ دَمَهُ لغَيْر وليِّ المقتول، ولأنَّ قتله غير متحتِّمٍ؛ إذ قد يعفو وليُّ الدَّم عنه.

الشرط الثالث: التكافؤ بين المقتول وقاتله حال جنايته؛ بأن يتساويا في الدِّين، والحُرِّيَّة، والمِلْكِ؛ لعموم قول الله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178].

- فيُقتَلُ الحُرُّ المُسلِمُ، بالحُرِّ المُسلمِ، ولو كان أحدُهما ذَكَراً والآخر أُنْثَى، أو خُنْثَى؛ لتساويهما في الإسلام والحُرِّيَّة.

- ويُقتَلُ الرَّقيق المسلمُ بالرَّقيق المُسلمِ، ولو كان أحدُهما ذَكَراً والآخر أُنْثَى، أو خُنْثَى؛ لتساويهما في الإسلام والرِّقِّ.

ولا أثر لكون أحدهما مُكاتَباً، أو مدبَّراً، أو أمَّ ولدٍ، والآخر ليس كذلك؛ للتساوي في الإسلام والرِّقِّ.

- ويُقتَلُ الحُرُّ الذِّمِّيُّ والمستأمَنُ، بالحُرِّ الذِّمِّيِّ والمُستأمَنِ، ولو كان أحدُهما ذَكَراً والآخر أُنْثَى، أو خُنْثَى.

- ويُقتَل الرَّقيق الذِّمِّيُّ والمستأمَنُ، بالرَّقيق الذمِّيِّ والمُستأمَنِ، ولو كان أحدُهما ذَكَراً والآخرُ أُنْثَى أو خُنْثَى.

- ويُقتَلُ كتابيٌّ بمجوسِيٍّ، وعكسه، وذمِّيٌّ بمستأمنٍ، وعكسه.

- ويُقتَلُ الإنسانُ بقَتْلِه مَنْ هو أَعْلَى منه؛ فيُقْتَلُ الكافِرُ الحُرُّ بالمُسلم الحُرِّ،

ص: 18

والرَّقيقُ المُسلم بالحُرِّ المُسلم، والرَّقيق الذِّمِّيُّ بالحُرِّ الذِّمِّيِّ.

- ويُقتَلُ مُكلَّفٌ بغير مُكلَّفٍ؛ لتساويهما في النَّفس والحُرِّيَّة، أو الرِّقِّ.

فإن لم يكن بينهما تكافؤٌ في الدِّين، أو الحُرِّيَّة، أو المِلْك حال الجناية؛ فلا قِصاص:

- فلا يُقْتَلُ مُسلِمٌ -ولو كان عَبْداً- بكافرٍ -ولو كان حُرًّا-؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (

لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ) [رواه البخاري].

- ولا يُقتَلُ حُرٌّ -ولو ذِمِّيًا- بعَبْدٍ -ولو مُسلِماً-؛ لأنَّ المقتول إذا لم يكن مساوياً للقاتل، كان أخْذُه به أَخْذاً لأكثر من الحقِّ.

- ولا يُقتَلُ مُكاتَبٌ بعَبْدِه، ولو كان عَبْدُه ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ له؛ لأنَّ المُكاتَب أفضلُ من العَبْدِ، وهو مالكٌ لرَقَبَتِه، فلا يُقْتَلُ به كالحُرِّ.

ولا أثر للتَّفاضُل بين القاتل والمقتول في غير ما ذُكِرَ من دِينٍ، وحُرِّيَّةٍ، ورِقٍّ، فيُقتلُ الجميل بالدَّميم، والشريف بالوضيع، والكبيرُ بالصغير، والذَّكَرُ بالأُنْثَى، والصحيحُ بالمجنون والمعتوه؛ لعموم قوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، وقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178].

الشرط الرابع: أن لا يكون المقتولُ وَلَداً للقاتِلِ: فلا يُقتلُ أبٌ -وإن عَلا-، ولا أُمٌّ -وإن عَلَتْ- بولدٍ، ولا بولدِ ولدٍ وإن سَفَلَ؛ لما روى عمر بن الخطَّاب

ص: 19

رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لَا يُقَادُ الوَالِدُ بِالوَلَدِ)[رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه].

أمَّا الولد فيقتلُ بكُلٍّ من الأبوين؛ لعموم قول الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} .

- ويُورَث القِصاصُ على قَدْر المِيراثِ؛ فمتى وَرِثَ القاتِلُ شيئاً من القِصاصِ، سقط؛ لأنَّ القِصاص لا يتبعَّض، ولا يتصوَّر وجوبه للإنسان على نفسه.

مثاله: أن يقتل رجلٌ أخا زوجته، فتكون الزوجة من ورثة الدم، فإذا ماتت الزوجة، وَرِثَها زوجُها، فيصير القاتل من ورثة الدم بسبب ميراثه من زوجته.

- وكذا لو وَرِثَ وَلَدُ القاتل شيئاً من القِصاص، سقط القصاص؛ لأنَّه لو لم يسقط لوَجَب للوَلَدِ على الوالد قِصاصٌ، وهو ممنوع.

مثاله: لو قتل رجلٌّ زوجته، وكان له منها ولدٌ؛ كان ذلك الولد من ورثة الدم، فيسقط بذلك القصاص؛ لعدم وجوب القصاص له على والده.

ص: 20

‌باب شروط استيفاء القصاص

‌أوَّلًا: تعريفُ استيفاء القِصاص:

استيفاء القصاص: هو فِعْلُ مجْنيٍّ عليه -فيما دون النَّفْس-، أو فِعْلُ وَلِيِّه -إن كانت على النَّفْس- بجانٍ مثلَ فِعْلِه، أو شِبْهِه.

‌ثانياً: شروطُ استيفاء القِصاص:

إذا وَجَبَ القِصاص على الجاني، فإنَّه لا يجوز تنفيذُه، أو استيفاؤه إلَّا بتحقُّق ثلاثة شروطٍ:

الشرط الأوَّل: أن يكون مُسْتَحِقُّ القِصاص مكلَّفاً؛ بأن يكون بالغاً عاقلًا؛ لأنَّ غير المكلَّف ليس أهلًا للاستيفاء، ولا تدخله النيابة.

فإن كان مُستَحِقُّ القِصاص أو أحدُ مستحقِّيه صغيراً، أو مجنوناً، حُبِسَ الجاني إلى حين بلوغ الصغير، وإفاقة المجنون، وليس لوليِّهما -ولو كان أباً- استيفاؤه نيابةً عنهما؛ لما رُويَ «أَنَّ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه حَبَسَ هُدْبَةَ بْنَ الخَشْرَمِ سَبْعَ سِنِينَ فِي قَتْلِ ابْنِ عَمِّهِ زِيَادَةَ بْنِ زَيْدٍ، حَتَّى بَلَغَ ابْنُ القَتِيلِ المِسْوَرُ ابْنُ زِيَادَةَ» [رواه ابن عساكر في «تاريخه»]، وكان ذلك في عصر الصحابة، ولم يُنكر، فكان كالإجماع.

ولأنَّ من حكمة القِصاص حصول التشفِّي والانتقام لمستحقِّه، فلا يحصلُ ذلك له باستيفاء غيره، فتفوت الحكمة.

ص: 21

فإن احتاج الصَّغير أو المجنون إلى نفقةٍ، فلوليِّ المجنون العفو إلى الدِّيةِ، ولا يصحُّ ذلك لوليِّ الصَّغير؛ لأنَّ المجنون ليست له حالة معتادةٌ يُنتظر فيها إفاقته ورجوع عقله، بخلاف الصَّغير.

الشرط الثاني: اتِّفاقُ المُستحِقِّين للقِصاص على استيفائه؛ فليس لبعضهم أن ينفرد بالقِصاص دون البعض الآخر إلَّا بإذنهم؛ لأنَّ الاستيفاء حقٌّ مشتركٌ لا يمكن تبعيضُه، فإذا استوفى بعضهم، كان مستوفياً لحقِّ غيره بغير إذنه، ولا ولاية له عليه.

فإن كان أحد المستحقِّين للقصاص غائباً أو غيرَ مُكلَّفٍ، انتُظِرَ قدوم الغائب، وبلوغ الصَّغير، وإفاقة المجنون؛ لأنَّهم شركاء في القِصاص. ولأنَّه قِصاصٌ غير متحتِّمٍ، ثبت لجماعةٍ معيَّنين، فلم يجز لأحدهم الاستقلال به؛ لجواز أن يعفو الغائب أو غير المكلَّف عند تكليفه.

- وإذا مات أحد المستحقِّين للقصاص، انتقل الحقُّ إلى وارثه، فقام مقامه؛ لأنَّه حقٌّ للميِّت، ينتقل بموته إلى وارثه كسائر حقوقه.

- وإذا عفا بعض مستحقِّي القِصاص عنه وكان ممَّن يصحُّ عفوه، سقط القِصاص؛ لأنَّه لا يتبعَّض، ولو كان العفو من زوجٍ أو زوجةٍ؛ لأنَّ أحد الزَّوجين من جملة الورثة، فيدخل في عموم حديث أبي شُرَيحٍ الكَعْبيِّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (

فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ بَعْدَ مَقَالَتِي هَذِهِ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ؛ إِمَّا أَنْ يَقْتُلُوا، أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ) [رواه أحمد، والترمذي].

ص: 22

وإذا أقرَّ بعضُ مستحقِّي القصاص بعفو شريكه، أو شَهِدَ بذلك، سقط القِصاصُ، ولو كان الشاهد فاسقاً؛ لأنَّ شهادته إقرار منه بأنَّ نصيبه من القصاص سقط، والقصاص لا يتبعَّض؛ فيسري إلى الباقين. ويكون للباقين الذين لم يعفوا حقُّهم من الدِّيَة على الجاني؛ لأنَّها بدلٌ عمَّا فاتهم من القصاص.

الشرط الثالث: أن يؤمَنَ في استيفائه القصاص تعدِّيه إلى غير القاتل؛ لقول الله تبارك وتعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33].

فإذا كان القاتل امرأةً حاملًا، ووجب عليها القصاص، أو حَمَلت بعد وجوب القصاص عليها، لم تُقْتَل حتَّى تضع حَمْلَها وتسقيه اللَّبَأ (أوَّل اللَّبن في النتاج)؛ لأنَّ قتلها إسرافٌ في القتل؛ لتعدِّيه إلى الجنين.

ثمَّ إن وُجدَ من يُرضعه قُتِلَت؛ لأنَّ غيرها يقوم مقامها في إرضاع الولد وتربيته، وإلَّا فإنَّها لا تُقتل حتَّى تُرضِعَه حَوْلَين كامِلَين؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للغامديَّة التي اعترفت بالزِّنا وكانت حاملًا:(حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ)، فلمَّا وضعت قال:(إِذًا لَا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللّاهِ. قَالَ: فَرَجَمَهَا)[رواه مسلم].

ولأنَّه إذا أُخِّر الاستيفاء لحفظه وهو حملٌ، فلأن يؤخَّر لحفظه بعد وضعه أَوْلى.

‌ثالثاً: كيفيَّةُ استيفاء القِصاص:

أ - إذا أُريدَ استيفاء القِصاص، فيجب أن يكون استيفاؤه بحَضْرَة السُّلطان،

ص: 23

أو نائبه، ويَحرُمُ استيفاؤه بغير حضور أحدهما؛ لأنَّ القِصاص يفتقر إلى اجتهاد، ويَحرُم الحَيْف فيه، ولا يُؤمَن ذلك مع قصد المُقْتصِّ التشفِّي بالقصاص.

فإنِ اقتصَّ وليُّ الدَّم بغير حضور السلطان أو نائبه، وقع القصاص موقعه؛ لأنَّه استوفى حقَّه، وللإمام أو نائبه تعزيرُ المُقْتصِّ؛ لافتياته بفعلِ ما مُنِعَ منه.

وإذا كان وليُّ الدم يُحسِنُ استيفاءَ القِصاص على الوجه الشرعيِّ، مكَّنه منه الحاكم أو نائبه، وإلَّا أمَرَه أن يُوكِّلَ من يستوفيه له؛ قال تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33].

ب- ويُشترط في الآلة التي يُنفَّذ بها القصاص أن تكون حادَّةً؛ لأنَّ القصاص بالآلة الكالَّة إسرافٌ في القتل، وتعذيب للمقتول، والنبيُّ قد أمر بالإحسان؛ فعن شَدَّاد بن أَوْسٍ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ)[رواه مسلم].

ج- يَحرُمُ استيفاء القِصاص في النَّفْس بغير السَّيْف في العُنُق

(1)

؛ سواء كان

(1)

(الرواية الأخرى: أنَّه يُفعل به كما فعل، إلَّا ما استثني، أو يقتل بالسيف. فلو قطع يديه ثمَّ قتله، فعل به ذلك، وإن قتله بحَجَر أو أغرقه، فعل به مثل فِعْله. وهو اختيار ابن تيمية، وقال الزركشي: وهي أوضح دليلًا؛ فعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: (عَدَا يَهُودِيٌّ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَارِيَةٍ، فَأَخَذَ أَوْضَاحًا كَانَتْ عَلَيْهَا، وَرَضَخَ رَأْسَهَا، فَأَتَى بِهَا أَهْلُهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ فِي آخِرِ رَمَقٍ وَقَدْ أُصْمِتَتْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَتَلَكِ؟ فُلَانٌ لِغَيْرِ الَّذِي قَتَلَهَا، فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا: أَنْ لَا، قَالَ: فَقَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي قَتَلَهَا، فَأَشَارَتْ: أَنْ لَا، فَقَالَ: فَفُلَانٌ؛ لِقَاتِلِهَا، فَأَشَارَتْ: أَنْ نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرُضِخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ)[رواه البخاري].

ص: 24

القاتل قَتَل بالسَّيْف أو بغيره؛ كقتله بسِحْرٍ، أو حَجَرٍ، أو تغريقٍ، أو خَنْقٍ، أو غير ذلك من وسائل القتل؛ لما رُوي عن النُّعمان بن بشير أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ)[رواه ابن ماجه].

- ويَحرُمُ أن يُستوفَى قِصاصٌ في قَطْع طَرَفِ الجاني بغير سكِّينٍ ونحوها من آلةٍ صغيرةٍ؛ لئلَّا يَحيفَ عند الاستيفاء.

ص: 25

‌باب شروط القِصاص فيما دون النفس

‌أوَّلًا: المقصودُ بالقِصاص فيما دُونَ النَّفْس وأنواعُه:

يقصدُ بالقِصاصِ فيما دون النَّفْس: العقوبةُ المقرَّرة شرعاً على جنايةٍ ليست بقَتْلٍ؛ من جِراحٍ، وقَطْع أَطْرافٍ، ونحو ذلك.

والقصاصُ فيما دون النَّفْس نوعان:

أ- قصاصٌ في الأطراف.

ب- قصاصٌ في الجروح.

‌ثانياً: مشروعيَّة القِصاص فيما دُونَ النَّفْسِ:

القِصاص فيما دون النَّفْس ثابت بكتاب الله، وسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأُمَّة على ذلك.

- فمن الكتاب: قول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45].

- ومن السُّنَّة: ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه: (أَنَّ الرُّبَيِّعَ عَمَّتَهُ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا إِلَيْهَا العَفْوَ فَأَبَوْا، فَعَرَضُوا الأَرْشَ فَأَبَوْا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَوْا إِلَّا القِصَاصَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لَا تُكْسَرُ

ص: 27

ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللهِ القِصَاصُ

) الحديث [رواه البخاري، ومسلم].

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن القطَّان: «وأجمع المسلمون جميعاً على أنَّ الرَّجُل إذا كان حُرًّا مُسلماً، وقَطَع عُضْواً من أعضاء رَجُلٍ مُسلِمٍ حُرٍّ، وَجَبَ بينهما القِصاصُ» .

‌ثالثاً: شُروطُ وُجوب القِصاصِ فيما دُونَ النَّفْس:

كلُّ من أُخذ بغيره في قَتْل النَّفْس أُخذ به فيما دون النَّفْس، ومن لا يجري القِصاص بينهما في النَّفْس لا يجري بينهما فيما دونها.

ولا يجبُ القِصاص فيما دون النَّفْس إلَّا بخمسة شروط:

الشرط الأوَّل: العَمْدُ العُدْوان؛ فلا قصاص في الخطأ بالإجماع، ولا في شِبْه العَمْدِ؛ لأنَّه لا يوجب القِصاص في النَّفْس وهي الأصل، ففيما دونها أَوْلَى.

الشرط الثاني: إمكانُ استيفاء القِصاص فيما دون النَّفْس بلا حَيْفٍ؛ بأن يكون القَطْع من مفصَلٍ، أو ينتهي إلى حدٍّ، كمارِنِ الأَنْف (وهو ما لَانَ منه دون القَصَبَة).

وعليه؛ فلا قصاص في جائفةٍ (الجُرْح الواصل إلى باطن الجَوْف)، ولا في كَسْرِ عَظْمٍ غير سِنٍّ أو ضِرْسٍ، ولا في قطع قَصَبةِ الأَنْف، أو قطع بعض ساعِدٍ، أو بعض ساقٍ، أو بعض عَضُدٍ، أو بعض وَرِكٍ؛ لأنَّه لا يمكن الاستيفاء منها

ص: 28

بغير حَيْفٍ، إذ ربما يأخذ أكثر من الفائت، أو يَسْري إلى عضوٍ آخر، أو إلى النَّفْس، وهذا ظُلْمٌ وجَوْرٌ؛ فلذا يُمنع منه.

والأمن من الحَيْف شرطٌ لجواز استيفاء القِصاص، لا لوجوبه؛ فقد يثبتُ حقُّ القِصاص، لكن الاستيفاء غير ممكن؛ لخوف العُدوان.

فإن خالف المقتصُّ فاقتصَّ بقَدْر حقِّه، ولم يَسْرِ، وقع القِصاص موقعه، ولم يلزم المقتصَّ شيءٌ؛ لأنَّه حقُّه، وإنَّما مُنِعَ منه لتوهُّم الزيادة.

الشرط الثالث: المساواةُ والتماثلُ بين عُضْوي الجاني والمجنيِّ عليه في الاسم والموضع؛ فتؤخذ العَيْن بالعَيْن، والأَنْف بالأَنْف، والأُذُن بالأُذُن، والسِّنُّ بالسِّنِّ. ولا تؤخذ يمينٌ بيسارٍ، ولا جَفْنٌ علويٌّ بجَفْنٍ سفليٍّ، ولا جِراحةٌ في الوَجْه بجِراحةٍ في الرأس، ولا يدٌ برِجْلٍ، ولا عكسه، ونحو ذلك؛ لأنَّ القِصاص يقتضي المساواة والمماثلة، والاختلاف في الاسم دليل الاختلاف في المعنى؛ إذ كلُّ واحدٍ منها يختصُّ بمنفعةٍ.

الشرط الرابع: استواءُ عُضْوي الجاني والمجنيِّ عليه في الصِّحَّة والكمال؛ فلا تؤخذ يدٌ أو رِجْلٌ صحيحة بيدٍ أو رِجْلٍ شلَّاء، ولا تؤخذ يدٌ أو رِجْلٌ كاملةُ الأصابع أو الأظفار بناقصتها.

- ولا تؤخذ عَيْنٌ صحيحة بعين قائمةٍ (وهي ما كان بياضها وسوادها صافيان، لكن لا يُبْصِر بها صاحبها)؛ لأنَّ منفعتها ناقصة، فلا تؤخذ بها عينٌ

ص: 29

كاملة المنفعة.

- ولا يؤخذ لسانٌ ناطقٌ بلسانٍ أخرسَ؛ لأنَّ المقصود من اللِّسان النطق، والأخرس ناقص المنفعة، فانتفت المساواة.

- ولا يؤخذ ذَكَرُ فَحْلٍ بذَكَرِ خَصِيٍّ، أو ذَكَرِ عِنِّين؛ لأنَّه لا منفعة فيهما من حيث إمكان الوطء، والإنزال، والولد؛ فانتفت المماثلة.

- ويؤخذ مَارِنُ أَنْفٍ صحيحٍ بمَارِنِ أَنْفٍ أَشَلَّ لا يجد رائحة شيءٍ؛ لأنَّ ذلك لعِلَّةٍ في الدِّماغ. أمَّا الأَنْف فصحيحٌ.

- وتؤخذ أُذُنٌ صحيحةٌ بأُذُنٍ شلَّاء؛ لأنَّ القصد الجمال.

- أمَّا إن كان عضو الجاني معيباً وعضو المجنيِّ عليه صحيحاً؛ فيؤخذ العضو المعيب في كلِّ ما سبق بالصحيح من غير أَرْشٍ؛ لأنَّ المعيب من ذلك كالصحيح خِلْقَةً، وإنَّما نَقَصَ صِفَةً.

الشرط الخامس: وهو خاص بالقِصاص في الجروح؛ حيث يُشترط فيه مع ما سبق من الشروط شرطٌ آخر، وهو:

أن ينتهي الجُرْحُ إلى عَظْم؛ كجُرْح عَضُدٍ، وساعِدٍ، وفَخِذٍ، وساقٍ، وقَدَمٍ، ومُوضِحَةٍ (الشَّجَّة التي تُبْدي بياض العَظْم) في رأسٍ أو وَجْهٍ. فكلُّ هذه الجراح يجوز القِصاص فيها؛ لقول الله تعالى:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]. ولأنَّها تنتهي إلى عَظْمٍ، ويمكن الاستيفاء فيها بلا حيف ولا زيادة.

ص: 30

أمَّا ما لا ينتهي إلى عَظْمٍ من الجِراحات والشِّجاج؛ سواء كان دون المُوضِحَة، أو أَعْظَم منها، فلا يجوز القِصاص فيه، وإنَّما تجب له الدِّية؛ فلا قصاص في الجائفة، ولا المَأْمُومَةِ، ولا في المُنَقِّلةٍ، ولا في الهاشِمَةِ (سيأتي تعريفها في فصل: دية الأعضاء ومنافعها).

والأصل في المنع من القِصاص في هذه الشِّجاج: ما روى طلحة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لَيْسَ فِي المَأْمُومَةِ قَوَدٌ)[رواه ابن ماجه]. ولأنَّ هذه الشِّجاج لا تنتهي إلى حدٍّ يمكن القِصاص فيه من غير حَيْفٍ أو زيادةٍ.

ولكن يجوز لمن جُرِحَ بجُرْحٍ أعظم من المُوضِحَة أن يقتصَّ مُوضِحَةً؛ لأنَّه يقتصُّ بعضَ حَقِّه، ومِنْ مَحلِّ جنايته، ويأخذُ مع القصاص وجوباً ما بين دِيَةِ المُوضِحَة ودِيَةِ تلك الشَّجَّة التي هي أعظم منها؛ لتعذُّر القِصاص فيه، فينتقلُ إلى البَدَل؛ فيأخذُ في هاشِمَةٍ إذا اقتصَّ مُوضِحَةً: خَمْساً من الإبل، وفي مُنَقِّلَةٍ: عَشْراً من الإبل، وفي مَأْمومةٍ: ثمانيةً وعشرين بعيراً وثُلُثَ بعيرٍ.

* حُكْمُ سِرَايَةِ القِصاصِ والجِنايَةِ:

يَحْرُمُ القِصاص في طَرَفٍ أو جُرْحٍ حتَّى يَبْرَأَ؛ لما رُوي عن جابرٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا يُسْتَقَادُ مِنْ الجُرْحِ حَتَّى يَبْرَأَ)[رواه الطحاوي].

فإذا اقتصَّ المجنيُّ عليه من الجاني بعد اندمال جُرْحِه، فسَرَى أثرُ القَوَدِ إلى النَّفْسِ ومات الجاني، فلا ضمان فيه؛ لما جاء عن عمر رضي الله عنه -في الذي

ص: 31

يقتصُّ منه ثمَّ يموت- قال: (قَتْلُهُ حَقٌّ -يَعْنِي أَنْ لَا دِيَةَ-)[رواه عبد الرزق]، ولأنَّ القَطْعَ بحقٍّ غير مضمون، فكذلك سِرايتُه غيرُ مضمونةٍ.

- أمَّا إذا قَطَعَ المجنيُّ عليه أو وليُّه الجانيَ قهراً بلا إذنه -أي الجاني-، ولا إذن الإمام أو نائبه، مع حالٍ لا يؤمن فيه الخوف من السِّراية، أو قطعه بآلةٍ كالَّةٍ أو مسمومةٍ، فمات بسبب ذلك، لَزِمَ المُقْتَصَّ دِيَة النَّفْس منقوصاً منها دَيِة ذلك العُضْو الذي وَجَب له القِصاص فيه.

- وسراية الجناية مضمونةٌ بقَوَدٍ ودِيَةٍ، في النَّفْس وما دونها، ولو بعد أن اندمل الجُرْح واقتصَّ المجنيُّ عليه من الجاني، ثمَّ انتقض الجُرحُ فَسَرَى؛ لأنَّ التَّلَف حَصَلَ بفِعْل الجاني.

مثاله: لو أنَّ رجلًا جَرَحَ آخر في رأسه، فَسَرَى إلى ذهاب بصره، ثمَّ مات، اقتصَّ منه في النَّفْس، وأُخِذَ منه دِيَة بَصَرِه.

- وأمَّا إذا اقتصَّ المجنيُّ عليه قبل بُرْء جُرْحِه، فالسِّراية هدرٌ؛ لما روى عَمْرو بن شُعَيبٍ عن أبيه عن جدِّه:(أَنَّ رَجُلاً طَعَنَ رَجُلاً بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّاهِ! أَقِدْنِي. قَالَ: حَتَّى تَبْرَأَ. ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَقِدْنِي. فَأَقَادَهُ. ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّاهِ! عَرِجْتُ. قَالَ: قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِي، فَأَبْعَدَكَ اللهُ، وَبَطَلَ عَرَجُكَ. ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ)[رواه أحمد، والدارقطني].

ص: 32

ولأنَّه باقتصاصه قَبْلَ أن يَنْدَمِل الجُرْح، رَضِيَ بِتَرْك ما يزيد عليه بالسِّرايَةِ، فبَطَلَ حَقُّه منه، كما لو رَضِيَ بِتَرْك القِصاص.

ص: 33

‌كتاب الدِّيَات

‌أوَّلًا: تعريفُ الدِّيَات:

الدِّياتُ لغةً: جمع دِيَةٍ، وهي مصدر وَدَى؛ يقال: وَدَيْتُ القتيل، أي: أدَّيْتُ ديَتَه. والهاء فيها بدل عن الواو المحذوفة؛ مثل عِدَة من الوَعْدِ.

واصطلاحاً: هي المالُ المؤدَّى إلى مجنيٍّ عليه أو وليِّه بسبب جنايةٍ.

‌ثانياً: حُكْمُ الدِّيَةِ:

الدِّية واجبة في الجناية الخطأ وشبه العَمْد، وتجبُ في العَمْد عند العَفْو عن القِصاص، أو تَعذُّر استيفائه، وقد دلَّ على وجوبها: الكتاب العزيز، والسُّنَّة المطهَّرة، وإجماع الأُمَّة.

- فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92].

- ومن السنَّة: ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا يُودَى وَإِمَّا يُقَادُ)[رواه البخاري، ومسلم]. وعن أبي بكر بن محمَّد بن عَمْرو بن حَزْمٍ عن أبيه: (أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي الْعُقُولِ: أَنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ)[رواه مالك، والنسائي].

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن قُدامة: «وأجمع أهل العلم على وجوب الدِّيَة في الجُملة» .

ص: 35

‌ثالثاً: أحكامُ الدِّيَة:

أ - على من تجبُ الدِّيَة:

من أتْلَفَ إنساناً مُسلِماً، أو ذِمِّيًّا، أو مُعاهَداً، أو أتْلَفَ جُزْءًا منه، بمباشرةٍ أو سَبَبٍ؛ فلا يخلو ذلك من أن يكون عَمْداً، أو غير عَمْدٍ.

1) فإن كان عَمْداً: وجبت الدِّيةُ في مال المُتْلِف؛ لأنَّ الأصل يقتضي أنَّ بَدَلَ المُتْلَفِ يجبُ على مُتْلِفِه، وأَرْشُ الجناية على الجاني، ولأنَّ العاقلةَ لا تحملُ عمْداً؛ لأنَّ العامِدَ غير معذورٍ، فلا يوجد فيه المعنى المقتضي للتخفيف والمواساة كما في الخطأ.

2) وإن كان غير عَمْدٍ: كالخطأ وشِبْهِ العَمْد، وجبت الدِّيةُ على عاقلة الجاني؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ المَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا

) [رواه البخاري، ومسلم].

ولأنَّ جنايات الخطأ تقع كثيراً، ودِيَةُ الآدمي كثيرةٌ، فإيجابها على الجاني في ماله فيه إجْحافٌ به، ولمَّا كان معذوراً بفعله، أوجبها الشرع على العاقلة مواساةً للقاتل.

ب- ضمانُ الجناية بالمُباشَرَةِ والسَّبَب:

من القواعد المهمَّة في باب الضمان: أنَّه «إذا اجتمع المُباشِرُ والمُتَسَبِّبُ

ص: 36

أُضِيفَ الحُكْمُ إلى المُباشِرِ»؛ فإذا اجتمع على إتلاف نَفْسٍ شخصان أحدُهما بفِعْلِه المُباشِرِ، والآخرُ أَتْلَفَ بِسَبَبٍ بعيدٍ، ولم يكن للسَّبَبِ تأثيرٌ قَويٌّ يؤدِّي إلى الإتلاف لو انْفَرَدَ، فإنَّ الحُكْمَ يُضافُ إلى المُباشِرِ دون المُتَسَبِّب.

لكن في بعض الأحوال يُقدَّم المُتَسَبِّبُ على المباشر؛ فيكون الضَّمانُ عليه، وقد يَجتمِعُ سَبَبان، فيكون الضمان على أحدهما دون الآخر، وقد يكون الضَّمانُ عليهما معاً. ولذلك صورٌ وأحوال:

1) إذا حفَرَ إنسانٌ تعدِّياً بئراً قصيرةً، فجاء آخرُ وعمَّقها، فضمان مَنْ تلف فيها يكون بينهما على عاقِلَتِهما مناصفةً؛ لأنَّ السَّبَب حصل منهما.

وإن جاء ثالثٌ فوَضَع فيها سكِّيناً، فوَقَع إنسانٌ على ذلك السِّكِّين فمات؛ فالدِّيةُ على عاقِلَة الثلاثةِ أثلاثاً؛ لأنَّهم تسبَّبوا في قَتْلِه.

2) إذا وَضَعَ إنسانٌ حَجَراً في طريقٍ تَعَدِّياً، فعَثَرَ فيه إنسانٌ، فوَقَع في بئرٍ، فالضَّمان على واضع الحَجَر دون الحافِر؛ لأنَّ واضِعَ الحَجَرِ كالدَّافع.

وإن كان الحافرُ هو المُتَعَدِّي بحَفْرِه في طريق الناس، دون واضع الحَجَر؛ بأن كان وَضَعَه لمصلحة الناس ليَدوسوا عليه، كان الضمان على الحافِر دون واضع الحَجَر.

3) إذا تجاذبَ شخصان حُرَّان مكلَّفان حَبْلًا، أو ثوباً، فانقطع، فسَقَطَا مَيِّتيْن، فديةُ كُلٍّ منهما على عاقِلَة الآخر؛ لتسبُّب كلٍّ منهما في قَتْل الآخرِ.

وإن اصْطَدَما، فماتا، فدِيَةُ كلٍّ منهما على عاقِلَة الآخر؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما

ص: 37

مات من صَدْمةِ صاحبه، وذلك خَطأٌ، فكانت دِيَةُ كُلِّ واحدٍ منهما على عاقِلَةِ صاحبه.

4) من أَرْكَبَ صغيرَيْن لا وِلايَةَ له على واحدٍ منهما، فاصْطَدَما وماتا، فَدِيَتُهما من مال الذي أَرْكَبَهُما؛ لأنَّه مُتَعَدٍّ بذلك.

وإن أَرْكَبَهُما وَلِيُّهما لمَصْلَحةٍ وكانا يثبتان بأنفسهما، أو رَكِبا من عند أَنْفُسِهِما، فدِيَةُ كُلِّ واحدٍ منهما على عاقِلَةِ الآخَرِ.

5) إذا أَرْسَلَ شخصٌ صغيراً لحاجة ولا ولاية له عليه، فأَتْلَفَ الصَّغِير نَفْساً أو مالًا، فالضَّمانُ على مُرْسِلِه؛ لأنَّه خطأ منه.

6) إذا أَلْقَى إنسانٌ ثقلًا كبيراً؛ كحَجَرٍ ونحوه داخل سفينةٍ، فغَرِقَتِ السفينة بسبب ذلك، كان على المُلْقِي ضمانُ جميع ما فيها؛ لحصول التَّلَفِ بسبب فِعْلِه، كما لو خرقها.

7) إذا اضطرَّ إنسانٌ إلى طعامِ إنسانٍ غير مُضطرٍّ، أو شَرَابِه، فطَلَبَهُ المُضْطرُّ منه، فمَنَعَهُ صاحبُ الطَّعام أو الشَّرابِ منه، حتَّى مات، كان الضَّمان على صاحب الطَّعام أو الشَّراب؛ لأنَّه إذا اضطرَّ إليه صار أحقَّ به ممَّن هو في يده، فإذا منعه إيَّاه في تلك الحال كان متسبِّباً في إهلاكه؛ فلزمه ضمانه.

8) إذا أَخذ إنسانٌ طعامَ غيره، أو شرابَه، أو دابَّتَه، أو أَخذ ما يَدفعُ به عن نَفْسِه من حيوانٍ مُفْتَرِسٍ ونحوه، والمأخوذُ منه عاجزٌ عن دَفْع الآخذ، فتَلِفَ، أو تَلِفَت دابَّتُه، ضَمِنَ الآخِذُ ما تَلِفَ من ذلك؛ لأنَّه سببُ هلاكِه.

ص: 38

9) إذا ماتتْ حامِلٌ أو مات حَمْلُها بسبب رائحةِ طعامٍ أو كَبْريتٍ، ضَمِنَ صاحبُ الرَّائِحَة إن كان يَعْلَمُ أنَّ الرَّائِحَةَ تُسبِّبُ ذلك في العادة، وأنَّ الحامِلَ موجودةٌ في المكان الذي فيه الرَّائِحَةُ. وإلَّا لا إثم عليه، ولا ضمان.

ص: 39

‌فصل ضمان التعدِّي

من فَعَلَ فِعْلاً مَأْذوناً به شَرْعاً، ولم يكنْ مُتَعَدِّياً فيه، لم يَضْمَنْ ما تَلِفَ بذلك الفِعْل؛ ومن صور ذلك:

أ - إذا وَقَعَ إنسانٌ على شخصٍ نائمٍ غير مُتَعَدٍّ بنَوْمِه؛ فإنْ تَلِفَ الواقِعُ، فهَدْرٌ، ولا ضَمانَ على النائم؛ لأنَّه لم يَجْنِ ولم يَتَعَدٍّ. وإنْ تَلِفَ النائمُ، فعَلَى الواقِعِ الضَّمانُ؛ لحصول التَّلَفَ منه.

ب- لو وَضَعَ إنسانٌ جَرَّةً أو حَجَراً أو نحوهما على سَطْح بيتِه، أو حائِطِه، فسقط ما عليه بفعل ريحٍ، أو طيرٍ، أو هِرَّةٍ، فوَقَعَ على إنسانٍ فقَتَلَه، أو وَقَعَ على شيءٍ فأَتْلَفه، لم يكن على واضِعِ الجَرَّة أو الحَجَر ضمانٌ؛ لأنَّ السقوط كان بغير فِعْلِه، وزَمَنُ وَضْعِه كان في مِلْكِهِ.

فإنْ دَفَعَها عن نَفْسِه من سَقَطَتْ عليه حال سُقوطِها؛ فأَتْلَفَتْ شيئاً، لم يكن على الدَّافِع ضَمانٌ؛ لأنَّه غيرُ متعدٍّ بفِعْلِه.

ج- إذا سَلَّمَ مُكَلَّفٌ بالغٌ عاقلٌ نَفْسَه، أو ولَدَهُ إلى مُعَلِّم سِباحةٍ حاذِقٍ ليعلِّمه السِّباحَةَ، فغَرِقَ المُتَعلِّمُ، فلا ضمان على المعلِّم؛ لأنَّه غيرُ مُفَرِّطٍ؛ إذ هو فَعَلَ ما أُذِنَ فيه.

د - إذا أَمَرَ إنسانٌ مُكَلَّفٌ أو غيرُ مُكَلَّفٍ شخصاً مُكَلَّفاً أن يَنْزِلَ بِئْراً، أو يَصْعَدَ شَجَرَةً، فهَلَك بنُزُولِهِ البِئْرَ، أو صُعودِه الشَّجَرَةَ، فلا ضمان على الآمر؛

ص: 41

لأنَّه لم يَجْنِ عليه، ولم يتَعَدَّ، أَشْبَهَ ما لو أَذِنَ له به ولم يأْمُرْه.

فإنْ كان المأمورُ غيرَ مُكلَّفٍ، ضَمِنَه الآمِرُ؛ لتَسَبُّبِه في إتلافِه.

هـ- إذا استأجَرَ رَجُلٌ أَجِيراً لحَفْر بئرٍ، أو بِناءِ حائطٍ بِهَدْمٍ ونحوه، فتَلِفَ الأَجيرُ، فلا ضمان على المُسْتأجِرِ؛ لأنَّه لم يفعل شيئاً يكون سَبَباً في التَّلَفِ، فكان غير مُتَعَدٍّ.

و - إذا أدَّبَ الأبُ وَلَدَه ولو كان كبيراً، أو أدَّبَ زوجَتَه في نُشُوزٍ، أو أدَّبَ مُعلِّمٌ صَبِيَّه، أو أدَّبَ سُلْطانٌ رَعِيَّتَه، وكان تأديبُهُم من غير إسرافٍ ولا تَعَدٍّ؛ من حيث العَدَدُ المُعتادُ فيه، والشدَّةُ، فلا ضمان على المُؤدِّب في جميع هذه الصور؛ لأنَّه فَعَلَ ما هو مَأْذونٌ له فيه شَرْعاً، ولم يَتَعَدَّ بفِعْلِه، فلمْ يَضْمَنْ سِرايَتَهُ، أَشْبَهَ سِرايَةَ القَوَد والحَدِّ.

فإنْ أَسْرَفَ المُؤدِّب في تأديبه، أو زادَ على ما يحصلُ به المقصودُ، فتَلِفَ بسبب فِعْلِه، ضَمِنَهُ؛ لأنَّه مُتَعدٍّ بإسْرافِه؛ إذ لا يحصلُ المقصود بتأديبهم بذلك.

وكذا إذا ضَرَبَ من لا عَقْلَ له من صَبِيٍّ صغيرٍ غير مُميِّزٍ، أو مجنونٍ، أو مَعْتوهٍ، فتلف بسبب فعله، ضمنه؛ لأنَّ الشَّرْع لم يأْذَن في تأديب من لا عَقْلَ له.

ز- إذا أَرْسَلَ سُلْطانٌ في طَلَب امرأةٍ حاملٍ، أو هَدَّدَها، فأَسْقَطَ حَمْلَها، أو ماتَتْ، أو ذَهَبَ عَقْلُها، وَجَبَ الضَّمانُ على السُّلْطان؛ لما روى الحسن البصريُّ قال: (أَرْسَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ إِلَى امْرَأَةٍ مُغَيَّبَةٍ كَانَ يُدْخَلُ عَلَيْهِا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقِيلَ لَهَا: أَجِيبِي عُمَرَ، فَقَالَتْ: يَا وَيْلَهَا مَا لَهَا

ص: 42

وَلِعُمَرَ. قَالَ: فَبَيْنَا هِيَ فِي الطَّرِيقِ فَزِعَتْ، فَضَرَبَهَا الطَّلْقُ، فَدَخَلَتْ دَارًا، فَأَلْقَتْ وَلَدَهَا، فَصَاحَ الصَّبِيُّ صَيْحَتَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ، فَاسْتَشَارَ عُمَرُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ: أَنْ لَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ، إِنَّمَا أَنْتَ وَالٍ وَمُؤَدِّبٌ. قَالَ: وَصَمَتَ عَلِيٌّ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانُوا قَالُوا بِرَأْيِهِمْ، فَقَدْ أَخْطَأَ رَأْيُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا قَالُوا فِي هَوَاكَ، فَلَمْ يَنْصَحُوا لَكَ، أَرَى أَنَّ دِيَتَهُ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّكَ أَنْتَ أَفْزَعْتَهَا، وَأَلْقَتْ وَلَدَهَا فِي سَبَبِكَ. قَالَ: فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَقْسِمَ عَقْلَهُ عَلَى قُرَيْشٍ. يَعْنِي يَأْخُذُ عَقْلَهُ مِنْ قُرَيْشٍ لأَنَّهُ خَطَأٌ) [رواه عبد الرزاق].

أمَّا إذا كان استدعاء السلطان لها بسبب استِعْداءٍ أحدٍ، ضمن المُستَعْدي ما كان بسبب استِعْدائه؛ لأنَّه الداعي إلى طلب السُّلطان لها، فكان موتها أو سقوط حملها أو ذهاب عقلها بسببه، فاختصَّ به الضمان.

ح- إذا ناَمَ شخصٌ على سَقْفٍ، فهَوَى به السَّقْفُ على قَوْمٍ، لم يَضْمَن ما تَلِفَ بسُقوطِهِ؛ لأنَّ السُّقوطَ ليس من فِعْلِه.

ويَلْزَمُهُ المُكْثُ بعد السُّقوط؛ لئلَّا يَهْلَكَ أحدٌ بانتقالِهِ، فإنْ تلف شيءٌ من نَفْسٍ أو مالٍ بدوامِ مُكْثِهِ أو انتقالِهِ ضَمِنَه؛ لأنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بسَبَبِهِ.

ص: 43

‌فصل مَقادير دِيات النَّفْس

‌أوَّلًا: أصولُ الدِّيَةِ:

أصول الدِّية: خمسةٌ، وهي: الإبلُ، والذهبُ، والفضَّةُ، والبقرُ، والغنمُ؛ لحديث أبي بكرٍ محمَّد بن عَمْرو بن حَزْمٍ عن أبيه عن جدِّه: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَات

) وفيه: (وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ

وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ) [رواه النسائي].

وعن عَمْرو بن شُعَيبٍ عن أبيه عن جدِّه: أنَّ عُمَر بن الخطَّاب رضي الله عنه قام خطيباً فقال: (أَلَا إِنَّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ، قَالَ: فَفَرَضَهَا عُمَرُ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ

) [رواه أبو داود].

ولا تُعَدُّ الحُلَلُ أصلًا؛ لأنَّها تختلفُ ولا تَنْضَبطُ.

فإذا أَحْضَرَ من عليه دِيَةٌ أحَدَ هذه الخمسة، لَزِمَ وَليَّ الجناية قبولها، سواء كان من أهل هذا النوع، أو لم يكن.

والدِّيةُ المعتبرةُ شرعاً هي السَّالِمَة من العيوب في كُلِّ الأنواع؛ لأنَّ الإطلاق يقتضي السلامة.

ولا يُعتبرُ في الدِّيَةِ بُلوغ قِيمَةِ الإِبل والبَقْر والغَنَم قِيمةَ النقدِ؛ لعموم حديث: (وَفِي النَّفْسِ المُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ)[رواه البيهقي]؛ إذ هو مُطلَقٌ، فلا

ص: 45

يجوزُ تقييدُه إلَّا بدليل، ولأنَّ قيمة الإبل (كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانُ مِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ ثَمَانِيَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ)، وقول عمر رضي الله عنه: (إِنَّ الإِبِلَ قَدْ غَلَتْ

) [رواه أبو داود] دليلٌ على أنَّها حال رخصها كانت أقلَّ قيمةً من ذلك.

‌ثانياً: مقاديرُ الدِّياتِ:

تختلفُ دِيةُ النِّفْس باختلاف المجنيِّ عليه؛ وذلك على النحو التالي:

أ - دِيَةُ الحُرِّ المُسلِم -صغيراً كان أو كبيراً-: مائةٌ من الإِبل، أو مائتا بَقَرَةٍ، أو أَلْفا شاةٍ، أو أَلْفُ مِثْقالٍ ذَهَباً، أو اثنا عشر أَلْفَ دِرْهمٍ إسلاميٍّ فِضَّةً.

ب- دِيَةُ الحُرَّة المُسلِمَة: على النِّصْف من دِيَةِ الحُرِّ المُسلِم إجماعاً؛ فتكون خمسين بَعيراً، أو مائة بَقَرَةً، أو أَلْف شاةٍ، أو خمسمائة مثقالٍ ذَهَباً، أو سِتَّة آلاف دِرْهَمٍ فِضَّةً؛ فعن شُرَيحٍ قال:(أَتَانِي عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ: أَنَّ جِرَاحَاتِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ تَسْتَوِي فِي السِّنِّ وَالمُوضِحَةِ، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَدِيَةُ المَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ)[رواه ابن أبي شيبة].

ج- دِيَةُ الكتابيِّ الحُرِّ: على النِّصف من دِيَة الحُرِّ المُسلِم؛ سواءٌ كان ذمِّيًّا، أو مُعاهَداً، أو مُستأمَناً؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(دِيَةُ المُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الحُرِّ)[رواه أبو داود].

د - دِيَةُ الكِتابِيَّة: على النِّصْف من دِيَة الكِتابيِّ الحُرِّ؛ لعموم أثر شريح السابق.

ص: 46

هـ - دِيَةُ المجوسيِّ الحُرِّ: ثمانمائة دِرْهمٍ، سواءٌ كان ذِمِّيًّا، أو مُعاهداً، أو مُستأمَناً، لما روى سعيد بن المسيِّب:(أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَضَى فِي دِيَةِ المَجُوسِيِّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ)[رواه البيهقي].

و - ديةُ المجوسيَّة: على النِّصْف من دِيَةِ المَجوسيِّ الحُرِّ.

ز - دِيَةُ الرَّقيق: قِيمتُه، سواءٌ قَلَّت القيمةُ أو كَثُرَت، ولو بَلَغَت أكثر من دِيَةِ الحُرِّ. من غير فَرْقٍ بين قَتْلِ العَمْد أو الخطأ.

ولا فَرْقَ في ذلك بين أن يكون الرَّقيقُ ذَكَراً أو أُنْثَى، صغيراً أو كبيراً، مُدَبَّراً، أو مُكاتَباً، أو أُمَّ ولد.

ح- دِيَةُ الخُنْثَى المُشْكِل: -على حسب إسلامه وحرِّيَّته- نصفُ دِيَةِ رَجُلٍ، ونصف دِيَةِ امرأةٍ؛ لأنَّه يرثُ على هذا النحو، وهو يحتمل الذُّكوريَّة والأُنوثيَّة احتمالًا متساوياً، فوجب التوسُّط بينهما، والعمل بكلا الاحتمالين.

ط- دِيَةُ الكافرِ الحَرْبيِّ، وعَبَدَة الأوْثان، وسائرِ من لا كِتابَ له: إن كان لهم أمانٌ وعهدٌ، فدِيَتُهم ديةُ مجوسيٍّ؛ لكونهم كفَّاراً لا تحلُّ ذبائحهم، فأشبهوا المجوس. وإن لم يكن لهم أمانٌ ولا عهدٌ، فلا دِيَةَ لهم؛ لأنَّ دِماءَهم مُهْدَرةٌ.

ي- يَستوي الذَّكَرُ والأُنْثَى في قَطْعٍ أو جَرْحٍ مُوجِبٍ دون ثُلُثِ ديةٍ، فإن بلغ القطع أو الجرح الثُّلُث أو زاد عليه رجعت إلى نصف دِيَة الرَّجُل.

مثاله: لو قَطَعَ رَجُلٌ حُرٌّ ثلاث أصابع من امرأةٍ مسلمةٍ حُرَّةٍ، لَزِمَه ثلاثون بعيراً. فإن قَطَع إصبعاً رابعاً قبل بُرْءِ الثلاث، رُدَّت الدِّيةُ إلى عشرين بعيراً.

ص: 47

فعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنَّه قال: (سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ المُسَيِّبِ: كَمْ فِي إِصْبَعِ المَرْأَةِ؟ فَقَالَ: عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ. فَقُلْتُ: كَمْ فِي إِصْبَعَيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ مِنَ الْإِبِلِ. فَقُلْتُ: كَمْ فِي ثَلَاثٍ؟ فَقَالَ: ثَلَاثُونَ مِنَ الْإِبِلِ. فَقُلْتُ: كَمْ فِي أَرْبَعٍ؟ قَالَ: عِشْرُونَ مِنَ الْإِبِلِ. فَقُلْتُ: حِينَ عَظُمَ جُرْحُهَا، وَاشْتَدَّتْ مُصِيبَتُهَا، نَقَصَ عَقْلُهَا؟ فَقَالَ سَعِيدٌ

: هِيَ السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي) [رواه مالك].

‌ثالثاً: صفةُ إخراج الدِّية في القَتْل:

تختلف صفة إخراج الدِّيَة باختلاف نوع القتل، وذلك على النحو التالي:

أ - دِيَةُ القَتْل العَمْد:

إذا كان القَتْل عَمْداً عُدْواناً وتعذَّر استيفاءُ القِصاص فيه؛ لعَفْو أَوْلياء المقتول، أو لشُبْهةٍ، أو لأنَّ القاتل والدٌ للمقتول، ونحو ذلك، وَجَبَتِ الدِّيةُ على القاتل في ماله حالَّةً مُغلَّظةً أرباعاً: خَمْسٌ وعشرون بنت مَخاض، وخَمْسٌ وعشرون بنت لَبون، وخَمْسٌ وعشرون حِقَّة، وخَمْسٌ وعشرون جَذَعةً؛ لما روى الزُّهْريُّ عن السائب بن يزيد قال: (كَانَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَةَ أَسْنَانٍ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ

) الحديث [رواه الحارث في مسنده، بإسنادٍ ضعيف

(1)

.

(1)

قال محقِّق «المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية» لابن حجر (9/ 188): «فالحديث بهذا =

= السند ضعيف. لكنَّ متنه يرتقي إلى الحسن بمجموع شواهده التي مرَّت في التخريج، ومنها حديث عبد الله بن عمرو عند أبي داود، وإسناده حسن».

ص: 48

ب- دِيَةُ القَتْلِ شِبْهِ العَمْدِ:

إذا كان القَتْل شِبْه عَمْدٍ، وَجَبَت الدِّيَة على عاقِلَة الجاني أرباعاً -كما في دِيَة العَمْد-، إلَّا أنَّها لا تكون حالَّة، وإنَّما تؤدَّى على ثلاث سنين، كما في دِيَة الخَطَأ. فشِبْه العَمْد يُغلَّظ من جهة قَصْد الجاني الفِعْل، ويُخفَّف من جهة كونه لم يُرِد القَتْل، فاقتضى تَغْليظ الدِّية من جهة أَسْنان الإبل، وتَخْفيفَها من جهة حَمْل العاقِلَة لها وتأجيلِها.

ج- دِيَةُ القَتْل الخَطَأ:

إذا كان القَتْل خطأً وَجَبت الدِّيَةُ على عاقِلَة الجاني من الإبل أخماساً؛ تؤدَّى على ثلاث سنين: عشرون بنت مَخاضٍ، وعشرون ابن مَخاضٍ، وعشرون بنت لَبونٍ، وعشرون حِقَّةً، وعشرون جَذَعَةً؛ لحديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فِي دِيَةِ الخَطَإِ عِشْرِونَ حِقَّةً، وَعِشْرِونَ جَذَعَةً، وَعِشْرِونَ بَنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرِونَ بَنتَ لَبُونٍ، وَعِشْرِونَ بَنِي مَخَاضٍ ذُكُرٍ)[رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي].

ومن البَقَر: النِّصْف مُسنَّات، والنِّصْف أَتْبِعَة.

ومن الغَنَم: النِّصْف ثَنايا، والنِّصْف أَجْذِعَة.

لأنَّ دِيَة الإبل من الأسنان المُقدَّرَة في الزكاة، فكذلك البقرُ والغنمُ. ولأنَّ

ص: 49

هذا مقتضى العَدْل؛ فلو أُخِذَ الكلُّ مُسِنَّاتٍ، أو ثَنايا كان فيه إجحافٌ بالجاني، وبالعكس فيه إجحاف بالمجنيِّ عليه.

* تَغليظُ الدِّيةِ الخَطأ:

تُغَلَّظُ دِيةُ قَتْل الخَطأ في أحوالٍ ثلاثةٍ؛ فيُزادُ في كُلِّ واحدٍ منها ثُلُث دِيَةٍ، وهذا من مفردات المذهب.

وهذه الأحوال هي:

أ - إذا وَقَعَ القَتْلُ في حَرَم مكَّةَ.

ب- إذا وَقَعَ القَتْلُ في حال الإحرام.

ج- إذا وَقَعَ القَتْلُ في الشَّهْر الحرام.

وذلك لما روى ابن أبي نَجِيحٍ عن أبيه: (أَنَّ عُثْمَانَ قَضَى فِي امْرَأَةٍ قُتِلَتْ فِي الحَرَمِ بِدِيَةٍ وَثُلُثِ دِيَةٍ)[رواه ابن أبي شيبة].

فإذا اجتمعت الأحوال الثلاث المُغَلَّظة وَجَبَ دِيَتان؛ لأنَّ القَتْل تجبُ فيه دِيَةٌ، وكُلُّ حالٍ من الثلاث المُغَلَّظة فيه ثُلُث دِيَةٍ، فكان الواجب دِيَتَين.

- وإذا قَتَلَ مُسلِمٌ كافراً ذمِّيًّا أو مُعاهَداً عَمْداً، أُضعِفَتْ دِيَةُ الكافِر على المُسلِم في مقابل إزالة القَوَدِ، فتكون كدِيَة المُسلِم؛ وذلك لما روى ابن عمر رضي الله عنه:(أَنَّ رَجُلًا مُسْلِمًا قَتَلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَمْدًا، فَرُفِعَ إِلَى عُثْمَانَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ، وَغَلَّظَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ مِثْلِ دِيَةِ المُسْلِمِ)[رواه عبد الرزاق].

ص: 50

‌فصل دِية الجَنِين

‌أوَّلًا: تعريفُ الجَنَينِ:

الجَنينُ لغةً: مشتقٌّ من الاجْتِنان، وهو الاسْتِتار؛ يقال: أَجَنَّ عنه: أي اسْتَتَرَ.

واصطلاحاً: هو الوَلَدُ ما دام في بَطْنِ أُمِّه؛ سُمِّي بذلك، لاسْتِتارِه فيه.

‌ثانياً: مقدارُ دِيَةِ الجَنينِ:

لا يخلو الجنين المجنيُّ عليه من أحد الأحوال التالية:

أ - أن يكون الجنينُ مُسلِماً حُرًّا:

فإذا جَنَى إنسانٌ على امرأةٍ حامِلٍ جنايةً عَمْداً أو خَطَأً، أو ما يقوم مقام الجناية؛ كما لو أَفْزَعَها ذو سُلْطانٍ باستدعاءٍ أو تهديدٍ، فخافَتْ، وأَلْقَتْ بسبب ذلك في الحال جَنيناً مُسلِماً حُرًّا، ذَكَراً أو أُنثى، أو بقيت متألِّمَةً حتَّى سَقَطَ، فقد وَجَبَ على الجاني دِيَةُ ذلك الجنين؛ وهي: غُرَّةٌ عَبْدٌ أو أَمَةٌ.

وقِيمَتُها: عُشْرُ دِيَةِ أُمِّه، وهي: خَمْسٌ من الإِبِل.

ويدخلُ في هذا أيضاً: ما لو كان إسقاطُ الجنين بفِعْلِ الحامِلِ نَفْسِها؛ كما لو أجهضت نفسها بشُرْب دواءٍ، أو شمِّ رائحةٍ.

والأصل في وجوب دِيَةِ الجَنِين ومِقْدارها: ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا

ص: 51

فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ المَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ) [رواه البخاري، ومسلم].

ب- أن يكون الجنينُ رَقيقاً: فدِيَتهُ عُشْر قِيمَةِ أُمِّه نَقْداً يوم الجناية؛ لأنَّه جَنينُ آدَمِيَّةٍ، وقِيمَةُ الأَمَةِ بمنزلَةِ دِيَةِ الحُرَّة. ولأنَّه جزءٌ منها، فقُدِّر بَدَلُه من قيمتها، كسائر أعضائها.

ج - أن يكون الجنينُ مَحكوماً بكُفْرِه: كجنين الذِّمِّيَّة من زوجها الذِّمِّي؛ فدِيَتُه غُرَّةٌ؛ قيمتُها عُشْرُ دِيَةِ أُمِّه؛ لأنَّ جنين الحُرَّة المسلمة مضمون بعُشْر ديةِ أُمِّه، فكذلك جنين الكافرة.

د - أن يكون جَنينَ دَابَّةٍ: فيجبُ فيه ما نَقَصَ من قِيمَةِ أُمِّه.

‌ثالثاً: أحكامٌ تتَعَلَّق بدِيَةِ الجَنين:

أ - تتعدَّدُ الغُرَّة بتعدُّد الجنين.

ب- تُوْرَثُ دِيَةُ الجنين عنه كأنَّه سقط حيًّا ثمَّ مات؛ لأنَّ الدِّيَةَ بَدَلُه، ولأنَّها دِيَةُ آدميٍّ حُرٍّ، فوجب أن تُوْرَث عنه كسائر الدِّيَات.

ج- إذا أَلْقَتْ الحامِلُ الجنينَ حيًّا لوَقْتٍ يعيشُ لمِثْلِه، وهو سِتَّة أشْهُرٍ فأكثر، ولو لم يَسْتَهِلَّ صارخاً، ثمَّ ماتَ، نظرنا؛ فإن كان:

1) الجنين حُرًّا: وَجبتْ فيه دِيَةُ حُرٍّ كاملةً؛ لأنَّه حُرٌّ مات بسبب جنايةٍ، أَشْبَهَ ما لو مات بقَتْلِه مُباشَرَةً.

ص: 52

2) وإن كان الجنين رَقِيقاً: فتجبُ فيه قيمتُه؛ لأنَّ قِيمَةَ العَبْدِ بمنزلَةِ الدِّيَةِ في الحُرِّ.

د - لا يُقبَل في الغُرَّة العَبْدُ المَعيبُ عَيْباً يُرَدُّ به البَيْعُ، ولا الخَصِيُّ، ولا الخُنْثَى؛ لأنَّ الإطلاق في قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:(عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ) يقتضي السَّلامَةَ.

ولا يُقبلُ من له دون سَبْع سِنين؛ لأنَّه لا يحصلُ به المقصودُ من الخِدْمَةِ، ويحتاج إلى من يَكْفُلُه ويَخْدِمُه.

‌رابعاً: الاخْتِلافُ والتَّنازُعُ في الجِنايَةِ على الجَنينِ:

أ - إذا اخْتَلفَ الجاني ووليُّ الجناية في خروج الجنين حيًّا أو ميِّتاً، ولا بيِّنةَ لأحدهما، فالقَوْلُ قَوْلُ الجاني مع يَمينِهِ؛ لأنَّه مُنْكِرٌ، والأصل بَراءَةُ ذِمَّتِه من الدِّيَةِ الكامِلَة.

ب- إذا ادَّعَتِ امرأةٌ على إنسانٍ أنَّه ضَرَبَها فَأَسْقَطَتْ جَنِينَها، فأنْكَرَ المُدَّعَى عليه ذلك، فالقَوْلُ قَوْلُه مع يَمينِهِ؛ لأنَّ الأصلَ بَراءَةُ ذِمَّتِه.

ج- إذا أَقَرَّ المدَّعَى عليه بالضَّرْب، أو قامَتِ البَيِّنةُ على ذلك، وأَنْكَرَ أن تكون قد أَسْقَطَتْ، فالقَوْلُ قَوْلُه مع يَمينِهِ أنَّه لا يَعلَمُ أنَّها أَسْقَطَتْ لا على البَتِّ؛ لأنَّها يَمينٌ على فِعْلِ الغَيْرِ، والأصلُ عَدَمُه.

ص: 53

‌فصل دية الأعضاء ومنافعها

‌أوَّلًا: دِيَةُ الأَعْضاءِ:

أعضاء الإنسان منها ما منه شيءٌ واحدٌ: كالأنف، واللِّسان، والذَّكَر.

ومنها ما منه شيئان: كاليَديْن، والرِّجْلَين، والعَيْنَين، والأُذُنين، والحاجِبَين، والخُصْيتَين. ومنها ما هو أكثر من ذلك.

أ - فمن أَتْلَفَ في إنسانٍ ما منه شيءٌ واحدٌ، ففيه ديةٌ كاملةٌ، على ما سبق من تفصيلٍ في الحُرِّ والعَبْد، والذَّكَر والأُنْثَى، والذِّمِّي وغيره؛ لما جاء في حديث عمرو بن حزم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ

، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ) [رواه مالك، والنسائي]. ولأنَّ في إتلافه إذهاب منفعة الجِنْس؛ فهو كإذهاب النَّفْس، فوجبت فيه الدِّية كاملةً.

وتجب الدِّيَةُ كاملةً في الأنف ولو كان فيه عوجٌ، وفي الذَّكَر ولو كان لصغيرٍ، أو شيخٍ فانٍ، وفي اللِّسان الذي ينطق به كبيرٌ، أو يُحرِّكه صغيرٌ ببكاء.

ب- وإن أَتْلَفَ في إنسانٍ ما منه شيئان، ففي إتلاف الاثنين دِيَةٌ كاملةٌ، وفي إتلاف أحدهما نِصْف دِيَةٍ؛ لما جاء في حديث عَمْرو بن حَزْمٍ -السابق- أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ

، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَة). ولأنَّ في إتلافهما إذهاب منفعة الجنس،

ص: 55

فوجبت فيهما الدِّيَة كاملةً.

وتجبُ الدِّيَة كاملةً في العَيْنَيْن ولو كان فيهما حَوَلٌ، أو عمشٌ، أو كانتا صغيرتين أو كبيرتين.

والقَدَمُ العْرَجاء كالصَّحِيحة، واليدُ المُرْتَعِشَةُ، والعَسْماءُ -وهو اعوجاج الرُّسغ- كاليد الصحيحة.

ج- وإذا أَتْلَفَ في الإنسان ما منه ثلاثة أشياء؛ ففي إتلافها جميعاً الدِّيَة كاملةً، وفي إتلاف واحد منها ثُلُثُ دِيَةٍ؛ كالأنف؛ فإنَّه يشمل المَنْخِران، والحاجز بينهما؛ فوجب توزيع الدِّيَة على عددها.

د - وإذا أَتْلَفَ في الإنسان ما منه أربعة أشياء؛ ففي إتلافها جميعاً الدِّيَة كاملةً، وفي إتلاف أحدها رُبْعُ دِيَةٍ؛ كأجفان العينين الأربعة؛ لأنَّها أعضاء فيها جمالٌ ظاهرٌ، ونفعٌ كاملٌ؛ لأنَّها تُكِنُّ العينَ وتحفظها من الحرِّ والبرد، ولولاها لقبح منظر العين.

وأجفان الأعمى كغيرها؛ لأنَّ ذهاب البصر عيبٌ غير الأجفان.

هـ- وإذا أَتْلَف في الإنسان ما منه عشرةُ أشياء، ففي إتلافها جميعاً دِيَةٌ كاملةٌ، وفي إتلاف أحدها عُشْرُ دِيَةٍ؛ كأصابع اليَدَيْن والرِّجْلَيْن؛ لما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فِي دِيَةِ الأَصَابِعِ؛ اليَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءٌ، عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ لِكُلِّ أُصْبُعٍ)[رواه الترمذي، وابن حبَّان].

وعنه رضي الله عنه -أيضاً- عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ -يَعْنِي

ص: 56

الخِنْصَرَ وَالإِبْهَامَ-) [رواه البخاري].

أمَّا الأَنْمُلَة لو قُطِعتْ ولو مع الظُّفْر؛ فإن كانت من الإبْهام؛ ففيها نِصْفُ عُشْر الدِّية؛ لأنَّ الإبْهام فيه مِفْصَلَان؛ فيكون لكلِّ مِفْصَلٍ نصف دِيَة الإصبع.

وإن كانت الإصبع المقطوعة غير الإبْهام؛ ففيها ثُلُثُ عُشْر الدِّيَة؛ لأنَّ غير الإبْهام فيه ثلاثة مَفاصِل؛ فيكون لكُلِّ مِفْصَلٍ ثُلُثُ دِيَة الإصبع. وقد رُوي عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أنَّه قال: (فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ ثُلُثُ دِيَةِ الإِصْبَعِ)[رواه عبد الرزاق].

وأمَّا الظُّفُر إذا قُطِع وحده ولم يَعُدْ، أو عاد أسودَ: ففيه خُمسُ دِيَةِ الإصبع؛ لما رُوي عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: (فِي الظُّفْرِ إِذَا أَعْوَرَ خُمْسُ دِيَةِ الإِصْبَعِ)[رواه ابن أبي شيبة].

و - وإذا قُلِعَ السِّنُّ أو النَّاب أو الضِّرْس من أصله، أو قلع الظاهر منه فقط، ولم يَعُدْ، أو عاد أسود واستمرَّ، أو عاد أبيض ثمَّ اسودَّ بلا عِلَّةٍ: ففيه خَمْسٌ من الإبل؛ لما جاء في حديث عمرو بن حزمٍ -السابق-: (وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ). وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الْأَسْنَانُ سَوَاءٌ، الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ)[رواه أبو داود، وابن ماجه].

فيكون مجموع ما في الأسنان والأنياب والأضراس مائة وستون بعيراً؛ لأنَّها اثنان وثلاثون.

ص: 57

‌ثانياً: دِيَةُ المَنافِعِ:

- إذا جَنَى إنسانٌ على منفعة أحد أعضاء جسم الإنسان مع بقاء العضو؛ كفَقْد العَقْل، أو حاسَّة الشمِّ، أو القُدْرَة على النُّطْق، أو التذوُّق، أو البَصَر، ونحو ذلك من منافع الأعضاء، ففيه دِيَةٌ كاملةٌ؛ لأنَّ كلَّ ما تعلَّقت الدِّيَةُ بإتلافه تعلَّقت بإتلاف منفعته. ولأنَّ ذهاب منفعة العضو تُصَيِّره كالمعدوم، كما لو قطعه.

- وتجبُ الدِّيَة كاملةً في الجناية على العقل بالإجماع، ولأنَّه أكبر المعاني قدراً، وأعظمُ الحواسِّ نفعاً؛ إذ يتميَّزُ به الإنسان عن البهائم، وهو مناط التكليف، وبه تُدْرك الحقائق، ويُهتَدَى به إلى المصالح، إلى غير ذلك من المنافع.

- وتجبُ الدِّيَة كاملةً في حَدَبٍ؛ لأنَّ انتصاب القامة من الجمال والكمال، وبه يتشرَّف الآدميُّ على سائر الحيوانات.

- وتجبُ الدِّيَة كاملةً في ذهاب منفعة المشي؛ لأنَّ منفعته مقصودةٌ، أشبه منفعة الكلام.

- وتجبُ الدِّيَة كاملة في ذهاب منفعة نكاح، وأَكْل، وصَوْت، وبَطْشٍ؛ لأنَّ في كلٍّ منها نفعاً مقصوداً.

- ومن أفزع إنساناً، أو ضَرَبه، فصار لا يستمسك غائطاً، أو لا يستمسك بولًا، أو لا يستمسك ريحاً، ولم يَدُمْ؛ فعليه ثُلُث الدِّيةِ؛ لما ثبت (أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَضَى فِي الَّذِي يُضْرَبُ حَتَّى يُحْدِثَ بِثُلُثِ الدِّيَةِ)[رواه عبد الرزاق].

ص: 58

وإن دام فعليه الدِّيَة كاملةً؛ لأنَّ كلًّا منها منفعة كبيرة ليس في البدن مثلها.

- ومن جَنَى على إنسانٍ فأَذْهَبَ عِدَّة حواسٍّ؛ كأن يُذهب سمعه، وبصره، وعقله، وشمَّه، وذوقه، وكلامه، ونكاحه، فعليه سبع دِياتٍ، وأَرْشُ تلك الجناية.

وإن مات من الجناية؛ فعليه دِيَةٌ واحدةٌ؛ لأنَّه يندرج في النَّفْس ما عداها من المنافع.

‌ثالثاً: دِيَةُ الشِّجاجِ:

الشِّجَاجُ: جمع شَجَّة، وهي اسمٌ لجُرح الرأس والوجه. سمِّيت بذلك لقطعها الجلد. وفي غير الرأس والوجه يُسمَّى جَرْحاً.

والشِّجاجُ عشرةُ أنواع، تنقسم إلى قسمين:

الأوَّل: شجاجٌ فيها حُكُومَة، وهي خمسة أنواع:

أ - الحارِصَةُ: وهي التي تحْرِصُ الجِلْدَ؛ بمعنى تَشُقُّه ولا تُدْميه. وتُسمَّى: القاشِرَة، والقِشْرة.

ب- البازِلَةُ الدَّامية والدَّامعة: وهي التي تُدْمي الجِلْدَ. من بَزَلَ الشيء إذا سَالَ، وسُمِّيت دامعة: لقِلَّة سَيَلان الدَّم منها، تشبيهاً بخروج دَمْع العَيْن.

ج- الباضِعَةُ: وهي التي تبْضَعُ اللَّحْم؛ أي تشُقُّه بعد الجِلْد.

د - المُتَلاحِمَةُ: وهي الغائِصَةُ في اللَّحْم.

هـ- السَّمْحاقُ: وهي التي تصل إلى قِشْرةٍ رقيقةٍ فوق العَظْم.

ص: 59

فهذه الشِّجاج الخمسةُ تجب فيها حُكُومَةٌ؛ لأنَّه لم يرد فيها شيءٌ مقدَّرٌ من الشرع، ولا قياسٌ يقتضيه.

ومعنى الحُكُومَة: أن يُقَوَّمَ المجنيُّ عليه كأنَّه عبْدٌ لا جناية به، ثمَّ يُقَوَّم وهي به قد برئت، فما نقص من القيمة فللمجنيِّ عليه على الجاني كنسبته من الدِّيَةِ.

والقسم الثاني: شِجاجٌ ورد فيها شيءٌ مُقدَّرٌ، وهي خمسة أنواع:

أ - المُوضِحَةُ: وهي التي توضِحُ العَظْمَ في الرَّأْس أو الوَجْه؛ أي تُبْرزُه، ولو بقَدْر رأس إبْرةٍ. فيجب فيها نصف عُشْر دِيةِ الحُرِّ المُسلِم، وهي خَمْسٌ من الإبل؛ لما جاء في حديث عَمْرو بن حَزْمٍ:(وَفِي المُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ)[رواه النسائي].

وإن كان بعض الموضحة في الرأس، وبعضها في الوجه، فحكمها حكم موضحتين، ويجب فيهما عَشْرٌ من الإبل؛ لحديث عَمْرو بن شُعَيب عن أبيه عن جدِّه، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(وَفِي المَوَاضِحِ خَمْسٌ خَمْسٌ)[رواه الخمسة]. ولأنَّه أوضحه في عضوين، فكان لكلِّ واحدٍ منهما حكم نفسه.

ب - الهاشِمَةُ: وهي التي تُوْضِحُ العَظْمَ وتَهْشِمُه؛ أي: تُبْرِزُه وتَكْسِرُه. ويجب فيها عَشْرٌ من الإبل؛ لما جاء عن زَيْد بن ثابتٍ رضي الله عنه أنَّه قال: (فِي الهَاشِمَةِ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ)[رواه عبد الرزاق].

ولا فرق فيها بين الهاشِمَة الصغيرة والكبيرة.

ج-المُنَقِّلَة: وهي التي تُوضِحُ العَظْمَ وتَهْشِمُه وتَنْقُلُه. وفيها خمسة عشر

ص: 60

بعيراً بالإجماع؛ لما جاء في حديث عَمْرو بن حَزْمٍ -السابق-: (وَفِي المُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ).

د - المَأْمُومَةُ: وهي الشَّجَّةُ التي تَصِلُ إلى جِلْدَة الدِّماغ التي تُسمَّى الآمَّة، وأمَّ الدِّماغ. وهذه يجب فيها ثُلُثُ الدِّيَة؛ لحديث عمرو بن حزم -السابق-:(وَفِي المَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ).

هـ- الدَّامِغَةُ: وهي الشجَّةُ التي تُخرِجُ جِلْدَةَ الدِّماغ. ويجب فيها ثُلُثُ الدِّيَة كالمأمومة؛ لأنَّها أبلغ من المأمومة، وصاحبها لا يَسْلَمُ غالباً.

‌رابعاً: دِيَةُ الجَائِفَةِ:

الجائفةُ: هي الجرح الذي يصلُ إلى باطن الجَوْف؛ كداخل البَطْن ولو لم يخرق الأمعاء، وداخل الظَّهْر، والصَّدْر، والحَلْق، والمثانة، وبين الخُصْيَتين، وداخل الدُبُر، ونحو ذلك.

ويجب في الجائفة ثُلُث الدِّيةِ؛ لما جاء في كتاب عَمْرو بن حَزْمٍ -السابق-: (وَفِي الجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ).

- وإن جَرَحَ جانباً، فخرج ما جَرَحَ به من الجانب الآخر، فهما جائفتان؛ لما روى عمرو بن شعيب عن سعيد بن المُسيِّب:(أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَرْمُونَ، فَرَمَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ خَطَأً، فَأَصَابَ بَطْنَ رَجُلٍ، فَأَنْفَذَهُ إِلَى ظَهْرِهِ، فَدُووِيَ فَبَرَأَ، فَرُفِعَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَضَى فِيهِ بِجَائِفَتَيْنِ)[رواه ابن أبي شيبة].

ص: 61

‌باب العاقِلَة

‌أوَّلًا: تعريفُ العاقِلَة:

العاقِلةُ لغةً: جمع عاقِلٍ، وهو المؤدِّي للدِّية؛ وأصله من عَقْل الإبل؛ وهي الحِبالُ التي تثنى بها أيديها إلى رُكَبِها. وقيل: من العقل؛ أي المنع؛ لأنَّهم يمنعون عن القاتل. وقيل: لأنَّهم يعقلون لسان ولي المقتول.

أمَّا اصطلاحاً: فهم الذين يَغْرَمون ثُلُثَ الدِّيَةِ فأكثر بسبب جناية الغارم.

وعاقِلَةُ الجاني: هم ذُكور عَصَبَته نَسَباً ووَلاءً، حتَّى عَمودَي نَسَبِه ومَنْ بَعُدَ؛ كابن ابن ابن عمِّ جدِّ الجاني، سواء كان الجاني رجلًا أو امرأةً.

ودليل تحمُّل العاقِلَة دِيَة الجاني: ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لَحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةٍ، عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، ثُمَّ إِنَّ المَرْأَةَ الَّتِي قَضَى لَهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ العَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا)[متفق عليه].

ولأنَّ العَصَبَة يَشُدُّون أزْرَ قَريبِهِم ويَنْصُرونَه، فاستوى قَريبُهُم وبَعيدُهُم في العَقْل.

ولأنَّ الأب والابن أَحَقُّ بنُصْرَتِه من غيرهما، فوجب أن يَحْمِلا عنه؛ كالإخوة، وبني الأعمام.

ويدخلُ العَصَبَةُ بالوَلاء؛ لعموم الحديث السابق.

ص: 63

‌ثانياً: ما تَحْمِلُه العاقِلَةُ وما لا تحمِلُهُ:

أ - تحملُ العاقِلَةُ دِيَةَ جناية الخَطَأ وشِبْهِ العَمْد؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ المَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ)[رواه البخاري ومسلم].

ب- ولا تحمِلُ العاقِلَةُ من الدِّيَات ما يلي:

1) جنايةُ عمْدٍ: سواءٌ كان ممَّا يجب القَوَدُ فيه، أو لا يجب؛ كالمَأْمومة والجائفة.

2) قِيمَةُ عبْدٍ قُتِل عَمْداً أو خطأً، أو قِيمَةُ طَرَفِه، أو جنايتُه.

3) صُلْحُ إنكارٍ، وإقرارُ جانٍ على نَفْسِه بجنايةِ خَطأٍ، أو شِبْهِ عَمْدٍ تُوجِبُ ثُلُثَ الدِّيَةِ فأكثر، إنْ لم تُصَدِّقْهُ العاقِلَةُ.

والأصل فيما لا تحمله العاقِلَةُ ما رُوي عن عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما قال: (لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا مَا جَنَى المَمْلُوكُ)[رواه البيهقي].

4) ما دون ثُلُث دِيَة ذَكَرٍ حُرٍّ مُسلِمٍ؛ كالجناية على ثلاث أصابع، وأَرْش المُوضِحَة؛ لما رُوي عن ابن وَهْبٍ قال: أخبرني ابن سَمْعان قال: سمعتُ رجالًا

ص: 64

من عُلمائنا يقولون: (قَضَى عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ فِي الدِّيَةِ أَنْ لَا يُحْمَلْ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى العَاقِلَةِ حَتَّى تَبْلُغَ ثُلُثَ الدِّيَةِ، فَإِنَّهَا عَلَى العَاقِلَةِ -عَقْلُ المَأْمُومَةِ وَالجَائِفَةِ-، فَإِذَا بَلَغَتْ ذَلِكَ فَصَاعِدًا حُمِّلَتْ عَلَى العَاقِلَةِ)[ذكره ابن حزمٍ في المحلَّى].

ولأنَّ الأصل وجوبُ الضَّمان على الجاني، ولكن خُولِفَ في ثُلُث الدِّيَةِ فأكثر؛ لإجحافه بالجاني لكثرته، فيبقى ما عداه على الأصل.

ويُستثنَى من ذلك: غُرَّة جَنينِ الحُرَّة إذا مات مع أُمِّه أو بعدها بجنايةٍ واحدةٍ؛ فتَحْمِلُ العاقِلَةُ الغُرَّة تَبَعاً لدِيَةِ الأمِّ؛ لاتِّحاد الجناية.

5) قِيمَةُ المُتْلَفِ؛ لأنَّ الأصل وجوبُ ضَمانِ الأموال على مُتْلِفِها؛ كقِيمَةِ العَبْدِ، والدَّابَّة.

‌ثالثاً: كيفيَّة تحمُّل العاقِلَة للدِّية:

أ - تَحَمُّلُ العاقلة لدِيَةِ الخطأ وشِبْه العَمْد يكون مؤجَّلًا على ثلاث سنين؛ بالإجماع. ولأنَّ العاقلة تحملها مواساةً، فاقتضت الحكمة تخفيفها.

ب- يكونُ ابتداءُ حَوْلِ القَتْلِ من حين زُهوق رُوح المَجْنيِّ عليه، وابتداءُ حَوْل الجُرْح من حين البُرْء منه؛ لأنَّ أَرْش الجُرْح لا يَسْتقِرُّ إلَّا بِبُرْئه.

ج- يجتهدُ الحاكم في تَحْميلِ العاقِلَة؛ فيُحَمِّلُ كُلًّا منهم ما يَسْهُل عليه؛ لأنَّ تحمُّلَها مواساةٌ للجاني، وتخفيفٌ عنه، فلا ينبغي أن يُشَقَّ على غيره.

ص: 65

د - يَبدَأُ الحاكمُ بالأَقْرَب فالأَقْرَب، كالميراث؛ فيُقَسِّم على الآباء والأبناء، ثمَّ على الإخوة، ثمَّ بني الإخوة، ثمَّ على الأعمام، ثمَّ بَنِيهم، ثمَّ على أعمام الأب، ثمَّ بنيهم، ثمَّ على أعمام الجدِّ، ثمَّ بَنِيهم، وهكذا أبداً حتَّى تنتهي عَصَبةُ النَّسَب، ثمَّ على الوليِّ المُعتِق، ثمَّ عَصَبَتِه الأَقْرَب فالأَقْرَب؛ لأنَّ ذلك حُكمٌ يتعلَّق بالتَّعْصيب، فوجب أن يُقدَّم فيه الأَقْرَب فالأَقْرَب؛ كالميراث.

هـ- لا يُشترَطُ في العاقِلَة أن يكونوا وارثين في الحال لمن يَعْقِلُون عنه، وإنَّما يكفي أن يكونوا وارثين لولا الحَجْب ليَعْقِلوا؛ لأنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لمَّا قضى بدِيَة المرأة المقتولة، قضى بها بين عَصَبَتِها، وهذا عامٌّ يدخلُ فيه من لا يرثون منها إلَّا ما فضل عن وَرَثَتِها، ولأنَّهم عَصَبَةٌ كسائر العَصَبَات؛ ذلك أنَّ العَقْلَ موضوعٌ على التَّناصُر، وهُمْ من أهله.

‌رابعاً: من لا يتَحَمَّلُ الدِّيَةَ من العاقِلَةِ:

لا يتحمَّل الدِّيَة من العاقِلَة الأصناف التالية:

أ - الفقيرُ: وهو من لا يملكُ نِصاباً عند حلول الحَوْل فاضلًا عنه. ولو كان هذا الفقير قادراً على العَمَل؛ لأنَّ العَقْلَ مُواساةٌ، والفقيرُ ليس من أهل المواساة. ولأنَّها وَجَبَت على العاقِلَة تخفيفاً على الجاني، فلا يجوز التثقيل بها على من لا جناية منه.

ب- الصغيرُ والمجنونُ: لأنَّهما وإن كانا لهما مالٌ، إلَّا إنَّهما ليسا من أهل

ص: 66

النُّصْرَةِ والمُعاضَدَةِ؛ لغياب العَقْل الباعث لهما على ذلك.

ج- المرأةُ -ولو كانت مُعْتِقَةً-، والخُنْثَى المُشْكِل: لأنَّهما ليسا من أهل النُّصْرَةِ والمُعاضَدَةِ.

‌خامساً: من لا عاقِلَةَ له ومَنْ عَجَزَت عاقِلَتُه عمَّا وَجَبَ:

من لا عاقِلَةَ له، أو له عاقِلَةٌ وعَجَزَت عن جميع ما وَجَب بسبب جنايته، أو عَجَزَت عن تتمَّته، فلا يخلو أمره من حالين:

أ - أن يكون المَجْنِيُّ عليه مُسلماً، فالجاني لا دِيَةَ عليه، وإنَّما تكون الدِّيةُ في بيت مال المسلمين حالَّةً، كدِيَةِ من مات في زحمة صلاة جمعة أو طوافٍ؛ لما رَوى بُشَيْر بن يَسارٍ (أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ، أَخْبَرَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ -يَعْنِي: دِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ-) [رواه أبو داود]. وفي رواية: (فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ)[رواه البخاري].

فإن تعذَّر أخذُ الدِّيَة من بيت المال سَقَطَتْ عنه؛ لأنَّها إنَّما تَجِبُ ابتداءً على العاقِلَة دون القاتل؛ فلا تؤخذ من غير من وَجَبَتْ عليه.

ب- أن يكون المَجْنِيُّ عليه كافراً، فالواجب من الدِّيَة أو تتمَّته يكون في مال الجاني نَفْسِه حالًّا؛ لأنَّ بيت المال لا يتحمَّل الدِّية عن الكافر.

ص: 67

‌باب كفَّارة القَتْل

‌أوَّلًا: تعريفُ الكَفَّارة:

الكفَّارَة لغةً: مأخوذةٌ من الكَفْر، وهو السَّتْر؛ لأنَّها تَسْتُرُ الذَّنْبَ وتُغَطِّيه.

واصطلاحاً: هي الفَعْلَة والخَصْلَة التي من شأنها أن تمحو الخطيئة وتسترها.

‌ثانياً: حُكْمُ كفَّارة القَتْل:

كفَّارة القَتْل واجبةٌ -في الجُملة- على من قَتَل نَفْساً خطأً أو شبه عمدٍ، وقد دلَّ على ذلك القرآن، والسُّنَّة، والإجماع.

- فمن القرآن: قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92].

- ومن السُّنَّة: حديث وَاثِلَة بن الأَسْقَع رضي الله عنه قال: (أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَاحِبٍ لَنَا أَوْجَبَ -يَعْنِي النَّارَ- بِالْقَتْلِ، فَقَالَ: أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقِ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ)[رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي في «الكبرى»].

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن قُدامة: «أجمع أهلُ العِلْم على أنَّ على القاتل خطأً كفَّارةً» .

ص: 69

‌ثالثاً: ما تجبُ فيه الكفَّارة من أنواع القَتْل:

- لا كفَّارة في القَتْل العمْد العدوان؛ لأنَّ الله تعالى لمَّا ذَكَر القَتْل العَمْد لم يذكر فيه كفَّارةً؛ فقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]. ولأنَّ الله تعالى لمَّا ذكر الكفَّارة في قَتْل الخطأ، دلَّ ذلك على تخصيصها به، ونفيها في غيره.

- أمَّا قَتْل الخطأ فتجبُ فيه الكفَّارة؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} إلى قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92].

- وتجبُ الكفَّارةُ أيضاً في قَتْل شِبْه العَمْد؛ لأنَّه أُجْرِيَ مجْرَى الخطأ في نفي القصاص، وحَمْل العاقلة ديته، وكونها مؤجَّلة في ثلاث سنين، فأجري مجراه في وجوب الكفَّارة كذلك.

- وتجبُ الكفَّارة على القاتل سواءٌ انفرد بالقَتْل، أو شارك فيه غيره؛ فيلزمُ كلَّ واحدٍ من الشركاء كفَّارةٌ؛ لأنَّ الكفارة موجب قتل آدميٍّ، فوجب إكمالها على كلِّ الشُّركاء فيه، كالقصاص.

- وتجبُ الكفَّارة على القاتل سواء كان مباشراً للقَتْل، أو مُتَسَبِّباً فيه.

- وتجبُ الكفَّارة على القاتل، سواء كان كبيراً أو صغيراً، أو مجنوناً، وسواء

ص: 70

كان حُرًّا أو عَبْداً؛ لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} .

- وتجبُ الكفَّارة على القاتل ولو كان المقتول جَنيناً. فإنْ أَلْقَتْ مُضْغَةً

لم تَتَصَوَّر، فلا كفَّارة.

- أمَّا إذا كان القَتْل مباحاً؛ كمن قَتَل زانٍ مُحصَناً، أو قَتَل مُرْتَدًّا، أو كافراً حَرْبِيًّا، أو باغٍ، أو من وَجَب عليه القِصاصُ، أو قَتَلَ صائلًا دَفْعاً عن نَفْسِه؛ فلا يجبُ على القاتل كفَّارة؛ لأنَّ قَتْل هؤلاء لا يَحرُم.

‌رابعاً: مِقْدارُ كفَّارة القَتْل:

كفَّارةُ القَتْل هي: عِتْقُ رَقَبةٍ مُؤمِنَةٍ؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . فإن لم يجد القاتل رَقَبَةً، وجب عليه صِيامُ شَهْرين مُتتابِعَين؛ لقوله عز وجل:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} .

فإن لم يستطع الصَّوْم، بَقِيَ في ذِمَّتِه، ولم ينتقل منه إلى الإطعام، ولو أَطْعَم لم يُجْزئه؛ لأنَّ الله تعالى لم يذكر الإطعام، والأَبْدال في الكفَّارات توقيفيَّةٌ، فلا تُقاس على غيرها.

- وتَتعدَّد الكفَّارة بتعدُّد المقتول؛ فمن قَتَل اثنين فعليه كفَّارتان، ومن قَتَل ثلاثةً فعليه ثلاثُ كفَّارات، وهكذا؛ لأنَّ كُلَّ قَتْلٍ يقوم بنَفْسِه، وهو غير

ص: 71

مُتعَلِّق بغيره، فوجب أن يكون في كُلِّ قَتْلٍ كفَّارة، كما يجبُ في كُلِّ قَتْلٍ دِيَةٌ.

‌خامساً: تَحَمُّل كفَّارة القَتْل:

- تجبُ كفَّارة القَتْل في مال القاتل، ولو كان القاتل غير مكلَّف؛ كالصَّغير والمجنون؛ فيُعْتِق وليُّهما من مَالِهما رَقَبةً؛ لعَدَم إمكان الصَّوم منهما، وهو ممَّا لا تَدخله النِّيابة.

- فإن كان القاتل رقيقاً؛ فيُكفِّر بالصَّوم؛ لأنَّه لا يَمْلِك مالًا يُعْتِقُ منه.

- وإن كان القاتل كافراً؛ فيُكفِّر بعِتْقِ رَقَبةٍ؛ لأنَّ الصَّوم لا يَصِحُّ منه.

ص: 72

‌كتاب الحدود

‌أوَّلًا: تعريفُ الحُدود:

الحُدودُ لُغةً: جَمْعُ حَدٍّ، وهو المَنْعُ.

واصطلاحاً: عقوبةٌ مُقدَّرةٌ شَرْعاً في مَعصِيةٍ؛ لتَمْنَع من الوقوع في مِثْلِها.

‌ثانياً: حُكْمُ إقامَةِ الحُدودِ:

إقامة الحدِّ على من اقترف معصيةً موجبةً له واجبٌ في الجملة، دلَّ له الكتاب، والسنَّة، وإجماع الأمَّة.

قال البهوتي في «المنح الشافيات» : «ومشروعيَّتها بالكتاب والسنَّة والإجماع» .

وسيأتي بيان أدلَّة كلِّ حدٍّ في بابه.

‌ثالثاً: الحِكْمةُ من تَشْريع الحُدود:

شَرَع الله عز وجل الحدود لحِكَمٍ عظيمةٍ وغاياتٍ جليلةٍ:

- منها: أن تكون زواجر تمنع النُّفوس من اقتراف مثل هذه الجرائم، فيَشيعُ الأَمْنُ، ويتحقَّقُ الأَمانُ في البلاد.

- ومنها: أن تكون كَفَّارةً وتطهيراً لمن زَلَّت قَدَمُه؛ فقارف شيئاً منها، فإنَّ الحدَّ إذا أُقيم عليه لم يؤاخذه الله عز وجل عليه في الآخرة؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال:(وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ في الدُّنْيَا؛ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) [رواه

ص: 73

البخاري، ومسلم].

- ومن أتى حدًّا من حدود الله استُحبَّ له أن يستر نفسه، ولا يُسَنُّ أَنْ يُقِرَّ به عند الحاكم؛ لما روى ابنُ عمرَ رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن رجم الأسلميَّ قال: (اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ عز وجل [رواه الحاكم والبيهقي].

‌رابعاً: مُوجِباتُ الحدِّ:

موجبات الحد سبعةٌ، وهي: الزنا، والقذف، وشُربُ المُسْكِر، والسَّرِقَة، وقَطْع الطريق، والبغْي، والرِّدَّة. وسيأتي بيان أحكام كلٍّ منها في بابه.

‌خامساً: شُروطُ إقامَةِ الحَدِّ:

يُشترط فيمن يُقام عليه الحدُّ ثلاثة شروط:

الشَّرط الأوَّل: أن يكون مُكلَّفاً؛ وهو البالغ العاقل؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ)[رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه]. ولأنَّ غير المكلَّف إذا أُسقِطَ عنه التَّكليف في العبادة، والإثم في المعصية، فأَوْلَى أن يَسقُطَ عنه الحَدُّ المَبْنيُّ على الدَّرْءِ بالشُّبْهَة.

الشَّرط الثَّاني: أن يكون ملتزماً أحكام المسلمين، سواء كان مسلماً أم ذِمِّيًّا؛ إذ الذِّمِّي ملتزمٌ أحكام الإسلام في ضمان النَّفْس، والمال، والعِرْض، وإقامة

ص: 74

الحُدود فيما يَعتقد تحريمه؛ لقول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما (أَنَّ اليَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا)[رواه البخاري، ومسلم].

فإن كان غير مُلتزمٍ أحكام المسلمين؛ كالكافر الحربيِّ، والمستأمَن، والمعاهَد، فإنَّه لا تقام عليه الحُدود؛ لأنَّه لا ولاية عليه، ولأنَّه غير ملتزم أحكام الإسلام، إلَّا إذا كان الحَدُّ لآدمي؛ كقَذْفٍ، وقَتْلٍ، وسَرِقَةٍ، فإنَّه يقام عليه.

الشَّرط الثَّالث: أن يكون عالماً بالتحريم؛ فإن كان جاهلًا به فلا حَدَّ عليه؛ لما رُويَ عن عمر وعثمان رضي الله عنهما: (لا حَدَّ إِلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَهُ)[رواه عبد الرزاق].

‌سادساً: الشَّفاعَةُ في الحَدِّ:

- تَحرُمُ الشفاعة في حَدٍّ من حدود الله تعالى إذا بلغ الإمام؛ لحديث أُسامة ابن زيد رضي الله عنهما لمَّا شَفَعَ في المَخْزومِيَّةِ التي سَرَقَت، فغَضِبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقال:(أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللّاهِ؟)[رواه البخاري، ومسلم]. ولأَنَّ ذلك إسقاط حقٍّ وَجَبَ لله تعالى.

- ويَحرُمُ على الإمام قبولها؛ لحديث صَفْوان بن أُمَيَّة رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلًا سَرَقَ بُرْدَهُ فَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْهُ. قَالَ: فَلَوْلَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ يَا أَبَا وَهْبٍ، فَقَطَعَهُ رَسُولُ

ص: 75

اللّهِ) [رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه].

- أمَّا إذا لم يبلغ الإمامَ فتجوز الشفاعة فيه؛ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(تَعَافُّوا الحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ)[رواه أبو داود، والنسائي].

‌سابعاً: مَنْ يَقومُ بتَطْبيقِ الحُدود:

- لا يجوزُ أن يُقيمَ الحدَّ إلَّا الإمام، أو من يُنيبه في ذلك؛ سواء كان الحدُّ لله تعالى؛ كحدِّ الزِّنى، أم كان الحدُّ لآدميٍّ؛ كحدِّ القَذْف؛ لأنَّه استيفاءُ حقٍّ يَفْتَقِر إلى الاجتهاد، ولا يُؤمَنُ معه الحَيْف، فوَجَبَ تفويضُه إلى الإمام أو نائبه. ولأنَّه صلى الله عليه وسلم كان يُقيمُ الحُدود في حياته، وكذا خُلفاؤه مِنْ بعده.

ويقوم نائبُ الإمام فيه مقامه؛ لحديث زيد بن خالد وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا)[رواه البخاري، ومسلم].

- يجوز للسيِّد المُكَلَّف العَالِم بالحدِّ وشروطه إقامةُ حَدِّ الجَلْد -دون غيره- على رقيقه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقول: (إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا

) [رواه البخاري، ومسلم]. ولأنَّ السَّيِّد يَملِكُ تأديبَ رقيقه وضَرْبَه على الذَّنب، وهذا من جِنْسِه.

ص: 76

‌ثامناً: صفة إقامة حدِّ الجلد:

أ - يُضْرَبُ الرَّجُلُ الحَدَّ حال كونه قائماً؛ لأنَّ قيامه وسيلةٌ إلى إعطاء كلِّ عُضْوٍ حظَّه من الضَّرْب.

ب- ويكون الضَّرْبُ:

1) بِسَوْطٍ: خَيْزَرانَةٍ، أو عَصًا، أو ما أشبه ذلك من نوع الشجر، ولا يكون من الجِلْد.

2) وَسَطٍ؛ لا جديدٍ، ولا قديمٍ بالي؛ لأنَّ الجديد يجرحه، والبالي لا يؤلمه. ولما روي عن زَيْدِ بن أَسْلَم:(أَنَّ رَجُلًا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ، فَقَالَ: فَوْقَ هَذَا. فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ، فَقَالَ: دُونَ هَذَا. فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رُكِبَ بِهِ وَلَانَ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجُلِدَ)[رواه مالك].

ج- ينبغي أن لا يُبَالَغُ في الضَّرْب بحيث يَشُقُّ الجِلْد؛ لأنَّ الغَرَضَ تأديبُه وزَجْرُه عن المعصية، لا قَتْلُه، والمبالغة تُؤدِّي إلى ذلك.

د - يجبُ اتِّقاءُ الوَجْه، والرَّأس، والفَرْج، والمَقْتَل؛ كالفُؤادِ، والخُصْيتين؛ لئلَّا يؤدِّي ضَرْبُه في هذه المواضع إلى قَتْلِه، أو ذهاب منفعته، والمقصود أَدَبُه فقط.

هـ- تُضْرَبُ المرأةُ الحَدَّ حال كونها جالسةً، وتُشَدُّ عليها ثيابها، وتُمسَكُ

ص: 77

يداها؛ لئلَّا تتكشَّف؛ لأنَّ المرأة عَوْرةٌ، وفِعل ذلك أَسْتَر لها.

و - يَحرُمُ بعد إقامة الحَدِّ حَبْسُ المَحْدود، أو إيذاؤه بكلامٍ، كالتعيير؛ لنَسْخ ذلك بمشروعيَّة الحدِّ، ولأنَّه يكون تعزيراً، ولا يجمع بينهما.

ز - إذا اجتمعت حدودٌ لله تعالى، وكانت من جِنْسٍ واحدٍ؛ كما لو زَنَى مِراراً، أو سَرَق مِراراً، أو شَرِبَ الخَمْر مِراراً، فلا يُحدُّ إلَّا مرَّةً واحدةً؛ حكاه ابن المنذر إجماعاً؛ لأنَّ المقصود الزَّجْر عن إتيان مثل ذلك في المستقبل، وهو حاصلٌ بحدٍّ واحدٍ.

ح- وإذا اجتمعت حدودٌ لله تعالى وكانت من أجناسٍ مختلفةٍ، ولم يكن فيها قَتْلٌ؛ كما لو زَنَى وهو غير مُحصَنٍ، وسَرَقَ، وشَرِبَ الخَمْر؛ فإنَّه يُحدُّ لكلِّ واحدٍ منها، لكن يجب أن يُبدأ بالأخفِّ فالأخفِّ؛ فيُحدُّ أوَّلًا لشُرْب الخَمْر، ثمَّ يُحدُّ للزِّنا، ثمَّ يُقطع للسَّرقة. ولا يُوَالى بين هذه الحدود؛ لأنَّه ربَّما يُفضي إلى التَّلف.

وإن كان فيها قَتْلٌ؛ كما لو زَنَى وهو مُحصَنٌ، وشَرِبَ، وسَرَق، فلا يُستَوفَى إلَّا القَتْل فقط، ويسقط ما عداه؛ لأنَّ هذه الحدود تُراد لمجرَّد الزَّجر، ومع القَتْل لا حاجة إلى زجره؛ لأنَّه لا فائدة فيه.

ط- أشدُّ الجَلْدِ في الحُدود: جَلْد الزِّنا، ثمَّ جَلْد القَذْف، ثمَّ جَلْد شُرْب الخَمْر، ثمَّ جَلْد التَّعزير؛ لأنَّ الله تعالى خصَّ الزِّنا بمزيد تأكيدٍ بقوله:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2]، فاقتضى مزيد تأكيد، ولا يُمكن ذلك في

ص: 78

العدد، فيكون في الصِّفة. ولأنَّ ما كان أخفَّ في العدد، كان كذلك في الصِّفة.

ي- يَحرُمُ إقامةُ الحُدود في المساجد؛ لما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تُقَامُ الحُدُودُ فِي المَسَاجِدِ)[رواه الترمذي، وابن ماجه]. ولأنَّه لا يُؤمَن من حدوث ما يُلوِّث المسجد.

ص: 79

‌باب حدِّ الزِّنا

‌أوَّلًا: تعريفُ الزِّنا:

الزِّنا لغةً: بالمدِّ والقَصْر لغتان؛ مصدر زَنَى يَزْنِي زِناً وزِناءً، ويُطلق على معانٍ عِدَّة؛ فيأتي بمعنى الفجور والبِغاء، وبمعنى الصعود، وبمعنى الضِّيقُ.

واصطلاحاً: هو فِعْلُ الفاحِشَةِ في قُبُلٍ أو دُبُرٍ.

‌ثانياً: حُكمُ الزِّنا:

الزِّنا من أعظم المحرَّمات في الشريعة، ومن أكبر الكبائر عند الله عز وجل، وقد دلَّ على ذلك القرآن، والسُّنَّة، والإجماع.

- فمن القرآن: قول الله عز وجل: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].

- ومن السُّنَّة: ما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللّاهِ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلّاهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ. قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ)[رواه البخاري، ومسلم].

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن المنذر: «وأجمعوا على تحريم الزِّنا» .

ص: 81

‌ثالثاً: الحِكمَةُ من تَحريمِ الزِّنا:

الزِّنا حرَّمه الله في جميع الشرائع؛ لعِظَم فُحْشِه، وكَثْرة أَضْراره؛ فهو يُفسِدُ الأنساب، ويُدمِّر الأفراد والمجتمعات، ويقضي على العِفَّة والفَضيلة، ويُحوِّل الإنسان إلى شبه حيوانٍ لا هَمَّ له إلَّا إفراغ شهوته بأيِّ وسيلةٍ؛ فكان من رحمة الله تعالى بعباده أن حرَّمه عليهم، وزَجَرَهم عنه بالحدود الشديدة التي تختلف باختلاف حال الزَّاني.

‌رابعاً: عُقوبَةُ الزَّاني:

الزَّاني إمَّا أن يكون مُحْصَناً أو غير مُحْصن، والمُحْصن: هو من وَطِئَ زوجتَه في قُبُلِها بنكاحٍ صحيحٍ، وهما حُرَّان بالغان عاقلان. فإنْ تخلَّف قيدٌ من هذه القيود لم يكن مُحْصَناً. وكذا المرأة تكون مُحْصَنةً بتلك القيود.

أ - فإذا كان الزَّاني مُحْصناً -رجلًا أو امرأةً- وَجَبَ رَجْمُه بحجارةٍ متوسِّطةٍ كالكفِّ حتَّى يموت؛ حكاه ابن حَزْم إجماعًا؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: (قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ، وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الحَبَلُ، أَوِ الِاعْتِرَافُ)

ص: 82

[رواه البخاري، ومسلم].

ب- وإن كان الزاني غير مُحصَنٍ -رجلًا أو امرأةً-، وهو حُرٌّ، فإنَّه يُجلَد مائة جَلْدَةٍ، ويُغرَّب عاماً؛ لقول الله عز وجل:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، ولحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ)[رواه مسلم]. ولأنَّ الخلفاء الرَّاشدين فعلوا ذلك بالحُرِّ غير المُحصَن وانتشر، ولم يُعرف لهم مخالف، فكان كالإجماع.

- ويكون التَّغريب إلى بلدٍ تبعُدُ عن بلده مسافة القَصْر؛ لأنَّ ما دون ذلك في حكم الحَضَر؛ فلا يتحقَّق به التغريب.

- وتُغرَّب المرأة مع مَحرْمٍ لها وجوباً؛ لعموم نَهْيِها عن السَّفر بلا مَحْرمٍ.

ج- وإن كان الزَّاني رقيقاً؛ فإنَّه يُجلَد خمسين جَلْدةً -بِكْراً كان أو ثيِّباً-؛ لقول الله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، والعذاب المذكور في القرآن مائةُ جلدةٍ لا غير؛ فينصرف التنصيف إليه دون غيره، ولا ينصرف إلى الرَّجْم؛ إذ لا يتأتَّى تنصيفه.

ولا يُغرَّب؛ لأنَّه مشغول بخدمة سيِّده، فتغريبه إضرارٌ بسيِّده دونه؛ إذ العبد لا ضرر عليه في التَّغريب؛ لأنَّه غريب في موضعه، بل يترفَّه فيه بترك الخدمة.

د - إذا زنا الذِّمِّيُّ بمُسلمةٍ فإنَّه يُقتل؛ لانتقاض عهده بذلك، ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنَّه رُفع إليه يهوديٌّ أراد استكراه امرأةٍ مسلمةٍ على الزِّنا،

ص: 83

فقال له عمر رضي الله عنه: (وَاللهِ مَا عَلَى هَذَا عَاهَدْنَاكُمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ)[رواه البيهقي].

هـ- إذا زنا مُحْصَنٌ بغير مُحصَنٍ فعلى كُلِّ واحدٍ منهما حَدُّهُ؛ لحديث أبي هُريرة وزَيْد بن خالد رضي الله عنهما في رَجُلَين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابن أحدهما أجيراً عند الآخر، فزَنَى بامرأته، وهو غير مُحصَنٍ؛ فقال صلى الله عليه وسلم:(وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا)[رواه البخاري، ومسلم].

و - مَنْ أتى بهيمةً فإنَّه يُعَزَّر ولا يُحدُّ؛ لما جاء عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّه قال: (مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ)[رواه الترمذي]. ولا يصحُّ قياسه على فَرْج الآدميِّ؛ لأنَّه لا حُرْمَة له، والنُّفوس تَعافُه.

وتقتل البهيمة المأتيَّة؛ سواء كانت مأكولةً أم غير مأكولةٍ، وسواء كانت مملوكةً له أم لغيره؛ لئلَّا يُعيَّر بها، ويضمن الآتي لها قيمتها لصاحبها إن لم تكن مملوكةً له؛ لإتلافها بسببه؛ أشبه ما لو قَتَلَها.

‌خامساً: شُروطُ وُجوبِ الحَدِّ:

يُشترط لوجوب إقامة حدِّ الزِّنا ثلاثة شروط:

الشَّرط الأوَّل: أن يكون الوَطْء في فَرْجٍ أصليٍّ لآدميٍّ حَيٍّ؛ قُبُلاً كان أو دُبُراً، وذلك بتغييب حَشَفَةٍ أصليَّةٍ -رأس الذَّكَر- أو قَدْرِها، فلو غَيَّب بعض الحَشَفَة فلا حَدَّ عليه؛ لأنَّه لا يُسمَّى حينئذٍ زِناً؛ إذ الوَطْء لا يتمُّ بدون تغييب

ص: 84

جميع الحَشَفَة، لأنَّه القَدْر الذي تثبتُ به أحكامُ الوَطْء.

- وكذا لو وَطِئَ دون الفَرْج؛ فلا حدَّ عليه؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَخَذْتُ امْرَأَةً فِي الْبُسْتَانِ فَأَصَبْتُ كُلَّ شَيْءٍ غَيْرَ أَنْ لَمْ أَنْكِحْهَا، فَافْعَلْ بِي مَا شِئْتَ. فَلَمْ يَقُلْ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، يُذْكَرُ، وَطَلَعَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114])[رواه أحمد، والنسائي في «الكبرى»].

- وكذا لو تساحقت امرأتان؛ بأنْ أتت المرأةُ المرأةَ؛ فلا حدَّ؛ لأنَّه لا يتضمَّن إيلاجاً.

وكذا لو وَطئ الخُنْثى بذَكَرِه فلا حَدَّ؛ لاحتمال أن يكون أُنْثى، فلا يكون ذَكَراً أصليًّا، أو جُومِع الخُنْثى فِي قُبُله؛ فلا حَدَّ؛ لاحتمال أن يكون ذَكَراً. ويُعزَّرون في ذلك كُلِّه؛ لأنَّه معصيةٌ.

الشَّرط الثَّاني: انتفاء الشُّبْهة؛ فلو وَطِئَ امرأةً وَجَدَها على فِراشِه أو في منزله ظَنَّها زوجته، أو وَطِئَ امرأةً بنكاحٍ باطلٍ اعتقد صِحَّته، أو وَطِئَ في نكاحٍ مُختَلَفٍ في صِحَّته وهو يعتقد تحريمه؛ كالنكاح بلا وَليٍّ ونحو ذلك، فلا حَدَّ عليه؛ لقول عبد الله مسعود رضي الله عنه:(ادْرَءُوا القَتْلَ وَالجَلْدَ عَنِ المُسْلِمِينَ، مَا اسْتَطَعْتُمْ)[رواه ابن أبي شيبة، والطبراني].

قال ابن المنذر: «أجْمَعَ كلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْه مِنْ أهلِ العلمِ، أنَّ الحُدُودَ تُدْرَأُ

ص: 85

بالشُّبُهاتِ».

ولأنَّ الحَدَّ عقوبةٌ على معصيةٍ، فلا بُدَّ من تحقُّق تلك المعصية، ومع الشُّبْهة

لا تَحَقُّق.

الشَّرط الثَّالث: ثبوت الزِّنا، وله صورتان:

الأُولَى: أن يُقِرَّ الزَّاني به أربعَ مرَّات؛ لحديث أبي هُريرة رضي الله عنه قال: (أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي المَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّاهِ؛ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى رَدَّدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ)[رواه البخاري، ومسلم].

وسواء كان ذلك الإقرار في مجلسٍ واحدٍ أو في مجالس؛ لأنَّ ماعزاً رضي الله عنه أَقَرَّ أربعَ مرَّاتٍ عنده صلى الله عليه وسلم فِي مجلسٍ واحدٍ، والغامديَّة أقرَّت عنده بذلك في مجالس. [رواه مسلم].

ويُشترط في الإقرار أمران:

أ - أن يُصرِّح المقِرُّ بذكر حقيقة الوطء؛ لما جاء في حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: (لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ؟ قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللّاهِ، قَالَ: أَنِكْتَهَا؟ -لَا يَكْنِي-، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ)[رواه البخاري].

ب- أن يستمرَّ على إقراره حتَّى يَتِمَّ الحَدُّ، فإن رَجَع أو هَرَب تُرِك؛ لحديث

ص: 86

ماعزٍ رضي الله عنه، وفيه: (

فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّ الحِجَارَةِ فَرَّ يَشْتَدُّ، حَتَّى مَرَّ بِرَجُلٍ مَعَهُ لَحْيُ جَمَلٍ فَضَرَبَهُ بِهِ، وَضَرَبَهُ النَّاسُ حَتَّى مَاتَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ فَرَّ حِينَ وَجَدَ مَسَّ الحِجَارَةِ وَمَسَّ المَوْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ) [رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه].

الثَّانية: أن يَشهَدَ عليه بالزِّنا أربعةُ رِجالٍ مُسلمين عُدول؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4]، وقوله تعالى:{فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15]. فإن كان أحدهم غير عَدْلٍ حُدُّوا جميعاً للقَذْف؛ لعدم كمال شهادتهم.

ويُشترَطُ أن يَصِفَ الشهودُ الزِّنا؛ بأن يقولوا: رأينا ذَكَرَه في فَرْجِها كالْمِرْوَدِ في المُكْحُلَة؛ لأنَّ الحدَّ يُدرأُ بالشُّبهة، فلا تكفي فيه الكناية.

ويُشترط أن يجيء الأربعةُ للشَّهادة في مجلسٍ واحدٍ؛ سواء جاءوا متفرِّقين أو مجتمعين؛ لأنَّ عمر رضي الله عنه حَدَّ الثَّلاثَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَا لَمَّا تَخَلَّفَ الرَّابِعُ عَنِ الشَّهَادَةِ. [رواه عبد الرزاق]. فلولا اشتراط اتِّحاد المجلس لم يَجُز أن يحدَّهم؛ لاحتمال أن يُكمِلوا برابعٍ في مجلسٍ آخر.

- إذا شَهِدَ عليه أربعةٌ أنَّه زَنَى بفلانةِ، فشَهِدَ أربعةٌ آخرون أنَّ الشُّهود الأربعة هم الزُّناة بها وليس المشهود عليه، صُدِّقوا، ولم يُحَدَّ المشهود عليه؛ للقَدْح في الشهادة عليه، ويُحَدُّ الأربعة الأوَّلون للقَذْف؛ لأنَّهم شَهِدوا بزِناً لم يثبت، وللزِّنا؛ لثبوته عليهم بشهادة الآخرين.

ص: 87

وتُحَدُّ المرأةُ أيضاً؛ لثبوت زِناها بشهادة الآخرين، لكن لا بُدَّ في ذلك من الشهادة على مُطاوَعَتِها من الأربعة.

‌سادساً: حُكمُ ثُبوتِ الزِّنا بالحَمْل:

- إذا حَمَلَت امرأةٌ لا زوج لها ولا سيِّد لم تُحَدَّ بمجرَّد ذلك الحَمْل؛ لاحتمال أن يكون من غير زِناً. وتُسأل استحباباً -ولا يجبُ سؤالها؛ لأنَّ في سؤالها عن ذلك إشاعة الفاحشة، وذلك منهيٌّ عنه- فإن ادَّعت أنَّها أُكرِهَت على الزِّنا، أو وُطِئَت بشُبْهةٍ، أو لم تعترف بالزِّنا أربع مرَّاتٍ، لم تُحَدَّ؛ لإمكان صِدْقها، والحَدُّ يُدْرأ بالشُّبْهة، وقد روي عن عمر رضي الله عنه:(أنَّه أُتِيَ بِامْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ قَالُوا: بَغَتْ. قَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ نَائِمَةً فَلَمْ أَسْتَيْقِظْ إِلَّا بِرَجُلٍ رَمَى فِيَّ مِثْلَ الشِّهَابِ. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَمَانِيَةٌ نَؤُومَةٌ شَابَّةٌ! فَخَلَّى عَنْهَا وَمَتَّعَهَا). [رواه البيهقي].

‌سابعاً: حَدُّ اللِّواط:

اللِّواطُ: هو عملُ قوم لوطٍ؛ وهو إيلاجُ ذكرٍ في دبر ذكرٍ.

وحَدُّ اللِّواط -الفاعل والمفعول به- كحدِّ الزنا؛ إن كان مُحصَناً رُجم، وإن كان غير مُحصَن وهو حرٌّ جُلد مائة، وغُرِّب عاماً، وإن كان رقيقاً جُلد خمسين؛ لأنَّه فَرْجٌ مقصودٌ بالاستمتاع أشبه فَرْج المرأة، ولأنَّه فاحشة، فكان زناً، كالفاحشة بين الرَّجل والمرأة.

ص: 88

‌بابُ حدِّ القَذْف

‌أوَّلًا: تعريفُ القَذْف:

القَذْفُ لُغةً: الرَّمي، يقال: قَذَفَ بالشيء؛ إذا رَمَاهُ. ثمَّ استعير للشتم والعيب.

واصطلاحاً: الرَّمْيُ بزِناً أو لِوَاطٍ، أو الشَّهادةُ بأحدهما ولم تَكْمُلِ البَيِّنةُ.

‌ثانياً: حُكْم القذف:

القَذْف مُحرَّمٌ بالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.

- فمن الكتاب: قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]. وقوله جلَّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23].

- ومن السُّنَّة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ باللّاهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلَاتِ)[رواه البخاري، ومسلم]. - وأمَّا الإجماع: فقد أجمع المسلمون على تحريمه، بل عَدُّوه من الكبائر.

- هذا هو الأصل في حكم القذف، لكن يستثنى من ذلك موضعان:

أ - الموضع الأوَّل: أن يرى الزَّوج زوجته تزني في طُهرٍ لم يطأها فيه، فيعتزلها،

ص: 89

ثمَّ تلد لستَّة أشهر فأكثر من حين الوطء، أو يراها تزني في طُهرٍ وطئها فيه، ثمَّ تَلِدُ ولداً يغلب على ظنِّه أنَّه من الزَّاني، لشَبَهِه به، أو لكون الزوج عقيماً؛ فيجب عليه حينئذٍ قَذْفها ونَفْي الولد؛ لجريان ذلك مجرى اليقين في أنَّ الولد من الزاني، فإذا لم يَنْفِه لَحِقه، ووَرِثَه، ووَرِثَ أقاربه، ووَرِثوا منه، ونظر إلى بناته وأخواته، وذلك كلُّه لا يجوز، فوجب نَفْي الولد إزالةً لذلك، ولا يُمكن نَفْيه إلَّا بالقَذْف وما لا يتمُّ الواجب إلَّا به فهو واجب.

ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول:(أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَلَيْسَتْ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ، وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللهُ جَنَّتَهُ)[رواه أبو داود، والنسائي]. فكما حُرِّم على المرأة أن تُدخل على قومٍ مَنْ ليس منهم فالرَّجل مثلها.

الموضع الثَّاني: أن يراها تزني لكنَّها لم تلد أو ولدتْ ما لا يغلِبُ على ظنِّه أنَّه من الزَّاني، أو أن يستفيض زناها بين النَّاس، أو يرى رجلًا معروفاً بالزِّنا عندها، ونحو ذلك، فيُباح له في هذه الحال قَذْفها؛ لأنَّ ذلك كلَّه ممَّا يَغلِب على الظنِّ زناها، ولا يجب القذف حينئذٍ؛ لأنَّه لا ضرر على غيرها؛ حيث لم تلد، وفراقها أَوْلَى من قَذْفها؛ لأنَّه أستر، ولأنَّ قَذْفها يلزم منه أن يحلف أحدُهما كاذباً إن تَلاعَنا، أو تُقِرَّ فتَفْتَضح.

‌ثالثاً: الحِكمَةُ من تَحريم القَذْف:

حرَّم الله عز وجل القَذْف؛ صيانةً للأعراض عن الانتهاك، وحمايةً لها عن

ص: 90

التدنيس، وهذا من محاسن الشَّريعة؛ فإنَّ الناس لو تسلَّط بعضُهم على أعراض بعض لأدَّى ذلك إلى وقوع البغضاء والعَدَوات، وربما نُشوب الحروب الضَّروس بينهم؛ لذا كان من حكمة الشَّريعة أنْ حرَّمت القَذْف، وأوجبت فيه العقوبة في الدنيا.

‌رابعاً: حَدُّ القَاذِف:

مَنْ قَذَفَ غيره بالزِّنا أو اللِّواط؛ فإنَّه يُجلَدُ ثمانين جَلْدةً إن كان حرًّا؛ لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]. وأربعين جَلْدةً إن كان رقيقاً، لقول عبد الله بن عامر بن ربيعة:(أَدْرَكْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، وعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَالخُلَفَاءَ هَلُمَّ جَرًّا. فَمَا رَأَيْتُ أَحَداً جَلَدَ عَبْداً فِي فِرْيَةٍ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ)[رواه مالك]، ولأنَّه حدٌّ يتبعَّض؛ فكان الرَّقيق فيه على النِّصف من الحرِّ، كما في حدِّ الزِّنا.

‌خامساً: شُروطُ وُجوبِ حَدِّ القَذْف:

يجب إقامة حدِّ القَذْف بشروطٍ؛ منها ما يتعلَّق بالقاذف، ومنها ما يتعلَّق بالمقذوف؛ فأمَّا ما يتعلَّق بالقاذف فأربعة شروط:

الشرط الأوَّل والثاني: أن يكون بالغاً عاقلاً؛ فلو كان صغيراً أو مجنوناً؛ فلا حدَّ عليه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ) [رواه أبو داود، والترمذي،

ص: 91

والنسائي، وابن ماجه].

الشرط الثالث: أن يكون مختاراً؛ فلو كان مُكرَهاً فلا حدَّ عليه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)[رواه ابن ماجه].

الشرط الرابع: ألَّا يكون والِداً للمَقْذوف؛ فلو كان القاذف أباً للمَقْذوف أو أُمَّا أو جدًّا أو جدَّةً - وإن علو- فلا حدَّ عليه؛ لأنَّ حدَّ القَذْف عقوبةٌ تجبُ لحقِّ آدميٍّ، فلا يثبتُ للابن على أبيه؛ لمعنى الأُبوَّة، كما في القصاص.

وأمَّا ما يتعلَّق بالمَقْذوف؛ فشرطان:

الشَّرط الأوَّل: أن يكون مُحْصَناً؛ لقوله الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ

}، والمُحْصَن هنا مَنْ اجتمعت فيه خمسة أمور:

أ - الإسلام؛ فلا يُحدُّ بقَذْف الكافر؛ لأنَّ حُرْمته ناقصة؛ فلا تنهض لإيجاب الحدِّ. والآية الكريمة: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إنَّما وردَتْ في الحرّة المسلمة، وغيرها ليس في معناها.

ب- الحرِّية؛ فلا يُحدُّ بقَذْف العبد؛ لأنَّ حُرْمته أيضاً ناقصة؛ فلا تنهض لإيجاب الحدِّ، ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَالَ، جُلِدَ يَوْمَ القِيَامَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ)[رواه البخاري، ومسلم]؛ فدلَّ على عدم إقامة الحدِّ عليه في الدنيا.

ج- العَقْل؛ فلا يُحدُّ بقَذْف المجنون؛ لأنَّ المجنون لا يُعيَّر بالزِّنا، ولا

ص: 92

يلحقه شَيْنٌ بإضافة الزِّنا إليه؛ لعدم تكليفه.

د - العِفَّة عن الزِّنا في الظَّاهر؛ فلا يُحدُّ بقَذْف غير العفيف؛ لأنَّ القذف لا يُشينه، والحدُّ إنَّما وَجَب لأجل ذلك، وقد أسقط الله تبارك وتعالى الحدَّ عن القاذف إذا كان له بيِّنة بما قال.

هـ- كونُه ممَّن يَطأُ أو يُوْطَأُ مثله - وهو ابن عشر سنين وبنتُ تسعٍ فأكثر-؛ فلا يُحدُّ بقَذْف مَنْ كان دون ذلك؛ لأنَّه لا يُعيَّر بالقَذْف؛ للعِلْم بكذب القاذف. ولأنَّه لو زنى لم يجب الحدُّ عليه؛ فكذا لو قُذِف به.

لكنَّه إن لم يكن بالغاً؛ فلا يُحدُّ قاذفه حتَّى يَبْلُغ ويُطالِب بالحدِّ بعد بلوغه؛ لأنَّ الحقَّ في حدِّ القَذْف للآدميِّ المَقْذوف؛ فلا يُقام بلا طلبه، ومطالبته قبل البلوغ لا توجب الحدَّ؛ لعدم اعتبار كلامه، وليس لوليِّه المطالبة عنه؛ لأنَّه حقٌّ شرعيٌّ ثبت للتَّشفِّي؛ فلا يقوم غيره مقامه في استيفائه؛ كالقصاص.

الشَّرط الثَّاني: مطالبتُه بحدِّ القَذْف، ذكره الشَّيخ تقيُّ الدِّين ابن تيمية إجماعاً؛ فلا يقام الحدُّ دون طَلَبِه؛ لأنَّه حقٌّ له، فلا يُستوفَى بدون طَلَبِه؛ كبقيَّة حقوقه.

- مَنْ قَذَفَ غير المحُصَن؛ وهو من تخلَّف فيه شَرْطٌ من الشروط السابقة فإنَّه يُعزَّر؛ رَدْعاً له عن أعراض المعصومين، وكفًّا له عن إيذائهم.

- يثبت حدُّ القَذْف بأحد أمرين؛ إقرارُ القاذف مرَّةً واحدةً، أو شهادة رَجُلَيْن عَدْلَيْن على القَذْف.

ص: 93

‌سادساً: ما يَسْقُطُ به حَدُّ القَذْف:

يسقطُ حدُّ القَذْف بأربعة أشياء:

الأوَّل: عَفْو المقذوف عن القاذف؛ لأنَّه حقٌّ للمقذوف، ولا يقام إلَّا بطلبه؛ فيسقط بعَفْوه؛ كالقصاص.

الثَّاني: إقامة البيِّنة؛ بأن يشهد أربعة رجال عدول على ما قَذَفَه به؛ لمفهوم قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً

}.

الثَّالث: تصديقُ المقذوف للقاذف فيما قَذَفَه به؛ إذ هو إقرارٌ به، وهو أبلغ من إقامة البيِّنة.

الرَّابع: اللِّعان؛ كما لو كان القاذف زَوْجاً ولاعَنَ زوجته فإنَّه يسقط الحدُّ؛ لأنَّ لِعانه أُقيم مقام بيِّنته؛ والبيِّنة تُسقط الحدَّ؛ فكذا اللِّعان، وقد تقدَّم ذلك في باب اللِّعان.

‌سابعاً: أَلْفاظُ القَذْف:

تنقسم ألفاظ القَذْف إلى صريحٍ وكنايةٍ:

فأمَّا الصرَّيح؛ فهو ما لا يحتمل غير القَذْف؛ نحو: «يا زاني» ، «يا زانية» ، «يا عاهر» ، وأصل العُهْر: إتيان الرَّجُل المرأةَ ليلًا للفُجور بها، ثمَّ غَلَب على الزاني، سواء جاءها أم جاءته، ليلًا أو نهاراً.

أَوْ يقول: «قد زَنَيْتَ، أو زَنَيْتِ» ، أو «زَنا فَرْجُك» ، أو «رأيتكُ تزني» ، أو

ص: 94

«يا ابن الزَّانية» ؛ إذ هو قَذْفٌ لأُمِّه، أو «يا لوطِيُّ»؛ لأَنَّه في العُرف مَنْ يأتي الذُّكور؛ لأنَّه عمل قوم لوط. أو يقول له:«لستَ لأبيك» ، أو «لستَ بولد فلانٍ» ، أو «لستَ من قبيلة كذا» ؛ إذ هو قذف لأُمِّه؛ لأنَّ ذلك يقتضي أنَّ أُمَّه أتت به من غير أبيه، وذلك قَذْف لها. ولقول الأشعث بن قيس رضي الله عنه:(لَا أُوتَى بِرَجُلٍ نَفَى رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، إِلَّا جَلَدْتُهُ الحَدَّ)[رواه أحمد، وابن ماجه].

إلَّا أن يكون المقول له ذلك منفيًّا بِلِعانٍ، ولم يستلحقه المُلاعِنُ بعد نَفْيه ولم يُفسِّره قائل ذلك بزنا أُمِّه، فلا يكون قَذْفاً لها حينئذ؛ لصِدْقه في أنَّه ليس بولده.

وأمَّا الكناية؛ فهو ما يحتمل القَذْف وغيره؛ نحو: «زَنَتْ يداك، أو رِجْلاك» ، أو «يدُك، أو بدُنك» ونحو ذلك؛ فهذا ليس صريحاً؛ لأنَّ زنا هذه الأعضاء

لا يوجب الحدَّ؛ ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ)[رواه البخاري، ومسلم].

- ونحو: «يا مُخَنَّث» ؛ لأنَّه يحتمل أنَّ فيه طباع التَّأنيث؛ أي التَّشبُّه بالنِّساء. ونحو: «يا فاجرة» ؛ لأنَّه يحتمل الكاذبة، أو المخالفة لزوجها فيما يجب طاعته فيه. ونحو:«يا خبيثة» ؛ لأنَّه يحتمل خُبث الشَّرِّ.

ص: 95

- أو يقول لزوجة شخص: «قد فَضَحْتِ زَوْجَكِ» ؛ لأنَّه يحتمل أن يكون فَضحْتيه بشكواكِ، أو:«نَكَّستِ رأسَه» ؛ لأنَّه يحتمل أن يكون حياءً من النَّاس، أو:«علَّقتِ عليه أولاداً من غيره» ؛ لأنَّه يحتمل أنَّها التقطتْ أولاداً ونَسبَتهم إليه. أو: «أَفْسَدْتِ فِراشَه» ؛ لأنَّه يحتمل أن يكون بالنُّشوز والشِّقاق، أو مَنْع الوطء.

فهذه الألفاظ كنايةٌ؛ لأنَّها تحتمل غير الزِّنا؛ فإن أراد بها حقيقة الزِّنا حُدَّ؛ للقَذْف، لأنَّ الكناية مع نيَّة أو قرينة كالصرِّيح في إفادة الحكم. وإن فسَّرها بأمرٍ محتمَل غير القَذْف -كما سبق- عُزِّر؛ لارتكابه معصيةً لا حدَّ فيها، ولا كفَّارة.

‌ثامناً: حُكْمُ قَذْفِ جَماعَةٍ:

- من قَذَفَ جماعةً أو أهل بَلْدةٍ لا يُتصوَّر الزِّنا منهم عادةً، فإنَّه لا يُحدُّ بذلك؛ لأنَّه لا عار عليهم بذلك، للقَطْع بكَذِب القاذف. وإنَّما يُعزَّر على ما أتى به من المعصية والزُّور؛ كما لو سبَّهم بغير القَذْف.

أمَّا إن كان يُتصوَّر الزِّنا منهم عادةً، وقَذَفَ كلَّ واحدٍ منهم بكلمةٍ؛ كأن يقول:«فلانٌ زانٍ، وفلانٌ، وفلانٌ» ، فلكلِّ واحدٍ حدٌّ؛ لتعدُّد القَذْف، وتعدُّد مَحَلِّه، كما لو قَذَفَ كلَّ واحدٍ منهم وحده من غير أن يقذف الآخر.

وإن قَذَفهم إجمالًا بكلمةٍ واحدةٍ؛ كما لو قال: «هم زُناةٌ» ، أو «كلُّ هؤلاء زناةٌ» ، فإنَّه يُحدُّ حدًّا واحداً؛ لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ

ص: 96

يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، ولم يفرِّق بين قَذْفِ واحدٍ وقَذْفِ جماعةٍ، ولأنَّه قَذْفٌ واحدٌ؛ فلا يجب به أكثر من حدٍّ.

ص: 97

‌باب حدِّ المُسْكِر

‌أوَّلًا: تعريفُ المُسْكِر:

المُسْكِر لُغةً: اسمُ فاعلٍ من أَسْكَرَ الشَّرَابُ فهو مُسْكِرٌ، إذا جعل صاحبه سَكْرانَ، أو كان فيه قوَّة تفعل ذلك.

واصطلاحاً: المُسْكِر هو ما ينشأ عنه السُّكْرُ، والسُّكْرُ: هو اختلاط العَقْل. وكلُّ شرابٍ أَسْكَر يُسمَّى خَمْراً.

‌ثانياً: حُكمُ شُرْبِ المُسْكِر:

شُرْب المُسكِر حرامٌ، وهو من كبائر الذنوب؛ لأنَّه خَمْرٌ، والخَمْر محرَّم بالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.

- أمَّا الكتاب: فقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].

- وأمَّا السُّنَّة: فما روى ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ)[رواه مسلم].

وعنه -أيضاً- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَعَنَ اللهُ الخَمْر، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ)[رواه أبو داود].

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن المنذر: «وأجمعوا على تحريم الخَمْر» .

ص: 99

‌ثالثاً: الحِكمَةُ من تَحريمِ المُسكِر:

حرَّمَ الله تعالى المُسكِرات؛ لما تشتمل عليه من الأضرار والمفاسد العظيمة التي لا تخفى؛ فهي تغتال العَقْل، والشَّرف، والمُروءة، وتُخرِج من الإنسان تعظيم محارم الله عز وجل، وتُذهب منه الغَيْرَة، وتدعوه إلى الزِّنا ولو من مَحارِمِه، وتهوِّن له ارتكاب القبائح والآثام، وتلحقه بالمجانين.

وما وُجِدَت في مجتمعٍ وانتشرت بين أفراده إلَّا رَمَتْهُم في جحيم الشَّهَوات العارمة واللذَّات الهَمَجيَّة التي سرعان ما تضمِحِلُّ لتَعْقُبها الأوبئة السَّارية، والأمراض المُعْدِيَة، ناهيك عن فساد الأخلاق، وانتشار الفوضى، وكثرة الجرائم المتعدِّدة.

وهي رِجْسٌ من عمل الشيطان، وسلاحه الفتَّاك الذي يَصُدُّ به عن ذِكْر الله، وإقام الصَّلاة، ويوقع به العَداوة والبغضاء بين الناس.

فهي أمُّ الخبائث، وجِماع الإثم، ومَجْمَع الأمراض، ولذا حرَّمها الإسلام، وشَرَع فيها العقوبة؛ رَدْعاً لمتعاطيها، وحماية للمجتمع.

‌رابعاً: حدُّ شَارِب المُسكِر:

أ - إذا شَرِبَ حُرٌّ مُسْكِراً مائعاً، أو شَرِبَ ما خُلِطَ به ولم يُسْتَهلكْ فيه، فإنَّه يُجلَدُ ثمانين جَلْدةً، وإن لم يَسْكَر؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه]، ولحديث أنسٍ رضي الله عنه: (أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَلَدَ فِي الخَمْر بِالجَرِيدِ، وَالنِّعَالِ، ثُمَّ جَلَدَ

ص: 100

أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ، وَدَنَا النَّاسُ مِنَ الرِّيفِ وَالْقُرَى، قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ الخَمْر؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا كَأَخَفِّ الحُدُودِ، قَالَ: فَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ) [رواه مسلم]. ولقول عليٍّ رضي الله عنه: (إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى المُفْتَرِي ثَمَانُونَ جَلْدَةً)[رواه النسائي في «الكبرى»].

ب- وإن كان رقيقاً جُلِدَ أربعين جَلْدة، ذكراً كان أو أنثى؛ لأنَّه حَدٌّ يتبعَّض؛ فأشبه الحدَّ في الزِّنا والقَذْف.

ج- وكذا من احتقن بالمُسْكِر، أو استَعَطَ به -بأن أَدْخَلَه إلى جوفه عن طريق الأَنْف-، أو أَكَل عَجيناً لُتَّ به؛ فإنَّه يُحَدُّ؛ لأنَّ ذلك في معنى الشُّرْب.

‌خامساً: شُروطُ إِقامَةِ حَدِّ شُرْبِ المُسْكِر:

يجب إقامة الحَدِّ على شارب الخَمْر بشروطٍ، وهي:

أ - أن يكون مُسلماً؛ فلا يُحَدُّ الكافر -ولو كان ذِميًّا- على شُرْب الخَمْر؛ لأنَّه يعتقد حِلَّه، وتلك شُبهةٌ يُدْرأُ بها الحَدُّ.

ب- أن يكون مُكَلَّفاً -عاقلاً بالغاً-؛ فلا يُحَدُّ الصَّبيُّ ولا المجنون؛ لما روى عليٌّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ)[رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه].

ج- أن يكون مختاراً لشُرْبِه؛ فلو كان مُكرَهاً فلا حَدَّ عليه؛ لحديث ابن

ص: 101

عبَّاس رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)[رواه ابن ماجه].

د - أن يكون عالماً أنَّ كثيره يُسْكِر؛ فإنْ كان جاهلاً بذلك فلا حَدَّ عليه؛ لأنَّ الحدود تُدْرأُ بالشُّبُهات. ولما رُوِيَ عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنَّهما قالا: (مَا الحَدُّ إِلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَهُ)[رواه عبد الرزاق].

هـ- أن يكون عالماً بتحريم الخَمْر؛ وهذا خاصٌّ بمن لم ينشأ بين المسلمين؛ كمن نشأ بباديةٍ بعيدةٍ عن المسلمين، أو كان حديث عهدٍ بالإسلام؛ فلا حَدَّ عليه بشُرْبها جاهلاً تحريمها؛ لأنَّ الحدود تُدْرأُ بالشُّبهات، ولأثر عمر وعثمان رضي الله عنهما السَّابق. بخلاف مَنْ نشأ بين المسلمين وادَّعى جهله بتحريم الخَمْر؛ فإنَّه لا يُقبَلُ منه؛ لأنَّ تحريمها لا يكاد يخفى بين المسلمين.

‌سادساً: كيفيَّة ثبُوت حَدِّ شُرْبِ المُسْكِر:

يثبت حَدُّ شُرْب المُسْكِر بأحد أمرين:

أ - إقرارُ الشَّارب به؛ إذ الإقرار أبلغ من البيِّنة. ويُقْبَل فيه إقرارُه مرَّةً واحدةً؛ لأنَّه حدٌّ ليس فيه إتلافٌ بحالٍ، فأشبه حدَّ القَذْف.

ب- البيِّنة؛ وهي شهادة رَجُلَين عَدْلَين يشهدان أنَّه شَرِب مُسْكِراً.

‌سابعاً: مِنْ أَحْكامِ شُرْبِ المُسْكِر:

أ - لا يجوزُ شُرْب المُسْكِر للتداوي؛ لحديث وائل بن حُجْر رضي الله عنه:

ص: 102

(أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الجُعْفِيَّ، سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الخَمْر، فَنَهَاهُ -أَوْ كَرِهَ- أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ)[رواه مسلم].

وكذا لا يجوز شُرْبُه للعَطَش؛ لأنَّهُ لا يَحصُل به رِيٌّ، لأنَّ فيه من الحرارة ما يزيد العَطَش.

ب- يَحرُمُ التَّشبُّه بشُرَّاب الخَمْر في مجلسهم وآنيتهم، ولو كان المشروب مباحاً؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)[رواه أحمد، وأبو داود]. ويعزَّر فاعله.

ج- يَحرُمُ العصير من العِنَب، أو القَصَب، أو الرُّمَّان، أو غير ذلك إذا أتى عليه ثلاثة أيَّامٍ بليالهنَّ وإن لم يتخمَّر؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما:(كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنْبَذُ لَهُ الزَّبِيبُ فِي السِّقَاءِ، فَيَشْرَبُهُ يَوْمَهُ، وَالْغَدَ، وَبَعْدَ الْغَدِ، فَإِذَا كَانَ مَسَاءُ الثَّالِثَةِ شَرِبَهُ وَسَقَاهُ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَهَرَاقَهُ)[رواه مسلم]. ولأنَّ الشِّدَّة تحصل في ثلاث ليالٍ غالباً، وهي خفيَّةٌ تحتاج لضابطٍ، والثَّلاث تَصلُح لذلك، فوجب اعتبارها بها.

د - إذا طُبِخَ العصير -على النَّار- قَبْل تَخمُّره، وقبل إتيان الثلاث ليالٍ عليه، فإنَّه يَحِلُّ إن ذهب ثُلُثاه فأكثر؛ لما جاء عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه:(أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ الطِّلَاءِ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ)[رواه النسائي]. ولأنَّ العصير إنَّما يتخمَّر لما فيه من الرُّطوبة، فإذا غَلَى على النَّار حتَّى ذهب

ص: 103

ثُلُثاه فقد ذهب أكثر رطوبته، فلا يكاد يتخمَّر، وإذا لم يتخمَّر لم تَحصُل فيه الشِّدَّة.

ص: 104

‌باب التَّعْزير

‌أوَّلًا: تعريفُ التَّعْزير:

التَّعْزيرُ لُغةً: المَنْعُ. يقال: عَزَّرتُه؛ أي: مَنَعْتُه.

واصطلاحاً: هو التَّأْديبُ؛ أو هو عُقوبَةٌ على فِعْلِ مَعْصِيةٍ لم يُقدَّرْ لها عُقوبةٌ شَرْعاً. وسُمِّي تعزيراً؛ لأنَّه يمنعُ ممَّا لا يجوز فِعْلُه.

‌ثانياً: حُكمُ التَّعْزير:

التعزيرُ واجبٌ على الحاكم أو من ينوبه في حَقِّ كُلِّ مُكلَّف أتى مَعْصيةً لا حَدَّ فيها ولا كَفَّارة؛ كالاستمتاع بالمرأة الأجنبيَّة فيما دون الفَرْج، وإتيان المرأةِ المرأةَ، وسَرِقَة ما لا قَطْع فيه؛ كسَرِقَة أقلَّ من رُبْع دينارٍ، والصَّفْع، والقَذْف بغير الزِّنا واللِّواطِ؛ كقول:«يا فاسق» ، أو «يا شاهِدَ زُورٍ» ، واللَّعْن، وسَبِّ الصحابة، وتَرْك الواجبات، ونحو ذلك من المحرَّمات التي لا حَدَّ فيها ولا كَفَّارة؛ لما روي عن عليٍّ رضي الله عنه في الرَّجُل يقول للرَّجُل: يا خَبيثُ، يا فاسِقُ، قال:(لَيْسَ عَلَيْهِ حَدٌّ مَعْلُومٌ، يُعَزِّرُ الْوَالِي بِمَا رَأَى)[رواه البيهقي].

ولأنَّ المعصية تفتقر إلى ما يمنع من فِعْلِها، فإذا لم يجب فيها حَدٌّ ولا كَفَّارةٌ وجب أن يُشرَّع فيها التَّعزير؛ لتحقيق المانع من فِعْلِها.

‌ثالثاً: الحِكْمَة من مَشْروعِيَّة التَّعْزير:

الحكمة من مشروعية التَّعزير؛ هي حماية النَّاس عن الوقوع في المعصية؛

ص: 105

لأنَّ الخلق لا بُدَّ لهم من وازعٍ دِينِيٍّ، أو رادِعٍ سلطانيٍّ يمنعهم من التَّفريط في الواجبات والوقوع في المحرَّمات، فإذا وُجِدَ الوازِعُ الدِّينِيُّ فقد يُكتفَى به؛ لأنَّ النَّاس تصلح أحوالهم به، وإذا ضَعُف الوازِعُ الدِّينِيُّ بقي الرَّادِع السُّلْطانيُّ؛ فلذا اقتضت الحِكمَةُ مشروعيَّة التَّعزير؛ لما فيه من سياسة الخَلْق، وإلزامهم بطاعة الله سبحانه وتعالى، وتَرْك معصيته؛ لأنَّه إذا ضَعُف الرَّادِع السُّلطانيُّ مع ضَعْف الوازِعِ الدِّينِيِّ فَسَدَت الأمور.

‌رابعاً: مِنْ أَحْكامِ التَّعْزير:

أ - التَّعزير من حقوق الله تعالى؛ فلا يحتاج في إقامته إلى مطالبةٍ؛ لأنَّه شُرِع للتأديب، فيُقِيمُه الحاكمُ أو من ينوبه دون مطالبةٍ؛ إلَّا إذا شَتَمَ الوَلَدُ وَالِدَه فإنَّه لا يجوز تعزيرُه إلَّا بطَلَبِ والِدِه؛ لأنَّ للوالِدِ تعزيره بنفسه للتَّأديب.

ب- لا يُعزَّرُ الوالد بشَتْمِ وَلَدِه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ)[رواه أحمد، وابن ماجه]، وقياساً على عدم حَدِّه إذا قَذَفَه.

ج- يكون التَّعزير بالضَّرب، والحَبْس، والصَّفْع، والتَّوبيخ، والعَزْل من المَنْصِب، ونحو ذلك؛ بحسب ما يراه الحاكم أو من ينوبه؛ وذلك لتفاوت الجرائم شِدَّةً وضَعْفاً، واختلاف الأحوال والأزمان؛ فكان تقدير العقوبة راجعاً إلى اجتهاد ولاة الأمور بحسب الحاجة والمصلحة. وعن بَهْز بن حكيمٍ عن أبيه عن جدِّه:(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ)[رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي].

ص: 106

د - لا يُزاد في جَلْد التَّعزير على عَشْرة أسواطٍ؛ لحديث أبي بُرْدَة الأنصاريِّ رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللّاهِ)[رواه البخاري، ومسلم].

وللحاكم أن يُنْقصه عن العَشَرة؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَدَّر أكثره ولم يُقدِّر أقلَّه؛ فيُرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم بحسب حال الشَّخص.

إلَّا في شُرْبِ المُسْكر في نهار رمضان؛ فإنَّه يُعزَّر فاعله بعشرين سَوْطاً مع حَدِّ الشُرْب؛ لما رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه (أنَّه أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ الشَّاعِرِ-قَيْسِ ابنِ عَمْرو بنِ مَالك الحَارِثِيِّ- قَدْ شَرِبَ خَمْرًا فِي رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ، فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنَ الْغَدِ فَضَرَبَهُ عِشْرِينَ، وَقَالَ: إِنَّمَا ضَرَبْتُكَ هَذِهِ الْعِشْرِينَ لِجُرْأَتِكَ عَلَى اللّاهِ، وَإِفْطَارِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ)[رواه البيهقي].

هـ - يَحْرُم في التَّعزير حَلْقُ لِحْيَتِه، وقَطْع طَرَفِه، وجَرْحه؛ لما في ذلك من المُثْلَة. وكذا يَحرُمُ أخذ مالِهِ أو إتلافه؛ لأنَّ الشرَّع لم يَرِدْ بشيءٍ من ذلك.

و - يُعزَّر من قال لذمِّيٍّ: «يا حاجُّ» ؛ لما في ذلك من تشبيههم في قصد كنائسهم بقُصَّاد بيت الله الحرام، أشبه بمن شبَّه أعياد الكفار بأعياد المسلمين، وفي هذا تعظيمٌ لفِعْلِهم.

ز - وكذا يعزَّر مَنْ لعنَ ذِمِّيًّا معيَّناً؛ لأنَّه معصومٌ، وعِرْضُه مُحرَّمٌ، فيؤدَّبُ لَاعِنُه أَدَباً خفيفاً؛ لأنَّ حُرْمة الذِّمِّي دون حُرمَة المُسلِم. إلَّا إذا صَدَر من

ص: 107

الذِّمِّي ما يقتضي لَعْنَه، فلا شيء على المُسلِم حينئذٍ

(1)

.

- من الألفاظ الموجبة للتَّعزير أيضاً؛ قوله لغيره: «يا كافر» ، «يا فاسق» ، «يا فاجِرُ» ، «يا كَلْبُ» ، «يا حِمارُ» ، «يا تَيْسُ» ، «يا رافضِيُّ» ، «يا خَبيثُ» ، «يا عَدوَّ الله» ، «يا ظالِمُ» ، «يا كذَّابُ» ، «يا خائنُ» ، «يا شاربَ الخَمْر» ، «يا مُخنَّثُ» ، «يا دَيُّوثُ» -وهو الذي يرى زوجته تزني، ويُقِرُّها عليه، ولا يفارقها-، «يا قَوَّادُ» ، ونحو ذلك من كُلِّ لفظٍ أَشْعَر بالسَّبِّ؛ فيعزَّرُ قائلُه؛ لارتكابه معصيةً، ولكفِّه عن أذى المعصومين.

ص: 108

‌باب القطع في السَّرقة

‌أوَّلًا: تعريفُ القَطْع في السَّرِقَة:

القَطْع لُغةً: هو الفَصْلُ بين الشَّيئين، وفَصْلُ الشيءِ عن الشيءِ، والمرادُ به هنا: قَطْعُ اليَدِ مِنَ السَّارِقِ.

والسَّرِقَةُ لُغةً: مأخوذةٌ مِنْ: سَرَقَ الشَّيءَ، إذا أَخَذَهُ على وَجْه الخُفْية.

وأمَّا اصطلاحاً: فهي أَخْذُ مالٍ مُحترمٍ للغَيْر على وَجْهِ الاخْتِفاءِ، من مَالِكِه، أو نائِبِه.

‌ثانياً: حُكْمُ القَطْعِ في السَّرِقَةِ:

السَّرقة محرَّمةٌ، وهي كبيرةٌ من كبائر الذُّنوب، دلَّ على ذلك الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.

- فمن الكتاب: قول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، والذي يسرق آكلٌ للمال بالباطل.

- ومن السُّنَّة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ)[رواه البخاري، ومسلم].

وقد أوجب الشَّرع فيها قَطْعَ اليد؛ قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(تُقْطَعُ اليَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ)[رواه البخاري، ومسلم].

ص: 109

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن قُدامة: «أجمع المسلمون على وجوب قطع السَّارق في الجملة» .

‌ثالثاً: الحِكْمَةُ في مَشْروعِيَّة القَطْع في السَّرِقَة:

شَرَعَ الله عز وجل القَطْع في السَّرقة؛ صيانةً لأموال النَّاس، وحِفْظاً لها من اعتداء المعتدين؛ فكما أمر سبحانه بحفظ الدِّين، والنَّفس، والعِرْض، أَمَرَ كذلك بالقَطْع في السَّرقة؛ حمايةً لأموال النَّاس، وكَبْحاً لجِماح الأنفس الدَّنيئة التي تعتدي على أموال الغير، وفي ذلك ما فيه من تحقيق الأمن والسَّلامة في المجتمع.

‌رابعاً: شُروطُ وُجُوب القَطْع في السَّرِقَة:

يجبُ إقامةُ حَدِّ القَطْع في السَّرقة بثمانية شروط:

الشَّرط الأوَّل: أن يأخذَ المالَ سَرِقَةً؛ أي: يأخذه من مالِكِه أو نائبِه على وجه الاختفاء؛ فلو أخذه نُهْبةً؛ بأن أخذ المال على وجه الغنيمة؛ كما كان يقع في الغارات التي بين البوادي مثلًا، أو أخذه اختلاساً؛ بأن خَطَفَه بحضرة صاحبه في غفلةٍ منه وهرب به، أو أخذه غَصْباً، أو خيانةً؛ بأنِ اؤتُمِن على شيءٍ كوديعة فأخفاه أو جحده؛ فلا قَطْع عليه؛ لما روى جابر رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ، وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ)[رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه]، ولأنَّ ذلك لا يدخل في مُسمَّى السَّرقة.

ص: 110

بخلاف جاحد العارِيَّة؛ فإنَّه يقطع؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ المَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُقْطَعَ يَدُهَا)[رواه مسلم].

الشَّرط الثَّاني: أن يكون السَّارق مُكلَّفا - عاقلًا بالغاً-؛ لأنَّ غير المكلَّف مرفوعٌ عنه القَلَم؛ كما في الحديث: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ)[رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه].

- وأن يكون مختاراً؛ فلا قطع على السَّارق المُكْره؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)[رواه ابن ماجه].

- عالماً بأنَّ السَّرقة محرَّمةٌ، وأنَّ ما سَرَقَه يساوي نصاباً -وسيأتي النِّصاب-؛ فلو سَرَق شيئاً ظنَّ أنَّ قيمته دون النِّصاب فلا قَطْع عليه؛ لما رُوِيَ عن عمر وعثمان رضي الله عنهما:(مَا الحَدُّ إِلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَ)[رواه عبد الرزاق].

الشَّرط الثَّالث: أن يكون المسروق مالًا مُحترماً؛ لأنَّ ما ليس بمالٍ ليس له حُرْمَةُ المال ولا يساويه؛ فلم يجب به قَطْعٌ. وعلى ذلك:

- فلا قَطْعَ بسَرِقَة الماء؛ لأنَّ الماء في الأصل مباح؛ ولا يتموَّل عادةً.

- ولا قَطْعَ بسَرِقَة ما حرَّمته الشريعة؛ كالخمر، والخنزير، والميتة، ونحو ذلك؛ لأنَّها أعيانٌ محرَّمةٌ؛ فلم تكن محترمةً شرعاً.

- ولا قَطْعَ بسَرِقَة إناءٍ فيه خَمْرٌ أو ماء؛ لأنَّه متَّصلٌ بما لا قَطْع بسرقته،

ص: 111

وهو الخمر والماء.

- ولا قَطْعَ بسَرِقَة المصحف؛ لأنَّ المقصود منه ما فيه من كلام الله تعالى، وهو ممَّا لا يجوز أَخْذُ العِوَض عنه.

- ولا قَطْعَ بسَرِقَة ما على المصحف من حُليٍّ، ككيسه مثلًا؛ لأنَّ ذلك تابع للمصحف، ولا قَطْعَ بسرقته.

- ولا قَطْعَ بسَرِقَة كتب البِدَع ونحوها من الكتب المشتملة على المحرَّمات؛ كالمجلَّات الخليعة ونحو ذلك؛ لوجوب إتلافها، لأنَّها مُحرَّمةٌ.

- ولا قَطْعَ بسَرِقَة آلة اللَّهْو؛ كالمِزْمار ونحوه؛ لأنَّها تُستعمَل في المعصية؛ فأشبهتِ الخمر.

- ولا قَطْعَ بسَرِقَة صَليبٍ أو صَنَمٍ من ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ؛ لأنَّه مُجمَعٌ على تحريمه، ولأنَّ في سرقته شُبْهةً؛ إذ قد يَقْصِدُ السَّارقُ كَسْرَه؛ ولا حدَّ مع الشُّبْهة.

الشَّرط الرَّابع: أن يكون المسروق نِصاباً؛ وهو رُبْع دينارٍ من الذَّهب

-ويُعادل في زماننا (1. 06) غراماً من الذَّهب-، أو ثلاثة دراهمَ من الفِضَّة - ويعادل في زماننا (8. 91) غراماً من الفِضَّة-، أو ما يساوي أحدهما وقت إخراج المسروق من الحِرْز؛ فلا قَطْع بسَرِقَة ما كان دون ذلك؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، أنَّها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَمَا فَوْقَهُ)[رواه مسلم]. ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما: (قَطَعَ النَّبِيُّ

ص: 112

صلى الله عليه وسلم يَدَ سَارِقٍ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ) [رواه البخاري، ومسلم]. والمِجَنُّ: هو التُّرْس الذي يواري حامله أثناء القتال.

واعتُبرت القيمة بوقت إخراج المسروق من الحِرْز؛ لأنَّه وقت السَّرِقَة التي وَجَبَ بها القَطْع.

الشَّرط الخامس: إخراج المسروق من حِرْزه - وحِرْز كلِّ مالٍ: ما حُفظ فيه ذلك المال عادةً-؛ لحديث عَمْرو بن شُعَيبٍ عن أبيه عن جدِّه: (أَنَّ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الثِّمَارِ، فَقَالَ: مَا أُخِذَ فِي أَكْمَامِهِ فَاحْتُمِلَ، فَثَمَنُهُ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، وَمَا كَانَ مِنْ الْجِرَانِ، فَفِيهِ الْقَطْعُ إِذَا بَلَغَ ذلك ثَمَنَ الْمِجَنِّ)[رواه أبو داود، وابن ماجه]، والجِرَانُ: جمع جَرينٍ، وهو الموضع الذي يُجمَعُ فيه التَّمْر ويُجَفَّف.

- فلو سَرَقَ إنسانٌ من غير حِرْزٍ؛ بأن وجد باباً مفتوحاً، أو حِرْزاً مَهْتوكاً، فأخذ منه ما يبلغ نصاب السَّرقة؛ فلا قَطْع عليه؛ لفوات شَرْطِه.

- وإذا اشترك جماعةٌ في السَّرقة؛ بأن هتكوا الحِرْز، وأخرجوا المسروق منه؛ قُطعوا جميعاً؛ لوجود سبب القَطْع منهم. بخلاف ما لو هَتَكَ الحِرْز أحدهم، ودخل الآخرون، فأخرجوا المال، فلا قَطْع عليهم؛ لأنَّ الأوَّل لم يسرق، والآخرون لم يهتكوا الحِرْز.

- يختلف الحِرْزُ باختلاف جنس المال؛ فحِرْز الذَّهب والفضَّة والنقود ليس كحِرْز الماشية، ويختلف باختلاف البلدان كِبَراً وصِغَراً؛ كما يختلف باختلاف عَدْل السُّلطان وجَوْرِه، وقوَّته وضَعْفه.

ص: 113

الشَّرط السَّادس: أن يكون المسروق ممَّا لا شبهة للسَّارق فيه؛ لأنَّ الحدود تُدرأ بالشُّبهات إجماعاً؛ كما حكاه ابن المنذر، وعليه؛ فلا قطع في السَّرقة من:

- مال الوَلَد وإن سَفَل؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ)[رواه أحمد، وابن ماجه].

- مال الوالد -ذكراً أو أُنثى- وإن عَلَا؛ لأنَّ النفقة تجب للولد في مال أبيه حفظاً له، ولأنَّ بينهما قرابةً تمنع قبول شهادة أحدهما لصاحبه، فلم يُقطَع بسَرِقَة ماله.

- مال الزَّوج أو الزَّوجة؛ لأنَّ كلًّا منهما يَرِثُ صاحبَه بغير حَجْبٍ، ويتبسَّط في ماله، أشبه الوَلَد مع الوالد. ولأنَّ نفقة الزوجة واجبةٌ على زوجها، ولها الأخذ من ماله بغير إذنه في بعض الأحوال بقدر نفقتها ونفقة أولادها.

- المال الذي له فيه شِرْكٌ، أو المال الذي لأحدٍ ممن سبق ذكرهم فيه شِرك؛ كالأب، أو الابن، أو الزَّوج، أو الزَّوجة؛ لأنَّ له فيه شُبْهة.

الشَّرط السَّابع: ثبوت السَّرقة؛ لأنَّ الله تعالى أوجب القَطْع على السَّارق، ولا يتحقَّق ذلك إلَّا بثبوت السَّرقة، وثبوتها بأحد أمرين:

أ - شهادة رَجُلَيْن عَدْلين؛ لقول الله عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، ولا بدَّ أن يَصِفا السَّرقة في شهادتهما، ويَصِفا الحِرْز، وجِنْس المسروق وقَدْره؛ وذلك لاختلاف العلماء في هذه الأمور؛ فربَّما ظنَّ الشَّاهد القَطْع بما لا يراه القاضي موجباً للقَطْع.

ص: 114

ولا تُسمَع شهادة العَدْلَيْن قبل الدَّعوى من مالك المسروق، أو ممَّن يقوم مقامه.

ب- إقرار السَّارق مرَّتين؛ لما رُوي أنَّ رجلًا أتى إلى عليٍّ رضي الله عنه؛ فقال: (إِنِّي سَرَقْتُ، فَانْتَهَرَهُ وَسَبَّهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَرَقْتُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: اقْطَعُوهُ، قَدْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ مَرَّتَيْنِ)[رواه عبد الرزاق]. ولأنَّه إقرارٌ يتضمَّن إتلافاً؛ فكان من شَرْطِه التَّكرار، كما في حدِّ الزِّنا.

ويُشترَطُ أن يستمرَّ في إقراره ولا يرجع عنه حتَّى يُقْطَع. فإن رَجَع تُرِك.

الشَّرط الثَّامن: مطالبة المسروق منه بماله، أو مطالبة وكيله، أو وَلِيِّه؛ لأنَّ المال يُباح بالبَذْل والإباحة، فيحتمل أن يكون مالكه قد أباحه إيَّاه، أو أَذِنَ له في دخول حِرْزِه، ونحو ذلك ممَّا يُسقط القَطْع، فإذا طالب ربُّ المال به زال هذا الاحتمال، وانتفت الشُّبْهة.

‌خامساً: إِقامَةُ حَدِّ القَطْع وَقْتَ المَجَاعَة:

-لا يُقامُ حَدُّ القَطْع بالسَّرقة حال وقوع مجاعةٍ سَبَّبَها غلاءٌ، بشرط ألَّا يجد السَّارق ما يشتريه أو ما يشتري به؛ لوجود شُبْهةٍ يُدْرأ بها الحدُّ؛ وهي أنَّ السَّارق سَرَقَ طعامه مضطرًّا؛ لإحياء نفسه.

‌سادساً: كَيْفِيَّةُ القَطْعِ في السَّرِقَة:

متى توفَّرت الشُّروط السَّابقة وَجَبَ قَطْع يد السَّارق اليُمْنى بالإجماع؛

ص: 115

لقراءة ابن مسعود رضي الله عنه؛ فعن إبراهيم النَّخعي قال: «فِي قِرَاءَتِنَا: (وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتِ تُقْطَعُ أَيْمَانُهُمْ)» [رواه سعيد بن منصور]. وهذا إمَّا أن يكون قراءةً، أو تفسيراً سمعه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يُظنُّ بمثله أن يُثْبِت في القرآن شيئاً لم يسمعه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم. ولأنَّ السَّرقة جنايةُ اليد اليَمْنى في الغالب، فناسب ذلك قَطْعها.

-ويكون القَطْع من مَفْصَل الكفِّ؛ لأنَّ اليد تُطْلَق عليها إلى الكُوع، وإلى المِرْفَق، وإلى المَنْكِب، وإرادة الأوَّل مُتَيقَّنة، وما سواه مشكوكٌ فيه، ولا يجب القَطْع مع الشكِّ.

- ويَجبُ أن يُغْمَس موضعُ القَطْع من اليد في زَيْتٍ مَغْليٍّ؛ وذلك لتنسدَّ أفواه العروق فينقطع الدَّم؛ إذ لو تُرك بلا غمسٍ لنَزَف حتَّى يُفْضي إلى موته.

- ويُسَنُّ تعليقُ يد السَّارق المقطوعة في عُنُقِه ثلاثةَ أيَّامٍ إن رأى الإمام ذلك؛ لأنَّه أبلغ في الزَّجر، ولتتَّعظ به اللُّصوص.

‌سابعاً: العَوْد في السَّرِقَة:

- إذا عاد السَّارق إلى السَّرقة بعد قَطْع يده اليُمْنى قُطعت رِجْلُه اليُسْرى؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ وَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ)[رواه الدارقطني]، وإنَّما قُطِعَت الرِّجْلُ اليُسرى دون اليُمنى؛ قياساً على القَطْع في المحاربة؛ فقد قال الله تعالى:{أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33]، ولأنَّ قَطْع الرِّجْل اليُسْرى أرفق به؛

ص: 116

ليتمكَّن من المشي على خشبةٍ ونحوها، بخلاف ما لو قُطِعَت الرِّجْل اليُمنى فإنَّه لا يُمكنه ذلك. ويجب غَمْس موضع القَطْع في زَيْتٍ مَغْليٍّ؛ كما في قَطْع اليد.

- ويكون القَطْع من مِفْصَل الكَعْب مع ترك العَقِب ليمشي عليها؛ لما روي عن عليٍّ رضي الله عنه (أنَّه كان يَقطَعُ مِنْ شَطْرِ الْقَدَمِ، ويَدَعُ العَقِبَ يَعتَمِدُ عَلَيها). [رواه البيهقي].

- فإن عاد إلى السرقة بعد قَطْع يده ورِجْله لم يُقْطَع منه شيءٌ، وإنَّما يُحبَس حتَّى يموت، أو يتوب؛ لما روي عن عبد الرَّحمن بن عائذٍ قال:(أُتِيَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ برَجُلٍ أقطَعِ اليَدِ والرِّجلِ قَدْ سَرَقَ، فأمَرَ به عُمَرُ أن تقطَعَ رِجلُه، فقالَ عليٌّ: إنَّمَا قَالَ اللهُ عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلَى آخِرِ الآيَةِ. فَقَدْ قُطِعَتْ يَدُ هَذَا وَرِجْلُهُ، فَلَا يَنبَغِي أَنْ تَقْطَعَ رِجْلَهُ فَتَدَعَهُ لَيْسَ لَهُ قَائِمَةٌ يَمْشِي عَلَيْهَا، إِمَّا أَنْ تُعَزِّرَه، وَإِمَّا أَنْ تَسْتَوْدِعَهُ السِّجْنَ. قَالَ: فَاسْتَوْدَعَهُ السِّجْنَ)[رواه البيهقي].

‌ثامناً: ضَمَانُ المَالِ المَسْرُوق:

يَضمَنُ السَّارقُ -مع إقامة حدِّ القَطْع عليه- المالَ المسروقَ؛ لأنَّ القَطْع والضَّمان حقَّان لِمُسْتَحِقَّيْن؛ فجاز اجتماعهما؛ كما في اجتماع الدِّيَة والكفَّارة في قَتْل الخطأ؛ فيُرَدُّ المسروق لمالكه إن كان باقياً؛ لأنَّه عين ماله. وإن كان تالفاً

ص: 117

وله مِثْلٌ فعلى السَّارق مثله، وإن لم يكن له مِثْلٌ فعليه قيمته؛ لأنَّه مالُ آدميٍّ تلف تحت يدٍ عَادِيَة؛ فوجب ضمانه. ويُعيدُ كذلك ما خَرِبَ من الحِرْز؛ لتَعَدِّيه.

ص: 118

‌باب حدِّ قُطَّاع الطَّريق

‌أوَّلًا: تعريفُ قُطَّاع الطَّريق:

القُطَّاعُ لُغةً: جَمْع قاطِعٍ. والطَّريق: ما يَطْرُقُه النَّاسُ بأقدامِهِم ويَسْلُكونَه.

وقُطَّاعُ الطَّريق: الَّذين يَقْطَعونَه؛ أي: يَمْنَعون النَّاسَ مِنَ السَّيْر فيه؛ وذلك لعُدْوانِهِم عَلَى مَنْ مَرَّ بِهِ.

واصطلاحاً: هم المُكَلَّفون المُلْتزِمون -أي: بأحكام الشريعة- مِنَ المسلمين وأَهْل الذِّمِّة الذين يخرجون على النَّاسِ بسِلاحٍ -ولو عصا ونحوها-، فيَغْصِبونَهُم مَالًا مُحتَرماً مُجاهَرَةً.

‌ثانياً: حُكمُ إِقامَةِ الحَدِّ على قُطَّاع الطَّريقِ:

يجبُ إقامةُ الحَدِّ على قُطَّاع الطَّريق؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33].

‌ثالثاً: الحِكْمَةُ من مَشْروعِيَّة حَدِّ قُطَّاع الطَّريق:

شَرَعَ الله عز وجل حَدَّ الحِرَابَةِ، أو حَدَّ قُطَّاع الطُّرق؛ زَجْراً لمن تُسَوِّل له نفسُه قَطْع الطَّريق، وتَرْويع الآمنين، والاعتداء على حقوق الآخرين، وفي هذا تحقيقٌ للأَمْنِ، وحفظٌ للأرواح، وصيانةٌ للأموال، وغير ذلك ممَّا لا يخفى من وجوه الحِكْمَة.

ص: 119

‌رابعاً: شُروطُ إِقامَةِ الحَدِّ على قَاطِعِ الطَّريق:

يُشترط لوجوب إقامة الحَدِّ على قاطِع الطَّريق ثلاثة شروط:

الشرط الأوَّل: ثبوتُ قَطْع الطَّريق؛ وذلك بأحد أمرين:

أ - شهادة رَجُلَيْن عَدْلَيْن؛ لقول الله عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282].

ب- إقرارُ قاطِع الطَّريق مرَّتين؛ كما في السرقة؛ لما رُوي (أَنَّ رَجُلًا أَتَى إِلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه، فَقَالَ: إِنِّي سَرَقْتُ، فَانْتَهَرَهُ وَسَبَّهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَرَقْتُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: (اقْطَعُوهُ قَدْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ مَرَّتَيْنِ)[رواه عبد الرزاق]. ولأنَّه إقرار يتضمَّن إتلافاً؛ فكان من شرطه التَّكرار كما في حدِّ الزِّنا.

الشَّرط الثَّاني: أن يأخذ المال من الحِرْز؛ وذلك بأن يأخذه من يد مستحِقِّه؛ فلو وجد المال مطروحاً على الأرض ليس بيد أحدٍ، أو أخذه من يد مَنْ غَصَبَه، لم يكن محارباً.

الشَّرط الثَّالث: أن يَبْلغَ ما أَخَذَه النِّصاب الذي يُقطَعُ به السَّارق؛ وهو رُبع دينارٍ من الذَّهب، أو ثلاثة دراهم من الفِضَّة، أو ما يعادل قيمة أحدهما -وقد مرَّ بيان ذلك في باب القَطْع في السَّرقة-؛ فلو أَخَذَ ما دون النِّصاب لم يُقْطَع.

‌خامساً: حَدُّ قُطَّاع الطَّريق:

قُطَّاع الطُّرق لهم أربعةُ أحكامٍ بحسب الجريمة التي ارتكبوها:

ص: 120

الأوَّل: إذا قَتَلُوا ولم يأخذوا مالًا؛ فإنَّهم يُقْتَلون جميعاً دون صَلْبٍ.

الثَّاني: إذا قَتَلُوا وأَخَذُوا مالًا؛ فإنَّهم يُقَتَّلُون، ثمَّ يُصَلَّبون بقَدْر ما يَشْتَهِروا؛ لأنَّ جنايتهم بالقَتْل وأَخْذِ المال تزيدُ على الجناية بالقَتْل وَحْدَه؛ فكانت العقوبةُ مع أَخْذِ المال أَغْلَظ.

والحِكْمَة في صَلْبهم: أن يشتهروا فيَرْتدع غيرُهم.

الثَّالث: إذا أَخَذوا مالًا ولم يَقْتُلُوا؛ فإنَّه تُقَطَّعُ أيديهم وأرْجُلُهم من خِلافٍ.

فتُقطع اليدُ اليُمنى، ثمَّ يُغْمَسُ موضِعُ القَطْع في الزَّيْت المَغْليِّ وجوباً؛ لينقطع الدَّم؛ لقول النبيَّ صلى الله عليه وسلم في السارق:(اقْطَعُوهُ ثُمَّ احْسِمُوهُ)[رواه الدارقطني]. ثمَّ تُقْطَع الرِّجْلُ اليُسرى، ثمَّ يُغْمَسُ موضِعُ القَطْع في الزَّيْت المَغْليِّ وجوباً، ويكون ذلك في مقامٍ واحدٍ؛ فلا يُنتَظَر بقَطْع إحداهما انْدِمالُ الأخرى؛ لأنَّ الله تعالى أَمَرَ بقَطْعِهما من غير تعرُّضٍ للتأخير، والأمرُ للفَوْر.

الرَّابع: إن أَخافوا النَّاس، ولم يأخذوا مالًا؛ فإنَّهم يُنْفَوْنَ من الأرض؛ وذلك بأنْ يُشَرَّدوا ويُطارَدوا، فلا يُتْرَكون يَأْوون إلى بلدٍ حتَّى تظهر توبتُهم.

- وتُنْفَى الجماعة متفرِّقة؛ كلٌّ إلى جهة؛ لئلَّا يجتمعوا على المحاربة ثانية.

ودليل ما سبق قول الله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} .

ص: 121

‌سادساً: تَوْبَةُ قاطِعِ الطَّريقِ:

- من تاب من قُطَّاع الطَّريق قبل القُدْرةِ عليه سَقَطَت عنه حقوق الله تعالى من نَفْيٍ، وصَلْبٍ، وقَطْع يدٍ ورِجْلٍ، وغير ذلك؛ لقوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34].

وأمَّا حقوق الآدميِّين؛ من القِصاص في الأَنْفُس، والجِراح، وغَرامَة المال، وحَدِّ القذف، ونحو ذلك؛ فإنَّهم يؤاخذون بها؛ لأنَّ حقوق الآدميين مبناها على المُشاحَّة؛ فلا تُسْقِطها التوبة؛ كما في الضَّمان. إلَّا أن يعفو من له الحقُّ؛ إذ هو حقُّه وقد أسقطه.

- وأمَّا من تاب منهم بعد القُدْرَة عليه؛ فلا يَسْقُط عنه شيءٌ ممَّا وجب عليه؛ لمفهوم قول الله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} .

ولأنَّ ظاهر حال من تاب قبل القُدْرَة عليه أنَّ توبته توبة إخلاصٍ، وأمَّا بعدها فالظَّاهر أنَّه إنَّما فعل ذلك تَقيَّةً؛ حتَّى لا يُقام الحَدُّ عليه.

ص: 122

‌فصل دفع المعتدين

- مَنْ أُريدَ بأذىً في نَفْسِه أو مالِهِ أو حَريمِه فله أن يدفع المعتدي بأسهل ما يغلب على ظنِّه دَفْعُه به من قولٍ أو فِعْلٍ؛ لأنَّه لو مُنِعَ من دَفْعِه لأدَّى ذلك إلى تَلَفِه وأَذاه في نَفْسِه وحُرْمَته ومالِهِ، ولتَسَلَّط النَّاسُ بعضهم على بعض؛ فيُفْضِي إلى الهَرَج والمَرَج. لكنَّه إذا اندفع بالأسهل حَرُمَ دَفْعُه بالأصعب؛ لعدم الحاجة إليه.

- فإن لم يندفع الأذى إلَّا بقَتْل المُعْتدي فَلَهُ أن يقتله ولا شيء عليه، وإن قُتِلَ الدافع أثناء ذلك كان شهيداً؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:(جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّاهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: قَاتِلْهُ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: فَأَنْتَ شَهِيدٌ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: هُوَ فِي النَّارِ)[رواه مسلم].

- يجب على كلِّ مُكلَّف أن يدفع عن حَريمِه؛ فمَنْ رأى مع امرأته أو ابنته أو أخته أو نحوهنَّ رَجُلًا يزني بها، أو رأى رَجُلًا يَلوطُ بابنه، أو نحوه، وَجَبَ عليه قَتْلُه إن لم يَنْدَفِع بدونه؛ لأنَّه يؤدِّي بذلك حَقَّ الله تعالى من المنع من الفاحشة، وحقَّ نَفْسِه بالمنع عن أَهْلِه؛ فلا يَسَعُه إضاعة الحقَّيْن.

- وكذا يجب على كلِّ مُكلَّف أن يَدْفع عن حريم غيره وماله إذا ظنَّ سلامته وسلامة المعتدي؛ بحيث لا يُفْضِي إلى الجناية على نَفْسِه، أو على شيءٍ من

ص: 123

أعضائه؛ لما روى أنسٌ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اُنْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا)[رواه البخاري]. ولئلَّا تذهب الأَنْفُس، والأموال، وتُستَباح الحُرُمات. فإن ظنَّ عدم السَّلامة حَرُم الدَّفع حينئذٍ؛ لأنَّه يُفضي إلى التَّهلكة.

- ويجب عليه أن يدفع عن نفسه -في غير فتنةٍ-؛ لقول الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، فكما يَحرُم عليه قَتْل نَفْسِه يَحرُم عليه إباحة قَتْلِها.

-وكذا يجب عليه أن يَدْفَع عن نَفْسِ غيره -في غير فتنةٍ- قياساً على وجوب إحياء نَفْسِ غيره ببذل طعامه له. ولقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (اُنْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا).

- فإنْ كانت هناك فتنة لم يجب عليه الدَّفع عن نَفْسه ولا عن نَفْس غيره؛ لقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأبي ذرٍّ رضي الله عنه حال وقوع فتنةٍ: (

تَلْزَمُ بَيْتَكَ. قُلْتُ: فَإِنْ دُخِلَ عَلَيَّ بَيْتِي؟ قَالَ: فَإِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ، فَأَلْقِ ثَوْبَكَ عَلَى وَجْهِكَ يَبُوءُ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِهِ) [رواه أبوداود، وابن ماجه].

ولأنَّ عثمان رضي الله عنه ترك القتال على من بَغَى عليه مع القُدْرة عليه، ومنع غيره من قتالهم، وصبر على ذلك، ولو لم يَجُز ذلك لأنكر عليه الصَّحابة رضوان الله عليهم.

- ولا يجب عليه دَفْع من أراد مالَهُ؛ لأنَّه ليس فيه من المَحْذور ما في النَّفْس؛

ص: 124

فإنَّ المال لا حُرْمَة له كحُرْمَة النَّفْس، فلا يجب عليه أن يفعل بسبب المال

ما فيه الخَطَرُ على نفسه. وله أن يبذله لمن أراده منه ظلماً؛ إبقاءً لنفسه؛ إذ لا عِوَضَ لها.

ص: 125

‌باب قتال البُغاة

‌أوَّلًا: تعريفُ البُغاةِ:

البَغْيُ لُغةً: مصدر بَغَى يَبْغِي؛ إذا اعتدى.

والبُغاةُ: هم الخارجون على الإمام الأعظم بتأويلٍ سائغٍ، ولهم شَوْكةٌ (أي قوَّة). وسُمُّوا بُغَاةً؛ لعُدولِهِم عن الحقِّ وما عليه أئمَّة المسلمين.

‌ثانياً: حُكمُ قِتالِ البُغاةِ:

قتال أهل البَغْي واجبٌ بالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.

- أمَّا الكتاب: فقول الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، فأوجب الله تعالى قتال الباغين على أهل الإيمان.

- وأمَّا السُّنَّة: فما روى عَرْفَجَة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ)[رواه مسلم].

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن قدامة: «وأجمعت الصَّحابة رضي الله عنهم على قِتال البُغاة؛ فإنَّ أبا بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة، وعليٌّ رضي الله عنه قاتل أهل الجمل وصِفِّين وأهل النهروان» .

‌ثالثاً: شُروطُ البَغْي:

يُشترط فيمن يوصفون بالبُغاة ما يلي:

ص: 127

أ - أن يكونوا عدداً كثيراً لهم شوكةٌ وقوَّةٌ ومَنَعةٌ.

ب- أن يخرجوا على الإمام.

ب- أن يكون خروجهم بتأويلٍ سائغٍ.

فإن لم يخرجوا على الإمام؛ كما لو خرجوا على أمير منطقةٍ مثلًا، أو خرجوا على الإمام بلا تأويل، أو بتأويل غير سائغٍ، أو كانوا جمعاً يسيراً لا شوكة لهم، فهم قُطَّاع طريقٍ، وليسوا بُغاةً.

‌رابعاً: حُكمُ نَصْبِ إمامٍ للمُسلِمين:

إقامة إمامٍ للمُسلمين فَرْضُ كِفايةٍ عليهم؛ لحاجة النَّاس لذلك؛ حمايةً لبَيْضَة الإسلام، والدِّفاع عن حَوْزَته، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، والأمر بالمعروف، والنَّهْي عن المنكر.

وكلُّ من ثبتت إمامَتُه وَجَبتْ طاعتُه، وحَرُم الخروج عليه وقتاله؛ لقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].

ولحديث عُبادَة بن الصَّامِت رضي الله عنه قال: (دَعَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ)[رواه البخاري، ومسلم].

ولأنَّ في الخروج عليه شَقًّا لعصا المسلمين، وإراقةً لدِمائهم، وإذهاباً لأموالهم.

ص: 128

‌خامساً: شُروطُ الإِمامَةِ العُظْمَى:

يُشترَطُ فيمن يتولَّى الإمامَة العُظْمى ما يلي:

أ - أن يكون قُرَشيًّا؛ لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ)[رواه أحمد]. ولحديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(وَلَمْ تَعْرِفِ الْعَرَبُ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا لِهَذَا الحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ)[رواه أحمد].

ب- أن يكون بالغاً عاقلاً؛ لأنَّ غير البالغ العاقل يحتاج إلى من يَلِي أَمْرَه؛ فلا يَلِي أَمْرَ غيره.

ج- أن يكون سميعاً بصيراً ناطقاً؛ لأنَّ من لم يكن كذلك لا يَصْلُح لأمور السياسة.

د - أن يكون حُرًّا؛ لأنَّ الإمام له الولاية العامَّة، فلا يكون غيرُه وليًّا عليه. ولأنَّ العبد منقوص بِرِقِّهِ، ومشغولٌ بحقوق سيِّده.

هـ- أن يكون ذَكَراً؛ فلا يكون أُنثى؛ لحديث أبي بَكْرَة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:(لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً)[رواه البخاري].

و - أن يكون عَدْلاً؛ لأنَّ ذلك شرطٌ في ولاية القضاء، وهي دون الإمامَة العُظْمَى، فكان اشتراطه في الإمامَة العُظْمَى أَوْلَى.

ز - أن يكون عالِماً بالأحكام الشرعيَّة؛ لأنَّه يحتاج إلى مراعاتها في أوامره ونواهيه.

ص: 129

ح- أن يكون ذا بَصيرةٍ؛ أي: صاحب معرفةٍ وفِطْنةٍ.

ط- أن يكون كُفُؤاً ابتداءً ودواماً؛ أي: قائماً بأمر الحرب والسياسة، وإقامة الحدود، والذَّبِّ عن الأُمَّة، ابتداءً في ذلك، ودواماً.

- ولا ينعزل الإمام بفِسْقِه؛ لما يترتَّب على ذلك من المفسدة، ولما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ)[رواه البخاري، ومسلم].

‌سادساً: كَيفيَّةُ تعامُلِ الإِمامِ مع البُغاةِ:

أ - يلزم الإمام مراسلة أهل البَغْي، وإزالة ما عندهم من الشُّبَه، وما يدَّعونه من المظالم؛ لأنَّ ذلك طريقٌ إلى الصُّلْح المأمور به في قوله تعالى:{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، ووسيلةٌ إلى رجوعهم إلى الحقِّ؛ وهو المطلوب.

ولما اعتزلت الحَرورِيَّةُ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه، بعث إليهم عبد الله ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ فَرَجَع منهم أربعة آلاف. [رواه أحمد].

ب - فإن رجعوا عمَّا هم فيه من البَغْي وطَلَب القِتال تَرَكَهم، وإلَّا لَزِمَه قتالهم إن كان قادراً؛ لقول الله عز وجل:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9].

ج- يجب على الرعيَّة معاونة الإمام على قتال البُغاة؛ لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].

ص: 130

د - إذا تَرَك البُغاةُ القتال؛ إمَّا بالرُّجوع إلى الطَّاعة، أو بإلقاء السِّلاح، أو بالعجز عن القتال، ونحو ذلك، حَرُم قَتْلُهم واتِّباعُ مُدْبِرِهم وقَتْل جَريحِهِم؛ لما روي أنَّ عليًّا رضي الله عنه أَمَرَ مُنادِيهِ يوم الجَمَل أن ينادي:(لَا يُقْتَلُ مُدْبِرٌ، وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَ دَارِهِ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ طَرَحَ السِّلَاحَ آمِنٌ)[رواه سعيد بن منصور]. ومعنى «وَلَا يُذَفَّف على جريح» : أي ولا يُجْهَز على جريح.

هـ- وكذا لا يُغْنَم مالُهُم، ولا تُسْبى ذَراريهم؛ لأنَّ مالَهُم معصومٌ؛ لأنَّهم لم يَكْفُروا ببَغْيِهم، وعِصْمةُ الأموال تابعةٌ لدِينِهِم. وذُرِّيَّتهم أيضاً معصومون؛ إذ لا قتال منهم ولا بَغْي.

وإن أُخِذَ منهم شيءٌ من ذلك وَجَبَ رَدُّه إليهم؛ لأنَّ أموالهم كأموال غيرهم من المسلمين، وإنَّما أُبيحَ قِتالُهم لرَدِّهم إلى الطَّاعة.

و - لا يَضْمَنُ أهلُ العَدْل ما أَتْلَفوه على أهل البَغْي حال الحَرْب من نَفْسٍ ومالٍ؛ لأنَّهم فعلوا ما أُمِروا به، وقَتَلوا من أَحَلَّ الله قَتْلَهم؛ فلم يلزمهم شيءٌ للباغين؛ لأنَّهم مُتَعدُّون بقِتالِهم.

وكذا لا يَضْمَن أهلُ البَغْي ما أَتْلَفوه على أَهلِ العَدْل حال الحَرْب من نَفْسٍ ومالٍ؛ لأنَّهم قَتَلوا وأَتْلَفوا بتأويلٍ، فلا يلزمهم الضَّمان؛ لأنَّ تضمينهم يُفْضي إلى تَنْفيرِهِم من الرُّجوع إلى الطَّاعة.

ز - أهلُ البَغْي في شهادتهم، وإمضاءِ حُكْم حاكِمِهم كأهلِ العَدْل؛ فيُقضَى

ص: 131

بشهادة عُدولِهم، وتَنْفُذ أحكامُ قاضِيهِم -إلَّا ما خالف نصًّا من كتابٍ، أو سُنَّةٍ، أو خالف إجماعاً-؛ لأنَّ التَّأويل السَّائغ في الشَّرع لا يُوجِبُ تَفْسيقَ قائِلِه؛ أشبه المُخْطِئ من الفقهاء في فَرْعٍ من الأحكام الشرعية.

ص: 132

‌باب حكم المُرتدِّ

‌أوَّلًا: تعريفُ المُرْتَدِّ:

المُرْتدُّ لغةً: الرَّاجع، يقال: ارْتَدَّ فهو مُرْتَدٌّ: إذا رَجَعَ.

واصطلاحاً: هو مَنْ خَرَجَ عن دِينِ الإسلامِ إلى الكُفْرِ طَوْعاً، ولو كان هازِلًا.

‌ثانياً: مَا يَحصُلُ بِهِ الكُفْرُ:

يحصلُ الكُفْرُ بأحَدِ أربعةِ أمورٍ:

الأوَّل: القول؛ كسَبِّ الله تعالى، أو رسولٍ من رُسُلِه، أو مَلَكٍ من ملائكته؛ لأنَّه لا يَسُبُّ واحداً منهم إلَّا وهو جاحِدٌ به.

- ومن الكُفْر بالقول: ادِّعاء النُّبوَّة، أو تصديق من ادَّعاها، لأنَّ ذلك تكذيبٌ لله تعالى في قوله:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وتكذيبٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله:(لَا نَبِيَّ بَعْدِي)[رواه البخاري، ومسلم].

- ومن الكُفْر بالقول كذلك: ادِّعاء شَريكٍ لله سبحانه؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].

الثاني: الفِعْل؛ كالسجود للصَّنَم، أو للشمس، أو للقمر، ونحو ذلك؛ لأنَّه إشراكٌ مع الله تعالى.

- ومن الكُفْر بالفعل: إلقاءُ المُصحَف في القاذورات، أو تَضْميخُه بالنَّجاسة؛

ص: 133

لأنَّ ذلك إهانة له، وقد أجمع العلماء على وجوب صيانة المصحف واحترامه.

الثالث: الاعتقاد؛ كاعتقاد أنَّ لله تعالى شريكاً، أو أنَّ له صاحبةً، أو ولداً؛ لأنَّه تكذيب لله عز وجل، ووصفٌ له تعالى بما يقتضي النَّقص؛ قال تعالى:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91]، وقال تعالى:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101].

- وكاعتقاد أنَّ الزِّنا حلالٌ، أو أنَّ الخمر حلالٌ، أو أنَّ لحم الخنزير حلالٌ، ونحو ذلك من المحرَّمات الظَّاهرة المُجْمَع عليها. أو اعتقاد أنَّ الخُبْز حرامٌ، أو أنَّ الماء حرامٌ، أو أنَّ لحم بهيمة الأنعام المُذَكَّي حرامٌ، ونحو ذلك ممَّا أجمعت الأُمَّة على حِلِّه؛ لأنَّ ذلك معاندةٌ للإسلام، وامتناعٌ من قبول أحكامه، ومخالفة للكتاب والسُّنَّة وإجماع الأُمَّة.

الرابع: الشَّكُّ في شيءٍ من ذلك؛ أي: في تحريم الزِّنا والخَمْر، أو في حِلِّ الخُبْز والماء، ونحو ذلك، ومِثْلُ الشَّاكِّ لا يجهل ذلك؛ لكونه نَشَأ بين المسلمين؛ لأنَّ أدلَّة هذه الأمور ظاهرةٌ من كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يصدر إنكارُها إلَّا من مُكَذِّبٍ لكتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.

‌ثالثاً: حُكمُ المُرْتَدِّ:

أ - من ارتدَّ عن الإسلام -ذَكَراً كان أو أُنثى- وهو بالغٌ، عاقلٌ، مختارٌ؛ فإنَّه يُدْعَى إلى الإسلام؛ ويُسْتَتابُ ثلاثة أيَّامٍ وجوباً؛ لقول عمر رضي الله

ص: 134

عنه -فيمن ارتدَّ، فقَتَلَه أبو موسى الأشعريُّ رضي الله عنه:(أَفَلَا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا، وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا، وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيُرَاجِعُ أَمْرَ اللّاهِ. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ، وَلَمْ آمُرْ، وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي)[رواه مالك]. فلو لم تجب استتابتُه لما بَرِئَ عمرُ رضي الله عنه من فِعْلِهم. ولأنَّ الرِدَّة إنَّما تكون عن شُبْهةٍ، وهي لا تزول في الحال، فوَجَب أن يُنْظَر مُدَّةً يتروَّى فيها.

فإن تاب برجوعه إلى إسلامه فلا شيء عليه من قَتْلٍ أو تَعزيرٍ، ولا يَحْبَط عملُه الذي عَمِلَه حال إسلامه قبل رِدَّته؛ من صلاةٍ، وصيامٍ، وحجٍّ، وغير ذلك؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ

} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 68 - 70].

ب- وإن أَصَرَّ على رِدَّتِه قُتِلَ بالإجماع؛ لما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ)[رواه البخاري].

ج- يكون قَتْل المُرتدِّ بالسيف؛ لأنَّه آلةُ القَتْل، فلا يُحرَّق بالنار؛ لحديث شدَّاد ابن أوسٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(إنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأُحْسِنُوا الْقِتْلَةَ)[رواه مسلم].

د - ولا يقتُلُه إلَّا الإمامُ أو نائبُه؛ لأنَّه قَتْلٌ لحقِّ الله تعالى، فكان إلى الإمام. فإن قَتَلَه غيرُهما بلا إذنٍ من واحدٍ منهما فقد أساء ويُعزَّر؛ لافْتِياتِه على وَلِيِّ الأَمْر.

ص: 135

‌رابعاً: إِسْلَامُ الصَّغيرِ ورِدَّتُه:

أ - يَصِحُّ إسلامُ الصغير المُميِّز -ذَكَراً أو أُنثى- إذا عَقِل الإسلام؛ أي: عَلِمَ أنَّ الله تعالى ربُّه لا شريك له، وأنَّ محمَّداً صلى الله عليه وسلم عبدُهُ ورسولُه إلى النَّاس كافَّةً؛ لأنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ [رواه البيهقي]؛ فصَحَّ إسلامُه، وثبتَ إيمانُه، وعُدَّ بذلك من السابقين إليه.

ولأنَّ الإسلام عبادةٌ مَحْضَةٌ، فصَحَّت من الصَّبيِّ؛ كالصَّلاة والصَّوم.

ب- وتصحَّ الرِّدَّة أيضاً من الصغير المُميِّز؛ لأنَّ من صَحَّ إسلامُه صَحَّت رِدَّته كسائر الناس.

لكن لا يُقْتَل حتَّى يُسْتَتاب بعد بلوغه ثلاثة أيَّامٍ؛ لأنَّه بالبلوغ صار من أهل العقوبة. أمَّا قبل ذلك فمرفوعٌ عنه القَلَم؛ لحديث عليٍّ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ)[رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه].

ص: 136

‌فصل توبة المرتدِّ

- تحصلُ توبةُ المرتدِّ -وكذا كلُّ كافِرٍ- بإتيانِه بالشَّهادتين، وهي قول:(أشهدُ أن لا إلهَ إلَّا الله، وأشهدُ أنَّ مُحمَّداً رسولُ الله)؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللّاهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللّاهِ)[رواه البخاري، ومسلم]. وإذا ثبت بهما إسلامُ الكافِر الأصليِّ فكذلك يثبت بهما إسلام المُرتدِّ.

- لكن إن كانت رِدَّته بإنكار فَرْضٍ، أو تحليل حَرامٍ، أو تحريم حَلالٍ مُجمَعٍ عليهما، أو إنكارِ نُبُوَّةِ نَبِيٍّ من الأنبياء، أو كتابٍ من كُتُبِ الله، ونحو ذلك، فإنَّه يُشتَرَطُ مع إتيانه بالشهادتين: إقرارُه بما أنكره؛ لأنَّ كُفْرَه إنَّما كان لإنكاره ذلك وجَحْده، فلا بُدَّ من إتيانه بما يَدلُّ على رجوعه عنه.

- لا يُغني قول الكافر: (محمَّدٌ رسولُ الله)، عن كلمة التوحيد؛ وهي:(أشهدُ أن لا إله إلَّا الله)، بل لا بُدَّ من الإتيان معه بكلمة التوحيد حتَّى يُحكَمَ بإسلامه؛ لأنَّ من جَحَدَ شيئين لا يزول جَحْدُه إلَّا بالإقرار بهما معاً، ولأنَّ الشهادة بأنَّ محمَّداً رسول الله، لا تتضمن الشَّهادة بالتوحيد.

- إذا قال الكافِرُ أو المُرتدُّ: (أنا مسلمٌ)، أو:(أَسْلَمْتُ)، أو (أنا مُؤمِنٌ)

ص: 137

صار مسلماً بذلك، وإن لم يلفظ بالشهادتين؛ لحديث المِقْداد بن الأَسْوَد رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الكُفَّارِ فَاقْتَتَلْنَا، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ للّاهِ، أَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقْتُلْهُ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيَّ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا قَطَعَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ) [رواه البخاري، ومسلم]. ولأنَّه إذا أخبر عن نَفْسِه بما تضمَّن الشَّهادتين كان مُخْبِراً بهما.

- وكذا لو كتب الكافِرُ الشَّهادتين؛ صار مُسلِماً بذلك؛ لأنَّ الخطَّ كاللَّفْظ.

- وإن قال: «أنا مسلم، ولا أنطق بالشهادتين» لم يُحكم بإسلامه حتَّى يأتي بالشهادتين؛ لحديث: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللّاهِ).

* مَنْ لا تُقْبَلُ تَوبَتُهُ في الدُّنْيا:

لا يُقْبَلُ في أحكام الدُّنيا بحسب الظَّاهر توبةُ مَنْ يلي:

أ - الزِّنديق: وهو المنافق الذي يُظْهِرُ الإسلام، ويُخْفِي الكُفْر؛ لقول الله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 160]، والزِّنديق لا يُعْلَم تَبَيُّن رجوعه وتوبته، لأنَّه لا يَظْهَر منه بالتوبة خلاف ما كان عليه، فإنَّه كان يَنْفي الكُفْر عن نَفْسِه قبل ذلك، وقَلْبُه لا يُطَّلع عليه.

ص: 138

ب- من تكرَّرت رِدَّته؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137]، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90]. ولأنَّ تكرار الرِّدَّة منه يدلُّ على فساد عقيدته، وقِلَّة مبالاته بالإسلام.

ج- مَنَ سبَّ الله تعالى صريحاً، أو سبَّ رسولًا من رُسُله، أو مَلَكاً من ملائكته، أو انتقص واحداً منهم؛ لأنَّه ذَنْبٌ عظيمٌ جدًّا، يدلُّ على فساد عقيدته، واستخفافه بالله تعالى أو رُسُلِه.

د - مَنْ قَذَف نَبيًّا من الأنبياء عليهم السلام، أو قَذَفَ أُمَّهُ؛ فإنَّه يَكْفُرُ بذلك ولا تُقْبَلُ توبتُه في الدُّنيا؛ لما في ذلك من التعرُّض للقَدْح في النُّبوَّة الموجِب للكُفْر.

ويُقْتَلُ حتَّى ولو كان كافراً فأَسْلَم؛ لأنَّ القَتْل حَدُّ مَنْ قَذَفَ الأنبياء أو أُمَّهاتهم؛ فلا يسقطُ بالإسلام ولا بالتوبة؛ كما لا يسقطُ حَدُّ من قَذَفَ غير الأنبياء بالتَّوبةِ.

- عدم قبول توبةِ مَنْ سَبَقَ إنَّما هو في الدنيا، أمَّا في الآخرة؛ فمَنْ صَدَقَ منهم في توبته قُبِلَتْ، ونفعه ذلك؛ لعموم حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ)[رواه ابن ماجه].

ص: 139

‌كتاب الجهاد

‌أوَّلًا: تعريفُ الجِهادِ:

الجِهادُ لغةً: مشتقٌّ من الجَهْدِ؛ وهو بَذْلُ الطَّاقَةِ والوُسْع. وجَاهَدَ جِهَاداً ومجاهدةً؛ أي: بالَغَ في قَتْلِ عَدُوِّه.

واصطلاحاً: قِتالُ الكُفَّار خاصَّةً.

‌ثانياً: حُكْمُ الجِهادِ:

الجهادُ فرضُ كفايةٍ، إذا قامَ به من يكفي سَقَطَ عن الباقين، وكان سُنَّةً مؤكَّدةً في حقِّهم. فإن لم يقمْ به من يكفي، أَثِم الجميع بتركه. وقد دلَّ على فَرْضيَّته القرآن والسنَّة:

أ - فمن القرآن: قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، وقوله جلَّ في عُلاه:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122].

ب- ومن السنَّة: ما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ، وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللّاهِ)[رواه البخاري، ومسلم].

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي لَحْيَانَ مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَالَ: لِيَنْبَعِثْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا، وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا)

ص: 141

[رواه مسلم]. فقوله صلى الله عليه وسلم: (لِيَنْبَعِثْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا) يدلُّ على أنَّ الجهاد واجب كفائيٌّ؛ إذ لو كان واجباً متعيِّنا لأمر كليهما بالخروج.

وقد يكون الجهادُ فَرْضَ عَيْنٍ في الأحوال التالية:

أ - إذا التقى الزَّحْفان، وتقابل الصَّفَّان، وَجَبَ على من حَضَر القتال -إن لم يكن له عذرٌ-، وحَرُم عليه التولِّي والانصراف؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15]. وقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].

ب- إذا هجم العدوُّ على قومٍ بغتةً أو داهَمَ بَلَدَهُم؛ فيتعيَّن عليهم دفْعُه، إلَّا من كان له عذر. قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123].

ج- إذا هَجَمَ العدوُّ على مَنْ بِقُرْبِهِم من المسلمين، ولم يكن لهم كفايةٌ أو قُدْرَةٌ على دَفْعِه، فيتعيَّن على من كان مُقارِباً لهم أن يقاتل معهم.

د - إذا اسْتَنْفر الإمامُ قَوْماً، تعيَّن عليهم النَّفيرُ معه إلَّا من كان له عذرٌ؛ لقول الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38]. وعن ابن عبَّاس رضي

ص: 142

الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا)[رواه البخاري، ومسلم].

‌ثالثاً: فَضائِلُ الجِهادِ:

الجهادُ في سبيل الله من أعظم العبادات والقُرُبات إلى الله تعالى، وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنَّة للدلالة على منزلته العظيمة، ومكانته الجليلة في الإسلام؛ ومن هذه الفضائل:

أ - أنَّ الجهاد أفضلُ الأعمال بعد الإيمان بالله:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّاهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ)[رواه البخاري، ومسلم].

ب- أنَّ الجهاد ذَرْوَة سَنام الإسلام:

فعن مُعاذ بن جَبَلٍ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللّاهِ. قَالَ: رَأْسُ الْأَمْرِ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ)[رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه].

ج- أنَّ الشهادةَ في سبيل الله تُكَفِّرُ جميع الذُّنوب إلَّا الدَّيْن:

فعن عبد الله بن عَمْرو بن العاص رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ)[رواه مسلم].

ص: 143

قال ابن تيمية: «ولا تسقطُ الزَّكاة، والحجُّ، والدُّيون، ومظالمُ العباد عمَّن مات شهيداً» .

‌رابعاً: الحِكْمَةُ من مَشْروعيَّةِ الجِهادِ:

شُرِع الجهاد في الإسلام لغاياتٍ عظيمةٍ، ومقاصد جليلةٍ، ومن أبرزها:

أ - إعلاءُ كلمة الله تعالى:

فالجهاد شُرِع ليكون الدِّينُ كُلُّه لله تعالى، وتكون كلمتُه هي العُليا؛ وذلك بإخراج الناس من عبوديَّة الخَلْق إلى عبوديَّة ربِّ الخَلْق؛ قال سبحانه وتعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39].

ب- ردُّ اعتداء المُعْتَدين على المُسلمين:

قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، وقال سبحانه:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190].

‌خامساً: شُروطُ وُجوبِ الجِهادِ:

يُشترط فيمن يجبُ عليه الجهادُ سبعةُ شروطٍ:

الأوَّل: الإسلام: فلا يجبُ على كافرٍ، ولا يصحُّ منه؛ لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ

ص: 144

رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ، وَأُصِيبَ مَعَكَ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ

) الحديث [رواه مسلم].

الثاني: التَّكْليف: فلا يجبُ على الصغير، ولا على المجنون؛ لحديث عليٍّ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ)[رواه أحمد، وأبو داود].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي، ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي)[رواه البخاري، ومسلم].

الثالث: الذُّكُورَة: فلا يجب على المرأة؛ لحديث عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها قالت: (اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الجِهَادِ، فَقَالَ: جِهَادُكُنَّ الحَجُّ»)[رواه البخاري].

ولا يجب القتال أيضاً على الخُنْثَى المُشْكِل؛ لأنَّه لا يُعلَم كونه ذَكَراً، فلا يجبُ مع الشكِّ في شَرْطِه.

الرابع: الحُرِّيَّة: فلا يجبُ على عَبْدٍ؛ لما روى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَمَرَّ بِأُنَاسٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، فَاتَّبَعَهُ عَبْدٌ لِامْرَأَةٍ مِنْهُمْ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: فُلَانٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:

ص: 145

مَا شَأْنُك؟ قَالَ: أُجَاهِدُ مَعَك. قَالَ: أَذِنَتْ لَك سَيِّدَتُك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: ارْجِعْ إلَيْهَا، فَإِنَّ مَثَلَكَ مَثَلُ عَبْدٍ لَا يُصَلِّي، إِنْ مِتَّ قَبْلَ أَنْ تَرْجِعَ إلَيْهَا، وَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ. فَرَجَعَ إلَيْهَا فَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ، فَقَالَتْ: آللّاهَ هُوَ أَمَرَ أَنْ تَقْرَأَ عَلَيَّ السَّلَامَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: ارْجِعْ فَجَاهِدْ مَعَهُ) [رواه الحاكم].

ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُبايعُ الحُرَّ على الإسلام والجهاد؛ فعن مُجاشِعٍ بن مسعود السُّلَميِّ رضي الله عنه قال: (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَخِي، فَقُلْتُ: بَايِعْنَا عَلَى الهِجْرَةِ، فَقَالَ: مَضَتِ الهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا. فَقُلْتُ: عَلَامَ تُبَايِعُنَا؟ قَالَ: عَلَى الإِسْلَامِ وَالجِهَادِ)[رواه البخاري، ومسلم].

ولأنَّ العبد مشغولٌ بخدمة سيِّده.

الخامس: السَّلامَةُ مِنَ العَجْز والمَرَضِ: بأن يكون سليماً في بدنه من العَمَى، والعَرَج، والمَرَض؛ لقول الله عز وجل:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17].

فلا يجب على أَشَلٍّ، ولا أقْطَع اليَدِ أو الرِّجْل، ولا من ذَهَبَتْ أكثرُ أصابعه، أو ذَهَبَ إبهامُه، أو ما يذهبُ بذَهابِه نَفْعُ يَدِه أو رِجْلِه.

أمَّا العَشَى -وهو ضعف البصر-، والعَوَر، والمَرَض اليَسير؛ كوَجَع ضِرْسٍ أو صُداعٍ خفيفين-؛ فلا يمنع من وجوب الجهاد.

السادس: القُدْرةُ على مُؤْنةِ الجهاد: والمؤنةُ التي يجبُ معها الجهاد أن يكون واجداً من المال ما يكفيه ويكفي أهلَه في غيبته؛ لقول الله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ

ص: 146

لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91]. وأن يجدَ مع مسافة القَصْر راحلةً تحملُه؛ فإن لم يجد، فلا يجب عليه؛ لقوله سبحانه:{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92].

ويُعتبر أن يكون ذلك فاضلًا عن قضاء دَيْنِه، وأُجرة مسكنه، وحوائجه؛ كما في الحجِّ.

‌سادساً: أحكامٌ ومَسائِلُ متفرِّقةٌ في الجِهاد:

أ - يُسَنُّ تشييع الغازي في سبيل الله؛ لحديث سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه: (أَنَّ عَلِيًّا خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَ ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ وَعَلِيٌّ يَبْكِي يَقُولُ: تُخَلِّفُنِي مَعَ الخَوَالِفِ! فَقَالَ: أَوَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا النُّبُوَّةَ؟)[رواه أحمد].

وعن يحيى بن سعيد: (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَ جُيُوشًا إِلَى الشَّامِ، فَخَرَجَ يَمْشِي مَعَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ أَمِيرَ رُبْعٍ مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَاعِ، فَزَعَمُوا أَنَّ يَزِيدَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ، وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَنْتَ بِنَازِلٍ، وَمَا أَنَا بِرَاكِبٍ. إِنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللّاهِ)[رواه مالك].

ب- لا يتطوَّع بالجهاد المَدِينُ الذي ليس عنده وفاءٌ لدَيْنِه الحالِّ أو المؤجَّل، إلَّا بإذن غريمه، أو دَفْع رَهْنٍ يمكن استيفاء الدَّيْن منه؛ لأنَّ الجهاد يقصد منه الشهادة، وهي ممَّا تفوت به النَّفْس، فيفوت الحقُّ.

ص: 147

ج- ولا يتطوَّع بالجهاد مَنْ أَحَدُ أبويه حُرٌّ مسلمٌ إلَّا بإذنه؛ لما روى عبد الله ابن عَمْرو رضي الله عنهما قال: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الجِهَادِ، فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ)[رواه البخاري]، ولأنَّ بِرَّ الوالدين فَرْضُ عَيْنٍ، والجهاد فَرْضُ كفايةٍ، وفَرْضُ العَيْن مُقدَّمٌ.

فإن كان والداه غير مُسْلِمَيْن، أو رَقيقَيْن، أو غير عاقِلَيْن، فلا إِذْنَ لهما؛ لفعل الصحابة، ولعدم الولاية.

* الفِرار مِنَ الزَّحْفِ:

يجبُ على المسلمين إذا التقوا بالكُفَّار أن يَثْبُتوا، ويَحرُمُ عليهم الفِرارُ؛ لقول الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15]. وقد عدَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الفِرارَ من الزَّحْف من كبائر الذُّنوب؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ)، وذكر منها:(وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ)[رواه البخاري، ومسلم].

ويجب الثبات بشرطين:

الأوَّل: أن لا يزيد عدد الكفَّار على ضِعْف عدد المسلمين؛ فلا يحلُّ للمسلمين الفِرارُ من مِثْلَيْهِم من الكفَّار، ولو ظنَّوا حصول التَّلف؛ لقول الله تعالى:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66]. وكذا يحرم فرار مسلمٍ واحدٍ من اثنين كافرين؛ قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما:

ص: 148

(مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنَ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ -يَعْنِي مِنَ الزَّحْفِ-)[رواه ابن أبي شيبة].

الثاني: أن لا يقصِدَ بفِرارِه التَّحَيُّز إلى فِئِةٍ، ولا التَّحَرُّف لقِتالٍ؛ فإن قصد أحد هذين الأمرين أُبيح له الفِرار؛ لقول الله تعالى:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16].

والتحرُّف للقتال: هو أن ينحاز إلى موضعٍ يكون القتال فيه أمكن.

والتحيُّز إلى فئة: هو أن يذهب إلى فئة من المسلمين ليكون معهم، فيَقْوَى بهم على عدوِّه، سواء بَعُدَت المسافة أو قَرُبَت.

- فإن كان العدوُّ أكثر من ضِعْف المسلمين، وغلب على ظنِّهم الهلاك في الثبات، والسلامة في الفِرار، فالأَوْلَى لهم الانصراف؛ حِفْظاً للنفوس.

- وإن غَلَبَ على ظنِّهم الظَّفَر سُنَّ لهم الثبات؛ لما فيه من المصلحة، والنكاية بالعدوِّ.

- وإن غَلَبَ على ظنِّهم الهلاك في الثبات والفِرار، فالأَوْلَى لهم الثبات؛ لينالوا درجة الشُّهداء المُقْبِلين على القتال مُحْتَسِبين، فيكونوا أفضل من المُولِّين، ولجواز أن يَغْلبوا عدوَّهم؛ قال تعالى:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249].

ص: 149

* الرِّباطِ في سَبيلِ الله:

- الرِّباط في سبيل الله: هو لزوم ثَغْرٍ لجِهادٍ؛ تقويةً للمسلمين. سُمِّي بذلك لأنَّ هؤلاء يَرْبِطون خُيولَهُم، وهؤلاء يَرْبِطون خيولَهُم.

والثَّغْرُ: كلُّ مكانٍ يُخيفُ أهلُهُ العدوَّ، ويُخيفُهم.

- ويُسنُّ الرِّباط في سبيل الله؛ لما روى سَلْمان رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ)[رواه مسلم].

- وأفضل الرِّباط المُقامُ بأشدِّ الثغور خوفاً؛ لأنَّ أهله أحوج، والمقام به أنفع.

- والرِّباط يَقِلُّ ويَكْثُرُ، فكلُّ مُدَّةٍ أقامها بِنِيَّة الرِّباط فهي رباطٌ؛ كما في قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ).

* أَحكامُ الهِجْرَةِ:

أ - الهِجْرةُ: هي الخروج من دار أَهْلِ الكُفْر إلى دار أَهْلِ الإسلام.

ودار الكُفْر أو دار الحَرْب: هي ما يَغْلِبُ فيها حُكْم الكُفْر.

ب- حُكمُ الهِجْرة:

الهجرةُ واجبةٌ على كلِّ قادرٍ عليها مع عَجْزه عن إظهار دِينِه ببلد الكفر الذي هو فيه؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا

ص: 150

كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97].

فإن كان قادراً على إظهار دِينِه في بلد الكُفْر الذي هو فيه؛ فالهجرة في حقِّه مسنونةٌ؛ ليتخلَّص من تكثير الكفَّار ومخالطتهم، ورؤية المنكر بينهم، ويتمكَّن من إعانة المسلمين ويكثِّرهم.

ص: 151

‌فصل أحكام الأسرى

‌أوَّلًا: تعريفُ الأَسْرى:

الأَسرى لغةً: جميع أسير؛ مأخوذ من الأَسْر، وهو الشَّدُّ بالإسار؛ أي: القَيْد. يقال: أسَرْتُ الشيءَ آسِرُه أَسْراً، إذا شَدَدْتُه. ويُطلقُ الأسير على كلِّ محبوسٍ في قيدٍ أو سِجْنٍ.

وأمَّا اصطلاحاً فهم: الرِّجال المقاتلون من الكفَّار إذا ظفر بهم المسلمون أحياءً)

(1)

.

‌ثانياً: أَقْسامُ الأَسْرَى مِنَ الكُفَّار:

ينقسم الأَسْرى من الكفَّار إلى قسمين:

القسم الأوَّل: من يكون رَقيقاً بمجرَّد السَّبْي؛ وهم من فيهم نَفْعٌ من الأَسْرى؛ ولا يَحِلُّ قَتْلُه؛ كالأعمى، والمرأة، والصَّبيِّ، ونحوهم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن قتل النِّساء والصِّبيان؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:(وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ)[رواه البخاري، ومسلم].

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبَايَا بَنِي

(1)

انظر: «الأحكام السلطانية» لأبي يعلى الحنبلي (ص 141)، بتصرَّف يسير.

ص: 153

المُصْطَلِقِ وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الحَارِثِ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ، أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ، وَكَاتَبَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا

) الحديث [رواه أحمد].

القسم الثاني: من لا يكون رَقيقاً بمَجرَّد السَّبْي؛ وهم: الرِّجال، الأحرارُ، البالِغون، المقاتِلون. وهذا القسم يُخيَّر فيه الإمام بحسب المصلحة، ويجبُ عليه الاجتهاد في فِعْل الأصلح ممَّا يلي:

أ - القَتْل؛ لعموم قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].

ب- الرِّقُّ؛ لأنَّه يجوز إقرارُهم على كُفْرهم بالجِزْيَة، فبالرِّقِّ من باب أَوْلَى.

ج، د - المَنُّ عليهم، أو فِداءُ أنفُسِهم بمالٍ، أو بأسيرٍ مُسلِمٍ؛ لقوله تعالى:{حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4].

وعن عِمْران بن حُصَينٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَدَى رَجُلَيْنِ مِنْ المُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِنْ المُشْرِكِينَ مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ)[رواه أحمد، والترمذي].

- أمَّا الرَّقيق الذي يؤخَذُ من الكُفَّار بقتالٍ؛ فيكون من الغنائم؛ لأنَّه مالٌ استُوْلِيَ عليه منهم.

‌ثالثاً: أَحْكامُ غَيْر البالِغينَ مِنْ أَوْلادِ الكُفَّار:

من سُبِيَ من الكُفَّار وهو غير بالغٍ حُكِمُ بإسلامِه، عند وجود أحد ثلاثة أسباب:

أ - أن يُسلِمَ أحدُ أَبوَيْه خاصَّةً؛ فيُحكَمُ بإسلامه تبعاً لمن أَسْلَم منهما؛ لقول

ص: 154

الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21]. ولأنَّ الإسلام يَعْلو، ولا يُعْلى عليه.

ب- أن يُعدَم أحدُ أبويه بدار الإسلام؛ كما لو زنت ذِمِّيَّةٌ ولو بكافرٍ، فأَتَتْ بولدٍ بدار الإسلام، فإنَّه يُحكَمُ بإسلام الوَلَد؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(كُلُّ مَوْلُودٍ يُوْلَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)[رواه مسلم]. فمفهومه أنَّه إذا انقطع عن أبويه أو أحدهما، وأُخرِجَ عن دارهما إلى دار الإسلام، فقد انقطعت تبعيَّته لهما، وصار تابعاً لسَابِيهِ.

فإن سَبَاهُ ذِمِّيٌّ فهو على دِين ذلك الذِّمِّيِّ، كما يَتْبعُ المسلمَ لو سَباهُ.

وإن سُبِيَ مع أَبوَيْه، فهو على دِينهما؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق.

ج- أن يَسْبِيَهُ مُسلِمٌ مُنفَرِداً عن أَحَدِ أبوَيْه؛ فيُحكَمُ بإسلامه بالإجماع؛ لما سبق من مفهوم حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 155

‌فصل أحكام السَّلَب والغَنيمَة

‌أوَّلًا: تعريفُ السَّلَب والغَنيمَة:

السَّلَب لغةً: مأخوذ من السَّلْب -بسكون اللَّام-، وهو الاختلاس. والسَّلَبُ: ما يُنْتَزَعُ مِنَ اللِّباسِ الَّذي على الإنسانِ قَهْراً.

واصطلاحاً: ما على الكافِرِ القَتيلِ من ثيابٍ، وحُلِيٍّ، وسِلاحٍ، ودابَّته التي قاتَلَ عليها، وآلَتِها التي عليها.

أمَّا الغَنِيمَةُ لغةً: فهي مشتقَّةٌ من الغُنْم، وهو الرِّبْحُ والفَضْلُ.

واصطلاحاً: ما أُخِذَ من مالِ حَرْبيٍّ قَهْراً بقتالٍ وما أُلْحِقَ به. كفِدْيةِ أسيرٍ، وهَدِيَّة حَرْبيٍّ لأمير الجَيْش أو غيره بدار الحَرْب، ونحو ذلك.

فالسَّلَب شيءٌ زائدٌ يأخذه المقاتل فوق سهمه من الغنيمة، ممَّا يكون مع القتيل من ثياب، وسلاح، وأموال، وأدواتٍ.

‌ثانياً: مَشْروعِيَّةُ السَّلَبِ والغَنيمَةِ:

دلَّ القرآن والسنَّة والإجماع على مشروعية السَّلَب والغنيمة.

- فمن القرآن: قول الله تبارك وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41].

- ومن السُّنَّة: ما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله

ص: 157

صلى الله عليه وسلم: (أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي:

) وذكر منها: (وَأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ)[رواه البخاري].

وعن أبي قَتادَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ)[رواه البخاري، ومسلم].

- وأمَّا الإجماع؛ فقال ابن عبد البَرِّ: «وأجمعوا أنَّ تحليل الغنائم لهذه الأُمَّة من فضائلها» .

وقال ابن قدامة: «القاتل يستحقُّ السَّلَبَ في الجملة، ولا نعلم فيه خلافاً» .

‌ثالثاً: أَحكامُ السَّلَب:

أ - يستحقُّ القاتِل سَلَب من قتله من الكُفَّار الحربيِّين بشروط:

الشرط الأوَّل: أن يقتلَ الكافرَ الحربيَّ أو يثخنه بجراحٍ تجعله في حكم المقتول. فلو قَطَع مسلمٌ الأطراف الأربعة لكافرٍ، ثمَّ قَتَلَه آخر؛ فسَلَبُه للقاطِع وحده دون القاتل؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بسَلَبِ أبي جَهْلٍ لمُعاذ بن عَمْرو بن الجَموح، وقد كان أَثْبَتَه يوم بَدْرٍ، ولم يقضِ لعبد الله بن مسعودٍ بشيءٍ، وقد كان وَجَدَ أبا جَهْلٍ وبه رَمَقٌ، فاحتزَّ رأسه، وأتى به النبيَّ صلى الله عليه وسلم[رواهما البخاري]، ولأنَّ القاطع هو الذي كَفَى المسلمين شرَّه.

الشرط الثاني: أن يَغِرَّ القاتل بنَفْسِه في قَتْل الكافِر الحربي حال الحَرْب؛ بأن يقتله حال المُبارَزة، أو يقتله والحَرْب قائمةٌ؛ لحديث أبي قَتادَة رضي الله عنه

ص: 158

السابق.

- فلو رمى مُسلِمٌ بسَهْم إلى صفِّ الكفَّار فقَتَل كافراً، فلا سَلَب له.

- ولو حَمَلَ جماعةٌ من المسلمين على واحدٍ فقتلوه؛ فلا سَلَب لهم.

الشرط الثالث: أن يكون المقتول فيه مَنَعةٌ، غير مُثخَنٍ بالجراح.

فلو قَتَل مُسلِمٌ كافراً حربيًّا مشتَغِلًا بأَكْل ونحوه، أو كان نائماً، أو مُنْهزِماً، أو مُثْخَناً بالجِراح، فلا يستحقُّ سَلَبه، ويكون غنيمةً؛ أشبه من قَتَلَ شيخاً فانِياً، أو امرأةً، أو صَبِيًّا، ونحوهم ممَّن لا يُقتَلُ.

الشرط الرابع: أن يكون المقتولُ من المُقاتِلينَ الذين يجوز قَتْلُهم؛ فإن كان من غير المقاتِلينَ ممَّن نُهِيَ عن قَتْلِهم، فلا يستحقُّ القاتل سَلَبُه؛ كمن قَتَلَ امرأةً، أو صَبيًّا، أو شيخاً فانِياً، أو مجنوناً، أو راهِباً في صَوْمَعَتِه. إلَّا أن يكون أحدُ هؤلاء اشترك في القتال، فيَستَحِقُّ قاتلُه سَلَبَه؛ لجواز قَتْلِه حينئذٍ.

ب- لا يَدخُلُ السَّلَب في خُمْس الغَنيمة؛ لما روى عَوْفُ بن مالكٍ الأشجعيُّ، وخالدُ بن الوليد رضي الله عنهما، (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ، وَلَمْ يُخَمِّسِ السَّلَبَ)[رواه أبو داود].

ج- السَّلَب الذي يستحقُّه القاتل: هو ما على المقتول من ثيابٍ وحُلِيٍّ؛ كعِمامَته، وقَلَنسُوته، ومِنْطَقَته، وخُفٍّ، ونحوها.

ومن السَّلَب: ما على المقتول من سلاحٍ وآلات حربٍ؛ كالدِّرْع، والمِغْفَر،

ص: 159

والرُّمْح، والسِّكِّين، والسَّيف، والقَوْس، والنُّشاب، ونحوها.

ومن السَّلَب: دابَّة المقتول التي قاتَلَ عليها، وما عليها من سَرْجٍ، ولِجَامٍ، ومِقْودٍ، ونحوها؛ لأنَّه تابعٌ لها، ويُستعان به في الحَرْب؛ فأشبه السِّلاح.

د - لا يدخلُ في السَّلَب: نَفَقَةُ المقتول، ولا رَحْلُه، ولا خَيْمَتُه، ولا جَنِيبُه؛ وهي دابَّته التي تُقادُ معه، ولم يكن راكبها حال القتال؛ فهذه كلُّها من الغنائم.

هـ- يَستحقُّ قاتلُ الكافِرِ سَلَبَه ولو كان القاتِلُ المسلمُ عَبْداً أَذِن له سيِّده، أو امرأةً، أو كافراً، أو صبيًّا؛ بإذن الإمام أو نائبه؛ لعموم حديث أنس بن مالك، وسَمُرَة بن جُنْدُب رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ)[رواه البيهقي].

‌رابعاً: تَقْسيمُ الغَنائِم:

أ - تُمْلَكُ الغَنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب، وتجوز قسمتها فيها؛ لما ثبت أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قسَّم غنائم بدرٍ [أخرجه البيهقي]، وغنائم بني المُصْطَلِق [أخرجه الشافعيُّ في الأمِّ] قبل أن يرجع إلى المدينة.

ب- تُقسَّم الغنائم بين الغانِمينَ الذين شَهِدوا الوَقْعَة من أهل القتال بقصد القتال، سواء قاتَلَ أو لم يقاتِل؛ لقول عمر رضي الله عنه:(الغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الوَقْعَةَ)[رواه البخاري تعليقاً]، لأنَّه رِدْءٌ للمقاتلين، ومستعدٌّ للقتال، فأشبه المقاتل.

ج- يكون توزيع الغنيمة على من حضر الوقعةَ على النحو التالي:

ص: 160

1) يَبدأُ الإمام أو نائبه بدفع السَّلَب إلى مستحقِّه، ورَدِّ مال مسلمٍ ومعاهدٍ إن كان موجوداً وعُرِفَ، ثمَّ بأُجْرة جَمْع الغنيمة، وحَمْلها، وحِفْظِها؛ لأنَّه من مُؤْنَتِها، ودَفْع جُعْلٍ لمن وُعِدَ به ابتداءً إذا دلَّ على مصلحةٍ؛ كماءٍ، أو قَلْعةٍ، أو ثَغْرةٍ يُدْخَلُ منها إلى حِصْنٍ، ونحو ذلك.

2) ثمَّ يُخمِّس باقي الغنيمة على خَمْسة أسهم.

3) ثمَّ يخمِّس خُمُسه على خَمْسة أسهمٍ، على النحو التالي:

الأوَّل: سَهْمٌ لله ولرسوله، ويُصرَف مَصْرِف الفَيْء؛ أي في مصالح المسلمين.

الثاني: سَهْمٌ لذَوِي قَرابَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهم بنو هاشم، وبنو المُطَّلِب حيث كانوا؛ لما روى جُبَيْر بن مُطْعِم رضي الله عنه قال:(مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّاهِ، أَعْطَيْتَ بَنِي المُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو المُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ)[رواه البخاري].

ويستوي فيه الغنيُّ منهم والفقير؛ لعموم قوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} ، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعطِي أقاربه كلَّهم، وفيهم الغنيُّ؛ كالعباس بن عبد المطَّلب رضي الله عنه.

ويُقسَّم بينهم للذَّكَر مثل حظِّ الأنثيين؛ لأنَّهم يستحقُّونه بالقرابة، فأشبه الميراث والوصيَّة.

الثالث: سَهْمٌ لفُقراء اليتامَى؛ لقوله عز وجل: {وَالْيَتَامَى} . ويُسَوَّى فيه

ص: 161

بين الذَّكَر والأُنثى.

واليتيم: من مات أبوه، ولم يَبْلُغ؛ لحديث عليٍّ رضي الله عنه قال: حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ)[رواه أبو داود].

واشتُرِطَ فَقْرُهم؛ لأنَّ الصَّرْف إليهم لحاجتهم.

الرابع: سَهْمٌ للمَساكين؛ لقوله تبارك وتعالى: {وَالْمَسَاكِينِ} ؛ وهم أهلُ الحاجة؛ فيدخل فيهم الفقراء.

الخامس: سَهْمٌ لأبناء السبيل؛ لقوله سبحانه: {وَابْنِ السَّبِيلِ} ؛ فيُعطَوْن كما يُعطَوْن من الزكاة.

ويُعطَى من الخُمُس جميع الأصناف السابقة بشرط إسلامهم، ويَعمُّ مَنْ بجميع البلاد حسب الطَّاقة.

4) ثمَّ تقسَّم الأخماس الأربعة الباقية بين الغانمين كما يلي:

أ - يبدأ الإمام أو نائبه من الأربعة أخماس بالنَّفَل؛ وهو الزائد على السَّهْم لمصلحةٍ؛ لانفراد بعض الغانمين به؛ فيُقدَّم قبل القِسْمة كالسَّلَب.

ب- يُعْطَى الرَّاجِلُ سَهْماً واحداً.

ج- يُعْطَى الفارِسُ على فَرَسٍ عربيٍّ ثلاثة أسهمٍ؛ سهمٌ له، وسهمان لفَرَسِه.

والأصل في هذا التقسيم: ما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا. قَالَ: فَسَّرَهُ نَافِعٌ

ص: 162

فَقَالَ: إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ فَرَسٌ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَسٌ فَلَهُ سَهْمٌ) [أخرجه البخاري].

ج- ويُعْطَى الفارِسُ على فَرَسٍ هَجينٍ، أو مُقْرِفٍ، أو بِرْذَوْنٍ: سهمان؛ سهمٌ له، وسهمٌ لفرسه؛ لأنَّ نَفْع العِراب وأثره في الحرب أفضل؛ فيكون سَهْمُه أرجح، كتفاضل من يُرْضَخ له.

والهجين: هو ما كان أبوه فقط عربيًّا. والمُقْرِف: ما كانت أمُّه فقط عربيَّةً. والبِرْذَوْن: ما كان أبواه نَبَطِيَّان.

ولا يُسْهَمُ لغير الخَيْل؛ كالبِغال، والفِيَلَة.

3) لا يُسْهَمُ من الغنيمة إلَّا لمن اجتمعت فيه أربعة شروط:

الأوَّل: البلوغ.

الثاني: العقل.

الثالث: الحريَّة.

الرابع: الذُّكُورة.

فإن اختلَّ شرطٌ منها؛ رُضِخَ له، ولم يُسْهَم. والرَّضَخُ: هو العَطاء دون السَّهْم لمن لا سَهْمَ له من الغنيمة.

فيَرْضَخُ الإمام أو نائبه لمُميِّزٍ، وقِنٍّ، وخُنْثى، وامرأةٍ على ما يراه؛ فيفضِّل المقاتل وذا البأس، ومن تَسْقِي الماء وتداوي الجرحى على من ليست كذلك.

ص: 163

إلَّا إنَّه لا يبلغ به لراجلٍ منهم سَهْم الرَّاجل، ولا لفارسٍ منهم سَهْم الفارس؛ لئلَّا يساوي من يُسهَمُ له.

ص: 164

‌فصل أحكام الفَيْء

‌أوَّلًا: تعريفُ الفَيْءِ:

الفَيْءُ لغةً: بفتح الفاء وياءٍ ساكنةٍ؛ من فاءَ الظِّلُّ: إذا رَجَعَ نحو المَشْرِقِ، وهو اسمٌ لما يؤخذ من الكفَّار؛ لأنَّه رجع منهم إلى المسلمين.

واصطلاحاً: ما أُخِذَ من مالِ كافرٍ بحقٍّ، بلا قتالٍ، وما تركوه فَزَعاً من المسلمين، وما تُرِك عن ميِّت ولا وارث له.

‌ثانياً: مَشْروعيَّة الفَيْءِ:

الأصل في مشروعيَّة الفَيْءِ القرآن، والسُّنَّة:

- فمن القرآن: قوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 6 - 7].

- ومن السُّنة: حديث عمرَ رضي الله عنه قال: (كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، مِمَّا لَمْ يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ، وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللّاهِ)[رواه البخاري، ومسلم].

ص: 165

‌ثالثاً: مَصْرِفُ الفَيْءِ:

يُصْرَفُ الفَيءُ في مصالح المسلمين، كما يُصْرف خُمْسُ خُمْسِ الغنيمة؛ لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(اجْتَمِعُوا لِهَذَا المَالِ فَانْظُرُوا لِمَنْ تَرَوْنَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تَجْتَمِعُوا لِهَذَا المَالِ فَتَنْظُرُوا لِمَنْ تَرَوْنَهُ، وَإِنِّي قَدْ قَرَأْتُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ سَمِعْتُ اللهَ يَقُولُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 7 - 8]. وَاللهِ مَا هُوَ لِهَؤُلَاءِ وَحْدَهُمْ، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآيَةَ [الحشر: 9]. وَاللهِ مَا هُوَ لِهَؤُلَاءِ وَحْدَهُمْ، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآيَةَ [الحشر: 10]. وَاللهِ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ إِلاَّ لَهُ حَقٌّ فِي هَذَا المَالِ، أُعْطِيَ مِنْهُ أَوْ مُنِعَ، حَتَّى رَاعٍ بِعَدَنَ) [رواه البيهقي].

- ويُبْدَأ فيه بالأهمِّ فالأهمِّ من سدِّ الثغور، وكفاية أهلها بالخيل والسلاح، وعمارتها؛ لأنَّ أهمَّ الأمور حفظ بلاد المسلمين، وأَمْنهم من عدوِّهم.

ثمَّ بالأهمِّ فالأهمِّ من إصلاح الجسور وعمارتها، وإصلاح الطُّرُق، والمساجد، ورِزْق القُضاة والأئمَّة المؤذِّنين والفُقهاء، وغير ذلك ممَّن يحتاج

ص: 166

إليه المسلمون.

فإذا فَضَل شيءٌ من الفَيْءِ عن المصالح التي يعمُّ نَفْعُها، قُسِمَ الفاضلُ بين أحرار المسلمين؛ الغنيِّ منهم والفقير على السواء؛ لأنَّهم استحقُّوه بمعنًى مُشتركٍ، فيستوون فيه، كالميراث.

‌رابعاً: مِنْ أَحكامِ بيتِ مَالِ المُسلِمينَ:

بيتُ مالِ المسلمين: هو المكان الذي تُحفَظُ فيه الأموالُ العامَّة للدَّولَةِ الإسلاميَّة من المنقولات؛ كالفَيْءِ، وخُمْسِ الغنائم، والمالِ المجهولِ صاحبُه، وتَرِكَةِ من لا وارث له، ونحو ذلك، إلى أن تُصْرَف في وجوهها.

وبيت مال المسلمين له أحكامٌ تتعلَّق به؛ منها ما يلي:

أ - بيت مال المسلمين مِلْكٌ للمسلمين؛ لأنَّه لمصالحهم.

ب- من أتلف بيت مال المسلمين، أو شيئاً منه، فإنَّه يضمنُه كما يضمنُ غيرَه من المُتْلَفات.

ج- يَحْرُمُ أَخْذُ شيءٍ من بيت مال المسلمين بغير إِذْنِ الإمام؛ لأنَّ تعيين مصارفه وترتيبها يُرْجَعُ فيه إلى الإمام، فافتقرَ الأَخْذُ منه إلى إِذْنِه.

ص: 167

‌باب عَقْد الذِّمَّة

‌أوَّلًا: تعريفُ عَقْدِ الذِّمَّة:

الذِّمَّة لغةً: هي العَهْدُ، والضَّمان، والأمانُ؛ وهي مشتقَّةٌ من الذَّمِّ نقيض المَدْح، وسُمِّي العَهْدُ ذِمَّة؛ لأنَّ نقضه يوجب الذمَّ.

واصطلاحاً: هو إقرارُ الإمامِ أو نائبه بعضَ الكُفَّار على كُفْرِهم، بشَرْطِ بَذْل الجِزْيَة، والتزام أحكام المِلَّةِ.

‌ثانياً: مَشْروعيَّة عَقْدِ الذِّمَّة:

دلَّ على مشروعيَّة عقد الذِّمَّة: الكتاب، والسُّنَّةُ، والإجماع.

- فمن الكتاب: قول الله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].

- ومن السنَّة: ما جاء عن المُغيرَة بن شُعْبَة رضي الله عنه أنَّه قال لعامل كسرى يوم نهاوند: (فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ، أَوْ تُؤَدُّوا الجِزْيَة)[رواه البخاري].

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن قدامة: «أجمع المسلمون على جواز أَخْذ الجِزْيَة في الجملة» .

ص: 169

‌ثالثاً: شُروطُ عَقْدِ الذِّمَّة:

تنقسم شروط عقد الذمَّة إلى قسمين:

الأوَّل: شروط وُجوب:

يجبُ على الإمام أو نائبه عقد الذِّمَّة لبعض الكفار إذا أُمِنَ مكرُهم وغَدْرُهم، والتزموا للمسلمين بأربعة أحكام:

أ - أن يبذلوا الجِزْية كلَّ عامٍ عن يدٍ وهم صاغرون؛ لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} . والجزية: مالٌ يؤخَذ من الكُفَّار على وجه الصَّغار كلَّ عامٍ، مقابل حَقْن دمائهم، وإقامتهم بدار الإسلام بأمانٍ.

ب- أن يلتزموا أحكام الإسلام؛ بأن يقبلوا ما يُحكَمُ به عليهم من أداء حقٍّ، أو تَرْك مُحَرَّم.

ج- أن لا يفعلوا ما فيه ضررٌ على المسلمين؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)[أخرجه أحمد، وابن ماجه].

د - أن يلتزموا بأن لا يذكروا دين الإسلام إلَّا بخير.

الثاني: شروط صِحَّة:

لا يصحُّ عقد الذِّمَّة للكفَّار إلَّا بشرطين:

أ - أن يكونوا من أهل كتاب؛ وهم اليهود والنصارى -على اختلاف طوائفهم-، أو من له شُبْهة كتاب؛ كالمجوس؛ لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ

ص: 170

لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].

ولما روى بَجَالَةُ قال: (كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَمِّ الأَحْنَفِ، فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ المَجُوسِ، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الجِزْيَة مِنَ المَجُوسِ، حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ)[رواه البخاري].

ب- أن يكون العَقْدُ من الإمام أو نائبه؛ لتعلُّق نظر الإمام به ودرايته بجهة المصلحة، ولأنَّه عقدٌ مؤبَّدٌ، فعقده من غير الإمام افتئاتٌ عليه.

* أَحْكامُ الجِزْيَة:

- يُرجَع في تقدير الجِزْيَة إلى اجتهاد الإمام، وليس في تقديرها شيءٌ مقدَّرٌ واجبٌ.

- تُؤخَذ الجزية عند انقضاء كلِّ سَنَةٍ هلاليَّةٍ، كالزكاة؛ لتكرُّرها بتكرُّر السِّنين.

- لا تؤخذ الجزية من امرأةٍ، ولا صبيٍّ، ولا مجنونٍ، ولا قِنٍّ، ولا مريضٍ مَرَضاً مُزْمِناً، ولا أعمى، ولا شَيْخٍ فانٍ، ولا راهِبٍ بصَوْمَعَةٍ إلَّا ما زاد على بُلْغَتِه؛ لأنَّهم لا يُقْتَلون، والجِزْيَة وجَبَت بَدَلًا عن القَتْل.

ص: 171

وعن أَسْلَم مولى عمر رضي الله عنه قال: (كَتَبَ عُمَرُ إلَى أُمَرَاءِ الجِزْيَة: لَا تَضَعُوا الجِزْيَة إِلاَّ عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ المُوسَى، وَلَا تَضَعُوا الجِزْيَة عَلَى النِّسَاءِ، وَلَا عَلَى الصِّبْيَانِ)[رواه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق].

فإن كان الرُّهبان ممَّن يخالطون الناس، ويتَّخذون المتاجر والمزارع، أُخِذَت منهم الجزيةُ اتِّفاقاً.

- ولا تؤخذ الجِزْيَة من خُنْثى مُشْكِلٍ؛ لأنَّ الأصل براءته منها؛ فإن بان رَجُلًا؛ أُخِذَت منه للمستقبل من اتِّضاح ذكوريَّته دون الماضي.

- ولا تؤخذ الجِزْيَة من فقيرٍ غير مُتكَسِّبٍ يَعْجَز عنها؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

- من أَسْلَم من أهل الجِزْيَة بعد الحَوْل، سَقَطَتْ عنه الجِزْيَة؛ لعموم قول الله عز وجل:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. وعن مَسْروقٍ: (أَنَّ رَجُلاً مِنَ الشُّعُوبِ -العَجَمِ- أَسْلَمَ، فَكَانَتْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الجِزْيَة، فَأَتَى عُمَرَ رضي الله عنه فَأَخْبَرَهُ، فَكَتَبَ: أَنْ لَا تُؤْخَذَ مِنْهُ الجِزْيَة)[رواه البيهقي].

ص: 172

‌فصل أحكام أهل الذِّمَّة

يترتَّب على عَقْد الذِّمَّة جملةٌ من الأحكام؛ وهي:

‌أوَّلًا: الأمور التي يُمنَعُ أَهْل الذِّمَّة من فِعْلِها:

أ - يُمْنَعُ أهل الذِّمَّة من إحداث الكنائس والبِيَع، وأماكن يجتمعون فيها لصلاتهم في شيءٍ من أرض المسلمين؛ لأنَّها ملكٌ للمسلمين، فلا يجوز لهم أن يبنوا فيها مجامع للكفر. إلَّا إن شرطوا شيئاً من ذلك فيما فُتِحَ صُلْحاً على أنَّه لهم؛ فنُقِرُّه معهم بالخراج؛ لأنَّهم استحقُّوه بالشرط، فوجب الوفاء به.

ويمنعون كذلك من بناء ما انهدم من دور عبادتهم؛ لأنَّه بناء كنيسة في دار الإسلام، فمنعوا منه كابتداء بنائها.

- فإن أحدثوا شيئاً من ذلك وجب هَدْمُه؛ إزالةً لعُدْوانهم.

- ولا يجبُ هَدْمُ ما كان موجوداً منها وقت فَتْح الأرض التي هي بها.

- ولا يُمنعون من تَرْميم ما تَشَعَّثَ وتفرَّق منها؛ لأنَّهم مَلَكوا استدامتها، فمَلَكوا رَمَّ شَعَثِها.

ب- يُمنعون كذلك من إظهار المُنكَر؛ كنكاح المَحارِم، وشُرْب الخَمْر، وأَكْل الخِنْزير، وإظهار أعيادِهم، والصَّلَيب، وضَرْب النَّاقوس؛ لما فيه من إيذاءٍ للمسلمين.

ص: 173

ج- يُمْنَعونَ من دُخول حَرَم مَكَّة؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28].

د - يُمْنَعونَ من الإقامة بالحِجازِ؛ كالمدينة، واليَمامة، وخَيْبر، وفَدَك، ويَنْبُع؛ لما روى أبو عُبَيْدَة بن الجرَّاح رضي الله عنه قال:(إنَّ آخِرَ كَلَامُ تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قَالَ: أَخْرِجُوا الْيَهُودَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَأَهْلَ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ)[رواه ابن أبي شيبة]. وعن عمر رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ إِلَّا مُسْلِمًا)[رواه مسلم]. قال الإمام أحمد: «جَزيرةُ العَرَبِ: المَدِينَةُ وَمَا وَالَاهَا» . ويدلُّ له أنَّه ليس أحدٌ من الخُلَفاء أخرج أحداً من اليَمَنِ وتَيْماءَ.

- ويجبُ على الإمام تطبيقُ أحكام الإسلام عليهم في ضَمان نَفْسٍ، ومالٍ، وعِرْضٍ، وفي إِقامَةِ حَدٍّ فيما يعتقدون تحريمه؛ كالزِّنا، والقَتْل، والسَّرِقَة، ونحو ذلك.

ولا يُحدُّون فيما يعتقدون حِلَّه؛ كشُرْبِ خَمْرٍ، وأَكْلِ خِنْزيرٍ، ونِكاحِ ذاتِ مَحْرَمٍ؛ لأنَّهم يُقَرُّون على كُفْرِهِم، وهو أعظمُ جُرْماً وإثْماً من ذلك، إلَّا أنَّهم يُمْنَعون مِنْ إظهاره؛ لتأذِّي المسلمين به.

‌ثانياً: الأحكامُ التي تَجِبُ لأَهْل الذِّمَّة:

أ - يحرُمُ قَتْلُهُم، وأَخْذُ أموالهم، ويَجِبُ على الإمام حِفْظُهم، ومَنْعُ من

ص: 174

يُؤذِيهم؛ لأنَّهم بَذَلُوا الجِزْيَة على ذلك.

ب- يَجِبُ على الإمام فَكُّ أَسْراهُمْ بعد فَكِّ أَسْرَى المسلمين؛ لأنَّه جَرَتْ عليهم أحكامُ الإسلام، وتأبَّد عَقْدُهُم، فَلَزِمَه ذلك كما يَلْزَمُه للمسلمين.

ج- ليس للحاكم -إذا لم يرتفعوا إليه- أن يَتَتبَّع شيئاً من أمورهم، ولا أن يدعوهم إلى حُكْم شريعتنا؛ لظاهر قوله سبحانه:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، ولإقْرارِنا لهم بالجِزْيَة، ولأنَّهم لا يَلْزَمُهُم قَضاءُ شيءٍ من شرائع الإسلام.

‌ثالثاً: ما يحرُمُ على المسلمين فِعْلُه مع أهل الذِّمَّة:

أ - يَحرُمُ على المسلمين القيام لأهل الذِّمَّة، وتصديرُهم في المجالس؛ لأنَّه تعظيمٌ لهم.

ب- ويَحرُمُ بَداءتُهم بالسَّلام؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ)[رواه مسلم].

وإن سَلَّم ذِمِّيٌّ على مُسلِمٍ، لزمه ردُّ السلام بقوله:«وعليكم» ؛ لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ)[رواه البخاري، ومسلم].

ج - ويحرُمُ شهود أعيادهم؛ لأنَّه تعظيمٌ لهم.

‌رابعاً: ما يُكره على المسلمين فِعْلُه مع أهل الذِّمَّة:

د - يُكرَهُ تَشْميت الذمِّي إذا عطس بقول: «يرحمك الله» ، فإن قال له: «يَهْدِيك

ص: 175

الله» جاز. وكذا إن شَمَّتَ كافرٌ مُسْلِماً؛ أجابه بقوله: «يهديك الله ويصلح بالك» ؛ لحديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قال: (كَانَتْ الْيَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجَاءَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: يَرْحَمُكُمْ اللهُ، فَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي]، ولأنَّ طلب الهداية لهم جائز.

د - ويُكره للمسلمين التشبُّه بهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)[رواه أحمد، وأبو داود].

ص: 176

‌فصل ما ينتقض به عهد الذِّمِّي

ينتقض عَهْدُ الذمِّيِّ في الأحوال التالية:

أ - إذا امتنع عن بَذْل الجِزْيَة بشروطها.

ب- إذا امتنع عن التزام أحكام الإسلام، سواء شُرِطَ عليه ذلك أو لا، ولو

لم يحكم عليه بها حاكمنا؛ لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ؛ فقد قيل: الصغار: التزام أحكام الإسلام.

ج- إذا زَنَى بمُسْلمةٍ، أو وطئ مسلِمةً بنكاح؛ لما روى سويد بن غفلة رضي الله عنه:(أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، مِنْ نُبَيْطِ أَهْلِ الشَّامِ نَخَسَ بِامْرَأَةٍ عَلَى دَابَّةٍ، فَلَمْ تَقَعْ، فَدَفَعَهَا بِيَدِهِ فَصَرَعَهَا، فَانْكَشَفَتْ عَنْهَا ثِيَابُهَا، فَجَلَسَ لِيُجَامِعَهَا، فَرُفِعَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ، وَقَالَ: لَيْسَ عَلَى هَذَا عَاهَدْنَاكُمْ)[رواه ابن أبي شيبة].

د - إذا قَطَعَ الطريق؛ لأنَّ مقتضى عقد الذِّمَّة أن يُؤمَنَ جانِبُه، فلم يُوفِ به.

هـ- إذا تَجَسَّسَ على المسلمين، أو آوى جاسوساً؛ لما فيه من الضَّرَر على المسلمين.

و - إذا ذَكَرَ الله تعالى، أو ذَكَر كِتابَه، أو دِينَ الإسلام، أو رَسولَه صلى الله عليه وسلم بسُوءٍ ونحوه؛ لأنَّ فيه ضرراً على المسلمين.

ص: 177

ح - إذا تعدَّى على مُسْلِمٍ بقَتْلٍ، أو فِتْنةٍ في دِينِه؛ لأنَّه ضررٌ يعُمُّ المسلمين، أَشْبَه ما لو قاتلهم.

* فمن أتى من أهل الذمَّة بشيءٍ من هذه الأعمال، ترتَّب عليه الأحكام التالية:

أ - انْتَقَضَ عَهْدُه.

ولا يَنْتقِضُ عَهْدُ نسائِهِ ولا أولادِهِ؛ لأنَّ النَّقْضَ وُجِدَ منه دُونَهُم، فاختصَّ حُكمُه به.

ب- يُخيَّرُ الإمامُ فيه -ولو قال: تُبْتُ- بين القَتْل، والرِّقِّ، والمَنِّ، والفِداءِ؛ كالأسير الحربيِّ؛ لأنَّه كافر لا أمان له، قُدِرَ عليه في دار الإسلام بغير عقد ولا عهدٍ، ولا شبهة ذلك.

ج- يَصِيرُ مالُهُ فَيْئاً للمُسلمين؛ لأنَّ المال لا حُرْمَة له في نَفْسِه، وإنَّما هو تابعٌ لمالِكِه حقيقةً، وقد انتقضَ عَهْدُ المالكِ في نَفْسِه، فكذلك مالُهُ.

- وإذا أَسْلَمَ من انْتَقَضَ عَهْدُه من أَهْل الذِّمَّة، حَرُمَ قتْلُه، ولو كان سَبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ لحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الذُّنُوبِ)[رواه أحمد].

أمَّا من قَذَفَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فيُقتلُ بكلِّ حالٍ؛ لأنَّ القَتْلَ حَدُّ من قَذَف الأنبياء أو أُمَّهاتِهم، فلا يَسْقُطُ بالإسلام.

ص: 178

‌كتاب الأطعمة

‌أوَّلًا: تعريفُ الأَطْعِمَة:

الأَطْعِمَةُ لغةً: جَمْعُ طَعامٍ؛ وهو اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُؤكَلُ، وقد يُطْلَقُ على المشْروب؛ كما في قوله تعالى:{فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249].

واصطلاحاً: لا يخرج المعنى الاصطلاحي للأطعمة عن معناه اللغوي؛ فقالوا: هو ما يُؤكلُ ويُشْرب.

والمقصود هنا: بيان ما يَحْرُمُ أَكْلُهُ وشُرْبُه، وما يُباحُ.

‌ثانياً: حُكمُ الأَطْعِمَة:

الأصلُ في الأطعمة الحِلُّ؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، وقوله:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]. وغيرها من النصوص الدَّالَّة على هذا الأصل.

والطعامُ الحَلال هو ما اجتمع فيه وَصْفان:

الأوَّل: أن يكون طاهراً؛ فلا يُباح الطعام النَّجسُ، ولا المُتنجِّس؛ لأنَّه من الخبائث؛ قال تعالى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].

الثاني: أن يكون غير ضارٍّ للعقول والأبدان؛ فلا يُباح أَكْلُ السُّموم؛ لأنَّ

ص: 179

أَكلها يفضي إلى التهلكة، وقد نهى الله تعالى عن ذلك؛ فقال:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].

ولا يباح أكلُ المُسْكِرات، والمُفَتِّرات؛ لأنَّها تَضرُّ العقول والأبدان.

- ويُباح أَكْلُ ما لا يُؤكَلُ عادةً، إذا صار بصفةٍ يسوغ أكْلُها؛ كأَكْل المِسْك، وقِشْر البَيْض، أو قَرْن الحيوان إذا دُقَّ.

- ويُباح أَكْلُ طعامٍ وشرابٍ مُسَوِّسٍ بسُوسِه، ومُدَوِّدٍ بدُودِه؛ كفاكهة مدوِّدةٍ أو مسوِّسة، وكباقلَّاء بذُبابِه، أو خيارٍ وقِثَّاء وحبوبٍ وخَلٍّ بما فيه من دُودٍ، فيُؤكَلُ ما فيها تبعاً لها لا استقلالًا.

‌ثالثاً: الأَطْعِمَةُ المُحَرَّمَةُ:

يَحرُمُ من الطعام ما يلي:

أ - النَّجِس؛ كالمَيْتَة، والدَّم، ولحم الخنزير، وكذا البَوْل والرَّوث.

- أمَّا الميتة والدَّم؛ فلقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]. ومثله المتنجِّس؛ وهو الطاهر الذي خالط النَّجاسة.

والمراد بالميْتَة: كلُّ ما فارق الحياة بدون ذكاةٍ شرعيَّةٍ؛ ومنها: المَوْقوذَة، والمُتَردِّية، والنَّطيحَة، وما أَكَل السَّبُع منه.

والمراد بالدَّم: المَسْفوح منه. وأمَّا ما يبقى في عُروق اللَّحم بعد التذكية فطاهرٌ مباحٌ.

ص: 180

- وأمَّا لحم الخنزير؛ فلقوله تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3].

- وأمَّا البَوْل والرَّوْث؛ فللإجماع على نجاستهما. والطاهر منهما محرَّمٌ لاستقذاره.

ب - الحُمُر الأهليَّة -وهي: التي تألف البيوت ويركبها الناس-؛ لما روى جابرُ بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ

) [رواه البخاري، ومسلم].

ج- الحيوانات التي تَفْتَرس بنابِها؛ كالأَسَد، والنَّمِر، والفَهْد، والذِّئْب، والثَّعْلب، والدُّبِّ، والنِّمْس، وابن آوى، والكَلْب، والقِرْد، والسِّنَّوْر، وابن عِرْسٍ، ونحوها ممَّا له نابٌ يفترس به. وذلك لما روى أبو ثَعْلَبة الخُشَنيِّ رضي الله عنه:(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ)[رواه البخاري، ومسلم].

د - الطُّيور التي تصيد بمِخْلَبها؛ كالعُقاب، والباز، والصَّقْر، والباشِق، والشَّاهين، والحِدَأَة، والبُومَة، ونحوها ممَّا له مِخْلَبٌ يصيد به. وذلك لما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال:(نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ)[رواه مسلم].

هـ- الطُّيور التي تأكل الجِيَف؛ كالنَّسْر، والرُّخَم، والقاق، واللَّقْلَق، وغُراب

ص: 181

البَيْن والأبْقَع؛ فيحرُم أَكْلُها لخَبَث ما تتغذَّى به.

و - الحيوانات والدوابُّ المُستخْبَثَة؛ كالوطواط (وهو الخُفَّاش)، والفأر، والزُّنْبور، والذُباب، والقَمْل، والبراغيث، والخُطَّاف، والقُنْفُذ، والنِّيص، والدِّيدان، والجُعْل، وبنت وَرْدان، والخُنْفُس، والحِرْباء، والحَرْذون.

والمعتبر في المُسْتَخْبَث من الحيوان: ما تستخبثُه العَرَب ذوو اليسار من أهل الأمصار، وهم أهل الحجاز؛ لأنَّهم الذين نزل عليهم الكتاب، وخوطبوا به وبالسنَّة، فرُجِعَ في مطلق ألفاظهما إلى عُرْفهم دون غيرهم.

ز - ما أَمَرَ الشَّرْع بقَتْلِه؛ كالفأر، والحيَّة، والعَقْرب، والغُراب الأَبْقَع، والحِدَأة، والكَلْب العَقور؛ فعن عائشة رضي الله عنها، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الحَرَمِ: الفَأْرَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالحُدَيَّا، وَالغُرَابُ، وَالكَلْبُ العَقُورُ)[رواه البخاري، ومسلم].

ح- ما نَهَى الشَّرْعُ عن قَتْلِه؛ كالهُدهُد، والنَّحْل، والنَّمْل؛ فعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال:(إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةِ، وَالنَّحْلَةِ، وَالهُدْهُدِ، وَالصُّرَدِ)[رواه أبو داود].

ط- ما تَوَلَّد من مَأْكولٍ وغَيْر مَأْكولٍ؛ كالبَغْل -وَلَد الخَيْل والحِمَار الأهليِّ-، والسِّمْع -وَلَد الضَّبُع من الذِّئب-، والعِسْبارِ -وَلَد الذئْبة من الذِّيخ؛ ذَكَر الضَّبُع-؛ وذلك تغليباً لجانب التَّحريم.

ص: 182

‌فصل ما يباح أكلُه من الحيوانات

ما سوى ما ذُكِرَ من المُحَرَّمات من الحيوان والطَّير والدوابِّ حلالٌ يُباحُ أَكْلُه؛ وذلك بناءً على أصل الإباحة؛ وهو داخل في عموم النصوص الدالَّة على الإباحة، وبيان ذلك على النحو التالي:

‌أوَّلًا: أَقسامُ الحَيوان الذي يُباحُ أَكْلُه:

ينقسم الحيوان مباحُ الأكل إلى قسمين:

الأوَّل: حيوان البَرِّ: فيُباح من حيوان البرِّ ما يلي:

أ - بَهيمَةُ الأنعام؛ وهي الإبل، والبقر، والغنم؛ لقوله عز وجل:{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1].

ب- الخَيْل بأنواعها؛ العُرَاب، والبَراذين؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:(نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، وَرَخَّصَ فِي الخَيْلِ)[رواه البخاري، ومسلم]. وعن أسماء رضي الله عنها قالت: (نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلْنَاهُ)[رواه البخاري، ومسلم].

ج- الضَّبُع؛ لحديث عبد الله بن أبي عمَّار قال: (سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّاهِ، عَنِ الضَّبُعِ، فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهَا. قُلْتُ: أَصَيْدٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: أَسَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ)[رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه].

ص: 183

د - الزَّرافَة؛ لأنَّها من الطيِّبات؛ فتدخل في عموم قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 175].

هـ- الأَرْنَب؛ لما روى أَنَسٌ رضي الله عنه قال: (أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى القَوْمُ، فَلَغَبُوا، فَأَدْرَكْتُهَا، فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا وَبَعَثَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِوَرِكِهَا أَوْ فَخِذَيْهَا -قَالَ: فَخِذَيْهَا لَا شَكَّ فِيهِ- فَقَبِلَهُ. قُلْتُ: وَأَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَأَكَلَ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: قَبِلَهُ)[رواه البخاري، ومسلم].

و - الوَبْر؛ لأنَّه مستطابٌ يَعْتلِف النبات والبقول؛ فأُبيح كالأرنب؛ ولأنَّه صيدٌ تُفْدَى في الإحرام والحَرَم.

ز - اليَرْبوع؛ لأنَّه صيدٌ يُفْتَدَى في الإحرام والحَرَم؛ وقد حَكَم فيه عُمَرُ رضي الله عنه بجَفْرةٍ. [رواه مالك، وعبد الرزاق].

ح- بَقَر الوَحْش؛ على اختلاف أنواعها؛ كالأَيِّل، والثَيْتَل، والوَعِل، والمَها؛ لأنَّها مستطابةٌ، وقد قضى الصحابة فيها بالجزاء على المُحْرِم.

ط- حُمُر الوَحْش؛ لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أنَّه (رَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَى بَعْضُهُمْ، فَأَدْرَكُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللهُ)[رواه البخاري، ومسلم].

ص: 184

ي- الضَّبُّ؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ سَعْدٌ، وَأُتُوا بِلَحْمِ ضَبٍّ، فَنَادَتِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُوا فَإِنَّهُ حَلَالٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي)[رواه البخاري، ومسلم].

ك- الظِّباء بجميع أنواعها؛ لأنَّها مستطابةٌ، تُفدى في الإحرام والحَرَم.

ل- باقي الطُّيور؛ أي: ما عدا ما تقدَّم بيان تحريمه؛ كالنَّعام، والدَّجاج، وغُراب الزَّرع، والحَمَام بأنواعه، والطاووس، والببَّغاء، والعصافير، والبطِّ، والإوَزِّ، والحُبارى، وما أشبهها ممَّا يلتقط الحَبَّ، أو يُفدَى في الإحرام؛ لأنَّها مستطابةٌ؛ فتدخل في عموم قوله تعالى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 175].

الثاني: حَيوانُ البَحْر:

الأصلُ في حيوانات البَحْر أنَّها حلالٌ؛ لدلالة القرآن الكريم، والسُّنَّة المطهَّرة على ذلك.

-فمن القرآن: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96].

- ومن السنَّة: ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ المَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ البَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هُوَ الطَّهُورُ

ص: 185

مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ) [رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي].

ويُستثنى من حِلِّ حيوان البحر ما يلي:

أ - الضِّفْدَع: يَحرُمُ أَكْلُها لأنَّها من المُستخْبَثات، وللنَّهي عن قَتْلها؛ فعن عبد الرَّحمن بن عُثْمان:(أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضِفْدَعٍ، يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ، فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا)[رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي].

ب- الحيَّةُ: يَحرُمُ أَكْلُها؛ لأنَّها من المُسْتَخْبثاتِ.

ج- التِّمْساح: يَحرُمُ أَكْلُه؛ لأنَّه يَفْتَرِسُ بِنابِهِ.

‌ثانياً: حُكمُ أَكْل الجَلَّالَة:

الجَلَّالَة: هي الدابَّة التي أكثرُ عَلَفِها النَّجاسة. سُمِّيت بذلك؛ لأنَّها تأكُلُ العَذِرة، كُنِّي عنها بالجِلَّة؛ فقيل لآكلتها: جَلَّالَة.

- ويَحرُمُ أَكْلُ الجَلَّالَة، وأكْلُ بَيْضِها، وشُرْبُ أَلْبانها؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال:(نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ الجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا)[رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه].

- ويُكرَه رُكوبها؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نُهِيَ عَنْ رُكُوبِ الجَلَّالَةِ)[رواه أبو داود].

- فإن كان أكثر عَلَفِها الطَّاهر لم تَحرُم.

- ولا يَحلُّ أَكلُ الجلَّالة حتَّى تُحبَس ثلاثة أيَّامٍ بلياليهنَّ، وتُطْعَم الطَّاهِر،

ص: 186

وتُمنع من النجاسة؛ لما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما (أَنَّهُ كَانَ يَحْبِسُ الدَّجَاجَةَ الجَلَالَةَ ثَلَاثًا)[رواه ابن أبي شيبة].

‌ثالثاً: حُكمُ أَكْلِ الزَّرْع والثَّمَر المَسْقِيِّ بنَجِسٍ:

يَحرُمُ أَكْلُ زَرْعٍ وثَمَرٍ سُقِيَ بنَجِسٍ، أو سُمِّد بنَجِسٍ؛ لأنَّه يتغذَّى بالنجاسة وتنمو أجزاؤه بسببها؛ كالجلَّالة.

فإن سُقِيَ الزَّرْع والثَّمَر بعده بماء طهورٍ يَستهلِكُ عين النَّجاسة، فإنَّه يَطْهُرُ ويَحِلُّ؛ كالجلَّالة إذا حُبِسَت وأُطْعِمَت الطاهرات.

‌رابعاً: الأَطْعِمَةُ المَكْروهَةُ:

يُكرَه أَكْلُ ما يلي:

أ - التُّراب، والفَحْم، والطِّين الذي لا يُتداوَى به؛ وذلك لضرره. فإن كان يُتداوَى به؛ كالطِّين الأَرْمَنيِّ، فلا يُكره.

ب- الغُدَّة وأُذن القلب؛ لأنَّ النَّفْس تَعافُهُما وتَسْتَخْبِثُهما.

والغُدَّة: لحمٌ يَحدُثُ من داءٍ بين الجِلْدِ واللَّحْم، يتحرَّك بالتحريك.

وأُذُنُ القلب: جانبُه الذي يتجمَّع فيه الدَّمُ.

ج- البَصَل والثُّوم، ونحوهما؛ كالكُرَّاث، والفِجْل، ما لم ينضج بطَبْخٍ؛ لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ البَقْلَةِ، الثُّومِ -وقَالَ مَرَّةً: مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ- فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا،

ص: 187

فَإِنَّ المَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ) [رواه مسلم].

د - أَكْلُ حَبٍّ دِيسَ بُحُمُرٍ أهليَّة، أو بِغالٍ؛ لأنَّها تبول وتروث عليه، وبولها وروثها نجسان. ولا يؤكل حتَّى يُغسَل.

هـ- مُدَاوَمَةُ أَكْل اللَّحْم؛ لأنَّه يُورِثُ قسوة القلب.

ص: 188

‌فصل أحكام المضطرِّ

المُضْطَرُّ هنا: هو من أصابَتْهُ ضرورةٌ ألجأته إلى أَكْلِ مُحرَّمٍ، بحيث يخاف على نَفْسه التَّلَف إن لم يأْكُل منه، أو يخاف إن ترك الأكل أن يعجز عن المشي وينقطع عن رفقته فيهلك، أو يعجز عن الركوب فيهلك، ونحو ذلك.

- فمن اضْطُرَّ إلى أَكْل مُحرَّمٍ -غير سمٍّ ونحوه- حضراً أو سفراً، وَجَبَ عليه الأَكْل من ذلك المُحرَّم ما يسدُّ به رَمَقَه، ويأْمَنُ معه الموت؛ لقوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وقوله سبحانه:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3].

- وليس له أن يأْكُلَ إلى حَدِّ الشّبَع؛ لأنَّ الله تعالى حَرَّم الميتة، واستثنى ما اضطُرَّ إليه، فإذا اندفعت الضرورة لم تَحِلَّ، كحالة الابتداء.

- فإن كان في سَفَرٍ؛ فلا يَحِلُّ له الأَكْلُ من المُحَرَّم، إلَّا أن يكون سَفَرُه مُباحاً. فإن كان في سَفَرٍ مُحرَّمٍ، ولم يَتُبْ، فلا يَحِلُّ له أَكْلُ المُحرَّم؛ لأنَّ أَكْلَ المُضطرِّ للمُحرَّم رُخصةٌ، والعاصي ليس من أَهْل الرُّخَصِ، وقد قال تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173].

- ويجوز للمُضطرِّ أن يتزوَّد من الطعام المُحرَّم إن خاف الحاجةَ إن لم يتزوَّد؛ كما يجوز التيمُّم مع وجود الماء إن خاف العَطَش باستعماله.

ص: 189

- ومن اضطُرَّ إلى الانتفاع بمالِ الغير مع بقاء عَيْنِه؛ كثيابٍ يَدْفَعُ بها البَرْدَ عن نفسه، أو دَلْوٍ يَسْتَقِي به ماءً، ونحو ذلك، وكان مالِكُه غير محتاجٍ إليه، وَجَبَ على مالِكِه بَذْله لذلك المضطرِّ مجَّاناً من غير عِوَضٍ؛ لأن الله تعالى ذمَّ من يمنع ذلك بقوله:{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]؛ فلو كان بذله غير واجب لما ذمَّه؛ إذ الذمُّ لا يكون إلَّا على ترك واجبٍ، أو فعل محرَّمٍ.

* الأَكْلُ من ثَمَرِ البَساتين وما سَقَطَ من أَشْجارِها:

- من مَرَّ ببُسْتانٍ لا حائط له، ولا حارس عليه يَحرُسُه، جاز له الأَكْل من ثَمَرِ شَجَرِ ذلك البستان مجَّاناً؛ سواء كان على الشجر، أو ساقطاً على الأرض، ولو من غير حاجةٍ أو اضطرار؛ لما روى أبو زينب -التابعي- قال:(سَافَرْتُ فِي جَيْشٍ مَعَ أَبِي بَكْرَةَ، وَأَبِي بَرْزَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، فَكُنَّا نَأْكُلُ مِنَ الثِّمَارِ)[رواه ابن أبي شيبة].

- ولا يجوز له الصعود على الشَّجَر، ولا أن يَضْرِبَه أو يَرْمِيَه بشيءٍ ليسقط؛ لأنَّ ذلك قد يُفْسِدُ الشَّجرَ والثَّمَرَ.

- وليس له أن يحمل شيئاً من الثَّمَر؛ لقول عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: (مَنْ مَرَّ مِنْكُمْ بِحَائِطٍ فَلْيَأْكُلْ فِي بَطْنِهِ وَلَا يَتَّخِذْ خُبْنَةً)[رواه البيهقي]. والخُبْنَةُ: ما يحمله الإنسان في حُضْنِه.

وليس له أن يأكل من ثَمَرٍ مَجْنِيٍّ مجموعٍ، إلَّا لضرورةٍ.

- ويجوز الأكلُ كذلك من زَرْعٍ قائمٍ، أو باقِلَّاء أو حِمَّصاً أخضرين،

ص: 190

وشِبْههما ممَّا يؤكَلُ رَطْباً؛ لأنَّ العادة جَرَتْ بأَكْل الفَرِيك، فأشبَهَ الثَّمَر.

وأمَّا ما لم تجر العادةُ بأَكْلِه رَطْباً، فلا يجوز الأكلُ منه؛ لعدم الإذن فيه شرْعاً وعادةً؛ كالشعير ونحوه.

- ويجوز لمن مرَّ بماشيةٍ الشُّرْبُ من لَبَنِها؛ لما روى سَمُرَةَ بن جُنْدُبٍ رضي الله عنه، أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُهَا فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ فَلْيُصَوِّتْ ثَلَاثًا، فَإِنْ أَجَابَهُ أَحَدٌ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ، وَلَا يَحْمِلْ)[رواه أبو داود، والترمذي].

* حَقُّ الضِّيافَةِ:

- يجبُ على المُسلمِ ضيافةُ أخيه المُسلِم المسافِر المجتاز يوماً وليلةً مجَّاناً، إذا نَزَل به في القُرَى، وضيافته تكون قَدْر كفايته مع أُدْمٍ؛ لما روى أبو كريمة، أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(لَيْلَةُ الضَّيْفِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فَإِنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ مَحْرُومًا كَانَ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اقْتَضَاهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ)[رواه أحمد، وابن ماجه].

- وتُستحبُّ ضيافتهُ ثلاثَ لياليَ بأيَّامهنَّ، أي: يومان مع اليوم الأوَّل، وما زاد على الثلاث فهو صَدَقةٌ؛ لما روى أبو شُرَيْحٍ الخُزَاعِيُّ رضي الله عنه، أنَّه سمع النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ. قَالُوا: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللّاهِ؟ قَالَ: يَوْمُهُ وَلَيْلَتُهُ. وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ

ص: 191

ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ) [رواه البخاري، ومسلم].

- ويجبُ عليه إنزال الضَّيْف في بيته، مع عدم وجود مكان يَبيتُ فيه؛ كمسجدٍ، أو رِباطٍ، أو خانٍ، ونحوها؛ لأنَّه يحتاج إلى الإيواء كحاجته إلى الطعام والشراب.

- فإن أبى المُضِيفُ ضِيافَتَه، فللضَّيْف طلبه بما وَجَبَ له عند الحاكم؛ لحديث المِقْدام بن مَعْدِي كربَ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:(وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ)[رواه أحمد، وأبو داود].

- فإن تعذَّر أن يطلبه عند الحاكم، جاز للضَّيْف الأَخْذُ من مال المُضِيفِ بقَدْر ما وَجَبَ له بغير إذنه؛ لما روى عُقْبة بن عامِرٍ رضي الله عنه قال:(قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّاهِ، إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ فَلَا يَقْرُونَنَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ، فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ)[رواه البخاري، ومسلم].

- ولا يجبُ للمسلم على المسلم ضِيافَتُه إذا نَزَلَ به في الأَمْصار؛ لأنَّ الأَمْصار يكون فيها السُّوقُ والمَساجِدُ، فلا يحتاجُ مع ذلك إلى الضِّيافَةِ.

- ولا يجبُ للذِّمِّيِّ على المُسلم ضيافته إذا اجتاز بالمُسلِم؛ لأنَّ الذمِّي لا يساوي المسلم في وجوب الإكرام.

ص: 192

‌باب الذكاة

‌أوَّلًا: تعريفُ الذَّكاةِ:

الذَّكَاةُ لغةً: تمامُ الشيءِ، وذكَّيْتُ النار إذا أتمَمْت إشعالها ورَفَعْتها. وسُمِّي الذَّبْح ذَكاةً؛ لأنَّه أتمَّ إزهاقها.

واصطلاحاً: هي ذَبْحُ أو نَحْرُ حيوانٍ مَقْدُورٍ عليه، مباحٍ أَكْلُه، يعيشُ في البَرِّ، غير جَرَادٍ ونحوه، بقطْعِ حُلْقومٍ، ومَرِيءٍ، أو عَقْرُ ممتنعٍ.

‌ثانياً: حُكمُ الذَّكاةِ:

لا يحلُّ أكلُ شيءٍ من حيوان البَرِّ المقدور عليه إلَّا بتذكيته -عدا الجراد وشبهه-، وقد دلَّ لذلك القرآن الكريم، والإجماع.

- فمن القرآن: قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى قوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]. فبعد أن ذكر الله عز وجل المحرَّمات من أنواع المَيْتات، استثنى من ذلك ما أُدْرِك وفيه حياةٌ، فجعل ذكاته سبباً لحِلِّه وإباحة أَكْلِه.

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن المنذر: «وأجمعوا على أنَّ المَرْءَ إذا ذَبَحَ ما يجوزُ الذَّبْح به، وسَمَّى الله، وقَطَعَ الحُلْقوم والوَدَجَيْن، وأَسَالَ الدَّمَ، أنَّ الشَاةَ مُباحٌ أَكْلُها» .

‌ثالثاً: أنواعُ الذَّكاةِ الشَّرْعِيَّة:

تنقسم الذَّكاةُ الشَّرعيَّة إلى ثلاثة أقسام:

ص: 193

الأوَّل: الذَّبْح: وهو قطع الحلقوم والمريء.

ويُسنُّ في البقر، والغَنَم، والطَّيْر، والصَّيْد المقدور عليه.

الثاني: النَّحْر: وهو الطَّعْنُ بحَرْبَةٍ ونحوها في الوَهْدَةِ التي بين أصل العُنُق والصَّدْر. ويُسُنُّ في الإبل.

الثالث: العَقْر: وهو جرح الحيوان في أيِّ محلٍّ كان من بدنه، ويكون ذلك في الصَّيْد، وما لا يُقْدَر على ذَبْحه.

‌رابعاً: شُروطُ صِحَّة الذَّكاةِ:

يُشترط لصحَّة التذكية ذَبْحاً، أو نَحْراً، أو عَقْراً، أربعة شُروطٍ، هي:

الشرط الأوَّل: أهليَّة المُذكِّي؛ بأن يكون الفاعلُ للذكاة مُسلماً أو كتابيًّا، عاقلًا، مُميِّزاً، قاصداً للذَّكاة.

- فلا تحلُّ ذبيحة وثنيٍّ، ولا مجوسيٍّ، ولا زنديقٍ؛ لمفهوم قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب.

وكذا لا تحلُّ ذبيحة مُرتدٍّ، ولو كانت رِدَّته إلى دين أهل الكتاب؛ لأنَّه لم يثبت له حكم أهل الكتاب.

ولكن يُباح من طعامهم غيرُ اللَّحم والشَّحْم والأكارع، ونحوها من أجزاء الذبيحة؛ لأنَّها ميتة، وكلُّ أجزائها ميتة.

- وتحلُّ ذَكاةُ الكتابيِّ العاقل ولو كان حَرْبيًّا؛ لعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ

ص: 194

الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما وغيره:«طَعَامُهُم: ذَبَائِحُهُم» .

أما من كان أحد أبويه غير كتابيٍّ فلا تحلُّ ذبيحتهُ؛ تغليباً للتحريم.

- ولا يُباح حيوانٌ ذكَّاه مجنونٌ، أو سَكْرانٌ، أو طِفْلٌ لم يُميِّز؛ لأنَّه لا قصد لهم، ولأنَّ الذكاة أمرٌ يعتبر له الدِّينُ، فاعتبر فيه العقل.

- ولا يباح حيوانٌ انقطع حُلْقومُه ومَريئُه بسبب احتكاكه بمُحَدَّدٍ بيد إنسانٍ لم يقْصِدْ ذَبْحَه؛ لعدم قصد التذكية.

- وتحلُّ ذَكاةُ العاقل ولو أُنثى حائضاً، أو عَبْداً، أو جُنُباً؛ فعن كعب بن مالك رضي الله عنه (أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ غَنَمٌ تَرْعَى بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتًا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَأْكُلُوا حَتَّى أَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ أُرْسِلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ يَسْأَلُهُ، وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَاكَ، أَوْ أَرْسَلَ، فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا). قَالَ عُبَيْدُ اللّاهِ: فَيُعْجِبُنِي أَنَّهَا أَمَةٌ، وَأَنَّهَا ذَبَحَتْ. [رواه البخاري]. ففيه إباحة ذبيحة المرأة، والأَمَةِ، والحائض، والجُنُب؛ لأنَّه لم يستفصل عنها.

- وتحلُّ ذَكاةُ العاقل ولو كان مُتَعدِّياً أو مُكْرَهاً على ذَبْح مِلْكِه أو مِلْك غيره؛ لأنَّ له قصداً صحيحاً.

الشرط الثاني: الآلة؛ بأن يذبح أو ينحر أو يعقر بمُحَدَّدٍ يقطع ويُنْهِر الدَّم بحَدِّه.

ص: 195

فتحلُّ الذَّكاةُ بكلِّ مُحدَّدٍ -ولو مغصوباً-، ولو كان من حَجَرٍ، أو قَصَبٍ، أو خَشَبٍ، أو عَظْمٍ غير السِّنِّ والظُّفُر؛ لما روى رَافِع بن خَدِيجٍ رضي الله عنه أنَّه قال:(يَا رَسُولَ اللّاهِ، لَيْسَ لَنَا مُدًى، فَقَالَ: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ فَكُلْ، لَيْسَ الظُّفُرَ وَالسِّنَّ، أَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الحَبَشَةِ، وَأَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ)[رواه البخاري، ومسلم].

وفي حديث كعب بن مالك رضي الله عنه السابق: (فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتًا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ) إلى أن قال: (فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا).

الشرط الثالث: قَطْعُ الحُلْقُوم والمَرِيء.

والحُلْقُوم: هو مَجْرَى النَّفَس. أمَّا المَرِيء: فهو البُلْعوم، وهو مجرى الطعام والشراب، وهو تحت الحُلْقوم (أي خَلْفَه).

وسواء كان القَطْعُ فوق الغَلْصَمَةِ أو دُونَها. والغَلْصَمةُ: هي الموضع الناتئ من الحَلْق.

- ولا يُشترط قَطْع شيءٍ غير الحُلْقوم والمَرِيء؛ لأنَّه قَطَعَ في مَحلِّ الذَّبْح ما لا يعيشُ الحيوان مع قَطْعِه. فلا يُشترط قَطْع الوَدَجَيْن

(1)

، وهما العِرْقان المُحيطان بالحُلْقوم. وإن كان الأَوْلَى قطْعهما؛ احتياطاً، وخروجاً من الخلاف.

(1)

الرواية الأخرى في المذهب: اعتبار قَطْع الوَدَجَيْن مع الحُلْقوم والمَرِيء. قال د. محمَّد الأشقر

رحمه الله في تعليقه على «نيل المآرب» (2/ 408): «قلت: الوَدَج عِرْق الدَّم، فلو لم يَقْطَعْ شيئاً من الوَدَجَين، فالظاهر أنَّ الدَّم لا يُنْهَر. ولعلَّ في هذا ما يجعل هذه الرواية أرجح» .

ص: 196

- ولا يُشترط إبانة الحُلْقوم والمَرِيء بالقَطْع، ويكفي قَطْع البعض منهما.

- وما ذُبِحَ من قفاهُ، ولو عمداً، إن أتت الآلة على محلِّ الذبح وفيه حياة مستقرَّةٌ، حلَّ بذلك؛ لبقاء الحياة مع الجرح من القفا. وإلَّا لم تحلَّ.

وضابط الحياة المُستقِرَّة: ما كان زيادةً على حركة المذبوح؛ كتحريك يَدِه، أو رِجْلِه، أو طَرَف عَيْنِه، أو مَصْع ذَنَبِه بأنْ حَرَّكَه وضَرَبَ به الأرض. والمعتبر في ذلك الحركة القويَّة.

- وإن أبانَ رأسَ الحيوانِ المأكول قاصداً تَذْكِيَتَه، حَلَّ مطلقاً؛ سواء كانت الإبانة من جِهَة وَجْهِه، أو قَفاهُ، أو غيرهما؛ لأنَّه اجتمعَ قَطْعُ ما لا تبقى معه الحياة مع الذَّبْح.

- وإن أصابَ الحيوان المأكول سببُ الموت؛ كمُنْخَنِقَةٍ، وموقوذةٍ، ومتردِّيةٍ، ونطيحةٍ، ومَريضَةٍ، وأَكِيلَةِ سَبُعٍ، أو ما صِيدَ بشَبَكةٍ أو فَخٍّ فأصابه شيء ممَّا يكون سبباً للموت، ولم يصل إلى حَدٍّ لا يعيش معه، أو أنقذه إنسانٌ من مهلكةٍ ولم يصل إلى ما لا تبقى الحياة معه. فإن أدركه وفيه حياة مستقرَّة، فذكَّاه، حلَّ أَكْلُه ولو انتهى قبل الذَّبْح إلى حالٍ يُعلَمُ أنَّه لا يعيش معه، ولو مع عدم تحرُّكه؛ لقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى قوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]. والاحتياطُ أن لا يؤكل من ذلك إلَّا مع تحرُّكه، خروجاً من الخلاف.

- وما قُطِع حُلْقومُه، أو أُبينَتْ حِشْوَته، ونحو ذلك ممَّا لا تبقى معه الحياة، فوجود حياته كعَدَمِها، فلا يحلُّ بالذَّكاة.

ص: 197

لكن لو قَطَعَ الذَّابحُ الحُلْقوم، ثمَّ رَفَعَ يَدَه قبل قَطْع المَريء، لم يَضُرَّ، إن عادَ فتَمَّمَ الذَّكاةَ على الفَوْر؛ كما لو لم يرفعها. فإن تَراخَى ووَصَلَ الحيوانُ إلى حركة المذبوح فأتمَّ الذابحُ القَطْع، لم يحِلَّ.

* النَّحْرُ والعَقْر:

السُّنَّة في الإبل: النَّحْر، وذلك بأن تُطعن بمحدَّدٍ في لَبَّتِها، وهي: الوَهْدَةُ بين الصدر والعُنُق؛ قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]. وقد نَحَر عليه الصلاة والسلام بُدْنَهُ فِي صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ حِينَ خَرَجَ مُعْتَمِراً. [رواه البخاري].

أمَّا غير الإبل فالسنَّة فيها الذَّبح، قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]. وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: (ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ

) [رواه البخاري، ومسلم].

ومن عَكَسَ؛ فذَبَح الإبل، ونَحَرَ غيرها، أجزأه؛ لحديث أسماء رضي الله عنها قالت:(نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلْنَاهُ)[رواه البخاري، ومسلم]. وعن عائشة رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ عَنْ آلِ مُحَمَّدٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَقَرَةً وَاحِدَةً)[رواه أبو داود، وابن ماجه].

وأمَّا ما عُجِزَ عن ذَبْحِه أو نحْرِه؛ كالبهيمة التي تَقَعُ في بئرٍ، أو حيوانٍ متوحِّشٍ لا يُقْدَر على ذَبْحِه، فذَكاتُه بجَرْحه في أيِّ موضعٍ أمكن جَرْحه فيه من بَدَنِه؛ لما روى رَافِعُ بن خَديجٍ رضي الله عنه قال: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَنَدَّ بَعِيرٌ مِنَ الإِبِلِ، قَالَ: فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ -أي

ص: 198

النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) [رواه البخاري، ومسلم].

الشرط الرابع: قولُ: «بسم الله» عند حركة يد الذابح بالذَّبح أو النَّحْر، أو العَقْر؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121].

ولا يقوم مقام التسمية عند الذبح شيءٌ من الذِّكْر غيرُها؛ كتَسْبيحٍ، أو تَهْليلٍ، أو تَكْبيرٍ، ونحوها.

وتُجزئ التسمية بغير العربيَّة، ولو كان يُحسِنُ العربيَّة؛ لأنَّ المقصود ذِكْر اسم الله تعالى، وقد حصل.

ويُجزئُ في حقِّ الأخرس التسمية بالإشارة برأسه أو طَرْفه إلى السماء؛ لقيامها مقام نُطْق الناطق.

- ويُسنُّ مع التسمية التكبير؛ فيقول: «بسم الله، والله أكبر» ؛ لحديث أنسٍ رضي الله عنه -السابق- قال: (ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا).

ولا تستحبُّ الصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند الذَّبْح؛ لأنَّها لم ترد، ولا تُناسب المقام.

وكذا لا يُستحبُّ زيادة: «الرحمن الرحيم» ؛ لأنَّها لا تليق بالمقام.

- تسقطُ التسمية إن تَرَكها الذابح سهواً. أمَّا إن تَرَكها عَمْداً أو جَهْلًا،

ص: 199

لم تحلَّ الذبيحة؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)[رواه ابن ماجه]. والآية محمولة على العَمْد؛ جمعاً بين النصوص.

ويُشترطُ قَصْد التسمية على ما يذبحه، فلو سمَّى على شاةٍ وذَبَح غيرها بتلك التسمية لم تَحِلَّ.

وإن استأجر أجيراً يذبح له، فترك الأجير التسمية عَمْداً أو جَهْلًا، ضَمِنَها لمالكها؛ لأنَّه أَتْلَفها عليه.

ومن ذَكَرَ عند الذَّبْح مع اسم الله تعالى اسم غيره، لم تحلَّ الذَّبيحة؛ لأنَّه شِرْكٌ مع الله تعالى، وعن عليٍّ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كتب له في صحيفةٍ: (لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ

) الحديث [رواه مسلم].

ص: 200

‌فصل ذكاةُ الجَنين، وسُنن التذكية وآدابُها

‌أوَّلًا: ذَكاةُ الجَنِينِ:

تحصلُ ذَكاةُ الجَنين المَأْكول إنْ خَرَجَ مَيِّتاً أو مُتَحَرِّكاً حَرَكَةَ مَذْبوحٍ بِذَكاةِ أُمِّهِ، سَواءٌ نَبَتَ لَه شَعْرٌ أو لا؛ لما روى جابرُ بن عبد الله رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(ذَكَاةُ الجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ)[رواه أبو داود].

ويُستحبُّ ذَبْحُه ليخرج دَمُه.

فإن خرج الجنين وفيه حياةٌ مستقرَّةٌ، فلا يُباح إلَّا بذَبْحِه أو نَحْرِه؛ لأنَّه نَفْسٌ أُخْرَى، وهو مُستَقِلٌّ بحياته.

‌ثانياً: سُنُنُ التَّذْكِيَةِ وآدابُها:

للتَّذْكية جملةٌ من السنن والآداب التي ينبغي على الذابح مراعاتها عند الذَّبْح؛ ومنها:

أ - يُسنُّ توجيه الحيوان المُذكَّى إلى القِبْلَة؛ وذلك بأنْ يُجعَلَ وَجْهُه للقِبْلَة؛ لما رَوَى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (ذَبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الذَّبْحِ كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مُوجَأَيْنِ، فَلَمَّا وَجَّهَهُمَا قَالَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ

) الحديث [رواه أبو داود]؛ فقوله: (فلمَّا وجَّهَهُما) أي إلى القِبْلَة.

ص: 201

فإن ذَبَحَ إلى غير القِبْلَةِ ولو عَمْداً، حَلَّت، وكان فِعْلُه خِلافاً للأَوْلَى.

ب- يُسنُّ إضْجاعُ الحيوانِ المُذَكَّى على جَنْبِه الأَيْسَرِ؛ لما روى شَدَّاد بن أَوْسٍ رضي الله عنه قال: ثِنْتانِ حَفِظْتُهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)[رواه مسلم]. ولأنَّ إضجاعها على جنبها الأيسر أريح لها عند الذبح، وأسهل على الذابح في أخذ السكين بيمينه.

أمَّا الإبل؛ فالسنَّة عند نَحْرِها أن تكون قائمةً معقولةً يدُها اليُسْرى؛ لما روى زياد بن جُبَيْر، قال: (رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا قَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً، سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم[رواه البخاري، ومسلم].

ج- يُسنُّ الرِّفْقُ بالحيوانِ، وحَمْلُ الآلَةِ بقُوَّة، والإسْراعُ في الذَّبْح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث شَدَّاد بن أَوْس رضي الله عنه:(وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ)، فإنَّ هذا كلَّه من الإحسان في الذَّبْح.

د - يُكرَه الذَّبْح بآلةٍ كالَّةٍ؛ أي: غير حادَّةٍ؛ لأنَّ فيه تعذيباً للحيوان، وقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الذَّبيحة وإراحتها، كما في حديث شَدَّاد بن أَوْسٍ رضي الله عنه السابق.

ص: 202

هـ- يُكرَه حَدُّ الآلَةِ والحيوانُ يراه؛ لما رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِحَدِّ الشِّفَارِ، وَأَنْ تُوَارَى عَنْ الْبَهَائِمِ)[رواه أحمد، وابن ماجه]. ولما فيه من أذيَّة الحيوان بترويعه.

و - يُكرَه سَلْخُ الحيوان، أو كَسْرُ عُنُقِه قبل زُهوق نَفْسِه؛ لأنَّ في هذا تعذيباً للحيوان، فأشبه قطع عضوٍ منه.

ولا يؤثر ذلك في حلِّها لتمام الذكاة بالذبح.

* اجتماعُ سَبَبٍ مُبيحٍ وسَبَبٍ مُحرِّم في الذَّبْح:

إذا ذُبِحَ حيوانٌ مأكولٌ، فغَرِق عَقِبَ ذَبْحِه، أو تَرَدَّى من عُلْوٍ؛ كجَبَلٍ، أو حائطٍ يَقْتُلُ التَرَدِّي من مِثْلِه، أو وَطِئَ عليه شيءٌ يَقْتُلُه مِثْلُه، لم يَحِلَّ أَكْلُه؛ لأنَّ هذا سببٌ يُعينُ على زُهوق رُوحِهِ، فيَحصُلُ الزُّهوقُ بسببٍ مُبيحٍ، وسببٍ مُحرِّم، فغُلِّبَ التَّحريم. وفي حديث عديِّ بن حاتم رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصَّيْد، قال:(إِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللّاهِ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ قَتَلَ فَكُلْ، إِلَّا أَنْ تَجِدَهُ قَدْ وَقَعَ فِي مَاءٍ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي المَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُكَ)[رواه مسلم].

ص: 203

‌كتاب الصَّيْد

‌أوَّلًا: تعريفُ الصَّيْد:

الصَّيْدُ لغةً: مصدر صَادَ يَصِيدُ صَيْداً؛ إذا أَخَذَه؛ فهو صائِدٌ، ثمَّ أُطْلِقَ الصَّيْدُ على الشيء المَصِيد، من باب تسمية المفعول بالمَصْدَر؛ كما في قوله تعالى:{لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95].

وأمَّا اصطلاحاً فهو: اقتناصُ حيوانٍ حلالٍ مُتوحِّشٍ طَبْعاً غيرِ مَقدُورٍ عليه، ولا مملوكٍ.

فيُطْلَق الصَّيْدُ ويراد به الفِعْل؛ أي: اقتناص الحيوان، ويُطلق ويراد به الحيوان المَصِيدُ.

‌ثانياً: مَشروعِيَّة الصَّيْد:

للصَّيْد ثلاثة أحوال، لكلٍّ منها حُكمُه:

الأوَّل: يكون الصَّيْد مُباحاً، وذلك إذا كان بقَصْد الحاجة إليه والأَكْل؛ وقد دلَّ على إباحته: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.

- فمن الكتاب: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، وقوله جلَّ ثناؤه:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96].

ص: 205

- ومن السُّنَّة: حديث أبي ثَعْلَبة الخُشَنيِّ رضي الله عنه قال: (قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللّاهِ، إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ وَبِأَرْضِ صَيْدٍ، أَصِيدُ بِقَوْسِي، وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، وَبِكَلْبِي المُعَلَّمِ، فَمَا يَصْلُحُ لِي؟ قَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا، وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ المُعَلَّمِ، فَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ)[رواه البخاري، ومسلم].

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن قُدامة: «وأجْمَعَ أَهْلُ العِلْم على إباحة الاصْطِيادِ، والأَكْل من الصَّيْد» .

الثاني: ويكون الصَّيْدُ مَكْروهاً؛ إذا كان على سبيل اللَّهْو، وليس بقَصْدِ الحاجة إلى الأَكْل؛ لأنَّه عَبَثٌ.

الثالث: ويكون الصَّيْدُ حَرَاماً؛ إذا كان فيه ظلمٌ للناس؛ بالعُدْوان على زُروعِهِم، وأَمْوالِهِم.

‌ثالثاً: شُروطُ إِباحَةِ الصَّيْدِ:

لا يخلو الصَّيْد حال اصطياده من إحدى حالين:

الأولى: أن يُدْرَكَ الصَّيْدُ مَجْروحاً مُتَحرِّكاً فوق حَرَكَة المَذْبوح، وقد اتَّسَعَ الوقتُ لتَذْكِيَتِه، فلا يحلُّ أَكْلُه إلَّا بتَذْكِيَتِه؛ لأنَّه صارَ مَقْدوراً عليه، وفي حُكْم

ص: 206

الحَيِّ. ولا يُباحُ بغير ذلك، حتَّى وإن خَشِيَ مَوْتَهُ ولم يجد آلةً يُذَكِّيه بها.

- ومن رَمَى صَيْداً، فأثبته، ثمَّ رَماهُ ثانياً أو رَماهُ آخرُ، فقَتَلَه، لم يحلَّ الصَّيْدُ؛ لأنَّه صار مقدوراً عليه بإثباته، فلم يُبَحْ إلَّا بتَذْكِيَتِه. إلَّا أن يُصِيبَ الأوَّلُ مَقْتَلَهُ؛ كقَلْبِه أو حُلْقومه، أو يصيبَ الثاني مَذْبَحَه، فيَحِلُّ في الحالين؛ لأنَّه مُذكًّى.

الثانية: وإن امتنع الصَّيْدُ المجروح بعَدْوِه، ولم يتمكَّن من ذَبْحِه حتَّى ماتَ، أو أَمْسَكَهُ جَريحاً ولم يتَّسِعِ الوقتُ لتذكيته، بل مات في الحال، فلا يَحِلُّ إلَّا بأربعة شروط:

الشرط الأوَّل: كون الصَّائد أهْلًا للذَّكاةِ حالَ إِرْسالِ آلَةِ الصَّيْدِ؛ أي: أن يكون الصَّائدُ ممَّن تَحِلُّ ذبيحته؛ لما روى عَدِيُّ بن حاتمٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (فَإِنَّ أَخْذَ الكَلْبِ ذَكَاةٌ)[رواه البخاري، ومسلم]، والصَّائدُ بمنزلة المُذكِّي، فيُشترط فيه الأَهْليَّة، وهي أن يكون عاقلًا، مُميِّزاً، مسلماً أو كتابيًّا، قاصداً للصَّيْد.

فلا يحلُّ ما صاده مجنونٌ، أو سَكْرانُ، أو صغيرٌ غير مُميِّزٍ، أو كافرٌ غير كتابيٍّ؛ كمجوسيٍّ، أو وثنيٍّ، أو مرتدٍّ، ونحوهم.

- وكون الصَّائدِ أهْلًا للذَّكاة؛ أي فيما إذا كان الصَّيد لا يَحِلُّ إلَّا بالذَّكاة. أمَّا الصَّيْدُ الذي لا يفتقر إلى ذَكاةٍ؛ كالسَّمَك والجَرادِ، فإنَّه يُباح ولو صاده من لا تُباح ذبيحته؛ لأنَّه لا ذَكاةَ له.

ص: 207

الشرط الثاني: الآلةُ، وهي نوعان:

النوع الأوَّل: ما له حَدٌّ يَجْرَحُ به؛ كالسَّيْف، والسِّكِّين، والسَّهْم، والمِنْجَل. ويُشترط فيه ما يُشترط في آلة الذَّكاة؛ من كونه يُنْهِرُ الدَّم، وأن يكون غير سِنٍّ ولا ظُفُرٍ، وأن يَجرحَ الصَّيْدَ بحَدِّه لا بثِقَلِه؛ لعموم حديث رافِعِ بن خَديجٍ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ فَكُلْ)[رواه البخاري، ومسلم]. ولحديث عَديِّ بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا رَمَيْتَ فَسَمَّيْتَ فَخَزَقْتَ فَكُلْ، فَإِنْ لَمْ يَتَخَزَّقْ فَلَا تَأْكُلْ، وَلَا تَأْكُلْ مِنْ المِعْرَاضِ إِلَّا مَا ذَكَّيْتَ

) [رواه أحمد].

- فإنْ قَتَل بثِقَلِه؛ كالشَّبَكةِ، والفَخِّ، والعَصَا، والحَصَاة، والحَجَر الذي لا حَدَّ له؛ فإنَّه لا يَحِلُّ ما قُتِل به من الصَّيْد؛ لأنَّه صار بذلك وَقيذاً.

وإذا صادَ بالمِعراض -وهو خشبةٌ لها حَدٌّ وقد يُجعل في رأسها حَدِيدةٌ-؛ فإن قَتَلَه بحَدِّه حَلَّ أَكْلُه، وإذا قَتَلَه بعَرْضه لم يحلَّ؛ لحديث عديِّ بن حاتم

رضي الله عنه السابق.

النوع الثاني: الجارِحَةُ المُعَلَّمَة؛ وهي الحيوان الجارِحُ الذي يُصادُ به، إذا كان مُعَلَّماً، سواء كان ممَّا يَصيدُ بمِخْلَبِه من الطَّيْر؛ كالباز، والصَّقْر، والعُقابِ، والشَّاهين، أو كان يصيدُ بنَابِهِ من السِّبَاع؛ كالفَهْد، والكَلْبِ غير الأسود؛ لقوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4].

أمَّا الكَلْبُ الأسود الذي لا بياض فيه، فإنَّه لا يُباح صَيْدُه؛ لأنَّه شيطانٌ،

ص: 208

وقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقَتْلِهِ؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الكِلَابِ، حَتَّى إِنَّ المَرْأَةَ تَقْدَمُ مِنَ البَادِيَةِ بِكَلْبِهَا فَنَقْتُلُهُ، ثُمَّ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ البَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ)[رواه مسلم].

ومثله الكَلْبُ العقور؛ لما روت عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يَقْتُلُهُنَّ فِي الحَرَمِ: الغُرَابُ، وَالحِدَأَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالفَأْرَةُ، وَالكَلْبُ العَقُورُ)[رواه البخاري، ومسلم].

* صِفَةُ الجارِحِ المُعَلَّم:

أ - يكون الجارح الذي يصيد بِنَابِهِ مُعَلَّماً بثلاثة أمور:

1) إذا أُرْسِلَ اسْتَرْسَلَ؛ فإذا رأى الصَّيْد لا يذهب بنفسه حتَّى يرسله صاحبه.

2) وإذا زُجِرَ انْزَجَر.

3) وإذا أمسك الصَّيْدَ لم يأكله، بل يمسكه على صاحبه حتَّى يجيء إليه؛ فعن عَدِيِّ بن حاتم رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ فَقَتَلَ فَكُلْ، وَإِذَا أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ)[رواه البخاري، ومسلم].

ولا يُعتبر تكرُّر ذلك؛ فلو أَكَلَ مَرَّةً بعد أن صاد صَيْداً لم يخرج بذلك عن كونه مُعَلَّماً؛ لأنَّ أَكْلَهُ قد يكون لجوعٍ أو توحُّشٍ.

ص: 209

ب- أمَّا الجارح من الطَّيْر الذي يَصِيدُ بمِخْلَبِه، فيكون تعليمه بأمرين:

1) أن يَسْتَرْسِلَ إذا أُرْسِلَ.

2) وإذا دُعِي رَجَعَ.

ولا يُشترط فيه تَرْكُ الأَكْل؛ لقول ابن عبَّاس رضي الله عنهما: (كُلْ مَا أَمْسَكَ الكَلْبُ إِذَا كَانَ عَالِماً، وَلَا تَأْكُلْ مِمَّا أَكَلَ، وَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ البَازِيُّ وَإِنْ أَكَلَ؛ فَإِنَّ تَعْلِيمَ البَازِيِّ أَنْ تَدْعُوهُ فَيُجِيبُكَ، وَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَضْرِبَهُ فَيَدَعَ الأَكْلَ كَمَا تَضْرِبُ الكَلْبَ فَيَدَعَ الأَكْلَ)[رواه أبو يوسف في «الآثار»]. ولأنَّ تعليمه بالأكل، ويتعذَّر تعليمه بدونه، بخلاف ما يصيد بنابه.

ويُشترطُ لحِلِّ ما يصِيدُهُ الجارحُ ذو النَّابِ أو ذو المِخْلَبِ أن يَجْرَحَ الصَّيْدَ إذا قَتَلَه، فإن قَتَلَ الصَّيْدَ بصَدْمٍ، أو خَنْقٍ، لم يُبَحْ؛ لأنَّه قَتَلَه بغير جَرْحٍ، أشبه ما لو قَتَلَه بمُثَقَّل.

الشرط الثالث: قَصْدُ الفِعْلِ؛ وهو إرسال الآلة لقَصْد الصَّيْد؛ لحديث عَدِيِّ بن حاتمٍ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلْ)[رواه البخاري، ومسلم].

- فلو احتكَّ الصَّيْد بمُحَدَّدٍ، أو سَقَطَ عليه فعَقَرَه بلا قَصْدٍ، لم يَحِلَّ؛ لانتفاء القَصْد.

- ولو سَمَّى إنسانٌ وأَرْسَلَ آلةَ الصَّيْد لا لقَصْدِ الصَّيْد، فقَتَلَ صَيْداً، لم يَحِلَّ.

- وإنْ أَرْسَلَ آلةَ الصَّيْد لقَصْدِ صَيْدٍ وهو لا يَعْلَمُ مكانَهُ فقَتَلَ، أو اسْتَرْسَل

ص: 210

الجارحُ بنفسه فقَتَلَ صَيْداً، لم يَحِلَّ.

الشرط الرابع: قولُ «بسم الله» لغير أخرس -ولو بغير العربيَّة لمن يُحسِنُها- عند إرسال جارحةٍ، أو رَمْيٍ بسلاحٍ، أو نَصْبِ آلة الصَّيْدِ.

- ولا يضرُّ تقدُّم التَّسْمِيةِ على الإرسال أو الرَّمْي، إذا كان الزمن يسيراً عُرْفاً، ولا يضرُّ كذلك تأخيرُ التَّسْمِيةِ كثيراً في جارحٍ إذا زَجَرَه فانْزَجَر؛ إقامةً لذلك مقامَ ابتداء إرْسالِهِ.

- وإن تَرَكَ التَّسْمِيةَ عَمْداً أو سَهْواً، أو جهْلًا، لم يُبَحْ؛ لقول الله عز وجل:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، ولحديث عَدِيِّ بن حاتم رضي الله عنه قال:(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أُرْسِلُ كَلْبِي وَأُسَمِّي، فَأَجِدُ مَعَهُ عَلَى الصَّيْدِ كَلْبًا آخَرَ لَمْ أُسَمِّ عَلَيْهِ، وَلَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَ؟ قَالَ: لَا تَأْكُلْ، إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الآخَرِ)[رواه البخاري، ومسلم].

وهذا بخلاف الذبيحة، فيُتَسامح في السَّهْو فيها؛ لأنَّها تكثر، ويكثر النسيان فيها، خلافاً للصيد.

* اجتماعُ سَبَبٍ مُبيحٍ وسَبَبٍ مُحرِّمٍ في قَتْل الصَّيْدُ:

ولذلك صور منها:

أ - إذا رُمِيَ صَيْدٌ فوَقَع في الماء، أو سَقَطَ من شاهقٍ، أو وُطِئَ عليه، وكلُّ ذلك يصلحُ سَبَباً لأنْ يَقْتُل، لم يَحِلَّ الصَّيْدُ، ولو مع وجود الجَرْح؛ لحديث

ص: 211

عَدِيِّ بن حاتم رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصَّيْد، قال:(إِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللّاهِ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ قَتَلَ فَكُلْ، إِلَّا أَنْ تَجِدَهُ قَدْ وَقَعَ فِي مَاءٍ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي المَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُكَ)[رواه مسلم]. والتردِّي والوطء عليه كالماء في ذلك.

أمَّا إن كان لا يقتُله مثل ذلك؛ كما لو كان رأسُ الحيوان خارج الماء، أو كان من طِيْر الماء، أو كان التَّرَدِّي أو الوطء لا يَقْتُل مثلُهُ ذلك الحيوان، فالصيدُ مباحٌ.

ب- إذا رَمَى إنسانٌ صَيْداً بمُحَدَّدٍ فيه سُمٌّ يقتل مثلُه ذلك الصَّيْد، لم يُبَح الصَّيْد؛ لأنَّه اجتمع سببٌ مُبيحٌ وسببٌ مُحرِّمٌ، فغُلِّب سببُ التحريم.

ج- إذا رَمَى إنسانٌ صَيْداً في الهواء، أو على شجرةٍ، أو على حائطٍ، فسَقَط مَيِّتاً، حَلَّ الصَّيْد؛ لأنَّ الظاهر أنَّ موته إنَّما كان بإصابة الجارح له لا بالسقوط، فلا عبرة حينئذٍ بالسقوط؛ لأنَّ وقوعه على الأرض لا بُدَّ منه.

ص: 212

‌كتابُ الأَيْمان

‌أوَّلًا: تعريفُ الأَيْمان:

الأَيْمانُ لغةً: جَمْع يَمينٍ؛ وهي القَسَمُ. سُمِّيَ بذلك أَخْذاً مِنَ اليَدِ اليُمْنَى؛ لأنَّ الحالِفَ يُعْطِي يَمِينَه ويَضْرِبُ على يَمينِ صاحِبِه؛ كما في العَهْد والمُعاقَدَة.

واصطلاحاً: تأكيدُ الشيءِ بِذِكْر مُعَظَّمٍ، على وجهٍ مخصوصٍ.

‌ثانياً: حُكمُ اليَمينِ:

اليمينُ مشروعةٌ بالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.

- فأمَّا الكتاب: فقول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89].

- ومن السُّنَّة: حديث عبد الرَّحمن بن سَمُرة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له:(وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ)[رواه البخاري، ومسلم].

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن قدامة: «أجمعت الأُمَّة على مشروعيَّة اليمين، وثبوت أحكامها» .

واليمين تعتريها الأحكام التكليفيَّة الخمسة؛ وذلك على النحو التالي:

أ - فتَجب؛ كما لو كان فيها نجاة إنسانٍ معصومٍ من الهَلَكَة؛ كما في أَيْمان القَسَامَة في دَعْوَى القَتْل عليه وهو بَرئٌ.

ص: 213

ب- وتُنْدب إذا تعلَّقت بها مصلحةٌ؛ كإصلاحٍ بين مُتخاصِمَيْنِ، أو إزالة حِقْدٍ من قَلْب مُسلمٍ، ونحو ذلك.

ج - وتُباح؛ كما في الحَلِف على فِعْلٍ مباحٍ، أو على تَرْكِهِ، أو الحَلِف على الإخبار بشيءٍ هو صادقٌ فيه، ونحو ذلك.

د - وتُكْرَه؛ كما في الحَلِف على فِعْل مَكروه، أو على تَرْك مَنْدوب، أو الحَلِف في البيع والشِّراء.

هـ- وتَحرُم إذا كانت على فِعْل مَعصية، أو على تَرْك واجب، أو إذا كان الحالِفُ كاذباً عَمْداً.

‌ثالثاً: مَا تَنْعَقِدُ به اليَمينُ:

لا تنعقدُ اليمينُ إلَّا بما يلي:

أ - الحَلِف بالله تعالى؛ لقوله جلَّ وعَلا: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ

} [المائدة 106]، ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ)[رواه البخاري، ومسلم].

ب- الحَلِف باسمٍ من أسمائه تعالى الَّذي لا يُسَمَّى به غيره؛ كالرَّحمن، وخالق الخَلْق، ومالك يوم الدِّين، وربِّ السَّماوات والأَرْضِين، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ

} [الإسراء: 110]، فجعل لفظة:(الله)، ولفظة (الرَّحمن) سواء في الدُّعاء، فيكونان سواء في الحَلِف.

ص: 214

وأمَّا ما سُمِّي به غيرُه تعالى، وينصرف إلى الله تعالى عند الإطلاق؛ كالعظيم، والرَّحيم، والقادر، والرَّبِّ، والمَوْلَى، فإنْ نَوَى به الله تعالى، أو أطلق، كان يميناً؛ لأنَّه بإطلاقِهِ ينصرفُ إليه تعالى. وإن نَوَى به غير الله تعالى فليس بيمين؛ لأنَّه يُستعمَلُ في غيره.

ج- الحَلِف بصفةٍ من صفات الله تعالى؛ كعِزَّة الله، وعَظَمَته، وقُدْرَته، وعِلْمِه، ونحو ذلك؛ لأنَّ ذلك بإضافته إلى الله تعالى، صار يميناً بذِكْر اسمه سبحانه معه، وقرينةُ الاستعمال صارفةٌ إليه.

د - الحَلِف بالقرآن، وبكلام الله تعالى، وبسورةٍ منه، وآيةٍ منه؛ لأنَّه صفةٌ من صفاته تعالى؛ فمن حَلَف به، أو بشيءٍ منه كان حالفاً بصفته تعالى. وكذا تنعقد بالحَلِف بالمصحف؛ لأنَّه يتضمَّن القرآن الَّذي هو صفته تعالى.

هـ- الحَلِف بالتوراة ونحوها من الكتب المُنزَّلة؛ كالإنجيل، والزَّبور؛ لأنَّ إطلاق اليمين بها ينصرفُ إلى التوراة والإنجيل والزَّبور المُنزَّل من عند الله تعالى دون المُبدَّل. ولا تسقطُ حُرمةُ شيءٍ من ذلك بكونه مَنْسوخَ الحُكْم بالقرآن؛ لأنَّ غاية ذلك أن يكون كالآية المَنْسوخ حُكْمُها من القرآن، ولا تخرج بذلك عن كونها كلام الله تعالى، وإذا كانت كلامه فهي صفةٌ من صفاته؛ كالقرآن.

* حُكْم الحَلِف بالمَخْلوق:

- يَحرُمُ الحَلِف بمَخلوقٍ؛ كالأولياء، والأنبياء عليهم السلام، والآباء ونحو ذلك، أو بالكعبة ونحوها؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ

ص: 215

صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ اللهِ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ)[رواه البخاري، ومسلم]، وعن ابن عمر أنَّه سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَا وَالْكَعْبَةِ. فَقَالَ: لَا يُحْلَفُ بِغَيْرِ اللّاهِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ)[رواه الترمذي].

- ولا كفَّارة في الحِنْث بذلك؛ لأنَّها إنَّما وَجَبَت في الحَلِف بالله تعالى؛ صيانةً لأسمائه وصفاته جلَّ وعَلا، وغيره لا يساويه في ذلك.

‌رابعاً: كَفَّارَةُ اليَمينِ:

كفَّارة اليمين فيها التخيير، وفيها الترتيب.

- أمَّا التخيير؛ فيُخيَّر من لزمته كفَّارة يمينٍ بين ثلاثة؛ وهي: إطعام عَشَرة مساكين مسلمين أحرارٍ، أو كِسْوتهم، أو تحرير رَقَبةٍ مؤمنةٍ.

- وأمَّا الترتيب فبين هذه الثلاثة وبين الصيام؛ بأن عَجَزَ عن العِتْق، والإطعام، والكِسْوة، فينتقل إلى صيام ثلاثة أيَّام؛ لقول الله تعالى:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89].

- ويجبُ في الصيام أن يكون متتابعاً إلَّا لعذرٍ من مَرَضٍ ونحوه؛ لأنَّ في قراءة أُبيٍّ وابن مسعودٍ رضي الله عنهما: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ)، والظَّاهر أنَّهما سمعاه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فيكون خَبَراً.

- لا يصحُّ أن يُكَفِّر الرَّقيقُ بغير الصوم؛ لأنَّه لا مال له يُكفِّر منه.

ص: 216

- يجوز إخراج الكفَّارة قبل الحِنْث وبعده؛ لحديث عبد الرحمن بن سَمُرَة رضي الله عنه السابق، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له:(وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ). وفي لفظٍ: (فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ)[أحمد، وأبو داود، والنسائي].

‌خامساً: الكفَّارة في تكرار اليمين:

إذا كرَّر الإنسان أَيْماناً فلا يخلو من أحوال:

الأول: أن يُكرِّر أيماناً على شيءٍ واحدٍ قبل التكفير، فعليه كفَّارة واحدةٌ؛ لأنَّه حِنْثٌ واحدٌ أوجب جنساً من الكفَّارات، فلم يجب به أكثر من كفَّارة، كما لو قصد التأكيد.

الثاني: أن يحلف يميناً واحدةً على أجناسٍ مختلفةٍ؛ كأن يقول: «والله لا ذهبت إلى فلان، ولا كلَّمته، ولا أخذت منه» ؛ فعليه كفَّارة واحدةٌ، سواء حنث في الجميع، أو في واحدة منها، وتنحلُّ اليمين في البقيَّة؛ لأنَّها يمينٌ واحدةٌ وحِنْثُها واحدٌ.

الثالث: أن يُكرِّر أيماناً موجبها واحدٌ، -ولو على أفعالٍ- قبل أن يُكفِّر؛ كأن يقول:«والله لا دخلت دار فلان، والله لا أكلتُ كذا، والله لا لبست كذا» ، وحنث في الكلِّ، أجزأته كفَّارةٌ واحدة؛ لأنَّها كفَّارات من جِنْسٍ، فتَداخَلَت؛ كالحدود من جِنْسٍ.

ص: 217

الرابع: أن يكرِّر أيماناً على أجناسٍ مختلفة؛ كأن يقول: «والله لا بعت كذا، والله لا اشتريت كذا، والله لا لبست كذا» ، فحنث في واحدةٍ وكفَّر، ثمَّ حنث في الأخرى، لزمته كفَّارة ثانية؛ لوجوبها بالحِنْث بعد أن كفَّر عن الأولى، كما لو جامع في نهار رمضان فكفَّر، ثمَّ جامع فيه أخرى.

‌سادساً: شُروطُ كفَّارَةِ اليَمين:

يُشترط لوجوب الكفَّارة في اليمين خمسة شروطٍ:

أ - أن يكون الحالفُ مُكلَّفاً - بالغاً عاقلاً-؛ فلا تجبُ الكفَّارة على صغيرٍ، أو مجنونٍ، أو مغمًى عليه، أو نائمٍ؛ لحديث عليٍّ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ)[رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه]. ولأنَّه لا قَصْدَ لهم.

ب- أن يكون مُختاراً لليمين؛ فلا تنعقد من مُكْرهٍ عليها؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)[رواه ابن ماجه].

ج- أن يكون قاصداً عَقْد اليمين؛ فلا تنعقد ممَّن سَبَق اليمين على لسانه بلا قَصْدٍ؛ كما لو قال -في عُرْضِ حديثه-: «لا والله» ، أو «بلى والله»؛ وذلك لقوله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225].

ص: 218

وعن عائشة رضي الله عنها قالت -في اللَّغو في اليمين-: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ: كَلَّا وَاللّاهِ، وَبَلَى وَاللّاهِ)[رواه أبو داود].

د - أن تكون اليمين على أَمْرٍ مُستقبَلٍ ممكنٍ؛ لأنَّ من شروط انعقاد اليمين إمكان البِرِّ والحنث فيها؛ وذلك لا يتأتَّى في الماضي، ولا في غير الممكن.

وعليه؛ فلا كفَّارة على يمينٍ في الماضي، والحالِف كاذبٌ عالمٌ بكَذِبِه، لكنَّ فِعْل ذلك من كبائر الذنوب، وهي اليمين الغَموس؛ التي تَغْمِسُ صاحبَها في الإثم، ثمَّ في النار، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللّاهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ)[رواه البخاري].

ولا كفَّارة لها؛ لقول ابن مسعود رضي الله عنه: (كُنَّا نَعُدُّ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي لَا كَفَّارَةَ لَهُ: الْيَمِينَ الْغَمُوسَ)[رواه البيهقي].

وكذا لا كفَّارة في يمين على ماضٍ يظنُّ صدق نفسه فيتبيَّن بخلافه، إجماعاً؛ لقوله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89]. ولأنَّه يكثر، فلو وجبت به كفارةٌ لشقَّ وحصل الضرر، وهو منتفٍ شرعاً.

هـ- أن يحنث الحالف؛ وذلك بفِعْل ما حَلَف على تَرْكه، أو تَرْك ما حَلَف على فِعْلِه، مختاراً ذاكراً ليَمينه.

فإن لم يَحْنَث فلا كفَّارة؛ لأنَّه لم يَهْتِك حُرْمَة القَسَم. وكذا لو حَنَثَ مُكْرهاً، أو ناسياً، أو جاهلًا أنَّه المحلوف عليه، فلا كفَّارة أيضاً؛ لأنَّه غير آثم؛ لقول

ص: 219

النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ).

فإن كان الحالِفُ قد عَيَّن وقتاً لفِعْله -كأن يقول: «والله لأُعطينَّ زيداً ماله يوم كذا» - تعيَّن ذلك الوقت لذلك الفِعْل، فإن فَعَلَه فيه بَرَّ، وإلَّا حَنَث؛ لأنَّه مقتضى يمينه.

وإن لم يُعيِّن له وقتاً لم يَحْنَث حتَّى ييأس من فِعْلِه الذي حَلَف عليه؛ وذلك بتَلَف المحلوف عليه، أو موت الحالف، ونحو ذلك ممَّا يحصل به اليأس من البِرِّ به؛ لأنَّ فِعْلَه ممكنٌ في كلِّ وقتٍ، فلا تتحقَّق مخالفة اليمين إلَّا باليأس.

‌سابعاً: الاسْتِثْناءُ في اليَمينِ:

من حلف بالله تعالى «لا يفعلُ كذا إن شاء الله» ، أو «ليفعلنَّ كذا إن شاء الله» ، أو «إن أراد الله» ، أو «إلَّا أن يشاء الله» ، وقَصَد تعليقَ الفِعْل على مشيئة الله تعالى أو إرادته -خلافاً لمن قال ذلك تَبرُّكاً، أو سَبَق به لسانُه بلا قَصْدٍ- فإنَّه لا يَحْنَث، فَعَل المحلوف عليه، أو ترك فِعْلَه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَمْ يَحْنَثْ)[رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه]. لكن يشترط لذلك شرطان:

الأوَّل: أن يتَّصل الاستثناء باليمين لفظاً؛ بأن لم يفصل بينهما بسكوتٍ ولا غيره، أو حُكْماً؛ كانقطاعه بتنفُّسٍ، أو سُعالٍ، أو عُطاسٍ، أو تثاؤبٍ، ونحو ذلك؛ لأنَّ الاستثناء من تمام الكلام، فاعتُبِرَ اتِّصاله، كالشَّرط وجوابه.

الثاني: أن يَقْصِد الاستثناء قبل تمام المُستثنَى منه؛ فلو حَلَف غير قاصِدٍ

ص: 220

الاستثناء، ثمَّ عَرَض له الاستثناء بعد فراغه من اليمين فاستثنى، لم ينفعه ذلك؛ لعدم قَصْده له أوَّلًا، وقد قال النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)[رواه البخاري، ومسلم].

‌ثامناً: أَنْواعٌ من الأَيْمانِ:

أ - من قال: «طعامي عليَّ حَرامٌ» ، أو:«هذا الطعام عليَّ حرامٌ» ، أو علَّق التحريم بشرطٍ؛ كما لو قال:«إن أَكَلْتُ كذا فحَرامٌ» ، أو:«إن فَعَلْتُ كذا فحَرامٌ» ، لم يحْرُم عليه؛ لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ

} إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2]، فقد سمَّاه الله تعالى يَميناً، واليمين على الشَّيء لا يُحَرِّمه.

فإن فَعَلَ ما عَلَّق عليه التحريم فعليه كفَّارة يمين؛ لقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أي: التكفير.

ب- من قال: «هو يهوديٌّ» ، أو «نصرانيٌّ» ، أو «مجوسيٌّ» ، أو «هو يعبُدُ الصَّليب» ، أو «هو يعبدُ غيرَ الله» إن فَعَل كذا، أو قال:«هو بريءٌ من الإسلام» ، أو «من القرآن» ، أو «من النبيِّ صلى الله عليه وسلم» ، أو قال:«هو كافرٌ بالله تعالى» إن لم يفعل كذا، فقد ارتكب مُحرَّماً؛ لحديث ثابت بن الضحَّاك رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ)[رواه مسلم]. ولحديث بُرَيدَة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ قَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ،

ص: 221

فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا لَمْ يَعُدْ إِلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا) [رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه].

- وتلزمُه التوبة منه كسائر المحرَّمات.

- وعليه كفَّارة يمينٍ إن فعل ما نفاه، أو ترك ما أثبته؛ لأنَّ قول هذه الأشياء يُوجِب هَتْك الحُرْمَة، فكان يميناً؛ كالحَلِف بالله تعالى.

- من أخبر عن نفسه بأنَّه حَلَف بالله تعالى، ولم يكن حَلَف، فهي كذبةٌ لا كفَّارة فيها.

ص: 222

‌باب جامع أحكام الأَيْمان ومسائلها

‌أوَّلًا: الرُّجوعُ إلى نيَّة الحالِفِ:

- يُرْجع في الأَيْمان إلى نِيَّة الحالِف؛ فتتعلَّق يمينُه بما نواه، دون ما لَفَظَ به؛ لقول الله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، فإذا رُجِعَ إلى النيَّة في أصل اليمين؛ هل هي يمينٌ مُنعَقِدةٌ أو غير مُنعَقِدةٌ؟ فلأَنْ يُرجَعَ إليها في المراد باليمين من باب أَوْلَى. ولحديث: (

وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) [رواه البخاري، ومسلم]. ولأنَّ كلام الشارع يُحمَلُ على ما دلَّ دليلٌ على إرادته به، فكذا كلام غيره.

لكن يشترط لذلك شرطان:

الشَّرط الأوَّل: أن يحتمل اللَّفظُ نيَّتَه؛ كما لو نَوَى بالسَّقْف السَّماء، وبالفِراشِ أو البِساطِ الأرضَ، وباللِّباس اللَّيلَ، وبالأُخوَّة أُخوَّةَ الإسلام، ونحو ذلك.

أمَّا إذا لم يحتمل اللَّفظُ نيَّته؛ كما لو حَلَفَ لا يأكلُ خُبْزاً -مثلًا-، وقال:«أردتُ لا أدخلُ بيتاً» ؛ لم تنصرف اليمينُ إلى ما نواه؛ لأنَّ اللَّفظ لا يحتمل ذلك أصلًا.

الشَّرط الثَّاني: ألَّا يكون الحالِفُ ظالماً بيمينه، فإن كان ظالماً بها لم تنفعه هذه النيَّة؛ كما لو حَلَفَ إنسانٌ عليه دَيْنٌ لغيرِه؛ قائلًا:«والله ما له عندي شيءٌ» . وقال: «أردتُ بذلك مَالُهُ عندي، وهو شيءٌ» ، كان ذلك كَذِباً، ولا ينفعه هذا

ص: 223

التأويل؛ لأنَّ يمينَ الظالم على ما يُصَدِّقه به صاحبُه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ)[رواه مسلم].

ومن صور الرجوع إلى نيَّة الحالف:

- من دعاه زَيدٌ لغَداءٍ، فحَلَفَ لا يتَغَدَّى، لم يحنث إذا تَغَدَّى بغَداءِ غيرِه، إن قصد ذلك؛ لأنَّ قرينة حاله دالَّةٌ على إرادته غَداء زيدٍ دون غيره.

- وكذا لو حلف: «لا يدخلُ دارَ فُلانٍ» ، وقال:«نويتُ: اليوم» ، قُبِلَ ذلك منه حُكْماً؛ لأنَّ ذلك لا يُعْلَم إلَّا من جهته، ولفظُهُ يحتمله، فلا يحنث بدخوله الدَّار في غير ذلك اليوم الذي نواه؛ لأنَّ قَصْدَه تعلَّق به، فاختصَّ الحِنْث بالدُّخول فيه.

- ومن حَلَف على امرأته؛ فقال: «والله لا عُدْتُ رأيتُكِ تدخلين دار فلان» ، ينوي بذلك مَنْعَها، فدخَلَتْها، حَنَثَ ولو لم يَرَها؛ لمخالفتها نيَّته بعدم امتناعها.

‌ثانياً: الرُّجوعُ إلى سَبَبِ اليَمينِ:

إذا لم يكن للحالِفِ نيَّةٌ رُجِعَ إلى سبب اليمين وما هَيَّجَها؛ لدلالة ذلك على النيِّة، فأُنيطَ الحُكْم به.

أ - فمن حَلَف: «ليَقْضِينَّ زيداً حَقَّه غداً» ، فقَضاهُ قَبْلَه، لم يحنث إذا قَصَدَ عدم تجاوز الغَدِ، أو اقتضاه سببُ اليمين؛ لأنَّ مقتضى يمينه تعجيلُ القضاء قبل خروج الغَد، فتعلَّقت يمينُه به، كما لو صرَّح به.

ص: 224

ب- أو حَلَفَ: «لا يبيعُ كذا إلَّا بمائةٍ» ، فباعه بأكثر من المائة، لم يحنث؛ لدلالة القَرينة.

ج- أو حَلَفَ: «لا يدخلُ بلد كذا» ؛ لِظُلْمٍ رآه فيها، فزالَ ودَخَلَها، لم يحنث؛ تقديماً لسبب اليمين على عموم لَفْظِه؛ لأنَّ السَّبب يدلُّ على النيَّة.

- أو حَلَفَ: «لا يُكلِّمُ زَيداً لشُرْبه الخَمْر» ، فكلَّمه وقد ترك شُرْبَ الخَمْر؛ لم يحنث؛ لدلالة الحال على أنَّ المراد ما دام يشربها، وقد انقطع ذلك.

‌ثالثاً: الرُّجوعُ إلى ما عَيَّنَهُ الحالِفُ:

إذا عُدِمَتِ النيَّةُ وسببُ اليمين الذي هَيَّجَها رُجِعَ إلى التَّعيين؛ أي: إلى عَيْن المحلوف عليه، فإذا عَيَّن الحالفُ شيئاً تعلَّق الحُكْمُ به على أيِّ صفةٍ كان؛ لأنَّ التعيين أبلغُ من دلالة الاسم على المُسَمَّى؛ لأنَّه ينفي الإبهام بالكُلِّيَّة.

- فمن حَلَف: «لا يدخل دار فلان هذه» ، فدخلها وقد باعها فلانٌ، أو حَلَفَ:«لا أَلْبِسُ هذا القميص» ، فلَبِسَه وهو عِمامةٌ أو سَراويلُ، أو حلف:«لا أُكَلِّم هذا الصَّبيَّ» ، فصار شيخاً فكَلَّمه، أو:«لا آكُلُ هذا الرُّطَبَ» ، فصار تَمراً ثمَّ أَكَلَه، ولا نيَّة له ولا سبب، حَنَثَ؛ لأنَّ عين المحلوف عليه باقية.

‌رابعاً: الرُّجوعُ إلى ما يَتَناوَلُه الاسمُ المَحلوفُ عَليهِ:

إذا عُدِمَ ما تقدَّم من النيَّة، والسَّبب، والتَّعيين، رُجِعَ في اليمين إلى ما يتناوله الاسمُ؛ لأنَّه مقتضاه، ولا صارِفَ عنه.

ص: 225

والأسماءُ تنقسمُ إلى ثلاثة أقسامٍ: شرعيٌّ، وعُرْفيٌّ، ولُغَويٌّ. ويُقدَّمُ عند الإطلاق -إذا اختلفت الأسماء-: الشَّرعيُّ، ثمَّ العُرْفِيُّ، ثمَّ اللُّغَويُّ.

- فالشرعيُّ: وهو ما له موضوعٌ في الشرع وموضوعٌ في اللُّغة؛ كالصَّلاة، والزَّكاة، والصوم، والحجِّ، والوضوء، والبيع، ونحو ذلك؛ فاليمين المُطْلَقةُ على فِعْل شيءٍ من ذلك أو تَرْكه تَنصرفُ إلى الموضوع الشَّرعيِّ؛ لأنَّه المتبادر للفَهْم عند الإطلاق، ولذلك حُمِل عليه كلام الشَّارع حيث لا صارف.

- وتتناول اليمينُ الصَّحيحَ منه دون الفاسِد؛ لأنَّ الفاسد ممنوعٌ منه بأصل الشَّرع؛ فمن حَلَفَ: «لا يَنْكِح» ، أو «لا يَبيع» ، أو «لا يشتري» ، فعَقَد عَقْداً فاسداً من نكاحٍ، أو بيعٍ، أو شراءٍ، لم يَحنَث؛ لأنَّ الاسم لا يتناول الفاسِدَ؛ لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ

} [البقرة: 275]، وإنَّما أحلَّ الصحيح منه، وكذا النكاح.

إلَّا إنْ حَلَف: «لا يحُجُّ» ، فحَجَّ حَجًّا فاسِدًا، أو حَلَف:«لا يعتمرُ» ، فاعتمر عُمْرةً فاسِدَةً، فإنَّه يَحنَث، بخلاف سائر العبادات؛ وذلك لوجوب المُضِيِّ في فاسِدِهما، وكونه كالصَّحيح فيما يَحِلُّ، ويَحرُم، ويَلْزم من فِدْيةٍ.

وكذا لو قَيَّد يمينه بمُمْتَنِعِ الصِّحَّة شرعاً؛ كمن حَلَفَ: «لا يبيع الخَمْر» مثلاً، ثمَّ باعها، فإنَّه يَحنَث؛ لتَعَذُّر حَمْل يمينه على عقدٍ صحيحٍ، فتنصَرِفُ اليمين إلى ما كان على صورته.

- فإن عُدِمَ الاسمُ الشَّرعي رُجِعَ إلى الاسم العُرْفِيِّ: وهو ما اشتهرَ مَجازُه

ص: 226

حتَّى غلب على حقيقته؛ كالظَّعينَة؛ فإنَّها حقيقةٌ في الناقَةِ يُظْعَنُ عليها، وعُرْفاً في المرأة التي في الهَوْدَج. وكالدَّابَّة؛ فإنَّها حقيقةٌ فيما دَبَّ ودَرَج، وعُرْفاً في ذوات الأربع؛ كالخَيْل، والبِغال، والحَمير. وكالغائِط؛ فإنَّه حقيقةٌ في المكان المُطْمئِنِّ من الأرض، وعُرْفاً في الخارج المُستَقْذَر، فتتعلَّق اليمينُ فيه بالعُرْف دون الحقيقة؛ لأنَّ الحقيقة صارت مهجورةً، فلا يَعْرِفُها أكثرُ الناس.

- فمن حَلَفَ: «لا يَطَأُ امرأتَهُ» ، فإنَّه يَحنَثُ بجِماعِها؛ لانْصِراف اللَّفظ إليه عُرْفاَ.

- أو حَلَفَ: «لا يَدخُلُ بَيْتاً» ، فإنَّه يحنث بدخول المسجد؛ لقول الله عز وجل:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96]، وقوله:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36]،، ودخول بيت الشَّعْر؛ لقوله تعالى:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} [النحل: 80]، ودخول الحَمَّام؛ لما رُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتَّقُوا بَيْتًا يُقَالُ لَهُ الحَمَّامُ)[رواه الحاكم والطبراني].

- فإن عُدِمَ الاسم العُرْفِيُّ رُجِعَ إلى الاسم اللُّغَويِّ: وهو ما لم يَغْلِبْ مَجازُه على حقيقته.

- فمن حَلَفَ: «لا يأكلُ لَحْماً» ؛ حَنَثَ بأَكْلِ لَحْم السَّمَك، وبُكلِّ لَحْمٍ، حتَّى المُحرَّم؛ كالمَيْتَةِ، والخِنْزير، ولَحْم السِّباع؛ لدُخولِه في مُسمَّى اللَّحم. بخلاف ما لا يُسمَّى لَحْماً؛ كالشَّحْم، والكَبِد، والكُلْيَة، والطِّحال، والقَلْب، ونحو ذلك، فإنَّه لا يَحنَثُ بأَكْلِه؛ لأنَّه لا يُسمَّى لَحْماً، وينفردُ عنه باسمه وصفته.

ص: 227

- أو حَلَفَ: «لا يأكلُ رأساً، ولا بَيْضاً» ، فإنَّه يَحنَثُ بأَكْل كُلِّ رأسٍ، وكُلِّ بَيْضٍ، حتَّى رأس الجَرادِ وبَيْضه؛ لأنَّ ذلك يدخلُ تحت مُسمَّى الرأس والبَيْض، فيَحنَثُ به.

ص: 228

‌فصل

مسائل متفرِّقة في الأيمان

- من حَلَف: «لا يدخلُ دار زَيدٍ» ، أو «لا يلبس ثوبه» ، أو «لا يركبُ دابَّته» ، ثمَّ دَخَل داراً، أو لَبِسَ ثوباً، أو رَكِبَ دابَّةً، جَعَلَها زيدٌ لعَبْده، فإنَّه يَحنَث؛ لأنَّ دار العَبْد وثَوبَه ودابَّتَه مِلكٌ لسيِّدِه؛ إذ العبد لا يملك.

وكذا يحنث لو دخل داراً، أو لَبِسَ ثوباً، أو رَكِبَ دابَّة، أَجَّرَها زَيدٌ للغير، أو استأجرها زَيدٌ من الغير؛ لبقاءِ مِلْكها للمُؤجِّر، ولمِلْكِه منافِعَ ما استأجَرَه. بخلاف ما لو استعارها زَيدٌ؛ فإنَّه لا يَحنَث؛ لأنَّ المُستعير لا يملك منافع ما استعاره؛ إذ الإعارة إباحةُ الانتفاع، بخلاف الإجارة.

- ومن حَلَفَ: «لا يُكَلِّم فلاناً» ، فكاتَبَه، أو راسَلَه، فإنَّه يَحنَثُ؛ لأنَّ الكلام يُطلَقُ ويُرادُ به ذلك؛ بدليل صحَّة استثنائه منه في قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]. ولأنَّ القَصْد بيمينه هُجرانه، ولا يحصل ذلك مع مواصلته بالكتابة والمراسلة. إلَّا إذا نَوَى باليمين عدم مشافهته بالكلام؛ فلا يحنث حينئذٍ بالمكاتبة ولا المراسلة؛ لعدم المشافهة فيهما.

- ومن حَلَفَ: «أنَّه لا مِلْكَ له» ، لم يَحنَث بدَيْنٍ له؛ لأنَّ المِلْك يختصُّ بالأعيان من الأموال، فلا يَعُمُّ الدَّيْن؛ لأنَّ الدَّيْن إنَّما يَتعيَّن للمِلْك بقَبْضِه.

ص: 229

بخلاف ما لو حَلَفَ: «أنَّه لا مال له» ، أو «أنَّه لا يملك مالًا» ، فإنَّه يَحنَثُ بالدَّيْن؛ لأنَّه مالٌ تجبُ فيه الزَّكاة، ويصحُّ التَّصرُّف فيه بالإبراء والحوالة، ونحوهما.

- ومن حَلَفَ: «لا يَسْكُن هذه الدَّار، أو ليَخرجنَّ، أو ليَرحلنَّ منها» : لم يَبَرَّ حتَّى يَخرُج بنَفْسه وأَهْله ومَتاعه المقصود؛ وهو ما لا يَستغني عنه السَّاكن؛ لأنَّ الدَّار يَخرج منها صاحبُها كلَّ يومٍ عادةً، وظاهر حاله أنَّه لم يُرِد الخروج المعتاد، وإنَّما أراد الخروج الذي هو النُّقْلة. والنُّقْلة تكون بالأهل والمال. فإن أقام فوق زمنٍ يمكنه الخروج فيه عادةً نهاراً، ولم يخرج، حَنَثَ.

فإن لم يجد مَسْكناً ينتقل إليه، فأقام أيَّاماً في طلب النُّقْلة، لم يَحنَث؛ لأنَّ إقامته حينئذٍ لدَفْع الضَّرر، لا للسُّكْنى.

وكذا لو أبَتْ زوجتُه الخروج معه، ولا يمكنه إجبارها، فخرج وَحْده،

لم يَحنَث؛ لوجود مَقْدوره من النُّقْلة.

* فِعْل الوَكِيلِ فيما حَلَفَ عليه المُوَكِّلُ:

- فِعْلُ الوكيل كالمُوَكِّل؛ فمن حَلَفَ: «ليَفْعَلَنَّ كذا» ، فوَكَّل فيه من يفعله بَرَّ.

ولو حَلَفَ: «لا يَفعَلُ كذا» ، فوَكَّل فيه من يفعله، حَنَثَ؛ لأنَّ الفِعْل يُضاف إلى المُوَكِّل فيه والآمِر به؛ كما في قوله تعالى:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}

ص: 230

[الفتح: 27]، وكما في قوله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196]، وإنَّما الحالق غيرهم.

وإذا أُضيف فِعْلُ الوكيل إلى المُوكِّل حَنَثَ؛ لوجود المحلوف عليه، إلَّا إذا نَوى مباشَرَتَه بنَفْسه، فتُقدَّم نيَّتُه؛ لأنَّ لفظه يحتمله.

وهذا فيما تدْخُله النيابة، بخلاف من حَلَفَ:«ليَطَأنَّ» ، أو «ليأكُلَنَّ» ، ونحو ذلك، فلا يقوم غيره مقامه فيه.

ص: 231

‌باب النَّذر

‌أوَّلًا: تعريفُ النَّذْر:

النَّذْرُ لغةً: الإيجابُ، يقال: فُلانٌ نَذَرَ دَمَ فُلانٍ، أي: أَوْجَبَ قَتْلَهُ.

واصطلاحاً: إلْزامُ مُكَلَّفٍ مُخْتارٍ نَفْسَهُ لله تَعالَى شيئاً غيَر مُحالٍ، بكُلِّ قَوْلٍ يَدلُّ عليه.

‌ثانياً: حُكمُ النَّذْر:

النَّذْرُ ابتداءً مكروهٌ، لا يأتي بخيرٍ، ولا يَرُدُّ قَضاءً؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ)[رواه البخاري، ومسلم]. وفي لفظٍ: (إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ)[رواه البخاري].

ومع هذا أجمع العلماءُ على صِحَّته إذا صَدَر، وعلى لُزوم الوفاء به في الجُملة؛ لقوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، ولقوله:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ)[رواه البخاري].

‌ثالثاً: شُروطُ صِحَّةِ النَّذْر:

يُشترط لصِحَّة النَّذْر ثلاثة شروطٍ:

الشرط الأوَّل: أن يكون من مكلَّفٍ - بالغٍ عاقلٍ-؛ لحديث عليٍّ رضي الله

ص: 233

عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ)[رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه].

الشرط الثاني: أن يكون مختاراً؛ فلا يصحُّ نَذْرُ المُكْرَه؛ لحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)[رواه ابن ماجه].

الشرط الثالث: أن يكون بالقَوْل؛ فلا ينعقدُ بغيره؛ لأنَّ النذر التزامٌ؛ فلم ينعقد بغير قَوْلٍ؛ كالنِّكاح، والطَّلاق. إلَّا من أَخْرَسَ بإشارةٍ مفهومةٍ؛ كيَمينِهِ.

‌رابعاً: أَنْواعُ النَّذْر:

أنواع النَّذْر المنعقدة سِتَّةٌ:

النوع الأوَّل: النَّذْر المُطْلَق؛ كقوله: «لله عليَّ نَذْرٌ» ، أو «لله عليَّ نذرٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا» ، وفعله، ولم يسمِّ شيئًا، ولا نيَّة له بشيءٍ؛ فعليه كَفَّارة يمينٍ؛ لما روى ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال:(مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ)[رواه ابن أبي شيبة].

النوع الثَّاني: نَذْرُ لَجَاجٍ وغَضَبٍ: وهو تعليقُ النَّذْر بشَرْطٍ يقْصِدُ النَّاذِرُ المَنْعَ منه؛ أي: من الشرط المعلَّق عليه، أو الحَثَّ عليه، أو التصديق إذا كان خَبَراً.

ص: 234

فالأوَّل: كقوله: «إن كلَّمتُك، فعَلَيَّ الحجُّ، أو صَوْم سَنَةٍ، أو مالِي صَدَقَةٌ» .

والثَّاني: كقوله: «إن لم أُخبرك بكذا فعَلَيَّ الحجُّ» .

والثالث: كقوله: «إن لم يكن هذا الخَبَرُ صِدْقًا فعَليَّ صوم يومٍ» .

وهذا النوع يمينٌ؛ يُخيَّر فيه الناذر بين فِعْل ما حَلَفَ عليه؛ فلا يلزمه شيءٌ، وبين الحنث فيه، فيُكفِّر كَفَّارَة يمينٍ.

النوع الثَّالث: نَذْر فِعْلٍ مُباحٍ؛ كقوله: «لله عليَّ أن أَلْبِسَ ثَوْبي» ، أو «لله عليَّ أن أركب دابَّتي» ، فيُخيَّر أيضاً بين فِعْل ذلك ولا يُكَفِّر، وبين عدم الفِعْل ويُكفِّر كفَّارة يمينٍ؛ كما لو حلف عليه؛ لحديث عَمْرو بن شُعَيبٍ عن أبيه عن جدِّه:(أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّاهِ، إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِكَ بِالدُّفِّ، قَالَ: أَوْفِي بِنَذْرِكِ)[رواه أبو داود]. ولحديث عُقْبة بن عامِرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ)[رواه مسلم]. ولأنَّه لو حَلَف على فِعْلٍ مباحٍ بَرَّ بفِعْلِه، فكذلك إذا نَذَرَه؛ لأنَّ النَّذر كاليمين.

وإن شاء تَرَكَه وعليه كَفَّارة يمين؛ كما لو حَلَفَ ليفعلنَّه، فلم يفعل.

النَّوع الخامس: نَذْرُ فِعْل مَعْصيةٍ؛ كنَذْرِ شُرْب خَمْرٍ، أو صوم يوم عيدٍ، أو صوم أيَّام التشريق، أو تَرْك واجبٍ؛ فهذا يَحرُم الوفاء به؛ لحديث عائشة

رضي الله عنها السابق، وفيه:(وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ)، ولأنَّ المعصية لا تُباح في حال من الأحوال.

ص: 235

ويجبُ التَّكْفير إن لم يفعله؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ)[رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه]. فإن وفَّى الناذر بفعل المعصية أثِمَ ولا كفَّارة عليه.

ويَقْضي الصوم المنذور في يوم العيد، أو أيَّام التشريق بعدها؛ لانعقاد نَذْرِه؛ فتصحُّ منه القُرْبة، ويَلْغو تَعيينُه؛ لأنَّه معصية؛ كنَذْر مريضٍ صومَ يومٍ يُخاف عليه فيه؛ فينعقدُ نَذْرُه، ويَحرُم صومه.

النَّوع السَّادس: نَذْرُ تَقَرُّبٍ؛ كنذر صلاة، أو صيامٍ، أو اعتكافٍ، أو صدقةٍ، أو عيادة مريضٍ، أو حجٍّ، أو عُمْرةٍ، ونحو ذلك بقصد التَّقرُّب إلى الله تعالى، سواء كان نذراً مُطْلَقاً؛ أي غير مُعلَّقٍ بشَرْطٍ؛ كما لو قال:«لله عليَّ صومٌ، أو صلاةٌ» ، ونحو ذلك. أو كان مُعَلَّقاً بشرطِ وجود نِعْمةٍ يرجوها، أو دَفْع نِقْمةٍ يخافها؛ كما لو قال:«إن شَفَى الله مريضي، أو إن سَلَّم الله مَالِي؛ لأتصدَّقنَّ بكذا» . فيلزمه الوفاء به -أي: بالنَّذْر المُطْلَق، وبالنَّذْر المُعَلَّق إن وُجِدَ ما شَرَطَه-؛ لعموم حديث عائشة رضي الله عنها السابق:(مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ). ولأنَّ الله تعالى ذمَّ الذين ينذرون ولا يوفون؛ فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77].

ص: 236

‌خامساً: مَسائِلُ مُتفَرِّقَةٌ:

أ - من نَذَر صوم شهر معيَّن؛ كالمحرَّم مثلاً، لزمه صومه متتابعاً؛ لأنَّ إطلاق الشهر يقتضي التتابع. فإن أفطر لغير عذرٍ حَرُم؛ لعموم قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ).

ويلزمه استئناف الصوم من جديد؛ لأنَّه صومٌ يجبُ متتابعاً بالنَّذْر، كما لو اشترط التتابع؛ فيصوم شهراً من يوم فِطْرِه، وعليه كفَّارة يمين؛ لفوات زمن النَّذْر عن وقته.

وإن أفطر لعذرٍ؛ كمرضٍ، وسَفَرٍ، وحيضٍ، ونحو ذلك؛ بنى على ما صامه، وقضى ما أفطره متتابعاً متَّصلاً بتمام الشهر، وعليه كفَّارة يمين؛ لفوات زمن النَّذْر.

ب- ولو نَذَرَ صوم شهرٍ مطلقاً؛ أي: من غير تعيين الشَّهر، لزمه صيامه متتابعاً أيضاً؛ لأنَّ إطلاق الشهر يقتضي التتابع، كما لو نواه، سواء صام شهراً هلاليًّا من أوَّله، أو صام ثلاثين يوماً بالعدد.

وكذا لو نَذَر صوماً متتابعاً غير مقيَّد بزمنٍ؛ لزمه التتابع؛ وفاءً بنَذْرِه.

فإن أفطر لغير عذرٍ لزمه استئناف الصوم من أوَّله؛ ليتدارك ما تَرَكَه من التَّتابع المنذور بلا عذرٍ. ولا كفَّارة عليه حينئذٍ؛ لأنَّه فَعَلَ المنذور على وجهه.

وإن كان إفطاره لعذرٍ؛ خُيِّر بين استئناف الصوم من جديد ولا كفَّارة عليه؛ لإتيانه بالمنذور حينئذٍ على وجهه، وبين أن يبنيَ على صومه، ويُكفِّر

ص: 237

كفَّارة يمينٍ؛ لفوات التتابع، إذ لم يأت بالمنذور على وجهه.

ج- من نَذَر أن يصلِّيَ صلاةً جالساً، فله أن يصلِّيَها قائماً، ولا كفَّارة عليه؛ لأنَّه أتى بأفضل ممَّا نَذَره.

ص: 238

‌كتاب القضاء

‌أوَّلًا: تعريفُ القَضاءِ:

القضاءُ لغةً: إِحْكامُ الشَّيءِ والفَراغُ منه؛ ومنه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12]. ويأتي أيضاً بمعنى أوجب؛ كما في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، وبمعنى إمضاء الحكم، ومنه قوله تعالى:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء: 4] أي: أمضينا.

واصطلاحاً: هو تَبْيينُ الحُكْم الشرعيِّ والإلْزامُ به، وفَصْل الخُصومات.

‌ثانياً: حُكمُ القَضاءِ:

القضاءُ بين النَّاس مشروعٌ بالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.

- فأمَّا الكتاب: فقوله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]، وقوله تعالى:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42].

- وأمَّا السنَّة: فحديث عَمْرو بن العاص رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ)[رواه البخاري، ومسلم].

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن قدامة: «أجمع المسلمون على مشروعية نَصْب

ص: 239

القُضاةِ للفَصْل بين الناس».

- والقضاءُ فَرْض كفايةٍ؛ لأنَّ أَمْرَ النَّاس لا يستقيم بدونه، فكان واجباً، كالإمامة العُظْمى؛ فيجب على الإمام أن يَنْصب في كلِّ إقليمٍ قاضياً؛ لأنَّ الإمام لا يُمكنه تولِّي الخصومات والنظر فيها في جميع البلاد بنفسه، فوجب أن يُرتِّب في كلِّ إقليمٍ من يتولَّى فَصْل الخصومات بين النَّاس؛ لئلَّا تضيع الحقوق بتوقف فَصْل الخصومات على السَّفَر للإمام؛ لما فيه من المشقَّة، وكُلْفة النَّفقة.

وقد بعثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه القضاةَ للأمصار؛ فبعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله عنه إلى اليَمَن قاضياً. [رواه أبو داود، والترمذي]، وبعث معاذاً رضي الله عنه قاضياً أيضاً. [رواه البخاري، ومسلم]، وولَّى عُمَرُ رضي الله عنه شُريحاً قضاءَ الكوفة، وولَّى كَعْب بن سُورٍ قضاءَ البَصْرة. [رواه ابن أبي شيبة].

- ويجب على الإمام أن يختار لذلك المنصب أفضل من يَجِدُ عِلْماً ووَرَعاً؛ لأنَّ الإمام ناظرٌ للمسلمين، فيجب عليه اختيار الأصلح لهم.

- ويأمرُ الإمامُ القاضي إذا ولَّاه بتقوى الله؛ لأنَّها رأس الدِّين. ويأمرُه بتَحَرِّي العَدْل؛ أي: إعطاء الحقِّ لمستحقِّه من غير مَيْلٍ، إذ هو المقصود من القضاء.

- وتصحُّ ولاية القضاء والإِمارة منجَّزةً؛ كما لو قال الإمام: «ولَّيْتُك القضاءَ الآن» .

ص: 240

وتصحُّ أيضاً معلَّقةً بشرطٍ؛ كما لو قال: «إن مات فلانٌ القاضي، أو الأمير؛ فقد ولَّيتُ فلاناً عِوَضَه» ؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمَّر زَيْدَ بن حارِثَة في غزوة مُؤْتَة فقال: (إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ، فَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ)[رواه البخاري].

‌ثالثاً: شُروطُ صِحَّةِ تَوْلِيَةِ القَضاءِ:

يُشترط لصحَّة تولية القضاء ما يلي:

أ - أن تكون من الإمام، أو نائبه في القضاء؛ لأنَّ ولاية القضاء من المصالح العامَّة، فلا تجوز إلَّا من جهة الإِمام؛ كعَقْد الذِّمِّة. ولأنَّ الإمام صاحب الأمر والنَّهي؛ فلا يُفْتأَتُ عليه في ذلك.

ب- أن يُعيِّن له الإمامُ ما يُولِّيه الحُكم فيه من الأعمال؛ وهو ما يجمع بلداناً وقُرًى متفرِّقة؛ كالعراق ونواحيه مثلاً، والبلدان؛ كمكَّة والمدينة؛ وذلك ليعلم محلَّ ولايته فيحكم فيه، ولا يحكم في غيره. ولأنَّه عَقْد ولاية يُشترط فيه الإيجاب والقبول، فلا بُدَّ من معرفة المعقود عليه؛ كالوكالة.

ج- مُشافَهَتُه بالولاية في المَجْلِس إن كان حاضراً، ومُكاتَبَتُه بها إن كان غائباً؛ لأنَّ التولية تحصل بذلك؛ كالتوكيل. ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كتب لعَمْرو بن حَزْمٍ حين بَعَثَه لليَمَن. [رواه النسائي]. وكتب عُمُرُ رضي الله عنه إلى أهل الكوفة:«أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إلَيْكُمْ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ أَمِيرًا، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ مُؤَدِّبًا وَوَزِيرًا» [رواه ابن أبي شيبة].

ص: 241

د - معرفة المولِّي كون المولَّى على صفة تصلح للقضاء؛ لأن مقصود القضاء لا يصلح إلَّا بذلك، ولأنَّ الأصل العدم، فلا تجوز توليته مع عدم العلم بأهليَّته، كما لا يجوز توليته مع عدم العلم بصلاحيَّته.

هـ- إشْهادُ عَدْلَيْن على تَوْلِيتِه؛ إذا كان البلدُ الذي ولَّاه فيه بعيداً لا يستفيض إليه الخبر بما يكون في بلد الإمام؛ لأنَّ العِلْم لا يَحصُل إلَّا بذلك. فإن كان البلد قريباً من بلد الإمام بحيث يستفيض فيه ما يجري في بلد الإمام، اكتفي بالاستفاضة؛ إذ الاستفاضة آكَد من الشَّهادة، ولهذا يَثْبُت بها النَّسَب والموت، فلا حاجة معها إلى الشَّهادة.

‌رابعاً: الأَلْفاظُ التي تَنْعَقِدُ بها وِلايَةُ القَضاءِ:

الألفاظ التي تنعقد بها ولاية القضاء؛ منها ما هو صريحٌ، ومنها ما هو كنايةٌ:

أ - فالصَّريح منها سبعةُ ألفاظ؛ وهي: «ولَّيتُك الحُكم» ، «قَلَّدتُك الحُكم» ، «فَوَّضْتُ إليك الحُكم» ، «رَدَدْتُ إليك الحُكم» ، «جَعَلْتُ إليك الحُكم» ، «استَخْلَفْتُك في الحُكم» ، «استَنبْتُك في الحُكم» .

فإذا وُجِد أحد هذه الألفاظ السبعة، وقَبِل المُوَلَّى الحاضرُ في المجلس، أو قَبِلَ المُوَلَّى الغائبُ بعد بلوغ الولاية له، أو شَرَعَ الغائبُ في العَمَل، انعقدت الولاية؛ لأنَّ هذه الألفاظ تدلُّ على ولاية القضاء دلالةً لا تفتقر معها إلى شيءٍ آخر.

ص: 242

ب- وأمَّا الكناية؛ فنحو: «اعْتَمَدْتُ عليكَ» ، «عَوَّلْتُ عليك» ، «وَكَّلْتُ إليك» ، «اسْتَنَدْت إلَيْكَ» . فلا تنعقد الولاية بهذه الألفاظ إلَّا بقرينةٍ، نحو:«فاحْكُم، أو فاقْضِ فيه» ، أو «فَتَوَلَّ ما عَوَّلْتُ عليك فيه» ؛ لأنَّ هذه الألفاظ تحتمل الولاية وغيرها؛ كالأخذ برأيه ونحو ذلك، فلا تنصرف إلى التولية إلَّا بقرينةٍ تنفي الاحتمال.

‌خامساً: ما تُفيدُهُ وِلايَةُ الحُكْمِ:

إذا صَحَّت ولاية القضاء، وكانت عامَّة؛ أي: لم تقيَّد بحالٍ دون حال، استفاد بها القاضي النَّظر في أشياء، والإلزام بها؛ وهي:

أ - الفصل في الخصومات بين المتنازعين.

ب- أَخْذُ الحقِّ ممَّن يجبُ عليه، ودَفْعُه للمستحِقِّ.

ج- النَّظر في مال اليتيم، والمجنون، والسَّفيه، الذين لا وَلِيَّ لهم.

د - النَّظر في مال الغائب؛ لئلَّا يضيع، إلَّا إذا كان له وكيل.

هـ- الحَجْرُ على من يرى الْحَجْر عليه لسَفَهٍ، أو فَلَسٍ؛ لأنَّ الْحَجْر يفتقر إلى نظرٍ واجتهادٍ، فلذلك كان مُختصًّا به.

و- النَّظر في الأوقاف التي في عَمَلِه؛ لتجري على شروطها.

ز- النَّظر في مصالح عَمَله؛ بِكَفِّ الأذى عن طُرُقات المسلمين وأفْنيتهم؛ لأنَّه مُرْصَدٌ للمصالح.

ح- تنفيذ الوصايا؛ لأن الميِّت محتاج إلى ذلك كغيره.

ص: 243

ط- تزويج من لا وَلِيَّ لها من النِّساء؛ لما روت عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:(فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ)[رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه]، والقاضي نائبه.

ي- إقامة الحدود؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُقيمها، وكذا الخُلفاء من بَعْدِه.

ك- تَصَفُّح حال الشهود؛ ليَستبقي من يَصْلُح، ويَستَبْدل من ثَبَت جَرْحُه.

ل- الإمامة في صلاة الجمعة والعيد، ما لم يُخَصَّا بإمامٍ من جهة السلطان أو الواقف، عملاً بالعادة في ذلك.

ل- جِباية الخَراج والزكاة، ما لم يُخصَّا بعاملٍ من جهة الإمام يَجْبيهما.

‌سادساً: حُكمُ القاضِي في غَيْر مَحَلِّ عَمَلِه:

- إذا وَلَّى الإمامُ القاضي في مَحلٍّ خاصٍّ فلا يَنْفُذ حُكمه في غير مَحلِّ عَمَله؛ لأنَّه لم يدخل تحت ولايته. ولذا لا يحكم في غير محلِّه، ولا يسمع بيِّنةً في غير محلِّ عمله.

‌سابعاً: شُروطُ القاضي:

يُشترط في القاضي عَشْر خصالٍ:

أ - أن يكون مُسلِماً؛ لأنَّ الإسلام شرطٌ للعدالة والشهادة، فأَوْلَى أن يكون شَرْطاً للقضاء.

ب، ج- أن يكون بالغاً عاقلاً؛ لأنَّ غير البالغ والعاقلِ تحت ولاية غيره،

ص: 244

فلا يكون والياً على غيره.

د - أن يكون ذَكَراً؛ لحديث أبي بَكْرَة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً)[رواه البخاري]. ولأنَّ القاضي يحضر محافِل الخصوم والرِّجال، والمرأةُ ليست أهلًا للحضور في محافِل الرِّجال.

هـ- أن يكون حُرًّا؛ لأنَّ غير الحُرِّ منقوصٌ بِرِقِّه، مشغولٌ بحقوق سيِّده.

و - أن يكون عَدْلًا؛ فلا يجوز تولية الفاسق، ولا من فيه نَقْصٌ يمنع قبول شهادته؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]. ولأنَّ الفاسق لا يجوز أن يكون شاهداً، فأَوْلَى ألَّا يكون قاضياً.

ز - أن يكون سَميعاً؛ لأنَّ الأَصَمَّ لا يسمع كلام الخَصْمَيْن.

ح- أن يكون بَصيراً؛ لأنَّ الأعمى لا يميِّز المدَّعِي من المدَّعَى عليه، ولا المُقِرَّ من المُقَرِّ له.

ط- أن يكون مُتَكَلِّماً؛ لأنَّ الأخرس لا يمكنه النُّطق بالحُكم، ولا يَفْهم جميع الناس إشارته.

ك- أن يكون مُجتَهِداً؛ لأنَّ فاقد الاجتهاد إنَّما يحكُم بالتَّقليد، والقاضي مأمورٌ بالحُكم بما أنزل الله. ولقول الله تعالى:{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 103].

ولو كان اجتهاده في مذهب إمامِه؛ للضرورة؛ بأن لم يوجد مجتهدٌ مطلقٌ، فيراعي حينئذٍ ألفاظ إمامه، ومتأخِّرها، ويقلِّد كبار أهل مذهبه في ذلك،

ص: 245

لأنَّهم أدرى به

(1)

.

‌ثامناً: تَحكيمُ غَيْرِ القاضِي:

إذا حَكَّم اثنان فأكثر بينهما رَجُلًا يَصْلُحُ للقضاء؛ بأن اتَّصفَ بما تقدَّم من شروط القاضي، فحَكَم بينهما، نفَذَ حُكمُه في كُلِّ ما يَنْفُذ فيه حُكْم من ولَّاه الإمام أو نائبه، في المال، والقِصاص، والحدود، والنكاح، واللِّعان، وغيرها؛ لحديث أبي شُرَيحٍ رضي الله عنه، وفيه أنَّه قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ، فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَحْسَنَ هَذَا)[رواه أبو داود، والنسائي].

ويَرفَعُ حُكمُه الخِلاف؛ فلا يَحلُّ لأحدٍ نَقْضَه حيث أصاب الحقَّ؛ لأنَّ مَنْ جاز حُكْمُه لَزِمَ؛ كحُكْم القاضي الذي ولَّاه الإمام.

ص: 246

‌فصل

آداب القاضي

المقصود بالآداب هنا: الأخلاق التي ينبغي للقاضي التخلُّق بها، وهذا يشمل ما يجب عليه، وما يُسنُّ له، وذلك على النحو التالي:

‌أوَّلًا: ما يُسَنُّ له:

يُسنُّ للقاضي ما يلي:

أ - أن يكون قويًّا بلا عنفٍ؛ لئلَّا يطمع فيه الظَّالم.

ب- ليِّناً بلا ضعفٍ؛ لئلَّا يهابه صاحب الحقِّ.

ج- حليماً؛ لئلَّا يغضب من كلام الخصوم؛ فيمنعه ذلك من الحكم بينهم.

د - مُتأنِّياً؛ من التأنِّي، وهو ضدُّ العجلة؛ لئلَّا تؤدِّي عجلته إلى ما لا ينبغي.

هـ- مُتفطِّناً؛ لئلَّا يُخدَع من بعض الخصوم لغِرَّةٍ.

و - عفيفاً؛ أي كَافًّا نَفْسَه عن الحرام؛ لئلَّا يُطْمَع في ميله بإطماعه.

ز - بصيراً بأحكام الحُكَّام قَبْلَه؛ ليَسْهُل عليه الحُكْم، وتتَّضح له طريقه.

ح- أن يُحْضِر مَجْلِسه فقهاء المذاهب، ويُشاورهم فيما يُشْكِل عليه إن أمكن؛ فإنَّه أسرع لاجتهاده، وأقرب لصوابه؛ قال تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159].

ص: 247

‌ثانياً: ما يَجِبُ عَلَيْهِ:

ويجب على القاضي ما يلي:

أ - أن يَعْدِلَ بين الخَصْمَيْن في لَفْظِه، وملاحظته، وفي مَجلِسه، وفي الدُّخول عليه؛ لأنَّه إذا مَيَّز أحدَهما حُصِر الآخر وانكسر، وربما لم تَقُم حُجَّةٌ له؛ فيؤدِّي ذلك إلى ظُلْمه.

إلَّا إذا ترافع إليه مسلمٌ مع كافرٍ؛ فيُقدِّم المُسلِم عليه في الدُّخول، ويرفعه عليه في الجلوس؛ لحُرْمة الإسلام؛ قال تعالى:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18].

ب- أن يوصي الوكلاء والأعوان على بابه بالرِّفْق بالخصوم؛ لئلَّا يَضرُّوا بالنَّاس، وتنبيهاً لهم على الفِعْل الجميل اللَّائق بمجالس الحكَّام والقُضاة.

ويجتهد القاضي أن يكون هؤلاء الوكلاء والأعوان كباراً في السِّنِّ، ومن أهل الدِّين والعِفَّة والصيانة؛ لأنَّ كونهم كذلك أقلُّ شرًّا؛ لأنَّ القاضي تأتيه النِّساء، وفي اجتماع الشَّباب بهنَّ مفسدةٌ.

‌ثالثاً: ما يَحرُمُ عليه:

يحرم على القاضي ما يلي:

أ - أَخْذُ الرِّشْوَة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال:(لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي)[رواه أبو داود، والترمذي].

ب- أَخْذُ الهديَّة؛ لحديث أبي حُمَيدٍ السَّاعِديِّ رضي الله عنه قال: (اسْتَعْمَلَ

ص: 248

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا. ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللهُ فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ. وَاللهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ بَصْرَ عَيْنِي، وَسَمْعَ أُذُنِي) [رواه البخاري، ومسلم]. ولأنَّ القصد بها غالباً استمالة القاضي ليعتني به في الحُكم، فأشبهت الرِّشْوة.

إلَّا إذا كان ممَّن يهاديه قبل ولايته؛ لأنَّها حينئذٍ لا تكون من أجل الولاية؛ لوجود سببها قَبْلها، فيُباح قبولها حينئذٍ؛ لانتفاء التُّهمة. بشرط ألَّا تكون له قضيَّة عنده، وإلَّا لم يَجُز أَخْذُها؛ لما فيها من استمالة القاضي في الحُكْم.

ج- أن يُسَارَّ أحدَ الخَصْمَيْن، أو يُضَيِّفه دون الآخر، أو يقوم له دون الآخر، أو يُلقِّنه حُجَّته؛ لأنَّ ذلك إعانة له على خَصْمه، وكسرٌ لقلبه.

د - أن يَقْضِيَ وهو غضبانٌ كثيراً؛ لحديث أبي بَكْرَة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لَا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ)[رواه البخاري، ومسلم]. ولأنَّه ربما حَمَلَه الغضبُ على الجَوْر في الحُكم. بخلاف

ص: 249

غضبٍ يسيرٍ لا يمنع فَهْم الحُكم؛ فيجوز له القضاء معه.

هـ- أن يَقْضيَ وهو حاقنٌ البَوْل، أو في شِدَّة جوعٍ، أو عَطَشٍ، أو هَمٍّ، أو مَلَلٍ، أو كَسَلٍ، أو نُعاسٍ، أو بَرْدٍ مؤلمٍ، أو حَرٍّ مزعجٍ؛ لأنَّ ذلك كلَّه يُشْغِلُ الفِكْرَ الموصل إلى إصابة الحقِّ غالباً، ويمنع حضور القَلْب، فهو في معنى الغضب المنصوص عليه، فيجري مجراه.

فإن خالف القاضي وحكم في حالٍ من تلك الأحوال، فأصاب الحقَّ نفذَ حُكمُه؛ لموافقته الصواب، وإلَّا لم ينفُذ.

و - أن يَحكُم بالجَهْل، أو يَحكُم وهو مُتردِّدٌ في حُكم الله تعالى في الواقعة؛ لحديث بُريدَة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الحَقَّ فَجَارَ فِي الحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ)[رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه]. فإن خالف وحَكَمَ لم يصحَّ، ولو أصاب الحقَّ.

‌رابعاً: ما يُباحُ لَهُ:

يُباحُ للقاضي أن يتَّخِذَ كاتباً يكتب الوقائع؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم استكتب زيد ابن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم، وغيرهما. [رواه البيهقي]. ولأنَّ القاضي يَكثُر اشتغاله ونظرُه في أمر الناس، فلا يمكنه أن يتولَّى الكتابة بنفسه.

ص: 250

- ويُشترط في الكاتب:

أ - أن يكون مسلماً؛ لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 113].

ب- أن يكون مُكلَّفاً؛ لأنَّ غير المكلَّف لا يُوثق بقوله ولا يعوّل عليه.

ج- أن يكون عدلًا؛ لأنَّ الكتابة موضع أمانة.

- ويسنُّ فيه:

أ -أن يكون حافظاً عالماً؛ لأنَّ في ذلك إعانة على أمره.

ب- أن يكون جيِّد الخطِّ؛ لأنَّه أكمل.

ج- أن يكون عارفاً بما يكاتب به القضاة من الأحكام، وما يكتبه من المحاضر والسجلَّات؛ لأنَّه إذا لم يعرف ذلك أفسد ما يكتبه بجهله.

د - أن يكون وَرِعاً، نَزِهاً؛ لئلَّا يُستمال بالطَّمع.

ص: 251

‌باب طريق الحكم وصفته

المقصود بذلك: كيفيَّة الحُكْم والفَصْل في الخصومات، وذلك على النحو التالي:

أ - إذا حضر إلى القاضي خصمان استُحِبَّ له أن يُجلسهما بين يديه؛ لأنَّه أمكن للقاضي في العَدْل بينهما.

ب- فإذا جلسا بين يديه؛ فله أن يَسْكُت حتَّى يبدأ أحد الخصمين بالدَّعوى. وله أن يقول: مَنِ المدَّعِي منكما؟ لأنَّ سؤاله عن المدَّعي منهما لا تخصيص فيه لواحدٍ منهما، فجاز لذلك.

ج - فإذا ادَّعى أحدُهما، اشتُرط لصحَّة الدَّعوى ما يلي:

1) تحريرُ الدَّعْوى؛ أي تشخيصُها وتبْيينُها؛ فلا يقول مثلًا: «لي عنده أرضٌ، أو سيَّارةٌ، أو دَيْنٌ» ويسكت، بل لا بُدَّ أن يُحرِّر ذلك ويُبيِّنه؛ فيقول مثلًا:«إنِّي أملكُ الأرضَ الفُلانيَّة، التي تقعُ في البَلْدة الفُلانيَّة، وإنَّه قد اعتدى عَليَّ وأَخَذَ منها نِصْفها، أو رُبْعَها» . أو يقول مثلًا: «لي عنده دَيْنٌ قَدْرُه كذا من الدَّراهم، أو كذا من الدَّنانير، وإنَّه جَحَدَني حقِّي، ولم يؤدِّه إليَّ» ، وهكذا؛ لترتُّب الحُكْم على ذلك، ولذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث أمِّ سَلَمَة رضي الله عنها:(فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ)[رواه البخاري، ومسلم]، ولا يُمكن الحُكْم مع عدم تحرير

ص: 253

الدَّعوى.

2) أن تكون الدَّعوى معلومةً؛ أي: بشيءٍ معلومٍ، ليتمكَّن الحاكِمُ من الإلزام به إذا ثَبَت، إلَّا إذا كانت فيما يصِحُّ مجهولًا؛ كأن تكون:

- وصيَّةً بمجهولٍ؛ بأنْ ادَّعى أنَّه أوصى له بدابَّةٍ، أو شيءٍ، ونحو ذلك.

- أو تكون إقراراً بمجهولٍ، بأنْ ادَّعى أنَّه أقرَّ له بشيءٍ مُجمَلٍ؛ فتصحُّ، وإذا ثَبَتَ طولِبَ المدَّعَى عليه بالبيان.

- أو تكون في خُلْعٍ أو طلاقٍ على مجهولٍ؛ كما لو سألته زوجته الخُلْع، أو الطلاق على إحدى سيَّاراتها، فأجابها وتنازعا.

3) أن تكون الدَّعوى مُنْفَكَّةً عمَّا يُكِذِّبها؛ فلا تصِحُّ الدَّعوى على شخصٍ بأنَّه قَتَلَ أو سَرَقَ من عشرين سنةً، وسِنُّهُ دونها. أو يدَّعِي بُنُوَّةَ إنسانٍ لا يُمكن كونُه منه.

4) إن كانت الدَّعوى بدَيْنٍ اشتُرِطَ كونه حالًّا؛ فلا تصِحُّ الدَّعوى بدَيْنٍ مؤجَّلٍ؛ لأنَّه لا يملك الطَّلَب به قبل أَجَلِه.

5) أن تكون الدَّعوى مصرَّحاً بها؛ فيقول مثلًا: «لي عنده كذا، وأنا أطالب به» ، فلا يكفي قوله:«لي عنده كذا» حتى يقول: «وأنا مطالِبٌ به» ، أو يقول مثلًا:«هو أقرَّ لي بكذا، وأنا أطالبه به، أو أطالبه بما يفسِّره» .

د - وإن كانت الدَّعوى بعَيْنٍ؛ كفَرَسٍ، أو سيَّارةٍ، ونحو ذلك؛ اشتُرِط حضورها لمجلس الحُكْم، لتُعيَّن بالإِشارة؛ نفياً للَّبْس. فإن كانت غائبةً عن

ص: 254

البَلَد، أو كانت تالفةً، أو في الذِّمَّة، وَصَفَها المدِّعِي وصفاً يضبطها؛ كما في السَلَم.

هـ- فإذا أَتَمَّ المدَّعِي دعواه محرَّرةً؛ فلا يخلو من أن يُقِرَّ الخصم بالدَّعوى، أو يُنْكرها:

- فإنْ أقرَّ خصمُه بما ادَّعاه عليه، أو اعترف بسبب الحقِّ المدَّعَى عليه، ثمَّ ادَّعى البراءة، كأن يقول مثلاً:«له عليَّ عشرة آلاف، هي ثمن مبيعٍ، لكنِّي دَفَعْتُها له» ، لم يُلتفت لقوله؛ لأنَّ الاعتراف بسبب الحقِّ يوجِبُ الحقَّ؛ فيكون كالبيِّنة على ثبوته. ويحلفُ المدَّعِي على نَفْي ما ادَّعاه المدَّعَى عليه من البراءة بالإِبراء أو الأداء.

ويُلزِم القاضي المدَّعَى عليه بالحقِّ إذا سأله المدَّعِي ذلك، وإلَّا فلا؛ لأنَّ الحقَّ له؛ فلا يستوفيه القاضي إلَّا بسؤاله. إلَّا أن يُقيم المدَّعَى عليه بيِّنةً ببراءته، فيَبْرأُ حينئذٍ.

- وإن أنكر الخصمُ الدَّعوى ابتداءً؛ بأن قال لمن يدَّعِي عليه قَرْضاً، أو ثَمَناً عن مُثْمَنٍ:«ما أقرضني» ، أو «ما باعني» ، أو «لا يستحقُّ عليَّ شيئاً ممَّا ادَّعاه» ، أو «لا حقَّ له عليَّ». قال القاضي للمدَّعِي:«هل لك بيِّنة» ؟ لحديث وائل بن حُجْر عن أبيه قال: (جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللّاهِ؛ إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لِأَبِي. فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا، لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ. فَقَالَ رَسُولُ اللّاهِ

ص: 255

صلى الله عليه وسلم لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ) [رواه مسلم].

- فإن قال: «نعم، لي عليه بيِّنةٌ» . قال له القاضي: «إن شئت فأحضرها» . فإن أحضرها المدَّعِي بين يدي القاضي وشَهِدَت عنده، سَمِعَها وجوباً.

ويحْرُم عليه طلب إعادة الشهادة. كما يُكره له زَجْر الشَّاهِدَيْن، أو طلب زَلَّتهما؛ لأنَّ ذلك ربما حَمَلَهُما أو غيرهما على كتمان الشَّهادة وعدم أدائها؛ فتضيع الحقوق.

- فإنِ اتَّضح له الحُكْم، ولم يأتِ المدَّعَى عليه بقادحٍ في البيِّنة، وكان الحقُّ لآدميٍّ مُعَيَّنٍ، وسأله الحُكْمَ، لَزِمَه الحُكْم في الحال؛ ولا يجوز له تأخيره؛ لما فيه من تأخير الحقِّ عن موضعه.

وإن كان الحقُّ لغير مُعَيَّنٍ؛ كما لو كان وصيَّةً أو وَقْفاً على الفقراء، أو كان الحقُّ لله تعالى؛ كالحدود والكفَّارات، ونحو ذلك؛ فإنَّه يَحكُم إذا اتَّضح له الحُكْم، وإن لم يسأله أحدٌ ذلك.

* إذا لم يكن للمدَّعِي بيِّنة:

- إذا قال المدَّعِي: «ليس لي بيِّنة» ، أو أَتَى ببيِّنة وظهر فِسْقُها، قال له القاضي:«ليس لك على غريمك إلَّا اليمين» ؛ لحديث وائل بن حُجْر السابق؛ وفيه: (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللّاهِ؛ إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ. فَقَالَ: لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ). ولأنَّ الأصل براءة ذِمَّته.

ص: 256

- فإن سأله المدَّعِي إحلاف المدَّعَى عليه، أَحْلَفَه القاضي؛ لأنَّ اليمين طريقٌ إلى تخليص حقِّه؛ فلَزِمَ الحاكم إجابة المدَّعِي إليها؛ كسماع البيِّنة.

- ويحلفُ الغريم حينئذٍ على صفة جوابه، وليس على صفة دَعْوَى المدَّعِي؛ فلو قال المدَّعِي مثلاً:«قد أَقْرَضْتُ هذا الرَّجُل عشرة آلاف» ، فقال المدَّعَى عليه:«ما عندي له شيءٌ» ، فتكون يمينُه؛ بأن يقول:«والله ما عندي له شيءٌ» . فلا يُلْزِمُه القاضي أن يقول: «والله ما أقرضني شيئاً» ؛ لأنَّه لا يلزمه أكثر من ذلك الجواب، فيحلف عليه.

- فإذا حَلَفَ الغريمُ، خُلِّي سبيله؛ لانقطاع الخصومة بذلك؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم للحَضْرميِّ:(لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ). ويَحرُمُ تحليفُه بعدها؛ لأنَّه لا يلزمه أكثر من ذلك.

- وإن لم يحلف الغريمُ؛ قال له القاضي: «إن لم تحلف، وإلَّا حكمتُ عليك بالنُّكول» . ويُسنُّ للقاضي تكرار ذلك عليه ثلاث مرَّات؛ قطعاً لحُجَّته؛ إذ النُّكول ضعيفٌ؛ فوجب اعتضادُه بالتَّكرار ثلاثاً.

- فإن لم يحلف؛ قضى عليه القاضي بالنُّكول بشرط أن يسأل المدَّعِي ذلك، ولزمه الحقُّ؛ لحديث سالم بن عبد الله: (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ بَاعَ غُلَامًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَبَاعَهُ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَالَ الَّذِي ابْتَاعَهُ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: بِالْغُلَامِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ. فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: بَاعَنِي عَبْدًا وَبِهِ دَاءٌ لَمْ يُسَمِّهِ لِي. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ. فَقَضَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى

ص: 257

عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بِالْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ: لَقَدْ بَاعَهُ الْغُلَامَ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ، فَأَبَى عَبْدُ اللهِ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ، فَبَاعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ) [رواه البيهقي]. ولأنَّ نُكولَه عن اليمين قرينةٌ على صِدْق المدَّعِي، فتُقدَّم على أصل براءة الذِّمَّة.

ص: 258

‌فصل تعديل الشُّهود وجَرْحهم

- يُشترط في الشُّهود العدالة ظاهراً وباطناً؛ لقول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وقوله تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].

ولحديث عَمْرو بن شُعَيبٍ عن أبيه عن جدِّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ)[رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه]، فلا بُدَّ من العِلْم بعدالتهم.

إلَّا في عقد النكاح؛ فتكفي العَدَالة ظاهراً في الشَّاهدين؛ لأنَّ اشتراط العدالة باطناً فيه حَرَجٌ ومشقَّة؛ إذ النكاح يكون في القُرَى، والأمصار، والبوادي، وبين عامَّة الناس ممَّن لا يعرف حقيقة العدالة، فاعتبار ذلك يَشُقُّ، فاكتُفِيَ بظاهر الحالِ فيه.

*‌

‌ حُكْمُ القاضِي بعِلْمِه:

لا يجوز للقاضي أن يحكم بعِلْمِه؛ لأنَّ تجويز ذلك يفضي إلى تهمته وحكمه بما يشتهي، إلَّا أنَّ له أن يعمل بعِلْمِه فيما يلي:

أ - ما أُقِرَّ به في مجلس حُكمِه وإن لم يسمعه غيره؛ لحديث أُمِّ سَلَمَة رضي الله عنها السابق، وفيه:(فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ). فجعل مُستَنَدَ قضائه

ص: 259

ما يسمعه. ولأنَّه إذا جاز الحُكم بشهادة غيره فبَسماعِهِ أَوْلَى. ولأنَّه لو لم يعمل بما أُقِرَّ به عنده أَفْضَى ذلك إلى ضياع الحقوق؛ لأنَّه قد يُقِرُّ عنده، ولا يَحضُرُه أحدٌ من الشهود، فإذا لم يَحكُم به ضاع حقُّ المقَرِّ له.

ب- عَدالةُ الشهود وفِسْقُهم؛ لأنَّ التهمة لا تلحقه في ذلك، لأنَّ صفات الشهود معنًى ظاهر. ولأنَّه لو لم يحكُم بعِلْمه في ذلك لتسلسل؛ لاحتياجه إلى معرفة عدالة المُزَكِّين أو جَرْحهم، ثمَّ يحتاجون أيضاً إلى مُزَكِّين، وهكذا إلى ما لا نهاية.

*‌

‌ ارْتِيابُ القاضِي في عَدالَةِ الشُّهُودِ:

- إذا ارتاب القاضي في عَدالَة الشُّهود فلا بُدَّ من مُزَكِّين لهم؛ لتثبيت عَدالَتِهم؛ إذ العَدالةُ شَرطٌ؛ فالشَّكُّ في وجودها كعدمها.

- ويكفي في تزكية الشَّاهد عَدْلان، يقول كلٌّ منهما:«أشهد أنَّه عدلٌ» ؛ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، فإذا شهدا أنَّه عَدْلٌ ثبت ذلك بشهادتهما؛ فيدخل في عموم الآية.

- فإن طَلَبَ المدَّعِي من القاضي أن يحبس غريمه حتَّى يأتي بمن يزكِّي شهوده، أجابه لما سأل، وانتظره ثلاثة أيَّامٍ؛ لما جاء في كتاب عُمَرَ رضي الله عنه إلى أبي موسى الأَشْعَريِّ رضي الله عنه في القضاء، وفيه: (

وَمَنِ ادَّعَى حَقًّا غَائِبًا أَوْ بَيِّنَةً فَاضْرِبْ لَهُ أَمَدًا يُنْتَهَى إِلَيْهِ، فَإِنْ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ أَعْطَيْتَهُ بِحَقِّهِ، فَإِنْ أَعْجَزَهُ

ص: 260

ذَلِكَ اسْتَحْلَلْتَ عَلَيْهِ الْقَضِيَّةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ، وَأَجْلَى لِلْعَمَى

) [رواه البيهقي].

والتَّحديد بثلاثة أيَّام؛ لتَمكُّنه من البحث فيها، فلا حاجة إلى أكثر منها، بل في حَبْس خصمه أكثر منها ضررٌ.

*‌

‌ شُروطُ تَزْكِيَةِ الشُّهودِ:

إذا أتى المدَّعِي بالمُزَكِّين اشتُرِطَ ما يلي:

أ - معرفةُ المزكِّين الباطنةُ بمن يزكُّونهم بالصُّحْبة أو المعاملة، ونحو ذلك؛ كالجوار؛ لأنَّ عادة النَّاس إظهار الطَّاعات وإسرار المعاصي، فإن لم يكن المزكِّي ذا خبرةٍ باطنةٍ؛ فربما اغترَّ بحُسْن ظاهره، وهو فاسق في الباطن.

ب- عِلْم القاضي بخِبْرة المُزكِّين الباطنة بمن يزكُّونه؛ فلا يقبل تزكية من لا خِبْرة له؛ لقول خَرَشَة بن الحُرِّ: (شَهِدَ رَجُلٌ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لَهُ: لَسْتُ أَعْرِفُكَ، وَلَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا أَعْرِفُكَ. ائْتِ بِمَنْ يَعْرِفُكَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا أَعْرِفُهُ. قَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَعْرِفُهُ؟ قَالَ: بِالْعَدَالَةِ وَالْفَضْلِ. فَقَالَ: فَهُوَ جَارُكَ الأَدْنَى الَّذِي تَعْرِفُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَمَدْخَلَهُ وَمَخْرَجَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمُعَامِلُكَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الْوَرَعِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَرَفِيقُكَ فِي السَّفَرِ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لَسْتَ تَعْرِفُهُ. ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: ائْتِ بِمَنْ يَعْرِفُكَ)[رواه البيهقي].

ص: 261

* ادِّعاءُ الخَصْم فِسْقَ الشُّهودِ أو المُزَكِّين لهم:

- إذا ادَّعى الخَصْم فِسْقَ الشُّهود، أو فِسْقَ المُزِّكِين لهم، وأقام بذلك بيِّنةً سُمِعَت، وبَطَلَت الشهادة؛ لأنَّ الجَرْح مُقدَّم على التَّعديل؛ إذ الجارح يُخبِر بأمرٍ باطنٍ خَفِيَ على المُعَدِّل. ولأنَّ الجارح مُثبتٌ لجَرْحٍ، والمُعدِّل نافٍ له، والمُثْبِتُ مُقدَّمٌ على النَّافي.

*‌

‌ تَعْديلُ النِّساءِ وتَجْريحُهُم:

لا يُقبَل من النِّساء تعديلٌ ولا تَجريحٌ؛ لأنَّها شهادةٌ بما ليس بمالٍ، ولا يُقصَد به المال، ويَطَّلِع عليه الرِّجال في غالب الأحوال، أشبه الشهادة في القِصاص.

* هل يَنْفُذُ حُكْمُ القاضِي باطِناً؟

حُكْم القاضي يَرفع الخلاف، لكنَّه لا يزيل الشيء عن صفته باطناً؛ لحديث أُمِّ سَلَمَة رضي الله عنها، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ).

- فمن حُكِم له ببَيِّنةِ زُورٍ بزوجيَّة امرأةٍ، فإنَّها لا تَحِلُّ له باطناً. فإن وَطِئها مع عِلْمِه أنَّها لا تَحِلُّ له فكالزِّنا؛ يجب عليه الحدُّ بذلك، وعليها الامتناع منه ما أمكنها. فإن أكرهها فالإثم عليه دونها؛ لأنَّها مُكْرَهةٌ.

ص: 262

- وإن باع شخصٌ حنبليُّ المذهب مَتْروك التَّسمية عَمْداً من ذبيحةٍ أو صيدٍ فحَكَم بصحَّته قاضٍ شافعيٌّ نَفَذَ حُكْمُه.

- ومن قَلَّد مجتهداً في صحَّة نكاحٍ مُختَلَفٍ فيه صَحَّ نكاحه، فإذا تغيَّر اجتهاد المجتهد بعد ذلك لم يفارق زوجته؛ كما لو حَكَم له حاكمٌ مجتهدٌ بصِحَّة نكاحٍ، فتغيَّر اجتهاده؛ فلا يُفارِق زوجته؛ لقول عمر رضي الله عنه:(ذَلِكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي)[رواه ابن أبي شيبة].

*‌

‌ الدَّعْوَى عَلَى الميِّتِ والغائِبِ وغيرِ المُكَلَّفِ:

تَصِحُّ الدَّعوَى بحقوق الآدميِّين على الميِّت، والصغير، والمجنون، والغائب مسافة قَصْرٍ أو دونها إذا كان مستتراً ممتنعاً من الحضور لمجلس الحُكْم، بشرط البيِّنة في الجميع؛ لحديث عائشة رضي الله عنها:(أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّاهِ؛ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ. فَقَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ)[رواه البخاري، ومسلم]. فقضى لها ولم يكن أبو سفيان حاضراً.

والميِّت وغير المكلَّف كالغائب؛ لأنَّ كلًّا منهم لا يُعبِّر عن نفسه.

وأمَّا المُستَتِر؛ فلتَعَذُّر حضوره كالغائب، بل أَوْلَى؛ لأنَّ الغائب قد يكون له عُذْرٌ بخلاف المتواري. ولئلَّا يُجعَل الاستتار وسيلةً إلى تضييع الحقوق.

ص: 263

*‌

‌ كِتابُ القَاضِي إلى القَاضِي:

- يَصِحُّ أن يكتب القاضي الذي ثَبَت عنده حقٌّ من حقوق الآدميين؛ من قَرْضٍ، أو غَصْبٍ، أو بَيْعٍ، أو إجارةٍ، أو رَهْنٍ، أو وَصيَّةٍ بمالٍ، أو طلاقٍ، أو نكاحٍ، أو نَسَبٍ، أو غير ذلك، بصورة الدَّعْوَى الواقعة على الغائب، إلى قاضٍ آخر مُعيَّنٍ، أو إلى من يصل إليه الكتاب من قُضاة المسلمين وحُكَّامهم بلا تعيين، بشرط أن يقرأ القاضي الكاتب ذلك على عَدْلَيْن يَضْبِطان معناه وما يتعلَّق به الحُكْم، ثمَّ يقول:«هذا كتابي إلى فلان بن فلان» ، أو «هذا كتابي إلى مَنْ يصل إليه من القُضاة» ، ويَدْفعه إليهما؛ لأنَّ ما أمكن إثباته بالشَّهادة لم يَجُز الاقتصار فيه على الظَّاهر؛ كالعقود.

- ويقول في الكتاب: «إنَّ ذلك قد ثَبَت عندي، وإنَّك تأخذ الحقَّ للمستحِقِّ» ؛ لما رَوَى الضحَّاك بن سفيان الْكِلَابِيُّ رضي الله عنه قال: (كَتَبَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا)[رواه أبوداود، والترمذي، وابن ماجه].

- فإذا وَصَلا بالكتاب إلى محلِّ القاضي المكتوب إليه دفعاه إليه، وقالا:«نَشْهَد أنَّ هذا كتاب القاضي فلان إليك كتبه من عَمَلِه، وأشْهَدَنا عليه» .

- ويَلْزم القاضي الواصل إليه ذلك الكتاب العمل به؛ لإجماع الأُمَّة على قبوله؛ لقول الله تعالى حكايةً عن بِلْقيس: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29]. ولأنَّه صلى الله عليه وسلم كتب إلى ملوك الأطراف وإلى عمَّاله وسُعَاته.

ص: 264

‌باب القِسْمة

‌أوَّلًا: تعريفُ القِسْمَة:

القِسْمَةُ لغةً: بكسر القاف؛ اسمُ مَصْدَرٍ مِنْ قَسَمْتُ الشَّيءَ: جَعَلْتُه أَقْساماً. والقِسْمُ: بكسر القاف؛ النَّصيبُ المَقْسومُ.

واصطلاحاً: تَمْييزُ بعض الأَنْصِباءِ عن بعضٍ، وإفْرازُها عَنْها.

‌ثانياً: حُكْمُ القِسْمَة:

قِسْمةُ الأملاك مشروعة بالكتاب، والسنَّة، والإجماع.

- فأمَّا الكتاب: فقول الله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ

} [النساء: 8]، وقوله تعالى:{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28].

- وأمَّا السنَّة: فحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ

) [رواه البخاري].

وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُقَسِّم الغنائم بين أصحابه، ومن ذلك: قَسْمه لخيبر على ثمانية عشر سهماً. [رواه أبوداود].

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن قدامة: «أجمعت الأمَّة على جواز القِسْمة» . ولأنَّ حاجة الناس داعيةٌ إليها؛ ليتمكَّن كلُّ واحد من الشُّركاء من التَّصرُّف على حسب اختياره، ويتخلَّص من سوء المشاركة وكثرة الأيدي.

ص: 265

وإنَّما ذُكِرَت القِسْمة في كتاب القضاء؛ لأنَّ منها ما يقع بإجبار القاضي عليه -كما سيأتي-، ويقاسم بنصيبه.

‌ثالثاً: أَنْواعُ القِسْمَة:

القسمةُ نوعان:

النوع الأوَّل: قِسْمَة تَراضٍ:

وهي أن يتَّفق عليها جميع الشُّركاء؛ وتكون فيما لا ينقسم إلَّا بضَررٍ على الشُّركاء أو أحدهم؛ أَوْ لا ينقسم إلَّا بِرَدِّ عِوَضٍ من أحد الشركاء على آخر؛ كالدُّور الصِّغار، أو الدَّكاكين المتلاصقة، بحيث إذا قُسِمَت يتعطَّل الانتفاع بها أو يقلُّ؛ كما لو كان بينهما -مثلًا- دكَّانٌ عَرْضُه متران، وطولُه ثلاثة أمتار، فإذا طَلَب أحدُهما أن يقسمه نصفين، كان على الآخر ضررٌ؛ إذ لا يبقى له إلَّا نحو مترٍ؛ فلا يتمكَّن من الانتفاع به.

أو كان بينهما بيتٌ عَرْضُه ستَّة أمتارٍ، وطولُه سبعة أمتارٍ أو ثمانيةٌ، فإذا طَلَب أحدُهما قَسْمه نصفين، فَسَدَ على الآخر نصيبُه؛ إذ لا يتمكَّن من الانتفاع به.

أو كان بينهما أرضٌ مختلفةُ الأجزاء بسبب وجود شَجَرٍ، أو جِبالٍ في بعضها، ونحو ذلك، ولا يمكن أن تتعدَّل إلَّا بردِّ عِوَضٍ.

- فهذا النوع من المشتَرَك لا يجوز قِسْمَتُه إلَّا باتِّفاق الشُّركاء وتَراضِيهم؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)

ص: 266

[رواه أحمد، وابن ماجه].

ولأنَّ في ذلك إمَّا ضررٌ، أو رَدُّ عِوَضٍ، وكلاهما لا يُجبَر الإنسان عليه.

- فإن تراضى الشُّركاء أو الشَّريكان على القسمة أعياناً بالقيمة، صحَّت القِسْمَة؛ لأنَّ الحقَّ لهم لا يخرج عنهم، وقد رضوا بقِسْمَتِه. فيعوِّض صاحبُ الزائد الآخرَ بالقيمة نتيجةً لما حدث عنده من نقصٍ أو ضررٍ ونحو ذلك. ولذا أشبهت البيع وجرى عليها أحكامه؛ من خيار المجلس، والشَّرْط، والشُّفْعة، والردِّ بالعَيْب، وغير ذلك؛ لأنَّ صاحب الزائد بَذَلَ المال عِوَضاً عمَّا حَصَلَ له من حقِّ شريكه، وهذا هو البيع.

- وإن لم يتراضوا على القِسْمَة؛ فدعا أحدُهما شَريكَه إلى بيع هذا المشترك فامتنعَ، أُجْبِرَ عليه؛ دَفْعاً للضرر. فإن أَبَى؛ باعَهُ الحاكمُ عليهما، وقَسَمَ الثَّمن بينهما على قَدْر حِصَصِهما.

النوع الثَّاني: قِسْمَةُ الإِجْبارِ:

وهي ما لا ضَرَر فيها على أحد من الشركاء، ولا رَدَّ عِوَضٍ من واحدٍ على غيره. وسُمِّيت بذلك؛ لأنَّها لا تتوقَّف على رِضَى الشُّركاء، بل يُجبَر من امتنع إذا كَمُلَت شروطها.

وتتأتَّى قِسْمَة الإجبار في: كُلِّ مَكيلٍ وموزونٍ من جِنْسٍ واحدٍ، وفي الدُّور الكبيرة، والأراضي الواسعة، والبساتين، والدَّكاكين الواسعة، ونحو ذلك من كُلِّ ما لا ضَرَرَ في قَسْمِه، ولا رَدَّ عِوَضٍ.

ص: 267

- وهذا النوع من القِسْمة إفرازٌ لحقِّ أحد الشريكين، وتمييزه عن حقِّ غيره، وليس بيعاً؛ لمخالفته له في الأحكام والأسباب؛ كسائر العقود، ولو كانت بيعاً لما صحَّت بغير رِضَى الشَّريك، ولَوَجَبَتْ فيها الشُّفْعَة، ونحو ذلك ممَّا يتعلَّق بالبيع.

- فإذا طَلَبَ أحدُ الشركاء القِسْمة في هذا النوع، وأَبَى الشريكُ الآخرُ أَجْبَرَه القاضي عليه؛ لأنَّه يتضمَّن إزالة الضَّرر الحاصل بالشَّركة، وحصول النَّفْع للشَّريكين؛ لأنَّ نصيب كلِّ واحدٍ منهما إذا تميَّز كان له أن يتصرَّف فيه بحسب اختياره؛ فوَجَب إجابةُ الطالب إلى ذلك.

* شُروطُ الإِجْبارِ:

يُشترَطُ لإجبار القاضي على القِسْمَة ثلاثة شروط:

أ - أن يَثْبُت عنده مِلك الشُّركاء لذلك المقسوم، بالبيِّنة.

ب- أن يَثْبُت عنده أنْ لا ضرر في القِسْمة.

ج- أن يَثْبُت عنده إمكان تعديل السِّهام في العَيْن المقسومة من غير شيءٍ يُجْعَل معها. وإلَّا لم يُجبر.

‌رابعاً: قِسْمَةُ المَنافِعِ:

قِسْمَة المنافع مثل أن ينتفع أحدُ الشَّريكين بمكان كذا، والآخر بمكان كذا، أو ينتفع كلٌّ منهما به شهراً، ونحو ذلك؛ فهذه القسمة لا إجبار فيها؛ لأنَّها

ص: 268

معاوَضَةٌ؛ فلا يُجبَر عليها الممتنع؛ كالبيع. ولأنَّ القِسمة بالزَّمان إنَّما تكون بأن يأخذ أحدُهما قبل الآخر، وهذا لا تَسْويَةَ فيه؛ لأنَّ الآخر يتأخَّر حقُّه؛ فلا يُجبَر على ذلك.

فإنْ تراضيا على القَسْم زماناً أو مكاناً صحَّ ذلك جائزاً غير لازم؛ لأنَّ الحقَّ لهما لا يخرج عنهما، ولكلِّ واحدٍ منهما الرجوع متى شاء.

‌خامساً: القَاسِمُ بين الشَّريكَيْن:

- يصحُّ من الشريكين أن يتقاسما بأنفسهما، وأن ينصبا قاسماً بينهما من عند أنفسهما؛ لأنَّ الحقَّ لهما، فكيفما اتَّفقا عليه جاز.

- ويصحُّ أن يسألا القاضي نَصْب قاسمٍ يقْسِمُ بينهما؛ لأنَّه أعلم بمن يصلح للقِسْمَة. فإذا سألاه ذلك وجبت عليه إجابتهما؛ لقطع النزاع.

* شُروطُ القاسِمِ:

يُشترَطُ في القاسِم ما يلي:

أ، ب- الإسلام، والعدالة؛ ليُقْبَل قولُه في القِسْمَة.

ج، د- التَّكليف (البلوغ، والعَقْل)، والمعرفة بالقِسمة؛ ليحصل منه المقصود؛ لأنَّه إذا لم يعرف ذلك لم يكن تعيينه للسِّهام مقبولاً، كقاضٍ يجهل ما يحكم به.

فإن كان القاسِمُ كافراً، أو فاسقاً، أو جاهلًا بالقِسْمَة، لم تلزم القِسْمَة إلَّا

ص: 269

بتراضيهم بها؛ كما لو اقتسموا بأنفسهم.

- وتكون أُجْرَة القاسِم بين الشريكين على قَدْرِ أملاكهما.

‌سادساً: القُرْعُةُ في القِسْمَة:

- تجوزُ القِسْمة بالقُرْعَة، وتلزم بمجرَّد خروجها؛ لأنَّ القاسم كالقاضي، وقُرْعَتُه حُكْمٌ.

وتلزم القُرْعَة بخروجها ولو كان فيها ضررٌ، أو رَدُّ عوضٍ، إذا تراضيا عليها؛ إذ القاسِمُ مُجتهدٌ في تعديل السِّهام، كاجتهاد القاضي في طلب الحقِّ؛ فوجب أن تلزم قُرْعَتُه، كقِسْمَة الإجبار.

‌سابعاً: مِنْ أَحْكام القِسْمَة:

- إذا خَيَّر أحدُ الشَّريكين الآخر فيما تقاسماه بأنفسهما بلا قُرْعةٍ ولا قاسِمٍ؛ بأن قال له: «اختر أيَّ القسمين شئتَ» ، وتراضيا، لَزِمَت القِسْمَة بالتفرُّق بأبدانهما؛ كما في البيع.

- إذا خرج في نصيب أحدهما عيبٌ جَهِله؛ خُيِّر بين الفَسْخ، وبين الإمساكٍ للمعيب وأَخْذِ الأَرْش للعَيْب؛ لأنَّ ظهور العَيْب في نصيبه نَقْصٌ؛ فيُخَيَّر بين الفَسْخ والأَرْش؛ كالمشتري.

- إذا غُبِنَ أحدُهما في نصيبه غَبْناً فاحشاً؛ بَطَلَت القِسْمَة؛ لتبيُّن فساد الإفراز.

ص: 270

- إذا ادَّعى كلُّ واحدٍ من الشريكين أنَّ هذا الشيء المقسوم من سَهْمِه، تحالفا؛ فيَحلِف كلُّ واحدٍ منهما للآخر على نَفْي ما ادَّعاه؛ لأنَّه مُنكِرٌ. ونُقِضَت القِسْمَة؛ لأنَّ ذلك المدَّعَى به لم يخرج عن مِلْكِهما، ولا سبيل إلى دَفْعِه إلى مستحقِّه منهما دون نقض القِسْمَة.

- إذا اقتسم الشَّريكان داراً ونحوها، فحصلت الطريق إليها في نصيب أحدهما، ولا مَنفذ للآخر يصل منه إلى نصيبه، بطَلَت القِسْمَة؛ لعدم تمكُّن الدَّاخل الذي لا منفذ له من الانتفاع بما حصل له بالقِسْمَة؛ إذ لا يمكنه السلوك في حصَّة الآخر، فلا تكون السهام حينئذٍ مُعدَّلة، والتَّعديل واجبٌ في جميع الحقوق.

ص: 271

‌باب الدَّعاوى والبيِّنات

‌أوَّلًا: تَعريفُ الدَّعاوَى:

الدَّعاوَى لغةً: جَمْعُ دَعْوَى؛ وهي الطَّلَبُ؛ ومنه قول الله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57]. أي: ما يَطْلُبون ويَتَمَنَّون.

واصطلاحاً: إضافَةُ الإنسانِ إلى نَفْسِه اسْتِحْقاقَ شيءٍ في يَدِ غيرِه، أو في ذِمَّتِه.

والمُدَّعِي: هو من يُطالِبُ غيرَه بحقٍّ يَذكُرُ استحقاقَه عليه.

والمدَّعَى عليه: هو المُطالَبُ.

أمَّا البَيِّناتُ لغةً: فهي جَمْعُ بَيِّنَةٍ؛ مِنْ بَانَ الشَّيءُ؛ إذا ظَهَرَ.

واصطلاحاً: العَلامَةُ الواضِحَةُ؛ كالشَّاهِدِ فأكثر.

‌ثانياً: حُكْم الدَّعاوَى والبَيِّنات:

إقامة الدَّعوى والبيِّنة مشروعٌ في الإسلام، والأصل في مشروعيَّته: حديثُ ابن عبَّاس رضي الله عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ)[رواه مسلم].

‌ثالثاً: شُروطُ صِحَّة الدَّعْوَى:

لا تَصِحُّ الدَّعوَى إلَّا من جائز التَّصَرُّف؛ وهو البالغ، العاقل، الحُرُّ،

ص: 273

الرَّشيد؛ لأنَّ قول غير جائز التَّصَرُّف غير مُعتَبَرٍ؛ فلا تصح الدَّعوى في الأمور الماليَّة من ابن سَبْع سنين، أو سَفيهٍ غير رَشيدٍ، أو عَبْدٍ.

‌رابعاً: أَحْوالُ الدَّعْوَى والتنازع في عَيْنٍ:

إذا ادَّعَى كلُّ واحدٍ من اثنين عَيْناً أنَّها له؛ لم تَخْلُ من أربعة أحوال:

الأوَّل: ألَّا تكون العَيْن المُتَنازَعُ فيها بيدِ أَحَدٍ، ولا يوجدُ أَمْرٌ ظاهرٌ يُعمَلُ بمُقتضاه، ولا بَيِّنةَ لأحدهما؛ فيَحلِفُ كلُّ واحدٍ منهما أنَّه لا حقَّ للآخر فيها، ويتناصفانها؛ لاستوائهما في الدَّعْوَى، وليس أحدهما أَوْلَى بها من الآخر؛ لعدم المُرَجِّح.

- فإن وُجِدَ أَمْرٌ ظاهرٌ، يُرجِّح أنَّها لأحدهما؛ كما لو كانت من آلَةِ صَنْعتِهِ؛ فإنَّه يُعْمَل به؛ فيَحْلِف ويأخذها.

الثاني: أن تكون العَيْن بِيَدِ أحدِ المُتَنازِعَيْن؛ فهي له بيَمينِه؛ فيَحْلِف أنَّها له ولا حقَّ للآخر فيها، بشرط ألَّا يكون للآخر بَيِّنةٌ؛ لحديث وائل بن حُجْر عن أبيه في قصَّة الحَضْرَمِيِّ والكِنْدِيِّ؛ وفيه:(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللّاهِ؛ إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ. فَقَالَ: لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ)[رواه مسلم].

ولأن الظَّاهر من اليد المِلْك، فإن كان للمدَّعِي بيِّنة حُكِم له بها.

ص: 274

- فإن لم يحْلِف قُضِيَ عليه بالنُّكول، إلَّا إذا أقام بيِّنة على أنَّها له؛ لأنَّ البيِّنة حُجَّةٌ صريحةٌ في إثبات المِلْك لا تُهمة فيها؛ فكانت أَوْلَى من اليمين التي يُتَّهَم فيها.

- فإن كان لكلٍّ منهما بيِّنةٌ؛ قُدِّمَت بيِّنة المدَّعِي؛ وهو من ليست العَيْن في يَدِه، وحُكِمَ له بها؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى المُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ)[رواه البيهقي]؛ فجعل جِنْسَ البيِّنة في جَنْبَةِ المدَّعِي، فلا يبقى في جَنْبَةِ المدَّعَى عليه بيِّنة.

ولأنَّ بَيِّنة المُدَّعِي أكثر فائدة؛ لأنَّها تُثبِتُ سبباً لم يكن، وبيِّنة المنُكِر إنَّما تُثبِتُ ظاهراً تدلُّ اليد عليه؛ فلم تكن مفيدةً؛ لجواز أن يكون مُستَنَدُها رؤيةُ يَدِ المُنكِرِ عليها، وتَصرُّفه فيها؛ فوجب تقديمُ بيِّنة المُدِّعي على بيِّنة المنُكِر؛ كتقديم بيِّنة الجَرْح على التَّعديل.

- إلَّا إذا أقام المدَّعي بيِّنة أنها مِلْكه، وأقام المدَّعَى عليه -وهو الداخل الذي يَدُه على العَيْن- بيِّنةً أنَّه اشتراها منه؛ فحينئذٍ تُقدَّم بيِّنة المدَّعَى عليه؛ لأنَّ معها زيادة عِلْمٍ؛ لشهادتها بأمرٍ حَدَثَ على الِملْك خَفِي على بيِّنة المدَّعِي.

- أو أَقامَ أحدُهما بيِّنةً أنَّه اشتراها من فلانٍ، وأقام الآخر بيِّنة أنَّه اشتراها من الذي اشتراها منه الأوَّل؛ فإنَّه يُعمل بأسبقهما تاريخاً؛ لمصادفة التصرُّف الثَّاني مِلْك غيره؛ فوجب بطلانه. فإن لم يُعْلَم التاريخ، أو اتَّفَق؛ تساقطتا؛ لتعارضهما وعدم المرجِّح.

ص: 275

الثالث: أن تكون العَيْن المُتَنازَعُ فيها بأيْدِيهما، ولا بيِّنة لهما؛ كأرضٍ حَرَثاها، أو دارٍ سَكَناها، يدَّعِي كلٌّ منهما أنَّها له، أو عِمامَةٍ طَرَفها بِيَدِ أحدهما وباقيها مع الآخر، فيتحالفان؛ أي: يحلِفُ كلُّ واحدٍ منهما أنَّ نصفها له ولا حقَّ للآخر فيها، ويتناصفانها؛ لحديث أبي مُوسَى الأشعريِّ رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا بَعِيرًا أَوْ دَابَّةً إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَيْسَتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَجَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا)[رواه أبوداود، والنسائي، وابن ماجه]. ولأنَّ يَدَ كلٍّ منهما على نِصْفها، والقول قول صاحب اليَدِ مع يَمينِه.

- فإن قَوِيَت يَدُ أحدهما على العَيْن المُتَنازَع فيها؛ كحيوانٍ ادَّعاه اثنان؛ أحدُهما سائِقُه، والآخر راكِبُه؛ فهو للرَّاكب بيمينه. أو كقميصٍ؛ واحدٌ آخِذٌ بكُمِّه، والآخر لابِسُه، فهو للابِسِه؛ لأنَّ تَصرُّف الرَّاكب أو اللَّابس أقوى، ويَده آكَدُ، وهو المُستوفِي للمَنْفَعة.

- فإن كان لأحدِ المُتنازِعَيْن بيِّنةٌ؛ فالعَيْن له، من غير يمين؛ لحديث الحَضْرَمِيِّ والكِنْدِيِّ. ولأنَّ البِّينة أَحَدُ حُجَّتَي الدَّعْوَى، فيُكتَفَى بها، كاليمين.

- فإن كان لكلِّ واحدٍ منهما بيِّنةٌ بالعَيْن، وتساوت البيِّنتان من كلِّ وَجْهٍ؛ تعارَضَتا وتساقَطَتا؛ لأنَّ كلًّا منهما تَنْفِي ما تُثْبِتُه الأخرى؛ فلا يُمكن العملُ بهما ولا بأحدهما؛ وحينئذٍ يتحالفان، ويتناصفان ما بأيديهما؛ لحديث أبي مُوسَى الأشْعَريِّ رضي الله عنه:(أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا بَعِيرًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَيْنِ، فَقَسَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ)[رواه أبوداود].

ص: 276

- وإن تَنازَع صانِعان في آلَةِ دُكَّانِهما، ولا بيِّنة لأحدهما؛ فآلَةُ كلِّ صَنْعةٍ لصانِعِها؛ كنجَّارٍ وحَدَّادٍ يكونان بدُكَّانٍ، ويتنازعان في آلَتَهِما، فآلَةُ النِّجَارَةِ للنَّجَّار، وآلَةُ الحِدادَةِ للحَدَّاد؛ عملًا بالظَّاهر، فيأخُذُ كلٌّ منهما آلَتَه بيَمينِه.

الرابع: أن تكون العَيْن المُتَنازَعُ فيها بيَدِ ثالثٍ، أي: غير المتَنازِعَيْن فيها، ولا بيِّنة لواحد منهما؛ فإن ادَّعاها الثَّالث لنفسه وأنكرهما؛ حَلَفَ لكُلِّ واحدٍ من المتنازعَيْن يميناً؛ لأنَّهما اثنان، كلاهما يدَّعيها؛ وهو مُنكِرٌ، والعَيْن بيَدِه؛ فوجب أن يَحلِفَ لكلِّ واحدٍ منهما يَميناً. وتكون العَيْنُ له؛ لتَرَجُّح جانبه بوَضْع اليَدِ.

- فإن نَكَلَ عن اليمينَيْن؛ أَخَذا منه العَيْن المُتَنازَعَ فيها مع بَدَلِها؛ وهو قيمتها إن كانت مُتقوِّمة، ومثلها إن كانت مِثْليَّة؛ لأنَّ العين فاتت على أحدهما بتفريطه في الحَلِف له؛ فوَجَبَ عليه بَدَلها؛ كما لو أتلفها. واقترعا على العَيْن وبَدَلها؛ لأنَّ المحكوم له بالعَيْن غير مُعَيَّن؛ فوجبتِ القُرْعَة؛ لتعيينه.

- وإن أقرَّ بالعَيْن المُتَنازَع فيها لهما؛ بأن قال: «هي للاثنين» ، أخذاها منه واقتسماها نِصْفَين، وحَلَفَ لكلِّ واحدٍ منهما يَميناً بالنسبة إلى النِّصف الذي أَقَرَّ به لصاحبه؛ لأنَّ كلًّا منهما يدَّعِي الزِّيادة على ما أَقَرَّ له به من النِّصْف، فهو في النِّصْف الآخر مُقِرٌّ لغيره، فيجب عليه اليمين لصاحبه. ويَحلِفُ كلُّ واحدٍ من المُتَنازِعَيْن لصاحبه على النِّصف المحكوم له به؛ كما لو كانت العَيْن بأيديهما ابتداءً.

وإن لم يدَّع العين لنفسه، ولم يُقِرَّ بها لغيره، وليس لأحدهما بيِّنةٌ، أُقرِع

ص: 277

بينهما، كما لو لم تكن بيد أحدٍ؛ لعدم المرجِّح، فمن خرجت القرعة له حلف لصاحبه وأخذها؛ لترجُّحه بالقُرعة.

- وإن قال: «هي لأحدهما، لكنِّي أجهله» ، فصَدَّقاه على جَهْله به؛ لم يَحلِف؛ لتصديقهما له في دَعْواه.

فإن لم يُصَدِّقاه؛ حَلَفَ لهما يَميناً واحدةً أنَّه لا يعلمه؛ لأنَّ صاحب الحقِّ منهما واحدٌ غير مُعيَّنٍ. وأُقْرِع بينهما؛ فمن خرجت القُرْعة له حَلَف وأَخَذ العَيْن؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا دَابَّةً وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَأَمَرَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِينِ)[رواه أبو داود، وابن ماجه]. ولأنَّ المُقَرَّ له بها يصير صاحب اليَدِ وهو غير معيَّنٍ، فعُيِّن بالقُرْعة.

ص: 278

‌كتاب الشَّهادات

‌أوَّلًا: تعريفُ الشَّهادات:

الشَّهاداتُ لغةً: جَمْعُ شَهادَةٍ؛ مُشتَقَّةٌ من المُشاهَدَة؛ لإخبار الشَّاهِدَ عمَّا يُشاهِدُه؛ فيقال: شَهِدَ الشيءَ إذا رآه؛ ومنه قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]؛ أي: عَلِمَهُ برؤيةِ هِلالِهِ، أو إِخْبارِ من رآه، ونحوه.

واصطلاحاً: الإخبارُ بما عَلِمَهُ الشَّاهِدُ، بلَفْظٍ خاصٍّ.

‌ثانياً: حُكمُ الشَّهادَةِ:

الشهادةُ مشروعةٌ بدلالة الكتاب، والسنَّة، والإجماع:

- فمن الكتاب: قول الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. وقوله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2].

- ومن السُّنَّة: ما روى الأَشْعَث بن قَيْسٍ رضي الله عنه قال: (كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي شَيْءٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ. فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا، وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللهَ عز وجل وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ)[رواه البخاري، ومسلم].

ص: 279

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن قدامة: «أهل العِلْم أجمعوا على هذا» ؛ أي مشروعية الشهادة.

- والشَّهادةُ حُجَّةٌ شرعيَّةٌ تُظْهِرُ الحقَّ المُدَّعَى به وتُبيِّنُه، ولهذا سُمِّيت الشهادةُ بيِّنةً، إلَّا أنَّها لا توجِبُ الحقَّ المدَّعى به، وإنَّما يُلزم الحاكمُ به بشرطه.

‌ثالثاً: حُكمُ تَحمُّل الشَّهادَة وأَداؤُها:

- تَحَمُّل الشَّهادَة: هو الالتزام بها، وهو في حقوق الآدميين فَرْضُ كِفايةٍ، سواء كانت هذه الحقوق من الأموال؛ كالبيع، والقَرْض، والغَصْب، أو غير الأموال؛ كحَدِّ القَذْف.

فإذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فإن لم يوجد إلَّا من يكفي تعيَّن عليه، ولو كان عَبْداً، وليس لسيِّده منعه؛ لقوله تعالى:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]؛ أي: إذا دعوا إلى التحمُّل.

فإذا طُلِب من إنسانٍ أن يشهد -مثلًا- على إقرارٍ بحقٍّ لآخر، أو أن يشهد على دَيْنٍ له على آخر؛ فتَحَمُّله للشهادة فَرضُ كفايةٍ إذا وُجِدَ غيره ممن يتحمَّلُها، وإلَّا كانت فَرضَ عينٍ عليه.

- وأمَّا أَداءُ الشَّهادة: فهو إثباتُها عند القاضي. وهو فَرْضُ عَيْنٍ إذا كانت في حقِّ آدميٍّ؛ فمن تَحمَّل الشَّهادة وَجَبَ عليه أن يؤدِّيها، وحَرُمَ عليه أن يكْتُمَها؛ لقوله سبحانه وتعالى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}

ص: 280

[البقرة: 283]. فإن كتمها أَثِمَ، ولا ضَمان عليه إذا تعذَّر الحقُّ بدونها.

- ووجوب تَحمُّل الشَّهادة وأداؤها إنَّما يكون في حقِّ من قَدِرَ عليهما بلا ضَررٍ يلحقه في بَدَنِه، أو مَالِه، أو أَهْلِه، وإلَّا لم يلزمه ذلك؛ لقوله تعالى:{وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282].

- إذا وجب تَحمُّل الشَّهادة وجب كِتابتُها على من وَجَبَت عليه، لئلِّا يَنْساها؛ لأنَّ ما لا يتمُّ الواجب إلَّا به فهو واجبٌ.

* الإِشْهادُ في عَقْد النِّكاح وغيره:

يجبُ الإشهاد في عَقْد النِّكاح خاصَّةً؛ لأنَّ الإشهاد شَرْطٌ فيه، ولا ينعقد النِّكاح بدونه.

أمَّا الإشهاد فيما سوى عَقْد النِّكاح؛ كالبَيْع، أو الإجارة، أو الصُّلْح، أو الرَّهْن، ونحوها، فمُستحبٌّ؛ لأنَّه لا يُشترط فيها الإشهاد؛ لقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، والأمر محمولٌ على الاستحباب؛ لأنَّه قال بعده:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]، وهذا إنَّما يكون مع عدم الشهادة؛ فدلَّ هذا على عدم وجوبها.

* الشَّهادَةُ في حُقوقِ الله تعالى:

يُباحُ إقامةُ الشَّهادة وتَرْكُها إذا كانت في حقٍّ من حقوق الله، كحدِّ الزنا، وشُرْب الخمر؛ لأنَّ حقوق الله مبنيَّةٌ على المُسامحة، ولا ضرر في تَرْكها على

ص: 281

أحدٍ، والستر مأمورٌ به.

‌رابعاً: أَخْذُ الأُجْرَة على الشَّهادَة:

يَحرُمُ أَخْذُ أُجْرةٍ على الشَّهادة، أو أَخْذُ جُعْلٍ عليها ولو لم تتعيَّن عليه؛ لأنَّها فَرْضُ كِفايةٍ، ومن قام به فقد قام بفَرْضٍ، ولا يجوز أَخْذُ الأُجْرةِ ولا الجُعْل على الفَرْض؛ كصلاة الجنازة.

لكن إن كان من دُعِيَ إلى لشَّهادة عاجزاً عن المشي إلى مَحلِّها، أو يتأذَّى بالمشي، بسبب مَرَضٍ، أو كِبَرِ سِنٍّ، ونحوهما، فله أَخْذُ أُجْرةِ مَرْكوبٍ إلى مَحلِّ الشهادة من ربِّ الشهادة.

‌خامساً: مَرْجِعُ الشَّهادَةِ ومُسْتَنَدُها:

يَحرُمُ أن يَشْهَدَ أحدٌ إلَّا بما يعلمه؛ لقول الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86].

والعِلْم بالمشهود به يكون -غالباً- إمِّا برؤيةٍ، أو سَماعٍ، وقد يكون ببقيَّة الحواسِّ الأخرى؛ كالذَّوْق، واللَّمْس.

- والشَّهادة بالرُّؤية تَخْتصُّ بالفِعْل؛ كالقَتْل، والسَّرِقَة، والغَصْب، وشُرْب الخَمْر، والرَّضاع، والوِلادَة، وعُيوب المَبيع الظاهِرَة.

- والشهادة بالسَّماع على نوعين:

أحدهما: سَماعٌ من مَشهودٍ عليه؛ كسماع طلاقٍ، أو عَقْد نِكاحٍ، أو عَقْدِ بيعٍ،

ص: 282

أو إقرارٍ بمالٍ، أو نَسَبٍ، فيلزمه الشهادة بما سَمِعَ من قائلٍ عَرَفَهُ يقيناً.

الثاني: السَّماعُ بالاسْتِفاضَةِ: وذلك بأن يَشْتَهِرَ المَشْهودُ به بين الناس، فيتَسامَعُون به بإخبار بعضهم بعضاً.

ولا تُسمَعُ الشهادة بالاستفاضة إلَّا فيما يَتَعَذَّر عِلْمُه غالباً بدونها؛ كما في النَّسَب، والوِلادَة، والمَوْتِ؛ لأنَّ مثل هذه الأمور قد لا تمكن المشاهدة فيها، ولا سبيل إلى معرفتها قَطْعاً بغير ذلك؛ فالولادة قد لا يُباشِرُها إلَّا امرأة واحدة، والميِّت قد لا يُباشِرُه إلَّا الواحد والاثنان ممَّن يَحضُرُه ويتولَّى غَسْلَه وتَكْفينَه.

- ومن رأى شيئاً بيَدِ إنسانٍ يتصرَّف فيه مدَّةً طويلةً -عُرْفاً- تَصَرُّف المُلَّاك في أملاكهم، من نَقْضٍ، أو بِناءٍ، أو إجارةٍ، أو إعارةٍ، فيجوز له أن يشهد له بالمِلْك؛ لأنَّ التصرُّف فيه على هذا الوجه من غير مُنازعٍ يدلُّ على صحَّة المِلْك.

والوَرَع أن يشهدَ باليَدِ والتصرُّف؛ لأنَّه أحوط.

ص: 283

‌فصل شروط من تقبل شهادته

لا تقبل شهادةٌ من أحدٍ إلَّا إذا توفَّرت فيه ستَّة شروطٍ، تَعْتَبرُ خُلُوَّه ممَّا يُوجِب التُّهْمة فيه، ووجود ما يُوجِب تيقُّظه، وتَحَرُّزه؛ حتَّى يحصل غَلَبة الظَّنِّ بصِدْقه، وهذه الشروط هي:

الشرط الأوَّل: البُلُوغ.

فلا تُقبل شهادة الصغير مطلقاً، ذَكَراً كان أو أُنْثَى، ولو كان متَّصفاً بما يتَّصف به المُكَلَّف من العَدالَة؛ لقوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]. والصبيُّ ليس رجلًا.

ولأنَّ الصغير لا يُقْبَل قوله في حقِّ نَفْسِه؛ لنَقْصِ أَهْلِيَّته، ففي حَقِّ غيره أَوْلَى.

الشرط الثاني: العَقْل.

والعاقل: هو من عَرَفَ الواجب عَقْلًا، الضروريَّ وغيرَه، وعَرَفَ المُمْكِن والمُمْتَنِع؛ كوجود الله تعالى، وكون الجسم الواحد ليس في مكانين، واستحالة اجتماع الضِّدَّيْن، وكون الواحدِ أقلَّ من الاثنين، وعَرَفَ ما ينفعُه وما يضرُّه غالباً.

فلا تقبل شهادةُ مجنونٍ، ولا مَعْتوهٍ؛ لأنَّه لا يمكنه تحمُّل الشهادة ولا أداؤها؛ لأنَّها تحتاج إلى الضَّبْط، وهو لا يعقله.

ص: 285

وأمَّا من يُجنُّ أحياناً ويفيق، فتُقبَل شهادتُه إذا تحمَّلها وأدَّاها في حال إفاقته؛ لأنَّها شهادةٌ مِنْ عاقلٍ، أشبه مَنْ لم يجنَّ.

الشرط الثالث: النُّطْق.

وهو كون الشاهِد متكلِّماً؛ فلا تُقبَلُ شهادةُ الأَخْرَس بالإشارة ولو فُهِمَت؛ لأنَّ الشهادَةَ يُعتَبر فيها اليقين، وهو لا يحصل بالإشارة، ولكن إن أدَّى الأَخْرَسُ الشهادَةَ بخَطِّه قُبِلَت؛ لدلالة الخطِّ على الألفاظ.

الشرط الرابع: الحِفْظ.

فلا تُقبَلُ شهادةُ مغَفَّلٍ، ولا معروفٍ بكثرة الغَلَط والسَّهْو؛ لأنَّه لا يحصل الثقة بقوله، ولا يغلب على الظنِّ صدقه؛ لاحتمال أن يكون من غَلَطِه.

أمَّا من يَقِلُّ منه الغَلَط والسَّهْو، فتُقبَلُ شهادته؛ لأنَّ هذا لا يَسْلَم منه أَحدٌ.

الشرط الخامس: الإِسْلام.

فلا تُقبَلُ شهادةُ كافرٍ ولو على مِثْلِه؛ لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وقوله تبارك وتعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. فالكافر ليس من رِجالنا، وهو غير مأمونٍ، فلم تُقبَل شهادَتُه.

ولكن تُقبَلُ شهادَةُ رَجُلَيْن من أهل الكتاب عند عَدَم مُسلِمٍ، إذا كانت في الوصيَّة في السَّفَر ممَّن حَضَرَه الموت من مُسلِمٍ أو كافرٍ، فتُقبَلُ شهادَتُهما في هذه المسألة فقط. ومع الرَّيْب في أنَّهما كتما شيئاً حَلَّفهما الحاكم وجوباً بعد العَصْر:

ص: 286

«ما خانا، ولا حَرَّفا، وإنَّها لوصيَّة الرَّجُل» ؛ وذلك لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} [المائدة: 106].

وعن الشعبيِّ: (أَنَّ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بِدَقُوقَاءَ هَذِهِ، وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ، فَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَدِمَا الْكُوفَةَ فَأَتَيَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، فَأَخْبَرَاهُ، وَقَدِمَا بِتَرِكَتِهِ وَوَصِيَّتِهِ، فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَحْلَفَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ بِاللّاهِ: مَا خَانَا، وَلَا كَذَبَا، وَلَا بَدَّلَا، وَلَا كَتَمَا، وَلَا غَيَّرَا، وَإِنَّهَا لَوَصِيَّةُ الرَّجُلِ وَتَرِكَتُهُ. فَأَمْضَى شَهَادَتَهُمَا)[رواه أبو داود].

فإن اطُّلِع على أنَّهما كَذَبا في شهادتهما، قام رَجُلان آخران من وَرَثَةِ المُوصِي، فحَلَفا بالله لَيَمينُنا أَحَقُّ من شَهادَتِهما، ولقد خانا وكَتَما، فيقضي الحاكم لهما؛ وذلك لقول الله عز وجل:{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 107].

الشرط السادس: العَدَالَةُ ظَاهِراً وباطِناً.

والعَدالة هي: استواء أحوال الشخص في دِينِه، واعتدال أقواله وأفعاله.

ص: 287

ويُعتبر لها شيئان:

أ - الصَّلاح في الدِّين، وهو نوعان:

1) أداءُ الفَرائض برَواتِبها؛ فيؤدِّي الصلوات الخَمْس والجُمُعة، وما وَجَبَ من زكاةٍ، وصَوْمٍ، وحَجٍّ، وغيرها من الفرائض، ويؤدِّي سُنَن الصَّلاة الرَّاتِبة، والوِتْر، ولا تُقبَلُ شهادة من داوم على تَرْك هذه الرَّواتِب؛ لأنَّ تهاونه بها يَدُلُّ على عدم محافظته على أسباب دِينِهِ، وربما جرَّه التهاون بها إلى التهاون في الفرائض.

2) اجتنابُ المُحَرَّمات؛ فلا يأتي كبائر الذُّنوب، ولا يُداوم على صَغائرها؛ لأنَّ الله تعالى نَهَى عن قبول شهادة القاذف؛ فقال تعالى:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]. والقَذْف كبيرةٌ، فيقاس عليه كلُّ مرتكب كبيرةٍ.

ب- استعمال المروءة الإنسانيَّة: وذلك بفعل ما يُجمِّله ويُزيِّنه عادةً؛ كالسَّخاء، وحُسْن الخُلُق، وبَذْل الجاه، وحُسْن المُجاورة، ونحو ذلك.

ويكون أيضاً بتَرْك ما يُدَنِّسه ويَشينُه من الأمور الدَّنيئة المُزْرية به في العادة؛ فلا تُقبلُ شهادةُ مُتمَسْخِرٍ، ولا رقَّاص، ولا مصافَعٍ (من يصفع غيره، ويصفعه غيره لا يرى بذلك بأساً)، ولا مُشَعْبِذٍ (خفَّةٌ في اليدين كالسِّحر)، ولا مُغَنٍّ، ولا طُفَيْليٍّ (الذي يتبع الضِّيفان)، ولا متزيٍّ بزيٍّ يُسْخَرُ منه، ولا شاعِرٍ يُفْرِطُ في مَدْحٍ بإعطاءٍ، وذمٍّ بمنعٍ، أو يُشبِّب بمَدْح خَمْر، أو مُرْدٍ، أو امرأة معيَّنةٍ مُحرَّمةٍ.

ص: 288

ولا تُقبلُ شهادةُ لاعِبٍ بشِطْرَنْجٍ غير مُقلِّدٍ من يرى إباحته، أو لاعِبٍ بنَرْدٍ، أو لاعِبٍ بكلِّ ما فيه دناءةٌ.

ولا تُقبلُ شهادةُ من يكشفُ من بَدَنه ما العادة تغطيتُه، أو يُحدِّث بمباضعة زوجته، أو يخاطبها بخطابٍ فاحشٍ بين الناس، أو يَدْخُل الحمَّام بغير مِئْزَرٍ، أو يحكي المُضْحِكات ممَّا فيه سُخْف ودناءةٌ؛ لأنَّ من رَضِيَه لنفسه واستخفَّه فليس له مروءةٌ، ولا تحصل الثقة بقوله؛ لما روى أبو مسعودٍ البَدْريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)[رواه البخاري].

- ومتى وُجِدَ شرط قبول الشهادة فيمن لم يكن متَّصفاً به قبل وجود المشروط، قُبِلَت شهادته بمجرَّد ذلك؛ كأن يَبْلُغ الصبيُّ، ويَعقِلَ المجنون، ويُسْلِمَ الكافرُ، ويَتوبَ الفاسِقُ؛ لأنَّ ردَّ شهادته إنَّما كان لوجود مانع، وقد زال ذلك المانع.

* ما لا يُشْتَرَطُ في قَبُولِ الشَّهَادَةِ:

- ولا يُشترط في الشهادة الحُرِّيَّة؛ فتُقبَلُ شهادةُ العَبْد والأَمَة في كُلِّ ما يُقبل فيه الحُرُّ والحُرَّة؛ لعموم النصوص الواردة في الشهادة، والعبيد داخلون فيها؛ وفي الحديث عن عُقْبة بن الحارث: (أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، قَالَ: فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْرَضَ عَنِّي، قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ

ص: 289

قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا. فَنَهَاهُ عَنْهَا) [رواه البخاري].

- ولا يُشترط كون الصناعة غير دنيئةٍ عُرْفاً، فتُقْبلُ شهادة الحجَّام، والحدَّاد، والزَّبَّال، والقَمَّام، والكَنَّاس، والصَّبَّاغ، والدَّبَّاغ، والجزَّار، والحائك، والحارس، ونحوهم، إذا حَسُنَت طريقتهم؛ لحاجة الناس إلى هذه الصنائع؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ لا يليها بنفسه، فلو رُدَّت بها الشهادة أفضى إلى ترك الناس لها، فيشقُّ ذلك عليهم.

- ولا يُشترط كون الشاهد بصيراً؛ فتُقبلُ شهادة الأعمى في المسموعات بما سَمِعَه، إذا تيقَّن صوت المشهود عليه، أو سَمِعَ بالاستفاضة؛ لأنَّه عَدْلٌ مقبول الرِّواية، فقُبِلَت شهادتُه كالبصير.

وتَصِحُّ شهادته كذلك بما رآه قبل عَمَاه، إذا عَرَفَ الفاعلَ باسمه ونَسَبِه؛ لأنَّه فَقَدَ حاسَّةً لا تُخِلُّ بالتكليف، فلا يمنع قبول الشهادة.

ص: 290

‌فصل موانع قبول الشهادة

قد يَحولُ بين الشَّهادَةِ ومَقْصودِها -وهو قبولها والحُكم بها- مَوانعُ تَمنَعُ من قَبُولها، وهذه الموانع سَبْعةٌ:

المانع الأوَّل: أن يكون الشَّاهِدُ أو بعضُه مِلْكاً لمن شَهِدَ لَهُ، أو زوجاً له، أو كان من فروعه، أو أصوله.

- فلا تُقْبَلُ شهادةُ الرَّقيق لسيِّده؛ لأنَّ نفقته على سيِّده، أو من يشتركون فيه جميعاً؛ فهو كالأب مع ابنه.

- ولا تُقْبَلُ شهادةُ أحدِ الزَّوجين للآخَر، ولو بعد الطَّلاق البائن بينهما، أو الخُلْع؛ لقوَّة الصِّلة بينهما ممَّا يقوِّي التهمة، ولتمكُّنه من بينونتها للشَّهادةِ ثمَّ يُعيدُها.

- ولا تُقْبَلُ شهادةُ أحدِ الوالدين لأولادهما وإن سفلوا من أولاد البنين وأولاد البنات.

- ولا تُقْبَلُ شهادةُ وَلَدٍ لوالديه، سواء كانوا آباءً وأمَّهات، أو أجداداً وجدَّات من جهة الأب أو الأمِّ.

وذلك لأنَّ كلًّا من الوالدين والأولاد متَّهمٌ في حقِّ الآخر؛ لأنَّه يميل إليه بطبعه، سواء اتَّفق دِينهما، أو اختلف.

ص: 291

- وتُقْبَلُ شهادة إنسانٍ لباقي أقاربه؛ كشهادته لأخيه بالإجماع، وشهادته لعمِّه، وخاله. ولأنَّه إذا قُبلت شهادة الأخ لأخيه مع قُرْبِه، فذلك تنبيه إلى قبول شهادة من هو أبعد منه بطريق الأَوْلَى.

- كلُّ من لا تُقْبَل شهادته لمن سبق، فإنَّه تُقبَلُ شهادته عليه؛ لانتفاء التهمة حينئذٍ.

المانع الثاني: كون الشاهد يَجُرُّ بالشَّهادَةِ نَفْعاً لنَفْسِه.

- فلا تُقْبَلُ شهادةُ السيِّد لرقيقه، أو مُكاتَبِه؛ لأنَّ المكاتَب رقيقٌ؛ فعن عَمْرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(المُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ)[رواه أبو داود].

- ولا تُقْبَلُ شهادةُ شخصٍ لمورِّثه بجُرْحٍ قبل اندماله؛ لأنَّه ربما يَسْري الجُرْحُ إلى النَّفْس، فتجبُ الدِّيَةُ للشاهد بشهادته، فصار كأنَّه شَهِدَ لنَفْسِه.

- ولا تُقْبَلُ شهادةُ شخصٍ لمُوصِيه، ولا لمُوَكِّلِه فيما وُكِّلَ فيه؛ لأنَّه يثبت له حقُّ التصرُّف فيه، فكان متَّهماً.

- ولا تُقْبَلُ شهادةُ شخصٍ لشريكه فيما هو شريكٌ فيه، ولا لمستأجره فيما استأجره فيه؛ لوجود منفعةٍ له منه يجرُّها لنفسه؛ فكان متَّهماً.

المانع الثالث: كون الشَّاهِدِ يَدْفَعُ بالشَّهادَةِ ضَرَراً عن نَفْسِه.

- فلا تُقْبَلُ شهادةُ العاقِلَة بجَرْح شهودِ قتل الخطأ أو شِبْه العَمْد؛ لأنَّهم متَّهمون في دَفْع الدِّيَة عن أنفسهم.

ص: 292

- ولا تُقْبَلُ شهادةُ الغُرَماء بجَرْح شهودِ دينٍ على مُفْلِسٍ أو ميِّتٍ تضيق تركته عن ديونهم؛ لما فيه من توفير المال عليهم.

- ولا تُقْبَلُ شهادةُ الضَّامِن لمن ضَمِنَه بقضاء الحقِّ أو الإبراء منه.

- وكُلُّ من لا تُقْبَلُ شهادته له، لا تُقْبَلُ شهادته بجَرْح شاهدٍ عليه؛ كسيِّدٍ يشهدُ بجرحِ شاهدٍ على قِنِّه أو مكاتَبِه؛ لأنَّه متَّهمٌ بدفع الضرر عن نفسه.

المانع الرابع: العَداوَةُ بَيْنَ الشَّاهِدِ وَالمَشْهودِ عليه لغَيْرِ الله.

- فلا تُقْبَلُ شهادةُ شخصٍ على عدوِّه، إلَّا في عقد النكاح؛ لأنَّ العدوَّ متَّهمٌ في حقِّ عدوِّه؛ لأنَّه قد يتَّخذُ من ذلك ذريعةً إلى بلوغ غرضه من عدوِّه بالشهادة الباطلة.

- وضابط العداوة المانعة من قبول الشهادة هنا: أنَّ من سَرَّه مَسَاءةُ شَخْصٍ، أو غَمَّهُ فَرَحُه، أو طَلَبَ له الشَّرَّ؛ فهو عدوُّه.

- والعداوة المعتبرة في منع الشهادة: هي العداوة الدنيويَّة، أمَّا العداوة في الدِّين فليست مانعةً من قبول الشهادة؛ فتُقبَل شهادةُ مسلمٍ على كافرٍ، وشهادةُ سُنِّيٍّ على مبتدعٍ؛ لأنَّ الدِّين يمنعه من ارتكاب محظورٍ في دِينه.

المانع الخامس: العَصَبِيَّةُ.

- فلا تُقْبَلُ شهادةُ من عُرِفَ بتعصُّبه لجماعةٍ على جماعةٍ، أو قبيلةٍ على قبيلةٍ، أو عُرِفَ بإفراطٍ في الحَمِيَّةٍ، وإن لم تبلغ درجة العداوة؛ لأنَّه متَّهمٌ في ذلك.

ص: 293

المانع السادس: أن تُرَدَّ شَهادةُ الشاهدِ لفِسْقِه، ثمَّ يتوبَ ويُعيدها.

- فلا تُقبَلُ شهادةُ من هذا حالهُ للتُّهْمة في أنَّه إنَّما تاب لتُقْبَل شهادتُه، ولإزالة العار الذي لَحِقَهُ بِرَدِّها.

- ومن رُدَّت شهادته لمانعٍ من الموانع السابقة؛ كمن رُدَّت شهادته لمورِّثه بجُرْحٍ قبل بُرْئِهَ، أو رُدَّت لكونه يدفع ضرراً عن نفسه، أو يَجُرُّ نفعاً لنفسه، أو لعداوةٍ، أو مِلْكٍ، ثمَّ زال المانع وأعادَ الشهادةَ، فلا تُقْبَلُ شهادته في الجميع؛ لأنَّ رَدَّها كان باجتهاد الحاكم، فلا يُنْقَضُ باجتهادِ الثاني؛ ولأنَّها رُدَّت للتُّهْمَة، أشبهت المَرْدودَة للفِسْق.

- أمَّا إن كان المانع من قبول الشهادة كونه كافراً، أو غير مكلَّفٍ، أو أخرسَ، ثمَّ زال ذلك المانع، وأعادوها؛ فإنَّها تُقْبلُ؛ لأنَّ ردَّها لهذه الموانع لا منقصة فيه ولا عيب، فلا يقع تُهمةً، بخلاف ردِّها للفِسْق.

المانع السابع: أن يحرِصَ الشاهِدُ على أداء الشهادةِ قبل استشهاد من يعلم بها، سواء تقدَّم بها قبل الدَّعوى أو بعدها. فلا تُقبَلُ شهادةُ من هذه حاله، إلَّا في عتقٍ، أو طلاقٍ، أو ظِهارٍ؛ لأنَّه لا يُشترط تقدُّم الدعوى فيها على الشهادةِ.

ص: 294

‌باب

أقسام المشهود به من جهة عدد الشهود

دلَّت النصوص الشرعيَّة في الجملة على اعتبار العدد في الشهود؛ فقال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، وقال الله عز وجل:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].

ويختلف عددُ الشهود باختلاف المشهود به، وهو سبعةُ أقسام:

الأوَّل: الزِّنا وما يُوجِبُ حدَّه؛ كاللِّواط:

فلا يثبت إلَّا بشهادة أربعة رِجالٍ عُدولٍ ظاهراً وباطناً بالإجماع، يَشْهَدون به، وأنَّهم رأوا ذَكَرَه في فَرْجِها، أو يشهدون أنَّ المشهود عليه بذلك أقرَّ به أربع مرَّات؛ لقوله تعالى:{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13].

الثاني: إذا ادَّعى من عُرِفَ بِغِنًى أنَّه فَقيرٌ؛ ليأخذَ من الزَّكاة.

فلا يثبت إلَّا بشهادة ثلاثة رجالٍ يشهدون له؛ لحديث قَبِيصَة بن مُخَارق الهِلاليِّ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: (يَا قَبِيصَةُ إِنَّ المَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ

)، وذكر منهم: (وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا

ص: 295

مِنْ عَيْشٍ

) الحديث [رواه مسلم].

الثالث: القَوَدُ، والإِعْسَارُ، وما يوجب الحدَّ والتعزير:

فما يوجب الحدَّ: كالقَذْف، وشُرْب المُسْكِرِ، والسَّرَقَةِ.

وما يوجب التَّعْزيرَ: كوطء الأَمَةِ المشتركة، ووطء البهيمة.

فلا يثبت شيءٌ من ذلك إلَّا بشهادة رَجُلَيْن؛ لأنَّه يُحتاط فيه، ويسقطُ بالشُّبْهة، ولا تُقْبلُ فيه شهادة النساء.

الرابع: ما ليس بعُقوبةٍ، ولا مالٍ، ويطَّلِع عليه الرجال غالباً؛ كالنِّكاح، والرَّجْعة، والخُلْع، والطَّلاق، والنَّسَب، والولاء، والتوكيل والوصيَّة في غير المال.

فلا يثبت إلَّا بشهادة رَجُلَيْن؛ لقوله عز وجل في الرَّجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. وقِيسَ عليه سائر ما ذُكِرَ؛ ولأنَّه ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ويطَّلعُ عليه الرجال، فلم يكن للنِّساء في شهادته مدخل، أشبه العقوبات.

الخامس: المالُ وما يُقْصَدُ به المالُ؛ كالبيع، والإجارة، والقَرْض، والرَّهْن، والوَديعة، والعِتْق، والغَصْب، والوَقْف، وجناية الخطأ، ونحوها.

فيثبت بشهادة رَجُلَين، أو رَجُلٍ وامرأتين؛ لقول الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ

ص: 296

الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، وسياق الآية يدلُّ على اختصاص ذلك بالأموال.

- ويثبت كذلك بشهادة رَجُلٍ ويمينٍ؛ لما روى عَمْرو بن دينار عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ) قَالَ عَمْرٌو: إِنَّمَا ذَاكَ فِي الْأَمْوَالِ. [رواه أحمد].

- ولا يُقْبَلُ في المال ونحوه شهادةُ امرأتين ويمين، ولا شهادة أربع نِسْوةٍ؛ لأنَّ النساء لا تقبل شهادتهنَّ في ذلك منفردات.

- لو كان لجماعة حقٌّ ماليٌّ بشاهدٍ واحدٍ، فأقاموه، فمن حَلَفَ منهم أخذ نصيبه؛ لكمال النِّصاب من جهته، ولا يشاركه من لم يحلف فيما أخذ؛ لأنَّه لا حقَّ له فيه قبل حَلِفِه.

السادس: داءُ دابةٍ، وداءُ مُوضِحَةٍ، ونحوهما؛ كداءٍ بالعَيْن.

فيُقْبَلُ فيه قولُ طبيبٍ واحدٍ، وبيطارٍ واحدٍ، وكحَّالٍ واحدٍ؛ إذا تعذَّر غيره في معرفة الدَّاء؛ لأنَّه يُخبِرُ عن اجتهاده، كالقاضي يُخبِرُ عن حُكْمِه.

فإن لم يتعذَّر، وكان في البلد من أهل المعرفة بالدَّاء أكثر من واحدٍ يعلم ذلك؛ فإنَّه يُعتبر أن يشهدَ به اثنان، كسائر ما يطَّلِعُ عليه الرِّجال وليس بمالٍ.

فإن اختلفا؛ فقال أحدهما بوجود الدَّاء، وقال الآخر بعدمه، قُدِّم قول المُثْبِتِ على النافي؛ لأنَّه يشهدُ بزيادةٍ لم يُدركها النافي.

السابع: ما لا يطَّلع عليه الرِّجال غالباً؛ كعيوب النِّساء تحت الثياب، والاستهلال-صراخ المولود عند الولادة-، والرَّضاع، والبَكارة، والثُّيوبَة،

ص: 297

والحَيْض، وعُيوب الفَرْج، وجِراحَةٍ وغيرها في حَمَّامٍ وعُرْسٍ ونحوهما ممَّا لا يحضُرُه الرِّجال.

فيثبت بشهادةِ امرأةٍ واحدةٍ عَدْلٍ؛ لحديث عُقْبة بن الحارث: (أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، قَالَ: فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْرَضَ عَنِّي، قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا. فَنَهَاهُ عَنْهَا)[رواه البخاري]. فأخذ بقول امرأةٍ واحدةٍ في الرَّضاع، وهو ممَّا لا يطَّلع عليه الرِّجال غالباً.

ولأنَّه معنًى يثبت بقول النساء المنفردات، فلا يُشترط فيه العدد؛ كالرِّواية، والأخبار الدينيَّة.

- والأحوط أن يشهد به اثنتان؛ لأنَّه أبلغُ.

- وإن شهد به رجلٌ، فهو أَوْلَى بالقبول من المرأة؛ لأنَّه أكمل منها.

* مسائلُ فيما يَثْبُتُ وما لا يَثْبُتُ بشهادة رَجُلٍ وامْرَأتَيْن، أو رَجُلٍ ويَمين:

أ - لو شَهِدَ رَجُلٌ وامرأتان بقَتْلِ العَمْد، لم يثبت شيءٌ؛ لا قِصاصٌ، ولا دِيَةٌ؛ لأنَّ قَتْلَ العَمْدِ يُوجِبُ القِصاصَ، والمالُ بَدَلٌ منه، فإذا لم يثبت الأَصْل لم يجب البَدَل. وإن قُلنا إنَّ مُوجِب القتل العَمْد أحدُ شيئين القصاص أو الدِّية، لم يتعيَّن أحدهما إلَّا باختيارِ من له حقُّ القصاص، فلو أوْجَبْنا الدِّيَةَ بشهادة رجل وامرأتين، فقد أوْجَبْنا مُعيَّناً بدون اختيار.

ب- لو شَهِدَ رَجُلٌ وامرأتان بسَرِقَةٍ، ثبت المالُ المسروق؛ لكمال البيِّنةِ، ولم

ص: 298

يثبت القَطْع؛ لأنَّه حدٌّ لا يثبت إلَّا بشهادة رَجُلَيْن، والسَّرقة تُوجِبُ المالَ والقَطْع، فإذا قَصُرَتِ البيِّنة عن أحدهما، ثَبَتَ الآخر.

ج- لو حَلَفَ رَجُلٌ بالطَّلاق أنَّه ما سَرَق، أو حَلَف أنَّه ما غَصَبَ، أو أنَّه ما بَاعَ، أو ما اشْتَرى، أو ما وَهَبَ، أو ما قَتَلَ، ونحو ذلك. فثبتَ فِعْلُه لما حَلَفَ على عَدَمِه بشهادة رَجُلٍ وامرأتين، أو شهادة رَجُلٍ ويَمينٍ، ثبتَ المال في الصور السابقة؛ لكمال بيِّنته، ولم تطْلُق زوجته؛ لأنَّ البيِّنة المثبتة للطَّلاق لم تكمل.

د - لو ادَّعى زوجٌ خُلْعاً، فشهد فيه رجلٌ وامرأتان، أو رجلٌ ويمين الزَّوج، قُبِل؛ لأنَّه يدَّعي المال، فيثبتُ العِوَضُ بذلك، وتَبِينُ المرأةُ بمجرَّد دعواه؛ مؤاخذةً له بإقراره.

أمَّا لو ادَّعت الزوجة الخُلْع، لم يُقْبل فيه إلَّا شهادة رَجُلَيْن؛ لأنَّ مقصودها الفسخ، وهو لا يثبت بغير رَجُلَيْن.

هـ- لو شَهِدَ رجلٌ وامرأتان لامرأةٍ على رَجُلٍ أنَّه تزوَّجها بمَهْرٍ عيَّنَتْه، ثبتَ المَهْرُ، ولم يثبت النكاح؛ لأنَّ النِّكاح حقٌّ للرَّجُل، فلا تدَّعيه، ولا يثبتُ إلَّا برجلين.

ص: 299

‌باب الشَّهادة على الشَّهادة

‌أوَّلًا: صورةُ تحمُّل الشَّهادة على الشَّهادة:

صورة تحمُّلها: أن يقول شخصٌ لآخر: «اشْهَدْ يا فلان على شهادتي أنَّي أَشْهَدُ أنَّ فلانَ بن فلانٍ أَشْهَدَني على نفسه بكذا» . أو «اشْهَدْ أنِّي شَهِدْتُ عليه بكذا» ، أو «اشْهَدْ أنَّه أقرَّ عندي بكذا» ، ونحو ذلك.

ويُسمَّى الشاهدُ الأَصْليُّ: شاهد الأَصْل.

ويسمَّى النائب عنه: شاهد الفَرْع.

- ويصحُّ أن يَشْهَد على شهادة الرَّجُلين في المال وما يقصد به المال: رَجُلٌ وامرأتان، وعلى شهادة رَجُلٍ وامرأتين: مثلهم، وعلى شهادة امرأةٍ: امرأةٌ فيما تُقْبَلُ فيه شهادة المرأة؛ وهو ما لا يطَّلع عليه إلَّا النساء غالباً؛ كعيوب النساء تحت الثياب، ونحوها ممَّا سبق ذِكْرُه.

‌ثانياً: حُكمُ الشَّهادة على الشَّهادة:

الشَّهادة على الشَّهادة في الأموال جائزةٌ بإجماع العلماء؛ قال أبو عبيد: «أجمَعَتِ العُلماءُ من أهل الحِجاز والعراق، على إمضاء الشَّهادة على الشَّهادة في الأموال» .

ومن جهة المعنى: فإنَّ الحاجة تدعو إليها؛ لأنَّ الشَّهادة وثيقة مستدامةٌ

ص: 301

لحفظ الأموال والاحتياط في تحصيلها، وربَّما مات المُقِرُّ بها، فيتعذَّر الرجوع إلى إقراره، واستيفاء الحقِّ ممَّن هو عليه، وربَّما مات شاهد الأَصْل، أو غاب، أو مَرِضَ، أو نَسِيَ؛ فتضيع الحقوق، وفي ذلك ضررٌ على الناس، ومشقَّةٌ؛ فاسْتُدْرِك ذلك بتجويز الشَّهادة على الشَّهادة، لتدوم الوثيقة.

‌ثالثاً: شروطُ قَبولِ الشَّهادَةِ على الشَّهادَةِ:

يُشترط لقبول الشَّهادة على الشَّهادة ثمانية شروط، وهي:

الشرط الأوَّل: أن تكون في حقوق الآدميِّين:

فلا تُقْبَلُ الشَّهادةُ على الشَّهادةِ إلَّا في حقٍّ يُقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي؛ وهو حقوق الآدميِّين؛ من مالٍ، وقصاصٍ، وحدِّ قذفٍ.

وتُردُّ الشهادة على الشهادة فيما يَردُّ كتاب القاضي إلى القاضي من حدود الله تعالى؛ كحدِّ الزِّنا، وشُرْب المُسكِر؛ لأنَّها مبنيَّة على السِّتر والدَّرْء بالشُّبهات، والإسقاط بالرجوع عن الإقرار، والشَّهادة على الشَّهادة لا تخلو من شبهةٍ؛ لأنَّه يتطرَّق إليها احتمال الغلط والسهو والكذب في شهود الفَرْع، فوجب أن لا تُقْبَل فيما يُدرأُ بالشُّبُهات.

الشرط الثاني: استرعاءُ شاهدِ الأَصْل شاهدَ الفَرْع؛ وهو أن يطلب شاهدُ الأَصْل من شاهدِ الفَرْع أن يحفظ شهادته، ويؤدِّيها؛ بأن يقول:«اشهد على شهادتي بكذا» ، أو «اشهد أنِّي شهدتُ عليه بكذا» ، أو «اشهد أنَّه أقرَّ

ص: 302

عندي بكذا»، ونحو ذلك؛ لأنَّ الشَّهادة على الشَّهادة فيها معنى النِّيابة، ولا ينوب عنه إلَّا بإذنه.

فلا يجوز لشاهد الفَرْع أن يشهد إلَّا أن يسترعيه شاهدُ الأَصْل (من قولهم: أَرْعِني سَمْعَك)، أو يسترعي غير شاهد الفَرْع، وشاهد الفَرْع يسمع.

فلو سمع إنسانٌ إنساناً يقول: «أَشْهَدُ أنَّ هذا البيت وَقْفٌ» ، فليس لمن سمع أن يشهد على شهادته، حتَّى يَسترعيه شاهد الأصل، ويطلب منه أن يحفظ شهادته ويؤدِّيها.

- وتجوز الشاهدة على الشَّهادة إذا سمع شاهد الفَرْع شاهدَ الأَصْل يشهدُ بها عند القاضي؛ لأنَّه بشهادته عند الحاكم يزول الاحتمال، أشبه ما لو استرعاه.

- وتجوز كذلك الشَّهادة على الشَّهادة لو سَمِعَ شاهدُ الفَرْع شاهدَ الأَصْل يشهدُ وقد عَزَا شهادَتَه إلى سبب؛ من بيعٍ، أو قرضٍ، أو إجارةٍ، فيجوز له أن يشهد وإن لم يسترعه شاهد الأَصْل؛ لأنَّه لمَّا عزاها إلى سبب ثبتت بهذا السبب، والأَصْل بقاء السبب وعدم زواله.

مثاله: أن يسمع شاهدُ الفَرْع شاهدَ الأَصْل يشهدُ بأنَّ لفُلانٍ على فُلانِ ألف دينارٍ ثمن سيارةٍ، أو قَرْضاً، أو أجرة بيتٍ.

الشرط الثالث: تَعَذُّرُ شهادةِ شُهودِ الأَصْلِ، بسبب مَوْتٍ، أو مَرَضٍ، أو خَوْفٍ من سلطانٍ أو غيره، أو حَبْسٍ، أو غَيْبَة مسافَة قَصْرٍ؛ لأنَّ شهادة الأَصْل أقوى، لكونها تُثْبِتُ نَفْس الحقِّ، وشهادةُ الفَرْع إنَّما تُثْبِتُ الشَّهادة

ص: 303

عليه، فإذا أمكن الحاكم سماع شهادة شاهدي الأَصْل، استغنى عن البحث عن عدالة شاهِدَي الفَرْع عليهما، ولأنَّ سماع الحاكم من شهود الأَصْل معلوم، وصِدْق شاهِدَي الفَرْع عليهما مظنون، ولا يُعْدَل عن اليقين مع إمكانه.

الشرط الرابع: دوامُ تَعَذُّر شهادة شهود الأَصْل إلى صُدور الحُكْم.

فإن أمكنت شهادة الأَصْل قبل الحكم، وُقِفَ الحكم على سماعها منهم؛ لأنَّ العُذْر قد زال، وصار الحاكم قادراً على سماع الأَصْل قبل العمل بالبدل؛ كالمتيمِّم يقدر على الماء.

أمَّا بعد صدور الحُكْم، فلا يؤثِّر انتفاء عُذْر غيبة شهود الأَصْل في الحُكْم.

الشرط الخامس: ثبوتُ عدالة شهود الأَصْل والفَرْع؛ لأنَّهما شهادتان، فلا يُحكم بهما بدون عَدالَةِ الشُّهود؛ لأنَّ الحُكْم مبنيٌّ على الشهادتين جميعاً.

ويصحُّ من شاهد الفَرْع أن يُعدِّل شاهدَ الأصل بغير خلاف؛ لأنَّ شهادتهما بالحقِّ مقبولة، فكذلك تقبل في العدالة.

ولا يُقْبلُ تعديلُ شاهدٍ لرفيقه بعد شهادته، سواء كان الشاهدُ أصلًا أو فَرْعاً؛ لأنُّه يؤدِّي إلى انحصار الشهادة في أحدهما.

أمَّا لو كان زكَّاه قبل الشهادة، ثمَّ شَهِدَ، قُبِلَت شهادتهما؛ لانتفاء التُّهمة.

الشرط السادس: دوامُ عَدالة شاهِد الأَصْل وشاهد الفَرْع إلى صدور الحُكْم.

فإن حَدَثَ من أحدهما ما يمنع قبول شهادتهما قَبْل صُدور الحُكْم؛ من

ص: 304

فسقٍ، أو جنونٍ، أو رِدَّةٍ، وُقِفَ الحُكْم، لأنَّه مبنيٌّ على شهادتهما، فإذا فُقِدَ شرط الشَّهادة التي هي شرطٌ للحُكْم، لم يَجُزِ الحُكْم بها.

الشرط السابع: تعيين شاهِدَي فَرْعٍ لأصْلِه. فلا يكفي أن يقولا: «أَشْهَدَنا حُرَّان عَدْلان ذَكَرَان، بل لا بدَّ أن يُعَيِّناهما؛ لاحتمال أنَّ عَدالَتَهما عندهما دون غيرهما، فيتمكَّن المشهود عليه من الجَرْحْ.

الشرط الثامن: أن يؤدِّي شاهدُ الفَرْع الشَّهادة بصفةِ تَحمُّله لها.

فيقول: «أشهدُ أنَّ فلان بن فلان وقد عَرَفْتُه بعَيْنِه واسْمِه ونَسَبِه وعَدالَتِه أَشْهَدَنِي أنَّه يشهد أنَّ لفُلانٍ على فُلانٍ كذا» . فإن لم يؤدِّها كما تحمَّلها لم يُحكَم بها.

ص: 305

‌فصل

صفة أَداء الشَّهادة والرجوع فيها

‌أوَّلًا: صِفةُ أداءِ الشَّهادَة:

لا تُقْبَلُ الشهادة من ناطقٍ إلَّا بقوله: «أَشْهَدُ» أو «شَهِدْتُ» ؛ لأنَّه مصدرُ شَهِدَ يَشْهَدُ شهادةً، فلا بدَّ من الإتيان بفِعْلها المشتقِّة منه، ولأنَّ فيها معنًى لا يحصل في غيرها من الألفاظ.

- فلا يكفي أن يقول: «أنا شاهِدٌ» بكذا؛ لأنَّه إخبار عمَّا اتَّصف به.

- ولا يكفي أن يقول: «أنا أعلمُ» ، أو «أعرفُ» ، أو «أتيقَّنُ» ؛ لأنَّه لم يأت بالفعل المشتقِّ من لفظ الشهادة.

- ولا يكفي أن يقول: «أشْهَدُ بما وَضَعْتُ به خَطِّي» ، أو قال من تقدَّمهُ غيرُه بشهادةٍ:«أشهدُ بمثل ما شَهِدَ به» ؛ لأنَّ فيهما إجمالًا، وإبهاماً.

- لكن لو قال من تقدَّمَهُ غيرُه بالشهادة: «وبذلك أشهدُ» ، أو قال:«وكذلك أشهدُ» ، صحَّ فيهما؛ لاتِّضاح معناه.

‌ثانياً: الرُّجوعُ في الشَّهادَةِ:

لا يخلو الرجوع في الشهادة من الأحوال التالية:

أ - الرجوع في الشهادة على مالٍ وعتق:

إذا رجع شهود المال أو العِتْق بعد حُكْم الحاكم بشهادتهم، لم يُنقَض

ص: 307

الحُكم؛ لأنَّه تمَّ، ووجب المشهود به للمحكوم له.

ولا يَنقضُ رجوعُهم الحُكْمَ؛ لأنَّهم إن قالوا: عَمَدْنا؛ فقد شَهِدوا على أنفسهم بالفِسْق، فهما متَّهمان بإرادة نَقْض الحُكْم. وإن قالوا: أَخْطأْنا، لم يلزم نقض الحُكْم؛ لجواز خَطَئِهم في قولهم الثاني، بأن اشتبه عليهم الحال.

- ولكن يضمنُ الشهودُ بدلَ ما شَهِدوا به من المال، وقيمةَ ما شهدوا بعِتْقِه؛ لأنَّهم أخرجوه من يد مالكه بغير حقٍّ، وحالوا بينه وبينه، فكانوا كمن باشر التلف بيده.

فإن صدَّقهم المشهود له على بُطلان الشهادة، فلا ضمان عليهم، ويردُّ المشهودُ له ما قبضه من مال المحكوم عليه، أو بدله إن تلف؛ لأنَّه اعترف بأخذه بغير حقٍّ.

ب- الرجوع في الشهادة على طلاقٍ:

1) إذا رجع شهود الطلاق بعد الحكم، وكان الزوج قد دخل بها، فلا غُرْم على الشهود؛ لأنَّهم لم يُقرِّروا عليه شيئاً بشهادتهم؛ لأنَّ ما تقرَّر عليه إنَّما كان بسبب الدخول، ولم يُخرجوا عن مِلْكِه شيئاً متقوَّماً.

2) وإن كان رجوعهم عن شهادتهم بالطلاق قبل دخول الزوج بها، فإنَّهم يَغْرَمون نصف مُسَمَّى المَهْر. أو يَغْرَمون بدل مَهْرها، وهو المتعة إن لم يكن قد سمَّى لها مهراً؛ لأنَّ الشهود ألزموه للزوج بشهادتهم بطلاقها، كما يغرم ذلك من فُسِخَ نكاحه بنحو رضاع قبل الدخول.

ص: 308

ج- الرجوع في الشهادة على الحدِّ أو القَوَدِ:

1) إذا رجع شهودُ قَوَدٍ، أو شهودُ حدٍّ بعد حُكم الحاكم بشهادتهم، وقَبْل استيفاء القَوَد أو الحدِّ، لم يُستوفَ قَوَدٌ ولا حدٌّ؛ لأنَّه عقوبةٌ لا سبيل إلى جَبْرها إذا استوفيت، بخلاف المال. ولأنَّ رجوعهم يُعدُّ شُبهةٌ يُدرأ بها الحدُّ

والقَوَد.

2) تجبُ الدِّيةُ للمشهود له بدل القَوَد؛ لأنَّ الواجب بالعَمْد أحد شيئين، فإذا امتنع أحدهما تعيَّن الآخر، ويرجع الغارم على الشهود.

3) إذا استوفي الحدُّ أو القَوَدُ بعد الحكم بشهادتهم، ثمَّ قالوا أخطأنا، غَرمَ الشهود دِيَة ما تَلِفَ مخفَّفة؛ من نَفْسٍ، أو ما دونها، أو أَرْش الضَّرْب، ولا تحمل العاقلة منه شيئاً.

- وإن قالوا: عَمَدْنا الشهادة عليه ولم نعلم أنَّه يُقتل بها، وكانوا ممَّن يجوز أن يجهل ذلك، وجبت الدِّية مغلَّظة في أموالهم؛ لإقرارهم بأن التلف حصل بسببهم، والعاقلة لا تحمل إقراراً.

- وإن قالوا: عمدنا الشهادة عليه بالزور ليُقتل، أو يُقطع؛ فعليهم القصاص.

- في جميع الأحوال التي يتقرَّر فيها تضمين الشهود برجوعهم بعد الحكم، يتقَسَّط الغُرْمُ على عددهم؛ لأنَّ التفويت حصل من جميعهم، كما لو أتلف جماعةٌ مالًا.

مثاله: لو رجع رجلٌ وعشر نسوةٍ شهدوا في مالٍ، أو إرضاعٍ بين زوجين

ص: 309

فُرِّق بينهما قبل الدخول، غَرِمَ الرَّجُلُ السُّدُسَ، وغَرِمَ النِّسْوَةُ الباقي، كلُّ واحدةٍ منهنَّ نصف سُدُسٍ.

* أحكامُ شَهادَةِ الزُّورِ:

شهادةُ الزُّورِ من أكبر الكبائر؛ لقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]، ولحديث أبي بَكْرَةَ رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟ -ثَلَاثًا-. قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللّاهِ، قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللّاهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ -وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ-: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ. قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ)[رواه البخاري، ومسلم].

- إذا عَلِمَ الحاكم بشاهدِ زُورٍ بإقراره على نفسه بذلك، أو بتَبَيُّن كَذِبِه يقيناً؛ فعلى الحاكم ما يلي:

أ - أن يُعَزِّره ولو تاب، فكان كمن تاب من حَدٍّ بعد رفعه للحاكم.

وليس لتعزيره تقديرٌ، بل يكون بما يراه الحاكم من ضَرْبٍ، أو حَبْسٍ، أو كشف رأس، ونحوها.

ولا يجوز التعزير بما يخالف نصًّا؛ كحَلْق لحيةٍ، أو قطع طَرْفٍ، أو أَخْذِ مالٍ.

ب- أن يأمر فيُطاف به في المواضع التي يشتهر فيها؛ كالسوق، أو منازل قومه؛ ويُنادى عليه فيقال:«إنَّا وجدناه شاهد زورٍ فاجتنبوه» ، ونحو ذلك من العبارات.

ص: 310

- ولا يُعزَّر شاهدٌ بتعارض البيِّنة؛ لأنَّه لا يُعلم به كذب إحدى البيِّنتين بعينها، ولا بغَلَطِه في شهادته؛ لأنَّ الغلط قد يَعْرِضُ للصادق العَدْل ولا يَتَعَمَّدُه.

- ولا يُعزَّر شاهدٌ برجوعه عن شهادته؛ لاحتمال أنَّه رجع لِمَا تَبَيَّنَ له من خطئه.

- ولا يُعزَّرُ أيضاً لظهور فسقه؛ لأنَّ الفِسْق لا يمنع صِدْقه.

ص: 311

‌باب اليمين في الدعاوى

‌أوَّلًا: تعريفُ اليَمين:

اليَمينُ لغةً: القَسَمُ والحَلِف، سُمِّيت بذلك؛ لأنَّهم كانوا إذا تحالفوا ضَرَب كلُّ واحدٍ منهم يَمينَهُ على يَمينِ صاحِبِه.

واصطلاحاً: تَوْكيدُ الحُكْمِ بِذِكْرِ مُعَظَّمٍ، على وجهٍ مخصوصٍ.

‌ثانياً: مشروعيَّة اليَمينِ في الدَّعاوَى:

تُشرَعُ اليَمينُ في الدَّعاوى بين المُتخاصِمين في الجُمْلةِ، فهي من وسائل الإثبات القَضائِيِّ التي تَقْطَعُ الخُصومَةَ حالًا، إلَّا إنَّها لا تُسْقِطُ حَقًّا؛ فتُسْمَعُ البَيِّنةُ ولو بعد اليَمينِ.

والأصلُ في مشروعيَّتها القُرآنُ، والسُّنَّةُ، والإجْماعُ:

- فمن القرآن: قول الله تبارك وتعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [المائدة: 106].

- ومن السُّنَّة: ما روى ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى المُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ)[رواه البيهقي].

- وأمَّا الإجماع: فقد قال ابن المنذر رحمه الله: «وأَجْمَعوا على أنَّ البيِّنَةَ

ص: 313

على المُدَّعِي، واليَمينَ على المُدَّعَى عليه».

‌ثالثاً: الحقوقُ التي تَجْرِي فيها اليَمينُ:

تنقسمُ الحقوقُ إلى قسمين:

القسمُ الأوَّل: حقوقُ الله سبحانه وتعالى، وهي على ضَرْبَيْن:

أحدُهما: الحُدودُ: كالسَّرِقَة، والزِّنا، والحِرَابة، فهذه لا يُستحْلَفُ فيها المُنْكِرُ الذي ادُّعي عليه فيها؛ لأنَّه لو أقرَّ ثمَّ رجع عن إقراره قُبِلَ منه، وخُلِّي سبيله من غير يَمينٍ، فلَأَنْ لا يُستحْلَف مع عدم الإقرار من باب أَوْلَى.

ولأنَّه يُستحَبُّ سِتْرُه، والتعريضُ للمُقِرِّ ليرجِعَ عن إقراره، وللشُّهود بترك الشَّهادةِ بالحَدِّ والسَّتْر عليه؛ لحديث: نُعَيْم بن هَزَّال -في قصَّة رَجْم ماعِزٍ-، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له:(يَا هَزَّالُ لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ)[رواه أحمد، وأبو داود].

- ولا يُستحْلَفُ مُنْكِرٌ ادُّعِيَ عليه ما يُوجِبُ التَّعزيرَ؛ لأنَّه حقٌّ لله تعالى، فأشبه الحَدَّ.

الثاني: العِباداتُ: كالصَّلاة، والصِّيام، والزَّكاة؛ فلا يُستحْلَفُ مُنْكِرٌ ادُّعِي عليه بترك صلاةٍ، أو صيامٍ، أو دَفْعِ زَكاةِ مالِهِ؛ لأنَّ العبادات حقوقٌ خالصةٌ لله تعالى.

- ولا يُستحْلَفُ من ادُّعِيَ أنَّ عليه كَفَّارةٌ، أو نَذْرٌ، فأنكر ذلك؛ لأنَّها من حقوقِ الله تعالى، وليس للمدَّعِي حَقٌّ فيها.

ص: 314

- ولا يُستحْلَفُ شاهِدٌ أنْكَرَ تَحَمُّلَ شهادَةٍ، ولا حاكِمٌ أنْكَرَ حُكْمَه، ولا وَصِيٌّ على نَفْي دَيْنٍ على مُوصٍ؛ لأنَّ ذلك كُلَّه لا يُقْضَى فيه بنُكُولٍ، فلا فائدة بإيجاب اليمين فيه.

القسمُ الثاني: حُقوقُ الآدَمِيِّينَ من المَال، أو التي يقصد منها المال؛ كالبُيوع، والدُّيون، والجِنايات، والإتْلافات. فهذه يُستَحْلَفُ فيها المُنْكِرُ إذا ادُّعِيَ عليه فيها، وعَجَزَ المُدَّعِي عن تقديم البَيِّنة؛ لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما-السابق:(لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى المُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ).

ويُستثنَى من ذلك: النِّكاحُ، والرَّجْعَةُ، والطَّلاقُ، والإِيلاءُ، وأَصْلُ الرِّقٍّ، والوَلاءُ، والاسْتيلادُ، والنَّسَبُ، والقَذْفُ، والقَوَدُ؛ فهذه لا يُستحْلَفُ فيها مُنْكِرٌ ادُّعِيَ عليه فيها؛ لأنَّه لا يُقْضَى فيها بالنُّكُول.

فلو ادَّعَتِ امرأةٌ على رجلٍ النِّكاح من أَجْلِ المَهْر، أو النَّفَقَةِ، فلا يُستحْلَفُ الرَّجلُ؛ لأنَّ النِّكاح لا بُدَّ فيه من شَهادَةٍ ووَلِيٍّ، فلا يُقْضَى فيه بالنُّكُول.

وكذا لو ادَّعَى الزَّوْجُ أنَّه طَلَّق زَوْجَتَهُ لنَفْي النَّفَقَةِ، أو ادَّعتِ الزَّوجة أنَّه طَلَّقها، وليس للمُدَّعِي بَيِّنةٌ، فلا يُستحْلَفُ المُدَّعَى عليه؛ لأنَّ الأصلَ بقاءُ النِّكاح.

- إذا نَكَلَ المُنكِرُ عن اليَمين، قُضِيَ عليه بالحقِّ الذي ادُّعِيَ عليه به؛ لما روى سالم بن عبد الله (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ بَاعَ غُلَامًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَبَاعَهُ

ص: 315

بِالْبَرَاءَةِ، فَقَالَ الَّذِي ابْتَاعَهُ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: بِالْغُلَامِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ لِي، فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: بَاعَنِي عَبْدًا، وَبِهِ دَاءٌ لَمْ يُسَمِّهِ، وَقَالَ عَبْدُ اللّاهِ: بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ. فَقَضَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ لَقَدْ بَاعَهُ الْعَبْدَ، وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ، فَأَبَى عَبْدُ اللهِ أَنْ يَحْلِفَ، وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ) [رواه مالك].

‌رابعاً: صِفَةُ المَحْلُوفِ عَلَيْهِ:

أ - من حَلَفَ على فِعْل نَفْسِه، أو فِعْلِ غيره، أو حَلَف على دَعْوَى عليه في الإثْبَاتِ، حَلَفَ على البتِّ. أي: القَطْعُ والجَزْم؛ لما رُوِيَ عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: (أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عِنْدَ رَجُلٍ حَقًّا، فَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ البَيِّنَةَ، فَقَالَ: مَا عِنْدِي بَيِّنَةٌ. فَقَالَ لِلآخَرِ: احْلِفْ، فَحَلَفَ فَقَالَ: وَاللهِ مَا لَهُ عِنْدِي شَيْءٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بَلْ هُوَ عِنْدَكَ، ادْفَعْ إِلَيْهِ حَقَّهُ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: شَهَادَتُكَ بِأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ كَفَّارَةٌ لِيَمِينِكِ)[رواه الحاكم].

- مثال الحَلِفِ على فِعْلِ نَفْسِه: أنْ يدَّعِيَ إنسانٌ على شخصٍ أنَّه غَصَبَهُ أَرْضَهُ، فيُنكِرُ المُدَّعَى عليه ذلك، فيطلُبُ المدَّعِي يَمينَ المُدَّعَى عليه، حَلَفَ المُدَّعَى عليه على البتِّ قائلاً:«والله ما غَصَبْتُه تلك الأرض» .

- ومثال الحَلِفِ على فِعْلِ غَيْرِه: أن يدَّعِيَ عليه شخصٌ أنَّه اشترى منه سيَّارةً، فيُنكِرُ المُدَّعَى عليه، ويقيم المُدَّعِي شاهِداً بدعواه، وأراد الحَلِفَ معه، حَلَفَ المُدَّعِي على البتِّ قائلًا:«والله اشترى منِّي هذه السيارة» .

ص: 316

- ومثال الحَلِفِ على دَعْوَى عليه في الإثْباتِ: أن يدَّعِيَ شخصُ على آخرَ دَيْناً بسبب قَرْضٍ، وأقام به شاهداً، وأراد الحَلِفَ معه، حَلَفَ على البتِّ قائلًا:«والله لي عليه دَيْنٌ بسبب قَرْضٍ» .

ب- من حَلَفَ على نَفْي فِعْل غيره، أو حَلَف على نَفْي دَعْوَى على غَيْرِه، حَلَفَ على نَفْي العِلْم؛ لما رَوَى الأشْعَثُ بن قَيْسٍ:(أَنَّ رَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ وَرَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِي أَرْضٍ مِنَ الْيَمَنِ، فَقَالَ الحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللّاهِ، إِنَّ أَرْضِي اغْتَصَبَنِيهَا أَبُو هَذَا، وَهِيَ فِي يَدِهِ. قَالَ: هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أُحَلِّفُهُ، وَاللهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا أَرْضِي اغْتَصَبَنِيهَا أَبُوهُ. فَتَهَيَّأَ الْكِنْدِيُّ -يَعْنِي لِلْيَمِينِ-)[رواه أحمد وأبو داود]. فأقرَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكر عليه.

ولأنَّه لا يمكنه الإحاطة بفعل غيره، بخلاف فعل نفسه، فتكليفه اليمين على البت حملٌ له على اليمين على ما لا يعلمه.

- مثال الحَلِفِ على نَفْي فِعْلِ غَيْرِه: أن يدَّعِيَ إنسانٌ على آخرَ أنَّ أباه غَصَبَه داراً، فأنْكَر، ولا بيِّنة، فيَحْلِفُ على نفي العلم قائلًا:«والله لا أعلمُ أنَّ أبي غَصَبَهُ داراً» .

- ومثال الحَلِفِ على نَفْي دَعْوَى على غَيْرِه: أن يدَّعِيَ إنسانٌ دَيْناً على مُوَرِّثِ إنسانٍ آخرَ، فأنْكَرَ، ولا بَيِّنةَ، فإنَّه يَحْلِفُ على نفي العلم قائلًا:«والله لا أَعْلَمُ أنَّ له على مُوَرِّثي دَيْناً» .

ص: 317

ج- مَنْ أقامَ شاهِداً بما ادَّعاهُ ممَّا يُقْبَل فيه شاهِدٌ ويَمينٌ، حَلَفَ مع الشاهِدِ على البَتِّ، ويَجِبُ تَقْديمُ الشاهِدِ على اليَمِين.

د - مَنْ تَوَجَّه عليه حَلِفٌ لجماعَةٍ، ادَّعوا عليه دَيْناً، أو نحو ذلك، فإنَّه يَحْلِفُ لكُلِّ واحدٍ يَميناً؛ لأنَّ لكُلِّ واحدٍ منهم حقًّا غير حقِّ الآخر.

فإذا رَضُوا كُلُّهم بيَمينٍ واحدةٍ فيُكْتَفَى بها؛ لأنَّ الحقَّ لهم، وقد رَضُوا بإسقاطه، فَسَقَطَ.

‌خامساً: تَغْليظُ اليَمينِ:

أ - اليَمينُ المشروعةُ: هي اليَمينُ بالله عز وجل وحدهُ؛ لقول الله تبارك وتعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} [المائدة: 106]، وقوله جلَّ شأنه:{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107].

وعن سالمٍ مولى ابن عمرَ رضي الله عنهما: (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ بَاعَ غُلَامًا لَهُ بِثَمَانِ مِئَةٍ دِرْهم، قَالَ: فَوَجَدَ بِهِ المُشْتَرِي عَيْبًا فَخَاصَمَهُ إلَى عُثْمَانَ، فَسَأَلَهُ عُثْمَانُ فَقَالَ: بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَالَ: تَحْلِفُ بِاَللّاهِ: لَقَدْ بِعْتَهُ وَمَا بِهِ مِنْ عَيْبٍ تَعْلَمُهُ؟ فَقَالَ: بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَالَ: تَحْلِفُ بِاَللّاهِ: لَقَدْ بِعْتَهُ وَمَا بِهِ مِنْ عَيْبٍ تَعْلَمُهُ)[رواه ابن أبي شيبة].

ب- للحاكِمِ تَغْليظُ اليَمينِ فيما له خَطَرٌ وأهمِّيَّةٌ كُبْرى؛ كجنايةٍ لا تُوجِبُ قَوَداً، وعِتْقٍ، ومالٍ كثيرٍ قَدْر نِصابِ الزكاةِ؛ لأنَّ التغليظ للتأكيد، وما لا خطر فيه لا يحتاج إلى تأكيد.

ص: 318

وتغليظُ اليمين قد يكون باللَّفظ، أو الزَّمان، أو المكان.

فتغليظُها باللَّفظ: كأن يحْلِفُ قائلاً نحو: «والله الذي لا إله إلَّا هو، عالمِ الغَيْبِ والشَّهادَةِ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الطَّالِبِ الغَالِبِ، الضَّارِّ النَّافِعِ، الذي يعلمُ خائِنَةَ الأَعْيُنِ وما تُخْفِي الصُّدورُ» .

- وإن كان الحالِفُ يهودِيًّا: غُلِّظَ عليه بلفظ: «والله الذي أنزلَ التوراة على موسى، وفَلَقَ له البحرَ، وأنْجاهُ من فرعونَ ومَلَئه» ؛ لحديث البَراء بن عازِبٍ رضي الله عنه قال: (مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمًا مَجْلُودًا، فَدَعَاهُمْ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَدَعَا رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالَ: لَا، وَلَوْلَا أَنَّكَ نَشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ، نَجِدُهُ الرَّجْمَ)[رواه مسلم].

- وإن كان الحالِفُ نَصْرانيًّا: غُلِّظ عليه بلفظ: «والله الذي أنزلَ الإنْجيلَ على عيسى، وجَعَلَهُ يُحيي المَوْتَى، ويُبْرئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ» ؛ لأنَّه لفظٌ تتأكَّد به يَمينُهُ.

- وإن كان الحالِفُ مَجوسِيًّا أو وَثَنِيًّا: غُلِّظ عليه بلفظ: «والله الذي خَلَقَني، وصَوَّرَني، ورَزَقَني» ؛ لأنَّه يُعظِّم خالِقَهُ، ورازِقَهُ، فأشبه كلمة التوحيد عند المسلم.

- وإن كان الحالِفُ صابِئاً، أو يَعْبُدُ غير الله تعالى: حَلَفَ بالله تعالى؛ لحديث

ص: 319

عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ)[رواه البخاري ومسلم].

وأمَّا تغليظ اليَمينِ بالزَّمان: مثل أن يَحْلِفَ بعد العَصْر؛ لقول الله تبارك تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106]، قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما:«يعني بعد العصر» ، وهو قول سعيد بن جُبَيْر، وإبراهيم النَّخَعي، وقَتادة، وعِكْرِمَة وابن سِيرين.

أو يَحْلِفَ بين الأذان والإقامة؛ لأنَّه وقتٌ تُرجَى فيه إجابةُ الدُّعاء، فتُرجَى فيه معاجلة الكاذب بالعقوبة؛ فعن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدُّعَاءَ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ)[رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي].

وأمَّا تغليظ اليَمينِ بالمَكانِ: مثل أن يحْلِفَ بمكَّةَ بين الرُّكن والمَقامِ؛ لما له من زيادةٍ على غيره في الفَضيلَةِ؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ الرُّكْنَ، وَالمَقَامَ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الجَنَّةِ، طَمَسَ اللهُ نُورَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَطْمِسْ نُورَهُمَا لَأَضَاءَتَا مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ)[رواه أحمد، والترمذي].

أو يحْلِفَ عند المِنْبَرِ في المساجد؛ لحديث جابر بن عبد الله الأنصاريِّ رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي آثِمًا تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)[رواه مالك]. فقِيسَ عليه باقي منابر المساجد.

ص: 320

ج- إذا أَبَى الحالِفُ تغليظَ اليَمينِ، فقال: ما أَحْلِفُ إلَّا بالله، لم يكنْ ناكِلًا عن اليَمينِ؛ لأنَّه قد بَذَلَ الواجبَ عليه، فوَجَبَ الاكتفاء به، ويَحرُمُ التعرُّضُ له.

د - إن رأى الحاكِمُ تَرْكَ التَّغْليظِ في اليَمينِ، فتَرَكَهُ، كان مُصِيباً؛ لموافقته مُطْلَقَ النَّصِّ.

ص: 321

‌كتاب الإقرار

‌أوَّلًا: تعريفُ الإِقْرار:

الإقرار لغةً: الاعترافُ بالحَقِّ. مأخوذٌ من المَقَرِّ، وهو المكان؛ كأنَّ المُقِرَّ جَعَلَ الحقَّ في مَوضِعِه.

واصطلاحاً: إظهارُ مُكلَّفٍ مُختارٍ ما عليه من الحَقِّ، أو ما على موكِّله، أو مُوَلِّيه، ممَّا يُمكن إنشاؤه لهما، أو ما على مورِّثه بما يُمكن صِدْقُه.

‌ثانياً: حُكمُ الإِقْرار:

الإقْرارُ ثابت بالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.

- فأمَّا الكتاب: فقول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 81].

- ومن السُّنَّة: حديث بُرَيْدَة رضي الله عنه في رَجْم ماعِزٍ والغامِدِيَّة بإقرارهما. [رواه مسلم].

- وأمَّا الإجماع: فقال ابن قدامة: «فإنَّ الأئمَّة أجمعت على صحَّة الإقرار» .

‌ثالثاً: شُروطُ صِحَّة الإِقْرارِ:

يشترط لصحَّة الإقرار ما يلي:

ص: 323

أ - التَّكليف؛ فلا يصحُّ الإقرار من صغيرٍ، ولا مجنونٍ؛ لحديث عليٍّ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:(رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ)[رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه]. ولأنَّه قولٌ ممَّن لا يصحُّ تَصُرُّفه، فلم يصحَّ؛ كفعله.

إلَّا إذا كان الصغير مأذوناً له في البيع والشِّراء؛ فيصحُّ إقراره في حدود ما أُذِنَ له فيه، كالحُرِّ البالغ؛ لأنَّه لا حَجْر عليه فيما أُذِنَ له فيه. ولأنَّه يصحُّ تَصرُّفه فيه؛ فصَحَّ إقراره به.

ب- الاختيار؛ فلا يصحُّ الإقرار من مُكْرَهٍ عليه؛ لمفهوم قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)[رواه ابن ماجه]. إلَّا إذا أقرَّ بغير ما أُكْرِهَ عليه؛ فيصحُّ؛ كما لو أُكْرِهَ على أن يُقِرَّ لزيدٍ فأقرَّ لعَمْرٍو، أو أُكْرِه على الإقرار بطلاق امرأةٍ، فأقرَّ بطلاق غيرها، أو أُكره على الإقرار بدنانير، فأقرَّ بدراهم؛ لأنَّه أقرَّ بغير ما أُكره عليه؛ فصحَّ؛ كما لو أقرَّ به ابتداءً.

ج- أن يكون الإقرار باللَّفظ أو الكتابة؛ فلا يصحُّ بالإشارة؛ للقُدْرَة على الإقرار باللِّسان. إلَّا من الأخرس بإشارةٍ معلومةٍ؛ لقيامها مقام نُطْقِه.

‌رابعاً: إِقْرارُ المَريضِ:

- يصحُّ إقرار المريض -ولو كان في مَرَض الموت المَخُوفِ- بمالٍ لغير وارثٍ إجماعاً؛ لأنَّه غير متَّهمٍ في حقَّه. ويكونُ المقَرُّ به للأجنبي من رأسِ مال المقِرِّ؛ كما لو أقرَّ له به في حال صحَّته.

ص: 324

- ويصحُّ إقراره أيضاً بأَخْذِ دَيْنٍ من غير وارثٍ؛ لأنَّه غير مُتَّهمٍ في حقَّه أيضاً، ولأنَّ حالة المرض أقرب إلى الاحتياط لنفسه، وتَحرِّي الصِّدق؛ فكان أَوْلَى بالقبول، بخلاف ما لو أقرَّ بمالٍ لوارثٍ؛ فإنَّه لا يُقبَل منه إلَّا ببيِّنة، أو إجازةِ باقي الورثة؛ لأنَّه مُتَّهمٌ فيه. ولأنَّه إيصالٌ لماله إلى وارثه بقوله في مرض موته، فلم يصحَّ بغير رِضَى بقيَّة الورثة؛ كهِبَتِه. لكن يلزمه الإقرار إن كان حقًّا، وإن لم يُقبَل.

- ويعتبر كون المقَرِّ له وارثاً أو غير وارثٍ حال الإقرار لا حال الموت؛ لأنَّه قولٌ تُعتبر فيه التُّهمة، فاعتُبِرَت حالة وجوده؛ كالشَّهادة. فلو أقرَّ بمالٍ لوارثٍ حال إقراره، فصار عند الموت غير وارثٍ؛ كما لو أقرَّ لأخيه بشيءٍ، ثمَّ وُلِدَ له ابنٌ، لم يلزم إقراره لأخيه. وإن أقرَّ بمالٍ لغير وارثٍ حال الإقرار، فصار عند الموت وارثاً؛ كما لو أقرَّ لأخيه مع وجود ابنه، ثمَّ مات الابن قبل أبيه المقِرِّ؛ لزمه الإقرار؛ لوقوع الإقرار من أهله خالياً من التُّهمة، ولم يُوجد ما يُسقطه.

- إذا كَذَّب المُقَرُّ له المقِرَّ بَطَلَ الإقرار؛ لأنَّه أَقَرَّ لمن لم يُصَدِّقه. وكان للمُقِرِّ أن يتصرَّف فيما أَقَرَّ به بما شاء؛ لأنَّه مالٌ بيده لا يَدَّعيه غيره؛ أشبه اللُّقطة.

‌خامساً: الإِقْرارُ لغَيْر آدميٍّ وَلِمَنْ لَا يَمْلِك:

- يصحُّ الإقرارُ للمسجد، أو المقبرة، أو الطريق، ونحو ذلك، سواء عَيَّن سبباً لذلك؛ بأن قال -مثلاً-:«عليَّ كذا لهذا المسجد من غلَّة وَقْفِه، أو وَصِيَّةً» ،

ص: 325

ونحو ذلك، أو لم يعيِّن سبباً؛ لأنَّ ذلك إقرارٌ ممَّن يصِحُّ إقرارُه؛ فلَزِمَه؛ كما لو عيَّن السبب، ويُصرَفُ المقرُّ به في مصلحة المسجد أو المقبرة.

ولا يصحُّ الإقرار بشيءٍ لدارٍ ونحوها إلَّا مع بيان السبب؛ من غَصْبٍ، أو إجارةٍ، ونحوهما؛ لأنَّ الدار لا تجري عليها صدقةٌ في الغالب، بخلاف المسجد ونحوه.

وكذا لا يصحُّ الإقرار بشيءٍ لبهيمةٍ؛ لأنَّها لا تملك، وليس لها أهليَّة المِلْك. إلَّا إن قال:«عليَّ كذا بسبب هذه البهيمة» ، فيصحُّ.

‌سادساً: الإِقْرَارُ لِلْحَمْل:

ويصحُّ الإقرار بمالٍ لحَمْل آدميَّةٍ، وإن لم يَعْزُهُ إلى سببٍ؛ لأنَّ الحَمْل يجوز أن يَملِك بوجهٍ صحيحِ؛ فصحَّ له الإِقرار المُطْلَق، كالطِّفل. فإنْ وُلِدَ مَيْتاً، أو لم يكن ببطنها حَمْلٌ؛ بطل الإقرار؛ لأنَّه إقرارٌ لمن لا يصحُّ أن يملك.

وإن وَلَدَت حيًّا ومَيْتاً فجميع المُقَرِّ به للحيِّ؛ لفوات شَرْطِه في الميِّت. وإن وَلَدَت حَيَّيْن؛ فالمُقَرُّ به لهما بالسَّويَّة ولو كانا ذَكَراً وأُنثى؛ كما لو أَقَرَّ لرَجُلٍ وامرأةٍ بمالٍ؛ لعدم المَزِيَّة. إلَّا إذا عَزَا الإقرار إلى سببٍ يُوجِبُ التفاضل بينهما؛ كالإرث مثلاً؛ فيُعمَل به؛ لاستناد الإقرار إلى سببٍ صحيحٍ.

‌سابعاً: الإِقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّة:

وإن أَقَرَّ رَجُلٌ بزوجيَّة امرأةٍ فسكتت، أو أَقَرَّت امرأةٌ بزوجيَّة رَجُلٍ

ص: 326

فسكت؛ صحَّ الإقرار، ووَرِث كلٌّ منهما الآخر بالزوجيَّة؛ لقيامها بينهما بالإقرار.

- وكذا لو أَقَرَّ أحدُهما بزوجيَّة الآخر فجَحَدَه، ثمَّ صَدَّقه؛ صحَّ الإقرار أيضاً، ووَرِثَه؛ لحصول الإقرار والتَّصديق. ولا أثر لجَحْدِه قبل إقراره؛ كالمدَّعَى عليه يَجْحَدُ، ثمَّ يُقرُّ بالحقِّ. بخلاف ما لو بقي الجاحد على جحوده حتَّى مات المقِرُّ؛ فلا يَرِثُه حينئذٍ؛ لأنَّه متَّهمٌ في تصديقه بعد موته.

ص: 327

‌باب ما يَحْصُل به الإقرار من الألفاظ وما يُغَيِّره

- من ادُّعي عليه بألفٍ مثلًا، فقال في جوابه:«نعم» ، أو «أَجَل» ، أو «صَدَقْتَ» ، أو «أنا مقرٌّ» ، أو «أنا مقرٌّ به» ، أو «إنِّي مُقِرٌّ بدعواك» فقد أَقَرَّ؛ لأنَّ هذه الألفاظ تَدَلُّ على تصديق المدَّعِي.

وكذا لو ادُّعِيَ عليه بألْفٍ مثلًا؛ فقال: «خُذْها» ، أو «اقْبِضْها» ، أو «احْرِزْهَا» ، أو:«كأنِّي جاحِدٌ لك؟» أو «كأنِّي جَحَدْتُك حقَّك؟» فقد أقرَّ؛ لانصراف ذلك إلى الدَّعْوَى؛ لوقوعه عَقِبها، ولأنَّ الضمير يرجع إلى ما تقدَّم.

بخلاف ما لو قال في جوابه: «أنا أُقِرُّ» ؛ لأنَّه وعدٌ وليس إقراراً. أو قال: «لا أُنكِرُ» ؛ لأنَّه لا يلزم من عدم الإنكار الإقرار، لأنَّ بينهما قِسْماً آخر، وهو السُّكوت. ولأنَّه يحتمل: لا أُنكر بطلان دعواك.

وكذا لو قال: «يجوز أن تكون مُحِقًّا» ؛ لجواز ألَّا يكون محقًّا. أو قال: «خُذْ» ؛ لاحتمال أن يكون مراده: خُذ الجواب منِّي. أو قال: «اتَّزِنْ» ، أو «احْرِزْ» ، أو «افتح كُمَّك» ؛ لاحتمال أن يكون ذلك لشيءٍ غير المدَّعَى به.

- ولو قال المدَّعِي: «أليْسَ لي عليك كذا؟» فقال المدَّعَى عليه: «بلي» ، كان إقراراً بلا خلاف؛ لأنَّ «بلى» جوابٌ للسؤال بحرف النفي؛ لقوله تعالى:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. بخلاف ما لو قال: «نعم» ؛ فليس إقراراً؛ لأنَّ معناها هنا: ليس لك عليَّ كذا. إلَّا إذا كان عاميًّا؛ فيكون إقراراً؛ لأنَّ ذلك لا يعرفه إلا الحُذَّاق من أهل العربيَّة.

ص: 329

- وإن قال إنسان لآخر: «اقضِ دَيْني عليك ألفاً» ، أو قال له:«هل لي، أو: لي عليك ألف؟» ، فقال:«نعم» ، فقد أقرَّ له؛ لأنَّ «نعم» صريحة في تصديقه. أو قال:«أمهلني يوماً» ، أو «حتَّى أفتح الصندوق» فقد أقرَّ؛ لأنَّ طلب الإمهال يقتضي أنَّ الحقَّ عليه.

- وكذا لو قال: «له عليَّ ألفٌ إن شاء الله» ، فقد أقرَّ له؛ لأنَّه وصل إقراره بما يرفعه كلُّه ويصرفه إلى غير الإقرار، فلزمه ما أقرَّ به، وبطل ما وصله به.

- أو قال: «له عليَّ ألفٌ لا تلزمني إلَّا أن يشاء الله» ، أو «إلَّا أن يشاء زيدٌ» فقد أقرَّ له به؛ لأنَّه علَّق رفع الإقرار على أمر لا يُعلم، فلا يرتفع.

* تَعليقُ الإِقْرارِ على شَرْطٍ:

- إذا عَلَّق الإقرار على شرطٍ فإنَّه لا يصحٌّ؛ سواء قَدَّم الشَّرط أو أخَّره؛ فالتَّقديم كما لو قال: «إن جاء رأسُ الشَّهر فله عليَّ كذا» ، أو «إن قَدِمَ زيدٌ فلعَمْرٍو عليَّ كذا». والتَّأخير كما لو قال:«له عليَّ كذا إن قدم الحاجُّ» ، أو «إن جاء المطر» ؛ لأنَّه لم يُثبت على نفسه شيئاً في الحال، وإنَّما علَّق ثبوته على شَرْطٍ، والإقرار إخبارٌ سابقٌ، فلا يتعلَّق بشَرْطٍ مستقبلٍ؛ إذ يكون حينئذٍ وَعْداً لا إقراراً.

- أمَّا إن علَّق إقراره على مشيئة الله عز وجل، فيصحُّ إقراره؛ لأنَّها تُذْكَرُ في الكلام تَبرُّكاً وتفويضاً إلى الله تعالى؛ كقوله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، وقد عَلِمَ الله أنَّهم سيدخلونه بلا شكٍّ.

ص: 330

إلَّا إذا قال: «له عليَّ كذا إذا جاء وقت كذا» ؛ كرأس الشَّهر؛ فإنَّه إقرارٌ، ويلزمه في الحال؛ لأنَّه بدأ بالإقرار ثمَّ عَقَّبه بما لا يقتضي رَفْعَه؛ لأنَّ قوله:«إذا جاء رأس الشَّهر» يَحتمِل أنَّه أراد مَحلَّها، أو وجوب تسليمها في ذلك الوقت؛ فلم يبطل الإقرار.

وإن فسَّر قوله: «إذا جاء وقت كذا» بأجلٍ، أو وَصيَّةٍ؛ بأنْ يوصِيَ له إذا جاء الوقت المذكور؛ قُبِل ذلك منه بيمينه؛ لأنَّ ذلك لا يُعلَم إلَّا من جهته، ويحتمله لفظه.

-ومن ادُّعِيَ عليه بألف دينارٍ مثلًا، فقال:«إن شَهِدَ به زَيدٌ، فهو صادق» ، لم يكن مقرًّا؛ لأنَّ ذلك وَعْدٌ بتصديقه له في شهادته لا تصديق.

* وَصْلُ الإِقْرارِ بما يُغيِّره:

- إذا قال في إقراره: «له عليَّ من ثَمَنِ خَمْرٍ ألفٌ)؛ لم يلزمه شيءٌ؛ لأنَّه أَقَرَّ بثَمَنِ خَمْر، وقدَّره بالألف، وثَمَنُ الخَمْر لا يجب.

بخلاف ما لو قال: «له عليَّ ألفٌ من ثَمَنِ خمرٍ» ، أو «من ثَمَنِ خنزيرٍ» ، أو «له عليَّ ألفٌ من ثَمَنِ مبيعٍ لم أقبِضهُ» ، أو «من ثَمَنِ مبيعٍ تلف قبل قبضه» ، أو «من مضارَبَةٍ تَلِفَت وشَرَطَ عليَّ ضمانها» ، أو «له عليَّ ألفٌ لا تلزمني» ، ونحو ذلك، لَزِمَه الألف في جميع تلك الصور، ولم يُقبَل قوله في إسقاطه؛ لأنَّ ما ذَكَرَه بعد قوله:«له عليَّ ألفٌ» رَفْعٌ لجميع ما أقرَّ به؛ فلا يُقبَل، كما لو استثنى الكلَّ؛ فقال:«له عليَّ ألفٌ إلَّا ألفاً» لم يصح؛ لأنَّه رجوعٌ عن الإقرار. ولأنَّه

ص: 331

أَقَرَّ بالألف وادَّعَى ما لم يَثبُت معه؛ فلم يُقبَل منه.

* الاسْتِثْناءُ في الإِقْرارِ:

يصحُّ في الإقرار استثناءُ النصفِ فأقلَّ؛ لأنَّه لغة العرب؛ قال الله عز وجل: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14]. فلم يَرِدِ الاستثناء في لسانهم إلَّا في الأقلِّ؛ قال أبو إسحاق الزَّجَّاج: «لم يأت الاستثناء إلَّا في القليل من الكثير، ولو قال قائلٌ: مائةٌ إلَّا تسعةً وتسعين لم يكن مُتكلِّماً بالعربيَّة، وكان عِيًّا من الكلام ولُكْنةً» [المغني (5/ 302)]. فلا يصحُّ استثناء الأكثر، أو الكُلِّ، ويَبطُل به الاستثناء.

- فلو قال المقِرُّ: «له عليَّ عشرةٌ إلَّا عشرةً» ، أو قال:«له عليَّ عشرةٌ إلَّا ستَّةً» ، لزمه عشرةٌ، وبطل الاستثناء؛ لأنَّه استثنى الأكثر.

- ولو قال: «ليس لك عليَّ عشرةٌ إلَّا خمسةٌ» ، صحَّ الاستثناء، ولزمه خمسةٌ؛ لأنَّه استثنى النصف، والاستثناء من النفي إثبات.

لكن يشترط لصحَّة الاستثناء ما يلي:

أ - ألَّا يسكت المستثنِي بين ذِكْره المستثنَى والمستثنَى منه زمناً يُمكنه الكلامُ فيه، وألَّا يفصل بينهما بكلامٍ أجنبيٍّ؛ لأنَّه إذا سكت بينهما، أو فصل بكلامٍ أجنبيٍّ؛ فقد استقرَّ حُكم ما أقرَّ به؛ فلا يرفعه استثناءٌ ولا غيره، بخلاف ما إذا اتَّصل؛ فإنَّه يكون كلاماً واحداً.

ب- أن يكون المستثنَى من جنس المستثنَى منه ونوعه؛ لأنَّ الاستثناء

ص: 332

إخراج بعض ما يتناوله اللَّفظ بموضوعه، وغير الجِنْس لا يتناوله اللَّفظ؛ لأنَّه ليس موضوعاً له.

فلو قال: «لفلان عليَّ مائة دِرْهمٍ إلَّا عشرة» ، أو:«له عليَّ هؤلاء العبيد العشرة إلَّا واحداً» ؛ فاستثناؤه صحيح؛ لأنَّ المستثنى ممَّا يتناوله لفظ المستثنى منه بموضوعه، ويلزمه في الأُولَى تسعون دِرْهماً، وفي الثانية تسعة عبيد. بخلاف ما لو قال:«له عليَّ مائة درهمٍ إلَّا ديناراً» ، أو «إلَّا ثوباً» ؛ فاستثناؤه باطل، ولزمه المائة درهم؛ لأنَّه استثناء من غير الجنس، وغير الجنس ليس بداخل في الكلام.

وكذا لو قال: «له عليَّ عشرة آصعٍ تَمْراً بَرْنِيًّا إلَّا ثلاثة آصعٍ تمراً معقليًّا» لزمه عشرة آصع تمراً برنيًّا؛ لأنَّه استثناء من غير النوع.

- إذا قال: «له هذه الدار إلَّا هذا البيت» قُبِلَ منه، ولو كان البيت أكثر الدار، لأنَّ الإشارة جعلت الإقرار فيما عدا المستثنَى. فالمُقَرُّ به معيَّن، فوجب أن يصحَّ. بخلاف ما لو قال:«له هذه الدار إلَّا ثلثيها» ، أو «إلَّا ثلاثة أرباعها» ؛ فلا يصحُّ؛ لأنَّ المستثنى شائع، وهو أكثر من النصف.

- إذا قال: «له الدَّار، ثُلُثَاها» ، أو «له الدَّار عارية» ، أو «له الدَّار هبةً» ، عُمِل بالثَّاني؛ وهو قوله:«ثلثاها» ، أو «عاريةً» ، أو «هبةً» ؛ لإقراره بذلك حقًّا لصاحبه بدلًا من الدَّار؛ وحينئذٍ لا يكون إقراراً بالدَّار؛ لأنَّه رَفَعَ بآخر كلامه ما دَخَلَ في أوَّله. ولا بُدَّ في الهِبَة من تحقُّق شروطها؛ من العلم بالموهوب،

ص: 333

والقُدْرة على تسليمه، ونحو ذلك، فإن وُجِدَت صحَّت، وإلَّا فلا.

* الإِقْرارُ بالشَّيءِ بعد البَيْع أو الهِبَة أو الغَصْب:

- من باع شيئاً، أو وَهَبَه، ثمَّ أقرَّ به لغيره، لم يُقبَل قوله على المشتري، ولا على الموهوب له؛ لأنَّه إقرارٌ على غيره. ويَغرَمُ بَدَلَه للمُقَرِّ له؛ لأنَّه فَوَّته عليه بتصرُّفه فيه بالبيع أو الهِبَة.

- وإن قال: «غَصبتُ هذا العبد من زيدٍ، لا بل من عمروٍ» فهو لزيدٍ؛ لإقراره له به، ولا يُقبَل رجوعه عنه؛ لأنَّه حقُّ آدميٍّ. ويغرم قيمته لعَمْرٍو؛ لأنَّه حال بينه وبين مِلْكه؛ لإقراره به لغيره؛ فلَزِمَه ضمانه؛ كما لو أتلفه. وكذا لو قال:«مِلْكُه لعمرو، وغصبتُه من زيدٍ» ، فهو لزيدٍ؛ لإقراره باليد له، ويَغرَم قيمته لعَمْرٍو؛ لإقراره له بالمِلك، ولأنَّه حال بينه وبين مِلكه بالإقرار باليد لزيدٍ.

بخلاف ما لو قال: «غصبتُه من زيدٍ، ومِلْكه لعَمْرٍو» ؛ فهو لزيدٍ؛ لإقراره باليد له، ولا يَغْرَمُ شيئاً لعَمْرٍو؛ لأنَّه إنَّما شَهِدَ له به؛ أشبه ما لو شَهِدَ له بمالٍ بيد غيره.

* الإِقْرارُ على المَيِّتِ:

- من مات، وخلَّف ابنين ومائتين، فادَّعى شخصٌ مائة دينارٍ دَيْناً على الميِّت، فصدَّقه أحدُ الابنين، وأنكر الآخر، لزم الابنَ المُقِرَّ نصفها -أي نصف

ص: 334

المائة-؛ لإقراره بها على أبيه. ولا يلزمه أكثر من نصف دَيْن أبيه؛ لأنَّه يَرِث نصف التَّركة. ولأنَّه يُقِرُّ على نفسه وعلى أخيه؛ فقُبِلَ على نفسه دون أخيه.

إلَّا إذا كان الابن المُقِرُّ بها عَدْلاً، وشَهِدَ بها لمدَّعِيها، وحَلَفَ المدَّعي مع شهادته؛ فحينئذٍ يأخذ المائة؛ كما لو شَهِدَ بها غير الابن، وحَلَفَ المدَّعِي، وتكون المائة الباقية بين الابنين؛ لأنَّها ميراثٌ لا تَعلُّق بها لأحدٍ سواهما.

فإن كان الابن المُقِرُّ ضامناً لأبيه ويلزمه جميع الدَّيْن؛ لم تُقبل شهادته على أخيه، لأنَّه يدفع بها عن نفسه ضرراً.

ص: 335

‌باب الإقرار بالمُجْمَل

المُجْمَل: هو ما احتمل أَمْرَيْن فأكثر على السواء.

- فمن قال مثلًا: «لزيد عليَّ شيءٌ» ، أو «له عليَّ كذا» ، أو «له عليَّ شيءٌ وشيءٌ» ، أو «له عليَّ كذا وكذا» ، ونحو ذلك، كان إقراراً بمُجْمَلٍ؛ وهو صحيح بغير خلاف، لكن يقول له القاضي:«فَسِّر ذلك» ، ويلزمه تفسيره؛ لأنَّ الحُكمَ بالمجهول لا يصحُّ.

فإن أبى تفسيره حُبِسَ حتَّى يُفسِّره؛ لأنَّه امتنع من حقٍّ عليه فحُبِسَ به؛ كما لو عيَّنه وامتنع من أدائه.

- ويُقبَل تفسيره بأقلِّ مالٍ؛ لأنَّ الشيء يَصْدُق عليه أقلُّ مالٍ.

وكذا تفسيره بحَدِّ قَذْفٍ عليه للمُقَرَّ له؛ لأنَّه حقٌّ عليه؛ فيُحَدُّ لقَذْفِه بطَلَبِه.

وكذا تفسيره بحقِّ شُفْعَةٍ؛ لأنَّه حقٌّ واجبٌ يؤول إلى المال.

- ولا يُقبَل تفسيره بمَيْتةٍ نَجِسَةٍ، ولا بخَمْرٍ، ولا بخِنزيرٍ؛ لأنَّها ليست حقًّا عليه. بخلاف ما لو كان تفسيره بمَيْتةٍ طاهرةٍ يُنتفع بها؛ كالسَّمك والجراد؛ فإنَّه يُقبَل؛ لأنَّ ذلك ممَّا يُتَموَّل.

- وكذا لا يُقبَل تفسيره بِرَدِّ سَلامٍ، أو تشميت عاطِسٍ، أو عيادة مَريضٍ، ونحوه؛ لأنَّ إقراره اعترافٌ بحقٍّ عليه في ذمَّته، وهذه المذكورات لا تَثْبُت في الذِّمَّة.

- وكذا لا يُقبَل تفسيره بما لا يُتَموَّل عادةً؛ كما لو فسَّره بحَبَّة بُرٍّ، أو حبَّة

ص: 337

شعيرٍ، أو قِشْر جَوْزةٍ، ونحو ذلك؛ لمخالفته لمقتضى الظَّاهر، ولأنَّ إقراره اعترافٌ بحقٍّ عليه يثبت مثله في الذِّمَّة، بخلاف نحو هذه الأشياء؛ فإنَّها لا تثْبُت في الذِّمَّة؛ إذ لا تُتَموَّل في العادة.

-فإن ماتَ المقِرُّ بالمُجْمَلِ قَبْل تفسيره؛ لم يؤاخذ وارثُه بشيءٍ، ولو خَلَّف المُقِرُّ تَركةً؛ لاحتمال أن يكون هذا المجمل حَدَّ قَذْفٍ.

- وإن قال المُقِرُّ: «له عليَّ مالٌ عظيمٌ» ، أو «مالٌ خطيرٌ» ، أو «مالٌ كثيرٌ» ، أو «مالٌ جليلٌ» ، أو «مالٌ نفيسٌ» ، أو «مالٌ عزيزٌ» ، ونحوه؛ قُبِلَ تفسيره لذلك بأقلِّ مُتموَّلٍ؛ لأنَّ العظيم، والخطير، والكثير، والجليل، والنفيس، والعزيز، لا حدَّ له شرعاً، ولا لغةً، ولا عُرْفاً، ويختلف الناسُ فيه؛ فقد يكون عظيماً عند البعض حقيراً عند غيرهم. ولأنَّه ما من مالٍ إلَّا وهو عظيمٌ كثيرٌ بالنسبة إلى ما دونه.

- وإن قال: «له عليَّ دراهمُ» ، أو «دراهمُ كثيرةٌ» ، أو «عظيمةٌ» ، أو «وافرةٌ» قُبِل تفسيره لها بثلاثة دراهم فأكثر؛ لأنَّ الكثيرة، والعظيمة، والوافرة، لا حدَّ لها في الشَّرع، ولا في اللُّغة، ولا في العُرْف، وتختلف أحوال الناس فيها، والثلاثة أكثرُ ممَّا دونها، وأقلُّ ممَّا فوقها. ولأنَّ الثلاثة أقلُّ الجمع، وهي اليقين.

- وإن قال: «له عليَّ ألفٌ ودرهمٌ» ، أو «له عليَّ ألفٌ ودينارٌ» ، أو «له عليَّ ألفٌ وثوبٌ» ، أو «له عليَّ ألفٌ وفَرَسٌ» ، أو «له عليَّ ألفٌ إلَّا ديناراً» ، كان

ص: 338

المبهم في جميع هذه الصور من جِنْس المُفسَّر الذي ذُكِرَ معه؛ لأنَّ العرب تكتفي بتفسير إحدى الجملتين عن الأخرى؛ قال الله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25]، ومعلوم أنَّ المراد: تسع سنين، فاكتُفي بذِكْره في الأوَّل. ولأنَّه ذُكِر مُبْهَماً مع مفسَّرٍ، ولم يقم الدَّليل على أنَّه ليس من جِنْسِه؛ فوجب حمله عليه.

* مسائل متفرِّقة:

- إذا قال: «له عليَّ ما بين درهمٍ وعشرةٍ» ، أو «ما بين الدِّرهم والعَشَرَة» ؛ لزمه له ثمانية دراهم؛ لأنَّ الذي بين الواحد والعشرة ثمانية، فهي مقتضى لفظه.

- وإذا قال: «له عليَّ من درهمٍ إلى عشرةٍ» ، أو «له عليَّ ما بين درهمٍ إلى عشرةٍ» ؛ لزمه تسعة دراهم؛ لأنَّه جعل العشرة غاية، وانتهاء الغاية لا يدخل فيها؛ كما قال الله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]؛ فالليل لا يجب صيامه؛ إذ ليس داخلًا في النهار الواجب صيامه، بخلاف ابتداء الغاية؛ فإنَّه داخلٌ فيها.

- وإذا قال: «له عليَّ درهمٌ ودرهمٌ ودرهمٌ» ، لزمه ثلاثة دراهم؛ لأنَّ العطف يقتضي المغايرة.

وكذا لو قال: «له عليَّ درهمٌ درهمٌ درهمٌ» ؛ لزمه ثلاثة دراهم؛ لأنَّه مقتضى

ص: 339

إقراره. فإن أراد بذلك التأكيد قُبِلَ منه، ولم يلزمه إلَّا درهمٌ؛ لأنَّ تكراره دون حرف العطف يقبل التأكيد.

- وإذا قال: «له عليَّ درهمٌ بل دينارٌ» ، لزماه؛ لأنَّ الأوَّل لا يُمكن أن يكون الثَّاني ولا بعضه، فكان مُقِرًّا بهما. والإضراب لا يصحُّ؛ لأنَّه رجوعٌ عن إقرارٍ بحقِّ آدميِّ. بخلاف ما لو قال:«له عليَّ درهم بل درهمان» ؛ فإنَّه يلزمه درهمان فقط؛ لأنَّه إنَّما نفى الاقتصار على واحد، وأثبت الزيادة عليه، وهما من جنس واحد.

ولو قال: «له عليَّ درهمان بل درهم» ، أو «له عليَّ عشرة بل تسعة» ؛ لزمه الأكثر؛ وهو درهمان في الأولى، وعشرة في الثانية؛ لدخول الأقلِّ في الأكثر، وإضرابه عن الزيادة لا يُسقطه؛ لأنَّه رجوع عن الإقرار؛ فلا يفيده.

- وإذا قال: «لفلان عندي تمرٌ في جِرَابٍ» ، أو «سِكِّينٌ في قِرَابٍ» ، أو «ثوبٌ في مِنْدِيلٍ» ، أو «له عندي دَابَّةٌ عَلَيْهَا سَرْجٌ»؛ كان إقراراً بالأوَّل دون الثَّاني؛ لأنَّ إقراره لم يتناول الثاني؛ إذ يَحتمل أنَّه أراد: في جراب لي، أو في قِراب لي، أو في مِنديل لي، أو عليها سَرْج لي، ومع الاحتمال لا يكون مُقِرًّا بهما؛ لأنَّ الإقرار لا يثْبُت إلاَّ مع التَّحقيق. ولأنَّهما شيئان متغايران؛ لا يتناول الأوَّل منهما الثَّاني.

- وإذا قال: «له عندي خاتمٌ فيه فصٌّ» ، أو «سَيْفٌ بقِرابٍ»؛ فإنَّه يكون إقراراً بهما؛ لأنَّ الفصَّ جزءٌ من أجزاء الخاتم؛ أشبه ما لو قال: «له عندي

ص: 340

ثوبٌ فيه عَلَمٌ». والباء في قوله: «بقِرابٍ» : باء المصاحبة؛ فكأنَّه قال: «سيفٌ مع قِرابٍ» ، بخلاف قوله في الصورة السابقة:«له عندي تمرٌ في جِراب» ، ونحو ذلك؛ فإنَّ الجراب غير الذي هو فيه.

- وإن أقرَّ لغيره بشجرةٍ؛ لم يكن ذلك إقراراً بأرضها؛ لأنَّ الأصل لا يتبع الفَرْع، بخلاف إقراره بالأرض؛ فإنَّه يشمل غَرْسها وبناءها؛ إذ الفَرْع تابع للأصل.

وعليه؛ فلا يملك المُقَرُّ له غَرْسَ شجرةٍ أخرى مكانها لو ذهبت؛ لأنَّه غير مالكٍ للأرض. ولا أُجرة عليه لربِّ الأرض مدَّة بقاء الشجرة، وليس لربِّ الأرض قلعها؛ لأنَّ الظَّاهر أنَّها وُضعت بحقٍّ. وثمرتها للمُقَرِّ له؛ لأنَّها نماؤها؛ ككسب العبد. وبيعها كذلك؛ له.

- وإن قال: «لفلانٍ عليَّ درهمٌ أو دينارٌ» ؛ لزمه أحدهما؛ لأنَّ (أو) لأحد الشَّيئين أو الأشياء. ويُرجع إليه في تعيينه؛ كسائر المُجملات.

* خاتمة:

- إذا اتَّفقا شخصان على صدور عقدٍ من بيعٍ أو إجارةٍ، أو غير ذلك، وادَّعى أحدُهما فسادهُ؛ لأنَّه كان مثلًا وقت العقد صَبِيًّا، أو غير مأذونٍ له، وادَّعى الآخر صحَّته، ولا بيِّنة، فالقول قول مدَّعِي الصحَّة، بيمينه؛ لأنَّ الظَّاهر وقوع العقود على وجه الصحَّةٍ دون الفساد.

- وإن ادَّعى اثنان شيئاً بيد غيرهما، شركةً بينهما بالسويَّة، فأقرَّ المدَّعَى عليه

ص: 341

-وهو من بيده الشيء- لأحدهما بنصفه، فالنصف المُقَرُّ به بينهما بالسَّويَّة؛ لاعترافهما أنَّ هذا الشيء لهما على الشيوع؛ فإذا غَصِب غاصبٌ نصفه كان منهما، والباقي بينهما.

- ومن قال بمرض موته الْمَخُوفِ: «هذا الألف لُقَطةٌ فتصدَّقوا به» . ولا مال له غيره، لزم الورثةَ الَّصَدقةُ بجميعه ولو كذَّبوه في أنَّه لُقَطة؛ لأنَّ أَمْره بالصَّدقة به يدلُّ على تعدِّيه فيه بما يوجب الصَّدقة بجميعه؛ فيكون ذلك إقراراً منه لغير وارثٍ؛ فيجب امتثاله. وكما لو أقرَّ به في حال الصحَّة.

- ويُحْكَم بإسلام من أقرَّ بشهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان المُقِرُّ مميِّزاً؛ لأنَّ عليًّا رضي الله عنه أسلم وهو ابن ثمان سنين [رواه البيهقي]. وعَرَض النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإسلامَ على ابن صيَّادٍ صغيراً. [رواه البخاري، ومسلم]. وكذا يُحكَم بإسلام من أقرَّ بالشهادتين قبيل موته؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عرض الإسلام على أبي طالب وهو في النَّزْع. [رواه البخاري، ومسلم].

اللهمَّ اجعلنا ممَّن أقرَّ بها مُخلِصين في حياتهم، وعند مماتهم، وبعد وفاتهم.

اللهمَّ اجعل عملنا هذا صالحاً، ولوجهك خالصاً، واجعله سبباً لرضوانك، والفوز بجنَّاتك؛ جنَّات النَّعيم. اللهمَّ انفعنا به وعموم المسلمين، واجعله ذُخْراً لنا بين يدي لقائك. اللهمَّ تقبَّله منَّا بقبول حَسَنٍ، واكتب له القبول في الأرض بين عبادك، وفي السماء بين مَلَئِك الأعلى.

اللهمَّ جازنا بالإحسان فيه إحساناً، وبالتقصير والخلل فيه عفواً وغفراناً؛

ص: 342

فإنَّك سبحانك بكلِّ جميلٍ كفيل، وأنت نِعْم المولى ونِعْم النصير.

وصلِّ اللهمَّ وسلِّم وبارك على سيِّد أنبيائك وإمام أصفيائك؛ محمَّدٍ، وعلى سائر إخوانه من النَّبيِّين والمرسلين، وعلى آل كلٍّ وصحبه أجمعين، وعلى أهل طاعتك من أهل السماوات وأهل الأرضين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

ص: 343