الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده صلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما، اللهم الإعانة اللهم الإعانة؛
يقول العبد الفقير إلى الله تعالى المالكي الأشعري محمد بن محمد سالم بن محمد سعيد بن محمد بن عمر بن أبي السيد بن أبي بكر بن علي بن يَمَغْدِشْ بن وديعة الله بن عبد الله بن أحمد بن يفت بن يدَرْ بن إبراهيم المجلسي العلوي الفاطمي الحسني الإدريسي وإبراهيم هذا يقال- والله أعلم- إنه من ولد عمر بن عبد العزيز، وإنما عرفت بنفسي لقول القائل:
ومن كتب الكتاب لم يذكر اسمه
…
كبنت لها أم وليس لها أب:
الحمد لله رب العالمين، قيوم السماوات والأرضين، مفصل الآيات لقوم يفقهون، ما هو بإله استحدثناه، ولا برب ابتدعناه، بل هو معبود بالحق عبدناه، نَعَّمَ قلوب أوليائه بحبه فلهم إليه شوق وحنين، وتململوا من هول المطلع فلهم زفير وأنين، وأبعد المحروم بلا علة فهو بدين الحرمان يدين وشغل الجهول أيام عمره وأعماه عن الحق المبين، وطبع على قلوبهم فطردهم عن بابه وجعلهم مبعدين، كل ميسر إلى ما سبق في علمه، ومقود إليه بزمام قهره وحكمه، فنَعَّمَ المقربين بالمسامرة وأظهر لهم من سره الأمر العجيب، وفجر من قلوبهم ينابيع الحكمة فنبع من العرفان كل معنى غريب، عزيز جلت صفاته، ملك لا تحصى مقدوراته، ولا تتناهى كمالاته ومعلوماته، محيط بما تحت تخوم الأرضين إلى أعلى السماوات، وبغير ذلك من جميع المعلومات والكائنات، لا تدركه الأوهام، ولا تحيط به الأفهام، أحمده حمد من علم أن لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وأشكره شكر من تحقق أن خير الدنيا والآخرة بيديه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده المطهر، وحبيبه السراج الأنور، ورسوله وباب حضرته الأكبر؛ شهادة أعدها لأهوال القيامة، وأتقي بها الحسرة والندامة، يوم يبعثون، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ، وأصلي وأسلم على من أوتي جوامع الكلم واختصر له اختصارا سيدنا محمد الذي أُمِرَ بإعلاء كلمة الحق وخَفْضِ كلمة البهتان
فتقلد سيف النصر وصدع بما أمر به جهارا، من تفجر بمولدد بحور الرغبوت، وضحكت بجماله الزاهر ثغور الرحموت، مطلع شموس التجليات الاجتبائية، ومغرس أغصان التدليات الاصطفائية، من تدفقت من بحار كماله جداور الأنوار، وتفتقت من بهجته مونقات الأزهار، وتبرقعت بجماله عوالم الملكوت، وترعرعت في رياض بهجته أطفال أسرار الجبروت. وحيعل بجامع العز والحبور، وأوضح بالقول والفعل سبيلا للأمن والسرور: وهو الطريق الأقوم: الذي لسالكه الفوز والمغنم، من حاد عنه انتكس وارتدى، وعمهوا في ضلالتهم ولن يهتدوا إذا أبدا.
أما بعد فإن الاشتغال بالعلم من أفضل ما يتقرب به إلى الله تعالى، لكون معرفة الله تعالى وعبادته يتوقفان عليه، والخير منوط بهما والشر منوط بعدمهما، وحينئذ فأهم ما يشتغل به الإنسان ما يرشده إلى تحقيق ذلك ويوصله إليه، فعلى العاقل أن يجتهد بعد معرفة الله تعالى فيما يعلم به كيفية العبادة.
والعبادة هي: امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وعلم الفقه هو الكفيل ببيان الأوامر والنواهي على أتم الوجود وأكملها، وجدير بذلك مذهب إمام الأئمة مولانا مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه. فقد أجاد في ذلك كل الإجادة، مع كثرة الجدوى وحسن الإفادة، بين الحلال والحرام والمسنون والمندوب والمكروه والمباح من الأحكام، فجزاه الله بأحسن الجزاء عن أهل الملة الإسلامية. وخصوصا عنا معاشر المغاربة فقد أفاض علينا من مواهبه الربانية، وأسبغ علينا من تحفه الإحسانية، ومن أعظم ما صنف فيه مختصر السيد الأجل، والحبر البارع الأحفل، مولانا أبي المودة خليل، فكم كشف عن معضلات وأبرد الغليل، بيَّن ما به الفتوى ت وما هو الراجح الأقوى، مع كثرة الجمع والإيجاز العجيب، وحسن اللفظ وفخامته وتناسب المعنى الغريب، غير أنه لفرط الإيجاز، كاد يعد من جملة الألغاز، وقد اعتنى بحل ألفاظه الجهابذة النقاد، من كل حبر بارع أجاد وأفاد، فشرحوا وأجادوا، ونقحوا وأفادوا، ومنهم من حلى بعض الشروح بأبدع من در النحور، ولآلئ تتلهب مثل الشموس والبدور.
وبالجملة فقد بقيت في الكتاب مواضع كثيرة تحتاج إلى التقرير، والبيان والتوضيح والتحرير، وبحسب تتبع كلامهم يظهر من ذلك ما لم يكن مبينا في كتاب بانفراده، فأردت أن أبين من ذلك
ما ظهر لي مستعينا بحفظ المهيمن واسترشاده، بشرح أبذل جهدي في تحريره، وتوضيحه لكلام المص وتقريره، وسميته بلوامع الدرر، في هتكَ أستار المختصر، وإني لأعلم علم تحقيق وإيقان، بأني لست من خيالة هذا الميدان، لكن نظر رحمة الله تعالى إلى المرموق بعين الازدراء والتحقير، أكثر من نظرها إلى المرموق بعين الإجلال والتوقير.
إن لله رحمة وأحق النـ
…
ـاس منه بالرحمة الضعفاء،
والله أسأل أن ينفع به من كتبه أو قرأه أو حصله أو سعى في شيء منه، وأتوسل إليه في ذلك بجاه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وأثبت هنا رؤيا للشيخ القدوة أحمد بابَ بن البخاري بن الفلالي رحمهم الله تعالى، وهي أنه أرسل إلي رسالة قال فيها: رأيت بعدك - وأنا في النوم - أن الناس تتحدث أن العلماء أهل المذاهب يؤتون المذاهب من أصل الروضة الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وكنت - أصلحك الله وذريتك ووقاك وإياهم كل مكروه في الدنيا والآخرة - ممن أعطي المذهب المالكي من أصل الروضة المكرمة.
ثم إني بعد أن ثبت عندي هذا مشيت حتى أتيت الروضة الشريفة - على صاحبها أفضل الصلاة والسلام - وكنت أقرأ كتابي في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم حتى خرج لي من القبر الشريف وكلمته صلى الله عليه وسلم. فالذي عندي أن هذا إذْنٌ في اشتغالك بالفقه المالكي، وإيذَانٌ بقبول شرحك على مختصر الشيخ خليل رحمه الله ورحمنا ببركته وبركة أوليائه. اه
اعلم وفقني الله وإياك - أن المقصود من تعلم العلم وتعليمه، عبادة الله تعالى به لتوقفها عليه، فلذا كان الاشتغال به أفضل الأعمال، ولا يصلح عمل إلا بإخلاص النية لوجه الله تعالى، قال جل من قائل. {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، وفي الحديث الصحيح المتفق عليه (إنما الأعمال بالنية وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه
(1)
)، قال الشيخ
(1)
إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، صحيح البخاري، رقم الحديث: 1؛ 6689. ومسلم في صحيحه، رقم الحديث: 1907.
أحمد بن عبد العزيز الهلالي نفعنا الله به: فقد دلت الآية الكريمة على أن صورة العبادة الظاهرة من الاشتغال بالعلم أو غيره لا عبرة بها إلا مع إخلاص النية لوجهه الكريم؛ فالنية والعمل بهما تمام العبادة، فهي أحد جزأي العبادة لكنها خير الجزأين؛ لأن الأعمال بالجوارح إنما طلبت ليميل القلب إلى الخير وينفر عن الشر، فالمراد بالسجود: خضوع القلب لا مجرد وضع الجبهة على الأرض، والمراد بالزكاة. إزالة رذيلة البخل لا إزالة الال عن ملك الغني.
ودل الحديث الشريف على أن الأعمال معتبرة بالنية؛ فمن نوى بها خيرا كانت له خيرا، ومن نوىَ بها شرا كانت عليه شرا: ومن أراد بها مباحا كانت ضائعة، وإن كانت صورتها صورة عبادة فالسجدة مثلا تكون عبادة إذا كانت لله، وكفرا إذا كانت لصنم ومعصية دون الكفر إذا كانت لتعظيم سلطان من غير اعتقاد ربوبية.
والاشتغال بالعلم يكون أفضل أعمال البر إذا نُوِيَ به امتثال أمر الله تعالى في تعاطيه وفي العمل به، ويكون معصية إذا قصد به التكبر على الأقران، واجتلاب الال من وجه حرام، كالرشوة، وقبض الأعطية من الأموال المغصوبة، وشبه ذلك، ويكون فضولا إذا نوي به الفضول كاجتلاب المباح المستغنى عنه.
فأهم الأشياء على العاقل - ولا سيما في جانب تعاطي العلم - تصحيح النية، بأن ينوي بفعل المأمور به، وترك المنهي عنه امتثال أمر الله عز وجل، وبفعل المباح أو تركه الاستعانة على الطاعة، لتكون جميع حركاته وسكناته طاعة، وتنميتها بأن ينظر فيما عزم عليه من فعل أو ترك، فإن وجده يحتمل وجوها من الخير نواها كلها. حكى في المدخل عن بعض الشيوخ أنه كان مع صاحب له في حائط. فدق شخص الباب، فقام إليه الصاحب فلحقه الشيخ، وسأله بأي نية قام. فقال: لأفتح الباب، قال: لا غير؟ قال: هو ذاك، فعاب عليه الشيخ، وقال: إنما قمت أفتح الباب. وكذا وكذا: وعدد له من النيات، فإذا هي خمس وعشرون.
وقد ذكر في المدخل في قضاء حاجة الإنسان - الذي هو أهون الأمور من الضروريات - نيفا وسبعين خصلة، فإذا نواها الإنسان حين خروجه للخلاء يحصل له نيف وسبعون حسنة فإذا منعه مانع من فعلها فقد ربح تلك الحسنات في نيته، وإذا فعلها حصلت له سبع مائة حسنة
ونيف؛ لحديث الصحيحين: (من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات
(1)
).
وكل ما يعرض للإنسان من حركة أو سكون فلا يخلو من أن يكون مأمورا به وجوبا أو ندبا، أو منهيا عنه تحريما أو كراهة، أو مباحا وأقل ما ينوي العاقل بفعل الأول بقسميه امتثال أمر الله في فعله، وفي الثاني بقسميه امتثال أمر الله تعالى بتركه، وفي الثالث أن الله تعالى تفضل عليه بإباحته، وأنه لو نهاه عنه ما فعله، فإن قدر على تنمية تلك النيات فله بحساب ما نوى، فينوي بدخول المسجد والجلوس فيه مثلا أنه زائر لبيت ربه ويرجو إكرامه؛ لأن الكريم المزور يكرم، فما ظنك بأكرم الأكرمين؟ وينوي المرابطة المأمور بها في قوله تعالى:{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} ، فقد قيل هي انتظار الصلاة بعد الصلاة، وينوي الجوار؛ فإنه مستحب، ولا يشترط فيه الصوم ولا إتمام النهار، وينوي الخلوة ودفع الشواغل المانعة من التفكر في الآخرة والاستعداد لها، وينوي إفادة العلم واستفادته أو كليهما، كتنبيه من قصر في شيء من أحكام صلاته، وأن يشغل نفسه عن المعاصي وعن الفضول، وأن يقتدي به غيرد في فعل الخير وغير ذلك، وكذا سائر أعمال البر فينوي طالب العلم - تفصيلا إن قدر في كل مسألة، وإلا فإجمالا - أداء المفروض عليه بتعلمه ما يلزمه في خاصة نفسه، وما زاد ينوي به القيام بفرض الكفاية، ولا يقتصر على نية الندب؛ لأن أجر الفرض أعظم بكثير، وينوي أن يعمل بما علَّمه الله في خاصة نفسه، وأن يعلمه كل من أمكنه تعليمه، وينوي نفع الطبقات بالوسائط علما وعملا إلى يوم القيامة، وأن يشغل نفسه بطاعة الله عن معصيته، وعن الفضول الذي فيه تضييع العمر الذي هو رأس المال؛ وفيه مع ذلك شغل الكرام الكاتبين بما لا خير فيه، وقراءته على رؤوس الأشهاد حين يقال له:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} فيخجل في موقف الأهوال والشدائد وهو جوعان عطشان عُريان، وتشتد حسرته لكونه لم يشتغل بالعمل الصالح الذي هو في غاية الاضطرار إليه في ذلك الموقف، وفيه أيضا توبيخه بأن يقال له لم فعلت كذا أو قلت كذا؟
(1)
من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة. مسلم في صحيحه، رقم الحديث: 131، وصحيح البخاري، رقم الحديث:6491.
فتنقطع حجته بين يدي علام الغيوب، ويبهت ولا يجد جوابا، وإذا كان هذا حاله في الفضول، فكيف في المعاصي. نسأل الله العفو والعافية.
واعلم أن في الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له
(1)
).
وفيه: (من علم آية من كتاب الله أو بابا من العلم أنمى الله أجره إلى يوم القيامة
(2)
): قال العلماء في بيان كون العلم لا ينقطع بالموت: إنه إذا علم العالم شخصا، فعمل المتعلم بعد موت العالم بما علمه. يكتب له أجر تسببه، وهكذا في كل من عمل به إلى يوم القيامة، وإذا علم المتعلم آخر حصل للشيخ أجران؛ لأنه تسبب لتلميذه وتلميذ تلميذه في حصول الأجر لهما، فإذا علم التلميذ الثاني ثالثا حصل للشيخ الأول أربعة أجور زيادة على ما مر، لأنه تسبب للتلميذ الأول في أجرين ولكل من الثاني والثالث في الأجر، فإذا علم الثالث رابعا حصل للشيخ الأول ثمانية أجور فإذا علم الرابع خامسا فللأول ستة عشر، وفي السادس اثنان وثلاثون، وفي السابع أربع وستون. وفي الثامن ثمانية وعشرون ومائة، وفي التاسع ست وخمسون ومائتان، وفي العاشر اثنا عشر وخمس مائة. فإن ضممت ما في العاشر إلى ما قبله كان ثلاثة وعشرين وألفا - والحسنة بعشر أمثالها - فيكون ذلك ثلاثين ومائتين وعشرة آلاف.
وهكذا يتضاعف له الأجر في كل مرتبة إلى منتهى السلسلة، وهذا في نفس تعليم مسألة واحدة لمتعلم واحد، فإذا تعدد التعليم والمتعلمون في كل طبقة تضاعفت الأجور بقدر ذلك، وتتضاعف بحسب تعدد العمل بذلك وفي الحديث: (من علم علما فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل
(3)
)، فتتناهى إلى غاية لا يعلمها إلا واهب ذلك،
فالحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده:
والمرء في ميزانه أتباعه
…
فاقدر إذا قدر النبي محمد
(1)
إذا مات الإنساز انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة. صحيح مسلم، رقم الحديث. 1635.
(2)
من علم آية من كتاب الله أو بابا من علم أنمى الله أجره إلى يوم القيامة. كنز العمال، رقم الحديث:28704.
(3)
من علم علما فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل. سنن ابن ماجه، رقم الحديث:240.
صلى الله عليه وسلم تسليما وعلى آله وصحبه، وفي الحديث: (ما جميع أعمال البر في الجهاد إلا كبصقة في بحر، وما جميع أعمال البر والجهادُ في طلب العلم إلا كبصقة في بحر
(1)
)، وروى القرطبي في تذكرته عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مسألة واحدة يتعلمها المؤمن خير له من عبادة سنة وخير له من عتق رقبة من ولد إسماعيل، وإن طالب العلم والمرأة المطيعة لزوجها والولد البار لوالديه يدخلون الجنة بغير حساب
(2)
)، قال العلماء. والتعليم يكون بالمشافهة وبالتأليف والتدوين، فكل من فهم مسألة من التأليف فمؤلفه معلمه إياها، ومن هنا يظهر أن التعليم بالتأليف أكثر ثوابا منه بالمشافهة، لأن في التأليف ما فيها وزيادة ما يحصل بالكتاب لبقائه وانقطاعها، ولله در سيدي عبد الواحد بن عاشر حيث يقول:
لله من صنعه في خلقه عجب
…
كادت حقائق في الوجود تنقلب
كِلْمٌ بعين ترى لا الأذن تسمعها
…
خطابها حاضر وأهلها ذهبوا
ولله در القائل:
لنا جلساء لا يمل حديثهم
…
ألباء مأمونون غيبا ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم من مضى
…
وعقلا وتأديبا ورأيا مسددا
فلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة
…
ولا تتقي منهم لسانا ولا يدا
فإن قلت أحياء فلست بكاذب
…
وإن قلت أموات فلست مفندا
وفي رياض الصالحين عن رسول الله صلى الله عليه سلم أنه قال: (فضل العلم خير من فضل العبادة وخير دينكم الورع
(3)
)، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدال على الخير كفاعله
(4)
)،
(1)
اختصار المدونة والمختلطة لابن أبى زيد ج 1 ص 18. ط مركز نجيبويه،
(2)
كنز العمال، ج 10 ص 160، رقم الحديث: 28828 وفيه
…
البار بوالديه يدخلون الجنة مع الأنبياء بغير حساب.
(3)
فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع. مصنف ابن أبى شيبة، ج 6 ص 187 المعجم الأوسط رقم الحديث:3960.
(4)
إن الدال على الخير كفاعله. جامع الترمذي، رقم الحديث: 2670، ولفظ مسلم: من دل على خير فله مثل أجر فاعله. كتاب الإمارة، رقم الحديث:1893.
وقال: (توضع الموازين يوم القيامة، فتوضع حسنات العبد في ميزانه فتخف فيؤتى بمثل السحاب والغمام كثرة فتوضع في ميزانه فتثقل، فيقال له: هل تدري ما هذا؟ فيقول: لا: فيقال: هذا ثواب ما علمت الناس من الخير فعملوا به وعلموه من بعدك)، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال. (إن العبد الذي يعلم الناس الفقه والخير إذا عرض يوم القيامة على الله تعالى، يقول الله عز وجل: مرحبا مرحبا، أنت الذي تحبب إلي عبادي وتحببني إلى عبادي، البس حلة كرامتي، فيلبس حلة لم تر العين مثلها قط، ويتوج بتاج في ركن ذلك التاج ياقوتة بيضاء تضيء مسيرة أيام وليال، ثم يقول الله عز وجل جلاله: يا ملائكة الرحمة شيعوا عبدي حتئ تردوه على الذين كان يعلمهم القرآن والخير والفقه في الدنيا).
واعلم أن أقسام التأليف سبعة لا يؤلف العاقل إلا في أحدها: إما شيء لم يسبق إليه يخترعه، أو ناقص يتممه، أو مستغلق يبينه، أو طويل يختصره دون إخلال بمعانيه: أو متفرق يجمعه، أو مختلط يرتبه. أو خطأ يصلحه، وللشيخ سيدي أحمد بن عبد العزيز الهلالي:
في سبعة حصروا مقاصد العقلا
…
من التآليف فاحفظها تنل أملا
أبدع تمام بيان لاختصارك في
…
جمع ورتب وأصلح يا أخي الخللا
قال الشيخ العارف بالله تعالى مولانا أبو المودة خليل رَوَحَ الله تعالى روحه وأفاض علينا فتوحه: بسم الله الرحمن الرحيم؛ الكلام على البسملة من ثمانية أوجه: معنى مفرداتها، وإعرابها، ومعنى تركيبها، وسبب الابتداء بها: وحكمها، وفضلها، وكتابتها: وقرءانيتها.
أما معنى مفرداتها فإن الباء للمصاحبة، والمراد منها التبرك، فكأن المبتدئ بالبسملة يقول: أفعل كذا حال كوني متبركا فيه ببسم الله، فالمصطحبان هما العمل المبدوء بها أو البادئ، ومدخول الباء والتبرك منسحب على جميع العمل سواء قدر العامل عاما كأبدأ، أو خاصا كأولف أو ءاكل مثلا، ويحتمل أن تكون الباء هنا للاستعانة، والراد بذلك كون مدخول الباء واسطة في حصول العمل على الوجه المعتد به: وباء الاستعانة هي الداخلة على ءالة الفعل، نحو كتبت بالقلم بمعنى أن القلم هو الواسطة لي في حصول الكتابة. وكذا هنا، فيقال: معناها أن اسم الله تعالى هو
الواسطة في حصول العمل المشروع فيه لبركة الاسم الشريف، فمئال المصاحبة والاستعانة هنا واحد، وقيل. إن الباء هنا بمعنى على، والظاهر أن القائل بذلك أراد الاستعلاء المجازي، نحو: سر على اسم الله: وقيل: إنها للإلصاق، وهذان راجعان لما قبلهما، وقد قالوا: إن معاني الكتب السماوية مجموعة في القرآن، ومعاني القرءان مجموعة في الفاتحة، ومعاني الفاتحة مجموعة في البسملة، ومعاني البسملة مجموعة في بائها السيوطي: وجه الجمع في بائها بأن المقصود من كل العلوم وصول العبد إلى الرب، والباء للإلصاق، فهي تلصق العبد بجانب الرب، وذلك كمال المقصود. قاله الشيخ عبد الباقي. وفيه: أن الباء حرف شفهي تنفتح الشفة به ما لم تنفتح بغيره من الحروف، فالميم وإن كان شفهيا لا تنفتح الشفة به كما تنفتح بالباء حسا، وكان أول انفتاح فم الذرة الإنسانية في عهد {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} في جواب "بلى"، فاختارها الله تعالى، ورفع قدرها، وأعلى شأنها، وجعلها مفتاح كتابه، وقرنها باسم ذاته وصفاته، وقيل: إن الباء هنا زائدة وهو مرغوب عنه، ومن الغريب أنها للقسم؛ أي القسم على أن ما في هذه السورة حق ونحوه في الغرابة قول من قال إنها للتعدية متعلقة بالحمد، يعني في الفاتحة ونحوها مما ذكر فيه الحمد بعدها، ولبعضهم في جميع معاني الباء:
تعد لصوقا واستعن بتسبب
…
وبدل صحابا قابلوك بالاستعلا
وزد بعضهم إن جاوز الظرف غاية
…
يمينا تحز للبا معانيها كلا
فباء التعدية هي المعاقبة للهمز نحو: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} أي أذهبه، فليس معنى ذهبت بزيد أنك مصاحب له في الذهاب؛ خلافا للمبرد والسهيلي، والإلصاق هوأصل معانيها وما عداه راجع إليه؛ وهو يكون حقيقيا نحو: أمسكت بزيد، ومجازيا نحو: مررت بزيد أي ألصقت مروري بمكان يقرب منه، وقيل: للاستعلاء، بدليل قوله تعالى:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} ، والسببية نحو:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} ، والبدل نحو قول الأنصاري رضي الله تعلى عنه: ما يسرني أني شهدت بدرا بالعقبة أي بدلها، والمصاحبة نحو:{وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ} أي معه أي كافرين، والمقابلة نحو:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . وبهذا يتبين لك أنه لا تعارض بين
الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله
(1)
)؛ لأن الباء في الحديث للسببية والباء في الآية باء العوض، وإنما لم تكن الأولى للسببية، لأن المعطي بعوض قد يعطي مجانا. والمسبب لا يوجد بدون السبب، وقالت المعتزلة قبحهم الله تعالى: إن الباء في الآية للسببية. والاستعلاءُ نحو: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} ، وباء الاستعلاء هي التي يصلح في موضعها على: والزائدة نحو، {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} ، ونحو:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} : ونحو: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، والتبعيض نحو:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} . والعجاوزة نحو: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} والظرف نحو: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} : والغاية نحو: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} ، أي إلي، وقيل: ضمن معنى لطف واليمين نحو بالله لأفعلن أو بالله هل قام زيد؟ أي أسألك بالله مستخبرا. وهذا الأخير هو القسم الاستعطافي.
والاسم هو اللفظ الدال بالوضع على معنى مَّا فيتناول الاسم النحوي وقسيميه. وقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} يتناول جميع ذلك، والمسمى هو مدلول اللفظ، ومسألة الاختلاف في الاسم، هل هو عين المسمى، أو غيرة؟ مسألة طويلة الذيل قليلة النيل؛ إذ الخلاف فيها لفظي، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن أبي سلمة، وهو صغير ويده تطيش في الصحفة: (سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك
(2)
)؛ أي اذكر اسم الله. {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} أي وضعت لها هذا الاسم، وعينته للدلالة عليها، ومنه:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} . وبنى بعضهم على الخلاف المتقدم أن من قال لزوجته: اسمك طالق، تطلق على اتحادهما، لا على الآخر، وأن من قال: بسم الله لأفعلن، تلزمه اليمين على الاتحاد، لا على الآخر، والجاري على مذهبنا عدم لزوم اليمين والطلاق إلا إذا نوى بالاسم الذات مجازا. والله أعلم. ولكون الاسم غير السمى حسن التمني في قول الشاعر:
وقد زعم الواشون أن قد شتمتني
…
ويا حبذا من فيك لو علموا الشتم
لقد قبل اسمي فاك حين ذكرتني
…
فليت المسمى مثل ما زعموا الإسم
(1)
الإتحاف، ج 2 ص 197. مسلم في صحيحه، رقم الحديث: 2816.
(2)
صحيح البخاري، كتاب الأطعمة، رقم الحديث:5376.
ولفظ اسم هنا جنس أضيف إلى معرفة، فيعم جميع أسماء الله تعالى، فالتبرك بمصدوقه وهو جميع الأسماء قاله الشيخ الهلالي.
والله: علم خاص بذات مولانا جل وعز المعبود بالحق المتصف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، وأكثر العلماء على أن الاسم الأعظم هو الله، قال الشيخ الحطاب: وبه وقع الإعجاز حيث لم يتسَمَ به أحد، واختار النووي تبعا لجماعة أنه: الحي القيوم، وعلى كل فتخلف الإجابة لكثير من الداعين بهما لتخلف شروطها التي منها: أكل الحلال.
ونقل عن سيبويه أن اسم الجلالة أعرف المعارف؛ لأنه لا يقبل الشركة بوجه، وحكي عنه أنه ريء في النوم فأخبر أن الله تعالى فعل به خيرا كثيرا، لقوله: هوأعرف المعارف، ولكون هذا الاسم الشريف جامعا للذات والصفات لا ينتقل الكافر إلى الإيمان إلا به، فلو أنه قال: لا إله إلا الرحمن الرحيم، أو إلا الملك، أو إلا القدوس لم يخرج من كفره. قاله الخرشي.
وللتفتازاني: اعلم أنه كما تحيرت الأوهام في ذاته وصفاته، فكذا في اللفظ الدال عليه عز وجل، هل هو اسم أو صفة؟ مشتق أو غير مشتق عربي أو معرب؟ وقال الإمام الفخر: المختار عندنا أن هذا اللفظ اسم لله تعالى، وأنه ليس بمشتق؛ وهو قول الخليل وسيبويه، وأكثر الأصوليين، والفقهاء، قال السيد في شرح المواقف: وهو المروي عن أبي حنيفة، والشافعي، والخطابي، والغزالي، واختاره ابن العربي وغيره، قال الغزالي: وكل ما قيل في اشتقاقه فيه تعسف.
واختلف القائلون بالاشتقاق اختلافا كثيرا، ولا دليل قطعي لأحد منهم، وأكثرهم يقولون إله بمعنى مألوه: أي معبود، يقال: أله يأله إلهة كعبد يعبد عبادة وزنا ومعنى، ثم حذفت همزته شذوذا وعوض عنها حرف التعريف وجعل علما، وقيل: أصله الإله، وقد أنكر ابن مالك هذين القولين وبالغ وتقرير إبطالهما، فالأولى عدم التعرض لاشتقاقه. والله تعلى أعلم.
ويفخم لامه بعد غير الكسرة لا بعدها على الراجح، وقيل: يفخم مطلقا للتعظيم ويترجح قطع همزته في النداء للتعظيم أيضا، ويكثر تعويض الميم من حرف النداء الداخل عليه نحو: اللهم، وقد يحذف حرف الجر الداخل عليه في الشعر، ويحذف أل ويبقى الجر كقوله:
لاه ابن عمك لا فضلت في حسب
…
عني ولا أنت دياني فتخزوني
أي لله ابن عمك، وقد تقلب ألفه المحذوف في الخط ياء، وتقدم عليها الهاء مع حذف حرف الجر وأل، فيقال: لهي أبوك؛ أي لله أبوك بفتح اللام وسكون الهاء وفتح الياء، مبني لتضمنه معنى حرف التعجب.
والرحمن: هو المنعم بالنعم التي لا تدخل تحت كسب العباد؛ كبعث الرسل، والتوفيق للإيمان، وخلق الجنة ونعيمها، ويدل لهذا المعنى اختصاصه بالله تعالى: فإنه لا يجوز إطلاقه شرعا على غيرد عز وجل، واستعمال أصحاب مسيلمة إياه فيه لعنة الله عليهم تحريف له عن موضعه، كما حرفوا لفظ النبي فاستعملوه فيه، وقال الحطاب: ومن تسمى به؛ أي الرحمن هلك، وأصله صفة مشتقة من الرحمة، وفي كونها في حقه تعالى بمعنى الإنعام نفسه، أو بمعنى إرادة الإحسان خلاف: الأول للباقلاني. والثاني للإمام الأشعري، وعلى ما للباقلاني يقال: اللهم اجمعنا وأحبتنا في مستقر رحمتك؟ أي الجنة؛ لا على ما للأشعري.
والرحيم: هو المنعم مطلقا، فلذا صح إطلاقه على غير الله عز وجل، وذكر بعد الرحمان ليتناول ما لم يتناوله. لأنه تعالى هو المنعم بكل نعمة {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} ، فمتعلق الثاني شامل لمتعلق الأول وزيادة وقيل: الرحمن المنعم بجلائل المنعم، والرحيم المنعم بدقائقها كمية وكيفية فيهما، وقيل: الرحمن ذو الرحمة العامة لكل مربوب، والرحيم ذو الرحمة الخاصة بكل محبوب. وأخر عن الأول إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه - كما في الحديث
(1)
لأن في تخصيص الرحمة بالمحبوبين ترهيبا من سلوك سبيل المغضوب عليهم، فقد اشتملت البسملة إجمالا على ما حصل في الفاتحة من الإشارة إلى أصول العبادة وفروعها، والترغيب، والترهيب، وأحوال المعاد. والإشارة إلى درجات السعداء، ودرك ضدهم، ولا مانع من كونهما للمبالغة، والمبالغة في أسماء الله تعالى راجعة إلى كثرة التعلق التنجيزي. قاله الهلالي.
(1)
عن أبي هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: لما قضى الله الخلق كتب كتابا عنده: غلبت - أو قال سبقت - رحمتي غضبي، فهو عنده فوق العرش. البخاري كتاب التوحيد، رقم الحديث:7553.
وفي الحطاب: أنهما صفتان للمبالغة من رحم بالكسر بعد نقله إلى فعل بالضم، أو تنزيله منزلة القاصر. انتهى. ولا محذور في كون الأسماء مشتقة من المصدر؛ لأن المحكوم عليه بالاشتقاق هو اللفظ فقط، وهو حادث، والقديم هو المعنى ولا يتصور فيه اشتقاق. وبالله تعالى التوفيق.
وأما إعرابها فإن الباء متعلقة بمحذوف، والمختار كونه فعلا؛ لأن أصل العمل للفعل مؤخر للدلالة على الاهتمام والاختصاص، فيقصد الموحد تخصيص اسم الله بالابتداء للاهتمام، والرد على الكفار حيث كانوا يبدءون بأسماء، ءالهتهم، فيقولون: باسم اللات وباسم العزى، والأولى أيضا أن يقدر العامل المذكور خاصا كأولف هنا، لا عاما كأبدا، والمشروع فيه يعين المحذوف في كل مقام، فيقدر عند القراءة: أقرأ، وعند الشراب: أشرب، وهكذا، وقيل: يقدر اسما مبتدءا، والجار والمجرور هو الخبر، فيتعلق بالكون التام وصفا أو فعلا، فإن جعل الخبر كائن كما هو الصحيح، وبسم الله معموله: ففي رفعه لنيابته عنه ونصبه قولان، قاله الشيخ عبد الباقي.
واعلم أن الظرف بالمعنى الشامل للمجرور إذا وقع خبرا كما هنا على أحد الوجهين المتقدمين، أو وصفا، أو حالا، أو صلة سمي مستقرا بفتح القاف، اسم مكان الاستقرار، لأنه استقر فيه الضمير المنتقل إليه من العامل المحذوف، وإن كان غير الأربعة سمي لغوا لإلغاء الضمير منه، والقدر المذكور واجب الحذف؛ لأن هذا كلام جرى مجرى الأمثال.
واعلم أن مقدرات القرءان ضمائرَ مستترةً أو غيرها معانيها من المعاني القرءانية، وأما ألفاظها فليست منه لأنها معدومة، والاسم مأخوذ من السمو عند البصريين وهو العلو؛ لأن الاسم يعلي مسماه ويرفعه من حالة الجهلية إلى ضدها؛ ولذا يكثرون أسماء الشيء الذي لهم به عناية. وأصله سحو كقنو أو عضد حذفت لامه وعوض عنها همزة الوصل بعد تسكين أوله، ويدل على هذا تصغيره وتكسيره. والفعل وهو سميت وسائر تصاريفه، وعند الكوفيين من الوسم وهو العلامة، وأجابوا عن دليل البصريين بأنه من القلب بجعل الفاء في موضع اللام، ورد بأن البناء كامل التصاريف، وإنما يدعى القلب في ناقصها، وللداني رحمه الله:
واشتق الاسم من سما البصريون
…
واشتقه من وسم الكوفيون
والمذهب القدم الجلي
…
دليله الأسماء والسمي
وفعل التسمية يتعدى بنفسه إلى مفعولين. نحو: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} ، ومثله أسميت بالهمزة كقوله:
والله أسماك سمى مباركا
…
آثرك الله به إيثاركا
وليس من باب ظن؛ لأن المراد من الأول الذات، ومن الثاني مجرد اللفظ، والمفعولان في باب ظن يجب تصادقهما على ذات واحدة، ويجوز هنا في المفعول الثاني جره بالباء ومطاوع سمى يتعدى لواحد فقط. إما بنفسه كقولك: تسميت زيدا أو بالباء، كحديث: (تسموا باسمي ولا تَكنوا بكنيتي
(1)
) ومنه قول بعضهم:
تصدر للتدريس كل مهوَّس
…
بليد تسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا
…
ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها
…
كلاها وحتى سامها كل مفلس
والمهوس بالفتح الذي أصابه الهوس: وهو طرق من الجنون، وفي الاسم ثمان عشرة لغة جمعها بعضهم في قوله:
اسم سم سما سماء وسمه
…
سماة ثلثهن نلت المكرمه
ونظمها الشيخ الأجهوري، فقال:
ثلث من اسم سماء مع سم سمة
…
كذا سماة سمى بَدْءا لهن تف
واسم الجلالة مضاف إليه ما قبله مجرور بالمضاف، وإضافته محضة مقدرة باللام وليست إضافته بيانية الآن مصدوق الأول الألفاظ ومصدوق الثاني الذات: بدليل إتباعه بما بعده من الرحمن
(1)
تسموا باسمى ولا تكنوا بكنيتى صحيح مسلم، كتاب الآداب، رقم الحديث 2134. وفى البخاري بلفظ ولا تكتنوا .. إلخ، كتاب العلم، رقم الحديث 110.
الرحيم وهما نعتان لاسم الجلالة أو الأول بدل أو بيان؛ لأن البيان قد يرد للمدح كالنعت، وعلى هذا يكون الرحيم نعتا للرحمن.
وأما معنى تركيبها فاعلم أن البسملة نقلت من الخبر للإنشاء؛ فهي لإنشاء التبرك لأنه يحصل عند النطق بها أي أفعل كذا، حال كوني متبركا في فعلي بالواجب الوجود الذي هو الله الرحمن الرحيم من الأسماء، وقدم اسم الجلالة لعلميته واختصاصه به تعالى، وكونه أعرف المعارف، وكونه الاسم الأعظم عند الأكثر، وقدم الرحمن على ما بعده لاختصاصه به تعالى، فكان أنسب باسم الجلالة. والله تعالى أعلم.
وخصت التسمية بهذه الأسماء الكريمة للتنبيه على أن الذي يستحق أن يستعان به في الأمور كلها ويتبرك بأسمائه هو الله، المعبود بالحق، المدلول عليه بأولها، المنعم بالمنعم الجليلة والدقيقة، المختص بذلك في الدارين على الحقيقة، المدلول عليه بثانيها وثالثها، فينتقل المعارف بكليته إليه، ولا يتكل في شيء من أمور الدنيا والآخرة إلا عليه، وفي ذكر الوصفين بعد العَلَمِ ترغيب وترهيب، وإشارة إلى جميع الأسماء الحسنى؛ لأن من له المنعم كلها عامها وخاصها لا يكون إلا في غاية الكمال. والله تعالى أعلم قاله الشيخ الهلالي.
واعلم أن الرحمة في اللغة رقة القلب وانعطافه، فتقتضي التفضل والإحسان، ومنه الرحم لانعطافها على ما فيها وحفظها له: وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغاية؛ إذ هي التي يمكن صدورها عنه سبحانه وتعالى، فيراد بالرحمن: المحسن المتفضل بالإرادة والاختيار التي هي تأثيرات دون المبادي لاستحالتها في حقه عز وجل، فلا يراد بها رقيق القلب ولا المتعطف. قاله الشيخ عبد الباقي. ومر أنها اشتملت إجمالا على ما حصل في الفاتحة من الإشارة إلى أصول العبادة وفروعها، والترغيب والترهيب وأحوال المعاد، والإشارة إلى درجات السعداء ودرك ضدهم وأما سبب الابتداء بها فالاقتداء بالقرآن العظيم، وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولامتثال ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، والتأسي بفعل السادة الأخيار والقادة الأحبار، وقد أجمع علماء كل أمة أن الله عز وجل افتتح كل كتاب ببسم
الله الرحمن الرحيم، وفي الجامع الصغير: (بسم الله الرحمن الرحيم مفتاح كل كتاب
(1)
)، (وكان صلى الله عليه وسلم يبدأ بها في رسائله
(2)
)، وفي الحديث: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع
(3)
)، وذو بمعنى: صاحب والبال هنا الشأن، وتنكيره للتعظيم، فقوله صلى الله عليه وسلم: ذي بال، أي شريف يحتفل به ويهتم به وخص الأمر بذي البال، تعظيما لاسم الكبير المتعال، أن لا يذكر في كل ما يعرض مما ليس له بال، وتخفيفا على العباد أن لا يطلب منهم الابتداء به في جميع الأعمال.
ولما كان للموجود أربع وجودات: وجود في العين، ووجود في الذهن، ووجود في العبارة، ووجود في الكتابة، ناسب أن يصدر كل نوع في الوجود بالحق سبحانه؛ فكأنه أشار بذكر اسمه إلى أن أول الموجودات العينية هو الحق سبحانه، وأن أول المعارف الحقيقية معرفة الحق تعالى، وأول الأذكار ذكر اسمه، وأول النقوش نقش اسمه تعالى. أشار له الشيخ عبد الباقي.
ولما كان تأليف هذا الكتاب أمرا ذا بال بدأه المص بها، والباء الداخلة على لفظ بسم الله الرحمن الرحيم لتعدية يُبْدَأ لقصد حكاية البسملة كاملة إلى الرحيم، وقوله أقطع، بدون ضمير منفصل قبله: خبر كُلُّ. ولا حاجة إلى تقدير ضمير قبله مدخول للفاء أي فهو أقطع كما فعله بعضهم، وهو من قطع العضو كفرح فهو أقطع واليد قطعاء كأحمر وحمراء إذا ذهب من قطع أو علة، ويقال للرجل: أقطع وللمرأة قطعاء، وهذا تشبيه بليغ بحذف الأداة والوجه، أي وجه التشبيه، والتقدير هو كالأقطع في النقصان، والقصد به التنفير عن ترك الابتداء بها، وفي رواية أجذم وهو مقطوع الأنف ومقطوع الكف أصلا، وفي رواية أخرى أبتر وهو فاقد الذنب بقطع أو خلقة من جنس ماله ذنب والبسملة كافية في التبرك بها في نفسها، وفي المبدو بها فلا تحتاج إلى بسملة أخرى فاندفع الإشكال بأن البسملة من ذوات البال فيلزم التسلسل، ونظير ذلك المخرج في الزكاة كاف عن نفسه وعن غيره، واستقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالتسمية وكذا
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم مفتاح كل كتاب الجامع الصغير للسيوطي، رقم الحديث:6082.
(2)
البخاري، كتاب التفسير، رقم الحديث:4553.
(3)
كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع المجموع شرح المهذب للنووي، ط دار الفكر، ج 1، ص 73. (انظر الكنز الحديث 2491).
معظم كتب الرسائل، قال الشيخ الهلالي: وقد استقر عمل الناس اليوم على الاكتفاء عنها بالحمد في الرسائل والأسئلة والأجوبة، لأن المقصود ذكر الله تعالى وهو حاصل بالحمد.
وأما حكمها فقد فهم من الحديث أن البسملة أو ما يقوم مقامها تشرع في كل أمر ذي بال وحكمها مختلف، فتجب في الذكاة، وتسن عند الأكل والشرب، وتندب فيما سوى ذلك، وخص من عموم الحديث الصلاة المفروضة عند مالك رضي الله عنه، ولا تشرع في محرم ولا مكروه بل تكره فيهما، وقيل: تحرم في المحرم.
وذكر السعد في شرح العقائد النسفية أن التسمية عند الفواحش ردة والعياذ بالله تعالى، واتفق العلماء على استحبابها في ابتداء القرآن العظيم في غير الصلاة. قاله الهلالي. وفي كتاب الأمير أنها: تحرم في ابتداء براءة، عند ابن حجر، وقال الرملي بالكراهة، وأما في أثنائها فتكره عند الأول وتندب عند الثاني ولا أعلم نصا لأصحابنا، والظاهر موافقة الرملي فإن الحرمة إنما تظهر على جعلها أول كل سورة من القرآن، فكأنه أدخل فيه ما ليس منه وليس ذلك مذهبنا. انتهى.
واختلف فيما إذا كان الكتاب كله شعرا، فعن الشعبي منع ذلك، وعن الزهري مضت السنة أن لا يكتب في الشعر بسم الله الرحمن الرحيم، وعن سعيد بن جبير جواز ذلك وتابعه على ذلك الجمهور، وهذا في غير الشعر المحتوي على علم أو وعظ فهذا لا شك في دخوله في كتب العلم، ومن المحتوي على علم ما اشتمل على مدحه صلى الله عليه وسلم وفي غير الشعر المحرم فإن التسمية لا تشرع فيه. قاله الهلالي. وقال الشيخ الأمير: ويعرض للتسمية الوجوب بخصوصها إذا نذرت، وهل ولو في الفرض نظرا لذات الذكر كصوم رابع النحر؟ انتهى. وسيأتي أن الواجب في الذكاة مطلق اسم الله. انتهى.
وقال الهلالي: يطلب التعوذ في ابتداء قراءة العلم لأنه إذا طلب في القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالعلم أحرى وقال صاحب المدخل في كيفية شروع العالم في التدريس: يفتتح الإقراء فيستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ليكفى شر في مجلسه، ثم يسمي الله تعالى ليعتزله الشيطان؛ لأن كل شيء سمي الله تعالى في أوله لم يحضره الشيطان، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لتحصيل البركة في مجلسه، ثم يترضى عن الصحابة لأنهم الذين نقلوا
ما جلس له، ثم يتبرأ من حوله وقوته بقوله: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثلاثا، ولو قالها سبعا لحسن اه.
وكذلك كان المحققون من العلماء يفعلون في ابتداء قراءة العلم والرسائل وقدم التعوذ على البسملة؛ لأنه من درء المفاسد وهو مقدم على جلب المصالح، وقد نص العلماء على أنه لا ينبغي أن يفصل بين البسملة والقرآن بشيء، فمن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم بعد البسملة ولم يعد التعوذ فكأنه ترك التعوذ أصلا. وأما غير القراءة فزيادة الصلاة فيه بعد البسملة حسنة وأما فضلها، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: وقد سئل عن بسم الله الرحمن الرحيم (اسم من أسماء الله تعالى، وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين وبياضها من القرب
(1)
)، وصحح الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله له بكل حرف أربعة آلاف حسنة، ومحا عنه أربعة آلاف سيئة، ورفع له أربعة آلاف درجة
(2)
). وقال صلى الله عليه وسلم: (يا علي إذا وقعت في ورطة فقل بسم الله الرحمن الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإن الله يصرف بها ما شاء من أنواع البلاء
(3)
)، وقال صلى الله عليه وسلم:(من قال بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، صرف الله عنه سبعين بابا من البلاء أدناها الغم والهم واللمم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يصبح بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عشر مرات خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ويدفع الله عنه اثنين وسبعين بابا من البلاء أدناها الجذام والبرص، ويوكل الله تعالى به سبعين ملكا يستغفرون له إلى الليل)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ستر ما بينكم وبين الجن أن تقولوا بسم الله الرحمن الرحيم
(4)
)، وقال صلى الله عليه وسلم: (خير الناس وخير من مشى على الأرض المعلمون كلما خلق الدين جددوه
(1)
هو اسم من أسماء الله تعالى وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين وبياضها من القرب. المستدرك للحاكم، ج 1، ص 552.
(2)
الدر المنثور، ج 1 ص 10. ولم نطلع عليه في الحاكم.
(3)
عن علي رضى الله عنه، قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أعلمك كلمة إذا وقعت في ورطة قلتها؟ قلت: بلى جعلنى الله فداك، فرب خير قد علمتنيه، قال: إذا وقعت في ورطة، فقل: بسم الله الرحمن الرحيم، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإن الله عز وجل يصرف بها ما شاء من أنواع البلاء. الدعاء للطبرانى، رقم الحديث:1961.
(4)
ستر ما بينكم وبين أعين الجن إذا انفرد أحدكم يقول: بسم الله. الرابع من علل الدارقطني، رقم الحديث:110.
أعطوهم ولا تستأجروهم، فإن المعلم إذا قال للصبي: قل بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، كتب الله تعالى للصبي ولوالديه وللمعلم براءة من النار
(1)
.
ومر عيسى صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه بقبر فرأى ملائكة العذاب يعذبون ميتا، فلما قضى حاجته مر على القبر فرأى ملائكة الرحمة معهم أطباق من نور نزلوا عليه، فتعجب من ذلك فصلى ودعا الله تعالى، فأوحى الله تعالى إليه يا عيسى: كان هذا العبد عاصيا وكان في عذابي وقد ترك امرأة حبلى فولدت ولدا فربته ثم إنها أسلمته للمعلم فلقنه بسم الله الرحمن الرحيم فاستحييت أن أعذبه وولده يذكر اسمي، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة أحد إلا بجواز بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله لفلان بن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية
(2)
)، والجواز الصك فيه الأمان، والجواز أيضا الماء الذي يسقاه المال من الماشية والحرث، قال الراجز:
يا قيم الماء فدتك نفسي
…
عجل جوازي وأقل حبسي
قال في الصراط المستقيم: إذا تليت البسملة عند النوم إحدى وعشرين مرة أمن تلك الليلة من الشيطان الرجيم ومن السرقة وموت الفجأة؛ وهي دفع لكل بلاء، وإذا تلاها في وجه ظالم خمسين مرة ذل له وألقى الله في قلبه الهيبة، وإذا تليت في أذن المصروع إحدى وأربعين مرة أفاق، وإذا تلاها عند طلوع الشمس وهو مقابل لها ثلاثمائة مرة، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم مائة مرة رزقه الله من حيث لا يحتسب، ولا يحول عليه الحول إلا وقد أغناه الله تعلى ببركة بسم الله الرحمن الرحيم وقيل: إنها اسم الله الأعظم، وإذا تلاها المسجون أو تليت له ثلاثة أيام كل ليلة وكل يوم ألف مرة خلصه الله تعالى. اهـ.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أول ما كتب القلم بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا كتبتم كتابا فاكتبوها أوله فإنها مفتاح كل كتاب) ولا نزل بها جبريل أعادها ثلاثا، وقال: هي لك ولأمتك
(1)
خير الناس وخير من يمشي على جديد الأرض المعلمون كلما خلق الدين جددوه. الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص 277.
(2)
لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله لفلان بن فلان، أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية المعجم الأوسط للطبراني، رقم الحديث:2987.
فمرهم لا يدعونها في شيء من أمورهم، فإني لم أدعها طرفة عين منذ نزلت على أبيك آدم وكذلك الملائكة.
وأما كتابتها، فعن أنس رضي الله عنه مرفوعا: (إذا كتبتم كتابا فجودوا بسم الله الرحمن الرحيم تقض لكم الحوائج وفيه رضى الرحمن
(1)
)، وعن ابن مسعود مرفوعا أيضا: (من كتب بسم الله الرحمن الرحيم فلم يعور الهاء التي في اسم الله، كتب الله له عشر حسنات؛ ومحا عنه عشر سيئات: ورفع له عشر درجات
(2)
). وقال صلى الله عليه وسلم: (من كتب بسم الله الرحمن الرحيم وجودها تعظيما لله تعالى غفر الله له ومن رفع قرطاسا من الأرض فيه بسم الله الرحمن الرحيم إجلالا لله تعالى أن يداس، كتب عند الله من الصديقين) ورأى علي رضي الله عنه رجلا يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: جودها؛ فإن رجلا جودها فغفر له، وكان صلى الله عليه وسلم يكتب باسمك اللهم، فلما نزلت في سورة هود:{بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} كتب بسم الله، فلما نزلت في سورة سبحان:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} كتب بسم الله الرحمن، فلما نزلت في سورد النمل {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كتب بسم الله الرحمن الرحيم. قوله:{بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} مجريها مبتدأ وخبره بسم الله، والمعنى بسم الله إجراؤها وإرساؤها، لا بهبوب الريح ولا بالمرسى. هذا هو الراجح، وجعل بعضهم قوله: بسم الله، متعلقا باركبوا حالا أي اركبوا فيها بسم الله أي قائلين بسم الله وقت إجرائها وإرسائها، أو مكانهما على أن المجرى والمرسى للوقت أو للمكان أو للمصدر والمضاف محذوف كقولهم ءاتيك خفوق النجم، وانتصابهما بما قدر حالا قاله الشيخ عبد الباقي.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَلِق الدواة وحرف القلم، وأقم الباء، وفرق السين، ولا تعور الميم، وحسن الله، ومد الرحمن، وجود الرحيم، وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك
(3)
). انتهى. يقال: لاق الدواة ليقا كباع، وألاقها رباعيا إذا أصلحها، ولاقت هي
(1)
إذا كتبتم كتابا فجودوا بسم الله الرحمن الرحيم تقضى لكم الحوائج. اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، ج 1، ص 203.
(2)
من كتب بسم الله الرحمن الرحيم ولم يعور الهاء التى في الله كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة. اللآلى المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، ج 1، ص 184.
(3)
الشفاء، ج 1 ص 357. فتح الباري، ج 12، ص 66.
صلحت لازم متعد، والمراد بصلاحها أن يلزق مدادها على صوفة، والأمر من الثلاثي لِقْ كيع، ومن الرباعي ألِقْ كأفِق، ومنه ألق الدواة أي أصلحها وهيئها للكتابة حتى لا تتعب في الكتب، ومعنى حرف القلم اقطعه قطعا محرفا، بأن يجعل طرف أحد شقيه أطول من الآخر قليلا، قال بعضهم: الأيمن هو الذي يجعل أطول والأقصر هو الذي يلي الكاغد عند الكتابة، ومعنى أقم الباء اجعلها قائمة معتدلة غير منعطفة، ومعنى فرق السين بَعِّدها من الميم، بأن يجعل بينهما فرجة. قاله بعضهم. ويحتمل أن يكون المعنى فرق رؤوسها الثلاثة بعضها من بعض لئلا تختلط، ومعنى لا تعور الميم بعين مهملة لا تطمسها واتركها مفتوحة، ومعنى حسن الله اكتب لفظة الجلالة كتابة حسنة بخط حسن، وقلم حسن، ومداد حسن تعظيما لله تعالى، ومعنى مد الرحمن أن يمد بين الميم والنون ولعله - والله أعلم - للتنبيه على أن الألف بينهما محذوفة، ومعنى جود الرحيم اكتبه كتابة جيدة. والله أعلم.
والباء ترسم طويلة، قال بعضهم: قدر نصف الألف، والألف قدرها موكول إلى العرف، فالقدر الذي جرى به عرفك في الكتابة للألف اجعل الباء نصفه، وتحذف بعدها الألف التي هي صورة همزة الوصل لكثرة الاستعمال خطا، ولا تحذف في غير اسم الله كباسم ربك خلافا للأخفش، ولأجل حذف الهمزة من بسم الله طولت الباء، ولكونها أول حروف كتاب الله تعالى تعظيما لها، وتحذف خطا ألف الجلالة التي قبل الهاء وألف الرحمن التي بين الميم والنون، ولا يجوز حذفهما لفظا، وفي حديث الشفاء: (لا تمدوا بسم الله الرحمن الرحيم
(1)
)؛ أي لا تمدوا باءها أي لا تجعلوها ألفا كاملة، فلا ينافي تطويلها نصف ألف. كما مر، ويؤخذ منه أن عدم تطويل الباء على الوجه المذكور مطلوب. قاله الشيخ عبد الباقي. وحروفها الرسمية تسعة عشر عدد الزبانية، فمن ذكرها جعل الله له بكل حرف منها نجاة من كل واحد منهم.
وأما قرآنيتها فاعلم أن في البسملة في غير النمل - فإنها آية منها بالاتفاق - عشرة أقوال: الأول أنها ليست من السور أصلا، الثاني أنها آية من جميعها غير براءة، الثالث أنها آية من الفاتحة
(1)
لا تمدوا بسم الله الرحمن الرحيم. الشفاء للقاضي عياض، ج 1 ص 357.
دون غيرها، الرابع أنها بعض آية فيها فقط، الخامس أنها آية فذة لبيان رؤوس السور أو للفصل؛ السادس أنه يجوز جعلها آية منها وجعلها ليست منها بناء على أنها أنزلت بعضا منها ولم تنزل مرة أخرى لتكرر النزول استقلالا أو لمدارسة جبريل عليه السلام في كل سنة، وهكذا سائر القراءات وهو المشار إليه في حديث: (أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف
(1)
)، السابع أنها بعض آية من جميع السور: الثامن أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور، التاسع عكسه، العاشر أنها آيات فذة أنزلت مرارا. واعلم أن البسملة تقال في بسم الله فقط، وفي بسم الله الرحمن الرحيم، وأما التسمية فتطلق على ما فيه ذكر الله بأي اسم.
(1)
انزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف. الاستذكار، رقم الحديث: 265 كنز العمال، ج 2، رقم الحديث:3094.
- النسائي، كتاب الافتتاح، رقم الحديث:941.
يقول عبر بالمضارع لأن المحكي به وهو جميع المختصر لا يتم إلا في أزمنة طويلة، العبد هو خلاف الحر فهو بمعنى الملوك؛ وهو صفة غلبت عليها الاسمية، وليس لها فعل، ومصدرها العبودة والعبودية وأصلهما التذلل والخضوع، فيصح إطلاقه على الإنسان الذكر حرا كان أو رقيقا، وعلى المَلَكِ، قال سبحانه وتعالى:{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} ويطلق أيضا على الجن لقول الفاكهاني: لا يطلق إلا على من يصح منه التكليف والجن مكلفون، والأنثى أمة، وعلى هذا تقود المرأة في سيد الاستغفار: خلقتني وأنا أمتك، قال الشيخ الهلالي: قال وقد عرضته على الشيخ الحبيب قدس سره فوافق عليه، وقال الشبراخيتي: وقول الفاكهاني لا يطلق إلا على من يصح منه التكليف يريد في بعض استعمالاته، وفي بعضها يطلق على الرقيق وعلى كل حادث وليس ذلك إلا لله عز وجل، لقوله تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} ، وعلى العبد بالعبادة:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} ، وعلى عبد الدنيا وهو المعتكف على خدمتها، وإياه قصد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله: (تعس عبد الدينار والدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش
(1)
)، وتعس بفتح العين وكسرها هلك وسقط، والخميصة ثوب معلم من خز أو صوف، وانتكس، أي انقلب على رأسه خيبة وخسارات وشيك بكسر الشين المعجمة أي دخلت في جسمه شوكة، والانتقاش نزعها بالمنقاش. انتهى كلام الشيخ إبراهيم. فالعبد على أربعة أضرب، كما قاله غير واحد، قال الشيخ الهلالي كون العبد على أربعة أضرب غير ظاهر لأنها كلها ترجع لمعنى المملوك وحقيقة العبودية الرضى بالقضاء، والصبر على البلاء، والشكر على النعماء، ومراد المؤلف بالعبد عبد الله تعالى أي مملوكه الذي لا يملك معه شيئا في نفسه ولا في غيرها، فما أجدره بالإعانة في أموره عموما، وفيما هو بصدده من تأليف المختصر خصوصا، وإذا أضيف العبد إلى رفيع اكتسب رفعة نحو:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} وأنشدوا في هذا المعنى:
يا عمرو ثأري عند زهراء
…
يعرفه السامع والراءي
(1)
تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش. صحيح البخاري، رقم الحديث:2887.
لا تدعني إلا بيا عبدها
…
فإنه أشرف أسماءي
وفي المناجاة: كفاني فخرا أن كنت لي ربا وكفاني عزا أن كنت لك عبدا، وإن أضيف إلى وضيع اكتسب ضعة نحو: تعس عبد الدينار والدرهم، وقولهم هو عبد بطنه.
والعبادة: هي امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، ونقل في رياض الصالحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا وصمتم حتى تكونوا كالأوتار لا تقبل منكم إلا بورع صادق
(1)
) وأنه قال (يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس
(2)
) وفيه عن وهب المكي إنما العبادة الورع وفيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (جلساء الله غدا أهل الورع والزهد في الدنيا
(3)
) وفيه (إن الله سبحانه وتعالى قال لموسى عليه السلام إنه لن يتزين لي المتزينون بشيء خير لمن الزهد في الدنيا ولم يتقرب إلي المتقربون بشيء خير من الورع عما حرمت قال يا رب فبماذا أثبتهم يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين قال أما الزاهدون يا موسى في الدنيا فإني أثبتهم بالجنة يتبوءون منها حيث يشاءون وأما الورعون يا موسى فإنه لا يحضر حاضر الحساب يوم القيامة إلا ناقشته ونصبته للحساب إلا أهل الورع فإني أجلهم وأستحيي منهم أن أسألهم عن شيء وأما الباكون من خشيتي فإنهم أهل الرفيق الأعلى
(4)
) وفيه أن هؤلاء الأخيرون هم أفضل الثلاثة. [فقير] من فقر ككرم وتعب ومعناة المحتاج، ويقال للأنثى فقيرة وجمعها فقراء كالمذكر، ومثلها سفيهة وسفهاء ولا نظير لهما اعترف بالعجز والضعف استجلابا لرحمة المولى الكريم.
إن لله رحمة وأحق النـ
…
ـاس منه بالرحمة الضعفاء
(1)
لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار، ثم كان الاثنان أحب إليكم من الواحد لم تبلغوا الاستقامة. مسند إبراهيم بن أدهم، رقم الحديث:1697.
(2)
يا أبا هريرة، كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قنعا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا. سنن ابن ماجه، رقم الحديث:4217.
(3)
جلساء الله غدا، أهل الورع والزهد في الدنيا. الورع لابن أبى الدنيا، رقم الحديث:6373.
(4)
انظر الدينوري، الحديث:1958.
وهو مشتق من انكسار الفقار -وهو الظهر- الذي لا تبقى معه قدرة، والإنسان ضعيف خلق من ضعف قال تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} أي من جوهر ضعيف وهو ماء مهين والماء لا صلابة فيه ولا اشتداد فقوله من ضعف على سبيل المبالغة.
واعلم أن مذهب الجمهور -واختاره العسقلاني والسيوطي وهو الأصح- أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر؛ لأن الغني يوجر من وجوه منها الشكر ومنها الصبر على ما يعطيه من الزكاة ومنها الإنفاق على من يلزمه الإنفاق عليه وغير ذلك والفقير يوجر من وجهين أحدهما الصبر على الفقر مع الرضى والشكر، والثاني تصرفه فيما لا بد له منه من نفقة نفسه ومن تلزمه نفقته، ويدل له حديث سعد في الوصايا (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة
(1)
) وحديث كعب بن مالك حين استشار في الخروج عن ماله كله فقال (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك
(2)
) وحديث (ذهب أهل الدثور بالأجور
(3)
) وفي ءاخَرَ (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
(4)
) وحديث (نعم المال الحسالح للرجل الصالح
(5)
) وقيل إن الفقير الصابر أفضل وإليه ذهب جمهور الصوفية، وقيل إن الذي أعطي الكفاف أفضل لقوله تعالى {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} الآية ولقوله صلى الله عليه وسلم (اللهم اجعل رزق ءال محمد كفافا
(6)
) وحديث (اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا
(7)
معناه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إنما سأل المسكنة التي معناها يرجع إلى التواضع، وإلى استكانة القلب لله عز وجل وأن لا يكون من الجبارين لا المسكنة التي هي نوع من الفقر على أن الحديث ضعيف ومحل الخلاف فيمن يصلح حاله بالفقر والغنى بأن يقوم بوظائف الغنى من البذل والإحسان والمواساة وأداء حقوق المال إذا استغنى ويقوم بوظائف الفقر كالرضى والصبر والقناعة إذا
(1)
صحيح مسلم، كتاب الوصية. رقم الحديث: 1628 إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس. صحيح البخاري، كتاب الدعوات، رقم الحديث:6373. وفي الوصايا: إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس. صحيح البخاري، رقم الحديث:2742.
(2)
أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك صحيح البخاري، كتاب الوصايا، رقم الحديث:2757.
(3)
ذهب أهل الدثور بالأجور. صحيح مسلم، كتاب الزكاة، رقم الحديث:1006.
(4)
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء صحيح مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث 595.
(5)
الإتحاف، ج 8 ص 149. نعم المال الصالح للرجل الصالح. شعب الإيمان للبيهقي، رقم الحديث:1186.
(6)
اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا. السنن الكبرى للنسائي، رقم الحديث:11809. وفي مسلم اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا. رقم الحديث: 1055.
(7)
اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين. سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، رقم الحديث:4126.
افتقر، والغني الشاكر هو الذي يكتسب المال من المباح وينفقه في المباح والمطلوب. المضطر اسم مفعول من الاضطرار وهو افتعال من الضرورة والمضطر الملجأ وهو الذي بلغ الغاية في الاحتياج وألجأته الضرورة فلا يرى لنفسه حولا ولا قوة ولا سببا يعتمد عليه إلا إغاثة مولاه كالغريق في البحر والضال في القفر فهو أخص من الفقير فيصح كونه نعتا له أو لمنعوته، قاله الهلالي: والفقر والمسكنة لا زمان للاضطرار، وذلك موجب لإسراع مواهب الحق للعبد، وقوله المضطر هذا اللفظ مما يتحد فيه اسم الفاعل واسم المفعول لفظا لا تقديرا نقله الخرشي.
لرحمة يتنازعه كل من المضطر والفقير وأعمل فيه الثاني والأول في ضمير، واللام بمعنى إلى بدليل، إلا ما اضطررتم إليه، أنتم الفقراء إلى الله وتقدم تفسير الرحمة. ربه أي مالكه وأصل الرب مصدر. وهو أي الرب بالمعنى المصدري تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، وسمي به السيد لأنه يحفظ مملوكه ويربيه: ويقال رباه تربية وربه ربا فالمعنى واحد، وقيل أصله رابٌّ فخفف بحذف الألف كما قيل بر في بار لكثرة الاستعمال، ويختص المُحَلَّى بأل بالله تعالى وقول الجاهلية للملك من الرب من كفرهم، وفي التعبير به دون غيره من الأسماء اعتراف بتربية الله تعالى له بنعمة التي لا تحصى في كل لحظة من أن كان نطفة إلى أن بلغ ما بلغ، والضمير عائد إلى العبد أو إلى أل الموصولة، والإضافة محضة على معنى اللام وفيها من التلذذ واستدعاء الرحمة ما لا يخفى على من له ذوق، وفي لفظ رب خصوصية لا توجد في غيره من الأسماء؛ لأنك إذا قرأته طردا كان من أسمائه تعالى، وإذا قلبته كان اسما من أسمائه عز وجل، ويطلق لفظ رب على المالك كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لرجل (أرب إبل أنت أم رب غنم
(1)
) ومنه قول صفوان بن أمية لأبي سفيان لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن، وعلى المربي (ومنه الربانيون لأنهم يربون الناس بصغار العلم قبل كباره
(2)
): ولا مات ابن عباس رضي الله عنهما قيل مات رباني هذه الأمة. واعلم أن وجوه تربيته تعالى لخلقه لا يحيط بها غيره سبحانه
(1)
أرب إبل أنت، أم رب غنم؟. السنن الكبرى للنسائي، رقم الحديث:11090. ومسند أحمد بن حنبل، بلفظ: أرب إبل أنت أو رب غنم. رقم الحديث 16777.
(2)
ويقال الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره. البخاري، باب العلم قبل القول والعمل.
وتعالى عز وجل فمنها: تربيته النطفة في الرحم تصير علقة ثم مضغة ثم تتنوع إلى أجزاء مختلفة في كل منها قوة خاصة فسبحان من أبصر بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم إلى غير ذلك من البدائع التي لا تنحصر.
المنكسر، أي المتألم، والانكسار في الأصل تفرق أجزاء الشيء الصلب كالعظم يقال كسره كضربه فانكسرت وكسره تكسيرا فتكسر شدد للمبالغة وعبر هنا بالانكسار عن التألم لأنه سببه فهو مجاز مرسل، وهو ما كانت علاقته غير المشابهة كالسببية هنا وما كانت علاقته المشابهة استعارة كالأسد للمقدام، ووصف نفسه بذلك لا ورد أن موسى صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه قال (إلهي أين أجدك قال عز وجل عند المنكسرة قلوبهم
(1)
).
خاطره؛ أي قلبه فاعل، وأصل الخاطر ما يقع في القلب من الأمور يقال خطر في قلبي كذا وخطر عليه يخطر خطرا من باب ضرب، وخطر يخطر خطورا من باب قعد فهو خاطر ثم أطلق على القلب لكونه محلا له فهو مجاز مرسل وما يقع في النفس إن عزم على فعله يعاقب عليه إن كان معصية ويثاب عليه إن كان طاعة، ويسمى عزما فإذا عزم على الزنى مثلا فإن ذلك ذنب وسيئة ليست كالزنى في الإثم كما جزم بذلك غير الباقالاني، وتردد هو أي الباقلاني في ذلك قاله الشيخ عبد الباقي. وإن رجح فعله دون تصميم فهو مثاب عليه غير معاقب عليه فضلا من الله ونعمة، ويسمى هَمًّا وإن تردد فيه على السواء أو رجح تركه أو مر بالبال ولم يستقر بل ذهب بنفس ما وقع في القلب فهذا غير مثاب عليه ولا معاقب عليه: والخواطر أربعة: رباني وملكي وهما بخير والفرق بينهما أن الأول يدوم والثاني يزول، ونفساني وشيطاني وهما بشر والفرق بينهما كالفرق في اللذين قبلهما لـ أجل قلة علة للانكسار وهي ضد الكثرة وقد تستعمل في العدم نحو:
قلما يبقى على هذا القلق
…
صخرة صماء فضلا عن رمق
أي لا يبقى لأن فضلا لا يجيء في الإيجاب ويحتمل أن تكون في كلام المؤلف بمعنى العدم مبالغة في تواضعه رضي الله عنه. العمل مضاف إليه ما قبله، والمراد العمل الصالح بقرينة قوله المنكسر
(1)
انظر المقاصد الحسنة للسخاوي، ص 185.
خاطره، والعمل الصالح هو الطاعة وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، والعمل حركة البدن أو جزئه فيشمل القول والفعل ظاهرا أو باطنا، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} قاله الهلالي.
والتقوى أي صيانة النفس عن مخالفة أمر مولاها فَعْلَى من الوقاية، وهي الصيانة فتاؤها عن واو وواؤها عن ياء، وهي في الشرع اسم لا يقي به الإنسان نفسه عما يضرها في الآخرة قاله غير واحد. وسئل سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه عن التقوى فقال: هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل. ولله در القائل:
ولا عيش إلا مع رجال قلوبهم
…
تميل إلى التقوى وترتاح للذكر
ولبعضهم.
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى
…
تقلب عريانا وإن كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعة ربه
…
ولا خير فيمن كان لله عاصيا
وهذا تواضع من المص رحمه الله تعالى لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم (من تواضع دون قدره رفعه الله فوق قدره
(1)
) وقال تاج الدين بن عطاء الله: تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه تحقق بذلك يمدك بعزه تحقق بعجزك يمدك بقدرته تحقق بضعفك يمدك بحوله وقوته، ولا تطاولت الجبال طمعا في أن تكون محلا لموسى وتصاغر طور سيناء في نفسه وقال متى أستحق أن أكون محلا لقدم موسى حبي بما حبي به، فمن أراد الرفعة فليتواضع لله تعالى فإن العزة لا تقع إلا بقدر النزول وللتقوى مراتب: اتقاء الكفر وهو مقام الإسلام، واتقاء المعاصي وهو مقام التوبة واتقاء الشبهات وهو مقام الورع، واتقاء المباح وهو مقام الزهد: واتقاء خطور غير الله تعالى على قلبه وهو مقام المراقبة.
وورد في الترغيب فيه {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} {وَمَن
(1)
البحر المديد لابن عجيبة في تفسير سورة الحجرات، ج 6 ص 119.
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث ولله در القائل:
تعصي الإله وأنت تظهر حبة
…
هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته
…
إن المحب لن يحب مطيع
وقال ءاخر:
قالت وقد سألت عن حال عاشقها
…
بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقلت لو كان رهن الموت من ظمإ
…
وقلت قف عن ورود الماء لم يرد
اللهم اجعلنا وأحبتنا من التقين بجاه سيد المرسلين صلى الله تعالى وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. خليل علم منقول من الخلة بالضم وهي صفاء الودة وتطلق الخلة أيضا على الخليل ذكرا أو أنثى كقوله:
ألا أبلغا خلتي عامرا
…
بأن خليلك لم يقتل
وقوله:
ألا قبح الله الوشاة وقولهم
…
فلانة أضحت خلة لغلان
وقد يكون الخليل من الخلة بالفتح وهي الفقر كقول زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسألة
…
يقول لا غائب مالي ولا حرم
وهو بدل أو عطف بيان. ابن إسحاق وكان إسحاق من الأولياء الأخيار وكان حنفيا، لكنه كان يلازم ابن الحاج صاحب المدخل والشيخ عبد الله المنوفي فَشَغَّل ولده مالكيا، وقوله ابن إسحاق بالرفع صفة لخليل مضاف إلى ما بعده وهو إسحاق، وقوله بن بالجر صفة لإسحاق موسى بن شعيب المعروف بابن الجندي، ومن قال يعقوب بدل موسى وهْم قاله الشيخ إبراهيم، وقال الشيخ الحطاب بن إسحاق بن موسى كذا رأيته بخطه في ءاخر نسخة من مناسكه، وذكر ابن غازي في موضح موسى يعقوب ويوجد كذلك في بعض النسخ وهو مخالف لما رأيته بخطه اهـ وقال الشيخ
الناصر اللقاني خليل بن إسحاق بن موسى قال الشيخ عبد الباقي كما في نسخ وهو الصواب كما في التتائي والحطاب وابن حجر، وفي بعض النسخ بعد إسحاق يعقوب ونحوه في ابن غازي وصوابه موسى. انتهى.
وقال التتائي قول ابن غازي إنه ابن يعقوب وهم لأن الذي وجد بخط المصنف موسى انتهى وقال الشيخ الأمير خليل بن إسحاق بن موسى هذا هو الصواب كما في الحطاب وغيره وقد وهموا ابن غازي في إبدال موسى بيعقوب اهـ وقال السوداني من قال ابن يعقوب فقد أخطأ.
ويكنى المص بأبي محمد وأبي الضياء وأبي المودة ويلقب بضياء الدين، وهو الإمام العالم العلامة العامل القدوة الحجة الفهامة حامل لواء المذهب في زمانه بمصر. كان متقشفا منقبضا عن أهل الدنيا جامعا بين العلم والعمل مقبلا على نشر العلم قال ابن فرحون: حضرت بالقاهرة مجلس إقرانه الفقه والحديث والعربية كان صدرا في علماء القاهرة مجمعا على فضله وديانته أستاذا من أهل التحقيق ثاقب الذهن أصيل البحث مشاركا في فنون من فقه وعربية وفرائض فاضلا في مذهبه صحيح النقل نفع الله به المسلمين، ألف شرح ابن الحاجب شرحا حسنا وضع الله عليه القبول وعكف الناس على تحصيله. ومختصرا في المذهب بين فيه المشهور مجردا عن الخلاف فيه فروع كثيرة جدا مع الإيجاز البليغ أقبل عليه الطلبة ودرسوه وكانت مقاصده جميلة، حج وجاور وله مناسك وتقاييد مفيدة اهـ وكان رضي الله تعالى عنه صينا عفيفا من أهل الدين والصلاح والاجتهاد في العلم إلى الغاية حتى إنه لا ينام في بعض الأوقات إلا شيئا يسيرا بعد طلوع الفجر يريح النفس من جهد المطالعة والكتب، وكان مدرس المالكية بالشيخونة: وهي أكبر مدرسة بمصر وبيده وظائف أخر تتبعها وكان يرتزق على الجندية لأن سلفه منهم، وله شرح على المدونة وصل فيه إلى كتاب الحج وكان عاملا مشتغلا بما يعنيه حتى حكي أنه أقام عشرين سنة لم ير النيل بمصر وذكر ابن غازي عنه أنه جاء يوما لمنزل بعض شيوخه فوجد كنيف المنزل مفتوحا ولم يجد الشيخ هناك فسأل عنه فقيل له إنه شوشه أمر هذا الكنيف؛ فذهب يطلب من يستأجره على تنقيته فقال خليل أنا أولى بتنقيته فشمر ونزل ينقيه، فجاء الشيخ فوجده على تلك الحالة، والناس قد
حلقوا عليه تعجبا من صنعه فقال: من هذا فقالوا: خليل فاستعظم الشيخ ذلك وبالغ في الدعاء له من قريحة ونية صادقة فنال من بركة دعائه ووضع الله تعالى البركة في عمره اهـ.
وكان من أهل المكاشفات وريء الشيخ خليل في النوم بعد وفاته فقيل له ما فعل الله بك فقال: غفر لي ولكل من صلى علي، وبقي رضي الله تعالى عنه في تأليف مختصره نيفا وعشرين سنة ولخصه في حياته إلى النكاح وباقيه وجد في تركته في أوراق المسودة فجمعه أصحابه وضموه لما لخص منه فكمل الكتاب، وتوفي رحمه الله ثالث عشر ربيع الأول سنة ست وسبعين وسبعمائة ذكره ابن مرزوق عن الإسحاقي ونحوه لابن غازي، وذكر ابن حجر أن وفاته في ربيع سنة سبع وستين وسبعمائة والأول هو الأشبه. ووقعت بين الشيخ خليل والرهوني منازعة في مسألة فدعا عليه خليل فتوفي الرهوني بعد أيام وللشيخ الهلالي رحمه الله تعالى:
إن ابن إسحاق خليلا قد وصل
…
لربه عام خليلي وصل
كذا ابن عسكر كذا العبدوسي
…
كابن الخطيب البارع الرئيس
العبدوسي المذكور هو أبو عمران موسى بن محمد بن معطي العبدوسي الحافظ الفهامة كان من آيات الله في معرفة المدونة قرأها أربعين سنة بفاس، وله مجلس لم يكن لغيره يحضره الفقهاء والمدرسون والصلحاء كابن عباد والرجراجي والهواري نفعنا الله تعالى بهم ودفن الشيخ خليل حذاء ضريح شيخه المنوفي ومما قيل في مدح مختصر الشيخ خليل:
كتاب خليل منبع النور والهدى
…
فحسب الفتى في أن يكون خليله
يفيد أولي الألباب علما وسؤددا
…
فيا رب يسر بالهدى مدخلي له
ومما قيل فيه أيضا:
أطلاب علم الفقه مختصر الرضى
…
خليل لكم فيه الحياة فعيشوا
فلله بيت ضمنوه مديحه
…
به يهتدي من في الأنام يطيش
سلام على الدنيا إذا لم يكن بها
…
خليل بن إسحاق الإمام يعيش
المالكي هذه النسبة تزيد شرفا؛ وهي نسبة إلى الإمام مالك نسبة اقتداء وهو بالرفع نعت لخليل ولما كان الفقه الذي تضمن هذا المختصر جله منقول وبعضه منقول من منقول، وقد قالوا ما كان من العلوم معقولا صرفا كالمنطق والحساب فبرهانه في نفسه ولا يحتاج إلى صرفة قائله إلا من حيث كونه كمالا فيه وما كان منقولا صرفا كعلم الحديث رواية فهو موكول لأمانة ناقله فلزم البحث عليه لتعرف أمانته من ضدها ولا بد من صرفته وإلا كان الباني على نقله كالباني على غير أساس، وما كان مركبا منهما غلبت فيه شائبة النقل لأن البعض كالكل في التوقف؛ ولهذا نصوا على أن الكتب التي جهل مؤلفوها والطرر التي جهل كاتبها لا يجوز العمل ولا الفتوى بما فيها حتى تعلم صحتها من عدمها كانت معرفة المؤلف من الأمور المهمة شرعا وكذا طبعا لأن ما جهل قائله يصير كولد لم يعرف أبوه قال القائل:
ومن كتب الكتاب لم يذكر اسمه
…
كبنت لها أم وليس لها أب
فلهذا أردف المؤلف البسملة بالتعريف بنفسه. رحمه الله تعالى أتى بجملة الدعاء ماضوية تفاؤلا بالإجابة وإن كان أصل الدعاء بلفظ الأمر كاغفر لنا، وخص الرحمة لأنها تجمع كل خير وذلك لأن الرحمة هي الملائم أيا كان، وأشار إلى أول المحكي بقوله الحمد الفعل منه كسمع، وهو لغة الوصف بالجميل على الجميل الاختياري أو القديم، والوصف ذكر الصفة منسوبة إلى المتصف بها فلا يكون إلا بالكلام، وبالجميل مخرج للوصف بالقبيح فهو ذم وللوصف بما ليس جميلا ولا قبيحا كزيد تميمي إذا قصد مجرد الإعلام بنسبه وعلى الجميل مخرج للوصف بالجميل على غير الجميل كأن يقال للبخيل هو جواد وللجبان ما أشجعه. ومنه {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} وبحث فيه بأن المراد بالجميل معناه لا اللفظ الموضوع له، وإن استعمل في القبيح فقولك في مقام التهكم ما أشجعه معناه ما أجبنه فهو وصف له بالجبن فهو قبيح قاله الهلالي، قال والظاهر أن يقال هو مخرج للوصف بالجميل لقصد مجرد الإعلام لمن يجهل ذلك كقولك فلان قرشي قاصدا مجرد إعلام من يجهل نسبه، ومجموع الاختياري أو القديم مخرج للمدح من حيث هو مدح إذ لا يشترط فيه أن يكون على الاختياري أو القديم فيكون على الحادث المطبوع؛ كمدح اللؤلؤة على
صفائها والجارية على صباحتها فعلم أن الحمد لغة يكون في مقابلة النعمة وغيرها، وأن المحمود به يكون اختياريا وقديما وغيرهما لإطلاقه في التعريف بخلاف المحمود عليه لتقييده بهما، والمحمود به والمحمود عليه قد يتغايران حقيقة كحمدك لشخص بشرف نسبه لأجل سخائه، وقد يتغايران بالاعتبار كحمدك لمن أسدى إليك معروفا جزيلا بإسدائه فمن حيث إظهارك تعظيمه بالإسداء هو محمود به ومن حيث كونه فعلا اختياريا له مقابلا بوصفك إياه هو محمود عليه والحمد شرعا فعل يدل على تعظيم المنعم لإنعامه والمراد بالفعل ما يشمل الاعتقاد كاعتقاد اتصاف المنعم بالجميل والقول وعمل الجوارح كالسجود والخدمة امتثالا لأمره فهو أعم من اللغوي من جهة أنه يكون بالقول وغيره، وأخص منه من جهة أنه لا يكون إلا في مقابلة نعمة بخلاف اللغوي كما مر فبينهما عموم وخصوص من وجه، والأداة في الحمد للحقيقة من حيث هي أولها في ضمن الأفراد وهي التي يقال فيها هي للاستغراق أو للعهد، والمعهود هو حمد الله لنفسه وهو الموفي بما يستحقه تعالى فأمر الخلق -لكونهم في غاية العجز عن توفية حقه- أن يرجعوا إلى حمده لنفسه، فيعترفوا أنه أهل له ومستحقه وفي ضمنه اعترافهم بالعجز، والدح لغة الثناء على الجميل مطلقا اختياريا أم لا على جهة التعظيم، واصطلاحا ما يدل على اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل لله اللام للاستحقاق والجملة للإنشاء أي إنشاء الثناء بالاستحقاق لا إنشاء الاستحقاق لأن استحقاقه تعالى للحمد قديم، أو للاختصاص أو للملك وحينئذ فلا يشمل إلا حمد العباد إذ هو الملوك لا حمد الله لنفسه حمدا مصدر نوعي معمول لمقدر أي أحمده حمدا لا للمبتدإ لأن المصدر لا يخبر عنه قبل تمام معمولاته فالحمد الأول مطلق مشعر باستحقاقه تعالى الحمد لذاته، والثاني مقيد مشعر باستحقاقه إياه لإنعامه قاله الشيخ الهلالي. السنوسي: حكم الحمد الوجوب مرة في العمر كالحج وكلمتي الشهادة والصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى.
وحكم الابتداء به في أول المصنفات وأول الإقراء والقراءة الاستحباب، وقال العلماء: يستحب البداءة بالحمد لكل مصنف ودارس ومدرس وخطيب وخاطب ومتزوج ومزوج وبين يدي سائر الأمور المهمة. الفاكهاني: قلت وكذلك الثناء على الله تعالى وكأنه يريد بالثناء على الله تعالى الزيادة على الحمد والله أعلم قاله الحطاب يوافي أي يقابل، وأصل الموافاة الإتيان وهو يستلزم
اللقي وهو يستلزم المقابلة فاستعمل الموافاة هنا في لازم لازمها قاله الهلالي ما أي الذي تزايد أي زاد، وتفاعل يأتي لموافقة الثلاثي المجرد كتفانى بمعنى فني وتوانى بمعنى ونى، ويمكن بقاؤه على أصله من المشاركة في الفاعلية والمفعولية لأن الحمد نعمة تقتضي زيادة النعمة والنعمة تقتضي زيادة الحمد وهكذا قاله الهلالي من بيانية وتتعلق بمحذوف حال من المبين وهو ما النعم جمع نعمة بالكسر، وهي كل ما تفضل الله به عز وجل مما ينتفع به عاجلا وآجلا، ويصح أن يراد بها الإنعام أي إعطاء النعمة وهو أولى؛ إذ لا بد من اعتباره، والنعمة بالفتح التنعم وبالضم السرور وأعظم النعم الهداية للإسلام، وبجعل من بيانية لا تبعيضية يقع الحمد على جميع النعم وذلك هو المقصود: ولا يقدح في ذلك وصل المبين بتزايد لأن التزايد والزيادة يوصف بهما مجموع الطارئ والمطروء عليه، كما يوصف بهما الطارئ فقط فالأول كقولك تزايد مال زيد أو زاد حتى بلغ الألف ومنه كلام المص، والثاني كقولك تزايد لزيد أو زاد له دينار على الألف.
وأتى المص رحمه الله بالحمدلة بعد البسملة اقتداء بالقرءان العظيم وبالنبي صلى الله عليه وسلم في ابتدائه بالحمد لله في جميع خطبه، وعملا بجميع روايات الحديث السابق ففي رواية (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أقطع
(1)
) وفي رواية (كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم
(2)
).
ولما قدم الحمدين: الحمد المطلق لما تستحق ذات مولانا جل وعلا العلية من اتصافها بكل كمال وتنزهها عن كل نقص: والحمد المقيد لما يغذونا به من نفحاته عز وجل أعقبه بالشكر على ما تضمنه قوله عز وجل {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} من التكريم والتفضيل فقال والشكر هو لغة مرادف للحمد عرفا على الراجح، وقيل تقيد النعمة في الثاني بوصولها إلى الشاكر، وتطلق في الحمد فيكون بينهما عموم مطلق. وعرفا صرف العبد جميع نعم الله فيما خلقت له قاله الهلالي وعلم مما مر أن
(1)
كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أقطع. السنن الكبرى للبيهقي، ج 3، ص 208.
(2)
كل كلام لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم. أبو داود، رقم الحديث:4840.
الشكر اللغوي يطلق على أفعال الموارد الثلاثة: اللسان والقلب والأركان واستشهدوا لذلك بقول الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
…
يدي ولساني والضمير المحجبا
يقول نعماؤكم كثرت عندي وعظمت فاقتضت استيفاء أنواع الشكر وبالغ في ذلك حتى جعل موارده مقابلة للنعمة ملكا لأصحابها مستفادا منها كأن قيل يدي ولساني وقلبي لكم فليس في القلب إلا نصحكم ومحبتكم ولا في اللسان إلا الثناء عليكم والمحمدة ولا في اليد والجوارح إلا مكافأتكم وخدمتكم.
واعلم أن مطلق الاحتمال لا ينافي صحة الاستدلال انظر الخرشي واعلم أن قولهم كذا أخص من كذا موردا وأعم منه متعلقا المراد بالمورد فيه المحل، والمتعلق السبب الباعث عليه والنسب ثلاث فقط لا ستة: واحدة عموم من وجه وهي التي بين الحمدين، واثنان عموم بإطلاق إحداهما فيما بين الشكرين، والأخرى فيما بين لغوي الحمد وعرفي الشكر وهذا بالنظر لشمول متعلق الحمد اللغوي لله تعالى ولغيره واختصاص متعلق الشكر العرفي بالله تعالى. وأما مع عدم النظر لذلك فمتباينان لصدق الحمد اللغوي بالثناء باللسان فقط، والشكرُ العرفي إنما يصدق بذلك مع الثناء بغيره من الجنان والأركان قاله الشيخ الخرشي، ولا يصح أن تعتبر النسبة بين المترادفين: وهما الحمد العرفي، والشكر اللغوي لأن الشيء لا ينسب إلى نفسه لأن النسب أربع: المساواة، والمباينة، والعموم الوجهي، والمطلق، وليس منها الترادف وإنما هو من النسب التي بين اللفظين نعم على القول بعدم الترادف تكون النسب ستا فإن زيد المدح كانت النسب عشرا فإن زيد الثناء واعتبر فيه كونه بالكلام وغيره كان هو أعم من الجميع وكانت النسب خمس عشرة قاله الهلالي. وفي الخرشي أن المدح لغة هو الثناء باللسان على الجميل سواء كان اختياريا أم لا على جهة التعظيم، وعرفا فعل من المادح ينبئ عن تعظيم الممدوح يدل على اختصاص الممدوح عنده عن غيره بنوع من الفضائل جمع فضيلة وهي المزية الذاتية أو الفواضل جمع فاضلة وهى المزية المتعدية؛ سواء كان ذلك الفعل الدال على ما ذكر باللسان أو بالجنان أو بغيرهما من الأركان له
أي لله تعالى على تعليلية متعلقة بالمحذوف الذي تعلق به ما قبله الواقع خبرا ما موصول اسمي صلته أولانا أي أعطانا والعائد محذوف يصح تقديره متصلا ومنفصلا ولا يضر حذف العائد المنفصل إذا كان حذفه لا يفوت غرضا لمن بيانية والمبين ما الفضل والكرم ويراد بالفضل كما تقدم ما دل عليه قوله تعالى {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} وهو ما خصهم به من عوارف المعارف وأكرمهم به من طرائف اللطائف وبالكرم ما دل عليه قوله تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وهو ما خصهم به من الصورة البديعة المشتملة على دقائق الصنعة الرفيعة التي حار فيها الحكماء من الإنسان، وعجز عن استقصاء محاسنها القلم واللسان وهذا المعنى غاية في الحسن وقيل المراد بالفضل هنا في المصنف الإعطاء عن اختيار لغير عوض؛ لأن الفضل والتفضل والإفضال تطلق على الإعطاء عن اختيار لغير عوض وبالكرم الجود وهو: صفة ينشأ عنها بذل الكثير بلا علة والمعنى حينئذ والشكر له على الذي أعطانا إياه من أجل تفضله وجوده مما لا يعد ولا يحصى ولا يستقصى ويحتمل أن تكون ما موصولا حرفيا وعليه فالمفعول الثاني محذوف للإشارة إلى قصور العبارة عن الإحاطة به {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} ومن تعليلية والمعنى حينئذ والشكر له على إعطائه إيانا نعما لا تحصى من أجل إحسانه إلينا وجوده تعالى علينا.
واعلم أن الشكر على ثلاثة أقسام: شكر بالقلب وهو أن تعلم أن المنعم كلها من الله عز وجل {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وشكر باللسان وهو الثناء على الله تعالى وكثرة الحمد والمدح له، ويدخل فيه التحدث بالنعم وإظهارها ونشرها قال الله عز وجل {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وقال سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه تذاكروا النعم فإن ذكرها شكر، ومن شكر اللسان أيضا شكر الوسائط بالثناء عليهم والدعاء لهم وفي حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله
(1)
) وعن أسامة بن زيد أنه صلى الله عليه وسلم قال (أشكر الناس لله أشكرهم للناس
(2)
) شكر بسائر الجوارح وهو: أن يعمل بها العمل الصالح قال تعالى {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} فجعل العمل شكرا وقام صلى الله
(1)
من لم يشكر القليل، لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس، لم يشكر الله عز وجل. مسند أحمد بن حنبل، رقم الحديث:18862.
(2)
أشكر الناس لله، أشكرهم للناس. السنن الكبرى للبيهقي، كتاب البيوع، ج 6، ص 182.
عليه وسلم حتى انتفخت قدماه فقيل له يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال (أفلا أكون عبدا شكورا
(1)
) وسأل رجل أبا حازم فقال ما شكر العينين؟ قال: إذا رأيت بهما خيرا أعلنته وإذا رأيت بهما شرا سترته، قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إذا سمعت بهما خيرا وعيته وإذا سمعت بهما شرا دفنته. قال: فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لك ولا تمنع حقا هو لله بهما، قال فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفله صبرا وأعلاه علما. قال فما شكر الفرج؟ قال: هو كما قال الله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} قال فما شكر الرجلين؟ قال: إن رأيت شيئا غبطته استعملتهما في عمله وإن رأيت شيئا مقته كففتهما عن عمله وأنت شاكر لله تعالى.
لا أحصي أي لا أطيق ومنه {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} ثناء هو ما يشعر بالتعظيم من قول أو غيره يقال أثنى عليه إثناء وثناء فالثناء اسم مصدر، والمصدر القياسي الإثناء والتنكير للنوعية أي نوعا من الثناء وهو الذي يليق بك قاله الخرشي وقال مالك لا أحصي نعمك فأثني عليك بها عليه أي على الله عز وجل أي لا أطيق ثناء عليه تعالى موفيا بحقه وهذه الجملة استئنافية لبيان أن مقابلة الحمد لجميع المنعم إنما ذلك على سبيل الإجمال، وأما التفصيل فالخلق في غاية العجز عنه كيف والتوفيق للحمد نعمة جليلة تقتضي حمدا وهلم جرا قال القائل:
لك الحمد مولانا على كل نعمة
…
ومن جملة النعماء قولي لك الحمد
فلا حمد إلا أن تمن بنعمة
…
تعاليت لا يقوى على حمدك العبد
إذا كان شكري نعمة الله نعمة
…
علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله
…
وإن طالت الأيام واتسع العمر
لو كل جارحة مني لها لغة
…
تثني عليك بما أوليت من حسن
لكان ما زاد شكر واشتكرت به
…
إليك أزيد في الإحسان والمنن
(1)
أفلا أكون عبدا شكورا. صحيح البخاري، كتاب التهجد، رقم الحديث:1130.
تنبيهات: الأول: اعلم أن الثناء قد يراد به الشر لتجانس الكلام كما في الخبر (مُرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثني عليها خيرا فقال وجبت ومُر بأخرى فأثني عليها شرا فقال وجبت
(1)
) قوله خيرا بالنصب وجهه ابن بطال بأنه جعل النائب عليها وإن كان المختار العكس، وقال الإمام النووي منصوب بنزع الخافض فإن قلت كيف مكنوا من ذلك مع النهي الوارد في الحديث الصحيح عن سب الأموات وذكرهم إلا بخير أجيب بأن ذلك في غير الكافر والمتظاهر بالفسق والبدعة وأما المتلبس بذلك فلا يحرم ذكره بالشر للتحذير من طريقته ومن الاقتداء بآثاره، وقيل الثناء يطلق على الذكر بالشر على قلة، وحينئذ فلا مشاكلة قاله الشيخ إبراهيم. الثاني قال الشيخ الحطاب قال الشيخ يوسف بن عمر اختلف في تعيين الفاضل من الحمد فقيل الحمد لله بجميع محامده كلها ما علمت منها وما لم أعلم على جميع نعمه كلها ما علمت منها وما لم أعلم وقيل (اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
(2)
) وقيل (الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده
(3)
) قال وينبني على ذلك مسألة فقهية فيمن حلف ليحمدن الله تعالى بأفضل محامده فمن أراد أن يخرج من الخلاف فليحمده بجميعها انتهى النووي قالوا ولو حلف ليثنين على الله أحسن الثناء فطريق البر أن يقول (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
(4)
) وزاد بعضهم (فلك الحمد حتى ترضى
(5)
) (وقال ءادم صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه يا رب شغلتني بكسب يدي فعلمني شيئا فيه مجامع الحمد والتسبيح فأوحى الله تبارك وتعالى إليه يا ءادم إذا أصبحت فقل ثلاثا وإذا أمسيت فقل ثلاثا الحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده فذلك مجامع الحمد والتسبيح
(6)
) اهـ قوله يكافئ بالهمز في آخره أي يساوي مزيد نعمه ومعناه يقوم بشكر ما زاد من المنعم والإحسان قاله في
(1)
مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، فأثني عليها خيرا، فقال:"وجبت" ومُرَّ بجنازة فأثني عليها شرا، فقال:"وجبت". مسند أحمد بن حنبل، رقم الحديث:12791. وأصله في الصحيحين.
(2)
لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. مسلم في صحيحه، كتب الصلاة، رقم الحديث:486.
(3)
الحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعصه ويكافئ مزيده. الأذكار للنووي، ط دار ابن حزم، ج 1، ص 234.
(4)
لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. مسلم في صحيحه، رقم الحديث:486.
(5)
الأذكار للنووي، ص 102
(6)
الأنكار للنووي، ص 102.
الأذكار. الثالث قد نقل عن القاضي أبي الطيب أنه عاش مائة وستين سنة ولم يختل عضو من أعضائه فقيل له في ذلك فقال: لم أعص الله بعضو منها. وعلم مما مر حقيقة الحمدين والشكرين والمدحين والثناء والله سبحانه أعلم هو أي الله تعالى مبتدأ خبره كما أثنى على نفسه والكاف للاستعلاء المعنوي كقولهم كن كما أنت وما موصول اسمي واقع على جميع كمال الله الذي أثنى به بكلامه القديم على ذاته المقدسة.
ومعنى كون الله على ما أثنى به على نفسه من الكمال اتصافه بذلك الكمال كما تقول فلان على غاية من الجود أي هو متصف بذلك، وأصل الكلام على هذا كما أثنى به على نفسه ثم صار أثناه على نفسه ثم صار أثنى على نفسه ونظيره {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي أنعمت بها ثم أنعمتها ثم أنعمت والمراد بالنفس الذات العلية ولفظ النفس مقحم ليلا يتعدى فعل الفاعل المتصل إلى ضميره المتصل وذلك ممتنع في غير أفعال ليس هذا الفعل منها، وهذه الجملة والتي قبلها مقتبستان من قوله صلى الله عليه وسلم (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
(1)
) ويحتمل في الحديث وفي المتن كون الضمير المنفصل توكيدا وعلى هذا يكون الكلام جملة واحدة؛ أي لا أحصي ثناء عليه مثل ثنائه على نفسه فيكون كما أثنى على نفسه صفة لثناء، ويحتمل أن يكون الضمير للثناء أو لله تعالى على حذف مضاف والكاف للتشبيه ويكون مبتدءا فيهما وما مصدرية، والمعنى عليهما ثناؤه تعالى الذي يستحق مثل ثنائه على نفسه ولا طاقة لمخلوق أن يأتي بثناء مثل ثنائه على نفسه: فهذه أربع احتمالات؛ ثلاثة وهي ما سوى الثاني كل واحد منها مشتمل على ثناءين وواحد مشتمل على واحد قاله الشيخ الهلالي. ونسأله أي نطلبه ونونه نون المشاركة إدخالا لسائله في مقام الطلب هذا هو الظاهر، وقال الشبراخيتي وأورده بنون العظمة لقوله صلى الله عليه وسلم ليس منا من لم يتعاظم بالعلم أي ليس منا من لم يعتقد أن الله تعالى جعله عظيما بالعلم حيث جعله محلا له وموصوفا به ولم يسترذله بحيث حظره عليه ومنعه منه وفي الحديث (إذا استرذل الله عبدا حظر عليه العلم والأدب
(2)
) أو ما هذا معناه، وليس المراد
(1)
لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، رقم الحديث:486.
(2)
ما استرذل الله عبدا إلا حظر عنه العلم والأدب. مسند الشهاب، رقم الحديث:795.
بتعاظمه احتقار غيره. اللطف أي الرفق بنا يقال لطف الله بعباده من باب نصر هذا معناه لغة، وعند المتكلمين التوفيق لما به صلاح العباد في العاقبة والأول هو المراد لقوله وحال حلول إن قيد بالمجرور الآتي وإلا فتصح إرادة المعنيين، ويقال ألطفته بكذا رباعيا أي أتحفته به، ويقال لما ألطفت به غيرك لَطَفا ولَطَفة بفتحتين فيهما ويقال لطف ككرم لطافة بالفتح رق ضد غلظ وخفي ضد ظهر يقال عود لطيف أي رقيق ومعنًى لطيف أي خفي.
والإعانة أي ونسأله الإعانة وهي الإظهار على الأمر والتقوية عليه والاستعانة طلب الإعانة والله المستعان والمعونة بضم المعين، والمعانة بفتح الميم ما أعنت به غيرك والعون اسم مصدر كالمعونة ويكون بمعنى المظاهر على الأمر المعين عليه يطلق على الواحد وغيره ذكرا أو أنثى ويجمع على أعوان وعاونه أعانه وتعاونوا أعان بعضهم بعضا {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} في جميع يتنازعه اللطف والإعانة ويحتمل أن يخص به الثاني كما مر والجميع اسم وضع لاستغراق أفراد أو أجزاء ما يضاف إليه.
الأحوال جمع حال وهي الصفة التي يكون عليها الإنسان من صحة وسقم وغيرهما وتأنيثها أفصح من تذكيرها وقد يطلق على الزمن وكلاهما صحيح هنا وحال أي زمن حلول أي نزول يقال حل يحل بالضم نزل وحل عليه العذاب يحل بالكسر وجب قال تعالى {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} وهو من الأول وقال تعالى {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي} وهو من الثاني ويقال على الأول في المكان محل بالفتح على القياس ومحل بالكسر شذوذا، الإنسان أراد به نفسه ومن شركه في دعائه قاله الشيخ الهلالي والإنسان يطلق على الواحد من البشر ذكرا أو أنثى في رمسه هو في الأصل مصدر رمست الريح الأرض أي سترتها بالتراب ورمست الخبر كتمته ثم نقل إلى تراب القبر ثم إلى القبر نفسه وهو المراد قاله الشيخ إبراهيم وغيره، ورمس من باب نصر والروامس الرياح لأنها تدفن الأثر وخص هذه الحالة لشدة الحاجة فيها إلى مزيد اللطف إذ هي أول منازل الآخرة ومعلوم أن الرحلة الأولى صعبة على المسافر في الدنيا فكيف الحال هنا وفي الحديث (القبر روضة من رياض
الجنة أو حفرة من حفر النار
(1)
) وكان سيدنا ذو النورين رضي الله عنه إذا رآى قبرا بكى لهذا الحديث حتى يبل لحيته، وبكى صلى الله عليه وسلم وأبكى حتى بل التراب وقال (يا إخواني لمثل هذا فأعدوا
(2)
) وقيل ليلتان ويومان لم تسمع الخلائق مثلهما: ليلة يبيت مع أهل القبور ولم يبت قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة، ويوم يأتيه البشير من الله تعالى إما بالجنة أو بالنار، ويوم يعطى كتابه إما بيمينه أو بشماله، اللهم الطف بنا في هذه الأربعة وفي جميع الأحوال قال الحطاب وأسند المصنف قوله لا أحصي إلى ضمير الواحد وقوله ونسأله إلى ضمير الجماعة لأن الأول فيه الاعتراف بالعجز وإنما يثبته الإنسان لنفسه، والثاني دعاء والمطلوب فيه مشاركة المسلمين فإن ذلك مظنة الإجابة قال الرازي إن الدعاء مهما كان أعم كان إلى الإجابة أقرب والله أعلم انتهى.
والصلاة الواو لعطف جملة إنشائية على مثلها وهي الحمد لله أردفها بالصلاة والسلام على من وصلت المنعم المحمود عليها بواسطته صلى الله تعالى عليه وسلم امتثالا لقوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله ثم بالصلاة علي فهو أقطع أكتع
(3)
) والصلاة من الله تعالى الإنعام ومن العبد طلبه من الله سبحانه كانت على نبي أو غيره وكل ما ذكروه فيها يرجع إلى هذا قاله الشيخ الهلالي، والصلاة وإن كان معناها طلب الإنعام فيها معنى زائد على ذلك وهو التعظيم كما يفيده الحطاب ولذلك اختلف في الدعاء له بالرحمة وإن كان الراجح جوازه، وهي اسم مصدر صلى كالزكاة لزكى، وهل يجوز أن يؤتى بالمصدر المقيس؟ وهو التصلية وإن كان اللفظ مشتركا بين الإنعام والإحراق نحو {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} لأن المقام مقام التعظيم وهو الأظهر كما في عبارة كثير من الأئمة أو لا يجوز ولو اتضح المراد مبالغة في الأدب خلاف والسلام قال الشيخ الهلالي: هو من الله تعالى إنعامه بالسلامة ومن العبد طلب ذلك منه سبحانه.
(1)
إنما القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار. الترمذي، كتاب الزهد، رقم الحديث:2460.
(2)
عن البراء، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فجلس على شفير القبر فبكى حتى بل الثرى، ثم قال: يا إخواني، لمثل هذا فأعدوا. سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، رقم الحديث:4195.
(3)
التدوين في أخبار قزوين للرافعي، الحديث 596.
والسلام أيضا التحية اسم مصدر لسلم ككلم كلاما وحكم الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم الوجوب مرة في العمر على المشهور، ويتأكد ندبهما في الزائد على الواحد، ويشتد تأكيدهما عند ذكره أو سماعه صلى الله عليه وسلم، وفي أزمنة وأمكنة وأحوال ذكرها الرصاع وغيره قاله الهلالي. وفي الحطاب وذكر الرصاع أنها يتأكد طلبها إذا طنت الأذن، وعند العطاس، وعند الفراغ من الطهارة، وفي الصباح والمساء، وفي يوم الجمعة، والسبت والأحد، انتهى. وما ذكره في العطاس خلاف ما يأتي من كراهتها عنده وفضلهما كثير جدا، ألفت فيه التآليف، ولو لم يرد إلا أن (من صلى عليه صلى الله عليه وسلم مرة صلى الله عليه عشرا
(1)
) لكفى.
ولا يكره إفراد أحدهما عن الآخر على ظاهر المذهب، وهو الذي يدل عليه الحديث وعمل الأئمة وشاع في كلام كثير من العلماء كراهة ذلك وصرح بها النووي وتوقف في ذلك ابن حجر، وقال نعم يكره أن يفرد الصلاة ولا يسلم أصلا وأما لو صلى في وقت وسلم في وقت آخر فإنه يكون ممتثلا، ويستحب لقارئ اسمه صلى الله عليه وسلم أن يصلي ويسلم عليه صلى الله عليه وسلم وإن لم يكونا مكتوبين، ولكاتبه أن يكتبهما وينهى عن اختصارهما بكتب بعض حروفهما وترك الثاني وإن كان في أصل الكتاب صلى الله عليه دون وسلم كما في بعض نسخ صحيح البخاري فينبغي للقارئ أن يزيده كلما مر به وإلا فاته خير كثير، وأفتى بعضهم برد كتب الحديث إذا لم يوجد فيها لفظ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قال اللهم صل على محمد عدد كذا قال ابن عرفة يحصل له أكثر من ثواب من صلى واحدة لا ثواب من صلى تلك العدة ويشهد له حديث (من قال سبحان الله عدد خلقه
(2)
) من حيث دلالته على أن للتسبيح بهذا اللفظ مزية قاله الحطاب، وتكره الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في سبعة مواضع جمعها بعضهم في قوله:
على عاتقي حملت ذنب جوارحي
…
تعبت بها والله للذنب غافر
(1)
إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا. مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:384.
(2)
مسلم، كتاب الذكر والدعاء، رقم الحديث:2726.
العينان من الكلمتين الأوليين للعثرة والعطاس، والحاء في الثالثة لحاجة الإنسان، والذال للذبح، والجيم في جوارحي للجماع، والتاء للتعجب، والباء للبيع وباقي البيت تكميل. والظاهر أن السلام فيها كالصلاة ويقاس عليها كل موطن ينافي التعظيم كاللعب في الأعراس وغيرها والبدعة التي يسمونها الحضرة بالآلات والمقاصد الفاسدة انتهى. ومن المواطن التي نهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها الأماكن القذرة والأماكن النجسة قاله الحطاب على سيدنا خبر المبتدإ وهو الصلاة والمعطوف وعلى للاستعلاء المعنوي فإن أريد بالصلاة والسلام صلاة الله تعالى وسلامه فهي لإنشاء طلب مضمونهما، وإن أريد بهما صلاتنا وسلامنا فهي لإنشاء مضمونهما فافهم قاله الشيخ الهلالي.
وقد مر له أنه قال: الصلاة من الله الإنعام ومن العبد طلبه من الله كانت على نبي أو غيره وحينئذ فمعنى هذا أنه إنشاء طلب صلاة الله وسلامه في كلا التوجيهين لكن مضمون الجملة في التوجيه الأول نفس الصلاة والسلام والمصلي لم ينشئهما بكلامه وإنما أنشأ طلبهما من الله، ومضمونهما في التوجيه الثاني إنما هو طلب المصلي الصلاة والسلام من الله لما عرفت أن الصلاة والسلام من العبد طلبهما من الله فبان أنه في كلا التوجيهين إنشاء طلب الصلاة والسلام من الله والله سبحانه أعلم. والسيد من ساد القوم يسودهم سيادة وسؤددا فهو سيد أي فاقهم في المجد والشرف؛ ولذا فسره بعضهم بالكامل الذي يلجأ إليه في الشدائد ومهمات الأمور ويطلق أيضا على المالك وبهذين المعنيين يصح إطلاقه على الله عز وجل وعلى غيره مضافا ومحلى بأل ومجردا، ويقال للأنثى سيدة ويطلق أيضا على الزوج {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} ويستعمل بمعنى الأفضل نحو سيد الاستغفار وسيد الطعام وكل ما جاء من نظائره معتل المعين فهو بكسرها، وكل ما جاء منها صحيح العين فهو بفتحها كصيرف وعيلم وعيثر وشيظم وديلم وبيهق إلا ما شذ كضيون.
واعلم أن الذي يتحصل من كلامهم هنا أنه يؤتى بلفظ السيد في الصلاة وإن لم يرد في الحديث هذا هو المعول عليه وغيره مقول فيه محمد علم مشعر بالمدح منقول من اسم مفعول التحميد لتكثير الحمد فهو صلى الله عليه وسلم المحمود في الدنيا والآخرة وعند الأولين والآخرين سماه بهذا الاسم جده عبد المطلب ليكون على وفق تسمية الله له تعالى قبل الخلق بألفي عام، وقد طابق
اسمه صفته، قيل لجده: لم سميت ابنك محمدا وليس من أسماء آبائك ولا قومك؟ قال: رجوت أن يحمد في السماء والأرض وقد حقق الله رجاءه، ولله در القائل حسان حيث يقول:
فشق له من اسمه ليجله
…
فذو العرش محمود وهذا محمد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه
…
إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
ولا ينافي نسبة البيت الأول لحسان ما أخرجه البخاري في تاريخه أنه لأبي طالب لأن حسان ضمن شعره بيت أبي طالب والله سبحانه أعلم، وقد رأى جده أن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف بالمشرق وطرف بالمغرب ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور وأهل المشرق والمغرب يتعلقون بها: فعبرت بمولود يتبعه أهله ويحمده أهل السماء وأهل الأرض واعلم أنه صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بين الله وبين عباده فلا نعمة لله تعالى على أحد إلا وهو الواسطة فيها والأصل لها، وسواء في ذلك الأنبياء والملائكة وغيرهم ولله در القائل:
أصح وأقوى ما سمعناه في الندى
…
من الخبر المأثور دون تردد
أحاديث ترويها السيول عن الحيا
…
عن البحر عن كف النبي محمد
سيد العرب والعجم أفاد بهذه الإضافة أنه سيد الخلائق أجمعين لأن الثقلين والملائكة لا يخرجون عنهما، فالعرب من يتكلم باللغة القرءانية سجية والعجم من سواهم وهما في المتن بالتحريك، ويجوز في غيره ضم أول كل منهما وسكون ثانية قاله الشيخ الهلالي. المبعوث أي المرسل، واعلم أن الرسالة والنبوءة ليستا بصفتين ذاتيتين بل هما عبارة عن إيصال خطاب الله تعالى للنبي والرسول خلافا للمعتزلة حيث قالوا إنهما معنيان قائمان بالنبي والرسول لسائر أي جميع قال الأحوص:
فجلتها لنا لبابة لما
…
وقذ النوم سائر الحراس
ومنه قول القائل:
ألزم العالمون حبك طرا
…
فهو فرض في سائر الأديان
وهو المعتمد عند النووي مأخوذ من سور المدينة والأكثر على أن السائر بمعنى الباقي ويصح هنا الأمم أي الجماعات جمع أمة قال تعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} ثم المص يحتمل أن يريد بسائر الأمم جماعات الثقلين من حضر وبدو وعرب وعجم في شرق وغرب وبر وبحر للاجتماع على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم لجميعهم، ويحتمل أن يريدهم والملائكة على قول بعضهم إنه بعث إليهم، وفي الشبراخيتي أنه الصحيح.
وصحح جمع من المحققين القول بأنه مرسل إلى الملائكة أيضا لقوله تعالى {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} ولقوله عز وجل {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} ولخبر مسلم (أرسلت إلى الخلق كافة
(1)
) وعلى هذا ففائدة إرساله لهم وهم معصومون أنهم كلفوا بتعظيمه والإيمان به ودخولهم تحت دعوته تشريفا له على جميع المرسلين قاله الشيخ عبد الباقي. وقال صاحب التنبيه إنه بعث إلى الملائكة ليعلمهم أدب العبودية في حضرة الربوبية، ويحتمل أن يريد جميع المخلوقات حتى ما لا يعقل من حي وجماد بناء على ما ادعاه بعضهم، بأن خلق الله عز وجل فيها إدراكا حتى فهمت دعوته صلى الله عليه وسلم وأمرت بطاعته صلى الله تعالى عليه وسلم فيما يأمرها به لا بالشرائع التي كلف بها الثقلان فإن كان السائر بمعنى الجميع فالعموم باعتبار من أدرك بعثته صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم إلى يوم القيامة، وإن كان بمعنى الباقي فمن أدركه عليه الصلاة والسلام ومن بعدهم كلهم باقي الأمم باعتبار من تقدم من أول الدنيا وفي الشبراخيتي ويصح أن يراد بسائر الأمم الماضية والباقية لأن من تقدم من الرسل كان نائبا عنه في تبليغ الشرائع اهـ.
وقد بعثت روحه صلى الله عليه وسلم للأرواح وقد (كان صلى الله عليه وسلم نبيا وآدم منجدل في طينته
(2)
)، والأمة تطلق على ثمان معان الجماعة كما مر من العقلاء وغيرهم، وأتباع الرسل، والرجل الجامع للخير {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} والملة {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} والزمان {إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} والقامة يقال فلان حسن الأمة أي القامة، والرجل المنفرد بدينه كقوله
(1)
فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بى النبيون. صحيح مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:523.
(2)
مسند أحمد، ج 4 ص 127.
صلى الله عليه وسلم (يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة
(1)
) والأم أي الوالدة يقال هذه أمة زيد أي أمه وإذا أضيفت الأمة إلى النبي فتارة يراد بها أتباعه وتارة يراد بها عموم أهل دعوته كحديث (لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار
(2)
) قاله الحطاب.
واعلم أن من صلى عليه صلى الله عليه وسلم في نفسه، أنسه الله ليلة حلول رمسه، ومن صلى عليه صلاة كاملة غفرت له ذنوبه العاجلة والآجلة، ومن أكثر الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم يكون ملك الموت أرفق به من والديه. ومن أكثر الصلاة عليه والسلام رفع الله عنه الهموم والأسقام، ومن صلى عليه سبع مرات صلت عليه ملائكة سبع سموات، ومن كتب الصلاة عليه في الطروس زف إلى الجنة كما تزف العروس، ومن كتب الصلاة عليه في مكتوبه غفر الله له جميع ذنوبه، ومن كتب الصلاة عليه في مكتوب لم تزل الملائكة تكتب له الحسنات وتمحو عنه الذنوب: ومن أكثر الصلاة عليه عند تبليغ العلم للناس أذهب الله عنه الباس وحفظه من الوسواس، ومن أكثر الصلاة عليه ألبسه الله يوم القيامة حلة خضراء، ومن أكثر في ظلام الليل الصلاة عليه ضحك الله عز وجل إليه، ومن أكثر الصلاة عليه في قيامه وقعوده عصمه الله من إبليس وجنوده، ومن أكثر الصلاة عليه في حياته أمر الله جميع المخلوقات أن يستغفروا له بعد مماته، ومن أكثر الصلاة عليه والتسليم لقي الله بقلب سليم، ومن اتخذ الصلاة عليه ديدنا بلغ القصد والمنا، ومن صلى عليه في كل يوم من الأيام ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام، ومن أكثر الصلاة عليه وهو راحل قربت له المنازل، ومن كرر الصلاة عليه وأكثر غرس الله له عشرين ألف شجرة على شاطئ الفرات والكوثر، ومن رفع صوته بالصلاة عليه غفر له ولوالديه، ومن كانت له بالصلاة عليه علاقه لم تصبه فاقه، ومن صلى عليه عند دخول المقبرة أوجب الله لأهلها الرحمة والمغفرة، وقد خلق الله ملكا مكرما لديه لرد السلام على من سلم عليه، صلى الله عليه وسلم،
(1)
يبعت زيد بن عمرو بن نفيل أمة. القرطبي، ط دار الفكر 1419 هـ، ج 9 ص 9، وفى سنن النسائى، ج 7 ص 324، بلفظ:"يبعث يوم القيامة وحده بيني وبين عيسى"، وفي مسند أحمد ج 1 ص 402، بلفظ:"فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده".
(2)
والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار. صحيح مسلم، كتاب الإمارة، رقم الحديث:240.
ومن صلى عليه وسلم على الدوام رد الله عليه روحه حتى يرد عليه بنفسه السلام، ومن صلى عليه عند دخول بيته وسلم وسع الله عليه رزقه وأنعم، وما خرجت صلاة عبد عليه من فيه إلا مرت بجميع المخلوقات فردت عليه، وبركة الصلاة عليه تدرك الرجل وولده وأولاده وأولاد أولاده وقد أوصى آدم ابنه شئث لا تدع ذكره ولا الصلاة عليه ما حييت، ومن لم يصل عليه من العباد لم ير وجهه يوم المعاد، وجعل الله ملكا للعبد على شفتيه لا يكتب مما يخرج من فيه إلا الصلاة عليه، ومن رفع بالصلاة عليه الصوت هانت عليه سكرات الموت، ومن أكثر ذكره بما هو أهله أظله الله يوم لا ظل إلا ظله، ومن أكثر ذكره بلغ قصده ومناه وأمن مما يخاف ويحذر من الزبانية وكان في حرز وأمان، ومن أكثر نعته وأوصافه لم تصبه آفة، ومن كتب الصلاة عليه ببنانه كان في ذمة الله وأمانه، ومن كتب اسمه في مسطور تَوَّجه الله يوم القيامة بتاج من نور، وما ذكره أحد من المخلوقات إلا ذكرته ملائكة سبع سماوات، ومن أكثر الصلاة عليه في دار الدنيا رافقه في الجنة العليا، ومن أكثر الصلاة عليه والتسليم أقبل الله عليه بوجهه الكريم، ومن صلى عليه عشر مرات وسلم غفر الله له من الذنوب ما علم العبد منها وما لم يعلم، ومن أكثر الصلاة عليه من العباد قبَّله عليه السلام في فمه يوم المعاد، والصلاة عليه نصرة للمظلوم على الظالم الغشوم وتذهب الوساوس والردة والأبالس، ومن صلى عليه عشر صلوات استوجب الأمان من سخط الله في الحياة والممات، ومن أكثر الصلاة عليه مساء وصباحا صلت عليه الملائكة غدوة ورواحا، ولله عز وجل ملائكة أقلامهم من الذهب النفيس يكتبون الصلاة عليه يوم الخميس، ومن أكثر الصلاة عليه والسلام كان الله أقرب إليه من اللسان للكلام، ومن أكثر صلاته عليه وسلامه شكره بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، ومن أكثر الصلاة عليه في سره وجهره أمن من مكر الحاسد وغدره، ومن أكثر الصلاة عليه قبل يوم القيامة أعطاه الله قبة في الجنة عرضها مسيرة ثلاثمائة عام محفوفة بأرياح الكرامة قاله ابن عظوم.
صلى الله وسلم عليه جمع بين الاسمية الدالة على الثبوت والفعلية الماضوية المشعرة بكمال العناية بوقوع مضمونها لما فيها من إبراز غير الحاصل في معرض الحاصل وفي بعض النسخ بسقوط الفعليتين وعلى قال الشيخ الهلالي إعادة الجار واجبة عند جمهور النحاة إن كان العطف على
الضمير، وجائزة اتفاقا إن كان العطف على الظاهر وقد علمنا صحة العطفين باعتبار النسختين ءاله أي المومنين من بني هاشم على مشهور الذهب قيل وبني أخيه المطلب وعليه درج المص في الزكاة، وتخصيصهم به أمر شرعي ليتميزوا عن غيرهم لما لهم من الحرمة وحرمة الزكاة عليهم وغير ذلك وهو في الأصل أعم من ذلك يقال ءال الرجل لذوي قرابته وأهله وأتباعه وبهذا المعنى يندرج فيه جميع أمة الإجابة قاله الهلالي. وقال عبد الحق وأعرف لمالك رحمه الله أن ءال محمد كل من تبع دينه كما أن ءال فرعون كل من تبعه وقيل أتقياء المؤمنين قاله الحطاب. وسمع تصغيره على أهيل وأويل ولا يقرن بأل عند بعضهم وظاهر القاموس الجواز وأصحابه جمع صاحب كشاهد وأشهاد لا جمع صحب قال:
ثلاثة أصحاب فؤاد مشيع
…
وأبيض إصليت وصفراء عيطل
ويجمع أيضا على صحاب كجائع وجياع وعلى صحبان كشاب وشبان والصحب والصحابة بالفتح والكسر كل منهما اسم جمع وأصلهما المصدر يقال صحبه كعلمه صحبة بالضم وصحابة بالفتح وهو أفصح وبالكسر أي لازمه في طريق أو غيره.
وعبر المص بجمع القلة مع أن الصحابة كثيرون لأنه سمعت نيابته عن جمع الكثرة في أفصح الكلام نحو {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ} فمعنى الصاحب في الأصل الملازم للشيء ومعناه في العرف إذا أضيف له صلى الله عليه وسلم كل من لقيه صلى الله تعالى عليه وسلم مؤمنا به وإن لم يلازمه ولا غزا معه ولا روى عنه ولا رآه لعمى أو غيره مميزا أو غير مميز كالرضيع حيث يحكم بإسلامه لإسلام أبيه ومن ارتد بعد الصحبة والعياذ بالله تعالى انسلب عنه وصف الصحبة فإن عاد للإسلام عاد له اسم الصحابي على الرجح، ولابد من كون اللقي قبل الوفاة فيخرج من لقيه بعدها كأبي ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي فإنه أخبر بمرض النبي صلى الله عليه وسلم فسافر نحوه فقبض النبي صلى الله عليه وسلم قبل وصوله المدينة بيسير، وحضر الصلاة عليه وشهد دفنه ولا يدخل الأنبياء الذين اجتمع بهم ليلة الإسراء والملائكة لأن المراد الاجتماع على الوجه المتعارف، وتحصل الصحبة باللقي ولو لم يطل الاجتماع بخلاف
التابعي فإنه فسر بما فيه الإطالة على قول لأنه صلى الله عليه وسلم ينطق الأعرابي الجلف بالحكمة بمجرد ما يجتمع به صلى الله عليه وسلم فليس كغيره.
وقدم الآل على الأصحاب للأمر بالصلاة على الآل ولهذا وجبت في التشهد على قول، وهم أشرف نسبا وإن كان في الصحابة من هو أفضل من الآل كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما قاله الشيخ عبد الباقي عن اللقاني، وأزواجه ذكرهن بعد الأصحاب لمزيد الاعتناء بشأنهن لشدة الاتصال به وفي شرح الشيخ عبد الباقي أن ذلك للتنصيص على دخولهن لا للتنبيه على فضلهن لأنهن لسن أفضل من الأصحاب، ويقال لامرأة الرجل زوج وزوجة وأزواجه صلى الله عليه وسلم الَّتي بنى بهن المتفق عليهن إحدى عشرة ورمز بعضهم لأسمائهن على الترتيب بأوائل كلمات بيت وهو:
خليلي سبت عقلي حلى زين هالة
…
زهى جفنها رمزا صحيحا مهذبا
فالخاء لخديجة، والسين لسودة بنت زمعة، والعين لعائشة، والحاء لحفصة، والزاي الأولى لزينب بنت خزيمة، والثانية لزينب بنت جحش، والهاء لهند، والجيم لجويرية بنت الحارث، والراء لرملة وهي أم حبيبة بنت أبي سفيان، والصاد لصفية بنت حيي، والميم لميمونة بنت الحارث رضي الله عنهن وكلهن من العرب إلا صفية فمن سبط هارون أخي موسى على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، والعربيات قرشيات إلا أربعا زينب أم المساكين بنت خزيمة وميمونة بنت الحارث هلاليتان، وزينب بنت جحش أسدية من أسد خزيمة، وجويرية مصطلقية توفيت خديجة قبل الهجرة ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم غيرها حتى توفيت، وتوفيت زينب بنت خزيمة بالمدينة بقرب تزوجه إياها صلى الله عليه وسلم فلم تمكث عنده إلا أشهرا، وتوفي صلى الله عليه وسلم عن البواقي رضي الله عن جميعهن.
وذريته أي نسله وهم أولاد الصلب وأولادهم ما تناسلوا آخر الدهر، وأولاد صلبه صلى الله عليه وسلم سبعة ثلاثة ذكور أولهم القاسم وبه كني، والثاني عبد الله ويلقب بالطيب وبالطاهر، والثالث إبراهيم، والإناث أربع زينب، ورقية بضم الراء وفتح القاف، وأم كلثوم، وفاطمة وكلهم
من خديجة إلا إبراهيم فأمه مارية القبطية سُرِّيته صلى الله عليه وسلم ونظمهم بعضهم على ترتيب الولادة فقال:
فأول ولد المصطفى قاسم الرضى
…
به كنية المختار فافهم وحصلا
وزينب تتلوه رقية بعدها
…
كذا أم كلثوم تعد على الولا
وفاطمة الزهراء ختم بناته
…
في الإسلام عبد الله جاء مكملا
وكلهم كانوا له من خديجة
…
وقد جاء إبراهيم في طيبة تلا
من المرأة الحسناء مارية فقل
…
عليهم سلام الله مسكا ومندلا
مات الذكور صغارا وتزوجت الإناث ولم يبق لهن عقب إلا لسيدتنا فاطمة الزهراء رضي الله عن الجميع، وعقبها من الحسنين أشهر من أن يبين ولها عقب أيضا من بنتها زينب من عبد الله بن جعفر ولدت له ذكرا اسمه علي وأنثى اسمها أم كلثوم وعقبها موجود بكثرة رضي الله عن الجميع وأماتنا على محبته صلى الله عليه وسلم ومحبتهم أجمعين.
وأمته المراد بهم المجيبون لا أمة الدعوة بقرينة الصلاة عليهم وأمة الدعوة كل من بعث إليهم، وتجوز الصلاة على غير الأنبياء تبعا لهم وأما بالاستقلال فالمشهور الكراهة قاله الشيخ الهلالي وفي الحطاب عن القاضي عياض والذي ذهب إليه المحققون وأميل إليه ما قاله مالك وسفيان واختاره غير واحد من الفقهاء والمتكلمين أنه يجب تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء بالصلاة والسلام كما يختص الله سبحانه عند ذكره بالتقديس والتنزيه، ويذكر من سواهم بالغفران والرضى، وذكر الصلاة على الآل والأزواج مع النبي صلى الله عليه وسلم بحكم التبع والإضافة إليه لا على التخصيص، وكما يجب أن يكون دعاء الرسول ليس كدعاء بعضنا بعضا يجب أن يكون الدعاء له مخالفا لدعاء الناس بعضهم لبعض انتهى.
وفي الزرقاني على الموطإ وتجوز الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم تبعا واختلف فيها استقلالا هل تحرم أو تكره أو تجوز حكاه في الشفا قال الأبي والأصح الكراهة اهـ. ولم يذكر
المصنف في خطبته الشهادة مع أنه ورد (كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء
(1)
) أخرجه أبو داود مرفوعا في كتاب الأدب من سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قاله الحطاب ويمكن أن يجاب بأن المراد بالشهادة معناها وهو حاصل مما تقدم أو أن المراد لم يذكر فيها شهادة وليس المراد كتابتها أفضل الأمم أي الأتباع وما قبله الجماعات فليس فيه إيطاء ومعنى أفضل الأمم أكثرهم فضلا لقوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وحق ذلك لأمته:
لما دعا الله داعينا لطاعته
…
بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
اللهم اختم لنا بما توجب لنا به مرافقته الخاصة في دار السلام وبعد الواو للاستئناف لتعذر عطف الخبر على الإنشاء وبعد ظرف زمان بني لشبهه بحرف الجواب كنعم في الاستغناء به عما بعده وهو المضاف إليه المحذوف للعلم به، والعامل فيه فعل قول محذوف أي وأقول بعد حمد الله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والواقع في كلام العرب في مثل هذا المقام أما بعد للانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر واختلف في أول من نطق بأما بعد على سبعة أقوال جمعها بعضهم بقوله:
جرى الخلف أما بعد من كان بادئا
…
بها سبع أقوال وداود أقرب
لفصل خطاب ثم يعقوب قسهم
…
فأيوب سحبان فكعب فيعرب
والقول بسحبان لا يصح لصحة الأحاديث بها عنه صلى الله عليه وسلم، وتأخر سحبان لأنه كان في الدولة الأموية والقول بأنه داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام يصح أن يريد به مرادفها وإلا فلا لأنه أعجمي، وتفسير فصل الخطاب بها في الآية ضعيف عند المحققين من المفسرين، والظرف يتعلق بفعل الشرط الذي نابت عنه أما أو بها على قول الفارسي يتعلق الظرف بالحرف إذا ناب عن الفعل، ويستحب الإتيان بأما بعد أوائل الخطب والكتب اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء. سنن أبي داود، كتاب الأدب، رقم الحديث:4841.
فقد الفاء زائدة إن كان ما بعدها صدر المقول أي أقول بعدما ذكر قد سألني وللسببية إن قدر صدر القول محذوفا أي وأقول بعد ما ذكر تنبَّه فقد سألني وقد للتحقيق والتقريب إشارة إلى قرب وقت السؤال من وقت التأليف للمبادرة إلى إسعاف السائلين سألني أي طلب منى جماعة هي ما زاد على اثنين من كل شيء كالجمع ويجمعان والجميع يأتي بمعنى الجمع ولم يسمع له جمع أشار المص إلى أنه إنما ألفَّ بعدما علم حاجة الناس إليه وأنهم رأوه أهلا لذلك، والمراد بالجماعة جماعة من أهل العلم قاله الشيخ الهلالي، وقال الشيخ الحطاب ودخول الفاء مع أما واضح لا تضمنته أما من معنى الشرط، وأما مع عدمها فتدخل على توهم وجود أما وتكون الواو استئنافية أو على تقدير أما محذوفة والواو عوض عنها أو دون تعويض والعامل حينئذ أما المحذوفة لنيابتها عن فعل الشرط إذ التقدير مهما يكن من شيء بعد حمد الله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم فقد سألني، أو العامل المقدر وأما على توهم أما فالعامل فعل قول. أبان أي أظهر وأطلع. الله يقال أبان وبان وبين وتبين واستبان خمسة أفعال كلها متعد لازم قاله الشيخ الهلالي. لي بسكون الياء وفتحها بدأ بنفسه تأدبا بآداب الكتاب والسنة {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} (وكان صلى الله عليه وسلم إذا دعا بدأ بنفسه
(1)
).
واعلم أن من كتب كتابا لغيره وأراد أن يدعو فيه لنفسه وللمكتوب له يبدأ بالمكتوب إليه وقيل بنفسه وقيل يخير وعن مالك إن كان المكتوب إليه أكبر من الكاتب بدأ به وإن كان الكاتب أكبر بدأ بنفسه، وهي فائدة حسنة والظاهر أن المراد بكونه أكبر في السن أو النسب أو العلم كما يشعر به خبر (لا توسع المجالس إلا لثلاثة لذي علم أو لذي سن أو ذي نسب
(2)
) ويظهر توسيعها له وإن لم يقل تفسحوا في المجلس، وتوسع مجالس الخير لمن قال ذلك وإن لم يكن من أحد الثلاثة كما تدل له الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} الآية قاله الشيخ عبد الباقي ولهم أي للجماعة دعا لهم مكافأة لتسببهم له في الثواب الباقي معاله جمع معلم كمقعد
(1)
عن أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا بدأ بنفسه وقال رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر لرأى من صاحبه العجب ولكنه قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنى. أبو داود، كتاب الحروف والقراءات، رقم الحديث:3984.
(2)
لا توسع المجلس إلا لثلاثة: لذي سن لسنه ولذي علم لعلمه ولذي سلطان لسلطانه، كنز العمال، رقم الحديث:25500.
وهو مظنة الشيء وما يستدل به عليه التحقيق مصدر حقق الشيء يحققه أي تيقنه ويقال أيضا حقه يحقه بالضم حقا بمعناه وأطلقه المؤلف على ما يعم اليقين والظن المنزل منزلته فالمراد بمعالم التحقيق أدلة اليقين في الاعتقادات وما تنزل منزلته في العمليات أي الأدلة التي يهتدى بها إلى التحقيق قاله الشيخ الهلالي، وقال الحطاب والعالم جمع معلم بفتح أوله وثالثه وسكون ثانية وأصله الأثر يستدل به على الطريق واستعاره المص لما يستدل به على التحقيق، والتحقيق معرفة الشيء بدليله من غير تقليد فيه والمراد بمعالمه الأدلة التي يهتدى بها إليه انتهى.
وقال الناصر اللقاني والتحقيق إثبات الأحكام بأدلتها انتهى والمراد أن ليحصل له مسائل الفقه على الوجه المحرر، وقال الشيخ عبد الباقي والمراد بالعالم الأدلة المستدل بها على الأحكام. وسلك يتعدى بنفسه وقد يتعدى بالهمزة وعداه المص بالباء فقال بنا وبهم أي ذهب وليس هنا سلك التي معناها أدخل، والباء للمصاحبة ومعناها هنا مصاحبة معونته تعالى وإمداده. أنفع طريق المضاف اسم تفضيل من النفع ضد الضر نصب على الظرفية والطريق والسبيل والصراط ألفاظ مترادفة والطريق يذكر ويؤنث فجمعه على التذكير أطرقة كرغيف وأرغفة وعلى التأنيث أطرق كأيمن ويمين، وقال بعضهم الطريق يذكر ويؤنث والجمع أطرق وطرق وقال الشيخ الهلالي: الطريق والسبيل والصراط ألفاظ مترادفة كلها تذكر وتؤنث. ويجمع الطرق جمع طريق على الطرقات، وقوله أنفع طريق أي أنفع الطرق كما يقال هو أفضل رجل أي أفضل الرجال وأنفع الطرق أقربها إيصالا إلي رضى الله عز وجل والجملتان دعائيتان معترضتان بين سأل ومفعوله الثاني وهو قوله مختصرا على حذف مضاف وموصوف أي تأليف كتاب مختصر وهو اسم مفعول من الاختصار وهو الإتيان بالمعنى الكثير في اللفظ القليل ومثله الإيجاز وهو ممدوح في المقام الذي يناسبه، وضده الإطناب ويقال له الإسهاب وهو ممدوح أيضا في محل يقتضيه قالى:
يرمون بالخطب الطوال وتارة
…
وحي الملاحظ خيفة الرقباء
وإنما طلبوا المختصر لقصور هممهم عن تحصيل المبسوطات. على للاستعلاء المجازي متعلقة بمحذوف وجوبا لأنها هي ومجرورها في محل الصفة. مذهب أصله من الذهاب صالح للمكان
والزمان واستعير للعلم لأنه أفضل ما يذهب إليه قاله المنجور قال الهلالي: والمراد به هنا المسائل التي يقولها المجتهد والتي يستخرجها أتباعه من قواعده وهي تشبه بالطريق، ولذا يقال طريق مالك وطريقته كما يقال مذهبه، والطريق محل الذهاب فهو منقول من اسم المكان قال إمام الحرمين: أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوبوا لأن الصحابة لم يعتنوا بتهذيب مسائل الاجتهاد وإيضاح طريق النظر بخلاف من بعدهم قاله القرافي. قال ورأيت للشيخ تقي الدين بن الصلاح ما معناه أن التقليد يتعين لهذه الأربعة دون غيرهم لضبط مذاهب الأربعة على الوجه الأتم دون غيرهم انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي.
الإمام اسم للعالم المقتدى به وجمعه أئمة وقوله تعالى {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} قيل هو من هذا المعنى وقع المفرد موقع الجمع؛ أي اجعل كل واحد منا إماما لهم، وقيل جمع آمٍّ كصائم وصيام من أمه بمعنى قصده أي اجعلنا قاصدين لهم مقتدين بهم. مالك بن أنس رحمه الله تعالى جملة الدعاء اعتراضية لما له على الأمة عموما وعلينا معشر المالكية خصوصا من اليد البيضاء جزاه الله بالرضى، وجملة رحمه الله تعالى اعتراضية أيضا لإنشاء الثناء على الله تعالى بكمال التعالي وهو التقدس والتنزه عما ليس بكمال له.
والإمام مالك هو إمام الأئمة وفخر علماء الأمة ابن أنس بن مالك تابعي ابن أنس ويكنى أبا عامر ابن عمرو بفتح المهملة ابن الحارث بن غيمان بمعجمة مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة ابن خُثَيْل بخاء معجمة فمثلثة مصغرا ابن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح فهو من الأذواء وهم ملوك اليمن لأنهم يزيدون للملك في علمه ذو تعظيما لصاحب هذا الاسم وقد يجمعون ذو تصحيحا قال:
ولا أعني بذلك أسفليكم
…
ولكني أريد بها الذوينا
فالإمام مالك رضي الله عنه عربي حميري أصبحي بلا اختلاف بين أهل العلم بالأنساب، وكان أسلافه حلفاء لبني تيم من قريش فكانوا ينتسبون إلى التيميين بولاء الحلف على عادة العرب فظن من لا تحقيق عنده بنسبهم أنهم موالي العتق وإنما ولاؤهم بالحلف، وكان جدهم تزوج من
التيميين فتأكدت النسبة، وحمير هو ابن سبأ بن يشجب بن يعرب كينصر فيهما ابن قحطان وهو جماع العرب اليمانية، كما أن عدنان جماع العرب العدنانية فالعرب المعروفة الآن كلها منهما وقحطان قيل من ولد إسماعيل وعليه فتكون العرب كلها من ولد إسماعيل والأكثر على خلافه، والإمام مالك تابع التابعين وقيل تابعي لأنه أدرك عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، وقيل بصحبتها لكن الصحيح أنها ليست صحابية وأبو عامر جد الإمام صحابي كبير شهد الغازي كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا بدرا، وعن الذهبي أنه لم ير من ذكره في الصحابة وأنه كان في زمنه صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ الهلالي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ومالك بن أبي عامر من كبار التابعين روى عن عمر وطلحة وعائشة وحسان بن ثابت وعثمان رضي الله عنهم: وهو أحد الأربعة الذين حملوا عثمان رضي الله عنه ليلا إلى قبره وغسلوه ودفنوه، روى عنه بنوه الثلاثة أنس والد الإمام وأبو سهيل نافع والربيع ووالد الإمام أنس من التابعين وكان فقيها: وأولاد الإمام ثلاثة يحيى ومحمد وفاطمة زوج إسماعيل بن أبي أويس بن أخت الإمام وكانت بنته تحفظ الموطأ وتقف خلف الباب فإذا غلط القارئ نقرت الباب فيفطن مالك فيرد عليه، ومعنى الموطإ الممهد المنقح ولم يسبق مالك إلى هذه التسمية، قيل لأبي صالح لم سمى مالك الموطأ قال شيء صنعه ووطأه للناس حتى قيل موطأ مالك وعن بعض المشايخ قال مالك عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة فكلهم واطأني عليه فسميته الموطأ انظر شرح الموطإ لسيدي محمد الزرقاني، وروى عنه ابنه يحيى الموطأ، وقدم محمد مصر وكتب عنه وحدث عنه الحارث بن مسكين وكان لمحمد ولد اسمه أحمد روى عن جده مالك لكنه معدود في الضعفاء. ولد الإمام على الصحيح عام مات أنس بن مالك الأنصاري خديم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عام ثلاث وتسعين بتقديم المثناة على السين، وحملت به أمه ثلاث سنين وقيل سنتين، وهي العالية بنت شريك الأزدية، وقال ابن عامر أمه طليحة مولاة عامر بنت معمر قاله الأمير وتوفي رضي الله عنه عام تسع بتقديم المثناة وسبعين بتقديم المهملة ومائة وعمره باعتبار عام الولادة والوفاة سبعة بتقديم المهملة وثمانون عاما ورمز بعضهم لوفاة الأئمة الأربعة بقوله:
فنعمانهم عف وقطع لمالك
…
وللشافعي در ورم لابن حنبل
النعمان هو الإمام أبو حنيفة توفي عام خمسين ومائة ورمزه عف، ومالك ما تقدم ورمزه قطع، والشافعي عام أربع وماتتين ورمزه در: وأحمد عام أربعين ومائتين ورمزه رم ولد الإمام أبو حنيفة عام ثمانين، والإمام مالك فيما ذكر والإمام الشافعي عام وفاة أبي حنيفة، والإمام أحمد عام أربع وستين ومائة ونظم الشيخ الهلالي ميلادهم فقال:
وميلادهم ليم ونجم وصيف
…
وقصد على الترتيب فضلهم جلي
الليم بالكسر الصلح، والصيف بكسر الياء المشددة مطر الصيف ولا يخفى حسن الإشارة بهذه الرموز لدلالتها على صلاح الدين وإحيائه بالمطر وطلوع نجم الاهتداء وظهور قصد السبيل الذي هو الصراط السالم من التفريط والإفراط بميلادهم رضي الله عنهم، وكان الإمام مالك رضي الله عنه طويلا جسيما عظيم الهامة. أبيض الرأس واللحية يعني شيبة غير مخضوب وكان شديد البياض إلى الصفرة أعين حسن الصورة أصلع أشم عظيم اللحية تامها تبلغ صدره ذات سعة وطول، وكان من أحسن الناس وجها وأجلاهم عينا وأنقاهم بياضا وأتمهم طولا في جودة بدن، وكان يلبس ثياب الكتان الجيدة الرقيقة المعدنية والخراسانية والمصرية البيض ويتطيب بطيب جيد ويقول ما أحب لعبد أنعم الله عليه إلا أن يرى أثر نعمته عليه. قال بعضهم رأيت على مالك طيلسانا طرازيا وقلنسوة متركة وثيابا مروية جيادا وفي بيته وسائد وأصحابه عليها قعود فقلت له: أبا عبد الله شيء أحدثته أم رأيت الناس عليه. قال: رأيت الناس عليه، والناس هنا العلماء العاملون لأنهم المقتدى بهم، وكان لا يلبس الخز ولا يرى لبسه: وقال بشر بن الحارث رأيت على مالك طيلسانا يساوي خمسمائة أشبه شيء بالملوك، وفص خاتمه الذي مات وهو في يده حجر أسود نقشه سطران فيهما حسبي الله ونعم الوكيل فسئل عن ذلك فقال سمعت الله يقول {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا} الآية وكان في أول أمره قليل الشيء صابرا متجملا حتى انثالت عليه الدنيا بعد ولم يكن له منزل إنما سكن بالكراء إلى أن مات، وكان سكناه في دار عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه، وكان مكتوبا على بابه ما شاء الله ولعل مراده أن الدار مثل الجنة في استحباب قول ذلك عند دخولها فكتبه ليذكره فيقوله عند الدخول.
قال وكان لي أخ فألقى أبي يوما علينا مسألة فأجاب أخي وأخطأت. فقال أبي ألهتك الحمام عن طلب العلم فغضبت وانقطعت إلى ابن هرمز سبع سنين وفي رواية ثمان سنين لم أخلطه بغيره وكنت أحمل في كمي تمرا أناوله صبيانه وأقول لهم إن سألكم أحد عن الشيخ فقولوا له مشغول وكان ءاية في الحفظ قال لقد ذهب حفظ الناس وكنت آتي ابن المسيب وعروة والقاسم وأبا سلمة وحميدا وسالما وجماعة فأدور عليهم أسمع من كل واحد من الخمسين حديثا إلى المائة ثم أنصرف وقد حفظته كله من غير أن أخلط حديث هذا بحديث هذا، وقال ما استودعت قلبي شيئا قط فنسيته وقال إن هذا العلم دين فَانْظُرُوا عَمَّنْ تأخذونه، وقال أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين وأشار إلى المسجد ما أخذت عنهم شيئا وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان أمينا إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن.
قال ابن عيينة ما رأيت أحدا أجود أخذا للعلم من مالك وما كان أشد انتقاده للرجال والعلماء. وجلس لتعليم الناس وهو ابن سبع عشرة سنة وكان موضعه في المسجد موضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو موضع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف قال وليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للفتيا والحديث جلس بل حتى يشاور أهل الصلاح والفضل فإن رأوه أهلا لذلك جلس.
قال وما جلست حتى شهد سبعون شيخا من أهل العلم أني موضع لذلك. قال الإمام أحمد قال مالك: ما جالست سفيها قط وهذا أمر لم يسلم منه غيره وما في فضائل العلماء أجل من هذا، وكان من أعظم الناس مروءة وأكثرهم صمتا وأقلهم كلاما متحفظا بلسانه من أشد الناس مداراة للناس واستعمالا للإنصاف، وكان يقول في الإنصاف لم أجد في الناس أقل منه فأردت المداومة عليه، وكان من أحسن الناس خلقا مع أهله وولده ويقول: في ذلك مرضاة لربك ومثراة في مالك ومنساة في أجلك وقد بلغني ذلك عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يبر طلبة العلم وقد استدعاهم يوما لداره لطعام فلما دخلوا قال لهم هذا المستراح وهذا الماء ثم أدخلهم البيت
ولم يدخل معهم فلما أخذوا مجالسهم دخل وجيء بالطعام ولم يؤت بالماء فلما أكلوا جيء بالماء فلما خرجوا سأله عبد الله بن عبد الحكم فقال: أما إعلامي بالمستراح والماء فإنما دعوتكم لأبركم ولعل بعضكم يحتاج لقضاء الحاجة فلا يدري أين يذهب، وأما تركي الدخول معكم للبيت فليلا أقول اجلس هنا يا أبا فلان وهنا يا أبا فلان وقد أنسى بعضكم فيظن أني تركته بغضا فيه، وأما ترك الماء قبل الطعام فلأن غسل الأيدي قبل الطعام من سنة الأعاجم وأما بعده فقد جاء فيه حديث
(1)
وأول ما جلس لنشر العلم بعد صلاة الظهر وجلس إليه قوم فلما صلى المغرب اجتمع إليه خمسون أو أكثر فلما كان من الغد اجتمع إليه خلق كثير، وكانت له حلقة في حياة نافع وكان شديد التحري في الجواب والتوقير للعلم وخصوصا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في مجلسه شيء من المراء واللغط، وكان رجلا مهيبا إذا أجاب سائله لم يقل له من أين رأيت هذا، وإذا أتى الناس خرجت إليهم الجارية وتقول لهم يقول لكم الشيخ تريدون المسائل أو الحديث؟ فإن قالوا المسائل خرج إليهم فأفتاهم وإن قالوا الحديث اغتسل وتطيب ولبس ثيابا جددا وتعمم وتلقى له المنصبة فخرج بخشوع وجلس عليها ولا يزال يتبخر بالعود حتى يفرغ من الحديث ويقول: ليلني منكم ذوو الأحلام والنهى. ولدغته عقرب يوما في مجلس الحديث ست عشرة مرة فكان يتغير لونه ويصفر ولم يقطع الحديث فلما فرغ المجلس وتفرقوا ذكر له ذلك فقال نعم إنما صبرت إجلالا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن تحريه تقليل المقروء عليه فيقرأ القارئ ورقتين أو ونصفا ولا يبلغ ثلاثا، وقرئ عليه الموطأ مرة في أربعين يوما فقال لهم كتاب ألفته في أربعين سنة قرأتموه في أربعين يوما قلما تفقهون، وكان يقول: ربما وردت علي المسألة فأسهر فيها عامة ليلتي وإذا سئل قال للسائل انصرف حتى أنظر فقيل له في ذلك فبكى فقال: أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم ت وإذا أكثروا عليه من المسائل قال حسبكم من أكثر أخطأ.
(1)
بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده. سنن أبي داود، كتاب الأطعمة، رقم الحديث:3761.
وقال من أراد أن يجيب عن كل مسألة فليعرض نفسه على الجنة والنار وكيف يكون خلاصه ثم يجيب، وقال ما شيء أشد علي من مسألة من الحلال والحرام لأن هذا هو القطع في دين الله، ولقد أدركنا أهل العلم ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن المسألة كأن الموت أشرفت عليه. وسئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري، وقال ينبغي أن يورث العالم جلساءه لا أدري حتى يكون أصلا في أيديهم يفزعون إليه إذا سئل أحدهم عما لا يدري قال لا أدري. وقال أشهب رأيت في النوم قائلا يقول لقد لزم مالك كلمة عند فتواه لو وردت على الجبال لقلعتها وهي ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وإذا سمع أحدا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبسه في الحبس حتى يصحح ما قال. ولبعضهم لما رأى هيبة الناس له وإجلالهم:
يدع الجواب فما يراجع هيبة
…
والسائلون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعز سلطان التقى
…
فهو المطاع وليس ذا سلطان
وكان يقام الرجل بين يديه كما يقام بين يدي الأمير وكان كثيرا ما يتمثل بقول القائل:
وخير أمور الدين ما كان سنة
…
وشر الأمور المحدثات البدائع
وكان يكره المراء والجدال في العلم ويقول إنه يذهب نور العلم من القلب، وإذا جاء أحد من أهل الأهواء يجادله يقول: يا هذا أما أنا فعلى بصيرة من ربي وأما أنت فشاك فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه ثم يقرأ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} الآية، وكفاه رضي الله عنه فخرا قوله صلى الله عليه وسلم، (يخرج ناس من المشرق إلى المغرب في طلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة
(1)
)، ولفظ الترمذي: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة
(2)
)، وقد فسره الأئمة بمالك، قال سفيان: كانوا يرونه مالكا، قال ابن مهدي: وعنى سفيان بقوله كانوا يرونه التابعين اهـ لأنه الذي انفرد بهذا الوصف عند الإطلاق، ولم يشتهر به غيره، فإذا قيل: هذا قول عالم المدينة، علم أنه مالك. وكفاه فضلا أنه إمام الأئمة
(1)
الحاكم الكبير، ج 1 ص 125. عن أبي موسى الأشعري، ط دار الغرب.
(2)
يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة الترمذي، كتاب العلم، رقم الحديث:2680.
فأبو حنيفة روى عنه وألَّف الدارقطني جزءا في الأحاديث التي رواها أبو حنيفة عن مالك وقد قالت الحنفية أجل من روى عن مالك أبو حنيفة، والشافعي تلميذ مالك، وقد قال بعضهم: كفى الشافعي فخرا أن مالكا شيخه، وكفى مالكا فخرا أن الشافعي تلميذه، وأحمد تلميذ الشافعي، فكان مالك شيخا للجميع رضي الله عنهم، وقال الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك النجم، وقال: إذا جاء الأثر فمالك النجم وما أحد أمَنُّ علي من مالك جعلت مالكا حجة بيني وبين ربي.
وحكي عن الأوزاعي أنه كان إذا ذكره قال: عالم العلماء، وعالم أهل المدينة، ومفتي الحرمين، وقال بقية بن الوليد: ما بقي على وجه الأرض أعلم بسنة ماضية ولا باقية منك يا مالك. وقال ابن مهدي: ما بقي على وجه الأرض أحد آمن على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من مالك. وقال يحيى بن سعيد ويحيى بن معين: مالك أمير المؤمنين في الحديث. وقال البخاري وغيره: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي من أثبت أصحاب الزهري، قال: مالك أثبت في كل شيء. وقال ابن معين: مالك من حجج الله على خلقه، وقال ابن حنبل: مالك أتبع من سفيان: وسئل عنه وعن الثوري أيهما أعلم؟ فقال: مالك أكبر في قلبي، وعنه وعن الأوزاعي؟ فقال: مالك أحب إلي وإن كان الأوزاعي من الأئمة. وعنه وعن الليث؟ فقال: مالك، وهكذا فضله على حماد والنخعي، ثم قال: مالك سيد من سادات أهل العلم وهو إمام في الفقه والحديث، ومن مثل مالك؟ فقيل له الرجل يريد حفظ الحديث حديث من يحفظ؟ ويريد أن ينظر في الفقه في رأي من ينظر؟ فقال حديث مالك، ورأي مالك وقال يحيى بن سعيد القطاني ما أقدم أحدا على مالك في زمانه، وقال الشافعي سألني محمد بن الحسن يعني صاحب أبي حنيفة أيهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم؟ فقلت على الإنصاف قال نعم فقلت ناشدتك الله تعالى أيهما أعلم بالقرآن قال اللهم صاحبكم فقلت ناشدتك الله أيهما أعلم بالسنة قال اللهم صاحبكم فقلت ناشدتك الله أيهما أعلم بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدمين قال اللهم صاحبكم، قال الشافعي فقلت له لم يبق إلا القياس والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء. وقال الدارقطني لا نعلم أن أحدا تقدم أو تأخر اجتمع له ما اجتمع لمالك: وذلك أنه روى عنه رجلان حديثا واحدا بين وفاتيهما نحو مائة وثلاثين سنة محمد بن
شهاب الزهري شيخه توفي سنة خمس وعشرين ومائة، وأبو حذافة السهمي توفي بعد الخمسين والمائتين رويا عنه حديث الفريعة في سكنى المعتدة، وكتب إليه عبد الله العمري يحضه على العزلة وترك الناس فكتب إليه مالك قائلا: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق فرب رجل فتح له في الصلاة دون الصوم وآخر في الصدقة ولم يفتح له في الصوم وآخر في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة ونشر العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر وقد رضيت بما فتح الله لي من ذلك وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه وأرجو أن يكون كلنا على خير ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قسم الله له والسلام. وقال رضي الله عنه: ينبغي لمن خوله الله علما - وكان يشار إليه بالأصابع - أن يضع التراب على رأسه ويعاتب نفسه إذا خلا بها ولا يفرح بالرياسة فإنه إذا اضطجع في قبره وتوسد التراب ساءه ذلك كله، وقال إذا سئل الرجل عن مسألة ولم يجب واندفعت عنه فإنما هي بلية صرفها الله عنه، وقال عليك بمجالسة من يزيد علمك قوله ويدعوك إلى الآخرة فعله، وقال من إذالة العلم أن تنطق به قبل أن تسأل عنه ومن إذالته أن تجيب كل من سألك ولا يكون إماما من حدث بكل ما سمع، وقال إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله ونظمه بعضهم فقال:
ومن كان يهوى أن يرى متصدرا
…
ويكره لا أدري أصيبت مقاتله
وقال أستحيي من الله أن أطأ تربة فيها قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة فكان لا يركب في المدينة، وقال له رجل أوصني فقال إذا هممت بأمر من طاعة الله فلا تحبسه فواقا حتى تمضيه فإنك لا تأمن الأحداث. وإن هممت بغير ذلك فإن استطعت أن لا تمضيه ولو فواقا فافعل لعل الله يحدث لك تركه، ولا تستحي إذا دعيت لأمر غير حق أن تعمل الحق واقرأ {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} وطهر ثيابك ونقها من معاصي الله وعليك بمعالي الأمور وكبرائها واتق رذائلها وسفسافها فإن الله يحب معالي الأمور، وأكثر تلاوة القرءان واجتهد في الخير واذهب حيث شئت.
وكان رحمه الله يأتي المسجد ويشهد الصلاة والجنائز ويعود المرضى ويقضي الحقوق ويجيب الدعوة، ثم ترك الجلوس بالمسجد فكان يصلي وينصرف ثم ترك إتيان المسجد وترك عيادة المرضى وشهود الجنائز فكان أصحابه يأتونه فيعزيهم فسئل عن عذره في التخلف عن المسجد فقال ليس كل أحد يقدر أن يذكر عذره. وحكي أنه سئل حين احتضر، فقال: لولا أنه في آخر يوم من أيام الدنيا ما أخبرتكم كان بي سلس بول فكرهت أن آتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الحالة، وكرهت أن أذكر علتي فأشكو ربي، وقيل: إن ذلك بسبب فتق اعتراه في ذات الله في أيام أبي جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس، ضربه جعفر بن سليمان العباسي وكان أميرا على المدينة لأبي جعفر المنصور بسبب أنه نهاه أن يحدث بحديث: (ليس على مكره طلاق
(1)
)، ثم سأله عنه سائل فحدث به على رؤوس الأشهاد، وقيل: بسبب أنه أفتى بأن أيمان البيعة لا تلزم لأن الحالف مكره وذلك حين قام على المنصور سيدي محمد بن عبد الله الكامل، وقيل بسبب تقديم عثمان على علي. وقد مدت يداه عند ضربه حتى انخلعت كتفاه فلم يكن يقدر أن يرفع يديه ولا أن يصلح رداءه ولما ضرب حمل مغشيا عليه إلى منزلة فلما أفاق قال أشهدكم أني جعلت ضاربي في حل. ولما حج المنصور أرسل إليه جعفرا ليقتص منه فقال أعوذ بالله والله ما ارتفع سوط منها عن جسمي إلا وأنا أجعله في حل في ذلك الوقت لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع حين الضرب وهو يقول اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون، واختلف في مقدار ضربه من ثلاثين إلى مائة وما زاده الله بذلك الضرب إلا عزا حتى كان تلك الضربات حليا حلي به رحمه الله ولما احتضر قال ليعاينن الناس غدا من رحمة الله ما لم يكن لهم على بال، قال عبد الحق عاين من سعة رحمة الله ما أوجب له أن قال هذا القول، وقال يحيى بن يحيى الليثي دخلنا على مالك ونحن مائة وثلاثون فسلمنا عليه فلما فرغنا أقبل علينا بوجهه وقال الحمد لله الذي أضحك وأبكى والحمد لله الذي أمات وأحيا ثم قال أما إنه قد جاء أمر الله ولابد من لقائه تعالى فقلنا له كيف تجدك يا أبا عبد الله فقال أجدني مستبشرا يصحبني أولياء الله وهم أهل
(1)
ليس على مستكره طلاق. ترتيب المدارك، وزارة الأوقاف المغربية، ج 2 ص 130 انظر كشف الخفاء، ج 1 ص 492.
العلم وليس شيء أعز على الله بعد الأنبياء منهم ومستبشرا بطلبي هذا الأمر، ثم حدثهم عن ربيعة بشيء من فضائل العلم قال يحيى هذا آخر حديث سمعته من مالك رحمة الله عليه. ودفن بالبقيع وقبره مشهور يزار وبقربه قبر نافع، قال السخاوي لا أدري نافع المقرئ أو مولى ابن عمر وكلاهما شيخ لمالك فقد قرأ القرآن على نافع القارئ وروى هو عن مالك. ورأت عمة الشافعي وهي بمكة في المنام قائلا يقول مات الليلة أعلم أهل الأرض قال الشافعي فحسبناها فوجدناها ليلة وفاة مالك، ورأى محمد بن رمح في النوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله قد اختلف علينا مالك والليث فأيهما أعلم قال مالك وارث وجدي، قال أبو نعيم معناه وارث علمي، ورآه صلى الله عليه وسلم أبو بكر بن سعدون فسأله عن مسألة اختلف فيها مالك والليث فقال رأي مالك هو الصواب، ورآه بعضهم فسأله عمن يقتدى به في الحديث وفي الفقه وذكر له اختلاف العلماء فأمره صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بمالك، وكان الحسن بن حمزة المغفري يشتمه، قال فرأيت في النوم الجنة فتحت وقلت ما هذا قالوا الجنة قلت وما هذه الغرف قالوا لمالك بما ضبط على الناس دينهم فلم أنتقصه بعد، وصرت أكتب عنه.
واعلم أنه لم يعتزل مالكي قط نص عليه غير واحد ومذهبه عمري سد الحيل واتقاء الشبهات وعليه أحل المغرب (الوارد بقاؤهم على الحق
(1)
)، وقال عبد الوهاب الشعراني ورد عليَّ شخص من الفقراء وقال لي مررت البارحة على شخص من علماء المالكية زائرا له فقلت له عند الانصراف اقرأ الفاتحة فأبى وقال ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقراءتها عند الانصراف فقلت لهذا الزائر الأمر سهل ليس علينا وزر إذا قرأنا الفاتحة عند الانصراف ولا إذا لم نقرأها، فنمت فرأيت تلك الليلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاتبني على قولي الأمر سهل ثم أمرني بمطالعة مذهب الإمام مالك فطالعت الموطأ والمدونة الكبرى ثم اختصرتها، ولفظه عليه الصلاة والسلام يا عبد الوهاب عليك بالاطلاع على أقوال إمام دار هجرتي والوقوف عندها فإنه شهد
(1)
لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك. صحيح مسلم، كتاب الإمارة، رقم الحديث. 1920.
- لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة. صحيح مسلم، كتاب الإمارة، رقم الحديث:1925.
الآثار أي شهد آثاري انتهى. وفي الحلية عن المثنى بن سعيد أنه سمع مالكا رضي الله عنه يقول ما بت ليلة إلا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه رضي الله عنه أنه قال جالست ابن هرمز ثلاث عشرة وروي ست عشرة سنة في علم لم أبثه لأحد من الناس اهـ وذلك لمحافظته على كتم الأسرار، وقد قيل صدور الأحرار قبور الأسرار، وقد كان الجنيد رضي الله عنه إذا أراد أن يتكلم في توحيد الخواص أغلق الباب ليلا يدخل من لا ذوق له في العلوم الوهبية فيسمع ما لا يفهمه ويحمله على غير المراد فيضل، وقد قال صلى الله عليه وسلم (حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله
(1)
) وقد قال الحسن رضي الله عنه:
يا رب جوهر علم لو أبوح به
…
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستباح رجال مسلمون دمي
…
يرون أقبح ما يأتونه حسنا
ومآثر الإمام لا تحصى ولا تعد فتستقصى، وقول المصنف رحمه الله: صفة لمختصر لا حال اسم فاعل من الإبانة أو التبيين بمعنى الإظهار فيهما. اللام لتقوية العمل لضعف العامل لفرعيته عن الفعل في العمل نحو {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وما موصول اسمي واقع على ما ليس بشاذ ولا ضعيف من أقوال المذهب فيصدق بالمتفق عليه والمشهور والراجح والمساوي. الضمير للموصول والباء للآلة مرفوع بما قبله أو بالفعل المتعلق هو به أو بالابتداء، والمجرور خبره، وواوه عن ياء كتقوى وإن ضم أوله صحح كفتيا، ويجمع على فتاوى منقوصا ومقصورا قياسا فيهما والأصل النقص والقصر تخفيف وهو اسم مصدر بمعنى الإفتاء وهو الإخبار بالحكم لا على وجه الإلزام، وتطلق الفتوى أيضا على الحكم الذي وقع الإفتاء به فيقال فتوى مشهورة أو ضعيفة ويقال استفتيت فلانا في هذه المسألة فأفتاني فيها بكذا أي سألته عن حكم الشرع في المسألة فبينه لي {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} وتخصيص الفتوى بحكم الشرع عرفي وهو في اللغة
(1)
حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله. البخاري، كتاب العلم، رقم الحديث:127. ولفظ القرطبي في تفسيره ج 1 ص 874 حدث الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله.
أعم {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} ، وفاتيت فلانا فيما تنازعنا فيه رافعته إلى المفتي قال:
ففاتيني إلى حكَم من اهلي
…
وأهلك لا يحيف ولا يميل
وتفاتينا ترافعنا قال:
أنخ بفناء أشرف من عدي
…
ومن جرم وهم أهل التفاتي
ويشترط في المفتي أن يكون عدلا ليلا يقصد ما لا يجوز كضرر أحد الخصمين أو نفع أحدهما لعداوة أو صداقة وتحصيل ثفع من أجرة فيدخل في قوله {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} الآية. أو جاه كأن يرخص لذي جاه مثلا وليلا يتساهل فيفتي بلا إمعانِ نظرٍ لاعتقاده أن السرعة براعة وفضيلة لدلالتها على الاستحضار وأن البطء عجز ونقص والفضيلة هي التثبت في دين الله والتأني ليلا يضل ويضل، ويشترط فيه أيضا أن يكون عارفا لأن الجاهل ضال عن الطريق أعمى فكيف يطلب منه أن يهدي إليها وفي الحديث (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
(1)
) رواه الشيخان والترمذي. وقد أفتى أئمة الذهب كالقابسي واللخمي وابن رشد بأنه لا تجوز الفتوى من الكتب المشهورة لمن لم يقرأها على الشيوخ فضلا عن الغريبة ولله در القائل:
إذا لم يذاكر ذو العلوم بعلمه
…
ولم يستفد علما نسى ما تقدما
وكم جامع للكتب في كل مذهب
…
يزيد على الأيام في جمعه عمى
وقال آخر:
لا تحسببنْ أنَّ بالكتْـ
…
ـب مثلنا ستصير
(1)
إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. صحيح البخاري، رقم الحديث: 100 ومسلم في صحيحه، رقم الحديث:2673. والترمذى في سننه، رقم الحديث: 2652. ولفظ مسلم والترمذي ينتزعه من الناس.
فللدجاجة ريش
…
لكنها لا تطير
وقال أبو حيان:
أمدعيا علما وليس بقارئ
…
كتابا على شيخ به يسهل الحزن
أتزعم أن الذهن يوضح مشكلا
…
بلا موضح كلا لقد كذب الذهن
وإن الذي تبغيه دون معلم
…
كموقد مصباح وليس له دهن
وقال ابن العريف:
من لم يشافه عالما بأصوله
…
فيقينه في الشكلات ظنون
الكتب تذكرة لمن هو عالم
…
وصوابها بمحالها معجون
والفكر غواص عليها مخرج
…
والحق فيها لؤلؤ مكنون
واعلم أن العارف إما مجتهد مطلق بأن اجتمعت فيه صفات المجتهد وتوفرت فيه شروطه المقررة في أصول الفقه ومن هذا وصفه يجب عليه الفتوى بما أداه إليه اجتهاده واقتضته أدلته ولا يقلد غيره، وإن تعارضت الأدلة أفتى بالراجح عنده فإن لم يترجح شيء فقيل يتساقطان وقيل يخير، وبالغ الشاطبي في إبطاله. وإما مجتهد مقيد بأن يتخلف فيه بعض شروط الاجتهاد المطلق ولكن عنده آلات الاجتهاد المقيد بالمذهب بأن يكون متبحرا في الاطلاع على نقول المذهب متفقها فيها عارفا بمطلقها ومقيدها وعامها وخاصها مستحضرا لكلام الشيوخ الراسخين في العلم المعتنين بالكلام عليها الشارحين لها متقنا لمعرفة قواعد إمامه ومداركه وهي أدلته التي بنى عليها مذهبه ومستنداته في استنباط الأحكام الشرعية. وعنده من علم أصول الفقه وعلوم العربية من لغة ونحو وبيان ومن ثقوب الفهم ما قدر به على التصرف في المذهب فهذا هو مجتهد المذهب تجب عليه الفتوى بنصوص المذهب بالمتفق عليه منها وبالراجح من المختلف فيه، وإليه النظر في الترجيح بحصول آلاته عنده فإن استوى القولان أو الأقوال فهل يحمل المفتي مستفتيه على معين من المتساويين فأكثر، أو يحكي له ما في المسألة ويخبره بالقائلين فيختار هو لنفسه، وينبغي أن
يختلف ذلك بأحوال المستفتين ومن لديه منهم معرفة ومن ليس كذلك، فمن له معرفة يمكنه الترجيح معها ولو بصفات القائلين أخبره وإلا حمله على معين وهذا توفيق حسن ظاهر، وما ذكره من العمل بأحد المتساويين ذكره القرافي وذكر أن الحاكم يحكم بأيهما شاء وقد حكى غيره الإجماع على منعه، وكيف يكون جواب الحاكم للمحكوم عليه إذا قال له رجحت علي خصمي بلا مرجح إلا بشهوتك، وقد أنكر الشاطبي القول بالتخيير غاية وبالغ في إبطاله وقال إن القولين عند المقلد كالدليلين عند المجتهد، فكما أن المجتهد لا يجوز له العمل بأحد الدليلين من غير نظر بل لا بد له من الترجيح أو الوقف، فكذلك المقلد إن تعذر الترجيح توقف ولا يختار بهواه لأن الشريعة وضعت لإخراج المكلف عن دائرة هواه، وقول المفتي للمقلد أنت مخير بين القولين إحداث قول ثالث بلا دليل وإن لم يوجد في المذهب نص فهل يقيس على المنصوص بشروط القياس ولا يخرج عن قواعد المذهب وهو المشهور والراجح، وقيل له الخروج عنه وقيل لا يقيس أصلا، وبقي من أقسام العارف ثالث وهو من تخلف فيه إتقان صرفة القواعد، وما ذكر بَعْدَهَا مَعَ اتصافه بما اتصف به الذي قبله من التفقه والتبحر والاستحضار فهذا له الفتوى بما حفظه من نصوص المذهب بما هو مطابق لعين النازلة، ولا بد أن يكون عنده من علم العربية ما يفهم به معاني الكلام إفرادا وتركيبا، ومن الفهم ما يحسن به التطبيق ولا يقيس ما لا نص فيه على المنصوص، ولا يخرج حكم مسألة على نظيرتها لفقده آلات القياس فقد يفرق بين المتساويين أو يعكس، وأما من حصل بعض المختصرات من كتب المذهب فيها مسائل عامة مخصوصة في غيرها ومطلقة مقيدة في غيرها أو فيها ضعيف وغيره ولا تحقيق عنده ولا علم بالمخصصات والقيود ولا تمييز للمشهور من الضعيف فهذا تحرم عليه الفتوى بما حصله لأنه هو والعامي المحض سواء في الجهل بما تجب به الفتوى، وقد كان بعضهم يفتي وهو لا يعرف إعراب بسم الله الرحمن الرحيم استنادا منه لحفظ أقوال مالك وأصحابه وظاهر قول المازري في كتاب الأقضية أن فعل هذا لا يجوز.
واعلم أن المفتي مخبر عن الله تعالى ومن أخبر عنه تعلى مع عدم ضبطه ذلك الخبر فهو عند الله تعلى بمنزلة الكاذب عليه، والمقلد الذي يريد القياس على مسائل إمامه نسبته إلى مذهب إمامه
كنسبة إمامه إلى صاحب الشريعة في اتباع نصوصه والتخريج على مقاصده فلهذا لا يجوز التخريج إلا لمن هو عالم بتفاصيل الأقيسة والعلل ورتب الصالح وشروط القواعد وما يصلح أن يكون معارضا وما لا يصلح وهذا لا يعرفه إلا من عرف أصول الفقه معرفة حسنة.
واعلم أن من لا حفظ له ولا فهم أو له مجرد الحفظ بلا فهم لا يجوز له التصدي للفتيا لغيره ولا الاقتداء في نفسه بما يظهر له من غير دليل، وقد ذكر بعض شراح الرسالة أن من البدع المجمع على تحريمها تقديم الجهال على العلماء، وتولية المناصب الشرعية بالتوارث لمن لا يصلح لها، ومن له فهم ثاقب وليس بحافظ لكن له كتب معتمدة وممارسة لها ومعرفة بمظان المسائل فهو ملحق بالحافظ لأن الحفظ حفظ صدر وحفظ كتاب لكن لا بد له من دوام المارسة، كما يتأكد ذلك أيضا على الحافظ قال ابن عبد السلام من لا يختم التهذيب مرة في العام لا يفتي به قلت ومثل التهذيب مختصر الشيخ خليل في زمننا بل قال لنا شيخنا الحبيب قدس سره ينبغي أن يختم مرتين في العام قال جميعه الهلالي، وقد تقدم أن ما به الفتوى المتفق عليه والراجح والمشهور، والراجح ما قوي دليله، والمشهور ما كثر قائله كما يناسب معناه لغة فإن تعارضا فمقتضى نصوص الفقهاء والأصوليين أن العمل بالراجح واجب، وقيل المشهور ما قوي دليله فيترادف مع الراجح.
واعلم أن قول مالك في المدونة مقدم على قول ابن القاسم فيها، وقول ابن القاسم فيها مقدم على قول غيره فيها: وقول غيره فيها مقدم على قوله أي ابن القاسم في غيرها، ويؤخذ مما مر تقديم قول ابن القاسم إذا كانا معا في غيرها ولم يكن للمسألة ذكر فيها، وبذلك جرت أحكام قرطبة وهذا لمن قصر عن الاجتهاد وإلا وجب عليه بذل وسعه في الترجيح كما قاله غير واحد قاله الشيخ الهلالي، ومقابل المشهور يسمى الشاذ والضعيف ومقابل الراجح.
واعلم أن من يكتفي بأن يكون في فتياه أو عمله موافقا لقول أو وجه في المسألة ويعمل بما شاء من الأقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح فقد جهل وفارق الإجماع، وحكى الباجي عمن يوثق به أنه وقعت نازلة فأفتى فيها جماعة وهو غائب بما يضره فلما عاد سألهم فقالوا ما علمنا أنها لك وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه، وهذا حرام بالإجماع وإذا حرم هذا بالإجماع مع صحة نسبة القول إلى قائله فكيف حال من يكتفي بكل ما يجده غير منسوب أو منسوبا لمن لا يعرفه أو لمن لا
يعرف صحة نسبته إليه؟ كالفتوى بأن طلاق الغضب لا يلزم وأنه لا بد في اللزوم من تراضي الزوجين، وبأن الحلف بالطلاق على قطع رحم أو غيره من المعاصي لا يلزم، والمفتون بذلك يعتمدون على تقاييد مشتملة على أحاديث وآثار عن السلف وعلى نسبة ما فيها لكتاب معزو لابن أبي زيد وغيره فيستبيحون بها الفروج المحرمة بالإجماع وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا نسأل الله العافية، وأجوبة ابن سحنون والتقريب والتبيين الموضوع لابن أبي زيد وأجوبة القرويين وأحكام ابن الزيات بالزاي والياء والتاء والدلائل والأضداد جميع ذلك باطل وبهتان، والجزولي وابن عمر ومن في معناهما ما ينسب لهم يهدي ولا يعتمد عليه قاله الشيخ الهلالي. قال ومن الكتب التي لا يعتمد على ما انفردت به شرح العلامة الشيخ علي الأجهوري على المختصر والمراد الوسط وأما الصغير فقد ذكره أبو سالم وسألت عنه بمصر فما وجدت من سمع به، وأما الكبير فذكروا لي أنه لم يزل في مُبَيضَتِهِ لم يخرج وما قيل فيه يقال في شروح تلامذته وأتباعه كالشيخ عبد الباقي والشيخ إبراهيم الشبراخيتي والشيخ الخرشي لأنهم يقلدونه غالبا هذا مع أن الشيخ عليا الأجهوري رحمه الله حرر كثيرا من المسائل أتم تحرير وقرره أوضح تقرير وحصل كثيرا من النقول أحسن تحصيل وفصل مجملات أبين تفصيل جزاه الله خيرا، ولله در ابن دريد إذ يقول:
إذا بلوت السيف محمودا فلا
…
تذممه يوما أن تراه قد نبا
فالطرف يجتاز المدى وربما
…
عَنَّ لمعداه عثار فكبا
انتهى قال الشيخ الهلالي وقد سئلت عن شرح تلميذه الشيخ عبد الباقي بالجامع الأزهر فقلت لا ينبغي للطالب أن يترك مطالعته لكثرة فوائده، ولا أن يقلده في كل ما يقول أو ينقل لكثرة الغلط في مقاصده، ومنها شرح التتائي الصغير.
ومن الكتب المعتمدة الكتب التي أشار المؤلف إليها للشيوخ الأربعة سوى ما قيل في تبصرة اللخمي وسيأتي إن شاء الله ومنها: أحكام ابن سهل، والمتيطية، ومختصراتهما، وتبصرة ابن فرحون، وشروح ابن الحاجب، وديوان ابن عرفة، وشرح القلشاني للرسالة، وما وجد من شرح ابن مرزوق على المختصر، وشرح تلميذه ابن فائد، وشرح الحطاب على المختصر، وشرح الشيخ سالم غير أنه
قد يقع له خلل عند اختصاره كلام الحطاب، وشرح المواق الكبير والصغير سوى أنه وقع له في مواضع قليلة خلل عند نقله بالمعنى، وشرح الشيخ حلولو الكبير والصغير، وشرح بهرام الكبير وشرحه الصغير قال أبو البركات: هما من الكتب المعتمدة في الفتوى مع أنه لم يصححهما لسبب ذكره، وحاشية ابن غازي، والشيخ أحمد بابا، والشيخ مصطفى، والطخيخي، والدر النثير لابن هلال على أجوبة أبي الحسن الصغير، ونوازل ابن هلال والدرر المكنونة في نوازل مازونه، والمعيار وهو أجمع ما رأينا لكن فيه بعض الفتاوي الضعيفة: ونوازل سيدي عيسى السجستاني لكن فيه فتاوي مجملة تحتاج إلى تفصيل: والأجوبة الناصرية كثيرا ما يكون فيها إجمال وإطلاق في محل التقييد وخروج عن المشهور، ومن النوازل المحتاجة إلى التحرير لإجمالها واشتمالها على غير المشهور: نوازل الورزازي سيدي محمد المتوفى بمكة.
واعلم أنه لا يجوز بالإجماع الفتوى ولا الحكم بالمرجوح حكاه القرافي في غير موضع، وقال ابن عرفة لا يعتبر من أحكام قضاة العصر إلا ما لا يخالف المشهور ومذهب المدونة، وقد قالوا إن ما جرى به العمل مقدم على المشهور فكيف يصح هذا والجواب أن المفتي القادر على الترجيح له الفتوى بغير المشهور إذا ظهر له رجحانه لا مطلقا: فكل فتوى خالفت المشهور تطرح ويحكم بالمشهور إلا أن تكون خالفته لوجه، فإذا رجح بعض المتأخرين المتأهلين للترجيح قولا مقابلا للمشهور بموجب رجحانه عندهم وأجروا به العمل في الحكم والفتيا تعين على المقلد اتباعهم فيقدم مقابل المشهور بموجبه لا بمجرد الهوى وقد تقدم وجوب العمل بالراجح فلا تناقض والمجمع على تحريم العمل به هو المرجوح عند العامل به أو عند مقلده فتقديم ما جرى به العمل لا ينافي ما انعقد عليه الإجماع من مطلوبية العمل بالراجح بل هو جزء من جزئياته، ويشترط لتقديم ما جرى به العمل خمسة أمور أحدها ثبوت جريان العمل به، ثانيها معرفة محل جريانه عاما أو خاصا بناحية ثالثها معرفة زمانه لأنه إذا جهل المحل أو الزمن الذي جرى به العمل لم تتأت تعديته إلى المحل الذي يراد تعديته إليه، إذ للأمكنة خصوصيات كما للأزمنة خصوصيات مثلا إذا ثبت عندنا أن أهل الأندلس جرى عملهم في القرن الخامس أو السادس بالإذن للنصارى الذين تحت الذمة في إحداث الكنائس في أرض العنوة أو في أرض اختطها المسلمون ونقلوهم إليها
فلا يجوز لنا الاقتداء بهم بأن نأذن لليهود في سجلماسة في إحداثها لأن أهل الأندلس إذ ذاك مجاورون لأهل الحرب فأذنوا لهم خوف حصول الضرر بتقوية العدو وفوات النفع الحاصل من أهل الذمة من الجزية وغيرها وذلك مأمون عندنا بحمد الله، رابعها معرفة كون من أجرى ذلك العمل من الأئمة المقتدى بهم في الترجيح فإذا لم تثبت أهليته ربما عمل بالمرجوح لجهله أو جوره، خامسها معرفة السبب الذي لأجله عدلوا عن المشهور فإذا جهل موجب جري العمل امتنعت تعديته لجواز كونه معدوما في البلد الذي يراد تعديته إليه، ويثبت جري العمل بشهادة العدول وبنص عالم يوثق به، ومما يرجح مقابل المشهور العرف وهو أقوى المرجحات ولا يقتصر به على الترجيح من الخلاف بل يعتمد عليه في إنشاء حكم مقابل للحكم المتفق عليه وذلك في الأحكام التي مستندها العرف فإذا تبدل تبدل الحكم عموما أو خصوصا كاختلاف الزوجين مثلا فرب متاع يشهد العرف في بلد وزمان أنه للرجال وفي بلد آخر وزمن آخر أنه للنساء، ويشهد في الزمن الواحد والمكان الواحد أنه من متاع النساء بالنسبة لقوم ومن متاع الرجال بالنسبة إلى آخرين، والترجيح بالعرف لا يختص بالمجتهد بل المقلد الصرف يدركه لأن العرف سبب ظاهر يشترك في إدراكه الخاص والعام، وإجراء الأحكام البنية على العوائد مع تغيرها على ما كانت عليه خلاف الإجماع وجهالة في الدين وليس في هذا تجويز للاجتهاد من المقلد حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، ومن هذا ما روي عن مالك أن القول قول الزوج إذا تنازع مع الزوجة في قبض الصداق بعد الدخول مع أن الأصل عدم القبض لأن عادتهم بالمدينة أن لا يدخل الزوج بالمرأة إلا بعد قبض جميع الصداق. قال القاضي إسماعيل واليوم عادتنا على خلاف ذلك فالقول قول المرأة مع يمينها لاختلاف العوائد فالأحكام المبنية على العرف تعتبر به بلا خلاف بين العلماء لكن قد يقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا. فإذا استفتاك رجل من غير إقليمك فاسأله عن عرف بلده وأفته به دون عرف بلدك وهذا هو الحق الواضح.
ومن هذا الباب اختلاف المتبايعين في قبض العوضين وفي الصحة وضدها وغير ذلك، ومسائل التناول في البيعات، ومسائل التهمة في بيوع الآجال، ومسائل المرابحة، ومدلولات الألفاظ في الأيمان وغيرها ألا ترى أن المنصوص عليه في المدونة وغيرها في لفظ اليمين عند عدم النية أن
اللازم فيها كفارة اليمين بالله فقط. والذي به الفتوى الآن لزوم الطلاق لأن السلف حملوها على اليمين الشرعية؛ إذ لم يكن في عرفهم إرادة الطلاق بلفظ اليمين والعرف الآن إرادة الطلاق ولهذا يلزم فيها ما يحلف به عادة، ومما يوجب ترجيع مقابل المشهور كونه طريقا لدرء مفسدة ومنه أيضا كونه طريقا لجلب مصلحة إن لم يمكن ذلك فيهما إلا بمقابل المشهور فيغلب على الظن أن قائل المشهور لو أدرك هذا الزمان لم يقل إلا بمقابله لأن الشريعة جاءت بجلب الصالح ودرء المفاسد فضلا من الله ونعمة، ولا بد في الترجيح بهذين الأمرين من أهل الترجيح بإتقان الآلات والقواعد؛ إذ ليست كل مصلحة ومفسدة تعتبر في نظر الشرع بل لا بد من نظر في ذلك بملكة يميز بها بين المعتبر شرعا وغيره. ومن ذلك مسألة بيع المضغوط شيئا لفكاك نفسه بثمنه فالمشهور فيها أنه يرد إليه ما باعه بلا ثمن، ولما كثر الجور وشاع الضغط مال كثير من المحققين من المتأخرين إلى لزومه وهو قول ابن كنانة لأن المضغوطين لا يخلصهم استغاثة ولا شكوى ولا غيرهما إلا إعطاء المال الذي ضغطوا فيه غالبا فالجري على المشهور يؤدي إلى بقائهم في العذاب الأليم أو إلى الهلاك، وإذا كان كذلك فالمحافظة على النفس والعرض مقدمة على المحافظة على المال، ومن ذلك مسألة توجه اليمين في الدعاوي المشهور أنها لا تتوجه إلا بعد ثبوت الخلطة ليلا يتسلط أهل الفجور إلى إلجاء أهل المروءات بالدعاوي الباطلة إلى الأيمان لكي يصالحوهم بمال لأن كثيرا من الناس يستصعبون اليمين إما صونا لرضه أو غير ذلك سوى مسائل تتوجه فيها دون ذلك، ولما كثر إنكار الحقوق وقل الأمان وعزت المروءة حكم الأندلسيون ومن وافقهم بتوجه اليمين وإن لم تثبت خلطة لتنزل فساد أحوال الناس منزلة ثبوت الخلطة، وتوسط بعض المحققين فرأى أنها لا تتوجه بمجرد الدعوى فيما يستبعد كالدعوى على المعروف بالصلاح وعلى المخدرة وذلك حسن، ومن ذلك مسألة البالغ المولى عليه إذا أحسن التصرف في المال فمشهور قولي مالك أنه لا يخرج إلا بالفك عنه. وكان العمل على هذا القول المشهور حتى رأى المتأخرون كثيرا من الناس يتحيلون على تضييع أموال الناس فيكتمون الحجر ويتصرفون بمرأى من أوليائهم بلا نكر حتى إذا بدا لهم أظهروا رسوم التحجير ويقولون نحن محجورون فلا يلزمنا ما عقدناه ولا نغرم ما أتلفناه من المبيعات والأثمان فعدل المتأخرون إلى قول ابن القاسم بلزوم تصرفاتهم، وقد علم أن من قواعد
مالك سد الذرائع فيما يكثر التحيل به على الفساد، ومن ذلك مسألة الأرض تزرع غصبا أو تعديا ولم تقع فيها مفاصلة حتى فات الإبان المشهور أن الزرع لزارعه وعليه كراء المثل للأرض، والشاذ أن الزرع لصاحب الأرض وأفتى به المازري وجماعة من الفقهاء لا رأوا كثرة المتعدي والغصب فيتوصل المتعدي إلى مراده إذا لم يرد رب الأرض أن يكريها فيحرثها بلا إذن ثم يماطل بالمفاصلة حتى يفوت الإبان فيصير رب الأرض مجبورا على كراء المثل فإذا كثر هذا المتعدي في ناحية من البلاد ترجح الشاذ على المشهور حفظا لأموال الناس عن أخذها بغير طيب نفس.
وليحذر المفتي من أمور جرى بها العمل في بعض البلدان ولم يظهر لها مستند الآن منها الفتوى بأن طلاق العوام كله بائن ولو في مدخول بها دون عوض ولا لفظ خلع ولا حكم حاكم، وقصد بعض الطلبة بهذه الفتوى إباحة المطلقة ثلاثا فمن طلق طلقة رجعية ثم أردف الثلاث في العدة يفتونه بعدم لزوم الثلاث وفتواهم باطلة، ومنها الفتوى بثلاث كفارات اليمين بالله في الحلف بالأيمان اللازمة أو جميع الأيمان اعتمادا على من أفتى به من الأئمة المتقدمين وهذا لا يصح لأن السلف لم يكن متعارفا عندهم قصد معنى الطلاق بلفظ اليمين، واليمين المتعارفة عندهم هي الشرعية وهي اليمين بالله فلذا حملوا لفظ الأيمان اللازمة عليها وإن تبدل العرف حملت على المتعارف، ومنها اعتداد المطلقة ذات القروء بثلاثة أشهر ذكر الزقاق وناظم العمليات أنه جرى العمل بذلك بفاس وهي فتوى باطلة لخالفتها لصريح الكتاب والسنة، ومنها قولهم جرى العمل بترك اللعان مطلقا أو للفاسق فكيف لا يمكن الزوج من اللعان لنفي نسب ولد أجنبي مع وجوب نفيه باللعان عليه، وقول ابن عرفة لم ير نصا في حكمه واختار من عند نفسه الوجوب إذا كان لنفي الولد لعل مراده النص على الخصوص، وأما على العموم فلا تخفى مآخذه وقد صرح المفسرون بوجوبه في قوله تعالى {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} الآية وقدره المعربون فالواجب شهادة أحدهم أو فعليهم شهادة فإذا قال الزوج للحاكم أردت أداء هذا الواجب فكيف يكون جواب الحاكم؟ ومنها جري العمل بترك العهدتين إن أرادوا مع وجود الشرط أو العادة فهو خلاف المنصوص وإلا فليس مما نحن فيه، ومنها ما جرى به عمل فاس من عدم رد الدابة بالعيب إذا قام به المشتري بعد شهر ولا نعرف لذلك مستندا إلا فتوى صدرت من سيدي عبد الله العبدوسي فجعلوها قاعدة
مطردة واستثنى منها معاصر شيوخنا سيدي الحسن بن رحال الذباب فإنه ترد به الدابة ولو بعد أكثر من شهر لأنه لا يظهر إلا بعد طول وفي العمليات:
وبعد شهر الدواب بالخصوص
…
بالعيب لا ترد فافهم النصوص
والصواب ركوب جادة المذهب وترك تلك الفتوى خاصة بالنازلة التي وقعت فيها، وأمانة السيد أبي محمد العبدوسي لا تنكر وليست تقتضي أن يترك الذعب كله وتلغى نصوص جميع أئمة المذهب لفتواه التي لا يظهر لها مستند، ولعله راعى شيئا لا يوجد عند من يريد تعدية فتواه والله تعالى أعلم.
واعلم أن أول ما يجب على المفتي إخلاص القصد لوجه الله تعالى وإرادة امتثال أمره فلا يقصد رياء ولا سمعة ليلا يهلك مع الهالكين، وأن يستشعر أنه مخبر عن الله تعالى ونائب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ أحكام الله للأمة فيحمد الله على أهليته لهذه المنزلة العظيمة ويراعي حقوقها فلا يدنسها بشيء من المنهيات أو ترك المأمورات، ويعتقد أنه مسؤول عن جوابه هل كان عن علم أو جهل وهل أراد به وجه الله تعالى أو غيره، ويقدر نفسه واقفا بين يدي الله تعالى.
واعلم أن من كان يتلقى بالقبول كل ما له هو قائل، فلا أحد أحق منه بالتحري والخوف من الموقف الهائل، قال بعضهم كأنما مالك والله إذا سئل عن مسألة واقف بين الجنة والنار، وقال مالك رضي الله عنه ما شيء أشد علي من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام لأن هذا هو القطع في حكم الله، ولقد أدركت أهل العلم والفقه في بلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه، ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفتيا ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غدا لقللوا من هذا، وإن عمر بن الخطاب وعليا وعامة خيار الصحابة كانت ترد عليهم المسائل وهم خير القرون الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يجمعون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون ثم حينئذ يفتون فيها، ويتعين على المفتي المجيز للانتقال من مذهب لآخر أن ينظر فيما يفتي به المنتقل هل في المذهب المنتقل عنه ما يأباه أم لا؟ مثلا إذا
سأل مالكي شافعيا عن ترك الدلك فلا يبيحه له لأنها تبطل باتفاق الإمامين: مالك لعدم الدلك، والشافعي لعدم البسملة، وينبغي للمفتي أن لا يأخذ بظاهر لفظ المسائل العامي حتى يتبين قصده فإن العامة ربما عبروا باللفظ الصريح في معنى عن معنى آخر، وإذا وجد المفتي في آخر السطر من السؤال أومن فتوى من سبقه بياضا فليسده بما يليق به ولا يتركه ليلا يتخذ ذريعة إلى الباطل بزيادة قيد في البياض يتغير الحكم بسببه، وحكي أن بعض الفقهاء المشهورين كتب له من أراد تنقيصه سؤالا عمن مات عن أم وأخ لأم وترك بياضا آخر السطر ثم قال وابن عم فكتب الفقيه للأم الثلث وللأخ للأم السدس وما بقي لابن العم، فلما قبض المسائل الفتوى كتب في البياض وأب ثم دوَّر الفتوى على الناس بالكوفة وقال انظروا إلى فلان حجب الأب بابن العم، فقال أصحابه مثله ما يجهل هذا فقال هذا خطه شاهدا عليه فوقعت فيه فتنة عظيمة بين فئتين عظميتين من الفقهاء، ولا يفتي السائل إن اتهمه أنه أراد بالفتوى توصلا إلى باطل فإن كان ولابد فلينبه فيها على وجوب اجتناب ذلك الباطل كمن قتل له قتيل وأراد إثارة الفتنة فيسأل هل لولي المقتول المطالبة بدمه، فإذا أفتي بذلك يذهب لقبيلة يستنصر بها ويقول أفتاني العلماء بأن الطلب يجوز لي فيزحف إلى قبيلة القاتل فتقع فتنة عظيمة فهذا ترك الفتوى له أولى، وإن أفتى زاد في الجواب إن كانت المطالبة تؤدي إلى الفتنة فليس للولي المطالبة. ومثل هذا كثير فليتحرز منه الفقيه فإن الفقهاء أمناء الله على خلقه فمتى علم الفقيه قصدهم اتخاذه سلما للخيانة فلا يساعدهم بل يحتاط على أداء الأمانة على وجه يرضي الرب وإلا كان خائنا ممقوتا والعياذ بالله تعالى.
وليبذل المفتي جهده في تحري الصواب فإذا أراد أن يخرِّج فليبحث وليجتهد في مطالعة النصوص ليلا يكون فيها ما ينافي مقتضى التخريج، إذ لا يعمل بالمخرج مع وجود النص، ثم يبحث في قواعد الإجماع وقواعد مذهبه هل فيها ما يقتضي فرقا بين الفرع والأصل فمتى وجد فرقا أو شك فيه حرم القياس، ثم ينظر في قواعد القياس وأركانه وما يتعلق بكل منها وفي القواعد المخلة بالدليل. ولهذا لا يجوز التخريج إلا لمن هو شديد الاستحضار لقواعد مذهبه وقواعد الإجماع، وكان واسع الاطلاع على نصوص مذهبه وكانت له معرفة بعلم الأصول وعلوم العربية وفهم حسن وإلا امتنع التخريج، وإذا أراد الفتوى بالمنصوص فلا بد أن يكون له من الاطلاع على المنقول ما لا
يخفى معه تقييد أو تخصيص وإلا منع أن يفتي، وإن حفظ نص المسألة إلا إذا كان النص قد نقله وأبقاه على ظاهره من عرف من الأئمة بالتخصيص والتقييد فله الفتوى به تقليدا لناقله لأن الغالب أنه لو كان هناك مقيد أو مخصص لنقله على حسب ما عرف من عادته، وينبغي له أن يلتزم خطا واحدا وعلامة واحدة لأن التنويع قد يكون سببا للتزوير عليه وأن لا يكون قلمه في غاية الغلظ فيضيع ورق السائل، ولا في غاية الرقة فتعسر قراءته، وأن لا يبالغ في التعريف أو يختصر بعض الحروف، وأن يتأدب مع من هو أعلى منه إن كان كتب قبله، فيكتب الموافقة تحته لا فوقه أو عن جانبه إلا إذا ضاق المحل، ولكل قوم عرف في الأدب فليعتبر ذلك وإذا جاءته فتوى من لا يصلح للإفتاء لقلة علمه فلا يكتب معه وإن كان الجواب صحيحا ليلا يظن أنه أهل للفتوى، ولا ينبغي أن يكتب في الفتوى ما لا تدعو الحاجة إليه لأن الورق ملك للسائل ولم يأذن له في الزيادة إلا ما تعلق به مصلحة للسائل، أو ما جرت به العادة من الزيادة اليسيرة كقوله آخر الجواب والله تعالى أعلم، ولا ينبغي أن يضع هذا اللفظ ونحوه إلا ناويا به الذكر لأن استعمال ألفاظ الذكر لا على وجه الذكر والتعظيم لله قلة أدب مع الله تعالى، ومما يحسن تركه قول المفتي إن ثبت ما في السؤال فالجواب كذا وينوي الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. فقد قال لهند بنت عتبة (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف
(1)
) ولم يقل لها إن ثبت ما قلت. فينبغي للمفتي حذفه للعلم به وقد تتأكد زيادته كما إذا كان المسائل يعتقد أن الفتوى تكفيه عن الإثبات أو أنها تحل الحرام نعوذ بالله من الضلال، وإذا سبق بفتوى تحقق أنها خطأ فلا يسكت عليها لأنها منكر تجب إزالته فيزيله وإن كره السائل لكن بتلطف فإن علم أن المفتي الأول يرضى بالتنبيه عليها ويزيلها فليبعثها إليه سرا يغيرها وإن خشي أن يأنف ويصر فليبادر بتغييرها ولا يخاف في الله لومة لائم فإن الحق أحق أن يتبع، ولكن يقتصر في ردها على الحاجة، ويقصد امتثال أمر الله تعالى في الهداية إلى سبيله وإن وجد خللا يعلم أنه من سبق القلم كلحن أو إسقاط حرف فليصلحه هو بيده ولا يبعثه إليه، وإذا كان السائل عاميا مسترشدا فليقتصر في الجواب
(1)
خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف، صحيح البخاري، كتاب النفقات، رقم الحديث:5364.
على ما تجب به الفتوى فإن طلب في السؤال جلب نص المسألة أو توقع نزاع منازع فيها فليأت بالنص معزوا لناقله بلفظه وهو أحوط أو بمعناه لغرض إيضاح أو اختصار بشرط أن لا يغير من المعنى شيئا ولا ينقص ولا يزيد، وإن كان السؤال في مهمات الدين ومصالح المسلمين وله تعلق بولاة الأمور فيحسن من المفتي الإسهاب والإطناب في الجواب والمبالغة في إظهار الحق بالعبارة السريعة للفهم والتهديد على الجناة والحض على المبادرة لتحصيل المصالح ودرء المفاسد وبسط الأدلة على ذلك، وإذا كان في المسألة قول فيه تخفيف وآخر فيه تشديد فلا ينبغي أن يفتي العامة بالتشديد وولاة الأمر بالتخفيف فإن ذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين، وإذا كانت المسألة من دقائق العلوم والسائل ممن لا يعنيه الخوض في ذلك فلا يجيبة بل يرشده إلى الاشتغال بما يعنيه من أمور عبادته ومعاملاته وإن فهم منه أنه عرضت له شبهة في عقائده فليقبل عليه وليتلطف في إزالتها ولو بالأدلة الإقناعية دون البراهين ويضرب له الأمثال بلغته والأحسن أن يكون باللسان لأن اللسان كما قيل حي والقلم ميت والخلق عيال الله وأقربهم إليه أنفعهم لعياله، وينبغي له تحسين الزي والهيئة على القانون الشرعي فإن الخلق مجبولون على تعظيم الصور الجميلة فيكثر الاهتداء به، وأن يكون حسن السيرة والسريرة فمن أسر سريرة كساه الله رداءها، ويقصد بذلك التوسل إلى إيصال الحق. وقد ذكر بعض الأئمة أنه نهى قوما عن منكر أو أمرهم بمعروف فلم يبالوا به وكان لابسا ثيابا غير الفاخرة المعروفة للعلماء فذهب ولبس ثياب العلماء ورجع إليهم فنهاهم أو أمرهم فامتثلوا، وقال تعالى حكاية عن الخليل صلاة الله وسلامه على نبينا وعليه {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} قال العلماء أي ذكرا حسنا وثناء جميلا ليقتدي الناس بي وقد استنبط بعض العلماء من قوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} الآية أنه يستحب للعلماء تحسين اللباس وتكبير العمائم ليعظموا في نفوس العامة فيمتثلوا ما بلغوا لهم من أمر ونهي، وينبغي له أن يكون كثير الورع قليل الطمع وليبدأ بنفسه في كل خير يفتي به فهو أصل استقامة الخلق لفعله، وأن يكون جلدا في دين الله صدوعا بالحق لا تأخذه في الله لومة
لائم، وأن يجتهد في إيصال الحق بالتلطف إن أمكن فهو أولى لخبر (من أمر منكم بالمعروف فليكن أمره ذلك بالمعروف
(1)
) وقال تعالى {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} الآية. هذا هو الأصل وفي بعض الأحوال يتعين الإغلاظ والمبالغة في النكير إذا كان اللين يوهن الحق ويدحضه فليفعل ما يتجه له في تلك الحالة مما هو أنفع الطرق وأقربها لرواج الصواب.
واعلم أن أخذ الأجرة على نفس الفتوى وكذا القضاء ممنوع إجماعا إلا إن كان من حبس عليه أو بيت مال مستقيم، وأنَّ أخذها على كتب الفتوى ممنوع أيضا إن أخذ أكثر من معتاد عمله، وكاغده إن كان الكاغد من عنده وأن أخذها على الكتب إن أخذ قدر عمله فقط غير ممنوع لكنه مرجوح صيانة للدين والعرض، ويتأكد اجتنابه على الورع لأن الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. قال البرزلي وأما الإجارة على الفتيا فنقل المازري الإجماع على منعها وكذلك القضاء، وأما قول عبد الحميد لو أتى خصمان إلى قاض فأعطياه أجرا على الحكم بينهما أو أتى رجل إلى المفتي فأعطاه أجرا على فتوى لم تتعلق بها خصومة ولم يتعين ذلك عليهما لوجود من يقوم به غيرهما فأي شيء يمنع من أخذ الأجرة في ذلك ولا يجسر على التصريح به فهو بحث لم يصرح صاحبه بالجواز على أنه لو صرح به لم يصح الاعتداد به لمصادمته الإجماع، والمستدل بالإجماع لا يطالب بدليل ولعل عبد الحميد لم يثبت عنده الإجماع؛ وإذ قد ثبت عند غيره فلا عبرة ببحثه ومما لا يحل ولا يجوز بإجماع أخذ الجعائل على الفتوى في رد المطلقة ثلاثا ونحوها من الرخص كما يفعله كثير من جهلة فقهاء البادية، وكذا لو تنازع عندد اثنان فأهديا إليد جميعا أو أحدهما يرجو كل أن يعينه في حجة أو في خصومة إذا كان ممن يسمع ويوقف عند قوله فلا يحل له أن يأخذ منهما ولا من أحدهما شيئا على ذلك، وأما ما أهي للفقيه من غير حاجة فجائز له قبوله قال جميعه الشيخ الهلالي، وساق من المنقول ما فيه كفاية. وسئل اليزناسني عن طالب أجاب في مسألة بجواب غير صحيح هل يترك هو وأمثاله للفتوى للناس والتقول على العلم وتعاطي ما لا يعلم وهل يؤدب درءا للمفسدة أم لا فأجاب؟ بأنه
(1)
من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف. الإتحاف ج 7 ص 49.
إن خالف ما أجمع عليه فعقوبته واجبة ويبعد درءها عنه بالجهل لتكذيبه ذلك لانتصابه للفتيا؟ وإن خالف المشهور فكذلك بعد التقدم إليه في العودة لتعلق كل من الخصمين في العمل له بالمشهور: وإن حمل السائل على الشاذ في العبادة ونحوها مما لم تتعلق به خصومة فكذلك لأنه غش في أمر ديني فعقوبته أكثر وأوجب من عقوبة الغاش في الأمور المالية انتهى. ثم قال اليزناسني بعد كلام وقد قدمنا عن المازري عقوبة من ليس بأهل للفتيا ولعله جار في فتياه على الطريق والمنهج الشرعي فكيف بمن ذكر في السؤال في خطإه وجرءته انتهى والنصوص على تأديب المفتي دون أهلية كثيرة ومن أتلف بفتواه فإن كان مجتهدا فلا شيء عليه بشرط أن يبذل جهده ويستفرغ وسعه في طلب الحق، وأما إن قصر فهو متعد. والظاهر أن المراد بالمجتهد هنا من هو أعلم من المطلق والمقيد وإلا فقال المازري يضمن ما أتلف، ويجب على الحاكم التغليظ عليه وإن أدبه فأهل إلا أن يكون تقدم له اشتغال بالعلم فيسقط عنه الأدب وينهى عن الفتوى إذا لم يكن أهلا، ونقل البرزلي عن الشعبي أنه يضمن وهذا عندي في المفتي الذي يجب تقليده المنتصب، وأما غيره فكالغرور بالقول ويجري على أحكامه.
فتحصل أن المفتي المنتصب لذلك يضمن وأما غير المنتصب ففيه قولان انتهى. وتنقض أحكام القاضي إن كان بهذه المنزلة لكونه غير متأهل للقضاء ولو عوقب لكان أهلا لأن ذلك قادح في عدالته ومشعر بتساهله وقلة مبالاته وتحفظه وفي العميري على العمليات الفاسية أن الإنسان يجتهد لنفسه فيعمل بالمتفق عليه في المذهب فإن لم يجد فالقوي من الخلاف، ويقدم الراجح في مذهبه على غيره ويقدم الراجح الخارج عن المذهب على الشاذ في المذهب ثم يعمل بالشاذ ولا يخرج عن أقاويل العلماء، فإن قيل كيف يتصور وجود شاذ بدون قوي يقابله فالجواب أن معنى كونه لم يوجد أنه لم يجد سبيلا إلى العمل بالقوي لتعذره أو تعسره عليه لا أنه لم يجده أصلا انتهى. وقال الشيخ الأمير حاصل ما في الحطاب أن من أتلف بفتواه مجتهدا لا يضمن ومقلدا يضمن إن انتصب أو تولى فعل ما أفتى فيه وإلا فغرور قول لا ضمان فيه ويزجر وإن لم يتقدم له اشتغال بالعلم أدب. فأجبت الفاء عاطفة سببية تفيد عدم التراخي المضر بالسائل لأن خير الخير أعجله يقال سألت فلانا كذا متعديا إلى اثنين أي طلبته فأجابني أو أجاب سؤالي، وفي الحديث
(أجيبوا الداعي وفكوا العاني
(1)
) فتتعدى الإجابة إلى الداعي نفسه وإلى دعوته وسؤاله، وإذا كان السؤال بمعنى الاستفهام تعدت الإجابة إلى السؤال بعن، تقول سألته عن كذا وكذا فأجاب عن سؤالي فالإجابة بالمعنى الأول إعطاء المسؤول، وفي الثاني الإخبار على وفق المأمول ومصدر أجاب إجابة وجابة والجابة اسم مصدر، ومنه المثل أساء سمعا فأساء جابة كطاعة وطاقة من أطاع وأطاق والجواب اسم لما يجاب به. سؤالهم مصدر سأل يجمع على اسألة وأسولة ويقال هما يتساولان، ويقال سال كخاف يَسَال كيخاف كما يقال سأك يسأل كمنع يمنع والسول والسولة بالضم ما سألته. {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى} وإجابة المؤلف تحتمل بالشروع في المسئول إن قدم الخطبة أو بإكماله إن أخرها. بعد متعلق بأجبت. استخارة هي طلبك من الله أن يختار لك خير الأمرين من الفعل أو الترك يقال خار الله الأمر كباع اختاره قال الشاعر:
نعم الكرام على ما كان من خلق
…
رهط امرئ خاره للدين مختار
وبمصدره سمي الخير لكل ما يرغب فيه ضد الشر، والخيرة كعنبة والخيار الاختيار {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أي لم يكن لهم الاختيار وأخار الله لك اختار لك، وحكم الاستخارة الاستحباب ويستحب تقديم المشاورة قبلها ويشاور من هو أعلم منه أو مساوٍ له أو دونه فإن لم يجد من يصلح للمشاورة اقتصر على الاستخارة قال تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وقال الشاعر:
شاور أخاك إذا نابتك نائبة
…
يوما وإن كنت وإن أهل المشورات
فالعين تبصر ما منها نأى ودنا
…
ولا ترى نفسها إلا بمرءاة
وكيفية الاستخارة السنية ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن. إذا هم أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي
(1)
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فكوا العاني وأجيبوا الداعى. البخاري، ج 8 ص 114 رقم الحديث:7173.
ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنة وقدر لِيَ الخير حيث كان ثم رضني به، قال ويسمي حاجته
(1)
).
واعلم أنه تنبغي المحافظة على ألفاظ الاستخارة لاغتنام السر الذي في ألفاظه صلى الله عليه وسلم حتى عند مجيزي الرواية بالمعنى، فلا تبدل بغيرها ولا يزاد عليها ولا ينقص منها ويحتمل أن يكون هذا كله هو مراد الراوي حيث شبه بالسورة من القرآن، ويفهم ذلك من قوله أو قال عاجل أمري وآجله إذ هو شك من الراوي يحتمل أن يكون مراده أنه صلى الله عليه وسلم قاله بدلا عن الثلاثة قبله أو عن الثاني والثالث، ولهذا قال الكرماني لا يكون الداعي جازما بما قاله صلى الله عليه وسلم إلا إذا دعا ثلاث مرات يقول مرة خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لخ وكذا في مقابل الخير ويقول مرة أخرى خير لي في عاجل أمري وآجله ويقول مرة أخرى خير لي في ديني وعاجل أمري وآجله، ونظر فيه ابن حجر بما لم يظهر لي وجهه قاله الشيخ الهلالي: قول الراوي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لخ يدل على تأكيد الاستخارة وتعلمها وتعليمها وفي هذا التشبيه من الدلالة على كمال العناية ما لا يخفى وهي من أفضل الفوائد وأسنى المواهب فلا ينبغي لعاقل أن يهملها ليقدم على كل أموره بربه وما يفعله بعض الناس من الحلومات والنظر للمنامات ربما كان مضرا بصاحبه ويستخير على ما ورد في الصحيح وينظر للتيسير قاله الشيخ زروق، وقوله في الأمور كلها متعلق بالاستخارة لا بيعلمنا كما هو واضح فيستفاد منه أنها تكون في أمور الدين والدنيا لكن فيما للمرء مندوحة عن فعله وتركه ولم يعلم ترجيحه فلا تكون في الواجب العيني ولا في المحرم ولا في المكروه، وتكون في المباح وفي المندوب إذا تعارض خاطر فعله وخاطر مندوب آخر ولم يرجح أحدهما بدليل شرعي، وإلا فعل ما رجحه الشرع ولا تكون بين مندوب ومباح، وفرض الكفاية كالمندوب في ذلك كله ومنه استخارة المؤلف لأن تأليف العلم النافع فرض كفاية ومحلها كما يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم (إذا هم
(2)
) قبل تمام العزم والتصميم
(1)
صحيح البخاري، أبواب التهجد، رقم الحديث 1162.
(2)
إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة - صحيح البخاري، كتاب التهجد، رقم الحديث:1162.
فإن صمم قبلها فات فعلها إلا إن قدر على رفض التصميم حتى يرجع إلى حالة مطلق الهم، ولا تطلب بأول الخطور ولا تنفع بعد التصميم وقوله (ركعتين من غير الفريضة
(1)
) شامل للسنن والرغائب وغيرهما فلا يشترط أن تكونا لخصوص الاستخارة لكن لابد من نيتها عند الشروع في الصلاة كما دلت عليه فاء السببية: فلو طرأت بعد أن صلى فلا تجزئه تلك الصلاة عن ركعتي الاستخارة، ويحتمل أن المراد من غير الفريضة وما تعلق بها فلا تدخل الرواتب كركعتي الفجر مثلا وينبغي أن ينوي عند الشروع في الصلاة أنه يقرع بهما باب المولى الكريم ليختار له خير الأمرين مستحضرا ذلة العبودية وعظمة الربوبية راجيا فضله تعالى راضيا بما يقضيه له معتقدا فيه الخير وإن لم يظهر له في الحال فسيحمد عاقبته متبرئًا من حوله وقوته مفوضا إليه تعالى أمر، وتكفيه الفاتحة وحدها أو مع سورة ما لكن قال النووي يستحب أن يقرأ بعد الفاتحة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} في الأولى و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في الثانية، واستحب بعضهم أن يزيد في الأولى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} الآية، وفي الثانية:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} ومن تعذرت عليه الصلاة استخار بالدعاء ولا بأس أن يستخير الإنسان لغيره فيرجى له الانتفاع بدعاء المستخير فيختار الله له.
ويستحب ابتداء الدعاء وختمه بالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله أستخيرك فيه حذف أي أستخيرك فيما هممت به، وقوله وأستقدرك معناه أسألك أن تقدر لي الخير أي تيسره لي، وقيل أن تجعله في قدرتي: والباء في بعلمك وبقدرتك إما للتعليل أو للاستعانة أو للاستعطاف، ومن في قوله من فضلك إما للتعليل والمفعول الثاني محذوف أي أسألك أن تختار لي من أجل فضلك المحض إذ لا يستحق أحد عليك شيئا وإما للتبعيض ومدخولها هو المفعول الثاني أي أسألك بعض فضلك {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} وقوله فإنك الفاء سببية ومسبب مدخولها مضمن الأفعال قبلها ولعل التأكيد بإنَّ لا يختص برفع الشك والإنكار من المخاطب ولا من المتكلم بل قد يكون أيضا لرفعهما من غيرهما نحو قول الموحد إنك على كل شيء قدير، وقوله
(1)
إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة. صحيح البخاري، كتاب التهجد، رقم الحديث:1162.
ولا أقدر معطوف على الكبرى لا الصغرى وَلا إشكال في الإتيان بإن الشكية لأن متعلق الشك خيرية الأمر وشريته لا نفس العلم وقوله هذا الأمر زاد بعده في رواية أبي داود (ويسميه بعينه
(1)
) والظاهر أنه يسميه في هذا المحل نفسه بدليل ذكره هنا في رواية أبي داود وبدليل التصريح به في استخارة الزواج فيقول مثلا إن كنت تعلم أن هذا الأمر، وهو سفري لبلد كذا أو اشتغالي بتأليف كذا، أو يختصر فيقول إن كنت تعلم أن سفري لبلد كذا أو اشتغالي بكذا كما جاء في استخارة أن فلانة، وقوله خيرٌ لي بالرفع خبر أن وبالنصب على رواية إسقاط أن مفعول ثان لتعلم، وقوله في ديني في تقديمه على المعاش تنبيه على أن العاقل يكون أهم شؤونه عليه دينه الذي من الله به عليه فيقدمه على جميع مهماته، وتقديم المعاش وهو الحياة الدنيا على العاقبة التي هي الأخرى فلمراعاة الوجود الخارجي مع أن تقديم الدين أغنى عن تقديم الآخرة لمئاله إليها، وقوله فاقدره لي بضم الدال وكسرها يقال قدر الله الأمر كنصر وضرب وقدره تقديرا بمعنى وقرئ بهما {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} والتقدير يأتي بمعنى التهيئة وبمعنى التيسير وبمعنى خلق القدرة على الشيء وبمعنى إيجاد الشيء على مقدار مخصوص حسب ما اقتضته الإرادة وبمعنى التخصيص الأزلي، ولا تصح هنا إرادة المعنى القديم وتصح إرادة ما سواه وإن أريد المعنى الثاني كان عطف التيسير من عطف التفسير، والواو في قوله ومعاشي وعاقبة أمري وفي قوله وآجله بمعنى أو في جانب الشر وعلى بابها في جانب الخير قاله ابن حجر الهيثمي وهو ظاهر متعين قاله الشيخ الهلالي، وقوله اصرفه عني معناه نفي الأمر بأن لا يُفعَل، وقوله واصرفني عنه معناه صرف القلب عن الأمر بأن لا يبقى متعلقا به فلا تكرار؛ أي اجعلني راضيا بما قدرت لي بأن تسكن إليه نفسي ويطمئن إليه قلبي ثقة باختيارك، قال الشيخ ابن أبي جمرة قال الصوفية من استخار في شيء وقضي له فيه قضاء ولم يرض فإنه عندهم من الكبائر التي تجب التوبة منها والإقلاع لأنه من سوء الأدب، واختلف فيما يفعله بعد الاستخارة فقال ابن عبد السلام والسبكي وغيرهما: إذا استخار يقدم على ما يريد ولا ينتظر شيئا آخر وقال النووي يمضي لما ينشرح له صدره وعلى هذا إذا لم ينشرح
(1)
أبو داود في سننه، كتاب الوتر، رقم الحديث: 1538 - وفي رواية للبخاري فإن كنت تعلم هذا الأمر -ثم يسميه بعينه- خيرا لي الخ، كتاب التوحيد، رقم الحديثه:7390.
لشيء يتوقف ويكرر الاستخارة فإن لم يمكن التأخير نظر للتيسير فهو من علامات الإذن فيفعل ما تيسر له، وظاهر كلام الشيخ زروق المتقدم أنه لا ينظر إلا إلى التيسير، وقيل لما يسبق بعد الاستخارة إلى قلبه فإن الخير فيه وورد بذلك حديث وفيه (أنه يستخير سبعا
(1)
) قال ابن حجر وهذا لو ثبت لكان هو المعتمد ولكن سنده واه جدا، وقوله صلى الله عليه وسلم (إذا هم
(2)
) وفي رواية (إذا أراد
(3)
) يقتضي أنه لا يستخير بعد الخطور وقبل الهم فأحرى قبل الخطور ولهذا أنكر ابن حجر الاستخارة الشائعة عند كثير من الصوفية المستعملة في كل صباح لجميع ما يفعله الإنسان من الصباح إلى الصباح الذي يليه، ولكن ألف العلامة الشيخ إبراهيم الكوراني في استحسانها والرد على منكرها. قول المصنف رحمه الله تعالى. مشيرا حال من فاعل أجبت قال الشيخ الهلالي وأصل الإشارة ونحوها أن يفعل ما يدل على معنى القول، ثم توسعوا فيها فيما هو أعم كإفادة المعنى بلفظ غير صريح فيه ومنه كلام المص بفيها أي بنحو ضمير فيها ففيه حذف مضافين من كل ضمير غائب مؤنث متصل بارز مجرور بفي، أو بمن أو بمضاف نحو وفيها كراهة العاج والمأخوذ منها الجبر وظاهرها العفو، أو مستتر نحو رويت وحملت وقيدت. للمدونة اللام للانتهاء وإشارته تارة للأم وتارة للتهذيب إما للاستشهاد أو الاستشكال نحو وفيها كراهة العاج، وفيها أكل ما دق عنقه أو لإفادة الحكم نحو وفيها ندب تأخير العشاء قليلا قاله الشيخ الهلالي، وليس عود الضمير عليها فيما يأتي من إعادة الضمير على غير مذكور لتقدم ذكرها هنا والمدونة علم للكتاب أصله من دونت الكتب تدوينا أي جمعتها سميت بذلك لأنها مسائل مجموعة قال الحطاب: اعلم أن أصل المدونة سماع قاضي القيروان أسد بن الفرات عن عبد الرحمن بن القاسم وهما من أصحاب مالك، وهو أول من عملها ورواها وسأله عنها على اسألة أهل العراق وأجابه ابن القاسم بنص قول مالك معا سمعه منه أو بلغة أو قاسه على قوله وأصله، فحملت عنه بالقيروان وكانت تسمى بالأسدية وكتاب أسد ومسائل ابن القاسم، وكتبها عنه سحنون كذا قال
(1)
إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك، فإن الخير فيه. عمل اليوم والليلة لابن السني، رقم الحديث 599.
(2)
إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة. صحيح البخاري، كتاب التهجد، رقم الحديث:1166.
(3)
مجمع الزوائد، ج 2 ص 284 - صحيح ابن حبان، ج 2 ص 122 - 123.
في التنبيهات، وقال في المدارك منعها أسد من سحنون فتلطف به سحنون حتى وصلت إليه ورحل سحنون بالأسدية إلى ابن القاسم فسمعها منه وأصلح فيها أشياء كثيرة رجع ابن القاسم عنها. وجاء بها إلى القيروان وهي في التأليف على ما كان عليه كتاب أسد مختلطة الأبواب غير مرتبة المسائل ولا مرسومة التراجم، وكتب ابن القاسم إلى أسد أن يعرض كتابه عليها ويصلحه منها فأنف من ذلك فيقال إن ابن القاسم دعا أن لا يبارك فيها فهي مرفوضة إلى اليوم، ثم إن سحنونا نظر فيها نظرا آخر وبوبها وطرح منها مسائل وأضاف الشكل إلى شكله وهذبها ورتبها ترتيب التصانيف واحتج لسائلها بالآثار من روايته لموطإ ابن وهب وألحق فيها من أقوال أكابر أصحاب مالك ما اختاره فعل ذلك بكتاب منها وبقيت منها كتب على حالها مختلطة مات قبل أن ينظر فيها فلأجل ذلك تسمى المدونة والمختلطة وهي التي تسمى بالأم، ثم إن الناس اختصروها فاختصرها ابن أبي زيد وابن أبي زمنين وغيرهما، ثم أبو سعيد البرادعي ويسمى اختصاره بالتهذيب واشتغل الناس به حتى صار كثير من الناس يطلقون المدونة عليه واختصر ابن عطاء الله تهذيب البرادعي، والمدونة أشرف ما ألف في الفقه من الدواوين وهي أصل المذهب وعمدته وذكر القاضي عياض في المدارك عن سحنون أنه كان يقول عليكم بالمدونة فإنها كلام رجل صالح، وروايته أفرغ الرجال فيها عقولهم وشرحوها وبينوها وكان يقول ما اعتكف أحد على المدونة ودراستها إلا عرف ذلك في ورعه وزهده وما عداها أحد إلى غيرها إلا عرف ذلك فيه وكان يقول إنما المدونة من العلم بمنزلة أم القرآن من القرآن تجزئ في الصلاة عن غيرها ولا يجزئ غيرها عنها ونقل أبو الحسن عن ابن يونس قال يروى: ما بعد كتاب الله أصح من موطإ مالك وبعده مدونة سحنون انتهى. وفي أجوبة ابن ناصر: وأما المدونة فقد دونها سحنون بن سعيد عن ابن القاسم وكان من أمرها أنها كانت مسائل مجتمعة كتبها بعض أصحاب أبي حنيفة ثم وقعت بيد أسد ابن الفرات فرحل بها إلى مالك ليعرضها عليه كيف مذهبه فيها يثبت ما أثبته ويسقط ما أسقطه فوجده قد مات رحمه الله، فوقع على أشهب فوجده بحرا لا ساحل له إلا أنه كان يقول أخطأ مالك في مسألة كذا فقال في نفسه ما مثل هذا مع شيخة إلا كرجل جاء إلى البحر فبال بساحله فنظر إلى بوله فقال هذا البول بحر كما أن هذا البحر بحر، ثم سأل عن أعلم
أصحاب مالك فدل على ابن القاسم فرحل إليه وكان في نفسه أن يسأله عن المسائل المدونة عنده يأخذ ما وافق منها مذهب مالك ويجمعه فيكون مصنفا صالحا فتهيأ لما أراد من عرضها على ابن القاسم، ثم رحل عنه وذهب إلى بلده بالقيروان فاجتمع بسحنون في أثناء سفره فأراه الكتاب فطلب منه أن يعيره للاستنساخ فامتنع، ثم راوده على المبيت عنده ليلة فوافقه وأسعفه فأعاره إياه ففرقه على طلبته فما أصبح الصباح إلا وقد نسخ الكتاب كله فلما علم به أسد بن الفرات غضب. ثم رحل بها سحنون إلى ابن القاسم فعرضها عليه وكان ربما أملى عليه ابن القاسم مسألة فلا يكتبها حتى يستحلفه عليها لقد صح سماعها عن مالك، فبينما هو كذلك احتاج ذات يوم إلى ماء يجعله في الدواة فأراد أن يقوم فقال له ابن القاسم رويدك فأدلى إصبعه إلى الدواة فقطر من الماء ما فيه كفاية فلم يكن يستحلفه سحنون بعد ذلك فما زال سحنون يعرضها على ابن القاسم فزاد فيها ونقص ورتب بعض مسائل وأبوابا وبقي بعضها من غير ترتيب بعد عرض الجميع عليه، ثم أرسل ابن القاسم إلى أسد بن الفرات أن اعرض مدونتك على مدونة سحنون فما أثبت فيها فأثبته وما محا منها فامحه فأنف من ذلك وأعرض عنه فدعا ابن القاسم أن لا يبارك فيها فنسيها الناس إلى اليوم. ثم مات ابن القاسم ومات سحنون رحمة الله عليهما قبل تأليف جميع الكتاب وبقي بعضه مختلطا غير مؤلف فيقال لا ألفه ودونه المدونة، ولا بقي غير مؤلف المختلطة.
أما ابن القاسم فهو الإمام الكبير الحافظ الحجة فقيه الديار المصرية أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي بضم العين المهملة وفتح المثناة الفوقية وهو مولاهم المصري وهو مولى زيد بن الحارث العتقي، وفي الديباج عن محمد بن الحارث هو نسبة إلى العبيد الذين نزلوا من الطائف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعلهم أحرارا، وفي ابن خلكان نسبة إلى العتقاء وهم من قبائل شى وكانوا يقطعون على من أراد النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إليهم فأتي بهم فأعتقهم وقيل لهم العتقاء. قال الشيخ الهلالي وإنما نسب إلى لفظ الجمع لأنه أشبه الواحد في الوضع لكونه غلب على قوم بأعيانهم. ولد ابن القاسم سنة اثنين ثلاثين ومائة على خلاف فيه روى عن مالك والليث وعبد العزيز بن الماجشون ونافع بن أبي نعيم القاري وغيرهم، قال النسائي ثقة مأمون أحد العلماء لم يرو الموطأ عن مالك أثبت منه، وهو عجب من العجب في الفضل والزهد
وصحة الرواية وحسن الحديث، وقال الحارث بن مسكين سمعته يقول في دعائه اللهم امنع الدنيا مني وامنعني منها، ويروى أنه كان لا يقبل جوائز السلطان، وقال ابن وهب لأبي ثابت إن أردت فقه مالك فعليك بابن القاسم، وسئل أشهب عن ابن القاسم وابن وهب فقال لو قطعت رجل ابن القاسم لكانت أفقه من ابن وهب، وحكى أنه لما عزم على الرحيل من مصر إلى المدينة كانت له زوجة حامل فخيرها بين أن يطلقها أو تبقى في عصمته لعزمه على طول الغيبة فاختارت البقاء، وأنشد عند سفره وقد شق عليها فراقه:
أقول لها والعيس تسرج للنوى
…
أعدي لفقدي ما استطعت من الصبر
أليس من الخسران أن لياليا
…
تمر بلا نفع وتحسب من عمري
ثم سافر وأطال الغيبة في المدينة يقرأ على مالك إلى أن ولد له ابن وكبر وحج وجاء المدينة فعمد إلى جماعة من أصحاب مالك وفيهم أبوه وسألهم عن عبد الرحمن بن القاسم فقيل له ما تريد به فقال لهم إني ابنه تركني حملا فما رأيته قط فتعرف إليه أبوه وتعانقا يبكيان، وكان يقيم بالاسكندرية أربعة أشهر للرباط ويقيم في الحج ثلاثة أشهر ويجلس للعلم خمسة أشهر، وقال فيه مالك عافاه الله مثله كمثل جراب مملو مسكا وكان يختم القرآن في رمضان مائتي ختمة، وكان عنده من المسائل ثلاثمائة مجلد، ورئي بعد موته فقيل بم نفعك الله فقال بركعات بالإسكندرية فقيل له فالمسائل فقال لا وأشار بيده إني وجدتها هباء.
وأما سحنون فهو عبد السلام بن سعيد سحنون التنوخي صَلَبي أصله شامي، قال محمد ابنه قلت لأبي: أنحن صلبية من تنوخ؟ فقال: وما تحتاج إلى ذلك؟ فلم أزل به حتى قال نعم وما يغني عنك ذلك من الله شيئا إن لم تتقه، وسحنون لقب له سمي سحنونا وهو طائر حديد النظر لحدته في المسائل سمع من ابن القاسم وابن وهب وطالب بن كامل وسفيان بن عيينة وعبد الرحمن بن محمد وحفص بن غياثٍ وأبي داوود الطيالسي وغيرهم، وكان حافظا ثقة اجتمعت فيه خلال قلما اجتمعت في غيره الفقه البارع والورع الصادق والصداقة في الحق والزهادة في الدنيا والتخشن في الملبس والمطعم والسماحة، ولا يقبل من السلطان شيئا وربما وصل أصحابه بالثلاثين دينارا
ونحوها، وكان رقيق القلب غزير الدمعة ظاهر الخشوع قليل التصنع كريم الأخلاق حسن الأدب سليم الصدر شديدا على أهل البدع لا يخاف في الله لومة لائم سلم له الإمامة أهل عصره، وقال ابنه قال لي أبي إذا أردت الحج فأقدم طرابلس وفيها رجال مدنيون، ثم مصر وفيها الرواة، ثم المدينة وفيها مالك، ثم مكة واجتهد جهدك فإن قدمت علي بلفظة خرجت من دماغ مالك ليس عند شيخك أصلها فاعلم أن شيخك كان مفرطا، وقال سليمان بن سالم دخلت مصر والمدينة ومكة وغيرها ورأيت علماءها ومحدثيها فما رأيت مثل سحنون وابنه وقال عيسى بن مسكين سحنون راهب هذه الأمة: وكان له من الأصحاب ما لم يكن لأحد من أصحاب مالك، وكان أصحابه أفضل الناس وأعقلهم وأفقههم بما اكتسبوا من صفاته، وكانوا مصابيح في كل بلدة وعدله منهم نحو سبعمائة، ولما تولى قضاء افريقية بعد الامتناع قال لابنته خديجة اليوم ذبح أبوك بغير سكين فعلم الناس أنه قبل القضاء. توفي رحمه الله سنة أربعين ومائتين وهو ابن ثمانين سنة ورأيت له مبشرات صالحة تؤذن بسعادته والحمد لله.
وأما أسد فهو الفقيه الثقة ابن الفرات بن سنان مولى بني سليم كنيته أبو عبد الله سمع من مالك موطأه وغيره، وأخذ عنه أبو يوسف موطأ مالك وتفقه أسد أيضا بأصحاب أبي حنيفة، وتقدم أنه جاء بالأسئلة التي هي أصل المدونة.
وأما البرادعي فهو الإمام الفقيه النظار أحد حفاظ المذهب خلف ابن القاسم الأزدي المعروف بالبرادعي يكنى أبا سعيد من كبار أصحاب أبي محمد بن أبي زيد، وأبي الحسن القابسي له تصانيف منها التهذيب ومال الناس إلى درسه دون غيره من اختصار ابن عبد الحكم واختصار ابن أبي زيد وغيرهما، ويقال إن أبا سعيد دعا الله أن يبارك له في هذا الكتاب فأجيبت دعوته.
واعلم أن أمهات الفقه المعتمد عليها المدونة هذه والموازية والواضحة والعتيبة أما المدونة فقد تقدم ذكرها: وأما الموازية فمؤلفها هو الإمام الراسخ في الفقه والفتيا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم زيادة الاسكندري المعروف بابن المواز بفتح الميم وتشديد الواو نسبة إلى بيع الموز، ألف كتابه المشهور بالموازية من أجل ما ألفه المالكيون وأصحه مسائل وأبسطه كلاما وأوعبه، وقد رجحه القابسي على سائر الأمهات قال لأن صاحبه قصد إلى بناء فروع أصحاب المذهب على أصولهم توفي بدمشق
لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائة، وهو أحد المجتهدين الأربعة الذين اجتمعوا في عصر واحد من أئمة مذهب مالك ولم يجتمع في زمن مثلهم: محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ومحمد بن المواز، ومحمد بن سحنون، ومحمد بن عبدوس توفي ابن عبد الحكم عام ثمانية وستين ومائتين، وابن سحنون سنة خمسين ومائتين، وكان نظير أبيه في الصلاح والعلم ريئ في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال زوجني خمسين حوراء لما علم من حبي للنساء، وتوفي ابن عبدوس سنة ستين ومائتين وهو من كبار أصحاب سحنون صلى الصبح بوضوء العتمة ثلاثين سنة وهو مؤلف المجموعة.
وأما الواضحة فمؤلفها الفقيه النبيل الفاضل المتفنن الجليل أبو مروان عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون من ذرية سيدنا العباس بن مرداس السلمي الصحابي كان عبد الملك عالم الأندلس وشيخ مشايخها سمع من الأخوين وابن نافع وابن أبي أويس وعبد الله بن عبد الحكم وابن المبارك وأصبغ وأسد بن موسى وجماعة سواهم، قال بعضهم رأيته يخرج من الجامع وخلفه نحو ثلاثمائة بين طالب حديث وفرائض وفقه وإعراب، وكان فصيحا لغويا إخباريا نحويا عروضيا شاعرا حاذقا مؤلفا متقنا صواما قواما، وقد رتب الدول عنده كل يوم ثلاثين دولة لا يقرأ عليه إلا كتبه والموطأ، ولما نعي إلى سحنون استرجع وقال مات عالم الأندلس بل والله عالم الدنيا، ولما دنا من مصر في رحلته لقي جماعة من أهلها بارزين للقاء الركب على عادتهم وكانوا كلما رأوا رجلا ذا هيئة تفرسوا فيه وقضوا بفراستهم، فلما رأوه وكان ذا منظر جميل قال قوم هذا فقيه وقال آخرون بل شاعر وقال آخرون طبيب، ولما كثر اختلافهم تقدموا إليه وأخبروه بشأنهم فقال كلكم قد أصاب وكل ما قلتم أحسنه والخبره تكشف الحيره، والامتحان يجلي عن الإنسان، فلما حط رحله شاع خبره وقعد إليه كل ذي علم يسأله عن فنه وهو يجيب جوابا محققا فعجبوا وأخذوا عنه وعطلوا مجالس علمائهم وألف الواضحة في الفقه والسنن قال بعضهم لم يؤلف مثلها، قال الشيخ الهلالي وقع للحطاب أن ابن حبيب تفقه بابن القاسم وذلك سهو منه لأن ابن القاسم مات قبل رحلة ابن حبيب، نعم أخذ عن أصبغ فاعلم ذلك انتهى.
وأما العتيبة وهي المستخرجة فمؤلفها الفقيه حافظ مسائل المذهب أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عتبة بن جميل بن عتبة بن أبي سفيان، وقيل هو مولى لآل عتبة بن أبي سفيان سمع بالأندلس من يحيى بن يحيى ونسب إما إلى عتبة جد أبيه أو إلى عتبة بن أبي سفيان، وسمع من سحنون وأصبغ وكان من أهل الخير والجهاد والمذاهب الحسنة، وكان لا يزال بعد صلاة الصبح في مصلاه إلى أن تطلع الشمس ويصلي الضحى ولا يقدم أحدا في الأخذ على من سبقه، قال ابن لبابة هو الذي جمع المستخرجة وأكثر فيها من الرواية المطروحة والمسائل الشاذة، وقال ابن وضاح في المستخرجة خطأ كثير، وقال ابن عبد الحكم فيها مسائل لا أصول لها، وكان أحمد بن خالد ينكر على ابن لبابة قراءتها للناس إنكارا شديدا فقال إنما أقرئها لمن أعرف أنه يعرف خطأها من صوابها، قال الشيخ الهلالي قلت يحتاج الآن الناظر فيها إلى البيان والتحصيل وهو ببيان غثها من سمينها كفيل، توفي العتبي رحمه الله منتصف ربيع الأول سنة خمس وخمسين ومائتين، قال المص رحمه الله تعالى عاطفا لمعمولين على معمولين لعامل واحد وذلك جائز بالإجماع وبـ مادة أول معطوف على أول المعمولين وهو بفيها وأول بالبناء للمجهول، والمراد بمادته ما اشتمل على حروفه، ومعناه بلا زيادة نحو أول بالنسيان، أو بها نحو تأويلان وتؤولت، وأما فسرت فلا يدخل هنا بل في قوله بفيها، وأصل التأويل والتأول ما يئول إليه اللفظ من المعنى ومنه {تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ} وتأويل القرآن والتأويل في اصطلاح الأصوليين صرف اللفظ عن ظاهره إلى محتمل له مرجوح فإن كان لدليل فصحيح وإلا ففاسد، والمص يستعملة في التفسير مطلقا. إلى اختلاف معطوف على ثاني المعمولين وهو للمدونة. شارحيها أي شارحي تلك المسألة من المدونة وإن لم يتصدوا لشرح الكتاب في فهمها أي فهم معنى لفظ المدونة في تلك المسألة كان ذلك بين الشارحين كابن يونس وأبي الحسن والمحشين كعياض وأبي إبراهيم، أو المختصرين كفضل، والفهم بسكون الهاء وفتحها العلم الحاصل من اللفظ أو غير من الدوال فهو أخص من العلم لأنه لا يكون إلا ناشئا من الدوال فلا يكون إلا حادثا فيمتنع إطلاقه في حق الله عز وجل، والفرق بين القولين والأقوال والتأويلين أو التأويلات أن التأويلين نحود مراد الشراح بهما تصوير معنى اللفظ وبيان مراد صاحبه به كان في نفسه صحيحا أو فاسدا، ومراد صاحب القولين ونحوه
بيان حكم المسألة، فشارح كلام المؤلف، قائل بلسان حاله هذا مراد المؤلف وربما قاله بلسان مقاله وصاحب القول قائل بلسان حاله أو مقاله هذا حكم الله في المسألة وبينهما بون بعيد، والثاني يشترط فيه الاجتهاد المذهبي أو المطلق بخلاف الأول، والذي ينبغي أن يعد قولا الكلام الذي اختلف فيه الشراح، والتأويلات إنما هي اختلاف في تصور معناه وهذا الكلام تحقيق بالقبول حقيق لكن قد يكون التأويلان موافقين لقولين حمل أحد الشارحين المدونة على أحدهما وغيره على الآخر، وقد يكون سبب اختلافهم النظر في الأدلة الشرعية فيكون التأويلان قولين حقيقة لكن هذا لا يطرد ويحتاج إلى ما يدل عليه وبالاختيار أي مادته لأنه لم يشير به أصلا. للخمي أي لاختياره وهو الإمام أبو الحسن علي بن محمد الربعي نسبة إلى ربيعة وشهر باللخمي نسبة إلى جده لأمه، تفقه بابن محرز أبي الفضل التونسي وظهر في أيامه وطالت فتاويه وكان فقيها متفننا دينا ذا حظ من الأدب وبقي بعد أصحابه فحاز رياسة افريقية وتفقه به جماعة من أهل صفاقص منهم الإمام أبو عبد الله المازري وأبو الفضل النحوي وكفاه فخرا أن كان شيخا للمازري، ألف التبصرة فيها علم غزير وتقييد المطلقات وتخصيص العمومات لكنه لكثرة اختياراته ربما خرج ببعضها عن المذهب كما نبه عليه عياض وغيره، وكان أهل المائة السادسة وصدر السابعة لا يسوغون الفتوى بتبصرته لأنها لم تصحح عليه ولم تؤخذ عنه وعول من بعدهم عليها، وأكثر من نقل نصوصها المحققون كالمؤلف وابن عرفة وغيرهما ولا يضرها مالا يسلم منه غير المعصوم لأن ذلك نادر والحكم للغالب. توفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. لكن حرف استدراك وهو تعقيب الكلام برفع الإيهام وعبارة توضيح ابن هشام في تعريفه غير محررة قاله الشيخ الهلالي. إن كان الاختيار بمعنى مادته متلبسا. بصيغة هي والوزن والزنة والبناء والبنية بمعنى وهي الهيئة العارضة للفظ بسبب الحركات والسكنات والإضافة بيانية من إضافة العام إلى الخاص. الفعل والمراد به الماضي مبنيا للفاعل "واختار إلحاق رجل الفقير" أو للمفعول "لحسن واختير". فذلك الإشارة للاختيار الذي دلت عليه صيغة الفعل لاختياره هو حكما في نفسه لا من نصوص المذهب قوله هو تأكيد للضمير المجرور:
ومضمر الرفع الذي قد انفصل
…
أكد به كل ضمير اتصل
وإن كان الاختيار بالمعنى المتقدم متلبسا بـ صيغة الاسم أي المختار فقط فذلك أي الاختيار الذي دلت عليه صيغة الاسم. لاختياره قولا من الخلاف أي أن اللخمي اختار قولا مقولا قبله من القولين، أو الأقوال التي في المسألة وبمادة الترجيح الواو عاطفة لشيئين كما سبق وعليه فقس، وأصل الترجيح في الميزان يقال رجحت من بابي نفع ونصر كفة الميزان بكسر الكاف على أختها إذا ثقلت أكثر منها، ورجح ما فيها إذا كان أثقل من مقابله ويتعدى بالهمز وبالتضعيف ثم استعمل في التفضيل والتقوية وهذا هو المراد هنا، ورجح القول رجحانا قوي وهو أرجح من غيره أقوى منه (لابن يونس) أي لترجيحه، وهو الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي الصقلي بفتح المهملة والقاف وتشديد اللام نسبة إلى صقلة جزيرة بالمغرب الأدنى، كان فقيها إماما عالما أخذ عن أبي الحسن الحصائري وعتيق الفرضى وابن أبي العباس وكان ملازما للجهاد موصوفا بالنجدة وألف كتابا في الفرائض وكتابا جامعا للمدونة وأضاف إليه غيرها من الأمهات، وعليه اعتماد طلبة العلم للمذاكرة. وأول من أدخله سبتة الشيخ أبو عبد الله محمد بن خلكان فانتسخه منه القاضي أبو عبد الله ولصحة مسائله وكثرة جمعه قال المواق كان يقال له مصحف المذهب، توفي رحمه الله سنة إحدى وخمسين وأربعمائة في عشر بقين من ربيع الأول، وقيل في أول العشر الأواخر من ربيع الآخر من هذه السنة (كذلك) حال من الترجيح أي حال كون الترجيح مثل الاختيار في التفصيل فالفعل لترجيحه هو في نفسه، والاسم كالأرجح والمرجح لما رجحه من قول تقدمه. (وبالظهور) أي بمادته من فعل أو وصف أي استظهاره فالفعل لاستظهاره هو في نفسه والاسم لاستظهاره من الخلاف وهو حال. وابن رشد هو الإمام الأكبر القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي زعيم فقهاء وقته بأقطار الأندلس والمغرب ومقدمهم المشهود له بصحة النظر وجودة التأليف ودقة الفقه، وكان إليه المفزع في المشكلات بصيرا بالأصول والفروع والفرائض متفننا في العلوم، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية كثير التصانيف ألف كتاب البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل؛ وهو كتاب عظيم ينيف على عشرين مجلدا، وكتاب المقدمات أوائل كتاب المدونة وغير ذلك، وكان
متين الدين كثير الحياء قليل الكلام معظما عند الأمراء معتمدا في العظائم، ولي قضاء الجماعة بقرطبة سنين ثم استعفى عنه فأعفي وزاد جلالة ومنزلة وكان صاحب الصلاة بالمسجد الجامع وإليه كانت الرحلة للتفقه من أقطار الأندلس. تفقه بأبي جعفر بن رزق وعليه اعتماده وبنظرائه، وممن أخذ عن ابن رشد القاضي عياض وكان يصوم الجمعة دائما في الحضر والسفر، توفي رحمه الله تعالى ليلة الأحد الحادي عشر من ذي القعدة سنة عشرين وخمسمائة وولد في شوال سنة خمسين وأربعمائة ومما يتناقل على الألسنة والله أعلم بصحته أنه وقعت مناظرة بين ابن رشد وبين أحد معاصريه في لا إله إلا الله والحمد لله أيهما أفضل فقال ابن رشد لا إله إلا الله أفضل، وقال العاصر الحمد لله أفضل فكتب المعاصر إليه:
أعد نظرا فيما كتبت ولا تكن
…
بغير سهام للنضال مسارعا
فحسبك تسليم العلوم لأهلها
…
وحقك فيها أن تكون متابعا
فأجابه ابن رشد بقوله:
رويدك ما نبهت مني نائما
…
ودونك فاسمعها إذا كنت سامعا
أخلت ابن رشد كالذين عهدتهم
…
ومن دونه تلقى الهزبر المدافعا
فلو كنت سلمت العلوم لأهلها
…
لما كنت فيما تدعيه منازعا
وإن ضمنا عند التنازع مجلس
…
سقيناك فيه السم لا شك ناقعا
ويقال إن المجيب بعض تلامذة ابن رشد والله أعلم. وبالقول أي بمادته من فعل واسم مفعول للمازري أي لاختياره كذلك حال فالفعل لما قاله غير مسبوق إليه، والاسم لما اختاره من قول قيل قبله وهو الإمام المحقق المجتهد أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري نسبة إلى مازر بفتح الزاي وكسرها بلدة بجزيرة صقلة، ثم المهدوي نسبة إلى المهدية من بلاد افريقية كان إمام المغرب وصار الإمام لقبا له فلا يعرف إلا بالإمام المازري، يحكى أنه رأى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال يا رسول الله أحق ما يدعونني به، فإنهم يدعونني بالإمام فقال صلى الله عليه وسلم "وسع الله صدرك للفتيا" كان ءآخر المشتغلين من شيوخ افريقية بتحقيق الفقه المعروفين بدقة النظر ورتبة الاجتهاد، أخذ عن اللخمي وعبد الحميد وغيرهما من شيوخ افريقية، وظهرت براعته وتصدره وسعة اطلاعه في صغره حتى كان القاضي يقرأ عليه ويعتمد عليه في فتواه وهو ابن عشرين سنة، ونقل عنه البرزلي أنه قال كنت يوما بين يدي إمامي وأنا مراهق فجاء الخبر أن ذلك اليوم من رمضان وبات الناس على غير الصيام فقلت لا يقضى هذا اليوم على مذهب بعض أصحاب مالك في رواية شاذة فأخذ بأذني أستاذي وقال لي إن قرأت العلم على هذا فلا تقرأه، إن اتبعت بنيات الطريق جاء منك زنديق ولقد صدق القائل:
إن الهلال إذا رأيت نموه
…
أيقنت أن سيكون بدرا كاملا
وقد صار الإمام المازري إلى درجة من العلم لم يصل إليها غيره في زمنه، ودرس أصول الدين وأصول الفقه وفروعه ولم يكن للمالكية في وقته في أقطار الأرض أفقه منه، وسمع الحديث وطلب معانيه واطلع على علوم كثيرة كالطب والحساب والأدب، وكان يفزع إليه في الطب كما يفزع إليه في الفقه، ويحكى أن سبب اشتغاله به أنه مرض فكان يطبه يهودي فقال له اليهودي يوما يا سيدتي مثلي يطب مثلكم وأي قربة أجدها أتقرب بها في ديني مثل أن أفقدكم للمسلمين، فمن حينئذ اشتغل بالطب. وكان رحمه الله حسن الخلق مليح المجلس أنيسه كثير الحكايات وإنشاد قطع الشعر وكان قلمه بالعلوم أبلغ من لسانه، وألف في الفقه والأصول وشرح صحيح مسلم وسمى شرحه بالمعلم. وشرح التلقين شرحا ليس للمالكية مثله، وشرح البرهان لإمام الحرمين وسمى شرحه المحصول من برهان الأصول وهو شاهد له بغاية الذكاء والتضلع من علم الأصول لأن البرهان أصعب كتب الأصول، وألف نظم الفوائد في علم العقائد. وممن أخذ عنه بالإجازة أبو الفضل عياض وعلى المعلم أسس عياض شرحه لمسلم المسمى بإكمال العلم: وهو كتاب عظيم الجدوى كثير الفوائد، فألف بعد ذلك إكمال الإكمال ثلاثة أولهم: عبد الله محمد بن إبراهيم البقوري نسبة إلى بقور بباء موحدة مفتوحة وقاف مشددة مضمومة وواو وراء مهملة بلد بالأندلس،
وثانيهم عيسى بن مسعود المَنكَلَّاتي بفتح الميم وسكون النون وفتح الكاف واللام المشددة وآخره تاء وياء نسبة إلى قبيلة بالمغرب كذا في الديباج وأظن كافه معقودة لأني رأيته في غيره بالجيم بدلها قاله الشيخ الهلالي، وثالثهم العلامة المحقق أبو عبد الله محمد بن خلفة بكسر الخاء وفتحها وسكون اللام وفاء وهاء تأنيث ابن عمرو التونسي الشهير بالأبي بضم الهمزة نسبة إلى أبة بضم الهمزة وتشديد الموحدة وهاء تأنيث قرية بتونس كذا ضبط الشيخ الهلالي وفي شرح الشيخ عبد الباقي الأبي بضم الهمزة نسبة إلى أبة من قرى تونس كما ضبطه الحافظ بن حجر في تبصير المنتبه في تحرير المشتبه والسيوطي في تحرير الأنساب والبدر القرافي انتهى. والأبي المذكور أخذ عن ابن عرفة ولزمه واشتهر بالمهارة في حياته وانتقد عليه مسائل مشافهة وربما رجع إليه، ويحكى أن ابن عرفة ليم على كثرة اجتهاده فقال كيف أنام وأنا بين أسدين الأبي بفهمه وعقله والبرزلي بحفظه ونقله، واشتهر تقديم الأبي في المعقول والمنقول وخص المصنف هؤلاء الأربعة لكثرة تصرفهم في الاختيار كثرة لم توجد لغيرهم، وقدم اللخمي وإن كان ابن يونس متقدما عليه في الزمن لأنه أكثرهم إقداما على الاختيار فإنه كثيرا ما ينقل الفقه، ويقول بإثره:"وأنا أرى كذا" وجعل الفعل لما قالوا لدلالته على الحدوث فناسب أن يشير به للقول الذي أحدثوه من عنديتهم وجعل الاسم لما اختاروه من أقوال غيرهم لأنه يدل على الثبوت فناسب أن يشير به لاختيارهم القول الثابت لمن سبقهم وخص اللخمي بمادة الاختيار لأكثرية اختياراته بالنسبة إلى سائرهم، وخص ابن يونس بالترجيح لأن أكثر اجتهاده في ترجيح أقوال غيره وما يقوله من عند نفسه قليل ولذا كانت الإشارة في كلام المؤلف بالفعل قليلة جدا، وخص ابن رشد بالظهور لاعتماده كثيرا على ظاهر الروايات ولظهوره واشتهار تقدمه على أهل زمانه، وخص المازري بالقول لأنه قويت ملكته في المعقول والمنقول وبرز على غيره من الفحول فصار القول ما قال حسب ما أشار له من أجاد في المقال:
إذا قالت حذام فصدقوها
…
فإن القول ما قالت حذام
وهذا التدقيق لابن غازي، قال الشيخ الهلالي فرحمة الله على المؤلف ما كان أدق نظره وعلى المحشي ما أحسن استنباطه للنكت وقد استنبط من حديث (يا أبا عمير ما فعل النغير
(1)
) مائتا فائدة فصلى الله على المصطفى الذي أوتي جوامع الكلم جعلنا الله ممن علم ما تحت ألفاظه من الأسرار وعمل بما علم. وحيث ظرف مكان مبني على الضم وقد يفتح ويكسر وقد تخلف الياء واو وهي شرطية وإن لم تتصل بها ما على رأي. والواو في قوله وحيث للاستئناف عند من أثبته لها. قلت عبر بالقول دون الذكر لتأتي الحكاية المقصودة في قوله. (خلاف) لأنه لم يجئ في كلامه إلا مرفوعا ولو عبر بذكر لانتصب فيقتضي أنه كان كلما ذكر اختلاف العلماء كان ذلك خلافا في التشهير وذلك غير صحيح. (فذلك) الفاء لربط الجواب بالشرط والإشارة للفظ خلاف. لـ (لاختلاف) بين العلماء. (في التشهير) بأن شهر بعضهم قولا وبعضهم مقابلة سواء صرحوا بقولهم المشهور كذا، أو أتوا بما يدل عليه كقولهم الأصح كذا والمذهب كذا وما أشبه ذلك، ولا يندرج في كلامه نحو واختار أنه خلاف وقوله وهل خلاف .. الكلام فيه كما قبله. عبر به دون قلت لعدم القصد للحكاية. مفعول ذكرت. شمل كلامه مادة القول مثنى أو مجموعا وما دل على ذلك نحو ثالثها ورابعها اعتد به عند مالك لا ابن القاسم، ونحو نقلت عليهما .. أي ما ذكر من القولين أو الأقوال إشارة. (لعدم اطلاعي) مصدر اطلع على الشيء بوزن افتعل أي علم به أبدلت التاء طاء، يقال طلع على الشيء طلوعا كقعد علم به وأطلعته عليه كأعلمته به وزنا ومعنى فاطلع هو عليه وتطلعه علمه، ويقال اطلع عليه أشرف عليه من علو {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} ، هي المسألة المتفرعة عن قاعدة، وتسمى القاعدة أصلا باعتبار ما تفرع عنها من المسائل والمسائل فروعها مثلا قولنا الماء المطلق يصح التطهير به قاعدة، وقولنا الماء المجموع من الندا أو المجعول في الفم يصح التطهير به فرع من فروعها، والتفريع بناء الفرع على أصله واستنباطه منه فنقول مثلا الماء المجموع من الندا ماء مطلق والماء المطلق يصح التطهير به ينتج الماء المجموع من الندا يصح التطهير به فحكم الفرع مأخوذ من حكم الأصل قاله الشيخ الهلالي، وفي
(1)
يا أبا عمير، ما فعل النغير؟. صحيح البخاري، كتاب الأدب، رقم الحديث 6203 ومسلم في صحيحه، كتاب الآداب، رقم الحديث:2150.
الشبراخيتي والفرع كما قال الناصر اللقاني الحكم الشرعي المتعلق بكيفية عمل قلبي كالنية، أو غير قلبي كالوضوء انتهى. أراد بالشرعي المأخوذ من الشرع المبعوث به النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منه بالصراحة أو بالاستنباط وخرج العقلي والعادي، وقوله بكيفية عمل أخرج به المتعلق بكيفية اعتقاد كالمتعلق بذات الله عز وجل وصفاته. على أرجحية هي كون الشيء أرجح من غيره قال الشيخ الهلالي وتسمى الياء المشددة المتبوعة بهاء التأنيث اللاحقة للأرجح ياء المصدر؛ لأن الاسم غير المصدر إذا لحقته يفيد معنى المصدر ويفسر بالكون المخبر عنه بما لحقته التاء، فالإنسانية كون الشيء إنسانا والناطقية كون الشيء ناطقا، والأفضلية كونه أفضل، والأرجحية كونه أرجح وقس على ذلك، ووزن أفعل في كلام المص يصح أن يكون للتفضيل، ويصح أن يكون بمعنى فاعل. منصوصة أي منقولة للعلماء احترز به من الأرجحية التي تظهر له هو من القواعد فإنه لا يعول عليها تورعا منه نفعنا الله به، وأصل النص الرفع نصت الظبية عنقها إذا رفعته ومدته وكذا المرأة قال امرؤ القيس:
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش
…
إذا هي نصته ولا بمعطل
ونص فلان الحديث إذا رفعه إلى قائله قال الشاعر:
ونص الحديث إلى أهله
…
فإن الوثيقة في نصه
وهذا هو المستعمل عند الفقهاء غير أنهم يُعَدونه كثيرا بعلى، وهو في الأصل معدى بنفسه لأنهم ضمنوه معنى نبه نحو نص فلان على كذا.
وحاصل كلام المصنف أنه إن اطلع على خلاف في المسألة واطلع على تشهير قول واحد اقتصر عليه لقوله مبينا لما به الفتوى: وقد يشير لرد مقابله بلو وإن اطلع فيه على مشهورين أشار لهما بقوله خلاف، وإن لم يطلع على تشهير أطلق القولين أو الأقوال أو ما دل على ذلك قاله الشيخ الهلالي. وأعتبر مضارع مبدوء بالهمزة والجملة عطف على الشرطية، والاعتبار يطلق على أربعة معان أحدها: الاعتداد بالشيء، ثانيها الاتعاظ ومثله العبرة في هذين المعنيين، فمن الأول هذا
الكلام معتبر أو غير معتبر ولا عبرة به ومن الثاني {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَار} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} . ثالثها الاختبار ومنه الاسم يعتبر بالعلامات، رابعها الاشتراط ومنه يعتبر في صحة البيع كذا وكذا من الشروط، ومن أسجاع الأساس لا عبرة بعَبرة مستعبر ما لم تكن عبرة معتبر؛ أي لا اعتداد بدمعة باك ما لم تكن اتعاظ متعظ والمراد هنا المعنى الأول أي وأعتد من تبعيضية المفاهيم جمع مفهوم وهو في اللغة اسم مفعول من الفهم وقد تقدم عند قوله في فهمها، وفي اصطلاح أهل الأصول والفقهاء مقابل المنطوق، والمنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق، والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق فقوله تعالى {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} يدل على أمرين أحدهما تحريم التأفيف للوالدين وهو منطوق لدلالة اللفظ عليه في محل النطق: والثاني تحريم الضرب لهما وهو مفهوم لدلالته عليه في غير محل النطق، وما موصولة أو نكرة موصوفة أي معنى دل عليه اللفظ أو المعنى الذي دل عليه اللفظ، والمراد بالمعنى الحكم، والمراد بالحكم ما يشمل الشرعي وغيره فتحريم التأفيف وحدد هو المنطوق، وتحريم الضرب مثلا وحده هو المفهوم والمراد بالدلالة في تعريف المنطوق ما يشمل المطابقة والتضمن، والمراد بها في تعريف المفهوم دلالة الالتزام، ودلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على المعنى الذي وضع له كدلالة لفظ الاثنين على ضعف الواحد، ودلالة التضمن هي دلالة اللفظ على جزء معناد كدلالة الاثنين على الواحد، ودلالة الالتزام هي دلالة اللفظ على معنى خارج عن معناه لازما له لزوما بينا إن كان له لازم بين كدلالة الاثنين على الزوجية، وقوله لزوما بينا اللزوم البين هو ما كان اللزوم فيه بلا واسطة كلزوم الزوجية للاثنين، وغير البين كلزوم الزوجية للثمانية لأنها تنقسم على أربع وهي على اثنين قاله الشيخ إبراهيم. واعلم أن المنطوق في الأصل هو اللفظ نفسه، وأصله المنطوق به فحذف الباء من مفعول النطق وذلك وارد في كلام العرب نثرا ونظما، والمفهوم في الأصل ما فهم من اللفظ ونحوه سواء وضع اللفظ له أم كان تابعا لما وضع له، ولما كان ما دل عليه مدلولا له مباشرة بلا واسطة سموه منطوقا كما سموه مذكورا، والمذكور إنما هو اللفظ الدال عليه، ولما كان المعنى الخارج عن المدلول إنما فهم بواسطة المدلول خصوه باسم المفهوم، وقوله في محل متعلق بمقدر حال من مجرور على الذي هو رابط الصفة أو عائد الصلة. والمعنى: المنطوق معنى دل عليه اللفظ أو المعنى الذي دل عليه اللفظ حال
كون ذلك المعنى ثابتا قي محل النطق، والمراد بمحل النطق المحكوم عليه المنطوق باسمه فالتأفيف في الآية هو محل الحكم لأن الحكم الذي هو التحريم معنى ثابت في التأفيف الذي نطق باسمه وهو:"أف". ويقال له محل النطق لأنه محل نطق باسمه فالإضافة لأجل هذه الملابسة، ومعنى ثبوته فيه أنه حكم له والظرفية مجازية وهذا إنما يجري على طريقة ابن الحاجب الذي يجعل المدلول المطابقي والتضمني منطوقا صريحا، ويفصل في المدلول الالتزامي فإن كان في محل النطق بأن كان حكما للمذكور فهو منطوق غير صريح، وإن كان في غير محل النطق بأن كان حكما لغير مذكور فهو مفهوم، وطريق البيضاوي ومن وافقه أن الأولين هما المنطوق، والثالث الذي هو المدلول الالتزامي مفهوم مطلقا وهي أسهل وأنسب وعليها فقوله في محل متعلق يدَلَّ، والمراد بمحل النطق حالة النطق بهذا اللفظ؛ أي أن السامع يفهم أولا في حالة النطق بهذا اللفظ معناه الوضعي ثم بعد ذلك يفهم معنى آخر لازما للمعنى الأول والله تعالى أعلم والآمدي يوافقهما إلا أنه يجعل المنطوق غير الصريح عند ابن الحاجب واسطة فقوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} الآية دل بالمطابقة على حلية الوطء للنساء في جميع ليلة الصيام فيصدق بالوطء في آخر جزء منها، ودل بالتضمن على حلة فيها لفرد من الرجال كزيد فهما من المنطوق الصريح عند ابن الحاجب، ودل بالالتزام على صحة صيام الجنب، والصحة حكم لمذكور وهو الصيام فهو منطوق غير صريح عند ابن الحاجب وعند البيضاوي من المفهوم وعند الآمدي واسطة، والمراد بغير محل النطق المحكوم عليه الذي لم يذكر كالضرب المفهوم حكمه في الآية لأن الحكم وهو التحريم ثابت في الضرب؛ أي هو حكم له والضرب مسكوت عنه غير منطوق به فالتحريم الأول منطوق والثاني مفهوم قال جميعه الشيخ الهلالي، وقد علمت أن هذا الكلام الأخير إنما هو على الطريق الحاجبية.
واعلم أنهم كثيرا ما يطلقون المنطوق على اللفظ بنفسه وتقدم أن ذلك أصله ويطلقون المفهوم على معنى اللفظ المفهوم منه بلا واسطة وذلك قولهم اللفظ يدل بمنطوقه أي بنفسه وحروفه المنطوق بها ويدل بمفهومه أي بواسطة معناه المفهوم منه أولا والله تعالى أعلم.
والمفهوم قسمان مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة، فمفهوم الموافقة ما يكون المسكوت عنه موافقا للحكم المذكور وهو قسمان فحوى الخطاب وهو أولى بالحكم من المذكور، ولحن الخطاب وهو أن
يكون المسكوت عنه مساويا في الحكم للمذكور مثال فحوى الخطاب قوله تعالى {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} فإن من يؤدي القنطار يؤدي ما دونه من باب أحرى ومنه {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} إلى آخره لأن من يعمل الكثير من باب أولى، ومثال لحن الخطاب تحريم إتلاف أموال اليتامى بغير الأكل كالإحراق مثلا المفهوم من تحريم أكلها المدلول عليه بقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الآية فإن الإحراق مساو للأكل في إتلافه على اليتيم وإن كان أشد من الأكل بالنسبة لتضييع المال وذلك غير منظور إليه في الآية، والفرق بين الأمرين مجرد اصطلاح وإلا فهما بمعنى يقال فحا بكلامه إلى كذا من باب دعا إذا ذهب به إليه وأماله إليه، وقال صلى الله عليه وسلم حين بلغة في مقاتلة الأحزاب أن بني قريظة نقضوا العهد لمن بعثه إليهم (إن وجدتم ما بلغنا ضنهم فالحنوا لي لحنا أفهمه
(1)
) أي كلموني بكلام أفهم منه أنهم نقضوا ولا يفهم ذلك غيري فجاءوا إليه صلى الله عليه وسلم وقالوا: عضل والقارة أي غدروا كما غدر عضل والقارة، ويقال فهمت كذا من فحوى كلامه أي من لحنه ومعاريضه قال الشاعر:
ولقد وحيت لكم لكيما تفهموا
…
ولحنت لحنا ليس بالمرتاب
ومفهوم المخالفة أقسامه عشرة جمعها ابن غازي بقوله:
صف واشترط علل ولقب ثنيا
…
وعد ظرفين وحصرا إغيا
فقوله صف إشارة إلى مفهوم الصفة ولها ثلاث صور: أن تكون بعد الموصوف نحو {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ، ونحو قوله صلى الله عليه وسلم (من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع
(2)
) مفهوم ذلك أن غير المؤمنة لا تعتق في الكفارة وأن غير المؤبرة ثمرتها للمشتري: وأن تكون قبله نحو قوله صلى الله عليه وسلم لعامله (وإياك وكرائم أموال الناس
(3)
) مفهومه غير الكرائم تؤخذ
(1)
النهاية، ج 4 ص 241.
(2)
من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع. الموطأ، كتاب البيوع، رقم الحديث:1302.- من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع. البخاري، ج 3 ص 35.
(3)
البخاري، كتاب المغازي، رقم الحديث:4347. وكتاب التوحيد، رقم الحديث: 7372.
ونحو (في سائمة الغنم الزكاة
(1)
) مفهومه لا زكاة في معلوفتها، وأصل التركيب في الغنم السائمة الزكاة وكلا التركيبين يُروَى حديثا ومعتمدة ثابت في حديث البخاري فتقديم الصفة وتأخيرها سواء، والثالثة أن يحذف الموصوف نحو {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} مفهومه قبول خبر الواحد العدل كما استدل الأئمة على ذلك بهذه الآية ونحو قوله صلى الله عليه وسلم (الثيب أحق بنفسها من وليها
(2)
) مفهومه البكر ليست كذلك بل وليها أحق منها بها فيجبرها إن لم تكن يتيمة، ونحو {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} مفهومه أن الفاسق لا يقبل في الشهادة، ويندرج في الصفة الحال نحو {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} مفهومه عدم النهي في غير السكر، وقوله واشترط أشار به إلى مفهوم الشرط، والمراد بالشرط هنا مقابل الجزاء عند النحويين لأنهم يطلقونه على مدخول الأداة، ويطلقونه أيضا على الربط بين الجملتين وهو تعلق حصول مضمون الجملة الثانية على حصول مضمون أخرى مثال الشرط قوله تعالى {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ} الآية مفهومه أن البائن غير الحامل لا نفقة لها {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} الآية مفهومه عدم جواز نكاح الإماء لمن وجد الطول، ولا فرق بين كون الأداة حرفية ولا اسمية، ولا بين الجازمة وغيرها، ولا بين ذكر الجواب وحذفه. وقوله علل أشار به إلى مفهوم العلة نحو {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} مفهومه من أكلها بغير ظلم بل بسبب شرعي كعمله بأجرة لا يتناوله الوعيد، وقوله صلى الله عليه وسلم (لا ينظر الله إلى من يجر إزاره بطرا
(3)
) مفهومه من جره لغير البطر لا يلزمه الوعيد، وقوله ولقب أشار به إلى مفهوم اللقب والمراد باللقب الاسم سواء كان علما أو اسم جنس وهو ليس بحجة عند جمهور العلماء، فقولك زيد قائم مثلا لا يدل على أن غيره ليس بقائم واحتج باللقب الصيرفي من الشافعية وابن خويزمنداد من المالكية وبعض الحنابلة، وفي بعض التعاليق أن الدقاق وقع له ذلك في مجلس النصر ببغداد فألزم الكفر إذا قال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفي رسالة عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره، والاحتجاج باللقب في غاية الضعف لا يلزم عليه من اللوازم الفاسدة وذلك
(1)
تلخيص الحبير، ج 2 ص 351.
(2)
مسلم، كتاب النكاح، 1421.
(3)
لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا. صحيح البخاري، كتاب اللباس، رقم الحديث:5788.
لأن اللقب إنما يؤتى به لتأدية أصل المعنى وليس زائدا على القدر المحتاج إليه في التأدية، وغيره من المفهومات قيود زائدة على أصل معنى الكلام فلو لم تعتبر لم يكن للقيود فائدة والله تعالى أعلم. وقوله ثنيا بوزن دنيا اسم مصدر بمعنى استثناء أشار به إلى مفهوم الاستثناء والمراد به هنا الواقع في الإيجاب، وقوله وعد أشار به إلى مفهوم العدد وله ثلاث صور: الأولى أن يكون مفهومه مفهوم مخالفة باعتبار الزيادة والنقص نحو {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} مفهومه لا تجوز الزيادة عليها ولا النقص عنها، الثانية أن يكون مخالفا باعتبار الزيادة وموافقا باعتبار النقص نحو قوله صلى الله عليه وسلم (من أسلم على أكثر من أربع أمسك أربعا
(1)
) مفهومه أنه لا يمسك أكثر من أربع وله أن يمسك أقل: الثالثة عكس هذه مثالها من سرق ثلاثة دراهم قطع مفهومه أن من سرق أقل منها لا يقطع ومن سرق أكثر قطع بالأحرى، وكثيرا ما يلغى مفهوم العدد فلذا أنكره كثير حتى قيل إنه من مفهوم اللقب، وقوله ظرفين إشارة إلى مفهومين ظرف الزمان نحو {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} مفهومه لا أمان لهم بعد ذلك ونحو {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} مفهومه لا يمنعون من الحج في ذلك العام، وظرف المكان نحو {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية مفهومه أنه لا ينهى عن قتالهم في سائر الأمكنة، وقوله وحصر إشارة إلى مفهوم الحصر وهو المسمى في علم المعاني بالقصر وهو تخصيص أمر بأمر فشمل قصر الصفة على الموصوف وقصره عليها فمن مفهوم الحصر، أنما نحو {إِنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} مفهومه أن غيره ليس بإله، ومنه تقديم ما أصله التأخير نحو {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} مفهومه لا نعبد غيرك ونحو {لِلَّهِ الْحَمْدُ} مفهومه أنه لا حمد لغير الله {لَا فِيهَا غَوْلٌ} مفهومه أن خمر الدنيا فيها الغول، ومنه توسط ضمير الفصل {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} {وَاللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} مفهوم ذلك أنه لا ولي غيره وأن غير الله ليس الغني، ومنه تعريف أحد الجزءين بلام الجنس (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده
(2)
) مفهومه من ليس كذلك ليس بمسلم أي كامل {اللَّهُ الصَّمَدُ} مفهومه لا صمد غيره والصمد الذي يصمد إليه في الحوائج أي يقصد، ومنه النفي والاستثناء فالنفي فيه منطوق اتفاقا والإثبات مفهوم عند الجمهور
(1)
أمسك منهن أربعا وفارق سائرهن، الموطأ، كتاب الطلاق، الحديث:76.
(2)
المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. صحيح البخاري، كتاب الإيمان، رقم الحديث:10.
ومنطوق أيضا عند بعض المحققين ورجحه القرافي، فلا إله إلا الله كلمة توحيد إجماعا كما للسنوسي وغيره ولكنها تفيد نفي الإلهية عن غير الله عز وجل منطوقا اتفاقا وتفيد إثبات الإلهية له عز وجل مفهوما على ما للجمهور، وإليه ذهب السبكي وهو الأظهر لدلالة اللفظ عليه بالوضع له والاستعمال فيه وتفيد إثبات الإلهية له عز وجل منطوقا على ما رجحه القرافي.
واعلم أن هذه المفاهيم العشرة حجة عند الجمهور إلا اللقب فقد تقدم ما فيه وأنكر أبو حنيفة الكل مطلقا، وقوله إغيا إشارة إلى مفهوم الغاية وهو بكسر الهمزة مصدر أغيا إذا أتى بالغاية وهي أقصى الشيء، وقصره للضرورة نحو {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} لا صيام في الليل {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} مفهومه أنها إن نكحت غيره حلت؛ أي زال التحريم الناشئ عن الطلاق الثلاث وإن بقي التحريم من جهة أخرى ككونها في عصمة الثاني أو عدته {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} إلى قوله {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} مفهومه إن اغتسلتم فلكم أن تقربوها واستدل به أصحابنا على أن الغسل يجزئ عن الوضوء، والمفاهيم متفاوتة في القوة فأعلاها مفهوم الموافقة ولذلك وقع الاتفاق على اعتباره حتى من الحنفية المنكرين مفهوم المخالفة بجميع أقسامه، وقيل إن مفهوم الموافقة منطوق إما حقيقة عرفية بأن نقل الأخص إلى الأعم عرفا أو مجازا لغويا بأن لم ينقل لكن استعمل الخاص في العام على طريق المجاز المرسل، ويليه في القوة مفهوم الاستثناء نحو ما زيد إلا قائم ولا عالم إلا زيد لقوة القول بأنه منطوق صريح.
مفهوم مفعول لأعتبر. الشرط مضاف إليه ما قبله والإضافة على معنى اللام. فقط دون غيره من المفاهيم وهو اسم فعل بمعنى انته والفاء فيه زائدة وقيل غير زائدة بل هي رابطة بين شرط مقدر وجوابه؛ أي إذا اعتبرت مفهوم الشرط فانته أنت يا مخاطب عن اعتبار غيره من مفاهيم المخالفة، وتصريحه به في بعض المواضع إنما هو لفائدة اقتضت ذلك كترتيب فرع على قيود سابقة أو عطف عليه قصدا للتسهيل والاختصار أو خفائه، وقال بعضهم المعروف من استقراء كلام المص أنه إنما يعتبر بمفهوم الشرط حيث لم يذكر له جوابا وإلا فلا يلزم اعتباره. قال الشيخ محمد بن الحسن وهذا أحسن من جواب الخرشي بأن الشرط الذي يعتبره لزوما هو إن لا مطلق الشرط انتهى قال بعضهم ويمكن أن يكون أراد اعتبارا خاصا زائدا على ما يقتضيه مفهومات
الأوضاع اللغوية بحيث يتنزل مفهوم الشرط دون غيره منزلة المنصوص فتنصرف إليه القيود ونحوها انصرافها للمنطوق الملفوظ به، وإذا حُمِل على هذا انحل به معضلات كثيرة في كلامه، وكما يعتبر مفهوم الشرط يعتبر ما هو أقوى منه كمفهوم الغاية والحصر وكذا مفهوم الموافقة.
ولما عين المصنف الأشياخ الأربعة وما اصطلح عليه في الدلالة على مختارهم ولم يسعه ترك التنبيه على ما صححه غيرهم من الأقوال أو استحسنه منها أو ما ظهر له من تلقاء نفسه أشار إلى ذلك بقوله وأشير بصحيح أو استحسن مبنيين للمفعول لعدم قصد التعيين، وعلق بأشير، قوله إلى أن شيخا بالتنكير أي عالما ويدخل في ذلك المص لأن بعض المواضع استظهره هو غير الأربعة الذين قدمتهم أي قدمت ذكرهم وهم: اللخمي، وابن يونس، وابن رشد، والمازري.
صحح هذا الحكم أي أشير عند إيراد الحكم بأحد هذين اللفظين إلى أن ذلك الحكم قد صححه أو استظهره عالم ليس أحد الأربعة المتقدم ذكرهم والله سبحانه أعلم، فالمشار إليه محذوف كما عرفت ولم يقل أولا أو استظهر لأنه عين مادة الظهور لابن رشد، وأتى به ثانيا إشارة إلى أن الترجيح الصادر من المرجح بلفظ مخصوص لا يجب أن يشار إليه بذلك اللفظ المخصوص وأشير بالتردد أي اللفظ الدال على التحير لتردد أي تحير المتأخرين في النقل أي نقل الحكم عن المتقدمين، ومعنى ذلك أن يختلف المتأخرون في النقل عن واحد أوأكثر، فينقل جماعة عنهم الجواز والمنع بأن ينقل أبو زيد مثلا الكراهة عن ابن القاسم، وينقل عنه ابن اللباد الجواز مثلا فلو نقل عن غير من نقل عنه أولا كما لو نقل واحد أو أكثر عن أشهب المنع، ونقل غيرهم عن ابن القاسم مثلا خلاف ذلك لم يكن ترددا، وسبب التردد في النقل إما لأجل اختلاف قول الإمام، وإما لأجل الاختلاف في فهم كلامه، وقوله لتردد المتأخرين في النقل يصدق بالواحد إذ قد يتحير في النقل واحد منهم نحو وهل إن حلفا وإلا لزم الناكل تردد فإنه لابن بشير وحده، وقوله لتردد المتأخرين في النقل هو كقول غيره، وفي كذا طرق أو طريقان والطريق عبارة عن شيخ أو شيوخ يرون أن المذهب كله على ما نقلوه أو لعدم نص المتقدمين هو عطف على قوله في النقل وليس معطوفا على قوله لتردد لأنه يقتضي أنه يشير بالتردد لعدم نص المتقدمين وإن لم يحصل من المتأخرين تردد وليس كذلك لفقد معنى التردد الذي هو التحيرُ مع تحرير المتأخرين المقتدى
بهم ولاسيما أمثال من تقدم، والحاصل أنه يشير بالتردد لأحد أمرين إما لتردد المتأخرين في النقل وقد مر بيانه، وإما لترددهم في الحكم لعدم نص المتقدمين. ولم يذكر المصنف علامة يميز بها بين الترددين إلا أن الثاني أقل في كلامه نحو وفي اعتبار الملازمة في وقت الصلاة أو مطلقا تردد، وفي رابغ تردد، وفي خف غصب تردد، وفي إجزاء ما وقف بالبناء تردد، وقد يقع التردد في كلام المصنف بخلاف ما ذكر نحو وفي تمكين الدعوى لغائب بلا وكالة تردد ونحو وإن شهد ثانيا ففي الاكتفاء بالتزكية الأولى تردد فإن التردد في ذلك ليس من القسمين المذكورين وإنما هو لكثرة الخلاف قاله الحطاب. وسئل ابن عرفة هل يجوز أن يقال في طريق من الطرق هذا مذهب مالك؟ فأجاب بأنه يجوز ذلك لمن له معرفة بقواعد المذهب ومشهور أقواله والترجيح والقياس ومن لا فلا إلا أن يعزوه إلى من قاله قبله كالمازري وابن رشد وغيرهم انظر الحطاب وأشير بلو المقرونة بواو النكاية أي الإغاظة، والمخالفة للمردود عليه بلو إلى خلاف بالتنوين مذهبي بياءي النسب منسوب إلى مذهب مالك ولا يشير بها إلا إلى خلاف قوي، ولا يطرد ذلك في وإن مع أنه كثير في كلامه، وقد تكون للخلاف الخارجي، وقد تكون للمبالغة فقط من غير تعرض لخلاف.
تنبيهات: الأول: للو ستة أوجه: أحدها أن تكون مصدرية فترادف أن المصدرية إلا أنها لا تنصب، ثانيها أن تكون لتعليق الجواب على الشرط في المستقبل فترادف إن الشرطية إلا أنها لا تجزم وفي هذه الحالة إذا وليها فعل ماض أول بالمستقبل {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا} الآية، ثالثها أن تكون للامتناع فتقتضي امتناع شرطها دائما مثبتا كان أو منفيا، وأما جوابها فإن لم يكن له سبب غير ذلك الشرط لزم امتناعه نحو {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} ونحو لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا، وإلا لم يلزم نحو لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجودا، ومنه قول عمر رضي الله عنه (نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه
(1)
) فإنه لا يلزم من انتفاء لم يخف انتفاء لم يعص لأن انتفاء العصيان له سببان أحدهما خوف العقاب وهو وظيفة العوام، والثاني الإجلال والإعظام وهو وظيفة الخواص والمراد أن صهيبا رضي الله عنه من قسم الخواص وأنه لو قدر
(1)
كشف الخفاء، ج 2 ص 428.
خلوه من الخوف لم تقع منه معصية فكيف والخوف حاصل له؟ فثبوت الجواب هنا بالسبب الأولى، وقد يكون ثبوته بالسبب المساوي كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم في درة بنت أم سلمة (لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة
(1)
) رواه الشيخان فإنها حلها له صلى الله عليه وسلم منتف من وجهين: كونها ربيبته، وكونها ابنة أخيه وهما متساويان، وقد يكون بالأدون كقولك فيمن عرض عليك نكاحها لو لم تكن أختي من الرضاعة لا حلت من أخوة النسب فإنها حلها منتف من وجهين أخوة الرضاع، وأخوة النسب إلا أن حرمة الرضاع أدون من حرمة النسب، رابعها أن تكون للتمني نحو لو تأتيني فتحدثني بنصب الفعل بعد الفاء، خامسها أن تكون للعرض لو تنزل عندنا فتصيب خيرا، سادسها أن تكون للتقليل نحو تصدقوا ولو بظلف محرق.
الثاني اعلم أن من عادة المص وغيره من المتأخرين أنهم إذا أسندوا الفعل إلى ضمير الفاعل الغائب ولم يتقدم له ذكر يكون ذلك المسند إليه الإمام مالك للعلم به.
الثالث اعلم أن المراد بالاتفاق اتفاق أهل المذهب، وبالإجماع إجماع العلماء، وأن المراد بالفقهاء السبعة سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو ابن عائذ المخزومي، وعروة بن الزبير بن العوام بن خويلد، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، وسليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخو عطاء بن يسار، واختلف في السابع فقيل أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل سالم بن عبد الله، وقيل أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي ونظمهم من قال:
ألا كل من لا يقتدي بأئمة
…
فقسمته ضيزى عن الحق خارجه
فخذهم عبيد الله عروة قاسما
…
سعيدا أبا بكر سليمان خارجه
(1)
لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة. صحيح البخاري، كتاب النكاح، رقم الحديث:5101. ومسلم، رقم الحديث: 1449.
فمشى على القول الثالث والمدنيون يشار بهم إلى ابن كنانة، وابن الماجشون، ومطرف، وابن نافع، وابن مسلمة، ونظرائهم. والمصريون يشار بهم إلى ابن القاسم، وأشهب، وابن وهب، وأصبغ بن الفرج، وابن عبد الحكم، ونظرائهم. والعراقيون يشار بهم إلى القاضي إسماعيل، والقاضي أبي الحسن بن القصار، وابن الجلاب، والقاضي عبد الوهاب، والقاضي أبي الفرج، وأبي بكر الأبهري، ونظرائهم. والمغاربة يشار بهم إلى الشيخ بن أبي زيد، وابن القابسي، وابن اللباد، والباجي، واللخمي، وابن محرز، وابن عبد البر، وابن رشد، وابن العربي، والقاضي سند، والمخزومي وهو من أكابر أصحاب مالك، وابن شبلون وابن شعبان.
واعلم أن الشيوخ حذروا من إجماعات ابن عبد البر، واتفاقات ابن رشد، وخلافيات الباجي؛ فإنه يحكي الخلاف فيما قال اللخمي يختلف فيه وكثيرا ما يقول اللخمي يختلف في كذا ويكون مقابل المنصوص في المسألة تخريج واختيار منه والله تعالى أعلم.
الرابع اعلم أن نقيض المندوب بالمعنى الأعم الشامل للسنة والمستحب والنافلة مرجوح مطلوب الترك والأكثر من العلماء يعبر عن جميع ذلك بالكراهة. قال الحطاب وهو الظاهر لصدق حد المكروه عليه وهو ما يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله غاية الأمر أن الكراهة تتفاوت على قدر تفاوت الطلب ويحمل ما يقع في عبارة المص وغيره من نفي الكراهة في بعض صور ما ذكر على نفي الكراهة الشديدة لا مطلق الكراهة لما تقدم قال في الطراز وترك الأحسن من غير عذر مكروه ومنهم من يقول نقيض ما تأكد طلبه مكروه ونقيض ما لم يتأكد طلبه خلاف الأولى انتهى المراد منه، وقيل ما طلب تركه بنهي مخصوص فهو مكروه، وما طلب تركه بنهي غير مخصوص وهو النهي عن ترك المندوبات خلاف الأولى. الخامس إذا قال أهل الخلاف الكبير الجمهور فإنما يعنون به مالكا والشافعي وأحمد وأبا حنيفة نقله الحطاب، وفيه عن الشيخ زروق وأما الجزولي وابن عمر ومن في معناهما فليس ما ينسب إليهم بتأليف وإنما هو تقييد قيده الطلبة زمن الإقراء فهو يهدي ولا يعتمد، وقد سمعت أن بعض الشيوخ أفتى بأن من أفتى من التقييدات يؤدب انتهى قال الشيخ الحطاب يريد والله أعلم فيما إذا ذكرا نقلا يخالف نصوص المذهب أو قواعده
والله بالنصب معمول لأسأل قدم الاسم الكريم لأن تقديم المعمول يفيد الاختصاص، أي لا أسأل إلا الله عز وجل لأنه القادر على كل شيء ولا يملك غيره مثقال ذرة.
أن ينفع النفع إيصال الخير أو دفع الضر به أي بهذا المختصر من كتبه لنفسه أو لغيره فظاهره ولو بأجر أو قرأه بدرس أو مطالعة أو مقابلة قال الجوهري قرأت الشيء جمعته وضممت بعضه إلى بعض وقرأت الكتاب قراءة وقرءانا ومنه سمي القرءان لأنه يجمع السور ويضمها أو حصله باستكتاب أو شراء ولو للتجارة أي جعله حاصلا عنده أو سعى في شيء منه يحتمل أن يكون الضمير عائدا على جملة المختصر ويحتمل أن يعود على كل واحد من الأمور المذكورة وهذا أبلغ، ومن للتبعيض على كل حال قاله الشبراخيتي وفيه محض الإخلاص بتأليفه وأنه لم يرتقب عليه منفعة من مخلوق ولا قصد بتأليفه التوسل إلى القرب منه كعادة كثير من المصنفين فلا جرم أن الله بلغ مراده قاله ابن مرزوق قاله الشيخ عبد الباقي والله جملة اسمية لفظها لفظ الخبر ومعناها الإنشاء ولذا عطفت على الجملة الفعلية الإنشائية، قال الحطاب كرر الاسم الكريم والسؤال ثانيا تلذذا بذكره ورغبة في إجابة دعائه، وأتى بلفظ الخبر تنزيلا له منزلة الواقع لغلبة الظن بإجابته، والعصمة بالكسر لغة المنع قال تعالى {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي لا مانع، ويقال عصمه الطعام أي منعه الجوع، وأبو عاصم كنية السويق وعلى هذا التقرير فالله مرفوع بالابتداء وخبره يعصمنا وقال الشبراخيتي الأولى نصب الله ونصب الفعل بعده لأن الله معطوف على الله ويعصم معطوف على ينفع به فيكون من عطف المفردات من الزلل أي الزلق في طين أو وحل وهو كناية عن العدول عن الحق، ومعنى كلام الشيخ أنه سأل الله تعالى أن يحفظه من العدول عن الحق وشبه العدول عن الحق بالزلق في طين والعصمة عند أهل السنة أن لا يخلق الله في العبد ذنبا.
واعلم أن الصواب جواز الدعاء بالعصمة مطلقة أو مقيدة وقد أنكر بعضهم جواز الدعاء بها مطلقة قال لأن العصمة المطلقة إنما تكون لنبي أو ملك، وقد استعمل الإمام مالك سؤال العصمة مطلقة فقال:"ونسأل الله العصمة" وكذا الشافعي والشاذلي في حزب البحر ويشهد له خبر النسائي عن
أبي هريرة مرفوعا (إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم علي وليقل اللهم اعصمني من الشيطان
(1)
) وروي في قوله عز وجل {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سلوا الله العصمة، والجواب عما قاله بعضهم أن العصمة في حق الأنبياء والملائكة واجبة وفي حق غيرهم جائزة، وسؤال الجائز جائز إلا أن الأدب سؤال الحفظ والحفظ في حقنا العصمة نقله الشيخ عبد الباقي، وقوله الزلل بفتح اللام مصدر زللت بكسر اللام تزل بالفتح إذا زل في طين أو منطق فهو مشترك بين الحسي والمعنوي، وقد سبق أن المراد به هنا المخالفة فيكون المراد بالزلل هنا الزلل المعنوي وعبر بالفعل المضارع لأنه يفيد تجدد العصمة تجددا لا ينقطع في وقت من الأوقات واعلم أن كلام المص إنما يتنزل على جواز الدعاء بالعصمة مطلقة لأن "أل" في الزلل وهو عام في الأقوال والأفعال ومن يمنع الدعاء بالعصمة المطلقة يمنع الدعاء بما يستلزمها، وإرادة أن الزلل هنا في الكبائر يدفعه عموم ما بعده وهو قوله ويوفقنا في القول والعمل معنى كلامه أنه سأل الله عز وجل أن يوفقه في قوله وعمله أي يجعله لا يقول إلا ما يحبه الله ويرضاه ولا يفعل إلا ما يحبه الله ويرضاه، والتوفيق التيسير للخير وعند المتكلمين خلق القدرة على الطاعة وضده الخذلان وهو خلق القدرة على المعصية والعياذ بالله تعالى، وقابل المص القول بالعمل للعرف الشائع وجرى عليه قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل
(2)
) وإن كان العمل قد يطلق على ما يتناول القول كقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات
(3)
) والفرق بين هذه والتي قبلها أنه في الأولى سأل الله أن يعصمه من الذنوب وفي الثانية سأل الله تعالى أن يرزقه العمل الصالح فالأولى ترك والثانية فعل والله تعالى أعلم. وتقدم أن التوفيق عند المتكلمين خلق القدرة على الطاعة والقدرة عند الأشعري لا تتقدم على الفعل ولا تتأخر عنه قوله ويوفقنا بالنصب والرفع أيضا عطف على يعصمنا بوجهيه، ويحصل التوفيق للعلم بستة أشياء جمعها بعضهم بقوله:
(1)
عمل اليوم والليلة للنسائي، باب ما يقول إذا دخل المسجد، الحديث 91.
(2)
اللهم إني أسألك من الخير ما سألك عبدك ونبيك، وأعوذ بك من الشر ما عاذ به عبدك ونبيك، وأسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل. صحيح ابن حبان، باب الأدعية، رقم الحديث:866.
(3)
إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، رقم الحديث:1.
أخي لمن تنال العلم إلا بستة
…
سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة
…
وإرشاد أستاذ وطول زمان
وقرن هاتين الجملتين بالنون لجمعه غيره معه في هذا الدعاء بخلاف الذي قبله لكونه تأليفه نفسه ثم أعتذر لذوي الألباب يعني بعدما قدمته من البسملة والحمد لله والصلاة والسلام على سيد الوجود غير ذلك أطلب من ذوي الألباب أي العقول قبول عذري، والعذر ما تأتي به لتسامح على فعل أمر أو تركه، وإنما اعتذر المص لما قيل إن العذر شفيع الذنب وستارة العيب يأتي به الأجر مستقيم ولا يطلبه إلا ذو قلب سليم ومن لازم الاعتذار الذل. والانكسار والاعتراف بالعجز والاستغفار وقبول العذر من المعتذرين من شأن كرام الناس (ولا أحد أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين
(1)
). وقد روى الترمذي وغيره (من أتى أخاه متنصلا من ذنب فليقبل اعتذارد محقا كان أو مبطلا فإن لم يفعل لم يرد الحوض
(2)
) وقال القائل:
إذا اعتذر الصديق إليك يوما
…
فجاوز عن مساويه الكثيرة
فإن الشافعي روى حديثا
…
بالإسناد الصحيح عن المغيرة
عن المختار أن الله يمحو
…
بعذر واحد ألفي كبيره
وروى ابن ماجه (من اعتذر إليه أخوه بمعذرة فلم يقبلها كان عليه من الخطيئة مثل صاحب المكس
(3)
) وقال بعضهم:
اقبل معاذير من أتاك معتذرا
…
واسمع مقالته إن بر أو فجرا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره
…
وقد أجلك من يعصيك مستترا
(1)
جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، رقم الحديث:7416.
(2)
لم نطلع عليه في الترمذي والذي اطلعنا عليه. بروا آباءكم، تبركم أبناؤكم، وعفوا عن نساء الناس، تعف نساؤكم، ومن تنصل إليه فلم يقبل، لم يرد على الحوض. المستدرك على الصحيحين، ج 4 ص 154.
(3)
من اعتذر إلى أخيه بمعذرة فلم يقبلها، كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس. سنن ابن ماجه، رقم الحديث:3718.
وقال غيره:
قيل لي قد أسا عليك فلان
…
ومُقام الفتى على الذل عار
قلت قد جاءنا وأحدث عذرا
…
دية الذنب عندنا الإعتذار
من تعليلية متعلقة بأعتذر؛ أي أعتذر إليهم من أجل التقصير التقصير هو عدم بذل الوسع في تحصيل المقصود والمراد به هنا ما يظهر من وقوع الكلام على غير وجه الصواب؛ إذ لا يجوز للمؤلف أن لا يبذل وسعه في تحصيل الصواب والله تعالى أعلم الواقع أي الحاصل مني على تقدير وجوده في تأليفي لهذا الكتاب ومعنى كلام المص أبدي عذري وأظهره لأصحاب العقول الصحيحة والأفهام السليمة من التقصير الذي وقع مني في هذا الكتاب فإنه أمر عظيم وخطب جسيم لا يقدر على مثله إلا بإمداد إلهي وتوفيق رباني فيغتفرون لي ما لعله يوجد فيه من الهفوات بما فتح الله به فيه من الفروع الغريبة والمسائل المهمات فإن الحسنات يذهبن السيئات قاله الشيخ الحطاب، وهذا الذي ذكره المص أمر يعلم وجوده بالضرورة إذ لا يسلم منه غير المعصوم وبالله تعالى التوفيق قال تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} وإنما خص المص ذوي الألباب لأنهم أهل الشفقة والرحمة العالمون أن المواهب والمزايا من الله تعالى وأن مقام العبد حيث أقامه ربه فيلتمسون الأعذار ولا يطلبون العَوار بوزن كلام العيب والضم لغة فيه وقد مر أن قوله ثم أعتذر استيناف وذلك لأنه لا يعطف الخبر على الإنشاء ولا الإنشاء على الخبر على الصحيح وأجازه الصفار وجماعة وأسأل حذف مفعوله أي أسأل ذوي العقول أن ينظروا كتابي بعين الرضى والصواب، والأصل اسألهم وهو استئناف بلسان التضرع التضرع التذلل والمبالغة في السؤال والرغبة ويقال أيضا للذل والخضوع تضرع؛ أي خضع وذل والمراد هنا المعنى الأول، ويقال ضرع إليه مثلثة خضع وذل وكفرح ومنع تذلل وككرم ضعف والخشوع أي الخضوع في الصوت والبصر {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} أي صوتا خفيا {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} ويكون في القلب أيضا لقول عمر ارفع رأسك إنما الخشوع في القلب وفي الأرض أيضا {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} والخضوع لا يكون إلا في البدن وإضافة اللسان إلى ما بعده
إما على حذف مضاف أي أسأل ذوي الألباب بلسان ذي تضرع وخشوع وعلى هذا فكل من اللسان والتضرع والخشوع مستعمل في حقيقته ولا تجوُّزَ إلا بحذف ذي فقط، وإما لأن كلا من التضرع والخشوع شبه بإنسان تشبيها مضمرا في النفس فأضيف إليه اللسان الذي هو من لوازم المشبه به فأثبت اللسان للمشبه تجوزا، والثلاثة مستعملة في حقيقتها أيضا وخطاب التذلل والخضوع التذلل تفعل من الذل بالكسر وهو اللين ضد الصعوبة أومن الذل بالضم ضد العز {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} والخضوع بجميع البدن وهو والتذلل مترادفان، وفيه الوجهان المتقدمان من حذف المضاف وإضمار التشبيه بالنفس، والخطاب هو الكلام الذي يقصد به الإفهام أن ينظر بالبناء للمجهول. والنائب ضمير يعود على الكتاب بعين الرضى فيه حذف مضاف أي بعين ذي رضى أو شبه الرضى بشخص وأثبت له شيئا من خواص المشبه به على طريق الاستعارة التخييلية وسألهم النظر على الوجه المذكور شفقة عليهم ليلا يدخلوا تحت قوله صلى الله عليه وسلم (من طلب عثرة أخيه ليهتكه طلب الله عثرته فيهتكه
(1)
)، والرضى بالقصر والمد هو ترك الاعتراض فلا ينظروا إليه بعين ذي غضب وتعصب فإن ذلك يصور الحق بصورة الباطل وعين الصواب ضد الخطإ ويقال فيه ما قيل في عين الرضى ولما سألهم أن ينظروا كتابه بعين ذي رضى خشي أن ينظر بعين ذي حب مفرط ليلا يرى الباطل حقا فرغب إيثارا للنصح أن يجمعوا مع عين ذي الرضى عين ذي الصواب؛ أي الذي يميز الصواب من الخطإ ولا يؤثر على الصواب شيئا بل هو همته وطلبه.
وحاصل معنى كلام المص أنه سأل ذوي الألباب سؤال متضرع متذلل خاضع لهم أن ينظروا كتابه بعين ذي رضى أي تارك للاعتراض، ولا ينظروه بعين ذي سخط يقلب الحق باطلا شفقة على علماء الأمة من الدخول تحت قوله صلى الله عليه وسلم (من طلب عثرة أخيه ليهتكه طلب الله عثرته فيهتكه
(2)
) ولما خشي أن يتوهم من ذلك أنه سألهم أن ينظروا إليه بعين ذي حب مفرط لا يميز بين الخطإ والصواب لفرط محبته، بل يحمل كل ما وجد على الصواب لفرط محبته أردف
(1)
لا تؤذوا عباد الله، ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم، طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته. مسند أحمد، رقم الحديث. 21895
(2)
مسند أحمد، رقم الحديث:21895.
مع ذلك نصيحة أخرى فسألهم أن ينظروا كتابه أيضا بعين من يميز بين الخطإ والصواب يعرف الحق بالحق لا بالرجال يصدع بما أمر الله به ولا تأخذه في الله لومة لائم فالمص سألهم أمرين ترك الاعتراض عليه لأن ذلك يصور الحق بصورة الباطل ولأن من طلب عثرة أخيه ليهتكه طلب الله عثرته فيهتكه، وأن يميزوا الصواب من الخطإ ويتبعوا الحق حيث كان ويصدعوا به ويبينوه ولا يكتموه لأن الحق لابد من تبيينه ومن كتم شيئا من العلم لا تقبل توبته إلا بتبيين ما كتم بدليل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} إلى قوله عز وجل {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} فلله در المص ما أشد نصيحته لهذه الأمة وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة
(1)
) وهذا الذي قررت به المص أشار له الشيخ عبد الباقي. وقوله بعين الرضى صحب رجل إبراهيم بن أدهم فلما أراد أن يفارقه قال لو نبهتني على ما في من العيب فقال له يا أخي لم أر لك عيبا لأني لاحظتك بعين الوداد فاستحسنت منك ما رأيت فأسأل غيري عن عيبك. وقال بعضهم:
فلست براء عيب ذي الود كله
…
ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيا
وقال آخر:
فعفوا جميلا عن خطاي فإنني
…
أقول كما قد قال من كان شاكيا
فعين الرضى عن كل عيب كليلة
…
ولكن عين السخط تبدي المساويا
وقال آخر:
وعين السخط تنظر كل عيب
…
وعين أخي الرضى عن ذاك عميا
وقال آخر:
(1)
الدين النصيحة. صحيح مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث:55.
لا تلتمس من مساوى الناس ما ستروا
…
فيهتك الله سترا عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا
…
ولا تعب أحدا منهم بما فيكا
وقال آخر:
يا ناظرا فيه إن لاقيت فائدة
…
فاشكر عليها ولا تجنح إلى الحسد
وإن عثرت لنا فيه على خطإ
…
فاعذر فلست بمحبوس على الرشد
فما كان من نقص كملوه هذا نتيجة النظر بعين الصواب فهو مفرع عليه، يعني أنه أذن لذوي العقول الذين ينظرون بعين الصواب فيميزون بين الخطإ والصواب أن يكملوا اللفظ الناقص أي المحذوف منه شيء اختل لذلك معناه فيكملونه بما يتم به معناه، والكمال هو التمام. قوله كملوه مثاله ما وقع له في الغصب حيث قال:"وإن ادعت استكراها" هذا وقع من غير زيادة فكمله تلميذه الأقفهسي بقوله: "على غير لائق بلا تعلق حدت له" ومعنى كان وجد، وما شرطية وشرطها كان التامة وفاعلها، وقوله من نقص بيان لما وجزاء الشرط كملوه وهو فعل ماض معناه الاستقبال والضمير المرفوع فيه عائد على ذوي الألباب والهاء التي هي مفعوله عائدة على ما التي هي في المعنى نقص ومن خطا أصلحوه يعني أنه أذن للذين ينظرون بعين الصواب أن يصلحوا ما وجد من الخطا في إعراب الألفاظ فيردوه إلى الصواب؛ أي وما كان من خطإ أصلحوه. ويقال فيه ما قيل فيما قبله، والمرتضى عندهم في إصلاح ما يقف عليه الناظر في كلام غيره التنبيه على ذلك بالكتابة في حاشيته أو غيرها لا المحو ولا الإثبات من الأصل؛ إذ لعل الصواب ما في الأصل. والتخطئة خطأ ابن مرزوق ولا أظنه يأذن في هذا، ولا أظن جوازه لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى نسخ الكتاب بالكلية، ولا يصح أن يكون كملوه وأصلحوه فعلي أمر لقوله في الألفية:
واقرن بفا حتما جوابا لو جعل
…
شرطا وإن أو غيرها لم ينجعل
هكذا قالوا وقد ورد ما يدل على جواز ذلك نحو (فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها
(1)
) وقولهم إن ذلك يكتب في الحواشي والشروح وغير ذلك لا في المتن قال الشيخ عبد الباقي ما لم يكن محض لحن أو خطأ صريحا في الحديث فالراجح إصلاحه:
وإن أتى في الأصل لحن أو خطا
…
فقيل يروى مثل ما جا غلطا
ومذهب المحصلين يصلح
…
ويقرأ الصواب وهو الأرجح
قوله فما كان من نقص إلى آخره ليس المراد به نقص أحكام ومسائل لم تذكر كما علمت لأن ذلك لا غاية له ولا يقدر بشر على تكميله فقلما يخلص مصنف من الهفوات علة في الاعتذار يعني أنه إنما اعتذر مع أنه لم يظهر له في كتابه إلا الكمال لأنه مصنف وكل مصنف لا يخلو من الهفوات، والهفوات هي خطأ طريق الصواب، وهي جمع هفوة وهي الزلة فقل بمعنى النفي الصرف كما قررته، وما مصدرية، وفاعل قل المصدر الأول منها ومن الفعل بعدها وهو يخلص، ومعنى يخلص ينجو، وقيل إن ما كافة لقل عن طلب الفاعل فلا فاعل لها ومثلها طال وكثر، ولا تتصل ما إلا بهذه الأفعال الثلاثة.
وحكى الدماميني عن أبي علي الفارسي أن قل بمعنى النفي الصرف وهو ما قدمته، ثم قال وتجيء بمعنى إثبات الشيء القليل ويوافق الأول هنا قول الإمام مالك ما منا إلا من ردورد عليه إلا صاحب هذا القبر الشريف، والمعنى الثاني ينافيه أو ينجو مؤلف من العثرات أي وإنما اعتذرت لأني مؤلف وكل مؤلف لا ينجو من العثرات بفتح المثلثة جمع عثرة وهي الزلة.
وعلم مما قررته ترادف الهفوة والعثرة وترادف المؤلف والمصنف، وقيل إن التأليف التركيب مع إبقاء الألفة بين الأجزاء المركبة كالحكم بطهارة شيء وصحة بيعه وابتياعه، والتصنيف جعل الشيء أصنافا كجعل باب ثلاثة أصناف طهارة وشركة ومساقاة كما للشيخ عبد الباقي، ويجوز في مصنف ومؤلف الكسر والفتح، ولما فرغ الناصر اللقاني من شرح خطبة المختصر ختم كلامه بقوله
(1)
اعرف عدتها ووكاءها ووعاءها فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها. صحيح البخاري، كتاب اللقطة، رقم الحديث:2437.
والله أعلم بالصواب قال الشيخ عبد الباقي فيه تصريح بجواز استعمال هذا اللفظ قيل مطلقا وقيل للإعلام بختم الدروس، وزعم بعض الحنفية أنه لا ينبغي استعماله لإيهامه الشك في الحكم الذي قبله ورد بأنه لا إيهام فيه بل فيه التعظيم المطلوب، وفي البخاري في قصة موسى (فعتب الله على موسى
(1)
). أي حيث سئل عن أعلم الناس فقال أنا إذ لم يرد العلم إليه، ورده إليه صادق بأن يقول الله أعلم وفي القرآن {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} قال علي: وابَرْدَها على كبدي إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول الله أعلم. ولا ينافيه ما في البخاري (أن عمر سأل الصحابة عن سورة النصر فقالوا الله أعلم فغضب وقال قولوا نعم أولا
(2)
) لتعين حمله على أنه فيمن جعل الجواب ذريعة إلى عدم إخباره عما سئل عنه وهو يعلم، وقد قال تعالى {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أي ما أبصره وما أسمعه، وقال قتادة لا أحد أبصر من الله ولا أسمع وهذا فيه غاية الإجلال، ومثله ما أقدر الله وما أعلمه ولا يغتر بما ادعاه بعضهم من المنع نظرا لتقدير النحاة في التعجب لما فيه من معنى الجعل لأن تقدير النحاة بيان لمعناه في الأصل ثم نقل إلى إنشاء التعجب، ونحي عنه معنى الجعل فجاز استعماله في شيء يستحيل كونه لجعل جاعل، قوله فقلما يخلص مصنف إلى آخره؛ قال الحطاب:"ولقد صدق المص رحمه الله فلا يخلو مصنف عن ذلك" انتهى. وكلام المصنف مقتضب من آخر وجيز ابن غلاب فإنه قال: "ثم أعتذر لذوي الألباب من التقصير الواقع في هذا الكتاب" ثم قال: "ونحن نسأل بلسان التضرع والخضوع وخطاب الاعتراف والخشوع للمتصفحين هذا الكتاب أن ينظروا بعين الرضى والصواب" إلى آخر كلامه، وقديما خاف الناس من سقطة التأليف وخافوا من زلة التصنيف، حتى قيل من صنف فقد استهدف، ومن ألف فقد استقذف ومعنى استهدف جعل نفسه هدفا أي غرضا لمن يرميه بالعيب كما يرمى الغرض بالنبل، ومعنى استقذف طلب أن يقذف أي يرمى وهو قريب من الأول {ويقذفون من كل جانب دحورا} وهو مصدر دحره أي طرده، وكان بعض الشيوخ كثيرا ما يقول:
(1)
البخاري، كتاب العلم، رقم الحديث:122.
(2)
لم نطلع عليه بهذا اللفظ والذي اطلعنا عليه ما في البخاري: عن عبيد بن عمير قال قال عمر رضي الله عنه يوما لأصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فيما ترون هذه الآية نزلت؟ {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} قالوا الله أعلم فغضب عمر فقال قولوا نعلم أو لا نعلم. صحيح البخاري، كتاب التفسير، الحديث:4538.
"من صنف فقد استهدف فإن أحسن فقد استعطف وإن أساء فقد استقذف". قيل معنى استهدف ارتفع على أقرانه فإن أحسن فقد ميل القلوب إليه وإن قصر فقد تعرض للقذف، والمعنيان صحيحان وللمؤلفين العذر في ذلك فإن الجواد يكبو والعضب ينبو:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
…
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
ولابن دريد:
إذا بلوت السيف محمودا فلا
…
تذممه يوما أن تراه قد نبا
فالطِرف يجتاز المدى وربما
…
عن لمعداه عثار فكبا
قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه لا بد من افتتاح ذكر الأحكام العملية بذكر عقيدة تشتمل على ما يجب على المكلف اعتقاده مما يجب في حق مولانا عز وجل وما يجوز وما يستحيل، ومثل ذلك في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام فأقول ومن الله أستمد على حصول المأمول:
العقيدة: ما علم أنه يجب شرعا على كل مكلف أن يعرف ما يجب في حق مولانا جل وعز وما يجوز وما يستحيل، ويجب عليه أيضا مثل ذلك في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام. فالواجب ما لا يقبل النفي بحال والمستحيل ما أبى الثبوت عقلا، والجائز ما قبل الأمرين. فيجب عليك أيها المكلف أن تعتقد أن لك ربا ثابتا له كل كمال: منتفيا عنه كل نقص، فمما يجب في حقه جل وعز: الوجود إذ لو لم يكن موجودا لما وجد شيء من العالم وهو صفة نفسية، والقِدَمُ وإلا كان حادثا فيفتقر إلى محدث فيلزم الدور أو التسلسل وكلاهما محال. وَالبَقَاءُ وإلا كان وجوده جائزا فيلزم الحدوث وقد عرفت أنه محال، والمُخَالَفَةُ للْحَوَادِثِ فتنتفي عنه الجرمية ولوازمها من الاتصاف بالأعراض فليست له جهة ولا هو في جهة للجرم ولا يحويه مكان ولا زمان فعند رؤيته يرتفع المكان والزمان فلا ماضي ولا حال ولا مستقبل إلى غير ذلك من خواص الحوادث، والغِنَى المُطْلَقُ؛ أي كونه قائما بنفسه غنيا عن محل يقوم به وعن مخصص فلو احتاج إلى المخصص لكان حادثا ولو احتاج إلى ذات يقوم بها لكان صفة وذلك باطل لأن الصفة لا بد لها من ذات تقوم بها ولا تكون هذه الذات إلا حادثة لما ستعرف من وجوب الحدوث لغيرد فيلزم وجود المحل الذي يقوم به قبل وجوده سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، ويلزم أيضا أن لا يتصف بصفات المعاني الآتية فهو عز وجل ليس بصفة، وَالوَحْدَانِيَةُ أي لا مثل له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وإلا لما كان واجب الوجود. فهذه ست صفات الأولى منها نفسية كما عرفت، والخمسة بعدها سلبية؛ أي ليست بمعان قائمة بالذات العلية وإنما هي عبارة عن نفي النقائص من الحدوث، والفناء، والمماثلة، للحوادث، والافتقار، والتعدد، والمشاركة. ويجب له مع هذه الصفات الست سبع صفات تسمى صفات المعاني وهي: الْقُدْرَةُ وَالإرَادَةُ المتعلقتان بكل ممكن فلو لم يكن قادرا لكان عاجزا فلا يوجد كون من الأكوان، ولو لم يكنَ مريدا لا تخصصت الحوادث بما هي عليه وذلك باطل بالمشاهدة. والْعِلْمُ المتعلق بكل الواجبات والجائزات والمستحيلات وتخصيصه بالبعض يلزم منه الحدوث وهو سبحانه عز وجل صفاته قديمة كما أن ذاته قديمة أعني بذلك غير الصفات الفعلية كالخلق والرزق والإماتة والإحياء، والإِرَادَةُ القصد إلى الشيء ولا قصد لمن لا علم له والْحَيَاةُ وهي لا تتعلق بشيء.
ويجب له تعالى بالنقل: السَّمْعُ وَالبَصَرُ المتعلقان بجميع الموجودات وإلا لزم قدم الحوادث، والْكَلامُ المتعلق بما يتعلق به العلم المنزه عن الحرف والصوت والتقديم والتأخير والكل والبعض والإعراب واللحن والتجدد والسكوت. ويستحيل في حقه تعالى أضداد هذه الصفات الثلاثة عشر وهي: العدم، والحدوث، والفناء، والمماثلة للحوادث من الجرمية ولوازمها، وأن لا يكون قائما بنفسه، والتعدد بأن يكون لذاته أجزاء أو تكون لها ذات مشاكلة أو يتصف بصفاته غيره أو تتعدد صفة من صفاته أو يكون معه مؤثر، والعجز وعدم الإرادة بأن تكون الأفعال غير صادرة عن اختياره وقصده، والجهل وما في معناه من الظن والشك والوهم والسهو، والموت، والصمم، والعمى، والبكم. وَيجوز في حقه تعالى فعل كل ممكن وتركه فيجوز أن تُرى ذاته، وأن يسمع كلامه، وأن يفعل ما نهى عنه، وأن يأمر بما لم يرده، وتعذيب المطيع، وإثابة العاصي إلى غير ذلك من الممكنات. وَيجب في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام: الصِّدقُ أي مطابقة كل ما أخبروا به لما في نفس الأمر لتصديقه عز وجل لهم بالمعجزة التي خصوا بها فهي نازلة منزلة قوله: صدق عبدي في كل ما يبلغه عني وقد مثلوا ذلك بملك جالس على كرسيه مع جماعة، فأتى رجل بمرأى من الملك ومسمع فقال لهم: إن الملك يأمركم أن تطيعوني وتمتثلوا أمري وتصدقوني فيما أقول لكم عنه وآية ذلك أن ينزل الملك عن سريره وأجلس عليه، فنزل ذلك الملك عن سريره وجلس عليه ذلك الرجل وذلك الملك يرى ويسمع فهذا لا يشك عاقل في أنه بمنزلة قول الملك صدق هذا الرجل في كل ما قال لكم، وَتجب لهم الأَمَانَةُ أيضا أي حفظ ظواهرهم وبواطنهم من التلبس بمحرم أو مكروه لأمره تعالى بالاقتداء بهم في جميع أفعالهم وأقوالهم فهم معصومون من كل منهي عنه، وَيجب لهم أيضا تَبْلِيغُ كل ما أمروا بتبليغه فلم يتركوا منه شيئا لا عمدا لما سبق في الأمانة ولا سهوا وهو مجمع عليه، فالصدق يزيد على الأمانة بمنع الكذب سهوا ويزيد على التبليغ بمنع الزيادة على ما أمروا بتبليغه عمدا أو نسيانا وتزيد الأمانة على الصدق بمنع وقوع المخالفة في غير كذب اللسان وعلى التبليغ بمنع المخالفة في غير التبليغ، ويزيد التبليغ على الصدق بمنع ترك شيء مما أمروا بتبليغه عمدا أو نسيانا مع لزوم الصدق فيما بلغوا من ذلك ويزيد على الأمانة بمنع ترك شيء مما أمروا بتبليغه نسيانا، وتشترك الثلاثة في نفي التبديل
عمدا والصدق والأمانة في نفي الكذب عمدا في الزائد على الأمور بتبليغه، والصدق والتبليغ في منع التبديل نسيانا والأمانة والتبليغ في منع نقص شيء من الأمور بتبليغه، وينفرد الصدق بمنع الكذب نسيانا في غير المأمور بتبليغه والأمانة بمنع المعصية في غير الكذب وعدم التبليغ كالسرقة مثلا والتبليغ بمنع نقص شيء من الأمور بتبليغه نسيانا. وَيستحيل في حقهم صلوات الله وسلامه عليهم أضداد هذه الصفات الثلاثة: الكذب، والتلبس بمنهي عنه نهي كراهة أو تحريم، وكتمان شيء مما أمروا بتبليغه. ويجوز في حقهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كل عرض لا يؤدي إلى نقص كالجوع، والعطش، والمرض، والبيع، والشراء، وغير ذلك من الأوصاف البشرية التي لا تؤدي إلى نقص.
واعلم أنه يجمع هذه العقائد كلها قول لا إله إلا الله محمد رسول الله لأن مَعْنَى لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ لا ثابتا له جميع الكمال ومنتفيا عنه كل نقص إلا الله مولانا جل وعز فأثبتنا له بقولها كل كمال فتضمن ذلك أنه موجود قديم باق غني الغنى المطلق مخالف للحوادث واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله قادر مريد عالم أوجد الأشياء بقدرته وإرادته القديمتين على وفق ما سبق في علمه فما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه وأثبتنا له أنه حي وأنه المتصف بكل كمال ونفينا عنه أضداد هذه الصفات وكل نقص. وَمُحَمَدٌ رَسُولُ اللهِ يتضمن أنه تعالى سميع بصير متكلم، وَيتضمن الإيمان بالله وبالملائكة وأنهم معصومون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والكتب السماوية وأن جميع ما فيها حق وأنها من عند الله، وبالرسل والأنبياء وأنهم صادقون مبلغون لجميع ما أمروا بتبليغه، وأنهم يجوز في حقهم من الأعراض البشرية ما لا يؤدي إلى نقص، واليوم الآخر وجميع ما فيه من حشر ونشر وصراط وميزان. وَيتضمن أيضا الإيمان بأن الجنة والنار موجودتان الآن وأن محمدا خاتم النبيئين وأفضل الخلائق أجمعين إلى غير ذلك مما ورد به الكتاب والسنة وأجمعت عليه الأمة ككونه تعالى يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، ونفوذ الوعيد في طائفة من العصاة، وكون أرواح أهل السعادة باقية ناعمة إلى يوم البعث، وكون أرواح أهل الشقاء باقية معذبة إلى يوم الدين، وسؤال الملكين وإعادة الأجسام بعينها، وأخذ الصحف باليمين وبالشمال إلى غير ذلك مما لا ينحصر.
وها أنا أذكر لك الحديث الشريف الجامع لأمور الدين وأشرحه لك لتتم الفائدة فأقول معترفا بالتقصير معتصما باللطيف الخبير: اعلم أنه ورد في الحديث الصحيح عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: [بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان ثم انطلق فلبثت ثلاثا، ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم]
(1)
. انتهى. وهذا الحديث علومُ الشريعة كلها راجعةٌ إليه ومتشعبةٌ منه فهو جامع لطاعات الجوارح والقلب أصولا وفروعا، حقيق بأن يسمى أم السنة كما سميت الفاتحة أم القرآن لتضمنها جل معانيه، فلو لم يكن في السنة جميعها غيره لكان وافيا بأحكام الشريعة لاشتماله على جملتها مطابقة وعلى تفصيلها تضمنا، فهو جامع لها علما ومعرفة وأدبا ونطقا ومرجعه من القرآن والسنة كل ءاية أو حديث تضمن ذكر الإسلام أو الإيمان أو الإحسان أو الإخلاص أو المراقبة أو نحو ذلك.
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال والإيمانَ اسما لما بطن من الاعتقاد والإيمانُ لغة التصديق، والإسلام في اللغة الانقياد والإذعان ويطلق كل منهما على الآخر في الشرع مجازا، والمعتمد أن جبريل سلم فلم ينقله الراوي ويحتمل أن يكون ذلك مبالغة في
(1)
بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل. صحيح مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث: 8 وسنن النسائي، رقم الحديث:4990.
التعمية لأمره أو ليبين أن ذلك غير واجب، ودل الجواب على أنه سأل عن متعلقات الإسلام والإيمان والإحسان لا عن معنى الألفاظ وإلا لقال الإيمان التصديق ونحو ذلك، وبدأ بالإسلام في هذه الرواية لأنه الأمر الظاهر، وثنى بالإيمان لأنه الأمر الباطن، وثلث بالإحسان وهو النهاية. وقوله:"الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله" ظاهره أنه لا بد في الإسلام من لفظ أشهد واعتمده بعضهم فلو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مسلما عند بعضهم والمعتمد خلافه. وقوله: "وتقيم الصلاة" هو وما بعده بالنصب عطف على تَشْهَدَ. ومعنى إقامة الصلاة أن يأتي بها محافظا على أركانها وشروطها أو يداوم عليها فتقيم من التقويم أي التعديل أو من الإقامة أى الملازمة والاستمرار، وقوله:"أن تؤمن بالله" أي بأنه تعالى واحد في ذاته وصفاته وأفعاله لا شريك له في ألوهيته؛ أى استحقاق العبادة وأنه منفرد بخلق الذوات بصفاتها وأفعالها وبقدم ذاته وصفاته الذاتية وبأن ذاته تعالى لها صفة حياة منزهة عن الروح، وصفة علم وقدرة وإرادة وسمع وبصر وكلام وكل صفة من صفاته لا تكثر فيها وإنما التكثر في متعلقاتها لا شبيه له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فالطاعات بإرادته وأمره والمعاصي بإرادته دون أمره، والكل من ذلك وغيره من الكائنات بقضائه وقدره سمعه من غير صماخ وبصره من غير حدقة وكلامه من غير صوت ولا حرف، منزه عن البكم منزه عن أن يقوم به حادث من حركة أو سكون أو تحيز فصفاته ليست أعراضا، أحدث العالم باختياره من غير أن يحصل له به كمال لم يكن له قبل ذلك، لم يتجدد له بإيجاده اسم ولا صفة، منزه عن الجهة والجسمية وصفاتهما ولوازمهما وكل سمة نقص أو لا كمال فيها، وبأنه لا يكون في ملكه إلا ما يشاء من خير وشر ونفع وضر فلا تقع لمحة ناظر ولا خطرة خاطر إلا بإرادته تعالى. وهو المنفرد بأنه الغني الغنى المطلق فكل موجود مفتقر إليه عز وجل في وجوده وبقائه وسائر ما يمد به، وبأنه باق لا يلحقه فناء وحياته دائمة لا يعقبها موت {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ،
وحاصل ما أشار إليه الحديث أعني قوله بالله أنه تعالى متصف بكل كمال منزه عن كل وصف لا كمال فيه، وقوله:"وملائكته" هم أجسام نورانية مبرأة من الكدورات قادرة على التشكل بأشكال مختلفة ليسوا ذكورا ولا إناثا ولا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون ولا يتوالدون كما في ابن حجر
عن سعيد بن المسيب في باب ذكر الملائكة. ومعنى الإيمان بهم أن تؤمن بأنهم عباد الله لا كما زعم المشركون من تألههم، مكرمون لا كما زعم اليهود من تنقصهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وبأنهم سفراء الله بينه وبين خلقه متصرفون فيهم كما أذن صادقون فيما أخبروا به عنه وأنهم بالغون من الكثرة ما لا يعلمه إلا الله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [أطت السماء وحق لها أن تئط ما من موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع]
(1)
وقوله وكتبه أي بأنها كلام الله القديم الأزلي القائم بذاته المنزه عن الحرف والصوت واللحن والإعراب، وبأنه تعالى أنزلها على بعض رسله بألفاظ حادثة في ألواح أو على لسان الملك وبأن كل ما تضمنته حق وصدق وبأن بعض أحكامها نسخ وبعضها لم ينسخ، وورد عن غير واحد أنها مائة كتاب وأربعة كتب أنزل منها خمسون على شئث، وثلاثون على إدريس، وعشرة على آدم، وعشرة على إبراهيم والله أعلم. الزركشي اختلف العلماء في نسخ المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قيل إنه اللفظ والمعنى وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به وأنه ذكر بعضهم أن حروف القرءان في اللوح كل حرف منها بقدر جبل قاف، وقيل إنه المعنى خاصة نزل به جبريل وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم فعبر عنه بلغة العرب لقوله تعالى {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} ، وذكر السيوطي في الحاوي أنه اختلف في كيفية تلقي الوحي من الله تعالى قيل ألهمه وقيل سمعه منه تعالى، وقيل حفظه من اللوح المحفوظ، وقيل سمعه جبريل من إسرافيل وإسرافيل من اللوح المحفوظ، واختلف هل نزول جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ أو بالمعنى فعبر صلى الله عليه وسلم عنه. نقله اليوسي في حاشيته على شرح الكبرى، وقوله:"ورسله" أي بأنه أرسلهم إلى الخلق لهدايتهم وتكميل معاشهم ومعادهم وأيدهم بالمعجزة الدالة على صدقهم فبلغوا عنه رسالته وبينوا ما أمروا ببيانه، وأنه يجب احترام جميعهم ولا نفرق بين أحد منهم، وأنه تعالى نزههم عن كل وصمة ونقص فهم معصومون من الكبائر والصغائر قبل النبوءة وبعدها هذا هو الصواب، وما وقع في قصص يذكرها المفسرون وفي كتب قصص الأنبياء مما يخالف ذلك لا يعتمد
(1)
الجامع الكبير للسيوطى، رقم الحديث:7395. وفي جامع الترمذي، كتاب الزهد، رقم الحديث: 2312: أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله .. الخ. وسنن ابن ماجه، رقم الحديث:4190.
عليه ولا يلتفت إليه وإن جل ناقلوه كالبغوي والواحدي وما جاء في القرآن من إثبات العصيان لآدم ومن معاتبة جماعة منهم على أمور فعلوها فهو من باب أن للسيد أن يخاطب عبده بما شاء وأن يعاتبه على خلاف الأولى معاتبة غيره على المعصية، وهم أفضل من جميع الملائكة فإذا فضلوا على المعصومين لزم كونهم معصومين بالأولى. وقوله:"وتؤمن بالقدر" القدر في اللغة مصدر قدرت الشيء بتخفيف الدال وفتحها أقدره بكسر الدال وضمها إذا أحطت بمقداره والمراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين إلى أن حدثت بدعة القدر قاله ابن حجر. قال وقد حكى المصنفون عن طوائف من القدرية إنكار كون البارئ عالما بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم وإنما يعلمها بعد كونها قال القرطبي وغيره وقد انقرض هذا المذهب ولا يعرف أحد انتسب إليه من المتأخرين. قال والقدرية الآن مطبقون على أن الله تعالى عالم بأفعال العباد قبل وقوعها وإنما خالفوا السلف في زعمهم أن أفعال العباد مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال دمرهم الله تعالى نقله الشيخ ميارة وفي نوازل ابن هلال ما نصه القدر في عرف المتكلمين عبارة عن تعلق علم الله تعالى وإرادته أزلا بالكائنات قبل وجودها فلا حادث إلا وقد قدره الله سبحانه وتعالى أزلا أي سبق به علمه وتعلقت به إرادته انتهى. وفي مطالع المسرات أنه اختلف في القضاء والقدر هل هما بمعنى واحد وعليه فقيل هما بمعنى الإرادة، وقيل بمعنى القدرة والإرادة والعلم، وقيل هما متباينان، وعليه فقيل القضاء سابق فهو عند الأشاعرة إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال، وقدره إيجاده إياها على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها، وقيل القدر سابق فهو عبارة عن تعلق علم الله تعالى وإرادته أزلا بالكائنات والقضاء إبراز الكائنات على وفق القدر، وقيل القدر الإرادة المقرونة بالحكم الخبري فلا تقديم ولا تأخير فإن اعتبرت الكلام قلت قضاء وإن لم تعتبره قلت قدر، وفي كلام لبعضهم أن القدرية مطبقون على أن الله تعالى عالم بأفعال العباد قبل وقوعها وإنما خالفوا السلف في زعمهم أن أفعال العباد مقدورة لهم واقعة منهم على جهة الاستقلال دمرهم الله تعالى. وقدم الملائكة على الكتب والرسل نظرا
للترتيب الواقع لأنه سبحانه وتعالى أرسل الملك بالكتب إلى الرسل وليس فيه متمسك لمن فضل الملك على الرسول، وليس المراد بمخاطبة الأفراد اختصاصه بذلك بل المراد تعليم السامعين الحكم في حقهم وحق من أشبههم من المكلفين، وقد تبين لك ذلك بقوله أتاكم يعلمكم دينكم. وقوله:"الإحسان" مصدر أحسن يحسن يتعدى بنفسه وبغيره تقول أحسنت كذا إذا أتقنته، وأحسنت إلى فلان إذا أوصلت إليه النفع والأول هو المراد لأن المقصود هو إتقان العبادة، وقد يلاحظ الثاني لأن المخلص مثلا يحسن بإخلاصه إلى نفسه وإحسان العبادة الإخلاص فيها والخشوع وفراغ البال حال التلبس بها ومراقبة المعبود، وأشار في هذا الجواب إلى حالتين أرفعهما أن تغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه حتى كأنه يراه بعينه وهو قوله:"كأنك تراه" أي وهو يراك، والثانية أن يستحضر أن الحق مطلع عليه يرى كل ما يعمل وهو قوله:"فإنه يراك"، وهاتان الحالتان تثمرهما معرفة الله تعالى وخشيته وقوله:"ما المسئول عنها بأعلم من السائل" هذا وإن كان مشعرا بالتساوي في العلم لكن المراد التساوي في العلم بأن الله سبحانه استأثر بعلمها. النووي يستنبط منه أن العالم إذا سئل عما لا يعلم يصرح بأنه لا يعلمه ولا يكون في ذلك نقص من مرتبته بل يكون دليلا على مزيد ورعه. وقوله: "أن تلد الأمة ربتها" المراد كثرة العقوق في الأولاد فيعامل [الولد]
(1)
أمه معاملة السيد أمته من الإهانة والسب والضرب والاستخدام، وقيل المراد اتخاذ السراري فمن أولد أمة كان ولده منها بمنزلة ربها لأنه ولد سيدها، وقيل المراد كثرة السبي فقد يسبى الولد أولا وهو صغير ثم يعتق ويكبر ويصير رئيسا بل ملكا ثم تسبى أمه فيما بعد فيشتريها عارفا بها أو هو لا يشعر أنها أمه فيستخدمها أو يتخذها موطوءة، وقد جاء في بعض الروايات [أن تلد الأمة بعلها]
(2)
فحمل على هذه الصورة، وقوله:"وأن ترى الحفاة" الخ المقصود الإخبار عن تبدل الحال بأن يستولي أهل البادية على الأمر ويملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به. وقوله: "يتطاولون" التطاول في البنيان التفاخر فيه ويدل
(1)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، والمثبت من نسخة مهيمن.
(2)
فتح الباري، كتاب الإيمان، ج 1 ص 22 - عياض، كتاب الإيمان، ج 1 ص 205.
على هذا حديث: [إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة]
(1)
والحديث الآخر [لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس لكع بن لكع]
(2)
. القرطبي: علامات الساعة على قسمين معتاد وغيره والمذكور هنا الأول وأما غير المعتاد مثل طلوع الشمس من مغربها فتلك مقارنة لها أو مضايقة والمراد هنا العلامات السابقة على ذلك. ابن حجر: دلت الروايات على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما عرف أن السائل جبريل إلا في آخر الحال. ابن المنير: في قوله يعلمكم دينكم دلالة على أن السؤال الحسن يسمى علما وتعليما لأن جبريل لم يصدر منه سوى السؤال ومع ذلك سماه معلما وقد اشتهر: "حسن السؤال نصف العلم"، ويمكن أن يؤخذ من هذا الحديث أن الفائدة فيه مبنية على السؤال والجواب معا وقوله:"يا محمد" استشكل بحرمة ندائه صلى الله عليه وسلم باسمه لقوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ} الآية ويجاب بأنا لا نسلم حرمة ذلك على الملائكة على أنه يحتمل أن حرمة ذلك إنما عرضت بعد فلا إشكال، وأجاب بعضهم بأنه قصد مزيد التعمية عليهم فناداه بما كان يناديه به أجلاف الأعراب وفيه جواز نداء العالم باسمه ولو من المتعلم ومحله إن لم يعلم كراهته لذلك وإلا كان على سبيل الوضع من القدر لمخالفته ما اعتيد لأولئك بالألقاب المعظمة.
واعلم أنه يجب الإيمان بجميع الملائكة والكتب والرسل إيمانا كليا فمن ثبت بعينه كجبريل والإنجيل وموسى وجب الإيمان به علينا حتى أن من لم يصدق بمعين من ذلك فهو كافر ومن لم يُعرف اسمه ءامنا به إجمالا وإذا كان كذلك فينبغي ويتأكد أو يجب الاعتناء بمن سمى بذلك ليؤمن بعينه نقله الشيخ ميارة وله رحمه الله تعالى:
وفي الذكر من أسماء كتب تنزلت
…
لأربعة فاعلم هديت مبجلا
فالإنجيل والتورية ثم زبورها
…
ومن بعدها فرقان أحمد كَمَّلا
(1)
إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة. البخاري في صحيحه، كتاب العلم، رقم الحديث:59.
(2)
لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد التاس بالدنيا لكع بن لكع. الترمذي، كتاب الفتن، رقم الحديث:2209. ومسند أحمد، ج 5 ص 389.
والإنجيل للسيد عيسى، والتورية للسيد موسى، والزبور للسيد داود صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم، وجملة الأنبياء المذكورين في القرآن خمسة وعشرون: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وءادم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم الخليل ولوط وإسحاق وإسماعيل ويعقوب ويوسف ويونس ذو النون وأيوب وشعيب وموسى وهارون وإلياس واليسع وذو الكفل وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والمذكور في القرآن من الملائكة ثلاثة جبريل وميكائيل ومالك؛ والروح المذكور في القرءان جبريل والله تعالى أعلم. ولم يتعرض المصنف للإيمان والإحسان ولا لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما تعرض للدعائم الأربع ونحوها وقدم الصلاة مبتدئا بشرطها من الطهارة فقال:
باب
الطهارة
باب الباب في اللغة فرجة في ساتر يتوصل بها من داخل إلى خارج ومن خارج إلى داخل، وفي اصطلاح العلماء اسم لطائفة من مسائل العلم مشتركة في حكم وحينئذ فالباب حقيقة في الأجسام كباب الدار، ومجاز في المعاني ك
باب الطهارة
مثلا فالساتر هو الجهل بالطهارة والباب هو المسائل التي يتوصل بها إلى معرفة أحكام الطهارة مثلا، والمسائل جمع مسألة وهي لغة السؤال واصطلاحا مطلوب خبري يبرهن عليه في ذلك العلم؛ أي يقام عليه الدليل ولا تكون إلا كسبية أي مكتسبة لقولهم:"ضروريات العلم ليست من مسائله" ولذا صرحوا بأن الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة ليست من الفقه والظاهر أن قولهم لا تكون إلا كسبية ليس من تمام التعريف وإنما هو كلام مستأنف قصد به بيان الحاصل من تعريفها فلا يعترض عليه بأنه مستغنى عنه بقولهم يبرهن عليه، وقد يعبر عن الباب بالكتاب وبالفصل وقد يجمع بين الثلاثة فيقدم الكتاب ثم الباب ثم الفصل فيزاد في تعريف الكتاب ذات أبواب، وفي تعريف الباب ذات فصول، وقد يفصل الكتاب بالفصول كما يفصل بالأبواب ولم يستعملوا تفصيل الباب بالكتاب والفصل بالأبواب. والكتاب في اللغة المكتوب كالرهن بمعنى المرهون والمص استعمل الباب مفصلا بالفصول واستعمله غير مفصل بها، والفصل لغة القطع وحكمة تفصيل المصنفات بالكتب والأبواب والفصول تنشيط النفس وبعثها على الحفظ والتحصيل لما يحصل لها من السرور بالختم والابتداء بخلاف ما لو لم يكن كذلك ومن ثم فصل القرءان العظيم سورا وجزأه القُرَّاءُ أحزابا وأسباعا وعشورا ولأن فيه تسهيلا للمراجعة والكشف عن المسائل.
واعلم أن الكتاب يقع مضافا إلى الترجمة ككتاب الطهارة مثلا وكذا الباب والمص حذف التراجم التي تضاف إليها الأبواب اختصارا، والترجمة المضاف إليها الباب هنا الطهارة، وقوله باب خبر مبتدإ محذوف أي هذا باب الطهارة، وهي لغة النظافة والنزاهة أي الخلوص من الأقذار الحسية كالنجاسات والأوساخ، والخلوص من العيوب المعنوية كالطمع واللؤم ونحو ذلك فهي حقيقة في المعنيين وقيل مجاز في الثاني قال الله عز وجل {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} على أن المراد بالثياب القلب، وشرعا لها معنيان أحدهما رفع الحدث وإزالة النجاسة كما في قولهم الطهارة واجبة قال القرافي:"وهي بهذا المعنى مجاز"، ثانيهما ما عرفها به ابن عرفة حيث قال: "الطهارة صفة
حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة به أو فيه أوله فالأوليان من خبث والأخيرة من حدث" انتهى، والثاني هو الحقيقة ونظر الحطاب في كون الأول مجازا وقال الظاهر أن الأول حقيقة أيضا، وقول ابن عرفة صفة جنس يتناول جميع الصفات، وقوله: "حكمية" معناه أنه يحكم بها ويقدر قيامها بمحلها قيام الأوصاف الحسية وليست معنى وجوديا قائما بمحله ولا معنوية، وقوله: "لموصوفها" يتناول الثوب والمكان والشخص، ومعنى توجب تثبت وتصحح وقوله: "جواز" معناه إباحة، ومعنى قوله: "استباحة" فعل الصلاة والإقدام عليها كما يقال فلان يستبيح الدماء كما أشار له الأمير فظهر بذلك تغاير المضاف والمضاف إليه ويكون للجمع بينهما فائدة خلاف ما للشيخ محمد بن الحسن. وقوله: "به" أي بملابسته فيشمل الثوب والماء وكل ما يجوز للمصلي ملابسته فاندفع أنه لا يتناول الماء المضاف، وليست الباء للسببية حتى يقتضي ذلك، وقوله: "فيه" يريد به المكان، وقوله: "له" شامل لطهارة المصلي من الحدث والخبث إلا أن قوله: "والأخيرة من حدث" يخصه به، وأورد على حد ابن عرفة أنه لا يشمل طهارة غسل الميت فإنها تبيح الصلاة عليه، والذمية من الحيض ليطأها زوجها وأجيب بأنها تبيح الصلاة له لولا المانع من الموت والكفر، وبمثل هذا أيضا يجاب عما يقال من عدم شموله للطهارة المستحبة فيقال: "تبيح لولا المانع". وعرف ابن عرفة النجاسة بقوله: "صفة حكمية توجب لموصوفها منع الصلاة به أو فيه" واعترض بأنه غير مانع لشموله للمكان والثوب المغصوبين، وأجيب بحمل المنع على عدم الصحة فيندفع الاعتراض، وقد علم معنى حكمية مما تقدم وكذا قوله: "توجب"، وكذا قوله: "لموصوفها" وباقي التعريف ظاهر وبالله تعالى التوفيق، وإدخال البدن في قوله به في الحدين بعيد. والطهورية بفتح الطاء صفة حكمية توجب لموصوفها كونه بحيث يصير المزال به نجاسته طاهرا، وأما الطُّهورية بالضم فهي فضلة ما يتطهر به فتلك أربعة: الطهارة، والطَّهورية بالفتح فيهما والطُّهورية بضم الطاء والنجاسة وقد عرفت حقائقها، ويقال أيضا الطهارة بضم الطاء بمعنى الطهورية بضمها. وقدم المص كغيره ربع العبادات لعموم الحاجة إليها وبدأ بالصلاة لأنها
أوكد العبادات وأفضلها بعد الإيمان ولتقديمها على بقية القواعد في حديث [بني الإسلام على خمس]
(1)
ما عدا الشهادتين ولم يتكلم المص وكثير من الفقهاء على الشهادتين لأنهما أفردتا بعلم مستقل، وقدم الكلام على الطهارة لأنها أوكد شروط الصلاة التي يطلب المكلف بتحصيلها لسقوط الصلاة عند فقد ما يتطهر به من ماء وصعيد على المشهور وبدأ بالكلام على الماء لأن الطهارة المائية هي الأصل ولا تحصل إلا بالماء المطلق فاحتاج إلى تمييزه من غيره فقال:
يرفع الحدث يعني أن الحدث يرفع عن الشخص بسبب استعماله للمطلق والحدث بفتحتين لغة وجود الشيء بعد أن لم يكن، وشرعا يطلق على أربعة معان أحدها الخارج المعتاد نحو قوله:"نقض الوضوء بحدث" ثانيها الخروج كما في قولهم: من آداب الحدث الاعتماد على الرجل اليسرى والفرق بين هذين كالفرق بين القائم والقيام: ثالثها الوصف الحكمي المقدر قيامه بالأعضاء قيام الأوصاف الحسية نحو قوله: "ومنع حدث صلاة وطوافا". رابعها المنع المرتب على الأعضاء كلا كالأكبر أو بعضا كالأصغر والفرق بين هذين كالفرق بين الذين قبلهما. قال الشيخ محمد بن الحسن: الظاهر أن المنع في الأصغر متعلق بجميع الجسد لا بالبعض وإلا لاقتضى جواز حمل المحدث المصحف على ظهره وهو لا يجوز قوله يرفع الحدث يصح فيه إرادة المعنى الثالث كما تصح فيه إرادة المعنى الرابع، وقد أنكر ابن دقيق العيد المعنى الثالث وقال ذكره بعض الفقهاء وهم مطالبون بدليل شرعي على ثبوته فإنه منفي بالحقيقة والأصل موافقة الشرع لها قوله يرفع الحدث يقدر برفع استمرارُ الحدثِ لا يرفع وقوعُه لأنه لا يرتفع، وبنى المص يرفع للمفعول للعلم بفاعله وهو الله أو النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة ما أوحى إليه وحكم الخبث بفتحتين هو عين النجاسة يعني أن حكم الخبث يرفع بالماء المطلق: وحكم الخبث هو الصفة الحكمية التي توجب لموصوفها منع الصلاة به أو فيه فإذا غسل المحل النجس بالماء المطلق حتى زالت العين واللون والريح على ما يأتي فقد أبيحت الصلاة بذلك الثوب مثلا، وإنما قال حكم الخبث لأن عين النجاسة تزول بغير الماء المطلق بخلاف الحكم وإذا زال الحكم زالت العين لا
(1)
البخاري، كتاب الإيمان، رقم الحديث. 8 - مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، رقم الحديث:16.
محالة، وأما موضع الاستجمار والسيف الصقيل ونحوه إذا مسح والخف والنعل إذا دلكا من أبوال الدواب وأرواثها فالمحل محكوم له بالنجاسة وإنما عفي عنه للضرورة بالمطلق متعلق بيرفع يعني أن الحدث وحكم الخبث إنما يرفعان بالماء المطلق وقيل يزال حكم الخبث بالماء المضاف، وقيل يزال بكل مائع قلاع كالخل، ابن عبد السلام قولهم لا تزال النجاسة إلا بالمطلق عند الأكثر يدل على أن إزالتها تعبد، وقولهم لا يفتقر زوالها إلى نية يدل على أنها معقولة المعنى فهو تناقض والجواب عما قال أن إزالة النجاسة فيها شائبة المعقولية والتعبد فأعمل الإمام الشائبتين معا فأسقط النية لإعمال شائبة المعقولية واشترط المطلق لشائبة التعبد نقله الشيخ ميارة، ولم يقل المص حكم الحدث لما تقدم أن الحدث هو الوصف الحكمي أو منعه، ومثل الحدث وحكم الخبث في ذلك كل طهارة شرعية من غسل أو وضوء وإن لم تكن واجبة فلا يصح شيء من ذلك إلا بالماء المطلق كالأوضئة المستحبة والاغتسالات المسنونة والمستحبة قال في التلقين ولا يجوز التطهر من حدث ولا لنجس ولا لشيء من المسنونات والقرب بمائع سوى الماء المطلق، والباء في قوله بالمطلق للسببية وإذا كانت للسببية أشعرت بالعلية فيكون في كلامه ما يفيد الحصر لأن السبب يلزم من عدمه العدم، وفي حاشية الشيخ بناني أن كلام المص لا يفيد الحصر والله عز وجل أعلم،
ولم يقل المص رافع الحدث وحكم الخبث المطلق لأن نسبة الرفع للماء مجاز. والمطلق في اللغة ما أزيل منه القيد الحسي أو المعنوي كما في قول الأخنس بن شهاب التغلبي:
أرى كل قوم قاربوا قيد فحلهم
…
ونحن خلعنا قيده فهو سارب
وفي استعمال الفقهاء هو ما بالقصر أي شيء أو الشيء الذي صدق أي صح أن يطلق عليه أي يقال له ماء فالإضافة في قوله اسم ماء بيانية أي اسم هو ماء والماء هو الجوهر السيال فيشمل ماء الورد والزرجون والماء المضاف وغير ذلك. بلا قيد يعني أن المطلق هو الذي يقال له ماء ولم يقيد بشيء يحبسه أي يكون الماء بعضه ولا بشيء يخالطه من مغير مفارق غالبا فخرج بالقيد الأول الماء المستقر في نبات أو حيوان، وبالقيد الثاني الماء الذي تغير بما يفارقه غالبا فيشمل المص ما إضافته بيانية كماء المطر وماء الندى وما أضيف لمحله كماء الآبار وكذا ماء البحر فلا خلاف في جواز التطهير به وإن كان حكي عن ابن عمر
كراهة الوضوء به فقد انعقد الإجماع على خلافه، وما قررت به قوله بلا قيد يفيده الحطاب والله سبحانه أعلم، وقرره غيري على أن معناه بلا قيد لازم وعليه فيشمل أيضا الماء الذي نبع بين أصابعه صلى الله عليه وسلم. روى النسائي وابن خزيمة عن أنس [أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده في إناء وقال توضئوا باسم الله حتى توضؤوا عن آخرهم وكانوا نحوا من سبعين]
(1)
وأكثر أهل العلم على أن الماء نبع من ذاته صلى الله عليه وسلم؛ أي أنه خارج من عظمه وعصبه ولحمه ودمه ويؤيده قول جابر [فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه]
(2)
، وفي رواية [ينبع]
(3)
وهو مراد من قال إنه إيجاد معدوم وهو الصحيح. قال القرطبي لم يسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم حيث نبع الماء من ذاته من عظمها وعصبها ولحمها ودمها الشريف، ونقله عنه ابن حجر في علامات النبوءة وقال في القبس ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم خصيصة لم تكن لأحد قبله، قال النووي في كيفية هذا النبع قولان حكاهما القاضي عياض وغيره أحدهما ونقله القاضي عن المزني وأكثر العلماء أن الماء كان يخرج من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم وينبع من ذاتها قالوا وهو أعظم من المعجزة التي هي نبعه من حجر، والثاني أن الله كثر الماء في نفسه فصار يفور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم قال غير واحد وعلى الأول فهو أشرف مياه الدنيا والآخرة. وقد ذكر صاحب المواهب عن البلقيني وذكره أيضا تقي الدين القابسي
(4)
المالكي عن شيخه شيخ الإسلام البلقيني أن ماء زمزم أفضل من ماء الكوثر لغسل قلبه صلى الله عليه وسلم به ليلة الإسراء فكيف بماء خرج من ذاته صلى الله عليه وسلم وعلى أن الماء كثر في نفسه فهو أشرف مياه الدنيا والآخرة أيضا إلا أنه يحتمل أن كلا من الكوثر وماء زمزم أفضل منه. ودخل في ماء الآبار ماء زمزم ويستحب الوضوء بماء زمزم والاغتسال به إذا كان طاهر الأعضاء والاستكثار من شربه ويكره أن تزال به النجاسة احتراما له فإن أزيلت به طهر المحل،
(1)
عن أنس قال طلب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وضوءا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل مع أحد منكم ماء فوضع يده في الماء ويقول توضئوا باسم الله فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه حتى توضئوا من عند آخرهم قال ثابت قلت لأنس كم تراهم قال نحوا من سبعين. سنن النسائي، كتاب الطهارة، رقم الحديث:78. وابن خزيمة، رقم الحديث: 144.
(2)
سنن النسائى، كتاب الطهارة، رقم الحديث:78. وابن خزيمة، رقم الحديث: 144.
(3)
رواية "ينبع" في الموطإ، كتاب الطهارة، رقم الحديث:64.
(4)
الذي في الحطاب ج 1 ص 68 "الفاسي".
والنظر إلى زمزم عبادة والتطهر به يحبط الخطايا. ابن شعبان لا يغسل بماء زمزم ميت ولا نجاسة. ابن أبي زيد ما ذكره في ماء زمزم لا وجه له عند ملك وأصحابه والمشهور أن ماء زمزم تزال به النجاسة ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن ابن شعبان لا تزال به النجاسة تشريفا له. قال الحطاب وأما إزالة النجاسة بماء زمزم فالظاهر أن ذلك مكروه ابتداء فإن أزيلت به طهر المحل انتهى. ثم قال بعد جلب نقول ولا ينبغي أن يختلف في كراهة غسل النجاسة به والاستنجاء به قد قيل إنه يورث البواسير.
واعلم أن موضع زمزم وحريمها سابق على المسجد فلا يدخل في تحبيس المسجد فقد ذكر صاحب المدخل وغيره أن البئر إذا كانت سابقة على المسجد لا يدخل حريمها في تحبيس المسجد، ويستثنى من الآبار آبار ثمود فلا يجوز الوضوء بمائها ولا الانتفاع به لأنه صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة رضي الله عنهم حين مروا بها أن لا يشربوا إلا من البئر التي كانت تردها الناقة وأمرهم أن يطرحوا ما عجنوا من تلك الآبار ويريقوا الماء [والحديث في الصحيحين]
(1)
، وأمرهم أن يعلفوا العجين للإبل، والنهي عنه لأنه ماء سخط وغضب لا لنجاسته فلو صلى به لصحت الصلاة كما للأجهوري بالأولى من صحة الصلاة بالماء المغصوب المتوضإ به، وقيل إنه نجس إذ هذا الذي أمرهم به صلى الله عليه وسلم من إراقة ما استقوا وتعليف العجين للإبل حكم على ذلك الماء بالنجاسة ولولا ذلك لما أتلف الطعام المحترم شرعا، وكما منع الوضوء بمائها منع التيمم بأرضها وهي مسيرة خمسة أميال وفي أمره صلى الله عليه وسلم لهم بالاستقاء من البئر التي كانت تردها الناقة دليل على التبرك بآثار الصالحين وإن تقادمت أعصارهم، وفي كتاب الشيخ الأمير ومنع الانتفاع بماء ثمود وهو مطلق، والصلاة به باطلة كما في الشبراخيتي عن الرصاع وبأرضها فلا يؤخذ منها إناء ولا بناء، واستظهر الأجهوري صحة الصلاة بمائها ويؤيده أنه قيل بكراهته انتهى. ابن حجر الذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بئر الناقة بالوحي وقال البلقيني بالتواتر إذ لا يشترط فيه الإسلام انتهى. ونقل ابن أبي شريف من الشافعية عن الزركشي أنه
(1)
البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، رقم الحديث:3379. - مسلم، كتاب الزهد، رقم الحديث: 2981.
يلحق بماء آبار ثمود كل ماء مغضوب عليه كماء ديار قوم لوط وماء ديار بابل لحديث أبي داود [إنها أرض ملعونة]
(1)
وماء بئر ذروان التي وضع فيها السحر للنبي صلى الله عليه وسلم، وماء بئر برهوت وهي بئر باليمن لحديث ابن حبان [شر بئر في الأرض بئر برهوت]
(2)
انتهى. بابل بالعراق وهي المذكورة في القرآن العزيز، وذروان بفتح الذال المعجمة وسكون الراء بئر بالمدينة، وفي القاموس بئر ذروان بالمدينة أو هو ذو أروان بسكون الراء وقيل بتحريكه أصح اهـ ويدخل في المطلق الماء العذب لقوله تعالى {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} ولا شك أنه عذب ومن قال لا يستنجى بالماء العذب رأى أنه طعام وهو بمكان من الشذوذ، ويدخل في حد المطلق أيضا جميع المياه المكروهة الآتي ذكرها.
واعلم أن المطلق مرادف للطهور وقيل المطلق أخص من الطهور وعلى هذا يأتي حد ابن عرفة للمطلق بأنه الماء الباقي على أوصاف خلقته غير مستخرج من نبات ولا حيوان فما تغير بقراره طهور غير مطلق على هذه الطريقة والله سبحانه أعلم وإن جمع من ندى يعني أن المطلق يرفع به الحدث وحكم الخبث وإن كان مجموعا من الندى والمراد به ما ينزل من السماء لَيْلًا على الأرض وأوراق الشجر، والضمير في جمع عائد على المطلق، والمبالغة راجعة لقوله يرفع كما قررت ولا يضره تغير شيء من أوصافه بما جمع عليه من النبات لأنه له كالقرار، وما أحسن عبارة الشيخ الأمير: الماء طهور وإن ندى غيره الشجر انتهى. وقوله جمع أي ولو في يد المتوضئ أو المغتسل، وقوله من ندى بالقصر وهو لغة المطر والبلل والمراد به هنا ما تقدم ونبه المصنف بهذا وما بعده على أن المطلق تعرض له أحوال لا تسلبه الإطلاق لكن منها ما لا يقتضي الكراهة وهو ما نبه عليه بقوله وإن جمع من ندى إلى قوله أو بمطروح، ومنها ما يقتضي الكراهة وهو ما سيذكره بقوله وكره ماء مستعمل الخ أو ذاب بعد جمود الضمير في ذاب يعود على المطلق والجمود مصدر جمد ضد ذاب؛ يعني أن المطلق يرفع به الحدث وحكم الخبث وإن ذاب بعد الجمود فيرفع الحدث
(1)
إن حبيبى صلى الله عليه وسلم نهانى أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة. أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، رقم الحديث:490.
(2)
والله ما على وجه الأرض ماء شر من ماء بئر بوادى برهوت. المعجم الأوسط للطبراني، رقم الحديث:3912. ولفظ المؤلف عند الحطاب ج 1 ص 75.
وحكم الخبث بالثلج والبرد والملح إذا ذاب كل منها، وإذا ذاب الملح بموضعه فلا خلاف في رفعه للحدث وحكم الخبث، وإن ذاب بغير موضعه فالمشهور أنه يرفع الحدث وحكم الخبث فلا يؤثر فيه الجمود رعيا لأصله. وقيل حكمه حكم الطعام لا يتطهر به وينضاف به ما غيره من المياه، وقيل إن كان جموده بصنعة أثر وإلا فلا. وإذا ذاب البرد ونحوه ووجد في داخله شيء طاهر أو نجس فالظاهر أن يقال ينظر له بعد سيلانه فإن غير أحد أوصافه سلب طهوريته وبعد ذلك حكمه كمغيره وإن لم يغير أحد أوصافه كان طهورا على حاله قاله الشيخ إبراهيم، وعبارة الأمير فإن وجد داخله شيء فعلى حكمه.
أو كان سؤر بهيمة يعني أن المطلق يرفع به الحدث وحكم الخبث وإن كان سؤر بهيمة أي بقية شربها، بضم السين مهموزا، قال الشيخ الحطاب السؤر بضم السين المهملة وسكون الهمزة وقد تسهل بقية شرب الدواب وغيرها ويقال أيضا في بقية الطعام هكذا فسره أهل اللغة والمحدثون والفقهاء. وقال النووي سؤر الحيوان مهموز وهو ما بقي في الإناء بعد شربه أو أكله، ومراد الفقهاء بقولهم سؤر الحيوان طاهر أو نجس لعابه ورطوبة فمه انتهى. الحطاب الذي يظهر من كلام أصحابنا أن السؤر بقية شرب الحيوان إلا أن يكون مراد النووي أنهم إنما يحكمون بطهارة بقية الشرب أو نجاسته لطهارة لعاب الحيوان أو نجاسته فتأمله انتهى، وفي المدونة يجوز الوضوء بسؤر الدواب وهو وغيره سواء. اللخمي وفي سماع ابن وهب في الوضوء بفضل الحمار والبغل والفرس وغير ذلك من الدواب غيره أحب إلي منه ولا بأس به إن اضطر له فمشى المصنف على ظاهر المدونة، وأشار بالمبالغة لرواية ابن وهب قاله الحطاب.
والبهيمة كل ذات أربع قوائم ولو في الماء وكل حي ليس من شأنه التمييز وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم [سؤر المؤمن شفاء]
(1)
قوله بهيمة أي ولو جلالة إلا أنه يكره استعمال سؤرها في الحدث وحكم الخبث كما يأتي في قوله وما لا يتوقى نجسا من ماء وذلك لا ينافي الإطلاق، وفي الحطاب عن سند أن الدابة التي تعيش بأكل روثها بعض الأحايين لا بأس بسؤرها ما لم ير في
(1)
سؤر المؤمن شفاء. كشف الخفاء، ج 1 ص 1500.
أفواهها ذلك عند شربها وإنما لم يكن به بأس لأن أكثر الدواب تفعل ذلك، وأما الجلالة فيكره التطهير بسؤرها أو حائض وجنب يعني أن الماء المطلق يرفع به الحدث وحكم الخبث وإن كان بقية شرب الحائض والجنب أي شربا منه معا وأحرى سؤر أحدهما فنص على الصورة المتوهمة وهي سؤرهما معا والمنفرد أولى بالحكم قاله الشبراخيتي، ولا خلاف في طهارة سؤر الحائض والجنب إذا لم يكن في أفواههما نجاسة وإنما نبه عليه ليلا يتوهم عدم طهارته قاله الحطاب. قوله أو حائض أو جنب مسلمين أو كافرين شاربي خمر أم لا وسيأتي:"وسؤر شارب خمر".
أو فضلة طهارتهما يعني أن الماء الذى يفضل من طهارة الحائض والجنب طاهر مطهر قاله في الأم وصرح به غير واحد من أهل المذهب، وذكر الش قولا بأنه لا يتطهر بفضل طهور الحائض قال ولا يبعد جريه في طهارة الجنب. وحصل ابن رشد في وضوء الرجل بفضل المرأة وعكسه خمسة أقوال أحدها قول مالك وجميع أصحابه أنه يجوز وضوء الرجل بفضلة وضوء المرأة وعكسه لا خلاف بينهم في ذلك، والثاني لا يتوضأ أحدهما بفضلة صاحبه مطلقا. والثالث تتوضأ المرأة بفضلة الرجل لا العكس، والرابع يتوضأ أحدهما بفضل صاحبه إذا شرعا جميعا، والخامس يتوضأ أحدهما بفضل صاحبه ما لم يكن الرجل جنبا والمرأة حائضا أو جنبا انتهى. وفي المدونة لا بأس بما انتضح من غسل الجنب في إنائه ولا يستطيع الناس الامتناع من هذا، قال صاحب الطراز في شرح هذه المسألة الماء الذي ينتضح في إناء المغتسل على وجهين ما تطاير من جسده وما تطاير من الأرض وكلاهما لا يضر إذا لم يكن تطاير نجاسة انتهى. فقد خالط الماء المستعمل في الحدث إناء المغتسل واغتفره ضرورة والله سبحانه أعلم. ابن ناجي قال بعض شيوخنا يحمل قولها عندي بأن المراد بما انتضح من غسل الجنب ما يكون في بدنه من نجاسة فإن إمرار يديه مع الماء للتدلك ثم ردهما إلى الإناء عفو وإن كانت النجاسة في يديه وهو تأويل بعيد انتهى. وعادته إذا قال بعض شيوخنا أنه يشير به إلى ابن عرفة قاله الحطاب وقال لم أقف على ما ذكره في كلام ابن عرفة وسيأتي إن شاء الله في آخر هذا الفصل وفي فرائض الوضوء عن ابن رشد نحو ما ذكره ابن ناجي عن بعض شيوخه انتهى. ومن توضأ على بلاط نجس وطار عليه ماء من البلاط فإن كانت النجاسة رطبة غسل ما تطاير عليه منها إلا أن يتوالى البلل حتى يغلب على الظن أنها
انماعت وذهبت قاله الحطاب: وقوله أو فضلة طهارتهما سواء نزلا في الماء أو اغترفا منه، وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت [كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد بيني وبينه فيبادرني حتى أقول له دع لي دع لي وهما جنبان]
(1)
، وكذا الحائض بالقياس ويصدق على الماء الذي نزلا فيه أنه فضلة طهارة باعتبار ما علق بظاهر الجسد فالباقي فضلة قطعا كما قاله الشيخ محمد بن الحسن والله سبحانه أعلم أو كثيرا خلط بنجس لم يغير يعني أن الماء الكثير إذا خالطه شيء نجس ولم يغيره فإنه باق على طهوريته والكثير ما فوق آنية الغسل، واشتمل كلام المصنف منطوقا ومفهوما على ثمان صور وهي: كثير خلط بنجس لم يغير أو غير خلط بطاهر لم يغير أو غير فتلك أربعة، قليل خلط بنجس لم يغير أو غير خلط بطاهر لم يغير أو غير فتلك أربعة أيضا.
واعلم أن ما اتفقت الأمة على أنه كثير ولم يتغير لا خلاف في طهوريته سواء خلط بنجس أو طاهر وإن كان مختلفا في كونه كثيرا فالمشهور أنه طهور ولا يكره، وقيل يكره، وقيل غير طهور وهي رواية ابن نافع ابن رشد وهي رواية حائلة خارجة عن الأصول. الحطاب لا ينبغي أن تجعل رواية ابن نافع ناقضة للاتفاق. والنجس بالفتح والكسر والتحريك وككتف وعضد ضد الطاهر نجس كسمع وكرم وأنجسه ونجسه فتنجس.
أو شك في مغيره هل يضر يعني أن الماء إذا تحقق تغيره وشك في الذي غيره هل هو مما يسلب طهوريته أو مما لا يسلب طهوريته كقراره فالأصل بقاؤه على الطهورية فما وجد في الفلوات مثلا من بئر أو غدير قد أنتن ولا يدرى لم أنتن فلا بأس بالتطهر به. وقوله شك أي تردد في ذلك على حد السواء وأحرى إن ترجح جانب الطهورية فإن ترجح جانب النجاسة أو سلب الطهورية عمل على ما ترجح عنده فيعمل على ظنه وإن لم يقو، ويكون الماء طهورا أيضا إذا شك في مغيره هل هو من جنس ما يضر أم لا وعلى أنه يضر لا يدري هل هو نجس أو طاهر، وكذا يكون طهورا أيضا إذا شك هل تغير الماء أم لا والقاعدة أن الشيء إذا شك فيه رد إلى أصله والأصل في الماء
(1)
كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء، بينى وبينه، واحد. فيبادرني حتى أقول: دع لي، دع لى، قالت وهما جنبان. مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، رقم الحديث:321.
الطهورية: وإذا تحقق تغير الماء بمفارق وشك هل هو نجس أو طاهر فإن ذلك الماء طاهر غير طهور، وإذا تغير الماء وعلم أنه من نجس صب فيه أو من مجاورة مرحاض فمتنجس قطعا في ماء البئر والخليج وإن علم أنه من غيره أو شك فطهور فيهما، وإن ظن أن تغيره مما صب فيه أو جاوره فمتنجس في ماء البير قطعا. واختلف في ماء الخليج هل هو كذلك وهو ما لابن رشد وهو الجاري على القواعد في الظن أو هو طهور وهو ما قال الباجي إنه ظاهر السماع أي لكثرته ولكنه يكره استعماله، والسماع الذي عينه الباجي هو سماع أشهب عن مالك فإنه قيل له إن خليج الاسكندرية تجري فيه السفن إلا أنه إذا جرى فيه النيل كان صافيا أبيض وإذا ذهب النيل تغير لونه وطعمه وريحه مع جري السفن فيه والمراحيض تصب فيه فقال:"لا يعجبني أن يتوضأ منه إلا أن يعلم أن التغير الحاصل فيه ليس من المراحيض فإن علم أنه منها كان نجسا إجماعا وإن لم يعلم واحد منهما وظن أن التغير من النجس كان الاحتياط أن يحمل على النجاسة انتهى. ابن مرزوق الأولى ترك استعمال ما شك في مغيره" انتهى. وإذا ظن المستعمل أنه يضر ولم يعارضه ظن أهل المعرفة فإنه يعمل بظنه قطعا كما مر. قال الشيخ إبراهيم: "والظاهر بل الواجب العمل بظن أهل المعرفة عند التعارض" انتهى. قال مقيده عفا الله عنه وإذا كان هو من أهل المعرفة وعارضه ظنهم فالذى يظهر أن هذا من باب ما إذا شك في مغيره هل يضر فيكون الماء مطلقا والله سبحانه أعلم.
أو تغير بمجاورة يعني أن الماء المطلق إذا تغير ريحه بمجاورة شيء له منفصل عنه فإن تغيره ذلك لا يسلبه الطهورية، والباء للسببية أي تغير ريحه بسبب مجاورة شيء منفصل عنه له رائحة طيبة كنبت مجاور له، أو خبيثة كالجيفة، ولا خلاف في تغير الريح بالمجاور للماء المنفصل عنه أنه لا يضر، وأما اللون والطعم فلا يمكن تغيرهما بذلك لكن إن فرض تغيرهما به من غير مماسة لم يضر أيضا وإن بدهن لاصق يعني أن التغير بالمجاور لا يضر سواء كان هذا المجاور منفصلا كما مر أو ملاصقا، ومثلوه بالدهن الملاصق لسطح الماء ولم يمازجه فيتغير ريح الماء لذلك فلا يضره بل يبقى على إطلاقه. قوله:"وإن بدهن لاصق" قال الشيخ عبد الباقي: ضعيف والمذهب أنه يضر لقول ابن عرفة ظاهر الروايات وأقوالهم أن كل تغير بحال معتبر وإن لم يمازج. انتهى. وارتضاه ابن مرزوق وبحث فيه الحطاب بقوله الظاهر تسليم ما للمصنف كابن الحاجب، وفي ابن بشير
إشارة له حيث قال المغير بمخالطة الأدهان غير طهور فقوله بمخالطة يفيد أن تغيره بملاصقه فقط لا يضر كالمصنف انتهى. قلت هذا لا يعارض ما لابن عرفة عن ظاهر الروايات الخ، ولا ما نقله عن الشيخ القابسي ما استقي بدلو دهن بزيت؛ أي أو غيره مما غير أحد أوصاف الماء غير طهور غير أنه يشكل على ابن عرفة ومن وافقه ما ذكره سند كما في الحطاب من أنه إذا تغير ريح أعلى الماء من قَطِرَانِ رسب بأسفله لا يضر حتى تتحقق ممازجته للماء بتغير لونه أو طعمه إلا أن يكون ابن عرفة لا يوافق سندا على ذلك كما هو ظاهره قاله الأجهوري انتهى كلام الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمد بن الحسن: ما نقله ابن عرفة عن الشيخ القابسي أجاب عنه الحطاب بأنه لا دليل لابن عرفة فيه لما ذكره صاحب الجمع من أن مسألة الدلو كل جزء من أجزاء الماء فيها مازجه جزء من أجزائه ينشغ من قعر الدلو وأجنابه بخلاف الدهن الواقع في الماء فإنه يطفو على وجهه ويبقى ما تحته سالما انتهى. وقوله ينشغ هو بالنون والشين والغين المعجمتين أي يرتفع انتهى. قوله: "وإن بدهن لاصق" هذا إذا تغير ريح الماء فقط فلو تغير لونه أو طعمه بملاصقة دهن فإنه يضر حتى على ما مشى عليه المصنف، ويحمل حين تغير أحدهما على أنه مازج قاله الشيخ عبد الباقي وإذا بنينا على ما مشى عليه المصنف في الدهن الملاصق فلا يستعمل الماء حتى يلفظ الدهن من على وجه الماء وهذا في الكثير، وأما القليل كنقطة في آنية الوضوء فالظاهر أنه لا يحتاج إلى لفظه وكانت الصحابة رضي الله تعالى عنهم يستعملون أوانيهم في الأكل والشرب والوضوء أو برائحة قطران وعاء مسافر عطف على قوله بدهن فهو من التغير بالمجاورة يعني؛ أن الماء إذا جعل في وعاء المسافر وتغير ريحه فقط برائحة قطران ألقي جرمه في ذلك الوعاء فإن ذلك الماء طهور وأما لو تغير لونه أو طعمه فيضر ويكون غير طهور، وهذا التفصيل ما لم يكن القطران دباغا فإن كان دباغا لم يضر تغير أحد أوصافه أو الجميع إلا إذا كان بينا، وقيل يضر مطلقا وقيل لا يضر مطلقا وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند قول المصنف:"ويضر بين التغير". قوله: "وعاء مسافر" لا مفهوم للمسافر عن غيره فكذلك الحضري والبادي، وإذا شك في كون القطران دباغا أم لا فالظاهر أنه يجري فيه نحو ما تقدم في قوله:"أو شك في مغيره هل يضر" قال الحطاب بعد جلب نقول: والحاصل مما تقدم أن تغير ريح الماء فقط من القطران من باب
التغير بالمجاور فيجوز استعماله ولا يتقيد ذلك بالضرورة ولا بالسفر وإن تغير لونه أو طعمه فإن ذلك يسلبه الطهورية، ولا يجوز استعماله لا في الحضر ولا في السفر إلا على ظاهر ما نقله ابن راشد عن بعض المتأخرين ويتقيد ذلك حينئذ بالسفر والضرورة إليه ولا يصح مع وجود غيره والله أعلم انتهى.
والقطران بفتح القاف وكسر الطاء المهملة وبكسرهما وبكسر القاف وسكون الطاء عصارة شجر الأبهل وهو العرعر وشجر الأرز يطبخ فيتحلل منه القطران ويقال في المطلى به مقطور ومقطرن، ولا يضر تغير الماء بطول مكثه وإقامته وما انقلب من العذوبة إلى الملوحة لأنه من أرضه وطول إقامته كما في شرح الشيخ ميارة وغيره أو بمتولد منه يعني أن الماء إذا تغير بمتولد منه فإن ذلك لا يضر بل هو طهور سواء تغير في لونه أو طعمه أو ريحه أو في الجميع، وذلك كالطحلب بضم الطاء واللام ويفتح اللام أيضا وهو الخضرة التي تعلو الماء والخز بفتح الخاء المعجمة والزاي وهو ما ينبت في جوانب الجدر الملاصقة للماء والزغلان وهو حيوان صغير يتولد من الماء والضريع، وفي القاموس أنه نبات في الماء الآجن أي المتغير اللون والطعم له عروق لا تصل إلى الأرض، أو نبات منتن يرمي به البحر. والحاصل أن كل ما تولد منه مما ذكر ومما لم يذكر لا يضر سواء غيره في حال اتصاله أو ألقي فيه بعد انفصاله أو فصل من ماء وألقي في آخر، وسواء كان التغير بينا أم لا ومحل كونه لا يضر ما لم يطبخ فيه فإن طبخ في الماء سلب طهوريته مطلقا لأنه كالطعام حينئذ، ويدخل في كلام المصنف التغير بالسمك الحي والميت مفارق غالبا فيضر والظاهر أن التغير بجزء السمك الحي مضر خلافا لاستظهار الحطاب أنه لا يضر وحكى صاحب الطراز قولا عن مالك بكراهة المتغير بالطحلب مع وجود غيره أو بقراره يعني أن الماء إذا تغير بقراره أي بشيء من أجزاء الأرض فإن ذلك لا يسلبه الطهورية، ومثل للقرار بقوله: كملح وزرنيخ بكسر الزاء وشب ومغرة وهي تراب أحمر، والكحل والزاج والنؤرة والكبريت والحمأة وهي طين أسود منتن، والحديد والنحاس وسواء تغير الماء بذلك وهو في قراره أو صنع منه إناء فتغير منه الماء، وقد ثبت
[أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من إناء صفر]
(1)
، ومعلوم أنه يغير طعم الماء، وكان ابن عمر يسخن له الماء في إناء من صفر ولم يكره أحد الوضوء من إناء الحديد على سرعة تغير الماء فيه، وظاهر قوله:"كملح" ولو طبخ به خلافا لما استظهره الحطاب، وطبخ الماء بالكبريت ونحوه كطبخه بالملح فلا يضر، وإنما كان الكبريت وما معه غير مضر للماء ولو نقل، ومنع التيمم به وما معه حيث نقل؛ لأن التيمم طهارة ضعيفة، ووجه تمثيل المص بالملح دون غيره أنه لما كان من جنس الطعام كان أشد مما هو من جنس الأرض فلذا اعتنى به أو بمطروح فيه يعني أن الماء إذا تغير بشيء طرح فيه من أجزاء الأرض كتراب أو ملح ونحوهما فإن ذلك لا يسلبه الطهورية، وهذا واضح إذا لم يكن الطرح قصدا بل ولو كان الطرح قصدا فإن ذلك لا يضر وهذا هو المشهور، وبين المطروح بقوله من تراب أو ملح يعني أن ما طرح في الماء من أجزاء الأرض لا يسلب الطهورية إذا غيره، ولا فرق في ذلك بين أن يطرح قصدا أولا على المشهور وقيل إن طرح ذلك في الماء قصدا سلبه الطهورية وأما ما ألقته الريح فإنه لا خلاف أنه لا يضر. ولله در المص حيث اكتفى بذكر أقرب الأشياء إلى الماء وهو التراب، وأبعدها عنه وهو الملح فعلم بذكر الخلاف فيهما أن الخلاف جار فيما بينهما كالكبريت والزرنيخ والمغرة ونحوها، وأن المشهور في الجميع عدم سلب الطهورية، وهذا الذي ذكره المص في الملح هو الذى ذهب إليه ابن أبي زيد وابن القصار وهو المشهور كما مر دون قوله: والأرجح السلب بالملح يعني أن ابن يونس لما ذكر الخلاف في التغير بالملح المطروح في الماء قصدا قال: الصواب أنه لا يجوز الوضوء به لأنه إذا فارق الأرض صار طعاما لا يجوز التيمم عليه فهو بخلاف التراب لا يتغير حكمه ولا تخلو بقعة فيها الماء منه انتهى. والله تعالى أعلم، والمراد بسلب الطهورية هنا إذهابها والسلب عند المتكلمين سلبان سلب فيما يقبله المسلوب عنه ويعبر عنه بالعدم، ومقابل بالملكة كسلب البصر عن الإنسان وإن كان فيما لا يقبله كسلب البصر عن الحائط فيعبر عنه بالسلب المقابل بالإيجاب وفي الاتفاق على السلب به إن صنع تردد هذا أول موضع جرى فيه ذكر التردد وهو لتردد المتأخرين في النقل؛ يعني أن
(1)
عن عبد الله بن زيد قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماء في تور من صفر فتوضأ فغسل وجهه ثلاثا ويديه مرتين مرتين ومسح برأسه فأقبل به وأدبر وغسل رجليه. البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:187.
المتأخرين اختلفوا هل الملح المطروح قصدا كالتراب فلا ينقل حكم الماء وهو المشهور كما مر، أو كالطعام فينقله إلى غيره، أو المعدني كالتراب والمصنوع كالطعام. قال ابن بشير: واختلف من بعدهم هل ترجع هذه الأقوال إلى قول واحد فيكون من جعله كالتراب يريد المعدني، ومن جعله كالطعام يريد المصنوع، أو يرجع ذلك إلى ثلاثة أقوال قوله: صنع أي من أجزاء الأرض وعلم أنه إذا لم يصنع يبقى الخلاف لأنه إذا كان الخلاف جاريا في التراب الذى هو أقرب الأشياء إلى الماء فأحرى الملح المعدني وحينئذ فتقرير المص أن يقال: وفي الاتفاق على السلب بالملح المطروح في الماء قصدا إن صنع. وأما إن لم يصنع فالاتفاق على عدم السلب به: ويراد بالاتفاق حينئذ اتفاق القائلين بأن التراب المطروح قصدا لا يسلب الطهورية، فترجع الأقوال الثلاثة إلى قول واحد وعدم اتفاقهم على ذلك فتكون الأقوال ثلاثة: قول بأن الملح كالطعام مطلقا، وقول بأنه كالتراب مطلقا، وقول بالتفصيل إن كان مصنوعا فهو كالطعام وإن كان معدنيا فهو كالتراب والله تعالى أعلم.
والمتقدمون في الاصطلاح من هو قبل ابن أبي زيد والمتأخرون من بعدهم، وإذا تأملت ما تقدم علمت أن مراد المص بالمتقدمين والمتأخرين هنا من تقدم على غيره ومن تأخر عن غيره وإن كانوا كلهم متأخرين، وتحصل مما مر أن التردد هنا لاختلاف المتأخرين في فهم كلام من تقدمهم، ويمكن أن يقرر المص هنا بأنه في الاتفاق على السلب بالملح المطروح قصدا إن صنع، وإن لم يصنع فلا اتفاق بل يبقى الخلاف المشار إليه بقوله ولو قصدا، وعدم اتفاقهم على السلب بالمصنوع بل يجري فيه الخلاف الجاري في غير المصنوع والله أعلم ومؤدى التقريرين واحد لكن الأول هو المناسب لأول الحل.
واعلم أن أقسام الملح أربعة: معدني وهو ما يؤخذ من معدنه حجارة، وما أصله ماء وجمد وهذا الثاني يتفق على عدم السلب به، وما صنع من أجزاء الأرض وهذا الثالث والأول هما محل الخلاف، والرابع ما صنع من النبات فيتفق فيه على السلب ولا يدخل في قوله إن صنع والله أعلم. لا بمتغير لونا يعني أنه لا يرفع الحدث وحكم الخبث بماء قد تغير لونه اتفاقا. أو طعما يعني أنه لا يرفع الحدث وحكم الخبث بماء قد تغير طعمه اتفاقا. أو ريحا يعني أنه لا يرفع الحدث وحكم الخبث بما قد تغير ريحه على المشهور خلافا لابن الماجشون في عدم اعتبار تغير
الريح، ورُدَّ جواب ابن الحاجب عنه بقوله: ولعله قصد التغير بالمجاورة بما يفارقه غالبا يعني أن محل كون الماء المتغير أحد أوصافه لا يرفع به الحدث وحكم الخبث إنما هو إذا تغير بما؛ أي بشيء أو بالشيء الذي يفارقه غالبا أي كثيرا فلا يضر التغير بما لا يفارقه أصلا كالسمك الحي، أو نادرا كمغرة قاله الشيخ إبراهيم وغيره، والضمير البارز في يفارقه عائد على الماء، والمستتر فيه عائد على ما، ومن المفارق كثيرا السمك الميت وكذا خرء السمك الحي كما مر.
من طاهر أو نجس بيان لما يعني أن الماء إذا تغير أحد أوصافه بما يفارقه كثيرا فإن ذلك يسلبه الطهورية سواء كان ذلك المفارق طاهرا كطعام ونبات، أو نجسا كبول محرم أو مكروه ودم مسفوح قوله لا بمتغير أي تحقق أنه تغير أو غلب على الظن، وما تقدم أنه يعمل على الظن فيما إذا شك في مغيره هل يضر مع أنه تحقق التغير وما هنا لم يتحقق التغير فلذلك اشترط غلبة ظن التغير والله أعلم. قوله: لا بمتغير عطف على قوله: بالمطلق، وقوله: لونا تمييز محول عن الفاعل، قوله: أو نجس يجوز أن يقرأ بفتح الجيم فيكون المراد عين النجاسة ويصح أن يقرأ بكسرها فيكون المراد به الشيء المتنجس قاله غير واحد، وفي القاموس النجس بالفتح وبالكسر وبالتحريك وككتف وعضد ضد الطاهر انتهى وقد مر ومثل للمفارق بقوله كدهن خالط هذا مفهوم قوله لاصق يعني أن الدهن وهو كل ما يدهن به كزيت وسمن وودك ونحو ذلك إذا خالط الماء وغيره فإنه يسلب طهورية الماء بلا خلاف وبخار مصطكى يعني أن الماء إذا تغير ببخار المصطكى فإن ذلك يسلب طهوريته، ودخل بالكاف المقدرة بخار غيره وهذا إن لاقى نفس الماء لا محله قبل وضعه فيه حيث كان التغير في الريح فإن تغير لونه أو طعمه بتبخير محل الماء قبل وضع الماء فيه فإنه يضر، وفي الأمير أثبتوا للماء لونا وهو الحق ولونه البياض لا قولهم لا لون له، وقول السيدة عائشة [ما هو إلا الأسودان الماء والتمر]
(1)
تغليب للتمر أو للون الإناء. قوله وبخار مصطكى هذا هو الراجح، وقيل لا يسلب البخار الطهورية، والقولان مبنيان على أنه مجاور فلا يسلب الطهورية أو مخالط فيسلبها وهذا الخلاف جار في المبخر بالعود ونحوه، والبخار هو الدخان، والبخور اسم
(1)
البخاري، كتاب الهبة، رقم الحديث:2567.
لما يتبخر به وسواء كان التغير بينا أم لا. قال عبد الباقي: وانظر تبخير الماء بالكبريت هل هو كطبخه بجزء من أجزاء الأرض فلا يضر قطعا أو كطرحه فيه، وتقدم أنه لا يضر إما قطعا وإما على المشهور والمصطكي بضم الميم وفتحها مقصور ويمد مع الفتح: علك رومي وقوله "لا بمتغير" الخ علم منه أن التغير يسلب الطهورية مطلقا بينا أو خفيا وهو كذلك إلا ما سيذكره وهذا هو المعروف من المذهب، وقيل باغتفار التغير اليسير وهو غير معروف في المذهب، وأما ما ذكره الأبياري أن خفي التغير معفو عنه من جهة الشارع وذلك أن أواني العرب لا تنفك عن طعم يسير أو رائحة يسيرة، وكانوا لا يتحرجون عن استعمالها فقال ابن هارون يحمل عندي على ما تغير بما لا ينفك عنه الماء غالبا لا على أن التغير اليسير مغتفر لأن ذلك غير معروف في المذهب. قال الشيخ الحطاب: قلت وما قاله ابن هارون هو الذي يقتضيه كلام أهل المذهب، وأما ما استدل به الأبياري فلا دليل فيه لأن ذلك بمنزلة ما لا ينفك عنه الماء غالبا وذكر الوانوغي عن أبي عمران في الإناء يصب منه الودك أو الزيت ثم يصب فيه الماء فتعلوه شبابة هل يتوضأ به؟ فقال: أما اليسير فلا يضر انتهى. قلت: وهذا كله فيما تغير بطاهر وأما ما تغير بنجس فلا فرق فيه بين اليسير والفاحش قليلا كان أو كثيرا جاريا أو راكدا، وحكى النووي: عليه الإجماع، قال: وسواء تغير لونه أو طعمه أو ريحه، وفي حكاية الإجماع على ما تغير ريحه نظر لأن ابن الماجشون تغير الريح عنده لا يضر انتهى كلام الحطاب. وإذا تغير الماء بمفارق فلا فرق بين أن يكون المفارق أقل من الماء أو أكثر على المعروف، وقيل إذا كانت أجزاء الطاهر المخالط أقل من أجزاء الماء فهو مطهر روي ذلك عن مالك. وعلم من المص أن العبرة بالتغير بالفعل لا بمجرد المخالطة فلو وقع في الماء جلد أو ثوب فأخرج ولم يتغير لم يضره وهذا هو المعروف في المذهب، وعن أصبغ أنه لا يتوضأ بماء بل فيه شيء من الطعام أو غسل فيه ثوب طاهر تغير الماء أم لا فإن توضأ به وصلي أعاد أبدا انتهى. واعلم بأن القول بأن التغير اليسير لا يضر يتناول الطعم واللون كما يتناول الريح. وأعلم أيضا بأن ابن الماجشون ناقض قوله في موضع آخر إذا أنتن الماء واشتدت رائحته فنجس اتفاقا قاله الشيخ الحطاب، وقال الشيخ الأمير: إن التغير بالدخان مضر ولو كان دخان
كبريت ونحوه من أجزاء الأرض، وما قاله الشيخ الأمير خلاف ما مر عن عبد الباقي والله سبحانه أعلم.
وحكمه كمغيره يعني أن الماء إذا تغير بطاهر فحكمه أي صفته أنه طاهر، وإذا تغير بنجس فهو نجس، وإطلاق الحكم على الصفة فيه تسامح إذ الحكم الشرعي ليس مرادا هنا لأن المتنجس ينتفع به كما يأتي بخلاف النجس، وإذا شك في نجاسة مغير الماء فهو طاهر غير مطهر إلا أن يشك في المغير هل هو مما يسلب الطهورية أم لا فيكون حينئذ طاهرا مطهرًا كما مر. والنجس بفتح الجيم يصح الإخبار به عن المفرد وغيره كعدل، ويقال نجس بكسر الجيم ينجس بفتحها على اللغة الفصحى، وينجس بضمها في لغة ضعيفة نقله الشيخ ميارة ويضر بين التغير بحبل سانية يعني أن الماء إذا تغير بالحبل الذي يستقي به فإن ذلك يسلبه الطهورية بشرط أن يكون التغير بينا أي فاحشا عند أهل المعرفة، والسانية الجمل الذي يستقي عليه، وحبله هو السبب الذي يربط به وبالدلو فينزع به الماء، وفي المثل:"سيرا لسواني سير لا ينقطع"، ومثل الحبل غيره من آلات الاستقاء فلو عبر بها لكان أولى، وفي القاموس: السانية الغرب وآلته والناقة يستقي عليها، وعلم مما قررت أن المراد آلة الاستقاء دلوا أو حبلا أو غيرهما ككوب وهو إناء من خشب لا أذن له، وسواء كانت هناك سانية أم لا فالمراد بالسانية ما يخرج الماء، وإذا كان الوعاء الذي يخرج به الماء من أجزاء الأرض لم يضر تغير الماء به كما هو واضح مما تقدم كان من حجر أو حرق بالنار كآنية الفخار، وقال غير واحد: ولا يضر التغير بالدباغ ولو بينا طعما أو لونا أو ريحا، وقال الأمير: إلا الدباغ مطلقا فلا يضر ولو بينا كما في عبد الباقي والشبراخيتي وحاشية شيخنا خلافا لبحث الحطاب أنه كمسألة السانية انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: واعلم أن التغير إما بملازم غالبا فيغتفر، أو بمفارق غالبا ولم تدع ضرورة إليه فلا يغتفر، أو بمفارق غالبا ودعت إليه الضرورة كحبل الاستسقاء ففيه ثلاثة أقوال ذكرها ابن عرفة: الأولى لابن زرقون طهور، الثاني لابن الحاج ليس بطهور، الثالث لابن رشد التفصيل بين التغير الفاحش وغيره وهو الراجح ولذا اقتصر عليه المصنف لكن لو عبر بآلة الاستقاء كما فعل ابن عرفة ليشمل الحبل والكوب والسانية وغيرها كان أحسن. وفي أجوبة أبي محمد سيدي عبد القادر الفاسي عن شيخه
سيدي عبد الرحمن العارف تغير الماء بنشارة الأرز إنما يضر إن كان تغيرا بينا كما قيل في الدباغ للقربة والطي للبير بالتبن ونحو ذلك من ضروريات الماء ومصلحاته، وكأن ابن رشد لم يفصل في النشارة تفصيله في الحبل والإناء لأن التغير يسرع إليه من النشارة دون الحبل انتهى.
كغدير بروث ماشية يعني أن الغدير إذا تغير بروث الماشية أو بولها فإن ذلك يسلبه الطهورية سواء كان التغير بينا أم لا، وهذا علم من قوله لا بمتغير أتي به لرد القول بطهوريته وهو رواية في المجموعة تدل على أنه طهور مطلقا وأن تركه مع وجود غيره إنما هو استحسان، ورواية المجموعة ما يعجبني أن يتوضأ به من غير أن أحرمه انتهى أو بير بورق شجر أو تبن يعني أن ماء البئر إذا تغير بورق شجر أو تبن فإن ذلك يسلبه الطهورية، وإن لم يكن التغير بينا. اللخمي: هذا هو المعروف من المذهب والأظهر في بير البادية بهما الجواز يعني أنه إذا سقط ورق الشجر أو الحشيش في الماء فتغير فإنه لا يمنع الوضوء به هذا هو قول العراقيين وهو الذي اختاره ابن رشد. الباجي: وإذا سقط ورق الشجر أو الحشيش في الماء فتغير فإن مذهب شيوخنا العراقيين أنه لا يمنع الوضوء به انتهى، وبهذا تعلم أن قول المصنف بئر البادية خرج مخرج الغالب ولا مفهوم له عن بئر الحضرية ولا غيره من المياه، وإنما المعتبر في ذلك ما يعسر الاحتراز منه وهذا القول هو المشهور. فكان على المصنف أن يقتصر عليه ويقدمه لكن المصنف رحمه الله اعتمد على ما يفهم من كلام اللخمي أنه هو المعروف في المذهب لكنه ضعيف، وليس في كلامه التفريق بين التغير البين وغيره. قال الشيخ محمد بن الحسن: واعلم أن في قول المصنف بهما بحثا لأن ابن رشد إنما ذكر ذلك في الخشب والعشب اللذين يقع بهما طي بئر البادية لعدم غيرهما وأنهما كالطحلب، وإنما ذكر ورق الشجر والتبن في الأنهار والغدر، والفرق بينهما وبين البئر ظاهر لأنهما لا يمكن تغطيتهما بخلاف البئر، ولا يصح قياس التبن والورق على الخشب والعشب اللذين وقع الطي بهما لإمكان التحفظ من الورق والتبن بخلاف الخشب والعشب فصارا كالطحلب انتهي. والفقه في هذا أن المدار علي عسر الاحتراز، قال الزهري في قواعده: إن كانت الشجرة لا تنفك عن السقوط فالمشهور أنه يلحق بالمطلق وإن كان السقوط في وقت دون وقت فالمشهور أنه يلحق بالمضاف انتهى. ولا تضر شجرة في الماء تغير بعروقها مثمرة أم لا كما في الحطاب.
وفي جعل المخالط الموافق كالمخالف نظر يعني أن الماء المطلق سواء تغير بقراره أم لا إذا خالطه شيء أجنبي ينفك عنه غالبا، ولكنه يوافق أوصاف الماء الثلاثة أعني: اللون، والطعم، والريح، فلم يغيره فهل يجعل ذلك المخالط للماء الموافق له في أوصافه كأنه مخالف للماء؟ فيسلبه الطهورية أو لا يجعل مخالفا فلا يسلبها لأنه يصدق على الماء أنه باق على أوصاف خلقته؟ وذلك يقتضي استعماله. في ذلك نظر أي توقف وإشكال وهو في الجعل وعدمه كذا قال ابن عطاء الله إنه لم يقف في هذه المسألة على شيء قال: والذي أراه أنه إذا وجد غيره لم يستعمله وإن لم يجد غيره تيمم وتوضأ، وأخذ منه ذلك ابن الحاجب فقال: وفي تقدير موافق صفة الماء مخالفا نظر والنظر جار فيما إذا كان المخالط ذا صفة مفارقة وزالت منه بحيث وافق الماء في أوصافه الثلاثة، وفيما إذا كان موافقا للماء في أوصافه كماء الزرجون قال الشيخ محمد بن الحسن: والظاهر أن لا محل للنظر أصلا بل صورة الشك تدخل فيما سبق يعني قوله: أو شك في مغيره هل يضر وإن تحقق أو غلب على الظن شيء عمل عليه كما قال الحطاب، ولفظ الحطاب: وأما حيث يغلب على الظن شيء فينبغي أن يعمل عليه فإن كان الماء كثيرا والمخالط يسيرا بحيث يغلب على الظن أنه لو كان باقيا على صفاته لم يغير الماء فإن كان طاهرا فلا إشكال في جواز استعماله ولو كان غيره موجودا، وإن كان نجسا فينظر إلى كثرة الماء وقلته فإن كان الماء كثيرا أكثر من آنية الوضوء والغسل فهو طهور بلا كراهة وإلا فهو مكروه لأنه ماء يسير حلته نجاسة ولم تغيره، وإن كان الماء قليلا والمخالط كثيرا بحيث يغلب على الظن أن لو كان باقيا على أوصافه لغير الماء فإن كان المخالط طاهرا كان الماء طاهرا غير مطهر وإن كان نجسا كان الماء نجسا، وفي كلام سند في مسألة الزرجون إشارة إلى هذا، وكذا في كلام ابن عرفة وتردد سند هو فيمن وجد من الماء دون كفاية فخلطه بماء الزرجون أو غيره مما لا يتغير به هل يتطهر به لأنه ماء لم يتغير أو لا يتطهر به لأنه تطهر بغير الماء جزما؟ قال: والظاهر أنه لا يتطهر به، وفي كتاب الشيخ الأمير: والوجه تقدير الموافق مخالفا.
واعلم أن قول ابن عرفة: تقدير الموافق مخالفا قلب الحقائق الخ معترض بأن المستحيل إنما هو ثبوت المحال وتحققه لا تقدير ثبوته ففي صدوره من ابن عرفة عجب قاله الشيخ محمد بن الحسن.
وفي التطهير بماء جعل في الفم قولان يعني أنه اختلف في جواز التطهير بماء جعل في الفم وعدم جوازه على قولين: الأول لابن القاسم، والثاني رواية لأشهب عن مالك قال الشيخ الحطاب: والظاهر القول بالجواز. ونقل الش في الصغير عن المصنف أنه قال: والظاهر الطهورية لأنها الأصل انتهى. قوله وفي التطهير هو رفع مانع الصلاة والخلاف في حال فالمجيز نظر إلى أنه يمكن انفكاك الماء عما يغيره والمانع نظر إلى أنه لا يمكن الانفكاك، واتفق القولان على أنه لو تحقق التغير لأثر قاله في التوضيح، قال الحطاب: وكأنه يعني والله أعلم أنه لو تحقق أنه حصل من الريق قدر لو كان من غير الريق لغير الماء لاتفق القولان على المنع لأن الريق لا يغير الماء إلا أن يكثر جدا حتى تظهر لعابيته في الماء فالظاهر أنه إنما أراد ما ذكرنا، وهكذا قال ابن الإمام: إنه لو طال مكث الماء في الفم أو حصل منه مضمضة لانتفى الخلاف لغلبة الريق. قال الشيخ محمد بن الحسن: وهذا نص في جعل المخالط الموافق كالمخالف فلا وجه للنظر السابق. قوله: "وفي التطهير" الخ.
اعلم أن الشيوخ متفقون على أن الخلاف في حال وليس بحقيقي ولذا قال الشيخ الأمير: وماء الفم ينظر فيه لممازجة الريق فإن حصلت ضرت ليسارة الماء جدا وعليه يحمل كلام أشهب، وإلا فلا وعليه كلام ابن القاسم فالحق أن الخلاف لفظي كما في الحطاب والرماصي فليست هذه من مسألة الموافق؛ لأن تلك جزم فيها بالمخالطة وهذا أولى ما يقال انتهى. وفي شرح الشيخ عبد الباقي في الفرق بين المسألتين أن المخالط في الأولى ممازج لا مجاور، وفي الثانية خلاف في حال هل هو ممازج أو مجاور، ومفهوم قوله جعل في الفم أنه لو بصق فيه وهو في إناء لم يضر وهو كذلك ما لم يكثر البصاق حتى يغير الماء، وفي الشبراخيتي البصاق مستقذر وإن كان طاهرا فلذا اشتد نكير ابن العربي على من يلطخ صفحات أوراق مصحف أو كتاب ليسهل قلبها قائلا: إنا لله وإنا إليه راجعون على غلبة الجهل المودي إلى الكفر. ابن الحاج: لا يجوز مسح لوح القرآن أو بعضه
بالبصاق ويتعين على معلم الصبيان أن يمنعهم من ذلك. وقال الأمير: في الشبراخيتي هنا تشديد زائد في قلب الورق بالريق حتى نقل عن ابن العربي أنه يخشى منه الكفر ولا يبلغ به هذا الحد فقد اغتفر الشافعية مثل هذا انتهى.
وكره ماء مستعمل في حدث لما فرغ من بيان الماء الذي يباح التطهر به والذي يمنع التطهر به ذكر ما حكمه الكراهة المتوسطة بينهما؛ يعني أن الماء الذي استعمل في رفع حدث أصغر أو أكبر يكره استعماله مع وجود غيره في حدث أو حكم خبث، وفي كل طهارة لا تفعل إلا بطهور كان يصلَّى بها أم لا، كوضوء لزيارة الأولياء، ولنوم جنب قاله الشيخ عبد الباقي، ومثل المستعمل في رفع حدثٍ المستعملُ في رفع حكم خبث فيكره استعماله في كل طهارة لا تفعل إلا بطهور كان يصلى بها أم لا، ومحل كراهة المستعمل في حدث أو حكم خبث حيث وجد غيره فإن لم يجد غيره تطهر به، ولا يتمم مع وجوده فإن تركه وتيمم أعاد أبدا هذا هو المشهور في المذهب كما صرح بذلك غير واحد، ومقابل المشهور في الماء المستعمل في الحدث قولان: أحدهما أنه غير طهور فيتركه ويتيمم إن لم يجد غيره فإن توضأ به وصلى أعاد أبدا رواه أصبغ عن مالك وابن القصار عن ابن القاسم، ثانيهما أنه مشكوك فيه فيتوضأ به ويتيمم لصلاة واحدة. والمستعمل في الحدث يشمل ثلاثة أشياء: أحدها ما تقاطر من الأعضاء ولا بد أن يكون يسيرا وأما إن كان كثيرا فلا يكره، ثانيها المتصل بالأعضاء أي الباقي على العضو بعد كمال غسله كالباقي على ظهر ذراعيه مثلا ولا يكون إلا يسيرا؛ ثالثها الماء الذي أدخل عضوا من أعضائه فيه وغسله فيه وكذا لو أدخل أعضاءه في الماء وغسلها فيه فالباقي مستعمل في حدث ولا بد أن يكون يسيرا، وأما الكثير فلا يكره فإن غمس العضو في الماء ودلكه خارج الماء لم يكن مستعملا في حدث فلا يكره.
واعلم أن ما تقاطر من العضو الأخير أو اتصل به مستعمل قطعا فيكره، وأما ما تقاطر من غير الأخير أو اتصل به فإن استعمله بعد تمام هذه الطهارة في متوقف على الطهارة كره أيضا، فإن استعمله في باقيها كما لو مسح رأسه بما في لحيته فكذلك يكره إن قلنا إن الحدث يرتفع عن كل عضو بانفراده فإن قلنا لا يطهر إلا بالكمال لم يكره بباقيها، والمتصل يشمل القسمين الأخيرين من أقسام المستعمل الثلاثة التي قدمت ذكرها كما قاله عبد الباقي.
واعلم أنه لا خلاف أن الماء ما دام في العضو غير مستعمل بالنسبة لذلك العضو المتصل. وقوله: وكره ماء مستعمل الخ محل الكراهة حيث وجد غيره كما مر ومحلها أيضا ما لم يصب عليه مطلق غير مستعمل في حدث ونحوه قدره أوأقل أو أكثر حتى يصير المجموع أزيد من آنية غسل، وإلا فلا يكره فإن صب عليه مستعمل في حدث مثله فاستظهر ابن عبد السلام انتفاء الكراهة، وابن الإمام والحطاب بقاءها؛ لأن ما ثبت لكل جزء بانفراده يثبت للكل، فإن فرق هذا الكثير حتى صار كل جزء يسيرا فلا تعود الكراهة على ما لابن عبد السلام فإن صب علي المستعمل في حدث مستعمل في غيره لم يكره بالأولى عند ابن عبد السلام، وأما على ما لابن الإمام والحطاب فالظاهر خفته بالنسبة لما خلط بمستعمل في حدث. وقوله: وكره ماء مستعمل في حدث فإن استعمله مع وجود غيره وصلى فالظاهر أنه لا يعيد في الوقت.
واعلم أن الإعادة في الوقت تقتضي الكراهة كما في الحطاب والكراهة لا تقتضي الإعادة في الوقت. وقوله: وكره ماء مستعمل الخ ولو من صبي، وقد مر عن الشيخ عبد الباقي أن الماء المستعمل في حدث يكره مع وجود الغير في طهارة لا تفعل إلا بطهور كان يصلَّي بها أم لا. قال الشيخ محمد بن الحسن: الظاهر إذا لم يجد غيره وأراد الوضوء المستحب أن يكره استعماله فيه بل يؤمر بتركه. وقوله: وكره ماء مستعمل الخ اختلف في علة الكراهة أو المنع منه على أقوال فقيل: لأنه أديت به عبادة فقد ذهبت قوته فيها فلا يقوى لعبادة أخرى، وقيل لكونه أزال المانع، وقيل لكونه لا يعلم سلامته من الأوساخ، وقيل لأنه ماء الذنوب، وقيل لأنه لم ينقل عن السلف جمع ذلك واستعماله، والراجح في تعليل الكراهة كونه مختلفا في طهوريته.
واعلم أن لفظ المدونة: ولا يتوضأ بماء قد توضئ به ولا خير فيه، ابن القاسم وإن لم يجد غيره توضأ به أحب إلي إذا كان الذي توضأ به أولا طاهر الأعضاء فتأول الأكثر قول الإمام: ولا خير فيه على الكراهة فيكون وفاقا لقول ابن القاسم، ولذلك ينبغي إسقاط لفظ أحب إلي كما اختصرها ابن أبي زيد، وحملها على الوجوب كما قال صاحب الاستيعاب، وحمل ابن رشد قول الإمام على المنع فيكون خلافا لابن القاسم، واختاره ابن عبد السلام، انظر الحطاب وحاشية الشيخ محمد بن الحسن، وفي الحطاب بعد جلب نقول: والحاصل أن من وجد من الماء ما يستعمله في
بعض أعضاء وضوئه وأمكنه أن يجمع ذلك ويستعمله في بقية الأعضاء تعين عليه ذلك ولا يجوز له التيمم ولا يغتر بقول ابن فرحون إنه لم ير في ذلك نصا انتهى المراد منه. ومن نسي مسح رأسه فمسحه ببلل ذراعيه لم يجزه لأنه لا يتعلق بذراعيه ما يمكنه به المسح، وقوله: وكره ماء أخرج به التراب فلا يكره التيمم عليه مرة بعد أخرى نص عليه في العتبية ابن رشد، والفرق بينه وبين الماء أن الماء لابد أن يتعلق به شيء من البدن والله أعلم. وقوله: وكره ماء مستعمل في حدث أي ويجوز استعماله في العادات من طبخ وعجن وشرب وتنقية بدن أو غيره من الوسخ ونحو ذلك مما لا يتوقف على الطهور وفي غيره تردد يعني أن الماء المستعمل في غير حدث وحكم خبث مما يتوقف على مطلق كغسل جمعة وعيد اختلف المتأخرون في نقل المذهب في حكمه هل هو مكروه كالمستعمل في حدث وهو لابن بشير وصاحب الإرشاد، أو لا كراهة فيه وهو لسند وابن شأس وابن الحاجب، وأما ماء غسل الذمية النقية الجسد من الحيض ليطأها زوجها أو مالكها فيكره استعماله في متوقف على الطهارة كما استظهره الحطاب بلا تردد، وأما ماء الغسلة الرابعة وماء وضوء الجنب للنوم ونحوهما مما لا يصلي به فلا يكره استعماله في متوقف على طهور قطعا كماء غسل به إناء طاهر، وأما ماء غسلة ثانية أو ثالثة ففيه الكراهة بلا تردد لأن صاحب الطراز هو المرجح للكراهة، وقد صرح بأن الظاهر كراهة ذلك لأنه من تمام غسل رفع الحدث انظر الحطاب ومحل التردد فيمن سلمت أعضاؤه من النجاسة والأوساخ؛ أما نجسها فماء حلته نجاسة، وأما وسخها فماء حلته أوساخ فإن كانت الأوساخ من أجزاء الأرض لم يضر التغير بها، وإلا ضر، ومحل التردد أيضا إذا وجد مطلق غيره وإلا تعين استعماله، وتحصل مما تقدم أن الأقسام ثلاثة: مكروه بلا تردد وهو المستعمل في حدث وفي حكمه غسلة ثانية أو ثالثة لأنها من تمام غسل رفع الحدث، وفي حكم ذلك أيضا غسل الذمية من الحيض لتوطأ، ومثل المستعمل في حدث المستعمل في حكم خبث. وما لا يكره من غير تردد وهو ماء غسلة رابعة فأكثر وما استعمل في عادي وماء وضوء الجنب للنوم ونحوه مما لا يصلى به، وما فيه التردد المذكور وهو ماء الغسل الذي لا يجب كغسل عيد وجمعة وهذا الذي ذكرته من أن وضوء الجنب للنوم ونحوه مما لا يصلي به خارج عن التردد ما استعمل فيه فلا يكره صرح به الشيخ عبد الباقي وغيره وفي كتاب الشيخ الأمير وأما
الأوضئة المستحبة فلا تكره على الأظهر من التردد في الأصل انتهى. وفي الشبراختي أن وضوء التجديد مما فيه التردد وخالف أصبغ فقال: من توضأ بالماء المستعمل أعاد أبدا، وسواء عنده توضأ به الأول محدثا أو مجددا، أو غسل به ثوبا طاهرا قاله الحطاب.
ويسير كآنية وضوء أو غسل بنجس لم يغير يعني أن الماء اليسير إذا خالطته نجاسة ولم تغيره فإن المشهور من أربعة أقوال: أنه يكره مع وجود الغير فإن لم يجد غيره وجب استعماله وهذا مفهوم قوله: أو كثيرا خلط بنجس لم يغير، ولا يكره الاستعمال به أي بالكثير الذي خلط بنجس لم يغيره، وقيل إن اليسير الذي خلط بنجس لم يغير نجس واقتصر عليه في الرسالة وهي رواية المصريين عن مالك والأول هو الذي عليه العراقيون وهو المشهور في قول مالك، وقيل إنه ماء مشكوك فيه فيجمع بين الوضوء به والتيمم، وقيل طهور من غير كراهة.
واعلم أن آنية الوضوء تؤثر فيها القطرة فتصير من المختلف فيه بين الكراهة والنجاسة لا ما دون القطرة، وآنية الغسل لا يؤثر فيها إلا ما فوق القطرة والظاهر الرجوع في قدر ذلك لأهل المعرفة؛ فالنجس بالنسبة لآنية الوضوء والغسل مختلف ولا إعادة على مستعمل هذا اليسير على المشهور الذي مشى عليه المص، وأما على مذهب ابن القاسم أنه نجس فيعيد في الوقت لا أبدا خلاف ما للشيخ عبد الباقي، ووجه ذلك مراعاة الخلاف، ومحل الكراهة التي عليها المص إنما هو فيما يتوقف على طهور لا في العادات، ومفهوم قوله: بنجس أن ما خالطه طاهر لم يغيره لا يكره وهو كذلك خلافا للقابسي ومحل الكراهة أيضا أن لا تكون له مادةٌ كبير وأن لا يكون جاريا، وأما الجاري فحكمه حكم الكثير كما للمازري وابن رشد. وقوله: ويسير كآنية وضوء الخ دليلنا على أن الماء طهور حديث أبي سعيد قيل يا رسول الله أتتوضأ من بُضاعة وهي بئر يلقى فيها الحِيَض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [إن الماء طهور لا ينجسه شيء]
(1)
رواه أبو داود والترمذي وصححه. وقوله: أتتوضأ بمثناتين فوقيتين خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم قاله النووي وغلط من رواه بالنون في أوله، وبضاعة بضم الموحدة وكسرها والأول أشهر قيل إنه
(1)
إن الماء طهور لا ينجسه شيء. أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 67 - الترمذي، كتاب الطهارة، رقم الحديث:66.
اسم لصاحب البئر وقيل لموضعها، والحيض بكسر الحاء وفتح الياء الخرق التي يمسح بها الحيض والملقي لذلك السيول لأن البئر في محل منحدر، وقيل الريح وقيل المنافقون. وأما حديث [خلق الله الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه]
(1)
فقال النووي: إنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به، [وقد]
(2)
رواه ابن ماجه والبيهقي لكن أجمع العلماء على العمل بالاستثناء المذكور فيه، قال النووي: وإذا علم ضعف الحديث فيتعين الاحتجاج على ذلك بالإجماع كما قاله البيهقي وغيره، ووجه كراهة هذا الماء على المشهور مراعاة الخلاف، ولو اقتصر المص على آنية الوضوء لتوهم أن آنية الغسل من الكثير، ولو اقتصر على آنية الغسل لتوهم أن آنية الوضوء نجسة وهذا التحديد لمالك، ولو كان الماء كثيرا وخالطته نجاسة لم تغيره ثم فرق أو استعمل حتى صار قليلا فهو طهور اتفاقا فلا يكون مكروها، ولو كان الماء قليلا وخالطته نجاسة ولم تغيره ثم صب عليه مطلق حتى صار كثيرا انتفت كراهته، ولو كثر بمثله فيجري على ما تقدم في الماء المستعمل في حدث المخلوط بمثله، وقد صرح الشافعية بأنه يصير طهورا وهو يقوي اختيار ابن عبد السلام المتقدم. قوله:"كآنية وضوء" الشبراخيتي: لو قال كإناء وضوء الخ لأن الآنية جمع وما دون إناء الوضوء إذا خلط بنجس لم يغير كالإناء؛ أي طهور يكره مع وجود الغير ومقتضي ما لغير واحد أن قوله بنجس متعلق بخلط مقدر أو ولغ فيه كلب يعني أن الماء اليسير كآنية وضوء أو غسل إذا ولغ فيه كلب فإنه يكره استعماله في العادات والعبادات سواء كان مأذونا في اتخاذه أم لا. والولوغ هوأن يدخل لسانه في الماء ويحركه فإن أدخله بلا تحريك أو سقط من فيه لعاب في الماء أو كان الماء كثيرا لم يكره لقوله صلى الله عليه وسلم [الحياض التي تردها السباع لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شرابا وطهورا]
(3)
ووجه التفرقة بين اليسير والكثير وإن كان غسل الإناء تعبدا على المشهور أن اليسير قد يتغير من لزوجات فم الكلب فناسب أن يقال فيه ذلك
(1)
إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه. ابن ماجه، كتاب الطهارة، الحديث: 52 (1) الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه طعمه أو ريحه البيهقي، ج 1 ص 259 - خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه. الإتحاف، ج 2 ص 332، ط دار الفكر.
(2)
في الأصل وقيل إنه، وما بين المعقوفين من المجموع للنووي. ج 1 ص 36.
(3)
لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقى شرابا وطهورا. مصنف عبد الرزاق، ج 1 ص 60.
قوله في الحديث: تردها السباع السباع تشمل الكلب وغيره من الحيوان المفترس كما نصوا عليه في باب الذكاة قوله: "أو ولغ فيه كلب" محل الكراهة فيه مع وجود الغير كما نص عليه الشيخ إبراهيم ويفيده الإمام الحطاب وإلا فلا. وقوله أو ولغ فيه كلب من توضأ بسؤره وصلى فلا إعادة عليه في وقت ولا في غيره قاله غير واحد وهو ظاهر المدونة. أبو عمران من توضا به وهو عالم بأنه سؤر كلب فلا إعادة عليه، ولابن القاسم وغيره أنه يطرحه ويتيمم، وقاله ابن الماجشون. ولابن وهب أنه يعيد المتوضئ به في الوقت، وأورد ابن رشد سؤالا وهوأن المكروه ليس في فعله ثواب وقد صح الوضوء به والصحة تستلزم الثواب فكيف يجمع بينهما انتهى. ولم يجب بشيء ويمكن الجواب بأن الصحة لا تستلزم الثواب ألا ترى الوضوء بالماء المغصوب؟ فإنه صحيح مع أنه لا ثواب فيه قاله الشبراخيتي. وقوله: أو ولغ فيه كلب أي يكره، ولو تحققت طهارة فمه وراكد يغتسل فيه الفعل بدل اشتمال من راكد، وأصل الكلام: وكره راكد أن يغتسل فيه فحذف أن على حد قوله عز وجل: {قل أفغير الله تأمروني أعبد} في أحد الوجوه أن غير معمول لتأمروني، وأعيد بدل اشتمال منه أي تأمروني بعبادة غير الله؟ ومعني كلام المص أنه يكره للشخص أن يغتسل بماء راكد أي ساكن غير جار إن لم يستبحر ولا مادة له أو له وهو قليل ولم يضطر إليه فلا كراهة في اغتساله بمستبحر جدا، ولا في بئر كثيرة الماء بخلاف قليلته فمن الراكد، ولا كراهة إن اضطر لذلك بأن لا يجد عنه بدا من أخذ بطرف ثوب أو بفيه، ولا يكون مضافا إذا مجه مكانه، أو برأسه أو بلحيته أو عشب فيتعين حينئذ النزول فيه، وقوله:"وراكد يغتسل فيه" قيدت الكراهة بأن لا ينجسه فإن نجسه اغتساله فيه ولو ظنا وجب تركه ليلا يقذره على غيره، فإن كان ملكه لم يجب تركه، وما ذكره المص قول مالك وهو المشهور، والكراهة عنده تعبدية فهي حاصلة ولو غسل ما به من أذى لقوله صلى الله عليه وسلم [لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب]
(1)
انتهى. والتقييد بالجنب معتبر خلافا لأصبغ قال سند ومذهبه خارج عن الجماعة ومردود من حيث السنة ومن حيث النظر انتهى. وحينئذ فلا يكره لغسل جمعة أو عيد.
(1)
مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:283.
وقوله: "وراكد يغتسل فيه". ابن القاسم: وأنا لا أرى فيه بأسا إن كان غسل ما به من الأذى وإن كان الماء كثيرا أي غير مستبحر، ولا يقذره نزوله فلا أري به بأسا غسل ما به من الأذى أم لا. ابن رشد: حمل النهي على أنه لإنجاس الماء وإذا ارتفعت العلة ارتفع المعلول، وعبارة الأمير: واغتسال براكد غير مستبحر ولا ذي مادة كثرت وإن لم تكن به أوساخ عند الإمام تعبدا، وحرم عند ابن القاسم إن كان يسيرا وبالجسد أوساخ وإلا جاز بلا كراهة فإن ظن التغير منع عندهما. ابن رشد يمنع من نصب مرحاض على ضفة ماء جار وإن كثر؛ أي حيث ظن إمكان التغير لا إن كثر ولم يظن فيجوز كما لابن ناجي من جواز قضاء الحاجة في الماء الجاري أو الكثير دون غيره ولا يقرر المص بأنه يكره للشخص أن يغتسل في راكد قد اغتسل فيه قبل ذلك لأن ذلك يفهم حكمه من المستعمل في حدث، وقد تقدم تقييده بالقلة والبرك المعدة للوضوء في المياضي من هذا القبيل إن تغير أحد أوصاف الماء لم يصح الوضوء منها، وإن لم يتغير أي لم يظهر تغيره كره لاختلاف الأيدي والأرجل، والغالب أن فيها النجاسة إن لم يتحقق أو يظن غسل نجاسة بها وإلا لم يجز الوضوء منها وهذا فيما تطول إقامة الماء فيه، وأما ما يفرغ بسرعة ويتجدد له ماء ويبقى ويصب عليه ماء آخر جديد يغلب على الظن زوال تغيره فأمره خفيف، ابن مرزوق: ويفهم من كلام المص أن الكراهة خاصة بالغسل فيه دون الوضوء، وأن التناول منه للطهر خارجه لا كراهية فيه وسؤر شارب خمر يعني أنه يكره استعمال بقية شرب شارب الخمر والمراد به مكثر الشرب وهذا إذا لم تحقق طهارة فمه بأن شك فيها وإلا فلا يكره، كما أنه لا يكره إذا لم يجد غيره فإن تحققت نجاسة فما كان من أفراد قوله: وإن ريئت على فيه الخ، والظاهر أن غلبة الظن كالتحقق قاله الشبراخيتي، وإن لم يكن مكثرا للشرب فلا كراهة والنبيذ كالخمر قاله الشيخ الأمير وما أدخل يده فيه يعني أنه يكره استعمال ما أدخل شارب الخمر يده فيه، ومثل اليد غيرها من أعضائه، وكذا بائع الخمر، ومن يتعاطى النجاسات بيعا أو غيره، وهذا ما لم تحقق طهارة اليد وإلا فلا كراهة بخلاف الماء الذي ولغ فيه كلب فيكره استعماله ولو تحققت سلامة فيه من النجاسة كما مر وما لا يتوقي نجسا يعني أنه يكره استعمال بقية شرب ما لا يتوقي
نجسا من الحيوان كالطير والسباع، واكتفى المص بذكر شارب الخمر عن النصراني مع ذكره في المدونة وغيرها لأنه من شربة الخمر.
من ماء بيان لسؤر شارب الخمر ولما أدخل يده فيه ولسؤر ما لا يتوقي نجسا؛ يعني أن محل الكراهة في الأمور الثلاثة إنما هو حيث كانت من ماء وسيأتي محترز ذلك، ومحل الكراهة فيها أيضا إن وجد غيره وكان يسيرا، فإن لم يجد غيره استعمله، وكذا لو كان كثيرا فلا كراهة، ولم يكتف المص بقوله: ما لا يتوقي نجسا عن قوله: شارب خمر لأنه لما أتى بما وهي لما لا يعقل غالبا لم يصدق على شارب الخمر باعتبار الغالب فيها لا إن عسر الاحتراز منه يعني أن الحيوان الذي لا يتوقى النجاسة إذا عسر الاحتراز منه كالهر والفارة فإنه لا يكره استعمال سؤره من الماء لمشقة الاحتراز منه، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في الهرة [إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات]
(1)
هكذا رواه مالك في الموطإ قال صاحب مطالع الأنوار: يحتمل أو أن تكون للشك أو للتقسيم، والطوافون الخدم والمماليك وقيل هم الذين يخدمون برفق وعناية، ومعنى الحديث إنما هي من الطوافين من الخدم والصغار الذين سقط في حقهم الحجاب والاستيذان في غير الأوقات الثلاثة التي ذكر الله وإنما سقط في حقهم دون غيرهم للضرورة وكثرة مداخلتهم بخلاف الأحرار البالغين فلذا يعفى عن الهرة للحاجة أشار إلى نحو هذا أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي. وقوله: لا إن عسر الاحتراز منه محله حيث لم تر على فيه نجاسة وإلا فلا فرق بين ما يعسر الاحتراز منه وغيره، وهو قوله: وإن ريئت علي فيه إلى آخره فمحل التفصيل حيث لم تر على فيه نجاسة، فإن كان مما لا يعسر الاحتراز منه ولم تر علي فيه فالتفصيل بين الماء والطعام هو المشهور، وقيل يطرح الماء والطعام، وقيل لا يطرح واحد منهما أو كان طعاما يعني أن سؤر الشرِّيب وما لا يتوقي نجسا مطلقا عسر الاحتراز منه أم لا، وما أدخل شارب الخمر فيه يده كل ذلك لا يكره استعماله إذا كان طعاما، ولا يراق لإضاعة المال فهو لا يطرح بالشك في نجاسته، وسيأتي حكم ما إذا تحققت النجاسة في قوله: وإن ريئت على
(1)
إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات. الموطأ، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 44 - الترمذي في سننه، رقم الحديث:92.
فيه الخ، وفي الرسالة. ويكره غسل اليدين بالطعام وبشيء من القطاني وكذا بالنخالة، وكذا امتهانه بإلقائه بغير قذر لا به فيحرم كما يحرم امتهانه الشديد وفي الأمير أنه يحرم طرح الطعام في قذر وامتهانه الشديد، ويكره غيره كغسل يد لا دواء قدم كحرق تميمة بخورا خصوصا إن تعين قرر شيخنا مثل الطعام غير المطلق كماء الورد، وقد يقال لا شرف له والمطلق أقوى إلا أن يراعى شدة إتلاف المال، وقال عبد الباقي عند قول المص في الحج؛ ثم كبر ويكره تقبيل المصحف والخبز، والجزء والمعتمد أن امتهان الخبز مكروه أي حتى بوضع الرجل عليه أو وضعه عليها انتهى. وما ذكره المصنف من التفرقة بين الماء والطعام هو المشهور وهو مذهب المدونة قال فيها: والإوز والدجاج المخلاة والسباع التي تصل إلى النتن إن شربت من طعام أو لبن أو غيره أكل إلا أن يكون في أفواهها وقت شربها أذى فلا يؤكل، وقيل يحمل على النجاسة فيراقان نظرا إلى الغالب، وقيل يحمل على الطهارة فيهما نظرا إلى الأصل واختاره ابن رشد، ووجه المشهور أن الماء يجوز أن يراق اختيارا بخلاف الطعام، وأما قولهم والسرف منه غلو وبدعة، فلأنه إسراف في العبادة قال النووي: أجمع العلماء على النهي عن الإسراف في الماء ولو كان على شاطئ البحر والأظهر أنه مكروه كراهة تنزيه، وقال بعض أصحابنا: حرام انتهى. وإذا أخرج الكافر الدرهم من فيه ودفعه لمسلم فلا يصلي به حتى يغسله كان البرزلي يفتي بذلك، وتقدم أنه يحرم امتهان الطعام لكن يباح حرق الطعام ليعمل ربا إلا لمجاعة، ومثله حرق البطائق التي فيها اسم الله، ويكره امتشاط المرأة بالفضوخ من التمر والزبيب كمشمس يعني أن الماء المشمس؛ أي المسخن بالشمس سواء كان بوضع واضع فيها أم لا لا يكره استعماله على هذا حمله أكثر الشراح، فهو مشبه بالمخرج من الكراهة هكذا قال ابن الحاجب وقبله ابن عبد السلام والمص في التوضيح، ولكن المعتمد أنه مكروه كراهة تنزيه، وقيل كراهة تحريم، وعلى أنه مكروه فهي كراهة شرعية يثاب التارك لها امتثالا، وقال ابن فرحون: الظاهر أنها كراهة إرشاد من جهة الطب وليست كراهة شرعية، والفرق بينهما أن الكراهية الشرعية يثاب تاركها انتهى. الحطاب في هذا الكلام نظر لأنه حيث نهى الشرع عن شيء أثيب على تركه كمن ترك أكل السم امتثالا.
واعلم أن القرب كلها تعظيم وتوقير، وليس عين المشاق تعظيما ولا توقيرا، وإنما طلب من العباد تحصيل المصالح فإن لم تحصل إلا بمشقة عظم الأجر؛ فلذا كان ثواب أشق الفعلين المتحدين في الأركان والشرائط والسنن وغيرها أعظم كالوضوء في شدة البرد بالنسبة إلى الوضوء في الصيف وفي الحديث [إسباغ الوضوء على المكاره]
(1)
، وكالصوم في البلاد الحارة، أو شدة القيظ بالنسبة إلى ذلك في البرد وإن أمكن حصول المصالح بدون مشقة، وأراد أحد فعل الأشق طلبا لمزيد الثواب كالوضوء والغسل بالبارد مع وجود المسخن، وسلوك الطريق الأبعد إلى الجامع والحج دون الأقرب مع إمكان سلوك الأقرب قصدا لما ذكر كان غالطا لأن المشقة من حيث هي ليست بقربة بل منهي عنها لقوله صلى الله عليه وسلم [إن لنفسك عليك حقا]
(2)
. قال بعض العلماء وربما كان في فعله العقاب على قدر المفسدة، وقد تقدم عن ابن فرحون أنه لا ثواب في إرشاد طبي ومثله لابن حجر، وفي السبكي فاعل الإرشاد لمجرد غرضه لا يثاب ولمجرد الامتثال يثاب ولهما يثاب ثوابا أنقص من ثواب فعله لمجرد الامتثال انتهى. ويجري مثله في المكروه، وقد تقدم أن المعتمد في المشمس الكراهة، ويشترط في كراهته أن يستعمله في بدن طهارة أو غيرها كأكل لحم طبخ به أو شرب، وسواء في ذلك من عَمَّهُ البرص وغيره، وسواء كان استعماله لحي أو ميت وإن أمن منه على غاسله، أو إرخاء بدنه، أو إسراع فساده؛ إذ في استعمال ذلك إهانة وهو محترم كما في حياته ووجه الكراهة ما رواه مالك عن عائشة رضي الله عنها [أنه صلى الله عليه وسلم دخل عليها وقد سخنت له ماء في الشمس فقال لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص، ونحوه عن عمر]
(3)
، ويشترط في الكراهة أيضا أن يكون تشميسة بقطر حار كالحجاز في إناء منطبع وهو ما يمتد تحت المطرقة كحديد أو نحاس أو رصاص ولو بالقوة كبركة في جبل حديد وهذا في غير إناء النقد، وأما هو فلا كراهة لصفاء الذهب والفضة، ويشترط في الكراهة أيضا أن لا يكون الإناء المذكور مغشًّى بما يمنعه من انفصال الزهومة، ولا تزول بتسخينه بعد الشمس بخلاف تبريده أو تسخينه ابتداء
(1)
ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:251.
(2)
يا عثمان فإن لأهلك عليك حقا وإن لضيفك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا فصم وأفطر وصل ونم. سنن أبي داود، رقم الحديث:1368.
(3)
لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص. البيهقي، ج 1 ص 6، دار الفكر.
بالنار لعدم انفصال زهومة فيهما، وبخلاف تشميسه بقطر بارد أو معتدل فلا كراهة، وبخلاف تشميسه بإناء مغشى بما يمنعه من انفصال الزهومة كالقزدير قاله الشيخ عبد الباقي. وفي الحطاب عن ابن فرحون: وهل تزول بتبريده أو يرجع في ذلك للأطباء؟ إن قلنا إن العلة تحلل الأجزاء من الإناء فلا تزول الكراهة بتبريده، قلت: وعند الشافعية في ذلك خلاف ومحل الكراهة بالشروط المتقدمة إن لم يضر بقول عارف أو تجربة من نفسه وإلا حرم كما للأجهوري عن الشافعية لقول الحطاب: ينبغي التعويل على ما لهم في المشمس. وفهم من قول المص: "كمشمس" أن المسخن لا كراهة فيه وهو كذلك، وقيده بعضهم بأن لا يكون شديد التسخين وإلا كره شديد البرودة لمنافاته الخشوع أو منع الإسباغ، ووقع لمالك تفضيل البارد على المسخن، فقيل: لتنشيط الأعضاء، وقيل لتعظيم الأجر في الصبر عليه، والتسخين من باب التنعم. قال ابن الإمام بعد ذكر الوجه الثاني عن ابن رشد: مقتضاه تفضيل البارد مع وجود المسخن ولا يصح لأن الله تعالى لم يطلب من عبيدة المشاق، ولأن القرب كلها توقير وتعظيم، وليس عين المشاق تعظيما ولا توقيرا إلى آخر ما مر. واعلم أن الحديث المذكور أعني لا تفعلي يا حميرا الخ ضعيف باتفاق المحدثين، ومنهم من يجعله موضوعا، وكذلك ما روي عن عمر أنه كان يكره الاغتسال بالماء المشمس، وقال إنه يورث البرص فهو ضعيف أيضا باتفاق المحدثين. ومذهب الشافعي في المشمس الكراهة خلافا لأبي حنيفة، وقد علمت مذهب مالك والمشمس في البرك والأنهار متفق على عدم كراهته لعدم إمكان الصيانة، ولعدم تأثير الشمس.
واعلم أن دخول الرجل للحمام على ثلاثة أقسام: الأول إذا كان خاليا أو مع زوجته أو جاريته فهو جائز بلا كراهة، الثاني إذا كان غير مستتر أو مع من لا يستتر فلا يحل ولا يجوز، ومن فعله كان جرحة في دينه وقدحا في شهادته، وفي الجواهر لا خلاف في تحريم دخوله مع من لا يستتر بل قال ابن القاسم: الظاهر أن من لم يجد سوى مائة ولا يتمكن منه إلا بدخوله على ما ذكر كالعادم للماء إلا أن يدخله غاضا بصره لإخراجه لا لمقامه فيه إذ لا يكاد يسلم من ذلك انتهى. فعلى قوله إذا تعذر إخراجه صار عادما للماء والله تعالى أعلم. الثالث إذا كان مستورا ومع مستورين قال ابن القاسم لا بأس به وتركه أحسن، ووجه الكراهة حينئذ مخافة أن يطلع على
عورة أحد من غير قصد إذ لا يكاد يسلم من ذلك من دخل مع الناس. ابن رشد وأما كراهة الاغتسال بمائه فلأنه يسخن بالأقذار والنجاسات ولاختلاف الأيدي فربما يتناوله من لا يتحفظ في دينه، وأما دخول النساء فالذي يوجبه النظر أنهن بمنزلة الرجال، قال الشيخ الحطاب بعد كلام: وحاصله أن كراهته لهن تغير علة إذا كن مستترات أشد من كراهته للرجال لأنه جزم بها في حقهن، وأما في الرجال فقال: وتركه أحسن، ومن منع زوجته من الحمام فهو صواب، ويلزمها ذلك وإذا اضطرت إليه وكان ما يؤدي في إخلائه لا يجحف به، ولم تكن ترى في خروجها ما لا يجوز جاز ولزمه، ويمنع دخول الرجل الحمام بزوجتيه معا لا بإحداهما كما تقدم، ولا يجوز دخوله الحمام بجواريه أيضا بخلافه بإحداهن كما مر، ويكره الماء المسخن بالنجاسة وإن لم يتغير، وذكر البرزلي أن الغسل بالماء البارد في زمن الدفء أفضل من الحمام لأن مالكا كرهه، وأما زمان البرد فدخول الحمام أفضل خشية أن يضره الماء البارد انتهى. وهذا في غير الوجه الممنوع والله أعلم قاله الحطاب. وإن ريئت على فيه وقت استعماله عمل عليها يعني أن شارب الخمر والحيوان الذي لا يتوقي نجسا إذا ريئت النجاسة على فمه وقت استعماله للماء أو للطعام أو قبل استعماله ولم يغب غيبة يمكن زوالها فيها فإنه يعمل عليها؛ أي على مقتضاها، فإن غيرت الماء ضرت باتفاق وإن لم تغيره كره استعماله مع وجود غيره إن كان يسيرا، وإن كان كثيرا فوق آنية غسل لم يكره، وإن كان المستعمل طعاما فيفرق بين مائعه وجامده كما يأتي.
واعلم أن ريئت في قوله بمعنى علمت فيشمل ما إذا تحققت بفيه وإن لم تر قوله: "وإن ريئت" يرجع لشارب الخمر وما بعده وحينئذ فمثل الفم غيره من يد ونحوها من الأعضاء؛ أي وإن علمت النجاسة على فيه أو على عضو من أعضائه أدخله في الماء أو الطعام فإنه يعمل عليها، وخص الفم لأنه الغالب. وقوله: وإن ريئت على فيه الخ هو تقييد لمسألة سؤر شارب الخمر وما بعده ذكره تتميما للمسألة، وإن كان يعلم مما مر ومما يأتي والله سبحانه أعلم. وقوله:"ريئت" مبني للمجهول من راء مقلوب رأي بجعل اللام مكان العين، والمبني من رأي يقال فيه رئي،
ومفعول ريئت الأول نائب الفاعل وهو الضمير المستتر العائد على النجاسة، ومفعولها الثاني قوله:"على فيه".
وإذا مات بري ذو نفس سائلة براكد ولم يتغير ندب نزح بقدرهما يعني أن الحيوان البري الذي له نفس سائلة؛ أي دم سائل إذا مات في الماء الراكد أي الساكن؛ أي غير الجاري ولم يتغير فإنه يستحب أن ينزح منه لنزول الرطوبات التي تعافها النفس؛ أي التي تخرج من انفتاح فيه طلبا للنجاة، وتنفض آلة النزح ليلا تعود الدهنية للماء، ويكون النزع بقدرهما أي الحيوان والراكد؛ أي ينزح حتى يظن أن ما يخرج من الحيوان مما تعافه النفس قد زال كما يقيده الرجراجي قاله الشيخ عبد الباقي. قال وهو أحسن من قول غير واحد من الشراح، وإن كان ظاهر المص فيكثر النزح مع قلة الماء وكبر الدابة، ويقل في العكس، ويتوسط في عظمهما وصغرها وقلة الماء انتهى. إذ ليس فيه تحديد القلة والكثرة والتوسط وكلما كثر النزح كان أحب إليهم انتهى. وقوله:"براكد" أي غير مستبحر، وما ظهر من كلام المص أنه لا فرق في هذا الحكم بين الراكد ذي المادة وغيره هو الجاري على قول ابن وهب واختاره الشيوخ، وظاهر قول ابن القاسم في المدونة أن النزح إنما هو في ذي المادة، وأما ما لا مادة له فيترك بالكلية، وفي القلشاني ما نصه: سمعت من شيخنا أبي مهدي أن الفتوى جرت بتونس منذ زمن القاضي ابن عبد البر إلى الآن بقول ابن وهب اهـ. ويكره استعمال هذا الراكد الذي ذكره المص قبل النزح مع وجود غيره فيعيد المصلي به حينئذ في الوقت، وكذا يكره المنزوح نفسه، وما تقدم من الإمارة في الوقت نحوه في الحطاب وابن مرزوق، ونقل عن الأكثر واستشكل بأن اليسير من الماء إذا حلت فيه نجاسة ولم يتغير المشهور أنه لا إعادة في الوقت على من صلى به مع أن فيه قولا لابن القاسم مشهورا بنجاسته فأحرى ما هنا.
وفي كتاب الأمير: وإن مات آدمي أو نجِسُ الميتة براكد ولم يتغير ندب النزح حتى تطيب النفس، وهو معنى قول الأصل: بقدرهما وإلا ينزح كره، وندبت الإعادة ولا تسقط بصلاة من ظن عدمها لأنه لم ينو بها الجبر وهذه قاعدة، وعبارة عبد الباقي فيعيد من صلى في الوقت كما في النقل، واحترز المص بقوله: وإذا مات مما لو وقع الحيوان في الماء حيا وأخرج حيا فإنه لا يضر إلا أن يكون بجسده نجاسة، والماء قليل فيكون ماء يسيرا حلته نجاسة، واحترز ببري من
الحيوان البحري فانه إذا مات في الماء ولم يغيره لم يندب النزح، واحترز بقوله: ذو نفس سائلة من الحيوان الذي لا نفس له سائلة فإنه إذا مات في الماء ولم يتغير لم يندب النزح، واحترز بقوله: براكد من الجاري فإنه لا يستحب فيه النزح، وقد تقدم أن ظاهر المص سواء كانت له مادة كالبئر أولا مادة له كالصهريج والبرك، واحترز بقوله:"ولم يتغير" عما إذا تغير فإنه يجب النزح وسواء في ذلك المستبحر وغيره، وسواء كان الحيوان بحريا أو برياله دم جار أوليس له إلا أن ما تغير بميتة الحيوان البري الذي له نفس سائلة نجس، وغيره طاهر على خلاف فيما تغير بالبري الذي لا نفس له سائلة، وإذا وجب النزح فماله مادة ينزح حتى يزول تغيره، وما ليست له مادة ينزح جميعه. قال ابن أبي زمنين بفتح الزاي والميم وكسر النون ثم ياء ساكنة: ويغسل الماجل فإن زال التغير بنزح بعضه ففي طهورية الباقي القولان اللذان يذكرهما المص في قوله: وإن زال تغير النجس الخ، قوله ندب نزح بقدرهما، أي ويكفي النزح قبل إخراج الميتة كما أفتي به أبو حفص العطار في قوم استقوا من بئر لعجينهم، ثم استقي شخص آخر وعجن ثم طلع له فار ميت لأن الذين قبله نزحوه وطيبوه، ثم إن من قبله إن أثار لهم طلوعه للآخر شكا لم يطرحوا ما عجنوا لأن الطعام لا يطرح بالشك ولم يتنجس الماء الباقي عندهم وإن أثار لهم ظنا قويا طرحوا ما عجنوا وكان الباقي عندهم بمنزلة محقق النجاسة وقوله ندب نزح بقدرهما يعني أن النزح مع القيود المذكورة مستحب وهذا هو المشهور وقيل يجب فيما لا مادة له وقيل يجب في القليل دون الكثير.
لا إن وقع ميتا يعني أن الحيوان البري الذي له نفس سائلة إذا وقع في الماء الراكد بعد أن مات ولم يتغير فإنه لا يندب نزحه قال الشيخ محمد بن الحسن: اعلم أن ابن مرزوق قال بعد نقول ما نصه: فظهر لك أن ظاهر نصوص الأقدمين أن لا فرق بين موت الدابة في الماء ووقوعها فيه ميتة فكان الأولى بالمص ومن سلك طريقه أن يفتي بهذا فانظره انتهى. وقد تقدم أنه لو وقع في الماء حيا وأخرج حيا لا يستحب النزح، فإذا علمت بجسده نجاسة فالأمر ظاهر، أي يكره استعماله إن كان يسيرا كما مر، وإن لم تعلم به نجاسة وقد غلبت مخالطته للنجاسة فإنه يحمل على الطهارة عند ابن رشد فإنه أنكر قول سعيد بن نمير في قصرية شراب وقعت فيه فارة فأخرجت منه حية
أنه يراق، وقال: هو بعيد وشذوذ لا وجه له، ومثله في سماع أشهب، ومال ابن الإمام إلى ظاهر الرواية قال الإمام الحطاب: ما قاله ابن رشد أظهر في الطعام فلا يراق بالشك، وأما في الماء فالظاهر ما قاله ابن الإمام فيكره استعماله مع وجود غيره إذا كان قليلا انتهى. وعبارة الأمير: وجسد غالب النجاسة عليها ولو في الطعام خلافا للحطاب لأن هذا ظن لا شك على أن نحو دبر الفار نجس قطعا، وقد تقدم أن فيما لا يتوقي نجسا ثلاثة أقوال: الحمل على الطهارة مطلقا، والحمل على النجاسة مطلقا، والتفصيل بين الطعام والماء وهو المشهور كما أشار إليه المصنف بقوله: أو كان طعاما فإن شك هل مات به أو وقع ميتا ولم يتغير فينبغي ندب النزح لدوران الأمر بين مندوب وعدمه من غير كراهة بخلاف ما إذا دار بين مطلوب ومكروه كشكه في غسلة ثالثة ففي كراهتها قولان كما يأتي للمص.
وإن زال تغير النجس لا بكثرة مطلق فاستحسن الطهورية يعني أن الماء إذا تغير بالنجاسة ثم زال تغيره فلا يخلو ذلك إما أن يكون من أجل مطلق كثير خالطه أم لا، فالأول طهور باتفاق وذلك كالبئر ينزح بعضها حتى يزول التغير، وكالصهريج يترك حتى يزول تغيره بماء مطر مثلا، والثاني إما أن يكون بإلقاء شيء فيه غير الماء المطلق، أو من نفسه بلا شيء، ومنه نزح بعضه في الماء الذي لا مادة له فزال التغير بذلك، فالأول لم يذكره المص وسيأتي حكمه، والثاني هو الذي تكلم عليه المص فذكر أن فيه قولين: قول بالطهورية وهو رواية ابن وهب وابن أبي أويس وصححه ابن رشد وارتضاه سند والطرطوشي وقال المواق هو الذي ينبغي الفتوى به وهو الراجح كما يشعر بذلك تقديم المص له، والقول بالنجاسة الذي أشار إليه المص بقوله وعدمها أرجح لابن القاسم، فقول عبد الباقي إن الثاني هو المعتمد غير ظاهر قاله الشيخ محمد بن الحسن لكن شهر ابن الفاكهاني القول بالنجاسة كما في الحطاب وهو الذي اعتمده هذا الشارح، وغيره وقواه الأمير غاية وضعف القول بالطهورية، وفي كلام المص أمور أحدها أن قوله لا بكثرة مطلق مثله على المعتمد ما إذا زال تغيره بقليل مطلق فلو قال: لا بصب مطلق كان ظاهرا، ثانيها قوله:"وعدمها" فإن الضمير عائد على الطهارة لا على الطهورية إذ هذا القول صاحبه قائل بالنجاسة لا بأن الماء طاهر غير طهور فالضمير عائد على غير مذكور، ثالثها قوله:"أرجح" لأنه ليس لابن يونس هنا
ترجيح فإنه إنما تكلم على أن النجاسة إذا زالت عينها بالماء المضاف هل يزول حكمها أم لا؟ ورجح عدم زواله فإن حَمَل المص كلام ابن يونس على ما نحن فيه فهو وهم، وإن أراد أن يقيس فهو بعيد، رابعها إطلاقه في قوله النجس مع أنه مقيد بالكثير، وأما القليل فباق على نجاسته اتفاقا قاله الشيخ عبد الباقي. ومفهوم قوله:"النجس" أنه لو زال تغير الطاهر بنفسه أو بطاهر فطهور إما قطعا وإما على الراجح، فإن زال تغير النجس بطين فهو طهور قطعا إن زال أثر الطين وإلا لم يطهر بل هو باق على نجاسته إن احتمل زوال تغير النجس وبقاؤه، وأنه خفي في أثر الطين وإن تحقق زوال النجس أو ظن كما إذا كان تغيره بتغير رائحته ثم زال تغير الرائحة زوالا محققا فهو طهور قطعا، قوله:"تغير النجس" الإضافة فيه بمعنى اللام، ولما قدم المص أن الشك في مغير الماء هل يضر أو لا يضر لا يؤثر نبه على أن محل ذلك حيث لم يستند الشاك إلى خبر مخبر فقال: وقبل خبر الواحد إن بين وجهها يعني أن الماء المطلق تثبت نجاسته بخبر الواحد حيث بين الوجه الذي تنجس به الماء كما إذا أخبر بأنه تنجس من البول أو الدم سواء اتفق مذهب السائل والمخبر أو اختلف. قوله: "وقبل خبر الواحد" بشرط أن يكون عدل الرواية وهو مسلم عاقل بالغ غير فاسق ولو عبدا أو أنثى أو متساهلا في غير الحديث، أو مبتدعا إن لم يكن داعيا ولم يروما يقويها وحَرَّم الكذب لا عدل شهادة فلا يشترط هنا حرية وعدم تساهل في غير حديث وعدم بدعة. وقوله:"الواحد" أي من ولد آدم ذكرا أو أنثى كما مر، والظاهر أن الجن كذلك، ومثل الواحد الاثنان والثلاثة فلابد من التقييد بقوله إن بين وجها الخ قاله الناصر اللقاني.
أو اتفقا مذهبا يعني وكذلك تثبت نجاسة الماء المطلق بخبر الواحد المذكور إن اتفق مع السائل مذهبا ولم يبين الوجه الذي تنجس منه الماء حيث كان المخبر عالما بما ينجس الماء وما لا ينجسه وكأن الناصر أراد الثلاثة فما فوق مع إرادة القيد لا أن الأربعة مثلا يقبلون بلا قيد؛ إذ قد يكونون شافعيين، قوله وقيل خبر الواحد في النجاسة كما مر، وكذا إذا أخبر بأنه طاهر غير طهور وإلا فقال يستحسن تركه يعني أنه إذا انتفى القيدان بأن لم يبين المخبر للسائل وجها ولم يتفق معه مذهبا فإن الإمام المازري قال: يستحسن أي يستحب ترك الماء المخبر بنجاسته مع وجود الغير
لأنه بخبره صار مشتبها وورود الماء على النجاسة كعكسه يعني أن الماء المطلق يطهر المتنجس سواء ورد الماء على المتنجس بأن يوضع الثوب مثلا في شيء ويصب عليه الماء المطلق، أو يجعل الماء في إناء مثلا ويورد عليه الثوب المتنجس بأن يوضع فيه، وينفصل الماء في كلتا المسألتين طهورا أو طاهرا كما يفيده ما يأتي.
ونص على هذا الخلاف الشافعي القائل: إن ورد الماء على النجاسة طهرها، وإن وردت عليه وهو دون قلتين فإنه يتنجس بمجرد ملاقاتها وإن لم يتغير لا أكثر من قلتين فلا يتنجس بمجرد الملاقاة، والقلتان بالبغدادي خمسمائة رطل، وبالمصري أربعمائة رطل، وتزيد عند النووي ستة وأربعين رطلا وثلاثة أسباع رطل، وعند الرافعي إحدى وخمسين رطلا وثلث رطل وثلثا أوقية. وعبارة الأمير: وورود النجاسة على الماء كعكسه، ثم قال: شبهت المختلف فيه بالمتفق عليه وعكس الأصل مبالغة أو قصد مجرد التسوية، وأما قولهم الكاف عند الفقهاء تدخل على المشبه فذاك بعد تمام الحكم فليتأمل انتهى.
فصل:
هو مصدر فصلت بين الشيئين إذا فرقت بينهما، ويقال في اللغة للحاجز بين الشيئين، وهو في الاصطلاح اسم الطائفة من مسائل الفن مندرجة غالبا تحت باب أو كتاب، ووجه مناسبة هذا الفصل لما قبله أنه تقدم أن الماء الذي تغير بطاهر طاهر، والماء الذي تغير بنجس نجس فاحتاج إلى بيان الأعيان الطاهرة من الأعيان النجسة، وبدأ بالكلام على الطاهر لأنه الأصل فقال الطاهر ميت ما لا دم له يعني أن الطاهر أنواع منها ميت الحيوان البري الذي لا دم له، والميت ما سلبت منه الحياة بغير ذكاة شرعية. قوله:"الطاهر" أي بالنسبة للصلاة، وأما بالنسبة للأكل فلا يؤكل إلا بذكاة كما يأتي. وقوله:"ما لا دم له" أي ذاتي فما لا دم له أصلا أو له دم منقول ميتتهما طاهرة كعقرب وخنافس وبنات وردان وكبرغوث وبق، قال الشيخ عبد الباقي: فإن وقع في طعام كعسل ومات به أخرج لعدم نية ذكاته وأكل الطعام وحده، وهذا إن تميز عنه كان قدره أو أقل أو أكثر، فإن لم يتميز أكل إن كان الطعام أكثر منه، فإن كان هو أكثر من الطعام لم يؤكلا كإن تساويا عند ابن يونس وهو المعتمد انتهى. وقال صاحب التلقين ما لا نفس له سائلة حكمه حكم دواب البحر لا ينجس في نفسه ولا ينجس ما مات فيه فيؤكل في الصور الست التي أشير إليها وهي: تميزه عن الطعام وعدمه وفي كل تساويا أو غلب الطعام أو ميت ما لا دم له وقد علمت أن الأول هو المعتمد. وقال الرماصي: إن ما قاله عبد الوهاب مبني على مذهبه أن ما لا نفس له سائلة لا يفتقر إلى ذكاة، وقال الشيخ محمد بن الحسن: التفصيل المذكور لا يجري في سوس الفواكه ودود الطعام لقول ابن الحاجب: ودود الطعام لا يحرم أكله مع الطعام، وسلمه في التوضيح وقال في البديع: قد أجمعوا على أكل الخل بدوده الذي مات فيه وعلى أكل الفول بسوسه، وتعقب ابن عرفة كلام ابن الحاجب بأنه لا يعرفه إلا لأبي عمر، ويرد تعقبه بكلام صاحب البديع لأنه إذا لم يصح الإجماع فلا أقل من أن يكون مشهورا، وأيضا ما لابن الحاجب هو الذي اعتمده شراحه التوضيح وغيره والبرزلي ونقل نحوه عن اللخمي، وتقدم حكم ما إذا مات في الطعام، وأما إن لم يمت به فيؤكل معه في الأقسام الستة إن نوى ذكاته، وإلا فلا فإن شك في قدره حال موته فالظاهر بل المتعين أكله لقاعدة أن الطعام لا يطرح بالشك، ومما لا دم له: الجدجد والزنبور والخنافيس وبنات وردان والجراد والنحل والدود والسوس، وما ذكره المص
من طهارة ميت ما لا دم له قال ابن رشد بلا خلاف، وقيل: المشهور الطهارة، ونقل سند عن سحنون أنها نجسة لكنها لا تنجس غيرها، وسمع ابن نافع وأشهب: لا بأس بأكل ما مات به خشاش وبينه إن باعه والخشاش مثلثة صغار دواب الأرض وشمله كلام المص، والزنبور الدَّبر أو أمير النحل جمعه زنابير والجدجد الصرار جمعه جداجد وهو كهدهد سمي بصوته، يقال: صر وصرصر إذا صاح، ويقال: صرار الليل وهو قفاز يشبه الجراد ويقال: أرض مزبرة ومعقرة ومثعلة أي كثيرة الزنابير وكثيرة العقارب وكثيرة الثعالب، وفي الشبراخيتي عند قوله:"ما لا دم له" أنه لا يوكل إلا بذكاة لقوله: وافتقر نحو الجراد لها إلا دود وسوس الفول والطعام وفراخ النحل فإنها تؤكل من غير ذكاة كما نص عليه ابن الحاجب وقبله ابن عبد السلام وابن هارون واختاره البرزلي وأقره في التوضيح وجرى عليه اللخمي وأبو عمر وهذا كله موجب ترجيحه خلافا لابن عرفة، وحديث [أنه أتِيَ بتمر فجعل يفتشه]
(1)
محمول على أنه يعافه كالضب، وإذا وقع الخشاش في طعام فإن تميز أكل الطعام دونه، وإن لم يتميز فإن قل وكثر الطعام أكل كاختلاط قملة بكثير، فإن تساويا لم يؤكل على المعتمد انتهى. كما لو كثر عن الطعام وفي كتاب الشيخ الأمير المتولد من الطعام يؤكل مطلقا، وغيره إن كان حيا وجب نية ذكاته وإلا فإن تميز أخرج ولو واحدة وإلا أكل إن غلب الطعام لا إن قل أو ساوي على الراجح فإن شك هل غلب الطعام أو لا فلا يطرح للشك، وليس كضفدعة ميتة شك أبحرية أم برية فلا تؤكل لعدم الجزم بإباحتها أصالة، ويبين في البيع، وإذا وقعت في الطعام قملة يؤكل لقلتها وكثرته نص عليه ابن يونس ولعله مبني على مذهب سحنون أنها لا نفس لها سائلة، والبرغوث لا نفس له سائلة فلا ينجس بالموت إلا أن يجتلب دما ففيه قولان، وعلى هذا يجري قتله في المسجد. وقال سحنون في برغوث وقع في ثريد: لا بأس به أن يؤكل.
(1)
عن أنس بن مالك قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بتمر عتيق فجعل يفتشه يخرج السوس منه أبو داود في سننه، كتاب الأطعمة، رقم الحديث:3832. - ابن ماجه، كتاب الأطعمة، رقم الحديث: 3333.
والبحري عطف على ما فهو مجرور يعني أن ميت البحر طاهر لخبر [هو الطهور ماؤه الحل ميتته]
(1)
، وسواء مات حتف أنفه أو وجد طافيا أو أخرج حيا وألقي في النار أو دس في طين صاده مسلم أو مجوسي أو كتابي، وإذا وجد البحري في بطن طير ميت غسل، والبحري نسبة إلى البحر، والبحر لغة الاتساع ومنه فلان بحر؛ أي واسع العطاء والجود، وفرس بحر أي واسع الجري ولا تؤكل ميتة ما لم يدر أبري أم بحري، ولا تؤكل شاة ببطن خنزير ولا خنزير ببطن شاة إلا أن يكون ما ذكر من دواب البحر، ولا يؤكل طير البحر إلا بذكاة خلافا لعطاء ولو طالت حياته ببر يعني أن الحيوان البحري إذا كان لا يعيش إلا في البحر ولا تطول حياته بالبر فلا إشكال في طهارة ميتته، وإن طالت حياته في البر فالمشهور أن ميتته طاهرة وهو قول مالك، وقال ابن نافع وابن دينار ميتته نجسة ونقل ابن عرفة ثالثا بالفرق بين أن يموت في الماء فيكون طاهرا أو في البر فيكون نجسا وعزاه لعيسى عن ابن القاسم مثال البحري الذي تطول حياته في البر الضفدع البحري بتثليث أوله وثالثه، والسلحفاة البحرية بضم أولها وثالثها وبضم الأول وفتح الثاني وسكون الثالث: وهي الفكرون، ومن البحري أيضا السرطان بفتح السين والراء والطاء المهملات، وأما البري من ضفدع وسلحفاة وسرطان ونحوها فميتتها نجسة، والسلحفاة البرية لا تألف الماء أصلا وأخبر بعضهم أن الضفدع البري كذلك وأنه وضع منه واحدة في البحر فماتت لوقتها نقله الشيخ عبد الباقي، وفي الشبراخيتي التنظير في جواز وطء آدمية الماء واستظهر المنع والذي يظهر أنه لا وجه لتنظيره لأنها بهيمة أو كالبهيمة، والتمتع بذلك حرام لأن التمتع بما عدا الزوجة والأمة حرام ولذلك يؤدب واطئ البهيمة والله أعلم وما ذكي يعني أن المذكي طاهر ذكي بذبح أو نحر أو غيرهما وجزؤه يعني أن أجزاء المذكَّي كلها طاهرة، وأشار بهذا إلى أن السباع إذا ذكيت لأخذ جلودها فإن جميع أجزائها يطهر بالذكاة إن قلنا إن لحمها مكروه قاله الحطاب، قال: وهذا طريق أكثر الشيوخ أن الذكاة لا تؤثر إلا في مكروه الأكل ومباحه إلا محرم الأكل يعني أن محرم الأكل لا يطهر شيء من أجزائه بالذكاة خلافا لابن شاس القائل: تطهر
(1)
هو الطهور ماؤه الحل ميتته. الموطأ، كتاب الطهارة، رقم الحديث:45.
جميع أجزائه بالذكاة وإن كان لا يحل أكله إلا الخنزير فلا يطهر عنده بالذكاة، ودخل في قوله:"وما ذكي" الجنين، حيث حكم بحله لأن ذكاته ذكاة أمه فيخرج ما لم يتم خلقه ولم ينبت شعره، وخنزير ببطن شاة مثلا، ويستثنى من قوله:"وجزؤه" الدم المسفوح كما يأتي، وقالت الشافعية بنجاسة الماء الذي في مرارة المباح؛ أي الصفراء، وجرة البعير: وهي ما يفيض به البعير من الطعام فيأكله ثانيا؛ وهي بالكسر وتفتح، وقالت الحنفية المرارة بمعنى الجلدة التي فيها الصفراء تكره تحريما من المذكى، وأما الماء الذي فيها فنجس. وقوله:"وجزؤه" لا يشمل الروث والبول ودخل فيه جميع أجزاء المذكَّى حتى الأمعاء التي فيها الفرث إلا أن يكون الحيوان مما يأكل النجاسة فلا يؤكل ما اتصل بروثه حتى يغسل، والحكم كذلك في مكروه الأكل لنجاسة روثه، ومكروه الأكل إن ذكي لأكل لحمه طهر الجلد ولأخذ الجلد يطهر ولم يؤكل لأن المذكاة تتبعض على الراجح، وعلى عدم تبعيضها يؤكل قاله الشيخ عبد الباقي، ومشيمة المذكَّى بميمين مفتوحتين، ويقال لها: السلا بفتح المهملة وتخفيف اللام والقصر؛ وهي وعاء الولد حكم ابن رشد بطهارتها، وأنها كلحم الناقة المذكاة ذكره في سماع موسى من كتاب الصلاة رادا على من استدل بحديث (طرح السلا على ظهره عليه الصلاة والسلام
(1)
)، على أن سقوط النجاسة على المصلي لا يبطل الصلاة ومثله لابن الإمام، وفهم منه ابن عرفة جواز أكله فعزاه للسماع التقدم، قال البرزلي: وهو ظاهر المدونة وهو الصواب، وحكى ابن عرفة والبرزلي عن الصائغ أنه أجاب بأنه لا يؤكل لأنه بائن من النعجة؛ وهو يقتضي الحكم بنجاسته، وقال ابن جماعة إنه تابع للولد إن أُكِل أُكِل وإلا فلا، قال البرزلي: ومال إليه ابن عرفة.
وصوف يعني أن الصوف طاهر وهو شعر الشاة ووبر يعني أن الوبر بالتحريك طاهر وهو صوف الإبل والأرنب ونحوهما نقله الحطاب، وقاله في القاموس. وزغب ريش يعني أن زغب الريش طاهر والريش للطائر والزغب ما اكتنف القصبة، وهذا من إضافة الجزء للكل؛ لأن الريش اسم للقصبة والزغب معا، والزغب بفتحتين وشعر يعني أن الشعر طاهر وهو بفتح العين وسكونها
(1)
البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، رقم الحديث: 240
للإنسان وغيره من جميع الدواب قاله الشيخ عبد الباقي ولو من خنزير يعني أن شعر الخنزير طاهر، وقيل يستثنى من الشعر شعر الخنزير فليس بطاهر ورد المص هذا القول بلو، وقيل باستثناء الكلب أيضا، وفي الشامل: وجاز بيع صوفها كشعر خنزير خلافا لأصبغ قاله الحطاب. وقوله: "وصوف" الخ دليل المذهب على طهارة هذه الأشياء أنها لا تحلها الحياة، وما كان كذلك لا ينجس بالموت إن جزت يعني أنه يشترط في طهارة هذه الأربعة من صوف وما عطف عليه أن تجز ولو بعد النتف، وهذا الشرط إنما هو إذا أخذت من غير مذكَّى بل من حي أو ميتة، والمراد بالجز ما قابل النتف من كل مزيل كحلق وحرق ونحوهما وإنما كانت هذه الأشياء طاهرة، وإن من ميتة إن جزت لأنها لا تحلها الحياة كما مر قريبا. وما لا تحله الحياة لا يتنجس بالموت، ويجب عند البيع بيان صوف جز من ميت كمذكًّى فيما يظهر قاله الشيخ عبد الباقي، ومفهوم الشرط أنها إن لم تجز يكون بعضها نجسا لا جميعها، وشعر الآدمي يحرم الانتفاع به عند الشافعية كما يحرم الانتفاع بسائر أجزائه، ويدفن جميعه لكرامته ويدل له الحديث (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان بالشعر والظفر والسن والدم والحيضة والعلقة والمشيمة]
(1)
. وقد سئل إمامنا مالك رضي الله عنه عن بيع الشعر الذي يحلق من رؤوس الناس فكرهه نقله في المفيد قاله الشبراخيتي. وقال عقب هذا الكلام فإن كانت الكراهة على بابها أفاد ذلك جواز الانتفاع به والله أعلم انتهى.
ابن رشد: أصل مالك في أن الشعر لا تحله الروح أنه يجوز أخذه من الحي والميت مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل لحمه؛ كبني آدم والخيل والبغال والقرود، أو مما يكره أكله كالسباع انظر الحطاب قبيل قول المص في البيع "وانتفاع". وقوله "وصوف" الخ وإذا جزت هذه الأشياء من ميتة فاستحب في المدونة والرسالة أن تغسل، ابن رشد ولا معنى له إذا علم أنه لم يصبها أذى، وأوجب ابن حبيب غسلها، والجماد يعني أن الجماد طاهر وهو لغة الأرض التي لم يصبها مطر قال طرفة:
(1)
كنز العمال، رقم الحديث 18320.
جماد بها البسباس ترهص معزها
…
بنات اللبون والسلاقمة الحمرا
ويقال أيضا للسنة التي لا مطر فيها، والجماد بالكسر جمع جمد بالضم، وهو ما ارتفع من الأرض، وأما عند الفقهاء فهو جسم غير حي أي لم تحله الحياة قط، فالجسم جنس يشمل الحيوان وغيره، وأخرج بقوله غير حي الحيوان وميتته ومنفصل عنه أي غير منفصل عن الحيوان أخرج به اللبن والجبن والبيض والدمع والعرق والسمن والزبد والبول والروث والولد الذي خرج ميتا من ميتة وعسل النحل. فإن كان عسل النحل يخرج من فيه فهو داخل في قوله:"ولعابه". ومن مخرجه فهو داخل في قوله: "وعذرة من مباح "إلا المسكر يعني أن المسكر نجس سواء كان من العنب أو من غيره، ويترتب عليه ثلاثة أحكام: النجاسة كما ذكر المص والحد وحرمة قليله وكثيرة بخلاف المرقد كالداثورة، والمفسد كحشيشة على الصحيح وأفيون فلا حد ولا نجاسة فيهما، ولا يحرم منهما إلا ما أثر في العقل، ولا يقال لم لا يكونان كالمسكر في الحكم؛ لأن الذي حكم فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأن (ما أسكر منه الفرق ملء الكف منه حرام
(1)
) هو ما كان بصفة المسكر عند الفقهاء، وهو ما غيب العقل دون الحواس مع نشوة وطرب، والمرقد ما غيبهما معا، والمفسد هو ما غيب العقل دون الحواس لا مع نشوة وطرب. وقوله:"إلا المسكر" مستثنى من الجماد أي إلا الجماد المائع المسكر لأن المسكر لا يكون إلا مائعا إلا الحشيشة على ما للمنوفي، وقد قال ابن مرزوق الصحيح أنها من المفسد ومن صلى بشيء من المفسدات لم تفسد صلاته إجماعا، وعلى من ابتلي بأكل الأفيون؛ وهي من المفسدات وصار يخاف على نفسه الموت من تركه أن يستعمل منه القدر الذي لا يؤثر في عقله وحواسه ويسعى في تقليل ذلك وقطعه جهده، ويجب عليه أن يتوب ويندم على ما مضى والله أعلم.
وأما العقاقير الهندية فإن أكلت لا تؤكل له الحشيشة امتنع أكلها، وإن أكلت للهضم وغيره من المنافع لم يحرم أكلها، ولا يحرم منها إلا ما أفسد. ابن فرحون: والظاهر جواز ما يسقى من
(1)
أبو داود، كتاب الأشربة، رقم الحديث:3687.- الترمذي، كتاب الأشربة، رقم الحديت: 1866.
المرقد لقطع عضو ونحوه لأن ضرر المرقد مأمون وضرر العضو غير مأمون، قال الحطاب: ومقتضى ما تقدم جواز بيع هذه الأشياء من الأفيون والبنج والجوزة ونحوها ولم أر فيه نصا صريحا، والظاهر أن يقال في ذلك كما قال ابن رشد في الدر على القول بحرمة أكله إن كان فيه منفعة غير الأكل جاز بيعه ممن يصرفه في غير الأكل ويؤمن أن يبيعه ممن يأكله، وكذلكَ يقال في هذه الأشياء وفي سائر المعاجين المغيبة للعقل يجوز بيع ذلك لمن لا يستعمل منه القدر المغيب للعقل، ويؤمن أن يبيعه ممن يستعمل ذلك، وأطال الحطاب الكلام في القهوة وحاصل ما ذكره فيها أنها تعرض لها أمور توجب التحريم من الاختلاط بالنساء، وذكر الخمر وشربها وغير ذلك من الرذائل، وذكر في ذلك أمورا كثيرة تعرض لها توجب التحريم، وذكر بعد ذلك أن الذي يجب ويتعين على العاقل أن يجتنبها بالكلية إلا لضرورة شرعية، ومن سلم من هذه العوارض كلها الموجبة للحرمة فإنها ترجع في حقه إلى أصل الإباحة والله أعلم، وأنشد فيها بعضهم:
أقول لأصحابي عن القهوة انتهوا
…
ولا تجلسوا بمجلس هي فيه
وليست بمكروه ولا بمحرم
…
ولكن غدت مشروب كل سفيه
وفي كتاب الأمير: القهوة في ذاتها مباحة ويعرض لها حكم ما يترتب عليها، هذا زبدة ما في الحطاب هنا. ومثلها الدخان وفيه أيضا وفي الدخان خلاف، والورع تركه خصوصا الآن، فقد كاد درء المفاسد يحرمه وإن قال الأجهوري في رسالته غاية البيان لحل شرب ما لا يغيب العقل من الدخان ما نصه: لا يسع عاقلا أن يقول إنه حرام لذاته إلا أن يكون جاهلا بكلام أهل المذهب أو مكابرا أو معاندا انتهى. ويعرض لكل حكم ما يترتب عليه كما رأيته في فتاوي مشايخ العصر انتهى. ولعاصر الأجهوري إبراهيم اللقاني رسالة تناقض رسالة الأجهوري سماها: نصيحة الإخوان بترك ما لا يحل شربه من الدخان قاله الأمير، وفي الذهب الإبريز للعلامة سيدي أحمد بن مبارك اللمطي عن شيخه عبد العزيز أن الدخان حرام والله سبحانه أعلم، وذكر بعضهم أنه رأى فيها ثلاثين مصنفا من بين محلل ومحرم والأكثرون على تحريمها وكذا الصوفية قاطبة، والقول الفصل فيها أن المحرم لا نص عنده مقنعا وكذا المحلل، والميل القوي إلى التحريم لثلاثة
أمور: أحدها ما يترتب عليه من الأمور الرديئة، ثانيها أنه لا يحل لأحد أن يفعل فعلا حتى يعلم حكم الله فيه، ثالثها ما ذكره بعضهم من أن فيه نوعا من الإسكار، قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: قد وقفت على كلام كثير للعلماء في شأن "تباك" حاصله أنها مسألة خلاف بين التحليل والتحريم، وأن الراجح فيها التحريم، وقد أكثر الشيخ ميارة في التدليل من نقل كلام العلماء فيها والله تعالى أعلم. وفي الشبراخيتي: حكي أن آدم عليه الصلاة والسلام لما غرس الكرمة جاء إبليس فذبح عليها طاووسا فشربت دمه، فلما طلعت أوراقها ذبح عليها قردا فشربت دمه، فلما طلعت ثمرتها ذبح عليها أسدا فشربت دمه، فلما انتهى ثمرتها ذبح عليها خنزيرا فشربت دمه. فلهذا شارب الخمر تعتريه هذه الأوصاف الأربعة؛ وذلك أنه أول ما يشربها تدب في أعضائه فيزهر لونه ويحسن كما يحسن الطاووس، فإذا جاءه مبادي السكر لعب وصفق كما يفعل القرد، فإذا قوي سكره جاءته صفة الأسد فيعبث ويعربد ويهذي بما لا فائدة فيه، ثم ينقطع كما ينقطع الخنزير ويطلب النوم انتهى.
والحي يعني أن الحي طاهر آدميا أو غيره، مسلما كان أو كافرا أو شيطانا، أو متولدا من عذرة أو كلبا أو خنزيرا وقيل بنجاستهما، ولا يحكم على الحيوان بما في باطنه من النجاسة فتصح صلاة حامل صبي مثلا ولا عبرة بما في جوفه من العذرة.
ودمعه يعني أن دمع الحي طاهر لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين من عدم غسل الدموع عن الثياب والخدود، وعدم توقيها في صلاة وفي غيرها وعرقه يعني أن عرق الحي طاهر آدميا أو غيره من سائر الدواب (لأنه صلى الله عليه وسلم أجرى فرسا عريا)
(1)
بضم العين المهملة؛ أي ليس عليه أداة ولا يخلو غالبا حال الجري من عرق، ولا يقال في الآدميين إلا عريان، وظاهر المص ولو جلالة أو كافرا أو سكرانا حال سكره أو بعده بقرب أو بعد، وهذا الذي ذكره المص من طهارة العرق هو المعروف من المذهب. وقال ابن رشد في رسم الوضوء من سماع أشهب: عرق سائر الحيوان ولبنها تابع للحومها، وإنما قال في المدونة: لا بأس بعرق البرذون والبغل والحمار؛ لأن الناس لا
(1)
البخاري، كتاب الأدب، رقم الحديث:6033.- مسلم، كتاب الفضائل، رقم الحديث: 2307.
يقدرون على التوقي منها، ولم يذكر في نجاسته خلافا فما قاله ضير معروف والله تعالى أعلم قاله الحطاب.
ولعابة يعني أن اللعاب بضم اللام طاهر؛ وهو ما سال من الفم في يقظة أو نوم تغير أم لا كان من المعدة أو من الفم. ابن ناجي: الجاري على مذهبنا في السائل من فم النائم إذا تغير أن يكون مضافا لا نجسا، قال الحطاب: ولا وجه له بل الظاهر أن يقال إن كان من الفم فهو طاهر. وإن كان من المعدة فكما قال النووي إن تغير اللعاب الذي من المعدة كما في الشبراخيتي فهو نجس، وإلا فهو طاهر وقال الدميري في شرح المنهاج: يعرف كونه من المعدة بنتنه وصفرته، وقيل إن كان رأسه على مخدة فمن الفم، وإلا فمن العدد وعلى كل حال إذا لازم شخصا عفي عنه. وإذا تحقق أو غلب على الظن وجود النجاسة باللعاب أو بالبصاق فهما نجسان.
ومخاطه يعني أن مخاط الحي؛ وهو السائل من الأنف طاهر ولا تكره الصلاة بثوب فيه دمع شارب خمر أو ذمي أو عرقه أو بصاقه أو مخاطه أو لبنه وظاهر الحطاب أن هذا هو الراجح، وقال الشيخ زروق تكره الصلاة بثوبهما قاله الشيخ عبد الباقي، وظاهره ثوب لباسهما: وهو معارض لما يأتي من قوله: "ولا يصلى بلباس كافر" الخ، وقد يقال مراده ثوب بل بعرقهما، وما بعده بقرينة أول كلامه قاله الشيخ محمد بن الحسن، وبيضه يعني أن بيض الحي طاهر من سباع الطير أو غيرها أو حشرات وإن لم يؤمن سمها؛ لأن الكلام في الطهارة لا في إباحة الأكل وسواء تصلبت أم لا ولو أكل نجسا راجع للأمور الستة أعني قوله: والحي وما بعده لأن الخلاف موجود في الجميع صريحا في البعض، ولزوما في الباقي كما نقله الشيخ محمد بن الحسن عن الحطاب يعني أن هذه الأشياء من الحي وما بعده طاهرة ولو كان الحي الذي خرجت منه هذه الأشيات يأكل النجس فهو وهذه الأمور الخمسة الخارجة منه طاهرة، ورد المص بلو في الحي القول بأن الحي الذي يصيب النجاسة يكون نجسا فيتنجس لحمه.
واعلم أن الخلاف في عرق السكران في حال سكره أو قريبا منه، وأما لو طال فلا خلاف في طهارته؛ أي حيث اغتسل بعد عرقه الأول، وغسل ثوبه الذي عرق فيه، وذكر الحطاب ما يقتضي وجود الخلاف في اللعاب والمخاط والدمع، أي فيما إذا أكل نجسا.
واعلم أن المص إنما يشير بلو للخلاف كما مر، وبلو إلى خلاف مذهبي، وأما إن فإنها للخلاف تارة ولرفع التوهم تارة. واعلم أن الخلاف في البيض مخرج إلا المذر مستثنى من قوله: وبيضه يعني أن المذر من البيض نجس، والمذر بذال معجمة مكسورة هو ما عفن أو صار دما أو مضغة أو فرخا ميتا، والظاهر طهارة ما اختلط بياضه بصفاره، وكذا ما وجد فيه نقطة دم في بياضه أو صفاره، قال في الذخيرة: يوجد في وسط بياض البيض أحيانا نقطة دم فمقتضى مراعاة السفح في نجاسة الدم لا تكون نجسة، وقد وقع البحث في هذا مع جماعة ولم يظهر غيره قاله الحطاب، وأما ما في الكافي إذا وجد في البيض دم حرم أكله إما مقابل أوأن قوله دم أي مختلط بجميع أجزاء البيضة لا نقطة فقط والله سبحانه أعلم. ابن فرحون يؤمر بغسل البيض قبل كسره فإن لم يغسله فلا شيء عليه والخارج بعد الموت يعني أن ما خرج من الحيوان البري بعد موته مما له نفس سائلة والحال أنه لم يذك من الأمور المذكورة من دمع وعرق ولعاب ومخاط وبيض نجس، فإن كان من حيوان لا ينجس بالموت فلا يكون نجسا فبيض الجراد الخارج بعد موته طاهر قطعا، وكذا بيض البحري والله أعلم. والاستثناء في العطوف عليه متصل، وفي المعطوف منقطع ولبن آدمي يعني أن لبن الآدمي الحي ذكرا أو أنثى مسلما أو كافرا مستعملا للنجاسة أم لا طاهر لجواز الرضاع بعد الحولين إلا الميت يعني أن لبن الآدمي الخارج منه بعد موته نجس بناء على نجاسته لا على القول الآخر، ولبن الجن كلبن الآدمي لجواز إمامتهم ومناكحتهم، وقوله: الميت يقال هين، وهين، ولين ولين، وميت وميت، وصيف وصيف بالتشديد والتخفيف في الجميع قاله ابن حجر في كتاب بدء الخلق ولبن غيره تابع يعني أن لبن غير الآدمي تابع للحمه في الحرمة والكراهة والإباحة ولو أكل نجسا، ولا تكره الصلاة بثوب فيه لبن مكروه، ومعنى كراهة اللبن أنه يكره استعماله في أكل أو غيره مع طهارته وبول يعني أن بول ما يباح أكله طاهر وعذرة يعني أن عذرة ما يباح أكله طاهرة فقوله من مباح راجع للبول والعذرة، والأولى التعبير برجيع لشموله للبول والروث فيكون أخصر والعذرة إنما تقال على الخارج من الآدمي، وهذا في الرجيع الخارج حال الحياة أو بعد التذكية، وأما الرجيع الخارج بعد الموت مما ميتته نجسة ولم يذك فإنه نجس، ومن المكروه الوطواط كفار يصل للنجاسة على قول، والآخر أنه ممنوع بخلاف الذي لا
يصل لها فمباح، وفضلته طاهرة وإن شك في وصوله للنجاسة فالظاهر كراهة أكله، ونجاسة فضلته لاحتمال وصوله إليها، لأن الفار الذي يصل للنجاسة ممنوع أو مكروه على ما يأتي في باب المباح إن شاء الله تعالى، وإن ندرت النجاسة بالسفينة فينبغي طهارة ما شك في وصوله لها، وإن لم تندر فُصِّلَ فيه كما تقدم. ويستحب عند مالك غسل فضلة المباح بولا أو غيره، والظاهر أن ما تولد من المباح وغيره يلحق بالأم لأن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها؛ وذلك كالمتولد من عقاب وثعلب ففي حياة الحيوان العقاب كله أنثى ويسافده طائر آخر، وقيل ذكر الثعالب قال شاعر يهجو شخصا:
ما أنت إلا كالعقاب فأمه
…
معروفة وله أب مجهول
قاله الشيخ عبد الباقي إلا المتغذي بنجس يعني أن المباح الذي يتغذى بالنجس يأكله أو يشربه رجيعه نجس ويحكم لبوله وعذرته بالنجاسة مدة ظن بقاء النجاسة بجوفه. قوله: إلا المتغذي بنجس أي بالمشاهدة فخرج ما شأنه استعمال النجاسة ولكنه لا يصل إليها لحبسه، وما احتمل أمره خلافا للبساطي. الحطاب ما ذكره البساطي غير ظاهر، ثم قال بعد جلب نقول: فعلم من هذا أن الحيوان إذا كان من شأنه أن يأكل النجاسة ولم يتحقق أكله لها فأمره خفيف يستحب غسل روثه وهو خلاف ما دل عليه كلام البساطي: وإذا ذبح الحيوان الذي يتغذى بالنجاسة فإنه يغسل موضع الغذاء منه ككرشه وأمعائه قاله ابن يونس نقله عنه الحطاب، قال الحطاب: وهذا إذا ذبح بحدثان استعماله للنجاسة وقيء يعني أن القيء طاهر، والقيء ما يخرج من الطعام بعد استقراره في المعدة إلا المتغير عن الطعام يعني أن القيء إذا تغير عن الطعام فإنه يكون نجسا، أما إن تغير بأحد أوصاف العذرة فواضح، وأما إن تغير بالحموضة فكذلك على المعتمد. ومثل القيء القلس في التفصيل، وهو دفعة من الماء تقذفها المعدة أو تقذفها ريح من فم المعدة وقد يكون معها طعام والحاصل أن ما تغير من القيء والقلس بأحد أوصاف العذرة أو بالحموضة فنجس، وأما ما تغير منهما ببلغم أو صفراء فطاهر، وما حكي عن ابن رشد من أن القلس ماء حامض وهو طاهر فهو مبني على أن القيء لا ينجس إلا بمشابهة أحد أوصاف العذرة أو بمقاربتها وهو ضعيف.
الباجي يجب غسل الفم من القيء النجس وإلا فيستحب انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي. وفي الحطاب وإن لم يتغير فيستحب المضمضة منه إلا أن يكون مما يذهب بالبصاق، وفي كتاب الأمير وطهارة القيء تقتضي طهارة ما وصل للمعدة من خيط ودرهم، وقالوا بنجاسته كما في كبير الخرشي، وأما الذي أدخل في الدبر فنجس قطعا كما في الحطاب، ولا ينجس القلس إلا بمشابهة العذرة فلا يضر حموضته لخفته وتكرره وهل كذلك القيء أو بمطلق التغير؟ تأويلان. وهذا حاصل ما حققه الرماصي، ورد على الحطاب والجماعة في تشهيرهم التنجيس بمطلق التغير فيهما انتهى كلام الأمير، وفي شرح الموطإ لمحمد بن عبد الباقي عن النهاية أن القلس بالتحريك وقيل بالسكون: ما خرج من الجوف ملء الفم أو دونه وليس بقيء فإن عاد فهو القيء انتهى.
وصفراء يعني أن الصفراء من الطاهر؛ وهي ماء أصفر مر يخرج من الفم يشبه الصبغ الزعفراني وسواء كانت من آدمي أو غيره وبلغم يعني أن البلغم طاهر وسواء كان من آدمي أو غيره، وهو شيء منعقد يسقط من الرأس ويطلع من الصدر الحطاب عن سند والبلغم طاهر لأنه من جنس البصاق والنخائم، ونقل ابن عرفة عن ابن العطار أن البلغم والصفراء نجَسٌ سند ما يخرج من الجسد من الصفراء المذهب طهارته، كما يحكم بطهارة المرائر، والمرائر أصل الصفراء انتهى. ومرارة مباح يعني أن مرارة المباح طاهرة وكذا مرارة المكروه، وقوله: ومرارة مباح لا حاجة لذكره لأنه إن أراد وعاءه فهو جزء من الحيوان ومر التفصيل فيه بين المذكى والحي والميت الذي له نفس سائلة، وإن أراد الماء الأصفر المر فهو الصفراء قاله الشيخ عبد الباقي، ولما كانت فضلات الحيوان قسمين ما لا مقر له كالدمع والعرق ونحوهما وهو طاهر.
قال جامعه عفا الله عنه: ويفهم من هذا طهارة القذى، ويفهم أيضا من عدهم له من الحائل انتهى. وماله مقر وهو قسمان: مستحيل إلى صلاح كلبن وبيض، ومستحيل إلى فساد كدم وعذرة، والدم قسمان: مسفوح وهو الجاري، وغير مسفوح أشار له هنا عاطفا على أنواع الطاهر فقال: ودم لم يسفح يعني أن الدم الذي لم يجر عند موجب خروجه من ذبح ونحر وعقر طاهر وهو الباقي في العروق ولو جرى عند تقطيع اللحم، فإذا أصاب منه أكثر من درهم لم يؤمر من أصابه بغسله وله أن يصلي به ولا خلاف في إباحة ما خالط اللحم من الدم قاله ابن جزي، وقال الثعالبي: فيه
خلاف شاذ ذكره ابن الحاجب وغيره، وقال أبو عمران: وما تطاير من الدم من اللحم حين قطعه على الثوب فاستحسن أن يغسل قياسا على دم الحوت، وما يوجد في قلب الشاة غير مسفوح، وما وجد في بطنها فهو بعض المسفوح؛ إذ ليس في الجوف جرح يخرج منه. اللخمي الدم على ضربين؛ نجس، ومختلف فيه، فالأول دم الإنسان ودم ما لا يجوز أكله، ودم ما يجوز أكله إذا خرج في حال الحياة أو حين الذبح لأنه مسفوح، واختلف فيما يبقى في الجسم بعد المذكاة، وفي دم ما ليس له نفس سائلة وفي دم الحوت انتهى. قال الحطاب فيفهم من كلام اللخمي أن دم الآدمي والحيوان الذي لا يؤكل والميتة نجس مطلقا جرى أو لم يجر وهو ظاهر انتهى.
ومسك يعني أن المسك طاهر لاستحالته إلى صلاح وهو دم منعقد، وظاهر المص طهارته ولو أخذ من ميت فهو مستثنى من قوله: وما أبين من حي وميت لاتصافه بنقيض علة النجاسة، وهي الاستقذار، ويجوز أكل المسك وفارقته يعني أن فارة المسك طاهرة إجماعا، قال إسماعيل القاضي: فارة المسك ميتة طاهرة. الباجي إجماعا قوله: ميتة يقتضي عدم أكلها إذ ليس لنا ميتة تؤكل بغير تذكية غير ميتة البحر.
واعلم أن فارة المسك هي الوعاء الذي يكون فيه المسك وهي النافحة وهي طاهرة ولو أخذت منه بعد موته فهي مستثناة من قوله: وما أبين لمن حي وميت، وقالت الشافعية: إن انفصلت الفارة بعد موت الظبية فهي نجسة انتهى.
وقال الشاعر:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
…
فإن المسك بعض دم الغزال
وقد أخرج مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (المسك أطيب الطيب)
(1)
قال الحافظ بن حجر في الفتح: المشهور أن غزال المسك كالظبي لكن لونه أسود وله نابان لطيفان أبيضان في فكه الأسفل، وأن المسك دم يجتمع في سرته في وقت معلوم من السنة فإذا اجتمع ورم الموضع فيمرض الغزال إلى
(1)
مسلم في صحيحه، كتاب الألفاظ رقم الحديث:2252.
أن يسقط منه، ويقال إن أهل تلك البلاد يجعلون له أوتادا في البرية يحتك بها ليسقط، ونقل ابن الصلاح أن النافحة لنا في جوف الظبية كالإنفَحَّة في جوف الجدي، وعن الطبري أنها تلقيها من جوفها كما تلقي الدجاجة البيضة، ويمكن الجمع بينهما بأنها تلقيها من سرتها فتتعلق بها إلى أن تحتك، والمسك بكسر اليم وسكون السين وهو مذكر ويؤنث باعتبار الرائحة قال الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
ومن أردانها المسك تنفح
أراد الرائحة، والمسك بفتح الميم وسكون السين الجلد وجمعه مسوك كفلس وفلوس، والفارة قيل الصواب عدم همزه لأنه من فار يفور لفوران ريحه، وقيل يجوز همزه لأنه على هيئة الفارة، وزباد القط طاهر لخروجه من غير مخرج البول والروث، ولا يصل إلى محل خروجه بوله ولا روثه قاله الشيخ عبد الباقي عن الأجهوري، وفي حياة الحيوان يوجد في إبطيه وفي باطن أفخاذه وباطن ذنبه وحوالي دبره فيؤخذ من هذه الأماكن بملعقة صغيرة أو بدرهم رقيق انتهى. واقتصر في القاموس على أنه وسخ يجتمع تحت ذنبه وزرع بنجس يعني أن من الطاهر زرعا بذر. أو سقي بنجس، ويغسل ما أصابه الماء النجس من ظاهره إلا أن يسقى بماء طاهر ويعم منه ما أصاب النجس، ويجوز سقي الزرع بماء نجس، والباء في قوله: بنجس للملابسة فيشمل ما بذر بنجس وما سقي به، وفي نوازل ابن هلال أن ما نبت من بذر حرام فهو حلال، ولا أعلم في ذلك خلافا لأن عينه مستهلكة، ولأنه لا يكون لرب البذر أخذ ما تولد منه انتهى وخمر تحجر يعني أن الخمر إذا تحجر أي يبس وصار حجرا فإنه يكون طاهرا، وكذا لو حجر ومحل طهارته حيث تحجر، أو حجر إن زال منه الإسكار بحيث لو استعمل أو بل وشرب لم يسكر، وأما لو كان بحيث لو استعمل أو بل وشرب أسكر فهو نجس ويقيد كلامهم: المسكر لا يكون في غير الأشربة بغير هذا، وقوله:"وخمر تحجر" أي ويجوز بيعه حينئذ وهو المسمى بالطرطير يستعمله الصباغون وإذا تحجر الخمر وقلنا بطهارته فإن الإناء يطهر أيضا تبعا له بخلاف ما إذا سقط وهو خمر على بدن أو ثوب فإنه لا يطهره إلا الغسل لوصوله إليه في حال نجاسته فلا يطهر بالتبع لكونه ليس مقرا له عادة بخلاف الإناء فإنه مقر له عادة قاله الشبراخيتي. وفي عبد الباقي أنه يطهر ثوب
أصاب طرفه خمر ونشف بحيث لو بل لم يتحلل منه شيء فلا يحتاج لغسله بالمطلق أو خلل يعني أن الخمر إذا صيرت خلا بإلقاء شيء فيها كالملح والخل والماء الجاري أو انقلبت هي خلا فإنها تكون طاهرة وإنما طهرت عند التحجر والتخلل لأن العلة في نجاسة الخمر الإسكار وقد زال منها والعلة تدور مع معلولها وجودا وعدما. ابن رشد إن تخللت بنفسها فلا خلاف في طهارتها وإلا فهو محل القولين. ابن وضاح القولان في التخللة بنفسها، والتخللة بالصنعة، وللوانشريسي رحمه الله:
ولابن رشد حل ما تخللا
…
بنفسه والخلف فيما خللا
وحكى الزناتي فيما إذا استهلكت الخمر في دواء أو بالطبخ والتركيب وذهبت ريحها وعينها وقضت التجربة بإنجاح نفعها قولين بالنع والجواز قال بعض، والظاهر المنع ومحل طهارة الخمر المخللة إذا لم تقع فيها نجاسة قبل التخليل وإلا فلا تطهر.
واعلم أن التخليل حرام والواجب إراقته على ما رواه ابن القاسم وابن وهب عن الإمام. وقال عياض المشهور عندنا أنه مكروه، وقال أشهب بالإباحة، وقال سحنون إن صنعت خمرا لم يجز تخليلها لوجوب إراقتها وإن تخمرت بلا قصد جاز تخليلها، وقوله: وخمر بلا هاء هي اللغة المشهورة كما في القرآن العزيز، ولحوق الهاء لها لغة قليلة وتذكير الضمير في تحجر أو خلل لغة ضعيفة والأشهر التأنيث، وإذا بقي في إناء خمر يسير فصب عليه عصير أو خل فقال أصبغ فسد الجميع. الباجي أما في العصير فصحيح لأن العصير لا يصير الخمر عصيرا، وأما الخل فلا لأن الخل يصير الخمر خلا فيطهر الجميع ولا يستعمل ذلك إلا بعد مدة يقدر فيها أن الخمر تخللت انتهى. قال الشيخ الحطاب: فإن ترك العصير حتى صار خلا طهر الجميع، ولما أنهى الكلام على بيان الأعيان الطاهرة أتبعه بالكلام على الأعيان النجسة فقال.
والنجس ما استثنى يعني أن النجس هو ما استثني أي أخرج من الطاهر سواء كان الإخراج بأداة استثناء وذلك في سبعة بمراعاة العطف وهي: إلا محرم الأكل، إلا المسكر، إلا المذر، والخارج بعد الموت، إلا الميت، إلا المتغذي بنجس، إلا المتغير عن الطعام، أو كان الإخراج فيه بغيرها كمفهوم
الشرط في إن جزت فالمستثنيات ثمانية، ودل كلامه فيما تقدم على النجاسة بالمفهوم، ودل كلامه هنا عليها بالمنطوق وصرح بما ذكر، وإن كان يعتبر مفهوم الشرط ومفهوم الاستثناء ليعطف عليه قوله وميت غير ما ذكر وما بعده من المعطوفات يعني أن من النجس ميت غير الذي تقدم، والذي تقدم هو ميت ما لا دم له وميت البحري هذا إذا قرئ ميت بالتنوين، وإن قرئ بالإضافة كان ما تقدم هو ما لا دم له والبحري، وفي الشبراخيتي أن قوله:"وميت" تصح قراءته بالإضافة وبالتنوين والله سبحانه أعلم. والمراد بالميت ما سلبت عنه الذكاة الشرعية، فيشمل ما ذكاه مجوسي، وكتابي لصنم، ومسلم لم يسم عمدا أو ترك النية، ومحرم، ومرتد، ومجنون، وسكران، وغير ذلك من موته حتف أنفه أو بفعل غير ذكاة، وكذا ما صاده كافر. وقوله:"وميت غير ما ذكر" هو منحصر في الحيوان البري الذي له نفس سائلة فهو الذي ميتته نجسة كشحمة أرض، ووزغ، وجنين آدمي ولا يجري فيه استظهار ابن رشد الآتي. وقوله:"وميت" بالتخفيف والتشديد لغتان حكاهما الطبري عن جماعة من اللغويين، وقال أبو حاتم وغيره ما قد مات يقالان فيه، وما لم يمت لا يقال فيه ميت بالتخفيف قال بعضهم:
تساءلني تفسير ميت وميت
…
فدونك قد فسرت إن كنت تعقل
فمن كان ذا روح فذلك ميت
…
وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
قاله الشيخ الشبراخيتي، وبالغ على نجاسة ميتة القملة بقوله. ولو قملة يعني أن ميتة القملة نجسة لأن لها نفسا سائلة، قال ابن عبد السلام المشهور أن لها نفسا سائلة فليس دمها منقولا فتبطل صلاة حامل قشرها عمدا، وعليه فيعفى عن صيبان ميت لعسر الاحتراز منه ويعفى أيضا عن محل طبوع أي لا يكون لمعة كما في الحطاب، وقال الأمير: والصيبان والطبوع إن عسر معفو عنه وليس لمعة إلا إن أمكن التداوي فيغتفر مدته انتهى. قال في الحاشية: والطبُّوع صغار القمل أو القراد انتهى. وفي القاموس: والطَّبُوع كتنور دويبة ذات سم أو من جنس القردان لعضته أَلم شديد انتهى. وأفتى ابن عرفة بخفة شأن القمل بناء على أنها لا نفس لها سائلة، وانظره مع نقله عن الأكثر نجاستها. الشبيبي يعفى عن ثلاث فدون، وتبطل الصلاة فيما زاد على ثلاث،
وأفتى الغبريني بالبطلان وظاهره مطلقا، وينبغي اعتماد ما للشبيبي لموافقته في زائد على ثلاث للغبريني: وفي ثلاث فأقل لابن عرفة قاله الشيخ عبد الباقي، وقال في الإعلام: وسئل سيدي أبو عزيز عن جلد القملة يكون متعلقا بالثوب أتعاد منه الصلاة أم لا؟ فأجاب: القملة نجسة لكن عدم إعادة الصلاة منه مغتفر لأجل الملازمة انتهى. وإذا صارت القملة عقربا فالظاهر النظر لتلك العقرب فإن كانت لا نفس لها سائلة طهرت لاستحالة الحال كدود العذرة والحكم يتبع العلة قاله الأمير: وقال ابن مرزوق سمعت عن بعض من عاصرته من الفضلاء الصالحين رحمه الله يقول: من احتاج إلى قتل قملة في ثوبه أو في المسجد على القول بنجاستها ينوي بقتلها المذكاة ليكون جلدها طاهرا فلا يضره ولا أدري هل رأى ذلك منقولا أو قاله من رأيه إجراء على القواعد ولا بأس به انتهى. ومراده بالإجراء على القواعد أن القملة إن كانت من مباح الأكل فما ذكره فيها ظاهر، وإن كانت من محرمه أو مكروهه فذلك مبني على أن الذكاة تعمل في المحرم والمكروه قاله الشيخ ميارة. قال وفي هذا فائدة وهي جواز قول الفقيه المقلد برأيه إجراء على القواعد وهذا ظاهر ذائع شائع كثير لا يمكن إنكاره فانظره مع ما نص عليه غير واحد أن المقلد لا يفتي إلا إن وجد النص في عين النازلة انتهى. وقال الحطاب: هذا يعني كلام ابن مرزوق مبني على أن القمل مباح أكله أو مكروه ولم أر في ذلك نصا صريحا بل رأيت في حياة الحيوان للدميري من الشافعية أن القمل حرام بالإجماع أو يكون بناء على طريقة ابن شاس أن الذكاة تعمل في محرم الأكل وتطهره انتهى. وأشعر اقتصار المص على القملة بطهارة البرغوث، قال ابن عبد السلام ليس له نفس سائلة وهو المشهور والراجح، وما لابن القصار من نجاسة ميتته وابن فائد من عزوها للأكثر وترجيح ابن عرفة له طريقة مرجوحة.
واعلم أن ما له دم منقول اختلف في نجاسته على قولين والمشهور الطهارة وذلك كالذباب والبعوض والقراد والحلم والبرغوث ونحوها: وقال الحطاب بعد جلب نقول: فتحصل من هذا أن ما كان دمه منقولا فالراجح أنه مما ليس له نفس سائلة إلا القملة، وذلك لا ينافي الحكم بنجاسة الدم السفوح من الذباب وشبهه. ألا ترى أنه يحكم بنجاسة المسفوح من السمك مع الاتفاق على طهارة ميتته والله أعلم انتهى.
وفي الحطاب لا شك في طهارة الصيبان على القول بأن القملة لا نفس لها سائلة، وأما على المشهور فالظاهر أنه طاهر أو معفو عنه انتهى وآدميا عطف على قملة فهو داخل في حيز المبالغة؛ يعني أن ميتة الآدمي نجسة وهذا ضعيف والأظهر طهارته يعني أن من العلماء من قال بطهارة ميتة الآدمي وأن ابن رشد استظهر القول بطهارة ميتة الآدمي وكذا اللخمي والمازري وعياض، والخلاف في المسلم وغيره. وقيل خاص بالمسلم، وأما الكافر فميتته نجسة اتفاقا والأدلة الآتية إنما تنهض دليلا في ميتة المسلم. وفي الحطاب. وذهب بعض أشياخنا إلى التفرقة بين المسلم والكافر ولا أعلم أحدا من المتقدمين ولا من المتأخرين فرق بينهما.
واعلم أن المعتمد القول بالطهارة (لأنه صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد)
(1)
، (وقبل عثمان بن مظعون بعد الموت)
(2)
، ولصلاة الصحابة على أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في المسجد ولقوله صلى الله عليه وسلم (لا تنجسوا موتاكم فإن المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا)
(3)
رواه الحاكم، ولرد عائشة رضي الله عنها على من أنكر إدخال سعد بن أبي وقاص في المسجد، ولقوله في الجنائز من المدونة: أكره أن توضع الجنازة في المسجد؛ إذ لو كان نجسا لم يقل أكرهه، ومثله في الاعتكاف، وقال في التنبيهات وهو الصحيح الذي تعضده الآثار لحرمة الآدمي وكرامته، وفي كتاب الأمير: الراجح طهارة ميتة الآدمي ولو كافرا، والخلاف في غير أجسام الأنبياء فطاهرة إجماعا وكذا فضلاتهم كما في متن العزية، وميتة الجن نجسة لأنه لا يلحق الآدمي في الشرف انتهى كلام الأمير. وقد مر حديث صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد، والمجرور أعني قوله: في المسجد اختلف فيه هل هو ظرف للميت أو للصلاة، وعلى الأول فهو متعلق باسم فاعل مضمر، وعلى الثاني فهو متعلق بصلى، وهذا سبب اختلافهم في ميتة الآدمي قال ابن العربي، وكونه متعلقا بصلى أولى، وإنما أذنت عائشة في المرور بالميت في
(1)
عن عبد الله بن الزبير أن عائشة أمرت أن يمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه فأنكر الناس ذلك عليها فقالت ما أسرع ما نسي الناس ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد. مسلم، كتاب الجنائز، رقم الحديث:973.
(2)
عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكى أو قال عيناه تذرفان، الترمذي، كتاب الجنائز، رقم الحديث:989.
(3)
لا تنجسوا موتاكم فإن المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا. المستدرك، ج 1 ص 385، دار الفكر.
المسجد لأنها أمنت أن يخرج منه شيء لقرب مدة المرور إلا أن مالكا لاحتراسه وحسمه للذرائع منع من إدخالهم في المسجد، وحسم الذرائع فيما لا يكون من اللوازم أصل في الدين انتهى نقله الإمام الحطاب، وما أبين من حي يعني أن ما أبين أي انفصل عن الحي الذي ميتته نجسة من هذه الأشياء التي يذكرها بقوله:"من قرن وعظم" الخ نجس، وأما ما ميتته طاهرة فما انفصل منه في حال حياته طاهر وقوله:"وما أبين من حي" هذا يشمل الآدمي على تنجيسه بالموت، وأما على طهارته فهل كذلك وهو قول ابن القصار ورجحه ابن عرفة، أو طاهر وهو قول الباجي وابن رشد وهو الصواب، وهما جاريان فيما أبين منه في حال حياته خلافا لمن قال إنه متفق على نجاسته، وعلى القول بطهارة ميتة الآدمي ترد سن سقطت لا على القول الآخر، وقوله:"وما أبين من حي" حقيقة أو حكما بحيث لا يعود لهيئته، وأما ما أبين من الآدمي بعد مماته فحكمه حكم ميتته بلا خلاف، وقد مر أن دم الآدمي نجس، وظاهر ما مر أو صريحه أنه نجس اتفاقا وميت يعني أن ما أبين من الميتة النجسة من قرن وعظم لخ نجس، وبما تقدم يظهر لك أن ما أبين من ميتة الآدمي من ظفر وعضو طاهر لأن المعتمد طهارة ميتته، ولما كان في لفظ ما عموم وليس بمراد بل المراد ما عدا ما سبق من الصوف وما معه بينه بقوله: من قرن يعني أن القرن إذا أبين من حي أو ميت حسبما تقدم نجس، وسواء أصله وطرفه خلافا لمن قال: النجس أصله الجاري فيه الدم وعظم يعني أن العظم إذا أبين من حي أو ميت فإنه نجس والعظم يشمل السن وعلى عدم طهارة ميتة الآدمي لا ترد سن سقطت، وعلى طهارته ترد كما مر قريبا، وظاهره وإن لم يضطر لردها على هذا بخلافه على الأول فإنما يجوز ردها للضرورة، قال الشيخ عبد الباقي: وروى عن السلف عبد الملك وغيره أنهم كانوا يردونها ويربطونها بالذهب انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن يعني عبد الملك بن مروان: وليس من السلف لأن السلف إنما يطلق على صالحي المتقدمين وليس هو منهم انتهى. وسكت المصنف عن اللحم لدخوله من باب أحرى إذ لا اختلاف في نجاسته قاله الحطاب. وظلف يعني أن الظلف إذا أبين مما ذكر فإنه نجس، والظلف للبقر والغنم والظبي كالحافر للفرس قاله عبد الباقي، وقال في القاموس: الظلف بالكسر للبقرة والشاة والظبي وشبهه بمنزلة القدم لنا. وعاج يعني أن عاج الفيل؛ أي سنه إذا أبين منه في حال حياته أو بعد موته ولم
يذك فإنه نجس، وظفر يعني أن الظفر إذا أبين من حي أو ميت فإنه نجس، وهو للآدمي والبعير والإوز والنعام، وأطلقوا الظفر هنا على ما يعم المخلب مجازا فيشمل الدجاج والله أعلم قاله الشيخ محمد بن الحسن وهذا هو المشهور. وقال ابن المواز ما قطع من طرف القرن والظلف مما لا يؤلم الحي ولا يناله دم ولا لحم فهو حلال أخذ منها حية أو ميتة. اللخمي: وعلى ذلك يجري ما قص من الظفر. البرزلي قال أبو محمد من صر أظفاره في طرفه وصلى بها فلا شيء عليه إن لم يكن في أظفاره نجاسة، وقال الشارح عند قوله:"من قرن وعظم وظلف وعاج وظفر" هذا هو المشهور إذ هو مما تحله الحياة ويموت بموت الحيوان، وقال ابن وهب: ذلك طاهر بناء على أنه لا تحله الحياة، وقيل الأصول تنجس بالموت بخلاف الأطراف، وقيل إن صلق طهر وإلا فهو نجس، وقوله: بخلاف الأطراف ابن عبد السلام: وهذا إنما يتأتَّى في غير العظم قاله الحطاب وقصبة ريش من إضافة الجزء للكل، وقد تقدم نظيره في قوله:"وزغب ريش" وذلك لأن الريش اسم للزغب والقصبة معا يعني أن قصبة الريش نجسة أعلاها وأسفلها، قال ابن شاس وابن الحاجب: الريش شبيه الشعر كالشعر وشبيه العظم كالعظم، وما بعد فعلى القولين، والمراد بالبعد علوه عما قارب الجسم من شبه العظم، وبالقولين القولان في أطراف القرون والمشهور منهما النجاسة فيكون المشهور في القصبة كلها النجاسة، وطريقة ابن بشير ما اتصل بالجسم كالعظم وطرفه كالشعر، وروى الباجي ما له سنخ في اللحم مثله وما لا كالزغب طاهر، والسنخ بكسر السين المهملة وبعدها نون ساكنة ثم خاء معجمة الأصل، فعلى ما قال ابن بشير ما لم يتصل بالجسم طاهر يكون طرف القصبة طاهرا، وأما كلام الباجي فالذي يظهر أنه يقتضي نجاسة جعيع القصبة قاله الحطاب، وما في المواق مما يقتضي ضعف ما في المص فيه نظر قاله الشيخ محمد بن الحسن، والدليل على قول المص:"وما أبين من حي" قوله صلى الله عليه وسلم (ما أبين من حي فهو ميت)
(1)
، وفي الشبراخيتي وإنما كان المنفصل من العظم وما معه نجسا لأنه مما تحله الحياة ويموت بموت الحيوان وقد قال تعالى {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا}
(1)
الإتحاف، ج 2 ص 316.
الآية. ولا يعترض بأن الإحياء في الآخرة وأما في الدنيا فإنشاء لا إحياء لأن الإجماع على أن النشأة الثانية كالأولى ابن عبد السلام، وانظر تحقيق هذا الإجماع فقد جاء أن أهل الجنة طول أحدهم ستون ذراعا، وأن الكافر يعظم في جهنم حتى يكون سنة كأحد، ولا مانع أن يحيي الله ما كان ميتا في الدنيا تكميلا لنعمته أو عذابه، ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الزيادة في طول أهل الجنة بعد دخولهم الجنة وذلك لا ينافي أن يكونوا في المحشر على صورتهم في الدنيا وكذلك القول في أهل النار نقله الشبراخيتي عن التوضيح. قال ونبه المصنف على هذه دون غيرها كاللحم والعصب والعروق ونحوها للخلاف فيما ذكر دون ما قلنا، وحينئذ فسكوته عنها لدخولها من باب أحرى لعدم الخلاف في نجاستها، يعني أن الجلد إذا أبين من حي أو ميت فإنه نجس حيث لم يدبغ إجماعا بل ولو دبغ على المشهور المعلوم من قول مالك: فلا يجوز بيعه ولا الصلاة به وهيئة الدباغ نزع الفضلات بالأشياء المعتادة في ذلك، وفي الطراز: والظاهر أنه لا يعتبر فيه آلة انتهى. ولا يتوقف الدبغ على فعل فاعل فإن وقع الجلد في مدبغة طهر، وما روى الباجي من أن الدباغ ما أزال الشعر والريح والدسم فيه نظر؛ إذ لا يلزم زوال الشعر إلا على قول الشافعي إن صوف الميتة نجس وأن طهارة جلد الميتة بالدبغ لا تتعدى لطهارة الشعر، ومقتضى ما تقدم أنه يكفي التراب والرماد والملح وغير ذلك مما ينزع الفضلات. وفي النووي الشافعي ولا يكفي في الدبغ تيبيسه بالشمس خلافا للحنفية ولا التراب ولا الرماد ولا الملح على الأصح في الجميع، والأصح صحته بالأدوية النجسة والمتنجسة كذرق الحمام والشب المتنجس ثم يجب غسله بعد الدباغ اتفاقا ولا يفتقر الدبغ إلى كون الدابغ مسلما، ورد المص بلو قول يحيى بن سعيد: ما دبغ بد جلد الميتة من دقيق أو ملح أو قرظ فهو له طهور انتهى. وحكمة الدباغ إنما هي بأن يزيل عفونة الجلد ويهيئه للانتفاع به على الدوام فما أفاد ذلك جاز به، وفي الحديث (أيما إهاب دبغ فقد طهر)
(1)
، وقيدوه باستعماله في يابس وماء كما سيذكره المص، ورخص فيه يعني أن الإمام رضي الله عنه رخص في استعمال جلد الميتة مطلقا أي من مأكول اللحم وغيره إلا
(1)
الترمذي، كتاب اللباس، رقم الحديث: 1728 - النسائي، كتاب الفرع والعتيرة، رقم الحديث:4247.- ابن ماجه، كتاب اللباس، رقم الحديث 3609.
من خنزير يعني أن جلد الخنزير لم يرخص في استعماله، وهذا هو الذي مشى عليه ابن الحاجب وغيره، وذكر ابن العربي في أحكام القرآن أن المشهور من المذهب أن جلد الخنزير كغيره ينتفع به بعد دبغه، وإنما لم يرخص في جلد الخنزير لأن المذكاة لا تفيد فيه إجماعا فكذا الدباغ لا يفيد فيه على المشهور خلافا لما مر عن ابن العربي، وقوله: بعد دبغه متعلق برخص أي إنما يرخص في استعمال الجلد بعد دبغه لا قبله، وأما جلد الآدمي فلم يرخص فيه لشرفه كما يعلم من وجوب دفنه إجماعا فلا يحل سلخه ولا استعماله، وفي الإعلام وسئل ابن مرزوق عما حكي عن ابن حزم على منع سلخ جلد الآدمي واستعماله لما نهي عنه من المثلة فأجاب بأن ذلك ظاهر. أما الأول ففي غاية الوضوح، وأما الثاني فمعرة مثلته حيا كمعرة مثلته ميتا إما باعتبار قريبه الحي، وإما باعتبار روحه لما ورد أن الأرواح تتألم بما يصيب الأجسام، ولما ورد أن الميت يكره أن يرى منه ميتا ما يكره أن يرى منه حيا والمسلم والكافر في ذلك سواء، وحرمة المسلم أشد انتهى في يابس متعلق بقوله رخص يعني أنه يرخص في استعمال جلد الميتة المدبوغ في اليابسات كعدس وفول وحبوب وماء يعني أنه كما يرخص في استعمال جلد الميتة في اليابسات يرخص في استعماله أيضا في الماء لأن له قوة الدفع عن نفسه فيجوز استعماله في الماء ولو آنية لوضوء أو غسل أو يجعل قربة أو دلوا يستقى به، وقوله: في يابس فيغربل عليه ويجلس عليه، قال أبو محمد صالح ولا يطحن عليها لأنه يؤدي إلى أن تختلط أجزاء الميتة بالدقيق، ولا يؤاجر على طرح الميتة بجلدها لأنه لا يجوز بيعه، وكره مالك الاستقاء في جلد الميتة إذا دبغت في خاصة نفسه ولم يحرمه، ونص في العمدة والإرشاد على أنه يكره الوضوء على عظام الميتة وجلدها وإن دبغ، وفيها كراهة العاج يعني أنه وقع في المدونة كراهة العاج أي ناب الفيل إذا مات من غير تذكية، وقد مر له أن هذا نجس فأورد هذا استشكالا له لمخالفته لما تقدم، وتعقب ابن مرزوق على المص في هذا الاستشكال بأنه ذكر في المدونة ما يبين أن مراده بالكراهة التحريم فلا إشكال لأنه قال في الأمهات: أكره الادهان في عظم الفيل والامتشاط به والتجارة فيه لأنه ميتة انتهى. فقولها: لأنه ميتة دليل على أن المراد بالكراهة التحريم: واعتذر عن المؤلف بأن التعليل مذكور في الأم ولعله لم يذكر عند التهذيب، وحمل الكراهة على التنزيه ابن المواز وابن رشد وابن يونس قالوا: لأن ربيعة، وعروة،
وابن شهاب أجازوا الادهان والامتشاط فيها، وبهذا تعلم أن ما أجاب به عبد الباقي والخرشي من أن ما هنا في عاج الفيل المذكَّى وما مر في عاج الميتة غير صحيح لأن الفيل إذا ذكي لا كراهة في عظمه ولو كره أكل لحمه مع أن كلام المدونة إنما وقع في الميتة لا في المذكى، وأئمة المذهب كلهم على أن المراد بكراهة العاج في المدونة الميتة قاله الشيخ محمد بن الحسن؛ وهذا أول موضع أشار فيه للمدونة. وإذا ذكي الفيل جاز الانتفاع بعظامه وجلده من غير دبغ كجلود السباع إذا ذكيت: وإنما يكره أكل لحومها. وعلم مما تقدم أن محل الكراهة عند القائل بها إذا مات من غير تذكية: والصحيح التحريم، ووجه الكراهة أنه تعارض فيه ما يقتضي تنجيسه وهو كونه جزء ميتة، وما يقتضي الطهارة وهو عدم الاستقذار لأنه مما يتنافس في اتخاذه. وقيل إن صلق فهو طاهر وإلا فلا وليس هذا خاصا بالعاج بل عام فإن أنياب الفيل قرون منعكسة كما قاله اللخمي وغيره، وقد اختلف في القرن والعظم والظلف والسن فالمشهور أنها نجسة، وقال ابن وهب طاهرة بناء على أنها لا تحلها الحياة، وقيل بالفرق بين طرفها وأصلها. ابن عبد السلام وهذا إنما يتأتى في غير العظم وقد مر هذا، وفي الرسالة: وكره الانتفاع بأنياب الفيل. الجزولي لأنه لا دسم فيها ولا ودك، وقال الشيخ عبد الباقي وفي البرزلي عن أبي زيد فيمن توضأ على شاطئ نهر وفيه عظم ميتة غطاه الماء والطين؛ أي ثم ظهر فغسل رجله وجعلها على العظم ثم نقلها إلى ثيابه أن ثوبه لا يتنجس، قال البرزلي: إن كان العظم باليا فواضح، وإن كان فيه دسم ولحم فالصواب أن النجاسة تتعلق برجله إلا أن يوقن أن رطوبتها قد ذهبت جملة ولم يبق إلا رطوبة الماء فيكون كالعظم البالي انتهى. وقال الأمير: إن كراهة العاج من الفيل الميت هي الراجح لأنه لحق بالجواهر في النفاسة، وفيه أيضا أنه لا يضر نحو العجن به لعدم التحلل، والتوقف في الكيمخت يعني أنه وقع للإمام مالك في المدونة أنه توقف في الجواب عن حكم الكيمخت بفتح الكاف والميم وسكون التحتية والخاء المعجمة وبعدها مثناة فوقية، وهي جلد الحمار المدبوغ أو جلد البغل المدبوغ. عياض جلد الفرس وشبهه غير مذكى، ووجه التوقف أن القياس يقتضي نجاسته ولا سيما من جلد حمار ميت، وعمل السلف الصالح من صلاتهم بسيوفهم وهي فيه يقتضي طهارته، وأورد على كلام المص ما أورده هو في توضيحه على كلام ابن الحاجب مع أن ظاهره أنه استمر على
التوقف مع أنه قال في المدونة: وتركه أحب إلي، وقيل إن الراءي ابن القاسم والرواية ورأيت تركه أحب إليه، وفي الحطاب أن غير الكيمخت لا يسد مسده ولا يقوم مقامه فاختصت به الرخصة لنوع حاجة وضرورة، وعلى هذا فلا يعمل في الكيمخت بمقتضى الأصل المذكور؛ أعني النجاسة فإني لم أر من نقل فيه قولا ببطلان الصلاة به انتهى. قال عبد الباقي: أي في جعله في السيوف فلا ينافي نقل أحمد عن ابن حبيب الإعادة أبدا في غير السيوف، وإن كان غير معتمد قوله: ورأيت تركه أحب إليه أي السائل، ويحتمل رجوعه للإمام انتهى. وفي الكيمخت ثلاثة أقوال: الأول قوله في المدونة: تركه أحب إلي فيحتمل أن من صلى به يعيد في الوقت أو لا إعادة عليه، الثاني الجواز لمالك في العتبية، الثالث الجواز في السيوف خاصة لابن حبيب وابن المواز ابن حبيب فمن صلى به في غير السيوف كثيرا أو يسيرا أعاد أبدا، وكان السلف رضي الله عنهم يصلون بسيوفهم وهو فيها. واعلم أن المذهب في الكيمخت النجاسة وهو داخل في قوله: وجلد قاله الفيشى ومني يعني أن المني نجس، وهو بفتح الميم وكسر النون وآخره تحتية مشددة الماء الذي يتكون منه الولد، وهو نجس سواء كان رطبا أو يابسا من مباح الأكل أو غيره، واختلف في علة نجاسته فقيل لاستحالته لفساد ولاستقذاره قاله ابن بشير، وقيل لأصله لأن أصله دم وغيرته الشهوة وفيه نظر؛ إذ الأصل الذي هو الدم على هذا معفو عن دون الدرهم منه، وكان ينبغي أن يكون الفرع كذلك ولم يقولوه، وقيل علة نجاسته جريانه مجرى البول لكن يلزم على ذلك كون مني مباح الأكل طاهرا، وقد قالوا به إلا أنه خلاف المشهور قاله الشيخ إبراهيم ومذي يعني أن المذي نجس، وهو ماء أبيض رقيق يخرج عند الملاعبة أو التذكار وهو بفتح الميم وسكون الذال وتخفيف الياء وهي اللغة الجارية على ألسنة الفقهاء وبفتح الميم مع كسر الذال والياء مخففة أو مشددة، والمني والذي يشترك فيهما الرجل والمرأة، والمذي في المرأة أكثر، ومذيها بلة تعلو فرجها فإذا هاجت خرج منها قاله الحطاب، وفي الصحاح: كل ذكر يمذي وكل أنثى تقذي قذت الشاة أي ألقت بياضا من رحمها، وودي بفتح الواو وسكون الدال المهملة وتخفيف الياء وبكسر الدال مع تشديد الياء يعني أن الودي نجس، وهو ماء أبيض خاثر يخرج غالبا بأثر البول، وقد يخرج معه أو قبله أو وحده، وقد يكون عقب تعب أو برد، والمذي والودي نجسان ولو كانا من مباح
الأكل. ابن الفرات وقد اتفق الأصحاب على نجاسة مني الآدمي ما عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وغسل عائشة رضي الله عنها الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم تشريع، وقال المص: وغيره المني نجس ولا نعلم فيه خلافا، وحكى صاحب الإرشاد قولا في المذهب بطهارة مني الآدمي، وقالت الشافعية بطهارة مني الآدمي واختلفوا في مني غيره ولهم في جواز أكله قولان والراجح عندهم التحريم، وأما المذي والودي فقد نقل ابن شأس الإجماع على نجاستهما وتعقبه ابن دقيق العيد بنقل رواية عن أحمد بطهارة المذي والودي.
واعلم أن الكلام في غير فضلات الأنبياء وأما هي فطاهرة إجماعا، وفي كتاب الشيخ الأمير: فضلات الأنبياء طاهرة حتى بالنسبة لهم، واستنجاؤهم تشريع ولو قبل النبوءة وإن كان لا حكم إذ ذاك كالعصمة لاصطفائهم من أصل الخلقة، وفي شرح دلائل الخيرات للفاسي أن المني الذي خلق منه صلى الله عليه وسلم طاهر، واستظهر طهارة جميع ما كون منه أصوله صلى الله عليه وسلم وقيح يعني أن القيح نجس، وهو مدة بالكسر والتشديد لا يخالطها دم.
وصديد يعني أن الصديد نجس، وهو ماء جرح رقيق مختلط بدم قبل أن تغلظ المدة، وغير المختلط قيح كما مر، والمدة الغليظة التي يخالطها دم نجسة بالأولى، وأولى مراتب الجرح الدم ثم الصديد، ثم القيح من قاح يقيح، وقال القاضي عياض: ومن النجس الدماء كلها وما في معناها، وما تولد عنها من قيح وصديد من حي أو ميت، ويعفى عن يسيرها انتهى. ويدخل في ذلك ما يسيل من نفط النار من الماء، وما يسيل من نفطات في الجسد في أيام الحر ونحو ذلك ورطوبة فرت يعني أن رطوبة الفرج من النجس، ويدخل فيها كل مائع خرج من القبل أو الدبر وهذا في غير مباح الأكل، وأما رطوبة الفرج من مباح الأكل فطاهرة إلا ما تحيض عقب حيض كالناقة والأرنب، وإلا أن يتغذى بنجس فرطوبة فرجه نجسة كبوله، والمراد بالرطوبة هنا البلة، وتظهر ثمرة النجاسة في تنجس ذكر الواطئ، أو إدخال إصبع أو خرقة مثلا تتعلق بهما الرطوبة قاله الشبراخيتي، وقيل بطهارة رطوبة الفرج، وهذا في غير جنين المؤمنين الحي الذي يخرج وعليه رطوبة الفرج، وأما الرطوبة التي عليه فطاهرة إجماعا ما لم تكن دما، ومن نتف إبطيه يغسل يده، ابن رشد يستحب البساطي وغيره يجب لما تعلق بالشعر من النجاسة انتهى. قال الحطاب:
وهو ظاهر إن كانت أصول الشعر تصل ليده، ومثل ذلك من يتمخط في يده أو في ثوبه فيجد بالمخاط شعرا بأصوله فإنه ينجسه والله أعلم، وهذا إنما يكون في النجاسة التي يمكن تحللها ودم مسفوح يعني أن الدم المسفوح نجس، وقد قال جل من قائل {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} والدم المسفوح هو في غير ما يفتقر لذكاة كسمك ما انفصل عنه، وفيما يفتقر لها ما انفصل عندها أو قبلها بجرح ونحوه، وأما المنفصل بعدها من العروق فطاهر ويسمى غير مسفوح وأولى إن بقي في العروق قاله الشيخ عبد الباقي، وقال الشيخ إبراهيم عند قوله:"ودم مسفوح" أي جار عند وجود سببه من ذبح أو نحر، وقال عز الدين: يجب غسل محل المذكاة بالماء، وقال بعض الشيوخ: يجب أن يرفع أنف البهيمة ليخرج الدم المسفوح قاله الشيخ ميارة ولو من سمك يعني أن ما سال من السمك من الدم نجس، وأما قبل سيلانه من السمك فلا نجاسة ولا يؤمر بإخراجه ولا بأس بإلقائه في النار حيا كما قاله مالك في سماع ابن القاسم، وأما السمك الذي يملح ويجعل بعضه على بعض بحيث لا يخرج له دم يشربه بعضه فطاهر وإلا فنجس، وما ذكره المص في السمك هو المشهور ومقابله أنه طاهر مطلقا وهو قول القابسي واختاره ابن العربي فإنه قال لمالك فيها قولان، والصحيح أنه طاهر ومحل الخلاف إنما هو إذا سال وذباب يعني أن الدم الذي يسيل من الذباب نجس وهذا لا يعارض الحكم عليه بأنه لا نفس له سائلة لأن الدم فيه لا له، والذباب كغراب واحد الذبان بالكسر كغربان، وهو وإن كان دمه مسفوحا ليسارة دمه لا يقطع الصلاة منه إلا ما كثر، ولو قال المص وكذباب ليُدخِل البعوض والقراد والحلم ونحو ذلك لكان أشمل وسوداء يعني أن السوداء من النجس، وهي مائع أسود كالدم العبيط وكدر أو أحمر غير قانئ، والعبيط بالعين المهملة ولا يصح إعجامها لأن ذلك اسم للهودج، قال في المصباح دم عبيط طري خالص لا خلط فيه ورماد نجس يعني أن رماد النجس نجس واعتمد فيما جزم به من نجاسة الرماد على قول المازري أنه لا يطهر عند الجمهور من الأئمة، قال ابن مرزوق: وما كان حقه أن يفتي إلا بما اختاره التونسي واللخمي وابن رشد من طهارته، وأما كلام المازري فيحتمل أن يريد الأئمة من غير مذهبنا انتهى. قوله: ورماد نجس قاله الشيخ عبد الباقي، والمذهب طهارته ودخانه يعني أن دخان النجس من روث وعظم وغيرهما نجس فيتنجس الثوب إن علق به منه شيء، والظاهر أن
المراد بعلوقه ظهور أثره لا مجرد الرائحة فعلم من هذا أن الثوب لا يتنجس بمجرد ملاقاته لدخان النجس، وأما الطعام فإنه يتنجس منه ما انعكس فيه دخان النجس، ورخص في الزبل بمصر للضرورة ورعيا للقول بأن النار تطهر وأن رماد النجس طاهر، وللقول بطهارة زبل الخيل وللقول بكراهته منها ومن البغال والحمير، وعلى أن دخان النجس طاهر تصح الصلاة قبل غسل الفم من الخبز المخبوز بالروث النجس ولو تعلق به شيء من الرماد، قال الشيخ عبد الباقي: والمذهب أن دخان النجس طاهر كرماده انتهى. ونحوه في الأمير أن الراجح طهارته وهذا هو الذي اختاره ابن رشد، وقال الشيخ محمد بن الحسن: الذي في الحطاب أن ظاهر المذهب نجاسة دخان النجاسة وهو الذي اختاره الطخيخي والتونسي والمازري وأبو الحسن وابن عرفة، قال بعضهم: وهو المشهور انتهى. ويكفي هذا شاهدا للمص، وفي الحطاب بعد جلب نقول فتحصل من هذا أنه لا يوقد بالنجاسة لا على خبز، ولا على طعام، ولا على شراب، ولا لتسخين ماء فإن فعل ذلك ولم يصل من الرماد والدخان شيء إلى المطبوخ والمخبوز فهو طاهر، وإن وصل إليه شيء من الرماد فهو نجس أو من الدخان فنجس أيضا على ما مشى عليه المص خلافا لابن رشد، قال ابن عرفة اللخمي انعكاس دخان ميتة في ماء أو طعام ينجسه، وفي الحطاب: وأما إن كان ينعكس أي الدخان فإن الطعام لا يؤكل، والماء يتنجس انتهى.
وبول يعني أن البول من الآدمي نجس صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى أكل الطعام أم لا زالت رائحته أم لا لأن نجاسته لبوليته لا لتغيره، ولا وجه لا حكي عن ابن دقيق العيد شيخ ابن رشد من الخلاف في نجاسته إن زال تغيره ففيه قول بالطهارة قاله الشيخ الأمير والشيخ إبراهيم. قوله:"وبول" سواء كان كثيرا أو يسيرا يتطاير كرؤوس الإبر، وروي اغتفار ما تطاير كرؤوسها، وقال في مختصر ما ليس في المختصر: إلا بول من لم يأكل الطعام فإن الثوب لا يغسل منه (لقضية المرأة التي أتت بابن لها لم يأكل الطعام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبال في حجره فدعا صلى الله عليه وسلم بماء فنضحه ولم يغسله)
(1)
، وقال ابن وهب يغسل بول الصبية وينضح بول الصبي،
(1)
عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله. صحيح البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:223.
يريد لأن الصبي تميل النفوس إلى حمله بخلاف الصبية فروعي ذلك للمشقة قاله الشيخ إبراهيم، وفي الحديث (يغسل بول الأنثى وينضح بول الذكر)
(1)
أخرجه أبو داود، وهذا الحديث يقدح في قول الشارح إن وجه المشهور أن النضح في الحديث المتقدم محمول على إتباعه بالماء وهو طري فذهبت أجزاؤه بأجزاء النجاسة، وهو المقصود من التطهر إذ لو كان كذلك لا فرق بين بول الذكر وبول الأنثى في حديث أبي داود لكن قال محمد بن عبد الباقي: وأما أحاديث التفرقة بين بول الأنثى فيغسل وبول الصبي فينضح فليست بقوية وعلى صحتها فالمراد بالنضح الغسل، قال الطحاوي: وإنما فرق بينهما لأن بول الذكر يكون في موضع واحد لضيق مخرجه، وبول الجارية يتفرق لسعة مخرجه فأمر في بول الغلام بالنضح يريد صب الماء في موضع واحد، وأراد بغسل بول الجارية أن يتبع بالماء لأنه يقع في مواضع متفرقة، وقوله قي الحديث: فنضحه أي غسله، وذلك معروف في لسان العرب كما في حديث الذي (فلينضح فرجه)
(2)
أي ليغسله كما في مسلم
(3)
، وفي حديث أسماء في غسل الدم وانضحيه
(4)
، وقد جاء الرش، وأريد به الغسل كما في الصحيح عن ابن عباس لما حكى الوضوء النبوي قال:(أخذ غرفة من ماء ورش على رجله اليمنى حتى غسلها)
(5)
، وأراد بالرش هنا الصب قليلا قليلا، وقوله:"ولم يغسله" أي غسلا مبالغا فيه ويؤيده ما في مسلم (ولم يغسله غسلا)
(6)
، وأن معنى لم يغسله لم يعركه، وفي شرح الشيخ ميارة أن بول الآدمي نجس على المشهور، وقيل إلا بول من لا يأكل الطعام، وقيل من الذكور انتهى. والخلاف إنما هو في بوله، وأما عذرته فنجسة اتفاقا. واعلم أن العلماء اتفقوا على استواء الحكم في الصبي والصبية بعد أكل غير اللبن فلا بد من غسل بولهما بالإجماع انظر شرح الموطأ لمحمد بن عبد الباقي وعذرة يعني أن عذرة الآدمي وهي غائطه من النجس ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا أكل الطعام أم لا
(1)
إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر، أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، رقم الحديث 375.
(2)
الموطأ، ص 61. - أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 207 ولفظه: إذا وجد ذلك أحدكم فلينضح فرجه بالماء وليتوضأ وضوءه للصلاة.
(3)
كنت رجلا مذاء فكنت أستحي أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال يغسل ذكره ويتوضأ، مسلم، كتاب الحيض، الحديث:695.
(4)
الطبرانى الأوسط رقم الحديث: 9212. وفى الصحيح: (وتنضحه)، (ثم لتنضحه).
(5)
البخاري، كتاب الوضوء، الحديث:140.
(6)
مسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث:287.
مسلما أو كافرا، وقوله: من آدمي راجع للبول والعذرة، أي أن بول الآدمي وعذرته من النجس إلا من الأنبياء فجميع فضلاتهم طاهرة إجماعا كما تقدم.
واعلم أن الأرض تنشق وتبتلع ما يخرج منهم صلوات الله وسلامه عليهم، وشربت امرأة بوله صلى الله عليه وسلم فقال لها (لن تشتكي وجع بطنك أبدا)
(1)
، ومحرم يعني أن بول المحرم وعذرته من النجس كالخنزير والخيل والحمير، ويدخل في المحرم حمار الوحش إذا دجن فإنه لا يؤكل عند مالك: وأجازه ابن القاسم فعلى المشهور وهو قول مالك يختلف حكم رجيعه بتأنسه وتوحشه لا على قول ابن القاسم.
ومكروه يعني أن من أنواع النجس بول المكروه وعذرته، وتبع المص في المكروه قول ابن عطاء الله وابن هارون إن المشهور فيه النجاسة، ومقابله أن العذرة والبول من المكروه مكروهان فقط، وظاهر المواق ترجيحه ويدخل في المكروه الوطواط وكذا الفار الذي يصل للنجاسة وإلا كان مباحا كما للشيخ عبد الباقي، قال الشيخ محمد بن الحسن جعله من المكروه خلاف المشهور فقد ذكر في التوضيح وفي الحطاب في إباحة أكل الفار وكراهته ومنعه ثلاثة أقوال، وأن المشهور هو المنع وينجس كثير طعام مائع بنجس قل لما بين الأعيان الطاهرة والنجسة ذكر ما إذا حل أحدهما في الآخر، وقوله:"وينجس" يقال نجس كسمع وكرم. وأنجسه ونجسه فتنجس كما في القاموس يعني أن الطعام الكثير المائع يتنجس بالنجاسة القليلة حيث حلته وهو مائع ولو جمد بعد ذلك، ومثل النجس في ذلك المتنجس وهذا إذا كان كل منهما يتحلل منه شيء ولو ظنا لا شكا لأن الطعام لا يطرح بالشك، وقوله:"بنجس قل" ولو كان معفوا عنه بالنسبة للصلاة كدون درهم من دم ونحوه، ومفهوم كثير طعام أحروي، وكذا مفهوم قوله:"قل" وما ذكره المص هو المعروف من المذهب، وحكى المازري عن بعضهم أنه إذا لم يتغير الطعام لم يتنجس وهو في غاية الشذوذ، وفي العتبية قال مالك في الماء الكثير تقع فيه القطرة من البول أو الخمر إن ذلك لا ينجسه، والطعام والودك كذلك إلا أن يكون يسيرا ففهمها الباجي وغيره على خلاف المشهور، وأول ابن رشد الرواية
(1)
الشفاء للقاضي عياض. ج 1 ص 65.
المذكورة على أن المعنى أن القطرة من الطعام والودك لا تؤثر في الماء الكثير. قال وقوله: "إلا أن يكون يسيرا" أي يكون الماء قليلا يتغير بعض أوصافه فينجس بالنجاسة، وينضاف بالطعام قائلا لم يقل أحد إن يسير النجاسة لا ينجس الطعام إلا داوود ومن شذ عن الجمهور وخالف الأصول، قوله:"وينجس كثير طعام مائع" لا خصوصية للطعام بما ذكر بل هو حكم سائر المائعات حتى الماء المضاف كذلك فقوله كثير طعام مائع إنما خرج مخرج الغالب فإذا حلت النجاسة في الماء ولم تغيره ثم أصابه نحو لبن فطاهر، وإن تقدمت الإضافة فنجس قال الشيخ الأمير وقلت في ذلك:
قل للفقيه إمام العصر قد مزجت
…
ثلاثة بإناء واحد نسبوا
لها الطهارة حيث البعض قدم أو
…
إن قدم البعض فالتنجيس ما السبب
وقد نقل الحطاب عن ابن رشد في الدقيق تقع فيه القملة ولا تخرج من الغربال أنه إذا كان كثيرا يؤكل ولا يطرح بالشك، وقال الأمير: وهل القملة تنجس العجين الكثير؟ وهو الأقوى حيث لم تحصر في محل أو يقاس على محرم جهل عينها ببلدة فلا تحرم نساء تلك البلدة كما في الحطاب عن ابن رشد بخلاف اختلاطها بالعدد اليسير، قال المص عن شيخه: لو قيل بالعفو عما يعسر لحسن كما أفتى به ابن عرفة بأكل طعام طبخ فيه روث الفارة، وفي السؤال وهي كثيرة وروثها غالب. البرزلي للضرورة أو للخلاف في طهارتها. ابن القاسم من فرغ عشر قلال سمن في زقاق ثم وجد في قلة فارة ميتة لا يدري في أي الزقاق أفرضها تنجس الجميع، وليس من باب الطعام لا يطرح بالشك لأن ذلك في طرو النجاسة وهي هنا محققة، ولو أدخل يده في أواني زيت ثم وجد في الأولى فارة فالثلاث الأول نجسة. ابن عبد الحكم وكذا البواقي ولو مائة وهو وجيه، وقال أصبغ: ما بعد الثلاثة طاهر، قال الحطاب: والظاهر الطهارة إن ظن زوال النجاسة لقول المص: وإن زال عين النجاسة بغير المطلق لخ، قلت هذا مبني على عدم النجاسة بمجرد الملاقاة فتدبَّرْ انتهى كلام الأمير. وقوله:"وينجس كثير طعام مائع" الخ لا فرق بين أن يلاقي النجاسة مائعا كاللبن، أو جامدا ثم يصير مائعا كالدقيق يعجن كما في الشبراخيتي وغيره، وفي الحطاب علم مما تقدم عن ابن رشد؛ أي في مسألة القملة أنه إذا اختلط نجس بأشياء طاهرة غير مائعة ولم يعلم النجس أنه
لا يطرح الجميع لأجل الشك كما لو اختلطت تفاحة نجسة مثلا بتفاح انتهى. وقد مر عن الأمير أن تنجيس القملة للدقيق الذي عجن ولم تخرج منه هو الأقوى، وقال ابن ناجي في شرح قول المدونة: ومن أيقن أن نجاسة أصابت ثوبه لا يدري موضعها غسله كله وإن علم تلك الناحية غسلها قالوا: يقوم منها إذا وقعت قطعة من لحم خنزير في كدس لحم أنه إن علم تلك الناحية تركها وأكل ما بقي وإلا طرح كله انتهى. قال الحطاب: يمكن الجمع بينه وبين كلام ابن رشد بأن كلام ابن رشد فيما كان كثيرا جدا كما يظهر من كلامه، وفي الحطاب بعد جلب نقول فتحصل من هذا أن المشهور من المذهب أن ما ماتت فيه دابة، أو وقعت فيه ميتة، أو صب عليها وهي ميتة فإنه ينجس بمجرد ملاقاته ولا يقبل التطهير انتهى.
قال الشيخ محمد بن الحسن واعترضه الرماصي قائلا: ظاهر كلامهم أن المدار على إمكان التحلل والله أعلم، وما تقدم من أن الماء المضاف كالطعام المائع ينجس كثيرة بنجس قل خلاف ما نقله أحمد عن الناصر اللقاني أن الماء المضاف ليس كالطعام فإذا لاقته نجاسة ولم تغيره لم يتنجس انتهى.
كجامد يعني أن الطعام الجامد وهو الذي إذا أخذ منه شيء لا يتراد بسرعة إذا أصابته نجاسة فإنه يتنجس جميعه، وإنما يكون ذلك إن أمكن السريان أي إنما يتنجس جميعه إذا سرت النجاسة بجميعه تحقيقا أو ظنا، وأما الشك فلا يعتبر لأن الطعام لا يطرح بالشك، وبما قررت علم أن المراد بالإمكان الظن والتحقق لا ما يعطيه ظاهره من الشك والوهم والله سبحانه أعلم.
وإلا فبحسبه يعني أنه إذا لم يمكن سريان النجاسة بجميع الطعام الجامد بل سرت في بعضه لقلة مكثها فيه فإنه يطرح من ذلك الطعام بحسب أي بمقدار ما سرت النجاسة فيه تحقيقا أو ظنا، ويؤكل ما عداه، ولا عبرة بالشك فيباع ويؤكل ويبين عند البيع لاستقذار النفوس له، وسئل أبو جعفر عن صابون لا سائل ولا جامد وقعت فيه فارة هل يغسل به فقال: إن كان يميل إلى الجمود طرحت وما حولها، وإن كان يميل إلى الانحلال غسل به ثم يطهر الثوبُ قاله الحطاب، وإذا طرح من الجامد ما سرت النجاسة فيه فإن الباقي طاهر يؤكل كما مر ويباع ويبين عند البيع لأن النفوس تقذره.
واعلم أن معنى قولهم طرحت النجاسة وما حولها أي ما قاربها، وليس المراد ما التف عليها فقط لأنها إذا طرحت وحدها لا تطرح إلا بما يكنف عليها. واعلم أيضا أنه لا فرق بين كون النجاسة الواقعة في الجامد مائعة أو غير مائعة في أنه ينظر إلى إمكان السريان فلو وقعت نجاسة مائعة في عسل جامد ونحوه فإن أدركت في حال وقوعها فنزعت وما حولها لم يكن بباقيه بأس، وكذا لو وقعت قطرة من الدم في اللبن الجامد ورفعت بما حولها وتيقن أنه لم يبق لها أثر لم يكن بباقيه بأس بخلاف ما لو طال مقامها فيه بحيث يمكن سريانها في جميعه، ولو وقعت ريشة غير المذكى في طعام مائع طرح، وقد مر أن المدار على إمكان التحلل، وأفتى سحنون فيمن أتاهم من الفار في وقت الدراس ما لا يمكن الامتناع منه لكثرته أن هذا ضرورة، وإذا درسوا فليتقوا ما رأوا فيه جسد الفارة، وما رأوا فيه دما عزلوه وحرثوه وأكلوا ما سوى ذلك، ولهم بيع ما لم يروا فيه دما على البراءة أنه درس فيه فأرة، ويخرجون زكاته منه ولا يخرجون منه لغيره ويتصدق منه تطوعا، وما كان فيه الدم ظاهرا لا يباع ولكن يحرث، وأفتى ابن عرفة في هري زيتون وجدت فيه. فأرة ميتة بأنه نجس كله لا يقبل التطهير نقله البوزلي، قال: وكان يتقدم لنا أن الصواب في كل ما وجد فوق الفأر من الهري أنه طاهر وما تحته أنه يلقى وما حوله مما يقرب منه، ونقل عن اين أبي زيد أنه إذا مات في رأس مطمر خنزير ونحوه ألقي وما حوله وأكل ما بقي، ولو أقام مدة طويلة مما يظن أنه يسقى من صديده لم يؤكل.
ولا يطهر زيت خولط يعني أن المائعات من دهن ولبن وغيرهما إذا خالطتها نجاسة فإنها لا تقبل التطهير، وإنما نبه المص على الأدهان ردا لقول من قال إن الأدهان تطهر لأن الماء يخالطها ثم ينفصل عنها بخلاف غيرها فالخلاف إنما هو في الأدهان قاله الحطاب وغيره، وقال الشبراخيتي ورد المص على ابن اللباد القائل بتطهير الزيت، وكيفية ذلك عند القائل به أن يؤخذ إناء فيوضع فيه شيء من الزيت ويوضع عليه ماء أكثر منه ويثقب الإناء من أسفله ويسد بيد أو غيرها ويخض ثم يفتح فيزول الماء ويبقى الزيت يفعل ذلك مرة بعد مرة حتى يغلب على الظن زوال النجاسة. واعلم أن ما صبغ بصبغ نجس يقبل التطهير بأن يغسل حتى يزول طعمه ولو بقي لونه وريحه بدليل قوله الآتي: لا لون وريح عسرا قاله الشيخ عبد الباقي وغيره. وقوله: "ولا يطهر زيت
خولط" عللوه بأن الماء ينضاف بأول الملاقاة، والمضاف لا يزيل حكم النجاسة على المشهور، وقوله: "خولط" بالواو ولم يقل خلط بدونها ليشمل ما إذا كان الخلط بفعل فاعل أم لا قاله الشيخ إبراهيم، وهو ظاهر لأنك تقول خالط الشيءُ الشيءَ، وتقول خلطت الشيء بغيره والله سبحانه أعلم. ونقل الحطاب في زيت خولط بنجس أربعة أقوال ونصه ففي تطهيره بطبخه بماء مرتين أو ثلاثا ثالثها إن كثر ورابعها إن تنجس بما ماتت فيه دابة لا بموتها في الزيت الأول لسماع أصبغ من ابن القاسم عن مالك وفتيا ابن اللباد، والثاني للباجي عن ابن القاسم، والثالث لأصبغ، والرابع لابن الماجشون. والذي ينبغي أن محل هذه الأقوال إذا لم تكن النجاسة دهنية وإلا فلا يقبل التطهير لممازجتها له والله أعلم انتهى كلام الحطاب ولحم طبخ يعني أن اللحم إذا طبخ بنجس فإنه لا يقبل التطهير، ومثل طبخ اللحم بالنجس طول مقامه به حتى يتشربه فإن لم يتشربه غسل وأكل، وليس من المطبوخ بالنجاسة الدجاج المذبوح يوضع في الماء الحار لإخراج ريشه، وصور رأسه أي منقاره من غير غسل المذبح لأن هذا ليس بطبخ حتى تدخل النجاسة في أعماقه بل يغسل ويؤكل، وربما أشعر قول المص طبخ بأنه إذا شوي اللحم وفيه دم أنه لا ينجس وهو كذلك قاله الشيخ عبد الباقي، وفي النوادر ولو شوط الرأس والحال أنه لم يغسل المذبح، ثم غسل بعد فلا بأس به ولو لم يغسل وتناهت النار فيه حتى أذهبت الدم فلا بأس بأكله، وإن شك في ذهابه بالتشويط اجتنب لحم المذبح وأكل باقيه انتهى.
وفي البرزلي عن بعضهم في الرأس يشوط بدمه ثلاثة أقوال: فعن ابن أبي زيد أنه لا يقبل النجاسة لأن الدم إذا خرج استحال رجوعه عادة، وعن غيره أنه يقبلها ولا يقبل التطهير، والثالث أنه يقبلها ويقبل التطهير انتهى. وأشار بالأول لما قدمته عن النوادر وهو المعتمد دون ما اقتصر عليه في المدخل أنه لا يقبل التطهير وأنه من قبيل ما طبخ بالنجاسة انتهى. وأفتى الأجهوري بأكل لحم غسل دمه بماء مضاف وشوي قال لأن زواله بالماء المضاف كزواله بالنار بل أقوى، وفيه نظر لأن الراجح أن الماء المضاف لا يرفع حكم الخبث وقياسه على النار غير صحيح لأن النار تُذهِبُ الدمَ ومحلَّه معا بخلاف الماء المضاف، وسيأتي أن المباح طعام طاهر قاله الشيخ محمد بن الحسن، وسئل ابن عرفة عمن جعل دباء أو بقلا في ماء ثم وجد فيه فأرة فأجاب بأنه يغسله
ويأكله نقله المشدالي قاله الشيخ عبد الباقي، وقوله ولحم طبخ بنجس شامل لماء نجس، ولا وقعت فيه نجاسة حال طبخه، وكذلك غير اللحم من المطبوخات قاله الحطاب، وفي تطهير اللحم يطبخ بماء نجس، أو بما وقعت فيه نجاسة ثالثها إن وقعت فيه بعد طيبه، الأول لسماع موسى عن ابن القاسم. والثاني لسماع أشهب، والثالث نقله عبد الحق والصقلي عن السليمانية، ونقله ابن رشد عن أبي حنيفة واختاره، قال الشيخ الحطاب كلام ابن رشد هو الذي يفهم من كلام المص فيتعين حمله عليه، وفيه بعد جلب أنقال فعلم من هذا أن اللحم ونحوه مما فيه رطوبة إذا أصابته نجاسة قبل طبخة أو بعده ولم يطبخ أنه يغسل ويؤكل وهو ظاهر إذا لم يتشربها، وتسر فيه وإلا لم يؤكل قاله الشبراخيتي، ولو بل حب ونحوه بماء نجس وتشربه فلا إشكال أنه كالميتة لا يحل منه إلا ما يحل منها، وأما إذا بل الحب ونحوه ولم يتشرب النجاسة فالظاهر أنه يطهر بغسله، وقال أبو محمد في القمح يصيب ظاهره الدم يغسل ويؤكل وليس كالقمح إذا تشرب بالماء النجس انتهى.
وزيتون ملح يعني أن الزيتون إذا ملح بنجس فإنه لا يقبل التطهير، وقوله:"ملح" بتخفيف اللام وشدها أي وضع فيه ملح إما وحده أو مع ماء نجس وهذا إذا وضع فيه قبل نضجه، وأما لو أنضج بالنار ثم ملح بعد ذلك وغسل فإنه يقبل التطهير كما أن اللحم إذا وقعت فيه النجاسة بعد طبخه فإنه يؤكل بعد أن يغسل ما تعلق به من المرق كما مر مستوفى قريبا. النووي: ولو أكلت الدابة حبا فألقته صحيحا فإن كانت صلابته باقية ينبت إن زرع فطاهر العين فيجب غسله، وإن كان لا ينبت فنجس العين انتهى. قال المشدالي لا إشكال على المذهب في نجاسته إن كانت محرمة الأكل ولو صحيحا انتهى. وإن وقعت النجاسة في الجبن بعدما تحولم أي غلظ واشتد وأخرجت سريعا فإنه يقبل التطهير وإلا فلا لأن مقامها بشيء حتى يتشربها كطبخه بها، وقوله:"وزيتون ملح" قال الشيخ محمد بن الحسن تقييده بملح هو الموافق للنقل، لكن تخالفه فتوى ابن عرفة في هري زيتون وجدت فيه فأرة بطرحه كله وعدم تطهيره إلا أن يجاب بحمل ما لابن عرفة على ما وقع فيه طول مقام الفأرة في الزيتون وأن ذلك يقوم مقام التمليح، وأفتى الغبريني فيمن ابتلع شمعة فيها دهن ثم ألقاها من المخرج بطهارتها بالغسل كالنواة والحصاة،
وأفتى ابن عرفة بنجاسة الشمعة لانمياعها بالحرارة فينجس باطنها كظاهرها، قال البرزلي: والصواب نجاستها كفضلة الإنسان، وظاهر كلام البرزلي أن ابن عرفة يوافق على أن النواة والحصاة والذهب تغسل وتكون طاهرة ولو ابتلع ذلك ما فضلته طاهرة لم يحتج إلى غسله، ولا مفهوم لقوله:"زيتون" بل مثله الليمون، والنارنج، والبصل، والجزر، واللفت، وبيض صلق يعني أن البيض إذا صلق أي طبخ بنجس فإنه لا يقبل التطهير: وقوله صلق بالصاد ويقال بالسين أيضا وظاهر المص شمول بيض النعام وهو ظاهر لأن غلظ قشره لا ينافي أن يكون له مسام يسري منها الماء النجس. وفهم من قوله: "صلق". أن البيض لو ألقي في ماء نجس بارد أو دم أو بول فإنه يغسل ويؤكل وهو كذلك كما قاله ابن رشد، وإنما أفرد المص هذه المسألة وإن كانت من باب اللحم المطبوخ بالنجس لأن الخلاف فيها لأجل قشرها هل يمنع من وصول الماء النجس أم لا، وموضوع المص أن البيض صلق بنجس أو متنجس أو كان في البيض مذرة ورشحت في الماء حيث لم يبق مطلقا كما لو غيره البيض وشرب منه، وأما الماء الذي خالطته نجاسة ولم تغيره فإنه طهور ولو قل كما مر وقوله بنجس يتنازعه الأفعال الأربعة؛ أعني خولط، وطبخ، وملح، وصلق، ولفظ الأمير:"ولا يطهر ممازج النجاسةَ"، وقوله:"ولا يطهر زيت خولط" لخ لما ذكر قوله: "وينجس كثير طعام مائع "أتى بهذا ليبين أنه إذا تنجس لا يقبل التطهير، وأتى به ردا على المقابل فرد بالأول على ابن اللباد كما مر، ورد بالثاني القول بأن المطبوخ بنجس يقبل التطهير وقد مر، ورد بالثالث القول بأن الزيتون المملح بنجس يقبل التطهير، وأما الرابع فإنه اختلف فيه هل ينجس ولا يقبل التطهير، أو لا ينجس لأن قشره يحصنه وفخار بغواص يعني أن آنية الفخار بتشديد الخاء أي الطين إذا غاصت فيها النجاسة لا تقبل التطهير، والغواص من أبنية المبالغة؛ أي إن النجاسة إذا دخلت في أجزاء الإناء كبول أو خمر أقام في الإناء مدة يغلب على الظن أن النجاسة سرت في جميع أجزائه فإنه لا يقبل التطهير فلو أحميت آنية الفخار ثم أطفئت بنجس فإنها لا تطهر بخلاف النحاس: والذهب والفضة، والرصاص، والزجاج فإنها إذا أحميت ثم أطفئت بنجس فإنها تطهر بغسلها خلافا لقول ابن فرحون: هي كالفخار، ومثل النحاس وما في حكمه الفخار البالي، وإذا كان الإناء مملوا ماء وأصابت النجاسة ظاهره لم يتنجس الماء، ويكفي غسل
ظاهره ولو أقعدت قلة مملوءة ماء على عذرة رطبة لم يتنجس الماء لأن شأنه الرشح إلى أسفل، وتطهر قدور المجوس المطبوخ فيها الميتة بغلي الماء فيها كما في الحديث
(1)
فخرجت عن الأصل بالسنة، ومثل الفخار الطوب المحروق بنجس بناء على ما قدمه المص في رماد النجس، ولو طلي الفخار بما يمنع الغوص قَبلَ التطهيرَ، ولو أزيلت النجاسة عن الفخار في الحال وغسلت فالظاهر أنه يطهر. وعلم مما تقدم أن اللحم ونحوه مما فيه رطوبة إذا أصابته نجاسة بعد الطبخ أو قبله ولم يطبخ بها أنه يغسل ويؤكل وهو ظاهر إذا لم يتشربها، وإلا لم يؤكل كما مر والله أعلم. ثم إن عدم قبول الإناء التطهير إنما هو باعتبار الصلاة، وأما الطعام يوضع فيه فإنه لا ينجس لأنه لم تكن فيه أجزاء النجاسة، والمنصوص أن أواني الخمر وزقاقها يجوز استعمالها بعد غسلها وتنظيفها ولا بأس بحمل الطعام في الإناء العد للنجاسة قبل استعماله فيها إن كان لضرورة وإلا فلا ينبغي، وما يعاف في العادات يكره في العبادات كالأواني المعدة بصورها للنجاسات والصلاة في المراحيض الطاهرة والوضوء بالمستعمل، وللشافعية لا يجوز وضع مصحف على نعل نظيف لم يلبس، وقال العز يمنع من عمل حرفة خسيسة في المسجد كخياطة نعل.
وينتفع بمتنجس يعني أن الشئ الطاهر إذا تنجس فانه يجوز أن ينتفع له سواء كان لا يقبل التطهير كزيت تنجس أو يقبله على ما سنبينه إن شاء الله، وظاهر المص يشمل البيع وهو قول ابن وهب إنه يجوز، وترك المص التنبيه على ما في ذلك اعتمادا على ما في البيع لا نجس يعني أن الشيء الذي نجاسته ذاتية كالبول والخمر والميتة ونحوها لا يجوز الانتفاع به إلا جلد ميتة مدبوغ غير خنزير فيجوز لبسه كما صرح به الشارح عند قول المص: وعلى طرح ميتة، ويدخل في قوله هنا في يابس، وإلا إطعام ميتة لكلابه بإشلائها عليها اتفاقا، وكذا بحملها على المعروف من قول مالك وأصحابه خلافا لاقتصار الشارح على منع حملها لها، وإلا فتح بالوعة أو طفي نار بنجس غير خمر، وكذا به إن قصد إراقته فقط أو مع فتح البالوعة أو طفي النار لا إن قصد
(1)
المستدرك، كتاب الأطعمة، ج 4 ص 124. ولفظه: سمعت ابن عباس يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ذكاة كل مسك دباغه فقلت له إنا نسافر مع هذه الأعاجم ومعهم قدور يطبخون فيها الميتة ولحم الخنزير فقال ما كان من فخار فأغلوا فيها الماء ثم اغسلوها وما كان من النحاس فاغسلوه فالماء طهور لكل شيء.
فتحها فقط أو طفيها فقط لأنه انتفاع به وهو حرام، وتجب إراقته، وإلا استعمالها لإساغة أو إكراه فيجوز كما يأتي للمص، وإلا وقود عظم ميتة على طوب أو حجارة جير فيجوز، وإلا جعل عذرة بماء لسقي زرع، وإلا تخليص فضة بعظام ميتة وتبخرا بلحوم سباع غير مذكاة إذا لم يعلق دخانها بثيابه فيجوز. ابن القاسم وإن كان يعلق فلا يعجبني، وإلا شحم ميتة لدهن رحاة أو ساقية فيجوز: وإلا صيدا بنجس غير خمر فيجوز وبه يحرم فتستثنى تلك الأمور التسعة من قوله: "لا نجس" قال جميعه الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمد بن الحسن قوله: "وإلا فتح بالوعة" قال في القاموس البالوعة والبلاعة والبلوعة مشددين بئر يحفر ضيق الرأس يجري فيها ماء المطر ونحوه، وقوله:"وإلا جعل عذرة بماء لسقي زرع" الخ هذا من المتنجس لا من النجس فلا يحتاج لاستثنائه انتهى. وفيما قاله نظر فإن العذرة من النجس ويعمد جعلها في الماء الذي يسقى به فلابد من التنبيه على ذلك والله أعلم. قال الشيخ محمد بن الحسن: قوله وإلا شحم ميتة لدهن رحى أو ساقية الخ هذا يرد بما في المواق عن ابن عرفة ونصه تخريجُ اللخمي على جواز الانتفاع بمتنجس طلي السفن بشحم الميتة فاسدُ الوضع (للحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك)
(1)
انتهى وقال عياض في الإكمال ما نصه وأما شحم الميتة فالجمهور على أنه لا يتنفع من الميتة بشيء البتة لأنها نجسة العين بخلاف لما تطرأ عليه النجاسة، ولعموم النهي عن الانتفاع بالميتة إلا ما خصصته السنة من الجلد، وأجاز عطاء الاستصباح بشحم الميتة انتهى. وأن تطلى به السفن ونحوه في النوادر عن ابن الجهم والأبهري نقله الأبي، وقال ولا بأس بوقيده إذا تحفظ منه وقولهما هذا هو مقابل الأشهر في قول ابن الحاجب، ولا يستعمل شحم الميتة والعذرة على الأشهر، وفي المدونة: وصلاة الرجل وأمامه جدار مرحاض وموضعه طاهر جائزة. سند: من انكسر عظمه فجبره بعظم ميتة لا يجب عليه كسره خلافا للشافعي: ووجه المذهب أن في إخراجه حرجا وإفساد لحم فسقطت إزالته كما إذا كان على الجرح قيح ودم ولا يمكن غسله إلا بإفساد اللحم، وسلم الشافعي أنه إذا مات لا ينزع منه في غير مسجد متعلق
(1)
إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال لا هو حرام. البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث:2236.
بقوله: "وينتفع" فهو بيان لوجه الانتفاع بالمتنجس، يعني أن الشيء المتنجس إنما يباح الانتفاع به في غير المسجد فلا يبنى بالطين المتنجس اتفاقا لكن لو بنيت حيطانه بماء متنجس فإنه يصلَّى فيه ولا يهدم على الصحيح، ولا يستصبح بالمتنجس في المسجد إلا إن كان خارجه والضوء فيه، وفي الإعلام: وسئل ابن رشد عن مسجد بني بماء نجس هل يهدم أو يطين بطين طاهر فأجاب هذا الثاني هو الذي لا يصح غيره، والصواب غسل أوراق مصحف كتب بدواة وتبين بعد الفراغ أنه كان بها فأرة ميتة منذ بدئ حيث أمكن ذلك، وإن لم يمكن فقال بعضهم الواجب أن لا يقرأ فيه بل يدفن، وقال البرزلي لا يتحتم دفنه بل إن أراد محاه، ويدفنه في موضع طاهر أو يحرقه كما فعل عثمان رضي الله عنه، وقال بعضهم ينتفع به كذلك. كما أجيز لبس الثوب المتنجس في غير الصلاة وذكر الله طاهر لا يدركه شيء من الواقعات فإن لم يتيقن أن الفأرة فيه من الابتداء حمل على الطهارة، وفي الإعلام: وسئل بعضهم عمن كتب مصحفا ثم وجد فأرة ميتة في الدواة فأجاب إنما تحقق وجود ذلك قبل الكتب حفر له في الأرض ودفنه، ولا يقرأ فيه وإلا حمل على الطهارة، وفيه أيضا: وسئل الشاطبي عن كتاب أو مصحف تحل فيه نجاسة فأجاب: إن كان مما يعتمد عليه أو ليس ثم نسخة سواه أزيل ما قدر عليه من النجاسة ولا عبرة بالباقي كما فعل بمصحف عثمان الذي أصابه الدم وإلا غسل ما وصلته ويتلافى ما يتلف بغسله من غيره انتهى.
وآدمي عطف على قوله مسجد، يعني أن المتنجس إنما يباح الانتفاع به في غير المسجد كما تقدم وفي غير أكل الآدمي وشربه، وأما أكل الآدمي أو شربه للمتنجس فلا يحل كما لا يحل الانتفاع به في المسجد فتدهن به الدلاء ويعلف للدواب، وسواء في ذلك ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل، ويجوز الاستصباح بالزيت، وعمله صابونا، والعسل المتنجس للنحل، ولبس الثوب المتنجس، والنوم إلا في حالة يعرق فيه فيكره إلى غير ذلك، وما ذكره المص هو المشهور ومقابله عدم جواز ذلك كله وهو قول ابن الماجشون، ولا يدخل في قوله:"وينتفع بمتنجس" البيع لما سيذكره، وأجاز ابن وهب بيعه إذا بين ذلك قوله:"لا نجس " يقتضي المنع من الانتفاع بالنجس مطلقا أما أكله والتداوي به في باطن الجسد أي الجوف فمتفق على تحريمه، وصرح بذلك ابن ناجي والجزولي وغيرهما، وحكى الزناتي فيما إذا استهلكت الخمر في دواء بالطبخ أو بالتركيب حتى تذهب
عينها وتموت ريحها، وقضت التجربة بإنجاح ذلك الدواء قولين بالجواز والمنع، قال: وإن لم تقض التجربة بإنجاحه لم يجز باتفاق انتهى. والظاهر المنع مطلقا قاله الحطاب. وأما التداوي بالخمر والنجس في ظاهر الجسد ففيه قولان والمشهور المنع، ومن هذا المعنى غسل القرحة بالبول إذا أنقاها بعد ذلك بالماء. ابن الحاجب والصحيح لا يجوز التداوي بما فيه خمر ولا بنجس. ابن عبد السلام وأجاز مالك لمن عثر أن يبول على عثرته، الباجي وغيره إنما هذا الخلاف في ظاهر الجسد يعني ويمتنع في الباطن اتفاقا وفي المقدمات ولا يجوز التداوي بشرب الخمر ولا بشرب شيء من النجاسات، وأما التداوي بذلك بغير شرب فمكروه بالخمر ومباح بالنجاسة ولم يحك في ذلك خلافا. وحكى الجزولي في ذلك ثلاثة أقوال: الجواز مطلقا، والمنع مطلقا، والتفصيل بين الخمر وغيرها، والمشهور أنه لا يجوز استعمال شحم الميتة في الوقود ولا طلي السفن ولا غير ذلك، وقال الأبهري وابن الجهم لا بأس أن يوقد بشحم الميتة إذا تحفظ منه. ويجوز التداوي بشرب بول الأنعام بلا خلاف، وكذلك بول كل ما يباح لحمه: وتقدم أن الألبان تابعة للحوم لكن قال ابن رشد عن مالك إنه لا بأس بالتداوي بلبن الأتن مراعاة للخلاف في جواز أكلها حكي ذلك عن ابن حبيب عن مالك وسعيد بن المسيب والقاسم وعطاء، وروي إباحة التداوي بها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى إجازة ذلك ذهب ابن الماجشون، وأبوالها نجسة لا يحل التداوي بشربها قال الجزولي: وكذلك الخيل والبغال، قال ومن أجاز أكلها يجيز ذلك وكذلك لبنها. سند من سقطت سنة فالظاهر أنه لا يجوز له ردها على القول بأن الإنسان ينجس بالموت لأنه عظم نجس كسن الكلب والخنزير وغيره وهو قول الشافعي، وأجازه أبو حنيفة وهو مقتضى مذهب ابن وهب من أصحاب مالك ومذهب ابن المواز وفي البرزلي إذا قلع الضرس وربط لا تجوز الصلاة به فإن رده والتحم جازت الصلاة به للضرورة.
واعلم أن من أجاز استعمال النجاسة في ظاهر الجسد فذلك إذا كان يمكن إزالتها قبل خروج وقت الصلاة، وأما إذا أدى إلى الصلاة بالنجاسة فلا فإن استعملها وجب عليه غسلها قاله الحطاب، ولا يصلَّى بلباس كافر يعني أنه تحرم الصلاة بلباس الكافر ذكرا أو أنثى كتابيا أو غيره ذميا أو حربيا كان اللباس ثوبا أو خفا باشر جسده أم لا ولو لكرأسه، فقوله:"ولا يصلى" أي تحريما كما
قررنا ورجح بعضهم الكراهة ولو أسلم هو لم يصل في ثيابه حتى يغسلها على أحد قولين، والآخر أنه لا يغسل إلا ما علم فيه نجاسة، ومثل الكافر شارب الخمر ولا يقيد بظن نجاسته لأنه إذا حصل ظن النجاسة فلا خصوصية لشارب الخمر قاله الشيخ محمد بن الحسن، وأفتى البرزلي بأن ما تحقق أن الكافر أدخله في فيه لا يصلَّى به حتى يغسله لنجاسة ريقه، وإذا أيقن الكافر الذي أسلم بطهارة ثيابه فالاختلاف في وجوب غسلها يجوي على الاختلاف في طهارة عرق النصراني والمجوسي بخلاف نسجه يعني أن منسوج الكافر ولو مجوسيا يصلَّى به، أما من تؤكل ذبيحته فبإجماع، والمجوسي مثله عندنا، وكذا سائر صنائعه يحمل فيها على الطهارة وسواء في ذلك ما صنعه لنفسه أو غيره، وقوله:"بخلاف نسجه" مصدر بمعنى اسم الفعول أي منسوجه قاله الشبراخيتي وهذا صريح أو كالصريح في أنه بفتح النون، وصرح بذلك السجلماسي عند قول البوصيري: وكفته بنسجها الخ فإنه قال: النسج بفتح النون وبالجيم مصدر نسج كضرب بمعنى المفعول أي المنسوج، والحاصل أن ما عمله الصناع كالخياط والخراز ونحو ذلك محمول على الطهارة كالمنسوج كافرا أو مسلما مصليا كان أو غير مصل لأن الغالب على الصناع التحفظ على أعمالهم، وكذلك المرأة النساجة وهي تربي ولدها، والحالبة للبن، والماخضة له، والجامعة للزبد من القربة، والساقية للماء، والخادمة للطعام، والمغربلة له كل ذلك محمول على الطهارة حتى يظهر خلاف ذلك ويتحقق، وصرح القرافي بأن جميع ما يصنعه أهل الكتاب والمسلمون الذين يصلون ولا يستنجون ولا يتحرزون من النجاسات من الأطعمة وغيرها محمول على الطهارة وإن كان الغالب عليه النجاسة، وإذا علا الكلب ثوبا أو فراشا لم يتنجس، ولا بأس بالصلاة بجلود الثعالب والنمور إذا كان ذكيا، وفي الإعلام أن الكاغد الرومي مقتضى نصوص المالكية أنه لم يتفق على طهارته فلا أقل من أن يكون النسخ فيه مختلفا في كراهته وجوازه ولا بما ينام فيه مصل آخر يعني أنك لا تصلي بثوب ينام فيه مصل غيرك؛ أي لا يجوز لك ذلك وهذا إذا كان معدا للنوم غير محتاط في طهارته، وإلا صلي به فلا يرد أن الشخص الذي ينام على فراش وله ثوب للنوم أن فراشه طاهر مع أنه مما ينام فيه مصل آخر لأنه لم يعده للنوم غير محتاط في طهارته ومحل المص أيضا حيث جهلت طهارته، وأما إن أخبر صاحبه بطهارته وهو مصل ثقة فلا ينبغي
أن يختلف في جواز الصلاة به، وفي كلام ابن مرزوق إشارة إلى ذلك، وقد سمعت الوالد حفظه الله يذكر عن بعض شيوخه أنه يحمل كلام المصنف على ما ذكرنا والله أعلم قاله الحطاب. والظاهر أنه لا يقيد هذا بما إذا بين وجها أو اتفقا مذهبا لأن الأصل الطهارة قاله الشيخ محمد بن الحسن رادا على الشيخ عبد الباقي، وأشعر قول المص:"آخر" أن صلاته هو فيه لا تمنع، وفيه نظر إذا كان معدا للنوم قاله الش، ولا نظر إن كان متحفظا نقله الشبراخيتي، ولا بثياب غير مصل يعني أنه لا تجوز الصلاة بثياب من لا تصلي أصلا أو غالبا يريد وهو مسلم وذلك يختلف باختلاف البلاد فنساء بعض البلدان لا تصلي غالبا: وأما نساء الحجاز فيصلين إلا أن الغالب عليهن الجهل بالاستبراء إلا أن يعلم أن الثوب لعالمة به إلا كرأسه راجع للفرعين قبله أعني قوله ولا بما ينام فيه مصل آخر، وقوله:"ولا بثياب غير مصل" يعني أن ما لا تلحقه النجاسة عادة من لباس المسلم غير المصلي، واللباس الذي ينام فيه مصل آخر لا تمنع الصلاة به بل تجوز وذلك كالعمامة والقلنسوة، قوله:"إلا كرأسه" يقرأ بالكاد وباللام قاله الشبراخيتي، أي يقرأ بإلا كرأسه وهي نسخة الشيخ عبد الباقي، ويقرأ بإلا لرأسه وهي نسخة الشيخ الحطاب والله أعلم، وقوله:"إلا كرأسه" بحث فيه ابن مرزوق فقال فيه نظر لا يخفى لأنهم إنما منعوا الصلاة بما ينام فيه مصل آخر من أجل الشك في نجاسته، والشك في نجاسة ثوب غير المصلي أقوى بكثير؛ لأن من لا يتحفظ من النجاسة لا يبالي من أين تصل إليه ولا بمحاذي فرج غير عالم يعني أن الثوب المحاذي أي المقابل لفرج من لا يعلم باب الاستبراء وأحكام الطهارة لا تجوز الصلاة به سواء كان الثوب مباشرا للفرج كالسراويل، أو بينه وبينه واسطة إلا أن يغلب على الظن عدم وصول النجاسة لغير المباشر، وأما العالم بالاستبراء وأحكام الطهارة فيصلى بمحاذي فرجه، وهل يقيد باتفاق المذهب أولا يقيد؟ الظاهر الأول لطهارة المني عند الشافعي رضي الله عنه قاله الشيخ عبد الباقي. سند من اشترى من مسلم مجهول الحال أي لا يعلم هل يصلي أولا يحمل على السلامة فإن شك تصح، فإن علم أنه ممن يصلي أو لا يصلي فالحكم ظاهر، وقوله:"فرج غير عالم" قال في التوضيح المراد بالفرج القبل والدبر أصله لابن هارون قاله الحطاب وقد علم أن معنى قوله غير عالم أي بحكم الاستبراء وكذا كل من ولي أمرا في الشريعة فإنما يطلب منه العلم بذلك فقط، قال
ابن عرفة قال ابن العربي: ثوب الصبي عندهم نجس والصواب عندي إن استقل بغسل حدثه فهو نجس، وقبله طاهر لأن حاضنته تطهره ودليله حمله عليه الصلاة والسلام لأمامة في الصلاة، وفي كلام سند أن ثيابهم تحمل على النجاسة، وقال ابن ناجي ثياب الصبي محمولة على النجاسة حتى تتيقن الطهارة على الصحيح، وقال البوني بالعكس على ظاهر حديث أمامة، ونقل في شرحه الكبير القولين من غير ترجيح، قال وقيل إن أمها كانت تنظفها لأجله صلى الله عليه وسلم. وقال عياض في شرح حديث أمامة: فيه من الفقه أن ثياب الصبيان وأبدانهم محمولة على الطهارة حتى تتحقق النجاسة. الأبي حمل ثياب الصبيان على الطهارة إنما هو في صبيان علمت أهاليهم بالتحفظ من النجاسة. القرافي ثياب الصبيان الغالب عليها النجاسة والنادر سلامتها وقد جاءت السنة بصلاته صلى الله عليه وسلم بأمامة يحملها
(1)
إلغاء لحكم الغالب وإثباتا لحكم النادر لطفا بالعباد انتهى. والظاهر ما قاله ابن العربي وابن ناجي وهو الذي يؤخذ من كلام الشيخ أبي الحسن الصغير قاله الحطاب، واستشكل هذا الحديث بأنه فيه فعل كثير لأنه صلى الله عليه وسلم (كان إذا سجد وضعها وإذا قام حملها)
(2)
، وأجاب الإمام النووي بأن الأفعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت انظر الزرقاني على الموطإ، ومَنِ الغالب على صنعته النجاسة كالمرضعة والجزار والكناف الظاهر من كلامهم أن ثيابهم محمولة على النجاسة حتى تتحقق الطهارة ولذا استحبوا أن يكون لهم ثوب للصلاة كما يأتي، والثياب التي يحكم لها بالنجاسة حكمها حكم الثوب المحقق النجاسة فمن اشتراه غير عالم بذلك له رده إن كان جديدا مطلقا: وإن كان لبيسا فإنما يكون له الرد إن كان يفسده الغسل، وسئل ابن أبي زيد عمن اشترى ثوبا لبيسا من نصراني فقيل له: لا تحل لك الصلاة فيه حتى تغسله فقال لا أعلم بذلك فأنا أرده فقال إن كان لم يعلم أنه لبيس نصراني رده، وإن علم وجهل أنه لا يصلَّى به إلا بعد الغسل فلا
(1)
عن أبى قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها. البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، رقم الحديث:516.
(2)
البخاري في صحيحه، رقم الحديث:516.
رد له، وقال سند ذلك يختلف بما ينقصه الغسل فهو عيب ولو من المسلم وما لا فلا انتهى قاله الحطاب.
ولما ذكر أنواع الطاهر والمتنجس والنجس وذكر ما يحرم استعماله من الأخيرين وما يباح ذكر ما يحرم استعماله من الطاهر فقال: وحرم استعمال ذكر محلى يعني أن الذكر البالغ يحرم عليه أن يستعمل شيئا محلى بأحد النقدين أي مجعولا فيه شيء من المذهب أو الفضة أو هما سواء كان متصلا بالثوب كنسج وطرز، أو منفصلا عنه كزر، وإذا حرم المحلى فأحرى الحلي نفسه كسوار وخلخال وقرط وغير ذلك؛ والمراد بالاستعمال الانتفاع الخاص فلا يشمل الانتفاع بالبيع: ومثل الاستعمال الاقتناء قاله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمد بن الحسن: أي بقصد استعماله وأما اقتناؤه لتجمل أهله مثلا فلا بأس به انتهى. واحترزت بالبالغ من الصغير فيكره لوليه إلباسه الذهب والحرير. ويجوز له إلباسه الفضة هذا هو المعتمد خلافا لابن شعبان الذي يوجب الزكاة في حلي الأصاغر، وشمل كلام المص الكافر لخطابه بفروع الشريعة، والأصل فيما ذكره المص ما رواه الترمذي وصححه عنه عليه الصلاة والسلام (حُرمَ لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم)
(1)
وظاهر قول المص ذَكَرِ موافقة ما قدمته عن ابن شعبان خلاف ما قررته به إذ مقتضى قول ابن شعبان أن تحلية الصغير لا تجوز لأنه أوجب فيها الزكاة، ولو كان لبسها مباحا لسقطت الزكاة، ويعضده الحديث المتقدم، وما رواه أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من تحلى ذهبا أو حلى ولده مثل خربصيصة لم يدخل الجنة)
(2)
، والخربصيصة هي الهنة التي تتراءى في الرمل لها بصيص كأنها عين جرادة، وفي كلام التوضيح ترجيح لقول ابن شعبان ولذلك اعتمده المص هنا فأطلق وهو أظهر من جهة الدليل، وقد قدمت أن المعتمد خلافه أي بالنظر لكثرة القائل به من أهل المذهب أشار له الحطاب، وما قدمته من مناسبة قوله:"وحرم استعمال" الخ هو لمحمد بن الحسن: وقال الحطاب وجه ذكره هنا أن الحلي لما كان من جملة
(1)
حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم. سنن الترمذي، كتاب اللباس، رقم الحديث:1720.
(2)
من تحلى أو حلى بخربصيصة من ذهب كوي بها يوم القيامة. المسند، ج 4 ص 227، دار الفكر. ولفظ المؤلف عند الحطاب ج 1 ص 191.
اللباس، والذي يحرم لبسه منه لا يصلى به فأشبه الثوب النجس، وأيضا فإن الماء يحتاج إلى إناء يجعل فيه غالبا فبين حكم ذلك من المذهب والفضة.
ولو منطقة يعني أنه يحرم على الذكر أن يستعمل منطقة محلاة بأحد النقدين هذا هو المشهور، وقيل يجوز للذكر استعمال المنطقة المحلاة، والمنطقة بكسر الميم وسكون النون وفتح الطاء نوع مما يشد به الوسط، وقد علمت أن سياق المص إنما هو في الذكر فقط فلا حاجة إلى استثناء المرأة من كلام المص، وسيقول وجاز للمرأة الخ، وآلة حرب يعني أنه يحرم على الذكر استعمال المحلى ولو كان هذا المحلى آلة حرب هذا هو المشهور، وقيل بالجواز مطلقا، وقيل بالجواز إلا في السرج، واللجام، والسكاكين: والمهماز، وقيل بالجواز إلا في هذه، وفيما يتقى به كالترس، ولا فرق في تحريم آلة الحرب المحلاة بين الرجل والمرأة.
إلا المصحف يعني أن المصحف إذا كان لذكر لا تحرم تحليته بل تجوز تحليته بالذهب والفضة في أعلاه بأن يجعل ذلك على الجلد من خارج، وأما كتابته بهما، أو كتابة أعشاره، أو أجزائه، أو أخماسه بذلك فمكروهة قاله الشبراخيتي عن الجزولي. قال ويشمل ذلك المص لأن قوله:"إلا المصحف" أي فلا تحرم تحلية خارجه ولا داخله وما لا يحرم يعم المباح والمكروه انتهى. وكما تكره كتابته وكتابة أعشاره أو أخماسه أو أجزائه بالذهب أو الفضة تكره أيضا بالحمرة، والمصحف بتثليث الميم مأخوذ من أصحف بالضم أي جمعت فيه المصحف، وفي الحطاب بعد جلب نقول وقد علم من هذا منع كتابة ما عدا المصحف بالذهب والفضة وكراهة كتابة المصحف به: وما عدا ذلك فاستحسان قابل للبحث انتهى. وقوله: "إلا المصحف" مستثنى من حرمة استعمال الذكر للمحلى، وأفهم تخصيص المصحف بالجواز منع تحلية غيره من سائر الكتب وهو كذلك، ولا تجوز تحلية الدواة والقلم ويجوز كتابة القرآن في الحرير وتحليته به، وأما كتابة العلم أو السنة فيه فيجري على جواز افتراشه والمشهور منعه للرجال ويتفق على جوازه للنساء قاله الشيخ إبراهيم، ومقتضى كلام المص كغيره منع تحلية الإجازة بالذهب والفضة وهو كذلك خلافا للبرزلي وشيوخه من استحسانهم الجواز قاله الشبراخيتي. وفي الحطاب عن البرزلي أما تحلية الدواة فإن كانت يكتب بها القرآن فتجري على تحلية المصحف فتجوز بالفضة، وفي المذهب
خلاف والمشهور الجواز، وفي الزاهي تجوز تحلية الأحراز أي الحروز التي تكتب للرقى من القرآن وما معه من أسماء الله عز وجل انتهى. وقال عبد الباقي: ومنع تحلية كتب حديث وعلم وكذا كتب ذلك بحرير، والسيف عطف على المستثنى، يعني أن السيف تجوز تحليته بالذهب والفضة ولا فرق بين ما اتصل به كمقبضه أولا كجفيره وهذا في غير سيف المرأة، وأما سيف المرأة فتحرم تحليته لأنه بمنزلة المكحلة ونحوها وظاهر هذا ولو كانت تقاتل به، وقوله:"والسيف" أي لأن السنة وردت بذلك لا لكونه أعظم آلة الحرب قاله الشيخ إبراهيم.
والأنف عطف على المستثنى أيضا يعني أنه يجوز لمن جدع أنفه أي قطع أن يتخذ أنفا من ذهب لما رواه الترمذي عن عرفجة بن سعد قال: (أصيب أنفي يوم الكلاب بضم الكاف وتخفيف اللام اسم لماء كانت الوقعة عنده في الجاهلية فاتخذت أنفا من ورق فأنتن علي فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتخذ أنفا من ذهب)
(1)
، وقد روي عن غير واحد من أهل العلم أنهم [شدوا]
(2)
أسنانهم بالذهب قاله الترمذي: وقال ابن مرزوق: ما ذكره يعني المصنف من جواز اتخاذ الأنف وربط الأسنان بالذهب والفضة صحيح بحسب القياس لكن نصوص الأئمة إنما هي في إباحة الذهب لذلك، ولم يذكروا الفضة إلا ما وقع في بعض نسخ ابن الحاجب، وقد يقال: إنما جاز ذلك في الذهب للضرورة إليه لما فيه من الخاصية المتقدم ذكرها وليست هي في الفضة فلا يصح من المص ولا غيره إلحاق الفضة بالذهب لأنه قياس مع وجود الفارق.
وربط سن عطف على المستثنى أيضا يعني أنه يجوز لمن كسرت سنة واحدة أو أكثر أن يربطها بالذهب أو بالفضة، ولا مفهوم لقوله:"ربط" فإذا اتخذ سنا من ذهب أو فضة محل سن له سقطت جاز ذلك كما نقله المواق عن ابن عرفة، وقد روي عن غير واحد من أهل العلم أنهم شدوا أسنانهم بالذهب كما مر عن الترمذي وقوله: مطلقا راجع للمسائل الأربع المستثناة ومعناه كانت الحلية ذهبا أو فضة وهذا هو المعروف من المذهب الذي عليه الأكثرون، وذكر الرجراجي أن مشهور المذهب أنه لا يجوز تحلية السيف بالذهب قال: وهو مذهب المدونة، والاستثناء في الأربع
(1)
الترمذي في سننه، كتاب اللباس، رقم الحديث:1770.
(2)
في الأصل سدوا والمثبت من الترمذي.
متصل ومفهوم ربط أن ردها بعد سقوطها لا يجوز على تنجيسه بالموت كما مر فلا تجوز الصلاة بها إلا إن التحمت أو خاف بنزعها ضررا: وأما على طهارة ميتته فيجوز، وروي عن السلف أنهم كانوا يردونها ويربطونها بالذهب فيصلَّى بها التحمت أم لا ولا يطلب بنزعها مع عدم الالتحام وخاتم فضة عطف على المستثنى أيضا يعني أنه يجوز للرجل أن يتخذ خاتما من فضة بل يندب إن لبسه للسنة، ولا يجوز إن لبسه للمباهاة والتزين للأجنبيات كما هو الواقع في هذا الزمان، واتحد فإن تعدد منع ولو كان وزن المتعدد درهمين، وإذا اتحد وكان وزنه أكثر من درهمين لم يجز وإنما يجوز إذا كان درهمين فأقل فيشترط لجوازه ثلاثة شروط: أن يلبسه للسنة، وأن يتحد، وأن يكون وزنه درهمين فأقل، وندب جعله باليسرى (لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتختم فيها كما في مسلم وأبي داوود)
(1)
وهو آخر الأمرين من فعله، ولا ينافي خبر (كان يحب التيمن في تنعله وترجله)
(2)
أي تمشيط شعره وتختمه وتطهره وشأنه كله لأنه يمسكه بيمينه فيجعله في يسراه، وإذا نزعه ليطبع به على كتاب مثلا نزعه بيمينه، وما تقدم من أنه مندوب لا ينافيه المصنف لأنه مستثنى من المحرم وذلك يصدق بالمندوب لا ما بعضه ذهب يعني أن الخاتم الذي بعضه ذهب وبعضه فضة يمنع حيث كان أكثر من الفضة أو مساويا لها بل ولو قل المذهب وكانت الفضة أكثر منه فإنه يمنع أيضا هذا ظاهره ولكن المعتمد الكراهة حيث كان المذهب أقل من الفضة فإن كان أكثر أو مساويا لها منع، ويكره تختم بنحاس أو رصاص وحديد على الأصح، وقيل يحرم إلا لتحفظ فيجوز لمنع النحاس الصفراء، وكل من الرصاص والحديد الجن ولا يقيد بدرهمين فيما يظهر قاله عبد الباقي. ويمنع من الجن حمل أترج أو حبة وجاز تختم بجلد أو خشب كعقيق، ويمنع من العين كتجمل بخشب محيط ومثل التختم بالنحاس والحديد في الكراهة القزدير، وأخذ من قوله (التمس ولو خاتما من حديد)
(3)
الجواز، وقوله: وخاتم فضة الذي استقر عليه العمل أن الخاتم يجعل في الخنصر ويجعل الفص معا يلي الكف، وأصل ما اتخذ
(1)
كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى، مسلم في صحيحه، كتاب اللباس، رقم الحديث:2095. ولفظ أبي داود في سننه، كتاب الخاتم، رقم الحديث: 4227 "عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يساره".
(2)
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله. البخاري في صحيحه، رقم الحديث:168.
(3)
البخاري في صحيحه، رقم الحديث:5135.
الخاتم للطبع ولذلك قيل بكراهته أي الخاتم إلا لضرورة كالخلفاء، وقد جاء (أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى كسرى وقيصر فقيل له إنهم لا يقبلون كتابا غير مطبوع)
(1)
، وورد في البخاري (وفصه منه)
(2)
، وخرج مسلم وأصحاب السنن (أن فصه كان حبشيا)
(3)
ولا تعارض لأنه يحمل على التعدد، ومعنى حبشيا أي حجرا من أرض الحبشة أو على لون الحبشة ويحتمل أن يكون هو الذي فصه منه، ونسب إلى الحبشة لصفة إما صناعة وإما نقشا، والفص بفتح الفاء قاله الجوهري وحكى غيره فيه الكسر وحكى فيه التثليث أيضا، ويجوز نقش الخاتم ونقش أسماء أصحابها عليها ونقش أسماء الله فيها وهو قول مالك وكرهه بعض العلماء، وكان نقش خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد رسول الله محمد سطر ورسول سطر والله سطر، ونقش خاتم مالك: حسبي الله ونعم الوكيل. وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من حديد فقال: (ما لي أرى عليك حلية أهل النار)
(4)
فذكر الحديث إلى أن قال من أي شيء أتخذه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ورق ولا تتمه مثقالا)
(5)
، وخرج أبو داود والترمذي من طريق إياس بن الحارث عن جده قال:(كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من حديد ملويا عليه فضة)
(6)
فيحمل على التعدد ويجمع بينه وبين النهي عن التختم بالحديد بأن يحمل على ما كان حديدا صرفا قاله ابن حجر نقله الحطاب، قوله:"لا ما بعضه ذهب" لخ قال ابن رشد: مسمار الذهب في الخاتم كالعلم من الحرير في الثوب مالك يكرهه وغيره يحرمه فمن تركه على مذهب مالك أجر ومن فعله لم يأثم، وخلط اليسير من المذهب في الفضة كالخز وشبهه مالك يكرهه وغيره
(1)
كتب النبى صلى الله عليه وسلم كتابا أو أراد أن يكتب فقيل له إنهم لا يقرءون كتابا إلا مختوما فاتخذ خاتما من فضة نقشه محمد رسول الله كأني أنظر إلى بياضه في يده. صحيح البخاري، رقم الحديث:65. ومسلم في صحيحه، رقم الحديث: 2092.
(2)
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خاتمه من فضة وكان فصه منه البخاري، كتاب اللباس، رقم الحديث:5870.
(3)
كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورق وكان فصه حبشيا. صحيح مسلم، رقم الحديث:2094. وأبو داود، كتاب الخاتم، رقم الحديث: 4216. - النسائي، كتاب الزينة، رقم الحديث - 5199. - الترمذي، كتاب اللباس رقم الحديث: 1739.
(4)
أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبه فقال له ما لي أجد منك ريح الأصنام فطرحه ثم جاء وعليه خاتم من حديد فقال ما لي أرى عليك حلية أهل النار فطرحه فقال يا رسول الله من أي شيء أتخذه قال اتخذه من وَرِق ولا تتمه مثقالا. سنن أبى داود، كتاب الخاتم، رقم الحديث:4223.
(5)
سنن أبي داود، كتاب الخاتم، رقم الحديث:4223.
(6)
كان خاتم النبي صلى الله عيه وسلم من حديد ملوي عليه فضة. أبو داود، كتاب الخاتم، رقم الحديث:4224.
يجيزه، ونقل عبد الباقي عن الأجهوري أن طلي خاتم الفضة بالذهب داخل في قوله:"لا ما بعضه ذهب" وإناء نقد الظاهر جره عطفا على ذكر فيكون من إضافة المصدر لمفعوله والأول لفاعله كقوله الآتي: وجرح مسلم مميز ثم قال لا نعم، ويصح رفعه عطفا على فاعل حرم الأول لعبد الباقي، والثاني للشيخ إبراهيم يعني أنه يحرم استعمال إناء النقد أي المذهب والفضة فلا يجوز الأكل فيها ولا الشرب فيها ولا الطهارة وإن صحت الصلاة بها ولا تتخذ منها المداهن ولا المجامر ونحو ذلك من أنواع الاستعمال لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية المذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)
(1)
، وضمير لهم للكفار الذين يستعملونها ويجوز على بعد عوده على مستعملها من عصاة المؤمنين لأنهم يحرمونها كما في الحديث الدال على ذلك والأول أظهر قاله الفاكهاني نقله الحطاب.
واقتناؤه يعني أن إناء النقد يحرم اقتناؤه أي ادخاره لاستعمال أو لغير قصد وكذا التجمل على الأرجح من قولين، ويجوز لعاقبة الدهر، ويحرم استئجار على صياغته ولا ضمان على من كسره إذا لم يتلف منه شيئا على الأصح، ويجوز بيعه. وتحصل من هذا أن أقسام اقتنائه أربعة اثنان في كلامه قطعا وكذا الثالث على الأرجح لا الرابع، ومقابل الأرجح للخمي قال إن كانت تراد للتجمل فذلك غير محرم وما تقدم من جواز بيعه هو للباجي وغيره، وبحث فيه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد بأنه إن كان لا يقابل الصنعة بشيء من العوض فظاهر، وإن كان مع المقابلة فلا يسلم هذا الحكم للباجي وإن لامرأة يعني أن استعمال إناء النقد واقتناءه محرمان على الرجال والنساء، واللام في قوله لامرأة بمعنى من، أي وإن كان الاستعمال أو الاقتناء حاصلا من امرأة على حد قوله:
لنا الفضل في الدنيا وأنفك راغم
…
ونحن لكم يوم القيامة أفضل
(1)
لا تشربوا في إناء الذهب والفضة ولا تلبسوا الديباج والحرير فإنه لهم في الدنيا وهو لكم في الآخرة يوم القيامة. مسلم في صحيحه، كتاب اللباس، رقم الحديث:2067.
قاله الشيخ إبراهيم أي منكم. وفي الكافي ولا يجوز اتخاذ الأواني من الذهب والفضة للرجال ولا للنساء.
وفي المغشى يعني أنه اختلف في منع المغشى وجوازه على قولين والراجح المنع، والمغشى إناء من ذهب أو فضة غطي برصاص أو نحاس أو غيره قوله:"وفي المغشى" أي استعماله أو اقتنائه إذ ذاك هو الذي يختلف فيه بين المنع والجواز كما هو ظاهر والمموه يعني أنه اختلف في المموه أي في استعماله واقتنائه على قولين بين الجواز والمنع نظرا إلى الظاهر والباطن كالذي قبله. قال الشيخ عبد الباقي: وهما على حد سواء انتهى. وقال الحطاب: وأما المموه فالأظهر فيه الإباحة والمنع بعيد وإن كان قد استظهره في الإكمال، والمموه إناء من نحاس أو رصاص طلي بفضة أو ذهب. قال الشيخ أحمد: وظاهر المص كان ما موه به قليلا أو كثيرا بحيث يحصل منه شيء بالعرض على النار انتهى. واتفق في مذهب الشافعي على المنع فيما يجتمع منه شيء. قال الحطاب: وهو الذي يؤخذ من كلام سند وصاحب الإكمال، وأجمعوا على إيجاب الزكاة فيها إذا بلغ ذهبها نصابا، وفي تقديم المغشَّى على المموه إشارة إلى أن ما ظاهره قبيح وباطنه حسن خير من عكسه لأن التقديم في اللفظ يدل على شرف المقدم بوجه، وفي المص إشعار بأن الركاب المغشَّى أو المموه لا يجوز لأنه إن كان من آلة حرب فقد مر أنها لا يحلَّى منها سوى السيف وإن لم يكن منها فالمنع أولى: والسرج واللجام كالركاب قاله الشيخ عبد الباقي.
والمضبب يعني أنه اختلف في استعمال المضبب واقتنائه على قولين بين المنع والكراهة، والمضبب هو إناء مشعب كسره بخيوط نقد كبيرة أو صغيرة أو جمع بصفيحة من أحدهما في موضع الاستعمال أم لا ألجأت إلى ذلك حاجة أم لا. قال الحطاب: والأصح من القولين المنع كما صرح به ابن الحاجب وابن الفاكهاني وغيرهما، وهو اختيار القاضي أبي الوليد، وقال عبد الباقي والقولان مستويان انتهى. واختار القاضي أبو بكر الجواز واستدل له بكلام الأئمة، وذي الحلقة يعني أنه اختلف في استعمال ذي الحلقة واقتنائه على قولين بين المنع والكراهة، والأصح من القولين المنع كما صرح به ابن الحاجب وابن الفاكهاني وغيرهما، وهو اختيار القاضي أبي الوليد، واختار القاضي أبو بكر الجواز واستدل له بكلام الأئمة. وذو الحلقة إناء من عود أو غيره
جعل له حلقة بسكون اللام من أحد النقدين، ومثله اللوح والمرآة ونحوهما مما فيه حلقة. المازري: والمذهب عندنا كراهة الشرب في الإناء المضبب كما كره النظر في مرآة فيها حلقة فضة. انتهى. وهذا يقوي ما تقدم عن الشيخ عبد الباقي من استواء القولين والله أعلم، والقولان في المضبب وذي الحلقة تفسيران لقول مالك في العتيبة: لا يعجبني أن يشرب في إناء مضبب ولا أن ينظر في مرآة فيها حلقة فإنه يحتمل الكراهة والتحريم، وإناء الجوهر يعني أنه اختلف في استعمال إناء الجوهر كالبلور والياقوت والزبرجد، واقتنائه على قولين بين الجواز والمنع وهما متساويان، ومن الجوهر الدر والزمرذ بالضمات وإعجام الذال، والبلَّور بكسر الوحدة وفتح اللام المشددة. وانظر لو اتخذ من الجوهر نحو عكاز هل يجري فيه الخلاف أو يتفق على المنع كالمرود ونحوه وهو الظاهر، وعلة المنع في إناء الجوهر الإسراف قولان في كل من الأمور الخمسة. قال الشيخ عبد الباقي: وعلم مما قررنا أن في المص ثلاثة أشياء إجماله في بيان القولين، وترك الاقتصار على الراجح في الأول وهو المنع، وأن الأخير تردد لا قولان انتهى. وقد بينت الإجمال في كل فبينت القول بالكراهة، والقول بالمنع، والقول بالجواز، وفي الإكمال. وهل يجوز لبس خاتم من هذه الجواهر أو يجعل الفص منه أو جعلها في العنق أو الذراع؟ لم أر فيه نصا، والظاهر أنه جار على اتخاذ الآنية، والقول بالجواز فيها للباجي وابن سابق وهو اختيار ابن رشد، والقول بالمنع لابن العربي في عارضته، وذكر ابن عرفة ثالثا بالكراهة.
واعلم أنه يجوز اتخاذ الأواني من الفخار ومن الحديد ومن الرصاص ومن الصفر والنحاس والخشب ومن العظام الطاهرة إجماعا قاله في القوانين قاله الحطاب. والظاهر أن العقيق ليس من أنواع الجوهر، (وأهديت له صلى الله عليه وسلم قدح قوارير فكان يشرب فيها الماء)
(1)
، وجاء رجل إلى الأمير أبي الحسن بلؤلؤة صغيرة ذكر أنه أخرجها من الماء العذب وشهد له بذلك شهود لا بأس بهم، وهذا خلاف المشهور أن التثنية في قوله تعالى {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} إنما هي للتغليب لأنه إنما يخرج من الأجاج انتهى. قاله الحطاب والمعنى على هذا يخرج من مجموعهما
(1)
عن ابن عباس قال كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدح قوارير يشرب فيه. ابن ماجه في سننه، كتب الأشربة، رقم الحديث:3435.
الصادق بالملح وجاز للمرأة الملبوس مطلقا يعني أنه يجوز للمرأة كل ملبوس ذهبا أو فضة أو حريرا أو غير ذلك أو محلَّى بذهبٍ أو فضة، ويدخل في ذلك مساند الحرير خلافا لابن الحاج ولو نعلا يعني أنه يجوز للمرأة أن تتخذ نعلا من ذهب أو فضة وكذا القبقاب، وأشار بلو إلى الخلاف. ففي الزاهي: وليس اتخاذ النعل يجري مجرى الحلي. وقد قيل إنه من الحلي، وحكى القرويون الخلاف في القبقاب هل هو من اللباس أو الأواني، والأقرب أنه كالفراش والمشط المضبب كالإناء المضبب، وذكر الخطابي عن بعض العلماء كراهة التختم بالفضة للنساء قال لأنه من زي الرجال قال: فإن لم يجدن المذهب فليصفرنه بالزعفران أو شبهه والله أعلم. لا كسرير يعني أنه لا يجوز للمرأة أن تستعمل سريرا من ذهب أو فضة أو سريرا محلى بأحدهما، ودخل بالكاف كل ما ليس بملائم للمرأة فهو مثل السرير في الحكم وذلك كالمرآة وقفل الصندوق والمدية والمكحلة والمرود إلا لتداو فيجوز، ولو لرجل إن تعين طريقا، وإلا منع عليهما كقول طبيب له: مرود الذهب من أحسن المراود يداوي البصر، وكطبخ أو أكل في إناء نقد للتداوي إن تعين طريقا جاز لهما كقول طبيب لعليل: من منافعك طبخ غذائك في آنية الذهب وإلا منع عليهما، وكذا يمنع ما اتخذ في جدرات وسقف وخشب وأغشية لغير قرآن لرجل وامرأة. وقوله: وجاز للمرأة الملبوس يدخل في الملبوس البسط والنعال والقبقاب وزر الثوب والحصير لخبر (قد اسود هذا الحصير من طول ما لبس)
(1)
: وكالسرير المروحة والمذاب والمقرمة، والمذاب جمع مذبة، وهي: ما يطرد به الذباب، والمقرمات جمع مِقرمة بكسر الميم والراء ستر فيه نقش وتصاوير، وفي العارضة منع النبي صلى الله عليه وسلم استعمال الذهب ثم استثنى منه جواز الانتفاع عند الحاجة على طريق التداوي بجعل الأنف منه، وينبني عليه إذا قال الطبيب للعليل: من منافعك طبخ غذائك في آنية الذهب جاز له ذلك، ويجوز للمرأة سرير حرير، وللنظر حكم المنظور حرمة وجوازا خصوصا إذا رضي به لأنه يجب الإعراض عن المحرمات ظاهرا وباطنا قاله الأمير. وفيه وحرم تصوير ذي ظل تام الأعضاء بحيث يعيش مثله، والأولى ترك غيره من نفس لا ظل له ولا يحرمان، والآلات للهو على المشهور
(1)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:380. ولفظه: فقمت إلى حصير لنا قد اسودّ من طول ما لبس.
ومجمع عليه إن ترتب فسوق إلا الطار، وفي المغشى من الجهتين خلاف. ابن كنانة ويجوز يسير التزمير في النكاح انتهى.
ولما أنهى الكلام على الطاهر والنجس والمتنجس وكان منه ما لا يقبل التطهير ومنه ما يقبله في إزالة النجاسة عنه، شرع في حكم إزالتها وما تزال به وما يعفى عنه منها وما لا يعفى عنه وغير ذلك مما يتعلق بها فقال:
فصل في بيان ذلك،
وقد مر الكلام على الفصل والباب هل استفهام لطلب تحصيل الحكم ولا يمتنع أن يؤتَى لها بمعادل كما في حديث جابر (هل تزوجت بكرا أم ثيبا)
(1)
إزالة أي إذهاب النجاسة بالماء المطلق، والنجاسة كما مر صفة حكمية توجب لموصوفها منع الصلاة به أو فيه، والمراد بالنجاسة النجاسة التي لا يعفى عنها وسيأتي الكلام على العفو عنها إن شاء الله عز وجل عن ثوب المراد به كل ما لابس المصلي ففي كلام ابن العربي أن الثوب يطلق على ما يلبس في الوسط وعلى الرأس وعلى جميع البدن ولكل بعد ذلك اسم خاص انتهى قاله الشيخ عبد الباقي مصل أي مريد الصلاة فسماه مصليا تجوزا ولو كان الثوب الذي فيه النجاسة طرف عمامته الملقى على الأرض تحرك بحركته أم لا على المذهب وبدنه عطف على ثوب، والضمير فيه للمصلي وبدنه ذاته. والمراد بالبدن هنا ظاهره وما في حكمه كداخل فم وأذن وأنف وعين كاكتحال بمرارة خنزير إن لم يخش ضررا بالغسل، وإلا عفي عنها. وهذه الأربعة من الباطن في طهارة الحدث الأصغر والأكبر لعدم وجوب غسلها فيها، وما بطن لا يحكم له بشيء إلا بعد انفصاله، وإن ابتلعها تقايأها إن أمكن لتقل النجاسة فإن تقليلها واجب كما قاله الشيخ محمد بن الحسن. وأظهر منه أن يقال: ما بعد التقايؤ معجوز عنه فإن لم يتقايأها بطلت على الراجح ما دامت على حالها، وقيل لا تبطل وبطلانها حاصل ولو تاب فإن لم يمكنه التقايؤ صحت ولو لم يتب. وهل يعيد في الوقت إن زال بغير تقايؤ؟ الجاري على جعلها كنجاسة الظاهر أنه يعيد في الوقت لأنه عاجز، وظاهر ما تقدم أنها تبطل، وإن استعملها لضرورة كما إذا شرب الخمر لإساغة أو إكراه أو ظنه غيرا، وقال أحمد عن الناصر اللقاني: لا تبطل في هذه الثلاثة، وكذا لو أكل الميتة اضطرارا لعجز، وأما إزالة النجاسة عن بدن غير المصلي فإن منعت الطهارة وجبت إزالتها وإلا ندبت، وقيل تجب مطلقا والخلاف في غير الخمر، وأما هي فيحرم التضمخ بها اتفاقا، وعبارة الشيخ الأمير الراجح كره التلطخ بالنجس في ظاهر الجسد، وحرم بالخمر ومكانه أي ما تماسه أعضاؤه فالمعتبر محل قيامه وقعوده وموضع كفيه لا أمامه أو يمينه أو شماله ولا ما تحت
(1)
البخاري، كتاب النكاح، رقم الحديث. 5079.
بطنه حيث لم يمسه فتصح صلاة المومئ بمحل به نجاسة لا طرف حصيره يعني أنه لا يشترط في صحة الصلاة إزالة النجاسة عن طرف الحصير الذي يصلى عليه حيث كانت بطرفه نجاسة، والمراد بطرفه ما زاد على مكان المصلي فلا تبطل الصلاة بنجاسته ولو تحرك بحركة المصلي على المعتمد هذا هو الذي حمل المدونة عليه أكثر شيوخها وشراحها، والحاصل أنه إن لم يتحرك موضع النجاسة بحركته لم يضر اتفاقا، وإن تحرك فقولان، والمراد بالحصير كل شيء فرشه المصلي وصلى عليه، والمعتد الصحة في تحرك موضع النجاسة بحركته كما مر لأنه كالمركب يكون في بعض خشبه نجاسة وهو يتحرك بحركة المصلي وكالسقف يضطرب بالمصلي، وفي بعض أرضه نجاسة لا يلتفت إلى ذلك إجماعا، ومنهم من فسر الطرف بالوجه الموالي للأرض فلا تضر نجاسته حيث كان المحل الذي يصلي عليه المصلي طاهرا فيكون كنجاسة فرش عليها ثوب طاهرت ومنه مسألة الهيدورة؛ وهي جلد باطنه نجس أو متنجس وظاهره طاهر ولو شعر خنزير، وقد اختلف فيها أي في مسألة الهيدورة أصحاب الفقيه أبي ميمونة درَّاس فقه فاس فمنهم من أجاز ومنهم من منع. وقوله:"لا" طرف بالجر عطف على ثوب سنة خبر المبتدأ وهو إزالة، وشهره في البيان وهو قول ابن القاسم عن مالك، وفي المواق ترجيحه أو واجبة عطف على قوله:"سنة" والمراد بالوجوب هنا وجوب الشرط بدليل ما يأتي من قوله: شرط لصلاة طهارة حدث وخبث إن ذكر وقدر يعني أن القول بالوجوب محله مع الذكر للنجاسة، والقدرة على إزالتها وإلا يعني أنه إذا انتفى القيدان أو أحدهما بأن صلى بالنجاسة في بدنه أو ثوبه أو مكانه عاجزا عن إزالتها ذاكرا لها أو قادرا على إزالتها لكنه غير ذاكر لها أو عاجزا غير ذاكر أعاد ندبا الظهرين وتنتهي إعادتهما للاصفرار متعلق بأعاد فلا يعيدهما في الاصفرار، ويعيد الصبح للطلوع والعشاءين للفجر، والفرق بين الظهرين والعشاءين أن الليل يتنفل فيه كله ولا يعترض بالصبح تعاد بعد الإسفار لأنه يؤتى بالفجر وبالشفع والوتر بعده، والراجح أن الإعادة في الوقت مستحبة فإن تركها عمدا حتى خرج الوقت لم يعد عند ابن القاسم، وقال محمد وعبد الملك يعيد وما ذكره المصنف هو المشهور، وقيل يعيد الظهرين للغروب ومعناه أنه يدرك الصلاة كلها قبل الغروب، وأما إذا لم يدرك إلا بعضها فقد فاته في هذه المسألة وقتها، وعلى قياسه يقال في
العشاءين والصبح، وبما قررت علم أن قوله:"إن ذكر" الخ قيد في الوجوب، وأما السنة فلا تنحط إزالة النجاسة عنها ذكر أم لا قدر أم لا كما قرره به غير واحد، ومنهم من رجع القيد المذكور للقول بالسنة أيضا لكن الخلاف في ذلك لفظي لأن من نظر إلى رفع الطلب حال العذر قال قيد فيهما، ومن نظر إلى طلب الإعادة في الوقت من العاجز والناسي قال قيد في الوجوب فقط، ومعنى كلام المصنف من قوله. "هل إزالة النجاسة" إلى هنا أنه اختلف في حكم إزالة النجاسة عن ثوب المصلي وبدنه ومكانه على قولين مشهورين: فقيل إزالتها عما ذكر سنة من سنن الصلاة ذكرها أم لا؟، قدر على إزالتها أم لا وقيل واجبة مع ذكر النجاسة والقدرة على إزالتها بوجود ماء مطلق يزيلها به أو وجود ثوب طاهر أو القدرة على الانتقال من المكان النجس إلى مكان طاهر، وأما مع النسيان لها أو العجز عن إزالتها فليست بواجبة بل تكون الإزالة حينئذ سنة كالقول الأول، وذكر المصنف في التوضيح أن ابن رشد شهر القول بالسنة وأن طريقة اللخمي تدل على أن القول الثاني هو المشهور. قال وصرح بذلك غير واحد فلذلك اقتصر هنا على ذكر هذين القولين، وذكر قوله:"مصل" ليشمل غير البالغ فإن الصبي هو المخاطب بالطهارة لا الولي، كما أن الصبي هو المخاطب بالصلاة على الصحيح، ومثل المصلي الطائف إلا أنه يبني كما يأتي إن شاء الله بخلاف الصلاة فيبتدئها، وقوله:"وبدنه" قد تقدم أن داخل الفم والأنف والعينين والأذنين يجب تطهيره من النجاسة كظاهر الجسد: وأن باطن الجسد غير هذه الأربعة لا يحكم له بشيء إلا بعد انفصاله إلا أن ما مقره المعدة مما لم يكن فيها بل أدخل فيها كخمر أو نجاسة غيرها يجب تقايؤه على المعتمد كما مر، وإذا كان الفم في حكم ظاهر الجسد فمن دمي فمه فمج الريق حتى انقطع الدم لم يطهر بذلك على الأصح، والصواب عدم قطع محرك نعله المتنجس لأنه غير حامل، وقطع من رفعها لأنه حامل، والغالب نجاسة النعل. ومسائلهم تدل على أن الغالب كالمتحقق قاله ابن ناجي، وقواه الحطاب بعد أن نقل عن البرزلي أن النعل إذا لم تتحقق نجاستها يغلب الأصل فيها على الغالب فلا تبطل صلاة من رفعها حينئذ ولو تعدد محل النجاسة، ووجد من الماء ما يغسل به النجاسة من محل دون محل وجب عليه ذلك لأن تقليل النجاسة مطلوب قاله الحطاب. وقد مر عن الشيخ محمد بن الحسن أن تقليل النجاسة واجب، وفي كتاب الشيخ الأمير
أن تقليل النجاسة يجري فيه الخلاف الجاري في إزالتها، وقال غير واحد: إن ما كان من النجاسة بمحل واحد لا يغسل بعضه لأن ذلك يزيد النجاسة انتشارا انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: وهذا ظاهر في النجاسة العينية، وأما الحكمية بحيث لا لون ولا طعم ولا ريح كما إذا زال عين النجاسة بغير المطلق فلا يطهر ذلك والله سبحانه أعلم. وقوله:"ومكانه" قد تقدم أن المعتبر فيه ما تماسه أعضاء المصلي هذا هو المعتمد فمن صلى وبين يديه مرحاض فلا بأس به إذا كان موضعه طاهرا ولو كان ظاهر الجدار نجسا إذ لا يعتبر ما كان أمامه أو يمينه أو شماله، وقال ابن حبيب: من تعمد الصلاة إلى النجاسة وهي أمامه أعاد الصلاة إلا أن تكون بعيدة جدا أو يواريها عنه شيء، وإن كان دونها ما لا يواريها فذلك كلا شيء قال وإن كان ظاهر الجدار طاهرا فلا خلاف أن الصلاة صحيحة إلا أنه يكره ابتداء كما يكره أن يكون ذلك في حائط قبلة المسجد، ولا ينبغي أن يواجه المصلي شيء يُسْتَخْبَث، وفي رسم الجواب من سماع عيسى النهي عن الصلاة إلى جدار المرحاض والصغير والمرأة والكافر والمابون في دبره، فإن فات ذلك وصلى حذاءهم أوهم أمامه لم يعد الصلاة عامدا أو جاهلا أو ناسيا لا في وقت ولا في غيره. ابن رشد لأن الشرع قد قرر تعظيم شأن القبلة فمن الاختيار للمصلي أن ينزه قبلة الصلاة عن كل شيء مكروه، وسقوط طرف ثوب المصلي على جاف نجاسة بغير محله لغو، وإذا كان في أطراف بيت الشعر أو الخباء نجاسةٌ، وكان رأس المصلي يماس الخباء، أو بيت الشعر بطلت صلاته كمسألة العمامة وإلا فهو كالبيت المبني فلا يضر، وإذا عُمِل المرهمُ من عظام الميتة أو من شيء نجس وطُلِيَ به فالمشهور لا يعفى عن غسله فلا يصلي به حتى يغسله، وقال ابن الماجشون يعفى عنه لمشقة غسله من الجرح قاله في التوضيح.
خلاف مبتدأ حذف خبره؛ أي في كونها واجبة أو سنة خلاف، قال الشيخ الحطاب: الذي يظهر من نصوص أهل المذهب أن الخلاف لفظي أي أنه اختلف في التعبير عن حكم إزالة النجاسة فبعضهم عبر عنه بالوجوب وبعضهم عبر عنه بالسنة ولا اختلاف بينهما؛ إذ القولان متفقان على أن من صلى بها ذاكرا قادرا يعيد أبدا، ومن صلى بها ناسيا أو عاجزا يعيد في الوقت، وعلى تأثيم من صلى بها عامدا أو قادرا كما صرح به في المعونة، وصرح به في المنتقى،
ونُقِل عن صاحب المعونة الإجماع على ذلك، قال الشيخ عبد الباقي وغيره: ورد بوجوب الإعادة على الوجوب وندبها على السنة كما يفيده الفاكهاني، وبأن الإثم على السنية لاستخفافه بها لا لتركها، وعلى الوجوب لتركها، وبأن القائل بها يرد تمسك القائل بالوجوب فهو معنوي. وذكر القرطبي في سورة براءة القول بالسنة والإعادة في الوقت عن مالك وأصحابه إلا أبا الفرج ورواية ابن وهب عنه، ولم يذكر عن أحد القول بالإعادة أبدا على القول بالسنة على أن المعبر بأبدا يحمل على الندب نظير ما يأتي في قوله:"وبمعطن إبل" من أن من صلى به أعاد أبدا أي استحبابا انتهى. واعترضه الرماصي قائلا: هذا الكلام غير صواب إذ الإعادة على السنة واجبة أيضا كما هو ظاهر كلامهم بل صريحه لقولهم: إن الإعادة مبنية على الخلاف في ترك السنة [هل]
(1)
يبطل الصلاة فتكون الإعادة واجبة وهذا ظاهر بلا شك، وما عزاه للفاكهاني لم أره له وحاشاه أن يفوه بذلك بل كلامه يدل على خلاف ما قاله، ثم قال ما حاصله إن ما ذكره الشيخ عبد الباقي لا ينافي كون مآل القولين شيئا واحدا فالصواب أن الخلاف لفظي انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: وقول الزرقاني على أن العبر بأبدا يحمل على الندب الخ يرد بما تقدم من تصريحهم بوجوب الإعادة أبدا على السنة انتهى. وحاصل ما للأمير أن الخلاف معنوي فإنه قال أشهر القولين السنة مع غلبة التفريع على الوجوب، وقول غيرنا به فهو أقوى وهو المآل عند من جعل الخلاف لفظيا نعم لا يشدد على من يترك الصلاة لذلك، وفيه أن جمهور خارج المذهب على الوجوب، وفيه أنه لا غرابة في الندبية والأبدية فقد قالوه في الصلاة بمعطن الإبل فما ورد من التعذيب في البول على القول بالسنة محمول بالنسبة لهذه الأمة على إبقائه في القصبة بحيث يبطل الوضوء فإن الاستبراء واجب اتفاقا انتهى. وفيه: وقال الحطاب والرماصي إنه لفظي قالوا وعهدت الإعادة أبدا لترك السنة على أحد القولين، ولا يخفى أن هذا اعتراف بأنه حقيقي له ثمرة فإن الواجب يبطل تركه اتفاقا، ومما يبعد كونه لفظيا ما ارتضاه الرماصي نفسه من عدم تقييد السنية بالذكر والقدرة والوجوب مقيد انتهى. وفي الحطاب بعد جلب كثير من النقول
(1)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، والمثبت من حاشية الرماصي مخطوط.
والأقاويل: وهذا الذي ذكرناه من أن الخلاف إنما هو في التعبير بالسنة والوجوب إنما ذلك حيث أردنا بيان الراجح في المذهب، وأما إن لم نرد ذلك فلا شك في وجود القول بعدم إعادة العامد أبدا على القول بأنها سنة كما ذكره القاضي عبد الوهاب في المعونة والباجي في المنتقى وعبد الحق في التهذيب وابن رشد في رسم المكاتب من سماع يحيى، ثم قال ولم أو من ذكر في هذه المسألة بخصوصها ترجيح القول بعدم إعادة العامد أبدا، وإنما يذكرونه على أنه قول في المذهب والعمل في كل مسألة على المنصوص فيها.
تنبيهات: الأول في إزالة النجاسة أربعة أقوال: القولان اللذان ذكر المصنف، وذكر ابن رشد قولا بالاستحباب، وفيها قول بالوجوب مطلقا، وقوله:"ولو طرف عمامته" في الأمير ولو طرفا على الأرض لا يتحرك بتحركه فإذا كان الوسط على الأرض نجسا وأخذ كل طرفا بطلت عليهما على الظاهر، وفيه عن شيخه في قوله ولمريض ستر نجس أنه يشترط انفصال الساتر فلا يكفي ستر نجاسة ببعض ثوبه لأنه في حكم الكائن على العضو وظاهره ولو طال جدا.
واعلم أن المصنف في التوضيح نقل عن ابن رشد كلاما وأسقط منه لفظة فسد لها المعنى، فإنه نقل عنه أن من صلى بثوب نجس ناسيا أو جاهلا أو مضطرا أعاد في الوقت فيوهم أن حكم الجاهل بالحكم كالناسي ولفظ ابن رشد أو جاهلا بنجاسة قاله الحطاب؛ يعني أنه لو صلى بالنجاسة جاهلا بحكم إزالتها فإنه تبطل صلاته كالعامد العالم خلاف ما يوهمه كلام التوضيح، وقوله:"مصل" يشمل المفترض والمتنفل فلا يجوز لأحد أن يتعمد صلاة النافلة بالنجاسة فإن فعل لم تنعقد، ولا قضاء عليه لأنه لم تثبت عليه صلاة فطرأت عليها النجاسة عن قصد منه فأشبه من افتتح الصلاة محدثا متعمدا قاله سند، وقال الحطاب: وقد عد الشيخ سعد الدين في شرح العقائد في الأفعال التي تكون ردة الصلاة بغير طهارة.
واعلم أن تجنب النجاسة في الثوب والبدن والمكان إنما يجب عند التلبس بالصلاة أو بفعل تشترط له الطهارة كالطواف، وأما تجنبها في غير ذلك فمستحب كما مر، وقيل إنه فرض إسلامي لا تعلق له بالصلاة لقوله تعالى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} على أحد التأويلات. ابن شعبان يجب على كل مسلم بالغ المحافظة على الطهارة والإقبال على ما يجب عليه فيها فهي من السرائر التي تُبلَى
يوم القيامة قال الله تعالى {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} ، وقوله:"الظهرين" أي الظهر والعصر وهو من باب التغليب وهو واقع في كلام العرب فيغلبون الأخف كالعمرين في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قال الشاعر:
ما كان يرضى رسول الله فعلهم
…
والعمران أبو بكر ولا عمر
والمذكر كالقمرين في الشمس والقمر، والأسبق كالظهرين في الظهر والعصر.
الثاني تقدم أنه يعيد العشاءين للفجر، وينبغي أن يعيد العشاء التي صلاها بالنجاسة ناسيا مثلا ولو أوتر بعدها فقد قالوا إنه يعيد المغرب، وهل يعيد الوتر؟ قال بعض شيوخنا: تعاد لأن الخلل الكائن في العشاء سرى إليها قاله الشبراخيتي، وقال: ثم رأيت في مختصر البرزلي إن ذكر الظهر بعد أن صلى العشاء والوتر صلى الظهر وأعاد المغرب والعشاء، وفي إعادة الوتر قولان، ولا فرق بين المحلين لأن الإعادة في كليهما مستحبة والله أعلم. وإذا صلى الفائتة ملابسا للنجاسة ساهيا فلا إعادة عليه. قال يحيى بن عمر: وهذا قول مالك وجميع أصحابنا، وقال ابن وهب من ذكر صلاة نسيها منذ شهر فصلاها ثم ذكر أنه صلاها بثوب نجس يعيدها. ابن رشد قول صحيح على أصله أن إزالة النجاسة في الأبدان والثياب من فروض الصلاة يعني مطلقا، ولا تعاد النافلة التي صلاها بالنجاسة ساهيا إلا ما سيأتي في ركعتي الطواف فإنه يعيدهما بالقرب، وقوله:"الظهرين" اعلم أن الأرجح في الجمعة أنها كالظهر، وقيل: يعيدها ما لم تغرب الشمس كما لابن حبيب، وقيل: وقتها يخرج بالفراغ منها. انتهى. وعلى القول بأنها بدل من الظهر تعاد جمعة إن أمكن، وإلا فهل تعاد ظهرا أو لا تعاد أصلا؟ قولان، وأما على أنها فرض يومها فلا تعاد ظهرا قطعا، وهل تعاد جمعة أو لا؟، والثاني هو ظاهر كلام المص في شرح المدونة، وهو ظاهر في نفسه. ابن عرفة: إدراك ركعة من وقت الإعادة كإدراكه. انتهى. وإذا ضاق وقت الإعادة عن إحداهما اختص الوقت بالثانية وهو يخالف ما مر عن ابن بشير أنه على القول بإعادة الظهرين للغروب؛ معنى ذلك أن يدرك الصلاة كلها قبل الغروب، وأما إذا لم يدرك قبل الغروب إلا بعضها فقد فاته في هذه المسألة وقتها، الثالث من صلى إلى جنب من يتحقق نجاسة ثيابه فإن كان يعتمد عليها
بحيث يجلس عليها أو يسجد ببعض أعضائه فلا يجوز وتبطل صلاته، وأما إن لاصقه فلا يضره نقله الحطاب وغيره؛ وقد تقدم أن المعتبر في المكان ما يماس الأعضاء فلا يضر ما تحت البطن حيث لم يمسه، وإذا تعلق صبي بأبيه وهو في الصلاة فإن غلب على ظنه طهارة ثوبه فلا شيء عليه، وإن تيقن نجاسته وسجد على بعضها أو جلس بطلت صلاته وإلا لم تبطل، وأولى من تعلقه حمله أو ركوب الصبي عليه وغلب على ظنه نجاسة ثوبه فتبطل، وإن لم يماس النجاسة كحمله نعله المتنجس. وعبارة الأمير: أو ثوب شخص حمله لا تعلق به وسقوطها في الصلاة مبطل يعني أن سقوط النجاسة على المصلي مبطل لصلاته يريد ولو سقطت عنه النجاسة مكانها كما في الرواية، وهذا على رواية ابن القاسم وهو المشهور. وسواء أمكنه نزعها أو لم يمكنه، وسواء نزعها أو لم ينزعها. وقال مطرف إن أمكنه نزعها نزعها وبنى وإلا ابتدأ، وقال ابن الماجشون كذلك إلا أنه قال إن لم يمكنه نزعها يتمادى لاختلاف أهل العلم ويعيد، وقوله:"وسقوطها في الصلاة" لخ سواء كانت نفلا أو فرضا إلا أنه لا يلزمه إعادة النافلة إن لم يتعمد حمل النجاسة. قال سند: كما لو عبث بقرحة في جسده عامدا فسالت عليه أو على ثوبه فيقطع على قول ابن القاسم وتلزمه الإعادة قاله الحطاب وقال عبد الباقي: وسقوطها في الصلاة على البدن أو الثوب أو المكان إن لم ينتقل مبطل لها بخمسة قيود أن تستقر عليه، أو يتعلق به شيء منها، وأن لا تكون مما يعفى عنه، وأن يجد لو قطع ما يزيلها به أو ثوبا آخر يلبسه، وأن يتسع الوقت اختياريا أو ضروريا بأن يبقى بعد إزالتها ركعة فأكثر كما في الذخيرة، وإلا تمادى ثم إذا تمادى في الاختياري فهل يعيدها بعده بمنزلة ذاكرها بعد الصلاة أم لا؟ وعلى الاعادة فالظهران للاصفرار، والعشاءان للفجر، والصبح للطلوع. ولأجل هذا القيد قال في التوضيح: لو رآها في جمعة أو عيدين أو جنازة تمادى لعدم قضاء هذه الصلوات، وفي الجمعة نظر إن قلنا إنها بدل انتهى. أي ولذا رجح سند في الجمعة القطع، القيد الخامس أن لا يكون ما فيه النجاسة محمولا للغير ملبوسا أو محمولا لغيره وإلا لم تبطل بسقوط بعضه كوضع حبل دابة حاملة نجاسة بوسطه أو تحت قدمه، وكذا حبل سفينة بها نجس إن وضعه تحت قدمه لا في وسطه فتبطل لأن الحمل ينسب للدابة لحياتها بخلاف السفينة فلو كانت النجاسة بأثناء الحبل الربوط به الدابة وطرفه الآخر بعضد المصلي،
فالظاهر أنه لا يضر بمنزلة طرف ثوب متنجس ملبوس شخص سقط على مصل لأن حمله إنما ينسب للابسه انتهى. واعترض الشيخ محمد بن الحسن القيد الخامس وقال: في البرزلي ما يفيد البطلان وعدم البطلان في وضع حبل الدابة بوسطه وعليه نجاسة لا يدل على صحة القيد الخامس لأن طرف الحبل الذي في وسطه طاهر هذا هو الموضوع كما يفهم من كلام سند فلا يدل على صحة الصلاة إذا وقع عليه ما فيه النجاسة وهو محمول لغيره انتهى. وإن رأى المأموم النجاسة في ثوب إمامه فإن كان قريبا منه أراه إياها، وإن كان بعيدا منه كلمه لإصلاحها، وفي الأمير أنه إذا كان الوسط على الأرض نجسا وأخذ كل طرفا بطلت عليهما على الظاهر. (كذكرها فيها) فيها يعني أن المصلي إذا ذكر في الصلاة أنه متلبس بنجاسة فإن صلاته تبطل فرضا أو نفلا، ويقطع ولو مأموما وجوبا على ظاهرها أمكنه نزعها ونزعها أم لا، وظاهر المصنف البطلان نسيها بعد الذكر أم لا وهو الأصح خلافا لقول ابن العربي: من ذكرها فيها وهم بالقطع فنسي وتمادى بها فإنها صحيحة، ومثل ذكرها فيها علمه بها فيها، وإن لم يعلمها قبل فلو قال: كعلمه بها فيها لشمل المسألتين وظاهر المص أيضا البطلان، ولو فارق النجاسة بعد الماسة كمن رأى بعد رفعه من السجود نجاسة بمحل سجوده وبه قال ابن عرفة بناء على أنه لا يشترط مع علمه بها في الصلاة التلبس بها، وقال غيره لا تبطل بناء على اشتراط ذلك: وظاهره أيضا أن من رأى في صلاته بعمامته بعد سقوطها نجاسة البطلان
(1)
، وهو الجاري على المشهور، ومختار ابن عرفة أيضا خلافا لما ذهب إليه بعض متأخري فقهاء القرويين من التمادي والإعادة في الوقت، وكلام المصنف مقيد بما إذا اتسع الوقت الذي هو فيه لإدراك ركعة بعد إزالة النجاسة وإلا تمادى، والظاهر جريان جميع القيود المتقدمة هنا أيضا قاله الشيخ عبد الباقي، وقوله:"كذكرها فيها" ويبتدئ بإقامة في الفرض قاله في المدونة، وظاهره سواء طال أو لم يطل، وعليه حمله بعضهم قائلا لأن الإقامة الأولى كانت لصلاة فاسدة فبطلت لبطلانها، وقال آخرون إنما ذلك في الطول، وأما لو كان بالقرب فلا يفتقر لإقامة، وأما النافلة التي ذكر فيها النجاسة فلا، يقضيها لأن النافلة لا تقضى
(1)
كذا في الأصل.
بل إن أراد أن يتطوع بنافلة أخرى فله أن يتطوع بها، وظاهر المدونة أن القطع واجب، وقال اللخمي: استحسان، ورد الرماصي على المصنف في هذين الفرعين، أعني قوله:"وسقوطها في الصلاة مبطل"، وقوله:"كذكرها فيها" بأنه لا سلف له في التعبير بالبطلان قائلا إنه مأمور بالقطع، والأمر بالقطع يدل على الصحة والانعقاد بخلاف البطلان انتهى. وأجاب الشيخ محمد بن الحسن عن المصنف بما في المقدمات في الرعاف من شروط البناء أن لا يسقط على ثوبه أو جسده من الدم ما لا يغتفر لكثرته لأنه إن سقط على ثوبه وجسده من الدم كثير بطلت صلاته باتفاق انتهى. قال الحطاب بعد نقله في باب الرعاف ونحوه لابن بشير وابن شأس وصاحب الذخيرة، ونبه على هذا ابن هارون وابن رشد كما نقله صاحب الجمع، وعلى هذا فمعنى قول المصنف: فإن زاد عن درهم قطع بطلت صلاته فلا يجوز له التمادي، ولو بنى عليها لم تصح لا أنه يحتاج إلى أن يقطعها فانظر قول المقدمات فإنه صريح في أنه بمجرد سقوط الدم الكثير تبطل صلاته، ويشهد للمصنف أيضا ما ذكره ابن رشد من أن من سقطت عليه نجاسة وهو في الصلاة الصحيح أنه تنتقض صلاته كما لو أحدث انتهى. وهذا صريح في البطلان أيضا، وفي نقل الباجي عن سحنون ما يفيده فانظره، ومثله في كلام المازري في شرح التلقين، ونصه: وأما النجاسة اليابسة إذا زالت على الفور فإن الثوب لا يوصف بالتنجيس، ولم يحصل ما يُحَزِمُ تمام الصلاة بخلاف من يحمل النجاسة اليابسة فإن حملها إسقاط لحرمة الصلاة لكونه حاملا لها، ولو كانت رطبة لبطلت الصلاة لاتصاف الثوب بالمتنجس. انتهى. والله أعلم وهو الموفق. انتهى كلام الشيخ محمد بن الحسن، وإستشكل قول المص:"وسقوطها في الصلاة مبطل" بأن ظاهره يشمل ما إذا سقطت على كتفه مثلا ولم تستقر لأنه مغلوب فهو كالعاجز، وأجيب بأن هذا الفرع مبني على اشتراط الطهارة مطلقا، ويبحث فيه بأن الشافعية يقولون بوجوب الطهارة من النجاسة من غير شرط الذكر والقدرة، وقالوا بعدم بطلان الصلاة بسقوطها على الوجه المذكور قاله الشبراخيتي لا قبلها يعني أن من علم أنه متلبس بالنجاسة قبل الصلاة ثم إنه نسيها قبل أن يتلبس بالصلاة تصح صلاته حيث استمر على نسيانه حتى فرغ من الصلاة تكرر الذكر والنسيان أم لا، فمن ذكرها في الصلاة وقطع ليغسلها فنسي بعد ذلك ودخل في الصلاة واستمر ناسيا لها حتى فرغ من
صلاته فإن صلاته صحيحة، وقيل لا تصح أو كانت أسفل نعل فخلعها؛ يعني أن من صلى وفي رجله نعل بأسفلها نجاسة وهو ما يلي الأرض تصح صلاته إذا خلع عنه النعل من غير رفع لها تحركت النعل أم لا، وأما إن رفع رجله بها فإن صلاته تبطل لحمله النجاسة كما لو كانت النجاسة بأعلى النعل فتبطل صلاته رفع النعل برجله أم لا؟، وقوله:"نعل" بخلاف الخف فتبطل مطلقا، ومفهوم قوله:"خلعها أنه لو لم يخلعها تبطل صلاته حيث لزم على عدم خلعها حمل النعل المتنجسة: وإلا فلا تبطل كمن صلى على جنازة أو إيماء قائما بغير مسجد، والفرق بين النعل حيث خلعها من غير رفع لها فتصح صلاته، وبين الثوب الذي تبطل ولو خلعه على المعتمد كما مر أن هذا بمنزلة ما لو بسط ثوبا طاهرا على نجس وصلى عليه فإنها تصح كما يأتي، ولو رأى النجاسة تحت قدمه وكان قائما عليها تخرج ذلك على الخلاف في الثوب إذا أمكن طرحه هل يقطع أو يتحول، وقد علم أن المشهور في مسألة الثوب القطع فكذلك هذه، وأما إن كانت النجاسة تحت البساط والبساط تحت قدمه فلا شيء عليه قاله الحطاب، وهي كقوله: "أو كانت أسفل نعل فخلعها"، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(ثلاثة عملهن يسير وأجرهن كثير إمساك ركاب الراكب وإمساك الإناء للأكل وتهيئة ما يجعله الإنسان في قدميه من نعل وغيره)، وظاهر قوله وتهيئة ولو قبل إرادة لبسه بكثير قاله الشيخ عبد الباقي، وظاهر قوله أيضا: إمساك ركابه يشمل إمساكه حال الركوب وبعده.
واعلم أن الصلاة في النعل رخصة مباحة فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذلك ما لم تعلم نجاسة النعل قال الأبي: ثم إنه وإن كان جائزا فلا ينبغي أن يفعل اليوم ولا سيما في المساجد الجامعة فإنه قد يؤدي إلى مفسدة أعظم، يعني من إنكار العوام وذكر حكاية وقعت من ذلك أدت إلى قتل اللابس. قال وأيضا: فإنه يؤدي إلى أن يفعله من العوام من لا يتحفظ في المشي بنعله قال الأبي: بل لا يدخل المسجد بالنعل مخلوعة إلا وهي في كن، وذكر كراهته عن الشيخ أبي محمد وأنه أنكر علي الشيخ الصالح أبي على القروي إدخاله الأنعلة غير مستورة، وقال: أيها الرهط إنكم أئمة فيقتدى بكم فلا تفعل، وفي المدخل في فصل الخروج إلى المسجد: وينوي امتثال السنة في أخذ القدم؛ يعني النعل بالشمال حين دخوله المسجد وحين خروجه منه، ثم قال لعله
يسلم من هذه البدعة التي يفعلها كثير ممن ينسب إلى العلم فترى أحدهم إذا دخل المسجد يأخذ قدمه بيمينه وقل أن يخلو أحدهم من كتاب فيكون الكتاب في شماله فيقع في محظورات منها جهل السنة في مناولته كتابه وقدمه، ومنها مخالفة السنة عند أول دخول بيت ربه، ومنها ارتكابه للبدعة فيفتتح عبادته بها، ومنها اقتداء الناس به، ومنها التفاؤل وهو أعظم الجميع في أخذ الكتاب بالشمال، وينوي امتثال السنة بأن لا يجعل نعله في قبلته، ولا عن يمينه، ولا من خلفه؛ لأنه إذا كان خلفه يتشوش في صلاته، وقل أن يحصل له جمع خاطره فإن السنة أن تكون اليمين للطاهرات وقد ورد النهي عن ذلك في أبي داود صريحا
(1)
، وفي البخاري ومسلم: النهي عما هو أقل من ذلك
(2)
وهو النخامة مع كونها طاهرة فما بالك بالقدم التي قل أن تسلم في الطريق مما هو معلوم فيها فيجعلها على يساره إلا أن يكون أحد على يساره فلا يفعل لأنه يكون عن يمين غيره فيجعله إذ ذاك بين يديه فإذا سجد كان بين ذقنه وركبتيه، ويتحفظ أن يحركه في صلاته ليلا يكون مباشرا له فيها فيستحب لأجل هذا أن يكون له محفظة، أو خرقة يجعل فيها قدمه انتهى. فرع قال الأبي أفتى بعضهم فيمن أزال نعلا عن موضع ووضعه بآخر أنه يضمنه لأنه لما نقله وجب عليه حفظه، وصوبت هذه الفتيا والله أعلم قاله الحطاب. فرع فلو وجد في موضع نعله نعلا غيرها، فقيل: له أخذها، وقيل: له أخذها والتصدق بثمنها، وقيل: إن كانت أجد من خفه تصدق بثمنها، وإن كانت دونها فله أخذها لنفسه. نقل الأقوال الخرشي في كبيره. ولما كانت المشاق ثلاثة أقسام: مشقة في المرتبة العليا فيعفى عنها إجماعا كما لو كانت طهارة الحدث أو الخبث تذهب نفسا أو عضوا، ومشقة في المرتبة السفلى لا يعفى عنها إجماعا كطهارة الحدث والخبث بالماء البارد في الشتاء، ومشقة مترددة بينهما مختلف في إلحاقها بالمرتبة العليا فتؤثر في الإسقاط. ذكر المص من المختلف فيه مسائل، والقاعدة أن كل مأمور به شق فعله سقط الأمر به، وكل منهي عنه شق اجتنابه سقط النهي عنه. وبدأ المصنف بمنفصل جسد
(1)
إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه ولا عن يساره فتكون عن يمين غيره إلا أن لا يكون عن يساره أحد وليضعهما بين رجليه. أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، رقم الحديث:654.
- إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذ بهما أحدا ليجعلهما بين رجليه أو ليصل فيهما. أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، رقم الحديث:655.
(2)
إذا تنخم أحدكم فلا يتنخم قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى. البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:411.
الشخص، ثم بما يصيبه من حيوان غيره من نوعه؛ كبول الرضيع، ثم من غير نوعه كدم البراغيت، وفرس الغازي، ثم من غير الحيوان كطين المطر فقال: وعفي عما يعسر يعني أنه يعفى للشخص عما يعسر الانفكاك عنه بعد وجود سبب العفو؛ وهو المشقة، والعفو عدم المؤاخذة وهذا في قوة الاستثناء من قوله:"عن ثوب مصل وبدنه ومكانه"، فكأنه قال: إلا ما عفي عنه كحدث، مستنكح بكسر الكاف صفة لحدث بالتنوين؛ يعني أن الحدث بولا أو غائطا أو غيرهما من مذي، وودي، ومني، واستحاضة ونحو ذلك يعفى عن غسله لشخص استنكحه ذلك؛ أي لازمه. ونكره ليعم كل حدث، ويكفي في العفو حصول حدث واحد، ولا يشترط حصول أكثر من حدث واحد، ويستحب درء الحدث المستنكح بخرقة وإعدادها، وهل يستحب تبديلها كما لبعضهم أولا؟ وهو الجاري على قول سحنون إذ غسل فرجه أهون، والعفو بالنسبة للثوب والبدن، وأما المكان: فإن كان في غير الصلاة فظاهر لإمكان التحول، وإلا فهو مما يعسر الاحتراز منه. قاله الشيخ محمد بن الحسن، والظاهر أن المراد بالاستنكاح هنا أن يأتيه كل يوم مرة فأكثر. قاله الحطاب، وغيره. وخرج بقوله: حدث الدم من قبل ذكر أو دبره أو دبر أنثى فيعفى عنه ولو لم يستنكح إذا شق غسله كما في الدمل. والظاهر ولو خرج معه حدث قاله الشيخ عبد الباقي. وهل يستحب للمستنكح في الوجه الذي يستحب له فيه الوضوء غسل فرجه كما لابن حبيب؟، أو لا يستحب؟ كما قاله سحنون اعتبارا بسائر النجاسات السائلة كالقروح وشبهها لا تغسل إلا أن تتفاحش، وتخالف طهارة الحدث لأنها أوكد إلا أنه يستحب له نضحه إذا كان مستنكحا. قاله في الطراز، قاله الحطاب. وإذا عفي عن الأحداث في حق صاحبها عفي عنها في حق غيره لسقوط اعتبارها شرعا، وقيل لا يعفى عنها في حق غيره لأن سبب العفو الضرورة، ولم توجد في حق الغير، وفائدة الخلاف صلاة صاحبها بغيره إماما، وسينص المص على كراهة إمامته للصحيح؛ فعلى أن الرخصة خاصة به تكره إمامته لا على مقابله كما يفيده سند، ولا يجوز لأحد أن يصلي بثوبه إلا إذا أيقن طهارته، وإنما صحت صلاة من ائتم به لارتباطها بصلاة إمامه المستنكح؛ وهي صحيحة، وفي الجواهر: دم البثرات، وقيحها، وصديدها معفو عنه في حق من وجد منه، فإن أصابه من بدن غيره ففي العفو عنه قولان، والحدث المستنكح: والجرح يمصل،
والدمل يسيل، والمرأة ترضع، وبول فرس الغازي بأرض الحرب يعفى عن قليله، وكثيرة كما في الجواهر. ولا تجب إزالته إلا أن يتفاحش فيؤمر بها ندبا. وقال ابن المعلى: إذا كثر وجب غسله، ويستحب غسله مع عدم الكثرة.
واعلم أنه إذا برئ صاحب السلس فلا يعفى عما كان في ثوبه (وبلل باسور في يد) يعني أن بلل الباسور الذي يكون في اليد يرد بها الباسور يعفى لصاحبه عن غسله، وإنما يعفى عن البلل الحاصل من الباسور في اليد إن كثر الرد؛ يعني أن محل العفو عن غسل البلل المذكور إنما هو حيث كثر رد الباسور؛ بأن يحصل كل يوم مرة فأكثر اضطر لرده أم لا وهو ظاهر المدونة، والعفو في صاحبه ولو إماما مع الكراهة كما مر في التي قبلها، وأما لو أصاب ثوب غيره فلا يعفى عنه على المعتمد، والباسور بالباء الموحدة هو ورم المعدة من داخل، وخروج الثئاليل منها. جمع ثؤلول بمثلثة مضمومة فهمزة ساكنة كعصفور، ويجوز التخفيف: حب يظهر في الجسد كالحمصة فما دون، ولأحمد أنه خروج رأس العرق، وأما الناسور فيعفى عنه مطلقا؛ وهو انفتاح العروق، وجريان مادتها، وفي الحديث:(كان يستنجي بالماء ويقول هو شفاء من الباسور)
(1)
، يروى بالباء والنون، والظاهر أن المذهب لم يختلف في نجاسة بلة الباسور، ومثل اليد الثوب الذي يرد به الباسور فيعفى عن غسله إن كثر الرد، أو ثوب يعني أن ثوب صاحب الباسور؛ أي الثوب الذي هو لابسه لا الثوب الذي يرد به الباسور معفو عما يصيبه من بلل الباسور مطلقا كثر الرد أم لا كما يفهم من تأخيره عن الشرط، ومثل ثوبه بدنه ومكانه فيعفى عنهما كثر الرد أم لا، والظاهر أن النجاسة الحاصلة بخروج الصرم كالباسور بموحدة فيعفى عنه في اليد إن كثر الرد، ويدل له تفسير أحمد المتقدم، والضرورة في هذه المسائل التي ذكرها المص هي كثرة الإصابة قل المصيب في نفسه أو كثر.
وثوب مرضعة يعني أن المرضعة يعفى لها عن غسل ما أصاب ثوبها أو جسدها من بول الرضيع الذي ترضعه لزمها الرضاع، أم لا. حيث كانت أما، كغيرها إن اضطرت له، أو لم يقبل غيرها
(1)
عن عائشة أن نسوة من أهل البصرة دخلن عليها فأمرتهن أن يستنجين بالماء وقالت مرن أزواجكن بذلك فإن النبى صلى الله عليه وسلم كان يفعله وهو شفاء من الباسور عائشة تقوله أو أبو عمار. مسند أحمد، ج 6 ص 93.
كحامل الولد غير ظئر مع احتياجها، أو عدم قبول الولد غيرها، وقوله:"وثوب مرضعة" العفو على ما في التوضيح مخصوص بما يصيبها مدة الرضاع لا ما بعد استغناء الرضيع ولو قبل حولين فلا عفو عنها، وإنما يعفى عن ثوب المرضعة إذا كانت تجتهد أي تبالغ في التحفظ من إصابة البول، وتبذل وسعها في ذلك بأن تجعل خرقا للصغير تمنع من وصول بوله إليها، أو تنحيه عنها حال البول، أو جعل مكان له يخصه فلو أصابها بعد التحفظ فإنها لا تؤمر بغسله إلا ندبا إن تفاحش، ولولا العفو لوجب عليها النضح عند الشك، والغسل عند التحقق، والعفو أسقط هذين الأخيرين. وقوله:"تجتهد" هو شرط في العفو فإذا لم تجتهد وجب عليها النضح عند الشك، والغسل عند تحقق الإصابة، والعفو إنما هو بالنسبة للبول لا الغائط، ولابن فرحون أنها تغسل ما رأت بعد الاجتهاد، وإنما يعفى عما يصيبها ولا تعلم به، لأن ثوب المرضع لا يخلو من إصابة بول أو غيره. انتهى. وظاهره أنه يعفى عما يصيبها من غائطه. انتهى. قال ابن الإمام: وما ذكره ابن فرحون من أن ما رأته لابد من غسله خلاف ما يفهم من عباره التوضيح، وابن عبد السلام وابن هارون وابن ناجي وغيرهم أنها إذا اجتهدت في درء البول فإنه يعفى عما أصابها بعد ذلك ولو رأته، وأنها إنما تؤمر بغسله إن تفاحش، ويلحق بالمرضعة الكناف؛ أي نازح الكنيف، والجزار فيعفى عما أصابهما إن اجتهدا في التحفظ في درء النجاسة، والظئر التي ليست بأم والحاملة المتبرعتان؛ أي لم تدع ضرورة إليهما لا يعفى عما أصابهما. هذا على ما في التوضيح لا على ما يفيده كلام الوانوغي والمشدالي فيعفى عما أصاب المتبرعة منهما، فلا يعتبر في العفو فيهما الحاجة، ولا كون الولد لم يقبل غيرهما، وندب لها ثوب للصلاة يعني أنه يندب للمرضع أن تعد ثوبا للصلاة، وكذا من ألحق بها، ولا يندب لذي سلس ودمل ونحوهما لاتصال سبب عذرهم فلا يمكن تحفظ من خروج نجاسة حتى في حال الصلاة فلا فائدة في تجديدهم الثوب بخلافها، ولم يوجبوا عليها إعدادها للثوب لأنه أمر يتكرر فأشبه حالُها حالَ المستنكح، ولخفة أمر النجاسة. ودون درهم من دم يعني أن ما دون الدرهم من الدم يعفى عن غسله فلا تقطع له الصلاة، وسواء في ذلك عين الدم وأثره على الراجح، وللباجي أن أثر الدم ولو فوق الدرهم يسير، وفي حاشية الأمير: لا فرق بين المختلط وغيره حيث كان المختلط طاهرا، نعم إن خالطه نجس غير معفو عنه
انتفى العفو، وخالفت الشافعية فعندهم نصف درهم مثلا من دم إذا طرأ عليه قدر نصفه ماء طهور لا يعفى عنه لأن النجس الماء، وإذا طرأ عليه ذلك من عين الدم ما زال معفوا عنه، نعم في مذهبنا إذا وقع دون الدرهم في الطعام المائع ينجسه، فإذا أصاب من هذا الطعام نجس دون الدرهم لم يعف عنه. انتهى. ومعنى قوله: مطلقا سواء كان دم حيض، أو نفاس، أو ميتة، أو خنزير من جسد أو غيره، رآه في صلاة أو خارجها في ثوبه أو ثوب غيره إن احتاج له كما قال ابن العربي: وإلا لم يعف عنه في حقه، وجعل الحطاب وبعض الشراح ثوب غيره كثوبه ولم يقيداه بالاحتياج، والظاهر أن القيد مراد قطعا وإن لم يصرحا به؛ إذ الكلام في جزئيات العفو عما يعسر فما لا يحتاج إليه لا مشقة فيه، ثم العفو بالنسبة للصلاة ولدخول مسجد مع مكث به، وإذا كان الدم بأكثر من موضع بحيث إذا جمع يحصل منه ما لا يعفى عنه، لم يعف عنه، والمعتبر مساحة الدرهم لا وزنه، فإن شك في أن المصيب درهم أو دونه عفي عنه، وإن شك في أنه دونه أو أكثر لم يعف عنه، وأولى لو شك أنه درهم أو أكثر، والعفو عن دون درهم لا ينافي أنه يندب غسله قبل دخول الصلاة، وكراهة دخولها قبله. وفي المدونة: لا بأس بنزع ما فيه يسير الدرهم المعفو عنه وهو في الصلاة بل يندب ذلك. ابن يونس: معناه إذا كان عليه ما يستره غيره وهو ظاهر، فإن لم يكن عليه ما يستره غيره لزمه تمام الصلاة به. سند: إذا كان في نزعه عمل كبير فلا ينزعه؛ لأن نزعه ليس بواجب، وفعل العمل الكثير يفسد الصلاة. ورأى القابسي ذلك من إصلاح الصلاة فلا تفسد بكثيرة فاليسير كنزع القلنسوة والرداء والعمامة ونحو ذلك، ومفهوم قوله:"دون درهم" أن الدرهم من الدم لا يعفى عنه، وهو كذلك على أحد قولين متساويين، أو الراجح القول بالعفو، وقد مر المص على العفو فيما يأتي من قوله في الرعاف: فإن زاد عن درهم قطع أي بطلت، والمراد بالدرهم هنا الدرهم البغلي نسبة إلى الدائرة التي بباطن ذراع البغل، وقال النووي: نسبة إلى سكة قديمة لملك يسمى رأس البغل، والظاهر أن ذلك متقارب قاله الحطاب، وقوله:"ودون درهم" هو بيان للقدر اليسير الذي يعفى عنه من الدم، وقيل: إن اليسير قدر الخنصر أي مساحة رأسه، وفي سماع أشهب: لا أجيبكم لتحديده هو ضلال، الدراهم تختلف،
فأشار إلى أنه يرجع فيه للعرف؛ وعليه اقتصر في العارضة. قال الجزولي: وهو المشهور، ولم يعتمد المتأخرون تشهيره.
واعلم أن العراقيين قالوا: يعفى عن يسير الدم في الصلاة وخارجها، وفي المدونة يؤمر بغسله إذا رآه خارج الصلاة، وإنما يعفى عنه فيها، فحملها ابن هارون والمص على الاستحباب، وحملها عياض وأبو الحسن وابن عبد السلام وغيرهم على الوجوب، لكن ابن عبد السلام استظهر مذهب العراقيين. انتهى ملخصا من الحطاب، وعبد الباقي، والشبراخيتي. وحاشية محمد بن الحسن. وقال الحطاب: يؤخذ من كلام ابن عبد السلام أن الدم اليسير وجميع النجاسات المعفو عنها إذا أصابت طعاما أنها لا تنجسه والله أعلم. وقد تقدم عن البرزلي وغيره ما يخالف ذلك، وقوله:"مطلقا" رد به على ابن حبيب القائل لا يعفى عن يسير الحيض لمروره على محل البول ورواه ابن شأس عن مالك: وقال ابن وهب: لا يعفى عن ذلك، ولا عن يسير دم الميتة، وخرج سند عدم العفو عن دم الخنزير، ورأى بعض الشيوخ أن العفو خاص بما كان من جسم الإنسان، وما وصل إليه من خارج فكالبول، وعن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه يعفى عن يسير الدم في البدن لا الثوب، وهو خلاف المعروف في المذهب قاله الحطاب، وفي ابن عرفة: وفي طهر الفم بانقطاع دمه نقلا اللخمي مرجحا الأول، وابن العربي مرجحا الثاني، وفيها: كره لمن بثوبه قطرة دم نزعه بفيه ومجه بل يغسله، ومن بصق في صلاته دما فلا شيء عليه إن لم يتفاحش، وروى ابن حبيب: من دمى فوه بالمسجد انصرف حتى ينقطع وإن كان بغيره بصق حتى ينقطع، ولا يقطع صلاته إلا أن يكثر جدا يعني أنه يعفى عن دون الدرهم من القيح فلا تقطع له الصلاة، والقيح مدة لا يخالطها دم، رقيقة كانت أو غليظة قاله الشبراخيتي صديد يعني أن دون الدرهم من الصديد معفو عنه؛ وهو مدة رقيقة أو غليظة مخلوطة بدم قاله الشيخ عبد الباقي، وخصت هذه الثلاثة بهذا الحكم دون سائر النجاسات؛ لأن الاحتراز عن يسيرها عسير بخلاف ما يخرج من الجسد من نحو حرق، ونص المص على القيح والصديد وإن كان أصلهما دما لأنهما أقذر فربما يتوهم عدم العفو عنهما، وألحق بعضهم بالمعفوات ما يغلب على الظن من بول الطرقات إذا لم يتبين فلا يجب غسله من ثوب أو خف أو جسد، مثل أن تزول الرجل من النعل
وهي مبلولة فيصيبها من تراب الطريق ما يغلب على الظن مخالطة البول له إذ لا يمكن التحرز منه ولأن أصله الطهارة، وقوله:"ودون درهم" الخ هذا في غير أثر الدمل الذي لم ينكأ، وأما الدمل الذي لم ينكأ فإنه يعفى عنه ولو زاد عن درهم، وقوله:"وقيح وصديد" ما ذكره المص فيهما هو مذهب المدونة، وعن مالك في المبسوطة عدم العفو عن يسيرهما، وصرح ابن هارون بأن المشهور أنهما كالدم، وفي الإكمال في حديث شق العسيب على القبرين
(1)
أن القليل من النجاسة والكثير غير معفو عنه وهو مذهب مالك وعامة الفقهاء إلا ما خففوه في الدم، وقال الثوري كانوا يرخصون في الخفيف من البول، ورخص أهل الكوفة في مثل رؤوس الإبر، وقال مالك والشافعي وأبو ثور: يغسل، وذكر إسماعيل القاضي أن غسل ذلك على طريق الاستحسان والتنزه وهذا مذهب الكوفيين خلاف المعروف من مذهبه. وحكى في الإكمال عن مالك: اغتفار ما تطاير من البول مثل رؤوس الإبر، ثم اغتفاره يحتمل أن يكون عند بوله لأنه محل الضرورة لتكرره، ويحتمل أن يكون عاما في كل يسير من البول كما هو ظاهر نقل عياض. والاحتمال الأول هو ظاهر نقل ابن بطال عنه. قال ابن الإمام: وهو أقرب لعسر الاحتراز منه حينئذ انتهى. وفي الإرشاد: ويعفى عن يسير كل نجاسة ما عدا الأخبثين؛ وهو قدر الدرهم فدونه، قال الشيخ زروق يعني أن كل نجس خارج من الجسد يعفى عن قليله إلا البول والغائط، وليس ذلك إلا الدم وتوابعه من القيح والصديد انتهى. وعموم كلام الإرشاد مشكل ففي المدونة: والبول، والرجيع، والمني، والمذي، والودي، وخرء الطير التي تصل إلى النتن، وزبل الدواب وأبوالها قليله وكثيرة سواء يغسل، وتقطع منه الصلاة إلا أنه يدخل في قول الشارح: الدم وتوابعه ما يسيل من الجراح من مائة، أو من نفط النار، وما ينفط أيام الحر في بدن الإنسان فإن نجاسة ذلك واضحة كما مر في الكلام على القيح والصديد، ويكون ما خرج من تلك النفطات من نفسه بمنزلة ما يخرج من الدمل من غير إنكاء يعفى عن كثيرة وقليله قاله الحطاب. وإذا اتصل اليسير المعفو عنه مما تقدم بماء فالظاهر أن العفو باق خلافا للشافعية كما يدل
(1)
مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله قال فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا. مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:292.
على ذلك فروع المذهب، قال ابن عبد السلام: والعفو لا تلزم إزالته فإن أزيل وبقي طعمه أو غيره عفي عنه؛ إذ العفو عن الكل يستلزم العفو عن الجزء، وفي العارضة أن من دمي فمه ثم مج ريقه حتى ذهب الصحيح طهارته بالماء إن كان كثيرا، وإن كان يسيرا عفيَ عنه ولا يطهر الريق شيئا. وذكر البرزلي في مصل أخذ نخامة بكمه ثم وجد فيها دما: لا إعادة عليه ليسارته ولو عرق من المستجمر موضع الاستجمار فانتشر حتى أصاب الثوب والجسد كان معفوا عن ذلك على الأصح، وقد قالوا في يسير الدم إن الأظهر أنه كالمائع الطاهر والله تعالى أعلم.
وبول فرس لغاز بأرض حرب يعني أن الغازي إذا كان بأرض الحرب فإنه يعفى له عما يصيب ثوبه وبدنه من بول الفرس، وحاصل ما للحطاب على المص هنا أنه أتى بثلاثة قيود: كون البول من فرس. وكونه لغاز، وكونه بأرض الحرب. وبقي عليه قيد رابع وهوأن لا يجد من يمسد له، ثم قال بعد هذا. والمفهوم من الرواية وكلام ابن رشد والباجي وسند أن الضرورة متحققة مع القيود الأربعة، فلذا جزم المص بالعفو حينئذ فإن فقد شيء من القيود أمر بالتوقي جهده فما أصابه بعد ذلك فمعفو عنه كثوب المرضع انتهى. وجعل الشيخ عبد الباقي الروث كالبول وناقشه الشيخ محمد بن الحسن في ذلك فقال: لم أر من نص عليه، والذي في كلامهم هو التعبير بالبول كعبارة المص فانظر ما مستنده في الروث انتهى. وتابعه الشيخ الأمير على ذلك فإنه قال عاطفا على ما عفى عنه: وكنجاسة دواب لمعاينها إن اجتهد. أو كانت بولا لغاز بأرض حرب انتهى. فتحصل أنه متى وجدت القيود الأربعة عفي عن غسل بول الفرس مطلقا، ومتى اختل قيد منها بأن كانت الدابة بغلا أو حمارا أو فرسا لغير غاز من مسافر، أو حاضر محتاج لملابسة الدواب، أو لغاز بأرض الإسلام فلابد في العفو من الاجتهاد كالمرضع، وحاصل هذا الحاصل أن كل من لابس الدواب لحاجته ولم يكن غازيا بأرض حرب يعفى عما أصابه من رجيع الدواب مع التحفظ، والغازي المذكور معفو عما أصابه مطلقا، وقوله:"وبول فرس" لخ سواء كان البول قليلا أو كثيرا وأثر ذباب من عذرة يعني أن ما يصيب بدن الشخص أو ثوبه من أثر فم الذباب أو رجله من العذرة وأولى من البول معفو عن غسله، قال الحطاب: لا مفهوم للتقييد بالعذرة، وكأنه قصد التنبيه على أنه إذا عفي عن العذرة مع إمكان ظهور ما أصاب منها فغيرها مما لا يظهر أثره
كالبول أو مما نجاسته مخففة كالدم والقيح إما مثلها أو أولى، ووقع في عبارة بعضهم التعبير بالنجاسة وهو ظاهر انتهى. فإن وقع بجملته في قذر لم يعف عما أصابه حيث زاد على أثر أرجله وفمه، وكلام المص في ذباب صغير، وأما الكبير فوقوعه على الآدمي نادر كالنمل فلا يعفى عن أثرها كأثر نحو بنات وردان وزنبور ونحل، وإذا تحقق وصول أثر نجاسة لثوب أو بدن وشك هل ذلك من ذباب صغير أو من غيره، أو شك هل هو من فيه أو من رجله أو من وقوعه بجملته في القذر فالظاهر عدم العفو، والعفو في كلام المص خاص بالصلاة، وأما الطعام فلا لقوله:"وينجس كثير طعام مانع بنجس قل"، وقوله:"وأثر ذباب" سواء كان في موضع يكثر فيه الذباب أم لا، وورد في الحديث (أن في أحد جناحية -أي الذباب- داء وفي الآخر شفاء فإذا وقع في إناء أحدكم سم فليغمسه كله)
(1)
، وفي رواية (أنه يتقي بالذي فيه الداء)
(2)
، ولم يقع في شيء من الطرق تعيين الجناح الذي فيه الشفاء من غيره، لكن ذكر بعض العلماء أنه تأمله فوجده يتقي بجناحه الأيسر، فعرف أن الأيمن هو الذي فيه الشفاء. وأخرج أبو يعلى عن ابن عمر مرفوعا: (عمر الذباب أربعون يوما
(3)
، والذباب كله في النار إلا النحل)
(4)
وسنده لا بأس به قال الحافظ
(5)
: كونه في النار ليس لتعذيبه بل ليعذب به، ويتولد من العفونات، ومن عجيب أمره أن رجيعه على الثوب الأسود أبيض وبالعكس، وأكثر ما يكون في أماكن العفونات، ويبتدأ خلقه منها ثم يتوالد، وهو أكثر الطيور سفادا، وربما بقي عامة اليوم على الأنثى. ويحكى أن بعض الخلفاء سأل الشافعي لأي علة خلق الذباب فقال: مذلة للملوك، وكانت ألحت عليه ذبابة قال الشافعي: سألني ولم يكن عندي جواب فاستنبطت ذلك من الهيئة الحاصلة رحمة الله ورضوانه عليه، قاله الشيخ الحطاب والشيخ إبراهيم.
(1)
إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحية داء وفي الآخر شفاء. البخاري في صحيحه، كتاب الطب، رقم الحديث:5782.
(2)
إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه فإن في أحد جناحية داء وفي الآخر شفاء وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء فليغمسه كله. أبو داود في سننه، كتاب الأطعمة، رقم الحديث:3844.
(3)
الذي في فتح الباري: ليلة ج 10 ص 250.
(4)
عمر الذباب أربعون ليلة، والذباب كله في النار إلا النحل. المطالب العالية، ج 2 ص 296. وفتع الباري، ج 10 ص 250.
(5)
الذي في فتح الباري: الجاحظ. ج 10 ص 250.
وموضع حجامة يعنى أنه يعفى عن غسل أثر دم حجامة، أو فصد، أو قطع عرق، وإنما يعفى عن غسل الموضع المذكور حيث مسح عنه الدم. وهذا إذا كان أثر الدم أكثر من درهم، وإلا فلا يعتبر في العفو المسح، والمراد بموضع الحجامة ما بين الشرطات وما قاربها لا الشرطات نفسها. وقوله:"مسح" صفة لموضع أو حال منه، والمسح المذكور واجب فإن لم يمسح أعاد في الوقت مطلقا، أو يقال إنه كمن ترك الغسل، وإنما عفي عن غسله حيث مسح لما يتضرر به من وصول الماء إلى ذلك فيرخص له في تأخير الغسل حتى يبرأ، فإذا برأ غسل يعني أن هذا الذي عفي له عن غسل موضع الحجامة يجب عليه أن يغسل ذلك المحل إذا برأ، وبرأ من المرض مثلثة، وأما من الدين فبالكسر فقط، وفاعل برأ ضمير يعود على الماسح، وإلا أعاد في الوقت يعني أن هذا المحتجم ومن في حكمه إذا برئ ولم يغسل ذلك الموضع الذي يجب عليه غسله بل صلى؛ والحال أنه لم يغسله فإنه يعيد في الوقت قاله في المدونة وأول بالنسيان يعني أن ما في المدونة من الإعادة في الوقت تأوله ابن أبي زيد وابن يونس على ما إذا كان هذا المحتجم ترك الغسل نسيانا له، وأما إن كان عامدا فيعيد أبدا: وهذا التأويل هو الظاهر الجاري على القواعد قاله الإمام الحطاب.
وبالإطلاق يعني أن أبا عمران تأول ما في المدونة على الإطلاق فحمل المدونة على ظاهرها فيعيد كل من الناسي والعامد في الوقت، وهذا التأويل هو المذهب، ووجهه أن هذا أثر وليس بعين فروعي فيه لمن لا يأمر بغسله؛ وهو الباجي كما مر وكطين مطر يعني أن ما يصيب البدن أو الثوب أو الخف أو النعل من طين المطر ومن مائة المستنقع بكسر القاف في السكك والطرقات التي فيها العذرة وسائر النجاسات يعفى عن غسله، قال فيها: ولا بأس بطين المطر المستنقع في السكك والطرق يصيب الثوب أو الخف أو النعل أو الجسد، وإن كانت فيه العذرة وسائر النجاسات، وما زالت الطرق وهذا فيها والصحابة يخوضون طين المطر ويصلون ولا يغسلون. سند: ظاهره أنه لا فرق بين أول مطرة وغيرها، ولا بين ما أصاب حين نزول المطر أو بعد انقطاعه، وأتى بالكاف ليدخل ماء الرش الذي في الطرقات، والمستنقع من فضلات النيل في الطرقات وإن اختلطت العذرة بالمصيب هو مبالغة في العفو؛ يعني أنه يعفى عما أصاب مما ذكر حيث كان
المختلط بالطرق روث الدواب وأبوالها بل ولو كان المختلط بها العذرة فالكل معفو عنه إلا ما سيبينه (لا إن غلبت) يعني أن العذرة إذا غلبت أي كثرت بأن كانت أكثر من الطين تحقيقا أو ظنا قويا كطين المرحاض فإنه لا يعفى حينئذ عما أصاب، هذا هو المعتمد دون قوله (وظاهرها العفو) يعني أن ظاهر المدونة يقتضي العفو حيث غلبت العذرة، ونص المدونة: ولا بأس بطين المطر وماء المطر المستنقع في السكك والطرق يصيب الثوب أو الخف أو النعل أو الجسد وإن كانت فيه العذرة وسائر النجاسات وما زالت الطرق وهذا فيها والصحابة يخوضون طين المطر ويصلون ولا يغسلون انتهى، ومنهم من أبقى المدونة على ظاهرها، قال الشيخ عبد الباقي: ظاهرها ضعيف ومقيد على تسليمه بما إذا استوى وجودها في طريقين أو أكثر، وفي الأمن والخوف والقرب والبعد والسهولة والصعوبة على ما هو الظاهر، فإذا سلك في الطريق التي غلبت فيها النجاسة لقربها أو سهولتها أو أمنها وترك الأخرى لوجود ضد واحد من هذه الأمور فإنه يعفى عما أصابه، ويدخل في ذلك ما إذا ترك سلوك الطريق التي لم تغلب فيها النجاسة خوفا من حبسه وهو معسر، ثم يجب غسل الثوب ونحوه إذا ارتفع زمن المطر كما أفتى به بعض الأشياخ، وخرجه الباجي على وجوب غسل موضع الحجامة إذا برئ، وزاد الحطاب جفاف الطين فقال: ارتفع المطر أو زمن المطر وجف الطين. انتهى كلام الشيخ عبد الباقي.
ولا إن أصاب عينها يعني أنه إذا أصاب عين النجاسة فلا عفو، وإنما محل العفو حيث أصاب الطينُ ونحوُه ولم يصب عينها، وتحصل من كلام المص أربع صور كلها مع تحقق وجود النجاسة في المطر: إحداها كون الطين أكثر من النجاسة ثانيها كون الطين مساويا للنجاسة ولا إشكال في العفو فيهما كما أشار إلى ذلك بقوله: "وكطين مطر وإن اختلطت العذرة بالمصيب"، الثالثة غلبة النجاسة على الطين وهي لا عفو فيها عند ابن أبي زيد بل يجب غسل المصيب كما أشار إلى ذلك بقوله:"لا إن غلبت"، ويعفى عن غسل ما يصيب على ظاهر المدونة كما أشار له بقوله:"وظاهرها العفو" الرابعة أن تكون عينها قائمة وتصيب فلا عفو بل يجب الغسل كما أشار إلى ذلك بقوله: "ولا إن أصاب عينها" قال ابن ناجي: خصص المغربي قوله: يخوضون طين المطر ويصلون ولا يغسلونه بالمسجد المحصب كمسجدهم، وأما غير المحصب المفروش بالحصير فيغسل
لأنه يلوث الحصير وبه الفتوى عندنا بإفريقية، وفي الحطاب: وأما طين الماء المستنقع في الطرقات وماء الرش الذي لا تنفك عنه الطرق غالبا فهذا يعفى عما يصيبه منه دائما لأنه لا تنفك عنه الطرق. انتهى. فهو بخلاف مات المطر المتقدم ذكره، وذكر ابن ناجي في شرح المدونة والرسالة أن ثمانية أشياء تحمل على الطهارة وهي: طين المطر، وأبواب الدور، وحبل البئر، والذباب يقع على النجاسة. وقطر سقف الحمام، وميزاب السطوح، وذيل المرأة، وما نسجه المشركون، انتهى والله أعلم قاله الحطاب، ونظمها بعضهم فقال:
طين الشوارع والأمطار يتبعها
…
حبل لبير وباب الدار ذيل نسا
ونسج شرك وميزاب السطوح وما
…
عساه يقطر بالديماس إن لمسا
كذا الذباب إذا ما حل في قذر
…
وطار عنه وفوق الثوب قد جلسا
فكل هذا على طهر له حملوا
…
أعاذنا الله مما يوجب الدنسا
نقله الشيخ إبراهيم قال في القاموس: الديماس ويكسر الكن والسرب والحمام وهو المراد في النظم، وما تقدم أن الصور الأربع كلها مع تحقق النجاسة هو للشيخ محمد بن الحسن، وفي الحطاب عن ابن هارون هذه المسألة على أربعة أوجه: أحدها أن يتساوى الاحتمالان في وجود النجاسة وعدمها فهذا يصلى به على ما قاله في المدونة لترجح الطهارة بالأصل، الثاني أن يترجح احتمال وجودها فهذا يصلي به على ما قاله في المدونة ترجيحا للأصل، ويغسله على رأي أبي محمد ترجيحا للغالب: والثالث أن يتحقق وجودها ولكن لا تظهر لاختلاطها بالطين فظاهر المدونة أيضا أنه يصلي، ويغسله على رأي أبي محمد وهو أحسن لتحقق النجاسة، ونحود للباجي، الرابع أن تكون لها عين قائمة فها هنا يجب غسلها. وقد مر أن طين المطر لا يعفى عنه بعد زوال المطر وجفاف الطين، بل يجب غسله إذ ذاك، ومحل ذلك إذا لم يتكرر المطر حتى يغلب على الظن زوال النجاسة وإلا فلا، ومحل وجوب غسله أيضا حيث يغلب على الظن وجود النجاسة بالمصيب، وإلا فلا انظر الحطاب.
وذيل امرأة مطال لستر يعني أن المرأة إذا أطالت ذيلها؛ أي طرف ثوبها لأجل الستر وكان يابسا ومرت به على نجاسة يابسة فإنه يعفى لها عن غسل طرف ثوبها الذي مرت به على نجاسة يابسة لأنها يجب عليها ستر رجليها، ولها أن تبلغ بالإطالة شبرا أو ذراعا ولأنه يطهر بما بعده كما سينص عليه قريبا، ومفهوم امرأة أن الرَّجُلَ ليس كذلك، وهو كذلك فيجب عليه النضح مع الشك، والغسل مع التحقق على ما يأتي إن شاء الله في قوله:"وإن شك في إصابتها لثوب" الخ، ولو كان طرف ثوبها مبلولا لم يعف عنه كما لو لم يكن مطالا لستر بل للزينة مثلا فلا يعفى عنه أيضا، وقوله:"وذيل امرأة" اعلم أن ابن عبد السلام يراعي تعليل الستر بكون الساق عورة فخص العفو بالحرة: وغيره يراعي أنها يجوز لها أن تستتر فعمم العفو في الحرة والأمة وهو الذي تفيده إطلاقاتهم، والأصل فيما ذكر المص حديث أم سلمة لا سئلت عن ذلك فقالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يطهره ما بعده)
(1)
، وفي الموطإ قال صلى الله عليه وسلم:(ترخيه شبرا، فقالت أم سلمة إذن تنكشف، قال: قدر ذراع لا تزيد عليه)
(2)
، انتهى. والذراع شبران وإنما ترخيه ذراعا إذا احتاجت إلى ذلك في الستر، وإلا لم تزد على ما تحتاج له ومحل العفو إذا لم تلبس الخف أو الجورب، وإلا لم يعف عما أصاب ذيلها كان من زيها لبس الخف أم لا كما يفيده المص والباجي، قاله الشيخ محمد بن الحسن.
ورجل بلت يعني أن من وطئ برجله وهي مبلولة على نجاسة يابسة فإنه يعفى له عن غسلها لأنها تطهر بما بعدها، والذي يظهر أن مفهوم قوله:"بلت" أحروي، ويؤيده الخبر (فإن التراب له طهور)
(3)
، فإن ظاهره كانت مبلولة أو يابسة، وهذا أورده بعضهم هنا دليلا والله سبحانه أعلم. وقوله: يمران راجع لذيل المرأة وللرجل فالضمير يعود عليهما، والجملة صفة لهما أو حال منهما، وفوله: بنجس متعلق بيمران، وقوله: يبس بكسر الباء صفة لنجس، ومفهوم قوله:"يبس" أنهما لو
(1)
أبو داود، كتاب الطهارة، الحديث 383.
(2)
عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت حين ذكر الإزار فالمرأة يا رسول الله قال ترخيه شبرا قالت أم سلمة إذا ينكشف عنها قال فذراعا لا تزيد عليه الموطأ، كتاب اللباس، ص 575.
(3)
أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، رقم الحديث 385.
مرا بنجاسة رطبة فلا عفو، وظاهر الحديث عدم الفرق بين يابس النجس ورطبه؛ فإن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن قالت لأم سلمة إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر، فقالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يطهره ما بعده)
(1)
لكن حمله مالك على القشب اليابس، والقشب بسكون المعجمة هو الرجيع اليابس وأصله الخلط بما يفسد قاله عياض، وقال ابن فرحون: والقشب بفتح القاف والشين، وجاء بكسر القاف وسكون الشين. هو كالعلة لما قبله؛ أي عفي عن ذيل امرأة ورجل مرا بنجس يابس لأنهما يطهران بما بعده من أرض أو غيرها طاهر يابس، ووجه العفو هنا أنه قد يتعلق بالذيل والرجل غبار النجس اليابس فيعفى عن غسلهما مع التحقق، ونضحهما مع الشك والعفو هنا لا يختص برجيع الدواب خلافا للتونسي القائل إنه يختص بروث الدواب وأبوالها كمسألة الخف الآتية، وقال الباجي: يجب غسل ما تحققت إصابة عين النجاسة له: والمراد بالطهارة هنا الطهارة اللغوية أي ينظفان لأن الطهارة الشرعية لا تكون بغير المطلق، وحينئذ يكون للعفو محل. وقوله:"بنجس يبس"رد به القول بأن ذيل المرأة إذا مر بنجس رطب يعفى عنه وهو خلاف المشهور، والمشهور أنه لا يعفى عن ذيلها إذا أصابته نجاسة رطبة، وقد مر أن ظاهر الحديث أنه لا فرق بين يابس النجس ورطبه والله سبحانه أعلم، وفهم من قوله:"وذيل امرأة مطال لستر" الخ أن الغبار غير معفو عنه إلا في هذين، ولذا قال ابن القاسم من لصق ثوبه بجدار مرحاض إن كان يشبه البلل غسله، وإن كان يشبه الغبار رشه. انتهى، وهذا هو الفقه الحقيقي لأنه إذا كان به بلل لا يشك في علوقه بالثوب فيجب غسله حينئذ. وإذا كان به غبار فقد يشك أنه علق به منه شيء فيجب النضح: وقوله: "مطال لستر ورجل بلت" سواء في ذلك الواحدة والاثنتان، وإسناد المرور للرجل حقيقي، وللذيل مجاز قاله الشبراخيتي. وسواء رفعت الرجل بالحضرة أو بعد مهلة.
واعلم أن الباجي قال في حديث الذيل أعني حديث أم سلمة: يطهره ما بعده ما حاصله أنه يحمل الحديث على ما إذا شكت في إصابة النجاسة لها، أو في نجاسة ما أصابها ولا يلزمها
(1)
يطهره ما بعده. الموطأ، كتات اللباس، رقم الحديث:47.
غسلها في الصورتين على المشهور بل النضح في الأولى فقط، وقوله:"ورجل بلت" الرخصة هنا فيه أن يجتزئ بمسح الأرض عن غسل الماء كما في الحديث (إذا وطئ أحدكم برجله الأذى فإن التراب له طهور)، وقوله:"ورجل بلت" أصله ما في سماع أشهب: سئل مالك عن الرجل يتوضأ ثم يطأ الموضع القذر الجاف. قال: لا بأس بذلك، وقد وسع الله على هذه الأمة ثم تلا {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به}. انتهى. وفيه ثلاث تأويلات: أحدها لابن رشد معناه أنه موضع قذر لا يوقن بنجاسته، فحملها على الطهارة؛ لأن الاحتراز من مثل هذا يعسر، فهو من الحرج الذي رفعه الله، ولو أيقن بنجاسته لوجب أن يغسل رجليه؛ لأن النجاسة تتعلق بهما وإن كانت يابسة لأجل بللهما، وحمل غير ابن رشد الرواية على أن الموضع نجس، ثم اختلفوا فقال ابن اللباد: وذلك إذا مشى بعد ذلك على أرض طاهرة كمسألة الذيل وهذا ثاني التأويلات، وقال اللخمي: إنما أراد مالك إذا رفع الرجل بالحضرة بحيث لا ينماع من النجاسة إلا شيء يسير فهو محل العفو وهذا هو ثالث التأويلات. وفي كلام سند ميل لكلام ابن اللباد، وذكر المازري عن بعضهم أنه علل ذلك بأن الماء يدفع عن نفسه فلا ينجسة إلا ما غيره، ولا يتحلل من النجاسة ما يغير أجزاء الماء الباقي في رجليه، فلما اجتمع هؤلاء الشيوخ كلهم على حمل الرواية على أن المراد بالقذر النجس، وإنما اختلفوا في توجيه ذلك تبعهم المص، واقتصر على تأويل ابن اللباد، لاقتصار ابن يونس وجماعة عليه. قاله الحطاب وخف ونعل من روث دواب أو بولها يعني أن الخف والنعل إذا تنجسا من روث الدواب وأبوالها فإنه يعفى عن غسلهما إن دلكا، يعني أنه إنما يعفى عن غسلهما بشرط الدلك، والدلك هو المسح بتراب أو خرق أو غيرهما والأفضل التراب لخبر (إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور)
(1)
رواه أبو داود قاله الحطاب والشبراخيتي، وشرط الدلك أن لا يبقى بعده شيء يخرجه المسح لعدم بقاء شيء من العين كحجر الاستجمار، ولا يشترط زوال الريح، ومثل الدلك جفافهما بحيث لم يبق شيء يخرجه المسح بحيث لم تبق له عين، وظاهر المص أن العفو بالنسبة للصلاة وغيرها كدخول مسجد به، ومكثه
(1)
أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:385.
به. وكملاقاته أثر ذلك ثوبا مبلولا أو غيره فلا يضر، وظاهر المدونة أن العفو بالنسبة للصلاة ومثله لابن الحاجب. قال ابن مرزوق وعلى الأول فله المشي بهما في المسجد حيث لم يكن محصرا، ولا مبلطا، وإلا منع، ولو شك في مصابهما هل هو مما ذكر أو عذرة؟ فالظاهر عدم العفو ومحل العفو في موضع تكثر فيه الدواب، وإن لم تكثر فلا عفو، وكلام المص معلل بالمظنة فلا يقال فإن تيسر له الغسل فلا عفو قاله الشيخ محمد بن الحسن رادا على الشيخ عبد الباقي في قوله: والعفو في كلام المص حيث شق عليه غسل ما أصابه كما هو من أفراد "وعفيَ عما يعسر" فإن تيسر له فلا عفو. انتهى والله تعالى أعلم. وفي الشبراخيتي ما يقوي ما قاله عبد الباقي فإنه قال: وكلام المص فيمن عجز عن الغسل لقول الطراز إن تيسر له الغسل كأن يجد الماء عند باب المسجد فإنه يغسل انتهى. ذكره في مسألة الرجل كانت لفقير أو لغني على أحد القولين انتهى. وقوله: "من روث دواب" المراد بالدواب الخيل والبغال والحمير، والروث عبارة عن رجيع غير بني آدم.
واعلم أن كل ما يمشى به كالأقراق والسمسكين بمنزلة النعل والخف كما ذكرد ابن الإمام قاله الحطاب، وقوله:"من روث دواب وبولها" كانت رطبة أو يابسة، وكان مالك يقول أولا بعدم العفو، ثم رجع إلى العفو لعمل أهل المدينة ولابن حبيب ثالث بالعفو عن الخف دون النعل لا غيره. يعني أن الخف والنعل إذا تنجسا من غير رجيع الدواب فإنه لا يكفي فيهما الدلك بل لابد من غسلهما، وذلك كالدم والعذرة وخرء الكلب والهرة وبولهما وغير ذلك، والعلة ندور ذلك في الطرقات، ولذلك قال ابن العربي في العارضة: إذا وطئ على دم أو عذرة لم يكن بد من الغسل؛ لأن ذلك في الطرقات نادر، فإن كثر صار ذلك كروث الدواب، ولا يصح عود الضمير في غيره على الخف والنعل؛ أي فلا يعفى عن غير الخف والنعل من الثياب والأبدان، لأنه وإن كان الحكم كذلك لا يلائم قوله فيخلعه الماسح الخ. ابن ناجي: ثمانية أشياء يجزئ فيها زوال النجاسة بغير الماء: النعل: والخف: والقدم، والمخرجان، وموضع الحجامة، والسيف الصقيل، والثوب الجديد، والجسد. انتهى. قاله الحطاب، وسيأتي أن الثوب والبدن لا يجزئ مسحه في مسألة السيف الصقيل، وقوله:"لا غيره" أفرد الضمير فيه؛ لأن العطف بأو كما ذكره عبد الباقي فيخلعه
الماسح؛ يعني أنه يجب على الماسح على الخف إذا تنجس من غير روث الدواب وبولها، والحال أنه لا ماء معه أن يخلع ما تنجس من خفيه أو أحدهما؛ لأنه لا يعفى عن غسلهما إلا في رجيع الدواب أي بولها وروثها، وإذا خلعهما فإنه يبطل وضوءه، ويتيمم لبطلان حكم المسح في حقه، ولا يكفي دلكه؛ لأن طهارة الحدث لها بدل وغسل النجاسة لا بدل له، ولأن المسح رخصة فيقتصر فيها على ما ورد من كونه بشرط جلد طاهر، فلا يقال لِمَ لَم يجر في نجاسته ما جرى في إزالة النجاسة، ولكون طهارة الحدث لها بدل من لم يجد إلا قدر وضوئه أو ما يزيل به النجاسة الكائنة بغير محل الوضوء غسل النجاسة وتيمم، وقيل: يصلي بالنجاسة ويتوضأ وجعله الشيخ عبد الباقي هو المذهبَ، وناقشه الشيخ محمد بن الحسن، وهذا إذا لم يمكنه جمع الماء من أعضائه طهورا وإلا توضأ به وجمعه وغسل به النجاسة، وللشيخ زروق لا ينبغي أن يختلف في إزالة النجاسة بالماء المستعمل، والمراد بالماسح هنا من هو باق على وضوئه، وأما من انتقض وضوءه وعنده من الماء ما لا يكفيه فإنه لا يتعين خلعه للخف بل له أن يغسلة، ويتيمم ويصلي به.
واختار إلحاق رجل الفقير يعني أن اللخمي اختار من عند نفسه أن رجل الفقير إذا تنجست من روث الدواب وبولها أن تلحق بالخف والنعلين المتنجسين من أرواث الدواب وأبوالها فيكفي فيها الدلك بحيث لا يبقى شيء من العين، والفقير من لا يملك خفا ولا نعلا ولا ما يشتري به أحدهما، ومثله غني لا يقدر على لبسهما لمرض أو لفقده، وظاهر إطلاقهم أن الفقير إذا وجد من يسلفه لا يخرجه ذلك عن كونه فقيرا.
وفي غيره للمتأخرين قولان، يعني أن المتأخرين من أهل المذهب اختلفوا في رجل الغني إذا تنجست من روث الدواب وبولها هل تلحق بالخف والنعل المتنجسين بذلك فيعفى عن غسل ما يصيبها من ذلك إذا دلكت حنى لا يبقى من العين شيء، وهو قول التونسي، أو لا تلحق بهما ولا يكفي فيها الدلك بل لابد من غسلها؛ وهو للباجي، والغني هو من يقدر على لبس الخف ووجده وتركه فإذا أصيبت رجله بما ذكر جرى فيها القولان، قال الشيخ الحطاب واعلم أن الرجل لا نص فيها للمتقدمين، واختلف المتأخرون فيها على ثلاثة أقوال يفرق في الثالث بين الغني والفقير، وهو اختيار اللخمي وابن العربي في العارضة، واختار التونسي وابن رشد إلحاقها
بالخف والنعل مطلقا، وحكى ابن شأس والقرافي قولا بعدم الإلحاق مطلقا، ولما ترجح عند المص اختيار اللخمي في رجل الفقير بموافقته لاختيار التونسي وابنِ رشد اقتصر عليه ولم يترجح عنده اختياره في رجل الغني لمعارضته لاختيار التونسي، وابن رشد ذكر الخلاف في ذلك، وقال صاحب الطراز: إن تيسر له الغسل؛ أي وجد الماء عند باب المسجد، وإلا فليصل بها إذا مسح رجليه كما يفعل بالنعل، وحذا هو الظاهر والله أعلم. انتهى. وفي الأمير أن الاكتفاء بالدلك في الخف والنعل حيث لم يسهل الغسل جدا بأن كان بجَنبِ الماء فإنه قال عاطفا على المعفو عنه: وملبوس رجل مسح من روث مركوب بمحل يكثر به، ولم يسهل الغسل جدا بأن كان بجنب الماء، وبوله ويبسة كمسحه. انتهى. وهذا تقدم نحوه للشيخ عبد الباقي والشبراخيتي، وكلام سند هذا يقويه وإن نازع في ذلك الشيخ محمد بن الحسن وواقع علي مار. يعني أن المار أو الجالس أو القائم إذا وقع عليه بلل من بيوت المسلمين، أو مشكوك فيهم فإنه يعفى له عن غسله، وإن كان الغالب في البلل الواقع من السقوف النجاسةَ، والغالب فيه النجاسة كالمتيقن نجاسته، لكن عفي عن غسله لكثرة سقوط البلل من السقائف وحاجة الناس للمرور تحتها فلا يؤاخذ إلا باليقين، والظن هنا معفو عنه، ففي سماع ابن القاسم أن من سقط عليه ماء السقائف هو في سعة ما لم توقن النجاسة قاله بعضهم. نقله الشيخ محمد بن الحسن، وفي كتاب الشيخ الأمير: وكل هذا عند الشك في الواقع، فإن غلب على الظن فيه شيء اعتبر مطلقا. انتهى. أي سواء وقع من بيت مسلم أو غيره، وقوله:"مار" ذكرا كان أو أنثى، ومفهوم المسلمين أو مشكوكَ فيهم أن الواقع من بيت كافر يحمل على النجاسة، قال الشيخ عبد الباقي: إلا لقرينة. وكذا يعمل بالقرينة في الواقع من بيت المسلم أو المشكوك فيه فيحمل على الطهارة إلا لقرينه كرائحة مثلا،؟ قوله:"وواقع" لخ عطف على المعفوات، وعين العفو هو حمل الواقع من بيت مسلم أو مشكوك فيه على الطهارة، وأما كون المعفو عنه وجوب السؤال ففيه نظر، والله سبحانه أعلم.
وبما قررت علم أن المراد بالمار من أصابه البلل من السقف سواء كان قائما أو جالسا أو مضطجعا أو ذاهبا. والله سبحانه أعلم.
قال جامعه عفا الله عنه: والذي يظهر من كلامهم هنا أن الظن غير القوي والشك هما محل التفصيل بين الكفار وغيرهم، وإن غلب على الظن شيء عمل عليه في المسلمين والمشكوك فيهم والكفار والله سبحانه أعلم.
وإن سأل صدق المسلم؛ يعني أن الإنسان إذا وقع عليه بلل من السقوف فإنه لا يجب عليه أن يسأل عنه هل هو نجس أو طاهر؛ لأن النازل منها يحمل على الطهارة في الواقع من بيوت المسلمين أو المشكوك فيهم، وعلى النجاسة في النازل من بيوت الكفار، لكن يندب له السؤال، فإذا سأل فإنه يصدق المسلم العدل الرواية إذا أخبره بخلاف ما يحمله عليه، ويزاد فيما إذا أخبر بالنجاسة أن يبين وجها أو يتفقا مذهبا، وأما إذا أخبر بما يحمل عليه فلا يشترط إسلام ولا عدالة، ومفهوم المسلم العدل الرواية أن غيره لا يصدق. ابن رشد يصدق وإن لم تعرف عدالته. انتهى. وأما الكافر فلا يعتبر قوله.
وكسيف صقيل؛ يعني أن السيف الصقيل وشبهه من كل ما فيه صقالة وصلابة كالمرآة والمدية يعفى عن غسله لإفساده؛ يعني أن العلة في العفو عن غسله هي إفساد الغسل له، فخرج ما لم تكن فيه صلابة، ولو كان صقيلا كالثوب الجديد خلاف ما مر عن ابن ناجي عند قول المص: لا غيره، وخرج أيضا ما لا يفسده الغسل ولو كانت فيه صقالة وصلابة كالزجاج؛ لأنه لا يفسده الغسل، وإنما يعفى عن غسل السيف الصقيل وما شابهه حيث تنجس.
من دم، وأما لو تنجس من غير الدم فلا يعفى عن غسله، فالعفو خاص بالدم كما هو المفهوم من أكثر عباراتهم، ومقتضى كلام ابن العربي عدم التخصيص. ابنُ عرفة: ابنُ العربي؛ مسحها أي النجاسة من صقيل كاف لإفساد غسله، وقيل: لانتقالها منه بالمسح، وقال في التوضيح، وأكثر مثلهم إنما هو في الدم فيحتمل أن لا يقصر الحكم عليه، ويحتمل القصر، لأنه الغالب من النجاسات الواصلة إليه. مباح نعت لدم؛ يعني أنه يشترط في العفو عن غسل السيف أن يكون الدم الذي تنجس منه مباحا كتلطيخه منه في جهاد، أو قصاص، أو صيد، أو ذكاة شرعية بخلاف دم العدوان، ودم المذكى ذكاة غير شرعية، ويدخل في المباح ما حرم لعارض كقتل مرتد وزان أحصن بغير إذن الإمام، ويدخل في المباح المكروه كقتل الرجل أباه في الباغية، وكذا دم
مكروه الأكل الخارج منه إذا ذكي، ولا يعتبر في العفو مسح الدم عند مالك وابن القاسم، وقيل يشترط في العفو المسح. نقله الباجي عن مالك، وقال ابن راشد: هو قول الأبهري، والفرق على الأول بينه وبين قوله: وموضع حجامة مسح أن بقاء الدم في موضع الحجامة حائل أما في الغسل بأي موضع كانت: وأما في الوضوء إن كانت الحجامة في أعضاء الوضوء، وتقييد المص الدم بمباح ظاهر بالنسبة لسيف ومدية ونحوهما، وأما المرآة فيعفى عن غسلها ولو بدم حرام لتكرر النظر فيها المطلوب وأثر دمل يعني أن أثر الدمل أي ما سال منه يعفى عن غسل ما أصاب منه الثوب والجسد، ومحل العفو عن غسله حيث لم ينكأ بالهمزة كما في الحطاب أي لم يقشر ولم يعصر، فإذا لم يقشر ولم يعصر وسال منه شيء فإنه يعفى عن غسل ما سال منه قليلا كان أو كثيرا، إن اتصل سيلانه أو انقطع ولم ينضبط أو انضبط، ولكن يشق بأن يأتي كل يوم مرة أو أكثر، فإن انضبط وأتى يوما دون آخر مثلا لم يعف عنه، وقوله "لم ينكأ" قال في القاموس: نكأ القرحة كمنع قشرها قبل أن تبرأ فندبت، ومفهوم لم ينكأ أن ما خرج بقشر وكذا بعصر مع تكونه وتوقف خروجه على قشره لا يعفى عنه إلا أن يكون دون درهم من دم أو قيح أو صديد، وأما ما تكون بعد قشره وخرج بغير عصر فيعفى عنه سواء كان قشره لإخراج مدة أو كان قبل تكونها، وسواء قل أو كثر كالخارج بغير قشر. وينبغي في المتكون المحبوس بالجلد أنه يعفى عنه مطلقا حيث رق الجلد بحيث لو لم يقشره لخرج قاله الشيخ عبد الباقي. ومحل قوله:"لم ينكأ" في الدمل الواحد، وأما أكثر من دمل واحد فيعفى عن مدته، ولو عصره أو قشره لاضطراره لذلك كالجرب والحكة، وفي أبي الحسن أن الدمل الواحد إن اضطر إلى نكئها وشق عليه تركه فإنه يعفى عما سال منها، قال الشيخ الأمير: والظاهر أن منه وضع دواء عليها، وقوله:"وأثر دمل لم ينكأَ" مثله الجرح يمصل أي ينزي فيخرج منه شيء، والدمل كسُكَّر وصُرَد معروف سمي بذلك تفاؤلا كتسمية الأرض المهلكة مفازة، واللديغ سليما، ومعنى دمله أصلحه قال علقمة بن عبدة التميمي:
ومولى كمولى الزبرقان دملته
…
كما دملت ساق تهاض بها وقر
وفي الشبراخيتي عند قوله: "لم ينكأ" أي يفتح ويعصر حال سيلانه، ولا يضره نكؤه قبل السيلان فلو نكي أو شق قبل تجمع المادة فيه ثم تجمعت وسالت من ذلك الشق فالعفو، وقوله:"لم ينكأ" أي حقيقة أو حكما كما إذا انتهى الدمل، وكان بحيث لو تركه لانفجر بنفسه، وفجره فإنه يعفى عن أثره انتهى. وتحصل مما مر أن ما خرج بنفسه حقيقة أو حكما معفو عنه ولو تكون برد قشره، وليدرأه بخرقة ندبا، وإلا فلا إلا فيما دون الدرهم من دم أو قيح أو صديد، وإلا أن يشق بأن يأتي كل يوم مرة فأكثر هذا في الواحد، وعفى عن أكثر مطلقا كالجرب والحكة وندب إن تفاحش يعني أن الدمل والجرح إذا كانا يمصلان بأنفسهما يعفى عما يخرج منهما، ولا يجب غسله ولا يندب إلا إذا تفاحش فيستحب غسله حينئذ قاله الحطاب. والندب عند المتفاحش ليس، خاصا بما ذكر بل يجري في جميع ما سبق من المعفوات إلا في كسيف صقيل، ومعنى المتفاحش، أن يستقبح الناظر النظر إليه، أولا يقع مثله غالبا، أو يستحيي أن يجلس به بين أقرانه، ومحل الندب ما دام العفو عنه قائما وإلا وجب، ودون الدرهم يندب غسله وإن لم يتفاحش كدم براغيث، يعني أن دم البراغيث أي خرءها يستحب غسله إذا تفاحش فهو تشبيه في العفو، ونَدْبِ غسلِ ما تفاحش منه وأما دمها الحقيقي فهو داخل في قوله:"ودون درهم من دم"، وقيل، يجب غسل خرء البراغيث إن تفاحش وفي الشبراخيتي: وخص البراغيث لعسر التحرز منها وإلا فخرء البق والقمل كذلك. انتهى. وقال عبد الباقي: خرء البق والقمل ليس كخرء البرغوث على ظاهر المذهب خلافا لصاحب الحلل. انتهى. يعني فيندب غسله مطلقا، وإنما لم يكن مثله لتعذر الكثرة التي يستحب الغسل عندها في القمل والبق والله أعلم. وقوله:"كدم براغيث" سواء في ذلك زمن هيجانه وغيره كما هو ظاهر المدونة، وظاهر كلام الأكثر، وخالف ابن، شاس وابن الحاجب فجعلاه في زمن هيجانه معفوا عنه وإن تفاحش.
تنبيه: اعلم أنه يكره قتل القمل والبراغيث وغيرهما كالبق والبعوض بالنار ما لم يضطر إلى ذلك لكثرتها فيجوز؛ لأن في تتبعها بغير النار حرجا ومشقة قاله الشاذلي إلا في صلاة، يعني أن الشخص إذا اطلع في صلاته على المتفاحش من الدمل أو دم البراغيث فإنه لا يندب له غسله حينئذ لوجوب تماديه على صلاته، إماما كان أو مأموما، أو فذا فرضا أو نفلا، فالاستثناء راجع
لما بعد الكاف ولما قبله ولا حاجة إلى هذا؛ إذ لا يتوهم قطع صلاة لمندوب قاله أحمد نقله عبد الباقي. ابن ناجي ثمانية أثواب لا يؤمر بغسلها إلا مع المتفاحش: ثوب دم البراغيث، وثوب المرضع، وثوب صاحب السلس، وثوب صاحب البواسير، وثوب صاحب الجرح السائل، وثوب صاحب القرحة، وثوب الغازي الذي يمسك فرسه في الجهاد، وثوب المتمعش في سفره بالدواب. انتهى قاله الحطاب.
(ويطهر محل النجس) لما قدم حكم إزالة النجاسة، وما يعفى عنه مما لا يعفى عنه، ومعلوم أن ما لا يعفى عنه لابد من تطهيره بالماء، والعفو عنه محله نجس محكوم بنجاسته حتى يطهر بالماء أيضا. كخف ونعل من روث دواب وبولها، والمخرجين في الاستجمار وغير ذلك، أخذ الآن يتكلم في كيفية التطهير وبماذا يكون: ومعنى كلام المص أن محك النجس أي النجاسة سواء كان بدنا أو ثوبا أو أرضا أو غير ذلك فإنه يطهر بلا نية أي لا يفتقر في غسله إلى نية، فإذا غسل محل النجس بالماء المطلق فإنه يطهر من غير توقف على نية؛ أي يطهر وإن لم ينو أنه مزيل للنجاسة عند غسلها بالماء المطلق قاله الشيخ عبد الباقي، والباء في قوله:"بلا نية" للملابسة وهو حال قدمت على صاحبها، وهو قوله (بغسله) يعني أن محل النجس إنما يطهر بغسله أي بسبب غسله من غير اشتراط نية فيه ولا ذلك إن لم تتوقف إزالة العين عليه، والباء في قوله:"بغسله" للسببية كما قررت: وهو متعلق بقوله: "ويطهر"، وأفاد المص بقوله:"بغسلة" أن جميع المعفوات السابقة محكوم عليها بالنجاسة، والغسل في كل نجاسة بحسبها، قال ابن العربي في العارضة وهي شرحه للترمذي: النجاسة إما حكمية أو عينية، فالحكمية يكفي في زوالها ورود الماء على المحل، والعينية لابد من إزالة عينها. انتهى. والحكمية هي التي لا لون لها ولا طعم ولا ريح كالبول إذا جف وطال أمره، والعينية نقيض الحكمية، وقال في موضع آخر: النجاسةُ على قسمين: نجاسة كلون الماء وهي المذي والبول ونحوهما، فيجب أن تكاثر بالماء خاصة إذ ليس لها عين تزال، وكف من ماء على ما ورد في الحديث أكثر من نقطة من مذي ونجاسة تخالف لون الماء فيلزم صب الماء عليها حتى تذهب عينها، وقال في حديث بول الغلام (فنضحه ولم
يغسله)
(1)
؛ أي صب عليه الماء بدليل قوله: فأتبعه بالماء، وإنما سقط العرك لأنه لا يحتاج إليه، فإن الرجل الكبير لو بال على ثوب وأتبعه ماء لكان ذلك تطهيرا للمحل، وقال في حديث بول الأعرابي في المسجد
(2)
؛ إذا استقرت النجاسة في الأرض صب عليها من الماء ما يغمرها، ويستهلك البول فيها بذهاب رائحته ولونه، وتطهر الأرض النجسة بذلك، وقال الروي: لا تطهر إلا بأن تحفر ويجعل على ظاهرها تراب طاهر، وليس الذنوب تقديرا وإنما هو بحسب غلبة الماء، وغمره للنجاسة واستهلاكها فيه، فإذا بال رجلان في موضع كفى ذنوب واحد. وقال الاصطخري: لكل رجل ذنوب وهو باطل، ولو أهريق على الموضع ماء أو جاء عليه مطر طهر، لأن إزالة النجاسة لا تفتقر إلى نية. انتهى. وقال محمد بن عبد الباقي: في الحديث يعني حديث الأعرابي الذي بال في المسجد المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع لأمره لهم عند فراغه بصب الماء، وتعين أنه، لإزالة النجاسة، وأنه لا يشترط حفرها مطلقا خلافا للحنفية في أنه لابد من حفرها إذا كانت، صلبة، وإلقاء التراب، وفيه أن الاحتراز من النجاسة كان مقررا في نفوس الصحابة، ولذا بادروا بالإنكار بحضوره صلى الله عليه وسلم قبل استيذانه لما تقرر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وفيه جواز التمسد بالعموم حتى يظهر الخصوص. وقال ابن فرحون: نص القاضي أبو بكر على أن الأرض يكفي في تطهيرها صب الماء عليها فقط، وأن البول أو غيره إذا صب عليه الماء متتابعا حتى تحقق زوال النجاسة أنه يطهر ولا يحتاج إلى عصر ولا عرك ابن شعبان: طهور الأرض من البول صب دلو من ماء عليها، ومن أصابه نجس وهطل عليه مطر فاغتسل به طهره ذلك ولو كان جنبا، وقال الأبي في شرح حديث الأعرابي (فدعا بذنوب من ماء فصبه عليه)
(3)
: فيه أن النجاسة المائعة دون اللزجة يكفي في تطهيرها صب الماء وتتابعه دون دلك، وكما لا يشترط ذلك لا يشترط من الماء قدر معين، بل ما يغمر النجاسة ويغلب عليها. انتهى نقله الحطاب. وقال
(1)
عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله. صحيح البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:223.
(2)
جاء أعرابى فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب، من ماء فأهريق عليه. صحيح البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:221.
(3)
صحيح البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:221. - مسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 284/ 285.
بعد جلب نقول والحاصل مما تقدم أن المقصود إزالة النجاسة، فالتي يمكن زوالها بالماء كالبول والماء المتنجس أو بمكاثرة صب الماء كالمذي والودي لا تحتاج إلى عرك ودلك، وما لا تزول إلا بالعرك والدلك فلا بد له من ذلك. انتهى. وقوله:"بلا نية" هذا هو المعروف، وحكى القرافي قولا بأنها تفتقر للنية وهو ضعيف، فقد حكى ابن بشير وابن عبد السلام الاتفاق على عدم افتقارها للنية، وحكى ابن القصار وابن الصلاح من الشافعية الإجماع على ذلك، والأعرابي الذي بال في المسجد اسمه ذو الخويصرة التميمي، والذنوب بفتح الذال المعجمة الدلو العظيم، وقيل لا يسمى ذنوبا إلا إذا كان فيه ماء، ويطلق الذنوب على النصيب من العذاب، قال تعالى {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا} أي نصيبا من العذاب، وقيل مستعار من الذنوب الذي هو الدلو كانوا يستقون ويجعلون لكل جماعة ذنوبا، والله أعلم. وقال سند. السجل دلو أصغر من الذنوب، والذنوب الدلو الكبير، وهو دون الغرب وفوق السجل قاله الحطاب.
إن عرف يعني أنه إذا تحقق إصابة النجس لموضع معين معلوم من ثوب أو بدن أو أرض أو غيرها، فإنه يطهر بغسله فقط وإلا أي وإن لم يعلم موضع النجاسة مع تحقق الإصابة فإنما يطهر ذلك الشيء المتنجس بغسل جميع ذلك الشيء المشكوك في نجاسته من كل الشيء أو بعضه المعين، قال في المدونة: ومن أيقن أن نجاسة أصابت ثوبه لا يدري موضعها غسله كله، وإن علم تلك الناحية غسلها، وفي المظنون طريقان: هل هو كالمجزوم به وهو ما لبعضهم، أو كالمشكوك فيه وهو مقتضى الجلاب، وعليه يدخل الظن تحت وإلا ولعله ما لم يقو، ولا يدخل تحت وإلا الوهم؛ لأن الوهم لا أثر له في طهارة الحدث فطهارة الخبث كذلك بل أولى، ويدل له ما في مسألة النضح من أن الموهوم لا ينضح، وإنما وجب غسل المشكوك فيه هنا، ونضحه فيما يأتي لتحقق إصابة النجاسة هنا بخلاف ما يأتي، وقوله:"فبجميع المشكوك فيه" إلا أن لا يجد من الماء ما يعم به الثوب ويضيق الوقت فإنه يتحرى موضعها ويغسله ويصلي ككميه يعني أن الثوب المتصل إذا تحققت إصابة النجاسة له وشك في محلها فلابد من غسل جميع المشكوك فيه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الشك حصل في جهة غير متميزة منه، أو في جهتين متميزتين ككميه المتصلين بثوبه يعلم أن بأحدهما نجاسة ولم يعلم عينه منهما، فيجب غسلهما، وهذا هو المذهب. وقال
ابن العربي: يجتهد في الكمين كالثوبين فما أداه اجتهاده إلى أنه النجس غسله. وقوله: "ككميه" هذا إن اتسع الوقت الذي هو فيه، ووجد من الماء ما يعمهما، وإلا تحرى أحدهما ليغسله، ويصلي إن اتسع الوقت للتحري، وإلا صلى بالنجاسة، لأنه يتيمم على الراجح إذا خاف فوات الوقت باستعماله الماء في طهارة الحدث فأولى هذا، ومثل الكمين الثوبان اللذان لا تمكن الصلاة إلا بهما، وفي كتاب الشيخ الأمير ما نصه: ككميه فإن لم يكفهما تحرى ثم إن وجد غسل الثاني. انتهى.
بخلاف ثوبيه يعني أن من له ثوبان منفصلان، وتحقق إصابة النجاسة لأحدهما، واشتبه الطاهر بالمتنجس، فإنه يتحرى أي يجتهد بعلامة تميز له الطاهر من النجس فما أداه اجتهاده إلى أنه طاهر صلى به الآن وفي وقت آخر حيث لم ينسه، وما أداه اجتهاده إلى أنه نجس تركه حتى يغسله، وهذا هو المشهور. وقال ابن الماجشون: يصلي بعده النجس، وزيادة ثوب كالأواني. وقال ابن مسلمة: كذلك ما لم تكثر، وقوله:"فيتحرى" محل التحري إن اتسع الوقت، وإلا صلى بأي واحد منهما؛ لأنه كعاجز، ولا إعادة عليه فيما صلى به بالتحري بوقت ولا غيره، وتبع المص ابن الحاجب وابن شأس في التفرقة بين الكمين والثوبين، والذي لسند أن الثوبين كالكمين في أنه يغسل ما يريد به الصلاة من أحدهما، ورجحت طريقته، ويمكن حمل المص عليها وإن بعَّده قوله:"بخلاف" لخ بأن يقال قوله: "بخلاف ثوبيه فيتحرى" المتنجس ليغسله حيث وجد ماء لا يكفي الذي يريد الصلاة به، أو وجد ولكن ضاق الوقت عن غسله، واتسع الوقت للتحري، فإن وجد ما يكفي الذي يريد الصلاة به واتسع الوقت لغسله وجب ولا يكفي التحري، فإذا ضاق الوقت عن التحري صلى به بدونه فعلم أن الأقسام ثلاثة:
الأول: أن يجد ما يغسل به الكمين وأحد الثوبين الذي يريد الصلاة به ويتسع الوقت فيجب في الكمين، وكذا في أحد الثوبين على الراجح. الثاني: أن يجد مالا يكفي الكمين ولا أحد الثوبين، أو يجد ولكن ضاق الوقت عن غسل ما ذكر، فيتحرى محل النجس فقط ويغسله في الكمين وكذا في أحد الثوبين على ما عليه معظم من تكلم على هذا المحل إن اتسع الوقت للتحري، وإلا صلى بذي الكمين وأحد الثوبين بغير تحر ولا غسل. الثالث: أن لا يجد ماء أصلا فيصلي بذي الكمين،
ويتحرى أحد الثوبين ليصلي به إن اتسع الوقت للتحري، وإلا صلى به بغير تحر، وقيدنا الكمين بالمتصلين بثوبه لأن المنفصلين كالثوبين، ومثل الكمين في الأقسام الثلاثة الثوب الذي النجاسة ببعضه، والثوبان اللذان لا يمكن صلاة إلا بهما معا مع نجاسة بأحدهما، ولا يدري محلها ولا ما هي فيه كما مر. قال جميعه الشيخ عبد الباقي. وقد علم مما مر أن المراد بغسل الكمين غسل جميعهما إن شك في جميعهما وغسل أعلاهما معا أو أسفلهما إن شك في ذلك فقط ولو لبس الثوبين بعد غسل ما تحرى نجاسته وصلى بهما صحت صلاته؛ لأن المغسول طاهر بيقين، والآخر بالاجتهاد، وإنما اكتفي بالتحري في الثياب، ولم يكتف به في اشتباه الأواني، لأن اشتراط الطهارة في الحدث متفق عليها بخلافها في الخبث وبهذا الفرق رد على ابن الماجشون قوله: إنه يصلي بعده النجس وزيادة ثوب. قاله الشيخ عبد الباقي. قوله: وتبع المص ابن الحاجب وابن شاس الخ، قال الشيخ محمد بن الحسن: رد ابن هارون طريق ابن شاس بأنه إذا تحرى ولم يكن مضطرا فقد دخل احتمال الخلل في صلاته لغير ضرورة قال الحطاب وهو ظاهر، وقوله:"فيتحرى" المتنجس ليغسله لخ، قال الشيخ محمد بن الحسن: لا معنى لهذا التحري؛ لأنه حيث لم يجد ماء يكفي الذي يريد الصلاة به تعين الآخر من غير تحر؛ إذ الفرض أنهما اثنان، وصوابه لو قال: يتحرى الطاهر ليصلي به كما في الحطاب، وغيره عن سند. وقوله: وكذا في أحد الثوبين الخ فيه نظر؛ لأنه حيث لم يجد ما يغسل به أحد الثوبين، أو ضاق عنه الوقت تحرى الطاهر وصلى به كما في الحطاب، وغيره عن سند. انتهى. والذي يظهر أن معنى قوله:"فيتحرى" المتنجس أي محل النجس كما يفيده كلام عبد الباقي بعد ذلك. والله أعلم. وإذا اجتهد ولم يقع له ظن في الثوبين ففي الحطاب ما يفيد أنه لابد من غسلهما معا، وقال أبو علي: ينضح أحدهما ويصلي به عملا بما يأتي. قال الشيخ محمد بن الحسن: وهو ظاهر خلاف ما في الحطاب. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: والذي يظهر ما للحطاب لا ما لأبي علي والشيخ محمد بن الحسن؛ لأن ما هنا النجاسة محققة بأحد الثوبين، ولكن جهل الثوب الذي هي به، فإذا نضح أحدهما وصلى به لزم على ذلك أن يكفي في الآخر النضح، فتكون إحدى الصلاتين بنجاسة محققة، وما
يأتي لم تتحقق أصالة النجاسة لثوب. انتهى. ولا اعتبار في إزالة النجاسة بالعدد عندنا، واستحب الشافعي التثليث لحديث القائم من النوم
(1)
، وأوجب ابن حنبل التسبيع في كل نجاسة قياسا على الكلب إلا الأرض فواحدة لحديث الأعرابي. ذكره الحطاب. وقد مر أن الكمين إذا فصلا كالثوبين يطهور متعلق بغسله؛ يعني أن محل النجس يطهر بغسله بماء طهور، والطهور بفتح الطاء الماء المطلق، وهذا هو المشهور، وذكر ابن بشير وتابعوه قولا بأنها تزال بكل قلاع كالخل، وفي النوادر: واختلف في إزالة النجاسة بالماء المضاف، فقيل: يجوز ذلك، وقيل: لا يطهره إلا الماء المطلق وهو الصواب، وذكر المازري أن اللخمي ذكر خلافا في إزالة النجاسة بالمائع، ولو جففت الشمس موضع بول لم يطهر على المشهور، ولا يكفي فرك المنى خلافا لمن قال: إنه يكفي، وكذلك النار لا تطهر على المشهور منفصل كذلك يعني أن الماء إذا انفصل من محل النجس بعد إزالة النجاسة العينية طهورا، فإن المحل يطهر بخلاف ما لو انفصل متغيرا بأحد أوصاف النجاسة فلا يطهر المحل حينئذ، واقتضى كلام المصنف أن تغير الماء بالأوساخ الطاهرة الموجبة لسلب الطهورية لا الطاهرية يضر فلا يطهر محل النجس ما دام الماء كذلك، وليس كذلك، فلو قال: منفصل طاهرا لَحَسُنَ، وقال الأبي في شرح مسلم: إن المصبوغ بالنيل المتنجس يطهر بعد غسله، ولا يشترط في غسله أن ينقطع النيل. ابن عرفة: الشيخ روى محمد: إن طُهِّر ما صبغ ببول فلا بأس به، ابن القاسم: ترك الصبغ به أعجب إليَّ انتهى، ومراده بما صبغ بالبول: ما جعل البول في صباغه وليس البول نفسه صبغا. والله أعلم وذكر صاحب الإكمال في أواني الخمر عن ملك خلافا؛ فرُوِيَ عنه: تُغسَل وتُستَعمَل، ورُيَ عنه أيضا: إذا طبخ فيها الماء وغسلت طهرت وروي عنه أنها تكسر وتشق الظروف، فقيل عقوبة على القول بالعقوبة بالمال، وقيل لأنها لا تطهر للغوص؛ لأنها تغوص، فيها واختار ابن عرفة أنها لا تطهر للغوص، والتزم على قياس ذلك أنه لو صبغ به ثوب لم يطهر، فعورض بما صبغ بالورجلة فأجاب بأن
(1)
عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده. مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:287.
- إذا قام أحدكم من الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات فإنه لا يدري أين باتت يده. أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:103.
الورجلة متنجسة لا نجسة العين، واستشكل ما ذكر من طهارة المصبوغ بالنيل المتنجسة بغسله مع بقاء أعراض النجاسة. المسناوي قد يدفع الإشكال بأن يقال المصبوغ به ليس هو عين النجاسة بل هو في الأصل طاهر كانت فيه نجاسة، فيغسل هذا المصبوغ حتى يغلب على الظن أن أعراض النجاسة قد زالت. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: وهذا يقتضي أن من تنجدر ثوبه بزيت متنجس مثلا وغسله حتى غلب على الظن زوال أعراض النجاسة التي تنجس بها يطهر ثوبه ولو لم يزل تغيره بالزيت وانظر ذلك والله سبحانه أعلم.
ولا يلزم عصره. يعني أن محل النجس لا يلزم عصره ولا عركه إن لم تتوقف إزالة النجاسة على ذلك، وإلا فلا بد منه كما تقدم: وتقدم في الأرض أنه يكفي صب الماء عليها، والضابط في جميع ذلك ما يزيل النجاسة كما مر. مع زوال طعمه متعلق بقوله:"بغسله"؛ يعني أن محل النجاسة يطهر إذا غسل بالماء المطلق، وزال مع ذلك طعم النجاسة لا إن بقي طعمها، فلا يطهر وإن عسر: ويتصور ذوق النجاسة بناء على كره التضمخ بها فيذوقها فيمجها: ولا يلزم من الذوق الابتلاع، أو لكونه غلب على ظنه زوالها فذاقها، ويجوز له حينئذ ذوقها فإذا طعمها باق، ويمكن أن تكون النجاسة دما من فيه، ويشترط مع زوال الطعم أيضا زوال لون النجاسة وريحها المتيسرين، ولهذا قال (لا لون وريح عسرا) يعني أن محل النجس إذا غسل وزال منه طعم النجس وبقي فيه لون النجاسة وريحها لكن عسر زوالهما فإن ذلك المحل يطهر، وليس هو نجسا معفوا عنه كما يقوله الشافعية، ولا يكلف بتسخين الماء، ولا بنحو صابون أمكن أن يزالا بهما، ويطهر المحل ولو بقي الريح واللون معا حيث عسر زوالهما، وفي الجواهر: فإن تعسر قلعه أي اللون والريح عفي عنه، وكان المحل طاهرا. ونقله في الذخيرة وزاد كما يعفى عن الرائحة في الاستنجاء إذا عسر زوالها من اليد أو المحل والغسالة المتغيرة نجسة يعني أن الغسالة؛ وهي الماء الذي غسل به النجس أو المتنجس نجسة إذا كانت متغيرة بأحد أوصاف النجاسة سواء كان تغيرها بالطعم أو اللون أو الريح ولو تعسرا، وأتى بهذه المسألة وإن فهمت من قوله:"وحكمه كمغيره"؛ لأنه قال: "لا لون
وريح عسرا"، فخشي أن تتوهم طهارة الغسالة المتغيرة بما عسر زواله من ذلك. والله سبحانه أعلم وعلم مما مر أن الثوب مثلا لا يتنجس بالغسالة المتغيرة من لون وريح عسرا. قال الشيخ الأمير:
قل للفقيه رأيت شيئا طاهرا
…
وأتى له الماء الطهور المطلق
فتنجس الماء الذي لابسه
…
وله الطهارة لم تزل تتحقق
ولو انفصلت غسالة النجس أو المتنجس غير متغيرة بشيء من أوصاف النجاسة كانت طاهرة، ولو غسلت قطرة في بعض ثوب أو جسد فشاعت غير متغيرة ولم تنفصل كان طاهرا، وغسالة الطاهر طاهرة، وقوله:"لا لون وريح" في حديث خولة بنت يسار في الدم العسير الزوال قال صلى الله عليه وسلم (يكفيك الماء ولا يضرك أثره)
(1)
رواه أحمد وأبو داوود، وقيس الريح على اللون بجامع الشقة ولو زال عين النجاسة بغير المطلق لم يتنجس ملاقي محلها يعني أنه إذا أزيلت عين النجاسة بغير الماء المطلق، إما بماء مضاف، أو بشيء قلاع غير الماء كالخل ونحوه، وقلنا إن ذلك لا يطهر محل النجاسة، وأنه محكوم عليه بها، ولا تجوز الصلاة به، ثم لاقى ذلك المحل وهو مبلول شيئا أو لاقاه شيء مبلول بعد أن جف، أو في حال بلله فإنه لا يتنجس ذلك الملاقي لمحل النجاسة على ما عليه الأكثرون، وقال القابسي: يتنجس، وعلى هذا الخلاف اختلف الشيخان ابن أبي زيد، والقابسي: إذا دهن الدلو الجديد بزيت واستنجى منه فلا يجزئه عندهما، ويغسل ما أصاب ثوبه عند القابسي لا عند ابن أبي زيد، وكذا لو استجمر بأحجار ثم عرق المحل فإنه لا يضر الثياب؛ لأنه أثر معفو عنه وهو الأصح، وقيل لا يعفى عنه. ولو جف البول حتى لم يبق له لون ولا طعم ولا ريح ثم وضع في محله طعام مائع لم يتنجس كما يقتضيه المص قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الأمير: وليس من الزوال جفاف البول بكثوب نعم لا يضر الطعام اليابس. انتهى. وإنما لم يتنجس الملاقي للمحل بعد زوال العين؛ لأن الحكم عدمي لا وجودي، وفي كلام الشيخ عبد الباقي نظر.
(1)
مسند أحمد، ج 2 ص 364. ولفظ أبي داود: يكفيك غسل الدم ولا يضرك أثره. أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، رقم الحديث 365.
(وإن شك في إصابتها لثوب وجب نضحه) تقدم الكلام على ما إذا تحققت النجاسة وتحققت إصابتها، والكلام هنا على الشك في الإصابة أو النجاسة أو فيهما؛ ومعنى كلام المص أن من تحقق نجاسة شيء، وشك هل أصاب ثوبه أو خفه أو نعله ذلك الشيء النجس أو لم يصبه؟ فإنه يجب عليه أن ينضح ذلك وإن غسله أجزأ والظن كالشك: وظاهر النوادر: ولو قوي وينبغي إذا قوي وجوب الغسل، ولا أثر للوهم، ونضح بمعنى رش من باب ضرب، وبمعنى رشح كنضح الإناء من باب منع كما في القاموس والصحاح. قاله عبد الباقي. وفي شرح الشيخ ميارة: وإذا تحققت النجاسة وشك في الإزالة فلا خلاف في وجوب الغسل؛ لأن النجاسة متيقنة فلا يرتفع حكمها إلا بيقين. انتهى. وإذا تحققت نجاسة المصيب لثوب وشك في إزالتها كما إذا شرع في غسلها ثم لاقاها ثوب آخر وابتل ببللها فهل الثوب الثاني نجاسته محققة فيجب غسلها؟ أو مشكوك فيها فيجب نضحه؟ أو هو من قبيل الشك في نجاسة المصيب فلا يجب فيه شيء؟ استظهر الحطاب الثاني، واستظهر غيره الثالث؛ لأن البلل الذي في الثوب الأول مشكوك في نجاسته، فيصدق على الثاني أنه مشكوك في نجاسة مصيبه، فلا يجب فيه شيء، وهو ظاهر قاله الشيخ محمد بن الحسن.
وإن ترك أعاد الصلاة يعني أن من أمر بالنضح بأن تحقق نجاسة شيء وشك هل أصابه أم لا، إذا ترك النضح فإنه يعيد الصلاة أبدا إن كان عامدا للصلاة بلا نضح، أو جاهلا بالحكم، وفي الوقت إن كان ناسيا أو عاجزا فيعيد في الظهرين للاصفرار، وفي العشاءين للفجر، وفي الصبح لطلوع الشمس، وقال ابن القاسم وسحنون وعيسى بن دينار بالإعادة في الوقت مطلقا وهو المعتمد، وقد اشتهر عند الشيوخ أنه لا يعدل عن قول ابن القاسم مع سحنون وقوله كالغسل أي كما يعيد الصلاة تارك الغسل من النجاسة المحققة، فيفصل فيه بين العامد والناسي كما قررت، وهو تقرير على حسب ما يقتضيه كلام المص. وهو قول ابن حبيب: والأولى حمل المص على المنقول عن ابن القاسم وسحنون، وهو ما قدمته عنهما من الإعادة في الوقت مطلقا فيكون التشبيه في مطلق الإعادة لا تاما. وقال القرينان وابن الماجشون: لا إعادة أصلا.
واعلم أنه اختلف في النضح، فقيل يجب كما قال المص، وقيل يسن، وقيل يستحب. ففي حاشية الشيخ محمد بن الحسن أنه كما ورد الأمر من الشارع بالنضح هنا، ورد بغسل النجاسة المحققة، وكما أنه اختلف في إزالة النجاسة المحققة، اختلف هنا أيضا هل المشهور في النضح الوجوب أو السنة؟ ونقل عن عبد الوهاب أن النضح مستحب واستحسنه اللخمي، ولما كان للنضح معنيان بين المراد منهما فقال: وهو رش يعني أن النضح -ولا يكون إلا بالمطلق- هو أن يرش الموضع الذي شك في إصابة النجاسة المحققة له باليد، أو بالمطر أو بالفم حيث تحققت طهورية ما فيه، رشة واحدة، ولو لم يتحقق عمومها ظاهرا أو باطنا لا فيهما إلا إن شك فيهما بلا نية متعلق بنضحه من قوله:"وجب نضحه"، يعني أنه إذا حصل الرش في المحل المشكوك في إصابة النجاسة له فإن ذلك كاف، ولو لم ينو النضح المذكور، وما ذكره المص من أن النضح لا يفتقر لنية هو ظاهر المذهب، وعزاه ابن عرفة لابن محرز، وقيل يفتقر لنية، قال ابن بشير وابن شأس والقولان للمتأخرين، وفي الحطاب بعد جلب نقول: فتحصل في ذلك ثلاثة أقوال: وجوب النضح واستحبابه، ووجوب الغسل، وعلى الأول مشى المص لقول سند إنه ظاهر المذهب، ودليله أمره عليه الصلاة والسلام في حديث الصحيحين بنضح الحصير الذي اسوَدَّ من طول ما لبس
(1)
، وقول عمر رضي الله عنه: أغسل ما رأيت، وأنضح ما لم أو. قال مالك في المدونة مستدلا على ثبوت النضح بعمل الصحابة والتابعين: وهو من أمر الناس فلو نام في ثوبه ورأى بللا في جهة منه وشك في الأخرى هل أصابها شيء أم لا؟ فإنه يغسل ما رأى وينضح ما لم ير، وفي الحطاب أن صاحب النوادر قال بعد ذكره النضح للشك: وكذلك إن ظن في ثوبه نجاسة فليرشه. انتهى. قال يعني الحطاب: وهذا والله أعلم، لأنه لم يعول في أمر النجاسة إلا على التحقق فأجاز الصلاة بالنعال التى يُمشَى بها في الطرقات، وفي موضع قضاء الحاجة ونحو ذلك، وقال الشيخ أبو حامد: والمزيل للوسواس أن يعلم أن الأشياء خلقت طاهرة بيقين، فما لا يشاهد عليه نجاسة ولا يعلمها يقينا يصلي به اللهم إلا أن يغلب على الظن وصول النجاسة غلبة تشبه اليقين، فالظاهر وجوب
(1)
البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الصلاة، رقم الحديث:380. - مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث: 658.
الغسل. وفي المذهب قول بالإعادة أبدا مع النسيان في إزالة النجاسة، ولم يقل بذلك واحد من أصحابنا في النضح لانخفاض رتبته عن الغسل قاله المازري لا إن شك في نجاسة المصيب؛ يعني أن الشخص إذا أصابه شيء وشك في نجاسته مع تحقق الإصابة فالمذهب أنه لا نضح فيه، وقيل فيه النضح رواه ابن نافع عن مالك. وقوله:"لا إن شك في نجاسة المصيب" عطف على قوله: "وإن شك في إصابتها لثوب". وقوله: "لا إن شك في نجاسة المصيب"، وأما الجسد فإن قلنا إنه كالثوب فالظاهر أنه لا نضح عليه بلا إشكال، وإن قلنا بوجوب الغسل فعلى المشهور لا يجب غسله، وعلى مقابله القائل بالنضح في الثوب يجب غسله انظر الخرشي أو فيهما يعني أن من شك في إصابة شيء له وعلى تقدير أنه أصابه شك هل هو نجس أم لا؟ فإن النضح ساقط عنه اتفاقا لتركب الشك من جهتين، وذكر المص هذا الفرع تتميما للمسألة. وهن الجسد كالثوب يعني أنه اختلف في الجسد إذا شك في إصابة النجاسة له هل هو كالثوب فيجب نضحه؟ أو هو ليس كالثوب، بل يجب غسله. في ذلك خلاف أي قولان شهر كل منهما، فكونه كالثوب قال ابن شاس: هو ظاهر المذهب. وقال ابن الحاجب: هو الأصح، وأخذ من قول الإمام في المدونة: هو طهور لكل ما شك فيه، والقول بوجوب الغسل قال ابن عرفة: هو المشهور، وجعله ابن رشد المذهب، وعزا مقابله لابن شعبان وضعفه، وأخذ من قوله في المدونة: ولا يغسل أنثييه من الذي إلا أن يخشى إصابته إياهما. انتهى.
واعلم أن المعتمد هو القول الثاني؛ أي القول بوجوب الغسل كما في شرح الشيخ عبد الباقي، ودليله قوله عليه الصلاة والسلام:(إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)
(1)
، فأمر بغسل اليد للشك في نجاستها، وإذا ترك نضح الجسد فالخلاف فيه كالخلاف في الثوب، ولا يحتاج نضحه لنية على القول به، وقوله:"وهل الجسد كالثوب" لخ فإن شك في نجاسة الصيب أو فيهما فلا شيء عليه، وأما البقعة إذا شك في إصابة النجاسة لها، والمراد بها الأرض ففيها طريقتان: طريقة تحكي الاتفاق على وجوب
(1)
الموطأ، كتاب الطهارة، رقم الحديث:40.
الغسل، وطريقة تحكي الاتفاق على وجوب النضح، هذا ما يفيده ابن ناجي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: إنه الصواب. انتهى. والذي يظهر من تأمل نقله أن الراجح وجوب الغسل والله سبحانه أعلم. وأما الفراش فكالثوب كما سبق، وعفي عما يصيب من الطريق إن لم تتحقق نجاسته ولو غلب ظنها به، ولا يغسل الطعام، ولا ينضح بالشك، ولما تكلم على اشتباه الثياب وقطع فيها بالتحري لخفة الأمر في الخبث أراد الإشارة إلى الفرق بينه وبين الحدث لقوة الأمر فيه للاتفاق على طلب الماء المطلق فيه مصورا ذلك بمسألة الأواني لشهرة الخلاف فيها مقسما لها إلى قسمين فقال: وإذا أشتبه طهور بمتنجس، يعني أنه إذا اشتبه أي التبس ماء طهور بماء متنجس، فإنه يجب على من وقع له ذلك ولم يجد مطلقا غيره أن يتطهر بعده الأواني المتنجسة، وزيادة إناء من الطهور، ويصلي بعده تطهره فإذا كانت الأواني خمسة الطهور منها ثلاثة والمتنجس منها اثنان، توضأ من ثلاثة منها ويصلي بكل وضوء صلاة وإن كان المتنجس أربعا توضأ منها كلها وصلى كذلك، وإيضاح ما قال المص: أن تقع النجاسة في الماء وتغيره ولم يُعلم لتغير الماء الذي في الأواني جميعها بقراره أو بما يتولد منه، أو تكون الأواني متغيرة تغيرا واحدا بعضها بشيء طاهر لا يسلب الطهورية وبعضها بشيء نجس، كأن يتغير بعضها بتراب طرح فيه، والآخر بتراب نجس طرح فيه، أو يكون الماء يسيرا حلته نجاسة لم تغيره على القول بنجاسته، وهذا هو القسم الأول والقسم الثاني أن يشتبه الطهور بالنجس بفتح الجيم كما أشار إلى ذلك بقوله: أو نجس، والحكم فيهما واحد فيصلي بعده النجس وزيادة إناء من الطهور؛ كأن يشتبه الماء المطلق بالبول المقطوع الرائحة الموافق للماء في أوصافه، وبما قررت علم أن قوله: صلى بعده النجس وزيادة إناء جواب عن قوله وإذا اشتبه فهو راجع لمسألتي المتنجس والنجس، ومعناه أنه يتوضأ بعده الآنية النجسة وزيادة إناء ويصلي عند كل وضوء، وهذا الذي ذكره المص في هذه المسألة هو الصحيح، وعليه فلا يجب غسل أعضائه لعدم تحقق نجاسته، ولا ما أصاب ثوبه. وقيل كذلك بزيادة، ويغسل ما أصابه من الماء الأول بالماء الثاني، ثم يتوضأ منه، وهو قول ابن مسلمة وهو الأشبه بقول مالك، واختاره القاضي أبو محمد: فإن لم يغسل فلا شيء عليه؛ لأن النجاسة غير محققة. وقيل: يتحرى أحد الأواني ويصلي به ويجزئه، كما يتحرى في القبلة،
وهو قول ابن المواز وابن سحنون. وقال ابن العربي: هو الصحيح وعلى القول بالتحري لو صلَّى بما غلب على ظنه أنه طاهر ثم تغير اجتهاده، فإن كان إلى اليقين بخطإ في اجتهاده الأول غسل ما أصابه منه وأعاد الصلاة، وإن تغير إلى الظن فيتخرج على القولين في نقض الظن بالظن كالمصلي إلى القبلة باجتهاده، ثم يغلب على ظنه أنه أخطأ القبلة، وفي الشامل: فإن تغير اجتهاده بعلم عمل عليه لا بظن على الأظهر. وقيل: إن قلت الأواني فكما قال ابن مسلمة وإن كثرت فكما قال ابن المواز وابن سحنون وهو لابن القصار. وقيل: يترك الجميع ويتيمم وهو قول سحنون الثاني، وظاهر كلامهم أنه لا يحتاج إلى أن يريقها، ويتيمم ليتحقق عدم الماء، وسحنون جعل وجودها كالعدم قاله الحطاب. فتلك خمسة أقوال، وقال الشيخ عبد الباقي: وقيد المص بثلاثة قيود؛ أن يتسع الوقت الذي هو فيه، وأن لا تكثر الأواني جدا وإلا تحرى واحدا وتوضأ به إن أمكنه التحري واتسع الوقت له، وإلا تيمم كما لو أريقت كلها أو بقي منها دون عدد النجس وزيادة إناء، القيد الثالث أن لا يجد طهورا محققا غير هذه الأواني، وإلا تركها وتوضأ. انتهى. قوله: وأن لا تكثر الأواني لخ، قال الشيخ محمد بن الحسن بناني: فيه نظر؛ إذ التفصيل بين أن تكثر الأواني فيتحرى، أو تقل فيتوضأ بعدد النجس وزيادة إناء، إنما عزاه في التوضيح، وابن عرفة عن الباجي لابن القصار وهو مقابل ما مشى عليه المص فلا يصح أن يقيد به. انتهى. وقوله:"بعدد النجس" قال الشيخ عبد الباقي: أي ولو حكما كما إذا كان عدد الآنية عشرة، وتحقق نجاسة خمسة، وطهارة اثنين، وشك في ثلاثة فيصلي بعده النجس تحقيقا وشكا، وزيادة إناء احتياطا. انتهى قال الشيخ محمد بن الحسن: اعترض هذا بأن ما شك فيه أصله الطهارة والطهورية إذ هما الأصل كما تقدم عند قوله: أو شك في مغيره هل يضر فالظاهر أن يصلي ستا حملا للمشكوك فيه على الطاهر، وأشعر قول المص بعده النجس الخ أنه يعلم عدده، فإن لم يعلمه صلى بعده الآنية كلها، فإن علم النوعين وجهل عدد كل واختلف العدد صلى بعده الأكثر وزيادة إناء احتياطا إلا أن تكثر الأواني أيضا كما مر. قاله الشيخ عبد الباقي. قوله: صلى بعدد الأكثر وزيادة إناء الخ، قال الشيخ محمد بن الحسن: يقال وعلى مقتضى كون الأصل الطهورية يصلي بعدد الأقل وزيادة إناء. انتهى. ومفهوم قوله بمتنجس أو نجس أنه إذا اشتبه طهور بطاهر
لم يكن الحكم كذلك، والحكم أنه إن كان واحد من الطهور وواحد من الطاهر فإنه يتوضأ بكل منهما ويصلي صلاة واحدة، وإن تعدد الطهور وتعدد الطاهر وعلم عدد الطهور من غيره فيتوضأ بعده الطاهر وزيادة إناء، ويصلي صلاة واحدة، وما شك في كونه من الطاهر أو الطهور فهو من جملة الطاهر، وإن لم يعلم عدد واحد منهما توضأ بالجميع وصلى صلاة واحدة، وإن علم أن عدد أحد النوعين خمسة، وعدد الآخر أربعة مثلا ولا يدري ما الذي عدده خمسة، ولا ما الذي عدده أربعة يتوضأ بعده أكثرها وزيادة إناء، ويصلي صلاة واحدة. انتهى. قوله: وما شك في كونه من الطاهر أو الطهور فهو من الطاهر الخ، مقتضى الأصل أنه من الطهور. قاله الشيخ محمد بن الحسن. ولم يكتف بصلاة واحدة في مسألة المصنف مع وضوئه بعده النجس وزيادة إناء، مع أنه يصلي بطهور قطعا، لأنه في اشتباه الطهور بالطاهر صلى بمطلق من غير ملابسة نجاسة قطعا بخلاف مسألة المص، فإنه تحققت ملابسته للنجاسة في بعض أوضئته، ولم يتحقق زوالها لاحتمال أن وضوءه الأخير بالنجاسة، فلو صلى صلاة واحدة بجميع أوضئته لكان في صلاته ملابسا لنجاسة تحقق حصولها، ولم يتحقق زوالها، وأجيب أيضا بأن الطاهر قد قيل بأنه يرفع الحدث ولم يقل بمثله في النجس أو المتنجس. قاله الشيخ عبد الباقي.
تنبيهات الأول: لو كان معه إناءان مثلا وصلى الظهر مرتين ثم حضرت العصر وهو على طهارته، ويعلم الإناء الذي توضأ به آخرا صلاها بطهارته التي هو عليها، ثم توضأ بالأول وصلاها به، وكذا يقال فيما إذا استمر الوضوء المذكور لصلاة الغرب والعشاء. ابن سحنون: لو تيمم ثم توضأ وصلى فبان نجاسة مائة لم ينتقض تيممه.
الثاني: إذا اشتبه طهور بطاهر ومتنجس أو نجس فكما إذا اشتبه بمتنجس أو نجس احتياطا، وإذا اشتبه طهور بطاهر، واشتبه طهور بمتنجس أو نجس قدم في الاستعمال الأول، لأن ثم من يقول بأن الطاهر يرفع الحدث كذا ينبغي. قاله الشيخ عبد الباقي، أي كما إذا اشتبه الطاهر والطهور في خمس أوان معينة، واشتبه الطهور بالمتنجس والنجس بخمس أخرى معينة. والله سبحانه أعلم.
الثالث: اعلم أن الاشتباه هو الالتباس وعلى القول بالتحري فلا بد من أمارة أو دليل فليس الالتباس بحقيقي، فلا يجوز له أخذ الأواني إلا بالاجتهاد، وطلب علامة تغلب على الظن بها الطهارة قال الحطاب: فإن لم تظهر له علامة فالظاهر أنه يترك الجميع ويتيمم، وقد تقدم أن في قوله. "وإذا اشتبه طهور" الخ خمسة أقوال، ووجه القولين الأولين أن القادر على الماء ومعه ماء محقق لا يجوز له التيمم لقوله تعالى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} الآية، وزاد الثاني غسل الأعضاء لتيقن إزالة النجاسة قبل الوضوء الثاني، ووجه الثالث القياس على القبلة، فإن كلا من الطهر والاستقبال شرط في صحة الصلاة، ووجه الرابع أن الغالب مع الكثرة إصابة الاجتهاد بخلاف القلة، ولأنه مع الكثرة يشق استعمالها، ومع القلة يخف أمرها، ووجه الخامس أن الله عز وجل أباح التيمم مع عدم الماء الطهور، وهو هنا عدم لوقوع الشك وإلزام وضوءين وصلاتين خلاف الأصل، والتحري لا يسقط الفرض بيقين. واعلم بأن ما اعترض به بعضهم على القول الصحيح الذي مشى عليه المصنف من أن نيته غير جازمة لعلمه أنه لا يكتفي بما صلى، وبأن الثانية إن نوى بها الفرض كان ذلك رفضا للأولى، وإن نوى بها النفل لم تسقط عنه، وإن نوى التفويض لم يصح؛ لأن الله لا يقبل صلاة بغير نية، يجاب عن الأول منه بأن الواجب عليه أن يتوضأ ويصلي بعدد النجس وزيادة واحد فلا يكتفي بدون الواجب عليه فنيته جازمة في الجميع؛ لأن ذلك فرضه وهو لازم، فيمن نسي صلاة من خمس لا يدري عينها، وهذا وهم وقع فيه كثير من الناس، وبهذا يسقط قوله لأن الثانية إن نوى بها الفرض كان رفضا للأولى؛ لأن كل واحدة من المجموع فرضه، وبهذا يجاب عما ذكره ابن رشد في مسألة الشك في الثياب المتقدمة في قوله: بخلاف ثوبيه فيتحرى، وعلى ما مشى عليه المصنف وما أشبهه من الأقوال لا إشكال في جواز إمامة أحد الجماعة لهم فيتوضئوا بعده النجس وزيادة إناء، ويصلون بعده ما توضئوا ويؤمهم أحدهم في تلك الصلوات، وعلى القول بالتحري فإن اتفق تحريهم على إناء واحد فلا إشكال، وإن اختلف تحريهم فلا لاعتقاده أن الآخر تطهر بالماء النجس.
وندب غسل إناء ماء يعني أن الإناء إذا كان فيه ماء وولغ فيه كلب فإنه يستحب أن يغسل ذلك الإناء، والظاهر على أصولنا اشتراط الدلك؛ لأن الغسل عندنا لا تتم حقيقته إلا به، قاله الشيخ
ميارة. والحطاب عن التوضيح وهو خلاف ما للحطاب عن ابن العربي أن غسلَ الإناء من ولوغ الكلب صبٌّ عليه؛ لأنه ليس هناك شيء يزال. والله أعلم. ويواق يعني يندب أن يراق هذا الماء الذي ولغ فيه كلب فهما مندوبان: غسل الإناء، وإراقة الماء الذي ولغ فيه الكلب. وفي قوله: و"ويراق" إشعار بأنه لا يغسل به وقوله: "إناء ماء" أي إناء فيه ماء، واحترز بذلك من أن يكون الإناء فارغا فلا يندب غسله، وندبت الإراقة ولم تجب؛ لأن الماء الذي ولغ فيه كلب مكروه. وقوله:"ويراق" الأولى فيه النصب كما نقله الشيخ محمد بن الحسن عن ابن مرزوق، ومحل ما ذكره المصنف حيث كان الماء يسيرا؛ أي دون آنية غسل لا طعام، يعني أن الإناء الذي فيه طعام إذا ولغ فيه كلب فإنه لا يندب غسله، وكذا لا تندب إراقته بل تحرم لنهيه عليه الصلاة والسلام عن إضاعة المال
(1)
، قال فيها: وأراه عظيما أن يعمد إلى رزق الله تعالى، فيراق لكلب ولغ فيه. وقيل يغسل لعموم الحديث
(2)
، وأجيب بأن الأواني التي تبتذل ويجدها الكلاب غالبا أواني الماء، فكأن الحديث إنما ورد فيها، وقوله:"لا طعام" بالجر عطف على ماء، وفي شرح الشيخ عبد الباقي ما يقتضي أنه ورد في بعض طرق الحديث التقييد بالماء، ورد عليه العلامة بناني بأنه لم يصرح بالقيد المذكور في شيء من رواية الحديث، ولذا قال في التوضيح: بنى المازري الخلاف على خلاف أهل الأصول في تخصيص العموم بالعادة إذ الغالب عندهم وجود الماء لا الطعام. وَحَوْض بالجر عطف على طعام؛ يعني أن الغسل مختص بالإناء، وأما الحوض فلا يغسل، وفي المدونة قال مالك: ومن توضأ بماء ولغ فيه كلب وصلى أجزأه، قال علي ولا إعادة عليه في الوقت، وإن علم، وقال علي عنه، وابن وهب: ولا يعجبني الوضوء به إن كان الماء قليلا، ولا بأس به إن كان الماء كثيرا كالحوض ونحوه. انتهى. وفي الحديث: في الحياض التي تردها السباع: (لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شرابا وطهورا)
(3)
، وقال: لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا، وفي الجلاب أن سؤر الكلب والخنزير مكروهان من الماء إلا أن يكون في
(1)
البخاري، كتاب الاستقراض، رقم الحديث:2408.
(2)
إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرار. مسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث:279.
(3)
مصنف عبد الرزاق، رقم الحديث:279.
خطمهما نجاسة، ومعناه إذا شربا من الماء اليسير، وأما إذا شربا من الماء الكثير ومن الحوض فلا وجه للكراهة (تعبدا) قال الشيخ محمد بن الحسن: الظاهر أنه مفعول مطلق لعامل محذوف؛ يعني أن غسل الإناء سبعا بولوغ الكلب غير معقول المعنى؛ أي لم يطلع على حكمته مع أن له حكمة، ومعقول المعنى هو ما اطلع على حكمته، وقيل لقذارته: وقيل لنجاسته.
(سبعا) مفعول مطلق لقوله غسل؛ يعني أن الغسل المذكور سبع غسلات، ولا يعد من السبعة الماء المولوغ فيه على الصحيح، ويدل له خبر (فليرقه وليغسله سبعا)
(1)
، وقيل يعد قاله الشيخ عبد الباقي: وعبارة الشيخ الحطاب: وهل يغسل الإناء بالماء المولوغ فيه؟ في ذلك قولان، ثم نقل عن القزويني وغيره أنه لا يجزئ ونقل عن سند أن المستحب أن لا يغسله به: فإن غسله به فالظاهر أنه يجزئه؛ لأنه إذا توضأ به أجزأه وفي المقدمات أنه على القول بأنه يغسل النجاسة يجوز غسل الإناء به، وعلى التعبد لا ينبغي أن يغسل به إذا وجد غيره، وإن لم يجد غيره فقيل يغسل به كما يتوضأ، وقيل لا، وإن كان يتوضأ به؛ لأن المفهوم من الحديث أن يغسل بغير ذلك الماء، ويجوز على قياس هذا أن يغسل من ماء غيره ولغ فيه كلب. انتهى. وعلى أن الغسل معلل بالقذارة أو النجاسة فكونه سبعات قيل تعبدا، وقيل لتشديد المنع، وقيل لأن بعض الصحابة نهوا فلم ينتهوا، فإن قيل هذا غير لائق بالصحابة، فالجواب أن المراد بعض الأعراب الذين لم يتمكن الإسلام من قلوبهم، والفرق بين تشديد المنع وكونهم نهوا فلم ينتهوا أن الأول تشديد ابتداء، والثاني تشديد بعد تسهيل.
تنبيه قد تقدم أن التعبد هو الذي لم تظهر له حكمة مع أنه لا بد فيه من حكمة، أي نجزم أنه لا بد له من حكمة، وذلك لأنا استقرأنا عادة الله تعالى فوجدناه جالبا للمصالح دارئا للمفاسد، ولهذا قال ابن عباس: إذا سمعت نداء الله فهو إنما يدعوك لخير أو يصرفك عن شر. قاله الحطاب. (بولوغ كلب) متعلق بغسل من قوله: "وندب غسل إناء ماء"، أو بقوله:"ندب"، يعني أنه يندب الغسل المذكور بسبب ولوغ كلب، أي شربه. ومن لازمه تحريك لسانه في الماء: فلو
(1)
إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرار. مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:279.
أدخل يده أو رجله أو لسانه فيه من غير تحريك في الماء، أو سقط لعابه فيه فلا يغسل، ولا تندب إراقة الماء؛ لأن الغسل عندنا تعبد، وقال الشافعي: إنه لوأدخل يده في الإناء أو رجله يغسل؛ لأن الغسل عنده للنجاسة مطلقا يعني أن الأمر بغسل الإناء بسبب ولوغ الكلب لا يتقيد بكلب عن كلب، فالمأذون في اتخاذه وغيره في ذلك سواء وهذا هو المشهور، وقيل يختص الغسل بالمنهي عن اتخاذه، والخلاف مبني على أن الألف واللام في الكلب للجنس فيعم، أو للعهد في المنهي عن اتخاذه. ونقل ابن عرفة ثالثا عن ابن رشد وابن زرقون أنه يختص بالحضري لا غيره أي لا غير الولوغ من أفعال الكلب كما مر، ويحتمل لا غير الكلب من السباع والخنزير فلا يندب غسل ولا إراقة خلافا لمن ألحق الخنزير بالكلب، ولو تولد كلب من كلبة وغيرها فالأحوط الغسل، ولا يبعد تبعيته للأم لقولهم: كل ذات رحم فولدها بمنزلتها عند قصد الاستعمال؛ يعني أنه لا يؤمر بالغسل إلا عند قصد استعمال ذلك الإناء هذا هو المشهور، وعزاه ابن عرفة للأكثر، ولرواية عبد الحق، وقيل: يؤمر بالغسل بفور الولوغ قاله الحطاب، وقال الشيخ عبد الباقي: المراد عند اتصال قصد الاستعمال بالاستعمال لا عند قصد الاستعمال، وإن لم يتصل بالاستعمال، ولا فورا عند الولوغ، ولم يرد استعماله فكل ذلك لا يخرجه من عهدة الطلب على المعتمد. انتهى. وفي هذا الأخير نظر قاله الشيخ محمد بن الحسن "بلا نية" يعني أن الغسل المذكور لا يفتقر لنية؛ لأنه تعبد في الغير كغسل الميت، وقوله:"بلا نية" متعلق بيكفي لا حال من غسل من قوله: "وندب غسل إناء ماء" ولا تتريب؛ يعني أن الغسل المذكور كما لا يفتقر لنية لا يفتقر لتتريب؛ أي جعل التراب فيه، وورد (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب)، وروي (أولاهن)
(1)
، وروي (أخراهن)
(2)
، قاله الحطاب، ورواياته مضطربة وذلك يوجب ضعفه، والضعيف لا يثبت به حكم. ولا يتعدد بولوغ كلب يعني أن الكلب إذا ولغ في إناء مرات متعددة فإنه لا يتعدد غسل الإناء بسبب ذلك، بل يكفي أن يغسل سبع مرات لا أزيد من ذلك
(1)
طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب. مسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث:279.
(2)
يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن أو آخراهن بالتراب وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة. الترمذي، كتاب الطهارة، رقم الحديث:91.
فلا يغسل سبعا ثم سبعا بعده ما ولغ أو كلاب؛ يعني أنه إذا ولغ جماعة من الكلاب في إناء كفى في ذلك سبع غسلات هذا هو المشهور. وقيل يتعدد بولوغ كلب أو كلاب.
تنبيهات. الأول: ذكر المصنف حكم غسل الإناء بالولوغ بأثر الكلام على النجاسة وذلك حسن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الإناء من ولوغه، وتردد العلماء في ذلك هل هو واجب أو مستحب؟ وهل هو للنجاسة أو تعبد؟ فناسب من أجل ذلك ذكره بأثر الكلام على النجاسة. والله أعلم. والحديث هو:(إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات)
(1)
، هذا هو لفظ الموطإ، ولفظ البخاري (سبعا)
(2)
، وفي صحيح مسلم:(إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات)
(3)
، واختلف هل الأمر على الوجوب أو الندب؟ وقوله:"لا طعام" هو المشهور كما مرت الإشارة إليه: وروى ابن وهب: يغسل إناء الطعام أيضا. ابن عرفة: وعلى غسل إناء الطعام في طرحه ثالثها إن قل لابن رشد عن روايتي ابن وهب وابن القاسم والمازري مع اللخمي عن مطرف، وابن الماجشون لا يطرح، ولو عجن بمائه طرح؛ لأنها نجاسة أدخلها. سند: وعلى غسل إناء الطعام لو كان الطعام جامدا فلحس منه الكلب هل يغسل اعتبارا بالمائع؟ أو لا يغسل؟ كما لو خطف سهم لحم من الجفنة، أو طائر أو وقع في إناء، والظاهر أنه يغسله لعموم الحديث فإن ذلك يعد ولوغا بخلاف ما خطفه، وعند الشافعي: يغسل جميع ذلك، والخلاف في إناء الطعام كما عرفت، وأما الحوض فلم أو فيه خلافا قاله الحطاب، وقيل سؤر المأذون فيه طاهر، وسؤر غيره نجس، وقيل يفرق بين البدوي فيحمل على الطهارة. والحضري فيحمل على النجاسة. الثاني: قال صاحب الجمع: وهل يشرب ذلك الماء ويؤكل ما عجن به؟ إن قلنا إن الغسل تعبد أو لتشديد النهي جاز، وإن قلنا للنجاسة أو للقذارات أو مخافة الكَلْبِ الكَلِبِ منع، وفي المقدمات: وعلى القول بأنه يغسل سبعا تعبدا يجوز شربه ولا ينبغي الوضوء به إذا وجد غيره للخلاف في نجاسته، وعلى أنه للنجاسة لا يجوز شربه. وقد مر القولان بأنه معلل، فقيل
(1)
لفظ الموطإ: إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات. الموطإ، كتاب الطهارة، رقم الحديث:67.
(2)
إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا. البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:182.
(3)
لفظ مسلم: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرار. مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:279.
لنجاسته، وقيل لقذارته، واختار ابن رشد كون المنع مخافة أن يكون الكلب كلبا فيكون قد داخل من لعابه الماء ما يشبه السم، قال: ويدل على صحة هذا التأويل تحديده بالسبع، لأن السبع من العدد المستحب فيما كان طريقه التداوي لا سيما فيما يتوقى منه السم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه: (هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن
(1)
)، وقال (من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضرة ذلك اليوم سم ولا سحر
(2)
). الثالث: قال سند: إذا لعق الكلب يد أحدكم فلا يغسلها، ويستعمل الولوغ في الكلاب والسباع ولا يستعمل في الآدمي، ويستعمل الشرب في الجميع وليس شيء من الطير يلغ إلا الذباب، ويقال ولغ يلغ بفتح اللام فيهما ولوغا بضم الواو، فإذا شرب كثيرا فهو بفتح الواو، وقد مر القول بأن الخنزير كالكلب، قال ابن رشد: وإذا لحق به الخنزير فيلحق به سائر السباع لاستعمالها النجاسة واندراجها في الاسم، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعتبة بن أبي لهب: (اللهم سلط عليه كلبا من كلابك
(3)
) فعدا عليه الأسد فقتله قاله الحطاب. وقوله: "بلا نية" فإن استعمله في الماء من غير غسل، فهل يغسله بعد ذلك سبعا؟ أو يحسب الاء الذي ألقاه فيه واستعمله مرة [فهذا
(4)
] ينبني على اشتراط النية، وإذا استعمله قبل غسله لا يسقط الغسل، ولا يؤمر بغسل ما أصابه ذلك الماء كما فهم من كلام صاحب الطراز وهو ظاهر؛ لأن المذهب طهارته والله أعلم قاله الحطاب. ولما أنهى الكلام على وسائل الطهارة وهي ثلاث: بيان الماء المطهر به، وبيان الأشياء الطاهرة والنجسة، وبيان حكم إزالة النجاسة وكيفيتها، وما يعفى عنه منها، أتبعه بالكلام على مقاصد الطهارة وهي: الوضوء ونواقضه، والغسل ونواقضه، وما هو بدل منهما وهو التيمم، أو عن بعض الأعضاء وهو مسح الخف والجبيرة، وبدأ بالكلام على الوضوء لتكرره ولأنه مطلوب لكل صلاة إما وجوبا وإما ندبا فقال:
(1)
البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:98.
(2)
مسلم، كتاب الأشربة، رقم الحديث:2047.
(3)
فتح الباري، ج 4 ص 39.
(4)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، والمثبت من الحطاب ج 1 ص 275 ط دار الرضوان.
فصل: ذكر فيه فرائض الوضوء،
وسننه، وفضائله، والصحيح أن المختص بهذه الأمة الغرة والتحجيل فقط لخبر (لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون عليَّ محجلين
(1)
) لا الوضوءُ لآثار وردت بالاشتراك في أصل الوضوء، وفي البخاري ومسلم عنه صلى الله عليه وسلم: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل
(2)
)، وظاهره أن هذا المعنى إنما يكون لمن توضأ في الدنيا لقوله: من آثار الوضوء، وفيه رد على الزناتي المالكي في شرح الرسالة عن العلماء أن هذا الحكم ثابت لهذه الأمة يوم القيامة، من توضأ منهم، ومن لم يتوضأ. كما يقال لا نكفر أحدا بذنب من أهل القبلة من أمة محمد سواء صلى أو لم يصل، وتعقب هذا الرد بأن التيمم يقوم مقام الوضوء. والله سبحانه أعلم. وقوله: في الحديث سيما بكسر السين يمد ويقصر؛ أي علامة ليست لأحد من الأمم، وقوله: غرا بضم الغين المعجمة وتشديد الراء جمع أغر؛ أي ذو غرة، والغرة بياض بجبهة الفرس فوق الدرهم شبه به ما يكون لهم من النور يوم القيامة، والتحجيل أصله من الحجلة بكسر الحاء الخلخال بياض في قوائم الفرس الأربع أو في ثلاث منها أو في غيرها. والمراد النور الذي يكون لهم في أطرافهم، وقوله: يدعون أي إلى موقف الحساب: أو إلى الميزان، أو إلى الصراط، أو إلى الحوض أو غير ذلك.
واعلم أن شرائط الوضوء ثلاثة أقسام: شروط وجوب وصحة، وشروط وجوب فقط، وشروط صحة فقط، فالأول خمسة: عقل، وبلوغ الدعوة، وانقطاع الحيض، وانقطاع النفاس، ووجود مطلق كاف. والثاني ستة: دخول وقت حاضرة، أو تذكر فائتة، وبلوغ، وعدم إكراه على تركه، وعدم نوم وسهو عن العبادة المطلوب لها الوضوء، وقدرد على استعماله، وثبوت الموجب من حدث أو مشكوك. فيه والثالث ثلاثة: الإسلام ولو حكما كوضوء من أجمع على الإسلام ثم أسلم، وعدم كانك وناقض حال فعله وهذا في حق المكلف، وأما الصبي فكل من هذه الأقسام الثلاثة شرط في الصحة واستحباب ذلك له. ومثل الوضوء في الأقسام المتقدمة كلها الغسل. وكذا التيمم إلا في وجود مطلق فالصعيد بدله أي المطلق، وإلا في دخول الوقت فشرط وجوب وصحة، ومكروهاته
(1)
لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون علي غرا محجلين من أثر الوضوء. مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:247.
(2)
البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:136. - مسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 246. واللفظ للبخاري.
ست: سرف في الماء، واقتصار على الواحدة لغير العالم، وتخليل للحية كثيفة، وكشف عورة، وكلام في أثنائه بغير ذكر الله تعالى، وزيادة في المغسول أو الممسوح على ما حدده الشارع، وهو ثلاث في المغسول واثنتان في الرأس، واعلم أن المشهور أن الاقتصار على الواحدة خلاف الأولى للعالم، وغيره لا مكروه ولا جائز مستوي الطرفين قاله الشيخ عبد الباقي، والوضوء لغة النظافة، وشرعا طهارة مائية تتعلق بأعضاء مخصوصة على وجه مخصوص، وهو غير معقول المعنى عند الكثير من المحققين، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: شرع الاستنجاء لوطء الحور العين، وغسل اليدين إلى الكوعين للأكل من موائد الجنة، والمضمضة لكلام رب العالمين، والاستنشاق لرائحة الجنة، وغسل الوجه للنظر إلى وجه الله الكريم، وغسل اليدين إلى المرفقين للسوار، ومسح الرأس للتاج والإكليل، ومسح الأذنين لسماع كلام رب العالمين، وغسل الرجلين للمشي في الجنة. انتهى قاله الشبراخيتي. وخصت به أطراف البدن دون سائره؛ لأنها المباشرة للخطايا غالبا وللمشقة في تطهير سائره بالتكرر وكأنه بالإحاطة طهر جميعه، وإنما اختص الرأس بالمسح لستره غالبا فاكتفِي فيه بأدنى طهارة.
واعلم أن الجمهور على أن الطهارة فرضت من أول الأمر أي حين فرضت الصلاة، وأن جبريل نزل صبيحة الإسراء فهمز النبي صلى الله عليه وسلم بعقبه فتوضأ وعلمه الوضوء، وقال ابن الجهم: كانت في أول الإسلام ثم فرضت في آية الوضوء، وجزم ابن حزم بأن الوضوء لم يشرع إلا بالمدينة، ورد ذلك عليه. نقله الحطاب. وبين الله عز وجل الوضوء بقوله:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، لأنه لم يكن معروفا في الجاهلية بخلاف الغسل من الجنابة فقال {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ولأنهم فهموا معناه من قوله:{فَاطَّهَّرُوا} ؛ لأنه بقي فيهم من دين إبراهيم كما بقي فيهم من دينه الحج والنكاح، ولذا نذر أبو سفيان أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزوَ محمدا وأصحابه، وقالوا: رجل جنب لمجانبتهم البيت في تلك الحال.
واعلم أن الوضوء ينقسم إلى خمسة: واجب وهو الذي يفعل لعبادة لا يصح فعلها إلا بطهارة من صلاة وغيرها وليس بتجديد كانت الصلاة فرض عين كالصلوات الخمس أو كفاية كالجنازة أو
نفلا كوتر وفجر، كطواف ومس مصحف: ففعل شيء من ذلك بغير طهارة مؤثم إجماعا مانع من انعقادد ولا يلزم قضاؤه. ومستحب: كالوضوء المجدد ونحوه، وقيل وضوء التجديد سنة، ومن الوضوء المندوب: الوضوء للدخول على الأمراء ولركوب البحر وشبهه من المخاوف، وليكون الشخص على طهارة ولا يريد به استباحة الصلاة مثلا، ولتعليم العلم. ومباح: كالوضوء لتبرد أو تدف أو تنظف، ومكروه كالوضوء المجدد قبل أن تفعل به عبادة على أحد القولين. وممنوع: كالوضوء لغير ما أبيح له الوضوء. النووي: واختلفوا فيمن صلى بغير وضوء متعمدا أو مع ثوب نجس أو إلى غير القبلة، ومذهبنا ومذهب الجمهور لا يكفر إلا إن استحلَّ.
واعلم أن الحضور في الصلاة بقدر الحضور في الوضوء قاله بعض العلماء، قال الشيخ زروق: وقد جرب ذلك فصح. وإدمان الوضوء موجب لسعة الخُلُق، وسعة الرزق، ومحبة الحفظة أي، الملائكة الحافظين: ودوام الحفظ من المعاصي ومن المهلكات فقد جاء: (الوضوء سلاح المؤمن)، وأشار المصنف إلى بيان فرائض الوضوء بقوله: فرائض الوضوء بضم الواو اسم للفعل، وبفتحها اسم للماء. وحكي الفتح فيهما، والضم فيهما، والأول هو المعروف في اللغة، ومعنى كلام المصنف أن فرائض الوضوء سبع، أربع مجمع عليها، وثلاث مختلف فيها أولها. غسل ما بين الأذنين أي الوجه، والغسل هو إفاضة الماء على العضو مع إمرار اليد بالماء مصاحبا أو تابعا على المشهور، والوجه اسم لما تقع به المواجهة، وهذا حده عرضا، فيغسل ما بين شعري الصدغين بخلاف شعري الصدغين فإنهما ممسوحان على المعتمد خلافا لما شهره بعض، وما بين الوتد إلى الوتد فيدخل في ذلك العذاران، وما بين العارض والأذن ولا فرق بين الملتحي وغيره على المشهور فيشمل ذلك البياض الذي تحت الوتد. ابن عرفة: وفي كون البياض بينه أي العذار وبين الأذن داخلا، ثالثها في غير الملتحي، قال الشيخ محمد بن الحسن: الذي تدل عليه عبارة الحطاب وهو الحق أن محل الأقوال في البياض الذي تحت الوتد لا فوقه لأن ما فوق الوتد ممسوح انتهى ومنابت شعر الرأس المعتاد قوله: "منابت" عطف على الأذنين، يعني أنه يجب على المتوضئ أن يغسل ما بين منابت شعر رأسه المعتاد، فيغسل الأغم الشعر النابت على الجبهة، ولا يغسل الأصلع الناصية الخالية من الشعر؛ لأنها من الرأس، ولا الأنزع النزعتين بفتحتين وهما بياضان
يكتنفان الناصية، ويجب غسل ومسح ما لا يتم الواجب إلا به، وقيل: يجب الغسل لا المسح؛ لأنه مبني على التخفيف، وظاهر الرسالة، وابن الحاجب عدم الوجوب، والغمم بفتح الغين المعجمة وميمين نبات الشعر على الجبهة، يقال: رجل أغم وامرأة غماء، والعرب تذم به وتمدح بالنزع؛ لأن الغمم يدل على البلادة والجبن والبخل، والنزع بضد ذلك قال:
فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا
…
أغم القفا والوجه ليدى بأنزعا
والذقن يعني أنه يجب على المتوضئ غسل الذقن بفتح الذال المعجمة والقاف ويكسر الذال، العظم الذي تنبت فيه الأسنان السفلى وتنبت اللحية على ظاهره، وهو معطوف على ما، وهذا في حق من لا لحية له أو له لحية خفيفة أي، تظهر البشرة من تحتها، وكما يغسل الذقن يغسل طرفي اللحيين اللذين تحت شحمتي الأذنين عند سند خلافا لعبد الوهاب، قاله العلامة بناني وظاهر اللحية يعني أنه يجب غسل ظاهر اللحية ولو طالت في حق من له لحية كثيفة، ومعنى غسل ظاهرها إمرار اليد عليها مع الماء وتحريكها بلا خلاف؛ إذ لا يحصل الاستيعاب إلا به، وصفة التحريك هو أن يدافع ما انصب من الماء عليها حتى يداخلها من غير تخليل بالأصابع، فالتحريك غير التخليل؛ لأنه لا خلاف فيه كما علمت، وسيأتي الخلاف في التخليل، ومن لم يمر عليها الماء أعاد، ولم تجزه صلاته، وفي الأمير عند قوله:"فرائض الوضوء" الخ: ولا يشترط فيه نقل الماء ولو مجزئا عن مسح رأس بخلاف المسح على المشهور ولو نائبا عن مغسول وإذا كان على الشعر حائل يمنع من وصول الماء وجب إزالته، فإن لم يزله ثم قص الشعر الذي كان عليه الحائل فسيأتي الكلام عليه في مسح الرأس إن شاء الله في التنبيه الرابع عند قوله: ولا ينقض ضفره رجل أو امرأة، وتحصل في غسل الوجه أربع مسائل: إحداها ما بين شعري الصدغين من الوجه، الثانية نفس شعري الصدغين من الرأس على المعتمد كما تقدم، الثالثة ما بين العذار والأذن من الوجه، الرابعة ما بين الصدغ والأذن مما فوق الوتد فمسوح. وقوله:"فرائض" جمع فريضة؛ بمعنى مفروضة على غير قياس.
واعلم أن ما بين العذار والعذار مجمع عليه، وما عداه مما ذكرت وجوبه هو المشهور، وقيل هو من العذار إلى العذار، وعليه فالظاهر دخول العذار في الغسل قاله أبو عمران. ابن ناجي الأظهر عدم دخوله، والظاهر ما لأبي عمران قاله الحطاب، وقيل إن كان نقي الخد فكالأول، وإلا فكالثاني، وانفرد القاضي عبد الوهاب بأن ما بين العذار والأذن سنة وضعف، ووجه الأول أن المواجهة تقع بالجميع فهو داخل في مسمى الوجه ووجه الثاني أنه لا تقع به المواجهة غالبا. ووجه الثالث والرابع ظاهر، قاله الحطاب. ومنشأ الخلاف التنازع في معنى المواجهة هل يتناول ما اختلف فيه أم لا؟ والعذار بالذال المعجمة الشعر النابت على العارض، والعارض صفحة الخد قال الشيخ سيدي زروق: وللعامة في الوضوء أمور صب الماء من دون الجبهة وهو مبطل، ونفض اليد قبل إيصال الماء إليه وهو كذلك. ولطم الوجه بالماء وهو جهل لا يضر، والتكبير عند ذلك. والتشهد، والأذكار المرتبة على الأعضاء لا أصل لها، وأنكر ابن العربي أن يكون في الوضوء ذكر غير التسمية أوله: والتشهد آخره. نعم ورد في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال على وضوئه: (اللهم اغفر لي ذنبي ووسع لي في داري، وبارك لي في رزقي
(1)
) ولا يكب وجهه في يديه؛ لأن ذلك جهل بل يفرغه تفريغا حال كونه غاسلا له بيديه؛ بمعنى أنه يدلكه بهما مع الماء أو إثره متصلا به دلكا وسطا إذ لا يلزمه إزالة الوسخ الخفي، بل ما ظهر وحال بين الاء والعضو، قاله الإمام الحطاب.
واعلم أن الوضوء في اللغة يطلق على غسل عضو فما فوقه، ومنه حديث أبي داوود والترمذي: (بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده
(2)
)، وهو ضعيف والمراد به غسل اليد، ومحمله عندنا على ما إذا أصابه أذى من عرق ونحوه، ومنه الحديث (الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم ويصحح البصر
(3)
). النووي: أجمعت الأمة على حرمة الصلاة وسجود التلاوة والشكر وصلاة
(1)
اللهم اغفر لى ذنبي ووسع لى في داري وبارك لي فيما رزقتني. الترمذي، كتاب الدعوات، رقم الحديث:3500. - مسند أحمد، ج 4 ص 63.
(2)
أبو داود، كتاب الأطعمة، رقم الحديث:3761. - الترمذي، كتاب الأطعمة، رقم الحديث: 1864.
(3)
كشف الخفاء، ج 2 ص 448.
الجنازة بغير طهارة، وما حكي عن الشعبي، والطبراني من تجويز صلاة الجنازة من غير طهارة باطل والله أعلم.
واعلم أنه لا يشترط في طهارة الحدث أن ترد على الأعضاء وهي طاهرة، وقال ابن الجلاب: يشترط ذلك واختاره جماعة أبو الحسن الصغير، ولم يشترط أحد الطهارة من الدنس، وسئل الشيخ أبو القاسم عبد الخالق السيوري عن الحجة في إسقاط وجوب داخل العينين في الوضوء والطهر، فأجاب: جميع الواصفين لوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكروا شيئا من ذلك ويزال القذى من أشفار العين إذا لم يشق ذلك جدا. البرزلي: فإن صلى به وكان يسيرا مثل خيط العجين والمداد ففيه قولان المشهور الإعادة، وأحفظ لابن دينار أنه مغتفر، ولو صلى ثم وجد بأشفار عينيه قذى كثيرا لا يغتفر حين الوضوء ولم يدر هل كان قبل الوضوء أو بعده فإنه لا شيء عليه لأنه يمكن أن يكون حدث بعد الوضوء واختلف في الكيفية المندوبة في أخذ الماء لغسل الوجه فقال إمامنا مالك رضي الله عنه الأولى أن يأخذ الماء بيديه جميعا وقال ابن القاسم الأولى أن ياخذ بواحدة لأنه أعون على التقليل وقال ابن حبيب وعبد الوهاب يخير في ذلك وبعد أن يأخذه ينقله إلى وجهه فيغسل الوترة بالتاء المثناة فوق وبفتحتين الحاجز الذي بين ثقبي الأنف يعني أن الوترة يجب على المتوضي أن يغسلها وهي داخلة فيما سبق من حد الوجه ولكن نبه عليها لأن الماء ينبو عنها وأسارير جبهته يعني أنه يجب على المتوضئ أن يغسل أسارير جبهته جمع أسرة جمع سرر كعنب أو جمع سرار إلا لمشقة فيسقط دلكها ويوصل الماء لها إلا لمشقة وهي خطوط الجبهة وانكماشها، والجبهة هنا ما ارتفع عن الحاجبين إلى مبدا الرأس فيشمل جهة الجبينين؛ لأن ذلك يشمله ما بين شعر الرأس المعتاد وفي الحطاب عن الفاكهاني الجبهة ما أصاب الأرض في حال السجود والجبينان ما أحاط بها من يمين وشمال لا الجبهة الآتية في الصلاة وهي مستدير ما بين الحاجبين إلى الناصية وظاهر شفتيه يعني أنه يجب على المتوضئ عند غسل وجهه أن يحافظ على ظاهر شفتيه فيغسله وظاهر الشفتين ما يظهر منهما عند انطباقهما انطباقا طبيعيا بلا تكلف فيتعين على المتوضئ أن لا يضم شفتيه فمن ضم شفتيه حين غسل الوجه فقد ترك لمعة من وجهه وكذا ما غار من ظاهر أجفانه فإنه من المواضع التي يتحفظ عليها ونبه على ظاهر الشفتين
ليلا يتوهم أنهما من الباطن ونبه على الأسارير لاحتياجها إلى إمرار اليد لنبو الماء عن إصابتها وهذه المواضع داخلة في حد الوجه وإنما نبه عليها؛ لأن الماء ينبو عنها فيلزم المتوضئ أن يتحفظ عليها فإن ترك شيئا منها كان كمن لم يتوضأ ويدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم (ويل للأعقاب من النار
(1)
) بتخليل شعر يعني أنه يجب على المتوضئ عند غسل وجهه أن يخلل شعر وجهه وهذا إذا كان تظهر البشرة تحته عند المواجهة والبشرة الجلد والتخليل إيصال الماء إلى البشرة فيخلل ما ظهرت البشرة تحته من لحية وشارب وعنفقة وحاجب وهدب وشعر امرأة ولو لحية خلافا لابن فرحون في أنها تخلل الكثيفة لندورها والمعتمد وجوب حلق ذلك عليها وعبارة عبد الباقي وذكر الزناتي أنه لا يجوز لها حلق ما خلق لها من لحية أو شارب أو عنفقة للتجمل لأنه تغيير لخلق الله انتهى وهو ضعيف والمعتمد وجوب حلق ذلك عليها واحترز بقوله تظهر البشرة تحته بما إذا لم تظهر كاللحية الكثيفة فيكره تخليلها على المعتمد وإنما الواجب غسل ظاهرها والمراد به أن يمر يده عليها ويحركها كما تقدم تحرير ذلك وصرح ابن رشد في البيان بأن غسل ما استرسل من اللحية ومسح ما طال من شعر رأسه هو الأظهر والأشهر وهو المعروف من مذهب مالك وأصحابه في المدونة ابن عرفة وفي وجوب غسل ما طال منها عن الذقن قولان لابن رشد عن معلوم المذهب وسماع موسى عن رواية ابن القاسم وقاله الأبهري وقيل يجب تخليل الكثيفة وقيل يندب ونكر المؤلف الشعر ليعم شعر اللحية وغيرها كالشارب والعنفقة والهدب والحاجب والهدب بضم الهاء وسكون الدال وقد تضم: الشعر النابت على أشفار العين، واحدته هدبة وكذلك هُدبة الثوب. وفي التلقين: فإن كان على الوجه شعر لزم إمرار اليد عليه، ثم ينظر فإن كان كثيفا انتقل الفرض إليه، وسقط فرض إيصال الماء إلى البشرة، وإن كان خفيفا تبين منه البشرة لزم إمرار الماء عليه وعلى البشرة سواء في ذلك أن يكون على خد أو شفة أو حاجب أو عذار أو عنفقة، ويلزم فيما انسدل على البشرة كلزومه فيما تحته بشرة، وفي ابن الحاجب: ويجب تخليل خفيف الشعر دون كثيفه في اللحية وغيرها حتى الهدب، وقيل وكثيفه. انتهى،
(1)
البخارى، كتاب الوضوء، رقم الحديث 163. - مسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 240.
قاله الحطاب. وقد علم أن المراد بالتخليل إيصال الماء إلى البشرة، ولهذا قال سند: المذهب استواء كثيف اللحية وخفيفها في عدم وجوب التخليل، وهذا ليس مخالفا لما مر من وجوب التخليل لما علمت، ودليل عدم وجوب تخليل الكثيفة (أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة
(1)
) وكانت لحيته كثيفة ولا يصل إلى بشرتها بمرة واحدة، وأيضا فإن الوجه اسم لما تقع به المواجهة، وقد خرج ما تحت الشعر عن المواجهة، وانتقلت المواجهة إلى ما ظهر من الشعر. ابن حجر: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: ليس في تخليل اللحية شيء صحيح، وإذا قلنا بوجوب تخليل اللحية الكثيفة فهل ذلك حتى يصل الماء إلى داخل الشعر فقط؟ أو لا بد من وصول الماء إلى البشرة؟ في ذلك قولان حكاهما المازري، وهل يصرف أصابعه فيها؛ يعني على القول بتخليلها من أعلاها أو أسفلها قولان، والفرق بين وجوب تخليلها، أي الكثيفة في الغسل وعدمه في الوضوء حيث فرعنا على المشهور أن المطلوب في الغسل المبالغة لقوله تعالى:{فَاطَّهَّرُوا} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة
(2)
) رواه الترمذي والنسائي وأبو داوود، لكن ضعفه أبو داوود والوضوء إنما أمر فيه بغسل الوجه، والوجه مأخوذ من المواجهة، وفي الحطاب عن الفاكهاني أن من المواضع المختلف فيها موضع التحذيف؛ وهو الشعر الذي بين ابتداء العذار والنزعة، وهو الداخل إلى الجبين من جانبي الوجه، فالصحيح أن ذلك من الرأس، والتحذيف بالذال المعجمة وسمي بذلك لأن النساء والأشراف يحذفون الشعر عنه ليتسع الوجه، فعلم من هذا أن الشعر الذي في الصدغين ليس من الوجه إلا ما كان داخلا من ذلك في دور الوجه كالأغم. انتهى. وفهم من قوله:"تظهر البشرة تحته" أنه لو كان بعضه خفيفا وبعضه كثيفا لكان لكل حكمه كما في الشبراخيتي لا جرحا برئ؛ يعني أنه لا يجب غسل الجرح إذا برئ غائرا؛ أي لا يجب دلكه بالماء حيث لا يمكن دلكه، ويوصل الماء له، لأنه من الظاهر، ولو نبت الشعر حوله وستره دلكه وأوصل الماء إليه إلا أن يشق إيصال الماء إليه أو خلق؛ يعني أن من خلق الله له عضوا غائرا أي فيه كالجرح الغائر فإنه لا يجب عليه دلكه بالماء حيث لم يمكنه دلكه، ويوصل
(1)
عن ابن عباس قال: توضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرة مرة. البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:157.
(2)
الترمذي، أبواب الطهارة، رقم الحديث:106. - ابن ماجه، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 597.
الماء له لأنه من الظاهر: ولو نبت الشعر حوله وستره دلكه وأوصل الماء إليه إلا أن يشق إيصال الماء إليه، وكذا يقال في المسح إذا كان في الرأس. فقوله: غائرا حال، وهو في المعنى راجع للمسألتين فيكون قيدا في إحداهما، وتقيد الأخرى بمثله حذف لدلالة المذكور عليه والله سبحانه أعلم، وبما قررت علم أن قوله:"غائرا" لا بد أن يكون استغواره كثيرا يشق إيصال الماء إليه باليد، ولو كان أثر الجرح ظاهرا لوجب غسله، ومفاد غير واحد أن قوله:"غائرا" يتناول جميع الأعضاء فيعم الرأس وغيره، وليس خاصا بالوجه، ففي الشبراخيتي ومن برأ منه جرح غائرا أو خلق كذلك ولم ينبت فيه الشعر: ونبت الشعر حوله وطال بحيث ستره، فإنه يجب مسحه حيث أمكن مسحه، ولا يكفي مسح ما حوله من الشعر إلا أن يشق ذلك فيترك مسحه. انتهى. وقال هو وغيره: ولو أثقبت يده بسهم واندملت نافذة لزمه غسل داخلها إن أمكن: أو إيصال الماء إليها إن لم يمكن، ولو اتصل طرفاها لم يكن عليه ثقبها. انتهى. وفيه أيضا أن تقييد المصنف بالغور الكثير غير محتاج إليه؛ لأن الشيء إذا أطلق ينصرف للفرد الكامل منه، والفرد الكامل من ذلك هو الاستغوار الكثير. انتهى. ولا خلاف بين أرباب المذاهب أنه لا يشترط غسل داخل العينين، ويؤثر عن ابن عمر أنه كان يفعله حتى عمي، واستحبه بعض الشافعية لفعل ابن عمر: قاله الحطاب. وقوله: برأ بفتح الراء في الماضي فتفتح: وتضم في المضارع، وبكسرها فتفتح فيه، وبضمها فتضم في المضارع. وقوله:"لا جرحا برئ" عطف على ما من قوله: "غسل ما بين الأذنين". ومقتضى ما تقدم أنه يفسر الغسل في المعطوف بما يعم الغسل والمسح والله أعلم.
ولما أنهى الكلام على فريضة غسل الوجه، وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع أتبعها بالكلام على فريضة غسل اليدين، وهي أيضا ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع فقال: ويديه؛ يعني أنه يجب على المتوضئ أن يغسل يديه جميع الكفين والأصابع والساعدي. بمرفقيه؛ يعني أنه يجب على المتوضئ أن يغسل ذلك مع المرفقين، والمرفق بكسر الأول وفتح الثالث، وبالعكس معناه هنا آخر عظم الذراع المتصل بالعضد، وبهما قرئ قوله تعالى {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} ؛ أي ما يرتفق وينتفع به، وعبر المصنف بالباء التي بمعنى مع دون إلى إشارة إلى أن إلى في قوله تعالى:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} بمعنى مع، على حد:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} ، وعلى حد قوله
تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} خلافا لمن جعلها للغاية، وأخرج المرافق كما أشار إليه ابن أبي زيد بقوله: وقد قيل ينتهي إليهما حد الغسل فليس بواجب إدخالهما فيه. وسمي المرفق مرفقا؛ لأن المتكئ يرتفق بها إذا أخذ براحته رأسه متكئا على ذراعه، وهذا هو المشهور؛ لأنه صلى الله عليه وسلم غسل حتى جاوز المرفق
(1)
).
وبقية معصم إن قطع المعصم موضع السوار من اليد، وربما أطلق على اليد قاله في المحكم، وهذا الثاني هو الذي استعمله المصنف؛ يعني أن من قطع ذراعه وبقيت منه بقية فإنه يجب عليه أن يغسل تلك البقية في الوضوء، فقوله:"وبقية" بالجر عطف على يديه، أي يجب على المتوضئ إما غسل يديه، وإما بقية المعصم إن قطع، وكذا لو سقط بعض العضو المذكور بسماوي، وبقيت منه بقية، ومفهومه أنه لو لم يبق إلا العضد بأن قطع جميع العضو المذكور الذي هو المعصم فلا غسل عليه، وحاصل ما أشار إليه المصنف أنه إذا قطع محل الفرض وجب غسل ما بقي منه، ولا خلاف في ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم
(2)
)، فإذا قطعت اليد من الكوع وجب غسل المعصم، وإذا قطع المعصم وجب غسل الباقي منه، والكوع بالضم رأس الذراع مما يلي الإبهام، والكرسوع بالضم رأسه مما يلي الخنصر ويقال لكل منهما زند وهما زندان بفتح الزاي ولو وقع القطع دون المرفق فانكشطت جلدة وبقيت معلقة فإن تعلقت بالذراع أو بالمرفق وجب غسلها، وإن جاوزت المرفق إلى العضد وبقيت متعلقة بالعضد لم يجب غسلها؛ لأنها لا تعد من الذراع وسيكون للذراع جلدة أخرى، وإن قطعت من العضد وبلغت إلى المرفق أو الذراع وبقيت متدلية فيه وجب غسلها مع الذراع. قاله في الطراز. قال: وهذا التفريع للشافعية وهو جار على منهاج الصواب إلا الفرع الأخير ففيه نظر؛ لأن ما زاد على المرفق لم يكن واجبا من قبل، وما لم يجب في أصل خلقته لا يصير واجبا، ومن كانت له إصبع زائدة في كفه وجب عليه غسلها؛ لأنها من اليد واليد تتناولها، قاله في الطراز. قاله الحطاب. قال: وظاهره سواء كان فيها إحساس أم لا وهو ظاهر يدل عليه كلام أهل المذهب والله أعلم. وإن وجد الأقطع
(1)
مجمع الزوائد، ج 1 ص 237.
(2)
البخاري، كتاب الاعتصام، رقم الحديث 7288.
من يوضئه لزمه ذلك ولو كان بأجرة، كما يلزمه شراء الماء للوضوء، فإن لم يجد وقدر على مس الماء من غير تدلك وجب عليه ذلك فيأتي بما قدر عليه من الوضوء، ويسقط عنه ما عجز عنه ولا وجه للتوقف في ذلكَ، ولا يجوز التيمم لمن يجد الماء ويقدر على مسه اعتبارا بما تصل إليه اليد من الظهر، وسئل مالك عن الأقطع أيتيمم؟ قال: نعم فقيل: له كيف يتيمم؟ قال: كيف يتوضأ؟ قيل: يوضئه غيره، فقال: كما يتوضأ كذلك يتيمم التيمم مثل الوضوء، ومن طالت أظفاره وخرجت عن رؤوس أصابعه كأهل السجن وغيرهم وجب عليه غسل ما طال من ذلك، والظاهر أنه لا يجري فيه الخلاف الذي يجري فيما طال من اللحية خلافا لابن عرفة، ومن توضأ ثم قشر قشرة من يده بعد الوضوء، أو قطعت يده بعد الوضوء فلا يلزمه غسل موضع القطع ولا موضع القشر. قاله الحطاب.
ككتف بمنكب المنكب مجمع عظمي العضد والكتف؛ يعني أن من خلقت له كف فقط دون باقي يده في منكب فإنه يجب عليه غسل تلك الكف النابتة في المنكب، فالمخلوق الكف بلا مرفق ولا ساعد ولا عضد: وإنما وجب غسلها لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم
(1)
)، وكذا لو نبتت الكف في عضد فإنه يجب غسلها، ومفهوم قوله:"بمنكب" أنها إن نبتت بغير منكب غسلت كان لها مرفق أم لا إن نبتت في محل الفرض وإلا فلا إلا أن يكون لها مرفق: والظاهر أن من خلقت يده كالعصا يقدر لها قدر ما لها مرفق، وأما إن نبتت له يد زائدة فإن كان أصلها من مرفقه أو في محل الفرض وجب غسلها إجماعا، وإن كان أصلها في العضد في غير محل الفرض فإن كان لها مرفق غسلت وإلا فلا، وينبغي أن يجري في الرجل ما جرى في اليد: ولو نبتت ذراع في الذراع وجب غسلهما، وقال في السليمانية في امرأة خلقت من سرتها إلى أسفل خلقة امرأة واحدة، وإلى فوق خلقة امرأتين إنها تغسل منها محل الأذى وتغسل الوجهين فرضهما وسنتهما من مضمضة وغيرها، والأيديَ الأربع وتمسح الرأسين، وتغسل الرجلين قيل له: أفتوطأ هذه؟ قال: نعم، وتعقبه عياض بأنهما أختان، ورده ابن عرفة باتحاد محل الوطء، قال
(1)
البخاري، كتاب الاعتصام، رقم الحديث:7288.
الإمام الحطاب: وانظر لو كان رجلا هل يجوز له أن يتزوج امرأة نظرا إلى اتحاد محل الوطء أو لا لأنهما رجلان من فوق؟ ومن خلق بلا يدين ولا رجلين ولا دُبُر ولا ذكر، ويتغوط ويبول من سرته، يغسل مكان القذر، ويفعل من فرائض الوضوء وسننه ما يتعلق بوجهه ورأسه خاصة بتخليل أصابعه؛ يعني أنه يجب على الشخص مع غسل اليد تخليل أصابعها أحست أم لا، ويحافظ على عقد الأصابع من ظاهرها بأن يحني أصابعه على باطنها، ويحافظ على رؤوس الأصابع بأن يجمع رؤوسها ويحكها على الكف، وصفة التخليل من ظاهر لأنه أبلغ وهذا أولى، وكيفما خلل أجزأ، وهل يجب تخليل أصابع كل يد معها أم لا؟ قولان، وعلى الوجوب فالظاهر الإجزاء إذا أخره حتى غسلهما معا، والباء في قوله:"بتخليل" بمعنى مع، وما ذكره المصنف من الوجوب هو المشهور، وقال ابن شعبان: يندب وحكى ابن بشير: السقوط، وظاهره الإباحة، فتكون ثلاثة أقوال. ابن ناجي: في تخليل أصابع اليدين ثلاثة أقوال: الوجوب، والاستحباب، والإنكار، ودليل الوجوب ما رواه الترمذي وأبو داوود عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك
(1)
)، وما بين الأصابع يجب إيصال الماء إليه فوجب ذلك، واستدل لنفي الوجوب بأن كل من نقل وضوء النبي عليه الصلاة والسلام في الصحاح لم يذكره فيه، وبأن الماء يتخلل الأصابع وهي يماس بعضها بعضا فيحصل بذلك حقيقة الغسل. ابن الفاكهاني لا إشكال في وجوب غسل ما بين الأصابع، لأنه من جملة اليد، وإنما منشأ الخلاف هل يحتاج إلي تخليلها ليحصل استيعابها، أو ذلك حامل من غير تخليل لاحتكاك بعضها ببعض. وليتحفظ المتوضئ على البراجم والرواجب؛ البراجم: عقود الأنامل، والرواجب: رؤوس الأصابع يجمعها ثم يحكها في كفه، وينبغي أن يختم في غسل اليدين والرجلين بالمرافق والكعبين مراعاة لظاهر الغاية الواردة في القرآن، وإن فعل غير ذلك أجزأ لكن الأدب أولى، والسنة في جميع الأعضاء أن يبدأ بأولها، والخلاف في وجوب تخليل أصابع اليدين إنما هو فيما عدا ما بين
(1)
الترمذي، كتاب الطهارة، رقم الحديث:39.
السبابة والإبهام لشبهه بالباطن، وأما ما بينهما فلا خلاف في وجوب تخليله؛ لأنه من جملة ظاهر اليد الواجب غسله اتفاقا. نقله الشيخ ميارة.
(لا إجالة خاتمه) بالجر عطف على بتخليل؛ يعني أن المتطهر إذا كان يغسل يده لا يجب عليه أن يجيل خاتمه؛ أيَ لا يلزمه أن يحركه، ويديره إذا كان مأذونا في لبسه لا في وضوء ولا في غسل ولو ضيقا، ولكن يجب عليه إذا نزعه وكان ضيقا غسل ما تحته، فإن لم يغسله لم يجزه إلا أن يتيقن وصول الماء لما تحته، وتعليل عدم لزوم الإجالة بأن الماء لرقته يصل لما تحت الخاتم ضعيف؛ لأن الإجالة لتحصيل الدلك لا لوصول الماء فإنه حينئذ مسح، والأصل الغسل.
قال جامعه عفا الله عنه: أي لأنه إذا كان بلل ولم يحصل من الماء ما يغسل به يكون حينئذ تحريك الخاتم مسحا، والأصل الغسل فلا يكفي المسح. والله أعلم. وقال ابن شعبان: تجب إجالته مطلقا؛ لأن تعميم اليد واجب، وذلك لا يحصل إلا بالإجالة: وقال ابن حبيب: تجب إجالة الضيق دون الواسع؛ وقاله عبد العزيز بن أبي سلمة، وابن عبد الحكم: وحكى ابن بشير عن ابن عبد الحكم قولا رابعا أنه ينزع، ولا تكفي إجالته، وأما غير المأذون في لبسه فيدخل في قوله: ونقض غيره يعني أن غير الخاتم المأذون في لبسه يجب نزعه فيشمل ذلك كل حائل، ويشمل الخاتم الذي لا يؤذن في لبسه كخاتم الذهب فيجب نزعه إن كان ضيقا، وكخاتم الفضة المحرم فإن لم يكن ضيقا كفى تحريكه، وكذا ما تجعله الرماة وغيرهم في أصابعهم من عظم وغيره، والظاهر أنه يؤمر بنزع خاتم الحديد والنحاس والرصاص لكراهته حيث لم يكن للتداوي، فإن لم ينزعه كفى تحريكه إن كان واسعا، فإن كان ضيقا يمنع وصول الماء لما تحته نزعه، والمرأة كالرجل في الخاتم ولو ذهبا فلا إجالة عليها، وتساويه في خاتم النحاس والرصاص والحديد والعظم في الإجالة والنزع على ما مر، ويجب أيضا نزع كل حائل غير ما ذكر كحناء؛ أي ثفلها إلا لضرورة لا حمرتها اتفاقا، ولا إشكال في جوازها للحائض من النساء، ولم يعدوا حمرتها حائلا مع أنه يظهر أثرها عند العجن وهذا إذا كان ثفلها ضلى ظاهر شعر المرأة فلا يضر ثفلها الكائن على باطنه؛ لأنه لا يمسح في الوضوء ولذا جاز التلبيد، وكالخيوط وما على جسدها من عجين أو وجهها من نقط لها جرم، والشوكة ليست بلمعة قلعت أم لا، ولا يجب قلعها ولو ظهر رأسها
وكدهن متجسد لا غير متجسد فليس بمانع في غسل ولا مسح، (وكان صلى الله عليه وسلم يرى وبيص الطيب في مفرقه
(1)
)؛ أي بريقه، وما زالت نساء الصحابة تجعلن الطيب في رؤوسهن، وكمداد متجسد لغير كاتب، وله إن رآه قبل الصلاة لا بعدها إذا أمَرَّ الماء عليه، ومثل الكاتب صانعه وبائعه، وما يكتب في أعضاء الوضوء لتداو يمسح عليه فوق حائل؛ كالرمد إذا خشي عليه بالمسح زواله، وشق إعادة كتبه، وكشمع وزيت لإخضاب، وينبغي تقييده بأثره إذ جرمه متجسد قطعا، ولا يد صباغ بشرط حكها، وكطين. ولفظ الأمير: لا إجالة الخاتم ولو منع الماء إن كان مباحا وحرك واسع غيره، ونقض ضيقه ككل حائل. ثم قال: والظاهر لا يجب تعميم الخاتم نيابة عما تحته بخلاف الشوكة. وقوله: "ونقض غيره" هو بالضاد فعل ماض يحتمل أن يكون بسيطا، والفاعل ضمير يعود على المتوضئ، وأن يكون مركبا والنائب غيره، والضمير في قوله:"غيره" يعود على خاتمه؛ أي ونقض غير الخاتم من كل حائل، فيدخل فيه ما تكثر النساء به شعورهن، وما يلصق بالظفر أو الذراع أو غيرهما من عجين وزفت وغير ذلك، وهذا قول ابن القاسم وهو الصحيح المشهور، ومقابله ذكره ابن رشد فيمن توضأ وقد لصق بظفره أو ذراعه الشيء اليسير من العجين أو القير أو الزفت فإنه ذكر في ذلك قولين، وقال: الأظهر منهما تخفيف ذلك، وقال في الطراز: الصحيح المشهور من الذهب وجوب الإيعاب، وأنه إن ترك لعة من مفروضاته لم يجزه، وهو قول الشافعي. وحكى الباجي عن محمد بن دينار فيمن لصق بذراعه خيط من العجين أو غيره فلا يصل الماء إلى ما تحته فيصلي بذلك: لا شيء عليه. وقول ابن القاسم: عليه الإعادة، ومحل القولين بعد الوقوع والنزول، وأما ابتداء فلا بد من إزالته كما للشيخ ميارة، ووجه المذهب قوله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ، وهذا لم يغسل وجهه وإنما غسل وجهه إلا لمعة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أسبغوا الوضوء
(2)
)، وقوله لمن ترك قدر ظفر على رجله:
(1)
عن عائشة قالت كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم. البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الغسل، رقم الحديث:271.
(2)
النسائى، رقم الحديث:142.
(أعد الوضوءَ والصلاة
(1)
)، ووجه القول الثاني أن اسم الغسل يثبت بدون ذلك، ولأنه لو سقط من الرأس في مسحه هذا القدر لأجزأه، فكذلك الوجه فإن الكل من أعضاء الطهارة، واعتبارا بذلك القدر بين الأصابع والخاتم. انتهى كلام سند. وما ذكره في ترك اليسير من المسح على خلاف المشهور، وكذا ما ذكره بين الأصابع من عدم وجوب التخليل. قاله الحطاب. وقال البرزلي عن السيوري: يزال القذى من أشفار العين إذا لم يشق جدا. البرزلي: فإن صلى به وكان يسيرا مثل خيط العجين والمداد ففيه قولان، والمشهور الإعادة، وأحفظ لابن دينار أنه مغتفر. قاله الحطاب. وقد مر قريبا: ومن صلى ثم وجد في عينيه عماشا صلاته صحيحة إن دلك عينيه بيديه في وضوئه، ويحمل على أنها صارت بعد الصلاة، قال الإمام الحطاب والظاهر أن هذا ليس خاصا بالقذى بل كل حائل حكمه كذلك، فإذا وجد بعد الوضوء وأمكن أن يكون بعد الوضوء فيحمل على أنه طرأ بعد الوضوء وهو جار على المشهور في من رأى في ثوبه منيا فإنه إنما يعيد من آخر نومة نامها فيه. انتهى. والقذى مقصور، وما تحت رؤوس الأظفار من الوسخ مانع إذا طالت طولا خرجت به عن المعتاد، وإلا عفي عنه قل أو كثر، ولا يرد عليه حينئذ مسألة العجين والمداد في الظفر الذي فيه خلاف؛ لأن حكم هذا حكم داخل الجسد ولتكثره في الإنسان فأشبه ما عفي عنه من جلد البشرة ونحوها مما لا يخلو الجسم منه غالبا، وقول نظم قواعد ابن رشد:
ووسخ الأظفار إن تركته
…
فما عليك حرج أو زلته
يقيد بهذا؛ أي محله حيث لم يطل طولا يخرج به عن المعتاد، وقد يتربى على الشعر الذي في الإبط، وفي رأس الفخذ شيء من الوسخ، ولا سيما في البلاد الحارة في أيام الصيف، ويلتصق بالشعر بحيث لا يزول بالحك، ويكثر ذلك ويشق، ولم أر فيه نصا، والظاهر أنه مما يعفى عنه للمشقة، إذا لم يترك الشعر مدة طويلة تزيد على المدة المشروعة، ودلك المحلَّ ولم يخرج منه. قاله الحطاب. وأما الخضاب بالعفص وهو الحرقوص فالمعتمد أنه ليس بلمعة، ويعفى عن أثر النشادر
(1)
عن جابر أخبرني عمر بن الخطاب أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فأحسن وضوءك فرجع ثم صلى. مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:243.
وإن كان يتقشر؛ لأن المتقشر جلد اليد لحرارة مائها، ومثل الخضاب بها الصباغ بشرط حك اليد كما في الشبراخيتي.
ولما أنهى الكلام على غسل الوجه وغسل اليدين وقد مر أن هاتين الفريضتين مجمع عليهما، أتبعهما بمسح الرأس وهو مجمع عليه أيضا، وثلث به اقتداء بكتاب الله عز وجل فقال: ومسح ما على الجمجمة يعني أنه يجب على المتوضئ أن يمسح جميع رأسه، وذلك بأن يوعب بالمسح جميع ما على الجمجمة؛ وهي ما عدا الوجه والأذنين من الرأس فيمسح ما عليها من شعر أو جلد إذا لم يكن عليها شعرٌ، وتحقيقها أنها من حد الجبهة إلى نقرة القفا فلا يجب مسح القفا، وقال ابن شعبان: يمسح إلى آخر منبت شعر القفا المعتاد، والأول هو المعروف في المذهب، ويدخل في الرأس البياض الذي فوق الأذن الزائد على البياض فوق الوتد، وكذا البياض الذي بين شقي الصدغ والأذن فما فوق الوتد فهو من الرأس كما مر، وما كان منه فوق العظم الناتئ على العارضين فهو من الرأس، وأن العظم نفسه مغسول، ويمسح ما طال من الرأس ولو نزل للقدم، والحاصل أن البياض الذي بين الأذن وشعر الرأس من مقدم الأذن، ومحاذيه من خلفها من الرأس كالبياض الذي فوق الوتد، وأن العظم الناتئ فوق العارض مغسول، وما فوق العظم ممسوح. والله أعلم.
واعلم أن الرأس يمسح بماء جديد، ويكره بغيره كبلل لحيته حيث لم يتغير، وعم المسح فإن تغير منع المسح به كما لو لم يعم، ومحل الكراهة حيث وجد غيره؛ لأنه ماء مستعمل في حدث على خلف مر عند قول الص: وكره ماء مستعمل في حدث، ويجدد الماء إذا جفت يده قبل تمام المسح الفرض على الراجح، ويشترط نقل الماء إلى الرأس إذا مسح دون باقي الأعضاء كما مر، فلو نزل على رأسه مطر ومسح فلا يجزئه بخلاف ما إذا ترك الوجه المطلوب من المسح وغسله فإنه يجزئ كما مر اعتبارا بالحال قال الشيخ عبد الباقي: والظاهر أن الجنب إذا مسح على رأسه لضرر لا يشترط فيه النقل اعتبارا بالأصل. انتهى. وهو خلاف ما مر عن الأمير فإنه قال: ولا يشترط فيه نقل الماء ولو مجزئا عن مسح بخلاف المسح على المشهور، ولو نائبا عن مغسول. انتهى. ويكتفى من المرأة ببعض مسح الرأس حيث تصلي إذا أمرت ببعضه وإلا فلا بعد التهديد بالضرب وفعله لأن الإتيان بالعبادة المختلف فيها خير من تركها، وعلم مما مرَّ عند قوله:"ونقض غيره" أن من
مسح فوق حائل كطيب أو غيره على رأسه لغير ضرورة لم يجزه ولو عروسا، ولضرورة يجزئ، وإذا نزغ جرى على نزع الجبيرة، وقال أحمد بن حنبل بجواز المسح على العمامة والخمار اختيارا، وهو مذهب داوود والثوري والأوزاعي، واشترط أحمد لبس ذلك على طهارة، وبعض أصحابه تحنيك العمامة؛ لأن ذلك سنتها، وذكر ابن ناجي أن ابن راشد حضر درس بعض الحنابلة: فقال المدرس: الدليل لنا على ملك في المسح على العمامة أنه مسح على حائل أصله الشعر فإنه حائل، فأجابه ابن راشد بأن الحقيقة إذا تعذرت انتقل إلى المجاز، فإن تعدد فإلى الأقرب منه؛ والشعر هنا أقرب، والعمامة أبعد، فيتعين الحمل على الشعر، فلم يجد جوابا ونهض قائما وأجلسه بإزائه. قاله الشيخ إبراهيم. وقول الص:"على" يحتمل أن يكون حرف جر، ويحتمل أن يكون فعلا ماضيا من العلو، ويكون لفظ الجمجمة منصوبا على المفعولية.
واعلم أن مشهور المذهب أن مسح جميع الرأس واجب كما مر، فإن ترك بعضه لم يجزه، وقال ابن مسلمة: يُجزئ الثلثان: وقال أبو الفرج: يجزئ الثلث، وقال أشهب: تجزئ الناصية، وروي عنه أنه قال: إن لَّم يعم رأسه أجزأه وأطلق ولم يبين قدره، وذهب الإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة وجماعةٌ من أهل العلم إلى إجازة مسح بعض الرأس، ووجه المذهب ما ذكره إمامنا مالك من أن الله تعالى أمر بمسح الرأس وغسل الوجه، ولابد من الاستيعاب في غسل الوجه، فكذا مسح الرأس واعتبارا بمسح الوجه في التيمم؛ ولأن العمل بذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله القرب تحمل على الوجوب إلا ما خصه الدليل، وكل ما يتعلق به المخالف من أن المسح لا يقتضي الاستيعاب، أو أن الباء في قوله عز وجل:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} للتبعيض، يبطل بقوله عز وجل في التيمم:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} سيبوبه الباء للتأكيد؛ أي امسحوا رؤوسكم، وما رواه مسلم والترمذي والنسائي من (أنه صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة
(1)
) لا حجة فيه بل هو حجة عليهم؛ لأنه لو أجزأ المسح على الناصية لما مسح على
(1)
مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:274.
- الترمذي في سننه، أبواب الطهارة، رقم الحديث 100.
- النسائي، كتاب الطهارة، رقم الحديث:107.
العمامة، فدل على أنه إنما فعل ذلك للضرورة وكيفية المسح المستحبة عند الإمام أن يغمس يديه في الإناء ثم يرفعهما فيمسح بهما رأسه بادئا من مقدمه، وقد قرن أطراف أصابعه ذاهبا إلى قفاه، وكيفيته المستحبة عند ابن القاسم أن يأخذ الماء بيده اليمنى فيفرغه على باطن يده اليسرى، ويرسلهما حتى لا يبقى فيهما إلاَّ القليل ثم يوعب رأسه على ما ذكرت لك في الصفة المتقدمة، ومبدأ الرأس من مبدإ الوجه، وقد تقدم أنه يجب غسل بعض الرأس ليتم غسل الوجه، ومسح بعض الوجه ليتم مسح الرأس، وهو من باب ما لا يتم الواجب إلا به، وقد اختلف فيه هل هو واجب؟ أم لا؟ والمذهب الوجوب، وقد تقدم الخلاف في وجوب التعميم في مسح الرأس، قال ابن عطية: وكل هذا الخلاف إنما هو إذا وقع المسح من مقدم الرأس، وأما لو وقع على خلاف ذلك فلا يكفي بعضه اتفاقا، وضعفه الشبيبي بالاتفاق على أن البداءة بمقدم الرأس ليست بفرض فلا فرق بين البداءة بالمقدم وغيره، قال ابن ناجي: ويرد بأن كلام ابن عطية يقتضي أنه وقف على النص بذلك فتكون البداءة بمقدم الرأس التي ليست بفرض اتفاقا إنما هي حيث التعميم أما حيث الاقتصار فلا. انتهى. نقله الحطاب. قال: وما قاله ابن عطية غريب، وما قاله الشبيبي ظاهر. انتهى.
بعظم صدغيه الصدغ بالضم قاله في القاموس، والباء بمعنى مع؛ يعني أنه يجب على المتوضي مسح الرأس مع مسح ما على عظم الصدغين من الشعر، والصدغ ما بين العين والأذن، وما كان منه فوق العظم الناتئ على العارضين فهو من الرأس، والعظم نفسه مغسول كما مر، وبما قررت علم أن في الكلام حذف مضافين؛ أي يجب على المتوضئ مسح رأسه مع مسح نبت عظم صدغيه كما قاله الشيخ عبد الباقي، وغيره. قال الشيخ عبد الباقي: وإنما قدر المضاف الثاني لاقتضائه بدونه أنه يمسح الصدغ كله، وليس كذلك. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: تقدير نبت قاصر لأنه يرد عليه البياض الذي بين شقي الصدغ والأذن، وهو من الرأس، ولذا قال السنهوري: ولعل تعبير المص بالعظم الأعم ليدخل فيه البياض الذي بين الأذن وشعر الرأس من مقدم الأذن، ومحاذيه من خلفها، قال ابن فرحون: فمن تركه فقد ترك جزءا من الرأس. انتهى. وقد قررت
لك أنه يمسح الشعر الذي على عظم الصدغ، فإن لم يكن على محل النبت شعر مسح على المحل، كما أن الصلع في الرأس كالشعر فيه.
(بعظم صدغيه مع المسترخي) يعني أنه يجب على المتوضئ أن يمسح ما استرخى؛ أي تدلى من حد رأسه من الشعر إعطاء للفرع حكم الأصل، كما أن ما نبت في الحرم يحكم له بحكم الحرم، وإن طال وخرج عنه إلى الحِل، وهو مذهب المدونة، والعلوم من مذهب مالك وأصحابه في المدونة وغيرها. وقيل: لا يجب مسح ما استرخى عن حد الرأس، وعزاه ابن ناجي لأبي الفرج، وابن عرفة للأبهري، وابن رشد لظاهر ما في سماع موسى بن معاوية عن مالك، وَوَجَّهَه بأن شعر الرأس ليس برأس، وإذا قلنا لا يجب مسح المنسدل فهل يسن ذلك أم لا؟ والظاهر الاستحباب؟ لأن الخروج من الخلاف مطلوب: وعارض بعضهم مذهب المدونة بقوله في الضحايا: لا بأس بصيد طائر على غصن أصله في الحرم: فلم يحكم للفرع بحكم الأصل، ورده ابن ناجي بأن وِزَانَ ما طال من الشعر طرف الغصن لا الطائر. والله أعلم.
(ولا ينقض ضفره رجل أو امرأة) يعني أنه لا يجب على المتوضئ رجلا كان أو امرأة أن ينقض ضفر شعره بالضاد المعجمة الساقطة، أي مضفوره ولو اشتد الضفر بنفسه، بل ولا يندب له ذلك، وفي الرماصي: أن الضفر هنا بالفتح، وأنه بالمعنى الصدري الذي هو نسج الشعر، ويجب نقض الضفر في الغسل خاصة إذا اشتدَّ بنفسه، والفرق بين الغسل والوضوء أن المسح مبني على التخفيف، ونقض الشعر في كل وضوء مشقة بخلاف الغسل لندوره، وعملا بخبر (فإن تحت كل شعرة جنابة
(1)
)، ولا يضر الخيط والخيطان في غسل أو وضوء بخلاف ثلاثة فأكثر،
قال الشيخ الأمير: ولبعض شيوخنا:
(1)
الترمذي، أبواب الطهارة، رقم الحديث 106. - ابن ماجه، كتاب الطهارة، رقم الحديث 597.
إن في ثلاث الخيط يضفر الشعر
…
فنقضه في كل حال قد ظهر
وفي أقل إن يكن ذا شده
…
فالنقض في الطهرين صار عمده
وإن خلا عن الخيوط أبطله
…
في الغسل إن شد وإلا أهمله
والأولى التعبير بالعقص؛ لأن العقص لا ينقض فأولى الضفر، قال الشيخ إبراهيم عند قول المص ولف شعرها ولا يضفر: الضفر نسج الشعر وغيره عريضا، وعقصه ضفره وليه على الرأس، وجمع المص في هذه الفريضة بين الرجل والمرأة دون غيرها تنبيها على أنه كالمرأة في جواز الضفر والمسح على الضفائر فلا فرق بينهما بإجماع. نقله الحطاب عن الجزولي. وحكى البلنسي في شرح الرسالة أنه لا يجوز للرجل ضفر رأسه، وعلى كلامه لابد من النقض، ابن ناجي: ولا أعرف ذلك لغيره. قاله الحطاب. ولم ينقض العقاص؛ لأن العقاص إنما يكون في القفا فأمره خفيف؛ لأن العضو يأتي عليه المسح، وما أسدل من الشعر على القفا اختلف فيه، فإذا كان معقوصا ومر المسح على ما ظهر من العقاص فهو يعد ممسوحا مع خفة أمره، ولذا لو رفعت الضفائر من أجناب الرأس وعقصت الشعر في الوسط؛ وهو لو ترك انسدل عنها، فالظاهر لا يجزئ مسحه؛ لأنه حائل دون ما يجب مسحه قاله سند. والضمير في قول المص:"ضفره" عائد على ما بعده، وهو وإن كان متأخرا لفظا متقدم رتبة، وفي الذخيرة عن المدونة: أن المرأة تمسح على الشعر المعقوص. وفي الحطاب: ولو كثرت شعرها بصوف أو شعر لم يجز أن تمسح عليه؛ لأنه مانع من الاستيعاب، وإن كانت قرون شعرها من شعر غير شعرها، أو من صوف أسود كثرت به شعرها لم يجزها مسحها عليه حتى تنزعه، إذا لم يصل الماء إلى شعرها من أجله، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الواصلة والمستوصلة
(1)
)، قاله ابن حبيب. ونقله عنه صاحب النوادر، وصاحب الطراز، وابن عرفة، وابن فرحون وغيرهم. وقبلوه وهو ظاهر. قاله صاحب الطراز: وإذا كان ما كثرت به مربوطا عند القفا أو نازلا عنه دخل في الاختلاف في مسح ما انسدل، قال الشيخ يوسف بن عمر في شرح الرسالة: قال بعض الشيوخ هذا إذا كان عقاصها مثل عقاص العرب تفتله
(1)
البخاري، كتاب اللباس، رقم الحديث:5934. مسلم، كتاب اللباس، رقم الحديث: 2122.
ضفائر صغارا، وتربطه بالخيط والخيطين، وأما إن فتلته على ناحيتين وأكثرت عليه من الخيوط فلابد من حله. وإن مسحت عليه لم يجزها؛ إلا على قول من يرى جواز مسح بعض الرأس، ونحوه للجزولي. نقله الحطاب. قال: وهذا -والله أعلم- إذا كان ما كثرت به شعرها ظاهرا فوق الشعر، فأما إن كان في باطن الشعر فلا يضر كما سيأتي في مسألة الحناء إن شاء الله.
تنبيهات الأول: وصل الشعر حرام لا يجوز، والرجال والنساء في ذلك سواء كما نقله ابن ناجي؛ وهذا إذا وصل بما يشبه الشعر، وأما خيط الحرير الذي لا يشبه الشعر فغير منهي عنه؛ لأنه ليس بوصل ولا قصد به الوصل، وإنما المراد به التجمل والتحسين. نقله ابن ناجي عن الإكمال -والله أعلم- قاله الحطاب. وقال النووي إمام الشافعية في معنى الحديث لعن الله الواصلة والمستوصلة الواصله هي التي تصل شعر المرأة بشعر آخر والمستوصلة هي التي تطلب من تفعل بها ذلك. قال: وهذه الأحاديث صريحة في تحريم الوصل ولعن الواصلة والمستوصلة مطلقا، وهذا هو الظاهر المختار. وقد فصل أصحابنا؛ إن وصلت شعرها بشعر آدمي رجل أو امرأة فهو حرام بلا خلاف لعموم الأحاديث، ولحرمة الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه لكرامته، بل يدفن جميعه، وشعر غير الآدمي إن كان ميتة فهو حرام للحديث، ولحمله النجاسة في صلاته وغيرها عمدا، وسواء في هذين النوعين المتزوجة وغيرها من النساء والرجال: وأما الشعر الطاهر من غير الآدمي؛ فإن لم يكن لها زوج ولا سيد فحرام، وإن كان فثلاثة أوجه، أحدها لا يجوز لظاهر الأحاديث، والثاني لا يحرم، وأصحها عندهم إن فعلته بإذن الزوج أو السيد جاز، وإلا فحرام، وأما تحمير الوجه والخضاب فإن لم يكن لها زوج ولا سيد أو كان وفعلته بغير إذنه فحرام، وإن أذن جاز على الصحيح. هذا تلخيص كلام الشافعية في المسألة. وقال القاضي عياض: اختلف العلماء في المسألة فقال مالك والطبري والأكثرون: الوصل ممنوع بكل شيء، وسواء وصلته بشعر أو صوف أو خرق، واحتجوا بحديث جابر الذي ذكره مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر أن تصل المرأة بشعرها شيئا
(1)
)، وقال الليث بن سعد: النهي مختص بالوصل
(1)
مسلم في صحيحه، كتاب اللباس والزينة، رقم الحديث:2126.
بالشعر، ولا بأس بوصله بصوف أو خرق أو غير ذلك، وقال بعضهم: يجوز بجميع ذلك، وهو مروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، والصحيح عنها كقول الجمهور، وقال القاضي: وأما ربط خيوط الحرير ونحوها مما لا يشبه الشعر فليس بمنهي عنه؛ لأنه ليس بوصل، ولا هو في معنى مقصود به الوصل، وإنما هو للتجمل والتحسين، قال: وفي الحديث أن وصل الشعر من المعاصي الكبائر للعن فاعله، وفيه أن العين على الحرام يشارك فاعله في الإثم، كما أن المعاون على الطاعة يشارك في ثوابها. والله تعالى أعلم. ونقل القسطلاني الشافعي كلام النووي وفيه: قال مالك والطبري الوصل ممنوع بكل شيء شعر أو صوف أو خرق أو غيرها، واحتجوا بما ذكر عن مسلم من رواية قتادة عن سعيد: ينهى عن الزور، قال قتادة؛ يعني ما يكثر به النساء شعورهن من الخرق، ويؤيده حديث جابر: زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة بشعرها شيئا، وذهب الليث ونقله أبو عبيد عن كثير من الفقهاء إلى أن الممتنع من ذلك وصل الشعر بالشعر أما إذا وصلت بغيره من خرقة وغيرها فلا يدخل في النهي. انتهى. وفي الأجوبة المهمة للشيخ العارف قدس الله روحه سيدي الشيخ المختار الكنتي نفعنا الله به، وحفظنا من كل سوء ببركته، آمين ما نصه: ورأيت في بعض المطولات أن حشو الرأس بالتراب المحروق؛ من الوصل المنهي عنه. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: وإذا تأملت كلام الحطاب المتقدمَ علمت أنه مانع للوصل بكل شيء مما يصير الشر كثيرا، بحيث تحسب أن الجميع شعر. والله تعالى أعلم، وبه التوفيق.
الثاني: إن مسحت المرأة على الوقاية أو حناء، أو مسح رجل على العمامة وصلى بطلت الصلاة، فإن أُخْبر من ذكر بالقرب أن ذلك لا يجوز، نزع ذلك ومسح على رأسه وأعاد غسل رجليه، وإن طال ابتدأ الوضوء؛ لأن الجاهل كالعامد لا كالساهي، وإن كان سهوا مسح متى ما ذكر، وغسل رجليه إن كان قد تذكر بالقرب، والصلاة في جميع ذلك باطلة.
الثالث: وقع في كتاب الشيخ عبد الباقي والشيخ الأمير: أن الماء إذا انضاف قبل تمام غسل العضو، وبعد ملاقاته للعضو يضره ذلك، وهو خلاف ما يفيده الحطاب؛ فإنه قال: قال أبو الحسن الصغير في قوله في المدونة: حتى ينزعه، هل هو بالماء؟ كما يقوله بعض الشيوخ، وظاهر
الكتاب بأي شيء أزاله. الشيخ: ومن يقول بالماء ليلا ينضاف الماء الذي يمسح به، لأنه بأول ملاقاته بيديه ينضاف وليس هو بصحيح؛ لأن أكثر الناس تكون أعضاؤهم غير نقيَّةٍ من الدنس، فإذا أفرغ الماء على أول العضو لم يصل إلى آخره حتى يتغير، ولم يشترط أحد طهارة الأعضاء من الدنس. وقوله في المدونة: وإن ذهبت الحناء، أو انتثر بعضها، يدل على خلاف قول بعض الشيوخ. انتهى. ابن الحاجب: ولا يمسح على الحناء. ابن فرحون: قال ابن هارون يريد إذا كان متجسدا: وإلا جاز المسح على صبغه. انتهى. كلام ابن هارون. قال ابن فرحون: وكذلك الطيب في رءوسهن، (وكان عليه الصلاة والسلام يرى وبيص الطيب في مفرقه
(1)
)، وهذا لا إشكال فيه، ولا يقال إنه يضيف الماء حالة المسح؛ فإن هذا من الجهل بالسنة والتعمق في الدين ثم قال عن البجائي: وهذا يدل على أن إضافة الماء بعد بلوغه العضو لا يضر، وما زال السلف يدهنون ويتمندلون، ومعلوم أن الماء ينضاف بملاقاته للعضو عليه، ثم ذكر عن الشيخ يوسف بن عمر وغيره ما يفيد خلاف هذا؛ فإنه علل الإزالة بالماء بأنه ينضاف أول الملاقاة، وذكر عن الجزولي أن هذا المقابل أبين: ثم قال: وما قال الجزولي إنه الأبين هو الذي ضعفه أبو الحسن وابن فرحون وغيرهما، والظاهر ما قاله أبو الحسن وابن فرحون وغيرهما، ثم جلب كلاما فيه أن الحائل لا يمسح عليه إلا من ضرورة، وأن الدهن يمسح عليه إذا جعل على الرأس لعلة، ثم قال: ظاهر الكلام أنه لا يمسح على الدهن لغير علة، وهذا إنما يأتي على ما ذكره أبو الحسن عن بعض الشيوخ، فيجوز المسح عليه؛ إلا أن يكثر ويتجسد ويصير حائلا، وإذا مسحت على الحناء لعلة ثم أزالته فحكمه حكم الجبيرة، وفي كلام الطراز والقرافي وابن عرفة وابن فرحون وابن ناجي أن الملبد يجوز له المسح على الشعر الملبد، ولا يكون حائلا. وقال الجزولي: قالوا يجوز للمحرم المسح إذا لبَّد رأسَه ولا راعوا الحائل، وإنما ذلك للضرورة. أبو الحسن: وكذا القطران الذي يجعله العواتق في رءوسهن؛ لأنه أخف من الملبد، ومع ذلك قالوا يمسح عليه. انتهى. قال الحطاب: وهذا كله يرد ما نقله أبو الحسن عن بعض الشيوخ أن ذلك يضيف الماء. انتهى. قوله:
(1)
البخاري، كتاب الغسل، رقم الحديث:271.
العواتق، قال في القاموس: العاتق الجارية أول ما أدركت عتقت تعتق، والتي لم تتزوج، والتي بين الإدراك والتعنيس، جمعها عواتق.
الرابع: قال في الطراز: وإذا كان في الشعر صوف أو غيره مما يركب الشر ويمنع مباشرته، أو التصق بالشعر شمع ونحوه مما يمنع غسله ومسحَهُ، فلما رأى ذلك بعد وضوئه قرضه بمقراض غسل ذلك الموضع أو مسحه لأن ما بقي من الشعر إذا قرض يقوم مقامه، وإن نتف من أصله فموضعه يقوم مقامه.
الخامس: في المسائل الملقوطة قال الشيخ أبو عمران الفاسي: وأرخص للعروس أيام أسبوعها أن تمسح في الوضوء والغسل على ما في رأسها من الطيب، وتتيمم إن كان في جسدها، لأن إزالته من إضاعة المال. انتهى. قال الحطاب: وهذا خلاف المعروف من المذهب.
السادس: جاء رجل إلى سحنون فقال: توضأت للصبح وصليت به الصبح والظهر والعصر والمغرب، ثم أحدثت وتوضأت وصليت العشاء، ثم تذكرت أني نسيت مسح رأسي ولا أدري من أي الوضوءين، هو فقال له سحنون: امسح رأسك، وأعد الصلوات الخمس. فذهب وأعادها، ونسي مسح رأسه فجاءه، فقال: امسح رأسك وأعد العشاء وحدها. انتهى. وذلك واضح، لأنه إن كان ترك مسح الرأس من الوضوء الأول فالصلوات كلها برئت ذمته منها، لأنه صلاها بهذا الوضوء الأخير وهو صحيح، وإن كان من الوضوء الثاني فالأربع الأول صحيحة، لأنها صليت بوضوء تام، وبقيت العشاء متطرقا فيها الاحتمال؛ فلذا أمره بإعادتها فقط. والله سبحانه أعلم. ابن رشد: ومن صلى الخمس بوضوء وجب لكل صلاة، فذكر مسح رأسه من وضوء إحداها مسحه وأعاد الخمس، فلو أعادها ناسيا مسح الرأس مسحه وأعاد العشاء فقط، وعلم من هذا أنه لا فرق بين أن تكون الأربع كلها بوضوء واحد، وأن تكون كل واحدة بوضوء.
السابع: اختلف في الرأس في خمسة عشر موضعا، الأول: هل يأخذ الماء بيديه أو بيده اليمنى؟ الثاني: هل يجدد الماء له، أو يجزئه المسح ببلل لحيته؟ الثالث: نقل الماء إليه، الرابع: إذا غسله بدلا من مسحه، الخامس: صفة مسحه، السادس: هل يمسح رأسه مرة أو ثلاثا؟ السابع: إذا حلقه، الثامن: البدء من مقدمه هل هو سنة أو مستحب؟ التاسع: هل الرد سنة أو
فرض؟ العاشر: إذا جف الماء في أثناء مسحه، الحادي عشر: هل يمسح ما طال من الشعر أم لا؟ الثاني عشر: إذا مسح بعضه، الثالث عشر: هل يمسح على العمامة؟ الرابع عشر: هل يمسح على القفا؟ الخامس عشر: هل يمسح بعض الوجه مع الرأس؟ وتقدم الكلام على العاشر فما بعده، ويأتي الكلام على التسعة الأوائل إن شاء الله تعالى.
ويدخلان يديهما تحته في رد المسح يعني أن الرجل والمرأة إذا كان شعرهما معقوصا أو مضفورا أو مسدولا من غير ضفر ولا عقص، ومسحا عليه من مقدم الرأس إلى آخر المنسدل منه والمضفور والمعقوص؛ فإنهما إذا ردا أيديهما إلى المقدم يدخلان يديهما تحته كذا قرره الإمام الحطاب. وقال الشيخ عبد الباقي وغيره: الإدخال الذي يحصل به التعميم واجب كالشعر الطويل، ويخاطب بالسنة بعد ذلك. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر؛ لأن ذلك يقتضي أنه لابد لصاحب المسترخي من مسح رأسه ثلاث مرات، مرة لظاهره، ومغ لباطنه وهما واجبتان بهما يحصل التعميم الواجب، والثالثة لتحصيل السنة. وبهذا قال علي الأجهوري ومن تبعه وهو غير صحيح: وإن كان في الحطاب عن الشيخ زروق ما يوهم التردد في ذلك، بل الحق ما قاله الشيخ عبد الرحمن، وصرح به التتائي في شرح الرسالة من أنه إنما يمسح مرتين فقط، للفرض مرة وللسنة أخرى، وأن الإدخال من تتمة الرد الذي هو سنة وشرط فيه، ولذا قال المؤلف في رد المسح؛ ولما كان كلامه هنا لا يدل على حكم الرد في نفسه نبه عليه بعد بقوله: ورد مسح رأسه لخ، ونصوص الأئمة كالمدونة، والرسالة، وعبد الوهاب، وابن يونس، واللخمي؛ وعياض، وابن شاس، وابن الحاجب، وابن عرفة وغيرهم كلها ظاهرة فيما ذكرناه، وليس في كلام واحد منهم إشعار بما ذكره الأجهوري أصلا، وقد قالوا: إن الظواهر إذا كثرت بمنزلة النص. ويدل على ذلك أيضا أنهم عللوا الرد من أصله في مسح الرأس: بأنه يحصل به مسح باطن الشعر. قال الفاكهاني: وإنما كان الرد سنة، والغسلة الثانية والثالثة مستحبتان؛ لأن المسوح في الرد غير المسوح أولا بخلاف المغسول في حق ذي الشعر وألحق به غيره. انتهى. ونقل نحوه عن ابن بشير ثم قال: فهذا يدل على بطلان ما ادعاه الأجهوري؛ لأن صاحب المسترخي لو كان يمسح في الأولى ظاهر الشعر وباطنه كما زعم الأجهوري: لكان المسوح أولا هو المسوح ثانيا، وذلك خلاف
ما قاله ابن بشير والفاكهاني؛ ويلزمه على ما ذكره أن يمسح أربع مرات ليحصل التعميم في السنة أيضا ولا قائل به. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: يشهد لما ذكره الأجهوري ومن تبعه ما نقله الحطاب؛ فإنه بعد أن ذكر عن الشيخ زروق التردد في ذلك، وأن الظاهر أنه في ذلك على الوجوب قال ما نصه: قلت وفي مختصر الواضحة ما يدل على وجوب ذلك، ونصه: وسنة وضوء المرأة كسنة وضوء الرجل سواء، غير أنها إذا مسحت رأسها بدأت من أصل شعر قصتها، فتذهب بيديها على جميع شعر قصتها وأدلتها وجميع شعر رأسها، مضفورا كان أو غير مضفور، مجموعا كان أو مسدولا على ظهرها، حتى تبلغ إلى آخره، ثم تدخل يديها من تحته فتحوله حتى ترد يديها به أو بضفائرها المرسلة إلى مقدم رأسها مرة واحدة، لابد لها من ذلك فإن كان يمكنها أن تجمعه في قبضتها جمعته، وإن كان لا يمكنها إلا أن تنتقل بيديها فعلت، وإن شاءت أخذت الماء ثانية، وإن شاءت اكتفت بالأولى إن بقي في يديها من بللها شيء، وكذلك تفعل ذات القرون إذا لم تستطع أن تعم بيديها رأسها وقرونَها، فإن فرطت في ذلك فلا صلاة لها، وعليها الإعادة متى علمت قبح ما صنعت. انتهى. ونقله صاحب النوادر باختصار، ونقله ابن فرحون بتمامه. انتهى كلام الحطاب وغسله، مجزئ يعني أن المتوضئ إذا غسل ما على الجمجمة في الوضوء بدلا عن مسحه، فإن ذلك يجزئه؛ لأن الغسل مسح وزيادة وهذا بعد الوقوع، وأما ابتداء فقيل حرام، وقيل مكروه، وقيل خلاف الأولى، وما ذكره المصنف من الإجزاء هو قول ابن شعبان وهو الأقوى، وعليه اقتصر صاحب النوادر، وصرح ابن عطاء الله بتشهيره، وقيل لا يجزئ. ونقل صاحب الجمع عن ابن راشد أن القول بعدم الإجزاء أصح، والحاصل أن الأقوال ثلاثة: الأول يحرم ولا يجزئ، الثاني يكره ويجزئ، الثالث أنه خلاف الأولى، وهو الذي مشى عليه المص، وهو لابن شعبان كما مر. وقد رجح كل من الأقوال الثلاثة إلا أن القول بأنه خلاف الأولى هو الأقوى وهو الذي عليه المص كما علمت أشار له الحطاب، وأما غسل الرأس في وضوء الجنابة فلا إشكال في إجزائه. والله أعلم. ولا أنهى الكلام على الفرائض الثلاث الأول المجمع عليها، أتبعها بالكلام على الفريضة الرابعة وهي مجمع عليها أيضا فقال: وغسل رجليه يعني أنه يجب على المتوضئ كتابا وسنة
وإجماعا أن يغسل رجليه وقال بعض القدرية والروافض بالمسح، ولا يجوز الغسل، وحكي عن ابن عباس، وعن الطبري أنه قال بالتخيير بين الغسل والمسح، وبه قال داوود، وهذه المذاهب كلها باطلة بالإجماع.
واعلم أن قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قرئ بالنصب وبالجر، أما النصب فبالعطف على وجوهكم، وأما الجر فبالعطف على رؤوسكم، ويكون المراد بالمسح الغسل كما يقال: تمسحت للصلاة والمراد الغسل، وعبر بالمسح عن الغسل إذ كانتا مظنة الإسراف في الماء فيقتصد في صبه عليهما، أو المراد المسح على الخفين، وحكي عن سيبويه والأخفش وجماعة من الفقهاء والمفسرين أنه مخفوض بالمجاورة، وخالفهم المحققون في ذلك؛ لأن حرف العطف حاجز بين الاسمين مبطل للمجاورة، ورأوا أن الحمل على ذلك حمل على شاذ ينبغي صون القرآن عنه، وقالوا الخفض في الآية إنما هو بالعطف على رؤوسكم، فقيل الأرجل مغسولة لا ممسوحة فأجابوا بالوجهين المتقدمين، وقوله (بكعبيه) الباء بمعنى مع متعلقة بغسل؛ يعني أن المتوضئ كما يجب عليه غسل رجليه، يجب عليه أن يغسل كعبيه، والمراد بالرجل جميع القدم للناتئين يعني أن الكعبين هما العظمان الناتئان؛ أي المرتفعان الكائنان. (بمفصلي) أي في مفصلي (الساقين) والمفصلان تثنية مفصل بفتح الميم وكسر الصاد على الصواب، وبالعكس اللسان، والساقان تثنية ساق، وهو العظم الذي يتصل القدم بأسفله والفخذ بأعلاه. والله سبحانه أعلم والكعب مأخوذة من التكعب، وهو الظهور والارتفاع: ومنه الكعبة شرفها الله تعالى، وامرأة كاعب مرتفع ثديها.
واعلم أن ما مشى عليه المص من دخول الكعبين في وجوب الغسل هو المشهور، وروى ابن نافع لا يجب إدخالهما. واعلم أن الكعبين الذين إليهما حد الغسل هما العظمان الناتئان بمفصلي الساقين بالإجماع، وليس في ذلك خلاف لا داخل المذهب ولا خارجه، فالعظمان اللذان هما معقد الشراك داخلان في وجوب الغسل بلا خلاف، وإن كان يقال لهما كعبان كما نقله الحطاب عن ابن الفرس والزناتي والشارح. والله تعالى أعلم.
(وندب تخليل أصابعهما) يعني أنه يندب للمتوضئ أن يخلل أصابع رجليه، ويكون بخنصره، وفي حديث: بالمسبحة بادئا بخنصر اليمنى؛ لأنها يمنى أصابعها، وبإبهام اليسرى، لأن إبهامها
يمنى أصابعها، ويختم بخنصر الرجل اليسرى، لأنها يسرى أصابعها، وما مشى عليه المصنف هو المشهور وهو قول ابن شعبان وابن وهب وابن حبيب، وقيل بالوجوب، ورجحه اللخمي وابن بزيزة وابن عبد السلام، كما رجحوه في اليدين لما روي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل أصابع رجليه بخنصره
(1)
)، وقيل بإنكار التخليل في أصابع الرجلين، كما قيل بإنكاره في أصابع اليدين، فقد روى ابن وهب عن مالك في المجموعة: لا خير في الجفاء والغلو، وفي حديث الترمذي: (إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك
(2)
)، ويخلل أصابع الرجل من أسفل كما ورد في حديث رواه الترمذي، ويعبرون عنه بالنحر، ويخلل أصابع اليدين من ظاهرهما كما مر، ويعبرون عنه بالذبح.
واعلم أن المشهور وجوب تخليل أصابع الرجلين في الغسل، وندبه في الوضوء، وعلى القول بأن تخليل أصابع الرجلين لا يجب في الوضوء والغسل، فلا بد من إيصال الماء لما بين الأصابع، قاله في مختصر الواضحة. والله أعلم. قاله الحطاب. وقد علمت أنه يبدأ في تخليل أصابع الرجلين بخنصر اليمنى ثم ما يليه، وبإبهام اليسرى ثم ما يليه.
ولا يعيد من قلم ظفره يعني أن من توضأ ثم قلم ظفره بعد الوضوء وهو باق على وضوئه لا يعيد غسل موضع القلم ولو طال حيث لم ينثن، ولم يتعلق به وسخ يستر بعض رأس الإصبع، فإن طال وتعلق به وسخ يستر بعض رأس الإصبع، أو انثنى على رأس الإصبع، وجب قلمه ووجب على المتوضي غسل ما تحته، بخلاف ما إذا لم يطل ولم ينثن على رؤوس الأصابع فلا يجب قلمه ولا إزالة ما تحته من الوسخ، بل هي تعمق ووسوسة وخلاف ما عليه جمهور السلف الصالح، وقد تقدم أنها إذا طالت طولا غير معتاد يجب إزالة ما تحتها من الوسخ، ويقيد بذلك قوله:
ووسخ الأظفار إن تركته
…
ما عليك حرج أو زلته
واجمع رؤوسها بوسط الكف
…
واغسل فإن غسل ذاك يكفي
(1)
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره، أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:148.
(2)
سنن الترمذي، كتاب الطهارة، رقم الحديث:39.
والظفر كعنق على اللغة الفصحى، وبها جاء الكتاب العزيز، وكَقُفْلِ وعِلْمٍ بكسر العين، وفيه لغة رابعة وهي أظفور كعصفور، وقلم بالتخفيف والتشديد في الجمع كقلمت أظفاري قال زهير:
لدى أسد شاكي السلاح مقذف
…
له لبد أظفاره لم تقلم
ومقتضى كلام صاحب المحكم أنه يقال بالتخفيف والتشديد في الظفر الواحد، وقوله:"ولا يعيد من قلم" الخ مثل الوضوء في ذلك الغسل.
(أو حلق رأسه) يعني أن من توضأ ثم حلق رأسه وهو باق على وضوئه لا يلزمه أن يعيد مسح رأسه، بل هو باق على وضوئه كما في مسألة قلم الظفر، وكذا لا يعيد غسله مغتسل، وما ذكره المص في مسألتي الظفر وحلق الرأس هو المذهب: وقيل يعيد مسح رأسه نقله اللخمي عن عبد العزيز بن أبي سلمة، وقيل يبتدئ الوضوء نقله عياض عن عبد العزيز، ونقل ابن يونس عنه أنه انتقض وضوءه كنزع الخف. وظاهر كلام صاحب الطراز أن من حلق رأسه أو قلم ظفره بعد غسل الجنابة لم يعد غسل ذلك اتفاقا؛ لأنه ساقه في معرض الاحتجاج به على الخالف، وإنما يصح الاحتجاج بما هو متفق عليه. قاله الإمام الحطاب.
(وفي لحيته قولان) يعني أن من توضأ ثم حلق لحيته -نعوذ بالله تعالى من المقتضي لذلك- وهو باق على وضوئه، فقد اختلف في وجوب إعادته لغسل موضع الحلق، وعدم وجوب ذلك عليه على قولين مرجحين، ومثل اللحية العنفقة والشارب، وسواء كان ما ذكر لرجل أو امرأة كلا أو بعضا، وسواء كانت اللحية خفيفة أو كثيفة، ومثل حلقها ما إذا سقطت، والراجح من القولين عدم الإعادة، ويستفاد مما مرَّ أن الغسل متفق على عدم الإعادة فيه: أو الراجح عدمها، والفرق بين هذه والرأس أن شعره أصلي بخلاف شعرها، وقد مر عن الحطاب أن من توضأ ثم قشر قشرة من يده، أو قطعت يده لا يلزمه غسل موضع القشر ولا موضع القطع، وفي جواز حلق الرأس حيث لا ضرر، وكراهته قولان مرجحان، ولا فرق بين المعْتَمِّ وغيره، وأما الفرق بينهما بأنه يباح للمعتم لوجود عوض الشعر دون غيره فيكره له على المشهور فطريقة لابن عمر، وفي مسلم عن ابن عمر
رضي الله تعالى عنهما (أن رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم- نهى عن القزع
(1)
)، وهو حلق بعض رأس الصبي وتركَ بعضه، وهو بفتح القاف والزاي وهذا التفسير هو الأصح، ومنهم من قال: هو حلق مواضع متفرقة من الرأس، وأجمع العلماء على كراهة القزع إذا كان في مواضع متفرقة إلا أن يكون لمداواة ونحوها، وهي كراهة تنزيه كرهه مالك رضي الله تعالى عنه في الجارية والغلام مطلقا، وقال بعض أصحابه: لا بأس به في القصة أو القفا للغلام، ومذهبنا كراهته مطلقا للرجل والمرأة لعموم الحديث قاله النووي، ويحرم حلق الشارب والعنفقة واللحية، وقيل يكره حلق اللحية وهذا كله في حق الرجل، وأما المرأة فيجب عليها حلق جميع ذلك كما مر، وانظر في الخنثى إذ قد يبقى على إشكاله مع نبات اللحية. وقوله:"وفي لحيته" لا فرق بين أن يحلقها هوأو غيره أو تسقط كما مر، وقد علمت أن مثل حلق اللحية العنفقة والشارب، وكذلك تحذيف المغاربة لما حوالي العارضين والشارب.
واعلم أن حلق اللحية لا يجوز وكذلك الشارب، وهو مثلة بدعة، ويؤدب من حلق شاربه أو لحيته إلا أن يريد الإحرام بالحج، ويخشى طول شاربه. قال إمامنا مالك: من أحفى شاربه يوجع ضربا، وهو بدعة، وإنما الإحفاء المذكور في الحج إذا أراد أن يحرم فأحفى شاربه خشية أن يطول في زمن الإحرام ويؤذيه فقد رخص له فيه، وكذلك إذا دعت ضرورة إلى حلقه أو حلق اللحية لمداواة ما تحتها من جرح أو دمل ونحو ذلك. والله سبحانه أعلم. قاله الحطاب.
قال جامعه عفا الله تعالى عنه: وها أنا أذكر لك كلام الأئمة في اللحية والشارب والعنفقة لتتم الفاندة فأقول معتصما بالله تعالى: قال العلقمي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم (خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى
(2)
) الفعلان بقطع الهمزة، ووصلها يقال: أحفى شاربه وحفاه إذا استأصل أخذ شعره، قال الحافظ بن حجر: وقد ورد بلفظ (انهكوا الشوارب
(3)
)، وبلفظ (جزوا الشوارب
(4)
)، وكل هذه الألفاظ تدل على أن المطلوب المبالغة في الإزالة، لأن الجز قص
(1)
مسلم في صحيحه، كتاب اللباس، رقم الحديث 2120. - البخاري، كتاب اللباس، رقم الحديث: 5921.
(2)
مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:259.
(3)
انهكوا الشوارب وأعفوا اللحى البخاري، كتاب اللباس، رقم الحديث:5893.
(4)
جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:260.
الشعر والصوف إلى أن يبدو الجلد، والنهك المبالغة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم للخافضة: (أشمي
(1)
ولا تنهكي
(2)
) أي لا تبالغي في ختان المرأة. قال الطحاوي: لم أر عن الشافعي في ذلك شيئا منصوصا، وأصحابه الذين رأيناهم كالمزني والربيع كانوا يحفون، وما أظنهم أخذوا ذلك إلا عنه، وكان أبو حنيفة وأصحابه يقولون: الإحفاء أفضل من التقصير، وخالف مالك. انتهى وقال الأثرم: وكان أحمد يحفي شاربه إحفاء شديدا، ونص على أنه أولى من القص. وقال النووي: المختار في قص الشارب أنه يقص حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفه من أصله، وأما رواية أحفوا فمعناه أزيلوا ما
(3)
على الشفتين: قال ابن دقيق العيد: ما أدري هل نقله عن الذهب أو قاله اختيارا منه لمذهب مالك؟ وقال القاضي عياض: ذهب كثير من السلف إلى استيعاب الشارب وحلقه لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم (أحفوا وانهكوا)، وهو قول الكوفيين، وذهب كثير منهم إلى منع الحلق، وقاله مالك، وذهب بعض العلماء إلى التخيير في الأمرين، ودليل القص ما في أبي داوود والبيهقي عن المغيرة بن شعبة: كان شاربي وَفَى فقصه على سواك
(4)
، ولفظ البيهقي: فوضع السواك تحت الشارب وقص عليه
(5)
، وروى البزار نحوه عن عائشة، وأخرج الترمذي عن ابن عباس، (أنه صلى الله عليه وسلم كان يقص شاربه
(6)
، وأخرج الطبراني والبيهقي من حديث شرحبيل بن مسلم الخولاني قال: رأيت خمسة من أصحاب رسول الله -صلى عليه وسلم- يقصون شواربهم: أبا أمامة الباهلي، والمقدام بن معدي كرب الكندي، وعتبة بن عبد السلمي، والحجاج بن عامر، وعبد الله بن بسر
(7)
. ودليل الإحفاء ما في كلام ميمون بن مهران
(1)
في الأصل أسنمى وما بين المعقوفين من النهاية في غريب الحديث ج 5 ص 137.
(2)
لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل. أبو داود، كتاب الأدب، رقم الحديث:5271.
(3)
الذي في شرح العلقمي للجامع الصغير أزيلوا ما طال عن الشفتين.
(4)
أبو داود، كتاب الطهارة، الحديث:188. وفيه: فقصه لي على سواك.
(5)
عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا طويل الشارب فدعا بسواك وشفرة فوضع السواك تحت الشارب فقص عليه. البيهقي، ج 1 ص 151.
(6)
عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص أو يأخذ من شاربه وكان إبراهيم خليل الرحمن يفعله. سنن الترمذي، كتاب الأدب، رقم الحديث 2760.
(7)
رأيت خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصون شواربهم ويعفون لحاهم ويصفرونها: أبو أمامة الباهلي وعبد الله بن بسر وعتبة بن عبد السلمي والحجاج بن عامر الثمالى والمقدام بن معد يكرب الكندي كانوا يقصون شواربهم مع طرف الشفة. البيهقي في السنن الكبرى، ج 1 ص 151.
عن ابن عمر قال: ذكر رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم- المجوس فقال إنهم يوفرون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم، قال: وكان ابن عمر يستقرض سبله فيجزها كما تجز الشاة أو البعير. أخرجه الطبراني والبيهقي
(1)
، وأخرجا عن ابن أبي رافع قال: رأيت أبا سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، ورافعا، وأبا أسيد الأنصاري، وسلمة بن الأكوع ينهكون شواربهم حتى الحلق
(2)
. وأخرج أبو بكر الأثرم عن ابن عمر أنه كان يحفي شاربه حتى لا يترك منه شيئا. وأخرج الطبراني عن أبي عثمان قال: رأيت ابن عمر يأخذ من شاربه أعلاه وأسفله، وأخرج أيضا عن عروة وسالم والقاسم وأبي سلمة أنهم كانوا يحلقون شواربهم، ويقال عفوت الشعر وأعفيته لغتان، وفي النهاية: إعفاء اللحى أن يوفر شعرها ولا يقص كالشارب من عفا الشيء إذا كثر، وزاد لغتان. انتهى كلام العلقمي. وفي المُناوى أنه يؤخذ من العنفقة والحاجب ما طال، وفي النصيحة الكافية للشيخ أحت زروق: والأحاديث متعارضة في الشارب بين الإحفاء والقص، فالأفضل الجمع، والقص أولى عند الإفراد. وقوله: الجمع؛ أي بين القص والإحفاء. قاله ابن زكريا. وأما الشعر النابت على الخد فكان الشيخ الصالح الفقيه أبو الحسن المنتصر لا يزيله، وكان غيره يزيله ويزال أيضا ما على الحلق بخلاف اللحي الأسفل، وعن مالك أنه كره حلق ما تحت الذقن من الشعر، وقال: هو من فعل المجوس، وكره أيضا حلق الحاجب والقفا، وقال: لا أراه حراما. قاله ابن زكري. وقال في النصيحة الكافية: وفي اللحية خصال ينهى عنها. منها: نتفها ونتف الشيب منها، وصبغها ليغر، وتبييضها كذلك، وكذا قص غير ما طال منها. انتهى. قوله: وفي اللحية خصال ينهى عنها، قال في الإحياء: هي خصال مكروهة: وبعضها أشد من بعض. وقوله: منها نتفها قال في الإحياء: نتفها أو نتف بعضها بحكم العبث والهوس مكروه مشوه للخلقة، ونتف الفكين بدعة؛ وهما جانبا العنفقة. ورد عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-، وابن أبي ليلى شهادة من ينتف لحيته، ورد عمر بن عبد العزيز شهادة رجل كان ينتف فكيه، وقوله: ونتف
(1)
السنن الكبرى للبيهقي، ج 1 ص 151. وفيه: يستعرض مكان يستقرض.
(2)
السنن الكبرى للبيهقي، ج 1 ص 151. وفيه: .... وأبا أسيد الأنصاري وابن الأكوع وأبا رافع ينهكون شواربهم حتى الحلق.
الشيب منها (قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نتف الشيب: وقال هو نور المؤمن
(1)
)، ورجح النووي تحريمه لثبوت الزجر عنه، وجزم المص في شرح الرسالة بمنع نتفه وحلقه، وأما نتف اللحية في أول نباتها تشبيها بالمرد فهو من المنكرات الكبار، وقوله: وصبغها ليغر، قال في الإحياء: خضابها بالسواد منهي عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير شبابكم من تشبه بشيوخكم؛ أي في الوقار لا في تبييض الشعر، وشر شيوخكم من تشبه بشبابكم
(2)
)، وتزوج رجل على عهد عمر -رضي الله تعالى عنه- وكان قد خضب بالسواد، فنصل خضابه وظهرت شيبته، فرفعه أهل المرأة إلى عمر فرد نكاحه وأوجعه ضربا، وقال: غررت القوم بالشباب ولبست عليهم بشيبك. ويقال: أول من خضب بالسواد فرعون لعنه الله، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يَكونُ في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة
(3)
)، وخضب بالسواد بعض العلماء ولا بأس بذلك إذا صحت النية ولم يكن فيه هوى وشبهة، وفي الرسالة: ويكره من غير تحريم. قال المص: ظاهره الكراهة مطلقا، وفصل بعضهم إن كان للتغرير منع، وإن كان للجهاد ندب، وإن كان للتشابب كره، وإن كان مطلقا فقولان بالجواز والكراهة، فالجواز من قوله عليه الصلاة والسلام: (غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود
(4)
)، والكراهة من قوله صلى الله عليه وسلم حين رأى أبا قحافة كأنه ثغامة من الشيب: (غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد
(5)
) رواه مسلم، وقوله: وتبييضها كذلك؛ أي ليغر إظهارا لعلو السن توصلا إلى التوقير وقبول الشهادة والتصديق في الرواية عن الشيوخ وترفعا عن الشبان وإظهارا لكثرة العلم ظنا أن كثرة الأيام تعطيه فضلا وهيهات لا يزيد كبر السن الجاهل إلا جهلا. وقوله: وكذلك قص ما طال منها، قال في الرسالة: وأمر أن تعفى اللحية وتوفر ولا تنقص. قال المص: فاعل أمر رسول الله
(1)
الإتحاف، ج 2 ص 425.
(2)
المطالب العالية، ج 3 ص 3 رقم الحديث:2708.
(3)
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال يكون في آخر الزمان قوم يختضبون بهذا السواد كحواصل الطير لا يريحون رائحة الجنة. السنن الكبرى للبيهقي، باب ما يصبغ به، ج 7 ص 311.
(4)
الترمذي في سننه، كتاب اللباس، رقم الحديث:1752. - النسائي في سننه، كتاب الزينة، رقم الحديث: 5083.
(5)
مسلم في صحيحه، كتاب اللباس والزينة، رقم الحديث:2102.
-صلى الله عليه وسلم لحديث (انهكوا الشوارب وأعفوا اللحى
(1)
)؛ أي اتركوها موفرة. ومعنى توفر تترك على حالها دون نقص؛ لأنها وجه الإنسان وزينته، ويمنع حلقها، واحترز بقوله: غير ما طال مما طال منها فلا بأس بقصه بل يستحب، قال في الرسالة: ولا بأس بالأخذ من طولها إذا طالت كثيرا، وقاله غير واحد من الصحابة والتابعين، قال الأبي في الحديث (إن الله تعالى زين بني آدم باللحى
(2)
): وإذا كانت زينة فالأحسن تحسينها بالأخذ منها طولا وعرضا، وتحديد ذلك بما زاد على القبضة، كما كان ابن عمر يفعل، وهذا فيمن تزيد لحيته، وأما من لا تزيد لحيته فيأخذ من طولها وعرضها بما فيه تحسين فإن الله جميل يحب الجمال، فإن قلت: تحسينها بالأخذ منها طولا وعرضا مناف لقوله: أعفوا اللحى، قلت: الأمر بالإعفاء إنما هو لمخالفة المشركين؛ لأنهم كانوا يحلقونها، ومخالفتهم تحصل بعدم أخذ شيء البتة، وبأخذ اليسير الذي فيه تحسين فالصواب ما ذكرنا. انتهى قاله ابن زكري.
تنبيهان الأول: قال الحطاب بعد جلب نقول: فتحصل من هذا أن من توضأ أو اغتسل ثم قشر قشرة من جلده: أو جرح أو بثرة، أو قطع قطعة لحم من أعضاء وضوئه أو غسله، أو قطعت يده أو نحو ذلك لم يلزمه غسل ما ظهر من ذلك، ولا غسل موضع القطع، ولا موضع القشرة، خلافا للخمي. انتهى. وتعقب غير واحد كلام اللخمي، ورده سند، وقال إنه فاسد، واحتج بأن الصحابة كانت تلحقهم الجراح ويصلون بحالهم، ولا يعرف أن أحدا طهَّرَ فَمَ جرحه بمكان وضوئه أو غسله، وفي صحيح البخاري أنه رُمي رجل بسهم في الصلاة فنزفه الدم فمضى في صلاته.
الثاني: قال ابن ناجي: وأما ما ينبت بإزاء الظفر الذي يسمى بالتنتيف فلا يجب غسل محله إذا زال، بذلك أفتى شيخنا الشبيبي، وقال للسائل: بهذا قال صاحب هذه الدار؛ يعني ابن أبي زيد إذ سئل عن ذلك عند دار الشيخ المذكور المدفون بها، ولا يجري قول اللخمي في هذه، لندور مسألته، وكثرة وقوع مسألتنا والله أعلم. قاله الحطاب. ولما ذكر الفرائض الأربع القرآنية المجمع عليها، أتبعها بالكلام على الفرائض المختلف فيها، وبدأ بالدلك؛ لأنه قد قيل
(1)
البخاري، كتاب اللباس، رقم الحديث:5893.
(2)
الأبي شرح مسلم، ج 2 ص 66.
إنه داخل في حقيقة الغسل، فقال:(والدلك) يعني أن من فرائض الوضوء الدلك، وهو إمرار اليد على العضو: وقيل إمرار العضو على العضو والراجح الأول؛ وعليه ففي إجزاء دلك الرجل بالرجل وعدمه قولان، الإجزاء لابن القاسم، وعدم الإجزاء روايته عن مالك. وأما دلك غير إحدى الرجلين بغير اليد فلا يجزئ قطعا، والظاهر أن المراد باليد باطن الكف، فالدلك بمرفقيه مع إمكانه بباطن كفه لا يجزئ. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: الدلك يكون باليد ظاهرها وباطنها أو بالذراع أو بخرقة أو بحك إحدى الرجلين بالأخرى خلافا لتخصيص الأجهوري، وذكر نحو هذا عن أبي علي محتجا بقول الفاكهاني: الدلك إمرار اليد وما يقوم مقامها. انتهى. قال بعده: وقول الفقهاء الدلك باليد جرى على الغالب خلافا للأجهوري ومن تبعه. انتهى كلام الشيخ محمد بن الحسن. ويكفي الدلك ولو بعد صب الماء، وتندب المقارنة هنا دون الغسل، وتجوز الاستنابة لضرورة، وتمنع لغيرها بلا خلاف، وإن وقعت الاستنابة لغير ضرورة ففي الإجزاء قولان، وتجوز الاستنابة على صب الماء اتفاقا ولو لغير ضرورة، ودليله (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصب عليه الماء
(1)
). وقوله: "والدلك" فلا يكفي الانغماس والصب مجردا ذلك عن إمرار اليد، وقد مر أن المقارنة في الوضوء مندوبة فلو دلك بعد صب الماء. وقبل مفارقة الماء للعضو أجزأ ذلك على الصحيح خلافا للقابسي القائل باشتراط مقارنة الدلك لصب الماء. وتقدم أن الاستنابة من غير ضرورة فيها قولان، وشهر كل منهما، قال الطحاوي: ويظهر من مذهب مالك في هذه المسألة الإجزاء إلا أن يفعله استنكافا عن عبادة الله واستكبارا عنها. انتهى. ويدل للإجزاء غسل الجواري رجلي عبد الله بن عمر، قيل لمالك: ألا تخاف أن يكون ذلك من اللمس؟ قال: لعمري وما كان ابن عمر يفعل إلا من شغل أو عذر يجده، وفيه دليل لمالك على عدم النقض باللمس إلا بلذة أو قصد. ابن رشد: ولو التذ مولانا ابن عمر لما صلى بذلك الوضوء. قاله الحطاب. وفي نوازل ابن هلال أن من كان بيده عذر يمنعه من استعمال الماء للوضوء والغسل أو فيهما معا يجب عليه الاستنابة، وإن بأجرة. انتهى. والله سبحانه أعلم. وما ذكره المص من وجوب الدلك
(1)
البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:182.
لنفسه هو المشهور، وهو قول مالك في المدونة لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: (وادلكي جسدك بيدك
(1)
)، والأمر على الوجوب، وقيل لا يجب، قاله ابن عبد الحكم، وقيل إنه واجب لا لنفسه، بل لتحقق إيصال الماء إلى البشَرَة، فمتى تحقق إيصال الماء لها لطول مكث أجزأه. قاله أبو الفرج. والخلاف في الغسل كالخلاف في الوضوء، وظاهر كلام أبي عمر بن عبد البر أن الخلاف في الغسل فقط دون الوضوء فيجب بلا خلاف، وحكى المناوي أنه سنة، فتلك خمسة أقوال: الوجوب لنفسه فيهما، الوجوب فيهما لتحقق إيصال الماء إلى البشرة، عدم الوجوب فيهما، الوجوب في الوضوء بلا خلاف، وفي الغسل مختلف فيه، والخامس القول بالسنة. وحجة القول بالتفرقة بين الوضوء والغسل أن أحاديث الوضوء كلها تدل على التدلك، وأحاديث الغسل إنما فيها: أفاض الماء واغتسل، وحجة القول بالوجوب ما تقدم، مع أن أهل اللغة قد فرقوا بين الغسل والانغماس، وأما القائل بعدم الوجوب فإنه قال: يصدق اسم الغسل بدون تدلك، وتفهم حجة القول بالسنة من هذا، ولم تشترط مقارنة الدلك لصب الماء على الصحيح كما مر؛ لأن الماء إذا صب على الجسد يبقى زمانا، فإذا تدلك عقب الصب والماء يسيل على جسده كان كمن تدلك مع الصب. وقد تقدم أن التيمم في الاستنابة كالوضوء، وحكى الطحاوي عن طائفة من أهل العلم أن الأفضل أن يلي المغتسل أو المتوضئ أو المتيمم ذلك بنفسه لنفسه، فإن ولي ذلك غيره أجزأه، ومن توضأ على نهر وخضخض رجليه في الماء لا يجزئه ذلك، فلو غسل فيه إحداهما بالأخرى أجزأه ذلك. قاله ابن القاسم. وقد روي عن محمد بن خالد أنه قال: لا يجزئه حتى يغسلهما بيديه، وقد مر أن المستنيب هو الذي ينوي فلا عبرة بنية النائب، ولا تجزئ نية المستنيب إلا إذا وقعت عند ابتداء الطهارة، فإن نواها بعد غسل بعض أعضاء وضوئه أمر بإعادة الوضوء، وكذا الصلاة إن كان قد صلى، وإن كان إنما صلى بعد أن أعاد ذلك العضو وحده أجزأته صلاته؛ لأنه كالمنكس، هذا إن أعاد غسله بالقرب، وإلا كان مفرقا للطهارة عمدا فلا يجزئه. قاله الحطاب.
(1)
الإشراف، ج 1 ص 125 دار ابن حزم.
تنبيه: نقل الماء إلى العضو إن أريد به إيصال الماء إلى العضو فالمذهب لزومه، فلو أرسل الماء من
يده ثم مر بها على وجهه أو غيره من أعضائه لم يجزئه اتفاقا؛ لأنه مسح وليس بغسل. قاله ابن
رشد. وإن أريد بالنقل حمل الماء باليد إلى العضو فالمشهور من المذهب أنه لا يجب، فلو أصاب
المطر أعضاء وضوئه أو جسده، أو خاض برجله في الماء أو توضأ في الماء وتدلك في ذلك كله أجزأه، وقد أجمعوا أن الجنب إذا انغمس في الماء وتدلك فيه للغسل أن ذلك يجزئه، وإن لم ينقل الماء بيديه إليه ولا صبه عليه. قاله الحطاب عن ابن رشد. ومن نصب يديه للمطر فحصل فيهما ما ينقله إلى وجهه وسائر أعضائه غاسلا له، ومن بلته ما يمسح به رأسه فلا اختلاف في صحة وضوئه: ولو لم ينقل بيديه، وإنما غسل أعضاء وضوئه بما أصابها من المطر، ومسح رأسه بما أصاب رأسه من المطر، ففي ذلك قولان: مذهب ابن القاسم الجواز، وهو الذي يفهم من المدونة في مسألة الخائض، ومثله في سماع موسى ومحمد بن خالد، ومذهب ابن حبيب- ورواه عن ابن الماجشون- أنه لا يجوز. قاله ابن رشد. ونقل الباجي خلاف هذا في مسح الرأس؛ ففي المنتقى: لو مسح بما على رأسه من بلل مطر أو غيره لم يجزه. قاله ابن القاسم. انتهى. ومن بقيت رجلاه من وضوئه فخاض بهما نهرا فدلكهما فيه بيديه ولم ينو إتمام وضوئه لم يجزه حتى ينويه؛ لأنه لما نسيهما وفارق محل وضوئه على أنه أكمله ارتفضت النية المتقدمة فلزمه تجديدها، ولو أبقاهما قاصدا لغسلهما في النهر لم يحتج لتجديد نية. انتهى. قاله الحطاب. ومعنى أبقاهما ترك غسلهما لكونه يريد غسلهما في النهر. والله أعلم. وقال ابن عبد السلام في شرح قول ابن الحاجب: ينقل الماء إليه، لا يعني لما يعطيه ظاهر اللفظ من رفع الماء بيده، أو يد من يستنيبه، بل حصوله على سطح الوجه كيفما اتفق حتى لو ألقى وجهه إلى ميزاب، [أو مطر وابل
(1)
]، وأتبع الدلك لكفاه، وكذا المنقول في هذه الصورة، وفي الحطاب بعد جلب كثير من النقول: فتحصل من هذا أن نقل الماء إلى العضو بمعنى إيصال الماء إليه واجب اتفاقا، وأما حمل الماء باليد فلا يجب، أما في مسألة انغماس الجنب في النهر فباتفاق: وأما في مسألة من أصاب المطرُ أعضاء وضوئه أو جسمه
(1)
في الأصل مطرا وابل والمثبت من الحطاب ج 1 ص 343 ط دار الرضوان.
أو خاض برجله في الماء أو توضأ في الماء فعلى الراجح، وهو مذهب ابن القاسم المفهوم من المدونة وغيرها، إلا في مسألة مسح الرأس، فالراجح أنه لا يكفي مسحه بالبلل الحاصل عليه. والله أعلم. ومسحه ببلل لحيته أو ذراعيه قد مر أنه من الماء المستعمل في الحدث على خلاف فيه؛ يعني حيث أمكن به المسح لكثرته ككون لحيته كثيفة، ولم يضَف والله أعلم. انظر الحطاب.
وهل الموالاة يعني أن الشيوخ اختلفوا في حكم الموالاة بين فرائض الوضوء؛ وهي الإتيان بجميعها في زمن متصل، أو ما هو في حكمه من التفريق اليسير فلا يضر ولو عمدا، فمنهم من ذهب إلى أنها واجبة وعزاه الفاكهاني لمالك وابن القاسم وشهره، وقال ابن ناجي في شرح المدونة: هو المشهور ومحل الوجوب إن ذكر وقدر فإن انتفى القيدان أو أحدهما سقط الوجوب، واستدل للوجوب بأن الفاء تقتضي الترتيب من غير مهلة، وعطف الأعضاء بعضها على بعض يقتضي جعلها في حكم جملة واحدة؛ فكأنه قال: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا هذه الأعضاء، وبأن الأمر في الآية للفور، وبأن الخطاب ورد بصيغة الشرط والجزاء، ومن حق الجزاء أن لا يتأخر عن الشرط، وبقوله صلى الله عليه وسلم: وقد توضأ مرة مرة في فور واحد (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به
(1)
)، فنفى القبول عند انتفائه قال الإمام الحطاب بعد أن جلب ما جلب من النقول. فتحصل أن المعتمد من المذهب أن من فرق الطهارة عامدا أعاد الوضوء والصلاة أبدا، ومن فرقها عاجزا أو ناسيا بنى: والتفريق غير المتفاحش لا تأثير له عمدا كان أو سهوا. عبد الحق: ولا خلاف في ذلك. ابن الحاجب: والتفريق اليسير مغتفر، قال في التوضيح: حكى عبد الوهاب فيه الاتفاق، وحكى صاحب الطراز قولين، وقال: إن المشهور أنه لا يضر، وقال ابن الجلاب: يمنع البناء، والقولان مبنيان على الخلاف فيما قارب الشيء هل يُعطَى حكمه أم لا؟ وفي المجموعة عن مالك أنه كان يتنشف من وضوئه قبل غسل رجليه، وفي حديث البخاري (أنه -صَلَّى الله تعالى عليه وسلم- اغتسل ثم تنحى فغسل قدميه
(2)
)، وفي حديث المغيرة (أنه صلى الله عليه وسلم توضأ وعليه جبة شامية ضيقة الكم فترك صلى الله عليه وسلم وضوءه وأخرج يده من كمه من تحت ذيله حتى
(1)
البيهقي، ج 1 ص 80.
(2)
البخاري في صحيحه، كتاب الغسل، رقم الحديث:266.
غسلها
(1)
)، وإذا قلنا: إن التفريق اليسير لا يضر فظاهر كلامهم أنه لا كراهة في ذلك. قاله الحطاب. قال. وقال ابن ناجي ولا خلاف أن التفريق اليسير مكروه، وظاهر كلام الجلاب أنه ممنوع، ولا أعرف له موافقا، وصرح الشبيبي في شرح الرسالة بالكراهة من غير ضرورة، قال: ولا يفسد بلا خلاف الحطاب: ووجهه ظاهر، والتفريق اليسير عمدا لا يحد بجفاف الأعضاء كما حد في حق العاجز بذلك. بل هو أقل منه لعدم عذره. الحطاب هذا هو الظاهر من كلام أهل المذهب، وما قاله ابن فرحون من أن حد اليسير ما لم تجف أعضاء الوضوء غير ظاهر، ولما ذكر أن الموالاة واجبة مع الذكر والقدرة أخذ يبين حكم ما إذا ترك الموالاة نسيانا أو عجزا، وبدأ بالنسيان فقال: وبنى بنية من نسي يعني أن من نسي عضوا من أعضاء وضوئه، أو ترك منها لمعة فإنه يبني على وضوئه المتقدم بالنية؛ أي يتممه ولا يستأنف الوضوء، بل يأتي بما ترك منه عضوا أو لمعة مطلقا طال التفريق أم لا، يريد: ويعيد ما بعد ذلك العضو أو تلك اللمعة لن أعضاء وضوئه مفروضا أو مسنونا، وهذا إذا ذكر بالقرب قبل جفاف أعضائه، وإن ذكر بعد الطول بجفاف أعضائه لم يعد ما بعد ذلك العضو ولا ما بعد تلك اللمعة، واستغنى المص عن هذا بما سيذكره في الترتيب من إعادة المنكس وحده إن بعد بجفاف وإلا مع تابعه، فحكم الإعادة في المنكس والمنسي سواء؛ لأن إعادة ما بعده إنما هي لأجل الترتيب، فلو لم يعد ما بعده لم يكن عليه شيء، وحكم الإعادة السنة في هذا وفي مسألة الترتيب: والظاهر أن قوله: مطلقا نائب عن المصدر منصوب بقوله: "وبني"؛ أي وبنى بناء مطلقا أي غير مقيد بتفريق يسير، فيبني بالنسيان ولو طال التفريق، وتقدم أنه يعيد ما بعد المنسي من مسنونات الوضوء إن ذكر بالقرب، وذلك لأنه بحكم التبع للفرائض، ومعنى قوله:"بنية" أنا إذا قلنا بالبناء على ما تقدم من وضوئه فلابد له من النية، فلو حصل غسل العضو المنسي بلا نية لم يجزه ذلك، وقوله:"وبنى إن نسي" الخ حكم البناء السنة. وفي حكم النسيان ما إذا أعد من الماء ما جزم بأنه يكفيه فتبين خلافه، أو أراقه شخص، أو غصبه، أو أريق منه بغير اختياره، أو أكره على التفريق، والظاهر أن الإكراه هنا يكون بما يأتي في
(1)
مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:274.
الطلاق من خوف مولم فأعلى؛ إذ هذا الإكراه هو المعتبر في العبادات. قاله الرماصي: ومن عجز لمرض، فإن وجد من يستنيبه، وجب عليه أن يستنيبه فإن لم يجد من يستنيبه فالظاهر أنه كالإكراه، فحكمه كالنسيان. قاله الرماصي: وفي الحطاب بعد جلب نقول: فظهر من هذا أن العاجز إذا أعد من الماء ما يكفيه ثم غصبه أو أهريق أو أهراقه بغير تعمد أو أكره على التفريق يبني وإن طال، كالناسي بلا خلاف عند بعضهم، كما يظهر من كلام اللخمي وابن رشد، وعند بعضهم على الراجح، وإن فرق بعد التذكر ابتدأ وضوءا آخر، وما تقدم من أن حكم البناء السنة قاله الشيخ عبد الباقي، وهو يفيد أن البناء على الوضوء سنة، فإذا رفض ما فعل منه وابتدأ وضوءا آخر كان مخلا بالسنة، وقد صرحوا بأن المتوضئ مخير في إتمام وضوئه وتركه، ونظموا ما يجب إتمامه بالشروع وما لا يجب إتمامه فقالوا:
صلاة وصوم ثم حج وعمرة
…
طواف عكوف بالشروع تحتما
وفي غيرها كالوقف والطهر خيرن
…
فمن شاء فليقطع ومن شاء تمما
قاله الشيخ محمد بن الحسن. وإن عجز يعني أن المتوضئ إذا غسل بعض أعضاء وضوئه فعجز عن إتمامه لكونه ظن أن الماء الذي أعده لوضوئه يكفيه فلم يكفه، فإنه يبني؛ أي يتم وضوءه. ما لم يظن يعني أن هذا العاجز إنما يبني إذا لم يطل ما بين العضو الذي عجز عنده والقدرة على إكمال وضوئه، والطول الذي يمنع البناء ويوجب الاستيناف محدود بجفاف أعضاء أي يبسهما بتقدير وقوع الوضوء في زمن معتدل هو والشخص المتوضي، ولذا قال: اعتدلا بألف التثنية؛ أي الشخص صاحب الأعضاء والزمن، ومعنى اعتدال الشخص أن يكون معتدل المزاج، وأما كونه بين الشباب والشيخوخة فمن صور اعتدال المزاج غالبا، ومعنى اعتدال الزمان كونه بين الشتاء والحر، وأما اعتدال المكان فيستلزمه اعتدال الزمان، وما مشى عليه المص هو المشهور، وهو نص المدونة. قاله الحطاب. وصرح الجزولي والشيخ يوسف بن عمر بأن المشهور في الطول التحديد بالعرف، ولو غسل وجهه ويديه ثم وقع فصل ثم مسح رأسه قبل جفاف ماء اليدين وبعد جفاف ماء الوجه، فالظاهر من كلامهم اغتفار ذلك، وكذا لو غسل الغسلة الأولى والثانية ثم تذكر فغسل
الثالثة ثم غسل العضو الذي يلي الثالثة بعد مدة تجف فيها بلة الأولى دون الثالثة، فالظاهر من كلامهم أيضا اغتفار ذلك أيضا. وقوله: وإن عجز بنى استنانا. قاله الشيخ عبد الباقي. وفيه ما تقدم. والله تعالى أعلم. وفي حكم العجز ما إذا ذكر بعد نسيان ولم يجد فإنه يبني ما لم يطل بجفاف أعضاء بزمن اعتدلا ولو أعد من الماء ما ظن أنه لا يكفيه أو شك في ذلك فإنه يبتدئ وضوءه ولا يبني على المشهور، وكذا لو أعد ما جزم أنه لا يكفيه فإنه لا يبني؛ لأنه متعمد طال التفرق أم لا إلا في اليسير الذي يغتفر للمتعمد. قاله الحطاب. وقال الشيخ الأمير: فإن علم عدم كفايته ومنه ظنه فلا يبني وإن قرب؛ للتلاعب والدخول على الفساد وعدم جزم النية فهو أشد من عمد التفريق المغتفر فيه القربُ كما في على الأجهوري والحاشية وغيرهما. انتهى. وقوله: "وإن عجز ما لم يطل" يحمل على صورة واحدة كما مثلتُ، ولا يحتاج العاجز لنية، والفرق بينه وبين الناسي أن الناسي لما كان عنده الإعراض عن الوضوء احتاج إلى تجديد النية، بخلاف العاجز فإنه لما لم يعرض عن الوضوء ولم يذهل عنه لم يحتج لنية: وما تقدم من أنه إنما يبني في صورة العجز التي مثلتُ بها: هو الذي قاله الشيخ محمد بن الحسن تبعا للإمام الحطاب. وقال إنه حمل قول المص على تلك الصورة فقط وهي ما إذا أعد ما ظن أنه يكفيه فقصر به، ثم قال: وهذا كله على ظاهر المص في التفريق بين العاجز والعامد، والمعتمد خلافه. وإذا ذكر بعد نسيان بادر، فإن أخر عمدا بطل وضوءه إن تفاحش، وإلا لم يبطل، فإن ذكر اللمعة أو العضو في موضع لم يجد فيه ما يغسلهما به بنى ما لم يطل بجفاف أعضاء كما تقدم، وقيل يبني مطلقا وجد الماء قريبا أو بعيدا إذا لم يفرط، ومضى مبادرا، فإن ذكر ما نسي ثم نسي بعد ذكره فهل يبني في النسيان الثاني كالأول أم لا؟ قولان وظاهر المدونة أنه لا يعذر بالنسيان الثاني، وهو خلاف ما تقدم عن ابن رشد في مسألة من صلى الخمس بوضوء وجب لكل صلاة، ثم ذكر مسح رأسه من وضوء إحداها أنه يمسحه ويعيد الخمس، فإن أعاد الخمس نَاسيا لمسح رأسه، قال ابن رشد: يمسحه ويعيد العشاء فقط، وإذا كانت اللمعة من مغسول الوضوء غسلها ثلاثا، وكذلك إن نسي عضوا غسله ثلاثا، فإن كان ذلك بالقرب أعاد ما بعده مرة مرة، وإن ذكر بعد البُعد غسل موضع اللمعة فقط أو العضو فقط إلا أن يكون إنما غسل تلك الأعضاء أولا مرة مغ فإنه يعيدها
مرتين، وإذا تذكر موضع اللمعة غسلها خاصة وإن لم يتحقق موضعها غسل العضو كله. نقله الحطاب. قال: وهذا إذا تيقن أنه ترك لمعة أو عضوا، فإن لم يتيقن ذلك بل شك فيه فقال في المدونة: ومن شك في بعض وضوئه فلم يتيقن أنه غسله فليغسل ما شك فيه، قال اللخمي إن كان ذلك بحدثان وضوئه نظر؛ فإن كان على العضو بلل كان ذلك دليلا على أنه غسله، وإن لم يكن به بلل غسله، وإن كان ذلك بعد طول مما يجف فيه لو كان غسله فإن عليه غسله إلا أن يكون ممن يتكرر ذلك عليه، ومن ذكر لمعة من غسله أو عضوا فحكمه حكم من ذكر ذلك من وضوئه إلا أنه لا يعيد ما بعد ذلك ولا يغسلها ثلاثا، ومن ذكر لمعة من الوضوء من إحدى يديه لا يدري من أي يد هي إلا أنه يعلم موضعها من إحدى اليدين غسل ذلك الوضع من يده اليمنى، ثم غسل يده اليسرى، وأعاد بقية وضوئه إن كان بالقرب، وإن طال غسل ذلك الموضع من اليدين جميعا، ومن ذكر مسح رأسه لم يجزه أن يمسحه بما في ذراعيه أو لحيته من بلل لقلة ما يتعلق بذلك من الماء، إلا أن تكون لحيته عظيمة بحيث يكون فيها من الماء ما فيه كفاية للمسح، فأجاز ذلك ابن الماجشون، ومنعه مالك في المدونة، وخرج ابن رشد وصاحب الطراز ذلك على حكم الماء المستعمل، وكذا اللخمي وابن بشير. قال الحطاب: وفي التخريج نظر؛ لأن المشهور في الماء المستعمل الكراهة مع وجود الغير فينبغي أن يحمل كلامه في المدونة على ما إذا لم يكن فيها كفاية، أو كان متغيرا، أو كان الماء قريبا، وأما إن كان الماء كثيرا أو ليس عنده غيره فإنه يتعين عليه أن يستعمله، ويكون قول ابن الماجشون حينئذ تفسيرا لها لا خلافا والله سبحانه أعلم.
أو سنة عطف على قوله واجبة؛ يعني أن من الشيوخ من ذهب إلى أن الموالاة سنة، وشهره في المقدمات في ذلك خلاف وعلى القول بالسنة إن فرق ناسيا فلا شيء عليه، وكذا عامدا عند ابن عبد الحكم، ولابن القاسم يعيد الصلاة والوضوء أبدا. قال الحطاب بعد جلب نقول: فتحصل من هذا أن المعتمد من المذهب أن من فرق الطهارة عامدا أعاد الوضوء والصلاة أبدا، ومن فرقها ناسيا أو عاجزا بنى، فالخلاف إنما هو في التعبير كما مر في حكم إزالة النجاسة فتأمله منصفا. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي إنه خلاف معنوي، وقال الشيخ محمد بن الحسن: إنما يظهر أنه معنوي إن راعينا قول ابن عبد الحكم على السنة، وأما على المشهور وهو قول ابن القاسم في العمد يعيد
الوضوء والصلاة أبدا فهو لفظي، وهو الحق. انتهى. وقيل إن الموالاة فرض على الإطلاق، وعليه تجب إعادة الوضوء والصلاة على من فرقه ناسيا أو عامدا، وقيل فرض فيما يغسل، سنة فيما يمس، وقيل واجبة في المغسول والممسوح البدلي دون الأصلي، وقيل واجبة إذا توضأ في وقت الصلاة. وغير واجبة إذا توضأ قبل الوقت.
واعلم أن الإمام مالكا يقول: لا أحب فيما لا يجوز عنده بوجه، وكان العلماء يكرهون أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام فيما طريقه الاجتهاد، ويكتفون بقولهم. ولا أحبه، ولا بأس به، وما أشبه هذا من الألفاظ فيكتفَى بذلك من قولهم. قاله الحطاب.
واعلم أن إدمان الوضوء موجب لسعة الخلق، وسعة الرزق، ومحبة الحفظة، ودوام الحفظ من المعاصي والمهلكات. فقد جاء: الوضوء سلاح المؤمن وهو مجرب، وتأخير غسل الجنابة يمَكِّن الخوف من النفس، ويقلل البركة من الحركات. واعلم أن الحضور في الصلاة بقدر الحضور في الوضوء، ويقال إن الأكل على الجنابة يورث الفقر، والكلام في الخلاء يورث الصمم.
(ونية رفع الحدث) هذه هي الفريضة السابعة وأخرها لطول الكلام عليها؛ يعني أن المتوضئ يلزمه أن ينوي رفع الحدث أي إذهابه وإزالته، والحدث هنا هو الوصف الحكمي القدر قيامه بالأعضاء قيام الأوصاف الحسية، ويصح أن يراد به المنع المرتب على الأعضاء، وهما متلازمان، فإذا ارتفع أحدهما ارتفع الآخر، وفي الحطاب: أن التيمم لا تصح صلاته حتى ينوي استباحة الصلاة المعينة، ويأتي ما يخالفه (عند وجهه) يعني أن النية إنما تكون عند أول مغسول، فتكون عند الوجه إن بدأ به، وقيل عند يديه، وجمع بعضهم بين القولين فقال: يبدأ بالنية أول الفعل، ويستصحبها أول الفرض، وسيأتي أن ما تقدم من السنن غسل الوجه لابد فيه من النية، وهو أربع: اليدان، والمضمضة، والاستنتناق: والاستنثار، وأن ما بعده منها يندرج في نية الوضوء (أو الفرض) يعني أن المتوضئ لا بد أن ينوي رفع الحدث كما مر، أو ينوي الفرض أي امتثال أمر الله بأداء ما افترضه عليه؛ فإن الله تعالى فرض عليه أن يتوضأ إذا قام إلى الصلاة، والفرض له معنيان أحدهما ما تتوقف صحة العبادة عليه، والثاني ما يثاب على فعله ويترتب العقاب على تركه، والرأد هنا الأول ليشمل وضوء الصبي والوضوء للنافلة والوضوء قبل الوقت، وإذا نوى الفرض ولم يلاحظ أحد المعنيين السابقين، أي ما
تتوقف صحة العبادة عليه، وما يثاب على فعله ويعاقب على تركه فالظاهر الصحة، ولو قبل الوقت؛ لأن كل متوض يعلم أن صحة العبادة تتوقف عليه. كما قاله الشيخ إبراهيم. وكذا لو نوى الوضوء الذي أمر الله به.
واعلم أن الصبي له أن يصلي بوضوئه بعد بلوغه. قاله الأمير في حاشيته أو أستباحة ممنوع يعني أن كيفية النية ثلاثة أوجه كل واحد منها كاف، اثنان تقدما، والثالث أن ينوي بوضوئه استباحة ما كان الحدث مانعا له، والنية من باب الإرادات والقصود فهي من كسب العبد.
واعلم أن للنية محلا، وحقيقة، وفائدة، وحكما، ومتعلقا، ومجل وقوع؛ فَمَحلها: القلب، وسيأتي له مزيد بيان، وحقيقتها: أن يقصد بقلبه ما يريد فعله وليس عليه نطق بلسانه، وفائدتها: تمييز ما يحتمل العبادة وغيرها كالغسل عبادة ونظافة وتمييز أنواع الفعل الواحد، وحكمها: الفريضة هنا، وحكى ابن رشد عليه الاتفاق، وجعله المازري المشهور، ومتعلقها: رفع الحدث أو الفرض أو استباحة ممنوع، وَمَحَلُّ وقوعها: الوجه، وقيل عند غسل يديه إلى الكوعين، وجمع بينهما بأن يستصحبها للوجه، وقد مر ذلك، فإن جمع المتوضي بين الثلاثة أي نية رفع الحدث والفرض واستباحة ممنوع أجزأ كما لو جمع بين اثنين منها ناسيا للآخر، أو خطر بباله واحد منها ناسيا لاثنين لا إن أخرج للتنافي فتبطل؛ كأن يقول: أرفع الحدث ولا أستبيح الصلاة، أو أستبيح الصلاة ولا أرفع الحدث، وتكون النية كالعدم، ودليلُ وجوب النية قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى
(1)
)، فأفاد بالجملة والأخيرة أنه لابد في حصول كل عمل من نية تخصه، وتمام الحديث: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينحكها فهجرته إلى ما هاجر إليه، واستدل لها أيضا بقوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية ووجه الاستدلال بها أن الله تعالى أمر بالوضوء لأجل الصلاة، ولا معنى للنية إلا فعل أمر لأجل فعل آخر، وقد تقدم أنها واجبة في الوضوء اتفاقا عند ابن رشد ونحوه لابن حارث، وقال المازري على
(1)
البخاري، كتاب بدء الوحى، رقم الحديث:1.
الأشهر، وقال ابن الحاجب على الأصح. ابن فرحون واعترض على ابن الحاجب قوله على الأصح؛ لأنه يقتضي أن مقابله صحيح وهو شاذ في غاية الضعف، فكان ينبغي أن يقول على المشهور: وأجيب بأنه يطلق الأصح على المشهورة والنية تقدم أنها من باب الإرادات، والقصود يقال. نواك الله بحفظه أقي قصدك، والإرادة قد تتعلق بفعل الغير بخلاف النية، فتقول أريد مغفرة الله: والفرق بين النية والعزم أن العزم تصميم على إيقاع الفعل، والنية تمييز له فهي أخفض منه رتبة وسابقة عليه، وقد تقدم أن محل النية القلب فمن شج في رأسه مأمومة أو موضحة خطئا فذهب عقله فله على مذهب إمامنا مالك دية العقل، ودية المأمومة أو الموضحة لا يدخل بعض ذلك في بعض؛ إذ ليس الرأس عنده محل العقل وإنما محله في مذهب مالك القلب، وهو قول أكثر أهل الشرع، فهو كمن فقأ عين رجل وأذهب سمعه في ضربة، وعلى مذهب ابن الماجشون إنما له دية العقل؛ لأن محله عنده وعند أبي حنيفة الرأس وهو مذهب الفلاسفة، وأما عمدا فيقتص من الموضحة فإن ذهب فواضح، وإلا فالدية في مال الجاني كما يأتي إن شاء الله، وفي المأمومة ديتها ودية العقل.
واعلم أن الجسم قالب للنفس هي فيه كالسيف في الغمد، وكالسلطان الجالس بقبته فالقلب سريره والدماغ كرسيه، وجعل الله في الرأس عشر حواس: خمسا ظاهرة العين والأذن والشم والذوق واللمس، ويشاركه في هذا سائر البدن، وخمسا باطنة هي الحس المشترك، ومركزه مقدم الدماغ، والقوة المصورة، وهي أعلى منه، والقوة الخيالية؛ وهي في وسط الدماغ، والقوة الحافظة، والقوة الوهمية أعلى منها، والحواس الظاهرة توصل إلى الباطنة وهي توصل للنفس، والمحرك للحواس هو القلب اللحماني، والنفس والروح بمعنًى. نقله الحطاب عن ابن رشد. واعلم أن الإنسان يثاب على نيته حسنةً واحدة، وعلى فعله عشر حسنات؛ لأن الأفعال مقاصد، والنيات وسائل؛ وهي أخفض رتبة من المقاصد.
واعلم أن الشريعة إما مطلوب أو مباح، والمباح لا يتقرب به إلى الله تعالى فلا معنى للنية فيه، والمطلوب نواهٍ وأوامر، فالنواهي يخرج الإنسان من عهدتها بعدم فعلها وإن لم يشعر بها فضلا عن القصد إليها، فإن نوى تركها لله عز وجل حصل الثواب مع الخروج من العهدة، فالنية شرط في
الثواب فقط لا في الخروج من العهدة، والأوامر منها ما صورة فعله كافية كأداء الديون والودائع ونفقات الزوجات والأقارب؛ فإن المقصود منها انتفاع أربابها، وذلك لا يتوقف على نية، فيخرج الإنسان من عهدتها وإن لم ينوها، لكن لابد في حصول الثواب فيها من نية الامتثال كما قال القائل
(1)
):
وليس في الواجب من نوال
…
عند انتفاء قصد الامتثال
فيما له النية لا تشترط
…
وغير ما ذكرته فغلط
يعني أن الواجب الذي لا تتوقف صحة فعله على نية لا نوال فيه؛ أي لا أجر إذا لم ينو فاعله حين التلبس به امتثال أمر الله عز وجل، وذلك كالإمامة في الصلاة، والإنفاق على الزوجات والأقارب والدواب، ورد المغصوب والعواري والودائع ودفع الديون؛ فهي وإن وقعت واجبة مبرئة للذمة لا ثواب فيها، ومنها ما لا يكون صورة فعله كافية في تحصيل المقصود منه كالصلاة والطهارة والصيام والنسك والزكاة، فإن المقصود منها تعظيم الله تعالى والخضوع له، وذلك إنما يحصل إذا قصدت من أجله، وهذا القسم هو الذي أمر الشارع فيه بالنيات، وإذا وجدت النية ففيه الثواب وإن لم ينو الامتثال خلافا للقرافي؛ فإنه لابد عنده في الثواب من نية الامتثال توقفت صحة الفعل على نية أم لا، ولابد أن تكون النية مقارنة لأول الفعل إلا الصوم لإتيان أول الصوم حالة النوم فيجوز تقديمها على ما يأتي، والنية حقيقة واحدة لكنها تنقسم باعتبار ما يعرض لها إلى قسمين فعلية موجودة، وحكمية معدومة، فإن نوى المكلف في أول العبادة فهذه نية فعلية، ثم إذا ذهل عنها فهي نية حكمية؛ بمعنى أن الشرع حكم باستصحابها، وكذلك الإخلاص والإيمان والنفاق والرياء وجميع هذا النوع من أحوال القلوب إذا شرع فيها واتصف القلب بها كانت فعلية، ثم إذا ذهل عنها حكم صاحب الشرع ببقاء أحكامها لمن اتصف بها حتى لو مات الإنسان مغمورا بالمرض، يحكم له صاحب الشرع بالإسلام المتقدم بل بالولاية والصديقية وجميع المعارف،
(1)
سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم، مراقى السعود، انظر فتح السعود على مراقي السعود لمحمد يحيى الولاتي. عالم الكتب، الرياض، 1412 هـ
وعكسه يحكم له بالكفر ثم يكون يوم القيامة كذلك، ومنه قوله تعالى {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} مع أنه لا يكون يوم القيامة أحد مجرما ولا كافرا.
واعلم أن المنوي من العبادة ضربان: أحدهما مقصود في نفسه كالصلاة، والثاني مقصود لغيره، وهو قسمان: مقصود لغيره مقصود في نفسه كالوضوء؛ فإنه نظافة مطلوب للصلاة مكمل لحسن هيئاتها، والثاني مقصود لغيره كالتيمم فلو نوى التيمم دون استباحة الصلاة فقولان للعلماء أحدهما لا يجزئه؛ لأنه نوى ما ليس مقصودا في نفسه، والثاني يجزئه لكونه عبادة، ويتحير المكلف في المقصود لنفسه ولغيره بين قصده لكونه مقصودا في نفسه، وبين قصده للمقصود منه، فالأول كقصد الوضوء: وقد تقدم أنه إذا نوف الوضوء الذي أمر الله به صح، كما أنه يصح إذا نوى الصلاة أو شيئا لا يقدم عليه إلا بارتفاع الحدث الذي هو الاستباحة.
واعلم أن المراءاة فيما ليس من العبادات كتحسين الثوب ونحو ذلك قد تكون مذمومة وقد تكون مباحة، وذلك على حسب الغرض المطلوب عنه، فإذا أنفق الرجل ماله على جماعة من الأغنياء لا في معرض العبادة والصدقة، بل ليقال ويعتقد أنه سخي فهذا مراءاة ليس بحرام، وكذلك أمثاله: إلا أنه نظر فيه الشيخ العارف بالله تعالى أبو محمد بن عبد الرحمن بن محمد قدس الله تعالى سره لما في حديث مسلم الذي فيه: (ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأُتِىَ به فعرفه الله نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار
(1)
).
واعلم أن الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة من واجبات الصلاة، وأجمعوا مع ذلك على أن من توضأ قبل الوقت واستتر واستقبل، ثم جاء الوقت وهو على هذه الصورة، وصلى من غير أن يجدد فعلا في هذه الثلاثة أجزأته صلاته، وفي الحطاب بعد جلب نقل عن العلماء: فهذا صريح في أن المتوضئ ينوي بغسل يديه والمضمضة والاستنشاق والاستنثار أنها سنن للوضوء، ولو فعل
(1)
مسلم، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، 1905.
ذلك من غير نية لم تحصل السنة، ثم ينوي عند وجهه رفع الحدث، وفي المواهب اللدنية للقسطلاني أنه ليس بين العلماء اختلاف في وجوب النية في المقاصد، وليس الخلاف بينهم في ذلك إلا في الوسائل، فخالف الحنفية في اشتراطها في الوضوء، وخالف الأوزاعي في اشتراطها للتيمم، ولا يحتاج الإيمان للنية وكذا سائر أعمال القلوب من خشية الله وتعظيمه ومحبته وإن مع تبرد مبالغة في إجزاء النية، يعني أن النية المذكورة إذا صحبها قصد التبرد فإنها صحيحة ولا يضرها ما صحبها، ولو قال: بكتبرد لكان أشمل لشموله لتدف أو نظافة أو تعلم أو تعليم للناس كيفية الوضوء، لكن الثلاثة الأول مباحة، والرابع مندوب، وقيل لا يجزئ؛ لأن المقصود من النية أن يكون الباعث على العبادة طاعة الله فقط، وها هنا الباعث الأمران، وكان الجاري على قاعدة المص أن يأتي بلو فإن الخلاف في ذلك في المذهب قاله الحطاب.
أو أخرج بعض المستباح يعني أن المتوضئ إذا أخرج في نيته بعض ما يبيحه الوضوء فإن ذلك لا يضر، كما إذا نوى الوضوء لمس المصحف لا للصلاة أو العكس فله الصلاة به على المشهور؛ إذ لا يقطع المسبب عن سببه الشرعي كأتزوج ولا يحل لي الوطء، والحاصل أن له بذلك الوضوء فعل النوي وغيره، وأولى لو نوى شيئا ولم يخرج غيره، وما ذكره المص هو المشهور، وقيل لا يستبيح به شيئا، وقيل يستبيح ما نواه، ومن أمثلة المسألة ما لو نوى أن يصلي به الظهر ولا يصلي به العصر. أو نسي حدثا يعني أن الشخص إذا نوى حدثا ناسيا لغيره فإن ذلك يجزئه ولو لم يحصل منه إلا المنسي، ومثل الحدث سببه فإن نوى غير ما حصل منه عمدا لم يصح وضوؤه لتلاعبه، ومثل ما إذا نسي حدثا ما إذا ذكره ولم يخرجه إذا أخرجه يعني أنه إذا أخرج في نيته حدثا من الأحداث فإن وضوءه يبطل؛ كأن يقول في نيته: أنا رافع لحدث البول لا الغائط، بخلاف ما لو ذكره ولم يخرجه كما مر، وقوله:"لا أخرجه" سواء تيقن حصول ما نواه وما أخرجه أو شك فيهما أو في أحدهما فالصور أربع. قوله: "لا أخرجه" أي حدثا حصل منه يقينا أو شكا فإن تيقن عدم حصوله لم يضره إخراجه.
وعلم مما قررت أن المراد بالحدث هنا الأفراد بخلاف قوله: ونية رفع الحدث، فإنه الوصف الحكمي أو المنع كما مر.
(أو نوى مطلق الطهارة) يعني أن المتطهر إذا نوى بوضوئه مطلق الطهارة ملاحظا دورانها بين الحدث والخبث فإن ذلك الوضوء لا يجزئه كما قال الشيخ الأمير، وفي الحطاب قال في التوضيح عن المازري: لو قصد الطهارة المطلقة فإن ذلك لا يرفع الحدث: وذكر صاحب الطراز وغيره أن ذلك يجزئه، ثم قال بعد جلب نقول: فإن كان مراد المص والمازري أن المتطهر تعلق قصده بالطهر بقيد كونه أعم من الخبث والحدث فما قالاه ظاهر، وإن أرادا أن المتطهر قصد الطهارة ولم يرتبط قصده بكونها من حدث فالظاهر الإجزاء كما قال صاحب الطراز، ونقله عن أكثر الأصحاب. انتهى باختصار. قال الشيخ محمد بن الحسن: واعترض بأن كلام المازري صريح في الثاني.
قال جامعه عفا الله عنه: والذي تحصل عندي من هذه النقول أنه إن نوى الطهارة ملاحظا دورانها بين الحدث والخبث لم يجزه ذلك، وإن نوى مطلق الطهارة ولم يلاحظ حدثا ولا غيره أجزأه ذلك عند صاحب الطراز، ونقل ذلك عن أكثر الأصحاب لا عند المازري والمص، وأما إن نوى أنه متطهر من الحدث والخبث فقد مر أن ذلك مجزئ على المعتمد. والله أعلم. والظاهر أن مطلق الوضوء كمطلق الطهارة قاله الشيخ عبد الباقي.
(أو استباحة ما ندبت له) يعني أن المتوضئ إذا نوى بوضوئه استباحةَ فعلٍ ندبت له الطهارة فإنه لا يرتفع عنه الحدث بذلك الوضوء، فلا يستبيح به شيئا مما منعه الحدث؛ لأن الفعل الذي قصد إليه يصلح فعله مع بقاء الحدث، فلم يتضمن القصد إليه القصد لرفع الحدث؛ كقراءة القرءان لغير الجنب، والدخول على السلطان والأمير، والنوم، وكتعليم العلم وتعلمة، وقراءة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد السلام والدعاء، (لأنه صلى الله عليه وسلم سَلَّمَ- عليه رجل فلم يرد عليه حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه
(1)
)، ولأن أبا موسى الأشعري سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لعمه أبي عامر (فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه ودعا له
(2)
)، ولا إشكال في هذا؛ لأن هذا الوضوء يرفع الحدث بالنسبة لا فعل له، وإن لم تبح به الصلاة كما في غسل الذمية للوطء، ووضوء الجنب للنوم، فمعنى الاستباحة هنا أن يستبيح ما هو
(1)
البخاري، كتاب التيمم، رقم الحديث 337.
(2)
مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، رقم الحديث:2498.
ممنوع منه على جهة الندب، والقاعدة في هذا أن من نوى ما لا يصح إلا بطهارة كالصلاة ومس المصحف والطواف فيجوز أن يفعل بذلك الطهر غير النوي له، ولن نوى شيئا لا تشترط فيه الطهارة كالنوم وقراءة القرآن لغير الجنب فلا يجوز أن يفعل بذلك الوضوء غيره على المشهور، وقيل يستبيح لأنه نوى أن يكون على أكمل الحالات فنيته مستلزمة لرفع الحدث عنه. انتهى قاله الحطاب. وظاهر كلامهم أنه يحصل له ثواب من فعل هذه الأشياء على طهر، وأما ما لا تشرع الطهارة له فلا يرفع الحدث من باب أولى كتبرد وتنظف، ولا يرد بخبر الترمذي مرفوعا (إن الله طيب يحب الطيب نظيف يحب النظافة كريم يحب الكرم
(1)
؛ لأن المطلوب النظافة لا في خصوص أعضاء الوضوء أو قال إن كنت أحدثت فله يعني أن من كان متوضئا وشك هل أحدث أم لا؟ وشرع في وضوء آخر، وقال في نيته إن كنت أحدثت فهذا الوضوء لذلك الحدث، فإن هذا الوضوء لا يجزئه لعدم جزم النية سواء تبين حدثه أم لا؛ لأن الشاك يؤمر أن يأتي بنية جازمة، فمن شك في الحدث واعتقد وضوءه قد بطل بالشك فإنه ينوي رفع الحدث جزما، وحينئذ يجزئه وضوءه تبين حدثه أم لا، وفي الأمير عند قوله:"أو قال إن كنت أحدثت فله" لتردد النية، فإنه علقها بالحدث المحتمل له، وإن كان الشك ناقضا إلا أنه لم يعتبر في نيته، فليس مبنيا على عدم نقض الشك. انتهى.
أو جدد يعني أن من توضأ بنية تجديد الوضوء فلما جدد وضوءه تبين حدثه فإن هذا الوضوء لا يستبيح به ما كان ممنوعا منه؛ لأن ما يندب لا يجزئ عن الواجب، ولو نوى المجدد الفرضَ أو رفعَ الحدث فمقتضى العلة صحة وضوئه: ولكن ظاهر كلامهم أنه باطل أيضا، وما ذكره المص في التجديد هو المشهور، وقيل يجزئه؛ لأن نيته أن يكون على أكمل الحالات، وذلك مستلزم رفع الحدث، وبما قررت علم أن قوله:"فتبين حدثه" خاص بقوله: "أو جدد"، وأما قوله:"إن كنت أحدثت فله" فقد مر أنه لا يجزئه ذلك تبين حدثه أم لا أو ترك لمعة يعني أن الشخص إذا ترك لمعة من مغسول الوضوء في الغسلة الأولى فانغسلت تلك اللمعة المتروكة في الغسلة الثانية أو الثالثة
(1)
الترمذي، باب ما جاء في النظافة، رقم الحديث:2951.
بنية الفضل، فالمشهور أنه لا يجزئه ذلك، ولا بد من غسله بنية الفريضة، فإن أخر غسلها عمدا
حتى طال بطل الوضوء، ومثل الغسل المسح، فلو ترك لمعة من الرأس فمسحت بنية السنة لم يجزه، فقوله:"فانغسلت بنية الفضل" أي مثلا، فالمراد عدم نية الفرض، وقد علمت أن قوله:"أو ترك لمعة" لخ هو المشهور، ومقابله الإجزاء. قال ابن عبد السلام: والقولان يشبهان القولين في مسألة الوضوء المجدد، ونقل الحطاب عن سند: لو غسل وجهه ثلاثا وترك منه موضعا لم يصبه الماء إلا في الثالثة: فإن لم يخص الثالثة بنية الفضيلة أجزأه، وإن خصها بنية الفضيلة فيجري على الخلاف في طهارة المجدد. انتهى. فتحصل من هذا أن المراد بنية الفضل أو السنة نية يحدثها عند فعل الفضيلة أو السنة لا المندرجة في نية الوضوء كما صرح به غير واحد. والله أعلم. واللمعة بالضم قال في القاموس: قطعة من النبات أخذت في اليبس، والموضع لا يصيبه الماء في الوضوء أو الغسل. انتهى قاله الحطاب. أو فرق النية على الأعضاء صورتها أن يغسل وجهه بنية رفع الحدث عنه ولا نية له في إتمام وضوئه، ثم يبدو له بعد غسل وجهه فيغسل يديه بنية وهكذا إلى آخر وضوئه، وكذا لو فعل ما عدا العضو الأخير بنية، ولا نية له في إتمام الوضوء، ثم يبدو له فينوي غسله، وهذا القول هو الصحيح من المذهب. وقال ابن بزيزة إنه المنصوص، ومقابله يصح وضوءه وهو لابن القاسم، واستظهره ابن رشد وإلى ذلك أشار بقوله:(والأظهر في) الفرع (الأخير) وهو قوله: "أو فرق النية على الأعضاء"(الصحة) يعني أن ابن رشد استظهر قول ابن القاسم بالصحة فيما إذا فرق النية على الأعضاء، وما قررت به المص هو ما قرره به الحطاب. وقال محمد بن الحسن: هذا مشكل؛ إذ ابن رشد لم يستظهر في مسألة التفريق شيئا أصلا ولم يتكلم عليها، وإنما استظهر قول ابن القاسم: يرفع الحدث عن كل عضو بانفراده، ولما بنى ابن الحاجب الإجزاء في التفريق على هذا القول الذي استظهره ابن رشد نسب له الاستظهار في التفريق، وهو غير ظاهر، إذ قد لا يسلم ابن رشد التفريع المذكور لجواز أن يقول: إن رفع الحدث عن كل عضو بانفرداه مشروط عنده بتقدم نية الوضوء بتمامه، ونص ابن الحاجب: أو فرق النية على الأعضاء، فقولان: بناء على رفع الحدث عن كل عضو، أو بالإكمال، ولو جزأ النية أرباعا. ابن مرزوق: وهذا تلاعب لأن ربع النية لا يرفع الحدث في اعتقاد المتوضي، ولو نوى عند وجهه
ثم عند اليدين فهذا تجديد للنية لا تفريق، واستشكل كل من القولين المتقدمين بأن القول بأنه لا يرتفع الحدث إلا بكمال الطهارة يلزم عليه عدم تأثير الحدث في الأثناء، فإذا بال بعد غسل الرجل اليمنى، لم يلزمه غير غسل اليسرى، وذلك باطل، والجواب أن الحدث من موانع الوضوء فوقوعه في أثنائه يمنع صحة ما فعل قبله، وإن لم يرتفع الحدث، ولا يسمى حينئذ ناقضا. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. واستشكل ابن العربي الآخر بأنه يلزم عليه جواز مس المصحف لمن غسل وجهه ويديه فقط في الوضوء، وهو خلاف الإجماع، والجواب أن المشترط في مس المصحف ليس طهارة العضو بل طهارة الشخص لقوله تعالى:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} ، فالعضو قد طهر بالفراغ منه، ولا يمس المصحف حتى يطهر الشخص، وبنحو هذا الجواب أجاب ابن عطية والقرافي. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وعزوبها بعده الهاء الأولى للنية والثانية للوجه، وعزوب النية هو انقطاعها والذهول عنها وقوله:"وعزوبها" مبتدأ، وخبره مغتفر الآتي، ومعنى كلام المص أن الذهول عن النية بعد الإتيان بها في محلها عند غسل الوجه؛ أي أول مغسول مغتفر؛ أي لا يضر، فالوضوء صحيح، ولفظ "مغتفر" يعطي أن الأصل استصحابها إلى آخر الطهارة وهو كذلك، وإنما سقط عنه للمشقة، وهذا ما لم يأت ما يضادها، إما نية مضادة لها كما مر فيما إذا انغسلت لمعة من الغسلة الأولى بنية الفضل، وإما بأن يعتقد انقضاء الطهارة وكمالها ويكون قد ترك بعضها ثم يأتي به من غير نية فلا يجزئ كما تقدم في الموالاة، ورفضها عطف على قوله:"عزوبها": يعني أن رفض النية في الوضوء، أي نبذها وتقديرها كالعدم بعد أن أتى بها في محلها لا يضر، وبما قررت علم أن قوله:"مغتفر" راجع لمسألتي العزوب والرفض، والرفض في اللغة الترك، وهو هنا تقدير ما وجد من العبادة والنية كالعدم، وظاهر كلام المصنف أن رفض النية لا يضر سواء كان بعد كمال الوضوء، أو في أثنائه إذا رجع فكمله بنية رفع الحدث بالقرب على الفور، أما إذا رفض النية في أثنائه ثم لم يكمله أو كمله بنية التبرد أو التنظف أو نية رفع الحدث بعد طول، فلا إشكال في بطلان وضوئه، وأما إذا كمله بالقرب فالذي جزم به عبد الحق أن ذلك لا يضر، ويظهر أن المصنف اعتمده هنا، والذي جزم به ابن جماعة وصاحب الطراز أن ذلك مبطل للوضوء، وهو الذي عليه أكثر الشيوخ، وقال ابن ناجي: الذي نقله عبد
الحق بعيد من غرائب أنقاله، وأما إن رفع بعد كمال الوضوء فالذي جزم به ابن جماعة التونسي أن رفض الوضوء بعد كماله لا يؤثر، ولم يحك في ذلك خلافا، وحكى اللخمي في ذلك الخلاف، قال في التوضيح: والخلاف جار في الصلاة والصوم والحج، وذكر القرافي عن العبدي أن المشهور في الوضوء والحج عدم الرفض عكس الصلاة والصوم. قال الحطاب: صرح القرافي بأن الخلاف جار في كل من الوضوء والصلاة والصوم والحج، وأنه جار في الرفض قبل كمال العبادة وبعد كمالها وهو مشكل؛ فإن الإحرام سواء كان بحج أو بعمرة أو بهما أو بإطلاق لا يرتفض، ولو رفضه في أثناته ولم أر في ذلك خلافا، قال سند في كتاب الحج: مذهب الكافة أنه لا يرتفض وهو باق على حكم إحرامه، وقال داوود: يرتفض وهو فاسد؛ لأن الحج لا ينعدم بما يضاده حتى لو وطئ بقي على إحرامه، وغاية رفض العبادة أن يضادها، فما لا ينتفي مع ما يفسده لا ينتفي مع ما يضاده. انتهى. وقال القرافي: وإذا رفض إحرامه لغير شيء فهو باق عند مالك والأئمة خلافا لداوود، ولم يحك ابن الحاجب ولا ابن عرفة ولا غيرهما في ذلك خلافا، وإذا لم يؤثر الرفض وهو في أثنائه فأحرى بعد كماله، وأما الصلاة والصوم فظاهر كلام غير واحد أن الخلاف جار فيهما سواء وقع الرفض في أثنائهما أو بعد كمالهما
(1)
، وإذا كان الرفض في أثناء الصلاة والصوم فالمعروف من المذهب البطلان، وفي كلام صاحب الطراز في باب غسل الجنابة ما يقتضي أن العبادات كلها الوضوء والغسل والصلاة والصوم والإحرام لا يرتفض منها شيء بعد كماله، وأن الجميع يرتفض في حال التلبس إلا الإحرام، وبذلك صرح ابن جماعة التونسي، وظاهر كلام الباجي أن الغسل لا يرتفض بلا خلاف. قاله الحطاب. وقال الأمير: وارتفض وضوء وغسل في الأثناء فقط على الأرجح، ويغتفر بعت الفراغ. وعليه يحمل الأصل كصلاة وصوم في الأثناء اتفاقا، وقيل يرتفض هذان مطلقا ورجح، ولا يرتفض حج وعمرة، والتيمم والاعتكاف كالوضوء على الظاهر، ويحتمل رفض الأول مطلقا وجريان الثاني على الصوم. انتهى.
(1)
في الأصل: فيهما أو في أثنائهما، والمثبت من الحطاب ج 1 صلى 371 ط دار الرضوان.
وفي تقدمها بيسير خلاف يعني أن محل النية عند أول مغسول، فإن تأخرت عنه فسدت بلا خلاف، وكذلك إذا تقدمت عن محلها بكثير؛ فإن تقدمت بيسير فإن الشيوخ اختلفوا في إجزائها وعدمه على قولين شهر كل منهما. قال ابن رشد: والقول بالإجزاء هو المشهور، وقال ابن عبد السلام وهو الأشهر: ومقتضى الدليل خلافه، والقول بعدم الإجزاء قال المازري إنه الأصح، وقال ابن بزيزة: هو المشهور، وقال الشبيبي: هو الصحيح، ومن الفصل اليسير؛ من مشى إلى الحمام أو إلى النهر ناويا غسل الجنابة، فلما أخذ في الطهر نسيها، قال عيسى عن ابن القاسم: يجزئه فيهما، وشبهه ابن القاسم بمن أمر أهله فوضعوا له ماء يغتسل به من الجنابة، وقال سحنون: يجزئه في النهر لا في الحمام، وقال ابن رشد: وجهه أن النية بعدت لاشتغاله بالتحميم قبل الغسل، وكذلك لو ذهب إلى النهر ليغسل ثوبه قبل الغسل فغسله ثم اغتسل، لم يجزه على مذهبه، ولو لم يتحمم قبل الغسل في الحمام لأجزاه كالنهر، ووجه ما قاله ابن القاسم أنه لما خرج إلى الحمام بنية أن يتحمم ثم يغتسل لم ترتفض عنده النية. انتهى ونقل القرافي قولا بعدم الإجزاء في النهر والحمام. قاله الحطاب. ولبعضهم:
من استقبل الحمام للغسل فاغتسل
…
ولم يتحمم غسله ما به خلل
فإن يتحمم قبل لم يجز غسله
…
إذا لم يجدد نية حين يغتسل
وإن يقصد التحميم والغسل بعده
…
أجاز له ابن القاسم الغسل إن فعل
وما عند سحنون يجوز اغتساله
…
إذا لم يجدد نية الطهر إذ بطل
وقال الشيخ عبد الباقي ممثلا لليسير: كنية خروجه من بيته إلى حمام مثل حمام المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم؛ لأن مالكا حده كذلك وهو بالمدينة فما أشبهها من قرية صغيرة كذلك. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر؛ إذ لم نر من نقل عن مالك في ذلك شيئا، وإنما نقله ابن عرفة والتوضيح والمواق والحطاب عن ابن القاسم، وليس في كلامهم تحديد ولما أنهى الكلام على الفرائض شرع في السنن فقال:(وسننه: غسل يديه أولا) أولا يعني أن من سنن الوضوء أن يغسل المتوضئ يديه أولا؛ أي عند ابتداء الوضوء توضأ من الإناء أو النهر، فقولهم:
قبل دخولهما في الإناء غير مقصود، هذا هو الظاهر. والله أعلم. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ الحطاب: قوله: "أو لا"يريد في أول وضوئه قبل أن يدخلهما في الإناء لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده
(1)
)، وعبارة الأمير: وسننه غسل اليدين للكوعين أولا قبل إدخالهما الراكد القليل من تتمة السنة فيه، وأما تقديمهما على المضمضة فترتيب سنن مستحب كما في الشبراخيتي. انتهى.
فتحصل من هذا أن غسلهما قبل إدخالهما في الماء القليل من تمام السنة، وأما غسلهما قبل المضمضة فمن ترتيب السنن فهو مستحب، وفي شرح الشيخ عبد الباقي ما نصه: واستشكل جعل أولا مما تتوقف عليه السنة مع جعل ترتيب السنن في أنفسها أو مع الفرائض مستحبا، فإذا تمضمض أولا ثم غسل يديه فإنه يستحب، والجواب أن الترتيب والتنكيس إنما يكون بعد تحقق سنتين أو أكثر، وفيه أن قوله:"أولا" يحتمل أن معناه: قبل إدخالهما في الإناء، وعلى هذا فهو من جملة ما تتوقف عليه السنة، لكن إن كان الماء قدر ءانية وضوء أو غسل وأمكن الإفراغ منه، وإلا أدخلهما إن كانتا طاهرتين أو مشكوكا فيهما، وكذا إن كانتا نجستين نجسا لا يغير الماء، وهل ولو أمكنه التحيل على الماء بفمه أو كمه؟ وهو ظاهر الباجي، أو مع عدم إمكان التحيل، وإلا قدمه وهو ظاهر ابن رشد، ويمكن حمل ما للباجي عليه، فإن كان يتنجس منهما تحيل إن أمكن، وإلا تركه وتيمم؛ لأنه كعادم الماء، وأما إن كان الماء جاريا أو مطلقا كثيرا فلا تتوقف السنة على غسلهما قبل إدخالهما في الإناء. انتهى. ونقل الحطاب عن سند: أن غسل اليد إنما شرع مقدما على إدخالها في الإناء، هذا وضعه في الشرع. انتهى. وقال الإمام الحطاب: وإنما يكون غسلهما سنة إن تيقن طهارتهما قال ابن عرفة: وسننه غسل يديه الطاهرتين قبل إدخالهما
(1)
البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، رقم الحديث:162.
- عن أبى هريرة رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده. مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:287.
إناءه. أبو عمر: المشهور كراهة تركه. أشهب: ليس ذلك عليه. وسمع ابن القاسم: من أدخلهما من نوم في إنائه فلا بأس بمائه. التونسي: أفسده ولو كان طاهرَهما.
واعلم أنه إذا لم يمكن الإفراغ من الإناء فإنه يدخل يديه فيه إن لم يعلم بهما دنسا، ولا يأخذ الماء بفيه ليغسلهما؛ إذ ليس ذلك من عمل الناس، فإن كانت نجسة فلا يدخلها حتى يغسلها، وليحتل في ذلك بأن يأخذ الماء بفيه أو بثوب أو بما يقدر عليه، ولا يقال نقله بفيه يضيف الماء؛ لأنه وإن كان يضيفه ينفعه في إزالة عين النجاسة فلا يتنجس الماء بإدخالهما بعد ذلك، وإن لم يقدر على ذلك بحيلة وكان يغير الماء فلا يدخل يده فيه، وحكم هذا حكم من ليس عنده ماء فيتيمم، وإن كان لا يغيره فليدخل يده فيه، ثم يغسل يده بما يغرف بها من الماء، ثم يتوضأ أو يغتسل؛ لأنه ماء يسير حلته نجاسة ولم تغيره فإنما يكره مع وجود الغير. انتهى. كلام الحطاب باختصار وتغيير.
واعلم أن الذي يتحصل من تتبع كلامهم أن المراد بقوله: "أولا" قبل إدخالهما في الإناء لا أن المراد به قبل فعل شيء من أفعال الوضوء. والله سبحانه أعلم.
ثلاثا يعني أن غسل اليدين الذي هو سنة يكون ثلاث مرات، والثلاث من تمام السنة، وقوله:"ثلاثا" هذا هو المعروف، وقال الجزولي اختلف هل يغسلهما ثلاثا أو اثنتين؟ وسبب الخلاف اختلاف الأحاديث قاله الحطاب. وما ذكره المص من سنية غسل اليدين هو المشهور، وقيل مستحب، وقيل إن كان عهده قريبا بالماء فهو مستحب، وإن كان بعيدا فسنة، وفيه خارج المذهب أقوال أحدها أنه واجب لظاهر الحديث فالأمر للوجوب، ثانيها يجب على المنتبه من النوم دون غيره، ثالثها إن كان من نوم الليل وجب، وإلا فلا لقوله في الحديث: (أين باتت يده
(1)
)، والبيات إنما يستعمل في الليل، الرابع إن كان جنبا وجب، وإلا فلا. قاله الحطاب. وقوله تعبدا يعني به أن غسل اليدين في الوضوء قبل إدخالهما في الإناء تعبدٌ؛ أي ليس بمعقول المعنى. قاله ابن القاسم وهو المشهور. وقال أشهب معقول المعنى فالغسل عنده للنظافة، وقوله -صلى الله
(1)
البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، رقم الحديث:162. مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 287.
عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده
(1)
) تعيين الثلاث يدل للتعبد، والتعليل بكونه لا يدري أين باتت يدد يدل على أنه معقول المعنى، فهو معلل بالنظافة، وقوله: تعبدا مفعول لأجله، قاله الشبراخيتي.
بمنطلق متعلق بقوله: "غسل"؛ يعني أنه لا تحصل السنة في غسل اليدين إلا إذا غسلهما بماء طهور. ونية يعني أنه لا تحصل السنة في غسل اليدين إلا إذا نوى بذلك الغسل سنة الوضوء، وقوله:"ونية" الظاهر أنه منصوب على أنه مفعول معه. والله أعلم. ولو نظيفتين يعني أنه يسن غسل اليدين ثلاثا ولو كانتا نقيتين وهذا مفرع على المشهور من أن غسلهما تعبد، وأما على أن الغسل للنظافة كما يقوله أشهب فلا يسن له غسلهما حيث كانتا نظيفتين.
أو أحدث في أثنائه يعني أنه يسن غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء لمن أحدث في أثناء الوضوء على المشهور خلافا لأشهب، فهو مفرع على التعبد، وقال الإمام الحطاب عن سند: من أحدث في أثناء وضوئه فإنه يسن له أن يغسل يديه قبل أن يدخلهما في إنائه. انتهى. وذكر بعض الشافعية أن من تيقن طهارة يده فإن شاء أفرغ عليها، أو أخذ بها الماء وغسل يده، ورد عليه سند وقال: هذه قولة متهافتة؛ لأن غسل اليد إنما شرع مقدما على إدخالها في الإناء هذا وضعه في الشرع، وأما من قال يدخلها ثم يغسلها فلا يعرف في السلف ولا يلتفت إلى مثله. انتهى. وصرح بذلك اللخمي في أوائل كتاب الطهارة، وقاله أيضا في المسألة السابعة من سماع أبي زيد من كتاب الطهارة: ويتفرع على التعبد. أيضا قوله مفترقتين يعني أنه يندب للمتوضي في غسل اليدين الذي هو سنة أن يغسلهما مفترقتين، وقد علمت أن التعبد هو المشهور، وروى أشهب عن مالك أنه يغسلهما مفترقتين، وليس قولا له، وقال ابن المنير: وسنة غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء أن يفرغ ثلاثا على اليمنى، ثم يفرغ بها على اليسرى فيغسلها. انتهى. وفي الطراز: واختلف في الترتيب بين اليدين وغسلهما قبل إدخالهما في الإناء، فروى أشهب عن مالك أنه يغسل اليمنى ثم يدخلها في الإناء فيفرغ على اليسرى، وقال ابن القاسم في رواية عيسى: أحب
(1)
البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، رقم الحديث:162. مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 287.
إلي أن يفرغ عليهما فيغسلهما كما جاء في الحديث
(1)
. قاله الحطاب. وأما في بقية الوضوء فاختار مالك أن يدخل يديه في الإناء جميعا، فيغرف بهما جميعا لوجهه ثم لسائر أعضائه، وظاهر قول ابن القاسم أنه يدخل يده الواحدة فيغرف بها على الثانية فيغسل بها وجهه، ثم يفعل كذلك في سائر أعضاته، وهو أحسن من قول مالك؛ لأنه أمكن له من أن يغرف بيديه جميعا، ولعل الإناء يضيق عن ذلك، وإنما يغرف بيديه جميعا في الغسل لقوله -صلى الله تعالى عليه وسلم- (ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه
(2)
). والله أعلم. قاله ابن رشد. قاله الحطاب. وقد صرح الأئمة بأن غسلهما مفترقتين مبني على قول ابن القاسم، فيكون ابن القاسم ناقض أصله، وأجاب ابن مرزوق بأن غسلهما مجتمعتين لا ينافي التعبد، وهو ظاهر، وأما غسلهما مفترقتين فإنه يناسب التعبد، ولكن ليس قولا لأشهب، إنما هو روايته عن مالك كما مر قاله الشيخ محمد بن الحسن. وفي الحطاب حكاية ومَوْعِظَةٌ: ذكر أن بعض المتعبدين لما سمع قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في وضوئه فإنه لا يدري أين باتت يده
(3)
)، قال كالمستهزئ: أنا أدري أين باتت يدي، كانت على الفراش، فأصبح يده في دبره إلى ذراعه. ذكر ذلك ابن المفضل في شرح مسلم. انتهى. وَمَضْمَضَةٌ يعني أن السنة الثانية من سنن الوضوء المضمضة: وهي مركبة من ثلاثة أشياء: إدخال الماء فاه، وخضخضته، ومجه، وأصلها في اللغة التحريك والتردد، ومنه قولهم مضمض النعاس في عينيه إذا تردد فيهما، ومضمض الماء في الإناء إذا حركه، قال الشاعر:
وصاحب نبهته لينهضا
…
إذا الكرى في عينه تمضمضا
فقام عجلان وما تأرضا
…
يمسح بالكفين وجها أبيضا
(1)
البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:164.
(2)
الموطأ، كتاب الطهارة، رقم الحديث:100. ولفظه: كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه ثم يفيض الماء على جلده كله.
(3)
البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، رقم الحديث:162.- مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 287.
قوله تمضمض أي جال وتردد، وظاهر كلام صاحب الطراز أنه يقال: مصمصه بالصاد المهملة، فإنه قال: المضمضة معجمة، وغير معجمة بمعنى؛ وهي جعلك الماء في الإناء ثم تحركه. انتهى. وفي الصحاح والمصمصة بالمهملة مثل المضمضة إلا أنها بطرف اللسان، والمضمضة بالفم كله. انتهى. وتقدم تعريفها شرعا؛ وهو أنها إدخال الماء فاه وخضخضته ومجه، هكذا عرفها عياض، ولفظ إدخال يقتضي أنه لا بد من تسبب في إدخاله، فإن دخل من غير سبب فاعل لم تعدَّ مضمضة وخضخضة الماء هي تحريكه وإدارته، وهي مشترطة عندنا، وأما عند الشافعية فلا، وفي الزاهي: ولا يمج الماء حتى يخضخضه في فيه، وقال الأبي في شرح مسلم: المضمضة تحريك الماء في الفم بالأصبع، أو بقوة الفم، زاد بعضهم: ثم يمجها، فأدخل في حقيقتها المج. انتهى. والمج هو الدفع من الفم بقوة، فلو فتح فاه ونزل الماء دون دفع، فقولان: بالاكتفاء بتلك المضمضة: وعدمه كما في مجهول الجلاب، وهو الشرمساحي، ولو ابتلع الماء، فقولان. وفي الحطاب بعد تحرير وجلب نقول: فتحصل من هذا أن الظاهر من كلام أهل المذهب اشتراط الخضخضة كما قال الفاكهاني، وأن في ابتلاع الماء قولين، يظهر من كلام الفاكهاني ترجيح الاكتفاء بذلك. وذكر الشيخ سيدي زروق عن شيخه القوري أنه كان يأخذ عدم اشتراط المج من قول المازري: رأيت شيخنا يتوضأ في صحن المسجد فلعله كان يبتلع المضمضة حتى سمعته منه، وإذا قلنا: إن الظاهر إجزاء الابتلاع، فكذلك يكون الظاهر من القولين في إرسال الماء دون دفع الإجزاء. والله أعلم. قاله الحطاب وفي المدخل: ولا يصوت بمج الماء فإن ذلك بدعة ومكروه. قاله الحطاب. وفي شرح عبد الباقي: ولا يصوت بمج الماء كما لا يصوت بالأكل فإن ذلك بدعة.
واعلم أنه لابد في المضمضة من النية كما مر. واستنشاق يعني أن الاستنشاق من سنن الوضوء، ولابد فيه من النية أيضا، والاستنشاق لغة: الشم، وشرعا: جذب الماء بنَفَسه، وما ذكره المصنف من أن المضمضة والاستنشاق سنتان هو المعروف، وذكر المازري أن بعض المتأخرين ذهب إلى أنهما فضيلتان، وقال الإمام الحطاب: ورأيت في بعض كتب الحنفية أنهما واجبتان عند مالك في الوضوء والغسل. وهذا ليس بمعروف في المذهب. انتهى. ويجري في المضمضة والاستنشاق أنه
يفعلهما ولو أحدث في أثنائه، ويأتي فيهما وفي اليدين وهل تكره الرابعة أو تمنع خلاف، وأن كلا من الثانية والثالثة مستحب. قاله الشيخ عبد الباقي.
وبالغ مفطر يعني أن المتوضئ تستحب له المبالغة في المضمضة والاستنشاق إذا كان مفطرا وأما الصائم فتكره له المبالغة فيهما، قال الشيخ زروق: ويستحب للمتوضئ المبالغة برد الماء إلى الغلصمة إلا أن يكون صائما فيكره له ذلك خوفا مما يصل إلى حلقه، فإن وقع وسبقه لزمه القضاء، وإن تعمد كفر. والمبالغة في الاستنشاق كالمبالغة في المضمضة، بل هي الأصل للحديث: (وبالِغْ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما
(1)
)، وحكم المبالغة فيهما في الصوم الكراهة. انتهى. ابن فرحون: المبالغة في المضمضة إدارة الماء في أقاصي الفم ولا يجعله وجورا، والمبالغة في الاستنشاق اجتذاب الماء إلى أقصى الأنف ولا يجعله سعوطا.
وفعلهما بست أفضل يعني أن فعل المضمضة والاستنشاق بست غرفات أفضل مما عداها، وما ذكره المصنف يصدق بفعل ثلاث المضمضة متوالية، وثلاث الاستنشاق كذلك بعدها، وبفعل المضمضة مرة ثم الاستنشاق مرة، وبغير ذلك، والأولى أفضل عند بعض لحصول الموالاة فيها، وما عداها مستوٍ فيما يظهر. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"وفعلهما بست أفضل" الذي جزم به ابن رشد، بل ظاهره أنه متفق عليه أن الأفضل فعلهما بثلاث غرفات يفعلهما بكل غرفة منها، وأن فعلهما بست من الصور الجائزة. انتهى قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ الحطاب: وظاهر كلام المصنف في التوضيح وابن راشد في شرح ابن الحاجب وابن عبد السلام: أن فعلهما بست متفق على أنه الأفضل، وقد مر عن ابن رشد أنه جزم بأن تداخلهما بثلاث غرفات أفضل، قال وتداخلهما بثلاث هو ظاهر الحديث، واتباع ظاهر الحديث أولى. انتهى.
وجازا يعني أنه يجوز للمتوضئ أن يفعل المضمضة والاستنشاق بتثليثهما بغرفة واحدة؛ بأن يتمضمض بغرفة واحدة ثلاثا على الولاء، ثم يستنشق من تلك الغرفة كذلك أو يتمضمض منها مرة، ثم يستنشق منها مرة، وهكذا كما في الشبراخيتي ويكفيه ذلك.
(1)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:142.
- الترمذي، كتاب الصوم، رقم الحديث:788.
واحدة: يعني أنه يجوز للمتوضئ أن يفعل واحدة من المضمضة والاستنشاق بتثليثها بغرفة واحدة: والأخرى بتثليثها بغرفة واحدة أو اثنتين أو ثلاث هذا ظاهره، والذي شرح به الحطاب قوله:"أو إحداهما": أنه يشير به إلى أنه يجوز أن يتمضمض ثلاث مرات بغرفة واحدة، ثم يستنشق ثلاثا بغرفة واحدة. انتهى. وقال الشبراخيتي عند قوله:"أو إحداهما بغرفة" والأخرى بأخرى أو بثلاث. انتهى. وبما قررت علم أن قوله: "بغرفة" متعلق بقوله: "وجازا" فهو راجع للفرعين. والله أعلم. والجواز في كلام المصنف على خلاف الأولى؛ لأن الأفضل فعلهما بست لكن تحصل السنة بذلك الجائز. وعبر المصنف بالجواز ليفيد أن هذا ليس بمكروه كما عرفت، وأنث في قوله أو إحداهما باعتبار أن كلا منهما نافلة؛ أي سنة إحدى السنتين، وفي العارضة: أخبرني شيخنا محمد بن يوسف القيسي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت له: أجمع بين المضمضة والاستنشاق في غرفة واحدة، قال: نعم. قاله الحطاب. وذكر ابن الفاكهاني في شرح الرسالة أن اختيار مالك أن يتمضمض ثلاثا من غرفة واحدة ثم يستنشق ثلاثا من غرفة، قال: وهو أولى: ليكون الاستنشاق كله بعد المضمضة كلها، ويسلم من التنكيس. انتهى نقله الحطاب. قال: وكون اختيار مالك هذا غريب. انتهى. وفيه: وبقي صفة لم أر من ذكرها؛ وهي أن يأخذ غرفة فيتمضمض منها مرتين، ثم غرفة ثانية فيتمضمض منها الثالثة، ثم يستنشق منها المرة الأولى، ثم غرفة ثالثة يستنشق بها مرتين، والظاهر جوازها. انتهى. وقال في الطراز: ويستحب أن يتمضمض ويستنشق بيمناه وهو متفق عليه، ومأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال في الزاهي: وحمل لذلك يعني المضمضة والاستنشاق باليمنى خاصة. قاله الحطاب. ومن لم يستطع ذلك يعني المضمضة والاستنشاق من علة تمنعه لم يلزمه. وفي الرسالة: ويجزئه أقل من ثلاث في المضمضة والاستنشاق -والنهاية أحسن- الفاكهاني: وكذا مغسولات الوضوء كلها، وكأن مراده بقوله والله أعلم: والنهاية أحسن، من الاثنين لا الواحدة؛ إذ الاقتصار على الواحدة مكروه، وليس بين الكراهة والحسن صيغة أفعل، ولو قال: ويجزئه الاقتصار على اثنين لكان أبين. انتهى قاله الحطاب. وقال الشيخ زروق في شرح قول الرسالة: ويجزئه أقل من ثلاث في المضمضة والاستنشاق؛ يعني بحيث يفعل لكل واحدة، واحدة أو لواحدة أكثر من الأخرى، أو
اثنتين اثنتين، وسواء الفعلات في المضمضة والاستنشاق، وهو المقصود هنا، أو الغرفات. انتهى. وفي الزاهي: ومن احتاج إلى أكثر مما قدمنا من العدد فعله ولا حرج. قال الإمام الحطاب بأن يكون في فمه أو أنفه نجاسة أو غيرها ولم تخرج إلا بأكثر من ذلك. والغرفة بالفتح بمعنى المصدر، وبالضم بمعنى المغروف؛ وهو ملء الكف وقرأ أبو عمرٍو ونافع {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَة} بفتح الغين، والباقون بضمها، ويحكى أن أبا عمرٍو طلبه الحَجاج بشاهد على قراءته من أشعار العرب فهرب منه إلى اليمن، فخرج ذات يوم فإذا هو براكب ينشد قول أمية بن أبي الصلت:
ربما تكره النفوس من الأمـ
…
ـر له فَرجة كحل العقال
قال: فقلت له ما الخبر؟ قال: مات الحجاج، قال أبو عمرٍو: فلا أدري بأي الأمرين كان فرَحِى أكثر: موت الحجاج، أو قوله فرجة؛ لأنه شاهد لقراءته أي كما أن مفتوح الفرجة هنا بمعنى المنفرج، وكذا مفتوح الغرفة بمعنى المغروف، فقراءة الضم والفتح يتطابقان. قاله الشبراخيتي. واستنثار يعني أن من سنن الوضوء الاستنثار، وهو السنة الرابعة، ولا بد له من نية؛ وهو لغة: طرح الماء من الأنف بالنفَس مأخوذ من نثرت الشيء إذا طرحته، وقيل إنه مأخوذ من تحريك النثرة وهي طرف الأنف، وفي الشرع: طرح الماء من أنفه بنفَسه مع وضع أصبعيه على أنفه، وكرهه مالك دون وضع يده على أنفه، وقال: هكذا يفعل الحمار، قالوا: وإنما يمسكه من أعلاه، ثم يمرهما لآخره؛ لأنه الذي ينظف ويشد أصابعه بالإخراج، وكون ذلك باليسار هو الأولى، والأصبعان المذكوران هما الإبهام والسبابة من اليد اليسرى؛ لأنها المعدة لإزالة الأوساخ. وقال صاحب الطراز ويفعل المضمضة والاستنشاق باليمنى وهو متفق عليه، ويستنثر باليسرى وهو مروي عنه صلى الله عليه وسلم
(1)
، وعلم مما مر أن وضع الأصبعين من تمام السنة وهو كذلك، ونحوه للشاذلي، وقيل مستحب. قاله الشيخ عبد الباقي. وفي الصحيح: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا فإن الشيطان يبيت على خيشومه
(2)
) متفق عليه، وما ذكره الشيخ من أن
(1)
ابن حبان، ج 2 ص 205. والدارقطني، ج 1 ص 90.
(2)
البخاري، كتاب بدء الخلق، رقم الحديث:3295.
الاستنثار سنة هو الذي ارتضاه ابن رشد في المقدمات، والقاضي عياض في الإكمال، وفي كلام ابن عبد السلام، والمصنف في التوضيح ميل إليه، وفي الإكمال: الاستنشاق والاستنتار عندنا سنتان، وعدهما بعض شيوخنا سنة واحدة: وقد مر أن مالكا كرهه دون وضع يده على أنفه، ابن رشد: ليلا يسيل الماء الذي استنشقه على فيه أو لحيته.
ومسح وجهي كل أذن يعني أنه يسن للمتوضي أن يمسح وجهي الأذن اليمنى ظاهرها وباطنها، ووجهي الأذن اليسرى ظاهرها وباطنها، فمسحهما معا هو السنة الخامسة: ومسح وجهي إحداهما بعض سنة لا سنة، وما ذكره المص من أن مسح الأذنين سنة هو المشهور، وذهب ابن مسلمة والأبهري إلى أن مسحهما فرض، وقال عبد الوهاب: داخلهما سنة، وفي ظاهرهما خلاف، ونقل ابن رشد الاستحباب، ولم يذكر المصنف مسح الصماخين مع أنه سنة اتفاقا، وهو سنة مستقلة زائدة على مسح وجهي كل أذن. اللخمي: والصماخان سنة اتفاقا، وفي فرض ظاهر أشرافهما وباطنهما قولا ابن مسلمة، مع قولها: الأذنان من الرأس وابن حبيب. انتهى. وعلى ما ذكره عبد الوهاب فاختلف في الظاهر، فقيل ما يلي الرأس، وقيل ما يواجه به، ومنشأ الخلاف النظر إلى الحال، أو إلى أصل الخلقة كالورد ثم تنفتح وما أحسن قول ابن المنير:
الأذن كالوردة مفتوحة
…
فلا تُمِرَنَّ عليها الخنا
فإنه أنتن من جيفة
…
فاحرص على الوردة أن تُنتِنَا
وإنما يحسن النظر في هذا الخلاف على القول بأن مسح ظاهرهما مخالف لمسح باطنهما. قاله ابن عبد السلام. قال الإمام الحطاب: ويظهر من كلام ابن الحاجب ترجيح القول بأن ظاهرهما مما يلي الرأس على كل قول، فإنه قال الرابعة: أن يمسح أذنيه بماء جديد ظاهرهما بإبهاميه، وباطنهما بإصبعيه، ويجعلهما في صماخيهما، ثم قال: وظاهرهما مما يلي الرأس، وقيل ما يواجه به قال في التوضيح: قوله بإصبعيه؛ أي سبابتيه. ابن حبيب: ولا يتبع غضونهما أي كالخفين.
انتهى. وهذا يوافق حديث ابن عباس: (باطنهما بالسبابة، وظاهرهما بالإبهام
(1)
). الشيخ زروق: وكره ابن حبيب تتبع غضونهما؛ لأن مقصود الشارع بالمسح التخفيف، والتتبع ينافيه، والاقتصار على إحدى الجهتين من الظاهر أو الباطن يجري على الخلاف في فرض ذلك وسنيته، وفي الرسالة: يفرغ الماء على سبابتيه وإبهاميه، وإن شاء غمس ذلك في الماء، ثم يمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما. انتهى. وأتى المصنف بلفظة:"كل" ليلا يتوالى تثنيتان، لو قال وجهي أذنين، ولأنه لو قال كذلك لم يتناول مسح باطنهما، وقد علمت أن المصنف غلب الوجه على الباطن.
وتجديد مائهما يعني أنما تجديد الماء لمسح الأذنين سنة مستقلة، وهي السنة السادسة، فإذا جدد لهما الماء ومسحهما به أتى بسنتين، وإذا مسحهما بماء الرأس أتى بسنة واحدة، وهي سنة المسح، وترك سنة تجديد الماء. وفي الأذنين ثلاث سنن: مسح ظاهرهما وباطنهما، وتجديد الماء لهما، ومسح صماخيهما، وما ذكره المصنف هو لابن رشد وعبد الوهاب، وظاهر ابن الحاجب أن المسح والتجديد سنة واحدة، وعليه الأكثر من الأشياخ. قاله التتائي والشاذلي فإن لم يجدد فهو كمن ترك المسح. قاله ابن حبيب. وفي التوضيح: المشهور لابد من تجديد الماء. انتهى. وهذا إنما يظهر على القول بأن المسح والتجديد سنة واحدة، قاله الحطاب. وقال ابن مسلمة: هو مخير في التجديد وعدمه، وقال مالك في المختصر: إن المسح سنة والتجديد مستحب. ابن رشد: والمنصوص لمالك أن الأذنين من الرأس، وإنما السنة تجديد الماء لهما، وقد قيل في غير المذهب إنهما من الرأس تمسحان معه ولا يجدد لهما الماء، وقد قيل إنهما من الوجه تغسلان معه، وقيل باطنهما من الوجه، وظاهرهما من الرأس.
ورد مسح رأسه: هذه هي السنة السابعة؛ يعني أنه يسن للمتوضي إذا أوعب مسح رأسه الفرضَ أن يمسحه ثانية، فيرد يديه في مسح الرأس إلى المحل الذي بدأ منه، فإن بدأ من مقدم رأسه كما هو المستحب في ذلك ردهما من المؤخر إلى المقدم الذي بدأ منه، وإن بدأ بالمسح من مؤخر رأسه وترك المستحب في ذلك فالسنة أن يردهما من المقدم إلى المؤخر كما صرح بذلك ابن القصار، ونقله
(1)
ابن ماجه، كتاب الطهارة، رقم الحديث 439. ولفظه: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح أذنيه داخلهما بلسبابتين وخالف إبهاميه إلى ظاهر أذنيه فمسح ظاهرهما وباطنهما داخلهما.
اللخمي وعبد الحق. اللخمي: والفرض في مسح الرأس واحد، وهو بلوغ اليدين إلى مؤخره، ولا خلاف أنه لو اقتصر على ذلك ولم يرده لأجزأه، والسنة ردهما إلى مقدم الرأس. انتهى. وقيل إن رد اليدين من منتهى المسح لمبدئه فضيلة. قاله الحطاب. قوله:"ورد مسح رأسه" كان عليه شعر أم لا: ونقل الأبي عن النووي: أن من لا شعر له لا يستحب له الرد، لأنه لا فائدة فيه. انتهى.
واعلم أن رد مسح الرأس ولو طال إنما يكون بعد تعميمه بالمسح، فمن طال شعره بحيث لا يعم مسحه إلا بإدخال يديه تحته في رد المسح، يسن في حقه إذا عمم المسح أن يرد. قاله الشيخ عبد الباقي. وقد مر ما للشيخ محمد بن الحسن عند قوله: ويدخلان يديهما تحته في رد المسح: ومحل كون الرد سنة حيث بقي بيده بلل من المسح الواجب، وإلا لم يسن ولا فائدة فيه، ويكره تكرار المسح بماء جديد، والظاهر أنه إذا بقي بيده بلل يكفي بعض الرأس يسن له المسح بقدر البلل لخبر: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه بما استطعتم
(1)
). قاله الشيخ عبد الباقي. وعبارة المصنف في غاية الحسن؛ لأنه يفيد أن الرد سنة سواء ابتدأ في المسح الفرض من القدم أو المؤخر، وعبارة ابن الحاجب: رد اليدين من مؤخر رأسه إلى مقدمه، تقتضي أن الرد لا يكون سنة إلا إذا كان من المؤخر إلى المقدم، وليس كذلك، ويلزم عليه أن يكون الابتداء من مقدم الرأس سنة، وهو خلاف ما يأتي له؛ يعني ابن الحاجب. قاله الحطاب والأكثر على أن مسح الرأس لا يزيد على اثنتين: الأولى فرض، والثانية سنة أو فضيلة كما مر. اللخمي: واختلف في رد اليدين ثالثة، فقيل لا فضيلة في ذلك وعلى هذا غير واحد من البغداديين، وقال إسماعيل القاضي: جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسح الرأس ثلاثا
(2)
: ويمكن أن يكون ذلك أن يمر اليدين من المقدم إلى المؤخر، ثم يردهما إلى المقدم، ثم يردهما إلى المؤخر، نحو ما روي عن عطاء يريد ولا يستأنف الماء للثانية ولا للثالثة، ولا فائدة في إعادة اليد الثانية أو الثالثة، إلا أن يكون قد بقي في اليد بلل، والغالب بقاء البلل في اليد. انتهى وإنما كان الرد سنة، والغسلة الثانية والثالثة مستحبتان؛
(1)
البخاري، كتاب الاعتصام، رقم الحديث:7288. ولفظه
…
فأتوا منه ما استطعتم.
(2)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:110. ولفظه: رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثا ثلاثا ومسح رأسه ثلاثا ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا. - الدارقطني، ج 1 ص 91/ 92.
لأن الممسوح في الرد غير الممسوح أولا بخلاف المغسول، هذا في حق ذي الشعر وألحق به غيره. قاله الفاكهاني.
وترتيب فرائضه يعني أن ترتيب الفرائض من سنن الوضوء، ومعنى ترتيبها أن يأتي بها على ترتيب القرآن؛ بأن يقدم الوجه، ويثني بغسل اليدين إلى المرفقين، ويثلث بمسح رأسه، ويربع بغسل رجليه إلى الكعبين وهذا هو المشهور في المذهب. وقيل واجب حكاه ابن زياد عن مالك، وقاله أبو مصعب، ومال إليه ابن عبد السلام، وعزاه في الذخيرة للشيخ أبي إسحاق. وقيل واجب مع الذكر، وعزاه ابن راشد والمص في التوضيح لابن حبيب. وقيل مستحب، وعزاه في الذخيرة لابن حبيب، فتلك أربعة أقوال. ووجه المشهور أن الله تعالى عدل عن أحرف الترتيب وهي: الفاء وثم إلى الواو التي لا تقتضي إلا مطلق الجمع، وقول علي رضي الله عنه: (ما أبالي إذا أتممت وضوءي بأي أعضائي بدأت
(1)
)، وقول ابن عباس (بالبداءة بالرجلين قبل اليدين
(2)
) أخرجهما الدارقطني مع صحبة علي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم طول عمره، فلولا اطلاعه على عدم الوجوب لما قال ذلك، وكذا ابن عباس وحيث انتفى الوجوب قلنا إنه سنة لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، واستدل للوجوب بأنه صلى الله عليه وسلم توضأ على الترتيب، وقال (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به
(3)
)، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (توضأ كما أمرك الله
(4)
) وبأنه صلى الله عليه وسلم (توضأ على الترتيب
(5)
)، وفعله محمول على الوجوب، والجواب أن هذه تقتضي أن الترتيب مطلوب، ونحن نوافق على ذلك، ووجه القول بالوجوب مع الذكر أن الترتيب يرجع إلى النهي عن التنكيس، والنهي يفترق عمده من نسيانه، ووجه الاستحباب أنه حيث انتفى الوجوب حمل على الندب؛ إذ هو الأصل في الهيئات، كالابتداء بمقدم الرأس، وبأول العضو، وباليمين قبل اليسار. وإذا قلنا إن الترتيب واجب فنكس وضوءه،
(1)
الدارقطني، ج 1 ص 89.
(2)
الدارقطني، ج 1 ص 89. ولفظه: لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك.
(3)
البيهقي؛ ج 1 ص 80.
(4)
سنن أبي داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:861.
(5)
البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:199.
فحكى في التوضيح عن الجواهر أنه اختلف فيه هل يبتدئ الوضوء؟ قاله الحطاب فيعاد المنكس يعني أنه إذا قلنا إن الترتيب سنة، فمن نكس بعض أعضاء وضوئه بأن قدمه عن محله المشروع فيه كما لو غسل اليدين أولا ثم ختم وضوءه فإنه يعيد العضو المنكس، وقد علمت أن المنكس هو المقدم عن محله المشروع له، وقوله:"المنكس" ولو حكماكما لو وضأه أربعة مثلا بلا ترتيب، وسواء كان المنكس عضوا أو بعضه وحده يعني أنه إنما يعيد غسل العضو المنكس وحده ولا يغسل غيره من أعضائه، وإذا أعاد غسله فإنما يغسله مرة واحدة، وإنما يعيد المنكس إذا كان فرضا كما هو الموضوع، وأما السنة المنكسة فلا تعاد من بعد يعني أن محل إعادة المنكس وحده إنما هو حيث بعُدما بين الإعادة والوضوء الذي نكس فيه بجفاف يعني أن البعد الذي لا يعاد معه إلا المنكس وحده محدود بجفاف أعضاء بزمن اعتدلا ويعتبر اعتدال المكان، وقد مر أنه يستلزمه اعتدال الزمان، والمعتبر جفاف الأخير من الأعضاء. وإلا أي وإن لم يبعد ما بين إعادة المنكس وغسل العضو الأخير من الوضوء الذي وقع فيه التنكيس؛ بأن لم يحصل الجفاف المذكور فإنه يعيد المنكس مرة لا وحده، بل يعيده مع تابعه شرعا مرة أيضا لا فعلا، لكن إعادة المنكس سنة، وإعاده ما بعده مستحبة، وقد تقدم أن تنكيس بعض العضو كتنكيس العضو، فمن غسل يديه لكوعيه في أول وضوئه ثم لم يعد غسل كفيه بعد غسل وجهه إن كان قصد بغسل يديه أولا السنية فلا يجزئه وليعد ما صلى بذلك، وإن قصد بذلك الفرض فإنه تجزئه صلاته إلا أنه يصير كمن نكس وضوءه، ومحل الطلب في القسمين؛ أي قسمي القرب والبعد إن أراد البقاء على الطهارة، أو ليفعل بها ما يتوقف عليها، فإن أراد نقضها فلا؛ لأن الوسيلة إذا لم يترتب عليها مقصدها لم تشرع، ولو غسل وجهه أولا، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجليه، ثم غسل يديه فإنه يعيد الرأس والرجلين فقط، ولا يشترط الترتيب بينهما لتقدمه، وما ذكره المص في القسمين واضح حيث كان التنكيدى نسيانا، وكذا إن كان عمدا على الأصح، وقيل إن تباعد وجف وضوءه أعاد الوضوء والصلاة أبدا، وقيل إن تباعد وجف فإنما يعيد الوضوء ولا يعيد الصلاة. قاله ابن حبيب. والقول بأنه لا يعيد الوضوء ولا الصلاة مع البعد هو قول مالك في المدونة، وجعل ابن رشد
الجفاف هنا حد البعد في العمد والنسيان، وقد تقدم في الموالاة أن التفريق عمدا لا يحد بالجفاف بل دون ذلك، وينبغي أن يقال هنا كذلك. قاله الحطاب.
واعلم أن صور الوضوء أربع وعشرون صور منها صورة مرتبة، وباقيها منكس وذلك؛ لأن الفرائض المغسولة والممسوحة أربع، ففيما إذا ابتدأ الوضوء بالوجه ست، وكذا إذا ابتدأ بالذراعين، وكذا إذا ابتدأ بالرأس، وكذا إذا ابتدأ بالرجلين كما يظهر ذلك بالتأمل ومن ترك فرضا أتى به وبالصلاة يعني أن من ترك فرضا من فرائض الوضوء عضوا أو لمعة مغسولا أو ممسوحا فإنه يأتي به وبالصلاة المفعولة قبل الإتيان به؛ لأنها باطلة لكونه صلى محدثا لأنه لم يتمم الوضوء، ويأتي بالفرض المذكور بنية إكمال الوضوء، ويعيد ما بعده إن ذكر بالقرب، وإن ذكر بالبعد فإنما يأتي به وحده، وقوله:"أتى به" إن ترك ذلك ناسيا أتى به مطلقا طال التفرق أم لا، ويأتي به بنية كما مر كعامد أو عاجز لم يطل بغير نية فيهما، فإن طال ابتدأ الوضوء وجوبا كما إذا طال تذكره بعد نسيانه، وقد تقدم أنه يأتي بما بعد المتروك إن ذكر بالقرب، وكذا يأتي بما بعده في العمد، والعجز مع القرب، فإن بعد أتى به وحده في النسيان، وبطل في العمد والعجز كما مر، ويأتي به ثلاثا، وبما بعده مرة مرة إن كان قد فعله مرتين أو ثلاثا، وإلا فبما يكمل الثلاث، فيخص قوله: وهل تكره الرابعة لخ بغير هذا. وقوله ومن ترك فرضا أي تركه تحقيقا أو ظنا كشك لغير المستنكح، وإلا لم يعمل به وقوله: ومن ترك فرضا لخ الكلام فيه كالكلام في الموالاة من غير فرق، وقد مر. وقوله: ومن ترك فرضا، يعني غير النية وإلا بطل وضوءه.
وسنة فعلها لا يستقبل يعني أن من ترك سنة من سنن الوضوء تحقيقا أو ظنا كالشك لغير المستنكح يفعلها لما يستقبل من الصلوات ما دام باقيا على طهارته، ولا يعيد ما صلى بذلك الوضوء الذي ترك منه السنة إن كان الترك سهوا، واستحسن اللخمي أن يعيد الناسي في الوقت، والمعروف أن لا إعادة. والسنن التي تفعل إذا تركت: المضمضة والاستنشاق ومسح الأذنين وتجديد الماء والترتيب بخلاف مسح الرأس؛ لأن الإتيان به يوقع في مكروه؛ وهو مسح الرد بماء جديد وبخلاف غسل اليدين أولا، لأن لها بدلا فإنه قد ناب عنها الفرض، وهو غسلهما بمرفقيه، وبخلاف الاستنثار، وتقدم أن من ترك سنة يفعلها لما يستقبل من الصلوات، وكذا ما يتوقف على
الطهارة فيما يظهر ولا يؤمر بفعلها إذا أراد نقض الطهارة أو البقاء عليها فقط، أو مع قراءة القرآن متوضئا بغير مصحف، ويعيد الصلاة في الوقت إن تعمد الترك على المعتمد، وقيل يعيد أبدا، وقيل لا إعادة عليه، ومحل كلام المصنف حيث طال الترك فإن لم يطل الترك كما لو ذكر المضمضة والاستنشاق بعد شروعه في غسل وجهه أو بعد تمامه، فإن كان الترك نسيانا تمادى وأتى بهما بعد تمام الوضوء. قاله الشبيبي والبرزلي، وأفتى أبو يوسف الزغبي برجوعه فأنكر عليه فتواه لفتوى من ذكر بخلافه، وأوقف على نص الموطإ فتمادى على فتواه لموافقته له، ونص الموطإ: وسئل مالك عن رجل توضأ فنسي وغسل وجهه قبل أن يتمضمض، قال: يتمضمض ولا يعيد غسل وجهه، فحمل البرزلي قول مالك على غير السهو، قال الشيخ محمد بن الحسن: قول الوطإ فنسي صريح في رد ما للبرزلي. انتهى. وإن كان الترك عمدا رجع لما تركه قبل تمام وضوئه ولم يعد غسل وجهه، وفي المدونة: ومن ترك المضمضة والاستنشاق ومسح داخل أذنيه في الوضوء والجنابة حتى صلى أجزأته صلاته، وأعاد ما ترك لما يستقبل. انتهى. ولا يعيد في الوقت على المشهور، وأما بعد الوقت فلا إعادة عليه بلا خلاف أعلمه. قاله الحطاب. يعني فيما إذا كان الترك نسيانا. والله سبحانه أعلم. وتقدم أن من تعمد الترك يعيد على المعتمد. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الحطاب: هو المنصوص لابن القاسم، وقال البساطي إنه المشهور، والقول بأنه لا إعادة عليه في الوقت ولا بعده. قال ابن رشد إنه الصحيح، والقول بأنه يعيد أبدا مضعف، وقد تقدم أن الترك يحصل بالشك في غير المستنكح، وأما المستنكح فقال يوسف بن عمر: يبني على الخاطر السابق، قال الحطاب: هذا على القول الذي مشى عليه ابن الحاجب، وأما على المشهور فإنه يطرح ويلهى عنه. وأما التحقيق فإنه يستوي فيه المستنكح وغيره، وقوله: أتى بها ولا يعيد ما بعدها. وإذا قلنا يجب مسح الأذنين فتركهما سهوا حتى طال فلا يختلف المذهب أنه تصح صلاته. ابن رشد: وجه ذلك مراعاة الخلاف. قاله الإمام الحطاب. ولا فرغ من السنن، وهي لغة الطريقة خيرا كانت أو شرا. وفي اصطلاح الفقهاء لا تستعمل إلا في الخير، وهي ما فعله -صلى الله عليه- وسلم مظهرا له مداوما عليه مع قيام الدليل على نفي وجوبه، أتبعها بذكر الفضائل فقال وفضائله موضع طاهر يعني أن من فضائل الوضوء أي مستحباته أن يكون الموضع الذي يتوضأ فيه
طاهرا، ويكره الوضوء بمحل الخلاء ولو كان طاهرا، ومن فضائل الوضوء أيضا: استقبال القبلة، وموضع مرتفع ليلا يتطاير عليه ما ينزل في الأرض، واستشعار النية في جميعه، والجلوس للتمكن. وقوله:"موضع طاهر"، أي بالفعل، وشأنه الطهارة فيخرج محل الخلاء فيكره به كما مر. وبما قررت علم أن المراد بقوله:"فضائله" مستحباته، وأما فضائله بمعنى ثمراته وفوائده، ففي الموطإ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني رأيت إخواننا فقالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال: بلي أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض، فقالوا يا رسول الله: كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو كان لرجل خيل محجلة في خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم ألا هلم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول فسحقا فسحقا فسحقا
(1)
) في أيضا: عن عثمان أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من امرئ يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها
(2)
)، قال مالك: أُراه يريد هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} وفيه أيضا: (إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه، وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه، قال صلى الله عليه وسلم: ثم كان مشيه إلى
(1)
السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أني قد رأيت إخواننا فقالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك قال بل أنتم أصحاببى وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض فقالوا يا رسول الله كيف تعرف من يأتى بعدك من أمتك قال أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله قالوا بلى يا رسول الله قال فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم ألا هلم ألا هلم فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول فسحقا فسحقا فسحقا. الموطأ كتاب الطهارة، رقم الحديث:60. ومسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 249.
(2)
الموطأ كتاب الطهارة، رقم الحديث:61.
المسجد وصلاته نافلة له
(1)
؛ أي زيادة له على ما ذكر، وفيه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرجت من يده كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيتة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب
(2)
). قوله: بطشتها أي عملتها، والبطش الأخذ بعنف، وقوله: مشتها؛ أي مشى لها بهما. وقوله: مع الماء أو مع لخ شك من الراوي. والله سبحانه أعلم.
وقلة ماء يعني أن من مستحبات الوضوء تقليل الماء ولو كان على حافة نهر، فقوله:"قلة ماء"؛ أي ما يتوضأ به وإن كان على جانب نهر، وبهذا يجاب عما قيل إن الأولى تقليل؛ لأنه الفعل المندوب، ولا تكليف إلا بفعل وأن عبارته توهم أن الوضوء في الماء الكثير كالبحر مكروه وإن قلل الأخذ منه: مع أنه غير مراد قطعا بلا حد يعني أنه ليس لهذا التقليل المندوب حد يوقف عنده، بل المطلوب من ذلك ما يحصل به الإسباغ على حسب حال المتوضئ في رفقه وخرقه ونشافته ورطوبتة، خلافا لمن قال لابد أن يسيل أو يقطر عنه، وأنكره مالك، وقال: قطر قطر روي بالفعل والمصدر المنون إنكارا للتحديد به، يعني أنه أنكر السيلان عن العضو لا السيلان عليه، إذ لابد منه ليعم البشرة وإلا كان مسحا، وليس ما يتوضأ به محدودا بمد أيضا خلافا لابن شعبان كالغسل يعني أن الغسل كالوضوء في أنه يستحب كونه في موضع طاهر وفي أنه يندب فيه تقليل الماء المستعمل به، وليس ذلك التقليل محدودا بحد خلافا لمن قال: لابد أن يسيل الماء عن العضو أو يقطر عنه، وخلافا لقول ابن شعبان إنه محدود بصاع، قال: لأنه لا أحد أرطب من أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولابن العربي في العارضة وهي شرحه للترمذي: وأقل المقدار ما كان يكتفي به سيد الناس صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن في الوجود أعلم منه ولا أرفق ولا أحوط ولا أسوس بأمور الشرع ومكارم الأخلاق والصاع أربعة أمداد بمده صلى الله عليه وسلم،
(1)
الموطأ، كتاب الطهارة، رقم الحديث 62.
(2)
الموضأ، كتاب الطهارة، رقم الحديث 63.
وعلم مما قررته أن قوله: "كالغسل" تشبيه في الحكمين السابقين، وهما استحباب كونه في موضع طاهر، وتقليل الماء المستعمل كما قاله الشبراخيتي. وقد توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمد وتطهر بصاع
(1)
)، وذلك بيان لفعله صلى الله عليه وسلم لا تحديد، ومعنى قوله: بمد؛ أي بمكيل مد لا بوزنه، فالمراد القدر الذي يبلغ من الآتية بقدر ما يبلغ المد من الطعام منها بأن يأخذ من الطعام، وهو الشعير الوسط المقطوع الذنب، وزن رطل وثلث وهو المد، ويضعه في إناء ويأخذ من الماء القدر الذي يشغل من الإناء قدر ما شغله ذلك الطعام منه، فهذا هو المد من الماء. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وروي (أنه صلى الله عليه وسلم توضأ بنصف المد
(2)
) وذلك لا يقدر عليه إلا العالم السالم من وسوسة الشيطان، وما ذكره المصنف هنا لا يخالف قول الرسالة: وقلة الماء مع إحكام الغسل سنة؛ لأن السنة هنا ضد البدعة، قاله الشيخ يوسف بن عمر. الشيخ زروق؛ يعني سنة؛ يستحب العمل بها، وسلم مما تقدم أن الواجب عند مالك الإسباغ، ومعناه التعميم، وعلم أيضا أن التقليل مع الإحكام؛ أي الإتقان للغسل سنة وليس الناس في ذلك سواء، وإنما يراعى القدر الكافي في كل واحد فما زاد على قدر ما يكفيه فهو بدعة، وإن اقتصر على ما يكفيه فقد أدى السنة. ابن الفاكهاني: ولا معنى للتحديد بالمد والصاع، وإنما الشأن على حسب المستعمل وعادته في الاستعمال؛ لأن الله سبحانه أمر بالغسل ولم يقيده بمقدار معين لطفا منه، إذ لو كان فيه حد للزم الحرج؛ لأن من الناس من يكفيه اليسير لرفقه، ومنهم من لا يكفيه إلا الكثير لإسرافه، فلو كان فيه حد لوجب أن يفارق كل أحد عادته فيستعمل من يكفية اليسير زيادة على ما يحتاج إليه، ويقتصر من لا يتمكن من أداء الواجب إلا بالكثير على ما لا يمكنه أداء الواجب معه وهذا فاسد، وإذا علم ذلك فالمستحب لمن يقدر على الإسباغ بالقليل أن يقلل الماء ولا يستعمل زيادة على الإسباغ انتهى. وقد مر أن معنى الإسباغ التعميم. قال الإمام الحطاب: علم من هذا أن السرف هو ما زيد بعد تيقن الواجب، وهو مكروه على ما نص عليه أكثر الشيوخ، ويؤخذ من القول الذي يذكره المصنف في الرابعة أنه ممنوع. وفي الرسالة: والسرف
(1)
أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، رقم الحديث 93. ولفظه: عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمدِّ.
(2)
البيهقي، ج 1 ص 196.
منه غلو وبدعة. قال الشيخ زروق: السرف الإكثار في غير حق، والغلو الزيادة في الدين، والبدعة لغة: الأمر المحدث، وفي الشرع إحداث أمر في الدين يشبه أن يكون منه وليس منه، ومرجعه اعتقاد ما ليس بقربة قربة على وجه الحكم بذلك، وهذا منه لمن يراه كمالا، فأما من يعتريه ذلك من وسوسة يعتقد نقصها وأن ما يفعله من ذلك مخالف للأصل، فلا يصح كونه منه بدعة إلا من حيث صورته. ثم البدعة محرمة ومكروهة، ولا يمكن أن يبلغ بهذه حد التحريم، لأنها لم تعارض واجبا، ولا رفعت حكما أصليا، وقد نص في النوادر على الكراهة. انتهى. وقال البرزلي: روينا عن النووي الإجماع على أنه لا يجوز السرف في الطهارة ولو كان على ضفة النهر وهو معنى ما في الرسالة: والسرف منه غلو وبدعة، وهذا كله في غير الموسوس. وأما الموسوس فهو شبيه بمن لا عقل له، فيغتفر في حقه لما ابتلي به، انتهى. وقوله في الرسالة: وقد توضأ بمد يريد بعد الاستنجاء، وقوله وتطهر بصاع، وذلك بعد إزالة الأذى.
واعلم أن الوسوسة بدعة، وأصلها جهل بالسنة أو خبال في العقل. وقال مشايخ الصوفية: لا تعتري الوسوسة إلا صادقا؛ لأنها تحدث من التحفظ في الدين، ولا تدوم إلا على جاهل أو مهوس؛ لأن التمسك بها من اتباع الشياطين. قاله الحطاب. عن الشيخ زروق. وإنما كان السرف مكروها خوف الاتكال عليه والتفريط في الدلك، أو إبطانه حتى تفوته الجماعة، أو إضراره بغيره من مريد الطهارة، أو موالفته ذلك فلا تمكنه الطهارة مع قلة الماء، أو إيراثه الوسواس فلا يمكنه زوال الشك. قال الشيخ زروق: وقد جربنا ذلك. نقله الشبراخيتي وغيره. وقد مر أنه لابد من سيلان الماء على العضو لأنه لا بد من إيعاب الماء البشرة، وإلا كان مسحا كما نص عليه غير واحد. (وتيمن أعضاء) يعني أنه يستحب في الوضوء التيمن في الأعضاء أي الابتداء بغسل اليمين منها فيما يسهل فعله على التعاقب، ويعسر فعله دفعة وذلك اليدان والرجلان لا في غير ذلك مما يسهل فعله دفعة كالخدين والفودين والأذنين والصدغين، والفودان هما جانبا الرأس، وإنما ندب التيامن في أعضاء الوضوء لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأ أحدكم فليبدأ بيمينه
(1)
) رواه ابن
(1)
الذخيرة، ج 1 ص 275
وهب، وأدخله سحنون في الكتاب؛ ولأنه متفق عليه. قاله الحطاب. ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم
(1)
) نقله الإمام الحطاب. والفرق بين اليدين والرجلين يستحب فيها التيامن دون غيرها كالخدين والفودين ونحو ذلك، هو كما علمت سهولة غسل الخدين والفودين ومسح الأذنين دفعة بخلاف اليدين والرجلين، فإنه يصعب غسلهما دفعة، وأما التعليل بقوة اليمنى من اليدين والرجلين دون الخدين والفودين ونحوها لا تفاوت فيها، فأصله للقرافي؛ وهو مردود بأنه صلى الله عليه وسلم (كان يبدأ في الاكتحال بالعين اليمنى)، وقال العلماء إنه كان يبدأ في حلق رأسه بالجانب الأيمن، ويندب في السواك البدء بالجانب الأيمن، وقد قالوا في صفة الغسل من الجنابة: يبدأ بغسل الأذن اليمنى قبل الأذن اليسرى لعدم تأتي غسلهما دفعة واحدة. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. وقوله: "وتيمن أعضاء" وإن أعسر أو أضبط، وقال ابن بشير: وأما البداءة بالميامن فهي من نوافل الخير ولا يختص ذلك بالوضوء بل يستحب الابتداء باليمنى في كل أفعال الخير. قاله الحطاب. وفي الأمير عن الشعراني: أن من شمر بيديه ليلابس عبادة شمر يمينه أولا، وإلا فبيسراه. انتهى وإناء يعني أن المتوضئ يستحب له أن يكون الإناء الذي يتوضأ منه عن يمينه، وهذا كان الإناء الذي فيه الماء قد فتح وقد نص ابن يونس وابن رشد على أن جعل الإناء عن اليمنى من فضائل الوضوء. قال في الذخيرة: لفعله عليه الصلاة والسلام ولأنه أمكن ومعنى قوله: "فتح" أنه تدخل فيه اليد بسهولة، ومفهوم قوله:"فتح" أن ما ضاق عن إدخال اليد فيه فالاختيار فيه لأهل العلم وضعه على اليسار. قاله عياض. ونقله ابن عرفة وابن ناجي وغيرهما. قاله الحطاب. وقوله: "وإناء إن فتح" هذا في الأيمن والأضبط، وأما الأعسر فيضعه على يساره. قاله الشيخ علي الأجهوري.
تنبيه لو ابتدأ بغسل اليسرى قبل اليمنى أجزأه. قاله اللخمي وغيره. وهو ظاهر، ولا يعيد غسل اليسرى؛ لأن التيامن مستحب، والزيادة على الثلاثة ممنوعة أو مكروهة على الخلاف الآتي. والله أعلم. قاله الحطاب.
(1)
سنن ابن ماجه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:402.
وبدء بمقدم رأسه يعني أنه يستحب للمتوضي أن يبدأ في مسح رأسه بمقدمه، وقيل البداءة بمقدم الرأس سنة. حكاه ابن رشد. ومثل الرأس غيره من الأعضاء وإنما خص الرأس لما فيه من الخلاف؛ إذ قيل يبدأ من مؤخره، وقيل إنه يبدأ من وسطه ثم يذهب إلى حد منابت شعره مما يلي الوجه، ثم يردهما إلى قفاه ثم يردهما إلى حيث بدأ انتهى. وأما غيره من الأعضاء فلم أر فيه خلافا. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. وقوله:"وبدء بمقدم رأسه" قد مر أن غيره من الأعضاء مثله، فمن بدأ بمؤخر رأسه أو بالذقن أو بالمرفقين أو بالكعبين وعظ وقبح عليه إن كان عالما وعُلِم الجاهل. قاله الشيخ عبد الباقي وغيره. وفي حديث عبد الله بن زيد: مسح رأسه بيديه أقبل بهما وأدبر بدأ بمُقدَّم رأسه
(1)
). انتهى. ومقدَّم الرأس ومؤخَّره بفتح ثانيهما وتشديد الدال والخاء هذا هو المعروف، وثمَّ لغة أخرى مقدِم ومؤخِر مخفف، والثالث مكسور. قاله الإمام الحطاب. وقوله في الحديث: أقبل بهما وأدبر، قيل الواو لا تقتضي الترتيب، والمراد أدبر بهما وأقبل، وكذلك وقع في بعض طرق الحديث، وعلى الرواية المشهورة، فقال ابن بشير: بدأ بذكر الإقبال تفاؤلا، وقيل المراد أقبل بهما على قفاه، وأدبر بهما عن قفاه. قاله الإمام الحطاب. (وشَفعُ غسله) الضمير في غسله للوضوء؛ يعني أن الغسلة الثانية في الوضوء مستحبة، وهذا حيث أسبغ بالأولى، وأما إذا لم يسبغ بها فالثانية فريضة فيما لم يعمه الماء مستحبة في غيره فيعمه في الرابعة، ولا يعم جميع العضو فيها؛ لأنه حينئذ يلزم غسله أربعا فيدخل في النهي. قاله القرافي. قاله الشبراخيتي.
(وتثليثه) يعني أن الغسلة الثالثة في الوضوء مستحبة كالثانية فهما فضيلتان وهذا هو المشهور، وقيل إنهما سنتان، وقيل الثانية سنة والثالثة فضيلة، وقيل إن الثانية فضيلة والثالثة سنة قدمت الفضيلة في هذا القول على السنة اهتماما بالثانية، فيأتي بها وإن كانت فضيلة ليتمكن من الإتيان بالثالثة التي هي سنة، واحتج له بعضهم بترتيبه الفضل على الثانية، وبقوله في الثالثة: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي
(2)
). قاله البرزلي. قال الحطاب: فكأنه يعني بترتيب الفضل على
(1)
البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث 185.
(2)
السنن الكبرى للبيهقى، كتاب الطهارة، ج 1 ص 80.
الثانية ما ورد في بعض الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من توضأ مرتين آتاه الله أجره مرتين
(1)
)، وثم قول خامس وهو وجوب الثانية.
تنبيه أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه ومسنده، وأبو بكر المروزي، والبزار عن [حمران
(2)
] مولى عثمان رضي الله عنه قال: دعا عثمان رضي الله عنه بوضوء في ليلة باردة وهو يريد الخروج إلى الصلاة فجئته بماء فأكثر ترداد الماء على وجهه ويديه: فقلت: حسبك قد أسبغت الوضوء والليلة شديدة البرد، فقال: صب فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يسبغ عبد الوضوء إلا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
(3)
). قال الإمام الحطاب: الإسباغ لغة الإتمام، البخاري: ابن عمر: إسباغ الوضوء الإنقاء. ابن حجر: هو تفسير باللازم؛ إذ الإتمام يستلزم الإنقاء عادة. انتهى. وقوله: "وشفع غسله وتثليثه" وكذا المضمضة والاستنشاق، فالأولى منهما سنة، والثانية والثالثة مستحبتان، ولا بد أن يفعل في الثانية والثالثة من جميع ما ذكر، كما يفعل في غسل الفرض من دلك وتخليل وتتبع مغابن، وإلا لم يكن آتيا بالمندوب. واختلف هل يفعل الثانية والثالثة بنية الفضيلة، أو بنية فعل ما أمكن تركه في الأولى، أو بنية إكمال الفرض كإعادة الفذ جماعة، أو بنية الوجوب؟ على أربعة أقوال: الأول للمازري عن الأكثر، والثاني والثالث لبعض المتأخرين، والرابع للبيان. ابن بشير: وبأي نية يكرر لا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يتيقن أنه عم بالأولى نوى بالزائد الفضل، وإن تيقن أنه لم يعم نوى بالزائد الفرض، فإن شك نوى بالزائد الفرض أيضا؛ لأن الطهارة في ذمته بيقين فلا يبرأ منها إلا بيقين، ومتى شك وجب عليه الإكمال فينوي الوجوب فإن نوى الفضيلة في موضع يجب عليه الفرض فقولان: الإجزاء: وعدمه. الشبيبي: إن شك هل وقع الإسباغ بالأولى، وجب عليه أن ينوي بالثانية الوجوب فيما شك قولا واحدا، وإن بقيت لمعة علم موضعها خصها بالغسل ثلاثا إن كان بعد إكمال الوضوء، وإن كان قبل إكماله نوى بالتي تليها، أي المرة الأولى الوجوب في موضعها قولا
(1)
الإتحاف، ج 2 ص 374.
(2)
كذا في التنوير، ج 1 ص 132
(3)
تنوير الحوالك، ج 1 ص 132. ومجمع الزوائد، ج 1 ص 241.
واحدا، وما زاد على موضعها فعلى الخلاف. انتهى. قاله الحطاب. وأجاز مالك في المدونة أن يتوضأ مرة إذا أسبغ وقال: لا أحب الواحدة إلا من العالم، وقال في سماع أشهب: الوضوء مرتان أو ثلاث: قيل له فالواحدة. فقال: لا. واختلف في الاقتصار على الواحدة على أربعة أقوال: أحدها الجواز لمن غير كراهة، الثاني الكراهة، الثالث الكراهة للعالم خاصة، الرابع عكسه. انتهى. قال الشبيبي: وقوله من غير كراهة؛ أي شديدة لأنه لا خلاف في ثبوت فضيلة التكرار كما في الطراز، وإذا ثبت أن التكرار فضيلة فلا شك أن في تركه كراهة. والله أعلم. قاله الحطاب. ولو غسل وجهه ثلاثا وترك منه موضعا لم يصبه الماء إلا في الثالثة، فإن لم يخص الثالثة بنية الفضيلة أجزأه، ويكرر الماء على تلك اللمعة دون جميع العضو، وإن خص الثانية بنية الفضيلة فيجري على الخلاف في طهارة المجدد. قاله في الطراز. وفيه: هل يؤمر المتوضئ أن ينوي بالثانية والثالثة الفضيلة؟ الظاهر أنه لا ينوي شيئا معينا. انتهى قاله الحطاب. وقد مر الخلاف في ذلك على أربعة أقوال عن الحطاب أيضا.
(وهل الرجلان كذلك) يعني أن الشيوخ اختلفوا في الرجلين، فالذي عليه الأكثر أنهما كالوجه واليدين فيندب فيهما الشفع والتثليث وهو المشهور الثابت في الصحيح
(1)
، وما ورد مطلقا يرد إليه، فالأولى للمصنف الاقتصار ضليه. قاله الشيخ عبد الباقي. وعبارة الشيخ الأمير: والشفع والتثليث وإن بالرجلين بعد الإنقاء على الراجح.
(أو المطلوب الإنقاء) يعني أن من الشيوخ من ذهب إلى أن الرجلين ليسا كاليدين والوجه، فالمطلوب فيهما إنما هو الإنقاء من الوسخ ولو زاد على ثلاث، ولا يندب فيهما شفع ولا تثليث. قال ابن راشد في شرح ابن الحاجب: أخبرني من أثق به من الأشياخ أن فرضهما الإنقاء، قال: وهو المشهور، ويؤيده حديث عبد الله بن زيد في صحيح مسلم، (وغسل رجليه حتى أنقاهما
(2)
)، وكذلك ذكر سند أن المشهور في الرجلين نفي التحديد، وأشعر قوله الإنقاء أن الخلاف في غير النقيتين، وأما النقيتان فكسائر الأعضاء اتفاقا كما قاله ابن عرفة. قاله الشيخ عبد الباقي. قال: وبعضهم
(1)
البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:159.- مسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 226.
(2)
مسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث:236.
جعل الخلاف في النقيتين، وعليه فأراد بقوله:"أو المطلوب الانقاء." أنه لا يطلب فيهما شفع ولا تثليث، وإنما الواجب فيهما غسلة واحدة تعمهما إرادة مجازية. انتهى. وما مر من أن معنى قوله:"الإنقاء" من الوسخ المراد به: الوسخ الحائل الذي يطلب إزالته في الوضوء كطين مثلا، أما مطلق الأوساخ غير الحائلة فلا تطلب إزالتها في الوضوء. بهذا قرره الشيخ المسناوي. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. وروى ابن المنذر بإسناد صحيح أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يغسل رجليه في الوضوء سبع مرات. وكأنه بالغ فيهما دون غيرهما؛ لأنهما محل الأوساخ غالبا لاعتيادهم المشي حفاة. والله تعالى أعلم. انتهى. نقله الحطاب. وَهَل تُكرهُ الرابعةُ يعني أن الشيوخ اختلفوا في الغسلة الرابعة، فمنهم من ذهب إلى أنها مكروهة نقله في التوضيح عن صاحب المقدمات وابن الحاجب، وقال النووي: أجمع العلماء على الكراهة، وعليها اقتصر الأمير وابن عاشر، فقال ابن عاشر:
وكره الزيد على الفرض لدى
…
غسل وفي المسح على ما حددا
قوله: الفرض المراد به التقدير الشرعي؛ أي تكره المسحة الثالثة ففوق في الرأس، والثانية ففوق في الأذنين، والغسلة الرابعة في الأعضاء الثلاثة الوجه واليدين والرجلين. أو تمتع يعني أن من الشيوخ من ذهب إلى أن الغسلة الرابعة تمنع. نقله عبد الوهاب واللخمي والمازري. ونقل عن ابن بشير أن الرابعة ممنوعة إجماعا، ونقل سند اتفاق المذهب على المنع، ودليله ما رواه أبو داوود والترمذي: (فمن زاد واستزاد فقد تعدى وظلم
(1)
)، والمراد بالرابعة الغسلة الزائدة على ثلاث غسلات حصل بكل واحدة منها استيعاب العضو، وأما لو لم يستوعب العضو إلا بغرفتين فهو غسلة واحدة فيطلب بغسلتين يوعب العضو بكل منهما. وقوله في الحديث: فمن زاد واستزاد يحتمل معنيين: أحدهما التأكيد، والثاني أن المراد بقوله زاد: فيمن يتوضأ بنفسه فزاد الرابعة، وقوله: استزاد، فيمن يوضئه غيره فطلب من الذي يوضئه زيادة الرابعة. ونقل اللخمي وغيره المنع
(1)
…
هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء. أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:135.
عن المذهب. خلاف أي في ذلك خلاف. قوله: "الرابعة" يعني المأتي بها للعبادة، وأما المأتي بها لتبرد أو تدف أو تنظف فلا تكره ولا تمنع، وهذا الخلاف جار في الوضوء المجدد قبل فعل شيء بالأول مما يتوقف على الطهارة كالصلاة؛ لأنه يصدق على أول غسلة منه أنها رابعة إلا إذا حصل بالمجدد تثليث الأول فلا منع ولا كراهة، ولو قال المصنف الزائدة لكان أحسن لشموله لما زاد على رابعة مع أنه مثله في الاختصار، وقوله:"خلاف" حذف مثله من المسألة الأولى لدلالة هذا عليه، والأنسب في الثانية التعبير بتردد؛ لأن كلا من الشيوخ المذكورين نقل ما ذكره على أنه المذهب، ولم يحك خلافا، وشهر منه أحد القولين فيناسب التعبير بخلاف. والله سبحانه أعلم.
وترتيب سننه يعني أن ترتيب سنن الوضوء في أنفسها مستحب بأن يقدم غسل اليدين إلى الكوعين على المضمضة، ويقدم المضمضة على الاستنشاق والاستنشاق على الاستنثار والاستنثار على مسح الأذنين، فلو استنشق ثم تمضمض لكان تاركا لترتيبها. قاله الشبراخيتي. فمقتضاه أن تقديم الاستنثار على الاستنشاق إنما يفوت مندوبا؛ بأن يدخل الماء الماء في أنفه بلا نية استنشاق ثم يستنثره بنية سنة الوضوء وهو ظاهر المص كغيره. وقد مر القول بأن الاستنشاق والاستنثار سنة واحدة فتأمل ما يقتضي، وما نص عليه المص هنا من أن ترتيب السنن في أنفسها مستحب لم يذكر في التوضيح فيه خلافا، وكذا ابن ناجي في شرح المدونة. ونقل ابن زرقون عن ابن حبيب: يعيد عامد تنكيسه في مفروضه أو مسنونه فأوجب رعي الترتيب في المسنون. قاله الإمام الحطاب. ولما كان ألا يلزم من ترتيب السنن في أنفسها ترتيبها مع فرائضه قال: (وترتيب سننه أو مع فرائضه) يعني أنه يستحب ترتيب السنن مع الفرائض، والمراد بترتيب السنن مع الفرائض فعل السنن في المحل الذي يطلب فعلها فيه مع الفرائض؛ بأن يقدم السنن الأول على الوجه، يعني السنن التي تفعل قبله، والفرائض الثلاث أعني الوجه واليدين ومسح الرأس على مسح الأذنين. فمن رتب السنن في أنفسها ورتبها مع الفرائض أتى بمستحبين، ومن رتبها في أنفسها ولم يرتبها مع الفرائض أتى بمستحب واحد، فمن بدأ بغسل يديه لكوعيه ثم غسل الوجه ثم أتى بباقي السنن التالية لها على ترتيبها ولكنه قدم مسح أذنيه على مسح رأسه أو مسحهما بعد مسح رأسه فعل مستحبا؛ وهو ترتيب السنن في أنفسها وفاته مستحب وهو ترتيب السنن مع الفرائض، ومن رتب السنن
مع الفرائض ولم يرتبها في أنفسها فعل مستحبا وفاته مستحب كمن غسل يديه لكوعيه ثم استنشق ثم تمضمض ثم أكمل وضوءه مرتبا. والله سبحانه أعلم.
وسواك يعني أن السواك أي الاستياك من مستحبات الوضوء، ويفعل قبل المضمضة ليخرج ماؤها ما حصل به. والسواك بكسر السين المهملة يطلق على الفعل وعلى العود، وعلى أن السواك الفعل فهو مصدر ساك فمه يسوكه سوكا، فإن قلت استاك لم تذكر الفم، وجمع السواك بمعنى العود سُوُك بضمتين ككتاب وكتب، وذكر صاحب المحكم أنه يجوز سؤك بالهمز، والسواك قيل إنه مأخوذ من ساك إذا دلك، وقيل من قولهم: جاءت الإبل تتساوك؛ أي تتمايل هزالا، والسواك في اصطلاح العلماء: استعمال عود ونحوه في الأسنان لتذهب الصفرة وغيرها عنها. والله سبحانه أعلم.
والكلام في حكمه ووقته وآلته وكيفيته وحكمتة وفوائده، أما حكمه: فالمعروف في المذهب أنه مستحب. ابن عرفة: والأظهر أنه سنة لدلالة الأحاديث على مثابرته صلى الله عليه وسلم عليه- وإظهاره والأمر به انتهى. والمثابرة بالثاء المثلثة والباء الموحدة: المواظبة، ولا شك أن الأحاديث الواردة في الأمر به والمواظبة عليه كثيرة منها، حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة
(1)
) متفق عليه، ومجمع على صحة إسناده رواه البخاري من طريق مالك، ومسلم من طريق سفيان بن عيينة، ورواه أيضا أبو داوود والنسائي وابن ماجه
(2)
وفي الموطإ: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك
(3)
)، ورواه الشافعي عن مالك مرفوعا، وقوله: لأمرتهم؛ أي على جهة الوجوب دون الندب؛ إذ هو مندوب إليه وليس في الندب إليه مشقة؛ لأنه إعلام بفضيلته واستدعاء لفعله لا فيه من جزيل الثواب، وفي حديث ابن شهاب: (لولا أن يُشَق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء
(4)
) وفي الإكمال: لا خلاف أنه مشروع عند الوضوء، وعند الصلاة مستحب فيهما لنصه أنه لم يأمر به، إلا ما ذكر عن داوود أنه واجب لظاهر
(1)
البخاري، كتاب التمني، رقم الحديث:2240. ومسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 252.
(2)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:47. النسائى، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 7. ابن ماجه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:287.
(3)
الموطأ، ما جاء في السواك، رقم الحديث:143. ومسند الشافعي، رقم الحديث: 54.
(4)
الموطأ، ما جاء في السواك، رقم الحديث:144.
قوله عليه الصلاة والسلام: عليكم بالسواك
(1)
، وقوله صلى الله عليه وسلم: (استاكوا
(2)
). وقال النووي: السواك سنة ليس بواجب في حال من الأحوال لا في الصلاة، ولا في غيرها بإجماع من يعتد به في الإجماع. وقد حكي عن داوود أنه أوجبه للصلاة. وقال الماوردي: هو عنده واجب ولو تركه لم تبطل صلاته: وقد أنكر المتأخرون على الشيخ أبي حامد وغيره نقل الوجوب عن داوود وقالوا إن مذهبه أنه سنة كالجماعة: ولو صح إيجابه عن داوود لم تضر مخالفته في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه المحققون، وأما إسحاق فقد حكي عنه أنه واجب إن تركه عمدا بطلت صلاته لكن لم يصح ذلك عنه، وَأما وقته فهو مستحب في جميع الأوقات، وتأكد بوضوء وصلاة بطهارة أم لا كمن لم يجد ماء ولا صعيدا على القول بأنه يصلي، وعند قراءة قرآن، ويقظة من نوم، وعند تغير فم بترك أكل وشرب: وبأكل ماله رائحة كريهة، وبطول السكوت وكثرة الكلام، ولو بقرآن ولطهارة ترابية. وأما آلته فهي عيدان الأشجار؛ لأنه سنته صلى الله عليه وسلم وسنة السلف، وأفضله الأراك سواء كان العود رطبا أو يابسا إلا لصائم فيكره بأخضر نهارا لم يجد له طعما، وحرم على صائم بجوزة محمرة فإن لم يجد أراكا فبشيء خشن. وفي المغني: وأفضل ما يستاك به عود الأراك، وكونه باليد اليمنى وليس في السواك قسم جائز جوازا مستوي الطرفين، وندب كون السواك متوسطا بين الليونة واليبوسة، ولا يزاد على شبر فلو زاد ولو قدر إصبع ركب الشيطان على الزائد فقط. ويحتمل عليه بتمامه، وركوبه يحتمل الحقيقة وغيرها كوسوسة لصاحبه. وأما كيفيته فإنه يندب كونه باليد اليمنى، وجعل الإبهام والخنصر تحته والثلاثة فوقه، ولا يقبض عليه، أي حال استياكه فقط فيما يظهر، لأنه يورث البواسير والنسيان، ويمره على أطراف أسنانه وكراسي أضراسه وسقف حلقه إمرارا لطيفا. ويندب بدء به من الجانب الأيمن من فيه، وتسميته في بدئه، وكونه عرضا في الأسنان حتى باطنها مخالفة للشيطان، وطولا في اللسان والحلق. وفي المغني أنه يستحب أن يكون إبهامه تحت العود، والسبابة فوقه، وبقية الأصابع تحته. واستبعده الحطاب. ويروى عن النبي -صلى الله عليه
(1)
الجامع الصغير، رقم الحديث:5530. وابن حبان، رقم الحديث: 1070.
(2)
السنن الكبرى للبيهقي، ج 1 ص 36.
وسلم-: (واستاكوا عرضا وادهنوا غبا
(1)
)؛ أي يوما بعد يوم، (واكتحلوا وترا
(2)
) فالسواك عرضا أسلم للثة من التقلع، والادهان إذا كثر أفسد الشعر. نقله الحطاب. عن القرافي. وفيه عنة أيضا: والسواك وإن كان معقول المعنى فعندي ما عري عن شائبة تعبد، من جهة أن الإنسان لو استعمل الغاسولات الجلاءة عوضا من العيدان لم يأت بالسنة. انتهى. وفي الحطاب: والمستحب أن يستاك بعود متوسط لا شديد اليبس يجرح، ولا رطب لا يزيل، ويستحب أن يستاك عرضا ولا يستاك طولا ليلا يدمى لحم أسنانه، فإن خالف واستاك طولا حصل السواك مع الكراهة. انتهى. وقال في المدخل: وإذا أراد أن يستاك بسواكه غسله، إلا أن يكون عند فراغه من السواك الأول غسله، والأطيب للنفس غسله مطلقا إلا أن يكون بين ثيابه، أو بموضع تطيب به نفسه. والله أعلم. وورد في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها (أنها سئلت بأي شيء يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته فقالت بالسواك
(3)
)، قال في الإكمال: معناه تكراره لذلك ومثابرته عليه، وأنه كان لا يقتصر فيه في نهاره وليله على المرة الواحدة بل على المرار المكررة، وخص بذلك دخوله بيته، لأنه مما لا يفعله ذو المروءات بحضرة الناس، ولا يحب عمله في المسجد، ولا في المجالس الحفلة. انتهى. ورد الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد هذا المعنى بحديث أبي موسى رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستاك وطرف السواك على لسانه يقول أع أع والسواك في فيه كأنه يتهوع
(4)
)، وقال: إن بعضهم ترجم على هذا الحديث باستياك الإمام بحضرة رعيته، ورجح هذا المعنى. وأن السواك من باب العبادت والقرب فلا يطلب إخفاؤه. والله أعلم. قاله الإمام الحطاب. وقد مر عن ابن عرفة أن الأظهر أنه سنة لمثابرته عليه صلى الله عليه وسلم، ولإظهاره والأمر به، قال الشيخ الأمير: وهو وجيه وإن كان خلاف المشهور. انتهى. وقد مر عن القرافي أن من استعمل الغاسولات الجلاءة لم يأت بالسنة وقال ابن العربي: ظن بعض الناس أن كل سواك يصبغ اللثات والشفاه مكروه لا في ذلك من
(1)
المقاصد الحسنة، الباب الثامن، رقم الحديث:98.
(2)
المغني، ج 1 ص 135.
(3)
مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:253.
(4)
البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:244. - مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 254.
التشبه بالنساء وهذا ضعيف، فإن الكحل جائز، وفيه التشبه بهن. وقال بعض المتأخرين من الأئمة: من تمضمض بغاسول لا يجزئه، وهذا لا يصح، لأن الغرض إزالة القلح فبأي وجه حصل جاز انتهى نقله الحطاب قال وفي رده كراهة ذي الصبغ نظر لأن مالكا كره الاكتحال للتشبه بهن وإن لم يجد غير الإصبع، واستاكَ بها فلا يدخلها الإناء خوف إضافة الماء وكره الاستياك بالشمال لأنها مست الأذى، وقيل إن الاستياك باليد اليسرى، وليتق في ذلك أن يكون بقوة؛ لأنه يزيد في البلغم ويضيف الماء بما يتقلع منها، وربما أجرى دما أو أثار رائحة كريهة. وفي سماع أشهب: استحباب غسلها مما عسى أن يكون بها. خلافا لابن عبد الحكم فإن أدخلها قبل غسلها فقال مالك: لا بأس به، واستخفه ليسارة ما عليها، وفضل الأخضر للمفطر. وظاهر التلقين: هماله سواء. وفي التوضيح: وفضل الأخضر لكونه أبلغ في الإنقاء. قاله الإمام الحطاب. وفي شرح الشيخ عبد الباقي: وابلع ريقك من أول ما تستاك، فإنه ينفع من الجذام والبرص وكل داء غير الموت، ولا تبتلع بعده شيئا فإنه يورث الوسوسة، ولا تمس بالسواك شيئا فإنه يورث العمى، ولا تضع السواك إذا وضعته عرضا وانصبه نصبا؛ فإنه روي عن سعيد بن جبير: من وضع سواكه بالأرض فجن فلا يلومن إلا نفسه، ولا يستاك بعود رمان أو ريحان لتحريكهما عرق الجذام، ولا بقصب لتوليده الأكلة والمرض، ولا بقصب الشعير والحلفاء والعود المجهول مخافة أن يكون من المحذر منه، ولا يفعل في المسجد كراهة. وأما حكمته: فاعلم أن الحكمة في مشروعيته تطييب الفم للملائكة الحافظين، والذي يضع فاه على فيك عند قراءة القرءان. وأما فوائده فإن فيه خصالا: يذهب الحفر؛ أي فساد أصول الأسنان: ويجلو البصر ويشد اللثة؛ وهي لحم الأسنان، ويطيب الفم، وينفي البلغم، وتفرح به الملائكة، ويرضي الرب، ويوافق السنة، ويزيد في حسنات الصلاة، ويصحح الجسد، ويزيد الحافظ حفظا، وينبت الشعر، ويصفي اللون، وتبلغ الصلاة بالسواك والتخلل من أثر الطعام -لتأذي الملائكة ببقاياه عند صلاة الإنسان- مائة صلاة، سبعون للسواك، وثلاثون للتخلل. وعن كعب: من أحب أن يحبه الله فليكثر من السواك
والتخلل فإن الصلاة بهما مائة صلاة
(1)
) ويسهل طلوع الروح ويذكر الشهادة عند الموت، قال الشيخ إبراهيم -ولعل لهذا أشار ناظم مقدمة ابن رشد-:
وفي السواك خصلة جميله
…
لكنهم عدوه في الفضيله
ودخل سيدنا علي رضي الله عنه على سيدتنا فاطمة رضي الله عنها فرآها تستاك فأنشد:
هنئت يا عود الأراك بثغرها
…
ما خفت مني يا أراك أراكا
لو كان غيرك يا سواك قتلته
…
ما فاز منى يا سواك سواكا
وإن بأصبع يعني أن الإصبع تحصل به سنة السواك، وظاهره سواء كان السواك بالإصبع في مضمضة أو كان من غير ماء فالأول قال سند: يقوم مقام السواك الخفيف؛ فإنه يؤثر زيادة على محض المضمضة في التنظيف انتهى. والثاني قال سند: ذكر ابن الصباغ فيه خلافا، فقال بعض أهل العراق ذلك سواء، وأنكره غيره، وقال ليس الأصبع بأن يكون سواكا للسن بأولى من أن يكون السن سواكا للإصبع. انتهى. قاله الحطاب. ولأفضلية غير الأصبع على الأصبع بالغ عليها، ولذا قال في التوضيح. ما ذكره ابن الحاجب من أرجحية غير الأصبع عليه هو الذي عند أهل المذهب. وظاهر أبي محمد أن الأصبع كغيره. انتهى قاله الشيخ عبد الباقي وغيره. وفي الحطاب: وأما الأصبع فإن كانت خشنة حصل بها السواك، وإن كانت لينة لم يحصل بها. انتهى. وقوله:"وإن بأصبع" قال الشيخ عبد الباقي: مع المضمضة ليكون ذلك كالدلك، ونحوُه قول الرسالة: وإن استاك بأصبعه فحسن، روي بالإفراد؛ أي السبابة، وبالتثنية؛ أي السبابة والإبهام من اليمنى. وقوله:"وإن بأصبع" محله: إذا لم يجد غيره من آلات الاستياك، ففي سماع ابن القاسم: فإن لم يجد سواكا فبأصبعه يجزئ. قاله غير واحد.
(1)
الفجر المنير في الصلاة على البشير النذير، ج 1 ص 64.
تنبيه لا بأس باستعمال سواك غيره بإذنه، ويستحب أن يعود الصبي السواك ليعتاده. قاله الإمام الحطاب. وتحصل مما مر أنه إن استاك بأصبع حرشاء من غير ماء، ففي إجزائه قولان ذكرهما سند كصلاة بعدت منه أي من السواك، يعني أن السواك يستحب لكل صلاة بعدت من السواك بمعنى الاستياك: فالسواك في كلام المصنف بالمعنى المصدري، وقوله:"كصلاة بعدت منه" سواء كان متطهرا بماء أو تراب أو غير متطهر، كمن لم يجد ماء ولا ترابا على القول بأنه يصلي كذلك، فتندب له إعادة السواك إلا بمسجد.
وتسمية يعني أنه يستحب للمتوضئ أن يأتي بالبسملة عند ابتداء وضوئه، وهل يتمها؟ قولان: قال عبد الباقي: ومفاد الفاكهاني وابن المنير أن إتمامها أفضل. انتهى. قال البناني: بل هو صريح كلامهما، ففيه عنهما ما معناه: وإتمامها أفضل: فبسم الله الرحمن الرحيم أفضل من بسم الله فقط كما هو صريح كلام الفاكهاني وابن المنير، ولا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظ ابن المنير: وفضائله ست: البسملة مكملة بخلاف الذبيحة، ولما ذكر الفاكهاني أنها لا تكمل في الذبح قال بخلاف التسمية عند الأكل والشرب والوضوء والقراءة ونحو ذلك، فإنه يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فإن قال بسم الله خاصة أجزأه. انتهى. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. وقيل لا يكمل البسملة، وفي الشاذلي، أنهما قولان مستويان. قاله الشيخ عبد الباقي. وهذا الخلاف جار في التيمم أيضا كما نص عليه الشيخ عبد الباقي، ومن فضائل الوضوء أيضا الصمت إلا عن ذكر الله عز وجل، واستقبال قبلة، وجلوس على مرتفع، وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء
(1)
)، ورواه أبو داوود وابن ماجه، وقالا فيحسن الوضوء. زاد أبو داوود: ثم يرفع طرفه إلى السماء ثم يقول إلخ. وفي الجامع الكبير: (من قال حين يفرغ من وضوئه أشهد أن لا إله إلا الله ثلاث مرات لم يقم حتى تمحى ذنوبه حتى يصير كما ولدته أمه
(2)
)، وقد تقدم ما زاده أبو داوود ثم يرفع طرفه إلى السماء، ثم يقول
(1)
مسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث:234. وأبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 169. وابن ماجه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:470.
(2)
الجامع الكبير، رقم الحديث:22640.
لخ رواه الترمذي كأبي داود. وزاد فيه اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، وتكلم فيه. انتهى. زاد السيوطي في عمل اليوم واليلة أن يقول بعد ذلك: (سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع في داري، وبارك في رزقي، وقنِّعني بما رزقتني ولا تفتني بما زويت عني، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرأ سورة القدر ثلاثا
(1)
)، انتهى. وقال الحافظ المنذري: وعن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا [أنت
(2)
] أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رق ثم جعل في طابع فلم يكسر إلى يوم القيامة
(3)
) رواه الطبراني في الأوسط، ورواته رواة الصحيح. نقله الشيخ محمد بن الحسن بناني.
واعلم أن ما يقال عند كل عضو حديثه ضعيف جدا لا يعمل به، فقول الأقفهسي إنه مستحب فيه نظر، وفي المنهاج: وحديث الأعضاء لا أصل له. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: "وتسمية" وروي الإباحة والإنكار، وصيغة رواية الإنكار أهو يذبح ما علمت من يفعل ذلك.
واعلم أن من الأفعال ما شرعت فيه التسمية سواء كان قربة كالطهارة، أو مباحا كالأكل، ومنها ما لا تشرع فيه كالأذان والحج والذكر والدعاء، ومنها ما تكره فيه كالمحرمات والمكروهات؛ لأن المقصود بها البركة، والحرام والمكروه لا يراد الإكثار منهما. قاله في التوضيح.
وتشرع يعني أن هذه الأمور التي تذكر تشرع فيها التسمية؛ أي تطلب شرعا، فيشمل الواجب والمسنون والمندوب كما سأبينه إن شاء الله تعالى، وقد تقدم أنها تجب في الذكاة مع الذكر والقدرة، وتسقط مع العجز والنسيان، وتسن في الأكل والشرب، وتندب فيما عدا ذلك، ثم إن الواجب في الذكاة إنما هو مطلق ذكر اسم الله، ولو قال الله لكفى ذلك. والله سبحانه أعلم.
في غسل متعلق بتشرع؛ يعني أن التسمية تشرع في الغسل، أي الاغتسال، ومعنى تشرع في الغسل تندب فيه أي تندب في ابتدائه ولو من حرام وتيمم يعني أن التيمم تشرع في ابتدائه التسمية أي
(1)
عمل اليوم والليلة للسيوطي، ص 6.
(2)
في الأصل: الله، والمثبت من البناني ج 1 ص 73.
(3)
النسائي في سننه، الحديث 9822. والطبراني، الحديث: 1455.
تندب في ابتدائه وهل يكملها بأن يقول بسم الله الرحمن الرحيم يجري فيه الخلاف الجاري في الوضوء وقد تقدم قريبا فراجعه إن شئت وأكل يعني أن الأكل تشرع التسمية في ابتدائه أي تسن فيه وهذا هو الراجح، وقيل إنها مستحبة في الأكل، وعلى أنها سنة في الأكل فالراجح أنها سنة عين، وقيل إنها سنة كفاية. قاله الشيخ إبراهيم.
وشرب يعني أن التسمية تشرع في ابتداء الشرب أي تسن فيه، وهي فيه سنة عين قطعا. قاله الشيخ إبراهيم. وندب الجهر بها ليذكر الغافل ويعلم الجاهل: وإن كان المأكول أو المشروب غير لبن زاد على التسمية: (اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وزدنا خيرا منه، وإن كان لبنا قال: وزدنا منه، فإن نسي التسمية في أوله قال في أثنائه، بسم الله في أوله وآخره
(1)
). رواه أبو داوود والترمذي وابن حبان. فإن لم يتذكر حتى فرغ قرأ سورة الإخلاص فإن الشيطان يتقايأ ما أكله، وصرح في المقدمات بأن الحمد عند الفراغ من الأكل سنة، وذكر بعض شراح الرسالة أنه مستحب: وينبغي أن يكون سرا ليلا يخجل الحاضرين. وكان صلى الله عليه وسلم يقول عند فراغه من الأكل: (الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه
(2)
)، قاله الشيخ إبراهيم، (وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة في الشاة المسمومة التي أهدتها إليه اليهودية أن اذكروا اسم الله عليه وكلوا فأكلوا فلم يصب أحدا منهم شيء
(3)
). رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين. وإن أكل مع مجنون أو ذي عاهة فقال: (بسم الله ثقة بالله وتوكلا لم يضره
(4)
) رواه أبو داوود والترمذي، وإذا أكل طعاما فليقل: (اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه، فإن كان لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه
(5)
)، وفي الحديث: فإذا فرغ من الأكل والشرب قال: (الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مَكْفِىٍ ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا
(6)
)، وفيه: الحمد لله الذي كفانا وآوانا
(1)
أبو داود الحديث. 3767. والترمذي، الحديث: 1858. وابن حبان، الحديث:5191. وانظر سنن أبى داود، الحديث: 3730. والترمذي، الحديث:3455.
(2)
سنن ابن ماجه، كتاب الأطعمة، رقم الحديث:3283. ولفظ الحديث ورد في: صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم الحديث: 600. وانظر البخاري، كتاب الأطعمة، الحديث:5458.
(3)
الحاكم في المستدرك، ج 4 ص 109.
(4)
أبو داود في سننه، كتاب الطب، رقم الحديث:3925.
(5)
أبو داود، كتاب الأشربة، رقم الحديث:3730.
(6)
البخاري، رقم الحديث:5458.
وأروانا غير مكفي ولا مكفور
(1)
) قاله في الحصن الحصين، وفيه: وإذا غسل يديه قال: (الحمد لله الذي يُطعِم ولا يُطعَم منَّ علينا بهذا وأطعمنا وسقانا وكل بلاء حسن أبلانا
(2)
)، وعزاه للنسائي وابن حبان. وفيه أيضا: ويدعو لأهل الطعام: (اللهم بارك لهم فيما زرقتهم واغفر لهم وارحمهم
(3)
)، وفيه أيضا: (اللهم أطعم من أطعمني واسق من سقاني
(4)
). انتهى.
وذكاة يعني أن التسمية تشرع في الذكاة أي تجب فيها مع الذكر والقدرة بأنواعها الأربعة: ذبح، ونحر، وعقر، وما يموت به نحو الجراد، ولا يقول هنا الرحمن الرحيم، وتسقط التسمية في الذكاة مع العجز والنسيان، ويزيد والله أكبر، وقد علمت أن الواجب في الذكاة إنما هو مطلق ذكر اسم الله، انظر تحقيق ذلك في باب الذكاة إن شئت وركوب دابة يعني أن التسمية تشرع عند ركوب الدابة؛ أي تندب، ويزيد على ذلك ما رواه الطبراني عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال إذا ركب دابة بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء سبحانه ليس له سمي سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعليه السلام قالت الدابة بارك الله عليك من مؤمن خففت على ظهري، وأطعت ربك وأحسنت إلى نفسك، بارك الله في سفرك، وأنجح حاجتك
(5)
) انتهى من مسالك الحنفاء. قاله الشيخ إبراهيم الشبراخيتي.
وسفينة؛ يعني أن التسمية تشرع عند ركوب السفينة؛ أي تندب مع زيادة بسم الله الملكُ لله، وما قدروا الله حق قدره الآية، وقال اركبوا فيها بسم الله الآية. قال ابن عباس: وهي أمان للسفينة من الغرق قال أبو زميل: وصلت إلى ساحل تونس فوجدت بالساحل اثنين وعشرين سفينة موسقة بالطعام، فدخلت في إحداهن، وقلت الكلمات، وقرأت الآيات، فجرت السفن بريح طيبة إلى ثلث الليل، ثم عصفت الريح وعظم الموج فما وصل إلى ساحل الأندلس غير السفينة التي كنت فيها،
(1)
البخاري، رقم الحديث:5459.
(2)
النسائي في السنن الكبرى، رقم الحديث، 10060.
(3)
مسلم، كتاب الأشربة، رقم الحديث 2042. وأبو داود، كتاب الأشربة، رقم الحديث: 3729.
(4)
صحيح مسلم، كتاب الأشربة، رقم الحديث:2055.
(5)
الدعاء للطبرانى، الحديث 776.
ولم ير لباقيهن أثر. وفي رواية أنه قال من قال حين يركب البحر: بسم الله الملك لله يا من له السماوات خاضعة، والأرضون السبع طائعة، والجبال الشامخة خاشعة، والبحار الزاخرة خاضعة، احفظني فأنت خير حافظا، وأنت أرحم الراحمين، وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيمة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وعلى جميع النبيين والمرسلين والملائكة المقربين، وقال اركبوا فيها الآية. ثم التفت ابن عباس إلى أصحابه وقال: إن غرق قائلها أو عطب فعلي ديته. وعن عبد الله بن عمر قال: أمان من الغرق والتعب أن يقول من ركب البحر: بسم الله الرحمن الرحيم وما قدروا الله حق قدره الآية: وقال اركبوا فيها بسم الله الآية، فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك الآية، إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا الآية، إني توكلت على الله ربي وربكم الآية، والله من ورائهم محيط الآية: قاله الشيخ إبراهيم الشبراخيتي.
ودخول وضده لمنزل يعني أن التسمية تشرع أي تندب عند دخول المنزل، وكذلك تشرع أي تندب عند الخروج من المنزل: فقوله: "وضده" مراده به الخروج من المنزل. وقوله: "لمنزل" راجع للأمرين، وهما الدخول والخروج. والله سبحانه أعلم. ويزيد في الدخول: اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج بسم الله ولجنا وبسم الله خرجنا وعلى الله توكلنا. وفي الخروج: توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله اللهم إني أعوذ بك أن أضل أوأضل، أو أزِل أو أزَل، أو أظلِم أو أظلَم، أو أجهل أو يُجهل علي، بسم الله التكلان على الله لا حول ولا قوة إلا بالله. قاله الشبراخيتي وقوله:"لمنزل" الظاهر أنه ظرف مستقر في موضع الصفة لما قبله. والله سبحانه أعلم ومسجد عطف على قوله "لمنزل"؛ يعني أن التسمية تشرع عند الدخول في المسجد أي تندب، وكذلك تشرع أي تندب عند الخروج منه، ويزيد في الدخول: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم بسم الله، والحمد لله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، وكذا في الخروج لكن يقول: أبواب فضلك، اللهم إني أعوذ بك من إبليس وجنوده، قاله الشيخ إبراهيم الشبراخيتي. ويقول أيضا عند دخول المسجد: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله.
ولبس بضم اللام؛ يعني أن التسمية تندب عند لبس الثوب، وكذا تندب عند نزعة. وفي الشامل: ولبس ثوب ونزعه. قاله الإمام الحطاب. ومثل الثوب نحوه من رداء وعمامة، ويزيد عند اللبس: اللهم إني اسألك من خيره وخير ما هو له، وأعوذ بك من شره وشر ما هو له، الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، وإن كان جديدا قال: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه اسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له، الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي، قاله الشيخ إبراهيم. وجاء من لبس ثوبا جديدا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قالد الشيخ عبد الباقي.
وغلق باب يعني أن التسمية تندب عند غلق الباب وكذا فتحه فيما يظهر. قاله الشيخ أحمد. نقله الشيخ عبد الباقي. وإطفاء مصباح يعني أن التسمية تشرع أي تندب عند إطفاء المصباح، وكذا وَقِيده كما استظهره الشيخ أحمد الزرقاني. وقال الإمام الحطاب: وأما عند إغلاق الباب وإطفاء السراج ففي الحديث أنه يقول: بسم الله، فإن اقتصر عليه أجزأه، وانظر هل الأولى إضافة الرحمن الرحيم إلى ذلك في هذا الموضع الخاص، أو الاقتصار على ما يفهم من الحديث المذكور. انتهى ووطء يعني أن التسمية تندب عند الوطء المباح، وأما الوطء المحرم أو المكروه فهل تحرم فيهما، أو تكره فيهما، أو تحرم في المحرم وتكره في المكروه؟ أقوال ثلاثة، ومثلوا للوطء المكروه بوطء الجنب: ثانيا قبل غسل فرجه، ومنه وطؤه المؤدي إلى انتقاله للتيمم على ما يأتي في قوله:"ومنع مع عدم ماء تقبيل متوض وجماع مغتسل". وإذا قلنا إن التسمية في الوطء المباح مندوبة فيزيد معها: اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ويقرأ قبله الإخلاص ثلاثا، ويسبح ويهلل ويكبر ويقول: بسم الله العلي العظيم، اللهم ذرية طيبة إن كنت قدرت ولدا يخرج من صلبي، ويُجْرِي على قلبه وقت الإنزال: الحمد لله الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا، ولا يتلفظ به. وروى ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقيض بينهما ولد لم يضره
الشيطان أبدا
(1)
). عياض: قيل المراد به أنه لا يصرعه الشيطان، وقيل لا يطعن فيه عند ولادته بخلاف غيره، ولم يحمل على العموم في جميع الصور لوجود الوسوسة والإغراء؛ يعني الحمل على فعل المعاصي. انتهى. وهذا التأويل الأخير يرده الحديث الذي فيه أنه لا ينجوا من ذلك إلا عيسى ابن مريم وأمه صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما لقوله تعالى:{وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
(2)
)، وقال الداوودي: لم يضره بأن يفتنه بالكفر.
وصعود خطيب منبرا يعني أن التسمية تندب للخطيب عند صعوده للمنبر، وكذا تندب في التلاوة: والنوم: وابتداء الطواف، وصلاة نافلة، ودخول خلاء، وخروج منه: ولا تشرع في حج، وعمرة، وأذان، وذكر، وصلاة فرض، ودعاء.
وتغميض ميت يعني أنه يندب لمن يغمض الميت أن يقول عند تغميضه بسم الله، ويزيد: وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم يسر عليه أمره، وسهل عليه موته، وأسعده بلقائك، واجعل ما خرج إليه خيرا مما خرج عنه. قاله الشبراخيتي. وفي الحصن الحصين: عن مسلم (وإذا غمضه و
(3)
دعا لنفسه بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما يقول اللهم اغفر لي وله، وأعقبني منه عقبى حسنة وفيه أيضا عنه: (اللهم اغفر لفلان وارفع درجته في المهتدين، واخلفه في عقبه من الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونوره فيه
(4)
).
ولحده يعني أنه يندب لمن يضع الميت في لحده أن يقول عند لحده؛ أي إلحاده؛ أي وضعه في اللحد: بسم الله قال أشهب: يستحب أن يقول بسم الله، وعلى ملة رسول الله
(5)
)، وإن دعا بغير ذلك فحسن. انتهى قاله الحطاب. وفي الحصن الحصين عن الحاكم في المستدرك: وإذا وضع في القبر قال: منها خلقنكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى، بسم الله، وفي سبيل الله،
(1)
البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، رقم الحديث:6388. ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، رقم الحديث. 1434.
(2)
صحيح البخاري، كتاب التفسير، الحديث:4548. ومسلم، كتاب الفضائل، الحديث: 2366.
(3)
في الحصن الحصين: غمضه دعا. ص 130.
(4)
وإذا غمضه دعا لنفسه بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما يقول فيقول اللهم اغفر لفلان وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين وأغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه. الحصن الحصين لابن الجزري ص 130.
(5)
ابن حبان، الحديث:3099.
وعلى ملة رسول الله
(1)
). وفي الحديث: لا وضوء لمن لم يسم الله
(2)
). ابن حبيب: يعني بالتسمية أن ينوي طهر الصلاة، فمن لم ينو ذلك لم تجزه الصلاة، وإن كان سابغا مثل أن يتوضأ تنظفا وتبردا، وكذلك قال مالك. قاله الحطاب. ويقال مع التسمية عند إلحاده أيضا: اللهم أسلمه إليك الأشحاء من ولده وأهله وقرابته وإخوانه، وفارق من كان يحب قربه، وخرج من سعة الدنيا والحياة إلى ظلمة القبر وضيقه، ونزل بك وأنت خير منزول به، إن عاقبته فبذنب، وإن عفوت عنه فأنت أهل للعفو، أنت غني عن عذابه وهو فقير إلى رحمتك، اللهم اشكر [حسنته
(3)
]، واغفر سيئته، وأعذه من عذاب القبر، واجمع له برحمتك الأمن من عذابك، واكفه كل هول دون الجنة، اللهم اخلفه في تركته في الغابرين، وارفعه في عليين، وعد عليه بفضل رحمتك يا أرحم الراحمين. نقله الشيخ إبراهيم. وفي الرياض أنه ليس يصحب المؤمن في قبره شيء خير من الاستغفار الكثير، وفيه أن عذاب القبر من ثلاثة أشياء: من الغيبة، والنميمة، والبول، وفيه: وليتعاهد قراءة تبارك الذي بيده الملك في كل ليلة، فإنه جاء (أنها المانعة من عذاب القبر
(4)
).
ولا تندب إطالة الغرة يعني أن إطالة الغرة؛ وهي الزيادة في مغسول الوضوء على محل الفرض لا تندب، بل هي مكروهة؛ لأنها غلو في الدين. قاله ابن مرزوق. وأما خبر الصحيحين: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل
(5)
) لا حجة فيه للمخالف؛ لأن قوله: فمن استطاع مدرج في الحديث من كلام أبي هريرة كما نقله ابن تيمية وابن القيم وابن جماعة عن جمع من الحفاظ. وقال الحافظ بن حجر: لم أر هذه الزيادة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة؛ وهم عشرة، ولا من رواه عن أبي هريرة غير زيادة نعيم بن عبد الله هذه. انتهى؛ أي فهي شاذة، ولو سلم عدم الإدراج وعدم الشذوذ فلم يصحبه عمل أهل المدينة وهو عندنا من أصول الفقه، والمراد بالإطالة في الحديث: إدامة الوضوء
(1)
الحصن الحصين، ص 464.
(2)
الترغيب ج 1 ص 123. الحديث: 319.
(3)
في الأصل: حسنه، والمثبت من الشبراخيتى ج 1 مخطوط.
(4)
الترمذي، كتاب فضائل القرآن، الحديث:2890.
(5)
البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:136. ومسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 246. واللفظ للبخاري.
والمواظبة عليه لكل صلاة فتقوى غرته بتقوية نور أعضائه، والمنفي عندنا الزيادة على محل الفرض، وندب الوضوء لكل صلاة معلوم من باب التجديد، ولا يعلم من المصنف عين الحكم، وقد علمت أنه الكراهة. والله سبحانه أعلم. وقال ابن عبد السلام: ينبغي عَدُّ إطالة الغرة من الفضائل لا ثبت فيها. قاله الشيخ إبراهيم، وقال هو وغيره: إن هذه الزيادة مما انفرد بها أبو هريرة، ولم يذكرها أحد ممن وصف وضوءه عليه الصلاة والسلام. انتهى. وقد مر الكلام على الغرة والتحجيل أول الفصل فراجعه إن شئت.
ومسح الرقبة يعني أن مسح الرقبة لا يندب في الوضوء، بل يكره لعدم وروده في وضوئه عليه الصلاة والسلام، وقال أبو حنيفة: إنه مندوب لخبر أبي نعيم عن أبي هريرة: (من توضأ ومسح يديه على عنقه أمن من الغل
(1)
). وترك مسح الأعضاء يعني أنه لا يندب للمتوضئ ترك مسح الأعضاء أي لا يندب له ترك تنشيفها بخرقة، بل يجوز خلافا للشافعية في استحبابهم ترك ذلك وكراهتهم له، وفي المدونة: لا بأس بالمسح بالمنديل بعد الوضوء: وقيل لمالك: أيفعل ذلك قبل غسل رجليه ثم يغسل رجليه بعد؟ قال: نعم، وإني لأفعله، وظاهر الجلاب منعه قبل تمامه لتفريق الطهارة من غير عذر، ولا حجة لندب عدم المسح في خبر ابن عساكر عن أبي هريرة مرفوضا: (من توضأ فمسح بثوب نظيف فلا بأس به: ومن لم يفعل فهو أفضل؛ لأن الوضوء يوزن يوم القيامة مع سائر الأعمال
(2)
)؛ لأنه ضعيف الإسناد: ولا حجة أيضا فيما أخرجه ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب أنه كَرِهَ المنديل بعد الوضوء، وقال هو يوزن؛ لأنه قول مجتهد. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: قيل لمالك أيفعل ذلك الخ أبو الحسن: إنما توهمه لما فيه من الشغل عن الوضوء وتفريقه، وقد جوز في الصلاة الشغل اليسير: وعفي عنه فيها، فكيف بالوضوء؟ وقد قالوا فيما يتعلق بالجبهة والكفين من التراب في الصلاة: إن له أن يزيل ذلك داخلها وأحرى خارجها: وقيل إنما يزيل ذلك خارج الصلاة، والأول شهره ابن ناجي، وفيها: ومن كثر التراب بجبهته أو كفيه فله مسحه. انتهى، فظاهرها مطلقا. قاله الثسيخ محمد بن الحسن.
(1)
الإتحاف، ج 2 ص 365.
(2)
الإتحاف، ج 2 ص 371.
وإن شك في ثالثة ففي كراهتها قولان يعني أن من تيقن غسلتين، وشك في الثالثة من غسلات وضوئه، فقد اختلف في كراهة الإتيان بغسلة لدفع الشك، والعلة في الكراهة احتمال كونها رابعة، وهي مكروهة أو ممنوعة كما مر، وعدم الكراهة فتكون باقية على الأمر بالإتيان بها كما في الصلاة فإنه قال: يصلي ما شك فيه؛ لأن الذمة لا تبرأ إلا بيقين. والقول بالكراهة قال ابن ناجي: هو الحق عندي، وبه أدركت كل من لقيته يفتي. قاله الإمام الحطاب. وقال في الشامل: هو الظاهر قاله الخرشي.
وعلم مما قررت أن الشك بين ثالثة ورابعة، وأما لو كان بين ثالثة وثانية فلا إشكال في إتيانه بها، وأن قوله: وهل تكره الرابعة أو تمنع في الرابعة المحققة قال كشكه في يوم عرفة يعني أن الإمام المازري قال من عند نفسه، يتخرج على هذين القولين المنصوص عليهما في الثالثة المشكوك في كونها رابعة قولان فيمن شك في يوم من ذي الحجة هل هو اليوم التاسع منه؟ وهو يوم عرفة، فيندب صومه، أو اليوم العاشر؟ وهو يوم النحر، فيمنع صومه. وحاصل هذا أنه إذا شك في اليوم التاسع من ذي الحجة أن يكون هو يوم النحر يجري في صومه قولان بين المنع والندب قياسا على الغسلة التي يشك في كونها ثالثة أو رابعة، فإن الشيوخ اختلفوا فيها على قولين بين الندب والكراهة وبما قررت علم أن مقابل الندب هنا المنع، وفي السابقة مقابل الندب الكراهة، خلاف ما قرره به الإمام الحطاب من أن مقابل الندب في مسألة الصوم الكراهة. وقوله:"في يوم عرفة" في بعض النسخ في صوم بزيادة لفظ "صوم" بين في ويوم عرفة، وهي غير ظاهرة لإيهامها أن الشك متعلق بالصوم لا باليوم، وبين المصنف حقيقة الشك بقوله هل هو العيد أي أن من شك في يوم هل هو العيد أو عرفةُ يجري فيه ما سبق. قال الشيخ عبد الباقي: ولو قال: كشكه في يوم هل هو عرفةُ أو العيد لسلم من إيهامه؛ لأن الحكم بأنه يوم عرفة ينافي الشك فيه، إلا أن يراد بالحكم بأنه يوم عرفة باعتبار ما أشيع عند الناس. وقال البرزلي: من توضأ في ظلمة كفاه غلبة ظنه أن الماء أتى على ما يجب تطهيره، ولا تندب إعادة الصلاة. قاله عز الدين. قاله الشيخ عبد الباقي. ويقبل إخبار الغير بكمال الوضوء والصوم كما في ابن عرفة، وينبغي تقييده بعدل رواية، وظاهره عدم قبول خبره ولو عَدْلَ رواية بأصل الوضوء أو بأصل الصوم والصلاة ليست كالوضوء فمن
أخبرته زوجته؛ وهي ثقة، أو أخبره عدل بأنه قد صلى، أو بأنه قد أتم أربعا، وليس المخبر مأمومه لم يرجع، لقوله: إلا المستنكح، لموافقته لما يبني عليه من الكمال في الثانية، ويرجع المستنكح لقول من ذكر. قاله الشيخ عبد الباقي.
فصل يذكر فيه آداب قضاء الحاجة،
وما يتعلق به من استنجاء واستجمار وغيرهما، وذلك ثلاثة أقسام: قسم عام في الفضاء والكنيف، وقسم خاص بالفضاء، وقسم خاص بالكنيف. وبدأ بالأول فقال: ندب لقاضي الحاجة جلوس؛ يعني أن الذي يريد قضاء حاجة البول يندب له الجلوس إذا كان الموضع رخوا طاهرا والرخو مثلث الراء الهش من كل شيء، وندب الجلوس؛ لأنه أقرب إلى الستر. وقال الشيخ محمد بن عبد الباقي: وبجواز البول قائما من غير كراهة قال عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهما، وزيد بن ثابت، وابن المسيب، وابن سيرين، والنخعي، وأحمد، وقال مالك إنه إن كان في مكان لا يتطاير عليه منه شيء فلا بأس به، وإلا كره. وكرهه تنزيها عامة العلماء ثم نَقَل عن الإمام ابن حجر أنه قال: وقد ثبت عن عمر وابنه وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم أنهم بالوا قياما، وهو دال على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عنه شيء. انتهى.
ومنع برخو نجس هذه المسألة عكس التي قبلها في الطهارة؛ يعني أن الموضع إذا كان رخوا نجسا فإنه يمنع قضاء الحاجة فيه للجالس؛ أي حاجة البول، ويتعين عليه القيام، ومعنى المنع الكراهة؛ لأن غاية ما فيه التضمخ بالنجس، والمعتمد فيه الكراهة، وأما الموضع الصلب فإن كان طاهرا تعين الجلوس به؛ أي تأكد ندبه، وإن كان نجسا تنحى عنه قياما وقعودا؛ أي تأكد ندب تنحيه. وهذه الأقسام الأربعة إنما هي في البول من الذكر الفحل، وأما الغائط فلا يجوز إلا جالسا، ومثله بول المرأة، والخصي، والخنثى الشكل حيث بال من الفرج، والمراد بعدم الجواز في هذه: الكراهة الشديدة؛ لأن غاية ما يلزم في المخالفة التضمخ بالنجس، وهو مكروه على الراجح إلا لضرورة، وقول غير واحد: يجوز البول قائما؛ لأنه عليه الصلاة والسلام فعله
(1)
). انتهى. معناه عدم الحرمة فلا ينافي أنه مكروه أو خلاف الأولى لا ما استوى طرفاه، وفي المدخل: اختلف في البول قائما فأجيز وكره، والمشهور الجواز إذا كان في موضع رخو لا يمكن الاطلاع عليه، فإنه يُسْتَشفى به من وجع الظهر، وعلى ذلك حملوا ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام (أنه أتى سبَاطَةَ
(1)
عن حنيفة قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائما ثم دعا بماء فجئته بماء فتوضأ. البخارى، كتاب الوضوء، رقم الحديث:224. ومسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 273. وأبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:23.
قوْم فبال قائما، رواه الشيخان وأبو داوود
(1)
). فمراده بالجواز نفي الكراهة الشديدة لا الجواز المستوي الطرفين لما علمت. وتؤول أيضا ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم على أن الموضع رخو نجس، وتعذر الانتقال عنه فإن القيام حينئذ مطلوب. قاله بناني. وقال مجاهد: ما بال صلى الله عليه وسلم قائما إلا مرة واحدة. وقيل إنما فعله صلى الله عليه وسلم قائما لقرب الناس منه، والبول قائما يؤمن معه خروج الصوت، والسباطة مَوْضِع طَرْحِ الكناسة. قال الشيخ عبد الباقي. والظاهر أن الاستشفاء لا يتقيد بكونه في موضع رخو وإنما أمر الأشياخ باجتناب الصلب النجس؛ لأنه إن قام خاف أن يتطاير عليه البول، وإن جلس خاف أن يتلطخ بنجاسة الموضع. انظر الحطاب.
قال جامعه عفا الله عنه: مقتضى هذا أنه لو كانت نجاسة الموضع الصلب حكمية لكان كالطاهر، فيتأكد ندب الجلوس به كما هو الظاهر، ويفيده قول الباجي: وإن كان الموضع دمثا، وهو مع ذلك قذر بال البائل فيه قائما لا جالسا؛ لأن جلوسه يفسد ثوبه ويأمن تطاير البول إذا وقف. اهـ. وندب الجلوس بالرخو الطاهر؛ لأنه أقرب للستر كما مر، وتعين الجلوس بالصلب الطاهر؛ لأنه يامن التلطخ بالنجاسة إن جلس، ولا يأمنها إن قام، وتعين القيام بالرخو النجس؛ لأنه يأمن التطاير في قيامة، وإن جلس خاف التلطخ.
وحاصل هذا أنه يجتنب النجاسة، ويفعل ما هو أقرب إلى الستر واجتناب النجاسة آكد من الستر إذا كان بموضع لا يرى فيه. قاله الإمام الحطاب. وما تقدم من أنه يتأكد ندب الجلوس بالصلب الطاهر، وأنه لا يجتنبه بالكلية كالصلب النجس خلاف ظاهر المص فيما يأتي، فإنه ذكر أن الصلب يتقى ولم يقيده بالنجس. قال ابن غازي: ولا أعرفه إلا لأبي حامد الغزالي. قال الحطاب: ذكر في الذخيرة عن الجواهر أن من الآداب أن يجتنب الموضع الصلب احترازا من الرشاش، وأطلق في ذلك، ولا شك أنه يخشى من تطاير البول فيه مطلقا سواء كان طاهرا أو نجسا فينبغي تجنبه ولكني لم أقف على ما ذكره عن الجواهر فيها، والذي رأيته فيها: وإن كان نجسا
(1)
عن حذيفة قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائما ثم دعا بماء فجئته بماء فتوضأ. البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:224. ومسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 273 وأبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 23.
صلبا اجتنبه وعدل إلى غيره. وفي العمدة والإرشاد أن من الأدب أن يطلب موضعا رخوا. قال شراحه: لا صلبا. وصرح بذلك ابن معلى في منسكه فقال: واتقاء الأرض الصلبة. وفي الشبراخيتي أنه يتقى في البول الروث والعظم فكما لا يستجمر بروث، ولا بعظم، لا يبول عليهما. والله سبحانه أعلم وللوانشريسي رحمه الله ناظما للأقسام الأربعة المتقدمة:
بالطاهر الصلب اجلس
…
وقم برخو نجس
والنجس الصلب اجتنب
…
واجلس وقم إن تعكس
وقوله: "لقاضي الحاجة" هو من الكنايات المستحسنة.
واعلم أن ما مر من كراهة القيام في بول الفحل، أو كونه خلاف الأولى يقيد بغير القيام حيث كان المحل رخوا نجسا وتعذر الانتقال عنه، فإن القيام فيه مطلوب كما مر. والله سبحانه أعلم. قاله الشيخ محمد بن الحسن بنَّانِي.
واعتماده على رِجْلٍ؛ يعني أن قاضي الحاجة يندب له أن يعتمد في حال قضاء الحاجة على رجله اليسرى؛ بأن يجعل معظم قوته على رجله اليسرى بأن يستوطئها، ويتوكأ على ركبته اليسرى، ويرفع عرقوب رجله اليمنى على صدرها؛ لأن هذه الصفات أسرع في خروج الحدث، وهذا إذا كان جالسا، لا إن بال قائما. كما في الشبراخيتي وفي الخرشي أنه يستحب الاعتماد المذكور بال قائما أو جالسا. والله سبحانه أعلم. وقالت الشافعية: إذا بال قائما فرج بين رجليه واعتمدهما معا. وظاهر المص كانت الحاجة بولا أو غائطا كذا يفيده الش في الكبير وابن العربي، ونحوه للشافعية. وخصه التتائي بالغائط، فلا يندب له ذلك إذا بال على ما للتتائي واسْتِنجاءٌ بيَد يعني أنه يستحب الاستنجاء باليد اليسرى، والاستنجاء إزالة ما في المحل بماء أو حجر؛ فإن الاستنجاء يطلق على إزالة ما في المحل بغسل أو مسح كما نص عليه غير واحد. وبما قررت علم أن قوله: يسريين صفة لرِجلٍ ويدٍ تابعة للفظ.
واستشكل بعدم التبعية لاختلاف الجارين وقد قال ابن مالك:
ونعتَ معمولي وحيدي معنى
…
وعمل أتبع بغير استثنا
فإن مفهومه امتناع الإتباع فيما إذا اختلف العاملان كما هنا. وأجيب بأن المسألة ذات خلاف، فما هنا مبني على أحد القولين؛
وأجيب أيضا بأنه نعت مقطوع عن التبعية منصوب بفعل تقديره: أعني واعترض بأن المنعوت هنا نكرة، وأجيب بأن محل المنع إنما هو في القطع الاختياري، لا في القطع الحاجي الذي لا مندوحة عنه كما هنا. والله سبحانه أعلم. انظر حاشية الشيخ بناني. وحيث كان الاستجمار باليد اليسرى فأمر الغائط واضح، وكذا حدث المرأة من قبلها، وأما الرجل فيمسك الحجر ونحوه بيمينه، وذكره بيسراه، ويحرك الذكر بيسراه إلى الحجر الذي هو ممسك له بيمينه، وإمساك الحجر بيمينه بمنزلة صب الماء في الاستنجاء، فلا يرد أنه إنما حصل بهما. قاله الشيخ عبد الباقي. وفي شرح الشيخ ميارة عن المازري: يأخذ المستجمر ذكره بشماله يمسح به الحجر. عياض: إن لم يمكنه أمسك الحجر بيمينه، وحرك بشماله ذكره إليه. انتهى. وفي التتائي ويجعل الحجر في اليمنى، ويمسح ذكره بيده اليسرى حتى يجف. وقيل يجعل الحجر بين رجليه، ويضع ذكره عليه وقتا بعد وقت حتى يجف. وسيأتي صفة المسح عند قوله:"ووتره" وقوله: "واستنجاء بيد" لخ هو واضح إن كانت اليد تصل للمحل، فإن لم تصل كما لو كانت المرأة من السمن بحيث لا تصل إلى موضع النجاسة منها، فلا يجوز لها أن تترك غيرها يغسل لها ذلك من جارية أو غيرها ولا يجوز أن يكشف عليها غير زوجها، فإن أمكن زوجها أن يغسل لها ذلك فبها ونعمت، وله الأجر في ذلك والثواب الجزيل، وإن أبى فليس ذلك واجبا عليه، وتصلي هي بالنجاسة، ولا يكشف عليها أحد؛ لأن ستر العورة واجب اتفاقا، وإزالة النجاسة في الصلاة مختلف فيها على أربعة أقوال: أحدها الاستحباب، وما اختلف فيه فارتكابه أيسر من الذي لم يختلف فيه، وأما الرجل فإن كان لا يصل إلى ذلك بيده، فإنه يتعين عليه إن قدر أن يشتري جارية تلي ذلك منه، وإن تطوعت الزوجة بغسله لم يجب عليه شراء الجارية، ولا يحل له أن يكشف على عورته غير من ذكر، فإن لم يجد فصلاته بالنجاسة أخف من كشف عورته، وهذا
كله على مذهب الإمام مالك رحمه الله. نقله الحطاب. واعلم أنه يقال لليسرى يسار بالفتح والكسر، ويقال جلس على يَسرته ويَمنته بفتح أولهما وسكون ثانيهما؛ أي جلس على يساره أو يمينه.
وبَلّها قبلَ لقي الأَذى يعني أنه يستحب للمستنجي بالماء أن يبل يده قبل ملاقاتها للأذى؛ أي يبل ما يلاقي الأذى منها؛ وهو الخنصر والبنصر والوسطى كما نص عليه الشبراخيتي، فيبلها قبل غسل قبله ودبره كما في الرسالة والجواهر وغيرهما. قاله الحطاب. وفي شرح الشيخ ميارة ومنها أي من آداب قضاء الحاجة: أن يفرغ الماء على يده قبل أن يلاقي بها الأذى، وقوله:"لقي" بضم اللام وكسر القاف وتشديد المثناة التحيتة؛ أي ملاقاة، والأذى هنا شامل لنجاسة القبل والدبر، وندب بلها ليلا يقوى بها علوق الرائحة، فإذا بل ما يلاقي الأذى منها؛ وهي الأصابع الثلاثة الذكورد قبل أن يلاقي بهن الأذى لم يقوَ بهن علوق الرائحة فيسهل زواله، وإذا لاقت النجاسة وهي جافة تعلقت الرائحة باليد وتمكنت منها.
وغسلها بكتراب بعده أي بعد لقي الأذى؛ يعني أنه يندب للمستنجي أن يغسل يده بعد ملاقاتها للأذى بما يزيل علوق الرائحة منها من تراب أو رمل أو طين أو أشنان بضم الهمزة وكسرها كما في القاموس أو اذخر أو صابون أو نحو ذلك والباء للاستعانة، والندب منصَبٌّ على قوله:"بكتراب" وأما غسلها فعلى حكم النجاسة. وقوله: "وغسلها بكتراب بعده" هو فيما إذا استجمر بها ابتداءً، وفيما إذا استنجى بها من غير استجمار بلَّها فيهما قبل لقي الأذى، أم لا؟ وأما إذا استجمر بغيرها ثم استنجى بها فلا يندب غسلها بكتراب بعده؛ لأنه إنما لاقى بها حكم الأذى ويفيد المص هذه الصور الثلاث بجعل الضمير في قوله:"بعده" للقي الأذى وستر إلى محله أي محل قضاء الحاجة، ومعنى قوله:"ستر" إدامة ستر، يعني أنه يندب لقاضي الحاجة أن يديم ستره؛ أي يترك ثوبه مسدولا عليه إلى أن يجلس في المحل الذي يريد فيه قضاء الحاجة، ولا يحمل على ظاهره أنه إذا وصل إلى محل قضاء الحاجة لم يطلب بعد ذلك بالستر، بل هو مطلوب به إلى الجلوس، فيستحب أن يديم الستر في حال انحطاطه إلى الجلوس حتى يجلس، لكونه أبلغ في الستر. ابن عبد السلام: يستحب أن يديم الستر إلى الجلوس إذا كان الموضع لا
يخشى على الثياب فيد من النجاسة، وإلا جاز كشف العورة قبل الجلوس، وفي الجواهر: وأن يديم الستر حتى يدنو من الأرض إن أمن نجاسة ثوبه. وذكر صاحب الطراز والقرافي عن الترمذي (أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض
(1)
)؛ وقوله: "وستر إلى محله" محل الندب إذا كان لا يراه الناس، وإلا فالستر واجب. قاله الحطاب وغيره. وفي الحديث: (إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله، فاستحيوا منهم وأكرموهم
(2)
)، وروي أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم عليه السلام (إن استطعت أن لا تنظر عورتك الأرض فافعل). فاتخذ السراويل. وقوله:"إلى محله" قد تقدم أن الضمير عائد إلى قضاء الحاجة. ويحتمل أن يعود على الأذى؛ أي إلى محل خروج الأذى، فيفيد أنه يندب له إدامة ستر العورة إلى الجلوس، هذا حكم الجلوس لقضاء الحاجة. وأما القيام من محل قضاء الحاجة: فمذهب الشافعية أنه يندب له أن يرخي الستر شيئا فشيئا حتى يتم قيامه ما لم يخف تنجس ثوبه. فإن خافه رفع قدر حاجته. نقله الحطاب. قال: ولم أقف فيه على نص للمالكية. انتهى. قال جامعه عفا الله تعالى عنه: وقد نصوا على أن من لم يجد لإمامه كلاما في مسألة، يعمل فيها بكلام غيره من الأئمة إن وجده، ولا يخرج عن أقوال العلماء. وإعداد مزيله يعني أنه يندب لقاضي الحاجة أن يُعِدَّ أي يهيئ أي يُحضر ما يزيل به عنه النجاسة مائعا كان أو جامدا، والضمير في مزيله؛ للأذى. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: المندوب إعدادهما معا لا أحدهما فقط، ففي قواعد عياض: من آداب الأحداث أن يعد الماء والأحجار عنده. انتهى. ودليل ما ذكره المصنف قوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الملاعن وأعدوا النبل
(3)
) جمع نبلة كغرفة وغرف والمحدثون يفتحون النون والباء. قاله في النهاية. وفي القاموس: النبل محركة عظام الحجارة وصغارها ضد، والحجارة يستنجى بها كالنبل كصرد. انتهى. وقال
(1)
الترمذي، أبواب الطهارة، رقم الحديث 14.
(2)
الترمذي، كتاب الجمعة، رقم الحديث 2800.
(3)
الإتحاف، ج 2 ص 340.
المطرز: النبل بالضم والفتح حجارة الاستنجاء، والضم اختيار الأصمعي: وأما النبل بضم النون وسكون الموحدة فهو الفضل كما قال:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها؟
…
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
ووتره يعني أنه يندب إيتار المزيل من ثلاث إلى سبع، فإذا لم ينق إلا بثمان فلا يطلب التاسع، والاثنان أفضل من الواحد، ومحل ندب الإيتار حيث أنقى بالشفع، وإلا وجب الوتر، ومحل الندب أيضا حيث كان المزيل جامدا، وأما الماء فلا يطلب فيه ذلك، ويحصل فضل الإيتار بحجر له شعب ثلاث، خلافا لابن شعبان وأبي الفرج القائلين: لابد من ثلاثة أحجار، وعلى ما لهما فهل يجب لكل مخرج ثلاث، أو تكفي الثلاث لهما معا؟ قولان. وصفة المسح قال ابن عرفة: وفي مسح المحل بكل حجر منها، أو لكل صفحة حجر والثالث لهما، ثالثها الثالث للمسربة للباجي مع الأكثر والأخفش والدارقطني لرواية حديثه انتهى وفي التتائي: وصفته؟ يعني المسح في الدبر أن يمسح الصفحة اليمنى بحجر، واليسرى بالثاني، والثالث للوسط. وقيل يمسح الجميع بكل واحد منها، وفي القبل لابد من تعميم المحل بالثلاثة. ذكره ابن فرحون.
وتقديم قبله يعني أنه يندب لقاضي الحاجة أن يقدم قبله في الإنقاء استنجاء واستجمارا، وقيد بما إذا لم يقطر بوله عند مس دبره، وبما إذا لم يخش بتقديم قبله فوات الرفقة. قاله الشبراخيتي. وفي الحطاب عند قوله:"وتقديم قبله" قال سند هذا ما لم يكن ضرر يمنع ذلك كمن يحصل له قطر البول عند ملاقاة الماء لدبره، فإنه يغسل الدبر أولا، ثم القبل. انتهى.
وتَفريجُ فَخذيه أي يندب لقاضي الحاجة عند البول والغائط والاستنجاء أن يفرج بين فخذيه، لأنه أبلغ في استفراغ ما في المحل من الأذى، وليلا يتطاير عليه شيء من النجاسة لا يشعر به. انظر الشبراخيتي. واسترخاؤه يعني أنه يندب للمستنجي أن يسترخي في حال الاستنجاء، ويكون الاسترخات قليلا كما في الرسالة، وندب الاسترخاء ليلا ينقبض المحل على ما فيه من الأذى؛ وربما أدى الانقباض إلى الشك في طهارة الحدث لاحتمال خروجه من المخرج بعد الوضوء، وهذا يوجب نقض الطهارة. وعلله في المدخل بأنه يؤدي إلى الصلاة بالنجاسة، وقد شاع
أن الشيخ أبا محمد ريئ في النوم بعد موته؛ فقيل له ما فعل الله بك، فقال: غفر لي بقولي في الرسالة: ويسترخي قليلا، فإني لم أشق إليه، وهو منقول عن بعض الأصحاب لكنه اشتهر بإيداعه في الرسالة عند الصغار والكبار، فكأنه لم يسبق إليه أشار له العلامة ابن مرزوق، وكان على المصنف أن يقيد الاسترخاء بالقلة كما في الرسالة، وكذا في الغسل، فإنه يقيد بالقلة أيضا.
وَتَغطيةُ رأسه يعني أنه يندب لقاضي الحاجة حال قضاء الحاجة ومتعلقها كاستنجاء أن يغطي رأسه، وهل المراد أن لا يكون مكشوفا؟ وهو ما يفهم من الأبي وغيره، أو برداء ونحوه زيادة على المعتاد لما كان يفعله الصديق، طريقان: والطريق الأول لا يقتضي تغطية لحيته، بخلاف الثاني غالبا: والتغطية على الأول آكد ندبا منها على الثاني. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: وتغطية رأسه بما يقي الشعر من علوق الرائحة، ولو بكمه أو طاقيته، بدليل أنه يكره أن يذهب للخلاء حاسرا عن رأسه: وأما قول الصديق رضي الله عنه وهو يخطب: أيها الناس استحيوا من الله إذا خلوتم إني لأذهب لقضاء حاجتي مقنعا رأسي بردائي حياء من ربي، فإنما كان علي سبيل البالغة في الستر. انتهى. وقال الحطاب عند قوله:"وتغطية رأسه" ذكره ابن العربي في العارضة، ونقله عنه ابن عرفة، وعده أيضا في المدخل من الخصال المطلوبة. قال: وكذلك عند الجماع، ونقله الأبي عن الغزالي؛ ونصه: أن لا يدخل حاسر الرأس، قيل خوف أن تعلق الرائحة بشعر رأسه، وقيل لأن تغطية الرأس أجمع لمسام البدن وأسرع لخروج الحدث. انتهى. وقال الدميري الشافعي: ويندب أن لا يدخل حاسر الرأس، بل يستره ولو بكمه تخوفا من الجن. انتهى. كلام الحطاب. وقال الخرشي: ومن الآداب تغطية الرأس ولو بكمه خوفا من علوق الرائحة بالشعر، أو لأنه أسرع لخروج الحدث. انتهى وقال الشيخ محمد بن الحسن: وتغطية رأسه؛ أي حياء، وقيل خوف علوق الرائحة؛ ولأول هو المنصوص. انتهى. وقال الشيخ الأمير: وتغطية الرأس لأنه أعون وأحفظ لمسام الشعر عن الرائحة. انتهى. فتحصل من هذا أن ندب تغطية الرأس معلل بخوف علوق الرائحة، وهو خلاف النصوص أنه يغطي حياء كما مر عن السيد الصديق رضي الله عنه؛ وقيل: لأنه أعون وأحفظ لمسام الرأس، وقيل: تخوفا من الجن، فتلك أربعة أقوال.
وعدم التفاته يعني أنه يندب لقاضي الحاجة بعد جلوسه للحاجة ومتعلقها وهو الاستنجاء، أن لا يلتفت، وأما قبل جلوسه فيندب له أن يلتفت يمينا وشمالا، وندب أيضا عدم نظره للسماء، وعدم العبث بيده، وعدم نظر الفضلة، وأن لا يشتغل بغير ما هو فيه. قيل: من أدام النظر إلى ما يخرج منه ابتليَ بصفرة الوجه، ومن تفل على ما يخرج منه ابتليَ بصفرة الأسنان، ومن تمخط عند قضاء الحاجة ابتليَ بالصمم. وفي كتاب الشيخ الأمير: وترك الالتفات والكلام، ويورث الصمم فلا يشمت ولا يحمد ولا يجيب مؤذنا ولا مسلما ولا بعد الفراغ على الأظهر كالمجامع بخلاف الملبي والمؤذن، ويرد المصلى بالإشارة. انتهى. وقوله:"وعدم التفاته" قد علمت أنه بعد القعود، وأما قبله فيندب التفاته يمينا وشمالا كما مر. قال الإمام الحطاب: وذلك -والله أعلم- ليلا يكون هناك شيء يؤذيه، فإذا رآه بعد جلوسه قام وقطع عليه بوله، وربما نجس عليه ثيابه. وفي الزاهي: ولا يجلس حتى يلتفت يمينا وشمالا؟ ونحوه لابن العربي. وعد في المدخل من الآداب أن لا يقعد حتى يلتفت يمينا وشمالا انتهى.
وذكر ورد بعده يعني أنه يندب لقاضي الحاجة أن يقول بعد الفراغ من قضاء الحاجة الذكر المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم غفرانك الحمد لله الذي سوغنيه طيبا وأخرجه عني خبيثا
(1)
)، وبذلك سمي نوح عبدا شكورا. ذكره ابن مرزوق. قاله الشيخ عبد الباقي. وروى الحاكم وصححه ابن خزيمة عن سلمان قال: (كان نوح إذا لبس ثوبا أو طعم طعاما حمد الله فسمي عبدا شكورا
(2)
)، ولعل الحمد على إخراجه خبيثا دون مجرد إخراجه، لأن خروجه غير خبيث يدل على المرض. وقوله: غفرانك؛ أي أسألك، أو اغفر غفرانك. ونقل الإمام الحطاب أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خرج من الخلاء: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني
(3)
)، وربما قال: (غفرانك
(4)
). رواه أبو داوود. وقال في الرسالة: وعند الخلاء يقول: الحمد لله الذي رزقني لذته، وأخرج عني مشقته وأبقى في جسمي قوته، واستحب بعض الشافعية تكرير غفرانك
(1)
عارضة الأحوذي، ج أص 47.
(2)
المستدرك، ج 2 ص 360.
(3)
سنن ابن ماجه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:301.
(4)
أبو داود، كتاب الطهارة، الحديث:30.
مرتين؛ وهي بالنصب أي أسألك غفرانك، أو اغفر غفرانك، ووجه سؤال المغفرة هنا، قال ابن العربي: هو العجز عن شكر النعمة في تيسر الغذاء؛ وإيصال المنفعة، وإخراج فضلته. وقال غيره: إنما ذلك لتركه الذكر حال الخلاء، فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يترك الذكر إلا عليه، فرَآه تقصيرا. قال في الطراز: فيه نظر؛ لأنه إذا كان منهيا عن الذكر في تلك الحال، فإنه يثاب بتركه؛ وهذا مما يجب الحمد عليه لا الاستغفار، ونظر في الأول أيضا. لأن نعم الله لا تحصى، فكان يجب أن يستغفر متى أتته نعمة. وإنما الوجه أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر الاستغفار حتى إنه ليُعدُّ له في المجلس الواحد مائة مرة، فجرف على عادته؛ لأن من كان دأبه الاستغفار تجدد عند حركاته وتقلباته يستغفر الله تعالى. انتهى.
وقبله يعني أنه يندب لمريد قضاء الحاجة أن يأتي بالذكر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله قبل محل قضاء الحاجة؛ فإنه كان إذا دخل الخلاء، وفي رواية إذا أراد أن يدخل الخلاء، وفي أخرى إذا دخل الكنيف؛ يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبُث والخبائث الرجس النجس الضال المضل الشيطان الرجيم، والخبث بضم الباء جمع خبيث. ويروى بسكونها كما قاله الشيخ إبراهيم. والمراد بهم ذكران الشياطين والخبائث جمع خبيثة والمراد بها إناث الشياطين. واعلم أن التسمية تشرع عند دخول الخلاء؛ وضده، وتقدم على الاستعاذة عند الدخول، والظاهر تقديمها أيضا على الوارد بعده. قاله الشيخ عبد الباقي. وفي الحطاب: ويجمع مع هذا الذكر التسمية؛ فقد تقدم أن من المواضع التي تشرع فيها التسمية الدخول للخلاء والخروج منه؛ ويبدأ بالتسمية كما صرح به في الإرشاد. انتهى. ولفظ الإرشاد: ويقدم رجله اليسرى قائلا: (بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث
(1)
): وكان صلى الله عليه وسلم معصوما من الشياطين؛ حتى الموكل، وقال صلى الله عليه وسلم: (ستر ما بين الجن وبين عورة بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول بسم الله
(2)
)؛ وكان صلى الله عليه وسلم بعد نزول: والله يعصمك من الناس معصوما حتى من الإذاية في ظاهر الجسم. فهو معصوم من الناس بلا شرط الاستعاذة، ومغفور له بلا شرط الاستغفار؛
(1)
الإتحاف، ج 2 ص 339.
(2)
ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول بسم الله. الترمذي، رقم الحديث 606.
واستعاذته صلى الله عليه وسلم واستغفاره لتعليم أمته، وقد ثبت أن الموكل به أسلم. قاله الشيخ عبد الباقي. ويقرأ النِّجس بكسر النون وسكون الجيم موافقة للرجس. قاله الشيخ ايراهيم. وحكمة تقديم هذا الذكر ما روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول بسم الله
(1)
). قال الإمام الحطاب: والخلاء بالفتح والمد: الموضع الذي ليس فيه أحد، ثم نقل لموضع قضاء الحاجة، والستر هنا بكسر السين، وخص هذا الموضع بالاستعاذة لوجهين: أحدهما أنه خلاء، وللشيطان بعادة الله عز وجل وقدرته تسلط بالخلاء ليس له في الملإ، قال صلى الله تعالى عليه وسلم: (الراكب شيطان والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب
(2)
). ثانيهما أنه موضع قذر ينزه ذكر الله فيه عن جريانه على اللسان؛ فيغتنم الشيطان عدم ذكره: لأن ذكر الله يطرد الشيطان، فأمر بالاستعاذة قبل ذلك ليعقدها عصمة بينه وبين الشيطان حتى يخرج. قاله الإمام الحطاب. قال غير واحد: وأخر المصنف قوله: "وقبله" ليرتب عليه قوله: فإن فات ففيه يعني أنه إذا فات الذكر الذي يقال قبل الدخول في موضع قضاء الحاجة، فإنه يقوله في المحل الذي يريد قضاء الحاجة فيه، ومعنى الفوات أن يدخل موضع الخلاء، والحال أنه لم يقله، وهذا ما لم يخرج منه شيء فيمنع منه حينئذ؛ أي يكره كما عليه اللخمي فيفعله ولو جلس. واقتصر عليه البرموني؛ والزرقاني. ولابن هارون أنه يفعله ما لم يجلس لقضاء الحاجة، واقتصر عليه الحطاب وبعض الشراح. قاله الشيخ إبراهيم. وإنما يقول الذكر القبلي إذا فات؛ بأن دخل موضع قضاء الحاجة إن لم يعد أي حيث لم يكن الموضع معدا لقضاء الحاجة كالكنيف، ومفهوم المصنف أنه إذا كان الموضع معدا لقضاء الحاجة لم يقله إن فات؛ أي دخل بجميع بدنه، أي يكره، وكذا برجل واحدة وإن لم يعتمد عليها فيما يظهر، وأمر بالاستعاذة في البناء المعد لقضاء الحاجة؛ لأنه منزل الشياطين، وفي الصحراء، لأنه يصير مأوى لهم بخروج الخارج. قاله الشيخ أحمد. نقله الشيخ عبد الباقي. وقيل إنه يقول الذكر القبلي بعد وصوله لموضع الخلاء، وإن كان معدا لقضاء الحاجة. حكاه ابن الحاجب فإنه قال:
(1)
الترمذي، رقم الحديث:606.
(2)
الموطأ، كتاب الاستيذان، رقم الحديث:1831.
وفي جوازه في المعد قولان، كالاستنجاء بالخاتم فيه ذكر. انتهى شبه الخلاف بمسألة الخاتم. والمعروف في الخاتم المنع، والرواية بالجواز منكرة، والمنع في الخاتم أقوى من الذكر لمماسة النجاسة له؛ قاله الإمام الحطاب. وفهم من كلام المصنف أنه يقول الذكر القبلي قبل وصوله إلى محل الحدث سواء كان معدا أم لا، وصرح بذلك في الجواهر، فقال: ويقدم الذكر قبل وصوله إلى محل الحدث. قاله الإمام الحطاب. انتهى
وسكوت يعني أنه يندب للمحدث في حال قضاء الحاجة ومتعلقها من استنجاء واستجمار ترك الكلام بالكلية ذكرا كان أو غيره، فإن الكلام في الخلاء يورث الصمم إلا من ضرورة، فلا يرد سلاما؛ ولا يجيب مؤذنا، ولا يشمت عاطسا، ولا يحمد إن عطس خلافا لما في المواق، وكذا الواطئ؛ ولا يردان السلام بعد الفراغ ولو بقي المسلم، بخلاف المؤذن والملبي فيردان بعد الفراغ. وجوبا فيما يظهر، وإن لم يبق المسلم قاله الشيخ عبد الباقي. وفي الترمذي (أنه صلى الله عليه وسلم مر عليه رجل وهو يبول؛ وسلم عليه فلم يرد عليه
(1)
)؛ لأن ذلك المحل مما يطلب ستره وإخفاؤه؛ والكلام فيه يقتضي ضد ذلك، (وورد النهي عن الحديث على الغائط
(2)
) إلا لمهم يعني أن محل ندب السكوت لقاضي الحاجة حيث لم يَنُبهُ أمر مهم، وأما إن نابه أمر مهم فلا يندب له السكوت، بل يجوز له التكلم كتعوذ لارتياع، أو يندب كطلب مزيل، أو يجب كخوف تلف نفس أو مال له بال.
ولما تكلم على الآداب المشتركة بين الفضاء والكنيف، ذكر الآداب المختصة بالفضاء فقال: وبالقضاء تستر يعني أنه يستحب لمن أراد قضاء الحاجة في الفضاء -زيادة على ما مر- أن يستتر أي يختفي عن الناس بجثته بتمامها بأن يستتر بكشجرة أو جدار أو كثيب أو مكان منخفض وليس المراد به خرقة يجعلها على رأسه لا تواري جثته، لأن الفضاء كاشف. وروى أبو داوود وصححه ابن حبان أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من أتى الغائط فليستتر، وإن لم يجد
(1)
عن ابن عمر أن رجلا مر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبول فسلم فلم يرد عليه. مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، رقم الحديث:370. - الترمذي، أبواب الطهارة، رقم الحديث: 95.
(2)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:15.
إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستتر به، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم
(1)
)، وقوله:"وبالفضاء" معطوف على مقدر عام؛ أي ندب لقاضي الحاجة كذا وكذا بكل مكان، وندب له مع ذلك بالفضاء تستر قاله الشبراخيتي. وأمر صلى الله عليه وسلم بالسترة ليلا يقع عليه بصر أو تهبَّ عليه ريح فتصيبه نجاسة، وكذا كل من لعب به الشيطان وقصده بالأذى. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: يلعب بمقاعد بني آدم أنه يحضرها ويرصدها بالأذى.
وبعد يعني أنه يستحب للمتخلي أن يبعد عن الناس في الغائط بحيث لا يرى له شخص، ولا يسمع له صوت، ولا تشم له رائحة، وفي البول بحيث يستتر، ويامن سماع الصوت. قال عياض: من آداب الأحداث إبعاد الذاهب إلى الغائط في الصحراء، وحيث تتعدد الجدران بحيث لا يرى له شخص، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له ريح. القباب: وللبول بحيث يستتر ويأمن سماع الصوت. نقله الشيخ ميارة. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان إذا أراد الغائط أبعد
(2)
)، وفي حديث أبي داوود والترمذي (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز أبعد حتى لا يراه أحد
(3)
)، البراز بفتح الباء: الفضاء الواسع، كنَّوا به عن موضع قضاء الحاجة كما كنوا عنه بالخلاء. انظر الشبراخيتي. وفي التيسير: البراز بفتح الباء موضع قضاء الحاجة، وإنما لم يكتف المصنف بالتستر عن البعد، لأنه قد يستتر بشيء، ولا يكون بعيدا بحيث يسمع ما يخرج منه، فيندب له البعد بحيث لا يسمع له صوت؛ ولا تشم له رائحة، وأما ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان بمكة إذا أراد قضاء الحاجة ذهب نحو الميلين) فمحمول على قصد تعظيم الحرم لا للتستر. قاله غير واحد. وقوله:"وبعد" قال الشيخ عبد الباقي، وبعد عن الناس حتى لا يسمع ما يخرج منه على الوجه الغالب مما يخرج من الناس، وبعد جدا فيمن يظن خروج شيء منه بصوت قوي زائد عن عادة الناس؛ كذا يظهر. انتهى.
(1)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:35. وابن حبان، رقم الحديث: 1407. وعندهما طرف من حديث.
(2)
كان إذا ذهب إلى الغائط أبعد ابن ماجه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:333.
- الترمذي، أبواب الطهارة، رقم الحديث:20.
(3)
كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد: أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:2.
(واتقاء جُحْر) بضم الجيم قبل الحاء المهملة الساكنة، الثقب المستدير، ويلحق به المستطيل، ويسمى سربا بفتح السين؛ يعني أنه يندب لقاضي الحاجة أن يتقي الجحر، (لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك
(1)
) رواه أبو داوود والترمذي. قاله الإمام الحطاب. وفي الشبراخيتي عند قوله: "واتقاء جحر" لخبر: (لا يبولن أحدكم في جحر
(2)
)؛ وإنما طلب اتقاؤه خوفا من خروج الهوام فتؤذيه على أحد قولين، والآخر أن علة النهي كونه مسكن الجن. وقد قيل إن سبب موت سيدنا سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه بالشام: بوله في جحر. وقيل إنه كان بالشام فقام ليلا فبال قائما، فلم تمض له جمعة حتى مات رضي الله عنه. وقوله:"واتقاء جحر" هذا إذا لاقاه بعين الذكر: واختلف إذا بال بعيدا عنه: ويصل إليه بوله، فقيل مكروه، وقيل يباح لبعده عن الحشرات. وهو قول ابن حبيب، وعليه ابن عرفة، وعلى الأول ابن عبد السلام: ورده ابن عرفة بأن حركة الجن في فراغ المهواة لا في سطح محيطها، وظاهر المصنف العموم في البول والغائط. وظاهر ابن عرفة اختصاصه بالبول. ونقل أحمد عن الشيخ زروق عن بعض الشافعية: ينبغي أن يعِدَّ ما يبول فيه ليلا، فإن لم يكن فلا يبول في مرحاض ونحوه حتى يضرب برجله مرتين أو ثلاثا لتنفير الهوام مخافة أن تؤذيه وعد في المدخل من الخصال المطلوبة أن لا يستنجي في موضع قضاء الحاجة؛ وفي الترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا يبولن أحدكم في مستحمه فإن عامة الوسواس منه
(3)
) قال الدميري من الشافعية: هذا إذا لم يكن مسلك يذهب فيه البول، وهذا في الاستنجاء بالماء، وأما إذا استنجى بغير الماء فلا يندب له ذلك أيضا؛ قاله الشافعية أيضا، وهو ظاهر. قاله الإمام الحطاب.
وريح يعني أند يندب لقاضي الحاجة أن يتقي مهاب الريح، ولو ساكنة في البول والغائط الرقيق: ومن جملة مهب الريح المراحيض التي فيها منفذ يدخل منه الريح ويخرج من آخر، فينبغي أن يبول في وعاء، ثم يفرغه في المرحاض أو يبول على الأرض بالقرب من المرحاض بحيث يسيل
(1)
عن عبد الله بن سرجس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الجحر. أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:29.
(2)
النسائي في سننه. كتاب الطهارة، رقم الحدث 34.
(3)
عن عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبول الرجل في مستحمه وقال إن عامة الوسواس منه. سنن الترمذي، أبواب الطهارة، رقم الحديث:21.
إليه. قاله الشيخ إبراهيم. وندب اتقاء الريح مخافة من رد الأذى عليه فيتنجس. وذكر القرطبي في تفسيره ما نصه: قال العلماء الريح يحرك الهواء، وقد يشتد ويضعف، فإذا حركت الهواء من تجاه القبلة ذاهبة إلى ورائها قيل لتلك الريح الصبا، وإذا حركته من وراء القبلة ذاهبة إلى تجاهها قيل لتلك الريح الدبور، وإذا حركته عن يمين القبلة ذاهبة إلى يسارها قيل لتلك الريح الجنوب، وعكسه ريح الشمال ولكل واحدة طبع فتكون منفعتها بحسب طبعها، فالصبا حارة يابسة، والدبور باردة رطبة، والجنوب حارة رطبة، والشمال باردة يابسة. وكل ريح بين ريحين فحكمها حكم الريح التي تكون في هبوبها أقرب إلى مكانها، وتسمى النكباء، وذكر أيضا أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الرياح ثمان
(1)
) أربع منها عذاب، وأربع منها رحمة فالعذاب منها العاصف والصرصر والعقيم والقاصف، والرحمة منها الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات فيرسل الله المرسلات فتثير السحاب، ثم يرسل الناشرات فتنشر ما أراده. انتهى. نقله الشبراخيتي.
ومورد يعني أنه يندب لقاضي الحاجة بولا أو غائطا أن يتقي المورد؛ أي يتجنبه بقضاء الحاجة فيه، والمورد طريق الشرب، والاستقاء من الماء. وقال الحطاب: المورد موضع الورود من الأنهار والآبار والعيون. انتهى. قال: وقال في الإكمال الورد ضفَّة النهر، ومشارع المياه، وإذا اتقى المورد فالماء نفسه أحرى، ويوجد التصريح به في بعض النسخ، ولا حاجة إليه. وفي حديث مسلم: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم
(2)
)، قال القاضي عياض: هو نهي كراهةٍ وإرشاد، وهو في القليل أشد؛ لأنه يفسده. وقيل النهي للتحريم، لأن الماء قد يفسد لتكرر البائلين، ويظن المار أنه تغير من قراره، ويلحق بالبول التغوط فيه، وصب النجاسة. قاله الإمام الحطاب. ابن ناجي: الجاري على أصل المذهب أن الكراهة على التحريم في القليل؛ إذ قد يتغير منه فيظن أنه من قراره، وعزاه عياض لبعضهم. وأما الكثير فعلى بابها، قال بعض الشافعية: ولو قيل بالتحريم لم يكن بعيدا، والضفة بكسر الضاد المعجمة جانب النهر، وضفتاه جانباه. قاله في الصحاح. وحكى
(1)
الدر المنثور، ج 1 ص 397.
(2)
مسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث:282. - البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث: 239.
صاحب النهاية: فيه الفتح. نقله الإمام الحطاب. وفي بعض النسخ: وشط وماء دائم بعد قوله: "ومورد" والشط للنهر؛ والبحر: والدائم الراكد؛ وظاهره ولو كثر، وبه صرح ابن عرفة. وفي التلقين: إلا أن يكثر جدا كالمستبحر وصرحوا بجوازه في الجاري ولا حاجة إلى هذه النسخة إن فسر المورد بما يمكن منه الورود لا إن فسر بما عتيد للورود. قاله غير واحد.
وطريق يعني أنه يندب لقاضي الحاجة بولا أو غائطا -وهو أشد- أن يتقي الطريق. قال في النوادر: ويكره أن يتغوط في ظل الجدار؛ والشجر، وقارعة الطريق، وضفة الماء، وقربه. انتهى. وروي أبو داوود عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق: والظل
(1)
). انتهى. والملاعن جمع ملعنة: وهي الفعلة التي يلعن بها فاعلها كأنه مظنة للعن، ومحل له؛ لأن الناس إذا مروا به لعنوا فاعله. قاله في النهاية. وقال ابن راشد: جمع ملعن اسم مكان، وقوله: البراز بكسر الباء على ما استصوبه النووي؛ وهو الغائط، والموارد جمع مورد وقد تقدم بيانه؛ وروى أبو داوود أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا اللاعنين قالوا وما اللاعنان؛ قال: الذي يتخلى في طرق الناس أو ظلهم
(2)
). قال في النهاية: اتقوا اللاعنين؛ أي الأمرين الجالبين للَّعن الباعثين للناس عليه؛ فإنه سبب للعن من فعله في هذه المواضع، وليس كل ظل، وإنما هو الظل الذي يستظل به الناس كما يأتي قريبا إن شاء الله تعالى. وفي الحديث: اتقوا الملاعن. قال في الذخيرة: سميت ملاعن من باب تسمية المكان بما يقع فيه كتسمية الحرم حرما، والبلد آمنا لما حل فيهما من تحريم الصيد. وأمنه. وفي حديث بلفظ (اللعانين
(3)
) بصيغة المبالغة، قالوا: يا رسول الله وما اللعانان؟ الحديث. قوله: "وطريق" هو أعم مما قبله؛ لأن المورد طريق النهر، وطريق العين، وطريق البير فذكره تبركا بالحديث. قاله الشيخ إبراهيم.
(1)
أبو داود، كتاب الطهارة، ردم الحديث:26.
(2)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:25.
(3)
ابن حبان، رقم الحديث:1412. ج 2 ص 345.
وظل يعني أنه يندب لقاضي الحاجة بولا أو غائطا أن يتقي بحدثه الظل الذي يستظل به الناس، ويتخذونه مقيلا ومناخا، وكذا مجلسهم بشمس أيام الشتاء، أو قمر، (وقد قضاها صلى الله عليه وسلم تحت حائش
(1)
)، أي نخل ملتف؛ ومعلوم أن له ظلا. وفي الحديث (أنه كان أحب إليه ما استتر إليه حائش نخل أو حائط
(2)
) والحائش هو النخل الملتف، كأنه يحوش بعضه إلى بعض، وهو بالحاء المهملة والشين المعجمة. وقال في المدخل في آداب الاستنجاء: أن يتجنب بيَعَ اليهود؛ وكنائس النصارى ليلا يفعلوا ذلك بمساجدنا. كما نهي عن سب الآلهة المدعوة من دون الله ليلا يسب الله؛ ويكره البول في الأواني النفيسة، ويحرم في أواني الذهب والفضة لحرمة اتخاذها واستعمالها. قاله الإمام الحطاب.
وصلب يعني أنه يندب لقاضي الحاجة أن يتقيَ الصلب، وظاهره الإطلاق، وهم قيدوه بالنجس. وأما الطاهر الصلب فيتأكد ندب الجلوس به، وما ذكره المصنف من الإطلاق، قال ابن غازي: لا أعرفه إلا لأبي حامد الغزالي. قاله الحطاب. وقال ذكر في الذخيرة عن الجواهر أن من الآداب أن يتجنب الموضع الصلب احترازا من الرشاش وأطلق في ذلك، ولا شك أنه يخشى من تطاير البول فيه مطلقا سواء كان طاهرا أو نجسا فينبغي تجنبه، ولكني لم أقف على ما ذكره عن الجواهر فيها، والذي رأيت فيها وإن كان نجسا صلبا اجتنبه وعدل إلى غيره. وفي العمدة والإرشاد أن من الآداب أن يطلب موضعا رخوا. قال شراحه: لا صلبا، وصرح بذلك ابن معلى في منسكه، فقال: واتقاء الأرض الصلبة. انتهى. والصلب بضم الصاد وسكون اللام، الموضع الشديد، ويقال أيضا بفتح الصاد وبضم اللام وبضم الصاد وفتح اللام مشددة.
وبكنيف نحى ذكر الله هذا هو القسم الخاص بالكنيف، يعني أنه إذا كان يريد قضاء الحاجة بكنيف فإنه لا بد له من أن ينحى؛ أي يبعد ذكر الله عن الكنيف كان الذكر نطقا بأن يسكت؛ أو غيره بأن يكون مصاحبا له مكتوبا عنده في شيء خاتما أو رقا أو غيرهما، فيزيله ويبعده فيترك
(1)
النهاية، ج 1 ص 468.
(2)
عن عبد الله بن جعفر قد: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه فأسر إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدف أو حائش نخل. مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، الحديث:342.
النطق بالقرآن وجوبا في الكنيف، والمكتوب فيه ندبا كغير القرآن مطلقا، وهذا إذا لم يكن المكتوب بساتر، وإلا جاز، والمراد بالساتر ما يكنه من جلد وغيره، والظاهر أن الجيب لا يكفي؛ لأنه ظرف متسع. قاله الرماصي. نقله بناني. والكنيف بفتح الكاف الموضع العد لقضاء الحاجة، ويسمى: المذهب، والمرفق، والمرحاض: والحُش، والمستراح، وبيت الراحة. وفي حديث أبي أيوب: (وجدنا مرافقهم قد استقبل بها القبلة
(1)
)؛ يعني مراحيضهم، والمرفق بكسر الميم وفتح الفاء وبالعكس. والمرحاض مأخوذ من الرحض، وهو الغسل، وفي الصحاح رحضت يدي وثوبي أرحضه رحضا عسلته، والحش بفتح الحاء وجمعه حشوش بضم الحاء، وأصله من الحش بضم الحاء وفتحها؛ وهو النخل المجتمع كانوا يستترون به عند قضاء الحاجة. أو من الحش بالفتح، وهو الدبر؛ لأنه يكشف عند الكنيف، والمحشة أيضا الدبر. وفي الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن محاش النساء
(2)
)، ويقال لموضع قضاء الحاجة الخلاء بالمد، وأصله المكان الخالي: وأورد فيه حديثا. وقيل إنه يتخلى فيه؛ أي يتبرز فيه، وجمعه أخلية والكرياس الكنيف بياء مثناة تحتية من الكرس للبول، والبعر المتلبد. وفي حديث أبي أيوب: (وما أدري ما يصنع بهذه الكراييس
(3)
)؛ وهي مراحيض تكون في السطوح، والبراز بالكسر ثفل الغذاء، وبالفتح اسم للفضاء الواسع. وفي الحديث: (كان إذا أراد البراز أبعد
(4)
). وفي الحديث أيضا: (اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد والظل وقارعة الطريق
(5)
). وفي الحطاب: قال الجوهري وغيره من أئمة اللغة: البراز بالكسر ثفل الغذاء، وهو الغائط، وأكتر الرواة عليه، فيتعين المصير إليه ولأن المعنى عليه ظاهر، ولا يظهر معنى الفضاء الواسع هنا إلا بكلفة فإذا لم تكن الرواة عليه لم يصر إليه. انتهى. بخلاف الحديث الأول فإنه يتعين فيه الفتح كما تقدم عن النهاية. قاله الحطاب. ولابد من الرجوع لتوضيح كلام المنصف. قال الشيخ محمد بن الحسن بناني: محصل ما في الحطاب وغيره أن
(1)
النهاية في غريب الحديث، ج 2 ص 247.
(2)
انظر المعجم الكبير للطبراني، الحديث:10580.
(3)
والله ما أدري كيف أصنع بهذه الكراييس. النهاية لابن الأثير، ج 4 ص 163.
(4)
النهاية في غريب الحديث، ج 1 ص 118. وانظر سنن أبى داود، الحديث: 2.
(5)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:26.
المعتمد حرمة قراءة القرءان في الكنيف، وأما الذكر فيه أو الدخول بما فيه ذكر أو قرءان فمكروه، وما يفهم من كلام التوضيح، وابن عبد السلام، والشارح من التحريم غير ظاهر، وأطلق الحطاب كراهة الدخول بما فيه قرءان فظاهره سواء كان كاملا أم لا. واستظهر الشيخ علي الأجهوري التحريم في الكامل. انتهى. ومقابل المعتمد يقول بجواز ذلك، وهو الذي يفهم من كلام ابن رشد، ومن كلام عياض في الإكمال، ومن كلام صاحب الطراز، ومن كلام البرزلي، وعلى هذا فيحمد إذا عطس وهو يبول كما أجاب به ابن القاسم من سأله عن ذلك؛ فقال له: نعم، والدليل لابن القاسم من جهة الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث
(1)
)، وما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله في أحيانه
(2)
)، ومن طريق النظر أن ذكر الله يصعد إلى الله فلا يتعلق به من دناءة الموضع شيء، قال الله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ، فلا ينبغي أن يمنع من ذكر الله إلا بنص ليس فيه احتمال، وما روي عن ابن عباس من تأويل إذا دخل الخلاء على معنى إذا أرادكما هو موجود في بعض الآثار، فإن ثبت فأكثر ما فيه ارتفاع النص على الجواز لا المنع، وإن لم يثبت المنع وجب أن يبقى على الأصل في جواز الذكر عموما، وما روي من أنه صلى الله عليه وسلم سلم عليه رجل وهو يبول فقال: (إذا رأيتني على هذه الحالة فلا تسلم فإنك إن فعلت لم أرد عليك
(3)
) لا دليل فيه، فقد يحتمل أن عدم رده في تلك الحالة بعد أن نهاه أدب له على مخالفته، ولكونه على غير طهارة على ما كان عليه في أول الإسلام أنه لا يذكر الله إلا على طهارة حتى نسخ ذلك انتهى. قاله الحطاب.
واعلم أنه لا ينبغي أن يختلف في استحباب ترك الذكر والقراءة من غير ضرورة في ذلك الموضع، ولا في استحباب ترك النزول إليه بكل ما فيه ذكر، وأن الجواز إذا أطلق في ذلك فالمعنى أنه
(1)
البخاري، كتاب الجنائز، رقم الحديث:142. ومسلم في صحيحه، كتاب الحيض، 375.
(2)
مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، رقم الحديث:373. ولفظه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.
(3)
سنن ابن ماجه، رقم الحديث 352.
ليست فيه كراهة شديدة لا أنه مستوي الطرفين أعني فعله وتركه؛ لأن السكوت عن كل كلام مستحب. قاله الحطاب.
واعلم أن القراءة في الطرق مكروهة. واعلم أن الذكر عند نفس قفاء الحاجة، ونفس الجماع لا يكره بالقلب إجماعا، وأما الذكر باللسان حالته فليس مما شرع لنا ولا ندبنا إليه ولا نقل عن أحد من الصحابة، بل يكفي في هذه الحالة الحياء والمراقبة. وذكر نعم الله تعالى في إخراج هذا القذر المؤذي الذي لو لم يخرج لقتل صاحبه، وهذا من أعظم الذكر، ولو لم يكن باللسان. قاله الحطاب. وقد كره مالك أن تعطى الدراهم فيها أسماء الفه تعالى اليهودَ والنصارى، والحامل من كلامهم في مسألة الاستنجاء بالخاتم الذي فيه ذكر الله ثلاثة أقوال: التحريم؛ وهو الذي يفهم من كلام التوضيح وابن عبد السلام وابن العربي وصاحب المدخل، وهو الراجح لملاقاة اسم الله للقذر، وليس كدخول الكنيف به للعلة المذكورة. والكراهة والجواز؛ وهو غير ظاهر، وهي رواية منكرة. قال في الدخل: هي رواية منكرة عند أهل المذهب من آخرهم، ومثل هذا لا ينبغي أن ينسب إلى آحاد العلماء فضلا عن الإمام مالك. انتهى. وفي المدخل: ولم يمنع الشارع من ذكر الله تعالى في حال من الأحوال إلا في موضع الخلاء فإنه يكره، ولا بأس بذكر الله هنالك للارتياع وما يشبهه، وليس بمكروه. انتهى. ويجوز نقش اسم الله تعالى في الخاتم على المشهور وهو الصحيح، وقيل لا يجوز، وقد روي عن ابن عباس أنه يكره ذكر الله على حالتين على خلائه، وهو يواقع أهله. البرزلي: وأما قراءة القرآن أو الذكر في المواضع الدنِسَة بنجاسة أو قذارة فينبغي أن ينزه ذكر الله عن ذلك، وقال مالك رحمه الله: إني لأعظم أن يعمد إلى دراهم فيها ذكر الله فيعطاها نجسا فأعظم ذلك إعظاما شديدا، وكرهه وفي آخر كتاب الفروق أنه يكره الدعاء في مواضع النجاسات والقاذورات. قاله الحطاب.
وعلم مما قررت أن قوله: "وبكنيف نحى ذكر الله" لا فرق بين كونه مكتوبا في رقاع أو منقوشا في خاتم ونحوه كما في الشارح. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم: (كان إذا دخل الخلاء نزع
خاتمه
(1)
)، وقال الشيخ عبد الباقي ومفهوم قوله:"بكنيف" عدم وجوب وندب تنحية ما ذكر بموضع أحدث فيه غير كنيف، وفي كراهة قراءته بعده به وحرمتها قولان. واتفق على المنع حال نزول خبث واستبراء بغير كنيف. انتهى. وفيه: ومنع أيضا استنجاء بيد فيها خاتم فيه اسم الله واسمُ نبي من الأنبياء كاسم الله على الأصح. وفيه: أنه يجوز الدخول بالقرءان لارتياع أو خوف ضياع مستورا فيهما كالتحرز ببعضه فقط بساتر لا بجميعه فيما يظهر.
ويقدم يسراه دخولا يعني أنه يستحب لقاضي الحاجة عند دخول الكنيف أن يقدم رجله اليسرى في دخوله للكنيف. وقوله: "دخولا" منصوب على نزع الخافض أي في الدخول. ويمناه خروجا يعني أنه يستحب لقاضي الحاجة أن يقدم يمينه في خروجه من الكنيف، وبما قررت علم أن التيامن مندوب في حالة الخروج من الكنيف، والتياسر مندوب في حالة دخوله فهما مندوبان. وفي الأمير عاطفا على ما هو مطلوب: وتياسر بالدخول وتيامن بالخروج. انتهى. وهذا الأدب خاص بالكنيف لقاعدة الشرع أن ما كان من باب التشريف يندب فيه التيامن كلبس سراويل، وخف، وترجيل شعر، وحلق رأس، وخروج من حمام، وفنادق، وما كان بضده ندب فيه التياسر كنزع نعل، وخف؛ وسراويل، وخروج من مسجد، ودخول فندق، وحمام، ومرحاض، وموضع ظلم، ومعصية، وسوق. واختلف في لبس خاتم، وإزالة أذى من أنفه وامتخاط، والراجح ندب التياسر في الثلاثة. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الدميري من الشافعية: وهذا الأدب لا يختص بالبنيان عند الأكثر، بل يقدم اليسرى إذا بلغ موضع جلوسه من الصحراء، فإذا فرغ قدم اليمنى. وروى الترمذي الحكيم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه من بدأ برجله اليمنى قبل اليسرى إذا دخل الخلاء ابتلى بالفقر، ولو قطعت رجله، واعتمد على عصا فالمتجه إلحاقها بالرجل. قاله الأسنوي. قاله الحطاب.
(1)
الترمذي، كتاب اللباس، رقم الحديث 1752.
- أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:19.
- ابن ماجه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:303.
عكس مسجد إما: منصوب بفعل محذوف على كلام البساطي؛ أي يفعل ذلك عكس مسجد؛ أو مرفوع خبر مبتدإ محذوف على كلام التتائي، أي وذلك عكس فعل مسجد. قاله الخرشي؛ يعني أن المسجد عكس الكنيف فيما مر، فإنه يندب له أن يقدم اليمنى في دخوله للمسجد، واليسرى في الخروج منه؛ ويضع يسراه على ظاهر نعله ليقدم اليمنى في اللبس عند الخروج، ويخلع يسراه قبل يمناه؛ ويجعلها على ظاهر النعل، ثم يخلع اليمنى فيدخل بها قبل اليسرى.
والمنزل يمناه بهما يعني أن اليمنى تقدم في الدخول في المنزل والخروج منه. وقوله: "والمنزل" مبتدأ وخبره محذوف، والباء بمعنى في، أي والمنزل يقدم يمناه في خروجه منه ودخوله له، ويغلب جانب المسجد المتصل بمنزل، ويغلب أفضل المسجدين، والأشد حرمة فإن استويا خير، وليس من الأفضل الجامع الأزهر بالنسبة للجوهرية، أو الطيمرسية أو الابتغاوية باعتبار ذاته نعم إن ثبت أن الأفضلية له باعبتار ما يتلى به من قرآن أو تدريس علم فظاهر. وأطبق المشايخ في فتواهم على حرمة فتح باب الجوهرية، وما ذكر معها في الجامع الأزهر؛ لأن فيه هدم حائط السجد.
وجاز بمنزل وطء يعني أن المنزل أي المسكن بمدن أو قرى يجوز الوطء فيه مع استقبال القبلة واستدبارها. وبول يعني أنه يجوز للشخص أن يبول بالمنزل حال كونه مستقبلا للقملة ومستدبرا لها. وغائط يعني أنه يجوز للشخص أن يتغوط حال كونه مستقبلا للقبلة ومستدبرا لها. فقوله: مستقبل قبلة أي مواجها لها؛ والقبلة هي المسجد الحرام. ومثل المنزل الخيم للحاج يجعل فيها محلا لقضاء حاجته. قاله الخرشي.
ومستدبرا أي موليا دبره للقبلة راجع للوطء والبول والغائط كما قررت، وهذه النسخة بزيادة.
وغائط هي التي في شرح الشيخ عبد الباقي. وفي الحطاب والشبراخيتي بدونها، وقال الشبراخيتي: ولو قال وفضلة لكان أشمل، وقوله: مستقبل قبلة ومستدبرا ألجي إلى ذلك بأن لا يتأتى له قضاء الحاجة إلا مستقبلا أو مستدبرا، ويعسر عليه التحول عن جهة القبلة أو أمكن التحول من غير عسر؛ ولهذا قال وإن لم يلجأ بأن يمكنه التحول من غير عسر كفضاء المدن، ومراحيض السطوح وأول بالساتر يعني أن المدونة تؤولت على أن ما ذكر من الوطء والفضلة إنما يجوز مع استقبال القبلة أو استدبارها، حيث كان بينه وبين القبلة ساتر، وأما إن لم يكن
بينه وبين القبلة ساتر فلا يجوز كمرحاض السطح، وهذا حيث لم يلجأ بأن يمكنه التحول عن استقبال القبلة واستدبارها بسهولة، وأما إن ألجئ بأن عسر عليه التحول الذكور فيجوز ما ذكر في حالة الاستقبال، وفي حالة الاستدبار للقبلة وأول بالإطلاق يعني أن المدونة تؤولت على أن ذلك يجوز مع الاستقبال أو الاستدبار مطلقا؛ أي سواء كان بينه وبين القبلة ساتر أم لا، ومحل التأويلين إنما هو حيث لم يلجأ لا فيما إذا ألجئ إلى ذلك فيتفقان على الجواز حينئذ، قال في التنبيهات: ظاهر الكتاب في استقبال القبلة واستدبارها في المدائن والقرى: الجواز في المراحيض، وغيرها من غير ضرورة لقوله: إنما عني بذلك الصحاري والفيافي؛ ولم يعن المدائن والقرى بدليل جواز مجامعة الرجل زوجته إلى القبلة، ولا مشقة في الانحراف عنها وهو تأويل اللخمي، وإلى هذا كان يذهب شيخنا أبو الوليد. قاله الحطاب. وما قررت به المصنف هو ظاهره؛ وهو ما قرره به ابن مرزوق، فإنه جعل محل التأويلين حيث لا ساتر كان بمرحاض أولا. قال الشيخ محمد بن الحسن:
اعلم أن صور المنزل أربع؛ لأنه إما في مرحاض، أوْ لا، وفي كل إما بساتر أولا، والذي في الحطاب وهو الحق أن محلهما، أي التأويلين في المرحاض بلا ساتر، وظاهره كان في السطح أو في فضاء المدن، وإطلاق الحطاب في السطح وغيره هو الظاهر، وإن كان لفظ المدونة هو الجواز في المراحيض التي على السطوح فحملها اللخمي وعبد الحق وعياض على الإطلاق. وحملها بعض شيوخ عبد الحق على التقييد بالساتر، ثم قال: وأما إذا كان ساتر بلا مرحاض ففيه قولان، وظاهر المدونة الجواز وهو الراجح كما في الحطاب عن المازري. ومثله إذا لم يكن ساتر ولا مرحاض، وأما الرابعة وهي: مرحاض بساتر فتجوز اتفاقا، وينبغي للمجامع أن يستتر هو وأهله بثوب سواء كان مستقبل القبلة أو غير مستقبلها. وفي المدخل: وينبغي أن لا يجامعها وهما مكشوفان بحيث لا يكون عليهما شيء يسترهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وعابه. وقال فيه: (كما يفعل العيران
(1)
) وإن كان في برية أو على سطح فلا يجامع مستقبل القبلة ولا مستدبرها، وإن كان في بيت فيختلف فيه بالجواز والكراهة، والمشهور الجواز. انتهى نقله
(1)
إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ولا يتجرد تجرد العيرين. ابن ماجه، كتاب النكاح، رقم الحديث:1921.
الحطاب. قال: وما ذكره في السطح غير ظاهر. وقوله: "وإن لم يلجأ" لو عبر بلو لرد ما في الواضحة من أنه لا يجوز إلا إذا ألجئ لكان أولى. قاله الشيخ محمد بن الحسن.
لا في الفضاء يعني أن ما ذكر من الوطء والفضلة يحرم في الفضاء بغير ساتر في حالة الاستقبال أو الاستدبار للقبلة؛ ولفظ المدونة: الكراهة، وهي على التحريم؛ لأن رواية أبي عمر: لا يجوز؛ ورواية المازري: المنع: وأصرح منه قول النووي. مذهب مالك والشافعي أنه حرام في الفلوات. انتهى قاله الإمام الحطاب. والأصْلُ في هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط أو البول فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بفرجه
(1)
). انتهى. قال محمد بن عبد الباقي: وقيس علي ذلك الوطء على أن مثار النهي كشف العورة فيطرد في كل حال تكشف فيها العورة. وبستر قولان يعني أن الشيوخ اختلفوا هل يجوز البول والغائط والوطء مع الاستقبال والاستدبار في الفضاء مع الساتر: أولا يجوز على قولين، والراجح الجواز، والقولان المذكوران تحتملهما المدونة، واعترض الرماصي المص بأن كلام الأيمة ظاهر في أن القولين في المدائن والقرى فقط، وأن الفضاء مع الساتر لا خلاف في منع الاستقبال والاستدبار فيه كالفضاء بدون ساتر. قال الشيخ محمد بن الحسن. وفيه نظر، فإن ابن رشد نص في المقدمات على الجواز في الفيافي مع الساتر، فقال بعد أن ذكر النهي في الصحاري ما نصه: فالمعنى على هذا في النهي من أجل أن لله عبادا يصلون له من خلفه فإذا استتر في القرى والمدائن في الأبنية ارتفعت العلة، وكذلك على هذا لو استتر في الصحاري لجاز أن يستقبل القبلة. وقد فعله عبد الله بن عمر رضي الله عنهما واستقبل بيت المقدس. واستتر براحلته، وقال: إنما نهي عن ذلك في الفضاء، وفي التنبيهات أن الخلاف في الوطء مبني على أن العلة تعظيم القبلة، فيمنع من ذلك في الجميع، أو لحق المصلين خلفه فيباح إذا كان ساتر، وكلامه يتناول الفضاء والمنزل وما قلناه هو ظاهر ابن عرفة انتهى. قاله الشيخ محمد بن الحسن.
(1)
إذا ذهب أحدكم الغائط أو البول فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بفرجه الموطأ، كتاب القبلة، الحديث:435.
والمختار الترك يعني أن المختار عند اللخمي من القولين ترك الاستقبال والاستدبار في الوطء، والفضلة في الصحاري مع الساتر، أي يمنع ما ذكر في الفضاء ولو مع ساتر لحق من يصلي في الصحاري من الملائكة الساعين في الأرض وصالحي الجن، كما علل به في المدونة، أو تعظيما لجهة القبلة ورجحه في التلقين. وبما قررت علم أن اختيار اللخمي جار في الوطء والفضلة كما قال المنصف خلاف ما قال أحمد من أن اختيار اللخمي في الوطء الجواز. وعلم أيضا أن اختياره خاص بالصحاري خلاف ما قاله الحطاب ومن تبعه، أما الأول فقال محمد بن الحسن بناني: ظاهر اللخمي كظاهر المص في استواء الوطء والحدث، ونص اللخمي على نقل ابن مرزوق، وقال ابن القاسم: لا بأس بالجماع للقبلة كقول مالك في المراحيض، والجواب عن ذلك في المدائن والقرى؛ لأنه الغالب، والشأن في كون أهل الإنسان معه فمع انكشافهما يمنع في الصحراء، ويختلف في المدن ومع الاستتار يجوز فيهما. انتهى. قال ابن مرزوق: عقبه وظاهر كلام اللخمي استواء الوطء والحدث كما ذكره المنصف. انتهى. قال أبو علي: وصدق في كون ذلك ظاهر اللخمي؛ لأن قوله: فمع انكشافهما يمنع في الصحراء، ظاهره سواء كان بساتر أم لا. وقوله: مع الاستتار الخ، إنما جوز الوطء مع الاستتار بثوبهما، ولم يجز الغائط إذا أسدل ثوبه خلفه؛ لأن الوطء أخف من قضاء الحاجة. انتهى. وأما الثاني فلا نسلم أن اختيار اللخمي جار في الفضاء وغيره، بل هو خاص بالفضاء خلافا للحطاب ومن تبعه، وذلك أن اللخمي بعد أن نقل عن مالك في المدونة أنه أجاز ذلك في المدن ومنعه في الصحراء، ذكر أنه اختلف في علة المنع في الصحراء هل لحق المصلين في الصحاري من الملائكة وغيرهم ليلا ينكشف لهم، أو لحرمة القبلة وهذا يستوي فيه الصحاري والمدن، أي هذا التعليل الثاني الذي هو مختار اللخمي تستوي فيه الصحاري والمدن فمقتضى القياس المنع فيهما لكن أبيح ذلك في المدن للضرورة كما دل عليه كلامه قبله، وبقي ما عدا المدن على عدم الجواز لعدم الضرورة. قاله أبو علي. انتهى. كلام الشيخ محمد بن الحسن. وتلخيص ما في الحطاب أن الصور كلها جائزة إما اتفاقا أو على الراجح إلا في صورة واحدة وهي الاستقبال أو الاستدبار في الصحراء بغير ساتر فممنوعة اتفاقا في الوطء والفضلة، فلو
قال: وجاز بغير فضاء استقبال وضده بوطء أو فضلة كبه بساتر وإلا منع لَوفى بهذا، واستغنى عن قوله: وجاز بمنزل إلى قوله الترك. وينسب للشيخ علي الأجهوري:
يجوز فضلة ووطء في الفضا
…
بساتر لقبلة في المرتضى
وفي سواه فالجواز مطلقا
…
هذا الذي أفاده من حققا
وقال الشيخ الأمير: وجاز بغير الفضاء استقبال واستدبار بالوطء والحاجة وإن لم يلجأ، وإن كان الأدب البعد مع الإمكان كبه؛ أي الفضاء بساتر عرفا. النووي: أقله طولا ثلثا ذراع، وبعده عنه ثلاثة أذرع فدون: وعرضا بقدر ما يستر وإلا منع. انتهى.
واعلم أنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا
(1)
)، وقال جابر: (رأيته صلى الله عليه وسلم قبل أن يقبض بعام مستقبلها
(2)
)، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة
(3)
)، فحملوا النهي على الفلوات، وفعله على الكنف والمدن حرصا على الجمع ما أمكن. ومختار المنصف وغيره كأبي سعيد البرادعي: مساواة الوطء للبول في الحكم بناء على أن علة النهي في البول العورة؛ وهي موجودة فيهما لا الخارج لفقده في الوطء فلا يساوي البول كما هو رأي بعضهم ممن جوز الاستقبال والاستدبار بالوطء مطلقا. قاله الشبراخيتي. وينبغي للشخص أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها مطلقا لا في مسند البزار عنه صلى الله عليه وسلم (أنه قال: من جلس يبول قبالة القبلة فذكر فانحرف عنها إجلالا لها لم يقم من مجلسه حتى يغفر له
(4)
). قال الإمام الحطاب: فينبغي للشخص أن لا يفعل ذلك إلا لضرورة للحديث، وما ذكره النووي في السترة جار على مذهبنا أخذا من السترة. قاله ابن ناجي. انتهى.
(1)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:394. بلفظ: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها
…
لخ.
(2)
عن جابر بن عبد الله قال: نهى نبي الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:13.
(3)
ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضى حاجته مستقبل القبلة مستدبر الشام. البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث. 148. ومسلم، كتاب الطهارة، الحديث 266.
(4)
كنز العمال، الحديث 26474.
وقد مر عنه أنه يكون بينه وبينها ثلاثة أذرع فما دونها، فإن زاد فهو حرام كالصحراء. انظر الحطاب. لا القمرين يعني أنه لا يمنع استقبال القمرين ولا استدبارهما في الحدث والوطء؛ أي يجوز ذلك، والأولى الاتقاء كما نص عليه الأمير، ونص غير واحد على نفي الكراهة، ولا يفهم ذلك من المص. والله سبحانه أعلم. وإنما جاز استقبال القمرين واستدبارهما في الحدث والوطء لعدم ورود النهي عنه، وقال في المدخل في آداب الاستنجاء: أن لا يستقبل الشمس والقمر، فإنه ورد أنهما يلعنانه، ومقتضى كلامه أنه في الذهب. وعلم من كلام صاحب المدخل أن المنهي عنه في القمرين إنما هو استقبالهما لا استدبارهما، وصرح بذلك الدميري من الشافعية، وعَدَّ ابن معلى في منسكه في الآداب أن لا يستقبل الشمس ولا يستدبرها، [وقال المواق: الجزولي:
(1)
]، [من
(2)
] آداب الأحداث أن لا يستقبل الشمس والقمر ولا يستدبرهما. انتهى. قاله الإمام الحطاب. وقوله: "لا القمرين"؛ يعني ما لم يكونا في جهة القبلة، والقمران الشمس والقمر غلب في التثنية القمر لأنه مذكر، وفيه تثنية المتخالفين؛ وهي نادرة، ومنها قوله:
ما كان يرضى رسول الله فعلهم
…
والعمران أبو بكر ولا عمر
وكذا الأسودان للماء والتمر، ووجه التغليب في القمرين الخفة فقط، ووجهه في الأسودين حيث غلب الأسود؛ وهو التمرُ على الماء، وهو أبيض إشعار الأبيض بما يكره؛ وهو البرص. وبيت المقدس يعني أنه لا يمنع استقبال بيت المقدس ولا استدباره في حدث أو وطء بل يجوز ذلك فيه، والقائل بالنهي في بيت القدس فسره بالصخرة؛ لأنها هي التي كانت قبلة، والقائل بالجواز يفسره بما هو أعم. ونص الأمير على أن اتقاء الاستقبال والاستدبار لبيت المقدس في ذلك أولى ووجب استبراء الاستبراء بمعنى طلب البراءة، يعني أنه يجب طلب البراءة من الحدث بولا أو غائطا، والبراءة هي التخلص، أي يجب على الشخص أن يطلب التخلص من الحدث
(1)
في الأصل: وقاله المواق والجزولي، والمثبت من الحطاب ج 1 ص:435. دار الرضوان.
(2)
في الأصل والحطاب: في، والمثبت من المواق الذي بحاشية الحطاب ج 1 ص: 298 ط دار الفكر.
باستفراغ أخبثيه الباء للاستعانة أو للسببية، والاستفراغ بمعنى التفريغ فليست السين والتاء للطلب، والأخبثان البول والغائط، يعني أنه يجب على الشخص طلب التخلص من الحدث بتفريغ ما في المحلين من البول والغائط، ويحتمل أن تكون الباء في قوله:"باستفراغ" للتصوير على مذهب من أجاز ذلك، وتكون السين والتاء للطلب: والاستبراء والاستفراغ حينئذ بمعنى واحد. ومعنى المنصف على هذا أنه يجب الاستبراء، والاستبراء هو أن يستفرغ الشخص ما في المخرجين من الحدث. والله أعلم. والحاصل أنه لابد من إخلاء محل البول والغائط منهما؛ بأن يحس من نفسه أنه لم يبق شيء مما هو بصدد الخروج وهذا كاف في الغائط لقصر محله، بخلاف البول؛ أي بول الرجل لطول محله فلذا لابد أن يكون ذلك مع سلت ذكر أي يجب عليه أن يسلت ذكره؛ والسلت هو أن يجعله بين إصبعيه ماسكا له من أصله بالسبابة والإبهام أو غيرهما من اليد اليسرى. ثم يمشيهما لرأس الكمرة، ونتر أي أنه يجب عليه نتر ذكره مع سَلْتِهِ، ونتره جذبه: قال في النهاية: النتر جذب فيه قوة وجفوة؛ ومنه الحديث: (إن أحدكم يعذب في قبره فيقال إنه لم يكن يستنتر عند بوله
(1)
). والاستنتار الاستفعال من النتر يريد به الحرص عليه والاهتمام به؛ وهو بعث على التطهير بالاستبراء من البول. وقال النووي: النتر الجذب بجفوة، ومنه الحديث. (إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات
(2)
). انتهى. قال الحطاب: وكلهم ذكروه في مادة نتر بالمثناة الفوقية، ثم ذكروا بعده مادة نثر بالمثلثة. وفي الأمير: ونتر للإنقاء، وما شك فيه بعده كنقطة فعفو فإن فتش ورآها فحكم الحدث والخبث. انتهى. فإن لم يخرج منه شيء بعد سلته ونتره، ولا رأى بللا أول مرد في رأسه كفاه ذلك، وإلا أعاده حتى لا يبقى شيء، ولا حد في عدد ذلك عندنا بل الجفاف في مرة أو ما زاد خلافا للشافعية، إلا أنه ينبغي أن يطلب التعجيل بقدر الإمكان. ويحذر التطويل واستقصاء الأوهام، فإن ذلك يؤدي إلى الوسوسة فيحار في زوالها وعلاجها بعد تمكنها: ويفوت صاحبها من الخير ما لا يحصى، ويقع في أنواع من الشر. نسأل الله السلامة والعافية. وقوله:"باستفراغ" الخ والمرأة تجعل يدها على سرتها مما يدر البول. قاله
(1)
النهاية في غريب الحديث. ج 5 ص 12.
(2)
ابن ماجه، كتاب الطهارة، رقم الحديث 326.
الخرشي خفا؛ يعني أن السلت والنتر يكونان خفيفين، بأن لا يكونا قويين، ويقلل زمنهما؛ لأن قوة السلت والنتر توجب استرخاء العروق بما فيها، فلا يقطع المادة، ويضر بالمثانة بضم الميم، كما في الخرشي، وربما أبطل الإنعاظ أو أضعفه؛ وهو من حق الزوجة. وتقد أنه يحذر التطويل فيه واستقصاء الأوهام، فيفيد أنه يستقصي ما فيه الظن كالشك إلا أن يكون مستنكحا، وإذا طال عليه الأمر فينبغي له أن يهمز بإصبعه بين السبيلين، فإنه يدفع الحاصل ويمنع الواصل. قاله الشيخ إبراهيم.
واعلم أن النتر وإن كان في الأصل الجذب بقوة المأمور به في الاستبراء منه إنما هو النتر الخفيف، وما تقدم من أن النتر والسلت واجبان هو الذي يقتضيه كلام غير واحد من أهل المذهب. وفي المختصر وليس على الذي يستبرئ من البول أن ينتفض ويتنحنح، ويقوم ويقعد، ولا يمشي ويستبرئ بغير ذلك. وفي المدخل: ولا يسلت ذكره إلا برفق، فإن ذلك يؤدي إلى أن يصلي بالنجاسة؛ لأن المحل كالضرع إن طالما أنت تسلته يعطي، فيكون ذلك سببا لعدم التنظف وقال في المدخل: يتفقد نفسه في الاستبراء فيعمل على عادته فرب شخص يحصل له التنظف عند انقطاع البول عنه، وآخر لا يحصل له ذلك إلا بعد أن يقوم ويقعد، وذلك راجع إلى اختلاف الناس في أمزجتهم، وفي مأكلهم، واختلاف الأزمنة عليهم، فقد يتغير حاله بحسب اختلاف الأمر عليه، وهو يعهد من نفسه عادة فيعمل عليها فيخاف عليه أن يصلي بالنجاسة أو يتوسوس في طهارته فيعمل على ما يظهر له في كل وقت من حال مزاجه وغذائه وزمانه، فليس الشيخ كالشاب، ولا من أكل البطيخ كمن أكل الخبز، وليس الحر كالبرد. وإذا استنجى فليكن الإناء بيده اليمنى يسكب بها الماء، ويده اليسرى على المحل يعركه، ويواصل صب الماء ويبالغ في التنظيف خيفة أن يبقى معه شيء من الفضلات فيصلي بالنجاسة، وعذاب القبر من هذا الباب. وليس للشخص ذكرا أو أنثى غسل ما بطن من المخرجين، وفي المدخل: وإذا قام يستبرئ فلا يخرج بين الناس وذكره في يده، وإن كانت تحت ثوبه فإن ذلك شوهة ومثلة، وكثيرا ما يفعل بعض الناس هذا، وقد نهي عنه، فإن كانت له ضرورة في الاجتماع بالناس إذ ذاك فليجعل على فرجه خرقة يشدها عليه ثم يخرج، فإذا فرغ من ضرورته تنظف، ويكره أن يشتغل بغير ما هو
فيه من نتف إبط وغيره ليلا يبطأ في خروج الحدث، والمقصود الإسراع في الخروج من ذلك المحل، بذلك وردت السنة، قال الإمام أبو عبد الله القرشي: إذا أراد الله بعبد خيرا يسر عليه الطهارة. وذكر ابن ناجي في جواز القراءة لمن يتنشف ثلاثة أقوال: الجواز والمنع، والثالث الجواز إن لم يبق بيده رطوبة، ذكر هذا الفرع عن بعض أصحابه، قال: ولا أعرفه لغيره، والأقرب المنع، ولا ينبغي أن يختلف فيه. وقال؛ أي بعض أصحابه: وأما الاستنشاف في المسجد فإن لم يتحقق السلامة حرم وإن تحقق السلامة جاز، والأولى أن لا يفعل. قال ابن ناجي: قلت الصواب التحريم؛ لأن فيه إهانة المسجد وهو عندي أشد من دخول النجاسة ملفوفة، وفيها قولان. انتهى تنبيهات الأول: فهم مما تقدم أن السلت والنتر إنما هما لإخراج ما بقي، فإذا تحقق خروجه بغير ذلك كمكثه مدة طويلة بعد البول بحيث تحقق أنه لم يبق فيه شيء يخرجه السلت فإن ذلك يكفي؛ والعلة ترشد إلى ذلك وهو معقول المعنى، وليس من التعبد قاله الشيخ علي الأجهوري. الثاني: إنما وجب الاستبراء اتفاقا من غير جريان القولين المتقدمين في إزالة النجاسة، لأن به يحصل الخلوص من الحدث المنافي للطهارة التي هي شرط من غير قيد اتفاقا، وأما النجاسة فلأنها لمنافية لطهارة الخبث، إذ في وجوبها المقيد بالذكر والقدرة وسنيتها خلاف. قاله الشيخ عبد الباقي وغيره. الثالث: ينبغي للإنسان عند قضاء الحاجة أن يعتبر بما يخرج منه كيف صار حاله فإنه كان طيبا يغالى فيه ويزاحم عليه ويشتهى، فبمجرد مخالطته للآدمي تقذر وصار نجسا يهرب منه ويعاف، وكذلك كل ما يخالطه الآدمي من الثياب النظيفة والروائح الطيبة عن قليل يتقذر ويعاف، وينتبه من ذلك إلى أنه يحذر من مخالطة من لا ينفعه في دينه لأنه يخاف عليه آثار الخلطة؛ وإلى أنه إذا خالطه أحد من المسلمين أن يغير أحدا منهم بسبب خلطته كما يغير كل ما خالطه من الطعام وغيره، وينتبه أيضا إلى أنه لابد أن يرجع هو كذلك، لأنه إذا دفن أكله الدود ثم يرميه من جوفه قذرا منتنا، إلا أن ثمَّ قوما لا يأكلهم الدود وهم الأنبياء، والعلماء: والشهداء، والمؤذنون المحتسبون. فالدرجة الأولى لا سبيل إليها، فيجتهد في تحصيل إحدى الدرجات الباقية. نقله الإمام الحطاب. الرابع: قد مر حديث المعذب في قبره الذي قيل فيه إنه لم يكن يستنتر عند بوله. قال ابن زكري إنه صلى الله عليه وسلم (أتى بقيع
الغرقد فوقع على قبرين تربين فقال أدفنتم فلانا وفلانا، أو قال فلانا وفلانة قالوا نعم يا رسول الله، قال قد أقعد فلان الآن فضرب، ثم قال والذي نفسي بيده لقد ضرب ضربة ما بقي منه عضو إلا انقطع؛ ولقد تطاير قبره نارا، ولقد صرخ صرخة سمعها الخلائق إلا الجن والإنس ولولا تمريج في قلوبكم وترديدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع، قالوا يا رسول الله وما ذنبهما قال أما فلان فإنه كان لا يستبرئ من البول، وأما فلان أو فلانة فإنه يأكل لحوم الناس، قالوا يا نبي الله حتى متى يعذبان قال غيب لا يعلمه إلا الله
(1)
). وهذا الحديث روي من طرق كثيرة مشهورة في الصحاح وغيرها، وفي أكثرها أنهما يعذبان في النميمة والبول، والظاهر أنه اتفق مروره بقبرين يعذبان أحدهما في الغيبة والآخر في البول، ومرة أخرى مر بقبرين يعذب أحدهما في النميمة والآخر في البول. والله أعلم. وفي رواية البخاري ومسلم: (مر بقبرين يعذبان فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير، أما أحدهما فإنه كان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله
(2)
)، وفي مسلم: (فدعا بعسيب نخل فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحدا، وعلى هذا واحدا ثم قال لعله أن يخفف عنهما
(3)
). ويحتمل أن يراد بالغيبة؛ الغيبة التي توجد في بعض صور النميمة؛ وهو أن يذكره في غيبته بما يسوءه قاصدا بذلك الإفساد فيحتمل أن يكون الذي يعذب في قبره كان ذلك وقوله: وما يعذبان في كبير؛ يعني في شاق تركه، وقيل في كبير عندكم وهو عند الله كبير، وقيل يعني بكبير: أكبر أي وما يعذبان في أكبر الكبائر، وفي رواية لا يستنزه من النزاهة؛ وهي البعد عن الشر، وفي رواية لا يستنتر؛ وهو الجذب، ومعنى لا يستبرئ أي لا يستكمل استبراءه، إذ قد يخرج ما ينقض وضوءه فيصلي بغير وضوء. عياض: وفيه أن قليل النجاسة وإن كان مثل رءوس الإبر كالكثير وهو قول مالك والكافة إلا ما خففوه من قليل الدم. انتهى.
واعلم أن النميمة هي نقل الحديث للغير على وجه الإفساد. وقال الإمام النووي: هي كشف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول عنه أو إليه أو ثالث، وسواء كان الكشف بالقول أو بالكناية أو
(1)
مسند أحمد، ج 5 ص 266. ولفظه: ولولا تمزع قلوبكم أو تزيدكم في الحديث
…
(2)
البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:216.
(3)
مسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث:292.
بالرمز أو بإيماء، وسواء كان المنقول من الأعمال أو الأقوال، وسواء كان ذلك المنقول عيبا ونقصانا من المنقول عنه أو لم يكن. فحقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه، وكل ما رآه الإنسان من أحوال الناس فينبغي أن يسكت عنه إلا أن يكون في حكايته فائدة للمسلمين، أو دفع لمعصية كما إذا رأى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به لحق المشهود له، فأما إذا رآه يخفي مالا لنفسه فذكره فهو نميمة وإفشاء سر، فإن كان ما ينم به نقصانا وعيبا في المحكي عنه كان قد جمع بين الغيبة والنميمة، والباعث على النميمة إما إرادة السوء بالمحكي عنه، أو إظهار الحب للمحكي له، أو التفرج بالحديث، أو الخوض في الفضول. وفي الحديث: (لا يدخل الجنة قتات
(1)
؛ أي نمام رواه البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي والمنذري. وقيل النمام الذي يكون مع جماعة يتحدثون حديثا فينم عليهم وهم يعلمون: والقتَّات الذي يستمع إليهم وهم لا يعلمون، والراجح اتحادهما. والحديث يحتاج إلى التأويل فيحمل على المستحل أوأنه لا يدخلها ابتداء. انتهى. وهذه خصال أذكرها لتحترز منها فإنها تورث سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى. ذكرها في النسرين فقال:
ست خصال أورثت لذي اتسام
…
بكلها أو بعضها سوء الختام
إدامة الغيبة والنميمه
…
وكذب على كريم الشيمه
عمدا كذا إدامة الإذايه
…
للخلق وادعاؤه الولايه
والانتساب قبل تحصيل المنى
…
إلى شيوخة وإدمان الزنى
وقوله وكذب على كريم الشيمة؛ يعني به النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي الكلام على الغيبة عند قول المص: وذكر المساوي، وعلى الكذب عند قوله: أو كثير كذب إن شاء الله تعالى. وندب جمع ماء وحجر يعني أن الجمع في الاستنجاء بين الماء والحجر أوما في معناه مستحب، فإن لم يجمع بينهما بأن أراد الاقتصار على أحدهما فإن الماء هو الأفضل، وإلى ذلك أشار بقوله ثم ماء
(1)
مسلم، رقم الحديث، 105. وأبو داود، رقم الحديث 4871. والترمذي، رقم الحديث: 2026 والمنذري في الترغيب، ج 3 ص 392، رقم الحديث 4324. والبخاري في صحيحه، رقم الحديث. 6056.
والمراتب خمس جمع الماء والحجر، ثم جمع الماء مع يابس غير حجر، ثم ماء، ثم حجر، ثم يابس غير حجر. قاله الشيخ الأمير. وكلام المص فيما يباح الاستجمار به مع الاقتصار عليه، وأما ما لا يباح الاستجمار به مع الاقتصار عليه، بل مع الماء بعده فلا يثبت له هذا الحكم. قاله الشيخ عبد الباقي. يعني فلا يكون جمعه مع الماء أفضل من الماء وحده هذا مراده، وفيه نظر؛ لأنه إذا كان جمعه مع الماء جائزا كما نقله الحطاب فيما يأتي عن الشيخ زروق، فالظاهر أن يكون أفضل من الماء وحده. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وكلام المنصف فيما يكتفى فيه بالحجر وهو الدبر مطلقا والقبل من الرجل، وأما ما يتعين فيه الماء فلا يندب فيه جمع الماء والحجر. قاله الشيخ عبد الباقي. وذلك كالمذكورات الآتية، وبول الخصي المقطوع الذكر، والمجبوب؛ ومعتاد خرج من مخرج غير معتاد كثقبة تحت المعدة ولم يستمر، فإن استمر فيصير كالعادة قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: كالعادة؛ أي يصير كالمخرج المعتاد فيكفي فيه الحجر. والله سبحانه أعلم. واقتضى كلامهم أن المقطوع الأنثيين وذكره قائم يكفي في بوله الحجر. والله سبحانه أعلم. وإنما كان الماء هو الأفضل لأنه يزيل العين والحكم. وقوله: "وندب جمع ماء وحجر" كيفية ذلك أن يبدأ بالحجر فيزيل العين، وقد مر كيفية الاستجمار، وبعد الحجر يغسل المحل بالماء، وهو الذي مدح الله به أهل مسجد قباء فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن التطهر الذي مدحهم الله به؛ يعني قوله عز وجل:{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} ، فقالوا كنا نعتقب الحجر بالماء، فقال: (هو ذاك فعليكموه
(1)
). انتهى. وشذ بعض الفقهاء فمنع الاستنجاء بالماء العذب؛ قال: لأنه طعام، وقال: لا يجوز الوضوء به وهو قول غريب مخالف للإجماع. قاله الحطاب. وقد مر أن الحجر لا يزيل الحكم وإنما المحل بعده من المعفوات، وظاهر كلام البساطي أنه يزيله.
وتعين في مني يعني أن المني يتعين فيه الماء، ولا يكفي فيه الحجر ونحوه، وهذا فيمن فرضه التيمم لمرض، أو عدم ماء كاف، وخرج على غير وجه السلس أو به، ونقض الوضوء فيما يظهر،
(1)
سنن ابن ماجه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:355.
وإلا فكالبول. قاله الشيخ عبد الباقي. والصواب ما في الدردير ونصه، إثر قوله:"في مني" خرج بلذة معتادة؛ وكان فرضه التيمم لمرض أو لعدم ماء يكفي غسله، أو بلذة غير معتادة، أو على وجه السلس: وكان يأتي يوما ويفارق يوما فأكثر، أما إذا كان يأتي كل يوم ولو مرة فلا يتعين فيه ماء ولا حجر لما تقدم في المعفوات. ووقع للشراح هنا سهو ظاهر، وقال الشيخ محمد بن الحسن: الذي يقتضيه كلام ابن هارون وابن دقيق العيد حيث قالا: إنما وجب الماء في المني لوجوب غسل جميع الجسد فلا يتأتى الاستجمار منه؛ وكذلك دم الحيض والنفاس. انتهى. هو أنه ألا يتعين الماء إلا فيما أوجب الغسل؛ فإن أوجب الوضوء أو التيمم فلا يتعين كالذي لم يوجب شيئا. والله أعلم. وظاهر نصوص غيرهم كظاهر نص المنصف إطلاق تعين الماء في المني؛ بل تعليل الجواهر المني والذي بما فيهما من اللزوجة [التي
(1)
] توجب نشرهما بالحجر صريح في ذلك. انتهى. وحيث تعين الماء في مني فلا يجب غسل ذكره كله؛ لأن غسله في الذي إما تعبد، أو لقطع أصل الذي كما يأتي، وكلاهما منتف خلافا لما ذكره الشيخ بركات الحطاب عن والده من وجوب غسله كله بنية. قاله الشيخ عبد الباقي. والشيخ بركات هذا: شقيق الحطاب، شارح المختصر؛ وتلميذه. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقد علمت أن قول المنصف:"وتعين في مني" شامل بحسب ظاهره لكل مني خرج على أي وجه، وأن عبد الباقي خصصه بما إذا خرج بلذة معتادة ممن فرضه التيمم لمرض أو عدم ماء كاف، فإن خرج بلا لذة بل سلسا أو بلذة غير معتادة فكالبول إن لم يوجب وضوءا؛ فإن أوجبه تعين فيه الماء فيما يظهر. قال: وأما صحيح وجب عليه غسل جميع جسده ووجد الماء الكافي فيغسل جسده وإن مغ يرتفع الحدث والخبث. انتهى. وقد مر بحث بناني معه.
وحيض ونفاس يعني أن الحيض يتعين فيه الماء، ومثله النفاس، ويجري فيهما ما جرى في المني، ولو اقتصر على الحيض أغناه عن النفاس؛ لأنه أصله؛ أو لأنهما أخوان كالظرف والجار والمجرور في علم النحو. قاله الشبراخيتي. وقال الشيخ أبو بكر وغيره: ويجزئ الاستجمار في
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من البناني ج 1 ص 81.
الحصى والدود إذا خرجا ببلة كثيرة وبغيرها فكالريح، وعفي عن خفيف يلة. قاله الشيخ عبد الباقي وغيره. وفي الحطاب: فإن تخيل فيه أدنى بلة فذلك مما يعفى عن قذره، فإذا خرجا ببلة ظاهرة أي كثيرة فيجب الاستنجاء، ويكفي الاستجمار. انتهى.
وبول امرأة يعني أن بول المرأة يتعين فيه الماء لتعذر الاستجمار في حقها، وكذلك الخصي. نقله في الذخيرة عن سند؛ لأن شأنه الانتشار، قال الشيخ إبراهيم: والظاهر أن المراد بالخصي المجبوب؛ ومن قطع ذكره فقط، وأما من قطع أنثياه فالظاهر أنه كغير الخصي. ورخصة الاستجمار مختصة بمحل البول والغائط دون سائر الجسد، فإذا خرجت النجاسة من سائر الجسد عدا المخرجين أمر بالغسل، وهذا قول الجماعة، ولو انفتح مخرج آخر للخبث فالظاهر أنه يستجمر فيه إذا استمر وصار كالمعتاد. انتهى قاله في الطراز. قال الإمام الحطاب: وهذا ظاهر إن كان المنفتح تحت المعدة وانسد المخرجان، فإن كان فوق المعدة أو لم ينسد المخرجان فالظاهر أن ذلك يجري على الخلاف الآتي: فعلى القول بالنقض يكفي فيه الاستجمار، وعلى القول بعدم النقض فلا يكفي. انتهى. وقوله:"وبول امرأة" خرج على غير وجه سلس أو به ونقض الوضوء وإلا كفى فيه استجمار، وتغسل المرأة كل ما يظهر من فرجها عند جلوسها للبول كغسل اللوح إن كانت ثيبا، فإن كانت بكرا غسلت ما دون العذرة كما في الحيض، ولا تدخل المرأة يدها بين شفريها كفعل اللاتي لا دين لهن. قاله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمد بن الحسن: تفريقه بين الثيب والبكر فيه نظر بل التفريق بينهما إنما ذكره صاحب الطراز في الحيض والنفاس خاصة، واختار في البول الإطلاق، ويحرم إدخال إصبع بدبر لرجل أو امرأة، ولا يقال الحقنة مكروهة فما الفرق؛ لأن الحقنة شأنها أن تفعل للتداوي. وقال الشيخ زروق عند قول الرسالة: وليس عليه غسل ما بطن من المخرجين؛ أي ولا له ذلك؛ لأنه يضر به ويشبه اللواط في الرجل، والسحاق في المرأة.
ومنتشر عن مخرج يعني أن ما انتشر من البول والغائط عن الخرج انتشارا كثيرا يتعين فيه الماء فلا يكفي فيه الحجر، والكثير ما زاد على ما جرت العادة بتلويثه دائما أو غالبا، وذكر الشيخ على الأجهوري أنه يتعين الماء في جميع ذلك يعني في الزائد وغيره، وينبغي مراعاة عادة كل
شخص. قال الشيخ إبراهيم: وهذا يعني قول المنصف: "ومنتشر عن مخرج كثيرا" يغني عن قوله: "وبول امرأة" لكن مقصوده التنصيص على أعيان السائل. انتهى.
ومذي يعني أن المذي يتعين فيه الماء فلا يكفي فيه الحجر، وهذا إذا خرج على غير وجه السلس، وإلا فينبغي أن يجري فيه ما جرف في المني وقال الدردير: ومذي خرج بلذة، وإلا كفى فيه الحجر ما لم يكن سلسا لازم كل يوم ولو مرة، وإلا عفيَ عنه كما تقدم، هذا هو التحقيق. بغسل ذكره كله يعني أن من خرج منه مذي يتعين في حقه الماء، ويجب عليه أن يغسل ذكره كله. محل الأذى وغيره عند الأكثر. ففي النية خبر عن قولان الآتي، يعني أن صاحب المذي اختلف في وجوب النية عليه عند غسله لذكره بناء على أنه تعبد في النفس وهو الصحيح، فكان ينبغي للمص الاقتصار عليه وعدم وجوبها بناء على أن غسل الذكر ليس تعبدا، بل لقطع أصل المذي، وإن كان فيه شائبة التعبد، وإلا لاقتصر على محل الأذى، والقولان مفرعان على وجوب غسله كله كما هو صريح ألفاظه. قاله الشيخ عبد الباقي. والقول بوجوب النية للأبياني، ومقابله لابن أبي زيد. قاله الشيخ إبراهيم. قال: وينبغي أن يكون غسل الذي مقارنا للوضوء. انتهى. وبطلان صلاة تاركها يعني أنه إذا قلنا بوجوب النية فغسله بغير نية، فهل تبطل صلاته لترك النية أو لا تبطل مراعاة للخلاف؟ في ذلك قولان، قال ابن بشير: واختلف القائلون بغسل جميعه هل يفتقر إلى نية أم لا؟ ثم قال: واختلف القائلون بافتقاره إلى نية، لو غسله بلا نية وصلى هل يعيد أو لا؟ ومقتضى إيجاب النية أن يعيد الصلاة، وترك الإعادة مراعاة للخلاف وبما قررت علم أن هذين القولين مفرعان على القول بوجوب النية، وقيل إنهما مرتبان على القولين في الفرع قبله: فالذي يقوك هنا بالبطلان بناه على وجوب النية، والذي يقول بعدم البطلان بناه على عدم وجوبها، نص على هذا غير واحد.
أو تارك كله يعني أن من أمذى وترك غسل كل الذكر بأن غسل بعضه ولو محل الأذى، اختلف هل تبطل صلاته وهو قول الأبياني؟ أو لا تبطل صلاته وهو قول يحيى بن عمر؟ وسواء غسل ذلك البعض بنية أو غسله بغير نية فالخلاف جار في الصورتين. قولان أي في ذلك قولان راجع للمسائل الثلاث. كما علم مما قررت؛ وهو مبتدأ، وخبره:"ففي النية". كما مر قال في التوضيح:
واختلف في بطلان صلاة من ترك غسل جميع الذكر، فقال يحيى بن عمر: لا يعيد ويغسل ذكره لما يستقبل، وقال الأبياني: يعيد أبدا، وأجراه بعض المتأخرين على أن غسل الجميع واجب أو مستحب، وفيه قول ثالث: أنه يعيد في الوقت. واستقرأ بعض المتأخرين من المدونة أنه يغسل الذكر عند إرادة الوضوء، فإن غسله قبل ذلك لم يجزه، وهو استقراء فيه بعد، ولا يلزم غسل الأنثيين من المذى إنما يلزم غسل الذكر خاصة، والأقسام خمسة: غسله كله بنية صحت اتفاقا، عدم غسله بالكلية بطلت قطعا، غسل بعضد ولو محل الأذى فقط بنية أولا فقولان متساويان، غسله كله بلا نية صحت على الراجح كان الترك في جميع ذلك عمدا أولا، وعلى الصحة في غسل البعض يغسله لما يستقبل وهل يعيد في الوقت أولا إعادة عليه؟ قولان. وقد مر أنه ينبغي أن يكون غسل المذي مقارنا للوضوء. واعلم أن المرأة كالرجل إلا أنها تقتصر علي محل الأذى فقط ولا تفتقر لنية. وقال الفيشي: الظاهر افتقارها لنية. قاله الشيخ عبد الباقي.
ولا يستنجى لمن ريح يعني أن الريح لا يستنجى منه كراهة لخبر: (ليس منا من استنجى من الريح
(1)
)؛ أي ليس على سنتنا، وكذا حصى ودود ولو ببلة، وللأبهري وعبد الوهاب: يستنجى منهما معها، وفي الطراز: أن الدم لا يكفي فيه الاستجمار ولابد فيه من الماء. وقال الشيخ أبو بكر وغيره: يجزئ فيه الاستجمار، وقوله:"ولا يستنجى من ريح" هذا قول فقهاء الأمطار، وذكر عبد الوهاب أن قوما يخالفون في ذلك كأن القائل بذلك يرى أن الريح تنقل أجزاء من النجاسة تدرك بحاسة الشم، ووجه المذهب أن الريح ليس بنجس، ولو وجب منه الاستنجاء لوجب غسل الثوب؛ لأنه يلقاه. قاله الإمام الحطاب. والاستنجاء هو إزالة النجاسة الخارجة من المخرجين أو أحدهما بالماء المطلق عن ظاهر المحل الذي خرجت منه، مأخوذ من نجوت العود إذا قشرته فكأن المستنجي يقشر ما على المحل لمن النجاسة وقيل مأخوذ من النجا وهو التخلص؛ لأن الإنسان يتخلص به لمن درن المحل، وأما الاستجمار فقيل مأخوذ من الجمار؛ وهي الحجارة.
(1)
المسالك في شرح الموطإ، ج 2 ص 30. والفردوس بمأثور الخطاب، ج 3 ص 418.
وقيل من التجمير وهو البخور؛ لأن الحجر يطيب المحل، والاستجمار هو مسح المخرج من بالأذى بجامد طاهر منق غير مؤذ ولا محترم. ويطلق الاستنجاء على الاستجمار. قاله الشيخ ميارة.
وجاز بيابس فاعل جاز ضمير يعود على الاستجمار المفهوم من قوله: وندب جمع ماء وحجر. قال الشيخ إبراهيم وغيره. وقال الشيخ أحمد: فاعل جاز ضمير يعود على الاستنجاء، وهو يطلق على إزالة ما في المحل بالماء أو بالأحجار فأعاد الضمير عليه باعتبار المعنى الثاني، والأمر في ذلك واضح. انتهى. ومعنى كلام المصنف أن الاستجمار يحصل بكل ما اجتمعت فيه هذه الأوصاف المذكورة؛ وهى أن يكون يابسا إلى آخر الأوصاف الآتية، وهذا هو المشهور، ومقابله قصر الاستجمار على الأحجار، قاس المشهور كل جامد على الحجر؛ لأن القصد الإنقاء؛ ورأى الآخر أن ذلك رخصة يقتصر فيها على ما ورد. والصحيح الأول؛ لآن الرخصة في الفعل لا في المفعول به وتعليله صلى الله عليه وسلم الروثة بأنها رجس
(1)
يقتضي اعتبار غير الحجر؛ وإلا لعلل بأنها ليست بحجر، رواه البخاري؛ وروى الدارقطنى أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا قضى أحدكم حاجته فليستنج بثلاثة أعواد أو ثلاثة أحجار أر ثلاث حثيات من تراب
(2)
) ولا دليل لمقابل المشهور في قوله صلى الله عليه وسلم: (أو لا يجد أحدكم ثلاثة أحجار
(3)
) لأن مفهوم اللقب لم يقل به إلا الدقاق. ونحوه لابن راشد؛ وإنما ذكر الأحجار لكونها أكثر وجودا. قاله الإمام الحطاب. وجميع أجزاء الأرض كالحجر؛ وفي الطراز: المتفق عليه ما كان من أنواع الأرض من حجر أو مدر أو كبريت أو نحو ذلك، وأما ما ليس من أنواع الأرض كالخزف والخشب وشبهه فمنعه داوود ومنعه أصبغ من أصحابنا. فإن فعل أعاد في الوقت. انتنهى. وقال التلمساني بعد أن ذكر المشهور: ذهب أصبغ من أصحابنا إلى أنه لا يجوز الاستجمار إلا بالأحجار وما في معناها من جنس الأرض؛ وأما ما ليس من جنس الأرض فلا يجوز الاستجمار به؛ فإن فعل أعاد في
(1)
ابن ماجه، كتاب الطهارة، رقم الحديث. 314 (
…
وألقى الروثة وقال هي رجس.) وفي البخاري، الحديث:156. (وألقى الروثة وقال: هذا ركس)).
(2)
الدارقطني، ج 1 ص 27.
(3)
الدارقطني ج 1 ص 27.
الوقت. انتهى. وظاهر كلام التوضيح أن أصبغ يخالف في غير الأحجار، وإن كان من جنس الأرض وليس كذلك.
واعلم أن مالكا وغيره يستحب الحجارة وما في معناها وما هو من جنسها، وفي الرسالة: ثم يمسح ما في المخرج من الأذى بمدر. والمدر الطوب. وقال الخليل: المدر الطين اليابس وغيره مما في معناه؛ واحترز المنصف بقوله: "يابس" من المائعات والأشياء المبتلة؛ لأن الرطوبة تمشر النجاسة، وشمل كلام المنصف الخرق والصوف غير المتصل بالحيوان؛ وأما صوف متصل بحيوان أو جزؤه أي الحيوان المتصل به فيكره بهما لما يتقى من إصابة النجاسة لغيره فيستثنيان من كلامه؛ والظاهر أنه يجوز استجمار شخص بيد آخر تجوز مباشرته لذلك المحل كزوجة برضاها، وكزوج برضاه، وكجارية لرجل. وفي الحطاب عن المدخل: يجبر على شراء أمة تفعل له الاستنجاء إذا كان سمينا لا تصل يده إلى عورته أي فله جبرها إلا أن تتضرر، كذا ينبغي. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال: إن المصنف يشمل النخالة بالخاء المعجمة الخالصة من أجزاء الطعام. انتهى. والذي في ابن مرزوق: والنحالة بالمهملة، وهو الذي يسقط من الخشب إذا ملسة النجار أو خرطه، والسحالة بالسين ما يخرج عند نشره بالمنشار، ثم بحث في النخالة بالمعجمة يأنها لا بد فيها من بقايا الطعام، وأيضا تعلق بها حق فإنها علف الدواب، وإذا احترم علف دواب الجن فأحرى علف دواب الإنس. انتهى. نقله الشيخ محمد بن الحسن. وفي قوله: وإذا احترم علف دواب الخ بحث لاقتضائه أن العيدان من الشجر التي ترعاها البهائم لا يستجمر بها. والله سبحانه أعلم. وشمل المصنف أيضا الحكمة؛ وهي الفحم فيجوز الاستجمار بها على ظاهر المذهب كما في شرح الجلاب ونحوه لسند، وجزم به في الشامل، وقيل يكره، وقيل يحرم، وهو أضعف مما قبله. قاله الشيخ عبد الباقي.
طاهر يعني أنه لا بد فيما يستجمر به أن يكون يابسا طاهرا، والمراد بالطاهر ما يباشر به المحل فلو كان في أحد جانبي الحجر نجاسة جاز الاستجمار بجانب الحجر الآخر كما في لحطاب. وفي ابن حجر أو القسطلاني: يجوز بلا خلاف. منق يعني أنه لا بد فيما يستجمر به أن يكون مع الوصفين السابقين منقيا للمحل من الأذى، وأما ما لا يتأتى به الإنقاء فلا يستجمر به، وسيأتي
محترزه -قريبا إن شاء الله- مع بقية المحترزات. غير مؤذ يعني أن ما يستجمر به لا يكون مؤذيا. وأما المؤذي فلا يجوز الاستجمار به كما يأتي. ولا محترم بضم الميم وسكون الحاء وفتح التاء والراء؛ أي شيء شريف له حرمة؛ أي يستحق أن يوقر ويعظم. فهذه خمسة أوصاف لا بد للمزيل منها جميعا؛ وهي اليبس، والطهارة والإنقاء. وكونه غير موذ، وكونه غير محترم. فلا بد في الجواز من اجتماعها كلها في المزيل: ولا يكفي بعضها.
لا مبتل هذا محترز قوله: "يابس"؛ يعني أن المبتل لا يجوز الاستجمار به. ونبه به على أن المائعات أحرى فلا يصح الاستجمار بها؛ لأن الرطوبة تنشر النجاسة. فإن استجمر بمبتل أو مائع فإنه لا يجزئه ذلك. ويجب غسل المحل بالماء بعد ذلك. ولا يكفي الاستجمار. فإن صلى قبل غسله عامدا أعاد أبدا. قال الشيخ إبراهيم. ونجس هذا محترز قوله: "طاهر"، يعني أن النجس لا يجوز الاستجمار به ولا يصح. والمراد بالنجس ما يباشر به المحل. وأما إن كان بموضع منه نجاسة وفيه موضع آخر طاهر ومسح به فإن ذلك يجزئه بلا خلاف كما مر. وما قيل في الاستجمار بالمبتل يقال في الاستجمار بالنجس. قاله الشيخ إبراهيم. وأملس هذا محترز قوله:"منق"؛ يعني أن الأملس لا يجوز الاستجمار به ولا يصح لكونه لا يتأتى به الإنقاء، وذلك كالزجاج الذي ليس بمحرق. ومحدد هذا محترز قوله:"غير مؤذ"؛ يعني أن المحدد من كل شيء لا يجوز الاستجمار به لكونه مؤذيا مضرا لصاحبه، وذلك كالزجاج المحرق ونحوه من كل محدد ومحترم هذا محترز قوله:"ولا محترم"؛ يعني أن الشيء المحترم أي الذي له حرمة أي وصف يحرمه أي يمنعه من الامتهان ويثبت له استحقاق التوقير لا يجوز الاستجمار به، ويكون الشيء هنا محترما بأحد أمور ثلاثة: بطعمه أو شرفه أو تعلق حق الغير به، وبينه بقوله من مطعوم من هنا: تبيينة؛ يعني أن الشيء الذي يطعمه الآدمي ولو أدوية أو عقاقير لا يجوز الاستجمار به، وشمل نخالة لم تخلص من دقيق، وملحا وورقا فيه النشا ومكتوب هذا هو المحترم لشرفه؛ يعني أن المكتوب ورقا أو غيره لا يجوز الاستجمار به لحرمة الحروف، ولو باطلا كسحر وتورية وإنجيل مبدلين؛ لأن فيهما أسماء الله، وأسماؤه لا تبدل، إنما الباطل ما فيهما من التحريف. وسواء كان المكتوب بالخط العربي أو بغيره، ويجوز حرقهما وإتلافهما أي
التورية والإنجيل المبدلين ولا تجوز إهانتهما لمكانة تلك الأسماء كما في الحطاب. وذكر الدماميني أنه يمنع الكافر من كتب الفقه والعربية لما فيها من أسماء الله وآياته؛ وهو حجة للمازني في امتناعه من إقراء الكافر كتاب سيبويه، وفيه دليل على احترام كتب التفاسير بالأولى لأنها حق، ولكن لا يبلغ إلى إيجاب الطهارة لمسها وإن كان الأولى ذلك، ومقتضى الدماميني اختصاص الحرمة بما فيد اسم من أسماء الله تعالى. وفي المدخل وابن العربي أن ما فيه اسم نبي كذلك، وبين المحترم الثالث بقوله وذهب وفضة يعني أن الذهب والفضة يحرم الاستجمار بهما، ومثلهما الياقوت والجوهر والبلور غير المصنوع، ويدخل المصنوع تحت قوله:"وأملس" وجدار هذا أيضا مما لا يستجمر به لتعلق حق الغير؛ يعني أن الاستجمار لا يجوز بالجدار حيث كان لمسجد أو وقف أو ملكا لغيره مطلقا كنفسه من جهة ممر الناس لحرمة ذلك، وأما جدار نفسه من داخل فيكره الاستجمار به ولا يحرم، وكره مخافة تلوثه هو أو من يستند إليه عند إصابة المطر مثلا لا لكونه محترما. قاله السنهوري. قاله الشيخ عبد الباقي. وظاهر النقل الكراهة في قسمي جداره. قاله غير واحد.
وروث وعظم يعني أن الروث والعظم لا يستجمر بهما مطلقا سواء كانا طاهرين أو نجسين، لكن إن كانا نجسين حرم الاستجمار بهما، وإن كانا طاهرين كره الاستجمار بهما. وإنما نهي عنهما؛ لأن الروث طعام دواب الجن، والعظم طعامهم. وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تأتني بروث ولا عظم
(1)
)]، وقوله: لا مبتل إلى آخره كلام صادق بالحرمة والكراهة، والحكم الحرمة في الجميع إلا الروث والعظم الطاهرين، وجدار نفسه قاله غير واحد. وقال الشيخ الأمير: يحرم محدد اشتدت إذايته وإلا كره، ووجه الحرمة في النجس وإن كان التضمخ بالنجاسة لا يحرم في غير الصلاة أن هذا فيه استعمال النجس. وقد مر للمصنف:"لا نجس". قاله الشيخ عبد الباقي. ومحل الحرمة والكراهة في الجميع حيث اقتصر على الاستجمار به، فإن قصد أن يتبعه بالماء جاز إلا المحترم بأنواعه الثلاثة، ولا يقال لم لا يندب، لقوله فيما
(1)
البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الوضوء، رقم الحديث:155.
مر: وندب جمع ماء وحجر"؛ لأنا نقول ذلك في جمع الماء به كما مر. قاله الشيخ عبد الباقي. وقد مر بحث بناني معه، وفي حديث أبي داوود: (قدم وفد الجن على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمدُ انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روث أو حممة فإن الله جاعل لنا فيها رزقا]
(1)
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وفي الحطاب عن ابن عرفة ما يفيد أن العلة في منع الاستجمار بالذهب والفضة ونحوهما هي الشرف. وقال في المدخل: وقد رأيت عيانا بعض الناس استجمر في حائط فلسعته عقرب كانت هناك على رأس ذكره. ورأى من ذلك شدة عظيمة. انتهى. نسأله الله السلامة. ونقل اللخمي في الاستجمار بالروث والعظم الطاهرين والنجس الجامد قولين بالجواز: والكراهة، وقد تقدم ذكر الخلاف في الحممة، قال ابن الحاجب: الأصح فيها عدم الجواز، وقال في الإكمال: المشهور عن مالك النهي عن الاستجمار بالحممة. وقال التلمساني: ظاهر المذهب الجواز والنقل يؤيده، في التوضيح: قيل وإنما منعت الحممة لأنها تسود المحل ولا تزيل النجاسة. فقد رجح كل من القولين. قاله الإمام الحطاب. وقوله: "وجاز بيابس" الخ يشمل التراب. وفي الإكمال: ويستجمر بالأرض. قاله الحطاب. وفيه "ويجوز الاستجمار بالآجر. وفي حاشية الشيخ محمد بن الحسن بناني أن الخزف بالزاي هو الآجر وفي الحطاب عن ابن هارون في شرح المدونة ما نصه: قالوا ويجوز الاستجمار بالآجر والخزف والتراب وشبه ذلك من الطاهر؛ (لأنه عليه الصلاة والسلام استنجى بالرخص)). انتهى.
فإن أنقت أجزأت، يعني أنه إذا ارتكب أمر النهي واستجمر بهذه الأشياء التي لا يستجمر بها فإنه تجزئه بشرط أن تكون قد أنقت المحل من الأذى، وخرج من ذلك المبتل والأملس والنجس؛ إذ لا يتأتي بها الإنقاء بل تزيد في انتشار النجاسة. قاله الشبراخيتي وقد مر عن الشبراخيتي. أنه إذا استجمر بالمبتل والنجس وجب عليه غسل المحل بالماء لا يكفيه الاستجمار، فإن صلى عامدا قبل أن يغسله أعاد أبدا، ومحل عدم الإجزاء بالنجس إذا كان يتحلل منه شيء كعظم الميتة الرطب الذي تبقى رطوبته: وروث يتفتت فإن كان لا يتحلل منه شيء وأنقى المحل فإنه
(1)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:39.
يجزئ كما نص عليه الشيخ عبد الباقي. وقال صاحب الطراز: ولو علقت به رطوبة الميتة أو تفتتت الروثة على المحل تعين الغسل. انتهى. يعني أنه يتعين غسل المحل بالماء ولا يكفي الاستجمار، ولو استجمر بعد ذلك بشيء طاهر. قاله الإمام الحطاب. وفي البيان: وإن استنجى بما فيه رطوبة من النجاسات أعاد في الوقت قولا واحدا انتهى. وقوله: يعيد في الوقت، يريد إذا صلى بذلك ناسيا، وإما إذا تعمد ذلك فيعيد أبدا. والله أعلم. قاله الإمام الحطاب. وفي الحطاب أنه إذا قصد إزالة عين النجاسة من المحل ليغسلها بعد ذلك فإنه يزيلها بكل ما يمكن أن تزال به مما ليس له حرمة أو فيه إذاية، وليس مائعا ولا مبلولا ليلا ينشر النجاسة. والله أعلم. انتهى. كاليد يعني أن اليد تجزئ إن أنقت فهو تشبيه في الإجزاء حيث حصل إنقاء فإن لم يجد غيرها ندب الاستجمار بها إن قصد إتباعها بالماء فإن قصد الاقتصار عليها فواجب أو سنة على حكم إزالة النجاسة. ويؤمر بغسل النجاسة من يده كما في الحطاب: وإن وجد ما يستجمر به غيرها جاز الاستجمار بها إن قصد إتباعها بالماء، وكره اقتصاره عليها. قاله الشيخ علي الأجهوري. قال الشيخ عبد الباقي. وانظر لم جاز الاستجمار بها حالة وجود غيرها يستجمر به، والحال أنه أراد إتباعها بالماء مع كونه تلطخا بنجاسة، وهو مكروه كما مر. وقال الشيخ الأمير: وحرم إدخال أصبع في دبر أو فرج إلا أن يتعين لزوال الخبث. انتهى.
تنبيهات: الأول: قوله: "كاليد" قد مر أنه يؤمر بغسل النجاسة من يده بعد الاستجمار لا قبل ذلك ليلا تنتشر النجاسة بالرطوبة. وقوله: "فإن أنقت أجزأت" وهل يعيد في الوقت أم لا؟ قولان: القول بالإعادة في الوقت لأصبغ، والقول بعدم الإعادة لابن حبيب.
الثاني: إذا قلنا إنه يستجمر باليد فهل بأصبعه الوسطى أو بالبنصر؟ قولان ويجريان في الاستنجاء بها فيما يظهر، ولا يستنجي ولا يستجمر بسبابته. قاله الشيخ عبد الباقي. وإنما يفعل هذا باليسرى، وأما اليمنى فيكره الاستنجاء والاستجمار بها، فإن ارتكب المكروه واستنجى باليمنى أجزأه. وقال أهل الظاهر: لا يجزئه ومقتضى ما في الإكمال عن بعض شيوخه أن الإنقاء باليد لا يكفي فمنهم من زاد في شروط المزيل أن يكون منفصلا احترازا من يد نفسه. قاله الإمام الحطاب. الثالث: رد المنصف بقوله فإن أنقت أجزأت قول الإمام الشافعي: إن من استجمر
بروث أو عظم لا يجزنه ذلك. وعلم مما مر عن الحطاب أن محل الحرمة والكراهة في جميع ما مر من قوله: "لا مبتل" الخ حيث اقتصر على الاستجمار به، وأما إن قصد أن يتبعه بالماء فإنه يجوز إلا المحترم بأقسامه الثلاثة والمحدد والناشر للنجاسة كالمائع والمبتل. والله سبحانه أعلم. ودون الثلاثة يعني أنه يكفي في الاستجمار ما دون الثلاث حيث حصل به الإنقاء، ويستحب الإيتار إن أنقى بالشفع كما مر. وما ذكره المنصف من أن الواجب الإنقاء دون العدد هو المشهور فإن الحديث محمول على الندب. وقال ابن شعبان وأبو الفرج بوجوب الإنقاء والعدد، وعلى المشهور فإن أنقى بحجر أو بحجرين أجزأ لكن يستحب التثليث، فإن لم يُنْق بالثلاث وأنقى بأربع ندب الخامس للوتر: فإن لم ينق بخمس وأنقى بست استحب السابع ثم المطلوب الإنقاء. واعلم أن النية هي أصل كل خير إذا كانت جميلة، فقد ذكر في المدخل في قضاء حاجة الإنسان الذي هو أهون الأمور ومن الضروريات نيفا وسبعين خصلة فإذا نواها الإنسان حين خروجه للخلاء يحصل له نيف وسبعون حسنة، فإذا منعه مانع من فعلها فقد ربح تلك الحسنات في نيته، وإذا فعلها حصلت له سبعمائة حسنة ونيف لحديث الصحيحين: (من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتب له عشر حسنات
(1)
)].
(1)
مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث: 133
- البخاري، كتاب الرقاق، رقم الحديث:6491.
فصل يذكر فيه نواقض الوضوء،
والنواقض جمع ناقض، وناقض الشيء ونقيضه ما لا يمكن اجتماعه معه، ومعنى النقض هنا رفع استمرار الطهارة لا أن الطهارة ارتفعت من أصلها فيبطل ما فعل بها من الصلوات، وإنما المراد به أنه انتهى حكم الطهارة عند وجود هذا الناقض وأخرها عن الوضوء لأنها طارئة عليه، والطارئ على الشيء متأخر عنه، وهي ثلاثة أحداث وأسباب وغيرها كالشك في الحدث والردة أعاذنا الله منها، وأشار المصنف إلى النوع الأول بقوله نقض الوضوء بحدث الباء سببية، قاله التتائي، يعني أن الوضوء ينقض بالحدث؛ بمعنى أنه إذا خرج الحدث من المتوضئ فإنه يمنع من الصلاة ونحوها من كل ما يتوقف فعله على الطهارة، قال الإمام التتاني: روينا نقض عمن أخذنا عنه بالبناء للمفعول، والوضوء نائب الفاعل، ورأيت بخط ابن الفرات أحد تلامذة المؤلف ضبطه بالقلم مصدرا مضافا للفاعل، وهو حسن، والحدث هو ما ينقض الوضوء بنفسه: وبينه المصنف بقوله: وهو الخارج المعتاد يعني أن الحدث هو الخارج المعتاد من المخرجين القبل والدبر فيشمل البول والغائط والمذي والودي والريح من دبر لا من قبل، ويشمل أيضا المني الخارج من فرج المرأة بعد الوطء وكانت اغتسلت بعده أو توضأت ونوت رفع الأصغر، ثم أرادت رفع الأكبر فينتقض الأصغر بخروجه لجري العادة بأن ما تحمل منه لا يخرج منه شيء، وما لا تحمل منه يخرج غالبه مع الذكر أو بعده، فصار خروجه معتادا في الغالب بهذا المعنى. فإن دخل فرجها بغير وطء لم ينقض خروجه، وإنما بين المراد بالحدث هنا لأن الحدث يطلق على أربعة معان وخرج بقوله:"الخارج" الحقن، والقرقرة الشديدان، والداخل من أصبع وغيره، ولا يعترض بمغيب الحشفة؛ لأنه لا يسمى حدثا ولئن سلم تسميته بذلك فالمراد الحدث الأصغر الموجب للطهارة الصغرى. وما ذكره صاحب العزية من النقض بالقرقرة الشديدة تبع فيه ابن زرب وهو ضعيف. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله:"الخارج" لا المنع ولا الوصف الحكمي، وقوله:"الخارج" المراد خروج الخارج كما هو ظاهر، وقوله:"الخارج"، أي بالفعل لا إن لم يبرز كما لو كان وسط الذكر كما يأتي عند قوله: بمني. قوله: في الصحة متعلق بقوله الخارج، واحترز به عن السلس كما يأتي. قاله غير واحد. وقال بناني: متعلق بقوله: "المعتاد"، يعني أن الخارج المعتاد خروجه في الصحة ينقض الوضوء والمراد ما اعتيد جنسه فإذا خرج البول
غير متغير فإنه ينقض الوضوء؛ لأن جنسه معتاد للخروج وإن لم يكن هو معتادا، هذا معنى ما قاله الشيخ محمد بن الحسن وقال: وليس قوله: "في الصحة" صفة للخارج وإلا لاقتضى عدم النقض بالمعتاد إذا خرج في المرض، وليس كذلك انتهى.
لا حصى يعني أن الوضوء ينتقص بالحدث لا بالحصى فهو عطف على قوله: بحدث، ويصح أن يكون عطفا على قوله المعتاد انظر حاشية الشيخ بناني. والمراد بالحصى المتخلق في البطن، وأما من ابتلع حصاة ونزلت منه كما هي فإنها تكون ناقضة كماء شربه ونزل منه بصفته. ودود يعني أن من توضأ وخرج منه دود لا ينتقض وضوؤه فهو عطف على قوله:"لا حصى"، وسواء خرج الدود من القبل أو من الدبر فإنه لا ينقض: وكذلك الدم لا ينقض الوضوء خرج من قبل أو دبر من ذكر أو أنثى. وقد تقدم أن الحصى والدود لا يستجمر منهما كالريح إن خرجا بغير أذى أو بأذي خفيف، فإن خرجا بأذى ظاهر؛ أي كثير، وجب الاستنجاء أو الاستجمار. وأما الدم فلا بد فيه من الماء. وقال أبو بكر: يكفي فيه الاستجمار. والله سبحانه أعلم. ولو خرج الولد جافا بغير دم فهل ينتقض الوضوء؟ قولان مبنيان على القولين في وجوب الغسل. وقوله: "لا حصى ودود" قد علمت أنهما ليسا بحدث لعدم اعتيادهما. والله سبحانه أعلم.
ولو ببلة يعني أن الحصى والدود لا ينقضان الوضوء ولو خرجا، والحال أنه عليهما بلة من المخرجين؛ أي أذى فالمراد بالبلة الأذى من غائط أو بول مثلا لا الطراوة، ولو عبر بالأذى لكان أظهر، وقوله:"ببلة" بكسر الباء، والباءُ الجارة للمصاحبة. قاله الشبراخيتي. وإنما لم ينقض الأذى هنا مع أنه من الخارج المعتاد؛ لأنه تبع لما لا نقض به. قال الشيخ عبد الباقي: ومثلهما -يعني الحصى والدود في عدم النقض- دم وقيح خالصين من الأذى وإلا نقضا، والفرق أن حصول البلة البلة مع الحصا والدود شأنه أن يغلب بخلاف حصولها مع دم وقيح. انتهى. قال الشيخ الأمير: وأقره الأشياخ، وفي بناني: التسوية بينه وبين الدود نقلا، وأما لو كانت العادة تنسب الخروج للمعتاد أصالة لكثرته جدا مع الحصا نقض. انتهى. ويعفى عن غسل ما خرج مع الحصا والدود من الأذى حيث كان مستنكحا، وإلا وجب غسله وهذا إن كثر، وإلا عفي عنه مطلقا كان مستنكحا أم لا كما مر. وإذا جب غسله لكثرته بطلت له الصلاة ولم يبطل الوضوء، وللشيخ الأمير:
قل للفقيه ولا تغررك هيبته
…
شيء من المخرج المعتاد قد عرضا
فأوجب القطع واستنجى المصل له
…
لكن به الطهر يا مولاي ما انتقضا
والحصا والدود طاهرا العين على المنقول، وبه صرح الباجي فقال: لا يستنجى منه كالريح، فإن خرج عليهما بلة فمتنجسان لا نجسان، وظاهر المصنف كغيره أن الحصا والدود لا ينقضان ولو خرجا مع بلة، ولو قدر على رفعهما فليسا كالسلس؛ لأن السلس ناقض باعتبار أصله. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"ولو ببلة" أشار بلو للخلاف، فإن المسألة فيها ثلاثة أقوال: أحدها لا وضوء عليه خرجت الدود نقية أم غير نقية وهو المشهور في المذهب، والثاني عليه الوضوء إلا أن تخرج نقية، والثالث أن عليه الوضوء وإن خرجت نقية.
وبسلس فارق أكثر يعني أن السلس ينقض الوضوء حيث فارق أكثر الزمن، ومفهومه أنه لو ساوى بأن فارق نصف الزمن ولازم نصفه لا ينقض الوضوء، وهو كذلك كما شهره ابن رشد، وكذا لو لازم أكثر الزمن أو لازم جميع الزمن بالأولى. وجعل غير واحد قوله:"وبسلس" محترز قوله: "في الصحة" ومحل هذا التفصيل حيث لم يقدر على رفعه ولو تسبب في حصوله، فإن قدر على رفعه نقض من غيره تفصيل كما يأتي قريبا إن شاء الله. وسواء في ذلك كان السلس مذيا أو وديا أو بولا أو غائطا أو ريحا أو استحاضة أو منيا كما نص عليه غير واحد. وفي المنتقى: سلس المني لا يجب منه الوضوء، وقال الشيخ زروق: قد يخرج المني بلا لذة ولا إنعاظ وهذا لا يجب به شيء على المشهور. انتهى نقله الإمام الحطاب. وقال: هذا -والله أعلم- مني السلس. وقوله: "وبسلس" هو من عطف الخاص على العام كما في الشبراخيتي.
كسلس مذي قدر على رفعه لا خصوصية للمذي بذلك، ومعنى كلامه أن من أصابه سلس مذي وهو يقدر على رفعه عنه بتزوج أو تسر أو تداو أو صوم ينقض ذلك السلس وضوءه سواء لازم جميع الزمن أم لا، ومر أن سلس غير الذي كسلس الذي من غير فرق، والحاصل أن السلس المقدور على رفعه ينقض من غير تفصيل كان سلس مذي أو بول أو ريح أو غيرها، وإن لم يقدر
على رفعه فهو محل التفصيل بين ما إذا فارق أكثر فينقض، وبين ما إذا لم يفارق أكثر فلا ينقض وفي الأمير: وليس من السلس الذي يفصل فيه من كل ما إذا نظر أمذى بلذة بل هذا ينقض، إنما السلس مذى مسترسل نظر أو لم ينظر لا لطول عزوبة أو لاختلال مزاج مثلا. انتهى. وسيأتي لبناني تقسيم سلس المذي إلى ثلاثة أقسام، ويغتفر لمن قدر على رفعه زمن التداوي ولو الصوم، وزمن شرائه سرية يتداوى بها. واستبرائها على العادة فإنه فيهما بمنزلة السلس الذي لا يقدر على رفعه. فيفصل فيه بين أن يفارق أكثر أو لا فإن وجدها ممن تحيض كل خمس سنين مرة فانظر هل يغتفر له هنا أو يلزم بشراء غيرها؟ والسلس هو الذي خرج على وجه لا يستطيع صاحبه أن يمسكه كما في الشبراخيتى، وهذا التنظير للشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن بناني: الذي يأتي عند قول المصنف. وإن تأخرت أو أرضعت أو مرضت أو استحيضت الخ أن من عادتُها أنها ألا تحيض إلا بعد تسعة أشهر لم يختلف قول ابن القاسم أنها تستبرأ بثلاثة أشهر، وإن كانت تحيض في ستة أشهر فاختلف هل تنتظر الحيضة، أو تكتفي بثلاثة أشهر؟ وقال الأبياني فيمن بجوفه علة، أو هو شيخ يستنكحه الريح: إنه كالبول. انتهى. وفى المدونة: إذا كثر المذي ودام من عزوبة إذا تذكر فعليه الوضوء. وفي رواية القرويين: من عزوبة أو تذكر فعليه الوضوء فأوجبه في صورتين. وإذا كان لإبردة أو علة فلا وضوء عليه. فالصور ثلاث: عزوبة مع تذكر، عزوبة بدون تذكر كونه لإبردة وعلة فهذه لا يجب، والأولى يجب فيها مطلقا، والثانية على اختلاف الروايتين. والإبردة بالكسر برد في الجوف. وقال ابن الجلاب: إن قدر على رفعه بزواج أو تسر وجب، وإلا فلا. قال بعضهم: هو خلاف المدونة، فيكون في الثانية ثلاثة أقوال. انظر ابن مرزوق. وقال أبو الحسن في الأولى وهي عزوبة مع تذكر: لا خلاف أنه يجب فيها الوضوء. وقال ابن دقيق العيد في الثانية وهي عزوبة دون تذكر: يجب فيها الوضوء على المشهور، وسواء قدر على رفعه فيها أولا. وقال ابن مرزوق عن اللخمي: إنه صوبه. نقله العلامة بناني. قال: واعلم أن كلام المص لا يصح حمله علي ما كان لعلة؛ لأنه لا ينقض إلا إن فارق أكثر، وظاهر كلامهم قدر على رفعه أم لا، وعلى ما كان لتذكر بأن يستنكحه مهمى رأى أو سمع أو تفكر، وهي الأولى خلاف للخرشي لما مر عن أبي الحسن من النقض فيها بلا خلاف
مطلقا فلم يبق إلا أن يحمل على ما كان لطول عزوبة، ويكون جاريا في التفصيل بين القدرة وعدمها على ما تقدم للجلاب. وقد علمت أنه خلاف ما شهره ابن دقيق العيد، لكن تقدم عن ابن مرزوق أن بعضهم جعله وفاقا للمدونة. وقال الرماصي: إن ابن رشد شهره، واستظهره ابن عبد السلام. وفي نقل ابن مرزوق عن المازري ما يفيد أنه المذهب فاعتمده المص لذلك والله سبحانه أعلم. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني.
وندب إن لازم أكثر ولما فهم من المص أن السلس إذا لازم نصف الزمن أو أكثره أو جميعه لا ينقض، أخذ يبين ما يستحب فيه الوضوء من ذلك وما لا؛ يعني أن السلس إذا لازم أكثر الزمن فإنه يندب فيه الوضوء، وأولى لو ساوى بأن لازم نصف الزمن وفارق نصفه. ومفهوم إن لازم أكثر أنه لو لازم جميع الزمن فإنه لا يندب له الوضوء، وما يندب فيه الوضوء يندب اتصاله بالصلاة وفي ندب غسل فرجه قولا الطراز وسحنون قائلا؛ لأن النجاسة أخف من الحدث. وفي لزوم غسل الخرقة عند الصلاة نقلا القرافي عن الابياني وسحنون. قاله الشيخ عبد الباقي. وإذا لم ينتقض الوضوء بالسلس على ما مر فإن وضوءه ينتقض بالبول مثلا على الوجه المعتاد لا إن شق يعني أن الحالة التي يندب فيها الوضوء من السلس محل الندب فيها ما لم يشق عليه الوضوء، وأما إن كان عليه في الوضوء مشقة لبرد أو ضرورة فلا يندب. وقد مر أن محل الندب حيث لازم السلس أكثر الزمن أو ساوى، ومن كلما تطهر بالماء أحدث فإنه لا يتيمم بل يتطهر بالماء ويصلي على حالته؛ لأنه سلس كمن إذا قام أحدث. كذا لابن بشير، واستظهره الحطاب. وقال اللخمي: يتيمم، والأحوط الجمع. قاله الشيخ الأمير.
وعلم مما قررت أن أقسام السلس أربعة، والمص رحمه الله وفى ببيانها وببيان ما يجب فيه الوضوء منها، وما لا يجب، وما يستحب فيه، وما لا. فبين ما يجب فيه الوضوء منها بقوله:"وبسلس فارق أكثر" وذلك قسم. وعلم من مفهوم الصفة أعني قوله: "فارق أكثر" أنه لا ينتقض فيما إذا ساوى أو لازم أكثر الزمن أو جميعه، وهذه ثلاثة أقسام، فتلك أربعة. وبين أنه يستحب الوضوء إن لازم أكثر ما لم يشق، وفهم من كلامه أنه يستحب مع التساوي من باب أولى، فهو من مفهوم الموافقة الذي يتعين العمل به، وفهم منه أنه لا يستحب الوضوء إذا كان لا يفارق أصلا
كما إذا شق لازم أكثر أو ساوى. قال الإمام الحطاب: فلله دره ما أخصر عبارته وما ألطف إشارته، وكم فيه من مثل مذا الاختصار العجيب الدال على أنه أخذ من التحقيق بأوفر نصيب انتهى.
تنبيه: اعلم أن قولهم لا ينقض الوضوء بالسلس معناه: ما دام خارجا على وجه السلسية: فإن اندفع حينا على الوجه المعتاد نقض. قاله الأمير. وهو واضح. وقوله: "قدر على رفعه" هو المشهور، وقيل لا ينقض كما مر. وما ذكره المص من تقسيم السلس إلى أربعة هو طريق المغاربة وهو المشهور، وما دل عليه من أن السلس الذي تساوى اتيانه وانقطاعه لا ينقض الوضوء وإنما يندب فيه الوضوء. قال ابن راشد القفصي: هو المشهور. ومقابله وجوب الوضوء في حالة التساوى. قال ابن هارون: والظاهر الوجوب، وطريق العراقيين أن ما خرج على وجه السلس لا ينقض مطلقا فارق أكثر أم لا، وإنما يستحب منه الوضوء. وذكر المازري رواية شاذة أن السلس ينتقض مطلقا. انتهى. قاله الإمام الحطاب. ابن فرحون: ومن سلِسَ بوله وكان قادرا على العلاج قابلا للتداوي ففيه القولان المذكوران في القادر على رفع سلس الذي بالتسرى والتزويج. انتهى. قاله الحطاب.
وفي اعتبار الملازمة يعني أن الشيوخ اختلفوا في قصر اعتبار ملازمة السلس من قلة وتوسط وكثرة، هل يقصر على الموجود من السلس؟ في وقت الصلاة من اليوم والليلة؛ لأنه الزمن الذى يخاطب فيه بالوضوء فيعتبر من الزوال إلى طلوع الشمس، ويلغى من طلوع الشمس إلى الزوال فلا ينظر إلى ما حصل فيه من السلس قاله ابن هارون. قال المص: وهو الذي كان يميل إليه شيخنا أو لا يقصر اعتبار ملازمة السلس للشخص على السلس الموجود في وقت الصلاة. بل تعتبر الملازمة مطلقا في وقت الصلاة وغيره وفسر ابن عبد السلام الأكثر بقوله: كأن يأتي ثلثي ساعة وينقطع ثلثها، ثم يأتي ثلثي ساعة وينقطع ثلثها، وهكذا ليلا ونهارا. واختاره ابن عبد السلام في ذلك تردد؛ أي اختلاف بين المتأخرين في الحكم لعدم نص المتقدمين، وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا فرضنا أن أوقات الصلاة مائتان وستون درجة، وغير وقتها مائة درجة فأتاه فيها، وفي مائة من أوقات الصلاة فعلى الأول ينقض لمفارقته أكثر الزمن لا على الثاني. وفي التوضيح: وينبغي أيضا أن تقيد
المسألة أي على القول الأول فقط، بما إذا كان إتيان ذلك عليه مختلفا في الوقت فيقدر بذهنه أيهما أكثر فيعمل عليه. وأما إن كان وقت إتيانه منضبطا فإنه يعمل عليه إن كان أول الوقت أخرها وإن كان آخره قدمها. انتهى.
واعلم أن في هذه المسألة للمتأخرين من التونسيين أربعة أقوال، فقال ابن جماعة ومن تبعه بالأول، ورُد بأن السلس رخصة لا تختص بأوقات الصلاة كرخصة قصر الصلاة للسفر وقال البودري يعتبر عدد الأيام، ورُد بأن الأيام قد يخلو بعضها من السلس. وقال ابن عرفة: عدد صلواته، ورد بأنه لا معنى له إن لم يعتبر الوقت. واختار ابن عبد السلام اعتبار الملازمة في وقت الصلاة وغيرها. قال بعضهم: وهو الصواب. وقال ابن مرزوق: والأمر مبني على أن الأقدمين لم يتعرضوا لها، وعندي أنهم تعرضوا لها حيث رخصوا لصاحب السلس لأجل المشقة، والمشقة موكولة إلى العرف الذي ينضبط، ولا يختلف عند أصحابه. قال بعض أشياخنا: وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه. قاله الشيخ محمد بن الحسن. واقتصر الشيخ الأمير على القول الأول؛ وهو اعتبار الملازمة في وقت الصلاة فقط. وقال: إنه الأقوى. ومر أنه إذا انضبط وقت مجيئه فإنه إما أن يقدم أو يؤخر، وفي بعض شراح الرسالة أنه يجمع كأرباب الأعذار، ومر أنه الأحوط. وقوله:"في وقت الصلاة" أي في أوقات جميع الصلوات، وأما إن لازم وقت صلاة فقط نقض وصلاها قضاء كما أفتى به ناصر اللقاني فيمن يطول به الاستبراء. قاله الشيخ الأمير.
من مخرجيه الضمير يرجع للمتوضئ أو للمكلف أو للشخص، ولا يصح رجوعه للخارج ليلا يلزم الدور. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. وقوله:"من مخرجيه" من تمام التعريف؛ وهو متعلق بالخارج؛ يعني أن الحدث الذي حكم عليه بأنه ينقض الوضوء هو الخارج من مخرجي الشخص؛ يعني القبل والدبر أو ثقبة تحت العدد الثقبة الخرق النافذ؛ يعني أنه ينزل منزلة القبل، والدبر ثقبة تحت المعدة فينقض الوضوء ما خرج منها، وهذا إن انسدا يعني أن محل النقض بما يخرج من إلى ثقبة التي تحت المعدة إنما هو إن انسد المخرجان، ومعنى انسداد المخرجين أنه لا يخرج من القبل بول ولا من الدبر غائط، بل بطل خروج ذلك منهما، وإنما يخرج من الثقبة نسأل الله تعالى السلامة. والمعدة ما فوق السرة إلى منخسف الصدر، فالسرة مما
تحتها. هذا هو المعتمد. قاله الشيخ إبراهيم. والمعدة بفتح الميم ركسر العين ككَلِمة، وبكسر الميم وسكون العين ككِلْمَة، وهي للإنسان بمنزلة الكرش للحيوان والحوصلة للطير، وقد علمت أن المعتمد أنها ما فوق السرة إلى منخسف الصدر، وأن السرة مما تحتها وإلا يعني أن الثقبة إذا لم تكن تحت المعدة بأن كانت في المعدة أو فوقها سواء انسد المخرجان أو انفتحا، أو انفتح أحدهما أو كانت تحتها وانفتحا، أو انفتح أحدهما ففي النقض بالخارج منها وعدمه قولان والراجح منهما عدم النقض، وهذا التقرير للشيخ الخرشي. وبما قررت علم أن قوله:"وإلا" راجع لقوله: "تحت المعدة". ولقوله. "انسدا" وهل يكفي في هذه الثقبة الاستجمار؟ تقدم الكلام على ذلك. وقوله."ثقبة" هو بالثاء المثلثة المضمومة والقاف الساكنة والباء الوحدة. قاله الإمام الحطاب. وقال. إن المعدة هي موضع الطعام قبل أن يَحْدُرَ إلى الأمعاء، وجمعها مِعَد بكسر الميم وفتح العين، وأما مَعِد بفتح الميم وكسر العين فاسم جنس.
وَلَما أنهى الكلام على الأول من نواقض الوضوء الثلاثة، وهو الحدث أتبعه بالكلام على الثاني؛ وهو السبب فقال وبسببه يعني أن الوضوء ينتقض بسبب الحدث، وسبب الحدث هو ما أدى إلى خروج الحدث هذا بالنسبة لعرف الفقهاء في سبب الحدث. وأما السبب في اللغة فهو الحبل: ومنه قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} ، ويستعمل السبب في العلة لكون العلة موصلة للمعلول كما يوصل الحبل إلى الماء في البئر، ويطلقه العلماء على ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته، ويستعمل أيضا في العلم لكونه موصلا للهداية، ومنه قوله تعالى:{وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)} ؛ أي علما يهتدى به قاله الشيخ إبراهيم وهو زوال عقل يعنى أن أسباب الحدث ثلاثة أمور منها. زوال العقل فمن زال عقله بجنون أو إغماء أو سكر وجب عليه الوضوء لانتقاضه بذلك ثقل ذلك أم لا، ولا يفصل فيه كما يفصل في النوم فلا يراعى فيها طول ولا قصر، وهذا هو الحق خلافا لبعضهم. قاله ابن عبد السلام. وقال ابن بشير: القليل في ذلك كالكثير، وقال الشيخ محمد بن الحسن: ظاهر المص أن زوال العقل بغير النوم كالإغماء والسكر والجنون لا يفصل فيه كما يفصل في النوم، وهو ظاهر المدونة والرسالة، فهو ناقض مطلقا. انتهى. ولا فرق بين أن يكون
السكر بحلال أو حرام، وينتقض الوضوء بزوال العقل بترادف الهموم إن كان مضطجعا، وكذا إن كان جالسا كما صرح به الأمير وفاقا لابن نافع، ولا نقض على القائم المهموم.
وإن بنوم ثقل يعني أن زوال العقل بالنوم الثقيل ينقض الوضوء، وفسر زوال العقل بالاستتار؛ لأنه لم يزل إلا في المجنون المطبق الذي لا يفيق أصلا فإنه زال عقله قطعا، ولذا اتفق على عدم خطابه. قاله ابن الفاكهاني ونقله ابن ناجي قاله الشيخ محمد بن الحسن. ابن مرزوق: ظاهر المص أن المعتبر عنده صفة النوم ولا عبرة في هيئة النائم من اضطجاع أو قيام أو غيرهما، وهي طريقة اللخمي. واعتبر في التلقين صفة النوم مع الثقل، وصفة النائم مع غيره فقال: فأما النوم المستثقل فيجب منه الوضوء على أي حال كان النائم من اضطجاع أو سجود أو جلوس، وما دون الاستثقال لا يجب منه الوضوء في الاضطجاع والسجود، ولا يجب في القيام والجلوس. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وفي كتاب ابن عرفة: ثقيل نوم المضطجع ناقض، والجالس والراكب إن طال، وفي كون الساجد كالمضطجع أو إن طال قولان، ونوم القائم لغو وإن طال، وفي كون الركوع كالقيام أو السجود خلاف، وفي كون المستند كالجلوس أو الاضطجاع خلاف. انتهى. والنوم الثقيل هو ما لا يشعر صاحبه بصوت مرتفع. قاله المازري. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال قال أحمد ممثلا للثقيل: كما لو انحلت حبوته ولم يشعر بها، أو كان بيده مروحة فسقطت ولم يشعر بها، وأما إن لم تسقط أو سقطت وشعر بها فإنه غير ثقيل. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: ما ذكره أحمد من أن عدم الشعور بانحلالها ناقض بمجرده مخالف لما في التوضيح عن اللخمي. ونقل عنه أنه إذا استيقظ قبل انحلال الحبوة فلا وضوء، وإن استيقظ بانحلالها نقض، على قول من قال: النوم حدث، لا على المشهور. وكذلك إن انحلت ولم يشعر ولم يطل، وإن طال وكان مستندا انتقض، وهو الذي اعتمده في الشامل. انتهى. وفي التتائي عن الشامل: من انحلت حبوته ولم يشعر بها وطال وكان مستندا توضأ لا إن استيقظ من انحلالها على المشهور، وإن استيقظ قبل أو كان بيده مروحة لم تسقط فلا نقض، وإن استيقظ بسقوطها فقولان. انتهى. وشمل قوله: [ثقل
(1)
]
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 1 ص 86.
نوم القائمِ إذا سقط فإن لم يسقط فخفيف إلا أن يكون مستندا، وكان بحيث لو أزيل ما استند له سقط، فثقيل فيما يظهر، كمن يقود الإبل ماشيا مع ربط حبلها بإسطه أو كتفه، أو ينام على دابة على حالة لا يخشى سقوطه. قاله الشيخ عبد الباقي. قال: وظاهر المص النقض بالثقيل ولو سد مخرجه، وهو كذلك إن دام ثقيلا كما في ابن عرفة، وإلا لم ينقض. انتهى. والذي صوبه الرماصي هو النقض، وإن لم يدم. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وفي كتاب الشيخ الأمير: ولا ينقض نومُ مسدود المخرجين. انتهى.
ونقل الحطاب عن الشيخ زروق: وعلامة الاستثقال سقوط شيء من يده، وانحلال حبوته، وسيلان ريقة، أو بعده عن الأصوات المتصلة به، ولا يتفطن لشيء من ذلك. انتهى. وقال الشيخ ميارة: وعلامة الثقيل أن تنحل حبوته، أو يسيل لعابه: أو تسقط السبحة من يده، أو يكلم من قرب ثم لا يتفطن لشيء من ذلك. وفي الشامل: أن من حصل له هم أذهب عقله توضأ، وظاهره كالمص سواء كان جالسا أو مضطجعا. وقد مر قول الأمير: وبزوال عقل ولو بهم جالسا. انتهى. وظاهر المص أيضا: النقض بزواله في حب الله، وهو قول التادلي، وهو مرجوح. والذي لابن عمر: لا وضوء عليه. وقد مر أنه لا نقض على القائم المهموم كما نص عليه الشيخ عبد الباقي. وفى التوضيح: وينبغي أن يقيد المحتبي بما إذا كان بيديه وشبههما: أما الحبوة المصنوعة فلا، وهو كالمستند. انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي. وما مشى عليه المص في النوم طريقة اللخمي؛ وهي أن الثقيل الطويل ينقض بلا خلاف، والثقيل القصير ينقض على المشهور. قاله الإمام الحطاب. فقول المص: ولو قصر هو المشهور، مقابله أنه لا نقض بالقصير الثقيل: ومفهوم قول المص: "ثقل" أن الخفيف من النوم لا ينقض كما قال: لا خف عطف على ثقل؛ لأنه مقابله أو على قصر، ولا تعطف الجمل التي لها محل من الإعراب كما هنا لا ما لا محل لها، أو المعطوف اسم موصول محذوف؛ أي لا ما خف. وحَذْفُ الموصول الاسمي وإبقاء صلته جائزٌ كما في التسهيل، أو عطف على بنوم بحذف الموصوف وإبقاء الصفة وهو كثير، فسقط الاعتراض عليه بأن "لا" لا تعطف الجمل لما علمت. كما قاله غير واحد. أما القصير الخفيف فلا ينقض بلا خلاف.
وندب إن طال يعني أن النوم الخفيف يندب منه الوضوء حيث طال، وإذا كان النوم الخفيف لا ينقض الوضوء فأولى السِّنَةُ؛ لأنه أقوى منها والسنة ما يتقدم النوم من الفتور، وحكمة ذكر النوم في الآية بعد السنة لدفع أن النوم أقوى من السنة فيأخذه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فضمن لا تأخذه لا تغلبه، هكذا أجاب به شخص بمجلس السبكي، أو غيره حين سئل إذا كان لا تأخذه سنة فلا يأخذه النوم بالأولى، فلِمَ عطف عليها. كان ذلك الشخص المجيب بصورة نعسان. قاله الشيخ عبد الباقي.
تنبيهات: الأول: قال الشيخ أحمد زروق: من سُنَّة النوم كونه على الشق الأيمن كالملحد مستقبلا واضعًا كفه الأيمن تحت خده الأيمن، وكفه الأيسر على فخذه الأيسر ثم يقرأ المعوذات والإخلاص ثلاثا ثلاثا، وينقث في يده ثم يمرها على ما أقبل من جسده، ويدعو بما صح من قوله عليه الصلاة والسلام: (باسمك اللهم وضعت جنبي وباسمك اللهم أرفعه]
(1)
لخ، وإن قرأ:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} إلى: {يَعْقِلُونَ} لم يفِلت القرآن من صدره. قاله ابن عبد الصادق. الثاني: فائدة النومِ اعتدال الخلق، ونفي الوسواس، وغير ذلك، قيل ولا ينبغي أن يزاد منه على ثمان ساعات فإن ذلك يورث بخر الفم ونحوه: ولا ينقص عنها فإنه يورث اليبس وعللا أخر، ونوم ما بعد الصبح إلى طلوع الشمس منهي عنه، فإنه يورث الكسل: ويقوي البلغم، ويضيق الخلق والرزق على ما ورد
(2)
إلا لمن اتصل سهره، ونوم ما بعد العصر يوجب الأخلاط والبله، وربما أدى إلى العنة، ونوم ما بين العشاءين دعا على فاعله عمر رضي الله تعالى عنه بأن لا تنام عيناه. فقيل؛ لأن ذلك يؤدي إلى ترك العشاء أو إخراجها عن وقتها ونوم آخر اليل بعد قيام وسطه يفتح البصيرة وينور القلب، وكذلك نوم القائلة يزيد في العقل؛ وهو لقيام الليل كالسحور للصوم. وذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام حتى أصبح. فقال صلى الله عليه وسلم: (ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه]
(3)
). قاله الشيخ زروق. نقله ابن عبد الصادق عند قول الناظم: "نوم ثقيل". الثالث: قال في
(1)
باسمك اللهم وضعت جنبي وباسمك أرفعه، مسند أحمد، ج 2 ص 283 وفي صحيح البخاري: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه. كتاب الدعوات، رقم الحديث:6320.
(2)
مسند أحمد، ج 1 ص 73. الجامع الصغير، ج 4 ص 232.
(3)
البخاري، كتاب بدء الخلق، رقم الحديث 3270. ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث: 774.
التحقيق: النوم على الشق الأيمن سنة، وعلى الظهر يكره، وعلى اليسار اضطجاع الملوك، وعلى البطن اضطجاع الشياطين وأهل النار. انتهى وأشار إلى الأمر الثاني من أسباب الحدث الثلاثة بقوله. وليس يعني أن من توضأ وحصل منه لمس ينتقض وضوؤه لأجل ذلك اللمس فإن اللمس سبب في الحدث. وهذا إذا كان اللمس يلتذ به صاحبه أي من تعلق به اللمس لامسا أو ملموسا عادة يعني أن اللمس الذي ينقض هو اللمس الذي يلتذ به على حسب العادة؛ أي عادة الناس، لا غير الملتذ به عادة. ولا عبرة بعادة اللامس وحده. ومثلوا للَّمس الملتذ به عادة باللمس بين الرجال والنساء بالقبلة والجسة ولمس الغلمان. قال عياض: من موجبات الوضوء اللمس للذة بين الرجال والنساء بالقبلة والجسة أو لمس الغلمان أو فروج سائر الحيوان. نقله الحطاب. ثم قال: وما ذكره القاضي في فرج البهيمة ذكره ابن عرفة عن المازري، واعترضه بمباينة الجنسية. انتهى باختصار. ثم ذكر عن الذخيرة خلاف ما لعياض في فرج البهيمة، ونصه: فرج البهيمة لا يوجب وضوءا خلافا لليث؛ لأنه مظنة اللذة، قلت: وفي الجلاب مثله، ففيه. ولا يجب الوضوء من مس دبر ولا أنثيين. ولا من مس فرج صبي ولا صبية، ولا من فرج بهيمة نقله ابن مرزوق. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقوله:"ولمس يلتذ به" الخ هذا إذا كان اللمس من بالغ: وأما الصبي فلمسه غير ناقض ولو كان مراهقا، ووطؤه من جملة اللمس واستحباب الغسل يقتضي استحباب الوضوء بالأولى. قاله الشبخ إبراهيم الشبراخيتي وغيره، وأخرج بقوله:"يلتذ صاحبه به عادة": الصغيرة، وأجساد الداوب غير فروجها فقد مر الكلام عليها وأن لمسها لا ينقض، وينبغي أن يقيد قولهم: إن اللذة بأجساد الدواب من اللذة غير المعتادة بغير جسد آدمية الماء، بل الظاهر أنه يجري في تقبيل فمها ما جرى في تقبيل فم الإنسان. قاله الشيخ إبراهيم وغيره.
تنبيهات الأول: ينبغي للطائف أن يتحرز من النظر إلى امرأة أو صبي حال الطواف؛ لأن من العلماء من قال: إن اللذة بالنظر تنقض الوضوء فيكون طوافه فاسدا على هذا القول، والقولان في مذهبنا. والمشهور عدم التأثير: والقولان ذكرهما ابن الحاجب. قاله الحطاب. وكذلك ينبغي أيضًا أن يتحرز من ملامسه الصبي، فإنها تنقض الطهارة عند قوم؛ وهو مذهب القاضي عياض رحمه
الله تعالى. ومذهب الإصطخري من أئمة الشافعية، وكذلك ينبغي أيضًا التحفظ من مصافحته ومعانقته إذا قدم من سفر.
الثاني: قد مر عن القاضي عياض: أن فروج البهائم مما يلتذ به عادة، وعليه فلو لمست امرأة ذكر بهيمة، أو لمس رجل فرج بهيمة انتقض وضوء من قصد منهما لذة.
الثالث: الفرق بين اللمس والمس أن اللمس فيه معنى الطلب، ففي الحديث: (التمس ولو خاتما من حديد]
(1)
؛ أي اطلب {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} أي طلبناها، ولا يقال لمن مس شيئًا لمسه إلَّا أن يكون مسه ابتغاء معنى يطلبه فيه من حرارة، أو برودة، أو صلابة، أو رخاوة، أو علم حقيقة. فالمس التقاء الجسمين سواء كان لقصد معنى أولا، واللمس هو المس لطلب معنى. ولما لم يكن اللمس ناقضا عندنا إلَّا مع قصد اللذة أو وجودها حسن التعبير هنا باللمس، ولما كان مس الذكر ناقضا مطلقًا حسن التعبير عنه بالمس، فإن قيل لم قلتم بنقض الوضوء إذا وجد اللذة ولم يقصدها مع أنه لم يحصل طلب؟ فالجواب: أنه لما وجد المعنى المقصود بالطلب كان أولى بالنقض والله سبحانه أعلم قاله الإمام الحطاب. فاللمس أخص والمس أعم، يقال تماس الحجران، ولا يقال تلامسا لانتفاء الإرادة منهما، واحترز المص بقوله:"عادة" من اللمس الذي لا يلتذ به عادة كلمس الرجل للرجل والمرأة للمرأة، ولمس صغيرة لا تشتهى، وأجساد الدواب، ونحو ذلك.
ولو لظفر يعني أن اللمس لظفر ينقض الوضوء إذا كان الظفر متصلا؛ لأن المنفصل لا يلتذ به عادة، وفي بعض النسخ بالباء أي ولو كان اللمس حاصلا بظفر، وفي بعضها بالكاف أي ولو كان الملموس كظفر.
أو شعر يعني أن اللمس للشعر ينقض الوضوء، وما قيل في الظفر يقال في الشعر، هذا ظاهر ما للشيخ عبد الباقي، وغيره. وقال الشيخ الأمير: وإن لظفر أو به، أو شعر لا به على الظاهر، ومثلهما السن فينقض لمسها إذا كانت متصلة لا منفصلة. وقال في رسم الوضوء: وسئل عن الرجل يمس شعر امرأته أو جاريته تلذذا؟ فقال: إن مسه تلذذا فأرى عليه الوضوء، وإن مسه استحسانا
(1)
البخاري، كتاب اللباس، رقم الحديث 5871.
أو غيره لم أر عليه وضوءا، وفي علمت أن أحدا يمس شعر امرأته تلذذا. ابن رشد: الشعر لا لذة في مسه بمجرده، فيحتمل أن يكون أراد أنه مسه على جسمها، فيكون في مسه بمنزلة من يمس امرأته أو جاريته على ثوب متلذذا بذلك فالتذ: فعليه الوضوء باتفاق في المذهب. إلَّا أن يكون الثوب كثيفا، وأما إذا مسه على غير جسمها، فلا يجب عليه الوضوء وإن التذ بذلك، إلَّا على ما ذهب إليه ابن بكير أن التذكار مع وجود اللذة دون اللمس يوجب الوضوء، هذا وجه هذه الرواية عندي قاله الإمام الحطاب. واختار بعض الشيوخ أنه إذا أنعظ في صلاته يتذكر الموت والنار وما يكسر شهوته، ويتفقد نفسه عند الخروج منها: فإن ظهرت بلة أعاد وإلا فلا. قاله الإمام الحطاب. وقد مر أنه يشترط في الظفر والشعر التعلق بهما اللمس أن يكونا متصلين، قال الشيخ إبراهيم: وهذا القيد يفهم من قوله: "عادة"؛ لأن المنفصلين لا يلتذ بهما عادة: ومثل الظفر والشعر السن كما في الطراز انتهى.
أو حائل يعني أن اللمس من فوق حائل ينقض الوضوء فلا يشترط في النقض باللمس أن يكون مباشرة، وفهم منه أن اللمس بعود لا نقض به ولو قصد ووجد وهو كذلك، وكذا من ضرب شخصا بطرف كمه قاصدا اللذة فلا ينتقض وضوؤه، وأطلقه ابن القاسم. وروى علي إن كان خفيفا نقض وإلا فلا، واختلف الشيوخ هل هما وفاق أو خلاف؟ وأشار إلى تأويل الوفاق بقوله؛ وأول بالخفيف يعني أن ابن رشد تأول كلام ابن القاسم على الحائل الخفيف، وأما اللمس فوق حائل كثيف فيقول فيه ابن القاسم بعدم النقض، فتكون رواية على تفسيرا لقول ابن القاسم، وأشار إلى تأويل الخلاف بقوله وبالإطلاق يعني أن ابن الحاجب حمل ذلك على الخلاف: فحمل كلام ابن القاسم على إطلاقه فينقض عنده اللمس من فوق الحائل خفيفًا كان أو كثيفا، ومحل تأويل الإطلاق ما لم يضمها إليه أو يقبض بيده على شيء من جسدها من فوق حائل، فإنه حينئذ يتفق أن اللمس من فوق حائل كثيف كاللمس بغير حائل فينقض إن قصد لذة أو وجدها، والتأويلان مرجحان. والخفيف هو الذي يحس اللامس معه برطوبة الجسد، والكثيف بعكس ذلك إن قصد لذة شرط في النقض باللمس على أي وجه وقع: يعني أن محل النقض باللمس الملتذ به. عادة إنما هو حيث قصد صاحبه من لامس أو ملموس لذة، أو لم يقصد بلمسه لذة لكنه وجدها أو قصد بلمسه اللذة
ووجدها، فالنقض في هذه الصور الثلاث ثابت. وقوله: أو وجدها، يعني حين اللمس، فإن لم يجت ما إلا بعد اللمس كان من التفكر الذي لا ينقض، واللذة هي ميل النفس على الشيء وإيثاره على غيره: وعبر عنها بعضهم بأنها الانتعاش الباطن الذي ينشأ عنه الانتعاش الظاهر.
واعلم أن اللذة تكون من الرجل والمرأة، وهي لها أكثرة ومن قصدها حكما ما إذا اختبر باللمس محل يجدها أم لا؟ ومتى حصل اللمس هنا ولو بعضو زائد لا إحساس له وانضم إلى ذلك قصد أو وجدان نقض، هذا ظاهر إطلاقهم. قاله الشيخ على الأجهوري. نقله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر، فإن إطلاقهم المس في الذكر وإن انتفى القصد، والوجدان يدلُّ على أند أشد من اللمس وحينئذ فتقييدهم في مس الذكر بالإصبع الزائدة بالإحساس يفيد التقييد هنا بالأولى. انتهى.
قال جامعه عفا الله تعالى عنه: في الخرشي عند قول المص: "ولو لظفر" أن المنصوص أنه لا فرق بين الجسم وما اتصل به. انتهى. وهو يقوي ما تقدم للشيخ عبد الباقي عن شيخه، ويقويه أيضًا أن النقض هو ظاهر إطلاقهم، ولا يظهر العدول عن ظاهر إطلاقهم، وأما ما ذكره الشيخ محمد بن الحسن من قوله: إن إطلاقهم في مس الذكر يدلُّ على أنه أشد من اللمس المقيد بوجدان اللذة أن قصدها، يقال عليه إنهم قيدوا مس الذكر ببطن أو جنب لكف أو إصبع، ولا كذلك اللحس فينقض، ولو لظفر أو شعر. وقيدوا أيضًا مس الذكر بأن يكون مباشرة واستدلوا له بالحديث: (من أفضى بيده إلى فرجه ليس بينهما ستر ولا حجاب فقد وجب عليه الوضوء للصلاة
(1)
). انتهى. وقد علمت أن اللمس من فوق حائل ينقض على ما مر في قوله: "أو حائل" والله سبحانه أعلم. وقوله: ولو بعضو زائد الخ يشمل الإصبع الزائدة واليد الزائدة وغيرهما. والله سبحانه أعلم. انتهى. وقال الشيخ الأمير: ولمس لذة عادة ولو بزائد لا يحس للتقوي بالقصد أو الوجدان بخلاف ما يأتي في مس الذكر، ولا يقاس العود لانفصاله، هذا ما لعبد الباقي، ونازعه بناني. انتهى. وإذا قصد لدى امرأة أجنبية، فتبين بعد اللمس أنَّها محرم نقض وضوءه، ولو لمس محرما غير
(1)
البيهقي، ج 1 ص 133.
قاصد للذة لكنه وجدها فتبين أنَّها أجنبية لم ينقض وضوؤه على ما للمص، وسيأتي أن المذهب أن المحرم كغيرها. والله سبحانه أعلم.
لا انتفيا يعني أن اللمس إذا انتفى معه قصد اللذة ووجدانها أي انتفى الأمران معا، فلا نقض اتفاقات، وشمل قوله:"لا انتفيا" ما إذا قصد اللمس ولم يجد لذة كما صرح به الشيخ عبد الباقي، وغيره.
وعلم مما قررته من قوله: "ولمس" إلى قوله: "انتفيا" أربع صور: قصد اللذة ووجدها فالنقض فيها اتفاقا. انتفيا لا نقض اتفاقا، وجدها فقط من غير قصد. ابن رشد نقض الوضوء اتفاقا، ونقض في التوضيح الاتفاق بقول ابن التلمساني: واختلف إذا وجد ولم يقصد، أو قصد ولم يجد، قصدها من غير وجدان نقض الوضوء على المنصوص. وفي المدونة: وإذا مست امرأة ذكر رجل فعليها الوضوء، وبغير شهود من مرض ونحو فلا ينتقض إلا القبلة بفم مستثنى من قوله انتفيا، والباء بمعنى على؛ يعني أن الرجل والمرأة إذا قبل أحدهما الآخر على فيه فإنه ينتقض وضوؤهما معا حصل قصد أو وجدان أو انتفيا. وقوله:"فم" أي فم من يلتذ به عادة فلا تنقض في فم صغيرة لا تشتهى، ولو قصد لذة أو وجدها. والقبلة على الخد ليست كالقبلة على الفم، فتجري على حكم الملامسة، وكما لا نقض في تقبيل بالغ فم صغيرة لا نقض في تقبيل رجل فم رجل، ولا في تقبيل المرأة فم امرأة، وما في ابن تركي من النقض بالقبلة على فم امرأة من مثلها -انتهى- غيرُ معول عليه وإن التذ كل؛ لأن العبرة بعادة الناس قاله الشيخ عبد الباقي. وذكر ابن بزيزة ثلاثة أقوال في المذهب: أحدها النقض مطلقا، الثاني اعتبار اللذة، الثالث إن كانت في الفم تنقض مطلقًا وإن كانت في غيره اعتبرت اللذة. وفي الحطاب: لم أقف على نص في لمس المرأة لمثلها والظاهر النقض. انتهى. فيكون تقبيلها أولى. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: ولم أقف على نص الخ انظره مع ما في التلقين ونصه: وعلل من قال بعدم النقض بلمس المحرم بأنها ليست بمحل الشهوة، فأشبه لمس المرأة المرأة والرجل الرجل. انتهى. ولا ينقض لمس هرمة ولا ملتح. وقوله:"إلَّا القبلة بفم" لا يشترط الصوت في تحقق التقبيل كما قاله غير واحد، وتقبيل الفرج كاللمس وفاقا للأجهوري رادا على ابن فجلة في قياسه على الفم بالأحرى فإن تقبيله لا يشتهى. قالمه الشيخ الأمير. وبما قررت علم
أن الباء في قوله "بفم" بمعنى على، وهو متعين؛ لأن بقاءها على بابها فيه أمران أحدهما: وهو سهل أنَّها تكون قيدا لبيان الواقع، إذ آلة القبلة الفم، وهو كقولهم نظرت بعيني ومشيت برجلي. ثانيهما: إيهام أنه متى حصلت القبلة بفم ولو على يد نقضت مطلقًا وليس كذلك؛ إذ تقبيله بفمه على غير فم يجري على حكم الملامسة. قاله الشيخ عبد الباقي.
وإن بكره يعني أن القبلة على فم من يلتذ به عادة لا يشترط في النقض بها طوع، فمن أكره منهما على التقبيل المذكور نقض وضوؤه، والباء بمعنى مع، أي وإن كانت القبلة مصاحبة لكره؛ أي إكراه قاله الشيخ إبراهيم.
أو استغفال يعني أن القبلة المذكورة كما تنقض الوضوء مع الإكراه تنقضه مع الاستغفال، فلا يشترط طوع ولا علم فالنقض في المسألتين حاصل في المقبل بالفتح والكسر. لا لوداع يعني أن القبلة على الفم إذا كانت لوداع فإنها لا تنقض الوضوء.
أو رحمة يعني أن القبلة على الفم إذا كانت لرحمة كما لو كانت مريضة، أو لشدة الود فإنها لا تنقض الوضوء. وسواء كانت القبلة في مسألتي الوداع والرحمة لصغيرة أو كبيرة محرم، أو غير محرم إلَّا أن يلتذ في كبيرة غير محرم كما يفهم من جعل المص هذا في حيز قوله:"لا انتفيا". وقاله ابن يونس وهو لملك، وقيل لا نقض مطلقًا وجدت اللذة أم لا، وهو لملك في رواية أشهب. ومفهوم قوله: إلا أن يلتذ أن القصد لا ينقض؛ أي لو فرض، إذ لا يتصور كونه لوداع أو رحمة مع قصد اللذة أو يبعد، والمعطوف بعد لا محذوف: أي لا القبلة لوداع أو رحمة، ويحتمل أنه معطوف على مقدر؛ أي لغير وداع لا لوداع.
ولا لذة بنظر يعني أن اللذة بنظر أو فكر لا تنقض الوضوء، وقيل تنقض اللذة بالنظر أو الفكر، وقد مر أن ابن بكرٍ يقول بنقض الوضوء باللذة بالفكر. وقوله:"لذة" فاعل فعل محذوف تقديره: ولا ينقض الوضوء لذة بنظر. قاله الشيخ إبراهيم.
كإنعاظ يعني أن الإنعاظ بمجرده؛ وهو انتصاب الذكر لا ينقض الوضوء سواء نشأ عن نظر أو فكر ولو كانت عادته الذي عقبه، وهذا هو المذهب، وقيل بالنقض مطلقًا، وقيل يحمل على عادته إن كان يعلم أنه لا يمذي فلا نقض، وإن كانت عادته أنه يمذي نقض، وكذا إن اختلفت عادته. نقله
العلامة بناني. وقال الإمام الحطاب: قال اللخمي في التبصرة واختلف في الإنعاظ إن لم يكن معه مسيس فقيل لا شيء عليه إلَّا أن يمذي، وقيل عليه الوضوء لأنه لا ينكسر إلَّا عن مذي، وهذا مع عدم الاختبار. وأرى أن يحمل على عادته، فإن كان يعلم أنه لا يمذي كان على طهارته، وإن كانت عادته أنه يمذي توضأ، وإن اختلفت عادته توضأ أيضًا. وإن اختبر ذلك بالحضرة أو بعد التراخي فلم يجد شيئًا كان على طهارته، ولو أنعظ في صلاته أتمها إن كانت عادته عدم المذي، أو يمذي وأمن في صلاته لكون إنعاظه غير قوي أو لغير ذلك. وإلا قطع، فإن خالف واختبر ذلك ولم يجد شيئًا كان على طهارته، وصحت صلاته على المعتمد إن لم يخرج منه شيء إلَّا بعد فراغها. وقد مر اختيار بعض الشيوخ أنه إذا أنعظ في صلاته يتذكر الموت والنار وما يكسر شهوته، ويتفقد نفسه عند الخروج منها فإن ظهرت بلة أعاد. وإلا فلا. ولذة بمحرم يعني أن من لمس امرأة محرما له غير قاصد التلذذ فالتذ فإن وضوءه لا ينتقض. قال المص: على الأصح أي الأصح أن وضوءه لا ينتقض، وما قال المص إنه الأصح ضعيف، والراجح نقضه بوجودها منه انضم له قصد أم لا، وعلى ما مشى عليه المص فالعبرة بالمحرمية وغيرها بظن اللامس.
واعلم أن مجرد قصد اللذة من المحرم فسق كما قال المسناوي إنه الحق فمن لمس محرمه قاصدا التلذذ مع علمه أنَّها محرم ينتقض وضوءه حتى على ما للمص، وما قررت به المص هو الذي يفيده كلام الشيخ العلامة بناني. والله سبحانه أعلم. وقول المص:"ولذة بمحرم على الأصح" اعلم أن الذي قاله الجماعة واقتصر عليه في الإرشاد هو النقض، وبالله تعالى التوفيق. وعلم مما مر أن اللمس ثمانية أقسام: الأول أن يقصد اللذة ويجدها فعليه الوضوء اتفاقا، الثاني أن يجدها ولم يقصدها فعليه الوضوء اتفاقا عند ابن رشد وتعقب بأن فيه قولين بالنقض وعدمه، الثالث أن يقصدها ولا يجدها فعليه الوضوء على المنصوص، الرابع أن يقصدها ولا يجدها ولا وضوء عليه؛ وهي القبلة لوداع أو رحمة إن فرض معها قصد، وقد مر أنه لا يتصور معها قصد أو يبعد. وقد مر في هذا الفرع أنه إن التذ في كبيرة غير محرم يجب عليه الوضوء، الخامس أن يجدها ولم يقصدها ولا وضوء عليه؛ وذلك أن يجدها بعد مفارقة ما لمسه من غير قصد حين لمسه، السادس أن لا يقصدها ولا يجدها فلا وضوء عليه اتفاقا كما قال:"لا انتفيا"، السابع أن لا يقصدها ولا يجدها وعليه الوضوء؛ وهو القبلة بفم لغير وداع أو
رحمة، الثامن أن يجدها ولم يقصدها ولا وضوء عليه على ما للمص، وهو قوله:"ولا لذة بمحرم". وقد علمت أن الأصح خلافه. وقال الشيخ عبد الباقي إنه لا ينتقض وضوؤه بالمحرم على ما للمص ولو قصد اللذة ووجدها إلَّا أن يكون فاسقا، والمراد بالفاسق من مثله يلتذ بمحرمه، والمراد بالمحرم بما عند الناس فلو قصد لمسها يظنها أجنبية فظهرت محرما انتقض وضوؤه. انتهى. يعني حتى على ما للمص. وقال الشيخ محمد بن الحسن عن المسناوي إن مجرد قصد اللذة بالمحرم فسق، وقال: إنه الحق، وأشار إلى الأمر الثالث من أسباب الحدث بقوله: ومطلق مس ذكره قوله: "ومطلق" بالرفع عطف على زوال؛ يعني أن الرجل البالغ ينتقض وضوءه بمطلق؛ أي بمجرد مس ذكره عمدا أو نسيانًا التذ أم لا عسيبا أو كمرة فالإطلاق راجع للماس والمسوس، وهذا إذا مسه مباشرة فإن مسه من فوق حائل لم ينتقض وضوؤه، ولو خفيفا على الأشهر لما في صحيح ابن حبان عنه عليه الصلاة والسلام: (من أفضى بيده إلى فرجه ليس بينهما ستر ولا حجاب فقد وجب عليه الوضوء للصلاة]
(1)
). نقله الحطاب. ومقابل الأشهر قولان: أحدهما النقض مطلقًا، والآخر يفرق بين الخفيف فينقض والكثيف فلا نقض. حكى هذه الأقوال الثلاثة المازري، وابن العربي، وابن راشد. خلاف ما قال ابن رشد في البيان: إن كان كثيفا فلا وضوء عليه قولا واحدا. نقله الإمام الحطاب. وقولي: البالغ مخرج للصبي فلا ينتقض وضوؤه بمس ذكره، ورد المص بالإطلاق على ما في المجموعة من التقييد بمس الذكر عمدا، ورد به أيضًا على ابن نافع في اشتراطه مسه من الكمرة. وعلى العراقيين في اشتراط اللذة، وينتقض وضوء من مس ذكره ولو عنينا أو حصورا لا يأتي النساء، أو خصيا لم يقطع ذكره، واحترز المص بذكره عن ذكر غيره فيجري على حكم الملامسة. قال الإمام الحطاب: ويؤخذ من المص أن المراد بالمس المس مباشرة؛ لأن المس إذا أطلق انصرف في الغالب للمس دون حائل، وإذا قلنا بوجوب الوضوء من مس الذكر، فمن صلى قبل أن يتوضأ أعاد الوضوء والصلاة أبدا، وإن قلنا بنفي الوجوب فروايتان عن ابن القاسم: إحداهما أنه يعيد الصلاة في الوقت، والثانية لا يعيدها في وقت ولا في غيره. وقال الشيخ زروق: إن مس ذكره وصلى أعاد أبدا على المشهور، وقيل في الوقت، وثالثها في
(1)
صحيح ابن حبان، الحديث:1115. والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الطهارة، ج 1 ص 133.
العمد أعاد أبدا، وفي السهو في الوقت، ورابعها مثله وفي السهو السقوط، وخامسها أبدا في الكمرة وفي العسيب السقوط، وسادسها لا إعادة: وسابعها يعيد فيما قرب كاليومين. نقله الإمام الحطاب.
المتصل يعني أنه يشترط في نقض الوضوء بمس الذكر أن يكون الذكر متصلا، بالماس، واحترز به عما إذا انفصل عنه ذكره بقطع مثلا، فإنه لا ينتقض وضوؤه بمسه ولو التذ لعدم الالتذاذ به عادة، ورد بقوله "المتصل" على الشافعية القائلين بالنقض، ولو قطع. وحكى ابن بزيزة في ذلك قولا في المذهب: فقال إذا مس ذكر غيره من جنسه أو من غير جنسه، أو ذكرا مقطوعا: أو ذكر صبي. أو فرج صغيرة فهل عليه الوضوء أم لا؟ فيه قولان: في المذهب. ولو مس موضع الجب فالجاري على أصلنا نفي الوضوء لعدم اللذة غالبا. وحكى الغزالي أن عليه الوضوء. قاله ابن هارون. نقله الإمام الحطاب. قال: ونص عليه ابن شعبان في الزاهي، ونص عليه في العارضة. وقال في المسائل الملقوطة: لا وضوء على المجبوب من مس موضع القطع كمس الدبر، ولو مست امرأة ذكر ميت بالغ لم ينقض ذلك طهرها إلَّا أن يحرك ذلك منها لذة. قاله الحطاب.
ولو خنثى يعني أن الخنثى إذا مس ذكره فإنه ينتقض وضوؤه حيث كان هذا الخنثى مشكلا، ومسه فرجه كمس المرأة فرجها لا ينقض، واحترز بالمشكل ضمن تحققت أنوثته فلا ينتقض وضوؤه بمس ذكره. ومن تحققت ذكورته ينتقض وضوؤه بمسه له بالأولوية، وذلك داخل فيما قبل المبالغة. والخنثى بضم الخاء من خنث الطعام إذا اشتبه أمره فلم يخلص طعمه المقصود، وهو من له ما للرجال والنساء. وقيل إنه يوجد نوع منه ليس على واحد مما للرجال والنساء: وإنما له ثقب بين فخذيه لا يشبه واحدا من الفرجين. وألفه للتأنيث فهو غير منصرف، والضمائر العائدة عليه يؤتى بها مذكرة وإن اتضحت أنوثته؛ لأن مدلوله شخص. قاله التتائي في باب الفرائض. ويمتنع النِّكَاح في حق الخنثى من الجهتين، ولا يطأ أمته ولا يطؤه سيده، ويحكم له بالأحوط في صلاته واستتاره وشهادته فلا يقبل إلَّا في الأموال. ويعد كامرأة واحدة ولا يصلي إلَّا مستترا ستر النساء آخر صفوف الرجال وأول صفوف النساء. واختلف هل سهمه في الجهاد نصف أو ربع سهم، وإن زنى بذكره فلا حد عليه ويؤدب، وإن وُطِئ في فرجه كان عليه الحد، وقيل إن ولد. ونزلت فأفتى فيها ابن أيمن وغيره بنفي الحد ووضع الخنثى ابنا فمات من نفاسه: وقيل لا حد مطلقًا، وإن زنى بفرجه وذكره حد،
ولا يحد واطئه على قول الأكثر. وعلى قول الأقل يحد، زاد الشعبي. وعليه نصف المهر إن وَطِئ غضبا، ولا يحج إلَّا مع ذي محرم، [لا]
(1)
مع جماعة رجال فقط، ولا مع نساء فقط إلَّا أن يكن جواريه أو ذوات محارم. وإذا مات اشتريت له جارية تغسله من ماله، وإلا فمن بيت المال إن أمكن، وإلا يمم. قاله الإمام الحطاب. وفي شراء الأمة من بيت المال نظر؛ إذ لا ملك له فيها ولو كان لورثها عنه وارثه أو بيت المال فلا موجب لعتقها. انتهى. وقد مر أن شأنه في جميع أحواله الاحتياط فيعمل على إِحوط الأمرين، ولا يفعل إلَّا ما يفعل الرجال والنساء معا، ولا يفعل ما يجوز لأحدهما فقط فلا يلبس الذهب ولا الحرير، وليسمع نفسه فقط إذا صلى، ولا يؤذن، ولا يرث الولاء، ويستر نفسه إذا صلى: ويبدي للرجال ما تبدي لهم المرأة، وللنساء ما يبديه لهن الرجال. ولبعضهم:
أجب سائلا يا أيها الحبر إنه
…
على الحبر أن يفتي الفتى حين يسأل
ابن لي ففي الخنثى مسائل جمة
…
تزيد على عشر إذا كان يشكل
فما حكمه مهمى غزا وإذا زُني
…
به أو زنى ما حكمه حين يفعل
وقل أين يلقى في الجنائز نعشه
…
ومن يتولى غسله حين يغسل
وميراثه ما قدره ونكاحه
…
أيؤذن فيه أم يصان فيعضل
وإن لمست كفاه موضع فرجه
…
فهل طهره يبقى له أم يبدل
وهل صفه خلف المصلين آخرا
…
إذا هو صلى في الرجال أم أول
وهل سجنه بين الرجال أو النسا
…
فإن جوار الشكل بالشكل أمثل
وهل ينبذ القاضي شهادة قوله
…
إذا هو أدى أو يقول فيقبل
وقل هل يؤم القوم أم ليس يرتضى
…
فإن مقال الحق للمرء أجمل
فأجابه بعضهم بقوله:
(1)
في الأصل: ولا، والمثبت من الحطاب ج 3 ص 333 ط دار الرضوان.
تفطن هداك الله إن كنت تسأل
…
فهذا جواب نوره يتهلل
له نصف سهم في الغزاة وإن زني
…
بد فعليه الحد والحد أعدل
ومهمى زنى فالحد عنه بمعزل
…
فإن الفتى في معرك الحرب أعزل
وميراثه في نصف مرء ومرأة
…
كذاك تؤدى نفسه حين يقتل
ويعضل عن معنى النِّكَاح إذا اشتهى
…
فإن الهدى في عضله حين يعضل
وآخر صف في الرجال مكانه
…
وأما إذا لاقى النساء فأول
وحيث يصلي ثم يوضع نعشه
…
وذلك فيه سنة لا تبدل
وتغسله مملوكة تشترى له
…
بخالص بيت المال لا تتمول
ومهمى استحق السجن ثقف وحده
…
فليس له في الناس شبه يمثل
وليس يؤم القوم إلَّا ضرورة
…
وفي المال لا في غير ذلك يقبل
وإن هو مس الفرج أبطل طهرد
…
وإن مس إحليلا فنقض معجل
فدونكها مثل النجوم زواهرا
…
قد الفها ذو فطنة يتوسل
وذيلها الشيخ ميارة:
مذكاه مكروه دليل بلوغه
…
بأي بدا قل باحتياط يعلل
قال الشيخ ميارة: وكلام المجيب ظاهر إلَّا قوله: وليس يؤم القوم إلَّا ضرورة فلم أقف عليه. وإنما وقفت على كلام ابن عرفة في شروط الإمامة عن ابن بكير: أن الخنثى المشكل كالمرأة. انتهى. وعليه فلا يؤم إلَّا على رواية: تؤم المرأة النساء وعلى هذا فالأولى أن يقول:
إمامته فامنع لغير ابن أيمن ......................................................
وذهب إلى النقض بمس المرأة فرجها ببطن متعلق بقوله: "مس" يعني أنه لا يجب الوضوء من مس الذكر على الإطلاق؛ أي بكل جزء باتفاق أئمتنا، بل لابد من تقييده بكونه ببطن لكف أو إصبع، أو جنب يعني وكذلك ينتقض الوضوء أيضًا بمس الذكر بجنب لكف أو إصبع، فقوله: لكف راجع لقوله: "ببطن أو جنب" ومعنى ذلك أن من مس ذكره ببطن كلِّه أو جنبه ينتقض وضوؤه، ويرجع لقوله:"ببطن أو جنب" أيضًا. قوله: أو إصبع ومعناه أن من مس ذكره ببطن إصبعه أو جنبه ينتقض وضوؤه، ويدخل في الجنب رءوس الأصابع فإنها من جملة الجنب لا بغير ذلك من ظاهر الكف والأصابع، ولا بالذراع مطلقًا، ولا بغير ذلك من سائر الجسد وكذا لا ينتقض الوضوء بمس الظفر طال أم لا. قاله الشيخ عبد الباقي. وإن زائدا يعني أنه لا فرق في نقض الوضوء بمس الأصابع بين أن يمسه بإصبع زائدة، وبين أن يمسه بإصبع أصلية، فالنقض بذلك حاصل بشرط أن يكون هذا الإصبع الزائد قد أحس بأن ساوى غيره إحساسا ومعنى أحس أدرك ما يدركه السليم من الأعضاء إذا لمس شيئًا سواء تُحقق التساوي أو شك فيه وقوله:"أحس" ليدى خاصا بالإصبع الزائدة، بل الإحساس شرط في الإصبع الأصلية أيضًا. وذَكَّر المص الإصبع وإن كانت مؤنثة نظرا إلى أن الإصبع في معنى العضو. قال الشيخ عبد الباقي: وانظر مسه بكف بمنكب أو بيد زائدة هل يجري فيه ذلك، أو يجري على مسألة غسله؟ في يجب غسله يجري المس به على المس باليد الأصلية، وما لا فلا. وانظر أيضًا لو خلق له ذكران. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر في هذه الوضوء لظاهر الحديث: (إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ]
(1)
: ولظاهر كلامهم والظاهر في الكف بالمنكب أنَّها كالكف الجارية على العادة، لظاهر كلامهم والظاهر أيضًا في اليد الزائدة أنَّها كالأخرى، لظاهر كلامهم. والله أعلم. انتهى. ولما أنهى الكلام على الأحداث وأسبابها أتبع ذلك بالكلام على النوع الثالث، وهو ما ليس بحدث ولا سبب فقال: وبردة يعني أن المسلم إذا توضأ وارتد عن الإسلام - والعياذ بالله تعالى -، ثم رجع للإسلام قبل نقض وضوئه بحدث أو سبب أو شك في ذلك، أي في السبب أو الحدث، فإن
(1)
النسائي في سننه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:163. وابن ماجة، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 479.
وضوءه ينتقض. نسأل الله السلامة. اللهم يا عظيم البرهان، ويا ذا الفضل والامتنان، إنا نعوذ بك من زوال الإيمان، بالله يا رحيم يا رحمن، ونستشفع إليك في ذلك بجاه سيدنا محمد الذي نال به أهل الإيمان: محاسن الحور والولدان، عليه أفضل الصلاة والسلام وبجاه كلّ نبي وولى، وإنما بطل الوضوء بالردة نعوذ بالله تعالى؛ لأنَّها محبطة للعمل الذي من جملته الوضوء لقوله تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وسلم مريدا غيره لعصمته هو وسائر الأنبياء من الكبائر والصغائر فضلا عن الإشراك بقوله عز وجل:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} . وأما الغسل فلا تبطله الردة على المذهب: وقول الش: إنها تبطله، ضعيف؛ لأنَّها ليست من موجبات الغسل الأربع. وفي العارضة لابن العربي في شرح الترمذي: إن اغتسل وصلى ثم ارتد، فاختلف علماؤنا المالكية هل ينتقض غسله ووضوؤه؟، والصحيح بطلان الكل. وقيل إن الردة لا تبطل الوضوءة قال بعض شيوخنا من القرويين: إذا اغتسل رجل من جنابة، ثم ارتد، ثم رجع للإسلام لا غسل عليه، ولا وضوء إذا ارتد بعد أن توضأ عند ابن القاسم إلَّا استحبابا. وإنما قال بإيجاب الوضوء يحيى بن عمر. والفرق بين وجوب الوضوء بالردة على المشهور، وعدم وجوب الغسل وإن حبط الثواب فيهما أنه بعد الوضوء صار بمنزلة من بلغ حينئذ فوجب عليه الوضوء بموجبه، وهو القيام إلى الصلاة بخلاف الغسل، فإنه لا يجب إلَّا بوقوع سبب من أسبابه. نعم، إذا وقع عليه حال ردته لوجب غسل أو وقع قبلها وارتد قبل الغسل، وجب عليه الغسل بعد إسلامه، ويكون من أفراد قوله. ويجب غسل كافر.
ويشك في حدث يعني أن من أيقن بالوضوء وشك في الحدث يجب عليه الوضوء، وكذا لو أيقن بالوضوء وشك في سبب من أسباب الحدث، فإنه ينتقض وضوؤه بخلاف الشك في الردة فلا يبطل الوضوء كما ذكر أحمد عن بعض شيوخه وقيل ينتقض وضوؤه، والأول هو الموافق لا لعياض، وغيره من أن من أتى بلفظ يحتمل الكفر من وجوه كثيرة ويحتمل الإسلام من وجه واحد فإنه لا تُجرى عليه أحكام المرتد. بل أولى من ذلك. ومعنى ما للشيخ أحمد أنه وقع منه في نفسه الشك، وما لعياض علم الناس أنه أتى بلفظ محتمل. بعد طهر علم الظرف يتعلق بشك، يعني أن شكه في الحدث إنما وقع بعد أن حصلت الطهارة يقينا؛ أي توضأ ثم بعد أن توضأ يقينا
شك هل حصل منه حدث بعد ذلك الوضوء المحقق أو لم يحصل منه حدث بعده، بل هو باق على وضوئه، فإن وضوءه يبطل فهو مبين لمعنى قول المدونة: من أيقن بالوضوء وشك في الحدث ابتدأ الوضوء، فالواو في قولها: وشك في الحدث، بمعنى ثم، أو بمعنى الفاء. ومعنى الشك هنا التردد على حد سواء، وأولى لو ترجح احتمال الحدث فلا عبرة بالوهم كما نص عليه غير واحد، بل يستحب الوضوء حينئذ كما نص عليه الشبراخيتي. وروى ابن وهب عن مالك: يندب الوضوء بحصول شك في حدث بعد طهر علم. ورد المص روايته بقوله: "بعد طهر علم". ابن بشير: إن تيقن الحدث وشك في الوضوء توضأ إجماعًا، وفي مقابله قولان: الوجوب، والندب. إلا المستنكح يعني أن من استنكحه الشك في الحدث لا يبطل وضوؤه بشكه في حدث بعد طهر علم، ولا يعمل على أول خاطر هذا هو الشهور، والمستنكَح بفتح الكاف هو الشخص الذي تكثر عليه الشكوك ويعتريه الوسواس، وبالكسر وصف للشك؛ أي إلَّا الشك المستنكِح؛ والمستنكَح هو الذي يشك في كلّ وضوء أو صلاة، أو يطرأ له ذلك في اليوم مرّة فأكثر، وإن لم يطرأ له ذلك إلَّا بعد يومين أو ثلاثة فليس بمستنكح. وظاهر كلام ابن عمر أنه ينظر لإتيانه في الوضوء بمفرده، وفي الصلاة بمفردها فلا يضم إتيانه في الوضوء لإتيانه في الصلاة، وظاهره أيضًا أنه ينظر لإتيانه في الوضوء وإن اختلف محل إتيانه فيه، فإذا كان يأتيه مرفى في نيته، ومرة في الدلك، ومرة في مسح رأسه: فإن ذلك بمنزلة تكراره في شيء واحد منه، وكذا يقال مثله في الصلاة. والظاهر أن الاستنكاح إنما يعرف باستمراره أكثر من يومين كما في بناني.
واعلم أن الاستنكاح بلاء ومحنة، ودواؤه الإلهاء عنه. والإلهاء عنه إذا قال له؛ صليت ثلاثًا أو أربعًا؟ يقول له: صليت أربعا، وإذا قال له: صليت أو ما صليتَ؟ يقول: صليتُ. وإذا قال له: توضأت أو ما توضأت؟ يقول له: توضأتُ. فإذا رد عليه بهذه الأشياء فإنه ينتفي عنه. قالوا: والاشتغال به يؤدي إلى الشك في التوحيد عند الموت. والعياذ بالله تعالى. قال الشيخ زروق: وأصلها جهل بالسنة أو خبال في العقل، أي فساد واختلال، ومتبعها متكبر لاعتقاده أن ما يفعله كمال مزك لنفسه معتمد على عمله معجب به متبع للشيطان. انتهى.
وإنما كان مزكيا لنفسه؛ لأنه يرى أنه متقن للعبادة وهو مسيء للظن بعباد الله؛ لأنه يعتقد نقصان من لم يفعل كفعله، ومعتمد على عمله؛ لأن الشرع أمره بالتلهي عنه فأعرض عنه، وجعل يتكلف تحصيل التمام في نفس الأمر وهو مأمور بترك فعل ما شك فيه. وأنفع علاج في دفع الوسوسة: الإقبال على ذكر الله، والإكثار منه، والتلهي عنها، والعلم بأن أحدا لن يقدر الله حقَّ قدره وإن عمل بما علم، والإكثار من قول سبحان الملك الخلاق. و {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}. وكذا قراءة:{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} ؛ إلى {نُفُورًا} . وقال السيد الجليل أحمد بن أبي الحواري: شكوت إلى أبي سليمان الداراني الوسواس، فقال: إذا أردت أن ينقطع عنك في أي وقت أحسست به فافرح، فإذا فرحت به انقطع عنك؛ لأنه لا شيء أبغض إلى الشيطان من سرور المؤمن، فإذا اغْتَمَمْت به زادك. وقال بعض العلماء: إن الوسواس لا يبتلى به إلَّا من كمل إيمانه؛ لأن اللعين لا يقصد بيتا خربا. انتهى. وقد قالوا إنها لا تدوم إلَّا على جاهل أو مهوس. ومن حدثت له الوسوسة فيكتب قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} إلى قوله: {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} بزعفران وماء ورد يوم الجمعة في سبع ورقات. ويبلع كل يوم ورقة ويشرب عليها جرعة ماء: فإنه يبرأ من ذلك بإذن الله عز وجل. وعن عثمان بن أبي العاصي رضي الله عنه قال: قلت (يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها على فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسست به فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثًا، قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عنه
(1)
). قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم: خنزب بخاء معجمة ثم نون ساكنة ثم زاي مفتوحة ثم باء، واختلف العلماء في ضبط الخاء فإنهم من فتحها، ومنهم من كسرها، ومنهم من ضمها. حكاه ابن الأثير. في نهاية الغريب. والمعروف الفتح والكسر. قاله الشبراخيتي.
(1)
مسلم، كتاب السلام، رقم الحديث 2203.
وبشَكٍ في سَابقِهِمَا أي الحدث والطهر؛ يعني أن من توضأ وأحدث وشك في الأول منهما يبطل وضوؤه، ويجب عليه إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ، وشمل قوله:"وبشك في سابقهما" أربع صور وهي. شك في السابق مع تيقن الطهارة والشك في الحدث، شك في سابقهما مع تيقن الحدث والشك في الطهارة، شك في سابقهما مع الشك فيهما، شكَ في سابقهما مع تيقنهما. وتقدم صورتان عند قوله: وبشك في حدث بعد طهر علم، الأولى منهما هي صورة المصنف التي اختلف فيها كما مر، والثانية هي الصورة المجمع على وجوب الوضوء فيها، وهي ما إذا تيقن الحدث وشك في الوضوء، وظاهر كلام المصنف أن الشك في سابقهما ناقض ولو استنكحه الشك، وفي أبي الحسن ما يوافقه، ولكن ذكر الأقفهسي وابن عمر ما يفيد خلاف ذلك. واقتصر الشيخ الأمير على الأول فقال: وبشك في طرو ناقض من غير مستنكح، وفي الطهارة بعد تيقن الحدث أو سبقها ولو من مستنكح، ويعتبر الظن على التحقيق. انتهى. وكلام المواق ظاهر في أن المراد بالشك هنا؛ أي في مسألة الشك في السابق مطلق التردد. قاله الشيخ عبد الباقي، والشبراخيتي. وقال الشيخ محمد بن الحسن في معناد: فيه نظر، بل هو ظاهر في أن المراد بالشك هنا التردد على حد السواء.
واعلم أن الوهم في الطهارة لغو كما ذكره السنهوري والأجهوري وغيرهما. وفي الحطاب: عن سند أن الشك له صورتان، من شك هل أحدث بعد وضوئه؟ فالمذهب أنه يتوضأ، وأما الصورة الثانية؛ وهي أن يتخيل إليه الشيء لا يدري هل هو حدث أو غيره؟ فظاهر المذهب أنه لا شيء عليه، إذ هي من الوهم فلذا ألغيت. انتهى. وقوله:"ويشك في حدث بعد طهر علم" قال الحطاب فيه: وكلام المؤلف فيمن طرأ له الشك قبل الدخول في الصلاة، وأما إذا طرأ عليه شك بعد الصلاة ففيه قولان ذكرهما في المنتقى: فيمن رأى في ثوبه احتلاما لا يدري متى وقع منه أحدهما أنه غير مؤثر فيعيد من آخر نومة، والثاني أنه موثر فيعيد من أول نومة.
ونسب الباجي الأول للموطإ، وجعله أبو عمر مقابلًا لمذهب المدونة، ويكون المصنف فيما يأتي من قوله: وأعاد من آخر نومة، تبع الموطأ، ورواية على وابن القاسم، ويشهد له قول ابن بشير: إن وجد منيا في ثوب نومه ولا يدري متى كان، فقيل يعيد من أول نوم فيه، وقيل من آخره، على الخلاف فيمن تيقن الوضوء وشك في الحدث. انتهى. نقله ابن مرزوق فيما يأتي. قاله الشيخ
محمد بن الحسن. وقد تقدم أن الاستنكاح هوأن يأتيه كلّ يوم مغ فأكثر، والظاهر أن الاستنكاح إنما يعرف باستمراره أكثر من يومين كما في بناني. والله سبحانه أعلم. وقوله:"وبشك في حدث بعد طهر علم".
اعلم أن أكثر العلماء على إلغاء الشك، والفرق بين الشك في الحدث بعد طهر علم ينقض الوضوء، والشك في الطلاق لا يؤثر هو عظم المشقة الناشئة عن الطلاق لو أمر به، ويسارة الوضوء. ولما أنهى الكلام على النواقض أتبعه بالكلام على ما ليس بناقض على المذهب فقال: لا بمس دبر يعني أن الوضوء لا ينتقض بمس الدبر خلافا للشافعية، وحمديس من أصحابنا. قاله الإمام الحطاب. وقوله. "لا بمس دبر". أي دبر نفسه، أي المتوضئ، ولو التذ.
أو انثيين يعني أن من توضأ ومس أنثييه لا ينتقض وضوؤه لعدم الالتذاذ بذلك عادة، ولا بموضع جب كما نص عليه في المسائل الملقوطة، وابن شعبان في زاهيه. وللغزالي: النقض به كما مر. وكذا لا ينتقض الوضوء بمدى المتوضئ لعانته: ولا بمسه رفغه بضم فسكون فمعجمة، وهل هو أعلى الفخذ مما يلي الجوف، أو العصب الذي بين الذكر والشرج؟ وهو حلقة الدبر؛ قولان، وقوله:"أو انثيين" خلافا لعروة بن الزبير رضي الله عنه فإنه أدخلهما في معنى الفرج أو فرج صغيرة يعني أن المتوضئ إذا مس فرج صغيرة لا تشتهى، كما قاله الشيخ إبراهيم، فإنه لا ينتقض وضوؤه ما لم يلتذ، وكذا لا ينتقض وضوؤه بمس فرج صغير خلافا للشافعي. وأما مس جسد الصغيرة غير فرجها فلا ينقض ولو قصد ووجد. قاله ابن رشد. ومنه يستفاد عدم النقض في تقبيل فمها مع قصد اللذة ووجدانها، ولا يخالف قوله إلَّا القبلة بفم؛ لأنه فيمن يلتذ بها عادة. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ الأمير: ظاهره أنه لا ينقض كما في الحطاب لعدم العادة، وقال الأجهوري: ما لم يلتذ. انتهى. وتبع الشيخ عبد الباقي الشيخ الأجهوري كما علمت وقال الشيخ محمد بن الحسن: صحيح كما نقله ابن مرزوق، ونصه: وفي النوادر من المجموعة مالك لا وضوء في قبلة أحد الزوجين للآخر من غير شهوة في مرض أو غيره: ولا في قبلة الصبية ولا في مس فرجها إلَّا للذة. انتهى. وقال الشبراخيتي: أو فرج صغيرة لا تشتهى ما لم يلتذ، أو يقصد اللذة. انتهى. ونحوه للخرشي وعلى مالهما يكون قول المصنف:"أو فرج صغيرة" لا فائدة له. قاله مؤلفه عفا
الله عنه؛ إذ جعلاه ينتقض الوضوء به إن قصد لذة أو وجدها، وكذلك فرج من تشتهى لا ينتقض الوضوء بلمسه إلَّا إذا قصد لذة أو وجدها فالظاهر ما لغيرهما. والله سبحانه أعلم.
وقيء يعني أن من خرج منه قيء أو قلس لا ينتقض وضوؤه بذلك خلافا لأبي حنيفة، ومحل قوله. "وقيء" إن لم يخرج بصفة المعتاد مع انقطاع الخروج عن مخرجه، فينقض حينئذ. وأكل جزور يعني أن الوضوء لا ينتقض بأكل من جزور خلافا للإمام أحمد. والجزور بفتح الجيم وضم الزاي الواحد من الإبل المنحور يقع على الذكر والأنثى.
وذبح يعني أن الذبح لا ينقض الوضوء خلافا لقوم وقوله: "وذبح" كان الذبح لمأكول أو غيره. قال الشيخ إبراهيم. ومثل ذلك مس وثن وصليب، وكلمة قبيحة، وقلع ضرس، وإنشاد شعر. وحجامة يعني أن الحجامة ومثلها الفصادة لا ينتقض بهما الوضوء خلافا لأبي حنيفة. وقوله:"حجامة" سواء كان حاجما أو محتجما، وكذا مطلق خروج الدم لا ينتقض به الوضوء، وكذا حمل ميت، ووطء برطب نجاسة، وتقطير في المخرجين، أو إدخال شيء فيهما، أوأذى مسلم: خلافا لقوم.
وقهقهة بصلاة يعني أن القهقهة إذا كانت في الصلاة فإنها لا تنقض الوضوء، وإنما تبطل الصلاة. وقال أبو حنيفة: إن القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء، وأما القهقهة بغير الصلاة فإنها لا تنقض الوضوء اتفاقا. قاله الشيخ إبراهيم الشبراخيتي.
ومس امرأة فرجها يعني أن المرأة لا ينتقض وضوؤها بمس فرجها ألطفت أم لا، قبضت أم لا، وعلى هذا العموم تؤول قول المدونة: ولا ينتقض وضوء المرأة إذا مست فرجها، قال الشيخ عبد الباقي، والشيخ إبراهيم: وهذا هو المذهب، دون قوله: وأولت أيضا بعدم الإلطاف يعني أن المدونة كما أولت على أن مس المرأة فرجها لا ينقض وضوءها مطلقًا، أولت أيضًا على أن ذلك مقيد بما إذا لم يحصل منها إلطاف، وأما لو حصل منها إلطاف فإنها ينتقض وضوؤها ومعنى الإلطاف أن تدخل أصبعها بين شفريها، والشفران جانبا الفرج، وقبضها عليه كإلطافها على هذا التأويل. والمعتمد التقييد، فإن ألطفت انتقض وضوؤها على المعتمد كما للشيخ الأمير. والشيخ محمد بن الحسن. واقتصر عليه ابن عاشر في منظومته حيث قال:
إلطاف مرأة كذا مس الذكر ................................................................
خلافا لما مر عن الشيخ عبد الباقي، والشيخ إبراهيم من أن المذهب هو التأويل الأول دون التأويل الثاني، ومس فرج البهيمة لا يوجب وضوءا خلافا لليث. قاله الحطاب. وقد مر الكلام عليه. وجعل عياض محل الخلاف في المرأة إذا كان المس لغير لذة، فإن كان اللمس للذة وجب عنده الوضوء كالملامسة: وكذلك قال في مس الرجل ذكره بغير الكف إذا قصد اللذة. انتهى. نقله أبو على. وقوله: في مس الذكر بغير الكف ينقض إذا التذ، إنما نقله الباجي عن العراقيين. ويظهر من ابن عرفة أنه مقابل للمذهب. قاله العلامة بناني.
وندب غسل فم من لحم يعني أنه يندب لكل أحد سواء كان متوضأ أم لا، ويتأكد الندب لمريد الصلاة أن يغسل فمه وكذا يده من غمر نحو لحم، وكذا سائر ماله ودك أراد الوضوء أم لا، أراد الصلاة أم لا. والودك بفتح الدال المهملة: الدسم، ويقال له أيضًا غمر بفتح الغين المعجمة والميم، فإن سكنت الميم مع فتح الغين: فالماء الكثير، ومع ضمها: الرجل الأبله، ومع كسرها الحقد. قاله الشيخ إبراهيم. وذكر المصنف هذه المسألة مع أنَّها لا تتقيد بالمتوضئ؛ لأن لها تعلقا به في الجملة، ولا يندب غسل فم ولا يد مما لا دسم فيه وكان عمر رضي الله تعالى عند إذا أكل مسح يده بباطن قدمه. ابن رشد: معناه إذا أكل ما لا دسم فيه مثل التمر والشيء الجاف الذي لا يتعلق بيده منه إلا ما يذهبه أدنى المسح، مسح يده بباطن قدميه، وأما مثل اللحم واللبن وما يكون لد الدسم والودك فلا؛ لأن غسل اليد منه مما لا ينبغي تركه. قاله الإمام الحطاب. وكما يندب غسل فم ويد مما فيه دسومة يندب بما يزيلها ورائحتها من اشنان ونحوه.
ولبن يعني أنه يندب غسل الفم واليد من اللبن، وكذا مس الإبط ونتفه: وغسل ثوب من روائح مستكرهة كبيض إذا كان له ريح. وظاهر المذهب أنه لا يستحب له غسل إبطه. قال في المدونة: وأحب إلى أن يتمضمض من اللبن واللحم، ويغسل الغمر إذا أراد الصلاة؛ يعني وكذا إذا لم يرد الصلاة. قال في الرسالة: وإن غسلت يدك من الغمر واللبن فحسن إلَّا أنه يتأكد في الصلاة. أبو عمران: إن صلى شارب اللبن من غير أن يتمضمض فلا شيء عليه، وقد ترك مستحبا. وفي
العتبية: وسئل مالك عمن يقطع اللحم النيء فتقام الصلاة أترى أن يصلي قبل أن يغسل يديه؟ قال: يغسل يديه قبل أن يصلي أحب إلي. ابن رشد: ما استحبه هو كما قال؛ لأن المروءة والنظافة مما شرع في الدين، وقد استحب في المدونة أن يتمضمض من اللحم واللبن، ويغسل من الغمر إذا أراد الصلاة، فكيف باللحم النيء؟ انتهى. (وقد تمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم من السويق
(1)
)، وهو أيسر من اللحم واللبن، (وغسل عثمان بن عفان رضي الله عنه يده من اللحم وتمضمض منه
(2)
)، ذكر ذلك في الموطإ. قال ابن رشد: وهذا يدلُّ لما ذكرناه. والله أعلم انتهى.
يعني تأويله لما روي عن عمر رضي الله عنه من أنه كان إذا أكل مسح يده بباطن قدمه؛ ومن صلى بذلك ولم يغسله فلا شيء عليه لأنَّها عين طاهرة مباحة. قاله الإمام الحطاب. وقال الشيخ عبد الباقي: من دام على أكل اللحم أربعين يومًا قسا قلبه، ومن تركه أربعين يومًا على الولاء ساء خلقه وخشي عليه الجذام. قاله الغزالي. وظاهره ضأنا أو غيره.
وتجديد وضوء إن صلى به يعني أن من توضأ وصلى بوضوئه فرضًا أو نفلًا، يستحب له أن يجدد وضوءه لصلاة فرضا أو نفلا. وقوله:"إن صلى به"، وكذا لو فعل به شيئًا يتوقف على الطهارة كطواف ومس مصحف، فيستحب له أن يجدد وضوءه لصلاة فرضًا أو نفلا، ولا يجدد الوضوء لغير الصلاة كمس المصحف مثلا، ولو كان قد صلى به فرضا. وقال اللخمي في التبصرة: ولا فضيلة في تكرار الغسل عقب الغسل، ولا عند كلّ صلاة، وهو في ذلك بخلاف الوضوء إلَّا ما وردت فيه السنة من الاغتسال للجمعة، والعيدين، والإحرام، ودخول مكة، ووقوف عرفة. ولابن العربي في العارضة شرح الترمذي: اختلف العلماء في تجديد الوضوء لكل صلاة، فمنهم من قال يجدد الوضوء إذا صلى أو فعل فعلا يفتقر إلى الطهارة وهم الأكثر، ومنهم من قال يجدد وإن لم يفعل فعلا يفتقر إلى الطهارة. انتهى. قاله الإمام الحطاب. ونقل أي الحطاب عن الشبيبي أن الوضوء يمنع تجديده قبل صلاة فرض به، وأنه أي الوضوء يمنع فعله لغير ما شرع له أو أبيح.
(1)
الموطأ، كتاب الطهارة ص 53.
(2)
الموطأ، كتاب الطهارة ص 53.
انتهى. وقال القاضي عياض يمنع تجديده قبل أداء فرض به. وقال الشيخ زروق: يستحب تجديده لكل صلاة بعد صلاة به، وقيل يشترط كونها فرضا. وقوله:"إن صلى به"، وأما لو لم يصل به، ولم يفعل به ما يتوقف على الطهارة، فإنه لا يجدده، وهل يكره أو يمنع؟ خلاف، وهو عين قوله: وهل تكره الرابعة أو تمنع، خلاف. وهذا التعميم هو الذي يفيده كلام ابن العربي. ونقله الحطاب عن مذهب الأكثر: وارتضاه خلاف ما يقتضيه المصنف من قصر التجديد على ما إذا صلى به. والله سبحانه أعلم. انظر حاشية الشيخ بناني. وقوله: "وتجديد وضوء" ما الذي ينويه بهذا الوضوء؟ والجواب أن الذي يفهم من عدم الاعتداد بالمجدد إذا تبين حدثه، أنه ينوي به الفضيلة انظر شرح الشيخ عبد الباقي وظاهر هذا أنه ليس له أن ينوي به الفريضة والفرق بين هذا وبين نية الفريضة في الصلاة المعادة أن الصلاة مقصد يهتم به فينوى فيها الفريضة، بخلاف الوضوء فإنه وسيلة قاله الشيخ عبد الباقي. وقد مر أنه إذا لم يفعل بوضوئه فعلا يفتقر إلى الطهارة لا يجدده؛ أي إلَّا أن يكون قد توضأ أولا اثنتين اثنتين، أو واحدة واحدة، فله التجديد بحيث يكمل الثلاث. وما زاد عليه هل يكره أو يمنع، خلاه. نقله الشيخ عبد الباقي. وقال: وانظر ما ذكر من الجواز حينئذ مع أن فيه مسح الرأس؛ وهو يؤدي إلى تكرير المسح بماء جديد، وهو مكروه. وقد يقال أراد بالجواز عدم المنع؛ أي لأنه لا يجري فيه القول بالمنع كما جرى في غيره، وإن كان يكره. انتهى. وفي الأمير: وتجديد وضوء فعل به ما الطهارة شرطه، وإن مس مصحف على الأرجح، وإن جدده قبل الفعل فكالتكرار يجري على التثليث والزيادة، وكأنهم اغتفروا تكرار المسح هنا كالترتيب، ولو شك في صلاته يعني أنه لو دخل الصلاة متيقن الطهارة فلما كان في أثنائها شك هل انتقضت طهارته قبل دخوله فيها أم لم تنتقض أو شك فيها هل انتقضت طهارته بعد دخوله فيها أو لم تنتقض؟ فإنه يتمادى على صلاته وجوبا، ولا ينصرف عنها إلَّا بيقين كما في الحديث الآتي. ثم أي وإذا تمادى فيها وبقي على شكه أو تبين حدثه بعدها أو فيها، فإنه تجب عليه إعادتها، وأما إن بأن له الطُهْرُ فإنها تصح، ولم يعدها سواء بان له الطهر فيها أو بعدها. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ إبراهيم: ثم بعد الخروج منها كما يدلُّ عليه الإتيان بثم، وأما فيها فلا يتوهم ويتصور أن يبين له الطهر فيما إذا
شك هل خرج منه بول أو مذي، أو لم يخرج؟ فلما سلم من صلاته اختبر ذلك فإذا هو لم يخرج منه شيء، قال في التوضيح: يتخرج لنا من هنا قاعدة من شك في شيء لا تجزئ الصلاة بدونه، ثم تبين الإتيان به هل يجزئه أولا؟ قولان كمن زاد فيها شيئا عمدا أو سهوا، ثم تبين أنه واجب، هل يجزئه عن الواجب أم لا؟ ومن سلم شاكا في الإتمام ثم تبين الكمال، ومن افتتح تكبيرة الإحرام ثم شك فيها وتمادى حتى أكمل، ثم تبين له بعد ذلك أنه أصاب في التمادي. وما ذكرته من أنه يتمادى وجوبًا ولا ينصرف إلَّا بيقين هو الذي صرح به ابن رشد في سماع عيسى، ومقتضى ابن غازي والحطاب وغيرهما أن المذهب وجوب القطع، فإن تمادى فالمشهور الصحة إن بأن له الطهر وإن لم يبن له فلا تصح، وصلاة مأمومية صحيحة. وفي العتبية: من شك أثناء صلاته هل هو على وضوء أم لا فتمادى في صلاته وهو على شكه ذلك، فلما فرغ من صلاته استيقن أنه كان على وضوء فإن صلاته مجزئة إلَّا أن يكون نواها نافلة حين شك، وإنما كان الشك فيها ليس كالشك قبل الدخول فيها؛ لأن تلبسه بالصلاة متيقن الطهارة قوى جانبها، والأصل فيه خبر (إن الشيطان يفسوا بين أليتي أحدكم إذا كان يصلي فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا)، والدليل فيه قاصر على شكه فيها هل أحدث فيها أم لا؟ وقيس عليه شكه فيها هل أحدث قبل دخوله فيها أم لا؟ هذا إذا كان الحديث إذا كان يصلي بلا فاء كما في التتائي: وأما إذا كان بفاء كما في شرح الشيخ الأجهوري والسنهوري فهو شامل للصورتين. والمراد بالشك ما قابل الجزم إلَّا أنه لا أثر للوهم بالأولى مما إذا حصل له في غير الصلاة، ولو شك في صلاته هل توضأ أم لا لقطع، واستخلف إن كان إماما. قاله ابن عرفة. قاله الشيخ عبد الباقي. وما تقدم من وجوب الإعادة في المص وعدمه إنما هو في غير المستنكح، وأما المستنكح فإنما يعيد إذا بأن له عدم الطهر، فإن لم يبن له شيء لم يعد، كما إذا بأن له الطهر بخلاف غير المستنكح فإنه يعيد إذا لم يبن له شيء، كما أفاده المص، وهو ظاهر، وقد مر ذلك. ولو تيقن الحدث والطهارة ودخل في الصلاة جازما بها ثم شك في السابق منهما تمادى أيضًا، ثم إن بان الطهر لم يعد. قاله الشيخ عبد الباقي. وأوضحه الشيخ محمد بن الحسن. وفي كتاب الشيخ الأمير: وإن
شك فيها أتمها وإن ظن الحدث لحرمة الصلاة حيث دخلها بيقين ثم يعيد دون مأمومه إن لم يتحقق الطهارة، ومثله قوة الظن. انتهى.
ومنع حدث الصلاة يعني أن الحدث وهو هنا: الوصغ الحكمي القدر قيامه بالأعضاء قيام الأوصاف الحسية سواء نشأ عن الحدث الذي هو الخارج أو سبب أو غيرهما، يمنع الإقدام على الصلاة وصحتها إجماعًا والمراد الحدث الأصغر ليلا يتكرر مع قوله: وتمنع الجنابة موانع الأصغر، ويمنع الحدث الصلاة مطلقا كانت ذات ركوع رسجود أم لا كصلاة الجنازة. ويدخل في ذلك أيضًا سجود التلاوة، وسجود الشكر على القول به، وكفر من استحل الصلاة مع الحدث، أو أنكر شرطية الطهارة لها كما في العزية لمخالفته للآية الكريمة: وهي: قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية، لا إن أقر بوجوبها وتركها عمدا فيحرم. وانظر في صلاته بدونها لضرورة كنسبته للواط عند احتلامه، وهل يتيمم للضرورة أم لا؟ قاله الشيخ عبد الباقي.
وطوافًا يعني أن الحدث يمنع الطواف كما يمنع الصلاة، وسواء كان الطواف ركنا أو واجبا أو مندوبا. قاله الشبراخيتي. ومس المصحف يعني أن المحدث يحرم عليه مس المصحف ويمنع منه. وأما المتنجس فنقل التفجروتي المالكي عن الإمام السيوطي في الإتقان: وأما متنجس الفم فتكره له القراءة: وقيل تحرم كمس المصحف باليد المتنجسة. انتهى. وفي حاشية الأمير أن مسه بعين النجس حرام. انتهى. وفهم منه أنه لا يمنع مسه للمتنجس إذا كانت النجاسة حكمية، وهو كذلك كما يفيده الإعلام، فإنه قال: وسئل البرزلي عن طهارة الخبث، هل تشترط في مس المصحف أم لا؟ فأجاب: لو ادعي في عدم شرطيته الإجماع ما بعد، ألا تراهم جوزوا قراءة القرآن في الأماكن النجسة؟ انتهى. وسئل بعضهم عمن بيده أو ثوبه نجاسة: هل يذكر الله كثيرا، أو يدخل المسجد، أو يمس كتب الحديث والوعظ، أو يقرأ القرآن، أو يؤذن، أو كتب التفسير والرقائق، أو حتى يزيلها؟ فأجاب: إن كانت النجاسة تلازمه في أكثر الأوقات فيجوز، وإن كانت لا تلازمه فليذكر لكن غسلها أولى، وإن لازمته فله دخول المسجد والصلاة فيه، ولا ينزع الثوب الذي فيه النجاسة ويضمه فيه إلَّا إن خاف ضياعه. ويجوز له أن يمس كتب التفسير ويقرأها، وله ذلك وهو جنب، وكذا يقرأ كتب الوعظ والرقائق، ويؤذن ويقرأ القرآن: والغسل
أولى، وكذلك الاستماع لمن يقرأ القرآن، انظر الإعلام. وقوله:"ومس مصحف" هو مذهب الجمهور خلافا للظاهرية، والحجة عليهم ما في الموطأ وغيره أن في كتابه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم (أن لا يمس القرآن إلَّا طاهر
(1)
)، وقوله تعالى:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أي من الأحداث، ويحرم مدى جلده وأحرى طرف الورق المكتوب، وما بين الأسطر من البياض، ومحل المنع حيث كان بالخط العربي، ومنه الخط الكوفي، ولو نسخ معناه نحو:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} الآية، لا ما نسخ لفظه دون معناه نحو: الشيخ والشيخة فارجموهما إذا زنيا حيث كتب وحده، لا ما كتب بغير عربية فيجوز مسه ولو لجنب؛ لأنه تفسير كتورية وإنجيل وزبور لمحدث. كما يجوز حمل الجنب القرآن المكتوب بالعربي خوف غرق أو حرق أو استيلاء يد كافر عليه. ونحوه، قال الش: وأكثر المانعين وافقوا على منع مس الجلد ولو بقضيب، ولا يجوز امتهان قرآن ولا مصحف ولا امتهان بعضه وليس من الامتهان المحرم حمله بشيء أو وضعه على كتفه بحيث يبقى خلف ظهره. وكره كتبه بحائط مسجد أو غيره، ويمنع للمحدث مس المصحف جامعًا أو جزءا أو ورقة فيها بعض سورة أو لوحا، أو كُتَفًا مكتوبة، وهل يمنع كتبه بالعجمية؟ استقرب الزركشي المنع. كما تحرم قراءته بغير لسان العرب، والقلم أحد اللسانين، ولا يجوز مسح لوح القرآن أو بعضه بالبصاق، ويتعين على معلم الصبيان أن يمنعهم من ذلك. وقد اشتد نكير ابن العربي على من يقلب أوراق المصحف أو غيره من الكتب بالبصاق، وقال: إنا لله على غلبة الجهل المؤدي إلى الكفر قاله الشيخ عبد الباقي مع شيء من كلام الحطاب: والشبراخيتي، وبناني. وقال الإمام الحطاب: وفي مختصر الواضحة يجوز لغير المتوضي أن يقرأ في المصحف وغيره يقلب له أوراقه، وقال: ولا يجوز مس جلد المصحف، وكذلك لا يجوز أن يمس الطرة أو الهامش أو البياض الذي بين الأسطر، ولو بقضيب. انتهى. وقال المشدالي: قال النووي ولو خاف على المصحف غرقا أو حرقا أو يد كافر فإنه يأخذه، وإن كان محدثا للضرورة. انتهى. قال الإمام الحطاب: وكأنه ارتضاه على المذهب، وفي مسائل الطهارة من البرزلي في أثناء كلامه على
(1)
الموطأ، كتاب القرآن، رقم الحديث:468.
الاستنجاء بالخاتم الذي فيه ذكر الله: وكذا الخلاف في استصحاب في فيه ذكر الله، والدخول به الخلاء، والمجامعة، وكذا حمل الختمة على وجه التحرز لغير المتطهر، فيه خلاف. انتهى.
وإن بقضيب يعني أنه يحرم مس المصحف بالقضيب قال ابن عرفة: الشيخ عن أبي بكر: ولا يقلب ورقه بعود ولا بغيره، ويفهم منه بالأولى حرمة مسه من فوق حائل ولو كثيفا. وقد مر قول مختصر الواضحة: ولا يجوز مس جلد المصحف ولا يجوز أن يمس الطرة أو الهامش أو البياض الذي بين الأسطر، ولو بقضيب. والحكم في كَتْب المصحف كحكم مسه. قاله اللخمي، ونقله عنه أبو الحسن وابن عطاء الله. وقال في الإعلام: وسئل ابن لب عن ناسخ المصحف بلا طهارة لمشقة؟ فأجاب: لا يرخص له في ذلك إلَّا على قول ابن مسلمة القائل: الطهارة لمس المصحف مستحبة. انتهى. وقال ابن فرحون في شرح ابن الحاجب: واستخف مالك أن يكتب الآية من القرآن في الكتاب على غير وضوء: ولو قرأ في الصلاة ما نسخ لفظه دون معناه بطلت، وصرح بذلك الشافعية: وما نسخ معناه دون لفظه فله حكم ما لم ينسخ بإجماع. البرزلي: وسئل ابن زيادة الله عمن أوصى أن يجعل في أكفانه ختمة قرآن أو جزء منه أو جزء من الأحاديث النبوية أو أدعية حسنة هل تَنفْذ وصيته أم لا؟ وإذا لم تنفذ -وقد عمل ذلك- فهل ينبش ويخرج أم لا؟ فأجاب. لا أرى تنفيذ وصيته. وتجل أسماء الله عن الصديد والنجاسة فأمر الأدعية خفيف، والختمة يجب أن تنبش وتخرج إذا طمع بالمنفعة بها، وأمن من كشف جسد الميت ومضرته والاطلاع على عورته. وقد وقعت هذه المسألة بتونس، فحكى شيخنا عن بعض أصحابه في الذي أوصى أن تجعل معه إجازته، أنَّها تجعل بين أكفانه بعد الغسل، وتخرج إذا أرَادوا دفنه. وحكي عن بعضهم أنَّها تجعل عند رأسه فوق جسمه بحيث لا يخالطها شيء، ويجعل بينهما من التراب بحيث لا يصل إليها شيء من رطوبات الميت. وفي بعض التواريخ أن أبا ذر أو غيره من فقهاء الأندلس أوصى أن يدفن معه جزء ألفه من الأحاديث، وأنه فُعِل ذلك به. وكذا أوصى آخر أن يدفن بخاتم مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وذلك عندي قريب؛ لأن قصده التلقين والبركة. وقد أجاز في رواية ابن القاسم الاستنجاء به. قاله الإمام الحطاب. وفي كتاب الأمير ومنع الحدث صلاة كسجود تلاوة وجنازة وطوافا ومس مصحف وإن لجلده بقضيب فأولى
حائل وحمله انتهى. وفيه ما نصه: وفي الحطاب هنا الخلاف فيمن أوصى بدفنه مع كمصحف، هل يرفع عن القذر ولا تنفذ؟ فإن تحقق التقذير وعدم هتك حرمة الميت نبش، وغير القرآن أخف. انتهى ولا بأس بكتب الآية في الكتاب على غير وضوء، ولا بأس للجنب بكتب البسملة وشيء من القرآن والمواعظ في الصحيفة، وما يعلق على الصبي والحائض والحامل إذا خرز عليه، أو في شمع لا دون ساتر وخَوفُ غرقه أو حرقه، أو يد كافر يبيح مسه. قاله الإمام الحطاب. والشيخ إبراهيم. وقد مر أنه يكره كتب شيء من القرآن بالحائط لمسجد أو لغيره، وهل محل الكراهة ما لم يكن ممتهنًا؛ كجعله في سقف بيت أسفل بيت فوقه يمشى فيه بالنعل وإلا حرم، أو الكراهة مطلقًا لعدم قصد ذلك. قال الشيخ عبد الباقي: وهو الظاهر. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر الحرمة لتأديته إلى امتهان القرآن، وقد صرحوا أنه لا يجوز امتهانه ولا امتهان بعضه. والله سبحانه أعلم. وانظر الاتكاء على حائط بظهره مكتوب فيه قرآن أو بعضه. قاله غير واحد.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر المنع؛ لأن ذلك امتهان. والله سبحانه أعلم. وحمله يعني أن المحدث يحرم عليه حمل المصحف، فقوله:"وحمله" عطف على قوله: "مس، أو صلاة". وإن بعلاقة يعني أنه يحرم على المحدث حمل المصحف مباشرة بواسطة علاقة يجعلها بيده، أو غيرها من أعضائه إن لم يجعل حرزا، وإلا جاز على أحد قولين، والآخر المنع. وعلل الجواز بأنه خرج عن هيئة المصحف، وصرف لجهة أخرى. قاله الشيخ عبد الباقي. أو وسادة يعني أن حمل المصحف بوسادته لا يجوز؛ أي يحرم، والوسادة مثلثة الواو المتكأ، وهذا أي حمله بعلاقة أو وسادة يفهم مما قبله بالأولى، كما قاله غير واحدا إلا بأمتعة الباء بمعنى مع أو للظرفية، قاله الخرشي؛ يعني أنه لا يجوز حمل المصحف إلَّا أن تكون معه أمتعة في صندوق، أو خرج فيجوز حمله حينئذ بشرط أن تكون الأمتعة قد قصدت بالحمل وحدها، فإن قصد المصحف بالحمل أو مع الأمتعة حرم حمله حينئذ على المرتضى. والمراد بقصده فقط أن يكون حمل الأمتعة لأجل حمله فقط، ولولا حمله ما حملها، وظاهر كلام ابن الحاجب أنه يجوز حمله حيث قصد هو
والأمتعة بالحمل، والأول الذي هو المرتضى هو ظاهر كلام المصنف؛ لأن تخصيص الشيء بالذكر يفيد نفي الحكم عن غيره قاله الشيخ إبراهيم.
وإن على كافر يعني أنه إذا قصد حمل الأمتعة التي مع المصحف وحدها فإنه يجوز حمله للمحدث، وله أن يحمله على مسلم أو كافر؛ لأن القصد الحمل لا فيه المصحف لا المصحف لقولها: ولا يحمل المصحف نصراني ولا غير متوضئ إلَّا أن يكون في خرج أو غرارة، وأما بوسادة أو بعلاقة فلا. وقد تقدم أن مثلَ مسه كتبُه، فعلم أنه يستوى في المنع للمحدث مسه وحمله وكتبه، وهذا هو المشهور. وللتتائي لا يمنع للمحدث نسخه قاله الشيخ عبد الباقي لا درهم يعني أنه لا يمنع للمحدث مس درهم أو دينار فيه قرآن ولا حمله. قاله غير واحد. ولو أكبر ولو لكافر، وإنما جاز ذلك لإجازة سلف الأمة البيع والشراء بهما. وقوله:"لا درهم" عطف على مصحف. قاله الشيخ إبراهيم.
وتفسير يعني أنه لا يمنع للمحدث مس التفسير ولا حمله ولو محدثا أكبر. قال في المسائل الملقوطة: لا يكره مس التورية والإنجيل والزبور للمحدث؛ لأن النص إنما ورد القرآن، وما كان من غير لغة العرب لا يسمى قرآنا، بل لو كتب القرآن بالقلم العجمي جارٌّ للمحدث مسه؛ لأنه ليس بقرآن، بل تفسير للقرآن، مع أن هذه بدلت فلا نعلم أنَّها هي أو غيرها. قاله الإمام الحطاب. وقوله:"وتفسير" ولو كتب فيه آيات متواليات كتفسير ابن عطية والجلالين، ولو قصد الآيت أنفسها، وكذا الآياتِ المكتوبة في كتب العلم فقها أو غيره، والرسائل ولو جنبا، ويكتب الجنب الصحيفة فيها بسم الله الرحمن الرحيم، ومواعظ وآيات من القرآن، ويقرأ الكتاب الذي يعرض عليه وفيه آيات من القرآن. ورد ابن مرزوق على شيخه ابن عرفة منعه من مس ذات كتب الآي مع قصدها، والحاصل أنه يجوز للمحدث ولو أكبر مس التفاسير سواء في ذلك ذات كَتْب الآي بسكون التاء وفتح الكاف؛ أي التي كتبت فيها الآياتِ خالصة من خلطها، كتفسير ابن عطية والجلالين، وغير ذات كَتْب الآي أي التي لم تكتب فيها الآياتِ خالصة من خلطها. ومنع ابن عرفة من مس ذات كَتْب الآي مع قصدها قائلا: إنه ظاهر الروايات. ورد عليه تلميذه ابن مرزوق، وظاهر ما لابن مرزوق جواز مس الآي أنفسها. وللشافعية
منعه. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن عند قوله: "وتفسير" قال ابن مرزوق؛ لأن المقصود منه معاني القرآن لا تلاوته، قيل ولو كان شأن التفسير أن يترجم بكتابة آيات كثيرة، وفيه نظر ولا سيما إن كان في سفر واحد والقرآن فيه بكماله مكتوب، وانظره مع ما نقله عنه الزرقاني. انتهى كلام الشيخ محمد بن الحسن. وقد مر أن مثل التفسير الآياتِ المكتوبة في كتب العلم فقها أو غيره، وكذا كتب الرسائل ولو جنبا حتى في التفسير. وقوله: وتفسير لكن الأولى له الطهارة كما في الحطاب عند قول المص: وجاز بيابس.
ولوح لمعلم يعني أن المعلم إذا كان محدثا أصغر يجوز له أن يمس اللوح المكتوب فيه القرآن ليصلحه، وإنما يجوز له مسه في حال التعليم، والمعلم من يريد إصلاح اللوح سواء كان جالسا للتعليم أم لا. ومتعلم يعني أنه يجوز للمتعلم وهو محدث أصغر أن يمس اللوح المكتوب فيه القرآن، وإنما يجوز له ذلك في حالة التعليم، والحاصل أنه يجوز للمعلم والمتعلم مس لوح القرآن حالة التعلم والتعليم، وما ألحق بهما مما يضطر إليه كحمله لبيت ونحوه على ما يفيده إطلاق المص كإطلاق ابن حبيب. وظاهر العتيبة قصر الجواز على حالة التعلم والتعليم. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"ومتعلم" صبيا أو غيره، ومفهوم المص أن غير المعلم والمتعلم ليس له مس اللوح. وإن حائضا مبالغة في المعلم والمتعلم، يعني أنه يجوز للمعلم والمتعلم مس اللوح على ما مر، وإن كان كلّ منهما حائضا لعدم قدرتها على إزالة مانعها، بخلاف الجنب فيحرم عليه مسه لقدرته على إزالة مانعه. وظاهره: ولو لتعلم أو تعليم، وخوف النسيان وغيره. ومن علله بخوف النسيان نافى جعل المص هنا أنَّها تمس اللوح لذلك قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ سيدي عبد القادر الفاسي: الذي كان يفتي به شيخنا العارف سيدي عبد الرحمان أن الجنب مثل الحائض، وكذا شيخنا أبو العباس المقري، وخالفهما غيرهما ممن قرأنا عليه ولم يأت في ذلك بدليل مقنع، بل تعلق في ذلك بعمومات ومطلقات النصوص. انتهى. والظاهر أن عمومات النصوص ومطلقاتها كافية مقنعة إذا لم يوجد لها مقابل. والله سبحانه أعلم.
وجزء لمتعلم يعني أنه يجوز للمتعلم أن يمس جزءا من المصحف. قال الإمام الحطاب. ظاهره أن الصغير لا يمس المصحف الكامل، وهو قول ابن المسيب، وقال مالك في المختصر: أرجو أن يكون
مس الصبيان المصاحف للتعليم على غير وضوء جائزا. أبو الحسن. يقوم من مسألة الحطابين - يعني الآتية في الحج حيث لهم دخول مكة بلا إحرام - أنَّ من كثر ترداده إلى المسجد لا تلزمه التحية: ومثله من خرج إلى السوق لا يلزمه السلام على كلّ من لقي، ومثله مس المصحف للمتعلم على غير وضوء، وللناسخ. وسئل عز الدين بن عبد السلام: هل للناسخ أن يكتب المصحف محدثا؟ فأجاب أنه ليس له أن ينسخ إلَّا متطهرا. ومثل المتعلم المعلم على ما روى ابن القاسم عن مالك. لأن حاجته كحاجة المتعلم، لا على ما ذكره ابن حبيب قائلا: إن حاجته صناعة وتكسب لا للحفظ. قاله الباجي. وربما يفهم من قوله: لا للحفظ، جواز مسه لغير حافظه، ويريد القراءة فيه، وربما يشمله قول المص:"لمتعلم". وفي كتاب الشيخ الأمير: وجاز مسه لمعلم ومتعلم وإن متذكرا يراجع بنية الحفظ، ولا مفهوم للجزء واللوح.
وإن بلغ يعني أنه يجوز للبالغ إذا كان محدثا أن يمس جزءا من المصحف؛ لأجل أن يتعلم فيه، والمراد بالجزء ما قابل الكامل وظاهره ولو تسعة أعشار القرآن، وفيه نظر، إلَّا أن يقال إنما أراد الجزء المعتاد، وتجزئة المصحف عادة لا تكون على هذا الوجه. انتهى. قاله ابن مرزوق. نقله الشيخ محمد بن الحسن. واحترز المص بالجزء من الكامل، فيحرم مسه للبالغ المتعلم على المشهور عند ابن يونس: ولكن حكى ابن بشير الاتفاق على جواز مسه له وقوله: "وإن بلغ" وإن حائضا، وقول الشيخ على الأجهوري: أو جنبا: فيه بعدٌ. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: قول المص: "وإن بلغ" تعقبه البساطي بأن المص إنما اعتمد ما ذكره في التوضيح بعد قول ابن بشير: واتفقوا على جواز مس المصحف للمتعلم. انتهى. ونصه: ظاهره وإن كان بالغا، مع أن كلام التوضيح مردود بقول ابن يونس. والمشهور أن الكامل لا يجوز للرجل مسه، وإن كان متعلما. انتهى. وقوله:"وجزء لمتعلم وإن بلغ" قد مر أن المعلم مثل المتعلم على ما روى ابن القاسم عن مالك إلى آخر ما مر.
وحرز بساتر يعني أنه يجوز مس حرز وتعليقه لمحدث بشرط أن يكون في ساتر يكنه ويقيه من وصول أذى إليه. وهذا واضح إن لم يكن كاملا، وأما إن كان كاملا ففيه قولان بين الجواز والمنع كما مر. ومفهوم قوله:"بساتر" أنه إذا لم يكن ساتر لا يجوز أن يعلق عليه وهو كذلك، والباء
للمصاحبة. وإن لحائض يعني أن الحرز إذا كان في ساتر يكنّ ما فيه من القرآن يجوز تعليقه للحائض والنفساء والجنب والحامل، كان حامله صحيحا أو مريضا بشرط أن يكون مسلما لا كافرا، خلاف ما قال أحمد؛ لأن تعليقه عليه يؤدي إلى امتهانه. ويجوز تعليقه على بهيمة لدفع عين حاصلة أو متوقعة. وفي الحطاب عن ابن فرحون: ولا بأس بما يعلق في عنق الصبي والحائض من القرآن إذا خرز عليه أو جعل في شمع، ولا يعلق وليس عليه ساتر، ولا بأس أن يعلق ذلك على الحامل. انتهى.
تنبيه. اعلم أنه لا بأس بالاسترقاء من العين وغيرها كاللدغة والوجع، والعينُ سم يجعله الله في عين العائن إذا تعجب من شيء ونطق به ولم يبارك فيما تعجب منه. والأصل في الاسترقاء قوله تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} ، وفي الموطإ: (أنه عليه الصلاة والسلام أمر بالاسترقاء
(1)
). الباجي: ولا خلاف في جواز ذلك بأسماء الله تعالى وكتابه، وقال مالك لا بأس أن يعلق على النفساء والمريض شيء من القرآن إذا خرز عليه أديم، وكذا لا بأس بالتعوذ. وقال الأقفهسي: يستحب لقوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} .
واعلم أن الرقية تكون بشيئين بكتاب الله، - كما مر - والكلام الطيب، وهو العربي المفهوم.
روى الشيخان (أنه صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله فيمسح بيده اليمنى ويقول: اللهم رب الناس مذهب الباس اشف أنت الشافي لا شفاءَ إلَّا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما
(2)
)، ولا يرتقى بالمبهمات. لما سئل مالك عن أسماء العجمية فقال: ما يدريك لعلها كفر؟ ولا بأس بمعالجة الريض طلبا للشفاء، لما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم ينزل داء إلَّا أنزل له شفاء
(3)
)، فيعالج بشرب الدواء بكسر الدال وفتحها مع المد فيهما، وبالقصد والكي وغير ذلك. والحجامة مستحبة في كلّ أيام السنة. ابن رشد: ولصحة إيمان مالك بالقدر، كان لا يكره الحجامة ولا شيئًا من الأشياء يوم السبت والأربعاء، بل يتعمد ذلك فيهما. قاله الشاذلي.
(1)
الموطأ، كتاب العين، الحديث: 3، 4.
(2)
البخاري، كتاب الطب، رقم الحديث: 5743/ 5742. ومسلم في صحيحه، كتاب السلام، رقم الحديث: 2191.
(3)
مسند أحمد، ج 1 ص 443. والبخاري في صحيحه، كتاب الطب، رقم الحديث: 5678 بلفظ: "ما أنزل الله داء إلَّا أنزل له شفاء".
واعلم أنه لا يعالج بشيء مما حرم الله إلَّا ما قام عليه الدليل، مثل خمر لغصة، وقد مر الكلام على النجاسة. ولما أنهى الكلام على الطهارة الصغرى. أتبعه بالكلام على الطهارة الكبرى، ولها موجبات وواجبات وسنن ومندوبات، وبدأ بذكر بعض الثاني مُعَقِّبًا له بالأول فقال:
فصل يذكر فيه الغسل:
وهو بضم الغين: اسم للفعل، وبفتحها: اسم للماء على ما اختاره ابن مالك، وهو الأشهر. وقيل بالعكس، وقيل بالفتح فيهما، وحيث ضم جاز أيضًا ضم ثانية تبعا لأوله وبكسر الغين: اسم لما يغسل به، كالأشنان بضم الهمزة وكسرها والسدر ونحو ذلك. والغسل لغة: سيلان الماء على الشيء مطلقًا، وعرفا: غسل جميع الجسد بنية مخصوصة.
واعلم أن الصلاة فرضت خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرات، وغسل الثوب من البول سبع مرات، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا، وغسل الجنابة مرة، وغسل الثوب مرّة. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: إن المؤمن إذا قام وامتثل أمر الله واغتسل من جنابة غير محرمة، فكل قطرة تقطر من شعره يخلق الله منها ملكا يسبح الله تعالى إلى يوم القيامة. قاله الشيخ إبراهيم الشبراخيتي. وقال الشيخ زروق: وتأخير غسل الجنابة يورث الوسواس، ويمكن الخوف من النفس، ويقلل البركة من الحركات. انتهى. وكون تأخيره يورث الوسواس - سره والله تعالى أعلم - أن الجنب تفارقه الملائكة، والتطارد بين الشياطين والملائكة في معرك القلب دائم، فإذا ذهب أحد الجندين تغلب الآخر، وإذا تغلب الشيطان وسوس. والوسوسة يلزمها الخوف؛ لأن صاحبها لا يكون إلَّا مغموما كئيبا؛ فلذا يُمَكِّنُ التأخير المذكور الخوف. وإذا توالت الهموم، وعظمت الغموم، ضعفت القوة، وقلت المنفعة؛ فقلت البركة. انتهى.
يجب غسل ظاهر الجسد يعني أنه يجب على المكلف غسل جميع ظاهر جسده بسبب أحد الأمور الأربعة الآتية؛ ومن ظاهر الجسد تكاميش دبره، فبسبب ذلك يجب استرخاؤه، ويدخل في الظاهر أيضًا ما نبه عليه المص في الوضوء من الوترة وغيرها، وعمق السرة، وتحت حلقه وإبطيه، وعقبيه، وعرقوب يه، وما لا يكاد يداخله الماء بسرعة من جساوة أو شقوق، وأصابع الرجلين واليدين. وقال ناظم مقدمة ابن رشد:
وتابع الشقوق والأعكانا
…
وتابعن ما غار حيث كانا
فإن يكن في فعله مشقه
…
فعمه بالماء وادلك فوقه
واحترز بالظاهر من باطن الجسد، فلا يجب غسل شيء منه كداخل الفم والأنف، خلافا لأحمد فيهما. ولأبي حنيفة في الأول: وكداخل عين وصماخ أذن، بخلاف إزالة النجاسة، فإنها من الظاهر كما مر. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"غسل ظاهر الجسد" هذا هو الواجب الأول من واجبات الغسل الأربع: وهو تعميم ظاهر الجسد بالماء. وفي الرسالة: ويتابع عمق سرته. الشيخ زررق: ولا سيما إذا كثرت تكاميشه. ثم إن شق جدا ولم يصل إليه بوجه سقط. وكذا يجب متابعة ما ستره الذقن لسمن ونحوه: وإبطيه؛ لأنهما كالسرة في الخفاء، واجتماع الفضلات، ويخلل أصابع اليدين وجوبا على المشهور، وقيل ندبا كالوضوء: وكذا يجب تخليل أصابع الرجلين، وقيل يندب، وفي الحطاب عن الشيخ زروق والطراز ما يفيد أن المشهور في تخليل أصابع الرجلين في الغسل: الندب. والله تعالى أعلم.
بمني متعلق بقوله: "يجب"، والباء للسببية، يعني أن غسل جميع ظاهر الجسد يجب بأحد أمور أربعة أحدها خروج المني، أي بروزه وانفصاله من فم المخرج. والمني: هو الماء الذي يتكون منه الولد بإذن الله تعالى، فلو اضطرب البدن لخروج المني ولم يخرج، أو وصل لأصل الذكر أو وسطه، فلا غسل. والبكر لا يلزمها حتى يبرز عنها؛ لأن داخل فرجها كداخل الإحليل. نقله الحطاب. قال الشيخ محمد بن الحسن: وهو صريح في أن المني ما دام في الإحليل لا بأس به. ولابن العربي: وإذا انتقل المني ولم يظهر لم يوجب غسلا. وقال أحمد بن حنبل: يوجب؛ لأن الشهوة قد حصلت بانتقاله، وهذا ضعيف؛ لأنه حدث لا تلزم الطهارة إلَّا بظهوره كسائر الأحداث. انتهى. وعلم من هذا أنه لابد من بروز المني، ولا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى وخالف سند في الأنثى قائلا إن إحساسها بانفصاله عن محله موجب للغسل، ومحله في اليقظة. وأما في النوم فلابد من بروزه منها اتفاقا. قاله الشيخ إبراهيم. وعلى ما لسند فالرؤية المقدرة في
الخبر. أعني: (إنما الماء من الماء)
(1)
؛ أي من رؤية الماء بالنسبة للمرأة معناها: علمها بانفصاله. وبما مر رد الشيخ محمد بن الحسن قول الشيخ عبد الباقي وغيره: إن انفصال المني عن محله مربوطا بقصبة الذكر، أو متعسرا بحصى كخروجه بالفعل، وإن بنوم يعني أنه يجب غسل ظاهر الجسد بسبب خروج المني للذة المعتادة، ولو كان خروجه في حالة النوم، فإن حصلت اللذة المعتادة في النوم وخرج المني معها، فلا خلاف في وجوب الغسل. وسواء في ذلك الرجل والمرأة، وإن حصلت اللذة المعتادة في النوم ثم استيقظ ولم يجد بللا فلا غسل عليه. وقد سئل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(لا غسل عليه)
(2)
)، رواه أبو داوود والترمذي، فإن خرج المني بعد ذلك ففي وجوب الغسل قولان، والمشهور الوجوب، فإن وجد المني ولم يذكر أنه احتلم فنقل القرافي الإجماع على وجوب الغسل، وقد قال صاحب المنتقى: قال مجاهد إذا لم يذكر شيئًا فلا شيء عليه. وفي أبي داوود والترمذي عنه عليه الصلاة والسلام (أنه سئل عن الرجل يجد البلل ولم يذكر احتلاما قال: عليه الغسل
(3)
). انتهى. قاله الحطاب. ونظَّر في حكاية القرافي الإجماع بما في ابن راشد في شرح ابن الحاجب، ونصه: وإن وجد الأثر ولم يذكر أنه احتلم ففي وجوب الغسل قولان. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي عند قوله: وإن بنوم، رأى فيه أنه وطئ أو خرج بلذة معتادة أو غير معتادة، أو بلا لذة كما يفيده التتائي على الرسالة. وكلامهم في خبر:(إنما الماء من الماء)
(4)
). انتهى. وعلى هذا فمن رأى في منامه أنه لدغته عقرب فأمنى، أو حك لجرب فأمنى، فإنه يجب عليه الغسل كما هو ظاهر كلامهم. وفي كتاب الشيخ الأمير أن النوم لا تشترط فيه اللذة، وقد مر أنه لابد في وجوب الغسل من خروج المني من فم الفرج. وقد مر أن الإمام أحمد خالف في ذلك، وقال: إذا انتقل المني ولم يظهر وجب الغسل؛ لأن الشهوة قد حصلت بانتقاله. ابن العربي: وهو ضعيف؛ لأنه حدث لا تلزم الطهارة إلَّا بظهوره كسائر الأحداث. انتهى. وقد مر أيضًا خلاف سند في المرأة، ومنشأ الخلاف حديث: (نعم إذا رأت
(1)
مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، رقم الحديث:346.
(2)
سنن أبى داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:236. والترمذي، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 113.
(3)
سنن أبي داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:236. والترمذي، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 113.
(4)
مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، رقم الحديث:346.
الماء
(1)
)؛ أي أبصرته على المشهور، أو علمته على ما لسند. وبُحِثَ فيه بأن هذا الحديث إنما ورد في الاحتلام، والخلاف إنما هو في اليقظة لا في النوم، وأجيب بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأما حديث:(إنما الماء من الماء)
(2)
فوارد فيما يشمل اليقظة والنوم. نقله الشيخ محمد بن الحسن. وعلم مما مر أن من رأى في نومه أنه يجامع والتذ ولم ينزل فلا غسل عليه. وقوله: "وإن بنوم" المبالغة لدفع توهم أن الحاصل في حالة النوم لا يجب منه الغسل؛ لأنه في حالة غير مكلف فيها. قاله الشيخ إبراهيم. وغيره. وفي الحديث: (من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين يوم القيامة وليس بعاقد
(3)
)، وفي رواية: (من تحلم كاذبا دفع إليه شعيرة وعذب حتى يعقد بين طرفيها وليس بعاقد
(4)
)، انتهى. وتحلم بالتشديد: تكلف الحلم، وإنما سماه حلما ولم يسمه رؤيا: لأنه ادعى أنه رأى ولم ير شيئًا فكان كاذبا. والكذب من الشيطان، وفي الحديث:(أن الحلم من الشيطان)
(5)
: ومعنى العقد بين شعيرتين أن يصل إحداهما بالأخرى، وهو مما لا يمكن عادة ومناسبة الوعيد للكاذب أن الرؤيا خلق من خلق الله، وهي صورة معنوية، فأدخل بكذبه صورة لم تقع، فكلف بإدخاله هذه الصورة اللطيفة، وهي الاتصال المعبر عنه بالعقد بين الشعيرتين: وليس بفاعل، وهو كناية عن طول تعذيبه. وخص الشعير دون غيره لما في المنام من الشعور. فحصلت المناسبة بينهما من جهة الاشتقاق: وإنما اشتد الوعيد على هذا؛ لأن الكذب في المنام كذب على الله لحديث: (الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة
(6)
)، فهو من قِبَل الله، وبه تعلم أن هذا الكذب أعظم من شهادة الزور؛ لأن الكذب على الله أعظم من الكذب على المخلوقين، والكذب عليه صلى الله عليه وسلم في الرؤية كالكذب عليه في الرواية. قاله ابن زكري. أو بعد ذهاب لذة بلا جماع يعني أن الغسل يجب على الشخص بسبب خروج المني منه إذا التذ لذة معتادة من غير جماع، ولو كان خروجه بعد ذهاب تلك اللذة المعتادة، وهذا هو
(1)
مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، رقم الحديث:313. والبخاري في صحيحه، كتاب الغسل، رقم الحديث: 282.
(2)
مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، رقم الحديث:346.
(3)
لفظ البخاري: "من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل" البخاري، كتاب التعبير، رقم الحديث:7042.
(4)
فتح الباري، ج 13 ص 365.
(5)
الرؤيا الصادقة من الله والحلم من الشيطان، البخاري، كتاب التعبير، رقم الحديث:6984.
(6)
الرؤيا الصالحة جزء من ستة .. الخ. البخاري، كتاب التعبير، رقم الحديث:6989.
المشهور. وقيل لا يجب الغسل لعدم المقارنة، فلو احتلم رجل وهم أن ينزل فانتَبَه أو نُبهَ فلم يُنزِل فتوضأ. ثم أنزل فعليه الغسل قاله الإمام الحطاب. ولم يغتسل اعلم أن قوله:"أو بعد ذهاب لذة بلا جماع" شامل لصورتين، إحداهما أن لا يكون خرج مع اللذة المعتادة شيء من المني، والثانية أن يكون خرج معها بعض المني، ثم خرجت بقيته بعد ذهابها. فأما إذا لم يخرج من المني شيء فلا يجب الغسل بسبب اللذة المذكورة قبل خروج المني، فلو اغتسل قبل خروجه لم يجزه وأعاد الغسل بعد الخروج، هذا هو المشهور. وقيل لا يعيده، ومنشأ الخلاف، هل يشترط في وجوب الغسل مقارنته لخروج المني أو لا يشترط؟ وأما الصورة الثانية فيجب عليه الغسل بسبب ما خرج من المني أو لا، فإن اغتسل له ثم خرج منه بقية المني لم تجب إعادة الغسل على المشهور. فقول المص:"ولم يغتسل" خاص بالصورة الثانية، وسيصرح المص بمفهوم قوله بلا جماع.
فتحصل من هذا أن من التذ بغير جماع ولم ينزل، ثم أنزل بعد ذهاب اللذة، اختلف فيه. فقيل يجب عليه الغسل؛ لأنه مستند إلى لذة متقدمة، وعليه لو اغتسل قبل خروج المني لم يجزه. وقيل لا يجب عليه الغسل لعدم المقارنة، وهذان القولان جاريان فيمن جامع واغتسل ثم أمنى، فقيل يجب الغسل، وقيل لا، وثم ثالث؛ وهو التفصيل بين أن يجب في الأولى دون الثانية، وهي مسألة ما إذا جامع فاغتسل ثم أمنى. وقد علمت أن مثلها ما إذا التذ بغير جماع، وخرج منه شيء من المني فاغتسل، ثم خرجت بقيته بعد ذلك.
وعلم مما قررت أنه يشترط في وجوب غسل ظاهر الجسد بخروج المني يقظة أن يكون بلذة معتادة، ولهذا قال لا بلا لذة يعني أن المني لا يلزم الشخص غسل بخروجه منه حيث خرج بلا لذة، كمن لدغته عقرب فأمنى، أو ضرب فأمنى، وكما إذا خرج على وجه السلس سواء قدر على رفعه أم لا. وأما الوضوء منه ففيه التفصيل الذي قدمه المص. قاله الشيخ عبد الباقي. يعني بقوله: وبسلس فارق أكثر، وما ذكره التتائي من أنه إذا قدر على رفعه يوجب الغسل على المشهور، قال فيه الشيخ محمد بن الحسن: الظاهر أن ما ذكره التتائي غير صحيح. وقول عبد الباقي: وأما الوضوء منه الخ ابن الحاجب: وعلى النفي ففي الوضوء قولان: التوضيح بالوجوب،
والاستحباب. انتهى. يعني فيما إذا لم يكن سلسا كمن لدغته عقرب فأمنى، كما يفيده الشيخ الأمير. وأما إن كان سلسا فيجري على حكمه كما قدمته. والله سبحانه أعلم وفي الحطاب في نواقض الوضوء عن الشيخ زروق ما نصه: وقد يخرج المني بلا لذة ولا إنعاظ وهذا لا يجب منه شيء على المشهور. وقد مر أن تقسيم السلس لا يخص حدثا دون حدث، ولبعضهم:
ولدغ لذي سم بإهمال أول
…
وللنار بالإهمال للثان فاعرفا
والاعجام في كلّ والاهمال فيهما
…
من المهمل المتروك حقا بلا خفا
وقد صح بالوجهين نقلا لمن يكن
…
بَذِيَّ لسان في المقالة مجحفا
أو غير معتادة يعني أن خروج المني إذا كان بلذة غير معتادة فإنه لا يوجب غسلا، قالوا كمن حك لجرب، أو نزل في ماء حار، أو ركض دابته. وظاهر كلامهم أنه لا غسل عليه، ولو أحس بمبادئ اللذة ثم استدام ذلك. وقد قالوا في الحج إن ذلك يفسده. فانظره، قاله الإمام الحطاب. وقال الشيخ عبد الباقي: إن وجوب غسله ظاهر فيما إذا أنزل بهز الدابة له مع ركضه لها؛ لأنه شبيه بحالة الجماع. وقال الشيخ محمد بن الحسن: في حاشية اللقاني عن الجزولي ما نصه: واختلف في هز الدابة هل هو لذة غالبة أو نادرة؟ قولان، والمشهور وجوبه. انتهى. أي وجوب الغسل، وظاهره مطلقًا سواء أحس بمبادي اللذة أم لا، وقد بحث ابن مرزوق مع المص في قوله:"أو غير معتادة" بأن الراجح فيه وجوب الغسل كما اختاره اللخمي، وشهره ابن بشير. فانظره، انتهى. ويتوضأ راجع للمسألتين. أعني قوله:"بلا لذة"، وقوله:"أو غير معتادة" يعني أن المني إذا خرج عن غير لذة أو عن لذة غير معتادة وقلنا إنه لا يوجب غسلا، فإنه يوجب الوضوء على ما مر في السلس، فينقض الوضوء إن قدر على رفعه مطلقًا، أو لم يقدر، وفارق أكثر أجره على ما مر، فإن لم يكن سلسا كمن لدغته عقرب فأمنى، أو نزل في الماء الحار فأمنى فإنه يتوضأ وجوبا كما للأمير ثم شبه في الحكمين وهما: وجوب الوضوء، وعدم الغسل. قوله: كمن جامع فاغتسل ثم أمنى يعني أن من جامع فاغتسل سواء خرج منه مني أم لا، ثم بعد أن اغتسل خرج منه مني: فإنه يلزمه أن يتوضأ لما لا يحل للمحدث فعله، ولا غسل عليه. وقيل عليه الغسل، وكذا
لو جومعت في فرجها ثم اغتسلت فخرج مني الرجل من فرجها، فإنه يجب عليها الوضوء لذلك، ولا غسل عليها. وأما لو جومعت خارج الفرج، ودخل ماؤه فيها ثم خرج، فإنه لا يجب عليها وضوء بسبب خروجه، ولا غسل عليها بدخوله فيها حيث لم تنزل كما سيذكره. والفرق بين خروجه منها بعد دخوله فيها بوطء فيجب عليها الوضوء به، وبين خروجه منها بعد دخوله فيها بغير وطء، فلا يجب عليها أن الأول من الخارج المعتاد لجري العادة بخروجه منها حيث لم تحمل. قال الشيخ عبد الباقي: وانظر لو ساحقت امرأة امرأة، ودخل ماء إحداهما في الأخرى واغتسلتا لوجوبه عليهما لخروجه بلذة معتادة لهما، ثم خرج ماء إحداهما من الأخرى، هل يجب عليهما الوضوء قياسا على جماعها بفرجها، أو لا؟ قياسا على جماعها دونه. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر إلحاقه بجماعها دون الفرج كما لا يخفى. والله سبحانه أعلم. والفرق بين هذه، يعني قوله:"كمن جامع" الخ، وبين اللذة بلا جماع يفيد الغسل عند خروج المني أن هذه صادف الغسل فيها محلا، بخلاف قوله: أو بعد ذهاب لذة بلا جماع، فإنه لم يصادف غسله محلا؛ إذ لا سبب له. انتهى.
ولا يعيد الصلاة يعني أن من جامع فاغتسل وصلى ثم أمنى بعد الصلاة، فإن صلاته صحيحة ولا يعيدها. وكذلك من التذ بغير جماع، ثم خرج منه المني بعد أن توضأ وصلى، فإنه لا يعيد الصلاة فهو راجع إلى ما بعد الكاف. وإلى قوله: أو بعد ذهاب لذة بلا جماع كما نص عليه غير واحد، ولا يرجع لقوله: بلا لذة أو غير معتادة. قاله الشيخ إبراهيم، وهو ظاهر. ورد بقوله:"ولا يعيد الصلاة" ما نقله الإمام الحطاب عن الباجي، فإنه قال عند قوله:"ولا يعيد الصلاة" يرجع إلى مسألة من جامع فاغتسل ثم أمنى، وإلى مسألة من التذ بغير جماع ثم خرج منه المني بعد أن توضأ وصلى، فقد قال الباجي في المنتقى: إنه إذا قلنا بوجوب الغسل ففي إعادة الصلاة روايتان ورجح عدم الإعادة. انتهى المراد منه. وأشار إلى الأمر الثاني من موجبات الغسل الأربع بقوله: وبمغيب حشفة بالغ يعني أن مغيب جميع الحشفة من بالغ في الفرج قبلا أو دبرا يوجب الغسل على الفاعل والمفعول، نصوا على هذا: وهو كالصريح في أن الفعول به في اللواط يجب عليه غسل جميع ظاهر الجسد. والله أعلم. قال الشيخ الأمير: وعلى الفاعل والمفعول بمغيب حشفة بالغ وإن
جنيا؛ لأن لهم مالنا وفاقا للبدر القرافي والاجهوري، خلافا للحطاب. أو خنثى، ويوجب التغييب في فرجه أيضًا كبهيم وإن صغيرا: لأنَّها تلتذ به. لا ميت في فرج، أو دبرت أو ثقب البول. انتهى. وقوله: في فرج أو دبر متعلق بقوله: بمغيب، وقال عند قوله: كبهيم وإن صغيرا تشبيه في الوجوب، وقال عند قوله: لا ميت لعدم الانتشار، والنائم يجب عليهما كمع جنون ثم أفاق. انتهى. وفيه: وألغي الشفران. انتهى. وفيه: وإن من ميتة أو دبر نفسه. انتهى. وهو مبالغة في قوله: في فرج أو دبر أو ثقب البول. والله سبحانه أعلم. وقال ابن شعبان: جاءت السنة بوجوب الغسل إذا التقى الختانان. وذلك إذا غابت الحشفة وإن لم ينزلا جميعًا إذا كانا بالغين مسلمين. كان ذلك في قبل أو دبر، نائمين أو مستيقظين: طائعين أو مكرهين: أو رجلين أو رجل ومن قعد عن المحيض من النساء، أو كان ذلك الفعل في ميتة أو فرج بهيمة، أو امرأة استعملت ذلك من ذكر بهيمة: والمرأتان تفعلان ما يفعل شرار النساء تغتسلان بالإنزال لا بالفعل، وتؤدبان أدبا بليغا، يبلغ مائة سوط غير سوط كَيْ لا يبلغ بهما الحد فيما لم يأت فيه أثر مرفوع وقد كان الإمام مالك يأمر بالأدب المجاوز للحد فيما لا يوجب الحد كي يتناهى عن مواقعة حدود الله، وتحبسان مع هذا إن كانتا بالغتين. وإن كانت إحداهما لم تبلغ زجرت باليسير من الأدب. انتهى. نقله الإمام الحطاب. واعلم أن المراد بالتقاء الختانين: مغيب الحشفة في الفرج، فيه يحاذي ختانه ختانها، فالمراد بالالتقاء المحاذاة. وأما إن وضع ختانه على ختانها من غير تغييب الحشفة في فرجها، فلا يجب الغسل منه بإجماع الأمة. انظر تحقيق هذا عند قول المص: وختانه يومها، في باب الضحية.
واعلم أن الوارد من الأحاديث بعدم وجوب الغسل إن لم ينزل منسوخ بحديث الصحيحين: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل)
(1)
)، زاد مسلم:(وإن لم ينزل)
(2)
)، وروى أبو داوود وغيره أن ذلك كان رخصة في أول الإسلام، أمر بالغسل
(3)
). وروى مسلم: (إذا قعد بين
(1)
البخاري، كتاب الغسل. رقم الحديث:291.
(2)
مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، رقم الحديث:348.
(3)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث 214/ 215. والترمذي، أبواب الطهارة، رقم الحديث 115 وابن ماجة، كتاب الطهارة، رقم الحديث 609.
شعبها الأربع ثم مس الختان الختان فقد وجب الغسل
(1)
)، ورواية أبي داوود: (وألزق الختان بالختان
(2)
)، ورواية الترمذي: (إذا جاوز الختان الختان
(3)
)، والمراد بالمس والإلزاق المجاوزة بالزاى؛ وهي المحاذاة المذكورة. قوله: بين شعبها الأربع، وهي: ساقاها وفخذاها. وقيل يداها ورجلاها، وقال القاضي عياض: شعب فرجها الأربع، أي نواحيه. قوله: ثم جهدها بفتح الجيم والهاء؛ أي جامعها، ولو غابت حشفة العنين في فرج زوجته أوجب ذلك الغسل عليهما؛ والصداق، وإفساد الحج، والصيام، ولم يحصنها، ولم يحلها. وقد اختلف فيه هو فقيل: يتحصن بذلك. وقيل: لا يتحصن، والصحيح أن يكون محصنا؛ لأنه متى غيب ذلك في فرج محرم عليه، وجب عليه الحد وعليها. والاختيار فيها أن تكون محصنة، ولا تحل لحديث العسيلة وإذا أدخلت المرأة حشفة ميت في فرجها فلا غسل عليها لعدم اللذة في ذلك، كما في الصغير، وهذا ما لم تنزل، فيجب عليها الغسل بالإنزال. واحترز المص بقوله:"حشفة" من مغيب بعض الحشفة، فلا يوجب غسلا، هذا هو المشهور. وقيل: إن غاب الثلثان منها وجب الغسل، وإلا فلا. نقله صاحب الحلل. ابن ناجي: ولا أعرفه. وقال اللخمي وابن العربي: بعض الحشفة لغو. قال الإمام الحطاب: وبعضها أعم من الثلثين. ومغيب الحشفة يوجب الغسل ولو كانت ملفوفة. قاله الشيخ زروق. ابن ناجي: معناه إذا كان اللف رقيقا. التادلي: اختلف في المسألة على ثلاثة أقوال، ثالثها: إن كان الحائل رقيقا وجب، وإلا فلا. وما ذكره التادلي ذكره ابن العربي في عارضته عن شيخه الفهري، وذكره الشيخ زروق أيضًا. قاله الإمام الحطاب. واحترز بقوله:"بالغ" من الصغير، فلا غسل عليها ما لم تنزل. كما يأتي إن شاء الله. وقد مر أنَّها لو أغابت ذكر ميت في فرجها فلا غسل عليها ما لم تنزل. وقوله:"وبمغيب حشفة بالغ" بانتشار أم لا، شابا، أو شيخا أو عنينا كما مر، وشمل أيضًا الوجوب على المفعول كما مر، وشمل أيضًا تغييب حشفة الخنثى الشكل في فرج غيره، فعليه الغسل وإن لم ينزل. وقد مر التفصيل بين الخرقة الكثيفة والخفيفة
(1)
مسلم، كتاب الحيض، رقم الحديث:349.
(2)
إذا قعد بين شعبها الأربع وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل، أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:216.
(3)
الترمذي، كتاب الطهارة، رقم الحديث:109.
على أحد الأقوال الثلاثة، والظاهر أن الخفيفة ما تحصل معها اللذة. وقوله:"بالغ" الظاهر أن اشتراط البلوغ خاص بالآدمي، فمن أدخلت ذكر بهيمة غبر بالغة، وجب عليها حيث كانت المرآة بالغة، وإن لم تنزل. انتهى قاله الشيخ عبد الباقي. وغيره. لا مراهق هذا محترز قوله:"بالغ"، يعني أن وطء المراهق للبالغة لا يوجب غسلا، لا عليه ولا عليها، حيث لم تنزل، وإلا وجب عليها، وهذا هو المشهور. وقيل يجب على البالغة الغسل بمغيب حشفة البالغ. والمراهق: ابن اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة كما في المدونة. قاله الشيخ محمد بن الحسن. والظاهر أن الرجل إذا وطئ جنية يجب عليه الغسل. قاله الأجهوري، وإن وجدت هي جنيا يطؤها، ونالت منه ما تناله من الإنسي فقد صرح أبو المعالي من الحنفية بأنه لا غسل عليها. قال ابن ناجي: وبه أقول: ولا أعرف فيها نصا في المذهب. انتهى قال الإمام الحطاب. وما قاله ظاهر ما لم تنزل فيجب عليها الغسل للإنزال، والظاهر أن الرجل كذلك انتهى وقد مر ما للأمير. أو قدرها يعني أن مقطوع الحَشفة إذا غيب قدر الحشفة في فرج، فإن ذلك يكون بمنزلة تغييب الحشفة، فيجب الغسل على الفاعل والمفعول، ومثل مقطوع الحشفة من لم تخلق له أصلا فيعتبر مغيب قدرها: وكذلك من خلقت له ولم تقطع، وثنى ذكره. والظاهر أنه يعتبر فيمن ثنى ذكره طوله لو انفرد، لا طوله منثنيا. وانظر لو كان ذكره كله بصفة الحشفة، هل يراعى أيضًا قدرها من المعتاد، أولا بد من تغييبه كله في إيجاب الغسل؟ قاله الشيخ عبد الباقي. والظاهر الأول كما صرح به الشيخ الأمير، ولفظه: واعتبر قدرها إن لم توجد معتادة فشمل ما كله حشفة. انتهى.
في فرج متعلق بقوله: مغيب؛ يعني أن تغييب الحشفة أو قدرها في الفرج يوجب الغسل على الفاعل والمفعول. والمراد بالفرج هنا ما يشمل الدبر، فيجب الغسل بمغيب الحشفة في قبل امرأة أو خنثى مشكلا. كما يجب بمغيبها في دبر لرجل أو امرأة بشرط أن يكون الذي غيب في فرجه مطيقا، ولو في بهيمة أو خنثى، وإلا لم يجب إن لم ينزل، كما لو غيب بين شفرين أو في هوى الفرج لعدم التقاء الختانين. وإنما وجب الغسل بالتغييب في قبل الخنثى؛ لأنه يحتمل أن يكون رجلا فيكون عضوا زائدا، فلا يجب الغسل، وأن يكون فرج امرأة، فيجب. والشك في الجنابة معتبر عندنا، واتضح لك من هذا أنه يجب على الذكر البالغ المفعول به في اللواط غسل جميع
ظاهر جسده نسأل الله السلامة، وقد مر هذا. والله سبحانه أعلم. واتضح مما مر أن من غيب حشفته في فرج من لا تشتهى لا يجب عليه غسل، إلَّا أن ينزل. كما نص عليه غير واحد.
وإن من بهيمة يعني أن مغيب الحشفة في الفرج يوجب الغسل، وإن كان هذا الفرج الذي غيبت فيه الحشفة أو قدرها فرج بهيمة مطيقة كما مر. أو ميت يعني أن مغيب الحشفة أو قدرها في الفرج قبلا أو دبرا يوجب الغسل، ولو كان هذا الفرج الذي غيبت فيه فرج ميت آدمي أو غيره، ولا يجب عليها غسل بتغييب ذكر ميت في فرجها لعدم لذتها به غالبا، ولا يعاد غسل الميتة. قاله في العارضة، وبه قال بعض أصحاب الشافعي. وقال بعضهم: يعاد، والأول أصح؛ لأن التكليف ساقط عنها، وما تعبد به الحي من غسلها قد انقضى. قاله الإمام الحطاب.
وندب لمراهق يعني أن المراهق إذا وطئ بالغة، أو صغيرة مطيقة، فإنه يندب له الغسل كصغيرة وطئها بالغ يعني أن الصغيرة التي تؤمر بالصلاة يندب لها الغسل إذا وطئها بالغ. وحاصل ما أشار إليه الشيخ عبد الباقي وغيره، أن الصور أربع: بالغان يجب عليهما الغسل كما أفاد ذلك بقوله: "وبمغيب حشفة بالغ"، صغيران يؤمران بالصلاة، وإن لم يكونا مراهقين يندب لهما الغسل. صغير يؤمر بالصلاة وطئ كبيرة يندب الغسل له، ويندب لها. هي أيضا، إلَّا أن تنزل، فيجب عليها. صغيرة تؤمر بالصلاة وطئها بالغ، يجب عليه، ويندب لها. فتلك أربع صور. وقد مر أن البالغ إنما يجب عليه الغسل بوطء المطيقة، فقوله:"كصغيرة"، أي مطيقة. قاله الشيخ الخرشي، قال: فإن لم تطق فلا شيء على البالغ، ويجب عليه ما شانها عند الأزواج. فلو ظهر لوطوءة المراهق حمل فتؤمر بالغسل من يوم الوطء، وتعيد الصلاة فيما بينها وبين الله، لا بحسب الظاهر لاحتمال حملها من غيره. وفي شرح الشيخ عبد الباقي ما نصه: ولو وجدت إنسية من نفسها أن جنيا يطؤها ولم تنزل، فلا غسل عليها إن لم يحصل لها شك في الإنزال، وإلا وجب عليها لما مر من أن شك الجنابة يوجبها. هذا هو القياس. وأطلق ابن ناجي عدم الوجوب، وفيه بحث، وأما الرجل يتزوج جنية، ويتحقق مقاربته لها على وجه لا يشك فيه كأنها إنسية، فعليه الغسل، وإن لم ينزل، كما أفتى به الأجهورى قائلا خلافا لما استظهره الحطاب من عدم وجوبه، لما مر من أن شك الجنابة يوجبه. انتهى.
لا بمني وصل للفرج يعني أن المرأة لا يجب عليها الغسل بسبب وصول مني الرجل إلى فرجها بغير جماع فيه، فإن جامعها خارج الفرج فأنزل، فدخل ماؤه في فرجها، فلا غسل عليها ولو كانت قد التذت من رصول منيه لفرجها حيث لم تحمل، وأما إن حملت فيجب عليها الغسل، وتعيد الصلاة من وقت وصوله؛ لأنَّها لا تحمل إلَّا بانفصال منيها. وهذا مشهور مبني على ضعيف، وهو قول سند المتقدم: إذا علمت انفصال مائها يجب عليها الغسل، وإن لم يخرج منيها من فرجها، أو يقال نزل الحمل منزلة البروز. وأما لو جلست على مني رجل في حمام مثلا، فشربه فرجها فحملت: فلا يجب عليها غسل؛ لأنها لذة غير معتادة: ويلحق الولد بزوجها، ولا ينتفي عنه إلَّا بلعان. إلَّا أن تأتي به لدون ستة أشهر من يوم العقد. قاله الشيخ عبد الباقي. ونقل الشيخ محمد بن الحسن أن هذه المسألة لا تكون، وأنها محال، قال: وحينئذ فدعواها أنَّها حملت من ذلك لا تكون شبهة يدرأ بها الحد، بل الحد واجب؛ لأنَّها ادعت ما لا يكون. والله سبحانه أعلم. انتهى. وقال الشيخ الأمير: وهذا في خاصة نفسها، وإن لم نعترف لها بذلك. وقوله:"ولو التذت" هذا قول ابن القاسم لحمله قول مالك في المدونة: ما لم تلتذ على الإنزال، وأبقاها الباجي والتونسي على ظاهرها؛ أي أنَّها يجب عليها الغسل إذا التذت ولو لم تنزل. وهو المردود بلو. وقوله:"لا بمني وصل للفرج" كما لا يجب عليها الغسل، لا يجب عليها الوضوء بوصول المني لفرجها من دون لمس؛ لأنه ليس بحدث، ولا سبب، ولا غيرهما مما ينقض. قاله الشيخ عبد الباقي. بل لو وصل إلى فرجها بلمسه لها، أو مباشرته لها من غير قصد اللذة منها، ولا وجدان: لم يجب عليها وضوء كما هو واضح.
وبحيض هذا هو الثالث من الأمور الأربعة الموجبة للغسل؛ يعني أن الغسل يجب بالحيض، لكن لا يصح إلَّا عند انقطاع دم الحيض. والحيض: دم يلقيه رحم معتاد حملها. انظر الشبراخيتي. ونفاس يعني أن النفاس يوجب الغسل. والمراد بالنفاس هنا: تنفس الرحم بالولد، ويجب الغسل بتنفس الرحم بالولد حيث كان. بدم أي مصاحبا لدم مع الولد، أو قبله لأجله، أو بعده. ولم يرد بالنفاس هنا الدم، إذ لو أراد لما قيده بقوله:"بدم"، ويدل لذلك أيضًا قوله: واستحسن وبغيره يعني أن بعض الشيوخ استحسن القول بوجوب الغسل بالنفاس ولو خرج الولد بلا دم، ويشير
بذلك إلى قول ابن عبد السلام في شرح قول ابن الحاجب: فإن ولدت بغير دم فروايتان، الظاهر من الروايتين الوجوب حملا على الغالب. انتهى. قاله الإمام الحطاب. وعلى القول بعدم الوجوب فيستحب الغسل؛ لأنه لا يأتي إلَّا بخير. قاله الإمام الحطاب. فإن قيل: الاستحسان إنما هو في ولادته بغير دم، لا فيما إذا ولد بدم، ففي الإتيان بالواو إشكال. فالجواب أنه نقل عن مالك روايتان، إحداهما؛ مفصلة بين أن يخرج الولد بدم، فيجب الغسل، وبين أن يخرج بلا دم، فلا يجب الغسل، بل يندب. والأخرى أنه لا فرق، فهو واجب على كلّ حال خرج بدم أو بلا دم، وهذه هي المستحبة، فلذا حسنت الواو. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال بعضهم: إن الواو للحال.
وعلم مما قررت أن الحيض والنفاس من موجبات الغسل، وأما انقطاعهما فهو شرط في صحته. ابن ناجي: وكان بعض من أدركناه يحكي عن من يثق به أنه شاهد خروجه بلا دم البتة، ولم يعقبه دم بعده.
لا باستحاضة هذا محترز قوله: "وبحيض"، يعني أن الاستحاضة لا يجب بها الغسل. والاستحاضة هي: الدم الآتي عقب الحيض والنفاس، وإذا لم يجب الغسل بدم الاستحاضة فإنه يندب عند انقطاعه، وإلى ذلك أشار بقوله: وندب لانقطاعه لاحتمال أن يكون خالطه دم حيض ولم تشعر به، وندب أيضًا اتصاله بالصلاة إن حمل على انقطاع يعود بعده. قوله:"واستحسن وبغيره" فلو خرج الولد جافا بغير دم، فهل ينقض الوضوء أو لا؟ قولان مبنيان على القولين بوجوب الغسل، وندبه. وقد تقدم ذلك في نواقض الوضوء، واللام في قوله:"لانقطاعه" بمعنى: عند. كما في الشيخ الخرشي.
ويجب غسل كافر بعد الشهادة يعني أن الكافر إذا أسلم وتلفظ بالشهادة فإنه يجب عليه الغسل إذا تقدم له سبب يقتضي وجوب الغسل من الموجبات الأربع، الإنزال، ومغيب الحشفة، والحيض، والنفاس. فإن لم يتقدم له شيء من ذلك لم يجب عليه الغسل، بل يندب. ولهذا قال: بما ذكر أي يجب عليه الغسل بسبب شيء مما ذكر من موجبات الغسل، لا إن لم يقع له شيء من ذلك، فلا يجب بل يندب: وهذا هو المشهور. وقيل: يجب، وإن لم يتقدم له سبب، لأنه تعبد. ورد المصنف هذا القول بقوله:"بما ذكر" وهو متعلق بقوله: "يجب" والباء للسببية
كما قررت، ورد بقوله:"يجب" قول القاضي إسماعيل: الغسل مستحب، وإن كان جنبا؛ لأن الإسلام يَجُبُّ في قبله. وألزمه اللخمي بسقوط الوضوء؛ لأن الإسلام إن كان يَجُبُّ ما قبله من حدث في حال الكفر جب فيهما، وإلا فلا. وأجيب: بأن إسماعيل علل وجوب الوضوء؛ بأن الصلاة لا تصح إلَّا به، لقوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} . الآية. قاله الشيخ محمد بن الحسن.
قال جامعه عفا الله عنه: إن كان إسماعيل علل وجوب الوضوء بأن الصلاة لا تصح إلَّا به لقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية، كذلك قال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ؛ وهو واقع بعد قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} ، فيكون المعنى: إن كنتم غير جنب. {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ، فلا يندفع البحث المذكور والله سبحانه أعلم. لكن يدلُّ لقول إسماعيل قول مالك: لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا إذا أسلم بالغسل، ولو أمرهم لاشتهر وقد قدمت تبعا لغير واحد أن المشهور أنه لا يجب الغسل على الكافر إذا أسلم، إلَّا بسبب موجب من الأربع. وقال الفاكهاني: المشهور وجوب الغسل على الكافر إذا أسلم. وإن لم يقع له موجب من الأربع. قال الشيخ عبد الباقي: والمراد بالشهادة ما دل على ثبوت الوحدانية لله تعالى، وثبوت الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، بشرط عدم اعتقاد مكفر، كزعم عدم عموم رسالته، وأنها للعرب، وعدم فعل أو قول مكفر، ولا يشترط لفظ أشهد، ولا النفي، ولا الإثبات كما صرح به الأبي كالمشدالي. وقال: إنه المنصوص عليه عندنا. واقتصر الشيخ سالم على كلام الأبي فيفيد قوته، خلافا لابن عرفة في أنه لابد من لفظ الشهادتين. ولا يشترط أيضًا الترتيب، ولا الفورية كما يفيده غير واحد كالسنوسي، ولا اللفظ العربي من قادر عليه كذا يفيده الأجهوري. وقال، يعني الأجهوري في باب الأذان: العيسوي إذا نطق بالشهادتين لا يعتد بنطقه عند الله: وأما إن رفع للقاضي فيحكم بإسلامه. انتهى.
ونقل الشيخ محمد بن الحسن في الشهادتين أن الأولى لا تستلزم الثانية، وأن الثانية تستلزمها. ونقل أنهم اختلفوا هل يتعين الدخول في الإسلام أو لا؟ بل يكفي كلّ ما يدلُّ على الإسلام من قول أو فعل على قولين. قال الشيخ أبو زيد: ومبنى الخلاف على أن المقاصد معتبرة بما يدلُّ
عليها كيف كان، أو لا بد من اللفظ المشروع، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلَّا الله)
(1)
)، وحديث خالد؛ حيث قتل من قال صبأنا؛ أي أسلمنا، ولم يحسنوا غير هذا، فقال عليه الصلاة والسلام:(اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد)
(2)
)، ثم وَدَاهم عليه الصلاة والسلام، وعذر خالدا في اجتهاده. انتهى.
وصح قبلها وقد أجمع على الإسلام يعني أن من كان كافرا يصح غسله إذا أجمع على الإسلام؛ أي صمم وعزم عليه بأن تكون نيته النطق بالشهادتين، بأن آمن بقلبه، ولم يتلفظ بالشهادتين، ولكنه صمم على النطق بهما. فقوله:"وصح قبلها"، أي الشهادة بمعنى الشهادتين؛ لأنَّها صارت علما عليهما كما في {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} ، أي الشهادتين. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"وقد أجمع" جملة حالية؛ أي والحال أنه قد أجمع، وأجمع على كذا عزم عليه. وإنما صح الغسل قبل النطق بالشهادتين؛ لأن إسلامه بقلبه إسلام حقيقي، ولو مات قبل نطقه، مات مؤمنا. قاله ابن رشد. ابن العربي: الصحيح لا يكون مسلما حتى ينطق، ولا يصح غسلة قبل نطقه. ولعل قول ابن رشد في العازم، وابن العربي في غيره، أو فيه، وهو أبى لاستحياء ونحوه كأبي طالب، وعبر بصح لإفادة عدمها في المخرج؛ ولأن غسله قبلها خلاف الأولى، وقوله:"وصح الغسل" الخ، أي سواء نوى الجنابة أو مطلق الطهارة أو الإسلام؛ لأنه نوى أن يكون على طهر من كلّ ما كان فيه؛ وهو يستلزم رفع المانع، واعتقاد الإسلام يصحح القربة. وكذا يقال في الحائض والنفساء الكافرتين إذا عزمتا على الإسلام، ومثل الغسل الوضوء والتيمم. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: سواء نوى الجنابة أو مطلق الطهارة أو الإسلام أي وأما إذا نوى التنظيف أو إزالة الأوساخ فإنه لا يجزئه عن غسل الجنابة، قاله اللخمي. وتنظير الحطاب فيه بقول ابن رشد: إذا اغتسل نوى الجنابة فإن لم ينو الجنابة، ونوى به الإسلام، أجزأه؛ لأنه أراد به الطهر من كلّ ما كان فيه. انتهى. فيه نظر، فإن بين مسألتيهما ما بين الضب والنون. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وما شرحت به قول المصنف: وقد أجمع على الإسلام، من أنه آمن بقلبه بالفعل، هو
(1)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:392. مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث: 21.
(2)
البخاري، الحديث:4339. وفيه صنع خالد.
مقتضى ما للشيخ الحطاب والشيخ عبد الباقي، وهو خلاف ما للشيخ إبراهيم من شموله لمن لم يؤمن بقلبه. لكنه عزم عليه، فإنه قال عند قوله:"وقد أجمع على الإسلام": وأولى إذا آمن بقلبه. انتهى. والظاهر الحمل الأول، وأن هذا الأخير لا يصح؛ لأنه لا اعتداد بفرع من فروع الإسلام مع عدم الإيمان بالقلب. والله سبحانه أعلم. لا الإسلام يعني أنه إذا عزم وصمم على النطق بالشهادتين، ومات قبل أن ينطق بهما، فإنه لا يصح إسلامه، بمعنى أنه لا تجري عليه أحكام الإسلام، فلا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يرث مسلما، ولا يرثه مسلم، ولا يدفن في قبور المسلمين. وأما إسلامه فيما بينه وبين الله فصحيح، وبحسب الظاهر ليس بصحيح، فلا تجري عليه أحكام الإسلام، ولهذا قال:"لا الإسلام" ولم يقل: لا الإيمان إلا لعجز يعني أن محل كونة لا تجري عليه أحكام الإسلام، إنما هو حيث لم يكن عدم نطقه بالشهادتين لعجز. فأما إن كان لعجز كخوف مثلا. فإنه يصح إسلامه، ويصدق عند المفتي وغيره إن ادعاه بعد زوال خوفه مثلا، وعند القاضي إن قامت بذلك قرائن، وفائدة تصديقه الآن فيما مضى، الإرث. فيرث من مسلم موروث له مات حال عدم نطقه لعجز. وكونه يصح إيمانه فيما بينه وبين الله: هو لابن رشد واللخمي والمازري والمحققين والجمهور. وذكر القاضي عياض فيمن صدق بقلبه ثم اخترمته المنية قبل اتساع وقت الشهادة بلسانه، قولين قال: والصحيح أنه مؤمن مستوجب للجنة. وذكر فيمن صدق بقلبه وطالت مهلته: وعلم ما يلزمه من النطق بالشهادة ولم ينطق بها ولا مرة في عمره، قولين أيضًا، والصحيح أنه ليس بمؤمن. انتهى مختصرا. وإذا جمعت المسألتين حصل فيهما ثلاثة أقوال: الإجزاء فيهما: وعدمه فيهما: وثالثها الصحيح الإجزاء في الأولى دون الثانية، ونحوه في القباب والتونسي. قاله الإمام الحطاب. وقال الشيخ محمد بن الحسن: حمل المصنف على أن معنى قوله: "لا الإسلام" لا تجري عليه أحكام الإسلام، مبني على أن النطق شرط في إجراء الأحكام الظاهرة فقط متعين؛ وهو المنسوب للجمهور، وبذلك الحمل ينتفي الإشكال عن المصنف. وقيل: شرط في صحة الإيمان وقال عياض: إنه المذهب. وأشار في المراصد إلى الخلاف في ذلك والتفصيل فقال:
ومن يكن ذا النطقُ منه ما اتفق
…
فإن يكن عجزا يكن كمَن نطق
وإن يكن ذلك عن إباء
…
فحكمة الكفر بلا امتراء
وإن يكن لغفلة فكالإبا
…
وذا الذي حكى عياض مذهبا
وقيل كالنطق وللجمهور
…
نسب والشيخ أبي منصور
المسناوي: هذا التفصيل إنما هو في الكافر، وأما من ولد في الإسلام فهو على الفطرة الإسلامية، وإنما يجب عليه النطق وجوب الفرع، فإذا تركها مع الإمكان كان عاصيا لا كافرا، ولا يجري فيه التفصيل المذكور، وهذا هو التحقيق خلافا لما في شرح المرشد. انتهى كلام الشيخ محمد بن الحسن بناني. ولو كان الكافر يعتقد دينا يرى الغسل من الجنابة، فاغتسل من جنابته في حال كفره، ثم أسلم، فإنه لا يجزئه ذلك؛ لأن الكفر لا تصح معه قربة بوجه. وزعم بعض الشافعية أنه يجزئه تخريجا على صحة غسل الذمية من الحيض، فإنها إذا أسلمت بقي زوجها على استباحة الوطء بذلك الغسل، وهذا فاسد، فإن غسل الذمية وقع صحيحا حال الكفر في حق الآدمي، ولم يقع عبادة بخلاف الغسل في حق الله تعالى. نقله الإمام الحطاب. قال: فعلم أن الذمية إذا أسلمت يجوز لزوجها وطؤها قبل أن تغتسل. انتهى أي لكونها اغتسلت في حال كفرها ولم تحض بعد ذلك، ويؤمر من أسلم بأن يختتن، ويحلق رأسه إن كان شعر رأسه على غير زي العرب. قاله في الطراز. وقال: واستحب مالك أن يحلق على عموم الأحوال، وفي الحديث أنه قال للذي أسلم (ألق عنك شر الكفر واختتن)
(1)
)، أي الشعر الذي هو من زي أهل الكفر. وقد كانت العرب تدخل في دين الله أفواجا ولم يرو في ذلك أنهم كانوا يحلقون. انتهى. قال الإمام الحطاب: وانظر قوله واستحب مالك، لعله: واستحب الشافعي، فإن القرافي نقله في الذخيرة بلفظ: واستحب الشافعي مطلقًا، وآخر كلام صاحب الطراز يدلُّ على ذلك. والله أعلم. انتهى.
(1)
أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:356.
وإن شك أمذي أم مني اغتسل يعني أن من رأى شيئًا في ثوبه مثلا، وشك هل هو مذي أو مني، ولا خصوصية للمذي بذلك، بل مثله ما إذا شك هل هو مني أو بول مثلا، فإنه يجب عليه أن يغتسل للصلاة مثلا، وهذا حيث كان شكه على السواء، فإن ترجح عنده شيء بقرينة من غسل وعدله عمل على ذلك.
وعلم مما قررت بقولي: شيئا أنه أولى من التعبير ببلل لقصوره، والحاصل أن من رأى شيئًا في ثوبه فلا، يخلو إما أن ينام فيه أولا، فإن لم ينم فيه فلا شيء عليه لتحققه أنه ليس بموجب، وإن نام فية فلا يخلو أن يتيقن أنه احتلام أو يشك، فإن شك وجب عليه الغسل، أو استحب على القول بإلغاء الشك أو إعماله، وإن تيقن أنه احتلام فإن تذكر أنه احتلم وجب عليه الغسل بلا خلاف، وإن لم يتذكر فقد اختلف فيه العلماء، والصحيح وجوب الغسل إذا لم يلبسه غيره ممن يمني، وإلا ندب لاحتمال أن يكون الغير هو المحتلم.
واعلم أن أسباب الغسل سبع: التقاء الختانين، وإنزال الماء الدافق من رجل أو امرأة والشك في أحدهما ما لم يستنكح. وتجدد الإسلام بعد البلوغ على خلاف فيه، والولادة مع جفوف الولد من الدم، وانقطاع دم الحيض، وانقطاع دم النفاس، والموت في غير الشهداء. وقال الشيخ الأمير: والمرأة تجد الحيض في ثوبها تغتسل، وتعيد من يوم لبسه اللبسة الأخيرة كالصوم إلَّا أن تبيت كلّ ليلة فتعيد عادتها إن أمكن استغراقه لها، وإلا فبحسبه، فإن لم يتصور زيادته على يومين في ظن العادة قضتهما فقط. وهكذا ثم ذكر مسألة الجوار الآتية، ثم قال: وظاهر كلامهم إلغاء الاستظهار هنا لعدم التحقيق وقوله: "وإن شك أمذى" الخ قد مر أنه لا خصوصية للمذي بذلك، بل مثله ما إذا شك أبول أم مني، أو شك هل هو ودي أو مني أو نحو ذلك، فإن شك في ثلاثة أحدها المني لم يجب عليه غسل لضعف الشك في المني حينئذ، ولو تردد بين أمرين ليس أحدهما منيا بل مذي أو بول أو ودي مثلا، فإنه يجب عليه أن يغسل ذكره بنية. وتقييده بما قيد به وجوب الغسل في كلام المصنف، وهو أن محل قوله: اغتسل حيث لم يلبسه غيره ممن يمني، وإلا لم يجب عليه الغسل، بل يندب فقط لجواز كونه من ذلك الغير.
وأعاد من آخر نومة يعني أن هذا الذي شك في شيء رآه في جسده أو ثوبه، هل مني أو غيره؟ إذا حكمنا عليه بوجوب الاغتسال فإنه يعيد ما صلى من آخر نومة نامها في هذا الثوب، وهذا الذي مشى عليه المصنف هو قول الموطإ: من وجد في ثوبه احتلاما، وقد بات فيه ليالي أنه لا يعيد إلا من آخر نومة. كتحققه يعني أن من رأى شيئا في جسده أو في ثوبه، وتحقق كونه منيا وشك في وقت حصوله، فإنه يغتسل وجوبا ويعيد ما صلى من آخر نومة نامها فيه ما لم يلبسه غيره ممن يمني، وإلا ندب. وهذا القيد في المسألتين مخالف لقول البرزلي: لو نام شخصان تحت لحاف ثم وجدا منيا عزاه كل منهما لصاحبه، فإن كانا غير زوجين اغتسلا وصليا من أول ما ناما فيه لتطرق الشك إليهما معا، فلا يبرآن إلا بيقين، وإن كانا زوجين اغتسل الزوج وحده؛ لأن الغالب أن الزوجة لا يخرج منها ذلك. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: وشك المرأة في وقت حيض رأته في ثوبها كشكها في الجنابة، فتغتسل وتعيد الصوم أيام عادتها من أول يوم صامت فيه مطلقا، وكذا الصلاة إن لبسته ولم تنزعه أصلا فتعيدها من أول يوم لبسته، كما نقله ابن عرفة عن ابن القاسم، فإن لبسته وكانت تنزعه فتعيده من آخر نومة. والفرق بين الصوم والصلاة في هذه الحالة الأخيرة أنها إن كانت [مما]
(1)
قبل حائضا فالصلاة ساقطة عنها أولا فقد صلتها، والصوم يجب عليها قضاؤه. قاله بعض الشراح. لكنه أطلق في أنها تعيد الصلاة من آخر نومة، والصواب تقييده بما إذا كانت تنزعه، فإن لم تنزعه أعادت من أول نومة عند ابن القاسم كما مر، وإنما أعادت هذه من أول نومة، ومن وجد منيا في ثوبه الذي لا ينزعه يعيد من آخر نومة؛ لأن الحيض ربما يحصل ممن لا يشعر به بخلاف المني، ومحل قضاء صوم أيام عادتها من الحيض دون غيرها حيث لم تصم المدة بنية واحدة، فإن صامتها كذلك وجب عليها قضاء ما صامته لبطلان النية بانقطاع التتابع بالحيض. ومحله أيضا إذا كان الدم الذي رأته يمكن حصوله في أيام عادتها فإن كان يسيرا بحيث لا يحصل إلا في يوم واحد، قضت يوما واحدا. وكذا يقال في سقوط صلاة أيام عادتها، وعلى هذا فلا يخالف ذلك ما ذكره صاحب الوجيز من قوله في ثلاث جوار لبسن ثوبا
(1)
في عبد الباقي ج 1 ص 100 فيما قبل.
في رمضان جميعا، لبسته إحداهن العشر الأول، والثانية العشر الثانية، والثالثة العشر الثالثة، ثم وجد به آخر الشهر نقطة دم يابسة لا يدري من أيتهن حصلت: أن كل واحدة منهن تصوم يوما واحدا، وتقضي الأولى صلاة الشهر كله، أي لاحتمال حصوله منها، وأنه أول يوم من الشهر فقد صلت وهي حائض، والثانية عشرين يوما أي لاحتمال حصوله منها وأنه أول يوم من لبسها له، والثالثة عشرة أيام ووجه عدم المخالفة أن يحمل ما رئي في الثوب من الدم على اليسير الذي لا يحصل إلا في يوم واحد. انتهى. وقد علمت أن المصنف مشى في مسألتي الشك والتحقق على قول الموطإ: من وجد في ثوبه احتلاما وقد بات فيه ليالي إنه لا يعيد إلا من آخر نومة، وقوله: وتعيد الصوم من أول يوم صامت فيه، قال الشيخ محمد بن الحسن: فرق بين الصوم والصلاة وأصله للتتائي تابعا لعبارة ابن فرحون، وفيه نظر، بل لا فرق بينهما على المعتمد. ابن عرفة: قال ابن القاسم: من رأت في ثوبها حيضا لا تذكر إصابته إن كانت لا تتركه ويلي جسدها، أعادت الصلاة مدة لبسه، وإن كانت تتركه فمدة آخره، وتعيد صوم ما تعيد صلاته ما لم يجاوز عادتها. ابن حبيب: بل يوم فقط اللخمي عدد نقط الدم إن لبسته بعد الفجر ما لم تجاوز عادتها. انتهى. وقد رد به الرماصي على التتائي: قال ابن يونس ووجه قول ابن القاسم في إعادة الصوم إمكان تمادي الدم أياما ولم تشعر، ووجه قول ابن حبيب أبين عندي؛ لأنه لو تمادى لشعرت به ولظهر في ثوبها نقط، وإنما أعادت هذه من أول نومة. ومن وجد منيا في ثوبه الخ هذا التفريق صحيح على ما عزاه ابن عرفة لظاهر الموطإ، ورواية على وابن القاسم من أنه في المني يعيد من آخر نومة مطلقا، وعلى ما نقله في الواضحة عن مالك: لا فرق بينهما، فإنه قال في الاحتلام: يعيد من آخر نومة إن كان ينزع الثوب، فإن كان لا ينزعه أعاد من أول يوم نام فيه. انتهى، وقال ابن يونس: إعادته من آخر نوم لمالك في الموطإ؛ لأن عمر رضي الله عنه فعله، وإنما قال ذلك؛ لأنه ينزعه ويلبسه ولم ير شيئا، فلما رآه علم أنه من آخر نوم، فإن استدام لبسه والمني بموضع يخفي، أعاد من أول نوم؛ لأنه به شك من حينئذ فيحتاط، وكذا رؤية الحيض. وقال ابن عبد الحكم: لا يعيد إلا من آخر نوم استمر لبسه، أم لا. ابن يونس: ويجري هذا الاختلاف في الحيض، انتهى. نقله ابن مرزوق. فقد علمت أنه لا فرق بين الاحتلام والحيض في التفصيل بين النزع وعدمه على
قول مالك، وأن قول المص:"وأعاد من آخر نومة" يقيد أيضا بما إذا كان ينزعه، وإلا فمن أول يوم نام فيه، تأمله. والله أعلم. لكن في التوضيح ما نصه: قسم الباجي المسألة على قسمين: إن كان ينام فيه وقتا دون وقت أعاد من أحدث نومة اتفاقا، وهل يعيد ما قبل ذلك؟ قولان، وإن كان لا ينزعه، فروى ابن حبيب عن مالك أنه يعيد من أول نومة. الباجي: ورأيت أكثر الشيوخ يحملون هذا على أنه تفسير للموطإ، والصواب عندي أن يكون اختلف قوله في الجميع. انتهى. قال في التوضيح: وعلى هذا فإطلاق المصنف موافق لطريق الباجي، لا ما حكاه عن الأكثر. انتهى. وكذا يقال في إطلاق المصنف لكن لا ينبغي مخالفة الأكثر. والله سبحانه أعلم. وقوله: وكذا يقال في سقوط أيام عادتها فيه نظر؛ إن الصلاة لا تتقيد بأيام عادتها كما هو ظاهر، ويفيده كلام ابن عرفة المتقدم فلا يجري فيها القيد المذكور.
ولما ذكر موجبات الغسل الأربع، أتبعه بواجباته؛ أي بجلها، فقال: وواجبه نية وهي أي واجباته خمسة: تعميم الجسد كما مر، والنية، والموالاة، وتخليل الشعر، والدلك. ومعنى كلامه أن النية في الغسل واجبة، وهي كالنية المتقدمة في الوضوء، بمعنى أنها هنا عند أول مفعول ولو ممسوحا. كما أن النية في الوضوء كذلك، فالتشبيه بالنسبة للنية في الصفة فقط، ومعناه أنها عند أول مفعول كما علمت، ويجري هنا أنواع النية الثلاثة من رفع الحدث، وهو هنا الأكبر، أو الفرض الخ وجميع ما مر في نية الوضوء. وقد علمت أن التشبيه إنما هو في الصفة فقط، إذ النية هنا واجبة قطعا.
وعلم مما قررت أن من نوى حدثا غير ما حصل منه ناسيا، غسلُه صحيحٌ كما في شرح الشيخ عبد الباقي. وموالاة يعني أن الموالاة في الغسل واجبة؛ وهي هنا كالموالاة في الوضوء، فالتشبيه في هذه في الصفة والحكم لجريان الخلاف هنا في الموالاة. وتشترط القدرة والذكر، ويجري هنا جميع ما مر في موالاة الوضوء، فقوله: كالوضوء راجع للأمرين قبله كما قررت؛ أي أن النية في الغسل كالنية في الوضوء، والموالاة في الغسل كالموالاة في الوضوء.
وإن نوت الحيض والجنابة يعني أن المرأة إذا تطهرت ونوت في ابتداء طهرها رفع حدث الحيض والجنابة فإنهما؛ أي طهر الحيض والجنابة يحصلان، فيحصل ثوابهما، ويباح لها ما كانت
ممنوعة منه بسبب الحيض والجنابة، وكذا لو نوت النفاس والجنابة فإنهما يحصلان، وكذا لو نوت الحيض والنفاس والجنابة فإن الثلاثة تحصل. قاله الشيخ عبد الباقي.
أو أحدهما ناسية للآخر يعني أن المرأة إذا تطهرت بعد طهرها من الحيض؛ وهي جنب، ونوت عند ابتداء طهارتها أحد الأمرين؛ أي نوت رفع حدث الجنابة ناسية للحيض، أو نوت رفع حدث الحيض ناسية للجنابة، فإن الطهرين يحصلان، فيباح لها ما كانت ممنوعة منه. أما إن نوت الجنابة ناسية للحيض، فكونهما يحصلان هو الذي ذهب إليه أبو الفرج وابن عبد الحكم وابن يونس، وهو مذهب المدونة. خلافا لسحنون قائلا بعدم الإجزاء؛ لأن موانع الحيض أكثر فلا يندرج تحت الجنابة، وللأول أنهما متساويان في أكثر الأشياء، ومن القواعد جعل الأقل تابعا للأكثر، وأما إن نوت الحيض ناسية للجنابة فالمنصوص الإجزاء عنهما كما قال المص لكثرة موانعه. وخرج الباجي نفي الإجزاء، فإن الجنابة تمنع القراءة، والحيض لا يمنعها على المشهور. ومفهوم ناسية للآخر فيه تفصيل، فإن ذكرته ولم تخرجه أجزأ كما مر، وإن ذكرته وأخرجته لم يحصلا فلا يباح لها شيء مما كان ممنوعا عليها. قال الشيخ عبد الباقي: وقد يفهم منه صحة نيابة أحدهما عن الفرض الآخر بالأولى، وانظره. انتهى.
أو نوى الجنابة والجمعة يعني أن الجنب إذا نوى باغتساله غسل الجنابة، وغسل الجمعة؛ بأن أشركهما في النية، ومثل الجمعة العيد والإحرام. أو نيابة عن الجمعة يعني أن الجنب إذا اغتسل وجعل نية الغسل خاصة بالجنابة، وعلق بالجمعة نية أخرى؛ وهي نيابة الجنابة عنها، فإنهما؛ أي غسل الجنابة وغسل الجمعة يحصلان له.
وعلم مما قررت أن قوله: حصلا راجع للمسائل الأربع، ومعنى حصلا: حصل ثوابهما، ومفاد عبارة المص؛ أعني قوله:"وإن نوت الحيض والجنابة أو أحدهما ناسية للآخر" أن المانعين حصلا من المرأة، فإن حصل منها أحدهما، ونوت من الآخر الذي لم يحصل نسيانا، فهل يجزئها غسلها؟ وهو الموافق لما مر في الوضوء، وربما يشمله قوله:"وواجبه نية" الخ أم لا. قاله الشيخ علي الأجهوري. قاله الشيخ عبد الباقي. وما ذكره المص هنا غير ضروري الذكر مع قوله: كالوضوء فهو إيضاح، والظاهر أن نية الغسل المسنون والمندوب معا، أو نيابة مسنون عن مندوب
يحصلان لا إن نوى المندوب أو نيابة عن مسنون، ولا نيابة مندوب منذور عن فرض أصلي. ويفهم منه أن الغسل المنذور لا يندرج فيه الوضوء، ولا نيابة مسنون عن مثله بخلاف نيتهما معا فيما يظهر، كغسل مقيم بمكة لجمعة وإحرام. قاله الشيخ عبد الباقي.
وإن نسي الجنابة يعني أن الجنب إذا اغتسل، ونوى بغسله اغتسال الجمعة ناسيا للجنابة، فإنه لا يحصل له غسل الجنابة، ولا غسل الجمعة. أو قصد نيابة عنها يعني أن الجنب إذا نوى بغسله الجمعة، والحال أنه لم ينس الجنابة، ولكن قصد بغسل الجمعة، ولو منذورا فيما يظهر نيابة الجمعة عن الجنابة؛ أي جعل نية الغسل خاصة بالجمعة، وعلق بالجنابة نية أخرى، وهى نيابة الجمعة عنها. وبما قررت علم أن قوله: انتفيا جواب عن المسألتين، وضمير التثنية راجع للجنابة والجمعة أي انتفى غسل الجنابة لعدم نيتها، وانتفي غسل الجمعة، فلا يحصل له ثوابه معاملة له بنقيض مقصوده لتعديه الحكم الشرعي بقصده نيابة السنة عن الفرض. وفائدة انتفاء غسل الجمعة طلبه بغسلها إذا اغتسل الجنابة دون قصد نيابتها عن الجمعة أو نسيها. قاله الشيخ عبد الباقي.
وتخليل شعر يعني أنه يجب في الغسل تخليل الشعر، ولم يقيده فيعم كل شعر خفيفا تظهر البشرة تحته، أو كثيفا. قال ابن الحاجب: والأشهر وجوب تخليل اللحية والرأس وغيرهما. انتهى. ويشمل ذلك شعر الحاجبين، والهدب، والشارب، والإبط، والعانة إن كان فيها شعر. فمن توضأ للصلاة وهو جنب ولم يخلل شعر لحيته الكثيفة، يجب عليه تخليلها في اغتساله كما يشعر بذلك قوله الآتي: وغسل الوضوء عن غسل محله؛ أي وأما ما زاد عن محله كالكثيفة فلا بد من غسله في الغسل. وقوله: "وتخليل شعر" هذا التخليل هو بعد صب الماء على الرأس أو معه، وأما التخليل قبله فمستحب، وصفة التخليل المستحب أن يغمس يديه في الماء بعد أن يتوضأ، فيخلل بأصابعه أصول شعر رأسه، ويبدأ فيه من مؤخر الجمجمة فإنه يمنع من الزكام، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات. قاله الشيخ ميارة. وهو تحرير عجيب، وإنما وجب التخليل
لخبر: [خللوا الشعر وأنقوا البشرة فإن تحت كل شعرة جنابة]
(1)
). انتهى. وأحرى الشقوق، والأعكان. وغائر البدن ما لم يشق فيعمه بالماء ويدلكه، وأما الخاتم فلا يلزمه تحريكه كالوضوء حيث كان مأذونا فيه خلافا لناظم مقدمة ابن رشد حيث قال:
وحرك الخاتم في اغتسالك
…
والخرص والسوار مثل ذلك
قال الشيخ إبراهيم: إلا أن يحمل على غير المأذون فيه. انتهى. أو يحمل على الندب كما للشيخ عبد الباقي، وقد تقدم أن غير المأذون لا بد من نزعه. ونقل عن ابن مرزوق أن ما أفتى به المص من وجوب التخليل هو الراجح على ما يظهر من الأنقال والحديث، وإن كان خلاف رواية ابن القاسم في اللحية. وعلم مما مر أن الخاتم لا يلزم نزعه ولو ضيقا عض بالإصبع؛ لأنه لما جاز لبسه صار كالجبيرة انظر شرح عبد الباقي.
وضغث مضفوره يعني أن المغتسل رجلا أو امرأة يجب عليه ضغث مضفوره؛ أي جمعه وتحريكه واتكاؤه عليه بيده ليداخله الماء، ومربوطه كمضفوره. وقد علمت أن الرجل في ذلك كالمرأة، وقد مر أنه مثلها في جواز الضفر. والضمير في مضفوره للشعر، وهو بالضاد غير المشالة. قاله الشيخ إبراهيم. لا نقضه يعني أن المغتسل رجلا أو امرأة لا يلزمه نقض مضفوره أي حله ما لم يشتد بنفسه، فإن اشتد ضفره بنفسه فلا بد من حله، هذا إذا لم يكن عليه خيط، وهذا في الغسل كما علمت. وأما في الوضوء فلا يلزمه حله، وأما إن كان عليه خيط أو خيطان، فإن اشتد فلا بد من حله غسلا أو وضوءا، وإن لم يشتد فلا يلزم نقضه، وإن كان عليه خيوط ثلاثة ففوق وجب النقض غسلا أو وضوءا. هذا هو تحرير المسألة. والله سبحانه أعلم. قال الشيخ المحقق الأمير: ونقض مضفور ثلاثة خيوط اشتد أو لا في وضوء، أو غسل كالأقل إن اشتد، وإلا فلا وضوءا أو غسلا كبنفسه في الغسل، ولبعض شيوخنا:
(1)
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة. السنن الكبرى للبيهقي: ج 1 ص 179.
إن في ثلاث الخيط يضفر الشعر
…
فنقضه في كل حال قد ظهر
وفي أقل إن يكن ذا شده
…
فالنقض في الطهرين صار عمده
وإن خلا عن الخيوط أبطله
…
في الغسل إن شد وإلا أهمله
انتهى. قوله: "لا نقضه" قال في المفهم: لا يفهم من التخفيف في ترك حل الضفر التخفيف في إيصال الماء إلى داخل الضفر كما يأتي في حديث أسماء
(1)
بنت شكل، ولما صح من حديث على مرفوعا وفي المواق: والصواب وجوب تخليل شعر اللحية، وسمعه أشهب، وسمع ابن القاسم سقوطه. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقد مر قول ابن الحاجب: والأشهر وجوب تخليل اللحية والرأس وغيرهما. انتهى قاله الشيخ محمد بن الحسن. وتعقب بأنه يقتضي الخلاف في الشعر مطلقا، وليس كذلك بل في اللحية فقط. انتهى. وقال عن أبي الحسن وفي شرح ابن بطال عن بعض التابعين: أن العروس ليس عليها غسل رأسها لما في ذلك من فساد المال. قاله أبو محمد صالح. وهذا يسمع في بعض المجالس ولم أقف عليه نصا. انتهى. والله أعلم. انتهى. وقال الوانوغي: ما ذكره أبو محمد صالح من نقل ابن بطال الترخيص للعروس لا يبعد كل البعد، وفي فروعنا ما يشهد له، ونقله ابن غازي في تكميله وسلمه، وكذا نقله ابن ناجي عن أبي عمران الجورائي: لا تغسله بل تمسح عليه. قاله الشيخ محمد بن الحسن.
وذلك يعني أن الدلك من واجبات الغسل، ولا تشترط مقارنته لصب الماء، بل يكفي. ولو حصل بعد صب الماء عند ابن أبي زيد، خلافا للقابسي في اشتراطه المعية، وفيه حرج، وهو واجب على كلا القولين، وإنما اختلافهما في إجزائه بعد صب الماء وعدمه، ولا يكفي فيه غلبة الظن إلا المستنكح، ويكفي هنا إمرار العضو ولو باطن ذراعه، وهذا؛ أي وجوب الدلك هو المشهور من مذهب مالك، وإن ضعف مدركه. وقيل إنه واجب لإيصال الماء إلى البشرة لا لذاته، والراجح مدركه. وقال القرافي في مثل هذا يجب العمل بما قوي مدركه. وبما قررت علم أن المبالغة في
(1)
صحيح مسلم، كتاب الحيض، الحديث:332.
مقدر؛ وهو ويجزئ لأنه واجب على كلا القولين، وإنما اختلافهما في إجزائه بعد صب الماء وعدمه كما علمت. وقوله: ولو بعد صب الماء؛ أي ولا بد من كون الماء على العضو بحيث لا يصير مسحا أو بخرقة يعني أن الدلك لا بد منه في الغسل إما بعضو من أعضائه، أو بخرقة إن تعذر العضو أو استنابة يعني أنه لا بد من الدلك في الغسل إما بنفسه، أو بالاستنابة بأن يوكل من يتولى دلكه حيث لم يمكنه التدلك بنفسه.
وعلم مما قررت أن محل الخرقة والاستنابة إنما هو عند تعذر الدلك باليد كما نص عليه الشيخ محمد بن الحسن، ودعمه بالنقل. وقال الشيخ عبد الباقي: وظاهر المص أنه لا مزية لأحدهما على الآخر. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: والحق أن الخرقة والاستنابة سواء عند التعذر باليد فيخير بينهما كما أنهما سواء في اشتراط تعذر اليد في كل منهما كما يستفاد ذلك كله من ابن الحاجب وابن عرفة. انظر الرماصي. "فأو" الأولى للتنويع، والثانية للتخيير. وفيه عن الرماصي: الظاهر أن الخرقة حكمها حكم النيابة في الإجزاء وعدمه. وفي شرح الشيخ عبد الباقي ما نصه: والذي يظهر تقديم الخرقة على الاستنابة؛ لأن الدلك بها فعله. وقد جرى خلاف فيمن استناب مع قدرته بيده، ففي الحطاب: المشهور لا يجوز ابتداء ويجزئ، وفي الطخيخي وأحمد المشهور عدم الإجزاء. وهو الموافق لقول ناظم مقدمة ابن رشد:
والدلك لا يصح بالتوكيل
…
إلا لذي آفة أو عليل
ومن تكن قصيرة يداه
…
فالدلك بالمنديل أو سواه
انتهى. وقد مر ما للشيخ محمد بن الحسن من أن الخرقة والاستنابة سواء، وقال الشارح: ما ذكره المص من وجوبه بالخرقة أو الاستنابة عند التعذر باليد هو قول سحنون، قيل وهو الظاهر. وذهب ابن حبيب إلى سقوطه، وصوبه ابن رشد انتهى. وارتضاه ابن عرفة والقرافي. انتهى. وقال الشيخ الأمير: ودلك وإن بعد انفصال الماء بحيث لا يصير مسحا بعضو أو خرقة، ولا يشترط خصوص اليد، وتجزئ الخرقة مع القدرة على العضو في الأظهر. وقيل لا يدلك بالخرقة؛ لأنه ليس من عمل السلف، ثم استناب. انتهى. وقال الشيخ أحمد: ومعنى الدلك بالخرقة أن يجعل
شيئا بين يديه يجعل طرفه بيده اليمنى والآخر بيده اليسرى ويدلك بوسطة، وأما لو جعل يده في شيء ودلك به فهو من الدلك باليد، هكذا وقع في مجلس المذاكرة، وارتضاه بعض شيوخنا. انتهى. وتعقبه الأجهوري بأن هذا يقتضي إجزاء الدلك به بل جوازه مع القدرة عليه باليد من غير حائل، وهذا خلاف ظاهر ما ذكروه في تعريف الدلك لا سيما إن كانت الخرقة كثيفة. وقد ذكروا أنه إذا حال بين الحشفة والفرج خرقة كثيفة يكون وطؤه غير موجب للغسل، فيحمل هذا بتقدير تسليمه على ما إذا كانت الخرقة التي يجعلها على يده رقيقة. انتهى.
وإن تعذر سقط يعني أن الدلك إذا تعذر بعضو أو خرقة أو استنابة أو حائط مثلا فإنه يسقط، وإذا سقط عنه فإنه يجتزئ بصب الماء. قال الشيخ زروق: وإن كان لا يصل إليه بوجه سقط وليكثر من صب الماء في محله، كذا نص عليه غير واحد، وليس من التعذر إمكانه بحائط يملكه غير حمام لا حائط حبس أو حمام ولو بملكه؛ لأنه يورث البرص على قول بعض الناس، ولا حائط بملك غيره إن تضرر بدلكه به، لا إن لم يتضرر لما ذكروه من أنه ليس للشخص منع غيره من نفعه بما لا يضر كاستقلاله بجداره أو استصباح أو انتفاع بنور مصباحه. قاله الشيخ عبد الباقي. ومن ترك الدلك مع الإمكان يعيد أبدا. وفي الحطاب عن الشيخ زروق: وليحذر من التدلك بالحيطان؛ لأن ذلك يضر بأهلها، وربما كانت نجاسة أو بعض المؤذيات إلا ما يكون معدا لذلك. وحائط الحمام خصوصا قالوا: يورث البرص، وليحذر تمكين الدلاك مما تحت الإزار، وليحذر أيضا تمكين من لا يرضى حاله من دلك بدنه، ولا سيما إن كان ناعما، وليتق الوسوسة جهده، ويستعين عليها بالنظر لاختلاف العلماء إن كان مبتلى بها. كذلك كان يقول شيخنا أبو عبد الله القوري؛ يعني بحيث يتحقق تدلكه، ولا تكفي غلبة الظن؛ لأن الذمة عامرة فلا تبرأ إلا بيقين ما لم يكن مستنكحا، فيكفيه ما غلب على ظنه، انتهى.
واعلم أنه لا يلزم الرجل أن يدلك لزوجته ما لا تصل إليه من جسدها، ولا يلزمها ذلك بل يستحب لهما ذلك، وكذلك لو لم تصل لغسل فرجها للسمن الذي بها لا يلزمه أن يغسل لها بل يستحب، فإن لم يفعل فإنها تصلي بالنجاسة، ولا تمكن أحدا من فعله، وهي عاصية إن تسببت للسمن، غير عاصية إن لم تتسبب فيه. وكذلك الرجل لا يجب على المرأة غسل عورته إذا لم
يصل لها، بل يستحب لها، فإن لم تفعل تعين عليه أن يشتري جارية إن قدر، فإن لم يقدر صلى بالنجاسة، ولا يمكن أحدا من غسله وهو في العصيان وعدمه كالمرأة؛ إلا أن السبب منه أقبح، انتهى بالمعنى من المدخل. قاله الإمام الحطاب.
وسننه غسل يديه أولا يعني أن سنن الغسل ولو مندوبا خمس: أولها غسل اليدين أولا: أي قبل دخولهما في الإناء كما صرح به الحطاب والمواق والدردير وعبد الباقي، وزاد أو قبل إزالة الأذى. انتهى. وعلى كلا الاحتمالين يكون غسلهما قبل إزالة الأذى، والأول هو المعتمد، والتحقيق الذي في الأحاديث الصحيحة كما قاله العدوي. وبكون غسل اليدين أول ما يفعل صرح عياض، وكذا ابن الحاجب. وصاحب التلقين، وابن يونس وغير واحد. ولا ينقضه مس الذكر عند هؤلاء ويغسلهما ثلاثا وهي من تمام السنة تعبدا بمطلق ونية، ويعيد غسلهما للتعميم، فالسنة في غسل اليدين تتوقف على ثلاثة أشياء. غسلهما بنية السنة، وكونه أولا، وكونه ثلاثا، فلو اختل واحد منها لم يكن آتيا بالسنة. وقوله:"وسننه غسل يديه أولا" الكلام فيه كالكلام في الوضوء، وقد تقدم مستوعبا فراجعه إن شئت. قال الرماصي: وظاهر كلام الأئمة أنه لا يعيد غسلهما في وضوء الجنابة، لجعلهم السنة غسلهما قبل إدخالهما في الإناء، فلا معنى لإعادته بعد حصول السنة. وقول أحمد: يعيد غسلهما ثانيا في الوضوء لا مساعد له، إلا ما يؤخذ من قولهم يتوضأ وضوء الصلاة مع أن ذلك محمول على غير غسل اليدين لتقدمه. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ عبد الباقي: ولا يعارض سنية التثليث هنا قوله في توضيحه: ليس شيء في الغسل يندب فيه التكرار غير الرأس. انتهى؛ لأنه في المندوب كما هو صريحه، والتثليث هنا من تمام السنة. انتهى.
وثانيها صماخ أي مسح صماخ أذنيه، والمراد بالصماخ جميع الثقب الذي في مقعر الأذنين، وهو ما يدخل فيه طرف الإصبع، ولا يغسله، ولا يصب الماء فيه لما فيه من الضرر، وما يمسه رأس الإصبع خارجا عن الثقب يجب غسله، ولا يصب الماء في الأذنين؛ لأن ذلك يضره، بل يكفيهما على كفه مملوءة، ويدير إصبعه إثر ذلك أو معه ما أمكن، ويتعهد تكسيرهما. قاله الشيخ إبراهيم.
وغيره. والثقب الذي في الأذن تجعل الحلقة فيه له حكم الباطن، فلا يجب غسله خلاف لبعض المجتهدين، ولناظم مقدمة ابن رشد حيث قال:
وحرك الخاتم في اغتسالك
…
والخرص والسوار مثل ذلك
وقوله: "وصماخ" بالرفع، عطف على غسل، وفي الكلام حذف مضاف كما قررت فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وعلم من المصنف أن ما عدا الصماخين من ظاهر الأذنين وباطنهما يجب غسله، وهو كذلك. قال ابن فرحون في شرح ابن الحاجب: ويراعى في غسل باطن الأذنين إيصال الماء إلى التجعد والتكسر بحمل الماء في اليد إلى الأذن، ووضعها في الماء، ثم يدلكهما. قاله الإمام الحطاب. وقد مر قول ناظم مقدمة ابن رشد:
. . . . . . . . . . . . . .
…
والخرص والسوار مثل ذلك
وأنه مقابل. وقول الشيخ عبد الباقي: تحريكه لا يقتضي وجوب غسله؛ بمعني دلكه، بل تحريكه قائم مقام دلكه، ويوصل الماء إلى ما تحته إن أمكن. انتهى. غيرُ ظاهر بل الظاهر أنه من الباطن وأنه لا يجب تحريكه، ولا إيصال الماء إليه، والله سبحانه أعلم. انظر حاشية الشيخ بناني. وثالثها مضمضة مرة، وقد تقدم أن المضمضة هي إدخال الماء فاه، وخضخضته ومجه. ورابعها استنشاق مرة، وقد مر أن الاستنشاق هو جذب الماء بالنفس، والكلام على المضمضة والاستنشاق هنا كالكلام عليهما في الوضوء، إلا أنهما هنا يفعلان مرة مرة كما عرفت راجع الكلام عليهما في الوضوء إن شئت وخامسها استنثار وقد مر الكلام عليه في الوضوء، قال الشيخ إبراهيم واعلم أن هذه السنن المذكورة جارية في الغسل سواء كان واجبا أو مسنونا أو مستحبا كما مر، ومحل كونها له حيث لم يفعل قبله الوضوء المستحب، فإن فعله قبله كانت هذه سننا له لا للغسل، كما يفيده كلام الشيخ زروق في شرح الإرشاد وكلام الزرقاني. انتهى.
ولما فرغ من موجباته، وواجباته، وسننه، أتبعها بالكلام على مندوباته فقال: وندب بدء بإزالة الأذى يعني أنه يندب للمغتسل أن يبدأ بعد غسل يديه بإزالة الأذى؛ أي النجاسة بولا أو غائطا
أو منيا أو مذيا أو وديا أو غيرها عن المحل الذي هي فيه، ويدخل في ذلك ما على فرجه، كما في الشبراخيتي، فيزيلها بالماء ليقع الغسل على أعضاء طاهرة كما في الحطاب، وغيره. والابتداء هنا إضافي؛ أي بالنسبة لما بعده، والابتداء بغسل اليدين حقيقي كما نصوا عليه. والوجه الأكمل أن يغسل مواضع الأذى، ثم يغسل تلك المواضع بنية غسل الجنابة فلو غسلها ابتداء بنية الجنابة وانفصل الماء طاهرا كفى ذلك وفاته الندب، فإن غسلها ابتداء بنية الجنابة وانفصل الماء متغيرا بالنجاسة لم يكتف بذلك، ولو اقتصر عليه لبطل الغسل. والقول بوجوب البدء بإزالة الأذى حيث كان الأذى يغير الماء غير ظاهر لجواز حصول غسل الجنابة والنجاسة معا؛ بأن يغسل حتى ينفصل الماء طاهرا. والله تعالى أعلم. وفي الجزولي الكبير: واختلف إذا غسل مواضع الأذى بنية الجنابة وزوال النجاسة غسلا واحدا، فالمشهور أنه يجزئه وإن شرك بينهما. المازري: وقيل: لا يجزئه، وفي الطراز: فإن كان على ذكره نجاسة فغسله بنية الجنابة أجزاه. وفي تهذيب عبد الحق أنه لا يجزئه غسل النجاسة أو غيره من الحوائل عن غسل الجنابة، وإن نواه حتى يغسل المحل بنية الجنابة فقط، والأول أظهر؛ لأنه إذا وصل الماء إلى البشرة بنية الجنابة أو الحدث فقد وفي بما أمر به من حقيقة الغسل، وإن بقي حائل فلا يجزئه. وقال الأبي في شرح مسلم: المشهور أن طهارة الحدث ليس من شرطها أن ترد على الأعضاء وهي طاهرة وقال في الجلاب شرطها ذلك. وعلم مما مر أنه لو غسل ذكره ولم ينو رفع الجنابة، فإنه لا بد من غسله ثانيا بنية رفعها ليعم جسده، وكثير من الناس لا يتفطن لذلك فينوي رفع الجنابة بعد غسل فرجه، ثم لا يمسه حفظا للوضوء فيؤدي ذلك لبطلان غسله لعرو غسل الفرج عن نية. قاله المصنف في شرح المدونة.
ثم أعضاء وضوئه يعني أنه يندب بعد غسل اليدين وإزالة الأذى أن يغسل أعضاء وضوئه بنية الجنابة، ولو نوى الأصغر لأجزاه كما يدل عليه قوله: وغسل الوضوء عن غسل محله، ولو ذاكرا للأكبر ما لم يخرجه. كما في الشبراخيتي. وغيره. وهذا هو الظاهر. وقال الأقفهسي: المشهور المعروف في المذهب عدم الإجزاء لعدم اندراج الأكبر تحت الأصغر، ولو نوي الفضيلة لوجب عليه إعادتها في الغسل. وفي شرح الشيخ عبد الباقي: ولا يسن في هذا الوضوء مضمضة ولا استنشاق،
ولا غسل يدية لكوعيه، ولا استنثار لما تقدم أنها من سنن الغسل. وقد تقدم ما للشبراخيتي، ونحوه للخرشي عند قول المصنف:"واستنثار"، وقوله:"ثم أعضاء وضوئه"، أي فيمسح رأسه، وإذا غسل أعضاء وضوئه فإنه يغسلها كاملة ولا يؤخر غسل رجليه مرة يعني أن المغتسل إنما يغسل أعضاء وضوئه مرة مرة قال عياض: لأنه لم يأت تكراره في الأحاديث والحق وروده كما قال ابن حجر، وقد رد الرماصي ما قاله عياض ناقلا عن ابن حجر، فإنه قال: ورد عليه ابن حجر في فتح الباري بأنه ورد من طرق صحيحة أخرجها النسائي والبيهقي من رواية أبي سلمة: عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أنها وصفت غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنابة، وفيه: ثم تمضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، ويديه ثلاثا ثم أفاض على رأسه ثلاثا. فقد علمت أن معتمد المصنف مردود. وما في هذا الحديث هو ظاهر الأحاديث الواردة في ذلك. وقد جمعها الحافظ سيدي أحمد بن يوسف الفاسي في جزء مستقل، والتكرار هو الذي عول عليه أبو محمد صالح، واعتمد عليه. والله تعالى أعلم. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ الأمير: ثم أعضاء وضوئه، قال: الأصل مرة، ورده الرماصي بأنه تابع لقول عياض: لم يرد تثليثه، والحق وروده كما قال ابن حجر. فانظره انتهى.
وما تقدم من أنه يغسل أعضاء وضوئه كاملة، ولا يؤخر غسل رجليه صرح غير واحد بأنه المشهور. قال الإمام الحطاب: وهذا هو المشهور. وقال الشيخ محمد بن الحسن: أشار بقوله كاملة إلى أن الأولى تقديم غسل رجليه، وعدم تأخيره إلى تمام غسله، وهو خلاف الراجح؛ إذ الراجح أنه يؤخر غسل رجليه؛ لأنه قد جاء التصريح بذلك في الأحاديث، ووقع في بعضها الإطلاق، والمطلق يحمل على المقيد. انتهى. قال القلشاني عن المازري: فمقتضاه عدم تخليل اللحية في الوضوء، وعدم تخليل الرأس عند مسحه، وعلى التأخير العكس. ابن الحاجب: وعلى تأخيرهما في ترك المسح روايتان. انتهى، سند: ومن نسي أن يتوضأ قبل غسل الجنابة توضأ بعده. انتهى، قاله الحطاب. وقال الخرشي: وأشعر بأنه لو لم يقدمها لا يتوضأ بعد الغسل، وفي الاستذكار إجماع أهل العلم على ذلك. ثم ذكر ما لسند.
وأعلاه؛ يعني أنه يندب للمغتسل أن يقدم أعلاه؛ أي أعلى كلِّ جانب منه يقدم ندبا على أسفله، ومنتهى الأعلى إلى الركبتين، فيبدأ بأعلى الأيمن إلى ركبته ندبا، ثم بركبته إلى أسفل الأيمن. ثم بأعلى اليسار كذلك، ثم بأسفله، ثم يلي اليسار الظهر، ثم البطن، والصدر. نقله الشيخ عبد الباقي عن الشيخ القطب زروق. وأما الضمير في قوله وميامنه فإنه يعود على الشخص المغتسل؛ أي يندب للمغتسل أن يقدم ميامنه على مياسره، وحينئذ فيقدم أسفل الجانب الأيمن على أعلى الجانب الأيسر، وهذا موافق لما في الفاكهاني والنوادر. وما قرره به التتائي كما في الشبراخيتي. وما قررته من أن اليمين كله بأعلاه، وأسفله يقدم على اليسار وهو الذي اختاره أحمد قال الشيخ محمد بن الحسن: وفيه نظر ففي الحطاب: واعلم أن ظواهر نصوصهم تقتضي أن الأعلى بميامنه ومياسره مقدم على الأسفل بميامنه ومياسره، وميامن كل من الأعلى، والأسفل مقدم على مياسر كل بل هذا صريحُ ابن جماعة. وبهذا قرر ابن عاشر، ونصه: ازدحم الأعلى والأيمن في التقديم فتعارض أعلى الجهةَ اليسرى وأسفل الجهة اليمنى في حكم التقديم، والذي نص عليه بعضهم تقديم الأعلى مطلقا مع تقديم الجهة اليمنى أيضا، وربما أشعر بهذا تقديم المص الأعلى على الميامن، والتقدير يستحب تقديم الأعلى على الأسفل، وتقديم ميامن كل على يساره، ونحو هذا الفقه لابن مرزوق. انتهى. ويؤخذ منه أن الضمير في أعلاه يعود على المغتسل، والضمير في ميامنه على كل من الأعلى والأسفل، وجعل عبد الباقي الضمير في أعلاه لكل جانب، وفي ميامنه للمغتسل، وهو مبني على تقريره. والله أعلم. انتهى كلام الشيخ محمد بن الحسن.
وتثليث رأسه؛ يعني أنه يندب للمغتسل أن يثلث رأسه؛ بأن يعم بواحدة، ويزيد ثانية يعم بها أيضا، وثالثة كذلك، ولو اجتزأ بالواحدة أجزأته، وإن لم تكف الثلاثة زاد إلى الكفاية. والله أعلم. وقال عياض: يفرق الثلاث على الرأس فلكل جانب واحدة، والثالثة للوسط، وقيل الكل للكل وكل جائز، وعلى الأول تكون واحدة يمينا، وواحدة شمالا، وأخرى في الوسط. وعليه فالندب غسله على هذا الوجه، وإلا فتعميمه واجب. قاله الشيخ إبراهيم. والتحقيق أنه يعم جميع الرأس بكل غرفة. كما قاله الشيخ الأمير. والله سبحانه أعلم. وقوله:"وتثليث رأسه" قال في الرسالة: ثم يغمس يديه في الإناء. قال الشيخ زروق: إثر وضوئه أو ما قدم من أعضائه، أو
يفرغ عليهما الماء، ويرفعهما من الإناء أو غيره غير قابض بهما شيئا من الماء، فيخلل بهما أصول شعره ليانس ببرد الماء فلا يتضرر ويقف الشعر فيدخل الماء عند الغسل لأصوله، وسواء كانت عليه وفرة أم لا. قال الشيخ أبو عمران الجورائي: ويبدأ في ذلك من مؤخر الجمجمة؛ لأنه يمنع الزكام والنزلة وهو صحيح مجرب. انتهى. وقد مر عن الشيخ ميارة أن هذا التخليل مندوب، وفي هذا التخليل فائدتان، طبية، وشرعية؛ فالطبية: عدم التضرر ببرد الماء، والشرعية إسراع الماء إلى الشعر فلا يدفعه.
وكيفية الغسل على الكمال قال الإمام الحطاب عن ابن جماعة: هي أن يجلس في موضع طاهر ثم يغسل يديه، ثم يزيل الأذى إن كان، ثم ينوي رفع حدث الجنابة، ثم يغسل السبيلين وما والاهما، ثم يتوضأ، وينوي بوضوئه رفع الحدث الأكبر. فإذا أكمل وضوءه غمس يديه في الماء وخلل بهما شعر رأسه، ثم يغرف عليه ثلاث غرفات حتى يوعب غسله، ثم يضغثه بيديه، ثم ينقل الماء إلى أذنيه يغسل ظاهرهما وباطنهما، ثم ما تحت ذقنه وعنقه وعضديه، ثم ما تحت إبطيه ويخلل عمق سرته، ثم يفرغ الماء على ظهره، ويجمع يديه خلفه في التدلك، ثم يغسل الجانب الأيمن، ثم الأيسر، ثم ما تحت الركبتين، ثم الساق اليمني، ثم الساق اليسرى، ثم يغسل رجليه. وإن استعان بإناء له أنبوب يفرغ على جسده به فهو أبعد من السرف. انتهى وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة: ويقدم أعاليه، ويختم بصدره وبطنه. قاله الغزالي. ونقله عنه ابن ناجي. وهذا كله استحباب. انتهى. وقال في شرح الإرشاد: وذكر بعضهم تأخير صدره عن ظهره. انتهى كلام الحطاب. وقد نقل الحطاب وغيره أنه لا يصب الماء في أذنيه، قال الشيخ عبد الباقي: لأن ذلك يضره قالوا ويكفيهما؛ أي أذنيه على كفه مملوءة ماء، ويدير إصبعيه إثر ذلك أو معه إن أمكن. وقد مر عن ابن فرحون: ويراعي في غسل باطن الأذنين إيصال الماء إلى التجعد والتكسر بحمل الماء في اليد إلى الأذن ووضعهما في الماء، ثم يدلكهما. انتهى. وقال الشيخ الأمير: والأكمل أن يسمي، ثم يغسل يديه، ثم الأذى، ثم فرجه بالنية، ووجب استرخاء بغسل مخرج، ثم أعضاء وضوئه، ومسح رأسه قبل غسلها لتأنيسه بالماء، ويمنع الزكام، والنزلة بقليل. في
الحطاب: يبدأ من المؤخر، ثم [ثلثها]
(1)
يعم بكل مرة على التحقيق، ثم رقبته، ثم شقه الأيمن، وهل ولو ظهرا وبطنا، أو يؤخرهما؟ ويبدأ بالظهر، وهل يغسل جميع الأيمن قبل الأيسر أو للركبة ثم مثله من الأيسر؟ وجهان. انتهى.
وقلة ماء يعني أنه يندب للمغتسل تقليل الماء، وهذا التقليل بلا حد أي ليس محدودا بصاع خلافا لابن شعبان، ولا بسيلان عن العضو كما تقدم، ولكن لا بد من سيلانه عليه كله، وإلا كان مسحا؛ أي فلا يعتبر، ولا بد من إحكام الغسل بكسر الهمزة؛ أي إتقانه بأن يوعب ولا ينقص، وليس هذا تكرارا مع ما تقدم في الوضوء؛ لأنه إنما ذكره هناك ليشبه به قاله الشيخ إبراهيم عن الحاشية. وقال غير واحد إنه تكرار. فذكره هناك استطراد، وهنا لأن هذا بابه. والله سبحانه أعلم. وقوله:"وقلة ماء" البرزلي: ومما رويناه عن النووي الإجماع على أنه لا يجوز الإسراف في الطهارة ولو كان على ضفة النهر، وهو معنى ما في الرسالة. والسرف منه غلو وبدعة، وكل هذا في حق غير ذي الوسواس. وأما الموسوس فهو شبيه بمن لا عقل له فيغتفر في حقه لما أبتلي به. انتهى. قاله الإمام الحطاب. وقوله: ضفة النهر؛ أي جانبه. وقال الشيخ إبراهيم: ويغتفر من السرف للموسوس ما لا يغتفر لغيره لابتلائه. انتهى.
كغسل فرج جنب لعوده لجماع تشبيه في الندب؛ يعني أن من وطئ يندب له إذا أراد أن يطأ ثانيا قبل الاغتسال أن يغسل فرجه، ونكتة الكاف هنا دون الواو أن هذا من مندوبات الجنب وليس من مندوبات الغسل. قاله الشيخ عبد الباقي. والمراد بالجنب هنا الذكر، وأما الأنثى فلا يندب لها، خلافا لأحمد. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: يندب للذكر وللأنثى. كما قاله الزرقاني. وفيه فوائد: تقوية العضو، وإتمام اللذة، وإزالة النجاسة، وهي رطوبة فرج المرأة. انتهى. وخص الشيخ الأجهوري الجنب هنا بالذكر لقوله صلى الله عليه وسلم:[إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد الجماع فليتوضأ]
(2)
)، وقوله:"كغسل فرج جنب" ظاهره الندب مطلقا، وخصه بعضهم
(1)
الذي في الأمير، ج 1 ص 220: ثم يثلثها.
(2)
عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ. مسلم، كتاب الحيض، رقم الحديث:308.
بما إذا عاد لجماع موطوءته الأولى، وأما لغيرها فيجب غسل فرجه ليلا يدخل فيها نجاسة الغير. قاله الشيخ الخرشي. وحكم وطئه قبل غسل فرجه الكراهة.
ووضوئه لنوم؛ يعني أنه يستحب للجنب أن يتوضأ عند النوم، ولو نهارا كما في سماع ابن القاسم. وأوجبه ابن حبيب، قال في المدونة: ولا ينام الجنب في ليل أو نهار حتى يتوضأ جميع وضوئه، وليس ذلك على الحائض. وفي العارضة: قال أبو يوسف يجوز للجنب أن ينام قبل أن يتوضأ. وقال مالك والشافعي: لا يجوز أن ينام حتى يتوضأ. قال الإمام مالك: فإن فعل فليستغفر الله. رواه عنه في المجموعة. وقال بعض أشياخنا: لا تسقط العدالة بتركه لاختلاف العلماء فيه. انتهي قاله الإمام الحطاب. وقوله: "ووضوئه" عطف على مدخول الكاف من قوله: "كغسل فرج جنب" كما يفيده الشيخ إبراهيم. وقوله: "ووضوئه لنوم"؛ أي سواء كان ذكرا أو أنثى، واللام في قوله:"لنوم" بمعني عند كما في الشبراخيتي. وقال الشيخ عبد الباقي: إنها للتعليل، وإذا انقطع الحيض عن الحائض فهي كالجنب يندب لها الوضوء للنوم لا قبل انقطاعه، فلا تغتسل للنوم ولا تتوضأ له، وهل تطلب الحائض بالوضوء عند أوقات الصلاة، أو يكره ذلك في حقها؟ قال عياض: وكان قوم من فقهاء السلف يأمرون الحائض إذا دخل الوقت أن تتوضأ، وتستقبل القبلة، وتذكر الله تعالى. قال مكحول: وكان ذلك هدي نساء المسلمين، واستحبه. وقال بعضهم: هذا أمر تركه مكروه عند جماعة. انتهى من الأبي. قاله الشيخ الخرشي. وكما يندب الوضوء عند النوم للجنب، يندب لغير الجنب من كل مريد النوم لخبر:[إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع ونم على شقك الأيمن]
(1)
). ومعنى إذا أخذت مضجعك أردت أن تنام، وتضمن هذا الحديث ثلاث سنن: الوضوء للنوم للموت على طهارة وذكر الله عند النوم، والنوم على الشق الأيمن. قاله الإمام الحطاب. وقد مر شيء من آداب النوم عند قول المص في نواقض الوضوء:"وإن بنوم ثقل" وللطبراني في الكبير، عن ميمونة بنت سعد قالت:[قلت يا رسول الله هل يرقد الجنب؟ قال: ما أحب أن يرقد حتى يتوضأ، فإني أخاف أن يتوفى ولا يحضره جبريل]
(2)
). لا
(1)
مسلم، كتاب الذكر والدعاء، رقم الحديث:2710.
(2)
الطبراني الكبير، باب الباء، 65.
تيمم؛ يعني أن الجنب لا يستحب له التيمم عند النوم هذا هو المشهور، ومقابله يتيمم إن لم يجد الماء، وعليه قال ابن فرحون. وفي هذه المسألة لا يتيمم على الحجر بل على التراب. وفي حاشية الشيخ بناني أنه لا خلاف أن الجنب مأمور بالوضوء، فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم أمر الجنب بالوضوء
(1)
). واختلف في علة الأمر، فقيل لينشط، وعلى هذا لو فقد الماء لم يؤمر بالتيمم. وقيل ليبيت على إحدى الطهارتين؛ لأن النوم موت أصغر، فشرعت فيه الطهارة الصغرى، كما شرعت في الموت الأكبر الطهارة الكبرى، فعلى هذا إن فقد الماء يتيمم. انتهى. وقد مر أنه على هذا القول إنما يتيمم على تراب لا على حجر. قال الشيخ عبد الباقي: ولعله لورود [أنه عليه الصلاة والسلام تيمم على حائط]
(2)
؛ أي طين فكان رخصة يقتصر فيها على ما ورد. انتهى. وجعل الشبراخيتي قوله: "لا تيمم" مفرعا على العلتين. قال: لأن التيمم مبيح لا مطهر؛ ولأنه لا نشاط فيه خلافا لمن فرعه على الثانية، ونحوه للخرشي. ورده العلامة بناني بالنقل عن ابن بشير، واللخمي، وابن شأس، وابن الحاجب فهو مفرع على الثانية. والله سبحانه أعلم.
ولم يبطل إلا بجماع يعني أن وضوء الجنب للنوم لا يبطل بحيث يطلب بوضوء آخر للنوم إلا بالجماع. قاله مالك. اللخمي: إن قلنا إن الغسل للنشاط لا يعيد الوضوء إن أحدث، وإن قلنا لينام على إحدى الطهارتين، أعاد الوضوء إن أحدث. ولبعضهم:
يا سائلا عن وضوء ليس ينقضه
…
إلا الجماع وضوء النوم للجنب
وقوله: "ولم يبطل إلا بجماع" ظاهره ولو بعد مرور سنين كثيرة، وهو ظاهر كلام غيره أيضا، وانظره فإني لم أر التصريح بشيء في ذلك. والله سبحانه أعلم. وقوله:"ولم يبطل إلا بجماع" ينبغي أن يكون مثله في ذلك التيمم على القول به. قال الشيخ عبد الباقي: وأما وضوء غير الجنب للنوم فينقضه الحدث الواقع قبل الاضطجاع، ولا تنقضه المباشرة إلا مع قصد اللذة. كذا للأبي.
(1)
عن ابن عمر قال ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه جنابة من الليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ واغسل ذكرك ثم نم. مسلم، كتاب الحيض، رقم الحديث:306.
(2)
البخاري، كتاب التيمم، الحديد:337. مسلم، الحديث: 369.
والذي لابن عمر أنه يبطل بما يبطل به الوضوء لغير النوم، وهو ظاهر جار على القواعد، والصحيح أنه إذا نوى بهذا الوضوء البيات على طهارة استبيحت له الصلاة به، فإن قلت: هو لم ينو به إحدى نيات الوضوء الثلاث، قلت: نية البيات على طهارة تتضمن رفع الحدث، وكذا يقال في الوضوء لزيارة الأولياء لا تستباح به الصلاة إلا إذا نوى أن يزور على طهارة؛ لأنها كأنها مقصودة أصالة، وإن كان الباعث عليها نوم غير الجنب والزيارة بخلاف نيته بها الزيارة أو النوم. انتهى. قوله: والذي لابن عمر لخ هذا يقتضي مخالفة ما لابن عمر لكلام الأبي الذي قبله، وفيه نظر. بل كلام ابن عمر هو عين ما نقله عن الأبي، ونصه على نقل الحطاب: وإن نام الرجل على طهارة وضاجع زوجته وباشرها بجسده فلا [ينقض]
(1)
إلا إذا قصد بذلك اللذة. انتهى. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني وقال الشيخ الأمير: وينتقض وضوء غير الجنب للنوم بمطلق الناقض. عياض: إن لم يضطجع كلزيارة ولي وسلطان ودخول سوق. انتهى. قوله كلزيارة لخ تشبيه في ندب الوضوء كما نص عليه الشيخ الأمير. وقوله: ولم يبطل إلا بجماع؛ أي لأنه لم يشرع لرفع حدث، وإنما هو عبادة فلا ينقضه إلا ما أوجبه. قاله الشيخ الخرشي. ولما فرغ من موجبات الغسل وواجباته وسننه ومندوباته، شرع في الكلام على موانع أي ممنوعات الجنابة فقال.
وتمنع الجنابة موانع الأصغر يعني أن الجنابة تمنع ممنوعات الحديث الأصغر المتقدمة في قوله: "ومنع حدث صلاة وطوافا ومس مصحف" إلى آخره فكل ذلك تمنعه الجنابة، وتزيد عليه ما يأتي قريبا إن شاء الله وبما قررت علم أن قوله: موانع؛ بمعني ممنوعات، فهي فواعل جمع مانع على وزن فاعل بمعنى مفعول، كدافق بمعنى مدفوق كما نص عليه الشيخ بناني. وأشار إلى ما تزيده الجنابة على الحدث الأصغر بقوله: والقراءة يعني أن الجنابة كما تمنع موانع الأصغر، تمنع أيضا القراءة للرجال والنساء بحركة اللسان، وأما بالقلب فللجنب أن يقرأ بقلبه إجماعا لقوله عليه الصلاة والسلام:[اقرأ القرآن على كل حال ما لم تكن جنبا]
(2)
)، ولفظ الشبراخيتي عند
(1)
في البناني ج 1 ص 104: فلا ينتقض وضوءه.
(2)
كنز العمال، رقم الحديث:2770.
قوله: والقراءة للرجال والنساء بحركة لسان لا بقلب فلا إثم ولا حنث، إجماعا تقوله عليه السلام:[اقرأ القران الخ]
(1)
).
إلا كآية يعني أن الجنب لا يمتنع عليه أن يتكلم بآية أو ءايتين أو ثلاث، بل يجوز إذا كان تكلمه بها لأجل تعوذ عند نوم أو روع لدفع مفسدة المتعوذ منه. قاله الشيخ إبراهيم. وكما جاز للجنب التكلم بالآية والآيتين والثلاث لأجل تعوذ يجوز ذلك لنحوه أي التعوذ كالرقي والاستدلال. وقوله:"إلا كآية لتعوذ ونحوه" أي ولا يجوز ذلك على وجه التلاوة. قاله الشيخ عبد الباقي. ودخل بالكاف الآيتان والثلاث والمعوذتان للتعوذ كذلك، بل ظاهر كلام الباجي أن له قراءة المعوذتين وآية الكرسي. لقوله: يقرأ اليسير ولا حد فيه تعوذا، بل ربما يشمل كلامه {قُلْ أُوْحِيَ} فلو قال المص إلا يسيرا لكتعوذ لكان أخصر وأحسن لشموله لما للباجي. ولقوله:"ونحوه". وفي الحطاب: جمل القرآن على قسمين: أحدهما: ما لا يذكر إلا قرآنا كقوله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} فيحرم على الجنب قراءته؛ لأنه صريح في القراءة ولا تعود فيه. ثانيهما: ما هو تعوذ كالمعوذتين، فتجوز قراءتهما للضرورة، ودفع مفسدة المتعوذ منه. انتهى. الشبراخيتي: ويجري نحوه فيما يرقى به أو يستدل به. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: ولا بد فيما يقرأ لتعوذ أن يكون مما يتعوذ به لا نحو آية الدين، وكذا يجري نحوه فيما يرقى به أو يستدل. انتهى. وهذا غير ظاهر فقد صرح ابن مرزوق أنه يتعوذ بالقرآن وإن لم يكن فيه لفظ التعوذ ولا معناه. انظر حاشية الشيخ بناني. وهذا الذي قاله ابن مرزوق في غاية الوضوح. والله سبحانه أعلم. وقال الشيخ الأمير: ونوقش؛ يعني ما مر عن الحطاب وغيره بأن القرآن كله حصن وشفاء. انتهى. قال الشيخ عبد الباقي: ولا ثواب فيما يقرأ لتعوذ ونحوه أصلا؛ لأن الثواب منوط بالقصد امتثالا إن لم يقصد الذكر، فإن قصده فله ثواب الذكر فيما يظهر، كما ذكره الشافعية فيما يقرأ يقصد به الذكر. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: قوله ولا ثواب فيما يقرأ لتعوذ ونحوه الخ فيه نظر، والذي في الحطاب عن الطراز: ولا يعد قارئا ولا له ثواب القراءة انتهى. وهذا لا
(1)
كنز العمال، رقم الحديث:2770.
ينفي الثواب مطلقا بل ينفي ثواب التلاوة فقط انتهى. وقوله: "إلا كآية" ظاهره ولو كانت الآية طويلة كآبة الدين وهي: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} إلى {عَلِيمٌ} من قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)} . انظر الشبراخيتي. والاستثناء منقطع كما في الخرشي وغيره، وقوله:"إلا كآية لتعوذ ونحوه" إنما جاز ذلك لما في المنع على الإطلاق من المشقة. وفي الخرشي: وله أن يجمع بين آيات الاستدلال والتعوذ، ونحو التعوذ الرد على القارئ لمنعه عن الوقوع في الحرمة، ولا بأس بكتابة صحيفة فيها البسملة وشيء من القرآن والمواعظ والظاهر أن من الرقى ما يقال عند ركوب الدواب مما يدفع عنها مشقة الحمل. انتهى.
ودخول مسجد يعني أن الجنابة تمنع ما مر، وتزيد عليه أنها تمنع دخول المسجد، ولو لم يكن مؤبدا، ولذا نكره، وشمل ما كان مستأجرا، ويرجع بعد مدة الإجارة حانوتا، وشمل المغصوب أيضا، وشمل مسجد بيته. وقال الأقفهسي: يجوز مكثه فيه؛ يعني في مسجد بيته. ونحوه لابن عرفة، وليس للصحيح الحاضر أن يتيمم ويدخل المسجد إلا أن لا يجد الماء إلا في جوفه، أو يلتجئ إلى المبيت به، أو يكون بيته داخله، وأما المريض والمسافر فلهما دخوله بالتيمم. ويخرج من أصابته جنابة فيه من غير تيمم إن أمكنه الخروج منه، وإلا تيمم لمكثه فيه. قاله الشبراخيتي. وفي ابن عرفة: وينبغي لمن احتلم في مسجد تيممه لخروجه وفي كتاب الشيخ الأمير: وإن احتلم فيه فهل يتيمم لخروجه منه كما في النوادر، أولا؟ وهو الأقوى كما في الحطاب لما فيه من طول المكث، والإسراع بالخروج أولى؛ [لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتيمم لما دخله ناسيا، وخرج واغتسل وعاد للصلاة رأسه يقطر]
(1)
)، وقد يقال من خصوصياته صلى الله عليه وسلم: إباحة مكثه بالمسجد جنبا إلا أن يلتفت للتشريع. انتهى. وسطح المسجد وصحنه حكمهما حكم المسجد، وأما الخارج عن جداره؛ وهو المسمى بفنائه فلا، وإنما منع الشيوخ صلاة الفجر به والإمام يصلي، ووضع الجنازة فيه حتى يفرغ الإمام فيصلي عليها لقربه منه لا لأنه منه والمنع حاصل، ولو بني
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قياما فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب فقال لنا "مكانكم" ثم رجع فاغتسل ثم خرج إلينا ورأسه يقطر فكبر فصلينا معه. البخاري، كتاب الغسل، رقم الحديث:275. ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم الحديث: 605.
بأرض مغصوبة لصحة الجمعة فيما بني بأرض مغصوبة على الراجح، وللجنب الأكل والشرب. قاله ابن عرفة. وقال الشيخ زروق: ويقال إن الأكل على الجنابة يورث الفقر. انتهى. قال الشيخ ابن زكري: يقيد بما إذا لم يتوضأ واتخذ ذلك عادة. انتهى.
ولو مجتاز يعني أنه يحرم على الجنب أن يدخل المسجد ولو مارا به ذاهبا عنه؛ ورد بلو القول بأن المجتاز، وهو الذي لا يمكث، وإنما مر به ذاهبا عنه لا يمنع له دخول المسجد في تلك الحالة مستدلا بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} قال زيد بن أسلم: لا بأس للجنب أن يمر بالمسجد عابر سبيل انتهى. ويكون المراد بالصلاة مواضع الصلاة، أي لا تقربوا مواضع الصلاة إلا عابري سبيل أي مجتازين، وتأول إمامنا مالك رضي الله عنه، قوله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} ، الآية أي لا تفعلوا الصلاة في حال السكر، ولا تفعلوها وأنتم جنب إلا عابري سبيل؛ أي إلا وأنتم مسافرون بالتيمم. وأجاز ابن مسلمة دخوله مطلقا. واعلم أنه لا اختلاف في أن لظهر المسجد من الحرمة ما للمسجد، قال إمامنا مالك: وكان عمر بن عبد العزيز يفرش له على ظاهر
(1)
المسجد في الصيف فيبيت فيه، ولا تأتيه امرأة ولا تقربه، وكان فقيها. قاله الإمام الحطاب. وفيه: ولا فرق بين المسجد المحبس والمستأجر، وإن كان يرجع بعد الإجارة حانوتا. انتهى. وقوله: مسجد بكسر الجيم وتفتح جيمه.
ككافر يعني أن الكافر يمنع من دخول المسجد كما يمنع منه الجنب؛ يعني أي مسجد كان، فالتشبيه في المنع من دخول المسجد كما علمت. وإن أذن مسلم يعني أن الكافر لا يبيح له دخول المسجد إذن مسلم له في ذلك، خلافا لقول الإمام الشافعي: يجوز بإذنه ما عدا المسجد الحرام، ولقول الإمام أبي حنيفة: لا يمنع الكافر من جميع المساجد. انتهى. وقوله: "ككافر وإن" الخ، ومحل المنع ما لم تدع ضرورة إليه وإلا جاز، ولذا لم يمنع الإمام من بنيان النصاري مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الضرورة قلة أجرة الكافر عن المسلم وإتقانه على الظاهر. قاله
(1)
في الحطاب، ج 1 ص 489: على ظهر.
الشيخ الأمير. وأباح إمامنا مالك ذلك مع الضرورة؛ لأن من العلماء من أباح دخولهم كما مر، ولحديث:[كان ثمامة مربوطا في المسجد قبل أن يسلم]
(1)
)، ولما ذكر فيما مر أن من شك أمذى أم أمنى اغتسل، ذكر علامات ليعرفه بها فيغتسل وكان الأولى ذكرها هناك فقال: وللمني تدفق يعني أن المني له علامات منها التدفق؛ وهو الخروج بقوة وهذا إذا كان من رجل، وإن كان من أنثى فلا يتدفق بل يسيل كما يفيده الشبراخيتي. ومنها رائحة طلع أي طلع الذكر من النخل إن كان من رجل، ورائحة طلع الأنثى من النخل إن كان من امرأة؛ أي للمني رائحة كرائحة الطلع، والطلع نور النخل، أو عجين يعني أن من علامات المني أن رائحته قريبة من رائحة الطلع وقريبة من رائحة العجين في الرجل والمرأة. كما للشيخ عبد الباقي. وهذا إذا كان المني في حال رطوبته، وأما إذا يبس فكرائحة البيض. ومني الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر كما في الحديث
(2)
، قالوا ومني الرجل مر، ومني المرأة مالح. وجميع ما مر مع اعتدال مزاج كل، وأما المريض فإنه يتغير منيه وتختلف رائحته كما في الخرشي. وقال الفاكهاني: خواص المني ثلاث: الأولى الخروج بشهوة مع الفتور عقبه، الثانية الرائحة كرائحة الطلع قريبة من رائحة العجين، الثالثة الخروج بتدفق. فكل واحدة من هذه الثلاث إذا انفردت اقتضت كونه منيا فإن فقدت كلها فليس بمني. قاله الإمام الحطاب. وقال الشبراخيتي: وقوله: "أو عجين" عبارة غيره رائحته كرائحة الطلع قريبة من رائحة العجين، فأو في كلامه بمعنى الواو. انتهى.
ويجزئ عن الوضوء يعني أن الغسل بنية الجنابة أو الحيض أو النفاس يجزئ عن غسل أعضاء الوضوء للحدث الأصغر إن كان شيء مما ذكر حاصلا في نفس الأمر. وسواء طرأت على الحدث الأصغر أو هو عليها خلافا لبعض الشافعية في إيجاب الوضوء بعد الغسل في الثانية، بل وإن تبين بعد اغتساله عدم جنابته أو حيضها أو نفاسها؛ لأن الأصغر يدخل تحت الأكبر لخبر: [أي
(1)
بعث النبي صلي الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:462. ومسلم، كتاب الجهاد والسير، رقم الحديث: 1764.
(2)
مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، رقم الحديث:311.
وضوء أعم من الغسل]
(1)
). قاله الشيخ إبراهيم. والمراد بالعموم في الخبر الاستيعاب كما في الخرشي، وقوله:"ويجزئ"؛ أي والأفضل الوضوء كما صرح به غير واحد، وهو ما مر من قول المصنف. ثم أعضاء وضوئه. وقوله:"وإن تبين عدم جنابته" فهم منه أنه يعتقد أن عليه الأكبر، وأما إن تلاعب بنية الغسل مع جزمه أنه لا جنابة عليه، فإنه لا يجزئه كما نص عليه الشيخ الأمير. وذلك واضح؛ لأنه خرج بذلك عن سنن الشرع، ومحل إجزاء الغسل إن لم يُحدث بعد غسل شيء من أعضاء الوضوء، فإن أحدث بعده فلا يخلو من صورتين: الأولى: أن يحدث بعد تمام غسله فهذا كمحدث، فيغسل ثلاثا، ويلزمه أن يجدد وضوءه بنية اتفاقا. الثانية: أن يُحدث في أثناء غسله بعد أن غسل أعضاء الوضوء أو بعضها، فهذا إن لم يرجع فيغسل ما غسل من أعضاء وضوئه قبل حدثه فإنه لا يجزئه الغسل عن الوضوء. وهل يفتقر في رجوعه إلى نية أو تجزئه نية الغسل؟ قولان لابن أبي زيد والقابسي مبنيان على القولين: هل يرتفع الحدث عن كل عضو بكماله. أو لا؟ ولا قائل بالإجزاء إن ترك ما قبل الحدث من أعضاء الوضوء بالكلية. هذا تحرير المسألة. وأما كلام الشيخ عبد الباقي فغير صحيح. والله سبحانه أعلم. انظر حاشية الشيخ بناني. وشرح الشيخ الخرشي الكبير. وما تقدم عن الشيخين واضح حيث فعل ذلك في أثناء الغسل، فإن لم يفعله إلا بعد تمام الغسل، فأبو محمد يقول بتجديد النية بالأولى، وهل يلزم تجديدها عند القابسي لانقضاء الطهارة أو لا؛ لأن الفصل يسير قولان للشيوخ المتأخرين. قاله الإمام المازري وغسل الوضوء عن غسل محله هذه المسألة عكس التي قبلها باعتبار أن نية الأصغر هنا أجزأت عن نية الأكبر وفي التي قبلها أجزأت نية الأكبر عن نية الأصغر، يعني أن الجنب إذا غسل أعضاء وضوئه بنية رفع الحدث الأصغر، وبقية جسده بنية الأكبر، فإن ذلك يجزئه عن إعادة غسل تلك الأعضاء مرة أخرى بنية الجنابة حيث كان متذكرا لجنابته عند غسل أعضاء وضوئه بنية الأصغر، بل ولو كان ناسيا لجنابته عند غسلها بنية الأصغر. قال الشيخ أحمد في تقرير المصنف: ومعنى ذلك أنه غسل أعضاء الوضوء بنيته، ثم أراد أن يقتصر على ذلك، ولا يغسلها
(1)
كنز العمال، رقم الحديث:27373.
بنية الجنابة فإن ذلك يجزئه لأن نية الوضوء. تجزئ عن نية الغسل وليس المعنى أنه يفعل الجميع بنية الوضوء حتى أنه لو ذهل عن النية للغسل بعد الوضوء وفعل الباقي بعد الذهول يكفيه ذلك؛ لأنه قد فعل ما بعد الوضوء بغير نية؛ إذ نية الوضوء لا تعم جميع الأعضاء وهذا ظاهر. انتهى. نقله الشيخ عبد الباقي. وأشار المصنف هنا بلو لرد قول مخرج وليس لمجرد التوهم، خلافا للسنهوري. انظر كبير الخرشي. واحترز بقوله: وغسل الوضوء عن مسح الوضوء فلا يجزئ؛ لأن مسح الوضوء لا يجزئ عن غسل محله، وكذا لا يجزئ مسحه عن مسح محله عند أشياخ ابن عبد السلام. وأفتى هو بالإجزاء، وصورة ذلك أن من به نزلة في رأسه ولا يقدر على غسله في الغسل فإنه يمسحه، فإن مسحه بنية الوضوء فيجزئه ذلك عن مسح محله في الغسل عند ابن عبد السلام دون أشياخه. ويفهم مما هنا أن المراد بغسل الوضوء الغسل الأصلي، وأما لو غسل رأسه في الوضوء فلا يجزئه عن غسله في الغسل؛ لأن غسله في الوضوء إما حرام أو مكروه أو خلاف الأولى على ما مر من الخلاف فيه فلم ينب واجب عن واجب، وليس كمسألة ابن عبد السلام وأشياخه؛ لأن تلك لم يرتكب فيها منهيا عنه بخلاف هذه. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ الأمير: ويجزئ عن الوضوء وإن تبين عدم جنابته لا إن تلاعب بنية الغسل بلا جنابة كعكسه، وإن ناسيا لها؛ أي الجنابة عند الوضوء، ولو غسل رأسه في الوضوء ولمعة الغسل منها على الظاهر، وكذا غسل جبيرته وأولى مسح عن مسح، لا تيمم الوضوء عنه كما يأتي. انتهى. يعني عن التيمم بنية الأكبر، والله سبحانه أعلم. وقوله: كعكسه تشبيه في الإجزاء كلمعة منها أي من الجنابة. ولما شمل قوله: "وغسل الوضوء عن غسل محله" ما إذا تقدم غسل الوضوء عن غسل الجنابة أو تأخر، وإن كانت المبالغة؛ أعني قوله:"ولو ناسيا لجنابته" قاصرة عن الأول ذكر هذا على وجه التمثيل للإيضاح؛ يعني أن من ترك لمعة من الجنابة في أعضاء الوضوء ثم غسلت في الوضوء بنية الأصغر، فإن ذلك يجزئه في استيعاب جميع ظاهر الجسد الواجب في غسل الجنابة. واللمعة بضم هي ما لا يصيبه الماء عند الغسل.
وإن عن جبيرة يعني أن اللمعة المتروكة من الجنابة في أعضاء الوضوء إذا انغسلت فيها بنية الأصغر فإن ذلك يجزئ كما عرفت، ولا فرق في الإجزاء بين أن تكون اللمعة من عضو صحيح بأن
يكون لا جبيرة عليه، وبين أن تكون اللمعة عن جبيرة بأن يغتسل بنية الجنابة، وعلى أحد أعضاء وضوئه جبيرة فسقطت الجبيرة وغسل محلها في أعضاء الوضوء بنية الأصغر، فالإجزاء ثابت في الصورتين. قال غير واحد: كان المناسب أن يبالغ على العضو الصحيح، فيقول: وإن في صحيح؛ لأن هذا هو الذي يكون فيه ما قبل المبالغة أولى بالحكم مما بعدها. انتهي، ولو قدم هذه المسائل من قوله:"ويجزئ عن الوضوء" إلى هنا عند قوله: ثم أعضاء وضوئه كاملة لكان أحسن ولما أنهى الكلام على الطهارة الأصلية صغرى وكبرى، شرع في الكلام على نائب عن بعض الصغرى خاص ببعض الأعضاء، وبدأ بحكمه فقال:
فصل يذكر فيه المسح على الخفين
؛ وهو إمرار اليد المبلولة في الوضوء على خفين ملبوسين على طهارة مائية تحل بها الصلاة بدلا عن غسل الرجلين. والمسح على الخفين مروي عن سبعين صحابيا، نص عليه الشاذلي في التحقيق رخص بالبناء للمفعول ونائبه مسح الآتي؛ يعني أن المسح على الخفين رخصة، والرخصة بإسكان الخاء لغة: السهولة، واصطلاحا: حكم شرعي متغير من صعوبة لسهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي، والصعوبة هنا: وجوب غسل الرجلين، والسهولة: جواز المسح، والعذر هنا هو: مشقة النزع واللبس، والسبب للحكم الأصلي: القيام إلى الصلاة. قال جل من قائل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} الآية. والحكم هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين من حيث إنهم مكلفون، وهذا على رأي الأكثر. ورأى بعضهم أن بعض أقسام الحكم يتعلق بغير المكلف؛ وهو الندب، والإباحة، والكراهة. والذي يخص المكلف إنما هو الوجوب، والحرمة. وعلى هذا يجري الخلاف في تعلق هذه الرخصة بغير المكلف. والرخصة بفتح الخاء: المتتبع للرخص. انتهى ملخصا من حاشية الشيخ بناني، والشبراخيتي. وفي الخرشي أن الرخصة تكون واجبة ومندوبة ومباحة، وخلاف الأولى كأكل الميتة، والقصر والسلم وفطر مسافر لا يجهده الصوم، فالرخصة حل المذكورات من وجوب وندب وإباحة وخلاف الأولى، وحكمها الأصلي الحرمة، وأسبابها؛ أي الحرمة: الخبث في الميتة، ودخول وقتي الصلاة والصوم لا القصر، والفطر؛ لأنه سبب لوجوب الصلاة تامة، والصوم والغرر في السلم؛ وهي قائمة أي موجودة حال الحل وأعذار الحل الاضطرار ومشقة السفر، والحاجة إلى الثمن، وسهولة الوجوب في أكل الميتة لموافقته لغرض النفس في بقائها، وقيل عزيمة لصعوبته من حيث وجوبه. ومن الرخصة إباحة ترك الجماعة لمرض مثلا، وحكمه الأصلي الكراهة الصعبة بالنسبة إلى الإباحة، وسببها الانفراد فيما يطلب فيه الاجتماع من شعائر الإسلام، فإن لم يتغير الحكم أصلا كوجوب الصلوات الخمس، أو تغير إلى صعوبة كحرمة اصطياد المحرم، أو إلى سهولة لا لعذر كحل ترك الوضوء لصلاة ثانية مثلا لمن لم يحدث بعد حرمته في صدر الإسلام، أو لعذر لا مع قيام السبب للحكم الأصلي كإباحة ترك ثبات الواحد مثلا من المسلمين للعشرة من الكفار في القتال، وسبب الحرمة قلة المسلمين ولم تبق مع الكثرة
والعذر مشقة الثبات المذكور لما كثروا فعزيمة؛ وهى لغة: القصد المصمم؛ لأنه عزم أمره أي قطع، وحتم، صعب على المكلف أو سهل. انتهى. وأخرج الطبراني عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال:[إن الله يحب أن تقبل رخصه كما يحب أن تؤتي عزائمه]
(1)
)، ولا يرد هذا على ما ذموه من تتبع الرخص؛ لأن مرادهم بالرخص المذموم تتبعها ما ينقض عنه حكم الحاكم، وهو أربعة: ما خالف الإجماع، أو القواعد، أو النص، أو القياس الجلي. قاله الشبراخيتي. ففيه يجوز تقليد المخالف في الفروع بشروط الأول: أن لا يلفق بحيث يجمع بينهم على صفة تخالف الإجماع؛ أي إجماع من عمل بقوله أولا، ومن يريد تقليده ثانيا كمن تزوج بلا ولي وبلا شهود، ومن ترك الدلك وقلد الشافعي ولم يبسمل في الفاتحة في صلاته التي ترك الدلك من وضوئها. الثاني: أن يعتقد فيمن قلده الفضل بوصول أخباره إليه ولا يقلده في عماية. الثالث: أن لا يتتبع رخص المذاهب؛ والمراد بالرخص ما ينقض عنها حكم الحاكم وهو أربعة: ما خالف الإجماع، أو القواعد، أو النص، أو القياس الجلي. وليس المراد بها ما فيه سهولة على المكلف كيفما كان، فمن قلد مالكا في الأرواث والمياه وترك الألفاظ في العقود لا يقال إنه مخالف لتقوى الله تعالى. وقد أفتى ابن القاسم ولده حين حلف بالمشي إلى مكة بكفارة يمين وقال: أفتيتك بقول الليث، وإن عدت لم أفتك إلا بقول مالك بلزوم المشي، ويجوز التقليد ولو بعد الفعل، فمالكي مسح بعض رأسه وصلى ثم قلد الشافعي صح له ذلك. انتهى كلام الشبراخيتي. وهو مخالف لما قاله ابن زكري عند قول الشيخ زروق في النصيحة الكافية: ومن أعظم الآفات صحبة الأحداث وتتبع الرخص والتأويلات، ونصه تقدم في مبحث الأمر بالمعروف أن تتبع الرخص ممتنع إجماعا، وأن ما ذكر عن أبي إسحاق المروزي من تجويزه غير صحيح، فلا يجوز لأحد أن ينتقد من كل المذاهب أطيبها، فيعتمد قول من رخص في الخلوة بالمرد والنظر إليهم، وقول من رخص في السماع وإنشاد الأشعار المشتملة على ذكر الخدود والقدود، وهكذا يتبع رخص المذاهب. ثم قال: وأعظم بلية من هذا الأخذ بالأقوال الشاذة والتأويلات كعدم قضاء الفوائت على القول بأن قضاء الفوائت
(1)
الطبراني في الأوسط الحديث 8032/ 4927. ومجمع الزوائد، ج 3 ص 165.
لا يجب، وقد أنكره عياض وغيره عن مالك، وكعدم رد المظالم أخذا من أن الإسلام يجب ما قبله؛ وهو رأي فاسد، وكالقول بأن النوافل تسد مسد الفرائض. انتهى كلام ابن زكري. وقوله:"رخص"؛ أي جوازا على المشهور، والغسل أفضل عند الجمهور قاله الفاكهاني. فلا عبرة بإنكار أبي على له. وقيل يجب، ومعناه إن اتفق كونه لابسا لهما لا أنه يجب عليه أن يلبسهما ويمسح. وقيل يندب. وقيل لا يجوز، وحمل القول بالوجوب على ما إذا كان لابسا فأراد أن يخلعه لغير عذر، لا أنه يجب عليه أن يلبس ليمسح، فإن قيل كيف يكون المسح مباحا مع أن ابن ناجي صرح بأنه ينوي به الفرض؟ فالجواب أنه لا مانع من أن يكون مباحا باعتبار جهة، وواجبا باعتبار أخرى فيكون مباحا من جهة أنه لا يتعين فعله، وواجبا إن فعله لتأدية الصلاة به؛ إذ المتوضئ يجب عليه أحد أمرين: إما الغسل، وإما المسح. فهو من قبيل الواجب المخير فيه: قال الشيخ إبراهيم والأولى أن لا يؤم الماسح غير الماسح للخلاف المذكور وليس بمكروه، كما تكره إمامة المتيمم للمتوضئ، وإمامة ماسح الجبيرة لغيره. انتهى. وفي حديث الطبراني:[إن الله يحب أن تقبل رخصه كما يحب العبد مغفرة ربه]
(1)
)، لرجل متعلق برخص؛ يعني أنه يرخص للرجال في المسح على الخفين وامرأة يعني أن رخصة المسح على الخفين لا تختص بالرجال بل تعم النساء والرجال، وعمم المصنف؛ لأنه يتوهم قصر رخصة المسح على الرجل؛ لأنه الذي يضطر إلى أسباب المسح غالبا من شغل وخوف فوات رفقة مثلا، فلذا نص على أنه لا فرق بين الرجال والنساء في ذلك. قاله غير واحد. وإن مستحاضة يعني أن المرأة المستحاضة لها أن تمسح على الخفين. والمستحاضة هي التي زاد دمها على عادتها، وعلى أيام الاستظهار لازمها الدم أكثر الزمن أو ساوى أو نقص أو دام، وبالغ عليها للرد على من يقول من الحنفية إنها إن لبسته بعد تطهرها، وقبل أن يسيل منها شيء مسحت كما يمسح غيرها أي تمسح دائما، وإن لبسته والدم سائل مسحت ما دام الوقت باقيا على قول، أو يوما وليلة على قول حكاه صاحب الطراز. نقله الحطاب، وغيره.
(1)
الطبراني في الأوسط الحديث. 4927.
بحضر الباء للظرفية متعلقة برخص أو مسح. قاله الشيخ عبد الباقي، والشيخ إبراهيم، وغيرهما. أو سفر عطف على بحضر، ومعنى كلام المصنف أنه لا فرق بين الحضر والسفر في جواز المسح على الخفين، فيجوز للرجال والنساء المسح عليهما في الحضر والسفر، وما ذكره المصنف من التعميم في الحضر والسفر هو المذهب، وبه قال في الموطإ، وهو رواية ابن وهب والأخوين عن مالك. وروى ابن القاسم عنه أيضا: لا يمسح الحاضر. وعنه أيضا: لا يمسح هو ولا المسافر. فما ذكره الشيخ عبد الباقي وغيره من أن السفر متفق على المسح فيه، غير صحيح. انظر حاشية الشيخ بناني.
واعلم أن المستحاضة إذا كان انقطاع الدم عنها أكثر من إتيانه لها، وقلنا إن ذلك يوجب عليها الوضوء كما هو المشهور، يجب أن يكون لبسها للخف قبل أن يسيل منها شيء، وإن لبسته بعد أن سال منها شيء لم يجزها المسح: لأنها لبسته على غير طهارة، كما هو واضح. وأما إذا استوى الأمران أو كان إتيانه لها أكثر من انقطاعه، فإن المذهب أنها تمسح عليه سواء لبسته بعد تطهرها وقبل أن يسيل منها شيء، أو بعد أن سال؛ لأن ما سال لا يوثر في نقض الطهارة، إلا أنها إذا استحب لها أن تتطهر لكل صلاة، استحب لها أن يكون لبسها للخف عقب غسلها من الحيض، ووضوئها قبل أن يسيل منها شيء، قاله الإمام الحطاب.
مسح جورب: مضاف ومضاف إليه، والأول نائب رخص، وضمنه معني أبيح؛ لأن رخص إنما يتعدى بفي، والمرخص له يتعدى باللام؛ يعني أنه يباح للرجل والمرأة مسح الجورب في الوضوء. والجورب هو ما كان على شكل الخف من قطن أو كتان أو غيرهما، وإنما يمسح على الجورب بشرط أن يكون قد جلد ظاهره وباطنه يعني أنه يشترط في المسح على الجورب أن يجلد ظاهره أي يجعل عليه جلد، وأن يجلد باطنه أيضا. وظاهره هو ما يلي السماء، وباطنه هو ما يلي الأرض، وليس المراد بالباطن ما يلي الرجل.
وخف: بالجر عطف على جورب؛ يعني أنه يرخص في المسح على الخف للرجال والنساء، وكان ينبغي للمصنف تقديم الخف على الجورب؛ لأن الخف هو الأصل، لكن قدم الجورب اهتماما به نظير ما قيل في قوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} من أنه قدم الوصية اهتماما
بأمرها لكونها كانت غير معهودة عندهم على الدين المعهود عندهم وعند كل أحد، وهو آكد منها ولو على خف يعني أنه لا يشترط في المسح على الخف أن يكون الخف الذي يمسح عليه منفردا، وكذا الجورب، بل يمسح على خف ملبوس على خف، كما يمسح على جورب على خف أو جورب، فالمبالغة راجعة لهما. كما قاله الطخيخي، قاله الشيخ إبراهيم. لكن يشترط أن يلبس الثاني بعد مسح الأول، أو يلبسهما وهو غاسل رجليه، وأما إذا لبس خفين بشرطهما ثم أحدث، فلبس فوقهما آخرين، فإنه لا يمسح على الأعليين. والحاصل أنه يمسح حين لبسهما معا على طهارة كاملة، أو الأعلى قبل انتقاضها وقبل المسح على الأسفل أو بعد المسح على الأسفل، وقبل انتقاض طهارته فيمسح الأعلى بعد انتقاضها في هذه الثلاث، فإن لبسه مع انتقاضها لم يمسح الأعلى بل ينزعه ويمسح على الأسفل. فهذه أربع يمسح على الأعلى في ثلاث منها، ولا يمسح عليه في واحدة. وكذا يقال في الذي في إحدى رجليه جورب، وفي الأخرى خف؛ إذ لا يشترط تساوي ما في الرجلين جنسا ولا عددا، وقوله:"ولو على خف" رد بلو القول بأنه لا يمسح على الأعليين، والخلاف جار مطلقا سواء لبس الأعليين قبل أن مسح على الأسفلين، أو بعد أن مسح عليهما. وزعم اللخمي أن الخلاف إنما هو إذا لبس الأعليين عقب طهارة غسل الرجلين، وأما إن لبس الأول ثم أحدث فتوضأ ومسح عليه ثم لبس خفا آخر ثم أحدث فإنه يمسح على الأعلى قولا واحدا. انتهى. وليس الأمر كما زعم، بل القولان لمالك مطلقا بل الصورة التي جعل الخلاف فيها هي أولى بالجواز قولا واحدا، والتي جعل الجواز فيها قولا واحدا هي أحرى بالخلاف. قاله في الطراز. قاله الحطاب. قال: وما قاله صاحب الطراز ظاهر. والله أعلم. ولا فرق بين أن يلبس خفا على خف، أو جوربا مجلدا على خف. انتهى. فإن قيل إذا كان مسح الأعليين بدلا عن الأسفلين فلا يمسح عليهما حتى يلبسهما بعد مسح الأسفلين، وإن كان بدلا عن غسل الرجلين لزم أنه إذا نزع الأعليين بادر لغسل الرجلين، فالجواب أن مسحهما بدل عن غسل الرجلين. وإنما يلزم غسل الرجلين لو لم يحصل عنه بدل آخر، وقد حصل؛ وهو مسح الأسفل إذا نزع الأعلى. قاله الأبي. نقله الشيخ إبراهيم بلا حائل: هو ظرف لغو متعلق بمسح، والباء باء المصاحبة أي مسحا مصاحبا لعدم الحائل، لا حال خلافا للزرقاني، قاله الشيخ إبراهيم. يعني أنه
لا بد من مباشرة الخف بالمسح فإذا مسح على الخف من فوق حائل فكمن ثم يمسح عليه، ولهذا إذا كان الحائل بأعلى الخف؛ أي ما يلي السماء، كان الماسح عليه كمن ترك مسح على الخف فتبطل صلاته، وإذا كان الحائل بأسفل الخف، أعني ما يلي الأرض، كان الماسح عليه كمن ترك مسح أسفل الخف. قاله الشيخ إبراهيم. وسيقول المصنف: وبطلت إن ترك أعلاه لا أسفله، ففي الوقت كطين مثال للحائل، وذكر الطين لأنه محل توهم المسامحة، فلا فرق بين الطين وغيره. وعلم مما قررت أن المراد بالحائل ما يحول بين اليد المبلولة والخف، وأما الحائل بين الخف والرجل فلغو. قاله غير واحد. وفي الأمير: وإن لبس فوق حائل على القدم كلفائف. وانظر هل من الحائل شعر الجلد أم لا، وظاهر قوله: جلد، يشمل ما به شعر، لكنه يبعد فيما كثر شعره كالغنم والمعز. قاله الشيخ إبراهيم. ومن مسح ليدرك الصلاة ونيته أن ينزع ويغسل إذا صلي فإنه يجزئه، بخلاف من توضأ ومسح على خفيه ونوى إن حضرت الصلاة نزع وغسل رجليه، فإنه لا يجزئه، ويبتدئ الوضوء كمن تعمد تأخير غسل رجليه. قاله الإمام الحطاب. ونقله الشيخ إبراهيم. وقال: يفهم من التشبيه أن هذا في حال الطول. انتهى. وسيأتي أن الخف إذا تمزق من أسفله امتنع المسح عليه، وإن كان أعلاه صحيحا. كما في الطراز. فليس الخرق كالحائل كما علمت، فإن المسح مع الحائل على الأسفل كلا مسح، فيعيد في الوقت. والفرق أن الخرق انعدمت فيه حقيقة الخف. وفي الخرشي أن الخف يقال للفردتين؛ فهو مثنى في المعنى مفرد في اللفظ انتهى.
إلا المهماز مستثنى من الحائل؛ يعني أن الحائل يمنع من المسح على الخف إلا أن يكون الحائل الذي على الخف مهمازا، فإنه يجوز المسح على الخف من فوقه بشرط أن يكون مأذونا في اتخاذه لراكب بسفر فقط، لا من كذهب ولا غير راكب ولا حاضر، ثم من زمن ركوبه غالب يمسح عليه ركب أم لا، ومَن زمنُ ركوبه نادر يمسح عليه إن ركب لا إن لم يركب قاله الشيخ عبد الباقي. وفي نوازل سحنون: وسئل عن الركوب بالمهاميز فقال: لا بأس بذلك، وأراه خفيفا. ابن رشد: وهذا كما قال لأن الدواب لا تملك ولا يتأتى فيها ما أذن الله فيه من ركوبها إلا به في أغلب الأحوال. وقال في التوضيح: ونقله الباجي وغيره عن مالك أنه قال: لا بأس بسرعة السير في
الحج على الدواب وأكره المهاميز، ولا يصلح الفساد، وإذا كثر ذلك خرقها. وقد قال: لا بأس أن ينخسها حتى يدميها. قاله الإمام الحطاب. وقال الشيخ الأمير: واغتفر مهماز صغر كسلك أو كبر، وهو مباح احتاج له مسافر. انتهى. والمهماز كمفتاح: آلة همز الدابة، قاله الأمير.
ولا حد يعني أنه لا حد لمقدار زمن المسح؛ أي لا حد واجب، وأما الحد المندوب فسيقول المصنف: وندب نزعه كل جمعة. وشروط المسح عشرة، خمسة منها في الممسوح أشار إليها بقوله: بشرط جلد الباء بمعنى مع متعلقة برخص، يعني أن المسح إنما يكون على الجلد لا على ما كان على شكل الخف من قطن أو كتان ونحوهما، ولا مالف على الرجل من الخرق. قاله الشيخ إبراهيم وغيره. وشرط هنا بمعنى اشتراط فهو من إضافة المصدر لمفعوله؛ أي اشترط الشارع أن يكون المسح على جلد طاهر يعني أنه كما يشترط في المسح أن يكون على جلد، يشترط فيه أيضا أن يكون الخف أو الجورب المجلد ظاهره وباطنه طاهرا، أو معفوا عنه كما تقدم في قوله: وخف ونعل من روث دواب أو بولها، وهذان شرطان كون الممسوح عليه جلدا، وكون الجلد طاهرا. وأشار إلى الشرط الثالث بقوله: خرز يعني أن يشترط في المسح مع الشرطين المذكورين أن يكون الجلد الممسوح عليه مخروزا، فاحترز بالطاهر من النجس كجلد الميتة فلا يمسح عليه، وكذا المتنجس، وشمل كلامه الكيمخت؛ لأنه طاهر على أحد الأقوال: وهو جلد الحمار، ونحوه المدبوغ. وعليه فيمسح على الخف المعمول منه، واحترز بقوله:"خرز" مما لصق أو سلخ على هيئة الخف. قاله الشيخ إبراهيم الشبراخيتي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: هذان الشرطان؛ يعنى قوله جلد طاهر غير محتاج إليهما، أما الأول فلأن الخف لا يكون إلا من جلد، والجورب قد تقدم اشتراطه فيه، وقد يجاب بأن لفظ جلد هنا إنما ذكر توطئة لما بعده. وأما الثاني فاعترضه الرماصي بأنه يؤخذ من فصل زوال النجاسة، ولا يذكر هنا إلا ما هو خاص بالباب، وبأن ذكره هنا يوهم بطلان المسح عند فقده عمدا أو سهوا أو عجزا، كما أن الشروط المذكورات كذلك، وليس كذلك في شرط الطهارة؛ لأن له حكم إزالة النجاسة من التفريق بين العمد والسهو والعجز كما تقدم، والخلاف بين الوجوب والسنية. انتهى. باختصار انتهى. وفي الحطاب ما نصه: فلا
يمسح على خف من جلد ميتة ولو دبغ على المشهور. قاله في الشامل. انتهى. وقوله: "خرز" إنما اشترط الخرز قصرا على الوارد كما للشيخ الأمير.
وستر محل الفرض هذا هو الشرط الرابع؛ يعني أنه يشترط في المسح على الخف أن يكون الخف ساترا لمحل الفرض لا ما نقص عنه إعطاء للبدل حكم المبدل منه، وإن جمع مع المسح الغسل لم يجز، فلذا لابد من ستره لمحل القرض. ومحل الفرض قد قدم المص تبيينه بقوله: وغسل رجليه بكعبيه الناتئين بمفصلي الساقين. قال الشيخ عبد الباقي: عقب قوله، وستر محل الفرض بذاته دائما لا ما نقص عن محل الفرض، وخيط في سروال لعدم ستره بذاته، ولأنه لم يجلد ظاهره وباطنه لمنتهي الفرض، وأما ما ستر في حالة دون أخرى فيمسحه في حالة ستره لا في حالة عدمه كالنعل المسمى بالزربون الجمالي، فإنه إذا زرر مسح عليه، وإلا لم يمسح. ولا يقال أزراره كالربط فلا يمسح عليه مطلقا لأنا نقول لما كانت منه لم تعد ربطا. ودخل في قولنا بذاته ما ينزل عن محل الفرض لثقل خياطته بسروال، ويمكن تتابع المشي به مع ستره أصالة لمحله فيرفعه حال المسح عليه، ويصح المسح عليه كما أفتى به الأجهوري فليس كما نقص بذاته عن محل الفرض، وخيط بسروال. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن في قوله فيمسحه في حالة ستره الخ: هذا مثل ما نقله الحطاب عن الطراز في الخف يقطع فوق الكعبين، ونصه وإن كان فيه شرج
(1)
يفتح ويغلق، فإذا أغلقه جاز المسح، وإن فتح غلقه بطل المسح وإن كان لا يبين منه شيء؛ لأنه إذا مشي بان منه. وقوله: في قولنا بذاته ما ينزل عن محل الفرض الخ فيه نظر؛ لأن نزوله عن محل الفرض يصيره غير ساتر لمحل الفرض، فلا يصح المسح عليه. انتهى. والمسح في مسألة الشرح المتقدمة متفق عليه بين المذاهب حتى قال الشافعي: وإن كان فيها شرح يفتح ويغلق، فإذا غلق جاز المسح، وإن فتح غلقه بطل المسح، وإن كان لا يبين منه شيء؛ لأنه إذا مشى بان منه. انتهى. قاله الحطاب.
(1)
في الأصل شرح والمثبت من الحطاب، ج 1 ص 492.
وأمكن تتابع المشي به هذا هو الشرط الخامس، وبه تم الكلام على شروط الممسوح الخمسة؛ يعني أنه يشترط في المسح على الخف أن يكون الخف بحيث يمكن تتابع المشي به عادة لذوي المروءات، وسيأتي محترزه إن شاء الله عز وجل. وتعبير المص بصيغة الاسم في بعض الشروط، وفي بعضها بصيغة الفعل حسن؛ لأن كونه جلدا طاهرا ثابت، وكونه مخروزا ساترا لمحل الفرض يمكن تتابع المشي به متجدد، فعبر في الأولين بالاسم، وفيما بعد ذلك بالفعل. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله:"وأمكن تتابع المشي به" احترز به عن الواسع، وسيذكره وأما الضيق فإن أمكن لبسه مسح عليه، وإلا فلا. قاله الشبراخيتي. والشروط الخمسة الباقية في الماسح، وإليها أشار بقوله: بطهارة ماء يعني أنه يشترط في المسح على الخف أن يكون الشخص قد لبس الخفين على طهارة مائية وضوءا أو غسلا كما في الطراز قائلا: وزعم بعض المتأخرين أنه لا يمسح عليهما في طهارة الغسل، وهذه غفلة. انتهى. انظر حاشية الشيخ بناني. واحترز المص بالشرطين المشتمل عليهما قوله:"بطهارة ماء"؛ وهما أن يلبس الخفين على طهارة، وأن تكون الطهارة مائية عما إذا لبس الخفين على غير طهارة أو على طهارة ترابية فلا يصح المسح عليهما حينئذ، وأشار إلى الشرط الثالث بقوله: كملت يعني أنه يشترط في المسح على الخفين أيضا أن يكون الشخص قد لبسهما بعد كمال الطهارة المائية حسا، بخلاف ما إذا لبسهما بعد كمالها في زعمه، ثم تذكر لمعة. وسيذكر المص محترز هذا، ومعني بأن كانت تستباح بها الصلاة، وإن لم يلبسه عقبها، بخلاف ما لو تطهر لنوم، أو زيارة ولي، أو دخول على سلطان، أو دخول سوق. ودخل في كلام المص ما لو لبس خفيه بعد كمال الطهارة، ثم أحدث ومسح عليهما، ثم لبس خفين آخرين، فيجوز له حينئذ أن يمسح على الأعليين كما تقدم، وشمل المص أيضا طهارة الماء في الماسح على الجبيرة كما في الخرشي، وأشار إلى الشرط الرابع بقوله: بلا ترفه يعني أنه يشترط في المسح أيضا أن يكون الماسح لم يلبس الخفين ترفها؛ أي تنعما أي طلبا للراحة، وسيأتي محترزه إن شاء الله تعالي، وهو قوله: ولا لابس لمجرد المسح أو لينام، ولا يمسح على الخف إن لبسه لحناء. فإن لبسه لكونه صلى الله عليه وسلم لبسه، أو لكونه عادته لبس الخف أو لضرورة حر أو برد فإنه يمسح عليه. كما في الشبراخيتي. وقال غير واحد إنه يمسح عليه إن لبسه لخوف عقارب. قال
الشيخ محمد بن الحسن: وفيه نظر لنقل ابن فرحون عن ابن راشد أنه لا يمسح لابسهما لخوف عقارب، وأقره وجزم به الشيخ سالم. وعصيان بلبسه يعني أنه يشترط في المسح أيضا أن لا يكون الماسح عاصيا بلبسه، وسيأتي محترزه إن شاء الله تعالى.
أو سفره يعني أنه يشترط في المسح أيضا أن لا يكون الماسح عاصيا بسفره. وقوله: وعصيان بلبسه أو سفره هو الشرط الخامس، وبه تم الكلام على شروط المسح على الخف، وصحح سند القول بأن العاصي بسفره يمسح على الخف، فإنه قال في الطراز: إن قلنا يمسح على الخفين في الحضر، فهل يمسح عليهما من سافر في معصية؟ اختلف أصحابنا وأصحاب الشافعي في ذلك فقيل لا يمسح ولا يترخص برخصة حتى يتوب. وقيل يمسح وهو الصحيح. قاله الإمام الحطاب. انتهى. وذكر ابن مرزوق ضابطا: وهو كل رخصة لا تختص بسفر كمسح خف وتيمم وأكل ميتة فتفعل وإن من عاص بسفره، وكل رخصة تختص بسفر كقصر صلاة وفطر برمضان، فيشترط أن لا يكون عاصيا بسفره. وقال الشيخ الأمير: إن قول المص أو سفره ضعيف، وفي الخرشي أن الصحيح أن العاصي بسفره يمسح على خفه. انتهى. وقوله:"بطهارة" متعلق برخص كقوله: بشرط جلد طاهر، أو بقوله: مسح، وتكون إحدى الباءين بمعني مع، والأخرى للسببية لا مع اتحاد معنى الباء فيهما؛ لأنه لا يصح تعلق حرفي جر متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد. قاله غير واحد واحترز المص بالعاصي بالسفر من العاصي فيه لا به، فإنه يمسح عليه، ومن السفر المكروه لكن يكره له المسح فيه. قاله الخرشي. ولما أكمل الشروط العشرة ترك مفهوم الواضح منها، وذكر مفهوم بعضها غير مرتب على ترتيبها السابق اتكالا على ذهن اللبيب. فقال: فلا يمسح واسع هذا محترز قوله: "وأمكن تتابع المشي به"؛ يعني أن الخف إذا كان واسعا بحيث لا يستقر جميع القدم أو جلها فيه، فإنه لا يمسح عليه، وأما الضيق فقال الشبراخيتي: إن أمكنه لبسه مسح عليه، وإلا فلا. انتهى. وقال الشيخ الأمير: قال في الأصل فلا يمسح واسع وسكت عن الضيق. ففي الحش عن الصغير: متى ما أمكن لبسه مسح لكنه خالفه في قراءة عبد الباقي وهو الظاهر. انتهى. ومخرق يعني أن الخف إذا كان مخرقا كثيرا فإنه لا يمسح عليه. والمخرق هو المقطع، وبين التقطع الكثير بقوله: قدر ثلث القدم يعني أن الخف إذا خرق منه قدر ثلث
القدم؛ أي محل المسح، فإنه لا يمسح عليه سواء ظهر منه القدم أم لا، كان من أعلى الخف أو أسفله. وأما التخريق فوق الكعبين فلا عبرة به؛ لأنه ليس في محل المسح فلا يمنع المسح ولو كثيرا، فإن مسح مخرقا قدر ثلث القدم لم يجزه، ولا يجري على قوله: وبطلت إن ترك أعلاه لا أسفله ففي الوقت؛ لأن خرقه يقتضي غسل ما ظهر وهو قد مسح أعلاه. والرخصة عوض لا تجتمع مع المعوض عنه، وما ذكره المصنف من قوله:"قدر ثلث القدم" نحوه لابن بشير، وهو مخالف لما في المدونة، وابن الحاجب، وابن عسكر وغيرهم من أن الكثير هو ما يظهر منه جل القدم. وعبر عنه ابن الحاجب بالمنصوص، ومذهب العراقيين أن الكثير هو ما يتعذر معه مداومة المشي لذوي المروءات، وعول ابن عسكر في عمدته عليه. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ الأمير: والظاهر تلفيقه من متعدد. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: وربما يفهم من قوله: "قدر ثلث القدم" أن المعتبر كل رجل بانفرادها لا مع الأخرى. وعلم مما مر أن المراد بالقدم من العقب إلى آخر الرجل مع الكعبين كما في الخرشي. قال: ولو تعدد الخرق في الخف لفق، وإذا خرج ثلث القدم قلعه وغسله مكانه، فإن أخر ذلك جرى على حكم الموالاة من البناء مطلقا مع النسيان، ومع عدم الطول مع العجز، وإن اطلع على ذلك في صلاة قطع. انتهى.
وإن بشك يعني أن الخرق إذا كان قدر ثلث القدم فإنه يمنع المسح، ولا فرق في ذلك بين أن يتحقق أن الخرق بلغ الثلث، وبين أن يشك في ذلك. فإذا شك هل بلغ التخريق الثلث أو لم يبلغة فإنه لا يمسح عليه؛ لأن الغسل أصل، والشك في الرخصة يبطلها. والظاهر أن المراد بالشك هنا التردد على حد سواء، فيلغى الوهم. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله:"ومخرق قدر" الخ مفهوم قوله: "وستر محل الفرض" لا أقل يعني أن التخريق إذا كان أقل من الثلث فإنه لا يمنع المسح، وفي بعض النسخ لا دونه، ومعناهما واحد؛ أي أن التخريق إذا كان دون ثلث القدم لا يمنع المسح. وفي الحطاب ناقلا عن ابن رشد بعد أن ذكر الروايات: فاستقرأنا من مجموع هذه الروايات أنه يمسح على الخرق اليسير، ولا يمسح على الخرق الكثير. وإذا كان كذلك بإجماع وقامت الأدلة من الكتاب والسنة على أن الثلث آخر حد اليسير وأول حد الكثير، وجب أن يمسح على ما كان الخرق فيه دون الثلث، ولا يمسح على ما كان الثلث فأكثر. انتهى. إن التصق يعني أنه
إنما يمسح على الخرق الذي يكون أقل من الثلث بشرط أن يكون الخف المخرق قد التصق بعضه ببعض في حالة المشي به وحالة عدمه، فلو علم أنه لا ينفتح واتفق انفتاحه بعد ما مسح عليه ثم التصق فكالجبيرة إذا دارت لا يبطل مسحه. قاله الشيخ عبد الباقي. ونحوه للشيخ إبراهيم، وقال عبد الباقي عند قول المص: وبخرقه كثيرا، فإن خيط ورد الرجل مكانها أعاد المسح، ويدل له ما يأتي في الجبيرة من قوله: وإن نزعها لدواء لخ. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: تبع في هذا الأجهوري بناء على زعمه أن الخرق الكثير إنما يبطل المسح لا الطهارة. قال: وكذا نزع أكثر الرجل فإنه يردها ويمسح بالفور. قال الرماصي: وهو غير ظاهر وكأنه خرج بذلك عن أقوال المالكية؛ إذ بظهور الخرق الكثير ونزع أكثر الرجل تحتم غسلها، وبطل المسح. وكلام المدونة ظاهر في مخالفته. وقال ابن عرفة: وخروج قدمه لساقيه نزع. انتهى. انتهى. كلام الشيخ محمد بن الحسن.
كمنفتح صغر تشبيه بالجواز؛ يعني أنه كما يجوز المسح على الملتصق الذي لم يبلغ خرقه الثلث، يجوز المسح على المنفتح الذي لم يلتصق ولم يبلغ انفتاحه الثلث أيضا، لكن بشرط أن يكون في حكم الملتصق بأن يكون انفتاحه صغيرا بحيث لا يصل بلل اليد إليه، وأما إن لم يكن انفتاحه صغيرا بأن كان يصل إليه بلل اليد فلا يمسح؛ لأنه إذا ظهر من ذلك ما يمكنه الغسل لم يصح المسح؛ لأنه لا يجتمع مسح وغسل، وقد تقدم أنه إذا تمزق الخف من أسفله يمتنع المسح وإن كان أعلاه صحيحا، وتقدم أيضا أن الخرق المتفاحش من فوق الكعبين لا يضر كما لو قطعا من ثم جميعا كما يدل له قوله:"وستر محل الفرض". أو غسل رجليه يعني أن من نكس وضوءه بأن غسل رجليه أولا فلما غسلهما لبسهما أي الخفين ثم بعد أن لبس الخفين كمل طهارته، فإنه لا يصح له المسح؛ لأنه لبس الخفين قبل كمال الطهارة، وهذا مثال لمفهوم قوله:"كملت"، ومثل له بمثال آخر أشار إليه بقوله: أو رجلا فأدخلها يعني أن من تطهر فلما بقي من طهارته غسل رجل واحدة يمنى أو يسرى، أدخل رجله التي غسلها في خف قبل أن يغسل الأخرى، ثم غسل الأخرى وأدخلها في الخف الآخر. فإنه لا يمسح على الخف التي لبسها قبل كمال طهارته. وكذا لو اعتقد كمال طهارته فلبس الخفين، ثم تذكر لمعة أو عضوا فأكثر، فليس له المسح عليهما لكونه
لبسهما قبل تمام الطهارة. وقوله: حتى يخلع الملبوس قبل الكمال يعني به أنه إذا لبس الخف واحدا أو أكثر قبل تمام الطهارة فإنه لا يصح له المسح لكونه لبس الخف قبل كمال الطهارة، وإنما ذلك حيث لم يخلع ما لبسه قبل الكمال، ويلبسه بعد كمال الطهارة وهو باق على طهارته. وأما لو خلع ما لبسه قبل الكمال فلبسه بعد أن تمت طهارته وقبل انقضائها، فإنه يمسح عليه إذا أحدث بعد ذلك، ولا يحتاج إلى نزع الرجل التي أدخلت في الخف بعد كمال الطهارة، وإنما ينزع الأولى ثم يلبسها بعد غسل الرجل الأخرى في مسألة ما إذا غسل رجلا فأدخلها. وقوله:"حتى يخلع الملبوس قبل الكمال"؛ وهو الخفان في الأولى، والخف الواحد في الثانية. وقوله:"قبل الكمال": الظرف يتعلق بالملبوس. ولبس كفرح للكسوة، ولبس كضرب أي خلط، ومنه قوله تعالى:{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} ، وقوله:"أو رجلا فأدخلها حتى يخلع" الخ، وقيل: لا يحتاج إلى خلع، وبنوا الخلاف في ذلك على الخلاف المشهور؛ وهوأنه هل يطهر كل عضو بانفراده أو لا يطهر؟ وقوله:"أو غسل" صفة المحذوف فاعل فعل محذوف، وهذه الجملة معطوفة على جملة فلا يمسح واسع؛ أي ولا يمسح شخص غسل رجليه الخ. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. وذكر مفهوم قوله:"وعصيان بلبسه" بقوله: ولا محرم لم يضطر يعني أن المحرم بحج أو عمرة إذا لبس خفا فإنه لا يمسح عليه لكونه عاصيا بلبسه، وهذا إذا لم يضطر للبسه، وأما إن اضطر للبسه فله أن يمسح عليه إن ستر محل الفرض، وأما المرأة فتمسح مطلقا اضطرت أم لا. ومعنى قوله:"لم يضطر" لم تلجئه الضرورة إلى لبس الخف وفي خف غصب تردد يعني أنه وقع التردد من المتأخرين لعدم نص المتقدمين في جواز المسح على الخفي المغصوب ومنعه، فالجواز للقرافي، والمنع لابن عطاء الله. وعلى ما لابن عطاء الله من المنع لو صلى بعد ما مسح عليه كانت صلاته صحيحة كما قاله غير واحد، ومحل التردد إذا وقع المسح على الخف المغصوب، وأما إن وقع على خف فوقه مملوك للماسح فإنه يجوز من غير تردد؛ أي يجوز قولا واحدا. وقال الشيخ الأمير: والأظهر من التردد إجزاء مسح المغصوب، وإن حرم. انتهى. وصحت صلاة الماسح على خف مغصوب كمن توضأ بماء مغصوب، والذابح بسكين مغصوبة، وكلب صيد مغصوب، وصلاة بدار مغصوبة، وثوب مغصوب، وحج بمال مغصوب، فإنهم يأثمون، وتصح أفعالهم.
وتحصل من كلامهم أنهم متفقون على حرمة لبس الخف المغصوب، ومختلفون في حكم المسح عليه. ورد ابن عرفة ما للقرافي بأن المسح رخصة ضعيفة لا تبقى مع المعصية، وتلك المسائل عزائم تجامع المعصية. ووجه ما لابن عطاء الله القياس على المحرم، ورده ابن عرفة أيضا بأن حق الله آكد. الخرشي: وفيه نظر؛ لأن الغصب فيه حق الله وحق الآدمي، فهو أولى بعدم المسح، فالقياس صحيح. انتهى. وأشار إلى مفهوم قوله:"بلا ترفه" فقال: ولا لابس لمجرد المسح يعني أن من لبس الخف لمجرد المسح كراهة مشقة غسل الرجلين فإنه لا يمسح عليه على المشهور، وكذا من لبسه لحناء أو خوف براغيث أو عقارب فلا يمسح عليه، فإن مسح على الخف فيما ذكر أعاد أبدا كما في الخرشي.
أو لينام يعني أنه لا يمسح على الخف إن لبسه لينام فيه. وفيما يكره يعني أن في المدونة؛ أي في اختصارها لابن أبي زيد والبرادعي، وأقره أبو الحسن أنه يكره المسح لمن لبس الخفين لمجرد المسح أو لينام، وتعقب ابن عرفة التهذيب بأن لفظ الإمام لا يعجبني. وقال الباجي: المشهور منع مسح من لبسهما له، وفهم من المص أن من لبس الخف لمجرد المسح، أو لينام لا يجوز له المسح وإن مسح لم يجزه وهو المشهور، وذكره عن ابن راشد وابن هارون. وفي البيان: واختلف في المرأة تلبس الخفين لتمسح على الخضاب، فروى مطرف عن مالك أنها لا يجوز لها أن تمسح عليهما، وقد قيل يجوز لها المسح، وإليه ذهب أبو إسحاق، ومقتضى كلامه أن المشهور الكراهة؛ وهو خلاف ما شهره ابن راشد وغيره. قال الإمام الحطاب: وفي كلام المصنف ترجيح القول الأول. والله أعلم. وفهم من قوله: "لمجرد المسح" أنه لو لبسه لدفع ضرورة حر أو برد، وقارنه قصد المسح أو غيره، فإن ذلك لا يضر كما في الخرشي. وقوله:"لمجرد المسح" من إضافة الصفة للموصوف، ويمسح على الخف من لبسه لكونه من قوم اعتادوه، أو لبسه اقتداء به صلى الله تعالى عليه وسلم كما مر. ومعنى قوله:"لينام" أنه لبسه لأجل أن ينام؛ لأنه يخشى من عدم لبسه أن لا ينام لأكل البراغيث له.
وكره غسله يعني أنه يكره غسل الخف ليلا يفسده الغسل، وهذا إذا نوى بغسله أو مسحه الوضوء، أو رفع الحدث، وسواء انضم إلى ذلك نية إزالة الطين والنجاسة أم لا، فيجزئ مع
الكراهة. أشار له الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي: وكره غسله بنية المسح ولو مخرقا؛ يعني بحيث يجوز المسح، وإلا وجب نزعه مجردا، أو مع نية إزالة طين أو نجاسة، ولو معفوا عنها. فإن غسله بنية إزالة طين فقط أو نجاسة معفو عنها فقط لم يجزه، وكذا إن لم ينو شيئا ومسحه وعليه طين أو نجس معفو عنه، كغسله في التفصيل المذكور. قاله الشيخ عبد الباقي، وقال الشيخ إبراهيم: وإن مسحه بنية إزالة الطين فقط أو النجاسة التي يعفى عنها إذا دلكت لم يجزه، وأما إذا مسحه بلا نية أصلا فظاهر كلامهم أنه يجزئه؛ لأن المسح هو الأصل. انتهى. وإذا قلنا إن غسله يجزئ مع الكراهة، فإنه يستحب له المسح لما يستقبل ليأتي بالأصل مقصودا لا تبعا. قاله الإمام الحطاب.
وتكراره يعني أنه يكره تكرار مسح الخف بماء جديد لمخالفة السنة، ولو جفت يد الماسح أثناء المسح لم يجدد، وكمل العضو الذي حصل فيه الجفاف من غير بلل سواء كان هو الأول أو الثاني، ثم إن كان الثاني فظاهر، وإن كان الأول بلها للثاني، والفرق بين التجديد في مسح الرأس الفرض إذا جفت فيه يده، وبين عدم التجديد هنا للخف الواحدة من ثلاثة أوجه: أحدها أن المطهر الرجل، والخف ليس هو المطهر أصالة بخلاف الرأس، ثانيها أن مسح الرأس له تأكيد الأصلية ومسح الخف له تخفيف البدلية، ثالثها أن الماء يفسد الخف بخلاف الرأس. أشار له في الطراز، والظاهر قرب الثاني للأول أو مساواته له معنى، ولا يشترط نقل الماء إليه بل له مسحه ببلل لحيته، أو غيره كرأسه، كما يفيده الباجي. قاله الشيخ عبد الباقي.
وتتبع غضونه يعني أنه يكره للماسح أن يتتبع غضون الخف بالمسح؛ أي تجعيداته وتكامشه لمنافاته للتخفيف، ولما أنهى الكلام على شروط المسح ومكروهاته، أتبعه بالكلام على مبطلاته، فقال: وبطل بغسل وجب يعني أن المسح يبطل؛ أي ينتهي حكمه بموجب غسل من الموجبات الأربع المتقدمة، فالبطلان يحصل بالموجب وإن لم يغتسل، والباء في قوله:"بغسل" للسببية، ويفيد المص ما قررته به بتقدير مضاف بعد الباء؛ أي بترتب غسل وجب. وثمرة ذلك أن من أجنب ولم يغتسل، وأراد الوضوء للنوم، لم يمسح عليه في وضوئه ذلك، ولو قلنا إنه لا يبطل إلا بالغسل مسح عليه، وهو ظاهر المص. والله سبحانه أعلم.
وبخرقه كثيرا يعني أن من لبس الخف صحيحا ومسح عليه، ثم خرق كثيرا، فإنه يجب عليه نزعه وغسل رجليه لبطلان حكم المسح، وإن حصل له ذلك وهو بصلاة بطلت. فعلم من هذا أن من تمزق خفه أثناء صلاته بطلت، والكثير الثلث، وما في حكمه من المنفتح الذي هو أقل من الثلث ويصل منه بلل اليد للرجل.
وعلم مما قررت أن هذا ليس مكررا مع ما تقدم؛ إذ هذا في خرق طرأ على الخف بعد لبسه صحيحا فربما يتوهم اغتفاره، وذلك في حكم المخرق ابتداء أشار له البساطي. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال: فإن خيط المخرق ورد الرجل مكانها أعاد المسح، ويدل له ما يأتي في الجبيرة من قوله: وإن نزعها لدواء الخ. قال الشيخ محمد بن الحسن: تبع في هذا الأجهوري بناء على زعمه أن الخرق الكثير إنما يبطل المسح لا الطهارة. قال: وكذا نزع أكثر الرجل فإنه يردها ويمسح بالفور. قال الرماصي: وهو غير ظاهر، وكأنه خرج بذلك عن أقوال المالكية؛ إذ بظهور الخرق الكثير، ونزع أكثر الرجل تحتم غسلها، وبطل المسح، وكلام المدونة ظاهر في مخالفته. انتهى. وقد تقدم هذا.
وبنزع أكثر رجل لساق خفه يعني أن المسح يبطل أي ينتهي حكمه؛ أي لا يجزئ إن فعل بسبب نزع أكثر قدم الرجل لساق الخف؛ بأن صار أكثر القدم في ساق الخف وأحرى كلها كما في المدونة. وساق الخف هو ما ستر ساق الرجل معا فوق الكعبين، وإنما بطل المسح في هذه لأن شرط المسح كون الرجل في الخف، وإذا بطل المسح فلا بد من غسل الرجلين، ولأجل أن المسح يشترط فيه كون الرجل في الخف إذا توضأ ووضع رجله في ساق الخف فأحدث لم يجز له المسح. لا العقبة مؤخر القدم؛ وهو بكسر القاف مؤنث معطوف على أكثر؛ يعني أن نزع عقب الشخص لساق خفه مع بقاء أكثر رجله في محلها لا يبطل به المسح؛ لأن الأقل تبع للأكثر سواء نزع العقب بقصد أن ينزع الخف ثم بدا له فرده أو من حركة المشي. أما الأول فعلى المشهور في إلغاء الرفض، وأما الثاني فلا خلاف فيه. قاله الإمام الحطاب. ونزع النصف كنزع العقب، فالعبرة بمفهوم قوله:"وبنزع أكثر رجل"، لا بمفهوم العقب، ولهذا قال الشيخ إبراهيم: لو حذف المص قوله: "لا العقب" لكان أحسن وأخصر. انتهى. أي لأن النصف كالعقب، وإذا كان الخف لا
ساق له وخرج منه بعض الرجل، فالظاهر أنه يجري على مسألة:"وبخرقه كثيرا". قاله الشيخ عبد الباقي، وقال الشيخ إبراهيم: وقد فهم من كلام المصنف أن الأقل تبع للأكثر في حالة النزع، ومثله في حالة اللبس، فإذا أدخل أكثر رجليه في الخف فأحدث كان كمن أحدث بعد لبسه. وإن أحدث بعد ما أدخل نصف رجليه فأقل كان بمنزلة ما إذا أحدث قبل لبسه واعلم أن مفهوم المدونة أن إخراج أكثر القدم لا يضر، وإنما يضر إخراج جميعه. انتهى كلام الشبراخيتي. وقال: إن ما مشي عليه المص موافق لما في الجلاب والإرشاد، وشهره في المعتمد، كما ذكره التتائي، ولا يخفى أن ما يفهم من المدونة مقدم على تشهير صاحب المعتمد. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: إن كلام الجلاب تفسير للمدونة.
وإذا نزعهما يعني أن من مسح على خفين منفردين، ثم نزعهما عن الرجلين وهو باق على طهارته، فإنه يبادر للأسفل؛ أي ما تحت الخفين: وهو الرجلان بالغسل. أو أعلييه يعني أن من لبس أربع خفاف لكل رجل خفان، ومسح على الأعليين منها، ثم إنه نزع الأعليين اللذين مسح عليهما وهو باق على طهارته، فإنه يبادر للأسفل؛ وهو الخفان اللذان يليان القدمين بالمسح عليهما. أو أحدهما أي الأعليين؛ يعني أنه إذا مسح على الأعليين ونزع أحدهما فإنه يبادر للأسفل؛ وهو الخف الذي يلي القدم بالمسح، وأما المزدوجان على الرجل الأخرى فلا يجب عليه نزع الأعلى منهما عند ابن القاسم؛ وهو المشهور خلافا لسحنون، ولا يصح عود الضمير على الخفين بدون قيد الأعليين؛ لأن أحد المنفردين إذا نزع لا بد من نزع الآخر وغسل الرجلين جميعا، وهذا هو المشهور. وأما كونه يبادر للرجل المنزوع خفها فخلاف المشهور، وأفاد المص ذلك بقوله:"وبنزع أكثر رجل لساق خفه"، وسيقول المص:"وإن نزع رجلا وعسرت الأخرى" الخ، وقوله: بادر للأسفل راجع للمسائل الثلاث.
وعلم مما قررت أن الأسفل في الأولى الرجلان والمبادرة لهما بالغسل، وأنه في الثانية الخفان والمبادرة لهما بالمسح، وأنه في الثالثة أحد الخفين فيبادر له بالمسح. ولو أعاد الأعلى بعد مسح الأسفل جاز له إذا أحدث أن يمسح عليه. كالموالاة يعني أن مبادرته للأسفل بالغسل أو بالمسح على ما مر في المسائل الثلاث تجري على حكم الموالاة المتقدمة، فيبني في المسائل الثلاث بنية إن
نسي مطلقا، وإن عجز ما لم يطل بجفاف أعضاء؛ أي بتقدير أن لو كان مغسولا لجف. وكذا الحكم في المسألة الرابعة؛ وهي ما إذا نزع أحد المنفردين فيبادر للرجلين بالغسل كالموالاة. والله سبحانه أعلم. فقوله:"كالموالاة"؛ أي يبني على ما سبق في الموالاة من عمد وعجز ونسيان، فأجر ما هنا على ما مر يا فتي. وعلم من هذا أنه لا يشترط في المسح المساواة في العدد، وكذا لا تشترط المساواة في الجنسية، فيمسح على خف وجورب جلد ظاهره وباطنه لرجل واحد منهما، وللأخرى كذلك وفي الحطاب: التحديد بجفاف الأعضاء تقدم أنه إنما هو مع العجز، وأما مع العمد من غير عجز فتقدم عن ابن هارون أنه أقل من ذلك، وأنه هو الظاهر خلافا لما قال ابن عبد السلام وابن فرحون أنه يتحدد أيضا بالجفاف، والحكم هنا كذلك. والله أعلم.
وإن لبس الخفين بالشروط المتقدمة ومسح عليهما، ثم نزع رجلا من خفها، وبقيت لا خف عليها، أو نزع أكثرها لساق الخف كما مر، وجب عليه نزع الرجل الأخرى إن تيسرت؛ أي تيسر نزعها، ويغسل الرجلين؛ لأنه لا يجمع بين الغسل والمسح وإن لم تتيسر، بل عسرت الأخرى عليه؛ أي تعسر عليه نزعها فلم يقدر عليه، فإن اتسع الوقت فلابد من النزع، وإن ضاق الوقت أي الذي هو فيه بحيث لو تشاغل بنزعها لخرج الوقت. ففي تيممه يعني أنه إذا ضاق الوقت فقد اختلف الشيوخ فيما يفعله على ثلاثة أقوال: فمنهم من ذهب إلى أنه يتيمم مطلقا قلت قيمته أو كثرت ولا يمزقه لحفظ المال، أو مسحه عليه يعني أن من العلماء في هذه الحالة من ذهب إلى أنه يغسل الرجل المنزوعة من الخف، ويمسح على الخف الذي عسر نزع الرجل منه قياسا على الجبيرة، أو إن كثرت قيمته يعني أن من الشيوخ من ذهب إلى أن الخف الذي عسر نزع الرجل منه يمسح عليه إن كثرت قيمته كالجبيرة، ويغسل الرجل المنزوعة. وإلا تكثر قيمته مزق أي قطع وغسل رجليه ولو كان لغيره، وغرم قيمته. وينبغي أن تعتبر القلة والكثرة بالنظر لحال الخف لا للابسه. أقوال مبتدأ، وخبره قوله قبل:"ففي تيممه" لخ، والقول الأول؛ أي القول بالتيمم نقله عبد الحق عن البغداديين، والقول الثاني للأبياني، والقول الثالث: وهو القول بالتفصيل لعبد الحق، وصدر ابن الحاجب بالقول الثاني في كلام المص، وعطف عليه القول الأول بقيل. وهذه الأقوال فيمن كان على طهارة وأراد نزعهما ليتوضأ ويغسل رجليه، وإذا قلنا بالقول
الثاني فهل يلبس المنزوعة ويمسح عليها إن احتاج إلى طهارة أخرى، أو ينزع التي عسرت. وظاهر كلام ابن القاسم الأول، وفي عبارة الشيخ عبد الباقي نظر؛ لأنه إن لبسها على غير طهارة لا يمسح عليها، والظاهر فيمن ليس الخف على غير طهارة وضاق الوقت عن نزعه أنه يتيمم فقط، ويكون مثل قوله: وهل إن خاف فواته لخ، وسيأتي أن الراجح فيه التيمم. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"ففي تيممه أو مسحه" الخ بقي في المسألة قول رابع لم يذكره المص، وهو أن الخف يمزق مطلقا قلت قيمته أو كثرت.
وعلم مما قررت أن قوله: أو إن كثرت راجع للقول الثاني؛ وهو خلاف قاعدته وقاعدة ابن الحاجب وابن عرفة ومن وافقهم من أن الثالث هو الأول بزيادة قيد، ولو جرى على القاعدة المذكورة لقال: ففي مسحه عليه أو تيممه أو إن كثرت الخ. ودعوى أن القاعدة المذكورة إنما هي في نحو ثالثها ممنوعة. قاله الشيخ عبد الباقي.
وندب نزعه كل جمعة يعني أنه يندب نزع الخف كل يوم جمعة لأجل غسل الجمعة، وصرح باستحباب نزعه كل جمعة صاحب الإرشاد، وصاحب التلقين، وصاحب الكافي. ويطالب بهذا النزع من يطالب بالجمعة ولو ندبا. قاله الشيخ إبراهيم. ولابن فرحون: النساء لا يلزمهن جمعة، مع أنه يندب لهن نزعه كل جمعة، ويستحب نزعه كل أسبوع أيضا مراعاة لأحمد كان يوم جمعة أم لا. وقال الشيخ الأمير: ويطلب نزعه يوم الجمعة وكل أسبوع إذا لم ينزع يوم الجمعة قال ومقتضى هذا سنية النزع فلهذا عدلت عن التصريح بالندب، ثم قال: والأقرب حمل الندب على الطلب. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي بعد كلام: وبهذا علم أن التنظير في ثلاثة أشياء: أحدها هل يقصر الندب على من تلزمه الجمعة؟ الثاني هل يقصر الندب فيمن تلزمه الجمعة على من أراد الغسل بالفعل؛ وهو ظاهر التعليل؟ وهذا التنظير لزروق، الثالث لِمَ لَمْ تعط الوسيلة حكم مقصدها فيسن نزعه كل جمعة؟ انتهى. وقد مر كلام ابن فرحون والشبراخيتي، وظاهر التعليل وأن الأقرب حمل الندب على الطلب فيكون مرادا به السنة. فتلك أجوبة ثلاثة عن التنظيرات الثلاثة. والله سبحانه أعلم.
ووضع يمناه على طرف أصابعه يعني أن من أوعب الخفين بالمسح على أي صفة يجزئه ذلك، ولكن الصفة المندوبة هي أن يضع يده اليمنى بعد إرسال الماء منها على طرف أصابع رجله اليمنى من ظاهرها فوق الخف. ويسراه تحتها أي ويضع مع ذلك يده اليسرى تحت أصابع رجله اليمنى من باطن الخف، وإذا وضع يده على تلك الصفة فإنه يمرهما أي يمشيهما ذاهبا بهما. لكعبيه: يدخلهما في المسح، ويعطف اليد اليسرى على العقب حتي يحاذي الكعب؛ وهو منتهى حد الوضوء. ابن حبيب: هكذا أرانا مطرف وابن الماجشون وقال: إن مالكا أراهما ذلك. انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي، وغيره. ويجدد الماء لكل رجل، قال في مختصر الواضحة: ولا تحمل الماء بيديك فتصبه على خفيك، ولكن ترسله وتمسح اليمنى، ثم تأخذ الماء لليسرى فترسله من يديك، ثم تمسح على اليسرى وليس فيهما إلا بلة الماء الذي أرسلت من يديك. وفي سماع موسى إن عم بإصبع واحدة أجزأ كرأسه، وفهم من هذا أنه لابد من استيعاب الخف بالمسح. قال صاحب الطراز وصاحب الذخيرة: وهذا أصل المذهب. وقال الباجي: قال ابن مسلمة وجماعة من أصحابنا: لا يجب الإيعاب. انتهى. وحجة الأول أن الخف بدل من الرجل، والرجل يجب إيعابها.
وهل اليسرى كذلك يعني أن الشيوخ اختلفوا في كيفية مسح الرجل اليسرى، فمنهم من تأول المدونة على أن الرجل اليسرى كالرجل اليمنى في صفة المسح، فتكون اليد اليمنى فوقها من ظاهر الخف، واليد اليسرى تحتها من باطن الخف كما مر في الرجل اليمنى، وهذا التأويل لابن شبلون. أو اليسرى فوقها يعني أن من الشيوخ من عكس في الرجل اليسرى، فتأول المدونة على أن مسح خف الرجل اليسرى صفته أن توضع اليد اليمنى تحت أطراف أصابعها من باطن الخف، وتوضع اليد اليسرى فوق أطراف أصابعها من ظاهر الخف، ثم يمرهما ذاهبا بهما لكعبيه فيدخلهما في المسح، وهذا التأويل لابن أبي زيد، وغيره. واختاره سند، ورجحه بأنه مروي عن مالك، ووهَّم ابنَ شبلون في تأويله. قال العلامة الحطاب: فعلم أن التأويل الثاني أرجح. انتهى وعليه اقتصر الشيخ الأمير، وقال: إنه الأرجح كما في الحطاب وغيره. انتهى. وقوله: تأويلان مبتدأ حذف خبره: أي في ذلك تأويلان.
ومسح أعلاه وأسفله قال الإمام الحطاب: الظاهر أن قوله: "مسح" فعل، ومراده به وجوب مسح الأعلى والأسفل، وهو ظاهر المدونة، قال فيها: ولا يجوز مسح أعلاه دون أسفله، ولا مسح أسفله دون أعلاه، إلا أنه إن مسح أعلاه وصلى فأحب إلي أن يعيد في الوقت؛ لأن عروة كان لا يمسح باطنهما، ففهم منه أن الأعلى والأسفل عنده واجبان، وإنما اقتصر في ترك الأسفل على الوقت مراعاة للخلاف. انتهى. وفي الشبراخيتي أن "مسح" مصدر مضاف لمفعوله، وأن أسفله منصوب على أنه مفعول معه؛ أي وندب مسح أعلاه مع أسفله؛ يعني أن الجمع بينهما مستحب. انتهى. الشبيبي واختلف في الواجب من مسحهما: المشهور وجوب مسح الأعلى واستحباب مسح الأسفل، والثاني وجوبهما لابن نافع، والثالث وجوب أحدهما من غير تعيين. وقال في القوانين: الواجب مسح أعلاه، ويستحب مسح أسفله، وقيل يجب.
وبطلت إن ترك أعلاه يعني أن من ترك مسح الأعلى من الخف واقتصر على مسح الأسفل، وصلى بطلت صلاته سواء ترك مسح الأعلى عمدا أو جهلا أو نسيانا، فإن أتي به أيضا لم تبطل. وبنى بنية إن نسى مطلقا، وإن عجز ما لم يطل، وكذا يقال في قوله: لا أسفله يعني أن من مسح أعلى الخف وترك مسح أسفله لا تبطل صلاته، وإذا لم تبطل فإنه يعيد الصلاة في الوقت إذا لم يأت به، والمراد بالوقتِ الوقتُ المختار، ويعيد الوضوء أبدا وكل ذلك على جهة الندب. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ إبراهيم: وأعاد في الوقت مراعاة لقول ابن نافع بوجوب مسح الأسفل، وترك بعض مسح الأعلى كترك كله، وكذا ترك مسح بعض الأسفل. قال سيدنا على رضي الله عنه:[لو كان الدين يؤخذ بالقياس لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على ظاهر خفيه]
(1)
)، وقال أبو حنيفة: الأسفل ليس محلا للمسح. قاله الشيخ إبراهيم. قال الشيخ الخرشي: وسبب الخلاف اختلاف الأحاديث. فإنه روي أنه عليه الصلاة والسلام مسح على الأعلى فقط. فأخذ به الإمام أبو حنيفة، وأخذ الإمام مالك بحديث
(1)
عن على رضي الله عنه قال لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظهر خفيه. أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:162.
الأعلى والأسفل
(1)
وحمل حديث الاقتصار على الأعلى على تعليم الجواز، وأن الأعلى والأسفل آكد فيعيد في الوقت، فيحصل له الكمال، ويخرج في براءة الذمة من الاختلاف. انتهى. وقد مر أنه إن ترك الأسفل يستحب له أن يعيد الوضوء، ترك مسحه عمدا أو جهلا أو عجزا وطال، فإن لم يطل مسح الأسفل فقط، وكذا إن كان الترك سهوا طال أم لا؛ لأنه يفعل لما يستقبل من الصلوات. قال الشيخ عبد الباقي: وانظر هل أجناب الرجلين من الأعلى أو من الأسفل، وقال الشيخ الأمير: واستظهر شيخنا في الجوانب أن ما قارب كلا له حكمه، والوسط كالأعلى احتياطا. انتهى.
قال جامعة عفا الله عنه: واستظهاره حسن جار على القواعد، فقد قالوا: إن ما قارب الشيء يعطى حكمه، وأن المذهب مبني على الاحتياط. ولما ذكر الطهارة المائية بقسميها صغرى، وكبرى، وما ينوب عن بعض الأعضاء في الصغرى. شرع في الكلام على ما ينوب عن غسل جميع الأعضاء في الوضوء والغسل وهو التيمم. فقال:
(1)
عن المغيرة بن شعبة قال وضأت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فمسح أعلى الخفين وأسفلهما. أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، رقم الحديث: 165، والترمذي في سننه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:97. بلفظ "أن النبي صلي الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله". وابن ماجه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:550.
فصل ذكر فيه التيمم،
وما يتعلق به؛ وهو لغة القصد قال تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} مأخوذ من الأم بفتح الهمزة، وهو القصد، قال تعالى:{وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} ، وقال الشاعر:
من أمكم لرغبة فيكم ظفرْ
…
ومن تكونوا ناصريه ينتصرْ
وشرعا: طهارة ترابية تتعلق بأعضاء مخصوصة على وجه مخصوص بنية. ويراد بالتراب جنس الأرض، أشار له الشيخ عبد الباقي، وغيره. والوجه المخصوص هو عدم الماء أو عدم القدرة عليه؛ وهو واجب كتابا وسنة وإجماعا. أما الكتاب فقوله تعالى:{وإن كنتم مرضى أو على سفر} الآية وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: [جعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل]
(1)
)، وما روي عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال:[كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس فإذا هو برجل منعزل، فقال: ما منعك أن تصلي؟ فقال أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد]
(2)
)، وغير ما ذكر. وأما الإجماع فقد حكي غيرُ واحد أن الإجماع انعقد على مشروعيته، وعلى أنه من خصائص هذه الأمة لطفا من الله بها وإحسانا، وليجمع الله لها بين التراب الذي منه إيجادها، والماء الذي هو استمرار حياتها إشعارا بأن هذه العبادة سبب الحياة الأبدية، والسعادة السرمدية. جعلنا الله من أهلها. وقيل: لعلمه تعالى من النفس الكسل عن الطاعة، والميل إلى تركها، شرع لها التيمم عند عدم الماء ليلا تعتاد الترك، فيشق عليها معاودتها عند وجود الماء. وقيل: ليستشعر بعدم الماء موته، وبالتراب إقباره، فيزول كسله، وليست هذه أقوالا متباينة، بل جميعها مراد. قاله الشيخ إبراهيم.
والتيمم من خصائص هذه الأمة كالغرة، والتحجيل في الوضوء، والصلاة على الميت، والغنائم، وثلث الأموال في الوصايا، وسؤال الملكين، وإزالة النجاسة بالغسل، وكالغسل من الجنابة، وقبول التوبة من الذنب على الوجه المبين في موضعه، والحج، والجهاد، -وهذان- والوضوء، والغسل
(1)
البخاري، كتاب التيمم، رقم الحديث: 335، ولفظه: جعلت لي الأرض.
(2)
البخاري، كتاب التيمم، رقم الحديث:348.
من الجنابة فرضت على الأنبياء والرسل. واعترض الشيخ محمد بن الحسن الجهاد بقوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} الآية، وقبول التوبة بما في الصحيح من حديث من قتل مائة وقبل الله توبته بمجرد الندم، والغسل من الجنابة والحج بأن قريشا كانت في الجاهلية تغتسل من الجنابة وتحج. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: ويجاب من الأول بأنه يمكن أن ذلك إنما كتب عليهم لكونهم مع نبي كما قال تعالى في أول القصة: {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، وعن الثاني بأن ذلك لا يقتضي أن قبول التوبة بشرطه المقرر عندنا أمر مقرر عند غيرنا من الأمم لكل أحد منهم، وعن الثالث بأن ذلك لا يقتضي أن الغسل من الجنابة والحج شرعا لغيرنا على جهة الوجوب ونحن مخصوصون بهما على جهة الوجوب. والله سبحانه أعلم. وفي الخرشي: قد كانت الغنائم لا يحل لمن قبلنا تناولها ولا الانتفاع بها، بل إن قبلت نزلت نار أحرقتها، وإلا بقيت إلى أن تذهب وتبلى. ومما هو من خصائص هذه الأمة السحور، وتعجيل الفطر، والأكل، والشرب، والوطء ليلا إلى طلوع الفجر، وكان يحرم ذلك على من قبلنا بعد النوم، وكذا في صدر الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، والسواك أيضا لأنه ورد [(هذا سواكي وسواك الأنبياء من قبلي).
وحكمة مشروعيته: إدراك الصلاة في أوقاتها، وفي الموطإ]
(1)
: عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتي إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام صلى الله عليه وسلم على التماسه، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء قالت عائشة فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناسَ وليسوا على ماء وليس معهم ماء قالت عائشة فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعن بيده في
(1)
الموطأ، ص 68.
خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله تبارك وتعالى آية التيمم {فَتَيَمَّمُوا} ، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته
(1)
). انتهى. وتعني بآية التيمم قوله عز وجل في المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية كما في البخاري. والله سبحانه أعلم. والمتيمم إما مريض أو مسافر أو حاضر صحيح، فأشار إلى الأول بقوله: يتيمم ذو مرض يعني أن المريض يتيمم للفرض والنفل إن عدم الماء، أو خاف باستعماله زيادة المرض أو تأخر البرء كما سيذكره، وفي حكم المريض الحاضرُ الصحيح الذي يخاف باستعمال الماء مرضا كما نص عليه الإمام الحطاب والشيخ الخرشي؛ ونص عليه ابن فرحون، والشيخ عبد الباقي، والشيخ الأمير. فقوله:"ذو مرض" واقع أو متوقع كما في الخرشي. وقال ابن وهب في سماع عبد الملك: إذا لم يقدر المبطون والمائد على الوضوء تيمما فحمله ابن رشد على أنهما لا يقدران على مس الماء. وقال سند يريد إذا عظمت بطنه حتى لا يتمكن من تناول الماء ورفعه من الإناء، وكذلك المائد لا يقدر أن يمسك نفسه حتى يرفع الماء فيتيمم ويصلي ولا يعيد، ولا بد من التقييد بأن لا يجدا من يوضئهما، ولا يستطيعان ذلك. والله أعلم. وحمله الطليطلي على من انطلقت بطنه، ونصه: وان كان مبطونا قد غلب عليه بطنه لا يستطيع إمساكه فإنه يتيمم ويصلي. وقد قيل إنه يتوضأ لكل صلاة. انتهى. قال الإمام الحطاب: والقول الثاني في كلامه هو الجاري على المعروف من المذهب في الأحداث المستنكحة؛ والقول الأول قريب من فتوى اللخمي، ولعله اغتر بظاهر لفظ الرواية. وفي الطليطلي: وإن كان لا يدرك بيديه أن يغسل مخرج البول والغائط من علة نزلت به، فإن كانت له زوجة أو جارية غسلت ذلك وتوضأ وصلى، وإن لم تكن له واحدة منهما وقدر على تحصيلها فعليه ذلك. وإن لم يكن له مال ولا زوجة ولا خادم فإنه يتيمم ويصلي. انتهى. وما قاله غير ظاهر، وقد تقدم عن صاحب المدخل في فصل الاستبراء أنه يصلي بالنجاسة ولم يذكر في ذلك خلافا وهو المعروف
(1)
البخاري، كتاب التيمم، رقم الحديث:334. والموطأ، كتاب الطهارة، الحديث: 122.
من المذهب. والله أعلم انتهى كلام الحطاب. وقال الأمير: يتيمم عاجز عن استعمال الماء وليس منه المبطون؛ أي الذي إذا قام للماء واستعمله انطلق بطنه، أما مبطون يضر به الماء، أوأعجزه الإعياء، أو عظم البطن عن تناول الماء، فيتيمم. انتهى.
وسفر يعني أن السفر كالمرض، فيجوز للمسافر أن يتيمم للفرض والنفل بشرط عدم الماء، أو خوف المرض باستعماله كما يأتي، وهذا إذا كان سفره قد أبيح أي أذن فيه فيشمل الواجب والجائز والمندوب؛ فالواجب كسفر لحجة الفرض والرعى الذي تتوقف حياة الدواب عليه، والمندوب كالسفر لقصد زيارة سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، والجائز كسفر تجر لمستغن عن تحصيله والرعي الذي لا تتوقف حياة الدواب عليه. وخرح السفر المحرم؛ وهو سفر العاصي بسفره كالآبق؛ وقاطع الطريق، والعاق لوالديه، والمخالف لشيخه الذي فوض إليه أموره على ما ذكره بعضهم. فهؤلاء لا يجوز لأحد منهم التيمم على الأصح: ويجب عليه الرجوع لا يجب عليه فإذا عزم على التوبة جاز له ذلك. والله أعلم. قاله الإمام الحطاب عن ابن فرحون. وقال الشيخ عبد الباقي: إن العاصي بسفره يؤمر بالتوبة فإن لم يتب فالظاهر أن يؤخر لبقاء ركعة بسجديتها من الضروري ويقتل حينئذ. وأما السفر المكروه كالصيد للهو فقال الشيخ محمد بن الحسن: الذي للشيخ أحمد بن فجلة: ينبغي أن يكون المراد بالإباحة الجواز؛ أي مقابل الحرمة فيدخل المكروه والمطلوب، وحينئذ يخرج سفر المعصية فقط، فيفيد أن الإقدام على التيمم في السفر المكروه جائز لا مكروه. قال الحطاب: وهو الظاهر لقول ابن الحاجب: ولا يترخص بالعصيان على الأصح، وأكثر نصوصهم التعبير بالعصيان على أن الحق هو ما رجحه سند؛ والقرطبي، وابن عبد السلام؛ وابن مرزوق من الجواز مطلقا، أي سواء كان عاصيا بسفره أم لا. وبكلامهم يسقط اعتراض ابن عرفة على ابن الحاجب في ثبوت مقابل الأصح؛ ومقابل الأصح هو أن العاصي بسفره يتيمم. انتهى. وما مر من قول عبد الباقي: فالظاهر أنه يؤخر لبقاء ركعة بسجدتيها الخ. قال الشيخ محمد بن الحسن: غير ظاهر. قال: وقال بعضهم لعل مراد من أخرج العاصي بسغره أنه عنده في الحكم بمنزلة الحاضر الصحيح، فيتيمم للفرائض فقط غير الجمعة؛ لأنه لا أقل أن ينزل سفره منزلة العدم فيبقى حاضرا صحيحا. وفي كلام سند ما يقتضي أن العاصي بسفره يتيمم اتفاقا؛ وقول
المص: "أبيح"؛ أي السفر كما مر، وأما المرض فلا فرق فيه بين أن يكون نشأ عن غير مباح، وأن لا يكون كذلك. وقوله:"وسفر"، وإن لم تقصر فيه الصلاة على المشهور؛ وهو مذهب مالك وجمهور الفقهاء. وقال قوم: إن ذلك في سفر القصر، وينبني على الشهور، ومقابله تيمم مسافر دون قصر لنافلة، وجنازة غير متعينة، وجمعة، فيتيمم لها على الشهور لا على مقابله. فإن قيل: الحاضر الصحيح إذا عدم الماء، وخاف فوات الوقت، يباح له التيمم ولو كان عاقا لوالديه، فلِمَ لَمْ يبح للمسافر؟ في هذه الحالة فالجواب أن السفر لما كان له دَخَلٌ في عدم الماء أو خوف الفوات وهو عاص به لم يبح له التيمم لذلك. انتهى. وقول ابن الحاجب: ولا يترخص بالعصيان يحتمل أن يريد به نفي التيمم خاصة وهو الأقرب من مراده، ويحتمل أن يريد نفي الترخص عموما كالتيمم والمسح على الخفين وأكل الميتة، وظاهر قوله جل وعز:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} أن رخصة الميتة والدم ونحوهما لا تتناول العاصي بسفره. والله سبحانه أعلم. وقال ابن عبد السلام: والحق أنه لا ينتفي من الترخص بسبب العصيان إلا رخصة يظهر أثرها في السفر دون الحضر كالقصر والفطر، وأما رخصة يظهر أثرها في السفر والإقامة كالتيمم والمسح على الخفين فلا يمنع العصيان منها، ومعنى هذا لابن رشد. قاله الإمام الحطاب. وقوله:"وسفر أبيح" يدخل فيه ما إذا كان السفر مباحا وعصى فيه، فإنه يتيمم للفرض والنفل، ويجوز السفر في طريق يتيقن فيه عدم الماء للتجر ورعي المواشي. وقال ابن ناجي في شرح قول الرسالة ويكره النوم قبلها: ويقوم من كلام الشيخ أنه يكره للرجل الخروج قبل دخول الوقت من منزلة إلى مكان يحرث فيه على أميال دون ماء إذا كان يشك فيه هل فيه ماء أم لا؟ وانظر إذا تحقق أنه ليس فيه ماء، هل يجب حمل الماء إليه أو يستحب؟ فقط؛ لأن الطهارة لا تجب إلا بعد دخول الوقت، فكذلك استعداد الماء لها. وشاهدت في حال صغرى فتوى شيخنا الشبيبي بالأمر بذلك، ولا أدري هل ذلك منه على الوجوب أو على الندب؟ ونفسي إلى الوجوب أميل. انتهى. والظاهر عدم الوجوب لقوله في المدونة: ومن خرج من قرية على غير وضوء يريد أخرى، وهو غير مسافر، فغربت الشمس، فإن طمع في إدراك الماء قبل مغيب الشفق مضى إليه، وإلا تيمم وصلى. ونقله الشيخ أبو محمد بلفظ: من خرج من قرية إلى قرية على الميل أو الميلين. ولم يحمله أحد من
الشروح على ما بعد الوقوع، فتأمله. وهذا حيث تدعوه إلى الخروج ضرورة، فإنه سيأتي أنه لا يجوز استعمال سبب ينقل إلى التيمم إلا عند حاجة. قاله الإمام الحطاب. وقال الشيخ الأمير: ولا يلزمد استصحاب الماء. هذا هو المشهور. ونفي اللزوم لا ينافي الندب لمراعاة الخلاف. انتهى. وفي الإعلام: وليستعد الماء للأماكن التي يعلم أن الصلاة تدركه بها وليس بها ماء: ويتعين عليه. وفيه. وسئل ابن لب هل يجب طلب الماء ونقله قبل الوقت أو لا يجب إلا بعد دخوله عند الأداء؟ فأجاب: يجب إعداد الماء للأماكن التي لا ماء فيها، ويأخذه الوقت فيها. انتهى.
واعلم أن التيمم واجب، والخلاف إنما هو في كونه واجبا وجوب الرخص أو وجوب العزائم؛ والراجح أنه رخصة. لفرض متعلق بقوله:"يتيمم"؛ وقد تقدم في الحل ما يدل على ذلك. وشمل قوله: فرض الجمعة فيتيمم لها المسافر والمريض إذا حضراها.
ونفل يعني أن المسافر والمريض يتيممان لعدم الماء أو لعدم القدرة على استعماله للفرائض والنوافل. وقوله: "لفرض" سواء كان كفائيا أو عينيا. وقوله: "ونفل" المراد به ما قابل الفرض، فيشمل السنة والرغيبة. وحاضر صح قد تقدم حكم المريض والمسافر؛ والكلام الآن في الحاضر الصحيح، يعني أن الحاضر الصحيح ليس كالسافر والمريض؛ فلذا لا يتيمم إلا. لجنازة أي للصلاة عليها إن كانت قد تعينت عليه؛ بأن لم يوجد مصل غيره من مسافر ومريض وحاضر صحيح متوضئ؛ وخشي تغيرها بتأخيرها لوجوده، فإذا وجد مريض أو مسافر أو حاضر صحيح متوضئ؛ لم يصلها الحاضر الصحيح بالتيمم، ويكفي الواحد على المشهور؛ لأن الجماعة فيها شرط كمال، وعلى مقابله لا يكفي الواحد بناء على أن الجماعة فيها شرط صحة. انظر الخرشي. وإذا حضرت للمتعينة جماعة حضريون فلا يخلون من ثلاثة أوجه: الأول أن يتيمموا دفعة فيقدمون إمامهم ويصلون؛ الثاني أن يتيمموا مترتبين لكن لم يحرم الإمام حتى تيمموا فلهم الصلاة؛ الثالث أن يحرم أحدهم قبل تيممهم أو تيمم بعضهم، فليس لمن لم يتيمم قبل الإحرام أن يدخل. هذا هو تحرير المسألة أشار له الشيخ إبراهيم: وغيره. وقيل: إن الحاضر الصحيح إذا كان إذا اشتغل بتحصيل الماء والوضوء فاتته صلاة الجنازة، يتيمم ويصليها؛ وهو مقابل للمشهور، والمشهور أنه لا يتيمم لها. وقال ابن وهب: إن صحبها على طهارة فانتقضت تيمم، وإلا فلا. فتلك أقوال ثلاثة.
وأما تفسير الحطاب التعين، بأن لا يوجد متوضئ يصلي عليها ولا يمكن تأخيرها حتى يحصل الماء أو يمضوا إليه، فيقتضي أنه إذا وجد حاضر صحيح فاقد للماء ومريض أو مسافر، يتيمم لها الحاضر الصحيح وليس كذلك؛ لأنها لا تتعين عليه حينئذ، كما أفاد ذلك بمفهوم قوله:"إن تعينت" فحيث لم تتعين لا يتيمم لها. أشار له الشيخ إبراهيم، وغيره. ومن أصول الفقه في فرض الكفاية أن اللاحق بالداخلين فيه بعد تلبسهم وسقوط الفرض بهم، يلحق بهم، ويقع فعل الجميع فرضا؛ ولا يعترض بهذا على ما تقدم، من أنه إذا حضرت للمتعينة جماعة حضريون لا يدخل في الصلاة من حصل تيممهم وإحرامهم قبل تيممه؛ لأنه لا يلزم من كون اللاحق بهم يقع فعله فرضا أن تتعين عليه، والشرط هو تعينها لا وقوعها فرضا هكذا أجاب بعض الشيوخ. وهو ظاكمر. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقوله:"إن تعينت" أفاد به أنها كالفرض إن تعينت، وهذا هو الأصح. ومقابله: تدفن بغير صلاة، فإذا وجد الماء صلي على القبر. قاله الحطاب.
وفرض غير جمعة يعني أن الحاضر الصحيح كما يتيمم للجنازة التعينة، يتيمم لفرض غير جععة، أي يتيمم للصلوات الخمس كلها إلا الجمعة فلا يتيمم لها، فإن فعل لم يجزه على المشهور، بناء على أنها بدل عن الظهر. وظاهر المص: ولو خشي فواتها وهو كذلك، ويتيمم ويصلي به الظهر، ولو في أول الوقت. وقيل: يتيمم لها بناء على أنها فرض يومها، وهو القياس. قاله الشيخ عبد الباقي. وقد تقدم أن المسافر والمريض يتيممان لها إذا حضراها. قال الشيخ محمد بن الحسن: والذي يدل عليه النقل أن محل الخلاف إذا خشي باستعمال الماء فوات الجمعة مع وجود الماء، فالمشهور أنه يتركها ليصلي الظهر بوضوء. وقيل: يتيمم ويدركها، وقد بالغ سند في إنكاره. وقال إنه مخالف للإجماع. وأما إن كان شرعه التيمم لفقد الماء، فإنه يتيمم للجمعة ولا يدعها. انتهى. ونقل بعد هذا عن التوضيح ما يوافق كلام المصنف هنا، وقيل: إن الحاضر الصحيح لا يتيمم أصلا، فيطلب الماء، وإن خرج الوقت، وهو ضعيف فلا يعول عليه. وقوله:"وفرض غير جمعة" يشمل المنذور. قاله الشيخ الخرشي. وقوله: "وفرض"، أي غير معاد لفضل الجماعة، فإنه كالنفل على الأظهر كما في الأمير.
ولا يعيد يعني أن الحاضر الصحيح إذا تيمم للفرض وصلاه، ثم وجد الماء فإنه لا يعيد، وهذا هو المشهور كما صرح به الباجي وابن شاس. وقال ابن عبد الحكم: يعيد أبدا، وذكر الشيخ عبد الباقي وغيره حرمة الإعادة. وقال الشيخ الأمير: شيخنا: ليس في النقل تصريح بالحرمة. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: لا معنى للحرمة هنا، وإنما الذي في المدونة أنه لا إعادة عليه في وقت ولا في غيره. ومقابله لابن عبد الحكم، وابن حبيب يعيد أبدا. انتهى. لا سنة عطف على جنازة من قوله:"وحاضر صح لجنازة": يعني أن الحاضر الصحيح العادم للماء لا يتيمم للسنن عينية كوتر وعيد، أو كفائية كصلاة الجنازة على القول بسنيتها، وأولى الستحب والرغبية. قاله الشيخ إبراهيم وغيره. وفي نوازل ابن هلال أن مصلح الصبيان يلقنهم القرآن ولا يمليه عليهم؛ وهو جنب إذا كان يجد الماء عن قريب إن كان في قرية لا يوجد فيها الماء أياما عديدة، فحيئنذ يتيمم ويعلمهم. انتهى. وأما الحاضر الصحيح يخاف باستعمال الماء ضررا فبمنزلة المريض، فيتيمم لكل ما يتيمم له المريض. قاله غير واحد. وقد مر ذلك، وخالف في ذلك أحمد الزرقاني مع أن ما ذكره عن شيخه يفيد تيممه لذلك، فإنه قال: وقعت مسألة سئل عنها بعض شيوخنا، وهي أن إماما في قرية خاف زمن الشتاء من استعماله الماء في جميع نهاره المرض، هل يحرم عليه التيمم وصلاته بالمأمومية أولا يحرم وتصح الصلاة خلفه؟ فأجاب بصحة الصلاة وعدم الحرمة. انتهى قاله عبد الباقي. قال بناني: فيه نظر، فإن السؤال والجواب واردان على تيممه للفريضة وإمامته، وليس فيها ما يدل على تيممه للنفل، وقد يجاب بأن فيه التيمم لدخول المسجد للجماعة، وهو بمنزلة التيمم للنفل. كما نقله الوانوغي عن العوفي. انتهى. وما ذكره المص هو المشهور وفي المدونة: ولا يتيمم من أحدث خلف الإمام في صلاة العيدين. وقال ابن سحنون: سبيل السنن سبيل الفرائض، كالوتر، والفجر، والعيدين، والاستسقاء، والخسوف. ويتيمم لكل سنة كما يتيمم للفرائض، وذكر ابن عرفة ثالثا بأنه يتيمم للعينية كالوتر والفجر دون السنن على الكفاية كالعيدين. قاله الإمام الحطاب. وفيه معارضة لما مر عن الشيخ إبراهيم. وقال ابن عبد السلام: حكاية ابن الحاجب الخلاف في السنن تقتضي الاتفاق على عدم التيمم للفضائل والنوافل، وفيه نظر. والأظهر في الحاضر الصحيح التيمم للفرائض والنوافل؛ لأن الآية إن تناولته
كان كالمسافر والمريض، وإن لم تتناوله لم يتيمم لهما وينبغي للشخص أن كل فعل تشترط له الطهارة ولا يباح إلا بها، لا يفعله في الحضر بالتيمم إذا خاف فواته، وكل فعل تندب له الطهارة كقراءة القرآن للمحدث أصغر والدعاء والمناجاة والنوم ونحو ذلك، فينبغي له أن يتيمم إذا لم يجد الماء وخاف فوات ذلك الفعل لجواز الإقدام على ذلك بغير طهارة، والتيمم لا يزيده إلا خيرا. والله أعلم. وليس في هذا أو أمثاله إحداث قول، إنما فيه الخروج من الخلاف فيما حصل فيه منع من بعض العلماء، وتقليد بعض العلماء في اكتساب فضيلة لا يمنع منها غيره. والله أعلم. قاله الإمام الحطاب. وفي شوح الشيخ ميارة: وقيل إن الحاضر الصحيح كالمسافر والمريض، فيتيمم للفرائض والنوافل، واستظهره ابن عبد السلام. انتهى. وقوله:"وحاضر صح" قال الإمام الحطاب: هذا ظاهر في الصحيح الحاضر الذي عدم الماء، وأما إذا كان يخاف باستعماله الضرر على نفسه، فالظاهر أنه بمنزلة المريض، يتيمم للسنن. وذكر عن ابن فرحون ما يفيده. قال: ويأتي في كلام العوفي والوانوغي ما يؤيد ذلك. والله أعلم. انتهى. وإذا لم يجد الجنب الماء. إلا في وسط المسجد، فإنه يتيمم لدخوله، وهو قول أبي حنيفة، ووجهه ظاهر. قاله في الطراز. وكل فعل منع منه الجنب حتى يتطهر بالماء، فإنه إن عجز عن الطهارة بالماء له واضطر لذلك الفعل أو تعين عليه استباحه بالتراب، كما أنه إذا التجأ إلى المبيت في المسجد وهو جنب يفعل ذلك. وذكر البرزلي عن مسائل ابن قداح أن من أتى المسجد وهو جنب والدلو فيه، فإن ضاق الوقت تيمم ودخل لأخذه، وإن اتسع الوقت انتظر من يأتي فيناوله إياه. انتهى. قاله الإمام الحطاب، أي لينزع به الماء. وفي الحطاب: فإن احتلم في المسجد سند يخرج ولا يتيمم. وحكى ابن أبي زيد في نوادره عن بعض أصحابنا أنه قال: ينبغي أن يتيمم لخروجه؛ وهذا قول باطل بالخبر والنظر؛ أما الخبر (فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أحرم في الصلاة ثم ذكر أنه جنب خرج
(1)
) ولم يرو أحد أنه تيمم، وأما النظر فلأنه لو اشتغل بالتيمم كان لبثا في المسجد. وكذا لابن قداح أنه لا يتيمم إذا احتلم في المسجد. انتهى. وهذا إذا نام في المسجد، وأما لو نام في بيت
(1)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:233.
المسجد فلا يختلف أنه يتيمم لخروجه، وهذا ظاهر يفهم مما تقدم من دخول المسجد للماء؛ ولو كان مضطرا للمبيت في المسجد ولا يمكنه الخروج منه، تيمم للمبيت فيه. والله سبحانه أعلم.
إن عدموا الماء كافيا شرط في قوله: "يتيمم". والضمير عائد على المسافر والمريض والحاضر الصحيح كما في الشبراخيتي. ومنهم من جعله عائدا على الأول، والأخير: يعني أن شرط صحة التيمم من هؤلاء الثلاثة، وجوازه أن يعدموا ماء كافيا للطهارة الواجبة عليهم صغرى أو كبرى. ودخل في ذلك ثلاث صور: الأولى عدم الماء بالكلية، الثانية وجود ما لا يكفيه للوضوء في حق المحدث الحدث الأصغر؛ الثالثة وجود ما لا يكفي للغسل في حق المحدث المحدث الأكبر. والحكم في الجميع سواء. فمن اغتسل بما معه من الماء وصلى فبقي عليه قدر الدرهم فلا يجزئه، وليتيمم ويعيد الصلاة. قال ابن راشد: وقد اتفقنا نحن وأبو حنيفة على أن من وجد ما لا يكفيه لطهارته أنه يتركه ويتيمم. وقال الشافعي: يجب استعماله ثم يتيمم. انتهى. وهذا في أحد قوليه، وقوله الآخر يوافقنا؛ وهو قول أكثر العلماء، وإن كان مع الجنب ماء لا يكفيه غسل به ما في جسده من الأذى. وفي الحطاب أن من وجد من الماء ما يزيل به بعض النجاسة، يجب عليه استعماله، ومن وجد ما يستر به بعض عورته، يجب عليه ذلك. وكذلك من وجد من الطعام يسيرا لا يمسك رمقه، فإنه يجب عليه أكله: ثم بعد ذلك ينتقل إلى اليتة. والفرق بين هذه المسائل ومسألة التيمم هذه أن استعمال الماء لا يظهر له أثر فيها بخلاف هذه المسائل، فإن وجد من الماء ما يغسل به وجهه ويديه. وقدر على أن يجمع ما سقط من أعضائه ويكمل وضوءه به؛ فإنه يفعل ذلك ويتطهر به وجوبا عند عدم غيره، ولا يكون هذا مستعملا في حدث إلا على القول بأن كل عضو يطهر بانفراده. وأما على القول بأنه لا يطهر إلا بالجميع، وهو المشهور، فلا يكون مستعملا؛ وإذا وجد ما يغسل به الأعضاء المفروضة وجب عليه الوضوء، ويترك السنن ولا يجزئه التيمم؛ وهو ظاهر فقوله:"كافيا"؛ أي للفرائض فقط. ومِن عدم الماء ما لو وجد ماء مضافا، أو وجد ماء مطلقا مملوكا للغير، أو مسبلا للشرب خاصة، ومثل ذلك ما إذا التبس المسبل للشرب بغيره ولم يعلموا الذي يكون للطهارة منهما. قاله الشيخ إبراهيم.
أو خافوا باستعماله مرضا يعني أن المسافر والحاضر الصحيح إذا خافا باستعمال الماء مرضا؛ أي حدوث مرض كحمى أو نزلة؛ فإنهما يتيممان، فالمسافر يتيمم للفرض والنفل، ومثله المريض، ومن في حكمه كالحاضر الصحيح يخشى باستعمال الماء المرض. وجمع الضمير باعتبار الأفراد. انظر الشبراخيتي. ولا يباح النفل للحاضر الصحيح الذي لا يخشى باستعمال الماء ضررا كما مر، والتيمم لدخول المسجد للجماعة بمنزلة التيمم للنفل. كما نقله الوانوغي عن العوفي. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقد علمت من يباح له التيمم للنفل. ويتيمم مريض يقدرعلى الصلاة قائما والوضوء، فحضرت الصلاة وهو في عرقه، وخاف إن قام جف عرقه ودامت علته، فيتيمم ويصلي للقبلة إيماء، وإن خرج الوقت قبل زوال عرقه لم يعد. أو زيادته يعني أن المريض إذا خاف باستعمال الماء زيادة المرض، فإنه يباح له التيمم.
أو تأخر برء يعني أن المريض إذا خاف باستعمال الماء تأخر برء مرضه، فإنه يباح له التيمم. وأراد بزيادته زيادة شدته، وبتأخر برئه زيادة مرضه في الزمن، والضمير في قوله:"أو خافوا" عائد على الثلاثة لكنه موزع: فخوف المرض للحاضر الصحيح والمسافر، وخوف الزيادة، وتأخر البرء للمريض خاصة. وعلى هذا فضمير الجمع على حقيقته. أشار إليه الشيخ محمد بن الحسن. قال في التلقين: وأما جوازه؛ يعني التيمم لتعذر الاستعمال، فيعتبر فيه أربعة أشياء: خوف تلف: أو زيادة مرض، أو تأخر برء، أو حدوث مرض يخاف معه ما ذكرناه. انتهى. وكذا إن خاف الصحيح نزلة أو حمى فإن ذلك ضرر ظاهر، فإن كان إنما يتألم في الحال ولا يخاف عاقبته لزمه الوضوء والغسل، ولو تكلف المريض الصوم والصلاة قائما لعذر لكن بمشقة وتعب، فليفطر؛ وليصل جالسا -ودين الله يسر-. وما تقدم من أن الجنب إذا عجز عن الغسل يتيمم، هو المعروف في المذهب. وذكر في الإكمال: عن أحمد بن إبراهيم المصري المعروف بابن الطبري من أصحاب ابن وهب أن من خاف على نفسه المشقة من الغسل أجزأه الوضوء، لحديث عمرو بن العاص
(1)
). وقد مر قريبا أنه إذا قدر المريض أن يتوضأ ويصلي قائما فحضرت الصلاة وهو في عرقه
(1)
إكمال المعلم بشرح مسلم للقاضي عياض، ج 2 ص 221. ط دار الكتب العلمية. وانظر فتح الباري، ج 1 ص 454.
وخاف إن فعل ذلك انقطع عنه العرق ودامت علته، فإنه يتيمم ويصلي إيماء إلى القبلة، وإن خرج الوقت قبل زوال عرقه لم يعد. قاله ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ. قاله الحطاب. والمراد بالخوف هنا العلم أو الظن، ولا عبرة بالشك. والظاهر أنه لابد من اعتماده على تجربة في نفسه، أو مقارب له في المزاج، أو إخبار طبيب عارف.
أو عطش محترم معه يعني أن التيمم يباح لمن تقدم مع وجود الماء أيضا إذا خافوا عطش حيوان محترم معهم؛ أي ظنوا فقط. والحال أن المحترم الذي معهم غير متلبس بالعطش، وتضمن ظنهم أن يهلك أو يمرض من معهم، وأما من تلبس بالعطش فالخوف في حقه يشمل الظن والشك والوهم، ومتعلقة المرض أو التلف والخوف على نفسه ومن معه سواء في هذين القسمين؛ وما أوهم خلاف هذا مأول أو مردود. ودخل في المحترم القاتل من غير المستحق، والقاتل غيلة أو حرابة، وليس ثم من له قتله من سلطن أو نائبه فيتيمم كما يتيمم في مرتد وزان أحصن، وليس ثم حاكم، وفي كلب غير مأذون فيه، وخنزير لم يقدر على قتلهما بخلاف ما لو قدر على قتلهما، وبخلاف ما لو وجد حاكم يقتل الخمسة الأول فيتوضأ لوجوب المبادرة بالقتل فينتفي التعذيب بالعطش لخبر: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة
(1)
). وإذا كثرت الرفقة وكثر معهم الفقراء بحيث يخاف الموت من العطش، فيتيمم من معه فضل ماء، ويسقي الفقراء ما فضل عن شربه، وعن ما يحتاج إليه في طبخ لمصلحة بدنه وأحرى العجين، ولا يراعى ما يفضل عن شرب ما معه من غير عاقل لم يضطر له ويبيع ما استغنى عنه من حيوان محترم أو يذبحه حيث لم يجحف ولم ينقص ثمن لحمه عن قدر ما يشتري به الماء الذي يتوضأ به عادة. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. وحاشية الشيخ بناني. وذلك ظاهر؛ لأنه إذا لم يبلغ ثمن اللحم ما يشترى به الماء فلا فائدة في ذبحه. وعلم مما مر أنه يجوز قتل الكلب غير المأذون فيه، وقتل الخنزير؛ وهو كذلك على المذهب، وإذا جاز قتلهما وكان الانتقال إلى التيمم مع القدرة على الماء غير جائز تعين قتلهما. وأنه كما يراعى في الماء أن يكون فاضلا عن شربه، فكذلك يراعى أن يفضل عما يحتاج إليه في عجين أو طبخ يطبخه
(1)
مسلم في صحيحه، كتاب الصيد والذبائح، رقم الحديث:1955.
لمصلحة بدنه. وفي الشبراخيتي: والحاصل أن غير المحترم يقدم عليه استعمال الماء إلا أن يكون في الوضوء تعذيب له بالعطش، فإنه يتيمم آدميا أو غيره حيث تعذر قتله عاجلا لمانع شرعي كالافتيات على الإمام في المرتد والزاني المحصن، أو عادي كعدم القدرة على الكلب أو الخنزير، وإن أمكن جمع الماء في حال الطهارة ويشربه، وجب جمعا بين المصلحتين إلا أن تستقذره النفس وتعافه بحيث يخشى المرض، فلا. وغير الآدمي إن أمكن بيعه أو بيع لحمه برخص ما يشترى به الماء ولا ضرورة به ألغي الخوف عليه. قاله ابن عرفة. ونحوه لابن عبد السلام. انتهى. وما قدمته من اعتبار الشك والوهم في المتلبس بالعطش، هو الذي صوبه أبو على وغير واحد. وقال الشيخ الأمير: ووجب التيمم إن ظن شديد الأذى، وظن يسيره يجوزه، والشك لغو، وأولى الوهم؛ لأن الأحكام الشرعية إنما تناط بالظن. كما في الرماصي. قال على الأجهوري ومن بعده: ما لم يتلبس بالعطش بالفعل. فيعتبر مطلق التردد ولو شكا أو وهما في شديد الأذى، وإن مستحق قتل لم يوجد إمام يقتله أو عجز عنه، ولا يعذب بالعطش، وليس كجهاد الكفار به، وعجل قتل الكلب والخنزير، فإن عجز سقاهما وتيمم. انتهى. وقوله: وإن مستحق قتل. مبالغة في المحترم كما قال الأمير وما ذكره الأمير عن الرماصي نحوه للحطاب. وقال أبو على: إن ما ذكره الأجهوري من التفصيل هو الصواب، وأن كلام الحطاب غير صحيح.
أو بطلبه تلف مال يعني أن القادر على استعمال الماء وطلبه يباح له التيمم إذا خاف بسبب طلبه تلف مال كثير معه من لصوص أو سباع مثلا، فمن خاف أن يسرق متاعه أو يضل ماله مثلا إذا ذهب إلى الماء، فإنه يتيمم، وهذا هو المشهور. وقيل: لا يتيمم لخوف تلف الماء. قال ابن بشير: وهو بعيد وأحسن ما يحمل عليه إذا لم يتيقن الخوف، ولا غلب على ظنه، وأما مع تحقق الخوف فلا وجه لهذا القول. وقد مر حد الماء بالكثير، وهو ما زاد على ما يلزمه بذله في شرائه. فإن كان قليلا بحيث يجب عليه شراء الماء بمثله ولم يحتج إليه، فلا يتيمم، وإلا تيمم. قاله الشيخ ميارة. وقوله:"أو بطلبه تلف مال" محله مع تحقق وجود الماء أو غلبة ظن وجوده، وأما مع الشك في وجوده فيتيمم، ولا يتلف الماء ولو قل. والخوف من اللصوص شامل لمن يخاف طروه، ومن يكون معه ممن هو غير مأمون متى فارقه ذهب بمتاعه، وكما يتيمم لعدم الماء وخوف
المرض وزيادته وتأخر برء، يتيمم للخوف على النفس من اللصوص أو السباع. وسئل ابن عرفة عن الذي يجد الماء إلا أنه يجد عنده ما يتقي المتوضئ كالحنش والوزغة؟ فأجاب بأن ذلك لا يبيح له التيمم، وزاد بعضهم إلا أن يخشى هلاكه منه. انتهى من الإعلام. ومن أسباب التيمم أيضا خوف فوات الرفقة، وعبارة الخرشي: أو يخاف من غير مأمون في رفقته أو فواتهم إن ذهب إليه. انتهى. ومن عرَّسوا دون الماء خوفا على مالهم وتيمموا وصلوا، ففي إعادتهم ثلاثة أقوال: الأول لا إعادة عليهم. وهو الأظهر؛ لأنهم فعلوا ما يجوز لهم من النزول، ودليله حديث العقد
(1)
). وما ذكره في المدونة من عدم شراء الماء إذا رفعوا عليه في ثعنه. والله أعلم. وقال أصبغ: يعيدون في الوقت. وقال ابن القاسم: يعيدون أبدا. وقال الشيخ الأمير: أو بطلبه تلف مال وإن قل إلا أن يغلب ظن الماء أو خروج وقت عطف على قوله: "تلف مال"؛ يعني أنه يباح لمن ذكر من المريض: والمسافر، والحاضر الصحيح، التيمم إذا خافوا بسبب طلب الماء خروج الوقت الذي هم فيه اختياريا، أو ضروريا بحيث لا يدر كون فيه ركعة لو طلبوا الماء، ودخل في كلامه من خاف فوات الوقت إن اشتغل برفع الماء من البير، ففي المدونة: ومن خاف في سفر أو حضر إن رفع الماء من البير ذهب الوقت تيمم، وكذا من لا يقدر على استعمال الماء البارد، وخاف بتسخينه خروج الوقت، فإنه يتيمم. وفي الحطاب: المراد بخروج الوقت أن لا يدرك من الصلاة ركعة. قاله اللخمي. وهذا ظاهر إذا خاف خروج الوقت الضروري، فأما إذا خاف خروج الوقت المختار فينبغي أن يزاد في ذلك ما يدرك به الوقت المختار. قيل: يدرك بركعة كالضروري، وقيل: بتكبيرة الإحرام، وقيل: لا يدرك إلا بإدراك جميع الصلاة. انتهى. وقوله: "أو خروج وقت"؛ أي أو خافوا بطلبه خروج وقت كما علمت. قال الشيخ الخرشي: وهذا ليس خاصا بذلك، بل كل من أبيح له التيمم فلا بد أن يخشى فوات الوقت قبل صحته إن كان مريضا، وقبل وجود الماء إن كان صحيحا، ولو تيمم من خاف بتشاغله بالطلب خروج الوقت فخرج عقب تيممه؛ توضأ وصلى؛ لأن التيمم إنما هو لإدراك فضلية الوقت وقد ذهب، ولو كان ممن يعتريه الوسوسة
(1)
صحيح البخاري، كتاب التيمم، رقم الحديث:334.
والتأخير بالوضوء إلى خروج الوقت لم يبح له التيمم، بل يتوضأ ويكون عاصيا بالتأخير للوقت الضروري. انتهى.
كعدم مناول يعني أن القادر على استعمال الماء، ولكنه لا يقدر على تناوله، ولم يجد من يناوله إياه، فإنه يتيمم. وإن لم يخف خروج الوقت بمنزلة عادم الماء فيندب له التيمم أول الوقت المختار مع اليأس، والراجي آخره إلى آخر ما يأتي أوآلة يعني أن القادر على استعمال الماء ولكنه لم يجد آلة يحصله بها كدلو أو حبل يتيمم، وإن لم يخف خروج الوقت بمنزلة عادم الماء فيندب له التيمم أول الوقت المختار مع اليأس، والراجي آخره إلى آخر ما يأتي. ودخل في عدم الآلة آلة يحرم استعمالها كذهب؛ إذ المعدوم شرعا كالمعدوم حسا. كما في شرح الشيخ عبد الباقي، وغيره. قال الشيخ محمد بن الحسن: وفيه نظر، والظاهر أنه يستعملها ولا يتيمم؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات. ألا ترى أن من لم يجد ما يستر به عورته إلا ثوب حرير فإنه يجب عليه سترها به. انتهى. وفي الخرشي ما نصه: والحاصل أن عادم الآلة والمناول كعادم الماء، وهو له أن يتيمم أول الوقت، ويندب له ذلك إن كان آيسا، وإن كان راجيا أو محققا وجوده تيمم آخره على ما يأتي، وأما واجد الآلة الذي يخاف خروج الوقت برفعه فهو بمنزلة من خاف خروجه باستعماله انتهى.
وهل إن خاف فواته باستعماله يعني أن الواجد للماء القادر على استعماله لكنه يخاف خروج الوقت إذا استعمل الماء اختلف الشيوخ فيه هل يتيمم ليدرك الوقت، أو لا يتيمم بل يتوضأ أو يغتسل ولو فاته الوقت؟ والقول بالتيمم إذا خاف خروج الوقت رواه الأبهري عن مالك على ما نقله المازري وغيره؛ وهو مذهب ابن القصار وعبد الوهاب وغيرهما من العراقيين، واختاره التونسي وابن يونس قائلا: وهو الصواب. وقال في التوضيح: هو مقتضى الفقه، وشهره ابن الحاجب. قال في التوضيح: ولا أعلم من شهره. قال الحطاب: يكفيه من القوة اختيار من ذكر، والقول بأنه يتوضأ عزاه ابن يونس لبعض علمائنا، وابن عرفة لبعض القرويين. وفي التوضيح: حكى في النكت عن بعض الشيوخ أنه لا يختلف في استعمال الماء لمن هو بين يديه ولأجل ما ذكر هؤلاء من نفي الخلاف قَوِيَ هذا القول عند المص. والله أعلم. حتى سوى بينه وبين القول
الأول مع قوته فقال: خلاف أي في ذلك خلاف، والراجح التيمم وأقامه اللخمي وعياض من المدونة؛ قاله الإمام الحطاب؛ ورجحه غير الحطاب أيضا. واقتصر عليه الأمير. ثم إن تبين له بقاء الوقت أو خروجه بعد سلامه من الصلاة به أو قبله ولو قبل عقد ركعة، لم يعد، ولم يقطع في تبين بقائه أو خروجه لدخوله فيها بوجه جائز، وأولى إن لم يتبين له شيء، وأما إن تبين له بقاؤه أو خروجه قبل تيممه أو أثناءه أو بعد تمامه وقبل الإحرام، فيستعمل الماء كما قاله الشيخ عبد الباقي. وإذا فرعنا على المشهور من أن من خاف بطلب الماء خروج الوقت يتيمم، فإنه إذا خرج الوقت عقب تيمعه توضأ وصلى. وقوله:"وهل إن خاف فواته" أي الوقت الذي هو فيه كما نص عليه غير واحد وجاز جنازة يعني أن صلاة الجنازة غير المتعينة تجوز بتيمم لصلاة فرض؛ فإذا تيمم للظهر مثلا وصلاه بذلك التيمم، فإنه يصلي به صلاة الجنازة التي لم تتعين، وكذا لو تيمم للنافلة وصلاها، فإنه يجوز له أن يصلي بإثرها صلاة الجنازة التي لم تتعين وسواء تعددت الجنازة أو اتحدت، جمعت في صلاة واحدة أو فرقت. وقال بعض الشافعية: لا يصلى على جنانز بتيمم واحد، وإن اجتمعوا في صلاة واحدة؛ لأن الجنازة إذا تعينت صارت فرضا رهو فاسد؛ لأنها صلاة واحدة. قاله الإمام الحطاب.
سنة يعني أن السنة كالوتر والعيدين؛ وأولى النافلة تجوز بتيمم لفرض أو نفل: فإذا تيمم لفريضة أو نافلة وصلى؛ فإنه يجوز له أن يصلي السنن أو النفل عقب تلك الفريضة، أو النافلة التي صلاها بالتيمم من غير إعادة للسنن والنفل. أي وقوله:"وسنة"؛ أي يجوز ذلك ولو للحاضر الصحيح؛ أي عقب الفريضة، ولا ينافي ما تقدم من أن الحاضر الصحيح لا يتيمم للسنن ولا للنوافل؛ لأن هذا صلاها بالتبع للفريضة.
ومس مصحف يعني أنه يجوز مس المصحف بتيمم لفرض ولو من حاضر صحيح، وكذا يجوز مس المصحف بتيمم لنفل أي من غير حاضر صحيح كما هو ظاهر. وقراءة يعني أنه تجوز القراءة التي تتوقف على الطهارة؛ وهي قراءة الجنب بتيمم فرض ولو من حاضر صحيح أو نفل. أو طواف يعني أنه يجوز فعل الطواف غير الفرض بتيمم فرض أو نفل. وركعتاه يعني أنه تجوز ركعتا الطواف بتيمم فرض أو نفل فقوله: بتيمم فرض أو نقل متعلق بقوله: "وجاز" فهو راجع للأمور
الستة. وقوله: بتيمم فرض أي ولو من حاضر صحيح عادم للماء في جميع الأمور الستة وقوله: "أو نفل"، أي من غير حاضر صحيح.
إن تأخرت هو شرط في قوله: "جاز" بالنسبة لتيمم الفرض؛ يعني أن هذه الأمور المذكورة من قوله: "جنازة" وما بعدها إنما تجوز بتيمم الفرض إن تأخرت هي عن فعل الفرض، وأما لو تقدمت هي على الفرض فإن ذلك لا يجوز، لكنها تصح ويبطل الفرض إن أتى به عقب واحد منها بغير تيمم. فالفرض إنما يصح إذا لم يفصل بينه وبين تيممه له شيء من هذه الأمور، فإن فصل بينهما بشيءٍ منها صح وبطل الفرض، فيعيد التيمم له، فَإذا تيمم لِلصبح وقدم عليه ركعتي الفجر، فإنه يعيده للصبح، وبطلان الفرض بفصله من تيممه، ولو كان الفاصل مس مصحف أو قراءة جنب ولو كآية. ويشترط في صحة النفل اتصاله بالفرض وبعضة ببعض، ويغتفر يسير الفصل، ومنه: آية الكرسي، والمعقبات لا إن فَصلَهُ بطول أو بخروج من مسجد فيعيد التيمم. وفي السمع: أرأيت إن تيمم للنافلة فصلى، ثم لم يزل في المسجد في حديث، ثم أراد أن يقوم يتنفل بذلك التيمم. قال: إن تطاول ذلك فليتيمم يمما آخر، وإن كان شيئا خفيفا فأرجو أن تجزئه. نقله الإمام الحطاب. وقوله:"إن تأخرت"، قال الشيخ الأمير: ينبغي قصر المفهوم على النفل، وهو تعبير كثير، ولو الفجر فيعيده للصبح لا مس مصحيف، وقراءة لا تخل بالموالاة وبما قررت علم أنه لا يجوز الإقدام على فعل شيء من هذه الأشياء قبل الفرض بتيمم الفرض، كما قاله الحطاب. ونصة قول المص: إن تأخرت شرط في جواز إيقاع النفل بالتيمم الذي يريد أن يصلي به الفرض، وهذا مراد المص. اهـ المراد منه. وقد مر أنه يجوز النقل عقب الفرض، بتيممه، ولا يشترط في صحته أي النفل نيته ابتداء؛ أي حين يتيمم للفرض كما للحطاب، خلافا لابن غازي والتوضيح وابن فرحون والش أنه شرط لصحته، وأنه في كلام ابن رشد. قال الإمام الحطاب: لم أقف عليه في كلام ابن رشد لا في البيان، ولا في مقدماته، ولا في أجوبته، ولا التقييد والتقسيم له. وقد بحثت عن اشتراط نية النافلة عند تيمم الفريضة فكشفت عن ذلك أكثر من ثلاثين مصنفا في المذهب، فلم أر من ذكرها إلا التوضيح، ومن تبعه بل نصوصهم مطبقة على عدم الاشتراط، بل منها ما هو صريح في ذلك. انتهى. وقوله: لا في البيان ولا في مقدماته، جوابه في الخرشي أن ابن
رشد ذكره في المسح على الخفين فصح ما نقلوه عنه. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الأمير: سمعت من شيخنا التاودي بن سودة: فجيئ عبد الباقي في حال قراءته الموطأ لنا عام حجه بالأزهر، قال: فتشت في المسح على الخفين أيضا فلم أره، قلت: وقد تصفحت مسائل المسح على الخفين ومسائل التيمم من البيان والتحصيل فلم أر ذلك فيه. انتهى. المراد منه. ويجوز النفل بالتيمم ولو كثر النفل جدا، خلافا للتونسي. وقال الشيخ الأمير: ونفل لم يكثر جدا بالعرف، وحده الشافعية بدخول وقت الثانية. ومن تيمم لواحد مما ذكر غير الفرض، ولو لمس مصحف، فله فعل باقيها قبله أو بعده؛ وليس كالتيمم للفرض فإنه لا يفعله إذا قدم عليه شيئا منها. قال الشيخ سالم: وانظر إذا تيمم لواحد منها وأخرج غيره، هل يجري فيه؟ أو أخرج بعض المستباح أم لا؟ انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر لا لضعف التيمم. والله سبحانه أعلم. ولا فرق في جواز فعل شيء من هذه الأشياء بتيمم بعضها بين أن يكون التيمم محدثا حدثا أصغر أو أكبر. قاله الشيخ الخرشي. لا فرض آخر يعني أنه لا يفعل فرض بتيمم لفرض غيره، ومن الفرض: طواف واجب؛ ونفل نذر؛ وجنازة تعينت. قال الشيخ عبد الباقي: ولذا حملنا كلامه السابق: "وجنازة" على غير المتعينة، والطواف على غير الفرض. وإذا لم يجز الفرض بتيمم لفرض آخر فأحرى أن لا يجوز بتيمم لغير فرض كما مر التنبيه عليه. وإنما أتى بقوله:"آخر" ليرتب عليه قوله: ولو قصدا يعني أنه لا يجوز للشخص فعل فرضين بتيمم واحد، ولو قصدهما معا بذلك التيمم، فإن فعل بأن قصد الفرضين معا بالتيمم صح الفرض الأول وبطل الفرض الثاني فيعيده أبدا، ووجه صحة الأول أنه أتى بالنية المشترطة ونيه أخرى، فهو كمن توضأ بنية الحدث ونية الجنابة. قاله سند. قاله الحطاب. وما ذكر من بطلان الفرض الثاني هو ظاهر قول ابن القاسم في سماع أبي زيد وهو قول مطرف وابن الماجشون وعلى هذا اقتصر ابن عرفة في عزوه، ونسبه في النوادر لابن القاسم من رواية ابن المواز مطلقا سواء كانتا مشتركتي الوقت أم لا؛ ولهذا قال: ولو مشتركة بكسر الراء، ورد بلو قول أصبغ، إن كانتا مشتركتين أعاد الثانية في الوقت، وإلا أعادها أبدا. وعليه فقيل: المعتبر الضروري أو الاختياري. حكاهما ابن رشد في سماع أبي زيد. قاله ابن غازي.
وقوله: "لا فرض آخر" هذا هو المشهور كما قال ابن عرفة، والشهور منع فرضين بتيمم واحد. وروى أبو الفرج: تقضى المنسيات بتيمم واحد، وقيل لمن لا يطيق مس الماء لضرر: جعع صلاتين بتيمم واحد، ثم قال: وعلى المشهور في إعادة الثانية في الوقت أوأبدا، ثالثها إن اشتركتا؛ ورابعها ما لم يطل كاليومين. انتهى. وقوله:"وبطل الثاني"؛ أي فعلا، فيشمل تنكيسهما حيث الترتيب غير شرط. وإنما بطل ثاني الفرضين على المذهب، وصحت صلاة النفل ونحوها بتيمم فرض أو نفل؛ لأن الأصل وجوب التيمم لكل قربة تتوقف على طهارة فخرج ما عدا الفرض عن ذلك بدليل وبقي الفرض. قاله الشيخ عبد الباقي. وفي الخرشي بدليل وفاق أهل الآفاق: ولا فرق في الفرض الآخر بين أن يكون من جنس الأول أو من غير جنسه. انتهى. وقوله: "ولو مشتركة" المناسب له: وبطلت الثانية، ويجاب بأنه ذكر الثاني نظرا للفرض، وأنث مشتركة نظرا إلى أن الفرض الثاني بمعنى الصلاة، ولو تيمم بقصد صلاة فتذكر أن عليه ما قبلها، فإنه يعيد التيمم لها. قال في المقدمات: ولا تصح صلاة بتيمم نواه لغيرها. انتهى. أي؛ لأن الفرض إنما يكون بعد دخول الوقت ووقتها عند تذكرها، ولعل هذا يفهم من قول المؤلف:"وفعله في الوقت"، وكذلك لو كان يتهجد بالليل فدخل وقت الفجر، لا يصليه، فلو تيمم للوتر فيصلي به الفجر حيث كان تيممه للوتر بعد دخول الفجر. قاله الشيخ الخرشي.
لا بتيمم لمستحب معطوف على تيمم فرض أو نفل، واللام مقحمة أي زائدة، يعني أنه لا يفعل شيء مما تقدم بتيمم مستحب كالتيمم من محدث أصغر للقراءة، وكتيمم الجنب للنوم على القول به، ويمكن جعل اللام أصلية. ويراد بالمستحب ما لا تتوقف صحته على طهارة، وبالنفل السابق في قوله:"تيمم فرض أو نفل" ما تتوقف صحته على طهارة، فلا منافاة. أشار له الشيخ عبد الباقي.
ولزم موالاته عبر بهذا دون واجبه كما في الغسل، وفرائضه كما في الوضوء لإدخاله هنا ما ليس بداخل في ماهيته كأخذه بثمن اعتيد؛ يعني أن التيمم تجب موالاته بين أجزائه، وبينه وبين ما فعل له. ومعنى الموالاة أن يأتي به متصلا بعضه ببعض، ومتصلا بما فعل له من صلاة؛ ومس مصحف وغير ذلك، فإن فرق بين أجزائه أو بينه وبين ما فعل له ولو ناسيا وطال، بطل على
المعتمد فلذا لم يشبهه المص بالوضوء كما فعل ابن الحاجب وابن شاس في أن حد الموالاة فيه أن لا يمضي قدر جفاف أعضاء في زمن ومكان اعتدل كل بتقدير الوضوء. وقيل بالعرف. ذكره أبو الحسن. أي؛ لأن الطول هنا مع النسيان مبطل له، بخلاف الوضوء والغسل؛ وإن اتفق التيمم معهما في تحديد الطول بجفاف على القول الأول. وقوله:"ولزم موالاته" فلا يجزئه أن يتيمم أول وقت الفريضة، ويؤخر
(1)
فعلها إلى آخره خلافا للشافعي، إذ من شرط التيمم أن يكون متصلا بالصلاة. وخالف ابن شعبان، فأجازه قبل الوقت وبعده وإن تراخى عن الصلاة. ومن تيمم لنافلة ثم خرج من المسجد لحاجة ثم عاد لا يتنفل به ولا يمس مصحفا. وقد مر عند قوله:"إن تأخرت" أن الخروج من المسجد بمنزلة الطول، فيعيد التيمم. قاله الشيخ إبراهيم.
وقبول هبة ماء يعني أن الفاقد للماء إذا وهب له يلزمه أن يقبل ما وهب له ليتطهر به إن لم يتحقق منة، وإلا لم يلزمه القبول وإن لم يمن به، وهذا في منة يظهر لها أثر. وأما التافه فيلزمه قبوله؛ وكذا يلزمه الاستيهاب أيضا عند عدم المنة؛ وهو طلب هبة الماء. كما يأتي له في قوله:"كرفقة قليلة أو حوله من كثيرة". انظر شرح الشيخ عبد الباقي. لا ثمن عطف على ماء فهو مجرور؛ يعني أن الفاقد للماء لا يلزمه قبول هبة ثمن يشتري به الماء إذا وهب له، بل له أن يتيمم لوجود المنة فيه أو قرضه هو مرفوع معطوف على قبول، أو مجرور عطف على هبة، فهو عطف على المثبت، والضمير للماء أو للثمن. يعني أن فاقد الماء إذا أقرض الماء يلزمه قبوله، وكذا لو أقرض الثمن ليشتري به الماء فإنه يلزمه قبول قرضه، ويلزمه أيضا اقتراضه إن كان مليا ببلده، وإلا لم يلزمه ذلك، وهذا القيد إنما هو فيما إذا رجع الضمير للثمن، وأما إن رجع للماء فيلزمه قرضه وقبول قرضه من غير اعتبار القيد المذكور. كما في الشبراخيتي. ويصح في قوله:"أو قرضه" أن يكون مجرورا عطفا على ثمن؛ أي لا يلزمه قبول هبة ثمن ولا قرضه أي الثمن، وكذا لا يلزمه اقتراضه وهذا إن كان معدما ببلده، وإلا لزمه اقتراضه وقبول قرضه. وتحصل من هذا أنه يلزمه قبول هبة الماء إلا لتحقق منة أي منة يظهر لها أثر، وكذا استيهابه فيلزم عند عدم المنة، وأن
(1)
في الأصل: وأخر، والمثبت من الحطاب ج 1 ص 525.
الثمن لا يلزم قبول هبته لوجود المنة فيه، وأن من أقرض الماء لزمه قبوله من غير اعتبار قيد الملاء ببلده فليس له أن يتيمم، وأما من أقرض الثمن فإن كان معدما ببلده لم يلزمه قبوله، وإن كان مليا ببلده لزمه قرضه وقبول قرضه إلا لمنة ظهرت هذا تحرير المسألة. والله سبحانه أعلم. هذا ما يتحصل من كلام الحطاب، وعبد الباقي، والشبراخيتي، وابن غازي، ومحمد بن الحسن، والأمير، وعبارته: واستيهاب ماء وقرضه كقرض ثمنه إن كان مليا ببلده لا قبول هبة الثمن إلا لمنة ظهرت. انتهى. قال: والاستثناء راجع لما قبل النفي. انتهى. وهو صريح أو كالصريح في أن قرض الثمن لا يلزم قبوله عند تحقق المنة. والله سبحانه أعلم.
وأخذه بثمن اعتيد يعني أن فاقد الماء إذا وجده يباع، فإنه يلزمه أن يشتريه بالثمن الذي يعتاد بيعه به بذلك المحل وما قاربه، وغير المعتاد ما زاد زيادة متفاحشة عرفا. وحاصل ما للخمي وأشهب -وينبغي التعويل عليه- أنه يراعى عدم الزيادة على [مثلي
(1)
]، ثمن الماء، وعدم بلوغه عشرة دراهم، ولا يشتريه بزيادة على قيمته أكثر من مثليه وإن لم تبلغ عشرة دراهم، ولا يشتريه بما يبلغ عشرة، وإن كانت الزيادة فيه دون ثلثي القيمة، ويلزمه أيضا تسخينه عند خوف استعماله باردا، مرضا أو زيادته بما يلزمه بذله فيه. لم يحتج له يعني أنه إنما يلزمه أخذ الماء بالثمن المعتاد حيث لم يكن محتاجا للثمن لنفقة أو غيرها، وأما لو كان محتاجا له فلا يلزمه شراؤه، بل له أن يصلي بالتيمم.
وإن بذمته مبالغة في قوله بثمن اعتيد؛ يعني أنه يلزم فاقد الماء إذا وجده يباع أن يشتريه بثمن معتاد، وإن كان هذا الثمن المعتاد الذي يأخذ الماء به دينا في ذمته إن كان عنده ما يوفي به. وقد تقدم حاصل ما للخمي وأشهب، وينبغي التعويل عليه أنه لا يشتريه الخ. ومفهوم قوله:"اعتيد" أنه لو بيع بغير المعتاد لم يلزمه ولو كثرت دراهمه، قاله الخرشي. وانظره مع ما مر.
وطلبه لكل صلاة يعني أنه يلزم التيمم؛ أي مريد التيمم أن يطلب الماء لكل صلاة بعد دخول وقتها؛ أي أن المكلف إذا طلب الماء للصلاة ولم يجده، وتيمم وصلى، ثم دخل وقت صلاة
(1)
في الأصل: مثل، والمثبت من عبد الباقى ج 1 ص 118.
أخرى، فإنه يطلب الماء للصلاة الثانية؛ لأن الصلاة الثانية في حكم الأولى في توجه الخطاب بالطلب، وهذا إذا كان في غير الموضع الذي كان فيه في وقت الصلاة الأولى، أو فيه وحدث ما يوجب توهم وجود الماء وأما إذا كان بموضعه الأول ولم يحدث ما يقتضي توهم وجود الماء فلا يلزمه الطلب حينئذ؛ لأنه لا فائدة فيه لتحقق عدم الماء. ابن رشد: يريد بالتحقق غلبة الظن؛ لأن الظن في الشرعيات معمول به، وأما القطع بالعدم فقد لا يتصور. وقوله: وطلبه لكل صلاة؛ أي بعد دخول وقتها بنفسه أو بمن يستأجره بأجرة تساوي ما يلزمه بذله فيه؛ وكذا يلزمه طلب القدرة على استعمال الماء: فهو شرط في صحة التيمم كما في الحطاب. وفهم من قولهم: يلزم طلب الماء بعد دخول الوقت؛ أنه إذا مر بالماء في الوقت وهو ذاهب إلى موضع لا ماء فيه، أنه يجب عليه أن يستعمل أو يستصحب الماء، ولا يجري فيه الخلاف الجاري في وجوب استصحاب الماء على من ذهب قبل الوقت إلى موضع لا ماء فيه، وندبه -والله سبحانه أعلم- قاله جامعه عفا الله عنه.
وإن توهمه يعني أنه يلزمه طلب الماء لكل صلاة في أربع صور؛ وهي ما إذا تحقق وجود الماء، أو ظنه، أو شكه، أو توهمه. ولا يلزمه الطلب في صورة واحدة؛ وهي ما إذا تحقق عدمه أي تحقق عدم وجود الماء؛ إذ لا فائدة في الطلب. وقوله:"وإن توهمه" وفاقا لابن شاس وابن عطاء الله وابن عبد السلام؛ وخلافا لقول ابن رشد: لا يطلب حالة التوهم، إذ هو ظان عدمه. والظن في الشرعيات معمول به، وصوب كلامه ابن مرزوق، ولكن لا يعادل من تبعهم المص. وقد مر تفسيره؛ يعني ابن رشد لتحقق عدم وجود الماء بغلبة الظن.
طلبا لا يشق به يعني أنه إذا لم يتحقق عدم الماء، وقلنا إنه يلزمه طلبه لكل صلاة، فإنه يطلبه طلبا لا يشق به بالفعل؛ وهو على أقل من ميلين راكبا أو راجلا، فإن شق بالفعل؛ وهو على أقل من ميلين، فلا يلزمه الطلب راكبا أو راجلا. كما إذا كان على ميلين شق أم لا راكبا أو راجلا؛ لأنهما مظنة المشقة، فالصور ثمانية. وقبل خبر واحد أرسله قوم أنه لم يجد ماء، وجاز لهم التيمم؛ وينبغي تقييده بعدل رواية. وليس الجلد كغيره، أي في أقل من الميلين، والميلان مظنة المشقة -كما مر- فلا يلزم الطلب منهما لا في السفر ولا في الحضر، وليس عليه أن يجهد نفسه
في الجري لإدراك الماء، ولا أن يخرج عن مشيه المعتاد. كرفقة مثال للطلب الذي لا يشق؛ يعني أن المسافر يلزمه أن يطلب الماء من رفقته إذا كانت الرفقة -بضم الراء وكسرها، ولا تجمع على رفقاء- قليلة كما أشار إلى ذلك بقوله. قليلة كالأربعة والخمسة، كانت حوله أم لا. أو حوله من كثيرة يعني أن المسافر إذا كانت رفقته كثيرة فإنه يلزمه أن يطلب الماء ممن قرب منه حوله من تلك الرفقة الكثيرة. والكثيرة كالأربعين، قال مالك في سماع أشهب: يسأل من يليه ومن يظن أنه يعطيه، وليس عليه أن يتتبع أربعين رجلا في الرفقة فيسألهم، ولكن يسأل أول من يليه ويرجو ذلك منه. وقوله:"أو حوله من كثيرة"، قال الشبراخيتي: بحيث يكون من حوله منها كالقليلة. كذا في بعض التقارير. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: وانظر ما بين العددين المذكورين هل يلحق بالقليلة أو بالكثيرة؟ قال الشيخ الأجهوري: ولو قيل بإلحاق الخمسة عشر بالأربعة، وما زاد عليها بالأربعين ما بعد، والجامع عدم المشقة؛ وهي في الثاني. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: والذي يظهر أن هذا التنظير لا محل له؛ لأن المعتبر المشقة وعدمها. انتهى. ومحل لزوم الطلب في القسمين. إن جهل بخلهم به يعني أن محل لزوم الطلب في القسمين إنما هو حيث جهك بخل القوم بالماء؛ بأن علم الإعطاء، أو ظنه، أو شكه، أو توهمه. وأما إن علم عدم الإعطاء فلا يلزمه الطلب، وإذا ترك الطلب حيث تحقق الإعطاء أو ظنه فإنه يعيد أبدا، وسواء في ذلك ترك طلبه من رفقة قليلة أو حوله من كثيرة، وإن شك في الإعطاء وترك الطلب أعاد في الوقت، وإن توهم لم يعد. كما قاله الشيخ الأمير. وهذا إن تبين وجوده أو لم يتبين شيء، فإن تبين عدمه لم يعد في الأقسام المذكورة، فإن علم بخلهم تيمم، كما لو علم إعطاءهم حياء لحرمة طلبه حينئذ. وهل يسوغ له الاستعمال حينئذ أم لا؟ لأنه بمنزلة المغصوب. ولو طلبه ممن يليه فقالوا: ليس عندنا، ثم وجده عندهم بعد أن تيمم وصلى، فإن كانوا ممن يظن أنهم لو علموا بالماء لم يمنعوه أعاد في الوقت على الصحيح. وقيل: يعيد أبدا، والأول لمالك، والثاني لأصبغ، وان ظن أنهم يمنعونه لم يعد. وقال أصبغ: إن لم يسأل في الرفقة الكثيرة لم يعد، وفي الصغيرة يعيد في الوقت؛ وإن كانوا رجلين أو ثلاثة أعاد أبدا وضعف اللخمي والمازري قول أصبغ. وحاصل قول أصبغ هذا
أنه إذا ترك الطلب من الكثيرة لا إعادة عليه؛ وفصل في الصغيرة؛ فقال: من ترك طلبهم يعيد في الوقت إلا إذا كانوا رجلين أو ثلاثة فيعيد أبدا.
واعلم أنه لا يلزم أصحاب الماء دفعه لمن طلبه؛ ولو أدى لترك طالبه للصلاة. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ الأمير: نظروا إذا شح العبد بمائه هل يجب نزعه؛ واستظهروا جواز التيمم، ولعل الأظهر الانتزاع حيث لا ضرر. انتهى. وما تقدم من أنه يعيد أبدا فيما إذا ظن إعطاء الرفقة القليلة ومن حوله من الكثيرة، يخالف قوله الآتي، ويعيد القصر في الوقت، وقد يقال لا يخالفه. قاله الشيخ إبراهيم. وسيأتي ما للشيخ عبد الباقي عند قوله:"ويعيد المقصر في الوقت". ونية استباحة الصلاة يعني أن النية في التيمم واجبة، فينوي أنه يستبيح الصلاة بتيممه وإن لم يعينها، فمن نوى بتيممه استباحة صلاة الفرض من غير تعرض لكونها ظهرا أو عصرا مثلا، صلى به ما عليه من ظهر أو عصر أو غيرهما، ويندب تعيينها فرضا أو نفلا أو هما. والصور تنلاث: نوى استباحة الصلاة من غير تعرض لفرض ولا نفل، قصدهما معا، صح في الصورتين. نوى مطلق الصلاة إما فرضا وإما نفلا، أي ملاحظا دورانها كما للشيخ الأمير؛ ويفيده الخرشي أيضا لم يصل به الفرض، وتجري الثلاث في نية استباحة ما منعه الحدث، وتكفي أيضا نية فرض التيمم، وله بهذه النية بأقسامها صلاة ما عليه من ظهر مثلا فقط، حاضر لا فائت قبل تذكره؛ لأن وقت الفائتة ذكرها، والتيمم لها قبل ذكرها تيمم لها قبل وقتها فلا يجزئ، ولا يصلي صلاة فرض بتيمم نواه لغيرها، كما لو تيمم للعصر مثلا فذكر أن عليه الظهر، فيعيد له التيمم. كما قاله الشيخ عبد الباقي. كذا لو تيمم للظهر، ثم تذكر أنه صلاه، فإنه يجدده للعصر مثلا، فإن لم يكن محدثا أكبر فالأفضل له أن ينوي استباحة الصلاة من الأصغر، فإن لم يتعرض له أو نسيه لم يضره. ولو نوى بتيممه استباحة الصلاة من نجاسة مسها بيده لم يجزه. كمافي الحطاب. وهو ظاهر.
ونية أكبر إن كان يعني أن المتيمم يلزمه أن ينوي الاستباحة من الحدث الأكبر جنابة أو حيضا أو نفاسا حيث كان محدثا حدثا أكبر، فإن تركها عمدا لم يجزه، وكذا ناسيا كما في المدونة؛ وهو ظاهر المص، كابن عبد السلام، وشهره ابن الحاجب. وقال البساطي وتبعه الشيخ داوود:
المشهور أن الناسي يعيد في الوقت، فإن لم يكن محدثا أكبر ونوى الأكبر معتقدا أنه عليه، صحت لا عمدا. وقوله:"ونية أكبر" يجري في نية استباحة الصلاة، وفي نية استباحة ما منعه الحدث، بخلاف فرض التيمم، فيجزئ وإن لم يتعرض لنية أكبر عليه. ومحل النية عند مسح الوجه بلا خلاف. قاله الشيخ زروق. ولا يلزم على ذا فعل بعض التيمم بغير نية؛ لأن الضربة كأخذ الماء للعضو. وقال الشيخ الأمير: ظاهر كلام صاحب اللمع، وصرح به غيره أنه عند الضربة الأولى. وقال الشيخ زروق: عند الوجه. واستظهره البدر القرافي قياسا على الوضوء، والأوجه الأول؛ إذ لا يبعد أن يضع الإنسان يده على حجر مثلا من غير نية تيمم، بل يقصد الاتكاء أو مجرد اللمس مثلا ثم يرفعها فيبدو له بعد الرفع أن يمسح بهما وجهه ويديه بنية التيمم. وفرق بينه وبين الوضوء، إذ الواجب كما قال الله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية. ولا مدخل لنقل الماء في الغسل. وقال في التيمم: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} فأوجب قصد الصعيد قبل السح، وقد عدوا الضربة الأولى من الفرائض فلا يصح تقدمها على النية. وقد قالوا: لا يجزئ هنا التقدم بيسير لضعف التيمم. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: نية التيمم عند الضربة الأولى كما في الشيخ سالم؛ لأنها من فرائضه. انتهى. ولا تجزئ نية رفع الحدث ولو نوى رفع الحدث رفعا مقيدا بالفراغ من الصلاة كما في الخرشي وفيه: ولا يصح تقدم النية في التيمم بيسير لضعفه عن الوضوء والغسل الجائز ذلك فيهما. كما قاله شارح اللمع ومن اغتسل للجنابة، وترك لمعة، ثم سافر وتيمم لسفره لموجب التيمم وصلى، ثم ذكرها بقرب الماء غسلها، وأعاد ما صلى قبل غسلها، وإن بعد الماء أعاد مع ذلك غسله. قاله البرزلي؛ لأن التيمم إنما كان للوضوء لا للغسل. انتهى.
ولو تكررت يعني أنه لابد للمحدث الأكبر من نية الاستباحة من الأكبر، ولو تكررت الصلاة فينوي ذلك عند كل صلاة، ويصح عود الضمير على الطهارة أو النية، أي كلما تكررت الطهارة نوى الأكبر فمن كانت عليه فوائت وأراد قضاءها تيمم لكل صلاة منها، وينوي عند تيمم كل صلاة أنه يستبيحها به من الأكبر إن كان عليه. قال الشيخ الخرشي: وأشار المؤلف بلو لرد قول ابن العربي: لو بال بعد تيممه لجنابة جاز أن يقرأ؛ لأن الحدث الأصغر إنما يبطل التيمم في
أحكامه كما لا يبطل الطهارة الكبرى. انتهى. ابن عرفة: هذا مخالف لنقل اللخمي عن المذهب. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: محل الخلاف المفاد بلو يعني في قوله: "ولو تكررت" إذا أحدث بعد أن تيمم، وأما إن لم يحدث فلا خلاف أنه ينوي الجنابة بالتيمم ولو تكررت. انتهى. وأنكر الرهوني هذا التقييد وأبطله.
ولا يرفع الحدث يعني أن المتيمم لا يرفع الحدث، هذا مذهب ملك، وجميع أصحابه، وجمهور أهل العلم. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: يرفع الحدثين جميعا. وقال ابن المسيب وابن شهاب: يرفع الأصغر دون الأكبر؛ وهو وإن لم يرفع الحدث الذي هو الوصف الحكمي؛ فإنه يرفع المنع. فالخلاف حقيقي لا لفظي كما زعم القرافي، ولا يصح أن ينوي بالتيمم رفع الحدث، فلو نوى به رفع الحدث لم يجزه كما في الشاذلي وغيره. وظاهر كلامهم: ولو رفعا مقيدا؛ أي بالفراغ من الصلاة مثلا: وينبني على كونه لا يرفع الحدث، ومقابله وطء الحائض به، ولبس الخفين، وعدم وجوب الوضوء إذا وجد الماء بعد، وإمامة المتيمم للمتوضئ من غير كراهة، ووقوعه قبل الوقت، وجمع فريضتين. والدليل على أنه لا يرفعه ما روى ابن وهب أن عمرو بن العاص احتلم في ليلة باردة وقد أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على جيش فخاف إن اغتسل بالماء البارد هلك فتيمم وصلى بأصحابه ثم ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صليت بالناس وأنت جنب
(1)
)، وفي المدونة: يؤم المتيمم المتوضئين وإمامة المتوضئ لهم أحب إلي. وفي الموطإ أنه يؤم المتوضئين وليس المتوضئ بأطهر منه. قاله الخرشي. والظاهر أنه لا يتعين على الماسح نية استباحة الصلاة لأن المسوح تبع للمغسول. قاله الخرشي. وقد مر عن الشيخ إبراهيم أنه تكره إمامة المتيمم للمتوضئ وإمامة الماسح على الجبيرة لغيره، وأن إمامة الماسح على الخف لغيره خلاف الأولى.
وتعميم وجهه يعني أنه يلزم المتيمم أن يعم وجهه بالمسح طولا وعرضا مع اللحية ولو طالت، فيراعي الوترة والعنفقة ما لم يكن عليها شعر، وما غار من العين، ويمر بيديه على شعر لحيته
(1)
سنن أبي داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:334. ولفظه: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب.
ولو طالت؛ ويبلغ بهما حيث يبلغ بهما في غسل الوجه، وما لا يجزئه في الوضوء لا يجزئه في المتيمم، ولا يتبع غضونه قاله غير واحد. وفي الأمير: ولا يتعمق في نحو أسارير الجبهة، ولا يخلل لحيته؛ لأن المسح مبني على التخفيف. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: وتحصل من هذا أنه لا يخلل الشعر. وكفيه لكوعيه يعني أنه يلزم المتيمم أن يعمم كفيه لكوعيه بالمسح، والكوعان داخلان في المسح كالمرفقين في الوضوء، فإن ترك شيئا من ذلك ولو يسيرا لم يجزه. ولابد من تخليل أصابعه على الذهب إلا الأقطع، أو مربوطا يداه فيمرغ وجهه ويديه في التراب عند عدم من يستنيبه. قاله ابن فرحون في ألغازه. وحيث حصل التعميم كفى، ولو بإصبع. قاله الشيخ إبراهيم الشبراخيتي. وفي الخرشي: ويستوعب دور الوجه طولا وعرضا مع اللحية وإن طالت، ولو مسح وجهه بإصبع واحدة أجزأه كقول ابن القاسم في مسح الرأس. ابن عطية: وهو المشهور فإن تعلق بيديه شيء نفضهما نفضا خفيفا، وظاهره ترابا كان أو غيره خيفة التشويه أو يكون بهما ما يسوده، ولا يمسح بهما مسحا قويا، فإن فعل لم يجزه المسح. كما قاله الأقفهسي. قال التتائي: ولم أره لغيره. ابن الحاجب: ولو مسح يديه على شيء قبل المتيمم فللمتأخرين قولان بخلاف النفض الخفيف فإنه مشروع. واستظهر ابن عبد السلام من القولين الجواز. خليل: إنما شرع النفض الخفيف خشية أن يضره شيء في عينيه. انتهى. كلام الخرشي. وفي الحطاب: لم يقيد المصنف تعميم وجهه بمسح يديه، فلو مسحه بيد واحدة أجزأه، بل قال سند: لو مسحه بإصبع واحدة أجزأه. وفي أجوبة ابن ناصر: ولا يشترط أن يسع الحجر الكف. ولو مسح على حجر قدر إصبع يده شيئا بعد شيء حتى يستوعب جميعه أجزأه. انتهى. ولما قبله وبعده من النقل الصحيح نقلته، وما ذكره المص من لزوم تعميم الوجه والكفين هو المشهور في المذهب. قال في التوضيح: الاستيعاب مطلوب ابتداء، ولو ترك شيئا من الوجه واليدين إلى الكوعين لم يجزه على المشهور. وقال ابن مسلمة: إذا كان يسيرا أجزأه. سند: لو مسح وجهه بإصبع واحدة أجزأه كقول ابن القاسم في مسح الرأس: ويجزئ من ربطت يداه ولم يجد من ييممه أن يمرغ وجهه وذراعيه في التراب، وإن لم يستوعب محل الفرض فتجزئه الصلاة بذلك المتيمم، وأما إذا وجد من ييممه فلا يسقط عنه وجوب التعميم. ونص في العتيبة على أن
أقطع اليد يستنيب من ييممه كما يستنيب من يوضئه، فيمسح له وجهه ويديه إلى المرفقين على قول مالك؛ وعلى قول من يرى المتيمم للكوعين يسقط عنه مسح يديه إلى المرفقين. والله تعالى أعلم. قاله الإمام الحطاب. ابن عرفة: وفي وجوبه، يعني المتيمم إلى المرفقين أو إلى الكوعين ولهما مستحب. ثالثها الجُنُب للكوعين وغيره للإبطين، ورابعها للمنكبين. والكوع هو طرف الزند الذي يلي الإبهام، ويقال فيه أيضا الكاع. وفي الذخيرة: الكوع آخر الساعد وأول الكف، وجمعه أكواع. قاله في المحكم. قال الإمام الحطاب: ويقابل الكوع على التفسير الأول الكرسوع بضم الكاف؛ وهو طرف الزند الذي يلي الخنصر، وهو الناتئ عند الرسغ بضم الراء وسكون السين وقد تضم وآخره غين معجمة، هو مفصل ما بين الكف والساعد. والزند بفتح الزاي هو موصل طرف الذراع بالكف؛ وهما زندان الكوع والكرسوع، ولبعضهم:
الكوع ما عليه إبهام اليد
…
والبوع في الرجل ككوع في اليد
وما عليه خنصر كرسوع
…
والرسغ للمفصل قل موضوع
والباع بالأذرع أربعا يعد
…
وباعتدال صاحب الباع يحد
قاله الحطاب؛ ولبعضهم:
فعظم يلي الإبهام كوع وما يلي
…
لخنصر الكرسوع والرسغ ما وسط
وعظم يلي إبهام رجل ملقب
…
ببوع فخذ بالعلم واحذر من الغلط
ونزع خاتمه يعني أنه يلزم المتيمم نزع الخاتم، بمعنى إزالته عن موضعه ليمسحه ولو مأذونا في لبسه ولو متسعا، فإن لم ينزعه لم يجزه المتيمم. ابن الحاجب: قالوا ويخلل أصابعه. التوضيح: تضعيفه التخليل بقوله قالوا لأحد وجهين لعدم مناسبته للمسح لبنائه على التخفيف، أو لأنه لا كان المذهب أنه لا يشترط نقل التراب إلى الوجه لجواز المتيمم على حجر، ناسب أن لا يلزم التخليل. وقوله: قالوا يوهم تواطؤ جماعة، ولم ينقل إلا عن ابن القرطي. قال الشيخ أبو محمد: ولم أره لغيره، لكن ما قاله ابن القرطي قبله اللخمي وابن بشير. وابن القرطي بالطاء دون باء، هو
ابن شعبان صاحب الزاهي، وعلى القول به يكون ببطن إصبع أو أكثر لا بجنيه؛ لأنه لم يمسه صعيد، وفي كلام الشيخ عبد الباقي نظر لأنه قال يكفي لهما أي لليدين تخليل واحد، وذلك إنما يتأتى مع التشبيك، وهو مناف لما ذكر من أنه يكون ببطن إصبع أو أكثر لا بجنبه؛ لأنه لم يمسه صعيد. وقال الشيخ الأمير: ويخلل أصابعه كما حققه الرماصي، ويجاب عن قول ابن الحاجب، قالوا بما تقدم من قبول اللخمي وابن بشير، لقول ابن شعبان: إنه يخلل. وفي التوضيح: لا خلاف أنه مطلوب بنزع الخاتم ابتداء؛ لأن التراب لا يدخل تحته، فإن لم ينزعه فالمذهب أنه لا يجزئه، واستقرأ اللخمي من قول ابن مسلمة الإجزاء. انتهى.
وصعيد يعني أنه يشترط في صحة المتيمم أن يكون بصعيد، فقوله:"وصعيد" عطف على قوله: "موالاته". والصعيد هو كل ما صعد على وجه الأرض من أجزائها، فيشمل من حفر حفرة وتيمم بباطنها؛ لأنه صار صاعدا على وجهها. قاله غير واحد. ومن أجزائها الطفل؛ لأنه حجر لم يشتد تصلبه. وقيل: لا يتيمم عليه؛ لأنه طعام تأكله النساء، وجاز تيمم ببلاط مسجد لا ترابه إن حفره فيما يظهر، وإلا جاز. وجاز بأرض غير كصلاة بها، ولا يجوز له منعه إن لم يتضرر بذلك؛ لأنه لا يجوز أن يمنع غيره من الانتفاع بما لا يضر به كالاستصباح بمصباحه، والتظلل بجداره. طهر يعني أنه يشترط في الصعيد الذي يتيمم به أن يكون طاهرا؛ وهو تفسير لطيبا من قوله تعالى:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} . كتراب مثال للصعيد، والتراب هو المنبت من الأرض، ودخل بكاف التمثيل كل ما صعد على وجه الأرض من أجزائها. قال في الجواهر: ولا يختص بذلك التراب على المشهور، بل يجزئ المتيمم على الحجر الصلب والرمل والسباخ والنؤرة والزرنيخ، وجميع أجزاء الأرض ما دامت على جهتها لم يغيرها صنعة آدمي بطبخ ونحوه، وسواء فعل ذلك مع وجود التراب أو عدمه. وقيل: لا يجزئ بغير التراب مطلقا. وخص ابن حبيب الإجزاء بعدم التراب. واختلف في المتيمم على صلب الأرض مع وجود التراب على ثلاثة أقوال: الأول يتيمم به وهو المشهور، الثاني لا يتيمم به وهو قول ابن شعبان، الثالث يتيمم ويعيد في الوقت وهو قول ابن حبيب. النووي: التراب اسم جنس لا يثنى ولا يجمع على الصحيح، وقال الجوهري: جمعه أتربة وتربان وتوارب، ومن أسمائه الرغام بفتح الراء والغين المعجمة، ومنه أرغم الله أنفه،
ويدخل في التراب البطحاء، وهو التراب اللين في مسيل الماء، وهي بفتح الباء والد، ويقال فيه الأبطح. واعلم أنه إذا خالط أنواع الصعيد غيره مما لا يصح التيمم عليه بحيث يمسح شيئا من الوجه أو غيره بما لم يلاق إلا ذلك الغير، لا يصح تيممه. قال الشيخ أبو سعيد بن سليمان في مرشد المبتدئين عند قول الرسالة: أو رمل، ما نصه: يريد إلا رمل البحر؛ لأنه فيه عظام دواب البحر: وليست من الصعيد. انتهى.
وهو الأفضل يعني أن التراب أفضل في التيمم من غيره من أجزاء الأرض، وهذا لا خلاف فيه. والله سبحانه أعلم. اللخمي: ولا يختلف المذهب أن البداءة بالتراب أولى وهو ظاهر المدونة، ولا يختلف أيضا أنه يجوز المتيمم بما لا تراب عليه عند عدم التراب. وقوله:"وهو الأفضل"؛ أي التراب هو الأفضل والمبالغة في قوله ولو نقل إنما هي في الإجزاء؛ يعني أن التراب هو الأفضل، وإجزاؤه حاصل؛ ولو نقل فالمبالغة راجعة لقوله:"كتراب"، وهي راجعة للتراب، ولجميع ما أدخلته الكاف من أجزاء الأرض، فالتراب مع النقل يكون غيره من أجزاء الأرض الذي لم ينقل أفضل منه. وما ذكره المص من جواز التيمم على التراب المنقول هو المشهور. ابن الحاجب: ولو نقل التراب فالمشهور الجواز، ومقابل المشهور لابن بكير. قال: لا يجوز المتيمم به حينئذ، وعليه رد المص بلو، وما قدمته من أن المبالغة راجعة للتراب ولجميع ما أدخلته الكاف هو للشيخ محمد بن الحسن رادا على الشيخ عبد الباقي في قوله: إنها راجعة للتراب، ولا ترجع لما أدخلته الكاف. وما قاله الشيخ محمد بن الحسن هو الظاهر، وسيأتي لعبد الباقي عند قول المص:"كشب وملح" ما نصه: وأما تفسير النقل بأن يحول بينه وبين الأرض حائل فإنه لا يمتنع المتيمم به. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: وهو الصواب. انتهى. وقوله: "ولو نقل" قال ابن عبد السلام: هذا إذا جعل في وعاء، وأما لو جعل على وجه الأرض فاسم الصعيد باق عليه. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: ومعنى كلامهما أن النقل الذي يصير التراب مختلفا فيه، معناه أنه جعل بينه وبين الأرض حائل ليس من جنس الأرض. فلو كان الحائل من جنس الأرض فهذا مما لا خلاف فيه. والله سبحانه أعلم. وشمل قوله:"كتراب" أرض ثمود؛ وهو الذي صححه القرطبي في تفسير سورة الحجر، واستثناها ابن العربي من قوله صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي
الأرض مسجدا وطهورا
(1)
)، وتبعه ابن فرحون في ألغازه. وفي التمهيد: أجمع العلماء على جواز التيمم على مقبرة المشركين إذا كان الموضع طيبا طاهرا نظيفا.
وثلج يعني أنه يجوز التيمم بالثلج ولو وجد غيره، والثلج ماء منعقد، وما ذكره المص في الثلج هو قول مالك في المدونة، ومنعه في مدونة أشهب وإن لم يجد ترابا؛ وهو عنده كالعدم. وقال ابن حبيب: من تيمم به وصلى وهو قادر على الصعيد أعاد وإن ذهب الوقت، وإن كان غير قادر أعاد ما لم يذهب الوقت. ويختلف في الماء الجامد والجليد قياسا على الثلج. قاله اللخمي. وفي ابن عرفة: اللخمي: جامد الماء والجليد مثل الثلج.
وخضخاض يعني أنه يجوز التيمم بطين خضخاض أي مختلط بماء ذهب فيه إن لم يجد غيره من تراب أو جبل مثلا. ابن الحاجب: وعلى الخضخاض إذا لم يجد غيره. وقيل: وإن وجد. قال في التوضيح: قال ابن راشد والقول بأنه يتيمم به وإن وجد غيره لم أره. وفي الشامل: إن لم يجد غيره، ونحوه لابن يونس والبرادعي. وقال الشيخ الأمير: وثلج عجز عن تسخينه كخضخاض لم يجد غيره. وبهذا تعلم أن قول المص: "وخضخاض" مقيد بما إذا لم يجد غيره من أجزاء الأرض وفيها خفف يديه يعني أنه وقع في المدونة إثر كلامها على الخضخاض أن المتيمم بالخضخاض يخفف وضع يديه عليه، وهذا على رواية الخاء. وأما على رواية الجيم فمعناه أنه إذا وضع يديه على الخضخاض ورفعهما عنه فإنه يجففهما، والظاهر أن التجفيف مستحب، وعلى رواية الخاء لابد من التجفيف، وكأن الفصل بمدته لا يبطل الموالاة للضرورة الداعية له كذا في الشرح. وفي الحاشية أي تجفيفا لم يطل، وإلا ورد عليه ولزم موالاته. قاله الشيخ إبراهيم. ونحوه للأمير؛ فإنه قال:"وجفف يديه" بحيث لا يخل بالموالاة، وذلك مندوب. والخضخاض طين. انتهى. وفي الخرشي: والفصل مدة التجفيف لا يبطل الموالاة للضرورة الداعية له. انتهى. وإنما جفف لتظهر الترابية.
(1)
البخاري، كتاب التيمم، رقم الحديث 335.
رويت بجيم وخاء يعني أن هذا اللفظ الذي في المدونة روي بالجيم وبالخاء، وقد مر معنى ذلك ولا تنافي بينهما، ولذا جمع بينهما في المختصر الكبير. فقال: يخفف وضع يديه ويجففهما قليلا. ابن حبيب: ويحك يديه بعضهما ببعض يسيرا إن كان فيهما شيء يؤذيه، ثم يمسح، زاد ابن يونس: ثم يمسح بهما وجهه ويصنع كذلك بيديه. انتهى. والله أعلم.
وجص بكسر الجيم وفتحها؛ يعني أنه يجوز التيمم بالجص؛ والجص هو الحجر الذي إذا شوي صار جيرا، وإنما يتيمم بالجص إن لم يطبخ فإن طبخ أي حرق؛ وهو معنى طبخه لم يجز التيمم عليه؛ وظاهره ولو لم يجد غيره وضاق الوقت لخروجه بالصنعة عن كونه صعيدا، وذكر اللخمي أنه إذا ضاق الوقت ولم يجد غير تيمم عليه؛ فإنه قال: ولا يتيمم على المصنوع من الأرض كالآجر والجص والجير والجبس بعد حرقه، فإن فعل مع القدرة على غير مصنوع أعاد أبدا، وإن لم يجد غيره أُجِيزَ؛ لأنه كان له أن يصلي على أحد الأقوال بغير تيمم. وفي المنتقى: ولا يجوز التيمم بالجير. ويجيء على قول ابن حبيب أنه يتيمم به، والأول أصح؛ لأنه تغير بالطبخ عن جنس أصله. وقول ابن حبيب هو أنه إذا كان الحائط آجرا أو حجرا، واضطر المريض إليه: تيمم به ولم تكن عليه إعادة؛ لأنه مضطر. التونسي: انظر قوله: آجرا، والآجر طين قد طبخ، فكيف يتيمم عليه وهو كالرماد؟ قاله الإمام الحطاب. وعلى ما للخمي من أنه يتيمم على الجص الذي طبخ إذا ضاق الوقت ولم يجد غيره، فانظر هل ذلك ولو جصص به حائطه مثلا أم لا؟ وهو ظاهر ما في أحمد عن ابن القاسم من عدم تيممه على جدار كسي جيرا. السنهوري: وإنما أفرد الجص بالذكر عن غيره من أنواع الحجارة؛ لأنه الذي يخرجه الطبخ عن ماهية الصعيد: وليس مثل الحرق دخول صنعة بحجر كنقرة، فيباح التيمم على الرحى وإن لم تكسر خلافا للشبيبي القائل لا يصح إلا إذا كسرت. قاله الشيخ عبد الباقي. قال مؤلفه عفا الله عنه: وظاهر كلام ابن الحاجب أن ذلك، أي عدم الطبخ شرط في جميع أجزاء الأرض، ونصه: ويتيمم بالصعيد الطاهر؛ وهو وجه الأرض التراب والحجر والرمل والصفا والسبخة والشب والنؤرة والزرنيخ وغيره ما لم يطبخ. انتهى. وقال في الجواهر: ويجزئ التيمم على الحجر الصلد والرمل والسباخ والنؤرة
والزرنيخ وجميع أجزاء الأرض ما دامت على جهتها لم تغيرها صنعة آدمي بطبخ ونحوه، وسواء فعل ذلك مع وجود التراب أو عدمه.
ومعدن بإسقاط الباء عطف على تراب كما في الشبراخيتي، وهذه النسخة هي الصواب، يعني أنه يجوز التيمم بالمعدن من نحاس وحديد ورصاص ونحو ذلك. غير نقد يعني أن المعدن يجوز التيمم به مع وجود التراب إلا إذا لم يقع فيه التواضع لله عز وجل، وذلك كمعدن نقد وجوهر عطف على نقد؛ أي يتيمم بالمعدن بشرط أن لا يكون معدن نقد؛ وبشرط أن لا يكون معدن جوهر؛ لأنه لا يقع بهما التواضع لله عز وجل.
ومنقول عطف على نقد، وحاصل ما أشار إليه المص أنه يتيمم على المعدن بثلاثة شروط؛ فإن اختل واحد منها لم يصح التيمم عليه: كونه غير نقد، وكونه غير جوهر، وكونه غير منقول. والمراد بالنقل أن تبان عن موضعها وتصير في أيدي الناس كالعقاقير، وهذا إنما يكون في بعض أجزاء الأرض كشب وملح يملح به لا في كتراب. والظاهر أن الطفل المنقول كالشب، وأما تفسير النقل بأن يجعل بينه وبين الأرض حائل فإن ذلك لا يمنع التيمم به لكن غيره أفضل منه، وهذا يجري في سائر أجزاء الأرض، وفي حاشية الأمير أن الصيرورة عقاقير إنما تكون فيما يدخر لقوت أو دواء مثلا كالملح والكبريت، لا مجرد البيع والشراء في أحجار البناء مثلا. وقال اللخمي: التيمم به من الأرض على ثلاثة أقسام: جائز، وهو التيمم بالتراب الطاهر وهو إذا كان على وجه الأرض لم ينقل عنها كانت تلك الأرض من الجنس المعهود، أو على غير ذلك كالكبريت والزرنيخ، ومعدن الحديد والنحاس والرصاص وما أشبه ذلك. وممنوع؛ وهو التيمم بالتراب النجس؛ وبما لا يقع به التواضع لله تعالى كالزبرجد والياقوت وتبر الذهب ونقار الفضة وما أشبهه، وهذا وإن كان آحاد أبعاض الأرض لا يصح التيمم به، ولو أدركته الصلاة وهو في معدنه ولم يجد سواه جاز أن يتيمم على تلك الأرض، وفي الطراز: وأما الحديد والنحاس والذهب والفضة فلا يتيمم به قولا واحدا إلا أن يدرك الصلاة في معدنه ولم يجد غيره فيتيمم به بترابه لا بما صفا منه. انتهى. فما ذكره المص من جواز التيمم بالمعادن إلا معدن الذهب والفضة مخالف لكلام صاحب الطراز. وقد علمت أن اللخمي قال في معدن الذهب، ومعدن الفضة، ومعدن
الياقوت إنه إذا ضاق الوقت ولم يجد غير ذلك تيمم عليه. وقال ابن فرحون: حكى ابن يونس عن مالك أنه لا يجوز التيمم على الرخام؛ وهو بمنزلة الياقوت والزبرجد. وقال اللخمي: لا يجوز التيمم بما لا يقع به التواضع لله تعالى كالياقوت، والزبرجد، ونقد الذهب والفضة إلا أن يكون في معادنه ولم يجد سواه؛ فيتيمم به. فعلى هذا يكون مراده بالرخام أنه يمنع التيمم به بعد نشره من معدنه وخدمته وصقله: ويجوز التيمم به إذا كان في معدنه. انتهى. قاله الإمام الحطاب. وقال الشبراخيتي: وأما الرخام فقيل يجوز التيمم عليه مطلقا. وقال ابن يونس: يمنع مطلقا كما قاله مالك؛ وهو الصواب. وفصل اللخمي بين ما دخلته صنعة كالنشر والصقل فيمنع وما لا فيجوز. وينبغي رجحانه لاتفاق قولين على المنع في المصنوع، واتفاق قولين على الجواز في غير المصنوع. وقال الشيخ الأمير عاطفا على ما يجوز التيمم عليه: ورخام لم يطبخ، ولا يضر مجرد النشر، وحجر لم ينشر ولو الرحى. انتهى. وأفتى بعضهم بأنه لا يتيمم على الرحى إلا أن تنكسر، واختار البرزلي جواز التيمم مطلقا. انظر الإعلام. وظاهر كلام المص أنه لا يتيمم على معدن النقد والجوهر ولو ضاق الوقت ولم يجد سواهما: وهو ما يفيده كلام ابن يونس والمازري. وذكر اللخمي وسند أنه يتيمم عليهما بمعدنهما إذا ضاق الوقت ولم يجد غيرهما. وقال ابن عرفة إنه يتيمم على النقد والجوهر حيث لم يجد غيرهما وضاق الوقت، ولم يقيد ذلك بكونه بمعدنه؛ وهو خلاف ما اتفق عليه اللخمي وسند من التقييد بكونه بموضعه، وقيده سند بكونه بترابه لا بما صفا منه؛ وقد تقدم اختلاف سند واللخمي في معدن الحديد والنحاس، فاللخمي يجيزه كالمص، وسند يمنعه كالذهب والفضة. وقال الشيخ عبد الباقي: إن الحطاب يفيد أن القائل بالجواز يخصه بترابه أي معدن النقد والجوهر، وأن عينه يمتنع التيمم عليها بلا نزاع. انتهى. وقال الإمام الحطاب: ما ذكره المص من جواز التيمم بالمعادن إلا معدن الذهب والفضة، موافق للخمي مخالف لكلام صاحب الطراز، ثم يقيد كلامه بما إذا وجد غير ذلك. انتهى.
كشب وملح مثالٌ لمعدن منقول وغير منقول. قاله الشيخ إبراهيم والشيخ الخرشي. يعني أن الشب والزئبق والزرنيخ والكبريت والمغرة والكحل والنؤرة والحديد والنحاس والرصاص والملح يتيمم عليها بموضعها ولو مع وجود غيرها. وأما ما نقل منها من موضعه فلا يتيمم عليه. والمراد بالنقل
أن تبان عن الأرض وتصير في أيدي الناس كالعقاقير لا ما نقل من موضع لآخر، ولا ما جعل بينه وبين الأرض حائل من غير جنس الأرض فلا يمتنع التيمم عليهما لأجل ذلك.
وقد تقدم أن التراب المنقول أفضل منه غيره من أجزاء الأرض التي لم تنقل، وكذا هذه إذا نقلت لا يمتنع التيمم بها، وإن كان غيرها من أجزاء الأرض التي لم تنقل أفضل منها. وقد علمت معنى هذا النقل الذي لا يمنع التيمم، وهو أن ينقل من موضع لآخر. ويجعل بينه وبين الأرض حائل ليس من جنس الأرض. وأما النقل المانع من التيمم فهو أن يبان شيء مما ذكر عن الأرض ويصير في أيدي الناس كالعقاقير؛ وهو إنما يكون فيما هو كالملح والشب والكحل، لا فيما كالتراب كما مر. والله سبحانه أعلم. هذا هو تحرير المسألة، وشمل قوله: ملح المعدني، والمصنوع من تراب، وما كان أصله ماء وجمد. قاله الشيخ عبد الباقي.
ولمريض حائط لبن يعني أنه يجوز للمريض أن يتيمم على حائط لبن، أي طوب لم يحرق ولم يخلط بنجس أو طاهر كحشيش أو تبن، وإلا لم يتيمم عليه. كما لا يتيمم على رماد، ومثل المريض الصحيح، وإنما خص المريض؛ لأن الغالب عليه الضرورة. قاله ابن مرزوق. وقال الشيخ ميارة: خصوا المريض لأنه يجوز له جوازا مستوى الطرفين، وأما الصحيح فيكره له ذلك خروجا من الخلاف. انتهى. وقال الشيخ الأمير: وحائط لبن لم يحرق ولم يخلط بغالب كتبن ورماد ولا كثير نجس كالثلث.
أو حجر يعني أنه يجوز للمريض وكذا الصحيح أن يتيمم على حائط حجر لم يحرق، وإنما خص المريض لما مر في حائط اللبن بكسر الوحدة. لا بحصير يعني أنه لا يجوز التيمم على الحصير واللبد والبساط والثياب، إلا أن يكثر ما على ذلك من التراب فيتناوله اسم الصعيد، وقوله:"لا بحصير" عام في المريض والصحيح. وخشب يعني أنه لا يجوز التيمم على الخشب ولو كانت ثابتة بالأرض، وكذا الألواح والحلفاء والزرع والحشيش إلا إذا لم يجد غيره ولم يمكن قلعه وضاق الوقت على ما للخمي. قال الشيخ عبد الباقي: والمشهور خلافه. قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر، فإن نقل الحطاب يقتضي أن الراجح ما للخمي، وأصله للأبهري وابن القصار، والوقار
في الخشب. وقاله سند والقرافي واللخمي وعبد الحق وابن رشد في المقدمات. وقال الفاكهاني والشبيبي: هو الأرجح والأظهر. انتهى.
وقال الحطاب بعد جلب نقول: فيتحصل أنه لا يجوز التيمم بالحشيش والحلفاء والخشب إلا إذا لم يجد غيره، ولم يمكن قلعه فيتيمم به حينئذ، وليس ثم قول بجواز التيمم على ذلك مع وجود غيره إلا ما يفهم من حكاية اللخمي قول ابن القصار من غير تقييد، وتبعه على ذلك غيره. وقد علمت أنه مقيد بأن لا يمكنه غيره كما تقدم في كلام صاحب الطراز. والله أعلم. وقال الأبهري: ويتيمم على الحشيش والثلج لعدم الأرض. ابن حبيب: ومن تيمم بذلك فإن وجد الصعيد في الوقت أعادت ولا يعيد بعد الوقت، ولو فعله واجدا لصعيد أعاد أبدا. وفي المقدمات: ويجوز التيمم بالحشيش النابت على وجه الأرض إذا عم الأرض وحال بينك وبينها، وقد قال يحيى بن سعيد: ما حال بينك وبين الأرض فهو منها. انتهى. قاله الحطاب.
وذكر بعض البغداديين أن في التيمم على الزرع خلافا، وقال الشبيبي في شرح الرسالة لما ذكر الأنواع المختلف في جواز التيمم عليها: الخامس ما حال بينك وبين الأرض وليس من جنسها كالخشب والحشيش والزرع؛ واختار اللخمي القول بالمنع والإعادة أبدا إن تيمم به مع وجود غيره؛ وإن لم يجد سواه تيمم به. قال غيره: وهو الأرجح الأظهر. انتهى. قاله الإمام الحطاب. وفيه: وأما ما ينبت في الأرض وليس من شكلها فإنه يتيمم عليه إن لم يقدر على قلعه.
وفعله في الوقت يعني أنه يلزم فعل التيمم في الوقت، فيشترط في صحة الصلاة أن يتيمم لها بعد دخول وقتها؛ ووقت الحاضرة معلوم، ووقت الفائتة تذكرها لا قبله، ووقت صلاة الجنازة الفراغ من غسل الميت، أو تيممه. قال الشيخ عبد الباقي والشبراخيتي: هذا في الفرائض، وأما النوافل فيجوز أن يصليها ولو تيمم قبل وقتها. قال الشبراخيتي: فيصلي الفجر ولو تيمم له قبك وقته، والوتر إذا جمع العشاءين ليلة المطر بتيممه قبل مغيب الشفق. انتهى. وقال الشيخ الأمير: وأما تيمم النافلة فقال الأجهوري: لا يشترط أن يكون بعد وقتها: لأنه يصلي الفجر بتيمم الوتر. انتهى. وفيه: عن الشيخ سالم أن هذا إذا تيمم للوتر بعد الفجر، قال: فانظره. انتهى. وفي الخرشي: وكذا لو كان يتهجد بالليل، فدخل وقت الفجر لا يصليه، فلو تيمم للوتر فيصلي به
الفجر حيث كان تيممه للوتر بعد دخول الفجر، قاله عند قول المص: ولو مشتركة. وقال الشيخ إبراهيم: فإن قيل هذا يغني عنه قوله ولزم موالاته؛ لأنهم فسروه بموالاته في نفسه وبالصلاة؛ فالجواب أن ما تقدم يصدق بما إذا كان التيمم قبل الوقت متصلا بأول الوقت، ومن تيمم ودخل في الصلاة ثم حصل له شك في الإحرام فقطع فلا يعيد التيمم إذا لم يطل، فإن طال بطل تيممه، ولا يدخله الخلاف في مسألة الإقامة إذا ذكر النجاسة في الصلاة؛ لأن هذا لم يزل في عمل الصلاة، والآخر قطعها لغسل النجاسة. ولا مسألة من أقيمت عليه الصلاة لغيبة الإمام، ثم قدم الإمام قبل إحرام الأول، هل تعاد له الإقامة أولا لاختلاف الإمام فيها.
فالآيس أول المختار يعني أن الآيس من لحوق الماء في الوقت أو وجوده فيه يندب له التيمم؛ والصلاة أول الوقت المختار. قال الشيخ عبد الباقي: وحيث صلى أوله فلا إعادة عليه إن وجد غير ما أيس منه، فإن وجد ما أيس منه ندبت له الإعادة. وقول الباجي: وجبت، معناه ثبتت. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: في تفصيلة نظر، بل مقتضى النقل الذي في الحطاب والمواق أنه لا يعيد في الوقت مطلقا، وجد ما أيس منه أو غيره. ففي المدونة: لا يتيمم أول الوقت إلا مسافر أيس؛ ولا يعيد إن وجده في الوقت. انتهى. ولما نقل ابن عرفة هذا قال بعده بكثير ما نصه: الصقلي قيل إن وجد المسافر ما أيس منه أعاد، ولا يخالف هذا ما يأتي عند قوله: كواجده بقربه من سماع أبي زيد؛ لأنه في الجاهل، وما هنا في الآيس. وقد جعل ابن عرفة الجاهل كالمتردد، ونصه: والمسافر يجهل الماء، والخائف عدم بلوغه، والمريض. وشمل قوله:"فالآيس" قسمين: الذي يعلم أنه لا يقدر على الماء في الوقت، والذي يغلب على ظنه. فيستحب لهما التيمم والصلاة أول الوقت المختار ليحوزا فضيلة أول الوقت إذ فاتتهما فضيلة الماء، وهذا أيضا حكم الذي لا يقدر على مس الماء. قاله الإمام الحطاب. عن ابن رشد.
والمتردد في لحوقه يعني أن المتردد في لحوق الماء؛ أي الشاك في إدراكه في الوقت مع تحقق وجوده يتيمم ويصلي وسط الوقت. أو وجوده يعني أن المتردد في وجود الماء وعدمه كالجاهل بموضعه، يتيمم ويصلي وسط الوقت. وعبارة الخرشي: أو وجوده للجهل به. وبما قررت علم أن قوله: وسطه راجع للأمرين قبله، وهو معمول ليتيمم مقدر، أي أن المتردد في لحوق الماء والمتردد
في وجوده يتيممان وسطه أي وسط الوقت المختار، ومعنى ذلك أنهما يتيممان من الوقت في آخر ما يقع عليه اسم أول الوقت؛ لأنه يؤخر الصلاة رجاء إدراك فضيلة الماء ما لم يخف فوات فضيلة الوقت: فإذا خاف فواتها تيمم وصلى ليلا تفوته الفضيلتان، فوسط الوقت نصف القامة في الظهر. كما قاله ابن أبي زمنين. ويلحق بالمتردد بقسميه الخائف من لصوص أو سباع، والمريض الذي لا يجد من يناوله. كما في الطراز. وكذلك المسجون. ففي هذا القسم خمسة أنواع. [
(1)
]
وقوله في لحوقه المناسب، هنا التعبير باللحاق. قال في الصحاح: لحقه. ولحق به لحاقا بالفتح أدركه؛ ثم قال بعده بيسير: ولحق لحوقا أي ضمر. قال السنهوري: ولا شك أن الذي يليق بهذا المقام هو الأول لا الثاني. قاله الشيخ إبراهيم.
والراجي آخره يعني أن الراجي للماء؛ وهو من علم أو غلب على ظنه أنه قادر على الماء قبل خروج الوقت، ففي هذا القسم نوعان: يتيمم بحيث يوقع الصلاة في آخر الوقت المختار؛ لأن فضيلة الوقت مختلف فيها. وفضيلة الماء متفق عليها، وفضيلة أول الوقت يجوز تركها لغير ضرورة؛ وفضيلة الماء لا يجوز تركها إلا لضرورة. وقوله:"آخره" يشمل المغرب. وآخرها يعرف بتقديرها بفعلها بعد شروطها، فيؤخرها له.
وفيها أي في المدونة ما يخالف ذلك؛ وهو تأخيره أي الراجي للماء المغرب لغيبوبة الشفق وهو الحمرة الباقية في المغرب من بقايا شعاع الشمس، وهذا على القول بأن وقتها الاختياري يمتد للشفق؛ وهو مقابل ما يأتي للمص، لكن له قوة في باب التيمم، وكذا في الجمع الصوري. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ الأمير: والأول أرجح. انتهى. يعني بالأول القول الذي قدمته أنه يؤخر المغرب لآخر وقتها، على أنها تقدر بفعلها بعد شروطها، ونحوه للشيخ إبراهيم فإنه قال:
(1)
خرجة من المؤلف وردت في بعض النسخ المقابل عليها: لكنه خلاف ما تقدم عند قوله كعدم مناول من جريان التفصيل فيه، وما قدمه هو الموافق لقول ابن عرفة، وعدم آلة رفعه كعدمه. انتهى. فجعل عدم آلته كعدمه في التفصيل، ومثله عدم المناول، وهذا هو الظاهر، ويمكن وهذا ما في الطراز على المتردد. فيتوافقان. انظر البناني.
وقوله: "وفيها" ضعيف مع أنه قال وهو وإن كان خلاف المشهور إلا أن له قوة في باب التيمم؛ وكذا في الجمع الصوري. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: قول الزرقاني على القول بأن وقتها يمتد للشفق. هكذا في التوضيح. وفي الحطاب: ويمكن أن يقال أمره بالتأخير مراعاة للخلاف لقوة القول بالامتداد، فلا يلزم أن تكون مفرعة على ما قابل المشهور، بل نقول بأنها مفرعة على المشهور، وتكون هذه الصورة كالمستثناة من قوله: والراجي يؤخر إلى آخر المختار، فيقال إلا في المغرب. وهذا ظاهر المدونة لمن تأملها. انتهى. وقوله:"والراجي آخره" الحاضر والمسافر سواء في ذلك.
واعلم أن الصور عشرون؛ لأن الآيس يشمل نوعين وهما: المتيقن، والغالب على ظنه، والمتيقن يتيقن عدم وجود الماء أو عدم لحوقه، والغالب على ظنه غلب على ظنه عدم لحوق الماء أو عدم رجوده. فتلك أربعة. وكل من المتيقن والغالب على ظنه إما مسافر أو حاضر. فتلك ثمانية والراجي يشمل نوعين أيضا كما علمت فتجري فيه الصور الثمانية، والمتردد في لحوقه إما مسافر أو حاضر، والمتردد في وجوده كذلك فهذه أربع. فتلك عشرون. وقال ابن مرزوق: إن الراجي يشمل راجي القدرة على استعمال الماء، وراجي وجود المناول. قال: وكذا قوله: فالآيس والمتردد شاملان لذلك. قال الشيخ محمد بن الحسن: فإن راعينا ما أدخله ابن مرزوق في كلام المص صارت أربعين. انتهى. وقوله: "آخره" فيؤخر في الظهر إلى أن يخاف دخول وقت العصر، فإن صلى قبله أعاد في الوقت إن وجد ماء كما يأتي عند ابن القاسم، ولم يجب التأخير مع الرجاء، بل ندب؛ لأنه حين حلت الصلاة وقام إليها غيرُ واجد للماء فدخل في قوله تعلى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} . وأمر بالإعادة في الوقت ندبا؛ لأنه غير تام العدم لوصوله للماء والوقت قائم، وأعاد وإن كان التأخير مندوبا مراعاة للقول بالوجوب. وما ذكره المص من التفصيل في الوقت المختار يدل على أنه في الوقت الضروري يتيمم من غير تفصيل بين آيس وغيره، وهو ظاهر. قاله الشيخ عبد الباقي. والشيخ الخرشي. ونحوه للشيخ الأمير فإنه قال: ويتيمم أول الضروري مطلقا. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: وهذا يدل على أن الصلاة تطلب المبادرة بها في الضروري من غير تراخ. والله سبحانه أعلم.
ولما فرع من واجبات التيمم شرع في سننه، وذكر منها ثلاثة فقال: وسن ترتيبه يعني أن التيمم يسن ترتيبه بأن يأتي بكل فعل منه في مرتبته؛ أي محله المشروع فيه بأن يبدأ بمسح الوجه: ثم يمسح اليدين: فإن نكس أعاد المنكس وحده مع القرب إن لم يكن صلى به، فإن صلى به أجزأه، وأعاده بتمامه لما يستقبل. قاله في الأم. واستشكل قوله: وأعاده الخ؛ لأن الحكم إعادة التيمم لكل صلاة ولو لم ينكس، وأجيب بأن إعادته لما يستقبل من النوافل، ولا يتصور هنا بعد لأنه مبطل. والبعد بتقدير الجفاف أن لو كان بماء كما مر في قوله: ولزم موالاته.
وإلى المرفقين يعني أن مسح اليدين إلى المرفقين أي الباقي منهما بعد الفرض المتقدم سنة؛ أي يسن مسحهما من منتهى الكوعين إلى المرفقين. وقد تقدم أن الكوعين داخلان في الفرض. وفي ابن عرفة: أن مطلق مسح اليدين كغسلهما، فيفيد أن المرفقين داخلان في المسح. والله سبحانه أعلم وفيه: وفي وجوبه للمرفقين أو الكوعين ولهما مستحب: ثالثها الجنب للكوعين وغيره للإبطين. ورابعها للمنكبين مطلقا. انتهى. وقد تقدم هذا.
وتجديد ضربة ليديه يعني أن الضربة الثانية لمسح اليدين سنة: وسنية التجديد لما تنافي كون ما يفعل بها فرضا؛ لأن فعل اليدين إنما هو بالضربة الأولى، بدليل أنه لو ترك الثانية أجزأ. قيل: ونظيره نقل الماء للعضو غير الرأس فإنه مستحب، وما يفعل به واجب. والمراد بالضرب وضع اليدين على الأرض، ففي إطلاق الضرب عليه تسامح، والظاهر أنه لو لم يضع يديه بالأرض، وألقى الريح فيهما ترابا سترهما فتيمم لم يجزه؛ لأن الرخصة وضع اليدين على الصعيد، وترك المص سنة رابعة وهي نقل الغبار؛ أي ترك مسح ما تعلق بهما من غبار كما في التوضيح. ويندب نفضهما نفضا خفيفا خشية أن يضره شيء في عينيه فإن مسح بهما على شيء قبل أن يمسح بهما وجهه ويديه صح تيممه على الأظهر، ولم يأت بالسنة ما لم يكن المسح قويا، وإلا بطل تيممهُ. قاله الشيخ عبد الباقي. وصفة النفض المذكور أن يضرب الإبهام بالإبهام كما في مرشد المبتدئين. وفي الخرشي: ولا يشترط النقل في التيمم فلو عفر وجهه بالأرض أو لاقاه بتراب واقع ومسح عليه
يديه صح. انتهى. وقد تقدم أنه يسن ترك مسح ما تعلق باليدين من الغبار، فلو تيمم على حجر ونحوه فانظر هل يكره له مسح يديه بشيء قبل مسح وجهه أم لا؟ وهو ظاهر قوله: من غبار. قاله الشيخ عبد الباقي. ورد المص بقوله: "وتجديد ضربة ليديه" القول بأنه يمسح بكل ضربة وجهه ويديه. قال الإمام الحطاب: لا كلام في سنية الترتيب، قال: وقد صرح في المقدمات بترجيح القول بسنيتهما؛ أي كونه إلى المرفقين، وتجديد الضربة الثانية ليديه، واقتصر عليه القاضي عياض في قواعده وغيره، فسقط اعتراض البساطي على المص. ولما أنهى الكلام على واجبات التيمم وسننه، أتبعه بالكلام على مندوبه فقال:
وندب تسمية يعني أنه تندب التسمية عند ابتداء التيمم كالوضوء، وتقدمت غير مبينة الكلم فلذا أعادها هنا، ويجري فيها الخلاف المتقدم من كونه يقتصر على بسم الله، أو يزيد الرحمن الرحيم، ولا يندب كونه بموضع طاهر؛ لأنه لا تطاير هنا، وكذا يندب في التيمم السواك، والصمت؛ وذكر الله تعالى، والاستقبال للقبلة، ولا يأتي هنا ما تقدم في الوضوء من أنه يرفع المتوضئ رأسه للسماء بعد الفراغ من الوضوء فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. وقد تقدم أن من قالها فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء. وإنما لم يأت ذلك هنا لوجوب الموالاة في التيمم. قاله الخرشي. وفي الأمير: أنه لا يندب ذكر بعده لاتصاله بما فعل له، ونقل الشيخ عبد الباقي عن النووي ما نصه: وأما التشهد بعده وباقي الذكر المتقدم في الوضوء والدعاء على الوجه والكفين فلم أر فيه شيئا لأصحابنا ولا لغيرهم والظاهر أن حكمه على ما ذكرنا في الوضوء فإن التيمم طهارة كالوضوء. انتهى.
وبدء بظاهر يمناه بيسراه يعني أن الفرض والسنة في التيمم يحصلان بتعميم المسح على اليدين إلى المرفقين، ففي الرسالة: ولو مسح اليمنى باليسرى، واليسرى باليمنى كيف شاء، وأوعب المسح أجزأه. وأما الصفة المندوبة فهي أن يبدأ بمسح مقدم ظاهر إليد اليمنى بباطن كف يده اليسرى جاعلا لها فوق اليمنى، وينتهي مسح اليمنى. إلى المرفق يدخله في المسح كما مر عن ابن عرفة ما يفيده. وبما قررت علم أن قوله:"إلى المرفق" متعلق بمقدر؛ أي وينتهي المسح إلى المرفق، والباء الأولى أعني الداخلة على قوله:"بظاهر" للتعدية متعلقة ببدء، والثانية أعني الداخلة على قوله:
"بيسراه" متعلقة بمقدر؛ أي يمسحها بيسراه، وليست الأولى بمعنى من التي لابتداء الغاية؛ لأن الباء لا تكون بمعن من إلا في التبعيض؛ كما في المغني وغيره. ومنه:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} . وفي الكلام حذف مضاف؛ أي وندب بدء بمقدم ظاهر يمناه.
ثم مسح الباطن لآخر الأصابع يعني أنه بعد أن يفرغ من مسح ظاهر اليمنى باليسرى إلى المرفق؛ يمسح باطنها أي اليمنى من طي المرفق حتى يبلغ آخر الأصابع؛ أي رؤوسها، وبهذا تمت صفة مسح اليد اليمنى المندوبة. وقد تقدم أن المسح بإصبع واحدة يجزئ.
ثم يسراه كذلك يعني أنه بعد أن يفرغ من مسح اليمنى باليسرى، يفعل باليسرى ما فعل باليمنى؛ فيبدأ بمسح ظاهرها بباطن الكف والأصابع من اليمنى جاعلا لها فوقها أي اليسرى حتى ينتهي إلى المرفق يدخله في المسح؛ ثم يمسح الباطن من طي مرفقها حتى ينتهي لآخر الأصابع؛ وقد تمت الهينة المندوبة. وكون المندوب الهيئة الاجتماعية لما يقدح فيه كون الأفراد بعضها فرض وبعضها سنة، وما ذكره المص من أنه يمكن مسح اليمنى قبل الشروع في اليسرى هو قول ابن القاسم. وقال ابن حبيب: يؤخر مسح الكف اليمنى حتى يفرغ من اليسرى، وهو في الرسالة، وهما روايتان عن مالك قاله في مرشد المبتدئين، ويندب البدء بأعلى الوجه وأطراف الأصابع.
وبطل بمبطل الوضوء يعني أن التيمم يبطل بحصول ما يبطل به الوضوء كان للأصغر أو للأكبر، ويعود جنبا كما في المدونة. والبطل للوضوء هو ما تقدم في قوله:"نقض الوضوء بحدث" إلى آخر ما مر، فإذا تيمم الجنب بنية الأكبر، ثم ارتد بطل تيممه، ولا محل لتنظير الأجهوري ومن تبعه كما هو ظاهر: فإن جميع نواقض الوضوء تبطل التيمم، ولا تبطل الغسل. انظر حاشية الشيخ محمد بن الحسن بناني. ويجري هنا قوله: ولو شك في صلاته الخ.
وبوجود الماء قبل الصلاة يعني أن التيمم يبطل بوجود الماء قبل الدخول في الصلاة إذا كان الوقت متسعا؛ وإن ضاق بحيث لو توضأ فيه لم يدرك الصلاة لم يجب استعماله على الصحيح من المذهب. قاله اللخمي. نقله الإمام الحطاب عن التوضيح. قال: ونقله الشارح وصرح به القاضي عبد الوهاب. انتهى. وعبارة الشيخ إبراهيم: وبوجود الماء قبل الصلاة واتسع الوقت المختار على
ما صرح به القاضي عبد الوهاب واللخمي، ونقله صاحب الطراز لإدراك ركعة بعد استعماله على ما تدل عليه الآثار من خفة وضوئه صلى الله عليه وسلم، لما على ما يكون من تراخ ووسوسة، ولا يجري هنا؛ وهل إن خاف فواته الخ؛ لأن هذا تيمم بوجه جائز. وقوله:"وبوجود الماء"، وكذا أيضا يبطل بحصول القدرة عليه قبل الصلاة؛ ومثل وجود الماء وجود من يجب سؤاله، ولو رأى ماء فقصده فحال دونه مانع أعاد تيممه، وقدمت عن الشبراخيتي أن محل البطلان بوجود الماء قبل الصلاة حيث اتسع الوقت المختار لإدراك ركعة بعد استعماله. قال الشيخ محمد بن الحسن: المتعين أن المراد بالوقت الوقت الذي هو فيه؛ لأن الوقت وقع به
(1)
كلام الأيمة غير مقيد كعبارة عبد الوهاب واللخمي والمازري وسند وابن شأس والتوضيح وابن عرفة، وما وقع للشيخ عبد الباقي من أنه لما يبطل تيممه في الضروري بوجود الماء قبل الصلاة لا قائل به سواه. ومثل وجود الماء قبل الصلاة وجود الآلة والمناول، ولو رأى المانع قبل وجود الماء لم يبطل تيممه، ولو رأى جماعة ماء فبادر إليه أحدهم بطل تيممه فقط دون غيره، وكذا لو سلموه له اختيارا على الأصح. قاله ابن الحاجب. ولو وهبه لأحدهم ولم يسمه فسلموه لأحدهم لم يبطل تيمم من سلمه إن كثروا جدا كجماعة جيش، وإن قلوا كالثلاثة والأربعة فأسلموه لواحد منهم انتقض تيمم من أسلمه، وإن قال هذا الماء لكم فسواء كانوا قليلا كاثنين أو كثيرا كعشرة آلاف لم ينتقض إلا تيمم من أسلم إليه وحده. قاله سحنون. قال: وليس قوله لأحدكم مثل قوله هو لكم؛ لأن هذا قد أوجب لكل واحد نصيبا بلا شك، وليس في نصيبه ما يكفيه لوضوئه، فإذا أعطى هو نصيبه لم ينتقض تيممه. قال المص في توضيحه: وكأنه إنما فرق في قوله هو لأحدكم بين الجماعة اليسيرة والكثيرة لأجل عموم الحرج في حق الكثير قاله الشيخ إبراهيم. وسمع سحنون في رجلين بينهما ماء قدر ما يتوضأ به واحد منهما: يتقاومانه. ابن رشد: صحيح؛ لأنه لما وجب على الرجل شراء الماء بأكثر من ثمنه ما لم يرفع عليه، وجب عليه مقاواة صاحبه؛ لأن التقاوم شراء، وإن أسلمه أحدهما بغير مقاومة أو قبل بلوغه فيها القدر الذي لما يلزمه الشراء به، وتيمم وصلى أعاد أبدا؛ إذ ليس من أهل
(1)
في البناني ج 1 ص 124: وقع في كلام الأئمة.
التيمم. قال: بعضهم وفيه نظر. وقد قالوا فيمن تركت الصلاة عمدا حتى بقي خمس ركعات من النهار فحاضت، سقطت الصلاة عنها، ومن معه من الماء قدر ما يكفيه فأراقه أو أنجسه عصى وصار من أهل التيمم. وهذا مقتضى الفقه في كل من فرط أو ضيع الحزم حتى اضطر للتيمم، ولا إعادة عليه أبدا. انتهى. ابن رشد: ولو كانا معدمين اقتسماه أو باعاه، واقتسما ثمنه ويتيممان؛ وإن كانا متيممين لم يبطل تيممهما إلا إن أحبا الاستهام عليه، فمن صار له بالسهم توضأ به وانتقض تيممه وكان عليه حظ قيمة صاحبه دينا فلهما ذلك، ولو كان أحدهما موسرا دون الآخر كان أحق به وأدى نصيب شريكه إلا أن يحتاج إلى حظه فهو أحق به ويقسم بينهما. قاله الشيخ الخرشي. والشيخ إبراهيم. وسيأتي لهذا الكلام مزيد بيان عند قول المص:"وقدم ذو ماء مات ومعه جنب إلا لخوف عطش ككونه لهما وضمن قيمته". وقد مر أنه يبطل التيمم بوجود من يجب سؤاله قبل الدخول في الصلاة، فلو تيمم وطلع عليه ركب قبل شروعه في الصلاة ظن معهم الماء سألهم، فإن لم يجده معهم أعاد تيممه؛ لأن الطلب لما وجب كان شرطا في صحة التيمم وفي شرح الشيخ عبد الباقي أنه لابد من اتصال التيمم بالصلاة، وأنه إنما تغتفر الإقامة. وانظره مع ما مر أنه محدود بما دون جفاف أعضاء بزمن اعتدلا لا فيها يعني أن وجود الماء بعد التيمم، والدخول في الصلاة بأن أحرم لما يبطل التيمم ولو اتسع الوقت، ويحرم عليه القطع. قال سند: وهذا إذا شرع آيسا من الماء، فإن تيمم وهو يرجوه فلا يبعد أن يقال يقطع. انتهى. وكذا لو وجد في الصلاة من يجب سؤاله فلا يبطل التيمم، ويحرم القطع عليه. قاله الشيخ عبد الباقي؛ وغيره. إلا ناسيه يعني أن من كان عنده ماء فنسيه وتيمم، وشرع في الصلاة، فتذكر في الصلاة أن الماء عنده، فإن صلاته تبطل لتفريطه، فإنه تيمم والماء عنده كمن شرع في صوم الظهار، ثم ذكر أنه قادر على الرقبة، وهذا هو المشهور. وقيل: يتمادى في صلاته، ومحل بطلان الصلاة في قوله:"إلا ناسيه" إن اتسع الوقت، وإلا فلا. قاله غير واحد. وناسيه غير منصوب؛ لأن الاستثناء مفرغ لعدم ذكر المستثنى منه. والأصل لا واجد فيها إلا ناسيه. قاله غير واحد. ولما فرغ من الكلام على واجد الماء قبل الصلاة وفيها، شرع في الكلام على واجده بعدها فقال:
ويعيد المقصر في الوقت يعني أن كل من لزمه طلب الماء وقصر في طلبه يعيد في الوقت، ومفهوم قوله:"المقصر" أنه إن فرط بأن لم يطلب الماء أصلا، ولم يعتقد عدمه، فإنه يعيد أبدا. قاله الأمير. فإن لم يعد المقصر في الوقت فصلاته صحيحة كما أشار إلى ذلك بقوله:
وصحت إن لم يعد وظاهر المص سواء ترك الإعادة عامدا أو ناسيا، والمسألة في ابن الحاجب، والمقدمات مفروضة في الناسي، والظاهر أن العامد كذلك ذكره في التوضيح. قاله الإمام الحطاب. وفوله:"ويعيد القصر في الوقت" قال غير واحد: ندبا وصرح المص بقوله: وصحت إن لم يعد، مع أن الإعادة في الوقت تدل على صحة الصلاة، ردا لقول ابن حبيب: لو نسي من يؤمر بالإعادة في الوقت أن يعيد فيه ثم ذكر بعده، أعاد أبدا. قال ابن الحاجب: وكل من أمر أن يعيد في الوقت فنسي بعد أن ذكره لم يعد بعده. وقال ابن حبيب: يعيد.
كواجده بقربه مثال للمقصر؛ يعني أن من طلب الماء فلم يجده، فتيمم وصلى، ثم وجد الماء بقربه، فإنه يعيد لتقصيره في الطلب. والمراد بقربه أن يجده بالمحل الذي يلزمه الطلب فيه قال الشبراخيتي: والإعادة مقيدة بقيود ثلاثة: أن يطلب الماء، وأن يجد الماء الذي كان طلبه أولا، وأن يجده بقربه. انتهى. أي فإن وجد غيره لم يعد، كما صرح به عبد الباقي. قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر، بل الذي في النص أنه يعيد مطلقا، وإن وجد غيره ففي الحطاب ما نصه: قال في سماع أبي زيد فيمن نزلوا بصحراء ولا ماء لهم، ثم وجدوا ماء قريبا جهلوه يعيدون في الوقت. قال ابن رشد: استحبابا، وأجاب بعضهم بأن المراد بقوله:"فلو وجد غيره"؛ أي وجد ماء لم يكن موجودا حين الطلب بأن طرأ بسبب نزول مطر أو مجيء رفقة، فهذا لما إعادة عليه. وقد علمت أن هذا في الجاهل، وأما الآيس فقد تقدم أنه لما إعادة عليه في الوقت وجد ما أيس منه أو غيره. وقيل: إن وجد ما أيس منه أعاد، وإلا فلا. راجع ما تقدم عند قوله:"فالآيس أول المختار" أو رحله يعني أن من طلب الماء في رحله فلم يجده لتقصيره في الطلب، ثم وجد الماء فيه فإنه يعيد في الوقت، وكذا لو وضعه غلامه أو زوجته في رحله على العادة وهو لما يشعر فإنه يعيد في الوقت، فإن لم يكن عادتهما ذلك فلا يعيد. قوله:"أو رحله" قال الشيخ عبد الباقي: ليس فيها ولا في التي قبلها نسيان، كما يشعر به قوله: واجده، كأن يضعه غيره في رحله بغير شعور
به؛ أي فلا يتكرر مع قوله: وناس ذكر بعدها، فإن لم يطلب بقربه أو رحله أعاد أبدا، وإن وجد في رحل غيره لم يعد بوقت ولا بغيره، ففي كل من المسألتين ثلاث صور. وهي: إن لم يطلب المأمور بالطلب وتيمم وصلى أعاد أبدا، وإن طلبه فلم يجده ثم وجده أعاد في الوقت، فإن وجد غيره فلا إعادة عليه. انتهى. وقد مر ما للشيخ محمد بن الحسن. قال الشيخ عبد الباقي: وما هنا من الإعادة في الوقت لا يخالف ما تقدم من الإعادة أبدا؛ لأن ما تقدم تعلق ظنه أو غيره بماء عندهم، وترك الطلب الواجب فكأنه موجود عنده، وما هنا لم يتعلق ظنه ولا غيره بماء عند جيرانه، بل اتفق أنه وجده بقربه. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: وهذا حسن وبه يرتفع الإشكال، ويكون ما تقدم من كلام الشيخ عبد الباقي: فإن وجد غيره لم يعد؛ معناه ماء طرأ بنزول مطر أو مجيء رفقة مثلا. كما نقله الشيخ محمد بن الحسن. عن بعضهم. والله سبحانه أعلم.
لا إن ذهب رحله يعني أن من طلب رحله ليتطهر بالماء الذي فيه فضل عنه ولم يجدد، فتيمم وصلى، ثم وجده، فإنه لا يعيد لعدم تقصيره. وظاهر كلامهم أن من ضل رحله كعادم الماء فيفصل فيه بين الآيس وغيره. قاله الشيخ محمد بن الحسن. رادا على الشيخ عبد الباقي حيث قال: لا إن ذهب رحله، وطلبه حتى خاف فوات الوقت. لخ. وخائف لص معطوف على مجرور، والتتائي يقرأ هذه الأمور بالرفع. وقد تقدم أن من الأسباب المبيحة للتيمم الخوف على النفس أو المال من اللصوص: يعني أن من منعه من الماء خوف اللصوص على نفسه أو ماله؛ ثم وجد الماء بعد أن تيمم وصلى: يعيد في الوقت.
أو سبع يعني أن من منعه من الماء خوف سبع، أو خوف أخذ تمساح له، فإنه يباح له التيمم، وإذا وجد الماء فإنه يعيد ما دام الوقت باقيا. وتقيد إعادة خائف اللص أو السبع بأربعة قيود: تيقن وجود الماء أو لحوقه لولا خوفه، وتبين عدم ما خافه ووجود الماء بعينه، وكون خوفه جزما أو غلبة ظن فإن لم يتيقن وجوده أو لحوقه أو تبين ما خافه أو لم يتبين شيء أو وجد غيره لم يعد، وإن شك هل كان تيممه لخوف لص أو سبع أو لغيره ككسل أعاد أبدا، وإنما أعاد الخائف من لص أو سبع مع أنه لما يجوز له التغرير؛ لأنه لما تبين عدم ما خافه كان خوفه كلا خوف
فعنده تقصير في عدم تثبته. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: وتبين عدم ما خافه لخ. قال الرماصي: هذا القيد ذكره البساطي، واعتمده الأجهوري ومن تبعه، ولم يذكره الشارح ولا المص في التوضيح، ولا ابن عبد السلام، ولذا خالف بعضهم فيه. انتهى. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. وعبارة الأمير: فإن شك في المانع أعاد أبدا. انتهى.
وقد تقدَّم أن من عرسوا دون الماء خوفا على مالهم وتيمموا وصلوا، ففي إعادتهم ثلاثة أقوال: أحدها لما إعادة عليهم وهو الأظهر؛ لأنهم فعلوا ما يجوز لهم من النزول، ودليله حديث العقد
(1)
، وما ذكره في المدونة من عدم شراء الماء إذا رفعوا عليه في ثمنه، وقال أصبغ: يعيدون في الوقت؛ وقال ابن القاسم: يعيدون أبدا. والله سبحانه أعلم.
ومريض عدم مناولا يعني أن المريض الذي عدم من يناوله الماء كالمقعد مثلا إذا تيمم وصلى، فإنه يعيد في الوقت حيث كان لما يتكرر عليه الداخلون لتقصيره في تحصيل الماء، والموضوع أنه يقدر على استعمال الماء، فإن كان يتكرر عليه الداخلون ولكن لم يدخل عليه أحد وقت الصلاة لم يعد. ابن ناجي: والأقرب أنه لا إعادة عليه مطلقا؛ لأنه إذا لم يجد من يناوله إياه إنما ترك الاستعداد للماء قبل دخول الوقت، وهو مندوب إليه على ظاهر الذهب، وذلك لما يضر فلا إعادة عليه مطلقا. انتهى. قاله الشيخ محمد بن الحسن.
وراج قدم يعني أن الراجي للماء، وهو من تيقن أو غلب على ظنه وجود الماء أو لحوقه في الوقت، يتيمم آخر الوقت ويصلي بحيث يدرك الصلاة آخر الوقت المختار، فإذا تيمم وصلى قبل آخر الوقت الذي أمر بالتأخير إليه، فإنه يعيد في الوقت إن وجد الماء الذي رجا مراعاة للقول بوجوب تأخيره، ولأنه عهد الإعادة لترك مندوب كستر عورة الصغيرة كما في حاشية الأمير، فإن وجد غيره لم يعد لعدم تقصيره، ومثله المتردد في وجوده وعدمه، وهو الجاهل بموضعه، فإنه يعيد في الوقت إذا قدم عن وقته المشروع له فيه إقامة الصلاة وهو وسط الوقت، فإن صلى في وقته المطلوب
(1)
صحيح البخاري، كتاب التيمم، الحديث:334.
لم يعد بخلاف المتردد في لحوقه فإنه يعيد ولو لم يقدم على وقته المشروع؛ كما أشار إلى ذلك بقوله: ومتردد في لحوقه يعني أن المتردد في لحوق الماء مع تحقق وجوده إذا تيمم وصلى، فإنه يعيد في الوقت إذا وجد الماء، ولو لم يقدم عن الوقت المطلوب وهو وسط الوقت. والفرق بين حقيقة المتردد في وجود الماء والمتردد في لحوقه، أن المتردد في وجود الماء هو الذي لما علم عنده بالماء، فهو متردد في وجوده وعدمه كالجاهل بموضعه، والمتردد في لحوقه هو الذي لما يدري هل يلحق الماء في الوقت أم لا؟ مع أنه تيقن وجوده؛ والفرق بينهما في الإعادة حيث طلب المتردد في لحوقه بالإعادة؛ ولو صلى في وسط الوقت. بخلاف المتردد في وجوده فإنما يعيد إذا قدم عن وسط الوقت لا إن تيمم وصلى في وسط الوقت فلا إعادة عليه، أن المتردد في لحوقه عنده نوع تقصير فلذا طلب؛ ولو صلى في الوقت المطلوب بالتأخير إليه بخلاف المتردد في الوجود، فإنه استند إلى الأصل وهو العدم.
وناس ذكر بعدها يعني أن من كان عنده ماء فنسيه: وتيمم وصلى، فلما فرغ من الصلاة تذكر أنه عنده ماء. فإنه يتطهر، ويعيد في الوقت. ومثله جاهل كونه في ملكه، كوضعه من زوجته أو رقيقه في رحله حيث اعتيد وضعهما فيه -كما تقدم- لا إن لم يكن معتادا، ولو سأل رفقته الماء فنسوه؛ فلما تيمم وصلى وجدوه؛ قال ابن القاسم في العتيبة: إن ظن أنهم إن علموا به منعوه فلا إعادة عليه؛ وإن ظن أنهم لو وجدوه لم يمنعوه فليعد في الوقت. قاله الإمام الحطاب.
كمقتصر على كوعيه يعني أن من أوعب وجهه في المسح في التيمم؛ ولكنه اقتصر في مسح اليدين على الكوعين بأن مسح الكفين والكوعين، فإنه يعيد في الوقت. وإنما أعاد لقوة القول بوجوبه إلى المرفقين. لا على ضربة يعني أن من أوعب وجهه بالمسح في التيمم ويديه إلى المرفقين، لكنه اقتصر في مسح اليدين على الضربة الأولى فلم يضرب لهما ثانية، فإنه لما يعيد في الوقت لضعف القول بوجوب الضربة الثانية. واعلم أن كل من صلى بتيمم صلاة صحيحة؛ وقلنا يعيد في الوقت، فإنما يعيد بالماء إلا المقتصر على كوعيه، والمتيمم على مصاب بول، ومن وجد بثوبه أو بدنه أو مكانه نجاسة، ومن يعيد لتذكر إحدى الحاضرتين بعدما صلى الثانية، والمعيد لفضل الجماعة؛ ومن
يقدم الحاضرة على يسير الفوائت، ومن تيمم على حشيش ونحوه لم يمكن قلعه وضاق الوقت ولم يجد غيره، والكل بالمختار إلا المتيمم على مصاب بول، والمتيمم لإعادة الحاضرة المقدمة على يسير الفوائت، والمقدم لإحدى الحاضرتين ناسيا، والمعيد لنجاسة. ونظمها بعضهم فقال:
وكل من أعاد وقتا فبما
…
سوى الذي على أذى تيمما
وواجد بثوبه ومقتصر
…
لكوعه ومن يسيرا ادكر
كذا الذي فضل جماعة قصد
…
تيمم على حشيش انفرد
والكل بالمختار غير الأولين
…
ورابع فبالضروري دون مين
وأدرج مسألة تذكر إحدى الحاضرتين في مسألة تذكر يسير الفوائت، فهي أربع. والله سبحانه أعلم. وكمتيمم على مصاب بول يعني أن من تيمم على تراب أصابه بول، فإنه يعيد في الوقت الضروري ولو بالتيمم. قاله الإمام مالك. وقوله:"مصاب" اسم مكان؛ أي صعيد مصاب بول، ولما استشكل ما ذكر بأنه كمن توضأ بماء نجس فيعيد أبدا، أجيب عن ذلك بأجوبة ذكر المص منها جوابين: أحدهما أشار إليه بقوله: وأول بالمشكوك يعني أن من الشيوخ من أجاب عن كلام الإمام بأن معناه أن هذا المتيمم تيمم على صعيد مشكوك في إصابة نجس له، أي شك هل أصاب هذا الصعيد بول نجس -مثلا- أو لم يصبه؟ ولو تحققت إصابة البول النجس لذلك المكان الذي تيمم به لأعاد أبدا، فمحل الإعادة في الوقت في الشاك، وصريح المص أن هذا تأويل للمدونة، وحقق الرماصي أن هذا مذهب لأصبغ وابن حبيب، وليس بتأويل للمدونة.
وأول بالمحقق يعني أن عياضا تأول كلام الإمام في المدونة على أن المكان الذي وقع به التيمم محقق النجاسة، وإنما فرق الإمام بين التيمم والوضوء، فاقتصر في التيمم على الإعادة في الوقت دون الأبدية مراعاة لقول القائل من الأئمة، وهو الحسن، ومحمد بن الحنفية، وابن كأس وغيرهم. بطهارة الأرض أي بأن الأرض تطهر بالجفاف وقوله:"بالمحقق" لما فرق بين أن يعلم بذلك قبل التيمم أو بعده على التحقيق وعبارة الأمير: وفيها إن تيمم على متنجس أعاد في الوقت، فأولت بأن الريح سترته بتراب طاهر، أو مراعاة لطهارته بالجفاف، وعبارة ابن عرفة
فيها المتيمم على موضع نجس، فيشمل جميع أجزاء الأرض. وقوله:"وكمتيمم على مصاب بول"؛ قال عبد الباقي. محله إن وجد طاهرا غيره واتسع الوقت، فإن لم يجد غيره وضاق الوقت؛ وجب تيممه؛ ولا إعادة عليه إلا إذا حصل الشك بعد الصلاة، ووجد غيره، والوقت باق. انتهى. قال الرماصي: لم أر من قيد بهذا سوى على الأجهوري، ولا مستند له فيه، وظاهر أقوال المذهب وإطلاقاتهم الإطلاق، وأن من لم يجد إلا صعيدا نجسا لا يتيمم عليه، بل يصير حكمه حكم فاقد الماء والصعيد. وقوله:"القائل بطهارة" لخ كمذهب الحسن ومحمد بن الحنفية؛ وأما الحنفية فمشهور مذهبهم الطهارة بالجفاف بالنسبة للصلاة عليها، لا التيمم. قاله الأمير.
ومنع مع عدم ماء تقبيل متوض يعني أن من كان متوضئا: وهو عادم للماء أو للقدرة على استعماله. لا يجوز له أن يفعل ما ينقض وضوءه من قبلة وغيرها، فلو أدخل الكاف على "تقبيل" لشمل جميع النواقض. وفي الحطاب: لا يجوز للإنسان أن يبول ولا ماء معه، إذا كانت به حقنة خفيفة لا تفسد الصلاة بها؛ لأنه مستغن عن الصلاة بالتيمم؛ ولا خلاف أنه إن فعل ذلك يتيمم. وقوله:"متوض" يشمل الذكر والأنثى. وقد تقدم أن الفقه فيمن فرط أو ضيع الحزم حتى اضطر للتيمم، كما لو أهراق ماءه أو نجسه -مثلا- يتيمم، مع أنه عاص.
وجماع مغتسل يعني أنه يمنع مع عدم الماء أو عدم القدرة عليه لمن كان مغتسلا أن يجامع زوجته؛ وكذا يمنع جماعها إن كانت هي مغتسلة. فقوله: "تقبيل""وجماع" يصح أن يكونا مضافين للفاعل، وأن يكونا مضافين للمفعول. وقوله:"مغتسل" مثله من هو بحال المغتسل، كمن بلغ ولم يلزمه غسل.
إلا لطول يعني أن محل منع الجماع للمغتسل إنما هو حيث لم يحصل له طول يتضرر بترك الجماع فيه في بدنه أو يخشى معه العنت لا مجرد الشهوة، فالاستثناء راجع لقوله:"وجماع مغتسل"؛ لا لما قبله؛ لأنه لما يتضرر بترك التقبيل، ولو عبر المص "بتضرر" بدل "طول" لكان أولى. قاله الشبراخيتي. وقوله:"إلا لطول"؛ أي فيجوز له الوطء، وإن لم يحصل طول حيث علم أنه لما يجد الماء إلا بعد طول، كذي الشجة الذي يمسح عليها، ولا يغسلها إلا بعد طول فيباح له الوطء لطول أمره، فلا فرق بين هذا وبين صاحب الشجة. خلافا للشيخ عبد الباقي قائلا: إن
صاحب الشجة إنما ينتقل للمسح لا للتيمم فهو أخف، والمرأة أحق بما تغتسل به في سفر حيث لا ماء يكفي إلا أحدهما لما أدخل عليها وهي كارهة، ولأنه يفرض عليه الماء لغسلها. ولو علم من زوجته أو أمته أنهما لا يغتسلان من جنابة، فالواجب زجرهما، فإن تعذر، إما أن يمسك بلا وطء؛ أو يطلق، فإن لم يقدر وجب الطلاق، فإن تبعتها نفسه لم يجز له وطؤها إلا عند خوف العنت. المشدالي: ظاهر قول ابن القاسم فيمن قالت لا أغتسل من جنابة أنه لما يجبر على فراقها، فقد جوز له البقاء مع جواز الوطء، وعلمه بأنها لما تغتسل. وقوله:"ومنع" الخ، المنع على الكراهة، أو خلاف الأولى. وقيل: على التحريم. وقوله: "وجماع مغتسل" متيمما أو متوضئا، ولا يعترض على هذا بما تقدم من جواز السفر في طريق يتيقن فيه عدم الماء طلبا للمال، أو لرعي البهائم؛ لأن الطهارة هنا حاصلة، وفيما تقدم غير حاصلة. وإذا أبيح له الوطء لأجل طول؛ فلها أن تمكنه حينئذ من نفسها، وله إكراهها. وتحصل مما مر أنه لما يجوز جماع المغتسل مع عدم الماء أو عدم القدرة عليه إلا لمرض، أو خشي عنتٍ، لا بمجرد الشهوة.
وإن نسي إحدى الخمس تيمم خمسا يعني أن من نسي إحدى الصلوات الخمس المشار إليهن بقوله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد
(1)
)، وجهل عينها يصلي الصلوات الخمس كلها لتبرأ ذمته، ويتيمم لكل صلاة منها، وذكر هذا وإن علم من قوله: لا فرض آخر؛ لأنه يتوهم في هذا أنه يكفي تيمم واحد، لكونه صلاة واحدة، وتعددت لبراءة الذمة، ولرد ما في الرسالة من أنه يكتفى في ذلك بتيمم واحد.
وقدم ذو ماء مات ومعه جنب يعني أنه إذا مات شخص وعنده ماء يملكه، ومعه جنب أو حائض أو نفساء أو محدث أصغر أو الجميع، اتحد عدد كل أو تعدد، ولا نصيب لواحد منهم في الماء، فإنه يقدم الميت في تغسيله بمائه الذي يملكه بحقية ملكه، ولو قال المص: ومعه ذو مانع لكان أشمل. قاله الشيخ إبراهيم.
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:1420. وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، رقم الحديث: 1401. ولفظ أبي داود: خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة.
إلا لخوف عطش يعني أن محل تقديم الميت في مائة حيث لم يخف على الحي عطش، وأما إن خيف عطش حي آدمي أو حيوان محترم، فيقدم من خيف عليه العطش؛ لأن حفظ النفوس مقدم فييمم الميت حفظا للنفوس، والاستثناء منقطع؛ لأن ما قبله في طهارة جنب ونحوه. ككونه لهما التشبيه في تقديم الحي؛ يعني أنه إذا مات شخص ومعه ذو مانع وعندهما من الماء ما يكفي واحدا منهما، فإنه يقدم الحي ذو المانع، ولو لم يخش عطشا، لترجيح جانب الحي بالشركة.
وضمن قيمته يعني أن الحي يضمن للميت قيمة مائة في المسألتين: في مسألة خوف العطش المستثناة، وفي مسألة كون الماء مشتركا بين الميت والحي المشبهة بمسألة الاستثناء، فيضمن قيمة جميع الماء لورثته في الأولى، وقيمة حظه في الثانية وجدت القيمة أم لا في ذلك المكان وتلك الحالة. وإنما ضمن القيمة وهو مثلي؛ لأنه لو كان المثل لكان إما بموضعه وهو في غاية الحرج؛ إذ الاحتياج إلى الماء إنما يكون في موضع يتعذر له الوصول غالبا، وإما بموضع التحاكم، وقد لما يكون له قيمة، أو له قيمة قليلة، فيكون ذلك غبنا للوارث. والمذهب أنه إن طلب في محل الأخذ ولم تتغير الحال غرم المثل، وإلا غرم القيمة. وينبغي أن يكون محل هذا إن كانت له قيمة، وإلا غرم المثل. وقوله: وجدت أم لما فرق بينه وبين ما يأتي في الذبائح من قوله: وله الثمن إن وجد؛ بأن ما هنا رب الماء ميت وما يأتي حي، وبأن ما هنا في السفر وما يأتي في الحضر، وبأن ما هنا في خوف العطش حيث لم يضطر، وما يأتي في المضطر ولو تعدد طالب الماء من جنب، وحائض؛ ونفساء. ومحدث أصغر ولم يكن فيهم ميت وهو ملك لجميعهم، فإن كان في نصيب كل ما يكفيه، فالأمر ظاهر، ولا تأتي منازعة، وكذا إن كان الماء يكفي أحدهم فقط بعينه لوجوب بذل جميعه له مع ضمان قيمة ما لشريكه، وكذا لما تأتي منازعة إذا كان نصيب أحدهم فقط يكفيه دون الآخر لوجوب استعماله، وتيمم الآخر فإن كان جميع الماء يكفي أحدهم فقط لما بعينه، فإن استووا في المانع تقاووه، فمن بذل أكثر من صاحبه وجب على الآخر أن يسلم، أو يزيد. كما قاله العلامة بناني.
وهكذا فإن استووا في الزيادة فالظاهر القرعة، وإن اختلفوا في المانع قدمت الحائض والنفساء الواجب عليهما الغسل حالا على المحدث الأصغر وعلى الجنب على القول المختار، وقدم جنب على محدث أصغر، ونفساء على حائض فيما يظهر.
وما تقدم من التقاوي عند استواء المانع، محله إن كانا موسرين، فإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا توضأ به الموسر، وأدى للآخر قيمة نصيبه إلا أن يحتاج إليه فيقسم بينهما، وإن أعدما اقتسماه أو باعاه واقتسما ثمنه، وتيمما لصلاتهما، ولم ينتقض تيممهما إلا أن يحبا أن يستهما عليه، فمن صار له بالسهم توضأ به وانتقض تيممه وكان عليه قيمة حظ صاحبه دينا، فيكون ذلك لهما. انظر شرح الشيخ عبد الباقي.
وتسقط صلاة وقضاؤها بعدم ماء وصعيد يعني أن من عدم الماء والصعيد تسقط عنه الصلاة؛ أي لا يطلب بأدائها في وقتها، ويسقط عنه قضاؤها أي لا يطلب بأن يصليها بعد أن خرج وقتها، هذا قول إمامنا مالك، وهو المذهب. كراكب سفينة لا يصل للماء، أو مصلوب على غير شجرة أو عليها ولا يصل للتيمم عليها، وكذا كل من عجز عن الطهارة بوجه من الوجوه؛ لأن طهارة الحدث عنده شرط في الوجوب والصحة، أي يشترط في وجوب الصلاة وصحتها وجود ما يتطهر به. وقال ابن القاسم: يصلي ويقضي. وقال أصبغ: يقضي. وقال أشهب: يؤدي. ونظم هذه الأقوال بعضهم فقال:
ومن لم يجد ماء ولا متيمما
…
فأربعة الأقوال يحكين مذهبا
يصلي ويقضي عكس ما قال مالك
…
وأصبغ يقضي والأداء لأشهبا
ولابن غازي مذيلا:
أرى الطهر شرطا في الوجوب لمسقط
…
وشرط أداء عند من بعد أو جبا
ويحتاط باقيهم ومن قال إنه
…
لأشهب شرط دون عجز قد اغربا
وبقي قول خامس نظمه التتائي بقوله:
وللقابسي ذو الربط يومى لأرضه
…
بوجه وأيد للتيمم مطلبا
وإذا قلنا إنه يؤدي فإن صلاته لا تبطل بسبق حدث أو غلبته، بخلاف تعمده فرفض مبطل، وقول ابن غازي: قد أغربا، فيه نظر، بل لا إغراب فيه اللهم إلا أن يكون مراده بقوله: دون عجز: أنه شرط مطلقا من غير تقييد بالقدرة، فالإغراب حينئذ صحيح. وقوله: ويحتاط باقيهم؛ أي أنه أدى؛ لأن الطهر شرط مع القدرة لا مع العجز: وإنما قضى لمراعاة أنها شرط صحة في القادر والعاجز كما يقول القائل بالقضاء. وعلم مما مر أن هذه الأقوال فيمن عجز عن الطهارة المائية والترابية لمرض، أو سبع، أو عذر حتى لا يمكنه تطهير بماء أو تراب، كمن انكسر به المركب ولم يقدر على التطهر.
فصل في المسح على الجبيرة:
والظاهر في وجه تأخير هذا الفصل أن مسح الجبائر رخصة في الطهارة المائية والترابية، فناسب تأخيره عنهما، والجبيرة جمعها جبائر؛ وهي أعواد ونحوها تربط على الكسر أو الجرح، وهي فعيلة بمعنى فاعلة من الجبر، سميت بذلك تفاؤلا كالقوافل. واعلم أن التفريق الحاصل في البدن إن كان في الرأس قيل له شجة، وفي الجلد خدش وجحش كما في حديث (سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم فجحش ساقه)
(1)
)، أو فيه وفي اللحم قيل له جرح، والقريب العهد الذي لم يقح يقال خراج كغراب، وما قيح قرح، وفي العظم كسر، وفي العصب عرضا قيل له بقر، أو طولا قيل له شق، وإن كان عدده كثيرا سمي شدخا، وفي الأوردة والشاربين قيل له انفجار، وهذه الفائدة يحتاج إليها في قول الجلاب والتهذيب: من كانت به شجاج أو جراح أو قروح فيعلم الفرق بينها في اللغة. قاله في الذخيرة. وفي التوضيح أن الجرح يعم ما في الرأس والجسد. قاله الإمام الخطاب. إلا قوله: وجحش كما في حديث سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم فجحش ساقه فإنه للشبراخيتي، وقد مر أنه تكره إمامة الماسح على الجبيرة لغيره.
إن خيف غسل جرح يعني أن من كان به جرح في أعضاء وضوئه وهو محدث أصغر، أو في بدنه جرح وهو محدث أكبر إن قدر على غسل الجرح من غير ضرر، أو مسحه حيث كان في الرأس من غير ضرر أيضا، فإنه يجب عليه غسله في الغسل والوضوء، أو مسحه مباشرة حيث كان في الرأس وهو محدث أصغر، فإن خاف بغسل المغسول خوفا كالخوف المبيح للتيمم يعني بذلك قوله: إن خافوا باستعماله مرضا أو زيادته أو تأخر برء، فإنه يجب عليه مسح ذلك الجرح بالماء مباشرة إن خاف بغسله هلاكا أو شديد أذى، وندبا إن خاف أذى غير شديد، ويمسح مرة واحدة، ولو كان بمحل يغسل ثلاثا، ولابد أن يعم وإلا لم يجزه، ولا مفهوم لقوله:"جرح" بدليل قوله: كعمامة؛ لأنه لا جرح تحتها، وكذا الرمد. قاله الشبراخيتي. وبما قررت علم أن قوله: مسح جواب قوله: "إن خيف" ثم جبيرته يعني أنه إذا خاف من وصول البلل إلى الجرح في
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:805.
المسح عليه مباشرة أصليا، أم لا ضررا -كما تقدم- فإنه يجعل عليه جبيرة ثم يمسح على الجبيرة: وإن لم يكن إلا مجرد احتياجه للمسح عليها بأن كان الجرح ونحوه لا يحتاج لها لكن لا يتأتى له المسح عليه إلا بها كأرمد يقدر على كشف عينيه: فيجب عليه سترهما ليمسح، والحال أنه لا يقدر على مسهما بيده مباشرة. ثم عصابته بكسر العين ما عصب به الجرح كما في القاموس. أي ربط به؛ يعني أنه إذا خاف من المسح على الجبيرة ضررا كالتيمم، فإنه يجعل على الجبيرة عصابة ويمسح عليها، وكذا يمسح على العصابة إذا كان يفسد الدواء من حلها، ويخشى منه ضرر.
واعلم أن المسح على الجبيرة ثم على العصابة ليس خاصا بالمتطهر بالماء، بل يجري في من تيمم أيضا، كما يؤخذ من السماع وابن رشد: وقول المص: وإن تعذر مسها وهي بأعضاء تيممه تركها، إذ يفهم منه أنه إذا لم يتعذر مسها لا تترك. بل يمسح في جميع الصور السابقة مع أن في بعضها من فرضه التيمم، ومن فرضه الغسل، ولم يفرقوا بين كون الجرح في أعضاء التيمم أو لا. فما للسيوري فيمن لدغته عقرب وهو في كرب منها لا يستطيع إخراج يده من تحت الثوب أن التيمم من فوق الثوب لا يجوز، وحكم هذا كعادم الماء والصعيد، وتخريج البرزلي جواز تيممه على ما نقل عن القابسي من الإيماء؛ أي إيماء المربوط بوجهه ويديه إلى الأرض للتيمم، وقياسه على العضو المألوم في الوضوء غفلة عن السماع. وما لابن رشد قاله بعض الشراح؛ وهو حسن. قاله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمد بن الحسن: نص السماع. سحنون: لو تيمم ومسح الجبائر فلما صلى ركعة أو ركعتين سقطت الجبائر، قال: يعيدها ويمسح عليها، ثم يبتدئ الصلاة. قال ابن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المسح على الجبيرة ناب عن غسل ذلك الموضع، والمسح عليه في الوضوء أو التيمم، فإذا سقط في الصلاة انتقضت طهارة ذلك الوضع فلم يصح له التمادي على صلاته، إذ لا تصح الصلاة إلا بطهارة كاملة، ولا يبني بعد رد الجبيرة والمسح عليها؛ إذ لا يجوز البناء في الحدث بخلاف الرعاف، وهذا ما لا أعلم فيه في المذهب خلافا. انتهى بزيادة من الخطاب. قال الشيخ محمد بن الحسن: وفي السماع المذكور اعتراض على الخطاب في تسليمه فتوى السيوي المذكورة. انتهى. ويجب استيعاب الجبيرة بالمسح، قال التلمساني في شرح
الجلاب: إن مسح جميع الجبيرة واجب، فإن ترك شيئا منها لم يجزه كما لو ترك من العضو شيئا. قاله الإمام الخطاب. وقال ابن عرفة: قال عبد الحق من كثرت عصائبه وأمكنه مسح أسفلها لم يجزه المسح على ما فوقه، وتخريج الطراز على خف فوق خف يرد بأن شرط الجبيرة الضرورة بخلاف الخف. انتهى. نقله الخطاب. قال: وما قاله ظاهر، ويعني به أن الجبيرة لا يجوز لبسها إلا عند الضرورة، فإذا لبسها صارت بمنزلة الأصل لا يزيد عليها جبيرة أخرى إلا لضرورة، والخف يجوز لبسه لغير ضرورة، فإذا لبسه صار حكمه حكم الرجل، فيجوز لبس خف آخر عليه. والله أعلم. انتهى.
كفصد تشبيه؛ يعني أن محل الفصد أي الشرطة كمحل الجرح، فإذا خيف من غسله مباشرة مسح عليه، ثم جبيرته، ثم عصابته، فيمسح على العصائب وعلى الرباط، ويحتمل أنه تمثيل كما في الشبراخيتي وغيره. ومقتضى كلام المص أن المشقة لا تكفي، وعبر ابن عرفة في هذا الباب كله بالمشقة، ولعل مراده بها المضرة، فلا يخالف كلام المص. قاله الشيخ الخرشي.
واعلم أن المراد بالجبيرة ما يطب به الجرح، كان ذرورا أوأعوادا وغير ذلك ومرارة يعني أن المرارة التي تلصق على الظفر لضرر يمسح عليها إذا خيف من غسل الظفر ضرر كالتيمم، كانت من مباح كمحرم إن تعذر قلعها، وعبارة الشيخ الأمير: طاهرة أو اضطر لها، وإنما نص على المرارة وإن كانت داخلة تحت الجبيرة؛ لأنه ربما يتوهم أنه لا يمسح عليها؛ لأن بعض الأيمة يرى أنها من المباح نجسة، قاله الشبراخيتي. وقرطاس صدغ يعني أن الصدغ إذا جعل عليه قرطاس لضرر كصداع، فإنه يمسح على ذلك القرطاس حيث خيف من غسل الصدغ، ومسحه ضرر كالتيمم.
وعمامة يعني أن من لبس العمامة يمسح عليها حيث خيف بنزعها أي العمامة أي قلعها عن رأسه. ضرر كالتيمم إن لم يقدر على مسح ما هي عليه ملفوفة، وإلا مسح عليه إن لم يشق نقضها وعودها، وإلا مسح عليها، ولو أمكنه مسح بعض رأسه فعل وكمل على العمامة؛ (لأنه صلى الله
عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة)
(1)
). قال الأمير: ووجب تكميل على العمامة إن تيسر مسح بعض الرأس: كما أفاده القرطبي، وهو الصواب كما في عبد الباقي وغيره.
وإن يغسل مبالغة في المسح في جميع الوجود المتقدمة؛ يعني أن المسح على الوجه المذكور فيما تقدم لا يختص بالطهارة الصغرى، بل يكون فيها وفي الكبرى، وسواء كانت الكبرى حلالا أو حراما، فمن برأسه علة لا يستطيع غسله بسببها، يمسح عليه. قال ابن عبد السلام: وبه أفتى أكثر من لقيناه. وفتوى ابن رشد بتيمم من خشي على نفسه بغسل رأسه تعقبت. وللجزولي: من به نزلة إن مسح على رأسه لم يحصل له ضرر، فإنه يمسحه ويغسل ما عداه، سمعته من شيوخ عدة، حتى لو احتجت إليه لفعلته، ولم أره منصوصا. انتهى قاله الشيخ عبد الباقي.
أو بلا طهر يعني أن المسح على ما مر من الجبائر وغيرها ليس كالمسح على الخفين، فلا يتقيد بكونها ملبوسة على طهارة، بل يمسح عليها، وإن لبسها على غير طهارة. والفرق أن الجبيرة مضطر لشدها على غير طهارة، ولو تأخر لحصل الضرر. والله سبحانه أعلم.
أو انتشرت؛ يعني أنه يمسح على العصابة ولو انتشرت بأن جاوزت محل الألم؛ لأن ذلك من ضروريات الشد حيث كان يحصل له بفكها ضرر. إن صح جل جسده شرط في قوله أول الباب: "مسح" فهو شرط في المسح من حيث هو؛ يعني أن المسح على العضو المألوم، وعلى الجبائر ونحوها مشروط بأن يكون جل الجسد صحيحا؛ أي جميعه في الغسل، وجل أعضاء الوضوء حيث كان فرضه الوضوء. قال الشيخ عبد الباقي: وتعتبر أعضاء الفرض دون السنة كالأذنين فيما يظهر، ونحوه للشيخ إبراهيم.
أو أقله يعني أن الحكم كذلك فيما إذا لم يصح جل الجسد، بل صح أقله وهو أكثر من يد أو رجل، بدليل قوله: كإن قل جدا كيد، فإنه يغسل الصحيح، ويمسح غيره في المسألتين ومحل مسح المريض من الأعضاء، وغسل الصحيح منها في المسألتين حيث لم يضر غسله أي الصحيح بالجريح. ولما ذكر المص الجل والأقل، علم بالضرورة أن النصف مثلهما. قاله الشيخ محمد بن
(1)
توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين، مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، رقم الحديث:274.
الحسن. ولو قال المص إن صح بعض جسده ولم يضر غسله لكان أوضح وأخصر وإلا أي أنه إذا كان غسل الصحيح يضر بالجريح في المسألتين، أو عمت الجراح الجسد، وضر غسلها ففرضه حينئذ التيمم دفعا للضرر والمشقة. وبما قررت علم أن قوله:"وإلا" تحته ثلاث صور، وما ذكره المص حيث كان غسل كل جزء من الأجزاء الصحيحة يضر بالجريح، فإن كان غسل بعضها يضر به وغسل الباقي لا يضر مسح على ما غسله يضر بالجريح؛ لأنه في حكمه، وغَسَل ما لا يضر غسله كَإن قل جدا يعني أنه إذا قل الصحيح من الأعضاء جدا. كيد فقط أو رجل فقط، فإن فرضه التيمم، ضر غسله الجريح أم لا؛ لأن غسل هذا كالعدم. والمراد باليد في الوضوء ما يجب غسله، وأما في الغسل، فانظر هل هو من طرف الأصابع إلى الإبط أو إلى المرفق فقط؟ وإن غسل أجزأ يعني أنه إذا تكلف الغسل في المسائل الخمس، ولم يمسح المألوم أجزأه ذلك والمسائل الخمس هي: ما إذا صح جل جسده، أو أقله ولم يضر غسله، فإن غسل في هاتين جميع الأعضاء أجزأ، والثانية والرابعة أن يغسل في الصورتين المذكورتين من فرضه التيمم جميع الأعضاء فيجزئ فيهما، والخامسة كإن قل جدا كيد، فإن غسل جميع الأعضاء أجزأ، ولو غسل الصحيح فقط، ومسح الجريح وهو فرضه التيمم. فإن قل جدا لم يجزه كما صرح به ابن الحاجب وغيره. وقال ابن محرز: يجزئه وأما لو كان فرضه التيمم لكونه يضر غسل الصحيح بالجريح، فقال الشيخ عبد الباقي: لا يجزئه. ونحوه للشيخ الأمير. قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر؛ لأنه -وإن كان عدم الإجزاء- هو الظاهر من قول المص. ففرضه التيمم كما في أحمد، لكن نقل الخطاب عن ابن ناجي الإجزاء قائلا: نص عليه المازري، وصاحب الذخيرة. انتهى.
وإن تعذر مسها وهي بأعضاء تيممه تركها وتوضأ يعني أن الجراح التي بأعضاء التيمم إذا تعذر مسها أو شق بالماء في الطهارة المائية أو بالتراب في الطهارة الترابية، فإنه يترك مسها، ويتوضأ وضوءا ناقصا، ولا يتيمم تيمما ناقصا؛ لأن الطهارة المائية الناقصة مقدمة على الترابية الناقصة. البساطي: لا أدري لم قال توضأ، ولم يقل كابن الحاجب: ويغسل فيعم الغسل كالوضوء. انتهى. وقال السنهوري: عدل عن قول ابن الحاجب ليعم المسح كالرأس، فإذا تعذر مسها تركها وغسل ما يغسل كالرجل، ومسح ما يمسح كالرأس. وأما مسألة الغسل فتعلم بالمقايسة، ومن قوله: "وإن
بغسل" ومفهوم قوله: تعذر مسها أنه إن أمكن مسها بالتراب تيمم عليها، ولو من فوق حائل، وقوله: وإن تعذر مسها يشمل ما إذا كانت عليها جبيرة، وما إذا لم تكن عليها كما إذا لم يجعل عليها شيء، وكذا لو كانت تزول إذا مسها بالماء أو بالتراب فيتركها بلا غسل وبلا مسح وإلا أي وإلا تكن الجراح المتعذر مسها بأعضاء تيممه، بل كانت في غيرها من أعضاء وضوئه وقد اختلف أهل المذهب في حكمها على أربعة أقوال، أولها يتيمم مطلقا؛ وهو لعبد الحق، وثانيها يغسل ما صح ويسقط الجريح؛ وهو لابن عبد الحكم والنوادر. ووجه القول الأول أنه يقدم الطهارة الترابية لكمالها، ووجه الثاني أنه لا ينتقل عن المائية إلا مع عدم الماء أو عدم القدرة عليه وثالثها أي الأقوال يفصل بين كثرة الجراح وقلتها، فيتيمم إن كثر الجريح؛ أي كان أكثر من الصحيح، وأما إن قل الجريح بأن كان أقل من الصحيح فإنه يغسل الصحيح ويسقط الجريح، وكذا إن تساويا على مقتضى ما شرح به المص، ولكن مقتضى ابن عرفة أن حكمه كما إذا كان الجريح أكثر. قاله الشيخ عبد الباقي. وهذا القول الثالث لابن بشير.
ورابعها أي الأقوال يجمعهما أي الوضوء والتيمم، فيتوضأ وضوءا ناقصا، فيغسل الصحيح ويتيمم تيمما كاملا لأجل الجريح الذي تعذر مسه فوقع وضوؤه ناقصا، ويقدم المائية على الترابية ليلا يلزم الفصل بين الترابية وبين ما يفعل بها، ولو خشي هذا الذي تعذر مس جراحه، وهي بغير أعضاء تيممه المرض بسبب وضوئه، فلا إشكال في أنه يتيمم. وتنظير الشيخ عبد الباقي في ذلك لا معنى له؛ وهو غفلة، قاله الشيخ محمد بن الحسن. والله سبحانه أعلم. والظاهر على هذا القول أنه يجمعهما للصلاة الأولى فقط، فإذا أراد أن يصلي أخرى تيمم فقط حيث كان الوضوء باقيا. وقوله:"بأعضاء تيممه" الظاهر أن المراد بذلك الوجه، واليدان إلى المرفقين. قاله الإمام الخطاب. ولم يذكر المص أربعة أقوال في المختصر إلا في هذا الموضع، وفي باب القضاء. قاله الخرشي.
وإن نزعها لدواء يعني أنه إذا نزع الأمور الحائلة من جبيرة وعصابة، ومرارة، وقرطاس صدغ، وعمامة بعد المسح عليها في غسل أو وضوء أو تيمم لأجل الدواء، أو نزعها اختيارا فلا فرق بين ذلك، فإنه لا يخلو إما أن يكون بصلاة أو لا، فإن لم يكن بصلاة فإنه يرد الجبيرة فورا، ويمسح عليها فورا على ما مر في الموالاة، فيبني بنية إن نسي مطلقا، وإن عجز ما لم يطل بجفاف أعضاء
أو سقطت يعني أن حكم ما إذا سقطت الجبيرة كحكم ما إذا نزعها لدواء، فإن كان بغير صلاة ردها فورا، ومسح فورا على ما سبق في الموالاة، وهذا الذي قدرت جواب إن الأولى دل عليه ما بعده من قوله: ردها ومسح، وجواب إن الثانية أعني قوله وإن كان بصلاة ونزعها لدواء، أو اختيارا، أو سقطت. قوله: قطع الصلاة، وردها أي الجبيرة فورا ومسحها فورا على ما تقدم في الموالاة، فيبني بنية إن نسي مطلقا، وإن عجز ما لم يطل بجفاف أعضاء. وقد تقدم ذلك في باب الوضوء مستوفى، فراجعه إن شئت. وقوله:"قطع" يقتضي أن الصلاة لا تبطل بمجرد السقوط، وليس كذلك، فلو قال بطلت لكان أولى. قاله الشيخ إبراهيم. قال: وإنما عبر بالقطع تبعا للرواية. انتهى. قال عبد الباقي: ولو دارت الجبيرة بأن زالت عن محل الجرح مع بقاء عصابتها عليه ليس حكمها كذلك، والحكم أنه باق على طهارته ولا يطلب بالمسح عليها، ويطلب بردها لأجل الدواء لبطلان وضوئه، فإن زالت عصابتها عن محل الجرح، بطل حكم المسح عليها إن لم يردها سريعا انتهى. وقوله: فإن زالت عصابتها عن محل الجرح الخ، قال الشيخ محمد بن الحسن: الصواب في هذا أنه لا بد من تجديد المسح، ولا يكفي ردها سريعا كما زعمه. انتهى.
واعلم أنه يعفى عن وقت معالجة الطبيب العضو ولو طال، وبعد الفراغ ردها ومسح، فإن أخر جرى على الموالاة في الوضوء. انظر الخرشي. وإن صح غسل يعني أنه إذا برئ الجريح وهو على طهارته، فإنه يغسل موضع الجراح سواء كان تحت جبيرة أو عصابة أو لا، وهذا إن كان مغسولا كرأس أو أذن في الجنابة. ومسح متوض رأسه يعني أنه إذا برئ الجريح وهو ممسوح والشخص باق على طهارته فإنه يمسحه كالرأس في الوضوء، والأذنين فيه، والصماخين في الوضوء أو في الجنابة. قال الشيخ إبراهيم: ولو قال: وإن صح فعل الأصل لكان أخصر. انتهى. ولو صح ونسي الغسل وكان عن جنابة، ففي المدونة: إن كانت في موضع لا يصيبه الوضوء؛ أي غسل الوضوء أعاد كل ما صلى، وإن كان في مغسول الوضوء أجزأه. قاله الشيخ إبراهيم. ابن عرفة: يجب فعل الأصل حين البرء، وتأخيره ترك للموالاة. انتهى. قاله الإمام الخطاب. ومن اغتسل من الجنابة، وفي رأسه جرح مسح عليه إن قدر، وإلا مسح على حائل، فإذا زال الحائل مسح في الحين على رأسه، وإلا أعاد الغسل. قاله الإمام الخطاب. ومن تطهر فمسح على
شجة أو كسر مستور، ثم برئ فنسي غسله حتى صلى ولم يكن في موضع يأخذه غسل الوضوء بعد ذلك، فليغسله فقط ويعيد ما صلى، ولو تركه جهلا أو تهاونا ابتدأ الغسل. قاله الإمام الخطاب.
قال جامعه عفا الله عنه: واتضح من هذه النقول صريحا أن قوله: "وإن صح غسل ومسح متوض رأسه" يجري على حكم الموالاة في العمد والجهل والنسيان والعجز. والله سبحانه أعلم. ولما أنهى الكلام على الطهارة الصغرى والكبرى ونائبهما كلا أو بعضا. وتقدم له أن الحيض والنفاس من موجبات الكبرى دون الاستحاضة. شرع في الكلام على حقيقتهما ومقدارهما وموانعهما وما يتعلق بذلك، وبدأ بالحيض لكثرة تكرره دون الأخيرين فقال:
فصل في الحيض والنفاس:
والحيض لغة: السيلان من قولهم حاض الوادي إذا سال، وحاضت السمرة إذا سال منها ماء أحمر كالدم، وقيل: الاجتماع لاجتماع الدم، ومنه الحوض لاجتماع الماء فيه. وَرُدَّ بأن الحوض واوي وهذا يأتي، وأول من امتحن به حواء لإعانتها آدم على أكل الشجرة عقوبة لها، وقيل: أول من امتحن به نساء بني إسرائيل. أخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور في مسنده عن ابن مسعود قال: كان نساء بني إسرائيل يصلين مع الرجال في الصف فاتخذن قوالب يتطاولن فيها تنظر إحداهن إلى صديقها، فألقى الله عليهن الحيض ومنعهن المساجد، وفي لفظ فألقي عليهن الحيض فأخرن. قال ابن مسعود: فأخروهن من حيث أخرهن الله. وأخرج عبد الرزاق عن عائشة: كن نساء بني إسرائيل يتخذن أرحلا من خشب ليتشوفن الرجال في المساجد، فحرم الله عليهن المساجد، وسلطت عليهن الحيضة. وعرفا: أشار له المص بقوله: الحيض دم يعني أن الحيض دم خرج بنفسه إلى آخر ما يأتي للمص من تمام تعريفه، والحيض أعم من الحيضة؛ لأنها إنما تطلق على ما إذا تقدمها طهر فاصل، وتأخر عنها طهر فاصل. كصفرة يعني أن الصفرة من أنواع الحيض؛ فهي كالدم الخالص، والصفرة شيء كالصديد تعلوه صفرة وليس على شيء من ألوان الدم القوية والضعيفة. أو كدرة بضم الكاف: شيء كدر ليس على ألوان الدم؛ يعني أن الكدرة من أنواع الحيض فهي كالدم الخالص.
وحاصل كلامه أن الحيض إما دم وإماصفرة وإما كدرة. ولم يعطفهما على الدم بل شبههما به إشارة إلى انحطاط رتبتهما عن الدم الخالص المتفق على كونه حيضا لأجل الاختلاف فيهما، وكون الصفرة والكدرة من أنواع الحيض هو المشهور؛ وهو مذهب المدونة كانتا في أيام الحيض أم لا. وقيل: إن كانتا في أيام الحيض فحيض، وإلا فلا. وهذا القول لابن الماجشون، وجعله المازري والباجي المذهب. وقيل: ليستا بحيض مطلقا، واستدل ابن الماجشون بقول أم عطية: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا
(1)
). قال الإمام الخطاب: وقد اقتصر ابن يونس على قول ابن الماجشون فأوهم أنه المذهب، ونصه: قال ابن حبيب، قال ابن الماجشون: إذا اغتسلت لحيض أو
(1)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:307.
نفاس ثم رأت قطرة من دم أو غسالة دم لم تعد الغسل ولتتوضأ، وهذا يسمى الترية. انتهى. ويمكن حمل الحديث على أنها لا تعد طهرا، ثم قال بعد جلب نقول: فعلم أن قول ابن الماجشون: خلاف الراجح، وإن اقتصر عليه الباجي وابن يونس والمازري. والترية بتشديد الياء التحتية وبالتاء الفوقية وكسر الراء: شبه غسالة اللحم. وفي الطراز: إذا جاءها بعد الغسل صفرة أو كدرة أو دم. اختلف في ذلك فقال ابن الماجشون: لا تغتسل لذلك لحديث أم عطية
(1)
). انتهى. ابن حبيب: أوله دم، ثم صفرة، ثم ترية، ثم كدرة، ثم يصير كالقصة، ثم ينقطع فتصير جافة. وللحيض خمسة عشر اسما نظمها بعضهم فقال:
للحيض عشرة أسماء وخمستها .. حيض محيض محاض طمث اكبار
طمس عراك فراك مع أذى ضحك
…
درس دراس نفاس قرء اعصار
وتحيض من الإناث: المرأة، والناقة، والأرنب، والضبع، والوزغ، والخفاش، والحية، والفرس. خرج بنفسه يعني أنه لا بد في كون كل من الدم والصفرة والكدرة حيضا أن يخرج بنفسه لا بعلاج، كدواء خرج به قبل وقته المعتاد فليس بحيض، والظاهر أنه لا تحل به المعتدة. قاله المنوفي. قال الشيخ محمد بن الحسن: والظاهر على بحثه فعلها للصلاة والصوم لاحتمال كونه غير حيض فلا يفوت الأداء، ثم تقضي بعده الصوم فقط، وإن تأخر الدم عن وقته بدواء أو ارتفع به حكم للمرأة بأنها طاهر فيهما؛ لأن الحيض هو الدم والصفرة والكدرة الخارجات من قبل من تحمل عادة ويكره للمرأة فعل ما ذكر مخافة أن تدخل على نفسها ضررا في جسمها، واحترز بقوله:"خرج بنفسه" أيضا عما خرج للولادة، وهو دم النفاس، وعن دم العُذْرَة لأنه بسبب الاقتضاض، وعن دم الاستحاضة لأنه يخرج بسبب علة وفساد في البدن. وما تقدم من كونه إذا أتى بعلاج لا يكون حيضا محله إذا استعجل بالدواء قبل أوانه، وأما إذا تأخر عن وقته ولم يكن بالمرأة ريبة حمل فجعل له رواء ليأتي، فالظاهر أنه حيض؛ لأن تأخر الحيض إذا لم يكن
(1)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:307.
حمل، إنما يكون لمرض، فإذا جعل الدواء لرفع المرض لم يخرجه عن كونه حيضا. قال الإمام الخطاب. قال المص: وإنما قال؛ أي المنوفي: والظاهر أنه لا تحل به المعتدة لاحتمال أن استعجاله لا يخرجه عن كونه حيضا كإسهال البطن. انتهى. قال الشيخ عبد الباقي: إن سماع ابن القاسم وابن كنانة يدلان على أن وجوده بدواء يحكم له بحكم الحيض، ورفعه بدواء يحكم له بحكم الطهر. انتهى.
وناقشه الشيخ محمد بن الحسن قائلا: إن السماع المذكور، وكلام ابن كنانة إنما يدلان على تأخر الدم عن وقته بدواء، أو رفعه بعد حصوله بدواء، وفي كل منهما تكون المرأة طاهرا خلافا لابن فرحون، وليس فيهما تعرض لمسألة وجوده بدواء كما زعمه، انتهى ونص السماع: سئل عن المرأة تريد العمرة وتخاف تعجيل الحيض، فيوصف لها شراب تشربه لتأخير الحيض قال: ليس ذلك بصواب، وكرهه. وقال ابن رشد: إنما كرهه مخافة أن تدخل على نفسها ضررا بذلك في جسمها. انتهى. وفي الخطاب أيضا: قال ابن كنانة: يكوه ما بلغني أن يصنعنه فيتعجلن يه الطهر من الحيض من شرب الشجر والتعالج بغيره. ابن رشد كرهه مخافة أن يضر بها. قال الإمام الخطاب: فعلم من كلام ابن رشد أنه ليس في ذلك إلا الكراهة خوفا من ضرر جسمها، ولو كان ذلك لا يحصل به الطهر لبينه ابن رشد، خلافا لابن فرحون. قال الشيخ محمد بن الحسن. وكلام ابن فرحون الذي أشار إليه، هو قوله في الكلام على طواف الإفاضة، وما يفعله النساء من الأدوية لقطع الدم وحصول الطهر إن علمت أنه يقطع الدم اليوم ونحوه، فلا يجوز لها ذلك إجماعا، وحكمها حكم الحائض، وإن استدام انقطاعه نحو ثمانية أيام أو عشرة فقد صح طوافها إذا طافت في ذلك الطهر، وإن عاودها في اليومين والثلاثة إلى الخمسة فقد طافت وهي محكوم لها بحكم الحيض، فكأنها طافت مع وجود الدم، ولم أر نصا في جواز الإقدام على ذلك إذا كانت جاهلة بتأثيره في الدم. انتهى. والباء في قوله:"خرج بنفسه" للاستعانة لا الباء الزائدة الداخلة على نفسٍ المؤكدة، والمراد بالنفس الذات؛ أي خرج مستعينا على خروجه بنفسه؛ أي بذاته بخلاف دم الاستحاضة؛ فإنما يستعين بفساد المزاج، ففي الحد ما يخرجه. قال الشبراخيتي، وعبارة الأمير: الحيض دم أو صفرة أو كدرة خرج بنفسه وإن بغير زمنه المعتاد له كعلاج في زمنه
أو بعده وقبله به لا نص والمنفي نص قديم، المنوفي: لا تحل به المعتدة، واحتمال أن تعجيله لا يضر كتعجيل الحدث بالإسهال، رده الناصر.
التوضيح: قياسه لا تترك العبادة، وبحث فيه الخطاب بأنه يشدد في العدة ما لا يشدد في العبادة: ألا ترى مسألة الدفعة؟ واستظهر الأجهوري تركها لاحتمال أنه حيض، وتقضِيها لاحتمال أنه غير حيض.
من قبل يعني أن الدم والصفرة والكدرة إنما يكون كل منها حيضا إذا خرج بنفسه من القبل، وأما ما خرج من غير القبل كالدبر أو ثقبة ولو تحت المعدة وانسد الفرج فلا يكون حيضا. وقوله:"من قبل" بضم القاف وضم الباء وحذف التنوين؛ لأنه مضاف إلى من "وهي نكرة موصوفة أو موصولة بما بعدها؛ أي أنثى، أو الأنثى التي تحمل أي يحمل مثلها عادة فاحترز بالأنثى من الذكر، وبمن تحمل عادة من الصغيرة والمحقق يأسها؛ وهي بنت سبعين فأكثر فدمها ليس بحيض، بخلاف بالغة الخمسين، ونحوها إلى السبعين فدمها حيض إن قال النساء إنه حيض أو شككن فيه: فإن قطعن أنه ليس بحيض فلا، والتي تحمل عادة هي اليافعة أي المراهقة، وهي المقاربة للبلوغ. وأولى ما وجد عند علامات البلوغ كنتن إبط، ونُتُوِّ ثدي فمن قطع النساء أنها تحيض أو شككن فما يأتيها حيض وإلا فلا. قال التتائي: ومنتهى الصغر تسع، وهل أولها، أو وسطها، أو آخرها؟ أقوال. ومقتضاه أن ما تراه بعد تسع حيض وهو يقيد بما لم يقطع النساء بخلافه. قال الإمام الشافعي: أعجل النساء حيضا نساء تهامة فإنهن يحضن لتسع سنين، هكذا سمعت، ورأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة. وقيد العادة يخرج الإمكان العقلي فليس بمعتبر شرعا، وإذا انقطع دم اليائسة فالمشهور لا غسل عليها. وروى ابن المواز عن مالك أنها تترك الصلاة والصوم، وعليه فيجب عليها الغسل عند انقطاعه، وبذلك صرح ابن حبيب. ابن عرفة: وفي كون دمها حيضا في العبادات قول الصقلي عن أشهب مع الشيخ عن رواية محمد، وقول ابن حبيب معها، وعليه في وجوب الغسل لانقطاعه قولا ابن حبيب وابن القاسم. ولما عرف المص الدم الشامل للعدة والعبادة، بالغ على الحكم الخاص بالعبادة لبيان أنه لأحد لأقله بخلاف العدة، فقال: وإن دفعة بضم الدال أي قطرة، وبفتحها أي مرة؛ يعني أنه لا فرق في كون الثلاثة حيضا
بين أن تكون كثيرة وأن تكون قليلة، فالكل حيض. وقال أبو حنيفة: أقله ثلاثة أيام. وللشافعي: يوم وليلة. وقد علمت أن كلام المص هنا في العبادات، وأما العدة فسيتكلم عليها.
وأكثره لمبتدأة نصف شهر يعني أن النساء مستويات في أقل الحيض مفترقات في أكثره، فمنهن مبتدأة، ومعتادة، وحامل. فالمبتدأة؛ وهي التي لم يأتها الحيض، إذا أتاها واسترسل عليها أكثره لها نصف شهر؛ أي خمسة عشر فإن لم يسترسل عليها بأن انقطع عنها، ورأت علامة الطهر طهرت مكانها، وقيل: إذا تمادى بها لا يكون أكثره لها نصف شهر، بل تكون طاهرا لعادة لداتها. والمراد بالاسترسال أن يسترسل؛ أي يدوم عليها حقيقة أو حكما كأن يعاودها قبل تمام نصف شهر. قال عبد الباقي: ثم ليس المراد بتمام نصف شهر استغراقه النهار والليل؛ إذ لو رأت في يوم أو ليلة قطرة دم حسبت ذلك اليوم أو صبيحة تلك الليلة يوم دم. انتهى. واللدة بكسر اللام وتخفيف الدال المهملة: من ولدت معها في عام واحد، والترب بكسر المثناة الفوقية: من خرج مع غيره في وقت واحد إلى التراب أي الدنيا، فهو أخص من اللدة. قاله الشيخ عبد الباقي تبعا للقرافي. وفي التتائي ونحوه في الجواهر: لدة الرجل تربه، ونحوه في القاموس. وقال عياض: لداتها أقرانها وأترابها. قال الشيخ محمد بن الحسن: ما للقرافي من كون الترب أخص لا يعادل هذا المقتضي للترادف.
كأقل الطهر يعني أن أكثر الطهر لا حد له، وأما أقله فهو خمسة عشر يوما. ولا فرق في ذلك بين المبتدأة، والمعتادة، والحامل، وهذا هو المشهور. وقيل: خمسة أيام وهو لابن الماجشون. وقيل: ثمانية وهو لسحنون. وقيل: عشرة وهو لابن حبيب: ونظمها بعضهم فقال:
الحيض منتهاه نصف شهر
…
ثم الخلاف في أقل الطهر
فلابن ماجشون خمسة تعد
…
وابن حبيب عشرة فيما ورد
سحنون قدما عدها ثمانية
…
ما زادها في السر والعلانيه
مشهورها بنصف شهر حدا
…
فاسمع بذا وكن به معتدا
وفائدة التحديد بأقل الطهر إلغاء الدم المعاود قبل تمامه، وعدم إلغائه بعد تمامه. ولمعتادة ثلاثة قد تقدم حكم المبتدأة التي ليست بحامل، وأشار بهذا إلى المعتادة التي ليست بحامل، ومعنى كلامه أن أكثر الحيض للمعتادة ثلاثة أيام. استظهارا أي تستظهر بها أمرها تزيدها على أكثر عادتها والاستظهار من الظهور، وهو البرهان فكأن أيام الاستظهار برهان على تمام الحيض. قاله الشيخ ميارة. والعادة تثبت بالمرة، وحينئذ فمعنى أكثر عادتها: أكثر عدد الأيام التي تمادى بها الدم فيها، فإذا أتاها الدم وتمادى بها خمسة مثلا وتكررت تلك الحالة عليها تكررا كثيرا، وأتاها مرة وتمادى بها تسعة أيام مثلا، ثم إنه أتاها وتمادى بها، فإنها تمكث تسعة أيام، وتستظهر حقيقة أمرها؛ أي تطلب ظهور حقيقة أمرها بثلاثة أيام تزيد على تلك التسعة، فتمكث اثني عشر يوما لتعلم حقيقة أمرها من كون بقية هذا الذي تمادى بها حيضا أو استحاضة. فقوله:"لمعتادة" معطوف على قوله: "لمبتدأة" وقوله: "ثلاثة" معطوف على نصف شهر، وقوله:"استظهارا" حال من ثلاثة؛ أي حال كون الثلاثة مستظهرا بها. وحاصل ما أشرت إليه أنه إذا اتفقت أيام العادة بأن كانت ستة مثلا، ثم أتاها وتمادى بها، استظهرت بثلاثة أيام زيادة على الستة، وترك المص هذا لوضوحه، وإن اختلفت بأن أتاها مرة ثلاثة ومرة أربعة ومرة خمسة مثلا، ثم أتاها وتمادى بها، استظهرت بثلاثة أيام زيادة على الخمسة: لأن عددها أكثر من الأربع والثلاث. وقس على هذا، وسواء تقدم مجيء الأكثر على الأقل أم لا.
ما لم تجاوزه يعني أنه إذا تمادى بها، وقلنا إنها تزيد ثلاثة أيام على أكثر عادتها، فإنه إذا انقطع عنها وأتاها وتمادى بها تجعل الثلاثة التي استظهرت بها من جملة عادتها، وتزيد على ذلك ثلاثة أيام استظهارا. ثم إذا انقطع عنها وأتاها الحيض بعد ذلك وتمادى بها، فإنها تجعل الأيام الستة من جملة عادتها، وتزيد على ذلك ثلاثة أيام استظهارا، وهكذا وكل هذا ما لم تجاوز نصف شهر، أي خمسة عشر يوما. وأما إن بلغت خمسة عشر يوما فلا تزيد عليها أبدا، بل تكون طاهرا تصلي وتصوم وتوطأ، كما أنها تكون طاهرا فيما بعد الاستظهار. وقبل تمام خمسة عشر فتصلي وتصوم وتوطأ، وإلى كونها طاهرا فيما بعد الاستظهار قبل تمام نصف شهر، وكونها طاهرا أيضا حيث جاوزته. أشار بقوله: ثم بعد الاستظهار، هي طاهر وكذا هي طاهر بعد مجاوزة
نصف شهر، أي خمسة عشر يوما. فقوله:"ثم هي طاهر" راجع لما بعد الاستظهار، ولا بعد مجاوزة نصف شهر، وإذا بلغت نصف شهر فهي طاهر سواء بلغت نصف شهر في الاستظهار الأول، أو في غيره. والله سبحانه أعلم. فعلم أنها قد تستظهر بيوم فقط إذا كانت تمكث أربعة عشر يوما، وبيومين إذا كانت تمكث ثلاثة عشر يوما. وقوله:"طاهر"؛ أي حقيقة: وهو مذهب المدونة تطوف وتصوم فيما بينهما، أي مدة الحيض المستظهر فيها وما بعد نصف شهر، وتصلي، وتوطأ، ولا يجبر مطلقها على رجعتها، وتبتدئ العدة من الآن، ولا يجب عليها غسل فيما بعد الخمسة عشر، ولا قضاء الصوم، بل يستحبان. وقياسه أن يستحب لزوجها عدم إتيانها، وقيل: طاهر فيما بينهما حكما واحتياطا، فيمنع وطؤها وطلاقها، ويجبر مطلقها على الرجعة، وتصوم وتصلي، وتغتسل بعد الخمسة عشر، وتقضي الصوم وجوبا، وتبتدئ العدة، ولا تقضي الصلاة وجوبا ولا ندبا؛ لأنها إن كانت طاهرا فقد صلتها، أو حائضا لم تخاطب بها. قاله الشبراخيتي، وغيره. وقال ابن هارون: واتفق على أن أيام الاستظهار حيض عند من قال به انتهى. وأما عند من لم يقل به فتغتسل عند انقضاء عادتها، وهل تكون طاهرا حقيقة أو احتياطا إلى تمام خمسة عشر؟ قولان، وقد مر أن العادة عندنا تثبت بالمرة، وكذا عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تحصل إلا بمرتين. وقوله: "ما لم تجاوزه ثم هي طاهر" هذا هو المشهور. وعلى قول ابن نافع: تستظهر معتادة خمسة عشر بثلاثة أيام، ثمانية عشر، وعلى رواية محمد بيومين، سبعة عشر. وقوله:"ولمعتادة ثلاثة استظهارا" الخ هذا هو المرجوع إليه. ففي ابن عرفة: وإن دام بالمعتادة ففيها تمكث خمسة عشر ثم رجع لعادتها، والاستظهار بالثلاثة ما لم تزد على خمسة عشر. وقوله:"على أكثر عادتها" هذا هو المشهور. وقال ابن حبيب: تستظهر مختلفة العادة على أقل عادتها، وقوله:"ولمعتادة ثلاثة" الخ، ظاهره أنه لا بد من الاستظهار ولو علمت عقب حيضها أنه دم استحاضة بأن ميزت وهو كذلك. وفي حديث المستحاضة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها
فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلي
(1)
) انتهى. قوله: لتصلي بإثبات الياء على حد قوله تعالى: {مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} في قراءة قنبل، وقوله: لتستثفر بثوب؛ أي تشد على فرجها خرقة عريضة. انظر شرح الموطإ لمحمد بن عبد الباقي. ولما كانت الحامل عندنا تحيض خلافا للحنفية، بين مذهبنا بقوله: ولحامل بعد ثلاثة أشهر يعني أن أكثر الحيض للحامل بعد دخول أول جزء من الشهر الثالث. النصف أي نصف شهر، ونحوه أي ما قاربه. والمراد بمجموع ذلك عشرون يوما، فإذا أتاها الدم وتمادى بها تركت الصلاة والصوم، وما تتركه الحائض عشرين يوما، ثم بعد ذلك تكون مستحاضة تصلي وتصوم وتوطأ. وقوله:"النصف ونحوه" أشار به إلى قول ابن القاسم في المدونة: تمكث بعد ثلاثة أشهر ونحوها خمسة عشر يوما ونحوها.
وعلم مما قررت أن معنى قوله: "بعد ثلاثة" بعد الدخول في ثلاثة. وليس المراد بعد تمام ثلاثة أشهر؛ لأنه خلاف مذهب المدونة، ويدل على أن هذا مراد المص قوله: وهل ما قبل الثلاثة، وإلا لقال: وهل الثلاثة فما قبلها. ابن الحاجب: الحامل تحيض فإن تمادى بها الدم، ففيها قال مالك: تمكث قدر ما يجتهد لها، وليس في ذلك حد. وليس أول الحمل كآخره. وروى أشهب كالحائل. انتهى. وكون ما تراه من الدم حيضا هو المشهور. وقال ابن لبابة: ليس حيضا. وقال الداوودي: لو أخذ فيه بالاحتياط لكان حسنا. هكذا نقل الباجي. وغيره. وخرج بعضهم عنه أنها تحتاط، وقوله: فإن تمادى: أي جاوز عادتها. وقول أشهب: طاهر عملا بالاستصحاب. ومعنى كالحائل؛ أي تجلس أيام عادتها وتستظهر. وقوله: "ولحامل" معطوف على قوله: "لمبتدأة" وقوله: "النصف": معطوف على قوله: "نصف شهر" والعاطف الواو فيهما، وعطفت الواو شيئين وذلك جائز إذا كان العطف على معمولي عامل واحد كما هنا. قال العلامة الخرشي: أجمع النحاة على جواز العطف على معمولي عامل واحد نحو: إن زيدا ذاهب وعمرا جالس، وعلى معمولات عامل واحد نحو: أعلم زيد عمرا بكرا جالسا وأبو بكر خالدا سعيدا منطلقا،
(1)
الموطأ، كتاب الطهارة، رقم الحديث:138.
وعلى منع العطف على معمولات أكثر من عاملين نحو: إن زيدا ضارب أبوه لِعمرو وأخاك غلامُه بكرٍ، وأما معمولا عاملين فإن لم يكن أحدهما جارا، فقال الناظم: هو ممتنع إجماعا نحو: كان آكلا طعامك زيد وتمرك عمرو، وليس كذلك، بل نقل الفارسي الإجماع على الجواز مطلقا عن جماعة قيل منهم الأخفش، وإن كان أحدهما جارا، فإن كان مؤخرا نحو: زيد في الدار والحجرة عمرو أو وعمرٌو الحجرةِ، فنقل المهدوي أنه ممتنع إجماعا وليس كذلك، بل هو جائز عند من ذكرنا، وإن كان الجار مقدما نحو في الدار زيد والحجرة عمرو أو وعمرو الحجرة فالمشهور عن سيبويه المنع، وبه قال الكسائي والفراء والزجاج، وفصل قوم منهم الأعلم فقالوا: إن ولي المخفوض العاطف جاز، وإلا امتنع. والله تعالى أعلم. انتهى.
وفي ستة فأكثر عشرون يوما ونحوها يعني أن الحامل بعد الدخول في الشهر الثالث تمكث عشرين يوما كما مر، ولا تزال كذلك إلى أن تدخل في الشهر السادس، فإذا دخلت فيه فإنها تمكث عشرين يوما، وما قاربها؛ أي تمكث شهرا، وبعد مضي شهر تكون مستحاضة تصلي وتصوم وتوطأ.
قال الإمام الحطاب: وإنما قال المص: وفي ستة، مع أن لفظ المدونة: وإن رأته بعد ستة أشهر تركت الصلاة عشرين يوما ونحوها؛ لأنه اعتمد على ما اختاره جماعة الشيوخ، فمن اعترض عليه بأن كلامه مخالف للمدونة فغير مصيب. قال في التوضيح: واختلف في الستة هل حكمها حكم الثلاثة؛ وهو قول ابن شبلون، أو حكم ما بعدها؛ وهو قول جماعة شيوخ إفريقية، وهو أظهر، ونقل أن ابن شبلون رجع إلى هذا. انتهى.
والحاصل أنها بعد الدخول في الشهر السابع تمكث شهرا وهي حائض، ثم بعد شهر تكون مستحاضة، وبعد الدخول في الشهر السادس كذلك عند جماعة الشيوخ، وخالف في ذلك ابن شبلون، ونقل أنه رجع إلى قول الجماعة. والله سبحانه أعلم. وما تقدم من أنها تمكث ثلاثين هو للجلاب نقله عنه صاحب الطراز، وقال ابن فرحون: خمسة وعشرين.
وهل ما قبل الثلاثة كما بعدها أو كالمعتادة يعني أن الشيوخ اختلفوا في الدم الذي خرج من قبل الحامل فيما قبل الدخول في الشهر الثالث بأن خرج في الشهر الأول أو في الشهر الثاني، فمنهم
من ذهب إلى أنها تمكث عشرين يوما كما تمكثها بعد الدخول في الشهر الثالث؛ وهو قول الأبياني: ومنهم من ذهب إلى أنها كالمعتادة، فيجري فيها قوله:"ولمعتادة ثلاثة استظهارا على أكثر عادتها ما لم تجاوزه ثم هي طاهر". وقد مر الكلام عليه فراجعه إن شئت. قاله الشيخ إبراهيم: والشيخ عبد الباقي. ولا تستظهر؛ لأن الحامل لا استظهار عليها على المعتمد. وقال الشيخ محمد بن الحسن: وهو غير صواب، فإن الذي نقله التوضيح والحطاب عن ابن يونس أنها تستظهر، فالتشبيه تام. انتهى. ونحوه للشيخ الأمير فإنه قال: وتستظهر على التحقيق، كما في الرماصي. انتهى. ولا دليل لهما في قول المدونة: ما علمت مالكا قال في الحامل تستظهر بثلاثة لا حديثا ولا قديما؛ لأن كلامها في ظاهرة الحمل وهذه لا. نقله الشيخ محمد بن الحسن. ولو قال المص: أو كالحائل: لشمل المبتدأة التي حملت من غير تقدم حيض، فتمكث نصف شهر، وبعد ذلك تكون مستحاضة. وهذا قول ابن يونس. ومقتضى كلام ابن عرفة أنه المشهور. قاله الشبراخيتي. وقال الشيخ عبد الباقي: إنه المعتمد، كما يفيده ابن عرفة. قولان أي في ذلك قولان. وقد علمت أن الأول للأبياني، وأن الثاني لابن يونس. وقوله:"قولان" قال التتائي: بغير ترجيح، قال الشبراخيتي: وهو غير ظاهر لما علمت. انتهى. وتحصل مما مر أن للحامل ثلاث حالات: أن تدخل في الشهر الثالث فمدة حيضتها عشرون يوما، وما بعدها فهي مستحاضة تصلي وتصوم وتوطأ ولا تزال كذلك إلى أن تدخل في الشهر السادس، فإذا دخلت فيه فمدة حيضها شهر، وبعده هي مستحاضة ولا تزال كذلك إلى أن تضع. فتانك حالتان. والثالثة ما قبل الدخول في الشهر الثالث، بأن خرج منها الدم في الشهر الأول أو في الثاني، فهل هي حينئذ كمن دخلت في الشهر الثالث؟ فتمكث عشرين يوما. قال بعض الشيوخ: وينبغي ترجيحه، أو هي كالحائل فيفصل فيها بين المبتدأة والمعتادة على ما مر. ومفاد ابن عرفة أنه المعتمد، وإنما اختلف حال الحامل؛ لأنها بعظم حملها يكثر الدم.
تنبيه: اعلم أنه ذهب ابن المسيب، وابن شهاب، ومالك في المشهور عنه إلى أن الحامل تحيض، وكذا الشافعي في الجديد، وإليه ذهب غيرهم، واحتجوا بقول عائشة رضي الله عنها في المرأة الحامل ترى الدم: إنها تدع الصلاة من غير نكير فكان إجماعا سكوتيا وذهب أبو حنيفة،
وأصحابه، وأحمد، والثوري إلى أنها لا تحيض، وأقوى حججهم اعتبار استبراء الأمة بالحيض، وأجيب بأن دلالة الحيض على براءة الرحم على سبيل الغالب، وحيض الحامل قليل والنادر لا يناقض فيه بالغالب. قاله الشيخ محمد بن عبد الباقي.
وإذا اشتغل الرحم بالولد انقسم الحيض ثلاثة أقسام: أصفاه وأعدله يتولد منه لحم الجنين، والقسم الثاني الذي يليه في الاعتدال يتولد منه لبن الجنين يجده يعد الوضع في الثدي، والثالث الأردى الذي يخرج بعد الوضع، فدم النفاس في الحقيقة دم حيض اجتمع، والعصب يتخلق من المَنيَّيْن. نقله الشبراخيتي، وغيره. ونقل هو وغيره أيضا ما يخالفه عن بعض العلماء، وهو أن ماء الرجل يتخلق منه العظم والعصب والعروق وهذه لا تزول في عمره، وماء الأم خلق منه الحسن والجمال والسمن والهزال وهذه الأشياء تزول، وَلِمِا ذُكِر نُسِبَ الولدُ للأب. انتهى. فإن قيل الحمل لا يظهر إلا بعد ثلاثة أشهر، فكيف يتأتى القول بأن ما قبل الثلاثة كما بعدها؟ فالجواب أن فائدته تظهر فيما إذا صامت بعد نصف شهر حيث كانت مبتدأة، أو قبله حيث مكثت عادتها واستظهرت، فإذا ظهر الحمل تقضي الصوم لوقوعه في أيام الحيض فهو كالعدم، وتظهر أيضا فيمن تعرف الحمل بالوحم. كما للخرشي. وقوله:"وهل ما قبل الثلاثة" لو قاله: ما قبل الثالث لكان حسنا؛ لأن الثلاثة ليس قبلها شيء. قاله الشبراخيتي. وقال ابن عرفة: وفي كون دم الحامل كحائل، ولغوه ثالثها تحتاط للمشهور، وابن لبابة، وقول الداوودي: لو أخذ فيها بالأحوط، تصلي وتصوم وتقضية ولا توطأ لكان أحوط. ولا كان الحيض لا حد لأقله -كما مر- ولأقل الطهر حَدٌّ، حَسُنَ إضافة التقطع إليه دون الدم كما وُجِّهَ به عبارةُ ابن الحاجب المساوية لقول المص: وإن تقطع طهر لفقت أيام الدم يعني أن المرأة إذا أتاها الحيض وانقطع عنها، ثم عاودها قبل طهر تام؛ وهو خمسة عشر يوما، فإنها تلفق أيام الدم، وتلغي أيام الطهر؛ وهو معنى قوله: فقط أي إنما تلفق أيام الدم دون أيام الطهر، فلا تضيفها لها، وإذا لفقت أيام الدم فإنها تجريها على ما تقدم من تفصيلها فتلفق المبتدأة الحائل من أيام الدم خمسة عشر يوما، فإذا عاودها الدم بعدها قبل طهر تام، فإنها تكون مستحاضة تصلي وتصوم وتوطأ، وتلفق المعتادة الحائل عادتها على ما تقدم واستظهارها، ثم هي مستحاضة تصلي وتصوم وتوطأ: ثم كذلك ما لم
تجاوز خمسة عشر يوما على ما مر. وتلفق الحامل بعد الدخول في الشهر الثالث عشرين يوما: ثم هي مستحاضة وذلك حكمها إلى أن تدخل في الشهر السادس، فإذا دخلت فيه لفقت ثلاثين أو خمسة وعشرين كما مر، ثم هي مستحاضة وذلك حكمها إلى أن تلد، وهل الشهر الأول والثاني كما إذا دخلت في الشهر الثالث؟ فتلفق عشرين، ثم هي مستحاضة أو كالحائل فيفصل فيها التفصيل المتقدم في قوله:"وأكثره لمبتدأة نصف شهر ولمعتادة ثلاثة استظهارا على أكثر عادتها ما لم تجاوزه ثم هي طاهر". ونسب المص التقطع للطهر؛ لأن لأقله حدا دون الحيض، وهي نكتة حسنة كما مر: ولا ينافي ذلك نسبة التقطع للحيض في قوله: وتقطعه ومنعه كالحيض؛ لأنه إخبار بحسب الواقع.
وعلم مما مر أن الليلة أو اليوم الذي لم تر فيه من الدم إلا قطرة. من أيام الحيض. والله سبحانه أعلم. ثم هي مستحاضة يعني أن الملفقة إذا لفقت أيام الدم على تفصيلها. فإنها بعد ذلك تكون مستحاضة تصلي وتصوم وتوطأ، وقد مر هذا قريبا فراجعه.
وتغتسل كلما انقطع عنها يعني أن الملفقة المذكورة يجب عليها أن تغتسل كلما انقطع عنها الدم، وصرح الجزولي والشيخ يوسف بن عمر، والزهري في شرح الرسالة بأنه يحرم تأخير الصلاة لرجاء الحيض. واختلفوا هل تسقط عنها؟ وهو الذي للجزولي وابن عمر: أو يلزمها القضاء؟ وهو الذي عليه الزهري، وذهب اللخمي إلى أن التأخير لرجاء الحيض مكروه ما لم يود التأخير إلى خروج الوقت المختار، وإلا حرم: وحينئذ فيتعين إبقاء المص على إطلاقه. أما على حرمة التأخير فظاهر، وأما على الكراهة فيكون قوله:"وتغتسل" أي ندبا عند رجاء الحيض، ووجوبا في غير ذلك، وإذا علِمْتَ أنها مأمورة بالغسل والصلاة، ولو عَلِمَتْ أن الحيض يأتيها في الوقت، ظهر لك أن قول الزرقاني فهل تعتد بهذه الصلاة؟ الخ تردده كله غير صحيح، والله سبحانه أعلم. قاله الشيخ محمد بن الحسن. ولا ينافي وجوب الغسل عليها كلما انقطع عنها الدم قولهم: إن اليوم الذي يأتي فيه قطرة من دم، يوم حيض كما هو ظاهر؛ لأن المراد أنها تحسبه يوما من أيام الحيض. وتصوم يعني أنه إذا قلنا إنها تغتسل كلما انقطع عنها، فإنها تصوم إذا انقطع عنها لَيْلًا، وتصوم ثاني يوم طهرها نهارا وتصلي أي وكذلك يلزمها أن تصلي كلما انقطع عنها حيث
أدركتها الصلاة. وتوطأ أي وإذا قلنا إنها تغتسل كلما انقطع عنها فإنها يحل وطؤها إذا اغتسلت. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: وكلام المص يفيد أن قولهم: إن اليوم الذي يأتي فيه قطرة من دم يوم حيض، يريدون به ما يشمل الليل والنهار، وفي ألغاز ابن فرحون: النساء الحيض غير المستحاضة ثلاثة: حائض تصلي وتصوم؛ وهي التي ترى دفعة ثم ينقطع عنها، وحائض لا تصلي ولا تصوم؛ وهي التي يتمادى بها الدم، وحائض تصلي ولا تصوم؛ وهي التي ترى دفعة بالنهار ثم ينقطع. انتهى واعلم أن كلا من المبتدأة والمعتادة والحامل إذا مكثت ما يجب عليها، ثم انقطع عنها الدم، ثم عاودها قبل طهر تم، فإنها تكون مستحاضة. وفي كلام الشيخ عبد الباقي نظر ولا وجه لتردده، والاستظهار متعين في المعتادة، وقوله: وتوطأ: رد به قول صاحب الإرشاد: لا توطأ، وهو غير معروف في المذهب. قاله الإمام الخطاب. والمميز بعد طهر تم حيض يعني أن المستحاضة إذا مضى لها من يوم حكم لها بالاستحاضة خمسة عشر يوما، وميزت بعده أن الدم الذي بها صار حيضا لأجل علامة من علامات الحيض التي يميز بها، فإن ذلك الدم الذي ميزته للحيض يكون حيضا في العبادة اتفاقا، وفي العدة على المشهور. ومفهوم قوله:"بعد طهر تم" أنه إذا لم يتم فاستحاضة، ولا عبرة بتمييزها وهو كذلك. قاله أبو الحسن. قاله العلامة بناني. وإن لم تميز فهي على حكم الطاهر ولو بقيت طول عمرها، ولا بد من التمييز أيضا إذا كان يلفق بين أيام الطهر والاستحاضة نصف شهر، والحال أن أيام الطهر تقدمت. وأما إن تأخرت أيام الطهر كما إذا تمادى بها دم الاستحاضة سبعة أيام -مثلا-، وطهرت ثمانية -مثلا-، ثم جاء الدم، فإن الشيوخ اختلفوا هل يكون حيضا مطلقا؟ وهو ظاهر كلام أهل المذهب، أو لا بد من التمييز؟ وهو الذي يدل عليه كلام ابن عرفة، وابن رشد، وابن فرحون، وابن جماعة. واعلم أنَّ المرأة تميز الحيض بخمس علامات: الرقة، والثخن، والرائحة، واللون، وتألمها. ولا تميز بالصفرة والكدرة، وظاهره: ولو ميزت أنهما حيض، ولا بالقلة والكثرة: ولا بالحرارة والبرودة. وفي شرح الشيخ عبد الباقي أن المرأة إذا تقطع طهرها أيام الاستحاضة مرارا، ولفقت من أيام الطهر نصف شهر، فالآتي بعدها حيض من غير اعتبار تمييز. قال الشيخ محمد بن الحسن: هذا ظاهره، وهو غير ظاهر، بل يحتاج إلى نص. انتهى.
ولا تستظهر يعني أنه إذا قلنا: إن الدم المميز بعد طهر تم حيض، فإنه إذا استمر بالمرأة تمكث أيام عادتها فقط، ولا تستظهر عليها بزيادة ملفقة أم لا؟ على الأصح وهذا القول المصحح مروي عن مالك في العتبية وغيرها. وقاله ابن القاسم. في المجموعة: وبه قال أصبغ، ومقابله لعبد الملك أنها تستظهر. قاله الش كالتي لم تتقدم لها استحاضة. وقيل: تمكث خمسة عشر يوما. وقوله: "ولا تستظهر" محله إن دام ما ميزته لا بصفة حيض ميزته: بل تغير إلى دم استحاضة، فإن دام بصفة حيض ميزته بعد طهر تم فإنها تستظهر. قاله الشيخ عبد الباقي.
ولما تكلم على ابتداء الحيض شرع يتكلم على انتهائه، فقال: والطهر بجفوف يعني أن الطهر الذي لا يصحبه دم استحاضة يكون بالجفوف؛ وهو أن تُدْخِلَ خرقة فتخرجها جافة؛ أي ليس عليها شيء من الدم ولا من الصفرة ولا من الكدرة. وليس المراد أنها جافة من الرطوبة بالكلية؛ لأن فروج النساء لا تخلو عن الرطوبة غالبا.
أو قصة يعني أن الطهر من الحيض يكون بأحد شيئين: الجفوف وقد تقدم، والقصة بفتح القاف وشد الصاد بيضاء تأتي آخر الحيض، كماء القصة بفتح القاف وشد الصاد أيضا؛ وهي الجير المخلوط بالرماد أو النؤرة. يقال: قصص داره أي جصصها، وفي الحديث: (نهى عن تقصيص القبور
(1)
)؛ أي تجصيصها، ولا إشكال في نجاسة القصة؛ لأن كل ما يخرج من السبيلين فهو نجس وهي من أنواع الحيض، فأوله دم وآخره قصة، وقيل إن القصة تشبه ماء العجين، وقيل: شيء كالخيط الأبيض: وروى ابن القاسم: شبه البول وروى علي: شبه المني، ابن هارون: يحتمل أن يختلف باعتبار النساء وباعتبار أسنانهن، وباختلاف الفصول والبلدان. وقال في الطراز: يجوز أن يكون ذلك يختلف، إلا أن الذي يذكره بعض النساء أنه شبه المني. قاله الإمام الخطاب.
وهي أبلغ لمعتادتها يعنى أن المرأة التى عادتها أن تطهر بالقصة فإن ذلك يكون أبلغ في طهرها من الجفوف؛ أي أقطع للشك وأقوى في حصول اليقين بالطهر؛ لأنها لا يوجد بعدها دم،
(1)
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تقصيص القبور أو يبنى عليها أو يجلس عليها أحد النسائي، كتاب الجنائز، رقم الحديث:
2028.
والجفوف قد يكون بعده دم. وقوله: "لمعتادتها" أي فقط أو مع الجفوف، وكذا معتادة الجفوف فقط على المعتمد خلافا لظاهر المص، ويجاب عنه بأن ذلك ليس للاحتراز. وإنما قيد به لقوله:"فتنتظرها" الخ، إذ معتادة الجفوف فقط لا تنتظر القصة إذا رأت الجفوف. قاله الرماصي. وقوله:"وهي أبلغ لمعتادتها" هو مذهب ابن القاسم، وقال ابن عبد الحكم: الجفوف أبلغ فتنتظره معتادته إذا رأت القصة لآخر المختار، وقيل: ما لم يخرج الضروري، وقيل: هما سواء. قاله الداوودى، وعبد الوهاب. فأي العلامتين وجدت اغتسلت، ولا تنتظر الأخرى فبسبب كون القصة أبلغ لمعتادتها تنتظرها ندبا معتادتها فقط، أو معتادتهما لآخر المختار بإخراج الغاية، فلا تستغرق المختار بالانتظار، بل توقع الصلاة في بقية منه بحيث يطابق فراغها منها آخره.
والحاصل أن الأقسام خمسة: معتادة الجفوف فقط إن رأته أولا لا تنتظرها، وإن رأت القصة أولا لا تنتظر الجفوف. وهذان قسمان. فمعنى أبلغية القصة لمعتادة الجفوف فقط أنها تطهر برؤيتها قبله، ولا تنتظره لا أنها تنتظر القصة إذا رأته، ومعتادة القصة فقط إن رأتها أولا لا تنتظر الجفوف، وإن رأت الجفوف أولا، ندب انتظار عادتها. وهذان قسمان أيضا. فتلك أربعة. والقسم الخامس معتادتهما معا، وحكمها كمعتادة القصة فقط فتنتظرها إن أتاها الجفوف قبلها. قاله الشيخ عبد الباقي، وغيره. وقد علمت أن قول المص:"وهي أبلغ لمعتادتها" هو قول ابن القاسم، وأن ابن عبد الحكم يخالفه ويقول: إن الجفوف أبلغ، ويستحب للحائض والنفساء والمستحاضة أن يطيبن فروجهن إذا طهرن. قاله الخطاب.
وفي المبتدأة تردد يعني أنه اختلف في العلامة التي تطهر بها المبتدأة، فقيل: إنها لا تطهر إلا بالجفوف فقط فتنتظره ولو خرج الوقت، وقيل: تطهر بأيهما سبق، وهو الراجح، فالتردد في علامة الطهر لا في الأبلغية؛ وهو في النقل عن المتقدمين، فنقل الباجي عن ابن القاسم أنها لا تطهر إلا بالجفوف، فإذا جاءتها القصة فإنها لا تطهر بها، بل تنتظر الجفوف ولو خرج الوقت. ونقل عنه المازري أنها تطهر بأي العلامتين رأت؛ وهو الذي به الفتيا كما قال ابن مرزوق. قاله الشبراخيتي. فلو قال المص: والطهر بجفوف أو قصة ولو لمبتدأة، لمشى على المعتمد.
تنبيه وجدت بطرة ما نصه: إذا اغتسلت حائض لرؤية الجفوف، ثم رأت القصة، فهل هي لغو، أو توجب الغسل. أو الوضوء، أو يفصل بين معتادتها وغيرها؟ قاله سيدي عبد الواحد بن عاشر. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: نقل الشيخ محمد بن الحسن عن ابن حبيب أنها من الحيض. ونصه: لا إشكال في نجاسة القصة وهي من أنواع الحيض، وقد قال ابن حبيب: أوله دم، وآخره قصة. انتهى. فانظره، فإنه يدل على أنها يجب عليها الغسل؛ لأنها اغتسلت وأتاها ما هو من الحيض؛ إذ القصة هي آخر أجزاء الحيض. والله سبحانه أعلم. كمذا مقتضاه. ولكن صرح ابن غازي بأن التي ترى القصة لا تنتظر زوالها، ولكن تغتسل إذا رأتها: لأنه علامة الطهر. والله سبحانه أعلم، وسيأتي عن الإمام الخطاب أنها من توابع الحيض.
وليس عليهم نظر طهرها قبل الفجر يعني أنه لا يجب على الحائض أن تختبر نفسها قبل الفجر: هل طهرت أم لا؟ لاحتمال أن تدرك العشاءين والصوم، ولا يندب لها ذلك بل يكره؛ لأنه ليس من عمل الناس. بل يجب عليها نظر طهرها عند إرادة النوم لتعلم حكم صلاة الليل، والأصل استمرار ما كانت عليه عند النوم: يجب عليها أيضا نظر طهرها عند صلاة الصبح يريد وعند غيره من الصلوات، ويجب ذلك في أوائلها وجوبا موسعا في الجميع إلى أن يبقى من الوقت قدر ما تغتسل وتصلي، فيجب وجوبا غير موسع. كما قاله في رسم اغتسل، من سماع ابن القاسم. وقال الأمير: فإن ضاق وجب عليها وجوبا مضيقا، فإن لم تفعل أثمت، والأصل بقاء ما كان. انتهى. وقوله:"وليس عليها نظر طهرها قبل الفجر"، رد به قول الداوودي: ففي الخطاب عن ابن عرفة: واختلف في وجوبه قبل الفجر لاحتمال إدراك العشاءين والصوم، فقيل بالوجوب. قاله الداوودي. وقيل: لا يجب، رواه ابن القاسم، إذ ليس من عمل الناس، وكلاهما حكاه الباجي. وقال ابن رشد: يجب في وقت كل صلاة وجوبا موسعا، ويتعين آخره بحيث تؤديها، فلو شكت في طهرها قبل الفجر لم تقض صلاة ليلتها، وصامت إن كانت في رمضان وقضته. انتهى. وفي شرح الشيخ عبد الباقي عند قول المص: ومع القضاء إن شكت أن الحائض لا تؤمر بقضاء ما شكت في وقته من الصلاة، هل كان الطهر فيه أم لا؟ كشكها هل طهرت قبل الفجر أو بعده؟
بحيث لم يبق من وقت الصبح ما تدرك فيه ركعة بعد الطهر، فلا تجب عليها صلاتها. انتهى. وفي الخطاب عن الطراز: إذا أخرجت الخرقة بالدم قبل طلوع الشمس، واستثفرت بغيرها ثم حلتها في آخر النهار فوجدتها جافة، علمت أن الحيض انقطع قبل الاستثفار، بخلاف ما إذا رأت في الخرقة القصة فإن الطهر مستند إلى خروجها؛ لأنها من توابع الحيض. ثم إن عليها اعتبار وقت خروجها، فإن تيقنته عملت عليه، وإن لم تتيقنه بنت على الأحوط. انتهى. قوله:"فوجدتها جافة".
قال جامعه عفا الله عنه: يعني الخرقة الأخيرة التي استثفرت بها، وقوله: بخلاف ما إذا رأت في الخرقة القصة؛ يعني الخرقة التي استثفرت بها أيضا. والله سبحانه أعلم. وأشار إلى ممنوعات الحيض بقوله: ومنع صحة صلاة يعني أن المرأة إذا ترتبت في ذمتها صلاة، وأوقعتها في حال حيضها، فإن تلك الصلاة التي أوقعت في حال حيضها لا تصح، وكذا لا تصح صلاة لم تترتب في ذمتها إن أوقعتها في حال حيضها فرضا أو نفلا، بل تأثم؛ لأن الحيض يمنع صحة الصلاة اتفاقا، ويمنع الإقدام عليها. وصوم يعني أن الحيض يمنع صحة الصوم فرضا أو نفلا، أداء أو قضاء اتفاقا. ووجوبهما يعني أن الحائض لا تجب عليها الصلاة والصوم، بل يحرمان عليها ما دامت حائضا، فإذا طهرت وجب عليها قضاء الصوم دون الصلاة، وقضت الصوم لندوره، ولم تقض الصلاة للمشقة بتكررها.
واعلم أنه استشكل وجوب قضاء الصوم؛ لأنه لم يجب عليها. وأجيب بأن قضاء الصوم بأمر جديد وهو الصواب الذي عليه الأكثر، وقولي بأمر جديد قاله غير واحد، ومعناه أنه إذا قلنا بعدم وجوب الصوم على الحائض حال الحيض، فقضاؤها بأمر جديد وهو أمر الشارع بالقضاء؛ لأن الوجوب الأول المكلف به سقط بالحيض، وإن قلنا الوجوب مستمر عليها لم يسقط إلا أنه لم يصح منها الفعل، فالقضاء به لأنه لم يزل متوجها عليها انظر الرماصي. وقد علمت أن الذي عليه الأكثر أن قضاءها بأمر جديد من الشارع. الشعبي: روي في الأخبار (أن آدم صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه لما أهبط في الدنيا مع حواء لم تر نجاسة قبل ذلك، فحاضت وهي في الصلاة، فسألت آدم عليه السلام عنه فلم يعلم الجواب حتى نزل جبريل عليه السلام: فسأله
آدم عنه، فلم يعلم حتى رجع، ثم جاء وأمره أن يأمرها بترك الصلاة أيام حيضها ولم يأتها الأمر بالقضاء، ثم حاضت بعد ذلك وهي صائمة، فسألت آدم عنه: فقال لها: أفطري، فجاء جبريل وأمره أن يأمرها بالإعادة، فقال آدم: يا رب كل منهما عبادة فكيف أمرت بالقضاء في إحداهما ولم تأمر بالقضاء في الثانية؟ فأوحى الله تعالى إليه لأنك رجعت إلينا في المرة الأولى فحكمنا ما حكمنا: وفي الثانية عملت برأيك فعاقبناها بالقضاء لتعلم أن المرجع في الأمور إلى الله تعالى)). انتهى. قاله الشبراخيتي.
وطلاقا عطف على قوله: "صحة"؛ يعني أن الحيض يمنع الطلاق، أي أن الله سبحانه حرم الطلاق في الحيض؛ أي طلاق المدخول بها غير حامل، ويلزم إن وقع، ويجبر على الرجعة لا إن كانت غير مدخول بها، ولا من كانت مدخولا بها؛ وهي حامل، فلا يحرم طلاقهما حال الحيض. وظاهر كلام المص ولو أوقعه على من تقطع طهرها يوم طهرها وهو كذلك؛ لأنها لا يحكم عليها بالاستحاضة إلا بعد أيام التلفيق، ولا ينافي ذلك وجوب غسلها كلما انقطع عنها؛ لأن يوم الدم يوم حيض، ولو كان يجب عليها الغسل فيه عند انقطاعه. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر، أما الحرمة فلا سبيل إليها، وأما الجبر على الرجعة فنفاه ابن يونس. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: وحذاق أصحابه إنه يجبر عليها لتطويل العدة، وسيأتي في محله. انتهى. ومقتضى كلام الشيخ الأمير تقوية ما للتتائي والشيخ عبد الباقي من المنع لاقتصاره عليه، ورده ما للشيخ محمد بن الحسن بواو النكاية، أي الإغاظة والمخالفة ونصه: وطلاقا وإن بأيام انقطاعه الملفقة. وبدء عدة يعني أن الحيض يمنع بدء؛ أي ابتداء العدة، أي عدة الطلاق فيمن تعتد بالأقراء: وذلك لأن عدة من كانت تحيض ولم تكن حاملا بالأقراء، والأقراء هي الأطهار، وأما المتوفى عنها فعدتها محسوبة من يوم الوفاة؛ لأن عدتها أربعة أشهر وعشر إن كانت حرة، وشهران وخمس ليال إن كانت أمة، وأما الحامل فتعتد بالوضع. وقال بعض الشيوخ لا فائدة في التنصيص على هذا أصلا؛ لأنه لا يمكن فرضه إلا في المطلقة في الحيض، وهي إنما تعتد بالأقراء، وهي الأطهار، والحيض ليس منها فلا يتوهم بدؤها منه حتى ينص على نفيه. وإنما نهي عن الطلاق في الحيض؛ لأنه يطول العدة ويضر بالمرأة؛ لأن ما بقي من تلك الحيضة لا
يعتد به فتكون المرأة في تلك المدة كالمعلقة، لا معتدة، ولا ذات زوج، ولا فارغة من زوج. ولا خلاف أن الحيض يمنع الطلاق وبدء العدة. قاله الإمام الخطاب.
ووطء فرج يعني أن الحائض يمنع وطء فرجها ما دامت متلبسة بالحيض، وهذا من الأمور المجمع عليها لقوله تعالى:{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} . واختلف في علة المنع فقيل: تعبدا، وقيل: خيفة ما يصيب الواطئ من الأذى، وقيل: خيفة أن يحصل ولد من ذلك الوطء فيخاف عليه الجذام لما أخرجه أبو العباس السراج في مسنده: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أتى امرأته وهي حائض فجاء ولد أجذم فلا يلومن إلا نفسه
(1)
)، وتجب التوبة من وطء فرج الحائض، وسواء كانت الحائض مسلمة أو كتابية، حرة أو أمة، مجنونة أو عاقلة فالمنع حاصل في جميعهن، ويجبرهن الزوج على الغسل لحلية الوطء.
تنبيه: قال الشيخ الأمير: ولمن علم أن زوجته لا تغتسل وطؤها على الأظهر، ثم يأمرها جهده؛ لأن القتل بترك الصلاة إنما هو للحاكم. انتهى.
قال جامعة عفا الله عنه: وهذا ظاهر في غسل الجنابة، وأما غسل الحيض فيأتي ما ينافيه والله سبحانه أعلم.
أو تحت إزار يعني أنه يمنع وطء ما تحت الإزار من الحائض ما دامت حائضا؛ أي لا يجوز بل يحرم. ومعنى ما تحت الإزار ما اشتمل عليه الإزار، وهو ما بين السرة والركبة والغايتان خارجتان، فيباح له الاستمناء بسرتها فما فوقها كصدرها ويدها، وما فوق السرة من العكن وغير ذلك، وكذا يباح له الاستمناء بركبتيها فما تحتهما، وما قررت به المص من أن معناه أو وطء ما تحت الإزار، هو الذي قرره به أحمد الزرقاني؛ وهو ظاهر لأنه إذا عبر في الفرج بالوطء فأولى ما هو أخف من الفرج، وبذلك قرره الشارح أيضا فظاهر المص كغيره جواز التمتع بما تحت الإزار
(1)
تذكرة الحفاظ رقم الحديث: 780.
- المعجم الأوسط للطبراني، رقم الحديث:3300.
بغير الوطء. والحاصل أن التمتع بما تحت الإزار بغير وطء منعه الأجهوري ومن تبعه، كالشيخ إبراهيم، والشيخ عبد الباقي.
قال الشيخ عبد الباقي: يمنع التمتع وطئا، أو غيره فيما بين السرة والركبة، ولو على حائل. فهذه أربع صور، اثنتان في الوطء، واثنتان في غيره. ويباح التمتع بما عدا ذلك وطئا أو غيره، بحائل أو غيره. وهذه أربع أيضا. فتلك ثمانية. وقد علم أن السرة والركبة مما يباح التمتع به بحائل أو غير. وطئا أو غيره انتهى بإيضاح. وقال الشيخ محمد بن الحسن: الذي لابن عاشر ما نصه. ظاهر عباراتهم جواز ما دون الوطء تحت الإزار من لمس ومباشرة حتى بالفرج بعد زوال الإزار المطلوب في فور الحيضة، أو في فورها إن لم تلبس إزارا. فتطلب نص ذلك انتهى. قال أبو علي: وقد صدق في ذلك، فإن نصوص الأئمة إنما تدل على أن الذي يمنع تحت الإزار هو الوطء فقط لا التمتع بغيره، خلافا للأجهوري ومن تبعه. قال أبو الحسن ما نصه: قول المدونة ولا يطؤها بين الفخذين، قال ابن يونس: للذريعة أن يقع في الفرج، وقال ابن الجلاب: ولا يجوز وطء الحائض في فرجها ولا فيما دون فرجها. انتهى. ومثل ذلك في عبارة ابن رشد، وعبد الوهاب، وابن عطية، وابن عرفة وغيرهم. وأعظم من هذا كله قوله تبعا للأجهوري: ولو على حائل. انتهى كلام الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ عبد الباقي: ولا يحرم نظره لما تحت إزارها فيما يظهر. انتهى. وتبع الأمير الشيخ الأجهوري فقال عاطفا على المنوع: وتمتعا بين السرة والركبة ولو بحائل إلا النظر. انتهى. وقوله: "أو تحت إزار" هو مذهب جمهور العلماء وذهب قوم من العلماء إلى جواز الوطء فيما تحت الإزار، منهم الإمام أبو حنيفة وابن حبيب وأصبغ من المالكية، واستدل الجمهور بالحديث: (الحائض تشد إزارها وشأنه بأعلاها
(1)
)، أي يجامعها في أعكانها وبطنها أو ما شاء مما هو أعلاها: واستدل الآخرون بالحديث: (اصنعوا كل شيء غير الوطء)، وحملوا الحديث الأول على الندب جمعا بين الدليلين. ابن بشير: ولا خلاف في جواز الوطء فيما فوق الإزار. قاله الإمام الخطاب. وقال محمد بن عبد الباقي: استدل به،
(1)
الموطأ، رقم الحديث:126. بلفظ: لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها.
يعني الحديث المذكور الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة على تحريم الاستمتاع بما بين سرتها وركبتها بوطء وغيره، وذهب كثير من السلف، والثوري وإسحاق إلى أن الممتنع من الحائض الفرج فقط، وبه قال محمد بن الحسن، ورجحه الطحاوي، واختاره أصبغ وابن المنذر لحديث مسلم والترمذي وأبي داوود، عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح
(1)
). وحملوا الحديث المتقدم على الندب جمعا بين الأدلة. قال النووي: وهذا القول أرجح دليلا، قال الحافظ: ويدل على الجواز ما رواه أبو داوود بإسناد قوي، عن عكرمة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوبا
(2)
). انتهى.
ولو بعد نقاء المبالغة راجعة لوطء الفرج وما تحت الإزار؛ يعني أن الحائض إذا طهرت بأن رأت الجفوف أو القصة، فإنه يمنع وطء فرجها وما تحت الإزار منها، ولا يحل ذلك بسبب نقائها؛ وهذا هو المشهور. وقيل: يجوز ذلك وهو في المبسوطة عن ابن نافع، ونقل عياض أن بعض البغداديين تأول قول الإمام مالك عليه، وقيل: يكره ذلك وهو لابن بكير، فتلك أقوال ثلاثة: المنع وهو المشهور، والجواز، والكراهة.
وتيمم يعني أن الحائض إذا طهرت وتيممت تيمما مباحا فإن ذلك لا يبيح وطء فرجها ولا ما تحت الإزار منها هذا مذهب المدونة وهو المشهور. وقال ابن شعبان: يجوز وطؤها بعد النقاء والتيمم؛ يعني مع وجود أسباب التيمم، واختاره ابن عبد السلام. قاله الإمام الخطاب. وقال اللخمي: وإن كان في سفره ولم يجد ماء وطال السفر، جاز له أن يصيبها، واستحب لها أن تتيمم قبل ذلك وتنوي به الطهر من الحيض، وهو ظاهر. والله أعلم. قاله الإمام الخطاب. وقال الشيخ عبد الباقي: بعد قوله "ولو بعد نقاء وتيمم": تحل به الصلاة؛ لأنه -وإن حلت به الصلاة- لا يرتفع به الحدث، لقوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} ؛ أي يرين الطهر {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} ؛ أي بالماء، وهذا إلا لطول يحصل به ضرر، فله وطؤها بعد أن تتيمم استحبابا، وهذا يوافق قوله:"ومنع مع عدم ماء تقبيل متوض وجماع مغتسل إلا لطول"، قال أحمد:
(1)
مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، رقم الحديث:302.
(2)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:271.
والمبالغة راجعة لوطء الفرج وما تحت الإزار، وهو مقتضى قولهم: غير الفرج تبع له لقوله عليه الصلاة والسلام: (من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه)). انتهى. كلام الشيخ عبد الباقي.
تنبيهات: الأول: تقدم أن المشهور أن الحائض لا يباح وطؤها بالنقاء ولا بالتيمم المعتبر شرعا، بل حتى تغتسل لقوله تعالى:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} ؛ أي بالماء، {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} وسواء في ذلك كانت مسلمة أو كتابية. قال في المدونة: ويجبر الرجل امرأته النصرانية على الطهر من الحيضة، إذ ليس له وطؤها كذلك حتى تَطهَّر، ولا يجبرها في الجنابة لجواز وطئها كذلك. انتهى. وحكم النفاس، حكم الحيض، ويجبرها أيضا على غسل النجاسة من بدنها، فإذا أسلمت بقي زوجها على استباحة وطئها بذلك، ولا تستبيح به غيره. فإن قيل الغسل لا يصح إلا بنية، وهي لا تصح منها، فالجواب أن الغسل من الحيض فيه لله تعالى خطابان: خطاب وضع من جهة أنه شرط في إباحة الوطء، وخطاب تكليف من حيث أنه عبادة، وعدم النية يقدح في الثاني دون الأول. قاله القرافي. وهو ظاهر وقال ابن رشد: إنما تشترط النية في صحة الغسل للصلاة لا للوطء؛ لأن الزوج متعبد بذلك فيها، وما كان كذلك يفعله المتعبد في غيره لم يفتقر إلى نية كغسل الميت. انتهى. قاله الخطاب.
الثاني: قال ابن رشد في البيان: لو كانت لرجل زوجة مسلمة فأبت الغسل من الحيض لكان له أن يطأها إذا أكرهها على الاغتسال، وإن لم تكن لها فيه نية، ويلزمها أن تغتسل للصلاة غسلا آخر بنية؛ إذ لا يجزئها الغسل الذي أكرهت عليه إذا لم يكن لها فيه نية. انتهى. وهو يشهد لما تقدم عن القرافي أن الغسل فيه خطابان الخ. قاله الإمام الخطاب. الثالث: قال ابن ناجي: يقوم من هذه المسألة أن المجنونة لا يطؤها زوجها حتى تغتسل. انتهى. يعني من الحيض وهو ظاهر مما تقدم. والله أعلم. قاله الخطاب. وقد تقدم عن الخرشي ما يفيد ذلك. الرابع: قال ابن عرفة: لو كفاها قدر مائة لزمه دفعه لغسلها من حيضها ما لم يكن جنبا، قلت: أو على غير وضوء. انتهى. كلام ابن عرفة. وفي شرح الشيخ عبد الباقي عند قول المصنف: وجماع مغتسل إلا لطول وإذا أبيح له الوطء مع الطول، فلها أن تمكن حينئذ من نفسها، وله إكراهها؛ وهي أحق بما
تغتسل به في سفر حيث لا ماء يكفي إلا أحدهما لما أدخل عليها وهي كارهة؛ ولأنه يفرض عليه الماء لغسلها. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه بمنه: يتحصل من هذا أن الرجل إذا لم يكن محدثا أكبر ولا أصغر، وكان عنده من الماء ما يكفي امرأته لغسلها من حيضها، يدفعه لها، وأنه يقدم نفسه عليها إذا كان محدثا أصغر أو أكبر، وأنه يقدمها على نفسه في الجنابة حيث وطئها وهي كارهة، حيث لا ماء يكفي إلا أحدهما في السفر، وأنه يقدم نفسه عليها حيث لم تكن كارهة. والظاهر أنه لا خصوصية للسفر بذلك، كما يرشد له التعليل: وإنما قيد به -والله أعلم-؛ لأنه هو الذي يعدم فيه الماء غالبا انتهى ما حصله جامعه عفا الله عنه. الخامس: قال ابن عرفة: وفيها منعه؛ أي الوطء، ولو كان معه قدر مائة حتى يكون معها ما يغتسلان به. سحنون: وما تغتسل به قبل وطئها.
ورفع حدثها يعني أن الحيض يمنع رفع الحدث، أما الحدث الأصغر فباتفاق، فإذا توضأت بنية رفع الحدث الأصغر وهي حائض، فإن الحدث الأصغر لا يرتفع عنها، وكذا حدث الجنابة لا يرتفع عنها على المشهور، وإلى ذلك أشار بقوله: ولو جنابة فإذا اغتسلت بنية الجنابة؛ وهي حائض، ثم طهرت، فاغتسلت بنية رفع حدث الحيض، وأخرجت الجنابة من غسل حيضها فإن ذلك يضر على المشهور. وقيل: لا، وقيل: إن طرأت الجنابة لم يجز، وإن طرأ الحيض جاز. وقال ابن رشد: يأتي في المرأة تجنب ثم تحيض ثلاثة أقوال: أحدها أن لها أن تقرأ القرآن ظاهرا وإن لم تغتسل؛ لأن حكم الجنابة مرتفع مع الحيض؛ وهو الصواب. والثاني: أنه ليس لها أن تقرأ القرآن ظاهرا وإن اغتسلت للجنابة. والثالث ليس لها أن تقرأ ظاهرا إلا أن تغتسل للجنابة. ودخول مسجد يعني أن الحيض يمنع دخول المسجد إلا لعذر، فليجوز لها حينئذ دخوله والإقامة فيه. فإن دخلت الحائض المسجد لعذر -وأولى لغيره- فإنهما لا تعتكف لأن الاعتكاف يشترط فيهه الصوم، والحيض يمنعه والعذر الذي يبيح لها دخول المسجد والإقامة فيه، كخوف سبع أو لص وعدم مكان ممكن.
ولا تطوف أي وكذلك لا تطوف؛ أي يحرم عليها ذلك إن دخلت المسجد؛ لأن الطواف يشترط فيه الطهارة من الحدث والخبث كالصلاة، والحيض ينافي ذلك. اللخمي: اختلف في دخول الحائض والجنب للمسجد فمنعه مالك، وأجازه زيد بن أسلم إذا كان عابر سبيل، وأجازه محمد بن مسلمة، وقال: لا ينبغي للحائض أن تدخل المسجد؛ لأنها لا تأمن أن يخرج من الحيض ما ينزه عنه المسجد: ويدخله الجنب؛ لأنه يأمن ذلك. قال: وهما في أنهما طاهران سواء. وعلى هذا يجوز كونها فيه إذا استثفرت. انتهى. قاله الإمام الخطاب.
ومس مصحف يعني أنه لا يجوز للحائض أن تمس المصحف، وعده ابن رشد في المتفق عليه، فقال: الخامِسُ مسُّ المصحف، وفي ذلك اختلاف شاذ في غير المذهب. انتهى. وتبعه في التوضيح فعده في المتفق عليه، وقال ابن عرفة: وروى ابن العربي جوازه كقراءتها، قاله الإمام الخطاب.
لا قراءة يعني أن الحائض يجوز لها أن تقرأ القرآن ما دامت حائضا، قال ابن عرفة: عياض: وقراءتها في المصحف دون مسها إياه كقراءة حفظها. اللخمي: ولا يمنع الحيض السعي والوقوف، ولا يمنع ذكر الله كالتسبيح والاستغفار، وإن كثر. وهذا ظاهر.
واعلم أن المعتمد أن الحائض إن طهرت لا تقرأ حتى تغتسل، جنبا كانت أم لا، كما أن المعتمد في الحائض حال حيضها أنها تقرأ جنبا كانت أو لا. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. وفي التوضيح: والخلاف في قراءة الحائض إنما هو قبل أن تطهر، وإلا فهي بعد النقاء من الدم كالجنب، وعليه اقتصر ابن فرحون، وغير واحد، وهو الظاهر، والله أعلم. قاله الإمام الخطاب. الباجي: قال أصحابنا: تقرأ ولو بعد طهرها قبل غسلها. وقال عبد الحق: لا تقرأ ولا تنام حتى تتوضأ كالجنب. انتهى. وعلم مما تقدم أن المعتمد ما ذكره في التوضيح، خلاف تضعيف عبد الحق له. وقال الشيخ الأمير: لا قراءة. واختلف بعد انقطاعه، رجح الخطاب المنع، والأجهوري الجواز وأقرهما الرماصي إلا لجنب، فلا خلاف في منع قراءتها إذا انقطع، وحاله تجوز على الصواب. انتهى ولما أنهى الكلام على الحيض أتبعه بالكلام على النفاس لاشتراكهما في أكثر الأحكام، فقال: والنفاس دم خرج للولادة بفتح الواو وكسرها. قاله التتائي؛ يعني أن النفاس في عرف الفقهاء هو: الدم الخارج لأجل الولادة معها أو بعدها، لا ما خرج قبلها، فليس بنفاس
على أرجح قولين، ومحلهما في الدم الخارج قبل الولادة لأجلها فإن لم يكن لأجلها فليس بنفاس. قال في التنبيهات: وما كان قبل خروج الولد فقيل إنه غير دم نفاس، وحكمه حكم غيره من الدماء التي تراها الحوامل. انتهى. والقول الآخر أنه دم نفاس، وعبارة الأمير: وقبلها حيض على أقوى القولين، فلا يبتدأ منه النفاس. انتهى.
واعلم أن النفاس في اللغة: ولادة المرأة، لا نفس الدم، ولذلك يقال دم النفاس، والشيء لا يضاف إلى نفسه. والنفاس بكسر النون، والمرأة نفساء بضم النون وفتح الفاء والمد، والجمع نفاس بكسر النون وفتح الفاء، وليس في الكلام ما هو فُعَلَاء، ويجمع على فعال غير نُفَسَاء وعُشَرَات، ويجمعان على نُفَسَاوَات وعُشَرَاوات بضم أولهما وفتح ثانيهما، ويقال نفست المرأة بفتح النون وضمها، وكلاهما مع كسر الفاء في الولادة والحيض، لكن الضم في الولادة أكثر، والفتح في الحيض أكثر. حكاه عياض في شرح مسلم. قاله الخرشي ونقل عن السنهوري أنه لا يقال في الحيض إلا نفست بالضم ليس إلا. انتهى.
ولو بين توأمين يعني أن الدم الذي خرج بين التوأمين نفاس، وهما الولدان في بطن واحد، وليس بينهما؛ أي بين وضعهما ستة أشهر، ويقال للأنثى توأمة. ورد المصنف "بلو" القول بأنها إذا ولدت وبقي في بطنها ولدٌ أن الخارجَ بعد وضع الأول حيض، والقولان في المدونة، وعلى القول الأول: تمكث أقصى أمد النفاس، وعلى القول الثاني المردود بلو؛ أي القول بأنه حيض: تجلس كما تجلس الحامل في آخر حملها عشرين يوما ونحوها.
وأكثره ستون يوما يعني أن أكثر زمن النفاس أي الدم الخارج للولادة على ما مر إذا تمادى بالمرأة متصلا، أو ما في حكمه بأن عاودها قبل طهر تم، ستون يوما على المشهور، ولا تعول على عادتها على الراجح؛ لأنه لا تعتبر العادة هنا. ثم هي مستحاضة تصلي وتصوم وتوطأ ولا تستظهر على الستين، وأما أقله فهو دُفعة، وأكثر نساء افريقية يعتقدن
(1)
مكث أربعين يوما، ولو انقطع الدم قبلها؛ وهو جهل منهن، فيعلمن. قاله ابن ناجي. قاله الشبراخيتي. وقوله:"ولو بين توأمين"
(1)
في الأصل: يعتقدون، والمثبت من الشبراخيتي، ج 1 مخطوط.
هذا الخلاف جار مطلقا؛ أتي سواء كان بينهما شهران أو أقل، وعلى المشهور أنه نفاس لا حيض، فإن كان بينهما أقل من شهرين، فاختلف هل تبني على ما مضى ويصير الجميع نفاسا واحدا، وإليه ذهب أبو محمد والبرادعي، أو تستأنف للثاني نفاسا؟ وإليه ذهب أبو إسحاق. وأما إن كان بينهما شهران، فلا خلاف أنها تستأنف، وإلى ذلك أشار بقوله: فإن تخللهما فنفاسان يعني أن التوأمين إذا كان بينهما ستون يوما حمراء، فإن دم كل واحد منهما يكون نفاسا مستقلا. فتجلس للثاني ستين، كما تجلس للأول الستين التي تخللتهما. وفاعل تخلل: ضمير مستتر عائد على أكثره، وضمير المفعول البارز عائد على التوأمين: ومعنى تخللهما خرج بينهما. وقوله: "فإن تخللهما فنفاسان" مثله ما إذا تخللهما طهر تم: فيكون الثاني نفاسا مستقلا ولا يضاف للنفاس الأول، ويكون الدم الذي يأتيها بعد طهر تم وقبل وضع الثاني حيضا وإذا كان بين الولدين ستة أشهر فأكثر، فهما حملان، فتنقضي العدة بوضع الأول، وإن كان أقل من ذلك فهو حمل واحد، فلا تنقضي العدة إلا بوضع الثاني، وإن كان لكل واحد نفاس مستقل فيما إذا كان بينهما شهران فأكثر. وفائدة انقضاء العدة بوضع الأول، مع أن العقد عليها مع شغل بطنها حرام عدم لحوق الثاني بمن لحق به الأول. قاله الشيخ عبد الباقي. وقد مر أن أكثر النفاس ستون يوما. ابن الماجشون: الستون أحب إلي من السبعين، والقول بالأربعين لا عمل عليه، والقول بالأربعين مذهب أبي حنيفة وعرف ابن عرفة النفاس بقوله: النفاسُ دمُ إلقاء حملٍ فيَدْخُل دم إلقاء الدمِ المجتمِع. الخرشي: وينبغي أن حكم الوضع قبل تمام الستين من ولادة الأول بأربعة أيام فأقل كحكم ولادتها بعد تمام الستين، فتستأنف للثاني نفاسا آخر.
وتقطعه يعني أن تقطع دم النفاس كتقطع دم الحيض فإن انقطع عنها دم النفاس وعاودها قبل طهر تم، لفقت من أيام الدم ستين، وألغت أيام الطهر، وبعد الستين التي لفقت تكون مستحاضة تصلي وتصوم وتغتسل كلما انقطع عنها الدم، وتصلي وتصوم وتوطأ، وإن عاودها بعد طهر تم، فحيض كما تقدم ما يفيد ذلك. والله سبحانه أعلم.
ومنعه يعني أن النفاس يمنع ما يمنعه الحيض، فيمنع صحة صلاة، وصوم، ووجوبهما، وطلاقا، وبدء عدة، ووطء فرج أو تحت إزار ولو بعد نقاء وتيمم، ورفع حدثها ولو جنابة، ودخول مسجد
فلا تعتكف، ولا تطوف، ومس مصحف، وتجوز لها القراءة، خلافا لقول ابن الحاجب: لا تقرأ النفساء، ورده في التوضيح بأنه مما انفرد به ابن الحاجب، وصرح في المقدمات بتساويهما في القراءة، وكأنه، أي ابن الحاجب -والله تعالى أعلم- نظر إلى أنه لما كانت العلة في قراءة الحائض خوف النسيان بسبب تكرره، فلا ينبغي أن يلحق بها النفساء لندور النفاس، وفيه نظر، فإن طوله يقوم مقام التكرار، قاله الإمام الخطاب. وقال ابن فرحون والثعالبي: قال ابن راشد: قوله لا تقرأ النفساء، هو قول مالك في المدونة. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وبما قررته علم أن قوله: كالحيض خبر عن قوله: "وتقطعه ومنعه" ووجب وضوء بهاد يعني أن الوضوء يجب بسبب خروج الهادي؛ وهو ماء أبيض يخرج من الحامل قرب الولادة يجتمع في وعاء عند وضع الولد أو السقط سواء كان في أول الحمل أو وسطه أو آخره؛ لأنه كالبول. قاله الشبراخيتي. البساطي: الهادي هو الوعاء الذي يكون فيه الولد سواء كان وسط الحمل أو أوله أو آخره.
والأظهر نفيه يعني أن ابن رشد استظهر القول بنفي وجوب الوضوء بسبب خروج الهادي، وقد روي عن مالك أنه قال: ليس بشيء، وأرى أن تصلي به. ابن رشد: وهو الأحسن، لكونه غير معتاد، والقولان مبنيان على أنه هل يعتبر دوام الاعتياد في الخارج، أو يعتبر الاعتياد فيه في بعض الأحيان؟ وعلى كل من القولين فهو نجس يعفى عنه إن شق. واعلم أن كل مائع يخرج من السبيلين فهو نجس. ولما أنهى الكلام على الطهارة التي هي أوكد شروط الصلاة أتبع ذلك بالكلام على بقية شروطها، وأركانها، وسننها، ومندوباتها، ومبطلاتها، وأنواعها.
باب: في الصلاة
يذكر فيه أوقاتها وغيرها
وحذف المص المترجم له، فلم يقل: باب الصلاة، أو باب في الصلاة اختصارا. وقد مر الكلام على الباب، والفصل، والكتاب. والصلاة لغة: الدعاء، وقيل: بخير. وشرعا: قربة فعلية ذات إحرام، وتسليم، أو سجود فقط، فدخل صلاة الجنازة، وسجود التلاوة على القول بأنه صلاة؛ وهو ظاهر ابن رشد، وجزم سند بأنه غير صلاة.
واعلم أن مذهب المحققين من المتأخرين أن الألفاظ الشرعية كالصلاة والزكاة، مجازات لغوية حقائق شرعية. وقد مر أن الصلاة لغة الدعاء، والدليل على ذلك قوله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} الآية، وقول الأعشى:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا
…
يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي
…
نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن كان صائما فليصل
(1)
)؛ أي فليدع. وتستعمل بمعنى البركة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم حين جاء عبد الله بن أبي أوفى مع أبيه بصدقته: (اللهم صل على آل أبي أوفي
(2)
)، ولتضمنها معنى العطف عديت بعلى، وبمعنى القراءة قال تعالى {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ}: قيل: إنها مشتقة من الصلوين بفتح الصاد واللام: عرقان في الردف عن يمين الذنب وشماله، ينحنيان في الركوع والسجود. ولذا كتبت الصلاة في الصحف بالواو. وقيل: من صليت العود بالتشديد إذا قومته؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقيل: من الصلة؛ لأنها تصل بين العبد وخالقه؛ أي تدنيه من رحمته. وعليه فوزنها عَلَفَةٌ أو من الاشتقاق الكبير الذي لا يراعى فيه الترتيب.
(1)
مسلم، كتاب النكاح، رقم الحديث:1431. بلفظ: "إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائما فليصل وإن كان مفطرا فليطعم".
(2)
البخاري، كتاب الزكاة، رقم الحديث: 1497
وحكمة مشروعيتها: التذلل والخضوع بين يدي الله تعالى، ومناجاته بالذكر والقراءة والدعاء، وتصميم
(1)
القلب بذكره، واستعمال الجوارح في خدمته؛ وهي واجبة كتابا وسنة وإجماعا. وفرضت في السماء ليلة المعراج، بخلاف غيرها من الشرائع، وذلك يدل على تأكيدها وحرمتها. قاله ابن رشد. والصحيح أن المعراج وقع في ربيع الأول، قال الإمام النووي: ليلة سبع وعشرين منه، والصحيح أنه كان قبل الهجرة بسنة واحدة، وفي التنبيه أنه أنزل من جنة الفردوس منضود باللؤلؤ والياقوت. والحكمة في وقوعها ليلة المعراج: أنه صلى الله عليه وسلم لما قدس ظاهرا وباطنا حين غسل بماء زمزم وملئ بالإيمان، ناسب فرضها في تلك الحالة؛ لأن من شأنها أن يتقدمها الطهور، وليظهر شرفه صلى الله عليه وسلم في الملإ الأعلى بمن
(2)
ائتم به من الأنبياء والملائكة، وليناجي ربه، ومن ثم كان المصلي يناجي ربه. والأصح أنه لم يفرض عليه قبلها صلاة، وقيل: ركعتان بالغداة، وركعتان بالعشي ما كان بمكة تسع سنين، ثم فرضت الخمس ليلة الإسراء. والصحيح أن الإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة. قال الإمام الحطاب: والمراد بالإسراء: الذهاب إلى بيت المقدس، وبالمعراج: العروج إلى السماء. انتهى. وفي كلام بعضهم: أن المعراج آلة العروج، وهو الذي يفيده ما مر عن التنبيه، ومذهب الجمهور أنها فرضت أربعا إلا المغرب والصبح، ثم قصرت في السفر، قالوا: ويؤيده قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ، وحديث: (إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة
(3)
)، وروت عائشة أنها فرضت ركعتين ركعتين، ثم أكملت صلاة الحضر أربعا. قال الحسن البصري: وكان الإكمال بالمدينة، وفي الخرشي عن ابن حبيب أنه لم يكن قبل الإسراء مفروض إلا صلاة اليل من غير تحديد؛ وهي أي الصلاة من أعظم القرب، بل هي أفضل العبادات بعد الإيمان. وقد ورد في فضلها والحث على إقامتها والمحافظة عليها ومراعاة حدودها آيات وأحاديث كثيرة مشهورة.
(1)
في الخطاب ج 2 ص 6 ط دار الرضوان وتعمير القلب.
(2)
في الخطاب ج 2 ص 5 ط دار الرضوان لمن ائتم.
(3)
سنن النسائي، كتاب الصيام، رقم الحديث 2276. الترمذي، كتاب الصوم، رقم الحديث 715.
والصلاة على ستة أقسام: فَرضٌ على الأعيان، وهو الصلوات الخمس والجمعة بشروطها، وفَرْضٌ على الكفاية؛ وهو صلاة الجنازة على القول الراجح من القولين المشهورين الذين ذكرهما المص. وسُنَةٌ؛ وهو الوتر، والعيدان، والكسوف للشمس، وخسوف القمر، والاستسقاء، والركوع عند الإحرام، وسجدتا السهو. وكذلك ركعتا الطواف على أحد الأقوال، وسجود التلاوة على أحد القولين المشهورين فيه وعلى القول بأنه صلاة. وفَضِيلَةٌ؛ وهو ركعتا الفجر، وركعتا الشفع، وتحية المسجد، وقيام الليل، وقيام رمضان، وهو أوكد، والتنفل قبل الظهر وبعدها، وقبل العصر وبعد المغرب، والضحى بلا حد في الجميع على المشهور -كما يأتي إن شاء الله تعالى- وإحياء ما بين العشاءين، وركعتان بعد الوضوء، وركعتا الاستخارة، وركعتان عند الخروج للسفر، وعند القدوم منه، وعند دخول المنزل: وعند الخروج منه، وركعتان لمن قرب للقتل ولو كان عند طلوع الشمس أو غروبها على أحد القولين، وركعتان عند التوبة، وركعتان عند الحاجة، وركعتان عند الدعاء، وبين الأذان والإقامة إلا في المغرب، وصلاة التسبيح على ما ذكر القاضي عياض في قواعده، وسمى ابن رشد ما بعد قيام رمضان نافلة، وجعله أحط رتبة من الفضيلة، ولم يذكر جميع ما ذكرناه. وَمَكْرُوهَةٌ؛ وهي الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس قيد رمح، وبعد صلاة العصر حتى تصلى المغرب، وبعد صلاة الجمعة في المسجد، وقبل العيدين، وبعدهما إذا صليت في الصحراء، وبين الصلاتين المجموعتين لسفر أو مطر أو بعرفة أو مزدلفة. وَمَمْنُوعَةٌ؛ وهي الصلاة عند الطلوع، وعند الغروب، ومن حين يخرج الإمام لخطبة الجمعة إلى أن يفرغ من الصلاة، وتنفل من عليه فوائت، وابتداء صلاة فريضة أو نافلة إذا كان الإمام الراتب يصلي. وافتَتَحَ المص الصلاة بذكر الوقت لتعين الاهتمام بمعرفته فقال:
الوقت المختار للظهر من زوال الشمس يعني أن الوقت للصلوات الخمس المشار إليهن بقوله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد
(1)
) على قسمين: ضروري وسيأتي، ومختار
(1)
أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، رقم الحديث:1420.
ومبدؤه للظهر، من زوال الشمس؛ أي ميلان قرصها لجهة الغرب عن كبد السماء، والمختار اسم مفعول؛ أي أن المكلف يختار أي أجزائه لإيقاع الصلاة فيه إن شاء أوله، وإن شاء وسطه، وإن شاء آخره. وقوله:"الوقت" هو الزمن المقدر للعبادة شرعا مضيقا كوقت الصوم، أو موسعا كوقت الصلاة. ومعرفته فرض كفاية عند القرافي، فيجوز فيه التقليد، وفرض عين عند صاحب المدخل، ووفق بينهما بحمل كلام صاحب المدخل على أنه لا يجوز للشخص الدخول في الصلاة حتى يتحقق الوقت. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وعبارة الشيخ الأمير الجزم بالوقت عن دليل كفائي، ومطلقة ولو تقليدا شرط في الصحة، وغلبة الظن كافية، كما قال صاحب الإرشاد: وهو المعتمد. انتهى. وقوله: ومطلقة الضمير يرجع إلى الجزم. والله سبحانه أعلم. وسمي الظهر ظهرا؛ لأنها أول صلاة ظهرت في الإسلام، ولذا تسمى الأولى، أو لفعلها في وقت الظهيرة؛ أي شدة الحر. قال طرفة:
إن تنله فلقد تمنعه
…
وتريه النجم يجري بالظهر
وبدأ بها لأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم صبيحة ليلة الإسراء. هذا هو قول الأكثر. ومقابله ما روي: لما فرضت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فصلى به الصبح حين طلع الفجر، وفيه ابن الجهم ضعيف. وفي حديث آخر: هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم، فصلى الصبح حين طلع الفجر، وقد يقال لا دليل في هذين الحديثين وإن صَحَّا، لاحتمال أن المراد فيهما صبح اليوم الثاني. وقوله:"من زوال الشمس" وكيفية معرفة ذلك هو ما قال في التوضيح: أن تقيم عودا مستقيما، فإذا تناهى الظل في النقصان وشرع في الزيادة، فذلك وقت الزوال، ولا بد من زيادة بينة، وهذا الزوال يعلمه الناس. وهناك زوال لا يعلمه إلا الله. وزوال يعلمه الملائكة المقربون عليهم الصلاة والسلام. (فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل: هل زالت الشمس؟ فقال لا نعم. فقال: ما معنى لا نعم؟ فقال: يا رسول الله قطعت الشمس من فلكها
بين قولي لا نعم مسيرة خمس مائة عام
(1)
). وقد يظهر لبعض الأولياء بطريق الكشف الزوال والفجر وغيره من الأوقات، فلا يعول على ذلك شرعا. وقوله:"من زوال الشمس" متعلق بمحذوف؛ أي مبدؤه. وينكر على الولي إذا سمع حركة الشمس للزوال فصلى قبل ظهوره للناس في رأي أعينهم، وتحرم صلاته حينئذ، وإذا طار الولي بعد الزوال إلى موضع لم تَزُل به، أو طار قبل الزوال إلى موضع زالت به، خوطب بزوال ما يوقع به الصلاة؛ أي فإن صلاها بالأول لم يعد. وإلا فلا يصليها حتى تزول بموضعه، وله أن يصليها فيما طار إليه في الثاني؛ لأن الشمس قد زالت. انتهى ملخصا من الخطاب. والشبراخيتي، والزرقاني: وحاشية بناني.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر أنه لا ينافي ما تقدم من أن الظهر أول صلاة صلاها جبريل بسيد الوجود صلى الله عليه وسلم: لأنه لم يصل الصبح يومئذ، لتأخير البيان من نزوله من الإسراء إلى الظهر، كما في الآيات لابن قاسم الشافعي. قاله الشيخ عبد الباقي. ما قاله صاحب التنبيه أن أول ما فرض عليه صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم ثنى بالظهر، ثم ثلث بالعصر، ثم ربع بالمغرب، ثم خمس بالعشاء. ونصه: اللَّهُمَّ صل وسلم على سيدنا ومولانا مُحَمَّدٍ وعلى آل سيدنا مُحَّمَدِ الذي أولُ عروس جليت عليه من الخمس المعدودة. صلاة الفجر المشهودة. اللَّهم صل وسلم على سيدنا ومولانا مُحَمَّدٍ وعلى آل سيدنا مُحَمَّدٍ الذي جليت عليه الظهر، وهي ثانية الأولى. وقد كست صاحبها رضا وسولا، اللَّهُمَّ صل وسلم على سيدنا ومولانا مُحَمَّد وعلى آل سيدنا مُحَمَّدٍ الذي جليت عليه ثالثة الثانية، وهي العصر الوسطى من تركها أثم وأخطأ. اللَّهُمَّ صل وسلم على سيدنا ومولانا مُحَمَّدٍ وعلى آل سيدنا مُحَمَّدٍ الذي جليت عليه المغرب رابعة ما مضى، مبشرة بالفوز والرضا. اللَّهُمَّ صل وسلم على سيدنا مُحَمَّدٍ ومولانا مُحَمَّدٍ وعلى آل سيدنا ومولانا مُحَمَّدٍ الذي جليت عليه خامسة الدرر الفاخرة، وهي صلاة العشاء الآخرة. انتهى. لأن هذا في ابتداء صلاة جبريل به وما في التنبيه في ابتداء فرضيتها. والله سبحانه أعلم.
(1)
إرشاد الساري على صحيح البخاري، ج 2 ص 194.
لآخر القامة متعلق بمحذوف أي ينتهي؛ يعني أن وقت المختار ممتد من الزوال إلى آخر القامة الأولى، والمراد بذلك أن يصير ظل كل شيء مثله، وقامة كل إنسان سبعة أقدام بقدمه، أو أربعة أذرع بذراعه. وقيل: ستة أقدام وثلثا قدم، وقيل: ستة أقدام ونصف، قاله الشيخ إبراهيم.
والأصل في تحديد أوقات الاختيار ما رواه أبو داوود والترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمَّنِي جبريل عند البيت مرتين فصلى بني الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك، ثم صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم ثم صلى العشاء حين غاب الشفق ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم. وصلى المرة الثانية الظهر حين صار ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الفجر حين أسفرت الأرض. ثم التفت جبريل فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء قبلك والوقت فيما بين هذين الوقتين
(1)
). قال الترمذي: حديث حسن، وبرق الفجر بزغ، وقوله: مثل الشراك؛ أي الذي يكون على وجه النعل؛ وهو كناية عن أول ظهور الظل. وقوله: حين وجبت الشمس؛ أي سقطت بالغروب، والفيء الظل بعد الزوال. انظر الخطاب. والشبراخيتي.
بغير ظل الزوال يعني أن القامة إنما تعتبر بعد ظل الزوال، أي الظل الموجود عند الزوال؛ وهو يزيد في الشتاء، وينقص في الصيف ويختلف باختلاف البلاد. فقوله:"بغير ظل الزوال"؛ أي إن كان للزوال ظل، وإلا فالمعتبر القامة خاصة؛ أي قامة كل شيء، أي شيء كان. وما ورد في صحيح مسلم من أن مدة الدجال أربعون يوما، وأن فيها يوما كسنة، ويوما كشهر، ويوما كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا. فقال الصحابة: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا اقدروا له قدره
(2)
). فذلك حكم مخصوص بذلك اليوم، وقياس اليوم الثاني
(1)
الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:113. وأبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 393.
(2)
صحيح مسلم، كتاب الفتن، رقم الحديث:2937.
والثالث كذلك، ومثل ذلك أيام حجب الشمس عن الطلوع عند إرادة الله تعالى طلوعها من مغربها. وذكر القرافي في قطر يطلع عليه الفجر قبل غروب الشفق، أنه قال إمام الحرمين: لا تصلى العشاء حتى يغيب الشفق، وليست قضاء، ويتحرى بالصبح فجر من يليهم من البلاد. قال القرافي: ولعل مذهبنا كمذهب الشافعية. وقالت الحنفية: يسقط العشاء والوتر. قاله الشيخ إبراهيم: ونحوه للحطاب. ومعنى اقدروا له قدره؛ أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر كل يوم فصلوا الظهر ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر، فصلوا العصر فإذا مضى بعدها قدر ما يكون بينها وبين المغرب فصلوا المغرب، وكذا العشاء والصبح، وهكذا إلى أن ينقضي ذلك اليوم. وقد وقع فيه صلوات سنة كلها فرائض، مؤداة في وقتها. قاله الحطاب.
قال جامعه عفا الله عنه بمنه: ولم أذكر ما ذكره غير واحد هنا أن الشمس تزول بالشهر الفلاني على كذا، وبغيره على كذا؛ لأن ذلك غير عام في جميع البلاد، بل يختص ببعضها. واعلم أن أول شهور السنة القبطية: توت بتاءين مثناتين أولاهما مضمومة بينهما واو ساكنة؛ وهو غشت بالرومية: لأن الابتداء بالسنة القبطية من غشت. ثم بابه بموحدتين وألف بينهما وآخره هاء، وهو شتنبر، وهتور كصبور بمثناة فوقية، أكتوبر، ثم كَيَهْك بتقديم التحتية المفتوحة على الهاء الساكنة: وقيل بالعكس؛ وهو نونبر، ثم طؤبة بضم الطاء، وهو دجنبر، ثم امشير بهمزة مفتوحة وميم ساكنة وشين معجمة مكسورة وياء ساكنة وراء، وهو ينير، ثم يرهمات بياء تحتية وراء وهاء، وهو فبراير، ثم برمودة بفتح الموحدة وسكون الراء وضم اليم بعدها واو ساكنة ثم دال مهملة وهاء؛ وهو مارس، ثم بشنس بفتح الموحدة وفتح شين معجمة وسكون النون ثم سين مهملة؛ وهو شهر البركة إبريل؛ لأنه ولد فيه سيد الوجود صلى الله عليه وسلم ثم بئونة بهمزة بين الباء الموحدة والواو، وهو مايه، ثم أبيب بهمزة مفتوحة وباءين موحدتين كأمير، وهو ينيه، ثم مسرى بضم الميم وسكون السين المهملة؛ وهو يولي. قاله الشيخ محمد بن الحسن وإنما نقلتها وفسرتها، لأنها وقعت في كلام غير واحد من الشراح هنا يضبطون الظل في كل واحد منها، ويذكرون -هنا-
عرض البلد وخط الاستواء. ومعنى خط الاستواء: وسط الأرض، وعرض البلد عبارة عن بعده عن خط الاستواء. قاله الإمام الخطاب. وما ذكرته في الشهور المتقدمة هو للشيخ محمد بن الحسن كما علمت. ونحوه للرماصي. ومقتضى كلام غيره أن بشنس هو مايه. والله سبحانه أعلم. وعلم مما مر أن ما قبل الزوال من الظل لا حكم له، فتعتبر القامة والقامتان بدونه. والله سبحانه أعلم. وكيفية كيل ظلك أن تقف قائما معتدلا غير منكس رأسك في أرضى مستوية، وتخلع نعليك، وتستدبر الشمس أو تستقبلها، وتعلم على طرف ظلك علامة أو تأمر من يعلم لك إن كنت مستقبلا للشمس، ثم تكيل ظلك بقدمك؛ بأن تبتدئ من رأس القدم الذي وقفت عليه ولا تحسبه بنفسه، وهذا الطريق [علم]
(1)
في كل زمان ومكان. فإذا أردت آخر وقت الظهر فتزيد على ما كلته مما قبل الزوال سبعة؛ وهو قدر القامة كما مر وهو الأحوط. وقد قيل: إن طول القامة ستة أقدام وثلثان وقيل ستة ونصف.
واعلم أن أوقات الصلاة إنما علقت بالأوقات البينة للعامة والخاصة والعلماء والجهال، وإنما شرعت المنازل ليعلم بها قرب الصباح، فيكف الصائم ويتأهب المصلي، حتى إذا تبين الفجر الذي علق به الوقت صلى. قاله الإمام الخطاب. إلا قوله بأن تبتدئ من رأس القدم الذي وقفت عليه ولا تحسبه بنفسه، فإنه من كلام محمد بن سعيد السوسي. وقال أي الحطاب: إن الذي علق به الوجوب في الزوال هو ما يظهر للناس لا الزوال الذي لا يدرك بالحس وإنما يدرك بالحساب، غير أنه لا يشترط في الزوال الذي يظهر للناس رؤيته، فإذا تحقق بطريق من الطرق أنه قد حصل الزوال المذكور بحيث أنه لو تأمله الحس لأدركه، كفى ذلك ولو كان هناك غيم يمنع من رؤيته، وكذا القول في غروب الشمس والشفق وطلوع الفجر. انتهى. وقال الإمام الخطاب عن البرزلي: يقبل قول المؤذن العدل العارف مطلقا، أي في الغيم والصحو في الصلاة والصوم إذا
(1)
في الحطاب ج 2 ص 12 ط دار الرضوان: عام.
كان عارفا بالأوقات بالآلات، مثل الرمليات والمنقانات وغيرها. وفيه عن الطراز: يجوز تقليد المؤذن العدل العارف وقبول قوله مطلقا؛ أي في الصحو والغيم. انتهى.
وقد مر قول الأمير إن غلبة الظن في الوقت تكفي، كما قال صاحب الإرشاد، وأنه هو المعتمد. وقال الإمام الخطاب بعد جلب نقول: فتحرر من هذا أنه يجوز التقليد في الأوقات لمن كان عدلا عارفا. والله أعلم. انتهى. وفي المدخل: ومذهب مالك أن صرفة الأوقات فرض في حق كل مكلف. انتهى. قال الإمام الخطاب: مقتضاه أنه لا يجوز التقليد فيها، ولكن يمكن أن يحمل على أن المراد أنه لا يجوز لأحد أن يصلي حتى يعرف أن الوقت دخل: إما بالطرق الموصلة لذلك، أو بتقليد من هو عدل عارف. والله أعلم. انتهى. وفي الطراز: إذا كانت السماء مغيمة ولم تظهر الشمس، فينبغي أن يؤخر الصلاة حتى يتيقن الوقت. انتهى.
وقال الإمام المازري: إذا امتنع الاستدلال بتزايد الظل لكون الشمس محجوبة بالغيم، رجع في ذلك إلى أهل الصناعات؛ فإنهم يعلمون قدر ما مضى لهم من أعمالهم من أول نهارهم إلى زوال الشمس في يوم الصحو، فيقيسون يومهم بأمسهم، فيعرفون بذلك الوقت. انتهى. قاله الإمام الخطاب. وفي الجواهر: من اشتبه عليه الوقت فليجتهد، ويستدل بما يغلب على ظنه دخوله: وإن خفي عليه ضوء الشمس فليستدل بالأوراد وأعمال أرباب الصناعات وشبه ذلك. ويحتاط. قال ابن حبيب: وأخبرني مطرف عن مالك أن من سنة الصلاة في الغيم، تأخير الظهر وتعجيل العصر، وتأخير المغرب حتى لا يشك في الليل، وتعجيل العشاء إلا أنه يتحرى ذهاب الحمرة، وتأخير الصبح حتى لا يشك في الفجر. ثم إن وقعت صلاته في الوقت أو بعده فلا قضاء. وإن وقعت قبله قضى كالاجتهاد في طلب شهر رمضان. انتهى. قاله الإمام الحطاب.
وفي الذخيرة: إذا حصل الغيم أخر حتى يتيقن ولا يكتفي بالظن، ولا خلاف أن أول وقت الظهر زوال الشمس، وأنها لا تجب قبله، ولا تجزئ إن فعلت قبله لا في حضر ولا في سفر، وذكر القاضي عبد الوهاب أن ابن عباس أو غيره كان يقول: تجزئ قبل الزوال. قال في الطراز: وذلك
باطل لحديث جبريل
(1)
والإجماع على خلافه. قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ، قال ابن عباس: إذا فاء الفيء، ولا يصح عنه غير ذلك. انتهى. قاله الإمام الحطاب. وقال المازري: اختلف الناس في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ، فذهب بعضهم إلى أن المراد به غروبها، ومذهبنا أن المراد به زوال الشمس وميلها عن وسط السماء مغربة. قاله الخطاب. ومن علم ظل الزوال علم دخول وقت العصر بمضي قامته، ومن لم يعلم ظل الزوال جرى فيه قول صاحب الرسالة: وقيل إذا استقبلت الشمس بوجهك إلى آخره. قيل: إن عدد الركعات والصلوات معقول المعنى. وعليه فاعلم أن نعم البدن خمس، فقوبلت بالصلوات الخمس شكرا، فحاسة الشم يشم بها الرائحة من الجوانب الأربع، فقوبلت بالظهر، وهي أربع ركعات. ولما فرغ من بيان وقت الظهر شرع يتكلم على وقت العصر فقال:
وهو أول وقت العصر الضمير يعود على آخر القامة؛ يعني أن الوقت المختار للعصر مبدؤه من آخر القامة الأولى، وفي الحديث: (حافظوا على العصرين صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها
(2)
) يريد الصبح والعصر، والعرب تسمي كل طرف من النهار عصرا، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى البردين دخل الجنة
(3)
)، والمراد بالبردين الصبح والعصر، وتسمى صلاة العصر صلاة العشي. وقوله: البردين بفتح الوحدة وسكون الراء. وكلام المص يقتضي أن العصر داخلة على الظهر في وقتها، فإنه قال: إن آخر وقت الظهر هو أول وقت العصر، وما ذكره المص هو المعتمد عليه عند الفقهاء في معرفة الوقت، ولذا أنكر على ابن أبي زيد قوله: وقيل إذا استقبلت الشمس بوجهك وأنت قائم غير منكس رأسك ولا مطأطئ له الخ؛ لأنه لم يعلم قائله. قاله الشاذلي.
(1)
الترمذى، كتاب الصلاة، رقم الحديث 113. وأبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 393.
(2)
ابن حبان في صحيحه، رقم الحديث 1739.
(3)
البخاري في الجامع الصحيح، كتاب مواقيت الصلاة، رقم الحديث: 574 ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، رقم الحديث:635.
للاصفرار يعني أن الوقت المختار للعصر مبدؤه من آخر وقت الظهر، ويمتد إلى الاصفرار بخروج الغاية لقوله عليه الصلاة والسلام: (وقت العصر ما لم تصفر الشمس
(1)
) رواه مسلم، وهذا مذهب المدونة. وروى ابن عبد الحكم عن الإمام مالك أن آخر وقتها أن يصير ظل كل شيء مثليه، قال في المنتقى: وصفرتها إنما تعتبر في الأرض والجدر، لا في عين الشمس. حكاه ابن نافع في المبسوط عن مالك. انتهى. وقال في الجواهر: وقت الاختيار ما دامت الشمس بيضاء نقية ما لم تصفر على الجدرات والأرض. وروى ابن عبد الحكم: إلى أن يصير زيادة ظل الشخص مثليه. قال القاضي أبو بكر: والقولان مرويان عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وهما متساويان في المعنى؛ لأن الشمس لا يزال بياضها ناصعا حتى ينتهي الظل، فإذا أخذ في التثليث نقص البياض حتى تأخذ الشمس في التطفيل فتتمكن الصفرة. انتهى. ونحوه لابن بشير. والتطفيل: ميل الشمس للغروب. قاله في الصحاح.
واعلم أن الظل يكون غدوة وعشية، والفيء لا يكون إلا بعد الزوال، ولا يقال لما قبله فيء. وإنما سمي بعد الزوال فيئا؛ لأنه ظل فاء من جانب إلى جانب أي رجع، والفيء الرجوع، ومعنى الظل الستر، ومنه قولهم: أنا في ظلك، ومنه ظل الجنة: وظل شجرها إنما هو سترها، وظل الليل سواده؛ لأنه يستر كل شيء قاله الخطاب. عن ابن قتيبة. ونقل عن الجوهري أنه قال: قال ابن السكيت: الظل ما نسخته الشمس. والفيء ما نسخ الشمس. وحكي عن أبي عبيدة ما يوافق لابن قتيبة، والذي لابن قتيبة: هو الذي اختار النووي. قال الإمام الخطاب: وهو الظاهر. ولما ذكر الشيخ أن آخر وقت الظهر هو أول وقت العصر، لزم قطعا الاشتراك بينهما، كما في الحطاب، فصرح به ليبين في أي وقت هو، فقال:
واشتركتا يعني أن الظهر والعصر يشتركان في الوقت، والزمنُ الذي يشتركان فيه محدود بقدر فعل إحداهما أي أن الظهر والعصر يشتركان في الوقت المختار بقدر ما تصلى فيه إحداهما، إن كانتا سفريتين فإنهما يشتركان بقدر ما تصلى فيه ركعتان، وإن كانتا حضريتين فإنهما يشتركان
(1)
مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، رقم الحديث:612.
بقدر ما تصلى فيه ظهر حضرية أو عصر حضرية. وعلى القول المتقدم فاعلم أن حاسة السمع يسمع بها من الجوانب الأربع، فقوبلت بالعصر أربع ركعات.
وهل في آخر القامة الأولى يعني أن الشيوخ اختلفوا في الوقت الحاصل فيه الاشتراك بين الظهر والعصر، فمنهم من ذهب إلى أن الاشتراك حاصل في آخر القامة الأولى، فتكون العصر داخلة على الظهر، واختاره ابن رشد وابن عطاء الله وابن راشد، أوأول الثانية يعني أن من الشيوخ من ذهب إلى أن اشتراك الظهر والعصر حاصل في أول القامة الثانية؛ وهو المشهور عند سند، وغيره خلاف أي في ذلك خلاف، وتظهر ثمرته في الإثم وعدمه، والإجزاء وعدمه، فإذا أخر الظهر لأول القامة الثانية أثم على الأول لا على الثاني، وإذا قدم العصر في آخر القامة الأولى بطلت على الثاني لا على الأول. ومنشأ الخلاف قوله صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى: (فصلى بي جبريل العصر حين صار ظل كل شيء مثله
(1)
). ثم قال في الثانية: فصلى الظهر من الغد حين صار ظل كل شيء مثله. هل معناه شرع فيهما أو فرغ فيهما؟ ويجري هذا الخلاف في العشاءين على القول بامتداد وقت المغرب للشفق، وإذا قيل بدخول الغرب على العشاء، فبمقدار ثلاث ركعات من أول وقت العشاء، فإن قيل بدخول العشاء على المغرب فبقدر أربع. قاله غير واحد. وقال ابن حبيب: لا اشتراك بين الظهر والعصر، وعزاه اللخمي وصاحب الطراز لابن المواز وابن الماجشون، ونقله ابن فرحون وابن ناجي عن اللخمي، وقال ابن ناجي: واختاره ابن العربي قائلا: تالله ما بينهما اشتراك، ولقد زلت أقدام العلماء. قاله الإمام الحطاب. واتفق مالك وجميع أصحابه على إباحة الجمع بين المشتركتين لعذر من سفر أو مرض على اختلاف بينهم في ذلك على التفصيل، واختلفوا في إباحة الجمع بينهما لغير عذر، والمشهور أن ذلك لا يجوز. وقال أشهب: يجوز ذلك على ظاهر حديث ابن عباس
(2)
وغيره. قاله الحطاب عن ابن رشد. وفي الطراز: من صلى العصر قبل القامة لا يجزئه على المشهور، وهو المعروف من قول جماعة الناس. وقال أشهب في
(1)
أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، رقم الحديث:393. - النسائى في سننه، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 524.
(2)
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا بالمدينة في غير خوف ولا سفر، قال أبو الزبير: فسألت سعيدا لم فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني، فقال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته. مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم الحديث:705.
المجموعة: أرجو لمن صلى العصر قبل القامة والعشاء قبل الشفق أن يكون قد صلى: وإن كان لغير عذر. وقد يصليها المسافر عند رحلته، والحاج برفة. وقال أشهب في الموازية فيمن صلى العشاء قبل مغيب الشفق: إنه يعيد أبدا. ولما فرغ من بيان وقت العصر، شرع يتكلم على بيان وقت المغرب، فقال:
وللمغرب غروب الشمس يعني أن الوقت المختار للمغرب أوله غروب جميع قرص الشمس، وقوبلت نعمة البصر بالمغرب؛ لأنك تبصر ما على يمينك ويسارك وأمامك، ولا تبصر ما خلفك. يقدر بفعلها بعد شروطها يعني أن المغرب يعرف قدر وقتها المختار بفعلها مع فعل شروطها، فيُحَدُّ مختارها بقدر ما يسع ثلاث ركعات بعد الغروب، مع ما تحصل فيه شروطها من: طهارة حدث صغرى وكبرى مائية أو ترابية، وخبث، وستر عورة، واستقبال قبلة، وأذان، وإقامة بالنسبة للمقيمين. وأما المسافرون فلا بأس أن يمدوا الميل ونحوه، ثم ينزلون ويصلون. وأما من لا ينزل فلا يباح له هذا، ويصلي كل صلاة في وقتها، ويراعى أيضا قدر استبراء معتاد لمن احتاجه، ومن عادته أن يطول استبراؤه. بحيث لو بال عند دخول الوقت لم يتم استبراؤه حتى يخرج الوقت؛ صلى إن أمكنه مدافعة الحدث، ويحرم عليه البول حينئذ، وإلا بال واستبرأ ولو خرج الوقت؛ لأن هذا لم يكن سلسا، وإلا توضأ وصلى به إن لازم أكثر -على ما مر- ويصليها أيضا في الشغل عن فرض، ولو خرج الوقت. وقال الناصر اللقاني: وقد سئل عمن إذا بال علم أنه لا ينقطع استبراؤه إلا بعد خروج الوقت، يؤخر الصلاة حتى ينقطع بوله ولو أدى إلى خروج الوقت: لأن البول ناقض للوضوء مناف. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. والشغل عن غير فرض يجب فعلها معه في الوقت، ولا يجوز التأخير؛ لأن الفعل في الاختياري واجب، فلا يترك لتحصيل مندوب. قاله الخطاب. وقوله: يقدر بفعلها بعد شروطها، هو المشهور، فقد صرح غير واحد بمشهوريته، وقيل: يمتد للشفق. وفي الموطإ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فيها (بالطور
(1)
) (وبالمرسلات
(2)
)، وهذا يقوي القول بالامتداد. وقال ابن العربي والرجراجي: هو
(1)
مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:612.
(2)
الموطأ، كتاب الصلاة، رقم الحديث:172.
الصحيح، والمشهور من مذهب مالك. قاله الحطاب. وفي الحديث: (إذا صليتم المغرب فإنَّه وقت إلى أن يسقط الشفق
(1)
)؛ وفيه أيضًا: (إذا قُرب العشاء وحضرت الصلاة فابدأوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب
(2)
) رواه البخاري. وفي كتاب الشيخ الأمير ما نصّه: ثمَّ المقدم طعام لا يخرج الوقت كعادتهم. انتهى. وقوله: يقدر بفعلها بعد شروطها، قد مر أن لمحصل الشروط أن يؤخرها قدر ما تحصل فيه، وفي الشبراخيتي أن المحصل لشروطها لا يقدر في حقه إلا قدر فعلها، والأول هو الظاهر؛ لأنه الذي في الحطاب، وغيره. والله سبحانه أعلم. وتسمى المغرب صلاة الشاهد لحديث: (لا صلاة بعد العصر حتى يطلع الشاهد
(3)
)، أو لعدم قصر المسافر لها كما قال الشيخ أبو محمَّد، وهو منقوض بالصبح. قاله الشاذلي. ويكره تسميتها عشاء إلا مقيدة بالأولى لخبر: (لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب
(4)
). ابن حجر: ولا يتناول النهي تسميتها عشاء على التغليب نحو: صليت العشاءين. وأصل الغروب البعد، ومنه غرُب بضم ثانية وفتحه: بعُد. وحجة المشهور أن المغرب وقته محدود بما تفعل به هي وشروطها والأذان والإقامة هُوَ: حديث جبريل المتقدم عند قول المص: لآخر القامة، وحجة القول الآخر الذي شهره ابن العربي والرجراجي ما في مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: (وقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق
(5)
)، وهذا القول اختاره الباجي، وأخذه ابن عبد البر وابن رشد واللخمي والمازري من قوله في الموطإ: إذا ذهبت الحمرة فقد وجبت العشاء وخرج وقت المغرب. قال الإمام المازري: وهو يعني حديث مسلم متأخر عن حديث جبريل: فيجب الرجوع إليه، وهو أصح سندا وقياسا على بقية الصلوات. قاله الشاذلي. في كفاية الطالب وفي النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذه الصلاة فرضت
(6)
على من كان قبلكم فضيعوها فمن حفظها كان له أجره مرتين ولا صلاة بعدها
(1)
الموطأ، كتاب الصلاة، رقم الحديث:173.
(2)
مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:557. وفي صحيح البخاري: إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء. كتاب الأذان، رقم الحديث 671.
(3)
مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:830.
(4)
البخاري في الجامع الصحيح، كتاب مواقيت الصلاة، رقم الحديث:563.
(5)
مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:612.
(6)
كذا في الأصل والذي في مسلم والنسائي: عرضت.
حتى يطلع الشاهد
(1)
)، والشاهد النجم. قال التونسي: والذي جاء في الحديث أولى مما قاله مالك. انتهى. يعني ما تقدم من الخلاف في سبب تسميتها صلاة الشاهد.
تنبيهات: الأوّل: وقع في كتاب الشيخ الأمير خلاف ما تقدم من اعتبار الطهارة اللازمة، فإنَّه قال: والمعتبر الغسل لا وضوء وتيمم؛ لأنَّ الوقت لا يختلف باختلاف الأشخاص. انتهى.
الثاني: نقل الحطاب عن ابن العربي ما نصه: واختلف في آخر وقتها على أربعة أقوال: الأَوَّلُ وقتها مقدر بفعل الطهارة، ولبس الثياب، والأذان والإقامة، وثلاث ركعات. قاله مالك. والشافعي في أحد قوليهما. الثاني: آخر وقتها بمقدار الوقت الأوّل من سائر الصلوات، قال بعض أصحاب الشافعي: وأشار إليه في المدونة حين قال: لا بأس أن يمد الميل ونحوه. الثالث: آخر وقتها إذا غاب الشفق، قاله في الموطإ؛ وهو الصحيح. الرَّابعُ: آخر وقتها بمقدار ثلاث ركعات بعد الشفق. قاله أشهب. انتهى. قال الحطاب: وهذا القول الثاني الذي ذكره عن بعض الشافعية ذكره صاحب الطراز، فإنَّه قال: إذا قلنا بالاتحاد يعني غير ممتد، فاختلف أصحاب الشافعي على وجهين، فذكر القول باعتبار الطهارة واللبس والأذان والإقامة وثلاث ركعات، وقال بعضهم جميع وقتها بمنزلة أول الوقت من كل صلاة من غير حد. انتهى. ونقل نحوه عن الذخيرة، وفيه أن الاتحاد ظاهر بالنسبة للمقيمين دون المسافرين، قال فيها: والمغرب إذا غابت الشمس، وأما المسافر فلا بأس أن يمد الميل ونحوه. وفيه أنَّه يفهم من كلام صاحب الطراز أنَّه لا يجوز التطويل في قراءة غير المغرب من الصلوات حتى يخرج وقتها المختار، غير أن في كلامه أن ذلك لا يجوز إجماعا، وحكى الشافعي في ذلك خلافا.
الثالث: قال في الرسالة: ووقت المغرب؛ وهي صلاة الشاهد؛ يعني الحاضر؛ يعني أن المسافر لا يقصرها ويصليها كصلاة الحاضر، فوقتها غروب الشمس. قال الشاذلي: تعليله منقوض بالصبح، والتعليل بأن الشمس تغرب عند طلوع نجم يسمى الشاهد أولى، لما روى النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حفظها كان
(1)
إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد. مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:830. والنسائي، كتاب المواقيت، رقم الحديث: 518.
له أجره مرتين ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد
(1)
). والشاهد النجم. انتهى. قوله: "غروب الشمس" المراد به الغروب الشرعي؛ وهو مغيب جميع قرصها كما مر. وأما الغروب الميقاتي فغير معتبر؛ وهو غروب مركزها، وبينهما نصف درجة؛ وهو قبل الشرعي فلابد من تمكين بعد ذلك حتى يتحقق الوقت بإقبال ظلمة الليل من المشرق، وإذا كان المعتبر مغيب جميع قرصها فالمراد أن ذلك بحيث لا يرى منه شيء لا من سهل ولا من جبل، فإنها قد تغيب عمن في الأرض، وترى من رؤوس الجبال. قاله الإمام الحطاب. وقال في الجواهر: والمراعى غيبوبتها
(2)
)، وقرصها دون أثرها، وشعاعها وقاله ابن الحاجب. ابن فرحون: ولا عبرة بمغيب قرصها عمن في الأرض حتى تغيب عمن في رؤوس الجبال، والمعتمد في ذلك إنما هو على إقبال ظلمة الليل من جهة المشرق لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم
(3)
). انتهى. ولا يضر بقاء شعاعها في الجدران، خلافا للماوردي من الشافعية، فإنَّه اشترط سقوطه؛ وهو الضوء المستعلي كالمتصل بها. قال الدميري: والإجماع منعقد على خلاف دعواه. قاله الإمام الحطاب. وقوله في الحديث: أقبل الليل من هاهنا؛ يعني المشرق، وقوله: أدبر النهار من هاهنا؛ يعني المغرب. قاله الشيخ عبد الباقي. ونقل الحطاب عن ابن بشير ما نصّه: ووقت المغرب إذا غاب قرص الشمس بموضع لا جبال فيه، فأما موضع تغرب فيه خلف جبال فينظر إلى جهة المشرق، فإذا طلعت الظلمة كان دليلًا على مغيب الشمس. انتهى.
الرَّابعُ: لم يقل المص: من غروب، فيأتي بمن كما فعل في الظهر؛ لأنَّ المغرب لا امتداد لها، وإنما وقتها غروب الشمس. قاله الشيخ إبراهيم.
الخَامِسُ: اعلم أن في الساعة خمس عشرة درجة، وفي الدرجة ستين دقيقة، وقدر الدقيقة ما يقرأ فيه الإخلاص مرة قراءة معتدلة مع البسملة، أو مقدار ما يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله
(1)
مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:830.
(2)
الذي في الجواهر ج 1 ص 103. والحطاب ج 2 ص 25 غيبوبة جرمها وقرصها.
(3)
إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم. البخاري، كتاب الصوم، رقم الحديث:1954.
إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله مرة. ولما فرغ من بيان وقت المغرب المختار، شرع يبين مختار العشاء، فقال:
وللعشاء من غروب حمرة الشفق يعني أن الوقت المختار للعشاء مبدؤه من غيبوبة الشفق، والشفق هو الحمرة الباقية في ناحية غروب الشمس من بقايا شعاعها، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء. وعند أبي حنيفة: من غروب البياض، وفي حديث جبريل: (أنَّه - صلى الله تعالى عليه وسلم - صلى العشاء حين غاب الشفق
(1)
)، وهو مختص في الاستعمال بالحمرة لقول أعرابي وقد رأى ثوبا أحمر: كأنه شفق. وقال المفسرون في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 16]: إنه الحمرة. وجاء تسمية العشاء عتمة في قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: (لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا
(2)
)، مأخوذ من عتمة الليل؛ وهي ظلمته، وتنتهي إلى الثلث الأوّل. قاله ابن حجر. وقال الخليل: العتمة الثلث الأوّل من الليل بعد غيبوبة الشفق، وقد عتم الليل يعتم كضرب يضرب، وعتمته ظلامه. انتهى. وجاء النهي عن تسميتها عتمة، وفي كونه للكراهة أو للتحريم أو خلاف الأولى، أقوال. وقال الشاذلي: وتسميتها بالعتمة مكروهة عند جماعة من العلماء منهم مالك من رواية ابن القاسم، وما ورد في الصحيح من تسميتها بذلك مأول بوجوه، منها أن ذلك بيان للجواز، ويجوز وصفها بالآخرة لقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنى العشاء الآخرة
(3)
)، وألفاظ الصحابة بهذا مشهورة. ووقع لمالك وصفها بذلك في المدونة وغيرها، وروى مسلم: (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها في كتاب الله العشاء وهم يعتمون بالإبل؛ وفي رواية: بحلاب الإبل
(4)
)؛ أي يؤخرونه إلى شدة الظلام. وسميت صلاة العشاء بالعشاء لوقوعها في وقت العشاء بكسر العين ممدودا: أول الظلام من المغرب إلى العتمة، وبالفتح: طعام ذلك الوقت، أو لاشتقاقها من العشا؛ وهو ضعف البصر لوجود ذلك حينئذ. قاله الشيخ إبراهيم. وعلم
(1)
الترمذي، في سننه، كتاب الصلاة، رقم الحديث:149.
(2)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:721.
(3)
مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، رقم الحديث:644.
(4)
لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل. وفي رواية: لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم فإنها في كتاب الله العشاء وإنها تعتم بحلاب الإبل. مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، رقم الحديث:644.
مما تقدم أن ما نقل عن الأصمعي أنَّه قال: من المحال قول العامة العشاء الآخرة؛ لأنّه ليس لنا إلا عشاء واحدة فلا توصف بالآخرة. انتهى. غلط. للثلث الأوّل يعني أن الوقت المختار للعشاء ممتد من غروب حمرة الشفق إلى أن يذهب ثلث الليل الأوّل، فما بعد مغيب الشفق وقت مختار للعشاء إلى أن ينقضي جميع الثلث الأوّل، ويحسب الثلث من غروب الشمس. وفي الطراز: لا تختلف الأمة أن وقتها الاختياري ممتد. واختلف في منتهاه، فمشهور المذهب أنَّه إلى ثلث الليل كما جاء في حديث عمر
(1)
)، وهذا قول مالك وابن القاسم وأشهب. وقال ابن حبيب وابن المواز: إلى نصف الليل. وقد وردت الأحاديث
(2)
بما يدلّ لكل من القولين. قاله الإمام الحطاب. وقيل: إن وقتها المختار يمتد إلى طلوع الفجر. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: "من غروب حمرة الشفق"، قال الشيخ إبراهيم: هو من إضافة الصفة للموصوف؛ أي الشفق الأحمر. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر أن إضافته بيانية؛ أي الحمرة التي هي الشفق كماء المطر. وسمع ابن القاسم كراهة النوم قبلها، قيل: فبعد الصبح، قال: ما أعلمه حراما، وسمع ابن القاسم: أكره تسميتها بالعتمة. وأستحب تعليم الأهل والولد تسميتها العشاء وأرجو سعة تكليم من لا يفهمها العشاء بالعتمة قاله الحطاب: وعلى القول المتقدم فقوبلت نعمة الذوق بالعشاء؛ لأنه يعرف بها الحلو، والحامض، والحرارة، والبرودة. والله سبحانه أعلم.
ولما فرغ من مختار العشاء، شرع يبين مختار الصبح فقال: وللصبح من الفجر الصادق يعني أن الوقت المختار للصبح مبدؤه من طلوع الفجر الصادق؛ وهو المستطير بالراء أي المنتشر عرضا فيعم الأفق، ومنه قوله تعالى:{كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7]، ومفهوم قوله:"الصادق" أن الفجر الكاذب لا عبرة به وهو كذلك وهو مستمر في جميع الأزمنة، خلافا لمن قال: إنه خاص ببعض الشتاء؛ وهو القرافي قائلا: إنه المجرة. انظر الحطاب. والفجر الكاذب هو المستطيل باللام كهيئة الطيلسان، ويشبه ذنب السرحان والأسد لظلمة لونه وبياض باطن ذنبه، وتُسَمِّيه العرب محلفا كأنَّ حالفا يحلف لقد طلع الفجر، وآخر يحلف أنَّه لم يطلع. والصبح من صلاة النهار، ولا حجة للأعمش
(1)
الموطأ، كتاب وقوت الصلاة، رقم الحديث:6. (. . . والعشاء إذا غاب الشفق إلى ثلث الليل. . . .)).
(2)
مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، رقم الحديث:612. ولفظه: (. . . . ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط. . .)).
القائل إنها من صلاة الليل، فيباح للصائم الطعام بعدها لطلوع الشمس في خبر: صلاة النهار عجماء لأنه لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول الفقهاء على أن المقصود معظم النهار. ألا ترى أن صلاة الجمعة والعيدين غير عجماء وتسمى صلاةَ الفجر وصلاة الصبح؟ والصبح أول النهار وصلاة الغداة؟ والغداة أول النهار. وذكر الدميري عن الشافعي أنَّه قال: لا أحب أن تسمى الغداة [وقاله
(1)
] المحققون وقال الطبري والشيخ أبو إسحاق: ويكره أن تسمى الغداة. قال النوويّ. وما قاله غريب، فالصواب أنَّه لا يكره وتسمى التنوير وقرآن الفجر، وقد يسقط لفظ الصلاة فتسمى الصبح والفجر والغداة وصلاة التنوير وقرآن الفجر، وما تقدم عن الأعمش من أنها من صلاة الليل. وأن ما قبل طلوع الشمس [يحل
(2)
] فيه الطعام والشراب، نقله ابن الصباغ في شامله، وهو بعيد من قول الله تعالى:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. وقد ظهر تحريم الأكل بطلوع الفجر عند العام والخاص في كل عصر ومصر. نقله الحطاب. وفيه إبطال القول بأنها ليست من صلاة الليل ولا من صلاة النهار؛ لأنَّ الله تعالى ذكر الليل والنهار ولم يذكر وقتا ثالثا. وقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114]، ولا خلاف أن المراد بأحد الطرفين الصبح، فثبت أنها من صلاة النهار، ويدل عليه قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} الآية. قال ابن عباس: الخيط الأبيض هو الصبح المتفلق، والخيط الأسود هو سواد الليل، فدلّ على أنَّه لا واسطة بينهما. انتهى. وقال الإمام الحطاب: ولا شك أن ذلك الوقت يعني الفجر الكاذب من الليل، فلا يحرم فيه الأكل، ومن صلى الصبح فيه لم تجزه بلا خلاف. انتهى.
للإسفار ويطلق لغة على البيان والكشف، ومنه الحديث: (أسفروا بالفجر فإنَّه أعظم للأجر
(3)
)؛ أي صلوه عند استبانته وظهوره، وشرعا على قوة الحمرة والضياء قبل طلوع الشمس الذي ليس بعده إلا ظهور قرص الشمس، وعلى ما تتبين به الأشياء وتتراءى به الوجوه. قاله الشبراخيتي.
(1)
في الأصل: وقال، والمثبت من الحطاب ج 2 ص 33 دار الرضوان.
(2)
ساقطة من الأصل والمثبت من الحطاب ج 2 ص 33 ط دار الرضوان.
(3)
الترمذي في سننه، أبواب الصلاة، رقم الحديث:154.
والأول لابن أبي زيد، والثاني لابن العربي، ونقله عبد الحق عن بعض المتأخرين. قاله الحطاب. الأعلى وهو الذي يميز الشخص فيه جليسه تمييزا واضحًا، والظاهر أنَّه يراعى في ذلك البصر المتوسط في محلّ لا سقف فيه ولا غطاء. قاله غير واحد. وإيضاح معنى قول المص:"للإسفار الأعلى" أن الوقت المختار للصبح مبدؤه من الفجر الصادق، وينتهي للإسفار الأعلى، وما مشى عليه المص رواية ابن القاسم وابن عبد الحكم، ومذهب المدونة. وقال ابن عبد السلام: إنه المشهور، وقيل: لطلوع الشمس؛ وهو رواية ابن وهب في المدونة والأكثر، وعزاه عياض لكافة العلماء وأئمة الفتوى. قال: وهو مشهور قول مالك. ابن العربي: ولا يصح عن مالك غيره، ولا ضروري لها على هذا القول. وعلى القول المتقدم قوبلت نعمة اللمس بالصبح؛ لأنه يدرك به الخشن والناعم. والله سبحانه أعلم.
وهي الوسطى يعني أن صلاة الصبح هي الصلاة الوسطى المذكورة في قول الله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ، عند مالك وعلماء المدينة وابن عباس وابن عمر وعلي؛ وهو قول الشافعي الذي نص عليه. ولكن قال أصحابه إنه قد قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقد صح في الحديث أنها العصر فصار مذهبه. قاله الشبراخيتي. وفي الحديث: (شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا
(1)
). قاله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، رواه البخاري. وفي مسلم: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر
(2)
)، والقول بأنها العصر مروي عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة من الصحابة رضي الله عنهم، وعن النخعي، والضحاك، وقتادة من الفقهاء والوسطى: تأنيث الأوسط بمعنى الأفضل، أو بمعنى المتوسط بين شيئين. وما من صلاة من الخمس إلا قيل إنها الوسطى، وقيل هي صلاة الصبح والعصر، وقيل: الجمعة في يومها والظهر في سائر الأيام. وقيل: الوتر، وقيل: الخمس كلها، وقيل أخفيت ليجتهد في الجميع، كما قيل: في ساعة الجمعة وليلة القدر، وقيل: العشاء والصبح، وقيل: الجمعة، وقيل: صلاة الجماعة في جميع الصلوات، وقيل: صلاة الخوف،
(1)
ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس. البخاري، كتاب الجهاد والسير، رقم الحديث:2931.
(2)
مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، رقم الحديث:628.
وقيل: صلاة عيد الأضحى، وقيل: صلاة عيد الفطر، وقيل: صلاة الضحى، وقيل: صلاة الصبح والظهر، وقيل: صلاة العصر والعشاء، وقيل: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذه عشرون قولا، والمعتبر منها القولان الأولان والصحيح منهما الثاني؛ أي كونها العصر. قال الزرقاني عن ابن عبد البر: الخلاف القوي إنما هو في الصبح والعصر وغير ذلك ضعيف، والقول بأنها العصر هو الذي ذهب إليه أكثر العلماء والصحابة وجمهور التابعين وأكثر أهل الأثر؛ وهو الصحيح عند الحنفية والحنابلة. وأجاب القائلون بأن الصبح هي الوسطى عن الحديث المتقدم بأنّه يحتمل أن يريد به الوسطى من الصلوات التي شغل عنها وهي الظهر والعصر والمغرب. واعلم أن تأخيره ذلك للصلاة عن وقتها منسوخ. انتهى. وفي الحديث أنَّه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار على باب أحدكم كثير الماء يغتسل فيه كل يوم خمس مرات فماذا يبقى عليه من الدرن
(1)
). قال السمرقندي يعني تطهره من الذنوب، ولا يبقى عليه شيء منها فيما دون الكبائر، هذا إذا صلاها على التعظيم ويتم ركوعها وسجودها، وإن كان لا يتم ركوعها ولا سجودها، فهي مردودة عليه. انتهى.
وروى بسنده عن رفاعة بن رافع قال: (بينما نحن جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل رجل فاستقبل القبلة فصلى فلما رجع قال له ارجع فصل فإنك لم تصل
(2)
) أمره بذلك مرتين أو ثلاثا، فقال الرجل: ما ألَوْتُ جهدي فما أدري ما عبت علي من صلاتي. فقال له صلى الله عليه وسلم: [إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ويغسل رجليه إلى الكعبين، ثمَّ يكبر الله تعالى ويحمده، ثمَّ يقرأ من القرآن ما أذن له فيه، ثمَّ يكبر ويركع فيضع كفيه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصله ويسترخى، ثمَّ يرفع رأسه ويقول سمع الله لمن حمده، ويستوي قائما حتى يقيم صلبه فيأخذ كل
(1)
مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جارّ غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، قال قال الحسن وما يبقي ذلك من الدرن. مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، رقم الحديث:668. والبخاري، رقم الحديث: 528. وفي السمرقندي: فهل يبقى عليه من الدرن شيء. ص 207.
(2)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:793. ومسلم، رقم الحديث: 397. وفي السمرقندي: فلما قضى صلاته جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى القوم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجع. . الخ. ص 207.
عضو مأخذه، ثمَّ يكبر فيسجد فيمكن وجهه من الأرض حتى تطمئن مفاصله ويسترخي، ثمَّ يكبر ويستوي قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه
(1)
]. وإن مات وسط الوقت بلا أداء لم يعص يعني أن الشخص المكلف إن مات وسط الوقت المختار؛ أي أثناءه؛ والحال أنَّه لم يؤد الصلاة أي لم يكن صلى، فإنَّه لا إثم عليه بذلك التأخير؛ لأنَّ المبادرة بها غير واجبة، وإن صمم عصى من حيث التصميم لا من حيث الترك. ولو قال المص: أثناء الوقت لكان أحسن؛ لأنه لا يشعر بخصوص جزء من الوقت، بخلاف الوسط فإنَّه يشعر به. وشمل كلام المص المغرب، إلا أن يظن الموت يعني أن محلّ كونه لا يأثم بالتأخير إنما هو إذا لم يظن الموت، وأما إن ظن الموت فإنَّه يأثم، وإن لم يغلب الظن لوجوب المبادرة حينئذ، وإن لم يمت وأوقع الصلاة في الوقت المختار ويكون مؤديا عند الجمهور عملا بما في نفس الأمر لا قاضيا عملا بظنه؛ إذ لا عبرة بالظن المتبين خطؤه، فإن أخر مع ظن السلامة فمات فجأة فالتحقيق أنَّه لا يعصي. قال الشيخ عبد الباقي: وظن باقي الموانع كالحيض ليس كظن الموت كما هو ظاهر كلام أهل مذهبنا. والفرق أن غيره من الموانع قد يزول في الوقت بحيث يدرك وقت الصلاة فيجوز التأخير مع ظنه، ولا يتأتى ذلك في الموت. وقالت الشافعية: ظن غيره كظنه. انتهى. قال الشيخ محمَّد بن الحسن: صحيح على ما تقدم عن اللخمي عند قوله في الحيض: وتغتسل كلما انقطع عنها من كراهة التأخير لظن الحيض. وأما على ما ذكره شراح الرسالة من حرمة التأخير فلا فرق بين الموت وغيره من الموانع، ويأثم بتأخير الحج من ظن الموت لاتفاق القولين على الفورية حينئذ، وأما على التراخي ولم يخف الفوات وأخر فمات فإنَّه لا يأثم، وبهذا تعلم ما في كلام الشيخ عبد الباقي. أشار له الشيخ محمَّد بن الحسن. ولما كان الاختياري ينقسم إلى فضيلة وتوسعة كما قال ابن عرفة: الاختياري فضيلة إن ترجح فعلها فيه عن اختياري آخر وإلا فتوسعة، أشار المص إلى ذلك بقوله. والأفضل لفذ تقديمها يعني أن الأفضل للفذ ومن في حكمه كجماعة لا تنتظر غيرها تقديم الصلاة أي المبادرة
(1)
كذا بالأصل والذي في تنبيه الغافلين للسمرقندي ص 208: إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ويغسل رجليه إلى الكعبين، ثمَّ يكبر الله تعالى ويحمده، ثمَّ يقرأ من القرآن ما أذن له فيه، ثمَّ يكبر ويركع فيضع كفيه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصله ويسترخي، ثمَّ يرفع رأسه ويقول سمع الله لمن حمده، فيستوي قائما حتى يقيم صلبه فيأخذ كل عضو مأخذه، ثمَّ يكبر فيسجد فيمكن وجهه من الأرض حتى تطمئن مفاصله ويسترخي، ثمَّ يكبر فيستوي قاعدا على مقعده ويقيم صلبه.
بها في أول وقتها المختار بعد تحقق دخوله وتمكنه لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ، ومن المحافظة عليها الإتيان بها أول الوقت، ولحديث الترمذي: (أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها
(1)
)، ولحديثه مع الدارقطني: (الصلاة أول الوقت رضوان الله وآخر الوقت عفو الله
(2)
) زاد إبراهيم بن عبد الملك: (وفي وسطه رحمة الله
(3)
)، قال النوويّ: حديثان ضعيفان، وعن أبي بكر الصديق لما سمعه: رضوان الله أحب إلينا من عفوه. انتهى. ومعنى العفو هنا التوسعة لا عن ذنب للإجماع على أن المؤخر إليه غير آثم ولا مقصر في واجب الدميري: قال الشافعي: الرضوان للمحسنين، والعفو يشبه أن يكون للمقصرين. انتهى. وهذا ما لم يعرض مرجح للتأخير، كرجاء الماء والقصة كما مر، أو موجب كذي نجاسة يرجو ما يزيلها به عن بدنه أو توبه، ومن به مانع القيام يرجو زواله. قاله الشبراخيتي.
التوضيح: واعلم أن في مذهبنا قولًا بأن أول الوقت الاختياري وآخره سواء في الأفضلية مطلقا تعلقا بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين هذين وقت
(4)
). مطلقا يعني أن الأفضل للفذ ومن في حكمه تقديم الصلاة مطلقا؛ أي سواء كانت صبحا أو ظهرا أو غيرهما في صيف أو شتاء تقديما نسبيا، فلا ينافي ندب تقديم النفل على العصر كما بحثه المص، وعلى الظهر كما استظهره الحطاب. وأما غير هذين فالمبادرة به أولى لكراهة النفل قبل المغرب؛ ولأن الصبح لا يصلى قبلها إلا الفجر والورد بشروطه والشفع والوتر؛ ولأن العشاء لم يرد شيء بخصوصه في التنفل قبلها. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ الأمير: والأفضل لجماعة لم تنتظر غيرها وفذ تقديمها مطلقا، وهل يفعلان الرواتب قبلها، وهو الظاهر وفاقا لصاحب المدخل، وأبي الحسن شارح الرسالة، والحطاب؛ لأنها مقدمات تابعة في المعنى لا تخرج عن الأولية لظواهر الأحاديث، قولان الثاني لابن العربي، وتحمل الأحاديث على منتظر جماعة، أو إذا أخر الإمام لمذهبه. وقيل: إن البدار
(1)
سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال "الصلاة لأول وقتها". الترمذي، أبواب الصلاة، رقم الحديث:170.
(2)
الوقت الأوّل من الصلاة رضوان الله والوقت الآخر عفو الله. الترمذي، أبواب الصلاة، رقم الحديث:171.
- أول الوقت رضوان الله وآخر الوقت عفو الله عز وجل. الدارقطني، ج 1 ص 249.
(3)
الدارقطني، ج 1 ص 250. ولفظه: أول الوقت رضوان الله ووسط الوقت رحمة الله وآخر الوقت عفو الله.
(4)
الموطأ، كتاب وقوت الصلوات، رقم الحديث:3.
إلى الصلاة أول الوقت من فعل الخوارج. قاله الشيخ مياره. وقوله: "والأفضل لفذ تقديمها"؛ الخ أي فقول الرسالة: والأفضل الإبراد وإن كان وحده، ضعيف. وقيل: إن التأخير للإبراد يستوي فيه الفذ والجماعة، فالتأخير له أفضل في الظهر. وقال أشهب:"يوخر العصر إلى ذراع بعده". وقال ابن حبيب: تؤخر الصبح في زمن الصيف لقصر الليل إلى نصف الوقت. قاله الشيخ ميارة. والصلاة إحدى المسائل السبع التي تطلب المبادرة بها، ونظمها بعضهم بقوله:
بادر بتوبة قرى والدفن
…
بكر صلاة وجهاد دين
قاله ميارة. ورأيت لبعضهم ما نصّه:
صلاة وتوبة وتجهيز ميت
…
وإنكاح بكر عن بلوغ تعجلا
وزيد زكاة عند حول وأوبة
…
ودينا إذا حل اقضه لا تمطلا
وعلى جماعة آخرة يعني أن الفذ إذا كان يرجو جماعة آخر المختار إن أخر، فإن الأفضل له أن يقدم الصلاة ولا ينتظر آخر الوقت المختار ليوقعها في الجماعة. فقوله:"على جماعة" معطوف على مقدر أشعر به الكلام السابق، تقديره: الأفضل لفذ تقديمها على تأخيرها منفردا، وعلى جماعة يرجوها آخره وهذا هو المنصوص. فقد روى زياد عن مالك أن الصلاة في أول وقت الصبح منفردا أفضل من الصلاة في آخره جماعة. انظر الحطاب. واختار سند أن فعلها في الجماعة في آخر الوقت أفضل من فعلها فذا في أول الوقت، وجزم به الباجي في المنتقى، وابن العربي، كذا في الحطاب.
وقد أجاز التقديم ليلة المطر فأولى التأخير، وأجيب عن النقل بأنّه يعيد لسنة الجماعة. فمُحَصَّله أن التقديم مع الجماعة وإن جزم بالنية أولًا أَفْضَلُ من مجرد الجماعة، فسقط تخريج البساطي في مغنيه أن المقدم إذا صلى وحده لا يعيد بالأولى ممن صلى في جماعة ضرورة أن التقديم أفضل من الجماعة فتدبر وقيل يحمل النص على رجاء الجماعة في الصبح بعد الإسفار بناء على
أنها لا ضروري لها، وهو قول قوي، فالأفضل التقديم خروجا من الحرمة على المشهور. قاله الشيخ الأمير.
وقال الشيخ عبد الباقي: ثمَّ كلام المص يقيد بما إذا لم يعرض مرجح التأخير كراجي الماء أو القصة البيضاء، أو موجبه كذي نجاسة يرجو ماء يزيلها به عن بدنه أو ثوبه، ومن به مانع القيام يرجو زواله في الوقت. قاله الشيخ سالم. انتهى. وسقت هذا الكلام بعد كلام الشبراخيتي المماثل له الذي قدمته عند قول المص:"والأفضل لفذ تقديمها مطلقا"؛ لإفادة أنه قيد في كل من المسألتين. والله سبحانه أعلم. وفي الحديث: (فضل الوقت الأوّل على الآخر كفضل الآخرة على الدنيا
(1)
)، ومذهب أبي حنيفة أن الإسفار بالصبح أفضل لحديث رافع بن خديج: (أسفروا بالفجر فإنَّه أعظم للأجر
(2)
)، وفي لفظ: (كلما أسفرتم بالفجر فإنه أعظم للأجر
(3)
)، والجواب أن الإسفار إسفاران، والمراد الأول منهما بحيث يتضح الفجر وضوحا تامًّا، ويبين بيانا جليا لا يتصور فيه، وقوع التباس ولا يشك فيه وليس هذا خاصا بالصبح. قاله الإمام الحطاب. وبه يندفع الاعتراض بأن الشك لا تصح الصلاة معه فلا أجر فيها حتى يقال غيره أعظم أجرا؛ لأنَّ هذا الذي قاله الإمام الحطاب هو الاتضاح للفطن وغيره، وقبله الذي فيه أجر وهو ما يظهر للفطن. والله سبحانه أعلم.
قال جامعه عفا الله عنه: ومقتضى قوله آخره أنه لو كان يرجو الجماعة لا في آخر المختار بل قبله، لم يكن الأفضل له التقديم. والله سبحانه أعلم. وللجماعة تقديم غير الظهر يعني أن الأفضل للجماعة التي تطلب غيرها أن تبادر بغير الظهر من الصلوات في أول الوقت، وهذا هو المعتمد دون قوله: وفيها ندب تأخير العشاء قليلًا، وقوله:"وللجماعة" عطف على لفذ، وقوله:"تقديم" معطوف على تقديمها، وكذا قوله: وتأخيرها لربع القامة يعني أن الأفضل للجماعة التي تطلب غيرها أن تؤخر الظهر إلى أن يمضي ربع القامة بعد ظل الزوال، وأما الجماعة التي لا
(1)
الجامع الصغير، ج 4 ص 435، رقم الحديث:5867.
(2)
سنن الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:154.
(3)
أسفروا بالفجر فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر. التمهيد، ج 10 ص 229.
- مصنف ابن أبي شيبة، رقم الحديث:3269.
تطلب غيرها فقد تقدم أنها كالفذ، فالأفضل لها تقديم الصلاة مطلقا ظهرا أو غيرها، شتاء أو صيفا. وقوله:"وتأخيرها لربع القامة" هذا التأخير لاجتماع الناس، وليس من معنى الإبراد في شيء؛ فهو من مراعاة المصلحة العامة لاشتغال الناس غالبا في صنائعهم وقت الظهر. قاله الباجي. قوله:"وتأخيرها"؛ يعني الظهر كما علمت، وأما الجمعة فلا يستحب تأخيرها لربع القامة، بل السنة فيها أن تصلى إثر الزوال، وكذا قالوا: يعجل عصر يوم الجمعة ويصليها في جماعة.
واعلم أن أجر صلاة الجمعة يكمل بصلاة عصرها جماعة. نقله التفجروتي. ابن العربي في عارضته في باب تعجيل الظهر: لو اتفق أهل حصن على الصلاة في آخر الوقت لم يقاتلوا، ولو اتفقوا على ترك الجماعة قوتلوا. قاله الحطاب.
ويزاد لشدة الحر هذا هو الإبراد المأمور به في حديث الرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم -: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم
(1)
)؛ يعني أنَّه يزاد على تأخير الظهر لربع القامة لأجل شدة الحر؛ لأنه مُذْهِبٌ للخشوع، وفيح جهنم نَفَسَها، واحترز المص بشدة الحر من مطلقة. قاله الشيخ إبراهيم. ولم يبين المص حدّ الزيادة. الباجي: نحو الذراعين. ابن حبيب: فوقهما بيسير. ابن عبد الحكم: أن لا يخرجها عن وقتها. والعلة غير متيقنة في الفذ؛ لأنه قد يصلي في بيته، وحديث الإبراد ناسخ لحديث جابر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة
(2)
)، ولحديث خباب: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكُفِّنا فلم يُشْكِنا
(3)
)، أي لم يُزِلْ شكوانا. وقيل إنهم طلبوا تأخيرا زائدا على قدر الإبراد، وقوله: أبردوا بالصلاة؛ أي أوقعوها في وقت البرد. ابن العربي: ومعنى الإبراد أن تتفيأ الأفياء، وينكسر وهج الحر والفيح لهب النار. قاله الشاذلي. ويستثنى من قوله:"وتأخيرها" قوله في الحج: ثمَّ أذن وجمع بين الظهرين إثر الزوال وروى إسماعيل: صلاة الظهر عند الزوال صلاة الخوارج. قاله ابن عرفة. وقال الشاذلي على الرسالة: إن في الإبراد بالظهر
(1)
البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، رقم الحديث:536.
(2)
البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، رقم الحديث:565.
(3)
مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:619. - ولفظه: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكونا إليه حر الرمضاء فلم يشكنا. والسنن الكبرى للبيهقي، ج 2 ص 107.
ثلاثة أقوال: استحباب التأخير مطلقا للفذ والجماعة، وقصر الاستحباب على المساجد للجماعة خاصة. والثالث التفرقة بين شدة الحر وغيره. فيستحب في شدة الحر للفذ والجماعة. انتهى. وفيها ندب تأخير العشاء قليلا يعني أنه وقع في المدونة: أحب إلي للقبائل تأخيرها قليلًا بعد الشفق، وكذا في الخرشي. والقبائل: الأرباض والحرس بفتح الحاء والراء، ويروى بضم الحاء والراء: المرابطون، وعطف الحرس على الأرباض للتفسير. وقوله:"ندب" اسم مضاف إلى تأخير، وقوله:"وفيها" أتى به استشكالا لما قدمه، وأجيب بأن هذا لمن ذكر وما قدمه لغيرهم، وبأن تأخيرها قليلًا بمنزلة تقديمها. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الرماصي: لا يعترض إطلاق المص بتقييدها؛ لأنه تبع في الإطلاق أهل المذهب كابن شاس وابن الحاجب وابن عرفة وغيرهم، كأنهم فهموا أن تقييدها غير معتبر. انتهى. وقوله:"قليلًا"، الظاهر أنَّه يحد بقدر ما تجتمع الناس فيه غالبا بحسب العادة. قاله الشيخ الأمير. وقال الشيخ ميارة: وأما العشاء ففيها أربعة أقوال: رواية ابن القاسم عن مالك: تقديمها عند مغيب الشفق أو بعده بقليل أفضل، ورواية العراقيين عن الإمام: تأخيرها أفضل، ثالثها تأخيرها إن تأخرت الجماعة واختاره اللخمي، ورابعها لابن حبيب تؤخر في الشتاء وفي رمضان. انتهى.
وإن شك في دخول الوقت لم تجز؛ يعني أن المصلي إذا شك في دخول الوقت فإن ذلك لا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يشك قبل الدخول فيها، أو يشك في أثنائها، أو يشك بعدها. فأما إذا شك في دخول الوقت قبل الدخول فيها وصلاها شاكا، فإنها لا تجزئه مطلقا أي سواء وقعت فيه أم لا. وكذا إذا دخلها جازما بدخول الوقت وطرأ له الشك في أثنائها، فإنها لا تجزئه مطلقا سواء وقعت فيه أم لا. وإلى ذلك أشار بقوله: ولو وقعت فيه وفي الجواهر قول بالإجزاء إذا وقعت في الوقت. وفي النوادر عن أشهب: أرجو لمن صلى العصر قبل القامة والعشاء قبل مغيب الشفق أن يكون قد صلى. قاله الش. وأما إن شك بعد الفراغ من الصلاة وقد دخلها جازما بدخول الوقت فإنها لا تجزئ ما لم تقع فيه، فإن وقعت فيه أجزأت. فتلك ثلاثة أوجه. وقد علمت أحكامها. قال الشيخ عبد الباقي: ومراد الفقهاء بالشك حيث أطلقوه مطلق التردد. قاله ابن فرحون. فيشمل الشك والوهم والظن وإن غلب. وقول الإرشاد: يعمل على غلبته، وتصح إن تبيّن وقوعها فيه أو لم
يتبين، فإن تبيّن وقوعها قبله أعادها فيه. اعترضه شارحه زروق؛ بأن ما ذكره من العمل على غلبة الظن لم يقف عليه. انتهى. وقال الشيخ محمَّد بن الحسن: ما في الإرشاد من العمل على غلبة الظن هو الصواب، ولا دليل في كلام ابن فرحون؛ لأنَّ أهل المذهب لم يطلقوه، بدليل كلام الإرشاد. ومثله قول ابن شاس: من اشتبه عليه الوقت فليجتهد ويعمل بما يغلب على ظنه وإن خفي عليه ضوء الشمس فليستدل بالأوراد وأعمال أرباب الصنائع وشبه ذلك ويحتاط. انتهى. ومثله في الشامل، ولا دليل له أيضًا في كلام الشيخ زروق؛ لأنه بعد أن قال: لم أقف عليه لغيره؛ زاد ما نصّه: لكن مسائلهم تدل على اعتبار الظن الذي في معنى القطع، وفي الجواهر ما يدلّ عليه. فتبين بهذا أن الحق هو اعتبار الظن والعمل عليه، وقد بين ذلك الرماصي. انتهى. وقال الشيخ الأمير: الجزم بالوقت عن دليل كفائي، ومطلقة يعني الجزم ولو تقليدا شرط في الصحة، وغلبة الظن كافية كما قال صاحب الإرشاد وهو المعتمد. انتهى. ونحوه في الحطاب، وفيه: ثمَّ مع التحقيق أو ما في معناه فإن كشف الغيب عن خلافه بطلت. انتهى. وقوله: "وإن شك في دخول الوقت" الخ، وأما إذا شك في خروج الوقت فالأصل البقاء، وينوي الأداء. وذكر في الحاشية أنَّه لو شك في خروجه طلب منه المبادرة إلى الفعل ولم ينو أداء ولا قضاء؛ لأنه غير مطلوب عندنا، فلو نوى الأداء لظنه بقاء الوقت ثمَّ تبيّن خروجه، صحت صلاته اتفاقا، كما صرح به ابن عطاء الله. والظاهر أن عكسه مثله. قاله الشيخ إبراهيم. والفرق بين مسألة المص هنا، وبين مفهوم قوله الآتي في الفجر: ولا تجزئ إن تبيّن تقدم إحرامها للفجر ولو بتحر؛ إذ مفهوم الشرط صحتها حيث لم يتبين تقدم إحرامها له، أن الفريضة يحتاط لها ما لا يحتاط لغيرها. قاله الشيخ عبد الباقي.
والضروري بعد المختار يعني أن الضروري في جميع الصلوات الخمس ابتداؤه بعد المختار أي عقبه، وتلوه كما لعبد الباقي، فمتى انتهى المختار الذي تقدم بيانه، فمن هناك يبتدأ الضروري، فابتداء ضروري الظهر بعد انتهاء القامة الأولى على ما مر من انتهاء مختاره، وابتداء وقت العصر الضروري من الاصفرار، وابتداء ضروري الغرب بعد ما تفعل فيه هي وشروطها وأذانها وإقامتها، وابتداء ضروري العشاء من انتهاء الثلث الأوّل من الليل، وابتداء ضروري الصبح من الإسفار
الأعلى، فانظر هذه العبارة الوجيزة المشتملة على هذه المعاني الغزيرة. وقد تقدم في المختار أن المكلف مخير بين أجزائه في إيقاع الصلاة في أيها شاء، وقد تقدم في التيمم التفصيل بين الراجي للماء وغيره، ومر عند قول المص: وفيها تأخيره المغرب للشفق. عن الشيخ عبد الباقي والأمير أن الضروري يتيمم فيه من غير تفصيل بين آيس وغيره، قال الشيخ عبد الباقي: وهو ظاهر، ونص الأمير: ويتيمم أول الضروري مطلقا. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: وهذا صريح أو كالصريح في أن الضروري تطلب المبادرة بالصلاة فيه. والله سبحانه أعلم ولما تكلم على ابتداء الضروري في جميع الصلوات، أشار لبيان انتهائه على التفصيل بقوله: للطلوع في الصبح يعني أن الصبح يبتدأ ضروريها من الإسفار الأعلى إلى طلوع أول طرف من الشمس، فينتهي ضروريها بمجرد طلوع أقل جزء منها. وبدأ في الاختيار بالظهر لما تقدم عند قوله:"الوقت المختار للظهر" فراجعه إن شئت، وبدأ في الضروري بالصبح لعدم اشتراكها مع غيرها في ضروريها.
وللغروب في الظهرين يعني أن ابتداء ضروري الظهر بعد انتهاء القامة الأولى، وهل من أول القامة الثانية أو من بعد مضي ما تصلى فيه، على الخلاف المتقدم، فيشترك ضروريها مع مختار العصر إلى الاصفرار، ومن الاصفرار يشتركان في الضروري، ويمتد ضروريهما إلى غروب جميع قرص الشمس، فإذا غرب جميع قرصها في المحل الذي تغيب فيه عادة فذلك هو انتهاء الوقت الضروري في الظهرين؛ أي الظهر والعصر، وأطلقه عليهما تغليبا، ولم يقع التغليب لهما بالعصرين، وإنما وقع للصبح والعصر كما في حديث: (حافظوا على العصرين صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها
(1)
)، يريد الصبح والعصر. ومقتضى المص عدم اختصاص العصر بأربع قبل الغروب؛ وهي رواية عيسى وأصبغ عن ابن القاسم، ورواية يحيى عنه تختص: وعلى الاختصاص من صلت العصر ناسية للظهر، ثمَّ حاضت لأربع قبل الغروب، فإنها تقضي الظهر، وإن قدمت لأربع قصرت الظهر، وإن سافرت لركعتين أتمتها، وإن صلتها بثوب نجس والعصر
(1)
ابن حبَّان في صحيحه، رقم الحديث:1739.
بطاهر لم تعدها، وعلى عدم الاختصاص العكس في الجميع، وهذا إن صلت العصر، وإلا اختصت به اتفاقا. قاله ابن عرفة. نقله الشيخ محمد بن الحسن. ويجري ذلك في قوله:
وللفجر في العشاءين يعني أن الوقت الضروري في العشاءين أي المغرب والعشاء يمتد إلى طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر انتهى وقتهما الضروري. وقد تقدم بيان ابتداء ضروريهما وهو معلوم من قوله:"والضروري بعد المختار"، فابتداء ضروري المغرب بعد مقدار من الزمن تفعل فيه هي وشروطها، وقد مر أنه يزاد على ذلك الأذان والإقامة فيمتد من هناك لغيبوبة الشفق، فإذا غاب الشفق اشترك ضروريها ومختار العشاء للثلث الأوّل، فإذا انتهى الثلث الأوّل تم مختار العشاء واشترك ضروريهما إلى أن يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر انتهى وقتهما الضروري.
وعلم مما قررت أن المراد بقوله: بعدَ: عقبَ وتلوَ أي يوجد أول الضروري عند انتهاء المختار من غير اشتراك بينهما. والله سبحانه أعلم. وقوله: والضروري بعد المختار"؛ أي المختار في حق كل أحد غير معذور ومسافر يجمع جمع تقديم بعد دخول مختار الأولى لا قبله؛ إذ لم يقل به أحد. قال الشيخ عبد الباقي: وسمى الضروري ضروريا لاختصاص جواز التأخير إليه بأصحاب الضرورة. قال الشيخ محمَّد بن الحسن: في تقييده بالجواز نظر؛ لأنَّ أصحاب الضرورة كالمجنون ونحوه لا يتصفون بالجواز وقد تقدم الخلاف في اختصاص الأخيرة من المشتركتين وهو الأشهر قال الشيخ الأمير: واختصت أخيرة إذا ضاق على أشهر الروايتين، وكذا يختص مختار الأولى عن الضروري المقدم لعذر بقدرها، فمن ثمَّ يقولون يؤخر ليلة المطر حتى يدخل وقت الاشتراك.
وتدرك فيه الصبح بركعة يعني أن الصبح والعصر والعشاء تجب كل واحدة منهن على ذي مانع برفع ذلك المانع بقدر ركعة قبل الطلوع أو الغروب أو الفجر فالمص قصد بيان ما يكون فيه الوجوب عند زوال العذر. وأما الأداء فهو قوله والكل أداء، فقوله:"وتدرك فيه الصبح بركعة"؛ أي يعتبر قدر تلك الركعة من الزمن بحيث أن من صادفه ذلك المقدار من الزمن مستجمعا للشروط خاليا من الموانع خوطب بها، وتقرر الطلب بها في ذمته. والله سبحانه أعلم. وبما قررت علم أنَّه لا مفهوم لقوله:"الصبح" لكن نبه على خلاف أبي حنيفة القائل: يتم المصلي العصر إن أدرك منها ركعة دون الصبح. وقوله: "بركعة"؛ أي بسجدتيها مع قراءة فاتحة على الراجح قراءة
معتدلة، ومع طمأنينة على القول بوجوبها بركوع ورفع منه وسجود وجلوس بين سجدتين، وعلى قول من لا يوجب أم القرآن في كل ركعة، تكفيه تكبيرة الإحرام والقيام لها. كما في الحطاب. والظاهر أنَّه يجب ترك السورة على من تحقق أو غلب على ظنه أن قراءة السورة ولو في ركعة يؤدي إلى فعل بعض الصلاة خارج الوقت كما يظهر من كلام الحطاب. ويجب ترك السورة إن تحقق أو غلب على ظنه أن قراءتها تؤدي إلى عدم إدراك الركعة التي تدرك بها الصلاة، والظاهر أنَّه يقرأ السورة في الثانية قرأها في الأولى أم لا لا أقل يعني أنَّه إذا ارتفع العذر والحال أنَّه لم يبق من الضروري إلا أقل من ركعة بسجدتيها، فإنَّه لا يجب قضاء تلك الصلاة عند ابن القاسم، خلافا لقول أشهب: تدرك فيه بالركوع فقط، والخلاف مبني على فهم قوله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة
(1)
) هل المراد بالركعة الركعة بتمامها، أو المراد بالركعة الركوع؟ وقول ابن القاسم أولى لحمل اللفظ على الحقيقة، وصرح ابن رشد بمشهوريته. نقله الإمام الحطاب.
والكل أداء يعني أن الركعة التي فعلت في الضروري والتي فعلت خارجه أداء حكمًا، وإلا فالواقعة بعد خروج الوقت قضاء فعلا. ويترتب على أن الكل أداء صحة اقتداء شخص في ثانية بعد الطلوع بمن أدرك الأولى قبله، ولكن ينوي القضاء. ذكره ابن قداح. واستشكل ذلك بأنّه كيف يصح اقتداؤه به مع أنَّه مؤد حكمًا، والمأموم قاض حقيقة، وبأن نيته مخالفة لنية إمامه. وأجيب عن الأوّل بأنّه لما كان قاضيا حقيقة في الثانية صح اقتداؤه به فيها، وعن الثاني بأن نية القضاء تنوب عن نية الأداء كالعكس على ما قال ابن قداح، فظاهره فعل ذلك عمدا متلاعبا أو سهوا، وبأنه قد عهدت مخالفة المأموم لنية إمامه مع صحة صلاته، وذلك فيمن أدرك الإمام في تشهد الجمعة، فإنَّه يدخل معه ولكن ينوي الظهر، ثمَّ يأتي به فنيته مخالفة لنية إمامه، وكذلك فعله. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال حلولو: ينبني على أن الكل أداء عدم صحة الاقتداء، وعلى أن الكل قضاء صحته، ويتردد على القول بالتبعيض. انتهى. والأقوال ثلاثة: الأوّل أن الكل أداء،
(1)
الموطأ، كتاب وقوت الصلاة، رقم الحديث:15.
والثاني أن الكل قضاء، والثالث أن ما في الوقت أداء وما بعده قضاء، ثمَّ إنه على كلام ابن قداح يجوز له الدخول. ولو شك هل هو في الركعة الأولى أو الثانية، وعلى كلام حلولو: لا يجوز له الدخول في حالة الشك. وكذا إذا تحقق أنها الثانية. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال: وانظر لو تبيّن بطلان الركعة التي وقعت في الوقت ورجعت الثانية أولى، هل يقال: ما فعل خارج الوقت قضاء قطعا فيصح الاقتداء به فيها أم لا؟ انتهى. قال الشيخ محمَّد بن الحسن: هذا التنظير إنما يصح على كلام حلولو لا على ما لابن قداح، فلا وجه له؛ لأنه يجوز الاقتداء على القول بأن الكل أداء فأحرى أن يجوزه في هذه الصورة. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: ويترتب أيضا على أن الكل أدأء أن المرأة إذا حاضت في الركعة الثانية مثلا سقطت عنها تلك الصلاة؛ لأنها حاضت في وقتها، وكذا من أغمي عليه فيها. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: هذا قول أصبغ، وشهره اللخمي كما في المواق. وقال ابن سحنون عن أبيه إنها تقضيها، واستظهره ابن قداح والحطاب. وقال الباجي واللخمي إنه أقيس. وإذا أدرك المسافر ركعة من صلاة المقيم لزمه الإتمام، وإذا أدرك دون ذلك لم يلزمه، وكان عليه أن يقصر الصلاة. قاله في سماع أصبغ. نقله الحطاب.
والظهران يعني أن الظهرين يدركان بفضل ركعة فأكثر عن الأولى منهما؛ أي أن المعذور من حائض ومغمى عليه ونحوهما؛ إذا زال عذره قبل غروب الشمس، وقد بقي له من النهار ما يدرك فيه الصلاة الأولى من الظهرين وركعة بسجدتيها من الثانية، فإنَّه يجب عليه أن يصليهما معا. والعشاءان يعني أن المعذور إذا زال عذره قبل طلوع الفجر، والحال أنه قد بقي من الليل ما يصلي فيه الصلاة الأولى وهي المغرب، ويدرك بعدها ركعة من العشاء، فإنَّه يجب عليه أن يصلي المغرب والعشاء معًا، وهذا الذي عليه المص من أن الظهرين والعشاءين يدركان بفضل ركعة عن الأولى، هو قول مالك وابن القاسم وأصبغ؛ لأنه لما وجب تقديمها على الأخيرة فعلا، وجب التقدير بها. وبما قررت علم أن قوله: بفضل متعلق بتدرك؛ وهو مضاف إلى قوله: ركعة ويتعلق بفضل قوله: عن الأولى أي وتدرك الظهران والعشاءان بفضل ركعة عن الأولى. وقوله: "بفضل ركعة عن الأولى" راجع للمسألتين. كما علم من التقرير. والله سبحانه أعلم.
لا الأخيرة يعني أن الظهرين لا يدركان بفضل ركعة عن الأخيرة؛ أي لا يدركهما المعذور الذي زال عذره بذلك، وإنما يدركهما بفضل ركعة عن الأولى -كما مر-، وكذا العشاءان لا يدركان بفضل ركعة عن الأخيرة، وإنما يدركان بفضل ركعة عن الأولى. -كما مر- أيضًا. وقال ابن عبد الحكم، وابن الماجشون، وابن مسلمة، وسحنون: تدرك الصلاتان في المسألتين بفضل ركعة عن الأخيرة فقط؛ لأنه إذا ضاق الوقت فالذي يجب عليه الأخيرة اتفاقا، فيجب التقدير بها. قالوا: ولم تظهر فائدة الخلاف في النهاريتين لاتحاد ركعاتهما حضرا وسفرا. وأجيب بأنّه تظهر فيما إذا كانت الأولى جمعة. والله سبحانه أعلم. فلو تطهرت وهي مقيمة لأربع قبل الفجر، فعلى الأوّل تصليهما معا، وعلى الثاني تصلي العشاء فقط، ولثلاث يتفق القولان على سقوط المغرب، ولخمس فأكثر يتفقان على وجوبهما.
كحاضر سافر وقادم تشبيه لبيان ما يدرك به القصر والإتمام. كما شرحه به المواق، واختاره ابن عاشر والشيخ ميارة ونصه: ومعنى كلام المص أنَّه كما تدرك الصلاتان معا بفضل ركعة عن إحداهما، وإلا أدركت الثانية فقط، كذلك يدرك حكم السفر والحضر بفضل ركعة عن إحداهما، وإلا أدركت الثانية فيقصرها من سافر، ويتمها من قدم من سفره. انتهى. ابن الحاجب: ولو سافر لثلاث قبل الغروب فسفريتان، ولما دونها فالعصر سفرية، ولو قدم لخمس فحضريتان، ولما دونها فالعصر حضرية. انتهى. وهذا ظاهر قول المص:"سافر". وما في الأجهوري ومن تبعه تكلف. قاله الشيخ محمَّد بن الحسن.
وأثم يعني أن من أوقع الصلاة أو شيئًا منها في الضروري يأثم، وإن كان مؤديا، بناء على أن المختار إلا يدرك إلا بإيقاع جميع الصلاة فيه. كما قاله ابن راشد. وابن عبد السلام. وقال ابن هارون: يدرك بركعة، واختاره المص، وذكر صاحب التهذيب أنَّه يدرك بالإحرام، فتلك أقوال ثلاثة. ونقل اللخمي الإجماع على تأثيم المؤخر للضروري. وفي ابن عرفة: وغير ذي العذر يؤخر إليه، قال ابن محرز: ابن القاسم يكره، وأثَّمَه مؤديا، وبه فسر أشهب وابن وهب والداوودي
حديث: (من تفوته صلاة العصر كأنما وُتِر أهله وماله
(1)
)، وفسره سحنون والأصيلي والباجي بالتأخير عنه، ونقل المازري عن ابن القصار: لا يلحقه وعيد لكنه مسيء. ونقل أبو عمر عدم تأثيمه عن إسحاق والأوزاعي وغيرهما، وفي شرط جواز التأخير بالعزم على الأداء قولا القاضي مع الباقلاني، والباجي مع غيره. زروق: ورجح ابن العربي عدم الاشتراط. قاله ابن عرفة.
وفي الحطاب: اتفق أصحاب مالك على أنَّه لا يجوز تأخير الصلاة عن الوقت المختار إلى ما بعده من وقت الضرورة؛ وهو القامة في الظهر والقامتان أو الاصفرار في العصر، ومغيب الشفق في المغرب على مذهب من رأى أن لها وقتين، وانقضاء نصف الليل في العشاء الأخيرة، والإسفار في الصبح على مذهب من رأى أن لها وقتَ ضرورة فمن فعل ذلك فهو مضيع لصلاته مفرط فيما أمره الله به من حفظها ورعايتها آثم لتضييعه وتفريطه وإن كان مؤديا لها غير قاض، وأما تركها حتى يخرج وقتها فهو من الكبائر. قال الله تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} الآية. وإضاعتها على ما قال أكثر أهل العلم بالتأويل تأخيرها عن مواقيتها، والغَيُّ بير في قعر جهنم يسيل فيه صديد أهل النار. وقيل: الخسران. وقيل: الشر. انتهى.
فائدة: في الموطإ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله
(2)
). انتهى. روي بنصب اللامين ورفعهما، والنصب هو الصحيح المشهور على أنَّه مفعول ثان نحو:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} ، والرفع على ما لم يسم فاعله. ومعنى وُتِرَ نقص، قال الخطابي وغيره: نقص أهله وماله وسلبهم وبقي وترا بلا أهل ولا مال، واختلف في معنى الفوات في هذا الحديث، فقال ابن وهب: هو فيمن لم يصلها في وقتها المختار، وقيل: بغروب الشمس. وفي موطإ ابن وهب: قال مالك: تفسيره ذهاب الوقت؛ وهو محتمل للمختار وغيره، وقال الأوزاعي: فواتها أن تدخل الشمس صفرة، وقال المهلب ومن تبعه: إنما أراد فواتها في الجماعة، وقيل: إن هذا فيمن فاته صلاة العصر ناسيا، والعامد أحرى لحصول الإثم مع فوات الثواب. وقال الداوودي: إنما هو في العامد. وقوله: صلاة العصر، يحتمل أن الحديث خرج جوابا لسائل عمن
(1)
الموطأ، كتاب وقوت الصلاة، رقم الحديث:21.
(2)
الموطأ، كتاب وقوت الصلاة، رقم الحديث:21.
تفوته صلاة العصر، ولو سئل عن غيرها لأجاب بمثل ذلك، ويحتمل أن الله تعالى يخص ما شاء من الصلوات بما شاء من الفضيلة، نقله سيدي محمَّد الزرقاني.
إلا لعذر يعني أن إثم من أوقع الصلاة أو بعضها في الضروري على ما مر مقيد بأن لا يكون معذورا، وأما إن كان معذورا فلا إثم عليه، واللام في قوله:"لعذر" تعليلية، وفي الحطاب أن العذر إنما يسقط الإثم خاصة لا أن فعل العبادة في وقتها وفعلها بعده سواء في الثواب، ولا إشكال أن من نام واسترسل عليه النوم أو غلبه السهو حتى مضى وقت الصلاة بالكلية أنَّه يقضي، ولا يكون أجره كأجر من صلاها في وقتها، وهذا لا نزاع فيه. انتهى. وفيه أن الحيض عقوبة على النساء في منعهن بسببه من الصلاة بالكلية، ومن الصيام في وقته. والله تعالى أعلم. انتهى. وبين المص العذر بقوله: بكفر "الباء" للسببية، يعني أن من كان كافرا وأسلم في الضروري، فإنَّه يجب عليه أن يأتي بالصلاة ولا إثم عليه لكونه صلى في الضروري؛ لأنه معذور بسبب الكفر الذي كان متلبسا به نسأل الله السلامة. واعلم أن المانع له في الحقيقة من الإثم إنما هو الإِسلام؛ لأنَّ الإِسلام يجب ما قبله لقوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} .
وإن بردة يعني أنَّه لا فرق في العذر بالكفر المذكور بين أن يكون الكفر أصليا، وبين أن يكون طارئا. - نعوذ بالله من ذلك - وجعل الكفر عذرا وإن كان أعظم من السكر ترغيبا له في الإِسلام الذي يجب ما قبله، فإذا ارتد وراجع الإِسلام في الضروري فإنَّه يأتي بالصلاة حيث كان يدرك من الوقت ركعة فأكثر، ولا إثم عليه لكونه صلى في الضروري.
وصِبى بالكسر والقصر، وإذا فتح مد وهو معطوف على قوله:"بكفر"؛ يعني أن الصبي إذا بلغ في الضروري فإنَّه يأتي بالصلاة حيث كان يدرك من الوقت ركعة فأكثر، ويأتي بالمشتركتين حيث كان يدرك ركعة بعد إتيانه بإحداهما على نحو ما مر في قوله:"وتدرك فيه الصبح بركعة لا أقل والكل أداء والظهران والعشاءان بفضل ركعة عن الأولى لا الأخيرة" ولا إثم على الصبي لكونه صلى في الضروري؛ لأنه معذور بالصِّبَى.
واعلم أن الصبي يجب عليه من الصلوات بالبلوغ ما أدرك وقته منها، فإذا بلغ لزمه بقدر ما بقي من الوقت ولو صلى قبل ذلك على المشهور، ولو نوى حين صلاها صبيا الفرض، خلافا للشيخ
عبد الكافي، فإن بلغ في أثنائها بكإنبات كملها نافلة ثمَّ صلاها فرضا إن اتسع الوقت، وإلا قطع وابتدأها. وظاهر ما في أحمد عن القرافي: القطع وإن اتسع الوقت، ولا يعيد الوضوء حيث لم ينتقض قطعا؛ لأنَّ البلوغ بكإنبات ليس من نواقض الوضوء؛ وهو ظاهر كصحة صلاة فرض من مكلف بوضوء نفل، قاله الشيخ عبد الباقي. ابن القاسم: من احتلم بعد العصر صلى الظهر والعصر وإن كان قد صلاهما. ابن رشد؛ لأنهما قبل بلوغه نفل. ابن عرفة: نَقْلُ ابنِ بشير عدم إعادتهما على المذهب لا أعرفه. انتهى. قال الحطاب: نقله ابن شاس عن السليمانية فلينظر. والله أعلم. انتهى.
وإغماء عطف على قوله: "بكفر"؛ يعني أن المغمى عليه يجب عليه أن يصلي ما أفاق في وقته، فإذا أفاق في الضروري ولم يكن صلى فإنَّه يصلي ولا إثم عليه لكونه صلى في الضروري لعذره بالإغماء - نسأل الله العافية - ويجري فيه ما تقدم من قوله:"وتدرك فيه الصبح بركعة لا أقل والكل أداء والظهران والعشاءان بفضل ركعة عن الأولى لا الأخيرة"، ويجري ذلك كله أيضًا في قوله: وجنون يعني أن المجنون إذا أفاق في الضروري ولم يكن صلى فإنه يصلي، ولا إثم عليه لكونه صلى في الضروري لعذره بالجنون. نسأل الله السلامة.
ونوم يعني أن النائم إذا استيقظ من نومه في الضروري فإنَّه يصلي، ولا إثم يلحقه من صلاته في الضروري لعذره بالنوم، وتحقيق ذلك أنَّه لا إثم على النائم قبل الوقت ولو خشي الاستغراق للوقت؛ لأنها لم تجب. وفي الحديث: (إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد
(1)
)، وحمله مالك وجماعة على صلاة الليل لغلبة ذلك فيه، فإن جرى ذلك في صلاة الفرض وفي الوقت سعة لما يذهب نعاسه أو معه من يوقظه فليرقد، فإن ضاق وعلم فواته إن رقد صلى ما أمكنه واجتهد في تصحيح صلاته، ثمَّ إن تيقن أنَّه أدى فرضه برئ، وإلا قضاها. والظاهر أن حكم من اتسع وقته أو كان معه من يوقظه وصلى ناعسا، كذلك قاله غير واحد. ويطلب إيقاظ النائم للصلاة بمسجد أو غيره: (وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي وعائشة راقدة فإذا أراد أن يوتر أيقظها
(1)
الموطأ، كتاب وقوت صلاة الليل، رقم الحديث:259.
لتوتر
(1)
)، قال في المواهب: فيه استحباب إيقاظ النائم لإدراك الصلاة ولا يختص بالمفروضة ولا بخشية خروج الوقت، بل يشرع ذلك لإدراك الجماعة وإدراك الوقت وغير ذلك من المندوبات. القرطبي: ولا يبعد أن يقال واجب في الواجب، ومندوب في المندوب؛ لأنه وإن لم يكن مكلفا مانعه سريع الزوال فهو كتنبيه الغافل واجب؛ أي فيما يجب عليه لو لم يكن غير غافل. ولم يجزم بالوجوب في النائم مع ضيق الوقت لرفع القلم عن النائم، فلو علم مريد الإيقاظ بنوم النائم بعد دخول الوقت وخشي استغراقه، وجب إيقاظه عند الشافعية. قال الشيخ علي الأجهوري: ينبغي الرجوع لمذهبهم في ذلك، ففي الرملي عن المنهاج: يسن إيقاظ النائمين للصلاة لا سيما عند ضيق الوقت، فإن عصى بنومه وجب على من علم بنومه إيقاظه، وكذا يستحب إيقاظه إذا رآه نائما أمام المصلين، أو في الصف الأوّل، أو محراب المسجد، أو على سطحه؛ أي خوف الوقوع، أو بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس؛ لأنَّ الأرض تعج إلى الله من نومه، أو بعد صلاة العصر، أو خاليا في بيت وحده؛ فإنَّه مكروه، أو نامت امرأة مستلقية وجهها إلى السماء، أو نام رجل مضطجع على وجهه؛ فإنها ضجعة يبغضها الله تعالى. انتهى. نقله الشيخ عبد الباقي.
وفي الحطاب: وقد اختلف قول مالك فيمن يحيى الليل كله فكرهه مرة، وقال لعله يصبح مغلوبا، وفي رسول الله أسوة حسنة، كان يصلي أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه. وإذا أصابه النوم فليرقد، ثمَّ رجع فقال: لا بأس به ما لم يضر ذلك بصلاة، قال مالك: إن كان يأتيه الصبح وهو ناعس فلا يفعل، وإن كان إنما يدركه فتور وكسل فلا بأس به. انتهى. ابن رشد: أما قيام جل الليل إذا لم يوجب ذلك على الشخص أن يغلبه النوم في صلاة الصبح فذلك من المستحب المندوب إليه. واختلف قول مالك في قيام جميعه، وأما إن كان لا يصلي الصبح إلا وهو مغلوب عليه فذلك مكروه، قام الليل كله أو جله قولًا واحدا، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا نعس أحدكم
(2)
) الحديث، فيحصل بين أمرين: إما أن يصلي على هذه الحال التي قد نهي عنها، أو يرقد فتفوته صلاة الصبح في الجماعة. وقد قال عثمان؛ لأنَّ أشهد صلاة الصبح في الجماعة أحب
(1)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:512.
(2)
الموطأ، كتاب صلاة الليل، رقم الحديث:259.
إلي من أن أقوم ليلة وذلك لا يصدر إلا عن توقيف. انتهى. وقال الشيخ زروق في قيام الليل كله: قال المشايخ: واتخاذ ذلك عادة من غير حالة غالبة ليس شأن السلف. انتهى. وهذا إن أدى لفوات الجماعة فيكره، وأما إن أدى لفوات الوقت فالظاهر أنَّه يحرم، أو تشتد الكراهة. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب. البرزلي: سئل عز الدين عمن لا يمكنه قرب أهله إلا بليل وإذا فعل أخر أهله الصلاة عن وقتها لتكاسلها، فهل يجوز له فعل ذلك - وإن أدى إلى إخلالها بالصلاة - أم لا؟ فأجاب بأنّه يجوز له أن يجامع أهله ليلًا، ويأمرها بالصلاة في وقت الصبح، فإن أطاعت فقد سعد وسعدت، وإن خالفت فقد أدى ما عليه. نقله الإمام الحطاب. وقال: قوله: ليلًا، يحتمل أن يكون لفظا مقصودا؛ إذ لا يجب عليها حينئذ غسل ولا صلاة فلا يترك ما وجب له لما لم يجب عليها، كما ذكره الباجي؛ أنَّه يجوز للإنسان أن ينام بالليل، وإن جوز أن نومه يبقى حتى يخرج وقت الصبح وعلى هذا فلو كان بعد الفجر فلا يمكن من ذلك حتى يخرج وقتها أو يصليها، ويكون كقوله في المدونة: ولا يطأ المسافر أهله حتى يكون معهما من الماء ما يكفيهما، ويحمل على الوجوب أو الندب. انتهى. وفهم مما تقدم أنَّه لا يجب طلاقها إذا كانت تترك الصلاة بالكلية، أو حتى يخرج وقتها الضروري؛ وهو كذلك إلا على ما لابن حبيب المكفر بترك الصلاة. وغفلة يعني أن من نسي الصلاة ولم يذكرها حتى خرج وقتها، أو ذكرها في الضروري؛ فإنَّه يصلي ولا إثم عليه لكونه صلى في الضروري أو بعده لعذره بالنسيان. واعلم أن الغفلة والنوم يمنعان من تعلق الإثم، ولا يمنعان من وجوب القضاء، بخلاف غيرهما من الأعذار، فإنَّه يمنع من وجوب القضاء. وختم الأعذار بالشرعي الحقيقي، ولشرفه بتلقيه من الشارع جعله أصلًا، فشبه به ما قبله. فقال: كحيض يعني أن إيقاع الصلاة في الضروري بسبب ارتفاع عذر من هذه الأعذار فيه لا يمنع لأنها كالحيض يرتفع عن المرأة في الضروري فتوقع الصلاة فيه، ولا إثم عليها في ذلك لعذرها بالحيض.
وفي حكم الحيض النفاس لتآخيهما في الأحكام، وليس مدخولا للكاف؛ لأنها للتشبيه. والمدخل إنما هي كاف التمثيل، وإنما كانت هذه المذكورات أعذارا لعدم تسبب المكلف في غالبها؛ وهو ما عدا الكفرَ، فلذا لا يعذر بما هو سببه، كما أشار إلى ذلك بقوله: لا سكر يعني أن من سكر بحرام
ولم يَصْحُ من سكره إلا في الضروري وصلَّى فيه، فإنَّه يأثم لكونه لم يوقع الصلاة إلا في ضروريها؛ لأنه أدخل ذلك على نفسه، ومثل السكر كل محرم مزيل للعقل. وأما الداخل عليه السكر غلبة؛ كمن شرب مباحا كلبن مثلا فسكر، فإنَّه يعذر ولا إثم عليه، فهو كالمجنون، وهذا يقتضي أنَّه لو استغرق به الوقت أنَّه تسقط عنه صلاة ذلك الوقت. قاله الشيخ عبد الباقي. وفي الخرشي: وأما الداخل عليه السكر غلبة كغير العالم فكالمجنون. انتهى.
والمعذور غير كافر يقدر له الطهر يعني أن ذا العذر إذا ارتفع عذره - وقلنا إنه يصلي بقدر ما أدرك من الوقت بعد زوال عذره كما مر - فإنَّه يقدر له الطهر بالماء لأصْغَرَ أوْ أكْبَرَ إن كان من أهله: وإلا فبالصعيد فإذا بلغ الصبي أو أفاق المغمى عليه أو المجنون، أو طهرت الحائض، فإنَّه ينظر، فإن بقي من الوقت قدر ما يسع ركعة أو ركعتين مع الطهارة اللازمة له، لزمته تلك الصلاة كانت صبحا أو عشاء أو عصرا، وإن بقي ثلاث ركعات بعد الطهر ففي الظهرين تلزمه الصلاتان معا إن كان مسافرا، وفي العشاءين تلزمه العشاء الآخرة فقط على المشهور، وعلى مقابله تلزمه المغرب والعشاء؛ إذ الفرض أنَّه مسافر، ولو كان مقيما لا يلزمه إلا العشاء الآخرة باتفاق القولين، وإن بقي أربع ركعات لزمته الصلاتان معا اتفاقا، فإن كان حاضرا وبقي قبل الفجر ما يسع أربع ركعات مع الطهارة اللازمة له، فعلى المشهور تلزمه المغرب والعشاء، وعلى مقابله إنما يصلي العشاء الآخرة. وقد تقدم هذا بأبسط مما هنا. والمعذور الذي يقدر له الطهر عند زوال العذر، إنما هو الصبي والمغمى عليه والمجنون والحائض والنفساء، وأما الغافل والنائم فقد مر أنهما لا يسقط عنهما وجوب قضاء الصلاة، وأما الكافر فلا يقضي إلا ما أسلم في وقته لكنه لا يقدر له الطهر؛ لأنَّ زوال المانع بيده، فإذا أسلم، وقد بقي من الوقت ركعة بلا تقدير طهارة، تخلدت الصلاة في ذمته، وسواء كان الكفر أصليا أو ردة. وقوله:"يقدر له الطهر" سواء تطهر أم لا. وقوله: "يقدر له الطهر" إنما قُدِّرَ له الطهر بالماء بقيده مع وجوب تيمم من خاف باستعماله خروج الوقت؛ لأنَّ هذا لم يتحقق هل يخاطب بالصلاة أم لا؟ ولذا إذا تحقق ذلك بأن قدر بالطهارة المائية، وعلم ما يلزمه، ثمَّ خشي خروج الوقت باستعمال الماء، فإنَّه يتيمم، ولا تعتبر طهارة الخبث مع ضيق الوقت. وقوله:"يقدر له الطهر"؛ أي فلا يقدر له استقبال، ولا ستر
عورة، ولا استبراء واجب فيستبرئ وإن خرج الوقت. ويصلي ما قُدِّر له إدراكه قبل الاستبراء، ولا يقدر له الطهر في مسألة الحاضر إذا سافر، والمسافر إذا قدم خلافا للخمي والقرافي وأبي الحسن. كما قاله غير واحد.
وإن ظن إدراكهما يعني أن من زال عذره في مشتركتي الوقت فتطهر، وظن أنَّه يدركهما معا فأحرم بالأولى منهما فلما ركع منها ركعة، أو مضى قدرها ولم يكن أحرم فخرج الوقت بغروب شمس أو طلوع فجر، أضاف إليها أخرى وخرج عن شفع وقضى الصلاة الأخيرة في مسألة المصنف، وكذا يقضي الأخيرة في المسألة التي زدتها. وقوله:"قضى الأخيرة" أي فقط، وكذا الحكم لو ظن إدراكهما فأحرم بالأولى، فلما عقد ثالثتها خرج الوقت، فإنَّه يأتي برابعة ويقضي إِلأخيرة فقط؛ لأنَّ الوقت إذا ضاق يختص بالثانية، ويشمل المصنف المسألة التي زدتها إذا قلنا إن المراد ركع حقيقة أو حكما؛ بأن يمضي مقدار ذلك ولم يكن أحرم. وهذا الذي مشى عليه المصنف هو رواية عيسى عن ابن القاسم، خلافا لأشهب وابن حبيب أن له القطع.
واعلم أن هذا الحكم؛ أي كونه يقضي الأخيرة فقط ثابت، ولو خرج الوقت عقب ما صلى الأولى بتمامها أو مضى قدر ما يسعها بتمامها، فالمدار على ما بان فهو المعمول عليه. ابن عرفة: سمع سحنون أشهب: لو قدرت خمسًا فصلت الظهر فغربت الشمس قضت العصر، ولو غربت لصلاتها ركعة أو ثلاثا ففي تشفيعها بنية النفل ثمَّ تصلي العصر، وسعة قطعها على وتر نقل الشيخ سماع عيسى عن ابن القاسم، وقول أصبغ، وإن ظن إدراك العصر فقط، فلما فرغ منه بقيت فضلة صلى الظهر، واختلف هل يعيد العصر أو لا، والذي في العتبية عدم الإعادة. قاله الشيخ محمَّد بن الحسن. ولو علم قبل خروج الوقت أنه إن كمل ما هو فيه خرج الوقت، وجب القطع وصلى الثانية بلا خلاف، والظاهر أنَّه يخاطب بالثانية إن ظن إدراك إحداهما وشك في إدراك الأخرى، فإن بان أنه يخاطب بالأولى أتى بها ولا إثم عليه فيما إذا أتى بها بعد خروج الوقت، ولو شك هل يدرك واحدة أو لا يدرك شيئًا؟ فالظاهر أنَّه يصبر، ولو خرج الوقت حتى يتبين له شيء فيعمل عليه، ولا إثم عليه إذا تبين أنَّه يلزمه شيء بعد خروج الوقت لأنه معذور. قاله الشيخ إبراهيم، والشيخ عبد الباقي. ولما قدم المصنف أن المعذور يقدر له الطهر، كان مظنة سؤال وهو:
هل يقدر له الطهر ولو تكرر؟ فأجاب عن ذلك بمسألتين، وجمع معهما ثالثة تشاركهما في الحكم. فقال: وإن تطهر فأحدث يعني أن من تطهر من ذوي الأعذار بعد أن زال عذره فأحدث غلبة أو نسيانا أو عمدا فتطهر ثانية، ثمَّ شرع في الصلاة فخرج الوقت فإنَّه يقضي بقدر ما فاته بالتطهر الثاني؛ لأنَّ العبرة بالتقدير الأوّل.
أو تبين عدم طهورية الماء يعني أنَّه إذا زال عذره فتطهر فلما تطهر تبيّن عدم طهورية الماء، فإنَّه يلزمه ما يدركه بعد استعمال ذلك الماء الذي تبيّن عدم طهوريته، فإذا تطهر ثانيا فخرج الوقت، فإنَّه يقضي ما فاته بهذا الطهر الثاني؛ لأنَّ العبرة بالتقدير الأوّل. هذا قول سحنون ابن الحاجب: وهو الأصح، وقال ابن القاسم: لا قضاء عليه، وصدر به ابن شأس، ولم يذكر في توضيحه ترجيحا، وتبعه في الشامل فذكر القولين بغير ترجيح، ودرج هنا على ما صححه ابن الحاجب.
أو ذكر ما يرتب يعني أن من زال عذره فتطهر، فلما تطهر ذكر ما يجب ترتيبه مع الحاضرة التي أدركها بعد زوال العذر؛ وهو يسير الفوائت كما يأتي، فلما أتى به خرج الوقت، فإنَّه يلزمه القضاء بقدر ما أفاته فعل يسير الفوائت، فقوله: فالقضاء جواب عن المسائل الثلاث؛ أي يجب عليه القضاء على حسب التقدير الأوّل، ولا عبرة بما استغرق الوقت من طهارة ثانية في المسألتين الأوليين أو يسير الفوائت في الثالثة. وقد تقدم أنَّه يتيمم إن ضاق الوقت عن استعمال الماء بعد أن عرف ما يلزمه في التقدير.
وأسقط عذر حصل يعني أنَّه إذا طرأ عذر من الأعذار المتقدمة الممكن طروها كالكفر بالردة والإغماء والجنون والحيض، لا كالصبا؛ فإنَّه يسقط من الصلاة بقدر المدرك عند زوال العذر، فإذا حصل الإغماء أو الجنون أو الحيض أو الردة - نعوذ بالله منها ومن الجميع - بقدر ما يسع ركعة أو ركعتين، سقطت تلك الصلاة المدرك ذلك من وقتها، وإن بقي أكثر مما توقع فيه الأخيرة من المشتركتين بركعة فأكثر سقطتا معا. والحاصل أن إتيان العذر في وقت مشترك يسقطهما معا، وأن إتيانه في وقت مختص يسقط الثانية، وأما الأولى فتتقرر في الذمة فتجب بعد زوال العذر وهذا في المشتركتين، وأما الصبح فيسقطها إتيان العذر حيث بقي من وقتها قبل طلوع الشمس ما يسع
ركعة فأكثر. وبالله تعالى التوفيق. غير نوم يعني أن النوم لا يسقط به وجوب قضاء صلاة ولو استغرق الوقت بل ولو نام دهرا طويلًا.
ونسيان أي وكذا لا يسقط وجوب قضاء الصلاة بنسيانها، ولو نسي صلوات سنين كثيرة؛ فإنَّه يلزمه قضاؤها. وبما قررت علم أن قوله: المدرك مفعول قوله: "وأسقط". قال الشيخ عبد الباقي: ويقدر الطهر في جانب السقوط على المذهب، كما يقدر في جانب الإدراك. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: تبع في هذا الأجهوري، وتعقبه الرماصي بأن تقدير الطهر في جانب السقوط إنما هو اختيار اللخمي، ولما نقله في التوضيح قال: لم أره لغيره، وكذا قال ابن فرحون: ولم يذكره ابن شأس ولا ابن الحاجب ولا ابن عرفة، فكيف يكون المذهب ما اختاره اللخمي فقط؟ وقد قال عياض: للخمي اختيارات خرج بكثير منها عن المذهب. انتهى. وقال الشيخ الأمير: وذكر الأجهوري تقدير الطهر في جانب السقوط أيضًا وَرُدَّ. انتهى. وإنما كان النوم والنسيان لا يسقطان وجوب قضاء الصلاة لقوله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، ولخبر: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها فذلك وقتها
(1)
)، وقوله:"وأسقط عذر حصل" الخ؛ يعني ولو أخر ذو العذر الصلاة عامدا حتى حصل العذر كما يقصر المسافر، ولو أخر الصلاة عامدا.
ولما أنهى الكلام على الأوقات وعلى إثم المؤخر عن الاختياري لغير عذر إلى الضروري وأولى عنهما، وكان الإثم فرع التكليف، كان مظنة سؤال سائل: هذا حكم المكلف فما حكم غيره؟ فأجاب بقوله: وأمر صبي بها لسبع يعني أن الصبي يندب لوليه أن يأمره بالصلاة عند الدخول في السنة السابعة، وذلك وقت الإثغار، هذا هو المشهور، ومقابله أنَّه يجب على الوليّ أن يأمره بها. وقوله:"بها" أي بالصلاة المفروضة، ويحتمل قوله:"وأمر صبي" أن معناه أمر الشارع بالصلاة، كما أمر الولي أن يأمره. ومبنى ذلك هل الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء أو لا؟ الصحيح الأوّل كما قال القرافي، واختار ابن الحاجب وابن السبكي الثاني؛ إذ هو الحقيقة. والأول تجوز، وعليه فالشارع أمر الوليّ أن يأمر الصبي بما ذكر.
(1)
التمهيد، ج 3 ص 179، دار الكتب العلمية.
وقد مر أن الصحيح أن الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء؛ وهو الذي اختاره ابن رشد، فقال: والصواب أن الوليّ والصبي مندوبان مأجوران لقوله صلى الله عليه وسلم: (للمرأة الخثعمية التي أخذت بضبعي الصبي وقالت: ألهذا حج؟ قال نعم، ولك أجر
(1)
). انتهى. وقال القرافي: الحق أن البلوغ ليس شرطا في الخطاب بالندب والكراهة خلافا لمن زعمه، إنما هو شرط في التكليف بالوجوب والحرمة. انتهى. واستدل من قال المأمور الوليّ فقط بالخبر: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع
(2)
). فقال: لا ثواب للصبي على فعله. وإنما أمر بالعبادة على سبيل الإصلاح كرياضة الدابة لحديث: (رفع القلم عن ثلاث
(3)
)، وعليه فقيل: ثوابه لوالديه، قيل: على السواء، وقيل: ثلثاه للأم. الجزولي: ويرده حديث: (إن الصبيان يتفاوتون في الدرجات في الجنة على قدر أعمالهم في الدنيا كما تتفاوت الكبار))، ويؤيده قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. انتهى. ابن راشد: الصحيح من الأقوال أن الصغير لا تكتب عليه السيئات، وتكتب له الحسنات. انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"لسبع" اللام بمعنى: عند؛ أي عند الدخول فيها كما مر.
وضرب لعشر يعني أن الوليّ يندب له أن يضرب الصبي على الصلاة عند الدخول في السنة العاشرة، واللام في قوله:"لعشر" بمعنى عند، كاللام في قوله:"لسبع"، فلا يعتبر وسط السنة ولا آخرها، بل يضرب عند الدخول فيها كما علمت. هذا هو الصحيح في المسألة. وهي نظير قوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]؛ أي عند مَيَلَانِهَا عن كبد السماء. وفيه: صلاة الظهر وصلاة العصر، وقال الزرقاني في قوله: لسبع؛ أي عند تمامها. وقوله: "وضرب لعشر"؛ أي ضربا مؤلما غير مبرح من ضربة إلى ثلاث إلى عشر، أو أزيد لاختلاف حال الصبيان في الانزجار إن ظن إفادته وإلا ترك؛ لأنَّ الوسيلة إذا لم يترتب عليها مقصدها لم تشرع، وَعُدِمَ انزجاره بوعيد أو
(1)
رفعت امرأة صبيا لها فقالت يا رسول الله ألهذا حج؟ قال نعم، ولك أجر. مسلم، كتاب الحج، رقم الحديث:1336.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:495. بلفظ: مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع. والترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:407.
(3)
رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل. الترمذي، كتاب الحدود، رقم الحديث:1428.
- المستدرك للحاكم، ج 1 ص 258. بلفظ:"رفع القلم عن ثلاث".
تقريع بغير شتم وإلا فلا يضرب، ومنع بشتم، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع
(1)
) رواه أبو داوود، وفي رواية الترمذي: (علموا الصبي الصلاة ابن سبع واضربوه عليها ابن عشر
(2)
)، وعن شبرة بن معبد الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها
(3)
). رواه أبو داوود، وشبرة بفتح الشين المعجمة وسكون الموحدة، والجهني بضم الجيم نسبة إلى جهينة. وروى أبو داوود: (يؤمر بالصلاة إذا عرف يمينه من شماله
(4)
)، وروى ابن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا الصبيان بالصلاة لسبع سنين واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع
(5)
). انتهى. وفي المدونة: ويؤمر الصبيان بالصلاة إذا أثغروا. انتهى. ويقال: أثغر الصبي بسكون المثلثة إذا سقطت أسنانه، وإذا نبتت، والمراد هنا المعنى الأوّل؛ لأنه هو الذي يقع عند الدخول في سبع سنين كما علمت. واختلف في الوقت الذي يؤمر فيه بالصلاة فقال يحيى بن عمر: إذا عرف يمينه من شماله. وسبب الخلاف: اختلاف الأحاديث، والتفرقة مندوبة عند العشر على الراجح، وإن كان لابن وهب: وقيل عند السبع، فالراجح أنها راجعة لآخر الحديث، وقيل: لأوله، وهو لابن القاسم، وهي مطلوبة، ولو بين أخوين أو أختين، أو أخ وأخت، وكذا بين صبي مطلقا وأبويه، وهل تحصل وعلى كل واحد ثوب حائل؟ ولو كانوا على فراش واحد؛ وهو لابن حبيب، أو يفرش لكل واحد فراش على حدة، وهو يقتضي أن يكون لكل واحد غطاء؛ وهو للخمي. وعبارة الخرشي: ومعنى التفرقة عند ابن حبيب أن لا يتجرد أحد منهم مع أبويه ولا مع إخوته ولا مع غيرهم إلا وعلى كل واحد منهم ثوب حائل. وعند اللخمي: يفرش لكل واحد فراش على حدة سواء كانوا ذكورا أو إناثا أو مختلفين. الشادلي: والتفرقة بينهم على جهة الاستحباب مخافة ما
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:495.
(2)
الترمذي، كلاب الصلاة، رقم الحديث:407.
(3)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:494.
(4)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:497. ولفظه: إذا عرف يمينه من شماله فمروه بالصلاة.
(5)
السنن الكبرى للبيهقي، ج 2 ص 229.
يقع من الالتذاذ، ويأنسوا بذلك بعد بلوغهم، وكذلك بين الولد وأمه إذا بلغ عشرة أعوام ذكرا كان أو أنثى. انتهى.
وقال عبد الباقي: وكره لولي تركهما وجعلهما متلاصقين بعورتيهما، وظاهره: ولو مع قصد لذة أو وجودها؛ لأنَّ لذتهما كلا لذة. انتهى. وقال الشيخ محمَّد بن الحسن: فيه نظر، بل الظاهر أنَّه يجب على وليه منعه حينئذ، كما يجب عليه منعه من أكل الميتة، وكل ما هو معصية في حق البالغ كشرب الخمر. قاله أبو علي، وغيره. انتهى. ويحرم تلاصق بالغين بعورتيهما بغير حائل مطلقا؛ قصدا اللذة، أو وجداها، أو قصدا ووجدا، أو لا قصدا ولا وجدا. فتلك أربع صور. كبحائل مع قصد لذة أو وجودها، ولو من أحدهما، وتختص به الحرمة لا بدون قصد، ووجود فمكروه. قاله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمَّد بن الحسن: بل الظاهر الحرمة للمظنة ويكره أيضًا تلاصقهما بغير عورتيهما مع غير حائل إلا لقصد أو وجدان فيحرم فيما يظهر، وجاز بحائل، والنظر حرام، ولا فرق بين الرجلين والمرأتين؛ لأنَّ عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل على المذهب. والأصل في ذلك خبر أبي داوود عنه - صلى الله تعالى عليه وسلم -: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد
(1)
). وظاهر الحديث جواز اجتماع الرجلين أو المرأتين في كساء واحد حيث يكون وسط الكساء حائلا بينهما حيث لم ير واحد منهما عورة صاحبه ولا مسها، ومن هذا يؤخذ جواز اجتماع الرجلين في ماء مستحم واحد حيث لم ير واحد منهما عورة صاحبه ولا مسها، ويأتي في ستر العورة، "فإن اجتمعوا بظلام فكالمستورين". قاله الشيخ عبد الباقي. وجعل ابن ناجي في شرح المدونة القول بأنّه يؤمر بها إذا أثغر مغايرا للقول بأنّه يؤمر بها لسبع، قال: لأنهم ذكروا مغايرتهما في باب التفرقة بين الأم وولدها. قال الإمام الحطاب: والظاهر من كلامهم هنا أنهما قول واحد. فتأمله. انتهى. وقد مر أن البلوغ ليس شرطا في الندب
(1)
أبو داود، كتاب الحمام، رقم الحديث:4018.
ولا في الكراهة، وأما التمييز فهو شرط في جميع الأحكام إجماعا، فالصبي قبل التمييز كالبهيمة لا يخاطب بإباحة فضلا عن غيرها. قاله الحطاب.
واعلم أن التكليف هو إلزام ما فيه كلفة، وفي الحطاب الخلاف في المراهق، فقيل: إنه لا يؤاخذ بذنب ولا يثاب على طاعة، وقيل: إنه يثاب على الطاعة. انتهى. وقد علمت أن الراجح أنَّه تكتب له الحسنات ولا يعاقب على الذنوب، وفي الحطاب أنَّه اختلف في ثواب صلاة الصبي، فقيل: له، وقيل: لوالديه وله، وقيل: لوالديه ويكون بينهما نصفين، وقيل: الثلث للأب والثلثان للأم، وقيل: إنما يكون للصبي. والحديث يرد على من يقول إنه لوالديه؛ لأنه قال في الحديث: (إن الصبيان يتفاوتون في الدرجات في الجنة على قدر أعمالهم في الدنيا كما يتفاوت الكبار))، ويؤيده قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. انتهى. وقد مر أن تأديب الصبيان يعتبر فيه حالهم، وقال بعضهم: يضربون على الصلاة ثلاثة أسواط، وعلى الألواح خمسة. وعلى السب سبعة، وعلى الهرب عشرة، ويكون ذلك بسوط لين، زاد الشيخ يوسف بن عمر: فإن زاد اقتص منه. نقله الإمام الحطاب. وقد مر الحديث: يؤمر بالصلاة إذا عرف يمينه من شماله، فقيل: بظاهره، وقيل: إذا ميز الحسنات؛ لأنَّ كاتب الحسنات عن يمينه، وكاتب السيئات عن شماله. ذكر التأويلين التادلي. قاله الإمام الحطاب. وروي عن مالك أنهم يضربون لسبع؛ وهو في سماع أشهب، وتأول بعضهم الحديث على أنهم يؤدبون بغير الضرب قبل العشر، وعند العشر يضربون. وقال أشهب: فإن زاد المؤدب عن ثلاثة اقتص منه.
تنبيه فإن تلاصق بالغ وغيره بعورتهما من غير حائل أو بحائل، فإنَّه يجري الحكم في البالغ على ما مر ولا حرمة على غيره، وإنما يكره له ذلك إن كان ممن يؤمر بالتفرقة. قاله الشيخ الخرشي. والشبراخيتي، وقال الشيخ الأمير: وكره تلاصقهم؛ أي الصبيان، وإن بلذة بالعورة فإنهم يخاطبون بها، وبالندب على التحقيق، والظاهر حرمة إقرارهم من الولي؛ لأنه يجب عليه إصلاح حالهم كبالغ، وإن بعورة فوق حائل بدون لذة، وإلا حرم. انتهى. قوله:"كبالغ" تشبيه في الكراهة، وقوله: وإن بعورة فوق حائل، ما قبل المبالغة غير العورة كالصدر لا اليد مطلقا؛ أي بحائل أو بغيره، وقوله: وإلا معناه بأن كان بلذة أو بعورة مباشرة. قاله في تقييده.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر أن كلامه أعني؛ قوله: كبالغ، حيث كان في الذكرين فقط أو الأنثيين فقط. والله سبحانه أعلم. ولما أنهى الكلام على أوقات الصلاة الخمس - وسيأتي أنَّه يجوز إيقاعها في كل وقت كما سيأتي في باب قضائها - أشار إلى الأوقات التي يمنع فيها النفل بقوله: ومنع نفل وقت طلوع شمس يعني أنَّه يمنع النفل الشامل للسنن المؤكدة عند طلوع الشمس؛ أي يمنع من الوقت الذي يبدو فيه أدنى جزء منها إلى أن يبدو جميعها، فينتهي المنع، وتخلفه الكراهة إلى أن ترتفع قيد رمح كما يأتي. والمراد بالنفل ما قابل الفرض الوقتي فيشمل الجنازة، وقضاء النفل المفسد، وكذا المنذور قيد نذره بوقت منع أو كراهة، لقوله: وإنما يلزم به ما ندب أو أطلقه أو نذر صلاة يوم بعينه فيمنع نفله وقت منع، ولا قضاء عليه. كما قاله ابن عرفة. ومقتضى ما ذكره الزرقاني أن المنذور لا يصليه في وقت المنع، ويصليه في وقت الكراهة. وسيأتي أن السجود البعدي تلافيه بحسب ما ترتب عنه.
وغروبها أي وكذلك يمنع النفل بالمعنى المذكور عند غروب الشمس؛ أي بعد غيبوبة أدنى جزء منها ويستمر المنع لغيبوبة جميعها، فإذا غاب جميعها انتهى وقت المنع، وتعود الكراهة إلى أن تُصلَّى المغرب. كما يأتي قريبا إن شاء الله تعالى. وفي الحديث: (إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغرب
(1)
)، وفيه: (لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإنها تطلع على قرن شيطان وتغرب على قرن شيطان
(2)
)، ومعنى قرنه: قوته، من قولك: أنا مقرن لهذا الأمر؛ أي مطيق له قوي عليه، وذلك أن الشيطان إنما يقوى أمره في هذه الأوقات لأنه يسول لعبدة الشمس أن يسجدوا لها في هذه الأوقات، وقيل: قرنه حزبه وأصحابه الذين يعبدون الشمس، وقيل: إن الشيطان يقابلها عند طلوعها، وينتصب دونها حتى يكون طلوعها بين قرنيه؛ وهما جانبا رأسه، فينقلب سجود الكفار للشمس عبادة له. انظر شرح سيدي محمَّد الزرقاني.
(1)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:829.
(2)
لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإنها تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان. السنن الكبرى للنسائي، رقم
الحديث: 1563.
وخطبة جمعة يعني أن النفل بالمعنى المتقدم يمنع وقت الشروع في خطبة الجمعة، وسيذكر منعه قبله أيضًا بقوله عاطفا على الممنوع: وابتداء صلاة بخروجه وإن لداخل، والمراد بالخطبة الجنس فيشمل الخطبتين، وانظر لو جلس على المنبر قبل الزوال، هل يحرم النفل بدخول وقت الخطبة، أو بالقيام لها، أو بالأذان؟ والظاهر الحرهة بمجيء الوقت الذي يخرج فيه لو كان بمحل آخر. ومفهوم قوله:"جمعة" أن النفل وقت خطبة غير الجمعة لا يمنع وهو كذلك، فيكره فيما يظهر. ويأتي في العيد أن من فاتته صلاة العيد مع الإمام تندب له إقامتها؛ أي صلاة العيد، فإن جاء والإمام يخطب جلس ولم يصلها وقت الخطبة، وسواء كان في المصلى أو في المسجد. وقال الإمام مالك: وليس من تكلم فيها؛ أي في خطبة العيد كمن تكلم في خطبة الجمعة، ويمنع النفل أيضًا عند ابتداء إقامة، وضيق وقت عن فرض، وتذكر فائتة. وإنما منع النفل عند خطبة الجمعة لقوله تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، ولخبر: (إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت فقد لغوت
(1)
)؛ أي أثمت، مع كونه أمرًا بمعروف لاشتغاله عن سماع الخطبة فالصلاة أولى، ولخبر الرجل الذي تخطى رقاب الناس عند دخوله وهو صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له: (اجلس فقد آذيت
(2)
)، ولم يأمره بركوع. هذا هو الذي عليه عمل أهل المدينة. وقيل: إن الركوع للداخل أولى، واستدل له بقضية سليك الغطفاني: (إذ أمره عليه الصلاة والسلام بالركوع
(3)
).
وكره بعد فجر يعني أن النفل بالمعنى المتقدم يكره بعد انصداع الفجر، ولو لداخل مسجد، وأجازه اللخمي لداخله إلى أن تقام الصلاة. قاله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمَّد بن الحسن: لم يخصصه اللخصي بالداخل ونصه ولا بأس بالتنفل بعد غروب الشمس إلى أن تقام الصلاة وكذلك بعد طلوع الفجر إلى أن تقام الصلاة أيضًا. نقله الحطاب. انتهى. والمراد بالنفل هنا ما
(1)
البخاري، كتاب الجمعة، رقم الحديث:934. بلفظ: إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت. ومسلم، كتاب الجمعة، رقم الحديث:851. بلفظ: إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:1118.
(3)
جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر فقعد سليك قبل أن يصلي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين؟ قال لا. قال قم فاركعهما. مسلم، كتاب الجمعة، رقم الحديث:875.
- عن جابر بن عبد الله قال: جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة فقال أصليت يا فلان؟ قال لا. قال قم فاركع ركعتين. البخاري، كتاب الجمعة، رقم الحديث:930.
يشمل الجنازة، وقضاء النفل المفسد، والنفل المنذور قيده بوقت منع أو كراهة أو أطلقه، وكذا لو نذر صلاة يوم بعينه، ويلحق السجود البعدي بأصله، فإن كان من فرض فعل بوقت نهي، وإن كان من نفل اتقي بوقت نهي رعيا لأصله.
وفرض عصر يعني أن من صلى العصر يكره له أن يتنفل بعدها لا بعد أذانه، ولا بعد صلاة غيره للعصر. كما أفاد ذلك بقوله:"فرض" فقد علمت أنَّه لا بأس بالنفل لمن لم يصل العصر، والحال أند قد صلاه غيره. والله سبحانه أعلم.
إلى أن ترتفع قيد رمح راجع لقوله: "بعد فجر"؛ يعني أن النفل يكره بعد انصداع الفجر، وتستمر الكراهة إلى أن يبدو أدنى جزء من الشمس، فيحرم النفل عند بدو ذلك الجزء، وتستمر الحرمة إلى أن يكتمل طلوع الشمس بحيث تبدو كلها، فإذا بدا جميعها عادت الكراهة، وتستمر إلى أن ترتفع الشمس قيد رمح؛ أي يكون بينها وبين المحل الذي طلعت منه قدر رمح من رماح العرب في رأي العين. والرمح من رماح العرب اثنا عشر شبرا بشبر متوسط، وفي بعض الأحاديث: (وتزول منها الحمرة
(1)
)، وهو تفسير لارتفاعها قيد رمح.
وتصلى المغرب راجع لقوله: بعد فرض عصر؛ يعني أن من صلى العصر يكره له التنفل بعدها إلى أن يغيب أدنى جزء من الشمس بخروج الغاية؛ أي فيحرم النفل بعد غيبة ذلك الجزء، وتستمر الحرمة حتى تغيب كلها، فإذا غاب جميعها عادت الكراهة إلى أن تصلى المغرب، وفي وقوف داخل مسجد بعد الغروب، وقبل الإقامة حتى تقام الصلاة خروجا من الخلاف، وجلوسه قولان مرجحان، والمعتمد جواز صلاة الجنازة، وسجود التلاوة بعد الغروب وقبل صلاة المغرب، صرح بالأول في المدونة، وبالثاني أحمد عن ابن بشير. وفي الشبراخيتي عن القرطبي ما نصه: ويذكر أن مالكا رحمه الله دخل المسجد بعد صلاة العصر فجلس ولم يركع، فقال له صبي: يا شيخ قم فاركع، فقام وركع ولم يحاجه بما يراه مذهبه، فقيل له في ذلك، فقال: خشيت أن أكون من الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون. انتهى. وقال الأمير: ومنع دخول على غير الخمس ولو نذرا أو قضاء نفل مفسد بطلوع وغروب وتوجه خطيب للمنبر. انتهى. قال في تقييده عند قوله: ومنع دخول لا تشفيع من أمر بقطع فريضة؛ لأنه لم يدخل على النفل.
(1)
الموطأ، كتاب وقوت الصلاة، الحديث:23.
إلا ركعتي الفجر استثناء من قوله: "وكره بعد فجر"؛ يعني أنَّه يكره التنفل بعد انصداع الفجر إلا ركعتي الفجر وإلا الشفع والوتر، ولا يشترط فيهما ما يشترط في الورد. والوِرْدَ عطف على قوله:"إلا ركعتي الفجر"، مستثنى من قوله:"وكره بعد فجر" أيضا؛ يعني أن الورد الليلي لا بأس بإيقاعه بعد الفجر، قبل صلاة الفرض يعني الصبح. وكون الورد الليلي يفعل قبل صلاة الصبح وبعد انصداع الفجر، إنما هو لنائم عنه أي لمن عادته تأخيره ونام عنه غلبة، ولم يخش به فوات جماعة ولا إسفارا فيفعله بهذه الشروط الأربعة، وتعقب ظاهر المدونة من فعله بعد الإسفار، ومثل النوم النسيان، فلوأخره عمدا لم يصله على المشهور، وكذا لو خشي بتشاغله به فوات الجماعة.
وجنازة عطف على قوله إلا ركعتي الفجر إلا أنَّه مستثنى من المسألتين، أعني قوله بعد فجر وفرض عصر، يعني أن صلاة الجنازة التي لم يخش تغيرها لا تكره بعد الفجر ولا بعد صلاة العصر.
وسجود تلاوة يعني أن سجود التلاوة لا يكره بعد الفجر، ولا بعد صلاة العصر. قبل إسفار يعني أن صلاة الجنازة التي لم يخش تغيرها، وسجود التلاوة إذا قلنا إنهما لا يكرهان بعد انصداع الفجر فإنما ذلك فيما قبل الإسفار، وأما في الإسفار فإنهما يكرهان. ويرجع قوله:"قبل إسفار" للورد أيضًا.
واصفرار يعني أن الصلاة على الجنازة التي لم يخش تغيرها، وسجود التلاوة وإن قلنا إنهما لا يكرهان بعد صلاة العصر فإنما ذلك فيما قبل الاصفرار، وأما في الاصفرار فإنهما يكرهان. فتحصل من هذا أن فعلهما في الإسفار والاصفرار مكروه لا ممنوع، وأما فعلهما عند الطلوع وعند الغروب وعند خطبة الجمعة فهو ممنوع، ولو صلى على جنازة بوقت كراهة لم تعد مطلقا كبوقت منع عند أشهب؛ وهو أبين. قاله في الطراز. وقال ابن القاسم: تعاد إن لم تدفن، ومحل منعها وكراهتها وقتَهما إن لم يخف تغيرها بالتأخير، وإلا جازت الصلاة عليها بلا خلاف فتلك ثمان صور: أربع منها لا تعاد فيها وأربع لا تعاد في ثلاث منها، والرابعة اختلف فيها. كما علمت. وظاهر ما تقدم أن الصلاة على الجنازة التي لم يخف تغيرها وسجود التلاوة يكرهان بعد
الغروب، وقبل صلاة المغرب. قال الشبراخيتي: وقد صرح ابن بشير بجواز سجود التلاوة حينئذ، ولم ينبه المصنف على النفل بعد صلاة الجمعة، وظاهر المذهب الكراهة؛ وهي لكل مصل إلى أن ينصرف على المنصوص. فلو كان غريبا، أو لا بيت له، أو يريد انتظار صلاة العصر، فهل إلى خروجه من باب ودخوله من آخر، أو انتقاله من مكانه، أو طول مجلسه، أو حديثه بما يسوغ الكلام به؟ أقوال، ولا تكره الصلاة وقت الاستواء على المشهور. قاله الشيخ إبراهيم.
قال جامعه عفا الله عنه: ومراده بوقت الاستواء، الوقت الذي تتوسط الشمس فيه كبد السماء، وهو وقت القيلولة. وفي الحطاب عند قول المصنف: وإسراع تجهيزه إلا الغرق، ما نصّه: وفي النسائي من حديث عقبة بن عامر الجهني قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيها موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تَضَيَّفُ الشمس للغروب
(1)
). وقال سيدي محمَّد الزرقاني: قال الجمهور والأئمة الثلاثة بكراهة الصلاة عند الاستواء، وقال مالك بالجواز مع روايته الحديث الذي فيه: (إذا استوت قارنها
(2)
)، للعمل الذي ذكره أنَّه أدرك الناس وهم يجتهدون ويصلون نصف النهار.
وقطع محرم بوقت نهي يعني أن الشخص إذا أحرم بالنافلة في وقت نهي فإنَّه يقطع وجوبا إن أحرم بوقت منع، وندبا إن أحرم بوقت كراهة قال الشيخ الأمير: وتعبيري بالقطع المشعر بالانعقاد تبع للأصل. وبنى عليه بعضهم الثواب من غير جهة المنع؛ أي من حيث كونها عبادة، لا من حيث وقوعها في زمن المنع. وقيل: لا ينعقد، وهذا في المحرم بوقت منع. وأما المحرم بوقت كراهة فهي منعقدة في حقه اتفاقا. كما قاله الشبراخيتي. وقوله:"وقطع محرم بوقت نهي"؛ أي لأنه لا يتقرب إلى الله تعالى بما نهى عنه، ولا قضاء عليه لأنه مغلوب على قطعها. قال الشيخ عبد الباقي: وشمل قوله: "محرم" إحرامه فيها عامدا أو جاهلا أو ساهيا، ثمَّ تذكر وعلم فيها بأنّه وقت نهي؛ وهو كذلك في سائر الأوقات، إلا من دخل يوم جمعة والإمام يخطب
(1)
النسائي في سننه، كتاب المواقيت، ج 1 ص 275.
(2)
الموطأ، كتاب القرآن، 510.
فأحرم بنفل جهلًا أو نسيانا، فلا يقطعه لقوة الخلاف في أمر الداخل والإمام يخطب بالنفل، وزاد العذرَ بخلاف غير الجمعة. انتهى.
وقوله: "وقطع محرم" الخ؛ يعني بنفل مدخول عليه، وإلا فلا كمن ذكر أنَّه صلى العصر بعد انعقاد ركعة منها فإنَّه يضيف إليها ركعة، ويخرج عن شفع، وان تذكر قبل انعقاد ركعة قطع. وقوله:"بوقت نهي" ظاهره، ولو بعد ركعة كما هو البخاري على التعليل. وأما بعد ركعتين فلا ينبغي شموله له لخفة الأمر بالسلام، ولو قال: وقطع مصل، لشمل سجود التلاوة مع أنَّه يشمله كلامه؛ لأنَّ المراد بالمحرم هنا من دخل في حرمات العبادة، لا من كبر تكبيرة الإحرام. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ الأمير: ومن أحرم فدخل وقت النهي أتم بسرعة.
تنبيهات: الأوّل: علم من كلام المصنف أن أوقات النفل ثلاثة أقسام وقت تحريم، ووقت كراهة، ووقت جواز، وبين القسمين الأولين، فعلم أن الثالث ما عداهما. وعلم من كلامه أيضًا أن الفرض لا يمنع في هذه الأوقات، وهو كذلك، فمن ذكر صلاة فرض صلاها متى ما ذكرها، ولو كان ذلك عند طلوع الشمس أو عند غروبها، وكذلك إذا ذكر منسية والإمام يخطب فإنَّه يصليها، كما سيأتي بيانه - إن شاء الله - في فصل الجمعة. قاله الإمام الحطاب.
الثاني: كلام أهل المذهب صريح - كما علمت - في أن النفل يجوز وقت القائلة، وقد مر قريبا عن الإمام الحطاب عن النسائي من حديث عقبة بن عامر الجهني قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيها موتانا: حين تطلع الشمس بازغة، حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تضيف الشمس للغروب
(1)
). وقد مر ما يفيد الجواب عنه.
الثالث: إن قيل لِمَ لمْ يذكر المصنف في الأوقات التي تحرم فيها النافلة ما إذا أقيمت الصلاة المفروضة؟ فالجواب - والله أعلم - أنَّه إنما لم يذكره لأنَّ المنع من النافلة حينئذ ليس لخصوصية الوقت، وإنما هو لأمر آخر؛ وهو الاشتغال بالصلاة المفروضة التي أقيمت، وليلا يؤدي إلى الطعن
(1)
النسائي في سننه، كتاب المواقيت، ج 1 ص 275.
على الإمام. ألا ترى أن المنع ليس خاصا بالنافلة، بل يحرم حينئذ الاشتغال بغير الصلاة التي أحرم بها الإمام؟ ومثل هذا تنفل من أخر الصلاة حتى خاف خروج وقتها، وتنفل من عليه فوائت فالمنع من النفل ليس راجعا إلى الوقت، وإنما هو لأمر آخر فإن قيل وكذلك المنع في خطبة الجمعة ليس لخصوصية الوقت وإنما هو لأجل الاشتغال عن سماع الخطبة؟ فالجواب - والله أعلم - أنَّه لما كان وقت خطبة الجمعة منه منضبطا متكررا في كل جمعة، وكان المنع فيه من النفل فقط، أشبه الوقت الذي يمنع فيه النفل. فتأمله. والله أعلم. قاله الإمام الحطاب.
الرابع: يستثنى من المنع في الأوقات المذكورة من قرب للقتل على أحد القولين، فروى الوليد بن مسلم عن مالك الجواز، وروى عنه ابن نافع المنع. قاله الإمام الحطاب. وكان ابن عرفة رحمه الله تعالى يصلي بعد صلاة العصر، فقيل له في ذلك، فقال: إنما أفعله يوم يفوتني معتادي من صلاة النهار. قاله الحطاب.
الخامس: وقع في شرح الشيخ عبد الباقي أن قول المصنف: "قبل إسفار" يرجع للشفع والوتر، قال كما ينص عليه بقوله:"وإن لم يتسع الوقت إلا لركعتين" الخ؛ وهو وهم أو تصحيف؛ لأنَّ ما يأتي حجة عليه لا له. كما قاله الشيخ محمد بن الحسن.
ولما أنهى الكلام على الأزمنة، أتبعه بالكلام على الأمكنة. فقال: وجازت بمربض بقر يعني أن الصلاة تجوز بمربض البقر؛ أي مراحه. والمربض كمقعد ومجلس؛ فهو بفتح الباء وكسرها. أو غنم أي وكذلك تجوز الصلاة بمربض الغنم، لخبر البخاري: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي في مرابض الغنم
(1)
)، وفيه استعمال المربض للغنم، ونحوه للجوهري، فقول ابن دريد: يقال في الغنم مراح لا مربض، والمربض للبقر مردود بالخبر وبما للجوهري، قاله الشيخ عبد الباقي. والمربض اسم مكان من الربوض؛ بمعنى البروك. ابن هلال: ويجوز المرور في الأرض المغصوبة والصلاة فيها إن كانت فحصا غير محدَّق عليها بجدار ونحوه، وإلا لم يجز، ولو لزم ترك الصلاة في الفحوص
(1)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:429.
المغصوبة وجب على المصلي أن يستأمر أربابها إن لم تغصب، والصلاة في أرض المسلمين بغير إذنهم بلا خلاف. انتهى.
كمقبرة تشبيه في الجواز؛ يعني أن الصلاة تجوز في المقابر وإن لم يجعل بينه وبينها حائلًا. وفي المدونة: وجائز أن يصلي في المقبرة وعلى الثلج وفي الحمام إذا كان مكانه طاهرا، وجائز أن يصلي في مرابض البقر والغنم. قال ابن ناجي: ظاهره وإن كانت مقابر الكفار وهو كذلك، ويريد ما لم تظهر أجزاء الموتى؛ لأنَّ مذهبه نجاسة الميت. واختلف في المسألة فقيل: تجوز الصلاة فيها مطلقا إذا أمن أجزاء الموتى وهو المشهور، وقيل: تكره مطلقا. رواه أبو مصعب. وقال عبد الوهاب: تكره بالجديدة ولا تجوز بالقديمة إن نبشت إلا أن يبسط طاهرا عليها، وتكره في مقابر المشركين من غير تفصيل، وقيل: لا بأس بالجديدة، وتكره القديمة. قاله ابن الجلاب. وقيل: تجوز بمقابر المسلمين، وتكره بمقابر المشركين. قاله الحطاب. وفيه: وما ذكره من جواز الصلاة في الحمام إذا كان مكانه طاهرا هو المشهور، وقيل: إنها مكروهة. والمقبرة مثلثة الباء: موضع الإقبار؛ أي الدفن، وتجوز الصلاة بالمقبرة. ولو كان القبر بين يديه، أو كانت لمشرك وأشار "بلو" لرد القول بعدم الجواز في مقبرتهم، وعلى القول بالتفصيل بين مقبرة المسلمين ومقبرة الكفار، فهل العلة كونها حفرة من حفر النار أو النجاسة؟ لأنهم يزورون قبورهم، ولا يتحفظون من النجاسة. وقوله:"ولو لمشرك" استدلوا له بأنّه صلى الله عليه وسلم: (أمر بنبش قبور المشركين وجعل مسجده موضعها
(1)
). وقال الشيخ محمد بن الحسن: الذي رجحه المواق اجتناب مقابر المشركين. قال: وبحث أبو علي وغيره في الاستدلال بهذا الحديث؛ بأن الموضع إذا نبش ووطئ وبنيَ محله ولا سيما إذا جعل عليه تراب آخر ليس كالمقبرة الباقية الأجساد بها.
ومزبلة يعني أن الصلاة تجوز بالمزبلة بفتح الميم وتضم باؤها وتفتح: موضع طرح الزبل ومحجة يعني أن الصلاة تجوز بالمحجة، والمحجة: جادة الطريق؛ أي وسطها، وأما قارعة الطريق فهي أعلاها أي جانبها. والحكم فيهما سواء، وإنما نص على المتوهم.
(1)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:428. ومسلم، رقم الحديث: 524.
ومجزرة بفتح الميم وكسر الزاي؛ بمعنى موضع الذبح والنحر؛ يعني أن الصلاة تجوز بالمجزرة أي المحل المعد للذبح أو النحر بتمامه، فيعدل عن محلّ الذبح، ويصلي. قال الشيخ إبراهيم، والشيخ عبد الباقي: وتفسير المزبلة بما ذكر، وكذا المجزرة هو الذي يوافق الحكم بالإعادة في الوقت. وأما من فسر المزبلة بأنها موضع طرح القمامة، والمجزرة موضع تقطيع اللحم، فيرد عليه أنَّه لا إعادة في هاتين في حالة الشك لا في وقت ولا في غيره.
إن أمنت من النجس يعني أن محل جواز الصلاة بهذه الأربع من المقبرة، وما بعدها حيث تحقق أن موضع الصلاة منها ليس به نجاسة كموضع بها عال لا تصله نجاسة ولا دواب، لخبر: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل
(1)
). وبما قررت علم أن قوله. "إن أمنت" المراد به أمن الموضع الذي صلى فيه لا جميع المكان من موضع الصلاة وغيره كما في الشبراخيتي.
وإلا أي وإن لم تؤمن نجاسة هذه الأربع، فإنَّه لا إعادة على من صلى بها على القول الأحسن عند ابن بشير وغيره، ومقابل الأحسن قول ابن حبيب: يعيد العامد والجاهل أبدا، والناسي في الوقت. قاله الشيخ إبراهيم وإتيانه بقوله على الأحسن يقتضي أن مقابله حسن وليس كذلك. قاله الشيخ إبراهيم. واعلم أن المنفي بقوله:"فلا إعادة" إنما هو الإعادة الأبدية، وأما الإعادة في الوقت فثابتة إلا صلاته بمحجة طريق إذا صلى فيها لضيق ونحوه، فلا تندب إعادته، والصلاة بهذه المواطن الأربعة في حالة الشك مكروهة. قاله الشيخ إبراهيم. ومحل عدم الإعادة الأبدية فيها: إن لم تحقق النجاسة بها، وإلا أعيدت. وتحصل من هذا أن الصلاة بهذه المواطن الأربعة على ثلاثة أقسام: إن أمنت من النجس جازت الصلاة بها، وإن شك في نجاستها كرهت الصلاة بها، وأعاد في الوقت، خلافا لقول ابن حبيب: يعيد العامد والجاهل أبدا، والناسي في الوقت. ووجه الإعادة في الوقت في حالة الشك موافق لما تقدم أن من شك في طهارة البقعة ونجاستها يوجب له ذلك، إما نضحها اتفاقا، أو غسلها اتفاقا. قاله الشيخ عبد الباقي.
(1)
البخاري، كتاب التيمم، رقم الحديث:335.
القسم الثالث: ما إذا تحققت النجاسة بهذه المواضع الأربعة فيعيد أبدا من صلى بها عامدا أو جاهلا بالحكم؛ لأنَّ من صلى على مكان نجس عامدا أَو جاهلا بالحكم يعيد أبدا - كما عرفت - والله سبحانه أعلم. وفي ابن غازي عند قول المصنف: "ومزبلة ومحجة ومجزرة"، عن التوضيح: إن تيقنت النجاسة أو الطهارة في الثلاث فواضح، وإن لم تتيقن فالمشهور أنَّه يعيد في الوقت بناء على الغالب. وهذا إذا صلى في الطريق اختيارا، وأما إن صلى فيه لضيق المسجد فإنَّه يجوز، نص على ذلك في المدونة وغيرها. وروى الترمذي وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن الصلاة في سبعة مواضع: المجزرة، والمزبلة، والمقبرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومعاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله الحرام
(1)
). قال الشاذلي: فأما النهي عن الصلاة في المزبلة وعن الصلاة في المجزرة؛ وهي المكان المعد للذبح والنحر، فنهي كراهة إن لم تؤمن من النجاسة، وإلا جازت. انتهى. وحيث قيل بالكراهة وصلى فيهما، أعاد في الوقت على المشهور عامدا أو غيره كما عرفت، وقال أيضًا: وأما النهي عن الصلاة في محجة الطريق؛ وهي قارعتها؛ وهي من إضافة الشيء إلى نفسه، فنهي كراهة. وقال عند قول الشيخ أبي محمَّد: ومقبرة المشركين، وأما النهي عن الصلاة في مقبرة المشركين فنهي كراهة لكن ليس في الحديث ذكر المشركين كما وقفت عليه، فإن كانت غير منبوشة، وأمن موضع الصلاة من شيء من أجزاء المقبورين، فالمشهور الجواز، وإن كان في موضع الصلاة شيء من أجزاء المقبورين فيجري حكم الصلاة فيها على الخلاف في الآدمي، هل يتنجس بالموت أم لا؟ هذا في مقابر المسلمين، وأما مقبره الكفار فكره ابن حبيب الصلاة فيها؛ لأنها حفرة من حفر النار، لكن من صلى فيها، وأمن من النجاسة لا تفسد صلاته، وإن لم تؤمن كان مصليا على نجاسة. انتهى.
وقال عند قول الشيخ أبي محمَّد: وفي الحمام حيث لا يوقن منه بطهارة وأما النهي عن الصلاة في الحمام وهو معروف وهو مذكر فنهي كراهة حيث لا يوقن منه بطهارة. ابن ناجي: ظاهر كلامه أنَّه إذا أيقن بطهارته فالصلاة فيه جائزة؛ وهو كذلك على المشهور في المذهب. وقال أيضًا: وأما
(1)
سنن ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، رقم الحديث:746. وسنن الترمذي، أبواب الصلاة، رقم الحديث: 346.
النهي عن الصلاة على ظهر بيت الله الحرام؛ أي الكعبة فنهي تحريم على المشهور، فمن صلى على ظهره فرضا أعاد أبدا. ابن ناجي: ظاهر كلام الشيخ أن الصلاة في جوف الكعبة جائزة؟ وهو كذلك سواء كانت فرضا أو نفلا. قاله اللخمي. والمشهور جواز النفل دون الفرض. انتهى.
وكرهت بكنيسة يعني أن الصلاة في الكنائس مكروهة لورود النهي عن الصلاة فيها. والكنيسة بفتح الكاف وكسر النون: موضع تعبد الكفار، فيشمل البيعة؛ وهي للنصارى، والكنيسة لليهود، ومثلهما بيت النار للمجوس. قال الشادلي: والنهي عن الصلاة فيها نهي كراهة. انتهى.
ولم تعد يعني أن من صلى بالكنيسة وشبهها من بيعة وبيت نار، لا إعادة عليه، لا أبدا، ولا في وقت حيث صلى بالدارسة مطلقا، كعامرة اضطر للنزول بها إن صلى بها على فراش طاهر، وإلا أعاد بوقت عند سند والقرافي. واستفيد من هذا أن كراهة الصلاة لا تستلزم إعادتها. قاله الشيخ عبد الباقي. وفي الشبراخيتي: ولم تعد في وقت ولا في غيره حيث كانت دارسة، وكذا العامرة حيث اضطر للنزول بها، وكذا إن لم يضطر لذلك حيث لم يتحقق أنَّه صلى على نجس، وإلا جرى على حكمه. انتهى. وقوله:"وكرهت بكنيسة"؛ محله إن لم يضطر للنزول بها، فإن اضطر للنزول بها كمسافر يلجئه إليها مطر أو برد أو حر أو نحو ذلك، لم تكره الصلاة بها دارسة أو عامرة على ما يفهم من المدونة. قال الشيخ عبد الباقي: وكرهت بالعامرة على ما يظهر من ابن رشد. انتهى. قال الشيخ محمَّد بن الحسن: تبع في هذا الأجهوري، واعترضه بعض الشيوخ قائلا: لم أر من ذكر ذلك عن ابن رشد؛ إذ لم يذكره ابن الحاجب ولا شراحه، ولا ابن عرفة ولا غيرهم، وكيف يقول ابن رشد بالكراهة مع الاضطرار، أو يكون ذلك ظاهرا من كلامه، والمضطر يغتفر له ما هو أعظم من هذا فكيف؟ ومالك قال في المدونة بالجواز؟ هذا في غاية البعد. وقوله:"ولم تعد"، قال الشيخ محمَّد بن الحسن: حاصله يعني كلام الشيخ عبد الباقي أنها إنما تعاد في الوقت في صورة واحدة؛ وهي إن كانت عامرة، ونزلها اختيارا، وصلى بأرضها دون بسط ثوب طاهر عليها. هذا قول مالك في سماع أشهب. وعليه حمل ابن رشد المدونة. انتهى. وقال سحنون: يعيد في الوقت مختارا كان أو مضطرا، وقال ابن حبيب: يعيد الجاهل؛ أي والعامد كما في الحطاب أبدا. وغيره في الوقت وإن اضطر. قاله ابن غازي. وفي الشبراخيتي ما نصّه:
وذكر سند أن النزول بالكنيسة والصلاة بها مكروهة سواء كانت عامرة أو دارسة، ولا إعادة على من صلى بها في وقت ولا غيره. انتهى. وهو يوافق ما للمصنف وقوله:"وكرهت بكنيسة": إما للصور أو للتأسيس على غير التقوى، أو لأنها مأوى الشياطين أو لأنهم لا يتحفظون من النجاسة. وبمعطن إبل يعني أن الصلاة تكره في معاطن الإبل لنهيه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة فيها، وكراهة الصلاة بها ثابتة، وإن بسط طاهرا وصلى عليه. والمعاطن: مبارك الإبل عند الماء لتشرب عللا؛ وهو الشرب الثاني بعد النهل؛ وهو الشرب الأوّل. ولا خصوصية للمنهل بذلك، بل وكذلك محلّ مبيتها وقيلولتها، وحينئذ فالمراد به محلّ بروكها مطلقا. قاله الشبراخيتي. وقال الخرشي: وتكره الصلاة بمعطن الإبل أي موضع مباركها عند الماء. قاله المازري. ثمَّ قال: ويفهم منه أن موضع مبيتها ليس بمعطن، ولا تكره الصلاة فيه. انتهى وفي الشبراخيتي وغيره ما نصّه: وخص ابن الكاتب الكراهة بالمعطن المعتاد، وأما لو باتت؛ يعني ليلة كما لابن عرفة في بعض المناهل لجازت الصلاة به؛ لأنه عليه الصلاة والسلام صلى إلى بعيره في السفر
(1)
)، ونحو ما للخرشي في الحطاب، فإنَّه قال: معاطن الإبل مباركها عند الماء. قاله المازري. انتهى. فيفهم منه أن موضع مبيتها ليس بمعطن، ولا تكره الصلاة فيه انتهى. كلام الحطاب. وفي شرح الشيخ عبد الباقي أن تقييد ابن الكاتب جار في تفسير المعطن بمحل بروكها مطلقا؛ أي سواء كان بين شربها عللا أو نهلا أم بغير ذلك. انتهى. وذكر الحطاب ما لابن الكاتب على وجه يفيد أنه مقابل. قاله غير واحد. وقال ابن عرفة: قلت لعله يعني صلاته صلى الله عليه وسلم إلى بعيره في السفر في غير معطن. انتهى. انظر شرح الشيخ عبد الباقي.
ولو أمن يعني أن الصلاة تكره بمعطن الإبل بكسر الطاء؛ واحد المعاطن، ولو تحققت طهارته أي المحل الذي تصلى فيه الصلاة، وقوله:"ولو أمن" أي لأن النهي تعبد، وقيل: إن الكراهة معللة، وعليه فقيل: لأنَّ أهلها يستترون بها عند قضاء الحاجة، وقيل: لشدة نفورها، وقيل: لسوء رائحتها وحسنُها مأمور به. ولذلك تبخر المساجد، أو لأنها خلقت من الشياطين، والصلاة
(1)
عن نافع قال: رأيت ابن عمر يصلي إلى بعيره، وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 430/ 507.
تبعد عن مواضعهم، والأولى أن النهي للتعبد. قاله الشيخ إبراهيم. ورد المصنف "بلو" رواية يحيى بن يحيى عن ابن القاسم: لو سلم من أن يخرج الناس فيه فلا بأس بالصلاة فيه.
وفي الإعادة قولان يعني أن من صلى في معطن الإبل يعيد. واختلف في كيفية تلك الإعادة فقال ابن حبيب: إن كان عامدا أو جاهلا أعاد أبدا، وإن كان ناسيا أعاد في الوقت. وقال أصبغ: يعيد في الوقت مطلقا، وفي إثبات المصنف القول بالإعادة أبدا مع الجزم بالكراهة، إشكال ظاهر، والمناسب لها الإعادة في الوقت أو عدم الإعادة بالكلية، مع أن النقل هو الأوّل. قاله أحمد ويجاب بأن لفظ الأبدية يطلق عندهم على ما يعاد استحبابا. قاله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمَّد بن الحسن: فيه نظر، وقد صرح في التوضيح قبيل الاستقبال بأن القاعدة في الإعادة المستحبة إنما تكون في الوقت. انتهى.
تنبيه: تكره الصلاة في أربعة عشر موضعا، أحدها: قال في الكتاب: لا بأس بالصلاة وأمامه جدار مرحاض، قال صاحب الطراز: إن كان ظاهره لا يرشح فلا يختلف في صحة الصلاة، وإن كانت مكروهة ابتداء؛ لأنَّ المصلي ينبغي أن يكون على أحسن الهيئات مستقبلا أحسن الجهات لأنه يناجي الله تعالى، وقد قال ابن القاسم في العتبية: إذا كان أمامه مجنون أو صبي فليتنح عنه وكذلك الكافر، فإن كان ظاهره يرشح، فيختلف فيه المذهب أن صلاته صحيحة بغير إعادة. وقال ابن حبيب: من تعمد الصلاة إلى نجاسة أمامه أعاد، إلا أن تبعد جدًا، أو يواريها عنه شيءٌ. فقاس المصلَّى إلَيْهِ على المصلَّى عَلَيه. ونحن نقيسها على ما على يمينه أو يساره أو خلفه. قال الشيخ زروق في شرح قول الرسالة: والمريض إذا كان على فراش ما نصّه: والمشهور في استقباله محلّ النجس الكراهة إن بعد عن مسه وهو في قبلة. انتهى. وثانيها: الثلج قال في الكتاب: لا بأس بالصلاة على الثلج، قال صاحب الطراز: يكره لفرط برودته المانعة من التمكن في السجود كالمكان الحرج. وثالثها: المقبرة، ورابعها: الحمام، قال في الكتاب: إذا كان موضعه طاهرا فلا بأس به، وكرهه الشافعي والقاضي عبد الوهاب، ومنعه ابن حنبل مع سطحه، وخامسها: معاطن الإبل، وسادسها: الكنائس، وسابعها: قارعة الطريق، قال صاحب الطراز: والطريق القليلة الخاطر في الصحاري تخالف ذلك، وكذلك لو كان في الطريق مكان مرتفع لا تصل إليه
الدواب، وقد قال مالك في النوادر في مساجد الأفنية يمشي عليها الدجاج والكلاب وغيرها: لا بأس بالصلاة فيها. وفي البخاري عن ابن عمر: (كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاب عزب، وكانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك
(1)
). قال الشيخ زروق في شرح قول الرسالة: ومحجة الطريق: وهذا إذا صلى في الطريق اختيارا، وأما لضيق المسجد فيجوز. انتهى.
وقد تقدم الكلام على الحمام في مسائل الطهارة، قال: ولا خلاف في طهارة الدارسة العافية من آثار أهلها مزبلة كانت أو مجزرة أو كنيسة، وإنما الكلام في غيرها. انتهى. نقله الحطاب. وثامنها: المجزرة، وتاسعها: المزبلة، وعاشرها: في الجواهر وبطن الوادي؛ لأنَّ الأودية مأوى الشياطين. ابن عبد البر في شرح الحديث الثالث والأربعين لزيد بن أسلم: القول المختار عندنا أن ذلك الوادي وغيره من بقاع الأرض جائز أن يصلى فيها كلها ما لم تكن فيها نجاسة متيقنة تمنع من ذلك، ولا معنى لاعتلال من اعتل بأن موضع النوم عن الصلاة موضع شيطان، وموضع ملعون لا يحب أن تقام فيه الصلاة؛ لأنا لا نعرف الموضع الذي ينفك من الشياطين، ولا الموضع الذي لا تحضره الشياطين. انتهى. وقال ابن عرفة: ورد النهي عنها بالوادي، ونقله ابنُ الحاجب عن المذهب لا أعرفه فيه. انتهى. وفي التوضيح: قيل إن المصنف انفرد به. انتهى. قلت ذكره ابن شأس لما تكلم على الأماكن التي تكره الصلاة فيها. ونقله عنه صاحب الذخيرة، وقبله قاله الحطاب والحادي عشر: القبلة تكون فيها التماثيل، فإن كان في ستر على جدار الكعبة، فأصل المذهب الكراهة، وقال أشهب: لا أكرهه وكره في الكتاب الصلاة بالخاتم فيه تمثال؛ لأنه من زي الأعاجم، والثاني عشر: الصلاة إلى حجر منفرد في الطريق أو غيره بخلاف الحجارة لشبهه بالأصنام، والثالث عشر: قال في الكتاب: لا يستند المريض لحائض ولا لجنب، والرابع عشر: من صلى في بيت نصراني أو مسلم لا يتنزه عن النجاسة أعاد أبدا. انتهى. من الذخيرة. قاله
(1)
عن عبيد الله قال: حدثني نافع، قال: أخبرني عبد الله أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. البخاري، رقم الحديث:440. - عن ابن شهاب قال: حدثني حمزة بن عبد الله عن أبيه قال: كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك. البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث:174.
الحطاب. قال: ويأتي للمصنف عد بعض هذه الأماكن، وينبغي أن يزاد خامس عشر وهو: المكان الشديد الحر لعدم تمكنه من السجود عليه قياسا على الثلج، وفي النوادر قال ابن حبيب: ولا أحب الصلاة في بيت من لا يتنزه عن الخمر والبول، فإن فعل أعاد أبدا، وأكره الصلاة على حصير أو بساط مبتذل يمشي عليه الصبي والخادم ومن لا يتحفظ، وليتخذ الرجل في بيته موضعا يصونه لصلاته أو حصيرا نقيا، فإن لم يفعل وصلَّى حيث شاء من بيته ولا يوقن فيه بنجاسة لم يعد. وقال الشيخ زروق لما تكلم على الحمام: ولابن رشد المقعد الذي يوضع فيه الثياب منه بخارجه محمول على الطهارة، وخفف أبو عمران ما يقطر من عرق الحمام وإن أوقد تحته بالنجاسة. انتهى. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب. وليس من الأماكن المنهي عنها الصلاة بديار ثمود وأرض بابل. قاله أبو عمر بن عبد البر. قاله الشيخ إبراهيم. وقال عن ابن رشد: داخل الحمام محمول على النجاسة، وخارجه على الطهارة حتى يتحقق خلاف ذلك فيهما.
ومن ترك فرضا أخر يعني أن المكلف إذا ترك فرضا أي صلاة من الصلوات الخمس مقرا بوجوبه، وامتنع من أدائه، فإنه لا يقر على ذلك، ويطلب منه فعلها، فإن أبى هدد بالقتل وضرب بالفعل، ويؤخره الإمام أو نائبه وجوبا؛ أي لا يعاجله بالقتل، بل ينظر لبقاء قدر ركعة بسجدتيها من غير اعتبار قراءة فاتحة، ولا طمأنينة، ولا اعتدال على الأرجح صونا للدماء ما أمكن. من الضروري يعني أنَّه يؤخر المختار كله والضروري إلا ما يسع ركعة من الضروري من غير اعتبار تقدير قراءة فاتحة ولا طمأنينة ولا اعتدال - كما تقدم - صونا للدماء، وهذا إن كان عليه واحدة كما هو ظاهره، فإن كان عليه صلاتان أخر لبقاء خمس ركعات في الظهرين حضرا، ولثلاث فيهما سفرا، ولأربع في الليليتين حضرا أو سفرا، ولا يعتبر في الصلاة الأولى طمأنينة ولا اعتدال مطلقا، ولا قراءة فاتحة سوى ركعة مراعاة للقول بأنها إنما تجب بركعة، وكذا لا يعتبر في الركعة الأولى من الصلاة الثانية طمأنينة ولا قراءة ولا اعتدال، وتقدر له الطهارة لأنه لا يؤمر أن يصلي محدثا فلا بد من تقديرها. هذا هو المتعين. قاله الشيخ محمَّد بن الحسن. وتقدر له الطهارة المائية لأنه مطلوب في سعة الوقت مع وجود الماء وقدرته عليه، وسيأتي أن من قال: لا أتوضأ، مثل من قال: لا أصلي، وإذا قدرت الطهارة المائية وخيف باستعمالها فوات الركعة،
فينبغي فيه جريان الخلاف السابق. وتقدم أن الراجح القول بالتيمم وإذا لم يبق من الضروري إلا قدر ركعة. قتل إن كان ماء وصعيد، وإلا فلا يقتل. ومحل قوله:"قتل" حيث طلب بفعله بسعة الوقت ولو ضروريا طلبا مكررا كما يشعر بالطلب، وكونه بسعة الوقت قوله:"أخر"، فإن لم يطلب بسعة الوقت وإنما طلب بضيقه لم يقتل، وقوله:"قتل" خلافا لمن قال: يسجن حتى يصلي أو يموت، وقوله: بالسيف متعلق بقوله: "قتل"؛ يعني أنَّه تضرب عنقه بالسيف كما في سماع أشهب، خلافا لقول ابن العربي. قال متأخرو علمائنا؛ لا يقتل ضربة بالسيف، ولكنه ينخس بالحديد حتى تفيظ نفسه، أو يقوم بالحق الذي عليه من فعلها، قال: وبهذا أقول. انتهى. قاله ابن غازي. وفهم من قوله: أو يقوم بالحق الذي عليه من فعلها، أنَّه متى قام بذلك يترك قتله؛ أي فلا يقال إنه استوجب القتل حدا بخروج الوقت. حدا يعني أنَّه إذا قتل فإنما يقتل حدا؛ أي تكفيرا لامتناعه من الصلاة. وليس امتناعه من الصلاة بموجب لكفره، حتى يقال إنه قتل لكفره، فقوله:"قتل"؛ أي من غير استتابة، وقوله:"حدا" حال من نائب فاعل "قتل"؛ أي قتل حال كونه محدودا لا مرتدا؛ أي قتل وهو على الإِسلام، لكون الشرع أمر بقتله، لا أنَّه يقتل لكونه كافرا، وهذا هو المشهور. ومقابله يقتل كفرا؛ وهو لابن حبيب بناء على مذهبه من تكفير تارك الصلاة. وروي عن الإمام أحمد كابن حبيب أنَّه يكفر بتركها كسلا. وحكى أن الشافعي قال له: إذا كفرته بتركها وهو يقول لا إله إلا الله، فبأي شيء يرجع للإسلام؟ فقال: بفعل الصلاة، فقال له: إسلامه مرتب عليها؛ أي يحصل بعد فعلها، فتكون واقعة في زمن الكفر، فلا تصح وإن لم يرتب عليها لم يدخل بها فسكت، ولو قيل إنه يحصل بالتوجه إليها فلا إشكال. وفي حكم من قال: لا أصلي، من قال لا أتوضأ، أو لا أغتسل من جنابة، أو لا أصوم رمضان، فيؤخر إلى قدر ما يوقع فيه النية قبل الفجر، فإن لم يفعل، قتل. كما هو منصوص عليه. والظاهر أنَّه يراعى بالنسبة للغسل والوضوء قدر ما يسعهما مع الركعة، وحينئذ يقتل. أشار له الشيخ عبد الباقي. ويقتل التارك المذكور إذا قال لا أفعل، وقيده بالأبد أو بالوقت، بل ولو قال مع تماديه على الترك: أنا أفعل أي أنا آتي بالصلاة ولم يفعل. وظاهره أنَّه إذا شرع في الفعل لا يقتل، قاله الشيخ إبراهيم، ورد المصنف "بلو" قول ابن حبيب: لا يقتل، فالمبالغة راجعة
لقوله: وقتل، والمشهور هو ما مشى عليه المصنف، وإذا وجب قتله فحصل توان حتى خرج الوقت، فإنه يقتل كما هو المنصوص، ولا يقال لا يقتل لأنها فائتة؛ لأنَّ المراد بالفائتة في قوله: لا فائتة، الفائتة التي لم يطلب بها في سعة وقتها على ما سأبينه إن شاء الله تعالى.
وصلى عليه غير فاضل؛ يعني أن هذا الشخص المذكور إذا قتل لترك الصلاة، فإنَّه يصلى عليه وجوبا، ولكن يصلي عليه غير أهل الفضل ردعا لأمثاله، وتكره صلاة الفاضل عليه إمام أو غيره كعالم أو صالح، وقوله:"وصلى عليه" أتى به المصنف ردا على من يقول: لا يصلى عليه؛ لأنه كافر، وما ذكره المصنف هو الصحيح لأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة، وهو مما يجب اعتقاده. قال أبو الحسن عند قوله في الرسالة إنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة: الفاكهاني: وما قاله هو مذهب جميع أهل السنة سلفا وخلفا، خلافا للخوارج حيث قالوا: كل ذنب كبيرة وكل كبيرة محبطة للعمل، ومرتكبها كافر وخلافا للمعتزلة حيث قالوا كل كبيرة محبطة للعمل، ومرتكبها له منزلة بين المنزلتين لا يسمى مؤمنا ولا كافرا، وإنما يقال فيه فاسق. انتهى. دمر الله تعالى الجميع. وقال فيما روي عن الإمام أحمد من تكفير تارك الصلاة: وفي صحة هذا عن أحمد نظر.
ولا يطمس قبره يعني أن هذا التارك الذي قتل لا يطمس قبره؛ أي لا يخفى كراهة. قال السوداني: أي لا يمحى قبره ولا يستأصل أمره، بل يسنم كغيره من قبور المسلمين، ويدفن في مقابر المسلمين، وترثه ورثته وتؤكل ذبيحته، وقال الشيخ الأمير: وكره تغيير قبره عن المسلمين بطمس أو غيره. لا فائتة بالنصب: عطف على قوله: "فرضا" باعتبار وصفه؛ أي فرضا حاضرا لا فائتة؛ يعني أن من عليه صلاة فات وقتها لا يقتل لأجل تركها، وهذا إذا لم يطلب بفعلها مع سعة وقتها، فإن طلب بها فيه وأخر وحصل توان عن قتله حتى خرج الوقت، قتل لوجود طلبها. أشار له البساطي. قاله الشيخ عبد الباقي.
على الأصح يعني أن كونه لا يقتل بالفائتة هو القول الأصح، والأولى أن يقول: على المقول؛ لأن ترجيح هذا القول إنما هو للمازري، ومقابل الأصح أنَّه يقتل لترك الفائتة. وقد نص ابن عرفة على أن ترك الصوم وجحده كالصلاة، ففي قول أحمد: فالظاهر أنَّه يؤخر إلى قبل طلوع الفجر بقدر ما يدرك فيه النية، فإن لم يفعل قتل. انتهى. قصور. قاله الشيخ عبد الباقي.
والجاحد كافر يعني أن الجاحد لمشروعية الصلاة أي لوجوبها أو ركوعها أو سجودها أو لشيء من واجباتها كافر اتفاقا، بل إجماعا كما لعياض، وقيده ابن عرفة وغيره بغير حديث عهد بالإِسلام، ومعنى كونه كافرا أنَّه مرتد، يستتاب ثلاثة أيام على ما يأتي في باب الردة.
تنبيهات: الأوّل: قد تقدم الكلام على من امتنع من النطق بالشهادتين - نسأل الله العافية - وتكلم المصنف هنا على من امتنع من أداء فرض من الصلوات الخمس كما علمت، وقد مر أن مثل من ترك صلاة من الصلوات الخمس، من قال لا أصوم فيؤخر إلى ما ينوي فيه الصوم قبل الفجر، ويقتل حدا إن لم يفعل، ومن ترك الزكاة أخذت منه كرها، وإن بقتال كما يأتي، ومن ترك الحج فالله حسيبه أي لا يتعرض له وقد علمت أن الجاحد للدعائم الأربع؛ أعني الصلاة والصوم والزكاة والحج كافر، فهو من قبيل المنكر للرسالة. والعياذ بالله تعالى، وقد مر تقييد ابن عرفة وغيره قريبا فراجعه إن شئت.
الثاني: جاحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة وهو ما يعرفه الخواص والعوام من غير قبول التشكيك، فالتحق بالضروريات كوجوب الصلاة، والصوم، وحرمة الزنى، والخمر كافر إجماعا، فقول المصنف: والجاحد الخ؛ أي للمجمع عليه كالصلاة التي الكلام فيها لا الجاحد للإجماع على وجوبها وما تقدم من قتل تارك الصلاة والصوم حدا إنما هو في التارك الآبي خاصة، فإن انضم إلى ذلك بعض الاستهزاء كما يقول بعض الأشقياء إذا أمر بها: إذا دخلت الجنة فأغلق الباب خلفك، فإن أراد أن الصلاة لا أثر لها في الدين فلا يختلف في كفره، وإن أراد صلاة المنكر عليه خاصة، وأنها لم تنهه عن الفحشاء والمنكر فهو مما اختلف فيه. قاله ابن عبد السلام. قاله الحطاب. ونحوه للشبراخيتي. وزاد ما نصّه: أي مما اختلف في قبول نيته، وإلا فهو ليس كافرا قطعا.
الثالت: اختلف إذا صلى في حال تهديده فقال ابن التلمساني: ينبغي أن يعيد الصلاة التي صلاها مكرها، وقد قال ابن شعبان: لو أكره الجنب على الغسل لم يجزه الغسل، قال ابن أبي زيد في نوادره: ومن قول أصحابنا أن من توضأ مكرها لم يجزه. انتهى. ونقل عن ابن العربي عن أصحابنا أن من يترك الطهارة يقتل بها كالصلاة، وعندي أنَّه يوضأ مكرها، ويقال له صل فإن
من العلماء من قال إن الوضوء يجزئ بغير نية. انتهى. وكأن هذا الخلاف ضعيف فلم تراعه الأصحاب. والله تعالى أعلم. قاله الإمام الحطاب. الرابع: سئل ابن أبي زيد عن الرجل يكون معروفا بترك الصلاة فيوعظ ويخوف بالله فيصلي اليوم واليومين، ثمَّ يرجع إلى تركها فيعاد عليه الكلام، فيقول: إن الله غفور رحيم، وإني مذنب، ويموت على ذلك، فهل يكون إماما وتجوز شهادته أم لا؟ وهل يصلى عليه إذا مات ويسلم عليه إذا لُقِىَ وتؤكل هديته، ولا يفرق بينه وبين امرأته؟ وكيف لو كان هذا حال امرأته، هل يسع زوجها المقام عليها؟ فأجاب بأنّه يصلى عليه وتؤكل هديته، ولا يفرق بينه وبين امرأته، ولا يصلى خلفه، ولا تجوز شهادته، وإن كان هذا حال زوجته فيستحب له فراقها. قيل له: فالرجل ينقر صلاته وهو أكثر شأنه ولا يتم ركوعها وسجودها فيعاتب على ذلك فينتهي ثمَّ يعود، فقال: لا تجوز شهادته، ولا إمامته، ويسلم عليه. انتهى. قاله الحطاب.
الخامس: قال ابن عبد الحكم: يجوز أن يستأجر عن الميت من يصلي عنه ما فاته من الصلوات، والمشهور أنَّه لا يقبل النيابة. وقال أبو الفرج في الحاوي: لو صلى إنسان عن غيره؛ يعني
(1)
أن يشركه في ثواب صلاته لجاز ذلك. انتهى. قاله الحطاب. ونحوه للشيخ إبراهيم.
السادس: اعلم أن الحديث المروي عن أبي هريرة: (من تهاون بصلاته عاقبه الله بخمس عشرة خصلة ستة في الدنيا؛ وهي نزع البركة من رزقه، ونزعها من حياته، ورفع سيما الصالحين من وجهه، وعدم حظه من دعاء الصالحين، وعدم أجره على كل عمل يعمله من أعمال البر، وأن لا يرفع دعاؤه إلى السماء. وثلاث عند الموت؛ وهي موته ذليلا جائعا عطشانا ولو سقي ماء الدنيا لم يروه، وثلاث في القبر؛ وهي: إزعاج ملك إلى يوم القيامة، وجعل الوحشة والظلمة في قبره، وثلاث في القيامة؛ وهي توكيل ملك يسحبه في عرصات القيامة على حر وجهه، وحسابه حسابا طويلا، ولا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم. ثمَّ تلا صلى الله عليه وسلم:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]. انتهى. حديث منكر. قال
(1)
في الحطاب ج 2 ص 68 ط دار الرضوان: بمعنى أن يشركه.
صاحب الميزان: باطل، وفي لفظ ظاهر البطلان. قاله الشيخ إبراهيم. ولما أنهى الكلام على الأوقات، أتبعه بالكلام على ما يعلم به دخول الوقت، فقال:
فصل في الأذان
؛ وهو لغة الإعلام بأي شيء كان، وهو مشتق من الأذن، بفتحتين وهو الاستماع الناشئ من الأذن بالضم: آلة السمع كأنه يلقي الشيء فيها، أو مشتق من الأذن بالضم كأنه أودع ما علمه أذن صاحبه، قال تعالى:{فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44]، وقال تعالى:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3]، وقال تعالى:{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]، وشرعا: الإعلام بدخول وقت الصلاة بكلمات مخصوصة، في وقت مخصوص، على وجه مخصوص، فلو نكس ابتدئ كما في الجواهر لإحالته عن وجهه. وقال أشهب في المجموعة: إن بدأ بأشهد أن محمدا رسول الله قبل أشهد أن لا إله إلا الله فليقل بعد ذلك: أشهد أن محمدا رسول الله، ويجزئه، ويقال: أذان وتأذين وأذين قال:
فلم نشعر بضوء الصبح حتى
…
سمعنا في مساجدنا الأذينا
وقال:
قد بدا لي وضح الصبح المبين
…
فاسقنيها قبل تكبير الأذين
ويقال: أذن بالتشديد: إذا أعلم، وأذن في الشيء بكسر الذال إذا أباحه والأصل فيه من القرآن قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، ومن السنة حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه، لا عبد الله بن زيد بن عاصم صاحب حديث الوضوء الذي وصف فيه وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب الناقوس ليعمل حتى يضرب ليجمع الناس للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا فقلت له: يا عبد الله أتبيع الناقوس، فقال: ما تصنع به. قلت: ندعو به للصلاة، فقال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى، قال: تقول الله أكبر الله أكبر، فذكر الأذان والإقامة، فلما أصبحت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت، فقال:
إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق علمه ما رأيت فليؤذن
(1)
)، ففعلت فلما سمع عمر الأذان خرج مسرعا يسأل عن الخبر، فقال: (يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل ما رأى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله
(2)
). وعند أبي داوود قال: (اهتم النبي صلى الله عليه وسلم كيف يجمع الناس للصلاة فقيل له: تنصب راية فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا فلم يعجبه، فذكروا له القبع بموحدة مفتوحة أو مثلثة أو نون ساكنة؛ يعني الشبور بفتح الشين المعجمة وضم الباء الموحدة المشددة على وزن التنور؛ وهو البوق فلم يعجبه، وقال: هو من أمر اليهود، فذكروا له الناقوس فقال: هو من أمر النصارى
(3)
). وساق الحديث. وقوله: بنون ساكنة من إقناع الرأس الذي هو رفعه، ومنه قوله تعالى:{مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} [إبراهيم: 43]، وأورد أن رؤيا غير الأنبياء ليست وحيا فلا يثبت بها حكم شرعي، فكيف ثبت الأذان برؤيا عبد الله؟ وأجيب بمقارنة الوحي لذلك. واختلف هل الأذان أفضل أو الإمامة أفضل؟ وقيل: إن كان الإمام توفرت فيه شروط الإمامة فهي أفضل، وإلا فلا، وقيل: هما سواء. قاله الحطاب. وقال الشبراخيتي: وشهر الأقفهسي أفضلية الإمامة عليه، واختار عبد الحق أفضليته عليها، وهل الأذان أفضل من الإقامة؟ لكونه شعار الإِسلام ووجوبه في المصر، وهو الذي اختاره بعضهم - كما قاله بعض الشيوخ - أو الإقامة أفضل منه؟ لطلبها من الجماعة والفذ، ولبطلان صلاة تاركها على قول. وهذا الثاني يجري مثله في الأذان، فقد قال ابن عرفة: روى الطبري إن تركه أهل مصر عمدا بطلت صلاتهم. انتهى. وقال عبد الباقي: وهو أفضل من الإقامة من حيث كونه شعار الإِسلام ووجوبه في المصر على قول مختار، ولا يعلم في الإقامة قول مختار بوجوبها ولبطلان صلاة أهل المصر بتركه عمدا، ومقاتلتهم عليه إن تركوه. والإقامة أفضل من حيث اتصالها بالصلاة ولبطلان صلاة تاركها على قول، والكلام كله في الأذان السنة لا المندوب والواجب فيما يظهر. انتهى. وقوله: ولبطلان صلاة أهل المصر بتركه الخ، قال الشيخ محمَّد بن الحسن: يأتي له آخر الفصل أن القول بالبطلان غير
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث 499
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث 499
(3)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث 498
معروف في الذهب، وإن كان مرويا عن مالك. وقال الحطاب: لا أعلم في صحة صلاة من ترك الأذان خلافا. انتهى. ابن حجر: اختلف في الجمع بين الأذان والإمامة فقيل: يكره، وفي البيهقي من حديث جابر مرفوعًا النهي عن ذلك، لكن سنده ضعيف، وقيل: خلاف الأولى، وقيل يستحب، وصححه النووي. انتهى
(1)
). وقال الشيخ عبد الباقي: نقل النووي عن الترمذي أنَّه صلى الله عليه وسلم أذن مرة في السفر راكبًا، وقال فيه وأشهد أن محمدا رسول الله، وتعقبه الحافظ ابن حجر بأنّه جاء في مسند أحمد من الوجه الذي خرج منه الترمذي بلفظ: فأمر بلالًا بالأذان، فعرف أن في رواية الترمذي اختصارا، وأن معنى أذن أمر بلالًا به، كما يقال: أعطى الخليفة فلانا ألفا مع أنَّه إنما باشر العطاء غيره، ونسب للخليفة لكونه آمرا. انتهى
(2)
). نعم قال السيوطي في شرح البخاري: ظفرت بحديث آخر مرسل في سنن سعيد بن منصور عن [ابن
(3)
] أبي مليكة قال: (أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: حي على الفلاح
(4)
)، وهذه رواية لا تقبل التأويل. انتهى. ولم يعين كونها في سفر، ولا كونه قال أشهد أن محمدا رسول الله، وقول الهيثمي في شرح المنهاج نقل عنه في تشهد الصلاة أنَّه كان يقول: أشهد أني رسول الله مرة، وأشهد أن محمدا رسول الله مرة أخرى، تبع فيه الرافعي، قال الحافظ في تخريجه: لا أصل للأول كما في المقاصد. انتهى. وقال الشبراخيتي وغيره: وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤذن لأنه لو قال حي على الصلاة لم يسعهم التخلف، وتركه الخلفاء لاشتغالهم بأمور المسلمين، قال عمر لولا الخلافة لأذنت. وفي الحديث: (المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة
(5)
) بفتح الهمزة جمع عنق؛ أي تشوفا إلى رحمة الله لأنَّ المتشوف يطول عنقه. وقيل: إذا ألجم الناس العرق طالت أعناقهم، وقيل: معناه الدنو من الله تعالى، وقيل: معناه أنَّه أكثر أتباعا، وقيل: أكثر الناس أعمالا. قال القاضي عياض: ورواه بعضهم بكسر الهمزة أي إسراعا إلى الجنة من سير
(1)
فتح الباري، ج 2 ص 77.
(2)
فتح الباري، ج 2 ص 79.
(3)
ساقطة من الأصل، وما بين المعقوفين من فتح الباري، ج 2 ص 79.
(4)
التوشيح على الجامع الصحيح للسيوطي، ج 1 ص 407.
(5)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:387.
العَنق، ومنه الحديث: (كان يسير العنَق فإذا وجد فجوة نص
(1)
)، ومنه الحديث: (لا يزال الرجل معنقا ما لم يصب دمًا
(2)
)؛ يعني منبسطا في سيره يوم القيامة. قاله الحطاب. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا غزا قوما فإذا سمع مؤذنا أمسك وإلا أغار
(3)
).
سن الأذان يعني أن الأذان سنة، وإنما يسن لجماعة طلبت غيرها أي أنَّه يسن في حق الجماعة التي تطلب غيرها بحضر أو سفر بكل مسجد وجامع، ولا يكتفى في متلاصقين أو متقاربين، أو أحدهما فوق الآخر بأذان واحد لهما، وبعرفة ومزدلفة، وبكل موضع جرت العادة بالاجتماع فيه، وكذا العدد الكثير في السفر فيسن في جميع ذلك كفاية؛ وهو في المساجد والجوامع آكد، وإذا كان مسجد بين قوم فلا يجوز لهم أن يقتسموه، فإن ارتكبوا المحظور وضربوا وسطه حائطا فله حكم المسجدين في الأذان والإمام فلا يجزئهم مؤذن واحد، وإنما لم يجز لهم القسم ابتداء لأنَّ ملكهم قد ارتفع بالتحبيس والذي يظهر من المصنف وابن الحاجب أن الأذان سنة مطلقا وأنه لا يجب في المصر. قال الإمام الحطاب: ولم يحك ابن عرفة في وجوبه في المصر خلافا، وجعل محلّ الخلاف وجوبه في مساجد الجماعات؛ وهو الظاهر وقال الشيخ عبد الباقي: تعتري الأذان أحكام خمسة ليس منها الإباحة، بل السنة والوجوب والحرمة والكراهة والندب، فيسن لجماعة طلبت غيرها، ويجب في المصر كفاية، ويحرم قبل الوقت كعلى امرأة على أحد قولين، وكره لها على الآخر، قال الشيخ محمَّد بن الحسن: ويأتي عن الحطاب أن المراد بالكراهة عند من عبر بها المنع؛ لأنَّ صوتها عورة، وأن التعبير بالكراهة وقع للخمي ومن تبعه، فيحمل على ذلك كما صرح به اللخمي نفسه في موضع آخر. انتهى. وفي حاشية الأمير عن شيخه أن الأذان يسن في كل مسجد، ولو لم يكن به جماعة تطلب غيرها. انتهى. وندب لمسافر، أو في فلاة، ولجماعة في فلاة، أو
(1)
البخاري، كتاب الحج، رقم الحديث:1666.
(2)
أبو داود، كتاب الفتن، رقم الحديث:4270. ولفظه: لا يزال المؤمن معنقا صالحا ما لم يصب دمًا حراما فإذا أصاب دمًا حراما بلَّح.
(3)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:610. ولفظه: كان إذا غزا بنا قوما لم يكن يغزوا بنا حتى يصبح وينظر فإذا سمع أذانا كف عنهم وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم.
- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار فسمع رجلًا يقول الله أكبر الله أكبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفطرة ثمَّ قال أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت من النار فنظروا فإذا هو راعي معزى. مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:382.
مسافرين لم يطلبوا غيرهم، وكره للسنن ولو راتبة، ولجماعة مقيمين لم يطلبوا غيرهم، ولفائتة وكذا في ضروري، وفرض كفائي.
في فرض يعني أن الأذان إنما يسن في فرض أي في صلاة من الصلوات الخمس التي هي؛ الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، فيكره في السنن ولو راتبة كالعيد. ويكره للنافلة. وقوله:"في فرض"؛ أي عيني فيكره في الكفائي أي صلاة الجنازة.
وقتي يعني أن الأذان إنما يسن في الفرض الذي وقت أدائه باق، ولا بد من تقييده بالاختياري، فالفائتة لا يؤذن لها؛ لأنَّ الأذان لها مكروه ووقتها وقت ذكرها، ويكره الأذان في الضروري أي الضروري الذي بعد المختار. وأما ضروري الجمع فيؤذن فيه كما يأتي، ويحرم الأذان إذا خيف به خروج المختار فلو ذكر جماعة صلاة وخافوا إن أذنوا خرج الوقت فلا يؤذنوا، وليقيموا ولو خافوا خروج الوقت بفعل الإقامة سقطت. وقال الشيخ المحقق الأمير: وجب الأذان كفاية في المصر، وقوتلت لتركه؛ لأنه من أعظم شعائر الإِسلام، وسن كفاية لجماعة طلبت غيرها في فرض عيني بوقت جواز بكل مسجد؛ وهو المكان المعد للصلاة وإن تلاصقت أو تراكمت، وندب لفذ وجماعة غير طالبة غيرها إن كانا بفلاة؛ وهو معنى السفر في الأصل فلا يشترط سفر القصر، فإن لم يكونا بفلاة كره لهما كلنفل وجنازة وفائتة، وبوقت منع؛ وهو الضروري. انتهى. وقوله: كلنفل: تشبيه في الكراهة كما نص عليه هو في تقييده. والله سبحانه أعلم.
تنبيهات الأوّل: اعلم أن أول الوقت أولى في الأذان كما في الحطاب، وكره مالك أن يؤذن في أذن الصبي المولود، واستحب بعض أهل العلم أن يؤذن في اليمنى ويقام في اليسرى لخبر ابن المسيّب عن الحسين بن علي رضي الله عنهما: (من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى لم يضره أم الصبيان
(1)
) انتهى؛ وهي القرينة والعياذ بالله تعالى، وإذا أذن في أذن المحزون ذهب حزنه، وفي أذن سيئ الخلق حسن خلقه، وأنكر ابن الحاج الأذان خلف المسافر، وقال إنه بدعة، وكذا الإقامة.
(1)
الأذكار، ج 1 ص 566.
الثاني: اعلم أن النية معتبرة في الأذان لخبر: (إنما الأعمال بالنيات
(1)
)، فلو بدأ في ذكر الله بالتكبير، تم بدا له أن يؤذن، ابتدأ التكبير، ولا يبني على التكبير الأوّل، ولم يقل أحد إنه يبني على تكبيره الذي لم يقصد به الأذان. قاله في الطراز. والظاهر أن مراده نية الفعل لا نية التقرب، وإن كان خلاف ما في الحطاب عن الذخيرة. قاله الشيخ محمد بن الحسن.
الثالث: قول المصنف لجماعة مقتضاه أن الفذ لا يسن في حقه الأذان ولو طلب غيره، وبذلك صرح السوداني، فقال: قوله: "لجماعة" لا منفرد ولو طلب غيره، ولا جماعة لم تطلب غيرها للصلاة معها كأهل المدارس والرباط. وفي الرسالة: والأذان واجب في المساجد، قال الشاذلي: ظاهره سواء كانت جماعة أو غير جماعة. انتهى. قال مقيده: وهو مخالف لما هنا. والله سبحانه أعلم. وقال الشيخ ميارة: قولهم للجماعة مخرج للمنفرد، فلا يسن في حقه الأذان، إلا إذا سافر أو كان بفلاة لخبر: (إذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنَّه لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن إلا شهد له يوم القيامة
(2)
)، قاله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد، قال أبو سعيد الخدري سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. وفي الموطإ عن سعيد بن المسيّب أنَّه كان يقول: (من صلى بأرض فلاة صلى عن يمينه ملك، وصلَّى عن شماله، ملك فإذا أذن وأقام صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال
(3)
)، انتهى. نقله الرماصي. وأما المصلي في منزلة وحده فلا يستحب له لأنه ورد في المسافر، ومن في البادية دون الرجل المنفرد في منزلة. قاله في النوادر. نقله الرماصي.
الرابع: ما تقدم من أن الفائتة لا يؤذن لها هو المشهور، قال ابن ناجي في شرح المدونة: اختلف هل يؤذن للفوائت على ثلاثة أقوال؟ فقيل: لا يؤذن لها، قاله أشهب. وهو نقل الأكثر وبه الفتوى عندنا بإفريقية، قال في شرح الرسالة: وقيل: يؤذن لأولى الفوائت. حكاه الأبهري رواية عن المذهب، واختار إن رجي اجتماع الناس لها أذن، وإلا فلا. وكلاهما حكاه عياض في الإكمال.
(1)
إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، صحيح البخاري، كتاب بدإ الوحي، رقم الحديث:1.
(2)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:609. والموطأ، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 5. (. . . لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)).
(3)
الموطأ، كتاب الصلاة، رقم الحديث:13.
الخامس: استحب الإمام الشافعي أن يقال عند كل صلاة لا أذان لها: الصلاة جامعة. عياض: وهو حسن.
السادس: مما جرب لحرق الجن أن يؤذن في أذن المصروع اليسرى سبعا، ويقرأ الفاتحة سبعا، ويقرأ المعوذتين {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} وآخر الحشر و {ص} {وَالصَّافَّاتِ} إلى {لَازِبٍ} . قاله الشيخ إبراهيم. وإذا قرأ آية الكرسي على ماء ورش به في وجه المصروع فإنَّه يفيق، وفي رياض الصالحين عن أبي حازم أنَّه قال: بلغني أنَّه من قال إذا فرغ من أذانه: لا إله إلا الله وحده لا شريك له كل شيء هالك إلا وجهه: اللهم أنت الذي مننت علي بهذه الشهادة وما شهدتها إلا لك ولا يتقبلها مني غيرك فاجعلها لي قربة عندك وحجابا من نارك واغفر لي ولوالدي ولكل مؤمن ومؤمنة بك برحمتك إنك على كل شيء قدير. أدخله الله الجنة بغير حساب. انتهى.
ولو جمعة يعني أن الأذان الثاني في الجمعة؛ أي الثاني، فعلا الأوّل مشروعية، سنة وهو الأذان الثاني الذي كان بين يديه صلى الله عليه وسلم وهو جالس على المنبر، ولم يكن يؤذن لها إذ ذاك على محلّ مرتفع قبل الذي بين يديه، فأحدث عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته أذانا على المئذنة عند دخول الوقت، وأبقى بعده الأذان الذي كان يفعل بين يديه صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر، فصار ما أحدثه عثمان أولًا في الفعل، وثانيا في الإحداث، والذي بين يديه صلى الله عليه وسلم أولًا في المشروعية وثانيا في الفعل. قال الشيخ عبد الباقي: والعمل إلى الآن على فعل عثمان، وقول الرسالة: وهذا الأذان الثاني؛ أي في المشروعية بدليل قوله: أحدثه بنو أمية أي عثمان؛ وهو أول في الفعل. وقول المصنف: "بأذان ثان"؛ أي فعلا، وإن كان هو الأوّل مشروعية وحملت المصنف؛ أي قوله:"ولو جمعة" على الأذان الذي في زمنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ الخلاف المشار إليه "بلو" إنما وقع في الأذان الذي في زمنه عليه الصلاة والسلام، فقد أوجبه ابن عبد الحكم لتعلق وجوب السعي وتحريم البيع به، واستحسنه اللخمي، واختاره ابن عبد السلام، ورد بأن ذلك التعلق يدلّ على مراعاة وجوده، لا على وجوبه واشتراطه. قاله غير واحد. وقال الشيخ الأمير: والظاهر أن الوجوب غير شرطي عنده؛ يعني عند ابن عبد الحكم القائل بالوجوب، وأما الأذان الأوّل فعلا الثاني مشروعية؛ وهو أذان عثمان، فقال الشيخ محمَّد
بن الحسن: الحكم عليه بأنّه سنة غير ظاهر؛ لأنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر أنَّه مستحب فقط. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: كل منهما سنة، والثاني آكد، ونحوه للشبراخيتي، وزاد: فالمبالغة للرد على المخالف في الثاني، ولدفع التوهم في الأوّل. انتهى. وعلى ما لهما يكون قوله:"ولو جمعة" صادقا بالأذانين، ونحو مالهما للأمير، فإنَّه قال مشبها على السنة كأذاني الجمعة، وسيأتي في الجمعة كيفية الأذان الذي أحدثه عثمان رضي الله تعالى عنه. وهو مثنى بضم ففتح فتشديد؛ يعني أن الأذان بمعنى الكلمات المخصوصة التي هي سبع عشرة في غير الصبح، وتسع عشرة فيه يثنى؛ أي تقال كل جملة منه في محلها مرتين ما عدا الجملة الأخيرة فإنها مفردة؛ أي لا تقال إلا مرة واحدة إشعارا بالوحدانية، فتستثنى من كلامه، وختم بها ليختم بالتوحيد، وباسم الله تعالى كما بدئ به، والمراد بقوله:"سن الأذان" الفعل أي النطق بالكلمات المخصوصة على الوجه المعهود شرعًا، وبقوله: وهو الكلمات المخصوصة نفسها، ففيه استخدام، فإن قلت قوله:"وهو مثنى" ظاهر في غير الشهادتين، فإن كل جملة منهما مربعة، فالجواب أن كل جملة منه مثناة في محلها، فكل جملة من الشهادتين إنما تقال في محلها مرتين لا أكثر، وذلك واضح، ولا يربع التكبير كما يقوله أبو حنيفة والشافعيُّ. وورد في الأحاديث الصحيحة ما يشهد لنا، ولهم ورجح شاهدنا بعمل أهل المدينة والخلفاء، ولوأوتر الأذان أو شفع الإقامة ولو غلطا لم يجزه، ولو أفرد البعض في الأذان أو شفعه في الإقامة، فإن كان ذلك في الأقل لم يضر، وإلا ضر، ولا يعتبر في الأذان ما أصله الإفراد كالتوحيد الأخير. قاله الشيخ الأمير.
تنبيهات: الأوّل: اتفق أن كافرا كان يؤذن في مسجد، وكان يقول أجحد أن محمدا مكان أشهد، ثمَّ إن الملك رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: اقتل فلانا المؤذن، فلما أصبح الملك أمر بإحضاره، وأراد قتله فشهد الناس فيه بالخير فتركه، ثمَّ إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا، فأمره بقتله أيضًا فأحضره وأراد قتله أيضًا فشهد فيه بالخير فتركه، فرآه ثالثة وقال له: لا بد أن تقتله فأحضره، وقال له: لا بد من قتلك، فقال: من يخبرك بقتلي؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك تشهد الرجل شهادة الحق وأخبره أنَّه كان كافرا، وأنه كان إذا وصل لقوله أشهد أن محمدا رسول الله قال: أجحد. وكان رجل من النصارى إذا سمع المنادي
ينادي: أشهد أن محمدا رسول الله، قال: حرق الكاذب، فدخلت خادمه ليلة من الليالي بنار فاحترق هو وأهله. رواه ابن جرير. وابن أبي حاتم. قاله الشيخ إبراهيم.
الثاني: الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان للإعلام، فكرر ليكون أبلغ في الإعلام، والإقامة للحاضرين فلا حاجة إلى تكرارها، ولهذا يكون صوته في الإقامة دونه في الأذان.
الثالث: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان بدعة، أول حدوثها زمن الناصر صلاح الدين يوسف بن أبي أيوب في أذان العشاء ليلة الجمعة، زعم بعض الفقراء أنَّه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يقول للمحتسب أن يأمر المؤذنين أن يصلوا عليه عقب كل أذان فسر المحتسب بتلك الرؤيا، وأمر بذلك واستمر إلى يومنا والصواب أنَّه بدعة حسنة. قاله الشيخ إبراهيم.
الرابع: قال في الذخيرة: الأذان سبع عشرة جملة، وقول الأصحاب سبع عشرة كلمة مجاز عبروا بالكلمة عن الكلام، وإلا فكلماته ثمانية وستون كلمة. انتهى. نقله الحطاب. قال: وهذا في غير أذان الصبح، ويزيد أذان الصبح ثماني كلمات. والله سبحانه أعلم. انتهى.
الخامس: قال الفاكهاني في شرح الرسالة من صفات الأذان أن لا ينكسه، فإن فعل ابتدأ الأذان؛ إذ لا يحصل المقصود منه إلا بترتيبه، ولأنه عبادة شرعت على وجه فلا يغير. انتهى. وقد مر هذا. والحاصل أن المقدم من كلمات الأذان عن محله كالعدم، فيعاد ليحصل الترتيب، ولا يمنع تقديمه الاتصال. قاله غير واحد.
ولو الصلاة خير من النوم يعني أن هذه الجملة المشروعة في نداء الصبح فقط، وهي الصلاة خير من النوم مثناة، خلافا لقول ابن وهب بإفرادها، وخلافا للقول بتركها رأسا لمنفرد بمحل منعزل عن الناس؛ (وهي صادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الاستذكار، وأبي داوود والنسائي والطبراني وأبي الشيخ عن أبي عمر وابن ماجه
(1)
). وقول عمر رضي الله عنه: (اجعلها في نداء
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:500. والنسائي السنن الكبرى، الحديث: 623. وابن ماجه، كتاب الأذان، رقم الحديث:715. والطبراني الكبير، رقم الحديث: 6738. وكنز العمال، رقم الحديث:20957. والموطأ، كتاب الصلاة، الحديث: 157.
الصبح
(1)
) إنكار أن يستعمل شيء من ألفاظ الأذان في غير محله، كما كره مالك التلبية في غير الحج لا أنَّه إنشاء من عمر لحكمها، وموضعها بأذان الصبح قبل التكبير الأخير بينه وبين حي على الفلاح. مرجع الشهادتين يعني أن الأذان ترجع فيه الشهادتان أي تعاد كل كلمة منهما مرتين كما أتى بهما قبل ذلك مثناتين، فقوله:"مرجع" بفتح الجيم مشددا، خبر ثان. كما في الشبراخيتي. وغيره؛ أي وهو مثنى مرجع الشهادتين. والشهادتان هما: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله، ومعنى أشهد: أتحقق، وأتيقن ومعنى حي: هلموا؛ بمعنى: أقبلوا وأسرعوا، ومعنى الفلاح: الفوز بالنعيم في الآخرة. وسئل بعض الحكماء عن الحكمة في تعاطف كلمتي الشهادة في التشهد وعدم تعاطفهما في الأذان، فأجاب بأن الجمل في الأذان بينها كمال الاتصال؛ لأنَّ كل جملة من جمل الأذان متضمنة معنى أدعو إلى الصلاة، فكانت كجمل التوكيد، فلهذا لم تتعاطف جمله. والتشهد بخلاف ذلك، وإنما هما فيه للإقرار بالتوحيد والرسالة.
قال جامعه عفا الله عنه: وهذا الذي قاله هذا الفاضل حسن جدًا. والله سبحانه أعلم.
تنبيهات: الأوّل: حكم الترجيع السنية فلا يبطل الأذان بتركه، فقول الأبي: مقتضى مذهبنا ركنيته، فيبطل الأذان بتركه، غير ظاهر.
الثاني: حكمة الترجيح إغاظة الكفار؛ لأنَّ أبا محذورة رضي الله عنه أخفى صوته بهما حياء من قومه لما كان عليه من شدة بغضه للنبي صلى الله عليه وسلم وتهييجه الناس عليه، ولم ينتف بانتفاء سببه كالرمل في الحج. ويطلب من المؤذن المتعدد على المعروف، وحكى المازري عن مالك قولًا أنهم إذا كثروا يرَجَّع الأوّل خاصة.
الثالث: إن ترك الترجيع فإن ذكر بالقرب أعاده وما بعده فإن طال صح أذانه ولم يعد شيئًا. وقوله: "مرجع الشهادتين" خالف في ذلك أبو حنيفة محتجا بأن سببه إغاظة المشركين بالشهادتين، وأمره عليه الصلاة والسلام أبا محذورة بالإعادة للتعليم، وأنه كان شديد البغض له عليه الصلاة والسلام، فلما أسلم وأخذ في الأذان ووصل إلى الشهادتين أخفى صوته حياء من
(1)
الموطأ، كتاب الصلاة، رقم الحديث:156.
قومه، فدعاه عليه الصلاة والسلام وعرك أذنه وأمره بالترجيع وقد انتفى السبب. وجوابه ما تقدم.
الرابع: قال الإمام الحطاب: الذي يظهر من كلام أصحابنا أن الترجيع اسم للعَوْد إلى الشهادتين، وكلام ابن الحاجب صريح في ذلك وكذلك قال الأبي وغيره. وللشافعية في ذلك خلاف، فقيل: اسم للعود، وقيل: لما يأتي به أولًا، وفسره بعضهم بأنّه اسم للمجموع؛ وهو ظاهر والله أعلم. انتهى.
بأرفع من صوته أولا قوله: "بأرفع" يتعلق بقوله: "مرجع"؛ يعني أن المؤذن يرجع الشهادتين بأعلى من صوته بهما أولًا؛ أي يأتي بهما ثانيا بصوت أعلى من صوته بهما أولًا، فيكون صوته أولًا بهما دون صوته بالتكبير لكن بشرط إسماع الناس، إعلانه بهما أولًا وإلا لم يكن آتيا بالسنة، ويساوي به التكبير على المعتمد لأنه يرفع صوته به منتهاه. وقيل: يكون صوته في الترجيع أرفع من صوته بالتكبير، وعلى هذا يكون صوته بالتكبير مساويا للشهادتين قبل الترجيع. والحاصل أنَّه يرفع صوته بأول الأذان؛ وهو التكبير منتهاه، ثمَّ يخفضه بالشهادتين عن ذلك خفضا يقع معه الإعلام كما يشعر به صيغة أفعل، ثمَّ يرفع صوته بهما ويكون صوته في الترجيع مساويا لصوته في التكبير على المعتمد وإن استُظهر المقابل، ولا بد أيضًا من إسماع الناس بهما أولًا إسماعا يحصل به الإعلام وإلا لم يكن آتيا بالسنة -كما مر- كفعل عوام المؤمنين من إخفائهما جدًا حتى لا يسمع تلفظه بهما. قاله الشيخ إبراهيم. وفي الحطاب: والكل متفقون على أنَّه ليس بخفض لا يقع به إعلام، وإنما هو رفع دون رفع.
تنبيه اسم أبي محذورة الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالترجيع: سمرة، وقيل: أوس، وقيل: جابر. قاله الشيخ إبراهيم. مجزوم خبر بعد خبر؛ يعني أن الأذان يكون مجزوما؛ أي تكون كل كلمة منه ساكنة الآخر مقطوعة عما بعدها، فالمراد بالجزم الجزم اللغوي. الجوهري: جزم الحرف أسكنه، وعليه سكت. ومقتضى المصنف أن جزم الأذان من الصفات الواجبة وأنه لا يصح بدونه. قال الإمام الحطاب: وليس كذلك. قال ابن عرفة عن المازري: اختار شيوخ صقلية جزم الأذان؛ وشيوخ القرويين إعرابه، والجميع جائز. انتهى. ونقله غيره. انتهى. وقال أبو
علي: والظاهر ما اقتضاه المؤلف من كونه من الصفات الواجبة، قال أبو الحسن: الأذان سمع موقوفًا، ومن حرك فإنما يحرك الله أكبر الأوّل بالفتح. قال عياض في المشارق: ويجوز تحريك الأولى وإسكانها، وفي الثاني السكون لا غير، وكان أبو العباس يحتج بأن الأذان سمع مجزوما غير معرب في مقاطعه كقوله: حي على الصلاه حي على الفلاح، فمن أعرب الله أكبر لزمه أن يعرب الصلاة والفلاح بالخفض، ونحوه لابن يونس، فهذا يدلّ على أن وقفه من الصفات الواجبة؛ لأنه كذلك سمع. ونحوه لابن الفاكهاني، وصاحب البديع، ونحوه قول الحافظ بن حجر: إن الأذان لم يسمع إلا موقوفًا، فتأمل. ونقل ابن فرحون عن ابن رشد أن الخلاف إنما هو في التكبيرتين الأوليين، وأما غيرهما من ألفاظ الأذان فلم ينقل عن واحد من السلف والخلف أنَّه نطق به إلا موقوفًا. انتهى قاله الشيخ محمَّد بن الحسن. وفي الجواهر: يجزم آخر كل جملة من الأذان، ولا يصلها بما بعدها، ويدمج الإقامة للعمل في ذلك. انتهى. قاله الحطاب. وقال ابن فرحون: الإقامة معربة إذا وصل كلمة بكلمة، فإن وقف وقف على السكون. وأما الأذان فإنَّه على الوقف. وقال ابن يونس: قال النخعي، الأذان والتكبير كله جزم. قال غيره: وعوام الناس يضمون الراء من الله أكبر الأوّل، والصواب جزمها؛ لأنَّ الأذان سمع موقوفًا. وقال ابن أبي زمنين: الأذان موقوف. وإنما جعل الأذان موقوفًا لامتداد الصوت فيه، وأعربت الإقامة؛ لأنها لا تحتاج للاجتماع عندها. والسلامة من اللحن في الأذان مستحبة. قاله الشيخ عبد الباقي.
بلا فصل يعني أنَّه لا يفصل بين كلمات الأذان أي يكره فصل كلماته كلها أو بعضها، إلا أن يخاف على صبي أو دابة أو أعمى أن يقع في بير مثلا، فيجب الفصل. ولم يأت بهذا الوصف على نمط ما قبل؛ بأن يقول متصلًا لمناسبة. قوله: ولو بإشارة لكسلام يعني أن المؤذن يكره له أن يفصل بين كلمات الأذان أو بعضها بقول من رد سلام، أو ابتدائه، أو تشميت عاطس، أو فعل من أكل أو شرب، أو بإشارة لسلام، أو رده، أو حاجة أو غير ذلك. والكلام الذي لا يجب رده أحرى لا إن وجب لكإنقاذ أعمى، فيتكلم، ويبني إلا أن يطول، فيبتدئ. والملبي مثل المؤذن، ويجب عليهما الرد بعد الفراغ، وإن لم يكن المسلم حاضرا، وأسمعاه إن حضر ولا يكتفى بإشارتهما حال التلبية والأذان فيما يظهر، وتكره الإشارة ولو لم يقع بها فصل. كما نص عليه
الشيخ محمَّد بن الحسن. ويشير المصلي إذا كان المسلم يفهمها لا إن كان أعمى، وإنما أشار لوقع الصلاة في النفس، وحرمة الكلام فيها بخلاف الأذان، فلوأجيز فيه إشارة لربما تطرق للكلام، ولا رد على قاضي حاجة أو مجامع، ولو بقي المسلم لتلبسهما بما ينافي الذكر، بخلاف المؤذن والملبي. نقله الشيخ عبد الباقي. قوله. "ولو بإشارة لكسلام" قال في الكتاب: لا يسلم في أذانه، ولا يرد سلاما. أبو الحسن الصغير: ظاهره لا كلاما ولا إشارة. وفي مختصر الوقار: لا يرد كلاما ولا بأس أن يرد إشارة. قاله الشبراخيتي.
وبنى يعني أن من فصل الأذان يبني؛ أي يكمل أذانه سواء فصله عمدا أو سهوا، ومحل تكميله لأذانه. إن لم يطل زمن فصله، وأما إن طال فلا يبني على الأوّل لبطلانه، بل يستأنف أذانه لإخلاله بنظامه والطول ما يحصل به للسامع اعتقاد أنَّه غير أذان واحد، ولو مات ابتدأه غيره، ولا يبني على أذان الأوّل، ولو قرب، والإقامة مثل الأذان في الحكم. قاله الحطاب. ابن فرحون: ولا يفصل المؤذن والمقيم ما شرعًا فيه بسلام ابتداء، ولا برد سلام، ولا بتشميت عاطس، ولا كلام البتة. فإن فرق واحد منهما الأذان أو الإقامة بما ذكر أو بغيره من سكوت أو جلوس أو شرب أو غير ذلك، فإن كان التفريق يسيرا بنى، وإن كان متفاحشا استأنف. قاله الحطاب. ابن عرفة: سمع موسى ابن القاسم: إن رعف مقيم أو أحدث، قطع وأقام غيره، وإن رعف مؤذن تمادى، فإن قطع وغسل الدم ابتدأ. اللخمي: إن قرب بنى. انتهى. وكلام اللخمي تقييد لما قبله. كما صرح به ابن ناجي. قال: وإن أراد غيره أن يبني على أذانه فلا يفعل وابتدأ. انتهى. قاله الحطاب. وفي الطراز: فإن أغمي عليه في بعض الأذان أو جن ثمَّ أفاق بنى فيما قرب. وقاله أشهب. في الإقامة. وإن رعف أو أحدث في الإقامة فليقطع، ويقيم غيره. وقال اللخمي في تبصرته: ولا يتكلم في أذانه، فإن فعل وعاد بالقرب بني على ما مضى. وإن بعد ما بين ذلك استأنفه من أوله، ومثله إن عرض له رعاف أو غير ذلك مما يقطع أذانه، أو خاف تلف شيء من ماله، أو خشي تلف أحد أعمى أو صبي أن يقع، فإنَّه يقطع، ثمَّ يعود إلى أذانه، فيبني إن قرب، ويبتدئ إن بعد. انتهى. قال الحطاب: ولا مفهوم لقوله: ماله، بل وكذلك إن خشي تلف مال غيره لوجوب حفظه. والله أعلم. انتهى. وفي شرح الشيخ عبد الباقي ما نصّه: سند وفصله
بالكلام مكروه. انتهى. وبغيره كأكل كذلك فيما يظهر، وقول العمدة: ويمنع الأكل والشرب والكلام ورد السلام يحمل المنع على الكراهة كذا ينبغي. قال أحمد: فإن رعف في أذانه تمادى، وإن قطع وغسل الدم فليبتدئ، ولا يبني غيره على أذانه، بل يستأنف. والفرق بين الأذان والاستخلاف فإن المستخلف يقرأ من حيث انتهى الأوّل، أن المؤذن مأمور بإتمام الأذان وعدم الخروج، فبخروجه يكون معرضا عنه فلا يتمه غيره، بخلاف الإمام فإنَّه مأمور بالخروج وإتمام غيره انتهى باختصار. قوله: يحمل المنع على الكراهة، قال الشيخ محمَّد بن الحسن: تبع في هذا الأجهوري؛ وهو خلاف ظاهر الحطاب؛ لأنه أبقى كلام العمدة على ظاهره من التحريم، ويوافقه كلام الشيخ زروق. فانظره. انتهى.
تنبيه: إن نسي شيئًا من الأذان، ففي الطراز: إن ذكر ذلك بالقرب أعاد من موضع نسي إن كان ترك جل أذانه، وإن ترك مثل: حيّ على الصلاة فلا يعيد شيئًا، وإن تباعد لم يعد شيئًا قل أو كثر. قاله ابن القاسم، وأصبغ. ولكن ينبغي إن كان ما ترك كثيرا إعادة الأدان بالأولى من فصله كثيرا -كما مر- وإن كان يسيرا أجزأه. انتهى. والظاهر التعويل على مفهوم قوله: وإن ترك مثل حي على الصلاة، لما عند أهل الأصول من العمل على مفهوم آخر الكلام عند تعارضه مع أوله. قاله الشيخ عبد الباقي.
غير مقدم على الوقت قوله: "غير" يصح رفعه على أنَّه خبر بعد خبر، ويصح نصبه على أنَّه حال؛ يعني أن الأذان يحرم تقديمه قبل الوقت، فتجب إعادته، ليعلم من صلى عند الأوّل أن صلاته باطلة، وهذا إذا علموا قبل أن يصلوا. وأما لو صلوا في الوقت ثمَّ علموا أن الأذان قبل الوقت فلا يعاد الأذان. ابن رشد: مخافة أن يقبل الناس إلى الصلاة وقد صليت فيتعبوا لغير فائدة. انتهى. الحطاب: ولأن الأذان إنما هو للاجتماع للصلاة، وهذا إذا وقعت الصلاة في الوقت كما علمت، فإن تبيّن أن الصلاة وقعت قبل الوقت فيعيدون الأذان والصلاة. قال في النوادر: قال مالك: ومن أذن في غير الوقت في غير الصبح، أعاد الأذان. قال عنه ابن نافع في المجموعة: ومن أذن قبل الوقت وصلَّى في الوقت، فلا يعيد. أشهب: وكذلك في الإقامة. قاله الحطاب. وإذا غم
السماء فأذن المؤذن باجتهاده، هل يقبح فعله أم لا؟ جوابه ما قاله ابن هلال: ليس للمؤذن الأذان حتى يتحقق دخول الوقت. انتهى.
إلا الصبح بالرفع بدل من الضمير المستتر في مقدم ونصبه عربي جيد؛ يعني أن الصبح لا يحرم تقديم أذانها قبل وقتها، فبسبب ذلك يجوز أن يؤذن لها بسدس الليل الأخير، ويسن لها الأذان عند طلوع الفجر، قال صلى الله عليه وسلم: (إن بلالًا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم
(1)
)، وكان رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت وفي العزية: أن الثاني هو السنة، وأن الأوّل مندوب وفي غيرها أن كل واحد منهما سنة، والثاني آكد كأذاني الجمعة. قاله غير واحد. وقال الشيخ الأمير: الأوّل سنة، وتقديمه مندوب، والثاني مندوب هذا ما اختاره الرماصي وقيل: كل من الأذانين سنة، واختاره الأجهوري، وقيل: لا يؤذن لها ثانيا. انتهى. وفي الحطاب: ما نصّه وقد رويَ أن بلالًا أذن قبل طلوع الفجر. فأمره صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: (ألا إن العبد قد نام، فرجع فنادى: ألا إن العبد قد نام
(2)
). انتهى وقوله: "إلا الصبح فبسدس الليل" كون كل واحد من الأذانين سنة والثاني آكد، هو الذي ارتضاه الشيخ محمَّد بن الحسن. وقال ابن عرفة: وفي جوازه أي الأذان لها؛ أي للصبح بعد صلاة العشاء، أو نصف الليل، أو لسدسه الآخر ثلاثة للوقار، وابن حبيب، وسحنون مع ابن وهب وابن العربي. انتهى. وفي المدخل: وقد رتب الشَّارع صلوات الله وسلامه عليه للصبح أذانا قبل طلوع الفجر، وأذانا عند طلوعه. انتهى. وفي الجزولي: إنما شرع لها الأذان فقط. وأما غيره من الدعاء والتسبيح، وغيره مما يقوله المؤذنون فغير مشروع. ابن شعبان: بدعة. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: وأما التسبيح والتكبير والدعاء والذكر فبدعة حسنة في الثلث الأخير من الليل عند كثير من العلماء. وقال قليل: بدعة مكروهة، وعليه ابن الحاج. انتهى. وقال الإمام الحطاب: قال في المدخل: ويَنهى الإمام المؤذنين عما أحدثوه من التسبيح باليل، وإن كان ذكر الله حسنًا سرا وعلنا، ثمَّ ذكر أنَّه يترتب على ذلك مفاسد منها التشويش على من في المسجد يتهجد أو يقرأ،
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:620.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:532.
ومنها اجتماع العوام لسماع تلك الألحان فيقع منهم زعقات وصياح عند سماعها، ثمَّ قال: وينهى المؤذنون عما أحدثوه في شهر رمضان من التسحير؛ لأنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أمر به ولم يكن من فعل من مضى. وذكر اختلاف عوائد الناس في التسحير، فمنهم من يسحر بالآيات والأذكار على المواذن، ومنهم من يسحر بدق الأبواب، ويقولون: قوموا كلوا ومنهم من يسحر بالطار والشبابة. وقال ابن عرفة: ورفع الصوت بالدعاء والذكر بالمسجد آخر الليل مع حسن النية قربة، وفي جوازه بعسعسة الليل بعد مضي نصفه، ومنعه نقلا ابن سهل عن ابن عتاب محتجا بقول مالك بعدم منع صوت ضرب الحديد مع المسيلي وابن دحون مع ابن حرج، محتجين بوجوب الاقتصار على فعل السلف الصالح. وفي النوادر: قال علي بن زياد عن مالك: وتنحنح المؤذن في السحر محدث، وكرهه، وقال البرهان البقاعي الشافعي: إن التسبيح مشروع لانطاق علة الأذان عليه، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن أحدا منكم أذان بلال من سحوره، فإنَّه يؤذن ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم
(1)
)، وكان صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: (يا أيها الناس اذكروا الله اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه جاء الموت بما فيه
(2)
) رواد أحمد والترمذي، وقال حسن صحيح. والحاكم وصححه. انتهى. ورد عليه الحافظ السخاوي، وقال: إنه ليس في نسخة من الترمذي أن حديثه؛ أي الترمذي صحيح، وقال في تصحيح الحاكم: له منازعة، وفي المدخل: وكذلك ينبغي أن ينهاهم الإمام عما أحدثوه من صفة الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم عند طلوع الفجر. وقال السخاوي: أحدث المؤذنون الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب الأذان للفرائض الخمس، إلا الصبح والجمعة فإنهم يقدمون ذلك قبل الأذان، إلا المغرب فلا يفعلونه لضيق وقتها. وقد أحدث بعض المؤذنين بمكة بعد الأذان الأوّل للصبح أن يقول: يا دائم المعروف، يا كثير الخير، يا من هو بالمعروف معروف، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا. وقال
(1)
لا يمنعن أحدا منكم أذان بلال، أو قال نداء بلال من سحوره فإنَّه يؤذن أو قال ينادي بليل، ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم وقال ليس أن يقول هكذا وهكذا وصوب يده ورفعها حتى يقول هكذا وفرج بين اصبعيه. مسلم، كتاب الصيام، رقم الحديث:1094.
(2)
مسند أحمد، رقم الحديث:20734. والترمذي، رقم الحديث: 2465. والمستدرك للحاكم، ج 2 ص 421.
ابن وهب عن مالك في المجموعة: التثويب بين الأذان والإقامة في الفجر في رمضان وغيره محدث، وكرهه. انتهى. وفي الطراز: التثويب بين الأذان والإقامة ليس بمشروع ولا يعرف إلا الأذان والإقامة فقط، فأما دعاء في آخر الأذان غيرهما فلا. واستحب أبو حنيفة أن يثوب في الصبح بين الأذان والإقامة، وروى عنه أبو شجاع أنَّه قال: التثويب الأوّل في نفس الأذان بين يديه الصلاة خير من النوم، قال والثاني بين الأذان والإقامة. وروى من احتج له في ذلك أن بلالًا كان إذا أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: حي على الصلاة حي على الفلاح يرحمك الله، وأنكر ذلك أصحاب الشافعي وروي أن عمر لما قدم مكة جاء أبو محذورة وقد أذن، فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح. فقال له عمر: ويحك أمجنون أنت؟ ولو كان سنة لم ينكره إمامنا مالك، فقد أنكر ذلك. قال في العتبية: ليس التثويب بصواب. وروى عنه ابن وهب وابن حبيب أن التثويب بعد الأذان في الفجر في رمضان وغيره مكروه. وروى عنه علي في العتبية أنَّه قال: وتنحنح المؤذن في السحر في رمضان محدث، وكرهه، يريد أنهم كانوا يتنحنحون ليعلم الناس بالفجر فيركعون، فكره ذلك، ورآه مما ابتدع. قال: ولم يبلغني أن السلام على الإمام كان في الزمن الأوّل حدث في زمن معاوية وأقره عمر بن عبد العزيز، ولابن الماجشون في المبسوط جوازه، وذلك أن المؤذن إذا أذن على الصومعة دار إلى الأمير واختصه بأذان ثان، يقول السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الصلاة يرحمك الله. وأما في الجمعة فيقول: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته قد حانت الصلاة، وعادة أهل المدينة تمنع من ارتكاب شيء من هذه المحدثات. وقول بعض المتأخرين في قول مالك: التثويب ضلال، أنَّه أراد حي على خير العمل ليس الأمر كما قال، وإنما التثويب عند أهل العلم من سائر المذاهب اسم لما ذكرناه، وهو مأخوذ من ثاب إليه جسمه إذا رجع بعد المرض، ومنه:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125]؛ أي مرجعا يرجعون إليه في كل سنة، وأصله من الإعلام، يقال: ثوب إذا لوح بثوبه. نقله الإمام الحطاب. وساق من النقول في المذهب من كون التثويب ليس بصواب ما فيه كفاية ومقنع، وفيه أنَّه رجح التفسير الأوّل بأن التثويب في اللغة: الرجوع إلى الشيء، يقال: ثاب إلي عقلي: رجع،
وثوب الداعي؛ أي كرر النداء، ومنه قيل للإقامة تثويب؛ لأنها بعد الأذان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ثوب للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون
(1)
). وقد يقع التثويب على قول المؤذن في الصبح: الصلاة خير من النوم، وقد روي عن بلال قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تثوبن في شيء من الصلاة إلا صلاة الفجر
(2)
)، وليس هذا التثويب الذي كرهه أهل العلم؛ لأنه من سنة الأذان. وبالله التوفيق. انتهى. وإنما قيل لقول المؤذن: الصلاة خير من النوم تثويب؛ لأنه تكرير لمعنى الحيعلتين. وذكر البرزلي مسألة التثويب والتحضير؛ أعني قولهم: الصلاة حضرت، وكذلك التأهب للجمعة؛ أعني قولهم: تأهبوا للصلاة. وأنكر على من قال إن ذلك حرام وقال: هذا لم يقل بالتحريم فيه أحد من علماء الأمة، بل الناس فيه على مذهبين: فمنهم من كرهه، ومنهم من استحسنه، وفي كلامه ميل إلى استحسان ذلك. وكذلك التصبيح؛ يعني قولهم: أصبح ولله الحمد. وذكر كلام ابن سهل في قيام المؤذن بالدعاء والذكر في آخر الليل، وأنه حسن. وذكر أيضًا ما يفعل عندهم من البوق والنقير في المنار في التسحير في رمضان، ومال إلى جواز ذلك. وذكر أن بعض أهل القيروان أنكر ذلك، وقال: إنه معصية في أفضل الشهور وأفضل الأماكن، وأن قاضي القيروان كتب بذلك إلى ابن عبد السلام، فأجابه إن عاد لمثل هذا فأدبه. نقله الحطاب. تم قال بعد هذا: وحاصل كلامه أن جميع ذلك أمور محدثة، منها ما هو حسن كالذكر والدعاء في آخر الليل في المنار والتثويب والتأهب والتصبيح، ومنها ما هو جائز كالأبواق والنقير، وأنه ليس شيء منها حراما، وأن غاية ما يقول المخالف فيها بالكراهة، وقد تقدم في كلام الشيخ أبي عبد الله بن الحاج إنكار ذلك وإنكار الأبواق، والظاهر من مذهب مالك كراهة ذلك كله. انتهى. كلام الحطاب. قال: ومن هذا الباب ما يفعلونه بمكة قبل الأذان الثاني للصبح على سطح زمزم من قول المؤذن، الصلاة رحمكم الله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إعلاما بطلوع الفجر، ثمَّ يقول المؤذن قبل الأذان الثاني على حَزْوَرةَ:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} الآيات الثلاث، ثمَّ يقول:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} إلى آخر السورة، فمن
(1)
مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم الحديث:602.
(2)
الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:198. ولفظه: لا تثوبن في شيء من الصلاة إلَّا في صلاة الفجر.
أجاز ما تقدم يجيز هذا، ومن كرهه يكرهه. وقد قال في المدخل: إن الإمام ينهى المؤذنين عما أحدثوا من قراءة: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} ، وقوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} عند إرادتهم الأذان للفجر، وإن كانت قراءة القرآن كلها بركة وخير، لكن ليس لنا أن نضع العبادات إلا حيث وضعها صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه. انتهى. وفيه أن من المنكرات أذانهم على حزورة يوم الجمعة عند دخول الإمام إلى المسجد الحرام، فإنَّه بدعة لا أصل لها لا الأذان الثاني بها لسائر الصلوات. وحزورة بالحاء المهملة والزاي على وزن قسورة - هذا هو الصواب -: كان سوق مكة في الجاهلية، وقد أدخل في المسجد الحرام.
وفي المدخل: ومما أحدثوه من البدع ما يفعله بعضهم من أنهم يتركون تنظيف البيت وكنسه عقب سفر من سافر من أهله ويتشاءمون بفعل ذلك بعد خروجه، ويقولون: إن ذلك إن فعل لا يرجع المسافر، وكذلك ما يفعلونه حين خروجهم معه إلى توديعه فيؤذنون مرتين أو ثلاثًا ويزعمون أن ذلك يرده إليهم، وهذا كله مخالف للسنة المطهرة، ومن العوائد التي أحدثت بعدها. والمكروهات لا تندفع إلا بالامتثال. انتهى.
وقال الناشري من الشافعية: يستحب الأذان لمزدحم الجن، وفي أذن الحزين، والصبي عند ما يولد في اليمنى ويقيم في اليسرى، والأذان خلف المسافر والإقامة. انتهى. نقله الإمام الحطاب. قال: وانظر قوله: لمزدحم الجن، ولعله يشير إلى حديث: (إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان
(1)
)، وقوله: في أذن الحزين، يشير إلى ما خرجه الديلمي عن علي كرم الله وجهه، قال: (رآني النبي صلى الله عليه وسلم حزينا فقال: يا ابن أبي طالب أراك حزينا فمُرْ بعضَ أهلك يؤذن في أذنك فإنَّه دواء للهم، قال: فجربته فوجدته كذلك
(2)
). وقال كل من رواته إلى الديلمي إنه جربه فوجده كذلك، وروى الديلمي أيضًا عنه أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ساء خلقه من إنسان أو دابة فأذنوا في أذنه
(3)
). انتهى. وذكر الشيخ أبو الليث السمرقندي صاحب تنبيه
(1)
مسند أحمد، رقم الحديث:13865.
(2)
كنز العمال، رقم الحديث:1409.
(3)
الفردوس للديلمي، رقم الحديث:5752.
الغافلين أن الأذان عند ركوب البحر من البدع. وقال النووي: إذا عرض له شيطان ينبغي أن يتعوذ، ثمَّ يقرأ من القرآن ما تيسر، ثمَّ قال: ينبغي أن يؤذن أذان الصلاة. فقد روينا في صحيح مسلم عن سهل بن أبي صالح أنَّه قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام لنا أو صاحب لنا فناداه مناد من حائط باسمه وأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئًا، فذكرت ذلك لأبي فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك ولكنك إذا سمعت صوتا فناد بالصلاة فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (إن الشيطان إذا نودي بالصلاة أدبر
(1)
)، وقال في شرح المهذب: يستحب إذا تغولت الغيلان أن تقول ما رواه جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان
(2)
)، والغيلان طائفة من الجن والشياطين وهم سحرتهم ومعنى تغولت: تلونت في صور. انتهى. والمراد: ادفعوا شرها بالأذان فإن الشيطان إذا سمع الأذان أدبر. انتهى. كلام الحطاب. قال: ولم أقف على استحباب ذلك في كلام أهل المذهب، مع أن القصة التي ذكرها عن صحيح مسلم هي في كتاب الأذان منه، ولم يتكلم عليها القاضي عياض ولا القرطبي ولا الأبي. والله أعلم. انتهى. وقد مر أن إمامنا مالكا كره أن يؤذن في أذن الصبي المولود حين يولد، وأنكره. وقال الجزولي في شرح الرسالة: وقد استحب بعض أهل العلم أن يؤذن في أذن الصبي اليمنى ويقيم الصلاة في أذنه اليسرى. وقد روينا في سنن أبي داوود والترمذي عن أبي رافع قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة
(3)
). قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وروينا في كتاب ابن السني عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى لم تضره أم الصبيان
(4)
). انتهى. قال الإمام الحطاب: وقد جرى عمل الناس بذلك فلا بأس بالعمل به. والله أعلم. ولما أنهى الكلام على
(1)
عن سهيل قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة قال ومعي غلام لنا (أو صاحب لنا) فناداه مناد من حائط باسمه قال وأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئًا فذكرت ذلك لأبي فقال لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك، ولكن إذا سمعت صوتا فناد بالصلاة فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص. مسلم، كتاب الصلاة، الحديث:389.
(2)
التمهيد، ج 16 ص 268.
(3)
أبو داود، كتاب الأدب، رقم الحديث:5105. والترمذي، كتاب الأضاحي، رقم الحديث: 1516.
(4)
الأذكار للنووي، ص 245.
صفات الأذان التي قد يخل عدمها بالصحة، وقد لا يخل شرع في شروطه التي يلزم من عدمها عدمه، فقال: وصحته بإسلام يعني أن الأذان إنما يصح من المسلم فلا يصح من كافر ولو عزم على الإِسلام قبل شروعه في الأذان، وفي ابن ناجي صحته مع عزمه. ابن عرفة: ويجب كونه عدلا، وفي العزية أن عدالته من شروط الكمال، وكذا للفاكهاني، فيحمل كلام ابن عرفة على الوجوب ابتداء، وكلام غيره على الصحة بعد الوقوع، ومع كونه لا يصح منه يكون به مسلما، وإنما لم يصح منه مع أنَّه يكون به مسلما؛ لأنَّ ما نطق به قبل الشهادتين لا يقبل فيه إخباره بدخول الوقت لكفره. واعلم أنَّه يكون بأذانه مسلما عند ابن عطاء الله وغيره، وكلام الش والبساطي يقتضي أن فيه خلافا، وليس كذلك، فإن رجع أدب إن لم يوقف على الدعائم، وإلا فمرتد إلا أن يدعي أنَّه أذن لعذر كأن يقصد التخفي بالإِسلام لحفظ ماله مثلا فيقبل إن ظهر وإلا فلا. وأما المسلم الأصلي إذا أذن ثمَّ ارتد فيبطل أذانه. قاله ابن عرفة. وفي النوادر: إن أعادوا أي مع بقاء الوقت فحسن، وإن اجتزوا بد أجزأ. قاله الحطاب. وظاهره أن ما فيها مقابل لما قبله، وينبغي تقييد ما صدر به أيضًا ببقاء الوقت، وإلا لم يعد، وبطل ثواب فاعله كمن ارتد بعد ما صلى ثمَّ عاد للإسلام، فإن عاد ووقتها باق أعادها، وإن عاد بعده لم يعدها وبطل ثوابها. قاله الشيخ عبد الباقي. وهو ظاهر والله سبحانه أعلم. وما مر من كون الكافر يكون مسلما بالأذان، ظاهره: ولو كان ممن يؤمن برسالة نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم كالعيسوي، فيحمل بأذانه على أنَّه آمن بعموم رسالته صلى الله عليه وسلم.
وعقل يعني أن الأذان لا يصح إلا من العاقل، فلا يصح من مجنون وصبي وسكران لا تمييز لهم ولا خلاف في ذلك. وفي النوادر: وإن أذن لقوم سكران أو مجنون لم يجزهم، فإن صلوا لم يعيدوا. وذكورة يعني أن الأذان إنما يصح من الذكر المحقق الذكورة، فلا يصح من أنثى ولا من خنثى مشكل، ويحرم الأذان على المرأة. وذكر اللخمي وسند والقرافي: كراهة أذان المرأة. قال الحطاب: وليس ما ذكروه من الكراهة بظاهر، بل ينبغي أن تحمل على المنع، والخنثى المشكل كالمرأة. قاله الشيخ عبد الباقي. وفي التوضيح: وأما الأذان فلا يطلب من النساء اتفاقا، ونص اللخمي على أنَّه
ممنوع، وقال ابن فرحون: وأما الأذان فممنوع في حقهن. قاله اللخمي؛ لأنَّ صوتها عورة. انتهى. واعترضه أبو مهدي بأن الصواب أن يقول: لأنَّ رفع صوتها عورة، لرواية الصحابة عن غير أمهات المؤمنين. قال: وقاله ابن هارون. قال ابن ناجي: لضرورة التعليم وكذلك يجوز بيعها وشراؤها. انتهى. قاله الحطاب.
وبلوغ يعني أنَّه يشترط في صحة الأذان أن يكون من بالغ، فلا يصح من صبي مميز ولو لم يوجد غيره؛ وهو مذهب المدونة، وظاهره: ولو كان ضابطا إلا أن يكون تابعا في أذانه لبالغ، وعزاه ابن عرفه للخمي. قال الحطاب: لا ينبغي أن يختلف في هذا. انتهى. والإقامة كالأذان فيما ذكر من الشروط ما عدا الذكورية. قاله ابن عبد السلام. وهذا حيث لم يتحقق حصول الأذان، وإلا فإقامته صحيحة وإن لم يعتمد على إقامة من تعتبر إقامته، ولم يكن ضابطا. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي: فلا يصح من صبي مميز إلا أن يعتمد فيه أو في دخول الوقت على بالغ. كما قاله اللخمي. قال الحطاب: لا ينبغي أن يختلف فيه، وكذا يشترط بلوغ المقيم لكن ينبغي صحتها من غيره، وإن لم يكن ضابط وقت، ولا اعتمد على إقامة بالغ حيث لم يأت فيها بخلل. انتهى. وقال الشيخ الأمير: وإنما يصح من مسلم، عاقل، ذكر، عارف بالوقت، أو تابع لعارف، وإن صبيا ميز ويسقط به فرض الكفاية عن البلد لرضاء المكلفين به. انتهى. وقال ابن عرفة: وفي صحته من الصبي المميز. ثالثها: إن لم يوجد غيره، ورابعها: إن كان ضابطا تبعًا لبالغ، لرواية أبي الفرج: ولها، ولرواية أشهب واللخمي. انتهى. وقد صرح صاحب الطراز بأنّه يجوز للصبي أن يؤذن لنفسه. ذكره في التفريق بين المرأة والصبي على القول بأن المرأة لا تقيم. وذكر في أثناء احتجاجه أن ما يخاطب به بعد البلوغ يؤمر به قبله تَمْرِينًا له، فيفهم من هذا أن الصبي المميز إذا سافر يؤمر بالأذان، وكذا لو كان جماعة من الصبيان بموضع والأذان يجمعهم لأمروا بالأذان؛ لأنَّ الجماعة مشروعة في حقهم. ابن بشير: وهل يجوز الأذان للجنب والصبي أو يكره لهما؟ قولان في المذهب. انتهى. وأما إن كان موقتا يعتمد على إخباره بدخول الوقت فلا ينبغي أن يختلف في المنع ابتداء، وإنما ينبغي أن يكون محلّ الخلاف إذا وقع ذلك وأذن، أو كان هناك من يضبط الأوقات ويأمر الصبي بالأذان، فهل يصح أذانه؟ وتحصل به السنة، ويسقط به
الوجوب على القول بأن الأذان واجب أم لا؟ هذا محلّ الخلاف المتقدم. وبهذا يتحرر الكلام في هذه المسألة. قاله الإمام الحطاب. وفيه بعد جلب نقول ما نصّه: فعلم من هذا أنَّه يشترط في المقيم للجماعة البالغين أن يكون ذكرا بالغا، وأما إذا صلى الصبي لنفسه فإنَّه يقيم. وفي العتبية: لا يؤذن الصبي ولا يقيم إلا أن يكون مع نساء، أو بموضع لا يوجد غيره فليؤذن ويقم.
وندب متطهر؛ يعني أنَّه يندب للمؤذن أن يكون متطهرا من الحدث الأكبر والأصغر؛ لأنه داع إلى الصلاة، فيبادر إليها فيكون كالعالم العامل إذا تكلم انتفع بعلمه بخلاف غير المتطهر، وفي الخبر: (لا تؤذن إلا متوضأ
(1)
) واستحباب الطهارة للمقيم آكد، ويكره الأذان بدون طهارة، والكراهة في الجنب بغير داخل مسجد آكد، وللمقيم أشد. ويستحب للمؤذن والمقيم حسن الهيئة، فلا يؤذن أو يقيم في تبان أو سراويل أو ثوب شعر، وإن وقع لم يعد عند ابن القاسم، خلافا لأشهب. قال: يعيد الأذان والإقامة كمن لم يؤذن وكمن لم يقم. ابن عبد السلام: لا يقيم إلا من يشارك الجماعة في الصلاة التي يصلون أو من يصلي وحده، فإذا لم يكن على طهارة احتاج إلى الطهارة قبل الدخول في الصلاة، وهي تفرقة كثيرة، وقد يفترق حال الكراهة بالقوة والضعف في حق من يخفف الوضوء، أو كان متيمما. انتهى. ففهم من كلامه أن التيمم للصلاة يكون قبل الإقامة، وهو ظاهر. قاله الشبراخيتي. وتفاوت الكراهة يرجع لكثرة الثواب على الترك وقلته، وفي ابن عرفة: وفيها يؤذن غير المتوضي ولا يقيم، وقوله:"متطهر" في بعض النسخ برفعه ورفع الأوصاف بعده، وفي بعضها بنصبه ونصب الأوصاف بعده. فالرفع على حذف مضاف وموصوف أقيمت الصفة مقامه؛ أي وندب أذان شخص متطهر، والنصب على أنَّه خبر لكان المحذوفة مع أن المصدرية؛ أي وندب أن يكون المؤذن متطهرا؛ أي كونه متطهرا. انظر الشبراخيتي. وقال سحنون: لا بأس بأذان الجنب في غير المسجد. ولابن نافع مثل قول سحنون، ابن ناجي: وبه كان شيخنا الشبيبي يفتي إلى أن مات، وهو الأقرب؛ لأنه ذكر، فكما لا يمنع من الأذكار اتفاقا غير القرآن. فكذا لا يمنع من الأذان. وعلى قول ابن مسلمة: إن الجنب يجوز له أن يدخل
(1)
الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 200، ولفظه: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤذن إلا متوضئ.
المسجد، ولو كان غير عابر سبيل يجوز له أن يؤذن فيه. وقال الشيخ الأمير: وندب متطهر حسن الهيئة في لباسه ونحوه والفعال كالورع والحلم.
صيت؛ يعني أنَّه يستحب في المؤذن أن يكون صيتا أي مرتفع الصوت؛ لأنَّ المقصود من الأذان الإعلام، وإذا كان صيتا كان أبلغ في الإسماع. ويستحب فيه أن يكون حسن الصوت كما في الجواهر، وصرح به صاحب المدخل وابن ناجي. وفي حديث عبد الله بن زيد: (يا بلال ناد بالصلاة فإنك أندى منه صوتا
(1)
)، قيل: أرفع، ويحتمل أن يكون معناه: أحسن، وفي بعض الروايات: (فإنك فظيع الصوت
(2)
)، ففيه أنَّه يختار للأذان أصحاب الأصوات الندية المرتفعة الحسنة، ويكره في ذلك ما فيه غلظة أو فظاعة أو تكلف قاله الحطاب. وفيه عن بعض العلماء: النفس تخشع للصوت الحسن، ويكره التطريب؛ أي تقطيع الصوت وترعيده ما لم يتفاحش، وإلا حرم. وسمع ابن عمر رجلًا يُطِربُ في أذانه فقال: لو كان عمر حيا فك لحييك. والظاهر أنَّه يرجع في التفاحش لقول أهل المعرفة. قاله الشبراخيتي. وقال الشيخ عبد الباقي: والظاهر الرجوع في حدّ الفاحش لأهل المعرفة، أو ما يخرجه عن كونه ذكرا، كما قيل في قراءة القرآن بالألحان ويكره أيضًا التحزين بغير تطريب، قال في المواقيت: وقصر الألف الثاني في اسم الله غير جائز، والإسراف في مده مكروه. ابن عرفة: ويستحب كونه من أفضل أهل الحي. قاله الشيخ إبراهيم. وفي التوضيح: روى الدارقطني (أنَّه عليه الصلاة والسلام كان له مؤذن يطرب في أذانه، فقال له عليه الصلاة والسلام: الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلا سمحا فأذن وإلا فلا
(3)
). انتهى. وقال في النوادر: والسنة أن يكون مرسلا معلنا يرفع به الصوت، وعند الشيخ يوسف بن عمر في الصفات المستحبة أن يكون غير لحان، وأن يكون جهير الصوت، وأن يكون يقوم بأمور المسجد، وأن يونس الغريب. وأن لا يغضب على من أذن بموضعه، أو من جلس في موضعه، وأن يكون صادق القول ويحفظ حلقه عن ابتلاع الحرام، وأن يؤذن لله خالصا. انتهى. ومن صفات الأذان أن
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:498. ولفظه: إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فالق عليه ما رأيت فليأذن به فإنَّه اندى صوتا منك. وفي رواية: يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله. وانظر الترمذي، كتاب الصلاة، الحديث:189. ابن ماجه، رقم 706.
(2)
انظر مصنف عبد الرزاق، الحديث:1787.
(3)
الدارقطني، ج 1 ص 239.
يبالغ في رفع الصوت به ما لم يشق عليه، إذ المقصود منه الإعلام، فكلما رفع صوته كان أبلغ في المقصود، وأن يكون مترسلا أي متمهلا من غير تمطيط ولا مد مفرط قاله ابن الفاكهاني. نقله الإمام الحطاب. وقال عمر بن عبد العزيز: لمؤذنه أذِّنْ أذانا سمحا وإلا فاعتزلنا ولا ينبغي إمالة حروف الأذان والتغني فيه، وقال الإمام الحطاب بعد جلب نقول: فتحصل من هذا أنَّه يستحب في المؤذن أن يكون حسن الصوت، ومرتفع الصوت، وأن يرفع صوته، ويكره الصوت الغليظ الفظيع، والتطريب، والتحزين إن لم يتفاحش وإلا حرم. انتهى. وفي المدخل: ويكره التطريب في الأذان، وكذلك التحزين، وتكره إمالة حروفه وإفراط المد فيه. قاله الحطاب. وفيه: عن ابن فرحون والتطريب: مد المقصور وقصر الممدود. انتهى.
تنبيهات: الأوّل: في بيان أمور يغلط فيها المؤذنون منها: مد الباء من أكبر فيصير جمع كبر بفتح الباء وهو الطبل فيخرج إلى معنى الكفر، ومنها المد في أول أشهد فيخرج إلى حيز الاستفهام والمراد أن يكون خبرا إنشائيا، وكذلك يصنعون في أول الجلالة، ومنها الوقوف على لا إله وهو كفر وتعطيل، ومنها أن لا يدغم تنوين محمَّد في الراء بعدها؛ وهو لحن خفي عند القراء، ومنها أن لا ينطق بالهاء من الصلاة في قوله حي على الصلاة، ولا بالحاء من قوله حي على الفلاح، فيخرج إلى الدعاء إلى صلا النار في الأولى، والفلا جمع فلاة في الثاني، والفلاة: المفازة نبه على هذه المواضع القرافي والمصنف في التوضيح، وابن فرحون، زاد الشيخ زروق مد همزة أكبر وتسكينَها وفتحَ النون من أن لا إله إلا الله. نقله الإمام الحطاب. وكذا مدُّ أو تسكينُ أو تنوينُ هاء إله، وزيادة هاء بعدها، وضم محمَّد، ومد حي أو تخفيفها، وإبدالُ همزة أكبر واوا، وقد استخفوه في الإحرام فيكون هنا أحرى. قاله الحطاب. وبعضه للشيخ إبراهيم. وقد مر عن المواقيت أن قصر الألف الثاني من اسم الله غير جائز، وأن الإسراف في مده مكروه. نقله الحطاب. وفيه أنَّه إذا وقف على الله كما في آخر الأذان فإنَّه يجوز الإشباع حينئذ لالتقاء الساكنين. وفيه عن ابن الجزري أن العرب تمد عند الدعاء والاستغاثة وعند المبالغة في نفي الشيء، ويمدون ما لا أصل له لهذه العلة. انتهى.
الثاني: قال في الذخيرة: اختلف العلماء في أكبر، هل معناه كبير لاستحالة الشركة بين الله تعالى وغيره في الكبرياء؟ وصيغة أفعل إنما تكون مع الشركة، أو معناه أكبر من كل شيء؛ لأنَّ الملوك وغيرهم في العادة يوصفون بالكبرياء، فحسنت صيغة أفعل بناء على العادة. انتهى. نقله الإمام الحطاب. ومعنى أشهد: أتيقن، وأعلم، والإله: المعبود بالحق، وحي: اسم فعل بمعنى أقبل، يقال بلفظ واحد للواحد، والجمع تقول: حي على الثريد أي أقبل، ويقال هلا على الثريد بمعناه، ويجمع بينهما فيقال: حيهلا بالتنوين وبغير تنوين بسكون اللام أو بتحريكها بالفتح مع الألف، ويعدى بعلى كما في الأذان، وبإلى وبالباء. قاله في الذخيرة. قال: ومنه الحديث: (إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر
(1)
). والفلاح في اللغة: الخير الكثير، أفلح الرجل إذا أصاب خيرا. انتهى. وقال الجزولي: الفلاح البقاء في الجنة. الزناتي: الفلاح الفوز بالمنى بعد النجاة مما يتقى. انتهى. ولا بد من مضاف أي على سبب الفوز، أو سبب البقاء في الجنة، أو سبب الخير الكثير. وظاهر كلام القرافي أن الأثر المذكور حديث، وإنما وقفت عليه من قول ابن مسعود. كما ذكره القاضي عياض في شرح مسلم في كتاب الأذان، والقرطبي وابن الأثير في النهاية، والحريري في المقامة التاسعة. والله أعلم. قاله الإمام الحطاب.
الثالث: قال القرطبي الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة؛ لأنه بدأ بالأكبرية؛ وهو وجود الله تعالى ووجوبه وكماله، ثمَّ ثنى بالتوحيد ونفي الشريك، ثمَّ ثلث بإثبات الرسالة، ثمَّ دعا لما أراد من طاعة الله، ثمَّ ضمن ذلك بالفلاح؛ وهو البقاء الدائم فأشعر بأن ثمَّ جزاء ففيه إشارة إلى المعاد، ثمَّ أعاد توكيدا، وأصله للقاضي عياض في الإكمال. قاله الإمام الحطاب.
الرابع: قال في المدونة: وإن شاء جعل إصبعيه في أذنيه في أذانه وإقامته، وإن شاء ترك. قاله الإمام في الأذان. وقاس عليه ابن القاسم الإقامة، وقيل: إنه مستحب للمؤذن. قاله أبو محمَّد عن ابن حبيب. وإذا استحب في الأذان استحب في الإقامة، قال في الطراز: وهو يعني قياس ابن القاسم صحيح، فإن الإقامة أحد الأذانين، فإذا جاز ذلك في الأذان جاز في الإقامة، ولم يحك
(1)
كشف الخفاء، ج 1 ص 90.
صاحب الطراز استحبابه إلا عن الشافعي. قال: وما قاله مالك أرجح، فإن ذلك لو كان من المستحسن لاستمر العمل به في مسجد الرسول. انتهى. ونقل عن ابن القاسم أنَّه قال: ورأيت المؤذنين بالمدينة لا يجعلون أصابعهم في آذانهم، وقال في التوضيح عن ابن القاسم إنه قال: رأيت المؤذنين بالمدينة يفعلونه، وتبعه ابن فرحون، وكأنه سقط منه، لا. والله أعلم. قاله الإمام الحطاب.
الخامس: قال الشيخ أحمد بن فجلة الزرقاني: اختلفت الشافعية فيما إذا وجد صيت بأجرة وغيره محتسبا، أيهما يقدم؟ وقال ابن شريح بالأول. انتهى. زاد ابن عرفة في مندوباته كونه أفضل أهل الحي، والظاهر الرجوع فيه لأهل المعرفة. قاله الشيخ عبد الباقي. مرتفع؛ يعني أنَّه يستحب للمؤذن أن يؤذن بمحل عال مرتفع عن الأرض ارتفاعا بينا ولو بركوب بأن يكون على منار، أو سطح المسجد، أو حائط غيره من حوائط البلد، أو على دابة أو نحو ذلك، فلا يكفي على طوبة أو حجر مثلا، ويستحب أن يكون الذي يؤذن عليه قريبا من البيوت. قاله الشيخ إبراهيم. ومعنى قوله قريبا من البيوت أنَّه لا يكون عاليا عليها جدًا، كما سيتضح لك إن شاء الله تعالى. وقال الإمام الحطاب بعد جلب نقول: تلخص مما تقدم أن أذان المؤذن إما على المنار قريبا من البيوت، أو على سطح المسجد، أو على بابه، وفهم من ذلك أنَّه لا يكون داخل المسجد. انتهى. وفيه: عن التوضيح أن المشروع في الأذان أن لا يكون داخل المسجد. انتهى. ويستثنى ليلة الجمع من ذلك على المشهور. والله أعلم. قاله الحطاب.
تنبيهات: الأوّل: الأصل في قوله مرتفع ما أخرجه أبو داوود في سننه عن عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار قالت: (كان بيتي من أطول بيت حول المسجد
(1)
)، فكان بلال يؤذن عليه للفجر، فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينظر إلى الفجر، فإذا رآه تمطى ثمَّ قال: اللهم أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك، قالت: ثمَّ يؤذن، قالت: والله ما علمته كان يتركها ليلة واحدة [أي
(2)
] هذه الكلمات. سكت عليه أبو داوود فهو صالح للاحتجاج به، ولم يتعقبه ابن
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:519.
(2)
في الأصل: من، والمثبت من الحطاب ج 2 ص 96.
حجر ولا غيره، وأخرجه ابن سعد في الطبقات عن أم زيد بنت ثابت قالت: (كان بيتي أطول بيت حول المسجد فكان بلال يؤذن فوقه من أول ما أذن إلى أن بني رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده فكان يؤذن بعد على ظهر المسجد وقد رفع له شيء فوق ظهره
(1)
). انتهى. قاله الحطاب.
الثاني: قال في المدخل: ومن السنة الماضية أن يؤذن المؤذن على النار، فإن تعذر ذلك فعلى سطح المسجد، فإن تعذر فعلى بابه، وكان النار عند السلف بناء يبنونه على سطح المسجد كهيئته اليوم، لكن هؤلاء أحدثوا فيه أنهم عملوه مربعا على أركان أربعة، وكان في عهد السلف مدورا، وكان قريبا من البيوت خلافا لما أحدثوه اليوم من تعلية المنار، وذلك يمنع لوجوه: أحدها مخالفة السلف، الثاني أن يكشف حريم المسلمين، الثالث أن صوته يبعد عن أهل الأرض ونداؤه إنما هو لهم. انتهى. ويمنع المؤذن من صعود المنار الذي إذا صعد فيه عاين ما في الدور التي يجاورها المسجد وكذا لو بعدت منه البيوت إلا أن يكون البعد الكثير الذي لا يتبين معه الأشخاص والهيئات، ولا الذكران من الإناث فلا يعتبر الاطلاع معه، وسواء في ذلك كانت الدور متقدمة على المنار أو متأخرة عنه.
الثالث: قال في المدخل: وينهى الإمام المؤذنين عما أحدثوه من أذان الشباب على المنار؛ لأنه لم يكن من فعل من مضى. وقد تقدم في أوصاف المؤذن أن يكون من أتقاهم، ولا يعرف ذلك في الشباب، وينبغي للمؤذن الذي يصعد على المنار أن يكون متزوجا؛ لأنه أغض لطرفه والغالب في الشباب عدم ذلك، والمنار لا يصعده إلا مأمون الغائلة، وأما على باب المسجد فيجوز ذلك، وكذا سطحه إذا كان لا يكشف أحدا. والله الموفق. قاله الحطاب.
واعلم أن المنار في اللغة علم الطريق، وفي الصحاح: والمنارة التي يؤذن عليها، والمنارة أيضًا يوضع فوقها السراج؛ وهي مفعلة بفتح الميم، والجمع المنار، ويقال لها أيضًا المئذنة بكسر الميم ثمَّ همزة ساكنة، ويجوز إبدال الهمزة ياء. وذكر بعضهم أنَّه يقال: مأذنة بفتح الميم. نقله الإمام الحطاب.
(1)
طبقات ابن سعد، ج 8، 7 ص 444.
قائم. يعني أنَّه يستحب للمؤذن أن يكون قائما في حال أذانه؛ وهو الذي عليه السلف لأنه أقرب إلى التواضع، ولأنه هو وما قبله أبلغ في الإسماع، وأما لوأذن جالسا لغير عذر، فهل يكره؟ وهو المفهوم من كلام أهل المذهب، أو يحرم؟ وهو ما عليه القاضي عياض في الإكمال وابن ناجي لكنه مخالف لكلام المصنف؛ إذ القيام مندوب. قاله الشيخ إبراهيم.
وأجاز في المدونة أذان الراكب؛ لأنه في معنى القائم، بل أبلغ في الإسماع، وقال إمامنا مالك: لم يبلغني أن أحدا أذن قاعدا، وأنكر ذلك إنكارا شديدا. وقال النوويّ الشافعي: مذهبنا المشهور أن القيام سنة، فلو أذن قاعدا لغير عذر صح أذانه لكن فاتته الفضيلة، وكذا لوأذن مضطجعا مع قدرته على القيام صح أذانه على الأصح؛ لأنَّ المراد الإعلام وقد حصل. انتهى.
وفي التوضيح: وكره أذان القاعد لكونه مخالفا لما عليه السلف، وفي مختصر الواضحة: وكان مالك ينكر أن يؤذن المؤذن قاعدا، ويقول: لم يبلغني عن أحد ممن يقتدى به فعله، فإن عرضت له علة تمنعه من القيام فليدع الأذان، ومن جهل فأذن قاعدا مضى ولم يعد الأذان وتقدم عن المدونة أن أذان الراكب جائز، وأما قول ابن عبد السلام: لا فرق في التحقيق بين الراكب والقاعد فإنَّه معترض، والتحقيق الفرق بينهما؛ لأنَّ الراكب أندى صوتا من القاعد؛ ولا فرق في جواز أذان الراكب بين أن يكون الراكب مسافرا وبين أن يكون حاضرا. انظر الحطاب.
إلا لعذره يعني أن المؤذن لا يطلب بالقيام إذا كان ذا عذر كمرض ونحوه، وحينئذ فيؤذن لنفسه لا لغيره يدلّ عليه ما في المدونة، وصرح به اللخمي فقال: قال مالك: ويندب أن يكون قائما إلا لعذر من مرض أو غيره، فيؤذن لنفسه لا للناس. انتهى. وفي شرح الشيخ ميارة: وكره مالك أذان القاعد لمخالفته أذان السلف إلا مريضا لنفسه. انتهى.
مستقبل يعني أنَّه يستحب للمؤذن أن يكون مستقبلا للقبلة في حال أذانه، فلا يلتفت ولا يصرف وجهه عنها، قال التونسي: وجائز أن يبتدئ الأذان لغير القبلة. قاله الخرشي. والشبراخيتي. إلا لإسماع. يعني أنَّه يجوز للمؤذن أن يلتفت لغير جهة القبلة إذا كان ذلك لإسماع الأذان، فيدور أي جوازا كما في أول التقرير. وظاهر كلام ابن بشير الاستحباب لقوله: إن قصد به المبالغة في الإسماع؛ فهو مشروع، وقد يقال: المشروعية تستعمل فيما هو أعم كالبيع
والإجارة. قاله الشيخ إبراهيم وغيره. وظاهر كلام المصنف كالمدونة والإرشاد: جواز الدوران حالة الأذان؛ وهو كذلك، وقيل: بعد فراغ الكلمة. وقيل: إن لم ينقص من صوته فالأول، وإلا فالثاني، ورابعها لا يدور إلا عند الحيعلة. قاله الخرشي. والشبراخيتي. وغيرهما. وقال الشيخ عيد الباقي عند قوله:"إلا لإسماع": فيجوز استدبارها ولو بجميع بدنه ويطلب به حينئذ، وقيل: يدير وجهه فقط يمينا وشمالا وخلفه للإسماع، مع بقاء بدنه للقبلة لما روي:(أن بلالًا كان يستقبل في أذانه ثمَّ يستدبر بوجهه وبدنه قائم إلى القبلة، ثمَّ يستقبل في آخر أذانه). انتهى. وقال الشيخ الأمير: ودار للإسماع كيف تيسر. انتهى. وفي المدونة: ولا يدور في أذانه ولا يلتفت وليس هذا من حدّ الأذان إلا أن يريد أن يسمع الناس. انتهى. والدوران لقصد الإسماع قال به أبو حنيفة أيضًا، وروي عن مالك إنكاره كالشافعي، ابن حبيب: روي (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالًا أن يلتفت بوجهه يمينا وشمالا وبدنه إلى القبلة، ونهاه أن يدور كما يدور الحمار
(1)
). قاله الحطاب. وفي التوضيح: أجاز مالك الدوران والالتفات عن القبلة لقصد الإسماع، وقد مر أنَّه يستحب للمؤذن أن يكون حسن الهيئة كالمقيم، فلا يفعلان في ثياب من شعر أو سراويل.
وحكايته لسامعه؛ يعني أنَّه يستحب لمن سمع الأذان أن يحكيه بأن يقول مثله، وسواء سمعه بواسطة كأن سمع الحاكي للأذان أو بغيرها. قاله الشيخ إبراهيم. وفهم من قوله:"لسامعه" أن غير السامع لا تندب له الحكاية، وإن أخبر بالأذان، أو رأى المؤذن، وتندب المتابعة، فإذا لم يتابعه أتى بمستحب وهو الحكاية، وترك مستحبا آخر قاله الشيخ إبراهيم. وفي الذخيرة: قال ابن القاسم في الكتاب: إذا انتهى المؤذن إلى آخر الأذان يحكيه إن شاء، وهذا الفرع أهمله أبو سعيد. انتهى. وقوله: إذا انتهى المؤذن، يفيد أنَّه لا يحكي أذان نفسه قبل فراغه لما فيه من الفصل، وكذا يقال في المؤذن إذا حكى أذان غيره، وإذا تعدد المؤذنون فإنَّه يحكي الأوّل على المشهور إن ترتب الأذان، وإلا حكى أذان واحد قاله الشبراخيتي. ونحوه لعبد الباقي. التتائي: ظاهر كلام المصنف أن المؤذن يحكي مؤذنا آخر سمعه؛ وهو كذلك على أحد قولين. قاله الشيخ
(1)
النوادر، ج 1 ص 163.
إبراهيم. وقال الشيخ محمَّد بن الحسن: وإن تعدد المؤذنون، فهل يكرر الحكاية؟ اختار اللخمي تكريرها، وقيل: تكفيه حكاية الأوّل فقول الزرقاني على المشهور في عهدته. وقوله: "وحكايته" أي الأذان الواجب أو السنة أو المندوب لا المكروه أو الحرام، فلا يحكى، وقوله:"لسامعه" أي لا غيره كما مر ولو لعارض كصمم، وأشعر قوله:"لسامعه" أنَّه سمعه كله، فإن سمع منه جملة فقط اقتصر على حكايتها، كما يفيده خبر: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول
(1)
)، وأما قوله الآتي، وحكايته قبله فمعناه مع سماعه بقيته، وإذا أتى المؤذن أولًا بالشهادتين سرا أو جهرا ولم يسمعه، فهل يحكي الترجيح بدلا عن المأتي بهما أو يتحرى؟ وظاهر الخبر أن ما لم يسمعه لا يحكيه. كما قاله الشيخ عبد الباقي. وإنما ندب حكاية الأذان لما رواه البخاري، ومسلم، وأبو داوود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه من قوله عليه الصلاة والسلام: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، وما ذكره المصنف من ندب الحكاية هو المشهور، وقيل: واجبة، قاله الحطاب.
لمنتهى الشهادتين يعني أن من سمع الأذان تندب له حكايته إلى منتهى الشهادتين، والشهادتان من جملة المحكي كما أفاد ذلك بقوله:"لمنتهى الشهادتين"، وقيل: يحكيه كله؛ وهو لابن حبيب، وعلى الأوّل فلا يحكي الحيعلتين وما بعدهما من التكبير والتهليل، ولا يبدل الحيعلتين بالحوقلة. قال إمامنا مالك: في الحديث إنما ذلك إلى هذا الموضع أشهد أن محمدا رسول الله فيما يقع في قلبي، ولو فعل ذلك لم أر فيه بأسا قيل لابن القاسم: أرأيت إذا قال المؤذن: حي على الفلاح ثمَّ قال الله أكبر لا إله إلا الله، أيقول مثله؟ قال: هو من ذلك في سعة، إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، وعلى الثاني يحكيه كله، إلا أنَّه يبدل الحيعلة بالحوقلة، لا الصلاة خير من النوم، ولا الترجيع، بل يحكي أصله فقط. وفي التوضيح: وطريق الشاذ أظهر؛ يعني القول بأنّه يحكيه كله ويبدل الحيعلة بالحوقلة، ويكرر الحوقلة أربعًا على عدد الحيعلة؛
(1)
إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثمَّ صلوا علي، فإنَّه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثمَّ سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة، حلت له الشفاعة. مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:383. وأبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 522. والترمذي، أبواب الصلاة، رقم الحديث:208. وفي رواية البخاري، رقم الحديث 611. "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن". والنسائي، رقم الحديث:670. وفي رواية ابن ماجه: إذا سمعتم النداء فقولوا كما يقول المؤذن. الحديث: 720.
بأن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله أربعًا. كما نص عليه الشيخ إبراهيم. ورجح هذا القول الشيخ الأمير، فإنَّه قال: والراجح لآخره، فيبدل الحيعلة في كل مرة بالحوقلة. وقولهم: الحوقلة، بتقديم القاف على اللام منحوتة من إلا بالله، فلا يقال القياس حولقة. انتهى. وقالوا: حوقل، ومصدره حوقلة على القياس. وقالوا فيه على غير القياس حيقالا بالكسر وحوقالا بالفتح، إذا فتر عن الجماع للكبر.
تنبيهات: الأوّل: لا يكفي في الحكاية ما نقل عن سيدنا معاوية رضي الله عنه أنَّه سمع المؤذن يتشهد فقال: وأنا كذلك؛ أي أشهد، بل لا بد من اللفظ بمماثله حملا للحديث على ظاهره. قاله الشيخ الأمير.
الثاني: قال ابن عرفة: وفي كونها لآخر التشهدين أو لآخره يعني الأذان معوضا الحيعلة بالحوقلة قولان لها، ولابن حبيب مع رواية ابن شعبان والمازري، وعلى الأوّل في قول التشهد مرة واحدة، ومعاودته إن عاوده المؤذن معه أو قبله، نقلا الباجي عن ابن القاسم، والقاضي والداوودي. وفيها لمالك: الذي يقع في قلبي إلى آخر التشهد، ولو فعل ذلك لم أر به بأسا، الشيخ: أي لو أتم الأذان مع المؤذن. وفيها: إن عجلها يعني الحكاية قبله فلا بأس. وروى علي: أحب إلي بعده. الباجي: إن كان في ذكر أو صلاة فالأول، وإلا فالثاني. انتهى. وقوله: مرة واحدة؛ يعني لا يحكي الترجيع. أشار له الحطاب.
الثالث: يستفاد من قوله: "وحكايته لسامعه" أن معنى قوله الآتي: وحكايته قبله مع سماع بقيته.
الرابع: يستفاد من قول الكتاب: إذا انتهى المؤذن إلى آخر الأذان يحكيه إن شاء أن حكاية أذان نفسه بعد فراغ أذانه جائزة لا مستحبة.
الخامس: ظاهر الحديث أن الحاكي يقتصر على حكاية ما سمعه دون ما لم يسمعه كما تقدم، فلا يتحرى. والله سبحانه أعلم.
السادس: إنما أبدل الحيعلة بالحوقلة؛ لأنها ذكر، فيوجر قائلها، ولمناسبتها دعاء المؤذن بالتبري من الحول والقوة على إتيان الصلاة والفلاح إلا بحول الله وقوته، وقائل الحيعلة داع إلى
الصلاة، وأجرها للمؤذن دون الحاكي، وإذا حكى أذان نفسه فإنَّه يحكيه بعد فراغه، وكذا مؤذن معه -كما مر-. وقد مر أنَّه تندب المتابعة. مثنى يعني أن الحاكي يحكي الأذان مثنى، فلا يحكي الترجيع، وقيل: يحكيه، وعبارة الحطاب؛ يعني به أي بقوله:"مثنى" أن الحاكي يكرر الشهادة مرتين، ولا يرجع كما يرجع المؤذن. انتهى. وفيه: والظاهر أن من لم يسمع التشهد الأوّل يحكيه في الترجيع، ولم أر فيه نصا ولكنه ظاهر، وفي كلام اللخمي ما يدلّ على ذلك. انتهى. ولا يحكي الصلاة خير من النوم، وقال الشيخ الأمير: قيل بل يقول صدِقت وبرِرت بكسر دال صدقت للمجاورة. قال ابن المرحل في باب فعل بالكسر:
وقد صدقت وبررت يا فتى
…
كأن هذا مثل كذا أتى
والظاهر أن المؤذن الذي يربع التكبير يحكي أولياه فقط؛ لأنه إذا ترك حكاية الترجيع المشروع فأولى التكبيرتان الأخيرتان، واستظهر بعضهم الحكاية لعموم: فقولوا مثل ما يقول ولو متنفلا مبالغة في قوله: "وحكايته لسامعه"؛ يعني أن المتنفل أي المصلي ما عدا الفرض يستحب له إذا سمع الأذان أن يحكيه، وإذا حكى ما بعد الشهادتين أبدل الحيعلة بالحوقلة، وإلا بطلت إن فعل ذلك عمدا أو جهلًا، ولفظ الصلاة خير من النوم يبطل الفرض والنفل.
لا مفترضة يعني أن المفترض أي الذي يصلي الفرض أصليا أو منذورا كما في الشبراخيتي، تكره له حكاية الأذان ما دام فيها، ويحكيه بعد فراغه منها، وإن حكاه فيها صحت، فإن زاد على الشهادتين أبدل الحيعلة بالحوقلة، وإلا بطلت إن فعل ذلك عمدا أو جهلًا، كما مر في النفل. وقوله:"ولو متنفلا لا مفترضا" هذا هو المشهور فيهما. وعن سحنون: لا يحكيه في صلاة مطلقا. وعن ابن وهب: يحكيه مطلقا، هكذا في النوادر، وابن يونس. قاله الش. وفي ابن عرفة: فلو حيعل في صلاته، ففي بطلانها قولا عبد الحق عن بعض القرويين مع أبي عمر، والأصيلي مع الباجي عن رواية ابن خويزمنداد: أساء وتمت صلاته.
تنبيهات: الأوّل: يستحب عند سماع المؤذن أن يقول ما في صحيح مسلم: (من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله: رضيت بالله
ربا، وبمحمد رسولا، وبالإِسلام دينا. غفر له ذنبه
(1)
). وروي: وبمحمد نبيا، فيستحب الجمع بينهما فيقول: نبيا ورسولا، وروي بتقديم: وبالإِسلام دينا. كما في الحطاب. وروي: وأنا أشهد. فينبغي أن يقول مرة أشهد وأخرى وأنا أشهد. قاله الشيخ إبراهيم. وغيره.
الثاني: روي عن الخضر عليه السلام: من قال حين يسمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله: مرحبا بحبيبي وقرة عيني محمَّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ يقبل إبهاميه ويجعلهما على عينيه لم يعم ولم يرمد أبدا.
الثالث: من فاتته حكاية الأذان بالمتابعة، حكاه بعد الفراغ إن كان قريبا.
الرابع: قال في الذخيرة: الحول معناه المحاولة والتحيل، والقوة معناها القدرة، ومعنى الكلام لا حيلة لنا ولا قدرة على شيء إلا بقدرة الله تعالى ومشيئته. انتهى. قال الدميري: وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كنز من كنوز الجنة
(2)
)؛ أي أجرها مدخر لقائلها كما يدخر الكنز. وروى البيهقي عن الشعبي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال صلى الله عليه وسلم: (تدري ما تفسيرها؟ قلت: لا، قال: لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله. ثمَّ ضرب بيده على منكبي. قال: هكذا أخبرني جبريل عليه الصلاة والسلام
(3)
). انتهى. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: كنز من كنوز الجنة، إشارة إلى عظم الثواب الذي يحصل فيها ونفاسته، وإلا فجميع الثواب مدخر في الآخرة. وفي حديث رواه النسائي في اليوم والليلة، وذكره في الإحياء: (أن العبد إذا قالها قال الله تعالى أسلم عبدي واستسلم
(4)
). قاله الحطاب.
(1)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:386.
(2)
البخاري، كتاب التوحيد، رقم الحديث:7386. ولفظه:. . . يا عبد الله بن قيس قل لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة. ومسلم، كتاب الذكر، رقم الحديث:2704.
(3)
شعب الإيمان للبيهقي، رقم الحديث:634.
(4)
عمل اليوم والليلة للنسائي، الحديث:13. الإتحاف، ج 5 ص 19.
الخامس: قال الدميري: الحاء والعين لا يجتمعان في كلمة واحدة إلا أن تؤلف من كلمتين كالحيعلة، ويقال بسمل إذا قال بسم الله، كحيعل وسبحل، إذا قال سبحن الله، وحوقل إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله، وحمدل إذا قال الحمد لله، وهيلل إذا قال لا إله إلا الله، وجعفل إذا قال جعلت فداءك. قاله المازري. عن المطرز. وزاد الثعلبي الطبلقة إذا قال أطال الله بقاءك، والدمعزة إذا قال أدام الله عزك، وعلى أن الحاكي يحكي الأذان كله، فقال الحطاب: لم أقف على ما يقول في كلام أحد من أهل المذهب إذا قال المؤذن الصلاة خير من النوم، وحكى النووي في ذلك خلافا، فقال: يقول صدقت وبررت أي بكسر الراء الأولى وسكون الثانية، وقيل: يقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة خير من النوم. حكاه في الأذكار. واقتصر في منهاجه على الأوّل. قال الدميري في شرحه: وادعى ابن الرفعة أن خبرا ورد فيه، ولا يعرف ما قاله.
السادس: كان الشيخ نور الدين الخراساني إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله يقبل إبهامي يديه اليمنى واليسرى عند كل تشهد، مرة يبدأ بالمؤق من ناحية الأنف، ويختم باللحاظ من ناحية الصدغ. وقال لمن سأله عن ذلك: إني كنت أفعله من غير رواية حديث، ثمَّ تركته فمرضت عيناي، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: لم تركت مسح عينيك عند ذكري في الأذان؟ إن أردت أن تبرأ عيناك فعد إلى المسح، أو كما قال، ثمَّ استيقظت ومسحت، فبرئت عيناي، ولم يعاودني مرضهما إلى الآن. انتهى. نقله الإمام الحطاب. وقد مر ما نقل عن الخضر.
السابع: يستحب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، وأن يقول: (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته
(1)
)، ثمَّ يدعو بما شاء من أمور الدنيا والآخرة، ففي صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما أنَّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثمَّ صلوا علي فإنَّه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثمَّ سلوا لي
(1)
البخاري، رقم الحديث:614.
الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة
(1)
). وقوله: مقاما محمودا، كذا ثبت في الصحيح مُنَكَّرًا، وهو موافق للفظ الآية، أعني قوله تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، وفي مختصر الواضحة: ويستحب الدعاء عند الأذان وعند الإقامة فمما يستحب للرجل أن يقول إذا سمع المؤذن يقول الله أكبر: لبيك داعي الله سمع السامعون بحمد الله ونعمته، اللهم أفْضِلْ علينا وقِنَا عذاب النار، ثمَّ يقول مثل ما يقول. وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يسمع الأذان اللهم رب هذه الدعوة النافعة والصلاة القائمة صل على محمَّد عبدك ورسولك وأعطه الوسيلة والفضيلة والشفاعة حلت عليه شفاعتي
(2)
)، أي وجبت أو غشيته كما في الحطاب. ووقع في بعض الكتب بعد والفضيلة زيادة: والدرجة الرفيعة، ولا وجود لها في كتب الحديث، وفي بعض زيادة: والدرجة الرفيعة، والكوثر والفضيلة؛ وهي غلط انظر الحطاب. والمراد بالدعوة التامة: الأذانُ، ووصفت الدعوة بالتمام لأنها ذكر الله ويدعى بها إلى عبادته، وقوله: والصلاة القائمة؛ أي الصلاة التي ستقام وتفعل والوسيلة أصلها ما يتوسل به إلى الشيء، وقد فسرها في الحديث بأنها منزلة في الجنة، والمقام المحمود هو مقام الشفاعة. وقوله: الذي وعدته، بدل من قوله مقاما محمودا، لا نعت على رواية التنكير، ونعت على رواية التعريف. وفي الصحاح: حل العذاب يحل بالكسر: وجب. ويحل بالضم: نزل. وقد قرئ بهما قوله تعالى: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81]، قاله الحطاب.
الثامن: يستحب للمؤذن أن يركع ركعتين على أثر أذانه، وليس بلازم قاله في مختصر الواضحة عن عبد الملك. وحدث عن ابن شهاب أنَّه قال: الركعتان من سنة الأذان إلا على أثر أذان صلاة المغرب. انتهى. وهذا في حق المؤذن، وأما من كان جالسا في المسجد فيكره له الركوع عند الأذان؛ أن يُجعَل ذلك سنةً. وأما إن صادف ذلك دخوله المسجد أو تنفله، فلا. قاله الإمام الحطاب.
(1)
إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول، ثمَّ صلوا علي، فإنَّه من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشرا، ثمَّ سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة، حلت له الشفاعة. مسلم، رقم الحديث:384.
(2)
لفظه هكذا في مواهب الجليل للحطاب، ج 2 ص 106.
وسيأتي هذا مع زيادة في فصل الجمعة عند قول المصنف: أو جالس عند الأذان وفي الطراز: ويجوز الكلام والمؤذن يؤذن، وقد كانت الصحابة تفعله.
التاسع: إذا قلنا يحكيه في النافلة أو فيها وفي الفريضة فإنما يحكيه إلى التشهدين، ولو قلنا إن الحكاية في غير الصلاة إلى آخر الأذان. قاله الإمام الحطاب. وقد مر أن هذا القول إن فرعنا عليه تبدل الحيعلة بالحوقلة، فيتفق القولان هنا على أنَّه لا يجاوز الشهادتين ولو أبدل الحيعلة بالحوقلة. أشار له الإمام الحطاب. وقد مر الخلاف في بطلان صلاة من لم يبدل الحيعلة بالحوقلة. قال الإمام الحطاب بعد جلب نقول: إن العامد؛ أي لقول حي على الصلاة تبطل صلاته بلا خلاف، وأن الخلاف في الجاهل، المشهور أنَّه كالعامد.
وأذان فذ إن سافر يعني أن الفذ المسافر والجماعة المسافرين الذين لم يطلبوا غيرهم، يندب له ولهم الأذان. والمراد بالسفر: السفر اللغوي، فيشمل من في غنمه أو في رعي أو حراسة، أو ذهب لحاجة فأدركه الوقت في البادية، وكذا من كان في فلاة من فذ أو جماعة لم تطلب غيرها. وعبارة الأمير: وندب لفذ ولجماعة غير طالبة إن كانا بفلاة؛ وهو معنى السفر في الأصل. انتهى. والأصل في ذلك ما رواه إمامنا مالك في الموطإ من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبي سعيد الخدري أنَّه قال له: (إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنَّه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة
(1)
). قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه البخاري في صحيحه بهذا اللفظ، وروي في الموطإ أيضًا عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيّب أنَّه كان يقول: (من صلى بأرض فلاة صلى عن يمينه ملك وعن شماله ملك فإن أذن وأقام الصلاة أو أقام صلى ورآه من الملائكة أمثال الجبال
(2)
)، وقوله: في الحديث الأوّل: إني أراك تحب الغنم والبادية، هو من قول أبي سعيد للراوي عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد الخدري، وقوله: مدى صوت المؤذن بفتح الميم مقصور
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:609. والموطأ، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 162.
(2)
الموطأ، كتاب الصلاة، رقم الحديث:153.
يكتب بالياء؛ وهو غاية الشيء، والمعنى: لا يسمع غاية صوته الخ. قال ابن حجر، قال البيضاوي: غاية الصوت تكون أخفى من ابتدائه، فإذا شهد له من بعد عنه ووصل إليه منتهى صوته؛ فلأن يشهد له من دنا منه وسمع مبادئ صوته، أولى. انتهى. وظاهر كلام ابن حجر وغيره. أن الشهادة هنا على بابها، ورأيت في حاشية نسخة من الموطإ عن ابن القطان أن الشهادة هنا بمعنى الشفاعة، قال ابن حجر: والسر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة، أن أحكام الآخرة جرت على نعت أحكام الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة. قاله ابن المنير. وقال غيره: المراد من هذه الشهادة اشتهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة، كما أن الله تعالى يفضح بالشهادة أقواما، فكذلك يكرم بالشهادة آخرين. وفي حديث آخر: (المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس
(1)
)، ورواه النسائي: (المؤذن يغفر له مد صوته
(2)
). فعلى رواية مدى صوته، يكون منصوبا على الظرفية، وعلى رواية مد صوته، يكون مرفوعًا على النيابة؛ والمعنى أن ذنوبه لو كانت أجساما غفر له منها قدر ما يملأ المسافة التي بينه وبين منتهى صوته، وقيل: تمد له الرحمة بقدر مد الأذان، وقال الخطابي: المعنى أنَّه يستكمل مغفرة الله تعالى إذا استوفى وسعه في رفع الصوت، فيبلغ الغاية في المغفرة إذا بلغ الغاية في رفع الصوت. والفرق بين الفذ والجماعة التي لم تطلب في السفر وبينهما في الحضر، أن الأولين بموضع ليس فيه إظهار شعائر الإِسلام فشرع لهما إظهارها وسرايا المسلمين تقصده فاحتاجا للذب عن أنفسهما، بخلافهما في الحضر لاندراجهما في شعائر غيرهما وصيانته. أشار له الحطاب. واستحباب الأذان للفذ المسافر ومن في حكمه منصوص للإمام مالك وابن حبيب، فعزو ابن بشير وابن شأس وابن الحاجب: استحباب ذلك للمتأخرين، قصور. قاله الحطاب.
لا جماعة لم تطلب غيرها يعني أن الجماعة الحاضرة التي لا تطلب غيرها، لا يندب لهم الأذان إن لم يتوقف إعلام غيرهم بدخول الوقت على أذانهم، وإلا كان سنة. قاله الشيخ إبراهيم. ولم يعلم منه حكم الأذان لهم، والأولى تركه. قال الإمام الحطاب: فهم من كلام المصنف أن الأذان لا يستحب
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:515.
(2)
النسائي في السنن الكبرى، رقم الحديث:1621.
للفذ في غير السفر، ولا الجماعة التي لم تطلب غيرها. وإذا قلنا: لا يستحب، فهل هو مكروه أو مباح؟ ظاهر كلامهم أن الأولى تركه. انتهى. وقال الشيخ الأمير: إنه مكروه للفذ بحضر والجماعة بحضر، لم تطلب غيرها. وأما الجماعة المسافرون فقد مر أنَّه يندب لهم إن لم يطلبوا غيرهم، وقال الشيخ أحمد: يسن لهم، وعلى الأوّل فمحله: إن لم يتوقف إعلام غيرهم بدخول الوقت على أذانهم، وإلا سن لهم. كما قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: على المختار يعني به أن ما ذكر من أن الجماعة الحاضرة التي لا تطلب غيرها ليسوا مأمورين بالأذان؛ هو قول ابن حبيب، واختاره اللخمي. ومقابله قائل بندبه لهم. قاله الخرشي. قال ابن عرفة: ابن حبيب: الفذ الحاضر والجماعة المنفردة لا أذان عليهم. مالك: إن أذنوا فَحَسنٌ، ومرة لا أحبه، فقال اللخمي والمازري: خلاف. ورده ابن بشير يحمل نهيه على نفي تأكده كالجماعة، لا على نفي حسنه لأنه ذكر وروى أبو عمر لا أحب لفذ تركه. وبما قررت علم أن قوله:"لا جماعة"، عطف على فذ من قوله: وأذان فذ إن سافر، وأن قوله:"وأذان فذ"، مفهوم قوله: أول الفصل: "سن الأذان لجماعة"، وأن قوله:"لا جماعة لم تطلب"، مفهوم قوله:"طلبت غيرها".
وجاز أعمى يعني أنَّه يجوز أن يكون المؤذن أعمى بشرط أن يكون تبعًا لغيره أو لمعرفة من يثق به في الوقت، وهو أفضل من العبد، والعبد أفضل من الأعرابي، والأعرابي أفضل من ولد الزنى. قاله الشيخ إبراهيم. ونحوه للإمام الحطاب. عن أشهب، وزاد: وكل جائز ومؤذنوه صلى الله عليه وسلم خمسة، نظمهم بعضهم فقال:
عمرو بلال وأبو محذوره
…
سعد زياد خمسة مشهوره
قد أذنوا جميعهم للمصطفى
…
نالوا بذاك رتبة وشرفا
ونظمهم البرماوي بقوله:
لخير الورى خمس من الغر أذنوا
…
بلال ندي الصوت بدءا يعين
وعمرو الذي أم [لمكتوم
(1)
] امه
…
وبالقرظ اذكر سعدهم إذ يبين
وأوس أبو محذورة وبمكة
…
زياد الصداءي نجل حارث يعلن
(1)
في الأصل: لكلثوم، والمثبت من الأمير ج 1 ص 308.
وسعد القرظ بالإضافة؛ هو ابن عابد مولى عمار بن ياسر، وكان يلزم التجارة في القرظ فعرف بذلك. والقرظ بالتحريك: ورق السلم، والصدائي بضم الصاد المهملة نسبة إلى صداء كغراب: حي باليمن. قاله الشيخ الأمير. وعمرو أحد قولين في اسم ابن أم مكتوم، وقيل: اسمه عبد الله، وأمه عاتكة المخزومية، وكنيت به لأنها ولدته مكتوم البصر قاله الأمير. وقال الإمام الحطاب: ولا يختلف في جواز أذانه؛ يعني الأعمى إذا كان من أهل الثقة والأمانة، إلا أنَّه لا يرجع في الوقت إلى ما يقع في نفسه دون أن يَسْتَخْير من يثق به ويتثبت في أمره. وأول مؤذن في الإِسلام بلال، ولم يؤذن لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة لعمر حين دخل الشام، فبكى الناس بكاء شديدا. وروى ابن أبي شيبة وابن عبد البر أنَّه أذن لأبي بكر إلى أن مات، ولم يؤذن لعمر. وتَعَدُّدُه يعني أنَّه يجوز تعدد المؤذن في المكان الواحد مسجدًا أو مركبا أو محرسا برا أو بحرا، سفرا أو حضرا. ومعنى التعدد أن يكون كل مؤذن بجانب. قاله الشبراخيتي. وقال الشيخ عبد الباقي عند قوله:"وتعدده"؛ بأن يكون كل مؤذن بجانب من مكان واحد معد للصلاة، ويدخل في كلامه تعدده من مؤذن واحد مرات في المسجد. قاله بعضهم. لكن نص سند على كراهته. انتهى. وقال الخرشي: يعني أنَّه يجوز تعدد المؤذن في المكان الواحد مسجدًا أو مركبا أو محرسا بحرا أو برا، سفرا أو حضرا، فإن قيل المسجد لا يأتي في السفر، ولا في البحر أجيب بأن المراد به ما يُعَد لصلاة الجماعة، فيتأتى فيما ذكر، ويدخل في كلامه تعدده من مؤذن واحد مرات في المسجد. قاله بعضهم. لكن نص سند على كراهته. انتهى. وهذا الذي ذكره هذا البعض إنما يأتي على أن الضمير عائد على الأذان، والظاهر خلافه، وأنه إنما يعود على المؤذن. والله أعلم. وقال الأمير: وجاز تعدده؛ أي الأذان بمسجد، وكره من الواحد واستظهر الحطاب الجواز حيث انتقل لركن آخر منه. انتهى. وسيأتي لعبد الباقي وغيره عند قوله:"كأذانه" أي المعيد لصلاته، أنَّه يجوز لمن أذن بموضع أذانه بموضع آخر للصلاة التي أذن لها؛ يعني ولم يصلها. قال الإمام الحطاب: واعلم أن غالب عبارة أهل المذهب كعبارة المصنف، أن تعدد المؤذنين جائز، ولكن استدلالهم لذلك بتعدد المؤذنين في زمانه صلى الله عليه وسلم، وفي زمن الخلفاء بعده يشعر بأن ذلك مطلوب، خصوصا كلام صاحب المدخل، فإنَّه قال: في صلاة الصبح وقد رتب الشَّارع صلوات الله
وسلامه عليه أذانا قبل طلوع الفجر، وأذانا عند طلوعه، وسيأتي أيضًا من كلامه ما يدلّ على أن ذلك مطلوب. والله أعلم. انتهى.
وذكر عبد الوهاب أن الشافعي لا يجيز إلا أربعة، وأنكره ابن الصباغ من الشافعية، وقال لم يذكره غيره من أصحابنا. قال: وظاهر كلام الشافعي جواز الزيادة بأي عدد، إلا أنَّه لا يحب أن ينقص عن اثنين. انتهى. وقال ابن حبيب: رأيت بالمدينة ثلاثة عشر مؤذنا، وكذلك بمكة يؤذنون معا في أركان المسجد كل واحد لا يقتدي بأذان صاحبه، وذلك يبين أنهم كانوا لا يراعون العدد اليسير. نقله الحطاب. قال: ولفظه في مختصر الواضحة: ولا بأس أن يؤذن النفر في المسجد الواحد وقد أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلال، وأبو محذورة، وسعد القرظ، وعبد الله بن أم مكتوم. قال عبد الملك: وقد رأيت مؤذني المدينة ومكة ثلاثة عشر، ورأيتهم يؤذنون في أركان المسجد في كل ركان مؤذنون يندفعون في الأذان معا، إلا أن كل واحد منهم في أذان نفسه. وأما أذانهم واحدا بعد واحد -مثل ما عندنا ببلدنا- فلا بأس أن يؤذن الخمسة إلى العشرة، ونحو ذلك في الظهر والعشاء والصبح؛ لأنَّ وقتها واسع، وفي العصر نحو الثلاثة إلى الخمسة؛ لأنَّ وقتها ليس بواسع، وأما المغرب فلا يؤذن لها إلا واحد لضيق وقتها، يريد: أو جماعة في مرة واحدة. وترتبهم يعني أنَّه إذا قلنا بجواز تعدد المؤذن، فإنَّه يجوز ترتبهم بأن يؤذنوا واحدا بعد واحد؛ أي يؤذن الأوّل ويفرغ، ثمَّ الثاني ويفرغ، وهكذا، وهذا هو الأفضل. وعبارة الأمير: والأفضل ترتبهم إذا لم يفيتوا فضيلة الوقت. ابن عرفة: أو مترتبون كعشرة في الصبح والظهر والعشاء، وخمسة في العصر، وفي المغرب واحد. انتهى. الشبراخيتي: ويكون على حسب سعة الوقت من الخمسة إلى العشرة في الصبح والظهر والعشاء، وفي العصر من الثلاثة إلى الخمسة، فإن كثر عددهم على ذلك وابتغوا الثواب، فالأفضل، ثمَّ الأسبق، ثمَّ اقترعوا. انتهى.
إلا المغرب مستثنى من قوله: "وترتبهم"؛ يعني أنَّه لا يجوز الترتب في المغرب فيمنع إن أدى إلى خروج وقتها الاختياري وكذا غيرها، وإلا كره، ويكره في غيرها أيضًا إن أدى إلى تأخيرها عن
وقتها المستحب. والظاهر أنَّه أول الوقت الذي ورد فيه: (أول الوقت رضوان الله
(1)
)، وإن اختلفوا في الأذان في المغرب أو غيرها قدم الأورع، ثمَّ حسن الصوت، فإن استووا اقترعوا، ويستحب في المغرب وصل الإقامة بالأذان، وتأخيرها عنه في غيره لانتظار الناس. قاله الشيخ إبراهيم.
وجمعهم كل على أذانه يعني أنَّه يجوز جمع المؤذنين في الأذان؛ أي يجوز أن يؤذنوا دفعة واحدة في المغرب وغيرها، والمناسب التعبير بالاجتماع، وإنما يجوز اجتماعهم في الأذان إذا كان كل منهم على أذانه؛ بأن يؤذن كل واحد منهم أذانا كاملا، ولا يقول أحدهم بعض الأذان ويأتي غيره بالبعض الآخر؛ أي يبتدئ كل واحد منهم من حيث ينتهي، ولا يعتد بأذان صاحبه، هذا معنى قوله:"كل على أذانه"، فإن لم يَبْنِ كل على أذان نفسه، فإنَّه يكره إن لم يؤد لتقطيع اسم الله أو اسم نبيه، فيمنع، وحينئذ فلا يحكى، ولا يكره للجالس عند الممنوع النفلُ، وهل كذا إن كره أم لا؟ قاله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمَّد بن الحسن: قال أبو علي: لم أر هذا؟ يعني قوله: إن لم يود إلى تقطيع اسم الله أو اسم نبيه، إلا عند الأجهوري ومن تبعه. وانظر هل يصح؟ فإن الاسم إذا انقطع بتنفس ونحوه هو على نية التلفظ به، وقد عللوا النهي عن قراءة القرآن جماعة بالتقطيع، ومع ذلك قالوا: نهي كراهة لا منع، وظاهر كلام المصنف أن ترتبهم وجمعهم كل على أذانه سواء في غير المغرب، وهو خلاف ما مر أن الأفضل ترتبهم في غير المغرب ونحو ما للمصنف ما مر عن ابن حبيب. وفي المدخل: والسنة المتقدمة في الأذان أن يؤذنوا واحدا بعد واحد في الصلوات التي أوقاتها ممتدة، فيؤذنون في الظهر من العشرة إلى خمسة عشر، وفي العصر من الثلاثة إلى الخمسة، وفي العشاء كذلك، وفي الصبح يؤذن لها على المشهور من سدس الليل الآخر إلى طلوع الفجر، وفي كل ذلك يؤذن واحد بعد واحد، والمغرب لا يؤذن إلا واحد ليس إلا، فإن كثر المؤذنون فزادوا على عدد ما ذكر وكانوا يبتغون بذلك الثواب وخافوا أن يفوتهم الوقت إن أذنوا واحدا بعد واحد فمن سبق منهم كان أولى، فإن استووا فيه فإنهم يؤذنون الجميع، ومن شرط ذلك أن يؤذن كل واحد منهم لنفسه. وانظر إلى حكمة الشرع في الأذان واحدا بعد واحد
(1)
الوقت الأوّل من الصلاة رضوان الله والوقت الآخر عفو الله. الترمذي، أبواب الصلاة، رقم الحديث:171.
- أول الوقت رضوان الله وآخر الوقت عفو الله عز وجل. الدارقطني، ج 1 ص 249.
فكيف عمت بركته للأمة؛ لأنه ورد في الحديث أن (من حكاه فله مثل أجره
(1)
)، فلو كان المؤذن واحدا فأتت هذه الفضيلة كثيرا من الأمة، ولو كانت جماعة يؤذنون في فور واحد لفاتتهم حكايته. قاله الحطاب. وفي المدخل: ما يقع من المؤذنين الآن لا يكون على سبيل السنية، ولا يحكي أذانهم من سمعهم، ثمَّ قال: وأذانهم جماعة على صوت واحد من البدع المكروهة، والاتباع في الأذان وفي غيره متعين، وفي الأذان أكثر لأنه كان أكبر أعلام الدين، وفي الأذان جماعة مفاسد مخالفة السنة، ومن كان منهم صيتا حسن الصوت وهو المطلوب في الأذان خفي أمره، فلا يسمع ولا يفهم السامع ما يقول والغالب على بعضهم أنَّه لا يأتي بالأذان كله؛ لأنه لا بد أن يتنفس، فيجد غيره قد سبقه، فيحتاج إلى أن يبني على صوت من تقدمه، فيترك ما فاته.
وأول من أحدث الأذان جماعة: هشام بن عبد الملك. وقوله: قدم من سبق، هذا عند تساويهم في الفضل، وإلا قدم الأفضل، وقال ابن ناجي: فإن تشاح المؤذنون، قدم الأولى، فإن تساووا فالقرعة وفي النوادر: قال أشهب: وأحب إلى في المغرب أن يصل الإقامة بالأذان؛ لأنَّ وقتها واحد. ولا يفعل ذلك في غيرها، فإن فعل أجزأهم. وليوخر الإقامة في غيرها لانتظار الناس وفي مختصر الواضحة: ولا بأس أن يلبث المؤذن بعد أذانه للمغرب شيئًا يسيرا، وأن يتمهل في نزوله ومشيه إلى الإقامة توسعة على الناس.
وإقامة غير من يؤذن يعني أنَّه يجوز أن يقيم من لم يؤذن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم: (أمر بلالًا أن يؤذن وأن يقيم عبد الله بن زيد
(2)
)، والأفضل أن يكون المؤذن هو المقيم لخبر:(من أذن فليقم))، وقوله:"وإقامة غير من أذن"، خلافا للشافعي، حيث كره ذلك لخبر زياد بن الحارث الصدائي: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أؤذن في صلاة الصبح، فأذنت فأراد بلال أن يقيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أخا صداء قد أذن ومن أذن فهو يقيم
(3)
). وصداء بضم
(1)
من سمع المؤذن فقال مثل ما يقول فله مثل أجره. كنز العمال، رقم الحديث:21002.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:512.
(3)
الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:199. وابن ماجه، كتاب الأذان والسنة، رقم الحديث: 717.
الصاد: حي باليمن، وجوابنا أن هذا أولى فقط، وأن الترمذي ضعفه، وأنه محمول على إرادة تأليفه صلى الله عليه وسلم للصدائي؛ أي لقرب عهده بالإِسلام.
وحكايته قبله يعني أنَّه يجوز حكاية الأذان قبل تمامه بعد الشروع فيه، وحينئذ فالمراد حكاية باقيه، والأفضل المتابعة، وإن كان خلاف ظاهر كلامه، وقوله:"وحكايته قبله": قال الشيخ عبد الباقي: كان ذلك لحاجة أم لا، وإطلاق الحكاية على ما لم يأت من باب إطلاق ما للجزء للكل، وذلك لأنَّ الجزء محكي. قاله أحمد. وأما نطقه به قبل نطق المؤذن بأوله، فلا يسمى حكاية، فلا يكون آتيا بمندوبيتها فيما يظهر، ولا تفوت بفراغ المؤذن، فيحكي ولو انتهى المؤذن كما في أحمد. انتهى كلام الشيخ عبد الباقي. فقوله: قبله؛ أي قبل نطق المؤذن بباقي التكبير، أو قبل النطق بما بعد التكبير. قاله الخرشي. قال: فلا بد من نطق المؤذن به على كلا الاحتمالين. وقوله: "وحكايته قبله" قيده الباجي بمشتغل بذكر أو صلاة، وابن يونس ببطء المؤذن. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الحطاب عند قوله:"وحكايته قبله" هكذا قال في المدونة؛ وهو أحد الأقوال الثلاثة؛ وروى علي: أحب إلي بعده، وقال الباجي: إن كان في ذكر أو صلاة، وكان المؤذن بطيئا فله أن يعجل قبله ليرجع إلى ما كان، وإن كان في غير ذلك فالأحسن بعده؛ لأنَّ ذلك حقيقة الحكاية. انتهى. فتلك أقوال ثلاثة. وقد مرت عن ابن عرفة.
وأجرة عليه يعني أنَّه يجوز أخذ الأجرة على الأذان. المازري: المشهور جواز الإجارة على الأذان، ومنعها ابن حبيب. الشيخ: عنه إنما كان إعطاء عمر عليه من مال الله كإجرائه للقضاة والولاة رزقا لهم. انتهى. وقوله: "وأجرة عليه"، وكذا الأجرة على الإقامة وحدها، وكذا الأجرة على الأذان والإقامة معا، فإن ذلك جائز. كما قاله الشيخ عبد الباقي.
أو مع صلاة يعني أنَّه يجوز أخذ الأجرة على الأذان مع الإمامة، وكذا يجوز أخذ الأجرة على الإقامة مع الإمامة، وكذا يجوز أخذ الأجرة على الإقامة والأذان مع الإمامة. كما نص عليه الشيخ إبراهيم. وقوله:"أو مع صلاة"؛ أي إمامة صلاة فرضا أو نفلا صفقة واحدة، وإنما جازت على الصلاة مع ما ذكر لأنها تبع له. فتأمل تلك الأقسام الستة الحسان. وما تقدم من شمول المصنف للفرض والنفل هو ظاهره، وهو قول ابن القاسم خلافا لتقييد التتائي بالمفروضة تبعًا لابن رشد
وسواء كانت الأجرة من بيت المال كما فعل عمر، أو من آحاد الناس على المشهور، ولو غاب إمام الصلاة، أو المودب الجمعةَ أو مرضها لم يسقط من أجره شيء، وإن طال المغيب أو المرض سقط منابه من الأجر، ولأهل المسجد توقيفهما ابتداء، ومنعهما من المغيب الطويل. قاله ابن فتوح. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله:"أو المودب" لعله تصحيف من الناسخ للمؤذن. والله أعلم.
وإذا لم يجد أهل المصر من يؤذن إلا بأجرة، فإنهم يستأجرون من يؤذن لهم. قال الشيخ يوسف بن عمر: وتكون أجرته على أهل الموضع كلهم، وكذلك من كان خارجا عنه وله رباع أو عقار بذلك الموضع. وهذا بخلاف إجارة التعليم فإنها لا تجب إلا على من له صبي. انتهى. قاله الإمام الحطاب. ابن فتوح: روى أشهب الاستيجار لقيام رمضان مباح، وإن كان بأس فعلى الإمام. وروى ابن القاسم: مكروه، قال ابن عرفة: ومقتضاه الحكم بالأجرة إن فات العمل. وأخبرت أنها نزلت بأبي إسحاق بن عبد الرفيع، فلم يحكم للإمام بشيء. وروى علي: لا بأس بها على الفرض لا النفل. ابن رشد: لعدم لزومه ولزوم الفرض، فكأن العوض ليس عنه. ابن شأس: للإمام أن يستأجر على الأذان من بيت المال، واختلف في إجارة غيره. سند: اتفقوا على جواز الرزق، وفعله عمر. ابن رشد: أرزاق القضاة والولاة والمؤذنين من الطعام لا يجوز بيعها قبل قبضها؛ لأنها أجرة لهم على عملهم. قلت: ظاهره خلاف ما تقدم لابن حبيب أن ذلك ليس بإجارة. انتهى. كلام ابن عرفة. وقال الحطاب: الذي يظهر أنَّه لا معارضة بين كلام ابن رشد وابن حبيب؛ يعني حيث قال: تمنع الإجارة على الأذان إنما كان إعطاء عمر عليه من مال الله كإجرائه للقضاة والولاة رزقا، ولا يجوز لهم من مال من حكموا له بالحق. انتهى. قال الحطاب معللا عدم المعارضة: لأنَّ مراد ابن رشد أنَّه أشبه الإجارة لكونه أخذ في مقابلة عمل، وقد قال ابن حبيب في الواضحة: وما يأخذه القضاة والمؤذنون وصاحب السوق من الطعام من باب المعاوضة فيمنع من بيعه قبل قبضه. انتهى. فتأمله منصفا. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب.
وكره عليها يعني أنَّه تكره الإجارة على الصلاة؛ أي على إمامتها مفردة. الخرشي: فرضا أو نفلا على مذهب المدونة. ابن القاسم: وهو عندي في المكتوبة أشد كراهة، وإن وقعت صحت، وحكم بها كالإجارة على الحج، وأجازها ابن عبد الحكم، ومنعها ابن حبيب كالأذان. وتجوز الصلاة
خلف من أخذ الأجرة من المصلين من غير كراهة؛ لأنه غير حرام فليست جرحة. قاله في سماع أشهب. ومحل الكراهة في قوله: "وكره عليها" إذا كانت تؤخذ من المصلين، وأما إن أخذت من بيت المال أو من أوقاف المسجد فلا كراهة؛ لأنه من باب الإعانة لا من باب الإجارة. انتهى. وقال الإمام الحطاب: اختلفوا في الأحباس الموقوفة على من يؤذن أو يصلي، فقيل: إنها إجارة، وقيل: إنها إعانة ولا يدخلها الخلاف في الإجارة على الأذان والإقامة.
ويتحصل من كلامهم أن في الإجارة على الصلاة ستة أقوال: التحريم مطلقا، والكراهة مطلقا، والجواز تبعًا للأذان وهو الذي مشى عليه المصنف وهو المشهور، والجواز مطلقا، الخامس رواية علي: لا بأس بها على الفرض لا النفل، السادس ما نقل عن المازري أنَّه حكى قولًا بجواز الإجارة لمن بعدت داره لا لمن قربت. انظر الحطاب. أي لأنه إذا قربت داره فلا مشقة عليه في الحضور، فلا تصح إجارته للإمامة. والله سبحانه أعلم. ابن ناجي: استمرت الفتوى من كل أشياخي القرويين بجواز أخذ من يصلي أو يؤذن من الأحباس الموقوفة على ذلك من غير اختلاف بينهم لما ذكر أنها إعانة، أو لضرورة الأخذ ولولا ذلك لتعطلت المساجد. انتهى. ونقل غير واحد أن الشيخ الولي الصالح الزاهد أبا عبد الله محمدا الدكالي رحمه الله تعالى كان بمدينة تونس في حدود التسعين وسبعمائة، فكان لا ينتسب للخلق ولا يخالطهم لا عامتهم ولا خاصتهم، ولا يحضر الجمعة ولا الجماعة، ولا يصلي مع الناس في الجوامع في جماعة، فرموه بالزندقة، وشنع عليه الإمام الأوحد أبو عبد الله محمَّد بن عرفة أقبح التشنيع، وصار يبحث على امتناعه من الصلاة لماذا؟ فقيل له: إنما امتنع لأخذ الأيمة الأجرة على الصلاة، فزاد بذلك إغلاظا في القول والتشنيع، وتبعته العامة والخاصة في ذلك، فرحل الإمام أبو عبد الله الدكالي إلى المشرق فارا بنفسه فكتب الإمام ابن عرفة كتابا لأهل مصر إلى أن قال لهم فيه يخبرهم بشأنه:
يا أهل مصر ومن في الحكم شاركهم
…
تنبهوا لقبيح معضل نزلا
لزوم فسقكم أو فسق من زعمت
…
أقواله أنَّه بالحق قد عملا
في تركه الجمع والجمعات خلفكم
…
وشرط إيجاب حكم الكل قد حصلا
إن كان شأنكم التقوى فغيركم
…
قد باء بالفسق حتى عنه ما عدلا
وإن يكن عكسه فالأمر منعكس
…
فاحكم بحق وكن بالحق معتدلا
فاجتمع العلماء والفقهاء من أهل مصر وما والاها واتفقت كلمتهم بأن أجابوا على ما كتب لهم في شأنه:
ما كان من شيم الأبرار أن يسموا
…
بالفسق شيخا على الخيرات قد جبلا
لا لا ولكن إذا ما أبصروا خللا
…
كسوه من حسن تأويلاتهم حللا
أليس قد قال في المنهاج صاحبه
…
يسوغ ذاك لمن قد يختشي زللا
كذا الفقيه أبو عمران سوغه
…
لمن تخيل خوفا واقتنى عملا
وقال فيه أبو بكر إذا علمت
…
عدالة المرء فليترك وما عملا
وقد روينا عن ابن القاسم العتقي
…
فيما اختصرنا كلاما أوضح السبلا
ما إن ترد شهادات لتاركها
…
إن كان بالعلم والتقوى قد احتفلا
نعم وقد كان في الأعلين منزلة
…
من جانب الجمع والجمعات واعتزلا
كمالك غير مبد فيه معذرة
…
إلى الممات ولم يثلم وما عذلا
هذا وإن الذي أبداه متضح
…
أخذ الأيمة أجرا منعه نقلا
وهبك أنك راء حله نظرا
…
فما اجتهادك أولى بالصواب ولا
البرزلي: وعندي أن كلا منهما حكم بما يقتضيه حاله، فإن الدكالي كان بعيدا عن الدنيا وزاهدا فيها، فالمتلبس بها عنده في غاية البعد عن الآخرة، وكان شيخنا يرى الدنيا مطية الآخرة وأنها نعم العون على ذلك كما في مسلم، فاكتسب منها جملة كثيرة، وأخرج جلها للآخرة نفعه الله بذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. انتهى. وفي الحطاب: عن ابن رشد أنَّه لا تكره إمامة من فعل ما تركه أفضل، كما لا تكره إمامة من ترك ما فعله أفضل من النوافل. وسلام عليه يعني أنَّه يكره السلام على المؤذن في حال أذانه بخلاف المصلي. وتقدم الفرق بينهما،
وبخلاف المتطهر والمتوضي، فلا يكره السلام على واحد منهما. كملب يعني أن الملبي يكره السلام عليه، ويكره منه أيضا. كما في الشبراخيتي.
ويكره السلام أيضا على شابة، وقاضي حاجة، ومجامع، وأهل بدع ومعاصي، ومشتغل بلهو، وظالم، وكافر، وآكل، وقارئ قرآن على ما نقله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ عبد الباقي: ولا يكره السلام على آكل، أو قارئ قرآن على المذهب. ووجب رده ولو في أثناء آية. انتهى. وقال الشيخ الأمير: ويجب الرد وإن حال أكل أو قراءة ونحو ذلك على المذهب، وفيه أنه لا بد من إسماع الرد إن كان المسلم حاضرا، وفيه أيضا وجوب رد السلام الشرعي وإن بكتاب، ويرد المؤذن والملبي بعد فراغهما وكذا المقيم يكره السلام عليه، ويجب عليه الرد بعد فراغه، إن استمر المسَلِّم حاضرا لفراغهم. قاله الشيخ عبد الباقي في الجهاد. وقال الشيخ إبراهيم: ويرد المؤذن بعد فراغه، وكذا الملبي وجوبا، ولو بعد ذهاب المسلم. وقولهم: إنما يحصل الرد بإسماع المسلم وإلا لم يكن آتيا بالرد، ففيما إذا كان المسلم حاضرا لما ذكروا هنا، وفيمن يسلم على اليسار، وفي رد السلام المكتوب بكتاب. انتهى. ويجب رد السلام ولو على مصل لكن إشارة، ولا يطلب المصلي بالرد عليه بعد فراغه منها. وظاهر كلامهم: ولو بقي. وقد تقدم كراهة السلام على قاضي الحاجة والمجامع، ومثلهما مستمع الخطبة، ولا يرد هؤلاء مطلقا بعد الفراغ، أو حال التلبس، ولو استمر المسلم حاضرا. ويشترط إسماع المسلم المطلوب بالسلام حيث كان حاضرا، ولم يكن به صمم كما هو الظاهر، وإلا وجب بغير إسماعه كرد سلام مكتوب شخص فيه سلامه. وقال الشبراخيتي وغيره. الجزولي: يجوز أن يسلم الشاب على المتجالة، والمتجالة عليه. انتهى. ويجوز الرد على أهل الذمة من غير إيجاب. وفي الحطاب عن السائل الملقوطة أنه يكره السلام على أهل الباطل، وعلى أهل اللهو حال تلبسهم به، وعلى لاعب الشطرنج. ولبعضهم في جمع النظائر التي لا يسلم فيها على الإنسان وإن سلم عليه فلا يرد:
رد السلام واجب إلا على
…
من في صلاة أو بأكل شغلا
أو شبر أو قراءة أدعية
…
أو ذكر أو خطبة أو تلبية
أو في قضاء حاجة الإنسان
…
أو في إقامة أو الأذان
أو سلم الطفل أو السكران
…
أو شابة يخشى بها افتتان
أو فاسق أو ناعس أو نائم
…
أو حالة الجماع أو تحاكم
أو كان في الحمام أو مجنونا
…
فواحد من بعدها عشرونا
انتهى. نقله الشيخ ميارة. وسيأتي الكلام على السلام في باب الجهاد بأتم مما هنا. وإقامة راكب يعني أن الراكب تكره إقامته لأنه ينزل بعدها ويعقل [دابته
(1)
] ويصلح متاعه وفيه طول وفصل بينها وبين الصلاة. والسنة اتصالها بها وحمل من لم يحتج لعقلها، وإصلاح متاعه لوجود خادم له على من ذكر؛ لأن التعليل بالمظنة. قاله الشيخ عبد الباقي. وأما أذان الراكب فلا كراهة فيه كما مر. قال فيها: ويؤذن راكبا ولا يقيم إلا نازلا، فإن فعل وأحرم من غير كثير شغل، أجزأه. قاله الخرشي. وغيره. وقوله:"وإقامة راكب" هو المشهور. وروى ابن وهب الجواز قائلا: لأن النزول عمل يسير فلم يكن فاصلا، كأخذ الثوب، وبسط الحصير. انتهى. قاله الحطاب. وقال الشيخ الأمير: وإقامة راكب، وأولى غير متطهر.
أو معيد لصلاته يعني أن من صلى وأراد إعادة الصلاة، تكره إقامته، وكذا تكره إقامته بعد صلاته، وإن لم يرد الإعادة؛ أي يكره أن يقيم لمن لم يصل، فلا مفهوم لقول المصنف: أو معيد. ونص ابن الحاجب: ولا يؤذن ولا يقيم من صلى تلك الصلاة. وقوله: "أو معيد لصلاته"؛ يعني سواء أذن لها أولا، أم لا. قوله:"أو معيد لصلاته". مقتضى كلام المصنف أنه تكره له الإقامة مطلقا أعاد مع غيره أو أعاد وحده؛ وهو ظاهر كلام غيره أيضا.
كأذانه يعني أن من صلى صلاة وأراد إعادتها فإنه يكره أن يؤذن لها. وقوله: "كأذانه" سواء أذن لها أوَّلًا أم لا، وسواء أراد إعادتها أم لا. وهنا ثلاثة أقسام: الأول أذن للصلاة وصلاها، الثاني صلاها ولم يؤذن لها: وقد تناولهما كلام المصنف، الثالث أذن لها ولم بصلها يجوز أذانه لها ثانيا. وقيد سند ذلك بأن يؤذن في غير المسجد الذي أذن فيه أوَّلًا، قال: فهذا يجوز، وإنما الممتنع أن يؤذن في مسجد الصلاة الواحدة والجماعة الواحدة، ونظيره الوضوء لما كان لا يراد لعينه لم يشرع تجديده لتلك الصلاة. انتهى.
(1)
ساقطة من الأصل مثبتة من عبد الباقي ج 1 ص 162.
قال الإمام الحطاب: وانظر إذا كان المسجد واسعا وأذن في بعض جهاته، ثم أراد أن يؤذن في جهة أخرى لإعلام أهل الجهة، هل يجوز ذلك أم لا؟ الظاهر: الجواز. والله أعلم. انتهى. وقال في النوادر: قال أشهب فيمن أذن لقوم وصلى معهم، فلا يؤذن لآخرين ويقيم، فإن فعل ولم يعيدوا حتى صلوا أجزأهم. انتهى. قاله الحطاب. اللخمي: أجاز مالك في سماع أشهب لمن أذن في مسجده أن يؤذن في غيره، ثم ليرجع
(1)
إلى مسجده فيصلي فيه. انتهى.
وقال ابن عرفة: وروى ابن وهب جواز من أذن بموضع، ولم يصل في آخر. قاله الحطاب.
وعلم مما قررت أن قوله: "أو معيد لصلاته كأذانه"، المراد به كل من برئت ذمته من الصلاة، وأراد إعادتها لفضل الجماعة أو لغير ذلك من وجوه الإعادة المندوبة. ولفظ الشبراخيتي: كل من برئت ذمته من صلاته يكره له أن يؤذن لها ويقيم، وسواء أراد إعادتها أم لا. انتهى. وعلم من كلامهم أن من لم تبرأ ذمته بأن أعاد الصلاة لبطلانها الخ، لم تكره إقامته لها، ولا أذانه. كما نص عليه الشيخ عبد الباقي.
وتسن إقامة يعني أن الإقامة سنة وهي سنة عين لبالغ يصلي منفردا، أو إماما لنساء فقط، وسنة كفاية لجماعة الذكور البالغين، أو معهم نساء في حق الإمام والذكور. والأفضل إقامة المؤذن دون الإمام والناس، ومن أقام بعد إقامته فقد خالف السنة. وندب لمقيم طهارة، واستقبال، ومن سنن الصلاة القيام للإقامة. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وفي الشيخ كريم الدين: عن ابن عرفة أن الوضوء شرط فيها بخلاف الأذان، قال: وكأن وجهه أن اتصالها بالصلاة صيرها كالجزء منها، ولأنها أوكد، بدليل أن المفرد تسن في حقه دون الأذان ويوافقه قولها: لا بأس أن يؤذن غير متوضئ، ولا يقيم إلا متوضئا. انتهى. وما تقدم من ندب الطهارة لها، وأنها ليست بشرط لها، هو الموافق لما ذكروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنه تذكر الجنابة بعد الإقامة، ودخل بيته واغتسل، ثم رجع ولم يعد الإقامة
(2)
). كما في الصحيحين. وما ذلك إلا لسرعة الأمر. ونقل
(1)
في الحطاب ج 2 ص 128 ط دار الرضوان: ثم يرجع.
(2)
أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قياما، فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب، فقال لنا: مكانكم، ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر فكبر فصلينا معه. البخاري، كتاب الغسل، رقم الحديث:275.
الحطاب في المسألة كلاما طويلا، ثم قال: فتحصل من هذا أن اتصال الإقامة بالصلاة سنة، وأن المفصل اليسير لا يضر، والكثير يبطل الإقامة. انتهى. ويجري هذا فيمن قطع الصلاة أو انصرف لعذر، فإنه إن طال أعاد الإقامة: وإلا لم يعدها. وفي هذا الخبر دليل على أن التعمق في العبادة والوسواس فيها، إما بدعة أو بلوى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تركهم قياما فاغتسل ورجع فصلى بهم، فدل على أنهم بقوا قياما ينتظرونه، ولو كان في طهوره طول لأمرهم بالقعود لرفقه صلى الله عليه وسلم بأمته. وذكر ابن العربي أن الإقامة إن كانت على إمام بعينه، فإنه لا يؤم غيره، ويدل له قول السيد عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام عند نزوله للإمام الذي أقيمت عليه صلاة العصر. وقد أراد تقديم عيسى عليه السلام للصلاة: صل فعليك أقيمت. انتهى. الحطاب: لا خلاف أعلمه في عدم وجوبها. قال في الإكمال: والقول بالإعادة لمن تركها ليس لوجوبها خلافا لبعضهم، بل للاستخفاف بالسنن.
مفردة يعني أن الإقامة تفرد ولا تثنى حتى قد قامت الصلاة، خلافا لرواية المصريين عن مالك: تشفع قد قامت الصلاة، وشفع الإقامة كإفراد الأذان أي فإن شفع أقلها أجزأت، وإلا فلا، منوية للإمام. وكان السيوري يقيم لنفسه ويقول: إنها تحتاج لنية، والعامي لا ينويها ولا يعرف النية. المازري: وكذا أفعل أنا أقيم لنفسي. نقله الشيخ محمد بن الحسن. ومن صفة الإقامة أن تكون معربة. قال الشبيبي في شرح الرسالة: وقيل مبنية. قاله الإمام الحطاب: وفي شرح الإرشاد للشيخ زروق، وهي معربة عند الصقليين والقرويين وإن شاء وقف وكل ذلك جائز. قاله الشيخ إبراهيم.
وثني تكبيرهم هذا في قوة الاستثناء من قوله: "مفردة"؛ يعني أن الإقامة تفرد إلا تكبيرها الأول والأخير، فإنه يثنى. الشبراخيتي وغيره: وهي في شروطها كالأذان ما عدا المذكورة. لفرض يعني أن الإقامة إنما تسن للفرض العيني، فقوله:"لفرض". متعلق، "بتسن". قاله الشيخ عبد الباقي، وغيره. ولا يصح تعلقه بثني لإيهام ذلك أنه تسن الإقامة للنفل، وليس كذلك. وقوله:"لفرض"
- أقيمت الصلاة، فقمنا، فعدلنا الصفوف، قبل أن يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا قام في مصلاه، قبل أن يكبر، ذكر، فانصرف، وقال لنا: مكانكم، فلم نزل قياما ننتظره، حتى خرج إلينا، وقد اغتسل ينطف رأسه ماء، فكبر، فصلى بنا. مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:605.
خرج بالفرض غيره، ولو سنة راتبة كالوتر والعيدين، وخرج بقيد العيني الكفائي. وفي الشارح: ولا يقيم إلا لفريضة. انتهى.
وإن قضاء يعني أن الإقامة تسن في الفرض أداء وقضاء، وتتعدد بتعدده، ومحلها في الأداء إن لم يخف فواته بها، وإلا سقطت، ولا يسرع الإسراع الشديد، وإن فاتت الجمعة؛ لأن لها بدلا، بخلاف الوقت فإنه لا بدل له. فقف على أن المكلف تفوت الجمعة ولا يسرع إسراعا شديدا لتحصيلها. قاله أحمد عن شارح الوغليسية. قال: ومقتضاه أنه لا نزاع فيه. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. وما تقدم من أنها إذا خيف بها فوات الوقت تسقط: الظاهر أن المراد بذلك: الوقت الذي هو فيه. قاله الشيخ عبد الباقي. ويكره الكلام بعد الإقامة في غير مهم، والأفضل الاشتغال بالدعاء من إمام ومأموم لخبر: (ساعتان تفتح لهما أبواب السماء وقل داع ترد دعوته: حضرة النداء، والصف في سبيل الله
(1)
). والظاهر أن المراد بالنداء: الأذان، ويحتمل دخول الإقامة؛ لأنها دعاء للصلاة. قاله الشيخ عبد الباقي. وندب لإمام تأخير إحرامه عنها بقدر تسوية الصفوف لا لمنفرد، ولا يدخل المحراب إلا بعد تمامها، وقد كان عمر وعثمان يوكلان رجلا بتسوية الصفوف، فإذا أخبرهما بتسويتها كبرا. وتأخيره لدخول المحراب إلى أن يكبر للإحرام إحدى المسائل التي يعرف بها فقه الإمام، والثانية خطفه الإحرام والسلام، أي إسراعه بهما ليلا يشاركه المأموم فيهما أو في أحدهما، والثالثة تقصير الجلسة الوسطى. ومعنى أنه يعرف بهذه الثلاث فقه الإمام، أن الشأن أن لا يعرفها إلا فقيه، لا أن من عرفها لا يكون إلا فقيها. قاله الشبراخيتي. واعلم أنه إذا أقيمت الصلاة على شخص بعينه فامتنع من الصلاة لعذر، أو أصابه شيء، أو أقيمت عليه وهو لم يحضر، فإنه يصلي من حضر بتلك الإقامة ولا تستأنف إقامة أخرى. قاله في مرشد المبتدئين. ابن عرفة: الشيخ: روى ابن القاسم إن بعد تأخير الصلاة عن الإقامة أعيدت، وفي إعادتها لبطلان صلاتها مطلقا أو إن طال. نقل عياض عن ظاهرها وبعضهم. انتهى. قال الشيخ أحمد: يقيد قوله: إن بعد، بغير الدعاء، ولو أقيم لمعين فأراد غيره أن يصلي أعيدت. قاله ابن
(1)
الموطأ، كتاب الصلاة، الحديث 7.
العربي. كما مر. وجَهَّلَ مخالفه. قال ابن عرفة: وفيه نظر. قاله الشيخ سالم تبعا لأحمد. وحرم خروج من مسجد بعدها لمتطهر إلا أن يكون صلاها جماعة أو مفردا، وهي مما لا تعاد لذلك، وكره بعد الأذان إلا أن يريد الرجوع إليه. قاله الشيخ عبد الباقي. قال إمامنا مالك: بلغني أن رجلا قدم حاجا فجلس إلى ابن المسيب وقد أذن المؤذن فأراد الخروج من المسجد واستبطأ الصلاة؛ فقال له سعيد: لا تخرج فإنه بلغني أن من خرج بعد المؤذن خروجا لا يرجع إليه أصابه أمر سوء، قال: فقعد الرجل ثم إنه استبطأ الإقامة، فقال: ما أراه إلا قد حبسني، فخرج وركب راحلته: فصرع وكسر، فبلغ ذلك ابن المسيب، فقال: وقد ظننت أنه يصيبه ما يكره. ابن رشد: قول ابن المسيب: بلغني، معناه: عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يقال ذلك من قبل الرأي؛ وهي عقوبة معجلة للخارج من المسجد بعد الأذان على أن لا يعود إليه، لإيثاره تعجيل حوائج دنياه على الصلاة التي أذن لها وحضر وقتها. ابن بشير: ولا خلاف في المذهب أن الإقامة سنة في حق الرجال، ثم قال بعد ذلك: وأما الإقامة فإنها مشروعة لكل مصل صلاة فرض وقتية، أو فائتة. لكن حكمها في الجماعة آكد منه في الانفراد: وحكمها على الرجال آكد منه على النساء، وسيأتي عن شرح التلقين الخلاف في إقامة المنفرد. انظر الحطاب.
وصحت يعني أن الصلاة تصح إذا تركت منها الإقامة سهوا بلا خلاف، كما في الحطاب. بل ولو تركت عمدا على المشهور، ولا إعادة في وقت، ولا في غيره. والقول بإعادة صلاة من تركها عمدا هو مقابل المشهور، وعليه فلا تجبر بسجود، وهل يعيد أبدا؟ وهو الذي رده المصنف. أو في الوقت؟ قولان. وبطلان الصلاة بترك الأذان غير معروف في المذهب، وإن روي عن مالك ولو ظن أن ترك الإقامة يؤثر نقصا فسجد قبل، بطلت صلاته بخلاف ما لو سجد بعد. كما في الحطاب. وقوله:"ولو تركت عمدا" أمره في المدونة بالاستغفار، مع أن طلب المغفرة لا يكون إلا عن ذنب، وليس في ترك السنن ذنب، إما لما قاله القرافي من أن العبد يحرم التقرب بالطاعات عقوبة على ذنوب سلفت منه، ويعان عليها بطاعته: لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ، ولقوله:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} . فيستغفر الله لتغفر له تلك الذنوب التي كانت سببا لترك الطاعة
ليأمن الابتلاء بالحرمان، وإما لما قاله غيره أن ترك السنن فسق يقاتل عليه أهل البلد إذا تمالؤا. انتهى. قاله الشيخ إبراهيم. وغيره. ولا يقطع من أحرم بغير إقامة تركها عمدا أو جهلا أو نسيانا، ولو أنه بعد ما أحرم أقام وصلى فقد أساء وليستغفر الله. رواه ابن القاسم. عن مالك. سند: لأنه أقام ثم أحرم بعد ذلك، فقد خرج من الإحرام الأول بنيته وبكلامه المنافي للصلاة وهو: حي على الصلاة حي على الفلاح، فإنه ينافي الصلاة حتى إن المصلي لا يحكي فيه المؤذن، ولو أن هذا لما أحرم أقام بعد إحرامه وتمادى على حكم إحرامه الأول لأعاد الصلاة. انتهى. وهو ظاهر قاله الحطاب.
وإن أقامت المرأة سرا فحسن يعني أن المرأة إذا صلت وحدها فإنها يستحب لها أن تقيم سرا، وظاهر المصنف أن إقامتها بوصف السر مندوب واحد وعليه بعض الشراح. وفي أبي الحسن على الرسالة ما يفيد أن كلا من الإقامة والسر مستحب على حدته، فتأتي بمستحبين إن أقامت سرا، ولا تحصل السنة بإقامتها للرجال ولو كانوا محارمها، ويقيم الفذ استنانا سرا ندبا، فإن جهر أتى بسنة فقط، وإن أسر أتى بسنة ومندوب وتندب الإقامة لصبي صلى لنفسه. قاله مالك. نقله الحطاب. واعلم أن الإقامة لا تحكى فليست كالأذان في ذلك، فإنه تندب حكايته كما قال المصنف، وحكايته لسامعه. وفي الأمير أنها، أي الإقامة مندوبة عينا لصبي وامرأة إلا أن يصاحبهما ذكور فتسقط عنهما، ولم تجز إقامة صبي أو امرأة لبالغ؛ لأن المندوب لا يكفي عن السنة، وحرم صوت امرأة إن خشيت الفتنة. وهذا كلي. قاله الأمير. وما ذكره المصنف من كون الإقامة في حق المرأة مستحبة هو المشهور؛ وهو مذهب المدونة. وروى في الطراز عدم استحبابها، إذ لم يرو عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. والفرق بين الأذان والإقامة حيث لم يطلب الأذان من المرأة أن الأذان شرع للإعلام بدخول الوقت والحضور للصلاة. وقد علم أن رفع صوت المرأة عورة فلم يشرع لها الأذان بل يحرم عليها كما مر، وأما الإقامة فإنها شرعت لإعلام النفس بالتأهب للصلاة، فلذلك شُرِع الإقامة للجميع. واختص الأذان بمن ذكر. انظر الحطاب. وفيه أن الذي يظهر أن إقامة المؤذن أحسن وهو الذي عليه العمل من زمنه عليه الصلاة والسلام إلى زمننا، وإقامة الإمام مجزئة. انتهى. وفي الحطاب: ظاهر كلامهم أن المطلوب في إقامة المنفرد أن يكون
سرا. انتهى. فيشمل الخنثى المشكل. والله تعالى أعلم. وليقم معها أو بعدها يعني أن مريد الصلاة إماما أو غيره لا تحديد عندنا في وقت قيامه للصلاة، فسواء قام حال الإقامة أو بعدها. بقدر الطاقة يعني أن الإمام مالكا كان لا يوقت وقتا إذا أقيمت الصلاة يقومون عنده، ولكنه كان يقول على قدر طاقة الناس، فمنهم القوي: ومنهم الضعيف. قاله في الأم. وقال في النوادر عن المجموعة: قال علي: قيل لمالك: إذا أقيمت متى يقوم الناس؟ قال ما سمعت فيه حداة وليقوموا بقدر ما إذا استوت الصفوف فرغت الإقامة.
قال جامعه عفا الله عنه: يظهر من هذا أن قول المصنف بقدر الطاقة، معناه: ليس لقيام المصلين وقت محدود بشيء من ألفاظ الإقامة حتى يجهد نفسه في موافقته، ويحملها فوق ما تيسر له كما يقوله غيرنا، فكان ابن عمر لا يقوم حتى يسمع: قد قامت الصلاة. وقال أبو حنيفة: إذا قال حي على الفلاح، كبر الإمام تكبيرة الإحرام. وقال سعيد: إنه يقوم إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر فإذا قال: حي على الصلاة، اعتدلت الصفوف، فإذا قال: لا إله إلا الله، كبر. انتهى. انظر الحطاب. وفي الزاهي: قال الله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} . فحق على كل قائم إلى الصلاة أن يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده. انظر الحطاب.
تنبيهات الأول: يؤذن في الجمع لكل صلاة سواء كان سنة كعرفة، أو رخصة كليلة المطر. قاله ابن عبد السلام، وكذلك الجمع في السفر كما صرح به اللخمي وغيره. وفي التوضيح: وفي الجمع مطلقا ثلاثة أقوال، قيل: لا يؤذن لهما وقيل يؤذن للأولى فقط، والمشهور يؤذن لكل منهما. قال المازري: واتفق عندنا على أنه يقام لكل صلاة. قاله الحطاب.
الثاني: من دخل بتكبير في آخر جلوس الإمام فلا يقيم، فإن لم يكبر أقام. وفي المدونة: ومن صلى في بيته لم تجزه إقامة أهل المصر، واختلف فيه قول الشافعي، فقال في الجديد مثله، وقال في القديم: أما الرجل يصلي وحده فأذان المؤذنين وإقامتهم كافية له، ووجه المذهب ظاهر فإنه إذا كان ليس معهم في صلاة لم تجزه إقامتهم. والله أعلم. قاله الحطاب.
الثالث: قال الإمام المازري في شرح التلقين: اختلف الناس في إقامة المنفرد، فمذهب مالك أنه يخاطب بها، وفي المبسوط أن الإقامة للمنفرد إنما هي لجواز من يأتم به. ابن عرفة: وفيها من
دخل مسجدا صلى أهله لم تجزه إقامتهم، ولمالك في المبسوط يقيم أحب إلي. اللخمي: استحسنه ولم يره سنة. قاله الحطاب.
الرابع: قد تقدم أن الإقامة لا تحكى كما قاله الشيخ زروق في شرح الوغليسية، ويفهم أيضا من كلام ابن رشد، لكن وقع في الطراز ما يقتضي أنه تحكى الإقامة. قاله الحطاب. وفيه: عن ابن مسلمة: إنما الإقامة لمن يؤم، يقيم لنفسه ولمن يأتي بعده ممن
(1)
دخل معه كإن أقام.
الخامس: لفظ الأذان: الله أكبرْ الله أكبرْ، أشهد أن لا إله إلا اللهْ أشهد أن لا إله إلا اللهْ، أشهد أن محمدا رَّسول اللهْ أشهد أن محمدا رَّسول اللهْ، أشهد أن لا إله إلا اللهْ أشهد أن لا إله إلا اللهْ، أشهد أن محمدا رَّسول اللهْ أشهد أن محمدا رَّسول اللهْ، حي على الصلاهْ حي على الصلاهْ، حي على الفلاحْ حي على الفلاحْ، الله أكبرْ الله أكبرْ، لا إله إلا اللهْ. ويزاد في نداء الصبح بين قوله: حي على الفلاح، وبين قوله: الله أكبر، الصلاة خير من النومْ الصلاة خير من النومْ. ولفظ الإقامة: الله أكبرُ الله أكبرُ أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول اللهِ حي على الصلاةِ حي على الفلاحِ، قد قامت الصلاة اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا اللهْ وقد تقدم أن الإقامة معربة، فإن وقف فيها وقف على السكون. وعلى في حي على الصلاه، حي على الفلاحْ: حرف جر في الأذان والإقامة. كما أفاده غير واحد. وقال التفجروتي: إن حي على بجملتها اسم فعل.
السادس: قال ابن عرفة: وفي رفع التكبير الأول عن خفضهما؛ يعني الشهادتين قبل الترجيع كرفعه أخيرا، وخفضه كخفضهما نقلا عياض عن أبي عمران مع أبي زمنين، وروايتي أبي مرة وابن وهب، وسماع أشهب، واللخمي مع ابن حبيب وظاهرها، وفي الإكمال هما روايتان، المشهور الأولى.
السابع: تكره الإقامة قبل فراغ الأذان، وفي المدونة: من رأى النجاسة بثوبه قطع وابتدأ بإقامة، وفي ابن عرفة: ولا بأس أن يقيم خارج المسجد للإسماع، وإن كان على المنار أو ظهر المسجد، وإن كان ليخص رجلا بالإسماع فداخل المسجد أحب إلي؛ يعني مالكا. ثم قال: ويؤذن المريض لنفسه قاعدا، وفي الصحيح روايتان لأبي الفرج. ولها: ويؤذن الراكب، وفي إقامته روايتان لابن
(1)
لفظ الحطاب: فمن دخل بعده كأن أقام له ص 139 ج 2 ط دار الرضوان.
وهب مع ابن كنانة. ولها. وقيد أبو عمر الأولى بسرعة السير. ابن القاسم: إن رعف مقيم أو أحدث قطع وأقام غيره، وإن رعف مؤذن تمادى، فإن قطع وغسل الدم ابتدأ اللخمي إن قرب بنى. أشهب: إن رعف مقيم أو أحدث أو مات أو أغمي عليه ابتدأ، فإن بنى هو أو غيره أجزأ ولو أراد الأذان فأقام لم يجزه، وفي العكس قولا مالك وأصبغ انتهى.
الثامن: في الواضحة قال مالك: لا بأس أن يشرب الماء بعد الإقامة، وقبل التكبير. انتهى. قاله الحطاب. وقال. أعني الحطاب: وسئل مالك عن الرجلين يدخلان المسجد وهما في مؤخره، فتقام الصلاة وهما في مؤخر المسجد، يقبلان إلى الإمام وهما يتحدثان، فقال: أرى أن يترك الكلام إذا أحرم الإمام. قال ابن رشد: وهذا كما قال؛ لأن تحدثهما والإمام في الصلاة وهما في المسجد مقبلان إلى الصلاة من المكروه البين؛ لأنه لهو عما يَقصدانه من الصلاة وإعراض عنه. انتهى. قال الحطاب: وأشد من ذلك تحدثهما وهما واقفان في الصف بعد أن أحرم الإمام، بل قد يحرم ذلك إذا كان فيه تشويش على من إلى جانبهما من المصلين، ولا إشكال في ذلك. والله تعالى أعلم. وقال في النوادر: قال مالك: إذا أحرم الإمام فلا يتكلم أحد، وقد مر أن الاستقبال في الإقامة مندوب، وقال في المدونة: رأيت المؤذنين في المدينة يتوجهون إلى القبلة: وإلى غيرها في أذانهم، ويقيمون عرضا؛ يعني أن الإمام يخرج من بيته في شرق المسجد أو غربه، فيخرج المؤذنون معه وهم يقيمون، فخروجهم مع الإمام وهم يقيمون تفسير لقوله: يقيمون عرضا، وذلك لأن قبلة مسجد المدينة إلى جهة الجنوب، والمغرب عن يمينه، والمشرق عن شماله. والمطلوب هو الاستقبال، وما وقع بالمدينة إنما هو لكونهم يخرجون مع الإمام. انظر الحطاب. ويؤخذ من مسألة المدونة هذه تعدد المقيم؛ وهو ظاهر. انظر الحطاب. وفيه بعد جلب نقول: فتحصل من هذا أن اتصال الإقامة بالصلاة سنة، وأن المفصل اليسير لا يضر، والكثير يبطل الإقامة، وسيأتي أنه يستحب للإمام أن ينتظر بالإحرام بعد الإقامة قدر ما تستوي الصفوف فهذا المفصل مستحب، فلا بد أن يكون التأخير اليسير المغتفر فوقه. (وكان صلى الله عليه وسلم يناجي الرجل طويلا بعد الإقامة
(1)
). والله أعلم. انتهى.
(1)
أقيمت الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يناجى رجلا في جانب المسجد فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم. البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:642.
ولما أنهى الكلام على أوقات الصلاة وما به الإعلام بها، وكان الدخول كما يتوقف على دخول وقتها، يتوقف على وجود شرطها، بل عد بعضهم الوقت شرطا. شرع في الكلام عليه فقال:
فصل ذكر فيه شرطان من شروط الصلاة أو هما شرط واحد،
وسيذكر فصلين في شرطين: ستر العورة، واستقبال القبلة. وشروط الصلاة ثلاثة أقسام: شروط وجوب، وشروط صحة، وشروط وجوب وصحة. فشروط الوجوب اثنان: البلوغ، وعدم الإكراه على تركها. وتصح منه: وإن لم تجب عليه حيث صلاها مع الإكراه، فإن لم يصلها وجب عليه قضاؤها عند زواله. قاله الحطاب. ونقله الشيخ عبد الباقي. قوله:"وعدم الإكراه"، الخ قال الشيخ محمد بن الحسن: في عدهما عدم الإكراه شرطا في الوجوب نظر؛ إذ لا يتأتى الإكراه على ترك جميع أفعال الصلاة. وقد نقل الحطاب نفسه أول فصل يجب بفرض قيام، عن [أبي العباس القباب
(1)
]، وسلمه أن من أكره على ترك الصلاة يسقط عنه ما لم يقدر على الإتيان به من قيام وركوع وسجود، ويفعل سائر ما يقدر عليه من إحرام وقراءة وإيماء كما يفعل المريض ما يقدر عليه، ويسقط عنه ما سواه. انتهى. فالإكراه بمنزلة المرض المسقط لبعض أركانها، فلا يسقط به وجوبها. تأمل انتهى. ونقل الشيخ محمد بن الحسن عن الرماصي ما نصه: والظاهر أن الإكراه هنا يكون بما يأتي في الطلاق من قوله: بخوف مؤلم من قتل أو ضرب الخ: لأنه هو المعتبر في العبادات وهذا منها وأما شروط صحتها فقط فخمسة: طهارة حدث، وخبث، واستقبال، وستر عورة، وإسلام. وأما شروطهما معا فستة: انقطاع حيض، ونفاس: وعقل، وبلوغ دعوة، ودخول وقت، ووجود طهور أو صعيد، وعدم نوم وسهو. ومنها عند بعضهم: ترك الكلام: وترك الأفعال الكثيرة، والأولى عد الكلام والأفعال الكثيرة من الموانع؛ لأن ما طلب تركه إنما يعد في الموانع. قاله الحطاب. وانظر هذا. واعلم أن من حصلت منه الأفعال الكثيرة ولو سهوا بطلت صلاته، والوقت سبب، وكونه شرطا مجاز لأنه شرط في الصحة، وسبب في الوجوب. واعلم أن الصلاة لا تجب قبل الوقت إجماعا، ولا تصح إلا ما سيأتي في باب الجمع، ولا تصح صلاة السكران إن كان عقله غائبا، وفي صحة صلاته إذا كان في عقله ولكن الخمر في جوفه خلاف تقدم ذكره. وظاهر المدونة عدم الصحة. وقد تقدم أنه يجب قضاء الصلاة عند زوال النوم والسهو، مع أنه لا إثم لكون الصلاة تأخرت عن
(1)
في الأصل ابن عباس والمثبت من البنانى، ج 1، ص 164.
وقتها لوجود أحدهما، ولا يقضي الصبي ما خرج وقته من الصلوات في حال صباه صلاه أم لا. وتقدم أنه إذا بلغ في بقية من الوقت يلزمه بقدر ما أدرك، صلاه أم لا؛ لأن الأولى نافلة، وقد تقدم عد الإسلام من شروط الصحة؛ لأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة على المشهور، فتجب الصلاة على الكافر، ولا تصح منه بالإجماع. وقيل: إنه شرط في الوجوب والصحة، وإذا أسلم الكافر أو المرتد لم يجب عليهما ما خرج وقته في حال الكفر، ويجب عليهما أن يصليا ما أسلما في وقته، وقد تقدم هذا في قول المصنف:"والمعذور غير كافر يقدر له الطهر".
شرط لصلاة بالتنكير، طهارة حدث يعني أنه يشترط في صحة الصلاة فرضا أو نفلا، أداء أو قضاء، ذات ركوع وسجود أم لا، طهارة الحدث قطعا أصغر أو أكبر بماء أو بدله من تيمم ومسح ابتداء ودواما سواء كان ذاكرا قادرا أولا فإن صلى محدثا أو طرأ حدثه فيها ولو سهوا أو غلبة أو ترك عضوا من أعضائه أو لمعة في وضوء أو غسل عمدا أو سهوا، بطلت صلاته، ويجب عليه قضاؤها أبدا. ومثل الوضوء والغسل في ترك بعض الفرض التيمم ونكر المصنف صلاة ليفيد أن الطهارة شرط في جميع الصلوات فريضة كانت أو نافلة، فائتة أو وقتية، ذات ركوع وسجود أو صلاة جنازة أو سجود تلاوة ناسيا كان أو ذاكرا. قاله الإمام الحطاب. ونكر طهارة ليعم الطهارة بالماء أو بما هو بدل منه كالتيمم والمسح على الخفين والجبيرة. قاله الإمام الحطاب. ونكر الحدث ليعم الأصغر والأكبر. قاله الحطاب. والمراد بالحدث هنا: الوصف الحكمي أو المنع المرتب عليه، وقد مر بيانهما عند قول المصنف:"يرفع الحدث" فراجعه إن شئت.
وخبث يعني أنه يشترط في صحة الصلاة فرضا أو نفلا أداء أو قضاء ذات ركوع وسجود أو صلاة جنازة أو سجود تلاوة، طهارة الخبث، وهي إزالة النجاسة بالماء المطلق من الثوب والبدن والمكان، فتشترط ابتداء ودواما لكن مع الذكر والقدرة على إزالتها، وقد مر الكلام عليها فراجعه إن شنت في قول المصنف:"هل إزالة النجاسة"، الخ وإضافة الطهارة إلى الحدث والخبث من إضافة المزيل إلى المزال. قاله الحطاب. والله سبحانه أعلم.
وعلم مما قررت أن اللام في قوله: "لصلاة" بمعنى في. أشار له الشيخ عبد الباقي. ولما كان الرعاف من الخبث ذكره المصنف هنا، وقسمه إلى قسمين: أشار لأولهما بقوله:
وإن رعف قبلها ودام أخر لآخر الاختياري وصلى الرعاف: هو الدم النازل من الأنف، ويطلق على خروج الدم من الأنف، رعف كنصر وكرم وسمع وعني. انظر الحطاب. يعني أن من رعف قبل التلبس بالصلاة. ودام عليه الدم بالفعل، فإنه لا يخلوا من خمس حالات: إما أن يتيقن انقطاع الدم، أو يظنه قبل فوات الوقت المختار، وإما أن يجزم: أو يظن، أو يشك أن يستغرق الوقت المختار. وفي كل من الحالات الخمس: إما أن يرشح الدم. أو يقطر، أو يسيل. فتلك خمس عشرة صورة، فأما الست الأول وهي: ما إذا تيقن انقطاع الدم قبل فوات الوقت المختار رشح الدم أو قطر أو سال، وما إذا ظن انقطاعه في بقية من الوقت المختار رشح الدم أو سال أو قطر؛ فإنه يؤخر الصلاة وجوبا إلى آخر الوقت المختار ويصليها حينئذ بحيث يوقعها كلها أو ركعة منها في المختار على الخلاف السابق في إدراك الاختياري بدون إثم مع تقدير الطهارة. وأما التسع الباقية فإنه يبادر بالصلاة فيها. إذ لا فائدة في التأخير، ثم إن انقطع عنه في بقية من الوقت فلا إعادة عليه، وقيل: يعيد في الوقت استحبابا.
قال جامعه عفا الله عنه: ولا يعترض على هذا بالإعادة للنجاسة. لأن هذا كالمريض، والمريض الراجح فيه عدم الإعادة حيث صلى إيماء مثلا، وهذا يؤخذ من نقل الإمام الحطاب. والله سبحانه أعلم. والقول بالإعادة هنا بالرعاف لأشهب، ومقابله مخرج على المريض وإن رعف قبل دخوله في صلاة عيد أو جنازة، تركهما عند ابن المواز، خاف فواتهما أم لا. وقال أشهب: يدخل فيهما إن خاف فواتهما: وإذا قلنا إنه يصلي على حالته حيث كان لا يرجو انقطاعه في بقية من الوقت؛ وهي الصور التسع المتقدمة، فإنه يومئ إذا لم يقدر على الركوع أو السجود لضرر به، أو خشية تلطخ، وما تقدم من أن المعتبر الاختياري هو الأرجح، وقيل: الضروري. وقد تقدم في التيمم ما يفيد أن الضروري لا تأخير فيه. كما قاله الأمير. فعلى المشهور تعتبر القامة للظهر والقامتان للعصر، وعلى مقابله يعتبر ما يدركهما فيه قبل الغروب، كما في الحطاب. وما تقدم من أن الشك كظن دوامه، فيبادر بالصلاة. قاله أبو عمر وغيره، وقوى بناني والرماصي أنه يؤخر. وهذا الذي ذكرته في شرح قول المصنف: وإن رعف قبلها، لخصته من كلام الحطاب، وعبد الباقي، والشبراخيتي، وبناني، والأمير. والله تعالى أعلم. قال الشيخ عبد الباقي: وإذا صلى على
حالته يجري فيه قوله: "فتله بأنامل يسراه"، قال الشيخ محمد بن الحسن: هذا يقتضي أنه يفتله، فإن زاد عن درهم قطع. كما يأتي. وليس كذلك؛ لأن ما يأتي فيما إذا لم يظن دوامه، فلذا يقطع إن زاد عن درهم، ثم يغسله ويصلي في الوقت. وما هنا ظن دوامه لآخر الوقت فلا فائدة في القطع، وإن زاد عن درهم، بل يصلي كذلك. انتهى. وقوله:"وظن دوامه" الخ، قال الشبراخيتي: ويعلم دوامه إما بعادة سبقت له، أو بإخبار طبيب حاذق أو من هو مساوٍ له في المزاج وأشار المصنف إلى القسم الثاني من قسمي الرعاف بقوله:
أو فيها وإن عيدا أو جنازة وظن دوامه له أتمها وقوله: "أو فيها" الخ، تأتي فيه الصور المتقدمة التي هي خمس عشرة صورة. كما سيتضح لك. أشار له الشيخ الأمير، يعني أن من رعف في الصلاة وظن، وأولى إن جزم أن الدم يدوم عليه إلى آخر الوقت المختار رشح، أو قطر، أو سال، فإنه يتمها على حالته التي هو عليها فرض عين، أو عيدا، أو جنازة. فقوله:"له"؛ أي لآخر الوقت المختار. قال الشيخ عبد الباقي في فرض المعين، وفي العيد: ولعدم إدراك تكبيرة في الجنازة قبل رفعها لفذ لو ذهب لغسله ثم أتى، وبفراغ مأموم أو إمام منها؛ لأن فراغه منها كخروج الوقت المختار في الفريضة. انتهى كلام الشيخ عبد الباقي. وقوله: قبل رفعها لفذ غير ظاهر؛ لأنه إن كان ثم مصل غير هذا الراعف لم يحتج له وإلا لم ترفع حتى يصلى عليها، ولو اعتبر الوقت بخوف تغيرها كان ظاهرا. والله أعلم. وكذا قوله: لفراغ مأموم أو إمام، صوابه: إسقاط المأموم، وعبارة الحطاب؛ يعني أنه إذا كان في صلاة العيد أو في صلاة الجنازة ورعف فيها، فإن ظن دوام الرعاف إلى فراغ الإمام منها، فإنه يتمادى مع الإمام، ففراغ الإمام منها يتنزل منزلة الوقت المختار في الفريضة. ولم يتكلم ابن المواز وأشهب إلا على الراعف في جماعة. انظر حاشية الشيخ بناني.
ومحصل مسألة العيد والجنازة على ما قاله الشيخ إبراهيم وغيره أن من رعف قبل الدخول فيهما لا يدخل فيهما على حالته من التلبس بالرعاف، خاف الفوات أم لا عند ابن المواز: وعند أشهب يدخل فيهما على حالته إن خاف الفوات، لا إن لم يخف ذلك فلا يدخل على حالته، وإنما يدخل بعد غسل الدم وأما من حصل له الرعاف فيهما، فعند ابن المواز: يخرج لغسل الدم كمن حصل له الرعاف في الفريضة، وسواء خاف الفوات أم لا. وعند أشهب: الأولى له أن يخرج
لغسل الدم إن لم يخف الفوات، فإن خاف الفوات فالأولى له أن لا يخرج، ويصلي على حالته. فهما متفقان على أنه يخرج لغسل الدم حيث لم يخف الفوات إن كان قد دخل فيهما: وعلى أنه لا يدخل فيهما على حالته حيث لم يخف الفوات. انتهى. وقوله: فعند ابن المواز يخرج لغسل الدم الخ؛ أي ويتم وحده بعد غسله وذهاب الإمام. قاله الشيخ بناني. وفي النوادر عن ابن المواز: ومن رعف في صلاة الجنازة فليمض فيغسل الدم، ثم يرجع إلى موضع صلي عليها فيه فيتم باقي التكبير: وكذلك في صلاة العيدين ولو أتم باقي صلاة العيدين في بيته، أجزأه. قاله الحطاب. وعبارة عبد الباقي: فإن لم يخفه يعني الفوات، ندب انصرافه لغسله حتى في العيد والجنازة عند أشهب وابن المواز. قال: والظاهر أن من رعف في النافلة وخاف التمادي إلى وقت يشق عليه أنه يكملها على هيئته، فلو رجا انقطاعه خرج لغسل الدم، وأتمه في موضعه. انتهى. وقال الأمير: وظن دوامه له؛ أي لآخر المختار أو لفوات العيد والجنازة بأن لا يدرك ركعة في العيد ولا تكبيرة في الجنازة: ويعتبر في سائر النوافل الدوام لوقت يشق كما في الحطاب. انتهى. إن لم يلطخ فرش مسجد في قوله: "أتمها"؛ يعني أن محل إتمامه للصلاة حيث رعف فيها وظن دوامه له إنما هو حيث لم يخش تلطيخ فرش المسجد بأن لم يكن في مسجد أو في مسجد غير مفروش؛ بأن كان محصبا أو متربا، أو لقى الدم عن فراش المسجد بكخرقة، فيتم ولو لطخ ذلك بأزيد من درهم. وأما إن خاف تلطيخ المسجد ولو بدون درهم، فإنه يقطع ولو خاف خروج الوقت؛ لأنه لا يباح تلطيخ فرش المسجد لضيق الوقت، ومثل فرش المسجد بلاطه. قاله الشيخ عبد الباقي. والشيخ إبراهيم. وقال الشيخ محمد بن الحسن: في ذلك نظر. والظاهر ما قاله المسناوي أن المبلط والمزلج كالمحصب لا كالفروش، وتقدم أنه في الفروش إذا لاقى الدم بكخرقة يتم. قال الشيخ محمد بن الحسن بناني: يتم ولو حملها؛ لأنه رخص له في الصلاة بالدم، وإن كثر لظنه دوامه محافظة، وفي الشبراخيتي أن رجيع الجمال إذا شمه من به رعاف دائم قطعه. انتهى.
واعلم أن أهل المذهب وغيرهم إذا صدروا بقول وعطفوا عليه بقيل، أن الأول هو الراجح، ولا سيما إذا لم يعزوا الأول لأحد، بل نقلوه على أنه المذهب. قاله الإمام الحطاب. وقوله:"أو فيها وإن عيدا أو جنازة"، قد علمت حكم الفذ والمأموم في الجنازة. وأما الإمام فإنه يستخلف من يتم بهم،
ويصير حكمه حكم المأموم. وفي الحطاب عن ابن رشد: وإذا رعف الإمام في الجنازة أو العيد استخلف كالفريضة سواء، وإن رعف المأموم فيهما فإنه ينصرف ويغسل الدم، ثم يرجع فيتم مع الإمام ما بقي من تكبير الجنازة وصلاة العيد، فإن علم أنه لا يدرك شيئا من ذلك مع الإمام أتم حيث غسل الدم إلا أن يعلم أنه يدرك الجنازة قبل أن ترفع، فإنه يرجع حتى يتم ما بقي من التكبير عليها. وقال أشهب: فإن كان رعف قبل أن يعقد من صلاة العيد ركعة، أو قبل أن يكبر من تكبير الجنازة شيئا، وخشي إن انصرف لغسل الدم أن تفوته الصلاة، لم ينصرف، وصلى على الجنازة، وتمادى على صلاته في العيد، وكذا لو رأى في ثوبه نجاسة، وخاف إن انصرف لغسلها أن تفوتاه. انتهى.
وأومأ لخوف تأذيه هذا مرتب على قوله: "أتمها"، يعني أنه إذا قلنا إنه يتم الصلاة ولا يقطع لأجل الدم إذا ظن دوامه لآخر الوقت المختار، فإنه إن قدر على الركوع والسجود من غير ضرر ركع وسجد، وإن لم يقدر على ذلك إلا مع خوف تأذي جسمه كما لو كان رمدا، أو خاف نزول الدم في عينه أو خاف أنه متى انحنى راكعا أو ساجدا انصرفت المادة إلى وجهه فيزيد رعافه، فإنه يومئ اتفاقا. قاله الحطاب. أي للركوع من قيام، وللسجود من جلوس. وقال الأمير: وأومأ لخوف تأذيه بانعكاس الدم ولو شكا، وقال عبد الباقي: وإيماؤه واجب مع ظن أذى شديد ومندوب مع شكه، ومع التوهم يحتمل الجواز وعدمه، ولا إعادة عليه بوقت حيث أومأ، ثم ارتفع عنه الدم بعد الصلاة كمن صلى إيماء لمرض ثم صح في الوقت. والمعتبر هنا -فيما يظهر ويفيده إطلاقهم- مطلق الخوف، وإن لم يستند لتجربة نفسه، أو مقارب مزاجه، أو لقول طبيب فليس كالخوف في التيمم لدون مشقته بالنسبة لمشقته
(1)
هنا بنزول دم منه. انتهى. كلام الشيخ عبد الباقي.
أو تلطخ ثوبه يعني أنه يومئ لخوف تلطخ ثوبه الذي يفسده الغسل، أي يومئ للركوع من قيام، وللسجود من جلوس، صيانة للمال. وأما الثوب الذي لا يفسده الغسل فلا يومئ لتلطخه، بل
(1)
في الأصل لمشقة والمثبت من عبد الباقى ج 1 ص 166.
يجب عليه أن يتمادى بالركوع والسجود، ولو لطخه بالفعل بأكثر من درهم فضلا عن خوف التلطخ، وقد علمت أن العلة في الإيماء هنا صون المال، وقوله:"أو تلطخ ثوبه"، فيه طريقان: الجواز لابن رشد إجماعا، والثانية لغيره حكوا في جواز الإيماء قولين: الجواز لابن حبيب، وعدمه لابن مسلمة. ولما قوي القول بجواز الإيماء بحكاية ابن رشد الإجماع عليه، اقتصر المصنف عليه. قاله الإمام الحطاب.
لا جسده يعني أن الراعف لا يومئ للركوع والسجود لأجل خوف تلطخ جسده، أي لا يجوز له الإيماء لذلك اتفاقا. قال الإمام الحطاب: إذ الجسد لا يفسده الغسل، وقوله:"وأومأ لخوف تأذيه أو تلطخ ثوبه"، ليس خاصا بمن حدث له الرعاف في الصلاة، فإن من رعف قبل الصلاة إذا دام عليه الدم: وظن دوامه لآخر الاختياري، يصلي على حالته، ويومئ لخوف تأذيه وتلطخ ثوبه. قال ابن عرفة: ودائم الرعاف يصلي على حالته، ويومن لضرر سجوده. ابن رشد: أو لخوف تلطخه إجماعا، ولا يعيد إن كف في الوقت. ثم قال وغير الدائم يؤخر لكفه ما لم يخرج المختار، ونقل ابن رشد الضروري، انتهى. وقوله:"لا جسده". قيده عبد الباقي بما إذا لم يغلب ظن تلطخه بما زاد عن درهم، قال: وإلا أومأ، قال بناني: وهو غير صحيح، بل قال أبو علي: إنه خطأ صراح، وكذا قيد عدم الإيماء لتلطخ ثوبه الذي لا يفسده الغسل بما إذا لم يخف تلطخه بأكثر من درهم: وهو غير صحيح، بل لا يومئ وإن لطخه بأكثر من درهم كما مر. وكذا قيد الإيماء لتلطخ الثوب الذي يفسده الغسل بما إذا لم يخرج منه بالإيماء ما يوجب القطع. قال: وإلا ركع وسجد، وليس بصحيح لاقتضائه أن علة الإيماء خوف نزول قدر من الدم يوجب القطع، وذلك غير صحيح. بل العلة خوف الضرر أو فساد الثوب، ولو كان ذلك لركع وسجد وإن نزل منه عليه أكثر من درهم. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. وقوله:"لا جسده"، قال الشيخ إبراهيم الشبراخيتي: فلا يجوز له الإيماء إذا كان لا يضر به غسله، وإلا أومأ. انتهى.
وإن لم يظن ورشح فتله بأنامل يسراه هذا مفهوم قوله: وظن دوامه له، يعني أنه إذا رعف في الصلاة، ولم يظن استمراره لآخر الاختياري فله ثلاث حالات: البناء، والقطع، والتخيير. الحالة الأولى، وهي البناء: أن يكون الدم يسيرا يذهبه الفتل، بأن يكون الدم يرشح ولا يسيل ولا يقطر،
فهذا لا يجوز له القطع لصلاته ولا أن يخرج منها، فإن قطع أفسد صلاته، وإن كان إماما أفسد عليه وعلى المأمومين، بل يفتله بأنامل يسراه العليا. وكيفية الفتل أن يجعل أنملة منها غير أنملة الإبهام في أنفه، ويحركها مديرا لها، ثم يفتلها؛ أي بعد انفصاله عن الأنف بالإبهام؛ أي أنملة إبهامه العليا من اليسرى، فكلما امتلأت أنملة فتلها بالإبهام، وهكذا إلى أن تختضب الخمس. وعدم إدخال أنملة الإبهام في أنفه، عليه شراح الرسالة والمحققون. وقال بعضهم: ظاهر الأم إدخالها فيه، وكذا عمم إدخال الخمس الش، والتتائي، والحطاب. وزاد أحمد عن بعض شيوخه أن الفتل بعد إخراجها من الأنف، لا أنه إدارتها مع الفتل داخله. كما فهم بعض شراح المختصر. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"وإن لم يظن"، شامل لما إذا شك في الدوام، أو رجا الانقطاع. كما صرح به ابن هارون. ونقله صاحب الجمع. قال: ومن باب أحرى إذا رجي انقطاعه بالفتل. والله سبحانه أعلم. قاله الحطاب. قال: وظاهر المصنف أن الفتل إنما يؤمر به فيما إذا كان يرشح فقط، أما إذا سال أو قطر فلا، ولو كان الدم الذي يسيل ثخينا يذهبه الفتل. وفي المدونة: وينصرف في الصلاة إذا سال أو قطر قل ذلك أو كثر، فليغسله، ثم يبني على صلاته، وإن كان غير سائل ولا قاطر فليفتله بأصابعه. وحمل ماحب الطراز كلام المدونة: ينصرف إذا سال أو قطر وإن قل، على أن معناه ليس عليه أن يستبرئ أمره، هل يذهبه الفتل أم لا؟ بل متى سال أو قطر جاز له أن ينصرف؛ لأن القدر المؤذن بذلك قد وجد؛ وهو الدم السائل، فإن لم ينصرف وتربص وانقطع بالفتل فلا تفسد صلاته. قال الإمام الحطاب: هذا هو الظاهر، فكل ما يذهبه الفتل فلا يقطع لأجله الصلاة. ولابن حبيب أن الكثير الذي يذهبه الفتل لثخانته يفتل. وبحمل الطراز للمدونة على ما تقدم توافق ما لابن حبيب ولمالك في المبسوط: إذا خرج من أنف المصلي دم يفتله، فإن كان يسيرا فلا بأس به، وإن كان كثيرا فلا أحب ذلك حتى يغسل أثر الدم. انتهى. وقوله:"فتله بأنامل يسراه"، مشى على أن الفتل بيد واحدة كما هو مذهب المدونة، وأنه باليسرى كما حكاه الباجي وغيره عن المذهب. قاله الإمام الحطاب. ولأبي الحسن الصغير أن الفتل باليدين جميعا. وقيل: إن الفتل باليد اليمنى أي بأناملها العليا. وكيفية الفتل على كل قول هي الصفة المتقدمة. كما قاله الشيخ إبراهيم.
فإن زاد عن درهم قطع؛ يعني أن الدم إذا زاد في الأنامل الوسطى عن درهم، فإنه يقطع أي بطلت صلاته؛ لأنه حامل للنجاسة ولا يحتاج إلى قطع، بل لو تمادى عليها لم تصح، وهذا إن اتسع الوقت. وجعل المصنف الدرهم من حيز اليسير، وجعله في المعفوات من حيز الكثير. فجمع بين القولين. قاله الحطاب. ولو فتله بأنامل يمناه العليا بعد ما فتله بأنامل يسراه العليا، ولم يفتله بأنامل يسراه الوسطى، وزاد ما بأنامل اليمنى العليا عن درهم، فالظاهر أنه لا يقطع مراعاة للقول بأنه يفتله بأنامل اليمنى أيضا. كما في المدونة. وقال الشيخ الأمير: وإن لم يظن ورشح فتله بأنامله، وهل يدخل الإبهام في أنفه؟ خلاف. وندب باليسرى، والفتل بيد واحدة على أرجح الطريقين، فإن زاد عن درهم قطع على ما سبق في سقوط النجاسة. كما حققه الرماصي. فلذا لم أعرج على ما في الخرشي ومن وافقه من البطلان، لكن حقق بناني هنا البطلان بسقوط النجاسة، ورد على الرماصي. فانظره، وإن سال أو قطر وأمكن فتله فكالراشح. انتهى. واستدل الحطاب على البطلان بقول المقدمات: من شروط البناء أن لا يسقط على ثوبه أو جسده من الدم ما لا يغتفر لكثرته؛ لأنه إن سقط من الدم على ثوبه أو جسده كثير، بطلت صلاته باتفاق. قال الحطاب: ونحوه لابن بشير وابن شأس وصاحب الذخيرة: ونبه على هذا ابن هارون وابن راشد كما نقله صاحب الجمع. انتهى. وفي الشبراخيتي: لا مفهوم لقوله: رشح؛ إذ القاطر إذا كان ثخينا، كذلك بخلاف السائل والقاطر الرقيق. فلو قال: وأمكن فتله، بدل قوله: ورشح، لكان أولى انتهى.
إن لطخه أشار به إلى الحالة الثانية، وهي حالة القطع يعني أنه يقطع، أي تبطل صلاته إذا لطخ ثوبه أو جسده الدم السائل أو القاطر بأكثر من درهم.
وعلم مما قررت أن صلاته تبطل، ولا يحتاج لقطع، ولو تمادى لم تصح صلاته.
وعلم مما قررت أيضا أن قوله: إن لطخه شرط في مقدر، أي وإن سال أو قطر قطع إن لطخ ثوبه أو جسده بأزيد من درهم. واتسع الوقت ويدل لهذا التقرير دكر التلطيخ والتلويث، إذ الظاهر كونهما من سائل أو قاطر. قاله الشيخ عبد الباقي، وهو خلاف ما يأتي من أن خوف تلوث مسجد إنما يرجع لمسألة الفتل. والله سبحانه أعلم. وقال الإمام الحطاب: يتعين أن يكون بكاف
التشبيه الداخلة على إن الشرطية، ويكون مشيرا به إلى الحالة الثانية؛ وهي أن يسيل الدم أو يقطر، ويتلطخ به في ثيابه أو بدنه بأكثر من القدر المعفو عنه. وقال الشيخ محمد بن الحسن عن أبي علي: يحتمل بقاؤه على ظاهره بأن يكون شرطا في قوله: "فإن زاد عن درهم قطع"؛ لأن قوله: "فإن زاد عن درهم"، محتمل لأن يكون الزائد وقع على الأرض أو على بدنه، فبين أنه إنما يقطع إن وقع على بدنه، ويكون كلامه كله في الراشح. انتهى.
أو خشي تلوث مسجد يعني أنه يقطع أيضا ولا يفتل إذا خشي تلوث مسجد مفروش بغير حصباء، ولو بدون درهم لحرمة المسجد. وأما المحصب غير المفروش، فيفتل حتى ينزل المفتول في خلال الحصباء، فقد كان سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله يرعفان في الصلاة ويجعلانه في خلال حصباء المسجد. وقوله:"أو خشي تلوث مسجد"، هذا إنما يرجع لمسألة الفتل، ولا يرجع للقاطر والسائل؛ لأنه إذا سال أو قطر ولم يلطخ بالفعل فهو موضوع التخيير بين القطع والبناء، وحينئذ لا يتأتى الخوف فيه على المسجد قطعا؛ لأنه يخرج منه على كل حال، إما للقطع أو لغسل الدم والبناء. وقد علمت أن موضوع المصنف أنه لم يظن دوامه لآخر الاختياري، وحينئذ فلا يقال إذا خشي تلوث المسجد يقطع، ولو خشي خروج الوقت لأنه مخالف لموضوع المصنف، وإنما محل هذه المبالغة عند قوله: إن لم يلطخ فرش مسجد. كما حققه الشيخ محمد بن الحسن. وإلا فله القطع معنى كلامه على أن قوله: "إن لطخه"، شرط في مقدر، أو على أنه تشبيه حذف منه الكاف، أن تقول: وإلا؛ أي وإذا لم يلطخه السائل أو القاطر بأزيد من درهم فله قطع صلاته، وله أن يتمادى فيها. قال الإمام الحطاب. عند قوله:"وإلا فله القطع" أشار به إلى الحالة الثالثة؛ وهي أن يسيل الدم أو يقطر بحيث لا يذهبه الفتل، ولكنه لم يتلطخ بما لا يعفى عنه. وقوله:"فله القطع"؛ أي بسلام أو كلام أو رفض؛ لأن المشهور أنه مبطل، فإن لم يأت بسلام ولا كلام ولا مناف؛ بأن ابتدأ الصلاة ولم يأت بشيء من ذلك أعاد الصلاة، وأما على ما لأبي علي، فقوله:"وإلا فله القطع"؛ أي وإلا يكن راشحا، بل سال أو قطر، فله القطع. قال أبو علي: فإن قلت: من أين يؤخذ وجوب القطع إن سال أو قطر مع التلطيخ، قلت: يؤخذ من قوله: "إن لطخه" انتهى.
وندب البناء البناء يطلق في هذا الفصل على معنيين: بناء في مقابلة قطع، وهو هذا وبناء في مقابلة قضاء؛ وهو قوله: وإذا اجتمع بناء؛ وهو الآتي في قوله: "وقضى القول وبنى الفعل"، وفي قوله: ورجعت الثانية أولى ببطلانها لفذ وإمام، وسيأتي له بناء بمعنى الإتمام، وهو قوله: وبنى إن قرب ولم يخرج من المسجد: وهو قريب من الأول، يعني أنه في هذه الحالة الثالثة وهي الحالة التي له فيها القطع والبناء لكون الدم سال أو قطر بحيث لم يذهبه الفتل ولم يتلطخ بما لا يعفى عنه، يندب له التمادي في صلاته؛ وهو المراد بالبناء، فالبناء أفضل من القطع لعمل السلف. وقد جاء عن جمهور الصحابة والتابعين: إجازة البناء في الصلاة بعد غسل الدم، وهذا اختيار إمامنا مالك رضي الله عنه. واختار ابن القاسم القطع، وهو القياس؛ لأن الشأن في الصلاة أن يتصل عملها، ولا يتخللها شغل كثير، ولا انصراف عن القبلة. فهذان قولان متفقان على التخيير، مختلفان في الأفضل من الأمرين. والقول بترجيح القطع، قال الشيخ زروق: هو أولى بالعامي، ومن لم يحكم التصرف بالعلم لجهله.
وقد ذكر ابن حبيب ما يدل على وجوب البناء، وهو قوله: إن الإمام إذا تكلم عامدا أو جاهلا بطلت صلاته وصلاتهم، فجعل قطع صلاته بعد الرعاف يبطل صلاتهم كما لو تكلم جاهلا أو متعمدا بغير رعاف، والصواب ما في المدونة أن صلاتهم لا تبطل؛ لأنه إذا رعف فالقطع جائز في قول، ومستحب في قول. فكيف تبطل صلاة القوم بفعله ما يجوز له أو ما يستحب له؟ انتهى. فهذه ثلاثة أقوال. وحكى ابن عرفة وابن ناجي رابعا أنهما سواء لا مزية لأحدهما على الآخر، قالا: نقله غير واحد كصاحب التلقين، وزاد ابن عرفة خامسا أنه يقطع. وقوله:"وندب البناء"، محله في الدم الذي يقطعه الغسل، وإلا فيقطع أو يتم على حاله على ما سبق، ومحله أيضا إن لم يخف خروج وقت: وإلا تمادى كما أفاد ذلك بقوله: "وإن لم يظن".
فيخرج ممسكا أنفه هذا شروع منه رحمه الله في كيفية البناء، يعني أن صفة البناء هي أن يخرج من هيئته التي كان عليها، أو من مكانه إذا احتاج إلى ذلك ممسكا أنفه ليلا تبطل صلاته بتلطخ جسده أو ثوبه بما لا يعفى عنه، ولم يشترط المصنف إمساكه من أعلى كما فعل ابن هارون خوف بقاء الدم في داخل الأنف، فإن داخل المارن؛ وهو ما لان من الأنف له حكم ظاهر الجسد دون
أعلى الأنف، لقول ابن عبد السلام: فيه تكلف. والمحل محل ضرورة، قال بعضهم: وهو ظاهر لا شك فيه. وقد خففوا اختضاب الأنامل، فكيف بمحل الدم؟ انظر الشبراخيتي، وقوله:"فيخرج"، بالنصب؛ لأنه معطوف على البناء، وهو اسم خالص قال:
لولا توقع معتر فأرضيه
…
ما كنت أوثر إترابا على ترب
وفي الألفية:
وإن على اسم خالص فعل عطف
…
نصبه أن ثابتا أو منحذف
ليغسل متعلق بقوله: "فيخرج"، فهو علة له أي لا يخرج إلا ليغسل الدم، فلو خرج لغيره بطلت صلاته. قاله الشيخ إبراهيم. وإن رعف المتيمم في الصلاة ووجد ماء كافيا لغسل دمه ووضوئه لم يبطل تيممه؛ لأنه دخل في الصلاة بوجه جائز. كما ذكره صاحب الجمع والقاضي سند. وهو مستفاد من قول المصنف لا فيها إلا ناسيه. قاله الشيخ إبراهيم. ونحوه للشيخ عبد الباقي. ويبني بخمسة شروط أشار لأولها بقوله:
إن لم يجاوز أقرب مكان؛ يعني أنه إنما يبني حيث لم يجاوز أقرب مكان موجود به الماء، فإن جاوزه بطلت اتفاقا. وتغتفر الخطوتان والثلاث فلا تضر بلا خلاف ممكن؛ يعني أن محل بطلان صلاته حيث جاوز أقرب مكان به الماء، إنما هو حيث كان يمكن فيه الوصول إلى الماء وغسل الدم به، ولو بشراء بثمن معتاد غير محتاج إليه. وقد نص بعض على جواز البيع والشراء في الصلاة بالإشارة الخفيفة لغير ضرورة، فكيف بذلك هنا؟ وأما إن لم يمكن فيه ذلك؛ بأن لم يجد فيه ثمنا، أو ثمنا محتاجا إليه، أو طلب منه أكثر من الثمن المعتاد فيما يظهر، فإنه لا تضر مجاوزته لغيره من أقرب الأمكنة إليه. قاله الشيخ عبد الباقي، وقال: ولما كان قوله: "أقرب" لا يعطِي في العرف شرط قرب المكان في نفسه؛ إذ القرب والبعد نسبيان فيقال: هذا المكان أقرب من ذلك، وإن كان بعيدا في نفسه صرح بوصف قربه بقوله: قرب؛ يعني أنه لا بد أن يكون هذا المكان الذي هو أقرب الأمكنة المكنة إليه قريبا في نفسه من محل الصلاة، فإن بعد المكان في نفسه
وجب القطع والقرب بالعرف، والمضر في البعد إنما هو التفاحش بأن يكون بعيدا جدا كما نص عليه أهل المذهب، فيتعين حمل كلام المؤلف عليه. قاله غير واحد. واعلم أن المراد بإمساك الأنف التحفظ من النجاسة، فإن فرض تحفظ منها بغيره لم يضره عدم إمساكه، وأشار إلى ثاني الشروط الخمسة بقوله:
ويستدبر قبلة بلا عذر؛ يعني أنه إنما يبني إذا لم يستدبر القبلة لغير عذر؛ بأن لم يستدبرها أصلا أو استدبرها لعذر، فإن ذلك لا يضر ومن العذر الماء والقرب، ويقدم استدبارا لا يلابس فيه نجسا على استقبال مع وطء نجس لا يغتفر. والظاهر تقديم القريب مع ملابسته نجسا على بعيد خلا منها. لأن عدم الأفعال الكثيرة متفق على شرطيته، كما أن الظاهر تقديم ما قلت منافاته كبعيد مع استقبال بلا نجاسة على قريب مستدبر مع نجاسة. فليتأمل. قاله الشيخ الأمير. ومفهوم قوله:"إن لم يستدبر" الخ، أنه إن استدبرها لغير عذر بطلت صلاته، ولا يبني ولثالثها بقوله: ويطأ نجسا يعني أنه إنما يبني حيث لم يطأ نجسا في مشيه ليغسل الدم، وأما إن وطئه، فإن كان عامدا مختارا بطلت صلاته رطبة أو يابسة روث دواب وبولها أو غيرهما، فإن وطئ ذلك مضطرا صحت صلاته، فهذه ثمانية. وينبغي أن يعيد في الوقت في غير روث دواب وبولها في الاضطرار، وإن وطئ ناسيا وذكر بعد الصلاة صحت، ويعيد في الوقت في غير روث دواب وبولها، وإن ذكره فيها وتعلق به شيء بطلت في غير روث دواب وبولها. وأما هما فلا إعادة عليه فيهما، وإن لم يتعلق به شيء جرى على الخلاف فيمن رأى بعد رفعه من سجوده بمحله نجاسة، فعند ابن عرفة تبطل، وعند غيره لا تبطل. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: والذي يفيده النقل كما في الحطاب والمواق أن ما كان من أرواث دواب وأبوالها فهو غير مبطل. قال الحطاب: وينبغي أن يستثنى منه إذا وطى مختارا عمدا. انتهى. ولرابعها بقوله:
ويتكلم؛ يعني أنه إنما يبني إذا لم يتكلم لغير إصلاحها، فإن تكلم لغير إصلاحها عمدا أو جهلا، بطلت صلاته، بل ولو تكلم سهوا. وإنما بطلت بالكلام سهوا، ولو قل لما انضم إليه من المنافيات. ثم إنه إنما يبطلها الكلام سهوا حيث حصل حال ذهابه، وأما بعد عوده فلا يبطل، وكذا قبل ذهابه كما يفيده المواق. قاله الشيخ عبد الباقي، والشيخ إبراهيم الشبراخيتي. وقال
الشيخ محمد بن الحسن: كلام المواق صريح في ترجيح الصحة مع السهو مطلقا حصل قبل انصرافه أو حصل بعد ذلك، وعلى الصحة فإن أدرك شيئا مع الإمام حمل عنه سهوه، وإلا سجد بعد السلام، وأما الكلام لإصلاحها كشراء ما يغسل به الدم، فلا يبطل، إذ يجوز عقد البيع في الصلاة بإشارة خفيفة، ومعاطاة في غير ضرورة، فكيف بهذه الضرورة المتعلقة بتصحيح الصلاة؟
تنبيه. اختلف في المأموم إذا انصرف لغسل الدم، هل يخرج عن حكم الإمام أم لا؟ على أربعة أقوال: أحدها أنه يخرج عن حكمه حتى يرجع إليه جملة من غير تفصيل، الثاني أنه لا يخرج عن حكمه جملة من غير تفصيل، الثالث أنه إن رعف قبل أن يعقد معه ركعة خرج عن حكمه حتى يرجع إليه، وإن عقد معه ركعة لم يخرج عن حكمه، الرابع النظر إلى ما آل إليه أمره، فإن أدرك ركعة من صلاة الإمام بعد رجوعه كان في حكمه حال خروجه، وإن لم يدرك معه ركعة بعد رجوعه لم يكن في حكمه حال خروجه. نقله الإمام الحطاب. وقال عن المقدمات: فمن رأى أنه يخرج من حكمه حتى يرجع إليه، يقول إن أفسد الإمام صلاته متعمدا قبل أن يرجع لم يُفْسِد عليه هو، وإن تكلم سهوا سجد بعد السلام ولم يحمل ذلك عنه الإمام، خلاف أصل ابن حبيب الذي يرى أن ذلك يبطل عليه البناء وإن ظن أن الإمام قد أتم صلاته [فأتم صلاته
(1)
] في موضعه ثم تبين أنه لو مضى لأدرك الإمام في الصلاة أجزأته صلاته، وإن سها الإمام لم يلزمه من سهوه شيء. ومن رأى أنه لا يخرج من حكمه يقول إن أفسد الإمام صلاته، متعمدا فسدت عليه هو صلاته وإن أتم صلاته في موضعه ثم تبين أنه لو مضى لأدرك الإمام في الصلاة لم تجزه صلاته، وإن سها الإمام لزمه سهوه، وإن تكلم ساهيا حمله عنه الإمام، خلاف أصل ابن حبيب المذكور. وإن قرأ الإمام بسجدة فسجدها فرجع هو بعد سلام الإمام كان عليه أن يقرأها ويسجدها، والجاري على المشهور هو القول الأول؛ لأنه سيأتي أنه إذا فرغ الإمام فإنه يتم مكانه، وتصح صلاته، ولو تبين خطؤه. وصوب ابن يونس بطلان صلاته إذا بطلت صلاة الإمام. انتهى كلام الحطاب. ولخامسها بقوله:
(1)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من الحطاب ج 2 ص: 163 ط دار الرضوان.
إن كان بجماعة؛ يعني أنه إذا كان بجماعة فإنه لا إشكال في بنائه إماما أو مأموما، ولم يأت بهذا الشرط على مساق ما قبله لكونه وجوديا وما قبله عدميا، فإن كان مأموما فهل يخرج عن حكم إمامه حتى يرجع إليه أولا؟ تقدم الكلام على ذلك قريبا فراجعه إن شئت. وأما إن كان إماما فأشار إليه بقوله:
واستخلف الإمام، يعني أن الإمام في رعاف البناء يستخلف من يتم بهم عند ذهابه لغسل الدم ندبا في الجمعة وغيرها، فإن لم يستخلف وجب عليهم في الجمعة وندب في غيرها، وإذا غسل الدم تأخر مؤتما للمستخلف بالفتح منه أو منهم، وصلى معه ما أدرك من صلاته. ويستخلف بغير الكلام فإن تكلم سهوا بطلت عليه دونهم، وعمدا أو جهلا بطلت عليه وعليهم. وقال ابن القاسم: عليه فقط. وعلى قوله: يخرج المأموم عن حكم الإمام بمجرد حصول رعافه، وإلا بطلت عليهم ببطلان صلاته.
وفي بناء الفذ خلاف. قال صاحب الطراز: اتفق أصحابنا على أن المأموم يبني في الرعاف، وكذلك الإمام لأنه واحد من الجماعة. واختلفوا في الفذ: فأجاز مالك في العتبية أنه يبني، ومنعه ابن حبيب، وفي المقدمات ذهب ابن حبيب إلى أنه لا يبني؛ لأن البناء إنما هو ليحوز فضل الجماعة، وقال ابن مسلمة: يبني، ومثله لمالك في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة، وقال ابن بزيزة: مذهب المدونة بناء الفذ، والحاصل أنهما قولان مشهوران وذكر ابن فرحون وصاحب الجمع وغيرهما في بناء الإمام قولين، وهو خلاف ما تقدم من اتفاق مالك وجميع أصحابه على بناء الإمام. وهو لصاحب المقدمات وصاحب الطراز واللخمي. وقوله:"وفي بناء الفذ خلاف" مبناه هل رخصة البناء لحرمة الصلاة أو لتحصيل فضل الجماعة؟ وقال صاحب الطراز: إن بناء الفذ أبين؛ لأن ما يمنع البناء وما لا يمنعه لا يختلف فيه الفذ من غيره، كالسلام من اثنتين فيما طال وفيما قصر؛ ولأنه قد عمل شيئا من الصلاة فلا يبطله بغير تفريط منه، ولأنه قد حاز فضيلة أول الوقت بذلك القدر فلا يفوته ذلك عليه كفضل الجماعة. انتهى.
وإذا بني لم يعتد إلا بركعة كملت، يعني أن الراعف إذا بنى ولم يقطع صلاته، وخرج لغسل الدم وغسله، ثم رجع لتكميل صلاته، فإنه لا يعتد بما مضى من صلاته إلا بالركعة الكاملة
بسجدتيها. وقوله: "بنى"؛ أي من له البناء من مأموم وإمام، وفذ على أحد القولين، ومعنى "كملت" بسجدتيها: أن يجلس بعدها إن كان بتشهد، أو يقوم بالفعل إن كان بغيره فيعتد بتلك الركعة، ويبتدئ بعد غسل الدم من أول التي تليها، فيشرع في القراءة ولا يرجع لمحل السجود. فلو ركع وسجد السجدتين، وأخذ فرضه فيهما، ثم قبل الجلوس أو القيام رعف، لم يعتد بتلك الركعة بعد غسله. ويبني على الإحرام إن كانت هي الأولى، ويبتدئ القراءة فالبناء يكون ولو على الإحرام، ولا يعتد إلا بركعة كاملة لا أقل، سواء كانت هي الأولى أو غيرها. وابتداء القراءة المذكور واضح في الإمام والفذ وغيره إن فرغ الإمام، وإلا تبع الإمام على أي حال كان كما هو واضح. وقوله:"وإذا بنى لم يعتد" الخ، هذا هو مذهب المدونة، وهو المشهور وقيل: يعتد بما عمل من صلاته سواء رعف في الركعة الأولى أو غيرها، فإن كان قد رعف بعد القراءة في الركعة الأولى أو غيرها فإذا رجع ركع ولم يعد القراءة، وإن رعف في أثناء القراءة قرأ من الموضع الذي انتهى إليه اللخمي: ولا يحتسب الراعف بما فعله بعد رعافه، وقبل خروجه لغسل الدم، وأجاز ذلك ابن حبيب في ثلاث. انتهى. وهي: أنه إن رعف وهو راكع ثم رفع رأسه للرعاف فذلك رفع من الركعة، وإن رعف وهو ساجد فرفع للرعاف فذلك رفع للسجدة، فإذا رجع سجد الثانية، وفي جلسة التشهد فقيامه للرعاف قيام من الجلسة، فإذا رجع ابتدأ بقراءة الركعة الثالثة، إلا أن يكون ذلك في مبتدإ الجلوس قبل تمام التشهد، فليرجع إلى الجلوس حتى يتم التشهد؛ وهذا القول لابن حبيب، وحكاه عن ابن الماجشون. وعزاه المصنف في التوضيح، وغيره لابن مسلمة، واستظهره هو وابن عبد السلام وغيرهما. وحكى في المقدمات: ثالثا وهو أنه إن كان في الركعة الأولى استأنف الإحرام، وإن كان في الثانية بنى على ما مضى منها، والفذ على القول ببنائه يفعل ما ذكر، وكذا الإمام والمأموم إن وجدا الإمام المستخلف قد فرغ، وإما إن وجداه في الصلاة فيتبعانه على أي حال كان، ولا يأتيان بما فاتهما حتى يفرغ الإمام من الصلاة كما مر قريبا. وعلى القول بأنه يعتد بما فعل من أجزاء الركعة إذا عاد فعل الأجزاء الباقية من الركعة ما لم يكن تشاغله بفعلها يفيته مع الإمام عقد الركعة التي صادفه فيها ولا يمنعه من إكمال ما بقي عليه من الركعة صلاة الإمام ركعة في غيبته. وفهم من كلام المصنف أن من رعف بعد أن أحرم،
وقبل أن يركع يبني على إحرامه، وهذا في غير الجمعة كما يقول، وإن لم يتم ركعة في الجمعة الخ، وقيل: يبني على إحرامه مطلقا جمعة كانت أو غيرها إماما أو مأموما أو فذا، وهو قول سحنون. وقيل: لا يبني، ويستأنف الإقامة والإحرام جملة أيضا من غير تفصيل؛ وهو قول ابن عبد الحكم. وقيل: إن كان وحده أو إماما ابتدأ، وإن كان مأموما بنى على إحرامه. قاله الإمام الحطاب. فتلك أربعة أقوال فيمن رعف بعد أن أحرم، وقبل أن يركع. واستعمل المصنف البناء في هذا الباب على معنيين: الأول في مقابلة القطع، الثاني في مقابلة القضاء. وأتى بقوله:"كملت" بعد قوله: "بركعة" لدفع توهم أن المراد بالركعة الركعة اللغوية؛ وهي الركوع. قاله الشيخ إبراهيم. وعلم مما مر أن الراعف يبني على تكبيرة الإحرام وإن لم يعتد إلا بركعة كملت فلا منافاة بين كلام المصنف وغيره، وقوله:"وإذا بنى لم يعتد إلا بركعة كملت"، هوأحد مواضع تعتبر الركعة فيها بسجدتيها، ثَانِيها من ذكر صلاة في صلاة، ثالِثُها من أقيمت عليه الصلاة وصلى ركعة، رَابعُهَا الركعة التي تقدر بها الحائض، خَامِسُهَا ركعة المزاحم، سَادِسُهَا الركعة التي يدرك بها المصلي فضل الجماعة، سَابعُهَا الركعة التي يؤخر لها من ترك إحدى الخمس. قاله الشيخ عبد الباقي. واعلم أن الراعف إذا فرغ من غسل الدم فإنه يرجع لصلاته بغير تكبير. ابن رشد: لأنه لم يخرج من صلاته، وإنما يرجع إلى صلاته بتكبير من خرج منها بسلام. انتهى. قاله الإمام الحطاب.
وأتم مكانه؛ يعني أن الراعف إذا غسل الدم فإنه يتم صلاته وجوبا مكانه ذلك إن كان فذا إن أمكن، وإلا ففي أقرب موضع يصلح للصلاة من غير مجاوزة له، وإلا بطلت. وإن كان مأموما أو إماما لصيرورته بالاستخلاف مأموما فإنه يتم مكانه أيضا، وإنما يتم المأموم مكانه أو الإمام. إن ظن فراغ إمامه من الصلاة الآن، أو قبل وصوله إليه بتقدير، واجتهد أو بإخبار عدل، ولو وصل إليه العلم وهو راجع وجب عليه الإتمام بذلك المحل. ولا فرق بين مسجد مكة والمدينة وغيرهما على المشهور، وتصح صلاته وإن تبين خطؤه في بقاء إمامه، وظاهره: ولو سلم قبل إمامه. وقوله: إن ظن، وأحرى إن علم. وأمكن؛ يعني أن الراعف إذا غسل الدم، وقلنا إنه يجب عليه أن يتم صلاته في الموضع الذي غسل فيه الدم، فإنما ذلك إن أمكن إتمام الصلاة فيه بأن طهر واتسع.
وإلا أي وإن لم يمكن الإتمام فيه لعدم صلاحيته لذلك كما لو كان ضيقا أو نجسا، فالواجب لإتمام صلاته المكانُ الأقرب لمكان غسل الدم الصالِحُ لإتمام الصلاة فيه، وتصح صلاته في المسألتين، ولو أخطأ ظنه ببقاء إمامه على المشهور. واعترض بأنه قد يسلم قبل إمامه، وأجيب بأن هذا مبني على أنه يخرج عن حكم الإمام بخروجه للرعاف حتى يرجع إليه. قاله عبد الباقي. وإذا علم ببقاء الإمام ولكنه يتم صلاته قبل وصول المأموم إليه، فإنه يتم مكانه أيضا. قاله الشيخ عبد الباقي أيضا، ومر قريبا ما يفيده. قال: ولا يقال قد يسبق الإمام في الفعل والسلام لما علمت أن هذا مبني على أنه يخرج عن حكمه حتى يرجع إليه، وقد مر أنه لو وصل إليه العلم بإتمام إمامه وهو راجع من غسله صار موضع وصول العلم إليه كموضع غسل الدم، فيتم فيه وإلا أي وإن لم يتم مكانه مع إمكان الإتمام به والحال أنه ظن فراغ إمامه، ولا بالأقرب إليه مع عدم إمكان ذلك به. بطلت صلاته ولو أخطأ ظنه، ولو فعل ذلك متأولا. وأشار إلى مفهوم قوله:"إن ظن فراغ إمامه"، بقوله:
ورجع إن ظن بقاءه؛ يعني أنه إذا ظن بقاء إمامه فإنه يرجع إلى أقرب موضع يصلي فيه مع الإمام، ولا يرجع إلى محل مصلاه لأنه زيادة في الصلاة. قاله ابن فرحون. أو شك، أي وكذا يجب عليه الرجوع إلى أقرب موضع يصلي فيه مع الإمام حيث شك أنه يدرك الإمام، ولا يرجع إلى محل مصلاه، وقوله:"أو شك" يغني عن قوله: "أو ظن". ولو بتشهد؛ يعني أنه إذا ظن أو شك وأولى إن علم أنه يدركه في التشهد أو ظن أو شك أنه يحصل السلام معه، فإنه يرجع إلى أقرب موضع يصلي فيه مع الإمام، وإنما لزمه الرجوع مع الشك؛ لأن الأصل لزومُ متابعة الإمام فلا يخرج عنه إلا بعلم أو ظن.
والحاصل أنه إذا علم أو ظن فراغ إمامه فإنه يتم في مكانه الممكن، أوأقرب الأمكنة الممكنة إليه مع عدم إمكان الأول، وهاتان صورتان أو أربع صور. وإذا علم، أو ظن بقاءه، أو شك في ذلك ولو بتشهد، فإنه يرجع وجوبا إلى الموضع الذي يتمكن فيه من الاقتداء بإمامه. فتلك ثلاث صور. فالصور خمس وقد علمت أحكامها.
وفي الجمعة مطلقا، يعني أن الراعف إذا كان في الجمعة وذهب لغسل الدم، فإنه إذا غسله يرجع مطلقا، ظن بقاءه أو فراغه، أو شك، أو علم أحدهما. لأول الجامع؛ يعني أنه إذا قلنا إنه يرجع في الجمعة مطلقا فإنه يرجع لأول الجامع، ولا يجاوزه أي لا يجاوز أول جزء من أجزاء الجامع، أعني الجامع الذي ابتدأ فيه الجمعة: ولا يكفي رحابه ولا طرقه المتصلة به حيث لم يبتدئها بأحدهما، خلافا لابن شعبان. ولو حال بينه وبين الجامع حائل أضاف ركعة لركعته، وابتدأ الظهر بإحرام، وإذا ابتدأ الجمعة قبل الرعاف مع الإمام برحابه أو طرقه المتصلة به حيث يسوغ له، اكتفى بالرجوع للرحاب والطرق المتصلة به. قاله ابن عبد السلام. وبحث فيه الحطاب بأن الذي يظهر من كلامهم أنه حيث أمكنه الرجوع إلى الجامع لا بد من رجوعه إليه، وكذا صاحب الجمع فإنه قال قد يقال: كان ذلك لموجب وقد انتفى. قاله الشيخ عبد الباقي. وإلا؛ أي وإن لم يرجع في غير الجمعة حيث ظن بقاءه، أو شك، أو لم يرجع في الجمعة مطلقا، أو رجع فيها لكن جاوز أول الجامع. بطلتا؛ أي الجمعة وغيرها. وقوله:"وفي الجمعة مطلقا" محله حيث حصل معه ركعة أو ظن أنه يدرك معه ركعة، وإلا فلا. قاله الشيخ إبراهيم.
واعلم أن مستند الظن في فراغ الإمام وبقانه يرجع إلى تقدير الشخص واجتهاده، أو إلى خبر عدل كما مر، وقد مر أيضا أن قوله:"إن ظن فراغ إمامه" يشمل ما إذا ظن فراغه عند تمام غسله، وما إذا ظن أنه الآن باق ولكنه يفرغ قبل أن يصل إليه: وإذا ظن بقاء الإمام فرجع، ثم ظن في بعض الطريق فراغه فإنه يتم مكانه إن أمكن، وإلا ففي أقرب موضع يمكنه الإتمام فيه فإن جاوز ذلك بطلت صلاته -وهذا ظاهر- وقد صرح به شراح ابن الحاجب. قاله الإمام الحطاب.
قال جامعه عفا الله تعالى عنه: ظاهر كلامهم هنا أنه تبطل صلاته إن لم يتم مكانه، ولا بأقرب الأمكنة المكنة إليه، وكذا لو جاوز الموضع الطاهر الذي يتمكن فيه من الاقتداء بإمامه، أو جاوز أول الجامع فلا تغتفر له الخطوة ولا الخطوتان في جميع ذلك. هذا ظاهر كلامهم هنا. وقد مر عند قوله:"إن لم يجاوز أقرب مكان" أنه تغتفر له الخطوة والخطوتان، فاغتفروا في الذهاب ما لم يغتفروا بعده. والله سبحانه أعلم. وقوله:"إن ظن فراغ إمامه"، قد مر أنه لا فرق في ذلك بين مسجد مكة والمدينة وغيرهما على المشهور، ومقابله ما روي عن مالك أنه يرجع إلى المسجد في
مكة والمدينة، ولو سلم الإمام. قال الباجي: فجعل الرجوع لفضيلة المكان. قاله الإمام الحطاب. وقال: ظاهر كلام صاحب الطراز أن هذه الرواية هي المذهب، وقد مر أنه إن ظن فراغه وأتم مكانه صحت صلاته، ولو أخطأ ظنه. وهذا هو المشهور. وقيل: تبطل صلاته إذا أخطأ ظنه فإن خالف ظنه ورجع بطلت صلاته أصاب ظنه أو أخطأ، وقوله:"ولو بتشهد" هو المشهور، ورد "بلو" قول الشيخ أبي إسحاق: إن رجا أن يدرك مع إمامه ركعة، وإلا صلى في مكانه. وقال ابن شعبان: إن لم يطمع بإدراك ركعة لم يرجع. انتهى. وقد علمت أن المشهور أنه يرجع ولو للسلام فقط. وإذا ظن بقاء الإمام ورجع فوجده قد أتم، أَتَمَّ هُوَ لنفسه، وصحت صلاته.
واعلم أن هذا التقسيم الذي ذكره المصنف إنما هو في المأموم والإمام؛ لأنه إذا استخلف صار حكمه حكم المأموم، وأما الفذ فيتم مكانه وجوبا مع الإمكان أو بأقرب الأمكنة الممكنة إليه مع عدم إمكان الأول، وإلا بطلت كما مر. وقوله:"بطلتا"؛ أي الجمعة وغيرها هذا هو المشهور. وقال ابن رشد: قال بعض أصحابنا: يبني في أقرب مسجد إليه وهو ظاهر تعليل ابن القاسم، بأن الجمعة لا تصلى في البيوت. وقوله:"وفي الجمعة مطلقا وإلا بطلتا"؛ أي ولو لم يبق له من الجمعة إلا السلام، كما إذا خرج لغسل الدم قبل أن يسلم فإنه يرجع وجوبا ليوقع السلام في المسجد، وإلا بطلت قال فيها: وإذا رعف المأموم بعد فراغه من التشهد قبل سلام الإمام ذهب فغسل الدم ثم رجع فتشهد وسلم. انتهى. قال في الطراز: قوله: رجع، معناه إذا طمع بإدراك الإمام قبل أن يسلم أو يكون في جمعة. انتهى. باختصار.
وإن لم يتم ركعة في الجمعة ابتدأ ظهرا بإحرام؛ يعني أن الراعف إذا لم يتم ركعة بسجدتيها في الجمعة قبل انصرافه لغسل الدم ولا بعده، فإنه يحرم أي يجدد إحراما للظهر ولا يصليها بإحرامه الأول؛ لأنه للجمعة، ويصلي في أي مكان شاء هذا هو المشهور وكونه يصلي الظهر متفق عليه. وقال سحنون: يبني على إحرامه، ويصلي الظهر. وقال أشهب: إن شاء قطع وابتدأ كالمذهب، وإن شاء بنى على إحرامه، كقول سحنون، وإن شاء بنى على إحرامه وعلى ما تقدم له من فعلها. وظاهر كلام ابن الحاجب أن أشهب لم يستحب شيئا، والذي حكى عنه ابن يونس وابن رشد وغيرهما: استحباب القطع. قاله الإمام الحطاب. وعلى المشهور الذي مشى عليه
المصنف لو لم يقطع، وبنى على إحرامه. فالظاهر صحة صلاته مراعاة لقول سحنون وأشهب. كما في الحطاب. وقوله:"ابتدأ ظهرا بإحرام" هذا إن لم تتعدد الجوامع، وإلا وجب عليه طلب الجمعة إن شك أنه يحصلها، ومن أحرم مع الإمام بعد رفعه ظانا أنه في الأولى من الجمعة فإذا هو في الثانية، بنى على إحرامه وصلى أربعا. ولا يعارض هذا ما هنا؛ لأن ما هنا في الراعف، وهذا في غيره.
واعلم أن من أدرك جلوس الجمعة، يحرم بنية الظهر مع الإمام، ويجلس معه، ثم يأتي بعده بأربع ركعات. وأما من أتم ركعة في الجمعة قبل غسل الدم، وفاتته الثانية مع الإمام، فإنه يتمها جمعة. وكذا غير راعف أدرك مع الإمام ثانيتها، ثم بعد سلام الإمام ذكر سجدة منها، فإنه يتلافاها ويتمها جمعة.
وسلم وانصرف إن رعف بعد سلامه إمامه. يعني أن من رعف بعد سلام الإمام يسلم وجوبا، وينصرف حينئذ. وقال ابن حبيب: يسلم ويذهب يغسل الدم ثم يعود، فيتشهد ويسلم. قاله الشيخ إبراهيم. وما قاله المصنف هو المشهور؛ وهو مذهب المدونة لخفة سلامه بالنجاسة عن خروجه لغسل الدم لكثرة المنافي، وسواء في ذلك الجمعة وغيرها. وقال سحنون: يخرج لغسل الدم ثم يرجع للسلام كسائر أركان الصلاة. وقوله: وسلم وانصرف إن رعف بعد سلام إمامه، وكذا لو رعف فسلم الإمام في الوقت قبل انصرافه، فإنه يسلم ويجزئه.
لا قبله؛ يعني أنه إذا رعف قبل سلام الإمام فإنه لا يسلم، بل يخرج لغسل الدم إن لم يسلم الإمام بالحضرة، وإلا سلم وانصرف. كما مر قريبا. ونص عليه غير واحد. ونقل الشيخ عبد الباقي عن السوداني أنه لو انصرف لغسل الدم، وجاوز الصفين والثلاثة، فسمع الإمام يسلم، فإنه يسلم ويذهب. فإذا خرج لغسل الدم فغسله، فإنه يأتي بالتشهد قبل أن يسلم سواء تشهد قبل ذهابه أم لا. قال ابن عرفة: وفيها إن رعف بعد تشهده قبل سلام إمامه ذهب لغسله، ورجع فتشهد وسلم وبعد سلامه سلم بحاله، الصقلي واللخمي: وكذا لو سلم إمامه قبل ذهابه، وقول ابن عبد السلام: إن رعف بعد تشهده لم يعد خلاف نصها. وقوله: "وسلم وانصرف إن رعف بعد سلام إمامه لا قبله"، هذا حكم المأموم كما عرفت، وأما لو رعف الإمام أو الفذ بعد أن أتى بمقدار
السنة، فالظاهر أنه يسلم كل منهما. كما أن الظاهر أن من لم يأت منهما بمقدار السنة إن كان فذا خرج لغسل الدم، وإن كان إماما استخلف من يتم بهم التشهد، وخرج لغسل الدم ويصير حكمه حكم المأموم. انظر الحطاب. وقد مر أن الراعف إذا رجع لإتمام صلاته فإنه يرجع لها بلا تكبير؛ لأنه لم يخرج عن صلاته بالرعاف، وإنما يرجع إلى إتمام صلاته بالتكبير من خرج منها بسلام.
ولا يبني بغيره، الضمير المضاف إليه غير يرجع للرعاف؛ يعني أن المصلي لا يبني بغير الرعاف من حدث وقيء، وسقوط نجاسة، أو شك في ذلك، أو غير ذلك مما يبطل الصلاة، بل يستأنفها ويأتي بها بتمامها لبطلانها. قاله غير واحد. وقال الشيخ عبد الباقي: ولا يبني بغيره أي الرعاف كسبق حدث أو ذكره، أو سقوط نجاسة، أو ذكرها، أو حدث شك فيه بصلاته فلم يتماد عليه، بل خرج للوضوء غير رافض لها ثم تذكر بقاء وضوئه، إلا أن يقل شكه ويشرع، فتذكر حين الهم وقبل الانصراف، فيبني على صلاته، ولا يبني أيضا بغير الرعاف الأول، بل تبطل صلاته ولو ضاق الوقت. ذكره ابن فرحون. ورده الحطاب بقول ابن عبد السلام: مسائل البناء والقضاء تقتضي عدم البطلان. وقال أبو حنيفة: يبني مع الحدث الغالب، وقال أشهب: يبني من رأى في ثوبه أو جسده نجاسة، أو أصابه ذلك في الصلاة.
كظنه فخرج فظهر نفيه؛ يعني أن من ظن أنه رعف فخرج ليغسل الدم، فبعد أن خرج تبين له أنه لم يخرج منه رعاف، تبطل صلاته، فلا يبني على ما فعل منها بل يستأنفها بإحرامها. وكذا لو ظن الحدث فخرج فظهر نفيه. كما يأتي في قوله: وبانصراف لحدث ثم تبين نفيه وقوله "فظهر نفيه" كما لو ظهر أنه ماء سائل من أنفه، فتبطل، فذا أو مأموما أو إماما. وتبطل على مأموميه على الراجح. وقيل: لا، وقيل: إن كان معذورا بأن كان في ليل مظلم، لم تبطل عليهم، وإلا بطلت. وعلى ما للمصنف قول الشيخ الأمير:
من العجيب إمام القوم لابسه
…
سقوط طارئة بجسمه اتصلت
تصح للكل إن بانت نجاستها
…
وإن تبين شيء طاهر بطلت
ويبني الناعس نعاسا خفيفا لا ينقض الوضوء، والمزاحم حتى سلم الإمام. ابن يونس: قال سحنون: من خرج من الصلاة لرعاف: ثم شك في الوضوء وهو يغسل الدم فدفع الشك باليقين فابتدأ الوضوء، فلما توضأ ذكر أنه على وضوء، بطلت صلاته. ابن يونس: كمن ظن أنه أصابه رعاف وهو في الصلاة فخرج يغسله، فإذا هو ماء سائل. فقد أبطل صلاته. قال: ولو ذكر أنه متوضئ حين هم بالوضوء، وقبل أن يعمل بنى على صلاته. انتهى. قلت: إذا عزم على رفض الصلاة وهم بالوضوء، فالظاهر بطلان الصلاة. نعم إن تفكر قليلا لما حصل له الشك، ثم ذكر أنه متوضئ فهذا يبني على صلاته. قاله الإمام الحطاب.
ومن ذرعه قيء لم تبطل صلاته، يعني أن من ذرعه القيء أو القلس لم تبطل صلاته وذرعه بالذال المعجمة غلبه وهذا بشرط أن يكون كل منهما يسيرا طاهرا، فتبطل في الكثير منهما، كان طاهرا أم لا، كما تبطل في النجس منهما كان كثيرا أم لا. ويشترط أيضا أن لا يزدرد من ذلك شيئا بعد إمكان طرحه فإن ازدرده بعد إمكان طرحه؛ أي بعد انفصاله إلى محل يمكن طرحه منه -كما قاله الشبراخيتي- بطلت في العمد، وفي السهو صحت، وسجد بعد السلام، وفي الغلبة قولان في البطلان والصحة. وعلى القول بالصحة فلا سجود فيما يظهر، ومفهوم قوله:"ذرعه" أنه لو استقاء طائعا لبطلت صلاته وهو كذلك. قال صاحب الطراز: القيء في الصلاة منه ما يبطل الصلاة في المشهور وإن لم يتعمده، ومنه ما لا يبطلها إلا أن يتعمده، فالأول هو ما كان نجسا مما خرج عن صفة الطعام، والثاني ما كان طاهرا فيختلف فيه العامد من غيره كالأكل على ما بينته في الأكل. وعلم مما مر أن القيء والقلس لا تبطل الصلاة بهما بقيود أربعة: أحدها عدم العمد وهو مأخوذ من قوله: "ذرعه" ومن قوله: الآتي، "أو قاء غلبة أو قلس"، ثانيها اليسارة وهو مأخوذ من جعل التنوين للتقليل والتحقير، والثالث الطهارة وتؤخذ مما تقدم في الطاهر، والرابع عدم الازدراد ويؤخذ من قوله الآتي في السهو. "وبتعمد كسجدة أو نفخ أو أكل أو شرب أو قيء"، فتؤخذ القيود الأربعة من مجموع كلامه. قاله الشيخ إبراهيم.
وإذا اجتمع بناء وقضاء لراعف؛ يعني أنه إذا اجتمع للراعف المسبوق البناء والقضاء، فإنه يقدم البناء على المشهور، وهو قول ابن القاسم، والبناء هو فعل فائت بعد الدخول مع الإمام، والقضاء
هو فعل فائت قبل الدخول مع الإمام. وقال سحنون: يقدم القضاء. وذكر المصنف لذلك أمثلة منها: أن يدرك المأموم مع الإمام الوسطيين كما قال:
أدرك الوسطيين أي الثانية والثالثة بعد أن فاتته الأولى، ويفوت عليه الرعاف الركعة الرابعة، فيقدم البناء بأن يأتي بركعة بأم القرآن فقط ويجلس عند ابن القاسم؛ لأنها آخرة الإمام، فيجلس فيها وإن لم تكن ثانيته كما سيقول المصنف، ثم يأتي بالأولى قضاء بالفاتحة وسورة جهرا إن كانت جهرية، وتلقب بأم الجناحين على مذهب ابن القاسم، وعند سحنون العكس ولا يجلس إلا للسلام، ومعنى العكس أن يقدم القضاء بأن يأتي بركعة بأم القرآن وسورة جهرا في الجهرية وسرا في السرية، ولا يجلس، بل يقوم ويأتي بركعة بأم القرآن فقط سرا. ومن إساءة الأدب تلقيبها على مذهب سحنون بالعرجاء، ومنها أن يدرك إحدى الوسطيين، وذلك صادق بصورتين: إحْدَاهُما أن يدرك الثانية، الثَّانِيَةُ أن يدرك الثالثة، وإلى ذلك أشار بقوله:
أو إحداهما، فإذا أدرك مع الإمام الثانية بعد أن فاتته الأولى، وفوت عليه الرعاف الثالثة والرابعة، فإنه يقدم البناء فياتي بالثالثة بالفاتحة فقط عند ابن القاسم سرا، ويجلس لأنها ثانية نفسه، ثم بالرابعة كذلك أي بأم القرآن فقط سرا، ويجلس لأنها آخرة الإمام. وسيقول المصنف وجلس في آخرة الإمام، ولو لم تكن ثانيته، ثم يقضي الأولى بسورة ويتشهد ويسلم فهي أم التشهدات، وكل سنة. وعند سحنون: يقدم القضاء فيأتي بركعة بأم القرآن وسورة جهرا في الجهرية وسرا في السرية، ويجلس لأنها ثانيته، ثم بركعتين بأم القرآن فقط سرا ولا يجلس بينهما، وإذا أدرك مع الإمام الثالثة بعد أن فاتته الأولى والثانية وفوت عليه الرعاف الرابعة، فإنه يقدم البناء فيأتي بالرابعة أي بركعة بأم القرآن فقط سرا عند ابن القاسم، فإذا أتى بها جلس لأنها ثانيته، ثم يقضي الأوليين بسورة جهرا في الجهرية وسرا في السرية، ولا يجلس بينهما فهي منقلبة. وعند سحنون بالعكس أي يأتي بركعتين بسورة جهرا في الجهرية وسرا في السرية، ويجلس بينهما ثم بركعة بأم القرآن فقط سرا، ويتشهد ويسلم.
ومنها ما أشار إليه بقوله: أو كحاضر أدرك ثانية صلاة مسافر؛ يعني أن الحاضر إذا أدرك من صلاة إمامه المسافر الركعة الثانية بعد أن فاتته الأولى فقد اجتمع له البناء والقضاء، فيقدم البناء
على المشهور الذي هو مذهب ابن القاسم، فيأتي بركعة بأم القرآن فقط سرا، ويجلس لأنها ثانيته، ثم بركعة بأم القرآن فقط سرا، ويجلس لأنها آخرة الإمام، ثم بركعة بأم القرآن وسورة جهرا في الجهرية وسرا في السرية، ثم يتشهد ويسلم. وعند سحنون يأتي بركعة بأم القرآن وسورة جهرا في الجهرية وسرا في السرية ويجلس، ثم بركعتين بأم القرآن فقط سرا ولا يجلس بينهما، ثم يتشهد ويسلم. وقوله:"أو كحاضر" بالكاف. قاله الشيخ إبراهيم. وقال هو معطوف على لراعف، وخوف بحضر هذا أيضا من أمثلة ما اجتمع فيه البناء والقضاء، وقوله:"أو خوف" عطف على قوله: "مسافر"؛ يعني أن الحاضر إذا أدرك ثانية صلاة الخوف في الحضر فقد اجتمع له البناء والقضاء، فيقدم البناء على المشهور، فيأتي بركعة بأم القرآن فقط سرا على مذهب ابن القاسم، ويجلس لأنها ثانيته، ثم بركعة رابعة أي بأم القرآن فقط سرا، ويجلس لأنها آخرة الإمام، ثم يأتي بركعة بأم القرآن، وسورة جهرا في الجهرية، وسرا في السرية. وعند سحنون يقدم القضاء فيأتي بركعة بأم القرآن وسورة، ويجلس، ثم بركعتين بأم القرآن فقط ولا يجلس بينهما. وقوله:"أو خوف بحضر"، أي إن كان المأموم حضريا كان الإمام مسافرا أو حضريا، فتأتي معه الطائفة الأولى إن كان سفريا بركعة، ثم يفارقونه ويأتون بثلاث ركعات ويسلمون، فتأتي الطائفة الثانية وقد فاتتهم ركعة فهي قضاء، ويفعلون معه ركعة، وبعد سلامه يأتون بثلاث: واحدة منهن قضاء، واثنتان منهن بناء، فيقدم البناء عند ابن القاسم، خلافا لسحنون. ففي سفر الإمام اجتمع البناء والقضاء للطائفة الثانية، وفي حضريته يجتمعان للطائفة الأولى. والله سبحانه وتعالى أعلم. أشار له الإمام الحطاب.
وبما قررت علم أن قوله: قدم البناء راجع إلى المسائل الخمس، أي يقدم فعل ما فاته بعد الدخول مع الإمام على مذهب ابن القاسم، خلافا لسحنون القائل، إنه يقدم القضاء بأن يفعل ما فاته قبل الدخول مع الإمام قبل أن يفعل ما فاته بعده.
وعلم أيضا مما قررت أن قوله: وجلس في آخرة الإمام ولو لم تكن ثانيته راجع إلى المسائل الخمس أيضا؛ يعني أنه يجلس في آخرة الإمام حيث كانت ثانيته كما لو أدرك أخرى الوسطيين، بل ولو لم تكن ثانيته فإنه يجلس فيها أيضا عند ابن القاسم، كما لو أدرك
الوسطيين، أو أولاهما. ويجلس في ثانيته ولو لم تكن آخرة إمامه. ورد المصنف بقوله: قدم البناء على سحنون، وبلو على ابن حبيب الموافق للمصنف في تقديم البناء المخالف له في نفي الجلوس في آخرة الإمام حيث لم تكن ثانية للمأموم، فإنه يقول بنفي الجلوس فيها هذا على أن قوله:"وجلس في آخرة الإمام" مرتب على قوله: "قدم البناء"، وأما على أنه فرع مستقل راجع إلى المسائل الخمس كما قررت أولا فيصح قصد الرد بلو على سحنون وابن حبيب معا، فإن سحنونا موافق لابن حبيب في نفي الجلوس، أشار له الشيخ محمد بن الحسن. والله سبحانه أعلم.
تنبيهان: الأول: اعلم أنه إذا جلس في آخرة الإمام ولو لم تكن ثانيته، فإنه يقوم بعد التشهد من غير تكبير؛ لأن جلوسه في غير محله وإنما جلس متابعة للإمام. قاله أبو علي. نقله العلامة بناني.
الثاني: علم مما مر أن كلام المصنف في هذه المسائل الخمس حيث لم يدخل المأموم فيها مع الإمام ثانيا. كما قاله الشيخ إبراهيم. وأما لو دخل معه ثانيا فله صور منها: أن يدرك الأولى ويرعف في الثانية، ويدرك الثالثة وتفوته الرابعة فالرابعة بناء بلا إشكال، واختلف في الثانية فعلى مذهب الأندلسيين بناء نظرا للمدركة قبلها، وظاهر المدونة أنها قضاء نظرا للثالثة المدركة، فعلى أنها قضاء يبدأ بالرابعة بأم القرآن فقط سرا، ويجلس لأنها آخرة الإمام، ثم بركعة بأم القرآن وسورة جهرا في الجهر وسرا في السر، وعلى مذهب الأندلسيين أنها بناء يأتي بهما نسقا من غير جلوس بينهما بأم القرآن فقط، ومنها أن تفوته الأولى والثالثة، ويدرك الرابعة والثانية، فعلى مذهب الأندلسيين الثالثة بناء نظرا المدركة قبلها فيقدمها على الأولى، ويقرأ فيها بأم القرآن فقط سرا، ولا يجلس لأنها ثالثته، ثم بركعة القضاء بأم القرآن وسورة جهرا في الجهر، وأطلق على الثالثة في المدونة قضاء نظرا للرابعة المدركة بعدها، فيقدم الأولى بأم القرآن وسورة، ثم الثالثة بأم القرآن فقط سرا. أشار له الأمير. قال: ومن مسائل الخلاف: أيضا أن يدرك الأولى ثم يرعف فتفوته الثانية والثالثة، ثم يدرك الرابعة. قال التتائي: قال بعض الأندلسيين: هما بناء، قال الرماصي: وعليه فيأتي بركعتين بأم القرآن فقط من غير جلوس بينهما. قاله ابن ناجي، وغيره. وعلى مذهب المدونة قال أبو الحسن: قال ابن حبيب: يأتي بركعتين ثانية وثالثة، يقرأ
في الثانية بأم القرآن وسورة، ولا يجلس لأنها ثالثة بنائه، ويقرأ في الثالثة بأم القرآن ويجلس لأنها آخر صلاته. انتهى. وبما فسرت به البناء والقضاء علم أنهما بمعنى المصدر، وبذلك فسر ابن عرفة وغيره، وفسرهما ابن عبد السلام بمعنى اسم المفعول. وعليه فالبناء ما فاته بعد الدخول مع الإمام: والقضاء ما فاته قبل الدخول مع الإمام. وبالله تعالى التوفيق. ولما أنهى الكلام على ما قصده من الشرطين المذكورين، شرع في الكلام على الثالث فقال: