المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب: في الشركة بوزن نعمة أفصح من وزن رحمة ونبقة، وهي - لوامع الدرر في هتك استار المختصر - جـ ١٠

[محمد بن سالم المجلسي]

فهرس الكتاب

‌باب: في الشركة

بوزن نعمة أفصح من وزن رحمة ونبقة، وهي لغة الاختلاط والامتزاج، وهي عرفا أعمية وأخصية، قال ابن عرفة: الشركة الأعمية تقرر متمول بين مالكين فأكثر ملكا فقط، والأخصية بيع مالك كل بعضه ببعض كل الآخر موجب صحة تصرفهما في الجميع، فيدخل في الأولى شركة الإرث والغنيمة لا شركة التجر وهما في الثانية على العكس، وشركة الأبدان والحرث باعتبار العمل تدخل في الثانية وفي عوضه في الأولى. اهـ.

وخرج بقوله: متمول، ما ليس كذلك كثبوت النسب بين أخوين، وقوله: ملكا، أخرج به الانتفاع كما إذا كانا ينتفعان من حبس المدارس فإنه يصدق عليه تقرر متمول بين اثنين لكن ليس بملك، وقوله: فقط، بمعنى انتهى فهو نفي للزيادة على ما ذكر، واحترز به من الشركة الأخصية فإن فيها زيادة التصرف، وهذه لا تصرف فيها للشريكين، وفي قوله: ملكا فقط نظر؛ لأن من شأن الأعم أن يكون فيه ما في الأخص وزيادة، فالأخص داخل في الأعم، وإلا لما كان فيه عموم فلو حذف قوله ملكا فقط كان أولى. انظر الرصاع.

وقوله في تعريف الأخصية: موجب صفة لبيع، وقوله: صحة مفعول موجب وذلك خاص بشركة التجر، وأخرج به شركة غير التجارة كما إذا خلطا طعاما في الأكل للرفقة، فإن ذلك لا يوجب التصرف وضمير تصرفهما عائد على المالكين، وذلك يدل على أن كل واحد وكيل لصاحبه في تصرفه في ملكه، فشركة الإرث تدخل في الحد الأول كما ذكر وكذلك الغنيمة، وأما شركة التجر فتدخل في الثاني لصدقه عليها، وشركة الإرث والغنيمة لا تدخلان في الحد الثاني، وهذا معنى قوله: على العكس، وقوله: وشركة الأبدان لخ أي لأن شركة الأبدان وما شابهها يصدق عليها بيع مالك كل بعضه لخ؛ لأن كل واحد قد باع بعض منافعه ببعض منافع غيره مع كمال التصرف، وأما عوض ذلك فيدخل تحت أعمها وليس فيه تصرف.

وعرفها المؤلف تبعا لابن الحاجب بقوله: الشركة إذن في التصرف لهما مع أنفسهما، "الشركة" مبتدأ، وقوله:"إذن" خبر، وقوله:"في التصرف" متعلق "بإذن" وقوله: "لهما" متعلق "بالتصرف"، ومتعلق "إذن" محذوف؛ أي للآخر، وقوله:"مع" إما ظرف مستقر فهو حال من التصرف، أو من إذن، وقوله:"مع أنفسهما" أي مع بقاء تصرف أنفسهما، وتحقيق معنى المص أن

ص: 1

تقول: الشركة هي أن يأذن كل من الشريكين لصاحبه في التصرف في متاعه لنفسه ولصاحبه الإذن مع بقاء تصرف الآذنين أنفسهما، فقوله:"إذن في التصرف" كالجنس يشمل الوكالة والقراض، وقوله:"لهما" كالفصل مخرج للوكالة من الجانبين أي أن يوكل شخص شخصا يتصرف في متاعه ويوكل ذلك الوكيل أيضا الموكل ليتصرف له في متاعه هو لأنه لم يقع فيها إذن كل واحد لصاحبه في التصرف له ولصاحبه، بل أذن كل واحد لصاحبه في التصرف للموكل فقط وبالقيد الثاني وهو مع أنفسهما أي الآذنين يخرج القراض من الجانبين، مثل أن يدفع شخص لآخر قراضا ويدفع ذلك الآخر قراضا غير الأول للدافع، فإن كل واحد منهما أذن للآخر أن يتصرف لنفسه وللآذن لكن لا مع بقاء تصرف الآذن.

وشمل تعريفه شركة المفاوضة والعنان، إلا أن الأولى إذن من أول الأمر، والثانية إذن في ثاني حال؛ لأنهما إذا شرطا نفي الاستبداد استبد كل واحد بعد الإذن؛ إذ معناها أن لا يتصرف كل إلا بإذن خاص، وقوله:"لهما" قال عبد الباقي: أي للمأذونين، وقوله:"أنفسهما" أي الآذنين. اهـ. وقال البناني: ثم إن المظاهر في ضمير لهما أنه يعود على الآذن والمأذون لا للمأذونين كما ذكره الزرقاني أولا ولا للآذنين كما ذكره آخرا، وما ذكرناه هو الذي يناسب ما ذكره في قوله:"مع أنفسهما" من أن المراد مع بقاء تصرف أنفسهما؛ إذ لو كان للمأذونين لاقتضى أن كلا لا يتصرف إلا لنفسه، ولو كان للآذنين لاقتضى تصرف كل لشريكه فقط، وتدخل فيه الوكالة من الجانبين، نعم إن حملنا المعية على الشركة في الربح صح عوده على المأذونين والآذنين، وبالجملة فحمل المعية على معية التصرف كما شرح به يوجب عود ضمير لهما على الآذن والمأذون، وحملها على معية الربح يصح به عودها على الآذنين والمأذونين. واللَّه تعالى أعلم. اهـ.

‌تنبيهان:

الأول: قال البناني: تعريف المص للشركة نحوه لابن الحاجب، قال ابن عرفة: وقد قبلوه ويبطل طرده بقول من ملك شيئا لغيره أذنت لك في التصرف فيه معي، وقول الآخر مثل ذلك وليس بشركة؛ لأنه لو هلك ملك أحدهما لم يضمنه الآخر وهو لازم الشركة، ونفي اللازم ينفي الملزوم ويبطل عكسه بخروج شركة الجبر كالورثة وشركة المتبايعين شيئا بينهم، وقد ذكرهما يعني ابن الحاجب؛ إذ لا إذن في التصرف لهما، ولذا اختلف في كون تصرف أحدهما كغاصب أم لا.

ص: 2

قلت: قد تقدم الجواب عن الأول بأنه مبني على تعلق لهما بإذن، والصواب خلافه يعني فهو متعلق بالتصرف، ويجاب عن الثاني بأنه اقتصر على شركة التجر دون غيرها؛ لأن شركة التجر هي المقصودة وغيرها تبع لها. قاله الحطاب. اهـ. قوله: ويجاب عن الثاني لخ يؤيده قول ابن هارون في اختصار المتيطية: الشركة على ضربين؛ اضطرارية كشركة الورثة واختيارية وهي المقصودة هنا. اهـ محل الحاجة منه بلفظه. قاله الرهوني.

الثاني: قال الرهوني: قال في المفيد قال عبد الحق رحمه الله: الشركة على ضربين؛ شركة الأموال وشركة الأبدان، فشركة الأموال الأصل فيها قوله تعالى:{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} ، وأما شركة الأبدان فالأصل فيها قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ، والأربعة أخماس بين القائمين على الشركة، وإنما كان ذلك بعمل أبدانهم. اهـ. ومثله لابن يونس، وقال اللخمي: الأصل في الشركة قول اللَّه تعالى في ولي اليتيم: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} ، وقوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} . الآية. قالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: هي اليتيمة تشارك

(1)

الحديث، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(الشفعة في كل ما لم يقسم)

(2)

أخرج هذين الحديثين البخاري ومسلم.

وقال عليه الصلاة والسلام: (من أعتق شركا له في عبد)

(3)

الحديث. اهـ منه بلفظه. وقال ابن عرفة: ودليلها الإجماع في بعض صورها، وحديث أبي داوود بسنده إلى أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:(إن اللَّه يقول أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهم)

(4)

. ذكره عبد الحق وصححه بسكوته عنه والحاكم في المستدرك، وفيه خرجت من بينهما. اهـ. ونقله الحطاب عند قوله فيما يأتي:"ولزمت بما يدل عرفا" لكن في نقله شيء يدرك بتأمله مع ما نقلناه هنا. اهـ.

(1)

صحيح البخاري، كتاب الشركة، رقم الحديث 2494 وصحيح مسلم، كتاب التفسير، رقم الحديث 3018.

(2)

البخاري، كتاب الشركة، رقم الحديث 2495 وصحيح مسلم، كتاب المساقاة رقم الحديث 1608.

(3)

صحيح البخاري، كتاب العتق، رقم الحديث 2522.

(4)

أبو داود، كتاب البيوع، رقم الحديث 3383.

ص: 3

وإنما تصح من أهل التوكيل والتوكل يعني أن الشركة إنما تصح من أهل التوكيل والتوكل، قال المواق: ابن يونس: أركانها العاقدان ولا يشترط فيهما إلا أهلية التوكيل والتوكل، فإن كل واحد منهما يتصرف لنفسه ولصاحبه بإذنه. اهـ. فالمتأهل للتوكيل هو الحر البالغ العاقل الرشيد، واحترز بذلك من العبد والصبي والسفيه فلا تصح شركة بين عبدين ولا بين صبيين ولا بين سفيهين، ولا بين صبي وسفيه ولا بين صبي وعبد ولا بين عبد وسفيه، والمتأهل للتوكل هو الحر المسلم العاقل: واحترز بذلك من الشركة بين المسلم والكافر بغير حضرة المسلم فلا تصح، وأما المحجور كالسفيه والصبي والعبد ففي توكله طريقان مرجحان: إحداهما الصحة، والأخرى المنع وعدم الصحة.

ابن عرفة: وعليه عمل بلدنا، قال عبد الباقي: وإنما تصح من أهل التوكيل والتوكل أي التأهل لهما وهو الحر البالغ العاقل الرشيد غير عدو ولا كافر، فخرج بالقيد الأول في كلامه الصبي والسفيه وكل محجور فلا تصح شركتهما لعدم أهليتهما للتوكيل، وإن جاز وصح لهما التوكل على إحدى طريقتين مرجحتين والأخرى المنع وعدم صحته. ابن عرفة: وعليه عمل بلدنا، ويستثنى من المحجور الزوجة فلها أن توكل في لوازم عصمتها، وخرج بالقيد الثاني شركة العدو فإنه من أهل التوكيل دون التوكل على عدوه، ولكن ظاهر المدونة جواز شركته له وصحتها وهو المعتمد، وخرج به شركة مسلم لكافر يتجر بغير حضور المسلم فإنها غير صحيحة على ما لبعضهم كظاهر المص، ولكن ظاهر المدونة المنع ابتداء وصحتها بعد الوقوع، وعليه فكان على المص الاقتصار على القيد الأول، ولذا لم يعبر ابن الحاجب وابن شاس بالصحة وإنما عبرا بالجواز، فقالا: من جاز له تصرف لنفسه جاز توكيله وتوكله إلا لمانع. اهـ.

وقبله ابن عرفة قائلا: مسائل المذهب واضحة به. اهـ. وأما شركة مسلم لكافر يتجر بحضور المسلم فجائزة وصحيحة قطعا كما في المدونة، ثم إذا نض مال الشركة في القسم الأول أي عدم حضور المسلم أخذ المسلم ما يخصه من رأس مال وربح إن علم سلامة الكافر من عمل الربا وتجر خمر، فإن شك في عمله في ربا ندب للمسلم صدقة بربحه فقط، لقوله تعالى:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} ، وإن شك في عمله به في خمر ندب له التصدق بربحه ورأس المال جميعا لوجوب إراقة الخمر على

ص: 4

المسلم، ولو اشتراه بمال حلال وإن تحقق عمله بالربا وجب التصدق بالربح فقط، وإن تحقق تجره بخمر وجب على المسلم تصدقه برأس ماله وربحه معا. كذا يفيده اللخمي.

وقد علم مما مر أن بين من يصح توكيله وتوكله عموما وخصوصا من وجه يجتمعان في حر بالغ عاقل رشيد غير عدو ولا كافر، وينفرد التوكيل في عدو وكافر فإنهما أهله دون التوكل وينفرد التوكل، في محجور فإنه من أهل التوكل على إحدى طريقتين دون التوكيل، قال الوالد: فلو اشترك حر وعبد غير مأذون ثم خسر المال أو تلف رجع سيد العبد على الحر إن استبد بالعمل لا إن عملا معا، فإن عمل العبد وحده فلا ضمان عليه للحر إلا أن يقر بالحرية فتكون جناية في رقبته، وكذا ينبغي أن يكون الحكم كذلك إذا اشترك مع بالغ صبي أو سفيه. اهـ. لكن لا يجري فيهما قوله: فتكون جناية في رقبته كما هو ظاهر. اهـ كلام عبد الباقي.

قوله: قال الوالد فلو اشترك حر وعبد لخ، قال البناني: ما نقله عن والده نقله ابن عرفة عن اللخمي، ونصه: وفيها تجوز شركة العبيد إذا أذن لهم في التجارة. اللخمي: إن لم يكن مأذونا له وولي البيع والشراء لم يضمن الحر وضيعة المال ولا تلفه، وكذا إن وليا معا البيع والشراء ووزن كل واحد منهما منابه وأغلقا عليهما ولم ينفرد الحر بهما، وإن انفرد الحر فتولى ذلك ضمن رأس المال إن هلك أو خسر. اهـ. قال الحطاب: فإن كانا عبدين فلا ضمان على من تولى ذلك منهما وهو ظاهر. واللَّه تعالى أعلم.

وكذا في المسألة الأولى لا ضمان على العبد في ضياع مال الحر، وانظر لو غره والظاهر أنه جناية في رقبته. واللَّه تعالى أعلم. اهـ. وقول عبد الباقي: وخرج بالقيد الثاني شركة العدو لخ، قال الرهوني: قال شيخنا الجنوي: فيه نظر؛ لأن شركة العدو لا تخرج من الحد لأنه ليس وكيلا على عدوه، وإنما هو شريك عدو فالعدو من أهل التوكل لعدوه وليس من أهل التوكل عليه، والذي هنا الأول لا الثاني. اهـ من خطه طيب اللَّه ثراه. وهو بين لا إشكال فيه.

وقول الزرقاني: وخرج به شركة مسلم لكافر يتجر بغير حضور المسلم لخ، مفهومه أنه إذا كان لا يتجر إلا بحضوره جاز، وظاهره ولو اشترط ذلك في صلب العقد وهو الذي يفيده كلام ابن عرفة، ولكن صرح ابن هارون بمنع ذلك في اختصار المتيطية، فإنه قال بعد أن ذكر شركة الذمي ما نصه:

ص: 5

فإن قيل لو شرط عدم الغيبة في شركة المسلم لامتنع فما الفرق؟ فالجواب أن اشتراط ذلك مانع أيضا في شركة الذمي، ولكن إذا وقعت الشركة بغير شرط كان له منع الذمي من ذلك كي لا يعمل بالربا. اهـ منه بلفظه. وهو المظاهر.

وأما قول المدونة: ولا يصلح لمسلم أن يشارك ذميا إلا أن لا يغيب عليه على بيع ولا شراء ولا قضاء ولا اقتضاء إلا بحضرة مسلم، فمعناه أنه اشترط ذلك مع بقاء المال تحت أيديهما وفي حوزهما معا، قال ابن ناجي عند نصها السابق ما نصه: قوله ولا يصلح لمسلم أن يشارك ذميا لخ، أبو عمران: انظر هذا مناقض لما تقدم في قوله: "وإن استويا في المال والربح" على أن يمسك أحدهما رأس المال عنده، فإن كان يتولى التجارة دون الآخر لم يجز وإن توليا جميعا جاز، والفرق أنه فيما تقدم خرج عن حكم الأمانة وهنا ما خرج عن حكمها، وإنما شرط أن لا يغيب الذمي على بيع ولا شراء ليلا يعمل بالربا. اهـ.

وقول الزرقاني: كذا يفيده اللخمي، يقتضي أن اللخمي تكلم على مسألة تحقق عمله بالخمر، وفيه نظر إذ لم يتكلم على صورة التحقق في النسخة التي بيدي من تبصرته ولا فيما نقله عن ابن عرفة والحطاب، وإنما تكلم على صورة الشك، والحطاب هو الذي ذكر تحقق عمله بذلك فانظره، وقول البناني: ما نقله عن والده نقله اللخمي لخ، كأنه قصد بهذا نسبة الزرقاني للقصور، وصرح بذلك التاودي ونصه: فيه نظر كيف يعزو هذا للوالد كأنه لم يقل ذلك أحد قبله مع أنه منصوص عليه للخمي وغيره؟ اهـ محل الحاجة منه بلفظه.

قلت: إنما نسب الزرقاني ذلك لوالده واللَّه تعالى أعلم باعتبار قوله: وكذا ينبغي أن يكون الحكم كذلك إذا اشترك مع بالغ صبي أو سفيه، إذ لم يتكلم على ذلك اللخمي ولا ابن عرفة ولا الحطاب فنأمله فلا نظر في كلامه ولا قصور، وظاهر ما نقله التاودي والبناني عن ابن عرفة والحطاب أنه يجوز للمأذون له مشاركة غيره مفاوضة وغيرها، ولا إشكال في غير المفاوضة، وأما المفاوضة ففي المدونة ما نصه: ويجوز للمأذون مفاوضة الحر، فظاهره وإن لم يأذن له في نفس المفاوضة، وتأولها أبو عمران على أنه أذن له في المفاوضة، وعلله بأن المفاوضة تستلزم الحمالة لأن كل واحد منهما حميل عن الآخر وهو لا يتحمل إلا بإذن سيده كما قال في كتاب الحمالة، وعلى هذا فهو موافق لا

ص: 6

في الحمالة، قال ابن ناجي: وقبله أبو إبراهيم وحملها الغربي على عمومها وإن لم يأذن السيد؛ لأنه كما يتحمل بالحر كذلك الحر يتحمل به فهو حمالة بحمالة. اهـ.

وفي المدونة: وتجوز الشركة بين النساء وبينهن وبين الرجال، اللخمي: يريد إن كانت متجالة أو شابة بواسطة مأمونة.

‌تنبيه:

قال الحطاب: سمع ابن القاسم: ليس لأحد مالكي عبد ضربه بغير إذن شريكه إن فعل ضمنه إلا في ضرب لا يعيب مثله أو ضرب أدب، وقال سحنون: يضمنه مطلقا ولو بضربة واحدة كأجنبي. ابن رشد: رأى مالك شركته شبهة تسقط الضمان في ضرب الأدب وهو أظهر من قول سحنون؛ لأن ترك ضربه أدبا يفسده. اهـ.

ولزمت بما يدل عوفا يعني أن الشركة تلزم بمجرد القول الدال عليها عرفا على المشهور، قال عبد الباقي: وأشار للصيغة بقوله: "ولزمت بما يدل" عليها من قول بمجرده عرفا. اهـ. وقال البناني: ما ذكره من لزومها بالقول هو الذي لابن يونس وعياض، ونصه في التنبيهات: الشركة عقد يلزم بالقول كسائر العقود والمفاوضات، وهو رخصة في بابه الذي يختص به، هذا مذهب ابن القاسم في الكتاب، ومذهب غيره أنها لا تلزم إلا بالخلط. اهـ.

وقال صاحب المعين أبو إسحاق ابن عبد الرفيع في لزومها بالقول إنه المشهور عن مالك وأصحابه. اهـ. وقال ابن عبد السلام: المذهب لزوم شركة الأموال بالعقد دون الشروع، واختلف في شركة الحرث هل هي كشركة الأموال وهو قول سحنون أم لا تلزم إلا بالعمل وهو قول ابن القاسم؟ اهـ. وهذا خلاف قول ابن رشد في المقدمات: هي من العقود الجائزة لكل منهما أن ينفصل عنها متى شاء إلا الشركة في الزرع ففي لزومها خلاف، ونحو ذلك للخمي. واعلم أن المتعين أن كلام ابن يونس وعياض وصاحب المعين وابن عبد السلام مخالف لكلام ابن رشد واللخمي. انظر الرهوني. والحطاب.

كاشتركنا مثال للقول الدال على الشركة؛ يعني أن الشركة تلزم بقول المتعاقدين اشتركنا بأن يقولها كل واحد منهما أو يقولها أحدهما ويسكت الآخر راضيا به من غير احتياج لزيادة على القول على المشهور، قال عبد الباقي: فلو أراد أحدهما المفاوضة وامتنع الآخر عمل بامتناعه حصل خلط المال

ص: 7

أم لا، فإن أراد نضوضه بعد العمل فينبغي أن ينظر الحاكم كالقراض. اهـ. وقوله:"كاشتركنا" يعني إذا فهم منه المقصود عرفا كما قاله ابن شاس ونقله غير واحد، وقال الخرشي: بما يدل عرفا من قول كاشتركنا أو فعل كخلط المالين والتجر فيهما.

بذهبين متعلق بقوله: "تصح" وهذا بيان لمحل الشركة، وهو المال المعقود عليه أو العمل؛ يعني أنه تجوز الشركة وتصح بذهبين بأن يخرج أحدهما ذهبا، والآخر ذهبا أو ورقين أي وتجوز الشركة وتصح إذا أخرج أحدهما ورقا والآخر ورقا، قال عبد الباقي: وعلق بتصح قوله: "بذهبين أو ورقين" لبيان محلها وهو المعقود عليه من المال والعمل وهو رابع الأركان الثلاثة المتقدمة. العاقدان والصيغة، وأراد بذهب من واحد وذهب من الآخر، وكذا يقال في ورقين.

اتفق صرفهما يعني أنه لابد من اتفاق العينين في الصرف، فإذا أخرج أحدهما ذهبا والآخر ذهبا فلابد أن يتفق الذهبان في الصرف بأن يكون الذهبان متساويين في القيمة؛ بأن يباع كل منها بقدر ما يباع به الآخر من الدراهم، وكذا يقال فيما إذا أخرج أحدهما ورقا، والآخر ورقا قال عبد الباقي: اتفق صرفهما ووزنهما وجودتهما أو رداءتهما، ومن لازم ذلك اتفاق قيمتهما وسواء اتحدت سكتهما أم لا، كهاشمية ودمشقية ومحمدية ويزيدية مع اتفاقهما فيما ذكر، وإنما اعتبر في شركة النقد هذه الأمور الأربعة لتركبها من البيع والوكالة، فإن اختلفا في واحد من الأربعة فسدت الشركة. وعلته في اختلاف صرفهما شرط التفاوت إن دخلا على إلغاء الزائد ويأتي أنها تفسد بشرط التفاوت، وعلته في اختلافهما وزنا بيع نقد بمثله متفاضلا، وعلته عند اختلافهما جودة ورداءة دخولهما على التفاوت في الشركة حيث عملا على الوزن؛ لأن قيمة الجيد أكثر من قيمة الردي فدخلا على ترك أفضلية قيمة الجيد: وإن دخلا على القيمة فقد صرفا النقدين للقيمة وذلك يؤدي إلى بيع النقد بغير معياره الشرعي وهو الوزن في بيعه بجنسه.

واعلم أن المراد باتفاق وزنهما وقيمتهما وصرفهما أن يكون ما أخرجه أحدهما متفقا فيما ذكر مع ما أخرجه الآخر، أو مع ما يقابله مما أخرجه الآخر لا لأول فقط، لاقتضائه أنه إذا أخرج أحدهما مثقالين والآخر عشرة وأخذ كل قدر نصيبه فقط فلا يجوز مع أنها جائزة، ولا يضر الاختلاف اليسير الذي لا بال له ولا يقصد في الصرف أو القيمة لا الوزن، سواء جعلاها على وزن رأس المالين

ص: 8

وألغيا ما بينهما من الفضل أو عملاها على فضل ما بين السكتين. وللخمي أنه لا يضر الاختلاف اليسير فيه أيضا والظاهر المنع إذا اجتمع اليسير في هذه كلها. اهـ قوله: وللخمي أنه لا يضر لخ، قال الرهوني: فيه نظر؛ لأن مختار اللخمي في ذلك هو المنع، هذا الذي نسب له المتيطى وابن عرفة وهو الموجود في تبصرته. اهـ.

وبهما منهما يعني أن الشركة تجوز وتصح بهما أي بالذهب والفضة كائنين منهما أي من الشريكين؛ بأن يخرج أحدهما ذهبا وفضة ويخرج الآخر ذهبا وفضة، قال عبد الباقي: وبهما أي الذهب والفضة منهما أي الشريكين، وتعتبر مساواة ذهب كل وفضته لما للآخر في الأمور الأربعة المتقدمة، وقوله:"وبهما منهما" قال الرهوني: أصله في المدونة، ونصها: قال ابن القاسم: ولا بأس أن يخرج هذا ذهبا وفضة وهذا مثله من ذهب وفضة. اهـ منها بلفظها.

‌تنبيه:

عورض جواز هذا بمائة دينار ودرهم بمثلهما وبمنع مبادلة قمح وشعير بمثلهما؛ لأن التعدد من الجانبين إما أن يكون متماثلا من كل وجه فيلزم جواز مسألة الصرف والمبادلة وقد منعها في كتاب المسلم الثالث، أو متفاوتا فيمنع في الشركة إذ لا يجوز اختلاف رأس المال مع التساوي في الربح على سبيل الشركة إلا طوعا، قال الوانوغي عند نصها السابق ما نصه: الجواب أنا لا نسلم التساوي في تقابل العوضين ولو تساويا لما فعله عاقل، فلابد من شيء زائد في أحد الجانبين اغتزاه الآخر وهو عين ربا الفضل، فامتنع لذلك ما في المسلم ونحوه في الصرف؛ لأن ذلك الزائد يغتزيه كل واحد على سبيل المبايعة الحقيقية ليستبد به عن صاحبه، ولما فقد هذا المعنى في الشركة ضعف اتهامهما لعدم استبدادهما ولعدم البايعة الصريحة. اهـ منه بلفظه. ونقله ابن غازي في تكميله وأقره. انتهى كلام الرهوني.

وبعين وبعرض يعني أن الشركة تجوز وتصح بعين من جانب وبعرض من جانب وشمل الطعام، قال الحطاب: قال في المدونة: وتجوز الشركة بطعام ودراهم أو بعين وعرض على ما ذكرنا من القيم وبقدر ذلك يكون الربح والعمل، وبعرضين مطلقا يعني أن الشركة تجوز وتصح بالعرضين أي بعرض من جانب وبعرض من الجانب الآخر مطلقا اتفقا جنسا أو اختلفا، فدخل فيه ما إذا كان أحدهما عرضا والآخر طعاما.

ص: 9

وكل بالقيمة يوم أحضر يعني أن العرض الواقع في الشركة من جانب أو جانبين يقع الاشتراك فيه بالقيمة أي قيمة العرض يوم أحضر ذلك العرض للاشتراك، فإذا كانت قيمته قدر العين المقابلة له فالشركة على النصف، أو أقل كالثلث فهو شريك بالثلث، أو أكثر كالثلثين فهو شريك بالثلثين فله نصف الربح أو ثلثه أو ثلثاه، وعليه نصف العمل أو ثلثه أو ثلثاه، وكذا يقال في صاحبه، وعلى هذا القياس: وكذا تعتبر الشركة في العرض من الجانبين، فإن تساويا قيمة فهما على النصف مما ذكر أي على كل نصف العمل وله نصف الربح، وعلى هذا القياس قال عبد الباقي: وكل من العرض الواقع في الشركة من جانب أو جانبين يقع الاشتراك به يوم أحضر عرضهما للاشتراك فيما يدخل من البيع في ضمان المشتري بالعقد، وأما فيما يدخل في ضمانه بالقبض كذي التوفية والغائب غيبة قريبة فتعتبر قيمته يوم دخوله في ضمانه في البيع دون يوم دخوله في ضمان الشركة الذي هو الخلط، وإنما اعتبر في الصحيحة قيمة عرض كل لأن العروض أعيان أموال فجازت الشركة فيها، وإن لم يسميا ثمنها اعتبارا بما لا يتميز. اهـ.

وقال الشارح: وقوله: "بالقيمة" أي تكون الشركة بينهما بقيمة العرضين يوم إحضارهما، فإذا كان عرض هذا يساوي عشرين وعرض هذا يساوي عشرة فالمال بينهما على ثلاثة أجزاء عند الاقتسام، لأن رأس مال كل واحد منهما ما قوم به عرضه يوم الإحضار. انتهى. لا تعتبر قيمة العرض يوم فات، ومحل اعتبار قيمة العرض يوم أحضر إنما هو إن صحت الشركة، وأما إن فسدت فرأس مال كل ما بيع به عرضه. قال الخرشي ويعتبر في الشركة بالعرض -سواء كان من جانب أو من جانبين- قيمته يوم الاشتراك حيث كانت صحيحة، وإن فسدت فرأس مال كل ما بيع به العرض إن عرف وإلا فقيمته يوم البيع والحكم في الطعامين كذلك إن لم يحصل قبل ذلك خلط، فإن حصل قبل ذلك خلط فرأس المال قيمة الطعام يوم الخلط. قاله الشيخ عبد الرحمن، وانظر إذا لم يعلم يوم البيع فيما إذا اعتبرت القيمة يومه، وإذا جهل يوم الخلط في الطعام حيث جهل الخلط ما الحكم؟ والظاهر أنه يعتبر قيمته يوم القبض كما هو قاعدة قيمة البيع الفاسد، وانظر إذا لم يعلم يوم القبض. اهـ.

ص: 10

وقال الشارح عند قوله: "إن صحت": يريد أن ما ذكر من القيمة يوم الإحضار مقيد بما إذا كانت الشركة صحيحة فلو فسدت فلا، وقد اختلف فيما يكون رأس مال كل واحد منهما إن وقعت فاسدة كما لو وقعت على تفاضل الربح والعمل، فالمشهور ما بيع به عرضه؛ لأن العرض لم يزل على ملك ربه في الشركة الفاسدة، وفي ضمانه إلى يوم البيع، ومقابله أنه كالشركة الصحيحة فالقيمة يوم الإحضار إلا أنه غير منصوص، بل خرجه التونسي على مسألة ما إذا أخرج أحدهما ذهبا والآخر ورقا فإن المشهور فسادها، وهو قول [ابن القاسم مع]

(1)

أنه قال: إذا اشترى كل واحد سلعة وعرفت يقتسمان الربح على حسب رأس مالهما. اهـ.

وقوله: "لا فات"، قال مصطفى: انظر ما فائدة هذا؛ لأن عادة المص إذا نفى شيئا فإنما ينكت به على من قال به، ولم أر من ذكر أن القيمة تعتبر في الصحيحة يوم الفوات مع ما توهمه عبارته أن القيمة في الفاسدة تعتبر يوم الفوات، وليس كذلك كما أشار إليه ابن غازي.

إن خلطا تقرير المص بحسب ظاهره أن تقول: ولزمت الشركة بما يدل عليها عرفا بشرط خلط المالين أي ولزمت إن خلطا، وأما إن وقع ما يدل عليها كاشتركنا ولم يحصل خلط فلا تلزم، ولكل منهما أن يتركها لا بعد الخلط فتلزم وهذا قول لكنه ضعيف، قال عبد الباقي: وكلام المص يقتضي أن ذلك يعني الخلط شرط في اللزوم وهو قول ضعيف جدا، والمشهور أنها لازمة بالعقد حصل خلط أم لا، ولا يصح جعله شرطا في الصحة لأنها صحيحة مطلقا فهو شرط في كون ضمان المالين منهما المتضمن له قوله: ولزمت بما يدل عرفا؛ أي فيضمن المالين كل منهما إن خلطا، ويدل له قوله:"وما ابتيع بغيره بينهما"، وقوله:"ولو غاب لخ". اهـ. وما قاله ظاهر فإن كلام المص آخرا يفيد أن هذا شرط في الضمان. واللَّه تعالى أعلم.

وقال البناني عند قوله: إن خلطا" ما نصه: ظاهر المص أن الخلط شرط في اللزوم وهو قول سحنون، ودرج عليه صاحب القصد المحمود وصاحب المعونة ولكنه خلاف المشهور، ومذهب المدونة كما تقدم في كلام عياض فلا يحمل عليه كلام المص، ولذا تأوله الحطاب على أنه شرط في الضمان كما عند الزرقاني: واستدل له الحطاب بقول الرجراجي: ذهب ابن القاسم إلى أن الخلط شرط الانعقاد

(1)

في الأصل: ابن القاسم فسادها مع لخ، والمثبت من بهرام الوسط ج 4 ص 239.

ص: 11

في التوى أي الهلاك لما في النماء؛ لأنه قال: ما اشتراه أحدهما بماله قبل الخلط فهو بينهما وما ضاع فهو من صاحبه. اهـ. وقال ابن عرفة: وفي شرط ثبوت لازمها وهو ضمان المشترك به منهما بالخلط الحكمي فضلا عن الحسي أو به فقط قولا ابن القاسم وغيره فيها. اهـ.

وحاصله أنه بعد لزومها بالعقد يكون ضمان كل مال من صاحبه قبل الخلط، فإن وقع الخلط ولو حكما فالضمان منهما. اهـ.

ولو حكما يعني أن الضمان يكون من الشريكين حيث حصل الخلط الحكمي وإن لم يحصل الخلط الحسي. هذا قول ابن القاسم في المدونة. ورد بلو قول غيره في المدونة بأن الضمان إنما يكون منهما حيث حصل الخلط الحسي، وأما إن لم يحصل إلا الخلط الحكمي فضمان كل مال من صاحبه كما لو لم يحصل خلط، والخلط الحسي ظاهر ككونهما في صرة واحدة، والحكمي ككون كل واحد من المالين في صرة منفردة وهما في حوز أجنبي أو أحدهما فقط أوهما وقفلا عليه بقفلين وأخذ كل واحد مفتاح أحد القفلين، وقال ابن عبد السلام: قال ابن القاسم: لابد في ذلك من كون المالين مخلوطين حقيقة أو يكونا في حكم المخلوطين بأن يكونا معا تحت أيديهما، كما إذا جعلا مجموع المالين في بيت واحد وجعلا عليه قفلين أخذ أحدهما مفتاح أحد القفلين وأخذ أحدهما المفتاح الثاني، أو يكون المالان تحت يد واحد منهما برضاهما من غير أن يشترط ذلك في أصل العقد. نقله الرهوني. وقال البناني: قال ابن عرفة: الخلط الحكمي كون المالين في حوز واحد ولو عند أحدهما. اهـ.

وإلا أي وإن لم يحصل خلط حسي ولا حكمي فالتالف من المالين مصيبته من ربه، قال المواق: من المدونة: إن بقيت صرة كل واحد بيده فضياعها منه حتى يخلطا أو يجعلا الصرتين عند أحدهما. اهـ. وما ابتيع أي اشتري بغيره أي بغير التالف، فحهو بينهما على ما دخلا عليه للزوم الشركة بالعقد، وعلى المتلف متاعه نصف الثمن أي ثمن المشترى بالسالم إن كانت الشركة بالنصف، وإلا فثمن حصته فقط، وتوضيح المسألة أن تقول: عقد زيد وعمرو الشركة بينهما بما يدل عليها عرفا بذهبين مثلا فلزمت، بأن أخرج كل واحد منهما عشرة دنانير وبقيت عنده في صرتها ولم يخلطا ذلك لا حسا ولا حكما فتلفت صرة زيد، وقد علمت أن فيها عشرة دنانير وسلمت صرة عمرو فاشترى بها أمة فمصيبة صرة زيد منه، والأمة التي اشتريت بصرة عمرو كائنة على الشركة بين

ص: 12

زيد وعمرو على التناصف للزوم الشركة بالقول، ويدفع زيد لعمرو نصف الثمن الذي اشتريت به الأمة وهو خمسة دنانير في هذا المثال. قال المواق: من المدونة: إن بقيت كل صرة بيد ربها حتى ابتيعت بإحداهما أمة على الشركة وتلفت الصرة الأخرى والمالان متفقان فمصيبة الصرة من ربها، وأما الأمة فهي بينهما يريد بعد أن يدفع لشريكه نصف ثمنها؛ لأنه إنما اشتراها على الشركة. اهـ. قوله: فمصيبة الصرة من ربها على ذلك اتفق سحنون وابن القاسم، وقال اللخمي: إنما ذلك إذا لم توزن كل صرة على حدتها وأما لو وزنت كل صرة على حدتها، وقلبت ثم خليت عند صاحبها على وجه الشركة فضاعت لكانت مصيبتها منهما كالجارية. انظر الشارح.

واختلف الشيوخ فيما اشتري بالسالم هل هو على الشركة بينهما إلا أن يعلم صاحب السالم بالتلف ويشتري بالسالم بعد علمه، فله ربح ما اشتراه يختص به وعليه خسره، فإن اشترى قبل علمه بالتلف فبينهما وإن لم يرض المشتري هذا ظاهره، والنقل أنه إذا اشتراه قبل علمه بالتلف يخير بين أن يختص به وأن يدخل معه صاحبه؛ لأنه يقول لو علمت أن المال تلف لم أشتر إلا لنفسي وهو فهم ابن رشد، أو هو أي ما اشتري بالسالم بينهما مطلقا، اشتري بعد علمه بالتلف أم لا، لكن إن اشتراه قبل علمه فبينهما وبعده يخير ذو التالف في دخوله معه وعدمه، إلا أن يدعي ذو السالم الأخذ له أي لنفسه فيختص به، ولا اختيار لشريكه في ذلك تردد حقه تأويلان.

وتوضيح هذين التأويلين الذين عبر عنهما بالتردد أن الأول يقول: إذا اشتراه ذو سالم بعد علمه يختص به فهو له الربح وعليه الخسر، فإن اشتراه قبل علمه خير بين أن يختص به وأن يدخل معه ذا التالف، وإذا أدخله دفع له نصف ما اشتريت به الأمة، والثاني يقول إن اشتراه قبل علمه فبينهما أي ويدفع له نصف ثمنه، فإن اشتراه ذو السالم بعد علمه خير ذو التالف بين أن يدخل معه في الأمة ويدفع له نصف ما اشتريت به وأن لا يدخل معه فيترك له الأمة، ومحل تخيير صاحب التالف إن لم يدع ذو السالم أنه اشترى الأمة لنفسه، وأما إن ادعى أنه اختارها لنفسه فإنه لا يخير ذو التالف بل يختص ذو السالم بالأمة التي اشتراها. هذا تحقيق المسألة. واللَّه تعالى أعلم. الحطاب: الأليق باصطلاحه أن يقول تأويلان، قال في المدونة: وإن بقيت كل صرة بيد ربها حتى ابتاع بها أمة على الشركة وتلفت الصرة الأخرى والمالان متفقان فالأمة بينهما والصرة من ربها،

ص: 13

قال ابن يونس: قوله فالأمة بينهما يريد بعد أن يدفع لشريكه نصف ثمنها؛ لأنه إنما اشتراها على الشركة، قال بعض أصحابنا: إن اشترى الأمة بعد التلف عالما به فشريكه مخير في أن يشركه فيها أو يدعها له، إلا أن يقول إنما اشتريتها لنفسي فهي له، وإن لم يعلم بالتلف حتى اشترى الأمة فهي بينهما كما لو اشترى ثم تلفت صرة الآخر. قال أبو الحسن: ولابن رشد عكس هذا، قال: إن اشترى بعد التلف وهو لا يعلم فهو بالخيار بين أن يلزمه ما اشتراه أو ينفرد به؛ لأنه يقول: لو علمت تلفه لم أشتر إلا لنفسي، فإن اشترى بعد أن علم بتلف ما أخرجه صاحبه فهو له خاصة. اهـ. وقال البناني عند قوله: تردد ما نصه: هما تأويلان كما في الحطاب، الأول لابن رشد والثاني لعبد الحق وابن يونس، وهما على الوجه الذي بينه الزرقاني لا على ظاهر المص. اهـ.

ولو غاب نقد أحدهما هذا مبالغة في قوله: وإنما تصح لخ؛ يعني أن الشركة تجوز وتصح بالذهبين أو الورقين ولو غاب نقد أحد الشريكين أو بعضه غيبة يجوز معها شرط النقد، كما أشار إلى ذلك بقوله: إن لم يبعد بأن قرب كاليومين، كجواز شرط النقد في الغائب، قال عبد الباقي وبالغ على جواز الشركة بقوله:"ولو غاب نقد أحدهما" وشرط جوازها مع غيبة نقد أحدهما جميعه أو بعضه أمران، أحدهما إن لم يبعد بل قرب كاليومين كجواز شرط النقد في الغائب، وثانيهما لم يتجر بالحاضر لحضوره أي الغائب أي لقبضه؛ يعني أنه إنما تجوز الشركة مع غيبة أحد النقدين بشرطين، أحدهما أن يقرب النقد الغائب كيومين، ثانيهما أن لا يتجر بالنقد الحاضر إلا بعد حضور النقد الغائب أي قبضه، واشتمل كلام المص على خمس صور: واحدة في المنطوق وأربع في المفهوم، فصورة المنطوق جائزة وهي كون النقد الغائب على مسافة قريبة كاليومين والحال أنه لم يتجر بالنقد الحاضر إلا بعد حضور الغائب، وصور المفهوم ممنوعة وهي غيبة النقد الغائب غيبة بعيدة اتجر بالحاضر أم لا، الثالثة أن تكون الغيبة قريبة ولكن اتجر بالحاضر قبل قبض الغائب والرابعة غيبة النقدين معا كما في الخرشي.

وقال عبد الباقي: ومفهوم الشرط الأول إن بعدت غيبته أكثر من يومين امتنعت الشركة وإن كان لا يتجر إلا بعد قبضه، وكذا تمنع إن قربت واتجر قبل قبضه، فإن وقع فالربح لما حصل به التجر كما في بعيد الغيبة، وقوله:"إن لم يبعد ولم يتجر لحضوره"، قال البناني: القيدان لابن يونس عن

ص: 14

بعض شيوخه، ومقتضى اللخمي عدمهما لأنه نفى كون الشركة مبايعة. اهـ. وقال الرهوني عند قوله:"إن لم يبعد": ظاهره أنه لا يشترط البعد جدا، وفي المواق عن ابن يونس تقييده بذلك، ومثله للشارح والتوضيح ونصه: وقيد المشهور بقيدين أحدهما أن لا يتجر إلا بعد قبض المال الغائب، ثانيهما أن لا تكون الغيبة بعيدة جدا، ونحوه لأبي الحسن وبذلك تعلم ما في قول عبد الباقي، ومفهوم الشرط الأول إن بعدت غيبته أكثر من يومين لخ من أنه جعل ما زاد على اليومين من البعيدة مطلقا، وهو مخالف للمنصوص لهم من أن ما قرب من اليومين له حكمهما.

‌تنبيه:

جزم المص بأن ما ذكره من الشرطين تقييد وهو الذي يفيده كلام ابن يونس وأبي الحسن وغير واحد، وقال ابن عرفة ما نصه: وفي كون قول بعض شيوخ عبد الحق إنما تجوز عند ابن القاسم بشرط قرب الغيبة ووقف التجر بالحاضر على حضور الغائب تقييد، انظر والأظهر أنه خلاف لاحتجاج ابن القاسم على الجواز بقول مالك فيها. اهـ.

ويأتي الاحتجاج الذي أشار إليه عند قوله: "وله التبرع" لخ. اهـ كلام الرهوني. وقوله: "ولو غاب نقد أحدهما" ما مشى عليه المص من الجواز هو مذهب مالك وابن القاسم في المدونة وهو المشهور، وذهب سحنون إلى عدم الجواز. ابن عبد السلام: وكأنه الأقرب لأن الشركة تستدعي صحة التصرف في المالين لكل من الشريكين وذلك منتف مع غيبة أحد المالين. اللخمي: المشهور أحسن قاله الشارح. قوله: "أو غاب نقد أحدهما" لخ.

قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: العلة التي ذكرها عبد الباقي تجري في النقد وغيره، ومر عن عبد الباقي ما يفيد ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

لا بذهب وبورق عطف على قوله: "بذهبين" يعني أن الشركة لا تصح بل تفسد فيما إذا أخرج أحدهما ذهبا والآخر ورقا. قال عبد الباقي: لا بذهب من جانب وبورق من آخر، ولذا أعاد الباء ولو عجل كل ما أخرجه لصاحبه لاجتماع الشركة والصرف، فإن عملا فلكل رأس ماله ويقتسمان الربح لكل عشرة دنانير دينار ولكل عشرة دراهم درهم وكذلك الوضيعة. قاله في المدونة. انتهى. انتهى

ص: 15

قوله: "لا بذهب وبورق" قال البناني: أي لاجتماع الشركة والصرف، ابن عبد السلام: واحتجاجه في المدونة بأنه صرف وشركة غير بين؛ لأن العقود المنضمة إلى الشركة إنما تمنع من صحتها إن كانت العقود خارجة عن الشركة نص على هذا في المدونة ابن عرفة، قوله: إن كانت العقود خارجة عن الشركة ظاهره أن غير الخارجة غير مانعة صرفا كانت أو غيره، وليس كذلك إنما قاله فيما ليس صرفا لأجل ضيق الصرف وشدته، وإنما الذي ألغى مانعية الصرف في الشركة سحنون حسبما ذكره ابن يونس. اهـ. وقيل علة المنع أن يدَ كُلّ واحد جائلة في متاعه فماله باق تحت يده فهو صرف بتأخير، وقد يقال إن فيما أجازوه من الشركة بذهبين بدلا بتأخير لأن يد كل واحد منهما جائلة وفيه اجتماع الشركة والبدل، وهو يؤدي إلى البدل بتأخير، قال في المقدمات: أجمع أهل العلم على إجازة الشركة بالدنانير من كلا الشريكين أو الدراهم من كليهما جميعا، ولم يعتبروا عدم المناجزة بينهما في ذلك لبقاء يد كل واحد منهما على ما باع بسبب الشركة وهو اجتماع على غير قياس، وكأنهم رخصوا في النقود لأنها أصول الأثمان والناس محتاجون إلى المعين في أمورهم، وأما الطعام فليس كذلك فليس في الشركة فيه ضرورة. اهـ.

وقول عبد الباقي: فإن عملا فلكل رأس ماله ويقتسمان الربح لخ، قال الرهوني: ظاهره ولو عرف كل ما اشتراه بماله وهو ظاهر قول ابن القاسم في الأمهات، وقال غيره فيها: لكل واحد السلعة التي اشتريت بماله إن عرفت ولا شركة له في سلعة الآخر، قال ابن ناجي: قوله: وقال غيره لكل واحد السلعة التي اشتريت بماله، حمله أبو محمد صالح في مختصره والبرادعي وابن يونس وابن رشد على الخلاف، وحمله أبو عمران على الوفاق قائلا: لأنه عرف كل واحد منهما سلعته لم تنعقد فيها شركة، وكذلك قال اللخمي: هو وفاق، ويحمل قول ابن القاسم على أنهما اشتريا بالمال جملة واختلط عليهما. اهـ.

وقوله: لكل دينار عشرة دنانير لخ، معناه إذا ناب عشرة دنانير دينار ناب عشرة دراهم درهم، ونحوه لابن القاسم في أول مسألة من رسم نقدها، وزاد فيه ما نصه: وإذا كان للدينار نصف دينار كان للدرهم نصف درهم، وإن كان للدينار ثلث دينار فللدرهم ثلث درهم، وإن كان ربع فربع على هذا يقتسمان الربح، قلت: أفيصرفان الربح دراهم يقتسمانه على هذا المال؟ فقال: إن شاءا صرفاه

ص: 16

وإن شاءا لم يصرفاه

(1)

إذا اقتسماه على هذه القسمة، ويأخذ كل واحد رأس ماله مثل الذي أخرج يأخذ صاحب الدنانير رأس ماله دنانير، ويأخذ صاحب الدراهم رأس ماله دراهم ويقتسمان الربح على ما فسرنا لك وكذلك بلغني عن مالك.

قال القاضي رضي الله عنه: هذا ليس على ظاهره وذلك أنه قال ما وقع للدنانير من شيء من الدنانير وقع مثله من الدراهم، ومراده أنه ما وقع من الربح للدنانير من الدنانير وقع للدراهم مثل ذلك الجزء من الدراهم لا مثل ذلك العدة على ما يقتضيه لفظه، إذ لا يصح إذا وقع للدنانير ربح دينار أن لا يقع للدراهم إلا ربح درهم، وإذا وقع للدنانير ربح عشرة دنانير لا يقع للدراهم إلا ربح عشرة دراهم، فيكون صاحب الدراهم لا يربح من عدد الدراهم إلا ما ربح صاحب الدنانير هذا ما لا يصح أن يكون. ابن القاسم: يريده أو يقوله، وإنما عبر عن تساوي الجزءين بتساوي العددين، وذلك إذا اعتبرته بما يخرج الحساب إلى أن يقتسما جميع ما بأيديهما على ما كان به من ربح أو خسارة على قيمة الدنانير والدراهم يوم الفسخ، فهذا أقرب مأخذ في العمل، وقيل إنهما يقتسمان ذلك على قيمة الدنانير والدراهم يوم اشتركا وهو قول غير ابن القاسم في المدونة. اهـ.

ونقل ابن عرفة بعضه مختصرا وسلمه، وما لابن رشد من حمل قول الغير على الخلاف سبقه إليه أبو اسحاق التونسي؛ لأنه اختار قول الغير، ورد قول ابن القاسم: المعتبر قيمتها يوم الفسخ، فإنه يؤدي إلى ضرر بأحدهما، وذلك أنه إذا كانت قيمتها متساوية يوم الشراء فالسلعة المشتراة بينهما نصفين، فإذا بيعت كان ثمنها بينهما نصفين، فإن تغيرت قيمة الدنانير فكانت تساوي يوم الفسخ الثلثين مثلا والدراهم الثلث وقلنا إن الربح والوضيعة على قدر هذه القيمة يوم الفسخ كان في ذلك ضرر بَيّن على صاحب الدراهم في الربح، وفي العكس يكون الضرر على رب الدنانير، وسلمه ابن يونس، وحمل اللخمي قول الغير على الوفاق، وعليه فلا خلاف أن القيمة معتبرة يوم الشراء، ورد ابن عرفة اعتراض أبي إسحاق على قول ابن القاسم بما لا يليق به أي بابن عرفة التكلم به، فانظره في الرهوني.

(1)

في الأصل: لم يصرفاه إذا اقتسما إذا اقتسماه، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 42.

ص: 17

وبطعامين يعني أن الشركة لا تجوز ولا تصح بطعامين بأن يخرج هذا طعاما ويخرج الآخر طعاما، سواء كانا متفقين في الصفة أم لا، ولهذا قال: ولو متفقا قال الشارح: أي وكذلك لا تجوز الشركة بالطعامين ولو اتفقا أي في الصفة، وهكذا قال مالك في المدونة، ففيها: ولا تجوز الشركة عند مالك بشيء من الطعام والشراب كان مما يكال أو يوزن أو من صنف واحد أو من صنفين، وأجازها ابن القاسم بالطعام المتفق في الصفة من نوع واحد على الكيل. ابن القاسم: ورجع مالك عن إجازتها بالطعامين وإن تكافئا ولم يجزه لنا منذ لقيناه ولا أعلم لكراهيته وجها، بعض الأشياخ: قاس ابن القاسم ذلك على النقدين المتفقين والجامع حصول المناجزة حكما لا حسا، فكما اغتفر ذلك في الذهبين أو الفضتين فكذلك يغتفر في الطعامين، وللأصحاب في الفرق على قول مالك أوجه أولها أن إجازة الطعام في ذلك يؤدي إلى بيعه قبل قبضه؛ لأن كل واحد على ما باع فإذا باع يكون كل منهما بائعا للطعام قبل استيفائه. ذكره عبد الحق، وحكاه ابن يونس عن بعض الأشياخ إلى آخر الأوجه، ويأتي بيان أن فيه بيع الطعام قبل قبضه.

قوله: "وبطعامين" مفهومه أنها بطعام وبغيره جائزة وهو كذلك، واختلف أيضا في الشركة بالطعامين المختلفين فالمشهور وهو مذهب المدونة منعه، ونظم ابن غازي في الفرق بين الطعامين والنقدين على مذهب الإمام مالك ما نصه:

شارك بجنس العين والطعام

والثاني للعتقي لا الإمام

للنقل والخلط والارش والغرض

وعِلَلٍ وإنَّ كلا ما قبض

قوله: للنقل أي إنما جاز الشركة في النقدين، وامتنعت في الطعام لأنه نقل الإجماع على جوازها في النقدين وهو إجماع على غير قياس فلا يقاس على ذلك الطعام، والمراد بالأرش القيمة التي تفتقر الشركة إلى الاستواء فيها. اهـ.

وأشار بهذا واللَّه تعالى أعلم إلى ما علل به إسماعيل من أن الشركة تفتقر إلى الاستواء في القيمة والبيع يفتقر إلى الاستواء في الكيل، فافتقرت الشركة بالطعامين من صنف واحد إلى استواء القيمة

ص: 18

والكيل وذلك لا يكاد يوجد. اهـ. بمعناه. ومثله في المقدمات، وقوله: والخلط إشارة إلى ما لابن المواز فإنه علل المنع في الطعام بأنه من جهة خلط الطعام الجيد بالردي، وقوله: والغرض إشارة إلى علة ذكرها. أبو الحسن: وهي اختلاف الأغراض في الطعام مطلقا لفسخ بيعه باستحقاقه وعدم اختلافها في العين لعدم الفسخ به فيُصَيِّر متماثلي الطعام كمختلفيه، بخلاف متماثلي المعين، وقوله: وعلل التنكير فيه للتكثير، وقوله: وإن كلا ما قبض إشارة إلى الفرق بين النقدين والطعامين بأن في الشركة في الطعامين بيع الطعام قبل قبضه وهو لعبد الحق، واعترض بأنه أجاز في المدونة الشركة بالنقد والطعام، فلو كان لما ذكر من العلة لمنع لأن فيه بيع الطعام قبل قبضه وأصله لأبي الحسن وذكره في التوضيح. اهـ. انظر البناني.

والتعليل بأن في الطعام خلط الجيد بالردي فيه نظر ظاهر؛ إذ الموضوع هو اتفاق الطعامين: قوله: والثاني بإسقاط الياء والعتقي بسكون التاء للوزن، والعتقي بضم العين وفتح التاء نسبة إلى العتقاء، قال في القاموس: والعتقيون نسبة إلى العتقاء: عبد اللَّه بن بشر الصحابي. والحارث بن سعيد المحدث، وعبد الرحمن بن الفضيل قاضي تومر، وعبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك وله مسجد العتقاء بمصر، وفي الحديث (الطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة)

(1)

، والعتقاء جمَّاع فيهم من حجر حمير ومن سعد العشيرة ومن كنانة مضر وغيرهم. انتهى.

وقال عبد الباقي: ولا تجوز بطعامين اختلفا نوعا وصفة وقدرا، بل ولو اتفقا فيما ذكر للزوم بيع الطعام قبل قبضه كما في ابن الحاجب؛ أي لأن كل واحد باع نصف طعامه بنصف طعام صاحبه ولم يحصل قبض لبقاء يد كل واحد على ما باع، فإذا باعا يكون كل منهما بائعا له قبل قبضه. قاله عبد الحق. وقوله: فإذا باعا أي لأجنبي وهذا من تمام التعليل حتى يلزم عليه توالي عقدتي بيع لم يتخللهما قبض، وهذا التعليل يجري فيما إذا حصل خلط الطعامين أيضا لأنه يستمر طعام كل في ضمان بائعه حتى يقبضه مشتريه بمعياره الشرعي. قاله التتائي. اهـ.

(1)

مجمع الزوائد، ج 10 ص 19.

ص: 19

وقال الخرشي: وهذا التعليل يجري فيما إذا حصل خلط الطعامين أيضا؛ لأنه يستمر طعام كل واحد منهما في ضمان بائعه حتى يقبضه مشتريه وقبضه بكيله وتفريغه في وعاء المشتري أو ما يقوم مقامهما وهو منتف هنا. اهـ.

قال عبد الباقي: ولما كانت الشركة بين الشريكين على ستة أقسام: مفاوضة وعنان وجبر وعمل وذمم ومضاربة وهي القراض، ذكرها مرتبة هكذا وأفرد للأخير بابا سيأتي، فقال: ثم بعد أن علمت حقيقة الشركة وصحتها إن أطلقا التصرف أي أذن كل واحد منهما للآخر أن يتصرف في ماله تصرفا مطلقا أي لم يقيد بغيبة ولا حضور بالبيع والشراء والكراء والاكتراء وغير ذلك حيث كان التصرف المذكور غير خاص بنوع، بل وإن كان مخصوصا بنوع كالبز مثلا فهذه الشركة مفاوضة بفتح الواو، وسميت مفاوضة لتفويض كل منهما في المال لصاحبه وإيضاح كلامه أن تقول إن الشريكين إذا أذن كل منهما لصاحبه في التصرف بالبيع والشراء والكراء والاكتراء وغير ذلك وأطلقا في ذلك التصرف فتلك شركة المفاوضة، سواء حصل ذلك الإذن في نوع أو لم يقيداه بنوع، لكن إن خصاه بنوع فهي مفاوضة في ذلك النوع كالبز، فليس لأحدهما أن يشتري غير البز وإن لم يخصاه بنوع فهي مفاوضة عامة، فقوله "بنوع" هو المأخوذ عوضا عما في يد الشريك كما مر في الحجر عند الكلام على العبد المأذون، ويأتي مفهوم قوله:"إن أطلقا التصرف" قال عبد الباقي: ومراد المص بقوله: "فمفاوضة" في كل شيء عند الإطلاق وفي جميع أفراد نوع فقط عند شركتهما فيه، كما أشار له بقوله:"وإن بنوع كرقيق فمفاوضة" في جميع أفراد ذلك النوع، وهذا بخلاف ما إذا أذن سيد لعبده في تجر بنوع فإنه يكون كوكيل مفوض في ذلك النوع وفي غيره كما مر، والفرق أن الناس لا يعلمون إذن سيده له في نوع، فلو بطل فيما عداه لمذهب مال الناس باطلا بخلاف الشريك المفوض في نوع فإنه ليس فيه ذلك. اهـ.

وقال الخرشي: فهي مفاوضة عامة فيما قبل المبالغة وخاصة في ذلك النوع فيما بعدها أي تسمى بذلك كما في المدونة، خلافا لمن سعى المخصوصة بنوع عنانا. اهـ. وقال المواق: قال ابن القاسم: والمفاوضة على وجهين: إما في جميع الأشياء، وإما في نوع من التجارة يتفاوضان فيه كشراء الرقيق أو غيره يتفاوضان فيه. اهـ. وقوله:"فمفاوضة" أعلم أن شركة المفاوضة هي التي يتصرف أحدهما

ص: 20

فيما تجرا فيه من دون إذن صاحبه، واعلم أنهما إذا قالا اشتركنا ولم يشترطا نفي الاستبداد فهي مفاوضة.

ولا يفسدها انفراد أحدهما بشيء يعني أن الشركة أي شركة المفاوضة لا يفسدها انفراد أحد الشريكين بمال يتصرف فيه لنفسه خاصة من دون إذن صاحبه. والحاصل أنهما إذا اشتركا في جميع ما بأيديهما كانت شركة مفاوضة إن لم يشترطا نفي الاستبداد، فإن كانت المشركة في شيء خاص فعند مالك لا يكونان متفاوضين فيه وعند سحنون يكونان متفاوضين فيه هذا في العتبية، قال ابن رشد: المعنى عندي في هذه المسألة أن مالكا لم ير الرجلين إذا اشتركا في مال مسمى متفاوضين فيما اشتركا فيه إلا أن يشتركا فيه على المفاوضة بخلاف ما إذا اشتركا في جميع أموالهما، قوله: ولا يفسدها انفراد أحدهما بشيء، قال الشارح قيل وهو متفق عليه عندنا. اهـ. وقال الحطاب: قال في التوضيح: ولا يفسدها عندنا وجود مال لأحدهما على حدته خلافا لأبي حنيفة. اهـ. وقوله: "ولا يفسدها انفراد أحدهما بشيء" يعني سواء كان المنفرد به واحدا منهما أو كان كل منهما منفردا به. خلافا لما ادعاه البساطي من أن معناه انفراد كل واحد منهما به وأن النقل كذلك.

قال الحطاب: ظاهره يعني كلام البساطي أنه لابد من انفراد كل واحد بشيء وأن النقل كذلك وهو خلاف ظاهر المدونة أو نصّها، قال فيها: ويكونان متفاوضين ولأحدهما عين أو عرض دون صاحبه ولا يفسد ذلك المفاوضة بينهما انتهى وقال عبد الباقي: ولا يفسدها أي شركة المفاوضة انفراد أحدهما بشيء من المال غير مال الشركة، يعمل فيه لنفسه خاصة إذا استويا في عمل الشركة خلافا لأبي حنيفة في ذلك وللشافعي مطلقا.

وله أن يتبرع إن استألف به يعني أن أحد الشريكين له أن يتبرع بشيء من مال الشركة بشرط أن يكون استيلافا للتجارة ليشتري منه في المستقبل، كان ما تبرع به قليلا أو كثيرا، قال عبد الباقي: وله أي لأحد شريكي المفاوضة وكذا العنان أن يتبرع ولو بكثير بالنسبة لمال الشركة إن استألف. اهـ. قوله: "وكذا العنان" قال الرهوني: في إدخاله شركة العنان نظر لأنه إذا كان أحدهما لا يبيع إلا بإذن شريكه فأحرى أن لا يتبرع. قاله شيخنا الجنوي. وهو ظاهر ودخل في كلام المص تأخيره بالدين ووضعه منه بقيده وقد صرح بذلك في المدونة، ونقل الحطاب هنا كلامها. اهـ.

ص: 21

قوله: بقيده يعني قوله إن استأنف أو خف. واللَّه تعالى أعلم. يعني أن أحد شريكي المفاوضة له أن يتبرع بالشيء الخفيف، ومثل لذلك بقوله: كإعارة آلة كماعون ودفع كسرة وإعارة غلام لسقي دابة وشربة ماء ونحو ذلك، قال الشارح: أي ولأحدهما أن يتبرع من مال الشركة بشرط أن يكون ذلك استيلافا للتجارة لأنه يعود بنفع على المال، قال في المدونة: وإن أخر أحدهما غريمه بدين ووضع له نظرا واستيلافا ليشتري منه في المستقبل جاز ذلك، وقيل لا يجوز لأنه من باب التسلف بزيادة. اللخمي: وهو أحسن. اهـ. والأول الذي مر عليه المص هو المشهور. انظر الرهوني. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: وليس لأحد المتفاوضين أن يعير من مال الشركة إلا أن يوسع له صاحبه في ذلك أو يكون شيئا خفيفا، كإعارة غلام لبيع دابة ونحوه فأرجو أن لا يكون به بأس، والعارية من المعروف الذي لا يجوز لأحد أن يفعله في مال الشركة إلا بإذن صاحبه إلا أن يكون أراد به استيلاف التجارة فلا يضمن، وإن باع أحدهما جارية ثم وهب ثمنها لم يجز ذلك إلا في حصته، ولا يلزم أحدهما كفالة الآخر لأنها معروف، وما جنى أحدهما أو غصب أو استهلك أو تصدق أو آجر فيه نفسه فلا يلزم شريكه منه شيء. اهـ.

وقال الشارح: ومما يجوز له ما جرت العادة به لخفته، كإعارة الماعون وإعطاء كسرة لفقير أو شربة ماء ونحو ذلك. اهـ. قول المواق عن المدونة: لم يجز ذلك إلا في حصته، قال الرهوني: قال اللخمي بعد أن ذكر أن الوضع لغير الاستيلاف لا يجوز قال ما نصه: ثم ينظر هل يمضي نصيب الذي وضع؛ انتهى. وكأنه لم يقف على ما لابن وضاح، وقد قال ابن عرفة بعد ذكره كلام المدونة ما نصه: عياض: لا يجوز ما صنعه أحدهما من المعروف في مال الشركة، زاد في بعض الروايات: ويجوز عليه قدر حصته، وضرب عليه في كتاب ابن وضاح، وقال: طرحه سحنون، قلت: لاحتمال خوف نقص في المال يعجز به حظه في باقيه عن قدر تبرعه ولا مال له. انتهى.

ويبضع يعني أنه يجوز لأحد شريكي المفاوضة أن يبضع من مال الشركة أي يدفع مالا من مال الشركة ليشترى به، ويقارض يعني أنه يجوز لأحد شريكي المفاوضة أن يقارض أي يدفع مالا قراضا من مال الشركة لشخص يعمل فيه بجزء من ربحه، وقوله:"ويبضع" أي سواء كان ذلك بأجر أو بغيره، قال عبد الباقي: ولأحد التفاوضين أن يبضع ويقارض إن اتسع المال بحيث يحتاج

ص: 22

إلى ذلك وإلا امتنع بغير إذن شريكه، وله أن يدفع بغير إذنه ما بار معه لمن يبيعه ببلد بلغه نفاق بها ولم يجد إلى السفر به سبيلا. اللخمي: فإن بلغ المبضع موت أحدهما قبل شرائه لم يشتر لصيرورة المال للورثة. اهـ. قوله: إن اتسع المال لخ، قال الرهوني: أصله للخمي وهو خلاف ظاهر المدونة، ولكن قال الحطاب بعد ذكره كلام اللخمي ما نصه: ونقله أبو الحسن: وظاهره أنه وفاق للمدونة. اهـ. منه بلفظه. قلت: وصنيع ابن ناجي يقتضي أنه تفسير للمدونة وهو ظاهر.

‌تنبيه:

بعد أن ذكر الحطاب أنه لا يجوز لأحد الشريكين أن يستأجر من يعمل موضعه، قال ما نصه: وإذا جاز فهل يجوز له أن يرجع الأجرة إلى شريكه على أنه يتولى العمل جميعه؟ تأمل ذلك. واللَّه تعالى أعلم. وانظر توقفه في ذلك مع ما في المواق عند قوله وهل يلغى اليومان كالصحيحة إلى آخره، ونصه، قال في الاستغناء: إن اشركا شركة صحيحة على أن يعملا جميعا ثم استأجر أحدهما صاحبه ليتجر بنصيبه جاز إذا كان بمعنى أن يقتسما متى أحبا، وأما إن عقدا الشركة والإجارة معا فلا يجوز. اهـ منه بلفظه. وهو نص ما وقف فيه الحطاب. واللَّه الموفق.

ويودع لعذر يعني أن أحد شريكي المفاوضة له أن يودع شيئا من مال الشركة من دون إذن شريكه لأجل عذر، قال عبد الباقي: وله أن يودع مال الشركة حالة كون الإيداع لعذر غير خوف على مالها وإلا وجب الإيداع، وإلا بأن أودع لغير عذر ضمن وينبغي أن يصدق في دعوى العذر لأنه شريك، وما يأتي في المودع أنه لا يصدق لأنه لا شركة له. اهـ. قوله: وينبغي أن يصدق في دعوى العذر لأنه شريك لخ، قال الرهوني: كان شيخنا الجنوي يقول: الظاهر أنه لا فرق بينهما، قلت: وهذا هو المتعين، وقد قال أبو الحسن عقب كلام المدونة ما نصه: وقال في كتاب الوديعة: لا يصدق أنه أراد سفرا أو خاف عورة منزله إلا أن يعلم ذلك. اهـ منه بلفظه. فظاهره أنه لا فرق بين الموضعين، وكلام ابن ناجي كالصريح في ذلك، ونصه: وظاهرها أنه محمول على عدم العذر حتى يثبت وهو نص قولها في الوديعة: لا يصدق أنه أراد سفرا أو خاف عورة منزله حتى يعلم ذلك. اهـ منه بلفظه. اهـ كلام الرهوني.

ويشارك في معين يعني أنه يجوز لأحد شريكي المفاوضة أن يشارك ثالثا في سلعة بعينها من دون إذن شريكه، قال البناني: ظاهره مفاوضة في ذلك البعض المعين أو غير مفاوضة وهو كذلك، قال

ص: 23

مصطفى: ولفظ المدونة: ولا يجوز لأحدهما أن يفاوض شريكا إلا بإذن شريكه، وأما إن شاركه في سلعة بعينها غير شركة مفاوضة فجائز لأنها تجارة من التجارات. اهـ. ففهم منه التتائي تبعا للبساطي منع المفاوضة مطلقا ولو في البعض المعين، وقيد المص بذلك واعترضه مصطفى بأنه ليس معناها غير شركة مفاوضة في تلك السلعة بعينها وإن كان هو المتبادر منها، بل مرادها من غير أن يشاركه شركة مفاوضة حتى يكون ثالثا لهما، واستدل لذلك بكلام اللخمي وابن يونس، وفيه نظر لاحتمال كلام كل منهما للوجهين فتأمله. اهـ. وقال المواق من المدونة: لأحد المتفاوضين أن يبضع ويقارض دون إذن شريكه، ولا يجوز لأحدهما أن يفاوض شريكا إلا بإذن شريكه، وأما إن شاركه في سلعة بعينها غير شركة مفاوضة فجائز، وأما إيداعه فإن كان لوجه عذر كنزوله ببلد فيرى أن يودع إذ منزله الفنادق وما لا أمن فيه فذلك له، وأما ما أودع لغير عذر فإنه يضمنه. اهـ.

‌تَفْرِيعٌ

على قوله: "ويبضع"، قال في المدونة: وإن أبضع أحدهما مع رجل دنانير من الشركة ثم علم الرجل بموت الذي أبضعها أو بموت شريكه، فإن علم أنها من الشركة فلا يشتري بها شيئا وليردها على الباقي، وإن بلغه افتراقهما فله أن يشتري لأن ذلك لهما بعد، وفي الموت يقع بعضه للورثة وهم لم يأمروه. اهـ. قال أبو الحسن: ولا يشتري بنصيب الباقي لأن نصيبه مشاع في جميع المال، وليس للمبضع معه أن يقسم ذلك. اهـ. وقال اللخمي: وإن علم في الموت أن المال من غير المفاوضة لم يكن له أن يشتري إن مات المبضع، وإن مات من لم يبضع كان له أن يشتري، وإن لم يعلم ذلك المال من المفاوضة أو مما يخصه لم يشر

(1)

لأن أمره موقوف على الكشف بعد الوصول فقد يكون من مال المفاوضة. قاله الحطاب.

ويقيل هو كغيره بالنصب عطف على يتبرع؛ يعني أنه يجوز لأحد الشريكين أن يقيل من سلعة من مال الشركة باعها هو أو شريكه ويلزم الآخر تلك الإقالة، قال المواق من المدونة: وإقالة أحدهما فيما باعه شريكه لازمة كبيعه ما لم تكن فيه محاباة، فيكون كالمعروف لا يلزم منه إلا ما جربه إلى التجارة نفعا وإلا لزمه قدر حصته منه وإقالته لخوف عدم الغريم ونحوه من النظر. اهـ.

(1)

في الحطاب ج 5 ص 511 ط دار الرضوان: يشتر.

ص: 24

ويولي يعني أنه يجوز لأحد شريكي المفاوضة أن يولي غيره سلعة اشتراها هو أو شريكه من مال الشركة بغير إذن شريكه، ويلزم ذلك شريكه، قال المواق: وتوليته يعني أحد الشريكين لازمة كبيعه ما لم تكن فيه محاباة إلى آخر ما مر قريبا، وقال عبد الباقي: ويقيل من سلعة باعها هو أو شريكه، ويولي سلعة اشتراها هو أو شريكه لغيره بغير محاباة أو بها وجرت نفعا للتجارة، وإلا لزمه لشريكه قدر حصته منه كما في المدونة.

ويقبل المعيب يعني أنه يجوز لأحد شريكي المفاوضة أن يقبل معيبا أي يرضى بعيبه من دون إذن شريكه، اشتراه هو أو شريكه ويلزم ذلك شريكه إن لم يرض به، ولهذا قال: وإن أبى الآخر أي امتنع من رضي شريكه بالعيب، وقوله:"ويقبل المعيب وإن أبى الآخر"، قال الشارح: هو كقوله في المدونة: وإن اشترى أحدهما عبدا فوجد به عيبا فرضيه هو أو شريكه لزم ذلك الآخر، ثم قال: فإن رده مبتاضه ورضيه شريكه لزمه رضاه؛ لأن مشتريه لو رده ثم اشتراه شريكه وقد علم بالرد بالعيب لزم ذلك شريكه، وقوله:"وإن أبى الآخر" قررته بأنه راجع لقوله: "ويقبل المعيب"، وقال عبد الباقي: ويحتمل رجوع المبالغة لجميع ما سبق. انتهى. وقوله: وله أن يتبرع إلى هنا؛ أي وله أن لَّا. الرهوني: ظاهر المص أن من قبل المعيب يقضى له بذلك ولو سبقه شريكه للرد وأنه لا خيار للبائع، وقال اللخمي: وإذا وجد أحد الشريكين عيبا فقبله أو رده وخالفه الآخر كان الأمر على ما سبق به أحدهما. اهـ المراد منه. وما ذكره من التفصيل خلاف ظاهر كلام المدونة وكلام ابن ناجي عليها. اهـ المراد منه.

ويقر بدين لمن لا يتهم عليه يعني أن أحد المتفاوضين إذا أقر بدين لاحق لمال الشركة فإن إقراره ذلك لازم لشريكه بشرط أن يكون أقر لمن لا يتهم عليه، قال عبد الباقي: ويقر قبل التفرق والموت بدين في مال المفاوضة لمن لا يتهم عليه ويلزم شريكه، فإن أقر بعدهما فيأتي قوله:"وإن أقر واحد بعد تفرق أو موت فهو شاهد في غير نصيبه" ومقر في نصيبه، فإن أقر لمن يتهم عليه كأبويه أو ولده أو جدته أو زوجته أو صديق ملاطف لم يجز ذلك على شريكه، قال أحمد: مفهوم بدين كتعيين وديعة أحروى؛ لأنه إذا كان إقراره بما يعمر به ذمة شريكه معمولا به فأحرى ما لم يكن فيه تعمير ذمته. اهـ. وهذا واضح إذا شهدت بينة بأصل الوديعة، وإلا فهو إقراره بأصلها، وحكمه أنه يكون

ص: 25

شاهدا سواء حصل تفرق أو موت أو فلس، فليس الإقرار بالوديعة أو بتعيينها حيث لم تقم بينة بأصلها، كالإقرار إذ هو في هذين شاهد فلابد من كونه عدلا. انظر ابن يونس. فإن قلت: إنه ليس لهما الشراء بالدين فلا يتصور إقرار أحدهما به، قلت: إن لأحدهما شراء سلعة معينة بالدين بإذن صاحبه. اهـ. فإن قلت: إذا اشتراها بالدين بإذن صاحبه صار صاحبه عالما بالدين، فكيف يقال يقر بدين؟ قلت: يحمل على ما إذا نسي صاحبه الإذن وأقام الآخر بينة على إذنه له بالشراء به فيقر الآن بأن الدين باق على الشركة. اهـ.

قوله: وحكمه أن يكون شاهدا لخ، قال البناني: ابن عرفة: قد سمع يحيى ابن القاسم: إن قدم شريك غائب على شريكه، فقال في شيء مما بيده: هو وديعة فإن لم يعين ربها سقط قوله، وإن عين ربها لم يأخذه حتى يحلف مع إقراره كمن استحق بيمين مع شاهد، فإن نكل أخذ حظ المقر فقط. التونسي: ظاهره اشتراط عدالة المقر لأنه جعله كشاهد. ابن رشد: الصواب عدم اشتراط عدالته، وعليه يحمل السماع لأنه لم يجعله شاهدا إنما قال بمنزلة الشاهد ولم يذكر حلف الشريك والوجه حلفه إن حقق عليه الدعوى أنه أقر بباطل وإن اتهمه فلا يمين عليه. اهـ باختصار. اهـ. وقوله: فلابد من كونه عدلا لخ، قال الرهوني: لم يجزم ابن يونس بذلك، ولكنه نقل كلام أبي إسحاق الذي نقله البناني بواسطة ابن عرفة ولم يزد عليه. اهـ.

‌فرع:

قال الحطاب: ولأحد المتفاوضين أن يقبل الوديعة اختيارا من غير عذر، فإن مات المودع ولم توجد الوديعة كانت في ذمته كان شريكا أو مفاوضا. اهـ. وفي المدونة: وأما إيداعه فإن كان لوجه عذر لنزوله ببلد فيرى أن يودع إذ منزله الفنادق فذلك له، وأما إن ودعه

(1)

لغير عذر ضمنه. اهـ. قال أبو الحسن: قوله فذلك له أي عليه. انتهى المراد منه.

ويبيع بالدين يعني أن أحد المتفاوضين له أن يبيع شيئا من مال الشركة بالدين من دون إذن شريكه ويلزم الشريك ذلك البيع، قال عبد الباقي: ولأحد المتفاوضين كما في المدونة أن يبيع بالدين بغير إذن شريكه. اهـ. وقال الخرشي: وكذلك يجوز له أن يبيع بالدين أي يبيع بثمن معلوم إلى أجل معلوم، لا الشراء به بالرفع عطف على المصدر المؤول به ويبيع باعتبار أن يعني أنه لا يجوز لأحد

(1)

لفظ التهذيب ج 3 ص 566: وأما إن أودع لغير عذر ضمنه.

ص: 26

المتفاوضين أن يشتري شيئا للشركة بالدين بغير إذن شريكه، قال عبد الباقي:"لا الشراء" بالرفع عطف على أن يبيع باعتبار محله به بغير إذن شريكه فإن فعل خير شريكه بين القبول والرد فيكون الثمن على المشتري خاصة، ولا يشتركان فيما اشترى به فإن كان بإذنه في سلعة معينة جاز فإن لم تعين لم يجز لأنها شركة ذمم، ويختص المشتري بما اشترى ولا يشتركان فيه. اهـ.

واعلم أن المص فرق بين البيع بالدين فأجازه وبين الشراء بالدين فمنعه، قال البناني: قال مصطفى: سوى ابن الحاجب وابن شاس بين البيع والشراء في الجواز، وأما المص فاعتمد في تفريقه بينهما تعقب ابن عبد السلام على ابن الحاجب، بقوله: ما قاله في البيع نسيئة هو المشهور، وأما الشراء بالدين فقال مالك في المدونة: أكره أن يخرجا مالا على أن يتجرا به وبالدين مفاوضة، فإن فعلا فما اشتراه به كل واحد منهما بينهما، وإن جاوز رءوس أموالهما فأين هذا من كلام المؤلف؟ غير أن بعض الشيوخ قال إذا كان الشراء على النقد بعد اليوم واليومين والثلاثة جاز وهذا مما لابد منه. اهـ كلام ابن عبد السلام. فتبعه المص في تعقبه، وفي استدلاله بكلام المدونة نظر ظاهر؛ لأن كلامها فيما إذا تعاقدا على الشراء بالدين كما ترى، وكلام المص ليس في ذلك فبينهما ما بين الضب والنون، وإنما كلامها في شركة الذمم، وبذلك فسرها أبو الحسن. وأشار ابن عبد السلام ببعض الشيوخ إلى اللخمي فإنه قال في تبصرته: ولا يشتري بثمن مؤجل، فإن فعل وكان بغير إذن شريكه فالشريك بالخيار بين القبول والرد، فيكون الثمن على المشتري خاصة، ثم قال: ويجوز لأحد الشريكين أن يشتري ما لا يكون ثمنه معه على النقد بعد اليومين والثلاثة، وهذا مما لابد للناس منه. اهـ. فلو استدلا على تعقبهما بكلام اللخمي كما فعل ابن فرحون لأفادا، والظاهر أن كلام اللخمي ليس هو المذهب ولذلك لم يعرج عليه ابن الحاجب وابن شاس، وقد أقر كلامهما ابن عرفة ولم يرج على تعقب ابن عبد السلام بحال. انتهى كلام مصطفى باختصار.

وما ذكره من أن الجواز هو المذهب كما عند ابن شاس وابن الحاجب صواب؛ إذ هو ظاهر المدونة في قولها: وما ابتاع أحد المتفاوضين من بيع صحيح أو فاسد لزم الآخر ويتبع البائع بالثمن أو القيمة في فوت الفاسد أيهما شاء. انتهى. وهو يشمل الشراء بالنقد وبالدين، وقد صرح ابن رشد بالجواز في رسم البيوع والعيوب من سماع أصبغ، ونص السماع قال أصبغ: سمعت ابن القاسم وقد

ص: 27

سئل عن رجلين اشتركا على أخذ متاع بدين يكون لهما وعليهما ولهما مال أو لا مال لهما، قال: إن كانا يشتركان في سلعة بعينها يشتريانها بدين فلا بأس بذلك، كان لهما رأس مال أو لم يكن، وإن كانا إنما يشتركان على ما يشتري كل واحد منهما يقولان ما اشترى كل واحد منا بدين ولا مال لهما فنحن فيه شركاء فلا يعجبني ذلك.

قال أصبغ: فإن وقع نفذ على سنة الشركة وضمناه جميعا وفسخت الشركة بينهما، ابن رشد: هذا كما قال، ومثله في المدونة وهو مما لا اختلاف فيه أنهما إذا اشتركا في سلعة بعينها بدين فذلك جائز وهما شريكان فيها، كان لهما مال أو لم يكن لهما مال، فإن اشترط البائع عليهما أن كل واحد منهما ضامن عن صاحبه بجميع الثمن جاز، وإن لم يشترط لم يلزم كل واحد منهما إلا حصة حقه

(1)

من الثمن، النصف إن كانت شركتهما على النصف، أو الثلث أو الثلثان إن كانت شركتها على أن لأحدهما الثلث والآخر

(2)

الثلثان، أو أقل من ذلك أو أكثر إلا أن يكونا شركاء عقد قد اشتركا شركة صحيحة على مال لهما فيكون كل واحد منهما ضامنا لثمن ما اشتراه صاحبه بدين، اجتمعا في أخذ المتاع بالدين أو افترقا، وأما إن اشتركا ولا مال لهما على أن يشتريا بالدين ويكونان شريكين في ذلك يضمن كل واحد منهما ثمن ما اشتراه فلا يجوز ذلك كما قال لأنها شركة بالذمم ولا تجوز على مذهب مالك وجميع أصحابه الشركة بالذمم؛ لأنها غرر. انتهى.

فقوله: إلا أن يكونا شركاء عقد لخ، نص فيما قاله ابن الحاجب وابن شاس وذكره أيضا ابن رشد في موضع آخر من البيان وعليه درج المتيطى وابن هارون في اختصاره وابن سلمون وذلك كله يدل على ضعف ما للخمي ورد ما لابن عبد السلام والمص وأن الجواز هو المذهب. واللَّه أعلم. انتهى. كلام البناني. الرهوني: الحق الذي لا محيد عنه هو ما قاله مصطفى وتابعوه، فشد يدل عليه. انتهى. وكلام ابن سلمون: ويلزم كل واحد من المتفاوضين ما فعل شريكه من بيع أو ابتياع أو التزام عيب أو رد به أو ما أقر به من دين إن لم يتهم عليه وله أن يشترى بالدين، وفي بيعه به قولان: الجواز في المدونة، والمنع في غيرها. انتهى.

(1)

لفظ البيان ج 12 ص 39: حصة حظه.

(2)

لفظ البيان ج 12 ص 39: وللآخر الثلثان.

ص: 28

قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: اعلم أن المص فرق بين البيع بالدين فأجازه والشراء به فمنعه، وكلامه في الشراء بالدين في السلعة المعينة، والتحقيق جواز الشراء بالدين في السلعة المعينة كما عرفت، وأما إن لم يكن المشترى بالدين معينا كما إذا عقدا الشركة على الشراء بالدين في غير معين فهو خارج عن كلام المص هنا، وهو من شركة الذمم الآتية في كلامه، وتحصل مما مر أنهما إذا اشتركا في سلعة معينة بدين جاز ذلك، كان لهما مال أم لا، اشترط البائع ضمان كل عن صاحبه أم لا، فإن اشترط أن كل واحد منهما ضامن عن صاحبه جميع الثمن فالأمر ظاهر، وإن لم يشترط ذلك لم يلزم كل واحد منهما إلا حصته، نصف إن كانت الشركة على النصف، أو غيره إن كانت على غيره، فإن عقدا الشركة على مال بينهما عقدا صحيحا، ثم بعد ذلك اشترى واحد منهما شيئا بالدين، فإن ذلك الشراء جائز ابتداء، ويكون كل واحد منهما ضامنا لثمن ما اشتراه صاحبه. هذا تحرير المسألة. واللَّه سبحانه أعلم.

ككتابة تشبيه فيما لا يجوز فعله إلا بإذن الآخر يعني أنه ليس لأحد المتفاوضين أن يكاتب عبدا من عبيد المفاوضة من دون إذن شريكه نظرا إلى أنها عتق، وأما بإذنه فيجوز، وعتق على مال يعني أنه لا يجوز لأحد المتفاوضين من دون إذن شريكه أن يعتق عبدا من عبيد المفاوضة على مال يتعجله من العبد ولو أكثر من قيمته؛ لأن له انتزاعه من غير عتق، وأما من أجنبي مثل القيمة أو أكثر فيجوز كبيعه، قال الشارح بعد تقرير المص، وينبغي أن تلزمه الكتابة لجريان شائبة الحرية وعليه قيمة نصف شريكه ويبقى مكاتبا، فإن وفى وإلا رجع له رقيقا، وكذا ينبغي أن ينفذ عتقه إذا كان للشريك مال يفي بقيمة نصفه فيغرم قيمة نصفه بمنزلة عبد بينه وبين غيره.

وإذن بالجر عطف على كتابة، يعني أنه لا يجوز لأحد المتفاوضين أن يأذن لعبد من عبيد المفاوضة في التجارة من دون إذن شريكه، أو مفاوضة يعني أنه لا يجوز لأحد المتفاوضين من دون إذن شريكه أن يشارك ثالثا تجول يده في مال الشركة، قال عبد الباقي: ولو في شيء معين لأن ذلك تمليك منه في مال الشركة بغير إذن الآخر. انتهى. وقد مر أنه إن شارك ثالثا في سلعة بعينها غير شركة مفاوضة فإن ذلك جائز.

ص: 29

واستبدَّ آخذ قراض يعني أن أحد المتفاوضين إذا أخذ قراضا من أجنبي يتجر له فإنه يستبد أي يستقل أي يختص بالربح والخسر، سواء أخذه بإذن شريكه أو أخذه من دون إذن شريكه؛ لأن المفاوضة إنما هي إجارة أي آجر العامل نفسه بجزء من الربح فلا شيء لشريكه في ذلك. قاله في المدونة: قال أحمد: ولا يكون متعديا بأخذ القراض إلا إذا كان يشغله عن العمل في مال الشركة. انتهى. وهو ظاهر حيث أخذه بغير إذن شريكه، وأما بإذنه فليس بمتعد وإن شغله عن عمل الشركة لأنه كأنه تبرع له بالعمل. قاله عبد الباقي. وقال المواق: ابن حبيب: إذا أخذ أحد الشريكين قراضا لنفسه أو آجر نفسه في عمل أو في حراسة أو في وكالة، أو تسلف مالا فاشترى به سلعة فربح فيها أو اشترى لنفسه شيئا بدين فربح فيه، فإن لم يكونا متفاوضين فمجتمع عليه أن له ذلك دون إذن شريكه، وإن كانا متفاوضين فابن القاسم يرى له ذلك أيضا دون شريكه ولا يجعل عليه في ذلك إجارة لشريكه. انتهى.

وقال الشارح قال في المدونة: وإذا أخذ أحدهما قراضا فلا ربح للآخر فيه ولا ضمان عليه فيما تعدى فيه الآخذ؛ لأن المقارضة ليست من التجارة وإنما هو أجير آجر نفسه فلا شيء لشريكه في ذلك، وهذا معنى قوله:"استبد" أي اختص بذلك وحده، وقال أشهب: ما واجر به نفسه وما ربحه في قراض أخذه، فذلك كله داخل في الشركة بينهما كما لو تسلف مالا فعمل به فربح فيه فربحه بينهما. انتهى. وقال البناني: نقل ابن عاشر عن المتيطى أن أحد الشريكين ليس له أن يأخذ قراضا إلا بإذن شريكه. انتهى. وظاهره ولو كان لا يشغله عن العمل في مال الشركة وكأنه لأن أخذ القراض مظنة الشغل، وإذا وقع فإن كان بإذن الشريك لم يكن له رجوع على الآخذ بأجرة ما ضيع من العمل في مال الشركة؛ لأنه بإذنه له يحمل على التبرع بالعمل هذا مذهب ابن القاسم، وقال أصبغ: يحلف ويرجع، وأما إن كان بغير إذنه فلا أظنهم يختلفون في أن له الرجوع. واللَّه أعلم. قاله بعض شيوخنا.

وانظره مع ما في الزرقاني عن أحمد من تقييد المنع بالشغل. انتهى قول البناني. وظاهره ولو كان لا يشغله عن العمل لخ، قال الرهوني: هو ظاهر ما في اختصار المتيطية لابن هارون أيضا، والظاهر تقييده بما إذا كان يشغله وإلا جاز، ففي مسائل الشركة من نوازل ابن رشد ما نصه: وسئل عن

ص: 30

شريكين في تجارة يريد أحدهما أن يصنع لنفسه شغلا غير ما تشاركا فيه، مثل أن يقول له: الوقت الذي لا تعمل فيه شيئا أو تكون حاضرا أعمل أنا شغلي، فإن كنت غائبا أو كثر علينا الشغل صنعنا جميعا في الشركة المذكورة ورضِيَ الآخر بذلك، هل له ذلك أم لا؟ وكيف إن لم يرض هل هو واحد أم لا؟ فأجاب: لكل واحد من الشريكين أن يعمل لنفسه ما شاء في الأوقات التي لا شغل فيها بالتجارة ولا كلام لشريكه في ذلك. وباللَّه التوفيق. انتهى منها بلفظها. ونقله ابن سلمون.

وقول البناني: وقال أصبغ: يحلف ويرجع هو صريح في أن أصبغ موافق لابن القاسم في الاستبداد، وإنما الخلاف بينهما في الأجرة ومثله للخمي، فإنه لما ذكر قول ابن القاسم وأشهب قال ما نصه: وقال أصبغ: الربح له خاصة وللآخر أجرة ما عمل في غيبته إذا حلف أنه لم يعمل على التطوع، وقول ابن القاسم أبين. انتهى محل الحاجة منه بلفظه. ومثله في العتبية، ويأتي لفظه وهو خلاف ما لابن ناجي في شرح المدونة، فإنه قال عند قولها: وإن أخذ أحدهما قراضا فلا ربح للآخر فيه لخ، قال ما نصه: وما ذكر في الكتاب هو المشهور، وقال أشهب: ربح المال بينهما كما لو تسلف مالا فعمل به لكان ربح ذلك بينهما. وقاله أصبغ وابن حبيب. والجواب عن ذلك أن لأصبغ قولين، فكل واحد من هؤلاء اقتصر على قول منهما ولم ينبه على الآخر، وقد نقل عنه ابن يونس القولين، فإنه نقل عن المدونة ما نصه: قال ابن القاسم: وإن أخذ أحدهما قراضا فلا ربح للآخر فيه ولا ضمان عليه في ما تعدى فيه الآخذ؛ لأن المقارضة ليست من التجارة إنما هو أجير آجر نفسه فلا شيء لشريكه في ذلك. انتهى. وزاد متصلا به ما نصه: وكذلك عنه في كتاب محمد. انتهى المراد منه. وقول البناني عن بعض شيوخه: وأما إن كان بغير إذنه فلا أظنهم يختلفون في أن له الرجوع لخ، قال الرهوني: فيه نظر؛ لأنه خلاف ظاهر كلام الأيمة بل كلام ابن رشد يدل على أن محل الخلاف هو عدم الإذن، ففي المسألة الأولى من رسم الوصايا العاشر من سماع أصبغ من كتاب الشركة ما نصه: قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الشريكين المتفاوضين إذا ترك أحدهما عمل الشركة وأخذ مالا يعمل فيه فربح أو آجر نفسه، ألصاحبه من ذلك شيء؟ قال: لا أرى

ص: 31

لصاحبه من ذلك شيئا، وأراه له كله، وإنما هو رجل تعدى فترك العمل في الشركة فليس ذلك بالذي يوجب لصاحبه فيما ربح من ذلك شيئا، قلت: أفترى لهذا التعدي فيما ربح صاحبه الذي كان يعمل على الشركة شيئا؟ قال: نعم أراه على ربحه في الشركة، قال أصبغ: قلت لابن القاسم أترى لهذا العامل في الشركة على الذي يعمل أجرا إذا قاسمه الربح قدر ما ترك من العمل معه الذي كان يصيبه؟ قال: لا، قال أصبغ: لا يعجبني هذا وأرى له ذلك إذا حلف العامل أنه لم يعمل على التطوع له وعنه، وعلى مقاسمته إلا على العمل لنفسه خالصا إذا اشتغل عنه، أو على أن لا يطالبه بعمله وكفايته، فأي الوجهين ادّعاه وحلف عليه رأيت له الأجرة على قدر الكفاية لنصف ما باشر من ذلك خامة، وليس على طول المشهور وعددها ولا السنين والأيام إذا كان العمل والتجارة منقطعا في خلال ذلك إن شاء اللَّه. انتهى.

ثم قال الرهوني: والراجح أنه لا أجر له وأن محل الخلاف إذا لم يأذن له في ترك العمل وإلا فلا أجر له اتفاقا، ثم قال بعد كلام تحصل مما سبق كله أن المنصوص لابن القاسم في المدونة والموازية والعتبية والواضحة أن آخذ القراض والمؤاجر نفسه يستبد بالربح والأجرة ولا يدخل معه شريكه في ذلك، ولم ينقل عنه أحد خلاف ذلك، وأن أشهب قال بعدم الاستبداد، ونقل ابن حبيب عن أصبغ مثله واختاره، وعليه اعتمد ابن ناجي فلم يعز لأصبغ غيره، ولم يعز اللخمي لأصبغ إلا الاستبداد كقول ابن القاسم لكن مع دفعه الأجرة لشريكه وهذا هو المنصوص لأصبغ في العتبية، ولم يعز له ابن رشد غيره، وعزا له ابن يونس القولين، واختلف النقل عن ابن القاسم هل يجب عليه أجرة للعامل؟ فالمنصوص له في العتبية والواضحة والموازية على نقل ابن يونس نفيها، وعليه اقتصر غير واحد، ونقل عنه ابن رشد ثبوتها كقول أصبغ، وعزاه للموازية وبه يعلم أن ما اقتصر عليه المص هو المشهور. انتهى المراد منه.

وقال الرهوني بعد جلب كثير من النقول: علم مما تقدم حكم نازلة كثيرة الوقوع في هذه النواحي وهي الإخوة أو نحوهم يكونون على المفاوضة، فيذهب بعضهم ويؤاجر نفسه في تعليم الصبيان والصلاة وما انضاف إليها، ويبقى غيره على عملهم فيريدون الدخول معه فيما جمعه من ذلك ويريد هو الاختصاص في لك مع دخوله معهم فيما استفادوه من مال الشركة، فدخوله معهم لا

ص: 32

اختلاف فيه وفي دخولهم معه قولان، المشهور نفيه وعليه فهل لهم أجرة قولان أرجحهما نفيها، ويؤخذ منه نازلة أخرى وهي أن بعضهم يذهب لقراءة القرآن أو العلم أو نحو ذلك ويعملون هم في غيبته فله الدخول معهم بلا خلاف، وفي ثبوت الأجرة عليه القولان. واللَّه أعلم انتهى.

ومستعير دابة يعني أن أحد الشريكين إذا استعار دابة بلا إذن من شريكه لغير الشركة كما لو استعارها ليركبها أو ليحمل عليها غير أمتعة الشركة، بل وإن استعارها لأجل أن يحمل عليها أمتعة الشركة مثلا ثم هلكت الدابة المذكورة، فإن المستعير يستبد بالخسر بأن يكون ضمان الدابة مختصا به.

وعلم مما قررت أن المصنف أجمل في الربح والخسر اتكالا على ذهن السامع اللبيب في رد كل شيء لما يليق به، إذ العارية لا يتصور استبداده بالربح فيها ولذا لم يذكرهما في المدونة فيها، واقتصر على الضمان وذكرهما معا في الوديعة والقراض، واستشكل تفسير الخسر بالتلف لأنها إن تلفت بتعديه فلا فرق بين الإذن وعدمه وإن لم يكن بتعديه وتفريطه فلا ضمان عليه لأنها مما لا يغاب عليه، وأجيب بأنه رفع الأمر إلى قاض يرى ضمان العارية مطلقا فحكم بالضمان. المواق: قال ابن القاسم: وان استعار أحدهما بغير إذن الآخر ما حمل عليه لنفسه أو لمال الشركة فهلك فضمانه من المستعير خاصة؛ لأن شريكه يقول له كنت تستأجر ليلا أضمن، قال القابسي: يضمن المستعير وحده الدابة إن قضى بذلك قاض ممن يرى ذلك وكان القاضي بمصر يومئذ ممن يرى ذلك.

‌تنبيه:

قال البناني: ثم إن فرض المسألة في عارية الدابة تبع فيه المص لفظ التهذيب، واعترض عليه بأنه ليس في الأمهات لفظ الدابة وإنما الذي فيها وإن استعار ما حمل عليه بغير إذن شريكه فهلك فضمانه من المستعير، وعلى هذا اللفظ وقعت التأويلات انظر المواق وغيره. انتهى. وهنا تأويلات ثلاثة: أحدها لأبي محمد قال يريد بالضمان أن يتبين كذبه في الحيوان، ثانيها للقابسي قال: يضمن المستعير وحده الدابة إن قضى بذلك قاض ممن يرى ذلك، وكان القاضي بمصر يومئذ ممن يرى ذلك، ثالثها: لحمديس أن هذا يحمل على ما يغاب عليه مما فوق الدابة كالبردعة والإكاف وشبههما، قال عبد الباقي: ويرد تأويل حمديس أنه ذكر بعد نص المدونة أن الدابة هلكت. انتهى.

ص: 33

قال الرهوني: في كلام عبد الباقي نظر لأن التصريح بالدابة إنما هو في اختصار أبي سعيد، وتأويل حمديس إنما هو على كلام الأمهات، ونصها: وإن استعار ما حمل عليه بغير إذن شريكه فهلك فضمانه من المستعير. انتهى. ومفهوم قوله: بلا إذن أنه إذا استعارها بإذن شريكه للشركة فالخسر بينهما، وأما إذا استعارها لغير الشركة فإنه يستبد بالخسر أذن شريكه أم لا. الحطاب: قال فيها: وإن استعارها أحدهما لحمل طعام من الشركة فحمله شريكه الآخر عليها بغير أمر شريكه لم يضمن إذا فعل بها ما استعيرت له، وشريكه كوكيله واللَّه أعلم. انتهى.

ومتجر بوديعة يعني أن أحد الشريكين إذا تجر بوديعة أودعت عندهما أو عند أحدهما فإنه أي المتجر بها يستبد بالربح والخسر، وعلم مما قررت أن قوله: بالربح والخسر متعلق بقوله: "واستبد" فهو راجع للأولى والثالثة وللوسطى بالنظر إلى الخسر كما مر أنه من صرف الكلام إلى ما يليق به. إلا أن يعلم شريكه بتعديه في الوديعة يعني أن محل استبداد المتجر بالوديعة بالربح والخسر إنما هو حيث لم يعلم شريكه بتعديه في التجر بالوديعة ويرضى به، وأما إن علم بتعديه في التجر بها ورضي به فالربح بينهما والخسر عليهما، ومن المدونة: وإن أودع رجل لأحدهما وديعة فعمل بالوديعة تعديا فربح، فإن علم شريكه بالعداء ورضي بالتجارة بها بينهما فلهما الربح والضمان عليهما، وإن لم يعلم فالربح للمتعدي وعليه الضمان خاصة نقله المواق.

‌تنبيه:

قال عبد الباقي عند قوله: "في الوديعة" ما نصه: التي عندهما أو عند غير المتجر ويرضى بالتجر بها بينهما كما في المدونة فالربح بينهما والخسارة عليهما، ومقتضى المص كما لأحمد أن العلم بالتعدي في غير الوديعة لا يعتبر. انتهى. قوله: التي عندهما أو عند غير المتجر بها لخ، قال البناني: يقتضي أنه إذا اتجر بها من أودعت عنده اختص بالربح والخسر، ولو رضي الآخر بتعديه وهو خلاف ظاهر المدونة ونصها: وإن أودع رجل أحدهما وديعة فعمل في الوديعة تعديا وربح

(1)

بربح، فإن علم شريكه بالعداء ورضي بالتجارة بها بينهما فلهما الربح والضمان عليهما، وإن لم يعلم فالربح للمتعدي وعليه الضمان خاصة. انتهى. فظاهره أن رضا الشريك يتنزل منزلة

(1)

قوله وربح بربح كذا في الأصل والذي في التهذيب ج 3 ص 567 والبناني ج 6 ص 47 تعديا فربح فإن علم. .

ص: 34

عمله معه، وقال غيره: إن رضي الشريك وعمل معه فإنما له أجر مثله فيما أعانه وعليه الضمان، وإن رضي ولم يعمل فلا شيء له ولا ضمان عليه. انتهى.

وكل وكيل يعني أن كل واحد من المتفاوضين وكيل أي كالوكيل عن شريكه الآخر في البيع والشراء والكراء والاكتراء والأخذ والاعطاء والقيام بالعيب والاستحقاق، فلأجل ذلك إذا باع أحد الشريكين سلعة ثم اطلع المشتري على عيب بها قديم فوجد بائعها غاب غيبة بعيدة، فإنه يرد ذلك العيب على شريك حاضر لم يتول البيع، وأما إذا كان البائع حاضرا فكلام المشتري معه لأنه أقعد بحال البيع، وقوله:"وكل وكيل" أي كوكيل لا وكيل حقيقة وإلا لم يشترط الشرط الآتي، وقوله:"كالغائب" الكاف نائب عن مصدر من قوله: "فيرد" يعني أنه إذا غاب الشريك البائع للمعيب وحضر شريكه فإنه يرد عليه المشتري ذلك الشيء المعيب، كرد البيع على بائعه الغائب المتقدم في خيار النقيصة في قوله:"ثم قضى إن أثبت عهدة مورخة وصحة الشراء إن لم يحلف عليهما". قاله غير واحد. ويثبت الفصول التسعة ويحلف على ثلاثة على ما مر كما في الشارح عن المدونة.

وقال الحطاب: وكل وكيل أي وكل واحد من الشريكين وكيل على الآخر، فلذلك، لا شفعة لأحدهما فيما باعه الآخر قاله في كتاب الشفعة من المدونة. وإن ادعى أحدهما بما قيمته ربع دينار فليس له تغليظ اليمين؛ لأن الذي يجب لكل نصف ذلك وإن ادعى عليهما بربع دينار فتغلظ اليمين؛ لأن كل واحد عليه نصف الحق وهو كفيل بالنصف الذي على صاحبه. قاله في كتاب الدعاوي من الذخيرة. واللَّه أعلم. انتهى.

وقوله: إن بعدت غيبته شرط في قوله: "فيرد على حاضر" يعني أن المشتري إنما يرد المعيب على الشريك الحاضر إن بعدت غيبة الشريك الذي تولى البيع، فالضمير في غيبته عائد على الغائب، والمراد به الشريك البائع للمعيب، ففيه شبه استخدام لأن الغائب مدخول الكاف المراد به البائع المتقدم في خيار النقيصة وهو غير الشريك البائع، والمراد ببعد الغيبة بعد المسافة وإن لم تطل إقامته فيما انتقل إليه، وذكر المص هنا هذا الشرط لأنه لم يذكره فيما تقدم في شروط الرد على الغائب فلذا زاده هنا تتميما للفائدة.

ص: 35

واعلم أن الضمير إذا عاد على ما تقدم فتارة يعود عليه من كل وجه وهو الغالب، وتارة يعود عليه باعتبار لفظه لا باعتبار معناه، نحو: عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم أي درهم آخر لا لأول الذي أخبرت أنه عندك ونحو باب الاستخدام، والفرق بينه وبين ما قبله أن اللفظ المتقدم في باب الاستخدام له معنيان أو أكثر، بخلاف ذلك كقوله:

وللغزالة شيء من تلفته

ونورها من ضيا خديه مكتسب

وتارة يعود عليه من أحد وجهيه كقوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} ، فالهاء لا تعود على معمر المذكور لأن المعمر غير الذي نقص من عمره، ولا باعتبار لفظه لأنه لا يصح أن يقال ولا ينقص من عمر معمر آخر؛ لأن الفساد باق ولكن المعمر يدل على انصفة التي هي التعمير وعلى الذات، فالضمير عاد إليه باعتبار ما يفهمه، والمعنى: ولا ينقص من عمر شخص آخر فاحفظه واحتفظ به ينفعك في مواضع كثيرة. انتهى. انظر الرهوني.

وإلا مركب من إن الشرطية ولا النافية وهو راجع لقوله: "إن بعدت غيبته" أي وإن لم تبعد غيبة الشريك البائع بل قربت انتظر ليرد عليه ما باعه؛ لأنه أقعد بأمر البيع إذ لعل له حجة ولا يرد على الحاضر، وأولى إذا كانا حاضرين، والبعيد

(1)

العشرة الأيام أو اليومان مع الخوف والقريبة كاليوم ونحوه، قال التتائي عن أبي الحسن الصغير: وما بين البعيدة والقريبة من الوسائط يرد ما قارب القريبة له وما قارب البعيدة له. انتهى.

وقال علي الأجهوري عن بعض التقارير: الستة الأيام والسبعة لها حكم القريب وما فوق ذلك له حكم البعيد. قاله عبد الباقي. قال: وما تقدم من توجيه كون المعنى كوكيل

(2)

ظاهر، ووجه أيضا بأن الوكيل الحقيقي من لا ملك له فيما وكل عليه، وإنما هو قائم مقام رب السلع وأما ما هنا فشريك في المال، فما تصرف فيه البائع له فيه حصته فهو غير وكيل فيها فكان الأصل أن لا يرد على غير

(1)

في عبد الباقي ج 6 ص 47: والبعيدة.

(2)

ساقطة من الأصل، وقد وردت في عبد الباقي ج 6 ص 47.

ص: 36

متولي البيع؛ لأن الرد عليه يستلزم رد ملك الغير لكن اغتفر ذلك فيمن غاب غيبة بعيدة للضرورة ولأن يدهما كيد واحدة.

والربح والخسر بقدر المالين يعني أن الربح في مال الشركة يكون على قدر رءوس أموال الشركاء، فإذا كان لأحدهما عشرة دنانير وللآخر مثلها كان الربح بينهما نصفين، وإذا كان لأحدهما ستة وللآخر تسعة كان لصاحب الستة خمسا الربح ولصاحب التسعة ثلاثة أخماس الربح، وكذلك الخسر فما خسر يكون بينهما على قدر رأس المال، قال عبد الباقي: والربح والخسر في مال الشركة يفض على الشريكين بقدر المال من تساو وتفاوت إن شرطا ذلك أو سكتا عنه، ومثل الربح والخسر العمل فإنه يكون بقدر المالين.

وتفسد الشركة بشرط التفاوت في واحد من الثلاثة المذكورة؛ يعني الربح والخسر والعمل كان يعقدا الشركة ولكل النصف على أن على أحدهما ثلثي العمل وعلى الآخر ثلثه، أو على أن لأحدهما ثلثي الربح وللآخر ثلثه وهكذا، ومثل ذلك الخسر وإذا شرطا التفاوت فسدت كما عرفت ويتفاسخان إن اطلع على ذلك قبل العمل، فإن لم يطلع عليه إلا بعده فلكل أجر عمله للآخر، فإذا كان لأحدهما الثلث وللآخر الثلثان ودخلا على المناصفة في العمل والربح، فيرجع صاحب الثلثين على صاحب الثلث بسدس الربح، ويرجع صاحب الثلث بأجرة سدس العمل، فالمصنف أطلق الأجر على حقيقته بالنسبة للعمل وعلى مجازه وهو جزء الربح، قال الخرشي: يعني أن الشركة تفسد إذا وقعت بشرط التفاوت في الربح؛ يعني أو في العمل أو الخسر كما لو أخرج أحدهما عشرين مثلا والآخر عشرة وشرطا التساوي في الربح والعمل، فإن وقع ذلك وعثر عليه قبل العمل فإن عقدة الشركة تفسخ، وبعد العمل يقسم الربح على قدر المالين فيرجع صاحب العشرين على صاحب العشرة بفاضل الربح وهو سدسه، وينزعه من صاحب العشرة إن كان قبضه ليكمل له ثلثاه، ويرجع صاحب العشرة بفاضل عمله فيأخذ سدس أجرة المجموع، وكأن المؤلف أطلق أجر العمل على حقيقته ومجازه، فحقيقته الأجر التابع للعمل ومجازه الربح التابع للمال، وسهل هذا قرينة قوله: ولكل لدلالته على الجانبين. انتهى المراد منه.

ص: 37

واعلم أن كون المص أطلق الأجر على حقيقته ومجازه متعين بقرينة قوله: "ولكل" المفيد للجانبين إذ حقيقة الأجر إنما تكون من جانب واحد واللَّه تعالى أعلم. انظر البناني. وقوله: "ولكل" رد به القول بأنه لا أجر لصاحب الثلث في الزيادة، وتفصيل اللخمي قال: إن خسر فلا شيء له وإن ربح فله الأقل من أجرة المثل، وما ينوب ذلك الجزء من الربح. انظر الشارح. ويأتي عن الرهوني ما يفيد أن هذا فيما بعد العقد.

وله التبرع هذا مفهوم قوله: "بشرط التفاوت" يعني أنه يجوز لكل واحد من الشريكين أن يتبرع لصاحبه بشيء من الربح أو العمل بعد العقد، وأما التبرع لأجنبي فقد قدمه بقوله:"ويتبرع إن استألف أو خف". والسلف يعني أنه يجوز لكل واحد من المتفاوضين أن يسلف شريكه الآخر شيئا بعد عقد الشركة، والهبة يعني أنه يجوز لأحد المتفاوضين أن يهب شريكه شيئا بعد عقد الشركة بناء على أن اللاحق للعقود ليس كالواقع فيها، قال الخرشي: وعطف الهبة على التبرع من عطف الخاص على العام، أو يحمل التبرع على أنه في الربح والعمل والهبة في غير ذلك.

ومفهوم قوله: بعد العقد أنه ليس له ذلك قبل العقد، أما في السلف فظاهر وأما في الهبة والتبرع فلأن ذلك كأنه من الربح فيكون قد أخذ أكثر من حقه، وقوله:"وله" الضمير فيه راجع لكل من قوله: "ولكل أجر عمله للآخر"، المواق من المدونة: لو صح عقد المتفاوضين بالمال ثم تطوع الذي له الأقل بعمل في الجميع جاز ولا أجر له، ومن كتاب ابن المواز: قال مالك: إن شاركه وأسلفه نصف المال، فإن كان طلب رفقه وصلته لا لحاجة إليه ولا لقوة بصره فذلك جائز، ثم روى عنه ابن القاسم أنه رجع فكرهه، وبالأول أخذ ابن القاسم، فمقتضاه أن مالكا صدقه مرة ومرة اتهمه، وأما فيما بينه وبين اللَّه فذلك جائز إذا قصد الرفق به. انتهى.

وقال عبد الباقي: وله أي لكل واحد منهما التبرع لشريكه بشيء من الربح أو العمل، فهذا مفهوم قوله:"بشرط" والسلف والهبة لشريكه بعد العقد لا قبله أو فيه للدخول في التبرع والهبة على التفاوت أو التهمة على ذلك، فكأنه مشترط ولجر النفع في السلف، فإن لم يجر نفعا ولم يكن لكبصيرة المشتري جاز في العقد أيضا، وظاهر قول المص ولو بأثره، قال التتائي: بناء على أن اللاحق للعقود ليس كالواقع فيها. انتهى. قوله: فإن لم يجر نفعا ولم يكن لكبصيرة المشتري لخ،

ص: 38

قال البناني: هذا هو الذي في كتاب ابن المواز عن مالك، وبه أخذ ابن القاسم، وروى ابن القاسم عن مالك أنه رجع فكرهه، قال المواق: ومقتضاه أن مالكا صدقه لخ.

وقول عبد الباقي: وله التبرع، قال عبد الباقي: بشيء من الربح والعمل لخ، قال الرهوني: يظهر منه أنه إذا تبرع أحدهما بأن عمل أكثر مما يجب أنه لا أجر له إذا قام يطلبه بعد، وهذا هو ظاهر المدونة، ونقله المواق هنا ومثله لابن يونس عنها، ثم قال الرهوني بعد جلب أنقال: فتحصل أنه إن صرح بأنه متبرع بالعمل فلا رجوع له بلا خلاف، وإلا ففي حمله على ذلك فلا أجرة له أيضا وهو ظاهر المدونة في موضع وصريحها في موضع آخر، وقول مالك وابن القاسم وابن المواز وسلمه ابن يونس وغيره وبه أفتى ابن الفخار، وسلمه صاحب العيار، أو له أجرة مثله وهو قول سحنون، أو له الأقل من أجرة المثل ومما ينوبه من الربح وهو للخمي من عند نفسه، أقوال أرجحها الأول. واللَّه أعلم. انتهى. وقال الحطاب عند قوله:"بعد العقد": ظاهر كلام ابن عرفة وابن غازي أنه لا يجوز بعد العقد، وقد صرح بجواز ذلك بعد العقد في كتاب الشركة من المدونة. انتهى المراد منه.

والقول لمدعي التلف والخسر يعني أنه إذا ادعى أحد الشريكين فيما بيده من مال الشركة أنه وقع فيه التلف أو الخسر، فإن القول يكون لمدعي التلف وهو ما نشأ لا عن تحريك أو لمدعي الخسر وهو ما نشأ عن تحريك، قال عبد الباقي: وإن ادعى أحد الشريكين فيما بيده من بعض مال الشركة تلفه أو خسره كان القول لمدعي التلف وهو ما نشأ لا عن تحريك، والخسر وهو ما نشأ عن تحريك لأنه أمين في مال الشركة، وفي التوضيح عن الجواهر: تقييده بما إذا لم يظهر كذبه، فإن اتهم استحلفه. قاله التتائي في صغيره. أي فإن ظهر كذبه ضمن، وقال المص في الوديعة: وحلف المتهم وكذا القراض، وفرق بين العبارتين لأن المتهم معناه المتصف بهذا الوصف وإن لم يتهمه شريكه، وإن حمل قول الجواهر اتهم على أن معناه كان متهما عند الناس لا اتهمه شريكه فقط ساوت العبارة الأخرى، ومثال اتهامه لقرينة دعواه التلف وهو في رفقة لا يخفى عليهم ذلك ولم يعلم به أحد منهم، وكدعواه الخسارة في سلعة لم يعلم ذلك في نحوها لشهرة سعرها ونحو ذلك فيضمن. انتهى. قوله: ومثال اتهامه لخ، قال البناني: هذا هو ظهور الكذب، ولذا قال: فيضمن: وعبر عنه بالاتهام لقرينة عدم القطع في ذلك، وهكذا عبر عنه ابن عرفة بالتهمة القوية وغير القوية توجب

ص: 39

الحلف. انتهى. وقال الشارح عند قول المص: "والقول لمدعي التلف والخسر" ما نصه: وفي الجواهر القول قوله ما لم يظهر كذبه، فإن اتهم استحلف، وإن قال ابتعت سلعة وهلكت صدق. انتهى. وقال المواق من المدونة: إن ادعى أحد الشريكين أنه ابتاع سلعة وضاعت منه صدق لأنه أمين. ابن عرفة: ما لم تقم عليه تهمة كدعواه التلف وهو في رفقة لا يخفى ذلك فيها. انتهى.

ولأخذ لائق به يعني أن أحد الشريكين إذا اشترى بشيء من مال الشركة ما يليق به من كسوة وطعام، وادعى أنه أخذ ذلك لنفسه وأراد شريكه أن يدخل معه فيه فإن ذلك يكون للمشتري خاصة، ولا يدخل معه فيه الشريك وحسبه أن يأخذ من المال مثل ما أخذ صاحبه، قوله:"ولأخذ" عطف على "لمدعي" بحذف مضاف أي والقول لمدعي أخذ لائق به. قاله الخرشي. وقال مفسرا للمص وكذا يقبل قول أحد الشريكين إذا اشترى شيئا يناسبه من المأكل والشرب والملبس، أي بلا يمين أنه اشتراه لنفسه، وأما إذا اشترى عروضا أو عقارا أو حيوانات وقال اشتريته لنفسي فإنه لا يكون له خاصة بل لصاحبه الدخول معه فيه. انتهى بزيادة وتبديل.

وقال عبد الباقي مفسرا للمص: أي القول بلا يمين لمدعي شراء لائق به وبعماله من طعام ولباس فقط، ولم يصدقه شريكه على ذلك لا شراء عروض أو عقار أو حيوان غير عاقل أو عاقل ولو لإبقائه لاستغنائه عنه بأجير فلا يصدق أنه اشتراه لنفسه فلشريكه المدخول معه في شراء ما ذكر من غير الطعام واللباس اللائق. انتهى. وقال المواق: قال أبو عمر: ما اشتراه أحدهما من طعام لمنزله وكسوة فهو له خاصة، وإن طلب صاحبه نصفه له لم يحكم له به، وحسبه أن يأخذ من المال مثل ما أخذه صاحبه. انتهى.

وقال الشارح مفسرا للمص: أي وكذلك يكون القول لمن ادعى أنه أخذ شيئا لنفسه أي اشتراه لنفسه لا للشركة، سواء كان مأكولا أو ملبوسا إذا كان ذلك مما يشبه أن يكون أكله أو لباسه وهو مراده يقوله: لائق به وهذا إنما هو في الأكل والكسوة، وأما إذا اشترى شيئا من الرقيق أو العروض فإن للشريك الدخول معه في ذلك. قاله ابن القاسم. ابن شأس: وإن قال هذا المال من الشركة وخلص لي بالقسمة فالقول لشريكه لأن الأصل عدم القسمة. انتهى.

ص: 40

ولمدعي النصف يعني أنه إذا مات أحد الشريكين فأرادت الورثة المفاصلة من شريكه، وقالوا لموروثنا الثلثان وقال الشريك بل المال بيني وبين موروثكم على التنصيف فالقول في ذلك قول مدعي النصف، وحملت كلام المص على هذا كما فعل الخرشي ليلا يتكرر مع قوله: وحمل عليه في تنازعهما يعني أنه إذا ادعى أحد الشريكين أن المال بينهما على التنصيف، وادعى الآخر أنه على التفاوت كالثلثين مثلا وكانا حيين فإن القول قول مدعي النصف، ويحملان عليه عند التنازع، قال الخرشي: وعلى حمل الأول على ما إذا مات أحدهما والثاني على ما إذا كانا حيين ينتفي التكرار. انتهى.

وهذا التقدير هو المتبادر من قوله: "تنازعهما" قوله: "ولمدعي النصف وحمل عليه في تنازعهما" ظاهر المص أنه لا يمين على واحد منهما، والذي لأشهب أن المال يقسم بينهما نصفين بعد أيمانهما، والذي لابن القاسم أن لمدعي الثلثين النصف ولمدعي النصف الثلث، ويقسم السدس بينهما نصفين فالمص لم يستكمل قول أشهب لإسقاط اليمين، ولا مشى على قول ابن القاسم انظر المواق، واعلم أن هنا ثلاثة أقوال: الذي مشى عليه المص هنا وهو لأشهب إلا أن أشهب يقول باليمين ولم يذكرها المص، والثاني: قول ابن القاسم: من سُلِّم له شيء أخذه ويقسم التنازع فيه بينهما نصفين وهو الذي مر عليه المص في الصداق حيث قال: "لا إن طلق إحدى زوجتيه وجهلت ودخل بإحداهما ولم تنقض العدة فللمدخول بها الصداق وثلاثة أرباع الميراث ولغيرها ربعه وثلاثة أرباع الصداق"، والثالث: قول غير ابن القاسم وأشهب: يقسم على الدعوى إن لم يكن بيد أحدهما كالعول وقد مشى عليه في الشهادات، ويتضح الفرق بينها بما إذا ادعى أحدهم النصف والآخر الثلثين، فعلى قول غير ابن القاسم وأشهب يضرب مخرج النصف في مخرج الثلثين، وتأخذ من الحاصل نصفه وثلثه فيكون لمدعي النصف ثلاثة أسباع ولمدعي الثلثين أربعة أسباع. قاله عبد الباقي.

يعني أنك تضرب الاثنين مخرج النصف في ثلاثة مخرج الثلثين بستة، فتأخذ نصف الستة وهو ثلاثة وتضمها إلى أربعة هي ثلثا ستة، فالمجموع سبعة: ثلاثة منها لصاحب النصف وأربعة منها لصاحب الثلثين، وعلى قول ابن القاسم: لمدعي النصف الثلث اثنان ونصف سدس وهو نصف

ص: 41

واحد في هذا المثال، ولمدعي الثلثين النصف وهو ثلاثة ونصف سدس وهو واحد، وعلى قول أشهب يقسم المال بينهما نصفين.

وللاشتراك فيما بيد أحدهما يعني أن الشركة إذا انعقدت بين الشريكين على المفاوضة، ثم ادعى أحدهما على الآخر في مال بيده أنه من مال المفاوضة وادعى الذي بيده أنه من ماله الخاص به، فإن القول لمن قال إنه من مال الشركة دون من يدعيه لنفسه، إلا لبينة بكإرثة يعني أن محل كون القول لمدعي الاشتراك إنما هو حيث لم تشهد البينة على أنه من مال الذي هو بيده الخاص به، وأما إن شهدت أنه من ماله الخاص به ككونه ورثه أو وهب له أو تصدق به عليه أو نحو ذلك فإنه يختص به، ولا يكون من مال المفاوضة قوله "وللاشتراك" أي والقول لمدعي الاشتراك.

وإن قالت لا نعلم تقدمه لها الضمير في تقدمه للإرث والضمير في لها لشركة المفاوضة.

قال مقيده عفا اللَّه عنه: وهو مبالغة فيما بعد الاستثناء يعني أنه إذا شهدت البينة على أنه ورثه أو نحو ذلك فإنه يختص به المشهود له، ولا يكون من مال الشركة حيث قالت البينة نعلم تأخره أي الإرث عن الشركة، بل وإن قالت لا نعلم تقدمه أي الإرث لها أي للشركة ولا تأخره عنها، وهاتان صورتان في المنطوق، واحترز بذلك عما إذا قالت البينة نعلم تقدم الإرث عن المفاوضة فإنه لا يختص به، بل يكون من مال الشركة فالصور ثلاث: اثنتان في المنطوق كما عرفت والثالثة في المفهوم، وعلم مما قررت أن هنا حذف عاطف ومعطوف أي وإن قالت لا نعلم تقدمه لها ولا تأخره عنها، وأن ما قبل المبالغة هو حيث قالت نعلم تأخره، وجعل عبد الباقي وغيره الواو في قوله:"وإن قالت لا نعلم" للحال.

إن شهد بالمفاوضة هذا شرط فيما قبل: "إلا" يعني أن محل كون القول لمدعي الاشتراك فيما بيد أحدهما إنما هو حيث شهدت البينة بالمفاوضة أي بأنهما يتصرفان تصرف المتفاوضين، وأولى إن شهدت بصدور الشركة بينهما على وجه المفاوضة، قال عبد الباقي: وحمل على الأول لأنه الذي يأتي فيه قوله: ولو لم يشهد بالإقرار بها يعني أنه إذا شهدت البينة بأنهما يتصرفان تصرف المتفاوضين يكون القول لمدعي الاشتراك فيما بيد صاحبه، سواء شهد مع ذلك أنهما أقرا بالمفاوضة أو لم يشهد بذلك وهذا هو الأصح، كما قال: على الأصح وإليه ذهب ابن سهل وقيل لا يكتفى

ص: 42

بالشهادة بالمفاوضة حتى يقول الشهود: أقرا عندنا بالمفاوضة أو أشهدانا بها، وإليه ذهب ابن القطان. ابن دحون وابن الشقاق: وهذا القول هو مقابل الأصح، وعليه رد المص بلو المقرونة بواو النكاية أي الإغاظة بالمخالفة لصاحب هذا القول.

‌تنبيه:

مر قول عبد الباقي: إن شهد بالمفاوضة أي بتصرفهما تصرف المتفاوضين، وأولى إن شهد بوقوع الشركة بينهما على وجه المفاوضة وحمل على الأول لأنه الذي يأتي فيه قوله:"ولو لم يشهد بالإقرار بها على الأصح"؛ لأن التي يشهد فيها بوقوعها مفاوضة إقرار قطعا فلا تتأتَّى فيه المبالغة. انتهى. قال الرهوني: قوله لأن التي شهد فيها بوقوعها مفاوضة لخ غير صحيح قطعا فتأمله. انتهى. والظاهر أنه لا تعقب على عبد الباقي لأنه إن لم يكن إقرارا فهو كالأمر. قاله مقيده عفا اللَّه عنه.

وقوله: "إن شهد بالمفاوضة" اعلم أن المسائل ثلاث كما قال الرهوني، فإنه قال بعد جلب النقول: فتحصل أن المسائل ثلاث، الأولى أن يشهدا بالمفاوضة فيعم ذلك ما بأيديهما وإن لم يأتيا بما فيه عموم إلا ما قامت بينة بموجب الاختصاص به، الثانية أن يشهدا بأنهما شريكان مع ذكر ما فيه عموم، مثل أن يشهدا بأنهما شريكان فيما بأيديهما وهي كالأولى على ما جزم به أبو اسحاق وقبله ابن يونس ونسبه لسحنون ونقله اللخمي عن كتاب ابن سحنون، وليست محلا لخلاف اللخمي خلافا لابن ناجي، الثالثة أن يشهدا بأنهما شريكان ويطلقان، وجزم اللخمي بأنها لا تعم ولم أر نصا صريحا يخالفه إلا ظاهر ما نقله ابن هارون عن بعض الموثقين وسحنون، وما عزاه ابن عرفة للصقلي والتونسي والظاهر خلافه لما رأيته من كلام ابن يونس واللَّه الموفق انتهى.

‌فرع:

لو قال الشريك المفوض أو غير المفوض جعلت في هذا المال الذي أعمل فيه أنا وأنت مالا من عندي، وأبى شريكه أن يصدقه فإنه لا شيء له من ذلك، والصحيح أن الشريك المنكر يحلف على العلم لا على البت انظر الرهوني.

ولمقيم بينة بأخذ مائة أنها باقية يعني أنه إذا مات أحد الشريكين فأقام الحي منهما بينة بأن مائة من الشركة كانت عند الميت فلم توجد ولا علم مسقطها، فإن القول لمقيم البينة بأن المائة باقية عند الميت فتؤخذ من تركته، وهذا إن أشهد الآخذ الميت بها أي بالمائة عند الأخذ لها على نفسه، أو

ص: 43

أشهد بها شريكه بينة مقصودة للتوثق، وإذا حصل هذا الإشهاد المذكور فإن المائة تؤخذ من تركة الميت قصرت المدة من يوم أخذها إلى يوم موته أو طالت، أو أخذها بغير بينة التوثق لكن قصرت المدة من يوم أخذها إلى يوم موته بأن كانت أقل من عام فلا يسقط الضمان فيهما، فتؤخذ من تركته فإن طالت كعام حمل على أنه ردها، وأما إن كان حيا مقرا فيقبل دعواه الرد ولو قصرت المدة، وهذا الذي قررت به المص من أن كلامه في الميت قرره به غير واحد وكذا في المدونة، وقال البناني: رأيت في كلام ابن الحاجب ذكر التفصيل في الحي المقر أيضا، فإنه بعد ذكره مسألة الميت قال ما نصه: ولو أقر الشريك أن بيده من المال مائة ففرق ابن القاسم بين طول المدة وقصرها، ولو أشهد أنه أخذها لم يبرأ إلا بإشهاد أنه ردها. انتهى.

وعلى هذا فينبغي أن يحمل كلام المص على ما يشعل الميت والحي والمقر. انتهى. وقال عبد الباقي: والقول لمقيم بينة على شريكه الميت كما في المدونة بأخذ مائة مثلا؛ أي بأن الميت أخذها قبل موته أنها باقية معمول لقول القدر بالعطف والمدلول عليه أيضا بلام مقيم، ويصح كسر إن على أنها مقول القول وفتحها على تقدير في قبل أنها، وأما الحي المنكر للأخذ إذا أقيمت عليه بينة به فلا تقبل دعواه الرد لمال الشركة ولو طالت المدة لتكذيبه نفسه بإنكاره الأخذ، بل ولا بينته إن أشهد الآخذ لها على نفسه بالأخذ أو أشهد بها شريكه الدافع، ويعتبر فيها قصد التوثق في الدفع أو قبضها بغير بينة لكن قصرت المدة كدون عام فلا يقبل دعوى الرد فيهما، فإن طالت كعام حمل على أنه ردها. انتهى.

واعلم أن لدعوى أحد المتفاوضين أن شريكه أخذ مائة مثلا من مال المفاوضة ثلاث حالات إحداها: أن يكون المدعى عليه ميتا وهذه قوله: "ولمقيم"، الثانية: أن يكون حيا وينكر وفي هذه لا يقبل دعواه الرد ولو طالت المدة ولا بينة، الثالثة: أن يكون حيا ويقر بالأخذ فتقبل دعواه الرد وإن قصرت المدة لأنه ادعى رد ما لم يضمن حيث قبض بغير إشهاد على الوجه المذكور سابقا وكان يصل للمال وإلا لم يقبل قوله: "ولو طالت كعشر سنين" على ما يفهم من الحطاب، فليس كالوديعة لاشتغال ذمته بخلاف الوديعة. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: يعني أن أحد الشريكين إذا أخذ من مال الشركة مائة وكان صاحبه أشهد بها عند أخذها بينة مقصودة للتوثق ولم توجد عنده بعد

ص: 44

موته وادعى أنها باقية عند شريكه الميت وقالت ورثة الأخذ ردها، فالأصل بقاؤها عند من أخذها، والقول لمن أقام البينة سواء طالت المدة أو قصرت وكذلك الأصل بقاؤها عند من أخذها إن لم يشهد بها عند الأخذ لكن قصرت المدة من يوم أخذها إلى يوم موته بأن نقصت عن سنة، قال بعض: ومضي السنة إنما يبرئه إذا كان يتصرف في المال وإن علم أنه لم يصل إلى المال لم يبرأ ولو طال الزمان، ولا فرق بين بعض المال أو كله. انتهى.

ولما كان قوله: "ولمقيم بينة" شاملا لأن يكون أشهد بها عند الأخذ أو لا احتاج إلى قوله إن أشهد بها عند الأخذ رباعيا ليفيد كون البينة مقصودة للتوثق وهي التي أشهدها خوف دعوى الرد والعدول المنتصبون للشهادة كشهود القاضي محمولون على التوثق حتى يثبت خلافه. واللَّه تعالى أعلم.

كدفع صداق عنه في أنه من المفاوضة يعني أن أحد الشريكين إذا دفع صداقا عن صاحبه وادعى الزوج أنه من ماله الخاص به وادعى الدافع أنه من المفاوضة، فإنه يصدق الشريك في أنه من المفاوضة، فعلى الزوج غرم نصفه إذا كانت الشركة مناصفة.

والحاصل من هذا التقرير أنه إن كان الشريك الدافع هو المدعي أنه من مال المفاوضة والزوج يدعي أنه من ماله الخاص به، فإن القول قول الدافع أو وارثه إلا في موضعين، فيكون القول قول الزوج فيهما أنه من ماله الخاص به أحدهما: ما إذا طال ما بين الدفع ومطالبة الشريك له كسنة فإن القول للزوج حينئذ؛ لأن عدم مطالبة شريكه له في هذه المدة يدل على صدقه كما قال المص: إلا أن يطول ما بين الدفع والمطالبة كسنة، ثانيهما: أن تقوم بينة على أنه من مال الزوج الخاص به كإرثه، وإن قالت لا نعلم لخ، قال عبد الباقي: وأما إن كان المدعي أنه من المفاوضة الزوج وادعى شريكه الدافع أنه من ماله الخاص به فإن الزوج يصدق أيضا كما عرفت، فإن ادعى أنه رده إلى المفاوضة صدق طالت المدة أو قصرت حيث لم يكن أشهد بينة بالأخذ مقصودة للتوثق، وإلا فلا يقبل دعواه الرد قصرت المدة أو طالت. انتهى.

وقصرت المص على أن الزوج يدعي أنه من ماله الخاص به والدافع يدعي أنه من المفاوضة، لقول البناني: الأسهل والأظهر في كلام المص أن يحمل على الوجه الأخير بأن يكون الدافع أو وارثه هو

ص: 45

المدعي، لكون المدفوع من المفاوضة والزوج يدعي أنه من ماله الخاص به، فالقول للدافع أو وارثه إلا في موضعين يكون القول فيهما للزوج، أحدهما: قوله إلا أن يطول كسنة أي فيصدق الزوج في أنه من ماله؛ لأن عدم مطالبة شريكه له في هذه المدة يدل على صدقه، والثاني: قوله إلا لبينة على كإرثه أي شهدت البينة بأن ذلك المدفوع في الصداق كعبد ونحوه ورثه الزوج أو وهب له فيصدق في أنه ماله. انتهى كلام البناني. وإذا شهدت البينة بأنه من مال الدافع الخاص به بأن ورثه أو وهب له أو نحوه رجع بجميع ما دفع على الزوج طالت المدة أو قصرت.

وإن قالت لا نعلم يعني أنه يكون لمن شهدت له البينة به كان الزوج أو غيره حيث قالت البينة نعلم تأخر الإرث عن المفاوضة، بل وإن قالت لا نعلم تقدمه عنها ولا تأخره واحترز بذلك عما إذا قالت نعلم تقدم كالإرث عن المفاوضة فإنه يكون من مال المفاوضة، وفي المواق: سأل شجرة سحنونا عن رجل دفع عن أخيه وهو مفاوضه صداق امرأته ولم يذكر من ماله ولا من مال أخيه ثم مات الدافع، فقال الورثة: هذا من مال ولينا، فأجابه إن كانا متفاوضين وأقاما سنين كثيرة في تفويضهما لا يطلب أخاه بشيء من ذلك فهذا ضعيف، وإن كان بحضرة ذلك فذلك بينهما شطرين ويحاسبه إلا أن يكون للباقي حجة. انتهى. نقله البناني.

وقال: فقول الورثة هذا من مال ولينا إن فهمناه على أنه من مال المفاوضة الذي له فيه نصيب يبقى أن الزوج يدعي أنه من ماله، وإن فهمناه على ظاهره بمعنى أنه من مال الدافع الخاص به احتجنا إلى تكلف تقدير مثل ما فعل في المص على ذلك الحمل وهو خلاف الظاهر، وقوله في النص: وإن كان بحضرة ذلك لخ يدل على أن تعدد السنين في قوله: "وأقاما سنين كثيرة" ليس بمعتبر، فلهذا قال المص: إلا أن يطول كسنة، وقول المص:"إلا لبينة" لخ هو مراد النص في قوله إلا أن يكون للباقي حجة. انظر ابن غازي. انتهى. واللَّه تعالى أعلم.

وقال الرهوني عند قوله: "إلا أن يطول كسنة": الظاهر أنه اعتمد في التحديد بالسنة على كلام المدونة في التي قبلها؛ لأنهما من نمط واحد وهذا أولى من قول ابن غازي: إنه اعتمد على مفهوم قول سحنون: وإن كان بحضرة ذلك فذلك بينهما، ورأى أن ما عارض هذا المفهوم من قوله في

ص: 46

مقابله

(1)

سنين كثيرة غير مقصود. انتهى. لأن فيه ترجيح أحد المفهومين بلا مرجح، مع أن الجزم بأن السنة مفهوم بالحضرة ولفظها لا يدل عليه لا يخفى ما فيه، فلا يتم ما ذكره إلا بضميمة ما قلناه. فتأمله. انتهى.

ولما قدم أن لأحد الشريكين حال الاشتراك الإقرار بدين من لا يتهم عليه من غير احتياج ليمين المقر له، ذكر حكم إقراره بعد انفصال الشركة فقال: وإن أقر واحد بعد تفرق أو موت فهو شاهد في غير نصيبه يعني أنه إذا أقر واحد من الشريكين بدين عليهما بعد تفرق أي انفصالهما عن الشركة أو موت فهو -أي الشريك المقر- شاهد في غير نصيبه حيث كان لمن لا يتهم عليه كعمه وابن عمه وكأخيه وملاطفه إن كان المقر مبرزا في العدالة، فيحلف معه المقر له ويستحق، وأما في نصيبه فهو مقر فيؤاخذ بإقراره بعد تفرق أو موت ولو لمن يتهم عليه. قاله عبد الباقي. ثم قال: وقولي بدين شامل لما إذا كان برهن، ففي المدونة كما في المواق: إن مات أحد المتفاوضين وأقر الحي منهما أنهما رهنا متاعا من الشركة عند فلان، وقال ورثة الميت بل أودعته أنت إياه بعد موت ولينا فللمرتهن أن يحلف مع شاهده الحي ويستحق الجميع رهنا، وإن أبى فله حصة المقر رهنا؛ لأن مالكا قال في أحد الورثة يقر بدين على الميت، فإن صاحب الدين يحلف معه ويستحق جميع حقه من مال الميت فإن نكل أخذ من المقر ما ينوبه من الدين، ولا يأخذ من حصته دينه كله. انتهى.

وقوله: لأن مالكا لخ فرع حسن لا يعارض قول المص آخر العتق: "وإن شهد أحد الورثة أو أقر أن أباه أعتق عبدا لم يجز لأنه فيما لا يثبت بشاهد ويمين وما هنا مال" انتهى، قول عبد الباقي: وقولي بدين شامل لا إذا كان برهن، ففي المدونة لخ تعقب كلام المدونة هذا الذي استدل به الوانوغي، ونصه: قلت تقرير إشكال هنا أن يقال: قد قرر أهل المذهب أن وجود الرهن بيد المرتهن ومقارته مع الراهن لا يكون موجبا لاختصاص المرتهن به في فلس الراهن وموته، وجعل قول الراهن هنا كافيا يجب مثله في غير الشريك، وحينئذ يظهر عدم صحة الاستدلال لخلو مسألة الدليل من هذا المعنى. فتأمله {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} . انتهى منه بلفظه.

(1)

في الأصل: مقابلة، والمثبت من ابن غازي ج 2 ص 781.

ص: 47

ونقله ابن غازي في تكميله وقال عقبه ما نصه: [وكان]

(1)

أعجب بنقده على ابن القاسم {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} ، قلت: بحث الوانوغي هذا ساقط؛ لأنه إن كان بحثه باعتبار حصة الحي المقر فلا معارضة بين ما هنا وما قرره أهل المذهب أن وجود الرهن بيد المرتهن ومقارته مع الراهن لا يكون موجبا لاختصاص المرتهن؛ إذ لا موت ولا فلس هنا ولا غرماء للمقر يريد المقر له الاختصاص عنهم، وإنما الكلام بين المقر والمقر له فيؤاخذ بإقراره ولا يزول الرهن من يد المقر له إلا بأداء الدين، وهذا هو الحكم في غير الشركة أيضا باتفاق أهل المذهب، وإن كان بحثه باعتبار حصة الميت فلا إقرار فلا بحث لأنه شاهد فقط، وثبوت الرهن بالشاهد واليمين في غير صورة الشركة هذه مسلم، فكلام ابن القاسم جلي لا إشكال فيه على كل حال. واللَّه أعلم. قاله الرهوني.

‌مسألة:

قال في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الشركة ما نصه وسئل عن رجل كان شريكا لرجل فمرض أحدهما فأوصى أن فلانا عالم بمالي فما دفع إليكم من شيء فهو مصدق ولا يمين عليه في ذلك، فرفع أمره إلى السلطان وأتى بما قبله من المال فقسمه بينه وبين ورثة شريكه ثم قام يقتضي ويقسم، أقام بذلك عشر سنين وكتب له السلطان براءة من ذلك وبقيَ بينهما دين وبلغ الورثة، فقالوا: نريد أن نستحلفك فيما اقتضيت أفترى ذلك لهم؟ وهذا الأمر منذ عشر سنين كتب لهم السلطان براءة من ذلك، قال مالك: أرى أن ينظر السلطان في ذلك ويكشف أمره، فإن رأى أمرا صحيحا لم أر أن يستحلفه، وإن استنكر شيئا رأيت أن يحلفه، فقال له الرجل: يا أبا عبد اللَّه بعد عشر سنين؟ قال: نعم أرى ذلك إن رأى أمرا يستنكره، قال القاضي رضي الله عنه: هذه اليمين في أصلها يمين تهمة وقد اختلف في لحوقها وتوصية الميت بإسقاط اليمين عنه لا يلزم الورثة؛ لأن الحق قد صار إليهم في المال بموته، فإن اتهموه استحلفوه على القول بلحوق يمين التهمة، فلذلك قال: إن السلطان ينظر في ذلك فإن رأى أمرا صحيحا لا يوجب لهم عليه يمينا وإن رأى أمرا يستنكره أوجب لهم اليمين عليه. وباللَّه التوفيق. انتهى منه بلفظه. انتهى.

وألغيت نفقتهما وكسوتهما يعني أن الشريكين إذا كانت الشركة بينهما على المناصفة كما للبناني عن ابن عبد السلام، أو مطلقا كما لعبد الباقي فإنه تلغى نفقتهما وكسوتهما بمعنى أنه لا يحتسب

(1)

في الرهوني ج 6 ص 55: وكأنه أعجب.

ص: 48

بهما، بل يكون لكل منهما النصف ولا يرجع عليه صاحبه بالزائد لو كان قال البناني: ابن عبد السلام كل ما ذكر في هذا الفصل من إلغاء النفقة إنما هو إذا كانت الشركة على النصف، فإن كانت الشركة بينهما أثلاثا فتحسب نفقة كل واحد منهما. انتهى. وذكر اللخمي هذا الشرط في تساوي العيال، فقال: وإن اشتركا على الثلث والثلثين وتساويا في العيال لم ينفق صاحب الثلث إلا بقدر جزئه، ولا يجوز أن ينفق بقدر عياله ليحاسب في ذلك في المستقبل. ابن عرفة: هذا إن عقدا الشركة على ذلك ولو كان تطوعا بعد عقد الشركة كان كالسلف. انتهى. وقوله: "وألغيت نفقتهما وكسوتهما" حيث كانا ببلد واحد أو ببلدين متفقي السعر، بل وإن كانا ببلدين مختلفي السعر وهو ما تقوم عليه السوق، وقوله:"مختلفي السعر" ظاهره ولو كان اختلافهما بينا. المواق: من المدونة قال مالك: لا بأس أن يشتركا بمال كثير يتفاوضان فيه وهما في بلدين على أن يجهز كل واحد منهما على صاحبه ويلغيان نفقتهما، وإن اختلف سعر البلدين إذ كل واحد منهما إنما قعد للتجر مع قلة مؤنة كل واحد فاستسهل اختلاف السعرين وإن لم تتقارب نفقة كل وكسوته، خلافا لدعوى البساطي رجوع الشرط الآتي لما قبل الكاف أيضا.

كعيالهما يعني أنه كما تلغى نفقة كل من الشريكين وكسوته، تلغى أيضا نفقة عيالهما وكسوته لكن بشرط أشار إليه بقوله: إن تقاربا يعني أنه إنما تلغى نفقة العيال وكسوته إذا تقارب الشريكان في العيال سنا وعددا، بقول أهل المعرفة ببلد أو بلدين. المواق: وينبغي أن لو كان لكل واحد عيال واختلفت أسعار البلدين اختلافا بينا أن تحسب النفقة إذ نفقة العيال ليست من التجارة. انتهى. قاله ابن يونس. وفي كتاب محمد خلافه، وهو أنه تلغى نفقة العيال إذا تقاربا فيه، كانا ببلد أو بلدين، اختلفت الأسعار أو اتفقت، وإلا يتقاربا بل اختلفا عددا أو سنا اختلافا غير متقارب حسبا أي حسب نفقتهما وكسوتهما على عيال كل، ليلا يأخذ كل واحد من مال الشركة أكثر من حقه، ومحل قوله:"حسبا" ما لم تستو نفقتهما حين الاختلاف.

‌تنبيه:

جعل عبد الباقي قوله: "وألغيت نفقتهما وكسوتهما" فيما إذا اختلفت الأنصباء وفيما إذا اتفقت، ورد عليه البناني بأن ذلك فيما إذا اتفقت الأنصباء، وأما إذا اختلفت فلا تلغى نفقتهما ولا كسوتهما بل تحسبان، وجلب على ذلك كلام ابن عبد السلام، وأما مسألة العيال فلابد فيها من

ص: 49

اتفاق الأنصباء وإلا حسبا. الرهوني: وقد بحثت غاية البحث عن نص في المسألة يوافق ما لابن عبد السلام أو يخالفه، فلم أجده في الكتب التي وصلت لأيدينا وسميناها غير مرة. انتهى.

كانفراد أحدهما يعني أنه إذا انفرد أحد الشريكين بالعيال فإنه يحسب ما أنفقه على العيال وما أنفقه على نفسه، وقال عبد الباقي: لا يحسب ما أنفقه على نفسه كما إذا أنفق أحدهما منه على نفسه دون الآخر فلا يحسب؛ لأن من لم ينفق تبرع لصاحبه بما يستحقه. انتهى. قال الرهوني: قول عبد الباقي: كما إذا أنفق أحدهما منه على نفسه دون الآخر فلا يحسب لأن من لم ينفق تبرع لخ: سلمه التاودي والبناني بسكوتهما عنه وهو ظاهر، ولكن في ابن عبد السلام عند قول ابن الحاجب: فإن كان لأحدهما عيال دون الآخر حسب كل واحد نفقته ما نصه: ومقتضى هذا أنه لو كان أحد الشريكين ممن عادته أن يكتفيَ بالنفقة اليسيرة والكسوة التي لا كبير ثمن لها كمن يأكل الشعير ويلبس الصوف وهذا شأنه وعادته والآخر على مقابلة ذلك ولا عيال لهما أن يحسبا معا نفقتهما ولا يلغيا. انتهى.

ونحوه في التوضيح بلفظ ينبغي، وقوى الرهوني ما لعبد الباقي من إلغاء نفقتهما حيث لا عيال لهما وإن لم يتقاربا في النفقة بأنه هو ظاهر كلامهم، وقول عبد الباقي: ولا يحسب ما أنفقه على نفسه فيه نظر والنقل بخلافه، فيحسب الذي لا عيال له ما أنفق على نفسه، كما أن الآخر يحسب الجميع. قاله البناني. وجلب النقل على ذلك، قال عبد الباقي: والفرق بين نفقة أحدهما فقط على نفسه ونفقة العيال لأحدهما أن شأن الأولى اليسارة، ولأنها من التجارة بخلاف نفقة العيال في الوجهين.

وعلم مما قدمنا أن نفقة كل على عياله يشترط في إلغائها التقارب والتناصف في الشركة، بخلاف نفقة كل أو أحدهما على نفسه فلا يشترط شيء منهما فيها، واعلم أن ما يلغى يجوز ابتداء وما لا يلغى لا يجوز ابتداء، ومثل المتفاوضين في جميع ما مر ما يقع بين الإخوة -كما في ابن وهبان- يموت أبوهم ويبقى المال بيدهم يأكلون منه، وربما تزوج بعضهم منه فيرجع عليه بما تزوج به. انتهى. قوله: ومثل المتفاوضين في جميع ما مر لخ، قال الرهوني: مثله لابن ناجي في شرح المدونة

ص: 50

عند قولها:

(1)

وتلغى نفقتهما كانا ببلد واحد لخ، ونصه: وهذه المسألة كثيرا ما تقع في الإخوة يموت أحدهم ويبقى المال بأيديهم يأكلون، وربما تزوج بعضهم فمن تزوج يرجع عليه بما تزوج به وهو في النفقة على ما تقدم. انتهى منه بلفظه.

وقد ذكر التاودي هنا فروعا محتاجا إليها لكثرة وقوعها:

حاصل الأول منها أن أحد الإخوة إذا مات وترك أولاده مع أخيه فإنه لا يختص بشيء عنهم إن ادعى اختصاصه به إلا بموجبه من إرث ونحوه، وإن كان مع والده أو أخيه أو أخته أو أولاد أخيه على مائدة واحدة فإن ذلك يوجب لهم حكم المفاوضة، ولا يختص أحدهم بشيء إلا بموجبه مما ذكرنا.

وحاصل الثاني أن الولد إذا أقام مع والده سنين بعد بلوغه إلى أن زوجه وكان يتولى الحرث والحصاد وخدمة الأملاك بنفسه ثم افترق عنه، فلا شيء له فيما بيد أبيه ولا يقاسمه إلا أن يتفقا على ذلك أو يجري به عرف بالبلد متقررا به حتى يصير كالمدخول عليه على ما وقعت به الفتوى من المتأخرين، قال: وقوله لا شيء له يعني في نفس الأملاك والغلل، وأما أجرة عمله فتكون له ويحاسب بنفقته وكسوته. واللَّه أعلم. انتهى. قلت: ويحاسبه أيضا بما زوجه به كما تقدم في النكاح.

وحاصل الثالث أن الابن إذا كان يقوم بأمور أبيه ثم مات فاستظهر برسوم أملاك باسم نفسه إن أثبت أنه كان له مال وأن أباه كان سلم له فيها فهي له إن حلف وإن لم يثبت واحدا منهما فالجميع ميراث. قاله سيدي يحيى السراج وسيدي راشد. انتهى واللَّه أعلم. انتهى. وظاهر كلامه التعارض بين ما ذكره في الولد في الفرع الأول والثاني، ويجاب عن ذلك بأن ما ذكره في الفرع الأول محله إذا لم يكن للأب مال حتى بلغ الولد القدرة على الخدمة فنشأ المال عن خدمتهما معا بخلاف ما في الفرع الثاني. فتأمله. انتهى.

وإن اشترى جارية لنفسه فللآخر ردها يعني أن أحد الشريكين إذا اشترى من مال الشركة جارية فشراؤه لها على ثلاثة أوجه: أحدها، أن يشهد أو يذكر أنه اشتراها لنفسه لخدمة أو وطء ولم يطأ

(1)

في الأصل: عند قوله، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 57.

ص: 51

وهذا الشراء بغير إذن شريكه، فإن الشريك الذي لم يشتر يخير بين ردها للشركة وإمضائها للشريك الذي اشتراها بالثمن الذي اشتريت به، فيكون الثمن من مال الشركة ويختص بها من اشتراها، والشق الأول من التخيير تكون الجارية من مال الشركة، فعلم مما قررت أن معنى ردها ردها للشركة لا رد بيعها.

ثانيها أشار إليه بقوله: إلا للوطء بإذنه يعني أن محل التخيير المذكور إنما هو إذا اشتراها لنفسه لوطء أو خدمة بغير إذن شريكه ولم يطأ كما عرفت، وأما إن اشتراها بإذن شريكه للوطء فلا تخيير للآخر، وإنما يلزم المشتري القيمة وطئ أم لا، ولا مفهوم للوطء فالحاصل أنه إذا اشتراها بإذن شريكه فإنما لشريكه الثمن وفى أم لا، اشتراها للوطء أم لا، فيختص بها وليس للآذن إبقاؤها للشركة، وكذا يخير الشريك في إبقائها للشركة وإمضائها للشريك بالقيمة إذا اشتراها بغير إذنه ووطئ، وعلم من هذا أربع صور: أن يشتريها لنفسه بغير إذن شريكه ولم يطأ خير في ردها للشركة وإمضائها للشريك بالثمن، فإن وطئ خير بين إبقائها للشركة إن لم تحمل وإمضائها للشريك بالقيمة، فإن اشتراها بإذنه فلا خيار بل تلزمه القيمة وطئ أم لا، وكذا لو حملت اشتراها بإذنه أم لا وتعتبر القيمة يوم الوطء إن لم تحمل، فإن حملت ففيها أربعة أقوال ستأتي إن شاء اللَّه تعالى.

وأشار إلى الوجه الثالث بقوله: وإن وطئ جارية للشركة بإذنه يعني أن أحد الشريكين إذا وطئ الأمة المشتركة بإذن شريكه فإنها تقوم ويغرم قيمتها للشريك الآذن حملت أم لا؛ لأنها كأمة محللة أيسر أم لا ولا حد عليه للشبهة، وإذا لم تحمل وأعسر الواطئ بيعت فيما وجب لشريكه من قيمتها وليس له إبقاؤها للشركة، فإن حملت كانت أم ولد ولم تبع أيسر أو أعسر وإنما يتبعه بقيمة حظه منها، ولا شيء له من قيمة الولد في هذه الحالة لحريته أي لأنه وطئها بإذنه.

أو بغير إذنه وحملت يعني أنه إذا وطئ جارية للشركة بغير إذن شريكه وحملت فإنه يلزم الواطئ قيمتها، ولا يخير الشريك في إبقائها للشركة فتقوم وجوبا إن أيسر وجوازا إن أعسر ولشريكه في عسره إبقاؤها للشركة كما في المدونة، وإذا اختار تقويمها مع عسر الواطئ فله أن يتبعه بما وجب له من قيمتها، وأن يلزمه بيع نصيبه منها لا بيعها كله خلافا لظاهر المص في باب أم الولد -بعد وضعها لما في حملها، ولا يباع الولد لحريته ويأخذ ثمن ما بيع منها، فإن لم يوف بما وجب

ص: 52

له من القيمة اتبعه بالباقي كما يتبعه بحصة الولد في قسمي التخيير لما في يسره، وقومت عليه ولا في وطئه لها بإذنه، وحملت أيسر أو أعسر فلا قيمة للولد كما مر، وعلم مما ذكر أن عدهم أمة الشريكين من المسائل التي تباع فيها أم الولد محمول على ما إذا وطئها معسر بغير إذن الآخر، وأنه إنما يباع منها في هذه الحالة نصيب شريكها لا كلها، وإن أريد بالبيع ما يشمل التقويم فكذلك إذ لا يقوم عليه إلا نصيب شريكه فقط، وكلام ابن ناجي كغيره فيما يأتي يوهم أنها تباع كلها، وكذا ما ذكر في نظم المسائل التي تباع فيها أم الولد فليتنبه لذلك.

وعلم مما قررت أن قوله: قومت جواب الشرط فهو راجع للمسألتين، وأن قوله:"وحملت" قيد في الثانية فقط، وإلا بأن وطئ بغير إذن شريكه ولم تحمل فللآخر ابقاؤها للشركة، أو مقاواتها بأن يتزايدا فيها حتى تقف على أحدهما، فيأخذها صاحب العطاء به وهو ظاهر قول مالك في المدونة، وقال علي الأجهوري: صوابه أو تقويمها ليوافق ما تجب به الفتوى من أن له إن لم يبقها للشركة تقويمها على الواطئ، وأخذ قيمة نصيبه منها يوم الوطء إن أيسر واتباعه به إن أعسر أو بيعه منها بقدر نصيبه، ولو زاد وقت البيع على نصفها بل لو لم يف بقيمة نصيبه يوم التقويم إلا بيع كلها فإنها تباع ويأخذ الآخر ثمنها كله في حصته يوم التقويم، وقد مر أن في القيمة إن حملت أربعة أقوال: قال البناني: قال ابن عرفة في باب أم الولد: وفيها إن حملت قومت على واطئها يوم الوطء إن كان مليا ويلحق به الولد وهي له أم ولد ولا تماسك لشريكه. اللخمي: وقال مالك أيضا: القيمة يوم حملت، وذكرهما محمد، وقال: وقيل يوم الحكم، وعن مالك: إن شاء يوم الوطء وإن شاء يوم الحكم، وبه أخذ محمد، ثم قال: وإن كان الواطئ معسرا، فقال مالك: مرة هي أم ولد للواطئ ويتبع بالقيمة دينا ثم رجع إلى تخيير الشريك في تماسكه مع اتباعه بنصف قيمة الولد وفي تقويمه نصفها ونصف قيمة الولد ويباع له نصفها فقط فيما لزمه. انتهى.

‌تنبيهات:

الأول: قال عبد الباقي عند قوله: "وإن وطئ جارية للشركة" فالوجهان الأولان اشتراها من مال الشركة لا للشركة وهذا الوجه اشتراها من مال الشركة لكن لها ثم يطأ، وله ثلاث حالات: يعني أن يطأ بإذنه حملت أم لا كما قال: بإذنه، أو يطأ بغير إذنه وحملت أو يطأ بغير إذنه ولم تحمل.

ص: 53

الثاني: قال الإمام الحطاب: قال في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الشركة: فإن قال له اشتر سلعة كذا للشركة ففعل ثم جحده أن يكون أمره بذلك وزعم أنه إنما اشتراه لنفسه خالصا من ماله فأقام عليه البينة أنه أمره به، قال: أراه بينهما على ما أمره، قال ابن رشد: قوله في هذه المسألة ثم جحده دليل هو كالنص أنه لو أقر أنه أمره بذلك، وقال: لم أرد أن اشتري لك شيئا فاشتريته لنفسي لم يكن ذلك له وكان معه شريكا شاء أو أبى، فإن قال: أشركت فيه فلانا وفلانا عند الاشتراء لا يعلم ذلك إلا بقوله، قال: أراه بينهما على ما أمره ولا يصدق في قوله إنه أشرك فيه فلانا وفلانا، قال ابن القاسم: ويدخل اللذان زعم أنه أشركهما بذلك على الذي أقر لهما، إن كان أقر لهما بالنصف كان لهما نصف ما في يده، وإن كان الثلث فلهما ثلث ما في يده أو أقل من ذلك أو أكثر فعلى هذا يحسب ولا يؤخذ ما في يده كله لأنه أقر لهما بهذا الذي في يده والذي صار لصاحبه.

الثالث: قال الحطاب: قال في البيان: وإذا تمسك الشريك بنصيبه ولم يقومها على شريكه منع الشريك من الغيبة عليها ليلا يقود إلى وطئها، ويعاقب على ما فعل من ذلك وإن كان جاهلا لم يعذر بجهله لكن عقوبته أخف من عقوبة العالم. قاله ابن حبيب. انتهى. قلت: هو خلاف قولها في كتاب القذف، وإذا وطئ أحد الشريكين أمة بينهما وهو عالم بالتحريم لم يحد لشبهة الملك وعليه الأدب إن لم يعذر بجهل. انتهى. وفي كتاب أمهات الأولاد من التوضيح: ويؤدب إلا أن يعذر بجهالة على المشهور. انتهى.

وإن شرطا نفي الاستبداد فعنان يعني إذا شرط كل واحد من الشريكين على صاحبه أن لا يستبد بفعل شيء من الشركة دونه أي لا يتصرف إلا بإذنه، فإن تلك الشركة عنان بكسر العين وتخفيف النون أي تسمى شركة عنان وهو في الأصل اسم لما يقاد به الدابة ثم استعير لما هنا، وأما العنان بالفتح فاسم للمطر أو للسحاب الأسفل للأسفل والأعلى للأعلى، كالجنازة والجنازة، فإنها بالفتح اسم الميت المحمول، وبالكسر اسم لما يحمل عليه الميت بشرط كون الميت عليه عند ابن الأعرابي وعند غيره وإن لم يكن عليه، وهذه الشركة جائزة بإجماع لجميع الناس إذا اتفقوا عليها ورضوا بها. ابن الحاجب: إن اشترطا نفي الاستبداد لزم وتسمى شركة عنان. ابن عرفة: ظاهره ولو كانت

ص: 54

مقصورة على نوع معين من الأموال وهي خلاف ما تقدم. انتهى من المواق. يعني أن شركة العنان هي خلاف شركة المفاوضة: إذ في المفاوضة أطلقا التصرف وفي العنان قيداه باجتماعهما عليه، فقوله:"وإن شرطا نفي الاستبداد" مفهوم قوله قبل: ثم إن أطلقا التصرف، قال عبد الباقي: وانظر إذا شرط على أحدهما نفي الاستبداد وأطلق للآخر التصرف، هل تكون مفاوضة فيمين أطلق له التصرف عنان في الآخر أو تكون فاسدة وهو الظاهر لأن الشركة رخصة يقتصر على موردها. انتهى. وجاز لذي طير وذي طيرة أن يتفقا على الشركة في الفراخ يعني أنه يجوز لمالك طير ذكر ولمالك طيرة أنثى أن يتفقا على الشركة في ما حصل بينهما من الفراخ أي الأولاد لما في البيض مناصفة كما يفيده الشارح وأحمد لا غيرها. ابن عاشر: القاموس: الطير جمع طائر وقد يقع على الواحد وجمعه طيور وأطيار. انتهى. فإلحاق خليل التاء به يتوقف على نص لغوي. انتهى. ابن الانباري: الطير جماعة، ولا يقال للواحد طير بل طائر، وقلما يقال للأنثى طائرة. انظر الرهوني. وقال عبد الباقي: وجاز لذي طير وذي طيرة مما يشترك في الحضن كحمام أن يتفقا على الشركة مناصفة كما يفيده الشارح والتتائي لا غيرها في الفراخ الحاصلة بينهما لما في البيض، ونفقة كل طير على ربه لأنه على ملكه كما هو ظاهر قول المص على الشركة في الفراخ، وقوله:"وجاز لذي طير وذي طيرة" لخ ظاهره الجواز ابتداء وهو صريح ابن سلمون، وظاهر ما في النوادر وابن يونس عن العتبية والموازية، ونص ابن يونس: ومن العتبية والموازية، قال ابن القاسم عن مالك: وإذا جاء رجل بحمام ذكر وآخر بأنثى على أن ما أفرخا بينهما فلا بأس به وأرجو أن يكون خفيفا، والفراخ بينهما لأنهما يتعاونان في الحضانة. قاله الرهوني.

وقول عبد الباقي: لأنه على ملكه كما هو ظاهر قول المص، قال البناني: ما ذكره من بقاء كل منهما على ملك صاحبه هو الذي يفيده النقل الذي في ابن غازي وغيره، وهو محل التفصيل بين الحمام وغيره، وأما بيع كل واحد منهما نصف ما يملكه للآخر فالظاهر جوازه مطلقا؛ إذ لا وجه لمنعه. واللَّه أعلم. قاله البناني. وقوله:"وجاز لذي طير وذي طيرة" لخ قد علمت أن هذا في الذكر الذي يحضن لا ما يختص بالأم، قال عبد الباقي: فإن انفرد أحدهما بالحضن كإوز ودجاج لم تجز الشركة، وذكر الإوز لا يحضن وإنما يحوم حول الأنثى وهي حاضنة كما أخبر به بعض أهل

ص: 55

الخبرة، خلافا لقول التتائي إن ذكر الإوز يحضن أيضا، قال أحمد: فإن قيل لم لم يحذف ذي الثانية وتكون الأولى مسلطة على طيرة؟ فالجواب أنه لو فعل ذلك لربما فهم منه مسألة غير مرادة، وهي أن يكون لأحدهما طير وطيرة وللآخر كذلك وكل طير مؤتلف على طيرته ويشتركان فيما يحصل من الفراخ. انتهى.

وأما لو كان لأحدهما طير وطيرة وللآخر كذلك وكل طير مؤتلف على طيرة الآخر أو لأحدهما ذكر أي من الحمام وللآخر أنثيان منه فتجوز الشركة، وأشعر قوله:"ذي طير وذي طيرة" بمنع ذلك في عاقل كتزويج ذي عبد أمة غيره على أن الولد بينهما فيفسخ عقد الشركة المذكورة، وكذا يفسخ النكاح قبل وبعد لشبهه بحرية ولد الأمة بجعل واحد منهم لسيد العبد. انتهى. الرهوني: وجه الشبه بينهما أن في كل منهما شرطا منافيا؛ لأن الأصل أن الولد يتبع أمه في الحرية والرق لمالك الأمة، فشرط جعل الولد بينهما خروج عن الأصل كشرط حريته، قال شيخنا الجنوي: وإن شئت قلت لأن فيه بيع الأجنة لأنه دفع بعض الثمن صداقا وبعضه في مقابلة الولد فتأمله. انتهى من خطه. انتهى. وقول عبد الباقي: بجعل واحد منهما لسيد العبد.

قال مقيده عفا اللَّه عنه: الظاهر أن الباء في قوله بجعل للسببية. واللَّه تعالى أعلم. ثم إنه إن وقع النكاح على حرية الأولاد فهم أحرار بالشرط وولاؤهم لسيد أمهم، وفي مسألة شرط الولد بينهما يفسخ النكاح كما علمت والولد لمالك الأم، وقيل إن الأولاد بينهما وهو ضعيف كما قال في الشامل: لا بينهما على الأصح. المواق: ابن القاسم عن مالك: إن اشتركا في الحمام فجعل أحدهما الذكر والآخر الأنثى كانت الفراخ بينهما لأنهما يتعاونان على التربية، وليس ذلك كالبيض يعطيها للحاضنة، قال: ومن قال لرجل احضن هذا البيض تحت دجاجتك والفراخ بيننا هي لرب الدجاجة ولرب البيض مثله. انتهى. وقال الشارح عند قوله: "في الفراخ" ما نصه: وهذا ظاهر إذا كانت مؤنتهما عليهما وإلا فلا إلا أن يتطوع بذلك بعد العقد فلا بأس. انتهى.

واشتر لي ولك فوكالة يعني أنه إذا قال شخص لآخر: اشتر السلعة الفلانية لي ولك فإن ذلك وكالة منه في شراء نصف السلعة فتكون السلعة بينهما، وهذه الوكالة قاصرة لا تتعدى لغير الشراء فليس لهذا الوكيل أن يبيع نصف شريكه إلا بإذنه في ذلك، ودل قوله:"لي ولك" على أنها بعد

ص: 56

الشراء شركة بينهما، وسكت عنها لعلمها وإنما يخفى جانب الوكالة فلذا نص عليها، ودل ما يأتي من قوله:"وجاز وانقد" لخ على أن كل واحد هنا نقد حصته، وسياق هذه المسألة بعد شركة العنان يفيد أنها منها وهو صحيح، بدليل ما مر أنه لا يجوز للمشتري أن يتصرف فيها بغير إذن الآمر، وبهذا يعلم رد دعوى أن كلام المص يحتاج للتقييد بما إذا نقد كل منهما حصته، وفائدة قوله:"فوكالة" أنه يطالب المشتري بالثمن. قاله عبد الباقي والخرشي.

وجاز وانقد عني إن لم يقل وأبيعها لك يعني أنه يجوز أن يقول شخص لآخر اشتر السلعة الفلانية لي ولك وانقد عني حصتي من الثمن لأن هذا معروف صنعه أحدهما مع صاحبه من غير عوض وهو سلف الثمن مع تولي البيع، ومحل الجواز إن لم يقل الآمر المنقود عنه: وأنا أتولى بيع حصتك أي أكون سمسارا في نصيبك، فإن قال ذلك منع لوجود السلف بزيادة فالسلف نقده عنه والزيادة انتفاع الناقد بالبيع عنه، ومثل قوله:"وأبيعها لك" أي عنك أواجرها لك. قاله غير واحد. وقوله: "وأبيعها لك" خبر مبتدأ محذوف؛ أي وأنا أبيعها لك واللام بمعنى عن كما عرفت؛ أي أتولى بيعها عنك أي أكون سمسارا في بيع نصيبك، وقوله:"وجاز وانقد عني إن لم يقل وأبيعها لك" قد علمت أنه إذا قال: اشترها لي ولك، وانقد عني ما يخصني من الثمن وأنا أتولى بيع حصتك أن ذلك لا يجوز ومع ذلك لا يفسد البيع، وإن لم يحذف الشرط لعدم تأثيره في ذات البيع، فإن عثر على الممنوع قبل النقد أمر كل واحد بنقد حصته ويتولى بيعها، وإن عثر على ذلك بعد النقد أمر المنقود عنه بدفع ما نقد عنه معجلا ولو شرط تأجيله، ولا يلزمه بيع حظ المسلف إلا أن يستأجره عليه بعد ذلك استيجارا صحيحا، فإن كان قد باع. فله جعل مثله. قاله غير واحد.

وقال المواق: قال مالك في موطئه: من قال لرجل اشتر هذه السلعة بيني وبينك وانقد عني وأنا أبيعها لك لا يصلح لأنه سلف على أن يبيعها له، ولو هلكت السلعة فلمن نقد الثمن أن يأخذ من شريكه ما نقد عنه، الباجي، فإن نزل ذلك فالسلعة بينهما وليس عليه بيع حظ المسلف. انتهى.

وليس له حبسها يعني أنه إذا قال شخص لآخر اشتر هذه السلعة بيني وبينك وانقد عني ما يخصني من ثمنها ففعل بأن اشتراها ونقد ما ينوب الآمر من الثمن، فإنه ليس للمشتري وهو المأمور أن يحبس السلعة عن الآمر حتى يقبض ما نقده عنه، وهذا مستفاد من قوله:"فوكالة" لكنه ذكره

ص: 57

ليرتب عليه قوله: إلا أن يقول واحبسها يعني أن محل كون المأمور ليس له حبس السلعة عن الآمر الذي نقد

(1)

إنما هو إذا لم يقل له اشترها بيني وبينك وانقد عني حصتي من الثمن واحبسها عندك حتى أوفيك ما نقدت عني، وأما إن قال ذلك فللمأمور حبسها عن الآمر حتى يعطيه ما نقد عنه، وإذا حبسها المأمور فتكون السلعة كالرهن يفرق فيه بين ما يغاب عليه فيضمنه إلا أن يقيم بينة على ما ادعاه من تلف أو ضياع، وبين ما لا يغاب عليه فالقول قوله بيمين -أي فلا ضمان عليه- إلا أن يظهر كذبه، قال عبد الباقي: وله حبسها إذا كان الآمر ممن يخشى لدده، وكذا إذا وقع الشراء على أن ينقد الآمر وتطوع المأمور بالنقد. انتهى رد التاودي الأول ورد الرهوني الثاني بما يعلم بالوقوف عليه. واللَّه تعالى أعلم.

ولما ذكر ما إذا كان المشتري مسلفا ذكر ما إذا كان المسلف غيره، فقال: وإن أسلم غير المشتري جاز يعني أنه إذا قال اشتر هذه السلعة لي ولك وأنا أنقد عنك حصتك من الثمن أو ينقدها عنك فلان الأجنبي فإن ذلك جائز، فالناقد هنا غير المأمور وهو المشتري إذ الناقد في الوجه الأول الآمر وفي الوجه الثاني أجنبي؛ أي ليس هو الآمر ولا المأمور، إلا لكبصيرة المشتري يعني إذا أسلف غير المشتري من آمر أو أجنبي جاز ذلك كما عرفت، ومحل الجواز حيث لم يكن الشريك المشتري ذا بصيرة أي خبرة بالبيع والشراء أو وجاهة، وأما إن كان المشتري ذا بصيغ أو وجاهة فلا يجوز سلف الآمر ولا الأجنبي أي نقدهما عن المأمور المشتري لما في ذلك من السلف بزيادة فالسلف النقد وينتفع الآمر المسلف بتولي المأمور للشراء البصير بالبيع والشراء أو الوجيه، قال عبد الباقي: وإن أسلف غير المشتري من آمر أو أجنبي جاز إلا لكبصيرة المشتري المتسلف ووجاهته، فيمنع أن يشتري لهما شيئا يشتركان فيه للنفع في سلف الآمر، وكذا الأجنبي عند قصد نفع الآمر فقط أو نفعه مع المأمور، فيفسد لأنه سلف جر نفعا، ومعنى عدم الجواز إذا كان السلف من غير الآمر مع أن النفع ليس للمسلف أنه محمول على ما إذا كان الشريك صديقا للمسلف حتى يكون النفع للشريك نفعا له. انتهى.

(1)

كذا في الأصل، ولعلها الذي نقد عنه إنما.

ص: 58

قوله: ومعنى عدم الجواز أنه محمول لخ لا حاجة لهذا الحمل، إذ قد مر في باب القرض أن القرض يفسد متى جر نفعا لغير المتسلف ولو لأجنبي. قاله البناني. وقال الشارح: يعني فإن لم يكن السلف من جانب من تولى الشراء وإنما كان من غيره فإن ذلك جائز. ابن عبد البر: اختلف قول مالك في الذي يسلف رجلا ليشاركه وذلك على وجه المعروف والرفق به، فأجازه مالك مرة وكرهه مرة واختار ابن القاسم جوازه إلا إن كان أسلفه لنفاذه وبصره بالتجارة فلا يجوز؛ لأنه سلف جر نفعا، قال في البيان: ولا خلاف في الجواز إذا صحت النية في ذلك ولما في عدمه إذا قصد منفعة نفسه، وإنما الخلاف إذا لم يقصد.

وأشار إلى شركة الجبر بقوله: وأجبر عليها إن اشترى شيئا بسوقه يعني أنه إذا اشترى شخص سلعة من سوقها طعاما أو غيره فإنه يجبره على الشركة في تلك السلعة غيره ممن يتجر في تلك السلعة بالشروط الآتية، سواء كان المشتري من

(1)

التجارة أو من غيرهم فقوله: "وأجبر" بالبناء للمفعول ونائبه ضمير يعود على المشتري والضمير في عليها للشركة، وقوله:"إن اشترى شيئا بسوقه" شرط في الجبر، وقوله:"بسوقه" الضمير فيه عائد على "شيئا"، وقوله:"شيئا" ظاهره كان طعاما أو غيره وهو قول ابن القاسم، وقال أشهب: إنما ذلك في الطعام خاصة، وقوله:"بسوقه" أي بسوق ذلك الشيء المشترى، واحترز بذلك عما إذا اشترى ببيته أو في الزقاق كما يذكره قريبا إن شاء اللَّه تعالى، ومحل جبر المشتري على الشركة إن اشترى ذلك في سوقه ليتجر به في البلد، لا إن اشتراه لكسفر أي اشتراه لأجل أن يسافر به ولو ليتجر به، فإنه لا يجبر على الشركة حينئذ ودخل بالكاف بلدة قريبة لا يسمى السفر إليها سفرا عرفا فلا يجبر المشتري على الشركة أيضا، وكذا لا يجبر المشتري على الشركة أيضا إن اشترى ذلك الشيء بسوقه لأجل قنية، ودخل بالكاف المقدرة في المعطوف قرى ضيف وعرس وصدق بيمين في دعواه ذلك إلا أن يظهر كذبه لكثرة ما اشتراه لكقنية بدعواه أو بترك سفر بغير عذر ظاهر.

ثم أشار إلى بقية شروط الجبر بقوله: وغيره حاضر يعني أنه لا يجبر المشتري على الشركة غيره إلا بشرط أن يكون ذلك الغير حاضرا لشراء تلك السلعة من سوقها، فلو غاب لم يجبره على الاشتراك

(1)

كذا في الأصل، ولعلها من أهل التجارة.

ص: 59

فيها لم يتكلم يعني أنه لا يجبره الغير على الشركة إلا إن كان ذلك الغير حاضرا لم يتكلم من تجاره يعني أنه لا يجبر المشتري غيره على الشركة إلا إذا كان حاضرا لشرائها من سوقها لم يتكلم، واحترز بذلك عما لو اشتراها في غيبته أو زايد فيها حتى انتهت على ثمن فإنه لا يجبر الغير المشتري على الشركة حينئذ والغير من تجار ذلك الشيء، واحترز بذلك عما لو لم يكن ممن يتجر في ذلك الشيء فإنه لا يجبر المشتري على الشركة.

وعلم مما قررت أن هنا ستة شروط ثلاثة في المشتري وثلاثة في غيره، فمتى اختل واحد منها فلا جبر وإن استكملت فللغير أن يجبر المشتري على الشركة، أولها أن يشتري ذلك بسوقه، ثانيها: أن يشتريه لأجل أن يتجر به. ثالثها: أن يكون ذلك الاتجار في البلد لا إن اشتراه لقنية أو لكسفر. فهذه شروط ثلاثة في المشتري. رابعها: أن يكون ذلك الغير الذي يريد جبر المشتري على الشركة حاضرا لشراء ذلك الشيء من سوقه، خامسها: أن لا يتكلم فلو غاب حين الشراء فلا جبر وهذا مفهوم حاضر وكذا لو زايد فيها بائعها من في السوق حتى انتهت على ثمن فلا جبر أيضا، ويأتي مفهوم قوله: لم يتكلم، سادسها أن يكون ذلك الغير من تجار ذلك الشيء فلو لم يكن من تجاره فلا كلام له، خلافا لابن الماجشون. واللَّه تعالى أعلم.

البناني: محل الجبر ما لم يبين ويقل لهم أنا لا أشارك أحدا منكم ومن شاء أن يزيد زاد. قاله ابن الحاجب. ابن عرفة: وحيث تجب لهم لا تجب عليهم إن أبوا. انتهى. وعلم مما قررت أن المشتري لا يشترط فيه كونه من أهل التجارة فضلا عن كونه من أهل السوق، وإنما يشترط ذلك فيمن يريد مشاركته. قاله البناني أيضا. وقوله: محل الجبر ما لم يبين ويقل لهم أنا لا أشارك لخ، قال الرهوني عنده: ومحله أيضا ما لم تكن العادة عدم دخول بعضهم مع بعض كما في المعيار فانظره. انتهى. وقال المواق: قال ابن القاسم: من وقف على من يشتري سلعة لم يتكلم فلما تم البيع قال أنا شريكك فهو شريكه، فإن أبى ألقي في السجن حتى يفعل إن اشتراه ليبيعه ولو اشتراه بمنزله أو ليخرج به لبلد آخر لم يكن عليه فيه شرك. ابن رشد: مذهب مالك القضاء لأهل السوق بالشركة فيما ابتاعه بعضهم بحضرتهم للتجر على غير المزايدة رفقا بهم، قال ابن حبيب: وإنما يرى مالك ذلك لتجار أهل تلك السلعة وأهل أسواقها، كان مشتريها من أهل التجارة أو من

ص: 60

غيرهم إذا اشتراها للتجارة، وإنما يختلف ذلك في المشترك، فإن كان من أهل تلك التجارة وجبت له الشركة وإن لم يكن من أهلها لم تجب له إلا برضى المشتري. انتهى.

وهل وفي الزُّقاق هذا وما بعده مفهوم قوله: "بسوقه" يعني أن المشتري إذا اشترى في الزقاق شيئا ليتجر به في البلد فإنه اختلف في ذلك، قيل إنه يجبر على الشركة كما إذا اشتراه بسوقه وليس هو كمن اشتراه ببيته، وقد مر أنه إذا اشتراه بمنزله فلا كلام للغير، ولهذا قال: لا كبيته أي المشتري لذلك الشيء في الزقاق كغراب ليس كالمشتري له بمنزله بل هو كمن اشتراه بسوقه ليتجر به في البلد، فيشترك معه من شاء من أهل السوق على ما مر من اعتبار الشروط، وعلى هذا القول يجبر المشتري سواء اشتراه بزقاق قريب من السوق أو بزقاق بعيد من السوق، والزقاق كغراب السكة ويؤنث والجمع زقق وأزقة كذلل وأزمّة وقيل إن المشتري في الزقاق كالمشتري في بيته وهذا القول هو الأرجح، وقوله: قولان مبتدأ حذف خبره أي في ذلك قولان: الأول لابن حبيب والثاني أنه يختص به كبيته لأصبغ وغيره وهو الأرجح كما علمت، قال الشارح: قال في البيان: وأما ما ابتاعه الرجل في داره أو حانوته فلا شرك لأحد معه ممن حضر الشراء باتفاق، قلت: ولهذا أخرجه الشيخ من

(1)

محل الخلاف، بقوله:"لا كبيته" ونبه بالكاف على أن الحانوت ونحوه كذلك. انتهى كلام الشارح.

وقال عبد الباقي: وإذا وجدت شروط الجبر فالظاهر من إطلاقهم ولو طال الأمر حيث كان ما اشترى باقيا أو يفصل فيه كالشفعة، فلا جبر بعد سنة، ثم عهدة الداخل على البائع الأصلي لا على المجبور. قاله ابن يونس. وانظر ما الفرق بينه وبين الشفيع فإنه يكتب عهدته على المشتري، مع أن كلا منهما يؤخذ منه ما اشتراه جبرا. قاله علي الأجهوري. البناني: والظاهر في الفرق أن التجار لما دخلوا هنا مع المشتري جبرا فقد دخلوا معه في جميع أحكام الشراء التي من جملتها كون العهدة على البائع بخلاف الشفعة. واللَّه أعلم. انتهى.

قوله: الظاهر في الفرق أن التجار لخ، الرهوني: في هذا الجواب نظر لأن العلة عنده في دخولهم معه جبرا هي الجبر كما يفيده كلامه، والجبر موجود أيضا في الشفعة فالجواب هو عين السؤال،

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من الشارح ج 4 ص 256.

ص: 61

والظاهر في الجواب أن المشتري هنا منزل شرعا منزلة الوكيل عمن أدخله الشرع معه، ولا شك أن الوكيل على الشراء لا عهدة لموكله عليه فيما اشتراه له، وإنما هي على البائع كما في نص المدونة وغيرها. فتأمله بإنصاف. انتهى. وقال عبد الباقي: ومفهوم قوله لم يتكلم أنهم إن تكلموا فقالوا حين السوم أو الشراء أشركنا أو أشركنا واشتر علينا لم يجبرهم هو ولا هم إن أجابهم بلا فإن أجابهم بنعم جبر الآبي منه أو منهم للطالب، وإن سكت فكذلك إن سألوه بلفظ أشركنا كإن زادوا واشتر علينا وسألوه حين الشراء كحين السوم إن اشترى بحضرتهم وإلا فله إدخالهم ومنعهم إن حلف ما اشترى لهم ولا أشركهم إن بقي المتاع بيده، وإلا فله منعه دون يمين والتلف بينهم في حالة الجبر وصدق فيه لأنه كوكيل عنهم ولذا كان هو الطالب بالثمن فيما يظهر وليس له حبسها عنهم لأجله. انتهى.

قوله: إن سألوه بلفظ أشركنا كأن زادوا واشتر علينا لخ مقتضاه أن قولهم: أشركنا فقط يوجب لهم المدخول معه إن سكت واشترى بعد ذهابهم، وقد صرح بذلك الأجهوري قائلا ما نصه: أنه محصل كلام ابن عرفة والشامل، وسلم التاودي والبناني ما قاله الزرقاني تبعا لعلي الأجهوري، وكتب عليه شيخنا الجنوي ما نصه: ظاهره الفرق بين أشركنا فقط وبين أشركنا واشتر علينا، وكأنه أراد أن يستنبط ذلك من كلام ابن رشد الذي عند المواق وهو غير تام؛ لأن عدم الشركة في كلام ابن رشد لانقلابهم لا لزيادة اشتر علينا، فالظاهر أنه لا فرق بين العبارتين. واللَّه أعلم. انتهى من خطه طيب اللَّه ثراه ورضي منه وأرضاه.

قلت: ولا يتوقف منصف في أن العبارتين سواء أو الثانية أقوى؛ لأن فيها ما في الأول وزيادة، وما نسبه علي الأجهوري لابن عرفة والشامل ليس فيهما، بل كلام الشامل صريح في خلاف ما عزاه له، ونصه ولو قالوا له حين البيع أشركنا، فقال نعم أو سكت جبر من أبى لمن طلب وحين السوم فسكت وذهبوا ثم اشتراه بعد مضيهم لم يجبر وحلف ما ابتاع إلا له خاصة وجبروا له إن شاء سؤالهم. انتهى. وأصله لابن يونس عن ابن حبيب، وساقه فقها مسلما مقتصرا عليه كأنه المذهب، ثم ساق نصه فلما تم نقله له قال ما نصه: وهو كاف في رد ما قاله علي الأجهوري.

ص: 62

‌تنبيه:

انظر إذا اتفق تجار شيء على أن كل من اشترى منهم شيئا مما يتجرون فيه فهو بينهم، وإن لم يحضروا حين شرائه هل يلزمهم ذلك ويدخل الغائب منهم حين الشراء أو لا، ولم أقف على نص بعد البحث عنه، وقد وقعت هذه النازلة وادعى المشتري أنه إنما اشترى لنفسه فسئلت عنها فأفتيت

(1)

بأنه لا شيء لمن لم يحضر لفقد شرط الجبر، ولأن ما التزموه ليس بلازم لهم لأنه التزام لشيء غير معين ولا محدود، ولأنه في الحقيقة إجارة فاسدة لاشتمالها على جهالة وغرر كما لا يخفى، أما الإجارة فإن كل واحد منهم واجر غيره ليشتري له بشرائه هو له، وأما الجهالة فظاهرة لأن المواجر عليه لا يدرى أقليل هو أم كثير، وأما الغرر فلأنه إذا اشترى أحدهم شيئا أولا فقد لا يجد غيره ذلك الشيء مرة أخرى، وإن وجده فقد لا يكون مساويا لما اشتراه الأول، وعلى تقدير وجوده فقد لا يتأتى له شراؤه لمرض أو غيبة أو سجن ونحو ذلك حتى يموت فيذهب عمل الآخر باطلا، وقد اشتهر الخلاف في مسألة من وكل على شراء سلعة معينة فاشتراها لنفسه وفرضهم الخلاف في سلعة معينة يدل على أن مسألتنا محل اتفاق على أنها لمن اشتراها ولا حق فيها للغائب.

والخلاف الذي أشار إليه في مسألة سلعة معينة ذكره ابن رشد، فإنه قال في شرح المسألة الخامسة من رسم الرطب باليابس من سماع ابن القاسم من كتاب الشركة: وقد اختلف فيمن أمر رجلا أن يشتري له سلعة بعينها فاشتراها لنفسه على أربعة أقوال، أحدها: أن القول قول المأمور وإن دفع إليه الثمن بعد أن يحلف أنه إنما اشتراها لنفسه إن اتهم في ذلك وهي رواية محمد بن يحيى والسباءي عن مالك، والثاني أن السلعة للآمر وإن لم يدفع إليه الثمن وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في المدنية، وقول أصبغ وروايته عن ابن القاسم في الثمانية، قال: وسواء أشهد المأمور أنه إنما يشتريها لنفسه أو لم يشهد لا ينتفع المأمور بإشهاده بذلك على نفسه في مغيب الآمر حتى يرجع إليه فيبرأ من وعده بالشراء له، والقول الثالث أن السلعة للآمر إلا أن يكون المأمور قد أشهد قبل الشراء أنه إنما يشتريها لنفسه، والقول الرابع الفرق بين أن يكون قد دفع إليه الثمن أو لم يدفعه إليه، وإنما أمره أن يشتريها له بماله فوعده بذلك. انتهى.

(1)

في الأصل: فأتيت، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 62.

ص: 63

وبقى خامس إن كان الآمر بالبلد فهي له وإلا فللمأمور لطرف، وسادس وهو أن السلعة للمأمور لعيسى عن ابن القاسم. واللَّه تعالى أعلم. والسباءي هو بالسين المهملة والباء الموحدة وبعد الألف همزة ثم ياء نسب، وقوله: والمدنية بالدال المهملة والنون والياء المثناة من أسفل، وقوله: في الثمانية هو بثاء مثلثة أحد ألفاظ العدد هذا هو الصواب، وما وقع بخلافه فتصحيف ثم ذكر شركة العمل وتسمى شركة الأبدان بقوله: وجازت بالعمل يعني أن الشركة تجوز فيما يؤخذ من الأجرة في عمل الأبدان بشروط أحدها: أشار إليه بقوله: إن اتحد يعني أن الشركة بالعمل إنما تجوز إن اتحد العمل كخياط وخياط لا إن اختلفا كخياط وحداد للغرر، إذ قد تنقص صنعة هذا دون صنعة الآخر، وفي معنى الاتحاد ما إذا تلازم العمل كما قال: أو تلازم أي عملهما بأن يتوقف وجود عمل أحدهما على وجود عمل الآخر كواحد ينسج والآخر يحول ويدور وينير، فالمراد بالتلازم التوقف بأن يتوقف وجود عمل أحدهما على وجود عمل الآخر كما في المثال المذكور، فالشرط أحد الأمرين، المواق من المدونة: قال مالك: لا تجوز الشركة إلا بالأموال أو عمل الأبدان إذا كانت صنعة واحدة.

البرزلي: سئل ابن عرفة عن حمالين اشتركا في أجرة ما يحملانه فحلف أحدهما لا حمل لفلان شيئا فحمل له صاحبه وحمل هو لغيره واقتسما الأجرة، فقال: الشركة فاسدة ولا حنث عليه. انتهى. وقال عبد الباقي: وفي لزومها -يعني شركة العمل بالعقد أو الشروع- قولان، ويظهر من قوله: ككثير الآلة ترجيح الثاني. انتهى. وناقشه الرهوني وقال: بل الذي يستفاد منه العكس، وأشار إلى ثاني الشروط بقوله: وتساويا فيه يعني أنه يشترط في الشركة في العمل أن يتساويا أي الشريكان في العمل بأن يأخذ كل قدر عمله في المتحد وقدر قيمته في غيره، فإذا عمل أحدهما الثلث والآخر الثلثين فيأخذ كل من الغلة بقدر ما عمل، وليس المراد أن يكون عمل كل كعمل الآخر فقط أو يقال: مفهومه إن أخذ كل بقدر عمله جاز، وإن أخذ كل النصف فسدت ولا يعترض بمفهوم فيه تفصيل. قاله عبد الباقي.

يشير إلى ما شرح به المواق كلام المص، فإنه قال عند قول المص:"وتساويا". ما نصه: اللخمي: من شروط شركة الأبدان أن يكونا في الإبطاء والسرعة والجودة واحدا أو متقاربا، وهذا المعنى هو الذي شرح به الرهوني، وقال: إنه التحقيق في شرح المص وعندي أن ما شرحه به عبد الباقي هو

ص: 64

المتعين، وفي معنى التساوي ما إذا تقاربا كما قال: أو تقاربا يعني أنه إذا تقاربا في العمل وتساويا فيما يؤخذ من الأجرة بأن أخذ أحدهما نصفها والآخر نصفها فإن ذلك لا يضر وهو جائز، فإذا تقارب عملهما عرفا بأن كان عمل أحدهما يقرب من الثلث وعمل الآخر يزيد على الثلثين جاز أن يأخذ أحدهما قدر الثلث والآخر الثلثين، ويرجع في التقارب لأهل المعرفة كما أشرت إليه. والحاصل أنه يشترط في شركة الأبدان التساوي، والتقارب كالتساوي. قال عبد الباقي. أو تقاربا عرفا كعمل أحدهما ما ينقص أو يزيد عن الثلث يسيرا والآخر الثلثين كذلك، فإن احتاجا مع الصنعة لمال أخذ كل بقدر عمله لا أزيد حيث كان القصد الصنعة لا المال وإلا فالنظر له.

وأشار إلى الشرط الثالث بقوله: وحصل التعاون يعني أنه يشترط في شركة الأبدان أن يحصل التعاون بين المشتركين في العمل فإن لم يتعاونا لم تجز وعمل كل يختص به دون رفيقه، وقوله:"وحصل التعاون" ولذا أجيزت الشركة في اللؤلؤ يتكلف أحدهما الغوص عليه والآخر يقذف أو يمسك عليه، فإذا كانت الأجرة سواء جازت الشركة على التساوي أي المناصفة، فإن كانت أجرة من يخرجه أكثر لم تجز إلا على قدر أجرة كل واحد، ولا يشترط كون العاملين بمكان واحد بل تجوز الشركة في العمل، وإن كانا بمكانين بأن يكون كل واحد بموضع على حدة هذا في حانوت وهذا في حانوت مثلا آخر. وقوله:"وإن بمكانين" اعلم أنه لابد أن يكون نفاقهما واحدا وأن تكون أيديهما تجول بالعمل في الحانوتين، وإلا فلابد من اتحاد المكان، فقوله:"وإن بمكانين" كذا في العتبية، وفي المدونة: لابد من اتحاد المكان ووفق بينهما بما مر. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وإن بمكانين إذا اتحدت الصنعة كما في العتبية، وشرط في المدونة اتحاد صنعتهما ومكانهما وعليه درج ابن الحاجب، ابن ناجي: وهو المشهور. انتهى. وجمع بينهما بثلاثة أشياء بأن ما اقتصر عليه المص كما في العتبية محمول على ما إذا كان المكانان بسوق واحد أو بسوقين نفاقهما واحد وتجول أيديهما بالعمل في المكانين جميعا أو يجتمعا بمكان واحد، ثم محل اعتبار اتحاد المكان أو تعدده مع مراعاة ما مر حيث كانا مشتركين في صنعة أيديهما من غير احتياج لإخراج مال أو احتاجا له وصنعتهما هي المقصودة دونه، فإن كانت صنعة أيديهما لا قدر لها والمقصود التجر به جاز كونهما بمكانين من غير اعتبار اتحاد نفاقهما، وقوله:"وإن بمكانين" ويأخذ كل واحد منهما

ص: 65

طائفة من العمل يذهب بها لحانوته يعمل فيها لرفقه به لسعته أو قربه من منزله أو نحو ذلك. انتهى من عبد الباقي بتقديم وتأخير.

قوله: أو بسوقين نفاقهما واحد وتجول أيديهما بالعمل لخ ظاهره أن هذا تأويل واحد، وقال عياض: تأول شيوخنا ما في العتبية على تعاونهما في الموضعين أو أن نفاق السلعتين في الموضعين سواء فيكون وفاقا للمدونة؛ لأن المقصود من وحدة المكان تقارب أسواقه ومنافعه. انتهى. فقوله: أو أن نفاق لخ هكذا رأيته في نسخة عتيقة من التنبيهات، وكذا رأيته في نسختين من ابن عرفة وظاهره أنهما تأويلان لا تأويل واحد. قاله البناني. وقال الرهوني: ورأيته في نسخة من القلشاني وأخرى من ابن ناجي كلاهما على الرسالة بالواو، وكذا فيما وقفنا عليه من نسخ مصطفى. وكذا رأيته في التوضيح بالواو كما قال الزرقاني، وكلام ابن عبد السلام يفيد أن الواو هي الصواب. انتهى.

ولما كان ما قدمه المص إنما هو في صنعة لا آلة فيها أو فيها ولا قدر لها كالخياط، ذكر ما إذا كانت تحتاج لآلة كالصياغة والصيد، فقال: وفي جواز إخراج كل آلة يعني أنه اختلف إذا أخرج هذا آلة وهذا آلة تساويها ليعملا بذلك على التعاون وسكتا عن الكراء، هل يجوز ذلك وهو مذهب سحنون وتأول بعضهم المدونة عليه؟ أو لابد أن يشتركا فيهما إما بملك واحد كشراء وميراث أو استيجار من غيرهما ليصير ضمانهما منهما معا وهو قول ابن القاسم؟ وتأولها عليه بعض آخر فعلم أن في هذه المسألة قولين لابن القاسم وسحنون، تأول بعض الشيوخ المدونة على قول سحنون، وتأولها بعضهم على قول ابن القاسم.

واستيجاره من الآخر صورتها أن يخرج هذا آلة وهذا آلة مساوية لها، ويستأجر كل منهما نصف آلته بنصف آلة الآخر فإنه اختلف في ذلك هل يجوز أو لا يجوز؟ وعليه فلابد أن يشتركا فيهما إما بملك واحد كشراء وميراث أو استيجار من غيرهما كما قال: بملك أو كراء ذلك تأويلان، وظاهر المص أو صريحه أن فيها تأويلين وليس كذلك، وإنما فيها قولان: الجواز لظاهر الكتاب والمنع لابن القاسم وغيره، وقد علمت أنه على المنع في المسألتين إن اشتركا فيهما بملك واحد أو كراء بأن استأجراهما من غيرهما جاز ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 66

واعلم أن الراجح في المسألتين هو الجواز، وعلم مما مر أنهما إذا اشتركا في ملك أو كراء من أجنبي يتفق على الجواز، وأن محل الخلاف فيما إذا أخرج كل آلة من عند نفسه من دون إجارة أو آجر كل منهما نصف آلته بنصف آلة الآخر. واللَّه تعالى أعلم.

ومثل شركة العمل بقوله: كطبيبين اتحد طبهما نحو كحالين أو جراحين أو تلازم وإلا لم يجز، والقيد المذكور يشعر به المص حيث جعل ذلك مثالا لمستوفي الشروط اشتركا في الدواء، قال عبد الباقي: أي على التفصيل السابق وفاقا وخلافا، ولا يقال حيث اشتركا في الدواء فهي شركة مال لا أبدان؛ لأنا نقول: الدواء تابع غير مقصود والمقصود التطبب. انتهى.

وصائدين في البازين مثلا أو باز وكلب، وهل محل الجواز إن اتفق مصيدهما ومكانهما واشتركا في ملك ذاتهما؟ ولا يكفي اشتراكهما في ملك منفعتهما وإن اجتمعا في هذه الثلاث اتفق على الجواز أو الجواز ثابت، وإن افترقا بأن اختلف مصيدهما اشتركا في ملك ذاتهما أم لا واتحد طلبهما في ذلك قولان، رويت نقلت المدونة عليهما أي على هذين القولين، وعلم مما قررت أن الصور ثلاث: واحدة متفق على جوازها وهي أن يتفق مصيدهما ويشتركا في ملك ذاتيهما، واثنتان مختلف فيهما بين الجواز والمنع وهما أن يختلف مصيدهما وهما مجتمعان في ملكهما، أو يتفق مصيدهما ويختلفان في الملك ولو قال المص: وهل إن اتفقا في الملك والطلب أو أحدهما كاف لطابق النقل. وبقيت صورة ممنوعة اتفاقا وهي ما إذا لم يشتركا في ملك الذات ولم يتحد الطلب بأن كان مصيد أحدهما الطير والآخر الوحش كالغزال لأنه يشترط في شركة العمل الاتحاد أو التلازم كما قدمه قبل. المواق من المدونة: من استأجر نصف دابة رجل ثم اشتركا في العمل عليها جاز وإن اشتركا ليحتطبا أو يجمعا ثمار البرِّيّة ونقلها على رقابهما أو دوابهما، فأما من موضع واحد فجائز ولا يجوز إن افترقا، ولا بأس أن يشتركا في صيد السمك والطير والوحش بنصف الشرك والشباك إذا عملا جميعا لا يفترقان في التعاون بالنصف، ولا يجوز أن يشتركا على أن يصيدا ببازيهما أو كلبيهما إلا أن يملكا رقابهما أو يكون الكلبان والبازان طلبهما واحدا لا يفترقان فجائز، وروى ابن المواز عن ابن القاسم أنه لا يجوز حتى يكون البازان والكلبان بينهما. انتهى نقل ابن يونس.

ص: 67

وقال ابن عات: شرط في المدونة في هذه الشركة شرطا واحدا، إما أن يشتركا في الجوارح وإما أن يكون الطلب واحدا وغيره شرط الشرطين. انتهى. وقال البناني: لفظ المدونة: ولا يجوز أن يشتركا على أن يصيدا ببازيهما وكلبيهما إلا أن يملكا رقابهما أو يكون الكلبان والبازان طلبهما واحدا لا يفترقان فجائز. انتهى. عياض: رويت المدونة بالواو وأو، وعزا الرواية بأو لأكثر الشيوخ ولروايته عن شيوخه، وقال المواق: على معنى: أو حملها ابن يونس وابن عتاب واللخمي. انتهى. فكان الظاهر أن لو قال: وهل إن اتفقا في الملك والطلب أو أحدهما كاف لخ وحافرين بكركاز ومعدن هذا أيضا من أمثلة الشركة في العمل يعني أنه يجوز أن يشتركا في حفر القبور والمعادن والآبار والعيون قال في المدونة ولا بأس أن يشتركا في حفر القبور والمعادن والآبار والعيون والبنيان وعمل الطين وضرب اللبن وطبخ القرامد وقطع الحجارة من الجبال إذا لم يفترقا في ذلك، ولا يجوز في موضعين أو هذا في غار وهذا في غار من المعدن، وإن عملا في المعدن معا فأدركا نيلا كان بينهما، ومن مات منهما بعد إدراكه النيل لم يورث حظه من المعدن والسلطان يقطعه لمن رأى وينظر في ذلك لجماعة المسلمين. انتهى. ولم يستحق وارثه بقيته يعني أنه إذا مات أحد الحافرين في المعدن، بعد العمل فإن وارثه لا يستحق بقية عمل موروثه في المعدن وللإمام أن يقطعه لمن شاء كما قال: وأقطعه الإمام أي وإذا لم يستحق الوارث بقية العمل فإن للإمام أن يقطع حظه من المعدن لمن شاء من ورثته أو غيرهم، وقيد بما لم يبد، وقولي: بقية العمل لا ينافيه قول الحطاب ما نصه: قوله بقيته أي بقية المعدن، وقوله:"وقيد بما لم يبد" أي وقيد ذلك بأن هذا فيما لم يبد من النيل، وأما إن بدا فلورثته والمقيد لذلك القابسي، ولفظ المدونة على اختصار ابن يونس: ومن مات منهما بعد إدراكه النيل لم يورث حظه من المعدن وللسلطان أن يقطعه لمن رأى وينظر في ذلك للمسلمين. انتهى.

قال في النكت: ذكر بعض القرويين عن الشيخ ابن القابسي أنه قال: معنى قول ابن القاسم أدركا

(1)

نيلا أنهما أخرجاه واقتسماه، فليس لورثة الميت التمادي على العمل في المعدن على سبيل المعدن إلا بقطيعة من الإمام يقطعه لهم أو لغيرهم، ولم يتكلم ابن القاسم على أنهما لم يخرجا شيئا. انتهى.

(1)

في الأصل: أدرك، والمثبت من الحطاب ج 5 ص 521؛ دار الرضوان.

ص: 68

فمعنى كلام المصنف أن قوله في المدونة: "لم يستحق وارثه بقيته" يريد الأنيال التي لم تبد، وأما النيل الذي بدا أو عمل فيه وقارب البدو فلورثته. فتأمله. واللَّه أعلم. انتهى كلام الحطاب.

وتبعه على ذلك غير واحد من المحققين، منهم مصطفى، ونسب الشارح التقييد لغير القابسي، وفي الرهوني بعد كلام طويل ما نصه: وحاصله أن الشيخين أبا محمد والقابسي اتفقا على أن معنى قولها: فأدركا نيلا كان بينهما أنهما أدركاه بإخراجه ونقله، واختلفا في معنى قولها: فمن مات منهما بعد إدراكه النيل لخ، ففهمه أبو محمد على أن معنى قوله: لا يورث هو جواب عما أدركه بما ذكر وزاد ولو اقتسماه، ولكنه جعل قول ابن القاسم مشكلا وتبعه التونسي، وفهمه أبو الحسن القابسي على أن معناه أنه لا يورث التمادي على العمل في المعدن، ولم يجب بنفي الإرث عما أدركاه بإخراجه ونقله فلا إشكال إذا عنده في جواب ابن القاسم، وأجاب الوانوغي بما لا نطيل به وقد رده الرهوني ردا واضحا بينا، فقال: إن قوله ما استخرجه منه وحازه وحصله لا يملكه بذلك فلا يباع ولا يورث غير مسلم بل يملكه ويجوز له بيعه بعد التصفية وينتفع به بشرائه به ما يحتاج إليه من مطعوم ومشروب وملبوس ومركوب وغير ذلك، ويستبيح به الفروج المحرمة فيصدقه لامرأة يتزوجها ويشتري به جارية يتسراها وغير ذلك، وهذا كله من ثمرة الملك ومما يدل على أنه يتملكه وجوب الزكاة عليه فيه ولا خلاف في ذلك ولما في أنه لا يشترط فيه مرور الحول، وقد قال المص في الزكاة "وفي تعلق الوجوب بإخراجه أو تصفيته تردد" ولو كان الأمر كما قال الوانوغي لم يكن في إقطاع المعدن انتفاع بل مشقة وتعب؛ لأنه إذا كان هو ممنوعا من بيعه لم يتأت له انتفاع به إلا بجعله حليا لنسائه. انتهى.

‌تنبيه:

قول المص: "ومعدن" ظاهر كلام غير واحد أن معناه أنهما جعل لهما الإمام الإمتاع بالمعدن، فإذا أخرجا نيلا استحق وارث من مات منهما ذلك النيل ولا يستحق التمادي على العمل في المعدن بعد ذلك النيل، وكلامهم كالصريح في ذلك ويدل عليه قوله:"وأقطعه الإمام"، وفي الخرشي ما نصه وإن مات بعد أن أخرج بعضه فهل يستحق الوارث بقية العمل إلى أن يفرغ النيل وإن أخرج الموروث منه ما يقابل عمله أو يزيد عليه وهو الظاهر أو لا يستحق الوارث بقية العمل، وإن كان ما أخذه منه موروثه يقابل عمله لم يستحق الوارث بقية العمل، وإلا استحق قدر ما

ص: 69

يحصل به مع ما أدرك الموروث ما يقابل عمله. انتهى. وهذا كالصريح في أنهما استؤجرا على ذلك: وهذا لا مانع منه من جهة الشركة في العمل لكنه ليس هو معنى المص كما يفيد ذلك غير واحد. واللَّه تعالى أعلم. ونحو ما للخرشي لعبد الباقي.

ولزمه ما يقبله صاحبه يعني أن أحد شريكي العمل إذا قبل شيئا ليعملا فيه لزم شريكه الآخر؛ أي لزمه أن يعمل فيه معه ولا يشترط أن يعقدا معا، وضمانه يعني أن أحد الشريكين في العمل إذا قبل شيئا ليعملا فيه لزم شريكه الآخر أن يعمل معه فيه كما عرفت، ويلزم أحدهما الضمان فيما أخذه صاحبه بغير إذنه حيث لم يتفاصلا بل، وإن تفاصلا قال الحطاب: يعني أن أحد شريكي العمل إذا قبل شيئا ليعملا فيه لزم شريكه الآخر أن يعمل معه فيه، ولا يشترط أن يعقدا معا ويلزم أحدهما الضمان فيما أخذه صاحبه، وإن افترقا كما لو أخذ أحدهما شيئا ليعملا فيه فتلف ثم تفرقا فجاء صاحبه يطلب به الذي دفعه له فالضمان عليهما، قال في المدونة: وما يقبل أحد الشريكين للصنعة لزم الآخر [عمله]

(1)

وضمانه يؤخذ بذلك وإن افترقا. انتهى.

وقال الخرشي: قوله: "وإن تفاصلا" راجع لقوله: "وضمانه" وهذا حيث لم يقبله صاحبه بعد أن طالت غيبته أو طال مرضه، فإن قبله بعد طول غيبته أو مرضه فإنه لا يلزم صاحبه العمل معه فيه ولا ضمان عليه فيه. قاله اللخمي. انتهى. ونحوه لعبد الباقي، وزاد ما نصه: وقال أيضا وإن عقد الشريكان الإجارة على عمل شيء ثم مرض أحدهما أو مات كان على الآخر أن يوفي بجميع ذلك العمل، سواء كانت الشركة على أن العمل مضمون في الذمة أو على أعيانهما لأنهما على ذلك اشتركا، انظر أبا الحسن. قاله أحمد. انتهى.

الحطاب: فينبغي أن يقال إن عمل بعد موته يوما أو يومين ألغي ذلك، وإن كثر لم يلغ. انتهى. وتبعه على ذلك أحمد بابا جازما به، ونصه موت أحدهما كمرضه فإذا عمل بعد موته يوما أو يومين ألغي، وان كثر لم يلغ كما يفهم من كلام اللخمي. انتهى. وقد بحث أبو علي فيما قاله الحطاب قائلا: عندي أن فيه نظرا

(2)

إذ الشركة تنقطع بالموت كما صرح به في المدونة في شركة

(1)

ساقطة من الأصل، والمثبت من التهذيب ج 3 ص 550 ط دار البحوث، والحطاب ج 5 ص 521 ط دار الرضوان.

(2)

في الأصل: نظر والمثبت من الرهوني ج 6 ص 67.

ص: 70

المفاوضة، وأيضا فربما كان إلغاء القليل في المرض والغيبة لأن صاحبه ربما يقع به هو ذلك، فجرت العادة بهذا ولا كذلك الموت. انتهى بتغيير. قال الرهوني: قلت: وما قاله ظاهر إن كانت الإجارة متعلقة بعينه لأنها تنفسخ بموته، بخلاف ما إذا كانت مضمونة في ذمته، فإذا حمل كلام الحطاب على المضمونة كان ما قاله ظاهرا فتأمله. انتهى.

وقوله: "وإن تفاصلا" قال البناني: قال الشيخ أحمد بابا: إن كان المراد أنه تلف قبل المفاصلة فالمبالغة ضائعة، وإن كان المراد أنه تلف بعد المفاصلة فهو مشكل لأن ضمانه ممن هلك بيده، ويجاب بأن المراد التلف بعد المفاصلة والضمان منهما كالوصيين إذا اقتسما المال وضاع ما عند أحدهما فإن الآخر يضمنه أيضا لرفع يده عنه. انتهى. والأول هو الذي عند الحطاب أي تلف قبل المفاصلة ولم يقم صاحبه حتى تفاصلا فإن الضمان عليهما، قال في المدونة: ما تقبل أحد الشريكين للصنعة لزم الآخر عمله وضمانه، ويؤخذ بذلك وإن افترقا. انتهى. فالمص تبع في المبالغة المدونة. واللَّه أعلم. انتهى.

وألغي مرض كيومين وغيبتهما يعني أن شريكي العمل إذا مرض أحدهما يوما أو يومين أو غاب يوما أو يومين وعمل صاحبه في اليومين المذكورين فالعمل بينهما، ويلغى مرض اليومين وغيبتهما. قاله الحطاب. فالضمير في غيبتهما لليومين، وقال عبد الباقي: الكاف استقصاءية، وفائدة الإلغاء أن ما يعمله الحاضر الصحيح يشاركه في عوضه الغائب والمريض. انتهى. قوله: الكاف استقصاءية، قال البناني: الذي عند الحطاب خلاف ذلك، وأن ما قارب اليومين له حكمهما، قال: وكأن المص اعتمد على مفهوم قول المدونة إلا ما تفاحش من ذلك وطال ولم يبينه، وكأنه أحال على العرف ثم ذكر أنه يفهم من أبي الحسن في مثل هذا أن القريب اليومان والثلاثة والبعيد العشرة، وما بينهما من الوسائط يردما قارب القرب إلى القرب وما قارب البعد إلى البعد. انتهى.

لا إن كثر يعني أنه إذا كثر زمن المرض والغيبة عن كيومين فإنه لا يلغى ذلك المرض والغيبة، وهل يختص العامل حينئذ بما عمل وهذا هو ظاهر المص كالمدونة، ويأتي للرهوني ترجيحه وإن كان مقابله قد رجح أو لا، وعليه فللشريك الذي عمل أجر عمله على الشريك الذي لم يعمل فيكون الربح بينهما على حسب ما لكل، ويترك للشريك الذي عمل من الربح قدر أجر عمله، قال عبد

ص: 71

الباقي: لا إن كثر أي زاد زمن المرض أو الغيبة على يومين فلا يلغى فله أجر عمله فيما يخص الشريك من الربح الذي اشترطاه على رب ثوب يخيطانه له، فيقسم بينهما ويخرج من حصة من لم يعمل أجرة من عمل كما في نقل أحمد، مثاله لو عاقدا شخصا على خياطة ثوب مثلا بعشرة دراهم وغاب أحدهما أو مرض كثيرا فخاطه الآخر فإن العشرة دراهم بينهما، ويقال ما أجرة هذا العامل في خياطته لهذا الثوب؟ فإن قيل أربعة دراهم مثلا رجع على صاحبه بدرهمين، وقول الشارح: اختص به أي بقيمة عمله لا بالفرض الأصلي كما توهمه عبارته. قاله بعض. وقوله: رجع أي الذي خيطه على صاحبه بدرهمين أي مضافين لدراهمه الأصلية، فيتم له قيمة عمله أربعة ثم تقسم الستة بينهما على ما تعاقدا تأمل. انتهى كلام عبد الباقي. وهذا الذي لعبد الباقي جزم به اللخمي وابن رشد.

وفي الرهوني بعد جلب نقول ما نصه: فتحصل من هذا أن في اعتراض الحطاب على الشارح نظرا، وكذا في تأويل الزرقاني له، بل الشارح ذهب على أحد القولين، وقد تقدم في نقل المفيد عن ابن لبابة أنهما قولان لمالك ولكل منهما مربم، فيترجح ما للشارح بأنه ظاهر المدونة وعلى ظاهرها حملها ابن يونس، واستدل بكلام ابن حبيب والمواق واستدل بقول مالك وأبي الحسن على ما نقله أبو علي وابن ناجي والشيخ ميارة وأبو حفص الفاسي؛ لاستدلالهما بكلامها

(1)

على ما في التحفة وهو الذي اعتمده المتيطى وابن هارون في اختصاره، وصاحب المفيد وابن سلمون وصاحب المقصد المحمود وابن عاصم وولده.

ويترجح الثاني بأنه الذي قاله بعض القرويين، وجزم به اللخمي وابن رشد، ونقله عن ابن القاسم ورد ما في المدونة إليه وبه جزم القرافي في ذخيرته والرجراجي، فكل منهما قوي والأول أقوى. واللَّه أعلم انتهى. وقول الرهوني: فتحصل من هذا أن في اعتراض الحطاب على الشارح لخ؛ يعني أن الحطاب حمل المص على ظاهره واعترضه بأنه خلاف ما قاله اللخمي من أنه بينهما، وعلى من لم يعمل الأجرة لخ، وقول عبد الباقي: فيقسم بينهما لخ، قال البناني: محله فيما قبلاه ثم طال مرض أحدهما أو غيبته، ومثله: إذا قبله أحدهما مع وجود الآخر أو في مرضه أو في غيبته القريبين

(1)

في الأصل: بكلامهما، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 96.

ص: 72

الذين يلغيان، أما ما قبله أحدهما بعد طول غيبة الآخر أو مرضه فهو له كما يفيده ابن يونس واللخمي. انتهى قول البناني: أما ما قبله أحدهما بعد طول غيبة الآخر أو مرضه فهو له لخ، قال الرهوني: بهذا جزم أبو علي ومصطفى معترضا على الحطاب في إطلاقه قائلا ما نصه: وأما نقله عن الرجراجي أن الربح بينهما ويطالبه بأجرة عمله من غير تفصيل فلا يعول عليه لأنه خلاف كلام المدونة وخلاف تفصيل بعض القرويين واللخمي. انتهى. وحمل التاودي كلام التحفة على القول الثاني، ثم قال: ولا يخفى ما فيه من البعد. انتهى. وفيه نظر إذ لا موجب لارتكاب ذلك مع الاعتراف ببعده، ولو فرضنا أن القولين متساويان فكيف مع ما كون ما درج عليه المص هو الأقوى؟ واللَّه أعلم. انتهى.

قوله: كلام التحفة يشير به إلى قول ابن عاصم:

وحاضر يأخذ فائدا عرض

في غيبة فوق ثلاث أو مرض

قال ولده في شرحه: إذا حضر أحد الشريكين وغاب الآخر فوق ثلاث أو مرض كذلك فإن الحاضر يأخذ الفائد الحاصل في غيبة الثاني، وما دون الثلاث فمستخف فلا يستبد فيه الحاضر بالفائد العارض له، ثم استدل بكلام المقصد المحمود وكذا شرحه الشيخ ميارة واستدل بكلام المدونة. واللَّه أعلم.

وفسدت باشتراطه قال الحطاب: يعني أن الشركة تفسد إذا شرطا فيها أن مرض أحدهما الكثير وغيبته مغتفران للغرر، قال في المدونة أثر قوله السابق في القولة التي قبل هذه: إن لم يعقد في أصل الشركة أن من مرض منهما أو غاب غيبة بعيدة فما عمل الآخر بينهما، وإن عقدا على هذا لم تجز الشركة، فإن نزل ذلك كان ما اجتمعا فيه من العمل بينهما على قدر عملهما وما انفرد به أحدهما له خاصة. انتهى. زاد القرافي بعد قوله: لم تجز الشركة: للغرر، قال ابن يونس. إثر كلام المدونة المذكور: يريد قل أو كثر. انتهى. وقال عبد الباقي: وفسدت باشتراطه أي اشتراط إلغاء كثير المرض أو الغيبة، ويكون ما اجتمعا فيه بينهما وما انفرد به أحدهما يكون له على انفراده، فقوله:

ص: 73

"باشتراطه" أي الكثير المفهوم من [كثر]

(1)

، وهو على حذف مضاف أي باشتراط إلغائه، وفهم من قوله:"باشتراطه" أنهما لو لم يشترطاه وأحب أحدهما أن يعطي صاحبه نصيبه من عمله جاز. انتهى. ونحوه للخرشي. وقال الشارح: أي فإن وقع العقد بينهما على أن من مرض منهما مرضا كثيرا أو غاب غيبة بعيدة يكون ما عمل الآخر بينهما فسدت الشركة. انتهى.

ككثير الآلة يعني أنه إذا اشترط إلغاء كثير الآلة فإن الشركة تفسد، واعلم أن ما وقع في صلب عقد الشركة له حكم المشترط وإن لم يشترط، واحترز بالكثير من اليسير فإنه إذا تفضل به أحدهما لا تفسد الشركة. قاله الحطاب. وفي شرح عبد الباقي ما نصه: ككثير الآلة تفسد بإلغائه عند العقد لا بعده، فيجوز كما استظهره الحطاب خلافا لما في أحمد من المنع، ثم ظاهر المدونة أن الفساد في كثير الآلة وإن لم يحصل شرط كما في الشارح والحطاب، وعليه فالتشبيه في مطلق الفساد لا بقيد الاشتراط، وقال البساطي: إنما تفسد باشتراطه. انتهى المراد منه.

قوله: خلافا لما في أحمد من المنع لخ، قال البناني: ما ذكره أحمد من منع التطوع بعد العقد هو الذي حمل عليه ابن رشد المدونة، وأقره أبو الحسن مقتصرا عليه، قال ابن رشد: هذا على القول بأن شركة الأبدان لا تلزم بالعقد وإنما تلزم بالشروع، وأما على القول بأنها تلزم بالعقد فيجوز. انتهى. وفهم الحطاب المدونة على أن المراد منع التطوع في العقد ولو بلا شرط، وقرر به كلام المص ورد على البساطي في تقييده بالشرط، ثم قال: وانظر إذا تطوع بها أحدهما بعد العقد والظاهر الجواز. انتهى. وفي المدونة: وإن تطاول أحد القصارين على صاحبه بشيء تافه من الماعون ولا قدر له في الكراء كالقصرية والمدقة جاز، وإن تطاول أحدهما على صاحبه بأداة لا يلغى مثلها لكثرتها لم يجز حتى يشتركا في ملكها أو يكري من الآخر نصفها.

قال ابن ناجي: عياض: المدقة هي الإرزبة بكسر الهمزة التي تكمد بها الثياب وتطاول معناه تفضل، ومعنى ما ذكره إذا وقع في العقد، ولذلك فصل بين التافه وغيره ولو كان بعد العقد جاز ولو كثر، وقيل إنه لا يجوز في غير التافه لأنه من أكل المال بالباطل. انتهى. قال الرهوني: وبه تعلم أن الصواب مع الحطاب لا مع مصطفى وأبي علي. انتهى المراد منه.

(1)

في الأصل: كثير والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 57.

ص: 74

وهل يلغى اليومان كالصحيحة تردد صواب قوله "كالصحيحة" في الصحيحة يعني بدل الكاف، والمعنى على ذلك أن الشركة الصحيحة إذا مرض فيها أحدهما أو غاب ما لا يلغى فإنه وقع التردد، هل يلغى من تلك المدة يومان كما لو غاب أو مرض يومين فقط، أو لا يلغى منها شيء؟ قال البناني: التردد إنما هو في الصحيحة إذا مرض أحدهما أو غاب ما لا يلغى لكثرته كما في الحطاب والمواق وغيرهما، ولعل أصل كلام المص: وهل يلغى اليومان في الصحيحة؟ تردد فصحف بالكاف، وأشار بالتردد لقول ابن يونس عن بعض القرويين: يلغى اليسير، وقول اللخمي: يرجع بالجميع، قال أبو الحسن: والخلاف مبني على أن الجزء من الجملة هل يستقل بنفسه أولا؟ كمن سجد على أنفه بدلا عن الإيماء. انتهى.

وظاهر كلام المص أن التردد في الفاسدة وليس كذلك لأنها إذا فسدت لا يلغى منها شيء، سواء كان فسادها بإلغاء كثير الغيبة أو المرض أو لغير ذلك. واللَّه تعالى أعلم. قال عبد الباقي: ثم كلام المص في شريك عمل كصبغ وخياطة ودباغة، وأما الأجراء فليس الصانعان منهم كذلك، فإذا استؤجرا معا على عمل كحفر بير فمرض أحدهما فعمل الآخر جميع العمل فللمريض نصيبه، وليس للعامل شيء عليه لأنه متطوع عنه بالعمل. قاله في المدونة. وهو في غير المستاجرين كما يدل عليه ما مثل به وتعليل المدونة، وأما المياومة فلا يشارك مريض أو غائب مطلقا غيره، وقول المدونة: لأنه متطوع أي بخلاف شريكي العمل فإن كل واحد منهما حميل عن صاحبه ضامن عنه ما يقبل إذا كان المتاع مما يضمن، فلهذا لم يكن الصحيح متطوعا، وإذا عمل أحد شريكي المال فله نصف أجر عمله على صاحبه. انتهى.

وأشار إلى شركة الوجوه بقوله: وباشراكهما بالذمم يعني أن شركة الذمم فاسدة، وفسرها المص بقوله: أن يشتريا بلا مال يعني أن الشركة بالذمم هي أن يتعاقدا على شراء شيء غير معين أي شيء بدين في ذمتهما، وأن كلا حميل عن الآخر ثم يبيعان ذلك الشيء وهي فاسدة كما قال المص، وأما لو كان اشتراكهما في شيء معين فإن ذلك جائز كما مر في قول المص: إلا في اشتراء شيء بينهما، قال الخرشي: والمعنى أنهما إذا اتفقا على أن يشتريا شيئا بينهما في ذمتهما بلا مال يخرجانه من عندهما ثم يبيعان ذلك، فإن الشركة تكون فاسدة وسواء اشتريا ذلك الشيء معا أو

ص: 75

اشتراه أحدهما دون صاحبه، وهذا قول ابن القاسم وهو المشهور، وإنما فسدت لأنها من باب: تحمل عني وأتحمل عنك وأسلفني وأسلفك، فهو من باب ضمان بجعل وسلف جر منفعة وهذا في غير المعين، أما لو اشتريا شيئا معينا بثمن معلوم في ذمتهما لجاز. انتهى.

وقال عبد الباقي: وفسدت الشركة باشتراكهما بالذمم وهي أن يشتريا شيئا غير معين بلا مال يخرجانه نقدا؛ أي تعاقدا على شراء شيء أيّ شيء كان بدين في ذمتهما، وأن كلا حميل عن الآخر ثم يبيعانه، فترك شرطين، تعاقدهما على شراء شيء غير معين وتحمل كل عن الآخر بمثله أو أكثر منه، فإن دخلا على شراء شيء معين وتساويا في التحمل جاز، كما تقدم في قوله: إلا في اشتراء شيء بينهما لخ، وإنما فسدت هذه الشركة لأنها من باب تحمل عني وأتحمل عنك وأسلفني وأسلفك، فهو من باب ضمان بجعل وسلف جر نفعا. انتهى.

وقال الحطاب: أي وفسدت الشركة بسبب اشتراك المتشاركين بالذمم، وتسمى شركة الوجوه ثم فسرها بأن يشتريا بلا مال يعني أن يدخلا على أن يشتريا ويبيعا على ذمتهما، فما اشتراه أحدهما كان في ذمتهما معا، وهذا إذا لم يكن اشتراكهما في شيء معين، وأما إن اشتركا في شيء معين فهو جائز. انتهى. فالباء في باشتراكهما للسببية كما صرح به الحطاب، والباء في قوله بالذمم يظهر من صنيع الحطاب أنها بمعنى على؛ أي يدخلا على أن يشتريا ويبيعا على ذمتهما، فما اشتراه أحدهما كان في ذمتهما معا، ونحوه للمواق عن أبي محمد، ونصه: هو أن يشتركا على الذمم دون مال ولا صنعة على ما اشترياه يكون في ذمتهما وربحه بينهما.

قال مقيده عفا اللَّه عنه ويحتمل أنها باء الآلة، وتوضيح المص على سبيل الاختصار أن تقول: وفسدت الشركة باشتراكهما أي بسبب اشتراكهما بالذمم أي بأن يتحمل كل واحد منهما في ذمته ما على الآخر، وذلك بأن يتعاقدا على الشركة فيما يشتريانه بدين في ذمتهما وكل منهما حميل عن صاحبه، وذلك الشيء غير معين فإن كان معينا جاز. واللَّه تعالى أعلم.

وهو بينهما يعني أنه إذا وقعت هذه الشركة الفاسدة فإن حكمها بعد الوقوع أن يكون ما اشتراه كل واحد منهما بينهما على ما دخلا عليه، قال الحطاب: وقول المص: "وهو بينهما" بيان للحكم بعد الوقوع كما قال ابن غازي، ثم قال: قال أصبغ: وإذا وقعت الذمم فما اشترياه بينهما على ما عقدا

ص: 76

وتفسخ الشركة من الآن. انتهى. فمعنى قول المص: "وهو بينهما" أي وما اشترياه فهو بينهما على ما دخلا عليه على المشهور، وقال سحنون: من اشترى شيئا فهو له. واللَّه أعلم. انتهى كلام الحطاب. ابن عرفة: اللخمي: إن اشتريا سلعة صفقة واحدة فهي بينهما على الجزء الذي اشتركا فيه، وما انفرد أحدهما بشرائه

(1)

في كونه كذلك واختصاصه بمشتريه قولان لابن القاسم وسحنون، والأول أحسن، ولأصبغ في سماعه كقول ابن القاسم. انتهى. انظر الرهوني.

‌تنبيهات:

الأول: قال عبد الباقي وغيره عند قوله: "وهو بينهما" وإذا وقع الشراء منهما أو من أحدهما، فإن لم يعلم البائع لهما باشتراكهما طالب متولي الشراء، ولا يأخذ مليا عن معدم ولا حاضرا عن غائب وإن علم باشتراكهما، فإن جهل فسادها فحكم ما وقع منهما من الضمان كحكم الضمان الصحيح في غير هذه، فإن حضرا موسرين لم يأخذ أحدهما عن صاحبه ويأخذ الملي عن العدم والحاضر عن الغائب، وإن علم فسادها لم يأخذ أحدهما عن الآخر بحال، وإنما يأخذ ممن اشترى فعلمه بفسادها مع علمه باشتراكهما كجهله باشتراكهما. انتهى.

ابن عرفة: وللبائع أخذ كل منهما بنصف الثمن إن حضرا موسرين، وإلا فإن علم شركتهما وجهل فسادها فله أخذ الموسر الحاضر بكل الثمن وإن لم يباشر بالشراء، وإن علم فسادها لم يأخذ أحدهما بجزء الآخر وإن جهل شركتهما فله أخذ متولي الشراء بكل الثمن وغيره بنصيبه؛ لأنه ملك نصف سلعته. انتهى. وبتأمله يظهر لك ما في كلام عبد الباقي. انظر الرهوني.

الثاني: قال الحطاب: قال في سماع عيسى من كتاب الشركة في الرجل يقول لصاحبه اقعد في هذا الحانوت تبيع فيه وأنا آخذ المتاع بوجهي والضمان علي وعليك، قال: الربح بينهما على ما تعاملا عليه، ويأخذ أحدهما من صاحبه أجرة ما يفضله به في العمل. ابن رشد: وهذا كما قال لأن الربح تابع للضمان إذا عملا بما تداينا به كما هو تابع للمال إذا عملا بما أخرجه كل واحد منهما من المال. انتهى.

الثالث: قال الحطاب: قال في المدونة: وإن أقعدت صانعا في حانوت على أن تنقل عنه المتاع ويعمل فما رزق اللَّه بينكما نصفين لم يجز. انتهى. وقال في سماع عيسى من كتاب الشركة قبل

(1)

في الأصل: بشراء، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 70.

ص: 77

الكلام المتقدم في رجل قال لرجل: اقعد في حانوت وأنا آخذ لك متاعا تبيعه ولك نصف ما ربحت أو ثلثه: لم يصلح ذلك، فإن عملا عليه كان للذي في الحانوت أجرة مثله، ويكون الربح كلا للذي أجلسه في الحانوت. ابن رشد: وهذا كما قال لأنه إجارة فاسدة من أجل أن الربح تابع للضمان، فإذا كان ضمان السلع من الذي أجلسه وجب أن يكون له جميع الربح وللعامل أجرة مثله. انتهى. الرابع: قال عبد الباقي ما نصه والأولى جعل قوله وهو بينهما بيانا لحكم المسألة بعد الوقوع لا من تمام التصوير فهو من المسمى في البديع بالكلام الوجه. انتهى قال البناني: كذا قال ابن غازي وفيه نظر؛ لأن التوجيه إيراد الكلام محتملا لعنيين متضادين، ولا يكفي مجرد احتمال معنيين متغايرين. قاله السعد. وما هنا من الثاني، ومثال التوجيه قول بعضهم:

خاط لي عمرو قباء

ليت عينيه سواء

وكان عمرو أعور. انتهى. إذ لم يعلم هل تمنى له العمى أو تمام البصر.

واعلم أن شركة الوجوه فسرت بمعنيين: أحدهما شركة الذمم، والآخر أشار إليه بقوله: وكبيع وجيه مال خامل بجزء من ربحه يعني أن هذه الشركة فاسدة، وهي أن يتعاقدا على أن وجيها يرغب الناس في الشراء منه يبيع مال خامل بجزء من ربحه، كربع أو ثلث مثلا لجهل الأجر، قوله:"وكبيع" الظاهر أنه عطف على قوله: "ككثير الآلة".

‌تنبيه:

قال الحطاب عند قوله: "وكبيع وجيه مال خامل بجزء من ربحه" ما نصه: هذا تفسير ثان لشركة الذمم. انتهى. وهذا غير صحيح، بل التفسيران لشركة الوجوه كما في المواق وغيره، وأما شركة الذمم فليس لها إلا التفسير الأول، ولفظ ابن الحاجب ولا تصح شركة الوجوه وفسرت بأن يبيع الوجيه مال الخامل ببعض ربحه، وقيل هي شركة الذمم يشتريان ويبيعان والربح بينهما من غير مال وكلتاهما فاسدة وتفسخ، وما اشترياه بينهما على الأشهر. انتهى. ونحوه لابن شاس، ونسب الأول لبعض أهل العلم، والثاني لعبد الوهاب. انتهى. انظر البناني. وقوله:"وكبيع وجيه" لخ قال عبد الباقي: قال الوالد: فإن نزل ذلك فينبغي أن يكون للوجيه جعل مثله بالغا ما بلغ،

ص: 78

وأما من اشترى من الوجيه فينبغي أنه إن كانت السلعة قائمة خير على مقتضى الغش، وإن فاتت ففيها الأقل من الثمن أو القيمة. انتهى. انتهى.

وكذي رحى وذي بيت وذي دابة ليعملوا إن لم يتساو الكراء وتساووا في الغلة قوله: "وكذي رحى" قال الرهوني: الظاهر أنه معطوف على قوله: "ككثير الآلة" بتقدير مضاف أي وكشركة ذي رحى لخ، والمعنى كفساد شركة اشترط فيها إلغاء كثير الآلة وشركة ذي رحى لخ. انتهى. ومعنى كلام المص أنه إذا اشترك ثلاثة في العمل فأتى أحدهما برحى، وأتى الثاني ببيت توضع فيه تلك الرحى، وأتى الثالث بدابة تدور في ذلك البيت بالرحا، فإن الشركة تكون فاسدة إذا لم يتساووا في كراء تلك الثلاثة، وعملوا بأيديهم على أن ما حصل من الغلة أي ما نالوا من الأجرة في مقابلة الطحن يقسم بينهم أثلاثا، ومفهوم الشرط أعني قوله: إن لم يتساو الكراء أنه إذا تساوى الكراء وما حصل يقسم بينهم أثلاثا جازت الشركة وهو كذلك، ومفهوم قوله:"وتساووا في الغلة" أنهم لو دخلوا على أن كل واحد يأخذ من الغلة على قدر ماله لجازت الشركة وهو كذلك.

وعلم مما قررت أن قوله: "وتساووا في الغلة" من جملة ما دخلا عليه فهو بيان لفرض المسألة والحكم بعد الوقوع كذلك أيضا، فإذا وقعت الشركة على الوجه المذكور فسدت والحكم فيها أنهم يتساوون في الغلة فيقسم ما حصل بينهم أثلاثا، فإذا عرفت هذا عرفت أن قوله:"وتساووا في الغلة" يحتمل أنه بيان لموضوع المسألة وهو المظاهر، ويحتمل أنه بيان للحكم بعد الوقوع وكلا المعنيين صحيح، والأولى أن يكون شاملا للمعنيين إن كان ذلك يصح في العربية. واللَّه تعالى أعلم.

والأول فسر به غير واحد، والثاني فسر به الشارح فإنه جعل قوله:"وتساووا في الغلة" تقريرا لحكم المسألة بعد الوقوع كما بعده من قوله: وترادوا الأكرية يعني أنه إذا وقعت الشركة على هذا الوجه الفاسد فإنهم يترادون الأكرية، ومعنى ذلك أنه يرجع من له فضل عمل على صاحبه، فإن حضروا كلهم وهم أملياء وكان كراء البيت ثلاثة وكراء الدابة درهمين وكراء الرحى درهما، دفع صاحب الرحى لصاحب البيت درهما لأن جميع الكراء ستة فصاحب الدابة كراؤه درهمان فلا شيء له ولا عليه، وقد علمت أنهم يتساوون فيما أخذ في مقابلة الطحن بأن يقسم بينهم أثلاثا ورجوع بعضهم على بعض إنما هو بالنسبة لما تكرى به أمتعتهم. هذا توضيح هذه المسألة.

ص: 79

قال المواق: ونص المدونة قال ابن القاسم: إذا اشترك ثلاثة نفر أتى أحدهم برحى والآخر بدابة والثالث بالبيت، على

(1)

أن يعملوا بأيديهم والكسب بينهم أثلاثا فعملوا على ذلك وجهلوا أنه لا يجوز، فإن ما أصابوا يقسم بينهم أثلاثا إن كان كراء الدابة والبيت والرحى معتدلا، وتصح الشركة لأن كل واحد منهم أكرى متاعه بمتاع صاحبه، ألا ترى أن الرحى والدابة والبيت لو كان ذلك لأحدهم فأكرى ثلثي ذلك من صاحبيه وعملوا جازت الشركة؟ قال: وإن كان كراء ما أخرجوه مختلفا قسم المال بينهم أثلاثا لأن رءوس أموالهم عمل أيديهم وقد تكافئوا فيه، ويرجع من له فضل كراء على أصحابه فيترادون ذلك فيما بينهم وإن لم يصيبوا شيئا؛ لأن ما أخرجوه مما يكرى وقد اكتري كراء فاسدا ولم يتراجعوا في عمل أيديهم لتساويهم فيه فجعلت ذلك رءوس أموالهم. انتهى.

ابن يونس: فلو كان كراء البيت ثلاثة والدابة درهمين والرحى درهما وهم حضور أملياء لدفع صاحب الرحى لصاحب البيت درهما؛ لأن جميع الكراء ستة فصاحب الدابة كراء دابته درهمان فلا شيء له ولا عليه.

وإن اشترط عمل رب الدابة فالغلة له وعليه كراؤهما يعني أنه إذا اشترط صاحب الرحى وصاحب البيت في عقد الشركة أن العمل على رب الدابة بمفرده وعمل فإن الغلة كلها تكون له، وكان عمله رأس المال وكان على صاحب الدابة كراء المثل لصاحب الرحا ولصاحب البيت، يريد وإن لم يحصل له ربح ولا مفهوم لقوله:"وإن اشترط عمل رب الدابة" أي وإن اشترط عمل أحدهم بصوصه، وإنما خص المؤلف الدابة تبعا للرواية. قاله غير واحد. قوله:"وعليه كراؤهما" أي وإن لم يصب شيئا كما في المدونة؛ لأن من اكترى شيئا كراء فاسدا عليه كراء مثله وإن لم يصب غلة.

‌تنبيهات:

الأول: قد مر عند قوله: "وترادوا الأكرية" كلام ابن يونس فيما إذا كانوا حضورا أملياء وكان كراء البيت ثلاثة والدابة درهمين والرحى درهما وهو سهل، وقال عبد الباقي: فإذا كان كراء متاع أحدهم درهما والآخر درهمين والآخر ثلاثة فإن أكثرهم كراء يطالب كلا من صاحبيه بما يجيء عليهما من فضل كرائه بالنسبة لأقلهما، فيطالب من كراء متاعه ثلاثة كل واحد من صاحبيه بثلثي درهم، ويطالب من كراء متاعه درهمان كل واحد من صاحبيه بثلث درهم فكل واحد من

(1)

في الأصل: وعلى، والمثبت من التهذيب ج 3 ص 549.

ص: 80

هذين له غريمان، فيأخذ الأول ممن كراء متاعه درهم ثلثي درهم، ويأخذ ممن كراء متاعه درهمان ثلث درهم ويأخذ الثاني ممن كراء متاعه درهم ثلث درهم، وقد أخذ منه الأول ثلثي درهم فتساويا بهذا في الكراء، وهذا الثلث هو الذي أخذه الأول من الثاني بعد ما تقاصا في ثلثه، هذا ما أشار إليه ابن أبي زيد كما ذكره الشارح، وقال عقبه: وأسهل منه ما ذكره ابن يونس أن لمن كراء متاعه أكثر الرجوع على صاحب الأقل بدرهم، فلكل من صاحب الأكثر والوسط غريمان على القول الأول، وأما على الثاني فليس لصاحب الوسط غريم وإنما لصاحب الأكثر غريم واحد وهو من كراء متاعه درهم. انتهى.

واعلم أن ابن يونس إنما خالف أبا محمد في حضورهم وملائهم لا مطلقا، ففي كلام عبد الباقي وغيره نظر، وقول عبد الباقي: فإن أكثرهم كراء يطالب كلا لخ؛ يعني أنهم لما تساووا في الغلة كان من حق صاحب الثلاثة أن يقول أنا لا يلزمني من الكراء إلا ما لزم صاحب الأقل، وهو إنما لزمه درهم فيفضل درهمان يقسطان على الشركاء، فينوب كلا منهم ثلثان فيرجع على كل من صاحبيه بثلثي درهم، وكذا الأوسط يقول: أنا لا يلزمني من الكراء إلا مثل ما لزم صاحب الأقل وهو إنما لزمه درهم، فيكون الفضل وهو الدرهم مقسطا على الثلاثة فيرجع على كل من صاحبيه بثلث درهم، فتقع المقاصة بينه وبين صاحب الثلاثة بثلث درهم ويعطيه ثلثا. قاله البناني.

الثاني: قال المواق: إذا عقد شركاء الأبدان الشركة بينهما على أن يعمل هذا يوما وهذا يوما في هذا خلاف والمشهور أن ذلك لا يجوز، فإن تراضيا بعد الشركة أن يرعى هذا شهرا وهذا شهرا جاز، وكذا معلمو الصبيان. ابن عرفة: اختلف في كون تصرف أحد الشريكين كغاصب أم لا، سمع ابن القاسم: ليس لأحد مالكي عبد ضربه بغير إذن شريكه إن فعل ضمنه إلا في ضرب أدب، وقال سحنون: يضمنه مطلقا. ابن رشد: رأى مالك شركته شبهة تسقط الضمان في ضرب الأدب وهو أظهر من قول سحنون؛ لأن ترك أدبه يفسده، وزرع أحد الشريكين وبناؤه في أرض بينهما بغير إذن شريكه في كونه كغاصب يقلع زرعه وبناؤه أم لا لشبهة الشركة.

الثالث: قال المواق: ومن نوازل البرزلي قال أبو حفص: إذا زرع أحد الورثة قدر حظه من الأرض لا كراء عليه لأنه إنما زرع حصته بخلاف مركب بينهم لأن راكبه سافر به، وليس على شريكه أن

ص: 81

يسافر به بغير كراء والأرض هي على حالها. البرزلي: وكذا يلزم في الدار أنها على حالها بخلاف الركب، ويظهر من البرزلي أنه رجح هذا على فتيا السيوري في امرأة لها شقص في دار بقيت بتلك الدار تسكنه وحدها، فقام عليها من له البقية بكراء حظه، فقالت إنما سكنت قدر حظي، فقال السيوري: عليها الكراء. ومن هذا المعنى مسألة البير تكون بيد الشريكين فتنهار أو العين فتنقطع، فيعمل فيها أحدهما ويأبى شريكه أن يعمل، فإن جميع الماء يكون للذي عمل وإن كان فيه فضل، ولا شيء لشريكه حتى يعطيه شريكه نصف ما أنفق. انتهى.

وقضي على شريك فيما لا ينقسم أن يعمر أو يبيع؛ يعني أنه إذا كان المشترك فيه عقارا لا ينقسم كحمام وفرن وحانوت ونحوها، فاحتيج إلى الإصلاح وأبى أحدهما فإنه يقضى على الآبي بأن يعمر أي يصلح مع صاحبه أو يبيع ممن يعمر أي يبيع جميع حظه لتقليل الشركاء، لا قدر ما يعمر به فقط وإن اقتصر عليه ابن الحاجب، قال عبد الباقي: ووجه يعني قول ابن الحاجب بأن البيع إنما أبيح للضرر وهو يرتفع بقدر الحاجة؛ لأنه خلاف ظاهر إطلاقاتهم كما قاله ابن عبد السلام، والمعنى أمره القاضي بالعمارة من غير حكم: فإن أبى منه حكم عليه بالبيع، فالقضاء إنما يقع بشيء معين وهو البيع، واستعمل القضاء بمعنى الأمر في الأول وبمعنى الحكم في الثاني وأو للتنويع، ولا يتولى القاضي البيع انظر ابن عرفة في التتائي وغيره. وظاهره الحكم عليه بالبيع وإن كان له ما يعمر به، بدليل أن ابن عرفة جعل القول بأنه يبيع من حظه بقدر ما يعمر به مقابلا، وفي الفاكهاني: في كذي سفل ما يفيد أنه إذا كان له مال ظاهر يجبر على العمارة منه دون بيع، ونقل التتائي نحوه عن سحنون، ويستثنى من كلامه البير خلافا لإدخال التتائي لها في المص والعين، فلا يقضى على شريك أن يعمر أو يبيع ويخير الآخر فيها فإن عمر اختص بما حصل منها من كل الماء أو ما زادته عمارته إلا أن يدفع الآبي ما ينوبه من العمارة، ثم عدم القضاء على الممتنع شامل لما إذا كان على البير زرع أو شجر فيه ثمر مؤبر أم لا كما قال ابن القاسم، وقال ابن نافع والمخزومي: يجبر الشريك إذا كان عليه زرع أو شجر غير مؤبر. قاله الأجهوري.

ويظهر أن مرادهم باختصاصه بما حصل من العمارة أنه يستوفي منها ما أنفق فقط قياسا على المسألة الآتية لا دائما، ثم ما هنا في الشجر لا يعارض ما مر في النفقات من وجوب قيام ذي شجر به

ص: 82

للنهي عن إضاعة المال لتخصيصه بمن ليس له فيه شريك، وشمل قوله:"ما لا ينقسم" الوقف لشريك ملك فإنه كالملك فيقضى على ناظره الممتنع بالعمارة أو البيع كما في الذخيرة، ويخص قوله في الوقف:"لا عقار وإن خرب" بما جميعه وقف لكن يتفق هنا على البيع منه بقدر الإصلاح لا جميعه حيث لم يحتج له، وعلى أن محله

(1)

لم يكن فيه ريع يعمر منه وإلا بدئ به على بيعه قطعا، ومفهوم لا ينقسم أن ما يمكن قسمه لا يقضى على آبي الإصلاح ببيع ولا عمارة بل بالقسم لزوال ضرر مريد الإصلاح به. انتهى كلام عبد الباقي.

وما مر عليه المص من قوله: "وقضي على شريك" لخ أحد أقوال ثلاثة، ومقتضى كلام ابن عرفة ترجيح القول الذي مر عليه المص. ابن عرفة: وإذا دعا أحد شريكي ما لا ينقسم لإصلاحه أمر به، فإن أبى ففي جبره على بيعه ممن يصلحه أو بيع القاضي عليه من حظه بقدر ما يلزمه من العمل فيما بقى من حقه بعد ما بيع عليه منه ثالثها: إن كان مليا جبره على الإصلاح وإلا فالأول لابن رشد عن ابن القاسم ومالك وسحنون، وقول عبد الباقي بدليل أن ابن عرفة لخ قصور؛ لأن ابن عرفة ذكر القول بجبر الملي على الإصلاح قولا ثالثا، وعزاه لسحنون كما تقدم، وقوله: وقال ابن نافع والمخزومي يجبر الشريك لخ، قد صرح ابن رشد بضعف ما قالاه مرجحا ما لابن القاسم، وقوله: ويظهر أن مرادهم باختصاصه لخ فيه نظر، بل النقل بخلافه ولفظ المواق قبل قوله:"وقضي على شريك" لخ هو ما نصه: فإن جميع الماء يكون للذي عمل وإن كان فيه فضل ولا شيء منه لشريكه حتى يعطيه شريكه نصف ما أنفق. انتهى. وهو الذي في حريم البير من المدونة. انظر الحطاب. وقوله: لتخصيصه بمن ليس له فيه شريك، تقدم في النفقات أن الوجوب في الشجر من غير قضاء قاله البناني.

‌تنبيهات:

الأول: قال الحطاب عند قوله: "وقضي على شريك" لخ، ويستثنى من ذلك المعين والبير تكون مشتركة، وقد قسمت [أراضيهما]

(2)

ولم يكن عليها زرع ولا شجر مثمر يخاف عليه، فإنه لا خلاف أن الآبي من العمل لا يُلزَم ويقال لصاحبه اعمل ولك الماء كله، أو ما زاد بعملك إلى

(1)

في عبد الباقي ج 6 ص 60: محله إن لم يكن لخ.

(2)

في الحطاب ج 5 ص 527 ط دار الرضوان: أراضيها.

ص: 83

أن يأتيك صاحبك الآبي بما يصيبه من النفقة. قاله ابن رشد. وقال ابن يونس: ظاهر كلام سحنون أنه يجبر على أن يعمل أو يبيع ممن يعمل وإن كان مقسوما. انتهى بالمعنى. وهو مخالف لما حكاه ابن رشد من الاتفاق، ثم قال ابن رشد: وأما إن كان عليها زرع أو شجر، فقال ابن القاسم: ذلك كما إذا لم يكن عليها شيء، وقال ابن نافع والمخزومي: إن الشريك في العين أو البير يجبر على أن يعمر معه أو يبيع نصيبه ممن يعمر، كالعلو يكون لرجل والسفل يكون لآخر فينهدم وهذا تنظير غير صحيح، إذ لا يقدر صاحب العلو أن يبنى علوه حتى يبني صاحب السفل سفله، ويقدر الذي يريد السقي بماء البير المشتركة بينهما إذا انهدمت أن يصل إلى ما يريد من السقي بأن يصلح البير فيكون أحق بجميع الماء إلى أن يأتيه صاحبه بما ينوبه من النفقة، فقول ابن القاسم أصح من قول ابن نافع والمخزومي. واللَّه أعلم. انتهى.

وقد نص في حريم البير من المدونة على أن من عمر أحق بالماء، ونصها وإذا كانت بين رجلين بير فانهارت أو عين فانقطعت فعملها أحدهما وأبى الآخر أن يعمل لم يكن للذي لم يعمل من الماء قليل ولا كثير، وإن كان فيها فضل إلا أن يعطي شريكه نصف ما أنفق، وإذا احتاجت قناة أو بير بين شركاء لسقي أرضهم إلى الكنس لقلة مائها فأراد بعضهم الكنس وأبى الآخرون وفي ترك الكنس ضرر على الماء وانتقاص والماء يكفيهم أو يكفي الذين شاءوا الكنس خاصة، فللذين شاءوا الكنس أن يكنسوا ثم يكونوا أولى بالذي زاد في الماء كنسهم، دون من لم يكنس حتى يودوا حصتهم من النفقة فيرجعوا إلى أخذ حصتهم من جميع الماء، وكذلك بير الماشية إذا قل ماؤها فأراد بعضهم الكنس وأبى الآخرون فهي كبير الزرع، فإن كنسه بعضهم كان جميعهم فيما كان من الماء قبل الكنس على قدر حقوقهم، ثم يكون الذين كنسوا أحق بما زاد الماء بكنسهم فإذا رووا كان الناس وأباة الكنس في الفضل سواء حتى يودوا حصصهم من النفقة، فإذا أدوه كان جميع الماء بينهم على قدر ما كان لهم ثم الناس في الفضل شرع أي سواء انتهى.

الثاني: إذا كان أحد الشريكين غانبا فإن القاضي يحكم على الغائب بالبيع إن لم يجد له من ماله ما يعمر به نصيبه. نقله البرزلي.

ص: 84

الثالث: إذا كان المشترك لا يقبل القسمة كالفرن ثم إنه خرب حتى صار أرضا يقبل القسمة فإنه يقسم، وقال ابن فرحون: والأشياء التي لا تنقسم أو في قسمتها ضرر يجبر على البيع من أباه إذا طلب البيع أحدهما وإنما جبر على البيع من أباه دفعا للضرر اللاحق للطالب؛ لأنه إذا باع نصيبه مفردا نقص ثمنه، وإذا قلنا: يجبر من أبى البيع فإنه إذا وقف البيع على ثمن وأراد الطالب للبيع أخذه بما وقف عليه لم يكن له ذلك؛ لأن الناس قد [يتحيلون]

(1)

بطلب البيع إلى إخراج الناس عن أملاكهم، وأما إن طلب الشراء من أبى البيع فله ذلك. انتهى.

الرابع: قد علمت أن مفهوم قوله: "فيما لا ينقسم" هو المنقسم، قال الشارح: فإن أحدهما إذا طلب العمارة وأبى الآخر فإن الضرر يرتفع بالقسمة، فيقسم عليهما ذلك ويفعل كل واحد منهما في نصيبه ما يشاء ولا خلاف في ذلك. انتهى.

الخامس: قوله: "وقضي على شريك فيما لا ينقسم أن يعمر أو يبيع"، وإذا وقع البيع فأبى الثاني أن يعمر فإنه يقضى عليه بمثل ما قضي به على الأول. قاله الخرشي.

قال مقيده عفا اللَّه عنه: وهذا يشمله كلام المصنف. واللَّه تعالى أعلم.

كذي سفل إن وهى شبه ما ليس فيه شركة بمسألة الشركة، ومعنى كلامه أنه إذا كان منزل بين شخصين لأحدهما العلو وللآخر السفل فوهى السفل أي ضعف فإنه يقضى على صاحب السفل بالعمارة أو البيع لمن يعمر؛ لأن لصاحب الأعلى الانتفاع بالأسفل، قال عبد الباقي: وشبه بمسألة الشركة ما ليس فيه شركة، فقال: كذي سفل لشخص يقضى عليه بالعمارة إن وهى وخيف سقوط العلو عليه الكائن لشخص آخر، وإن امتنع باع الحاكم عليه ممن يعمر، وإذا سقط الأعلى على الأسفل فهدمه جبر رب الأسفل على أن يبنيه أو يبيع ممن يبنيه حيث بنى رب العلو علوه، والمراد بالسفل ما نزل عن العلو لا اللاصق للأرض؛ لأنه قد يكون طباقا متعددة، فالمراد بالسفل السفل النسبي، وشمل كلام المص الوقف كالحانوت يوقف وعلوه بيت آخر فيقضى على ناظر الحانوت بعمارته إذا وهى وخيف على العلو منه، وليس على ذي العلو شيء من العمارة، كذا أفتى به علي الأجهوري. وهو يخصص فتوى شيخ شيخنا السنهوري في الخلو، بأن العمارة على

(1)

في الأصل: يتحيلوا والمثبت من تبصرة ابن فرحون ج 2 ص 168.

ص: 85

ربه وعلى الوقف بقدر انتفاع كل؛ أي أن محل ذلك إذا اتحد محل الوقف والخلو لا إن كان أعلى والوقف أسفل فالعمارة على ناظره دون ذي الخلو. انتهى.

قوله: حيث بنى رب العلو علوه، قال الرهوني: موابه حتى يبني كما في الخرشي.

قال مقيده عفا اللَّه عنه: وعندي أنه صحيح، ومعناه حيث أراد رب العلو أن يبنيَ علوه. واللَّه تعالى أعلم. وقال الحطاب: قال في رسم صلى نهارا من سماع ابن القاسم من الأقضية في المنزل بين الرجلين لأحدهما العلو وللآخر السفل فينكسر سقف البيت الأسفل: إن عليه إصلاحه، وكذلك لو انهدم جداره الأسفل كان عليه أن يبنيه حتى يسقفه. ابن رشد: هذه مسألة صحيحة على ما في المدونة وغيرها ولا اختلاف أعلمه فيها، والدليل على صحتها قوله تعالى:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} ، فلما أضاف السقف إلى البيت وجب أن يحكم بالسقف لصاحب البيت إذا اختلف فيه مع صاحب الأعلى فادعاه كل منهما لنفسه وأن يحكم عليه أنه له، فيلزم بناؤه إذا نفاه كل واحد منهما عن نفسه وادعى أنه لصاحبه ليوجب عليه بنيانه. انتهى. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: إذا كانت دار بين قوم وفيها بيوت وساحة ولها غرف وسطوح بين يديها فقسموا البناء على القيمة وأبقوا الساحة فالسطح يقوم مع البناء تقوم الغرفة بما بين يديها من المرفق، ولصاحب العلو أن يرتفق بساحة السفل كارتفاق صاحب السفل ولا مرفق لصاحب الأسفل في سطح الأعلى؛ إذ ليس من الأفنية ويضيف القاسم قيمة خشب السطح والغرف مع قيمة البيت الذي

(1)

تحت ذلك، وما رث من خشب العلو الذي هو من أرض الغرف والسطح فإصلاحه على رب الأسفل وله ملكه كما عليه إصلاح ما وهى ورث من جدران الأسفل، وإذا سقط العلو على السفل فهدمه جبر رب الأسفل على أن يبنيه أو يبيع ممن يبنيه حتى يبني رب العلو علوه، فإن باعه ممن يبنيه فامتنع من بنائه جبر المبتاع أيضا على أن يبنيه أو يبيع ممن يبنيه. ابن يونس: قيل إن كان له مال جبر على بنائه

(2)

لأنه حق لصاحب العلو، وفي تربصه للبيع ضرر عليه. انتهى.

(1)

في الأصل: التي، والمثبت من المواق ج 6 ص 146.

(2)

في الأصل: بنانها، والمثبت من المواق ج 6 ص 146.

ص: 86

‌فرع:

قال الإمام الحطاب إذا كان سبب الانهدام وهاء العلو، فإن كان صاحب السفل حاضرا عالما ولم يتكلم لم يضمن صاحب العلو واختلف إذا كان صاحب السفل غائبا، فإن كان وهاء العلو مما لا يخفى سقوطه هل يضمن أو لا يضمن لأنه لم يتقدم إليه. اللخمي: والأول أحسن وإن تقدم إليه ولم يفعل ضمن اتفاقا، وكذلك إن كان سبب الانهدام وهاء السفل وصاحب العلو حاضر ولم يتكلم ولم يتقدم إليه أو كان غائبا. انتهى.

وعليه التعليق يعني أن السفل إذا وهى وخيف من ذلك سقوط الأعلى فإن عليه أي على صاحب السفل التعليق أي تعليق الأعلى إلى أن يصلح السفل، ويقضى على صاحب السفل بذلك التعليق، ومعنى تعليق الأعلى حمله على خشب ونحوها، قال الحطاب: قال الشيخ سيدي زروق في شرح قول الرسالة: وتعليق الغرف عليه: المراد بالتعليق حمله على خشب ونحوها، ومعنى وهى: ضعف شديدا. انتهى. وقال عبد الباقي: وعليه أي على صاحب السفل إذا وهى وخيف سقوط الأعلى التعليق للأعلى؛ لأن التعليق بمنزلة البناء والبناء على ذي السفل انتهى.

والسقف يعني أنه يقضى على صاحب السفل أن يسقف بيته ليتمكن صاحب الأعلى من البناء، قال الخرشي: وكذلك يقضى على صاحب الأسفل بالسقف لبنيانه لأنه أرض للأعلى، وإنما كان يقضى على صاحب الأسفل به لأنه له عند التنازع كما يأتي. انتهى.

وكنس مرحاض يعني أنه يقضى على صاحب الأسفل بكنس بير المرحاض الذي يلقي فيه صاحب الأعلى سقطاته لأنه يقضى له بذلك، وله أن يرتفق به فهو كسقف السفل. قاله ابن القاسم وأشهب، وقال أصبغ وابن وهب: إنما ذلك على جماجمهم واستظهر. قاله الخرشي وغيره. قال عبد الباقي: وانظر هل معنى كلام ابن القاسم وأشهب أن صاحب العلو ينزل يرمي سقطاته بمرحاض الأسفل وليس له في علوه رقبة؟ أو ولو كان له في علوه رقبة، وعلى الأول فإذا كان له في علوه رقبة يكون كنسه بينهما على قدر الجماجم كبير بينهما، أو لكل رقبة كما بمصر من جعل رقبة مرحاض وبير بأعلى أيضا فتنقيتهما عليهما يجوز ذلك. انتهى.

قوله: أو ولو كان في علوه رقبة لخ، قال البناني: في هذا فرض الخلافَ ابنُ جزي في القوانين، وهو ظاهر كلام ابن رشد إذ قال بعد ذكر القولين ما نصه: وعليهما الخلاف في كنس كنيف الدار المكراة، روى عن ابن القاسم أنه على ربها، وروي عنه أيضا أنه على المكتري، وفي المدونة دليل

ص: 87

القولين. اهـ. نقله المواق. فإن هذا خلاف في نفس المرحاض، وذكر ابن عرفة بعد ما تقدم ما نصه: زاد الشيخ، وقال لنا أبو بكر بن محمد: إن كانت رقبة البير لرب السفل فالكنس عليه، وإن كان لرب العلو في رقبة البير ملك فالكنس عليهما على قدر الجماجم. اهـ.

‌تنبيه:

لما ذكر المواق القولين في الدار الكراة قال ما نصه: انظر هذا مع قولهم إذا وقعت في بير الدار المكتراة فارة وماتت به أو هر أو غيره إن تنقية البير على رب الدار لأن البير من منافع الدار فعليه إصلاحها؟ انتهى. وأجيب عنه بأن سقوط الفارة ونحوها ليدر بفعل المكتري ولا سببه غالبا ومع ذلك فهو نادر، ثم قال المواق أيضا: وانظر أيضا قد ذكروا الخلاف في الدابة تدخل دار رجل فتموت والمشهور أن إخراجها على رب الدار. انتهى. واعترضه بعض الشيوخ قائلا لم أر من شهر هذا، وكأن المواق أخذ ذلك من تقديم صاحب الطرر له، والظاهر أن الراجح هو مقابله وهو أن إخراجها على ربها لا على رب الدار، ونص الطرر: ومن المجالس من دخلت له دابة في دار رجل فماتت فعلى رب الدار إخراجها لأنه إنما كان يملكها حياتها، فإذا ماتت لم يملك منها شيئا فلزمه إخراجها، وقد قيل إن عليه إخراجها لا على رب الدار؛ لأنه ينتفع بها إن أحب لكلابه وغير ذلك صح من الاستغناء. انتهى.

قال البرزلي في نوازله: ونزلت بتونس فأفتيت فيها بالثاني وكان ابن عرفة يأخذه من المدونة. انتهى. وقال ابن ناجي في شرح المدونة في باب الرهن: وقعت بالقيروان وكتب قاضيها إلى الشيخ أبي القاسم الغبريني فأجابه بذكر القولين إشارة منه إلى أنهما على حد السواء، والصواب عندي الثاني لأن لربها أخذ جلدها ومنع غيره منها، وما وقع في سماع عيسى عن ابن القاسم من الصلاة ضعيف في قوله إن الميتة لا ملك لأحد فيها فإنه يقتضي أنه لو استخرج أجنبي جنينها أو نزع جلدها أنه لا مقال لربها معه لخ، وقال الوانوغي في باب الرهن أيضا: أخذ من تكفين العبد لو ماتت دابة في السوق أو في دار رجل أن على صاحبها إخراجها لأنه أحق بجلدها وجنينها لأن موتها لا ينقل ملك ربها عنها، ثم قال: ولا أعلم أحدا ذكر هذه المسألة غير صاحب الطرر ثم قال: نزلت بالقيروان فأفتى فيها الغبريني بالقول الثاني؛ لأنه ينتفع بها لكلابه ويأخذ جلدها، وكان ابن عرفة يأخذ هذا القول من كتاب الرهون من المدونة؛ يعني هذه المسألة. انتهى. وبذلك كله تعلم ما في تشهير المواق للقول الأول. واللَّه أعلم. انتهى كلام البناني.

ص: 88

لا سُلَّمٌ بالرفع عطف على التعليق؛ يعني أن المسلم الذي يصعد عليه صاحب الأعلى إلى علوه ليس على صاحب الأسفل فلا يقضى به عليه، وإنما هو على صاحب الأعلى هذا هو المشهور وهو قول ابن القاسم في مختصر ابن عبد الحكم، وحكى ابن أبي زيد عن بعض القرويين أن السلم على صاحب السفل كالسقف والسلم هو الأدراج التي يصعد بها صاحب العلو إلى علوه. قاله الشارح. وقال عبد الباقي: لا على صاحب السفل سلم للأعلى، وكذلك ليس على الأسفل بلاط بيت الأعلى، وشمل كلامه علوين على سفل فليس على الأسفل شيء كما ليس على الوسط سلم للأعلى، وإنما عليه سلم من الأسفل إلى محله الوسط كما يفيده التوضيح لتوقف انتفاعه بالوسط عليه وإن انتفع به الأعلى أيضا، وعلى الأعلى تعليق سلم من الوسط إلى محله. انتهى.

وبعدم زيادة العلو عطف على قوله: "على شريك" لا على أن يعمر باعتبار الباء المقدرة؛ يعني أنه يقضى على شريك أو غيره صاحب علو مدخول عليه بعدم زيادة العلو، قال الخرشي: يعني أن صاحب العلو إذا أراد أن يزيد في البناء على علوه الذي دخل عليه فإنه يمنع من ذلك، ويقضى عليه بأن لا يزيد لأنه يضر ببناء الأسفل. انتهى. قوله: الذي دخل عليه، فإن لم يدخل عليه منع منه بالكلية إلا أن ياذن. قاله مقيده قال الشارح. وإنما منع من ذلك لأنه يضر بالأسفل، وقد قال عليه السلام:(لا ضرر ولا ضرار)

(1)

.

إلا الخفيف يعني أنه إنما يمنع من زيادة العلو إن لم يكن المزيد خفيفا، وأما إن كان خفيفا فإنه لا يمنع منه، والخفيف هو ما لا يضر حالا ولا مئالا بالأسفل. المواق: أشهب: ليس لرب العلو أن يبنيَ على علوه شيئا لم يكن إلا ما خف مما لا يضر برب السفل، فإن بنى مضرا قلع ولو انكسرت خشبة من سقف العلو لم يكن له إدخال خشبة أثقل منها. انتهى.

وبالسقف للأسفل يعني أنه يقضى بالسقف لصاحب الأسفل إذا تنازعه هو وصاحب الأعلى كما مر وهذا مجمع عليه، وبالدابة للراكب يعني أنه يقضى بالدابة للراكب إذا تنازع معه غيره فيها كالقائد والسائق، ولهذا قال: لا يقضى بها لمتعلق بلجمام إلا لعرف أو قرينة وأولى بينة، فإن كان عليها راكبان فهي للمقدم، فإن ركباها كل بجنب فلهما وإن ركبها ثلاثة اثنان كل بناحية والثالث

(1)

الموطأ، كتاب الأقضية، رقم الحديث 31.

ص: 89

على الظهر فهي له إلا لعرف أو قرينة، فإن كان أحدهما سائقا والآخر قائد فبينهما لأنه مال تنازعه اثنان، وليس يد أحدهما أولى به من يد الآخر. قاله عبد الباقي.

قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: وفهم من تعليله أنهما لو كانا سائقين لها أو قائدين لها فإنها بينهما، وفهم منه أيضا أنه لو قامت قرينة أو عرف أو بينة على أنها لأحدهما بعينه لكانت له. واللَّه تعالى أعلم. وقال المواق: ابن شاس: إذا تنازعا جدارا حاصلا بين ملكيهما فصاحب اليد منهما من كان إليه وجه الجدار أو الطاقة ومعاقيد القمط، أو كان له عليه جذوع دون صاحبه، فإن لم يكن إلى أحدهما شيء من ذلك أو كان إليهما جميعا فهو بينهما لأنه في أيديهما، وكذا راكب الدابة مع التعلق بلجامها الراكب مختص باليد. انتهى. وإن أقام أحدهم رحى إن أبيا فالغلة لهم يعني أنه إذا كان ثلاثة مثلا شركاء في عرصة معدة للغلة فتهدمت رحاها وأقامها أحدهم قبل القضاء بالعمارة أو البيع لمن يعمر بعد أن امتنع شريكاه من إقامتها معه ومن إذنهما له في العمارة بعد عرضه عليهما كما يشر به أبيا، فإن الغلة أي ما يؤخذ في مقابلة الطحن بالرحى لهم أي للشركاء الثلاثة على الراجح، سواء أبيا من أول العمارة إلى آخرها أو سكتا حين الاستيذان ثم أبيا حين العمارة أو عكسه. قاله عبد الباقي.

ويستوفي منها ما أنفق يعني أن الغلة إنما تكون لهم بعد أن يستوفي المقيم للرحى ما أنفق في إقامتها، وإنما رجع في الغلة لأنها حصلت بسببه، قال عبد الباقي: وإنما لم يرجع في الذمة لأنه لم يؤذن له في العمارة، ومفهوم أبيا أنهما إذا أذنا له أو سكتا مع استيذانه لهما أو لا عالمين بعمارته يرجع في ذمتهما، قال أحمد: حصلت غلة أم لا. انتهى. وكذا إن لم يستأذنهما ولم يعلما بها إلا بعد فراغها لقيامه عنهما بما لابد لهما

(1)

منه كما يأتي قريبا، خلافا لقول بعض: يعطى قيمة بنائه منقوضا ثم المعتبر إذنهما، وإن تقدمه أو تأخره منع كما مر، قال الناصر اللقاني: واستشكل قوله: "ويستوفي منها ما أنفق" بأن عليه ضررا إذ دفع جملة ويأخذ مفرقا، وأجيب بأنه هو الذي أدخل نفسه في ذلك؛ إذ لو شاء لرفعهما للحاكم فجبرهما على الإصلاح أو البيع ممن يصلح. قاله ابن عبد السلام.

(1)

في الأصل: له، والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 61.

ص: 90

وبقولي قبل القضاء بالعمارة لخ علم أن هذه المسألة من أفراد وقضي على شريك لخ، لكن ما مر بيان للحكم ابتداء، وما هنا في عمارته إن أبيا قبل رفعهما للحاكم فلا منافاة لانفكاك الجهة، وإنما استوفى منها ما أنفق قبل جعل الغلة بينهم لقيامه عنهما بواجب بغرم كما مر، وقد قال ابن الحاجب: وكل من أوصل نفعا من عمل أو مال بأمر المنتفع أو بغير أمره مما لابد له منه بغرم فعليه أجرة العمل، ومثل المال بخلاف عمل يليه بنفسه أو بعبيده أو مال سقط مثله عنه، وقوله: أوصل نفعا مثله لو وصل له منه نفع من غير قصد إيصاله له، كمن حرث أرض غيره يظنها أرضه، وقوله: بغرم شرط في المنتفع كما يدل عليه الضمائر في كلامه؛ أي فإن كان يفعل ما لابد منه بنفسه أو بعبده وأوصله غيره له بأجر لم يرجع به عليه وليس شرطا في موصل النفع. انتهى.

وقوله: "وإن أقام أحدهم رحى إن أبيا" لخ هو لابن القاسم وابن الماجشون، ابن عبد السلام: وهو أقوى الأقاويل عندي، وعن ابن القاسم: الغلة كلها لمقيمها وعليه أجرة نصيبهما خرابا، وعنه أيضا أنه يكون شريكا في الغلة بما زادت له عمارته، فإن كانت قيمتها عشرة وبعد العمارة خمسة عشر فله ثلث الغلة بعمارته والباقي يقسم بينهم أثلاثا، ثم من أراد أن يدخل معه دفع ما ينوبه من قيمة ذلك يوم يدفعه. قاله الشارح. فهذه ثلاثة أقوال.

‌تتمة:

قال عبد الباقي: إن عمر أحد شريكي مركب نخر مع إباية الآخر فله دفع نصف العمارة، وعند ابن يونس: دفع الأقل من نصفها ومما زادته عمارته واشتركا سوية في الغلة، فإن أبى دفع العمر قيمة حصة الآبي خرابا، فإن أبى اشتركا فيها على التفاوت فالذي أصلح بقدر ما زادته نفقته مع حصته الأولى مثل أن تكون قيمته خرابا مائة ومصلحا مائتين، فللمعمر ثلاثة أرباعه لأن حصته الأولى خمسون حيث كان المركب بينهما نصفين، وزادت عمارته ثلاثة أرباع المائتين ولمن لم يعمر ربع. انتهى.

واعلم أن قول ابن الحاجب: وكل من أوصل نفعا من عمل أو مال لخ هو أحد قولين ذكرهما في المفيد، ونصه: انظر فيمن خاط ثوب رجل بغير إذنه أو حرث أرضه أو بنى داره فلا شيء له في ذلك لأنه متطوع، وهذا المعنى في المدونة إذا انهدم من دار الكراء ما لا ضرر فيه على الساكن فبناه الساكن فلا شيء له في ذلك لأنه متطوع، وانظر آخر كتاب الدور من المدونة ومن الواضحة والعتبية من قول أصبغ أنه ينظر، فإن كان صاحب الدار لابد له من أن يستأجر على ذلك الشيء من يعمله

ص: 91

فللباني أجرته، وإن كان ممن يعمله بنفسه وغلمانه ولا يستأجر عليه فلا شيء له. انتهى المراد منه. انظر الرهوني.

وبالإذن في دخول جاره لإصلاح جدار ونحوه يعني أنه يقضى على الجار بأن يأذن لجاره في الدخول لداره لأجل إصلاح جدار أو غرز خشبة أو نحو ذلك، ويكون هذا من باب ارتكاب أخف الضررين، وإذا سقط لك ثوب في دار جارك فإنه يقضى لك بالدخول لأخذه إلا أن يخرجه لك، فقوله:"ونحوه" أي نحو الجدار كخشبة أو نحو الإصلاح كثوب أو دابة وهذا أحسن. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وقضي على جار بالإذن في دخول جاره وأجراء وبناءين لإصلاح جدار من جهته ونحوه أي نحو الجدار، كغرز خشبة أو نحو الإصلاح كثوب رماه الهواء بدار جاره، ودابة دخلت فيقضى عليه بدخول جاره لأخذ ثوبه ودابته لأنه حق له إن لم يخرجهما له، وله منع جاره من إدخال جص وطين من بابه ويفتح في حائطه كوة لأخذ ذلك، وأشر قوله:"لإصلاح" أنه إذا أراد طر حائطه من جهة جاره فله منعه

(1)

حيث لا يترتب عليه إصلاح جداره. انتهى. قوله وله منع جاره لخ ظاهره للإصلاح أو للطر، ولا يعارضه قوله قبل:"وبالإذن في دخول جاره" لآجُرٍّ وبَنَّاءِين لأنه يفتح في حائطه كوة لأخذ ذلك كما قال فيدخله دار الجار لكن لا من باب الجار.

واعلم أن الراجح أنه يدخل الطين من باب الجار وأن له طر حائطه من جهة جاره. انظر الرهوني. وفيه عن أبي علي: ووقف

(2)

على الخلاف في إرفاق الجار، وما ذكر الناس من الخلاف جزم بما قاله المتيطى أنه يدخل الطين ونحوه من باب الجار، فإن نقب الجدار صعب وهذه الأمور إنما يرتكب فيها أخف الضررين، وفي الحطاب ما نصه: وقال في التوضيح تبعا لابن عبد السلام: قال بعض أصحابنا: وليس لصاحب الجدار أن يطينه من دار جاره لأن ذلك يزيد في غلظ الجدار، زاد ابن عبد السلام: وليس له أن يعيده أغلظ معا كان من جهة الجدار. انتهى. وظاهر قول المؤلف: "لإصلاح" أنه لا يدخل إلا إذا كان هناك ما يحتاج إلى الإصلاح، ولا يدخل لتفقد جداره وهو ظاهر كلام ابن فتوح، وقال المشاور: له ذلك. انتهى.

(1)

في الأصل: فليمنعه، والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 62.

(2)

لفظ الرهوني ج 6 ص 72: لكن من وقف لخ.

ص: 92

وبقسمته إن طلبت يعني أن الجدار المشترك إذا طلب أحد الشريكين قسمته بالقرعة وأبى الآخر من ذلك فإنه يقضى لمن طلب القسمة إذا كان يمكن قسمه بلا إضرار، فإن لم يمكن قسمه بأن كان لأحدهما جذوع عليه من ناحية وللآخر عليه جذوع من الناحية الأخرى فإنهما يتقاويانه كالذي لا ينقسم من العروض والحيوان، فمن صار له اختص به. قاله الخرشي وغيره.

وصفة القسمة عند ابن القاسم أن يقسم طولا، فإذا كان طوله من المشرق إلى المغرب عشرين ذراعا في عرض شبرين مثلا أخذ كل واحد عشرة أذرع بالقرعة، فالمراد بطوله امتداده جاريا من المشرق إلى المغرب لا بطوله عرضا.

قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: الظاهر أن الباء في "بطوله" بمعنى على، وأنه ظرف مستقر في موضع الحال، وأن قوله:"عرضا" منصوب بنزع الخافض أي في عرضه، والمراد بالعرض سطح ظهره وبالطول امتداده من الجوف إلى مقابله مثلا، ومعنى كلامه أنه إذا أريد قسمه بالقرعة فإنما يقسم طولا ولا يقسم في عرضه مع بقاء الطول في حظ كل منهما، قال الإمام الحطاب: ما ذكره ابن غازي في شرح هذه المسألة كاف في بيانها، وملخص النقول التي ذكرها أنه إن أريد قسمة

(1)

التراضي قسم على ما تراضوا عليه من الطول أو العرض، وإن أريد قسمه بالقرعة فالذي مشى عليه المص يقسم طولا، وطوله هو امتداده بينهما وعرضه هو سمك ظهره، فإذا كان الجدار مثلا طوله جاريا بينهما من المشرق إلى المغرب، وعرضه جهة الشمال إلى أحدهما وجهة الجنوب إلى الآخر قسم طوله نصفين، نصف يلى المشرق ونصف يلي المغرب ولا يقسم عرضا بأن يأخذ كل واحد منهما نصف عرض الجدار، كما إذا كان عرضه مثلا شبرين فلا يأخذ أحدهما شبرا مع طول الجدار، ويأخذ الآخر شبرا مع طوله أيضا لأنه قد يقع لأحدهما الجهة التي تلي الآخر، فيفوت المراد من القسمة، قال أبو الحسن: إلا أن يقتسماه على أن من صار ذلك له يكون للآخر عليه الحمل. انتهى. انتهى.

وقال المواق: اللخمي: اختلف في قسمة الجدار، فقال ابن القاسم: يقسم، وصفة قسمه إذا كان جاريا من المشرق إلى المغرب أن يأخذ أحدهما طائفة تلي المشرق والآخر طائفة تلي المغرب، وليست القسمة أن يأخذ أحدهما القبلة والآخر ما يلي الجوف؛ لأن ذلك ليس بقسمة؛ لأن ما يضعه

(1)

كذا في الأصل ولفظ الحطاب قسمه بالتراضي ج 5 ص 533 ط دار الرضوان.

ص: 93

أحدهما عليه من خشب فثقله ومضرته على جميع الحائط، وليس يختص الثقل والضرر بما يليه إلا أن يريد أن يقتسما أعلاه، مثل أن تكون أرضه شبرين فيبني كل واحد منهما على أعلاه شبرا مما يليه لنفسه ويكون ذلك قسمة للأعلى وجملة الحائط على الشركة الأولى أو يكونا أرادا قسمته بعد انهدامه فيقسمان أرضه ويأخذ كل واحد منهما نصفه مما يليه، وانظر مسألة إذا خيف سقوط جدار هو بينهما وأبى أحدهما من إصلاحه، قال ابن عرفة: ظاهر ما لابن رشد أن المذهب أنه يجبر أن يصلح أو يبيع ممن يصلح، وعن ابن كنانة: لا يجبر أحدهما على بنائه ومن شاء منهما ستر على نفسه. انتهى.

قوله: لأن ما يضعه أحدهما عليه لخ، قال عبد الباقي: وهو ظاهر في جدار عرضه شبران كما في التتائي، فإن اتسع عرضه بحيث لا يصل ما يغرز فيه من خشب لما خص جاره جاز، ومحل جوازه أي قسم الجدار طولا بالقرعة إن لم يكن عليه جذوع للشريكين وإلا لم يقسم جبرا لا طولا ولا بطوله عرضا بل يتقاويان، فمن صار له اختص به وله قلع جذوع شريكه، وينبغي أن يقيد عدم قسمه حينئذ بما إذا لم يدخلا على أن من جاءت جذوعه من ناحية الآخر أبقاها بحالها وإلا جاز. انتهى. الحطاب: إذا كان حائط مشتركا بين اثنين فليس لأحدهما أن يتصرف فيه إلا بإذن شريكه، وكذلك كل مال مشترك، وقال ابن عسكر في العمدة: ولو تنازع اثنان حائطا بين دارين ولا بينة حكم به لمن إليه وجوه الآجر واللبن والطاقات ومعاقد القمط، فإن لم تدل أمارة على الاختصاص فهو مشترك وليس لأحد الشريكين أن يتصرف بهدم أو بناء أو فتح باب أو كوة ونحو ذلك إلا بإذن الشريك.

وبإعادة الساتر لغيره إن هدمه ضررا يعني أن الشخص إذا كان له جدار خاص به ساتر على غيره فهدمه مالكه ضررا فإنه يقضى عليه بإعادته على ما كان عليه لأجل أن يستر على جاره، لا الإصلاح يعني أنه إذا كان هدم الجدار المذكور لا للضرر بل للإصلاح أي لوجه مصلحة، نحو خوف سقوط أو لشيء له تحته أو هدم أي انهدام بنفسه من غير أن يهدمه أحد كما قال: أو هدم، فإنه لا يقضى على صاحبه أن يعيده في الحالتين، ويقال للجار: استر على نفسك إن شئت، وقوله:"لا لإصلاح" لخ عطف على "صررا" وهو مفهوم قوله: "صررا" وقولي: جدار خاص به احتراز عما إذا كان مشتركا بينهما لأنه من أفراد قوله: "وقضي على شريك فيما لا ينقسم أن يعمر أو يبيع"، وقال

ص: 94

عبد الباقي: إن قوله: "الساتر" شامل للمختص والمشترك، وقوله:"أو هدم" فعل ماض مبني للمفعول عطف على "لإصلاح".

‌تنبيه:

قال المواق: ذكروا أن ما نبت بالتخم فهو بينهما، بخلاف نهر يشق في أرض رجل فنبت به قصب هي لرب الأرض إذ ما لصاحب الماء إلا مجاز الماء خاصة. انتهى. قال الرهوني: وهذه المادة بالتاء المثناة من فوق وبالخاء المعجمة والميم، وهي فيما وقفنا عليه من نسخ المواق بدون واو بين الخاء والميم فيحتمل أن تكون في كلامه بوزن فلس فتكون مفردة أو بوزن عنق فتكون جمعا، ففي المصباح ما نصه: التخم حد الأرض والجمع تخوم مثل فلس وفلوس، وقال ابن الأعرابي وابن السكيت: الواحد تخوم والجمع تخم مثل رسول ورسل. انتهى. ونحوه في الصحاح، وفي القاموس: التخوم بالضم الفصل بين الأرضين من المعالم والحدود مؤنثة الجمع تخوم أيضا وتخم كعنق أو الواحد تخم بالضم وتخمة وتخوم وتخومة بفتحهما. انتهى وفي المقصد المحمود وإذا اختلف الرجلان في التخوم وكل واحد يدعيها لنفسه فهي كمسألة الجدار، ولا يعتبر بارتفاع التخم في حد أرض أحدهما على أرض صاحبه وإن شهد به أهل البصر لأحدهما قضي له به مع يمينه، وقيل في التخم المرتفع إنه للأرض العليا لأنه رفادة لها ليلا تنهار وهو قول حسن، والاحتياط للدين أن لا تغير التخم لقوله صلى الله عليه وسلم (ملعون من غير تخوم الأرض ومن ترك شيئا للَّه لم يوجده اللَّه فقده)

(1)

. انتهى.

وبهد بناء بطريق يعني أن من بنى بطريق المسلمين يقضى عليه بهد أي هدم بنائه ذلك، ولا خلاف في ذلك حيث كان البناء يضر بالناس، وكذلك لو لم يضر بالناس على المشهور لكون الطريق واسعا، وقال أصبغ: لا يقضى إلا بهدم ما يضر بالناس، وعليه رد المص بلو في قوله: ولو لم يضر، قال الرهوني: ما رجحه المص هو مذهب الأكثر، وجزم المتيطى وغيره بأنه المشهور والمعمول به وهو الذي اختاره ابن سهل كما في كلامه الذي نقله الحطاب، وقال فيه ابن سلمون: إنه الأصح، وقال فيه ابن أبي الدنيا: إنه الصواب والمردود بلو هو مختار ابن رشد في بيانه ونوازله. واللَّه أعلم.

ومحصل ما في الحطاب أن الخلاف إنما هو في الهدم بعد الوقوع، وأما ابتداء فلا خلاف أنه ممنوع من ذلك وإن لم يضر وهو متعقب، قال ابن عرفة في إحياء الموات ما نصه: وإن لم يضر ففي جوازه

(1)

مسند أحمد، ج 1 ص 217 و 317.

ص: 95

ثالثها يمنع ويهدم لقول مالك، وظاهر قول أصبغ مع ابن القاسم وسحنون عن الأخوين. انتهى. وقال عبد الباقي: وبهد بناء بطريق ولو لم يضر لأنها وقعت لمصلحة المسلمين فليس لأحد أن يبني بها، فإن كانت ملكا لشخص بأن يكون أصلها دارا له مثلا وانهدمت حتى صارت طريقا لم يزل ملكه عنها بذلك. قاله بعض شيوخنا. انظر أحمد. وظاهره ولو طال وعلم إعراضه عنها وقيده بعض الشيوخ بما لم يطل. انتهى.

‌فرع:

إذا أخذ أحد من الطريق شيئا ببناء أو غرس واستغله فحكم عليه بهدم بنائه وإزالة غرسه هل يجب عليه رد الغلة أم لا؟ سئل عن ذلك ابن أبي الدنيا فأجاب: ما أضر بالمارين فلا خلاف في هدمه وزواله حتى لا يبقى له رسم وغلته مردودة لا تحل للمغتل وتصرف للفقراء ولا تنفع الحيازة على العامة، وما ليس له مالك معلوم وما لا يضر والطريق واسع فاختلف هل يمنع أو يباح؟ وقد هدم عمر كيرا لحداد، وقال:[تضيقون]

(1)

على الناس الطريق، وقال مطرف: يمنع ولو كان مثل البيداء وهو الصواب، وإنما يكون الفناء للقاعد للبيع والحاجة. انتهى.

وسأل أبو الفضل عياض ابن رشد عن رجل أدخل طريقا من طرق المسلمين في جنته وحازها وغرسها وقطع المرور فيها واغتلها مرة ثم بعد ذلك قامت فيها البينة وحيزت ولزم إخراجها للمسلمين، ماذا يلزمه في ذلك وماذا ترى فيما اغتل مما غرسه فيها وفي شهادته؟ وأين من قطع الطريق بالكلية ممن أخذ بعضها؟ وفي علمك ما ورد في هذا أفتنا بما عندك في هذا وعن ترك الشهود القيام به إلى الآن وما رأيك في ذلك، واختيارك من الأقوال لاسيما إن كان فاعل ذلك ممن لا يعلم أن القيام يلزمهم، جاوبني عليه مأجورا إن شاء اللَّه.

فأجاب: تصفحت -أعزك اللَّه بطاعته وتولاك بكرامته- سؤالك هذا ووقفت عليه، ويلزم الذي قطع المحجة وأدخلها في جنانه وقطع منافع المسلمين في المرور عليها وهو عالم بذلك غير جاهل به مستخف بارتكاب المحظور فيه الأدب على ذلك مع طرح الشهادة ولا يجب عليه فيما اغتله مما غرسه شيء يحكم به عليه؛ إذ ليس الطريق لمعين فيحكم له بحقه فيما اغتل منه على ما في علمك من الاختلاف في ذلك، وإنما هو حق لجماعة المسلمين في المرور عليها هو أحدهم، وقد قيل على علمك في الحبس الموضوع للغلة إذا انفرد باستغلاله بعض المحبس عليهم دون سائرهم إنه إنما

(1)

في الأصل: تضيعون، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 85.

ص: 96

يقضى لهم بحقوقهم فيما يستقبل لا فيما مضى، فكيف بالطريق التي ليست موضوعة للغلة وقد باء في ذلك بالإثم، فإن ندم على فعله واستغفر اللَّه منه وتاب إليه من ذلك بقيت عليه التباعة لمن منعه المرور على الطريق التي اقتطعها وأدخلها في جنانه، يقضى له بها يوم القيامة من حسناته فيستحب له أن يتصدق بفعل الخير رجاء أن يكون كفارة له، ولا تبطل شهادة الشاهد في الطريق بترك القيام بشهادته فيه مدة هذا الذي أختاره مما قيل في ذلك؛ إذ قد يكون له في ترك القيام بشهادته إذا لم يدع إليها عذر أو تأويل يعذر به. وباللَّه تعالى التوفيق. ونقله في المعيار أيضا بعد جواب ابن أبي الدنيا فتحصل أنهما قولان. قاله الرهوني. وقال: ظاهر جواب ابن أبي الدنيا أو صريحه أن الثمرة نفسها هي التي تصرف للفقراء ولا وجه له، إذ لا يكون هذا الغارس أشد ممن غصب أرضا من معين فبنى فيها أو غرس التي أشار لها المص فيما يأتي في الغصب، بقوله:"وكراء أرض بنيت". فتأمله واللَّه أعلم. انتهى.

وبجلوس باعة بأفنية الدور للبيع إن خف يعني أنه يقضى للباعة بالجلوس في أفنية الدور لأجل البيع إذا كان ذلك شيئا خفيفا، وإلا فلا يجوز فضلا عن أن يقضى به، قال أصبغ؛ إنما يباح الجلوس ما لم يضيقوا الطريق أو يمنعوا المارة أو يضروا بالناس، واحترز بقوله:"للبيع" من جلوس الباعة للتحدث ونحوه فإنهم يقامون، وضمير "إن خف" يصح عوده على البيع أو الجلوس، وسواء كان من واحد أو متعدد، فمن حصل بجلوسه الضرر فإنه يقام وإن لم يكن، إنما حصل الضرر بانضمام جلوسه لجلوس من قبله، ولا يراعى كل واحد بانفراده لأن العلة الضرر وقد وجد ولو بالانضمام. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وبجلوس باعة بأفنية الدور وهي ما فضل عن المارة من طريق واسعة نافذة، قال ابن عرفة: كان بين يدي بابها أم لا لا ضيقة أو غير نافذة إذ لا فناء حينئذ للدور للبيع لا للتحدث إن خف أي البيع أو الجلوس، فإن لم يخِفَّ كجلوسهم النهار كله أو غالبه ككير الحداد ونحوه لم يجز فضلا عن أن يقضى به، قال أصبغ: إنما يباح الجلوس ما لم يضيقوا الطريق أو يمنعوا المارة ويضروا بالناس. اهـ.

قال أحمد: وقع السؤال لبعض شيوخنا عما إذا كانت العادة في السوق أن يجلس شخص في الأفنية، ثم بمجرد ذهابه يأتي آخر وهكذا إلى انقضاء النهار، فهل لأرباب الدور المنع؟ فأجاب بأنه لا منع لهم لأن هذه العادة قد تتخلف، وإذا ذهب الجالس قد لا يأتي غيره. اهـ. وقد يبحث

ص: 97

فيه بأن ما يحصل به الضرر يمنع، كان من واحد أو متعدد، ولو كان إنما يحصل بانضمام جلوسه لجلوس من قبله كما يفيده مفهوم المص، ولذا قال بعض شراحه كما مر مفهومه إن لم يخِفَّ بأن ضر بالمارة أو ضيق أو شوش فلا يجوز الإذن به فضلا عن أن يقضى به. اهـ.

وفناء المسجد كالدار أو أولى لأنه مباح في الجملة، وينبغي تقييده بما خف كفناء الدار ثم الراجح جواز كراء الأفنية، وفي التتائي ما يخالف ذلك وإذا أكراه ربه فللمكتري منع من يجلس تقرير، وقد يقال: يصير بمنزلة ربه. قاله الأجهوري. وانظر فناء الحوانيت. اهـ. قوله: ثم الراجح جواز كراء الأفنية لخ هذا نص عليه في سماع ابن القاسم، وحكى عليه ابن رشد الاتفاق. انظر المواق. ونصه: سمع عيسى ابن القاسم لأرباب الأفنية التي انتفاعهم بها لا يضيق على المارة أن يكروها، ابن رشد: لأن كل ما للرجل أن ينتفع به يجوز أن يكريه. انتهى. وهو يشمل بعمومه فناء الحوانيت وغيره، وبه يسقط تنظير الزرقاني. واللَّه أعلم. انتهى.

وقال المواق من ابن يونس: قضى عمر رضي الله عنه بالأفنية لأرباب الدور، ابن حبيب: يعني بالانتفاع للمجالس والمرابط والمساطب أي الدكك التي تبنى بجانب الأبواب، وجلوس الباعة فيها للبياعات الخفيفة وليس أن يحاز بالبنيان والتحظير. وقاله من أرضى من أهل العلم. وقد مر عمر بكير حداد في السوق فأمر به فهدم، وقال: تضيقون على الناس السوق، وقال صلى الله عليه وسلم:(إذا اختلف الناس في الطريق فحدها سبعة أذرع)، وسمع ابن القاسم: لأرباب الأفنية التي انتفاعهم بها لا يضيق على المارة أن يكروها. ابن رشد: لأن كل ما للرجل أن ينتفع به يجوز له أن يكريه. ابن عرفة: هذه الكلية غير صادقة إذ لا يجوز أن يكرى جلد الأضحية ولا بيت الدرسة للطالب ونحوه، وقد تقدم أن إجارة الأضحية تجوز على قول سحنون، ولم يذكر الباجي ولا ابن يونس ولا الشيخ غيره، وأما بيت المدرسة فقال البرزلي: كنت بالديار المصرية وذكر أن أصحاب المدارس والزوايا لا يجوز لهم بيع ولا هبة ولا عارية، ثم إني افتقرت لسكنى بعضها فأعارني طالب بيتا في مدرسة شيخون، وأعارني آخر أخرى في المدرسة المصرية

(1)

حالة الرجعة، فاعترضوا علي بما كنت أفتيت فأجبت بأني من أهل الحبس، لكن سبقني فيه غيري فإذا طابت نفسه زمنا

(1)

في المواق المستنصرية ج 5 ص 182 ط دار الفكر.

ص: 98

ما برفع يده عنه أو مطلقا فهو جائز، وقويته بما أجابني به ابن عرفة في التطهير في مطاهر المدارس أنه إن كان من جنس الحبس فيسوغ له ذلك، قال القرافي: يجوز لساكن المدارس إنزال الضيف المدة اليسيرة بخلاف المدة الكثيرة. اهـ.

قال ابن رشد: ولا يباح لذي الفناء أن يدخله في داره، فإن فعل وهو يضر بالطريق هدم عليه ورد إلى ما كان، وإن كان لا يضر فقال أشهب وابن وهب: يهدم كذلك، ونقل ابن يونس عن أصبغ: إذا كان لهم أن يحموه فابتنى منهم مبتنٍ وأدخله في بنيانه لم يمنع إن كان الطريق وراءه واسعا وأكرهه ابتداء، فإن فعل لم أحكم عليه بزواله، وقال أشهب مثل ذلك، وروي عن أشهب أنه كرهه: قال ابن رشد: القائلون بالهدم أكثر والقول بعدم الهدم أظهر، وأفتى بالأول يحيى بن يحيى وغيره، وأفتى بعدم الهدم ابن لبابة وغيره. اهـ كلام المواق. قوله: لأن كل ما للرجل أن ينتفع به يجوز له أن يكريه لخ.

قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: فيه وفي قول ابن عرفة بعده ما يدل على أنه يجوز استيجار الكلب وجلد الميتة. واللَّه تعالى أعلم.

‌تنبيه:

قوله باعة جمع بائع أصله بيعة بفتح الباء والياء والعين تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فوجب قلبه الفا كما في القاعدة المقررة المشار إليها بقول محمد بن مالك رحمه اللَّه تعالى:

من واو أو ياء بتحريك أصل

ألفا أبدل بعد فتح متصل

لخ

وللسابق يعني أنه يقضى للسابق من الباعة للأفنية، قال الخرشي: يعني أن من سبق إلى مكان من الطريق ليبيع فيه أو غيره فإنه يقضى له به. انتهى. وقال المواق: عياض: قالوا من قعد من الباعة في موضع من أفنية الطرق وأفضية البلاد غير المتملكة من أصحاب الحوائج أو المرافق فهو أولى به ما دام به جالسا، فإن قام منه ونيته الرجوع إليه من غده بمتاعه، فروى الماوردي عن مالك أنه أحق به، وقيل السابق أحق به وهو قول الجمهور.

كمسجد يعني أن من سبق إلى مكان من المسجد وجلس فيه فإنه يقضى له به، قال عبد الباقي: إلا أن يعتاد غير السابق الجلوس بالمحل الذي جلس به السابق لتعليم علم كتدريس أو إفتاء فإنه أحق

ص: 99

به من غيره إذا عرف به. قاله مالك. وقال: الجمهور أحق به استحسانا لا وجوبا. عياض: ولعله مراد مالك. قاله التتائي. ومعنى كونه استحسانا أن القاضي يقول له الأحسن أو الأولى عند اللَّه جلوسك في محلك المعتاد لتدريس علم أو إفتائك فيكون خارجا مخرج الفتوى لا مخرج الحكم، وانظره مع تصدير الشيخ أحمد بابا بعبارة الإمام، ثم قال: وقيل معنى أحق استحسانا. انتهى. والظاهر أن اختصاصه في الوقت الذي اعتاد فيه ما ذكر فقط لا بوقت غيره بدله أو أزيد منه ولا ما غاب عنه غيبة انقطاع ولا ما اعتاده والده. ابن ناجي: ومواضع الطلبة عندنا بتونس يقضى لهم بها. انتهى. قوله: ومعنى كونه استحسانا أن القاضي يقول له الأحسن أو الأولى عند اللَّه جلوسك في محلك لخ، قال البناني: لا معنى لهذا، فإن من اعتاد الجلوس لا يطلب بملازمة المحل المعتاد له، وإنما معنى الاستحسان أن يقول لمن سبق لوضع اعتاده غيره الأحسن قيامك منه ليقعد فيه من اعتاده. فتأمل.

‌فائدة:

إذا جلس في موضع من المسجد ثم قام لقضاء حاجة أو تجديد وضوء فهو أحق به إذا رجع إليه؛ لما في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به)

(1)

. اهـ.

وبسد كوة فتحت أريد سد خلفها يعني أنه يقضى على من فتح كوة أي ثقبة في الحائط أو بابا أو غرفة من داره يشرف منها على جاره أن يسد جميعها إذا أريد سد خلفها فقط، وتقلع العتبة من الباب ليلا يطول الزمان وتبقى حجة للمحدث، ويقول إنما اغتلقته لأعيده متى شئت، والمراد بالخلف الداخل لأن المراد الخلف بالنسبة للخارج وإن كان الحكم واحدا في سد الداخل والخارج، إلا أنه لا يقال للخارج خلف باعتبار نسبة الخلف للخارج كما هو قضية كلام المؤلف. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وقضي على جار بسد كوة بالفتح والضم فتحت أي أحدث فتحها تشرف على جاره إذا أريد سد خلفها أي خارجها عن الخشب أو داخل الخشب

(1)

مسلم، كتاب السلام، رقم الحديث 2179.

ص: 100

مع بقائها على ما هي عليه فيهما ولا يكفي ذلك، بل يسد أيضا ما يدل عليها كواجهة وخشبة وعتبة ليلا يطول الزمان فيريد من أحدثها أو غيره إعادتها لدلالة محلها عليها وكذا غيرها [مما]

(1)

يشرف على دار جاره، قال التتائي: ولا يكلف الجار تعلية بنائه حتى لا يراه وسد بالتنوين

(2)

لأنه من الظروف اللازمة. انتهى.

‌تنبيهات:

الأول: الكوة بالفتح أشهر وبالضم، قال في الصباح: الكوة بفتح وتضم الثقبة في الحائط وجمع المفتوح على لفظه كوات كجنة وجنات وكواء كظبية وظباء وركوة وركاء وجمع المضموم كوى مثل مدية ومدى. انتهى انظر الرهوني. وقوله: "وبسد كوة فتحت" قال البناني: قيده الحطاب بما إذا كان لا يحتاج في التكشف منها إلى صعود سلم ونحوه وإلا فلا يقضى بسدها، وقيده أيضا بما إذا كان يتكشف منها على الدور أو الجنات على أحد القولين، أما إذا كان يتكشف منها على الزارع فلا تسد بلا خلاف. انتهى. قوله: وقيده أيضا بما إذا كان يتكشف لخ، قال الرهوني: سكت عما إذا كان يطلع منها على عرصة يريد أن يبني بها في المستقبل وفيها خلاف أيضا، ففي طرر ابن عات ما نصه: إن كانت لرجل عرصة وبنى رجل بجنبه فليس له منعه من فتح الأبواب والكوى إليها حتى وإن قال: أريد أن أبني فيها لأنه حق سبق إليه، وقد روى ابن حبيب أن له أن يمنعه فتحها على العرصة قبل البناء وبعده إذا رغب في بنائها لأنه حق له فيرد عنه ما يضر به إن شاء، وذكره عيسى أيضا في كتاب الجدار، قال عيسى: فإن لم يمنعه حتى بنى ثم أراد منعه أن له ذلك ولا يمنعه تركه أولا من القيام عليه بذلك، مطرف: فإن وافقه ففتحها على أنه متى شاء سدها جاز ذلك بينهما. انتهى.

ونقله ابن فرحون في تبصرته مختصرا، وأقره وذكر المسألة في التوضيح فقال: واختلف فيها على ثلاثة أقوال قال مطرف: يمنع قبل بناء القاعة وبعده، وقال ابن الماجشون: لا يمنع مطلقا، وقال ابن القاسم: يمنعه بعد أن يبني القاعة ولا يمنعه قبله، قوله: وقال ابن الماجشون لا يمنع مطلقا، مذهب ابن الماجشون أن التكشف ليس من الضرر ومنعه بعد البناء اتفق عليه مالك فيما رواه ابن

(1)

في الأصل: ممن والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 63.

(2)

لفظ عبد الباقي ج 6 ص 63: بالتنوين لا مضاف لخلفها لأنه لخ.

ص: 101

حبيب وابن القاسم ومطرف وأصبغ وابن حبيب وعيسى بن دينار فهو الراجح مع ما انضم إلى ذلك من أخذه من ظاهر المدونة.

الثاني: قال الرهوني: لا إشكال على قول ابن القاسم أنه لا يضره السكوت قبل بناء عرصته ولو طالت السنون، وانظر هل الحكم كذلك على قول مالك والجماعة المذكورين وهو ظاهر كلامهم وهو الظاهر، أولا؛ لأن سكوته مع قدرته على المنع يعد رضي، لكن الضرر بالفعل لم يحصل له قبل البناء فلا يضره السكوت. واللَّه أعلم. انتهى.

الثالث: حكى ابن سلمون الاتفاق على أن التكشف من الضرر الذي يحكم بدفعه وفيه نظر، ففي التوضيح: اختلف فيمن اتخذ كوى وأبوابا يشرف منها على باب جاره، فقال مالك وابن القاسم: يمنع، ورواه ابن وهب وزاد: ولا يكلف أن يعلي ببنائه حتى لا يراه، وفي المبسوط عن ابن سلمة: لا يمنع: ورواه ابن العدل عن ابن الماجشون، قال: ويقال استر على نفسك إن شئت والأول هو المعروف. اهـ. وقال ابن عرفة: ومنه ضرر الاطلاع كإحداث كوة أو باب يطلع من أحدهما على دار جاره أو يتخذ عليه قصبة يشرف منها على عياله، وشذ قول أشهب وابن الماجشون ومحمد بن مسلمة ومحمد بن صدقة من أصحاب مالك إنه لا يمنع، ويقال لجاره استر على نفسك إن شئت، قلت في لفظ إن شئت نظر أشار إليه الصقلي في نحو هذا وقال الواجب أن يستر على نفسه. انتهى. الرابع: قال الرهوني: قال في طرر ابن عات: فإن بنى رجل في موضع مشرف يطل منه على جيرانه لم يمنع منه لأنه كان يطلع منه قبل ذلك إلا أن يقيم فيها كوة يطل منها فله منعه، المشاور: وكذلك من فتح كوى يطلع منها على ما يطلع عليه غيره منع من ذلك ولا حجة له في اطلاع غيره من دار كان أو طريق. اهـ.

الخامس: قال البناني وغيره: وإذا سكت من أحدث عليه ضرر من فتح كوة ونحوها عشر سنين ولم ينكر حيز عليه ولا مقال له حيث لم يكن له عذر في ترك القيام، هذا قول ابن القاسم وبه القضاء اهـ وقال أصبغ لا ينقطع القيام في إحداث الضرر إلا بعد سكوت سنة ونحوها.

السادس: إذا أحدث الرجل من البنيان ما يجب عليه القيام فيه بالضرر، فقام عليه جاره بالقرب من الفراغ من البنيان فعليه اليمين أن سكوته حتى كمل البنيان لم يكن على إسقاط حقه الواجب

ص: 102

له في ذلك من القيام بقطع الضرر. انتهى. ففهم من ترتب اليمين عليه إذا قام بقرب الفراغ من الإحداث ترتبها من باب أولى إذا قام به بعد طول وقلنا إن له القيام به ولو طالت المدة. اهـ. يعني كما مرت ويأتي بحث الرهوني إن شاء اللَّه تعالى في كلام الحطاب هذا عند قول المص: "ومضر بجدار". واللَّه تعالى أعلم.

السابع قال في التوضيح: ومن باع داره وقد أحدث جاره عليه مطلعا أو مجرى ماء أو غيره من الضرر، فقال مطرف وابن الماجشون: إن كان البائع لم يقم في ذلك حتى

(1)

باعها فلا قيام للمشتري ولو كان قد قام يخاصم، فلم يتم له الحكم حتى باع فللمشتري أن يقوم ويحل محله. المتيطى: ويتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن بيعه بعد العلم رضي بترك القيام، والثاني أنه ليس برضى، والثالث أنه ليس برضى من البائع ولا قيام للمشتري، إلا أن له الرد على البائع بالعيب إن لم يعلم به، فإن رد عليه فللبائع القيام. نقله الحطاب.

ويمنع دخان كحمام يعني أن الحمامات والأفران وما أشبهها إذا كانت حادثة فإنه يقضى بمنع دخانها لأنه يؤذي الناس برائحته، ورائحة كدباغ يعني أن رائحة الدباغ وما أشبهها كالمذبح والسمط والمصلق يقضى بمنعها إذا كانت حادثة لأنها تؤذي الناس؛ لأن الرائحة المنتنة تخرق الخياشيم وتصل إلى الأمعاء فتؤذي الإنسان، والمسمط هو موضع قطع اللحم، وقوله:"دخان" بترك التنوين مضاف للكاف وهو اسم بمعنى مثل، وكذا يقال في: رائحة كدباغ.

وعلم مما قررت أن المراد بقوله: "وبمنع دخان" لخ الحارث.

‌فرع:

في المعيار ما نصه: وسئل أي السيوري عمن له حجرة في بيوت لسكنى الكراء في موضع مرغوب فيه، فعمد إليها وهدمها وبنى بها غيرها وتركها خرابا لإلقاء الفضلات والكناسات والنجاسات وتضرر بها الجيران، هل يجوز فعل مثل هذا؟ وهل يجبر على بنائها أم لا وربما طولب ببنائها فقال نفعل ثم لم يفعل؟ فأجاب: إذا أضر بالجيران ضررا كثيرا فإما أن يبيع وإما أن يبني. قاله الرهوني.

(1)

في الأصل: حين، والمثبت من التوضيح ج 6 ص 377 ط مركز نجيبويه.

ص: 103

وأندر قبل بيت الأندر بفتح الدال الجرين يعني أن من أحدث أندرا قبل بيت فإنه يمنع من ذلك لأنه يتضرر بتبن التذرية، قال الخرشي: والمعنى أن من جعل أندره قبل بيت شخص أو قبل حانوته وما أشبه ذلك فإنه يمنع منه لأنه يتضرر بتبن التذرية، وقبل بكسر القاف وفتح الباء أي تجاه، ثم إن المؤلف لو حذف قوله قبل بيت لمسلم مما أورد عليه من أن منعه لا يتقيد بكونه في مقابلة البيت بل بحصول الضرر، وأما الغسال والضراب يؤذي وقوع ضربهما فلا يمنعان من ذلك. ابن حبيب: ومن أراد أن ينفض حصره أو غيرها على باب داره وهو يضر غباره بمن مر بالطريق يمنع من ذلك، ولا حجة له أن يقول إنما فعلته على باب داري. انتهى.

ونحوه لعبد الباقي، وقال المواق: مطرف وابن الماجشون: من أحدث أندرا إلى جنب جنان رجل وهو يضر به في تذريته التبن، قال: يمنع من ذلك كمن أحدث إلى جانب داره فرنا أو حماما فيضر بمن جاوره إلا أن يأذنوا في ذلك، وأما الغسال والضراب يؤذي جاره وقع ضربهما فلا يمنعان من هذا، وأما الدباغ يؤذي جيرانه برائحة دباغه ونتنه فهذا يمنع من ذلك كالفرن والحمام، قالا: ولو أحدث جنانا إلى جانب الأندر وتبن الأندر يَضُرُّ به كذلك سواء، ويمنع صاحب الأندر من الضرر كما كان يمنع قبل البناء وقوع التبن في أرضه. انتهى نص ابن يونس.

ابن رشد: إحداث أندر بإزاء دار أو جنان يضر ما يقع بأحدهما من تبن عند الذَّرْو ضَرَرٌ، وكذا دخان حمام أو فرن أو رائحة دبغ أو إلصاق كنيف بجدار جاره أو رحى تضر بجداره وشبهه اتفاقا في الجميع. انتهى. وقد نقل هذا ابن عات، وذكر هل يجعل أنبوبا في أعلى الفرن يرتقي الدخان فيه ولا يضر بمن جاوره. انظره في ابتياع حصة من أندر. المشاور: الصوت لا يخرق الأسماع ولا يضر بالأجسام فلا يمتنع إلا أن يضر بالجدرات فيمنع، وذلك بخلاف أن يحدث في داره أو حانوته دباغا أو يفتح بقرب جاره مرحاضا ولا يغطيه أو ما تؤذيه رائحته؛ لأن الرائحة المنتنة تخرق الخياشيم وتصل إلى الأمعاء وتؤذي الإنسان، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام:(من أكل من هذه الشجرة)

(1)

الحديث.

(1)

مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث 565.

ص: 104

قال: فكل رائحة تؤذي يمنع منها لهذا الحديث وبهذا هو

(1)

العمل. انتهى.

ومضر بجدار يعني أنه يمنع من إحداث ما يضر بجدار جاره كرحى ومدق بز وكحفر بير أو مرحاض بجانب جدار داره، وقوله:"ومضر بجدار" أي يقضى عليه بالمنع من ذلك كما في المسائل قبله وبعده، وقولي: كرحى تبعت فيه غير واحد، قال الرهوني: لا إشكال أن الرحى من مضرات الجدار في الجملة، ويرجع في ذلك إلى أهل المعرفة، وفي المعيار عن ابن الرامي: والذي عندي في ذلك أن الذي يريد أن يعمل في داره الرحى يتباعد من حائط الجار بثمانية أشبار من حد دوران البهيمة إلى حائط ويشغل ذلك بالبنيان بين الدوران وحائط الجار إما ببيت أو مخزن أو مجاز لابد لذلك من حائل؛ لأن البناء يحول بين الضرة وحائط الجار. اهـ.

وفيه أيضا: وسياقه أنه للقاضي ابن عبد الرفيع يؤخذ طرف من كاغد وتربط أركانه بأربعة خيوط في كل ركن خيط وتجمع أطراف الخيوط وتعلق في السقف على الحائط الفاصل بين الدار والرحى، وتجعل على الكاغد حبة من كزبر يابس، ويقال لصاحب الرحى هز رحاك فإن اهتز الكزبر على الكاغد قيل لصاحب الرحى اقلع رحاك لأنها تضر بالجار، وإن كان لا يهتز الكزبر على الكاغد قيل لصاحب الدار اترك صاحب الرحى يخدم لأنها لا تضره.

‌تنبيه:

في الحطاب هنا عن ابن فرحون ما نصه: قال ابن الهندي: وإن قام رجل على جاره في شيء يريد إحداثه وادعى أنه ضرر وأقام بينة تشهد بأن الذي يريد إحداثه يكون فيه ضرر على جاره من اطلاع وغيره، فليس يمنع جاره من عمل ما يريد، فإذا تم عمله وثبت الضرر هدم عليه إذا لم يكن عنده فيه مدفع. انتهى. فتأمله واللَّه أعلم. اهـ منه بلفظه.

فانظره مع ما ذكره في الفرع الرابع عند قوله: "وبسد كوة فتحت" عن ابن فرحون أيضا: إذا أحدث الرجل من البنيان ما يجب عليه القيام فيه بالضرر، فقام جاره عليه بالقرب من الفراغ من البنيان فعليه اليمين أن سكوته حتى كمل البنيان لم يكن على إسقاط حقه الواجب له في ذلك من القيام بقطع الضرر. اهـ. ففهم من ترتب اليمين عليه إذا قام بقرب الفراغ من الإحداث ترتبها من باب أولى إذا قام به بعد طول وقلنا له القيام به ولو طالت المدة. انتهى. وفيه أمران: أحدهما أن ما

(1)

لفظ المواق ج 5 ص 191: وبهذا العمل.

ص: 105

ذكره من وجوب اليمين إذا قام بالقرب معارض لما ذكره عن ابن الهندي من أنه لا تسمع دعواه إذا قام عليه حين الشروع ويؤخر إلى الفراغ، فكيف يؤمر بالتأخير إلى الفراغ؟ وتجب عليه اليمين إذا قام بالقرب فتأمله، ثانيهما أنه استشهد لما قاله ابن فرحون بما نقله عن العتبية وفيه نظر؛ لأن الذي في العتبية وجوب اليمين بعد السنة والسنتين وليس هذا بقرب، فلو استدل له بما في الوثائق المجموعة وابن سلمون ونظمه في التحفة لسلم من هذا، ومع ذلك فالذي في المعيار عن العتبية بالمحل المذكور خلافه، فإنه نقل في نوازل الضرر كلام العتبية بطوله، ونقل كلام ابن رشد عليه، فقال في آخر كلام ابن رشد ما نصه: ولما قال إن من حق المبتاع أن يسد المجرى على البائع حكم عليه بحكم ما لو أحدثه عليه بعد الشراء، فقال: إنه إن قام بقرب ذلك كان له أن يسده وإذا لم يقم إلا بعد السنة والسنتين لم يكن له ذلك إلا بعد يمينه، وإن سكت إلى وقت الحيازة في الأشياء عد ذلك رضي ولزمه. اهـ.

وعلى هذا فلا إشكال فيما نقله عن ابن الهندي، ولا يعول على ما نقله عن ابن فرحون من وجوب اليمين مع القرب وإن وافق ما في التحفة وغيرها لمخالفته لما في العتبية، وسلمه حافظ المذهب ابن رشد ولم يحك خلافه، وسلمه الحافظ الونشريسي ولم يحك فيه خلافا. واللَّه الموفق. اهـ.

وإصطبل قال النووي: هو بكسر الهمزة وهي همزة أصلية فكل حروف الكلمة أصلية وهو عجمي معرب وهو بيت الخيل ونحوها. قاله الحطاب. ومعنى كلام المص أن الجار يمنع من إحداث إصطبل عند بيت جاره لما فيه من الضرر ببول الدواب وزبلها ببيت جاره وحركتها في الليل والنهار المانعة من النوم. قاله في المفيد. قاله المواق. وقال البناني عند قوله: "وإصطبل" ما نصه: اعترض هذا بأنه مستغنى عنه؛ لأنه إن كان للرائحة فهو داخل في قوله: "ورائحة كدباغ"، وإن كان للضرر بالجدار فهو داخل فيما قبله، وإن كان للصوت فهو داخل في قوله:"وصوت ككمد" وأجيب بأن مراده التنصيص على ما وقع في النص. انتهى.

وقال الخرشي معللا للمنع من إحداث الإصطبل بقوله: لما في الاصطبل من الضرر ببول الدواب وزبلها وحركتها ليلا ونهارا، ويفيد كلام غير واحد أن الإصطبل لا يتقيد بكونه قبالة باب الجار، فيمنع من إحداثه مطلقا كان قبالة باب الجار أم لا. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 106

وحانوت قبالة باب يعني أن الشخص يمنع من إحداث حانوت قبالة باب جاره لأنه يلزم منه أن يطلع على عورات جاره، قوله:"وحانوت قبالة باب" قال عبد الباقي: قبالة باب لجاره ولو بسكة نافذة على ما صوبه بعضهم، فليس كباب بسكة نفذت لأنه أشد ضررا لتكرر الوارد عليه. انتهى. ونحوه للخرشي ولفظه: وظاهر ما ذكره في الحانوت قبالة البيت من المنع ولو كان بسكة نافذة وهو ما صدر به بعض القرويين وارتضاه الحطاب، وليس كباب بسكة نافذة لأن الحانوت أشد ضررا لتكرر الوارد عليه دون باب المنزل، ومفهوم:"قبالة باب" أنه لو لم يكن كذلك لا يمنع منه وهو كذلك. انتهى. قوله: "ولو بسكة نافذة" لخ قال البناني: هذا خلاف ما لابن غازي من التقييد بالسكة غير النافذة بناء على التسوية بين الحانوت والباب، قال الحطاب: وهو الذي حكاه ابن رشد في كتاب السلطان، وأفتى به ابن عرفة، لكن نقل البرزلي عن المازري أن بعض القرويين قال: إن الحانوت أشد ضررا من الباب لكثرة ملازمة الجلوس به وإنه يمنع بكل حال، قال البرزلي: وهو الصواب. نقله الحطاب. وعليه جرى الزرقاني في إطلاقه في كلام المص هنا. واللَّه أعلم. انتهى قول البناني.

قال البرزلي: وهو الصواب لخ، قال الرهوني: قلت وما صوبه البرزلي هو الظاهر، وفي المعيار: وأما الحوانيت فكشفها أعظم وأكثر وعدة

(1)

ضررها من غير وجه واحد أبين وأظهر، وإذا منعنا من باب الديار كان الحوانيت أحرى لوجوه يكثر تعدادها، وبهذا أفتى جماعة من فقهاء قرطبة حين سئلوا عن المسألة بعينها كما في المعيار، وجلب الرهوني ما جلب إلى أن قال: وبذلك كله تعلم أن ما صوبه البرزلي هو الصواب. واللَّه أعلم.

‌تنبيه:

مثل الحانوت فتح الكوة، ففي المعيار ما نصه: وسئل ابن الغماز عن رجل أحدث غرفة وفتح فيها كوة يرى منها ما في سقيفة جاره إذا فتح بابه، فهل لصاحب الدار منع هذا مما فتح عليه من ذلك وبينهما سكة نافذة للمار واسعة كبيرة؟ فأجاب بمنع الرجل من أن يحدث على جاره كوة يطلع منها على ما في سقيفة جاره، وليس الباب والكوة سواء لأن الباب إنما يعمل للدخول والخروج لمن يدخل ويخرج وليس من ذلك بُدٌّ، والكوى لا يحترز منها وينظرك ولا تنظره،

(1)

لفظ الرهوني ج 6 ص 78: وعمدة.

ص: 107

والمار يتحرز منه ولجوازه وسيره لا يتمكن من النظر والكوة للقعود فهي مضرة كثيرة، قال ابن الرامي: وبهذا أجابني كل من سألته من علمائنا وما رأيت من القضاة أحدا حكم بغير ذلك. انتهى.

وبقطع ما أضر من شجرة بجدار إن تجددت يعني أن من له شجرة بجوار جدار إنسان وأضرت بالجدار بأن امتدت أغصانها عليه، فإن كانت حادثة بأن طرأت بعد الجدار فإنه يقضى بقطع الزائد المضر بلا خلاف، وإلا أي وإن لم تتجدد بأن كانت أقدم من الجدار ففي قطع المضر من أغصانها وهو الراجح وعدمه؛ لأن صاحب الجدار أخذ من حريم الشجرة قولان، والقول بالقطع الذي هو الراجح لمطرف وأصبغ، والقول بعدم القطع لابن الماجشون، وأما قول التحفة:

وتركه وإن أضر الأشهر

فقد تعقبه أبو علي بأن قول مطرف بالقطع هو الراجح؛ لأنه قال به أصبغ وعيسى بن دينار، واختاره ابن حبيب وابن رشد. انتهى.

وقال عبد الباقي: وبقطع ما أضر من أغصان شجرة بجدار لجار إن تجددت الشجرة وإلا تتجدد بل كانت أقدم من الجدار، فقولان في قطع المضر من أغصانها وهو الراجح وعدمه؛ لأن صاحب الجدار أخذ من حريم الشجرة، وأما ما يضر من جدرها المغيب في الأرض بجدار غير مالكها فهو مما يدخل في قوله:"ومضر بجدار" وجعل بعضهم قوله: "وبقطع ما أضر من شجرة" لخ شاملا له ويفترق التقديران في دخول الخلاف فيه أي في الجدار على الثاني لا على الأول. اهـ. قوله: وأما ما يضر من جدرها المغيب لخ، قال البناني: ما ذكره من أنه يدخل في قوله: "ومضر بجدار"، وفي قوله:"وبقطع ما أضر" لخ إنما يعني به قطع الجدور المضرة فقط، وأما الشجرة نفسها فلا سبيل لقلعها كما ذكره ابن رشد، ونصه: وإن كانت الشجرة قديمة قبل دار الجار فليس للجار قلعها ولو أضرت بجداره: وفي قطعه ما أضر مما طال من أغصانها قولا أصبغ مع مطرف وابن الماجشون، لأنه علم أن هذا يكون من حال الشجرة فقد حاز ذلك من حريمها والأول أظهر واختاره ابن حبيب. انتهى. نقله ابن عرفة. انتهى. وقال عبد الباقي: ومفهوم قوله: "بجدار" أنه لو ادعى الجار التسور على منزله من شجرة بجانبه لم تقطع ولو متجددة إلا أن يثبت ذلك فتقطع، وهل

ص: 108

مطلقا وبه أفتى بعضهم أو إلا أن تكون أقدم؟ ولعل الفرق بين ما هنا وبين عدم جبر ذي خربة بجانب دار الآخر ويخشى منها توصل السراق لذي الدار إمكان تحرز رب الدار بعلو البناء على الخربة، بخلاف الشجرة لتجدد نمو غصنها دائما. اهـ. قوله: ومفهوم قوله: "بجدار" أنه لخ، قال الرهوني: ما ذكره من التفصيل صواب، وأظن أني رأيت في المعيار مثله، وظاهر ما في المواق عن ابن وهب أنها لا تقطع بذلك مطلقا. انتهى.

وقوله: أو إلا أن تكون أقدم، الظاهر إذا ثبت ضررها بذلك وكانت أقدم أن يقطع ويعطي رب الدار قيمته. واللَّه أعلم. وقوله: ولعل الفرق بين ما هنا وبين عدم جبر ذي خربة بجانب دار لخ جزم بعدم جبر رب الخربة المذكورة على بنائها، ولم يجزم بذلك الأجهوري، بل قال عند قول المص:"ولم يجبر آجر على إصلاح مطلقا" ما نصه: قلت وأخذ غير واحد من أشياخي من مسألة المص أنه لا يجبر من له خربة بجوار شخص يحصل له منها ضرر كسارق ونحوه على عمارتها، ويقال له اعمل ما يندفع به الضرر عنك، وأفتى بعضهم بلزوم رب الخربة بفعل ما يدفع به الضرر عن جاره من عمارة أو بيع ممن يعمر ونحو ذلك، إلى أن قال: ولا شك أنه يفيد رجحان الأول، فلذلك اقتصر عليه الزرقاني. واللَّه أعلم. اهـ. المراد منه.

قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: انظر عند قول المص "ولم يجبر آجر على إصلاح".

‌تنبيهان:

الأول: في المعيار: من له شجرة نابتة في ملك الغير فإنه يملك موضع الشجرة وحريمها وهو مقدار من الأرض يدور بها يحرم ما يدور بالشجرة ويسقي الشجرة إذا جذب إليها الماء في الحريم، وهذا الحريم يختلف باختلاف الشجر، ويرجع في ذلك إلى ما يقوله أهل المعرفة من الفلاحة، فهم يعينون للشجرة حريما بملك رب الأرض، فإن بادت الشجرة جعل مكانها عوضا منها، وإن مالت واحتاجت إلى التدعيم وأمكن جعل الدعامة في حريم الشجرة فعل ذلك، وليس لرب الأرض أن يمنعه من ذلك؛ لأنه جعل الدعامة في ملكه وهو حريم شجرته، فإن مالت الشجرة حتى خرجت عن حريمها وكان لا يتأتى جعل الدعامة بحيث ينتفع بها إلا بملك الغير، فحينئذ له المنع إلا أن يرضيه في ملكه. اهـ.

ص: 109

الثاني: مثل هذه المسألة من له شجرة في أرضه فمالت فليس له جعل الدعامة في أرض جاره إلا أن يرضيه، وكثيرا ما تقع المسألتان فيبادر رب الشجرة إلى تدعيمها حيث لا يجوز له من غير استيذان ولاسيما ذوي القرابة، فإن قام رب الأرض عليه قبل انقضاء أمد الحيازة فله ذلك بعد يمينه إن طال وبدونها أي اليمين إن قام بالقرب كما مر عن العتبية وابن رشد، وهو الصواب الموافق لا يأتي في الشفعة خلافا لما في التحفة وغيرها، وإن سكت أمد الحيازة فلا كلام له والراجح المعمول به أنه عشرة أعوام. قاله الرهوني. وقال المواق: قال مطرف في الشجر يكون إلى جانب رجل فيضربه: فإن كانت أقدم من الجدار وكانت على حال ما هي عليه اليوم من انبساطها فلا تقطع، وإن حدث لها أغصان بعد ما بني الجدار تضر بالجدار فليشمر منها كل ما أضر بالجدار مما حدث، وقال ابن الماجشون: يترك ما حدث وانتشر من أغصانها وإن أضر ذلك بالجدار.

ابن حبيب: وقال أصبغ بقول مطرف وبه أول ابن يونس وقاله عيسى بن دينار، وقالوا أجمع إن كانت الشجرة محدثة بعد الجدار فإنه يقطع منها كل ما آذى الجدار وأضر به من قليل أو كثير، وقال ابن وهب في شجرة في دار رجل فطالت حتى صار يشرف منها إلى دار جاره: إذا طلع يجنيها أو غرسها قريبا من جاره فيزعم أنه يخاف أن يطرق منها فيدخل عليه في داره، قال: إن لم يكن عليه حجة إلا ما خاف من الطرق أو ممن يجنيها فلا حجة له، ويؤذنه إذا أراد أن يجنيها، وأما إن خرج من فروعها إلى أرض جاره فليقطع ذلك الخارج فقط، ونحوه لأصبغ قال: إن كان عظمها وامتدادها صعودا إلى السماء فلا تغير عن حالها كالبنيان يرفعه الرجل في حقه فيستر به الريح والشمس عن جاره وإن كان إنما امتدت في أرض جاره، فلتشمر وتقطع وترد إلى حال لا تؤذي قال ابن سحنون: كل ما خرج منها إلى أرض جاره فليقطع حتى يعود فروعها حذاء أرض صاحبها؛ لأن هواء الأرض لربها، قال أصبغ: وأما الشجرة التي تكون للرجل في أرض الرجل بميراث أو شراء أو قسم فامتدت فروعها فلا قول لصاحب الأرض في ذلك، وقاله ابن القاسم قال أصبغ: ومن في حائطه شجرة فيخرج منها قضبان تحت الأرض فتظهر في أرض جاره وتصير شجرا مثمرات فيخير من نبت في أرضه في أن يقلعها أو يعطي للآخر قيمتها مقلوعة مطروحة، قال ابن القاسم: إلا أن يكون لصاحب الشجر منفعة لو قلعها وغرسها بموضع آخر لنبتت فله ذلك وإن

ص: 110

كانت لا منفعة له فيها ولا مضرة عليه فيها فهي لرب الأرض، قال في المجموعة: وإن كان عليه فيها مضرة لأن عروق القديمة تسقي هذه فله قلعها إلا أن يشاء الذي ظهرت في أرضه أن يقطع عروقها المتصلة بشجرة الأول حتى لا يضر بها ويعطيه قيمتها مقلوعة إن كانت لها قيمة فذلك له، وأفتى اللخمي بقطع نخلة خيف من سقوطها على زيتونة. اهـ كلام المواق.

لا مانع ضوء وشمس وريح قال الخرشي: عطف على مدخول الباء في قوله: "وبمنع" والمعنى أن من رفع بناءه على بناء جاره حتى منع ما ذكر؛ يعني الضوء والشمس والريح فإنه لا يمنع من ذلك وأولى منقص ما ذكر. اهـ. وقال عبد الباقي: لا يقضى على جار بمنع بناء مانع ضوء شمس وريح عن جاره ولو الثلاثة كما هو ظاهر. اهـ. وقوله: "لا مانع ضوء وشمس وريح" هذا هو المشهور في الثلاثة وفي التوضيح وابن عرفة، روى ابن دينار عن ابن نافع أنه يمنع من ضرر منع الريح والضوء والشمس وهذا مقابل المشهور، وفي المدونة عن ابن كنانة: لا يمنع إلا أن يقصد الضرر، وعزاه أبو الحسن في المجموعة بزيادة ولا نفع له هو في بنائه، وقال متصلا به ما نصه: الشيخ: فحمله ابن سهل على الوفاق وحمله ابن الهندي على الخلاف، وقد رجح أبو علي هنا، وفي حاشية التحفة تأويل ابن سهل قائلا هنا ما نصه: ولقد تعجبت مما نقله أبو الحسن عن ابن الهندي ولم أقف على من أشار له غير أبي الحسن وذلك غير حسن، فإن السكوت على هذا يؤدي إلى التشكيك في أمور كثيرة من الفقهيات إلى أن قال عن أبي علي، وقد تبين من هذا أن قول ابن كنانة هو الذي يجب اعتماده لظهوره. انتهى.

وقال في الحاشية: والحق أن قول ابن كنانة هو المذهب ولا يجوز المحيد عنه، وقد سقنا دليله غاية قف عليه إن شئت ولا تمتر في ذلك فإن هذا أمر يدركه العوام لفعل الإنسان مالا ينفعه ليضر جاره الذي له من الحقوق ما قد علم فافهم انتهى.

قلت: وما قاله ظاهر جدا وهذا إذا كان لا يحتاج في ذلك إلى نفقة أصلا وإلا كان في ذلك زيادة على ما قاله أبو علي: إضاعة المال المحرمة بالسنة والإجماع. فتأمله بإنصاف. وقد اقتصر في المعين على كلام ابن عتاب وساقه مسلما، ونصه: وقال ابن عتاب: الذي أقوله وأتقلده من مذهب مالك رحمه الله أن جميع الضرر يجب قطعه إلا ما كان من رفع بناء يمنع من هبوب الريح وضوء

ص: 111

الشمس وما كان في معناهما، إلا أن يثبت أن محدث ذلك أراد الضرر بجاره. انتهى. ونقله ابن فرحون في تبصرته، وقال بعد ذلك ما نصه: وأما إحداث بناء يمنع الضوء والشمس والريح فاختلف فيه هل يمنع أو لا يمنع؟ وفي المتيطية: لا يمنع إلا أن يكون أظلم عليه، وأما إن أحدثه ضررا بجاره. فإنه يمنع منه، وقد تقدم ذلك في كلام ابن عتاب. انتهى. وهو شاهد لما قاله أبو علي واللَّه أعلم. وقول ابن فرحون عن المتيطى: إلا أن يكون أظلم عليه مثله نقله أبو علي عن المتيطى ولم يتعرض لبيان معناه، والظاهر أن معناه إلا أن يكون ما أحدثه من رفع البناء أظلم عليه داره فإنه يمنع منه حينئذ، وقد جزم بذلك أيضا في المقصد المحمود ونصه ولا يمنع من رفع الحيطان وإن منع منه الشمس والقمر والريح إلا أن تظلم منه الدار فجعلا ذلك تقييدا لمحل الخلاف، وانظر هل هو مخالف لقول المدونة

(1)

: فسد على جاره كواه وأظلمت عليه أبواب غرفه وكواها لخ ما في المواق عنها، أو ما ذكراه أخص؟ لم أر من نبه على ذلك. واللَّه أعلم. اهـ كلام الرهوني.

ويعني بما في المواق عن المدونة: قوله من المدونة قال مالك: من رفع بنيانه فتجاوز بنيان جاره ليشرف عليه لم يمنع من رفع بنيانه ومنع من الضرر به، وإن رفع بنيانه فسَدَّ على جاره كواه وأظلمت أبواب غرفه وكواها ومنعه الشمس أن ترتفع في حجرته لم يمنع من هذا البنيان، وقال ابن نافع: يمنع من ضرر منع لخ.

إلا لأندر يعني أن مانع ما ذكر من الضوء والشمس والريح لا يمنع منه الجار كما عرفت إلا أن يكون منع الريح والشمس عن الأندر فإنه يمنع منه، فالاستثناء من الشمس والريح واللام بمعنى عن. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: لا يقضى على جار بمنع بناء مانع ضوء وشمس وريح عن جاره ولو الثلاثة إلا أن يكون رفع بنيانه يمنع الشمس والريح كما في أحمد والتتائي لأندر أي عنه فيمنع منه لأجل أندر جاره؛ لأن القصد من الأندر الشمس والريح كما في أحمد والتتائي. اهـ. وقال المواق: الباجي: من كانت له أرض ملاصقة أندر غيره فأراد أن يبني فيها ما يمنع الريح عن الأندر ويقطع منفعته، فقال مطرف وابن الماجشون: لا يمنع وروى يحيى عن ابن القاسم أنه يمنع ما يضر بجاره في قطع مرافق الأندر الذي تقدم، زاد ابن يونس عن ابن القاسم: والأنادر

(1)

في الأصل: للمدونة، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 82.

ص: 112

كالأفنية لا يجوز لأحد التضييق فيها ولا قطع منافعها وقاله ابن نافع، قال العتبي: وهو الصواب اهـ.

وأصل هذا الاختلاف أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: إذا التقى ضرران نفى الأصغر للأكبر، قال: والأظهر أن لا يمنع. اهـ. وعليه أي على قول مطرف وابن الماجشون اقتصر ابن عات في طرره ونصها: وإن بنى رجل في أندر حتى منع صاحبه الريح لم يكن له منعه كما إذا منعه ببنائه الشمس لم يكن له منعه، ومثله في الكافي فهذا القول قويٌّ كما ترى، وفي الطرر: من كان له طعام مصفى لم يمنع من فوقه من الذرو عليه، بدأ قبله أو لم يبد وقيل له غط طعامك ذكره لي بعض شيوخي ووجدناه منقولا كذلك عن غيره، وقد قيل له أن يمنعه ويؤمر بقلع طعامه وهو وجه حسن إن شاء اللَّه، فإن لم يصف أحدهم وأذروا كلهم واختلط تبنهم قيل لهم اقترعوا على الذرو، فإن أبوا لم يجبر واحد منهم على قلع أندره، ويقال لمن ذرا على صاحبه أتلفت تبنك لا شيء لك ويجبر الذي صفى طعامه على القلع، قال: وإن صفى أحدهم ولم يبق له إلا إخراج الحصالة منع صاحبه من الذرو عليه، وليس هو كمن لم يصف شيئا وكان ابتداء ذروهم واحدا. اهـ. انظر الرهوني.

وعلو بناء يعني أن الشخص لا يمنع من رفع بنيانه ولو أشرف على بنيان جاره، قال عبد الباقي: ولا علو بناء مجاور لبنيان جاره فلا يمنع منه ولو أشرف بنيانه عليه لكن يمنع من الضرر أي التطلع بغير كوة كما قدمه من قوله: "وبسد كوة"، قال التتائي: وظاهره ولو كان من علاه ذميا وهو كذلك. انتهى. وفي شرح الدميري ما نصه: نقل شيخنا -يعني الناصر- ما صورته قوله: ومن رفع بنيانا لخ لعل هذا في المسلم وغيره، قال ابن عرفة في باب الجهاد: وقول الطرطوشي: يمنعون من إعلاء بنائهم -أي الذميين- على بناء المسلمين، وفي المساواة قولان ولو اشتروها عالية أقروا إنما نقله عن الشافعية كالمصوب له. انتهى.

وفي المدونة: من رفع بنيانه مجاوزا به بنيان جاره ليشرف عليه لم يمنع من رفع بنيانه ويمنع من الضرر، قال ابن غازي عن أبي الحسن: اللام في ليشرف لام الغاية. اهـ. وهذا يفيد أن ما آل إلى الضرر ولم يدخل عليه ليس كالضرر المدخول عليه؛ أي أنه أخف منه. قاله الخرشي.

ص: 113

وصوت ككمد يعني أن الجار لا يمنعه جاره من إحداث ما لا يضر به ضررا قويا، كصوت الكمد وأدخلت الكاف في المص الحداد والنجار، وظاهره ولو اشتد ودام وفي المواق خلافه، وهذا ما لم يضر بالجدار، ودخل بالكاف أيضا صوت صبيان بمكتب بأمر معلمهم. قاله عبد الباقي. قال الرهوني: الذي في المواق حكاية الخلاف في ذلك فقط، والكمد قال في القاموس: دق الثوب وفسروه في الرابحة بأنه دق القصار الثوب للتحسين، والقصار كشداد ومحدث محور الثياب أي مبيضها وحرفته القصارة والقصر تبييض الثياب، قال الرهوني: وقد اختار أبو علي التفصيل، فقال بعد أنقال ما نصه: وقد تبين من هذا كله أن الصوت إذا كان قويا مستداما في الليل يمنع على ما يظهر رجحانه من النقول المتقدمة يظهر ذلك بالتأمل والإنصاف مع تلفيق بعض الأنقال إلى بعض، كتلفيق تقييد الباجي مع قول أصبغ بن سعيد مع ما في المجالس وما نقلوه عن ابن عتاب، وفي ذلك كفاية لمن أنصف مع ظهور هذا الضرر نعم، قال ابن ناجي على المدونة: بلغو ضرر الأصوات جرى العمل عندنا، ولغوها مطلقا هو الذي في المتن. اهـ منه بلفظه.

قلت: بل الراجح هو ما في المتن بدليل ما في المعيار وما في ابن عرفة في إحياء الموات وكلام غيرهما، ففي المعيار من كلام ابن زرب ما نصه: وروي عن مالك رحمه الله في الضراب للحديد: يكون جار الرجل ملاصقا به فيعمل الليل كله والنهار يضرب الحديد فيتأذى بذلك جاره ولا يجد راحة من كيره وضَرْيهِ ويرفع ذلك إلى السلطان، فقال مالك: لا يمنع من ذلك إنما هذا رجل يعمل في بيته وليس هذا يراد به الضرر فليس يمنع أحد من العمل في بيته، وإنما هو عمل يده وعيشه الذي يعيش به رواه مطرف عن مالك، فهذا ما أقول به واللَّه يحملك على الصواب. انتهى.

ثم جلب الرهوني على ما قال فيه كفاية، ثم قال: فتحصل مما تقدم كله أن ما أفاده كلام المص هو المنصوص للأقدمين فهو الذي حكاه ابن حبيب ورواه مطرف عن الإمام مالك، وحكى عليه ابن دحون الاتفاق وسلمه ابن رشد في رسم المكاتب من سماع يحيى من الأقضية، وقال في رسم الأقضية الثاني: إن فيه خلافا شاذا، وأقامه أبو الفضل عياض من كتاب القسمة من المدونة، وعزاه لأكثر الشيوخ وسلم له ذلك المحققون، وأخذه ابن عبد الغفور وابن الفخار من مسألة كتاب الدور والأرضين من المدونة، واستحسن ابن عرفة أخذهما منها وبه أفتى ابن زرب وعبد الرحمن بن مخلد

ص: 114

قائلا: وهو الذي أدركت شيوخنا رحمهم الله يفتون به وابن لبابة وابن عبد ربه، وصرح أبو الحسن وابن رشد بأنه المشهور، وابن ناجي أن به العمل وبه تعلم ما في كلام أبي علي إذ جعل الراجح ملفقا من الثالث والرابع في كلام ابن عرفة وابن ناجي مخالف كلامهما وكلام غيرهما واللَّه الموفق. اهـ.

‌تنبيه:

قال الحطاب عند قوله: "لا مانع ضوء وشمس وريح" ما نصه: وأما إحداث ما ينقص الغلة فلا يمنع اتفاقا، كإحداث فرن قرب فرن آخر أو حمام قرب حمام آخر. قاله في معين الحكام. وفي التبصرة اهـ. قوله: وأما إحداث ما ينقص الغلة لخ يعني من قلة الوافدين. انظر الرهوني. وفي المواق: وانظر أواخر نوازل ابن سهل أن الصحيح أنه لا يمنع ما يحط الثمن، كإحداث فرن قرب فرن أو قرب دار لا يضرها الدخان. انظر البرزلي. اهـ.

الرهوني: قلت ما ذكره من الخلاف في إحداث فرن قرب دار لا يضرها الدخان، وأن الصحيح أنه لا يمنع منه محدثه صواب، وقد أطال في المسألة أبو الأصبغ بن سهل في أحكامه.

وَمُحَصَّل ما فيها أنها وقعت، فجمع القاضي الفقهاء وشاورهم فأفتى ابن عتاب بأنه لا يمنع من ذلك ووافقه ابن مالك وأفتى أبو مطرف فرج بأنه يمنع، ووافقه محمد بن أبي سعيد على ذلك، فلما افترقوا كتب ابن أبي سعيد إلى القاضي كتابا يذكر له فيه أن الصواب ما قاله هو ومن وافقه محتجا فيه بحجج، فوجه القاضي ذلك الكتاب لابن عتاب فأجابه بأن الصواب ما أفتى به هو ومن وافقه من أنه لا يمنع، واحتج على ذلك بحجج، قال: أبو الأصبغ بن سهل: في كلام ابن أبي سعيد بن أبي زعبل تخاذل إن تدبرته، والصواب فيما ذهب إليه ابن عتاب. واللَّه أعلم. اهـ. وتبع ابن عتاب كثير من المتأخرين، ثم ذكر الرهوني ما يفيد أن ما نسبه الحطاب للتبصرة ومعين الحكام من الاتفاق هو الصحيح، وأن فتوى ابن منظور بمنع إحداث فرن على آخر ونحوه وتأويله لقول ابن عتاب وابن رشد غير صحيح، وأن المخالف قوله ضعيف أو غير صحيح. واللَّه تعالى أعلم. وباب بسكة نفذت يعني أن من أراد أن يفتح لداره بابا في سكة نافذة فإن ذلك له ولا يمنع من ذلك، وظاهره ولو كان في مقابلة باب جاره وسواء كانت السكة واسعة أو ضيقة، والسكة بكسر السين المهملة الزقاق. قاله في الصحاح. والنافذة بالذال المعجمة هي التي يخرج منها من طرفيها.

ص: 115

قاله الحطاب. ومقتضاه أن الباء بمعنى: في، ويظهر أنها للإلصاق. واللَّه أعلم. واحترز بقوله عن السكة التي ليست بنافذة وهي التي تكون منسدة من أحد الطرفين، فليس له أن يفتح فيها بابا بغير إذن أهل السكة إلا إذا كان منكبا عن باب جاره المقابل له، قال في المدونة: وليس لك أن تفتح في سكة غير نافذة بابا يقابل باب جارك أو يقاربه، ولا تحول بابا لك هناك إذا منعك لأنه يقول: الموضع الذي تريد أن تفتح فيه بابك لي فيه مرفق أفتح فيه بابي وأنا في سترة ولا أدعك تفتح قبالة بابي أو قربه تتخذ عليَّ فيه المجالس وشبه هذا، فإذا كان هذا ضررا فلا يجوز أن تحدث على جارك ما يضره، وأما في السكة النافذة فلك أن تفتح ما شئت وتحول بابك حيث شئت منها. اهـ. قاله الحطاب.

ثم قال: ويتحصل في فتح الرجل بابا أو حانوتا في مقابلة باب جاره في الزقاق النافذ ثلاثة أقوال أحدها: أن ذلك له من غير تفصيل وهو قول ابن القاسم في المدونة وقول أشهب هاهنا، والثاني: أن ذلك ليس له من غير تفصيل إلا أن ينكب وهو قول سحنون رواه عنه ابنه محمد وابن حبيب، والثالث: أن ذلك له إذا كانت السكة واسعة وهو قول ابن وهب هاهنا. والسكة الواسعة ما كان فيها سبع أذرع فأكثر، لما جاء أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:(الطريق الميتاء سبع أذرع)

(1)

وقع ذلك في مسند ابن أبي شيبة من رواية ابن عباس، فوجب أن يكون ذلك حدا لسعة الطريق. انتهى قال في القاموس: وطريق ميتاء بالكسر عامر واضح وهو مجتمع الطريق. انتهى.

وقال عبد الباقي: ولا يمنع ذو دار من إحداث باب ولو قبالة باب جاره بسكة نافذة إلى الفضاء ضيقة أو متسعة وهي سبعة أذرع، لخبر:(إذا اختلف الناس في الطريق فحدها سبعة أذرع) أي بذراع الآدمي الوسط وقيل بذراع البنيان المتعارف. قاله الحطاب عن ابن حجر. ومحله في موات أذن الإمام في عمارته بيوتا، واختلفت طرقهم إلى منازلهم كما يشعر به لفظ الخبر لا في طرق قديمة دون سبعة بين بيوتهم لم يعلم محدثها. انتهى. قوله: ومحله في موات أذن الإمام في عمارته بيوتا لخ، قال الرهوني: في تخصيصه بذلك نظر بل مثله بلد يفتحها المسلمون وليس فيها طريق مسلوك

(1)

الدارقطني، ج 4 ص 228. مصنف ابن أبى شيبة، ج 5 ص 365.

ص: 116

ومثله اختلاف البانيين المتقابلين في الفحص فيما يجعل للطريق، أو تشاحا فأراد كل واحد منهما أن يقرب جداره من جدار صاحبه. انتهى. وفي القاموس: الفحص كل موضع يسكن. انتهى.

‌تنبيهات:

الأول: قال ابن عرفة ما نصه: حديث سبعة أذرع إنما ذكره عبد الحق عن مصنف عبد الرزاق، وقال في شده جابر الجعفي: ولم يزد، وقال المزي في كتاب رجال الكتب الستة: هو من أكبر علماء الشيعة وثقه شيعة

(1)

وتركه جماعة وروى عنه شعبة والسفيانيان.

(2)

انتهى منه بلفظه. قلت: هذا من أغرب الغريب، فإن الحديث في الصحيحين وغيرهما، ولفظ البخاري: عن أبي هريرة قال: (قفى النبي صلى الله عليه وسلم إذا تشاجروا في الطريق الميتاء بسبعة أذرع)

(3)

انتهى وفي الجامع الصغير

(4)

(إذا اختلفتم في الطريق فأجعلوه سبعة أذرع). الإمام أحمد في مسنده ومسلم وأبو داوود والترمذي وابن ماجه والبيهقي في السنن عن ابن عباس، قال المنوي في شرحه بعد قوله والترمذي ما نصه: وحسنه. انتهى. قلت: لفظ مسلم، (جعل سبعة أذرع)

(5)

بلفظ الماضي لا فاجعلوه بلفظ الأمر، قال الأبي في شرحه بعد كلام ما نصه: عياض: لم يأخذ مالك وأصحابه بهذا الحديث، ورأوا أن الطريق تختلف بحسب الحاجة إليها ليس طريق الممر كطريق الأحمال والدواب، وليس المواضع العامرة التي يتزاحم عليها الوراد كغيرها، ولعل الحديث عندهم ورد فيما كانت الكفاية فيه بهذا القدر، وتنبيها على الوسط والغالب.

المازري: حديث السبعة أذرع محمول على أمهات الطريق التي هي ممر عامة الناس بأحمالهم ومواشيهم، فإن تشاح من له أرض تتصل بها مع من له فيها حق جعل بينهما سبعة أذرع بالذراع المتعارف، وأما بنيات الطريق فبحسب الحاجة وحال المنازعين، فليس حال البادية باستعمالهم الدواب والمواشي كعادة من ليس كذلك من أهل الحاضرة، فيوسع لأهل البوادي ما لا يوسع في الحاضرة، وقد يجعل في الفيافي أكثر من سبعة أذرع لأنها ممر الجيوش والرفاق الكبار، وهذا التفصيل كله لأهل المذهب ولو جعلت الطريق في كل محل سبعة أذرع لأضر بكثير من أملاك

(1)

في الرهوني ج 6 ص 87: شعبة.

(2)

في الرهوني ج 6 ص 87: والسفيانان.

(3)

البخاري كتاب المظالم، رقم الحديث: 4273

(4)

الجامع الصغير، الحديث:365.

(5)

مسلم، كتاب المساقاة رقم الحديث 1613 ولفظ مسلم سبع.

ص: 117

الناس، ويلزم عليه أن تكون بنيات الطريق في الأزقة وغيرها كالأمهات المسلوكة وغيرها، كطرق الفيافي وذلك ضرر بين فقدرها مصروف إلى اختياره وليس من مراد الحديث، وان كانت الطرق بين أرض قوم فأرادوا إحياءها فإن اتفقوا على شيء فذلك وإن اختلفوا جعلت سبعة أذرع، وإن وجدت طريق أكثر من سبعة أذرع مسلوكة لم يجز أخذ شيء منها وإن قل، ولكن له إحياء ما حولها من الموات على وجه لا يضر بالمارة، مهما وجدت طريق مسلوكة حكم أنها طريق دون إثبات مبدإ مصيرها طريقا. واللَّه أعلم بالصواب. انتهى.

وكلها حسن ظاهر إلا قوله حكم بأنها طريق لخ، فإنه مبني -واللَّه أعلم- على أن الضرر محمول على القدم حتى يثبت حدوثه وهو خلاف الراجح، والمعمول به أنه مبني على الحدوث حتى يثبت قدمه كما نص على ذلك غير واحد وهو حتى في التحفة، وفي نوازل المعاوضات من المعيار: وسياقه أن المسئول هو أبو عبد اللَّه بن الفخار، وفي أحكام الباجي: إذا لم يعلم الضرر إن كان حديثا أو قديما فهو على الحدوث حتى يتبين أنه على القدم. قاله غير واحد من شيوخنا. وعليه العمل، وفي كتاب ابن سحنون أنه على القدم وليس به عمل. انتهى. وبنيات الطريق جمع مؤنث سالم لبنية

(1)

مصغر بنت، وفي الصحاح ما نصه: وبنيات الطريق هي الطرق الصغار تشعب من الجادة. انتهى. ونحوه في القاموس. قاله الرهوني.

الثاني: اعلم أن من في أرضه طريق فأراد أن يحولها إلى موضع منها فإن كانت لمعينين لم يجز إلا برضاهم، وإن كانت للعامة وأراد أن يحولها إلى موضع منها هو أرفق به وبأهل الطريق قال فيه ابن القاسم: ليس له ذلك ولا لأحد أن يحول طريقا عن موضعها إلى ما هو دونها ولا إلى ما فوقها، وإن كان مثل الطريق الأول في سهولتها أو أسهل منها وإن أضر ذلك به؛ لأنه على ذلك اشترى أو ورث أو وهب له وإن رضي له بذلك من جاوره من أهل القرى لأن ذلك حق لجميع المسلمين، فلا يجوز فيه إذن بعضهم، وقال ابن الماجشون وابن نافع: يرفع إلى الإمام، فإن رآها مثل الأولى في سهولتها أو أسهل منها وفي قربها أو أقرب أذن له وإلا منعه فإن فعل ولم يرفع إلى الإمام نظر الإمام في ذلك، فإن وجده صوابا أمضاه وإلا رده، قال ابن حبيب: وبه أقول. نقله الرهوني عن الحطاب.

(1)

في الأصل: البنية، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 88.

ص: 118

ثم نقل عنه عن المنتخب عن ابن القاسم أن من له دار في جوف دار وممر الداخلة على الخارجة، فأراد أهل الخارجة أن يحولوا باب دارهم إلى غير الموضع الذي كان فيه أنهم إن أرادوا أن يحولوه إلى موضع قريب لا ضرر فيه فلهم ذلك وإلا فلا، قال: وهذه المسألة في المدونة. انتهى. قال الرهوني: ولم يعارض بين هذا وما ذكره قبله، وجلب الرهوني كلام المدونة ثم قال: إنه معارض لما قبلها وإن كان هذا لقوم معينين، وفي الدار: فإنه لا فرق إلى أن قال وفي طرر ابن عات ما نصه: من الكافي لابن عبد البر: إذا كان لرجل طريق في أرض جاره إلى ماله، فأراد صاحب الأرض أن يحول ذلك الطريق إلى موضع آخر من تلك الأرض ويغرس موضع الطريق، فليس له ذلك إلا أن يأذن الذي له الممر، وسواء كان عليه ضرر في ذلك أو لم يكن إلا أن يكون بين الممرين نحو الذراع مما لا مضرة فيه على المار إلى ماله، فلا يمنع صاحب الأرض من ذلك ولا إثم فيه إن شاء اللَّه تعالى. ذكر ذلك كله ابن عبد الحكم عن مالك. انتهى.

فهذا نص في الأرض موافق لما في المدونة والمنتخب في الدار مع زيادة هذا تحديد القرب، ونقل نحو هذا عن المنتقى ثم قال: فالظاهر تقييد محل الخلاف الذي ذكره الحطاب بما زاد على هذا القدر من القرب، ولم أدر ما وجه ما نقله الحطاب رضي الله عنه من عدم التنبيه على المعارضة بينهما مع إغفاله ما في المنتقى والطرر. واللَّه الموفق بمنه. انتهى.

الثالث: قال الرهوني: من له طريق في أرض غير يمر عليه بعد أن يحرثه، ثم أراد بناءه وأرادوا منعه محتجين بأن سكناه أشد ضررا من الحرث لم يكن لهم ذلك، ولكن يمنع من الضرر بهم ولا يستحق عليهم من الطريق إلا ما كان يستحقه قبل، ففي المعيار ناقلا عن كتاب البنيان والأشجار لابن حبيب عن أصبغ ما نصه: قلت فإن اختلفوا في هذا الممر فقال لهم المتوسط: اتركوا لي ممرا واسعا يحملني وماشيتي وجميع حوائجي وأبى القوم، فقال: يحكم له عليهم بمثل الممر الذي كان له في أرضهم من قبل البنيان منهم، ومنه على حال ما كان يختلف إليها بماشيته، وإن لم يكن يختلف إليها قبل بماشية لم يكن عليهم أن يتركوا له ممر ماشيته، وكذلك إذا أراد هو البنيان وحده ولم يريدوا بنيان أرضهم وتركوها للحرث والزرع كما كانت فاحتاج من المنافع في دخوله في

ص: 119

أرضه وخروجه منها إلى أكثر مما كان يحتاج إليه أولا إذ كان يختلف إليها للحرث فقط، فإنه يمنع من البنيان لأنه استحقاق لأكثر من حقه. انتهى.

وإذا أراد من في أرضه طريق لغير أن يحظر على أرضه ويجعل بابا للمارين فليس له ذلك إلا أن يكون الطريق لمعين ويرضى بذلك، ففي الطرر متصلا بعا قدمناه عنه آنفا ما نصه: ولو أراد صاحب الأرض أن يغرس أرضه ويحجر عليها ويجعل لصاحب الممر بابا يدخل منه إلى ماله فليس له ذلك إلا بإذن صاحب الممر. انتهى. ومن ترك أرضه للناس يمرون بها ثم أراد منعهم، فقال ابن ناجي في كتاب الأيمان والنذور من شرحه للمدونة عند قولها: ومن حلف أن لا يدخل هذه الدار فهدمت وخربت حتى صارت طريقا فدخلها لم يحنث ما نصه: أخذ منها أن من ترك ربعه للناس يمشون فيه ولو طال لا يكون حبسا، وهذا الأخذ نقله شيخنا حفظه اللَّه. وعرفته أنها وقعت في المدينة وأفتى فيها شيخنا المذكور بعا قلناه فأوقفته بعا كان أفتى به بعض شيوخنا أنه إن طال ممشى الناس فيه فإنه يكون حبسا فرجع إليه في ذلك وأفتى به. انتهى.

وأجمل في قدر الطول وفي المشي هل هو بالأرجل فقط أو به وبالدواب؟ وفي المنتخب لابن أبي زمنين ما نصه: وسئل عن القوم يكونون في المنزل فيحجر الرجل على أرض له وقد كان أهل المنزل يسلكون فيها طريقا فقاموا عليه فقالوا قطعت طريقنا، فأنكر أن يكون طريقا لهم لازما فتنازعوا إلى الحاكم، فأتى الذين زعموا أنها طريق لهم ببينة فشهدوا أنهم يعرفونها طريقا يسلكها الناس منذ عشرين سنة، فقال كثيرا ما يكون هذا بين المنازل ويحتظر الناس في الأرض ويتساهل أصحابها ذلك، فإذا ثبت أن هذه الطريق من تلك الأرض فليست لازمة لصاحب الأرض إلا أن يكون الطريق الحاملة التي تركب من غير ما وجه ويطول ذلك فيها وينقطع الزرع منها، نحو الخمسين والستين سنة، وأما الطريق المحتظرة التي ربما قطعها الحرث فليست حجة على صاحبها إذا ثبتت كما ذكرت لك. انتهى. فساقه كأنه المذهب ولم يحك غيره، وكلام سحنون هذا هو في العتبية في كتاب الأقضية من نوازل سحنون، وقد نقله صاحب المعيار فقها مسلما في نوازل الضرر، وبه أفتى شيخنا الجنوي حين وقعت وهو ظاهر. واللَّه أعلم.

ص: 120

الرابع: قال المواق: أجاب ابن رشد فيمن أحدث بداره بابا وحانوتين قبالة باب جاره وبينهما زقاق نافذ ولا يخرج أحد من دار الجار ولا يدخلها إلا على نظر الجالسين في الحانوتين لعمل صنعتهم وهو ضرر بين برب الدار بأن يؤمر أن ينكب بابه وحانوتيه عن مقابلة دار جاره، فإن لم يقدر على ذلك لم يحكم عليه بقلعها وترك. انتهى. ونحوه في الحطاب ثم قال الحطاب: فيتحصل من كلامه أنه إذا لم يكن على جاره في ذلك ضرر فله أن يفتح الباب والحانوت قبالة باب جاره، وأما إذا كان على جاره في ذلك ضرر فإن لم يمكنه التنكيب لم يحكم عليه، وإن أمكنه ذلك حكم عليه به. انتهى.

الخامس: قال الحطاب: قال في المدونة: إذا كانت دار لرجلين ولأحدهما دار تلاصقها فأراد أن يفتح في المشتركة بابا يدخل منه إلى داره فللشريك منعه للشركة معه في موضع الفتح، فإن قسما فقال: اجعلوا نصيبي إلى جنب داري حتى أفتح فيها بابا لم يقبل منه وقسمت الدار بالقيمة فحيث وقع سهمه أخذه وإن كان في الناحية الأخرى، وإن قسما هذه الدار فاشترى أحد النصيبين رجل يلاصق داره ففتح إلى النصيب من داره بابا وجعل يمر من داره إلى طريق هذا النصيب هو ومن اكترى منه أو سكن معه فذلك له إن أراد ارتفاقا ولا يمنع إلا أن يجعل ذلك كسكة نافذة لممر الناس يدخلون من باب داره ويخرجون كالزقاق فليس ذلك له. انتهى. قال أبو الحسن: قوله فللشريك منعه لشركته معه في موضع الفتح مفهومه لو لم يكن معه فيه شريك لكان له أن يفتح، قال محمد: لو فتح في حائط نفسه ليدخل منه في دار الشركة لم أر به بأسا وذلك له. انتهى. ونقل ابن يونس كلام محمد وقبله، وقال أبو إسحاق بعد أن ذكر كلام محمد: وفي هذا نظر لأنه يحدث على دار الشركة بابا من داره، فقد يطول الأمر فيظن أن فتح الباب حق على دار الشركة، وذلك يحط من ثمنها إذا كان عليها حق فتح باب من دار أخرى. انتهى.

قلت: ما قاله أبو إسحاق ظاهر لا شك فيه، فالظاهر إبقاء كلام المدونة على إطلاقه وأنه ليس له أن يفتح بابا لشركته معه في موضع الفتح من الأرض، ولو كان الجدار له. فتأمله. واللَّه أعلم. انتهى. قوله: لشركته معه في موضع الفتح يعني باب الدار المشتركة. قاله مقيده. واللَّه تعالى أعلم. ثم قال أبو الحسن: قوله: "وقسمت الدار بالقيمة" فحيث وقع سهمه أخذه، زاد ابن يونس: فإن وقع

ص: 121

بجنب داره فتح فيه دارا إن شاء، ثم قال أبو الحسن: قوله فاشترى أحد النصيبين رجل يلاصق داره فذلك له إن أراد ارتفاقا، قال أبو إسحاق: ما لم يغلق باب الدار الأخرى فلا يكون ذلك له. انتهى.

السادس: قال الشارح: ومن بنى مسجدا وجعل له سطحا يشرف منه على دار رجل، فإن بانيه يجبر على أن يستر على سطح المسجد ويمنع الناس من الصلاة فيه حتى يتم الستر. انتهى.

وروشن يعني أن الشخص لا يمنع من إحداث الروشن إذا كان لا يضر بالمارين وكانت السكة نافذة، والروشن هو الجناح الذي يخرجه الشخص من حائطه، هذه عبارة الخرشي، وعبارة عبد الباقي: وهو جناح يخرجه في علو حائطه، وساباط الساباط سقف على حائطين مكتنفين طريقا؛ يعني أن الشخص لا يمنع من إحداث ساباط إذا كان الجانبان الذين يجعل عليها الساباط لمن أحدث الساباط وكانت السكة نافذة إلى الفضاء، ولهذا قال: لمن له الجانبان فهو راجع للساباط، ومفهوم قوله:"لمن له الجانبان" أنه إذا لم يكن له إلا جانب واحد والآخر لغيره فإنه لا يجعل الساباط عليهما إلا باذن صاحب الجدار الآخر.

وأما قوله: بسكة نفذت فهو قيد في الروشن والساباط معا كما قررت، وإلا مركب من إن الشرطية ولا النافية أي وإن لم تكن السكة نافذة إلى الفضاء، فلا يجوز إحداث باب إلا ما يستثنى ولا روشن ولا ساباط لمن له الجانبان إلا بإذن جميع أهل السكة؛ لأن السكة حينئذ كالملك لجميعهم أي لجميع أهل السكة، فالضمير في جميعهم لم يتقدم له معاد لفظا لكن دل عليه المعنى، ويؤخذ منه أن من لم يكن له مرور على تلك السكة لاحق له في فتح باب إليها من داره التي بابها من جهة أخرى، وقد جزم الحطاب بخلاف هذا، فقال: إن له ذلك إذا كان منكبا عن باب جاره، وما للحطاب خلاف ما في التبصرة ففيها ما نصه:

‌مسألة:

وإذا كان حائط لرجل في سكة غير نافذة وبابه في سكة نافذة وليس له في السكة التي لا تنفذ باب لداره فالصحيح أنه ليس له ذلك، سواء فتح قبالة باب أحد أو لا؛ لأنه إنما يفتح إلى سكة لا حق له فيها وإنما هي مشاعة بين أصحاب الأبواب القديمة التي فيها، فإذا فتح بابا بغير رضاهم صار شريكهم في السكة بغير حق، وقيل له أن يفتح إذا كانت واسعة ولم يقابل باب

ص: 122

أحدهم، فاعتراض أبي العباس الملوي على الحطاب صحيح، بل كلام التبصرة يفيد أنه لا قائل بما جزم به الحطاب؛ لأن المقابل في كلام التبصرة مقيد بما إذا كانت واسعة، ولم يقيد الحطاب ما قاله بذلك. قاله الرهوني.

وقال عبد الباقي: "وروشن" وهو جناح يخرجه في علو حائطه "وساباط" سقف ونحوه على حائطين له مكتنفي طريق، ولذا قال لمن له الجانبان قيد في الساباط بسكة نفذت إلى الفضاء قيد في الروشن والساباط، ولابد من رفعهعا عن رءوس الركبان رفعا بينا، وقوله:"وروشن وساباط" كالمستثنى من قول الذخيرة هواء الوقف وقف -انتهى- لعدم ضرره بأحد مع رفعه بخلاف بناء بطريق فإن شأنه الضرر، وقوله:"وإلا فكالملك لجميعهم" المراد كما في التتائي عن ابن عبد البر من يمر تحته لا من بيته قبله. انتهى. وقوله: "وإلا فكالملك لجميعهم" ليس فيه تشبيه الشيء بنفسه كما علم مما ذكرته عن عبد الباقي، وقوله:"وإلا فكالملك لجميعهم" هو المشهور الصحيح، وأما قول عبد الباقي: وما ذكره من هذا التفصيل ضعيف والمشهور جوازهما بغير النافذة أيضا بغير إذن من يمر تحته حيث رفعهما عن رءوس الركبان رفعا بينا ولم يضرا بضوء المارة. انتهى. فهو متعقب أي تعقبه غير واحد، وها أنا اقتصر على ما حصله الرهوني في ذلك فإنه قال: فتحصل مما سبق كله أن ما اعتمده المص هو المنصوص لسحنون ويوسف بن يحيى وأبي بكر الوقار والبرقي من المتقدمين، وعليه عول الشيخ أبو محمد في نوادره وابن يونس في ديوانه وابن بطال في مقنعه والمتيطى في نهايته وأبو عمر في كافيه، وعنه نقله المتيطى ولم يحك ابن الحاجب غيره، وسلمه شراحه: ابن عبد السلام وابن هارون والمص في توضيحه والناصر في حاشيته، وبه جزم أيضا ابن عات في طرره وابن سلمون وساقه كأنه المذهب، وبه أفتى ابن زيادة اللَّه كما في نوازل البرزلي والمعيار وسلماه وابن حارث وابن زرب كما في المعيار، وهو المأخوذ من كلام ابن سهل وبه أفتى ابن ناجي وشيخه العلامة الزغبي قائلين: إن به العمل ونفذ الحكم بفتواهما وهو الذي اعتمده الحطاب وجسوس والتاودي والبناني وشيخنا الجنوي، وقد سلم ابن عاشر ومصطفى كلام المص وهو حقيق بالتسليم، وأما مقابله فليس بمنصوص إنما عزاه ابن عرفة لظاهر ما في العتبية وسيدي عبد النور كذلك. انتهى المراد منه.

ص: 123

إلا بابا إن نكب مستثنى من قوله: "فكالملك لجميعهم" يعني أنه إذا لم تكن السكة نافذة فإنه لا يجوز إحداث روشن ولا ساباط لمن له الجانبان ولا باب إلا بإذن الجميع، إلا أن يكون الباب الذي يفتحه منكبا عن باب جاره فله أن يفتح حينئذ بدون إذن، وقوله:"إن نكب" بحيث لا يشرف منه على ما في دار جاره ولا يقطع عنه مرفقا فيجوز بسكة غير نافذة، وقررت قوله:"وإلا فكالملك لجميعهم" بأنه راجع للباب بسكة نافذة، وللروشن والساباط بسكة نافذة ليتضح معنى الاستثناء، في قوله:"إلا بابا إن نكب" خلاف ما قال عبد الباقي أن قوله: "وإلا فكالملك لجميعهم" إنما يرجع للروشن والساباط. انتهى. واللَّه تعالى أعلم.

‌تنبيهات:

الأول: قال الحطاب: قال ابن ناجي في شرح المدونة: وأما الزقاق غير النافذ الذي فيه أزقة فكل زقاق مستقل بنفسه، فإن أذن أهل زقاق في فتح باب بزقاقهم المستقل فليس للباقين كلام، بذلك أفتى بعض شيوخنا على ما بلغني ممن يوثق به وبه أقول. انتهى. وقاعدته أنه إذا قال بعض شيوخنا، يشير به إلى ابن عرفة، وانظر هذا مع ما نقله ابن يونس عن سحنون في كتاب ابنه أن حبيبا سأل سحنونا عن درب كبير غير نافذ فيه رائغة في ناحية غير نافذة ولرجل في أقصاها باب، فأراد أن يقدمه إلى طرف الرائغة فمنعه أهل الدرب، قال لهم أن يمنعوه ولا يحركه عن موضعه إلا برضى أهل الدرب، وقال نحوه يوسف بن يحيى في الدرب الذي لا ينفذ والروائغ وكل مشترك منافعه بين ساكنيه ليس لهم أن يحدثوا في ظاهر الزقاق ولا باطنه حدثا إلا باجتماع أهله، قال ابن يونس: هذا خلاف ما في المدونة، وما في المدونة أصوب وهو قول مالك وابن القاسم وأشهب وابن وهب. انتهى المراد منه.

قال الحطاب: وكأنه يعني بالرائغة الزقاق ولم أقف على ذلك في اللغة. انتهى. وتعقب الرهوني قول ابن يونس: هذا خلاف ما في المدونة وما في المدونة لخ، قال الرهوني: ولم يتعرض لضبطه مع أنه يقع فيه التصحيف في نسخه كثيرا، والصواب أنه بالراء والغين العجمة وبالهمز لا بالباء الموحدة، قلت: خفي على الحطاب رحمه الله كلام ابن

(1)

الأثير في حديث الأحنف، فعدلت إلى

(1)

ساقطة من الأصل، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 97.

ص: 124

رائغة من روائغ المدينة أي طريق يعدل ويميل عن الطريق الأعظم، ومنه قوله تعالى:{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} ، أي مال عليه وأقبل. انتهى.

ويوسف بن يحيى هو المغامي بفتح الميم وبالغين المعجمة وآخره ياء النسب، ومغام من ثغر طليطلة أصله منها ونشأ بقرطبة وسكن بمصر ثم استوطن القيروان إلى أن مات، سمع بالأندلس من يحيى بن يحيى وسعيد بن حسان ويحيى بن مزين، وروى عن عبد الملك بن حبيب مصنفاته وكان آخر الباقين من رواته، وكان المغامي ثقة إماما عالما جامعا لفنون من العلم، قال بعضهم: لا أعلم منزلة يستحقها عالم بعلمه أو فاضل بحسن مذهبه إلا ويوسف بن يحيى أهلها، توفى سنة ثمان وثمانين ومائتين، وصلى عليه حمديس، ويوسف بن يحيى المذكور هو يوسف بن عمر المغامي ابن يحيى بن يوسف بن محمد دوسي من ولد أبي هريرة رضي الله عنه أندلسي الأصل. انظر الرهوني.

الثاني: قال الحطاب: لم يذكر المص ولا غيره قدر ما ينكب الباب عن باب جاره في السكة غير النافذة، وكلامه يقتضي أنه إذا كان الباب الذي يفتحه منكبا عن باب جاره الذي يقابله جاز فتحه ولو كان ذلك بقرب باب دار جاره الملاصق له بحيث إنه يضيق عليه فيما بينه وبين بابه ويقطع ارتفاقه بذلك وليس كذلك كما تقدم في كلام المدونة وكلام ابن رشد، فلو قال المص: إلا بابا إن نكب ولم يضر بجار ملاصق لوفى بما في المدونة.

الثالث: قال البرزلي عن نوازل ابن الحاج من كان له حائط مصمت في سكة فكان ابن العطار يقول: ليس له منع من أراد فتح باب في السكة حذاء حائطه، وكان ابن عتاب يقول: له منعه كما لو كان له باب. اهـ.

قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: هذا مخالف للمص في السكة النافذة وغيرها. واللَّه تعالى أعلم.

الرابع: قال الحطاب لو سقط الروشن والساباط على أحد فمات فلا شيء على من بناه، ومن المجموعة قال ابن القاسم قال مالك: لا بأس بإخراج العساكر والأجنحة على الحيطان إلى طرق المسلمين، قال ابن القاسم: وهي تعمل بالمدينة فلا ينكرونها، واشترى مالك دارا لها عسكر، قال مالك في جناح خارج في الطريق فسقط على رجل فمات: لا شيء على من بناه، قيل: فأهل العراق

ص: 125

يضمنونه؟ قالوا: لأنه جعله حيث لا يجوز له فأنكر قولهم، قال: ومن أخرج جناحا أسفل الجدار حيث يضر بأهل الطريق منع من ذلك.

الرابع: قال ابن أبي زمنين في أواخر المنتخب ناقلا عن المدونة: قال مالك: من حفر شيئا في طريق المسلمين أو في داره مما يجوز له حفره فعطب فيه إنسان فلا ضمان عليه، قلت: وما الذي يجوز أن يحفره في طريق المسلمين، قال: مثل بير المطر والمرحاض يحفره إلى جنب حائطه هذا وما أشبهه. انتهى. وقال في المقنع: قال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: من حفر بلصق جداره كنيفا فليغطه ويتقن غطاءه ويسويه بأرض الطريق حتى لا يضر، فإن لم يفعل منع. اهـ. انظر الحطاب.

الخامس: قال البرزلي: سئل ابن رشد عمن غرس في فناء رجل وردا واستغله فقام صاحب الفناء يطلب زوال الورد وقيمة ما اغتل؟ فأجاب ابن رشد بأنه لا حق للقائم على غارس الورد في الفناء على ما مضى من المدة؛ لأن الأفنية ليس فيها حقية

(1)

الأملاك، وإنما هو مقدم في الانتفاع بها إن احتاج، وليس له أن يمنع الجار منها إن استغنى، وله إذا قام عليه أن يقلع الورد عن فنائه وينفرد بالانتفاع به، أضر الورد بجاره أو لم يضر إلا أن يتفق معه على ما يجوز بينهما. قاله الحطاب.

السادس: قال الرهوني في نقله: تحصل في فتح الباب أو تحويله من موضعه في السكة غير النافذة ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك لا يجوز له بحال إلا بإذن أهلها وإليه ذهب ابن زرب وبه جرى العمل بقرطبة، والثاني أن ذلك له فيما لم يقابل باب جاره ولا قرب منه وهو قول ابن القاسم في المدونة وابن وهب في العتبية، والثالث أن له تحويل بابه. انتهى. وصعود نخلة بالجر عطف على "مانع" يعني أن من في داره نخلة أو شجرة يجوز له أن يطلع عليها ليجني ثمرها ولأجل إصلاحها وما أشبه ذلك، وأنذر بطلوعه يعني أنه لا يمنع من صعود الشجرة المذكورة كما عرفت ولكن يجب عليه أن ينذر جاره أي يعلمه بطلوعه للشجرة مخافة أن يطلع على عورة جاره وقيل باستحباب الإنذار. قاله الخرشي. والانذار إعلام مع تخويف، وقال عبد الباقي: وأنذر جاره بطلوعه ظاهره وجوبا، ونقل الحطاب عن المسائل الملقوطة أنه مندوب وليس مثلها صعود المنارة

(1)

في الأصل: حقيقة، والمثبت من الحطاب ج 5 ص 562 والبرزلي ج 4 ص 368.

ص: 126

فيمنع منه ولو قديمة على البيوت على الراجح كما يفيده الحطاب حتى يجعل لها ساتر يمنع من الاطلاع على الجيران من أي جهة حتى لا يتبين به أشخاص ولا هيئات ولا ذكور ولا إناث قربت دارهم أو بعدت لتكرر طلوعها وندور صعود النخلة. انتهى.

قوله: وليس مثلها صعود المنارة فيمنع منه لخ، تكلم عليها باعتبار التكشف، وسكت عن ضرر أصوات المؤذنين بها ليلا بالأدعية إذا اشتكى بذلك الجيران، وفي ذلك نزاع بين المتأخرين، انظر المعيار والدر النثير. وقال ابن عرفة في إحياء الموات ما نصه: ورفع الصوت بالدعاء والذكر بالمسجد آخر الليل مع حسن النية قربة، وفي جوازه بعسعسة الليل بعد مضي نصفه ومنعه نقلا ابن سهل عن ابن عتاب، محتجا بقول مالك بعدم منع ضرب الحداد، وابن دحون مع ابن جرج محتجين بوجوب الاقتصار على فعل السلف. انتهى. قاله الرهوني.

‌تنبيه:

عمدة ما ذكره المص في هذا الباب وغيره من أهل المذهب من القضاء بنفي الضرر حديث: (لا ضرر ولا ضرار)

(1)

صرح بذلك غير واحد، وفي المفيد ما نصه من الأحكام للباجي: ثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار). اهـ. ومعنى الضرر أن يضر أحد الجارين بجاره، ومعنى الضرار أن يضر كل واحد منهما بصاحبه؛ لأن هذا البناء يستعمل كثيرا بمعنى المفاعلة كالقتال والضراب والسباب والجلاد والزحام، فكذا الضرار فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن ينفرد أحدهما بالضرر بجاره وعن أن يقصدا ذلك جميعا، وليس استيفاء الحقوق في القصاص وغيره من هذا الباب. قاله الباجي وهو الذي صدر به المنوي في شرح الجامع الصغير وهو ظاهر واللَّه أعلم. انتهى.

وإن اختلفت البينتان في الضرر وعدمه بأن شهدت بينة بأن هذا فيه الضرر وشهدت بينة أخرى بأنه لا ضرر فيه أعملت بينة الضرر، وقيل ينظر إلى أعدل البينتين فيقضى بها، ففي طرر ابن عات ما نصه: ذكر الباجي أنه إن أتى ببينة تشهد بأنه لا ضرر على فلان بن فلان في ذلك لم يلتفت إلى ذلك، والبينة التي شهدت بالضرر أتم شهادة وأولى بالحكم بها، وقيل إنه ينظر إلى أعدل البينتين فيقضى بها؛ لأن شهادة كل فريق من البينتين على ما يؤديه العيان. انتهى.

(1)

الموطأ، كتاب المكاتب: رقم الحديث 13.

ص: 127

وندب إعارة جداره لغرز خشبة يعني أنه يندب للشخص أن يعير جداره لجاره لأجل أن يغرز فيه خشبة أي لأجل أن يدخلها فيه لخبر الموطإ والصحيحن عن أبي هريرة رضي الله عنه: (لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبه في جداره)

(1)

، يقول أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين؟ واللَّه لأرمين بها بين أكتافكم بالتاء المثناة فوق، وروي بالنون، وخشبه جمعا بفتح الخاء والشين وروى خشبه جمعا أيضا بضم الخاء والشين وآخره على الروايتين ضمير للجار، وروى أيضا مفردا بفتحهما وآخره تاء تانيث، واختلف هل لجار المسجد غرز خشبة في حائطه وبه أفتى ابن عتاب ناقلا له عن الشيوخ أو لا، وإليه ذهب ابن مالك، قال ابن ناجي: والنفس أميل إليه. انتهى.

ومقتضى هذا أن الحبس غير المسجد كالملك. قاله عبد الباقي. قوله: ومقتضى هذا أن الحبس غير المسجد كالملك، قال الرهوني: ظاهره ولو كان على غير معين وفيه نظر إن كان على غير معين. واللَّه أعلم. انتهى. وقوله: يقول أبو هريرة لخ في رواية: لما حدثهم أبو هريرة نكسوا رءوسهم، فقال أبو هريرة: مالي أراكم؟ لخ، والضمير في عنها للسنة أو المقالة، والضمير في بها للمقالة أيضا أو للخشبة، والحديث حمله مالك رحمه الله على الندب، لقوله عليه السلام:(لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس)

(2)

، وقال الشافعي وأحمد: ذلك على الوجوب. انظر المواق. قاله البناني.

وقال الحطاب: قال البرزلي في مسائل الضرر: سئل شيخنا الإمام عمن أذن لجاره بغرز خشب في جداره فسقط جدار الآذن وأقامه فطلب جاره أن يرد خشبه على ما كان في الإذن الأول فأبى عليه؟ فأجاب: إن كان سقوط الجدار بتوهله لا بسبب زيد اختيارا لم يقض عليه بعود الغرز وإثبات كونه لتوهله إن تنازعا على ربه وإلا قضي عليه بعود الغرز إن كان غير موجل، قال البرزلي: نحو هذا في الواضحة. انتهى. قوله لتوهله، قال في القاموس: وهل كفرح ضعف وفزع فهو وهل ومستوهل. انتهى المراد منه. وهي هنا من الأول. واللَّه تعالى أعلم.

‌فرع:

قال الحطاب في أحكام ابن سهل في مسائل الحبس: يمنع من فتح باب في المسجد للانتفاع به. واللَّه أعلم. اهـ. وقد مر عن عبد الباقي أن ابن مالك منع الغرز في حائط المسجد، قال البناني:

(1)

البخاري، رقم الحديث 2463. بلفظ: لا يمنع جارٌ جاره. مسلم، كتاب المساقاة رقم الحديث 1609. الموطأ كتاب الأقضية، رقم الحديث 32.

(2)

التمهيد، ج 23 ص 152 موسوعة الموطأ.

ص: 128

منع الغرز فيه ومنع التعليق فيه، قال ابن عرفة: وهو الصواب الجاري على حمله على الندب. اهـ. وقال المواق: لا خلاف في منع الاطلاع على الدور، ولا خلاف في إباحة البناء الذي يطلع منه على الفدادين والمزارع ويختلف في الجنات. اهـ.

وإرفاق بماء وفتح باب يعني أنه يندب للشخص أن يرفق جاره بما فيه منفعة من فتح باب وإرفاق بماء، قال عبد الباقي: وندب للجار إرفاق بماء وفتح باب لجاره ليمر به حيث لا ضرر عليه بذلك، وحض عليه الصلاة والسلام على الجار، فقال: الجار أمين على جاره فعليه أن يسدل حجابه عنه؛ أي عليه ويكف أذاه عنه ويغض بصره عنه، فإن رأى عورة سترها وإن رأى سيئة غفرها وإن رأى حسنة أفشاها.

وشكا جار جاره إليه عليه الصلاة والسلام فأمر مناديا ينادي: (ألا إن أربعين دارا جارٌ ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه)

(1)

، وروي كما في الجامع الكبير:(الجار ستون دارا عن يمينه وستون دارا عن يساره وستون خلفه وستون أمامه)

(2)

. الديلمي عن أبي هريرة: وسنده ضعيف، وروي:(من حارب جاره فقد حاربني ومن حاربني فقد حارب اللَّه ومن آذى جاره فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى اللَّه)

(3)

، وقال: لا يرح رائحة الجنة من لا يأمن جاره بوائقه، وروي:(من خاف جاره بوائقه)

(4)

، (والجار على ثلاثة أقسام: جار له عليك حقان وهو الجار المسلم الأجنبي، وجار له عليك ثلاثة حقوق وهو الجار المسلم الذي بينك وبينه قرابة، وجار له عليك حق واحد وهو الجار الذمي). قاله عبد الباقي. وقال المواق: الباجي: قال مطرف وابن الماجشون: كل ما طلبه جاره من فتح باب أو إرفاق بماء أو طريق وشبهه فهو مثله لا ينبغي أن يمنعه مما لا يضره ولا ينفعه منعه ولا يحكم به عليه. اهـ.

(1)

كنز العمال، الحديث:24914.

(2)

الجامع الكبير للسيوطي، رقم الحديث 425 والديلمي ج 2 ص 119 رقم الحديث 2625.

(3)

كنز العمال، رقم الحديث 24927.

(4)

كنز العمال، رقم الحديث 24214.

ص: 129

وقال المواق: الموطأ: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لا يمنع أحدكم جاره خشبه لغرز في جداره)

(1)

. وروى ابن وهب: خشبة بلفظ الوحدة، وفي رواية: لما حدثهم أبو هريرة نكسوا رءوسهم، فقال أبو هريرة: مالي أراكم معرضين؟ أما واللَّه لأرمين بها بين أكتافكم، والصواب بالتاء، ورويَ بالنون أكنافكم، ذهب مالك إلى أن هذا ندب لقوله عليه السلام:(لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس)

(2)

منه، وقال الشافعي وأحمد بن حنبل وداوود وأبو ثور وجماعة: ذلك على الوجوب إذا لم يكن في ذلك مضرة على صاحب الجدار، ومن حجتهم قول أبي هريرة: واللَّه لأرمين بها بين أكتافكم وأبو هريرة أعلم بمعنى ما سمع، وما كان ليوجب عليهم غير واجب، ومن حجتهم أيضا قالوا: هذا من قضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمرفق، وأما قوله عليه الصلاة والسلام:(لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس)

(3)

إنما هو على التمليك والاستهلاك وليس المرفق ذلك، وكيف يكون منه والنبي صلى الله عليه وسلم فرق بين ذلك فأوجب أحدهما ومنع من الآخر؟ واحتجوا أيضا بأن عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه قضى بذلك، وقال لابن مسلمة: واللَّه ليمرن ولو على بطنك، وقال له: لِمَ تمنع أخاك ما ينفعه ولا يضرك فلو لم يكن ذلك واجبا عند عمر ما جبره على ذلك، وكذلك قضى لابن عوف على ابن زيد.

ومما احتج [به]

(4)

من ذهب مذهب الشافعي أن غلاما استشهد يوم أحد فجعلت أمه تمسح التراب عن وجهه، وتقول: أبشر هنيئا لك الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(وما يدريها لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره)

(5)

، وهذا حديث ليس بالقوي. انتهى المراد منه.

وله أن يرجع يعني أنه إذا أعار شخص لشخص جداره ليغرز فيه خشبة فإن له أن يرجع عن ذلك، وهذا إذا لم يتكلف في ذلك نفقة كمسألة ما إذا أعار شخص لشخص عرصة ليبني فيها أو يغرس، فإن له أن يرجع فيها قبل انقضاء المدة المعتادة، وأما إن أنفق في مسألة الجدار فيجري في ذلك ما جرى في العرصة حيث أنفق، فإنما يرجع بشرط أشار إليه بقوله: وفيها أي المدونة أي

(1)

الموطأ، كتاب الأقضية رقم الحديث 32.

(2)

سنن الدارقطني، رقم الحديث 92.

(3)

التمهيد، ج 23 ص 152 موسوعة الموطأ.

(4)

ساقطة من الأصل والمثبت من المواق ج 5 ص 203 ط دار الفكر.

(5)

مشكل الآثار للطحاوي، رقم الحديث 2017.

ص: 130

يؤخذ منها أن له أن يرجع في جداره كما يرجع في عرصته إن دفع أي المعير للمستعير ما أنفق على غرز الجدار، كما يرجع بما أنفق على البناء والغرس أو للخلاف أي ويؤخذ من المدونة في موضع آخر أن له أن يرجع في الجدار كما يرجع في العرصة التي أعيرت للبناء والغرس قبل انقضاء المدة المعتادة إن دفع قيمته، ظاهره أن معناه دفع قيمة ما أنفق وليس بمراد، وإنما المعنى دفع قيمة المنفق عليه، فالضمير في قيمته للمنفق عليه المفهوم من أنفق وهو الخشب المغروز، وهذا الذي قررت به المص من أن كلامه في الجدار المعار لغرز خشبة هو المتعين في كلامه؛ لأن كلامه كالصريح فيما قررته به، وأما تفسير المص بأن كلامه في العرصة التي أعيرت لبناء أو غرس فإنه خروج عما الكلام فيه مع ما يلزم على ذلك من التكرار الذي لا وجه له لعدم الفائدة فيه. واللَّه تعالى أعلم.

فإذا عرفت هذا عرفت أن قوله: "وله أن يرجع" لا يقيد بشيء أي له أن يرجع في الجدار الذي أعاره لغرز الخشب مطلقا، طال الزمان أم لا، قصد الضرر بصاحب الخشب أم لا وهذا مذهب المدونة في العرصة المعارة لمن يبني فيها، قال الحطاب: جمع ابن رشد وابن زرقون مسألة الجدار والعرصة وحكيا الخلاف فيهما جميعا وتبعهما المص. الرهوني: الصواب ما قاله الحطاب ومصطفى؛ لأن تسوية ابن رشد وابن زرقون مسألة الجدار والعرصة تستلزم جريان التأويلات فيها كما جرت في مسألة العرصة المساوية لها، وقد سوى بينهما أيضا الباجي في المنتقى. انتهى المراد منه.

وقال الرهوني: قال يعني أبو علي بعد أن قال: وإذا ثبت هذا فقول المتن هنا وله أن يرجع لا يقيد بشيء، وقوله:"وفيها إن دفع ما أنفق" صحيح فيفهم منه أنه حيث لا إنفاق فلا دفع وهو كذلك مع جواز الإخراج وهو صحيح لا غبار عليه، وإنما قال:"وفيها" هنا مع أن المدونة إنما وقع فيها هذا في العرصة كما رأيته؛ لأن ابن رشد جعلهما كالشيء الواحد، وكذا من تبعه ولم يعتبر تفريق سحنون. اهـ. يعني أن سحنونا فرق بين العرصة والجدار، فقال في الجدار: ليس له أن ينزعه. واعلم أن الأقوال ستة: لا رجوع للآذن إلا إن احتاج، لا رجوع له ولو احتاج، الرجوع ولو لم يحتج ويغرم للمأذون له فيما فيه عمل قيمة نفقته، ورابعها قول أصبغ له الرجوع فيما أذن فيه ولو فيما

ص: 131

تكلف فيه عمل وإنفاق إن أتى عليه من الزمان ما يعار لمثله عادة إلا من أذن في غرس على مائه فليس له قطعه بعد غرسه، وخامسها الفرق بين غرز الخشبة وغيرها للحديث:(لا يمنع أحدكم)، وسادسها الفرق بين ما تكلف المأذون له فيه نفقة ومالا. انتهى.

وفي موافقته ومخالفته تردد يعني أن الشيوخ اختلفوا في الموضعين من المدونة، فمنهم من ذهب إلى أنهما متفقان فيحمل الموضع الذي فيه ما أنفق على ما إذا اشترى ما عمر به، والمحل الذي فيه قيمته على ما إذا كان ما عمر به من عنده، ومنهم من ذهب إلى أنهما متخالفان فيكتفى بظاهر اللفظ، ويأتي هذا في العارية مبينا إن شاء اللَّه تعالى.

قال الخرشي: ولما كانت شركة المزارعة قسما من الشركة ناسب أن يذكرها عقبها، وإنما أفردها بترجمة لمزيد أحكام وشروط تخصها، وإلا فحقها أن تدرج في الشركة، فقال:

ص: 132

‌فصل: في المزارعة،

ابن عرفة: المزارعة الشركة في الحرث، وبالثاني عبر اللخمي، وعبر بالأول كثير، سمع عيسى: سئل ابن القاسم عن رجلين اشتركا على مزارعة، وروى البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لا يقل أحدع زرعت وليقل حرثت)

(1)

، وروى مسلم عن جابر بن عبد اللَّه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا يغرس المسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة)

(2)

. اهـ. وقال البرزلي: في حديث آخر: (لا يقولن أحدع زرعت وليقل حرثت فإن الزارع هو اللَّه). أبو هريرة: لقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}

(3)

، القرطبي في تفسير قوله تعالى:{كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الآية: دليل على أن اتخاذ الحرث من أعلى الحرف المتخذة للمكاسب ويشغل بها العمال، ولهذا ضرب اللَّه بها المثل، قال: وفي الترمذي عن عائشة رضي الله عنها عنه صلى الله عليه وسلم قال: (التمسوا الرزق في خبايا الأرض)

(4)

يعني الزرع، وفي حديث في مدح النخل:(هي الراسخات في الوحل المطعمات في المحل)

(5)

:

والمزارعة من فروض الكفاية يجب على الإمام أن يجبر الناس عليها وما كان في معناها من غرس الأشجار، وعن عبد اللَّه بن عبد الملك أنه لقي ابن شهاب الزهري، فقال: دلني على مال أعالجه، فأنشأ يقول:

أقول لعبد اللَّه يوم لقيته

وقد شد أحلاس المطي مشرقا

تتبع خبايا الأرض وادع مليكها

لعلك يوما أن تجاب فترزقا

(1)

مجمع الزوائد، ج 4 ص 123.

(2)

مسلم، كتاب المساقاة رقم الحديث 1552.

(3)

السنن الكبرى للبيهقي ج 6 ص 138.

(4)

الطبراني، رقم الحديث 895. والجامع لأحكام القرآن القرطبي ج 3 ص 306.

(5)

المعجم الأوسط للطبراني، رقم الحديث 3916.

ص: 133

قاله الحطاب. وفي البخاري: زارع علي وابن مسعود وسعد بن مالك وعمر بن عبد العزيز وعروة والقاسم وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وآل سيرين

(1)

.

لكل فسخ المزارعة إن لم يبذر يعني أن عقد المزارعة لا يلزم بمجرد العقد بل بالشروع أي البذر، والبذر بذال معجمة: إلقاء الحب على الأرض فعقدها يجوز القدوم عليه، ولكل الرجوع عنه إن لم يحصل البذر، فإذا حصل لزم العقد، قال الحطاب: قال في التوضيح: المزارعة دائرة بين الشركة والإجارة، فلهذا اختلف في لزومها بالعقد تغليبا للإجارة، وهو قول سحنون وابن الماجشون وقول ابن كنانة وابن القاسم في كتاب ابن سحنون، وقيل: لا تلزم تغليبا للشركة ولكل واحد أن ينفصل عن صاحبه ما لم يبذر. ابن رشد: وهو معنى قول ابن القاسم في المدونة: ونص رواية أصبغ عنه في العتبية. اهـ.

قوله: وقيل لا تلزم بالعقد تغليبا للشركة هو واضح على طريقة ابن رشد، وأما على طريقة ابن يونس وعياض وغيرهما من أن الشركة لازمة بالعقد وهي التي اعتمدها المص فيما مر فلا. واللَّه تعالى أعلم. وقوله:"إن لم يبذر" ظاهره أنها لا تلزم إلا بالبذر ولو احتاجت قبل البذر لكبير عمل وهو كذلك، قال عبد الباقي: وانظر في بذر بعضها هل يلزم فيه فقط أو في الجميع أو إن بذر الأكثر فكالجميع والنصف فلكل حكمه وإن بذر الأقل فكالعدم؟ اهـ.

قوله: وانظر في بذر بعضها هل يلزم؟ لخ قال التاودي: أصل هذا التوقف لعلي الأجهوري، وتبعه غير واحد من تلامذته وهو قصور أو غفلة، والنص أنه إن بذر البعض فلكل الفسخ فيما بقيَ قليلا كان أو كثيرا، وما بذراه فهو لازم لهما هذا قول ابن القاسم في المدونة. اهـ المراد منه. ونحوه للبناني عن مصطفى، قال البناني: ونص ابن رشد في رسم البيوع من سماع أصبغ: قول ابن القاسم: إن كانا قد بذرا فليس ذلك له يريد فيما قد بذرا، إذ لا يستطيعان أن يقتسما ما قد بذرا حتى يحصداه ويقتسمانه

(2)

بالكيل، وأما ما لم يبذرا بعد فلا يلزم الآبي منهما أن يزرعها بعد لأنهما يقدران على قسم القليب وعلى بيعه واقتسام ثمنه على معنى قول ابن القاسم هذا، وفي المزارعة ثلاثة أقوال:

(1)

صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب المزارعة بالشطر.

(2)

في البناني ج 6 ص 66: ويقسماه.

ص: 134

قيل إنما تلزم بالبذر وهو الذي مر عليه المص، وقيل تلزم بالشروع في العمل وهو يروى عن ابن كنانة وليس بقياس، وقيل تلزم بالعقد. قاله ابن رشد.

وصحت إن سلما من كراء الأرض بممنوع يعني أن المزارعة تصح بهذه الشروط الأربعة التي يذكرها المص: أحدها أن يسلم المتعاقدان من كراء الأرض بممنوع بأن لا تقع الأرض أو جزؤها في مقابلة البذر أو جزئه، وسلامتها من ذلك أن يقع كراء الأرض بذهب أو فضة أو بعرض، لا بطعام ولو لم تنبته كعسل أو بما تنتبه، ولو لم يكن طعاما كقطن أو كتان، ويستثنى من ذلك الخشب ونحوه كعا يأتي في باب الإجارة.

ثانيها أشار إليه بقوله: وقابلها مساو يعني أنه إذا كانت الأرض التي تزرع لأحدهما، فإنه لابد أن يقابلها مساو لها من غير البذر، ومعنى التساوي أن يأخذ على قدر الربح الواقع بينهما أي يأخذ كل من الزرع على قدر أجرة ما له من أرض وعمل، فإذا كانت الأرض لأحدهما وأجرتها مائة وللآخر البقر والعمل أي عمل اليد وأجرة ذلك خمسين ودخلا على أن لرب الأرض الثلثين ولرب البقر والعمل الثلث جاز، وإن دخلا على النصف أي على أن كل واحد يأخذ من الزرع النصف لم يجز لأنه دخول على التفاوت، وإن كان الأمر بالعكس ودخلا على أن لرب البقر والعمل الثلثين ولرب الأرض الثلث جاز، وإن دخلا على النصف فسد لأنها تفسد بشرط التفاوت، وإن كانت أجرة الأرض خمسين والبقر والعمل خمسين ودخلا على الثلث والثلثين فسد وعلى النصف جاز، فالمراد بالتساوي أن يكون الربح أي الزرع المأخوذ مطابقا للمخرج أي لكرائه، وأما إن قابل الأرض البذر فذلك ممنوع، وقد خرج بقوله:"وصحت إن سلما من كراء الأرض بممنوع".

ثالث الشروط أشار إليه بقوله: وتساويا يعني أنهما لابد أن يتساويا في الربح بأن يأخذ كل واحد منهما من الزرع على قدر أجرة ما يخرجه، وهذا الشرط الثالث يغني عما قبله.

والشرط الرابع هو قوله الآتي: "وخلط بذر إن كان" وقولي: بشروط أربعة تبعت فيه عبد الباقي، قال البناني: هذا ظاهر المص، وفيه أن المزارعة ليس فيها إلا شرطان: السلامة من كراء الأرض بممنوع، والدخول على التساوي. وعلى هذين اقتصر ابن شاس وأبو الحسن وغيرهما، قال مصطفى: وأما قوله: "وقابلها مساو" فهو مندرج في قوله: "وتساويا" فيغني عنه كما قال ابن غازي

ص: 135

وغيره، وأما قوله:"وخلط بذر" فليس من شروطها لأن شرطها ما كان عاما في جميع صورها، وهذا خاص ببعض الصور، ولذا قال المص:"إن كان". انتهى.

إلا لتبرع بعد العقد يعني أنه لابد من التساوي بأن يأخذ كل واحد منهما من الربح أي الزرع على قدر كراء ما أخرج كما عرفت، ومحل ذلك إذا لم يحصل تبرع بشيء من الربح بعد العقد، وأما إن تبرع له بعد العقد بشيء من ذلك من غير وأي ولا عادة فإن ذلك جائز، قال الخرشي: وقوله: "بعد العقد" بيان للواقع؛ لأن التبرع لا يكون إلا بعد العقد؛ أي فما كان قبل العقد أو فيه له حكم المشترط، ويأتي قريبا عن عبد الباقي أيضا جواب عن المص ثان، فلو كان كراء الأرض التي أخرجها أحدهما بمائة وللآخر البقر والعمل وكراؤه خمسون ودخلا على التساوي أي الاعتدال بأن يكون لرب الأرض الثلثان ولصاحب البقر والعمل الثلث، ثم بعد العقد تبرع صاحب الأرض لصاحب البقر والعمل بالمناصفة في الزرع فإن ذلك سائغ، وظاهر قوله:"بعد العقد". ولو لم يبذر وهو كذلك، وأما قول عبد الباقي: إلا لتبرع من غير وأي أي مواعدة ولا عادة بعد العقد اللازم وهو البذر المستفاد من مفهوم إن لم يبذر، والمستفاد منه كالمنطوق عند المص. قاله أحمد. ففيه حذف صفة بأن يعقدا على التساوي ويبذرا ثم يتبرع أحدهما للآخر.

وبما قررنا علم سقوط قول الناصر العجب من المص كيف شهر اللزوم بالبذر أي لا بالعقد وجوز التطوع بعد العقد؟ اهـ. وقد علمت جوابه من أن فيه حذف صفة بدلالة ما قدمه من أن اللزوم بالبذر، وبه أيضا يعلم سقوط الاعتراض على قوله:"بعد العقد" بأن التبرع إنما يكون بعده؛ إذ لو كان فيه لم يكن تبرعا ولو صرحوا بأنه تبرع لأنه حينئذ دخول عليه فهو مشترط، ويجاب أيضا بأنه قيد لبيان الواقع. اهـ.

فقال البناني: أصل هذا لابن غازي إذ جعل "أل" في العقد عهدية، وأن المراد العقد الحاصل بالبذر. انتهى. وفيه نظر، فإن المص إنما قصد بهذا ما ذكره ابن القاسم في العتبية، وقد ذكر ابن رشد البحث الواقع فيه، وأجاب عنه وهو لا شك مراد المص، ونص العتبية في رسم الجواب من سماع عيسى ابن القاسم: وقد سئل عن الرجلين يشتركان في الحرث فيقول أحدهما لصاحبه

ص: 136

أسلفني بعد ما عقدا الشركة، قال ابن القاسم: الشركة فاسدة للسلف الذي أسلفه من الزريعة إذا كانا على ذلك اشتركا، فإن كانت الشركة على غير سلف ثم سأله ذلك ففعل فليس بذلك بأس والشركة حلال جائزة إذا كانت قيمة العمل مكافية لقيمة الأرض. ابن رشد في قول ابن القاسم: فليس بذلك بأس نظر على أصله في أن المزارعة لا تلزم بالعقد؛ لأن القياس عليه أن لا يجوز السلف بعد العقد كما لا يجوز في العقد، وقد قال بعض أهل النظر: هذا من قوله يدل على أن المزارعة تلزم بالعقد عنده، ولا دليل من قوله في هذه الرواية على ذلك إذ قد ذكر فيها ما يدل على أنها لا تلزم بالعقد، وهو قوله:"والشركة حلال جائزة" إذا كانت قيمة العمل مكافئة لقيمة الأرض؛ لأن من يرى المزارعة لازمة بالعقد يجيز التفاضل فيها، ولا يشترط في جوازها التكافؤ فيما يخرجان، وإنما لم تفسد المزارعة إذا كان السلف بعد العقد وإن كانت عنده لازمة بالعقد مراعاة لقول من يراها لازمة بالعقد. اهـ ببعض اختصار.

وقد نقل المواق بعضه، وقد علمت منه أن ابن القاسم يقول بعدم اللزوم بالعقد، ويقول مع ذلك بجواز التبرع بعد العقد مراعاة للخلاف، وكلام المص جار عليه فلا وجه لتأويله وإخراجه عنه. واللَّه أعلم. وبه يسقط بحث اللقاني، وأما بحث مصطفى مع ابن غازي بأن حمل العقد على اللازم أي تمامه تقل معه فائدة التبرع بعد تمام العمل، ففيه نظر لإمكان التبرع بعد تمام البذر بأن يتبرع أحدهما على الآخر بالسقي والتنقية أو بالحصاد والدرس أو بالزيادة في حظه أو نحو ذلك. اهـ كلام البناني.

وأشار للشرط الرابع بقوله: وخلط بذر إن كان يعني أنه إذا كان البذر بينهما فإنه لابد من خلطه، والبذر يشمل الحب والزريعة كسفينة وهي الشيء المزروع وتشديد الراء لحن، ويشمل أيضا الخضر التي تنقل وتغرس، فقوله:"إن كان" أي البذر من عندهما، قال الأجهوري: ولو حذف إن كان اكتفاء بأن الخلط من الأمور النسبية التي لا تكون إلا بين شيئين لاقتضى أو أوهم أنه يتوقف صحة الشركة على حصول البذر من كل والأمر بخلافه. اهـ. أي وذلك يندفع بقوله: "إن كان" من عندهما ولو بإخراجهما.

قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: تحقيق القول في هذه المسألة أن تقول: الراجح المشهور أن الخلط في المزارعة ليس من شروط الصحة، هذا مذهب مالك وابن القاسم وأحد قولي سحنون، وقوله

ص: 137

الآخر أنه يشترط الخلط الحكمي، وأما الخلط الحسي فلم ينقل عن أحد اشتراطه، فإذا عرفت هذا فالأقرب فيما يفسر به المص أن تقول: قوله: "خلط" بصيغة الماضي مبني للمفعول عطف على قوله: "سلما" أي وصحت المزارعة إن سلما من كراء الأرض بممنوع وصحت إن خلط البذر حيث كان البذر من عندهما، وقوله:"ولو بإخراجهما" أي صحت إن خلط البذران حقيقة بأن يخلطا قبل البذر، بل ولو كان الخلط حاصلا بسبب إخراجهما معا البذر، ويختلط بعد الزراعة بحيث لا يتميز زرع أحدهما عن الآخر، وقد علمت أن هذا أمر متفق عليه وحينئذ فليست ولو لدفع الخلاف بل لدفع الوهم؛ لأن هذا قد وقع له في مواضع من هذا الكتاب، ويكون المراد باشتراط الخلط اشتراطه على وجه الكمال لا على وجه الصحة وإن كان ذلك غير متبادر من كلام المص. انظر الرهوني.

قال اللخمي: اختلف إذا كان البذر منهما هل يشترط الخلط في الصحة؟ فأجاز مالك وابن القاسم الشركة إذا أخرجا قمحا أو شعيرا وإن لم يخلطاه على أصلهما في العين الدنانير والدراهم إن لم يخلطاها، واختلف عن سحنون، فقال مرة بقول مالك وابن القاسم، وقال مرة إنما تصح الشركة إذا خلطا الزريعة أو حملاها إلى الفدان أو جعلاها في بيت. اهـ. وقد علمت مما مر الفرق بين قولي سحنون وهو أن أحدهما لا يشترط الخلط الحكمي فيكفي أن يخرجا بالبذر، ويبذر كل واحد منهما في ناحية فيكون زرع كل واحد منهما متميزا عن زرع الآخر، وقد علمت أن هذا هو المشهور وهو قول مالك وابن القاسم، وقوله:"الآخر" أنه لابد من الخلط الحكمي بأن يختلطا بعد الزراعة حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر، فإن لم يفعلا فلا شركة بينهما فلكل منهما زرعه وهو خلاف المذهب، وأما الخلط الحسي وهو أن يخلطا الحب قبل البذر فلم ينقل عن أحد اشتراطه، وفي التوضيح: وعند ابن القاسم أن الشركة جائزة خلطا أو لم يخلطا. ابن عبد السلام: ولعل المص إنما سكت عنه لاحتمال جواز الإقدام على ذلك ابتداء وأنه ممنوع منه أوَّلا، لكنه إن وقع مضى وهو الظاهر من تفريعه. اهـ.

قال الرهوني: فهذا الذي قصد في مختصره ويشهد لما قاله كلام المتيطى، ونصه على اختصار ابن هارون: والصواب أن يخلط العامل البذر قبل الزراعة، فإن لم يفعل وزرع كل واحد إلى ناحيته،

ص: 138

فقال سحنون في كتاب ابنه: لا شركة بينهما، ويأخذ كل واحد ما أنبت بذره ويتراجعان الأكرية، ثم قال: وروى عيسى عن ابن القاسم في متزارعين على الصحة زرع أحدهما قمحا طيبا في ناحية وزرع الآخر قمحا رديا في ناحية أخرى ثم تشاحا أن كل واحد منهما يودي إلى الآخر ثمن نصف زريعته ويستويان، وهذا يدل على أن ترك الخلط عنده لا يضر. انتهى.

وفي المعين ما نصه: ومن تمام الشركة أن يخلطا البذر ثم يزرعاه، فإن لم يخلطا وزرع كل واحد إلى ناحية [فعند ابن القاسم]

(1)

أن ذلك لا يضرهما، وقال سحنون: لا شركة بينهما ويأخذ كل واحد ما أنبت بذره. اهـ منه بلفظه. وذلك كله نص فيما قلناه وهو جواب حسن بسن إن شاء اللَّه فتأمله. واللَّه الموفق انتهى كلام الرهوني.

واعلم أن أصبغ وافق سحنونا في قوله باشتراط الخلط الحكمي، قال في الجواهر: وروي عن سحنون أنه قال: إذا زرع كل واحد منهما بذره في ناحية معلومة لم تجز الشركة وإن لم يكن ذلك بشرط، ولكل واحد منهما ما أنبت بذره ويتراجعان في الأكرية والعمل، وإنما تجوز الشركة إذا خلطا الزريعة كالشركة بالمال وقاله أصبغ، قال: فأما لو لم يخلطاهما فزرعا بذر هذا في فدان أو في بعضه وبذر الآخر في الناحية الأخرى ولم يعملا على ذلك، فإن الشركة لا تنعقد ولكل واحد ما أنبت حبه ويتراجعان فضل الأكرية ويتقاصان. اهـ بلفظه.

‌تنبيه:

اعلم أنه إذا فرعنا على المشهور فلا فرق بين أن يخرجا بالبذر دفعة وبين أن يخرج أحدهما في يوم والآخر في يوم آخر كما في الخرشي، وبقى على المص شرط آخر في البذر وهو: تماثلهما جنسا، فإن أخرج أحدهما قمحا والآخر. شعيرا أو سلتا أو صنفين من القطنية، فقال سحنون: لكل واحد ما أنبته بذره ويتراجعان في الأكرية، ثم قال: يجوز إذا اعتدلت القيمة. اللخمي: يريد والمكيلة، وقال بعض القرويين: من لم يجز الشركة بالدنانير والدراهم لم يجز المزارعة بطعامين مختلفين، ولو اعتدلت قيمتهما لبقاء يد كل واحد على طعامه ولكل واحد ما أنبت طعامه. اهـ المراد منه. ذكره الحطاب. قال الأجهوري: والخلاف جار أيضا فيما إذا كان بدل الشعير فول، خلافا لمن قال: الفول والقمح يمتنع قطعا قاله عبد الباقي.

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من الأصل وهو مثبت من الرهوني ج 6 ص 102.

ص: 139

فإن لم ينبت بذر أحدهما وعلم لم يحتسب به إن غر يعني أنهما إذا زرعا ولم ينبت بذر أحدهما وعلم البذر الذي لم ينبت لمن هو منهما، كما إذا زرع أحدهما في ناحية والآخر في ناحية أخرى فإن ذلك لا يحتسب به في الشركة، بمعنى أن الشركة باقية بينهما لا يؤثر فيها عدم نبات زرع أحدهما فيشتركان في الزرع الذي نبت، وقوله:"إن غر" أي الشريك الذي لم ينبت بذره صاحبه بأن علم أنه لا ينبت أو شك في ذلك ولم يعلمه شرط في لم يحتسب به، وإذا لم تفسد الشركة مع الغرور فمع عدمه أحرى. واللَّه تعالى أعلم.

وعليه مثل نصف النابت يعني أنه يلزم الشريك الذي لم ينبت بذره مثل نصف الزرع النابت فيغرم لصاحب النابت مثل نصف بذره قمحا جديدا مثلا، وعليه له أيضا كراء أرض ما لم ينبت ونصف قيمة العمل فيه، وقوله:"وعليه مثل نصف النابت" يعني في شركة المناصفة وعليه مثل حصته في غيرها، وقوله:"لم يحتسب به" الضمير في "به" لعدم النبات.

قال مقيده عفا اللَّه عنه: والأنسب لأول الكلام وآخره أن يفسر قوله: "لم يحتسب به" بأن الذي لم ينبت بذره لا يحتسب به، بمعنى أنه لا يرجع بنصفه على صاحبه الذي نبت زرعه بخلاف ما لو لم يغره، كما أشار إليه بقوله: وإلا أي وإن لم يغر الذي لم ينبت زرعه شريكه بأن علم أي اعتقد أنه ينبت أو علم أنه لا ينبت وبين ذلك لشريكه، فعلى كل من الشريكين نصف بذر الآخر في المناصفة، وبقدر حصته في غيرها والزرع بينهما على التناصف في المناصفة وعلى قدر ما لكل في غيرها، وقوله:"فعلى كل نصف بذر الآخر" أي فيغرم الذي لم ينبت بذره للذي نبت قمحا جديدا صحيحا مثلا، ويغرم الذي نبت بذره للذي لم ينبت قمحا مسوسا مثلا. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "فإن لم ينبت بذر أحدهما وعلم" لخ، قال الخرشي وغيره: وهذا إذا فات الإبان في الصورتين، فإن لم يفت ففيما إذا غر يخرج مكيلة زريعته التي لم تنبت من زريعة تنبت فيزرعها وهما على شركتهما إذا لم يغر يخرج كل قدر حصته منه ويزرعان ذلك إن أحبا، وإن لم يعلم من لم ينبت بذره منهما فالذي يظهر أن ما نبت بينهما على حسب ما دخلا عليه وما ضاع كذلك ولا رجوع لأحدهما على الآخر بشيء. اهـ. البناني: التقييد بفوات الإبان إنما هو في قسم الغرور فقط. انتهى. وحاصل ما للمص أن الشركة ثابتة مطلقا غر أم لا، وأن على من لم ينبت بذره مثل نصف

ص: 140

النابت غر أم لا، وإنما يختلفان في الرجوع بشيء مما لم ينبت، ففي الأول لا يرجع وإنما يرجع عليه شريكه بمناب نصفه النابت، وفي الثاني وهو غير الغار يرجع على شريكه النابت زرعه بمثل نصف غير النابت أي قمحا قديما، كما أن على غير الغار قمحا جديدا كالغار.

ومثل للصور الجائزة من المزارعة بقوله: كأن تساويا في الجميع، قال الخرشي وغيره: أن مصدرية لا شرطية، والكاف للتمثيل أي مثال مستوفي الشروط أن يتساويا في الجميع من أرض وغيرها كما لو كانت الأرض بينهما والبذر بينهما والعمل بينهما على التناصف في الكل مثلا. المواق: المتيطى: سنة المزارعة الاعتدال والتساوي في الأرض والبذر والبقر والأداة والعمل كله حتى يصير ما هلك من ذلك في ضمانهما معا وهذه غاية الكمال فيها. انتهى. قال عبد الباقي وغيره: وذكر خمس صور جائزة بقوله: "كأن تساويا في الجميع" وآخرها قوله: "أو لأحدهما الجميع إلا العمل إن عقدا بلفظ الشركة، وذكر خمسا ممتنعة بقوله: "لا الإجارة" إلى قوله: "وعمل"، وبمفهوم قوله: إن لم ينقص ما للعامل عن نسبة بذره. اهـ.

وأشار إلى الصورة الثانية من الخمس الجائزة بقوله: أو قابل بذر أحدهما عمل يعني أن هذه الصورة جائزة وهي أن يكون البذر من عند أحدهما والعمل من الآخر والأرض بينهما بملك أو كراء، خلافا لابن دينار في منعه الثانية وهي ما إذا كانت الأرض بينهما بكراء، قال المواق من المدونة: لو اكتريا الأرض أو كانت لهما جاز أن يخرج أحدهما البذر كله والآخر العمل. اهـ. وقوله: "أو قابل بذر أحدهما عمل" قال عبد الباقي: والعمل الذي يجوز اشتراطه هو الحرث دون الحصاد والدراس فلا يجوز اشتراطهما على مذهب ابن القاسم، وصححه ابن الحاجب لأنهما مجهولان لا يدرى كيف يكونان، ونحوه للخرشي وزاد: وشأن ذلك قد يقل ويكثر. اهـ. قوله: على مذهب ابن القاسم، قال البناني: صوابه على مذهب سحنون؛ إذ هو الذي منع اشتراطهما وصحح ابن الحاجب قوله، ونصه: والعمل المشترط هو الحرث وحده لا الحصاد والدراس على الأصح لأنه مجهول، وعن ابن القاسم: الحصاد والدراس. انتهى.

التوضيح: ما صححه المص هو قول سحنون، وكذلك قال التونسي وابن يونس: إنه الصواب لأن الحصاد والدراس مجهولان. انتهى. وقال المتيطى: إن كان العرف بالبلد أن الحصاد والدراس

ص: 141

والتصفية على العامل وكان ذلك كله من جميع العمل مساويا لكراء الأرض جاز على قول ابن القاسم، ولم يجزه سحنون لأنه لا يُدرَى كيف يكون. ابن عرفة: وعليهما مؤنة الزرع قبل تمامه بيبسه وفي كون الحصاد منه وعدمه فلا يجوز شرطه نقلا الصقلي عن ابن القاسم وسحنون قائلا: إذ لا يُدرَى هل يتم ولا كيف يكون؟ وصوبه لأنه يقل ويكثر وكذا شرط النقاء. اهـ كلام البناني.

قوله: صوابه على مذهب سحنون لخ، قال الرهوني: لم ينفرد بذلك سحنون بل هو قول مالك أيضا، كما أن ابن القاسم لم ينفرد بالجواز بل قال به عيسى أيضا واختاره ابن لبابة وبه العمل، ففي نوازل المزارعة من المعيار ما نصه: وسئل ابن لبابة عن الذي يشترط على المناصف والمثالث والمخامس أن لا يحصد رب الأرض معه ولا يدرس وأن يكون العمل كله عليه، فأجاب: هذا العمل الجاري ببلدنا وعليه كان مشايخنا الذين مضوا، وهو كان مذهب عيسى بن دينار وعلى مذهب عيسى مضى العمل ببلدنا، وكان مذهب مالك لا يجوز لأنه غرر ومجهول، وقد أخذ بقول مالك بأن الحصاد والدراس والعمل كان بينهما، ويقيم رب الأرض إجراء المناصفة إلا أن مذهب عيسى عليه نعتمد وبه يعمل في بلدنا. اهـ.

وفي المقصد المحمود ما نصه: وجرى العمل بجواز اشتراط الحصاد والدراس والذرو على العامل، خلافا لما حكاه ابن أبي زيد عن سحنون. اهـ المراد منه. وأشار إلى الثالثة من الصور الجائزة بقوله: أو أرضه وبذره بالنصب عطف على "بذر" يعني أن الشركة تصح وتجوز في هذه الصورة وهي إن يكن الأرض والبذر لأحدهما وعلى الآخر العمل، قال المواق: سحنون: إن أخرج أحدهما الأرض والبذر وأخرج أحدهما العمل جاز. اهـ. وقال عبد الباقي: أو قابل أرضه وبذره أي أحدهما عمل اليد وبقر أو عمل بقر فقط عطف على بذر فهو منصوب، ويصح رفعه أي قابل أرضه وبذره عملا من الآخر. اهـ. ونحوه للخرشي، وزاد ما نصه: ثم إن حمل العمل على عمل اليد والبقر كانت مسألة سحنون ومحمد، وكان ماشيا على ما اختار سحنون، وإن حمل على عمل اليد فقط كانت مسألة اللخمي وفيها خلاف أيضا، ويكون ماشيا على مختار اللخمي أي أو قابل أرضه وبذره وبقره عمل يده فقط، والأولى حمل العمل على ما يشمل عمل اليد والبقر، ويكون أشار إلى مسألة سحنون

ص: 142

ومحمد لا إلى مسألة اللخمي ليلا يتكرر مع قوله: "أو لأحدهما الجميع إلا العمل" وليلا يلزم الإطلاق في محل التقييد، وهي مقيدة فيما يأتي بما إذا عقدا بلفظ الشركة. انتهى.

قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه عنه: والاحتمال الأول هو المتعين في كلام المص وهو الذي شرحته عليه وبه يندفع التكرار والاعتراض بكونه أطلق في محل التقييد واللَّه تعالى أعلم.

وأشار إلى الرابعة من الصور الجائزة بقوله: أو بعضه يعني أن المزارعة تصح وتجوز في هذه الصورة، وهي ما إذا كان البذر بينهما والأرض من أحدهما والعمل على الآخر، قال عبد الباقي أو قابل الأرض من أحدهما وبعض البذر عمل من الآخر وبعضه أي البذر فالمعنى أخرج أحدهما الأرض وبعض البذر وأخرج الآخر العمل وبعض البذر.

وأشار لشرط الصحة في هذه بقوله: إن لم ينقص ما للعامل أي ما يأخذه من الزرع عن نسبة بذره أي عن مثل بذره منسوبا إلى بذر رب الأرض، فإذا أخرج العامل ثلث البذر فلابد أن يأخذ من الزرع الثلث فأكثر، وإذا أخرج النصف فلابد أن يأخذ من الزرع النصف فأكثر، وإذا أخرج الخمس فلابد أن يأخذ خمس الزرع أو أكثر بخلاف ما لو أنجذ أقل في هذا كله فلا تصح الشركة، وعلى هذا القياس، قال عبد الباقي: وأشار لشرط الصحة في هذه بقوله "إن لم ينقص ما للعامل" أي ما يأخذه العامل من الزرع عن نسبة بذره بأن زاد ما يأخذه من الخارج عن نسبة بذره أو ساوى نسبة بذره، فالثاني كما لو أخرج أحدهما العمل وثلثي البذر وأخرج الآخر الأرض وثلث البذر على أن يأخذ كل واحد منهما بقدر ما أخرج من البذر جاز، فإن كان كل يأخذ نصف الخارج لم يجز؛ لأن العامل أخذ دون نسبة بذره والأول كما لو أخرج أحدهما الأرض وثلثي البذر وأخرج الآخر العمل وثلث البذر على أن يأخذ كل واحد نصف الخارج. انتهى. أي فهذا جائز لأنه أخذ ما زاد عن نسبة بذره قال عبد الباقي: فإن قلت قد علمت أن من شروط المزارعة أن يأخذ كل واحد من الخارج بقدر ما أخرج لا أزيد منه ولا أنقص وقد أخذ هنا أزيد مما أخرج، قلت: إنما يجوز ذلك إذا كان ما أخرجه من العمل وثلث البذر يعدل ما أخرجه الآخر من الأرض وثلثي البذر، وأما إن كان ما أخرجه من العمل وثلث البذر لا يعدل ما أخرجه الآخر فإن ذلك لا يجوز لاختلال بعض شروط المزارعة كما إذا نقص ما يأخذه العامل من الزرع ضن نسبة بذره، كما لو أخرج مع عمله ثلثي البذر

ص: 143

وأخرج صاحب الأرض ثلث البذر على أن الزرع لهما نصفان، وعلة الفساد أن البذر هنا كراء الأرض. اهـ.

المواق: سحنون وابن حبيب: إذا اشترك رجلان فأخرج أحدهما الأرض وثلثي الزريعة، وأخرج الآخر ثلث الزريعة والعمل على أن يكون الزرع بينهما نصفين. ابن حبيب: أو على الثلث والثلثين فذلك جائز كله إذا كافأ عمله كراء الأرض وما فضله به من الزريعة لأن زيادة الزريعة بإزاء عمل العامل. سحنون وابن حبيب: إن أخرج أحدهما ثلثي الأرض وثلث البذر وأخرج الآخر ثلث الأرض وثلثي البذر والعمل والزرع بينهما نصفين لم يجز، كأنه أكرى سدس أرضه بسدس بذر صاحبه، فإن نزل فلكل واحد بقدر ماله من البذر ويتراجعان في فضل الأكرية. ابن يونس: قال بعض فقهائنا: ينبغي على مذهب ابن القاسم أن يكون الزرع بينهما نصفين. اهـ. ونقله الشارح إلا قوله: ابن يونس، قال بعض فقهائنا لخ.

وأشار إلى الخامسة من الصور الجائزة بقوله: أو لأحدهما الجميع إلا العمل يعني أنه إذا أخرج أحدهما الأرض والبذر والبقر والآخر العمل أي عمل اليد فقط، فإن هذه الصورة جائزة وهي مسألة الخماس، وإنما تجوز بشرط أشار إليه بقوله: إن عقدا بلفظ الشركة وله من الزرع جزء كخمس مثلا، ولهذا سميت: مسألة الخماس، والخماس هو الذي يأخذ الخمس، وقولي: كخمس مثلا إشارة إلى أنه لا فرق بين الخمس وغيره من الأجزاء كربع أو ثلث أو عشر. واللَّه تعالى أعلم.

قال عبد الباقي: أو لأحدهما الجميع الأرض والبذر والبقر إلا العمل باليد فقط، وما مر بيد وبقر معا أو ببقر فقط فليس مسألة الخماس خلافا لابن عبد السلام كما في التوضيح، ومسألة الخماس هي ما هنا عمل يده فقط في الحرث فقط التي اشترط فيها قوله:"إن عقدا بلفظ الشركة" فقط وله من الزرع جزء كربع أو غيره من الأجزاء. اهـ. قوله: خلافا لابن عبد السلام كما في التوضيح لخ، قد رد ابن عرفة أيضا كلام ابن عبد السلام بوجوه ثلاثة، ونقل كلامه ابن غازي فانظره. قاله البناني.

لا الإجارة يعني أنهما إذا عقداها بلفظ الإجارة فإنها تفسد لأنها إجارة بجزء مجهول، أو أطلقا يعني أنهما إذا عقداها وأطلقا أي لم يلفظا بالشركة ولا بالإجارة فإنها تفسد، والحاصل أنهما إذا عقداها بلفظ الشركة جازت اتفاقا وإن كان بلفظ الإجارة لم يجز اتفاقا، وإن عري العقد من اللفظين

ص: 144

فابن القاسم يحمله على الإجارة فلم يجزه، وإليه ذهب ابن حبيب وحمله سحنون على الشركة فأجازه. قاله ابن رشد. وفي نقل ابن عبد السلام نظر لأنه نسب الجواز في الإطلاق لابن القاسم والمنع لسحنون وليس الأمر كذلك، قال عبد الباقي: أو أطلقا فلا تجوز لحملها عند ابن القاسم على الإجارة وحملها سحنون على الشركة فأجازها والمشهور الأول، وهذا التفصيل لابن رشد ثم إن قول المص أو اطلقا معطوف على الإجارة باعتبار المعنى، كأنه قال: إن عقدا بلفظ الشركة لا بلفظ الإجارة أو بإطلاق.

كإلغاء أرض وتساويا غيرها تشبيه في الفساد المستفاد من قوله: "لا الإجارة" يعني أنه إذا أخرج أحدهما أرضا لها قدر وبال فألغاها لصاحبه وتساويا فيما عداها من بذور وعمل، فإن هذه الشركة فاسدة لفقد التساوي عند إلغاء الأرض فيلزم الدخول على شرط التفاوت، فإن دفع له صاحبه نصف كراء الأرض جاز، وأما التي لا خطب لها فإلغاؤها جائز في الفرض المذكور كما في المدونة. قاله غير واحد.

أو لأحدهما أرض رخيصة وعمل يعني أنه إذا كان لأحدهما أرض رخيصة أي لا خطب لها وعمل وللآخر البذر فإن المزارعة تفسد لقابلة جزء من الأرض للبذر، وأما السابقة عن المدونة فتساويا فيما عداها فلم يقع شيء من الأرض في مقابلة بذر، وتقدمت الصورة الخامسة معا فيه الفساد في مفهوم قوله:"إن لم ينقص ما للعامل عن نسبة بذره"، وعكس صورة المص هذه جائز وهو كون العمل من عند أحدهما والبذر والأرض ولو لها خطب من عند الآخر، وقدمها بقوله:"أو أرضه وبذره" وقوله: "أو لأحدهما أرض رخيصة وعمل" هذا القول الذي مر عليه المص من المنع لابن عبدوس ومقابله الجواز وهو لسحنون.

وقوله: على الأصح المصوب لقول ابن عبدوس هو ابن يونس فصوابه على الأرجح، وهذا التقرير الذي قررت به المص هو لغير واحد من شراحه المحققين، وقرر الشارح قوله:"أو لأحدهما أرض رخيصة على الأصح" على أنه عطف على قوله: "أو لأحدهما الجميع إلا العمل" فهو من الجائز عنده، وفي الرهوني أن الجواز هو الذي لمالك وابن القاسم وسحنون، وأن ظاهر المدونة هو الجواز،

ص: 145

ثم قال الرهوني: ولولا كلام المص في توضيحه وكون سياقه هنا قصد ما في توضيحه لكان حمل الشارح هو الصواب. واللَّه أعلم. انتهى.

وفي البناني عن أبي علي: كلام ابن يونس يدل على أن المصحح هو ابن عبدوس لا ابن يونس فتصحيح المص في محله، واستبعد ذلك الرهوني بما يعلم بالوقوف عليه. واللَّه تعالى أعلم.

وإن فسدت وتكافئا عملا فبينهما قال الخرشي: يعني أن المزارعة إذا وقعت فاسدة بأن اختل شرط من شروط صحتها فإنها تفسخ قبل العمل، فإن فاتت بالعمل وتساويا فيه فإن الزرع يكون بينهما على قدر عملهما لأنه تكون عنه، وترادا غيره أي ويترادان غير العمل كما لو كانت الأرض من أحدهما والبذر من الآخر، فيرجع صاحب البذر على صاحب الأرض بمثل نصف بذره، ويرجع صاحب الأرض على صاحب البذر بأجرة نصف أرضه ولا خفاء في فساد هذه الصورة لمقابلة الأرض بالبذر. انتهى. وقال عبد الباقي: وإن فسدت تكافئا عملا بيد فقط بل أو وعملا معا وإن لم يتكافئا فالحكم كذلك على المعتمد، وهو قوله: فبينهما الزرع وترادا غيره أي غير العمل من أرض وبذر، كأن يكون لأحدهما الأرض وللآخر البذر، فيرجع رب البذر على شريكه بحصته من البذر، ويرجع رب الأرض بأجرة ما ينوب شريكه منها. اهـ. وقوله:"فبينهما" أي على قدر عملهما كما في الخرشي. واللَّه تعالى أعلم.

وإلا أي وإن لم يعملا معا بل انفرد أحدهما بعمل اليد ولا يدخل ما إذا عملا ولم يتكافئا لأن ذلك حكمه حكم ما إذا تكافئا. فالزرع كله للعامل خاصة إذا انضم له شيء مما سيذكره، بقوله: كان له بذر مع عمل لخ، وإن لم ينضم له شيء من ذلك كان له أجر مثله فقط، وعليه أي العامل الأجرة للأرض المنفرد بها غيره، فإن كانت من عند العامل فقط فإنما عليه للآخر البذر.

وقوله: فللعامل اعلم أنه يكون الزرع للعامل المنفرد بالعمل، سواء كان له أي للعامل المذكور بذر مع عمل أي عمله، فالتنوين عوض عن المضاف إليه والأرض للآخر، وفسدت لمقابلة الأرض بجزء من البذر أو كان للعامل أرض مع عمله والبذر للآخر أو كان كل من الأرض والبذر لكل منهما والعمل من عند أحدهما فالزرع لصاحب العمل. قاله عبد الباقي.

ص: 146

قال: واعترض قوله: "وإن فسدت" بأنه لا يوافق قولا من الأقوال الستة في هذه المسألة، أحدهما أن الزرع لصاحب البذر وعليه لأصحابه كراء ما أخرجوه. الثاني الزرع لصاحب عمل اليد، الثالث لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة أرض وبقر وعمل، الرابع لمن اجتمع له شيئان من أربعة أرض وبقر وعمل يد وبذر، الخامس للباذر إن كان فسادها للمخابرة أي كراء الأرض بطعام، فإن فسدت لغيرها فالزرع للثلاثة على ما شرطوا، السادس وهو المرتضى لأنه مذهب ابن القاسم واختاره محمد: الزرع لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة بذر وأرض وعمل يد، فإن كانوا ثلاثة واجتمع لكل واحد شيئان منها أو انفرد كل واحد منهم بشيء فالزرع بينهم أثلاثا، وإن اجتمع لأحدهما شيئان دون صاحبيه فالزرع له دونهما، أو اجتمع شيئان لشخصين منهم فالزرع لهما دون الثالث.

فصور قول ابن القاسم أربع، ويبقى النظر في ثلاث صور: الأولى أن يجتمع الثلاثة لواحد منهم ولكل واحد من الباقين اثنان، الثانية أن يجتمع الثلاثة لكل واحد من شخصين منهم ويجتمع للشخص الثالث اثنان، الثالثة أن يجتمع الثلاثة لواحد ويجتمع اثنان لواحد وينفرد الثالث بواحد والظاهر أن من له اثنان يساوي من له ثلاثة؛ لأن من له ثلاثة يصدق عليه أنه اجتمع له اثنان. انتهى كلام عبد الباقي.

قوله: لا يوافق قولا من الأقوال الستة لخ، قال البناني: هذه الأقوال ذكرها ابن رشد في المقدمات، ونصها: واختلف في المزارعة الفاسدة إذا وقعت وفاتت بالعمل على ستة أقوال: أحدها أن الزرع لصاحب البذر ويؤدي لأصحابه كراء ما أخرجوه، والثاني أن الزرع لصاحب العمل وهو تأويل ابن أبي زيد عن ابن القاسم فيما حكى عنه ابن المواز، والثالث أنه لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة أصول وهي البذر والأرض والعمل، فإن كانوا ثلاثة واجتمع لكل واحد منهم شيئان منها وانفرد كل واحد منهم بشيء منها كان الزرع بينهم أثلاثا، وإن اجتمع لأحد منهم شيئان منها دون أصحابه كان الزرع له دونهم وهو مذهب ابن القاسم، واختيار ابن المواز على ما تأول أبو الحسن التونسي، والرابع أنه يكون لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة أشياء على هذا الترتيب وهي الأرض والبقر والعمل، والخامس أنه يكون لمن اجتمع له شيئان من أربعة أشياء على هذا الترتيب أيضا وهي الأرض والبذر والعمل والبقر، والسادس قول ابن حبيب أن الفساد إن سلم من كراء الأرض بما

ص: 147

يخرج منها كان الزرع بينهم على ما شرطوه وتعادلوا فيما أخرجوه وإن دخله كراء الأرض بما يخرج منهما كان الزرع لصاحب البذر. انتهى بلفظه.

ابن عرفة: ونسب ابن الحاج الستة للباجي

(1)

وهم نشأ عن تقليده ابن شأس، وظنه بقوله الشيخ أبو الوليد أنه الباجي. اهـ. قال ابن غازي في التكميل: ويقرب الأقوال الستة للحفظ أن تقول:

الزرع للعامل أو للباذر

في فاسد أو لسوى المخابر

أو من له حرفان من إحدى الكلم

عاب وعاث ثاعب لمن فهم

والمراد بالمخابر هنا الذي يعطي أرضه بما يخرج منها والعينات للعمل والألفات للأرض والباءان لبذر والثاءان للثيران. انتهى. والظاهر أن ما اقتصر عليه المص موافق للقول الثالث في المقدمات وهو السادس في لفظ الزرقاني وهو المرتضى كما يعلم بالتأمل، فقول الزرقاني لا يوافق قولا لخ غير ظاهر اهـ كلام البناني.

‌تنبيهان:

الأول: قال البناني قال ابن غازي: فرض الكلام في العامل مغن عن قول المصنف: "مع عمل".

الثاني: قال الحطاب عن ابن يونس: إذا اشترك ثلاثة فأخرج أحدهم الأرض ونصف البذر، والآخر نصف البذر فقط، والثالث العمل على أن الزرع بينهم أثلاثا لم يجز، فإن نزل فالزرع على مذهب ابن القاسم بين العامل ورب الأرض، ويغرمان لمخرج نصف البذر مكيلة بذره، ومذهب سحنون أن الزرع لصاحب الزريعة وعليه كراء الأرض والعمل، وقال ابن حبيب: ذلك خطأ والزرع بينهم أثلاثا، والذي ذكر ابن المواز على أصل ابن القاسم أن الزرع لمن ولي العمل إذا سلمت الأرض له يؤدي مثل البذر لمخرجه وكراء الأرض لربها. انتهى.

ولما كان بين الوكالة وبين الشركة والمزارعة مناسبة من جهة أن فيهما وكالة أتبعها لهما فقال:

(1)

في البناني ج 6 ص 71 للباجي وهو وهم.

ص: 148

‌باب: في الوكالة،

وهي بفتح الواو وكسره: التفويض، يقال: وكلت أمري إلى فلان أي فوضته إليه أي أسندته إليه واكتفيت به، وتقع أيضا على الحفظ، والوكيل الذي تكفل بما وكل به فكفى موكله القيام بما أسند إليه هذا معناها لغة. انظر الخرشي. وقال البناني: الوكالة لغة الحفظ والكفالة والضمان قال تعالى: {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} ، قيل حافظا وقيل كافيا وقيل ضامنا. قاله عياض كما في التوضيح.

وشرعا قال ابن عرفة: نيابة ذي حق غير ذي إمرة ولا عبادة لغيره فيه غير مشروطة بموته، فتخرج نيابة إمام الطاعة أميرا أو قاضيا أو صاحب صلاة والوصية. اهـ. والظاهر أن هذا التعريف غير جامع لخروج قسم من أقسام الوكالة وهي توكيل الإمام في حق له قبل شخص، فلو أسقط ذي من قوله: ذي إمرة وجعل غير نعتا لحق لكان شاملا لها. تأمل. وقوله: لغيره متعلق بنيابة، وكذلك قوله: فيه وضميره يعود لحق. اهـ. وقال الخرشي قوله: ولا عبادة أخرج به إمام الصلاة، وقوله: غير مشروطة بموته أخرج به الوصي. اهـ.

ابن عرفة: وحكمها لذاتها الجواز ويطرأ لها سائر الأحكام بسبب متعلقاتها، كقضاء دين تعين لا يوصل إليه إلا بها والبيع الكروه والحرام ونحو ذلك. اهـ. نقله البناني. وفي نقل الحطاب ما نصه: وحكمها لذاتها الجواز، روى أبو داوود عن جابر بن عبد اللَّه قال: أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، وقلت أردت الخروج إلى خبير، فقال:(إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته)

(1)

وصححه عبد الحق بسكوته عليه، وتعقبه ابن القطان أنه من رواية ابن إسحاق، قال عبد الحق فيه في كتاب الصلاة: رماه مالك بالكذب، وقال: نحن نفيناه من المدينة. اهـ.

واعلم أنه قد وثق ابن إسحاق غير واحد قال الرهوني: ابن يونس: الأصل في جواز الوكالة قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} وقوله: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} ، والأوصياء كالوكلاء، ومن السنة (حديث فاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها وجعل وكيله ينفق عليها): (وأن النبي عليه السلام أمر رجلا أن يشتري له أضحية بدينار فاشترى له

(1)

أبو داوود، كتاب القضاء رقم الحديث 3632.

ص: 149

شاتين بدينار فباع واحدة بدينار فأتاه بشاة ودينار فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة)

(1)

، والإجماع على جواز الوكالة للمريض والغائب والحاضر مثل ذلك. اهـ.

صحة الوكالة في قابل النيابة "صحة" مبتدأ، "والوكالة" مضاف إليه، وقوله:"في قابل النيابة" خبر المبتدإ وهو بيان لمحل الوكالة، ومعنى كلامه أن الوكالة بمعنى التوكيل تصح فيما يقبل النيابة وهي الفعل عن الغير، قال غير واحد: ما تجوز فيه النيابة تصح فيه الوكالة، وما لا تجوز فيه النيابة لا تصح فيه الوكالة، وقوله:"في قابل النيابة" أي في قابلها شرعا، والقابل للنيابة هو ما لا تتعين فيه المباشرة، واحترز بذلك من الأعمال البدنية التي لابد فيها من المباشرة، قال الحطاب: قال المازري: لا تجوز النيابة في أعمال الأبدان المحضة كالصلاة والطهارة، وينقض قوله في أعمال الأبدان المحضة بقولها مع غيرها في العاجز عن الرمي لمرضه في الحج يرمى عنه. انتهى. وقوله: ما تجوز فيه النيابة تصح لخ هذا على مساواة النيابة للوكالة وهو لابن رشد. عياض: كما نقل ابن عرفة عنهما من جعلهما نيابة الأمراء وكالة وعلى ما تقدم من أنها ليست بوكالة فالنيابة أعم منها. انظر البناني. قال البناني: واعلم أن النيابة في كلام المص هي الفعل عن الغير، والوكالة بمعنى التوكيل فهما متغايران، وبهذا يندفع دوران يرد على المص، وتقريره أن الوكالة كما قال ابن الحاجب وابن عرفة نيابة، فكأن المص قال صحة النيابة، في قابل النيابة وهذا معنى لا يصح إذ هو إحالة الشيء على نفسه. قاله ابن عاشر.

واعلم أيضا أنه وقع في كلام ابن عرفة هنا أنه ذكر أن شرط النيابة بمقتضى دلالة الاستقراء والاستعمال استحقاق جاعلها فعل ما وقعت النيابة فيه، فإذا جعل الانسان غيره فاعلا أمرا، فإن كان يمتنع أن يباشر أولا حق له في مباشرته فهو أمر، وإن صحت مباشرته وكان له فيه حق فهو نيابة، فجعل الانسان غيره يقتل رجلا عمدا عدوانا هو أمر لا نيابة، وجعله يقتل قصاصا نيابة ووكالة. اهـ. ورد بهذا على ابن هارون الذي أبطل طرد تعريف ابن الحاجب الوكالة بأنها: نيابة فيما لا يتعين فيه المباشرة بالنيابة في المعاصي كالسرقة والغصب وقتل العدوان، ثم ناقض ابن عرفة

(1)

البخاري، كتاب المناقب، رقم الحديث 3642.

ص: 150

كلامه بما ذكره بعد من أن الوكالة التي هي أخص من النيابة تعرض لها الحرمة بحسب متعلقها، ومثل ذلك بالبيع الحرام وهو ممنوع المباشرة فتأمله. قاله الشيخ المسناوي.

من عقد هذا وما عطف عليه بيان لقابل النيابة؛ يعني أنه يجوز للشخص أن يوكل من يعقد عنه مجاعلة أو بيعا أو نكاحا أو غيرها من العقود. وفسخ يعني أنه يجوز التوكيل على فسخ عقد يجوز فسخه، كمزارعة قبل البذر أو يتحتم كبيع فاسد، وشمل الفسخ توكيله على طلاق زوجته. قاله عبد الباقي. قوله: أو يتحتم لخ، قال البناني: فيه نظر بل الصواب تقييده بالفسخ الجائز كفسخ الولي والسيد وكالطلاق. اهـ. الرهوني: قول البناني: بل الصواب تقييده بالجائز، قال شيخنا الجنوي: بل الصواب ما قاله الزرقاني من التعميم ولا وجه لتخصيصه بالفسخ الجائز. واللَّه أعلم. قلت: وما قاله شيخنا متعين، فإن فسخ البيع الفاسد مثلا لا مانع من التوكيل عليه؛ إذ لابد فيه من فاسخ يفسخه هو الحاكم أو المتعاقدان ولا يفسخ دون فسخ، راجع ما ذكره الحطاب عند قوله في البيوع الفاسدة وإنما ينتقل ضمان الفاسد بالقبض. اهـ.

وقال المواق: ابن الحاجب: الوكالة نيابة فيما لا يتعين فيه المباشرة، فتجوز في الوكالة والحوالة والجعالة والنكاح والطلاق والخلع والصلح. ابن شاس: وأنواع البيع والشركة والمساقاة وسائر العقود والفسوخ، ويجوز أيضا التوكيل بقبض الحقوق واستيفاء الحدود والعقوبات. ابن رشد: الوكالة نيابة عن الموكل فهي لا تكون إلا فيما تصح فيه النيابة مما يلزم الرجل القيام به لغيره أو يحتاج إليه لمنفعة نفسه، فأما الوكالة فيما يلزم الرجل القيام به لغيره فتوكيل الأوصياء والوكلاء المفوض إليهم فيمن ينوب عنهم، وكاستخلاف الإمام على ما يلزمه القيام به من أمور المسلمين، وأما الوكالة فيما يحتاج الرجل إليه لمنفعة نفسه، فذلك كتوكيله على البيع والشراء والنكاح والحدود والخصام وما أشبه ذلك من كل مباح أو مندوب إليه أو واجب تعبد الإنسان به في غير عينه؛ لأن ما تعبد به في عينه كالوضوء والصلاة والصوم لا يصح أن ينوب عنه في ذلك غيره قيل إلا في صب الماء في الطهارة مطلقا، وفي الدلك للمريض والعاجز. اهـ.

وقبض حق يعني أنه يجوز التوكيل في قبض حق وجب له قبل آخر، وكذا يوكل في قضاء حق وجب عليه. وعقوبة يعني أنه يصح التوكيل في العقوبة كقتل وتعزير والموكل في الأولى الولي أي في

ص: 151

قتل القصاص وفيها في بعض الصور وفي الثانية الإمام؛ لأن إقامة التعازير وإقامة الحدود للإمام فهو الذي يوكل عليها، وللسيد أن يقيم الحد على عبده الذي لم يتزوج أو تزوج بملك سيده، وإذا كان ذلك للسيد فله أن يوكل من يقيم عليه الحد.

وحوالة يعني أنه يجوز التوكيل في الحوالة بأن يوكل مدين شخصا يحيل رب دينه على من للمدين عليه دين أنه وقد يقال هذا يدخل في قوله: "عقد". وإبراء يعني أنه يجوز التوكيل في الإبراء بأن يوكل رب دين أحدا يبرئ مدينه وإن جهله الثلاثة مبالغة في الإبراء يعني أنه يصح التوكيل على الإبراء، وإذا وكله فأبرأ المدين فإنه يبرأ وإن جهل الحق المبرأ منه الثلاثة أي المبرئ بالكسر وهو رب الدين والوكيل الذي وكله المبرئ بالكسر والمبرأ بالفتح وهو المدين لأن الإبراء هبة وهي جائزة في المجهول. المواق: ابن شاس: التوكيل بالإبراء لا يستدعي علم الموكل بمبلغ الدين المبرإ منه ولا علم الوكيل ولا علم من عليه الحق. ابن عرفة: هذا ضروري من المذهب لأنه محض ترك، والترك لا مانعية للغرر فيه لقول المدونة إن كان لك عليه دراهم نسيت مبلغها جاز أن تصطلحا على ما شئتما. وحج يعني أنه يجوز للشخص أن يوكل من يحج عنه.

قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه عنه: وهذا فيه تسامح لأن المحجوج عنه إنما له أجر النفقة لا الحج، ولأن المحجوج عنه لا يسقط عنه الفرض. واللَّه تعالى أعلم.

وواحد في خصومة يعني أنه يصح التوكيل في الخصومة بأن يوكل من يخاصم عنه، وإنما يوكل واحدا لا أكثر إلا برضى الخصم، قال هذا الشارح معطوف على محذوف أي فيجوز توكيل واحد وأكثر في قابلها غير الخصومة وواحد في خصومة. واللَّه تعالى أعلم. قال عبد الباقي وواحد لا أكثر إلا برضى الخصم في جنس خصومة أو خصومات قبل الشروع فيها، فالتاء للتأنيث لا للوحدة، ويجوز توكيل أكثر من واحد في غير خصومة كما يأتي في قوله:"ولأحد الوكيلين الاستبداد".

‌تنبيه:

قال عبد الباقي: إذا كان على شخص حق مشترك بين جماعة وطلب أحدهم الدعوى بحصة فقط، فيمكن منها خلافا لظاهر ابن المناصف ويقضى له بحظه فقط، فإن طلبها جميعهم فإما ادعوا جميعا أو وكلوا في الدعوى واحدا منهم أو من غيرهم، وليس للجميع أن يدعوا واحدا بعد واحد إلا برضى الخصم، فإن طلبها متعدد منهم دون جميعهم فليس للمدعى عليه طلب من لم يقم

ص: 152

أن يدعي خلافا لظاهر ابن المناصف، والحق المتعدد المكتوب بكتاب كالمشترك بناء على أن الكتب يجمع ما كان مفترقا، وأما على مقابله فلكل واحد أن يوكل وحلف المدعى عليه لبعض الشركاء حلف لباقيهم، فليس لمن يقوم بعده ولو غائبا أو صغيرا بلغ أن يحلفه إن كان حلف عند الحاكم، وإلا أعيدت لطالبها هذا هو الذي جرى به العمل واقتصر عليه في مختصر البرزلي، وإذا أقام غير من أحلفه بينة عمل بها في حظه فقط ولو كان عالما بها حيث حلف القاضي المدعى عليه لغير مقيمها وعلم بذلك؛ لأن من حجته أن يقول لم أقم بحقي وقت الحلف ولم يكن طلب الحلف مني، هذا هو الذي يدل عليه ما يأتي في القضاء من قوله:"وإن نفاها واستحلفه" لخ مع كلام من تكلم عليه. انتهى قول عبد الباقي؛ وطلب أحدهم الدعوى بحصته فيمكن منها خلافا لظاهر ابن المناصف، في الرهوني ما يفيد أن ابن المناصف جوابه كجواب الإمام في المسألة، فما اعترضه به غير واحد لا يرد عليه. واللَّه أعلم.

وقول المص: "وواحد في خصومة" قال البناني: أي واحد معين فإذا كان الحق لاثنين فقالا: من حضر منا خاصم فليس لهما ذلك لأنه كتوكيل أكثر من واحد، ومن وكل ابتداء ضررا بخصمه لم يمكن من ذلك، وكل من ظهر عند القاضي لدده فلا يجوز له قبوله في خصومة، وإذا خاصم الوكيل في قضية ثم انقضت وأراد الدخول في أخرى والوكالة مبهمة فله ذلك بالقرب، وليس له ذلك في ما طال نحو الستة أشهر، وأما إذا اتصل الخصام فيها فله التكلم عنه وإن طال الأمر. قاله ابن الناظم. وذكر بعضهم أن التحديد المذكور غير معول عليه، وإن تأخر الخصام فيما وكل فيه سنتين ثم قام الوكيل بُعِثَ إلى الموكل وسئل هل هو على وكالته؟ قال الحطاب: وليس في الوكالة إعذار بل إذا ثبتت عمل بها وقيل لابد منه، ولا تجوز الوكالة على المبطل المتهم، قال تعالى:{وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} ، وكره مالك لذوي الهيئات الخصومات، وفي تبصرة ابن فرحون عن وثائق ابن العطار: ولا يصلح للرجل أن يوكل أباه ليطلب له حقه؛ لأن ذلك استهانة للأب. اهـ. انظر الحطاب في هذه الفروع كلها.

‌تنبيهات:

الأول: قال الحطاب عن ابن فرحون: لا يسمع القاضي من أحد دعوى الوكالة حتى يثبت عنده ذلك بشاهدين أو بشاهد ويمين على قول مالك وابن القاسم، ولابد أن يشهد الشهود

ص: 153

على معرفة عين الموكل والموكل إما بالشاهدين الأولين أو بغيرهما، وإذا حضر الوكيل والخصم وتقارا على صحة الوكالة فلا يحكم بينهما بمجرد قولهما لأنه حق لغيرهما يتهمان على التواطؤ، ولو صدق الخصم الوكيل في الدعوى واعترف بالمدعى به لم يجبره الحاكم على دفعه على المشهور حتى يثبت عنده صحة الوكالة اهـ ومقابل المشهور ذكره ابن فرحون في تبصرته أيضا، فإنه قال: وإذا قام رجل على رجل في مهر امرأته أو دين رجل وادعى وكالة صاحب ذلك فأقر المطلوب بالدين أو المهر واعترف بصحة الوكالة فإنه يلزمه دفع ذلك إليه، فإن قام صاحب الحق على المطلوب يطلبه بذلك قضي له به؛ لأنه إنما يقضى عليه أولا بإقراره والمصيبة منه. انتهى. فصرح بأنه يقضى عليه، وحكى ابن حبيب عن سحنون فيمن قال لرجل: وكلني فلان على قبض دينه منك وعدده كذا فصدقه في الوكالة وأقر بالدين أنه يلزمه الدفع إليه، فإن قدم فلان وأنكر التوكيل غرم الحق؛ لأن الحكم كان بإقراره. انتهى. والأول الذي هو المشهور.

قال مقيده عفا اللَّه عنه: هو الموافق لقول المص فيما يأتي: "ولك قبض سلمه لك إن ثبت ببينة".

الثاني. قال الحطاب: قال ابن سلمون: إذا شهد شاهدان بمعرفة الوكالة ولم يبينا في شهادتهما أن الموكل أشهدهما فشهادتهما ساقطة ولا يعمل بها.

الثالث: قال الحطاب: قال ابن فرحون: إذا وكله على الخصام في قضية فخاصم عنه وانقضت تلك القضية وأراد الوكيل أن يخاصم عنه في غيرها، فإن كان بقرب الخصام الأول كان له ذلك إذا كانت الوكالة مبهمة لم يذكر فيها أنه وكله على مخاصمة فلان أو في أمر كذا، وكذا إذا اتصل بعض ذلك ببعض أو كان بينهما أيام وإن تطاول ذلك سنين والموكل غائب لم يحتج إلى تجديد التوكيل إذا لم يقصره على مطلب سماه كما قدمناه، فأما إذا قصره على مطلب معين وكان بين المطلبين الأشهر فليس له أن يخاصم إلا فيما وكله، ويستحسن في مثل هذا أن يحدد له التوكيل ثم يتكلم عنه. اهـ.

وقال ابن فرحون: قال ابن سهل: وسئل سحنون عمن وكل رجلا على مخاصمة رجل فلم يقم الوكيل بذلك إلا بعد سنتين وقد أنشبت

(1)

الخصومة بمثل

(2)

ذلك ثم أتى بالبينة، أو لم ينشب

(1)

في الحطاب ج 5 ص 571 وتبصرة ابن فرحون ج 1 ص 331: انشب.

(2)

في الحطاب ج 5 ص 571 وتبصرة ابن فرحون ج 1 ص 331: قبل ذلك

ص: 154

الخصومة ولم يتعرض في شيء حتى مرت السنتان ثم قام بعدهما يطلب بتلك الوكالة القديمة أله ذلك أم يجدد الوكالة؟ قال سحنون: يبعث الحاكم إلى الموكل يسأله أهو على وكالته أو خلعه عنها؟ إن كان حاضرا وإن كان غائبا فالوكيل على وكالته، قال ابن سهل: رأيت بعض شيوخنا يستكثر إمساك الوكالة ستة أشهر ويرى تجديد الوكالة إن أراد الخصومة، قال ابن المناصف: أما إذا خاصم واتصل خصامه وطال سنين فهو على وكالته الأولى. اهـ كلامه.

وقال ابن عرفة في الانعزال بطول مدة التوكيل ستة أشهر وبقائه، قول ابن سهل: رأيت بعض شيوخنا يستكثر إمساك الوكالة على الخصومة ستة أشهر أو نحوها ويرى تجديد التوكيل مع قول المتيطى في الوكالة على الإنكاح إن سقط من رسمه لفظ دائمة مستمرة وطال أمد التوكيل ستة أشهر سقطت إلا بتوكيل ثان، ونقل ابن سهل عن سحنون: من قام بتوكيل على خصومة بعد سنين وقد أنشب الخصومة قبل ذلك أو لم ينشبها ولم يقم إلا بعد سنتين، سأل الحاكم هل هو باق على توكيله أو عزله؟ فإن كان غائبا فهو على وكالته. ابن فتوح: إن خاصم واتصل خصامه سنين لم يحتج لتجديد التوكيل. انتهى.

الرابع: قد مر قول عبد الباقي: وطلب أحدهم الدعوى بحصته إلى أن قال: فإن طلب متعدد منهم دون جميعهم فليس للمدعى عليه طلب من لم يقم أن يدعي لخ، قال الرهوني: ظاهره أنه ليس له ذلك مع حضورهم بالبلد وهو ظاهر كلام ابن عرفة أيضا، قال أبو حفص: في تفصيله هذا نظر لاقتضائه أن المطلوب لا يوقفهم للدعوى وإن كانو حضورا في البلد ما لم يكونوا حضورا معه كلهم أو بعضهم وليس كذلك. انتهى. قلت: بحثه ظاهر ويشهد لما قاله من أنهم إذا حضروا في البلد فمن حجة المطلوب أن يوقفهم وإن لم يقوموا كلام أبي الحسن وابن غازي في تكميله، ففي كتاب الولاء من المدونة ما نصه: ومن أقام بينة في دار أنها لأبيه وقد ترك أبوه ورثة سواه غيبا فإنه يمكن من الخصومة في الدار، فإن استحق حقا لم يقض له إلا بحصته منها ولا ينزع باقيها من يد المقضي عليه؛ إذ لعل الغيب يقرون بها للمحكوم عليه بأمر جهله هذا المدعي، فإذا قدموا فادعوا كدعوى الحاضر كان ذلك القضاء لهم نافذا، وإن قدموا قبل القضاء وبعد أن عجز الأول عن منافعه كانوا على حجتهم إن كانت لهم حجة غير ما أتى به الأول، وقال أشهب: ينزع الحق كله فيعطى لهذا

ص: 155

حقه ويوقف حق الغائب، وكذلك كتب مالك إلى ابن غانم ورواه ابن نافع عن مالك. انتهى منها بلفظها. قال أبو الحسن ما نصه: يمكن من الخصومة ويكلف إثبات غيبتهم وإثبات الملك للميت واستمراره والحيازة. اهـ. قال ابن غازي عقب نقله ما نصه: وإنما يكلف إثبات الغيبة لأنهم لو حضروا لكان من حق المدعى عليه أن يمتنع من خصام الجميع إلا إذا وكلوا واحدا. انتهى.

الرهوني: حاصل مسألة تعدد ذوي الحق أنه إما أن يقوموا كلهم أو بعضهم، فإن قاموا كلهم فلا خلاف أنهم مأمورون بأن يوكلوا واحدا أو يحضروا جميعا لمخاصمته ولا يتعاورونه واحدا بعد واحد، وهذا إن طلبه المدعى عليه، قال أبو حفص الفاسي: فإن طلب أجيب وليس لازما للحاكم أن يفعله، وإن قام بعضهم وغيره غائب مكن القائم من الدعوى وذلك مصرح به في المدونة، ولا كلام للمطلوب إن قال: لا أجيب حتى يحضروا ثم إن كان الحاضر القائم واحدا فالأمر واضح، وإن كان أكثر فلابد من توكيل واحد فقط أو الحضور كما إذا قام جميعهم ولم أر من ذكر في هذا خلافا، وإن كان غير القائم حاضرا فمن حق المطلوب أن يقول لا أخاصم حتى يوقف الحاضرون، فإما أن يسلموا لي وإما أن يوكلوا واحدا أو يحضروا جميعا، فإن طلب ذلك أجابه الحاكم إليه وكلفهم بإحضارهم لذلك ولا يجب ذلك على الحاكم إن لم يطلبه المدعى عليه. واللَّه أعلم. اهـ كلام الرهوني.

وقال الوانوغي ما نصه: قوله لم يقض إلا بحقه، قال شيخنا: ظاهر المدونة أن قول ابن القاسم وأشهب في المعينات وعندي أن ما في الذمة أشهب فيه كابن القاسم، ويتأكد الأمر إذا كان مليا. انتهى. يعني مسألة المدونة المارة في أول هذا التنبيه الرابع. واللَّه تعالى أعلم.

الخامس: قال الحطاب: قال ابن فرحون في تبصرته قال ابن زرب: إذا وقع التوكيل عند حاكم وصرح الموكل في التوكيل باسم الحاكم لم يكن له التكلم عند حاكم غيره، وإن كان التوكيل مجملا فله أن يخاصمه حيث شاء. اهـ. وقال ابن بطال في كتاب المقنع: ويوكل على الخصام عند القاضي إن شاء، وحيث ما وكل فهو جائز إذا ثبت ذلك عند الحاكم، وقال حسين بن عاصم عن ابن القاسم في الشهود على الوكالة: لا يكونون إلا عدولا ويحتاط فيهم بما يحتاط في الشهود على غير

ص: 156

الوكالة وما سمعت أحدا أرخص في ذلك. انتهى. وأما وكالة الفاسق فتصح كما يؤخذ ذلك من قول صاحب الذخيرة: يحصل الإبراء بالدفع للوكيل الفاسق.

السادس: قال ابن فرحون في تبصرته: ولا تجوز الوكالة على المتهم يدعي الباطل ولا المجادلة عنه، قال ابن العربي في أحكام القرآن في قوله تعالى:{وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} : إن النيابة عن المبطل المتهم في الخصومة لا تجوز، بدليل قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} . انتهى. قوله: على المتهم يدعي الباطل، على بمعنى: عن. واللَّه تعالى أعلم. قاله مقيده عفا اللَّه تعالى عنه.

السابع: قال الحطاب: قال ابن فرحون في تبصرته: ومن عزل وكيله فأراد الوكيل أن يتوكل لخصمه فأبى الأول لما اطلع عليه من عوراته ووجوه خصوماته فلا يقبل منه قوله ويتوكل له، وفي المتيطية: وينبغي للوكيل على الخصومة أن يتحفظ بدينه وأن لا يتوكل إلا في مطلب يقبل فيه يقينه أن موكله فيه على حق، فقد جاء في جامع السنن عن عبد اللَّه بن عمر أنه قال: من حالت شفاعته دون حد من حدود اللَّه فقد ضاد اللَّه في أمره، ومن توكل في خصومة لا علم له بها لم يزل في معصية اللَّه حتى ينزع.

الثامن: قال الحطاب: قال في المتيطية: وكره مالك لذوي الهيئات الخصومات، قال مالك: كان القاسم بن محمد يكره الخصومة لنفسه ويتنزه عنها، وكان إذا نازعه أحد في شيء قال له: إن كان هذا الشيء لي فهو لك وإن كان لك فلا تحمدني عليه، قال: وكان سعيد بن المسيب إذا كان بينه وبين رجل شيء لم يخاصمه، وكان يقول: الموعد يوم القيامة، قال مالك: من علم أن يوم القيامة يحاسب فيه على الصغير والكبير ويعلم أن الناس يوفون حقوقهم وأن اللَّه عز وجل لا يخفى عليه شيء فليطب بذلك نفسا فإن الأمر أسرع من ذلك، وما بينك وبين الدنيا وما فيها إلا خروج روحك حتى تنسى ذلك كله حتى كأنك ما كنت [فيه]

(1)

ولا عرفته. قال ابن شعبان: وقال مالك: المخاصم

(1)

ساقطة من الأصل، وقد أثبتت من الحطاب ج 5 ص 573 ط دار الرضوان.

ص: 157

رجل سوء، وقال ابن مسعود: كفى بك ظالما أن لا تزال مخاصما. وقاله أبو الدرداء. وقالت عائشة رضي الله عنها: قال النبي عليه السلام: (أبغض الرجال إلى اللَّه الألد الخصم)

(1)

. انتهى.

وإن كره خصمه يعني أنه يجوز لك أن توكل من يخاصم عنك وإن كان خصمك يكره ذلك ويريد منك أن تخاصمه أنت بنفسك أو غير ذلك الخصم إلا أن يكون الموكل بالفتح عدوا للموكل عليه كما يأتي، قال المواق: المتيطى: إذا أراد الرجل التوكيل جاز له طالبا أو مطلوبا. هذا هو القول المشهور الذي جرى به العمل. انتهى. وقال البناني: ابن يونس من المدونة: قال ابن القاسم: وللحاضر أن يوكل من يطلب شفعة أو يخاصم عنه خصماء له، وإن لم يرض بذلك الخصم إلا أن يوكل عليه عدوا له فلا يجوز. انتهى.

لا إن قاعد خصمه كثلاث يعني أن الشخص إذا قاعد خصمه ثلاثة مجالس ولو في يوم وانعقدت بينهما المقالات فإنه ليس له أن يوكل من يخاصمه عنه، قال المواق: المتيطى: إن خاصم الرجل عن نفسه وقاعد خصما ثلاث مجالس وانعقدت المقالات بينهما لم يكن له بعد ذلك أن يوكل خصمه يتكلم عنه إذا منعه صاحبه من ذلك. انتهى. ودخل بالكاف ما زاد عليها وخرج ما نقص عنها، وقال عبد الباقي: لا إن قاعد الموكل خصمه مجالس كثلاث ولو في يوم واحد فلا يوكل فيها، ويعتبر كونها عند حاكم فيما يظهر قياسا على ما ذكره ابن فرحون في مسألة الوكيل وما زاد على الثلاث أولى وخرج ما نقص عنها. انتهى.

قوله: ويعتبر كونها عند حاكم فيما يظهر قياسا على ما ذكره ابن فرحون لخ لا حاجة لهذا القياس مع وجود النص، ففي رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الأقضية ما نصه: قال ابن القاسم: سمعت مالكا وقد سئل عن رجل وقد

(2)

خاصم رجلا في حق له وقاعده عند السلطان ثم أراد أن يوكل، قال: ليس ذلك له إلا من علة. ابن رشد: هذا كما قال لم يكن لمن ناشب خصمه الخصام وقاعده عند السلطان أن يوكل من يخاصم عنه ولا أن يعزل وكيلا قد وكله فيوكل غيره أو يتولى هو الخصام بنفسه إلا أن يكون له عذر من سفر حضر أو مرض حدث أو يكون خصمه قد أسرع إليه

(1)

البخاري، كتاب التفسير، رقم الحديث 4523.

(2)

في البناني ج 6 ص 73: عن رجل خاصم رجلا.

ص: 158

واستطال عليه، فيحلف أن لا يخاصمه فيكون له أن يوكل أو يكون قد ظهر له ميل من وكيله مع خصمه ومسامحة في حقه، فيكون له أن يعزله ويولي غيره أو يخاصم بنفسه وهذا مما لا اختلاف فيه أعلمه. ومعنى قوله: وقاعده عند السلطان يريد المرات الثلاث ونحوها هذا معنى قوله الذي حمله عليه كل من ألف في الأحكام من المتأخرين. انتهى.

وظاهره كالمص التقييد بالثلاث فأكثر وعليه فله عزله في أقل منها وهو مقتضى كلام المتيطى، ونصه على نقل ابن عرفة، فإن جالس الوكيل خصمه عند الحاكم ثلاث مرات فأكثر لم يكن له عزله. انتهى. وهو خلاف ما في المقدمات، إذ مقتضى ما فيها أن المرتين كالثلاثة على المشهور في المذهب. انظر نصها في المواق. قاله البناني.

إلا لعذر يعني أنه إذا قاعد خصمه ثلاث مجالس ليس له أن يوكل طالبا أو مطلوبا إلا لأجل عذر كمرض أو سفر. وحلف في كسفر يعني أن الشخص إذا قاعد خصمه ثلاث مجالس فإنه لا يوكل من يخاصم عنه إلا لعذر، فإنه يوكل حينئذ من يخاصم عنه لكن بعد أن يحلف في السفر أنه ما أراد السفر ليوكل، وكذا المرض الباطن فإنه يحلف عليه ويوكل، وأما المرض الظاهر فإنه يوكل ولا يمين عليه. ومن المدونة: قيل لمالك فرجلان اختصما عند قاض ونظر في أمرهما وتحاجا فحلف أحدهما أن لا يخاصم صاحبه وأراد أن يوكل عليه؟ قال: ليس ذلك له إلا لعذر مثل أن يشتمه أو أسرع إليه، قال ابن القاسم: أو أراد سفرا أو حجا أو غزوا أو مرض ولم يكن ذلك منه لددا بصاحبه ولا قطعا له في خصومته فله أن يستخلف ويكون المستخلف على حجة الأول ويحدث من الحجة ما شاء، وما كان أقام

(1)

الذي لم يوكل من بينة أو حجة قبل وكالة صاحبه فهى جائزة على الوكيل. انتهى. قاله البناني.

وقال عبد الباقي: وإذا قاعد الموكل خصمه ثلاثا وادعى إرادة سفر ليوكل حلف في كسفر ومرض باطني يخفى ودعوى نذر اعتكاف ودخل وقته إن أراد توكيله لعذر لا بمجرد تكبر ونحوه، فإن نكل لم يوكل غيره، قال التتائي: من حلف أن لا يخاصم خصمه لأنه أخرجه

(2)

وشاتمه جاز أن

(1)

ساقطة من الأصل، والمثبت من البناني ج 6 ص 74.

(2)

في عبد الباقي ج 6 ص 74: أحرجه.

ص: 159

يوكل غيره، وإن حلف لا لموجب فلا، ويمكن دخول هذا تحت الكاف فيحلف أنه ما يوكل لذلك. انتهى. أي لأجل إخراجه

(1)

ومشاتمته. انتهى.

وقال الحطاب: قال في المتيطية: وإذا خاصم الرجل عن نفسه وقاعد خصمه أيضا ثلاثة مجالس وانعقدت المقالات بينهما لم يكن له بعد ذلك أن يوكل خصما يتوكل عنه إذا منعه من ذلك صاحبه إلا أن يمرض أو يريد سفرا ويعرف ذلك، ولا يمنع الخصمان من السفر ولا من أراده منهما، ويكون له أن يوكل عند ذلك، قال ابن العطار: وتلزمه حينئذ اليمين أنه ما استعمل السفر ليوكل غيره، فإن نكل عن اليمين لم يبح له توكيل غيره إلا أن يشاء خصمه ذلك، وقال ابن الفخار: لا يمين عليه ويكون له أيضا أن يوكل إذا أحرجه خصمه وشاتمه فحلف أن لا يخاصمه بنفسه، قال ابن الفخار: فإن حلف أنه لا يخاصمه دون عذر يوجب اليمين لم يكن له أن يوكل. انتهى.

ابن عرفة في عطف شاتمه على أخرجه بالواو وبأو اختلاف ابن سهل، والذي ذهب إليه الناس [في]

(2)

القديم والحديث قبول الوكلاء إلا من ظهر منه تشغيب ولدد فذلك يجب على القاضي إبعاده، وأن لا يقبل منه وكالة على أحد. انتهى.

ابن عرفة: والوكالة على الخصام لمرض الموكل أو سفره أو كونه امرأة لا يخرج مثلها جائزة اتفاقا. المتيطى: وكذا لعذر يشغل الأمير أو خطة لا يستطيع مفارقتها كالحجابة وغيرها، وفي جوازها لغير ذلك ثالثها للطالب لا للمطلوب للمعروف مع قول المتيطى هو الذي عليه العمل، ونقله عن سحنون في رسالته إلى محمد بن زياد قاضي قرطبة وفعله، وعلى المعروف في جوازها مطلقا أو بعد أن ينعقد بينهما ما يكون من دعوى وإقرار نقلا ابن سهل. انتهى المراد منه.

ونص كلام ابن سهل: ومن المحاضر لابن حارث وإن أراد الخصمان أو أحدهما في أول مجلس جلسا فيه التوكيل، ففيه اختلاف، من الفقهاء من يرى ذلك لهما أو لأحدهما، ومثله لابن العطار، ومنهم من لا يرى ذلك إلا بعد أن ينعقد بين المدعي والمدعى عليه ما يكون من كل واحد منهما من الإقرار والإنكار ثم يوكل بعد من شاء منهما وهو الصحيح. انتهى. وقال ابن فرحون في تبصرته:

(1)

في عبد الباقي ج 6 ص 74: إحراجه.

(2)

ساقطة من الأصل وقد أثبتت من الحطاب ج 5 ص 160 ط دار الرضوان.

ص: 160

وإذا ادعى الرجل على خصمه عند الحاكم فهل للمدعى عليه أن يوكل قبل أن يجيب عن تلك الدعوى بإقرار أو إنكار؟ فقيل: إنه لا يمكن من التوكيل حتى يجيب فإن لم يجب حمله الحاكم على الجواب بالأدب، قال ابن الهندي: وقول من قال إن له أن يوكل قبل أن يجيب أصح، قال ابن سهل: والصحيح عندي أن لا يمكن من ذلك لأن اللدد فيه ظاهر. انتهى. والظاهر أن مرادهم ما لم يوكلا في أول الأمر حتى حضرا عند القاضي أما لو وكلا أولا فلا كلام في ذلك، والظاهر أيضا أن مرادهم ما لم يجلسا ثلاث مجالس عند الحاكم. انتهى.

وليس له حينئذ عزله يعني أن الوكيل على الخصام إذا قاعد الموكل على خصامه ثلاث مجالس ليس لموكله أن يعزله عن الوكالة، فقوله:"حينئذ" أي حين قاعد الوكيل الخصم ثلاث مجالس، وقاعد مقاعدة هذه المفاعلة من القعود وهو كجالس مجالسة من الجلوس وزنا ومعنى، قال عبد الباقي: وليس له أي للموكل حينئذ أي حين إذ قاعد وكيله خصمه كثلاث عزله عن الوكالة إلا لتفريط أو ميل مع خصم أو مرض. قاله المتيطى ومثل مقاعدة خصمه كثلاث تعلق حق بالوكالة لغيرهما كتوكيله في بيع رهن عند مرتهن فليس له عزله لحق المرتهن انتهى ومفهوم قوله: "حينئد" أن له عزله قبل ذلك، قال الحطاب: وهو كذلك إذا أعلن بعزله وأشهد عليه ولم يكن منه تفريط في إعلامه. انتهى.

ولا له عزل نفسه يعني أن الوكيل ليس له أن يعزل نفسه بعد أن قاعد الخصم كثلاث، قال عبد الباقي: ولا له أي للوكيل حينئذ عزل نفسه إلا لعذر وحلف في كسفر كذا يظهر قياسا على ما مر في الموكل، ومفهوم "حينئذ" أن للوكيل عزل نفسه قبل ذلك، وكذلك للموكل عزله قبل كثلاث إن أشهد به وأشهره عند حاكم ولم يفرط في إعلانه الممكن، فإن اختل شرط من هذه الثلاثة لم ينفعه عزله ويمضي فعله حتى إقراره بشرطه الآتي للمص، وهذا كله على القول بأنه ينعزل بعزله وإن لم يعلم، وأما على أنه لا ينعزل بعزله إلا إن علم فلا ينعزل قبله ولو أشهد به وأشهره عند حاكم. انظر الحطاب. ثم إذا عزل الموكل وكيله قبل ثلاث فللوكيل أن يتوكل عليه لغيره ولا يلتفت لقول عازله: لا أرضى وكالته علي لاطلاعه على عوراتي وحججي. ذكره ابن فرحون. كما في التتائي. وقوله: لغيره شامل لخصم الموكل الأصلي وبه صرح ابن عاصم كما في أحمد، وقول المص: "وليس

ص: 161

له حينئذ عزله" مفهومه أن الوكالة لو كانت في غير الخصام فله عزله، وللوكيل عزل نفسه أيضا كما صرح به آخر الباب بقوله: "وهل لا تلزم أو إن وقعت بأجرة أو جعل فكهما وإلا لم تلزم تردد"، وكل ذا إن لم يتعلق به حق لغيره كما مر قريبا. انتهى.

قوله: وبه صرح ابن عاصم لخ أي في قوله:

ومن له موكل وعزله

لخصمه إن شاء أن يوكله

ونحوه في تبصرة ابن فرحون، لكن زاد في شرحه على ابن الحاجب أنه ينبغي أن لا يمكن من الوكالة لأنه صار كعدوه. انتهى. ونحوه للبرزلي بحثا قاله البناني، وقال المواق: قال ابن رشد: للموكل أن يعزل وكيله عن الوكالة متى شاء إلا أن تكون الوكالة في الخصام فليس له أن يعزله عن الوكالة ويوكل غيره، ولا يخاصم عن نفسه إذا كان قد قاعد خصمه المرتين والثلاث إلا أن يكون عذر. هذا هو المشهور في المذهب. انتهى.

‌فرع:

قال في النوادر. في آخر كتاب الصدقات والهبات: ومن كتاب ابن المواز: من له على رجل غائب دينار وخمسة دراهم، فواجر رجلا في تقاضيه بالخمسة الدراهم وقال له: فإذا قبضت ذلك فتصدق بالدينار، فلما قدم كلمه فدفع إليه بلا مؤنة ولا خصومة، قال: يتصدق بالدينار ويرسل بالخمسة دراهم إلى ربها. انتهى. قاله الحطاب. وقال: قال ابن عرفة: ولابن رشد: للموكل عزل وكيله وللوكيل أن ينحل عن الوكالة متى شاء أحدهما اتفاقا، إلا في وكالة الخصام فليس لأحدهما ذلك بعد أن ينشب الخصام، والمفوض إليه والمخصوص سواء. انتهى.

ولا الإقرار يعني أنه ليس للوكيل على الخصام أو على غيره الإقرار على موكله إن لم يفوض له أي لم يوكله وكالة مفوضة، وأما إن وكله وكالة مفوضة فإنه يلزم الموكل بالكسر ما أقر به عليه الوكيل، أو يجعل له يعني أن الوكيل لا يلزم الموكل ما أقر به عليه حيث لم يجعل له الموكل الإقرار عليه، وأما إن جعل له الإقرار عليه فإنه يلزم الموكل ما أقر به الوكيل.

والحاصل أنه ليس للوكيل الإقرار إلا بأحد أمرين: أحدهما أن يوكل وكالة مفوضة، ثانيهما أن يجعل له الموكل الإقرار، فإن انتفى القيدان لم يصح إقراره عليه، وإن وجدا أو أحدهما لزمه ما أقر

ص: 162

به قال الحطاب مفسرا للمص: يعني أنه ليس للوكيل الإقرار على موكله ولو وكله على الخصام إلا أن يكون الوكيل مفوضا إليه أو يكون قد جعل له موكله أن يقر عنه ونص له على ذلك، قال في التوضيح: المعروف من المذهب أن الوكالة على الخصام لا تستلزم الوكالة على الإقرار إذا لم يجعله إليه ولو أقر لم يلزمه، وقال ابن عرفة: وفي نوازل أصبغ أن الوكالة على الخصام فقط لا تستلزم صلحا ولا إقرارا، ولا يصح من الوكيل أحدهما إلا بنص من موكله عليه، ولم يذكر فيه ابن رشد خلافا. انتهى.

قال في التوضيح عن الكافي: وهذا في غير المفوض، ونقله ابن عرفة أيضا عن الكافي، وقال في المدونة في كتاب الشفعة: ولك أن توكل من يأخذ بالشفعة حضرت أو غبت ولا يلزمك تسليم الوكيل إلا أن تفوض إليه في الأخذ والترك، ولو أقر الوكيل أنك سلمتها فهو كشاهد يحلف معه المبتاع، فإن نكل حلفت أنت وأخذت، فإن أقام الوكيل بينة أن فلانا الغائب وكله على طلب شفعته مكن من ذلك. انتهى. وقال في كتاب الشفعة من النوادر: وإذا وكلته على طلب شفعته فسلم الوكيل، فأما المفوض إليه فذلك يلزمك وإن لم يكن مفوضا لم يلزمك. قاله ابن القاسم وأشهب: قالا وإن أقرا بتسليمك فهو شاهد يحلف معه المبتاع ويلزمك، فإن نكل حلفت أنت وبرئت، قيل لأشهب: فيطلب لي شفعتي وقد شهد علي بالتسليم؟ قال: لا ينبغي للوكيل أن يطلب لك شفعة يزعم أن طلبها لا يجوز، فإن تمادى فليسمع منه الإمام ويقضى بها. انتهى. انتهى كلام الحطاب.

‌تنبيهان:

الأول: قال الحطاب: ذكر المص في التوضيح وابن عرفة عن الكافي أنه قال فيه عن ابن خويز منداد: اتفق العلماء فيمن قال: ما أقر به علي فلان فهو لازم لي أنه لا يلزمه، قال ابن عرفة: وقبله ابن عات، وقال قبله: وفي نوازل أصبغ تصح الوكالة على الإقرار نصا، ولم يحك ابن رشد فيه خلافا والأظهر أنه ليس بخلاف؛ لأن مسألة أصبغ نص فيها على توكيله على الإقرار عليه، ومسألة ابن خويز منداد إنما صدر منه أن ما أقر به فلان فهو لازم له، فصار ذلك كقوله: ما شهد به علي فلان حق، وهذا لا يلزمه حسبما يذكر في موضعه. انتهى. وما قاله ظاهر. انتهى كلام الحطاب.

ص: 163

الثاني: إنما يلزم الموكل إقرار الوكيل فيما كان من معنى الخصومة التي وكل عليها على الأصح، ومقابل الأصح هو ما نقله المتيطى عن فقهاء طليطلة: من وكل على طلب حقوقه والمخاصمة عنه والإقرار والإنكار فأقر أن موكله وهب داره لزيد، أو قال لفلان على موكلي مائة دينار أن ذلك لازم لموكله، وأنكر ذلك ابن عتاب وغيره، وقالوا: إنما يلزمه إقراره فيما كان من معنى المخاصمة التي وكل عليها، قال القاضي أبو الأصبغ بن سهل: وهذا هو الصحيح عندي وهو في شفعة المدونة، قال ابن القاسم: من وكل على قبض شفعته فأقر الوكيل أن موكله سلمها فهو شاهد، قال ابن عرفة مضعفا لاستدلاله بمسألة الشفعة: لا يلزم من لغو إقرار الوكيل على الشفعة لغو إقرار من جعل له الإقرار بعدم صدق الأخذ بالشفعة على الإقرار بإسقاطها وصدق مطلق الإقرار على الإقرار بالهبة، قال الحطاب: قلت لا شك أن ما قاله ابن عات هو الظاهر، وأن أخذه من مسألة الشفعة ضعيف لكن يؤخذ مما سيأتي أن الوكالة تتخصص وتتقيد بالعرف، ولا شك أن العرف قاض بأن من وكل على المخاصمة وجعل لوكيله الإقرار والإنكار إنما أراد الإقرار فيما هو من معنى الخصومة التي وكل فيها. فتأمله. واللَّه أعلم. انتهى.

وقال عبد الباقي عند قول المصنف: "أو يجعل له" ما نصه عند عقد الوكالة الإقرار فيلزمه ما أقر به، قال في الشامل: إن كان ما أقر به من معنى الخصومة التي وكل عليها وإلا لم يقبل على الأصح. انتهى انظر التتائي. ولابد أيضا أن يقر بما يشبه وأن يكون لمن لا يتهم عليه الوكيل. انتهى. قوله: عند عقد الوكالة فيه نظر، لإيهامه أن الوكيل إذا جعل له الإقرار بعد عقد الوكالة لم يكن له الإقرار وليس كذلك. قاله الرهوني. ولخصمه اضطراره إليه الضمير في خصمه يرجع للموكل بالكسر، والمراد بالخصم الموكل عليه والضمير في "اضطراره" يرجع للموكل بالكسر، والضمير في "إليه" يرجع إلى الإقرار يعني أن الموكل عليه له أن يضطر أي يلجئ الموكل بالكسر إلى أن يجعل لوكيله الإقرار بأن يقول له لا أتكلم مع وكيلك إلا أن تجعل له الإقرار، ويحتمل أن يكون الضمير في اضطراره للوكيل أي ولخصم الموكل أن يضطر الوكيل أي يلجئه إلى أن يجعل له موكله الإقرار.

المواق: المتيطى: قولنا في النص وكله على كذا وكذا وعلى الإقرار عليه والإنكار عنه هو فيما لا يتم التوكيل على المخاصمة إلا به، فإن لم يذكر فيه الإقرار والإنكار كان لخصمه أن يضطره إلى التوكيل

ص: 164

على هذين الفصلين. هذا هو القول المشهور المعمول به عند القضاة والحكام. وانظر الوصي لا يلزم إقراره على المحجور ولكن يكون شاهدا لمن أقوله، وإن كان من فعله فلا يجوز على المحجور بحال، وكذلك لا يجوز أن يبرئ عنه البراءة مطلقا وإنما يبرئ عنه في الأشياء المعينة كما إذا أبرأه المحجور بقرب رشده ولا يبرئه إلا من المعينات ولا تنفعه البراءات العامة حتى يطول رشده مثل ستة أشهر فأكثر، قال البرزلي: ومن أجل هذا لا يبرئ القاضي المشرف البراءات العامة وإنما يبرئه من المعينات. انتهى.

قوله: لا يلزمه إقراره على المحجور لخ قال الرهوني: ما كان ينبغي له نقله هنا فقها مسلما وما ذكره فيما يأتي عند قول المص: "ولو قال غير المفوض" لخ عن ابن عرفة عن النوادر وعن المدونة كاف في رده مع أن النصوص بذلك كثيرة، ففي كتاب حبس المديان من المدونة ما نصه: وإن قال الوصي قبضت من غرماء الميت ما عليهم لم يكن لليتامى إن بلغوا الرشد اتباعهم وذلك يبرئهم، وكذا إن قال قبضت وضاع مني صدق وبرئ. انتهى منها بلفظها. ومثله بحروفه لابن يونس عنها، وزاد ما نصه: محمد بن يونس: لأنه هو المتولي لأمورهم. وسواء كان الميت ولي معاملتهم أو الوصي، وأما إن لم يقل هذا إلا بعد رشد اليتامى، فذكر في كتاب محمد أنه يكون شاهدا لهم يحلفون مع شهادته. انتهى منه بلفظه.

وقال ابن عرفة ما نصه: الشيخ عن الموازية: إن قال المودع أو العامل رددنا المال لوصي الوارث لم يصدقا إلا ببينة أو إقرار الوصي. انتهى. نقله الخطاب عند قوله في الوديعة: "وبدعوى الرد على وارثك" وسلمه. وفي نوازل المعاوضات من المعيار ما نصه: وسياقه أنه لأبي الضياء مصباح ما نصه: إقرار المقدم لازم لمن قدم عليه فيما ولي فيه المعاملة، كقوله بعت واشتريت وقبضت وهو فيما لم يل فيه المعاملة شاهد، فإن كان عدلا قبلت شهادته وإن كان غير عدل ردت شهادته. وباللَّه التوفيق. انتهى منه بلفظه. وفيه أن إقرار الوصي بدين على أيتامه على وجهين، فإن كان فيما ولي المعاملة فيه فهو نافذة كقول بعت واشتريت فهو نافذ عليهم وهو كالإقرار على نفسه، وإن لم يكن فيما وليه مثل أن يقر على تركة الميت بدين أو شبه ذلك فإقراره كالشهادة منه وكذا الأب. انتهى.

ص: 165

وفي مسائل السفيه والمحجور والأوصياء من ابن سلمون ما نصه: وقال ابن الحاج في مسائله: إقرار الوصي بدين على أيتامه على وجهين، فذكر مثل ما تقدم وفي الجواهر ما نصه: لم يبرأ الغريم من الدين إلا أن يكون القابض وكيلا مفوضا إليه أو وصيا فيبرأ باعترافه من غير بينة. انتهى. فالعجب من اقتصار المتيطى على قوله: وإن كان من فعله فلا يجوز على المحجور عليه بحال، وأعجب منه جزم البرزلي بذلك وإتيانه به غير معزو كأنه المذهب؛ إذ قال في مسائل الوكالات بعد كلام ما نصه: قلت تقدم أن إقرار الأب والوصي على المحجور لا يجوز عليه ويكون شاهدا لمن أقر به، وإن كان من فعله فلا يجوز على المحجور بحال، ولذلك لا يجوز أن يبرئ عليه البراءة العامة، فانظر كيف خفي عليه مع سعة حفظه ما تقدم من النصوص الصريحة القاطعة. واللَّه الموفق. انتهى كلام الرهوني.

وقوله: "ولخصمه اضطراره إليه"، قال الرهوني عنده أي وله أيضا اضطراره أن لا يعلقه على مشورة، ففي طرر ابن عات ما نصه: فإن كانت الوكالة فيها وجوه الخصام وغيره من البيع والابتياع وغير ذلك مما نص فيها وجعل في الخصام الإقرار والإنكار، وقال في آخر الوكالة لا تنفذ شيئا من ذلك إلا بمشورة فلان، فإن جعل المشورة فيما سوى الإقرار والإنكار فالوكالة عاملة، وإن جعلها في الكل فهي غير عاملة، ونحو هذا رأيت لابن رشد في اختصار الحريرية فانظره. انتهى منها بلفظها.

وفي نوازل الوكالات من المعيار ما نصه: وسئل العبدوسي رحمه الله عن الوكيل جعل له الإقرار والإنكار فطلبه الخصم بالجواب عن شيء فيقول لا أجيب حتى أشاور موكلي، هل يمكن من ذلك أم لا؟ فأجاب: أما ما أقر به مما عنده به علم من موكله؛ كأن يقول علمت ما عند موكلي لكن لا أجاوب حتى أشاوره فيجبر على الجواب ولا يمهل، وإن قال لا علم عندي منه فيمكن من ذلك إذا كان موكله حاضرا أو قريبا بحيث لا يكون على خصمه ضرر في انتظاره. انتهى.

قال وإن قال أقر عني بألف فإقرار، قال الخرشي: يعني أن المازري قال من عند نفسه: إذا قال الموكل للوكيل: أقرعني بألف لزيد فإنه يكون إقرارا من الموكل لزيد فلا يحتاج لإنشاء الوكيل

ص: 166

الإقرار بذلك، ولا ينفع الموكل الرجوع عن ذلك وعزل الوكيل عنه ويكون الوكيل شاهدا عليه، ومثل ذلك أبرئ فلانا من الحق الذي عليه فإنه إبراء من الموكل كذا يظهر. انتهى. وقال عبد الباقي: قال: وإن قال أقر عني بألف لزيد وكذا اعترف كما زاده شارح الحدود لكن لا عن المازري فإقرار من الموكل بها، فلا يحتاج لإنشاء الوكيل إقرارا بها ولا ينفع الموكل الرجوع عنه ولا عزل الوكيل عنه ويكون شاهدا عليه، ومثل ذلك فيما يظهر أبرئ فلانا من حقي عليه، فإنه إبراء من الموكل، قال التتائي عن الكافي: لو قال ما أقر به فلان فهو لازم لي لم يلزمه اتفاقا. انتهى. وهذا لا يخالف المص إما لأن مسألته فيها توكيل كما قال البساطي أي توكيل حكما، فلا ينافي أنه لا يحتاج الوكيل لإنشاء الإقرار كما مر. ومسألة الكافي ليس فيها توكيل، وإما لأن من حجته أن يقول في مسألة الكافي كنت أعتقد أنه لا يقر علي بالكذب، نظير ما يأتي في الإقرار في مسألة أو شهد فلان غير العدل. انتهى.

لا في كيمين هذا وما عطف عليه محترز قوله في قابل النيابة؛ يعني أن الوكالة تصح في قابل النيابة كما مر لا في الأيمان لأنها أعمال بدنية وكذلك الوضوء والصلاة. قاله الخرشي. وقال المواق: لا تجوز الوكالة في الأيمان والشهادات واللعان والإيلاء. انتهى. وقال عبد الباقي: وأخرج من قوله: قابل النيابة، قوله:"لا في كيمين" لأن صدق الوكيل بها ليس دليلا على صدق موكله، وكصلاة عينية لأن مصلحتها الخضوع والخشوع وإجلال الرب سبحانه وتعالى وإظهار العبودية له، ولا يلزم من خضوع الوكيل خضوع الموكل، فإذا فعلها غيره فاتت المصلحة التي طلبها الشارع. قاله العراقي. فلا تصح نيابة فيها لذاتها فرضا أو سنة أو رغيبة أو مندوبة لعدم سقوطها عن المستنيب، وأما على إيقاعها بمكان وزمن مخصوص فتصح كالقارئ مطلقا وكنيابة في أذان وإقامة ونحوهما كقراءة بمصحف بمكان مخصوص، وقيد المنوفي الجواز بالضرورة وفي كلامه إيماء إلى استحقاق النائب جميع المعلوم، ويمكن حمله على ما للقرافي من أن له ما اتفقا عليه من قليل أو كثير إن لم يشترط الواقف عدم النيابة، فإن شرط عدمها لم يكن المعلوم للأصلي لتركه ولا للنائب لعدم تقرره أصالة وارتضى الأجهوري في تقريره وشيخه البدر ذلك، وليس من اليمين توكيله أن يعلق عليه لزوجته تعاليق لأنه من باب الالتزامات لا من باب اليمين التي هي الحلف. قاله البرموني. فحيث لم يكن يمينا بل التزاما فإنه لا يلزم الموكل تعليق الوكيل إلا أن ينطق به الموكل، ودخل بالكاف ما تتعين فيه

ص: 167

المباشرة كالإيمان باللَّه وما تحرم فيه المباشرة كالكفر فلا تصح النيابة فيه، ويكفر الموكل بمجرد قوله وكلتك في أن تكفر عني لرضاه بالكفر، ويوافقه قوله الآتي:"وإن قال أقر عني بألف فإقرار" كالوكيل إن نطق به. انتهى كلام عبد الباقي بحذف شيء منه وجعل شيء بدله، وهو قولي: وما تحرم فيه المباشرة كالكفر.

ويأتي للبناني ما في قول عبد الباقي فإنه لا يلزم الموكل تعليق الوكيل لخ. الرهوني: ظاهر قوله: إن نطق به أن الوكيل لا يكفر إلا بالنطق ولو قبل الوكالة أولا ورضي بها مع أن الوكالة التي علل بها كفر

(1)

الموكل وإن لم ينطق موجودة في الوكيل. فتأمله. انتهى.

البناني: اعلم أن الأفعال ثلاثة أقسام: ما لا تحصل مصلحته إلا بالمباشرة قطعا لكونه لا يشتمل على مصلحة بالنظر لذاته بل بالنظر لفاعله، وما تحصل بدونها يعني المباشرة قطعا لاشتماله عليها باعتبار ذاته مع قطع النظر عن فاعله، وما هو متردد بينهما فاختلف فيه العلماء بأيهما يلحق. فمثال الأول اليمين والإيمان والصلاة والصيام والنكاح بمعنى الوطء ونحوها فإن مصلحة اليمين الدلالة على صدق المدعي وذلك غير حاصل بحلف غيره، ولذلك قيل: ليس في السنة أن يحلف أحد ويستحق غيره، ومصلحة الإيمان الإجلال والتعظيم وإظهار العبودية للَّه، وإنما تحصل من جهة الفاعل، وكذا الصيام والصلاة، ومصلحة النكاح بمعنى الوطء الإعفاف وتحصيل ولد ينسب إليه وذلك لا يحصل بفعل غيره، بخلاف النكاح بمعنى العقد فإن مصلحته تحقيق سبب الإباحة وهو يتحقق بفعل الوكيل كتحققه بفعل الموكل.

ومثال الثاني: رد العواري والودائع والغصوبات لأهلها وقضاء الديون وتفريق الزكاة ونحوها، فإن مصلحة هذه الأشياء إيصال الحقوق لأهلها وذلك يحصل بفعل المكلف بها وغيره، فيبرأ المأمور بها بفعل الغير وإن لم يشعر.

ومثال الثالث: الحج، فمن رأى من العلماء كمالك ومن وافقه أن مصلحته تأديب النفس وتهذيبها وتعظيم شعائر اللَّه تعالى في تلك البقاع وإظهار الانقياد إليه، وأن المال فيه عارض بدليل المكي فإنه يحج بلا مال ألحقه بالقسم الأول؛ لأن هذه المصالح لا تحصل بفعل الغير عنه، ومن رأى كالشافعي ما فيه من القربة المالية التي لا ينفك عنها غالبا ألحقه بالثاني. انتهى باختصار من كلام الشيخ المسناوي.

(1)

في الأصل: كفل، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 113.

ص: 168

وقول عبد الباقي: وقيد المنوفي لخ وكذا القرافي قيده بذلك، وقوله: وفي كلامه إيماء إلى استحقاق النائب جميع المعلوم لخ فيه نظر، بل كلام المنوفي صريح مثل كلام القرافي في أن النائب مع الضرورة ليس له إلا ما اتفق عليه مع المنوب عنه من قليل أو كثير؛ لأن المص في التوضيح في باب الحج لما ذكر أن دفع الإمام من مرتبه شيئا قليلا لمن ينوب عنه حرام نقل عن شيخه المنوفي ما نصه: وأما من اضطر إلى شيء من الإجارة على ذلك فإني أعذره لضرورته، وإنما محل اختلاف كلام القرافي والمنوفي إذا وقعت الاستنابة من غير عذر، فإن القرافي ذكر أن خراج الوقت لا شيء منه للنائب ولا للمنوب عنه، ومقتضى كلام المنوفي استحقاق النائب لجميع الخراج.

ونص كلام القرافي في الفرق الخامس عشر: إذا وقف الواقف على من يقوم بوظيفة الإمامة أو الأذان أو الخطابة أو التدريس فلا يجوز لأحد أن يتناول من ريع ذلك شيئا إلا إذا قام بذلك الشرط على مقتضى ما شرطه الواقف، فإن استناب غيره في هذه الحالة عنه في غير أوقات الأعذار فإنه لا يستحق واحد منهما شيئا من ريع ذلك الوقف، أما النائب فلأن من شرط استحقاقه صحة ولايته وهي مشروطة بأن تكون ممن له النظر، وهذا المستنيب ليس له نظر إنما هو إمام أو مؤذن أو خطيب أو مدرس فلا تصح الولاية الصادرة منه، وأما المستنيب فلا يستحق شيئا أيضا بسبب أنه لم يقم بشرط الواقف، فإن استناب في أيام الأعذار جاز له تناول ريع الوقف، وأن يطلق لنائبه ما أحب من ذلك الريع. انتهى. وسلمه أبو القاسم بن الشاط وأبو عبد اللَّه القوري، وقال المص في باب الحج من التوضيح لما ذكر أن أجير الحج لا يجوز له أن يصرف ما أخذه من الأجرة إلا في الحج ولا يقضي بها دينه ويسئل الناس وأن ذلك جناية منه لأن ذلك خلاف غرض الميت الموصي، كما أشار إليه في مختصره "وجنى إن وفى دينه ومشى" ما نصه: وكان شيخنا رحمه الله يقول: ومثل هذا المساجد ونحوها يأخذها الوجيه بوجاهته ثم يدفع من مرتباتها شيئا قليلا لمن ينوب عنه، فأرى أن الذي أبقاه لنفسه حرام كأنه اتخذ عبادة اللَّه متجرا ولم يوف بقصد صاحبها إذ مراده التوسعة ليأتي الأجير بذلك مشروح الصدر، قال رحمه الله: وأما إن اضطر إلى شيء من الإجارة فإني أعذره لضرورته. انتهى.

ص: 169

وهذا الكلام الذي نقله عن شيخه المنوفي نسبه الونشريسي في المعيار آخر نوازل الصلاة لأبي عبد اللَّه بن الحاج في مدخله بهذا اللفظ الذي نقله في التوضيح، وابن الحاج هذا شيخ المص وشيخ المنوفي قال الشيخ المسناوي رحمه الله: ومقتضى قول المنوفي فأرى أن الذي أبقاه لنفسه حرام استحقاق النائب لجميع المعلوم في الصورة المذكورة؛ لأنه إنما حكم بالحرمة على ما أبقاه المستنيب لا على ما أخذه النائب، خلاف قول القرافي فيها فإنه لا يستحق واحد منهما شيئا، ولعل منشأ الخلاف كون التولية شرطا في الاستحقاق أو غير شرط فيه كما وقع في كلام السبكي في شرح المنهاج في باب الجعالة، وكونها شرطا فيه هو الذي وقفت عليه في أجوبة العبدوسي في أول نوازل الأحباس من المعيار، وقوله: وأما إن اضطر لخ الظاهر أن مراده أنه معذور فيما كان محظورا على الأول من ابقاء بعض المرتب لنفسه وإعطاء النائب بعضه وهو موافق للقرافي في هذا القسم. انتهى باختصار.

وبهذا كله تعلم ما في كلام الزرقاني واللَّه أعلم، واختار الأجهوري جواز ما يبقيه المستنيب لنفسه وإن استناب اختيارا، وأخذه من جواب القاضي ابن منظور في نوازل الأحباس من المعيار، ونحو ما للأجهوري للناصر اللقاني في بأبي الوكالة والإجارة من حواشي التوضيح، واختاره الشيخ المسناوي رحمه الله في تأليفه في المسألة حيث تكون الاستنابة على مجرى العادة وموافقة العرف من غير خروج في ذلك إلى حد الإفراط، والزيادة على المعتاد في البلد بين الناس من كونها دائما أو غالبا أو كثيرا لغير سبب يعذر به عادة. انظر كلامه في ذلك. واللَّه أعلم.

وقول الزرقاني: فإنه لا يلزم الموكل تعليق الوكيل لخ فيه نظر، بل يلزم الموكل حيث نطق به الوكيل، قال مصطفى: لأن اليمين التي لا تصح فيها النيابة هي اليمين باللَّه، وأيضا هذا هو الجاري على قوله: إن التعليق التزام لا يمين. انتهى كلام البناني.

‌فرع:

لا يجوز لمحجور توكيل إلا لزوجة في لوازم عصمتها، وفي توكيل المحجور طريقان. قاله عبد الباقي.

ومعصية يعني أن المعصية لا يصح التوكيل فيها، ومثل المص للمعصية بقوله: كظهار لأنه منكر من القول وزور، ومثل الظهار كل معصية كالقتل عدوانا، قال عبد الباقي ومعصية كظهار لأنه منكر من القول وغصب وقتل عدوانا ونحو ذلك من المعاصي، وكتوكيل على طلاق بحيض، فإن أوقعه فيه

ص: 170

الوكيل لم يلزم لعدم صحة وكالته. قاله أحمد. أي إلا أن يجيزه الزوج، وانظره مع قول المص الآتي إلا أن يقول وغير نظر مع أنه وكالة على معصية ويمضي، ورد بعض الشراح على أحمد بالفرق بين الظهار والطلاق بأن الأول توكيل على معصية لذاتها والثاني على جائز والمعصية لأمر خارج، وكلام أحمد ظاهر في توكيله على خصوص إيقاعه فيه وأنه أوقعه فيه. انتهى.

قوله: وكتوكيل على طلاق بحيض لخ، قال البناني: يعني بأن يقول له وكلتك على أن تطلقها في الحيض لأنه توكيل على معصية، وأما إن وكله على الطلاق فطلقها الوكيل وهي حائض فإنه طلاق لازم، وهذا هو الذي في الخرشي وخرج ابن هارون الطلاق الثلاث على الظهار أي بناء على أن إيقاع الثلاث حرام. واللَّه تعالى أعلم.

وأشار للصيغة بقوله: بما يدل عرفا هذا متعلق بقوله: "صحة الوكالة" يعني أن الوكالة تصح بما يدل عليها عرفا، فصيغتها ما دل عليها عرفا، وأما ما لا يدل عليها عرفا ويدل عليها لغة فلا يكون من صيغتها، قال الخرشي ما معناه: وإنما المحكم في الصيغة العرف والعادة ولا بد مع الصيغة من القبول، فإن وقع بالقرب فواضح وإن طال ففيها الخلاف المتقدم في المخيرة والمملكة، ويدخل في قوله:"بما يدل عرفا" الإشارة من الأخرس. انتهى. وظاهر المص يشمل الأخرس وغيره حيث اقتضت الإشارة التوكيل عرفا انظر الرهوني.

وقال الحطاب مفسرا للمص: والمعنى أن الوكالة تصح وتنعقد بكل ما دل عليها في العرف ولا يشترط لانعقادها لفظ مخصوص، قال في اللباب من أركان الوكالة: الصيغة وهي لفظ أو ما يقوم مقامه يدل على معنى التوكيل، وفي التوضيح: المعتبر في صحة الوكالة الصيغة كقوله

(1)

وكلتك أو أنت وكيلي أو ما يقوم مقامها من قول أو فعل، كقوله تصرف عني في هذا أو كإشارة الأخرس ونحوه، قلت: وهذا من جانب الموكل ولا بد أن يقترن به من جانب الوكيل ما يدل على القبول ويطلب فيه أن يكون على الفور، فإن تراخى قبوله بالزمن الطويل فيتخرج فيه قولان من الروايتين في المخيرة والملكة قبل الاختيار. انتهى. المازري: والتحقيق في هذا يرجع إلى العادة هل المقصود من هذا اللفظ جوابه على الفور.

(1)

في الأصل: الصيغة أو ما كقوله، والمثبت من الحطاب ج 5 ص 580.

ص: 171

‌تنبيه:

من العرف في الوكالة الوكالة بالعادة كما إذا كان ربع بين أخ وأخت وكان الأخ يتولى كراءه وقبضه سنين متطاولة، فالقول قوله أنه دفعه لأخته، قال ابن ناجي: لأنه وكيل بالعادة وتصرف الرجل في مال امرأته محمول على الوكالة حتى يثبت التعدي. قاله مالك. انظر الحطاب والمواق. قاله البناني. وقال المواق: قد نصوا على أن العرف يقوم مقام اللفظ بالوكالة، أفتى أصبغ بن محمد فيمن أغار عليهم العدو وعادتهم من وجد فرسا بحارة حينئذ ركبه لينجيه وينجوا هو أيضا، ففعك هذا رجل فألظت به خيل العدو فتطارح عنه ورمى الخيل وأخذ العدو الفرس؟ قال أصبغ: لا ضمان عليه لأن العادة كالوكالة، قال ابن الحاج: قياسا على الأضاحي، قال البرزلي: والأنكحة والأيمان:

لا بمجرد وكلتك يعني أن المعتبر في صيغة الوكالة هو ما دل عليها عرفا وأما ما لا يدل عليها عرفا، ويدل عليها لغة فلا يكون من صيغتها، نحو وكلتك المجرد عن ذكر التفويض والتقييد أي التعيين، فمجرد وكلتك هو لفظ وكلتك المطلق أي الذي لم يقيد بتفويض ولا تعيين، قال الخرشي: يعني أن قول الموكل لوكيله وكلتك أو فلان وكيلي لا يفيده وتكون وكالة باطلة، بل حتى يقول فوضت إليك أموري في كل شيء أو أقمتك مقامي أو نحو ذلك أو يقيد. ابن عبد السلام: اتفق مالك والشافعي على عدم إفادة الوكالة المطلقة واختلفا في الوصية المطلقة، فقال الشافعي: هي مثل الوكالة المطلقة، وقال مالك: هي صحيحة ويكون للوصي أن يتصرف في كل شيء لليتيم كوكالة التفويض. انتهى. قال عبد الباقي: والفرق بينها وبين قوله في الوصية: "ووصيي يعم" أن اليتيم محتاج للتصدق عليه، فلو أبطلنا الوصية فسد حاله والموكل حي قادر على التقييد بشيء. انتهى.

وقال البناني: لا بمجرد وكلتك فهي وكالة باطلة وهو قول ابن بشير، وقيل إنها وكالة صحيحة وتعم كل شيء وهو قول ابن يونس وابن رشد في المقدمات، قال: وهو قولهم في الوكالة إن قصرت طالت، وإن طالت قصرت، قال أبو الحسن: وفرق ابن بشير بينها وبين الوصية بوجهين: أحدهما العادة، قال: لأنها تقتضي عند إطلاق لفظ الوصية التصرف في كل الأشياء ولا تقتضيه في الوكالة، ويرجع إلى اللفظ وهو محتمل. والثاني أن الموكل متهيئ للتصرف فلا بد أن يبقي لنفسه شيئا فيفتقر إلى تقدير ما أبقى والوصي لا تصرف له إلا بعد الموت، فلا يفتقر إلى تقدير. انتهى.

ص: 172

قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: مقتضى كلامهم هنا -وإن لم يكن مصرحا به- أن مجرد وكلتك أي العاري عن التفويض والتقييد على أربعة أقسام، إن دل عرف أو قرينة على تعميمه عمم أو على تخصيصه خصص، ثالثها أن يدل عرف أو قرينة على أنه غير وكالة فهو باطل، رابعها أن لا يجري العرف فيه بشيء فهو محل الخلاف فمن راعى عموم اللفظ لغة جعله وكالة عامة، ومن راعى أنه لم يقيد وهو محتمل للتقييد أبطل كونه وكالة، وكلام المص في القسمين الأخيرين. واللَّه تعالى أعلم.

بل حتى يفوض يعني أن الوكالة إذا لم تكن مجردة أي مطلقة بل نص على التفويض فيها فإنها تكون صحيحة كما إذا قيدت كما يأتي في قوله: "أو يعين بنص" لخ، ومعنى التفويض هنا إسناد الأمر إلى الوكيل على سبيل العموم، وتحقيق معنى المص أن تقول لا يصح التوكيل بمجرد وكلتك، بل لا تحصل الصحة إلى أن يحصل التفويض أو التعيين. واللَّه تعالى أعلم.

فيمضي النظر جواب لشرط محذوف؛ أي وإذا فوض الموكل الأمر إلى الوكيل فإنه يمضي من تصرف الوكيل ما كان فيه نظر أي مصلحة للموكل بالكسر، ويرد غير النظر إذ الوكيل معزول شرعا عن غير المصلحة، وقوله:"فيمضي النظر" أي ويجوز الإقدام عليه. إلا أن يقول وغير نظر يعني أن الوكيل معزول شرعا عن غير المصلحة فلذلك يرد ما لم يكن من فعله نظرا، إلا أن يقول له الموكل أمضيت من تصرف هذا الوكيل ما فيه نظر وما كان غير نظر فإنه يمضي غير النظر، ولكن لا يجوز للوكيل الإقدام عليه. المواق: ابن بشير: إن قال وكلتك بما إلي من قليل أو كثير شملت يد الوكيل جميع الأشياء ومضى فعله فيها إذا كان نظرا، وما ليس بنظر هو معزول عنه عادة إلا أن يقول افعل ما شئت ولو كان غير نظر.

ابن عرفة: وتبعه ابن شاس وابن الحاجب وقبله ابن عبد السلام وابن هارون، ومقتضى المذهب منع التوكيل على غير وجه النظر. وانظر قبل قوله:"ورد في عهدة الثلاث" أن من ولي ولاية هو معزول عن الفسدة الراجحة والمصلحة المرجوحة. اهـ. وقال الحطاب هنا بعد كلام: والحق أن النظر هنا في مقامين: أحدهما جواز التوكيل على هذا الوجه، والثاني مضي أفعال الوكيل وعدم

ص: 173

تضمينه، فأما جواز التوكيل على هذا الوجه فإن أريد به الإذن فيما هو سفه عند الوكيل فالظاهر أن ذلك لا يجوز ولا ينبغي أن يتوقف في ذلك، وإن أريد به الإذن فيما يراد الوكيل صوابا وإن كان عند الناس سفها فإن كان الوكيل معلوم السفه فكذلك لا يجوز: وإن كان على خلاف ذلك جاز، وأما مضي أفعال الوكيل وعدم تضمينه فالظاهر أن أفعاله ماضية ولا ضمان عليه في شيء لأن الموكل أذن له في ذلك، وهنا وجه يمكن أن يحمل معه على الجواز ابتداء، وذلك أنه قال في كتاب الشركة من المدونة: وما صنعه مفوض إليه من شريك أو وكيل على وجه المعروف لم يلزم، ولكن يلزم الشريك في حصته ويرد صنيع الوكيل إلا أن يهلك ما صنع الوكيل فيضمنه. انتهى.

إلا الطلاق هذا مستثنى من مقدر بعد قوله: "وغير نظر وهو فيمضي النظر وغيره إلا الطلاق" لخ يعني أن الموكل إذا قال للوكيل: أمضيت فعلك ولو كان غير نظر فإنه يمضي جميع ما فعله إلا هذه الأمور الأربعة التي استثناها المص، وهي: الطلاق، فإذا قال لزوجته أو غيرها: فوضت إليك أمري وأمضيت من تصرفك ما فيه مصلحة، أو ما ليس فيه مصلحة فطلقت نفسها أو طلقها من جعل له ذلك فإن الطلاق لا يلزم الموكل، وكذا ليس لمن جعل له ذلك إنكاح بنته البكر، فإذا أنكحها لم يمض كما قال: أو إنكاح بكره، وكذا بيع دار سكناه أي الموكل بالكسر، فإذا باع من جعل له ذلك دار سكناه فإن بيعه ذلك لا يمضي عليه، ولهذا قال:

وبيع دار سكناه بخلاف غيرها فيمضي بيعه له، أو عبده أي وكذا لا يمضي بيع عبده القائم بأموره أو التاجر حيث باعه من قال له أمضيت تصرفك، وإن كان غير نظر، قال عبد الباقي: أو بيع عبده القائم بأموره أو التاجر أو عتقه بالاولى مما خرج على عوض فلا يمضي شيء من هذه الأربعة؛ لأن العرف قاض بأن ذلك لا يندرج تحت عموم الوكالة وإنما يفعله الوكيل بإذن خاص. اهـ. أو يعين بنص أو قرينة بالنصب عطف على "يفوض"؛ يعني أن الوكالة لا تنعقد بقول الموكل وكلتك، وإنما تنعقد إذا فوض إليه الأمر أو عين له الشيء الموكل فيه، إما بنص كأن يقول له وكلتك على بيع داري أو على بيع هذا الجمل أو نحو ذلك، وإما بقرينة كأن يقال له وكلت فلانا على بيع دارك فيقول وكلته فإن هذا الإطلاق قيد بقرينة السؤال. قاله مقيده. قال المواق: ابن الحاجب:

ص: 174

شرط الموكل فيه أن يكون معلوما بالنص أو القرينة أو العادة، فلو قال: وكلتك لم يفد حتى يقيد بالتفويض أو بأمر. اهـ.

‌تنبيهات:

الأول: علم من كلامهم هنا أن لفظ الموكل إما مطلق وقد مر الكلام عليه عند قوله: "لا بمجرد وكلتك"، وإما مقيد والمقيد يشمل أمرين المقيد بالتفويض وهو المشار إليه بقوله:"بل حتى يفوض"، ثانيهما المقيد بالتعيين نحو: وكلتك على بيع ناصح أو على بيع أمتعتي أو نحو ذلك فالأقسام ثلاثة. واللَّه تعالى أعلم.

الثاني: قال الحطاب: علم من كلام صاحب الكافي أن فعل الوكيل محمول على النظر حتى يتبين خلافه وكلامه في التوضيح لا ينافيه. انتهى. وكلام الكافي الذي أشار إليه هو قوله: وفعله كله محمول على النظر حتى يتبين خلاف ذلك فإذا بأن تعديه أو فساده ضمن وما خالف فيه الوكيل المفوض إليه وغيره ما أمر به فهو متعد ولموكله تضمينه إن شاء ذلك. اهـ.

الثالث: قال في النكاح الأول من المدونة: ومن زوج أخته البكر بغير أمر الأب لم يجز

(1)

وإن أجازه الأب إلا أن يكون ابنا فوض إليه جميع أمره وجميع شأنه فيجوز بإجازة الأب، وكذلك في أمة الأب وكذا في الأخ والجد يقيمه هذا المقام. اهـ. وقد مر الكلام على هذه المسألة في النكاح.

الثالث

(2)

: قال الحطاب: إذا ابتدئت الوكالة بشيء معين ثم قال في توكيله إنه وكله وكالة مفوضة أقامه مقام نفسه وأنزله منزلته وجعل له النظر لا يراه فإنما يرجع التفويض لما سماه ولا يتعدى الوكيل ما سمى له لأن ذلك كله يحمل على ما سماه ويعاد إليه، وأما إن لم يسم شيئا بالكلية وإنما قال وكلته وكالة مفوضة فهذا توكيل تام في جميع أمور الوكالة، ويجوز فعله في كل شيء من بيع أو شراء أو صلح أو غيره، وإن قال وكالة مفوضة جامعة لجميع وجوه التوكيل ومعانيه كان أبين في التفويض. اهـ.

الرابع قال الشارح مفسرا للمص: وقوله "أو يعين" أي يعين له الموكل ما يتصرف فيه إما بنص منه كقوله: لا تفعل إلا الشيء الفلاني أو افعل كذا فقط أو تقوم قرينة عليه. انتهى.

(1)

في الأصل: لم يجزه، والمثبت من التهذيب ج 2 ص 160.

(2)

تكرار في الأصل.

ص: 175

الخامس: اعلم أن أركان الوكالة أربعة: الموكل بالكسر والموكل بالفتح وهو الوكيل والصيغة والشيء الموكل فيه، وعدها بعضهم ثلاثة: الصيغة والعاقد والموكل فيه، ولا مشاحة في ذلك، فأشار للصيغة بقوله:"بما يدل عرفا"، وللموكل فيه بقوله:"في قابل النيابة"، وقد مر الكلام على الموكل والوكيل عند قول المص:"وإنما تصح من أهل التوكيل والتوكل". واللَّه تعالى أعلم.

وتخصص الضمير في تخصص يرجع للفظ الموكل أو للشيء الموكل فيه، والمعنى واحد. واللَّه تعالى أعلم. يعني أن لفظ الموكل إذا كان عاما فإنه يتخصص بالعرف كما لو قال: وكلتك على بيع دوابي فإن هذا اللفظ عام في جميع الدواب، فإذا كان العرف يقتضي تخصيصه ببعض أنواع الدواب فإن ذلك اللفظ يتخصص، بمعنى أن لفظ الموكل يخرج منه ما أخرجه العرف فلا يكون موكلا إلا على بيع ما جرى العرف ببيعه لا غير.

وتقيد يقال في ضميره ما قيل فيما قبله؛ يعني أنه إذا كان لفظ الموكل مطلقا فإنه يقيده العرف كما لو قال له وكلتك على بيع هذه السلعة فإن هذا اللفظ مطلق، فإذا كان العرف يقتضي بيعها في مكان مخصوص أو زمان مخصوص تقيد بذلك، وكذا لو قال له اشتر لي فإنه يتقيد بما يليق بالموكل.

وعلم مما قررت أن قوله: بالعرف يتنازعه قوله: "وتخصص وتقيد" وإذا تخصص بالعرف أو تقيد به فاللفظ أولى. ابن شاس: ولا بد من تتبع مخصصات الموكل، فلو قال: بع من زيد لم يبع من غيره. قاله الشارح. وقال المواق: ابن شاس: أما إن قيدت الوكالة بالتصرف في بعض الأشياء فالرجع في ذلك التقييد إلى مقتضى اللفظ والعادة. اهـ. والعام لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر، والمطلق هو اللفظ الدال على الماهية بلا قيد. قاله الحطاب هنا واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: فلا يعده أي لا يتجاوزه الضمير البارز فيه عائد على الشيء الموكل فيه، والمستتر يعود على التوكيل أو تصرف الوكيل؛ يعني أن تصرف الوكيل لا يتعدى ما وكل فيه، واستثنى من ذلك ما جرت العادة بالمجاوزة فيه فقال: إلا أن يوكله على بيع فله أي للوكيل على البيع طلب الثمن من المشتري، وقبضه أي الثمن منه هو كقول ابن الحاجب: ويكون للوكيل المطالبة بالثمن وقبضه، قال في التوضيح: يعني أن التوكيل على البيع يستلزم أن يكون للوكيل المطالبة بالثمن وقبضه، وكذلك لو سلم المبيع ولم يقبض الثمن ضمنه، قال الحطاب: قوله فله طلب الثمن يقتضي أن له ترك ذلك

ص: 176

وليس كذلك كما دل عليه كلام التوضيح، ولذلك لو سلم المبيع ولم يقبض الثمن ضمنه. اهـ. ولهذا قال عبد الباقي عند قوله:"فله" ما نصه: أي عليه. اهـ.

الرهوني: قول الزرقاني أي عليه لخ فيه نظر وإن قاله الحطاب وصححه البناني، بل الظاهر أن اللام في كلام المص على بابها من التخيير، ومثله قوله في التوضيح؛ يعني أن التوكيل على البيع يستلزم أن يكون للوكيل المطالبة بالثمن وقبضه لخ، فانظر قوله أن يكون للوكيل ولم يقل على الوكيل ولا دليل لهم فيما قاله ثانيا من وجوب غرم الثمن؛ إذ لا منافاة بين تخييره أولا ووجوب الغرم عليه آخرا إن تعذر أخذه من المشتري لأنه مجوز أن يتوصل به الموكل بعد، وعلى تسليم أنه ليس بمجوز فغاية أمره أن يكون كتصريح بالتزام إعطاء الثمن للموكل بقصد أن يتبع المشتري به أو يسلم له فيه ولو فعل ذلك لم يكن آثما قطعا، ومما يدل على أنه لا تلازم بين التخيير وسقوط الغرم ما يأتي عند قوله:"ولك قبض سلمه لك" لخ عن ابن عبد الحكم وغيره، فانظره هناك متأملا واللَّه تعالى أعلم. اهـ.

وقوله: "إلا على بيع فله طلب الثمن وقبضه" قال المواق "ابن عرفة" شمل الوكالة على البيع والشراء لوازمهما العرفية فيها؛ لأن وكيل البيع له قبض الثمن وإن لم يؤمر بذلك. وليس للمبتاع أن يأبى ذلك عليه، قال عبد الوهاب: وذلك بخلاف إذا أذنت لوليها في التزويج فليس إذنها إذنا له في قبض المهر إلا أن تذكره وكلا الوجهين عقد. اهـ. وقوله: "فله طلب الثمن وقبضه" هذا مقيد بما إذا لم تكن العادة الترك وإلا فليس له قبضه ولا يبرأ المشتري بدفعه إليه، قال المتيطى: قال أبو عمران في مسائله: ولو كانت العادة عند الناس في الرباع أن وكيل الربع لا يقبض الثمن فإن المشتري لا يبرأ بالدفع إلى الوكيل الذي باع، وإنما يحمل هذا على العادة الجارية بينهم. اهـ. وقال في الشامل: وله قبض ما وكل في بيعه إلا لعادة. اهـ. وقال ابن فرحون في تبصرته: والوكيل على بيع الدار إذا أراد قبض الثمن من المشتري وأراد أن يقيم البينة أنه وكيل على البيع لم يمكن من ذلك. لأن العرف والعادة أن وكيل البيع في الدار والعقار لا يقبض الثمن فليس له ذلك إلا بتوكيل خاص على قبض الثمن، إلا أن يكون أهل بلد جرت عادتهم بأن متولي البيع يتولى قبض الثمن. انتهى المراد منه.

ص: 177

أو اشتراء فله قبض البيع يعني أن الوكيل ليس له أن يتصرف إلا فيما وكل عليه فلا يتجاوزه إلا أن يوكله على أن يشتري له سلعة بدنانير أو بدراهم مثلا، فإنه إذا فعل فله أن يقبض السلعة التي اشتراها لموكله وأن يسلمها له. قال الحطاب: قال ابن عرفة وابن شاس: والوكيل على الشراء يملك قبض المبيع، وتبعه ابن الحاجب. اهـ المراد منه. وقال البناني: ما قاله المص تبع فيه ابن شاس وابن الحاجب، وقبله ابن عبد السلام وابن هارون، قال ابن عرفة: ومقتضى المذهب التفصيل، فحيث يجب عليه دفع الثمن يجب له قبض البيع، وحيث لم يجب عليه الدفع لم يجب له القبض، والذي يجب عليه دفع الثمن هو من لم يصرح بالبراءة كما يأتي لما فرقوا فيه بين قبض وكيل البيع وعدم قبض وكيل النكاح للصداق، فإن وكيل البيع يسلم المبيع لمبتاعه بخلاف وكيل النكاح. انتهى. وقد أثنى عليه ولد ابن عاصم في شرح التحفة. اهـ. ونحوه نقله الحطاب، وقال: وفي قاله -يعني ابن عرفة- ظاهر. انتهى.

ورد المعيب يعني أن الوكيل إذا اشترى شيئا فوجده معيبا فإن له أن يرده على بائعه، قال عبد الباقي: أي عليه أن يرده إن لم يعينه موكله يعني أن محل كون الوكيل له أن يرد المعيب الذي اشتراه على بائعه إنما هو حيث لم يعين له الموكل الشيء الذي اشتراه، وأما إن عين له المبيع بأن قال له اشتر الشيء الفلاني فاشتراه فإنه ليس للوكيل حينئذ أن يرد ذلك على البائع.

إلا المفوض يعني أن الوكيل إذا كان مفوضا فإن له أن يرد المعيب ولو عين له الموكل المبيع، قال الحطاب: إذا عين الموكل السلعة المشتراة فليس للوكيل أن يردها بالعيب اتفاقا، لاحتمال أن يكون الموكل علم بالعيب أو يغتفره عند اطلاعه عليه لغرضه فيه، واختلف إذا لم يعينها، فقال ابن القاسم: للوكيل أن يرد لأنه ضامن لمخالفته في الصفة، وقال أشهب ليس له أن يرد وإن رد فللموكل أن لا يجيز الرد ويضمنه قيمتها إن فاتت، قال أبو عمران: وإذا كان يلزمه الضمان بإمساك السلعة على قول ابن القاسم، وبرده لها على قول أشهب فالحيلة في التخلص منه أن يرفع للحاكم فيحكم له بأحد المذهبين فيسقط عنه الضمان. انتهى.

ص: 178

‌تنبيهات:

الأول: قال الحطاب: قال في التوضيح: قيد اللخمي قول ابن القاسم بما إذا كان العيب ظاهرا، قال: وأما إن كان العيب مما يخفى فلا شيء على الوكيل، وإذا لم يكن عليه ضمان لم يكن له أن يرد. اهـ. ولم يذكر ابن عرفة هذا التقييد ولا صاحب الشامل. اهـ.

الثاني: قال عبد الباقي: وله أي عليه رد العيب إن لم يعينه أي العيب موكله، فإن عينه فلا رد للوكيل به، وكذا إن نص له على عدم قبض الثمن أو المبيع فلا يلزمه. قاله التتائي. واحترز بقوله: على بيع من توكيل امرأة رجلا ليزوجها، فليس للوكيل مطالبة الزوج بالصداق ولا له قبضه كما لا يطالبه الزوج بالزوجة. قاله الوالد. ووجهه أن قوله: زوجتك موكلتي بكذا من الصداق بمنزلة التصريح بالبراءة وبمنزلة بعثني فلان لتبيعه، وكذا إذا وكل رجل رجلا ليزوجه فزوجه من امرأة.

الثالث: قال عبد الباقي: بقي عليه -يعني المص- شرط ثان في رد المعيب ذكره ابن الحاجب، وهو أن لا يعلم الوكيل بالعيب حال شرائه وإلا لزمه هو إلا إن شاء الموكل أخذه فله ذلك أو يقل، والشراء فرصة كما سيذكره وظاهره أن للوكيل الرد حيث لم يعلم به سواء كان العيب من العيوب الظاهرة أو الخفية، وقيده اللخمي بما إذا كان ظاهرا وأما الخفي كالسرقة ونحوها فلا شيء على الوكيل، ولم يذكر ابن عرفة ولا صاحب الشامل هذا التقييد ولا يلزم الموكل في الخفي. اهـ. وهذا كله في الوكيل المخصوص له، وأما المفوض فيجوز له أن يرد ولو عين الآمر له المشتري، وكذا له أن يقيل ونحو ذلك من غير محاباة نص عليه في المدونة. اهـ.

الرابع: قال المواق: من المدونة: لو وجد الوكيل عيبا بالسلعة بعد الشراء وقد أمر بشرائها بعينها فلا رد له؛ إذ العهدة للآمر وإن كانت موصوفة بغير عينها فللوكيل الرد، ليس لأن العهدة للوكيل بل العهدة للآمر، ولكن مخالفته لشرائه معينا وهو قد علم بالعيب وأمكنه الرد به، قال ابن القاسم: وهذا كله في وكيل مخصوص، وأما المفوض إليه فيجوز جميع ما صنع من رد بعيب أو إقالة، ونحوه على الاجتهاد ما لم يحاب. اهـ.

وطولب بثمن يعني أن الوكيل إذا اشترى سلعة لموكله فإن البائع له أن يطالبه بثمنها، وكذا لو باع سلعة فللموكل أن يطالبه بثمنها، قال عبد الباقي: وطولب بثمن لسلعة اشتراها أو باعها لموكله والمطالب له به الأجنبي في الأولى والموكل في الثانية. ومثمن يعني أن الوكيل يطالب بمثمن اشتراه أو

ص: 179

باعه، فإذا اشترى سلعة فإن الموكل يطالبه بها فيقبضه إياها وإذا باع سلعة فإن المشتري يطالبه بتسليمها له ولذا بنى طولب للمجهول.

ما لم يصرح بالبراءة في أن مطالبة الوكيل بالثمن والمثمن محلها إن لم يصرح الوكيل في عقد البيع أو الشراء بالبراءة من المطالبة بالثمن أو المثمن، سواء أعلمه بأنه إنما يبيع أو يشتري لفلان أم لا، وأما إن صرح له بالبراءة بأن قال إنما ينقدك أو يقبضك فلان دوني فإنه لا مطالبة عليه، قال المواق: في التدليس بالعيوب منها، قال مالك: من ابتاع سلعة لرجل فأعلم البائع أنه إنما يشتريها لفلان فالثمن على الوكيل نقدا كان أو موجلا حتى يقول له إنما ينقدك فلان دوني، فالثمن على الآمر حينئذ، وقال ابن الحاجب: يطالب بالثمن والمثمون ما لم يصرح بالبراءة والعهدة عليه ما لم يصرح بالوكالة. اهـ.

وقال عبد الباقي: ما لم يصرح بالبراءة من الثمن أو المثمن، فإن صرح بها بأن قال وينقد هو دوني لم يطالب وإنما المطالب بما ذكر الموكل، وما لم يكن العرف عدم طلبه بهما. اهـ. وقول الشارح مفسرا للمص: يعني أن الوكيل على الشراء يطالب بالثمن وكذلك الوكيل على البيع يطالب بالمثمن وهو المبيع، ولا يخلص من ذلك علم البائع في الأولى ولا علم المشتري في الثانية أنه وكيل بل ولا التصريح بالوكالة حتى يصرح بأنه لا شيء عليه من دفع الثمن ولا من دفع المثمن، وإنما يدفعه موكله وحينئذ لا يطالب بشيء من ذلك.

ولما كان التصريح بالوكالة لا ينجيه من ذلك عدل عنه إلى قوله: "ما لم يصرح بالبراءة" وهذا الذي ذكره هو أصل المذهب، ومثله في كتاب العيوب من المدونة. اهـ. المراد منه.

كبعثني فلان لتبيعه تشبيه في مفهوم قوله: "ما لم يصرح بالبراءة" وهو التصريح بالبراءة، يعني أن الوكيل إذا قال للبائع بعثني فلان لتبيعه أو ليشتري منك فإنه لا يطالب حينئذ. لا لأشتري منك يعني أن الوكيل إذا قال بعثني فلان لأشتري منك أو لاشتري له منك واشترى فإنه يطالب بالثمن، والفرق بين هذا والذي قبله أنه في هذا أسند الشراء لنفسه وفيما قبله أسنده لغيره، وقوله:"لا لأشتري منك" قال الحطاب: أي بالثمن على الوكيل إلا أن يقر الموكل فليتبع أيهما شاء. نقله في التوضيح. زاد ابن عرفة: إلا أن يدعي الآمر أنه دفع الثمن للمأمور فيحلف ويبرأ ويتبع المأمور. اهـ.

ص: 180

قال الرهوني: ظاهره يعني كلام الحطاب ادعى دفعه له قبل الشراء أو بعده، وليس كذلك بل محله إن ادعى دفعه قبل الشراء لأن دفعه بعد الشراء لا يفيد ولو ثبت ببينة، فكيف يفيد بمجرد دعواه مع حلفه؟ وسيقول المص: ولزم الموكل غرم الثمن إلى أن يصل لربه لخ، وما درج عليه المص هو المشهور ومذهب المدونة، ففي ابن عرفة ما نصه ولو ضاع للمأمور ثمن ما ابتاعه ففي غرمة الآمر ثالثها إن كان شراؤه قبل قبضه من الآمر للصقلي عن الشيخ عن المغيرة وبعض المدنيين في قراضها والمشهور معها ومحمد قائلا: ولو تلفت السلعة. انتهى.

ثم ما عزاه الحطاب لابن عرفة من أن القول قول الآمر على هذا الوجه الذي قيدنا به كلام الحطاب لم يقتصر عليه ابن عرفة، بل حصل في ذلك ثلاثة أقوال، أحدها هذا وعزاه لمحمد بن المواز، ثانيها مثله بشرط أن يكون المأمور دفع الثمن للبائع وقبض الآمر السلعة وإن لم يكن دفعه فالقول للمأمور وعزاه لأصبغ عن ابن القاسم في العتبية، ثالثها قول سحنون إن كان المأمور أشهد حين دفع الثمن أنه إنما ينقد من ماله لم يقبل قول الآمر إنه دفع إليه، ووجه قول محمد بأن العادة أن من أمر بالشراء دفع إليه الثمن. اهـ أكثره بالمعنى وبعضه باللفظ.

‌فرع:

إذا صدق المأمور الآمر في الدفع قبل الشراء وكان المأمور عديما، فهل للبائع أن يحلف الآمر أنه قد أخذ متاعه لم أر من ترض لذلك ولا يبعد أن يقال له ذلك. واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام الرهوني. وقال المواق: ابن المواز: إن قال فلان بعثني إليك لتبيعه فهذا كالشرط المؤكد ولا يتبع إلا فلانا، فإن أنكر فلان غرم الرسول رأس المال، وإن قال إني أبتاعه لفلان ولم يقل هو ينقدك دوني فليتبع المأمور إلا أن يقر الآمر فليبتع أيهما شاء. انتهى.

وبالعهدة يعني أن الوكيل يطالب بالعهدة أي تبعات المبيع من عيب أو استحقاق، فإذا باع الوكيل سلعة فاستحقت فإن المشتري يطالبه بثمنها إلى آخر ما يقال في الاستحقاق ومثله العيب، ومحل مطالبة الوكيل بالعهدة ما لم يعلم المشتري من الوكيل أنه وكيل، وأما إن علم المشتري بالوكالة فلا عهدة على الوكيل وإنما هي على الموكل. ابن الحاجب: والعهدة على الوكيل ما لم يصرح بالوكالة. اهـ. وقال عبد الباقي: وطولب وكيل أي طالبه مشتر بالعهدة لما اشتراه منه، وهي تبعات المبيع كعيب أو استحقاق ما لم يعلم المشتري أنه وكيل فإن علم لم يطالبه بها إن كان غير مفوض، وإلا

ص: 181

فيطالبه بها، وإن علم فالمفوض يطالب بها في ثلاث صور: عدم علم المشتري به أنه وكيل، وعلمه بأنه وكيل فقط أو مفوض، ويطالب غير المفوض في صورة المص وهي إذا لم يعلم المشتري منه بأنه وكيل فإن علم طالب بها الموكل لكن في المفوض يصير للمشتري غريمان المفوض والموكل كالشريك المفوض والمقارض بخلاف القاضي والوصي، وقال المواق عند قوله:"وبالعهدة ما لم يعلم" ما نصه: انظر هذا الإطلاق، قال في المدونة: من باع سلعة لرجل بأمره فإن أعلم المشتري في العقد أنها لفلان فالعهدة على ربها إن ردت بعيب فعلى ربها ترد وعليه اليمين لا على الوكيل، وإن لم يعلمه أنها لفلان حلف الوكيل وإلا ردت السلعة عليه، وما باع الطوافون والنخاسون ومن يعلم أنه يبيع للناس فلا عهدة عليه في عيب ولا استحقاق والتباعة على ربها إن وجد وإلا اتبع. انتهى.

قوله: انظر هذا الإطلاق إشارة منه إلى الاعتراض على المص؛ لأن قوله ما لم يعلم يشمل الطوافين والنخاسين ومن يعلم أنه يبيع للناس مع أنه في المدونة قيد ذلك بغير هؤلاء، فكان من حق المص أن يقول بعد قوله:"ما لم يعلم" إلا كالطوافين مثلا وهو اعتراض صحيح، ومعنى حلف الوكيل حلف أنه لم يعلم بالعيب حين باعه قاله الرهوني رادا على البناني في تقييده للمص. ونص البناني: وبالعهدة ما لم يعلم أي وما لم يحلف الوكيل أنه كان وكيلا في البيع كما نقله المواق معترضا به كلام المص. انتهى. ورده له ظاهر قاله مقيده. وقول المدونة: فعلى ربها ترد وعليه اليمين يعني حيث تتوجه عليه اليمين، كحدوث العيب حيث يصدق فيه بيمين، قاله مقيده أيضا عفا اللَّه تعالى عنه. واللَّه تعالى أعلم.

وقول عبد الباقي: وإن لم يعلم أي وإلا فيطالبه بها وإن لم يعلم بأنه مفوض إليه فالمبالغة في محلها، وفي ابن سلمون ما نصه: وأما النخاسون والسماسرة فلا عهدة عليهم بوجه وتباعة ما يبيعونه عدى صاحبه إن عرف، وإن لم يعرف كانت مصيبته من المشتري، وفي المتيطى: فأما السمسار فلا عهدة عليه في عيب ولا استحقاق والعهدة على رب السلعة، فإن سئل السمسار فقال لا أعرفه حلف أنه ما يعرفه وكانت مصيبة ذلك من المشتري. انتهى. وينبغي إذا نكل واسترابه السلطان أن يعاقبه بالسجن على ما يراه، وقال ابن عرفة: انظر إن عجزوا عن تعيين البائع هل تلزمهم العهدة أم لا، وكثيرا ما ينزل ذلك والأظهر أن يشدد عليهم في طلب تعيينه وأن يومروا

ص: 182

بأخذ الضامن ممن لا يعرفونه من بائع، فإن لم يفعلوا ذلك بعد التقدم إليهم في ذلك كانت العهدة عليهم لأن ذلك مصلحة حاجية كتضمين الصناع، ولابن أبي زمنين عن كثير من شيوخه: إن قال السمسار لا أعرف البائع حلف فإن نكل واسترابه السلطان عاقبه بالسجن قدر ما يرى. اهـ.

وتعين في المطلق نقد البلد يعني أنه إذا وكله على شراء شيء أو بيعه وكالة مطلقة مفوضة أي لم يذكر فيها كمية الثمن ولا جنسه، فإنه يتعين على الوكيل أن يبيع بنقد بلد البيع أو الشراء، فإن خالف وباع بعروض أو بحيوان أو بنقد غير بلد البيع وفاتت السلعة فالقيمة لتعديه إلا أن يجيز الموكل فعله ويأخذ ما باع به، وإن لم تفت السلعة فالخيار ثابت للآمر، إن شاء أجاز البيع وأخذ ما بيعت به وإن شاء نقضه وأخذ سلعته.

ولائق به يعني أنه إذا أطلق الموكل للوكيل في الشراء فإنه يتعين على الوكيل شراء ما يليق بالموكل، فإن خالف فللموكل الخيار كما إذا وكله على شراء ثوب أو عبد فإنه يتعين عليه أن يشتري له ثوبا يليق به أو عبدا يليق به، قوله:"ولائق به" قال ابن عاشر: هذا لا يندرج فيما قبله فإذا جرى العرف بقصر الدابة على الحمار، وقلت لرجل اشتر لي دابة فلا يشتري إلا حمارا، فإن كانت أفراد الحمير متفاوتة فلا يشتري إلا لائقا بك فاللائق أخص مما قبله إذ هو معتبر في كل فرد بخصوصه. انتهى. وقال الحطاب: هذه الأمور الثلاثة مما يندرج في قوله: وتخصص وتقيد بالعرف وإنما نص عليها ليرتب عليها قوله: "وإلا خير". اهـ.

قال البناني: لعل الحطاب راعى العرف الخاص بالنسبة للموكل، وابن عاشر راعى عرف البلد وما ذكره الحطاب أظهر. انتهى. وقوله:"ولائق به" بالرفع عطف على نقد وإن كان على حذف مضاف أي شراء لائق ولا يجوز جره لفقد شرطه. قاله الرهوني. وقال المواق من المدونة: قال مالك: من أمر رجلا أن يشتري له جارية أو ثوبا ولم يصف له ذلك، فإن اشترى له ما يصلح أن يكون من ثياب الآمر أو من خدامه جاز ولزم الآمر، وإن ابتاع له مالا يشبه أن يكون من خدامه ولا من ثيابه فذلك لازم للمأمور ولا يلزم الآمر إلا أن يشاء، قال: ومن أبضع مع رجل أربعين دينارا في شراء جارية ووصفها فاشتراها له بأقل من الثمن أو بنصفه أو بزيادة دينارين أو ما يشبه أن يزاد على الثمن لزمت الآمر إن كانت على الصفة وكانت مصيبتها منه إن ماتت قبل قبضها، ويغرم الزيادة

ص: 183

للمأمور في الوجهين لأنها جاريته لا خيار له فيها، وإن كانت زيادة كثيرة لا يزاد مثلها على الثمن خير الآمر في دفع الزيادة وأخذ الجارية، فإن أبى لزمت المأمور وغرم للآمر ما أبضع معه وإن هلكت قبل أن يختار الآمر فمصيبتها من المأمور ويغرم للآمر ماله. اهـ.

‌فرع:

فإن اختلفا في كونه لائقا فالقول قول الموكل إنه غير لائق وعلى الوكيل البينة. قاله في مجالس المكناسي وانظر ما وجهه مع أن الأصل عدم العداء؟ قاله الرهوني.

إلا أن يسمي الثمن يعني أنه يتعين اللائق كما عرفت، فإذا اشترى غير لائق خير الموكل وهو قول ابن القاسم، وقال أشهب: لا خيار له، وقيد بعض القرويين قول ابن القاسم بما إذا لم يسم الثمن، فإن سماه واشترى به لزمه ما اشترى له لاق أم لا، وقال غيره: ينبغي أن لا يلزمه إلا إذا كان لائقا، وإلى هذا الخلاف أشار بقوله: فتردد: قاله الش. وقال عبد الباقي: فتردد في جواز شراء ما لا يليق حيث لا يحصل بما سمى ما يليق وعدم جوازه والاستثناء من مفهوم لائق أي لا غير لائق إلا أن يسمي الثمن.

وثمن المثل يعني أنه يتعين في العقد المطلق بيعا أو شراء ثمن المثل. قاله عبد الباقي. ومحل كلام المص إن لم يسم ثمنا فإن سماه تعين، وهل التسمية تسقط عن الوكيل النداء والشهرة قولان؟ قال ابن بشير: ولو باعه بما سماه له من غير إشهار فقولان: أحدهما إمضاؤه، والثاني رده لأن القصد طلب الزيادة وعدم النقص ولو ثبت أحد القصدين ما اختلف فيه. انظر الحطاب. وإلا راجع للثلاث أي وإلا بأن خالف ولم يبع بنقد البلد، بل باع برض أو بنقد غير نقد البلد أو اشترى غير لائق أو لم يبع بثمن المثل خير الموكل في الإجازة والرد، ويأتي للمص تبيين هذا، ومحل التخيير فيما إذا باع بدون ثمن المثل حيث لم يكن النقص يسيرا يتغابن بمثله، وإلا فلا خيار للموكل. واللَّه تعالى أعلم.

كفلوس مثال لما فيه التخيير لأنها ملحقة بالعروض يعني أنه إذا باع الوكيل بالفلوس فإنه يثبت الخيار للموكل في إجازة البيع وأخذ الفلوس ورده وأخذ السلعة إن كانت قائمة، فإن فاتت لزم الوكيل قيمتها يوم قبضها إلا أن يكون الذي وكل على بيعه شأنه أن يباع بالفلوس لخفته أي قلة ثمنه كالبقل فيلزم الموكل، وإلى ذلك أشار بقوله: إلا ما شأنه ذلك أي أن يباع بالفلوس، فالمشار

ص: 184

إليه البيع بالفلوس لخفته؛ لأن الفلوس كالعين بالنسبة لهذه السلع القليلة الثمن وهذا مما يشمله قوله: "وتعين في المطلق نقد البلد".

كصرف ذهب بفضة صورتها أن الموكل دفع للوكيل ذهبا ليشتري له به طعاما أو غيره فصرف المذهب الذي دفعه له بفضة فاشترى بالفضة الطعام أو غيره مما أمره به، فيثبت الخيار للموكل بعد قبض المسلم فيه طعاما أو غيره لا قبله لما فيه من فسخ الدين في الدين وبيع الطعام قبل قبضه حيث كان المسلم فيه طعاما، بيان ذلك أنه ترتب للموكل في ذمة الوكيل دنانير بسبب تعديه بصرفها، فإذا رضي بالدين فقد فسخ الدنانير في المسلم فيه مع بيع الطعام قبل قبضه حيث كان المسلم فيه طعامات وأما في بيع النقد فإنما يخير بعد القبض أيضا حيث كان المشترى طعاما؛ لأنه إذا أجاز فقد اشترى من الموكل الطعام الذي لزمه قبل أن يقبضه منه، قال عبد الباقي بعد كلام: فظهر أن التشبيه في كلامه تام وكلام المص في شراء النقد وغيره كما قررت، ولا يضره فرض المدونة لها في المسلم لأنه محض فرض ولا يختص به كما قاله غير واحد. واللَّه تعالى أعلم.

إلا أن يكون الشأن يعني أن محل تخيير الموكل في الصرف المذكور إنما هو حيث لم يكن الصرف المذكور هو الشأن عند الناس، وأما إن كان هو الشأن أو كان نظرا كما في المدونة فإن العقد المذكور لازم للموكل، قال المواق من المدونة: إن دفعت إليه دنانير يسلمها لك في طعام أو غيره فلم يسلمها حتى صرفها في دراهم، فإن كان هو الشأن في تلك السلعة أو كان نظرا لأن الدراهم فيما يسلم فيه أفضل فذلك جائز، وإلا كان متعديا وضمن الدنانير ولزمه الطعام، ولا يجوز أن تتراضيا على أن يكون الطعام لك إلا أن يكون قد قبضه الوكيل فأنت مخير في أخذه وأخذ دنانيرك. انتهى.

وتحصل مما مر أنه إذا لم يكن الصرف المذكور الشأن ولم يكن نظرا يكون الخيار للموكل في الإجازة والرد بعد قبض الوكيل للطعام وغيره في السلم والنقد لا قبله فيهما في الطعام، فإن لم يكن طعاما جاز في النقد ومنع في السلم. واللَّه تعالى أعلم. وأما إذا كان الشأن أو كان نظرا فلا خيار للموكل بل العقدة لازمة له.

ولمخالفته مشترًى عُيّن عطف على قوله: "كفلوس" يعني أن الموكل إذا عين للوكيل سلعة فاشترى غيرها فإنه يثبت الخيار للموكل في الإجازة والرد، أو سوقا يعني أنه إذا عين الموكل للوكيل سوقا

ص: 185

فباع أو اشترى في سوق آخر فإن الموكل يثبت له الخيار في الإجازة والرد. أو زمانا يعني أن الموكل إذا عين للوكيل زمانا كربيع النبوي مثلا فباع أو اشترى في غيره فإن الموكل يثبت له الخيار في الإجازة والرد. قال الخرشي: يعني أن الموكل إذا قال لوكيله اشتر سلعة كذا أو لا تبع إلا في السوق الفلاني أو إلا في الزمن الفلاني فإن الخيار يثبت للموكل، إن شاء أجاز فعله وإن شاء رده قوله:"مشترى" بفتح الراء ويصح كسرها أيضا وإضافة مخالفة إلى مشتر، قال ابن شاس: مخصصات الموكل معتبرة، لو قال بع من زيد لم يبع من غيره. قاله البناني.

أو بيعه بأقل قال عبد الباقي: أي ومخالفته في بيعه بأقل ففي مقدرة وهي للسببية.

قال مقيده عفا اللَّه عنه: والظاهر أنه عطف على مخالفة يعني أن الموكل يثبت له الخيار فيما إذا سمى للوكيل ثمنا كعشرة فباع بأقل منها، قال عبد الباقي: أو بيعه أي الوكيل بأقل مما سمى له موكله ولو يسيرا، فيخير موكله لأن الشأن في البيع طلب الزيادة. انتهى.

قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: قد مر لعبد الباقي عند قوله: "وإلا خير" ما نصه: خير إلا في شيء يسير يتغابن بمثله. انتهى. ويفرق بينه وبين ما هنا بأنه هنا سمَّى الثمن بخلاف الأول. واللَّه تعالى أعلم.

أو اشترائه بأكثر كثيرا يعني أن الموكل إذا عين للوكيل ما يشتري له به شيئا سماه له فاشتراه بأزيد مما سماه له وكانت الزيادة كثيرة، فإنه يثبت الخيار للموكل في الإجازة والرد لا خيار للموكل إن كانت الزيادة يسيرة، ومثل لها بقوله: كدينارين أي كزيادة دينارين على أربعين دينارا في قول الموكل للوكيل اشتر هذا الشيء بأربعين دينارا وثلاثة في ستين وأربعة في ثمانين وواحد في عشرين ونصف واحد في عشرة وربع في خمسة وهكذا كذا ينبغي في الجميع. قاله عبد الباقي. وهذه النسخة هي الصواب، وفي نسخة: إلا بدل لا وهو استثناء منقطع.

قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: قوله: "كثيرا" الظاهر أنه خبر كان مقدرة أي وكان الزيد كثيرا. واللَّه تعالى أعلم. وقوله: "بأكثر" أي بالنسبة لما سمى فيشمل ما لو كان الثمن المسمى قليلا أو كثيرا. البناني: قال أبو الحسن: قال بعض الناس: إذا باع السلعة بأقل مما سماه الآمر باليسير

ص: 186

لم يلزم الآمر ذلك، بخلاف مسألة الشراء بزيادة، ابنُ يونس وفيه نظر. الشيخ: يعني وفي التفريق بينهما نظر والتفريق هو الذي عليه الأكثر.

وصدق في دفعهما يعني أن الوكيل إذا أخبر أنه زاد على ما سمى له الموكل في الشراء وكانت الزيادة يسيرة كدينارين في أربعين فإنه يصدق في ذلك وتلزم العقدة الموكل فيغرم الاثنين والأربعين كما عرفت، وإذا قال الوكيل دفعتهما من مالي فإنه يصدق في ذلك فيلزم الموكل غرمهما له سواء سلم الوكيل السلعة المشتراة للموكل أم لا، كما قال: وإن سلم أي وإن كان الوكيل قد سلم السلعة للموكل أي دفعها له ما لم يطل أي محل تصديق الوكيل حيث لم يطل زمن سكوته بعد التسليم إلى يوم قوله إنه دفع الدينارين من عنده، وأما إن طال فإنه لا يصدق في دفعهما من عنده، قال عبد الباقي: والأولى أن يقول بدل في دفعهما فيهما ليشمل نقصهما عن ثمن مبيع باعه للموكل. انتهى المراد منه. ويأتي الكلام عليه قريبا إن شاء اللَّه تعالى.

وقوله: "وصدق" أي بيمين، قال عبد الباقي: وصدق الوكيل بيمين في دفعهما للبائع فيرجع بهما على الموكل إلى آخر كلامه، وقال المواق: ابن يونس: فإذا قال إني زدت الدينارين على الأربعين في السلعة التي اشترى ولم يعلم ذلك إلا من قوله حلف وكان له الرجوع على الآمر بذلك؛ لأنه كالمأذون له في ذلك. انتهى. وقال الخرشي: قوله: "ما لم يطل" أي زمن ما بين تسليم السلعة ودعواه أنه دفعهما من عنده أي بغير عذر فلا يصدق، ثم إن تصديقه في الدفع يستلزم التصديق في كونه زاد فإذا ادعى أنه زاد صدق ما لم يطل، وإنما ترض للدفع ليلا يتوهم أنه كالضامن لا يرجع إلا إذا أثبت الدفع. انتهى. وقال الرهوني: انظر ما حد الطول فإني لم أقف عليه بعد البحث الشديد فيما وصل لأيدينا من الكتب، وانظر هل يقال إنه سنة قياسا على ما مر في الشركة في قوله:"إلا أن يطول كسنة"، وفي النكاح في قوله:"وقبل دعوى الأب فقط في إعارته لها في السنة"؟ يظهر لي أنه قياس أحروي. انتهى.

‌تنبيهات:

الأول: قوله: "وصدق في دفعهما وإن سلم" قال الشارح: وتردد التونسي في تصديقه في دفع ذلك وخرجه المازري على الخلاف فيمن أخرج من ذمته إلى أمانته.

ص: 187

الثاني: قال عبد الباقي عند قوله "وصدق في دفعهما" للموكل، قال البناني: هذا مبني على رجوع الاستثناء للبيع والشراء معا وقد تقدم أنه خلاف قول الأكثر وخلاف ما قرر به هو.

الثالث: قال عبد الباقي عند قوله "وصدق في دفعهما وإن سلم ما لم يطل" ما نصه: وإذا صدقه الموكل في دفعهما وطال الزمن وادعى الموكل دفعهما للوكيل، فانظر هل يجري ذلك على حكم من ادعى دفع دين عليه لربه فيجري فيه الخلاف المذكور في ذلك أو يجري على مسألة المكتري إذا ادعى دفع الأجرة كما سيأتي في قوله:"وله وللجمال بيمين في عدم قبض الأجرة وإن بلغا الغاية إلا لطول فلمكتريه بيمين" اهـ قوله: فانظر هل يجري ذلك لخ، قال البناني: الظاهر الأول فيحمل على مسألة الدين دون الكراء؛ لأن الدرهمين دفعهما الوكيل سلفا فهما بالدين أشبه ولا وجه للتوقف في ذلك. واللَّه أعلم. اهـ. وهذا الذي قاله البناني ظاهر. واللَّه تعالى أعلم.

الرابع: في ذكره المص من اعتبار اليسير في الشراء ظاهره سواء كانت السلعة معينة أم لا وهو كذلك. قاله الحطاب.

ولما قدم أن الوكيل إذا خالف يثبت لموكله الخيار في الرد والإمضاء، ذكر أنه إذا رد لا يرد البيع فقال: وحيث خالف في اشتراء لزمه يعني أن الوكيل على الشراء إذا خالف مخالفة توجب للموكل الخيار؛ كأن زاد كثيرا في اشترائه أو اشترى غير لائق أو غير ما عين له بلفظ أو قرينة أو عرف أو نحو ذلك، فإن الوكيل يلزمه السلعة التي اشتراها بشرط أشار له بقوله: إن لم يرضه موكله أي أن محل لزوم المشتري للوكيل إنما هو حيث لم يرض به الموكل، وأما إذا رضي به فإنه يكون للموكل، والضمير المستتر في "خالف" للوكيل، وفي "لزمه" للشيء المشتري والبارز فيه للوكيل، والبارز في "يرضه" للشيء المشتري.

‌تنبيهات:

الأول: قال الحطاب عند قول المص "وحيث خالف في اشتراء لزمه إن لم يرضه موكله" في نصه: تضمن هذا الكلام مسألتين: إحداهما يخير في الرضى بالشيء المشتري وعدم الرضى به وهذه تقدمت، والثانية أنه إذا لم يرض به الموكل فإنه يلزم الوكيل وهذه من هنا استفيدت، وأتى المؤلف بهذا الكلام لأجلها. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 188

الثاني: قال الحطاب: من أمر رجلا بشراء سلعة فاشتراها لنفسه ففيها أربعة أقوال: الأول أن القول قول المأمور مع يمينه إن اتهم وإن دفع له الآمر الثمن وهو رواية محمد بن يحيى الشيباني عن مالك، والثاني السلعة للآمر وإن لم يدفع الثمن وهي رواية غير ابن القاسم في المدونة وقول أصبغ وروايته عن ابن القاسم في المدونة، وسواء أشهد المأمور أنه اشتراها لنفسه أو لم يشهد حتى يرجع إلى الآمر فيبرأ من وعده بالشراء، والثالث الفرق بين أن يكون دفع إليه الثمن أم لا، والرابع أنه للآمر إلا أن يكون المأمور أشهد أنه إنما يشتريه لنفسه. انتهى.

الثالث: قد مر قوله: "إلا كدينارين في أربعين" قال التونسي: ولا يجب على الوكيل أن يزيده ذلك إنما هذا إذا زاده لزم الموكل ولو اشترى السلعة لنفسه لا لم يبعها ربها بالمسمى كانت له إذا قلنا إنه لا يلزمه أن يسلف من وكله، قال ابن عرفة: قلت الظاهر أنه لو كان بيد المأمور للآمر ما يدفع منه الزيادة لزمه الشراء بها فلا يتم له شراؤها لنفسه، وكذا إن كان المأمور مالكا لقدر الزيادة غير محتاج إليها؛ لأن قبوله التوكيل على شرائها التزام منه للوازم شرائها، ويؤيده قول أصبغ في سماع أشهب: من أمر رجلا بشراء سلعة بخمسة عشر واشتراها لنفسه بستة عشر، وقال أبى البائع بيعها بخمسة عشر واشتريتها لنفسي بستة عشر قبل قوله وكانت له، قال أصبغ: أرى أن يحلف واستحسن أن الآمر في أخذها بالخيار. ابن رشد: استحسانه بعيد إذ لا يلزمه أن يسلفه الزيادة. انتهى. واللَّه أعلم. اهـ. قاله الحطاب.

الرابع: قال عبد الباقي وحيث خالف في اشتراء لزمه أي الوكيل ما اشتراه ولو خطئا لتقصيره، وهذا إن اشترى على البت أو على خيار البائع وأمضى البيع وإلا لم يلزمه وله ردها، وانظر إذا كان الخيار لهما واختار أحدهما الإمضاء والآخر الرد، وكذا له الرد إذا أعلم أنه يشتري لفلان وأنه خلاف ما أمره به أو ثبت ذلك ببينة. اهـ. قوله: وانظر إذا كان الخيار لهما لخ، قال البناني: قد تقدم في باب الخيار أن الحق في هذه لمن اختار الرد منهما كان بائعا أو مشتريا. انتهى.

الخامس: قوله: "إن لم يرضه موكله" أي حيث يجوز له الرضى بأن كان غير سلم وإلا منع الرضى به إن دفع له الثمن بدليل ما يأتي له، والأحسن أن تكون حيث هنا ظرفية معمولة لقوله:"لزم" ويستثنى من قول المص: "لزمه" ما إذا اشترى شراء فاسدا ولم يشعر بفساده وفات المبيع فتلزمه

ص: 189

القيمة للموكل، وذكر قوله:"إن لم يرضه موكله" مع استفادته من قوله قبل إن الموكل يخير حيث خالف المشتري ليشبه به، قوله:"كذي عيب". انظر شرح الشيخ عبد الباقي. قوله: ويستثنى من قوله لزمه ما إذا اشترى شراء فاسدا لخ، قال التاودي: صورة هذا الاستثناء أن يوكله على شراء سلعة بعشرة فخالف واشتراها بخمسة عشر مثلا شراء فاسدا، وفات البيع بحوالة سوق فرجع إلى قيمتها فكانت عشرة أو أقل فإنها تلزم الموكل ولا مقال له حينئذ، فهنا يظهر الاستثناء. واللَّه تعالى أعلم. اهـ منه بلفظه. وهو ظاهر إلا قوله:"بحوالة سوق" فصوابه حذفه ليدخل في كلامه ما إذا وكل على ما لا يفوت بحوالة الأسواق. قاله الرهوني.

كذي عيب تشبيه تام يعني أن الوكيل إذا اشترى معيبا وهو عالم بعيبه عيبا يرد به شرعا فإنه يلزمه إن لم يرضه موكله بما اشتراه الوكيل، فإن رضيه فذلك له، إلا أن يقل وهو فرصة يعني أن محل لزوم العيب المذكور للوكيل حيث لم يرضه موكله إنما هو حيث لم يقل العيب وهو أي الشراء فرصة أي غبطة أي يرغب فيه، وأما إن كان العيب خفيفا والشراء فرصة فإنه لا يلزم المشتري الوكيل ولا خيار للموكل حينئذ، بل يلزم المشتري الموكل بكسر الكاف، وقوله:"وهو فرصة" جملة حالية أي والحال أن الشراء فرصة، قال المواق من المدونة: قال مالك: إن أمرته بشراء سلعة فابتاعها معيبة فإن كان عيبا خفيفا يغتفر مثله، وقد كان شراؤها فرصة لزمك، وإن كان عيبا مفسدا لم يلزمك إلا أن تشاء وهي لازمة للمأمور. اهـ. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: كذي عيب يرد به شرعا اشتراه الوكيل مع علمه به فيلزمه دون الموكل إن لم يرض هو به إلا أن يقل، وهو ما يغتفر مثله عادة بالنظر لما اشتري به ولمن اشتري له، وهو أي الشراء فرصة أي غبطة بخلاف غير القليل، كشراء دابة مقطوعة الذنب لذي هيئة فلا يلزم ولو رخيصة، وكذا جارية عوراء لخدمة من يزري به خدمتها فيلزم الوكيل ذلك إن علم بالعيب وإلا لم يلزمه وله الرد.

وتحصل من هذا أن الوكيل إذا اشترى معيبا عالما بالعيب لزمه إن لم يرضه موكله إن كان العيب كثيرا وكذا إن قل، والشراء غير فرصة فإن قل والشراء فرصة لزم الموكل، وإن لم يعلم الوكيل بالعيب كان للوكيل الرد قليلا كان العيب أو كثيرا، كما أن للموكل الرد في هذه الحالة. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 190

أو في بيع هو شامل لجميع أنواع المخالفات كما في الرهوني وغيره؛ يعني أن الوكيل على البيع إذا خالف ما أمره به الموكل أو ما اقتضته العادة، فإنه يخير موكله في إجازة البيع والرد إن كانت السلعة قائمة، وفي الإجازة والتضمين إن فاتت بذهاب عينها لا بحوالة سوق فأعلى أي تضمين التسمية إن سمَّى والقيمة إن لم يسم هذا هو المشهور. وأما قول من قال: المشهور أنما له تضمين القيمة مع الفوات والقولان مبنيان على أن الوكيل لا يعد بتعديه ملتزما للزيادة أو يعد، والمشهور أنه لا يعد به ملتزما للزيادة، وقيل يعد بذلك ملتزما للزيادة وهو مقابل المشهور. اهـ. ففيه نظر لأن التشهير المذكور إنما هو في قيام السلعة لا مع فواتها، ولهذا قال الرهوني في قول البناني: وقال في التوضيح: اختلف هل يعد الوكيل بتعديه ملتزما لا أمره به الموكل؟ ونقل عن ابن القاسم أولا وهو المشهور؟ اللخمي: وهو أحسن وبه يسقط ما في المواق من التنظير في قول ابن شاس: فإن سمّى فهل له مطالبة بما سمّى أو بالقيمة؟ قولان. انتهى. إذ قال: انظر هذا مع ما تقدم عند قوله "وكبيعه بأقل" اهـ، والذي قدمه هناك هو قول سماع عيسى: تلزم التسمية وقد علمت أنه خلاف المشهور. واللَّه سبحانه أعلم. اهـ كلام البناني: ما نصه: كيف يكون المشهور عدم لزوم ذلك يعني التسمية مع الفوات والمدونة مصرحة باللزوم.

ثم جلب نص المدونة ثم قال: وقد تلقى الناس كلام المدونة هذا بالقبول وإياه تبع المص في ما يأتي إذ قال: وإن أمر ببيع سلعة فأسلمها في طعام لخ، ونص المدونة الذي جلبه الرهوني شامل للطعام وغيره، ثم قال الرهوني عن ابن عبد السلام: وقد أشرنا إلى أن الوكيل بتعديه هل يكون ملتزما للتسمية التي أمر بها أو القيمة إن لم تكن تسمية، سواء كانت السلعة التي أمر ببيعها قائمة أو فائتة، والمشهور إن كانت قائمة فلا يضمن الوكيل شيئا. انتهى المراد منه. قال عبد الباقي: وإنما ذكر قوله: "أو في بيع" لخ مع استفادته من قوله فيما مر: "وإلا خير" ليكمله بقوله: "إن لم يلتزم" لخ فإنه راجع لمخالفته في البيع والشراء، وبقوله: ولو كان المبيع ربويا بيع بمثله أي بربوي آخر، كما لو قال بع القمح بدراهم فباعه بفول أو اشتر سلعة بعين فصرفها بعين وجاء بها أو بع هذا الربوى بعرض فباعه بطعام، وأما تمثيل الشارح بقوله: بع سلعتي بقمح فباعه بفول أو بعها بدراهم فباعها بذهب أو العكس. اهـ. فليس فيه خيار بين ربويين، وإنما فيه خيار بين أخذ متاعه وما

ص: 191

بيع به، وإنما خير الموكل هنا وإن أدَّى لبيع طعام قبل قبضه أو صرف مؤخر بناء على أن الخيار الحكمي ليس كالشرطي وهذا هو المشهور، ومحل تخيير الموكل فيما بالغ عليه المص إذا لم يعلم المشتري بتعدي الوكيل وإلا فسد العقد. نقله ابن عرفة عن المازري.

قال بعضهم: ومبالغته على الربوى بمثله تقتضي أنه لا يجري في الطعام غير الربوي مع أنه يجري فيه كما يفيده بناء الخلاف المذكور، فلو قال: ولو طعاما بمثله لسلم من ذلك. انظر شرح عبد الباقي.

قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: والأحسن ما قاله المص، ويراد بالربوي ما يشمل ربا النساء وإن كان الطعام الربوي يراد به ما يخص ربا الفضل. وعلم مما قررت أن الموكل له الخيار ولو كانت مخالفة الوكيل أدت إلى بيع ربوي بمثله فلا فرق بين أن يأمره ببيع ربوي بمثله ويخالف كما لو قال له بع القمح بدراهم فباعه بفول، وبين ما أدى إلى ذلك كاشتر بالعين سلعة فصرفها بالعين، وقال الشارح عند قوله:"ولو ربويا بمثله" ما نصه: وهذا الذي ذكره هو المشهور من المذهب، وقيل لا بد من الفسخ وليس له خيار والقولان متأولان على المدونة. اهـ.

‌تنبيهان:

الأول: قال عبد الباقي عند قوله: "ولو ربويا بمثله": ممثلا له بقوله بع هذا الربوى بعرض فباعه بطعام وكذا إن كانت العادة كذلك في هذا فإنه يعمل بها. انتهى المراد منه.

الثاني: قال عبد الباقي عند قوله: "أو في بيع فيخير موكله" ما نصه: في إجازته وأخذ الثمن وفي رده وأخذ سلعته أو قيمتها إن فاتت يوم فواتها. اهـ. قوله: يوم فواتها، قال الرهوني: فيه نظر والذي في المجالس أن القيمة تعتبر يوم البيع، ويأتي نحوه للمواق وهو الظاهر. قاله شيخنا الجنوي. قلت: وما استظهره ظاهر لأن ضمان الوكيل هو بالتعدي وهو واقع بالبيع، وما نسبه للمجالس هو كذلك فيما إذا تعدى ببيعه بعرض، ونصها ويرد البيع إن كانت السلعة قائمة أو فائتة بحوالة سوق؛ لأن حوالة الأسواق لا تفيتها وإنما يفيتها ذهاب عينها، فإن ذهبت عينها كان مقال ربها مع الوكيل يأخذه بالأكثر من الثمن أو القيمة، وإن كان لبسه المشتري كان لربه الأكثر من الثمن أو القيمة، فإن كانت القيمة يوم البيع أكثر أخذها من الوكيل وإن كانت يوم اللباس أكثر

ص: 192

أخذها من المشتري، وفيه زيادة فائدة وهي أن ذهاب العين إذا كان من سبب المشتري تعلق به الضمان أيضا، ولم أقف على كلام المواق الذي أشار إليه شيخنا. واللَّه سبحانه أعلم.

وقوله: بتغير سوق أو بدن، ما ذكره في تغير السوق هو أحد قولين، وقيل إنه لا تأثير له وإن المعتبر في هذا الباب ذهاب العين فقط وهو الراجح، وقد تقدم في كلام المجالس الجزم بذلك في مسألة بيعه بعرض، وعزا ابن عرفة ما اقتصر عليه المكناسي لظاهر قول ابن الكاتب، وعزا لظاهر كلام المازري فوته بحوالة الأسواق، وذكر ابن ناجي فيما إذا باع أو اشترى بما لا يتغابن الناس بمثله عند قول المدونة ويرد ذلك كله ما لم يفت فتلزم الوكيل القيمة قولين، ونصه: ابن محرز: واختلف ما الذي يفيتها، فقيل لا يفيتها إلا ذهاب عينها، وقيل بل حوالة الأسواق تفيتها. اهـ منه بلفظه. وذكر المتيطى هذين القولين في هذه المسألة بعينها ورجح عدم الفوات.

وقال ابن عرفة بعد ذكره مسألة المدونة المشار إليها بقول المص فيما يأتي: "كقوله أمرت ببيعه بعشرة وأشبهت وقلت فأكثر وفات البيع بذهاب عينه" لخ ما نصه: عياض: قال ابن القاسم في تفسير يحيى: وفوات السلعة هنا ذهاب العين ولا يفيتها نقص ولا نماء ولا عتق ولا غيره، ومثله في الوكالات وفي سماع عيسى يفيتها اختلاف الأسواق. قلت: لم يعز عبد الحق في تهذيب الطالب الأول إلا للأبياني. انتهى منه بلفظه.

ونقله ابن ناجي بالمعنى في كتاب السلم الثاني عند نص المدونة في المسألة المشار إليها، وقال ابن يونس عقب ذكره كلام المدونة في هذه المسألة ما نصه: وفوتها

(1)

هاهنا زوال عينها، وكذلك روى الأندلسيون عن ابن القاسم. اهـ منه بلفظه. ونقله المواق فيما يأتي شاهدا لقول المص "بذهاب عينه"، وبتأمل ذلك كله يظهر لك صحة ما قلناه من أن الراجح خلاف ما قاله الزرقاني من اعتبار حوالة الأسواق. انتهى كلام الرهوني.

وتحصل مما مر فيما إذا وكله على بيعه بخمسة عشر فباعه بعشرة أن الراجح أنه يخير في أخذ العشرة فقط مع القيام والسلعة، ومقابل الراجح أن الوكيل يعد بتعديه ملتزما للخمسة الزائدة على العشرة فيدفعها للموكل، وأما لو فاتت السلعة فإن للموكل أن يغرم الوكيل خمسة عشر، وأن

(1)

في الأصل: وجدتها، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 118 وابن يونس ج 8 ص 445.

ص: 193

الراجح أن الفوات في مخالفة الوكيل إنما يحصل بذهاب عين السلعة الموكَّل على بيعها لا بغيره من حوالة سوق أو بيع أو هبة أو عتق أو تغير بدن أو غير ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

إن لم يلتزم الوكيل الزائد شرط في قوله: فيخير موكله؛ يعني أن محل تخيير الموكل، فيما إذا باع الوكيل بأقل مما سمى له الموكل وفيما إذا اشترى بأكثر كثيرا إنما هو حيث لم يلتزم الوكيل له الزائد، وأما إن التزمه له فلا خيار له بل يلزمه العقد المذكور، قال الحطاب عند قوله "إن لم يلتزم الوكيل الزائد على الأحسن" ما نصه: هذا راجع إلى مسألة المخالفة في البيع والشراء كما تقدم، لكن معناد مختلف بالنسبة إلى المسألتين، فمعناه في مسألة الشراء ما زاد على الثمن الذي سمي له، وفي مسألة البيع الزائد على الثمن الذي باع به. واللَّه سبحانه أعلم. انتهى. وما مشى عليه المص هو أحد قولين ذكرهما ابن الحاجب وغيره، ومقابل المص أنه لا يمضي على الموكل ولو التزم الوكيل الزائد. قال ابن عبد السلام: فمن أمضى فعل الوكيل لاحظ حصول مقصد الموكل، ومن لم يمضه لاحظ عداء الوكيل والأقرب هو الأول. اهـ.

وإلى اختيار ابن عبد السلام أشار المص بقوله: على الأحسن أي وأما إن التزم الوكيل الزائد فإن ذلك يمضي على الموكل على القول الأحسن، وعلم مما قررت أن قوله:"على الأحسن" راجع لمفهوم الشرط، قال عبد الباقي مفسرا للمص: وحيث قلنا للموكل الخيار عند المخالفة في بيع أو شراء، فإنما يكون ذلك إن لم يلتزم الوكيل وأولى المشتري الزائد على الثمن الذي سمى له في مسألة الشراء، وعلى ما باع به في مسألة البيع فإن التزمه سقط خيار الموكل ولزمه العقد على الأحسن، وانظر هل التزام أجنبي كذلك أم لا؟ لأن فيه منة بخلاف الوكيل؛ لأنه لما تعدى فكأن ما يلتزمه لازم له. انتهى. والظاهر من مسألة المشتري عدم اللزوم أو أنه -أي عدم اللزوم- هو الراجح. واللَّه تعالى أعلم.

قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: وقوله وأولى المشتري الراجح من جهة النقل عدم اللزوم، وقد ذكر الحطاب في ذلك قولين ولم يعزهما ولا رجح واحدا منهما، وقال ابن عرفة ما نصه: وفي إلزام رضي المشتري بغرم الزائد نقلا اللخمي، ثم قال: وعزا الشيخ في النوادر الأول لأشهب والثاني لابن القاسم، وإياه استحب محمد ومثله في تهذيب الطالب، قال:

ص: 194

والفرق بين هذه ومسألة المتبايعين يختلفان في الثمن والسلعة قائمة للمشتري قبل الفسخ الأخذ بما قال البائع، أنَّ المتبايعين مقران بالبيع واستقراره وفي مسألة الوكيل بيعه غير مستقر لتعديه. اهـ.

‌فرع:

قال ابن عرفة متصلا بهذا ما نصه: وإن لم تقم بينة وأقر المأمور بالتعدي لم يصدق على المشتري، وروى محمد: ويغرم للآمر الزائد ولو كان عديما ولا شيء على المشتري. اللخمي: يريد إن لم يحلف الآمر فإن حلف أخذ سلعته، فإن فاتت غرم المشتري تمام القيمة إن فضلت، فإن نكل مضت بالعشرة ولا يمين على المشتري إذ لا علم عنده وحلف البائع له للتهمة فلا تنقلب. انتهى منه بلفظه. وانظر هل يؤخذ منه حكم ما توقفنا فيه عند قوله:"لا لأشتري منك" أولا؟ ويظهر أنه يؤخذ منه ما ذكرناه هناك من جهة المعنى فراجعه وتأمل. انتهى. وقد قدمت أنا كلامه عند قول المص: "لا لأشتري منك".

لا إن زاد في بيع يعني أن الوكيل إذا أمره الموكل بأن يبيع شيئا بثمن سماه له كعشرة فباعه الوكيل بأكثر من ذلك كخمسة عشر مثلا، فإنه لا خيار للموكل في فسخ العقد المذكور بل العقد لازم، قال عبد الباقي: لا إن زاد في بيع كبيعه بعشرة ما أمره ببيعه بخمسة أو بعشرة نقدا ما أمره ببيعه بها لأجل؛ لأنها زيادة حكما إذ له حصة من الثمن. اهـ. قوله: وبعشرة نقدا ما أمره ببيعه بها لأجل هذا قول الشيخ أبي محمد وخالفه ابن التبان، وتناظرا في ذلك فاحتج عليه أبو محمد بأنه لو فعل ما أمر به فأراد المشتري تعجيل العشرة لقضي عليه بذلك، وقال ابن محرز: إن أمره بذلك ولا غرض له في الزيادة فكما قال أبو محمد، وإن أمره بها سمى تحديدا لأقل الثمن وعلى أن يجتهد فكما قال ابن التبان، واختار المازري هذه التفرقة وأتى بها كأنها من عنده، ثم قال: قال التونسي: لو أمره ببيعها بقمح سماه إلى أجل فباعها به نقدا كان متعديا؛ لأن الطعام المؤجل لا يجبر مبتاعه على قبول تعجيله، قال ابن عرفة بعد ذكره هذا كله ما نصه: قلت ظاهر مناظرتهما أن المسألة غير منصوصة للمتقدمين، وهو ظاهر قول ابن محرز والمازري، وأن ما نقله عن التونسي غير منصوص للمتقدمين، وقال الصقلي عن كتاب ابن سحنون: ولو أمره بالبيع بعشرة لأجل فباعه بعشرة نقدا فلا قول لربها؛ لأن الدراهم لو عجلت لزمته ولو أمره ببيعها بعشرة أقفزة لأجل فباعه

ص: 195

بها نقدا كان له فسخ البيع إن كانت قائمة أو إغرامه القيمة إن كانت فائتة؛ إذ لا يقدر من عليه الطعام أن يعجله. انتهى منه بلفظه.

قلت: أطلقوا في ذلك، والمظاهر أن يقال إن كان له في التأجيل غرض صحيح كأن يكون قصده بالثمن شراء شيء به أو تزوجه مثلا عند الأجل ويخشى إن قبضه قبله أن لا يبلغ إلى الأجل، فكما قال ابن التبان وإلا فكما قال أبو محمد وما في كتاب ابن سحنون، ويدل لهذا ما يأتي عن الزرقاني والتوضيح فتأمله. قاله الرهوني.

أو نقص في اشتراء يعني أن الوكيل إذا أمره موكله بأن يشتري شيئا بثمن سماه له كعشرة فاشتراه بأقل من ذلك كثمانية مثلا فإنه لا خيار للموكل في إجازة العقد ورده، بل ذلك لازم له وإنما لم يكن للموكل الخيار فيما إذا زاد الوكيل في بيع أو نقص في اشتراء؛ لأن هذا مما يرغب فيه وليس مطلق المخالفة يوجب خيارا، قال عبد الباقي: أو نقص في اشتراء كاشتر فرسا وعينها له أو على صفة بعشرين فاشتراها على ما ذكر بعشرة فلا خيار للموكل فيهما؛ لأن هذا مما يرغب فيه، فكأنه مأذون له فيه، وليس مطلق المخالفة يوجب خيارا وإنما يوجبه مخالفة يتعلق بها غرض صحيح. أو اشتر بها فاشترى في الذمة ونقدها يعني أن الموكل إذا قال لوكيله اشتر بهذه الدنانير المعينة أو الدراهم المعينة فخالف ولم يشتر بها معينة بل اشترى هذه الشاة بدنانير أو بدراهم غير معينة، ثم بعد العقد نقد الدنانير أو الدراهم التي عينها له الموكل فإنه لا خيار للموكل في إجازة العقد ورده، بل العقد لازم له إلا أن يقول الآمر إنما أمرتك بالشراء بعينها؛ لأنه ربما فسخ البيع بعيب بها وليس عندي غيرها، قال عبد الباقي: وعطف على زاد قوله: "أو قال اشتر بها" أي بهذه المائة المعينة "فاشترى" بمائة غير معينة "في الذمة" له "و": أي. ثم "نقدها" أي المائة المدفوعة له فلا خيار للموكل؛ لأن الذي له حصة من الثمن إنما هو الأجل وهو منتف هنا كما في أحمد. فالمراد بقوله: "في الذمة" أن يكون الثمن غير معين، وليس المراد بها التأجيل إلا أن يقول الآمر إنما أمرتك بالشراء بعينها لخ.

أو عكسه يعني أن الموكل إذا قال للوكيل اشتر في الذمة ثم انقد فخالف واشترى بها بعينها ابتداء فإنه لا خيار للموكل، بل تلزمه العقدة المذكورة إلا أن يقول إنما أمرتك بالشراء في الذمة خوف أن

ص: 196

يستحق الثمن فيرجع البائع في المبيع وغرضي بقاؤه، قال عبد الباقي: وعكسه أي قال اشتر في الذمة ثم انقد فاشترى ابتداء بها بعينها فلا خيار للموكل، وهو مبتدأ خبره محذوف تقديره: كذلك، ويجوز نصبه عطفا على اشتر بها أي أو قال وعكسه لأنه هنا فيه معنى الجملة، فيصح أن يعمل فيه القول إلا أن يقول إنما أمرتك بالشراء في الذمة خوف أن يستحق الثمن فيرجع البائع في البيع وغرضي بقاؤه، ويقبل قوله في غرضه ويفيد القيد في المسألتين قول التوضيح عن المازري. اهـ. ونص التوضيح أما إن ظهر لاشتراط الموكل فائدة فإنه يعمل على قوله بلا إشكال، وقد نص المازري عليه. اهـ منه بلفظه. قاله الرهوني.

أو شاة بدينار فاشترى به اثنتين لم يمكن إفرادهما يعني أن الموكل إذا قال لوكيله اشتر لي شاة بدينار فاشترى له شاتين بدينار وهما أو إحداهما على الصفة فإنه لا خيار للموكل في رد الشراء المذكور، بل تلزمه الشاتان وهذا حيث لم يمكن إفرادهما أي لم يقدر الوكيل على أن يشتري إحداهما منفردة لعدم رضي بائعهما بالإفراد، بأن قال: لا أبيعهما إلا معا، والمراد أيضا أنه لم يمكنه الإفراد في غيرهما لعدم وجود الصفة المطلوبة. قاله أحمد. قاله عبد الباقي.

قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: أما لزومهما للموكل فظاهر لأن هذا مما يرغب فيه كما مر نظيره، ولأنه إذا أراد أن يأخذ واحدة من الشاتين على الصفة بنصف دينار يقول له البائع لا أرضى إلا بدينار فتبعيض الدينار ضرر عليه، وأما كون صاحب الشاتين يقول لا أبيع بالدينار إلا شاتَيَّ معا وأما واحدة منهما به وأستبقي الأخرى فلا فهذا مما يستغرب.

وإلا بأن أمكن إفرادهما واشتراهما معا خير الموكل في قبول الثانية أي ثانية الاثنتين لا بعينها فتلزم الموكل واحدة منهما، فإن قبل الثانية فالأمر واضح وإن لم يقبلها فإنه يأخذ ما ينوبها من الثمن من الوكيل وتلزم هي الوكيل، قوله:"وإلا خير في الثانية" قد علمت أن كلام المص فيما إذا اشتراهما في عقد واحد، وأما لو اشتراهما مترتبتين فإنه يخير في الثانية فقط وتلزمه الأولى، فإن أمسكها فالأمر ظاهر، وإن ردها رد ما ينوبها من الثمن. ابن شاس: ولو أمره أن يشتري له جارية على صفة بثمن معين فاشترى جاريتين على الصفة المعينة بالثمن المحدود في الواحدة، فإن اشتراهما واحدة بعد أخرى فالثانية له يعني للمأمور إن لم يُجز الموكل عقده، ويسترجع منه حصتها من الثمن،

ص: 197

وإن اشتراهما معا في صفقة فقال أصبغ: يلزمان الموكل ولم يقيد جوابه، وقال ابن المواز: إن كان قادرا على الإفراد لم يلزم الآمر العقد، وإن كان غير قادر لزمه، وقال غيرهما: يثبت الخيار للموكل ثم اختلف القائلون بذلك في محله، فقال ابن القاسم: محله الثانية فقط فيتخير في ردها وقبولها، وقال ابن الماجشون: يتخير في قبولهما وردهما. اهـ.

وقوله: "أو شاة بدينار فاشترى به اثنتين"، ابن عرفة: خرج الترمذي عن ابن حصين عن ابن حبيب بن أبي ثابت عن حكيم بن حزام أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث حكيم بن حزام يشتري له أضحية بدينار فاشترى أضحية فربح فيها دينارا فاشترى أخرى مكانها فجاء بالأضحية والدينار إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:(ضح بالشاة وتصدق بالدينار)

(1)

، قال الترمذي: حديث حكيم لا أعرفه إلا من هذا الوجه، وروى البخاري عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا ليشتري له شاة، قال: فاشتريت له شاتين فبعت إحداهما بدينار وجئت بالشاة والدينار إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ما كان من الأمر فقال:(بارك اللَّه لك في صفقة يمينك)

(2)

، فكان بعد ذلك يخرج إلى كناسة الكوفة فيربح الربح العظيم، قلت: فالاستدلال بحديث عروة هو الصواب لا بحديث حكيم. اهـ.

وما قاله متعين لأن حديث حكيم قال فيه الترمذي ما قد رأيته، ولأنه ليس فيه شراء شاتين الذي هو محل النزاع، وقد اقتصر ابن عبد السلام على الاحتجاج بحديث عروة وعروة هذا هو عروة بن عياض ابن أبي الجعد البارقي وبارق في الأزد، ويقال إن بارقا جبل نزله بعض الأزديين فنسبوا إليه انتهى وقال عبد الباقي: وإلا بأن أمكن إفرادهما واشتراهما معا خير الموكل في الثانية أي ثانية الاثنتين لا بعينها بين إجازتها وردها، فيرجع بحصتها من الدينار فليس المراد التي اشتريت ثانيا لما علمت أن الموضوع أنهما بعقد واحد، فإن كانتا بعقدين لزمت الأولى إن كانت على الصفة، وخير في الثانية فإن كانت هي التي على الصفة لزمته وخير في الأولى، فإن لم يكونا على الصفة خير فيهما كانتا بعقد أو عقدين.

(1)

الترمذي، كتاب البيوع، رقم الحديث 1257.

(2)

الترمذي، كتاب البيوع، رقم الحديث 1258. والبخاري، كتاب المناقب، رقم الحديث 3642 واللفظ للترمذي.

ص: 198

وبما قررنا علم أن شاة منصوب عطفا على معمول "اشتر"، ولو قال كشاة لكان أشمل، وكأنه قصد التبرك بالتلميح للخبر الوارد في ذلك الذي في التتائي وغيره، فإن تلفت الشاتان كان ضمانهما من الموكل إن لم يمكن إفرادهما وإلا لزم الوكيل واحدة. اهـ.

أو أخذ في سلمك حميلا أو رهنا يعني أن الوكيل إذا أسلم لموكله دراهم مثلا في سلعة إلى أجل وقد أمره الموكل بذلك، ثم بعد العقد أخذ الوكيل حميلا أو رهنا في السلعة المؤجلة فإنه لا خيار للموكل في رد المسلم وإجازته، بل عقد السلم لازم له لأن ذلك زيادة توثق، فإن أخذهما قبل العقد خير لأن لهما حصة من الثمن حينئذ. قاله أبو الحسن. وكذا إن أخذ إحداهما قبل العقد للعلة المذكورة. اهـ. وقال المواق: من المدونة: قال ابن القاسم: من أمرته أن يسلم لك في طعام ففعل وأخذ رهنا بغير إذنك جاز؛ لأنه زيادة توثق وهذا قول مالك. اهـ.

وضمنه قبل علمك به ورضاك يعني أن هذا الرهن يضمنه الوكيل ضمان الرهان إذا هلك قبل أن يعلم الموكل به أو بعده ولم يرض به، فإن هلك بعد أن رضيه الموكل فإن ضمانه من الموكل، قال عبد الباقي: وضمنه أي ضمن الوكيل الرهن ضمان رهان إن تلف قبل علمك يا موكل به، ويغني عنه لتضمنه له قوله:"ورضاك" فإن رضي به ولو حكما كعلمه به وسكوته طويلا فضمانه ضمان رهان من الموكل، فإن لم يطل حلف أنه لم يرض به وضمنه الوكيل، فإن رده للوكيل فحبسه عنده حتى تلف ضمنه ضمان عداء أي كان مما يغاب عليه أم لا. قاله ابن ناجي. ومحل ضمان الوكيل في صورة من صوره ما لم يعلم البائع أنه وكيل، فإن أعلمه فينبغي أن يكون كالأمين، ومحله أيضا في الوكيل الخصوص وإلا فضمانه من الموكل. انتهى.

وقال المواق: ابن القاسم: فإن هلك الرهن قبل علمك فهو من الوكيل وإن هلك بعد علمك به ورضاك فهو منك، وإن رددته لم يكن للوكيل حبسه. اهـ. وعلم مما مر أن اللزوم للموكل إنما هو لزوم العقد أي عقد السلم، وأما الرهن فله أن يرده ولهذا قال الرهوني عند قول عبد الباقي: فإن رده للوكيل فحبسه عنده لخ ما نصه: يفيد أن الموكل له أن يرد الرهن ولا يلزمه الرضى به وهو مصرح به في المدونة، وإنما هو ممنوع من رد عقد السلم وفي كلام ابن ناجي نظر.

ص: 199

وفي بذهب في بدراهم وعكسه قولان، قال الخرشي: يعني أن الوكيل إذا باع أو اشترى بالذهب وقد نص له الموكل على الدراهم أو باع الوكيل أو اشترى بالدراهم وقد نص له على الذهب، هل ذلك لازم للموكل بناء على أنهما جنس واحد أو له الخيار بناء على أنهما جنسان؟ فيه قولان مشهوران، ومحلهما إذا كان المذهب والدراهم نقد البلد وثمن المثل والسلعة مما تباع به واستوت قيمة المذهب والدراهم، وإلا خير موكله قولا واحدا. اهـ.

وعلم مما قررت أن في الأولى داخلة على بيعه أي الوكيل، وفي الثانية داخلة على قوله: بع، والقولان ليسا في الجواز وعدمه إذ هو ممنوع من مخالفة الآمر، وإنما هما في لزوم البيع للموكل وعدم لزومه له. واللَّه تعالى أعلم.

وقال عبد الباقي: وفي بيعه بذهب في قوله بع بدراهم وعكسه قولان، وفي تخيير الموكل وهو الراجح ولزومه ومحلهما إذا كان الذهب والدراهم نقد البلد وثمن المثل والسلعة مما يباع بهما وإلا خير موكله قولا واحدا، وفي بعض النسخ: وفي ذهب بلا باء أي وفي بيع مال ذهب. وعلم مما قررنا أنه لا مخالفة بين ما هنا وبين قوله: "كصرف ذهب بفضة" لاختلاف الموضوع؛ لأن ما مر أعطاه ذهبا ليشتري له به سلعة فصرفه بفضة ثم اشترى بها السلعة، وهنا وكل على بيعها بنقد معين فخالف وباعها بغيره، واتفق على التخيير هناك واختلف فيه هنا؛ لأن الأصل فيمن وكل شخصا على شراء شيء إنما يدفع له من النقد ما هو أصلح بالشراء من غيره، فمخالفة الوكيل له فيه نوع عداء، وأما الوكيل على البيع هنا فالأصل أنه إنما يفعل ما فيه غرض موكله أيضا، وإنما يعدل عن غرضه لما يرى أنه أصلح له، فإن نظرنا إلى هذا لم يكن للموكل خيار، وإن نظرنا إلى الظاهر من أنه مخالف لغرضه أوْجَبنا له الخيار، فلذا جاء القولان فتأمله فإنه حسن. اهـ كلام عبد الباقي.

البناني: هذا يقال في الصورة الأخرى أيضا والفرق ليس بظاهر. اهـ. الرهوني: هو كما قال، والفرق عندي -واللَّه أعلم- أن الأولى فيها عقدتان لم يوكل على الأولى منهما أصلا، بخلاف هذه فإن العقد فيها واحد وقع فيه عداء لا ضرر على الموكل فيه، إذ هو موضوع القولين. انتهى. وقال المواق: اللخمي: يختلف إذا أمره أن يبيع بدنانير فباع بدراهم أو بدراهم فباع بدنانير وهي في

ص: 200

القيمة مثل ما سمى له، وأرى أن يمضي لأن كل واحد منهما يسد ما

(1)

سد صاحبه إلا أن يعلم أن ذلك كان لغرض الآمر فيرد فيه البيع إذا كان قائما، فإن فات وغاب المشتري كان الآمر بالخيار بين أن يجيز أو يباع الثمن ويشترى له به مثل ما أمر. اهـ.

‌تنبيه:

قد مر قول عبد الباقي إن الراجح من القولين القول بالتخيير، وقد مر قول الخرشي: إنهما قولان مشهوران، وقال البناني: القول باللزوم اختاره اللخمي وصححه ابن الحاجب وتؤولت عليه المدونة، قال في الشامل: ومضى في بعه بذهب فباع بورق، وعكسه على المختار والمأول. انتهى. وأما القول بالتخيير فقد استظهره ابن عرفة كما في المواق، ولعل هذا الترجيح هو الذي حمل الخرشي على قوله قولان مشهوران، وفيه نظر. اهـ. وقوله: واتفق على التخيير لخ جعله الأول متفقا عليه هو الصواب خلافا لما في الخرشي. واللَّه تعالى أعلم.

وحنث بفعله في لا أفعله إلا بنية يعني أن الموكل إذا حلف لا يفعل كذا كلا أضرب هذا العبد أو لا أبيعه ونحو ذلك، فوكل على بيعه أو على ضربه فباعه الوكيل أو ضربه فإن الموكل يحنث بفعل الوكيل ذلك، إلا أن ينوي الموكل عند اليمين أنه لا يفعله بنفسه فإن الموكل لا يحنث حينئذ بفعل الوكيل ذلك. واللَّه أعلم. قال الحطاب: قال في المقدمات: يد الوكيل كيد موكله فيما وكله عليه، فمن حلف أن لا يفعل فعلا فوكل على فعله فهو حانث إلا أن يكون نوى أن لا يفعله هو بنفسه، وكذلك من حلف أن يفعل فعلا فوكل غيره على فعله فقد بر إلا أن يكون نوى أن يلي هو ذلك الفعل بنفسه. انتهى. ونقله البناني.

وقال: وعليه اقتصر المواق والحطاب فظاهره لا فرق بين الدخول وغيره في الصورتين، وبه تعلم أن الرمز الذي في الزرقاني للقاني لا للمواق. اهـ. يشير إلى قول عبد الباقي وكلامه واضح في شيء يحصل المقصود منه بفعل الوكيل أو الموكل كضرب وبيع، وكذا دخول دار فيما يظهر لقبوله النيابة حيث لم يقصد الدخول بنفسه وهو ظاهر المواق في صيغة البر في كدخول لا في صيغة حنث كلأدخلن الدار فلا يبر بتوكيله في دخولها، وكذا كل ما لا يحصل المقصود منه بفعل الوكيل كحلفه لآكلن فلا يبر بأكل وكيله، ولا يظهر فيه نية وجدان أكل ولو من غيره، وكلامه أيضا في اليمين

(1)

لفظ المواق: مسد صاحبه ج 5 ص 231 ط دار الفكر.

ص: 201

باللَّه أو بعتق غير معين لا في طلاق أو عتق معين، فيقع كما قدمه في باب اليمين بقوله: إلا لمرافعة وبينة أو إقرار في طلاق وعتق فقط أي معين. اهـ. وتعقبه البناني بقوله: تفريقه في الدخول بين صيغة البر وصيغة الحنث فيه نظر، بل ظاهر كلام ابن رشد أنه لا فرق بينهما مطلقا، وعن ابن رشد: يد الوكيل كيد موكله لخ ما مر. واللَّه تعالى أعلم.

ومنع ذمي في بيع أو شراء يعني أنه يمنع للمسلم أن يوكل الذمي على البيع أو الشراء، والمراد مطلق الكافر ذميا أو غيره أو تقاض؛ يعني أنه يمنع للمسلم أن يوكل الكافر على تقاضي دينه الكائن على مسلم بهذا قيده الشارح وغيره، قال البناني بعد كلام: فظهر لك صحة تقييد الشارح. واللَّه الموفق. اهـ. وقال عبد الباقي: "ومنع ذمي" أي منع مسلم من توكيله لمطلق كافر في بيع أو شرا، أو تقاض ولو رضي به من يتقاضى منه لحق اللَّه، فليس كتوكيل العدو على عدوه، ولأنه ربما أغلظ على المسلم وشق عليه بالحث في الطلب، وكلام المص شامل لا إذا كان الذمي عبدا لمسلم، ولا يمنع المسلم عبده الذمي من ذهابه للكنيسة ولا من شرب الخمر وأكل الخنزير، وانظر لو كان على مسلم دين لذمي هل له توكيل ذمي عليه أم لا؟ وهو الظاهر للتعليل المتقدم، وأشعر قوله:"ومنع ذمي بأنه يجوز توكيله لمسلم في كل شيء، ولكن قال البرزلي: الوكالات كالأمانات فينبغي لأولي الأمانات أن لا يتوكلوا لأولي الخيانات، وعن مالك: كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة. ولا يتوكل مسلم لكافر ولا كبير لطفل ولا طفل لكبير. انتهى. وقوله: ولا طفل لكبير هو أحد قولين لأنه تقدم الخلاف في منعه وعدمه للخمي وابن رشد، قال الوالد: ينبغي إذا وقع البيع أو الشراء أو التقاضي المنوع على وجه الصحة أن يمضي، وظاهر قوله: "ومنع ذمي" لخ أنه لا يمنع توكيله في غير ما ذكر في قبول نكاح لمسلم وفي دفع هبة. اهـ.

وقال عبد الباقي: ويمتنع على المسلم شركة الذمي، قال الرهوني: أطلق في موضع التقييد: قال اللخمي: قال مالك في كتاب ابن حبيب ولا ينبغي للحافظ لدينه أن يشارك إلا أهل الدين والأمانة والتوقي للخيانة والربا والتخليط في التجارة، ولا يشارك يهوديا ولا نصرانيا ولا مسلما فاجرا إلا أن يكون هو الذي يلي البيع والشراء والمال ولا يلي الآخر فيه إلا البطش والعمل. انتهى. وقال المواق من المدونة: قال مالك: لا يجوز لمسلم أن يستأجر نصرانيا إلا لخدمة، أما لبيع أو شراء أو تقاض

ص: 202

أو ليبضع معه فلا يجوز لعملهم بالربا واستحلالهم له، قال مالك: وكذلك عبده النصراني لا يجوز أن يأمره ببيع ولا شرائه واقتضائه، قال ابن القاسم: ولا يشارك المسلم ذميا إلا أن لا يغيب على بيع أو شراء إلا بحضرة مسلم، قال: ولا بأس أن يساقيه إذا كان الذمي لا يعصر حصته خمرا، قال: ولا أحب لمسلم أن يدفع لذمي قراضا ليعمله

(1)

بالربا ولا يأخذ منه قراضا ليلا يذل نفسه، يريد: وإن وقع لم يفسخ.

‌فرع:

قال الحطاب: قال ابن عرفة: المازري: لو وقع تفاوض الذمي بوكالته في خمر تصدق بجميع ثمنه وفي الربا بالزيادة فقط ولو فعل ذلك وهو يعلم حرمته وعدم إرادة المسلم ذلك غرم له ما أتلف عليه بفعله ذلك اهـ وإذا شك أنه يعمل بالربا أو في الخمر لم يكن على المشارك شيء اهـ وعدو على عدوه يعني أنه يمنع توكيل العدو على عدوه إذا كانت العداوة دنيوية، وأما توكيل المسلم للكافر فإنما منع لعدم تحفظ الكافر لا للعداوة. قاله البناني. وقال عبد الباقي: وعدو على عدوه المسلم أو الكافر قال الحطاب عن مصنف الإرشاد: إن لم يرض به فإن رضي به جاز، ومثل توكيل العدو توكيل من عنده لدد وتشغيب في الخصومات، فا، يحل للقاضي قبول وكالته على أحد كما قال ابن لبابة وابن سهل، وللرجل أن يخاصم عدوه عن نفسه إلا أن يبادر لإيذائه فيمنع من ذلك، ويقال له: وَكِّل غيرك.

والرضى بمخالفته في سلم إن دفع الثمن قال الخرشي: يعني أن الموكل إذا أمر وكيله أن يسلم له دراهم في طعام أو عرض موصوف أو غير ذلك فخالف وأسلمها في غير ما أمره به، فإنه لا يجوز للموكل أن يرضى بما فعله وكيله حيث دفع الدراهم للوكيل؛ لأن الرضى بما فعل يؤدي إلى فسخ الدين في الدين؛ لأن الوكيل لما تعدى على الدراهم لزمت ذمته، فلو رضي الموكل بما فعل فقد فسخ ما ترتب على الوكيل في ذمته في شيء لا يتعجله الآن، ويزاد في الطعام بيعه قبل قبضه لأن الوكيل إنما أسلم لنفسه، فالطعام قد وجب له بتعديه فلا يجوز له أن يبيعه حتى يقبضه، وأما إن لم يدفع للوكيل الدراهم فلا يمتنع له الرضى بمخالفة الوكيل، فإذا أمرته أن يسلم لك في طعام أو في حيوان موصوف أو في غير ذلك ولم تدفع إليه الثمن الذي هو رأس المال فخالف وأسلم في غير ما

(1)

كذا في الأصل، والذي في المواق ج 5 ص 232 ط دار الفكر: لعمله بالربا.

ص: 203

أمرته به فإنه يجوز لك أن ترضى بما فعله وتدفع له الثمن لأنه لم يجب لك عليه دين فتفسخه في شيء لا تتعجله الآن ولك أن لا ترضى به، ويشترط في منع الرضى أن يكون الثمن المدفوع مما لا يعرف بعينه أو مما يعرف بعينه وفات، وأن يطلع على المخالفة قبل حلول الأجل وقبل قبض الوكيل، فإن اطلع عليه بعد قبض الوكيل أي ولو قبل حلول الأجل جاز للموكل الرضى به ولو كان طعاما: ولو اطلع عليه بعد حلول الأجل وقبل القبض يمنع من الرضى به حيث كان المسلم فيه طعاما وإلا جاز. اهـ كلام الخرشي. ونحوه لعبد الباقي، وقال: ومفهوم الشرط إن لم يدفع له الثمن جاز الرضى بمخالفته في سلم ولو طعاما بشرط أن يعجل رأس المال الآن وإلا منع ولو تأخر يسيرا؛ لأنه فسخ دين في دين. انتهى بتغيير قليل. واللَّه تعالى أعلم.

وما ذكراه من الجواز في غير الطعام والمنع في الطعام إن اطلع عليه بعد الحلول غير صواب، والصواب المنع مطلقا يعني في الطعام وغيره؛ لأن فسخ الدين في الدين ممنوع وإن كان حالا كما هو معلوم من البيوع. قاله البناني. الرهوني: قول البناني: الصواب المنع مطلقا لخ صواب، وإن وقع في كلام ابن يونس ما يشهد لما قاله الزرقاني. ويأتي كلامه عند قوله:"وفي رضاه إن تعدى به تأويلان".

وبيعه لنفسه يعني أن الوكيل على بيع شيء لا يجوز له أن يبيع من نفسه ولو كان بغير محاباة، قال الشيخ كريم الدين: ما لم يكن بحضرة الموكل ولم يسم له الثمن ولم يأذن له في البيع لنفسه وإلا جاز. اهـ. قال الخرشي: وهو حسن في غير مسألة ما إذا سمَّى له الثمن فإن كلام ابن عرفة يفيد أن المعتمد المنع مع التسمية. اهـ. وقال عبد الباقي: ومنع بيعه أي الوكيل ما وكل على بيعه لنفسه ولو سمى له الثمن على المعتمد كما يفيده ابن عرفة لاحتمال الرغبة فيه بأكثر مما سمَّى، فإن تحقق عدمها فيه أو اشتراه بحضرة ربه أو أذن له في الشراء لنفسه جاز، كمن بعث مع حاج أو غاز مالًا ليعطيه لمن انقطع فاحتاج المبعوث معه له وانقطع فله الأخذ كما في سماع ابن القاسم.

ومحجوره يعني أن الوكيل لا يجوز له أن يبيع ما وكل على بيعه لمحجوره أي محجور الوكيل من ولد صغير أو سفيه وعبد غير مأذون له في تجارة؛ لأن الذي يتصرف له إنما هو الحاجر فكأنه بيع لنفسه، ومثل محجوره شريكه المفاوض إن اشترى بمال المفاوضة كما قيد به سحنون المدونة وهو قيد معتبر، وكذا ينبغي تقييد شركة العنان فإن اشترى كل بغير مالهما جاز فيهما، ومثل البيع لمن

ص: 204

ذكر الشراء منه. قاله عبد الباقي. وقال الرهوني: قال ابن عرفة ما نصه: وفي كون ولده الصغير ويتيمه في المنع كنفسه أو كأجنبي قولها مع المشهور وابن محرز مع غير واحد عن سحنون محتجا بأن العهدة في أموالهما. اهـ منه بلفظه.

بخلاف زوجته يعني أن الوكيل لا يمنع أن يبيع ما وكل على بيعه لزوجته أي زوجة الوكيل، أو رقيقه يعني أن الوكيل لا يمنع أن يبيع ما وكل على بيعه لرقيقه أي لرقيق الوكيل الذي لا حجر عليه كالمأذون والمكاتب لأنه أحرز نفسه وماله وابنه البالغ الرشيد، فلا يمنع بيعه لمن ذكر. قاله عبد الباقي. بخلاف زوجته ورقيقه المأذون ولو حكما كمكاتبه لإحراز نفسه وماله وابنه البالغ الرشيد فلا يمنع بيعه لمن ذكر.

إن لم يحاب أي إنما يجوز بيع الوكيل لزوجة الوكيل أو رقيقه المأذون إذا كان بلا محاباة، فإن حابى في ذلك بأن باع ما يساوي عشرة بخمسة مثلا فإنه لا يجوز ويمضي البيع ويغرم ما حابى به، والعبرة بالمحاباة وقت البيع. قاله عبد الباقي. قوله: ويمضي البيع ويغرم ما حابى به، قال الرهوني: ظاهره أنه ليس للموكل أخذ شيئه ولو كان قائما بيد المشتري وفيه نظر، بل محله مع الفوات وأما بدونه فله أخذ شيئه على الراجح، وبه أفتى ابن رشد، انظر الحطاب عند قوله فيما مر:"ولا بغبن" لخ. واللَّه أعلم. انتهى.

وقال المواق: قال ابن القاسم فيمن وكل رجلا ليسلم له في طعام فأسلم ذلك إلى نفسه أو إلى ابنه الصغير أو من يليه من يتيم أو سفيه لم يجز وإن أسلمه إلى زوجته أو ابنه الكبير أو عبده المأذون له في التجارة أو مكاتبه أو إلى شريك غير مفاوض جاز ما لم يكن فيه محاباة، وقال سحنون: إن أسلمه إلى ابنه الذي في حجره أو إلى يتيمه جاز؛ لأن العهدة في أموالهم. اهـ.

واشتراؤه من يعتق عليه يعني أنه يمنع أن يشتري الوكيل بمال الموكل من يعتق على موكله كأصل وفصل وأخ وأخت، ومحل المنع المذكور إن علم الوكيل بأن المشتري قريب من الموكل، علم بأنه يعتق على الموكل أم لا، قال عبد الباقي: ومنع اشتراؤه أي الوكيل من يعتق عليه أي على الموكل إن علم الوكيل بالقرابة ولو جهل الحكم، ومثله المبضع معه وعامل القراض ومن أخذت في صداقها من يعتق عليها. اهـ. قوله: ومن أخذت في صداقها من يعتق عليها، قال البناني: لو أسقط هذا

ص: 205

كان أولى؛ لأن كلامنا فيمن يأخذه لغيره بالنيابة عنه والزوجة أخذت الرقيق لنفسها. اهـ. ولم يعينه موكله يعني أن محل المنع المذكور أيضا إذا لم يعين الموكل للوكيل الرقيق الذي يعتق عليه، وإذا وقع الشراء على الوجه الممنوع وهو ما إذا علم الوكيل بالقرابة ولم يعينه الموكل عتق العبد عليه؛ أي على الوكيل ويغرم ثمنه للموكل والولاء له أي للموكل، وإلا بأن لم يعلم الوكيل بالقرابة أو عين له الموكل العبد كاشتر بلالا واشتراه فإنه يعتق على آمره؛ أي الآمر للوكيل بالشراء وهو الموكل، قال عبد الباقي: وإلا بأن عين له موكله كاشتر لي هذا الرقيق أو عبد فلان فاشتراه فإذا هو أخوه مثلا: وإن لم يعلم الموكل بالقرابة أو الحكم وسواء علم الوكيل بأنه يعتق على موكله أم لا، فعلى آمره الموكل يعتق بمجرد شراء الوكيل والولاء للآمر عتق عليه أو على الوكيل؛ لأنه كأنه أعتقه عن الموكل، وكذا يعتق على الموكل إذا لم يعلم الوكيل بالقرابة سواء عينه له الموكل أم لا، وإنما يعتق على الوكيل إذا علم بالقرابة كما مر إن أيسر، فإن أعسر ببعضه عتق ما فضل منه والولاء للموكل، وإن أعسر بجميعه بيع كله كإن أعسر ببعضه ولم يوجد من يشتريه مشقصا فيما يظهر، والثمن كله حينئذ للموكل ولو حصل فيه ربح دون الوكيل، فإذا ادعى الموكل علم الوكيل بالقرابة حلف الوكيل لأنه ادعى عليه عمارة ذمته والأصل عدمها ويلزم الوكيل الشراء والعتق، فإن نكل حلف الموكل وأغرمه الثمن وعتق على الوكيل اتفاقا لإقراره أنه اشتراه غير عالم أنه ممن يعتق على موكله فقد أقر الوكيل بحريته على الموكل وهو قد جحده وذلك ظلم. انظر أحمد والتتائي. فإن ادعى الوكيل أنه عينه له وقال الآمر بل عينت عبدا غيره، فقيل القول للآمر وقيل للوكيل والعبد حر اتفاقا. قاله الطخيخي. والراجح الثاني كما في أحمد، قال: وسكت المص عما إذا اشترى الوكيل من يعتق على نفسه، ووقع في المذاكرات أنه لا يعتق عليه لأنه لا يملكه. اهـ المراد منه.

قوله: وكذا يعتق على الموكل إذا لم يعلم الوكيل لخ هذا داخل تحت إلا لا زائد عليه كما يقتضي صنيعه. قاله الرهوني. وقال: من المدونة: قال مالك: وإن أمرته بشراء عبد فابتاع من يعتق عليه فإن كان عالما لم يلزمك، قال البرقي: ويعتق العبد على المأمور ويضمن للآمر الثمن، ابن يونس: يظهر لي أن هذا هو الجاري على قول ابن القاسم، قال ابن محرز: هذه المسألة تدل على عدم لزوم شراء المرء من يعتق عليه، وعلى أن ما تلف على يد وكيل أو وصي دون عمد من ربه لا من المأمور،

ص: 206

وفي هذا خلاف كخطإ القاضي في مال عن اجتهاد هل يضمنه أو لا. انتهى. انظر المفتي. نص ابن رشد فيمن أفتى بعدم إرث من يستحق الإرث فدفع ذلك الإرث للفقراء أن المفتي لا ضمان عليه إذا لم يكن منه أكثر من الغرور بالقول، وأن الذي تسور على الإرث فتصدق به يغرمه للوارث. اهـ.

وتوكيله يعني أنه يمنع للوكيل أن يوكل على ما وكل فيه بغير رضى الموكل وهذا في الوكيل غير المفوض، وأما الوكيل المفوض فله أن يوكل. إلا أن لا يليق به يعني أن محل منع توكيل الوكيل غير المفوض إنما هو إذا كان يليق به مباشرة ما وكل عليه، وأما إن لم تلق مباشرته فله أن يوكل، قال الخرشي: يعني أن الوكيل لا يجوز له أن يوكل غيره مستقلا على ما وكل فيه بغير رضى موكله إلا أن يوكله على بيع شيء لا يليق به، كبيع دابة في السوق ونحو ذلك وهو شريف النفس صاحب جلالة بين الناس لا يناسبه أن يتولى ذلك بنفسه، فيجوز له حينئذ أن يوكل غيره على فعل ما لا يليق به استقلالا. انتهى.

وقال عبد الباقي: ومنع توكيله أي الوكيل غير المفوض على ما وكل فيه بغير رضى موكله إلا أن لا يليق به ذلك بأن كان مشهورا بأن لا يلي مثل ذلك بنفسه أو يعلم ذلك الموكل. انظر أحمد. كتوكيله لجليل قدر عند الناس على بيع دابة بسوق فيوكل في بيعه ثم هذا واضح حيث علم الموكل أن الوكيل لا يليق به ما وكل عليه، أو يكون مشهورا بذلك ويحمل الموكل على أنه علم بذلك ولا يصدق أنه لم يعلم: وأما إن لم يعلم الموكل ولا اشتهر الوكيل بذلك فإنه ليس له التوكيل وهو ضامن للمال ورب المال محمول على أنه لم يعلم. اهـ.

وقال البناني: قال ابن رشد: وأما الوكيل المفوض إليه فلا أحفظ في جواز توكيله غيره نصا، واختلف فيه المتأخرون والأظهر أن له أن يوكل. انظر المواق. وظهر به أن المفوض يوكل من غير تفصيل. انتهى. وقال الحطاب: واعلم أن هذا في الوكيل المخصوص أما المفوض فله التوكيل، قال ابن الحاجب: والوكيل بالتعيين لا يوكل إلا فيما لا يليق به، قال في التوضيح: احترز بالتعيين من المفوض فإن له أن يوكل على المعروف، وحكى في البيان قولا أنه لا يوكل، قال: والأظهر أن له ذلك لأن الموكل أحله محل نفسه فكان كالوصي. انتهى.

ص: 207

وكلام ابن رشد الذي أشار إليه هو ما نصه: لا اختلاف أحفظه في أن الوكيل على شيء مخصوص لا يجوز له أن يوكل، ثم قال: وأما الوكيل المفوض إليه في جميع الأشياء فلا أحفظ في أنه هل له أن يوكل أو لا قولا منصوصا لأحد من العلماء المتقدمين، وكان الشيوخ المتأخرون يختلفون فيها والأظهر أن له أن يوكل. اهـ. وقال الشيخ أبو الحسن الصغير: للوصي أن يوصي بلا خلاف ويوكل والوكيل المخصوص ومقدم القاضي ليس لهما أن يوكلا بلا خلاف، ثم قال بعد كلام ما نصه:

فتحصل من هذا أن الوكيل المفوض يجوز له التوكيل على ما رجحه ابن رشد وغيره، وأما الوكيل غير المفوض فإن كان ممن يلي ما وكل فيه بنفسه فليس له أن يوكل في ذلك، وإن كان ممن لا يليق به أن يلي ذلك بنفسه فإن علم الموكل أنه لا يلي ذلك بنفسه فله أن يوكل، وأما إن لم يعلم بذلك فإن كان مشهورا عند الناس أنه لا يلي ذلك بنفسه فله ذلك ويحمل الموكل على أنه قد علم بذلك ولا يصدق في أنه لا يعلم، وأما إن لم يكن مشهورا بذلك فرضاه بالوكالة يدل على أنه المتولي حتى يعلم رب المال أنه لا يتولى وهو متعد بالوكالة وضامن للمال ورب المال محمول على أنه لم يعلم حتى يعلم أنه قد علم. اهـ.

‌تنبيهان:

الأول: لو تعدى الوكيل ووكل حيث لا يجوز له التوكيل، فإن علم وكيله أي وكيل الوكيل بالتعدي فهو ضامن وإن لم يعلم فلا ضمان عليه. قاله ابن رشد في نوازله في آخر مسائل البيع قاله الحطاب.

الثاني: حيث يجوز للوكيل التوكيل، فقال ابن الحاجب وغيره: فلا يوكل إلا أمينا واللَّه أعلم. قاله الحطاب.

أو يكثر عطف على لا يليق لا على يليق لفساد المعنى؛ يعني أن الوكيل المخصوص إذا كثر الشيء الموكل فيه بحيث لا يمكنه فعله بنفسه إلا بمشقة فإنه يجوز له أن يوكل حينئذ وكيلا مشاركا له فيه: وليس له توكيله فيه استقلالا بخلاف ما قبله فلا ينعزل الثاني بعزل الأول؛ أي وإذا وكل الوكيل حيث يجوز له التوكيل كالوكيل الذي لا يليق به مباشرة ما وكل عليه فعزل الوكيل الأول فإنه لا ينعزل الوكيل الثاني بعزل الوكيل الأول الذي وكله ولا بموته أي الوكيل الأول، وينعزل كل منهما بموت الموكل الأول وله عزل كل، كما أن للوكيل الأول عزل وكيله وسيأتي:"وانعزل بموت موكله إن علم" لخ، وقوله: "فلا ينعزل الثاني بعزل الأول، قال الخرشي: هذا إذا وكل

ص: 208

بغير إذن الموكل، وأما بإذنه فإن قال وكّل لك انعزل الثاني بعزل الأول، وإن قال وكل لي فلا ينعزل الثاني بعزل الأول إذ كلاهما إذا وكيل للموكل. اهـ.

وفي رضاه إن تعدى به تأويلان مبتدأ وخبره المجرور بفي، قال الخرشي: يعني أن الشخص إذا وكل آخر على أن يسلم قدر كذا في طعام أو غيره ودفع له رأس المال وغاب عليه وكان مما لا يعرف بعينه أو مما يعرف بعينه وفات فتعدى هذا الوكيل ووكل غيره على فعل ذلك الموكل عليه ففعله الوكيل الثاني واطلع على ذلك قبل قبض المسلم فيه، فهل يجوز للموكل الأول الرضى بما فعله وكيل وكيله؟ أو ليس له الرضى به لأنه بتعديه يصير الثمن على الوكيل دينا، ففسخه في شيء لا يتعجله الآن وهو سلم الوكيل الثاني فهو فسخ دين في دين، إلا أن يكون السلم قد حل وقبض فإنه يجوز للسلامة من الدين بالدين، فعلم مما قررنا أن محل التأويلين حيث كان التعدي في سلم ودفع الثمن وغاب عليه؛ وكان مما لا يعرف بعينه ولم يحصل قبض من الوكيل قبل الاطلاع، فإن كان الثمن قائما أو مما يعرف بعينه أو حصل قبض من الوكيل قبل الاطلاع فإنه يجوز باتفاق، ووجه التأويل بالجواز في موضوع المؤلف أن المخالفة لم تقع فيما أمره به الموكل، وإنما وقعت في التعدي في الوكالة، ووجه مقابله أن المخالفة الواقعة في وقوع السلم من غير الوكيل بمنزلة المخالفة الواقعة في السلم فيه. اهـ.

قوله: قد حل وقبض، الظاهر الاقتصار على قبض فيقول إلا أن يكون السلم قد قبض. قاله مقيده عفا اللَّه تعالى عنه. وقوله:"تأويلان" الأول عزاه في التوضيح لبعضهم، والثاني لابن يونس. قاله البناني. وقال الرهوني: وفي رضاه إن تعدى به تأويلان أي وقولان أيضا، قال في التوضيح ما نصه: واختلف في قوله في الكتاب لم يجز فحمله بعضهم على أن للآمر فسخه وإجازته، وحمله ابن يونس على أن المعنى لم يجز رضى الآمر بما يفعل وكيل وكيله؛ إذ بتعديه صار الثمن عليه دينا للآمر فلا يفسخه في سلم الوكيل الثاني إلا أن يكون قد حل قبضه فيجوز لسلامته من الدين، وروى ابن القاسم عن مالك في الواضحة: للموكل الخيار كالتأويل الأول.

ابن حبيب: وأنكر ذلك أصبغ ومن لقينا من أصحاب مالك. اهـ منه بلفظه. وقول ابن يونس: إلا أن يكون قد حل قبضه قد سلمه التوضيح وهو شاهد لما تقدم للزرقاني عند قوله: "والرضى بمخالفة في سلم" لخ وهذا كلامه الموعود به هناك ولكن فيه نظر وإن سلمه جسوس أيضا، والصواب ما في

ص: 209

بعض نسخ الحطاب: قد حل وقبضه بإثبات الواو، وكذا نقل أبو علي كلام التوضيح، ونقل مثله عن ابن عرفة عن ابن يونس، وقد راجعت ابن يونس في أصله فوجدته كذلك أي قد حل وقبض بالواو فتبين أن ما وجدناه في نسخ التوضيح وما في نقل جسوس وما في بعض نسخ الحطاب تصحيف لا شك فيه، وهو على هذا نص في رد كلام الزرقاني السابق لا شاهد له فيه. واللَّه الموفق. والضمير في رضاه للموكل وفي مخالفته للوكيل وفي تعدَّى للوكيل أيضا.

ورضاه بمخالفته في سلم إن دفع الثمن بمسماه الباء بمعنى في، وهو بدل من قوله:"في سلم" بدل بعض من كل؛ لأن المخالفة في السلم أعم من المخالفة في المسمى، والمخالفة هنا في قدر رأس مال السلم وفيما مر في غير ذلك كالمسلم فيه فلا تكرار؛ يعني أن الموكل إذا دفع مالا لوكيله وأمره أن يسلم له عشرة في قطيفة إلى أجل فخالف وأسلم عشرين في قطيفة إلى أجل فإنه لا يجوز للموكل أن يرضى بما فعل الوكيل لأنه بتعديه ترتب للموكل في ذمته العشرون التي أسلمها في القطيفة، فإذا رضي بالقطيفة المؤجلة فقد فسخ العشرين فيما لا يتعجله وهو القطيفة.

واعلم أن المناسب للاختصار أن يقتصر على أحد الكلامين ما مر، وفي هنا قال عبد الباقي: والباء للظرفية كهي في مخالفته

(1)

، وقوله:"إن دفع الثمن" من إقامة الظاهر مقام المضمر والأصل إن دفعه له. انتهى. وحمله على هذا دفع التكرار في المص. البناني: الصواب أن قوله: "بمخالفته" يتعلق "برضاه" وباؤه للتعدية لا للظرفية ولا للسببية. اهـ قول البناني. وباؤه للتعدية لا للظرفية لخ فيه نظر؛ لأنه إن أراد التعدية بالمعنى العام وهي إيصال العامل اللازم أو الضعيف إلى معموله لم يحسن قوله: لا للظرفية إذ لا منافاة بينهما، وسائر حروف الجر كلها توصف بذلك وإن أراد التعدية بالمعنى الخاص لم يصلح ذلك هنا لفقد حقيقتها، قال المحقق الشيخ يس في باب حروف الجر من حاشية النظم ما نصه: والتعدية بالمعنى الخاص من خواص الباء في نحو ذهبت بزيد أي صيرته ذاهبا. اهـ منه بلفظه. وقال في حاشية التصريح ما نصه: مراده بالتعدية هنا إيصال الفعل لمدخول حرف الجر، وأما التعدية في قولهم الباء للتعدية نحو ذهبت بزيد فالمراد بها تصيير الفاعل مفعولا، ولما كان المراد الأول عدد الأمثلة. انتهى منه بلفظه. انتهى. قاله الرهوني.

(1)

في عبد الباقي ج 6 ص 84: في بمخالفته.

ص: 210

أو بدين إن فات يعني أن الموكل إذا أمر الوكيل أن يبيع سلعة له بنقد أو كان العرف النقد فخالف وباع بالدين وفات المبيع، فإنه يمنع للموكل أن يرضى بالدين لأن فيه فسخ ما في الذمة في مؤخر لأن الموكل ترتب له في ذمة الوكيل قيمة السلعة المبيعة بسبب تعديه حيث باعها بالدين، فإذا رضي بالدين فقد فسخ قيمة السلعة التي فاتت في الدين وهذا حيث لم يسم للوكيل ما تباع به السلعة، فإن سماه له وفاتت السلعة ترتبت للموكل في ذمة الوكيل التسمية أي ما سماه له من ثمن السلعة، فإذا رضي بالدين فقد فسخ التسمية التي وجبت له في شيء لا يتعجله وهو الدين. واللَّه أعلم. وقوله:"أو بدين" هذا إذا كان الثمن المؤجل أكثر مما سمَّى له أو من القيمة إن لم يسم، أو كان من غير جنس المسمى أو القيمة، وأما إذا كان الثمن المؤجل مثل التسمية أو القيمة أو أقل وهو من جنسه فيهما فإنه يجوز الرضى به لأنه تأخير بالدين أو تأخير مع إسقاط بعضه، وليس فيه فسخ الدين في الدين. انظر البناني. ومفهوم الشرط إن لم تفت لا يمتنع الرضى بفعل الوكيل، بل الموكل بالخيار إن شاء أجاز فعل الوكيل ويبقى الدين إلى أجله وكأنه ابتداء بيع منه لأجل، وإن شاء رد وأخذ سلعته.

وبيع فإن وفى بالقيمة أو التسمية يعني أنه يمنع رضي الموكل بالدين حيث فات المبيع كما عرفت؛ وحينئذ يباع الدين ليقضى من ثمنه ما استحقه الموكل من القيمة أو التسمية، فإن وفى ثمن الدين بما وجب له من تسمية حيث سمى الموكل أو قيمة حيث لم يسم ثمن سلعته فالأمر واضح أي فيأخذه الآمر ولا كلام للوكيل إذ لا يربح التعدي كما في أحمد عن التوضيح، وجواب الشرط محذوف كما عرفت، وعلم من قولي: فيأخذه الآمر لخ أن له ذلك وإن كان أكثر من القيمة أو التسمية، قال المواق: من المدونة: قال مالك: إن أمرته ببيع سلعة فأسلمها في عرض مؤجل أو باعها بدنانير مؤجلة لم يجز بيعه. فإن أدرك البيع فسخ وإن لم يدرك بيع العرض بعين نقدا وبيعت الدنانير بعرض نقدا ثم بيع العرض بعين نقدا، فإن كان ذلك مثل القيمة أو التسمية فأكثر إن سميت كان ذلك لك وما نقص من ذلك ضمنه المأمور. اللخمي: إنما راعى التسمية لأن من اشترى بوجه

(1)

فهلك بيده لم يضمنه إلا بثمنه لا بالقيمة. انتهى. وإلا أي وإن لم يوف ثمن الدين بماله من قيمة أو تسمية غرم الوكيل ما يتم به ذلك.

(1)

لفظ المواق: لأن من اشترى شيئا بوجه شبهة فهلك لخ ج 5 ص 237 ط دار الفكر.

ص: 211

وإن سأل الوكيل غرم التسمية ويصبر ليقبضها ويدفع الباقي جاز يعني أن الوكيل إذا تعدى وباع السلعة بالدين وكان الموكل أمره أن يبيعها بالنقد أو كان العرف وسأل الوكيل الموكل أن يغرم الآن التسمية أي المسمى فهو مصدر بمعنى اسم المفعول أو القيمة إن لم يسم ولا يباع الدين، بل يبقى لأجله ويصبر الوكيل إلى أجل الدين ليقبض منه ما غرمه للموكل من التسمية أو القيمة، ويدفع ما زاد على ذلك للموكل جاز ذلك بشرط أشار إليه بقوله: إن كانت قيمته أي الدين الآن مثلها أي التسمية أو القيمة فأقل، قال عبد الباقي: إذ ليس للوكيل في ذلك نفع بل هو أحسن للموكل، ويجبر الموكل على ذلك والجواز لا ينافي الجبر، وإنما عبر بالجواز ردا لقول أشهب بالمنع إذا كانت أقل، ومذهب أشهب أظهر، قال غير واحد: لأن السلف غير محقق إذا كانت القيمة أكثر، قوله: إذ ليس للوكيل في ذلك نفع، قال مصطفى، لا نفع له إن كانت قيمة الدين مثل التسمية أو القيمة فقط، وأما إن كانت أقل فالمنع ظاهر ولذا منع أشهب هذا، واختاره التونسي لأنه سلف من الوكيل جر نفعا بسقوط الغرم عنه، ولم يراع ذلك ابن القاسم لأن البيع لا يكون إلا برضاهما فلا يتحقق السلف، انظر التوضيح. وما ذكره من كون البيع برضاهما هو مذهب ابن القاسم الذي درج عليه المص. انتهى.

وقال الرهوني: ظاهره يعني المص أن الوكيل إذا سأل الصبر من غير أن يدفع التسمية أو القيمة فلا يجاب لذلك، ويقضى للموكل بالبيع جبرا عليه وهو كذلك بلا خلاف، وقول البناني عن التوضيح لا نفع له إن كانت قيمة الدين مثل التسمية أو القيمة فقط أي ولذلك اتفقوا على جوازها، وقوله إن البيع لا يكون إلا برضاهما يعني في منطوق كلام المص، وهو أن تكون قيمته مثل التسمية أو القيمة فأقل، وأما في مفهومه وهو أن تكون أكثر فلا يتوقف على رضي الوكيل كما هو صريح كلام اللخمي وغيره: وقوله: وما ذكره من كون البيع برضاهما هو مذهب ابن القاسم لخ إنما يتوقف بيعه على رضى الوكيل إذا أراد أن يدفع التسمية أو القيمة لا مطلقا كما قدمناه آنفا. اهـ.

وقول عبد الباقي وغيره: ومذهب أشهب أظهر لأن السلف غير محقق إذا كانت القيمة أكثر. اهـ. بل إنما يتحقق إذا كانت القيمة أقل كما تقدم، وبيانه أن الوكيل تلزمه التسمية وهي أكثر من قيمة الدين، فإذا بيع الدين بقيمته غرم تمام التسمية فيعطى التسمية الآن ليقبضها عند الحلول فإعطاؤه

ص: 212

الآن سلف وقد انتفع بإسقاط ما بين القيمة والتسمية، لكن لا نقول إن غرم ما بين القيمة والتسمية لازم له إلا إذا قلنا إن البيع يلزمه، وأما إن قلنا إن الآمر يجبر على قبول التسمية ولا يبيع إن طلب ذلك الوكيل فلم ينتفع بإسقاط الغرم لأن الفرض أنه لا يلزمه الغرم. واللَّه أعلم. وبه تعلم أن قول الزرقاني تبعا للتتائي يجبر الموكل على ذلك صواب كما يدل عليه قول التوضيح: إن البيع لا يكون إلا برضاهما وأن اعتراض مصطفى عليه غير صحيح، والعجب منه نقل كلام التوضيح مستدلا به وهو دليل عليه ولم يتفطن له، وقال ابن عرفة: ولو أراد المأمور دفع العشرة ليأخذها من العشرين إذا حلت وباقيها للآمر ففي جوازها مطلقا أو برضى الآمر وبلوغ قيمة العشرين عشرة فأكثر لا أدنى، ثالثها وبلوغ قيمتها عشرة فأدنى لا أكثر لسماع يحيى ابن القاسم وظاهر قول أشهب ولابن

(1)

القاسم أيضا. قاله البناني.

وقال الرهوني: قول أشهب الذي اختاره التونسي هو الظاهر لظهور وجه المنع فيه، وقول ابن القاسم الذي اعتمده المص مشكل وكأنه اعتمد في ذلك ما ذكره في توضيحه عن اللخمي، ونصه: واختار اللخمي قول ابن القاسم وانفصل عما تقدم أي من أنه يلزم على الجواز السلف بزيادة بما حاصله أن الدين إنما يباع إذا كان للموكل في بيعه فائدة وإلا فلا فائدة للموكل في بيعه، فلا يباع إلا بتراضيهما لكونه مترددا بينهما، إن التفت إلى حكم التعدي كان البيع للوكيل، وإن التفت إلى إجازة تعديه كان للموكل وهذا يمتنع عنده إلا بتراضيهما وإذا كان كذلك فلا يتحقق فيه السلف. اهـ منه بلفظه. ونقله غير واحد وسلمه.

قلت: فيما قاله اللخمي نظر وإن سلمه المص وغيره من المحققين وتلقوه بالقبول على مر السنين؛ لأنه جعل علة الجواز توقف بيعه على رضاهما معا، فإن عنى توقفه على رضى الوكيل من غير دفعه القيمة أو التسمية فغير صحيح للاتفاق على أنه ليس له ذلك كما مر، وإن عنى مع دفعه ذلك فهذا هو محل النزاع فهو مصادرة لا شك فيها، ويقال مع ذلك كيف يجاب لما سأل وهو عين الربا؟ إذ هو سلف جر نفعا وهو ممتنع قطعا، فالعجب من صدور مثل هذا من هذا الإمام، ومن التسليم الواقع له من الجم الغفير من المحققين الأعلام، والتوفيق كله من الملك العلام. وقوله: إن

(1)

في البناني ج 6 ص 85: وابن القاسم.

ص: 213

كانت القيمة مثلها فأقل، قال عبد الباقي: وبقى للجواز شرط آخر وهو أن يكون الدين مما يباع فإن كان مما لا يباع، كأن يموت من عليه أو يغيب فالظاهر أن الوكيل يغرم القيمة أو التسمية. اهـ.

وإن أمر ببيع سلعة فأسلمها في طعام أغرم التسمية أو القيمة يعني أنه إذا وكله على بيع سلعة نقدا بعشرة مثلا فأسلمها في طعام إلى أجل وفات المبيع وهو السلعة، فإن الوكيل يغرم الآن لموكله التسمية إن كان قد سمى أو القيمة إن لم يسم، وإذا غرم الوكيل للموكل القيمة أو التسمية استؤني بالطعام أي ينتظر أي يؤخر بيع الطعام الذي هو الدين الذي أسلمت فيه السلعة لأجله، اللام للغاية أي إلى أن يحل أجله، فإذا حل أجله وقبض بيع وإنما انتظر به إلى أن يقبض لأن الطعام لا يجوز بيعه قبل قبضه بخلاف ما مر قبل هذه، فإن وفى ثمن الطعام بما دفع الوكيل من القيمة أو التسمية بأن كان كفافا فالأمر واضح أي يأخذه الوكيل، وإن نقص ثمن الطعام عما دفع الوكيل غرم النقص، معناه استمر على غرمه أي فلا شيء له على الموكل، وإن زاد ثمن الطعام على التسمية أو القيمة أخذ منه الوكيل ما لزمه منهما، والزيادة لك يا موكل إذ لا وجه لكونه للوكيل لتعديه وهذا مع الفوات كما قال المص:"وفات" أي البيع، واحترز بذلك عما لو كانت السلعة قانمة فإنه يجوز الرضى بما فعله الوكيل لأنه كابتداء عقد كما مر فيما قبل هذه المسألة. قال المواق من المدونة: قال مالك: إن أمرته ببيع سلعة فأسلمها في طعام أغرمته الآن التسمية أو القيمة إن لم تسم ثم استؤني بالطعام، فإذا حل أجله استوفِيَ ثم بيع فكانت الزيادة لك والنقص عليه. انتهى.

ابن يونس: قال بعض أصحابنا: إنما يكون على المأمور أن يبيع من الطعام مقدار القيمة أو التسمية التي لزمته والزائد ليس عليه بيعه إلا أن يشاء؛ لأن بقية الطعام للآمر. اهـ.

وضمن إن أقبض ولم يشهد يعني أن الوكيل إذا أقبض الدين الذي على موكله أي دفعه لربه أو غير الدين كوديعة أو عارية أو غير ذلك، والحال أنه أي الوكيل لم يشهد على دفع الدين أو غيره لربه وأنكر القابض القبض فإن الوكيل يضمن الحق للموكل، ولو صدَّق الموكل الوكيل على الدفع، قال في المدونة: إن الوكيل ضامن ولو صدقه الموكل على الدفع ما لم يكن ذلك بحضرته، ففي كتاب القراض منها: وإذا دفع العامل ثمن سلعة بغير بينة فجحده البائع وحبس السلعة فالعامل ضامن،

ص: 214

وكذلك الوكيل على شراء سلعة بعينها أو بغير عينها يدفع الثمن فجحده البائع فهو ضامن، ولرب المال أن يغرمهما. اهـ.

وحذف المص معمول أقبض ليشمل الدين والمبيع والرهن والوديعة والعارية وغير ذلك، وفي نسخ الدين: وسقوط هذه اللفظة أحسن ليشمل ما ذكرت لك، وقوله:"وضمن إن أقبض ولم يشهد" ظاهره سواء كانت العادة جارية بترك الإشهاد أو لم تكن وهو المشهور، وقيل إذا كانت العادة جارية بذلك لم يضمن. قاله الحطاب. ونقله عبد الباقي، وقال عبد الباقي: وضمن الوكيل مفوضا أو مخصوصا إن أقبض الدين الذي على موكله لربه ولم يشهد وأنكر ربه القبض أو لم يعلم منه إقرار ولا إنكار لموته أو غيبته، فيضمنه لتفريطه بعدم الإشهاد لموكله لبقاء الدين عليه فلربه غريمان، فإن أشهد لم يضمنه الوكيل وضمنه الموكل حيث مات ربه والشاهد بقبضه. اهـ.

قوله: فإن أشهد لم يضمنه الوكيل وضمنه الموكل حيث مات ربه والشاهد بقبضه، قال الرهوني: انظر ما قصد بهذا وأقرب ما ظهر لي في معناه أن يكون أراد أن الوكيل أشهد على القبض ولم يكتب ذلك ثم مات رب الدين والشاهد فإن مصيبة ذلك من الموكل وهو الدين، وهذا ظاهر إذا صدق الموكل الوكيل في أنه أشهد على الدفع. والله أعلم. انتهى. ثم قال عبد الباقي: وما ذكرناه من شمول كلامه هنا لا إذا لم يعلم منه إقرار ولا إنكار هو المعتمد، بخلاف تقييده في الوديعة بالمنكر من قوله عاطفا على ما فيه الضمان "أو المرسل إليه المنكر"، ثم قال عبد الباقي: قال أحمد: ولو أسفط المص لفظ الدين لكان أحسن لشموله إقباض الدين والمبيع أي الموكل على بيعه ولم يشهد على المشتري أنه أقبضه والرهن والوديعة وما أشبه ذلك، وكلام أبي محمد في الرسالة يدل على ذلك إذ قال فيها: ومن قال دفعت إلى فلان كما أمرتني فأنكر فلان فعلى الدافع البينة وإلا ضمن. اهـ.

قوله: لشموله إقباض الدين والمبيع. اهـ. مراده أن من وكل على بيع سلعةٍ فباعها ودفعها للمشتري فأنكر ولم يذكر ماذا يضمنه هنا، وقد أطال ابن يونس الكلام في ذلك واختصره ابن عرفة مع زيادة، فقال ما نصه: لو جحد مبتاع سلعة ممن أمر ببيعها قبضها ففي غرمه قيمتها وثمنها ثالثها أقلهما للصقلي مع المازري عن الشيخ وابن شبلون وبعض أصحابنا، ورجح ابن محرز الأول وعزاه،

ص: 215

والثاني للمذاكرين ولم يحك الثالث والصقلي الثاني محتجا بتعليلها ضمانه بأنه أتلف الثمن. اهـ المراد منه.

تنبيهان: الأول: قوله: "ولم يشهد" المراد به أنه لم تشهد له بينة على ذلك سواء أشهدها أو كانت حاضرة ولم يشهدها وليس المراد ظاهره قاله أحمد. قال عبد الباقي: ظاهره أن ضبط يشهد بالبناء للفاعل من أشهد المزيد، فإن ضبط بالبناء للمجهول من المجرد أي لم تقم له شهود بالإقباض وافق المشهور من أنه إذا قامت له بينة بالإقباض من غير قصد بل على سبيل الاتفاق فإنه لا يضمن ولا يكون حينئذ ظاهره الضمان، ثم محل قوله:"وضمن" لخ ما لم يكن الدفع بحضرة الموكل، فإن كان بحضرته فلا ضمان على الوكيل بعدم الإشهاد، بخلاف الضامن يدفع الدين بحضرة المضمون حيث أنكر رب الدين القبض والفرق أن ما يدفعه الوكيل مال الموكل، فكان على رب المال أن يشهد بخلاف الضامن فإنه إنما يدفع من مال نفسه فعليه الإشهاد لتفريغ ذمته من الضمان، فهو مفرط بعدم الإشهاد. انتهى.

الثاني: قال الرهوني: إن قام للوكيل شاهد واحد فقال في كتاب الحمالة من المدونة ما نصه: وتجوز حمالة العبيد ووكالتهم في الخصومات وغيرها بإذن السيد؛ لأن من وكل عبده يقبض دينه فقام للعبد شاهد أنه قد قضى حلف العبد وبرئ كالحر سواء ولا يحلف السيد. اهـ منها بلفظها. ونقل ابن يونس مثله عنها وزاد ما نصه: محمد بن يونس: قال بعض الفقهاء: فإن نكل العبد وجب أن يحلف السيد مع الشاهد لأنه أمر يدفعه عن نفسه بشاهد قام له، وأما الوكيل فإن كان عديما فكالعبد يحلف الموكل ليبرأ من الغرم أيضا، وإن كان الوكيل مليا فنكل حلف الذي عليه الدين وبرئ وغرم الوكيل للذي له الدين. انتهى باقتصار.

أو باع بكطعام نقدا ما لا يباع به وادعى الإذن فنوزع يعني أن الوكيل إذا كان موكلا على بيع شيء شأنه أن يباع بالعين فباعه الوكيل بطعام أو عرض وادعى أن الموكل أذن له في ذلك، ونازع الموكل أي أنكر الإذن بأن قال إنه لم يأذن له في البيع بكالطعام والبيع بكالطعام هنا وقع نقدا أي حالا، فإن الوكيل يضمن ولم يبين ما الذي يضمن، والحكم أنه إن كانت السلعة قائمة خير الموكل في إجازة البيع وأخذ ما بيعت به سلعته، وإن فاتت خير في أخذ ما بيعت به وتضمينه القيمة. قاله

ص: 216

غير واحد. ومفهوم قوله: "نقدًا" قد مر في قوله: "أو بدين" وللموكل رد البيع بالغبن الفاحش ويضعن الوكيل القيمة إن تلف البيع، قال الحطاب: قول المص: "ضمن" أي ضمن قيمة السلعة يريد مع فواتها، وأما إذا كانت قائمة فهو مخير في إجازة البيع ورده، وذلك بعد يمينه كما سيأتي، قال عبد الباقي: ومن الفوات المنازعة بين الوكيل والمشتري فادعى الوكيل أنه أعلمه بتعديه وأنكر المشتري كما ذكره عياض، وهذه غير المنازعة المشار لها بقول المص فنوزع. انتهى. قوله: بتعديه سبق قلم، والصواب بأنه وكيل عن فلان لأن الموضوع ادعاء الوكيل الإذن من موكله أولا فيما فعله، فكيف يتصور إعلامه بتعديه وهو ينفيه. قاله الرهوني. وهو ظاهر.

أو أنكر القبض فقامت البينة فشهدت بينة بالتلف يعني أن الوكيل إذا وكل على قبض حق فأنكر أن يكون قبضه فقامت البينة أي شهد عليه البينة بأنه قبضه، فشهدت له بينة بأنه تلف فإنه أي الوكيل يضمن ذلك الحق الذي شهدت عليه البينة بأنه قبضه ولا تقبل بينته بالتلف لأنه أكذبها، ومثل البينة بالقبض ما إذا أقر بالقبض بعد إنكاره فأقام بينة على تلف ما قبضه فإنه لا تقبل بينته على التلف لأنه أَكْذَبَها، وهذا بمثابة المديان ينكر المعاملة فتقوم عليه البينة بالدين فيأتي ببينة تشهد له على قضاء ذلك الدين، فإنه لا تقبل بينته بالقضاء لأنه أكذبها، ولذا قال: كالمديان، قال عبد الباقي: ويستثنى من كلام المص هنا وفي القضاء الإنكار المكذب للبينة في الأصول والحدود فإنه لا يضر كما في التوضيح عن ابن القاسم في المدونة، فإذا ادعى شخص على آخر أنه قذفه أو أن هذه الدار مثلا له فأنكر أن يكون حصل له منه قذف، أو أن تكون هذه الدار دخلت في ملكه بوجه فأقام المدعي بينة بما ادعاه فأقام الآخر بينة أنه عفا عنه في القذف وأنه اشترى منه الدار أو وهبها له ونحوه فتقبل بينته بهذين، ولعل الفرق أن الحدود يتساهل فيها لدرئها بالشبهة والأصول يظهر فيها انتقال الملك، فدعوى أنها ما دخلت في ملك من هي في حوزه لا يلتفت لها فكأنه لم يحصل منه ما يكذب البينة التي أقامها وهذا فيمن يظهر ملكه، وحمل غيره عليه حملا للنادر على الغالب. انتهى.

قوله: ويستثنى من كلام المص هنا وفي القضاء الإنكار الكذب للبينة في الأصول والحدود لخ، قال الرهوني: هذا هو الراجح، وقال الحطاب بعد أنقال كثيرة ما نصه: وينبغي أن يقيد ذلك بغير

ص: 217

الحدود والأصول لأن هذا قول ابن القاسم. اهـ. وهذا هو الذي اعتمده الشرادي

(1)

في حاشية لامية الزقاق والتاودي في شرحها معترضين قولها بربع ودين في الصحيح، وعليه اعتمد التاودي في شرح التحفة أيضا: وانظر كلام ابن ناجي عند قوله في الوديعة "وبجحدها ثم في قبول بينة الرد خلاف". اهـ.

وقال الحطاب بعد جلب كثير من النقول: فتحصل في المسألة أربعة أقوال أحدها: أن ذلك لا يقبل منه بعد الجحود في شيء من الأشياء وهو قول غير ابن القاسم، والثاني: أن يقبل منه ما أتى به بعد الجحود في جميع الأشياء، الثالث: ما ذهب إليه ابن المواز من الفرق بين الحدود وما سواها من الأشياء، والرابع: أنه يقبل منه ما أتى به في الأصول والحدود ولا يقبل منه ذلك في الحقوق من الديون وشبهها. اهـ. وقد علمت أن هذا هو الراجح كما نص عليه الرهوني.

تنبيه: يأتي في باب القضاء: "وإن أنكر مطلوب العاملة فالبينة ثم لا تقبل بينته بالقضاء بخلاف لا حق لك علي" وظاهر كلامهم هناك أنه لا فرق بين من لا يعرف الفرق بين إنكار العاملة وبين قوله لا حق لك علي، وبين من يعرف الفرق بينهما، وذكر الحطاب عن بعضهم أن من لا يعرف الفرق بينهما يعذر بالجهل فتسمع بينته بالقضاء ولو أنكر المعاملة بلفظ ينبغي. قاله الخرشي.

ولو قال غير المفوض قبضت وتلف برئ ولم يبرأ الغريم إلا ببينة يعني أن الوكيل غير المفوض إذا وكل على قبض حق فقال: قبضته وتلف مني فإنه لا ضمان على الوكيل، وأما الغريم وهو هنا من عليه الدين فإنه لا يبرأ من الدين إلا أن يأتي ببينة تشهد له على أنه دفع الحق للوكيل، وأما المفوض فإنه يبرأ الغريم من الدين بقوله قبضت الحق وتلف مني، وإنما برئ الغريم بقول المفوض قبضت وتلف؛ لأن له الإقرار كما أن الوصي كذلك، ويفهم من هذا أن المخصوص إذا جعل له الإقرار يكون كالمفوض في هذا، وذكر البرزلي أنه لا يجوز إقرار الأب والوصي على الصغير، وقد تقدم ما فيه عند قول المص "ولا الإقرار إن لم يفوض إليه أو يجعل له الإقرار". والله تعالى أعلم. قال عبد الباقي: ولو قال الوكيل غير المفوض قبضت الدين من مدين الموكل وتلف أو ضاع مني، أو أقبضته للموكل وأنكر برئ الوكيل بالنسبة للموكل فيما ادعى لأنه أمين، ولم يبرأ الغريم أي الدين

(1)

في الرهوني ج 6 ص 126: الشدادي.

ص: 218

فيرجع عليه الموكل ويرجع المدين على الوكيل إن علم أن تلفه بتفريطه وإلا لم يرجع عليه، فإن جهل ففي رجوعه عليه حملا له على التفريط وعدم رجوعه عليه حملا له على عدمه قولان لمطرف وابن الماجشون إلا ببينة تشهد بمعاينة قبض الوكيل من المدين فيبرأ حينئذ، ولا تنفعه شهادة الوكيل لأنها شهادة على فعل نفسه، وللغريم تحليف الموكل على عدم العلم بدفعه إلى الوكيل وعدم وصول المال إليه عند عدم بينة للغريم بالتلف، ومثل البينة إقرار الموكل بدفع الغريم للوكيل، ومفهوم قوله: غير المفوض براءة الغريم بقول المفوض قبضت مني وتلف لأن له الإقرار على موكله، ويفهم من هذا التعليل أن المخصوص إذا جعل له الإقرار يكون كالمفوض في هذا، ومثل المفوض الأب والوصي على الصغير فيقبل إقرارهما بقبض حقهما أو بعضه، ثم ادعى التلف فيبرأ منه الدين ما داما في حجرهما. اهـ.

تنبيهان: الأول: قال الحطاب: قال في الذخيرة في باب الزكاة في الكلام على خروج الساعي: يحصل الإبراء بالدفع للوكيل الفاسق وإن لم يوصل الحق لمستحقه. اهـ.

الثاني: قال الحطاب: قال ابن رشد: اختلف فيمن ادعى وكالة رجل فقبض له مالا وادعى تلفه فقيل يصدق فيما ادعى من الوكالة مع يمينه لأن الغريم الدافع إليه قد صدقه ويسقط عنه الضمان ويرجع صاحب المال به على الغريم بعد يمينه إن كانت للغريم بينة على معاينة الدفع، ولا يرجع الغريم على الوكيل بشيء لأنه قد صدقه فيما ادعى من الوكالة بيمينه، فكان ذلك كما لو ثبتت ببينة إلا أن يكون فرط في دفع المال للموكل حتى تلف عنده. قاله ابن الماجشون. وهو مذهب ابن القاسم وحمله مطرف على التفريط فأوجب للغريم الرجوع عليه، وقيل لا يصدق وهو ضامن يحلف صاحب المال ما وكله ويرجع بماله على من شاء منهما، فإن رجع على الغريم رجع على الوكيل، وإن رجع على الوكيل لم يكن للوكيل أن يرجع على أحد. انتهى.

ولزم الموكل غرم الثمن إلى أن يصل لربه يعني أنه إذا وكل شخص على شراء سلعة فاشتراها بما أمر به، والحال أن الموكل لم يدفع الثمن إلى الوكيل، ثم أخذ الوكيل الثمن من الموكل فضاع منه أو تلف ولو مرارا قبل وصوله لبائع السلعة، فإن الموكل يضمن الثمن للبائع فيلزمه أن يؤديه إليه ولا شيء على الوكيل، وأما إن كان الموكل قد دفع الثمن قبل الشراء إلى الوكيل فضاع منه قبل أن يصل

ص: 219

إلى رب السلعة فإنه لا يلزم الموكل غرم الثمن ثانية، قال عبد الباقي مفسرا للمص: وإن وكله على شراء سلعة فاشتراها له بما أمره به ولم يكن دفع الثمن قبل الشراء ثم أخذ الوكيل من الموكل الثمن فتلف أو ضاع ولو مرارا قبل وصوله للبائع لزم الموكل غرم الثمن إلى أن يصل لربه.

إن لم يدفعه الموكل له أي للوكيل قبل الشراء هذا مراده كما في أحمد وكما قررنا، لا أن معناه لم يدفعه له أصلا وإنما ضمنه لعدم دفعه له قبل الشراء؛ لأنه إنما اشترى على ذمته فالثمن في ذمته حتى يصل للبائع، وهذا إن كان الثمن عينا ونحوها مما لا يعرف بعينه، فإن كان عبدا ونحوه وأمر الوكيل بالشراء به فاشترى على عينه قبل دفعه لم يلزم الموكل بتلفه من الوكيل، ويفسخ البيع كاستحقاق الثمن العين ثم براءة الموكل حيث اشترى على عينه وكان الوكيل قد أعلم البائع بأن الشراء على عبد معين، فإن أوهمه أنه موصوف لم يبرأ الوكيل بتلف العبد المعين من يده قبل دفعه للبائع فيقيد منطوق المص بقيد ويقيد القيد بقيد ومفهوم الشرط عدم غرم الموكل إن دفع الثمن للوكيل قبل الشراء لأنه ماله بعينه لا يلزمه غيره سواء تلف قبل قبض السلعة أو بعده، وتلزم السلعة الوكيل بالثمن الذي اشتراها به وهذا حيث لم يأمره بالشراء في الذمة ثم ينقده وإلا لزم الموكل إلى أن يصل لربه ففي المفهوم تفصيل. انتهى.

وقال المواق: من المدونة: قال مالك: إن وكلت رجلا بشراء سلعة ولم تدفع إليه ثمنا فاشترى بما أمرته به ثم أخذ منك الثمن ليدفعه فيها فضاع منه فعليك غرمه ثانية، قال ابن القاسم: وإن ضاع مرارا حتى يصل إلى البائع. ابن يونس: في كتاب ابن المواز والمدونة: لو كنت دفعت إليه الثمن قبل الشراء فذهب منه بعد الشراء لم يلزمك غرم المال إن أبيت لأنه مال بعينه ذهب، بخلاف الأول يريد لأن الأول إنما اشترى على ذمتك فالثمن في ذمتك حتى يصل إلى البائع، وهذا الثاني إنما اشترى على مال بعينه فإذا ذهب لم يلزمك غرمه، ويلزم الأمور والسلعة إلا أن تشاء أن تدفع إليه الثمن ثانية وتأخذها. انتهى.

وصدق في الرد يعني أن الوكيل مفوضا أو مخصوصا يصدق في الرد أي في دفع ما وكل على قبضه، فيصدق في أنه قبضه ودفعه إلى موكله، أو على بيعه فيصدق في أنه قبض ثمنه ودفعه إلى موكله أو على شرائه فيصدق في أنه قبضه ودفعه إلى موكله ونحو ذلك، قال المواق: ابن يونس: قال ابن

ص: 220

القاسم في العتبية وغيرها في الوكيل المفوض إليه والمخصوص والزوج يوكلون على قبض حق فيدعون أنهم قبضوه ودفعوه إلى من وكلهم: إنهم مصدقون في ذلك كلهم مع أيمانهم.

كالمودع يقول: رددت الوديعة وينكر ربها فإنه يصدق في أنه ردها إلى ربها، وقاله ابن الماجشون وابن عبد الحكم خلافا لمطرف وابن حبيب. اهـ. وقوله:"كالمودع" معناه أن الوكيل يصدق كالمودع فيصدق إلا لبينة مقصودة للتوثق، وقال عبد الباقي: وصدق الوكيل بيمين ولو غير متهم في دعواه الرد لثمن أو مثمن أو لدين قبضه وأداه للموكل أو لما وكل عليه كقراض، وإطلاق الرد على الثلاثة الأول تجوز إذ هي دفع بخلاف الرابع، وعبر بالأمرين في الرسالة كالمودع يصدق بيمين ولو غير متهم في دعوى رد الوديعة إلى صاحبها إن كان قبضها بغير بينة، فإن قبضها ببينة مقصودة للتوثق لم يبرأ إلا ببينة كما يأتي في باب الوديعة، فالتشبيه تام والبينة المقصودة للتوثق هي التي أقامها خيفة دعوى الرد بأن يشهدها أنه إذا ادعى رد الثمن أو السلعة أو رأس مال السلم أو دفع السلم فيه أو الوديعة أو نحو ذلك لا يصدق. اهـ. ويأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

الخرشي: ولو قال في الدفع كان أولى لأنه قد لا يكون هناك رد كما إذا ادعى دفع ما قبضه من الغريم أو دفع ثمن السلعة التي وكل على بيعها، وقوله:"وصدق في الرد كالمودع" هو مذهب المدونة، وفي المسألة أربعة أقوال: أحدها أن القول قول الوكيل جملة من غير تفصيل كما قال المص: "وصدق في الرد"، والثاني أنه إن كان بقرب ذلك بالأيام اليسيرة صدق الموكل أنه ما قبض منه شيئا وعلى الوكيل البينة، وإن تباعد كالشهر ونحوه صدق الوكيل مع يمينه وإن طال الأمر جدا لم يكن عليه يعين وهو لمطرف، والثالث قول أصبغ: إن وكل على شيء بعينه ضمن إلا أن يقيم البينة ولو طال الأمر ولو كان مفوضا صدق في القرب مع يمينه وفي البعد بلا يمين، والرابع قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم إن كان بحضرة ذلك بالأيام اليسيرة صدق الوكيل مع يمينه، وإن طال الأمر جدا صدق دون يمين قوله:"وصدق في الرد". قال الحطاب: لو قال المص: والقول قوله لكان أحسن؛ لأن لفظ يصدق إنما يستعمل فيما يصدق فيه من غير يمين.

فلا يؤخر للإشهاد يعني أن الوكيل والمودع إذا طلب رب الوديعة أو الشيء الموكل عليه منهما أن يدفعا له وديعته أو ما وكل عليه، فإنهما لا يؤخران دفع ذلك إلى أن يشهدا عليه أو لأجل الإشهاد

ص: 221

عليه أي على الدفع، وإيضاح هذا أن تقول ليس لكل منهما أن يقول لا أرد أوأدفع ما عندي حتى أشهد عليه؛ لأنهما لا نفع لهما في ذلك لكونهما مصدقين بيمين، فإن أخرا الدفع للإشهاد حتى تلف ذلك ضمنا، كما قال المص في الوديعة:"وبمنعها حتى يأتي الحاكم إن لم تكن بينة".

تنبيه: "قوله فلا يؤخر للإشهاد" قال البناني: تبع ابن الحاجب وابن شاس، قال ابن هارون: وفيه نظر، ابن عبد السلام: ينبغي أن يكون للوكيل والمودع مقال في وقف الدفع على البينة وإن كان القول قولهما؛ لأن البينة تسقط عنهما اليمين. ابن عرفة: ما ذكره ابن شاس هو نص الغزالي: ولا يجوز أن ينقل عن المذهب ما هو نص لغير المذهب لاسيما وأصول المذهب تقتضي خلافه حسبما أشار إليه المازري وشارحا ابن الحاجب. اهـ. وقوله: "وصدق في الرد" اعلم أن الوكيل يصدق في الرد إلى موكله ولو ادعى ذلك بعد موت الموكل وهذا واضح، وإنما نبهت عليه لأن بعض أهل المغرب توقف في ذلك حتى أطلعته على النص في ذلك. والله أعلم. قاله الحطاب. وقال: قال ابن ناجي في قول المدونة ومن ذبح أضحيتك بغير أمرك: فإما ولدك أو بعض عيالك، فمن فعله ليكفيك مؤنتها فذلك يجزئ يقوم منها إذا كان ربع بين أخ وأخت وكان الأخ هو الذي يتولى عقد كرائه وقبضه سنين متطاولة فجاءت أخته تطالب بمنابها من الكراء في جميع المدة وزعمت أنها لم تقبض شيئا وادعى هو دفعه لها أنه يقبل قوله مع يمينه؛ إذ هو وكيلها بالعادة. اهـ المراد منه.

ولأحد الوكيلين الاستبداد مبتدأ وخبره الجار والمجرور قبله، ومعناه أن الوكيلين إذا وكلا مترتبين يكون لكل واحد منهما أن يستبد أي يستقل بالتصرف من دون إذن صاحبه، وأما لو وكلا معا فإنه لا يجوز لأحدهما أن يستبد بالتصرف من دون إذن صاحبه، قال البناني عند قوله "ولأحد الوكيلين الاستبداد" ما نصه: أحسن ما يحمل عليه أن يكون خبرا مقدما، ويكون الكلام محمولا على الوكيلين المترتبين، وأما إذا وكلا معا في آن واحد فإنه ليس لأحدهما الاستبداد. انتهى المراد منه. وقال عبد الباقي: وجاز لأحد الوكيلين على غير خصام شخص واحد بل على قبض حق مثلا الاستبداد الاستقلال فيما يفعله دون الآخر، وأنه مبتدأ وخبر وهذا إن وكلا مترتبين، وسواء علم الثاني بالأول أم لا كما هو ظاهر كلامهم ما لم يشترط عدم الاستبداد كما قال: إلا لشرط من الموكل أن لا يستبد، وفي بعض النسخ: ولا لأحد الوكيلين الاستبداد ويحمل على ما إذا وكلا معا في آن

ص: 222

واحد، ويكون معنى قوله:"إلا لشرط" على هذه النسخة إلا لشرط أن يستبد كل منهما فله الاستبداد وكلاهما صحيح، وهذا التفصيل هو المعتمد. قاله عبد الباقي. ثم قال: وأما الوصيان فلا يستقل أحدهما بالتصرف ولو ترتبا؛ لأن الإيصاء إنما يكون عند الموت فلا أثر للترتب الواقع قبله، ولتعذر النظر من الموصي في الرد دون الموكل فإنه حي إن ظهر له فعل أحدهما على غير مراده عزله. اهـ.

قوله: وأما الوصيان فلا يستقل أحدهما بالتصرف لخ، ظاهره ولو زاد الوصي في وصيته أن من عاقه عائق فالباقي منفرد بالوصية وليس كذلك. انظر ما يأتي عند قوله في الوصية:"ولاثنين حمل على التعاون". قاله الرهوني. وقول عبد الباقي: لأن الإيصاء إنما يكون عند الموت أي إنما يظهر أثر الإيصاء ويعمل بمقتضاه بعد الموت.

وإن بعت وباع فالأول ضمير الخطاب للموكل وضمير الغيبة للوكيل؛ يعني أنك يا موكل إذا بعت سلعة وباعها الوكيل فإن المعتبر بيع الأول منكما فهو الماضي والأخير مردود.

إلا لقبض أي إلا لأجل قبض للمبيع من البائع الثاني، فإذا وكلته على بيع عبد فبعته يا موكل ثم باعه الوكيل فإن الذي يمضي بيعك يا موكل ويرد بيع الوكيل إلا أن يكون الوكيل الذي باع أخيرا قد قبض البيع من اشتراه منه ولم يقبضه المشتري منك ياموكل، فيمضي بيع الوكيل ويرد بيعك يا موكل، وكذا يقال في العكس وهذا الذي ذكر المص هو مذهب المدونة، وصرح ابن ناجي بأنه المشهور، قال الخرشي: يعني أن من وكل شخصا على بيع سلعة ثم باعها الموكل وباعها الوكيل أيضا فإن البيع الأول من البيعتين هو الماضي ما لم يكن الثاني قد قبض البيع فإنه يكون أحق به، بشرط أن يكون غير عالم ببيع الأول، وأما إن كان الثاني عالما بأن غيره اشتراه فإنه لا يكون أحق بها قياسا على مسألة ذات الوليين بهذا قيدت المدونة. اهـ.

ونحوه لعبد الباقي، ولفظ عبد الباقي على نسخة بيدي منه هكذا بهذا قيدت المدونة وهي سالمة من الاعتراض، بخلاف ما في بعض نسخه من قوله بهذا قيد تت المدونة بالرمز الذي يشير به إلى ال تتائي وهي تصحيف؛ لأن ال تتائي ليس من رجال المدونة حتى يقيدها، وإنما القيد المذكور أصله في سماع ابن القاسم كما نقله الحطاب قاله البناني، يشير بهذا إلى قول الحطاب ما نصه:

ص: 223

تنبيهان: الأول: إنما يكون الثاني أحق إذا قبض السلعة ولم يعلم ببيع الأول لا هو ولا الذي باعه، وأما إن باع الثاني منهما وهو عالم ببيع الأول أو قبض المشتري الثاني السلعة وهو يعلم ذلك وقت قبضه فالأول أولى قاله في نذر سنة من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات.

الثاني: إذا أكرى الوكيل والموكل فهي للأول على كل حال قاله ابن رشد في الرسم المذكور. ونقله أبو الحسن. اهـ. ولهذا قال المص: "وإن بعت وباع" احترازا مما إذا أكريت أو آجرت وأكرى وآجر، وذكر الرهوني قولين في الإجارة أنها كبيع الذوات فتقول: وإن أكريت وأكرى فالأول إلا لقبض على مقابل ما لابن رشد، وعلى ما لابن رشد اقتصر الحطاب وأصله لابن دحون.

والحاصل أن لكل من القولين مرجحا، وأن ما لابن دحون وابن رشد اعتماده أولى. والله تعالى أعلم. وقوله:"وإن بعت وباع فالأول إلا لقبض" وكذا لو باع الوكيلان فالأول إلا لقبض، هذا هو المتعين، ويشهد له اتفاق الأئمة على تشبيه هذه المسألة بمسألة ذات الوليين، ومسألة ذات الوليين العقدان فيها من الوكيلين لا من الموكلة والوكيل، فلولا أن الحكم سواء ما صح القياس. انظر الرهوني، والبناني.

قال عبد الباقي: وأشعر قول المص: "فالأول " بترتب البيع وعلمه، فإن باعا معا بزمن واحد فقال أحمد: ينبغي أن يكون البيع بينهما، وما في النكاح يرشد إلى ذلك فإنهم عللوا فسخ النكاح بكونه لا يقبل الشركة، فيخرج المبيع لكونه يقبلها. اهـ. ثم قال: وأما إن جهل الزمن فالسلعة لمن قبض، فإن لم يقبض اشتركا إن رضي وإلا اقترعا لرفع ضرر الشركة. انظر التبصرة. وينبغي أن يكون حكم الوكيلين كذلك في أحوال جهل الزمن. اهـ. وقول أحمد: ينبغي أن يكون البيع بينهما، قال الأجهوري: ذكر المتيطى ما يدل له، فإنه قال: ومن أمر ببيع سلعة فباعها الأمور وباعها الآمر فهي لأول المتبايعين إلا أن يقبضها الآخر فتكون له، وإن جهل أولهما والسلعة قائمة قسمت بينهما. اهـ.

وكلام المتيطى إنما هو في صورة جهل أولهما لا في صورة اتحاد زمن عقدهما الذي هو محل توقف أحمد، وقد اختصر الأجهوري المتيطى جدا ونصه على اختصار ابن هارون: قال ابن حبيب: وإن لم يقبض السلعة ولم يعرف الأول منهما وادعى كل واحد منهما أنه أول تحالفا، فإن حلف

ص: 224

أحدهما فقط فهي للحالف، وإن حلفا أو نكلا أو تجاهلا فهي بينهما بأقل الثمنين، قال ابن القاسم: فإن قال أحدهما إنما اشتريتها كلها ولا حاجة لي بنصفها قيل له اذهب ودعها لصاحبك، وقال ابن حبيب: يخير كل واحد منهما في التماسك بنصفها بنصف الثمن أو الفسخ لأجل التشقيص. اهـ. ومراد الأجهوري بقوله ذكر المتيطى ما يدل له لخ -والله أعلم- أنه يدل له بطريق القياس فتأمله. والله أعلم. قاله الرهوني وبه تعلم أن ما توقف فيه أحمد لم يذكره المتيطى بطريق النص، وإنما يؤخذ من كلامه بطريق القياس فنسبة أحمد للقصور بسبب تصريح المتيطى بما توقف فيه ليست على ما ينبغي والله تعالى أعلم.

وقول المص: "وإن بعت وباع فالأول إلا لقبض" قال عبد الباقي: قال أحمد: واستشكل اعتبار القبض بأنه كان ينبغي عدم اعتباره، وفرق بينه وبين التلذذ في النكاح لانكشاف العورات هناك. اهـ. ويجاب بأنه شبيه بالبيع الفاسد الذي يفوت بالقبض أو بالنكاح الفاسد الذي يفوت بالدخول وبأنه يفرض ذلك فيما إذا كان المبيع جارية. اهـ. وقال الرهوني عند قوله "فالأول إلا لقبض" ما نصه: هذا مذهب المدونة، واعتمده غير واحد وقال المغيرة وابن عبد الحكم: هي للأول مطلقا، وقال القرافي: إنه الصحيح وأنكر مقابله غاية، وفرق بين هذا ومسألة ذات الوليين بأن الكشف في ذات الوليين أمر عظيم فلذلك كان الدخول فيها فوتا، وقال أبو علي: وكلامه لمن أنصف لخ، قال الرهوني: وهو ظاهر وإن كان ابن ناجي في شرح المدونة صرح بأن مذهبها هو المشهور. والله أعلم. اهـ.

فرع: قوله: "إلا لقبض" فإن ادعى أحدهما القبض ونازعه الآخر فعلى مدعي القبض البينة أنه قبض. قاله في نوازل الشركة من العيار من جواب العتبي وهو ظاهر. قاله الرهوني.

ولك قبض سلمه لك يعني أن الموكل له أن يقبض سلم الوكيل له، فإذا أسلم وكيلك شيئا في شيء فإنه يجوز لك يا موكل أن تأخذ ذلك الشيء المسلم فيه، والحال أن الوكيل غير حاضر ولو لم يأمر السلم إليه بدفعه لك، ومحل هذا إن ثبت أن السلم لك ببينة لا بقول السلم إليه هذا هو الراجح، ومقابله أنك تأخذه بإقرار المسلم إليه، قال عبد الباقي: قوله ولك أي جبرا على المسلم إليه، ومفهوم الشرط أنه إن لم يثبت ببينة لم يلزمه دفعه وهو كذلك، وتحته صورتان: إحداهما إقرار

ص: 225

المسلم إليه أن الوكيل اعترف له بأنه لهذا، والثانية مجرد دعوى الموكل ولا يكون المسلم إليه شاهدا للموكل أن السلم له على أحد قولين؛ لأن في شهادته له منفعة وهي تفريغ ذمته وهذا هو المعتمد، وقيل يكون شاهدا له لأنه قادر على تفريغ ذمته بالرفع للحاكم. اهـ بالمعنى. قوله: وتحته صورتان لخ: قال الرهوني: الثانية منهما لا خلاف أنه لا يقضى على المطلوب فيها بأن يدفع للطالب والأولى فيها قولان، وما اقتصر عليه الزرقاني فيها هو ظاهر المص وهو قول القابسي، وقال بعض القرويين: يقضى عليه بالدفع، قال الحطاب: وما قاله القابسي من عدم جبره على الدفع هو الذي جزم به القاضي عبد الوهاب في المعونة وعليه اقتصر اللخمي في كتاب الوديعة، وقال ابن فرحون في تبصرته: إنه المشهور، ولهذه المسألة نظائر منها أن يدعي شخص على مدين أنه وكيل رب الدين، ولا يأتي بحجة فيصدقه المطلوب في الوكالة ويمتنع من الدفع وقد ذكرها الحطاب عند قوله فيما مر "وواحد في خصومة"، وصرح فيها أيضا بأن المشهور أنه لا يجبر على الدفع.

الشارح عن ابن يونس عن أبي الحسن القابسي ولو أقر الذي عليه الطعام أن المأمور أقر عنده أن الطعام لفلان ولا بينة بذلك فلا يجبر المقر أن يدفع الطعام للمقر له، ولا يكون شاهدا لأن في شهادته منفعة لنفسه؛ لأنه يريد أن يفرغ ذمته، قال: وقد روى بعض أصحابنا أنه يؤمر بالدفع للمقر له، فإن جاء الأمور فصدقه برئ وإلا غرمه ثانية؛ يعني أن بعض أصحاب ابن يونس قال إنه يكون شاهدا فتجوز شهادته إذا كان عدلا ويحلف المقر له ويستحق.

والقول لك إن ادعى الإذن المراد بالإذن التوكيل؛ يعني أنه إذا تنازع شخصان في التوكيل فادعى أحدهما على الآخر أنه وكله وادعى الآخر أنه لم يوكله، فالقول للذي قال إنه لم يوكل، فإذا باع عمرو سلعة لزيد وادعى أن زيدا وكله على بيعها وادعى زيد أنه لم يوكله أصلا لا على بيعها ولا على غيره فإن القول لزيد، قوله:"والقول لك إن ادعى الإذن" بيمين إن حقق عليه المشتري الدعوى وإلا جرى على أيمان التهم، قال البناني: الصواب ما في ال تتائي الكبير من أن المراد بالإذن التوكيل وأن النزاع في أصل التوكيل وبهذا كان يقرره المسناوي، وحينئذ فتسميته وكيلا وموكلا باعتبار الدعوى فقط، وما في الزرقاني والخرشي من أن أصل التوكيل ثابت وأن النزاع هل أذن في البيع مثلا فليس بصواب لأنه من النزاع في الصفة، وهو المصورة الآتية في المص فتأمله يعني

ص: 226

المصورة المشار إليها بقوله: أو صفة له يعني أن الموكل والوكيل إذا اتفقا على الإذن أي التوكيل واختلفا في صفة الإذن، فقال الموكل: وكلتك على بيع كذا، وقال الوكيل: بل وكلتني على دفعه لزيد مثلا فإن القول للموكل بيمين، قال عبد الباقي ممثلا لقوله "أو صفة له": كأن قلت أذنت في رهنه، وقال في بيعه أو صدقته على البيع واختلفتما في جنس الثمن فالقول لك بيمين. اهـ.

وقال الرهوني: أو صفة له كلامه يشمل ما إذا قال وكلتني على دفع كذا لزيد ويقول الموكل بل على دفعه لخالد، فيكون المص ذاهبا فيها على قول مالك ومن وافقه، ففي المنتخب ما نصه: وفي كتاب ابن حبيب: وسألت مطرف بن عبد الله عن الرجل يرسل مع رجل المال إلى رجل فيختلف الآمر والأمور، يقول المأمور: أمرتني بدفعه إلى فلان وقد فعلت، ويقول الآمر ما أمرتك بدفعه إلا إلى فلان لغير الذي دفعه إليه الأمور ولا بينة، فقال الذي سمعت من مالك القول للآمر ويضمن الأمور المال ولا يرجع به على الذي دفعه إليه؛ لأنه قد أقر له أن المال ماله وأنه إليه أمر بدفعه، وأن هذا كاذب في قوله وظالم له فيما رجع فيه، قال عبد الملك: وسألت عن ذلك ابن الماجشون، فقال مثل قول مطرف إلا أنه رأى للمأمور أن يرجع بالمال

(1)

إذا أغرمه على من كان دفعه إليه، واحتج بأنه. يقول لم أهبك شيئا من عندي إنما بلغتك رسالة غيري فإنه قد رجع عن ذلك وكذبني فاردد إلي ما أتيتك به، قال: فأرى ذلك له، قال: وسألت عن ذلك أصبغ بن الفرج فقال لي: كان ابن القاسم يقول: إذا قال الآمر أمرتك بدفع المال إلى فلان، وقال الأمور بل إلى فلان فالقول قول المأمور لأن الآمر قد أقر له بالدفع إلى آخر. اهـ. ومثله في المفيد عن الكافي، وزاد ما نصه: وقال أصبغ عن ابن القاسم القول قول المأمور وبه العمل. اهـ. وصحح في الشامل الأول ونصه: لو قلت أمرتك بدفعه لزيد فقال لعمرو وقد فعلت ضمن ولا يرجع به على عمرو على الأصح فيهما. انتهى.

وقال المواق: ابن شاس: إن تنازعا في أصل الإذن أو صفته أو قدره فالقول فيه قول الموكل، فلو قال: وكلتني وقلت أنت ما وكلتك كان القول قولك، ومن المدونة: قال مالك: إذا باع الأمور السلعة بطعام أو عرض، وقال بذلك أمرني وأنكر الآمر، فإن كانت مما لا تباع بذلك ضمن، وقال المغيرة: إن كانت السلعة قائمة لم يضمن وخير الآمر في الرد والإمضاء، فإن فاتت خير الموكل في أخذ ما

(1)

في الأصل: المال، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 132.

ص: 227

بيعت به وتضمين الوكيل قيمتها. عياض: قول الغير وفاق، ومن المدونة أيضا: إذا باع الوكيل السلعة وقال بذلك أمرني ربها، وقال ربها أمرتك أن ترهنها صدق ربها مع يمينه فاتت أو لم تفت. انتهى. وقال الخرشي: وقوله: أو صفة له أي للإذن ولو شهدت العادة للوكيل، وإذا اشترى لفلان فأنكر فلان فالشراء لازم للوكيل. اهـ.

إلا أن يشتري بالثمن فزعمت أنك أمرته بغيره يعني أنه إذا تنازع الموكل والوكيل في صفة التوكيل فإن القول قول الموكل إلا فيما إذا اشترى الوكيل شيئا بثمن كعشرة، وزعم الموكل أنه أمره باشتراء شيء غير ذلك الشيء الذي اشتراه الوكيل، فإن القول للوكيل بأربعة قيود، أحدها أشار إليه بقوله: وحلف أي الوكيل أي والحال أنه حلف أي القول قول الوكيل بشرط أن يدعي الإذن وأن يحلف كما قال المص، وأن يكون الثمن معا يغاب عليه وأن يشبه قوله، قال عبد الباقي: واستثنى من كون القول للموكل مسألتين: أولاهما قوله: "إلا أن يشتري بالثمن شيئا فزعمت أنك أمرته بغيره" أي باشتراء شيء غير ما اشتراه وحلف فالقول قوله بقيود أربعة: أن يدعي الإذن ويحلف كما قال المص، وأن يكون الثمن معا يغاب عليه، وأن يشبه كان الثمن باقيا بيد البائع أم لا إلا إن أعلم البائع له أنه وكيل فالقول لك بيمين فيما يظهر إن كان الثمن باقيا، فإن فات بيد البائع فالقول للوكيل أيضا بيمينه، ومفهوم حلف أنه إن نكل حلف الموكل وغرم الوكيل الثمن الذي تعدى عليه، فإن نكل فلا شيء على الوكيل وتلزمه السلعة المشتراة.

قيل: لا حاجة لقوله: "فزعمت أنك أمرته بغيره" لأن الاستثناء مفيد له إذ هو من أفراد قوله" "أو صفة له": والجواب أنه لو أسقطه لاحتمل رجوع الاستثناء للمسألتين وهو لا يصح، ومعنى الأولى على تقدير رجوع الاستثناء لها أيضا أن شخصا دفع لآخر شيئا وادعى المدفوع له أنه دفعه ثمنا لسلعة يشتريها وقد فعل ذلك وادعى الدافع أنه دفعه وديعة، فالقول قول الدافع وحينئذ فإطلاق الثمن باعتبار قول المدفوع له. اهـ.

قوله: فالقول لك بيمين فيما يظهر لخ، قال البناني: هذا قصور فإن الحطاب نقله عن اللخمي وأنه حكى فيه الاتفاق على أن القول للموكل. اهـ. وكلام الحطاب الذي أشار إليه هو قوله: عند قوله: "وحلف" هذا هو مذهب المدونة، فإن نكل المأمور عن اليمين فالقول قول الآمر، والظاهر أن ذلك

ص: 228

بعد يمينه وهذا إذا فات الثمن، وأما إذا كان باقيا بيد البائع وكان الوكيل أعلمه أنه إنما يشتري لفلان فالقول قول الموكل اتفاقا. قاله اللخمي. ونحوه في الرجراجي. والله أعلم انتهى.

قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أنه لا قصور في كلام عبد الباقي؛ لأن قوله فيما يظهر إنما يرجع لقوله: "بيمين" والله تعالى أعلم.

وأشار إلى الثانية بقوله: كقوله أمرت ببيعه بعشرة وأشبهت يعني أن القول للموكل فيما إذا اختلف هو والوكيل في صفة التوكيل إلا في مسألتين: إحداهما هي قوله: إلا أن يشتري لخ، والأخرى هذه وصورتها أن يدفع الموكل للوكيل سلعة فباعها الوكيل بعشرة، وقال إن الموكل أمره بذلك وأشبهت العشرة أن تكون ثمنا لها، وقال الموكل أمرتك أن تبيعها بأكثر من عشرة كخمسة عشر كما قال المص، وقلت يا موكل لوكيلك أمرتك ببيع سلعتي بأكثر من عشرة وفات المبيع بيد المشتري بزوال عينه، أو كان قائما لم يفت والحال أنك لم تحلف يا موكل، فإن حلفت فالقول لك ولا يراعى في بقائه شبه ولا عدمه.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: علم من هذا أن القول للوكيل حيث اختلف هو والموكل في صفة الإذن في صورتين: إحداهما في البيع والأخرى في الشراء، قال عبد الباقي: وتلخص من كلامه في المسألة الثانية منطوقا ومفهوما أن القول للموكل في ثلاث مسائل وهي: إذا فات البيع بزوال عينه وأشبه الموكل وحده أو لم يشبه واحد منهما، أو كان المبيع قائما وحلف والقول للوكيل في ثلاث أيضا: فوات المبيع وأشبه سواء أشبه الموكل أم لا أو لم يفت ولم يحلف الموكل، وهذه الثلاث مستفادة من قوله:"كقوله أمرت" إلى قوله: "ولم تحلف". والثلاث الأول مستفادة من مفهومه الأوليان من مفهوم وأشبهت، والثالثة من مفهوم ولم تحلف ثم حيث كان القول للموكل فيحلف ويأخذ ما ادعاه وهو القدر الزائد على العشرة في الفرض المذكور، فإن نكل دفع الوكيل العشرة فقط وهل بيمين قولان، وعلى الأول فإن نكل غرم ما ادعاه الموكل على الراجح، وقيل: العشرة فقط.

تنبيه: قوله: "وفات المبيع" أي تحقق فوته، فإن جهل ولم يعلم إلا من قول مشتريه أحلف إن حقق ربها أنه جحده، فإن اتهمه فعلى أيمان التهم، فإذا حلف مع تحقيق الدعوى عليه ثبت ما ادعاه من الفوات، وكذا إن اتهمه حيث كان متهما وإلا قبل قوله" "بلا يمين" فإن نكل فيما

ص: 229

يحلف فيه عمل بقول منازعه من موكل أو وكيله بمجرد نكوله في الاتهام وبعد حلفه في دعوى التحقيق، وينبغي أن يجرى ذلك في منازعة الموكل والوكيل في الفوات. اهـ كلام عبد الباقي. وقال الخرشي: قوله: "وفات البيع بزوال عينه" أي أو فوات المقصود منه. اهـ.

وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: إن دفعت إليه ألف درهم فاشترى بها ثمرا أو ثوبا، وقال بذلك أمرتني وقلت أنت ما أمرتك إلا بحنطة، فالمأمور مصدق مع يمينه إذ الثمن مستهلك كفوت السلعة. ابن حبيب: وقاله مطرف وابن الماجشون وبه أقول، ومن المدونة قال مالك: إذا باع الوكيل السلعة بعشرة، وقال بذلك أمرني ربها، وقال ربها: ما أمرتك إلا باثني عشر فإن فاتت حلف المأمور وبرئ، قال ابن القاسم: ما لم يبع بما يستنكر وفوتها هنا بزوال عينها، وكذلك روى الأندلسيون عن ابن القاسم، قال مالك: فإن لم تفت حلف الآمر وأخذها، ابن المواز: فإن نكل فله عشرة. انتهى المراد منه.

وإن وكلته على أخذ جارية أي على شرائها على صفة عينتها له فاشترى جارية فبعث بها أي بالجارية التي اشتراها فوطئت، يحتمل أنه بفتح التاء فيكون خطابا للموكل، ويحتمل أنه بسكون التاء مبنيا للمجهول وضمير النائب عائد على الجارية أي وطئها الموكل، ثم بعد وطء الموكل للجارية التي بعثت قدم الوكيل بجارية أخرى، وقال الوكيل: هذه الجارية التي قدمت بها لك يا موكل، والأولى التي بعثت بها إليك وديعة أي بعثت بها إليك لتكون وديعة عندك، وليست هي التي وكلتني على شرائها وإنما التي وكلتني على شرائها هي التي قدمت بها، فإن كان الوكيل لم يبين لك حين بعث الأولى مع من بعثها معه أو مع غيره أنها وديعة، أو بين للرسول ولم يعلمك الرسول بذلك كما في أحمد، وحلف الوكيل على ما ادعى من أنها وديعة أخذها أي الأولى الوكيل وأخذ الموكل الثانية.

ومفهوم قوله: "لم يبين" أنه إن بين أنها وديعة وبلغ الرسول ذلك للموكل أخذها الوكيل بغير يمين وطئت أم لا، وكذا يأخذها بغير يمين إن لم يبين ولم يطأ، وإذا وطئها مع البيان من غير بينة فقرر الجيزي أنه يحد والولد رقيق، ويأخذه مع أمه من غير يمين لأنها مودعة، وقرر البدر القرافي أنه لا حد عليه لاحتمال كذب المبلغ وللخلاف في قبول قول المأمور إنه اشتراها لنفسه، وهاتان شبهتان

ص: 230

ينفيان عنه الحد، والظاهر أن القول لمدعي عدم البيان عند عدم ثبوته وإنكاره؛ لأن الأصل عدم العداء. قاله عبد الباقي. قوله: وقرر البدر القرافي أنه لا حد عليه لخ، قال البناني: هذا هو الظاهر. قاله الشيخ المسناوي. انتهى.

إلا أن تفوت بكولد أو تدبير يعني أن محل أخذ الوكيل للأمة الأولى حيث لم يبين أنها وديعة إنما هو حيث لم تفت بما ذكر، وأما إن فاتت بولد أو تدبير أو عتق فليس له أخذها وتكون للواطئ بالثمن الذي سماه الآمر، فإن ادعى المأمور زيادة يسيرة قبل قوله كما تقدم في قوله:"إلا كدينارين في أربعين" وأولى فواتها بذهاب عينها لا ببيع أو هبة أو صدقة. قاله عبد الباقي.

تنبيهات: الأول: قوله: "إلا أن تفوت" إن حمل على ظاهره كما قررت من أنه مع عدم البيان كان الاستثناء متصلا، قال عبد الباقي: إلا أن تفوت مع عدم البيان فالاستثناء متصل كما في أحمد.

الثاني: قد علمت من كلام عبد الباقي وغيره أن الكتابة مما يدخل تحت الكاف، قال الرهوني: إن لم يدع ذلك أي أن الأولى وديعة حتى أديت الكتابة فلا إشكال، وإن اطلع على ذلك قبل الأداء وقبل العجز فعلى القول إنها عتق لا إشكال، وانظر على القول بأنها بيع هل له أخذها لأن البيع هنا غير مفيت؟ أو يقال هنا بالفوات على القول بأنه بيع أيضا مراعاة للقول الآخر، وانظر إذا لم يطلع على ذلك إلا بعد العجز والظاهر أن له أخذها إن لم يبق لعقد الكتابة السابق أثر. فتأمله فإني لم أر من تعرض لذلك. اهـ.

الثالث: قال ابن ناجي في شرح المدونة ما نصه: وما ذكر في الكتابة والعتق والتدبير يدل على خلاف ما أفتى به ابن رشد لعياض في رجل أوصى بشراء دار وتوقف حبسا على مسجد فاشترى من ماله وزاد من ماله شيئا وحبس الدار ثم اطلع على عيوب في الدار مفيتة الكثيرة من منافعها توجب ردها، فإن تحبيسها لا يفيت ردها بالعيب وإنما يكون التحبيس مفيتا في الدار يشتريها الرجل لنفسه ثم يحبسها ثم يطلع على عيب. اهـ.

إلا لبينة مستثنى من المستثنى يعني أن محل كون الوكيل لا يأخذ الأمة المذكورة حيث فاتت بكولد أو تدبير إنما هو حيث لم تقم للوكيل بينة أشهدها عند الشراء أو الإرسال أنها له أو أنها وديعة عند المرسل إليه، وأما إن قامت له بينة بذلك ولم يبينها حال الإرسال فإنه يأخذها ولو أعتقها

ص: 231

الموكل أو أولدها، ويغرم قيمة الولد يوم الحكم كما في الأمة المستحقة على أحد الأقوال، والفرق بينهما حيث أخذها مع قيمة ولدها وبين المستحقة على ما مشى عليه المص فيها من أنه يأخذ قيمتها وقيمة الولد أنه هنا وطئها مع تجويز أنها ليست له، بخلاف المستحقة. وقولي: ولم يبينها حال الإرسال مفهومه لو بين مع البينة حين البعث أنها لغير المرسل إليه فيأخذها وولدها لأنه رقيق وحُدَّ الواطئ مع البيان والبينة لا معه بدونها ولا معها بدونه كما مر. قاله عبد الباقي.

ولزمتك الأخرى أي ولزمتك يا موكل الأمة الأخرى في المسألتين، وهي التي قدم بها الوكيل وهما إذا لم يبين وحلف وأخذها، وما إذا قامت بينة على دعواه وهذا تصريح بما فهم مما تقدم بطريق اللزوم، وذلك أن المستفاد مما تقدم أنه يقبل قوله، وإذا قبل لزم من ذلك أن الموكل يلزمه ما اشتراه وكيله كما في أحمد. قاله عبد الباقي. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: من وكل رجلا يشتري له جارية بربرية فبعث بها إليه فوطئها ثم قدم الوكيل بأخرى فقال هذه لك والأولى وديعة، ولم يكن الوكيل بين ذلك حين بعث بها فإن لم تفت حلف وأخذها ودفع إليه الثانية، قال ابن القاسم: وإن فاتت الأولى بولد منه أو عتق أو تدبير أو كتابة لم يصدق الأمور إلا أن يقيم بينة فيأخذها، قال سحنون: ويأخذ قيمة ولدها، قال ابن القاسم: وتلزم الجارية الآمر قال في كتاب ابن المواز: فإن لم تكن له بينة لم يقبل قوله. انتهى.

وإن أمرته بمائة أي بشراء جارية بمائة فاشترى جارية وبعث بها إليك ثم قدم، فقال أخذتها بمائة وخمسين، فإن لم تفت بكولد أو تدبير أو كتابة خيرت يا موكل في أخذهما أي الجارية التي بعث بها إليك بما قال إنه اشتراها به وهو المائة والخمسون بعد يمين الوكيل أنه اشتراها بذلك وردِّها وأخذ المائة، ولا شيء على الموكل في وطئها إن كان قد وطئها، فإن لم يحلف على شرائها بمائة وخمسين فليس له إلا المائة إن كان قد دفعها من ماله، وقوله:"وحلف" محله إن لم تقم بينة بما انتحترى وإلا خير الموكل من غير يمين الوكيل في أخذها بما قال وردها، ومحل التخيير في قسمي عدم فواتها ما لم يطل الزمن بعد قبضها بلا عذر فلا زيادة. قاله عبد الباقي.

وإلا بأن فاتت بولد أو كتابة أو تدبير أو عتق لم يلزمك يا موكل إلا المائة التي أمرته بالشراء بها، ولو أقام بينة بشرائها بما قال لتفريطه حيث لم يعلمه بالزيادة حتى فاتت فصار كالمتطوع بها

ص: 232

البساطي، إنما جعلوا له أخذها في المسألة السابقة مع قيام البينة دون هذه لأنها هناك ملك للوكيل وملك الغير لا يفوت، وهنا البينة على زيادة الثمن على ما أذن له فيه والجارية على ملكه. اهـ.

ثم إذا ادعى زيادة ثمن في الأولى فإن أخذها فلا شيء له وإن تركها بفواتها فلا شيء له أيضا لعدم قبول قوله في ذلك، وكذا إن كان يأخذها بعد اليمين ونكل، وإن كان يأخذها بلا يمين وتركها فله الزيادة حيث رضي الموكل بأخذها كذا ينبغي. قاله عبد الباقي. قوله: ولو أقام بينة بشرائها بما قال لخ أي خلافا لما قاله سحنون في غير المدونة كما نقله عنه ابن يونس، ثم قال ما نصه: محمد بن يونس: وهذا الذي ذكره سحنون من قيام البينة ظاهره خلاف المدونة؛ لأن المأمور مصدق في الزيادة التي تشبه فهو كقيام البينة عليها، فكذلك يكون مصدقا في الزيادة الكثيرة ويحلف ويكون ذلك كقيام البينة، ولأنه فرط إذا لم يعلمه وسلطه عليها فهو كالمتطوع بالزيادة، وفي المستخرجة ما يدل على ذلك. انتهى.

وإن ردت دراهمك لزيف فإن عرفها مأمورك لزمتك يعني أن الشخص إذا وكل شخصا على أن يسلم له دراهم مثلا في عرض أو طعام ثم أتى المسلم إليه بدراهم زائفة وزعم أنها دراهمك يا موكل، فإن عرفها مأمورك لزمتك يا موكل أي لزمك ابدالها للمسلم إليه، قال في المدونة: وإن أمرت رجلا يسلم لك دراهم دفعتها إليه في طعام ففعل ثم أتى البائع بدراهم زائفة ليبدلها وزعم أنها التي قبضها، فإن عرفها المأمور لزمت الآمر أنكرها أم لا، واختلف الشيوخ في معنى المدونة فقال ابن يونس: معناها أنه يلزمك إبدال الدراهم الزائفة بدراهم سالمة، سواء قبضت المسلم فيه أم لا، وقال عن بعضهم: معنى ذلك أن الآمر لم يقبض المسلم فيه، وأما لو قبضه فلم يقبل عليه قول الوكيل، وإلى هذا الخلاف في معنى المدونة أشار المص بقوله: وهل تلزم يا موكل تلك الدراهم الزائفة وتعطى للمسلم إليه دراهم سالمة بدلها؟ وإن قبضت المسلم فيه أو لا يلزمك بدلها إلا إذا لم تقبض المسلم فيه، وأما إن قبضته فلا يلزمك بدلها.

وقوله: تأويلان مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان، وقد علمت أن الأول لابن يونس والثاني نقله ابن يونس عن بعضهم، قال عبد الباقي: وإن ردت دراهمك التي دفعتها لمأمورك على أن يسلمها لك في طعام مثلا لزيف فيها كلها أو في بعضها، فإن عرفها مأمورك لزمتك فتبدلها بدون

ص: 233

يمين على المأمور إلا أن تدعي أنه أبدلها فتحلفه إن اتهم كما في أحمد، وهل اللزوم وإن قبضت ما وقعت فيه الوكالة بناء على أن الوكيل لا ينعزل بمجرد قبض الشيء الموكل عليه أو محل اللزوم ما لم يقبض المسلم فيه، فإن قبضه لم يلزمه ولم يقبل قول الوكيل إنها دراهم موكله بناء على عزله بمجرد قبض الموكل ما وكله فيه. تأويلان، وعلى الثاني فهل لا يلزم الوكيل أيضا إبدالها أو يلزمه كما إذا قبضها ولم يعرفها والأول هو المطابق للنقل والتأويلان في غير المفوض، وأما هو فلا ينعزل بقبض الموكل فيقبل قوله. انتهى.

قوله: وعلى الثاني فهل لا يلزم الوكيل أيضا إبدالها؟ لخ قال الرهوني: الظاهر أنه لا محل لهذا التردد؛ لأنه إن كان أعلمه أولا بأنه وكيل فلا وجه لإلزامه بدلها وإن لم يعلمه بذلك ولا علم من غيره فلا وجه لعدم إلزامه بدلها. فتأمله. والله أعلم. اهـ. وقال الحطاب عند قوله: "تأويلان" ما نصه: قيد الرجراجي الخلاف بغير المفوض، وأما المفوض فلا خلاف أن قوله فيما قبله مقبول ويلزم الآمر البدل، وعلم مما مر أن التأويل الأول هو المذهب وقد صرح بذلك الخرشي، وإلا يعرفها المأمور فإن قبلها حين ردت إليه حلفت يا موكل، وهل تحلف يا موكل مطلقا أعدم المأمور أو أيسر؟ لاحتمال نكولك فتغرم ولا يغرم الوكيل وهي يمين تهمة كما في الشارح، والا لم يغرم بمجرد نكوله، أو إنما تحلف يا موكل لعدم أي لأجل أو مع عسر المأمور لا مع يسره؛ لأن من حجة الآمر أن يقول للوكيل أنت قد التزمت الثمن بقبولك له فلا تباعة لك ولا للبائع علي، وذكر مفعول حلفت وفيه صفة يمينه من حيث المعنى بقوله: ما دفعت إلا جيادا في علمك زاد في المدونة: ولا تعرفها من دراهمك، ويضم الحالف التاء المثناة فوق، وأما المص فيفتحِها لأنه أمر للموكل، وظاهر المص الحلف على نفي العلم ولو صيرفيا، وما مر من زيادة المدونة ظاهر إذ قد تكون جيادا في علمه ولكن يعرف الآن أنها من دراهمه، وإذا حلفت يا آمر لزمته أي المأمور. قال جميعه عبد الباقي.

وقوله تأويلان مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان نقلهما عياض ولم يعزهما، وعزا المواق الثاني لأبي عمران. قاله البناني. وكذا عزاه الشارح لأبي عمران وقوله:"ولزمته" أي لزمت الدراهم المأمور بمعنى أنه تكون له ويبدلها للمسلم إليه بدراهم جيدة، قال ابن القاسم: إن أمرت رجلا يسلم لك دراهم دفعتها إليه في طعام ففعل، ثم أتى البائع بدراهم زائفة ليبدلها فزعم أنها التي قبض فإن

ص: 234

عرفها المأمور لزمت الآمر أنكرها أم لا؛ لأنه أمينه وإن لم يعرفها المأمور وقبلها حلف الآمر أنه ما عرفها من دراهمه وما أعطاه إلا جيادا في علمه وبرئ وأبدلها المأمور لقبوله إياها، وإلا فإن لم يقبل المأمور الدراهم ولا عرفها حلف المأمور كذلك أي أنه ما أعطاه إلا جيادا في علمه ولا يعرفها من دراهم موكله وبرئ.

وحلف بتشديد اللام فاعله البائع ومفعوله محذوف وهو الآمر، فكل من الآمر والوكيل يحلف. قاله عبد الباقي. وقال المواق: قال ابن القاسم: وإن لم يقبلها المأمور ولا عرفها حلف المأمور ما أعطاه إلا جيادا في علمه وبرء، وللبائع أن يحلف الآمر أنه ما يعرفها من دراهمه وما أعطاه إلا جيادا في علمه ثم تلزم البائع.

وفي المبدإ تأويلان يعني أنه اختلف شراح المدونة في الذي يبدأ باليمين من الآمر والوكيل، هل الوكيل لأنه المباشر للدفع وهو الذي تأول أبو محمد المدونة عليه، أو الموكل لأنه صاحب الدراهم؟ وهذا التأويل ذكره الرجراجي ولم يعزه، قال الحطاب عند قوله:"وفي المبدإ تأويلان" ما نصه: ذكر الرجراجي في المسألة ثلاثة أقوال تبدئة الآمر وتبدئة المأمور وتخيير البائع؛ أي فيبدأ بيمين من شاء منهما كما في المواق، قال الرجراجي: وتؤولت المدونة على كل واحد من هذه الأقوال، ويظهر من كلام المص أنه لم يذكر إلا التأويلين: تبدئة المأمور وهو الذي في كتاب محمد، وتأول أبو محمد المدونة عليه واختصرها عليه، وتبدئة الآمر ولم يعزه الرجراجي لأحد وإنما ذكره، وقال: تؤولت المدونة عليه، والثالث تأويل ابن يونس، فإن بدأ البائع بيمين الآمر فنكل حلف البائع وأغرم الآمر ثم لا رجوع له على المأمور إلا أن يتهمه ببدلها فيحلف، وإن نكل البائع هنا لم يكن له أن يحلف المأمور لأن نكوله عن يمين الآمر نكول عن يمين المأمور، وإن بدأ بالمأمور فنكل حلف البائع وأبدلها المأمور ثم هل له تحليف الآمر؟ قولان. قاله الرجراجي وأبو الحسن. اهـ كلام الحطاب.

وقال عبد الباقي: وإذا بدأ البائع بيمين الآمر فنكل حلف البائع وأغرم الآمر، وللآمر تحليف المأمور إن ادعى عليه أنه أبدلها، وإذا بدأ بيمين المأمور فنكل حلف البائع وأغرم المأمور، وهل له تحليف الآمر؟ قولان. اهـ.

ص: 235

وانعزل بموت موكله يعني أن الوكيل ولو مفوضا ينعزل بموت موكله لأنه نائب عشه في ماله وقد انتقل لوارثه فلا يتصرف فيه بغير إذنه فلا يلزمهم ما باع وابتاع بعده، ومثله فلسه الأخص لانتقال الحق للغرماء، ومحل عزل الوكيل بموت موكله إن علم الوكيل بموت موكله، قال البناني: وكذا ينعزل بتمام الموكل عليه إذا كان موكلا على شيء مخصوص، فإن كان مفوضا لم ينعزل إلا بعزل الموكل أو بموته أو بمضي سنة هذا إذا لم يصرح في الوكالة بالدوام والاستمرار وإلا فتستمر. قاله في القوانين. ونحوه قول المجالس الذي عليه العمل تجديد الوكالة بعد ستة أشهر هذا إذا كانت فترة في خلال العمل، أما إذا كان خصامه متصلا فلا ينسخه الزمان. انتهى. قوله: فإن كان مفوضا لم ينعزل إلا بعزل الموكل أو موته، قال الرهوني: انعزاله بموت الموكل هو المشهور، وقال ابن الحاجب: وقيل لا ينعزل المفوض إليه إلا بعزل الورثة. اهـ. قال في التوضيح: والقول بأنه لا ينعزل المفوض إلا بعزل الورثة لمطرف وابن الماجشون، ووجهه القياس على القاضي والأمير فإنهما لا ينعزلان بموت الخليفة، والفرق للأول أن الوكيل إنما قدم لمصلحة الموكل. وقد حكى أبو المنذر إجماع العلماء على مثل المشهور. اهـ محل الحاجة بلفظه.

وعبارة ابن عبد السلام هي ما نصه: لأن القاضي والأمير لم يقدما في الحقيقة لتحصيل مصالح الخليفة من حيث هو خليفة، وإنما قدما لتحصيل مصالح المسلمين ومن قدما للنظر في مصالحه باق، فوجب بقاؤهما على الحال الذي كانا عليه ما لم يعزلهما الخليفة الوالي بعد الخليفة الميت، وقوله: أو بمضي ستة أشهر لخ، قال الرهوني: انظر من قال هذا في الوكيل الفوض إليه، وإحالته على مجالس المكناسي فيها نظر لأن الذي فيها ما نصه: هل ينسخه طول الزمان أم لا؟ فالقول أن الفصل الذي نحن بسبيله من توكيل الخصام الذي استمر عليه العمل أنه يفتقر إلى تجديد إذا جاوز ستة أشهر إذا كانت فترة في خلال العمل، وأما إذا كان خصامه متصلا فلا ينسخه طول الزمان. اهـ منها بلفظها.

ونص القوانين الذي أشار إليه هو قوله: وتبطل الوكالة إذا طالت مدتها نحو ستة أشهر إلا أن يجعلها على الدوام أو تكون على أمر معين فلا تبطل حتى ينقضي. اهـ منها بلفظها. وليس نصا فيما عزاه لها وإنما هو ظاهر فيرد لكلام غيره، ولا يصح قياس الوكيل المفوض إليه على غيره

ص: 236

لظهور الفارق بينهما واختلافهما في أحكام كثيرة، فالظاهر ما جزم به التاودي في شرح اللامية عند قولها: وهل تنتهي بالسكت ستة أشهر؟ لخ فإنه قال بعد تقريره وذِكْرِ بعض ما يتعلق به: ما نصه: وهذا كله ما لم يكن مفوضا وإلا خاصم من شاء عند من شاء متى شاء. اهـ منه بلفظه. ويشهد له ما تقدم من كلام ابن عبد السلام في الفرق بين موت الموكل في التفويض وموت الخليفة من قوله: "ومن قدما للنظر في مصالحه باق فوجب بقاؤهما" لخ، فإنه يدل على أن حكم الوكيل المفوض إليه في حياة موكله وحكم القاضي والأمير في حياة الخليفة سواء باتفاق، وكذا بعده عند مطرف وابن الماجشون لا عند جل أهل المذهب للفرق المذكور.

وفي نوازل الوكالات من المعيار ما نصه: وسئل العالم أبو عبد الله سيدي محمد بن مرزوق رحمه الله عن حكم الوكالة المفوضة إن طال أمرها هل حكمها كحكم وكالة الخصام تجدد

(1)

ستة أشهر على ما حكى ابن سهل عن بعض شيوخه أم لا وتستمر، أو يفرق بين أن ينص الموثق على الدوام والاستمرار فتستمر أم لا؟ ومن نص على ذلك؟ إلى آخر السؤال، فأجاب: لا تحتاج الوكالة المفوضة ولا غيرها إلى تجديد لما علمت من قول سحنون في وكالة الخصام على ما نقل عنه ابن سهل وغيره، وهو في النوادر وغيره فأحرى المفوضة وهذا مستند إلى مدرك من مدارك الأحكام وهو الأصل بقاء ما كان إلى أن قال: ويكفيك نص سحنون وأين هو من شيخ أبي الأصبغ الذي لم يسمه حتى تعرف مرتبته إلى أن قال: وقول من قال لا يلزم الوكيل إحضار موكله صواب، والقول بإلزام ذلك مطلقا لا يعقل؛ لأن يد الوكيل كيد موكله وهو نائبه فيما لزمه حضر أو غاب، وإلا فأي فائدة للوكالة إن لم يكن كذلك هذا إذا كان المراد إحضاره ليتكلم أو يخاصم، وإن كان إحضاره ليغرم المال فالوكيل لا يلزمه ذلك، وكذلك اليمين إن توجهت عليه كما ذكر في الغائب. اهـ. فقد جزم هذا الإمام بأنه لا يحتاج في الوكالة المفوضة إلى تجديدها وأخذه من قول سحنون بالأحروية، ولم يحك في ذلك خلافا أصلا ولم يتخرج فيها الخلاف من قول الشيخ أبي الأصبغ لما أشار إليه من الفرق بذكره الأحروية. فتأمله والله أعلم.

(1)

في الرهوني ج 6 ص 135: تجدد بعد ستة أشهر.

ص: 237

وإلا يعلم الوكيل بموت موكله فتأويلان في عزله بمجرد الموت أو حتى يبلغه موته، وعلى الأول لو اشترى الوكيل أو باع بعد موت موكله لم يلزم الورثة ذلك وعليه غرم الثمن، وقيد بما إذا كان من باع منه أو ابتاع حاضرا ببلد موته وإلا اتفق التأويلان على عدم العزل. قاله عبد الباقي وغيره.

وفي عزله بعزله ولم يعلم خلاف يعني أن الشيوخ اختلفوا في التشهير فيما إذا عزل الموكل وكيله عن وكالته ولم يعلم الوكيل بعزل موكله له، فمنهم من شهر القول بأنه لا ينعزل إلا إذا علم بعزله، ومنهم من شهر أنه ينعزل بعزل موكله وإن لم يعلم.

تنبيهات: الأول: قال الحطاب: جعل ابن رشد الخلاف في الموت والعزل سواء، وظاهر كلامه في التوضيح ترجيح القول بعدم العزل قبل بلوغ العلم في العزل أو الموت، وهو الظاهر وهذا إذا أعلن بالعزل وأشهد عليه ولم يكن منه تفريط في تأخير إعلامه بذلك، وأما إن عزله سرا فإنه لا ينعزل بذلك. قاله ابن رشد. وهذا أيضا إذا لم يتعلق بالوكالة حق للغير فليس للموكل عزله. اهـ. وفي التوضيح ما نصه: ومذهب المدونة أنه لا ينعزل قبل علمه في الموت، ففيها إن اشترى بعد موت الآمر ولم يعلم بموته فذلك لازم للورثة يؤخذ الثمن من التركة إن لم يكن الوكيل قبضه وكذلك ما باع، وعلى حمل المدونة على هذا من الفرق بين العلم وعدمه عامة الشيوخ، والقول بأنه ينعزل بمجرد الموت لابن القاسم وأصبغ وروي أيضا عن مالك، وزعم اللخمي أنه ظاهر المذهب وتأول ما في المدونة، وما رجحه الحطاب هو الذي رجحه أبو علي جازما به.

الثاني: قد مر قول عبد الباقي عمد قوله: "وإلا فتأويلان" ما نصه: وعلى الأول لو اشترى أو باع بعد موته شيئا لم يلزم الورثة ذلك وعليه غرم الثمن. اهـ. قوله: وعليه غرم الثمن، قال الرهوني: يريد إذا اشترى ما وكل على شرائه ويكون المشترى له، وأما إذا باع ما وكل على بيعه فإنه يغرم القيمة. اهـ.

الثالث: قوله: "وإلا فتأويلان" اعلم أن التأويل بعدم العزل حيث لم يعلم الوكيل بالموت هو الذي عليه عامة الشيوخ، والتأويل بالعزل للخمي، وأن القول بعدم العزل حيث لم يعلم الوكيل بعزل موكله له هو قول ابن القاسم وأشهب. المتيطى: بيع الوكيل على موكله جائز إلا أن يبيع بعد العلم بالعزل أو يعلم المبتاع بالعزل فلا يجوز، وقيل بيعه لا يجوز بعد العزل سواء علم الوكيل بعزله أو

ص: 238

لم يعلم. اهـ. ونحو هذا لابن هارون في اختصاره، وقال صاحب المعين: إذا عزل الموكل وكيله فبيعه وابتياعه عليه جائز حتى يعلم بالعزل. هذا مشهور مذهب مالك. وقيل إن بيعه وابتياعه لا يجوز بعد العزل علم أو لم يعلم. انتهى.

قال الرهوني: وأما الأول يعني عزله وإن لم يعلم فلم أر من رجحه. اهـ. وللشيخ أبي علي رحمه الله تعالى:

فعزل ما مور بعلم وقعا

بموت الأمر وعزله اسمعا

لا عزل بالجهل بما قد ذكرا

من موت أو عزل على ما قررا

هذا هو الذي رجحه أبو علي في المسألتين. والله تعالى أعلم الرابع: إذا بنينا على ما جرى به عمل الفاسيين من إلزام الوكيل إحضار الموكل فادعى عجزه فليس عليه إلا اليمين، ففي نوازل الوكالات من المعيار ما نصه: وسئل الأستاذ أبو سعيد فرج بن قاسم بن لب رحمه الله عن الوكيل يعجز عن إحضار موكله فأجاب: إذا عجز الوكيل عن إحضار موكله فإنما عليه يمين بالله أنه لا يقدر عليه ولا يعلم موضعه. انتهى.

الخامس: في المعيار أيضا ما نصه: وأجاب العبدوسي رحمه الله عن مسألة إحضار الزوج زوجة إذا ادعى عَليها بشيء بما نصه: الذي مضى عليه العمل أنه يجبر على إحضارها ويعين وكيلا عنها؛ لأن الغالب أن الزوجة إنما تكون في بيت زوجها وأنه لا يخفى عليه موضعها، وذلك من المصالح التي أحدثت. اهـ منه. ونحوه فيه عن ابن لب، وزاد ما نصه: وإن أصر على الامتناع من الإحضار مع بقاء الزوجة وظهور البحث عنها في منزلها فإنما عليه اليمين كما تقدم. انتهى منه بلفظه.

وهل لا تلزم أو إن وقعت بأجرة أو جعل فكهما وإلا لم تلزم؟ تردد يعني أن الشيوخ اختلفوا في عقد الوكالة في غير الخصام، فمنهم من ذهب إلى أنها غير لازمة للوكيل والموكل، فللموكل العزل متى شاء وللوكيل أن يعزل نفسه متى شاء سواء وقعت بأجرة أو جعل أم لا، ومنهم من ذهب إلى أنها إن وقعت بأجرة كتوكيله على عمل معين كتقاضي دين قدره كذا من فلان بأجرة معلومة فهي لازمة

ص: 239

كالإجارة تلزم بالعقد، وإن وقعت بجعل كتوكيله على تقاضي دينه من غير تعيين قدره أو مع تعيينه ولكن لم يعين من هو عليه فكالجعل لا تلزم واحدا منهما قبل الشروع في العمل وكذا بعده بالنسبة للمجعول له، وتلزم الجاعل بالشروع وإن لم تقع بأجرة ولا جعل لم تلزم، فلكل منهما الترك متى شاء، وقوله:"لم تلزم" هو من تتمة القول الثاني فليس تكرارا مع قوله: "لا تلزم" كما هو ظاهر. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. قال: وما ذكرناه في صورة الإجارة من أنه يعين فيها الأجرة والعمل نحوه في الشارح وهو واضح؛ لأن الإجارة تعين في مثل هذا بالعمل وبالأجل فقول المواق عن ابن رشد: لا يجوز إلا بأجرة مسماة وأجل مضروب وعمل. انتهى. الواو في قوله وعمل بمعنى: أو، وليس المراد بقوله "فكهما" أنها وقعت بلفظ الإجارة أو الجعالة، بل المراد أنه عين فيها الزمن أو العمل، ولذا قال: إن وقعت بأجرة أو جعل ولم يقل أو إن كانت إجارة أو جعلا، وكلام المص هذا في غير الوكالة في الخصام، بدليل أنه قدمها ثم حيث لم تلزم على القول الأول مطلقا، وعلى الثاني حيث لم تقع بأجرة أو جعل وادعى الوكيل أن ما ابتاعه لنفسه فإنه يعمل بقوله. أشار له الطخيخي.

تنبيه: إذا وكله بأجرة على خصومة مدينه لتخليص ماله منه فأعطى ما عليه من غير خصومة لم يستحق شيئا من الأجرة، قلت: ينبغي تقييده بما إذا لم يخف من سطوة الوكيل. اهـ كلام عبد الباقي. وقولي في صدر التقرير: لا تلزم الوكالة سواء وقعت بأجرة أو جعل تبعت فيه غير واحد، قال الرهوني: هذا ظاهر المص، وقد سلمه المحققون من أرباب الشروح والحوشي، ومقتضاه أن الخلاف إنما هو فيما إذا كانت بأجرة أو جعل وإلا فهي غير لازمة اتفاقا، ولم يذكروا ما أشار إليه بالطريقتين وكلامه في توضيحه يفيد أنه أشار بالتردد لما حكاه ابن عبد السلام، فإنه قال عند قول ابن الحاجب: والوكالة بأجرة لازمة كالإجارة ويجب العلم بالعمل وبجعل ثالثها تلزم بالعمل وبغيرهما جائزة وقيل تلزم الوكيل كالهبة. انتهى ما نصه: لما ذكر أن وكيل الخصام ليس له عزل نفسه شرع في غيره، وذكر أنها إن كانت بعوض على وجه الإجارة كانت لازمة لكل منهما بالعقد كسائر الإجارات، ويجب العلم بالعمل لأن الجهالة بالإجارة لا تجوز وإن كانت على وجه الجعالة فثلاثة أقوال فهمها من كلامه ظاهر وهي مبنية على الخلاف في لزوم الجعل، وإن كانت بغير

ص: 240

عوض فأما الموكل فلا تلزمه بلا إشكال وأما الوكيل فذكر أنها جائزة فيكون له فسخها وهو قول مالك، وإليه ذهب ابن القصار وغيره من البغداديين، وقيل بل يلزمه ذلك لأنه كواهب منفعة والهبة تلزم بالعقد على المعروف، ثم قال بعد يسير ما نصه: ابن عبد السلام: وهذه طريقة غير واحد في نقل المذهب، وابن رشد يرى أنه لا خلاف أن للوكيل أن ينحل عن الوكالة متى شاء إلا في وكالة الخصام. اهـ.

وما عزاه لابن عبد السلام هو كذلك فيه، وزاد ما نصه: الأصح أنها منعقدة كالهبة. اهـ منه بلفظه.

فإن كان لهذا أشار بالتردد أي طريقتان في نقل المذهب ففيه نظر؛ لأن الطريقتين اللتين أشار إليهما إنما هما في الوكالة بغير عوض هل هي غير لازمة للوكيل بلا خلاف أو في لزومها وعدمه قولان، وكلامه هنا لا يفيد هذا بل يفيد أنها إن كانت بغير عوض فلا خلاف في عدم لزومها وإلا فطريقتان، إحداهما كذلك والأخرى أنها إن وقعت على سبيل الإجارة فهي لازمة وعلى سبيل الجعل فتجري على حكمه، والذي ظهر لي أن المص أشار بالتردد إلى ما لابن عبد السلام فخانته العبارة، والذي وقفت عليه في كتب أهل المذهب أن الوكالة بأجرة لازمة إما اتفاقا أو على المشهور، فالاتفاق هو ظاهر كلام ابن رشد واللخمي والمتيطى وابن عات وابن شاس وابن الحاجب وابن شبلون وابن عبد السلام وابن عرفة وغيرهم، والتشهير هو الذي لابن بشير، وانظر عبارته في المواق: ومثله لابن غلاب والفشتالي في وثائقه وغيرهم.

ابن عاشر: انظر ما الفرق بين الوكالة بأجرة وبين الاستئجار في الماهية؟ فإنا وجدنا الإجارة يلزمها الاتفاق على اللزوم بالعقد والوكالة ذات خلاف واختلاف اللازم يقضي باختلاف الملزوم. اهـ. وسلمه جسوس، ونحوه قول التاودي: تأمل الفرق بين الوكالة بأجرة حتى جرى فيها قول بعدم اللزوم وبين الإجارة المتفق على لزومها، وأين تنفرد ماهية الإجارة عن ماهية الوكالة؟ انتهى. وبحثهما ظاهر لكن في كلامهما نظر من جهة أخرى وهو أنهما سلما كلام المص فقها، وأن كلا منهما يقتضي أن الخلاف فيها، وسلم وجوده وليس كذلك، ولذا قال أبو علي: ولا يخفاك ما في ابن عاشر وغيره، ثم قال: بل هي متفق على اللزوم فيها أو فيها خلاف ضعيف غاية. انتهى منه بلفظه وهو صواب.

ص: 241

تنبيه: قال أبو علي: ولم أقف على من بين وجه الذهب في عدم لزوم الوكالة للوكيل مع أن الهبة تلزم بالقول على المذهب. انتهى.

قلت: الظاهر عندي أن وجهه أن هذا من باب الوعد لا من باب الهبة التي هي إنشاء وتمليك متمول بلا عوض؛ لأن قول الشخص لمن قال أوكلك على فعل كذا قبلت مثلا هو وعد منه بأن يفعل له ذلك في المستقبل، وهذا وعد في الحقيقة لا تمليك لذات أو منفعة، والمشهور في الوعد عدم لزوم الوفاء به إن لم يقع به توريط، وبه يظهر لك أن المشهور مبني على مشهور لا ضعيف. فتأمله بإنصاف. والله أعلم. اهـ كلام الرهوني رحمه الله تعالى.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: قد كنت استشكلت هذا الخلاف في الوكالة بأجرة وعدم لزوم الوكالة بغير عوض من أجل كونها هبة منفعة حتى وقفت على كلام هذا الشيخ الذي برز في المعقول والمنقول وفاق كلامه كلام غيره من الأكابر الفحول، فجزاه الله خيرا ووقاه شرا وضيرا، فقد رفع الإشكال في الأولى بتحريره ونقله، وكشف القناع عن الثانية بفهمه وعقله، والحكم لله العلي الكبير الذي إليه تصير الأمور. المواق: وللوصي توكيل غيره في حياته وبعد مماته بخلاف الوكيل. اهـ.

ولما أنهى الكلام على الوكالة، وذكر من أمثلة الوكالة التوكيل على الإقرار وكان للوكيل أن يقر إن جعل له الإقرار أو كان مفوضا، وأنه ليس له أن يقر إن لم يكن كذلك ناسب ذكر الإقرار عقب الوكالة، فقال:

ص: 242

باب: في الإقرار وما يتعلق به، قال الحطاب: قال في الذخيرة: وهذه المادة وهي الإقرار والقرار والقر والقارورة ونحو ذلك من السكون والثبوت؛ لأن الإقرار يثبت الحق والمقر أثبت الحق على نفسه والقرار: السكون، والقر: البرد لأنه يسكن الدماء، والقارورة يستقر فيها مائع، والإقرار والدعوى والشهادات كلها إخبارات، والفرق بينها أن الإخبار إن كان يقتصر حكمه على قائله فهو الإقرار، وإن لم يقتصر فإما أن لا يكون للمخبر فيه نفع وهو الشهادة أو يكون وهو الدعوى، وقال السبكي في نكته في تفسير القرآن العظيم قوله تعالى:{ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} : يدل على تغاير الإقرار والشهادة. انتهى. وفيه خلاف، ومذهب المدونة أن الإقرار شهادة، قوله: وفيه خلاف ومذهب المدونة أن الإقرار شهادة مشكل غاية فالصواب حذفه. انظر الرهوني.

وقال ابن عرفة: الإقرار لم يعرفوه، وكأنه عندهم بديهي، ومن أنصف لم يدع بداهته لأن مقتضى حال مدعيها أنه قول يوجب حقا على قائله، والأظهر أنه نظري فيعرف بأنه خبر يوجب حكم صدقه على قائله فقط بلفظه أو بلفظ نائبه، فيدخل إقرار الوكيل وتخرج الإنشاءات كبعت وطلقت ونطق الكافر بالشهادتين ولازمهما لا الإخبار ككنت بعت وطلقت وأسلمت ونحو ذلك والرواية والشهادة، وقوله: زيد زان؛ لأنه وإن أوجب حكما على قائله فقط فليس هو حكم مقتضى صدقه. اهـ.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: قوله بلفظ، متعلق بقائله، وقوله: أو بلفظ نائبه، عطف على بلفظه. انتهى. وقوله: لا الإخبار بزيادة لا النافية، وقوله: والرواية والشهادة عطف على قوله الإنشاءات قال الرهوني: ولو قدم الشهادة على الرواية لكان أنسب لأن الشهادة خرجت بقوله على قائله وهو سابق في حده، والرواية خرجت بقوله فقط وهو متأخر، ومثال الرواية الإخبار برؤية هلال رمضان ودخول الوقت ونحو ذلك فإنه يوجب حكم صدقه على قائله وغيره. انتهى. وقوله: ونطق الكافر بالشهادتين فيه الجزم بأنها من الكافر إنشاء، وجوز الرصاع فيه الخبرية ورد بعض المحققين على ابن عرفة قائلا: الظاهر أنها في حق الكافر خبر لا إنشاء؛ لأن الإيمان القلبي من قبيل العلوم أو من توابعها لأنه المعرفة أو حديث النفس التابع لها، والمراد بحديث النفس القبول والإذعان لما عرفه، وإذا كان كذلك فكلمة الشهادة عبارة عنه فهو يخبر أنه يعتقد مضمونها ويقر به فتكون خبرا من قبيل الإقرار، فتدخل في تعريفه وأما كونها إنشاء فمشكل؛ لأن المنشأ إن كان ما في الاعتقاد لم

ص: 243

يصح لأنه سابق على التلفظ بالكلمة المذكورة، والمنشأ يجب تأخيره عن الصيغة، وإن كان المنشأ هو أعمال الجوارح التي هي الإسلام لم يصح أيضا لوجوده بغير هذه الكلمة، إلى أن قال: فالصواب أنها من الكافر خبر عن اعتقاده، وكذا الذاكر بالأحرى نعم إذا قصد الذاكر إنشاء الثناء بها ناقلا لها عن معناها صح ذلك فيه، ولا يصح في الكافر لأن هذه الحالة إنما تحصل بعد الإيمان. قاله البناني.

تنبيهات: الأول: قال الرهوني: وانظر هل يرد على قول ابن عرفة فقط إقرار وارثين عدلين فأعلى لأجنبي بدار مثلا أنها له وأنكر سائر الورثة وعجزوا عن الدفع، فإن الأجنبي يقضى له بجميع الدار فيأخذ حظ من أقر بالإقرار وحظ غيره بالشهادة، فظهر لي أن هذه المصورة خارجة عن حده بما خرجت به الرواية فيكون حده غير جامع، ولم أر من نبه على هذا فضلا عن الجواب عنه ولم يظهر لي في الوقت جواب. والله أعلم. انتهى.

الثاني: قال في المجالس: والأصل في هذا الباب قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . انتهى منها بلفظها. والدليل في قوله تعالى: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ، ولذا قال ابن عطية ما نصه: وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقائق. اهـ منه بلفظه. وقال ابن العربي في الأحكام ما نصه: قوله {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أمر الله تعالى العبد بأن ينتهد على نفسه بالحق، ويسمى الإقرار على النفس شهادة، كما تسمى الشهادة على العبد إقرارا، وفي حديث (ماعز)

(1)

فلم يرجمه صلى الله عليه وسلم حتى شهد على نفسه أربع مرات. اهـ منها بلفظها. وقال عند قوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} الآية ما نصه هذا يدل على قبول إقرار المرء على نفسه لأنها شهادة منه عليها، ولا خلاف في ذلك لأنه إخبار على وجه تنتفي معه التهمة؛ ولأن العاقل لا يكذب على نفسه، وفي الحديث: (واغد يا أنيس على امرأة هذا فارجمها قال فاعترفت فرجمها

(2)

). انتهى منه بلفظه. قلت: والحديث مشهور في الصحيحين وغيرهما.

(1)

البخاري، كتاب الطلاق، رقم الحديث 5270 - مسلم، كتاب الحدود، رقم الحديث 1691

(2)

البخاري، كتاب الحدود، رقم الحديث 6828 - مسلم، كتاب الحدود، رقم الحديث 1698

ص: 244

الثالث: قال في الأحكام إثر كلامه الأول ما نصه: ولا يبالي الرء أن يقول الحق على نفسه فالله يفتح له، قال الله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} ، إلا أنه في باب الحدود يندب إلى أن يستر على نفسه ويتوب حتى يحكم الله له، إلا أنه يقر على نفسه بالحد إذا رأى غيره قد ابتلي به وهو صاحبه فيشهد على نفسه ليخلعه ويبرئه. اهـ منه بلفظه. وأركان الإقرار أربعة: المقر والمقر له والصيغة والمقر به، وبدأ والأول فقال: يؤاخذ المكلف بلا حجر بإقراه يعني أن المكلف وهو البالغ العاقل الطائع يؤاخذ بما أقر به أي يلزمه بشرط أن يكون غير محجور عليه، واحترز بالمكلف من غيره كالصبي والمجنون والمكره فإن إقراره غير لازم له، واحترز بعدم الحجر من المحجور عليه كالسفيه والسكران فإنه محجور عليه في إقراره وعقوده، والحاصل أنه محجور عليه فيما يتعلق بالأموال، ودخل في كلام المص السفيه المهمل على قول مالك، ودخل فيه أيضا إقرار المرتد في ردته قبل إيقاف السلطان له فيصح لأنه كالسفيه المهمل عند ابن عبد الحكم، بخلاف إقراره بعد إيقافه للاستتابة فيبطل إن قتل ويصح إن رجع للإسلام. قاله ابن سحنون. ويوافقه ابن عبد الحكم على ذلك، وأما الزوجة والمريض فداخلان في كلامه:"بلا حجر" لأنه إنما يحجر عليهما فيما زاد على الثلث في التبرعات لا في الإقرار، لكن المريض يحجر عليه في الإقرار لمن يتهم عليه ولو في ثلثه، وأما لغيره فيصح إقراره ولو في الزائد على ثلثه، وقوله:"بلا حجر" حال فهو متعلق بالكون أو الاستقرار لا بالمكلف، إلا أن يراد بالتعلق الارتباط المعنوي فلا ينافي الحالية، وقوله:"بإقراره" متعلق بقوله: "يؤاخذ"، والباء للسببية.

وأشار للركن الثاني وهو المقر له بقوله: لأهل متعلق بقوله: "بإقراره" يعني أن الإقرار إنما يصح للمتأهل للتملك ولو في ثاني حال كحمل ومن الأهل المسجد والقنطرة؛ لأن الإقرار لهما في المعنى إقرار للمنتفعين بهما، وخرج بالأهل إقراره لدابة أو لكحجر فلا يؤاخذ به بل يبطل، وقولي: كحمل هو الراجح كما نص عليه الرهوني، وقولي: والمكره هو الصحيح أي أن المكره غير مكلف قال الحطاب: قال القرطبي في شرح مسلم: شرط صحة الإقرار أن لا يكون بإكراه، وأما المحبوس والمهدد فاختلف في أخذه بإقراره، واضطرب المذهب في إقراره بعد الحبس والتهديد هل يقبل جملة أو لا يقبل جملة أو يفرق فيقبل إذا عين ما اعترف به من قتل وسرقة ولا يقبل إذا لم يعين؟ ثلاثة

ص: 245

أقوال. اهـ. وقال الدماميني في حاشية البخاري: وعن الإمام مالك أن المذعور لا يلزمه ما صدر منه في حال ذعره من بيع وإقرار وغيره.

تنبيهات: الأول: امرأة ادعت على أخيها بميراثها من أبيها في أملاك سمتها، فقال وكيل الأخ: إن أخاها قد قاسمها جميع الأملاك وقبضت حصتها من ذلك، فقال ابن رشد في نوازله: إن كان الأخ جعل لوكيله الإقرار فقوله إن موكله قد قاسم أخته في جميع الأملاك التي وقف عليها إقرارٌ منه بمشاركة أخته له في جميعها فيقضى له بميراثها في سائرها إن كانت في يديه.

الثاني: في مسائل الأقضية من البرزلي عن ابن أبي زيد أن من طلبت منه أخته ميراثها من أملاك أبيها، فقال: بيدي ربع ملكته من أبي وربع ملكته بكسبي وغفل عنه حتى مات أن على ورثته إثبات ما ادعى أنه استفادة بعد أبيه، وإلا حلفت ما علمت بما استفادة وقسم بينهما. اهـ قاله الحطاب.

الثالث: قال في الكافي في كتاب الوكالة عن ابن خويز منداد: وقد اتفق الفقهاء فيمن قال ما أقر به عليَّ فلان فهو لازم لي أنه لا يلزمه. اهـ قاله الحطاب.

الرابع: من أقر بشيء لرجل فهو كالهبة إن لم يقبضه حتى مات بطل وهذا فيما إذا أقر بما عرف ملكه له. والله تعالى أعلم. انظر الرهوني.

الخامس: قال الحطاب: قال في وثائق الجزيري: إقرار الزوج لزوجته والسيد لأم ولده أشهد فلان أن جميع ما يغلق عليه باب البيت الذي سكنه مع زوجته فلانة أو مع أم ولده من الوطاء والغطاء والثياب والتوابيت والمواعين والحلي والأثاث لزوجته فلانة مالها ومن كسب يدها لا حق له معها في شيء منه بوجه من الوجوه، ثم قال: فقد يجوز إقرار الزوج لزوجته والسيد لأم ولده، فإن سمى ما أقر به كان أتم، وإن أجمل جاز، فإن مات وادعى الورثة أنه للميت اكتسبه بعد الإشهاد فعليهم البينة ولا يمين عليها إلا أن يقطعوا أنه اكتسب شيئا معينا يسمونه بعد تاريخ الإشهاد، فلهم عليها اليمين ولها ردها عليهم. انتهى. ثم ذكر عن ابن رشد ما يخالف هذا من بطلان الشهادة فيما إذا أشهد على سبيل الإجمال ولم يكن معتادا للنساء؛ لأن الشهادة لم تكن على معين. والله تعالى أعلم.

ص: 246

لم يكذبه صفة لأهل يعني أنه يشترط في صحة الإقرار للمقر له أن لا يكذب المقر له المقر، قال عبد الباقي: لأهل لم يكذبه الأهل وهو صفة لأهل أي لأهل غير مكذب للمقر، فإن كذبه حقيقة كليس لي عليك شيء، أو حكما كقوله لا علم لي بذلك بطل الإقرار إن استمر على التكذيب، فإن رجع إلى تصديق المقر في الثاني فأنكر عقب رجوعه صح الإقرار وأولى إن لم ينكر، فإن رجع إلى تصديقه في الأولى فأنكر عقبه فهل يصح أيضا أو يبطل قولان، الثاني ظاهر المص كابن شأس وإنما يعتبر تكذيب الرشيد فتكذيب السفيه لغو، فيلزم المقر ما أقر له به وإن كذبه وتقدم في النكاح نحوه، قال فيه: وإن أقر به فقط أخذ إن كانت سفيهة. اهـ. قوله: فهل يصح إقراره أو يبطل قولان لخ، القول الثاني هو الذي في النوادر وعليه اقتصر ابن الحاجب في قوله: ولوأكذب المقر له المقر بطل ولا رجوع له إلا بإقرار ثان. اهـ. والقول الأول هو الذي عزاه ابن رشد للمدونة في موضعين. اهـ.

قوله: والقول الأول هو الذي عزاه ابن رشد لخ، قال الرهوني: عبارته موهمة؛ لأن عبارة ابن شأس هي ما نصه أحدها أنه ليس له أن يأخذ الخمسين التي أقر بها إلا أن يكذب نفسه ويرجع إلى تصديقه، وهو الذي يأتي على ما لابن القاسم في كتاب المرهون من المدونة، وما لأشهب من كتاب إرخاء الستور منها وهو أحد قولي سحنون. اهـ محل الحاجة منه بلفظه فتأمله. اهـ. وقال الحطاب: وسئل عن الرجل يقول للرجل المائة دينار التي أودعتكها فيقول ما استودعتنيها ولكن أعطيتنيها قراضا، وهذه المائة دينار ربحت فيها فلك منها خمسون؟ قال: إن أبى أن يأخذها حبسها واستأنى سنين لعله أن يأخذها، فإن أبى أن يأخذها تصدق بها، قيل له: فإن مات فأحب ورثته أن يأخذوها؟ قال: يأخذونها إن شاءوا وإذا أحب القرآن يدفعها إليهم قلت ولا يقضى عليه بدفعها إلى ورثته، قال: لا يقضى عليه بدفعها إليهم.

قال ابن رشد: فتحصل في هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن ليس له أن يأخذ الخمسين التي أقر بها إلا أن يكذب نفسه ويرجع إلى تصديقه، وهو الذي يأتي على ما لابن القاسم في كتاب المرهون من المدونة وما لأشهب في كتاب إرخاء الستور منها وهو قول سحنون، والثاني أنه ليس له أن يأخذ الخمسين وإن رجع إلى تصديقه وكذب نفسه إلا أن يشاء أن يدفعها إليه باختياره وهو ظاهر قول ابن القاسم هاهنا، وفي ورثته إن مات ونص ما في رسم لم يدرك من سماع عيسى من كتاب

ص: 247

النكاح، والثالث أن من سبق منهما بالرجوع إلى قول صاحبه كانت له الخمسون دون يمين. وبالله التوفيق.

ولم يتهم النائب ضمير يعود على المقر؛ يعني أنه يشترط في صحة الإقرار أن لا يتهم المقر في إقراره، فإن اتهم بطل إقراره، وإنما يعتبر عدم الاتهام في إقرار المريض، قال عبد الباقي: ولم يتهم المقر في إقراره فإن اتهم كإقرإِره لملاطفه ونحوه بطل، والواو في:"ولم يتهم" للحال لا للعطف على ما قبله؛ إذ فاعل الأول هو الأهل، وفاعل الثاني هو المقر والعطف يقتضي اتحاده، وإنما يعتبر عدم الاتهام في إقرار المريض والصحيح المحجور عليه. اهـ.

قوله: والصحيح المحجور عليه يعني بالصحيح المحجور عليه المفلس وفيه نظر؛ لأن إقراره لمن يتهم عليه لازم لكن لا يحاص به بل يتبع به في ذمته كما تقدم في الفلس، خلاف ما يوهمه كلامه من بطلانه، فالصواب أن عدم الاتهام إنما يعتبر في إقرار المريض. قاله البناني. وقال المواق: قال أبو عمر: إقرار غير المحجور جائز لا يلحقه فيه تهمة ولا يظن به توليج ولا يحتاج إلى معاينة قبض، إلا أن يكون ممن يعرف بالقهر والتعدي. اهـ. ابن الحاجب: لا يقبل إقرار المريض لمن يتهم عليه. اهـ. كالعبد في غير المال.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: يحتمل أنه مثال ويحتمل أنه تشبيه؛ يعني أن العبد غير المأذون يصح إقراره في غير المال لأنه غير محجور عليه فيه، ويبطل إقراره بالمال لأنه محجور عليه فيه، وأما المأذون فيصح إقراره في المال وغيره، قال عبد الباقي: كالعبد غير المأذون له يؤاخذ بإقراره في غير المال كجرح أو قتل عمدا ونحوه مما فيه قصاص أو حد كسرقة نصاب، واستغنى عن تقييده بغير المأذون بقوله هنا:"بلا حجر"، وبقوله في الحجر:"وحجر على الرقيق إلا بإذن" فلا يصح إقراره بمال لأنه لسيده، وأما المأذون له ولو حكما كالمكاتب فيصح إقراره بالمال، ويكون فيما بيده من مال التجارة لا في غلته ورقبته لكونهما لسيده كما مر، وما زاد عن مال التجارة ففي ذمته ويلزمه القطع في إقراره بالسرقة، ويدفع المسروق إن كان قائما فإن أتلفه غرم قيمته إن كان له مال وإلا لم يتبع به، وأما غير المأذون فيقطع فيما فيه القطع ولا يؤخذ منه المسروق، وإن كان قائما لأنه بمجرد إقراره به هو لا يعمل بإقراره، وإنما يكون لرب العبد فإن أثبته مدعيه أخذه بعد قطع

ص: 248

العبد. اهـ المراد منه. وقال الحطاب: كالعبد في غير المال أما في المال فلا يقبل إقراره، قال في المدونة: كقول مالك في ثوب بيد العبد، يقول فلان أودعنيه وسيده يدعيه فالسيد مصدق إلا أن يقيم فلان البينة. اهـ. قال في النكت: قال بعض أصحابنا: ويحلف، فإن قال هو لي أحلف على البت، وكذا إن قال لعبدي أعلم أصل شرائه أو ملكه، وأما إن قال هو بيد عبدي أو حوزه فليحلف ما أعلم لك فيه حقا. اهـ. وهذا في غير المأذون له، يؤخذ ذلك من قول المص بلا حجر؛ لأن المأذون له غير محجور عليه فإقراره جائز فيما بيده وما جاوز ذلك فهو في ذمته، وليس للسيد فسخه وكذلك ما كان بيده من وديعة أوأمانة فاستهلكه فهو في ذمته وليس للسيد فسخه. قاله في كتاب المأذون له من المدونة. وأما غير المأذون له فلا يصح إقراره ولا يلزمه في ماله، ويكون في ذمته إن أعتق إلا أن يسقطه السيد أو السلطان. قاله في الكتاب المذكور. اهـ.

وأخرس عطف على العبد يعني أن الأخرس يصح إقراره بما يفهم منه من إشارة أو كتب، ومريض يعني أنه يصح إقرار المريض مرضا مخوفا. واعلم أن إقرار المريض على خمسة أوجه: أحدها أن يقر لأجنبي وهذا صحيح ورثه ولد أم لا، الثاني أن يقر لوارث، الثالث أن يقر لقريب غير وارث أو صديق ملاطف، الرابع أن يقر لمن جهل حاله، الخامس أن يقر أحد الزوجين للآخر فإن أقر لوارث أبعد مثل إقراره لعصبة وله ابنة فلا خلاف أن إقراره جائز، وإلى هذا أشار بقوله:

إن ورثه ولد لأبعد متعلق بإقرار المقدر قبل مريض؛ يعني أن إقرار المريض للوارث الأبعد جائز اتفاقا كما لو ورثته بنت مع عم وأقر للعم، ومفهومه أنه لو أقر للبنت لبطل إقراره اتفاقا، وكذا لو أقر للمساوي فيبطل إقراره اتفاقا كما يأتي للمص، وقوله:"إن ورثه ولد" أما إن أقر للوارث الأبعد فإن المشترط أن يرثه أقرب منه ولدا كما مثلت أو غيره كأخت مع عم.

وأشار إلى الوجه الثالث بقوله: أو لملاطفه أو لمن لم يرثه يعني أن المريض مرضا خوفا إذا أقر لصديقه الملاطف أو لقريب لا يرثه سواء كان لا يرث أصلا كالخال أو يرث لكنه محجوب، فإنه يصح إقراره لذلك الملاطف أو للقريب المذكور بشرط أن يرثه ولد، كأن يقر لابن عم أو لخال وله بنت، ومفهومه أنه لو لم يرثه ولد لبطل إقراره للصديق الملاطف وللقريب الذي لم يرث. وعلم مما

ص: 249

قررت أن المراد بالوارث الأبعد الوارث بالفعل، وأن المراد بالقريب الذي لا يرث من لا يرث الآن، سواءكان لا يرث أصلا أو يرث لولا الحجب.

وأشار إلى الوجه الرابع بقوله: أو لمجهول حاله يعني أن المريض مرضا مخوفا إذا أقر لمن جهل حاله هل هو صديق ملاطف أو قريب أو أجنبي غير ملاطف، فإنه يصح إقراره له بشرط أن يرثه ولد ابن أو ابنة، فإن لم يرثه ولد بطل إقراره هذا ظاهر المص، وتعقبه الحطاب بأنه يوهم عدم الصحة مطلقا ولا قائل به، وإنما في ذلك ثلاثة أقوال نقلها في التوضيح وغيره، ونص المواق: إن أقر لمجهول فإن ورث بولد جاز من رأس ماله وإن ورث كلالة ففي كونه من الثلث مطلقا أو من رأس ماله. إن قل وإن كثر بطل، ثالثها إن أوصى بوقفه حتى يأتي طالبه جاز من رأس المال، وإن أوصى أن يتصدق به عنه بطل مطلقا. انتهى. قال الحطاب: وظاهر كلام الشامل أن فيها قولا بالبطلان، وكأنه اعتمد ظاهر كلام المص. انتهى.

وقوله: "أو لمجهول حاله" قاله عبد الباقي، أو أقر لمجهول حاله أقريب أو صديق ملاطف أو أجنبي لا ذاته فإنها معلومة، كقوله لعلي أو لعمرو الذي بمكة عندي كذا ولم يعلم حاله أصديق ملاطف أو قريب أو أجنبي غير ملاطف، فيصح إن ورثه ولد ويكون من رأس المال سواء أوصى أن يوقف له ليعطاه إذا قدم أو يتصدق به عنه كما في الشارح، فإن لم يرثه ولد لم يصح وظاهره الإطلاق، وفي الشامل ما يفيد أن أصح الأقوال أنه إن أوصى أن يوقف حتى يطلبه من عين له الحاضر أو الغائب جاز من رأس المال إن استمر جهل حاله حين إتيانه، أو تبين أنه أجنبي غير ملاطف، فإن تبين خلافه بطل ولابد من علم عينه في هذين القسمين، وإن أوصى أن يتصدق به عنه لم يجز من ثلث ولا من رأس مال إن تبين أنه وارث، أو استمر جهل حاله لاحتمال كونه وارثاو، فإن تبين أنه غير وارث وغير ملاطف نفذ من رأس المال، وبهذا لا يشكل قولهم: الوصية بالصدقة عن الغير تصح من الثلث لأنه فيمن علم أنه غير وارث؛ لأنه يقدر دخوله في ملكه، وجعل الإقرار هنا في معنى الوصية فأعطي حكمها في بعض الصور. انتهى. قوله: لا ذاته فإنها معلومة لخ، قال البناني: هذا ظاهر المص لكن مقتضى عبارة ابن رشد أن ذلك في مجهول العين وهو الذي يقتضيه آخر كلام التوضيح. انتهى.

ص: 250

تنبيهات: الأول: علم مما قررت أنه لا مفهوم لقوله: "ولد" بالنسبة لإقراره لأبعد فقط، بل الشرط فيه أن يرثه أقربُ ولدًا أو غيره، وأما بالنسبة للمسائل الثلاث أعني قوله:"أو لملاطفه أو لمن لم يرثه أو لمجهول حاله" فلابد أن يرثه ولد كما قال المص، سواء كان يستغرق المال أم لا، قال عبد الباقي: والفرق أن التهمة ضعيفة في الأول بخلافها فيمن لم يرثه كخاله وملاطفه، فيتوهم تخصيصهما بالإقرار لهما دون عمة فلذا شرط في صحة الإقرار لهما ومن بعدهما وجود الولد، فإن لم يرثه ولد بطل إقرارد بالكلية ولا يكون في الثلث خلافا لمن يقول بعدم صحته مطلقا، ولمن يقول إن ورث بولد فمن رأس المال وإلا فمن الثلث كما نقله ابن رشد، وهذا في غير المجهول الآتي كما في أحمد. انتهى. قوله: خلافا لمن يقول بعدم صحته مطلقا، قال البناني: لم أر من ذكر هذا القول، والذي في كلام ابن رشد وغيره بدل هذا القول هو القول بصحته مطلقا فصوابه إسقاط لفظ عدم ليوافقه.

الثاني: قوله "لمن لم يرثه" لا يشمل الأجنبي غير الملاطف؛ لأن إقراره له يصح مع عدم الولد كما مر، وما اقتصر عليه في الملاطف وغير الوارث أحد قولين قائمين من المدونة والآخر يجوز إقراره لهما مطلقا. انظر المواق. لكن في الشارح عن ابن رشد إفادة أن ما اقتصر عليه المص هو المشهور، وإن كان الآخر قائما من المدونة أيضا إذ لا يلزم من قيامهما منها أن يكونا مشهورين. انتهى. قوله: لكن في الشارح عن ابن رشد لخ، ما في الشارح مثله نقله عنه ابن سلمون، ونصه: وأما إذا أقر لقريب غير وارث أو صديق ملاطف فالمشهور في المذهب أن إقراره جائز إن كان يورث بولد ولا يجوز إن كان يورث بكلالة، وقيل إن إقراره جائز كان يورث بكلالة أو بولد والقولان في المدونة، وقد قيل إن كان يورث بولد جاز إقراره من رأس المال، وإن كان بكلالة جاز من الثلث وظاهر سياقه أنه عن ابن رشد.

الثالث: قال عبد الباقي: ومفهوم قوله "مريض أن إقرار الصحيح صحيح بلا شرط"، وهو الموافق لما مر من أن قوله ولم يتهم إنما يعتبر عدم الاتهام في المريض، ولقول ابن عبد البر في الكافي: وكل من أقر لوارث أو لغير وارث في صحته بشيء من المال أو الدين أو البراءات أو قبض أثمان البيعات فإقراره عليه جائز لا تلحقه فيه تهمة ولا يظن فيه توليج، والأجنبي والوارث في ذلك سواء، وكذا

ص: 251

القريب والبعيد والعدو والصديق في الإقرار في الصحة سواء لا يحتاج من أقر على نفسه في الصحة ببيع شيء وقبض ثمنه إلى معاينة قبض الثمن. انتهى.

فإذا قام بقية أولاد من مرض بعد الإشهاد في صحته بالبيع لبعض ولده فلا كلام لهم إن كتب الموثق أن الصحيح قبض من ولده ثمن ما باعه له، فإن لم يكتب فقيل يحلف مطلقا، وقيل لا مطلقا وقيل إن اتهم الأب بالميل له حلف وإلا فلا نقلها ابن عاصم. انتهى بزيادة قليلة. قوله: ومفهوم قوله مريض أن إقرار الصحيح صحيح بلا شرط لخ، قال البناني: هو كذلك سواء أقر لمن علم ميله إليه أم لا، ورث كلالة أم لا، سواء قام المقر له في الصحة أو في المرض أو بعد الموت. ابن رشد: هذا هو المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك المشهور في المذهب، ووقع في المبسوط لابن كنانة والمخزومي وابن أبي حازم ومحمد بن مسلمة أنه لا شيء له، وإن أقر له في صحته إذا لم تقم عليه بذلك بينة إلا أن يعرف ذلك، مثل أن يكون باع له رأسا أو أخذ من موروث له شيئا فإن عرف ذلك وإلا فلا شيء له، وهو قول له وجه من النظر لأن الرجل يتهم أن يقر بدين في صحته لمن يثق به من ورثته على أن لا يقوم به حتى يموت فيكون وصية لوارث. انتهى.

ونحوه لابن سلمون وحاصله أن الإقرار للوارث في الصحة إذا لم يقم به إلا بعد الموت إن عرف وجهه فهو جائز اتفاقا، وإلا فقولان: المشهور وهو رواية المصريين الصحة، ومقابله وهو قول المدنيين واختيار ابن رشد عدم الصحة؛ إذا علمت هذا فما في

(1)

الحطاب من فتوى ابن سهل وابن عات وابن الحاج وغيرهم

(2)

كله إنما يأتي على مقابل المشهور انظر مصطفى. لكن على القول الأول إذا طلب من المقر له اليمين أن ذلك لم يكن توليجا، قال ابن رشد: الأظهر في هذه المسألة لحوق اليمين مراعاة لقول من لم يعمل الإقرار بعد الموت. انتهى.

وصرح ابن سلمون بلزوم اليمين إن ثبت ميل الميت للمقر له. ذكره في فصل التصيير. قال: ومثل الإقرار بالدين ما إذا صير الأب لابنه دارا أو عروضا في دين أقر له به، فإن كان يعرف سبب ذلك الدين جاز التصيير سواء كان في الصحة أو في المرض، وإن لم يعرف أصله فحكمه حكم الإقرار

(1)

في الرهوني ج 6 ص 143: فما في عج.

(2)

في الأصل: وغير، والمثبت من البنانى ج 6 ص 93.

ص: 252

بالدين، فإن كان في الصحة ففيه قولان: أحدهما أنه نافذ ويحاص به الغرماء وهو قول ابن القاسم في المدونة والعتبية، قال المتيطي: وعليه العمل. والثاني أنه غير نافذ وهو قول المدنيين. انظر الحطاب.

وقوله: نقلها ابن عاصم فيه نظر؛ إذ لم أر هذه الأقوال في تحفة ابن عاصم ولا في شرح ولده، وإنما ذكر في التحفة منها القول الثالث فقط ونصها:

ومع ثبوت ميل بائع لمن

منه اشترى يحلف في دفع الثمن

وكذا اقتصر عليه الحطاب أيضا عند قوله: "لا المساوي والأقرب". انتهى كلام البناني.

الرابع: قول المص: "أو لمن لم يرثه" نحوه قول ابن رشد: أو لقريب غير وارث، وظاهره أنه لابد أن يرثه ولد في صحة الإقرار له، ولو كان القريب غير الوارث أبعد من القريب الوارث كما إذا أقر لخاله والوارث أخوه، قال الجنوي: ولا أظنه كذلك إذ الإقرار للوارث الأبعد صحيح وإن كان يرث كما إذا أقر لابن العم مع وجود الأخت

(1)

فأحرى إذا لم يرث فكان من حقهم تبيين ذلك، ويكون هذا بمنزلة الإقرار للأبعد الذي لا يشترط فيه الولد، وإنما يشترط وارث أقرب خلاف ظاهر المص، وقد اعترض عليه فيه وكذا يعترض عليه وعلى غيره في القريب غير الوارث. والله أعلم. انتهى.

قال الرهوني: وما قاله ظاهر ببادي الرأي لكن الأئمة سلموا كلام ابن رشد ولم يقيدوه بشيء، ويدل لحمله على إطلاقه تسويته بينه وبين الصديق الملاطف إذ لا يتأتى في الصديق الذي ذكره شيخنا، ويكون وجه الفرق بينهما وبين الأبعد كالعم مع الأخت ضعف التهمة، لكون العم له نصيب في المتروك والأخت أقرب منه، بخلاف الخال والصديق الملاطف مع الأخ مثلا لأنهما لما لم يكن لهما في المال نصيب اتهم على أنهما لا يحرمان من ماله. فتأمله. والله أعلم.

والمسألة منصوصة لابن القاسم وليست لابن رشد من عند نفسه، ففي رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الوصايا ما نصه: وسئل ابن القاسم عن رجل قال عند موته إن فلانا وكلني بهذه الدار

(1)

في الرهوني ج 6 ص 142: مع وجود الأخت وارثة فأحرى إذا لم ترث.

ص: 253

أحفظها وغلتها عليه إني كنت جحدته ذلك، فأسلموا الدار واغتلها

(1)

من سنة كذا وكذا، وشهد على نفسه بهذا ثم مات يكون ذلك من ثلثه أو تسلم له الدار وإن لم يكن له غيرها، قال: أرى أن ينظر في ذلك فإن كان له ولد أسلمت إليه الدار وإن كان لا ولد له وإنما يورث كلالة، وكان الذي أقر له ممن يتهم عليه بصداقة أو قرابة لا يرث بها لم أر أن يقبل قوله. انتهى. محل الحاجة منه بلفظه. ونقله ابن أبي زمنين في المنتخب وسلمه ولم يقيده بشيء، وكذا أطلقه ابن رشد فقال في شرحه ما نصه: وقوله إذا ورث كلالة أنه إن كان الذي أقر له ممن يتهم عليه بصداقة أو قرابة لا يرثه بها لم أر أن يقبل، قوله: هو المشهور في المذهب وقد قيل إن ذلك يكون في الثلث وهو قول ابن القاسم في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب العتق، ومثله في كتاب الكاتب من المدونة. انتهى محل الحاجة منه بلفظه. فعلى هذه الظواهر الكثيرة يجب التعويل ووجهه ما ذكرناه. والله أعلم. وقول البناني: وسواء قام المقر له في الصحة أو في المرض لخ حكى في النوادر الإجماع على ذلك، ونصه: أجمعوا على أنه لو أقر لوارث في صحته فلم يقبض ذلك حتى مرض المقر أن الإقرار ماض إن مات المريض. انتهى بلفظه على نقل أبي علي. وقول البناني عن ابن رشد هذا هو المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك المشهور في المذهب لخ، يريد إذا كان المقر به في الذمة أو معينا لا يعرف ملكه له، وإلا فسبيله سبيل الهبة كما صرح به ابن رشد نفسه، خلافا لبعض المعاصرين أن كلام ابن رشد هذا على إطلاقه، فإن ابن رشد نفسه قد قال في آخر رسم الوصايا الأول من سماع أشهب من كتاب الوصايا ما نصه: إقرار الرجل في صحته أو في مرضه بما يعرف ملكه له من شيء بعينه أنه لفلان وفلان وارث أو غير وارث يجري مجرى الهبة والصدقة، ويحمل محملها ويحكم له بحكمها إن حاز ذلك المقر له في صحة المقر جاز له وإلا لم يجز، هذا مما لا اختلاف فيه أحفظه إلا أن يكون إقراره بذلك على سبيل الاعتذار فلا يلزمه. انتهى محل الحاجة منه بلفظه. وقد تلقاه الأئمة بالقبول فكلامه يقيد بعضه بعضا ليسلم من التناقض، وقد ذكره أبو الفضل العقباني في جواب له مذكور في الدرر المكنونة فقها مسلما، وكذا ذكره الحطاب عند قوله: "لا

(1)

في الرهونى ج 6 ص 142: فأسلموا إليه الدار وغلتها.

ص: 254

المساوي والأقرب" فقها مسلما، وكذا سلمه الحافظ الونشريسي في نوازل الإقرار من معياره. انتهى كلام الرهوني.

وقول البناني فما في الحطاب من فتوى ابن سهل وابن عتاب وابن الحاج وغيرهم كله إنما يأتي على خلاف المشهور لخ، سلم كلام مصطفى كما سلمه التاودي مع أن ما ذكره من أن تلك الفتاوي مبنية على القول الشاذ وهو قول المخزومي ومن وافقه مخالف لما قاله العلامة أبو الفضل العقباني وسلمه غير واحد من المحققين، ثم قال بعد جلب كثير من النقول ما نصه: فتحصل أن الإقرار إن علم له سبب وإن لم يكن قاطعا فهو معمول به سواء كان في الصحة أو في المرض، وإن لم يكن له سبب فإن كان بمعين علم صحة ملك المقر له قبل الإقرار فمحمله محمل الهبة، سواء وقع في الصحة أو في المرض فيجري على حكمها وإن وقع بغير ذلك، فإن كان من المريض فحكمه ما ذكره المص ومن تكلم عليه، وإن كان من الصحيح لمن لا يتهم عليه فهو ماض بلا خلاف، وإن كان لمن يتهم عليه فكذلك على المشهور المعمول به خلافا للمدنيين وإن استظهره ابن رشد هنا إن لم تقم قرائن تدل على أنه توليج، فإن قامت وكانت قوية فهل يثبت بها التوليج وهو الذي أفتى به غير واحد كابن سهل وابن عتاب وغيرهما. ونقله ابن سلمون وغيره فقها مسلما بعد اعترافه أن المشهور صحة إقرار الصحيح لمن يتهم عليه إذا عري عن القرائن المذكورة فذلك جار عندهم على المشهور لا على ما للمدنيين كما زعمه مصطفى ومن تبعه، أو لا يثبت بذلك التوليج وإنما هو موجب لليمين على نفيه وهو الراجح المعمول به قولان، فشد يدك على هذا التحصيل والتحرير والحكم لله العلي الكبير. انتهى كلام هذا الفاضل النحرير.

قوله: إن علم له سبب كما إذا ثبت أنه باعه فأقر بأن عليه ثمن ما باعه ومثال القرائن ما في أجوبة ابن رشد وهو: الجواب رضي الله عنك في رجل أصابه الكبر وله مال وبنون ولم تكن له امرأة، فئاوف إلى كبير بنيه فكان يتمونه هو بنفسه ومن عنده يلطفون به، فباع بعض ماله وتصدق على بنيه منه ببعض وأشهد على نفسه قبل موته بأعوام وهو بتلك الأحوال، أن لابنه الذي يؤويه عليه دينا من نفقة ذكر أنه أنفقها عليه ومن ديون ذكر أنه أداها عنه إلى غرماء ذكر أنه عاملهم قديما، وكتب بذلك عقدا وأشهد للابن أن الذي أدى في دين أبيه كان من ماله ومال زوجته فصير إليهما في

ص: 255

ذلك مالا وعقد بذلك لهما، وبقي الابن يعتمر الأملاك والأب متماد على الشهادة بما أشهد به أولا، ثم مات الأب وقام ورثته لينزلوا معه في الميراث فيها فاستظهر بعقد أبيه المذكور وثبت له ذلك، فقال له الورثة: إن أبانا كان يميل إليك عنا وكنت تتملكه بضعفه وحاجته إلى الكون معك مع تفضيله لك قديما فخدعته، وإنما كان يقول ويفعل ما تأمره به وأدخلت بيننا وبينه العداوة حتى ولج إليك ماله، وحلت بيننا وبينه ولو مكننا لكنا أبو منك مع أن أبانا كان له مال يقوم به ويفضل له منه، بل كنت أنت تتصرف في ماله وتحكم وتصرفه في منافعك ولا يقدر معك على شيء، وأثبتوا جميع ذلك ولم يجد الابن المصير إليه بينة على أن أباه قد كان ادان دينا فأداه عنه ولم يعرف ذلك إلا بإقرار الأب بل شهد أنه كان غنيا عن أخذ الديون، وبين لنا هل ينتقض التصيير بذلك أم لا مأجورا إن شاء الله، الجواب: إذا كان الأب صحيحا يوم أشهد لابنه بما أشهد لا مرض به إلا الضعف من الكبر، فيصح للابن جميع ما أشهد له به لاسيما إن كان قد حاز الأملاك التي صيرها في الدين الذي أشهد له به وعمرها في حياة أبيه وبالله التوفيق. اهـ.

ومثل أبو الفضل العقباني للقرائن بقوله: فمثال دخول التوليج في الإقرار لمن يتهم عليه مسألة من أشهد في صحته أنه قد باع منزلة هذا من امرأته أو ابنته أو وارثه بمال عظيم، ولم أر

(1)

أحدا من الشهود الثمن ولم تزل الأرض بيد البائع إلى أن مات، قال ابن القاسم: البيع لا يجوز إذ ليس ببيع وإنما هو توليج وخدعة ووصية لوارث حسبما نقل ذلك عن ابن رشد. اهـ محل الحاجة منه بلفظه. وهو خلاف الراجح المعمول به من أنه إنما يثبت التوليج بإقرار المشتري وبالبينة الشاهدة به، كما أشار له الزقاق بقوله:

ويثبت توليج بإقرار مشتر ...........................

فالقرائن موجبة لليمين أنه ليس بتوليج لا مثبتة له، وفي أنقال شراحه وحواشيه ما فيه كفاية.

الخامس: إذا قام على تركة الميت من لا يصح إقرار المريض له من قريب أو ملاطف برقعة فيها خط الميت وتاريخها أنه أقر في صحته وقد ورثه أخوه، ففي المعيار من جواب أبي الفضل العقباني

(1)

كذا في الأصل والذي في الرهوني ج 6 ص 144: ولم ير احدا.

ص: 256

ما نصه: هذا الاعتراف لهذا القريب إن قامت بينة مرضية برؤية هذا الكتاب بعينه وبما فيه وذلك في صحة الكاتب وقيام وجهه عمل عليه وإن لم تقم بينة على ما ذكر لم يعمل به ولا يعول على كون تاريخ الكتاب وقع قبل سنين من موته لاحتمال أن يكون الكتب وقع في زمن مرض الموت، وأرخ بتاريخ يرجو الكاتب به أن يمضي ذلك على الوارث. اهـ منه مختصرا وفيه بعده ما نصه: الحمد لله الجواب المسطر أعلاه صحيح، وبمثله أقول وكتب محمد بن قاسم القوري لطف الله به. انتهى. قاله الرهوني.

السادس: إذا صير الرجل لمحجوره ملكا في دين ترتب قبله بشهادة متقدمة أو متأخرة أو أقر حين التصيير وكان يعرف أصله كما ذكر في الوثيقة فذلك جائز سائغ بلا خلاف صحيحا كان المصير أو مريضا وذلك نافذ للمحجور على كل حال. اهـ محل الحاجة منه بلفظه. ونحوه نقله عنه في شرح تاليف المغارسة وما معها وأقره، وقد يستشكل صحة التصيير من المريض إذا مات من ذلك المرض على القول المشهور المعمول به من افتقاره إلى الحوز؛ لأن الحوز الواقع في مرض الموت ملغى في الأبواب التي يشترط فيها الحوز كالهبة والصدقة والحبس والرهن، ويجاب بأن التصيير بيع من البيوع وبيع المريض بغير محاباة جائز واشتراط الحوز فيه إنما هو للسلامة من فسخ ما في الذمة في مؤخر وذلك منتف عند حصول الحوز إذ ذاك، ولذلك كفى فيه الاعتراف على المشهور المعمول به، وحمل على الحوز عند جهل الحال كما تقدم والله أعلم. قاله الرهوني. وقد مر عن البناني نحوه إلا أن هذا فيه زيادة عليه فلذلك أتيت به والله تعالى أعلم.

وأشار إلى الوجه الخامس بقوله: كزوج علم بعضه لها يعني أن الزوج المريض مرضا مخوفا إذا أقر لزوجة بدين في ذمته أو أنه قبض دينه منها فإنه يؤاخذ بإقراره، وإن لم يرثه ولد أو انفردت بالصغير على المعتمد كما لابن رشد والناصر وغيرهما خلافا لابن الحاجب، قال ال تتائي: وكذا إقرارها مريضة له بما مر مع بغضها، ومفهومه سقوط إقراره لها إن علم ميله لها لاتهامه إلا أن يجيزه الورثة فعطية منهم لها، وتقييدي بالمريض مخرج لإقرار زوج صحيح فيصح بغير الشرط المذكور وكذا ما بعده. قاله عبد الباقي. ونحوه للخرشي وعبارة الخرشي: وأما الزوج الصحيح فإقراره جائز من غير تفصيل. اهـ. وقال الحطاب: سئلت عن رجل أقر أن جميع ما بيد زوجته

ص: 257

من قماش وكذا وكذا ملك لها لا حق له فيه، وكتب بذلك خطه في شوال ثم لم يزل حيا إلى أن توفي في صفر من السنة الثانية، وانحصر إرثه في زوجته وبنت وبيت المال، فوضعت زوجته المذكورة يدها على أعيان كثيرة مما كان للمقر من كتب ومصاغ وكذا وكذا، وادعت أن ذلك كله مما شمله الإقرار، فإذا ادعى وكيل بيت المال أو وارث ومدع شرعي على الزوجة أن جميع ما وضعت يدها عليه مما ذكر أعلاه لم يكن بيدها حين الإقرار المذكور هل تسمع دعواه بذلك، وإذا قلتم تسمع فإذا وقعت الدعوى بذلك فهل عليها إقامة البينة أو يمين شرعية؟ فأجبت: تسمع الدعوى على المرأة المذكورة بما ذكره، وعلى المدعي إقامة البينة بأنها وضعت يدها بعد الإقرار، فإن لم تقم له بينة فله تحليفها على ذلك وإن اتهمها بأن الاقرار لا حقيقة له، وإنما مراده تخصيصها بما ذكر فله تحليفها على ذلك هذا إذا كان الإقرار في الصحة، وأما إن كان في المرض فهو باطل إذا علم ميله لها، وإن علم بغضه لها فالإقرار صحيح وإن جهل حاله وكان له منها ولد صغير فهو باطل، وهذا كله فيما عدا الديون السابقة على الإقرار فإنها مقدمة على ما أقر به بلا خلاف. انتهى.

أو جهل يعني أن الزوج المريض إذا أقر لزوجته التي جهل بغضه لها والحال أنه ورثه ابن أو بنون فإنه يؤاخذ بإقراره ذلك، وقوله:"وورثه ابن" واحد ذكر صغير أو كبير منها أو من غيرها، وقوله:"أو بنون" كبار أو صغار منها أو من غيرها أو كبار منها وصغار من غيرها، وقوله:"أو بنون" يعني ورثه بنون ذكور وحدهم أو مع الإناث، وأما إن ورثه إناث فقط فهو قوله الآتي، ومع الإناث والعصبة قولان وإدخال ال تتائي انفراد الإناث في قوله أو بنون غير صحيح. انظر مصطفى. قاله البناني.

إلا أن تنفرد بالصغير يعني أن محل صحة إقرار الزوج المريض لزوجته المجهول حاله معها بشرطه المذكور مقيد بأن لا تنفرد بالولد الصغير، فإن انفردت به أي بكونه منها وبقية الورثة كبار منها أو من غيرها، فإن إقراره حينئذ لا يصح اتفاقا، وأما لو علم بغضه لها فيصح إقراره لها ولو انفردت بالصغير كما مر، كما أنه لا يصح إقراره لها إذا علم ميله لها مطلقا، وقوله:"إلا أن تنفرد بالصغير" اعلم أنه لا يصح إقرار الزوج المريض لزوجته التي جهل حاله معها، هل يبغضها أم لا حيث انفردت بالولد الصغير ولو أنثى؟ لا ما يعطيه ظاهر المص، قال عبد الباقي: إلا أن تنفرد

ص: 258

الزوجة المجهول حاله معها بالصغير ولو أنثى كما في أحمد لا ما يعطيه ظاهره، وسواء كان واحدا أو متعددا بأن لا يشاركها غيرها في ولادته أي لا يكون الصغير إلا منها فقط، سواء كان الكبير منها أيضا ومن غيرها أو منها فقط كما مر فيبطل إقراره لها، وينبغي أن يراد به من لم يبلغ لأنه المتبادر من كلامهم ويحتمل ولو بالغا وثم أكبر منه لجري العادة بالميل للأصغر ولو بالغا. انتهى. وقوله:"وورثه ابن أو بنون" احترز به عما إذا ورث كلالة فإن إقرار الزوج المريض لزوجته حينئذ لا يصح.

تنبيهان: الأول: قال الرهوني: قال في مسائل المديان من أجوبة ابن رشد: وسأله أبو الفضل عياض عن امرأة أشهد لها زوجها في مرضه الذي توفيَ فيه بدين ولم يكن له وارث سوى أبيه، ثم ظهر بالمرأة حمل قبل وفاته وعلم به الزوج ورجع عن كثير من وصاياه بسبب هذا الحمل، وثبت على الإقرار بدين الزوجة إلى أن توفيَ هل الحمل هاهنا كالولد الظاهر، وكيف إن لم ينظر في التركة إلا بعد ولادة المرأة وحينئذ قامت هي بدينها؟ بين لنا الواجب في ذلك، فأجاب: تصفحت سؤالك هذا ووقفت عليه، والذي أراه في هذا أن علمه بالحمل يدفع التهمة عنه في إقراره لها بالدين، فإذا علم بالحمل بعد إقراره لها بالدين فلم يرجعه عنه حتى توفي جاز لها الإقرار ورجوعه عما رجع عنه من وصاياه بسبب الحمل لما علم به من أدل الدلائل على انتفاء التهمة عنه في إقراره بالدين. وبالله التوفيق. اهـ.

قال الرهوني: قلت ظاهره صحة الإقرار ولو ولدت أنثى، ووجهه والله أعلم: تجويزه أن يكون ذكرا ومفهومه أنه لو لم يعلم بالحمل لم تنتف التهمة به وهو ظاهر، وقد صرح بذلك في نظيرتها ونصه: وفي زاهي ابن شعبان لو أقر لوارث عند موته فلم يهلك حتى ولد له ولد يحجبه عن الميراث صح إقراره، فإن هلك الولد فعاد وارثا بعد تم الإقرار، قلت: الأظهر أنه إن علم المقر بحدوث من يحجب المقر له أن الإقرار صحيح، وإن لم يعلم لم يصح. انتهى.

الثاني: قال الرهوني ما ذكره المص من التفصيل في قوله ومريض لخ كله تبع فيه ابن رشد، وقد سلمه المواق وابن غازي والحطاب وغير واحد، واعترضه مصطفى بأنه مخالف لمذهب المدونة، ومذهبها أن إقرار المريض لوارث غير الزوجة لا يصح مطلقا وإقراره لها حيث ورثه ولد إنما يصح إذا كان الولد من غيرها، وعدم صحة إقراره لها حيث علم ميله وانقطاعه لها محله إذا كان بينه

ص: 259

وبين ولده تفاقم، وتفصيل ابن رشد مخالف لها في هذه الأمور الثلاثة، فكان من حق المص الجري على مذهبها وترك تقسيم ابن رشد لأن بعضه اختيار له وإجراء وقد أطال في المسألة، ونقل كلامه جسوس ونقله التاودي مختصرا وسلماه.

قلت: وفيه نظر من وجوه: أحدها أن ما ذكره من أن إقرار المريض لوارث غير الزوجة لا يصح مطلقا مردود بما قدمناه من نصها في إقراره لعصبته إذا تركهم وبنتا.

ثانيها أنه اغتر بقولها بعد ذكرها إقرار الزوج لزوجته ما نصه: أفغيرها من الورثة بهذه المنزلة؟ قال: لا. انتهى. مع أنه قال فيها بعد ذلك بقريب ما نصه: ولو ترك ابنة وعصبة يرثونه بقرابة أو ولاء فأقر لهم بمال فذلك جائز، ولا يتهم أن يقر للعصبة دون الابنة وأصل هذا قيام التهمة، فإذا لم يتهم لمن يقر له دون من يرث معه جاز إقراره فهذا أصل ذلك. اهـ منها بلفظها. ومثله لابن يونس عنها فهو نص في رد ما زعمه مصطفى ومن تبعه من أنه لا يصح إقرار المريض لبعض الورثة مطلقا، وقولها: وأصل هذا مع قيام التهمة لخ موافق لتفصيل ابن رشد فهو لم يخالف المدونة، بل فهمها على ذلك وقد علمت ما قاله الأئمة فيه من أنه المقدم نقلا وفهما ولو لم يوافقه أحد فكيف مع الموافقة كما هنا؟ فقد قال ابن يونس بعد نقله نص المدونة كما قدمناه ما نصه: قال بعض فقهاء القرويين لا فرق بين إقرار أحد الزوجين لصاحبه وبين إقراره لسائر الورثة، قال: وقد ذكر الاختلاف في كتاب محمد في إقرار الأب في مرضه للولد العاق على البار فأجازه مرة ولم يجزه أخرى ولم يذكر خلافا في إقراره لأحدهم إذا تساووا عنده في الدرجة، وقد اختلف في إقراره لبعض العصبة إذا ترك بنات وعصبة فأجيز لأن الذي يخرجه عن بعض العصبة مثله يخرجه عن بناته فلا يتهم، وقيل لا يجوز، والأنسب أن إقرارا لمريض إنما منع لإيثاره من يقر له، فإذا ظهر أنه لا تهمة عليه فيمن آثره على من بقي جاز إقراره. محمد بن يونس: وهو ظاهر المدونة. لأنه قال: وأصل هذا قيام التهمة فيمن يقر له فهي العمدة في ذلك. اهـ منه بلفظه. وبه تعلم صحة ما قلناه.

ثالثها أنا لو سلمنا ما قاله تسليما جدليا لم يصح اعتراضه على المص؛ لأن العدول عن مذهب المدونة لترجيح الشيوخ غيْرَه معهودٌ في هذا المختصر وغيره، ولأن كلام ابن رشد هذا لا خصوصية للمص باعتماده بل قد اعتمده وتلقاه بالقبول غير واحد من الحفاظ المحققين الفحول، ولذلك سلم

ص: 260

من قدمنا ذكرهم ممن تكلم عليه كلامه، وقد قال أبو علي هنا بعد نقله كلام ابن رشد بواسطة نقل أبي الحسن: ما نصه وقد تبين من هذا كله أن المدار على التهمة، وما نقله أبو الحسن عن ابن رشد نقله ابن عرفة والمص في توضيحه وغيرهم، وسلموه ولم يبحثوا فيه. اهـ منه بلفظه. فتأمل ذلك والله أعلم. اهـ كلام الرهوني.

ومع الإناث والعصبة قولان هذا مفهوم قوله: "إن ورثه ابن أو بنون" يعني أن الزوج المريض إذا أقر لزوجته التي جهل بغضه لها ولم يرثه ابن وإنما ورثه بنت أو بنات مع عصبة، فإنه اختلف في ذلك على قولين خرجهما ابن رشد على الخلاف في إقراره لبعض الورثة إذا ترك ابنة وعصبة، فقيل ذلك جائز وقيل هو غير نافذ وقد مر ذكر هذا الخلاف قريبا، والله تعالى أعلم.

قال عبد الباقي: وفي جواز إقرار زوج مريض جهل حاله لها مع وجود جنس الإناث من الأولاد الكبار منها أو من غيرها أو منها فقط ولم يترك إلا الصغار من غيرها والعصبة نظرا إلى أنها أبعد من البنت ومنعه نظرا إلى أنها

(1)

أقرب من العصبة قولان، فإن ورثه مع العصبة صغيرة أو إناث صغار منها لم يصح إقراره لها اتفاقا كانت كبار منها أو من غيرها أم لا، وأراد بالعصبة الجنس أي غير الابن بدليل تقديمه في قوله:"إن ورثه ابن" لخ، ويجري في إقرار الزوجة لزوجها ما جرى في إقرارد لها من التفصيل، قال أحمد: فإن قيل لأي شيء صح إقراره لها إن ورثه ابن صغير أو بنون صغار فقط منها وليس له سواهم، ولم يصح إن ورثه صغيرة منها أو إناث صغار منها فالجواب أنه مع الذكر لا يتهم لكون الأم وابنها شيئا واحدا، بخلافها مع الأنثى أو الإناث فإنه يتهم على حرمان العصبة. اهـ.

وقوله: "والعصبة" شامل لعصبة الولاء والنسب ولا وجه للتوقف في كونه يشمل عصبة الولاء، وشموله لعصبة الولاء يؤخذ من كلام المدونة السابق بل هم أحرى من عصبة النسب؛ لأن التهمة إذا لم تنتف مع عصبة النسب وهم أقرب فكيف تنتفي مع عصبة الولاء وبيت المال؟ وفتوى الحطاب التي ذكرها عند قوله:"كزوج علم بغضه لها" تدل على أن بيت المال كعاصب النسب فانظرها. والله أعلم. قاله الرهوني. وقال عبد الباقي: وينبغي جريان تفصيله المتقدم في إقراره لزوجتيه، وإذا

(1)

ساقطة من الأصل، والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 94.

ص: 261

كان له ابن صغير من واحدة وبنت صغيرة من أخرى فالظاهر صحة إقراره لأمها لعدم اتهامه على منع ابنه المصغير. اهـ.

قال مقيده عفا الله عنه: والظاهر أن العكس كذلك إذ لا يتهم في تنقيص حصة البنت. والله تعالى أعلم. المواق: ابن رشد: تحصيل إقرار الزوج لزوجه بدين في مرضه على منهاج قول مالك وأصحابه: إن علم ميله لها وصبابته بها سقط إقراره لها، وإن علم بغضه لها وشنئانه لها صح إقراره، وإن جهل حاله معها سقط إقراره لها إن ورث بكلالة، وإن ورث بولد غير ذكر مع عصبة فسواء كن واحدة أو عددا صغارا أو كبارا منها أو من غيرها أو كبارا منها يتخرج عندي على قولين: أحدهما أن إقراره لزوجته جائز، والثاني أنه لا يجوز من اختلافهم في إقراره لبعض العصبة إذا ترك ابنة وعصبة، وإن كان الولد ذكرا واحدا جاز إقراره صغيرا كان أو كبيرا منها أو من غيرها، وإن كان الولد ذكرا عددا جاز إقراره إلا أن يكون بعضهم صغيرا منها وبعضهم كبيرا منها أو من غيرها، فلا يجوز. اهـ المراد منه.

وقال الحطاب مفسرا للمص: يعني أنه إذا أقر للزوجة التي جهل بغضه لها ولم يكن له ابن ولا بنون وإنما كان عصبة وبنات، ففي صحة إقراره لها قولان، وسواء كانت البنات واحدة أو أكثر صغارا أو كبارا إذا كن من غيرها أو كبارا منها، وأما إن كن صغارا منها فلا يجوز إقراره لها قولا واحدا. قاله ابن رشد في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب التفليس. وهذا مستفاد من قول المص أولا:"إلا أن تنفرد بالصغير". ونقل في التوضيح كلام ابن رشد. والله أعلم. انتهى.

كإقراره للولد العاق تشبيه في القولين؛ يعني أن المريض إذا أقر لولده العاق مع وجود ولد بار ولو اختلفا ذكورة وأنوثة، فإن إقراره مختلف فيه على قولين: قيل يصح إقراره له نظرا لعقوقه، وقيل لا يصح نظرا لمساواته لغيره في الولدية. أو لأمه يعني أن المريض إذا أقر لزوجة هي أم لولده العاق، فإنه اختلف في إقراره ذلك على قولين، قيل يصح إقراره لأم ولده العاق لمساواة ولدها لغيره في الولدية، وقيل يبطل إقراره لها لعقوقه فكأنه لا ولد له، وهذا كالمستثنى من قوله إنه يصح إقراره للزوجة التي جهل بغضه لها إذا كان له ابن أو بنون، فكأنه قال: إلا أن يكون الولد عاقا ففي صحة إقراره للزوجة قولان. انظر الخرشي.

ص: 262

وقال عبد الباقي: ولو قال أو لزوجة معه لكان أحسن لأنه يفيد أن الخلاف لا يختص بالإقرار لأم العاق، بل يكون فيها وفي زوجة غيرها، والموضوع أنه يجهل بغضه لها وكأن هذا مستثنى حكما مما قدمه من صحة إقراره لها مع جهل بغضه لها إذا كان له ابن فكأنه قال: إلا أن يكون ولدها عاقا ففي صحة إقرار الزوج لها قولان بناء على ظاهر المص من أنها أمه، وإن علمت أن الحكم عام فيها وفي زوجة غيرها مع وجود العاق انتهى وللحطاب نحو هذا.

أو لأن من لم يقر له أبعد وأقرب يعني أن المريض إذا أقر لبعض ورثته - وفي الورثة من هو أبعد من المقر له ومن هو أقرب منه - فإنه اختلف في إقراره ذلك على قولين، كإقراره لأخت مع وجود أم وعم، فقيل لا يصح الإقرار لها نظرا لكون العم أبعد منها، وقيل يصح نظرا لكون الأم أقرب منها، ومثله إذا أقر لأمه وله بنت وأخ. قاله ابن رشد، فمن نظر إلى البنت أجاز الإقرار للأم لأنها أبعد؟ ومن نظر إلى الأخ منع لأنها أقرب. قاله عبد الباقي وغيره.

لا المساوي يعني أن المريض إذا أقر لبعض ورثته المتساوين في الدرجة فإنه يبطل إقراره قولا واحدا، كما إذا أقر لأحد أولاده أو لأحد إخوته مثلا. والأقرب الواو بمعنى أو يعني أن المريض إذا أقر للأقرب من ورثته فإنه يبطل إقراره اتفاقا، كما إذا أقر لأم مع وجود عم قال المواق: ابن رشد: إن أقر لوارث قربه منه كسائر الورثة كأحد أولاده أو إخوته أو بني عمة أو أقرب من سائرهم كإقراره لابنته وله عصبة أو لأخ شقيق وله أخ لأم أو لأمه وله أخ شقيق سقط اتفاقا؛ يعني إلا أن يقر للولد العاق مع وجود البار ففيه الخلاف المذكور. والله تعالى أعلم.

تنبيهات: الأول: من باع بعض ولده دارا أو ملكا وذكر في العقد أنه باعه ذلك بيعا صحيحا بثمن قبضه، فقام باقي الورثة على المشتري فذكروا أن البيع ليس بصحيح وأنه لم يدفع فيه ثمنا وأنه توليج من الأب إليه فلا وجه لدعواهم عليه إلا أن يثبتوا أن الأب كان يميل إليه فتتعلق اليمين عليه، قالوا: ولو شهدت البينة بمعاينة القبض لم تترتب يمين على الابن، وإن شهدت البينة بميل الأب إليه وانحرافه عن سائر ولده وإن كان الأب أقر بعد ذلك بالتوليج لم يضر ذلك الابن. انتهى من معين الحكام. وفي وثائق الغرناطي: ولا يثبت التوليج إلا بإقرار المولج. اهـ من المسائل الملقوطة. قاله الحطاب.

ص: 263

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: وكلام الحطاب هذا في الصحيح قطعا كما مر ما يفيد التنصيص عليه والله تعالى أعلم.

الثاني. قال الحطاب بعد جلب كلام طويل: فتحصل من هذا أن الإقرار للوارث بشيء إذا قام به المقر له بعد موت المقر وشهدت به البينة، فإن كان يعرف وجه ذلك أو سبب يدل عليه جاز ذلك، وسواء كان الإقرار في الصحة أو في المرض، وإن لم يعرف وجهه ولا سببه وكان في المصحة ففيه قولان: أحدهما أنه نافذ يأخذه من تركته في الموت ويحاص به الغرماء في الفلس وهو قول ابن القاسم في المدونة والعتبية، والثاني أنه لا يحاص به الغرماء في الفلس ولا يأخذه من التركة في الموت وهو قول المدنيين للتهمة عندهم، وإن ولاه ما اشتراه بثمن كثير بثمن يسير، أو أشهد أنه باعه منزلة بشيء يسير وهو يساوي شيئا كثيرا فهو توليج كما صرح به في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات. قاله الحطاب. قوله: فإن كان يعرف وجه ذلك أو سبب يدل عليه مثل أن يكون باع له رأسا وأخذ له موروثا. والله تعالى أعلم. وقد مر بعض هذا.

الثالث: في قواعد القرافي وسلمه ابن الشاط: قبول بينة من أقر أن ما تركه أبوه ميراث بينهم، ثم أقام بينة أن أباهم أشهدهم أنه تصدق عليه في صغره بهذه الدار، أوأنه ملكها بوجه شرعي؛ وفي النوادر عن سحنون عدم قبول بينة من ادعى دارا بيد امرأة أبيه أنها لأبيه تركها لورثته، ثم أقام بينة أن أباه أشهد في صحته بنصفها صيره في حق قبله من ميراثه لأمه، قال سحنون: لأنه أكذبها، وفرق الرهوني بينهما بأن مسألة القرافي عذر فيها لكون الصدقة وقعت للابن وهو صغير، فحمله على عدم علمه بها حين أقر، ومسألة النوادر المتبادر منها أن المعاملة وقعت بين الأب وابنه وهو مالك أمر نفسه فحمله على العلم. اهـ.

كأخرني لسنة وأنا أقر تشبيه في قوله: "لا المساوي والأقرب" يعني أنه إذا وعده بالإقرار إن أخره، فإنه لا يلزمه الإقرار مع التأخير فإذا ادعى عليه بمائة مثلا، فقال له: أخرني سنة مثلا وأنا أقر لك وأخره سنة فإنه لا يلزمه بذلك إقرار، قال عبد الباقي: وشبه في عدم لزوم الإقرار قوله: "كأخرني سنة وأنا أقر" فلا يلزمه إقرار مع تأخيره لأنه وعد بالإقرار لا إقرار. اهـ. وإذا لم يلزم الإقرار في قوله: "أخرني لسنة وأنا أقر".

ص: 264

رجع المقر له للخصومة أي للمقر له أن يخاصم المقر الآن أو بعد السنة، ويحلف القائل أخرني لسنة وأنا أقر أنه ما أراد بما صدر منه الإقرار، قال البناني: الذي نقله المواق عن الاستغناء هو التعبير بالماضي بأن يقول إن أخرتني سنة بها أقررت لك، فلو عبر المص به لفهم عدم اللزوم في المضارع بالأولى. اهـ. وكلام المواق الذي أشار إليه هو قوله من الاستغناء: إن قال اقضني المائة التي لي قبلك فذكر فروعا إلى أن قال ما نصه: فإن قال إن أخرتني سنة أقررت لك بها وإن صالحتني عنها صالحتك لم يلزمه ويحلف. انتهى.

ولزم للحمل إن وطئت ووضع لأقله يعني أن الإقرار للحمل لازم كما مر أنه متأهل للإقرار، فإذا قال لحمل فلانة عليَّ كذا فإنه يكون لمن ولدته بشرط أن تكون قد وطئت بأن يكون لها سيد أو زوج مرسل عليها بحيث ينسب الولد له، وهذا إن وضعته لأقل الحمل أي وضعته لأقل من مدة الحمل بأن ولدته لأقل من ستة أشهر قلة لها بال بأن يكون ما نقص عن الستة الأشهر قدرا زائدا عما تنقصه الأشهر الستة عادة، وتقدم أن نقص الستة الأشهر خمسة أيام لا يؤثر، وأنه بمنزلة كمالها وأن نقصها ستة أيام يوثر على الصحيح، فإذا ولدته لأقل من ستة أشهر بستة أيام فهو بمنزلة ما ولدته لخمسة أشهر على الصحيح فله ما أقر به لتحقق وجوده حال الإقرار ولأقل منها بخمسة أيام فهو بمنزلة ما ولدته لستة أشهر، فلا يكون له المقر به لاحتمال أن الحمل به بعد الإقرار وهذا كله إن كان مرسلا عليها كما عرفت. وإلا أي وإن لم توطأ بأن لم يكن لها زوج أو سيد مرسل عليها فالإقرار لازم لمن وضعته لأكثره اي أكثر أمد الحمل من يوم انقطاع الإرسال، وهو تارة يكون يوم طلاقها أو موته أو غيبته، وتارة يكون قبل ذلك، وتقدم الخلاف في أكثره هل أربع أو خمس من السنين، فإن جاوز الأكثر لم يلزم، قال جميعه عبد الباقي.

وقوله: "ولزم للحمل إن وطئت ووضع لأقله" لخ قال البناني: محل هذا الشرط إذا لم يكن الحمل ظاهرا يوم الإقرار وإلا لزم بلا قيد. انظر الحطاب. وقوله: "ولزم للحمل" اعلم أنه إنما يلزم للحمل إن نزل حيا وإلا لم يلزم له شيء وينظر، فإن لم يبين شيئا بطل إقراره لاحتمال كونه قصد الهبة له، وإن بين أنه من دين أبيه أو وديعته كان لمن يرث أباه. قاله عبد الباقي. وقوله:"ولزم للحمل" قال الحطاب: سواء أطلق الإقرار كقوله لحمل فلانة ألف أو قيده كقوله ألف من هبة أو صدقة، ولا

ص: 265

إشكال إذا قيد ذلك بوجه يصلح للجنين كما ذكرنا، وأما إن قال أقرضنيها ونحو ذلك، فقال في التوضيح عن سحنون وابن عبد الحكم: إنه يلزمه أي لأنه يعد ندما، وقال المازري: يبطل إقراره. وفهم من كلام المص أن الإقرار لصبي لا يعقل أو لمجنون صحيح من باب أحرى وهو كذلك كما صرح به صاحب الشامل وغيره، قال ابن عرفة: وما أقر به لمجنون أخذه وليه أو السلطان إن لم يكن له ولي. اهـ.

وسوى بين توءميه يعني أنه إذا أقر لحمل فلانة فولدت توءمين فإنه يقسم بينهما ما أقر به بالسوية ذكرين أو انثيين أو ذكرا وأنثى إن وضعا حيين، وإلا فللحي منهما ولا شيء لمن وضعته ميتا لأنه لا يصح تملكه، والتوءمان هما ما ليس بينهما ستة أشهر.

إلا لبيان الفضل يعني أن محل التسوية في القسم بين التوءمين إنما هو حيث لم يبين المقر فضل أحدهما على الآخر أي تكثيرة عليه تبيينا صريحا، كأعطوا الذكر مثلي الأنثى أو عكسه، أو تبيين ما يقتضي الفضل كأن يبين أن ما أقر به دين لأبيهما وترث منه أمهما إن كانت زوجة للأب عند موته، وشمل ما قبل الاستثناء ما إذا قال علي لهذا الحمل من إرث أخيه كذا ولم يبين أشقيق أو لأم فوضعت ذكرا وأنثى، فيسوى بينهما على أحد قولين، والآخر يقسم ثلاثة أجزاء للذكر جزء، وللأنثى جزء ويبقى الجزء الثالث يدعيه الذكر كله والأنثى نصفه فقد سلمت له نصفه فيأخذه ويبقى النصف فيقسم بينهما نصفين لتداعيهما فيه فللذكر سبعة من اثني عشر وللأنثى خمسة منها، قال ابن عبد الحكم: وبالأول أقول. المواق: ابن شأس: لو قال أنا وصي والد هذا الحمل وله علي مائة فالمائة عليه دين، فإن وضعت ذكرا وأنثى فالمال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن كانت ذات الحمل زوجة فلها الثمن من ذلك، وإن ولدت ولدا ميتا فالمال لعصبة الميت. انتهى.

وأشار إلى الركن الثالث وهي الصيغة بقوله: بعلي يعني أنه إذا قال لفلان علي ألف درهم فإن ذلك إقرار أو في ذمتي يعني أنه إذا قال لفلان في ذمتي ألف فإن ذلك إقرار، أو عندي يعني أنه إذا قال لفلان عندي ألف مثلا فإن ذلك إقرار يؤاخذ به المكلف لخ، قال المواق: ابن عرفة: الصيغة الصريحة في الإقرار كتسلفت وغصبت وفي ذمتي والروايات في علي كذلك. ابن شأس: وإذا قال

ص: 266

لفلان علي أو عندي ألف فهو إقرار. ابن هشام: لقوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ، وقوله تعالى:{فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} .

أو أخذت منك يعني أنه إذا قال أخذت من فلان كذا فإن ذلك إقرار، قال المواق: المازري: قوله أخذت كذا من دار فلان أو بيته أو ما يحوزه فلان بغلق أو حائط أو زرع ويمنع منه الناس ولا يدخل إلا بإذنه كإقراره بأخذه من يده فهو تمليك لك

(1)

)، ولو قال من فندقه أو حمامه أو مسجده فليس بإقرار. اهـ. وقوله:"أو أخذت منك" وكذا لو قال أعطيتني ألفا مثلا فإنه إقرار. الخرشي: لو كتب في الأرض أن لفلان علي كذا وقال اشهدوا علي لزمه وإلا فلا، وفي صحيفة أو لوح أو خرقة يلزمه مطلقات ولو كتب علي الماء أو في الهواء فلا يلزمه. انتهى.

ولو زاد إن شاء الله يعني أن المقر إذا أعقب إقراره بقوله: إن شاء الله فإنه يلزمه ما أقر به ولا ينفعه في لزوم الإقرار، قوله ذلك لأنه لما نطق بالإقرار علمنا أن الله شاءه، ولأن الاستثناء لا يفيد في غير الحلف بالله، بخلاف إن شاء فلان فلا يلزمه ما أقر به حيث أعقبه بذلك ولو شاء فلان. أو قضى يعني أنه إذا أعقب إقراره بقوله إن قضى الله فإنه يلزمه ما أقر به، ولا يفيده ذلك في لزوم الإقرار لأنه لما نطق بالإقرار علمنا أن الله قضاه ولأن الاستثناء لخ. المواق: ابن سحنون: أجمع أصحابنا أنه إذا أقر فقال لفلان علي ألف درهم إن شاء الله أو له عندي أو معي لزمته ولا ينفعه الاستثناء. ابن المواز وابن عبد الحكم: إذا قال إن شاء الله لم يلزمه شيء وكأنه أدخل ما يوجب الشك. ابن سحنون: لو قال لك علي ألف درهم إن قضى الله ذلك أو بذلك لزمه كقوله إن شاء الله. انتهى.

أو وهبته لي أو بعته يعني أنه إذا ادعى عليه بشيء، فقال للمدعي وهبته لي أو بعته لي فإن ذلك إقرار منه، وعلى المدعى عليه إثبات البيع أو الهبة، قال عبد الباقي: أو ادعى شخص عليه بحق فقال المدعى عليه وهبته لي أو بعته، فإقرار من المدعى عليه وعليه أن يثبت البيع أو الهبة، وإذا لم يثبت وجعل إقرارا فهل يحلف المقر له في مسألة الهبة أم لا؟ خلاف مبني على الخلاف في اليمين، هل تتوجه في دعوى المعروف أم لا؟ وأما في مسألة البيع فيحلف اتفاقا، ومحل جعل

(1)

في المواق ج 5 ص 224: تمليك له.

ص: 267

الهبة والبيع إقرارا بالشيء إلا

(1)

أن تحصل الحيازة المعتبرة، ولا يعارض ذلك قوله فيما يأتي: إلا بإسكان ونحوه من أن الحيازة لا تنفع لأنه هنا إنما اعترف بوضع يده وحوزه لما في ملكه، وفي مسألة ما إذا اعترف بأن مدعيه ءاجره له أو أعاره له أو نحو ذلك أو أشهد بينة بذلك إنما وقع الحوز فيما هو ملك للغير. اهـ.

قوله: فهل يحلف المقر له في مسألة الهبة أم لا؟ خلاف لخ مثله في التوضيح والحطاب، وظاهره سواء كان الشيء الذي ادعيت فيه الهبة في يد المقر أم لا، ولابن عرفة عن الباجي تفصيل، ونصه الباجي في ترجمة ما يجوز من العطية: من ادعى على رجل هبة معينة، فظاهر المذهب أن لا يمين على المدعى عليه، وقال الجلاب: عليه اليمين فإن نكل حلف المدعي وأخذها، وأما إن كان في الذمة كمن عليه دين فيدعي على ربه أنه وهبه له فالظاهر أن عليه اليمين، ويحتمل أن يقسم قسمة أخرف إن كانت الهبة بغير يد الموهوب فلا يمين على الواهب، وإن كانت بيد الموهوب فعليه اليمين كانت معينة أو في الذمة، ويصحح هذا التقسيم أن من استحق عرضا بيد رجل لم يحكم له حتى يحلف أنه ما باع ولا وهب. اهـ. وعلى هذا القيد جرى في التحفة إذ قال:

ولليمين أيما اعمال

فيما يكون من دعاوي المال

إلابما عد من التبرع

ما لم يكن في الحال عند المدعي

وقوله: إلا أن تحصل الحيازة المعتبرة لخ صحيح ذكره الحطاب آخر الشهادات عن ابن رشد، ونصه: قال ابن رشد: فإذا حاز الرجل مال غيره في وجهه مدة تكون فيها الحيازة عاملة وادعاه ملكا لنفسه بابتياع أو صدقة أو هبة وجب أن يكون القول قوله في ذلك مع يمينه. اهـ. قال الحطاب عقبه: وسواء ادعى صيرورة ذلك من غير المدعي أو ادعى أنه صار إليه من المدعي، أما في البيع فلا أعلم فيه خلافا، وأما بصدقة أو هبة ففيه خلاف. قاله البناني. وقوله: لأنه هنا إنما اعترف بوضع يده وحوزه لما في ملكه لخ أحسن منه أن قولهم الحيازة لا تنفع فيما علم أصل مدخله

(1)

كذا في الأصل وعبد الباقي والبناني ج 6 ص 96.

ص: 268

مقيد بما تحقق مدخله بوجه لا يقتضي نقل الملك كما صرح بذلك في نوازل المعاوضات من المعيار، ونصه: إذ لا تنفع الحيازة فيما علم أصله وتحقق مدخله بوجه لا يقتضي نقل الملك من عارية أو إعمار أو غير ذلك. اهـ منه بلفظه.

وهو تقييد لابد منه وكثيرا ما يقع الغلط في هذه المسألة للغفلة عنه، حتى إنه وقع لابن الحاج وسلمه له ابن سلمون ويأتي نصه على الأثر، وقول البناني عن الحطاب: أما في البيع فلا أعلم فيه خلافا لخ كأنهما لم يقفا على ما لابن سلمون، ونصه عن نوازل ابن الحاج إقراره بالابتياع من وكيله إقرار منه له بالملك، ولا ينتفع بما استظهر به من عقد الحيازة، وإنما ينتفع بالبينة العادلة بالابتياع من وكيله أو منه، وإنما تنفع الحيازة فيما جهل أصله. اهـ منه بلفظه. قاله الرهوني.

أو وفيته بضم التاء يعني أنه إذا ادعى عليه بحق فقال: وفيته لك أي قضيته فإن ذلك إقرار وعليه إثبات ما ادعى من التوفية، ومحل كون وفيته إقرارا ما لم يقترن بها ما يمنع دلالتها على الإقرار. أوأقرضتني يعني أنه إذا قال لي عندك كذا فقال أقرضتني إياه فإن ذلك إقرار أو أما أقرضتني يعني أنه إذا قال أما أقرضتني ألفا مثلا فصدقه على ذلك فإن ذلك إقرار، أوألم تقرضني يعني أنه إذا قال شخص لآخر ألم تقرضني مائة مثلا فإن ذلك يكون إقرارا إن صدقه الآخر، قال عبد الباقي: أو أما أقرضتني أو ألم تقرضني فإقرار إن أجابه الآخر فيهما بنعم أو بلى أو أجل وإلا فلا، واستغنى هنا عن التقييد المذكور بقوله سابقا لم يكذبه. انتهى. وهذا القيد الذي ذكرته في أما أقرضتني أو ألم تقرضني إنما هو إذا وقع هذا اللفظ من المقر ابتداء كما في المواق لا جوابا لقول الطالب لي عندك؛ إذ هو حينئذ إقرار مطلقا، قال: نعم أولا. أو ساهلني يعني أنه إذا قال شخص لآخر أعطني حقي ألفا أو لي عليك ألف، فقال له المدعى عليه: ساهلني فإن ذلك إقرار.

أو اتزنها مني يعني أنه إذا قال شخص لآخر لي عليك ألف مثقال مثلا، فقال له المدعى عليه: اتزنها مني فإن ذلك إقرار، قال عبد الباقي: بخلاف لم أتزن فليس بإقرار. اهـ. وقال المواق: ابن سحنون وابن عبد الحكم: من قال لرجل أعطني كذا فقال نعم أو سأعطيك أو أبعث لك به وليس عندي اليوم، أو ابعث من يأخذه مني فهو إقرار وكذا أجلني به شهرا أو نفسني به، ولفظ ابن شأس ساهلني فيها دون نفسني بها لم أجده. اهـ نص ابن عرفة. ومن الاستغناء قال ابن عبد

ص: 269

الحكم: إن قال اقضني العشرة التي لي عليك فقال اتزن أو اجلس فانتقد فليس بإقرار، وحلف لأنه لم ينسب ذلك إلى أنه الذي يدفع إليه، ولو قال اتزنها مني أو ساهلني فيها لزمته لأنه نسب ذلك إلى نفسه. انتهى.

أو لاقضيتك اليوم يعني أنه إذا ادعى شخص على آخر بحق فقال له لاقضيتك اليوم بصيغة الماضي فإن ذلك إقرار، وأما إن قال له لأقضينك مضارعا مؤكدا بنون ثقيلة فإقرار، وإن لم يقيده باليوم بخلاف لاقضيتك فإنما يكون إقرارا إن قيد باليوم. قاله عبد الباقي.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: قوله مؤكد بنون ثقيلة الظاهر أنه لا خصوصية للثقيلة بل وكذلك الخفيفة، وكذا إن لم يؤكده بنون فيما يظهر. والله تعالى أعلم.

أو نعم أو بلى أو أجل جوابا لأليس لي عندك يعني أنه إذا قال شخص لآخر: أليس لي عندك كذا؟ فأجابه بنعم أو ببلى أو بأجل فإن ذلك إقرار، وجعل بعضهم قوله:"جوابا لأليس لي عندك" في المسائل الست يعني قوله: "أو ساهلني" فما بعده إلى قوله: "جوابا لأليس لي عندك" وهو ظاهر. والله تعالى أعلم. وساوى المص كغيره هنا بين بلى ونعم لاتفاق معناهما عرفا لبناء الإقرار عليه وإن اختلف لغة، كما نظمه الأجهوري بقوله:

نعم لتقرير الذي قبلها

إثباتا أو نفيا كذا حرروا

بلى جواب النفي لكنه

يصير إثباتا كما قرروا

وفي ال تتائي عن التوضيح: ينبغي إذا صدر نعم من عارف باللغة أن لا يلزمه شيء. اهـ. قوله: نعم لتقرير الذي لخ، ولذلك قال ابن عباس في قوله تعالى:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، لو قالوا نعم لكفروا؛ أي أنهم قالوا لست بربنا.

أو ليست لي ميسرة يعني أنه إذا قال شخص لآخر أعطني مالي عندك، أوأليس لي عندك ألف؟ أو نحو ذلك، فقال له المدعى عليه ليست لي ميسرة فإن ذلك إقرار منه، قال المواق: ابن شاس: إذا قال اقضني العشرة التي لي عليك، فقال ليست لي ميسرة أو أرسل رسولك يقبضها أو أنظرني

ص: 270

بها فكله إقرار. انتهى. وقوله: "أو ليست لي ميسرة" عطف على قوله: "بعليَّ" لا على قوله: "أليس لي عندك" وأشار إلى صيغ لا يحصل بها الإقرار، بقوله: لا أقر عطف على قوله: "بعليّ" وهو بضم الهمزة مضارع أقر؛ يعني أن قول الشخص أقر ليس بإقرار لأنه وعد بالإقرار وليس بإقرار، وهذا الذي ذكره المص هو الظاهر دون تورك ابن غازي عليه حيث قال: لم أجد هذا الفرع هكذا لأهل والذي وإنما رأيت في وجيز الغزالي: لو قال أنا أقر به فقيل إنه إقرار وقيل إنه وعد بالإقرار، والذي في مفيد الحكام لابن هشام أن من قال: أقر لك بكذا على أني بالخيار ثلاثا بين التمادي والرجوع عن هذا الإقرار لزمه الإقرار دما كان أو طلاقا. انتهى. ونقل البناني بعضه وسلمه، قال الرهوني: الظاهر ما للمص لما قدمه البناني نفسه في النكاح عن اللقاني وعن التزامات الحطاب من أن الأصل في المضارع الوعد، ولذا قال أبو علي هنا ما نصه: ومعنى ذلك أن الإنسان إذا قال لغيره أقر لك بألف فهذا ليس بإقرار لأنه وعد، ولا يلزم به حق للموعود على المذهب. اهـ منه بلفظه. فإذا انضم إلى ذلك قاعدة أخرى وهي أن الأصل براءة الذمم فلا تعمر إلا بمحقق لا بمشكوك فيه أو محتمل ازداد ذلك وضوحا، وقد بنوا في هذا الباب على هذه القاعدة فروعا، ولا شاهد لابن غازي فيما تورك به على المص من كلام المفيد؛ لأن المضارع في كلامه قارنه ما دل على أنه قصد به إنشاء الإقرار، وهو قوله: على أني بالخيار في التمادي والرجوع عن هذا الإقرار. فتأمله بإنصاف فإنه واضح والله الموفق.

تنبيهات: الأول: ابن القاسم: من قال لرجل فلان الساكن في منزلك بمَ

(1)

أسكنته؟ فقال أسكنته بلا كراء والساكن يسمع ولا ينكر ولا يغير، هل يقطع سكوته دعواه إن ادعى؟ فقال: لا يقطع ذلك دعواه إن ادعى المنزل له وهو على حقه، ويحلف لأنه يقول ظننت أنه يلاعب ولا يطالب ببينة لأنه حائز للمنزل بسكناه. انظر الرهوني.

قال مقيده عفا الله عنه: وهذا ظاهر إن كان هو الساكن فيه، فإن سكناه معا قسم بينهما للقاعدة المقررة.

الثاني: قال الحطاب: قال ابن سهل في أحكامه في مسائل الإقرار: إذا دفع وديعة لرسول بغير بينة ثم جاء ربها فأعلمه بذلك فسكت ثم طالبه فإنه يحلف ما أمر فلانا بالقبض وما كان سكوته

(1)

في الأصل: لم، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 149.

ص: 271

رضى بقبضه ثم يغرمه، ولو علم بذلك فقال للدافع: كلم فلانا القابض يحتال لي في المال كان رضى منه بقبضه فليطلبه به والدافع بريء، ونقل نحوه عن النوادر وزاد ما نصه: ولو طلبها ربها فجحد الدافع فقال ربها احلف ما أودعتك، قال يحلف له مالك علي شيء؛ يعني أن الدافع أيقن بأمر رب الوديعة. انتهى.

الثالث: قال البناني: قال الحطاب هنا عن ابن رشد: اختلف في السكوت هل يعد إقرارا أو لا على قولين مشهورين لابن القاسم في المذهب أظهرهما عنده أنه ليس إقرارا. اهـ. يشير بهذا إلى قول الحطاب ما نصه: مسألة: اختلف في السكوت هل هو كالإقرار أم لا؟ قال في العتبية في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب التفليس: مسألة: وسئل عن رجل جاء قوما في مجلس، فقال: أنا أشهدكم أن لي على فلان كذا وكذا دينارا وفلان ذلك مع القوم في المجلس فسكت ولم يقل نعم ولا لا ولم يسأله الشهود عن شيء، ثم جاء يطالب ذلك قبله فأنكر أن يكون له عليه شيء، قال: نعم ذلك لازم إذا سكت ولم يقل شيئا.

قال محمد بن رشد: اختلف في السكوت هل يعد إذنا في الشيء وإقرارا به على قولين مشهورين في المذهب منصوص عليهما لابن القاسم في غير ما موضع من كتبه، أحدهما أنه إذن، والثاني أنه ليس بإذن وهو قول ابن القاسم أيضا في سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح وقي سماع أصبغ من كتاب المدبر، وأظهر القولين أنه ليس بإذن لأن في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها

(1)

دليلا على أن غير البكر بخلاف البكر في الصمت، وقد أجمعوا على ذلك في النكاح فوجب أن يقاس ما عداه عليه إلا ما يعلم بمستقر العادة أن أحدا لا يسكت عليه إلا برضى منه فلا يختلف في أن السكوت عليه إقرار به، كالذي يرى حمل امرأته فيسكت ولا ينكره ثم ينكره بعد ذلك وما أشبه ذلك. اهـ المراد منه. والله تعالى أعلم.

الرابع: من له دين على ميت وقسمت تركته بحضرته ولم يتكلم أن ذلك مسقط لحقه. قاله الحطاب. وقال عن ابن فرحون: قال ابن القاسم: من سئل عند موته هل لأحد عندك شيء، فقال:

(1)

صحيح مسلم، كتاب النكاح، رقم الحديث 1421.

ص: 272

لا، قيل له ولا امرأتك، والمرأة ساكتة وهي تسمع فإنها تحلف أن حقها عليه يريد إلى الآن، وتأخذه إن قامت به بينة ولا يضرها سكوتها. اهـ. قاله الحطاب.

الخامس: قال عبد الباقي عند قوله "أقر" ما نصه: وأما إذا قال لا أقر فليس إقرارا قطعا ولا وعدا به والمتوهم الوعد به هو الأول، قال الحطاب: ومما لا يكون إقرارا إذا قال لي عندك عشرة فقال الآخر وأنا لي عندك عشرة. اهـ. وهو مستغرب إلا أن يقال معناه وأنا أكذب عليك بأن لي عندك عشرة كما كذبت علي بمثل ذلك. اهـ كلام عبد الباقي. والله تعالى أعلم.

أو علي أو على فلان يعني أنه إذا قال شخص لآخر لي عليك ماتة أو نحو ذلك، فقال له المدعى عليه علي بتشديد الياء أو على زيد مثلا فإن ذلك لا يكون إقرارا ويحلف، كان فلان حرا أو عبدا صغيرا أو كبيرا إلا أن يكون ابن شهر فإنه حينئذ كالعدم وهو كالعجماء في فعله، فيؤاخذ المقر بإقراره كقوله: علي أو على هذا الحجر. قاله أحمد. وفي الشامل: إتلاف ابن ستة أشهر هدر كمجنون وابن سنة فأكثر في ماله وقيل هدر، وقال محمد: إن كان يحبو فهدر، وقيل فيمن لا يميز ثلاثة: هدر والدم فقط وثالثها المال في ماله والدم على عاقلته. اهـ. وقد مر الكلام على هذه المسألة في باب الحجر فراجعه إن شئت. المواق: محمد وابن عبد الحكم: من قال لرجل لك عليَّ عشرة دراهم أو على فلان حلف ولا شيء عليه، وعلى أصل سحنون إن قال لك علي كذا أو على فلان لزمه دون فلان. اهـ. وقوله: علي أو على فلان إنما لم يلزمه للتردد، وقوله: علي أو على فلان قال غير واحد: ظاهره قدم المقر به أو أخره فتكون الطريق المفصلة ضعيفة. انتهى.

أو من أي ضرب تأخذها ما أبعدك منها يعني أنه إذا طالب شخص شخصا بمائة مثلا، فقال له المدعى عليه من أي ضرب تأخذها ما أبعدك منها، فإن هذا ليس بإقرار لأن ذلك القول خرج مخرج الاستهزاء والسخرية بحسب الدلالة العرفية مع قرينة قوله: ما أبعدك منها. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: أو من أي ضرب تأخذها ما أبعدك منها فغير إقرار إن جمع بين هذين اللفظين أو اقتصر على ثانيهما، وكذا على أولهما مع يمينه أنه لم يرد به الإقرار بل الإنكار والتهكم وشبه ذلك. اهـ. ونحوه للخرشي عن ابن عبد السلام. والله تعالى أعلم.

ص: 273

وفي حتى يأتي وكيلي وشبهه أو اتزن أو خذ قالان يعني أنه إذا قال شخص لآخر: أد إلي العشرة التي عندك أو نحو ذلك، فأجابه الآخر بقوله حتى يأتي وكيلي وشبه ذلك كقوله حتى يقدم غلامي أو حتى يقضيني غريمي أو حتى يدخل لي فائدة أو ربح أو اتزن أو خذ، فإنه اختلف في ذلك على قولين: هل يكون إقرارا أم لا؟ فقال سحنون: يكون إقرارا، وقال ابن عبد الحكم: لا يكون إقرارا ويحلف، قال عبد الباقي: ومحل القولين حيث لا قرينة تدل على أنه أراد حقيقة كلامه أو غير حقيقته كالاستهزاء كذا ينبغي. انتهى.

كلك علي ألف فيما أعلم تشبيه في القولين يعني أنه إذا قال شخص لآخر لك علي ألف فيما أعلم، فإنه اختلف في ذلك على قولين، قيل ذلك إقرار وقيل ليس بإقرار هذا قول المص وهو صحيح مطابق للنقل والقولان لسحنون وابن عبد الحكم، وأما قول عبد الباقي تبعا للأجهوري: ومفاد النقل أنه إذا قال له لك علي ألف فيما أعلم أو في علمي فإن ذلك إقرار قطعا أي ليدى من محل الخلاف فغير صحيح.

أو أظن يعني أنه إذا قال شخص لآخر لك علي ألف فيما أظن أو ظني، فإنه اختلف في ذلك على قولين: فقيل إقرار وهو لسحنون، وقيل لا يكون إقرارا وهو قول محمد بن عبد الحكم، قال عبد الباقي: وأما لو قال لك علي ألف فيما أشك أو أتوهم فليس بإقرار اتفاقا.

أو علمي يعني أنه إذا قال له لك علي ألف في علمي، فإنه اختلف في ذلك على قولين: فقيل إقرار وقيل غير إقرار كما في قوله لك علي ألف فيما أعلم وهما لسحنون وابن عبد الحكم، وقد مر رد قول عبد الباقي إن مفاد النقل أنه إذا قال لك علي ألف فيما أعلم أو لك علي ألف في علمي أنه إقرار اتفاقا. والله تعالى أعلم. قال البناني: قول عبد الباقي ومفاد النقل لخ غير صحيح، وأصله للأجهوري وقد نقل المواق الخلاف في العلم والظن معا، قال سحنون: إقرار، وقال ابن المواز وابن عبد الحكم: ليس بإقرار، ومثله لابن شأس وابن الحاجب وشراحه وابن عرفة، قال مصطفى: وكذا النقل في جميع ما وقفت عليه من دواوين المالكية، وتمسك الأجهوري بقول ابن المواز وابن عبد الحكم: لأنه شك قائلا: فقوله لأنه شك لا يأتي في قوله فيما أعلم أو علمي وهو تمسك غير صحيح؛ إذ لا شك أن قوله في علمي أو فيما أعلم فيه ضرب من الشك، ولذا لا يكتفى به في اليمين

ص: 274

فيما يطلب فيه القطع. اهـ. يشير لقوله: وقد نقل المواق الخلاف لخ بقوله: سحنون: من قال لفالأن علي ألف درهم فيما أعلم أو في علمي أو فيما أظن أو فيما أحسب فهو إقرار ويلزمه، وقال ابن المواز وابن عبد الحكم: ليس بإقرار لأنه شك فيسقط كالشهادة، ورده سحنون بأن الشك لا أثر له في الإقرار. انتهى.

ولزم إن نوكر في ألف من ثمن خمر يعني أنه إذا قال شخص لآخر لك علي ألف من ثمن خمر، فناكره الآخر أي كذبه وقال ليست من ثمن خمر، فإن ذلك إقرار ويحلف المقر له أنها ليست من ثمن خمر. نقله ابن عرفة عن كتاب ابن سحنون. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: ولزم الإقرار إن نوكر في إقرار ألف، ويكفي في الإضافة أدنى ملابسة، ويجوز رفع ألف على الحكاية من ثمن خمر أي قال لك علي ألف من ثمن خمر، فقال المسلم المقر له بل ألف من ثمن عبد مثلا منكرا أن تكون من ثمن خمر، فيلزم المقر ما أقر به لأنه لما قال علي ألف أقر بعمارة ذمته، فيعد قوله من ثمن خمر ندما ويحلف المقر له المسلم أنها ليست من ثمن خمر، وكذا الذمي إن ناكر المقر وإلا لم يلزمه ما أقر به من الثمن لأن شراءه فاسد، والظاهر أنه يلزمه قيمته إن فوته على الذمي، وظاهر المص أنه لا يراعى حال المقر من كون مثله يتعاطى الخمر. اهـ.

أو عبد ولم أقبضه عطف على خمر يعني أنه إذا قال شخص لآخر لك علي ألف من ثمن عبد اشتريته منك ولم أقبضه أي العبد وكذبه بائع العبد المقر له، وقال بل قبضته فإنه تلزمه الألف، ويعد قوله:"ولم أقبضه" ندما، وقوله:"أو عبد ولم أقبضه" قال الحطاب: هذا قول ابن القاسم وسحنون وغيرهما، قال أصبغ: ولا يحلف البائع إلا أن يقوم عليه بحرارة البيع. نقله ابن عرفة. وهو يؤخذ من فصل اختلاف المتبايعين. اهـ. قوله بحرارة البيع؛

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: أي بحضرته. والله تعالى أعلم. فإن قيل قد تقدم أنهما إذا اختلفا في قبض المثمن فالأصل بقاؤه، فلم لم يكن الحكم هنا كذلك؟ فالجواب أن الاقرار بالثمن في ذمته، كالإشهاد به في ذمته وهو مقتض لقبض مثمنه لقول المص:"وإشهاد المشتري بالثمن مقتض لقبض مثمنه". والله أعلم. انظر البناني. وقال المواق: قال ابن شأس: ولو قال علي ألف من ثمن عبد ثم

ص: 275

قال لم أقبض العبد، فقال ابن القاسم وسحنون وغيرهما: يلزمه الثمن ولا يصدق في عدم القبض، وقيل القول قوله. انتهى.

كدعواه الربا وأقام بينة أنه راباه بألف تشبيه في لزوم الإقرار؛ يعني أنه إذا ادعى شخص على آخر بألف فأقر بذلك، وقال عقب إقراره هي من الربا وأقام بينة بذلك أي شهدت البينة على أنه أي المدعي رابى المدعى عليه في ألف أي أعطاه عشرة مثلا في عشرة وألف مؤخرة، فإنه تلزمه الألف ولا تنفعه بينته لعدم التعيين أي لا يرد إلى رأس ماله وهي العشرة فقط، بل تلزمه الألف بتمامها خلافا لمن قال: تقبل بينته ويرد إلى رأس ماله فلا يعطيه إلا عشرة فقط، قال المواق: ابن شاس: لو أقر علي نفسه بمال من ثمن حرير مثلا ثم أقام بينة تقبل منه البينة أن ذلك ربا، ويرد إلى رأس ماله وبالأول قال سحنون. انتهى المراد منه. قوله: ثم أقام بينة أنه ربا؛ يعني أنه قد وقع بينهما الربا. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه.

لا إن أقامها على إقرار المدعي أنه لم يقع بينهما إلا الربا يعني أنه إذا قال له علي ألف وهي ربا، وأقام المقر بينة على إقرار المدعي أي الطالب أي المقر له أنه لم يقع بينهما إلا الربا، فإنه لا يلزمه ما رابى به ويرد إلى رأس ماله، قال عبد الباقي: لا إن أقامها أي البينة على إقرار المدعي أي المقر له أنه لم يقع بينهما إلا الربا فلا يلزمه القدر الزائد على الأصل، ويرد لرأس ماله قولا واحدا. قاله ال تتائي. ولا يعمل بدعوى المقر له بل بقول المقر على قاعدة من ادعى بشيء فوافقه المدعى عليه على بعضه، ولأن القول قول الغارم أيضا. اهـ.

أو اشتريت خمرا بألف يعني أن الشخص إذا قال لآخر: اشتريت منك خمرا أو خنزيرا أو ميتة أو دما مسفوحا بألف لا يلزمه بذلك إقرار، قال الخرشي: والمعنى أنه إذا طالبه بألف مثلا فقال له اشتريت منك خمرا بألف فإنه لا يلزمه شيء. اهـ. وقال المواق: ابن عبد الحكم: لو قال اشتريت منك خمرا بألف درهم لم يلزمه شيء لأنه لم يقر أن له عليه شيئا. اهـ.

أو اشتريت عبدا بألف ولم أقبضه يعني أنه إذا قال شخص لآخر اشتريت منك عبدا بألف ولم أقبضه، وقال الآخر بل قبضته فإنه يقبل قوله إنه لم يقبضه، قال المواق: ابن عرفة: قول ابن الحاجب بخلاف قوله اشتريت عبدا بألف ولم أقبضه هو نقل الشيخ عن ابن القاسم: لو أقر أنه

ص: 276

اشترى سلعة وأنه لم يقبضها نسقا تتابعا قبل قوله. اهـ. والفرق بين هذه المسألة وبين قوله المار لك علي ألف من ثمن عبد ولم أقبضه ظاهر بلا تكلف، وهو أنه إنما قبل قوله في الثانية لأنهما تنازعا في قبض المبيع والأصل بقاؤه كما عرفت، ولم يقبل قوله في الأولى لأن اعترافه بالثمن في كونه في ذمته هو عين إشهاده به في ذمته، وقد قال المص فيما مر تبعا لأهل المذهب:"وإشهاد المشتري بالثمن مقتض لقبض مثمنه". فتأمله بانصاف. والله الموفق قاله الرهوني. وهذا الفرق رافع للإشكال بلا مرية دون ما وقفت عليه من كلام من تكلم على هذا المحل. والله أعلم.

أو أقررت بكذا وأنا صبي يعني أنه إذا قال أقررت بكذا وأنا صبي فإنه لا يلزمه شيء، قال عبد الباقي مفسرا للمص: أو ادعى بحق فأنكره المدعى عليه فأقام بينة على إقرار المدعى عليه به، فقال نسقا: إنما أقررت بكذا وأنا صبي ولم تكذبه البينة لم يلزمه شيء، ومثله وأنا نائم أو قبل أن أخلق. اهـ. وقال البناني ما نصه: في المدونة في الأيمان بالطلاق: إذا قال لزوجته طلقتك وأنا صبي فلا شيء عليه، وكذا إن قال وأنا مجنون إن عرف أنه كان به جنون، قال أبو الحسن: معناه في الصبي إذا أقام بينة أنها كانت في عصمته في الصبا وكذلك في الجنون، وقال سحنون، يلزمه ذلك ويعد ما قال ندما منه، وفي نوازله: إذا قال له كنت أقررت لك بألف دينار وأنا صبي أنه يلزمه، وخرجها ابن رشد على القولين المتقدمين في مسألة الطلاق، وقال: الأصح عدم الزوم. اهـ. فاعتمد المص تصحيح ابن رشد وإن كان خلاف الرواية.

كأنا مبرسم إن علم تقدمه يعني أنه إذا قال أقررت بكذا وأنا مبرسم، فإنه لا يلزمه شيء بشرط أن يعلم تقدم البرسام عليه. والبرسام ضرب من الجنون، وأما من قال لشخص: كنت غصبتك كذا وأنا صبي فإنه يلزمه ما أقر به؛ لأن الصبي يلزمه ما غصبه أوأفسده إن لم يؤمن عليه كما يأتي. قاله عبد الباقي. وقال المواق من المفيد: إذا قال أقررت لك بألف درهم دينا وأنا ذاهب العقل من برسام نظر، فإن كان يعلم أن ذلك أصابه صدق فإن لم يعلم منه فلا يصدق. انتهى.

أو أقرر اعتذاوا يعني إذا سأل شخص شخصا شيئا فقال له هو لفلان فادعاه فلان المقر له، فقال المقر إنما أقررت لك بكذا اعتذارا للسائل، فإنه لا يكون ذلك إقرارا ويصدق في أنه أراد بذلك الاعتذار سواء كان السائل ممن يعتذر له أم لا، ولا يتوقف ذلك على ثبوت الاعتذار بل إذا كان كلامه

ص: 277

يحتمل الاعتذار فلا يلزمه وإن لم يدعه بأن مات كما يفيده كلام المواق. قاله البناني. قوله: فلا يلزمه وإن لم يدعه بأن مات، قال الرهوني: ترك قيدا لابد منه وقد ذكره ابن رشد ونقله مصطفى وغيره. اهـ. والقيد الذي أشار إليه هو قول ابن رشد وهذا أي محل قبول أنه أراد الاعتذار إذا عرف الأصل للمقر به، وأما إن لم يعرف الأصل للمقر به فإقراره للمقر له، وإن كان على هذا الوجه من الاعتذار عامل على ما في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب العتق، ودليل ما في رسم العشور المذكور وسواء على مذهب مالك قال في اعتذاره هو لفلان أو قد تصدقت به عليه أو وهبته له أو بعته منه، يبين ذلك ما وقع في أول سماع أشهب بعد هذا من الكتاب، وقال أصبغ: إذا قال قد وهبته أو قد تصدقت به أو قد بعته فهي حقوق قد أقر بها على نفسه، يريد فيؤخذ بها إذا ادعى ذلك المقر له بغير هذا الإقرار. اهـ منه بلفظه.

ونص سماع أشهب المشار إليه: وسئل مالك عمن اشترى مالا فسئل أن يقيل البائع، فقال تصدقت به على ابني ثم هلك الرجل ولم يوجد إلا قوله ذلك، قال: ما أرى هذا يقطع، قال القاضي رضي الله عنه هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم العشور فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق. اهـ منه بلفظه. قال الرهوني: بكلام ابن رشد هذا يظهر لك ما في كلام الغرناطي في وثائقه وإن ساقه ابن فرحون فقها مسلما، فإنه قال ما نصه: وفي وثائق الغرناطي ما نصه: من سئل عن شيء فقال هو لفلان لم يلزمه ذلك الإقرار، بخلاف ما إذا قال وهبته من فلان فإنه يلزمه. اهـ منها بلفظها. فتأمل ذلك والله الموفق.

وسئل مالك عن رجل طلب من رجل منزلة يكريه إياه، فقال ليس هو لي هو لابنتي حتى أستشيرها في ذلك، ثم مات الأب وطلبت الابنة المنزل بما شهد لها من قول أبيها؟ قال: لا أرى ذلك ينفعها إلا أن تكون حازت ذلك ويكون لها على صدقتها أو هبتها شهود وحيازة، فقيل له: لو كانت الابنة صغيرة في حجره؟ قال: لا أرى هذا شيئا قد يعتذر الرجل بمثل هذا لمن يريد أن يمنعه، ولا أرى ذلك بشيء صغيرة كانت أو كبيرة إلا أن يكون شهود على الصدقة وحوز من الكبيرت قال القاضي رضي الله عنه: هذا مثل ما في أول سماع أشهب من كتاب الدعوى والصلح، ومثل ما في رسم العشور من سماع عيسى أن ذلك لا يوجب الشيء المقر به للمقر له إذا لم يقصد

ص: 278

بذلك إلى الإقرار، وإنما قصد به إلى الاعتذار وتلزمه اليمين إن لم يكن المقر له ابنه وادعى الشيء ملكا لنفسه قديما بغير ذلك الإقرار، فإن نكل عن اليمين حلف المقر له واستحقه قال ذلك أصبغ في رسم العشور المذكور وهو تفسير لقول مالك وابن القاسم، وهذا إذا عرف الأصل للمقر به إلى آخر ما مر.

أو بقرض شكرا يعني أنه إذا أقرَّ شخص لشخص بقرض على وجه الشكر، كقوله جزى الله فلانا عني خيرا أقرضني مائة وقضيته فلا يلزمه شيء، وذكر ابن فرحون في الإقرار على وجه الشكر ثلاثة أقوال: ثالثها إن كان في مجلس القضاء لم يصدق إلا ببينة وصدر بما عند المص، وحكى الثاني والثالث بقيل. قاله الرهوني. وهذا يفيد أن ما قاله المص هو الأصح، فلذلك قال: على الأصح، وهذا القول الذي صححه المص هو في المدونة. أو ذما يعني أنه إذا أقر بالقرض على وجه الذم كقوله أقرضني فلان مائة وأساء معاملتي وضيق علي حتى قضيته لا جزاه الله خيرا فإنه لا يلزمه بذلك شيء، وقيل إن كان ذلك على معنى الذم يغرم، والأول هو الذي رجحه ابن يونس، ولهذا قال المص: على الأرجح ونص ابن يونس عقب كلام المدونة إلا أن يذكر ذلك على معنى الشكر لخ. محمد بن يونس: يريد وكذلك إن ذكر ذلك على معنى الذم، وقد قيل إن كان ذلك على معنى الذم كأن يقول أساء معاملتي وضيق علي حتى قضيته فإنه يغرم، ولا وجه للفرق بين المدح والذم، والصواب أنهما سواء. نقله الرهوني. وقال عقب هذا ما نصه: وتقدم في كلام ابن عرفة نسبة التسوية بينهما لمالك وجميع أصحابه. اهـ.

وفي المدونة: من أقر أنه كان تسلف من فلان الميت مالا وقضاه إياه، فإن كان ما يذكر من ذلك حديثا لم يطل زمانه لم ينفعه، قوله: وقضيته لورثته إلا أن يقيم بينة قاطعة على القضاء، وإن طال زمن ذلك حلف المقر وبرئ إلا أن يذكر ذلك على معنى الشكر. ابن يونس: وكذلك إذا كان ذلك على معنى الذم فلا يلزمه فيهما شيء طال الزمان أو قصر. انظر الشارح. وقوله: "بقرض" مفهومه لو أقر بغيره لزمه. قاله الحطاب.

وقبل أجل مثله في بيع لا قرض يعني أن من أقر لرجل بمال وادعى التأجيل فيه وأنكره ربه، فإن كان من قرض لم يصدق وحلف المقر له إن أنكر الأجل لأن الأصل فيه الحلول، وإن كان من بيع

ص: 279

فإن كان ادعى أجلا مستنكرا لم يصدق وحلف المقر له، وإن ادعى أجلا غير مستنكر عادة فالقول قوله فيما أقر به من التأجيل، قال عبد الباقي: وإن تنازعا في حلول ثمن مبيع وتأجيله فإن جرى عرف بشيء صدق مدعيه بيمين، وإن لم يجر بشيء قبل أجل مثله وهو الأجل القريب الذي لا يتهم فيه المبتاع عرفا، فالقول قوله في بيع فإن اتهم فللبائع وهذا مع فوات السلعة لا مع قيامها فيتحالفان ويتفاسخان، ولا ينظر لشبه، وظاهره أنه لا ينظر للعرف وهو مشكل مع ما تقرر أنه أصل من أصول المذهب، فيعمل به في مثل هذا لا في قرض ادعى المقترض أجلا قريبا لا يتهم فيه فلا يعمل بقوله، بل بقول المقرض أنه حال مع يمينه حصل فوت أم لا حيث لا شرط ولا عرف وإلا عمل به. انتهى. انتهى.

قوله: وهذا مع فوات السلعة، قال الرهوني: بهذا قيد ابن يونس المدونة، فقال عقب كلامها الذي ذكره البناني هنا ما نصه: يريد وقد فاتت السلعة بحوالة الأسواق فأعلى. اهـ منه بلفظه. ونقله ابن ناجي في شرح المدونة، وزاد عقبه ما نصه: قلت وهو نص المدونة في كتاب المرهون، وقال قبله ما نصه: واعتبر هنا الشبه في قوله إلا أن يكون لتلك السلعة أمر معروف، والمشهور أنه لا يعتبر الشبه مع القيام خلافا لابن الماجشون ويعتبر مع الفوات اتفاقا. انتهى. وكلام البناني الذي أشار إليه هو قوله: قول عبد الباقي وظاهره أنه لا ينظر للعرف وهو مشكل لخ، هذا وإن كان ظاهر المص لكن يجب تقييده بما إذا لم يكن عرف بخلافه وكلام المدونة في الوكالة يدل عليه، ونصها: ومن ابتاع سلعة بثمن وادعى أنه مؤجل، وقال البائع: بل حال فإن ادعى المبتاع أجلا يقرب لا يتهم فيه صدق مع يمينه وإلا صدق البائع إلا أن يكون للسلعة أمر معروف تباع عليه فالقول قول مدعيه، ومن ادعي عليه قرض حال فادعى الأجل فالقول قول المقرض ولا يشبه هذا البيع. اهـ.

وكلامها المذكور يشهد لتفريق المص وابن الحاجب بين البيع والقرض، وقبول ابن عبد السلام وابن هارون له دون ذكر خلاف فيه، وبه رد الشيخ عبد الرحمن الأجهوري وأبو زيد الفاسي وغيرهما قول ابن عرفة في التفريق المذكور لا أعرفه لغير ابن الحاجب وظاهر لفظ الواضحة والزاهي خلافه، وقد نقل ابن غازي والمواق والحطاب كلام ابن عرفة وأقروه حتى قال الحطاب: ما ذكره ابن عرفة صحيح لا شك فيه، وما ذكره ابن الحاجب إنما يأتي على أصل الشافعية من أن الأصل في القرض

ص: 280

الحلول. اهـ. وكل ذلك غفلة عن كلامها، وقال أبو الحسن على قولها: فالقول قول المقرض، قال أبو إسحاق: مع يمينه لأنه معروف أقر به فلا يؤخذ بغير ما أقر به ثم نقل عن غير واحد ما يفيد تقوية ما للمص وابن الحاجب، ثم قال: وبه تعلم ما في كلام ابن عرفة. اهـ قول البناني. هذا وإن كان ظاهر المص لكن يجب تقييده بما إذا لم يكن عرف بخلافه لخ.

قال الرهوني: ما جزم به من العمل بالعرف قبل الفوات ضعيف وما استدل به من كلام المدونة لا دليل له فيه لما رأيته من تقييد الشيوخ له بما إذا فاتت السلعة، مع تصريح ابن ناجي بأن المشهور عدم مراعاة الشبه قبل الفوات، وقد صرح ابن رشد أيضا بأنه المشهور من قول ابن القاسم، ولا خفاء أن من شهد له العرف هو مدعي الشبه، وقد حكى في التحفة القول بمراعاة العرف قبل الفوات بقيل، ونسبه ولده في الشرح لابن القاسم ونسب ما جزم به أولا من عدم مراعاته لمالك وابن القاسم، ثم ذكر الرهوني ما يفيد تقوية ما للمص وابن الحاجب غاية، فقال بعد جلب كثير من النقول ما نصه:

فتحصل من مجموع ما ذكروه وذكرته أن ما قاله ابن الحاجب وقبله ابن عبد السلام وابن هارون قد ذكره قبلهم ابن شاس جَازِمًا به، وأصله في المدونة على الرواية المشهورة، وأصح التأويلين عليها وعليه اقتصر الشيخ أبو محمد وابن يونس وأبو سعيد في مختصراتها، وسلم ذلك شراحها: أبو الحسن وابن ناجي وغيرهما، كما سلمه قبلهم أبو إسحاق التونسي ونقل مثله عن الموازية أيضا، وذكره ابن سهل في أحكامه الكبرى عن المدونة وابن الحاج في نوازله عن كتاب ابن شعبان وأبو محمد في نوادره عن كتاب ابن سحنون والمتيطى في نهايته وابن هارون في اختصاره وابن عبد الرفيع في معينه، فقول الإمام ابن عرفة إنه لا يعرفه لغير ابن الحاجب من أغرب الغريب، وكذا تسليم المواق وابن غازي والحطاب. والله سبحانه الهادي من يشاء إلى الصواب. اهـ. وقول عبد الباقي: وهو مشكل لخ، قال الرهوني: وبقول الجواهر لوجود السلعة والقدرة على ردها يظهر لك الجواب عن قول الزرقاني وهو مشكل مع ما تقرر أنه أصل من أصول المذهب لخ، فتأمل ذلك كله بإنصاف. وقد حصل أبو علي في اختلاف المتبايعين في ذلك من التفصيل على المشهور المعمول به نظما فقال:

خلف بجنس ثمن أو مثمن

أو نوع ما ذكر فافهم واعتن

ص: 281

فيه تحالف وفسخ مطلقا

في فوت ما بيع ودون حققا

والشبه لغو عندهم في ما ذكر

لعلة يعلمها من يعتبر

وثمن مع مثمن وأجل

في قدرها كذاك أمرها جلي

قبل فوات في مبيع وجدا

وبعده معتبر بلا اعتدا

والوصف كالقدر بمثمن جرى

وقيل كالنوع في كل ما طرا

ومشتر غاب إذا ما أشبها

عند فوات كن لذا منتبها

وكل راجع لقدر المثمن

فحكمه كحكمه لا تنثني

من أجل أو رهن أو حميل

في القدر والوجود خذ تفصيلي

واعلم أن الاختلاف في الأجل له صور: إما في أصله، وإما في قدره، وإما في انتهائه. وتفسير ألف في كألف ودرهم يعني أنه إذا قال شخص لآخر: لك علي ألف ودرهم أو مائة ودرهم مثلا فإنه يقبل من المقر تفسير ألف بما شاء، ولا يكون ذكر الدرهم مقتضيا لكون الألف من الدراهم، ويحلف على ما فسر به إن خالفه المدعي فيه، قال المواق: ابن شأس: لو قال له علي ألف ودرهم ولم يسم الألف من أي جنس هي، قال ابن القصار: لا يكون الدرهم الزائد تفسيرا للألف بل يكون الألف موكولا إلى تفسيره، فيقال له سم أي جنس شئت، فإن قال: أردت ألف

ص: 282

جوزة أو ألف بيضة قبل منه وحلف على ذلك إن خالفه المدعي، وكذلك لو قال له: علي ألف وضبد أو ألف وثوب لم يكن هذا اللفظ تفسيرا للمعطوف عليه. اهـ. وقال الخرشي نحوه، وقال بعد قوله: فإنه يقبل تفسيره ما نصه: ولو بما لم تجر العادة به. اهـ المراد منه.

وقبل قول المقر: فصه لي في قوله له علي خاتم فصه لي فيكون الخاتم للمقر له دون فصه هذا إذا قال ذلك نسقا، ومفهوم قوله: نسقا أنه لو قال فصه لي بعد قوله: له علي خاتم بمهلة، فإنه لا يصدق في الفص ويأخذ المقر له الخاتم بفصه، ومثله في التفصيل إذا قال هذه الجارية لفلان وولدها لي. قاله الخرشي. وقال المواق: لو أقر لك بجبة وقال وبطانتها لي لم يصدق إلا أن يكون كلاما نسقا. انتهى.

إلا في غصب فقولان يعني أنه إذا قال له غصبت منك هذا الخاتم وفصه لي، فإنه اختلف في ذلك على قولين: قيل يقبل منه ذلك كالأول وقيل لا، قال عبد الباقي: فلو قال ولو في غصب لمشى على الراجح من أن الغصب كغيره. اهـ. أي لأنه هو الذي في المدونة ولم يذكر ابن يونس فيه خلافا. قاله المواق. ومقابله لابن عبد الحكم وسماع أصبغ، وذكر ابن رشد أن السماع ضعيف وأن ما في المدونة أصح وأولى، وكأن المص لم يقف على كلام المدونة وابن يونس وابن رشد، وإلا لقال ولو غصبا. انظر الحطاب. ونص المدونة على نقل المواق، قال ابن القاسم: من أقر أنه غصبك هذا الخاتم ثم قال: وفصه لي أوأقر لك بجبة ثم قال: وبطانتها لي لم يصدق إلا أن يكون كلاما نسقا. انتهى.

لا بجذع وباب في له من هذه الدار أو الأرض يعني أنه إذا قال لفلان من هذه الدار حق أو له من هذه الأرض حق، ثم فسر ذلك الحق بجذع منها أو فسره بباب منها فإنه لا يقبل ذلك منه، ولابد من تفسيره بجزء من الدار أو الأرض قليلا أو كثيرا، كما لو قال له في هذه الدار حق أو له في هذه الأرض حق، فإنه لا يقبل منه تفسيره له بجذع ولا بباب، ولابد من تفسيره بجزء من الدار أو الأرض قليلا أو كثيرا ولا فرق بين من وفي على القول الأحسن وهو قول سحنون، ومقابله لابن عبد الحكم، قال: إن قال من هذه الدار لم يقبل منه ذلك، وإن قال في قبل منه ذلك والفرق عنده أن

ص: 283

من تقتضي التبعيض وكونها لابتداء الغاية أو غيره بعيد وأن في للظرفية، فظاهرها أن الحق في الدار لا من الدار. قاله الشارح.

وقال المواق: ابن شاس: لو قال له في هذه الدار حق أو في هذا الحائط حق أو في هذه الأرض، ثم فسر ذلك بجزء من ذلك قبل تفسيره قليلا كان أو كثيرا، شائعا كان أو معينا، ولو فسره بغير ذلك كأن يقول: أردت هذا الجذع أو هذا الباب أو هذا الثوب الذي في الدار أو سكنى هذا البيت، فقال سحنون: مرة يقبل تفسيره في جميع ذلك ثم رجع عن ذلك، وعبارة ابن الحاجب: لو قال إن له في هذه الدار أو في هذه الأرض أو الحائط حقا وفسره بجذع أو باب مركب وشبهه فثالثها الفرق بين من وفي. اهـ.

وقال الحطاب: قال ابن عبد الحكم: ومن بيده صبرة قمح فقال إن لفلان منها خمسين إردبا فلم يكق فيها إلا دون ذلك فجميعها للمقر له، وإن زادت على خمسين فالزيادة للمقر، ولو قال له من هذه الصبرة عشرة دنانير بيع له منها بعشرة دنانير وما بقي فللمقر وإن لم يف ثمنها بالعشرة فليس له على المقر غير ذلك، وإن قال له من ثمنها عشرة دنانير سئل ما أراد، فإن أراد من ثمنها الذي اشتريت به سئل كم كان ثمنها فكان المقر له شريكا فيها بالعشرة، وإن قال أردت من ثمنها إذا بيعت فهو كذلك، وإن طلبت منه اليمين حلف على ما يقول فإن مات قبل أن يسئل فللمقر له الأقل من الوجهين. والله الموفق. انتهى. وقوله: فهو كذلك أي فكالوجه الأول يباع له منها بعشرة دنانير. اهـ كلام الحطاب.

ومال نصاب يعني أنه إذا قال لفلان علي مال فإنه يلزمه له نصاب الزكاة وقيل نصاب السرقة، وعلى الأول يلزمه نصاب الذهب إن كان المقر من أهله وفضة إن كان من أهلها ونعم إن كان من أهل النعم، فإن كان من أهل الإبل فخمس ومن أهل البقر فثلاثون وأربعون من الضأن إن كان من أكمل الضأن أو من المعز إن كان من أهل المعز وخمسة أوسق من الحب إن كان من أهل الحرث. وعبارة الخرشي: يلزمه أقل ما يسمى نصابا من جنس مال المقر. اهـ المراد منه.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: وهذا يفيد أنه لا يلزمه في الإبل إلا أقل الإبل قيمة كصغارها المذكور، وكذا يقال في البقر والغنم وأنه إن كان له إبل وبقر وغنم يلزمه أقل أنصبائها قيمة، وكذا يقال في

ص: 284

البخت والعراب والجاموس والبقر والضأن والمعز وكذا يقال في الذهب والفضة، وكذا يقال في أنواع الحرث من تمر وحب في أنفسها أو مع ما ذكر من النعم أو العين أو منهما ويأتي التصريح بذلك عن ال تتائي. والله تعالى أعلم. وقوله:"نصاب" قد مر التصدير بأنه نصاب الزكاة وهو الذي شهره المازري واقتصر عليه ابن رشد في رسم الوصايا من سماع أصبغ من كتاب المديان، قائلا: لأن الله تبارك وتعالى إنما سمى مالا من الأموال ما تجب فيه الزكاة منها، وذلك قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} ، وعنى بذلك المقادير التي تجب فيها الزكاة بما بينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. اهـ. قاله البناني.

وقول عبد الباقي: والمعتبر مال أهل المقر حيث خالف مال أهل المقر له، وقال عند قوله: ومال سواء قال عظيم أم لا، ثم قال: وقولي عظيم نحوه لبعض الشراح، وفي أحمد: إن قال عظيم ففي ابن الحاجب خمسة أقوال ولو وصفه بالكثرة والعظم، فقال في التلقين: يلزمه زيادة على ما يلزمه في مطلقة. اهـ. وإذا تعدد مال أهل من يعتبر ماله لزمه أقل الأنصباء كما في ال تتائي: ولو قال له عليَّ نصاب لزمه نصاب سرقة لأنه المحقق إلا أن يجري العرف بنصاب الزكاة فيلزمه. اهـ. قوله: إن قال عظيم، ففي ابن الحاجب خمسة أقوال. اهـ لفظ ابن الحاجب: وله علي مال قيل نصاب وقيل ربع دينار فقط أو ثلاثة دراهم وقيل

(1)

تفسيره، ومال عظيم قيل كذلك، وقيل ما زاد على النصاب، وقيل قدر الفدية.

(2)

اهـ قاله البناني. وقوله: "ومال نصاب" قال الشارح: وهذا القول منسوب لابن وهب وهو الأشهر في المذهب، ومثله لابن المواز فيمن أوصى أن لفلان عنده مالا ابن القصار ولا نص عن مالك في ذلك، والذي يوجبه النظر على مذهبه أن يلزمه ربع دينار أو ثلاثة دراهم، وفي كتاب ابن سحنون أنه يقبل تفسير المقر في ذلك واختاره الأبهري.

وإلى قول ابن سحنون واختيار الأبهري له أشار المص بقوله: والأحسن تفسيره أي في كتاب ابن سحنون أنه إذا قال له علي مال عليه أن يفسره ويقبل ما فسره به ويلزمه ولو فسره بجبة وهذا هو الأحسن عند الأبهري، ويحلف على ما قال، قال عبد الباقي: والأحسن تفسيره ولو بقيراط أو جبة

(1)

في البناني ج 6 ص 99 والتوضيح ج 6 ص 427: قدر الدية.

(2)

في البناني ج 6 ص 99 والتوضيح ج 6 ص 427: وقبل.

ص: 285

وحلف وهذا ضعيف مقابل لما قبله، وشبه به مشهورا وهو كشيء يعني أنه إذا قال له عندي شيء أو له عندي حق فإنه يقبل ما فسره به ولو بجزء كما في ابن مرزوق، ومثله له علي كذا عند المازري يقبل تفسيره له ولو بأقل من واحد كما في ابن عرفة، خلافا لقول ابن عبد السلام وتبعه التوضيح والشارح: لا يفسر إلا بواحد كامل. انظر ال تتائي. ويحلف إن ادعى المقَرُّ له أكثر مما فسر به قاله عبد الباقي. قوله: أو له عندي حق لخ، قال الرهوني: صحيح فإن فسر الحق بغير المال ففي ابن عرفة ما نصه: الشيخ عن كتاب ابن سحنون: من قال: لفلان علي حق ثم قال أردت حق الإسلام لم يصدق، ولزمه أن يقر بشيء ويحلف على دعوى الطالب إن ادعى أكثر منه، وكان سحنون يقول: ينظر فيه على نحو ما ينزل مما يتكلمان فيه، فإن تنازعا في جنس المال أخذ بذلك، وإن تنازعا فيما يجب لبعضهما على بعض من حق وحرمة لم يؤخذ بالمال. اهـ منه بلفظه.

وكتب بعضهم بطرة ابن عات بالنسخة التي بيدي منه ما نصه: يتعين قول سحنون ولا يختلف فيه. اهـ. وهو ظاهر فيحمل ما قبله على ما إذا قامت قرينة على إرادة المال أو لم تقم قرينة أصلا والله أعلم. انتهى.

وسجن له يعني أنه إذا امتنع من التفسير فيما بعد الكاف وفيما قبله على القول به فإنه يسجن إلى أن يفسر أو لأجل التفسير فاللام للغاية أو للعلة، فقوله:"وسجن له" أي للتفسير المعتبر حيث امتنع من ذلك بأن لم يفسر أو فسر تفسيرا غير معتبر، كتفسيره بجذع في له من هذه الدار أو في هذه الدار حق. قاله عبد الباقي. المازري: قوله له عندي كذا كقوله له عندي شيء أو له عندي واحد فيقبل منه ما يصدق عليه أحد الألفاظ، وفي الصحاح: كذا كناية عن شيء أو حق في غاية الإجمال؛ لأن لفظ شيء يصدق على ما لا يحصى من الأجناس والمقادير، فيجب على المقر تفسيره بما يصلح. ابن شاس: يقبل تفسيره بأقل ما يتمول لأنه محتمل لكل ما ينطلق عليه شيء مما يتمول. المازري: فإن امتنع من التفسير سجن حتى يفسر. اهـ. قاله المواق.

وكعشرة ونيف النيف يخفف ويشدد، يقال عشرة ونيف ومائة ونيف، وكل ما زاد على العقد فهو نيف إلى أن يبلغ العقد الثاني؛ يعني أنه إذا قال له عندي عشرة ونيف فإنه يقبل تفسيره للنيف مع يمينه والنيف من الواحد إلى التسعة وأما البضع فإنه من ثلاثة إلى تسعة. ابن عرفة عن ابن

ص: 286

سحنون: ومن أقر بعشرة دراهم ونيف قبل قوله في النيف ولو قل فسره بدرهم أو دانق، ونقله المازري كأنه المذهب، وإذا قال له علي نيف فيلزمه درهم لأنه أقل الزيادة على العقد كذا ينبغي. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: يقبل تفسير النيف مع يمينه ولو بواحد فقط لا بأقل منه كذا لأحمد، وفي الشارح والمواق: ولو بأقل، وظاهر المص سواء ذكر في إقراره مميز العشرة أم لا. اهـ المراد منه.

وسقط في كمائة وشيء يعني أنه إذا قال له علي مائة وشيء فإن الشيء الزائد يسقط، قال الخرشي: وإذا قال له علي مائة وشيء أو عشرة وشيء أو ألف وشيء، فإن الشيء الزائد على الجملة يسقط لأنه مجهول، ولو قدم الشيء أيضا بخلافه مفردا كما مر فإنه يجب عليه تفسيره، ولو قال له علي مائة إلا شيء اعتبر فطولب بتفسيره. اهـ. قال البناني: وجه السقوط كما يفيده ابن عبد السلام والتوضيح أن ذلك مبني على عرف أن المقصود بعندي مائة وشيء مثلا تحقيق أن عليه مائة كاملة، كما يقال: فلان رجل وربع أو رجل ونصف أي كامل في الرجولية، فإذا لم يكن عرف بذلك فلا يسقط. اهـ.

قال الرهوني: سلم ذلك لهما وهو غير مسلم، فقد قال ابن عرفة عقب ذكره كلام ابن عبد السلام ما نصه: قلت هذا التعليل لسقوط الشيء المعطوف خلاف تعليل ابن الماجشون بأنه مجهول، والفرق عنده بينه مفردا ومعطوفا أن لغوه مفردا يؤدي إلى إهمال اللفظ المقر به، وإذا كان معطوفا سلم من الإهمال لإعماله في المعطوف عليه. اهـ منه بلفظه. ونقله ابن غازي هنا وفي تكميله وسلمه وهو حقيق بالتسليم؛ لأن المص في توضيحه نسب هذا الفرع لابن الماجشون ثم وجهه بما ذكره البناني، وابن الماجشون قد علل ما قاله بما ذكره عنه ابن عرفة، فكيف يعلل كلامه بعلة مخالفة لعلته؟ فتأمله. اهـ.

وكذا درهما عشرون يعني أنه إذا قال له علي كذا درهما فإنه يكون مقرا له بعشرين؛ لأن العدد غير المركب من عشرين للتسعين إنما يميزه الواحد المنصوب فيلزمه المحقق وهو مبداه، ويلغى المشكوك إذ الأصل براءة الذمة منه لكن يحلف إن ادعى المقر له أكثر وكذا كناية عن العدد وعن الشيء، فإن

ص: 287

رفعه أو وقف عليه لزمه درهم واحد لأنه المحقق إذ المعنى هو درهم، ومثله إذا قاله بالخفض. قاله ابن القصار. وقال لي بعض النحاة: يلزم فيه مائة درهم أي لأن مميز المائة مجرور. نقله غير واحد. وكذا وكذا أحد وعشرون يعني أنه إذا قال له علي كذا وكذا درهما يلزمه أحد وعشرون؛ لأن المعطوف في العدد المركب من أحد وعشرين إلى تسعة وتسعين فيلزمه المحقق فقط، فإن زاد وكذا مرة ثالثة فأكثر فالظاهر لزوم أحد وعشرين فقط، وكذا يقال في قوله: وكذا كذا أحد عشر يعني أنه إذا قال له علي كذا كذا، فإن المقر به أحد عشر، وإنما لزمه أحد عشر لأن كذا كذا كناية عن العدد المركب وهو من أحد عشر إلى تسعة عشر فيلزمه المحقق. قاله عبد الباقي. وعلم منه صريحا أنه إنما يلزمه أحد عشر فقط حيث ذكره ثلاثا فأكثر، ويأتي الكلام للبناني فيما قبله في القولة بعد هذه.

وبضع أو دراهم ثلاثة يعني أنه إذا قال له علي بضع من الدراهم، أو قال له علي دراهم فإنه يلزمه ثلاثة دراهم، قال الخرشي: يعني أنه إذا قال له عندي بضع فإنه يلزمه ثلاثة لما علمت أن البضع من ثلاثة إلى تسعة والأصل براءة الذمة فيلزمه المحقق فقط، ولو قال له: علي بضعة عشر لزمه ثلاثة عشر وكذلك إذا قال عندي دراهم فإنه يلزمه ثلاثة لأنها أقل الجمع. اهـ. ونحوه لعبد الباقي، وقال عند قوله:"أو دراهم" ما نصه: وإن كان جمع كثرة لأن الصحيح مساواته لجمع القلة في المبدإ والذمة لا تلزم إلا بمحقق، والمحقق من الجمع ثلاثة، وأجيب أيضا كما كتب الوالد بأن محل افتراق مبداهما على القول به حيث كان لكل صيغة وإلا استعمل أحدهما في الآخر. اهـ. وقال البناني عند قوله:"وكذا درهما عشرون" ما نصه: ما ذكره المص في هذه الألفاظ هو قول ابن عبد الحكم بناء على مقتضى اللغة، وقال سحنون: لا أعرف هذا ويقبل تفسيره، وكأن هذا الثاني أقرب إلى أصول المذهب وكثير من الناس بل أكثرهم لا يعرف مدلول هذه الألفاظ. اهـ. وقول عبد الباقي: فإن زاد وكذا مرة ثالثة إلى آخره. الظاهر من العربية أنه يلزمه في هذا مائة وأحد وعشرون درهما.

وكثيرة أو لا كثيرة ولا قليلة أربعة يعني أنه إذا قال له عندي دراهم كثيرة فإن المقر به أربعة، وكذا لو قال له علي دراهم لا كثيرة ولا قليلة فإنه يلزمه أربعة، قال المواق: ابن عبد الحكم: لو قال

ص: 288

دراهم كثيرة أو دنانير كثيرة فلابد من زيادة على الثلاث، ويقبل قوله في قدر الزيادة وحدها. ابن المواز: بواحد صحيح فأكثر. ابن عبد الحكم: ولو قال دراهم لا قليلة ولا كثيرة فهي أربعة. اهـ. وقيل يلزمه في قوله دراهم كثيرة تسعة، وقيل يلزمه نصاب الزكاة وهو مائتا درهم، وقيل خمسة دراهم وقيل يلزمه ثلاثة، ولا شك في مخالفة بعض هذه الأقوال للغة، فإن شهد عرف قوم بشيء منها قبل.

ودرهم المتعارف يعني أنه إذا قال له علي درهم فإنه يلزمه الدرهم المتعارف عند الناس، ولو نحاسا، قال عبد الباقي: وإذا قال له علي درهم لزمه الدرهم المتعارف عند الناس كالنحاس بمصر ويقبل تفسيره به، وقول ابن شاس: لا يقبل تفسيره بفلوس لعله مبني على عرف زمنه. وإلا فالشرعي أي وإن لم يكن عرف بشيء فإنه يلزمه الدرهم الشرعي، وما ذكره من قوله:"وإلا فالشرعي" نحوه لابن الحاجب. ابن عرفة: هو قول ابن شاس تبعا لوجيز الغزالي ولا أعرفه لأهل المذهب، ومقتضى قول ابن عبد الحكم وغيره أن الواجب ما فسره به المقر مع يمينه. اهـ. وقال المواق ابن عرفة: الإقرار بمطلق من صنف أو نوع يتقيد بالعرف والسياق، فإن عدما فأقل مسماه.

وقبل غشه ونقصه إن وصل يعني أنه إذا قال له علي درهم مغشوش وناقص فإنه يقبل منه ذلك إن وصل لفظه بالمغشوش والناقص بلفظ الدرهم، ولا يضر فصل بعارض عطاس أو تثاؤب أو انقطاع نفس أو إغماء لا بسلام أورده أو تشهد، وقوله:"وقبل غشه ونقصه" أي الدرهم شرعيا أو متعارفا حيث يجريان فيه، وقوله:"إن وصل" هذا في إقرار بغير أمانات، وأما بها فيقبل دعواه الغش والنقص وإن لم يصل على الراجح عند الناصر نحو له عندي درهم وديعة ثم قال مغشوش أو ناقص لأن المودع أمين، وقول المص:"غشه ونقصه" أي جمعهما، وأولى إن اقتصر على أحدهما كناقص فيقبل تفسيره في قدر النقص. قاله عبد الباقي. وقال: قال ال تتائي كالشارح: وفهم من قوله: "غشه ونقصه" أنه لو فسره برصاص أو نحاس أو حديد لم يقبل وإن وصل وهو كذلك. اهـ. وانظر حكم ذلك في الأمانة والظاهر قبوله. انتهى.

ودرهم مع درهم يعني أنه لو قال له علي درهم مع درهم فإنه يلزمه درهمان، أو تحته يعني أنه لو قال له علي درهم تحت درهم فإنه يلزمه درهمان، أو فوقه يعني أنه لو قال له علي درهم فوقه

ص: 289

درهم فإنه يلزمه درهمان، أو عليه يعني أنه لو قال له علي درهم على درهم فإنه يلزمه درهمان، أو قبله يعني أنه لو قال له علي درهم قبله درهم فإنه يلزمه درهمان، أو بعده يعني أنه لو قال له علي درهم بعد درهم فإنه يلزمه درهمان، أو ودرهم يعني أنه لو قال له علي درهم ودرهم فإنه يلزمه درهمان، أو ثم درهم يعني أنه لوقال له علي درهم ثم درهم فإنه يلزمه درهمان، وقوله: درهمان إما فاعل لزم أي ولزم في قوله له علي درهم مع درهم لخ درهمان، وإما خبر عن قوله:"ودرهم مع درهم" لخ. والله تعالى أعلم.

وعلم مما قررت أن قوله: "درهمان" في كل صورة من الصور المذكورة حيث لم يجر العرف بخلافه ولا مفهوم لدرهم بل الدينار والعرض كذلك، وسقط الدرهم في قوله:"له علي درهم" لا بل له علي ديناران ومثله لو أسقط لا، وأتى ببل فإن أضرب لأقل قبل إن وصل. اهـ. وقال الخرشي: فإن أضرب لأقل قبل قوله إن وصل، وإذا أضرب لمساو فالظاهر لزوم ما قبل بل وما بعدها؛ لأن بل حينئذ كالواو والفاء؛ لأن الإضراب هنا يتعذر فلم يبق إلا مجرد العطف. اهـ. وقال المواق: سحنون: من قال لفلان علي ألف لا بل ألفان لزمه ألفان، فإن قال: لا بل خمس مائة قبل قوله إن كان نسقا واحدا وإن كان بعد سكوت لم يصدق، وكذلك له علي درهم لا بل نصف درهم، وقال غيرنا: إذا قال له علي مائة لا بل مائتان لزمه ثلاث مائة في القياس، ولكنا ندعه ونستحسن أن عليه مائتين. ابن عبد الحكم: ولو قال له علي درهم بل درهمان لزمه درهمان. اهـ. وقوله: "وسقط في لا بل ديناران" علم مما قررت أنه يسقط ما قبل "بل"، أتى بلا أو لم يأت بها.

ودرهم درهم بالإضافة والمعنى إذا قال له علي درهم درهم بالإضافة فإنه يلزمه درهم واحد، أو بالرفع فيلزمه واحد لأنه توكيد، أو بدرهم يعني أنه لو قال له علي درهم بدرهم فإنه يلزمه درهم واحد والإضافة في المسألة الأولى بيانية، والباء في الثانية سببية أي له علي درهم بسبب درهم أي عاملته بدرهم فلزمني درهم، وقوله: درهم بالرفع إما فاعل لزم أي ولزم في قوله: له علي درهم درهم أو درهم بدرهم درهم، وإما خبر عن قوله:"ودرهم درهم" لخ. المواق: ابن شاس: إذا قال له علي درهم درهم أو درهم بدرهم لم يلزمه إلا درهم واحد، وللطالب أن يحلفه ما أراد درهمين، وإلى هذا أشار بقوله: وحلف ما أرادهما قال عبد الباقي: وحلف في المسألتين ما أرادهما لاحتمال حذف

ص: 290

حرف العطف في الأولى والظرفية أو الإلصاق في الثانية دون العوضية، ومثل ذلك درهم في درهم لاحتمال أن في ظرفية لا سببية، قوله في الأولى يعني على الرفع. والله تعالى أعلم.

كإشهاد في ذكر بمائة وفي آخر بمائة تشبيه في الحكمين السابقين، وهما لزوم أحد الأمرين والحلف على أنه ما أرادهما؛ يعني أنه إذا أشهد على نفسه بأن لفلان عليه مائة ثم أشهد على نفسه بمثل ذلك فكتب المقر له وثيقة تتضمن أن له مائة على المقر وأشهد عليها الشهود الأولين، وكتب وثيقة أخرف مثلها وأشهد عليها الشهود الآخرين، فإن إشهاده لا يفيد وليس على المقر إلا مائة بمنزلة ما إذا لم يكن إلا الإقرار، وهذا معنى قول ابن رشد: وإن كتب صاحب الحق بما أشهد عليه كل جماعة كتابا على حدة لم يخرج بذلك من الخلاف. اهـ. نقله ابن غازي.

وحاصل المسألة أن الصور ثلاث: إحداها أن يشهد المقر جماعة بأن لفلان علي مائة ثم يشهد أخرى بمثل ذلك فلا تلزمه إلا المائة إن حلف وهذا إذا لم يكتبا، الثانية أن يامرهما المقر بكتابة ما أشهدهما به فيكتباه في ذكرين والمذهب في هذا لزوم المائتين خلاف ظاهر المص، الثالثة أن يأمرهما بالكتابة المقر له وهذه كالصورة الأولى، فقد علم أنه إذا لم تكن كتابة أو كانت ولكن بأمر المقر له كما إذا قال للجماعتين اكتبا لي ما سمعتما من فلان فإن المقر لا تلزمه إلا مائة، وأما إذا كان الآمر بالكتابة هو المقر فظاهر المص أنه كذلك أيضا والمذهب خلافه، فإذا أريد تصحيح المص حمل كلامه على ما إذا كان الآمر هو المقر له، لكن في التوضيح قرر المسألة على ظاهرها فهذا اعتذار فقط. والله أعلم. قاله البناني.

وقال المواق: ابن الحاجب: لو أشهد في ذكر بمائة وفي آخر بمائة فئاخر قوليه مائة، ابن عرفة: قبله ابن هارون وابن عبد السلام وهو وهم وغفلة لأن المنصوص في عين المسألة خلاف هذا، قال ابن سحنون: من أشهد لرجل في موطن بمائة ثم أشهد له في موطن بمائة، فقال الطالب هي مائتان وقال المقر هي مائة واحدة، فقال أصحابنا جميعا: لا يلزمه إلا مائة بخلاف أذكار الحقوق، ولو أشهد في حق بمائة وفي صك آخر بمائة لزمه مائتان. اهـ.

وقال الرهوني: حاصل ما طول به ابن غازي هنا أن المنصوص خلاف ما ذكره هو وابن الحاجب وابن شأس وهو التعدد ولزوم المائتين، وإنما يصح ما ذكره المص إذا كانت البينة لم تقيد بكتاب.

ص: 291

اهـ. وقال الخرشي: يعني أنه إذا أشهد على نفسه في وثيقة أن لفلان عليه مائة ولم يذكر سببها ثم أشهد في وثيقة أخرى بمائة وهما متساويتان قدرا ونوعا، فإنه تلزمه مائة واحدة والثانية تأكيد للأولى: وحلف المقر على ذلك إن ادعاهما المقر له، أما إن تخالفا قدرا وصفة فإنه يلزمه المائتان معا، قوله: كإشهاد تشبيه في لزوم مائة واحدة والحلف على الأخرى، وقيل يلزمه المائتان وهو المذهب لأنه لا خلاف بين ابن القاسم وأصبغ أن الأذكار أموال، وأما الإقرار المجرد فعند ابن القاسم أموال وعند أصبغ مال واحد.

وبمائة وبمائتين الأكثر يعني أنه إذا أقر له بمائة وأشهد على ذلك ثم أقر له بعد ذلك بمائتين وأشهد على ذلك وأمر المقر له الشهود الأولين أن يكتبوا له ما سمعوا منه أولا، ثم أمر الآخرين أن يكتبوا له ما سمعوا منه آخرا فإنه لا يلزمه إلا الأكثر وهو المائتان، وقد علمت أن إشهاد المقر له بالكتاب لا يخرجه عن الإقرار المجرد، وقد حكى ابن الحاجب فيه قولا أنه يلزمه الأكثر، وبما حملت عليه المص يكون ماشيا على هذا القول وهو القول الثاني في نقل ابن الحاجب الذي قال فيه ابن عبد السلام إنه الأشبه بمذهب المدونة، وقد أنكر ابن عرفة وجوده في المذهب لكنه رجع آخرا إلى أنه يؤخذ من كلام المدونة في كتاب السلم الثاني وكتاب الشهادات. انظر نصه في ابن غازي. ونحو ما لابن عرفة لابن ناجي في شرح المدونة، ونصه بعد كلام المدونة: ظاهره أنه لم يجعل له حقا إلا في أكثر الإقرارين أو في أقلهما لا في مجموعهما، وهذا هو أحد الأقوال الثلاثة فيما إذا أقر لرجل بمانة بموطن وبمائتين في موطن آخر، سواء كان أقل العددين أبعد تاريخا أو أقرب، وقيل يلزمه ثلاثمائة مطلقا. قاله محمد. وقيل: يفصل بين أن يقدم في الإقرار أكثر العددين فيلزمه ثلاث مائة ويقدم الأقل فيكون الثاني بعضه مؤكدا للأول. قاله أصبغ. وهذان القولان في مسألتنا والثلاثة حكم بها ابن الحاجب ولم يوجد الأول منها لنقل غيره، إلا أنه ظاهرها هنا وظاهر قولها في تكرير الوصايا من جنس واحد لموص واحد. اهـ.

قال البناني عند قول المص: "وبمائة وبمائتين الأكثر" ما نصه: ينبغي أن يقيد لزوم الأكثر بما إذا تقدم الإقرار بالأقل كما هو ظاهر المص، وإلا لزم الجميع وليس مراده لزوم الأكثر مطلقا وبهذا يتخلص من بحث ابن عرفة مع ابن الحاجب انظره في المواق. اهـ. وقال الرهوني: وأما حمل المص

ص: 292

على قول أصبغ كما قال البناني ففيه أن قول أصبغ لم يرجحه المص في توضيحه ولا غيره ممن وقفنا عليه، وقوله: إنه ظاهر المص هنا فيه نظر لأن الواو لا ترتب. فتأمله. والله أعلم.

فائدة: قال الرهوني: الذكر هنا حفظناه وسمعناه بالضم ولم أر أحدا ممن تكلم عليه تعرض لضبطه ولم يضبطه أيضا ابن عبد السلام ولا المص في التوضيح مع وقوعه في لفظ ابن الحاجب، وصنيع القاموس يقتضي أنه بالفتح إلا أن يكون الكل على الشهرة، ولم يذكره في الصحاح ولا في النهاية ولا في المصباح بهذا المعنى أصلا. والله أعلم.

وجل المائة أو قربها أو نحوها الثلثان فأكثر بالاجتهاد يعني أنه إذا قال: لزيد علي جل المائة أو له علي قرب المائة أو له علي نحو المائة، فإن المقر يلزمه ثلثا المائة بلا خلاف، ويلزمه أيضا زيادة على الثلثين بما يراه الحاكم باجتهاده، فالاجتهاد إنما هو في الأكثر أي يجتهد في قدره وزيادته من أصله كما يفيده نقل المواق. قاله ابن سودة. وقوله:"بالاجتهاد" بالنسبة لعسره ويسره أو باعتبار ديانته، وقوله:"الثلثان فأكثر" وقيل يقتصر على الثلثين. ابن رشد: وهذا الخلاف إنما يحتاج إليه في الميت الذي يتعذر سؤاله عن مراده، وأما المقر الحاضر فيسئل عن تفسير ما أراد ويصدق في جميع ذلك مع يمينه إن نازعه في ذلك المقر له وادعى أكثر مما أقر به وحقق الدعوى في ذلك وإلا فعلى قولين في إيجاب اليمين عليه. اهـ. وما قاله ظاهر إن فسر المقر بأكثر من النصف، وأما إن فسره بالنصف أو دونه فلا يقبل تفسيره. والله أعلم. كما أشار له الحطاب. قاله غير واحد. وهل يلزمه في عشرة في عشرة عشرون أو مائة قولان يعني أنه لو قال له علي عشرة في عشرة فإنه اختلف في ذلك على قولين: أحدهما أنه يلزمه عشرون ثانيهما أنه تلزمه مائة، قال عبد الباقي: وهل يلزمه في قوله عندي عشرة في عشرة عشرون لاحتمال كون في الثانية بمعنى: مع، قال المص: وهو أقرب لعرف العامة، وأما في الأولى فمن تركيب المص، وأما احتمال كون في الثانية للسببية فيقتضي أنه إنما يلزمه عشرة فقط بيمين وهو القول الثاني عند ابن عرفة معترضا قول ابن الحاجب عشرون كالمص بأنه لا يعرفه أو مائة لاحتمال أن المعنى عشرة مضروبة في عشرة ولا يمين عليه حينئذ قولان إن كانا أو أحدهما من غير أهل الحساب، فإن كانا من أهله لزمه مائة باتفاق القولين. قاله ابن عرفة. ويبحث في جريانهما فيما إذا كانا من غير أهله أو كان المقر وحده من غير

ص: 293

أهله، فإن المتعارف عند عوام مصر أن العشرة في عشرة بعشرين لا بمائة، وإن كان المقر وحده من أهله فالقولان قيل: مائة نظرا لعلمه بالحساب، وقيل: عشرة على ما لابن عرفة أو عشرون على ما للمص تبعا لابن الحاجب لأن العالم إنما يخاطب العامي بما يفهم، لخبر:(حدثوا الناس على قدر ما يفهمون). ويقبل قوله ويحلف إن نازعه المقر له الجاهل بالحساب وحقق عليه الدعوى وإلا فقولان. اهـ.

وقوله: "قولان" القول بلزوم المائة لسحنون، والقول بلزوم عشرين حكاه ابن الحاجب، وقد علمت أن ابن عرفة قال: لا أعرفه، قال الخرشي: الصواب كما قاله ابن عرفة المنقول أنه إذا قال عندي عشرة في عشرة هل يلزمه عشرة أو مائة؟ قولان، والقول بأنه يلزمه عشرون لا أعرفه، ومبنى القولين أن في تحتمل السببية وتحتمل أن تتعلق مع مجرورها بمحذوف أي مضروبة في عشرة. اهـ. وثوب في صندوق وزيت في جرة يعني أنه لو قال له علي ثوب في صندوق أو زيت في جرة فإنه يلزمه المظروف أي الثوب والزيت، وفي لزوم ظرفه أي الثوب والزيت وهو ما جعل فيه الثوب أو الزيت وعدم لزومه قولان، القول بلزوم الظرف لسحنون والقول بعدم لزومه لابن عبد الحكم، والحاصل أنهما متفقان على لزوم الظروف ومختلفان في لزوم الظرف، ولو قال له علي ثوب في منديل في لزوم المنديل قولان كما في متن ابن الحاجب، فما في الخرشي من لزوم المنديل قطعا غير صواب. اهـ. قاله ابن سودة.

وقال المواق: ولو قال ثوب في صندوق أو منديل، فقال ابن عبد الحكم: يكون مقرا بالثوب دون الوعاء، وقال سحنون: يلزمه الوعاء أيضا وقوله: "وثوب في صندوق وزيت في جرة" قال عبد الباقي: ومثل بمثالين إشارة أنه لا فرق بين استغلال المظروف بدون ظرفه وعدمه، وفي كلامه حذف أي ولو قال له ثوب في صندوق وزيت في جرة ففي المذهب في لزوم ظرفه قولان، وإنما احتجنا إلى التقدير ثانيا لأن الجواب جملة اسمية يتعين فيها الفاء. قاله أحمد. ولو قال له: عندي صندوق وعينه بشخصه أو وصفه فهل يكون له ما فيه أو لا؟ قولان، وعلى الأول إن قال وما فيه لي، فهو كمسألة:"وخاتم فصه لي" ولو أقر لشخص بأرض تناول ما فيها وكذا عكسه فالإقرار كالبيع كما يفيده ال تتائي، بل ربما يقال إنه أولى من البيع بهذا الحكم لخروجه على غير عوض

ص: 294

فيسامح فيه. انتهى. وحاصل ما للرهوني أن الخلاف فيما يستقل بدون الظرف كالثوب وما لا يستقل كالزيت، ولكن الراجح في الثوب ونحوه عدم اللزوم والراجح في الزيت ونحوه اللزوم.

لا دابة في إصطبل بقطع الهمزة يعني أنه لو قال له علي دابة في إصطبل فإنه لا يلزمه الظرف باتفاق؛ لأنه لا ينقل. قاله الخرشي. وقال المواق: القرافي: وافقونا على قوله له عندي دابة في إصطبل ونخلة في بستان أن الظرف لا يلزم. وألف إن استحل أوأعارني لم يلزم يعني أنه لو قال له علي ألف إن استحلها لم يلزمه شيء استحل أخذ ذلك أم لا، وكذلك لا يلزمه شيء إن قال لفلان علي ألف إن أعارني سواء أعاره أم لا، وقوله:"ثم يلزم" إما خبر عن ألف وإما جواب لشرط مقدر؛ أي ولو قال له علي ألف لخ لم يلزم، وكذا لا يلزم المقر شيء إن قال لفلان علي ألف إن كان يعلم أنها له أو له علي ألف إن شاء زيد.

كأن حلف تشبيه في عدم اللزوم؛ يعني أنه لو قال لفلان علي ألف إن حلف فحلف فلان على ذلك، فإن المقر لا يلزمه بذلك شيء، قال المواق: ابن سحنون: من قال لفلان علي ألف إن حلف أو إذا حلف فحلف فلان على ذلك ونكل المقر وقال: ما ظننت أنه يحلف فلا يؤخذ بذلك المقر في إجماعنا، وقال ابن عبد الحكم: إن قال لفلان علي مائة إن حلف فلا شيء على المقر بهذا وإن حلف الطالب، وكذلك إن قال إن استحل ذلك أو قال إن أعارني رداء أو دابة فأعاره.

في غير الدعوى متعلق بمحذوف أي إذا كان ذلك في غير الدعوى؛ يعني أنه إذا قال لزيد علي ألف إن حلف لا يلزمه شيء كما عرفت حيث لم يكن المقر له مدعيا على المقر، وأما إن ادعى عليه بألف مثلا فقال لزيد علي ألف إن حلف فحلف زيد فإن المقر تلزمه الألف، قال المواق: ابن سحنون: من أنكر ما ادعي عليه فقال له المدعي احلف وأنت بريء فحلف فقد برئ، وكذا إن قال المطلوب للمدعي احلف وأنا أغرم لك فحلف لزمه ولا رجوع له عن قوله. اهـ. وقال عبد الباقي: كإن حلف زيد على كذا فهو عندي، فحلف لم يلزم إذا كان ذلك في غير الدعوى أي الطلب، وإن لم تكن عند حاكم، بأن كان ذلك ابتداء فحلف لم يلزمه؛ لأنه يقول ظننت أنه لا يحلف بذلك باطلا، فإن كان حلفه بعد تقدم طلب عند غير حاكم أو عنده لزمه ما حلف عليه في الصورتين وأولاهما تقع بمصر كثيرا، ويتوهم من ظاهر المص أنه لا يلزم القائل شيء لفهم أن المراد بالدعوى

ص: 295

عند حاكم، مع أن المعتمد كما علم أنها المطالبة وإن لم تكن عند حاكم كما في علي الأجهوري وأحمد، ومطالبة وكيل رب الحق كمطالبته، ويصح في إن كونها شرطية فتكون مكسورة، وكونها مصدرية مفتوحة أي كحلفه، ثم إذا قال له احلف وخذ في مسألة الدعوى ليس له الرجوع ولو قبل حلفه، بل لا يعتبر رجوعه كما في ال تتائي عن ابن عرفة. اهـ.

وقال الحطاب: ابن سحنون: من قال لفلان علي مائة درهم إن حلف أو إذا حلف أو متى حلف أو حين يحلف

(1)

أو مع يمينه أو في يمينه أو بعد يمينه فحلف فلان على ذلك ونكل المقر فلا شيء عليه في إجماعنا، وقاله ابن عبد الحكم قائلا: إن حلف مطلقا أو بطلاق أو عتق أو صدقة أو إن استحل ذلك أو إن كان يعلم ذلك أو إن أعارني دابته أو داره فأعاره ذلك أو إن شهد به عليَّ فلان فشهد ولو قال إن حكم لخ.

أو شهد فلان يعني أنه إذا قال لفلان علي كذا إن شهد على ذلك فلان فشهد عليه فلان، فإنه لا يلزم بذلك إقرار ثم ينظر، فإن كان غير عدل لم يلزمه شيء، ولهذا قال: غير العدل قال عبد الباقي: أو قال لك علي كذا إن شهد به فلان فغير إقرار، خلافا للشافعية، كان فلان عدلا أو لا فا، يلزمه شيء ولا يعمل بشهادة شخص حال كونه غير العدل فغير منصوب على الحال من مقدر مع عامله؛ أي فشهد فلان حال كونه غير العدل ولا يصح كونه حالا من فلان المذكور؛ لأن هذا ليس من مقول المقر، قال أحمد: واحترز بقوله: "شهد" عما لو قال إن حكم بها فلان فتحاكما إليه فإنه يلزمه ما حكم به. قاله في التوضيح. وظاهره سواء كان عدلا أو غير عدل، وأن ذلك لازم بمجرد قوله حكمت وإن لم تكن بينة ولا يمين مع شاهد، وينبغي أن يكون محل ذلك حيث حكم بها على مقتضى الشرع. انتهى كلام أحمد. انتهى.

وقوله: "أو شهد فلان غير العدل" اعلم أن في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا يلزمه ما شهد به عليه وهو قول ابن القاسم، والراجح من الأقوال إلا إذا كان عدلا وحكم عليه بشهادته مع شاهد آخر أو يمين المدعي. الثاني أنه يلزمه ما شهد به عليه دون يمين كان عدلا أو لا وهو قول مطرف الثالث التفصيل يلزمه إذا كان لا يحقق معرفة ما نازعه فيه خصمه ولا يلزمه إن كان يحقق معرفة

(1)

في الأصل: أو حتى، والمثبت من الحطاب ج 5 ص 624 ط دار الرضوان وابن عرفة مخطوط.

ص: 296

ذلك، وهو قول ابن دينار وابن كنانة واختيار سحنون، وسواء كان الشاهد في ذلك كله عدلا أو مسخوطا أو نصرانيا، وقد قيل لا يلزم القضاء بشهادة النصراني بخلاف المسخوط انظر الحطاب. وقال البناني عند قول المص:"غير العدل" ما نصه: أي فإن كان عدلا قبلت شهادته مع اليمين، وقد أشار الحطاب للمناقشة في اشتراط نفي العدالة؛ إذ وجود العدل من باب الثبوت بالبينة لامن باب الإقرار على مذهب ابن القاسم خلافا لمطرف. اهـ. قوله: من باب الثبوت بالبينة يفيد أنه يعذر في الشاهد. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه. وقد صرح التاودي بأنه يعذر فيه وقال إنه هو المتعين. والله تعالى أعلم.

وهذه الشاة أو هذه الناقة لزمته الشاة يعني أنه إذا قال شخص لآخر: لك هذه الشاة أو هذه الناقة فإن المقر تلزمه الشاة، وكذا الحكم لو قال هذه الناقة أو هذه الشاة لزمته الناقة، والحاصل أنه يلزمه الأول منهما ويحلف على الثاني كما قال: وحلف المقر بتا عليها أي على الناقة أنها ليست له، قال عبد الباقي: ولو عكس لزمته الناقة وحلف على الشاة اهـ. وقال المواق: الشيخ: من قال لرجل هذه الشاة أو هذه الناقة لزمته الشاة وحلف ما الناقة له. اهـ. ومحل حلفه على الثاني في المسألتين إذا أدعى المقر له جميعهما، وإلا فإن ادعى المقر له الأول فقط فلا يمين ولا إشكال، وإن ادعى الثاني لم يكن له الأول لقوله سابقا: لم يكذبه ولا الثاني لحلف المقر. قاله التاودي.

مسألة: قول: المص "ولا يمكن منها إن نكل"، قال الشارح: قال في المتيطية: ومن وجبت عليه يمين فردها على من وجبت له ورضي أن يحلف صاحبه، فلما جاء مقطع الحق نزع عن الرضا فقد لزمه الرضا كان عند السلطان أو غيره. أبو عمران: وهذا متفق عليه. انتهى.

وغصبته من فلان لا بل من آخر فهو للأول يعني أنه لو قال هذا الثوب أو هذا القمح مثلا غصبته من زيد لا بل غصبته من عمرو فإنه يكون للأول وهو زيد، وكذا الحكم لو أسقط لا وَقُضِيَ لِلثَّانِي وهو عمرو في المثال المذكور. بقيمته في المقوم كالثوب وبمثله في المثلي كالقمح ونحوه، قال عبد الباقي: وتعتبر القيمة يوم الغصب كما في المواق ولعله حيث علم وإلا فيوم أقر وظاهر كلام المص أنه لا يمين عليهما وهو قول ابن القاسم، وقال عيسى إلا أن يدعيه الثاني فله اليمين على الأول، فإن

ص: 297

حلف فكما تقدم وإن نكل حلف الثاني وأخذه ولا شيء للأول على المقر. ابن رشد: وقول عيسى تفسير لقول ابن القاسم. قاله الشارح وال تتائي. اهـ.

فإن نكل الثاني أيضا فله القيمة إذ المقر قد أقر له بها وهو ظاهر فتأمله، ولابن عرفة ما هو شاهد له. انظر الرهوني. وإذا نكل الثاني بعد نكول الأول فإنه يكون كله للأول. قاله البناني. والله تعالى أعلم. وقال عبد الباقي: والفرق بين ما ذكره المص هنا وبين قوله: "وسقط في لا بل ديناران" أن المقر به هنا شيء واحد لكل واحد من اثنين، فلو ألغي ما قبل لا بل لزم إحرام المقر له أولا واتهم في إخراجه عنه للثاني، وفي مسألة "لا بل ديناران" أن المقر له واحد بشيء متعدد فلا يلزم من إبطال ما قبل لا بل إحرامه. انتهى.

ولك أحد ثوبين عين يعني أنه لو قال شخص لآخر لك أحد هذين الثوبين أو العبدين مثلا، فإن المقر يؤمر بتعيين ما أقر به لأن إقراره يحتمل الإبهام والشك وله دعوى زوال الشك وعلى كل له التعيين، فإن عين أجودهما أخذه المقر له وكذلك إذا عين أدناهما وصدقه المقر له على ذلك، فإن لم يصدقه حلف المقر ودفعه له، فإن نكل حلف المقر له على ما ادعاه من الأعلى وأخذه، قال عبد الباقي: فإن نكل فينبغي أن يشتركا فيهما، قال الرهوني: الظاهر أنه يأخذ الأدنى. قاله شيخنا الجنوي. وهو ظاهر لأنه بنكوله صدق المقر الناكل أولا. والله أعلم. قال عبد الباقي: وظاهر ما ذكره الشارح وال تتائي فيما إذا نكل المقر حيث عين الأدنى وأن المقر له يأخذ الأعلى بعد حلفه يشمل ما إذا كانت الدعوى دعوى تحقيق أو اتهام، وقصره بعض أشياخي على الأول، قال: وأما في دعوى الاتهام فيأخذه بلا يمين وفيه نظر، فإن في هذا الباب ما هو مبني على أن يمين التهمة ترد كما يأتي في قوله:"وإن قال لا أدري" لخ. قاله الأجهوري. قوله: فإنه في هذا الباب مبني لخ، قال شيخنا الجنوي: لم يأت له بشيء في المحل المذكور. اهـ. قال الرهوني: الزرقاني: ذكر ذلك عن علي الأجهوري، وقد ذكر الأجهوري ذلك هناك وإن لم يذكره الزرقاني هناك. اهـ. وقد علمت أن الذي له التعيين أولا هو المقر بالكسر فإن عين فهو ما عرفت. وإلا يعين المقر، بل قال لا أدري ولا يمين عليه أنه لا يدري.

ص: 298

فإن عين المقر له أجودهما حلف على ما عين وأخذه، فإن نكل لم يأخذه، ومفهومه أنه إن عين أدناهما أخذه بلا يمين لعدم التهمة، وإن قال المقر له لا أدري أيهما لي كما قال المقر ذلك حلفا المقر ثم المقر له على نفي العلم واشتركا في الثوبين بالنصف؛ لأن المتبادر من الاشتراك التساوي، وجعلنا معنى قوله:"وإلا" قال المقر: لا أدري ولم نجعله شاملا لامتناعه كما هو ظاهر المص، وبه اعترض عليه لأنه إذا امتنع من التعيين مع المعرفة حبس حتى يعين كما في ابن وهبان؛ أي أو يموت كما في مسألة التفسير إذا امتنع منه وليس كمسألة حبس المدين لثبوت عسره؛ إذ لا كلفة تلحقه هنا بالتعيين، وقد يجاب عن الاعتراض عليه هنا بأن قوله:"حلفا على نفي العلم" يفيد أن معنى قوله: "وإلا" بأن قال لا أدري، وقوله:"حلفا" واشتركا مثله إذا حلف أحدهما فقط على مقتضى ابن عرفة والشارح أنه الراجح. قاله عبد الباقي. وقال الرهوني: سكت يعني عبد الباقي عما إذا نكلا معا ولكن يؤخذ الاشتراك بالأحرى من نكول أحدهما وحلف الآخر، ونص ابن عرفة عن سماع عيسى ابن القاسم: إن حلفا أو نكلا أو حلف أحدهما كانا شريكين. ابن رشد: هذا على لحوق يمين التهمة ورجوعها، ثم قال: وعلى عدم لحوق يمين التهمة يكونان شريكين دون أيمان، وعلى لحوقها وعدم رجوعها إن نكل المقر وحلف المقر له كان له أجودهما وفي العكس أدناهما، وفي السماع لعيسى عن أشهب: إن نكلا كان للمقر له أدناهما، وكذا حكاه المازري عنه. اهـ منه بلفظه فيؤخذ من كالأمه هذا أن ما قاله في سماع عيسى ضعيف لأنه خلاف المشهور في يمين التهمة. انتهى.

تنبيه: قال ابن عاشر ما نصه: قوله وإن قال لا أدري حلفا لخ تأمل ما فائدة هذه اليمين؟ مع أن المرتب على وجودها منهما أو من أحدهما هو المرتب على فقدها. انتهى منه بلفظه. ونقله أيضا جسوس وهو بحث ظاهر. اهـ. والله تعالى أعلم.

والاستثناء هنا كغيره يعني أن الاستثناء هنا أي في باب الإقرار كالاستثناء في غيره أي في غير الإقرار كاليمين بالله أو بكعتق أو طلاق أو نذر ونحو ذلك في أنه يصح بإلا وإحدى أخواتها، وبغير ذلك مما يدل عليه إن اتصل ونطق به وقصده، وفي أنه يجوز أن يستثنى الأكثر ويبقى الأقل كقوله

ص: 299

له على عشرة إلا تسعة خلافا لعبد الملك، وفي أنه لا يصح استثناء المساوي للمستثنى منه ولا أكثر منه.

واعلم أنه إذا تعدد الاستثناء فكل واحد مما يليه ففي له على عشرة إلا تسعة، وهكذا إلى الواحد يلزمه خمسة ولكن في معرفة ذلك طرق منها أن تطرح مجموع كل استثناء هو وتر من مجموع كل استثناء هو شفع مع المستثنى منه أولا، فما بقي فهو الجواب اهـ قاله الرهوني وغيره.

تبيهان: الأول: اعلم أن صحة استثناء الأكثر هو قول الأكثر، ومقابله لعبد الملك بن الماجشون قال: لا يصح استثناء الأكثر ومثله في ابن الحاجب ولم يذكر خلافا في جواز استثناء المساوي أي النصف، وكذلك في التوضيح لم يذكر خلافا إلا في الأكثر وذلك يوهم أن استثناء النصف لا خلاف في صحته وهو خلاف ما لابن عرفة، ونصه: وفي جوازه في المساوي قولا الأكثر والأقل مع أحد قولي ابن الطيب، وفي جواز الأكثر قولا الأكثر والأقل مع ابن الماجشون وأحمد. انتهى.

الثاني: قال الرهوني ما نصه: بعد أن ذكر في المفيد عن الزجاج أنه لا يجوز استثناء أكثر الشيء منه، وأطال في توجيه ذلك قال ما نصه: والقليل الذي يستثنى من الشيء الثلث فما دونه هذا مذهب مالك وأصحابه. اهـ منه بلفظه. وفيه نظر، فقد صرح ابن شأس وابن الحاجب وغيرهما أن المشهور صحة استثناء الأكثر فأحرى المساوي، وتقدم كلام ابن عرفة قريبا. والله أعلم. انتهى.

ولما كان ما يؤدي الاستثناء عرفا هنا يعتبر ولو كان بغير لفظه قال: وصح له الدار والبيت لي يعني أنه يصح الاستثناء بغير لفظ الاستثناء، كما لو قال: هذه الدار لفلان والبيت الفلاني منها لي فإن الدار تكون للمقر له إلا ذلك البيت الذي عين فإنه يكون للمقر، فإن تعددت عين وإلا جرى فيه ما إذا لم يعين أحد الثوبين، وكذا يصح له الدار إلا ربعها أو إلا تسعة أعشارها وما أشبه ذلك. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب عند قوله:"ولك أحد ثوبين عين" لخ ما نصه: وإذا قال المريض لفلان علي مائة دنانير ودراهم فإن أمكن مسألته سئل والقول قوله، ويجبر حتى يبين فإن مات فورثته بمثابته يقرون بما شاءوا من كل صنف ويحلفون، فإن أنكروا علم ذلك جعل على النصف من كل صنف بعد أيمان الورثة أنهم لا يعلمون له شيئا وبعد يمين المقر له أنه ليس حقه أقل من ذلك. انتهى.

ص: 300

وصح الاستثناء بغير الجنس أي بغير جنس المستثنى منه، كقوله: له علي ألف من الدراهم أو الدنانير أو الغنم أو الإبل أو غير ذلك.

إلا عبدا وكذا العكس نحو: له علي عبد إلا عشرة، وإذا صح الاستثناء في قوله: علي ألف دينار إلا عبدا سقطت قيمته أي العبد من الألف، كما أن العشرة تسقط من قيمة العبد في الثاني، وكأنه قال في الأول له علي ألف إلا قيمة عبد مثلا وتعتبر القيمة يوم الاستثناء، وبيان ذلك أن يقال اذكر صفة العبد ويقوم على الصفة التي ذكرها، فإن ادعى جهلها فينبغي أن تسقط قيمة عبد من أعلى العبيد؛ لأن المقر إنما يؤخذ بالمحقق وهذا في فرض المص وفي عكسه يعتبر قيمة أدنى عبد قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: يعني أن الاستثناء من غير الجنس صحيح، فإذا قال له علي ألف درهم إلا عبدا أو إلا ثوبا وما أشبه ذلك فإن ذلك صحيح، وكأن المقر قال له علي ألف درهم إلا قيمة عبد أو إلا قيمة ثوب، وتسقط قيمة ما ذكر من الشيء المقر به بشرط أن لا تستغرقه القيمة، فإن استغرقت القيمة المقر به بطل الاستثناء والإقرار صحيح، وكذلك إذا قال عندي عبد إلا ثوبا فيطرح قيمة الثوب من قيمة العبد، وكذلك إذا قال له عندي ألف درهم إلا عشرة دنانير فيطرح المستثنى من المستثنى منه بصرفها. اهـ.

وقال المواق: ابن شأس: الاستثناء من غير الجنس صحيح كقوله علي ألف درهم إلا عبدا، ويقال له، اذكر قيمة العبد الذي استثنيت تم يكون مقرا بما فضل من الألف عن قدر قيمته، فإن ذكر أن القيمة تستغرق الألف بطل الاستثناء ولزمه الألف. اهـ. ابن عرفة: الاستثناء من غير الجنس، قال المازري: مذهبنا صحته. انتهى.

وإن أبرأ فلانا مماله قِبَله أو من كل حق أو أبرأه برئ مطلقا يعني أن من أبرأ شخصا معينا براءة عامة بأن قال أبرأت ذمة فلان ممالي قبله، أو قال أبرأته من كل حق أو قال أبرأته فقط فإنه يبرأ من كل حق لفلان في الذمة أو تحت اليد من الأمانات معلومة أو مجهولة، ويبرأ أيضا من المطالبة بحد القذف والسرقة أي من المال المسروق ومن حد السرقة، وقوله:"فلانا" أي شخصا معينا كما قررت، فإن كان مجهولا فلا كقوله: أبرأت شخصا أو رجلا ممالي قبله. وأما لو قال أبرأت كل رجل فهو معين لأن الاستغراق معين، وظاهر قوله:"مطلقا" ولو في غير ما يتعلق بالخصومة وقد

ص: 301

قاله البساطي، وإنما أتى بقوله: ومن القذف لخ لدفع توهم أن البراءة لا تكون إلا في الحقوق المالية فنبه على أنها تكون في الحقوق البدنية، وقولي: من حد السرقة صحيح، قال الشبراخيتي: لا يجوز للإمام العفو عن حد السرقة والزنى والشرب حيث بلغه ولا يجوز لأحد الشفاعة لأنها حقوق الله تعالى ولو تاب الفاعل وحسنت حالته، وأما قبل بلوغ الإمام فتجوز الشفاعة فيما قاله ال تتائي، قوله: وأما قبل بلوغ الإمام لخ ظاهره سواء كان معروفا بالفساد أم لا، ولكنه فصل في المدونة في حد السرقة خاصة بين المعروف بالفساد فلا تجوز الشفاعة فيه وبين غيره فتجوز. اهـ.

وفي الموطإ: وتجوز الشفاعة للسارق ما لم يبلغ الإمام، ففي الموطإ ما نصه: مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن الزبير بن العوام لقي رجلا قد أخذ سارقا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله، فقال: لا حتى أبلغ به إلى السلطان، فقال الزبير: إذا بلغت به السلطان فلعن الله الشافع والمشفع. انتهى. وفي الخرشي هنا وعبد الباقي: برئ من المال المسروق وأما حدها فلله. هذا لفظ عبد الباقي. وعبارة الخرشي: وأما حد السرقة فهو حق لله لا يجوز لأحد أن يسقطه مطلقا، ونحوه للشارح ولم يتعقبه البناني ولا الرهوني. والله تعالى أعلم.

فلا تقبل دعواه وإن بصك مفرع على ما قبله أي وإذا برئ من عليه الحق بصيغة من الصيغ المتقدمة، ثم قام صاحب الحق وادعى على من أبرأه بحق فإنه لا تقبل دعواه عليه بنسيان أو جهل أو أنه أراد بعض متعلقات الإبراء، ولو أتى بصك أي كاغد مكتوب فيه الحق الذي ادعاه. وقوله:"فلا تقبل دعواه" لخ أي قبولا يلزم المبرأ بالفتح الحق بمجردها، وأما اليمين لرد هذه الدعوى فقال عبد الباقي: وإذا أبرأه بصيغة من الثلاث فلا يقبل دعواه بنسيان أو جهل، أو أن الإبراء إنما كان مما فيه الخصومة فقط وإن بصك علم تقدمه على البراءة أو جهل ولم يحقق الطالب شيئا أو حقق أنه بعدها حيث لا خلطة بينهما بعدها، ولا يمين عليه في هذه الثالثة لعدم توجهها في دعوى التحقيق حيث لا خلطة على المذهب، ويحلف في الثانية لأن توجهها في دعوى الاتهام قوي فلا يراعى فيه خلطة على المعتمد، ولا يمين في الأولى اتفاقا كما يفيده ابن رشد، فإن حقق في الثالثة أنه بعدها وبينهما خلطة توجهت الدعوى وقبلت لتوجه اليمين على المطلوب حينئذ على ما تجب به الفتوى.

ص: 302

إلا ببينة أنه بعده يعني أنه إذا ادعى عليه بحق مكتوب في صك أنه صدر التعامل بما ترتب فيه بعد الإبراء لا يقبل منه ذلك حيث لم يأت ببينة كما عرفت، وأما إن أتى ببينة تشهد له على أن الصك صدر التعامل بما فيه بعده أي الإبراء، فإنه تسمع دعواه حينئذ وتقبل، بمعنى أنه يلزم المبرأ بالفتح قضاء ذلك الحق الذي في الصك.

وإن أبرأه مما معه برئ من الأمانة لا الدين يعني أنه إذا قال أبرأت زيدا مثلا مما معه فإنه يبرأ من الأمانات فقط كالودائع والقراض والبضائع، ولا يبرأ من الدين، قال عبد الباقي: وإن أبرأه مما عليه برئ من الدين لا الأمانة إلا أن تكون عنده فقط فيبرأ منها، وإن أبرأه مما عنده برئ من الأمانة والدين عند المازري، ومن الأول فقط عند ابن رشد. اهـ. قوله: وإن أبرأه مما عليه برئ من الدين لا الأمانة، قال الرهوني: هذا على ما لابن سحنون لا على ما لأبيه. انظر الحطاب. اهـ. وقال عبد الباقي عند قوله: "وإن أبرأه مما معه برئ من الأمانة لا الدين". ما نصه: فلا يبرأ منه لأنه عليه لا معه، قال الشارح: ولعل هذا إذا كان العرف كذلك أي عدم تناول مع لما في الذمة دون عندي وعليَّ، وأما إن كان العرف مساواة الدين لغيره فلا، والجاري عندنا الآن أن ليس معي شيء يتناول الدين وغيره. اهـ. ثم قال الشارح: أما إذا لم يكن عنده وديعة ولا غيرها من الأمانات وله عنده دين وقال أبرأت ذمته ممالي معه فلا ينبغي أن يمترى في إسقاط الدين. اهـ قاله ال تتائي.

تنبيهات: الأول: قول المص: وإن أبرأ فلانا مماله قبله أو من كل حق أو أبرأه برئ لخ، قال عبد الباقي: ظاهر قوله: "برئ" ولو أقر المبرأ بالفتح بعد الإبراء الواقع بعد إنكاره وهو ظاهر ما للحطاب وهو خلاف ظاهر قوله في الصلح: "فلو أقر بعده" إلى قوله: "فله نقضه" فإن ظاهره يشمل ما لو حصل إبراء بعد الإنكار وقبل الإقرار به وبه أفتى البرهان وتلميذه الشمس اللقانيان، فيعمل بالإقرار الطارئ على الإبراء بعد الإنكار لأنه بمنزلة إقراره بأنه كان ظالما بإنكاره أو بمنزلة إقرار جديد، فيقيد ما هنا بما لم يقر المبرأ بعد الإبراء، فيوافق ما في الصلح وفتوى اللقانيين وظاهر المص براءته في الآخرة أيضا وهو كذلك على أحد قولين حكاهما القرطبي على مسلم، والآخر لا يسقط عنه مطالبة الله. اهـ.

ص: 303

وقال الخرشي: وجد عندي ما نصه: ولا يدخل في الإطلاق الآخرة فلا يبرأ فيها مما أبرأه من مال أو قذف إلا أن يعينه ويبرئه، لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس. اهـ. وذكر ابن عمر في شرح الرسالة أنه يبرأ في الدنيا والآخرة ولم يعزه، ومثل هذا إذا انفرد به ابن عمر يتوقف فيه. قاله الخرشي.

الثاني: قال عبد الباقي: وظاهر المص شموله البراءة من المعينات كدار وهو كذلك بمعنى سقوط طلبه بقيمتها أو برفع يده عنها، وظاهر قوله وإن أبرأ أن له البراءة وعدمها على حد سوًى، ولابن رشد: اختلف في التحليل من التبعات والظلامات على أقوال، أحدها تركه أولى، الثاني أن التحليل أفضل وهو الأظهر، وفي زروق أنه رجح وعليه العمل لحديث أبي ضمضم: (أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان يتصدق بعرضه على المسلمين كل يوم أو كل صباح

(1)

). انظر لفظه في التنوير. والثالث الفرق بين التبعات من سلف ونحوه التحليل منها أفضل وبين الظلامات مثل الغصب ونحوه فعدمه أفضل لما فيه من الزجر عن أن يعود له، وقال زروق، ينبغي التعريض بالبقاء على الحق إن رجا الزجر والتصريح بالعفو إن علم النفع به. اهـ. كذا في الأجهوري. اهـ. وقوله: لما فيه من الزجر الظاهر أنه تعليل لما قبله. والله تعالى أعلم. وقوله: فيعمل بالإقرار الطارئ بعد الإبراء لخ؛ أي سواء أبرأه من الجميع أو صالحه بالبعض وأبرأه من الباقي وهو خلاف ما مشى عليه في باب الصلح فراجعه. والله تعالى أعلم. قاله البناني.

الثالث: قال البناني عند قوله: وإن أبرأ فلانا مماله قبله أو من كل حق أوأبرأه برئ مطلقا ما نصه: مثله عنده وأما عليه فكذلك عند سحنون، وخصه ابنه بما في الذمة كذا نقل المازري، وخص ابن رشد عند بالأمانات وعلى بالذمة.

الرابع: قد مر قول عبد الباقي، والظاهر أيضا شموله للبراءة من المعينات كدار وهو كذلك لخ، قال الرهوني: مثله في الحطاب وزاد خلافا لما في الذخيرة من قولها لا يصح أبرأتك من داري التي تحت يدك؛ لأن الإبراء الإسقاط والمعين لا يسقط نعم يصح فيه الهبة ونحوها. اهـ. وهو كلام ظاهر في نفسه، إلا أن المراد من قول القائل أبرأتك من داري التي تحت يدك أي أسقطت مطالبتي بها،

(1)

سنن أبي داود، كتاب الأدب، رقم الحديث 4887.

ص: 304

ولا شك أن المطالبة تقبل الإسقاط فالكلام على حذف مضاف. اهـ كلام الحطاب. انظر بقيته إن شئت. اهـ. وإذا وقع الإبراء العام فهل يشمل المعينات مطلقا رباعا وغيرها على ما هو الصواب لا على ما للقرافي؟ ظاهر كلام المص ومن تكلم عليه أنه يشملها مطلقا وهو ظاهر كلام النوادر وغيرها.

وقال ابن ناجي عند قول المدونة في كتاب الوصايا الأول: ومن قال اشهدوا أن فلانا وصيي ولم يزد على هذا فهو وصية في جميع الأشياء لخ ما نصه: وقعت مسألة عندنا بالقيروان - وقاضيها أبو يوسف يعقوب الزغبي - في رجل أبرأ فلانا من جميع الدعاوي كلها، وقصد المبرأ بذلك دخول الربع في البراءة فكتب فيها لتونس، فأفتى بعض شيوخنا على ما بلغني بأن الربع لا يدخل فيما ذكر لأنه لم ينص عليه، ثم وقعت في هذه المدة القريبة فأفتى فيها شيخنا بأن شيوخه اختلفوا فيها بتونس، وأن الشيخ أبا القاسم الغبريني أفتى بمنع دخوله وبه العمل. انتهى منه بلفظه. وعادته إذا قال بعض شيوخنا فمراده: الإمام ابن عرفة، وإذا قال شيخنا وأطلق فمراده: البرزلي، قلت: والقول بدخوله هو الظاهر لشهادة ظواهر نصوص المتقدمين والمتأخرين، ولأن اللفظ صالح لشموله لذلك لغة وعرفا، فإن كان من أفتى بعدم شموله استند إلى عرف عندهم إذ ذاك فما قاله مسلم وإلا فلا وجه له، وهذا نحو ما ذكره ابن ناجي أيضا في الوكيل المفوض إليه لا يبيع الأصول إلا بنص عليها على ما به العمل عندهم، لجري العرف بذلك عندهم في ذلك الوقت وهذا العمل غير جار بفاس وما والاها في الفرعين معا فلا يغتر بقول ابن قاسم في عملياته:

والربع من ذاك العموم خصا

إلا إذا نص عليه نصا

الخامس: قد مر لفظ التحليل وهو مصدر حلله أي جعله في حل، وأما التحلل فهو مصدر تحلل أي طلب من رب الحق أن يجعله في حل منه، وليس فيه الخلاف المذكور قبل. والله تعالى أعلم.

السادس: قول المص: "وإن أبرأ فلانا" قال الرهوني: شمل قوله: "فلانا" القريب والبعيد لكن في توجيه اليمين على القريب تفصيل، فذكر عن القصد المحمود ما حاصله أنه إن كان الإبراء في حال الصحة، وقد نص على إسقاط اليمين عن هذا المبرإ الذي هو ابنه بعد موته وذهب الورثة إلى تحليفه، فليس لهم ذلك إلا إن نصوا على شيء استفادة الأب بعد الإبراء وقطعوا به، فيكون لهم

ص: 305

اليمين عليه وله ردها عليهم. انتهى. وفي نوازل الإقرار من المعيار ما نصه: وسئل ابن الحاج عما يعقده الناس أنه لم يخلف عند فلان قريبه أو عند بعض ورثته مالا عرضا ولا ناضا، هل تلزمه اليمين أم لا؟ فأجاب: اختلف الشيوخ في سقوط اليمين عن المبرإ فكان بعضهم يرى سقوطها وبعضهم كان يرى أن اليمين لا تسقط، قلت: والقول بأنها لا تسقط قول ابن زرب. انتهى.

السابع: قال الحطاب: قال في النوادر في كتاب الإقرار في ترجمة الإقرار بالمجهول: ومن كتاب ابن سحنون: ومن أقر أنه لاحق له قبل فلان فهو جائز عليه وفلان برئ في إجماعنا من كل قليل أو كثير دينا أو وديعة أو عارية أو كفالة أو غصبا أو قرضا أو إجارة أو غير ذلك، ثم قال: وإن أقر أنه لا حق له قبل فلان ثم ادعى قبله قذفا أو سرقة فيها قطع وأقام بينة، فلا يقبل ذلك إلا أن تقول البينة أنه فعله بعد البراءة، وإن أقر أنه لا حق له قبله فليس له أن يطلبه بقصاص ولا حد ولا أرش ولا كفالة بنفس ولا دين ولا مال ولا مضاربة ولا شركة ولا ميراث ولا دار ولا أرض ولا رقيق ولا شيء من الأشياء من عروض أو غيرها إلا ما يستأنف بعد البراءة في إجماعنا. انتهى.

الثامن: قال الحطاب: إذا عمم البراءة بعد عقد الخلع فأفتى ابن رشد أنه راجع لجميع الدعاوي كلها مما تعلق بالخلع أو بغيره، وأفتى غيره بأنه يرجع إلى أحكام الخلع خاصة. انتهى. ولا يجوز للوصي أن يبرئ عن المحجور البراءة العامة، وإنما يبرئ عنه في المعينات وكذلك المحجور بقرب رشده لا يبرئه إلا من المعينات ولا تنفعه البراءة العامة حتى يطول رشده كستة أشهر فأكثر، ومن هذا لا يبرئ القاضي ناظر الأحباس البراءة العامة وإنما يبرئه من المعينات، وإبراؤه عموما جهل من القضاة. انتهى. قاله الخرشي وغيره.

ولما أنهى الكلام على الإقرار بالأموال أتبعه بالكلام على الإقرار بالنسب، فقال:

ص: 306

باب في الاستلحاق ولم يعرفه المؤلف وعرفه ابن عرفة بقوله: وهو ادعاء مدع أنه أب لغيره فيخرج قوله: هذا أبي وهذا أبو فلان، فقوله: وهو ادعاء مدع جنس يشمل ادعاء الأجنبي والجد والأم، وقوله: أنه أب أخرج به من ذكر لأن ذلك خاص بالأب، وقوله: فيخرج لخ لأنه ليس بادعاء لأن الادعاء إنما يكون فيما جهلت الدعوى فيه، قاله الخرشي. وقال البناني: ولا يقال في حد ابن عرفة الاستلحاق طلب لحوق الشيء والادعاء إخبار بقول يحتاج لدليل، فكيف يصح تفسيره بما ذكر لأنه يقال ذلك أصله في اللغة، وما ذكره ابن عرفة هو الذي غلب في عرف الفقهاء. قاله الرصاع.

إنما يستلحق الأب يعني أن الذي له الاستلحاق إنما هو الأب لا الأم اتفاقا ولا الجد على المشهور ولا غيرهما من الأقارب، ولولا أن الشرع خصه بالأب لكانت الأم أولى لاشتراكهما في الماء واختصاصها بالحمل والرضاع. وقوله: مجهوك النسب منصوب بفعل مقدر أي ويستلحق مجهول النسب؛ يعني أن الذي يستلحقه الأب إنما هو مجهول النسب ولو كذبته أمه لا معلومه فيحد حد القذف ولا مقطوعه كولد الزنى الثابت أنه ولد زنى؛ لأن الشرع قطع نسبه عن الزاني، ويستثنى من قوله:"مجهول النسب" اللقيط فإنه لا يصح استلحاقه إلا ببينة أو وجه كما يأتي في باب اللقطة.

تنبيهات: الأول: قال عبد الباقي: واعترض على المص بأنه إنما حصر الاستلحاق في مجهول الأب ولم يحصر كون المستلحق هو الأب؛ إذ المحصور بإنما كإلا هو المؤخر وأجيب بجعل المؤخر معمولا لمقدر معطوف على "يستلحق" فيتعلق به الحصر أيضا كما قدرنا، أو أن القاعدة أغلبية، وإنما صح استلحاق الأب مجهول النسب لتشوف الشارع للحوق النسب. انتهى. قوله: فيتعلق به الحصر أيضا فيه نظر؛ إذ الحصر خاص بجملة وجدت فيها أداته، والمقدر ليس فيه أداة حصر فلا حصر فيه، وقوله إن القاعدة أغلبية غير صواب؛ لأنهم إنما قالوا في قاعدة تأخير المحصور فيه إنها أغلبية مع ما وإلا لا مع إنما، بل القاعدة مع إنما مطردة كما هو معلوم عند قول ابن مالك: وقد يسبق إن قصد ظهر. قاله البناني. قول البناني: فيه نظر إذ الحصر خاص بجملة وجدت فيها أداته لخ، قال الرهوني: ما قاله كله ظاهر، لكن الجواب الحسن عن المص أن الحصر في كلامه

ص: 307

منصب على الأب كما أفاده كلام الحطاب، وقوله:"مجهول" معمول لمقدر كما قرره الزرقاني، ويؤخذ منه أن غير مجهوله لا يصح استلحاقه بمفهوم الصفة؛ لأنه صفة لمحذوف أي شخصا مجهول النسب، فاستفيد من كلام المص بالحصر والصفة أن الاستلحاق خاص بالأب فيمن جهل نسبه، واعتبار المص مفهوم الصفة أمر مسلم كما قرره في أول الكتاب. فتأمله فإنه حسن بسن. والله أعلم. انتهى.

الثاني: قال البناني في المواق: روى ابن القاسم عن مالك أنه قال: الاستحسان تسعة أعشار العلم، وهذا الباب أكثره محمول على ذلك. انتهى.

قلت: قال ابن رشد في سماع أصبغ من كتاب الاستبراء: الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أغلب من القياس هو أن يكون طرد القياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم فيختص به ذلك الموضع والحكم بغلبة الظن أصل في الأحكام، ومن الاستحسان مراعاة الخلاف وهو أصل في المذهب، من ذلك قولهم في النكاح المختلف في فساده: إنه يفسخ بطلاق وفيه الميراث، وهذا المعنى أكثر من أن يحصى، وأما العدول عن مقتضى القياس في موضع من المواضع استحسانا لمعنى لا تأثير له في الحكم فهو مما لا يجوز بالإجماع؛ لأنه من الحكم بالهوى المحرم بنص التنزيل، قال الله تعالى:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} . الآية. انتهى باختصار. انتهى كلام البناني.

الثالث: قال البناني عند قوله "إنما يستلحق الأب" ما نصه: أي لا الأم اتفاقا ولا الجد على المشهور، وقال أشهب: يستلحق الجد وتأوله بما إذا قال أبو هذا ابني، فإن قال ابن ولدي لم يصدق، قال: والأصل في هذه أن الرجل إنما يصدق في إلحاق ولد بفراشه لا في إلحاقه بفراش غيره، وهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه. انتهى. واعلم أنه لا يشترط في الاستلحاق أن يعلم تقدم ملك أمَّ هذا الولد أو نكاحها لهذا المستلحق على المشهور، وظاهر المدونة: وقال سحنون: يشترط ذلك. ابن عبد السلام: وهو قول لابن القاسم والأظهر الأول لأنهم اعتبروا في هذا الباب الإمكان وحده ما لم يقم دليل على كذب المقر. انظر الحطاب. انتهى كلام البناني.

ص: 308

الرابع: في نوازل سحنون من كتاب الاستلحاق في رجل له امرأة وهناك ولد فتزعم المرأة أن الغلام ولدها من زوج غيره ويزعم الرجل أن الغلام ولده من امرأة غيرها أنه يلحق بالزوج ولا يقبل قول المرأة. قاله الحطاب. وقال المواق: ومن الاستغناء قال ابن القاسم وغيره: إذا أقر الرجل بابن جاز إقراره ولحق به صغيرا كان أو كبيرا، أنكره الابن أو أقر، قال في المدونة: ومن ولد عنده صبي فأعتقه ثم استلحقه بعد طول الزمان لحق به وإن أكذبه الولد. انتهى.

الخامس: قال عبد الباقي ما نصه: والناس مصدقون في أنسابهم كما للمص والشارح؛ أي حيث عرفوا بالنسب وحازوه كحيازة الأملاك كما في كلام جمع عن الإمام مالك، ويشمل ذلك دعوى الشرف وقول ال تتائي: ينبغي تقييده بغير دعوى الشرف يحمل على ما إذا لم يعرف هو ولا آباؤه به، والشرف من جهة الأب، وأما ابن الشريفة فذهب ابن عرفة ومن وافقه إلى أن له شرفا دون من أبوه شريف، وخالفه جمع من محققي المشايخ التلمسانيين، وذهبوا إلى أنه شريف مثله، وخبر: (قدموا قريشا ولا تقدموها

(1)

) أي لا تتقدموا عليها في أمر شرع فيه تقديمها كالإمامة، ولم أر من قيده بذرية الحسن والحسين فهو يشمل كل قرشي. قاله الأجهوري. انتهى.

إن لم يكذبه العقل لصغره يعني أن استلحاق مجهول النسب إنما يصح حيث لم يكذب المستلحق بالكسر في استلحاقه العقل لأجل صغره؛ كأن يستلحق الصغير الكبير كابن عشرين يستلحق ابن ثلاثين مثلا، أو العادة يعني أنه يشترط في صحة الاستلحاق أيضا أن لا يكذب المستلحق العادة، وأما إن كذبته العادة فإنه لا يصح استلحاقه، كمن علم أنه لم يتقدم منه نكاح ولا تسر حيث فرض العلم بذلك، وكمن استلحق من ولد ببلد بعيد يعلم أنه لم يدخله، وأما إن شك هل دخله أم لا؟ فمقتضى اختصار البرادعي أنه يصعح استلحاقه، ومقتضى كلام ابن يونس أنه لا يصح استلحاقه، ودخول المرأة بلد الزوج والشك في دخولها يجري فيه ما جرى في الزوج كذا ينبغي. قاله الخرشي وغيره.

(1)

الإتحاف، ج 2 ص 231.

ص: 309

وعلم مما تقدم أن الاستلحاق إنما يصح إن لم يكذب المستلحق العقل أو العادة أو الشرع؛ إذ عدم تكذيب الشرع هو موضوع المصنف لقوله: "مجهول النسب" لأن معلومه لا يصح استلحاقه شرعا ومقطوعه كذلك كما مر التنصيص عليه. والله تعالى أعلم.

ولم يكن رقا لمكذبه ذكر المص في استلحاق مجهول النسب شرطين، أحدهما قوله:"إن لم يكذبه"، وثانيهما قوله:"ولم يكن رقا لمكذبه" أو مولى يعني أنه يشترط في صحة الاستلحاق أن لا يكون المستلحق بالفتح رقا لمكذب المستلحق ولا مولى له، بأن لم يكن رقا أو مولى أصلا أو كان رقا أو مولى لمصدق المستلحق في أن المستلحق ولده، وأما إن كان رقا لمكذبه أومولى لمكذبه فإنه لا يصح استلحاقه له، وهذا قول سحنون وقول لابن القاسم، وقال أشهب: يصح الاستلحاق فيكون ابنا له رقيقا أو مولى للمكذب وهو الظاهر من جهة النظر.

لكنه يلحق به قال مقيده عفا الله تعالى عنه: هذا راجع للمفهوم يعني أنه إذا كان رقا لمكذبه فإنه لا يصح استلحاقه كما عرفت، وهذا لابن القاسم في المدونة لكنه يلحق به على قول أشهب، وفسره الطخيخي بأنه راجع له أيضا أي إذا كان رقا لمكذبه أو مولى لا يلحق به لكنه يلحق به إذا تجدد له ملكه بعد ذلك فيعتق عليه كما يأتي للمص في قوله:"وإن اشترى مستلحقه" لخ، وقال الحطاب: في كلامه تدافع، فالصواب حذف قوله:"لكنه يلحق به" ليكون جاريا على قول ابن القاسم في المدونة؛ يعني قوله فيها: من استلحق صبيا في ملك غيره أنه لا يلحق به إذا كذبه الحائز له أو عدم اشتراط ما ذكر، وأن يلحق بمن استلحقه مع بقاء رقه وولائه لحائزهما ليكون جاريا على قول أشهب كما نقله ابن يونس عنه، بل وقع لابن القاسم أيضا في أول سماع عيسى من كتاب الاستلحاق نحوه. وقال ابن رشد: هو الصحيح إذ لا يمتنع أن يكون ولدا للمقر به المستلحق له، وعبدا للذي هو في يده. انتهى المراد منه.

وقال عبد الباقي: والشرط الثاني لوقوع الاستلحاق على الوجه التام، قوله: ولم يكن المستلحق بالفتح رقا لمكذبه أي شخص يكذب المستلحق بالكسر أو مولى أي معتقا بالفتح لمكذبه، فإن كان رقا لمكذبه أو مولى له لم يحصل الاستلحاق التام، بل إما أن لا يحصل أصلا وذلك إذا لم يتقدم للمستلحق بالكسر عليه ولا على أمه ملك لأنه يتهم على إخراج الرقبة من رق مالكها في الأول وعلى

ص: 310

إزالة ولائه في الثاني، وإما أن يحصل ناقصا وذلك إذا تقدم له عليه وعلى أمه ملك، وإلى حكم هذا الثاني أشار بقوله، لكنه يلحق به نسبه ويستمر رقا أو مولى للمكذب فهو راجع لبعض مفهوم ولم يكن لخ، وهو القسم الثاني منه ويحتمل وإن بعده. المواق: رجوع الاستدراك لمنطوقه أي إذا لم يكن المستلحق بالفتح رقا أو مولى لمكذب المستلحق بالكسر بل لمصدقه فإنه يلحق نسبه فقط إن لم يتقدم له عليه ولا على أمه ملك بأن تزوج الحر المستلحق أمة، ولا منافاة بين ثبوته وبقائه رقا لآخرة فإن تقدم له عليه ملك لحق نسبه به أيضا ونقض ما وقع فيه من بيع أو عتق كما سيفيده المص، فالصور أربع: يلحق به نسبه ويستمر رقا أو مولى للمالك، والمعتق في صورتين وهما إذا صدق مالكه أو معتقه المستلحق أو سكت ولم يتقدم للمستلحق عليه وعلى أمه رق، ثانيهما إذا أكذبه وتقدم له ملك الصورة الثالثة يلحق نسبه ويبطل ما للسيد من ملك أو ولاء إذا صدق المستلحق وتقدم له عليه أو على أمه ملك، الصورة الرابعة لا يلحق نسبه ولا يبطل حق السيد أو المعتق فيما إذا كذب المستلحق بالكسر ولم يتقدم له عليه ولا على أمه ملك. انتهى كلام عبد الباقي. قوله: لأنه يتهم على إخراج الرقبة من رق مالكها لخ، قال الشيخ المسناوي: تأمل هذا الذي ذكروه فإنه لا يلزم من لحوق النسب كون الولد حرا، وهذا وجه قول أشهب: إن تكذيب السيد لغو، ولذلك قال ابن رشد: الظاهر من جهة النظر قول أشهب لا قول ابن القاسم. انظر الحطاب لكن لعل ابن القاسم راعى أن السيد تلحقه مضرة بهذا الاستلحاق نظرا إلى الطواري؛ لأن هذا العبد قد يعتق ويموت عن ماله فيرثه عصبة نسبه ويقدمون على مواليه في الميراث فيريد سيده عدم ثبوت نسبه خشية حرمانه من ميراثه. انتهى. وقول الزرقاني: وإلى حكم هذا الثاني أشار بقوله: "لكنه يلحق به" لخ ما ذكره هنا قريب مما لل تتائي، وذلك أن ال تتائي لم يجعل قوله "ولم يكن رقا لمكذبه" شرطا في الاستلحاق بل شرطا في تصديقه أي فإن كان كذلك فلا يصدق حتى ينقض البيع والعتق، ولكنه يلحق به مع عدم نقض البيع والعتق، قال: هذا هو الذي ظهر لي في تقرير هذا المحل. انتهى.

وقصر كلام المص على استلحاقه من باعه، قال مصطفى: وجعله شرطا في التصديق فقط وان كان جاريا على قول أشهب ينبو عنه المقام. انتهى. وهو ظاهر لأن صريح كلام المص أنه شرط في الاستلحاق: ولما استشعر الزرقاني ذلك عدل عما قاله وجعله شرطا في الاستلحاق التام، فقسم

ص: 311

الاستلحاق إلى تام وغير تام وهو أبعد مما لل تتائي؛ إذ الاستلحاق لا يتفاوت ونقض البيع أمر زائد عليه على أن ما ذكره من التفصيل بين الصورتين غير صحيح؛ إذ لا يجري على قول ابن القاسم ولا على قول أشهب، أما أشهب فلأنه يقول بلحوق نسبه مع بقائه رقا لمالكه أو مولى لمعتقه، ولم يفصل بين من تقدم له عليه أو على أمه ملك، وبين من لم يتقدم له ذلك وأيضا قول أشهب ليس في المدونة والمص عزا ما هنا لها بدليل قوله:"وفيها أيضا" لخ، وأما ابن القاسم فله في المدونة مواضع ثلاثة ليس هذا التفصيل واحدا منها، قال في الموضع الأول فيمن استلحق صبيا في ملك غيره إنه لا يلحق به إذا كذبه الحائز له ولم يفصل، وقال في الموضع الثاني: من باع صبيا ثم استلحقه إنه يلحق به وينقض البيع والعتق، وقال في الموضع الثالث فيمن ابتاع أمة فولدت عنده فاستلحقه البائع: إنه يلحق به وينقض البيع إن لم يقع عتق وإلا مضى العتق والولاء للمبتاع. والمواضع الثلاثة في المص ونقل بعضها المواق والحطاب، والتفصيل المذكور لا يجري على واحد منها.

فإن قيل: هل يصح بناء على ما للعوفي وأبي الحسن من الجمع بين الموضعين الأولين؟ قلنا: لا يصح لأن الموضع الثاني فيه نقض البيع والعتق لا اللحوق فقط، والموضع الثالث فيه التفصيل بين وقوع البيع دون عتق فينقض ومع العتق لا ينقض، ولذا قال الحطاب: الصواب حذف قوله "لكنه يلحق به" ليكون جاريا إلى آخره. انتهى كلام البناني.

وفيها أيضا يصدق وإن أعتقه مشتريه قد تقدم أنه قال: "ولم يكن رقا لمكذبه أو مولى"فمفهومه أنه إذا كان رقا لمكذبه أو مولى له لا يصح استلحاقه فلم يصدق المستلحق في دعواه، وذكر هنا ما يخالف ذلك بحسب ظاهره وهو أن المستلحق يصدق في الذي استلحقه وقد كذبه مشتريه وأعتقه، قال الحطاب: قال في المدونة بعد نصها المتقدم في المسألة الأولى: قيل لابن القاسم في باب آخر: أرأيت من باع صبيا ولد عنده فأعتقه المبتاع ثم استلحقه البائع أيقبل دعواه وينقض البيع فيه والعتق؟ قال: إن لم يتبين كذب البائع فالقول قوله، قال ابن يونس: قال سحنون: هذه المسألة أعدل قوله في هذا الأصل. انتهى. فظاهر هذا أنه مخالف لنصها المتقدم، وكلام المص يقتضي أنه حمله على الخلاف وهو المفهوم من كلام ابن عرفة، وفرق أبو الحسن بينهما بأن الأولى لم يدخل العبد في

ص: 312

ملكه. انتهى. وقال عبد الباقي: وفيها أيضا في موضع آخر يصدق المستلحق بالكسر وإن أعتقه مشتريه.

إن لم يستدل على كذبه بما مر في قوله: "إن لم يكذبه العقل" وأعاد قوله: "إن لم يستدل على كذبه" لخ مع علمه مما مر لأنه عزا للمدونة وفيها القيد المذكور، قاله أحمد. ووفق أبو الحسن والعوفي بين الموضعين، فحمل الأول الشار له بقوله:"ولم يكن رقا لمكذبه" لخ على من لم يتقدم للمستلحق عليه ولا على أمه ملك، والثاني المشار له هنا بقوله:"وفيها أيضا" على من تقدم له عليه أو على أمه ملك فينتقض البيع والعتق ويرد الثمن للمشتري. انتهى. وقال البناني: وقد حصل الحطاب هنا مذهب ابن القاسم ونصه: فتحصل أنه إذا استلحق من هو في ملك غيره أو ولائه هل يصدق ويلحق به أو لا؟ قولان: وعلى تصديقه وهو الظاهر فإن كان المستلحق لم يدخل في ملكه فإنه يبقى في ملك مالكه، وإن كان هو البائع له فإنه يلحق به وينقض البيع إن كان المشتري لم يعتقه، وإن أعتقه المشتري فهل ينقض البيع والعتق أو لا؟ قولان، ويظهر من كلام ابن رشد ترجيح القول بنقض البيع والعتق. انتهى باختصار. وظاهر سياقه كما قاله بعضهم أن مورد هذا التقسيم هو صورة التكذيب. والله أعلم. انتهى.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: هنا ثلاث مسائل: الأولى مفهوم قوله: "ولم يكن رقا لمكذبه أو مولى" وهو أنه إذا كان رقا لمكذبه أو مولى له لا يلحق به الثالث قوله: "لكنه يلحق به"، قال الحطاب: وهو متدافع مع ما قبله فالصواب إسقاطه ليكون ماشيا على قول ابن القاسم، أو إسقاط ما قبله أعني قوله:"ولم يكن رقا لمكذبه أو مولى" ليكون ماشيا على قول أشهب وقد مر تقرير قوله: "لكنه يلحق" بما يكون "به" ماشيا على الصواب وهو تقريران: أحدهما لي، والآخر للطخيخي إلا أنه خلاف ظاهر المص. المسألة الثالثة قوله:"وفيها أيضا يصدق وإن أعتقه مشتريه" لخ، والظاهر عندهم أنها مخالفة للأولى، ووفق أبو الحسن والعوفي بينهما بما مر، وقد علمت أن الظاهر الراجح أنه يصح الاستلحاق وإن لم يصدقه من هو في ملكه أو ولائه.

وإن كبر مبالغة في قوله: "إنما يستلحق الأب مجهول النسب" وهو بكسر الباء يعني أنه يصح استلحاق مجهول النسب، وإن كان المستلحق كبيرا صدق المستلحق بالكسر أم لا، وهذه طريقة ابن

ص: 313

رشد وابن شأس وهي إحدى طرق ثلاثة، الثانية لابن خروف والحوفي اشتراط تصديقه، الثالثة لابن يونس يشترط فيمن جهل حوز مستلحقه أمه لا في غيره. انظر ابن غازي. قاله البناني.

أو مات يعني أنه يصح الاستلحاق وإن كان المستلحق قد مات بأن استلحقه بعد الموت، ورد المص بالمبالغة قول الكافي: يشترط تصديق الولد الكبير، قال: فلو استلحق ولدا كبيرا بعد موته لم يلحق به إلا ببينة؛ لأن استلحاقه يفتقر إلى تصديقه والتصديق قد عدم بموته بخلاف الصغير، فإنه إذا استلحقه بعد موته يلحق به ويرثه.

ورثه إن ورثه ابن يعني أن المستلحق بعد الموت بالكسر يرث المستلحق بالفتح بشرط أن يكون المستلحق بالفتح قد ورثه ابن، صوابه إن كان له أي للمستلحق بالفتح ولدٌ كان وارثا أم لا، كمن قام به مانع من رق أو كفر، ومثل ما إذا كان للمستلحق بالفتح ولد ما إذا قل المال، ومفهوم قوله: إن ورثه ابن" بأن كان له ولد أنه إن لم يكن له ولد ولم يقل المال فإنه لا يرثه وأما النسب فلاحِقٌ، قال عبد الباقي: وهذا تكرار مع قوله في اللعان: "وورث المستلحق الميت إن كان له ولد حر مسلم أو لم يكن وقل المال" لكن تقييده في اللعان بحر مسلم ضعيف كما في ابن غازي هناك والحطاب هنا، ولا يفرق بأن ما هنا استلحاق لمن لم يلاعن فيه وما تقدم استلحاق لمن لُوعِن فيه لأنه لا فرق بينهما من حيث الحكم المذكور على المعتمد، وبهذا يعلم أن قول أحمد: لما عبر المص هنا بالإرث استغنى عن ذكر الحرية والإسلام، ولما عبر في اللعان بقوله: "إن كان له ولد" احتاج إلى ذكر الحرية والإسلام مشي على ظاهره، وقد علمت أن المذهب خلافه ثم الشرط في كلامه هنا إنما هو إذا استلحق ميتا كما قررنا، فإن استلحق حيا ورثه وإن لم يكن للمستلحق بالفتح ولد، واستظهر ابن عبد السلام أن الاستلحاق في المرض كما بعد الموت، وظاهر كلام المص أن هذا الشرط إنما هو في إرثه منه، وأما النسب فلاحق وهو كذلك. انتهى كلام عبد الباقي.

ونحوه للخرشي وغيره. وعلم مما قررت أنه لا فرق في الولد بين كونه ذكرا وكونه أنثى وكونه وارثا وغير وارث. والله تعالى أعلم. ونص المدونة: ومن نفى ولدا بلعان ثم ادعاه بعد أن مات الولد عن مال، فإن كان لولده ولد ضرب الحد ولحق به، وإن لم يترك ولدا لم يقبل قوله لأنه يتهم في

ص: 314

ميراثه ويحد ولا يرثه. انتهى. قال أبو الحسن: قال فضل بن مسلمة: إلا أن يكون المال يسيرا، قال غيره: أو يكون ولده عبدا وهذا إنما هو في الميراث وأما النسب فلاحق. انتهى. قاله الحطاب. أو باعه يعني أنه إذا استلحق شخصا بعد ما باعد فإنه يصح استلحاقه له، ونقض يعني أنه إذا قلنا بتصديق المستلحق حيث باع ولده فإنه ينقض البيع سواء كذبه الحائز لرقه أو صدقه، وقد علمت أن ابن القاسم يوجب مع لحوقه نقض البيع إذا لم يعتقه المبتاع، فإن أعتقه ففي نقض العتق قولان له، فقول المص: ونقض أي سواء صدقه المشتري أو كذبه هو الصواب. قاله البناني. وقوله: "ونقض" أي البيع فيرد الثمن على المشتري.

ورجع بنفقته يعني أنه ينقض البيع ويرد الثمن للمشتري كما عرفت، ويرجع أيضا بما أنفق عليه فيكون للمشتري الثمن والنفقة، وصل رجوع المشتري بالنفقة إن لم تكن توجد له أي لهذا المستلحق بالفتح خدمة، وأما إن كانت له خدمة فإنه لا يرجع بالنفقة، وفي المسألة ثلاثة أقوال: قيل يرجع مطلقا وقيل لا يرجع مطلقا وقيل بالتفصيل الذي مر عليه المصنف، قال ابن يونس: هو أعدل الأقوال لأنه اشتراه للخدمة والنفقة عليه فقد حصل له غرضه فلا تباعة له، وذكر مثل ذلك عن سحنون.

وإلى تصويب ابن يونس أشار المص بقوله على الأرجح، قال الشارح: قال ابن يونس: اختلف فقهاؤنا القرويون هل يرجع المشتري على البائع بنفقة الولد إلى يوم استحقاقه؟ فحكى لنا عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه يرجع عليه بالنفقة وهو كمن تعمد طرح ولده وأنفق عليه رجل فإنه يرجع عليه بالنفقة، فكذلك هذا أو أشد؛ لأن الذي طرح ولده متأول في طرحه لغرض يريده، والمستلحق لا تأول له، وقال غيره: لا يرجع بالنفقة إذ له غلته، وكما لو اشتراه فاستحق بحرية أنه لا يغرم أجر خدمته وتكون خدمته بنفقته، قيل فلو كان صغيرا لا خدمة فيه قال لا نفقة له، وإن كان صغيرا لأنه ممن يكون فيه الخدمة في المستقبل وليس كمن طرح ولده، وقال غيرهما: إن كان فيه خدمة وأقر المبتاع بخدمته أو ثبت أنه خدمه فلا نفقة له والنفقة بالخدمة، وإن كان صغيرا لا خدمة فيه رجع بالنفقة. ابن يونس: وهو أعدل الأقوال إلى آخر ما مر. والله تعالى أعلم.

ص: 315

وإن ادعى استيلادها بسابق فقولان فيها يعني أن من باع أمة ولا ولد معها ثم بعد أن باعها ادعى أنه استولدها بولد سابق على بيعها، فإنه اختلف في ذلك على قولين في المدونة: أحدهما أنه لا يرد بيعها مطلقا، والآخر يرد إن لم يتهم فيها بمحبة ونحوها مما يأتي، فإن اتهم فيها اتفق القولان على عدم الرد وهذه لا ولد معها كما قررنا، وإلا فهي ما بعدها والقولان جاريان فيما إذا باعها سيدها كما هو المتبادر وكما قررته به، سواء أعتقها المشتري على المعتمد وفيما إذا باعها ملتقطها كما يأتي عند قوله:"ومضى بيعه وإن قال ربه كنت أعتقته"، وسيأتي أن الراجح القول بالرد فكان ينبغي له هنا الاقتصار عليه. قاله عبد الباقي. فقوله:"بسابق" أي بولد سابق، وقوله:"فيها" أي في المدونة.

وإن باعها فولدت فاستلحقه لحق يعني أنه إذا باع أمة حاملا فولدت فاستلحق ذلك الولد بائع الأمة فإنه يلحق به، قال عبد الباقي: وإن باعها وهي حامل فولدت فاستلحقه ولم تكن ظاهرة الحمل يوم البيع ولم يستبرئها ولم يدّع الثاني أنه ولده لحق، وهذه مستفادة من قوله:"وفيها أيضا يصدق" فإن كانت ظاهرة الحمل يوم البيع أو لم يستبرئها البائع وأتت به لدون ستة أشهر لحق به ولو لم يستلحقه، وإن ادعاه المشتري وأتت به لستة أشهر فالقافة، لقوله:"وإن وطئاها بطهر فالقافة". انتهى المراد منه.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: وهذا الذي قاله من قوله: "فإن كانت ظاهرة الحمل" لخ إنما يكون حيث ثبت على البائع الإقرار بوطئها قبل البيع، فالصواب إبقاء المص على ظاهره من كونه شاملا لظاهرة الحمل وغيرها. والله تعالى أعلم.

ولم يصدق فيها إن اتهم هذا تخصيص لمحل القولين المتقدمين في المدونة؛ يعني أن محل القولين المتقدمين في قوله: "وإن ادعى استيلادها بولد سابق فقولان فيها" إنما هو حيث لم يتهم بائع الأمة فيها، وأما إن أتهم فيها فإنه يتفق القولان على عدم الرد؛ أي فلا يصدق في أنه استولدها بولد سابق حيث اتهم فيها فلا يرد البيع باتفاق القولين في المدونة، ويرجع قوله:"ولم يصدق فيها إن اتهم أيضا" لقوله: "وإن باعها فولدت فاستلحقه لحق " فهو راجع للمسألتين قبله ت لكن رجوعه للثانية إثما هو بالنسبة لنقض البيع ورد الثمن؛ أي فإذا باعها فولدت فاستلحق ولدها لحق به

ص: 316

ويتقض البيع ويرد ثمنها للمشتري، وأما بالنسبة للولد فهو لاحق به مطلقا اتهم فيها أم لا كما يقوله المص. قال البناني عند قوله:"ولم يصدق فيها إن اتهم" ما نصه: هذا الكلام راجع للمسألتين قبله. انتهى.

بمحبة أو عدم ثمن أو وجاهة هذا بيان لما تحصل به التهمة؛ يعني أن الوجه الذي تحصل به التهمة هو أن يكون البائع محبا للأمة أو يكون معسرا بالثمن الذي قبضه من المشتري في الأمة، أو تكون الأمة ذات وجاهة أي حسن وجمال. ورد ثمنها يعني أنه إذا نقض بيع الأمة المذكورة، فإن البائع يرد الثمن للمشتري فإن لم ينقض البيع لم يرد الثمن للمشتري هذا هو الذي يفيده النقل، وكما لا يصدق فيها إن اتهم بمحبة أو عدم ثمن أو وجاهة لا يصدق فيها أيضا إن أعتقها المشتري، وإن لم يتهم البائع فيها لأن عتقها قد ثبت فلا ترد إلا ببينة. قال عبد الباقي. عند قوله:"ورد ثمنها" ما نصه: حيث ردت لبائعها لعدم اتهامه أو لم ترد إليه لعتقها أو فوتها لإقراره أنه ثمن أم ولد، وأما إن لم ترد إليه لاتهامه فإنه لا يرد ثمنها. انتهى.

ولحق به الولد مطلقا يعني أن الولد لاحق به مطلقا، اتهم فيها أم لا، أحدث فيه المشتري عتقا أم لا، قال عبد الباقي: وإذا أعتق المشتري الولد فقط فالولاء له ولا يرد مستلحقه بائع الأمة ثمنه إن كان يوم البيع حملا؛ لأنه لم يأخذ له حصة حتى يجب عليه ردها والمشتري أعتقه فلا حجة له، فإن لم يعتقه رد ما يخصه، وكذا إن كان مولودا وبيع معها فيرد حصته من الثمن لأنه ثمن ولده ولو أعتقه المشتري. قاله ابن يونس. انتهى. وقال المواق من المدونة: من ابتاع أمة فولدت عنده لما تلحق فيه الأنساب ولم يدعه فادعاه البائع، فإنه يلحق به ويرد البيع وتعود هي أم ولد إن لم يتهم فيها، قال ابن القاسم: إن اتهم فيها وهو ملي لم يرد إليه إلا الولد بحصته، ولا ترد هي حتى يسلم من خصلتين من العدم والصبابة فيها. قال ابن القاسم: ولو كان المستلحق عديما لحق به واتبع بقيمته، وإن لم يتهم فيها بصبابة ولا بما صلحت في بدنها أو فرهت وهو ملي، فلترد إليه ويرد الثمن ولا قيمة عليه في الولد، وإن كان غير متهم وهو عديم لحق به واتبع بقيمته يوم أقر به يريد على الحصة ولا ترد الأمة. انتهى من ابن يونس.

ص: 317

وإن اشترى مستلحقه والملك لغيره عتق يعني أنه إذا استلحق عبدا وكذبه الحائز لرقه ثم اشتراه بعد ذلك فإنه يعتق عليه لإقراره بأنه ولده، ولو قال المص: لحق وعتق كما جمع بينهما في المدونة لكان أظهر في إفادة المراد. انظر الحطاب. قاله البناني: وقوله: "وإن اشترى مستلحقه" لخ اعلم أن الصواب حمل المص على ما يعم الناشئ عن نكاح وعن ملك ولا وجه لتخصيصه بأحدهما، ولو عبر المص بلحق كان أولى لأنه يلزم من لحوق نسبه به عتقه عليه إذا ملكه كما هو واضح. قاله البناني. وقال عبد الباقي: فإن اشترى الأم بعد ذلك كانت به أم ولد إن كان عن ملك لا عن نكاح، فإن أعتقهم سيدهم قبل أن يبتاعهم المستلحق لم يثبت توارثهم إلا ببينة. انتهى بحذف.

كشاهد ردت شهادته تشبيه في قوله: "عتق" يعني أنه إذا شهد شاهد بعتق عبد فردت شهادته بعتق ذلك العبد لفسقه أي الشاهد أو انفراده أو نحو ذلك، كسفهه ثم ملكه بعد ذلك بشراء أو غيره، فإنه يعتق عليه لإقراره بحريته وولاؤه للمشهود عليه عند ابن القاسم في المدونة، وللشاهد عند أشهب والمغيرة ثم عتقه عليه بالقضاء. انتهى. فإن ردت شهادته لصباه ثم اشتراه بعد بلوغه فينبغي أن ينظر لحاله وقت الشراء، فإن كان رشيدا واعتقد حريته عتق عليه وإلا فلا.

وإن استلحق غير ولد لم يرثه إن كان وارث يعني أنه إذا استلحق شخص وارثا غير ولد ومعتق وزوجة معها ولد؛ أي أقر بأنه أخوه أو عمة أو ابن عمة مثلا فإن المستلحق بالفتح لا يرث المستلحق بالكسر إن كان للمستلحق بالكسر وارث من الأقارب أو الوالي حائز لجميع المال؛ لأنه يتهم على إخراج الإرث إلى غير من كان يرثه، قال عبد الباقي: وإطلاق الاستلحاق على غير الولد مجاز، وإنما المعنى لا يرث مقر به مقرا إن كان للمقر وارث يأخذ جميع المال، وفي بعض النسخ: إن يكن، قال البناني: هذه النسخة وإن صحت في المعنى إلا أن فيها بحثا من جهة الصناعة، وهو أن جواب الشرط لا يحذف والشرط مضارع كما هنا، بل شرط حذفه كون الشرط ماضيا، فنسخة ابن غازي إن كان وارث أصوب. انتهى.

وإلا أي وإن كان لا وارث له أو له وارث غير حائز لجميع المال، ففي إرث المقر به من المقر جميع المال في الأول والباقي في الثاني وعدم أخذه شيئا خلاف في التشهير القول بأنه يرث. قاله سحنون وأصبغ. وشهره الباجي فإنه قال: الذي عليه مالك وجمهور أصحابنا قبول إقراره ويرثه المقر به ولا

ص: 318

يثبت نسبه بذلك. وقاله أصبغ وسحنون. والقول بأنه لا يرث قاله سحنون بعد أن قال الأول، وقاله أي القول بأنه لا يرث أشهب أيضا، وشهره ابن يونس فإنه أنكر نسبة الأول للمذهب إلا على قول شاذ لابن القاسم فالثاني عنده هو المذهب. قاله الشارح. وقال البناني عند قوله:"وإلا فخلاف" ما نصه: أي في الإرث وعدمه، وأما النسب فلا يثبت له بلا خلاف. انظر المواق. وهذا الخلاف سواء أقر في صحة أو مرض صرح به ابن شأس والحوفي، والمعتمدمن الخلاف الإرث، قال ابن عرفة: وبه العمل. انظر الحطاب. وذكر المواق عن أبي عمر وابن عرفة عن الباجي أنه قول مالك وجمهور أصحابه، وقال ابن رشد: إنه قول ابن القاسم في المدونة مع غيرها. انتهى.

وقال الرهوني مثل ما لابن رشد لابن عتاب كما في نوازل الإقرار من المعيار، ونصه: مذهب ابن القاسم أن من أقر أن فلانا ابن عمة لا يثبت نسبه بهذا وإنما له المال بعد التأني، فإن لم يأت له طالب أخذه المقر له مع يمينه حكى هذا عنه أحمد بن ميسر وهو مذهبه في المدونة. وفي المعيار عن ابن عتاب أن العمل جرى على قول ابن القاسم. والله أعلم بحقيقة الصواب. انتهى. وفيه أيضا عن أبي الفضل راشد ما نصه: العمل على قول أصبغ ومن قال بقوله من أصحاب مالك، وهو مذهب أهل العراق وهو الأرجح. انتهى. وفي ابن عرفة ما نصه: وعلى ثبوته ففي شرطه بيمين المقر له ثالثها: إن لم يبين المقر وجه اتصاله بالمقر له في حبل

(1)

معين لابن مالك مع ابن القطان، ونقل ابن سهل عن بعضهم وعن ابن عتاب. انتهى.

تنبيهات: الأول: حملت المص على غير ظاهره تبعا لغيري لما قال الحطاب: ظاهر قوله "وارث" أنه إذا كان له وارث معروف لم يرثه المستلحق، وإن كان الوارث المعروف غير محيط بإرثه وليس كذلك بل الخلاف جار في ذلك أيضا، قال ابن عرفة: إقرار من يعرف له وارث محيط بإرثه ولو بولاء بوارث لغو اتفاقا، وإن لم يكن له وارث أو كان ولم يحط كذي بنت فقط، ففي إعمال إقراره قولان لابن القاسم في سماعه من الاستلحاق مع ابن رشد عن قوله فيها مع غيرها، وسحنون في نوازله والباجي عن مالك وجمهور أصحابه وأصبغ، وثانيهما مع أشهب. انتهى.

(1)

في الرهوني ج 6 ص 164: في جد معين لخ.

ص: 319

وعلم من هذا قوة القول بالإرث، وإن كان المتيطى جعله شاذا. ابن عرفة: والمعتبر في ثبوت الوارث وعدمه إنما هو يوم موت المقر لا يوم الإقرار. قاله أصبغ في نوازله. ولم يحك ابن رشد غيره. انتهى. يشير إلى قوله في نوازل أصبغ: فإن أقر بأن هذا الرجل وارثه وله ورثة معروفون فلم يمت المقر حتى مات ورثته المعروفون الذين كانوا يدفعون المقر له؛ أيجعل المال لهذا المقر له؟ قال: نعم لأنه ليس هناك وارث معروف يدفعه، فكأنه إنما أقر له الساعة ولا وارث له. انتهى. قوله: ولو بولاء يأتي تحقيقه إن شاء الله عند قول المص: "وخصه المختار بما إذا لم يطل الإقرار" في التنبيه الثالث.

الثاني: قال الحطاب: إذا بين المقر وجه نسبة المقر له إليه، كقوله: هذا أخي شقيقي أو لأب أو لأم فواضح، وإن أجمل قال ابن عرفة: ففي ذلك اضطراب، قال ابن رشد: والذي أقول به في هذه المسألة على مذهب ابن القاسم؛ إذا قال فلان وارثي ولم يفسر حتى مات أنَ له جميع الميراث إن كان المقر ممن يظن به أنه لا يخفى عليه من يرثه عمن لا يرثه، وأما الجاهل الذي لا يعلم من يرثه ممن لا يرثه فلا يرثه بقوله فلان وارثي، حتى يقول ابن عمي أو ابن ابن عمي أو مولاي أعتقني أو أعتق أبي أو أعتق من أعتقني أو ما أشبه ذلك، وكذا إن قال فلان أخي قاصدا للإشهاد له بالميراث، كقوله: أشهدكم أن هذا أخي يرثني، أو يقال له هل لك وارث؟ فيقول نعم هذا أخي وشبه ذلك، وأما إن قال على غير سبب هذا أخي أو فلان أخي ولم يزد على ذلك فلا يرث من ماله إلا السدس لاحتمال أن يكون أخا لأم، ولو لم يقل فلان أخي أو هذا أخي وإنما سمعوه يقول يا أخي لم يجب له بذلك ميراث؛ لأن الرجل قد يقول أخي لمن لا قرابة بينه وبينه إلا أن تطول المدة السنين، وكل واحد يدعو صاحبه باسم الأخوة والعمومة فإنهما يتوارثان. انتهى.

الثالث: قال الحطاب: فإن مات المقر له في حياة المقر ثم مات المقر وقام أولاد المقر له بهذا الإقرار لم يجب لهم به ميراث المقر؛ إذ لم يقر إلا للميت إلا أن يشهد أنه إن لم يكن باقيا في حين موته فولده المذكور بنو ابن عمة وورثته المحيطون بميراثه. قاله في المتيطية. والله أعلم.

الرابع: إذا أقر بزوجة لها ولد أقر به فإقراره بالولد يرفع التهمة في الزوجة فترثه، وإن لم تثبت الزوجية ولا عرفت. وبالله التوفيق. نقله الحطاب.

ص: 320

الخامس: قال الحطاب: فإن أقر هذا المشهد لآخر أنه وارثه ولا وارث له غيره نفذ إقراره الأول وبطل إقراره الثاني. قاله في المتيطية. انتهى.

قوله: نفذ إقراره الأول وبطل الثاني هذا إذا كان الذي أقر به أولا والذي أقر به آخرا لو ثبت تعصيبهما له بالبينة لكانا سواء في ميراثه، مثال ذلك أن يقول أولا فلان ابنُ عَمِّي ووارثي ثم يقول بعد ذلك فلان ابن عمي ووارثي فهاهنا يكون لإقراره الأول إعمال ولا شيء للثاني، وأما لو قال أولا ابن عمي ووارثي ثم يقول آخرا فلان أخي لأب أو شقيقي لكان الأخير أعمل. قاله الرهوني.

السادس: قال الحطاب: إذا لم يكن هناك وارث معروف ودفع للمستلحق على أحد المشهورين الميراث ثم جاء شخص وأثبت أنه وارث معروف فإنه يأخذ المال من المستلحق المذكور. قاله في الجواهر. والله أعلم. انتهى.

السابع: قال عبد الباقي. عند قوله "فخلاف" ما نصه: في إرث المقر به من المقر جميع المال في الأول؛ يعني حيث لم يكن وارث أصلا والباقي في الثاني يعني حيث كان له وارث لم يحط بالإرث وعدم أخذه شيئا، فمن قال: بالأول بناه على أن بيت المال ليس كالوارث المعروف، ومن قال بالثاني بناه على أنه كالوارث المعروف، والضمير المرفوع في قوله: لم يرثه راجع لقوله: غير ولد أي لم يرث المستلحق بالفتح المستلحق بالكسر إن كان للمستلحق بالكسر وارث يأخذ جميع المال ويصح رجوع ضمير لم يرثه الستتر للمستلحق بالكسر أي لم يرث المستلحق بالكسر المستلحق بالفتح إن كان للمستلحق بالفتح وارث يأخذ جميع المال وإلا فخلاف، وذلك لأن المستلحق بالكسر مستلحق بالفتح حيث صدقه الآخر، فيجري فيه التفصيل والخلاف فإن كذبه فلا إرث، ووقع التردد في سكوته هل هو كالتصديق فيرث كل الآخر بالشرط المذكور وهو إن كان لخ، أو يرث المستلحق بالفتح الآخر فقط على تفصيل المص.

وخصه المختار بما إذا لم يطل الإقرار. "المختار" هنا اسم فاعل أي الذي يختار الأقوال وهو الإمام اللخمي؛ يعني أن اللخمي خص الخلاف المذكور بما إذا لم يطل أمد الإقرار، قال: وأما إن طال إقراره بالقرابة أي بأنه أخوه أو عمة أو أبوه مثلا فإنه يرثه قولا واحدا، قال الخرشي: والطول يكون بمضي السنين على ذلك، وعلى ما ذكره اللخمي فيما إذا طال زمن الإقرار هل يتوارثان

ص: 321

كتوارث ثابت النسب بالبينة الشرعية أو يتوارثان توارث الإقرار، فيجري فيه التفصيل الذي ذكره المؤلف وتعليل الشارح وال تتائي يشعر بالأول. انتهى. وهذا الذي قال فيه قصور، فإن النقل عن اللخمي أنهما يتوارثان توارث الثابت النسب بالبينة، ففي تعليق أبي عبد الله السطي على الحوفي ما نصه: الإقرار بالأخ أو غيره من العصبة يقبل مع عدم تبين الكذب والتوافق من الفريقين ومرور السنين، ويكون كقيام البينة عند غير واحد من الأشياخ، ولا يلتفت إليه مع تبين الكذب في مال ولا نسب إلا على القول بصحة الوصية بكل المال لمن لا وارث له. قاله البناني.

وقال عبد الباقي: وخصه المختار بما إذا لم يطل الإقرار بالأبوة أو العمومة أو الأخوة، فإن طال من كل كما في المواق أو من جانب مع سكوت الآخر بناء على أنه كالتصديق على ما مر ومضى على ذلك السنون عمل به حيث لم تقم قرينة على عدم القرابة الموجبة للإرث، وإذا لم يبين جهة الأخوة أو العمومة جعل أخا لأم لأنه المحقق والزائد إرث بشك، كما لا إرث له في قوله هو وارثي حيث مات قبل تبيين جهة الإرث. قاله ابن رشد. وانظر إذا مات المقر به وله ولد هل يتنزل منزلته في مسألة المص بتمامها أم لا؟

قال أحمد ويستثنى من مسألة المص مقر بعتقه بالكسر فإنه كالإقرار بالبنوة، فيرث المقر به المقر من غير تفصيل لأنه إقرار على نفسه فقط بخلاف الإقرار بالأخوة إذ هو إقرار على الغير أيضا. انتهى. وقد قدمنا ذلك انتهى كلام عبد الباقي. قوله: جعل أخا لأم لأنه المحقق لخ أي إن كان إرثه بهذه الجهة أقل وإلا فالعكس، وقوله: كما لا إرث له في قوله: هو وارثي لخ هذا لم يقله ابن رشد على إطلاقه كما يوهمه، بل فصل فيه ونصه: والذي أقول به في هذه المسألة إلى آخر ما قدمته في صدر المسألة عن الحطاب، وقوله: وانظر إذا مات المقر به وله ولد لخ فيه قصور، فقد جزم المتيطى بأنه لا ينزل منزلة أبيه فلا يرث شيئا من المقر وإن لم يكن له وارث، إلا أن يشهد المقر بالكسر أنه إن لم يكن المقر له باقيا في حين موت المقر بالكسر فولده أي المقر له الذكور بنو ابن عمة وورثته المحيطون بميراثه. انظر الحطاب. والبناني.

وقال المواق: قال اللخمي: إن قال رجل لرجل هذا أخي فإذا لم يكن له نسب ثابت يرثه، فقيل المال لبيت المال وقيل المقر له أولى وهذا أحسن لأن له في لك شبهة، ولو كان الإقرار في الصحة

ص: 322

وطالت المدة وهما على ذلك يقول كل واحد منهما للآخر أخي أو يقول هذا عمي، ويقول الآخر ابن أخي ومرت على ذلك السنون ولا أحد يدعي بطلان ذلك لكان حوزا. انتهى.

تنبيهات: الأول: في نوازل الإقرار من المعيار ما نصه: سئل أصبغ بن محمد عمن أقر لوارث ثم يموت المقر فيقوم رجل فيثبت أنه أخو المقر له ويطلب الدخول معه فيما صار إليه من المقر له، وهي مسألة حسان وذلك أن حسان بن أحمد أشهد على نفسه أن محمد بن أصبغ هو ابن عمة وأحق الناس بوراثته، وكرر الإشهاد بذلك إلى أن توفي عن أخت شقيقة فقبض محمد بن أصبغ المقر له ما وجب له وكان في بعض ما قبضه وصار إليه أصول باعها، ثم أتى بعد ذلك رجل يسمى بحسان بن أصبغ فأثبت أنه أخ لمحمد يرث معه من يرث ويحجب معه من يحجب، وطلب أن يدخل مع أخيه المقر له فيما صار إليه من حسان بن أحمد، وذهب إلى الاستشفاع فيما باعه أخوه من ذلك، فأجاب لا دخول لحسان بن أصبغ في المال الذي صار إلى أخيه محمد بالإقرار الذي صدر من حسان المذكور، وأجاب القاضي أبو الوليد بن رنتد: ليس لحسان دخول مع أخيه محمد فيما ورثه من ابن عمة بالإقرار؛ لأن الإقرار لا يثبت النسب فلم يرثه على أن نسبه ثابت منه، وإنما ورثه على مذهب مالك رحمه الله بالإقرار، وتوريثه به ليس بقياس وإنما هو استحسان مراعاة لمن يرى من أهل العلم أن من لم يكن له وارث معروف أن له أن يوصي بجميع ماله لمن شاء، فلا سبيل إلى ما ذهب إليه من الدخول مع أخيه الذي أثبت أخوته منه فيما ورثه أو من الاستشفاع مما باعه، إلا أن يثبت مع ذلك أنه ابن عم المتوفى المقر وإن لم يثبت ذلك وأقر له المقر له محمد أنه ابن عم المقر دخل معه فيما بيده مما ورثه عنه وفي ثمن به باعه، ولم يكن له الأخذ بالشفعة لما يتعلق بذلك من حق المبتاع، وأما إن قال لا أدري إن كنت ابن عمه أم لا وإنما ورثته على ما أقر لي به من النسب وهو أعلم بذلك فلا دخول له في شيء مما ورثه عنه، وأجاب أبو الوليد هشام بن العواد: الظاهر والله أعلم من أقاويل أصحاب مالك رحمه الله أنه لا دخول لحسان معه في شيء من ذلك؟ لأنه إنما أقر له بالمال. انتهى. نقله الرهوني.

الثاني: إذا أقر لاثنين فمات أحدهما قبله، قال في المعيار: وقد نزلت بقرطبة أيام الشيوخ المتقدمين مسألة وهي أن رجلا أقر لأخوين أنهما وارثاه ابنا عمه، فمات أحدهما قبل المقر فأراد

ص: 323

الباقي من الأخوين المقر لهما أن يأخذ جميع المال، فأفتى فقهاء الوقت بأنه ليس له إلا نصف المال إذ لم يقر له بأكثر من ذلك، ونفذ القضاء بذلك. انتهى منه بلفظه. وذكر في المعيار نحو هذا قبل، وزاد ما نصه: وحكى هذا ابن سهل، ثم حكى عن ابن مالك وابن العطار أن جميع المال للباقي منهما. انتهى.

الثالث: قال الرهوني: قال ابن عرفة: قال ابن سهل: ولابن حبيب عن ابن الماجشون وأصبغ: من أقر في مرضه بأن فلانا أخوه وفلانا مولاه فميراثه لولاه دون أخيه، فغلبا الإقرار بالولاء على الإقرار بالنسب؛ لأن الإقرار بالولاء حق من الحقوق أقر به، والإقرار بالأخ استلحاق ولا يكون إلا في الولد فقط. انتهى. وخالف أصبغ في سماعه من كتاب الاستلحاق ما له في الواضحة، فقال فيه ما نصه: قيل لأصبغ ما تقول في الرجل يقر في صحته بأخ ثم يقر بعد زمان بولاء لرجل ثم يموت؟ وكيف إن كان أقر بالولاء قبل إقراره بالأخ، وكيف إن أقر بالأخ أولا ثم ثبت الولاء بعد ذلك ببينة؟ قال: أرى النسب أولى على كل حال، كان هو الأول أو الثاني، قال القاضي: قوله أري النسب أولى على كل حال لا يعود على قوله في السؤال: وكيف إن أقر بالأخ أولا ثم ثبت الولاء بعد ذلك ببينة؟ إذ لا اختلاف في أنه لا يجوز الإقرار بوارث إلا إذا لم يكن للميت وارث معروف بنسب ولا ولاء، وإنما يعود على الإقرار بالولاء وبالنسب فرأى النسب أولى على كل حال تقدم أو تأخر، ومعنى ذلك عندي إذا قال فلان مولاي ولم يقل أعتقني لأنه إذا قال أعتقني؛ ثبت له بذلك الولاء والميراث، فوجب أن يكون أولى من الإقرار بالنسب تقدم أو تأخر، وكذلك على قياس هذا لو قال فلان ابن عمي وفلان أخي لوجب أن يكون الأخ أولى بالميراث تقدم أو تأخر؛ لأن الإقرار بهذا بمنزلة إقامة البينة على هذا وهذا، ورأى ابن الماجشون الإقرار بالولاء أولى من الإقرار بالنسب من أجل أن الولاء يثبت بالإقرار ظاهره ولو لم يقل أعتقني. انتهى.

وقال سحنون: إن قال فلان مولاي أعتقني ثبت له الولاء والإرث كقيام البينة وقدم على الإقرار بالنسب ولو تأخر عنه أو كان في المرض، قال الرهوني: وثبوت الولاء بقول الشخص فلان أعتقني أمر مسلم مذكور في المدونة وغيرها، ففيها في كتاب الولاء ما نصه: ومن أقر أن فلانا أعتقه وفلان

ص: 324

يصدقه فإنه يستحق بذلك ولاءه وإن أكذبه قومه، إلا أن تقوم بينة بخلاف هذا فيؤخذ بها، وكذا إن أقر بذلك عند الموت فإنه يصدق ويرثه فلان إن لم تقم بينة بخلاف ذلك. انتهى منها بلفظها. وقوله: أكذبه الضمير للمقر، وقال ابن سحنون: الإقرار بالولاء ثابت جائز بإجماع العلماء، فمن أقر أن فلانا أعتقه وفلان يصدقه فإنه يستحق بذلك ولاءه، واختلف إذا كذبه فلان فقال ابن القاسم: لا يثبت له ولاء إلا أن تقوم بينة بخلاف ذلك فيؤخذ بها، قال الشيخ أبو الحسن: وهذا المعروف من المذهب، وقال أصبغ في كتاب ابن حبيب: يكون مولاه وإن أنكر ولم يأت ببينة. انتهى. والمراد بالشيخ أبي الحسن: اللخمي، ثم قال الرهوني: بل ظاهر كلامهم أنه يثبت وإن لم يقل مع ذلك أعتقني، وقد صرح بذلك في المدونة أيضا ففيها قبل ما قدمناه عنها ما نصه: قال أشهب: وكذلك لو أقر رجل أن فلانا مولاه ثم مات ولم يسئل أمولى عتاقة أم مخير عتاقة رأيته مولى ويرثه بالولاء. انتهى منها بلفظها.

قال أبو الحسن ما نصه: ظاهره أن إقراره يتعدى إلى غيره من ولده وابن القاسم يوافق على هذا يدل عليه ما يأتي في قوله: "ومن أقام بينة أن هذا الميت مولى فلان" لخ الشيخ: والنص فيمن أقر برجل أنه وارثه أنهما يتوارثان فيما بينهما ولا يتعداهما إلى أولادهما، فانظر ما الفرق بين النسب والولاء. انتهى. وأشار بقوله يدل عليه ما يأتي إلى قولها بعد هذا بقريب ما نصه: ومن أقام بينة أن هذا الميت مولاه لا يعلمون له وارثا غيره لم تتم الشهادة حتى يقولوا أعتقه أو أعتق أباه، أو يشهدوا على إقرار الميت أنه مولاه. انتهى منها بلفظها. وقد صرح ابن يونس بموافقة ابن القاسم لأشهب، ونصه: ومن المدونة قال أشهب: وكذلك لو أقر رجل أن فلانا مولاه ثم مات ولم يسئل أمولى عتاقة أو غيرها؟ رأيته مولاه ويرثه بالولاء وقاله ابن القاسم أيضا. انتهى منه بلفظه.

وتبين بهذا أن قول ابن الماجشون وأصبغ في الواضحة هو الصواب الموافق لصريح قول ابن القاسم وأشهب في المدونة الذي سلمه ابن يونس وأبو الحسن وغيرهما من الشيوخ، أما إذا صرح بقوله أعتقني فلا إشكال، وأما إذا اقتصر على قوله هو مولاي فلما رأيته من نص المدونة، وفي النهاية ما نصه: ويجوز أن يكون هذا الإقرار لولد الذي أعتقه وولد ولده، قال محمد بن أحمد بن العطار: ولا يختلف في النص أن ولده كان أعتقه أو جده. انتهى. وإن كان يمكن أن يفرق بينهما

ص: 325

في الشهادة لاحتمال أن يكون أراد بالولاء ولاء الحلف والنصرة أو الإسلام على يديه، وكيف يصح أن يحمل كلام أصبغ على ظاهره وهو يقول إن الولاء يثبت بالإقرار، ولو كذبه المقر له حسبما تقدم عنه: وإذا تأملت ما سبق من المنصوص ظهر لك ما في قول أبي الحسن، فانظر ما الفرق بين النسب والولاء؟ إذ الفرق بينهما واضح غاية. فتأمله والله سبحانه أعلم. انتهى.

الرابع: في جواب لأبي إبراهيم أنه لابد في الشهادة في النسب من بيان القعدد وهو خلاف ما في المتيطية وابن سلمون ووثائق الفشتالي وغيرهما من أن ذلك شرط كمال فقط، لكن لما ذكر البرزلي في نوازله وصاحب العيار ما للمتيطى قالا عقبه: والعمل اليوم في الوثائق لابد من ذكر الجد الذي يجتمعان فيه وإلا فلا تتم الوثيقة. انتهى من نوازل الإقرار من العيار. ومثله للبرزلي، وفيه أيضا ما نصه: ابن راشد: من شروط الميراث معرفة القعدد هكذا سمعته من شيخي شهاب الدين القرافي، وأخبرني بعض قضاة الجماعة بحضرة ابن يونس أنه رآه منصوصا لابن بشير في كلام له على كتاب الغصب، ونحوه في جواب لشيخ الشيوخ أبي سعيد بن لب وهو: ولابد في شهادة الشهود أن يعلموا قعدده من الموروث بأن يعلموا أنه ابن عم بدرجة أو درجتين أو ثلاث أو أربع مع كونهم لا يعلمون أقرب إلى الميت منه وحينئد يستحق الميراث، وإلا فلا. انتهى.

وفي نوازل الشريف من جواب عبد والده سيدي أحمد بن علي وقد قال له السائل: وقع بيدي جواب لسيدي يحيى السراج بإسقاط العصبة إذا جهلت الأقعدية منهم باليت ما نصه: ما ذكرته عن شيخنا القدوة العالم العلامة مفتي الحضرة الإدريسية والمراكشية صحيح؛ إذ بذلك كان يفتي رحمه الله. وعلى مقتضى فتواه كان يقع العمل، ثم استدل لذلك بقول ابن رشد في سماع أصبغ: هذا مما لا اختلاف فيه فلو ثبت لرجل أنه من بني تميم أو من بني زهرة ولم يعرف من عصبة بأعيانهم بمعرفة قعددهم فإن ميراثه لجميع المسلمين ولم يكن لواحد منهم للجهل به. انتهى. وأجاب سيدي إبراهيم الجلالي بما نصه: أما البينة بأن فلانا ابن عم فلان فالذي كانت تجري به الأحكام في الحضرة الفاسية حيث كان الفقهاء بها والأشياخ بها أنه لا يعمل بها إلا بعد ملاقاة الجدود وإثبات القعدد. انتهى.

ص: 326

ثم ذكر نحو هذا عن سيدي أحمد البعل وأبي عبد الله النالي، ثم قال: وأجاب الفقيه ابن حماد اليلصوتي حسبما نقل جوابه سيدي الحسن بن عرضون في نوازله: إن كان الأمر كما ذكرتم من أن المتنازعين إذا لم يستظهر واحد منهم بما يقر به إليه فالذي تضافرت عليه نصوص الأئمة واستمرت به الفتوى من جميع الأمة أن المستحق لماله بيت مال المسلمين قلنا حائزا أو وارثا، وعلى هذا عول سيدي عبد القادر الفاسي في أجوبته، ونقل كلام ابن لب السابق ونظمه ولده أبو زيد في عملياته، فبان من هذا كله أن الواضح والمعمول به خلاف ما للمتيطى ومن وافقه إن حمل على الخلاف كما اقتضاه كلام البرزلي والمعيار وغيرهما، وفي نوازل الشريف أثناء جواب جد والده السابق ما هو كالصريح في أنه حمله على الخلاف، وأن محله إذا لم يكن له سوى ابن عم واحد قائلا ما نصه: وأما إن كانت المسألة تعدد فيها بنو العم فلا أظن أنه يقع اختلاف في أنه لابد من معرفة القعدد حسبما يظهر من كلام ابن رشد. انتهى.

لكن فهمه حفيده صاحب النوازل على التقييد وأن محل ما لابن سلمون ومن وافقه مقيد بما ذكر، فإنه قال فيها بعد ذلك ما نصه: قلت وجدت بخط والدي رحمه الله كان شيخنا سيدي محمد ميارة يقول لا يشترط ذلك إلا في منازعة الأقرباء فيما بينهم لا مع بيت المال، قلت وهو صريح ما تقدم في جواب جدنا وما نقله بعده من كلام الأئمة رضي الله عنهم. انتهى. وقال التاودي: والذي عندي أن بيان القعدد إنما هو شرط كمال إذا لم ينازع إلا بيت المال، فإن كان منازع فلابد من البيان هذا الذي كنا نقوله ووقعت به الفتوى قبل هذا الزمان، ولا التفات لما في العمليات. انتهى من خطه. وهذا بناء منه على أن قول العمليات:

لابد من معرفة القعدد في

إرث وإلا فبشك ينتفي

محله إذا لم يكن منازع إلا بيت المال، وهو خلاف ما فهمه عليه سيدي محمد بن قاسم في شرحه من حمله على ما إذا تعدد العصبة معترضا على القاضي العميري، ثم قال: اعلم أن اشتراط معرفة القعدد واضح مع تعدد العصبة بحيث يلتبس الأقرب إلى الميت منهم بغيره، أما إن لم يكن إلا عاصب واحد أو معه من لا يشك أنه أبعد منه كابن أخي العاصب ففي لزوم ذلك اختلاف، ففي

ص: 327

المتيطية أن الشهادة بدون ذكر ذلك تامة، وتبعه ابن سلمون وابن عرضون ونحوه في نوازل الشهادة من المعيار من جواب اللخمي، ومقابل هذا القول قول البرزلي: العمل اليوم على أنه لابد من ذكر الجد إلى آخر ما قدمناه عنه. انظر كلامه بلفظه فإني نقلته مختصرا. ولا يخفى عليك ما فيه: وأن اعتراضه على القاضي لا وجه له، فإن الذي يفيده كلام العميري في النسخ التي بأيدينا أنه فهم البيت على ما يشمل الصورتين معا؛ لأنه قال عقب البيت ما نصه: هذه المسألة خلافية الخ ما نقله الرهوني، ثم قال:

والحاصل أن الراجح من العمل في صورة التعدد هو ما في العمليات وفي صورة عدمه بالعكس كما أفاده ما قدمناه عن نوازل الشريف وعن التاودي، ووجهه ظاهر غاية لأن الإجماع منعقد على أن الأقعد من الإخوة والأعمام وبنيهم مقدم على غيره منهم، وأن العاصب مقدم على بيت المال سواء كان بين الميت والعاصب أب واحد أو ألف أب مثلا، فإذا تعدد العصبة وجهل الأقعد كان ميراثا بشك وهو منتف في مذهب مالك وأصحابه، وإذا لم يكن إلا واحد فلا شك وإنما أطلت لك في هذه المسألة لكثرة وقوعها مع كثرة الاضطراب فيها، وقد جمعت لك فيها ما لا أظن أنك تجده مجموعا هكذا عند أحد وحصلت لك ما هو الحق فيها ولله الحمد. انتهى.

وإن قال لأولاد أمته أحدهم ولدي عتق الأصغر وثلثا الأوسط وثلث الأكبر اللام في لأولاد بمعنى عن كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} قاله مقيده عفا الله تعالى عنه يعني أنه إذا قال عن أولاد أمته وهم ثلاثة أحدهم ولدي ومات ولم يبينه فإنه يعتق الأصغر كله؛ لأنه حر على كل تقدير لأنه يعتق عليه حيث كان هو الولد أو الأكبر هو الولد أو الأوسط هو المعتق لأنه ولد أم ولد في الأخيرتين أيضا، ويعتق أيضا ثلثا الأوسط لأنه يعتق على تقديرين وهما: تقدير كونه ولدا له أو الأكبر، ورقيق على تقدير واحد وهو كون الولد هو الأصغر، ويعتق أيضا ثلث الأكبر لأنه يعتق على تقدير واحد وهو كونه الولد، وعلى تقديرين رقيق وهو كون الولد الأوسطَ أو الأصغر ولا إرث لواحد منهم لعدم تحقق سببه من أصله لعدم تعيين من استلحق ولأن غير الأصغر بعضه رق والأصغر وإن لم يكن فيه رق لكنه مشكوك في ولديته وتعتق أمهم من رأس المال؛ لأن واحدا منهم ولدها من سيدها فتكون به أم ولد، والعتق الحاصل لكل ولد من رأس المال لأنه لكون بعضهم ولدا

ص: 328

وبعضهم ولد أم ولد. وقولي: ومات ولم يعينه مفهومه إن غاب انتظر وحكمهم حينئذ على الرق. قاله عبد الباقي.

قوله: ولا إرث لواحد منهم لخ، قال الرهوني: كذا قال سحنون في نوازله من كتاب الاستلحاق، وحكى عليه ابن رشد الاتفاق على ما حكاه عنه في التوضيح عن البيان، ونصه: قال ولا خلاف أنه لا إرث لأحدهم منه. انتهى منه بلفظه. وكذا نقله جسوس عنه وسلمه كما سلمه الناصر اللقاني في حاشيته بسكوته وهو مخالف لا في ابن عرفة والمواق والحطاب عن ابن رشد من ذكر الخلاف في إرثهم، وما لهؤلاء هو الصواب لأنه الذي في البيان في المحل المذكور، ونص كلام سحنون: ولا يثبت به نسب واحد من الولد ولا يرثه، قال القاضي: وقوله إنه لا يثبت نسبه صحيح لا اختلاف فيه؛ إذ لا يصح أن يحكم بثبوته لكل واحد منهم بشك، وأما قوله إنه لا يرثه واحد منهم ففيه نظر، والذي يوجبه النظر في ذلك عندي أن يكون حظه من الميراث بينهم على القول بأثهم يعتقون جميعا على ما قاله بعد هذا في المسألة التي ذكرناها وهو الصحيح؛ إذ قد صح الميراث لأحدهم ولا يدرى لمن هو منهم بل تداعوا فيه فادعاه كل واحد منهم قسم بعد أن يحلفوا جميعا وكذا إن نكلوا جميعا، فإن حلف بعضهم ونكل بعضهم عن اليمين كان الميراث للحالف منهم دون الناكل، وكذلك إن قالوا لا علم لنا كان الميراث بينهم بعد أن يحلف كل واحد منهم أنه لا يعلم من أراد الميت منهم على الاختلاف في لحوق يمين التهمة لأنها يمين تهمة، فإن أعتق بعضهم كان لمن أعتق حظه من الميراث ويوقف حظ من لم يعتق فإن أعتق أخذه، وإن مات قبل أن يعتق رد على الورثة. انتهى. ونقله ابن عرفة مختصرا وسلمه انتهى كلام الرهوني.

وقوله: "وإن قال لأولاد أمته" لخ ولابن عبد الحكم أنهم يعتقون كلهم، فالصغير على كل حال والآخران بالشك، وقياسا على الشاتين إحداهما ذكية والأخرى ميتة، وكالمرءتين إحداهما محرم. وإن افترقت أمهاتهم فواحد بالقرعة يعني أنه إذا قال السيد عن أولاد من إماء له شتى أحدهم ولدي فإنه يعتق واحد منهم بالقرعة، قال عبد الباقي: وإن افترقت أمهاتهم فواحد يعتق فقط بالقرعة ولا إرث له وأمه أم ولد فيما يظهر، وصفة القرعة أن تؤخذ أوراق بعددهم ويكتب في واحدة حر وفيما بقى رقيق، ثم تخلط الأوراق ثم تخرج واحدة فتعطى لشخص منهم، فإن ظهرت

ص: 329

أنها التي فيها حر فحر وأمه أم ولد ورق الباقي ولم يحتج لإخراج الأوراق الباقية، وإن ظهر بالخارجة أولا رقيق رق من دفعت له وأخرجت أخرى ودفعت لآخر حتى تخرج ورقة الحرية لمن دفعت له، ولا ينظر لقيمة أحدهم لأن الذي يخرج جميعه حرا إنما هو بقسمة القرعة في الولدية وأمه تابعة له، وليست هذه المسألة كقول مريض أحد عبيدي حر فإن فرضها في الحرية مع مراعاة الثلث، ولا يكون ذلك إلا بتعديل قيمتهم أجزاء متساوية كما في ال تتائي عن الكافي، وكذا كان يقرر على الأجهوري فما يوهمه شرحه من جريان ما للكافي في مسألة المص غير مراد. انتهى.

قوله: وليست هذه المسألة كقول مريض أحد عبيدي حر لخ فيه نظر، بل صرح سحنون وابن رشد أنها مثلها وأن الخلاف فيهما واحد. ابن عرفة: ابن رشد: وإن كانوا مفترقين فهو كقوله أحد عبيدي حر ومات قبل تعيينه في عتق أحدهم بالقرعة أو من كل منهم الجزء المسمى لعددهم، إن كانوا ثلاثة فالثلث وأربعة فالربع، ثالثها: للورثة تعيين أحدهم للعتق، ورابعها: يعتق منهم الجزء المسمى لعددهم بالقرعة الثلاثة الأول لابن القاسم والرابع لمالك. انتهى.

وفي المواق: قال سحنون: من له ثلاثة أعبد ليسوا بإخوة لأم، فقال في مرضه: أحدهم ابني ومات فقال الرواة: إنه كقوله أحد عبيدي حر. انتهى. وقوله: ولا يكون ذلك إلا بتعديل في قيمتهم لخ غير صحيح؛ لأن المال قد لا يكون محصورا فيهم، وأيضا من يقول يعتق واحد بالقرعة يراعي قيمته في الثلث بعد تعيينه بالقرعة، فإن زادت على الثلث عتق منه مبلغ الثلث فقط هذا إن قاله في المرض، فإن كان في الصحة لم يراع ثلث ولا قيمة وهو ظاهر، وقوله كما في ال تتائي عن الكافي لخ ما للكافي هو رابع الأقوال المتقدمة وهو قول مالك يعتق منهم الجزء المسمى لعددهم بالقرعة، وصفة القرعة عليه فيما إذا كانوا ثلاثة أن ينظر لقيمتهم وتجعل ثلاثة أجزاء، فإذا كانت قيمة أحدهم عشرين مثلا والثاني ثلاثين والثالث أربعين فإنه يجعل من قيمته عشرون مع ربع من قيمته أربعون جزءا واحدا وثلاثة أرباع من قيمته أربعون، فإذا خرجت رقعة الحرية على من قيمته عشرون عتق مع ربع من قيمته أربعون، وإذا خرجت على من قيمته أربعون عتق منه ثلاثة أرباع كذا بينه علي الأجهوري، وشرح به كلام المص وتبعه الخرشي في الكبير، قال مصطفى:

ص: 330

وفي جعلهم هذا تقريرا للقول الذي ذهب إليه المص سهو لقوله: "واحد بالقرعة" قاله البناني. ويأتي ما في هذه التجزئة إن شاء الله تعالى. وقال الرهوني: انظر لم اقتصر المص على أحد أقوال ابن القاسم وعدل عن قول مالك مع أن الذي يظهر من المنقول أن قول مالك هو الراجح ويليه قول ابن القاسم الثاني في كلام البناني هنا، ثم قال بعد كلام:

قال القاضي: ويتحصل في ذلك أقوال: أحدها أن يقرع بينهم فمن خرج السهم عليه منهم عتق. الثاني أن العتق يجري فيهم فيعتق ثلث كل واحد منهم إن كانوا ثلاثة وربعه إن كانوا أربعة، وكذا الحكم فيهم إن كانوا أقل من ذلك أو أكثر وهذا هو القياس. الثالث أن الورثة ينزلون فيهم منزلة الميت فيعتقون منهم أيهم شاءوا. الرابع أنه يعتق ثلثهم بالسهم إن كانوا ثلاثة وربعهم إن كانوا أربعة، وكذا الحكم فيهم إن كانوا أقل من ذلك أو أكثر. الخامس أن الورثة يخيرون، فإن اختلفوا عتق واحد منهم بالقرعة. السادس أن الورثة يخيرون فإن اختلفوا جرى العتق في عددهم، فالثلاثة الأول كلها لابن القاسم والرابع لمالك والخامس والسادس لسحنون وكلها في كتاب العتق من العتبية، ويخرج في المسألة قول سابع أنهم يعتقون كلهم من أجل الشك إذ لا يسوغ للورثة تملك واحد منهم لاحتمال أن يكون هو الذي أراد الميت، ويؤيد هذا القول ما روي أن عبد الله بن عمر قال: يفرق بالشك، ولا يجمع بالشك ويتخرج في المسألة قول ثامن وهو أن يوقف الورثة عن جميعهم إلا أن يموت واحد أو يعتقوه فلا يحكم عليهم في الباقين بعتق وإنما يؤمرون به ولا يجبرون عليه، وهذا عندي على قياس القول بأن الشك لا يؤثر في اليقين ولا يثبت به نسب واحد منهم ويكون الحكم في الميراث على ما تقدم. انتهى.

والمذهب في مسألة أحد عبيدي حر هو قول مالك لأنه في المدونة من رواية ابن القاسم ونسبه في الموازية لمالك وأصحابه، [والمسألة]

(1)

في كتاب العتق الأول من المدونة وفي كتاب الوصايا الأول، وقد أشبع الكلام عليها أبو الفضل في تنبيهاته في كتاب العتق، واقتصر أبو سعيد وابن يونس على ما عزاه للأكثر واختاره، ولنسق كلام ابن يونس بما فيه من الزيادة عن غير المدونة، فإنه قال في باب العتق بالسهم لخ من كتاب العتق الأول ما نصه: وإن قال في مرضه: عشرة من رقيقي

(1)

في الأصل: وفي المسألة، والمثبت من الرهوني ج 9 ص 173.

ص: 331

أحرار وهم ستون عتق سدسهم أخرج السهم أكثر من عشرة أو أقل ولو هلك عبيدة إلا عشرة لعتقوا إن حملهم الثلث وإن كثرت قيمتهم، وإن لم يحملهم الثلث عتق منهم مبلغة بالقرعة ورق ما بقي، وإن بقي منهم أحد عشر عتق منهم عشرة أجزاء من أحد عشر جزءا بالسهم إن حمل ذلك الثلث، وإن بقي منهم عشرون عتق نصفهم بالقرعة في الثلث، وإن بقي ثلاثون عتق ثلثهم يجعل أبدا ما مات كأنه لم يكن وتنسب ما سمى لما بقي وهذا كله قول مالك.

والقرعة بين العبيد إنما هي على قيمهم ولو سمى جزءا فقال سدسهم لم يعتق إلا سدس من بقي منهم بالسهم ولو بقي واحد لعتق سدسه، وقال ابن حبيب عن ابن الماجشون: سواء سمى جزءا أو عددا فإنما يعتق ممن بقي جزء ما كان يعتق من الجميع، مثل أن يوصي بعتق خمسة وهم ثلاثون فيهلكون إلا خمسة فإنما يعتق سدس الخمسة. وقاله ابن كنانة. ومن المدونة: ولو قال رأس من عبيدي ولم يعينه فبالسهم يعتق منهم إن كانوا خمسة يوم يقومون عتق خمسهم أو ستة فسدسهم أخرج ذلك أقل من واحد أو أكثر. ابن المواز: قال أشهب: ولو قال يعتق من كل رأس سدسه لجاز، وأحب إلي أن يعتق سدس قيمتهم خرج لذلك رأس أو بعض رأس. محمد: وهو قول مالك وأصحابه، وروى مطرف عن مالك فيمن قال عند موته رأس من رقيقي أو أحد عبيدي حر وهم ثلاثة فأقرع بينهم فخرج أحدهم وهو أكثر من ثلث قيمتهم فإنه يعتق كله إن حمله الثلث وأخذ به مطرف وقال وهو قول ابن أبي حازم وأصحابُ مالك كلهم على خلاف ذلك. انتهى. وهو صريح في أن مذهب مالك في المدونة والموازية والواضحة وقول جميع أصحابه ابنِ القاسم وغيرِه هو ما ذكرناه وقد سلمه، فكيف يجمل بالص العدول عنه إلى ما درج إليه من أحد أقوال ابن القاسم مع أنه في غير المدونة؟ ويترك قوله فيها وقول مالك فيها وفي غيرها وقول جميع أصحابه، وكيف يجمل بحواشيه وشروحه السكوت عنه؟ وكلام ال تتائي يدل على أنه حمل كلام المص على قول مالك، ونصه: فواحد منهم حر بالقرعة، قال في العتبية: كقوله أحد عبيدي حر، قال في الكافي: يعدلون بالقيمة ويجزءون ثلاثة أجزاء معتدلة القيمة، وتبعه علي الأجهوري موضحا له بالمثال، فقال ما نصه: فإن كانت قيمة أحدهم عشرين مثلا والثاني ثلاثين والثالث أربعين فإنه يجعل من قيمته عشرون مع ربع من قيمته أربعون جزءا وثلاثة أرباع من قيمته

ص: 332

أربعون جزءا آخر ومن قيمته ثلاثون جزء آخر، ويكتب ثلاث رقاع في واحدة منها حر وفي الاثنتين رقيق ثم تجعل الأوراق في كيس أو نحوه ثم يقال لآخر أخرج واحدة لجزء بعينه، فإذا خرجت فيه الحرية فإنه يعتق من خرجت عليه ويرق من عداه، فإذا خرجت على من قيمته عشرون عتق مع ربع من قيمته أربعون، وإذا خرجت على من قيمته أربعون أعتق منه ثلاثة أرباعه وهكذا. انتهى. ونقله مصطفى وقال عقبه ما نصه: وتوبع على ذلك، وفي جعلهم هذا تقريرا للقول الذي درج عليه المص سهو لقوله:"واحد بالقرعة" وإنما يأتي هذا على غيره. انتهى.

قال الرهوني: في جزمه بأنه سهو نظر بل فهموه على ذلك ليسقط الاعتراض عن المص في عدوله عن القول المشهور إلى أحد أقوال ابن القاسم من غير موجب، ولو عدل إلى قوله إنه يعتق من كل واحد منهم الجزء المسمى لعددهم إن كانوا ثلاثة فالثلث لخ لكان له وجه لوافقته فيه للمغيرة، وقول ابن رشد فيه إنه القياس مع أن هذا لا يقبله لفظه بحال فتعين حمله على قول مالك وأصحابه الذين منهم ابن القاسم، فقوله: واحد أي إن استوت قيمتهم أو أخرج سهم الحرية فيمن وافقت قيمته ثلث قيمتهم وإلا فواحد وزيادة أو بعض واحد يسهل هذا موافقته لقول ابن القاسم وروايته في المدونة، وقول غيره من أصحاب مالك فتأمله بإنصاف. انتهى.

تنبيهان: الأول: كلام الأجهوري صريح في أنه إذا خرج سهم الحرية في ذي العشرين تعين التكميل بربع ذي الأربعين وقد سلمه مصطفى وغيره، وهو غير مسلم لمخالفته لما في المدونة وغيرها، ففي كتاب العتق الأول ما نصه: وإذا انقسم العبيد على الجزء الذي يعتق منهم جزئتهم بالقيمة وأسهمت بينهم فأعتقت ما أخرجه السهم، وان لم ينقسموا على الأجزاء علمت قيعة كل واحد وكتبت اسمه في بطاقة وأسهمت بينهم، فمن خرج منهم اسمه نظرت، فإن كانت قيمته مبلغ الجزء الذي يعتق منهم عتق وإن زادت قيمته عتق مبلغة فقط، وإن نقص عنه عتق وأعدت السهم لتمام ما بقي من جزء الوصية فإما أن يقع لذلك عبد أو بعض عبد. انتهى منها، ومثله لابن يونس عنها وزاد نسبته لابن حبيب أيضا، ففهم منه أنه إذا وقع السهم في فرض الأجهوري على ذي العشرين أعيد السهم مرة أخرى، فإن خرج سهم الحرية على ذي الثلاثين عتق ثلثه،

ص: 333

وإن خرج على ذي الأربعين عتق منه ربعه، وفهم منه أيضا أنه لا يجعل ذو العشرين مع ربع ذيَ الأربعين أولا جزءا خلافا للأجهوري فيهما ولظاهر ما في ال تتائي عن الكافي، وإن سلمه ابن عاشر ومصطفى وغيرهما فتأمله بإنصاف.

الثاني: ظاهر قول الأجهوري: وإن خرجت على من قيمته أربعون عتق منه ثلاثة أرباعه أنه لا يكمل الربع الثالث بالسراية، وتقدم في نقل ابن يونس عن ابن حبيب أن ذلك هو الذي عليه أصحاب مالك خلافا لمطرف، وروايته عن مالك وابن أبي حازم وما نسبه لأصحاب مالك هو الذي يفيده كلام المدونة السابق لقولها عتق مبلغة فقط، وصرح بذلك في الأمهات كما في التنبيهات عنها، ونصها: وإن خرج سهمه كفاء الجزء الذي سمى عتق وحده ورقوا جميعا، وإن كان أكثر عتق منه مبلغ ما سمى ورق ما زاد ورق جميعهم. انتهى. والظاهر أن هذا بعينه يجري فيما إذا عتق ذو العشرين وجزءا (1) من غيره إن سكتوا عنه. والله أعلم. قال جميعه الرهوني.

وإذا ولدت زوجة رجل وأمة آخر واختلطا عينته القافة يعني أنه إذا ولدت زوجة رجل وولدت أمة رجل آخر واختلط الولدان فقال كل لا أدري ولدي من هذين، أو تداعيا واحدا ونفيا الآخر فإنه تدعى القافة جمع قائف وهو الذي يعرف الناس بالشبه، فمن ألحقته القافة بأب لحق به وسواء كان ولد الأمة من سيدها أو من غيره من نكاح أو غيره.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: والضمير في اختلطا للولدين المفهومين من ولدت لخ، والضمير في عينته للولد أي عينت القافة الولد لمن هو له أي يعمل بقولها فيمن قالت إنه ابنه، فإن لم يختلفا في تعيينه بأن ادعى كل واحدا بعينه فله بلا قافة. واعلم أنه إذا قال كل لا أدري ولدي من هذين فليس لهما أن يصطلحا خلى أن يأخذ كل واحدا. قاله ابن رشد نقله عبد الباقي. وقال الخرشي: القافة جمع قائف كبائع وباعة وهو الذي يعرف الأنساب بالشبه وهو علم صحيح، تقول قفيت أثره إذا تبعته مثل قفوت أثره، فإذا ولدت زوجة رجل وأمةءاخر أو زوجته وأمته وأمة الشريكين يطئانها في طهر واحد فتلد ولدا يدعيانه، فإن القافة تدعى في جميع ذلك.

1 - في الرهوني ج 6 ص 175: وجزء من غيره وإن سكتوا لخ.

ص: 334

تنبيهات: الأول: قال في العمل المطلق: قال ابن هارون في اختصار النهاية: اختلف العلماء في القضاء بالقافة على ثلاثة مذاهب: أثبته الشافعي في الحرائر والإماء، ورواه ابن وهب عن مالك، ونفاه أبو حنيفة فيهما لأنه حكم بالحدس وقد يخطئ ويصيب، والمشهور عن مالك أنه يقضى به في الإماء دون الحرائر وبه القضاء. انتهى. أبو عمران: إنما خصت القافة بالإماء دون الزوجات لأن القافة إنما يحكم بها مع تساوي الفراش وهذا إنما يوجد في الإماء، ولا كذلك الزوجة فإنها لا تكون لاثنين في حال واحد ولا يصح فيها فراشان متساويان، وأيضا ولد الحرة لا ينتفي إلا بلعان. انتهى. ومرادهم بالحرائر الزوجة تتزوج في عدتها حرة كانت أو أمة، ومرادهم بالإماء الأمة الموطوءة لسيديها الشريكين أو المتبايعين لا كل أمة، فإن ولد الثانية تدعى له القافة وولد الأولى يلحق بزوجها الأول تزوجت قبل حيضة أو بعدها ووضعته لأقل من ستة أشهر من دخول الثاني، وإلا فيلحق بالثاني ولا تدعى له القافة هكذا ذكر المسألة في طلاق السنة من المدونة، وما عدا ما ذكر لا فرق فيه بين الحرائر والإماء، فتدخل القافة إذا كان لكل منهما زوج واختلط ولداهما حرتين كانتا أو أمتين أو مختلفتين، وكذا بين الأمتين من غير نكاح كل واحدة من سيدها وبين الحرة المتزوجة وذات السيد؛ إذ ليس في هذا كله مزية لأحد

(1)

الفراشين على الآخر. ذكر هذا الشيخ مصطفى وغيره. انتهى كلام صاحب العمل المطلق.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: تحصل من هذا أن القافة لا تدعى في صورة واحدة وهي ما إذا اتحدت المرأة والولد بأن تزوجت قبل انقضاء عدتها حرة كانت أو أمة، فإن تزوجت قبل حيضة فهي للأول وكذا بعدها إن أتت به لأقل من ستة أشهر من دخول الثاني وإلا لحق بالثاني ولا قافة: وما عدا هذه الصورة تستوي فيه الحرة والأمة.

والحاصل أن المسائل أربع: يفرق بين الإماء والحرائر أي الزوجات كن إماء أو حرائر في واحدة وهي ما إذا اتحد الولد وتعدد الأب فالحرائر لا تدعى لها القافة والأمة تدعى لها، والصور الباقية يستوي فيها الحرائر والإماء، وهي ما إذا تعدد الولد مع تعدد الأب والأم أو مع تعدد الأب فقط، وصورة ذلك ما إذا طلقت المرأة فولدت بقرب طلاقها فتزوجت بقرب ولادتها فولدت من الثاني

(1)

في الأصل: لإحدى، والمثبت من حاشية مصطفى على التتائي مخطوط.

ص: 335

وغاب المطلق والزوج الثاني، ثم قدما بعد كبر الولدين فاختلفا في تعيين كل ولده فإن القافة تدعى لهما، وبقي من هذه الصورة تفاصيل آتي بها قريبا إن شاء الله تعالى الصورة الثالثة من الصور التي تستوي فيها الحرائر والإماء وهي الصورة الرابعة أن تضع زوجته وأم ولده في ليلة ابنا وابنة مثلا وجهلت التي ولدت الابن وكلتاهما تدعيه، فنسبهما معا ثابت يرثانه ويرثهما، فالقافة تلحق الأبناء بالأمهات، فقد قال سحنون: إن القافة يلحقون كل واحدة بولدها.

الثاني: قولهم: القافة لا تدعى في الحرائر فيه مجاز من وجهين أحدهما جمع الحرائر والمراد واحدة فقط، وجمعت نظرا لتعدد الوطء فيها من متعدد ثانيهما المراد بالحرة المتزوجة كما عرفت حرة كانت أو أمة، فإذا كان الولد واحدا والواطئ متعدد فإن وطئها كل بطهر فلأوَّلِهما وطئًا إلا أن تأتي به لستة أشهر فأكثر من وطء الثاني فله ولا قافة سواء وطئها كل بنكاح أو بملك أو أحدهما بنكاح والآخر بملك، فإن وطئاها بطهر فالقافة إن وطئا بملك لا إن وطئاها بنكاح فللأول وطئًا ولو أتت به لستة أشهر فأكثر من وطء الثاني، وانظر إذا لم يعلم أولهما وطئا، وانظر أيضا إذا وطئاها معا بطهر وكان أحدهما عن ملك والآخر عن نكاح، فهل يغلب جانب الملك مطلقا أو النكاح مطلقا أو المتقدم منهما؟ قاله عبد الباقي.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: والظاهر أن تدعى القافة في جميع ما نظر فيه، وقول عبد الباقي: فإن وطئاها بطهر إلى قوله لا بنكاح فللأول وطئا ولو أتت به لستة أشهر لخ، قال البناني: هذه الصورة هي محل قولهم القافة لا تدخل في الحرائر، ومرادهم المرأة المتزوجة في العدة، وذلك أن المطلقة إذا تزوجت قبل حيضة فأتت بولد لحق بالأول؛ لأن الولد للفراش والثاني لا فراش له، والأمة إذا وطئها الشريكان بطهر أو بيعت بعد وطئها فوطئها المبتاع في ذلك الطهر فأتت بولد فادعياه دعيت القافة. هكذا المسألة مفروضة في المدونة وغيرها. وأما في غير هذا الفرض فلا فرق بين الإماء والحرائر، ومنه فرض المص يعني من الغير.

قال المتيطى في باب اللعان: وإن تزوجت امرأة في عدتها فأتت بولد لأقل من ستة أشهر من نكاح الثاني فهي للأول، وإن أتت به لستة أشهر قبل حيضة فهو للأول أيضا إلا أن ينفيه بلعان فيلحق بالثاني، وإن كان بعد حيضة فهو للآخر إلا أن ينفيه بلعان فيلحق بالأول، فإن نفاه

ص: 336

الأول بلعان لم يكن لواحد منهما، وأما الأمة يطؤها السيدان في طهر فتأتي بولد مما يشبه أن يكون من كل واحد منهما فإن القافة تدعى ويلحق بمن ألحقته به منهما، فإن ألحق بالثاني كانت له أم ولد وإن ألحق بالأول فكذلك وينفسخ. انتهى.

الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (الولد للفراش وللعاهر الحجر

(1)

) هو شامل للنكاح بالأحرى؛ لأن الفراش فيه أقوى لا أن الحديث ورد فيه لأنه خلاف الواقع.

الرابع: قال عبد الباقي: عند قوله "عينته القافة" ما نصه: جمع قاثف كباعةٍ جمع بائع وهو من يعرف النسب بالشبه ولا يختص ببني مدلج. انتهى.

قال البناني: قال الأبي في شرح مسلم ما نصه: قال تقي الدين: اختلف قول السلف في القافة هل هي مختصة ببني مدلج أم لا؟ لأن الراعى فيها إنما هو إدراك الشبه وهو غير خاص بهم، أو يقال إِنَّ لهم في ذلك قوة ليست لغيرهم، وكان يقال في علوم العرب ثلاثة: السيافة والعيافة والقيافة، فالسيافة شم تراب الأرض فيعلم به الاستقامة على الطريق والخروج عنها، والعيافة زجر الطير والطيرة والتفاؤل ونحو ذلك، والقيافة اعتبار الشبه في إلحاق النسب. انتهى منه. انتهى.

وعن ابن القاسم فيمن وجدت مع بنتها أخرى لا تلحق به واحدة يعني أنهم رووا عن ابن القاسم في امرأة ولدت بنتا فاختلطت مع بنت أخرى أنه لا تلحق بالزوج واحدة منهما، وهذا الفرع مخالف لما قبله فهو ضعيف، وأصل هذه المسألة أن رجلا كانت زوجته تلد بنات، فأراد سفرا فحلف على زوجته إن ولدت بنتا لأطيلن الغيبة، فولدت بنتا في غيبته فأمرت الجارية بطرحها خوفا منه، فلما رجعت قدم الزوج من السفر فصادف الجارية في أثناء الطريق فسألها عن الخروج في هذا الوقت فحكت له القصة، فأمرها أن تأتي بها فلما رجعت لها وجدت معها بنتا أخرى، فسئل عنها ابن القاسم فأجاب بأنه لا تلحق به واحدة منهما. قاله الخرشي. وقال المواق من كتاب ابن ميسر: من حلف لزوجته إن ولدت جارية لأغيبن عنك غيبة طويلة، فولدت في سفره جارية فبعثت بها خادمها في جوف الليل لتطرحها على باب قوم، ففعلت فقدم زوجها فوافق

(1)

البخاري، كتاب المغازي، رقم الحديث 4303. مسلم، كتاب الرضاع، رقم الحديث 1458.

ص: 337

الخادم خارجة فأنكر خروجها حينئذ وحقق عليها فأخبرته، فردها لتأتي بالصبية فوجدت صبيتين فأتت بهما فأشكل على الأم أيتهما هي منهما؟ قال ابن القاسم: لا تلحق به واحدة منهما. وقاله محمد. وقال سحنون: تدعى لهما القافة وبه أقول. انتهى.

وإنما تعتمد القافة على أب لم يدفن يعني أن القافة إنما تعتمد في معرفة الأنساب بالشبه على أب لم يدفن، وكذا لو دفن وكانت القافة تعرفه قبل موته معرفة تامة فإنها تعتمد على ذلك أيضا، فلو قال على أب لم تجهل صفته لكان أشمل، ويكفي واحد على المشهور وقيل لابد من اثنين. قال غير واحد. وعبارة عبد الباقي: ويكفي قائف واحد على المشهور خلافا لظاهر تعبيره بالجمع ولم يتعرض لكون الولد حيا، وذكر ابن عرفة فيه خلافا كما في أحمد، فقال: وفي قصرها على الولد حيا وعمومها حيا وميتا سماع أصبغ. ابن القاسم: إن وضعته تاما ميتا لا قافة في الأموات، ونقل الصقلي عن سحنون: إن مات بعد وضعه حيا دعيت له القافة، ويحتمل ردهما إلى وفاق لأن السماع فيمن ولد ميتا، وقول سحنون فيمن ولد حيا ولم أقف لابن رشد على نقل خلاف فيها، وعلل اللخمي كلام سحنون بأن الموت لا يغير شخصه، قال: إلا أن يفوت الولد. انتهى. قوله: علل اللخمي كلام سحنون لخ فيه نظر، بل العلة من كلام سحنون كما نقله ابن عرفة لا من كلام اللخمي، ونص ابن عرفة: ولما نقل اللخمي قول ابن القاسم، قال: وخالفه سحنون في كتاب ابنه، فقال: إن وضعته بعد ستة أشهر حيا ثم مات دعي له القافة؛ لأن الموت لا يغير شخصه إلا أن يفوت الولد. انتهى. قاله البناني.

فرع: قال الحطاب: قال البرزلي في مسائل النكاح والطلاق: إذا فرض عدم القافة فإنه إذا كبر الولد يوالي أيهما شاء بمنزلة ما إذا أشكل الأمر، فإن مات قبل ذلك ورثاه وإن ماتا ورثهما معا. انتهى. ومفهوم قوله:"أب" أن القافة لا تعتمد على شبه غير الأب من الأقارب، قال المواق: سحنون وعبد الملك: لا تلحق القافة الولد إلا بأب حي، فإن مات فلا قول للقافة في ذلك من جهة قرابته إذ لا تعتمد على شبه غير الأب. انتهى. وقد مر عن سحنون فيما إذا اختلط الولدان من زوجة رجل وأم ولده أن النسب ثابت لهما على الأب وأن القافة تلحق كلا بأمه وهو مخالف

ص: 338

لعموم هذا الكلام، ويمكن أن يوافق بينهما بأن كلام سحنون هذا حيث لم يثبت نسبه على الأب، وما مر فيما إذا تحقق نسبه. والله تعالى أعلم. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه.

وإن أقر عدلان بثالث ثبت النسب يعني أنه إذا أقر عدلان بثالث عمان أو أخوان أو ابنا عم أو غيرهما، فإنه يثبت النسب لذلك المقر به ويثبت له الإرث أيضا بثبوت النسب كلما هو واضح، واقتصر على ثبوت النسب لثبوت الإرث بذلك إن لم يكن مانع إذ قد يثبت الإرث ولا يثبت النسب كما في المسألة التي بعد هذه، قال عبد الباقي: وإن أقر عدلان أخوان أو عمان أو ابنان بثالث ثبت النسب للمقر به، فإن كانا غير عدلين فللمقر به ما نقص من حصة المقر، وظاهر هذا أن إقرار اثنين أو أكثر من غير العدول لا يثبت به نسب المقر به ولو كان من أقر به محيطا بالإرث. ابن يونس: إجماع أهل العلم: لا يصح نسب بغير عدول، وللمازري عن ابن القصار ثبوته بإقرارهما إن كانوا ذكورا وحازوا الميراث كله، ولم يتكلم على ما إذا كن نساء حزنه كزوجة وبنت وأخت لعدم ثبوت النسب بشهادتهن فلا يقبل إقرار اثنتين منهن ولا أكثر بوارث. انتهى. قوله:"وإن أقر عدلان" قال الخرشي: ومراده بالإقرار الشهادة؛ لأن النسب لا يثبت بالإقرار لأنه قد يكون بالظن، فلو كانا غير عدلين فللمقر به ما نقص من حصة المقر بالإقرار. انتهى. وقال البناني عند قوله:"وإن أقر عدلان بثالث ثبت النسب" ما نصه: ابن عرفة: عبر عنه ابن شأس والحوفي بلفظ: إن شهد وارثان وهو أصوب؛ لأن الإنسان يجوز إقراره بما يظنه دون تحقيق ولا يشهد بذلك.

وعدل يحلف معه ويرث ولا نسب قال الخرشي: فاعل يحلف المقر به، وضمير معه للمقر؛ يعني أن العدل إذا أقر بوارث فإن المقر به يحلف مع المقر العدل، ويرث من غير ثبوت نسب على ما للباجي والطرطوشي وابن الحاجب وابن شاس والذخيرة وابن عبد السلام، مع أنه قال في توضيحه: المذهب خلافه على ما نقله العلماء قديما وحديثا أن العدل كغيره، وليس للمقر به إلا ما نقص من حصة المقر بسبب الإقرار من غير حلف كما هو ظاهر كلام المؤلف في باب الفرائض، حيث قال:"وإن أقر أحد الورثة فقط بوارث فله ما نقصه الإقرار" فما ذكره هنا خلاف المذهب،

ص: 339

فإن أقر وارث بمن يحجبه أعطي جميع ماله كما لو أقر أخ بابن. انتهى. وقال ابن غازي: سلم في التوضيح أن هذا خلاف المعروف من المذهب وهو كذلك. انتهى المراد منه.

وإلا يكن المقر عدلا فحصة المقر بكسر القاف غير العدل كالمال أي كأنها هي المال المتروك، فإذا كانا ولدين أقر أحدهما بثالث فحصة المقر هي النصف بين ثلاثة، فينوب المقر به ثلثها وهو سدس جميع المال، والسدس الآخر ظلمه به المنكر، ثم محل كون حصة المقر كالمال إذا كان الإقرار قبل القسمة أو بعدها والمال عين، فإن كان بعدها والال عرض فإن المقر يدفع للمقر به ما يصيبه من العرض الذي بيده، ويضمن له ما باع من العرض الذي أسلم للورثة لأنه لا يصدق على نقض البيع، مثاله لو ترك ابنين أخذ أحدهما دارا والآخر أرضا ثم أقر آخذ الدار بأخ ثالث فيدفع له ثلث الدار، قال أهل المدينة وأهل البصرة: ويضمن له سدس قيمة الأرض لأنه لو أقر به وبيده نصف الأرض ونصف الدار لدفع له ثلث ذلك فلما باعه ضمن قيمته. وقال أحمد بن ميسر: يخير المقر به بين أن يضمنه سدس قيمة الأرض أو يأخذ سدس الدار فيكون له نصفها وللمقر نصفها. انتهى. وبه تعلم أن كلام الزرقاني وقع فيه نقص والله أعلم. قاله البناني.

وقال عبد الباقي: ثم إن قول المص: "يحلف معه ويرث" ضعيف، والمذهب أن للمقر به ما نقص من حصة المقر بسبب الإقرار، سواء كان المقر عدلا أو غير عدل وهو ظاهر إطلاقه في باب الفرانض، حيث قال: وإن أقر أحد الورثة فقط بوارث فله ما نقصه الإقرار وهذا إذا كان المقر رشيدا، فإن كان سفيها لم يؤخذ من حصته شيء، قال أحمد: وإنما لم يكن المذهب الحلف مع الشاهد؛ لأن ذلك بمثابة ما إذا قام شاهد على أن فلانا وارث فلان فإنه لا يعتبر الشاهد هنا؛ لأن أخذ المال بالإرث فرع ثبوت النسب وهو لا يثبت بالشاهد واليمين ولم يعتبر فيما نحن فيه. انتهى.

تنبيه: أشعر قوله: "ويرث" أنه إن أقر بمن يحجبه أعطي جميع ماله كما لو أقر أخ بابن كما في التلمسانية مع زيادة أن الإقرار قد يجر غير المقر به أيضا في قضية تسمى: العقرب تحت طوبة، وإزا أقر أحد الورثة بدين أخذ من نصيبه بقدره عند ابن القاسم، وعند أشهب: يؤخذ جميع

ص: 340

نصيبه لأنه لا إرث إلا بعد وفاء الدين. انظر الحطاب. انتهى كلام عبد الباقي. قوله: كما في التلمسانية، نص التلمسانية:

فصل فإن ألحق من قد يحجبه

فكل ما بيده يستوجبه

كعاصب وأخوات شتى

أثبتت التي للام بغتا

ولم يوافق غيرها فتدفع

لها الذي بيدها وتمنع

وقد يجر غيرها الإقرار

فيقع الحصاص لا الإنكار

وذاك في قضية منسوبه

تعرف بالعقرب تحت طوبه

الستياني: هي فريضة امرأة تركت زوجا وأما وأختا لأم أقرت الأخت ببنت فالإنكار من ستة، للزوج النصف وللأم الثلث وللأخت السدس، والإقرار من اثني عشر للزوج الربع وللأم السدس وللبنت النصف، وتسقط الأخت ويبقى للعاصب نصف السدس، والعاصب ليس هو في فريضة الإنكار، ولا أقرت الأخت له بشيء ولكن الإقرار تضمنه وهو وشيك بأن يغفل عنه: ولذا سميت: عقربا تحت طوبة. انتهى.

وحينئذ فسهم الأخت في الإنكار وهو السدس يقسم على سهم البنت في الإقرار وهو ستة، وسهم العاصب وهو واحد فيكون للبنت ستة أسباعه وللعاصب سبعة. وقوله:"وإلا فحصة المقر كالمال" ما قررته به هو الذي قرره به غير واحد، وقرره الحطاب على أن قوله:"وإلا فحصة المقر" ينتهي عندها الكلام أي وإن لم يكن المقر عدلا، فإنما يرث المقر به من حصة المقر فقط ولم يبين ما يأخذه منها اعتمادا على ما يقوله في باب الفرائض حيث يقول:"وإن أقر أحد الورثة فقط بوارث فله ما نقصه الإقرار"، وقوله:"كالمال" تشبيه في أصل المسألة أي إن شهد عدلان من

ص: 341

الورثة بمال في ذمة الميت ثبت، وإن شهد عدل حلف معه وثبت وإن لم يكن عدلا، فقال في كتاب الشهادات من المدونة: وتجوز شهادة الوصيين أو الوارثين بدين على الميت، فإن شهد لصاحب الدين في لك واحد من الورثة حلف معه إن كان عدلا واستحق حقه، فإن نكل أخذ من شاهده قدر ما يصيبه من الدين وإن كان سفيها لم تجز شهادته ولم يرجع عليه في حصته بشيء. انتهى.

قال أبو الحسن: قال عياض: قالوا ظاهره اشتراط الرشد في العدالة وهو قول أشهب إن شهادة السفيه لا تجوز وإن كان عدلا في نفسه وأجازها مالك، وفي كتاب التفليس في باب الشهادة على الميت بدين: قبول شهادته وإن كان سفيها، وتكررت هذه المسألة هنا في الشركة وفي المديان والوصايا، وهذه المسألة لا تخلوا من أربعة أوجه: عدل رشيد يؤخذ منه ويؤخذ بشهادته، عكسه سفيه مسخوط لا يؤخذ منه لأنه سفيه ولا يؤخذ به لأنه مسخوط، عدل سفيه لا يؤخذ منه وهل يؤخذ به قولان؟ رشيد غير عدل يؤخذ منه ولا يؤخذ به ولم أو فيه خلافا. انتهى كلام أبي الحسن. والذي مشى عليه المص في باب الشهادات أن شهادة السفيه لا تجوز. قاله الحطاب والله تعالى أعلم.

وهذا أخي بل هذا فلأول نصف إرث أبيه وللثاني نصف ما بقي يعني أنه إذا مات شخص عن وارث واحد كابن مثلا، فقال الابن لأحد شخصين معينين هذا أخي ثم قال لا بل هذا لشخص آخر، فإن الذي أقر به أولا يأخذ نصف التركة لاعترافه له بذلك إذ إضرابه عنه لا يسقط حقه، ويأخذ المقر به ثانيا نصف ما بيد المقر وهو ربع التركة، ولو قال لثالث بل هذا أخي لكان له نصف ما بقي بيده وهو ثمن التركة. واعلم أنه إذا كان العطف للإضراب كما هنا فلا فرق بين أن يكون بمهلة وأن يكون بالفور، وإنما التفصيل بين المهلة والفور إذا كان العطف للتشريك، مثل هذا أخي، وهذا أخي فإن كان بمهلة فهو على ما ذكر وإن كان في فور واحد فهو بينهم، فإن قيل ما الفرق بين هذه وما تقدم من أن من قال غصبته من فلان لا بل من آخر فإنه للأول وللثاني قيمته وكان المناسب عليه أن يكون النصف جميعه للثاني؟ فالجواب أن الغاصب لما كان

ص: 342

متعديا لم يعذر بخطئه، بخلاف الوارث فإنه عذر هنا بالخطإ. انظر التوضيح. اهـ. وهو حسن إذ قوله لم يعذر بخطئه أي لعدم ملكه، وقوله فإنه عذر بالخطإ أي لأنه في ملكه. قاله عبد الباقي. وقال الرهوني: وهذا أخي بل هذا لخ هذا قول سحنون في نوازله من كتاب الاستلحاق. ونصه قيل له فلو أنه أقر لثلاثة نفر أجنبيين، فقال لأحدهم: هذا أخي لا بل هذا أخي لا بل هذا أخي، قال: فيكون للأول المقر له نصف ما ورث عن أبيه، ويكون للثاني نصف النصف الذي بقيَ في يديه فيصير له منه الربع، ويكون للثالث نصف الربع الذي يبقى في يديه. قال سحنون: وقد قال فيها بعض أصحابنا: إنه يغرم للثاني مثل ما صار للأول، ويغرم للثالث مثل ما صار للأول لأن كل واحد يقول أنت أتلفت علي مورثي من هذا، قال القاضي: القول الذي حكاه سحنون عن بعض أصحابه أصح في النظر من قوله للعلة التي ذكرها من أنه قد أتلف على كل واحد منهما حقه بإقراره به لغيره، وعدل المص عن القول الثاني مع تصحيح ابن رشد له لتصدير ابن الحاجب بالأول وحكايته الثاني بقيل مع قول ابن يونس إنه الجاري على قول ابن القاسم وكذا قال ابن عبد السلام. انتهى المراد منه.

وإن ترك أما وأخا فأقرت بأخ فله منها السدس قد علمت أنه إذا أقر أحد الورثة بوارث فللمقر به ما نقص المقر إقراره به وهذا من ذلك، فإذا هلك هالك وترك أما وأخا فأقرت الأم بأخ فإن الأخ المقر به له منها أي من نصيب الأم الذي تستحقه في الإنكار السدس؛ أي لها في حال الإنكار الثلث والثلثان للأخ الثابت النسب، فلما أقرت الأم بالأخ لم يكن لها إلا نصف الثلث وهو السدس؛ أي سدس جميع التركة، وتدفع للأخ المقر به نصف الثلث وهو سدس جميع التركة فقد أخذ السدس من نصيبها، ولو تعدد الأخ الثابت لم يكن للمقر به شيء؛ إذ إقرارها لا ينقصها عن السدس، فلا شيء معها تعطيه للمقر به وظاهر المص ولو كان الأخ الثابت شقيقا والمقر به لأب؛ لأنه إنما يأخذه بإقرارها لا بالنسب. وقوله:"فله منها السدس" ولا شيء للأخ المنكر من السدس المقر به لاعترافه أن الأم ترث معه الثلث، وإن أقر ميت أطلق عليه ميتا باعتبار ما يئول إليه مع قوله ذلك عند حضور موته.

ص: 343

وعلق بقوله: "أقر" قوله: بأن فلانة جاريته بدل مما قبله أو عطف بيان وخبر أن قوله: ولدت منه فلانة مفعول "ولدت" ولها أي للجارية التي ولدت فلانة ابنتان أيضا من غيره، والحال أنه نسيتها أي الجارية الولودة له الورثة فاعل نسيتها، والبينة أي نسيتها البينة كما نسيتها الورثة أي نسي الجميع اسمها، وجواب الشرط هو قوله: فإن أقر بذلك أي بنحو ما شهدت به البينة الورثة العقلاء البالغون مع نسيانهم كالبينة اسم البنت المقر بها أنها منه فهن أي أولاد الجارية الثلاثة أحرار على المعتمد ولهن ميراث بنت يقسم بينهن ولا نسب لواحدة منهن. قاله عبد الباقي. وقال ما نصه: والفرق بين ثبوت ميراث [بنت]

(1)

، لهن هنا وبين عدمه في قوله: لأولاد أمته أحدهم ولدي مع تحقق الولدية في المسألتين لشخص واحد أن كل من احتمل ثبوت الولدية لها في هذه المسألة ليس له مانع الميراث، بخلاف مسألة أحدهم ولدي فإن ببعضهم المانع وهو الرق وببعضهم وهو من تحرر جميعه الشك في ولديته. انتهى المراد منه.

قوله: والفرق بين ثبوت ميراث بنت لهن لخ، قال البناني: في هذا الفرق نظر بل لا يفيد لأن كون المانع قائما ببعضهم إنما هو مبني على تسليم ما سبق وفيه الكلام وعنه السؤال فالمطلوب الفرق بين عتق الجميع هنا وعدمه هناك، والصواب أنهما مسألة واحدة ولذلك عارض ابن رشد بينهما في نوازل سحنون، فقال إقرار الورثة بذلك كقيام البينة على قوله: إحدى هذه الثلاث ابنتي ولم تسمها فالشهادة جائزة اتفاقا، وقوله: يعتقن كلهن خلاف قوله في السابقة. انتهى. وقال ابن عبد السلام: عتقهن كلهن جار على قول ابن عبد الحكم في المسألة السابقة: يعتق الجمهيع. انتهى. نقله مصطفى. فلو كان بينهما فرق لذكره.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: رأيت معزوا لأبي علي ما نصه: قال أبو علي قد يجاب عنه بأن الميت لم يمت حتى عين والورثة فرطوا حيث نسوا، بخلاف ما تقدم فإن الإبهام من الميت ولا تفريط من الورثة فشدد عليهم هنا لتفريطهم لاسيما على أن العتق لا يكون بالشك فروعي هنا للتفريط، وإنما لم تعتق الصغرى على كل حال عند إنكار الورثة؛ لأن الشهادة بطلت من أصلها حتى في واحدة لأجل النسيان، ولا كذلك فيما تقدم لأن واحدا حر على كل حال. انتهى.

(1)

ساقطة من الأصل، مثبتة من عبد الباقي ج 6 ص 113.

ص: 344

وإلا تقر الورثة بما شهدت به البينة مع نسيان البينة اسمها لم يعتق منهن شيء لا شقص ولا غيره؛ لأن شهادتها حينئذ كالعدم؛ لأن الشهادة إذا بطل بعضها بطل كلها والفرق بين هذا وبين عتق الأصغر في المسألة السابقة على كل حال هو ما قدمته قريبا، وهو أن الشهادة هنا بطلت لوقوع النسيان في بعضها بخلاف السابقة فالإبهام فيها وقع من الميت، بقوله أحدهم ولدي وهم شهدوا على قوله فثبتت الشهادة قاله البناني وهو الذي قدمته عن أبي علي ومفهوم قوله: ونسيتها البينة أنها إن لم تنس اسمها فهي حرة فقط، ولها الميراث أنكر الورثة أو اعترفوا.

وإن استلحق ولدا ثم أنكره ثم مات الولد فلا يرثه يعني أن من استلحق ولدا يلحق به، فإن أنكره بعد ذلك بأن قال ما هو ولدي ثم مات الولد، فإن الأب لا يرث الولد المذكور لأنه أنكر انتسابه إليه. وعلم مما قررت أن الولد مات قبل موت المستلحق الذي نفاه، وإذا مات الولد وقلنا إن المستلحق بالكسر لا يرثه وقف بالبناء للمفعول ماله أي مال الولد الميت إلى موت الأب أو قيام الغرماء عليه أي على الأب كما يأتي قريبا إن شاء الله تعالى، فإن مات الأب فالمال الموقوف يدفع لورثته أي ورثة الأب لأن إنكار الأب بعد استلحاقه لا يقطع حق ورثة، وقضي به دينه أي وإذا مات الولد ووقف ماله فإنه يقضى به دين الأب الذي مات، وإن قام غرماؤه أي غرماء الأب وهو أي الأب حي أخذوه أي مال الولد الموقوف، فإن بقي منه شيء بعد قضاء دين الأب وقف حتى يموت الأب، فإن مات الأب أولا أي قبل موت الولد ورثه الولد بالإقرار الأول وهو الاستلحاق لثبوت نسبه بذلك الاستلحاق فلا يسقط بإنكاره، ثم إن مات الابن بعد موت الأب ورثه عصبته من قبل أبيه المستلحق. قاله ابن رشد.

وهذه المسألة يلغز بها من وجهين: أحدهما أن يقال أب له ولد وليس بأحدهما مانع من موانع الميراث ويرث الولد أباه إذا مات ولا يرث الأب اليولد إذا مات، ثانيهما شخص له مال يوفى منه دينه ويأخذه غرماؤه ووارثه وليس له التصرف فيه مع أنه غير محجور عليه. قاله عبد الباقي.

تنبيهات: الأول: قال في المغني: إذا استلحق الرجل رجلا لحق به نسب أولاد المستلحق، ومن نفى ولده ثم استلحقه ثبت نسبه منه. انتهى. قاله الحطاب.

ص: 345

الثاني: يجتمع لحوق الولد والحد في مسائل، إحداها: الرجل تكون عنده الأمة فتلد منه فيقر بعد الولادة أنه غصبها فيلحق به الولد لأنه يتهم على قطع نسبه ويلزمه الحد، الثانية: من اشترى جاريتين على أن له الخيار في إحداهما فأقر أنه اختار واحدة ثم وطئ الأخرى فإنه يحد ويلحق به الولد، الثالثة: من اشترى أمة فولدت منه ثم استحقت بحرية فذكر أنه يعلم أنها كانت حرة ووطئها بعد ذلك فيحد ويلحق به الولد، الرابعة: من اشترى جارية فوطئها فخاصمه ربها فقال ادفع ثمن جاريتي التي بعت منك، فقال الواطئ إنما تركتها عندي أمانة ووديعة فإنه يحد ويلحق به الولد.

الثالث: قال السهيلي في شرح السيرة في حديث الإسراء: ومروره على النساء التي أدخلن على الرجال ما ليس منهم من الأولاد فإن بلغ الصبي وتابت أمه فأعلمته أنه لغير رشده ليستعفف عن ميراثهم ويكف عن الاطلاع على عوراتهم أو علم ذلك بقرينة حال وجب عليه ذلك، وإلا كان شر الثلاثد كما جاء في الحديث في ابن الزنى أنه شر الثلاثة، وقد تؤول على وجوه هذا أقر بها إلى الصواب. انتهى. وقيل في تأويله إذا عمل بعمل أبويه، وفيءاخر باب الزنى من النوادر عن كتاب ابن حبيب قال الشعبي: ولد الزنى خير الثلاثة إذا اتقى الله، قيل له فقد قيل إنه شر الثلاثة؟ قال: هذا شيء قاله كعب، لو كان شر الثلاثة لم ينتظر بأمه أن تضع. وقال ابن عباس: هو عبد من عبيد الله إن أحسن جوزي وإن أساء عوقب، وقال عمر: أعتقوا أولاد الزنى وأحسنوا إليهم واستوصوا بهم. انتهى.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: ولما أنهى الكلام على الإقرار وهو يكون بالوديعة وغيرها أتبعه بالكلام على الوديعة، فقال:

ص: 346

باب: ذكر فيه الوديعة وأحكامها وما يتعلق بها، وهي مأخوذة من الودع وهو الترك، ومنه قوله تعالى:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} أي ما ترك عادة إحسانه إليك في الوحي لأن المشركين ادعوا ذلك لما تأخر الوحي، وهي لغة الأمانة وتطلق على الاستنابة في الحفظ وذلك يعم حق الله وحق الآدمي، وعرف ابن عرفة الوديعة بقوله: الوديعة إذا كانت بمعنى الإيداع فهي نقل مجرد حفظ ملك ينقل فيدخل إيداع ذكر الحقوق، ويخرج حفظ الإيصاء والوكالة لأنهما لأزيد منه وحفظ الربع لأنه لا ينقل، وقول ابن الحاجب كابن شأس تابعين للغزالي استنابة في حفظ المال يبطل عكسه ما دخل وطرده ما خرج، وإذا كانت اسما فهي متملك نقل مجرد حفظه وهو المستعمل في عرف الفقهاء ولا يتناوله لفظ ابن شأس. انتهى. وإخراجه لفظ الربع من الوديعة اعترضه الوانوغي بقول المدونة في الهبات: إلا أن يكون له في يدك أرض أو دار أو رقيق بكراء أو عارية أو وديعة. انتهى. بناء على أن الثلاثة ترجع لكل واحد من الثلاثة، فيقتضي أن حفظ ربع غيره وعقاره وديعة. قال الوانوغي: وادعاء اللف والنشر في هذا المقام بعيد. انتهى. قال ابن غازي. في تكميله: وليس ببعيد. انتهى.

وقال الحطاب مؤيدا للوانوغي: ولم يذكر أحد إخراج العقار من الوديعة. انتهى. قال الرهوني: قول البناني عن ابن غازي وليس ببعيد قد سلم المشدالي ما قاله الوانوغي من أنه بعيد، وسلمه بقوله: لكونه خلاف الظاهر ولا دليل يعرف منه فوجب الوقوف عنده. انتهى. وسلمه الحطاب وهو حقيق بالتسليم، قلت: كلامهم يقتضي أنهم لم يقفوا على نص يشهد لإطلاق الوديعة على الربع إلا هذا النص الزي تنازعوا فيه مع أنه صرح في النوادر نقلا عن كتاب ابن المواز وابن عبد الحكم بتسمية الدار وديعة، وقد نقل الحطاب نفسه كلامه في الفرع الأول عند قول المص بعد "وبمنعها حتى يأتي الحاكم"، وأغفل الاحتجاج به هنا لا صوبه من كلام الوانوغي، ووقع أيضا صريحا في كلام اللخمي، ونصه: وإن قال في الدار وديعة منذ سنة ولم يثبت ذلك له يقبل قوله لإمكان أن تكون من شهر. انتهى منه بلفظه.

تنبيهات: الأول: قال ابن عبد السلام عند قول ابن الحاجب وهي جائزة من الجانبين ما نصه: وربما يعرض لها اللزوم من وجه آخر كما لو كان ربها عاجزا عن حفظها فيتعين عليه الإيداع

ص: 347

(لنهيه صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال

(1)

)، فإن لم يجد من يحفظها له إلا واحدا تعين عليه قبولها وحفظها لوجوب إغاثة الملهوف. انتهى. ولا يعارض هذاما في المقدمات من قوله: ولا يلزم من استودع قبض الوديعة وجد المودع من يودعه أو لم يجد، قال ذلك ابن شعبان. فأما إذا وجد من يودع غيره فبين أنه لا يلزمه قبولها؛ لأن الله تعالى إنما أمره بالأداء ولم يأمر بالقبول، وأما إذا لم يجد من يستودعه إياه فينبغي أن يلزمه القبول قياسا على من دعيَ أن يشهد على شهادة أنه يلزمه ذلك إن لم يكن في البلد من يشهد غيره، فحمل كلام ابن شعبان على ما إذا لم يخف عليها: وظاهر كلام ابن عبد السلام سواء كان الخوف من تلفها بكحرق أو من أخذ غاصب مثلا ووجوب قبولها ظاهر في الوجهين معا، وكذا وجوب إيداعها على المالك في الوجه الأول لما علله ابن عبد السلام، وأما في الوجه الثاني فلا إذ لا إضاعة فيه لانتفاع الآخذ بذلك إن وقع حسبما يستفاد مما تقدم في الصلح عند قوله:"وعلى الافتداء من يمين" فراجعه متأملا. والله أعلم. انظر الرهوني.

الثاني: قال في كتاب الغصب من المدونة من غصب شيئا ثم أودعه فهلك عند المودع فليس لربه تضمين المودع إلا أن يتعدى. قاله الحطاب.

الثالث: ذكر عياض في مداركه عن بعض الشيوخ أن من قبل وديعة من مستغرق ذمة ثم ردها إليه ضمنها للفقراء. قاله الحطاب: وفي نقله عن بعض العلماء أنه أتاه رجل يشاوره أن أحدا من هؤلاء القوم -يعني الولاة أو الغصاب- أراد أن يستودعه مائة دينار وذكر أنه لا يجد منه بدا، فقال: إن كنت تقدر على غرمها فتأخذها منه وتتصدق بها على المساكين، فإن سألك فيها غرمتها له ثم ذكر له أن أصحاب سحنون سئلوا عن رجل ذهب له شيء وذهب فيما ذهب له ثوب ديباج فرآه يوما في يد جندي، قال: فلم يشك أنه ثوبه فاشتراه منه بسبع دنانير ثم مضى بالثوب، فلما فتحه إذا هو غير ثوبه، قال: فرجع إلى الجندي فقال يا هذا إنما ظننت أنه ثوبي فلذلك اشتريته، فقال لا عليك فرد الجندي يده إلى منطقته فصب منها دنانير فعد منها سبعة فأعطاها له وانصرف، قال: فلم يختلف عليه أصحاب سحنون أن عليه أن يتصدق بالدنانير وبقيمة الثوب

(1)

البخاري، كتاب الرقاق، رقم الحديث 6473 - مسلم، كتاب الأقضية، رقم الحديث 1715.

ص: 348

أيضا، قال الشيخ: لأنه رد الثوب إلى غير مالكه ويجب حفظ الوديعة من التلف ولو أذن ربها في التلف.

وعرف المؤلف الإيداع بقوله: الإيداع توكيل بحفظ مال يعني أن الإيداع هو أن توكل شخصا على مجرد حفظ مال، قال عبد الباقي: الإيداع توكيل أي نوع خاص منه أي فمن جاز له أن يوكل جاز له أن يودع، ومن جاز له أن يتوكل جاز له أن يقبل الوديعة، وبقولنا نوع لخ دخل العبد المأذون له في التجارة، فإن له قبول الوديعة بغير إذن سيده، مع أنه لا يجوز له أن يتوكل إلا بإذن سيده. انتهى. قال البناني: قول الزرقاني في العبد المأذون مع أنه لا يجوز له أن يتوكل إلا بإذن لخ أصله للتوضيح، وتبعه الشارح وغيره واعترضه مصطفى قائلا: لم أو من قال ذلك. ونقل ابن عبد السلام وابن فرحون ما يفيد أن المأذون لا يتوقف توكله على إذن. انظر مصطفى. انتهى. والباء في قوله: "بحفظ مال" إما للملابسة أي توكيل متلبس بحفظ مال أو بمعنى على كما وقع له التصريح بذلك في باب القراض حيث، قال:"توكيل على تجر"، أو للظرفية بتضمين توكيل معنى استنابة كما صرح بذلك ابن الحاجب، وخرج الإيصاء لأنه ليس لمجرد الحفظ بل له معه النظر فيه، كما أشار إلى ذلك ابن عرفة. انتهى. قاله عبد الباقي. وقال: ثم ظاهر قوله: "توكيل" أنه لا يشترط الايجاب والقبول وهو كذلك، فمن ترك متاعه عند جالس فسكت فضاع ضمنه لأن سكوته حين وضعه ربه رضى بالإيداع. انتهى.

قوله: ظاهر قوله توكيل أنه لا يشترط لخ فيه نظر، بل التوكيل يشترط فيه الإيجاب والقبول فكذلك الإيداع؛ لأنه نوع منه وصورة الحطاب لا نسلم خلوها منهما لأنهما يكونان باللفظ أو ما يقوم مقامه كالبيع، قال ابن عرفة: قال ابن شعبان: من سئل قبول وديعة ليس عليه قبولها وإن لم يوجد غيره. ابن عرفة: ما لم يتعين عليه قبولها بهلاكها إن لم يقبلها مع قدرته على حفظها. انتهى. فهذا صريح في توقفها على القبول. انتهى. قال عبد الباقي ودخل في قوله: "بحفظ مال" إيداع ذكر الحقوق. انتهى.

قال البناني: فيه نظر لأن ذكر الحقوق ليس بمال، وقد تقدم أن ابن عرفة اعترض تعريف ابن شأس الذي هو كتعريف المص بأنه يبطل عكسه ما دخل وطرده ما خرج، ويعني بما دخل ذكر

ص: 349

الحقوق وبما خرج حفظ الرباع، لكن قد يجاب عن ذكر الحقوق بأنه لكونه قد يتضمن المال ويحفظ لأجله، كان مالا مجازا فصح دخوله، وأما ما قاله في الرباع فقد مر أنه غير مسلم، ويدخل في تعريف المص أيضا كابن عرفة الإجارة على حفظ المال كما جزم ابن عبد السلام بدخوله في الحد المذكور والتوضيح وابن فرحون والشارح، خلافا لل تتائي. انتهى.

تنبيه: قال عبد الباقي ما نصه: وخرج بقوله: "مال" إيداع الأب ولده لمن يحفظه لانتفاء لوازم الوديعة من الضمان، والأمة المواضعة لأن القصد إخبار الأمين بحالها لا حفظها. انتهى. ونحوه للخرشي.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: مقتضى قوله لانتفاء لوازم الوديعة من الضمان أن من ترك صبيا أودعه أبوه له ليحفظه ولم يضمه إليه فهلك بأمر سماوي لا يضمن ديته، وانظر ما الحامل على الإتيان بهذا اللفظ؛ أعني قوله: لانتفاء لوازم الوديعة من الضمان لأنه لا يظهر تعميمه، وقوله: الإيداع توكيل، قال ابن عاشر: مقتضاه أن الإيداع يتوقف على صحة التوكيل والتوكل وليس كذلك. انظر التوضيح وابن عرفة. ونص ابن عرفة: والأظهر أن شرطها باعتبار جواز فعلها وقبولها حاجة الفاعل وظن صونها من القابل، فتجوز من الصبي الخائف عليها إن بقيت بيده وكذا العبد المحجور عليه، ويجوز أن يودع ما خيف تلفه بيد مودعه إن ظن صونه بيد أحدهما لاحترامهما وثقتهما، قال: وشرطها باعتبار ضمان القابل عند موجب الضمان ونفيه عند نفيه عدم حجره وحجر الفاعل. انتهى قاله البناني. قال عبد الباقي: وأجاب المص عن سؤال تقديره إذا كان الإيداع ما ذكر فهو أمانة، والأصل فيها عدم الضمان عند التلف إلا لتفريط فما الذي يوجبه

(1)

ضمانه بقوله: تضمن الوديعة بسقوط شيء من المودَع بفتح الدال عليها أي على الوديعة المفهومة من دلالة تعريفه عليها؟ وفي بعض النسخ: فتضمن بالفاء سواء كان الساقط عليها لغيره أم له، وإذا كان الساقط عليها لغيره وأذن له في تقليبه فلا ضمان عليه في الساقط لإذنه له في تقليبه، والشريك في حصة الشريك كالودع في أنه أمين إلا أن يتعدى. قاله عبد الباقي.

(1)

في عبد الباقي ص 114 ج 6: يوجب ضمانه.

ص: 350

وقال الخرشي: قد علمت أن الوديعة أمانة والأصل فيها عدم الضمان إذا تلفت إلا أن يحصل تفريط فتضمن، فإذا سقط عليها شيء من يد المودع بفتح الدال فأتلفها أو سقط عليها شيء بسببه فإنه يضمنها لأن ذلك جناية خطإ وهي والعمد في أموال الناس سواء، قال أشهب: لو أتى شخص لصاحب فخار أو زجاج، فقال له: قلب ما يعجبك فأخذ شيئا يقلبه فسقط من يده فانكسر فلا ضمان عليه فيه؛ لأنه مأذون له في ذلك، ولو سقط على شيء فأتلفه فإنه يضمن الأسفل لأنه جناية خطإ وهي كالعمد في أموال الناس. وحيث عطف المؤلف بالباء فمراده ضمان الوديعة وحيث أخرج بلا فمراده عدم الضمان. انتهى.

وقال المواق: أشهب وعبد الملك: من أودع جرارا فيها إدام أو قوارير فيها دهن فنقلها من موضع في بيته إلى موضع فانكسرت في موضعها ذلك لم يضمنها، ولو سقط عليها من يده شيء فانكسرت أو رمى في بيته بشيء يريد غيرها فأصابها فانكسرت ضمنها. انتهى. وليس في هذا النص أنه نقلها نقل مثلها، قال ابن عرفة: وزاد هذه الزيادة ابن الحاجب وهي زيادة حسنة موافقة للأصول، كالراعي يضرب الشاة إن ضربها ضرب مثلها لم يضمن. قال شهاب الدين: وإن كان الله سبحانه أذن له في حمل الوديعة فلم يأذن له صاحبها فالإذن العام لا يسقط الضمان نظيره الاضطرار لأكل طعام الغير أوجب الشارع عليه تناوله وأذن له في ذلك بخلاف ربه فيغرم له قيمته على الصحيح من القول. انتهى المراد منه.

لا إن انكسرت في نقل مظلها يعني أن الموديعة إذا نقلها المودع بالفتح من مكان لآخر فتلفت بغير تفريط منه، فإنه لا يضمنها إذا نقلها نقل مثلها. قاله الخرشي وغيره. وقوله:"لا إن انكسرت في نقل مثلها" قال الخرشي وعبد الباقي: هذا حيث احتيج إليه وإلا فيضمن. انتهى. قال عبد الباقي: ونقل مثلها هو الذي يرى الناس أنه غير متعد به، ويضمنها في كنقل غير مثلها احتيج إليه أم لا، فالصور أربع لا ضمان في صورة المص، ويدل لتقييدها بالاحتياج في نقل مثلها ما في النوادر من سماع أشهب: من أتى إلى صاحب فخار، فقال له قلب ما يعجبك إلى آخر ما مر، قال الرهوني: تأمل ما وجه الدليل منه فإنه لم يظهر. انتهى.

ص: 351

قال عبد الباقي: قال الحطاب: لا يجوز للمودع إتلاف الوديعة ولو أذن له ربها في إتلافها، فإن فعل ضمن كمن قال لرجل اقتلني أو ولدي. قاله في كتاب الاستغناء. قلت: أما الحرمة فلا شك فيها، وأما الضمان أي ضمان المودع للوديعة ففيه نظر، والظاهر دخول الخلاف فيه كمن أذن لرجل في قطع يده. انتهى. قلت: ذكر الشارح في باب الإجارة عدم ضمانه في قوله اقطع يدي أو أحرق مالي. انتهى المراد منه. قوله عن الحطاب قاله في كتاب الاستغناء لخ يقتضي أنه في الاستغناء جزم بذلك، ونحوه في نقل ابن سلمون عنه، ولكن الذي في نقل ابن عات عنه في طرره هو ما نصه: المحتج لو قال رب الوديعة ألقها في البحر أو في النار ففعل ضمنها في قول بعضهم؛ (لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال

(1)

كالقتل في الذي يقول له اقتلني وولدي ففعل. انتهى من الاستغناء. ونقله ابن غازي في تكميله، وزاد ما نصه: وأغفله ابن عرفة، والمحتج في اصطلاح صاحب الاستغناء هو ابن الهندي وبالفه التوفيق. انتهى. فأنت تراه لم يجزم به ولم يسقه على أنه المذهب، وبحث الحطاب فيه ظاهر ويشهد لعدم الضمان فيه ما تقدم للمص وغيره في إتلاف المحجور ما أمن عليه؛ إذ عللوه بأنه هو سلطه عليه لا لحجره فتأمله بإنصاف وقول عبد الباقي: ويمكن الفرق بأن الوديعة بإيداعها وجب عليه حفظها لخ لا معنى له. فتأمله. انتهى. قاله الرهوني. والله تعالى أعلم.

وبخلطها يعني أن الوديعة تضمن بخلطها بغيرها أي تضمن بمجرد الخلط وإن لم يحصل فيها تلف حيث تعذر التمييز أو تعسر. قاله غير واحد. قوله: بمجرد الخلط وإن لم يحصل تلف لخ، قال البناني: هذا الذي يفيده اللخمي ونقله المواق والحطاب.

إلا كقمح بمثله يعني أن المودع بالفتح إذا خلط الجنس المودع عنده بالجنس المماثل له في الجنسية والصفة كما إذا خلط القمح المودع عنده بقمح مثله جنسا وصفة لأجل الإحراز والرفق، فإنه لا ضمان عليه، قال الخرشي: فلو خلط قمحا بمثله جنسا وصفة فلا ضمان عليه إذا فعل ذلك لأجل الإحراز، وإلا ضمن لأنه يمكن أن لو بقيَ كل على حدته أن يوجد أحدهما دون الآخر. انتهى.

(1)

البخاري، كتاب الرقاق، رقم الحديث 6473 - مسلم، كتاب الأقضية، رقم الحديث 1715.

ص: 352

أو دراهم بدنانير يعني أن من أودع دراهم فخلطها بدنانير فتلف ذلك فإنه لا ضمان عليه إذا فعل ذلك للإحراز والرفق، وعلم مما قررت أن قوله: للإحراز أي للحفظ راجع للمسألتين، أما رجوعه للأولى فمسلم وأما رجوعه للثانية فهو الذي مر عليه المص، لكن اعترضه ابن غازي، قال البناني: كلام ابن غازي هو الصحيح؛ لأن الذي في المدونة مسألتان: خلط الدراهم أو الدنانير بمثلها، وخلط الحنطة بمثلها، والأولى منهما وهي خلط الدراهم أو الدنانير بمثلها قيدها أبو عمران وأبو الحسن، قال أبو الحسن عقب قولها في الأولى منهما ومن أودعته دراهم فخلطها بمثلها ما نصه: الشيخ: يعني على وجه الإحراز والرفق لا على وجه التملك. قاله أبو عمران. انتهى. والثاثية وهي خلط الحنطة بمثلها مقيدة فيها وهما معا داخلتان في الأولى عند المص، أعني قوله:"إلا كقمح بمثله" إذ المراد به كل جنسه بمثله صفة، وأما الثانية في كلام المص وهي خلط الدراهم بالدنانير فقال البناني: لم أو من ذكر القيد المذكور فيها غير المص فصح اعتراض ابن غازي، وقوله: الشيخ، هو: أبو الحسن. انتهى كلام البناني.

والحاصل أن المص استثنى مسألتين، إحداهما خلط الجنس بمثله في الجنسية والصفة أيا كان ذلك الجنس، الثانية خلط الجندر بغير جنسه ولكن يمكن تمييزه منه بسهولة، واشترط فيهما أن يكون ذلك الخلط على وجه الإحراز والرفق، فإن لم يكن على وجه الإحراز والرفق كما إذا كان على وجه التملك ضمن المودع بالفتح، وما قبل الاستثناء شامل لخلط الجنس بمثله في الجنسية لا في الصفة، ولخلط الجنسى بغير مثله وليعسر تمييغ منه ولخلط الجنس بمثله في الصفة وبغير جنسه ويسهل تمييزه منه لكن لا على وجه الإحراز فيهما. وقد علمت أن البناني اعترض اشتراط الإحراز في خلط الجنس بغير جنسه ويتيسر تمييزه منه. هذا هو تحرير المسألة. والله تعالى أعلم. ثم إن تلف بعضه فبينكما هذا من تتمة خلط ما لا ضمان فيه؛ يعني أنه إذا تلف بعض ما خلط في الموضع الذي لا ضمان فيه على المودع ولم يتميز التالف من غيره كالقمح بمثله في الصنفية والجودة أو الرداءة أو بينهما، فإن ما بقي يكون بينكما يا مودع ويا مودع على حسب نصيب كل واحد منكما فإن كان الذاهب واحدا من ثلاثة لأحدهما واحد وللآخر اثنان فعلى صاحب الواحد

ص: 353

ثلثه وعلى صاحب الاثنين ثلثاه، فلصاحب الواحد من الاثنين الباقيين ثلث من كل واحد منهما، وللآخر الثلثان الباقيان من كل منهما، فللأول ثلثا دينار وللثاني دينار وثلث دينار.

إلا أن يتميز يعني أن محل كون الباقي بينهما على قدر ما لكل إنما هو إذا لم يتميز الباقي من التالف، رأما إن تميز فيكون الباقي لمن هو له كمسألة الدنانير والدراهم وكالدراهم المسكوكة بسكة مختلفة وكل منهما معلومة سكة دراهمه، وقولي: فبينكما على قدر ما لكل هو المعتمد ومقابله هو ما ذكره في المدونة في تضمين الصناع، ونصه: قال مالك: ومن اختلط له دينار مع مائة دينار لغيره ثم ضاع من الجملة دينار فهما فيه شريكان، صاحب الدينار بجزء من مائة جزء وجزء وصاحب المائة بمائة جزء من مائة جزء وجزء، قال ابن القاسم وابن أبي سلمة: لصاحب المأئة تسعة وتسعون ويقتسمان الدينار الباقي، قال ابن يونس: يريد ولو لم يبق إلا دينار واحد لقسم بينهما نصفين على قوليهما؛ لأن كل واحد يدعيه لنفسه. انتهى. وقال المشدالي في حاشيته على هذا المحل: قال ابن سهل: ابن القاسم وابن أبي سلمة: وكذلك الشاة تختلط بغنم فتبهم. انتهى. قاله الحطاب.

واعلم أن المعتمد الذي مرَّ ذكره هو قول مالك والليث بن سعد وابن كنانة وابن وهب ومطرف وأصبغ وأشهب وابن حبيب، ومقابله لابن الماجشون وابن أبي سلمة وابن القاسم، فلو أودع رجل شخصا ثلاثة دنانير وآخر دينارين وآخر دينارا فخلطها المودع ثم ذهب منها دينار، فعلى ما لابن القاسم وابن الماجشون وعبد العزيز بن أبي سلمة: يأخذ صاحب الثلاثة من الخمسة الباقية ثلاثة إلا ربعا وصاحب الاثنين دينارين إلا ربعا وصاحب الدينار نصف دينار، وذلك لأنه يقال لصاحب الدينار: أنت لا تدعي من الخمسة إلا دينارا فيعزل ويبقى الأربعة، فصاحب الاثنين يدعي فيها اثنين فيعزلان ويبقى اثنان لا يدعيهما إلا صاحب الثلاثة فيأخذهما ثم يرجع إلى الثلاثة المعزولة فيجد صاحب الدينار لا يدعي فيها إلا واحدا فيعزل ويبقى اثنان، فيقال لصاحب الثلاثة الآخذ لاثنين: أنت لا تدعي في هذين إلا دينارا فيعزل فيبقى دينار لا يدعيه إلا صاحب الاثنين، ثم يرجع إلى الدينارين المعزولين فصاحب الدينار يدعي فيهما دينارا ويبقى دينار، فيقسم بين صاحب الثلاثة وصاحب الاثنين نصفين لأن كل واحد يدعي جميعه، ويقسم الدينار

ص: 354

الباقي بينهم يكون لصاحب الدينار الواحد نصفه لأنه يدعيه جميعه، ويكون لصاحب الثلاثة رالانجن نصفه فبينهما، وعلى ما لمالك وموافقيه يقسم الدينار التالف بينهم على الأجزاء، يكون على صاحب الثلاثة ثلاثة أجزاء وعلى صاحب الاثنين جزءان وعلى صاحب الدينار جزء واحد، فلصاحب الثلاثة اثنان ونصف ولصاحب الاثنين واحد وثلثان ولصاحب الواحد نصف وثلث وذلك خمسة أسداس، وقد مر أنه يضمن بمجرد الخلط وإن لم يحصل تلف حيث يضمن بالخلط، كما إذا خلط الجيد بالردي أو القمح بالشعير مع عسر التمييز فيهما، فيضمن له ذلك الذي عسر تميزه من غيره، قال اللخمي: وإذا كان عند رجل وديعتان قمح وشعير فخلطهما ضمن لكل واحد مثل ما خلط له. قاله الحطاب.

وبانتفاضه بها يعني أن المودع بالفتح إذا انتفع بالوديعة انتفاعا تعطب به عادة فعطبت من ذلك الانتفاع، فإن المودع بالفتح يضمنها ومن المدونة: ومن أودعك عبدا فبعثته في سفر أو في أمر يعطب في مثله ضمنته، وأما إن بعثته لشراء بقل أو غيره من حاجة تقرب من منزلك لم تضمن؛ لأن الغلام لو خرج في مثل هذا لم يمنعه منه. ابن ناجي: أراد بقوله يعطب في مثله أي غالبا، والمراد هلك بسبب ما بعثته فيه وهذا لا خلاف في ضمانه، وأما إن كان فيما يعطب فيه نادرا فالصحيح أنه لا يضمن، واختلف إذا هلك في استعماله بأمر من الله تعالى، فقال سحنون: يضمنه، وقال ابن القاسم: لا يضمنه بناء على أنه بالعداء كغاصب واعتبار غالب السلامة، والظاهر أن هذا التفصيل خاص بالرقيق وهو الذي يفيده تعليل المدونة. والله أعلم. قاله البناني. وقال التاودي: الظاهر أنه يضمن مهمى انتفع بها، كانت تعطب بمثله أو لا، تلفت بسماوي أو لا لتعديه في الجميع كما قاله ابن عاشر. انتهى. وقال الرهوني: قول عبد الباقي: فإن انتفع بها انتفاعا لا تعطب بمثله عادة وتلفت بسماوي أو غيره فلا ضمان. انتهى. أصله لل تتائي، فقال ابن عاشر ما نصه: هذا التفصيل لم أره لابن عرفة ولا يناسب تعليل الضمان بمطلق التعدي. انتهى منه بلفظه. ولهذا قال التاودي: الظاهر أنه يضمن مطلقا لتعديه كما قاله ابن عاشر، قلت: هو ظاهر نقل ابن يونس وهو ظاهر كلام ابن شأس وابن الحاجب وشروحه وابن عرفة فيجب التعويل عليه، لكنه مقيد بغير ما جرت العادة بالتسامح في مثله كما دل عليه كلام ابن ناجي

ص: 355

الذي نقله البناني هنا وغيره، وقول البناني: إنه خاص بمسألة العبد لتعلين المدونة وإن كان ظاهرا خلاف ما لأبي علي من أن ركوب الدابة للسوق ونحو ذلك مثله قائلا ما نصه: وهذا لا تعدي فيه لجري العادة بالسامحة في هذا. انتهى منه بلفظه. انتهى.

وقال عبد الباقي: وبانتفاعه بها كدابة يركبها انتفاعا تعطب به عادة وعطبت كما يدل عليه الاستثناء ولو بسماوي، فإن انتفع بها انتفاعا لا تعطب به عادة وتلفت بسماوي أو غيره فلا ضمان " فإن تساوى الأمران فالأظهر كما يفيده أول كلام ابن ناجي الضمان ولم بسماوي، وكذا إن جهل الحال. قاله الأجهوري. انتهى.

أو سفره إن قدر على أمين يعني أن المودع بالفتح إذا سافر بالوديعة وهو قادر على أمين يودعها عنده أو على ردها لربها فتلفت، فإنه يضمنها، قال عبد الباقي: أو سفره بهـ إن قدر على أمين يودعها عنده أو على ردها لربها، كما يفيده مفهوم قوله الآتي:"أو لسفر عند عجز الرد" أي وعند عدم القدرة على أمين ففيه احتباك حذف من الأول ما دل عليه مفهوم لثاني، ومن الثاني ما دل عليه مفهوم الأول. انتهى.

إلا أن ترد سالمة راجع للمسألتين قبله؛ يعني أنه إذا انتفع بالوديعة فإنه ضمنها إلا أن ترد سالمة في ذاتها وصفتها وسوقها، وكذلك إذا سافر بها مع قدرته على أمين يوا عها عنده أو على ردها لربها إلا إذا ردها سالمة في ذاتها وصفتها وسوقها، قال الخرشي: ولا فرق في السفر بين سفر النقلة بالأهل أو سفر التجارة أو سفر الزيارة، وقوله:"سالمة" أي في ذاتها وصفتها وسوقها، فإن تغيرت في شيء من ذلك فسيأتي في كلامه، وقوله:"إلا أن ترد سالمة" راجع جمع لمسألتي الانتفاع والسفر، وإذا ردت سالمة من الانتفاع بها فهل عليه أجرة أم لا؟ فسيأتي للحالاب في أول الغصب أن عليه الأجرة لكن ينبغي أن يقيد بما إذا كان ربها يليق به ذلك وإلا فلا أجرة. انتهى.

وقال عبد الباقي: إلا أن ترد إلى موضع إيداعها في الأول وفي سفره بها سالمة م تلفت فلا ضمان عليه، والقول قوله أنها ردت سالمة، ومفهوم الشرط أنه إذا لم يقدر على أمين وخاف عليها إن تركت فلا ضمان عليه إذا صحبها فتلفت. انتهى. وقال المواق من المدونة: من، أودعته دراهم أو حنطة أو ما يكال أو يوزن فاستهلك بعضها ثم هلك بقيتها لم يضمن إلا ما استهلك أولا، ولو كان

ص: 356

رد ما استهلك لم يضمن شيئا إن ضاعت وهو مصدق أنه رد فيها ما أخذ منها كما يصدق في ردها إليك وفي تلفها، وكذلك لو تسلف جميعها ثم رد مثلها مكانها لبرئ انتهى.

وحرم سلف مقوم يعني أن الوديعة إذا كانت مقومة فإنه يحرم على المودع بالفتح أن يتسلفها مليا كان أو معدما والمصدر مضاف إلى مفعوله، ومعدم من إضافة المصدر إلى فاعله عكس ما قبله؛ يعني أن المودع بالفتح إذا كان معدما فإنه يحرم عليه أن يتسلف وديعته كانت الوديعة مقومة أو مثلية، وإنما حرم سلف القوم على الملي لأن مثله ليس كعينه لاختلاف الأغراض في المقوم، فأشبه بيع الفضولي وشراءه من حيث إنه تصرف في ملك الغير بما هو مظنة عدم رضاه، وحرم سلف المعدم لتضرر المودع بالكسر بعدم الوفاء.

وكره النقد والمثلي من عطف العام على الخاص، وهذا مفهوم قوله:"وحرم سلف" لخ يعني أن الوديعة إذا كانت نقدا أو مثليا فإنه يكره للمودع بالفتح اللي أن يتسلفها ولم يحرم لأن مثله كعينه، فالتصرف الواقع فيه كلا تصرف أوأنه تصرف بما هو مظنة أن لا يأباه ربه، فلما لم يرد لذاته كان أخف من المقوم، وهذا ما لم يكثر اختلافه ولا يتحصل أمثاله كلؤلؤ أو كتان في بعض الأماكن فكالمقوم، ودخل في معدم من عنده مثل الوديعة أو ما يزيد عليها بيسير كما استظهره في الشامل، وأصله لابن عبد السلام بغير استظهار، وينبغي أن يكون مثل ذلك سيء القضاء والظالم ومن ماله حرام. قاله علي الأجهوري. ومن تقريره أن مثل المودع في تفصيل المص ناظر الوقف وجابيه والربح لكل. انتهى. ثم محل كراهة النقد والمثلي حيث لم يبح له ربه ذلك أو يمنعه بأن جهل وإلا أبيح في الأول ومنع في الثاني، وشمل تفصيل المصنف سلف الفضولي لثمن وديعة عنده باعها فليس كبيعه للغير؛ إذ هو حرام وإنما كان هذا سلف فضولي لأنه تسلف مما عنده بغير إذن ربه. انتهى.

تنبيه: قال المواق: إقدام المرء على شيء بتأويل ليس كمن أقدم عليه مجاهرا، ومن أكل حراما يعتقد أنه حلال أثيب على قصده ولا يعاقب على فعله ولا يظلم به قلبه، ومن أقدم على حلال صرف يعتقد شبهته قسا قلبه وأظلم، وإن كان معتقدا حرمته كان ذلك جرحة فيه وعليه درك المخالفة مع كون ذلك الشيء في نفسه حلالا. انتهى. وقال الحطاب عند قوله "وحرم سلف مقوم

ص: 357

ومعدم وكره النقد والمثلي" ما نصه: عن اللخمي وأرى أن ينظر إلى المودع فإن كان يعلم منه أنه لا يكرد ذلك فيما بينه وبين المودع أو معه كرم طبع جاز، وان كان يعلم منه الكراهية لم يجز. انتهى.

كالتجارة تشبيه تام يعني أن التجارة في الوديعة كالسلف للوديعة، فتحرم في المقوم والمعدم وتكره في النقد والمثلي؛ لأن التجر فيها يتضمن سلفها، وما قررت به المص من أن التشبيه تام هو الصواب ونحوه لابن عاشر، وأما ما في المدونة من الكراهة ونصها: ومن أودعته مالا فتجر به فالربح له وليس عليه أن يتصدق بالربح وتكره التجارة بالوديعة. انتهى. فإنما هي في وديعة المال أي النقد لأنه موضوعها لا مطلقا.

والربح له يعني أن الوديعة إذا كانت عينا وتجر فيها المودع بالفتح فربم فيها فإن الربح يكون للمودع بالفتح ويرد رأس المال للمودع بالكسر، وكذا الغاصب فإن كانت الوديعة غير عين بأن كانت طعاما أو عرضا وباع المودع بالفتح ذلك فربها مخير بين إمضاء البيع وأخذ ما بيع به شيئه ورده، وأخذ متاعه مع القيام وأخذ الثمن والقيمة أو المثل مع الفوات، قال الحطاب: قال في الرسالة: وإن باع الوديعة وهي عرض فربها مخير في الثمن أو القيمة يوم التعدي، قال الجزولي وغيره: وإن كان مكيلا أو موزونا فربه مخير في المثل أو الثمن، وقال ابن يونس في كتاب الوريعة: ولو كانت الوديعة طعاما أو سلعة فرب الوديعة مخير إن شاء أغرمه مثل طعامه وقيمة سلعته إن فات ذلك، فإن لم يفت أخذه بعينه وإن شاء أخذ ما أخذ فيها من ثمن أو جارية أو غيره. انتهى.

وقال عبد الباقي عند قوله "والربح له" ما نصه" ثم إن كانت الوديعة دنانير أو دراهم فواضح، فإن كانت عروضا فإن باعها بعرض ثم باع العرض بعرض وهلم جَرًّا فلا ربح له وله الأجرة، وإن باعه بدراهم أو دنانير فإن كان قائما خير ربها بين الإجازة وأخذ ما بيع به والرد، وإن فات خير ربها بين الإجازة وأخذ ما بيع به وتضمينه القيمة، ومثل المودع بالفتح الوصي إذا اتجر بمال يتيم لنفسه لكنه ممنوع من ذلد ابتداء بكل حال. انتهى المراد منه. قوله: لكنه ممنوع من ذلد ابتداء لخ نحوه في المواق عن الباجي، قال البناني: والظاهر أن فيه تفصيل الوديعة كما

ص: 358

يفيده نقل الحطاب عن أبي الحسن، وقد نقل الحطاب في باب الوصية عن مالك وغيره أنه لا باس بذلك إذا كان للوصي مال يوفى منه حيث يضيع له منه شيء. انتهى. ويمكن أن يحمل ما في المواق عن الباجي على الوصي المعدم. والله أعلم. انتهى.

قوله: ويمكن أن يحمل ما في المواق عن الباجي على الوصي العدم، قال الرهوني: فيه نظر لأنه بعد أن ذكر الخلاف في الوديعة قال: وهذا بخلاف تسلف الوصي مال اليتيم فإنه آثم. انتهى. فإنه يفيد أن مراده الوصي الملي إذ الخلاف في الوديعة محله في الملي وإلا حرم اتفاقا كما يفيده كلام اللخمي وغيره، وصرح به ابن الحاجب وسلمه ابن عبد السلام وغيره. فتأمله. انتهى. وقال الحطاب: ونص المدونة: ومن أودعته مالا فتجر فيه فالربح له وليس عليه أن يتصدق به، ويكره التجارة بالوديعة. انتهى. قال أبو الحسن: وكذا الوصي يتجر بمال الأيتام أن الربح له بخلاف المبضع معه والمقارض إنما دفع المال إليهما على طلب الفضل، والمودع إنما أراد حفظ ماله فله أصل المال دون الربح. انتهى. وكذا الوصي أيضا إنما عليه حفظ المال، وفي المنتقى: ولم يختلف أصحابنا أن المبضع معه المال يبتاع به لنفسه أن صاحب المال مخير أن يأخذ ما ابتاع به لنفسه أو يضمنه رأس المال؛ لأنه إنما دفع المال إليه على النيابة عنه في غرضه وابتياع ما أمره به فكان أحق بما ابتاعه، وهذا إذا ظفر بالأمر قبل بيع ما ابتاعه، فإن فات ما ابتاعه به فإن ربحه لرب المال وخسارته على المبضع معه. انتهى.

تنبيه: تحصل مما مر عن عبد الباقي أن الوديعة إذا كانت عرضا وباعها المودع بدراهم أو بدنانير وباع الدراهم أو الدنانير بعرض أنه ليس لرب الوديعة مع فواتها إلا قيمتها؛ يعني إن كانت مقومة وإلا فمثلها أو أخذ الدنانير والدراهم وأنها إن كانت عرضا وباعه بعرض وباع العرض الثاني بدراهم أو بدنانير فإنه مخير بين العرض العين مع القيام وعوض العرض والعين مع الفوات. والله تعالى أعلم. فانظره متأملا. وقال المواق من المدونة: قال مالك: إذا استودع الرجل مالا فابتاع به لنفسه وربح فيه فإن ذلك الربح له لأنه ضامن للمال حتى يؤديه لصاحبه. أبو عمران: وهذا قول مالك والليث وأبي يوسف؛ لأنه إذا رد المال طاب الربح غاصبا كان للمال أو مستودعا عنده وتعدى فيه. الباجي: قوله فإن ذلك الربح له يريد إن كانت الوديعة عينا وهذا

ص: 359

مبني عندي على أن الدنانير والدراهم لا تتعين بالغصب، ولذلك قال: إذا كانت الوديعة طعاما فباعه بثمن فإن صاحبه مخير بين إمضاء البيع وأخذ الثمن أو يضمنه مثل طعامه. انتهى المراد منه.

وقال المواق عند قوله: "والمثلي"ما نصه" تقدم للخمي أن مثل الكتان لا يجوز سلفه، قال: وأما القمح والشعير ونحوه فهل يجوز سلفه كالدراهم؟ ظاهر المدونة أنه مثلها، وقال الباجي: الأظهر عندي المنع ويجيء على قول القاضي أبي محمد أنه يبرأ برد مثله إباحة ذلك. انتهى. انظر عزو هذا للقاضي وهو نص المدونة. انتهى.

وبرئ إن رد غير المحرم يعني أن المودع إذا تسلف الوديعة ثم ادعى ردما تسلفه إلى محله ثم ضاعت بعد ذلك فإن المودع يبرأ منها ويصدق فيما ادعاه بيمينه حيث كان تسلفه مكروها وهو تسلف المثلي والنقد للملي، وسواء أخذ الوديعة من ربها ببينة أم لا. قاله الخرشي. وأما التسلف المحرم فلا بد من الشهادة على رده لربه ولا تكفي الشهادة على رده لمحل الوديعة هذا ظاهر المص. وقال البناني عند قوله:"وبرئ إن رد غير المحرم" ما نصه: غير المحرم مخرج للعرض يعني القوم وهو ظاهر ومخرج للنقد والمثلي للمعدم. ونظر ابن عبد السلام والتوضيح في هذا بأن المعدم إنما منع من سلفها خشية أن لا يردها، فإذا ردها فقد انتفت العلة التي لأجلها منع من تسلفها. انظر الحطاب. فلو قال المصنف: وبرئ إن رد غير القوم كان أولى. انتهى. وقوله: "وبرئ إن رد غير المحرم" قال الخرشي: هو مقيد بما إذا ادعى رد صنف ما تسلفه فإن ادعى رد غير صنفه لم يبرأ، قال ابن عرفة: ولو أودعه دنانير فتسلفها وردها دراهم لم يبرأ اتفاقا. انظر ال تتائي. انتهى. وقال عبد الباقي: وبرئ متسلف الوديعة إن ادعى رد غير المحرم بعينه وصنفه ثم تلف فلا ضمان عليه، ويحلف على الرد لمحله فإن نكل لم تقبل دعواه الرد، فإن ادعى رد غير صنفه كما لو كانت دنانير فرد دراهم أو عكسه لم يبرأ. قاله ال تتائي. وكقمح عن شعير كما في ابن وهبان كما لو ادعى رد المحرم فلا يبرأ برد عينه ولا عوضه لمحل الوديعة ولو أشهد بذلك، وإنما يبرئه رد عينه أو عوضه لربه ببينة كما لأبي الحسن، وإذا أودعه له ثانيا وتلف بغير سببه لم يضمن. انتهى.

ص: 360

قوله: "وبرئ إن رد غير المحرم" هو المشهور من قول مالك، وأخذ به ابن القاسم وأصبغ وأشهب وابن عبد الحكم ومذهب المدونة، وقيل لا يبرأ وهو لمالك وهو قول أهل المدينة من أصحابه وروايتهم عنه ورواه عنه المصريون ولم يقولوا به، وقيل يبرأ إن ردها بإشهاد وإلا لم يبرأ وهو لمالك أيضا وبه أخذ ابن وهب، وقال ابن حبيب عن ابن الماجشون: إن كانت مربوطة أو مختومة لم يبرأ إلا بردها إلى ربها، وقوله:"وبرئ إن رد غير المحرم" قد علمت أنه هو المشهور وعليه فلا يصدق إلا بيمين. قاله أشهب. وكذلك هو في الموازية. انتهى.

ابن عرفة: وعلى براءته في تصديقه في ردها دون يمين أو بها، ثالثها: إن تسلفها بغير بينة صدق بغير يمين وإلا لم يصدق لقول الشيخ: لم يذكر في المدونة يمينا مع قول الباجي ظاهرها نفيها والشيخ عن محمد مع ابن الماجشون في المنثورة والموازية، وذكر اللخمي الثالث اختيارا له. قاله الحطاب والشارح والعزو له دون الحطاب في مسألة المص. وأما مسألة اليمين فمن الحطاب، وقال الحطاب: قال في المدونة: ولو كانت الوديعة ثيابا فلبسها حتى بليت أو استهلكها ثم رد مثلها لم تبرأ ذمته من قيمتها؛ لأنه إنما لزمه قيمة ذلك. انتهى.

أبو الحسن: مفهومه لو رد القيمة لبرئ وليس كذلك فإن ذمته لا تبرأ سواء وقف القيمة أو المثل. انتهى والله تعالى أعلم.

قال عبد الباقي وغيره: ولما كان غير المحرم شاملا للمكروه والجائز مع أن المراد هو الأول فقط، وأما الجائز كالمأخوذ بإذن ربها فلا يقبل قوله في رده استثناه، فقال: إلا بإذن يعني أن المودع إذا أذن للمودع في تسلف الوديعة كلها أو بعضها إذنا مطلقا أي لم يقيده باحتياج ولا بغيره فتسلفها ثم ادعى رد مثلها وضياعه فإنه لا يصدق في ذلك ويضمن عوض الوديعة لربها، أو يقول إن احتجت فخذ يعني أن المودع بالكسر إذا أذن للمودع بالفتح في تسلف الوديعة إذنا مقيدا كأن يقول له إن احتجت إلى الأخذ فخذ فتسلفها ثم ادعى ردها إلى محلها وضياعها فإنه لا يصدق في ذلك ويضمنها لربها، قال عبد الباقي: إلا بإذن مطلق في التسلف منها أو كلها أو مقيد كأن يقول إن احتجت فخذ فلا يبرأ إلا برد ما أخذه منها لربه؛ لأن ما أخذه سلف له من مالكها فانتقل من أمانته لذمته فصار كسائر الديون، ومثل المص بمثالين ليشمل الإذن المطلق والمقيد كما مر،

ص: 361

والأولى رجوع الاستثناء لأقسام السلف والتجارة، وإذا تسلفها وأخذ ثمنها في الإذن المقيد بالحاجة بدونها لم يبرأ برده لمكانه على المعتمد، خلافا لبحث الشارح. انتهى.

وقال الخرشي: أي أنه إذا تسلفها أو تسلف منها شيئا بعد الإذن ثم رده إلى موضعه فضاع بعد ذلك لم يبرأ منه، ولا يبرأ إلا بردها إلى صاحبها كالمحرم لأنه صار في الذمة كالديون الثابتة في الذمم، ثم إن الأولى رجوع قوله:"إلا بإذن" للجميع؛ أي "وحرم سلف مقوم ومعدم وكره النقد والمثلي كالتجارة""إلا بإذن" فلا يحرم ولا يكره "وبرئ إن رر غير المحرم" إلا بإذن فلا يبرأ إلا بررما أخذه منها لربه. انتهى.

وضمن المأخوذ فقط يعني أنه إذا أخذ من الوديعة بإذن مطلق أو مقيد ثم ادعى تلف ما لم يأخذ منها فإنه يصدق في ذلك ولا ضمان عليه، وإنما يضمن المأخوذ فقط فلا يصدق في أنه رده إلى محله بل لا يبرأ إلا برره لربه، قال عبد الباقي: وإذا أخذ من الوديعة بإذن مطلق أو مقيد وضاع الباقي ضمن المأخوذ فقط ولا يبرئه دعوى الرد ولا ضمان عليه فيما لم يأخذه، ووجه تعرضه لذلك أنه ربما يتوهم أنه لما تسلف البعض فكأنه تسلف الجميع، فإذا تلف ما لم يأخذه فكأنه تلف على ملكه. قال عبد الباقي: وما قررنا به قوله: "وضمن" لخ من أنه خاص بمسألتي الإذن نحوه لل تتائي، وذكر بعض أنه يرجع أيضا للسلف بغير إذن بأنواعه المتقدمة للمص ولمسألة الربح، خلافا لقصر ال تتائي له على السلف بإذن. انتهى. وهذا الذي قاله هذا البعض هو المتعين لما مر عن المدونة، ففيها: من أودعته دراهم أو حنطة أو ما يكال أو يوزن فاستهلك بعضها ثم هلك بقيتها لم يضمن إلا ما استهلك أولا، ولو كان رد ما استهلك لم يضمن شيئا. انتهى المراد منه. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه.

أو بقفل بنهي يعني أن من أودع وديعة عند شخص، وقال له اجعلها في صندوق مثلا ولا تقفل عليها فخالف وقفل عليها ثم سرقت بعد ذلك فإن المودع يضمنها لأنه سلط السارق عليها، والباء في بنهي بمعنى مع، وقوله:"أو بقفل" عطف على قوله: "بسقوط شيء"، قال المواق: قال ابن عبد الحكم: من قال لمن أودعه وديعة اجعلها في تابوتك ولم يقل غير ذلك لم يضمن إن قفل عليها، ولو قال: لا تقفل عليها ضمنها لأن السارق برؤية القفل أطعع، قوله:"أو بقفل بنهي"،

ص: 362

قال عبد الباقي: فسرقت فيضمن لطمع السارق ولا يضمن غير السرقة عند ابن القاسم لقوله: لا يضمن إلا إذا تلفت بالوجه الذي قصد الاحتراز من أجله، فإذا تلفت بغير السارق لم يضمن خلافا للشارح. قاله الوالد.

ومفهوم قوله: "بنهي" أنه لو قفل عليها حيث لم ينهه فلا ضمان، وأنه لو ترك القفل عليها مع عدم النهي وعدم الأمر به لا ضمان، وقد ذكر ابن راشد في مذهبه أنه إذا جعلها في بيته من غير قفل وله أهل قد عرف خيانتهم أنه يضمن لخالفته العرف. انتهى. انظر ال تتائي. وظاهره ولو علم ربها بذلك لما مر من وجوب حفظها ولو شرط المودع بالكسر خلافه لأنه شرط مناقض بحقيقتها. انتهى. قوله: وقد ذكر ابن راشد في مذهبه لخ ما عزا لابن راشد سبق إليه اللخمي مع زيادة، ونصه: إن وضعها في بيته أو صندوقه ولم يقفل عليها وكان لا يتصرف إليه أحد وله أهل لا يخافهم عليها لم يضمن، وإن كان يخافهم ضمن إلا أن يقفل عليها، وان كان عهد منهم الخيانة بعد القفل ضمن وإن قفل. انتهى منه بلفظه.

أو بوضع بنحاس في أمره بفخار يعني أن المودع بالكسر إذا أمر المودع بالفتح أن يضع الوديعة في الفخار أي إناء الطين فخالف ووضعها في قدر نحاس أو إنائه فتلفت فإن المودع يضمنها، قال المواق: ابن عبد الحكم: لو قال اجعلها في شكل فخار فجعلها في شكل نحاس ضمن، وفي العكس العكس. انتهى. وقال عبد الباقي: أو بوضع بنحاس في أمره بوضع بفخار، فإن لم يأمر بوضعه بشيء لم يضمن إن وضعه بمحل أمن وإلا ضمن. انتهى بتغيير قليل.

لا إن زاد قفلا يعني أنه إذا أمره أن يقفل عليها قفلا واحدا فقفل عليها قفلين فلا ضمان عليه إذا تلفت، إلا إن كان فيه إغراء للص. أو عكس في الفخار يعني أنه إذا قال له اجعلها في نحاس فخالف وعكس فوضعها في الفخار فإنه لا ضمان على المودع إذا تلفت، وقوله:"أو عكس في الفخار" وكذا لو وضعه في مثل ما أمره به في الإحراز، ففي اللخمي: لو قال اجعلها في هذا السطل فجعلها في مثله لم يضمن. نقله أبو الحسن على المدونة. كذا في كريم الدين وفي ذكر الأجهوري له بحثا قصور. انتهى. والحاصل أنه لا يضمن إلا إذا تلفت بالوجه الذي قصد الاحتراز من أجله.

ص: 363

أو أمر بربط بكم فأخذ باليد يعني أن المودع بالكسر إذا أمر المودع بالفتح أن يربط الوديعة في كمه فجعلها المودع -بالفتح- في يده فضاعت أو أخذها منه غاصب فإنه لا ضمان على المودع لأن اليد أحفظ من الكم إلا أن يكون أراد إخفاءها عن عين الغاصب فرآها لما جعلها في يده فيضمن كما قاله ابن شأس نقله غير واحد.

كجبيبه يعني أن المودع بالكسر إذا أمر المودع بالفتح أن يربط الوديعة في كمه فخالف ووضعها في جيبه فضاعت أو أخذت منه، فإنه لا ضمان على المودع وقيل يضمن والأول هو اختيار اللخمي، ولهذا قال: علي المختار. قاله الشارح. وقال البناني: لعل صوابه على الأحسن يعني لقول ابن عبد السلام: الأقرب سقوط الضمان في الجيب فإن الجيب أصون منها، ونقل عن اللخمي ما لا يفيد ما قاله المص، ونص ما نقله عن اللخمي يأتي قريبا إن شاء الله تعالى. وجعل بعضهم الخلاف في حال، فقال: قيل يضمن لأن الكم أحفظ، وقيل: لا يضمن لأن الجيب أحفظ.

قال مقيده عفا الله عنه: وهذا ينتج أنه لو تحقق أن أحدهما أحفظ ووضعها في الأحفظ مع الأمر بربطها في غيره لم يضمن اتفاقا، ونقل البناني عن اللخمي ما نصه: اللخمي: ولو لقيه في غير بيته فقال اجعلها في وسطك فجعلها في كمه أو جيبه ضمن، وإن لم يشترط حيث يجعلها فجعلها في كمه أو عمامته لم يضمن، وفي جعلها في الجيب نظر.

ابن عرفة: لا يختلف في عدم ضمانه اليوم لأنه الأغلب من حال الناس، وفي الزاهي: لو جعل الوديعة في جيب قميصه ضمنها، وقيل لا والأول أحوط. ابن رشد: واختياره صحيح لأن الجيب ليس من العادة أن ترفع فيه الودائع وجاعلها فيه متعرض لتلفها. انتهى. وقال عبد الباقي عند قوله "كجيبه على المختار" ما نصه: وظاهره كان بصدره أو بجنبه وهو مقتضى كلام الشارح، ولو جعلها في وسطه وقد أمر بجعلها بعمامته لم يضمن.

وبنسيانها في موضع إيداعها يعني أن المودع إذا نسي الوديعة في موضع إيداعها وأولى في غيره فضاعت فإنه يضمنها؛ لأن نسيانه لها جناية عليها. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وبنسيانها في موضع إيداعها وأولى غيره، كمن حمل بضاعة لرجل فجاء لموضع خوف في طريق فحبسها بيده

ص: 364

ثم نزل

(1)

يبول فوضعها بالأرض ثم قام ونسيها فضاعت ولم يدر محل وضعها، كما أفتى به ابن رشد وابن الحاج

(2)

عصريه لأن نسيانه جناية عليها خلافا لفتوى الباجي وتبعه العبدوسي بعدم الضمان. هـ. وقال المواق: أصبغ عن ابن وهب: من استودع وديعة في المسجد أو في المجلس فجعلها على نعليه فذهبت فلا ضمان عليه، قلت: ألم يضيع إذا لم يربطها؟ قال: يقول لا خيط معي، قلت له: يربطها في طرف ردائه، قال: يقول ليس علي رداء، قلت: فإن كان عليه رداء؟ قال: لا يضمن كان عليه رداء أم لا. قال ابن حبيب: قال مطرف وابن الماجشون: وإن نسيها في موضع دفعت إليه فيه وقام ضمنها؛ لأن ذلك جناية وليس كذلك كسقوطها من كمه أو يده بغير نسيان لأخذها هذا لا ضمان عليه.

ابن يونس: نسيانها من كمه أو يده كنسيانه لأخذها ويجب أن لا يضمن، قال: وأما لو أودعها وكانت في بيته فأخذها يوما فأدخلها في كمه وخرج بها يظنها

(3)

دراهمه فسقطت فإنه يضمن. ابن يونس: أما هذه فصواب لأنه غير مأذون له في التصرف، فنسيانه في ذلك كعمده لأن الخطأ والعمد في أموال الناس سواء، وأما وضعها على نعليه وحملها من موضع أودعها فيه إلى داره في يده أو كمه فهو غير متعد في ذلك، فنسيانه إياها في موضعه أو نسيانه إياها في كمه حتى سقطت أمر يعذر به كالإكراه على أخذها منه.

وبدخوله الحمام بها يعني أنه إذا أودعه شخص وديعة فدخل بها الحمام أو الميضأة ليرفع حدثا أصغر أو أكبر فتلفت فإنه يضمنها حيث يمكن وضعها بموضعه أو عند أمين، ولو كان المودع غريبا في البلد لقدرته على سؤاله فيها عن أمين وجعلها عنده حتى يرفع حدثه، وإلا لم يضمن ثم قبوله لها وهو داخل السوق كقبوله لها وهو يريد دخول الحمام، وينبغي ما لم يعلم ربها أنه ذاهب للسوق. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: وكذلك يضمنها المودع إذا دخل بها الحمام فتلفت حيث لم يكن وضعها بموضعه أو عند أمين، فإذا ساغ له السفر بها واحتاج للحمام ولم يجد أمينا فدخل بها فلا ضمان ولا مفهوم للحمام، بل ولو قبلها وهو قاصد السوق مثلا فضاعت

(1)

في نسخة تّا: ثم لم يزل، والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 117.

(2)

في نسخة تّا: الحاجب، والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 117.

(3)

في نسخة تّا: يظنه، والمثبت من المواق ج 7 ص 277 ط دار الكتب العلمية.

ص: 365

لضمن وينبغي ما لم يعلم ربها بأنه ذاهب للسوق أو للحمام. هـ. وقال المواق: سحنون: من أودع وديعة فصرها في كمه مع نفقته ثم دخل الحمام فضاعت ثيابه بما فيها فإنه ضامن، ابن يونس إنما ضمنه بدخول الحمام، وقوله:"الحمام" مفعول لدخول وهو مصدر أضيف إلى فاعله، وبها متعلق بدخوله والباء للمعية أو للإلصاق.

وبخروجه بها يظنها له فتلفت يعني أن المودع بالفتح إذا خرج بالوديعة يظنها له أي لنفسه فتلفت فإن المودع يضمن لأن ذلك جنابة منه عليها، لا إن نسيها في كمه فوقعت يعني أن المودع بالكسر إذا أمر المودع بالفتح أن يجعل الوديعة في كمه فجعلها فيه فنسيها فيه فوقعت أي سقطت فإنه لا ضمان على المودع، وقيد بأن تكون غير منثورة في كمه وإلا ضمن لأنه ليس بحرز حينئذ.

ولا إن شرط عليه الضمان يعني أن المودع إذا شرط على المودع ضمان الوديعة في محل

(1)

لا يضمن فيه إذا تلفت، فإنه لا ضمان على المودع بالفتح إذا حصل التلف، فلو قال له حين أودعه: إن تلفت هذه الوديعة فإن ضمانها منك ولو تلفت بغير تفريط منك ثم إنها تلفت بغير تفريط من المودع، فإنه لا ضمان عليه. وفاعل شرط ضمير يعود على رب الوديعة، والضمير المجرور بعلى عائد على المودع بالفتح، وإنما لم يضمن لأن الوديعة محض الأمانة والأصل فيها عدم الضمان، قال الشارح عند قوله:"ولا إن شرط عليه الضمان" ما نصه: ولا ضمان إذا شرط رب الوديعة على المودع الضمان إذا ضاعت وهو ظاهر. انتهى. قال عبد الباقي: ولا إن شرط عليه الضمان في محل لا يضمن فيه فلا ضمان عليه إذا تلفت لأنها من الأمانات: فشرط ضمانها يخرجها عن حقيقتها ويخالف ما يفيده

(2)

الحكم. انتهى.

وبإيداعها يعني أن المودع بالفتح إذا أودع الوديعة لغير من يذكر فتلفت فإنه يضمنها لأنه ممنوع من الإيداع؛ لأن ربها لم يأتمن إلا إياه بخلاف الملتقط فله الإيداع. المواق: ابن عرفة:

(3)

يوجب ضمانه الوديعة تصرفه فيها بغير إذن عادي أو جحدها فيها مع غيرها إيداعه إياها إلا لعذر في

(1)

في نسخة أتا المحل والمثبت من الخرشى ج 6 ص 113

(2)

لفظ عبد الباقي ج 5 ص 117 والخرشي ج 6 ص 112: ما يوجبه.

(3)

ساقطة من نسخة أتا والمثبت من المواق ج 7 ص 278

ص: 366

غيبة ربها يوجب ضمانه إياها. انتهى. وإن بسفر الباء بمعنى: في؛ يعني أن رب الوديعة إذا أودعها لمسافر فتلفت فإن المودع المسافر يضمنها وهو قول المدونة: وإن أودع مسافر مالا في سفره فأودعه غيره فضاعت ضمن. انتهى. ونص المصنف على هذا ليلا يتوهم أن الإيداع في السفر مظنة إباحة الايداع وللتنصيص على الفروع لأنه في المدونة. والله تعالى أعلم. قاله البناني. قال: وهذا التقرير للمواق والحطاب وكلام المواق الذي أشار إليه هو ما نصه: ومن المدونة وإن أودعت لمسافر مالا فأودعه في سفره فضاع ضمن. انتهى ونحوه للخرشي فإنه قال: يعني أن المودع يضمن الوديغة إذا أودعها عند غيره في حضر أو سفر من غير ضرورة فضاعت أو تلفت وإن كان قد أخذها في سفر وإن كان الغير أمينا إذا لم يرض ربها إلا بأمانته، قال فيها: وإن أودعت لسافر مالا فأودعه في سفره فضاع

(1)

ضمن انتهى.

وإنما بالغ في السفر ليلا يتوهم أنه لما قبلها في السفر كان هذا مظنة الإذن في الإيداع. انتهى. وفي تقرير عبد الباقي هنا وتسليم الرهوني له وتصحيحه له نظر، والصواب ما قررته به تبعا لغير واحد. والله تعالى أعلم.

مسألة في الحطاب: من أودع معه وديعة لبلد فعرضت له إقامة في الطريق قصيرة كاليوم أو طويلة كالسنة أو متوسطة كالشهرين، فإن بعثها في القصيرة ضمنها، وإن حبسها في الطويلة ضمنها، وفي المتوسطة مخير. هذا الذي ارتضاه ابن رشد وجمع به بين أقوال مالك وأصحابه. انتهى. وفي النوادر: من كتاب ابن المواز: من أبضع معه بضاعة فليس له أن يودعها غيره ولا أن يبعث بها مع غيره، إلا أن تحدث له إقامة في بلده ولا يجد صاحبها

(2)

ويجد من يخرج إلى حيث أمر صاحبها فله توجيهها، ثم قال: قال مطرف: ولو قال الآمر أمرتك أن لا تخرج من يدك ولا تدفعها إلى غيرك وأنكر ذلك الأمور فالأمور مصدق. وقاله ابن الماجشون وأصبغ. وقال: قال مطرف: ولو اجتهد أنه أمين فإذا هو غير أمين فلا ضمان عليه. انتهى.

(1)

ساقطة من نسخة اتا والمثبت من المواق ج 7 ص 273 ط دار الكتب العلمية.

(2)

في نسخة: يعيد صاحبه، والمثبت من الحطاب ج 6 ص 7 ط دار الرضوان.

ص: 367

لغير زوجة وأمة اعتيدا بذلك المجرور باللام متعلق بقوله: "بإيداعها" والمجرور بالباء متعلق باعتيدا، وذكر الضمير في اعتيدا باعتبار الشخصين، وقوله:"بذلك" أي بالإيداع يعني أن محل ضمان المودع بالفتح بالإيداع إذا أودعها لغير زوجة اعتيد إيداع الزوج لها أو لغير أمته التي اعتيد إيداعه لها، وأما إن أودعها لزوجته التي اعتيد إيداعه لها ولأمته التي اعتيد إيداعه لها فتلفت فلا ضمان عليه، قال عبد الباقي: وبإيداعها وإن بسفر ومحل ضمانه إن أودعها لغير زوجة وأمة وعبد وأجير في عياله كما في المدونة، ولغير ابنته كما في الكافي، فإن أودعها لمن ذكر لم يضمن حيث اعتيدا أي الزوجة والأمة ومن أشبههما مما مر بذلك، بأن طالت إقامتهما عنده ووثق بهما. فإن لم يعتادا بذلك بأن جعلها عندهما بإثر تزوجه وشراء الأمة ضمن. قال في الشامل: وصدق في الدفع لأهله وحلف إن أنكرت الزوجة الدفع إن اتهم وقيل مطلقا، فإن نكل غرم إلا أن يكون معسرا فله تحليفها. انتهى. وضمير قوله فله للمودع بالكسر لا للزوج، وسواء كانت موسرة أو معسرة ودخل في قوله:"لغير زوجة وأمة الزوج" فتضمن الزوجة إذا وضعت الوديعة التي تحت يدها عنده على أحد قولين كما في التتائي وعزاه الحطاب لظاهر المدونة، ولعل الفرق عليه أن شأن النساء الحفظ لعدم احتياجهن غالبا للنفقة على أنفسهن باستغنائهن بالقيام عليهن ولا كذلك على الرجال لاحتياجهم لما ينفقون منه، فهن من هذه الحيثية غير خائنات، وينبغي أن يجري مثل هذا الخلاف في وضع الأمة عند سيدها ما وضع عندها، ودخل في غيرها أيضا إيداعها عند مودع بالفتح للمودع بالكسر شيئا آخر كما ذكر الشارح في باب القراض.

تنبيه: قال الغرياني: عورضت هذه المسألة بما في كتاب الشركة من أنه

(1)

إذا أودعها عند شريكه المفاوض ضمن، وتدفع العارضة بأن قيد الاعتياد في الزوجة ومن يشبهها معتبر والمعاوض ليس كذلك اهـ. انتهى. كلام عبد الباقي.

وقال المواق من المدونة: ومن أودعته مالا فدفعه إلى زوجته أو خادمه لترفعه له في بيته ومن شأنه أن ترفع له لم يضمن ما هلك، وهذا مما لا بد منه وكذا إن دفعه إلى عبده أو أجيره الذي في عياله أو رفعه في صندوقه أو بيته ونحوه لم يضمن، قال: ويصدق أنه دفعه إلى أهله أو أنه أودعه على

(1)

ساقط من نسخة اتا والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 117.

ص: 368

هذه الوجوه التي ذكرنا أنه لا يضمن فيها وإن لم تقم له بينة. ابن يونس: وكأن المودع على ذلك أودعه فصار كالإذن له في ذلك ولو لم يكن من شأنه أن ترفع له زوجته أو أمته وأنه كان لا يثق بماله إليهم فرفع الوديعة إليهم فإنه يضمن، وقد قال محمد: إن لم يكن شيء من هذه ورفعها عند غير من يكون عنده ماله والقيام له به ضمن. انتهى.

فرع: رجل طلع إلى سقف فقال لصاحب الحانوت: احبس لي هذا الفرو حتى أهبط، فاحتاج صاحب الحانوت إلى القيام إلى حاجة، فقال لرجل آخر انظر الحانوت والفرو حتى آتي فضاع الفرو، فأجاب الفقيه أبو الوليد هشام بن أحمد: على صاحب الحانوت الضمان. قاله الحطاب.

إلا لعورة حدثت مستثنى من قوله: "وبإيداعها وإن بسفر" يعني أن محل ضمان المودع بالفتح للوديعة إذا أودعها لغير من ذكر من زوجة وأمة إنما هو إذا لم يكن الإيداع لأجل عورة أي اختلال في منزل المودع بالفتح أو جار سوء أو نحو ذلك حدثت بعد الإيداع من المودع بالكسر، وأما إن أودع المودع بالفتح لأجل عورة أي عذر حدثت في منزلة أي طرأت بعد الإيداع فإنه لا يضمن حينئذ بالإيداع لغير من ذكر حيث عجز عن ردها لربها، قال المواق: اللخمي: إذا خاف المودع عورة منزلة أو جار سوء وكان ذلك أمرا حدث بعد الإيداع جاز له أن يودعها ولا ضمان عليه، وإن كان ذلك الخوف متقدما قبل الإيداع والودع عالم لم يكن له أن يودعها فإن فعل ضمن. انتهى. وقال عبد الباقي: ويستثنى من قوله: "وبإيداعها وإن بسفر" قوله: "إلا أن يودع لعورة حدثت" عند المودع بالفتح بعد الإيداع، كطرو جار سوء، فإن كانت قبل الإيداع وعلم ربها فليس للمودع بالفتح إيداعها لغيره، فإن أودع ضمن، فإن أودع بشرطه وأنكرها المودع عنده لم يضمنها الأول. ابن يونس: والأصل أنه يضمن فإن سافر بها حيث يجوز له ذلك فغشيه لصوص فطرحها ثم لم يجدها، أو أودعها لمن يظن أنه ينجو بها من راكب أو حاكم أو صالح لم يضمن، كما إذا ابتلعها فلم تخرج من جوفه. انتهى. قوله: إن كانت قبل الإيداع وعلم ربها لخ، مفهومه لو كانت قبل الإيداع ولم يعلم ربها، فقال اللخمي: يضمن المودع ضاعت عنده أو عند غيره إلا أن يكون ضياعها عنده، ولم يكن من السبب الذي يخاف منه. انتهى. ابن عرفة: كذا وقع في غير نسخة من اللخمي، وكذا نقله ابن عبد السلام وقبله، والصواب إن كانا عالمين بالخوف فهو

ص: 369

لغو لدخولهما عليه ومقابله عذر، وإلا فالأظهر اعتبار حال الفاعل لا القابل لأنه ملك التصرف بالذات.

أو لسفر عطف على المستثنى فهو في حيز الاستثناء؛ يعني أن المودع بالفتح إذا أودع لغير من ذكر وضاعت الوديعة وكان إيداعه لأجل إرادة سفر وعجز عن ردها لربها، فإنه لا يضمن بإيداعه حينئذ، قال الخرشي مفسرا للمص: وكذلك لا ضمان على من عنده الوديعة إذا طرأ له السفر وعجز عن ردها إلى ربها بأن كان ربها مسافرا مثلا، فإنه يجوز له أن يودعها ولا ضمان عليه إذا تلفت أو ضاعت. وعلم مما قررت أن قوله: عند عجز الرد قيد في المسألتين، وبالغ على جواز الإيداع لمن هي عنده بقوله: وإن أودع بسفر؛ يعني أن الإيداع لأجل عورة حدثت أو لأجل سفر عند عجز المودع بالفتح عن ردها لربها جائز، وإن كان المودع أخذ الوديعة في السفر وبالغ على ذلك ليلا يتوهم أنها لما أودعت عنده في السفر لا يجوز له إيداعها إذا أراد سفرا وإن وجد ما يسوغ الإيداع له؛ لأن ربها رضي أن تكون معه. قاله الخرشي وغيره.

ووجب الإشهاد بالعذر يعني أن المودع بالفتح لا يصدق في دعوى العذر الذي أودع لأجله، بل لا بد من ثبوته بالبينة فلذلك يجب عليه الإشهاد بالعذر بأن يري البينة العذر، ولا يكفي أن يقول اشهدوا أني أودعت لعذر، وظاهر المص أنه لو شهدت بينة بمعاينة العذر ولم يشهدها أنه لا يكتفى بذلك مع أنه يكتفى بذلك، كما أشار له الشارح. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: يعني أن المودع لا يصدق في أنه خاف عورة منزلة أوأنه أراد سفرا، بل لا بد من ثبوت ذلك بالشهود بأن يشهدهم على العذر، ولا يكفي أن يقول اشهدوا أني أودعت لعذر وظاهره أنه لو شهدت بينة بالعذر ولم يشهدها أنه لا يكتفى لخ، فلو قال: ولا بد من ثبوت عذر الإيداع لكان أحسن. انتهى. وقال المواق: ومن المدونة: لا يصدق في إرادة السفر أو خوف عورة المنزل إلا ببينة. انتهى. وقال المواق: ابن عرفة: سفره وخوف عورة منزلة عذر. أبو محمد: ولا يضمنها ولو دفعها بغير بينة. ابن يونس: كدفعه لزوجته وخادمه، وينبغي على أصولهم إن لم تقم له بينة أن يضمن لأنه دفع إلى غير من دفع إليه لكنهم لم يضمنوه للعذر، ومن المدونة: إن أراد سفرا أو خاف عورة منزلة وربها غائب فليودعها ثقة. ابن عرفة: ظاهره ولو كان دونه في ثقته. انتهى.

ص: 370

وبرئ إن رجعت سالمة يعني أن المودع بالفتح إذا خاطر وسلم بأن أودع الوديعة لغير عذر ثم رجعت الوديعة من إيداعها المذكور سالمة ثم ضاعت فإن المودع بالفتح يبرأ من ضمانها، ومن المدونة: من أودع وديعة يعني وديعة عنده عند غيره ثم استردها منه فضاعت لم يضمن، كقول مالك: إن أنفق منها ثم رد ما أنفق لم يضمن. انتهى. وعلم مما قررت أن هذا غير مكرر مع قوله: "إلا أن ترد سالمة" أي من السفر.

تنبيهات: الأول: قال اللخمي في تبصرته: وليس على المودع أن يسلم الوديعة بأمارة المودع ولا بكتابته، وإن اعترف المودع أنه خطه إلا أن يثبت الرسول عند الحاكم أنه خط المودع؛ لأن صاحب الحق لو كان حاضرا لم يجب له أخذها حتى يشهد له بذلك. انتهى منها بلفظها. ونقله ابن يونس في الموازية وسلمه ولم يحك خلافه، ونقله أبو الحسن فقها مسلما وزاد عقبه ما نصه: قال في النوادر: ولا يلزم الدافع أن يدفعها إليه أصلا ولو أمره صاحبها بلسانه خيفة أن يموت فينكر الورثة. انتهى منه بلفظه.

الثاني: اعلم أن المودع إذا حدثت له عورة فإنه يجب عليه أن يودعها، فإن لم يودعها ضمن كما مر ما يفيده. قال ذلك الرهوني.

الثالث: قال ابن يونس في كتاب حريم البئر ما نصه: قال أصبغ في العتبية، ولو قال دفنتها فضل عني موضعها فهو ضامن لأنه فرط، إلا أن يقول دفنتها في بيتي وحيث يجوز له دفنها فطلبتها في ذلك الوضع بعينه ولم أجدها فلا يضمن. انتهى منه بلفظه. وفي المفيد ما نصه: ومن أحكام ابن أبي زمنين في العتبية قيل لأصبغ فيمن استودع وديعة فدفنها في موضع فلما طلبت منه قال دفنتها في موضع ولا أدري أين هو، قال: هو لها ضامن، بخلاف ما لو قال دفنتها في هذا الوضع ثم لم يجدها فيه؛ لأنه هاهنا بمنزلة ما لو قال سقطت مني. انتهى منه بلفظه. وفي الجواهر ما نصه: وكذلك لو أودع الأرض ما استودع وكان ذلك جهده فهو حرز لا يضمن ما ضاع منه. انتهى.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: وهذا لا يخالف ما قبله كما يظهر ذلك بالتأمل. والله تعالى أعلم.

ص: 371

وعليه استرجاعها إن نوى الإياب قال الخرشي مفسرا للمص: يعني أن المودع بفتح الدال إذا أودع ما عنده من الوديعة لأمر سائغ له فإنه يجب عليه إذا عاد من سفره أن يأخذها ممن هي عنده حيث نوى الرجوع عند إيداعها لأنه التزم حفظها لربها ولا يسقط عنه إلا القدر الذي يسافر فيه، وإن لم ينو الإياب عند إيداعها بل سافر منتقلا أو لا نية له ثم عاد فإنه لا يجب عليه استرجاعها ممن هي عنده، لكن يستحب له أن يأخذها وإذا طلبها ومنعها منه حيث نوى الإياب قضي عليه بالدفع. قاله بعض بلفظ: ينبغي. انتهى قوله: بلفظ ينبغي فيه قصور كما في الحطاب عند قول المص: "وبمنعها حتى يأتي الحاكم: ونصه: قال في النوادر ومن كتاب ابن المواز وابن عبد الحكم: قال ومن أودعته وديعة ثم أقررت أنها لزيد الغائب ثم طلبت قبضها فلك ذلك بالحكم، وليس إقرارك أنها لزيد يمنعك من قبضها في غيبة زيد لأنك الذي أودعتها. قاله البناني. وإذا ترك طلبها حين نوى الإياب وتلفت عند من أودعها عنده ضمنها بمنزلة إيداعها ابتداء من غير ضرورة، وأفتي به وكلام المؤلف فيما إذا أودعها بوجه سائغ وإلا فعليه استرجاعها مطلقا، سواء نوى الإياب أم لا انتهى قاله الخرشي.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: وظاهر ما نقله البناني عن ابن المواز وابن عبد الحكم أنه يقضى أي للمودع بالفتح بالدفع أي بأن يدفع له المودع الثاني الوديعة نوى الإياب أم لا، وقال المواق: من رأى العدو فألقى الوديعة في شجرة فضاعت فلا ضمان عليه.

وببعثه بها يعني أن المودع بالفتح إذا بعث الوديعة مع غيره إلى ربها فضاعت فإنه يضمنها، قال عبد الباقي: وتضمن الوديعة ببعثه بها لربها بغير إذنه فتتلف أو يأخذها اللصوص ويدعي إذن ربها وينكر ذلك وعليه اليمين. انظر التتائي. ومثله في ضمانه ذهابه هو بها بغير إذن ربها كما في التوضيح. انتهى. قوله: ومثله في ضمانه ذهابه هو بها لخ، قال البناني: هذا هو الذي يدل عليه ما في التوضيح في الوصي بالاسكندرية يرسل إلى الورثة بالمدينة فلم يأته خبر عنهم، فسافر بها إليهم فضاعت أنه ضامن. انتهى. ونص المدونة: قال مالك في امرأة ماتت بالأسكندرية فكتب وصيها إلى ورثتها وهم بالمدينة فلم يأت عنهم خبر فخرج بتركتها إليهم فضاعت في الطريق: فهو ضامن لها حين خرج بها بغير أمر أربابها. انتهى. وأقره أبو الحسن على ظاهره، والذي في

ص: 372

الخرشي أنه إن ذهب بها لم يضمن. وانظر من أين أتى به؟ ونقل عن المسناوي أن الحق التفصيل وهو أنه إذا غربها بأن جاء في وقت مخوف فالضمان وإلا فلا، وظاهر ما في التوضيح والمدونة إطلاق الضمان وهو الظاهر. انتهى. قوله: وانظر من أين أتى به، قال الرهوني: كأنه لم يقف على كلام الرجراجي الذي نقله أبو علي، ونصه: فإن خرج بها في طلب صاحبها فضاعت هل يضمن أم لا؟ فال مذهب على قولين: أحدهما أنه ضامن وهو نص قول مالك في المدونة، والثاني أنه لا ضمان عليه وهو قوله في المبضع معه تحدث له إقامة حيث جوز له أن يبعث بالمال إلى ربه، وهو قول أصبغ في كتاب ابن حبيب في جواز توجيه القاضي مال الأيتام، وهذا القول قائم من المدونة في كتاب الجهاد، لكن ما اقتصر عليه مرجوح، والحق في تقرير كلام المص ما قاله أبو علي، ونصه: وقول المتن وببعثه بها كأنه قصد رحمه الله أنه إذا ذهب معها فهو سفر بها فيدخل في ما تقدم ويجري على تفصيله وبه يسقط الاعتراض عليه. انتهى منه بلفظه. وهو حسن بسن والله أعلم. انتهى.

قوله: فيجري فيه تفصيله؛ يعني أن محل ضمانه إن ذهب حيث قدر على أمين. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه. قوله: وببعثه بها، قال عبد الباقي: ويستثنى من كلامه من دفع له مال في السفر ليحمله إلى بلد فعرضت له إقامة بغيرها فله أن يبعثه مع غيره ولا ضمان، وينبغي أن يصدق في أنه بعثها مع غيره كما في الدفع للزوجة ونحوها ممن اعتيد بذلك، والفرق بينه وبين مبتدئ السفر بها بعد دفع المال إليه أن هذا قد أذن له بالسفر بها في الجملة فلم يتعد بدفعها إلى غيره مع الضرورة، بخلاف الحاضر مبتدئ السفر، والفرق بين هذه وبين من أودعت عنده أثناء السفر أنه إنما أودعها معه لتبقى عنده فلم يدفعها ليحملها لشخص لبلد آخر، ومثل بعث المودع في الضمان الوصي يبعث المال لورثة المودع بالكسر، وكذا القاضي يبعث ذلك لورثة المودع عند ابن القاسم خلافا لقول أصبغ في عدم ضمانه وإن مضى عليه غير واحد.

وبإنزائه عليها فمتن يعني أن المودع إذا أنزى الفحل على الحيوان المودع عنده الإناث فماتت الإناث المنزى عليهن من الإنزاء، بل وإن متن من الولادة فإن المودع يضمن حيث أنزى بغير إذن المودع بالكسر، قال عبد الباقي مفسرا للمص: وإذا كانت الوديعة نوقا أو شياها أو نحو ذلك فإنه

ص: 373

يضمن بإنزائه عليها بغير إذن ربها، والقول قوله في عدم الإذن فمتن من الإنزاء بل وإن من الولادة. انتهى. كأمة زوجها فماتت من الولادة تشبيه في الضمان؛ يعني أن من أودع أمة فزوجها بغير إذن ربها فماتت من الولادة، فإن المودع المزوج لها يضمنها أي يضمن قيمتها لربها، قال المواق من المدونة: من أودعته بقرا أو نوقا فأنزى عليهن فحملن فمتن من الولادة، أو كانت أمة فزوجها فحملت فماتت من الولادة فهو ضامن، وكذلك لو عطبت تحت الفحل. انتهى. وقال عبد الباقي: وشبه من يعقل لعدم اتصافه بالإنزاء، فقال كأمة زوجها المودع بغير إذن ربها فماتت من الولادة، وكذا لو ماتت من الوطء فلو اقتصر على ماتت لشمل المسألتين، فيضمن كالزوج إن علم بتعديه وخير ربها في اتباع أيهما شاء، فإن لم يعلم بالتعدي بدئ بالمودع لأنه المسلط له عليها، فإن أعدم اتبع الزوج فيما يظهر قياسا على مسلة الرديف في العارية، كما سيقول فيها: واتبع به إن أعدم ولم يعلم بالإعارة ولو كانت الوديعة ذكر بهيمة فلم يحفظه حتى نزا على بهيمة ضمنه إن تلف لتقصيره، ولو كانت الوديعة عبدا فزوجه خير سيده بين أخذه وتضمينه القيمة، ولو ختنه المودع مسلما فمات ضمنه إن كان لا يطيقه وإلا لم يضمن ولو على المشهور من أنه سنة لا واجب لعدم تعديه، ولا يشكل على هذا ما يأتي للمصنف في باب الشرب من أنه من ختن عبدا بإذنه أي العبد ضمن ما نشأ عن ذلك لأن إذن العبد غير معتبر، بخلاف المودع إذ هو مأذون له في الجملة وأفرد أولا ضمير عليها نظرا للفظ؛ لأن لفظ الوديعة مفرد وجمعه ثانيا نظرا للمعنى لأنه يصدق على متعدد.

قوله: "وبإنزائه عليها فمتن من الولادة كأمة زوجها فماتت من الولادة"، ما ذكره في هاتين المسألتين هو قول ابن القاسم في المدونة وغيرها، ونقل اللخمي عن مالك نفي الضمان إن متن بالولادة، وقال في النوادر: وقال أشهب: لا ضمان عليه في شيء من ذلك. انتهى المراد منه. قاله الشارح. ويأتي للمص في باب الإجارة عاطفا على ما فيه الضمان ما نصه: "أوأنزى بلا إذن" فالمص مشى على ضمان المودع بالإنزاء وعلى ضمان الراعي به، والضمان في البابين لابن القاسم في المدونة، وقال غيره فيها: لا يضمن. قاله الشارح. ومثله لابن يونس في باب جامع القول في إجارة الراعي، ونصه: ومن المدونة، قال ابن القاسم: وإن أنزى الراعي على الإبل والرمك والبقر والغنم

ص: 374

بغير إذن أهلها ضمن، وقال غيره: لا يضمن. انتهى منه بلفظه. والغير هو أشهب. نقله ابن عرفة في باب الإجارة. وزاد متصلا به ما نصه: قلت إن تقرر عرف بالمنع والإذن فلا اختلاف وإلا فالقولان، وينبغي إن كان الفحل لغير رب الأنثى أن يضمنه اتفاقا. انتهى منه بلفظه. قاله الرهوني.

تنبيه: قد مر قول عبد الباقي ولو كانت الوديعة عبدا لخ، قال البناني: فيه نظر، ففي مصطفى عن النوادر أنه لا ضمان على المودع أصلا لأن لربه أن يجيز أو يرد، فإن أجاز فكابتداء فعله وإن فسخ رجع العبد بحاله بلا نقص. انتهى. قوله: رجع العبد بحاله بلا نقص، قال الرهوني: هو ظاهر إن وقع الفسخ قبل الدخول، وأما بعده فعلى أحد الأقوال الثلاثة المتقدمة في قول المص، وفي زواله بموت الزوجة أو طلاقها لخ لا على القولين الآخرين. انتهى.

وبجحدها يعني أن المودع إذا جحد الوديعة ثم أقر بها أو قامت عليه بينة بها فادعى ردها أو ضياعها فإنه يضمنها ولا يقبل دعواه، قال عبد الباقي: وضمن المودع بجحدها من أصلها إن اعترف بها بعد أو قامت عليه البينة وإلا فلا ضمان. قاله التتائي. فلا تقبل دعواه الرد، ثم إن أقر بها بعد الجحد أو قامت عليه بينة فأقام بينة على ردها، في قبول بينة الرد وعدم قبولها خلاف في التشهير، صرح في المدونة هنا بالضمان، وصرح ابن شأس بأنه المشهور ونصه: فإن كانت صيغة جحوده إنكار الوديعة من أصلها لم يقبل قوله بغير بينة، وفي قبوله مع البينة خلاف المشهور نفيه لتناقض كلاميه. انتهى منه بلفظه. وتبعه ابن الحاجب. والقول بقبول بينته لمالك من سماع ابن القاسم، قال اللخمي: وهو أحسن، وقال ابن زرقون: إنه المشهور، قال ابن ناجي في شرح المدونة ما نصه: وقيد محمد بن أبي الحسن القيرواني قول مالك بالجاهل الذي لا يعرف أن الإنكار يضره، وأما العالم الذي يعلم أنه يضره فلا عذر له، وقال شيخنا أبو مهدي: قيل هو متفق عليه وقيل هو خلاف. انتهى منه بلفظه.

وعلى أنه تقييد حمله الحطاب عند قوله في الوكالة: "أو أنكر القبض فقامت البينة فشهدت بينة بالتلف" لخ فإنه قال هنالك ما نصه: وينبغي أن يقيد ذلك أيضا بما قاله الرعيني، وهو أن يكون المدعى عليه يعرف أن الإنكار يضره، وأما إن كان ممن يجهل ذلك ولا يفرق بين قوله ما أسلفتني

ص: 375

وما أودعتني، وبين قوله مالك عندي سلف ولا وديعة فيعذر بالجهل لخ، ثم قال بعد ما نصه: وما قاله الرعيني ظاهر. انتهى. قلت: على إعذار الجاهل عول أبو القاسم بن محرز، فإنه لما ذكر إنكار الزوج قذف زوجته فأقامت عليه بينة فأراد أن يلاعن، وقال: إنما أنكرت لأني قصدت الستر عليها أنه يعذر بذلك عند مالك وابن القاسم، وقال غيره: لا يقبل رجوعه، قال ما نصه: هذد المسألة أصل لمن ادعِي عليه بحق فجحده ثم قامت عليه بينة فادعى القضاء، فعلى مذهب الغير لا يعكن من إقامة البينة، وعلى قول مالك وابن القاسم يعتبر جحوده وينظر على أي وجه كان، فإن كان له عذر بجهله أو جهل من يحكم عليه وسطوته فرأى أن إنكاره أسلم له فينبغي أن يمكن من ذلك. انتهى.

ونقله المتيطى في باب اللعان من نهايته، وصاحب المعين في باب اللعان أيضا، وابن هلال في الدر النثير في مسائل الوديعة، ونقل ابن فرحون كلام المتيطى في الباب السادس والخمسين في القضاء بموجب الجحود، وقبلوه وهو منصوص لابن القاسم حسبما نقله أبو الأصبغ بن سهل، ونصه: وقال عيسى بن دينار عن ابن القاسم إذا كان له عذر من غيبة بينته أو كان ممن يعذر بالجهالة فلا يضره إنكاره وتقبل بينته وإن كانت حاضرة، ونقله ابن فرحون وابن هلال في المحلين المذكورين ءانفا وقبلاه وبه شاهدنا الفتوى، وسمعت التاودي يقول: إنه جرى به العمل فتعين التعويل عليه لوجوه. انتهى. قاله الرهوني.

تنبيهات: الأول: قال عبد الباقي: ثم في قبول بينة الرد خلاف مشهور، هل تقبل لأنه أمين كما في عامل القراض يجحده ثم يقيم بينة على رده فإنها تنفعه على المشهور فيه أولا لأنه أكذبها بجحده أصل الوديعة وهو قول ابن القاسم وجماعة. انتهى. قوله كما في عامل القراض يجحده لخ، قال البناني: الذي يقتضيه نقل المواق في باب الوكالة استواء الوديعة والقراض والبضاعة، وأن من قال بالضمان قاله في الجميع. انتهى.

الثاني: قال عبد الباقي: والفرق بين جريان الخلاف هنا وجزمه في الدين بعدم قبول بينته كما قال المص "وإن أنكر مطلوب العاملة بالبينة ثم لا تقبل بينة بالقضاء" أنه في الذمة والأصل بقاء ما فيها والوديعة أمانة فتجاذبها طرفا ترجيح؛ لأن طرف الأمانة مرجح للقبول وطرف الجحد

ص: 376

مرجح لعدم القبول. انتهى. البناني: في نقل المواق وغيره ما يدل على أنه لا فرق بين الإقرار وإقامة البينة في جريان الخلاف ونحوه في تبصرة ابن فرحون ونقله الحطاب. انتهى. وهذا هو الذي قررت به المص عند قوله "ثم" خلاف ما لعبد الباقي من جعله موضوع المص أنه قامت بينة على الوديعة بعد الجحد، قال: وذلك يقتضي أنه لوأقر بعد الجحد ثم قامت بينة بالرد أنه تقبل بينته. اهـ. وقد علمت أنه لا فرق بين الإقرار بالوديعة بعد الجحد وإقامة البينة فيها بعد الجحد. والله تعالى أعلم.

الثالث: قال عبد الباقي وأشعر قوله: "بينة الرد" أن بينة التلف لا تقبل لخ، قال البناني: قصور، وقد جمع في التوضيح بينة الرد وبينة التلف، وحكى فيهما الخلاف ونصه: وحكى صاحب البيان في باب الصلح وابن زرقون في باب القراض فيمن أنكر مائة ثم ادعى ضياعها أو ردها لما قامت عليه البينة ثلاثة أقوال: الأول لمالك من سماع ابن القاسم يقبل قوله فيهما، الثاني لمالك أيضا لا يقبل قوله فيهما، الثالث لابن القاسم يقبل قوله في الضياع دون الرد. اهـ. قال المواق عقبه: المشهور أنه إن أقام بينة على ضياعها أوردها فإن تلك البينة تنفعه بعد إنكاره. اهـ. وعلى المشهور الآخر جرى المص في الوكالة. انتهى.

الرابع: قال ابن وهبان: ابن عرفة: وإن قال أودعتني مائة درهم ثم قال لم أقبضها لم يصدق، فلو قال اشتريت منك ثوبا ولم أقبضه قبل قوله مع يمينه؛ لأن أودعتني يدل على القبض والشراء يقع على العقد. اهـ.

الخامس: في طرر ابن عات: من ادعى أنه أودع ثيابا عند رجل فأنكر ثم قامت عليه بينة أنه أودعه أعكاما لا يعرفون ما فيها ويظنونها ثيابا أنه يسجن ويهدد، فإن أقر بشيء حلف وكان القول قوله، وإن تمادى على إنكاره حلف صاحب الوديعة على ما يشبه أنه يملك مثله ويأخذه بذلك، والظالم أحق من يحمل عليه، وقد قيل إنه يحلف إذا لم تعين البينة شيئا بعد أن يستبرأ أمره بالسجن والتضييق عليه والتشديد إذا تمادى على إنكاره ولا شيء عليه، وبالأول القضاء. من الاستغناء. اهـ منها بلفظها. ونقله ابن غازي في كتاب الوديعة من تكميله، والونشريسي في باب الوديعة والعارية من معياره وسلماه. والله أعلم. قاله الرهوني.

ص: 377

وبموته ولم يوص ولم توجد يعني أن المودع إذا مات ولم توجد الوديعة في تركته ولم يوص بها فإنه يضمنها فتؤخذ من تركته، قال الخرشي: يعني أن من أخذ وديعة بغير بينة ثم مات فلم توجد في تركته ولم يوص بها عند موته فإنها تؤخذ من تركته ويحمل على أنه تسلفها، وسواء كانت عينا أو عرضا أو طعاما. اهـ. وقال عبد الباقي: وبموته ولم يوص ولم توجد في تركته فإنه يضمنها أي يؤخذ عوضها من تركته؛ لأنها لو ضاعت لتحدث بها فيحمل على أنه تسلفها، قال الرهوني في المعيار عن المازري ما نصه: المشهور في المذهب أنها إن لم توجد بعينها تعلقت بذمته، وقيل لا تعلق لها بذمته لاحتمال ضياعها وهو القياس عند شيوخنا. اهـ. وفيه أيضا عن المازري ما نصه: النظر يقتضي أن الأمانة لا تتعلق بذمة الميت، لكن في المدونة وهو المشهور عن جماعة الأئمة وغيرهم: تعلقها بتركة الميت وعلله حذاق الأصحاب بأنه يحمل على أنه تسلفها. اهـ. وفي ابن عرفة ما نصه: وفيها مع آخر قراضها من هلك وقبله قراض وودائع ولم توجد ولم يوص بها فذلك في ماله، ويحاص بذلك غرماؤه، ومثله سمع ابن القاسم، ابن رشد صحيح لا أعلم فيه خلافا، ثم قال في زاهي ابن شعبان: من هلك وعنده وديعة ولم توجد وعليه دين فماله بينهما بالحصص. قاله الشعبي وداوود بن هند. وعن النخعي فيها قولان: هذا، والآخر أن الوديعة أولى. وقال الحارث العكلي: الدين أولى، وقال ابن أبي ليلى: إن لم تعرف فليس لصاحبها شيء وبالأول أقول. انتهى.

والحاصل أن المنصوص في المذهب قولان: تعلقها بذمته والمحاصة بها، وصرح المازري وغيره بأنه المشهور وهو نص المدونة في غير ما موضع منها، ونص قول مالك في سماع ابن القاسم، وقال ابن رشد: إنه لا يعلم فيه خلافا، وعدم تعلقها بالذمة أصلا، فالمصيبة من ربها ذكره المازري وغيره، ولم يبينوا قائله ومع كونه شاذا فهو الظاهر، كما أشار له غير واحد وتوجيه المشهور بما نقله المازري عن حذاق الأصحاب بأنه يحمل على أنه تسلفها لا يخلو من نظر، وقوله:"وبموته ولم يوص" اعلم أنه لا بد للمودع بالكسر من يمين القضاء كما صرح بذلك في المعيار وهو ظاهر ومأخوذ أيضا من يمين القضاء في الديون بالأحرى. قاله الرهوني. ومفهوم قوله: "إن لم يوص" أنه إن أوصى بها لم يضمنها، فإن كانت باقية أخذها ربها وإن تلفت فلا ضمان، ويدخل في إيصائه بها

ص: 378

ما لو قال هي بموضع كذا فلم توجد فلا يضمنها كما قال أشهب، وتحمل على الضياع لأنه كقوله: هي بموضع كذا كأنه ذكر أنه لم يتسلفها. اهـ. قاله عبد الباقي. واعلم أن تردد ابن وهبان الذي ذكره عبد الباقي قصور.

إلا لكعشر سنين يعني أن محل ضمان المودع للوديعة إذا مات ولم يوص ولم توجد في تركته فتؤخذ منها إنما هو حيث لم يطل الأمد من يوم الإيداع كعشر سنين، وأما إن طال الأمد بأن كان بين الوقت الذي أخذ فيه الوديعة وموته كعشر سنين فإنه لا يضمنها، ويحمل على أنه ردها لربها، والكاف استقصائية فالعشر طول إن كانت الوديعة ثابتة بإقرار المودع، وأما ببينة حين الإيداع مقصودة للتوثق أو ببينة عليه بها بعد إنكاره فلا يسقط الضمان، ولو بأزيد من العشر أو استمر المودع حيا. هذا ملخص ما لابن عرفة الذي في التتائي. قاله عبد الباقي. وعلم من كلامهم هنا أنه إذا مات المودع ولم يعلم منه إقرار ولا إنكار، وأقام المودع بينة أنه أودعه وهي غير مقصودة للتوثق ولم يوص ولم توجد فإنها تؤخذ من تركته إلا لكعشر سنين، فالمص شامل لهذه الصورة أيضا. قاله مقيده عفا الله عنه.

تنبيهات: الأول: قال عبد الباقي: مثل الوديعة من تصدق على ابنه الصغير بثياب وأراها الشهود وحازها بيده لابنه، ثم مات فلم توجد في تركته فيقضى له بقيتها

(1)

من التركة إلا لكعشر. هذا هو الصواب كما قاله ابن سهل.

الثاني قال عبد الباقي: إذا فقد صاحب الوديعة بقيت للتعمير، وينبغي بعده أن يجري فيها ما جرى في اللقطة بعد السنة، والظاهر سواء فقد بأرض الشرك أو بأرض الإسلام. اهـ. قوله: إذا فقد صاحب الوديعة بقيت للتعمير أي بقيت بعينها إن أمكن وإلا بقي ثمنها، وقوله: وينبغي بعده أن يجري فيها ما جرى في اللقطة لخ يقتضي أنه لم يقف على حكمها بعد التعمير، مع أنه قال في آخر كتاب الوديعة من المدونة ما نصه: ومن أودعك وديعة ثم غاب فلم تدر موضعه أو حي أو ميت ولا من ورثته؟ فإنك تتأنى بها، فإن طال الزمان ويئست منه فينبغي أن تتصدق بها عنه، قال أبو الحسن ما نصه: قوله يئست منه يعني بمضي مدة التعمير، وقوله: فينبغي أن

(1)

في عبد الباقي ج 6 ص 120: بقيمتها.

ص: 379

تتصدق بها عنه هو على بابه، وانظر إذا كان يخشى عليها التغيير كالثياب والطعام هل يبيعه أو حتى يدفع ذلك إلى الإمام. اهـ منه بلفظه. قلت: سيأتي عند قوله: "وإن قال لأحدكما ونسيته" الخ عن ابن الحاج ما يفيد أنه لا بد من رفعه للحاكم. فانظره والله أعلم. قاله الرهوني.

ومفهوم قوله: "لم توجد" أنه إذا وجد المودع بالكسر وديعة في التركة أخذها أي الوديعة بشرط أشار إليه بقوله: إن ثبت بالبينة الشرعية، وقوله: بكتابة متعلق بأخذ والباء سببية، وقوله:"إن ثبت" جملة معترضة بين العامل ومعموله، وقوله: عليها صفة "لكتابة" فهو متعلق بالكون أو الاستقرار، والضمير فيه عائد على الوديعة والضمير المستتر في خطه عائد على المالك المودع أنها له، معمول "كتابة" أو بدل منها أو بيان لها إن كانت بمعنى المكتوب، والضمير في "أنها" عائد على الوديعة، وفي "له" عائد على رب الوديعة، وفاعل ثبت قوله: أن ذلك الخط خطه أي خط رب الوديعة، أو ثبت بالبينة الشرعية أنه خط الميت بأيهما ثبت كان للمالك أخذه به، قال عبد الباقي: وأخذها أي الوديعة مالكها إن ثبت بكتابة عليها أو على صرتها والجار مع مجروره متعلق بأخذها، "وإن ثبت" جملة معترضة بين العامل ومعموله، "وعليها" صفة كتابة "وأنها له" معمول "لكتابة" أو بدل منها أو بيان لها إن كانت بمعنى مكتوب أن ذلك خطه أي مالكها، "أو خط الميت" فاعل "ثبت" ولو وجدت أنقص مما عينه مما كتب عليها ويكون النقص في ماله، وهذا إذا علم أنه يتصرف في الوديعة وإلا لم

(1)

يضمن. اهـ.

وقال المواق: سمع أبو زيد ابن القاسم يقول: من هلك وترك ودائع ولم يوص فتوجد صرر فيها وديعة فلان وفيها كذا وكذا دينارا ولا بينة أنه استودعها إياه إلا بقوله، ووجدها عند الهالك كما ادعى لا شيء له منها. ابن رشد: لا يقضى لمن وجد اسمه عليها إن لم تكن بخطه ولا بخط المودع، فإن كان بخط المتوفى الذي وجدت عنده فهي لمن وجد اسمه عليها اتفاقا، إلا على من لا يرى الشهادة على الخط، وإن كان بخط مدعي الوديعة فقال أصبغ: إنه يقضى له بها مع كونها في حوز المستودع، وقال ابن دحون: لا يقضى له بها لاحتمال أن يكون بعض الورثة أخرجها له فكتب عليها اسمه وأخذ منه على ذلك جعلا. انتهى.

(1)

ساقطة من النسخة المطبوع عليها وقد وردت في عبد الباقي ج 6 ص 120.

ص: 380

وبسعيه بها لمصادر عطف على ما فيه الضمان، قال الخرشي: يعني أن من عنده وديعة إذا سعى بها لظالم أو عشار ليأخذ عشرها وما أشبه ذلك فإنه يضمنها، فقوله:"لمصادر" بكسر الدال الظالم الذي هو أعم من المكاس ونحوه، والمراد بالسعي هنا الإغراء والدلالة، ويجوز فتح الدال ومعناه أن رب الوديعة إذا صادره ظالم فحين المصادرة ذهب المودع ودفعها بحضرة الظالم عالما بذلك فأخذها الظالم فإنه يضمنها المودع بسبب ذلك؛ لأنه يجب عليه حفظها، وأما حمله يعني المص على ما إذا دفعها لأجنبي مصادر فغير جيد لأنه يضمن بمجرد دفعها للأجنبي وإن لم يصادر. انتهى. فمعنى المص على ما للخرشي ويضمن المودع بالفتح بسبب إغرائه للص أو دلالته على الوديعة فأخذها، فالمصادر على هذا بكسر الدال وهو الظالم، وعلى فتح الدال فالسعي على حقيقته أي يضمن المودع بذهابه بالوديعة إلى ربها المصادر بفتح الدال أي المظلوم؛ أي ذهب بها إلى ربها ومعه مصادر له أي ظالم فأخذها الظالم فإن المودع يضمنها ونحو هذا لعبد الباقي، وزاد: ولا يقال قد يدفعها لعذر لأنا نقول إذا حصل له عذر فعليه أن يدفعها لغير مصادر بالفتح. انظر أحمد. انتهى.

وقال البناني: إن الصواب هو ضمان اللص بالدلالة، وقول المص فيما يأتي:"أو دل لصا" عطفا على ما لا ضمان فيه سيأتي اعتراضه. انتهى. وقال الرهوني عند قوله: "وبسعيه بها لمصادر" ما نصه: يفهم منه أنه إن أخذها الغاصب من غير تسبب من المودع أصلا فلا ضمان عليه وهو ظاهر. انتهى.

مسألة: في ابن يونس ما نصه قال عيسى فيمن أودع عنده متاع فعدا عليه عاد فأغرمه عليه مالا فلا شيء على رب الوديعة. انتهى منه بلفظه. وظاهره أنه لعيسى من قوله: وفي مجالس المكناسي ما نصه: قال عيسى عن ابن القاسم: لا شيء على صاحب المتاع، قال ابن رشد: وقد قيل إن له أن يرجع على صاحب الوديعة بما غرم، وقد قال سحنون في الرفاق في أرض العرب يعرض لهم اللصوص فيريدون أكلهم فيقدم بعض أهل الرفقة فيصالح اللصوص على مال عليهم وعليه وعلى من غاب من أصحاب الأمتعة، قال: إن كان ذلك مما قد عرف من سنة تلك البلاد أن إعطاء

ص: 381

المال يخلصهم وينجيهم فإن ذلك يلزمهم حاضرهم وغائبهم ممن له أمتعة في تلك الرفقة، وإن كان الأمر بخلاف ذلك لم يلزمهم ذلك انتهى منها بلفظها.

وفي المعيار ما نصه: وسئل عن الذي يستودع المتاع فتعدى عليه وأغرم بسببه أنه لا شيء على صاحب الوديعة: فقيل للقاضي: أتذكر في هذا اختلافا؟ فأجاب بأن قال: لا، إلا أن هذه المسألة وشبهها نزلت منذ سنين فأفتيت فيها بهذه الرواية، وأخبرت بأن الزيتوني فقيه فاس أفتى أن على صاحب الوديعة أن يغرم ذلكَ للمستودع وأخبرت عنه أنه وجدها رواية، وأما أنا فلم أر فيها اختلافا. انتهى منه بلفظه. انتهى قاله الرهوني.

وبموت المرسل معه لبلد إن لم يصل إليه قال الخرشي: هذه المسألة لا تتقيد بالوديعة بل فيها وفي غيرها؛ يعني أن من أرسل إلى شخص وديعة عنده بإذنه أو مالا له عنده أو بضاعة ليتجر فيها، ثم إن المرسل معه مات قبل أن يصل إلى بلد المرسل إليه، فإن ما أرسل به يكون في تركة الرسول، وإن مات بعد الوصول إلى بلد المرسل إليه وأنكر المرسل إليه أن يكون أوصل له شيئا فإنه لا يقبل منه ذلك، ويحمل على أنه دفع ما أرسل به إليه وأنه أشهد على ذلك، ولا يكون للمرسل إليه شيء في تركة الرسول، لكن له اليمين على من يظن به العلم من ورثة الرسول أنه لا يعلم له سببا، وحينئذ فلا كلام للمرسل إليه في الوديعة ولا في المال الذي له عليه، ثم قال الخرشي: والحاصل أن الرسول إن كان رسول رب المال فإن المرسل له يبرأ بالدفع إليه، سواء مات الرسول قبل الوصول للمرسل إليه أو بعده، ويرجع حينئذ الكلام بين ورثة الرسول وبين من أرسله، فإن مات قبل الوصول رجع في تركته وإن مات بعد الوصول لم يرجع، ويحمل على أنه أوصله له وأما إن كان رسول مرسل المال فإن المرسل لا يبرأ من حق المرسل إليه، سواء مات الرسول قبل الوصول أو بعده، ويرجع الكلام بين المرسل وورثة رسوله، فإن مات قبل الوصول رجع في تركته، وإن مات بعده فلا رجوع له في تركته ولو لم يمت الرسول وادعى الدفع وأكذبه المرسل إليه لم يصدق الرسول إلا ببينة. انتهى.

ونحوه لعبد الباقي فإنه قال: وتضمن بموت المرسل معه أي رسول رب الوديعة لبلد إن لم يصل إليه أي إلى بلد المرسل، ومثل ذلك الدين المبعوث لربه من مدين، وتسلم الرسول ذلك ومات قبل

ص: 382

وصوله بلد ربه فيضمن الرسول ذلك في تركته فالضامن هنا الرسول، فإن مات بعد وصولها ولم توجد في تركته فلا ضمان ويحمل على أنه أوصله بإشهاد كما لا ضمان على المودع والمدين بالدفع لرسول ربها المذكور، مات قبل الوصول أو بعده، ويرجع الكلام بين المرسل وورثة رسوله، فإن مات قبل الوصول رجع في تركته وإن مات بعده فلا، فيصح حمل كلام المص على رسول رب الوديعة كما قدمنا وعليه اقتصر أحمد وعلى رسول المودع؛ لأن تفصيله في ضمان الرسول جار فيهما، ومفهوم قوله:"بموت" أنه إن لم يمت وكذبه المرسل له لم يصدق إلا ببينة ولا يعمل بتصديق المودع بالفتح له ويضمن هو أيضا إن دفع له بغير إشهاد على الدفع؛ لأنه لما دفع إلى غير اليد التي ائتمنته كان عليه الإشهاد فلما تركه صار مفرطا. انتهى.

وقال المواق من المدونة: قال مالك: وإن بعثت بمال إلى رجل ببلد فقدمها الرسول ثم مات بها وزعم الرجل أن الرسول لم يدفع إليه شيئا فلا شيء لك في تركة الرسول، ولك اليمين على من يجوز أمره من ورثته أنه ما يعلم لك شيئا، ولو مات الرسول قبل أن يبلغ البلد فلم يوجد للمال أثر فإنه يضمنه ويؤخذ من تركته. اللخمي: وجه هذا أنه في الطريق مودع وهو يقول في الوديعة إذا مات المودع ولم توجد الوديعة إنها في ماله، وبعد الوصول وكيل على الدفع ومحصوله أنه امتثل ما وكل عليه، وقد يخفى على ورثته من كان أشهد على دفعها فلا يضمن بالشك.

وبكلبس الثوب وركوب الدابة يعني أن المودع إذا لبس الثوب حتى أبلاه أو ركب الدابة حتى عطبت فإنه يضمنها، وتقدم أنه قال: وبانتفاعه بها فهو أعم من هذا، وإنما أعاده ليرتب عليه قوله: والقول له أنه ردها سالمة. قاله الخرشي؛ يعني أن القول قول المودع أنه رد الدابة سالمة بحالها، وكذا يكون القول قوله إنه رد الثوب سالما أي بحاله مع يمينه. إن أقر بالفعل أي العداء في اللبس والركوب أي لم يعلم ذلك إلا بقوله وعليه الكراء حينئذ، ومفهوم الشرط أنه لو قامت عليه بينة بالفعل أي بركوب الدابة ولبس الثوب بعد إنكاره فادعى أنه ردها سالمة لم يقبل قوله، وهو كذلك: قال عبد الباقي: ولا يخالف منطوقه هنا قوله: "وبرئ إن رد غير المحرم"، وأما المحرم فلا يبرأ إلا بشهادة بينة برده لأن ما هنا انتفاع بها حال كونها وديعة، وما تقدم انتفاع بها بعد أن تسلفها، فما هنا باق في أمانته وما تقدم خرج من أمانته لذمته. انتهى.

ص: 383

قوله: وأما المحرم فلا يبرأ إلا بشهادة بينة برده، قال البناني: أي برده لربه كما تقدم لا برده بحاله فلا يبرأ بذلك. انتهى. وقال المواق: ابن عرفة: لو هلك ما لبسه المودع من ثوب أو ركبه من دابة، ففي تصديقه مع يمينه أنه هلك بعد رده إن ثبت وإن أنكر وقامت به بينة وتضمينه مطلقا إلا ببينة أنه نزل عنها وهي سالمة، ثالثها: يضمن حتى يردها لمحمد قائلا هو قول أصحابنا، وكتاب ابن سحنون وبعض أصحاب ابن يونس. انتهى. وقال الشارح: يعني فإن ادعى أنه رد ذلك بحاله فالقول له يريد مع يمينه إن كان هو الذي أقر بالفعل. انتهى.

وإن أكراها أي المودع بالفتح الدابة أو العبد أو السفينة المودعة لمكة مثلا بغير إذن ربها، والحال أنها رجعت بحالها أي سالمة كما كانت عليه قبل الإيداع بلا نقص، إلا أنه أي المودع حبسها أي الوديعة المكراة عن أسواقها أي لم يرجع بها حتى تغيرت أسواقها بنقص. هذا هو المراد. وإن كانت للقنية كما يفيده تشبيه هذه في المدونة بمسألة الكراء كما في أحمد، لا ما يقتضيه لفظه من أنها إذا كانت للقنية فليس له إلا كراؤها كما تمسك به إبراهيم اللقاني. قاله عبد الباقي. وجواب الشرط وإن أكراها هو قوله: فلك يا مودع بالكسر قيمتها أي الوديعة المكراة يوم كرائه أي إكراء المودع بالفتح للوديعة؛ لأنه يوم التعدي أي لك الخيار في أخذ قيمتها يوم التعدي وهو يوم الكراء، وإذا أخذت القيمة يا مودع بالكسر فلا كراء لك فلا تجتمع القيمة والكراء، أو أخذه أي أخذ الكراء وأخذها أي الوديعة فالكراء إنما يجتمع لك مع الوديعة نفسها، فإن شئت أخذته معها وإن شئت أخذت القيمة فقط. قال المواق: من المدونة: قال ابن القاسم: من أودعته إبلا فأكراها إلى مكة ورجعت بحالها إلا أنه حبسها عن أسواقه ومنافعك بها، فأنت مخير في تضمينه قيمتها يوم تعديه ولا كراء لك، أو تأخذها وتأخذ كراءها وكذلك المستعير يزيد في المسافة والمكتري. انتهى.

وما قررت به المص من أنه شامل لما إذا كانت الوديعة للقنية ولما إذا كانت للتجارة تبعا لعبد الباقي، قال البناني: صحيح خلاف ما وقع في الخرشي تبعا للقاني من أن قوله: "حبسها عن أسواقها" يفيد أنها للتجارة ولو كانت للقنية فليس له إلا كراؤها إن لم تتلف أو قيمتها إن تلفت يوم التعدي. انتهى. قال مصطفى: وهذا شيء لم يقله غيره ولا عرَّج عليه أحد فيما علمت. انظر

ص: 384

تمامه. انتهى. وقال عبد الباقي عند قوله "أو أخذه وأخذها" ما نصه: وينبغي حينئذ أن عليه نفقتها وليس له إن زادت على الغلة أخذ الزيادة كالغاصب، وحكم المستعارة والمكتراة يتعدى بهما المسافة المشترطة كذلك. انتهى. قوله: وينبغي حينئذ أن عليه لخ الضمير في عليه للمودع بالكسر، والضمير في قوله وليس له للمودَع بالفتح، فلو صرح به لسلم من تشتيت الضمير. قاله الرهوني.

وقال عبد الباقي: ومفهوم "رجعت" أنها إن هلكت فقيمتها يوم الكراء لأنه يوم التعدي ولا كراء لها ولو أكثر من القيمة ورضي به بدلها إلا برضى المودع. انتهى. قوله: ولا كراء لها ولو أكثر من القيمة، لخ قال الرهوني: قال التاودي: إذا رضي ربها بأخذ الكراء فقط فلا ينبغي أن يشك أن ذلك له، ولو لم يرض المتعدي إذ حاصله أنه متعد وفضولي أجاز المالك فعله فلا كلام له. والله أعلم. انتهى منه بلفظه. وما قاله متعين، فإن الزرقاني قد صرح هنا بأنه كالغاصب، وقد تقدم نص المدونة بأن الغاصب إذا باع الشيء المغصوب وتعذر رجوعه فإن لربه أخذ الثمن أو تضمينه القيمة، ولا فرق بين بيع الذات وبيع المنفعة كما هنا. راجع ما قدمناه عند قوله صدر البيوع:"وملك غيره على رضاه" انتهى.

وقال عبد الباقي: ومفهوم "بحالها" أنها إن رجعت بنقص وحبسها عن أسواقها خير بين أخذ أرش النقص ولا كراء، وبين أخذ قيمتها. قاله أحمد. وقال كريم الدين: إن رجعت بنقص خير كالتخيير الذي في المص حبسها عن أسواقها أم لا، وإنما نص المص على المتوهم فيه عدم التخيير انتهى وعذا كحو الظاهر الموافق لقول المص في الغصب:"وله في تعدي كمستأجر كراء الزائد إن سلمت وإلا خير فيه وفي قيمتها وقته"، وما في أحمد لم يدعمه بنقل، وإنما قاسه على جناية الغاصب المفيتة للمقصود المشار إليها بقول المص:"فإن أفات المقصود" إلى قوله: "فله أخذه ونقصه أو قيمته"، ومفهوم "إلا أنه حبسها" أنها إن رجعت سالمة ولم يحبسها فله الأكثر مما أكراها به وكراء المثل. انتهى.

وبدفعها مدعيا أنك أمرته به وحلفت حال من المودع بالفتح أي وضمن المودع بدفعه الوديعة لزيد حال كونه مدعيا أنك يا مودع أمرته بالدفع لزيد، والحال أنك حلفت يا مودع أنك لم تأمره

ص: 385

بالدفع لزيد أو منصوب بنزع الخافض على ما لعبد الباقي، أو على المفعولية أي على أنه مفعول لدفع، مضمن إعطاء على ما للرهوني؛ يعني أن المودع بالفتح يضمن الوديعة إذا دفعها لشخص ادعى ذلك الشخص أن المودع بالكسر أمره به أي بأخذ الوديعة، والحال أنك يا مودع حلفت أنك لم تأمره بالأخذ، وتحقيق هذا على سبيل الاختصار أن تقول: وضمن المودع بسبب إعطاء الوديعة لشخص ادعى أن المودِع بالكسر أمرد بأخذ الوديعة، وإنما يضمن إذا حلف المودع بالكسر على أنه لم يأمره بالأخذ. وإلا تحلف يا مودع حلف الودَع بالفتح وبرئ من الضمان، وذكر مستثنى من الضمان قبل "وإلا" بقوله: إلا ببينة تشهد على الأمر أي على أنك أمرته بالأخذ فلا يضمن المودع بالفتح، فهو مستثنى من الضمان المتعلق به. قوله:"وبدفعها" أي وضمن بدفعها لمدع إلا أن تشهد بينة على الأمر المذكور فلا يضمن، وقوله:"على الأمر" بسكون الميم أو بالمد وكسر الميم اسم فاعل.

ورتب على ما قبل: "وإلا" قوله: ورجع على القابض يعني أن المودع إذا دفع الوديعة بغير مسوغ كما في قوله: "وبدفعها مدعيا" لخ فإنه يرجع على القابض أي الذي أخذ منه الوديعة بما دفعه له، سواء كانت الوديعة قائمة بيده أم لا، قال الخرشي: وحيث ضمن المودع بفتح الدال وغرم فإنه يرجع على القابض، قوله:"أنك أمرته" بلا واسطة بأن يقول له أنت أمرتني بالدفع له، أو بواسطة بأن يقول جاءني كتابك أو رسولك أو أمارتك، وقوله:"وحلفت" أي وغرم المودع ولا رجوع له على القابض فيما ادعى أنك أمرته به قولا واحدا؛ لأنه يعلم أن الآمر قد كلمه فلا يظلم هو القابض ولا في الكتاب والأمارة، وزعْمِ الإرسال إن صدق تصديق تحقيق بأن يعلم أن الكتاب أو الإمارة حق، وأن الرسول على حق والمودع ظالم في إنكاره وإن صدق تصديق ركون وائتمان أي حسن ظن بالكتاب والأمارة أو الرسول رجع عليه.

وقوله: "وإلا حلف وبرئ" ويرجع الآمر على القابض في جميع الصور لقبضه من غير مسوغ، فإن نكل غرم وتقدم الرجوع وعدمه، والمراد بالبينة الشاهدان أو شاهد ويعين. انتهى. واعلم أن التقرير الأول لا يترتب عليه قوله:"ورجع على القابض" على ما قررته به، وإنما يترتب عليه على التقريرين الأخرين، ويترتب عليه على التقريرات الثلاثة على ما نقله الرهوني عن بعض القرويين

ص: 386

من أن المودع بالفتح يرجع على القابض، ولو قال أنت أمرتني بالدفع له أو حقق أن الأمارة والكتاب والرسول حق وهو يرد على قول الخرشي ولا رجوع له على القابض فيما ادعى أنك أمرت به قولا واحدا. انتهى. ويترتب عليه على التقرير الأول أيضا فيما إذا كانت الوديعة بيد القابض أو أتلفها لا إن تلفت بسماوي.

وقال الحطاب: قال في المسائل الملقوطة: لا يجوز دفع الوديعة بأمارة أو بكتابة، فإن فعل وجاء المودع فأنكر حلف ما أمره ولا كتب بذلك إليه وأنه لا حق له عليه وضمنه مثلها أو قيمتها، ثم يرجع المودع على القابض منه ولا يمنعه من ذلك تصديقه فيما أتى به ولا معرفته بصحة ما جاء به وشهادته بذلك قاله ابن سهل في كتاب الإقرار. وذكر المسألة في موضع ثان، ثم قال: وكذلك المحال عليه والوكيل حكمه كذلك ولا يجبروا على الدفع إلا ببينة على المرسل. انتهى.

وقال اللخمي: وليس على المودع أن يسلم الوديعة بأمارة المودع ولا بكتابة، وإن اعترف المودع أنها خطه إلا أن يثبت الرسول عند الحاكم أنه خط المودع؛ لأن صاحب الحق لو كان حاضرا لم يجب له أخذها حتى يشهد له بما يبرأ به، يريد أن من حقه الإبراء والشهادة على القابض؛ لأنه لا يبرأ إذا جحد المودع إلا أن يعرف المودع أنه رضي لصاحبها بتسليمها بذلك أو رضي الآن بتسليمها فيلزم ما رضِيَ به، وإن رضي أن يدفعها إلى الرسول بغير أمارة ولا كتاب والوديعة عين والمودع موسر جاز رضاه وألزم ما ألزم نفسه من ذلك، فإن أنكر المودع أن يكون أرسله قام المودع بالمثل ولم يكن على صاحبها في ذلك ضرر، وإن كانت عرضا أو غير ذلك مما لا يقضى على مثله بالمثل أو عينا والمودع معسر لم يجز، ورد رضاه لأن في ذلك ضررا على صاحبها إن قال لم أبعث إلا أن يكون الرسول ثقة مأمونا ممن يغلب على الظن صدقه فيمكن من قبضها ويلزم الآخذ ما رضي به، وإذا وقع الدفع بأمارة أو بكتاب من غير ثبت أو بقول الرسول خاصة ثم قدم المودع فأنكر أن يكون بعثه، كان القول قوله مع يمينه أنه لم يبعثه ولا كتب، ثم يكون بالخيار بين أن يغرم الرسول أو المودع.

واختلف إذا أغرمها المودع هل يرجع بها على الرسول؟ فقال ابن القاسم في المدونة: إذا صدق الرسول ودفع إليه ثم قدم الغائب وأنكر وأغرم المودع كان له أن يرجع على الرسول، وقال أشهب

ص: 387

في مدونته: لا يرجع بها، ثم قال عن ابن المواز: وإن قال المودع أمرتني أن أدفعها إلى فلان وصدقه عليه وأنكر صاحبها ذلك وأن يكون أذن له في خروجها من يده كان القول قوله مع يمينه، ثم يغرمها أيهما أحب، فإن رجع صاحبها على متلفها لم يرجع به الغارم على الرسول، وقال البناني: في نوازل ابن سهل ما نصه: ولابن القاسم في المدونة: إن أتى المودع من زعم أن رب الوديعة أمره بأخذها فصدقه ودفعها إليه فضاعت ضمن الذي دفع ثم له أخذها من القابض، وقال أشهب في كتابه: لربها أخذها ممن شاء منهما ثم لا رجوع لمن أخذها منه على الآخر. انتهى.

وفي النوادر عن ابن المواز قانلا: ولا يمنعه من ذلك أي الرجوع تصديقه فيما أتى به ولو عرف صحة ما جاء به وأنه يشهد بذلك، ونحوه لابن سهل. قاله البناني. وقال عبد الباقي: وانظر من ادعى دفع الدين لمن لم يثبت وكالته ولا حوالته وقد ادعى الدافع أن رب الدين وكله أوأحاله وادعى القابض ذلك، هل يخير رب الدين في الرجوع على الدافع أو على القابض؟ لخ، قال الرهوني: انظر توقفهم في الدين مع أن المسألة منصوصة لغير واحد، وقد ذكرها ابن رشد في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب العارية، فذكر خلافا في تصديق القابض في دعوى الوكالة مع يمينه ويبرأ ويرجع رب الدين على الدين ثم لا رجوع له على القابض، وقيل لا يصدق وهو ضامن يحلف صاحب المال ما وكله ويرجع بماله على من شاء منهما، فإن رجع على الغريم رجع الغريم على الوكيل، وإن رجع على الوكيل لم يكن للوكيل أن يرجع على أحد. انتهى.

وقال ابن رشد في المقدمات: فإذا قلنا إن القول قول الموكل ويضمن الوكيل وهو الذي يأتي على ما في كتاب الوديعة من المدونة، وعلى قول أشهب وابن القاسم في سماع سحنون من كتاب العارية: فإن رجع الموكل عليه لم يكن له رجوع على أحد، وإن رجع على الغريم كان للغريم الرجوع عليه. انتهى. وعدم تصديق القابض في الوكالة فيجب عليه الغرم هو المعتمد، ولذلك اقتصر عليه المتيطى إلا أنه ذكر قولين في رجوع الغريم على القابض إذا أغرمه رب الحق، ونصه على اختصار ابن هارون: واختلف فيمن عليه دين فقال له رجل فلان أرسلني لاقتضائه منك فصدقه ودفعه إليه فضاع وكذبه صاحب الدين، فقال ابن القاسم: يضمن الرسول أي للغريم، وقال أشهب: لا

ص: 388

يضمن له يريد لأنه صدقه في الوكالة ولا يبرأ الغريم يريد على القولين. انتهى منه بلفظه. ونقل الرهوني غير هذا، ثم قال: وبذلك كله تعلم ما في توقفهم في ذلك. والله الموفق. انتهى.

وإن تنازعت مع شخص بعثت إليه بمال فقال المبعوث إليه المالُ: تصدقت يا باعث به أي بالمال المبعوث به علي وأنكرت أيها الباعث أنك تصدقت به على المبعوث إليه، وقلت: هو وديعة، فالرسول المبعوث معه المال شاهد على قول الباعث، ومعنى شاهد أنه يعمل بقول الرسول وإنما عمل بقوله لأنه شاهد على قول الباعث لا على قول نفسه، والفرض أن المبعوث له مصدق على القبض، فإن شهد بموافقة المبعوث إليه حلف معه وأخذه، فإن نكل فالقول لربه دون يمين لتمسكه بالأصل ونكول المبعوث إليه، وإن شهد بموافقة الباعث أخذه بغير يمين لشهادته له وتمسكه بالأصل، وهو قبول قول المالك في إخراج ملكه على وجه خاص، وإن قال الشاهد: لا أدري فالقول لرب المال أيضا لكن مع يمينه؛ لأن الأصل كالشاهد الواحد بخلاف التي قبلها فيها شاهد وأصل كشاهد فلم يحتج فيها ليمين.

قال عبد الباقي: قال شيخنا اللقاني: قوله "شاهد" أي يصدق وإن لم توجد فيه شروط الشهادة لرضى الباعث بالبعث معه وفيه شيء إذ يصدق ذلك بالرقيق والذمي. انتهى. قوله: قال شيخنا اللقاني، قوله:"شاهد" أي يصدق وإن لم توجد فيه شروط الشهادة، قال الرهوني سكتوا عنه وفيه نظر؛ بل ظاهر كلام المدونة وغيرها أنه لا بد من كونه عدلا، وصرح بذلك اللخمي ونصه: إن صدقه أنه أذن له أن يدفعها إليه، كان القول قول ربها إذا كان الرسول غير عدل، واختلف في جواز شهادته إذا كان عدلا فأجازها ابن القاسم، وقال أشهب في مدونته وعبد الملك في المبسوط: لا تجوز شهادته. انتهى.

وقوله: فالرسول شاهد" قد علمت أنه قول ابن القاسم، واختلف الشيوخ فيه هل هو باق على ظاهره وعليه فالرسول شاهد مطلقا كان المال المبعوث باقيا بيد المرسل إليه أو بيد الرسول لم يدفعه، أو لم يبق بيد واحد؟ قال: وهذا التأويل لإسماعيل مع ظاهر كلام اللخمي وهو قول عبد الله بن عبد الحكم، وعلى هذا فهو مخالف لأشهب. أو قول ابن القاسم إن الرسول شاهد إنما هو إن كان المال المبعوث به باقيا بيده أي بيد المرسل إليه أو بيد الرسول لم يدفعه، وكذا لو لم يبق

ص: 389

المال المبعوث به بيد المبعوث إليه ولكنه ملي، وأما إن لم يبق بيده وهو معدم فلا يكون الرسول شاهدا، وهذا التأويل لسحنون ومحمد وابن أبي زيد مع عياض عن بعضهم، واختلف على هذا التقييد هل يكون قول ابن القاسم خلافا لأشهب وهو لسحنون ومن وافقه أو خلافا له وهو تأويل ذكره ابن يونس. وقوله: تأويلان مبتدأ حذف خبره، وأطلق على التأويلات الثلاث تأويلان باعتبار الإطلاق والتقييد. والله تعالى أعلم.

قال الرهوني بعد كلام: فتحصل أن في حمل قول ابن القاسم على الإطلاق وتقييده بما إذا كان المال قائما مع جعله وفاقا لأشهب أو خلافا له تأويلين لإسماعيل مع ظاهر كلام اللخمي، وسحنون ومحمد وابن أبي زيد مع عياض عن بعضهم، ونقل ابن يونس. والله أعلم. انتهى.

تنبيهات: الأول: في تبيين اختلاف مقيدي قول ابن القاسم في جعل ذلك التقييد خلافا لأشهب أو موافقا له، وذلك أن القاضي عياضا قال في التنبيهات: ظاهر المدونة جواز شهادته بكل حال وعلى هذا تأولها القاضي إسماعيل واللخمي وهو قول عبد الله بن عبد الحكم؛ لأنه لم يتعد لإقرار ربها أنه أمرد بالدفع إلى من ذكر، وذهب سحنون إلى أن معنى ذلك أن المال في يد الرسول بعد لم يدفعه أوأنهما حاضران والمال حاضر، ولو أنفقه المبعوث إليه لم تجز شهادة الرسول لأنه يسقط الضمان عن نفسه. وقال أشهب: لا تجوز شهادة الرسول لأنه يدفع عن نفسه الضمان، وتأول أبو محمد مذهب أشهب على قريب من مذهب سحنون أن التصدق عليه عديم وقد أتلف المال ولا بينة للرسول على الدفع، وأما وهو ملي أو قامت للرسول بينة على الدفع فشهادته جائزة، وجعل بعضهم قول ابن القاسم وأشهب وفاقا على نحو ما ذهب إليه سحنون، وتأوله ابن أبي زيد وهو مفهوم كتاب محمد. انتهى.

فعلم أن التأويل الأول لإسماعيل واللخمي، والثاني لسحنون ولبعضهم وابن أبي زيد ومحمد، ونقل ابن يونس هو الذي جعله خلافا وذلك أن ابن يونس قال بعد أن ذكر كلام ابن [أبي

(1)

] زيد الذي مر قريبا ما نصه: محمد بن يونس: وعلى هذا التأويل يكون قول أشهب وفاقا لابن القاسم،

(1)

ساقطة من الأصل، مثبتة من الرهوني ج 6 ص 187.

ص: 390

وكذلك علل محمد قول ابن القاسم وعلل غيره قول أشهب بأنه إنما لم تجز شهادته لأنه دفع دفعا لم يؤمر به، وذلك أن الآمر إنما أمره أن يدفع على جهة الإيداع فدفع على جهة التمليك فلا تجوز شهادته ولا يؤخذ الآمر بغير ما أمر به من الدفع، قال: وابن القاسم إنما أجاز شهادته لأنه أذن له في الدفع والمال حاضر فلم يستهلك بدفعه على باب التمليك شيئا. انتهى. قال الرهوني: فوافق هذا التأويل تأويل سحنون ومن وافقه في تقييد قول ابن القاسم، وخالفه في جعله خلافا لقول أشهب، وحمل المص على هذا صحيح فيكون في كلامه التأويلات الثلاثة ولا يمنع منه التثنية. فتأمله. انتهى.

الثاني: قال الرهوني: في ابن يونس ما نصه: ومن العتبية روى عيسى عن ابن وهب في المستودع يأذن له ربها أن يدفعها إلى من جاءه بأمارة ذكرها له فجاءه رجل بالأمارة فدفع إليه المال ثم مات ربه وقاهـ ورثته على الرسول الذي قبض المال بالأمارة، فقال صنعت به ما أمرني به ربه، قالوا: وما الذي أمرك به؟ قال: ليس علي أن أخبركم، فقال: يحلف أنه صنع ما أمره به ويبرأ. وقاله ابن القاسم. انتهى منه بلفظه. قلت: ظاهر كلامه أن إذن ربها بذلك ثابت ولو لم يثبت بإقرار الورثة أو بالبينة لما سقط عنه الضمان كما تقدم عن النوادر وغيرها. والله أعلم. انتهى.

الثالث: قال الحطاب: لو مات المودع وادعى المودع أنه أمره بدفعها إلى فلان فإنه يضمن ويحلف الورثة على العلم، قال في المدونة في كتاب الصدقة: ولو دفعت في الصحة مالا لمن يفرقه في سبيل الله أو في الفقراء ثم متَّ أنت قبل إنفاذه، فإن أشهدت أنه ينفذ ما فات وما بقي فهو من رأس المال، فإن لم تشهد فالباقي لورثتك ولو فرق باقيه بعد موتك ضمن البقية لوارثك. انتهى.

الرابع: قال في الشهادات من المدونة: ومن أودعك وديعة فشهدت عليه أنه تصدق بها على فلان أوأقوله بها حلف فلان مع شهادتك واستحقها إن كان حاضرا، وإن غاب لم تجز شهادتك إن كانت غيبته تنتفع أنت في مثلها، قال أبو الحسن: فإن كانت غيبته لا ينتفع بمثلها جازت الشهادة لارتفاع التهمة، قال في النكت: سألت بعض شيوخنا من أهل بلدنا، فقلت: أرأيت إن قال للسلطان خذها من يدي لا أريد إمساكها؟ فقال: إن كان قال ذلك حين أتى يشهد، قال للحاكم إن فلانا أودعني كذا وكذا وقد تصدق به على فلان الغائب فخذه فشهادته جائزة، وإن

ص: 391

شهد ولم يذكر ذلك ثم أتى يقول هذا فيتهم أن يكون قال هذا لينفي عنه الظنة

(1)

التي أبطلت شهادته. انتهى.

قال أبو الحسن: ولو قدم الغائب فأراد أن يقوم بشهادته، قال ابن شعبان: لأنه قد ردت شهادته. قاله الحطاب.

وبدعوى الرد على وارثك يعني أن المودع بالكسر إذا مات فادعى المودع بالفتح أنه رد الوديعة إلى ورثة المودع بالكسر فإنه لا يصدق في ذلك ويضمن الوديعة إلا أن تقوم بينة على الرد، قال الحطاب: قال ابن الحاجب: ولو ادعى الرد على الوارث لم يقبل وكذلك دعوى وارث المودع لأنهما لم يأتمناه كاليتيم. ابن عبد السلام؛ وإذا كان الحكم كذلك في الصورتين فأحرى أن يكون ذلك لو مات المودع ورب الوديعة معا وادعى وارث المودَع رد الوديعة إلى وارث ربها. انتهى. وقال عبد الباقي: وضمن المودع بالفتح أو وارثه بدعوى الرد لها من كل منهما على وارثك لأنه دفع لغير يد المؤتمن، وكذلك دعوى وارث المودع بالفتح أنه رد إليك فالضمان كما في الحطاب عن الجواهر، وكذا إن ادعى أن أباه دفعها لوارثك لا إن ادعوا عليك أو على وارثك أن أباهم ردها إليك فلا ضمان عليهم في هاتين الصورتين، بخلاف الأربع قبلها. فَتَحَصَّلَ أن صاحب اليد المؤتمنة إذا ادُّعِيَ الدفعُ [منه

(2)

] لليد الذي ائتمنته فلا ضمان عليه، سواء كانت الدعوى من ذي اليد المؤتمنة أو من وارثه على ذي اليد التي ائتمنته أو على وارثه، وفيما عدا ذلك الضمان. انتهى.

قوله إذا ادعي الدفع بالبناء للمفعول، وأل خلف عن الضمير. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه. وقال المواق: ابن شاس: أما دعواه الرد على غير من ائتمنته

(3)

كدعوى الرد على وارث المالك أو وكيله فلا يقبل إلا ببينة، وكذلك دعوى وارث المالك يفتقر إلى البينة أيضا، وسواء كان القبض في جميع هذه الصور ببينة أو بغير بينة. في الموازية: إن قال المودع أو العامل رددت المال لوصي الوارث

(1)

في الأصل: المظنة، والمثبت من الحطاب ج 6 ص 10 ط دار الرضوان.

(2)

من عبد الباقي ج 6 ص 123.

(3)

في المواق ج 5 ص 305 ط دار الفكر: من ائتمنه.

ص: 392

لموت رب المال لم يصدقا إلا ببينة أو إقرار الوصي، ولو كان قبضها بغير بينة لأنهما دفعا إلى غير من قبضاها منه.

أو المرسل إليه المنكر هذا عطف على "وارثك" أي وتضمن بدعوى الرد على المرسل إليه المنكر والرد هنا مجاز عن الدفع. قاله البناني. وقال غير واحد: المراد بالرد أي الإخراج من اليد الشامل للرد حقيقة ولدفع الرسول للمرسل إليه مالًا يتصدق به عن المرسل؛ يعني إذا أرسلت مالا مع رسول فادعى الرسول أنه أوصله للمرسل إليه وأنكر المرسل إليه أنه أوصله له، فإن الرسول يضمن ولا يصدق إلا ببينة على أنه أوصله له، قال المواق من المدونة: من دفعت إليه مالا ليدفعه إلى رجل فقال دفعته إليه وأنكر ذلك الرجل، فإن لم يأت الدافع إليه ببينة ضمن قبض ذلك منه ببينة أو بغير بينة، كالوصي يدعِي الدفع إلى الأيتام ولو شرط الرسول أن يدفع المال إلى من أمرته بغير بينة لم يضمن وإن لم تقم بالدفع بينة إذا ثبت هذا الشرط، لقوله عليه السلام (المومنون عند شروطهم

(1)

)، عبد الحق: وهذا بخلاف لو شرط أن لا يمين عليه، وسيأتي هذا عند قوله:"ولم يفده شرط نفيها"، وعند قوله:"لا إن شرط الدفع" فالفرعان معا من تمام هذه المسألة. انتهى.

مسألة: في الحطاب عن المدونة ما نصه: إن أمرته بصدقة على قوم معينين فإن صدقه بعضهم ضمن حصة من كذبه، ولو أمرته بصدقة على غير معينين صدق مع يمينه وإن لم يأت ببينة. ابن يونس: وإنما يحلف إذا كان متهما ونقله أبو الحسن. انتهى. وهذه الصورة لا يشملها كلام المص لأنه لا يتصور فيها إنكار. فتأمله. نقله البناني.

واعلم أن انتقال المال إما من ذمة إلى ذمة ومن أمانة لأمانة ومن ذمة لأمانة ومن أمانة لذمة، والوديعة أمانة والذمة قرض أو سلم، فمتى قبض من أمانة لمثلها ففي براءة الدافع بإقرار القابض بقبضها وعدم براءته قولان، ومن أمانة لذمة برئ الدافع بتصديق القابض إن كان مليا، وهل كذا إن أعسر؟ ورواه عيسى عن ابن القاسم أولا قولان ومن ذمة لمثلها برئ الدافع بتصديق القابض الملي لا المعسر، ومن ذمة لأمانة لم يبرأ الدافع بتصديق القابض مطلقا. قاله عبد الباقي.

(1)

البخاري، كتاب الإجارة، باب أجر السمسرة، بلفظ المسلمون.

ص: 393

قوله: "من ذمة إلى ذمة" كأمر زيد عمرا أن يدفع ماله في ذمته إلى خالد سلفا مثلا، وقوله: ومن أمانة إلى أمانة كأمره له بأن يدفع ماله عنده وديعة إلى خالد لتكون عنده وديعة، وقوله: ومن ذمة لأمانة كأمره له بأن يدفع ماله في ذمته لخالد لتكون وديعة عنده، ومن أمانة لذمة كأمره له بأن يدفع ماله بيده وديعة لخالد سلفا، وقد ذكرها وأحكامها ابن رشد في كتاب الوديعة من مقدماته واستوفى الكلام. ونقل كلامه ابن عرفة مختصرا وسلمه ونقله الحطاب أيضا وقال عقبه ما نصه: انتهى مختصرا لكنه بلفظه. وقد لخص ذلك التاودي نظما هنا فقال ما نصه:

تصديق قابض لدافع برا

من ذمة لمثلها إن أيسرا

ومن أمانة لها قولان

منها لذمة له وجهان

في يسر قابض يصدق وفي

عُدْمِهِ قولان بحكمه تفي

من ذمة لعكسها لم يبر

تصديق قابض ولو ذا يسر

انتهى. لكنه أطلق رحمه الله في البيت الأخير فظاهره ولو كان القابض وكيلا مفوضا إليه، وكذا أطلق ابن رشد ولكن لا بد من تقييده بغير المفوض، كما قاله الحطاب وهو مأخوذ من كلام المص في الوكالة، وسوى أيضا بين القولين في تصديق القابض من أمانة لمثلها وهما معا قولان لابن القاسم في المدونة والموازية، ولكن من المعلوم المقرر أنه لا يعدل عن قوله في المدونة غالبا، ولذلك ذيلت نظمه بقولي:

ما لم يكن مفوضا فيبري

تصديقه وإن يكن ذا عسر

ومذهب الكتاب في الأمانه

لمثلها الإبراء خذ بيانه

وقول البناني: وهذه الصورة لا يشملها لفظ المؤلف؛ لأنه لا يتصور فيها إنكار، فيه نظر بل يتصور بما صورة به ابن ناجي عند نص المدونة الذي ذكره هو، ونصه: قلت ولو ميز لمن أعطى في غير المعينين فأنكروا فإنه بتعيينه يكونون كالمعينين إذا أنكروا على ما يتبادر للذهن. انتهى

ص: 394

وهو ظاهر. انتهى وقوله: "المنكر" مفهومه لو أقر لبرئ الدافع. قاله الحطاب عن أبي الحسن الصغير في شرحه الكبير. وفي المدونة: ومن بعث معه بمال ليدفعه إلى فلان صدقة أو صلة أو سلفا أو من ثمن مبيع أو ليبتاع لك بها سلعة، فقال: دفعته إليه وكذبه الرجل لم يبرأ إلا ببينة.

تنبيه. قال الحطاب: إطلاق المص هنا في الضمان مع عدم الإشهاد هو المشهور، ومقابله أنه إذا كان العرف عدم الإشهاد صدق المودع كما تقدم في الوكالة.

كعليك إن كانت له بينة به مقصودة الضمير في "له" لرب الوديعة، وفي "به" للإيداع وفي كلامه التفات من الحضور إلى الغيبة، وحذف متعلق مقصودة وهو للتوثق والتشبيه في الضمان؛ يعني أن المودع إذا أخذ الوديعة ببينة مقصودة للتوثق ثم ادعى أنه ردها إلى ربها فإنه لا يصدق في ذلك ويضمن الوديعة لربها، وبينة التوثق هي التي يقصد المودع بالكسر بإشهادها أن المودع لا يقبل منه دعوى ردها إليه بدون بينة، ويشترط أن يعلم المودع بالفتح أن قصد المودع بالإشهاد أن لا تقبل دعواه الرد إلا ببينة كما في الحطاب وغيره، فإن كانت لخوف موت المودع بالفتح ليأخذها من تركته أو يقول المودع بالفتح: أخاف أن تقول هي سلف فأشهد لي أنها وديعة وما أشبه ذلك مما يعلم أنه لم يقصد بها التوثق بالمعنى المتقدم فإنه يصدق في دعوى الرد كما إذا تبرع المودع بالفتح بالإشهاد على القبض، كما قال عبد الملك: وقال ابن زرب: لا يبرأ إلا بالإشهاد لأنه ألزم نفسه حكم الإشهاد. قاله عبد الباقي. ونحو ما لعبد الملك لابن يونس كما نقله عنه الرهوني، ونص ابن يونس: ولا يصدق في دعواه الرد إذا كان قبضه ببينة إلا ببينة بالرد، ومن أخذ الوديعة بمحضر قوم ولم يقصد إشهادهم عليه فهو كقبضه بلا بينة حتى يقصد الإشهاد عليه، ثم قال: ومن كتاب ابن الماجشون فيمن في يديه مال وديعة أو دين فأشهد بذلك على نفسه قوما ورب المال لا يعلم بإشهاده ثم ادعى رد الوديعة وقضاء الدين، فقال: هو مصدق في الوديعة وعليه البينة في الدين. انتهى. وتوضيح تركيب معنى المص أن تقول كما يضمن المودَع إن ادعى الرد عليك يا مودع بالكسر حيث كانت لك بينة بالإيداع مقصودة للتوثق.

وقال المواق: من المدونة: من بيده وديعة أو قراض لرجل، فقال له: رددت ذلك إليك فهو مصدق إلا أن يكون قبض ذلك ببينة فلا يبرأ إلا ببينة، ولو قبض ببينة فقال ضاع مني أو سرق صدق،

ص: 395

وقال ابن رشد: الأمانات التي بين المخلوقين أمرهم الله فيها بالتقوى والأداء ولم يأمرهم بالإشهاد كما فعل في مال اليتيم، فدل ذلك أنهم مؤتمنون في الرد إلى من ائتمنهم دون إشهاد، فوجب أن يصدق المستودع في دعواه رد الوديعة مع يمينه إن كذبه المودع كما تصدق المرأة فيما ائتمنها الله عليه من ما خلق في رحمها من الحيضة والحمل إلا أن يكون دفعها إليه بإشهاد فتبين أنه إنما ائتمنه على حفظها ولم يأتمنه على ردها، فيصدق في الضياع الذي ائتمنه عليه ولا يصدق في الرد الذي استوثق منه ولم يأتمنه عليه هذا قول مالك وجميع أصحابه. انتهى.

وقال الحطاب: قال في معين الحكام: إذا كانت الوديعة ببينة فادعى المودع رد الوديعة فعليه البينة وإلا ضمن بعد يمين ربها ولربها رد اليمين. انتهى. وفي الوثائق المجموعة: فإن زعم المستودع عنده المشهود عليه بالوديعة أنه رد الوديعة إلى ربها فعليه البينة بما زعمه وله اليمين على ربها، فإن حلف ربها أنه لم يقبضها غرمها المودع عنده، وإن نكل ربها عن اليمين ردت اليمين على المودع، فإن حلف برئ وإن نكل غرم. انتهى.

لا بدعوى التلف يعني أن المودع بالفتح إذا ادعى تلف الوديعة فإنه يصدق في ذلك ولا ضمان عليه، ولو أخذها ببينة مقصودة للتوثق. ومن المدونة: قال مالك: إذا قبض قراضا أو وديعة ببينة لا يبرأ بقوله: رددت، ويصدق إذا قال: ضاع مني. انتهى قال المواق. أو عدم العلم بالتلف أو الضياع يعني أن المودع إذا قال: لا أدري أتلفت الوديعة أو ضاعت فإنه لا يضمنها لأنه ادعى أحد أمرين هو مصدقما فيهما، والتلف كالحرق والغرق والضياع كالسرقة هكذا في كثير من النسخ، وعليها فلا ضمان على المودع ولو أخذ الوديعة ببينة للتوثق وفي بعضها أو عدم العلم بالرد أو الضياع، ومعناها أن المودع بالفتح إذا قال لا أدري أتلفت أم رددتها فإنه يضمنها إن أخذها ببينة للتوثق وإلا لم يضمن. وهي نسخة المواق.

وحلف المتهم يعني أن المودع المتهم إذا ادعى رد الوديعة وكذبه ربها فإنه يحلف أنه ردها إليه. وكذا يحلف إن ادعى أنها تلفت أو ضاعت وكذا يحلف إن قال لا أدري أتلفت أو ضاعت وهي الثانية من صورتي المص، وكذا يحلف إن قال لا أدري أتلفت أم رددتها أو قال لا أدري أضاعت أم رددتها وهي نسخة المواق، ومفهوم قوله:"المتهم" أن غير المتهم ليس كذلك والحكم أن فيه

ص: 396

تفصيلا وهو أنه يحلف في دعوى التلف أو الضياع إذا حقق عليه رب الوديعة أنها لم تتلف ولم تضع، وإن لم يحقق عليه الدعوى فلا يحلف، وأما في دعوى الرد فلا فرق بين المتهم وغيره، والفرق بين دعوى الرد والضياع أن رب الوديعة في دعواه الرد يدعي يقينا أنه كاذب فيحلف المودع متهما أم لا، وفي دعوى الضياع لا علم له بحقيقة دعواه وإنما هو معلوم من جهة المودع. قاله ابن يونس. نقله المواق. ويفيد البناني أن قوله لا أدري أتلفت أم رددتها أو لا أدري أضاعت أم رددتها من جملة دعوى الرد فيحلف فيها المتهم وغيره. والله أعلم.

والحاصل أن المتهم يحلف مطلقا في دعوى التحقيق وغيره وفي دعوى التلف ودعوى الرد وأما غير المتهم ففي دعوى الرد يحلف، وأما إن كانت الدعوى دعوى تلف أو ضياع فيحلف إن حقق عليه رب الوديعة الدعوى أنها باقية ولا يحلف إن لم يحقق ذلك، قال الحطاب عند قوله:"وحلف المتهم" ما نصه هذا فيما إذا ادعى التلف ولم يحقق ربها عليه الدعوى أنها باقية فإن نكل غرم ولا ترد اليمين تنبيه قوله وحلف المتهم قال عبد الباقي وهل هو أي المتهم من يشار له بما ادعي عليه به من التساهل في الوديعة أو من لم يكن من أهل الصلاح قولان كما يأتي أول الغصب. انتهى.

ولم يفده شرط نفيها يعني أن المودع إذا شرط أن لا يمين عليه في دعوى التلف أو الضياع أو الرد فإنه لا يفيده شرطه بل تتوجه عليه اليمين كما لو لم يقع منه شرط نفيها، فإن نكل حلفت يعني أنه إذا توجهت اليمين على المودَع وقد علمت أنه لا يفيده شرط نفيها ونكل عنها، فإن المودع بالكسر يحلف وهو المراد بتاء الخطاب، فإن حلف المودع بالكسر غرم المودع بالفتح وإن نكل برئ المودع بالفتح؛ لأن النكول بعد النكول تصديق للناكل الأول وهذا في دعوى التحقيق، وأما في دعوى الاتهام فيغرم المودع بمجرد نكوله لأن يمين التهمة لا ترد.

والحاصل أن رب الوديعة يحلف في دعوى الرد بعد نكول المودع من غير تفصيل، وأما في دعوى التلف فكذلك إن حقق بقاء الوديعة وإلا غرم المودع بمجرد نكوله. والله تعالى أعلم. هذا ما لعبد الباقي وغيره، ونحوه قول المواق: ما نقل ابن يونس في المتهم إذا نكل إلا عدم اليمين. انتهى. وهو الجاري على القاعدة أن يمين التهمة لا تنقلب فيحمل كلام المص على خصوص دعوى

ص: 397

التحقيق، والذي في التوضيح وابن عبد السلام وابن راشد أن يمين التهمة تنقلب هنا على المشهور وأصله للبيان، وعليه فيحمل المص هنا على يمين التهمة كما هو ظاهرة وأحرى غيرها، واعتراض مصطفى عَلَى الأجهوري ساقط بنقل المواق. قاله البناني.

ولا إن شرط الدفع للمرسل إليه بلا بينة قد علمت مما سبق عن المواق أن هذا الفرع والذي قبله من قوله: "ولم يفده شرط نفيها" من تتمة قوله: "أو الرسل إليه المنكر" يعني أن من أرسلت معه مالا ليدفعه إلى فلان وديعة أو صدقة أو صلة أو سلفا أو من ثمن مبيع أو ليبتاع لك به سلعة، فقال دفعته إليه وكذبه المرسَل إليه فإن الرسول يضمن ولا يبرأ إلا ببينة إلا أن يشترط الرسول على رب المال أنه يصدقه في أنه دفعه للمرسَل إليه من دون بينة، ويحلف أنه دفعه له ولا يفيده شرط نفي اليمين كما عرفت؛ لأن اليمين إنما ينظر فيها حين تعلقها فكأنه شرط إسقاط أمر لم يكن.

والحاصل أن الرسول إذا اشترط أنه يصدق في الدفع للمرسل إليه من دون بينة وأنه لا يمين عليه، ثم ادعى الدفع للمرسل إليه وأنكر المرسل إليه فإنه يعمل بشرط تصديقه في الدفع دون شرط أن لا يمين عليه، فيحلف أنه دفعه إليه كما يفيده المواق. والله تعالى أعلم. وعمم عبد الباقي والخرشي قوله:"ولم يفده شرط نفيها"، وعبارة عبد الباقي: وإنما لم يعمل بشرط المودع بالفتح أن لا يمين عليه كما مر؛ لأن اليمين إنما ينظر فيها حين وجوب تعلقها، فمشترط سقوطها كمشترط سقوط أمر قبل وجوبه بخلاف مشترط ترك الإشهاد. ذكره عبد الحق. انتهى.

وهذا التعميم هو الظاهر وهو الذي قررت به قوله: "ولم يفده شرط نفيها" أولا، وقال عبد الباقي أيضا: وانظر هذا مع قولهم: إذا شرط رب الدين على الدين أنه مصدق في دعوى عدم الرد بلا يمين فإنه يوفى له بذلك. انتهى. قوله: وانظر هذا مع قولهم إذا شرط رب الدين لخ، قال الرهوني: فيه نظر لأنه يفيد أن ذلك فقه مسلم وليس كذلك، ففي التزامات الحطاب بعد أن قال ما نصه: فحاصل كلام ابن رشد أن الذي يختاره أن مسألة اشتراط التصديق في اقتضاء الدين دون يمين المنصوص فيها أن ذلك لا يفيد، واليمين لازمة كما تقدم في سماع ابن القاسم من كتاب

ص: 398

المديان، وكما قال في الواضحة، وأنه ليس في ذلك خلاف منصوص، وأنه يتخرج الخلاف في ذلك من مسألة إسقاط الحق قبل وجوبه. انتهى.

وبقوله تلفت قبل أن تلقاني بعد منعه دفعها يعني أن المودع إذا طلبه رب الوديعة أن يدفعها له فامتنع من دفعها له، ثم قال بعد ذلك لرب الوديعة: تلفت قبل أن تلقاني فإنه يضمنها إلا أن يدعي أنه إنما علم بالتلف بعد لقيه فلا ضمان ويحلف إن اتهم، قال عبد الباقي: وتضمن بقوله أي المودع بالفتح تلفت قبل أن تلقاني بعد منعه دفعها ولو لعذر اعتذر به كشغل كما هو ظاهره ولوأثبته؛ لأن من حجة ربها أن يقول له سكوتك عن أنها تلفت لا سيما مع اعتذارك دليلٌ على بقائها، إلا أن يدعي أنه إنما علم بالتلف بعد لقيه فلا ضمان ويحلف إن اتهم. انتهى. ونحوه للخرشي. ومن عبارته ما نصه: ثم إن محل كلام المؤلف ما لم يدع أنه إنما علم بالتلف بعد ما لقيه، فإن ادعى ذلك حلف حيث كان متهما ولا ضمان عليه. انتهى.

وقال المواق: روى أصبغ عن ابن القاسم فيمن له مال عند رجل وديعة فطلبه منه فاعتذر بشغل وأنه يركب إلى موضع كذا فلم يقبل عذره، فتصايحا فحلف أن لا يعطيه الليلة فلما كان في غد قال ذهبت قبل أن تلقاني ضمن؛ لأنه أقر بها، وإن قال لا أدري متى ذهبت حلف ولا ضمان عليه، قال أصبغ: ويحلف ما علم بذهابها حين منعه. انتهى.

كقوله بعده بلا عذر يعني أن المودع بالفتح إذا طلبه المودع بالكسر أن يدفع له وديعته فامتنع من ذلك، ثم قال له بعد ذلك تلفت بعد أن تلقاني

(1)

فإن المودع بالفتح يضمنها حيث كان امتناعه من دفعها بلا عذر، وأما إن كان امتناعه من دفعها لعذر فإنه لا ضمان عليه، قال عبد الباقي: كقوله تلفت بعده وامتنع من الدفع بلا عذر ثابت، فإن امتنع لغير عذر بالكلية أو لعذر محتمل فإنه يضمنها، فإن كان امتناعه لعذر ثابت لم يضمن. وعلم مما قررنا أن فيه حذف متعلق الجار والمجرور وصفته، وإذا امتنع من دفعها وقد قال تلفت قبل أن تلقاني وأقام بينة على التلف وادعى أنه إنما وعد بالإتيان لكونه نسي تلفها فلا تقبل؛ لأنه مكذب لها حيث ذكر أنها باقية والنسيان لا يعذر به. قاله أحمد. انتهى.

(1)

في الخرشي ج 6 ص 118: بعد أن لقيتني.

ص: 399

وقال المواق: قال ابن القاسم: إن قال ذهبت بعد ما حلفت وفارقتك ضمنها لأنه منعها إياه إلا أن يكون كان على أمر لا يستطيع فيه أن يرجع ويكون عليه فيه ضرر فلا يضمن، قال ابن عبد الحكم: إذا قال أنا مشغول إلى غد فرجع إليه فقال تلفت قبل مجيئك الأول أو بعده فلا ضمان عليه، وكذلك لو قال لا أدفعها إليك إلا بالسلطان فترافعا إليه فضاعت بين سؤاله إياه وبين إتيانه السلطان فلا ضمان عليه؛ لأن له في ذلك عذرا يقول خفت شغبه وأذاه. انتهى. والشغب ويحرك الشر قوله قبل مجيئك الأول أو بعده حمله ابن رشد على الوفاق لقول ابن القاسم لأن قوله قبل مجيئك الأول معناه أنه لم يعلم بذلك إلا بعده، ومعنى قوله أو بعده إذا كان له في منعه عذر. قاله الشارح. والله تعالى أعلم.

لا إن قال لا أدري متى تلفت يعني أن المودع بالفتح إذا طلبه رب الوديعة وديعته فامتنع من دفعها له، ثم قال له بعد ذلك لا أدري متى تلفت أقبل أو بعد فإنه لا ضمان عليه امتنع لعذر أم لا، ويحلف المتهم. قاله الأجهوري. وإنما لم يضمن حملا على أنها تلفت قبل ولم يعلم به إلا بعد، وفي خط جد الأجهوري أن الموضوع أنه امتنع من دفعها لعذر. قاله الهاروني في شرحه الذي اختصره من البساطي، وأصله للشارح وتبعه التتائي قاله عبد الباقي. قوله: وامتنع من دفعها لعذر لخ قال الرهوني: هذا هو المتعين لأن منع دفعها بلا عذر موجب للضمان في جزمه بأنها تلفت بعده، فكيف هنا؟ وكلام ابن رشد وغيره يدل على ما قلناه فتأمله، وقوله: لا إن قال لا أدري متى تلفت هو من كلام ابن القاسم أيضا كما مر.

وبمنعها حتى يأتي الحاكم بالرفع والنصب يعني أن المودع بالفتح إذا طلبه رب الوديعة أن يدفع إليه وديعته فمنعه منها حتى يأتي الحاكم فيدفعها له عنده فتلفت، فإن المودع يضمنها لأنه متسبب في ضياعها إذ لا عذر له لأنه مصدق في دعوى ردها لربها، وهذا إن لم تكن هناك بينة مقصودة للتوثق، وأما إن كان أخذها منه ببينة مقصودة للتوثق فإنه لا يضمن لأنه معذور إذ لا يقبل حينئذ قوله في ردها لربها، والرهن كالوديعة في ذلك فإذا طلب ربه فكاكه وامتنع المرتهن من دفعه حتى يأتي الحاكم فتلف قبل إتيانه فإنه يضمنه. قاله الخرشي وعبد الباقي. وما مر عليه المص لابن القاسم في العتبية هو أحد أقوال ثلاثة، ثانيها: لا ضمان عليه وإن قبضها بغير

ص: 400

بينة لأن له في ذلك عذرا؛ لأنه يقول خفت سفهه وأذاه وهو قول ابن عبد الحكم، ثالثها أنه ضامن وإن قبضها ببينة لأنه متعد في منعه حتى يأتي الحاكم؛ لأن له أن يشهد عليه بالرد، وإلى هذا ذهب ابن دحون. قاله الشارح. وفي الرهوني ما يفيد تقوية أنه إذا أخر للإشهاد من دون حاكم لا يضمن، قال: وهو المنصوص عليه في الموازية، ونقله الشيخ أبو محمد في نوادره واللخمي وغيرهما وسلموه كما سلمه أبو الحسن. انتهى.

لا إن قال ضاعت من سنين وكنت أرجوها يعني أن المودع بالفتح إذا قال ضاعت الوديعة من سنين ولم يكن يذكر ذلك لأحد لكنه قال: كنت أرجوها وأطلبها فلم أجدها فإنه لا ضمان عليه؛ لأنه أمين سواء كان صاحب الوديعة حاضرا أو غائبا، والواو في قوله:"وكنت أرجوها" واو الحال أو واو العطف، وهو معطوف على ضاعت. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: لا أن قال عند طلبها منه: ضاعت من سنين وكنت أرجوها فلا يضمنها. ولو حضر صاحبها أي كان حاضرا بالبلد، قال أحمد: ويحتمل أن يقال إن ذكر هذا أي وكنت أرجوها لا بد منه وأنه لو لم يذكره لضمن، وذلك لأن ربها يقول له: لو أعلمتني لكنت أفتش لكن يلزم على هذا أنه لو قال: تلفت من سنين أن يكون ضامنا وينبغي نفيه هنا. انتهى. وفي نسخة: منذ سنين، قال عبد الباقي: ومفهوم سنين أن أقل منها أولى بهذا الحكم، ولكن انظر هل يقيد بقوله:"وكنت أرجوها"؟ أو يقال: إذا مضت مدة يمكنه فيها الإعلام ولم يعلمه؟ فإن قال: إنما سكت لأني كنت أرجوها قبل منه وإلا لم يقبل. انتهى. وقوله: "لا إن قال ضاعت من سنين" لخ رواه أصبغ عن ابن القاسم، وقال أصبغ: هو ضامن إذا لم يعرف منه طلب لأحد ولا ذكر لصاحبها ولا لغيره، وسماع وحضور ربها آكد. انتهى. نقله الشارح.

كالقراض قال الخرشي: تشبيه فيما قبله من عدم الضمان؛ يعني أن مال القراض إذا نض ثم طلبه ربه، فقال له: ضاع منذ سنين وكنت أرجوه فلا ضمان عليه، ويحتمل أن يكون مشبها بالمسائل السابقة من قوله:"وبقوله تلفت قبل أن تلقاني" وكل صحيح. انتهى. وقال عبد الباقي: تشبيه تام في قوله: "وبقوله تلفت" إلى هنا، فحكم عامل القراض حكم المودع بالفتح في هذه المسائل، إلا أن جريان قوله:"وبقوله تلفت" لخ فيه إنما يتأتى إذا نض المال أو حكم الحاكم بنضوضه لطلب

ص: 401

ربه، فقال له ضاع منذ سنين وكنت أرجوه فلا ضمان، وأما قبل ذلك فامتناعه من قسم المال أو من إحضاره للقسم، وقوله:"تلفت قبل أن تلقاني" لا يوجب عليه ضمانا. انتهى.

تنبيهان: الأول: قال الحطاب: قال في النوادر في أواخر كتاب الوديعة من كتاب ابن المواز ومحمد بن عبد الحكم، قالا: ومن أودعته وديعة ثم أقررت أنها لزيد الغائب ثم طلبت قبضها فلك ذلك بالحكم، وليس إقرارك أنها لزيد يمنعك من قبضها في غيبة زيد؛ لأنك الذي أودعتها وكذلك ما أودعت عند سفرك من وديعة أو مال أنت فيه وكيل وأنت مقر أن ذلك لفلان فلك أخذه. وكذلك لو كانت دارا فدفعتها إليه فهدمها وأتلف نقضها فلا ضمان عليك إن جاء ربها لأنك غير متعد فيما فعلت. انتهى.

الثاني: قال في المسائل الملقوطة: إذا دعا الزوج زوجته لحاجته ودعاها من له عندها وديعة فالزوج مقدم. قاله الحطاب.

وليس له الأخذ منها لمن ظلمه بمثلها يعني أن من أودع عند شخص وديعة أو باعه شيئا أو اشترى منه شيئا أو عامله في شيء من الأشياء فخانه فيه أو في بعضه، ثم إن هذا الخائن أودع وديعة عند صاحب الوديعة الأول أو باع منه أو اشترى فإنه لا يجوز له أن يأخذ من هذه الوديعة أو مما عامله فيه نظير ما ظلمه الأول فيه، على ما قاله المؤلف لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك

(1)

)؛ لأن الأصح في اللفظ العام إذا ورد على سبب خاص أن يبقى على عمومه ولا يقصر على سببه كما سن الرمل في طواف القدوم لكل حاج من المذكور، وإن ورد على سبب خاص وقد زال وهو إغاظة الكفار حيث نسبوا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الضعف، وسواء كانت الوديعة عينا أو عرضا عليه بينة بالدفع أم لا، أمكن أن يطلع عليه أم لا. قاله الخرشي. قوله لأن الأصح في اللفظ العام لخ؛ يعني أن هذا الحديث ورد على سبب خاص وهو أنه عليه الصلاة والسلام سئل عمن أراد وطء امرأة ائتمنه عليها رجل قد كان هو ائتمن على امرأة ذلك الرجل السائل فخانه فيها ووطئها، فقال له: أد الأمانة إلى من انتمنك لخ، قوله:"له" خبر "ليس" و"الأخذ" اسمها و"منها" متعلق "بالأخذ" و"من" للتبعيض

(1)

أبو داود، أبواب الإجارة، رقم الحديث 3534 - الترمذي، كتاب البيوع، رقم الحديث 1264.

ص: 402

و"لمن" حال من الهاء" وبمثلها" متعلق "بظلمه" أي ليس للمودع بالفتح أن يأخذ من وديعته الكائنة لمن ظلمه بأخذ مثلها مثل ما ظلمه به، والباء للسببية وبعدها مضاف مقدر كما قررت. والله تعالى أعلم.

تنبيهان: الأول. قال عبد الباقي: ثم ما ذكره المص هنا ضعيف والمذهب أن له ذلك؛ يعني أنه يباح له الأخذ منها لمن ظلمه بمثلها وهو الموافق لظاهر ما يأتي له في مسألة الظفر المذكورة في الشهادات بقيدها هناك إن يكن غير عقوبة وأمن فتنة ورذيلة، وبدليل قوله تعالى؛ {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ، ولخبر هند بنت عتبة بن ربيعة لما شكت إليه عليه الصلاة والسلام أن زوجها أبا سفيان لا يعطيها طعاما يكفيها وولدها فقال لها: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف

(1)

)، وأما خبر: أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك فأجيب عنه بثلاثة أجوبة: أحدها لابن رشد أن معنى ولا تخن لخ أي لا تأخذ أزيد من حقك فتكون خائنا، وأما من أخذ حقه فليس بخائن، ثانيها لابن رزق أنه ورد على سبب وهو أنه عليه الصلاة والسلام سئل عمن أراد وطء امرأة ائتمنه عليها رجل قد كان هو ائتمن على امرأة ذلك الرجل السائل فخانه فيها ووطئها، فقال له: أد الأمانة لخ، ورده تلميذه ابن رشد بأن الأصح من قولي مالك عند أكثر أصحابه العراقيين أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ثالثها أنه لا يصلح للاحتجاج به لكثرة المقال فيه وإن خرجه الترمذي وغيره، ففي نكت البسيلي على التفسير عن شيخه ابن عرفة في صحته نظر، قال الشيخ أحمد بابا عقبه: وهو كما قال فهو على جميع طرقه واه، بل قال أحمد بن حنبل: إنه باطل لا أعرفه من وجه يصح، وقال الشافعي: ليس بثابت وابن الجوزي لا يصح من جميع طرقه. انظر تخاريج

(2)

أحاديث الرافعي للحافظ ابن حجر. اهـ. وفيه نظر، فقد قال السخاوي عقب أحاديث نحو هذا بانضمام طرقه يقوى. اهـ. فالصواب جواب ابن رشد. اهـ.

(1)

البخاري، كتاب النفقات، رقم الحديث 5364.

(2)

في الأصل: تاريخ، والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 125.

ص: 403

قوله: أحدها لابن رشد أن معنى أد الأمانة لخ، قال الرهوني: هذا ذكره ابن رشد في المقدمات، ونصها: وأظهر الأقوال إباحة الأخذ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح ذلك لهم بقوله صلى الله عليه وسلم لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) معناه أن تأخذ مقدار ما يجب لها ولا تتعدى فتأخذ أكثر مما يجب لها، وكذلك يتأول قوله صلى الله عليه وسلم:(ولا تخن من خانك) أي لا تتعدَّ فتأخذ أكثر من الواجب فتكون خنته آخرا كما خانك هو أولا. اهـ. فليس نصا في أنه له من عند نفسه، وقد نقله اللخمي ولم يعين قائله، وقوله: وفيه نظر فقد قال السخاوي نحو هذا بانضمام طرقه يقوى لخ، لهذا -والله أعلم- حسنه الترمذي، فقد قال أبو الحسن بعد أن ذكره ما نصه: أخرجه الترمذي، وقال فيه: حديث حسن غريب، وقد عزاه في الجامع الصغير لجماعة من الأئمة عن عدة من الصحابة ومن جملة ذلك الدارقطني عن أبي بن كعب، فقال المنوي ما نصه: بسند جليل القدر والمتن حسن اتفاقا. انتهى.

الثاني. قوله: "وليس له الأخذ منها لمن ظلمه بمثلها" قال المواق عنده ما نصه: وحاصل كلام اللخمي وابن يونس وابن رشد والمازري ترجيح الأخذ.

ولا أجرة حفظها يعني أن المودع لا يستحق أجرا في حفظه الوديعة؛ لأن العادة قاضية بذلك، قوله:"ولا أجرة حفظها" إلا أن يكون مثله ممن يكري نفسه للحراسة فله أن يأخذ الأجرة، ومثله إذا جرى العرف بذلك وأولى من اشترطه. قاله الخرشي وغيره. وقال عبد الباقي عند قوله:"ولا أجرة حفظها" ما نصه: لأن الحفظ من نوع الجاه وهو لا يؤخذ عليه أجرة إن لم يأخذها مثله أو يشترطها أو [يجرِ

(1)

] بها عرف. اهـ. قوله: لأن الحفظ من نوع الجاه، مثله في الخرشي، قال البناني: غير صحيح لاقتضائه أنهما لو اتفقا عليه لم تجز وليس كذلك، ونص ابن عبد السلام: أما أجرة الحفظ فقد جرت العادة باطراحها وأن المودع لا يطلب أجرة ذلك، وبهذا الوجه سقطت الأجرة لا لأن الحفظ لا يجوز الأجرة عليه لأن المذهب جواز الأجرة على الحراسة. اهـ. ونحوه للتاودي. والله تعالى أعلم.

(1)

في الأصل: يجري، والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 125.

ص: 404

بخلاف محلها يعني أن المودع إذا طلب أجرة المحل الذي توضع فيه الوديعة فإنه يجاب إلى ذلك فله الأجرة، قال المواق: ابن رشد: لا أجر للمودع على حفظه الوديعة وإن كانت مما يشغل منزلة فطلب أجر الموضع الذي كانت فيه فذلك له، وإن احتاجت إلى غلق أو قفل فذلك على ربها، وقيد ابن عبد السلام وجوب أجرة المحل بكون طالبها ممن يقتضي حاله ذلك، وعدم أجرة حفظها بنقيضه، واحتج بقولها: من ركب دابة رجل إلى بلد وقال: إنما أعاره إياها، وقال ربها: بل بكراء قبل قوله إلا أن يكون مثله ليس يكري الدواب لشرفه وقدره. اهـ. وقال عبد الباقي: بخلاف محلها الكائنة فيه فقط من المنزل فله أجرته إن كان مثله يأخذ إلا أن يشترط المودع عدمه أو يجري به عرف. انتهى.

ولكل تركها يعني أن الوديعة عقدها من العقود الجائزة من الجانبين، فلرب الوديعة أن يأخذها من المودع بالفتح وإن لم يرض وللمودع بالفتح أن يدفعها للمودع بالكسر وإن لم يرض، قال عبد الباقي: ولكل من ربها والمودع تركها فلربها أخذها وللمودع ردها لأنها جائزة من الجانبين بالنظر لذاتها لا لما يعرض لها من وجوب وحرمة وغيرهما من بقية الأحكام الخمسة كما نقله التتائي أول الباب. اهـ. وقال المواق: ابن شاس: الوديعة من حيث ذاتها للفاعل والقابل مباحة، وقد يعرض وجوبها لخائف فقدها الموجب لهلاكه أو فقره إن لم يودعها مع وجود قابل لها يقدر على حفظها. ابن عرفة: وتعرض حرمتها كإيداع مغصوب لا يقدر القابل على جحده

(1)

ليرده على ربه، كنقل عياض: من قبل وديعة من مستغرق ذمة ثم ردها إليه ضمن للفقراء قيمتها. انتهى المراد منه.

وأن أودع صبيا أو سفيها أو أقرضه أو باعه فأتلف لم يضمن يعني أن الصبي إذا استودع شيئا فأتلفه فإنه لا يضمنه، وكذلك من أودع سفيها فأتلف ما أودعه لم يضمن، وكذلك من باع سلعة لسفيه وصبي فأتلف كل منهما ما بيع له فإنه لا ضمان عليهما ويرد الثمن للصبي أو للسفيه، وكذا من أقرض صبيا أو سفيها فأتلفا ما أقرضاه فلا ضمان عليهما ولا ينتفعان بشيء، قال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: من أودع صبيا صغيرا وديعة بإذن أهله أو بغير إذنهم فضاعت لم

(1)

في الأصل: جحدها، والمثبت من المواق ج 5 ص 311.

ص: 405

يضمن، يريد وكذلك السفيه لأن أصحاب ذلك سلطوا يده على إتلافه. قال مالك: ومن ابتاع منه سلعة ودفع إليه الثمن فأتلفه فالمبتاع ضامن للسلعة ولا شيء له قبل الصبي من الثمن. اللخمي: ولا تباعة على الصبي والسفيه إلا أن يثبت أنهما أنفقا ذلك فيما لا غنى لهما عنه فيتبعان في المال الذي صوناه، فإن ذهب ذلك المال وأفادا غيره لم يتبعا فيه. ومن نوازل البرزلي: أفتى الشيخ أبو محمد بن أبي زيد بضمان رجل أعطاه صبي مالًا وديعة ثم رده عليه لأنه رده لمن لا يجوز أن يعطاه. اهـ. وقوله: "وإن أودع صبيا أو سفيها" لخ هو مفهوم قوله: "وضمن ما أفسد إن لم يؤمن عليه" ثم عدم الضمان مقيد بما إذا لم ينصبه في حانوته، فإن نصبه فيه ضمن ما أتلفه مما اشتراه أي لأنه لما نصبه للبيع والشراء وقبول القرض والوديعة فقد أطلق له التصرف فيضمن كذا علله اللقاني، والمراد يضمن وليه الناصب له لا الصبي، ومحله أيضا في الثلاثة الأقسام أن لا يصون الصبي أو السفيه ماله بما أخذه فيضمنه في المال الذي صونه دون غيره، فإذا تلف المال الذي صونه به فلا ضمان عليه ولو استفاد غيره. قاله عبد الباقي.

وقوله إن بإذن أهله راجع للوديعة فقط يعني أن من أودع صبيا أو سفيها فأتلف ما أودعه له فإنه لا ضمان عليه سواء أودعه بإذن أهله أو بغير إذن أهله، قال البناني: الذي حرره أبو علي رجوع الإغياء للوديعة فقط كما يفيده لفظ المدونة في المواق، والذي حصله الحطاب أول البيوع فيما باضه المحجور بحضرة وليه وسكوته قولان: أحدهما أن ذلك كفعل الولي وهو الذي قاله أبو إبراهيم وأفتى به ابن عرفة، ووقع الحكم به بتونس وبه أفتيت. والثاني أنه غير لازم، وعلى الأول فإن كان صوابا ومصلحة لزم المحجور، وإن كان غير مصلحة نقض ما دام المبيع قائما بيد المشتري، فإن فات رجع على المشتري بكمال القيمة على ما أفتى به ابن رشد. اهـ.

وقال الحطاب عن المشدالي: وقعت مسألة في وصي دفع مركبا له لمولى عليه في حجره وصرفه إلى الأسكندرية، فمضى به المولى عليه ورجع فغصب في رجوعه، فقال الوصي: إنما أمرتك أن تصرفه وتبقيه فغررت ورجعت فعليك الضمان، قال أبو عمران: لا ضمان عليه لأن من أطلق يد سفيه على ماله أو باعه أو أودعه وديعة فتعدى السفيه عليه فلا شيء عليه، فقيل جناية الصبي لازمة إلا فيما أطلق يده عليه والوصي يقول إنما أطلقت يده في الوصول فقط فيه، فبنفس الوصول انقطع

ص: 406

تسليطي عليه فهو متعد، فقال أبو عمران: هذا وإن كان كما قلت فقد بقي بيده كأنه أودعه إياه حتى يبقيه، وقد قال مالك فيمن جعل للسفيه جعلا في آبق فباعه إلى آخر ما في المدونة. اهـ المراد منه.

وتعلقت بذمة المأذون عاجلا يعني أن العبد المأذون إذا أتلف وديعته فإنها تكون في ذمته عاجلا فتؤخذ مما بيده الذي له ولا تتعلق برقبته، قال عبد الباقي: وتعلقت بذمة المأذون له في التجارة عاجلا قبل عتقه لا برقبته ولا بالمال الذي بيده للتجارة إن كان لسيده، فإن كان له تعلقت به وليس للسيد فسخ ذلك عنه. انتهى. وقال المواق من المدونة: ما أتلفه المأذون له في التجارة من وديعة بيده فذلك في ذمته لا في رقبته؛ لأن الذي أودعه متطوع وليس للسيد أن يفسخ ذلك عنه. انتهى.

وبذمة غيره إذا أعتق يعني أن العبد الذي لم يؤذن له إذا أودع وأتلف ما أودع له فإن الوديعة تتعلق بذمته إذا أعتق وقبل ذلك لا يطالب بها، قال عبد الباقي: وتعلقت بذمة غيره أي غير المأذون فيتبع بها إذا أعتق لا برقبته لأنها ليست جناية كسائر الجنايات. اهـ. وقال الشارح: وقال بعض أصحابنا: إن استهلكها فهي جناية في رقبته كسائر الجنايات. انتهى. إن لم يسقطه السيد يعني أن محل كونه في ذمة غير المأذون إذا أعتق إنما هو إذا لم يسقط السيد تعلقها بذمته في رقه، وأما إن أسقط ذلك وهو في الرق فإنه لا يتبع بها إذا أعتق، قال عبد الباقي: وظاهر كلامه يعني المص تعلقها بذمة العبد وإن أذن سيده بالإيداع وهو كذلك ولا شيء على السيد وإنما كان له الإسقاط لأنه يعيبه. اهـ. قال البناني: معنى كون الدين عيبا في العبد أنه ينقص من ثمنه إذا أراد بيعه مثلا؛ لأن مشتريه يريد أنه إذا مات بعد أن أعتقه وله مال ولا وارث استبد بمال مولاه ولا يأخذد غرماؤه. والله أعلم. اهـ.

وقال الشارح: قال أشهب: ومن أراد أن يودع رجلا وديعة فقال له ادفعها إلى عبدي ففعل فاستهلكها العبد فهي في ذمته، قلت: وإن غره السيد من العبد قال لا شيء على السيد بكل حال، قال محمد بن عبد الحكم: ولا تكون في ذمته بإقراره أنه استهلكها حتى تقوم بينة باستهلاكه. اهـ. وقال الشارح: قال أشهب في العبد المحجور عليه يتلف الوديعة التي أودعها:

ص: 407

فإن كان مثله يستودع فهي في ذمته رق أو عتق، وقال سحنون: قال أشهب في العبد يتاجر الناس بغير إذن سيده: فإن كان فارها مثله يتاجر الناس فذلك في ذمته والعبد الوغد لسيده أن يبطل ما أتلف من أمانة لأنه لم يأذن له في أخذ الودائع ومثله لا يودع. ابن يونس: وإذا أتى العبد المحجور عليه إلى رجل فقال له: سيدي أمرني أن أستعير منك كذا فصدقه ودفع إليه ما ذكر فأنكر سيده، فقال للسيد أن يطرح ذلك عن ذمة العبد بعد يمينه أنه ما بعثه، وقيل إن ذلك دين في ذمته لا يطرحه عنه سيده والأول أشبه لأن الذين صدقوهم أتلفوا مستعارهم إذ لم يتثبتوا وما تعمد أخذه فذلك جناية في رقبته. اهـ. فإن قلت ما الفرق بين العبد والصبي والسفيه حيث تعلقت بذمة العبد إذا أعتق والآخران لا تتعلق بذمتهما إذا رشدا؟ فالجواب أن العبد محجور عليه لحق غيره بخلافهما فإنهما محجور عليهما لحق أنفسهما، فلذلك لم يلزمهما. قاله الخرشي.

وإن قال هي لأحدكما ونسيته تحالفا وقسمت بينهما يعني أن من عنده وديعة وادعاها شخصان، فقال المودع بالفتح هي لأحدكما ونسيته فلا أدري الآن من هي له منكما، فإنهما يتحالفان وتقسم الوديعة بينهما، وكذا الحكم لو نكلا ويقضى للحالف على الناكل، قال عبد الباقي والخرشي: خلاف الدين فإنه يغرم لكل واحد قدر ما عليه لأنه في ذمته والوديعة أمانة، ولو قال: ليست الوديعة لأحد كما لم يقبل وكانت بينهما بعد حلفهما. اهـ. قوله: ولو قال ليست الوديعة لأحدكما لخ يعني بعد قوله أولا هي لأحدكما لخ، وأشار بذلك إلى ما في النوادر وابن يونس وغيرهما، وقد نقل ابن عرفة كلام النوادر مختصرا وسلمه، ونصه: فإن رجع وقال أحلف أنها ليست لواحد منهما فلا بد من غرمه مائة يقتسمانها، وكذلك لو كانت المائة عليه دينا، وهذا التفصيل الذي ذكره بين الوديعة والدين هو لابن القاسم في سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح، وقيل إنه يغرم لكل واحد منهما ما أقربه في الدين والوديعة، فإذا قال هذه المائة لأحدكما ونسيته غرم لكل واحد منهما مائة في الوديعة والدين وهو اختيار ابن المواز، ومحل ذلك إذا تمادى على قوله هي لأحدكما ونسيته فإن رجع المودع فقال أنا أحلف أنها لهذا الواحد

ص: 408

منهما فذلك له، وقيل لا يلزمه إلا مائةٌ واحدة في الوديعة والدين، وتكون بينهما بعد أيمانها فهذه ثلاثة أقوال.

وهنا مسألة أخرى وهي: من استودع مائة دينار فأتى رجلان يدعيانها فقال رددتها إلى أحدكما، قال ابن يونس عن محمد: فإن لم يثبت أيهما هو فإنه ضامن لكل واحد منهما مائة؛ لأن كل واحد منهما يدعي أنه أودعه فلم يقطع بتكذيبه، كقول المدعي لا أدري هل أودعتني فهو كالنكول، فيحلف المدعي ويضمنه وكذلك لو كانوا عشرة، وقال ابن عبد الحكم: أما في الدين فيضمن لكل واحد مائة، وأما في الوديعة فلم أرها مثل الدين، قال محمد: وهما عندي سواء، قال في كتاب الإقرار: ويحلف كل واحد منهما ويحكم له بمائة ومن نكل لم يكن له شيء وكانت لمن حلف، فإن نكلا جميعا لم يكن على المقر إلا مائة واحدة يقتسمانها بينهما بلا يمين عليه؛ لأنه هو الذي أبى اليمين وردها بعد أن ردت عليه. اهـ.

ونقل ابن عبد السلام كتاب

(1)

كلام الموازية بزيادة بيان، فبين أن المراد لمحمد في قوله قال محمد هما عندي سواء هو ابن المواز، وأن المراد بكتاب الإقرار كتاب الإقرار من الموازية، ونصه: قال محمد بن المواز: هما عندي سواء، زاد في كتاب الإقرار من كتابه ويحلف كل واحد لخ، قوله: لأنه هو الذي أبى اليمين لخ مجاز وهو مشبه بالناكل بدليل قوله: لا أدري هل أودعتني فهو كالنكول. اهـ. وقوله: وردها بعد أن ردت عليه فيه إشكال لأن يمين الرد لا ترد.

والحاصل أن المسألتين غير مختلفتين كما عرفت. والله تعالى أعلم. فلا فرق بين بقاء المائة بيده ونقلها عنه، قال عبد الباقي: وأشر قوله: "وإن قال هي لأحدهما" لخ أنه حي وهو كذلك، فإن مات وقال وارثه لا أدري هي لمن منكما إلا أن أبي كان يذكر أنها وديعة فإنه لا يكون الحكم كذلك وهو كذلك، والحكم أنها توقف أبدا حتى يستحقها أحدهما بالبينة. اهـ. وإذا أيس من مرفة صاحبها بالكلية تصدق بها عن ربها في الفقراء، وقوله:"وإن قال هي لأحدكما ونسيته" لخ وقع تمثيل هذا بما إذا اتحد العدد، فإن اختلف بأن أودعه واحد مائة والآخر خمسين ونسِيَ

(1)

في الرهوني ج 6 ص 192: ابن عبد السلام كلام الموازية.

ص: 409

من صاحب كل وادعى المائة كل منهما، فقال سحنون: يحلفان على المائة ويقتسمانها مع الخمسين كما في النوادر، ونقله ابن عرفة وابن عبد السلام والشامل. قاله البناني.

وإن أودع اثنين جعلت بيد الأعدل يعني أن المودع بالكسر إذا كان مودعا لاثنين وغاب وتنازعا فيمن تكون الوديعة بيده منهما، فإنه يجعلها الشرع بيد الأعدل منهما، قال عبد الباقي عند قوله:"بيد الأعدل" ما نصه: فإن حصل فيها ما يقتضي الضمان كان ممن هو

(1)

بيده، ويحتمل من الآخر أيضا لكونه مودعا أيضا من ربها، فإن تساويا عدالة جعلت بأيديهما، قال في الشامل: لا ضمان إن اقتسماها. اهـ. فلو كانا غير عدلين فهل توضع عند غيرهما كالوصيين أو تبقى بأيديهما؟ الأول هو ظاهر المدونة، والثاني جزم به عياض وعزاه لسحنون والقاضي، وجزم به أحمد ونقل كلام عياض. قاله البناني. وقول المص:"بيد الأعدل" وأولى عدل مع فاسق، وقولي: وغاب ظاهر إذ مع حضوره الكلام له لا للحاكم ولا لغيره. قاله عبد الباقي. وقال الرهوني: سحنون والقاضي إسماعيل وإن اتفقا على أنها تبقى بأيديهما اختلفا إذا اقتسماها، فسحنون قال: لا ضمان عليه وبه قال أشهب، وقاله أشهب وابن عبد الحكم ويحيى في الوصيين، وقال إسماعيل في المودعين: يضمنان بالقسم، وقاله ابن حبيب في الوصيين كذا في ابن يونس. فانظره. والله أعلم. اهـ.

وقال الرهوني أيضا: ظاهر كلام البناني أن الخلاف المذكور سواء علم المودع بعدم عدالتهما أو لم يعلم وهو كذلك، والظاهر إذا علم عدم عدالتهما هو قول سحنون ومن وافقه؛ لأنه رضي بهما على تلك الحالة، وإذا قال الأخوان وأصبغ إنه لا يعزل الوصي إذا علم الموصي بعدم عدالته ويجعل معه غيره، فكيف بالمودع؟ وقد قال أبو الحسن عند نص المدونة الذي هنا عند غير واحد من الشراح ما نصه: والفرق بين المودعين والوصيين أن السلطان ليس له خلعهما بخلاف الوصيين؛ لأن المال انتقل إلى الورثة وليس له أن يوصي به إلى غير عدل. وفي الوديعة للحي أن يودع ماله حيث شاء والمودعان والوصيان حكمهما واحد إلا في الصلح خاصة. أبو علي: ويدل للفرق المذكور أن من أودع إلى غير عدل لا يتعرض له وهو ظاهر. والله أعلم. وفي الحطاب عن الذخيرة أن

(1)

في عبد الباقي ج 6 ص 126: ممن هي.

ص: 410

الإيداع يكون عند البر والفاجر. اهـ. قوله: "وإن أودع اثنين جعلت بيد الأعدل" قال الرهوني: قيد ابن شبلون جعلها بيد الأعدل بما إذا لم يكن ربها دفعها للآخر ففي

(1)

المعيار، قال أبو القاسم: ابن شبلون: وذلك إذا لم يكن رب الوديعة دفعها إلى أحدهما وأما لو دفعها إلى أحدهما كانت بيده دون الآخر. اهـ.

ولما أنهى الكلام على الوديعة أتبعه بالكلام على العارية لأنهما من الأمانات، فقال:

(1)

في الأصل: في، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 195.

ص: 411

باب: في العارية بالتشديد فعلية بفتح العين من التعاور بمعنى التداول، أو فاعولة من عراه يعروه عرض له وقصده، أو فعلية من عراه على القلب أو فاعولة من التعاور على القلب أيضا، وقول الجوهري: إنها منسوبة إلى العار أي لأن طلبها عار أنكر عليه؛ لأنه لو كان كذلك لقالوا يتعيرون لأن العار عينه ياء وهم يقولون هم يتعورون العواري بينهم، ومثل العارية العارة. ابن سيدة: تعورنا العواري وتعاورنا الشيء تداولناه، وقيل العارية من الياء لأنها عار على صاحبها وقد تعيروها بينهم. اهـ. وهذا يرد ما تقدم من الرد على الجوهري. والله تعالى أعلم. ابن عرفة: وهي مصدرا تمليك منفعة مؤقتة لا بعوض، فتدخل العمرى والإخدام لا الحبس، واسما مال ذو منفعة موقتة ملكت بغير عوض والعرف استعمالها اسما وهو الشيء المعار. انتهى. وأورد على التعريف أنه صادق على منفعة دار مثلا ورثت ممن اكتراها مع أن ذلك لا يقال فيه عارية، وأجاب ابن عرفة بأن عموم نفي العوض لأنه نكرة في سياق النفي يخرجه، قال البناني: لا يحتاج إليه لأن لفظة تمليك لا يشملها إذ الإرث ملك لا تمليك. فتأمله.

وانظر من أين أخرج الحبس؟ فإن أخرجه من لفظ منفعة كما فهمه الرصاع قائلا: لأن فيه ملك الانتفاع لا المنفعة ففيه نظر من وجهين، أحدهما ما ذكره في التوضيح من أن المحبس عليه يملك المنفعة بدليل أنه يؤاجر لغيره، الثاني أن حمل المنفعة على ما فهمه من المعنى الأخص يخرج العارية التي شرط ربها على المستعير أن ينتفع بنفسه فقط فيكون التعريف غير جامع. فتأمله. وإن أخرج الحبس بقوله مؤقتة وهو الظاهر ورد عليه أن الحبس لا يشترط فيه التأبيد إلا أن يقال إن المؤقت من أفراد العارية وهو ظاهر. اهـ. قاله البناني. والله تعالى أعلم.

وأركان العارية أربعة: المعير والمستعير أي آخذ العارية والشيء المستعار وما به العارية أشار المؤلف إلى حكمها وإلى المعير بقوله: صح وندب إعارة مالك منفعة يعني أن من ملك منفعة شيء يندب له أن يعيره وذلك يستلزم أن إعارته صحيحة، ولكنه عبر بصح وندب مع أن الندب يستلزم الصحة لأجل المخرجات الآتية، قال عبد الباقي: صح وندب إعارة مالك منفعة بملك أو إجارة أو عارية كما سيذكر، وعبر بندب ليفيد حكمها هنا ولم يعبر في غيرها من العقود بحكمه غالبا، بل يقتصر فيه على الصحة كقوله: وإنما تصح من أهل التوكيل والتوكل لأن الأصل فيما

ص: 412

صح الإباحة بخلاف هذه لما خالف حكمها الأصل في الصحة نص عليه، وعبر بصح مع أن الندب يتضمنه لإفادة عدم الصحة في المخرجات. اهـ. وقال المواق: العارية مندوب إليها لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل معروف صدقة

(1)

).

ابن عرفة: يعرض وجوبها كغني عنها لمن يخشى بعدمها هلاكه وحرمتها ككونها على معصية.

اهـ. ونحوه للحطاب وزاد: وكراهتها ككونها معينة على مكروه. اهـ. وقال الرهوني: قال اللخمي: والعواري بين الأقارب والجيران والإخوان مندوب إليها، لقوله تعالى:{وافعلوا الخير} ، ولأنها داعية التواد والتواصل، وداخلة في قوله عليه الصلاة والسلام (تهادوا تحابوا

(2)

)، وهي فيما قل قدره آكد لقول الله عز وجل في ذم قوم:{ويمنعون الماعون} ، وممنوعة ممن يعلم أنه يستعملها فيما لا يجوز. انتهى.

قال الحطاب: واستدلاله بقوله تعالى: {ويمنعون الماعون} إنما يصح على ما روي عن ابن مسعود ومن وافقه، وهو خلاف مذهب مالك والجمهور، ففي المقدمات ما نصه: إعارة المتاع من عمل المعروف وأخلاق المؤمنين، فينبغي للناس أن يتداولوا ذلك بينهم ويتعاملوا به ولا يشحوا به ويمنعوه، ومن منع ذلك وشح به فلا إثم عليه ولا حرج، إلا أنه قد رغب عن مكارم الأخلاق ومحمودها، واختار لئيمها ومذمومها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه. والماعون الذي توعد على منعه في قوله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} إنما هو الزكاة المفروضة، هذا الذي ذهب إليه مالك وجمهور أهل العلم، وقد روي عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود أنهما قالا: هو عارية متاع البيت الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم من الفأس والدلو والحبل والقدر وأشباه ذلك. اهـ.

ونقله أبو الحسن أيضا وما نسبه للجمهور نسبه ابن عطية لعلي وابن عمر رضي الله عنهما، ثم ذكر قول ابن مسعود وقال ما نصه وقاله الحسن وقتادة وابن الحنفية وابن زيد والضحاك. اهـ.

(1)

البخاري، كتاب الأدب، رقم الحديث 6021 - مسلم، كتاب الزكاة، رقم الحديث 1005.

(2)

الموطأ، كتاب حسن الخلق، رقم الحديث 16.

ص: 413

وهذا هو الذي استظهره ابن رشد فقال بعد ما قدمناه عنه بقريب ما نصه: فالآية نزلت في المنافقين والوعيد تعلق بهم على مذهب مالك، ومن رأى الماعون الزكاة على النفاق ومنع الزكاة ويتعلق في مذهب من جعل الماعون عارية متاع البيت على النفاق، ومنع العارية من المسلمين بغضا لهم وهو الأظهر؛ لأن المنافقين كفار في الدرك الأسفل من النار، ومن كان بهذه الحالة لا يلتمس منه الزكاة. انتهى. وفي الحطاب: وهي من حيث ذاتها مندوب إليها لأنها إحسان والله يحب المحسنين. اهـ. ولأنه عليه الصلاة والسلام استعار وكذا الصحابة رضوان الله عليهم، وقوله:"إعارة" يتنازعه "صح" و"ندب". وقوله: "منفعة" أخرج به الفضولي.

وقوله: بلا حجر حال من مالك أو صفة له؛ أي صح وندب إعارة مالك غير محجور عليه واحترز بذلك عما لو كان محجورا عليه فإنه لا تصح إعارته، قال الحطاب عند قوله:"بلا حجر" ما نصه: مراده هنا بالحجر أعم من الحجر المتقدم في بابه ليشمل ما إذا منع المعير المستعير من الإعارة فإنه ليس له الإعارة، قال ابن سلمون: العارية مندوب إليها وتصح من كل مالك المنفعة، وإن كان ملكه لها بإجارة أو عارية ما لم يحجر عليه ذلك، ومن استعار شيئا لمدة أو اكتراه فله أن يعيره لمثله في تلك المدة أو يكريه إلا أن يشترط عليه أن لا يفعل ذلك. اهـ. وقال عبد الباقي عند قوله:"بلا حجر" ما نصه: فالمحجور عليه لا تصح إعارته كمريض بأكثر من ثلثه، بدليل قوله: وإن أجيز فعطية وأما إعارة الزوجة أكثر من ثلثها فصحيح، وللزوج رد الجميع إن تبرعت بزائد كما تقدم فهو صحيح حتى يرده. اهـ. قوله: وأما إعارة الزوجة أكثر من ثلثها لخ انظر هل يعتبر في ذلك قيمة المنفعة أو قيمة الذات، واختار أحمد الأول لأن المنفعة هي المتبرع بها قاله البناني.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: الظاهر أنه لا وجه للتوقف فيما قاله أحمد.

وإن مستعيرا مبالغة في الصحة فقط لا في الندب؛ لأن المستعير لا يندب له أن يعير، ومعنى كلامه أن من ملك المنفعة بإعارة تصح إعارته لذلك الشيء المستعار ولا تجاوز إعارته له مدة الإعارة الأولى، قال عبد الباقي عند قوله:"مستعيرا" ما نصه: مبالغة في الصحة إذ يكره للمستعير ثوبا أو كتابا إعارته لغيره، وكذا إذا استعار دابة للركوب كما في الإجارة والصحة لا تنافي الكراهة،

ص: 414

ومحل الصحة ما لم يمنعه المالك من إعارته، فقوله:"بلا حجر" أي شرعي كالصبي والعبد ولو مأذونا له في التجارة؛ لأنه إنما أذن له في التصرف بعوض ولم يؤذن له في نحو العارية إلا فيما كان استيلافا للتجارة، أو جعلي من المالك، فإنه إذا منعه من الإعارة لا يعير فلا يريد حجر المال فقط، ولا فرق في الحجر الجعلي بين أن يكون صريحا أو بقرينة، كقوله: لولا إخوتك أو ديانتك أو صداقتك ما أعرتك. اهـ. قوله إذ يكره للمستعير لخ، قال البناني: الذي في عبارة ابن الجلاب الجواز واقتصر عليه ابن شأس وابن الحاجب، وقبله ابن هارون وابن عبد السلام، ونقل ابن عرفة عن المدونة ما يقتضي المنع والجواز والكراهة. انظر ابن غازي. قلت: والظاهر جمعا بين المواضع الثلاثة حمل كل من الجواز والمنع على الكراهة مع الصحة كما قرر به الزرقاني وهو ظاهر، وقوله: إلا ما كان استيلافا للتجارة تقدم في باب الحجر عن المدونة أن المأذون يمنع من العارية ولو لاستيلاف فانظره. اهـ كلام البناني.

لا مالك انتفاع يعني أن مالك الانتفاع ليس كمالك المنفعة فليست له الإعارة، ومالك الانتفاع قال البناني: هو الذي شرط فيه المحبس خصوص سكنى من قام به الوصف كبيوت المدرسة. اهـ. وقال عبد الباقي: وهو من ملك أن ينتفع بنفسه فقط ولا يؤجر ولا يهب ولا يعير، ومالك المنفعة من له تلك الثلاثة مع انتفاعه بنفسه، والفرق بينهما أن مالك الانتفاع تقصد ذاته مع وصفه كإمام أو خطيب أو مدرس ببيت وقف عليه بالوصف المذكور، وكمستعير منع من أن يعير بخلاف مالك المنفعة فإنما يقصد الانتفاع بالذات لأي منتفع كمستعير لم يمنع من إعارة. اهـ. قوله: كإمام أو خطيب أو مدرس لخ، قال البناني: الظاهر أن المملوك لهؤلاء هو المنفعة لا الانتفاع فقط، وأن مالك الانتفاع هو الذي شرط فيه المحبس لخ، قول البناني: الظاهر أن المملوك لهؤلاء هو المنفعة لخ، قال الرهوني: يصح كلام الزرقاني بحمله على ما إذا كان الإمام أو الخطيب مثلا ببيت يجلس فيه كالمقصورة، فإنه لا يجوز له أن يكريه ويكون بمنزلة بيت المدرسة. واللَّه أعلم. فتأمله. اهـ.

وقال عبد الباقي: ثم إن من ملك الانتفاع وأراد أن ينفع به غيره فإنه يسقط حقه منه، ويأخذه الغير على أنه من أهله حيث كان من أهله كما وقع للبرزلي في سكنى خلوة الناصرية ممن كان

ص: 415

يملك الانتفاع بها، وأما غير ذلك فليس له أن يعير كسكنى بيت المدارس والزوايا والرباط والجلوس في المساجد والأسواق، ويستثنى من ذلك ما جرت به العادة من إنزال الضيف المدارس والربط مدة يسيرة، فلا يجوز إسكان بيت المدارس دائما ولا إيجاره إذا عدم الساكن ولا الخزن فيه، ولا بيع ماء الصهاريج ولا استعماله فيما لم تجر العادة به إلا الشيء اليسير، وليس للضيف بيع الطعام ولا إطعامه ولا يباع زيت الاستصباح ولا يتغطى ببسط الوقف ونحو ذلك، والخلو من ملك المنفعة لا من ملك الانتفاع، والخلو اسم لا يملكه دافع الدراهم من المنفعة التي دفع في مقابلتها الدراهم، ولذا يقال أجرة الوقف كذا وأجرة الخلو كذا. قاله الأجهوري. وقال الدسوقي: وشرط الخلو احتياج الوقف لعدم الريع، وذلك بأن تكون أرض براحًا موقوفة على جهة أو دار متخربة موقوفة على جهة، وليس في الوقف ريع يعمر به فيدفع إنسان دراهم لجهة الوقف ويأخذ تلك الأرض والدار على جهة الاستئجار ويجعل عليها أجرة يدفعها كل سنة تسمى حكرا ويبنيها، فالمنفعة الحاصلة ببنائه تسمى خلوا، فإذا كانت تلك الدار تؤاجر كل سنة بعشرة بعد البناء وكانت الأجرة المجعولة كل سنة دينارا واحدا كانت التسعة أجرة الخلو والدينار أجرة الوقف. اهـ. وقال عبد الباقي: وقد أفتى الشيخ شمس الدين اللقاني وأخوه ناصر الدين بأن الخلو المذكور معتد به لكون العرف جرى به. اهـ.

وفي البناني: قول الزرقاني: وقد أفتى الشيخ شمس الدين لخ: بمثل ما ذكره وقعت الفتوى من شيوخ فاس من المتأخرين كالشيخ القصار وابن عاشر وأبي زيد الفاسي وسيدي عبد القادر الفاسي وأضرابهم، ويعبرون عن الخلو المذكور بالجلسة جرى بها العرف لما رأوه فيها من المصلحة وهي عندهم كراء على التبقية. اهـ.

وقال أحمد: قوله: "لا مالك انتفاع" أي فإنه لا تصح إعارته، ومثل ذلك إجارته ومن هذا النزول عن الوظائف بشيء يأخذه فلا يصح؛ لأن من بيده الوظيفة مالك للانتفاع، وأما ما أخذ مما في قسم الزوجات من الجواز، فقد قال ابن فرحون: إنه ضعيف، ومن ملك الانتفاع ما سئل عنه بعض شيوخنا من أن من استعار كتابا هل له أن يعيره؟ فأجاب بأنه ليس له ذلك لأنه مالك الانتفاع فقط وهو حسن. اهـ. والضمير في إنه ضعيف للجواز ويحتمل الأخذ. اهـ المراد منه. قوله:

ص: 416

ومن هذا النزول عن الوظائف بشيء يأخذه فلا يصح لخ، قال البناني: هذا هو مقتضى الفقه، لكن ذكر البرزلي في نوازله بعد أن نقل عن ابن رشد جواز الأخذ على رفع الأيدي في المعدن ما نصه: هذا ونحوه يدل على ما يفعل اليوم في البلاد المشرقية من بيع وظيفة في حبس ونحوه من مرتبات الأجناد، فإنه يرفع يده عنها خاصة، وقد كان يمضي لنا عن أشياخنا أن هذا لا يجوز لوجهين: أحدهما أنه لا يملك إلا الانتفاع لا المنفعة فلا يجوز له فيها بيع ولا هبة ولا عارية، الثاني على جواز تسليم بيعها هي مجهولة لا يُدرَى بقاؤها فيها ولا قدر ما يستحقه، وتقدم في الجعائل في كتاب الجهاد أنه ليس بمعاوضة حقيقة، ومن شرطه أن يكون من أهل حبسه وديوانه، ثم ذكر ما وقع له في الديار المصرية فانظره. واللَّه أعلم. اهـ. وقول عبد الباقي: وليس للضيف بيع الطعام ولا إطعامه، قال التاودي: قال ال تتائي: وسلمه محشيه ولا يجوز للضيف بيع الطعام وله إطعام السائل والهر. انتهى.

من أهل التبرع عليه متعلق "بإعارة"، قال عبد الباقي:"ومن" بمعنى اللام كذا قال بعض شيوخنا، وقال: إنه لم يقف على كون من بمعنى اللام، قاله أحمد. ويقدح فيه قول الكرماني: مجيء من بمعنى اللام شاذ ذكره الأجهوري. انتهى. وقال البناني: هو متعلق بإعارة ومن للتعدية؛ لأن أعار يتعدى بمن كما صرح به في القاموس، فلا حاجة لدعوى كون من بمعنى اللام، ولا لما ادعاه ال تتائي من تضمين أعار معنى وهب، ونص القاموس: أعاره الشيء وأعاره منه وعاوره إياه وتعور واستعار طلبها واستعار منه طلب إعارته. انتهى. ومعنى كلام المص أن العار وهو المستعير لابد أن يكون متأهلا لأن يعار له ذلك الشيء الذي أعير له بخصوصه، فعلم أن المص حذف متعلق التبرع وهو بذلك الشيء، ويتعلق بالتبرع مع ذلك قوله عليه وخرج بالمتعلق المحذوف إعارة المسلم للذمي فلا تصح كما سيذكره المص، ولا يرد أن هبة ذات المسلم للكافر جائزة كما في المدونة، أو ممنوعة ابتداء وماضية بعد الوقوع كما حمل كلامها عليه أبو الحسن؛ لأنه لما أجبر على إخراجه كما تقدم لم يستقر عليه ملك، بخلاف هبة منفعته أو إعارته فإنه يغلب فيه قصد الإذلال؛ إذ الغالب إعارته للاستخدام فلذا منعت. انتهى.

ص: 417

وقولي إن المصنف حذف بذلك الشيء بخصوصه نحوه لعبد الباقي، قال البناني: لابد منه في كلام المص وبمثله قيد ابن عبد السلام كلام ابن الحاجب الذي هو كعبارة المص، وقبله في التوضيح، وقال ابن عرفة: قول ابن الحاجب المستعير أهل للتبرع عليه قاصر؛ لأن الكافر أهل للتبرع عليه، وجواب ابن عبد السلام بأن مراده بزيادة بالمستعار بخصوصه يرد بأن كل كلام لا يصح كذلك لصحة تقييده بما به يصح. انتهى. قال البناني: قلت إنما يقال هذا حيث لا قرينة على القيد والقرينة هنا موجودة في كلام المص وابن الحاجب، وهي تعقيبه بقوله لا كذمي مسلما. انظر ابن غازي. انتهى. وقال الخرشي: يعني أنه يشترط في المستعير أن يكون من أهل التبرع عليه بذلك الشيء المعار بخصوصه، فلا تجوز إعارة المسلم للكافر وكذلك لا تجوز إعارة سلاح لمن يقاتل به المسلمين، وما في معنى ذلك مما لازمه أمر ممنوع. انتهى.

وأشار إلى المعار بقوله: عينا لمنفعة مباحة "عينا" مفعول إعارة، واللام في "لمنفعة" تعليلية، ومعلولها هو الإعارة لا الندب، "وعينا" هي المفعول الثاني، والأول "من أهل" يعني أن الذي تصح إعارته إنما هو عين لأجل أن تستوفى منها المنفعة، وتلك المنفعة لابد أن يكون استعمالها مباحا، وأسقط ابن الحاجب لفظ عين فالمعار عنده هو المنفعة، لقوله: المستعار منفعة مع بقاء العين وما فعله المص هو الظاهر لحديث أبي داوود عن يعلى بن أمية، قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (إذا أتتك رسلي فادفع لهم ثلاثين درعا وثلاثين بعيرا

(1)

)، فقلت يا رسول اللَّه: أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟ قال بل مؤداة، وما أنشده الجوهري:

إنما أنفسنا عارية

والعواري قصارى أن ترد

وقصاري هنا بالضم لا بالفتح لأنها هنا بألف، وإنما يصح الفتح لو كان بغير ألف. الجوهري: قصاراك أن تفعل كذا بالضم، وقصارك أن تفعل كذا بالفتح أي غايتك وآخر أمرك. انتهى. ونحوه في القاموس مع زيادة، ونصه: وقصرك أن تفعل وقصارك ويضم وقصيراك وقصاراك بضمهما جهدك وغايتك.

(1)

أبو داود أبواب الإجارة رقم الحديث 3566. مسند أحمد ج 4 ص 222.

ص: 418

لا كذمي مسلما هذا محترز قوله: "من أهل التبرع عليه" يعني أنه لا يجوز لك أن تعير الكافر عبدا مسلما، وتحقيق المص أن تقول: لا يصح ما هو كإعارة ذمي مسلما من إضافة المصدر إلى مفعوله الأول والمفعول الثاني مسلما، وعلم مما قررت أن هذا محترز القيد الأول، ومحترز الثاني قوله:"وجارية توطء" خلافا لا في الخرشي، فإنه قال: يعني أن المسلم لا تجوز إعارته للذمي لا فيه من إذلال المسلم، وقد قال تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} ، فهو مثال أي لمقدر أي لا منفعة غير مباحة كإعارة ذمي مسلما، وأما إعارة الذمي منفعة المسلم حيث كانت غير محرمة كالخياطة على ما يأتي في الإجارة فينبغي فيه الجواز كما في الإجارة. انتهى.

وقال عبد الباقي: أي لا تجوز إعارة المسلم للذمي ولا إعارة مصحف لكافر وسلاح لمن يغزو به المسلمين وأواني لمستعمليها في كخمر ودواب لمن يركبها لإذاية مسلم، ونحو ذلك مما لازمه ممنوع، فالكاف داخلة على "ذمي" وعلى "مسلما"، وظاهر جعل المص لها غير صحيحة أنه لا يؤاجر عليه، وظاهره أيضا منع إعارة المسلم للذمي ولو ليخيط له بحانوته أي بحانوت المسلم ولا يستبد بعمله مع أن هذا جائز في الإجارة فتقاس العارية عليها، وكذا يقال في بقية أقسام الإجارة الأربعة كما لابن رشد، ثانيها حانوت الصانع لكن يستبد بعمل الذمي وكجعله مقارضا أو مساقًى تحت يده فيكره، ثالثها محظورة وهي خدمته ببيته أو للإرضاع له فيه فإن وقعت فسخت فإن فاتت مضت وله الأجرة، رابعها حرام كحمل الخمر ورعي الخنزير ويفسخ فإن فاتت تصدق بالأجرة.

قوله: وظاهر جعل المص لها غير صحيحة أنه لا يؤاجر عليه فيه نظر، بل الظاهر أنه يمضي ويؤاجر عليه مثل ما تقدم في هبة العبد المسلم الذميِّ وصرح بهذا الشبراخيتي، ويدل لصحته ما ذكره بعده في خدمة لغير المحرم، وصرح به اللخمي في قوله: فإذا نزل ذلك بيعت تلك الخدمة من امرأة أو مأمون. نقله ابن عرفة. وكذا قول المص فيما بعده وهي لها، فهذا كله يدل على الصحة بعد الوقوع ولكنها تؤاجر للغير، وحينئذ يرد على المص الاعتراض في إخراج هذه الأمور من حكم الصحة. واللَّه أعلم. انتهى.

ص: 419

تنبيهات: الأول: قال القرطبي: من الغلول منع الكتب من أهلها، قال الشيخ أحمد بابا: الظاهر أن معناه أن يأخذ الرجل الكتاب ويمنعه من ربه فلا يرده له. قاله الشيخ إبراهيم. قال التاودي: قلت بل المراد الإبطاء بها. انتهى. الثاني: قال الحطاب: وانظر ما يستعار ليتجمل به هل هو من باب التشبع بما ليس له. انظر الأبي في باب الإيمان

(1)

في حديث: (من ادعى دعوى كاذبة

(2)

). انتهى. وقال عبد الباقي: وقال القرطبي: من الغلول منع الكتب من أهلها وكذلك غيرها. انتهى. أي غير الكتب. انتهى.

الثالث: قال عبد الباقي: قال اللخمي: تجوز عارية العين على بقاء عينها لصيرفي ليظهرها لأن يقصد بالشراء ومن قل ملاؤه. ابن عرفة: هذا إذا كان ليعامل بالنقد، وأما إلى أجل فغرور ولا يجوز الإعانة عليه. انتهى. وفي التوضيح عقب كلام اللخمي: وينبغي أن يمنع هذا لوجهين: أحدهما بالقياس على إجارتها أي فإنها لا تصح، والثاني أن فيها إيهاما للناس وتغريرا وهو الظاهر عندي. انتهى. وقال المواق: ابن شاس: من شرط المستعار أن يكون الانتفاع به مباحا، فلا يستعار الجواري للاستمتاع، ويكره استخدام الإماء إلا من المحرم والنسوان أو لن لم يبلغ الإصابة من الصبيان. انتهى.

وجارية لوطء يعني أنه لا تجوز إعارة الجواري ليطأهن المستعار

(3)

بل ولا للتمتع بهن بغير الوطء، قال عبد الباقي: وجارية لوطء أو تمتع بدونه فتحرم إعارتها لأدائه إلى إعارة الفروج، وينبغي أن تكون إعارتها للوطء كتحليلها له في عدم الحد، وفي التقويم وإن أبيا وغيرهما. أو خدمة لغير محرم يعني أنه لا تجوز إعارة الجارية لأجل أن تخدم غير محرم، قال الشارح: وقد نص اللخمي في باب الإجارة على أن إجارة المرأة للرجل الأعزب لا تجوز كان مأمونا أم لا، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يخلو رجل بامرأة ليس بينه وبينها محرم

(4)

)، وإن كان له أهل وهو مأمون جاز، وإن كان غير مأمون لم يجز إلا أن تكون متجالة لا أرب للرجال فيها أو هو شيخ

(1)

في الحطاب ج 6 ص 17 ط دار الرضوان كتاب الإيمان.

(2)

مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث 110.

(3)

كذا في الأصل.

(4)

مسلم، كتاب الحج، رقم الحديث 1341.

ص: 420

فَانٍ ونص أيضا في باب العارية على صحة هبة خدمة الجارية للأجنبي المأمون إذا كان له أهل، فإن كان غير مأمون أو مأمونا

(1)

وليس له أهل لم يجز للحديث السابق، واحترز بغير المحرم عما إذا كان أعارها لمحرم فإنه يجوز للأمن من الاستمتاع، ومثل ذلك إعارتها للصبي والمرأة، ومثل ذلك ما إذا أعارها لمن لا يحل له الاستمتاع بها من أقاربه كما إذا كان هو قد أصابها ثم أراد أن يعيرها لولده أو ولد ولده أو أبيه أو جده؛ لأنها تصير من ذوات المحارم. انتهى.

وقال عبد الباقي: أو خدمة لغير محرم فلا يجوز، وإن نزل ذلك بيعت تلك الخدمة من امرأة أو مأمون إلا أن يكون قصد المعير نفس المعار فترد الأمة له وتبطل العارية، ثم محل عدم الجواز ابتداء إلا أن يكون مأمونا وله أهل فيجوز. قاله اللخمي. واقتصر عليه المواق والشارح، وفي أحمد أنه معول عليه وذكره ال تتائي على وجه يوهم أنه مقابل. انتهى.

أو لمن تعتق عليه يعني أنه لا يجوز إعارة جارية لأجل أن تخدم من تعتق عليه، ومثلها العبد لمن يعتق عليه، وسواء كان هذا الذي يعتق عليه من أعير له للخدمة ذكرا أو أنثى، وإذا أعيرت الجارية لمن تعتق عليه فهي أي منفعة الأمة المعارة لها أي للأمة المعارة لا للمعير ولا للمعار له، فقوله:"وهي لها" خاص بالفرع الأخير، وقد علمت أن مثل الأمة العبد، قال عبد الباقي: فإن آجرت نفسها زمنها فالظاهر أنه ليس لسيدها منعها ولا له نزع أجرتها، قال الخرشي قياسا على مسألة الشهادة ثم رجع عنها. انتهى. قال التاودي: هي قول المص في باب الشهادات: وإن كان برق لحر لخ. وهذا القياس غير ظاهر للفرق بأن السيد فيها يدعي أن ما يأخذه العبد ظلم لادعائه الرقية وعدم صحة الرجوع عنها، وأما هنا فما يأخذه كهبة لها فللسيد انتزاعه. انتهى. ونحوه للبناني. واللَّه تعالى أعلم.

قال عبد الباقي: ومثل العارية في ذلك الإجارة، فإذا وقعت إجارة العبد أو الأمة لمن تعتق عليه، فقياس مسألة العارية أن تكون المنفعة للعبد أو الأمة وتضيع الأجرة على المستأجر؛ لأن ملك المنفعة كملك الذات، فكما أن الذات إذا ملكها تعتق عليه فكذا المنفعة، ثم إن هذا بالنسبة للأرقاء، وأما لو كان لشخص أب حر مثلا فهل له أن يستأجره أم لا؟ وينبغي أن يكون له ذلك

(1)

في الأصل: مومونا.

ص: 421

لأنه في هذه المسألة راض وفي تلك مرغم قاله أحمد. قوله: وينبغي لخ في المدونة في خصوص الرضاع: لا بأس أن يؤاجر الرجل أمه أو أخته أو ذات رحم على رضاع ولده. انتهى.

وظاهره شموله للحرة والأمة، وعليه فإن حمل قول المص:"أو لمن تعتق عليه" على عمومه في الرضاع وغيره كانت العارية مخالفة للإجارة وإن خص بإعارتها لغير الإرضاع، وأما له فيستوي حكم العارية والإجارة في الجواز، فلعل الفرق أن الرضاع أخف امتهانا من غيره، ويحتمل أن كلام المدونة في الحرة وأما الأمة فكما ذكر المص، والفرق بينهما ما أبداه أحمد. انتهى. قوله: ويحتمل أن كلام المدونة في الحرة لخ، قال البناني: هذا هو المتعين والاحتمال الأول غير صحيح. واللَّه أعلم. ثم بعد هذا وقفت على كلام ابن عرفة ونصه: وفيها لا بأس أن يؤاجر الرجل أمه أو أخته أو ذات محرم منه على رضاع ولده، ولا ينافيه نقل اللخمي في العارية منع استخدام الولد والده لأن الإرضاع خفيف. انتهى منه في باب الإجارة. وهو يدل على أنه لا فرق بين الرقيق والحر في منع استخدام الولد والده في غير الرضاع، وتفريق أحمد غير ظاهر لمخالفته ذلك. انتهى. فرع: قال ابن ناجي: قال شيخنا أبو مهدي: لا نص في خلوة الرجل مع خادم زوجته، والظاهر أنه بحسب الأشخاص، فإذا وثق بنفسه جاز ولا ينقض بالحرة لأن النفس مجبولة على الميل إليها وإن كانت كبيرة. انتهى. قاله البناني.

ولما ذكر أن المستعار إنما يكون عينا تستوفى منفعتها وتبقى ذاتها، أشار إلى ما إذا لم يكن ذلك كذلك بقوله: والأطعمة والنفود قرض يعني أن الأطعمة والنقود إنما ينتفع بها مع ذهاب عينها، فإذا دفعت إلى شخص بلفظ العارية فإنها تكون قرضا لا عارية، وفائدة ذلك ضمانها ولو قامت بينة على هلاكها، قال عبد الباقي: ولما تقدم أن شرط صحة العارية الانتفاع بها مع بقاء عينها ذكر ما ينتفع به مع ذهاب عينه، بقوله:"والأطعمة والنقود قرض" لا عارية، وفائدته ضمانها. ولو قامت بينة على هلاكها ولو وقعت بلفظ العارية. انتهى. ونحوه للخرشي، وقال الشارح: لما ذكر أن المقصود من العارية إنما هو المنفعة مع رد العين إلى ربها، نبه على أن الانتفاع متى استلزم ذهاب العين كما في الأطعمة والنقود لم يكن ذلك عارية بل هو قرض، وقد أشار اللخمي إلى صحة إعارة الدنانير والدراهم لمن لا يذهب أعيانها كالصيرفي يجعلها عنده ليراها الناس

ص: 422

فيرغبون في الصرف منه، وكذلك الرجل عليه دين يقل ما بيده فيستعيرها لذلك. الشيخ: وينبغي أن يمنع هذا لوجهين، أحدهما بالقياس على إجارتهما أي فإنها لا تصح، والآخر أن فيه إيهاما للناس وتغريرا وهو الظاهر عندي. انتهى.

قال عبد الباقي: ولما كان أركان العارية أربعة: المعير والمستعير والشيء المستعار وقدم هذه الثلاثة أشار للركن الرابع بقوله: بما يدل عرفا متعلق بمقدر أي تكون أو تحصل؛ يعني أن العارية تكون بما يدل عليها عرفا من قول أو فعل ولو إشارة، وتكفي المعاطاة فهي تحصل بكل ما دل على تمليك المنفعة بلا عوض، قال الشارح: هذا هو الركن الرابع وهو ما يكون به الإعارة ولا فرق فيما يدل على معنى العارية بين الفعل والقول نص عليه ابن شاس، فكل ما دل على تمليك المنفعة بغير عوض كفى في تحصيل ذلك. انتهى.

وجاز أعني بغلامك لأعينك يعني أنه يجوز هذا العقد وهو أن تقول لشخص: أعني بغلامك على حرثي أو غيره لأعينك بغلامي أو دابتي أو نفسي على حرثك أو غيره، ولذا حذف متعلقة للتعميم، ويكون ذلك إجارة لا عارية لأنها بغير عوض، وهذا بعوض اتحدت المنفعة أم لا، تساوى زمنهما أم لا، تماثل المعان به وعليه أم لا، كحرث وبناء وغلام وثور، فلا يشترط اتحاد المنفعة ولا ما تستعمل فيه، قال عبد الباقي: وإنما يشترط قرب زمن المنفعتين كشهر فلا يجوز "أعني بغلامك" هذا على أن أعينك بغلامي بعد شهر لأنه نقد في منافع يتأخر قبضها، وهذا يوافق قوله. فيما تقدم:"وأجير تأخر شهرا"، ولكن ذكروا هنا في مسألة [دولة]

(1)

النساء على أن يغزلن كل يوم لواحدة أنه لا يجوز إذا كان يتأخر لإحداهن عشرة أيام، ويفسخ على ما لابن سراج، ولعل الفرق قوة الغرر في مسألتهن بتعددهن، فطرو المانع لهن أو لبعضهن أكثر من مسألة الغلامين، وذكر هذه هنا مع أنها ليست عارية بل إجارة كما قال نظرا إلى قوله:"أعني" والإعانة معروف. اهـ.

ونحوه للخرشي، قوله: وإنما يشترط قرب زمان المنفعتين كشهر لخ فيه نظر، والصواب المنع إذا تأخر الشروع في المنفعة أكثر من نصف شهر، ولا فرق بين غزل النساء وغيره، وتقدم اعتراض

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 131.

ص: 423

قول المص في الخيار وأجير تأخر شهرا، وإنما منع ذلك في دولة النساء إذا كان يتأخر لإحداهن عشرة أيام: لأن ذلك يستلزم تأخر الشروع في غزل الثالثة عشرين يوما مع منع تأخر نصف شهر. فتأمله. وقد جمع ابن غازي في غير هذا الموضع الشروط الثلاثة المعتبرة في دولة النساء في بيت، فقال:

شرط طريحة النسا قرب المدا

وصفة الغزل وذكر الابتدا

وضمن المغيب عليه يعني أن المستعير إذا كان الذي استعاره مما يغاب وادعى رده لربه أو تلفه فإنه لا يصدق في ذلك ويضمن قيمته أو مثله، قال عبد الباقي: وضمن المغيب عليه أي ما يعد مغيبا عليه في الاصطلاح وهو ما يمكن إخفاؤه ومنه سفينة سائرة. انتهى. قوله: "وضمن المغيب عليه" قال الرهوني: فإن اتفقا على صفته فواضح، وإن اختلفا جرى فيه ما تقدم في الرهن مما يمكن هنا حيث قال: وإن اختلفا في قيمة تالف تواصفاه لخ، وقال اللخمي ما نصه: وإن اختلفا في صفة العارية وقد ضاعت كان القول قول المستعير مع يمينه ما لم يأت بما لا يشبه. اهـ منه بلفظه.

فرع: قال اللخمي متصلا بما سبق عنه، وقال مالك في امرأة أعارت حليا فضاع فسئلت ما فيه لتحلف عليه، فقالت استعملته منذ زمان طويل وقد نقص لطول الزمان، قال تحلف أن أصل ما دفعت إلى من عمله كذا وكذا وإنما أخذته على ذلك يريد ويحط ما يرى أنه نقص في تلك المدة اهـ.

إلا لبينة يعني أن محل ضمان المستعير للعارية التي يغاب عليها إنما هو إذا لم تقم بينة على هلاكها بغير تفريط منه، وأما إن قامت البينة على تلفها بغير تفريط منه فلا يضمنها، وهل يضمن المستعير ما يغاب عليه؟ وإن كان قد شرط نفيه أي شرط المستعير على المعير نفي الضمان إذا ادعى تلفه ولم تقم عليه بينة؛ لأن الضمان عليه بطريق الأصالة فلا ينفعه شرطه أو لا يضمن حيث شرط نفي الضمان، وينفعه شرطه لأن إسقاط الضمان معروف، فالأول وهو الضمان عزي في المدونة لابن القاسم وله ولأشهب في العتبية، وهو أي الضمان لابن رشد في المقدمات، قال: يبطل

ص: 424

الشرط والضمان ثابت، والثاني وهو عدم الضمان للخمي والمازري وغيرهما، قال الشارح: حكى اللخمي والمازري في شرح التلقين وغيرهما أن ابن القاسم وأشهب اتفقا على إفادة الشرط هنا، بخلاف الرهن لأن العارية باب معروف وإسقاط الضمان معروف ثان لا مانع منه. اهـ.

وقوله: تردد مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تردد، وعلم مما قررت أن التردد هنا لتردد المتأخرين في النقل، فبعضهم حكى اتفاق ابن القاسم وأشهب على الضمان، وبعضهم اتفاقهما على عدم الضمان، راجع ما مر عند قوله:"وبالتردد" لتردد المتأخرين في النقل، قال عبد الباقي عند قوله "تردد" ما نصه: وعلى القولين لا يفسد العقد وقيل يفسد ويكون للمعير أجرة ما أعاره له، قال في الشامل: وحيث ضمن المستعير أي في جميع مسائل باب العارية بأن رأته البينة عنده فلآخر رؤية، وإلا فلربه الأكثر من قيمته يوم قبضه أو تلفه ولو تلف قبل الاستعمال غرم قدر ما بقي منه ويسقط عنه قدر استعماله في مدة الإعارة؛ أي أن لو استعمله ولو باعه المعير قبل استعمال المستعير يكون المستعير شريكا معه في الثمن بقدر الاستعمال. اهـ بإيضاح.

وقال اللخمي: ويختلف إذا أهلكه المعير بعد قبضه منه هل يغرم قيمته ويستأجر للمستعير من القيمة مثل الأول؟ أو يشترى له قيمة تلك المنافع، قياسا على من أخدم أمة ثم أولدها ثم قال وقيمة المنافع أحسنها، قال: ويختلف إذا أهلكها قبل القبض، فعلى قول ابن القاسم كمن قبض، وعلى قول أشهب لا يغرم شيئا، كمن وهب له ثوبا فباعه قبل أن يقبضة منه. اهـ. قاله البناني. وقال عبد الباقي: وإذا وجب على المستعير ضمان العارية فإنما يضمن قيمة الرقبة يوم انقضاء أجل العارية على ما ينقصها الاستعمال المأذون فيه بعد يمينه لقد ضاعت ضياعا لا يقدر على ردها؛ لأنه يتهم على أخذها بقيمتها بغير رضا صاحبها، فإن استعملها في غير ما أذن له فيه فيضمن ما زاد على ما أذن فيه، فإن عطبت ضمن قيمتها يوم انقضاء أجل العارية على ما ينقصها المعارة له، فإن أراد رب العارية أن يأخذ منه قيمة ما استعمله فيه بعد أن يطرح من ذلك قيمة إجارة ما كان له أذن فيه لم يكن له ذلك في قول إن كانت أكثر من قيمتها وفي قول يكون له ذلك، وأما إن كان أقل من قيمتها لم يمنع من ذلك. اهـ.

ص: 425

قوله عن المقدمات: يضمن قيمة الرقبة يوم انقضاء أجل العارية لخ ما ذكره من هنا إلى آخر المسودة كله كلام ابن رشد نقله أبو الحسن وابن عرفة وغيرهما، وقول ابن رشد: يوم انقضاء أجل العارية لخ خلاف ما قدمه عن الشامل، وقد ذكر ابن عرفة نحو ما ذكره في الشامل، وذكر بعده كلام ابن رشد ولم ينبه على مخالفة بينهما، قال بعضهم: والمذهب ما لابن رشد، وقوله: فيضمن ما زاد على ما أذن فيه لخ أي يضمن ما نقصها الاستعمال الذي لم يؤذن فيه، ويسقط عنه ما نقصها الاستعمال المأذون فيه. قاله أبو الحسن. اهـ. قاله البناني.

لا غيره يعني أن العارية إذا كانت مما لا يغاب عليه كعقار وحيوان وسفينة بمحل مرسى، فإن المستعير يصدق في تلفها إلا أن يظهر كذبه، وكذلك يصدق في ردها لربها. الحطاب: يعني أنه لا يضمن ما لا يغاب عليه، قال الجزولي في شرح الرسالة: ولا يضمن ما لا يغاب عليه من عبد أو دابة وهو مصدق في هلاكه، ويحلف متهما أم لا. اهـ. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: العارية مضمونة فيما يغاب عليه من ثوب أو غيره من العروض، فإن ادعى المستعير أن ذلك هلك أو سرق أو تخرق أو انكسر فهو ضامن، وعليه فيما أفسد فسادا يسيرا ما نقصه وإن كان كثيرا ضمن قيمته إلا أن يقيم بينة أن ذلك هلك بغير سببه، ومن المدونة ولا يضمن ما لا يغاب عليه من حيوان أو غيره وهو مصدق في تلفه ولا يضمن شيئا مما أصابه عنده إلا أن يكون بتعديه. اهـ.

تنبيهان: الأول: اعلم أنه إذا لم يضمن الحيوان فإنه يضمن سرجه ولجامه ونحوهما بخلاف كسوة العبد، قال اللخمي: ويضمن ما على الدواب من سرج ولجام ولا يضمن ما على العبد من كسوة لأنه حائز لما عليه. نقله البناني. ونقله الحطاب عن التوضيح عن اللخمي.

الثاني: قال البناني: قال ابن يونس عن ابن حبيب: ومن استعار دابة لركوب أو حمل ثم ردها مع عبده أو مع أجيره فعطبت أو ضلت فلا يضمن؛ لأن شأن الناس على هذا وإن لم يعلم ضياعها إلا بقول الرسول وهو مأمون أو غير مأمون فذلك سواء. اهـ من أبي الحسن في شركة المفاوضة. انتهى.

ولو بشرط يعني أن العارية التي لا يغاب عليها لا يضمنها المستعير كما عرفت، وسواء اشترط المعير على المستعير الضمان أم لا، وهذا قول مالك وجميع أصحابه أن الشرط باطل وليس عليه

ص: 426

الضمان حاشى مطرفا، فإنه قال: إن كان شرط عليه الضمان لأمر يخافه من طريق مخوفة أو نهر أو لصوص أو ما أشبه ذلك فالشرط لازم إن عطبت في الأمر الذي خافه واشترط من أجله، وإن هلكت بغير ذلك لم يضمن. اهـ. وعليه رد المص "بلو"، وعلى أنه لا يضمن مع الشرط المذكور فقيل يمضي على العارية فلا شيء لربها، وقيل تنقلب العارية مع الشرط المذكور إجارة فاسدة تفسخ مع القيام وفيها أجرة المثل مع الفوات قال اللخمي: قال ابن القاسم في كتاب الرهن من المدونة فيمن استعار دابة على أنه غير مصدق في تلفها: شرطه باطل يريد أنها تمضي على أحكام العارية ولا ضمان عليه ولا أجر. وقال أشهب: عليه أجرة المثل فيما استعملها فيه ورءاه إجارة فاسدة، فعلى قوله: ترد قبل الاستعمال، ويجري فيها قول ثالث أن المعير قبل الاستعمال بالخيار، فإن أسقط الشرط وإلا ردت، فإن فاتت في الاستعمال لم يغرم له شيئا؛ لأنه لم يدخل على إجارة وإنما هو واهب منافع. اهـ المراد منه.

وحلف فيما علم أنه بلا سببه كسوس أنه ما فرط يعني أن المستعير إذا ادعى فيما شأنه أن يعلم أنه وقع بلا سببه في العارية كالسوس وقرض الفار أن ذلك وقع بلا تفريط منه، فإنه يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما فرطت، وبهذا التفسير يندفع الاعتراض عليه بأنه يقال إذا علم أنه بلا سببه فالتفريط منتف عنه، فكيف يحلف أنه ما فرط، وقوله:"وحلف فيما علم أنه بلا سببه" لخ كان مما يغاب عليه أم لا، وإذا نكل حيث توجهت عليه اليمين فإنه يغرم ولا ترد لأنها يمين تهمة، قال عبد الباقي: ويؤخذ من هذه المسألة أنه يجب عليه تفقد العارية، وكذا يجب على المودع والمرتهن ونحوهم تفقد ما في أمانتهم مما يخاف بترك تفقده حصول العيب ونحوه فيه لأن ما هنا من باب صيانة المال، فإن لم يفعل ذلك تفريطا ضمن وهذا ظاهر وقد وقع التصريح به في بعض هذه المسائل، وحيث ضمن فيضمن ما بين قيمته سليما وقيمته بما حدث فيه، وسواء كان ذلك كثيرا أو قليلا، وفي بعض التقارير أنه إن فات المقصود ضمن قيمة جميعه وإلا ضمن ما بين قيمته سليما ومعيبا. اهـ. قوله: وفي بعض التقارير لخ، قال البناني: هذا هو المنصوص عليه في المدونة، ونصها: وعليه فيما أفسد فسادا يسيرا ما نقصه وإن كان كثيرا ضمن قيمته كله إلا أن

ص: 427

يقيم بينة أن ذلك هلك بغير سببه فلا يضمن إلا أن يكون منه تضييع أو تفريط بيِّن فيضمن، ونحوه في تضمين الصناع.

وفي كتاب الغصب: ثم قال: وكان مالك يقول: يغرم ما نقص ولا يفرق بين قليل ولا كثير. قاله أبو إسحاق. فظهر ترجيح الأول وأن عزوه لبعض التقارير قصور، وتحصل أن المستعير للمغيب عليه إذا أتى بالبينة على الهلاك بلا تفريط منه لم يضمن، فإن لم يأت بالبينة فما شأنه أن يعلم أنه بلا سببه يحلف فيه ويبرأ، وإلا لم يبرأ إلا بالبينة على تلفه، ومثلوا لما شأنه أن يعلم أنه بلا سببه بالسوس وقرض الفار، وأما حَرْق النار فالراجح فيه أنه ليس من ذلك بل لابد فيه من معاينة البينة، وساوى اللخمي بين الفار والسوس وحرق النار في الضمان خلاف ما مر عليه المص. وبرئ في كسر كسيف إن شهد له أنه معه في اللقاء يعني أن المستعار إذا كان آلة حرب كسيف ونحوه إذا انكسر وادعى المستعير أنه ضرب به ضرب مثله، فإنه يبرأ من ضمانه بشرط أن تشهد له بينة أن السيف معه أي المستعير في اللقاء، وإن لم تعاين البينة أنه ضرب به ضرب مثله، ومثل البينة القرينة بأن تنفصل القتلى ويرى على السيف أثر الدم وما أشبه ذلك من القرائن. قاله أحمد. قاله عبد الباقي. قوله: ومثل البينة قيام القرينة لخ، قال البناني: عبارة المدونة: ومن استعار سيفا ليقاتل به فضرب به فانكسر لم يضمن لأنه فعل ما أذن له فيه، وهذا إذا كانت له بينة أو عرف أنه كان معه في اللقاء وإلا ضمن. اهـ. فقولها: إذا كانت له بينة أي على أنه فعل به ما أذن له فيه، وقوله: أو عرف يشمل بظاهره قيام القرينة كما قال أحمد، وزعم مصطفى أن المراد بقولها: عرف ثبوته بالبينة فقط، ولذا عبر ابن رشد بذلك وعزاه لها، ونصه على نقل ابن عرفة. ابن رشد: ثالثها قولها في السيف لا يصدق إلا ببينة أنه كان معه في اللقاء. اهـ. وفيه نظر. انتهى.

أو ضرب به ضرب مثله يعني أن المستعير إذا ضرب بالشيء المستعار سيفا أو فأسا أو غيره ضرب مثله فانكسر فإنه لا ضمان عليه لأنه فعل المأذون له فيه، وجعل ال تتائي أو في كلام المص بمعنى الواو فيكون في مسألة كسيف لا يبرأ إلا بأمرين، يثبت بالبينة أنه معه في اللقاء، وأنه ضرب به ضرب مثله وهذا قول سحنون، ولكن قال فيه ابن رشد: إنه أبعد الأقوال، وفي بعض

ص: 428

النسخ وفي كسر كسيف من دون برئ وهي نسخة المواق، قال مفسرا للمص ما نصه: مضمنه وحلف فيما علم أنه بلا سببه وفي كسر كسيف، قال عبد الباقي: واحترز بقوله: "كسر" عن الثلم والحفا أي أتى بالسيف مثلوما والرحى حفيا فلا ضمان عليه. اهـ.

وقال الحطاب عند قول المص: "أو ضرب به ضرب مثله" ما نصه: هذا قول آخر حكاه ابن رشد أنه لا يصدق إلا أن يكون له بينة أنه ضرب في اللقاء ضربا يجوز له، قال: وهوأبعد الأقوال ولا يحتاج إليه على القول الأول الذي صدر به المص وهو مذهب المدونة. اهـ. فمعنى المص على هذا برئ المستعير بأحد أمرين: أحدهما أن يشهد له أنه معه في اللقاء، ثانيهما أن يشهد له أنه ضرب به ضرب مثله، وهذا لا يحتاج إليه إن ذهبنا على القول الأول؛ لأن الثاني يستلزم أنه معه في اللقاء فيبرأ، ولو لم يشهد له أنه ضرب به ضرب مثله، وفسرت المص تبعا لغير واحد بما مر وهو حسن إلا أنه يكون في عبارة المص قلق. واللَّه تعالى أعلم.

وفعل المأذون يعني أن المستعير له أن يستعمل العارية فيما أذن له أن يستعملها فيه، قال عبد الباقي: وفعل المأذون أي أبيح له فعله، ومثله يعني أن المستعير له أن يستعمل العارية في مثل ما استعارها له، كما لو استعارها ليحمل عليها أرادب معينة، فإنه يجوز له أن يحمل عليها أرادب مثلها صفة، أو اكتراها لحمل قمح فحمل عليها عدسا، أو قطنٍ فحمل عليها بزا مثلا، قال عبد الباقي: ومثله زنة أو كيلا كمسافة على الأرجح من قولين هنا بخلاف الإجارة، كما سيقول فيها عاطفا على ما يمنع: أو ينتقل لبلد وإن ساوت إلا بإذن، والفرق أن في الإجارة فسخ دين في دين. انتهى. قوله: كمسافة على الأرجح لخ، قال البناني: تبع فيه الأجهوري، واعترضه مصطفى بأن ما منع في الإجارة فأحرى هنا، وقد قال ابن رشد في آخر سماع ابن القاسم من الجعل والإجارة: اختلف فيمن استعار دابة إلى موضع فركبها إلى موضع مثله في الصعوبة والسهولة فهلكت، فروى علي لا ضمان عليه، وقاله عيسى بن دينار في المبسوطة: وقال ابن القاسم في المبسوطة: ضامن، وقال في سماع سحنون: قول ابن القاسم هو الآتي على قول المدونة في الرواحل: من أكرى دابة لبلد ليس له أن يركبها إلى غيره، وإن ساواه. نقله ابن عرفة. قال مصطفى: فأنت ترى أن

ص: 429

الضمان هو قول ابن القاسم، وهو الجاري على مذهب المدونة. اهـ. وحينئذ فالظاهر حمل كلامه هنا على الحمل فقط. انتهى.

ودونه يعني أن المستعير له أن يستعمل العارية فيما هو دون ما استعارها له، كما لو استعارها ليحمل عليها إردبا فحمل عليها أقل من إردب، لا أضر يعني أن المستعير لا يجوز له أن يستعمل العارية فيما هو أضر مما استعارها له، ولو كان هذا الأضر دون ما استعارها له في القدر والثقل فإنه لا يباح، كما لو استعار دابة ليحمل عليها قمحا فحمل عليها حجارة دونه في الثقل. قاله أحمد. قاله عبد الباقي. وقال المواق من المدونة: من استعار دابة ليحمل عليها حنطة فجعل

(1)

عليها حجارة، فكل ما حمل مما هو أضر بها مما استعارها له فعطبت به فهو ضامن، وإن كان مثله في الضرر لم يضمن، كحمله عدسا في مكان حنطة أو كتانا، أو قطنا في مكان بز. وكذلك من اكتراها لحمل أو ركوب فأكراها من غيره في مثل ما اكتراها له فعطبت لم يضمن، وإن اكتراها لحمل حنطة فركبها فعطبت، فإن كان ذلك أضر وأثقل ضمن وإلا لم يضمن. انتهى.

وإن زاد ما تعطب به فله قيمتها أو كراؤه يعني أنه إذا استعار دابة ليحمل عليها شيئا معلوما فزاد على ذلك، فإن كان الذي زاده تعطب به عادة وعطبت فإنه يخير المعير بين أن يضمن المستعير قيمة الدابة وقت الزيادة إذ هو وقت التعدي، وبين كرائه أي كراء الزائد فقط لأن خيرته تنفي ضرره، ومعرفة ذلك أن يقال كم يساوي كراؤها فيما استعارها له؟ فإذا قيل: عشرة، قيل: وكم يساوي كراؤها فيما حمل عليها؟ فإذا قيل: خمسة عشر دفع إليه الخمسة الزائدة على كراء ما استعيرت له. قاله عبد الباقي، وغيره.

قال البناني: اعلم أن الصور ست؛ لأنه إذا زاد ما تعطب به فتارة تعطب وتارة تتعيب وتارة تسلم، فالأولى منطوق قوله:"وإن زاد ما تعطب به" لخ، والثانية لم يتكلم عليها ولا تدخل تحت "وإلا"، وحكمها أن ربها يأخذ من المتعدي الأكثر من كراء الزائد وأرش العيب، والثالثة داخلة في قوله:"وإلا فكراؤه"، وإن زاد ما لا تعطب به ففيه الصور الثلاث، وكلها مأخوذة من قوله:"وإلا فكراؤه". واللَّه أعلم. اهـ.

(1)

في المواق والذي في التهذيب ج 4 ص 308: فحمل عليها.

ص: 430

كرديف يعني أن من استعار دابة فتعدى عليها بأن أردف معه رديفا فعطبت فإن ربها مخير كالتي قبلها، فإن شاء أخذ كراء الرديف فقط من المستعير أو قيمة الدابة هذا إذا كان المستعير موسرا، وأما إن كان معسرا فهو ما أشار إليه بقوله: واتبع به إن أعدم يعني أنه إذا أعدم الردف فإن الرديف يتبع بما ذكر من كراء الرديف فقط أو قيمة الدابة، والحال أن الرديف لم يعلم بالإعارة، وأما إن علم الرديف بالتعدي بأن علم بأن الدابة ليست للمردف وإنما هي عارية عنده فإنهما متعديان، فللمعير الرجوع على أيهما شاء. وقوله:"ولم يعلم" إما حال كما قررت وإما عطف على قوله: "أعدم"

والحاصل أن الرديف إذا علم بالتعدي فحكمه حكم المستعير أي المردف، فللمعير تضمين أيهما شاء، وإن لم يعلم بالتعدي فإن كان المستعير معدما فإن الرديف يتبع لأن العمد والخطأ في أموال الناس سواء وحيث تعلق الضمان بهما، فاختلف هل تفض القيمة على قدر ثقلهما أو نصفين لأن قتلها كان من اجتماعهما ولو انفرد كل لم تهلك، قال عبد الباقي: كرديف ولو عبدا أو صبيا أو سفيها إلى أن قال: وما ذكرناه من أنه إذا استعارها ليركبها فأردف معه رديفا حتى عطبت فربها مخير كالتي قبلها، وأنه شامل لكون الرديف عبدا أو صبيا أو سفيها صحيح بالنسبة إلى تخيير ربها، ولكن لا يجري في العبد والصبي والسفيه قوله:"واتبع به إن أعدم" لخ؛ لأنهم ذوو شبهة بمنزلة قوله المار: "وإن أودع صبيا" لخ، ولذا قال ابن يونس: لو كان الرديف عبدا فلا شيء عليه من ذلك في رقبته ولا في ذمته؛ لأنه ركبها بوجه شبهة. اهـ.

قوله: ولكن لا يجري في العبد والسفيه والصبي لخ، قال الرهوني: فيه نظر، بل الجاري على قوله: إنها بمنزلة قول المص: "وإن أودع صبيا" لخ تعلقها بذمة المأذون عاجلا وبذمة غيره إذا عتق، ولا حجة له فيما نقله عن ابن يونس؛ لأن ابن يونس لم ينقله على أنه المذهب، بل نقله عن أشهب مع تصريح بأنه خلاف قول ابن القاسم، ومع ذلك فأشهب القائل بأنه لا شيء عليه إن كان عبدا، يقول أيضا: لا شيء عليه إن كان حرا رشيدا، ونص ابن يونس: قال أشهب في كتابه: ولا يلزم الرديف شيء وإن كان المستعير عديما، وقد أخطأ من ألزمه كراء الرديف في عدم

ص: 431

المستعير وإن كان الرديف عبدا له أو لغيره لم يكن شيء من ذلك في رقبته ولا في ذمته؛ لأنه ركب بوجه شبهة.

محمد بن يونس: وقال بعض شيوخنا: هذا خلاف لابن القاسم بل عليه الكراء في عدم المستعير، كمن غصب سلعة فوهبها فهلكت أن الموهوب يضمن في عدم الغاصب. اهـ كلام الرهوني. ونحوه في الشارح، وزاد عقب قوله: يضمن في عدم الغاصب ما نصه: قال: وهذا إذا لم يعلم الرديف. اهـ. وقال البناني عند قوله: "كرديف واتبع به إن أعدم" ما نصه: هذا قول ابن القاسم، وقال أشهب: أخطأ من قال: يضمن الرديف إذا كان المستعير معدما، وإنما يكون ضمان الدابة على من تعدى وهذا لم يتعد. اللخمي: يريد أن الرديف لم يعلم فيكون بمنزلة من قتل خطئا، وقد اختلف فيه وهذا إذا كان يرى أنها لا تهلك من الرديف فهلكت منه، وإن كان يرى أنها تهلك منه إذا ركباها جميعا وكان المستعير معسرا ضمن الرديف، بمنزلة من قتل عمدا ثم يختلف هل تفض القيمة على قدر ثقلهما أو نصفين لأن قتلها كان من اجتماعهما. انتهى.

وإلا بأن زاد ما تعطب به وسلمت أو زاد ما لا تعطب به وعطبت أو تعيبت وسلمت، فعليه كراؤه الزائد أي فإنما على المستعير كراء الزائد في الصور الأربع، فإن زاد ما تعطب به ولم تعطب لكنها تعيبت فقد مر أن على المستعير الأكثر من كراء الزائد وقيمة العيب، قال عبد الباقي: وكلام المص في زيادة الحمل كما يفيده كلام غير واحد من شراحه، فإن عطبت بزيادة مسافة ضمن قيمتها كانت تعطب بمثلها أم لا، فإن تعيبت بها فله الأكثر من كراء الزائد وقيمة العيب، فإن انتفيا فكراء الزائد. هذا هو الظاهر قياسا على ما يأتي في الإجارة، والظاهر تقييد قوله:"وإلا فكراؤه" بما إذا لم تطل المدة بحيث تكون مظنة تغير الأسواق، فإن طالت فله الكراء معها أو قيمتها. انتهى.

وفي بعض النسخ: وإلا فكمردفه أي وإلا بأن علم الرديف بالإعارة فحكمه حكم مردفه فلربها أن يضمن من شاء منهما إما القيمة وإما الكراء، قال الخرشي: ومن غرم منهما لا رجوع له على الآخر. انتهى. قال الخرشي: وأخذ من تراجع الحملاء تراجع اللصوص وهو كذلك عند مالك، إذا وجد بعضهم معدما رجع على الأملياء لأن كل واحد ضامن لجميع ما أخذوا. اهـ. وعلم مما

ص: 432

مر أن الرديف إذا كان عبدا أو سفيها أو صبيا وعلم بالإعارة يكون كمردفه، فيضمن العبد في رقبته والصبي والسفيه في مالهما. اهـ كلام مقيده عفا الله تعالى عنه.

ولزمت المقيدة بعمل أوأجل لانقضائه يعني أن العارية إذا قيدت بعمل كزراعة أرض أو بأجل فإنها تلزم إلى أن ينقضي ذلك العمل أو الأجل الذي قيدت به؛ أي ليس للمعير أن يأخذها من المستعير حتى ينقضي العمل أو الأجل الذي قيدت به، قال عبد الباقي: ولزمت المقيدة بعمل كزراعة أرض بطنا فأكثر مما لا يخلف، كقمح أو مما يخلف كقصب أو بأجل كسكنى دار شهرا لانقضائه على الأصح. اهـ. قوله: كزراعة أرض لخ، قال الرهوني: ظاهره أنه لا رجوع له ولو قبل أن يزرعها وعليه حمل المدونة غير واحد، وإن كان خلاف ظاهرها ففيها ما نصه: وإن أعرته أرضك للزرع فزرعها فليس لك إخراجه حتى يتم الزرع. اهـ منها بلفظها. قال ابن ناجي ما نصه: ظاهر قوله: فزرعها أنه لو لم يزرعها لكان له منعه، وعلى ذلك حملها شيخنا حفظه اللَّه تعالى، وقال ابن يونس عن بعض أصحابنا عن غير واحد من شيوخنا: ليس له منعه لأن مقدار الزراعة معلوم، فهو كضرب الأجل. اهـ منه بلفظه.

وبهذا جزم أبو الحسن فقال ما نصه: قوله وإن أعرته أرضك للزرع فزرعها، وكذلك لو لم يزرعها لأن الإبان كالأجل، ثم ذكر كلام ابن يونس ثم قال اللخمي: ومحمله على مرة واحدة. اهـ منه بلفظه. وقوله عن اللخمي ومحمله على مرة واحدة معناه عند الإطلاق، ونص اللخمي: ومن أعار أرضا لتزرع لزمه وكان محمله على مرة واحدة. اهـ منه بلفظه. وقول عبد الباقي: لانقضائه على الأصح يقتضي أن مقابل الأصح يقول بعدم اللزوم ولو بعد القبض وفيه نظر؛ إذ لم يذكر اللخمي ولا غيره هذا القول أصلا، وإنما ذكروا هذا الخلاف قبل القبض، وما عبر عنه الزرقاني بالأصح قال فيه في التوضيح ما نصه: واللزوم هو أصل المذهب كالهبة وهو قول ابن القصار. اهـ. وعبر عنه في الشامل بالمشهور ونصه: ولزم ما عين ولو لم يقبض على المشهور بعمل أوأجل لانتهائه. اهـ.

فرع: إن اختلفا في قدر الأجل كان القول قول من شهد له العرف كان المعير أو المستعير فإن لم يشهد لواحد منهما فالجاري على القواعد أن يكون القول قول ربها. واللَّه أعلم. وفي طرر ابن عات

ص: 433

ما نصه: إن ادعى معير العرصة أنه أعارها رجلا خمسة أعوام وقال المستعير عشرة فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أقرب إلى ما يشبه إرفاق الناس في ذلك البنيان لأجل النفقة التي تقوم عليها فيها، وقد أقر له المعير بأجل وأنكره المدة فربها مدع وعليه البينة. من الاستغناء. اهـ منها بلفظها. وشهادة العرف لربها معتبر بالأحرى، فإن لم يشهد لواحد منهما لخ. انظر الرهوني.

وإلا أي وإن لم تقيد العارية بمدة ولا أجل فاللازم لربها فيها المعتاد، فليس له أن يأخذها من المستعير حتى يمضي مقدار ما تعار له عادة، وفي المسألة ثلاثة أقوال هذا أحدها وهو الذي رجحه ابن يونس، قال البناني: ابن عرفة: قال اللخمي: إن أجلت العارية بزمان أو انقضاء عمل لزمت إليه، وإن لم تؤجل كقوله: أضرتك هذه الأرض أو الدابة أو الدار أو هذا العبد أو الثوب، ففي صحة ردها ولو بقرب قبضها ولزوم قدر ما تعار له، ثالثها: إن أعار ليسكن ويبني فالثاني وإلا فالأول، والقول الأول لابن القاسم فيها مع أشهب، والثاني لغيرهما والثالث لابن القاسم في الدمياطية اهـ فقول المص:"وإلا فالمعتاد" مخالف بظاهره للمدونة إلا أن ابن يونس صوبه.

وقوله: وله الإخراج موافق للمدونة فكلامه متناقض، فلو قال: وإلا فالمعتاد على الأرجح وفيها وله الإخراج لخ لأجاد. قاله ابن غازي. قال الحطاب: وكلام ابن غازي صحيح لا غبار عليه، لكن حاول الأجهوري تبعا للبساطي تقريره بما ذكره عبد الباقي ليوافق المدونة، ولم يرتضه الحطاب لاحتياجه إلى تقدير كثير. اهـ كلام البناني.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: حاصل ما مر عليه المص هو القول الذي صوبه ابن يونس فيما عدا قوله: "وله الإخراج في كبناء" إلى آخره، فإنه مر في هذه المسألة على قول المدونة، وتقرير عبد الباقي الذي أشار إليه البناني هو قوله:"وإلا فالمعتاد" لازم في مثلها بالقول لأن العرف كالشرط وهذا فيما أعير لبناء أو غرس وحصل لا إن لم يحصل ولا في معار لغيرهما على المذهب كدابة لركوب وعبد لخدمة، ثم ذكر ما هو كالاستثناء من قوله:"وإلا فالمعتاد"، فقال:"وله الإخراج في كبناء". اهـ المراد منه.

ومعنى قول المص: "وله الإخراج" في كبناء إن دفع ما أنفق أنه إذا أعاره أرضه يبني فيها بنيانا أو يغرس فيها غرسا، فلما غرس أو بنى أراد المعير إخراجه من الأرض فإن له ذلك ولو بقرب

ص: 434

الإعارة لتفريطه حيث لم يقيد، وإنما يكون للمعير أن يخرج المستعير من أرضه إن دفع للمستعير ما أنفقه وتكلفه على ذلك البنيان أو الغرس، فيتملك هو أي المعير البناء والغرس.

وفيها أيضا قيمته يعني أنه وقع في المدونة أيضا ما يخالف هذا الذي وقع فيها وهو أن المعير له الإخراج إن دفع قيمته أي قيمة المنفق عليه وهو البناء والغرس قائما على التأبيد لا قيمة ما أنفق من المفردات التي بنى بها وإن كان ذلك ظاهره فليس بمراد، وإنما المراد ما قررته به إذا دفع له قيمة البناء والغرس قائما فللمعير تملك ذلك البناء والغرس. أبو الحسن: قالوا وإذا أعطاه قيمته قائما فعلى التأبيد بخلاف مسألة أول كتاب الاستحقاق، فإنه إذا أعطاه قيمته قائما فإنه لتمام المدة في الاستحقاق من يد المكتري، قالوا: والفرق بينهما أن ما في الاستحقاق المستحق لم يأذن له وإنما أذن له غيره وهذه الإذن من رب الأرض. اهـ. وما ذكره من قيمته لتمام المدة في الاستحقاق إنما هو على ما لعبد الحق، والذي لابن يونس أنه يعطى قيمة ما يبني به هذا البناء، وصوبه ابن عرفة وقال: إنه جار على أصل المذهب وحينئذ لا فرق بين العارية والاستحقاق، ولا يمكن تحديده بمدة ويأتي إن شاء اللَّه في الاستحقاق بيان ذلك. قاله البناني.

واختلف الشيوخ فيما في الموضعين من المدونة هل هو خلاف؟ فمن قال خلاف اكتفى بظاهر اللفظ أو وفاق، قال الخرشي: ومن قال إنه وفاق قال محل إعطاء القيمة إذا أخرج المستعير المؤن كالجير ونحوه من عنده، وأما لو أخرج ثمنا من عنده فاشترى به المؤن فإنه يدفع له ما أنفق وهذا تأويل عبد الحق، فإنه قال يحتمل التوفيق بثلاثة أوجه وهذا أحدها، وإليه أشار المص بقوله: قيمته إن لم يشتره أي إنما يعطي القيمة إن لم يكن المستعير اشترى ما يبنى به، وأما إن اشتراه فإنه يدفع ما أنفق وهو الدراهم مثلا، ثانيها أشار إليه بقوله: أو إن طال أي محل القيمة إذا طال الزمان، وعلى هذا إن لم يطل الزمان فإن المعير يدفع للمستعير ما أنفق، الثالث أشار إليه بقوله: أو اشتراد بغبن كثير أي محل دفع ما أنفق إذا لم يشتر ما يبني بغبن كثير بأن اشتراه بغير غبن أو بغبن يسير أو لم يشتره، وأما إن اشتراه بغبن كثير فإنه يدفع القيمة، وقال عبد الباقي: أو اشتراه أي ما غرسه وآلة البناء بغبن كثير لخ، وصريح كلام الخرشي أن هذه المقالات الثلاثة لعبد الحق موفقا بها بين الموضعين في المدونة. وقال البناني: ظاهر المص أن هذا التأويل الثالث

ص: 435

على وجه الوفاق كاللذين قبله وكذلك ذكره ابن رشد، والذي لعبد الحق أنه تأويل خلاف ونحوه لابن يونس. اهـ المراد منه. وهو صريح في خلاف ما للخرشي واللَّه تعالى أعلم.

وقال عبد الباقي عند قوله: "إن طال" ما نصه: وثمنه إن لم يطل زمنه، وعلى هذا تعتبر قيمته الآن على حاله من البلى والقدم كما صدر به ابن عرفة عن ابن رشد لا يوم تمامه، خلافا لعبد الحق. وقوله: تأويلان مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان، واحد بالخلاف وتأويل الوفاق بأوجهه، وفي بعض النسخ: تأويلات بصيغة الجمع، واحد بالخلاف وثلاثة بالتوفيق. والله ولي المؤمنين.

وإن انقضت مدة البناء أو الغرس فكالغاصب هكذا في بعض النسخ وفي بعضها: "فكالغصب" ومعنى المص من استعار أرضا للبناء أو للغرس لمدة كعشر سنين مثلا فغرس فيها أو بنى وانقضت المدة التي أعيرت لها الأرض، فإن المستعير يكون كالغاصب الذي غصب الأرض وبنى فيها أو غرس، فإن المالك للأرض بالخيار بين أن يأمر الغاصب بقلع بنائه أو غرسه مع تسوية الأرض، وبين أن يعطيه قيمة بنائه أو غرسه مقلوعا، وتسقط منه أجرة من يتولى نقضه ويتملك البناء والغرس، فكذلك المعير إذا انقضت مدة العارية فله أن يأمر المستعير بقلع بنائه له أو غرسه مع تسوية الأرض، وله أن يعطيه قيمة ذلك مقلوعا بعد إسقاط أجرة من يتولى قلعه من تلك القيمة. قال عبد الباقي: وإن انقضت مدة البناء أو الغرس المعتادة أو المشترطة فكالغصب، وإن كان مأذونا له فيهما لدخوله على ذلك بتحديده بزمن قد انقضى فيخير المعير بين أمره بهدمه وقلع شجره مع تسوية الأرض كما كانت، وبين دفع قيمته منقوضا إن كانت له قيمة منقوضا، ويسقط منها أجرة من يتولى النقض بتقدير نقضه ومن يتولى تسوية الأرض، فإن لم تكن له منقوضا قيمة أخذه مجانا وعليه فلا يرجع على المستعير بقيمة الهدم والقلع وتسوية الأرض فيما يظهر بخلاف الغاصب، ثم محل إسقاط الكلفة إذا كان المستعير لا يتولى ذلك بنفسه أو بعبيده، فإن تولى ذلك بما ذكر لم يسقط المعير ما يقابل ذلك من القيمة بل يدفعها للمستعير بتمامها، ثم إذا حكم للمعير بأخذه قائما مع دفع قيمته منقوضا فهدمه أو قلعه المستعير فعليه للمعير قيمته قائما فإن فعل قبل

ص: 436

الحكم فانظره، وهذا إذا انقضت مدة البناء والغرس، فإن هدم أو قلع المستعير قبل انقضائها لم يكن للمعير كلام عليه فيما يظهر.

وشبه مسألة المستعير بمسألة الغاصب المشار لها في باب الغصب بقوله: "وفي بنائه في أخذه ودفع قيمة نقضه بعد سقوط كلفة لم يتولها" وإن لم يتقدم لها ذكر لشهرتها انتهى كلام عبد الباقي، قوله: فإن فعل قبل الحكم فانظره، قال الرهوني: سكت عنه التاودي والبناني مع أن ما توقف فيه مصرح بحكمه في المدونة وغيرها، قال أبو الحسن عند قول المدونة: فلك أن تعطيه قيمة البناء أو الغرس فقام بعد لخ ما نصه: ولو بادر فقام بذلك قبل الحكم لم يكن عليه شيء. قاله في كتاب القسمة. اهـ. ومثله في الدر النثير قبيل مسائل القضاء، ونص ما فيها في كتاب القسمة: وإن كان بين رجلين نقض دون القاعة جاز أن يقتسماه على التراضي أو بالقيمة والسهم، ويجبر من أباه منهما لمن أراده منهما فإن أراد هدم النقض ورب العرصة غائب رفعا ذلك إلى الإمام، فإن رأى اشتراء ذلك للغائب بقيمة النقض منقوضا فعل وإلا ترك ولزم الغائب ما فعل السلطان، قيل فمن أين يدفع الثمن على الغائب؟ قال: هو أعلم بذلك، فإن نقضا البناء دون الإمام فلا شيء عليهما ويقتسمان النقض. اهـ. وقول عبد الباقي: فإن هدم أو قلع المستعير قبل انقضائها لم يكن للمعير كلام فيما يظهر، مأخوذ من مسألة المدونة بالأحرى فلا حاجة إلى قوله: فيما يظهر. فتأمله. واللَّه أعلم. اهـ.

وإن ادعاها الآخذ والمالك الكراء فالقول له بيمين يعني أن من أخذ دابة أو ثوبا أو آنية أو غير ذلك، فادعى الآخذ أن ذلك عارية وادعى المالك أنه أكراه له فالقول للمالك بيمين أنه أكراه له من حيث الأجرة لا من حيث لزوم العقد؛ لأن القول لمنكره وهذا إذا ادعى أجرة تشبه وإلا رد لأجرة المثل كما في التوضيح، فإن نكل للمستعير بيمين فإن نكل غرم الكراء بنكوله. قاله عبد الباقي وغيره.

إلا أن يأنف مثله يعني أنه إذا كان مثل المالك يأنف عن أخذ الكراء فإنه لا يكون القول قول المالك في الكراء، بل يكون القول للمستعير في أنه عارية، قال عبد الباقي: إلا أن يأنف مثله أي يتعاظم بحسب عادة أمثاله عن أن يأخذ كراء فالقول للمستعير بيمين، فإن نكل حلف المالك

ص: 437

وأخذ الكراء الذي زعمه فإن نكل أخذ كراء المثل، ونحوه للشارح عن أشهب على وجه يقتضي أنه مقابل، وقال أحمد: إذا نكل المالك لا شيء له هذا هو الجاري على القواعد. اهـ. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: من ركب دابة رجل إلى بلد وادعى أنه أعاره إياها، وقال ربها: بل أكريتها منه فالقول قول ربها. ابن يونس: لأنه ادعى عليه معروفا، قال ابن القاسم: إلا أن يكون مثله ليس يكري الدواب لشرفه وقدره. اهـ. وقال البناني: ظاهر كلام المدونة في قولها ومن ركب دابة رجل إلى بلد وادعى أنه أعاره إياها لخ أن هذا الحكم محله إذا وقع التنازع بعد الانتفاع أما لو تنازعا قبله فالقول للآخذ في نفي عقد الكراء؛ لأن القول لمنكر العقد إجماعا وترد إلى ربها وهو ظاهر، وقول عبد الباقي: عن أحمد إذا نكل المالك فلا شيء له لخ هذا وإن كان هو الجاري على القواعد كما ذكره، لكن ما قاله الشارح هو المنصوص في النوادر عن أشهب، ونصها: إن كانت الدابة للشريف العظيم الذي يأنف مثله من كراء الدابة صدق الراكب مع يمينه، فإن نكل حلف رب الدابة وأخذ الكراء الذي زعم، فإن نكل أخذ كراء المثل. اهـ. قوله:"وإن ادعاها الآخذ والمالك الكراء" لخ هو شامل لدار السكنى، فالقول للمالك بيمين إلا أن يأنف مثله، وأما دار غير دار سكناه فالقول له أنه أكراها ولا يراعى كون مثله ذا قدر ورفعة أم لا.

تنبيهات: الأول: في المنتخب ما نصه وفي سماع عيسى: وسألت ابن القاسم عن الرجل أتى الرجل فقال له: هات ثمن الثوب الذي بعتكه، فقال: ما بعتنيه ولكن أمرتني أن أبيعه لك، فالقول قول صاحب الثوب ويحلف أنه باعه منه، فإن نكل عن اليمين حلف الآخر وبرئ، قلت: فإن حلف صاحب الثوب أنه باعه واختلفا في الصفة؟ فقال: يقال لمشتري الثوب صفه فإذا وصفه حلف على صفته ثم قومه أهل البصر وغرم القيمة، قلت: فإن نكل؟ قال: يقال لصاحب الثوب صفه فإن وصفه قومت صفته وغرم المشتري، قلت: فإن أتيا جميعا بما يستنكر في صفة الثوب ونكلا عن اليمن؟ قال: القول قول مشتري الثوب، قلت: قيمة الثوب أدنى من الثمن الذي باعه به، قال: يقال للذي باع الثوب اتق اللَّه وانظر إن كان قولك في الثوب حقا أنه أمرك ببيعه فادفع له بقية ثمن ثوبه ولا تحبسه ولا يقضى عليه بذلك لأن صاحب الثوب يدعي أنه باعه منه. نقله الرهوني.

ص: 438

قال: ومن هذا يؤخذ حكم مسألة وقعت بالقصر الكبير، وهي أن رجلا ادعى على آخر أنه باع له ثوبا فأجابه بأنه لم يبعه له ولكنه دفعه له ليوصله إلى رجل كان طلب من رب الثوب أن يرسل إليه ثوبا ليشتريه منه، وأنه دفعه له فلم يصلح له ورده إليه ليرده إلى ربه فسرق، فاختلف فيها وأفتى بعضهم بأن القول قول رب الثوب، ونقل عن اللباب أنه إذا اختلف في شيء فقال ربه بعته لك، وقال الآخر أعرته لي فالقول قول ربه، فلما رفعت إلي النازلة استغربت هذا النقل لأن ظاهره أن القول قول ربه فيحلف ويثبت البيع بالثمن الذي ادعاه، كما أن ظاهره أن الحكم ما ذكره ولو لم يفت الثوب وذلك مخالف لقاعدة أن القول لمنكر العقد إجماعا، وحضر بعض حذاق علماء فاس ورباط الفتح فتكلمت معهم في ذلك فكلهم ظهر له ما ظهر لي ولم أكتب في المسألة بشيء، ثم وقفت على ما تقدم ومنه يعلم أنه يحلف ربه ويجب على الآخر غرم قيمته، ثم إن اتفقا على صفته أو قامت بها بينة فذلك وإلا فعل ما تقدم عن المنتخب. فتأمله. واللَّه أعلم. انتهى.

الثاني: قال الرهوني: ما ذكره المص تبعا للمدونة وغيرها ظاهر إن كان الشيء قائما أو قامت على هلاكه بينة أو كان مما لا يغاب عليه ولم تقم بينة بأنه تلف بتفريط ممن هو بيده، وانظر إذا كان مما يغاب عليه ولم تقم بينة، ومقتضى كون القول قول ربه إن كان مثله لا يأنف ذلك لزوم الكراء وسقوط الضمان: والغالب أن المالك إنما يدعي الكراء في هذه الصورة إذا كان أكثر من قيمة ذلك الشيء، فإن تساويا فالمئال واحد ويظهر أنه لا يمين على المالك إذ ذاك لأنه قادر على أخذ ذلك بإقرار منازعه، وإن كان الكراء أقل فلا يدعيه غالبا وعلى تقدير ادعائه ذلك فعدم الحلف أحرى من صورة المساواة. اهـ.

الثالث: قال الرهوني: سكت المص ومن تكلم عليه ممن وقفنا على كلامه عن عكس هذه المسألة، وفي نوازل الوديعة والعارية من المعيار ما نصه: وسئل ابن الحاج عن امرأة استعارت حليا من امرأة فضاع عندها فقالت استأجرته، وقالت صاحبته بل أعرته إياك ولم أكره منك؟ فأجاب: إن كانت صاحبته ممن تكري الحلي فالقول قول التي ضاع عندها أنها أكرته لها ويسقط عنها الضمان، وإن كانت ممن لا تكري الحلي فيكون القول قولها لأنه لا يؤاخذ أحد بأكثر مما يقر به

ص: 439

على نفسه، والذي أقول به ويصح عندي أن الوجه الأول أن القول قول التي ضاع عندها الحلي إنه مستأجر، وأما الوجه الثاني فهو على قول أشهب، وأما على قول ابن القاسم فإن القول قول صاحبة الحلي، كمن قال: قرض، وقال الآخر: قراض. انتهى.

الرابع: قال الرهوني عند قول المص وإن "ادعاها الآخذ والمالك الكراء" لخ ما نصه: مثله في المدونة، ونقله ابن عرفة، وقال متصلا به ما نصه: وفي أكرية الدور: ومن أسكنته دارك ثم سألته الكراء فادعى أنك أسكنته بغير كراء فالقول قولك فيما يشبه من الكراء مع يمينك، قال غيره: على الساكن الأقل من دعواك أو كراء المثل بعد أيمانهما، ويناقض ما في العارية لعدم تقييد هذه بقولها في العارية إلا أن يكون رب الدابة ممن لا يكري الدواب لشرفه، ويجاب باقتضاء العرف أن كراء الدواب نقص في بعض الناس وكراء الربع ليس نقصا في أحد من الناس وهذا في سكنى الربع استقلالا، ولو أسكنه بيتا في داره معه لكان ذلك كمسألة الدابة وكذا الثياب والآنية لخ.

كزائد المسافة إن لم يزد يعني أن المعير والمستعير إذا اختلفا في المكان المعار إليه، فقال المعير: من مصر إلى غزة مثلا، وقال المستعير: بل من مصر إلى دمشق البعيدة وكان تخالفهما عند بلوغ غزة أو قبله فإن القول قول المعير بيمينه، فيردها المستعير إلى ربها ولا يجاوز بها غزة؛ لأن المستعير مدع زيادة الأَصْلُ عدمها ولا تسلم له الدابة إلا بتوثق إن خشي تعديه.

تنبيه: وقع في شرح عبد الباقي هنا ما نصه: فقال المعير من مصر مثلا إلى غزة وقال المستعير من مصر إلى دمشق، وكان تخالفهما عند بلوغ غزة، ثم قال ولا تسلم له الدابة إلا بتوثق. اهـ. قال الرهوني: تأمله فإن الموضوع منه أنه بلغ غزة إلا أن يحمل على أنه أعاره ذهابا وإيابا. اهـ. وما قاله ظاهر غاية. واللَّه تعالى أعلم. ومعنى قول المص: "إن لم يزد" أي لم يركب المستعير زائد المسافة الذي ادعاه وهو من غزة إلى دمشق في المثال المذكور، وهو صادق بصورتين كما قررت: تنازعا قبل الوصول إلى غزة فيبلغها عليها، تنازعا بعد أن وصلا غزة فتنزع من المستعير وترد إلى ربها.

إلا بأن ركب المستعير الزائد أو بعضه، فالقول للمستعير في نفي الضمان إن عطبت الدابة، وفي نفي الكراء إن سلمت، والحاصل أنه إذا كان تنازعهما بعد الوصول لدمشق فلا شيء على

ص: 440

المستعير من ضمان الدابة إن عطبت ولا من كراء الزائد فيما إذا سلمت، فإن ركب بعض الزائد ولم يبلغ دمشق في المثال المذكور فالقول له فيما زاده فلا ضمان عليه ولا كراء، ولا يقبل قوله بالنسبة لما بقي من المسافة فترد إلى ربها، قال عبد الباقي: ثم إنما يكون القول للمستعير في نفي الضمان والكراء إن أشبه وإلا فللمعير كما إذا كان اختلافهما قبل ركوب المسافة المتفق عليها أو بقيتها، قال اللخمي: إلا أن يخشى منه التعدي بها فلا تسلم له إلا بتوثق منه ليلا يتعدى؛ أي بأن يركب ما ادعاه. انتهى.

وقال البناني في التوضيح: وإن ركب إلى الغاية، فقال ابن القاسم في المدونة: القول للمستعير إن ادعى ما يشبه بيمينه، واعلم أنه في المدونة لم يذكر أن ابن القاسم قال بهذا، بل قال: وجدت في مسائل عبد الرحيم عن مالك ذلك نعم ظاهره أنه قائل بذلك. انتهى. وذكر ابن يونس أن مقتضى قول ابن القاسم أن القول قول المستعير في سقوط الضمان والكراء، وأن سحنونا وأشهب قالا: القول للمستعير في سقوط الضمان فقط لخ، والقول للمعير في الكراء يحلف المستعير ليسقط الضمان عنه ويحلف المعير ويأخذ الكراء. انتهى.

وإن برسول مخالف مبالغة فيما بعد الكاف من المسألتين؛ يعني أن القول قول المعير حيث لم يركب المستعير الزائد وإن كان الرسول الذي أتى بالعارية إلى المستعير مخالفا للمعير وموافقا للمستعير: بأن قال: أعرته من مصر لدمشق في المثال المذكور فلا يسمع قول الرسول، وإن ركب الزائد أو بعضه فالقول للمستعير في نفي الضمان إن هلكت، وفي نفي الكراء إن سلمت وإن كان الرسول موافقا للمعير مخالفا للمستعير بأن قال أعرته لغزة في المثال المذكور، قال المواق: قال أشهب: من بعث رسولا إلى رجل ليعيره دابة إلى برقة فأعاره فركب المستعير إلى برقة فعطبت، فقال المعير: إنما أعرتك إلى فلسطين، وقال الرسول: بل إلى برقة فشهادة الرسول هاهنا لا تجوز للمستعير ولا عليه لأنه إنما يشهد على فعل نفسه، ويحلف المستعير أنه ما استعارها له إلا إلى برقة وسقط عنه الضمان. انتهى.

وقال البناني: قال ابن القاسم في المدونة فيمن بعث رسولا إلى رجل ليعيره دابة إلى برقة فقال الرسول إلى فلسطين فعطبت الدابة عند المستعير واعترف الرسول بالكذب: ضمنها وإن قال بذلك

ص: 441

أمرتني وأكذبه المستعير فلا يكون الرسول شاهدا لأنه خصم وتمت المسألة هنا في أكثر الروايات، وعليه اختصر البرادعي وزاد ابن أبي زيد في مختصره، والمستعير ضامن إلا أن تكون له بينة على ما زعم، وصحت هذه الزيادة في رواية يحيى بن عمر، ثم قال البناني: وبه تعلم أن ما درج عليه المص هو قول ابن القاسم في المدونة على رواية عدم زيادة الضمان التي عزاها ابن عبد السلام والتوضيح للأكثر، وهي الموافقة لقول أشهب، ولا يقال جرى على قول أشهب كما قاله ال تتائي والشارح، ونحوه للمواق لأنه لا يتأتي ذلك مع قوله في نفي الكراء والضمان إذ المبالغة فيه وأشهب لا يقول بذلك. قاله مصطفى. انتهى.

قوله: وأشهب لا يقول لخ صحيح، قال الشارح عند قوله في نفي الضمان والكراء ما نصه: ابن شاس: وهو قول ابن القاسم، وقال أشهب: القول قول المستعير في طرح ضمان الدابة إن هلكت، والقول قول المعير في الكراء لأنه لا يؤاخذ بغير ما أقر به وهو أيضا قول سحنون وابن حبيب. انتهى. قوله: وقال ابن القاسم في المدونة فيمن بعث رسولا إلى رجل ليعيره دابة إلى برقة البعيدة، وقوله: فقال الرسول إلى فلسطين أي القريبة أي قال ذلك عند التنازع، وقوله: واعترف الرسول بالكذب أي اعترف بأن المالك أعار لفلسطين القريبة وبأنه كاذب في قوله للمستعير أعارك لبرقة وهذه وافق الرسول المعير واعترف بالعداء، وقوله: وإن قال بذلك أمرتني أي وافق الرسول المعير وأكذب المستعير بأن قال أنت أمرتني بأن أقول له يعيرك لفلسطين وقلت لك ذلك وأنت الذي تعديت بمسيرك إلى برقة، وقول المدونة: واعترف الرسول بالكذب ضمنها قال عبد الحق فإن كان معدما رجع رب الدابة على المستعير، ويرجع المستعير بما يغرم على الرسول فيطالبه به لإقراره بالتعدي، فإن قامت للمستعير بينة بما أمره به سقط الضمان عنه وضمن الرسول. انتهى. قوله: رجع رب الدابة على المستعير.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: هو مخالف لعموم قول المص في نفي الضمان والكراء، وقوله:"برسول مخالف" فيه رد على رواية يحيى بن عمر، وهي تضمين المستعير حيث أكذبه الرسول إن لم يأت ببينة على ما زعم. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 442

والفرق بين قوله: "وإن برسول مخالف"، وقوله:"فالرسول شاهد" أنه هنا خصم بخلاف السابقة، وقد مر هذا عن ابن القاسم، وفرق بينهما أشهب بأنه في السابقة ليس شاهدا على فعل نفسه، وإنما شهادته على صفة خاصة للقبض من كونه صدقة أو وديعة؛ لأن المبعوث إليه مقر بالقبض بخلاف ما هنا فإنه كشهادة على فعل نفسه لأنه بقبضه إياها من المعير كأنه هو المستعير تقديرا، وإن كان فعل نفسه إنما هو استعارتها أو مجيئه بها من عند ربها إلى المستعير وما شهد به إنما هو زائد المسافة، وقوله: "كزائد المسافة إن لم يزد مثل ذلك ما إذا ادعى الآخذ طريقا وعرة وادعى المالك طريقا سهلة، أو قال أعرتك هذا الثوب يوما وقال الآخر شهرا مثلا، فإن ركب الأصعب وحلف ربها على السهل كان له كراء الأصعب. انظر الشارح.

كدعواه رد ما لم يضمن يعني أن المستعير إذا ادعى أنه رد العارية إلى ربها وهي مما لا يضمنه المستعير بأن كانت مما لا يغاب عليه، فإنه يصدق في ذلك ولا ضمان عليه، قال عبد الباقي: وشبه في عدم الضمان قوله: "كدعواه رد ما لم يضمن" من عارية ما لا يغاب عليه إن لم يقبضه ببينة مقصودة كما في المواق خلافا للشامل، وأما دعواه رد ما يضمن فلا يصدق بيمين وإن قبض بار بينة على المنصوص. قاله في الشامل. انظر أحمد. فإن قيل: لِمَ لَمْ يضمن هنا ما لا يغاب عليه حيث قبضه ببينة مقصودة على ما للشامل، وإن كان ضعيفا كما مر عن المواق قيل لما كانت العارية معروفا اغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها، فجعلوا قبول قوله من تمام المعروف. انتهى.

وقال البناني: قال ابن رشد في المقدمات في كتاب تضمين الصناع ما نصه: وكل موضع يصدق فيه القابض في دعوى الضياع مثل الوديعة والقراض ورهن ما لا يغاب عليه وعارية ما لا يغاب عليه فإنه يصدق في دعوى الرد إذا قبضه بغير بينة، فإن قبضه ببينة لم يصدق في دعوى الرد هذا هو المشهور من قول ابن القاسم وغيره من أصحاب مالك، وقد روى أصبغ عن ابن القاسم أنه يصدق في دعوى الرد وإن قبضه ببينة، فإذا صدق في دعوى الرد فإنه يحلف على كل حال من غير تفصيل، وأما في دعوى الضياع فلا يحلف إلا أن يكون متهما، ثم قال: وكل موضع لا يصدق فيه في دعوى الضياع لا يصدق فيه في دعوى الرد، هذا هو المشهور المعلوم من قول مالك وجميع أصحابه ابن القاسم وغيره: وقد روى أبو زيد عن ابن القاسم في كتاب الوديعة ما يدل على أنه

ص: 443

يصدق في رد الرهن إذا قبضه بغير بينة مثل الوديعة وهو بعيد. انتهى. فقول الشامل: وصدق بيمين في رد ما لا يضمن وإن قبض ببينة لا فيما يضمن وإن قبض بلا بينة على المنصوص. انتهى. جارٍ على رواية أصبغ وهو خلاف المنصوص المشهور. انتهى.

وإن أتى شخص إلى شخص آخر وزعم أي قال أنه مرسل أي أرسله زيد مثلا لاستعارة حلي فدفعه له المبعوث إليه، وبعد ذلك زعم الرسول وهو المرسل أنه تلف منه فلا يخلو ذلك من أن يصدقه زيد المرسل له أو لا، فإن صدقه كان الضمان منه كما قال ضمنه مرسله إن صدقه في أنه أرسله لاستعارة الحلي وبرئ الرسول، وإلا بأن كذبه وقال لم أرسله لذلك حلف المرسل باللَّه الذي لا إله إلا هو ما أرسلته، وإذا حلف برئ ثم إذا حلف المرسل حلف الرسول وإذا حلف برئ وتكون العارية هدرا لا ضمان على واحد منهما، ومفهوم قوله:"زعم" أنه تلف أنه لو ثبت تلفه وقد صدقه المرسل على الإرسال فلا ضمان لانتفائه في العارية حيث ثبت التلف، ومفهوم "حلي" أنه لو كان المستعار مما لا يغاب خليه كدابة فلا ضمان على المرسل ولا على الرسول إن لم يعترف بالعداء، وإن اعترف الرسول أي أقر بالعداء أي أقر بأنه أخذ العارية بغير إرسال وأنه كاذب في دعواه أنه مرسل وتلفت العارية منه ضمن الرسول الحر البالغ الرشيد عاجلا، ضمن الرسول العبد لا عاجلا بل يتبع بذلك في ذمته إن عتق وللسيد إسقاطه عنه كما في النقل، ونظر فيه أحمد لعدم وقوفه عليه ولا ضمان على صبي وسفيه لتفريط المعير بالدفع للصبي ولعدم اختبار حال السفيه. قاله عبد الباقي.

قال: وظاهر قوله: "والعبد في ذمته إن عتق" أي لا في رقبته ولو مأذونا له في التجارة وهو مشكل، والذي ينبغي أن المأذون كالحر في أنه يضمنها في ذمته عاجلا كما مر في الوديعة. انتهى. وإن قال أوصلته لهم فعليه وعليهم اليمين يعني أنه إذا زعم شخص أنه مرسل لاستعارة حلي أو غيره فبعث به المرسل إليه معه لمن أرسله، وقال الرسول: أوصلت الشيء المعار إلى الذين أرسلوني فكذبوه وأنكروا الإرسال والإيصال وقد تلف الحلي مثلا، فعلى الرسول اليمين أنه أوصله إليهم وأنه رسولهم وعليهم اليمين أنهم لم يرسلوه ولم يصل إليهم بشيء ولا شيء عليه ولا عليهم وتكون العارية هدرا، قال عبد الباقي: ويبدءون بالحلف لأنهم يبدءون بالضمان، فكان

ص: 444

الأولى أن يقول: فعليهم ثم عليه اليمين، فإن نكلوا ونكل فالغرم عليه وعليهم، وإن حلف ونكلوا فالغرم عليهم وعكسه عليه فقط. قال أحمد: وأما إن أقروا بكونه رسولا لضمنوا كما في المسألة الأولى. انتهى. أي قوله: وإن زعم أنه مرسل لخ.

وقوله: كما لخ يقتضي أن هذه ليست مفهوم الأولى، وتحرير الفرق بينهما أن الثانية قال الرسول أوصلته لهم، والأولى قال تلف، هذا ما يقتضيه لفظ المص، ولا ينافيه قول الأجهوري هنا هذا إذا تعذر أخذ المعار بعينه لتلف أو لغير ذلك. انتهى. لأن الرسول لم يدع هنا التلف بل الإيصال وإن كان تلفها مشاهدا إذ لم يقل تلف مني. انتهى. وقال الرهوني بعد جلب كثير من النقول ما نصه: وبتأمل ذلك كله مع الإنصاف يظهر أن الصواب ما للمصنف، وأن تسليم الحفاظ المحققين له من شراحه ومحشيه كالمواق وابن غازي والحطاب والأجهوري وأتباعه وابن عاشر وأبي علي هو الصواب، وأن اعتراض مصطفى عليه وإن اعتمده البناني لا يعول عليه.

ومؤنة أخذها على المستعير يعني أن مؤنة أخذ العارية أي أجرة نقلها لمكان المستعير على المستعير كردها يعني أن أجرة رد العارية إلى المعير على المستعير وقيل على المعير، قال ابن رشد: والأول أظهر، ولهذا قال: على الأظهر وفي علف الدابة قولان مبتدأ وخبره الجار والمجرور قبله؛ يعني أنه اختلف في علف الدابة المعارة بفتح اللام وهي عند المستعير، فقيل على المعير وقيل على المستعير، قال عبد الباقي: واختلف في علف الدابة المستعارة وهي عند المستعير هل عليه أو على المعير؛ إذ لو كانت على المستعير لكان كراء وربما كان علفها أكثر من الكراء فتخرج العارية إلى الكراء في ذلك قولان، والعلف بفتح اللام أي ما يعلف به، وأما بالسكون وهو تقديم العلف للدابة فهو على المستعير قولا واحدا، ولا مفهوم لدابة بل كل ما يحتاج للإنفاق كذلك، وظاهر المص جري القولين ولو طالت المدة وهو كذلك خلافا لقول بعض المفتين هو على المعير في الليلة والليلتين، وعلى المستعير في المدة الطويلة والسفر البعيد. انتهى.

تنبيهات الأول: قال ابن عاصم:

وأجرة الراعي لما قد منحا

على الذي بمنحة قد سمحا

ص: 445

وجائز لمانح فيها الشرا

بما يرى ناجزا أو مؤخرا

قال الشيخ ميارة: يعني أن أجرة الراعي الذي يرعى الحيوان الممنوح غلته تكون على المانح الذي سمح بهبتها لا على الممنوح، ويجوز للمانح شراء منحته من الممنوح بما يتفقان عليه من ناجز أو مؤخر كما سبق في العمرى، قال في الوثائق المجموعة: والرعاية على رب المنحة ولصاحب المنحة أن يبتاعها من الممنوح إذا اتفقا على ذلك بطعام يدفعه له حالا، ويجوز له شراء منحته بما شاء من الدنانير والدراهم والعروض والطعام حالا، ويجوز إلى أجل ويسترجع منحته، ولا يدخله بيع اللبن المجهول بالطعام أو الطعام بالطعام ليس يدا بيد؛ لأن ذلك كله معروف يصنعه المعطي إلى المعطى فأرخص له فيه ولا يجوز ذلك لغيره ويجانس ذلك العرية، وهذا الحكم -واللَّه أعلم- يجري في الإخدام فتكون نفقة المخدم على سيده، ويجوز لسيده شراء خدمته من المخدم. انتهى.

الثاني: قال الحطاب: من استعار دابة ليحمل عليها شيئا فوكل من يحمله عليها أو حمله عليها شريكه لم يضمن هو ولا شريكه بخلاف لو تعدى أجنبي وحمل عليها ما استعيرت له فإن الأجنبي يضمن. قاله في كتاب الشركة من المدونة. انتهى.

الثالث: قال ابن حبيب: من استعار دابة لركوب أو حمل ثم ردها مع عبده أو غلامه فعطبت أو ضلت فلا يضمن؛ لأن شأن الناس على هذا وإن لم يعلم ضياعها إلا بقول الرسول وهو مأمون أو غير مأمون ذلك سواء ولا يضمن. انتهى.

قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: ولما أنهى الكلام على العارية وقد جرى فيها ذكر الغصب في قوله: "فكالغصب" أشار إلى حقيقة الغصب وما يتعلق به، فقال:

ص: 446

باب: في الغصب، وهو لغة: أخذ الشيء ظلما، قال الجوهري: غصبه منه وعليه سواء والاغتصاب مثله. قاله الحطاب. وقال: قال في الذخيرة: قال صاحب المقدمات: التعدي على رقاب الأموال سبعة أقسام لكل قسم منها حكم يخصه وهي كلها مجمع على تحريمها، وهي: الحرابة والغصب والاختلاس والسرقة والخيانة والإدلال والجحد. انتهى.

تنبيهات: الأول: قال الحطاب: قال عليه الصلاة والسلام في خطبة ثاني النحر: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا

(1)

)، فورد سؤال وهو أن المشبه يجب أن يكون أخفض من المشبه به وهو هنا منحط عنه في نظر الشرع بكثير، وجوابه أن التشبيه وقع بحسب اعتقادهم فإنهم كانوا يعظمون البلد ويحتقرون الأمور المذكورة. انتهى بالمعنى من الذخيرة انتهى. وفي البخاري: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم النحر قال: (أتدرون أي يوم هذا) لخ.

الثاني: من أدلة تحريم الغصب قوله صلى الله عليه وسلم: (من غصب شبرا من أرض طوقه من سبع أرضين)

(2)

متفق عليه، قال البغوي: قيل طوقه أي كلف حمله يوم القيامة لا طوق التقليد، وقيل تخسف الأرض به فتصير البقعة المغصوبة في حلقه كالطوق وهذا أصح، ودليل الأصحية هو قوله صلى الله عليه وسلم: (من أخذ في الأرض شبرا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين

(3)

)، ومن أدلة الغصب أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق

(4)

)، يروى بالتنوين في عرق على النعت وبعدمه على الإضافة، وفي النكت: عرق الظالم ما يحدثه في المغصوب، قال ابن شعبان: العروق أربعة: ظاهران البناء والغرس، وباطنان في الأرض الآبار والعيون. انتهى قاله الحطاب.

الثالث: قال الحطاب: قال العلماء: لم يرد في السمعيات ما يدل على تعدد الأرض إلا قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} ، وهذا الحديث. انتهى. البغوي:

(1)

البخاري، كتاب العلم، رقم الحديث 67 و 105. مسلم، كتاب القسامة، رقم الحديث 1679.

(2)

مسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث 1612. البخاري، كتاب المظالم، رقم الحديث 3195. انظر الحطاب ج 6 ص 20.

(3)

البخاري، كتاب بدء الخلق، رقم الحديث 3196.

(4)

الموطأ، كتاب الأقضية، رقم الحديث 26.

ص: 447

وحديث البخاري هذا دليل أيضا على تعدد الأرضين؛ يعني قوله صلى الله عليه وسلم: (من أخذ من الأرض شبرا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين).

وقد تقدم أن الغصب هو أخذ الشيء ظلما فهو أعم منه شرعا المشار إليه بقول ابن عرفة: أخذ مال غير منفعة ظلما قهرا لا بخوف قتال، فيخرج أخذه غيلة إذ لا قهر فيه لأنه بموت مالكه حرابة، قوله: غير منفعة أخرج به التعدي، وقوله: ظلما أخرج به أخذه عن طيب نفس، وقوله قهرا خرج به السرقة، وقوله لا بخوف قتال أخرج به الحرابة، وظاهر كلام الشارح أنه أخرج به الغيلة. قاله الخرشي.

وعرف المص الغصب بقوله: الغصب أخذ مال المراد بالأخذ الاستيلاء على المال وإن لم يحزه لنفسه بالفعل، فإذا استولى الظالم على مال شخص بأن حال بينه وبين ماله ولو أبقاه بموضعه الذي وضعه فيه ربه كان غاصبا، وقوله:"أخذ مال" كالجنس، وقوله: قهرا أخرج به ما يؤخذ لا على القهر بل على سبيل الاختيار كأخذ الإنسان وديعة ونحو ذلك فإن ذلك لا يسمى غصبا، وقوله: تعديا أخرج به ما إذا أخذ ماله من المحارب ونحوه فإنه وإن كان قهرا لكنه ليس تعديا والمتعدي هو الذي ليس له مستند شرعي.

ولما كانت هذه القيود تشمل الحرابة وتنطبق عليها أخرجها بقوله: بلا حرابة لأنها أخذ المال على وجه يتعذر معه الغوث فافترقا فأحكامها مخالفة لأحكام الغصب من حيث الجملة، وإلا فهي الغصب بلا شك. قاله الخرشي. قال الخرشي: ونحوه لعبد الباقي، وكلام المؤلف لا يشمل أخذ الأب مال ولده أو مال ولد ولده لأن له فيه شبهة، فلا يصدق عليه أنه أخذه تعديا إذ المتعدي هو الذي ليس له مستند شرعي. انتهى. أي لقوله عليه الصلاة السلام: (خير ما يملك الإنسان من كسبه وولده من كسبه

(1)

)، ولخبر:(أنت ومالك لأبيك)

(2)

وعبارة عبد الباقي: وخرج عن الحد أخذ الأب الغني مال ولده لقوة شبهته في مال ولده ولذا لم يقطع فيه كما يأتي، وفي ال تتائي عن صاحب المقدمات: يستوي في حكم الغصب المسلم والذمي البالغ والأجنبي والقريب إلا

(1)

أبو داوود، رقم الحديث 3528. النسائي ج 7 ص 240. الترمذي، رقم الحديث 1363.

(2)

ابن ماجه، كتاب التجارات، رقم الحديث 2291.

ص: 448

الوالد من ولده والجد للأب في حفيده، قيل: لا يحكم له بحكم الغصب لخبر: (أنت ومالك لأبيك). اهـ.

وأخذ الأب والجد للأب خارج بقوله: تعديا إذ المتعدي من لا شبهة له شرعية. اهـ. قوله: والجد للأب في حفيده لخ هكذا في نقل الحطاب عن المقدمات بتقييد الجد بكونه للأب، وبعضهم نقل عن المتيطى والمقدمات إطلاق الجد وهو ظاهر. اهـ. قاله البناني. قوله: ولبعضهم عن المتيطى والمقدمات إطلاق الجد لخ، قال الرهوني: فيه نظر، فإن الذي وجدته في المقدمات موافق لنقل الحطاب عنها، وما نقله عنها هو نصها بحروفه، وكذا هو عن المتيطى كما نقله عنه أبو علي وكما في اختصار ابن هارون، ثم قال: نعم الظاهر من جهة المعنى الإطلاق لمساواة الجد للأم الجد للأب في كثير من الأبواب، ومنها عدم القطع في السرقة وسيقول المص فيها:"إلا الجد ولو لأم" وهو نص المدونة. واللَّه أعلم. اهـ.

وقال الحطاب عن ابن عرفة عن المازري: أحسن ما يميز التعدي عن الغصب أن التعدي الانتفاع بملك الغير بغير حق دون قصد تملك الرقبة أو إتلافه أو بعضه دون قصد تملكه. انتهى. ابن عرفة: قلت: وحاصل مسائل التعدي الانتفاع بمال الغير دون حق فيه خطؤه كعمده والتصرف فيه بغير إذنه أو إذن قاض أو من يقوم مقامه لفقدهما، فيدخل تعدي المقارض وسائر الأجراء والأجانب. اهـ. وقال بعد كلام ما نصه: ويؤخذ منه أن من تعدى على دابة وديعة وركبها فعليه أجرتها. اهـ. ويرد على حد المص أنه غير مانع لشموله لأخذ المنافع قهرا، وهو ليس بغصب بل تعد. انظر الحطاب.

وأدب مميز يعني أن الغاصب المميز يؤدب وجوبا باجتهاد الحاكم، ويؤخذ منه ما غصبه بل ولو عفا عنه المغصوب منه لحق اللَّه لا للتحريم بل لرفع الفساد واستصلاح حاله كضرب الدابة لذلك، وقيل لا يؤدب الصبي المميز حتى يحتلم، قال ابن رشد في المقدمات: ويجب على الغاصب لحق اللَّه تعالى الأدب والسجن على قدر اجتهاد الحاكم ليتناهى الناس عن حرمات اللَّه، ولا يسقط ذلك عنه عفو المغصوب منه، فإن كان صغيرا لم يبلغ الحلم سقط عنه الأدب لحديث: (رفع القلم

ص: 449

عن ثلاث

(1)

)، فذكر فيهم الصبي حتى يحتلم، وقد قيل إن الإمام يؤدبه كما يؤدب الصغير في الكتب. اهـ. وحكى ابن عرفة القولين عن ابن رشد واللخمي وابن شعبان وغيرهم، قال ابن ناجي بعد ذكر القولين: ولم يحك ابن الحاجب غير الثاني ولم يتحقق ابن عبد السلام وجود الأول، بل قال: أظن أني وقفت عليه لبعض الشيوخ. اهـ.

قلت: ولهذا اقتصر المص على الثاني. قاله البناني. وكون أدب الغاصب لحق اللَّه لا نزاع فيه، فلذا لم يسقط عنه الأدب بعفو المغصوب منه، وما نسب للمتيطى من سقوط الأدب عنه بعفو المغصوب منه عنه وهم، فإن الذي في المتيطية هو ما نصه: يجب تعزير الغاصب بالأدب والسجن بحسب اجتهاد الحاكم ولا يسقط ذلك عفو المغصوب منه. اهـ. قاله الجنوي. قال الرهوني: وما قاله جلي وكون الأدب لحق اللَّه لا لحق المخلوق لا نزاع فيه. انتهى المراد منه. وفي الرهوني تقوية ما مشى عليه المص من قوله: "وأدب مميز" وذكر كلاما ثم قال بعده: وبه ينقض ما ذكره أبو الوليد ابن رشد ومن تبعه وإن غفلتهم عن ذلك لمن أغرب الغريب إلى آخر كلامه. واللَّه تعالى أعلم. والحديث الذي استدل به ابن رشد إنما فيه رفع الإثم، وفي الذخيرة: وإنما أدب دفعا للفساد بين العباد لا للتحريم وكذا على الزنى والسرقة وغيرهما؛ لأن العقوبات تتبع المفاسد دون التحريم تحقيقا للاستصلاح وتهذيبا للأخلاق، وكذلك البهائم تضرب إصلاحا وتهذيبا لأخلاقها. اهـ المراد منه. ومفهوم مميز عدم أدب غير المميز، وأما البالغ فيؤدب اتفاقا.

كمدعيه على صالح تشبيه في الأدب يعني أن من ادعى الغصب على شخص صالح يؤدب، والمراد بالصالح من لا يشار إليه بالغصب لا الصالح العرفي وهو القائم بحقوق اللَّه تعالى وحقوق العباد بحسب الإمكان. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي:"كمدعيه" أي كأدب مدعي الغصب على صالح، وهل هو من لا يتهم به أو من هو من أهل الخير والدين تفسيران؟ وليس المراد الصالح العرفي وهو القائم بحقوق اللَّه لخ، وقال البناني: ابن عرفة عن آخر سرقتها: فإن كان من أهل الفضل وممن لا يشار إليه بهذا أدب الذي ادعَى عليه ذلك.

(1)

أبو داود، كتاب الحدود، رقم الحديث 4403 - النسائي، كتاب الطلاق، رقم الحديث 3432.

ص: 450

قلت: ظاهره أنه يؤدب مطلقا وإن لم يكن على وجه المشاتمة، وفي النوادر: وإنما يؤدب المدعي على غير المتهم بالسرقة إذا كان على وجه المشاتمة، أما على وجه الظلامة فلا. انتهى. وقال الرهوني عند قوله:"كمدعيه على صالح": يجب تقييده بما قاله الإمام المازري في شرح مسلم عند تكلمه على حديث الحضرمي، وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم في خصمه الكندي: يا رسول اللَّه إن الرجل فاجر لا يبالي ما حلف لخ، ونقله أبو الفضل في الإكمال والأبي في إكمال الإكمال وسلمه: ونص الإكمال عنه: وكذا القول فيمن ادعى على رجل لا بأس به إن كان غصبه في حال كان فيها فاسقا ظالما إذا كان غصبه وظلمه معلوما. اهـ. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: من ادعى على رجل غصبا وهو ممن لا يتهم بذلك عوقب المدعي، وإن كان متهما بذلك نظر فيه الإمام وأحلفه، فإن نكل لم يقض عليه حتى يرد اليمين على المدعي كسائر الحقوق. اهـ.

وفي حلف المجهول قولان مبتدأ وخبره في حلف؛ يعني أن من ادعى الغصب على مجهول الحال وهو من لا يعرف بخير ولا بشر اختلف فيه على قولين: أحدهما أنه يحلف لرد دعوى المدعي، ثانيهما أنه لا يحلف. قال عبد الباقي: وفي حلف المجهول حاله وهو من لا يعرف بخير ولا شر مُدَّعًى عليه بالغصب أنه ما غصب، فإن نكل حلف المدعي واستحق، فإن نكل فلا شيء له وعدم حلفه قولان، والثاني أظهر لقاعدة أن كل دعوى لا تثبت إلا بعدلين فلا يمين بمجردها، والغصب من باب التجريح وهو إنما يثبت بعدلين. اهـ.

ابن يونس: على القول بعدم حلفه لا يلزم راميه أدب. اهـ. ويفهم منه أنه على القول بحلفه لا يلزم راميه الأدب من باب أحرى. قاله البناني. فإن ادعي على من يليق به الغصب هدد المدعى عليه وسجن لعله يخرج عين المغصوب، فإن لم يخرج شيئا حلف وبرئ، فإن نكل حلف المدعي واستحق. قاله عبد الباقي. وقال: وقولي لعله يخرج عين المغصوب أي إذا كان مما يعرف بعينه، وأما ما لا يعرف بعينه فلا فائدة في تهديده بالنظر إليه إذ لو أخرج بالتهديد ما لا يعرف بعينه لم يؤخذ منه حتى يقر آمنا. انتهى. وقال الرهوني عند قوله:"وفي حلف المجهول قولان" ما نصه: الأول قال الباجي: إنه ظاهر المذهب، ونقله عبد الحق عن بعض شيوخ بلده، والثاني عزاه الباجي لمقتضى الواضحة وبه جزم اللخمي وابن يونس والرجراجي وابن جزي في قوانينه

ص: 451

وساقه كأنه المذهب، وبه تعلم أن قول البناني: لو قال المص تردد لوافق اصطلاحه فيه نظر، بل ما قاله المص هو الصواب، ويظهر من النقول أن الثاني في كلام المص أقوى، ويؤيد ذلك كونه ظاهر المدونة ففيها آخر كتاب السرقة ما نصه: ومن ادعى على رجل أنه سرقه لم أحلفه إلا أن يكون متهما يوصف بذلك فإنه يحلف ويهدد ويسجن وإلا لم أعرض له. اهـ منها بلفظها.

قال ابن ناجي ما نصه: ظاهره أن مجهول الحال لا يحلف لأن الاستثناء بعد النفي يفيد الحصر وهو كذلك عند ابن يونس، قال: لا يمين عليه ولا أدب على المدعي ذكره في كتاب الغصب، وقال عبد الحق في النكت: يحلف. اهـ بلفظه. واللَّه أعلم. اهـ. وقال البناني: قال الرجراجي في مناهج التحصيل ما نصه: المدعى عليه بالغصب له أربعة أحوال: الأول أن يكون معروفا بالخير والصلاح وهذا لا يمين عليه، وفي أدب المدعي قولان، قال ابن القاسم في المدونة: يؤدب: وقال أشهب: لا أدب عليه، والثاني أن يكون مستور الحال هذا لا يمين عليه أيضا ولا أدب على المدعي لذلك، والثالث أن يكون ممن يشار إليه بذلك ولم يشتهر به فهذا يحلف ولا أدب على المدعي فإن نكل حلف المدعي واستحق، والرابع أن يكون معروفا مشهورا بذلك وهذا يحلف ويضرب ويهدد ويسجن، فإن تمادى على الجحود ترك فإن اعترف بعد التهديد فهل يؤخذ بإقراره أم لا؟ في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أن لا يؤخذ به ولو عين الشيء المدعى فيه لأنه مكره وهو قول ابن القاسم في المدونة في كتاب القطع من السرقة، الثاني أنه إن عين الشيء أخذ بإقراره وإن لم يعينه لم يؤخذ به، والثالث أنه يؤخذ بإقراره في كل حال من غير تفصيل بين أن يعين أولا يعين وهو قول سحنون، قال: ولا يعرف ذلك إلا من ابتلي به يريد القضاة، قال: لأن ذلك كان بوجه جائز. اهـ المراد منه.

وضمن بالاستيلاء يعني أن الغاصب المميز يضمن بمجرد الاستيلاء على الشيء المغصوب، والاستيلاء عليه هو أن يحول بينه وبين مالكه ولو أبقاه بموضعه الذي وضعه فيه ربه، ومعنى قوله:"ضمن" تعلق الضمان به لأنه لا يحصل الضمان بالفعل إلا إذا حصل فيه مفوت ولو بسماوي أو جناية غيره، وفائدة تعلق الضمان به بمجرد الاستيلاء أنه يضمن قيمته حيث حصل المفوت يوم الاستيلاء لا يوم حصول المفوت، والكلام هنا في ضمان الذات ويأتي الكلام على الغلة.

ص: 452

تنبيهان: الأول: لا شيء على مجتهد أتلف شيئا بفتواه وضمن غيره إن انتصب وإلا فقولان، وأغلظ الحاكم على غير المجتهد وإن أدبه فأهل إلا أن يكون تقدم له اشتغال فيسقط عنه الأدب وينهى عن الفتوى إذا لم يكن أهلا. قاله المازري. نقله عبد الباقي.

الثاني: قال الحطاب: سئلت عن رجل غصب بعيرا أو سرقه ثم إنه ضل منه فجعل جعلا لمن يأتيه به فأتاه به شخص فأخذه وغاب، فهل لرب الجمل مطالبته الذي أتى بالجمل بعد هروبه أم لا؟ فأجبت بأنه إذا كان عالما بأنه غصبه أو سرقه فهو ضامن وإن لم يعلم بذلك فلا ضمان عليه. اهـ المراد منه. قوله: وإن لم يعلم فلا ضمان لخ انظره، فإن فيه مخالفة للقاعدة المقررة العمد، والخطأ والإكراه في أموال الناس سواء فيجب ضمانها في زلك فلا يشترط فيه التكليف ولا العلم، وقوله:"وضمن" فاعل ضمن المميز كها قررت، وقوله:"وضمن بالاستيلاء" كان المغصوب عقارا أو غيره كما هو ظاهره، قال البناني: ظاهره أنه لا فرق في ذلك بين العقار وغيره وهو كذلك خلافا لابن الحاجب في أن غير العقار لا يتقرر فيه الضمان بمجرد الاستيلاء بل حتى ينقل وإلا فلا يضمن وسلمه شارحوه، واعترضه ابن عرفة بأن المذهب ليدى كذلك بل مجرد الاستيلاء يوجب الضمان مطلقا، فلو غصب أمة كائنة ببقعة فاستولى عليها بالتمكن من التصرف فيها دون ربها ضمنها وروايات المذهب واضحة بهذا، قال ابن غازي: وعبارة ابن الحاجب وابن شأس منسوجة على منوال وجيز الغزاليِّ في هذا المحل وكلام المص سالم من ذلك. وقول عبد الباقي: وإلا فقولان لخ أي وإلا يكن منتصبا للفتوى وهو مقلد، ففي ضمانه قولان وهما جاريان على الخلاف في الغرور بالقول والمشهور فيه عدم الضمان. اهـ.

وقال المواق: ابن عرفة: مجرد الاستيلاء هو حقيقة الغصب يوجب الضمان، وقال أيضا: مجرد حصول المغصوب في حوز الغاصب يوجب ضمانه بسماوي أو جناية غيره أو كان دارا فانهدمت، قال مالك: من غصب عبدا فمات من وقته بغير سببه ضمنه، وقال ابن القاسم فيمن غصب دارا فلم يسكنها حتى انهدمت غرم قيمتها. ابن عبدوس: وقاله أشهب وذلك كله في العروض وغيرها. اهـ.

ص: 453

وإلا مركب من إن الشرطية ولا النافية أي وإن لم يكن الجاني مميزا فتردد أي طريقتان: طريقة تحكي الخلاف في ضمانه وعدمه، وطريقة تحكي الخلاف في سنة الذي يضمن فيه، قال عبد الباقي عند قوله "فتردد" ما نصه: أي طريقان طريقة تحكي الخلاف فيما يضمنه هل المال في ماله والدية على عاقلته إن بلغت الثلث، وإلا ففي ماله؟ واستظهره المص أو لا يضمن المال، وإنما تكون الدية على عاقلته إن بلغت الثلث، أو لا يضمن مالا ولا دية ويكون هدرا والمجنون كذلك، وطريقة تحكي الخلاف في حد سنة الذي يضمن فيه، فقيل ابن سنتين وقيل ابن سنة وقيل غير ذلك إلا ابن شهر أو بنته فلا يضمن. هذا تحرير محل التردد. وبعد ذلك لا وجه لذكره هنا؛ لأن المذهب أن الضمان للمال في ماله والدم في ماله أيضا إن لم يبلغ الثلث، فإن بلغ الثلث فعلى عاقلته. والتمييز لا يحد بسنٍّ وهو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب، والمراد بفهم الخطاب أنه إذا كلم بشيء من مقاصد العقلاء فهمه وأحسن الجواب عنه لا أنه إذا دعي أجاب، وقد اقتصر أول الحجر على ما يفيد أن الصغير يضمن ما أفسد إن لم يؤمن عليه وظاهره مميزا أم لا، ولفظ أفسد ربما يقتضي التمييز وعليه اقتصر البرزلي فإن أمِّنَ فاقتصر في آخر الوديعة على أنه لا يضمن، حيث قال:"وإن أودع صبيا أو سفيها" لخ. اهـ المراد منه.

وقولي: وإن لم يكن الجاني مميزا تبعت فيه عبد الباقي: قال وإنما قلت وإن لم يكن الجاني مميزا ولم أقل وإن لم يكن الغاصب مميزات لأن غير المميز لا يتصور منه غصب. اهـ. وقد مر الكلام على ضمان غير المميز في الحجر فراجعه إن شئت.

كإن مات مثال للمفوت المقدر بعد قوله: "وضمن بالاستيلاء" أي حيث حصل مفوت فمثل له بقوله: كإن مات وما عطف عليه؛ يعني أن الغاصب يضمن بالسماوي وغيره، فلذلك لو غصب شيئا حيا عبدا أو دابة فمات بسماوي وأحرى بغيره فإنه يضمن لأنه يتعلق ضمانه للمغصوب بالاستيلاء، قال عبد الباقي: وأشار بقوله كإن مات المغصوب عند الغاصب إلى أن الغاصب يضمن بالسماوي. اهـ. ونحوه للخرشي، قال: وهذا يدل على أن معنى قوله: "وضمن بالاستيلاء" خوطب بالغرم بالاستيلاء. انتهى.

ص: 454

أو قتل عبد قصاصا هذا أيضا من أمثلة المفوت كما مر؛ يعني أن من غصب عبدا فقتل شخصا بعد الغصب فقتل به قصاصا فإن الغاصب يضمنه لحصول المفوت فيه، ولو قتله قبل الغصب فقتل به قصاصا لم يضمن كما قيد به ال تتائي المص، قال البناني: ما قيد به ال تتائي المص من كون العبد جنى بعد الغصب، قال مصطفى: هو الذي قرر به ابن فرحون كلام ابن الحاجب وهو ظاهر؛ إذ لو كانت الجناية عند المغصوب منه فلا وجه لضمان الغاصب، ففي النوادر عن محمد: لو جنى العبد قبل الغصب جناية وبعده أخرى على رجلين، فقال أشهب: يخير ربه فإن أسلمه لهما تبع الغاصب بنصف قيمته يوم الغصب إلا أن تكون أكثر من أرش الجناية على الثاني، وإن شاء فداه بالأرشين وتبع الجاني بالأقل من أرش الجناية ونصف قيمته يوم الغصب. انتهى، ونقله ابن عرفة فهذا يدل على أن الجناية الكائنة عند المغصوب منه لا يؤاخذ بها الغاصب، فتوقُّفُ الزرقاني تبعا للأجهوري وأحمد في القتل السابق على الغصب، هل يضمنه أم لا؟ قصور. اهـ.

قوله: وتبع الجاني أي الغاصب. قاله مقيده عفا اللَّه تعالى عنه. قال عبد الباقي: ومثل القصاص الحرابة والارتداد ونحوهما، وكذا يضمن ما دون النفس إذا كان القصاص ينقص القيمة، ولو أبدل عبد برقيق كان أولى. اهـ.

أو ركب يعني أن الغاصب إذا ركب الدابة فعطبت فإنه يضمنها، واستشكل ذكره للركوب هنا لأن كلامه هنا في المفيت للمغصوب بعد تقرر الضمان بالاستيلاء والركوب ليس بمفيت، فإن عنى أن الركوب به يتقرر الضمان فقد ذكره في غير محله مع مناقضته لقوله: وضمن بالاستيلاء. قاله ابن غازي. فمجرد الاستيلاء سواء كان بالركوب أو غيره موجب لتعلق الضمان فلا فائدة في ذكر الركوب، وهذا يرد جواب عبد الباقي الأول، ويرد جوابه الثاني بأنها إذا عطبت بعد الركوب فلزوم القيمة إنما هو بالعطب لا بالركوب. انظر البناني. وقال الخرشي: ونحوه لعبد الباقي، ولا شك أن مدخول الكاف في قوله:"كإن مات" وما عطف عليه، منه ما هو مثال للمفيت للمغصوب، ومنه ما ليس من الغصب وإنما هو مشارك له في الضمان كجحد الوديعة والأكل بلا علم وفتح قيد العبد والفتح على غير

ص: 455

عاقل وغير ذلك، فتكون الكاف بالنسبة لبعض هذه الأمور كالموت والقتل للتمثيل، وبالنسبة لبعضها للتشبيه فهو من باب استعمال المشترك في معنييه عند من أجازه. اهـ.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: وبهذا أي بجعل الكاف للتشبيه في قوله: "أو ركب" يندفع الإشكال في قوله: "أو ركب" ويكون معناه أن من تعدى على دابة فركبها فإنه يضمن منفعتها أي يكون عليه الكراء للركوب، فيكون الركوب موجبا لضمان المنفعة والحال أنها لم تهلك لأن الكاف فيه للتشبيه على ما سبق عن الخرشي، وهذا الذي قلته في قوله:"أو ركب" صرح به الخرشي في كبيره عن بعض الشراح. واللَّه تعالى أعلم.

أو ذبح يعني أن الغاصب إذا ذبح الشيء المغصوب فإنه يضمن قيمته لربه، وكلام المص كالصريح في أن الذبح مفيت، فليس لرب الشيء المغصوب حينئذ إلا قيمته ويحل للغاصب أكله حينئذ وهو للجلاب لكنه ضعيف، قال عبد الباقي عند قوله:"أو ذبح" ما نصه: والمذهب أنه ليس بمفيت. اهـ. قوله: والمذهب أنه ليس بمفيت، قال البناني: أي خلاف ما يقتضيه كلام المص حيث عده في المفوتات تبعا لابن الحاجب وابن شأس، وقبله ابن عبد السلام وأصله لابن الحاجب، وتعقب ذلك ابن عرفة قائلا: لا أعرفه نصا. اهـ. زاد الرهوني بعد قوله نصا ما نصه: بل تخريجا يعني على ما روي عن ابن القاسم أن طحن القمح المغصوب مفيت وهو منتقد لأن القمح مثله يقوم مقامه بخلاف الشاة المذبوحة مثلا، ولأن الطحن ينقل عن التسمية بخلاف الذبح، ونص ابن الجلاب: من غصب شاة فذبحها ضمن قيمتها وكان له أكلها. اهـ. وظاهره يقتضي أن الذبح مفيت، وما نقله الحطاب يدل على أن المذهب في ذبح الشاة تخيير ربها في أخذها مذبوحة دون أرش أو تركها وأخذ قيمتها. اهـ.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: وحاصل ما نص عليه غير واحد أن المعتمد فيما ذبح أنه لا يحل أكله، ولا يجوز شراؤه لأنه لم يفت بالذبح وأن ربه مخير بين أخذه مذبوحا ولا شيء له معه وتركه وأخذ قيمته، وقول غير واحد: إن المذهب أن لربها أخذها مذبوحة مع أرش نقصها أو أخذ قيمتها خلاف المعتمد، وإنما المعتمد ما ذكرته لك من أنه إذا أخذها مذبوحة لا يأخذ معها شيئا هذا هو الذي حصلته بعد جهدي في البحث عن ذلك وهو للخمي، ونحوه في النوادر

ص: 456

وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى. قاله البناني. الرهوني عن اللخمي: وهو قول مالك وأصحابه وأخذ به سحنون في المجموعة وقاله ابن القاسم، وإنما القائل إنه يخير في أخذها مذبوحة مع نقصها أو قيمتها محمد بن مسلمة فقط، والأول المعتمد. قاله أشهب أيضا. ابن المواز: وهو أحب إلي، وقد علمت أن القول بأن الذبح مفيت مخرج وقد مر نقد ذلك التخريج. واللَّه تعالى أعلم.

أو جحد وديعة يعني أن من جحد وديعة ثم أقر بها بعد ذلك أو قامت عليه بها بينة ثم ادعى ردها أو تلفها وأقام بذلك بينة، فإنه يضمنها ولا تقبل دعواه ولا بينته والكاف في هذا للتشبيه، وقد مر هذا في باب الوديعة. ابن رشد: هذا بين إن ادعي عليه الغصب أو الإيداع فأنكر ثم ماتت الدابة فأقام المدعي البينة بعد موتها بما ادعاه أو أقر بذلك ولو تداعيا فيها ولم يدع أحدهما غصبا ولا إيداعا فماتت ثم أثبت أنها له ولم يثبت غصبا ولا إيداعا لم يلزمه ضمانها باتفاق، ولو ادعي عليه الغصب أو الإيداع فأنكر ثم ماتت فأقام البينة أنها له ولم يقم البينة على ما ادعاه من الغصب أو الإيداع لتخرج ذلك على قولين فقف على افتراق هذه الوجوه الثلاثة. نقله البناني.

أو أكل بلا علم يعني أن المغصوب إذا وهبه الغاصب أو بعضه لشخص فأكله أو أكل بعضه والحال أن الموهوب له لم يعلم بأنه مغصوب، فإنه يضمن لربه بقدر ما أكل كما أنه يضمن له بقدر ما وُهِبَ له، قال عبد الباقي: أو أكل شخص مغصوبا وهبه له غاصب بلا علم من الآكل بأن ما وهب له غصب وبدِّئ بغاصب، فإن أعسر فعلى الموهوب قدر أكله أو ما وهب له فقط، فإن اعسر اتبع أولهما يسارا ومن أخذ منه شيء لا يرجع به على الآخر وأما بعلم فهو والغاصب سواء، وسيذكر المص أكل مالكه ضيافة. اهـ. وقوله:"أو أكل بلا علم" سواء أكله بهبة أو ضيافة والكاف في هذا للتشبيه.

أو أكره غير على التلف يعني أن من أكره غيره على إتلاف شيء فإن المكره والمكره يضمنان ذلك الشيء، ويقدم المباشر لإتلافه في الضمان فلا يتبع المكره بالكسر إلا إذا كان المكره بالفتح عديما، والحاصل أن المتسبب والمباشر يضمنان لكن يقدم المباشر فلا يضمن المتسبب إلا إذا أعدم المباشر، وأما لو أكره غيره على أن يأتيه بمال الغير فسيان في الضمان من غير ترتيب، قال عبد الباقي: أو أكره شخص شخصا على التلف ظاهره أن الضمان على المكره بالكسر والمذهب أنه على كل

ص: 457

منهما، ولكن المكره بالفتح مقدم لمباشرته على المكره بالكسر لتسببه فلا يتبع إلا أن أعدم المكره بالفتح، ومفهوم على التلف أنه لو أكرهه على أن يأتيه بمال الغير فسيان في الضمان من غير ترتيب على المذهب. اهـ بالمعنى.

قوله: ولكن المكره بالفتح مقدم، قال البناني: هذا هو الذي في النوادر عن سحنون ونقله ابن عبد السلام والتوضيح وابن عرفة، وبه قرر الحطاب، وقال إنه المذهب فحَمْلُ ال تتائي المص على ظاهره ليس بصواب، وقوله: فسيان في الضمان لخ، قال البناني: هذا الذي نص عليه سحنون وفرق ابن عرفة بينهما بأن هذه كلاهما فيها مباشر بخلاف الأولى، فلم يقع من المكره بالكسر إلا الإكراه فلذلك قدم عليه المباشر. اهـ.

قال مقيده عفا الله عنه: والظاهر أن مثل هذه التي هما سيان فيها المسألة المشتهرة عند العوام، سواء الكاعم والناحر لأنهما مباشران هذا بعطفه الرقبة وهذا بنحره، كما أن هذه باشر أحدهما بالإتيان بالمال والآخر باشر بالأخذ من عنده أو بالإتلاف. اهـ كلام مقيده. واللَّه تعالى أعلم.

تنبيهات: الأول: قال الحطاب: قال في المسائل الملقوطة: العمد والخطأ والإكراه في أموال الناس سواء يجب ضمانها وهو من خطاب الوضع، فلا يشترط فيه التكليف ولا العلم، فلا فرق في الإتلاف بين الصغير والكبير والجاهل والعالم ولا يلتفت للضرب والحبس وغير ذلك من أنواع التهديد والإكراه في مال نفسه ينفعه الرجوع فيه. انتهى.

الثاني: قال الحطاب: قال النووي: اتفق العلماء على أنه لو جاء ظالم يطلب إنسانا مختفيا ليقتله أو يطلب وديعة لإنسان ليأخذها غصبا فسأل عن ذلك وجب على من علم إخفاؤه وإنكاره العلم به. انتهى. وذكر الباجي في باب جمل من الفرائض أن الكذب الواجب هو الذي لإنقاذ مسلم أو ماله. اهـ.

الثالث: قال المواق: سئل سحنون في نوازله عن رجل من العمال أكره رجلا أن يدخل بيت رجل يخرج منه متاعا يدفعه إليه فأخرجه إليه ودفعه إليه ثم عزل ذلك العامل الغاصب، فللمغصوب منه طلب ماله ممن شاء منهما فإن أخذه من المباشر فله الرجوع به على من أكرهه، ولهذا المباشر أن يطلب العامل إن كان المغصوب منه غائبا؛ لأنه يقول: أنا المأخوذ به إذا جاء صاحبه. ابن

ص: 458

رشد: في هذا نظر ومقتضى النظر أنه يوقف لصاحبه ولا يمكن منه هذا المباشر. ابن عرفة: الأظهر تمكينه منه. اهـ. قوله في المباشر يرجع على من أكرهه ظاهر لاستقرار المال بيد المكره وتمكنه من الانتفاغ به دون المكره بالفتح، وهذا كالصريح في أنه إن أخذ من المكره بالكسر لا يرجع به على المكره بالفتح. وأما مسألة الاستظهار فالظاهر أن من أغرم منهما رجع على صاحبه بما ينوبه لاشتراكهما في الانتفاع فهما كاللصوص. وقد علمت تراجعهم. قاله مقيده عفا اللَّه تعالى عنه. واللَّه تعالى أعلم.

وقال المواق: سحنون: من أكره على رمي مال رجل في مهلكة ففعل ذلك فأذن ربه طائعا فلا شيء عليه ولا على من أكرهه، وإن أكره ربه على الإذن فالفاعل ضامن فإن كان عديما فالضمان على الذي أكرهه، ولا رجوع له على الفاعل إذا أيسر. اهـ المراد منه. وفي المبسوطة عن عبد اللَّه بن عبد الحكم وأصبغ أن المكره المأمور لا شيء عليه، ونحوه لابن سحنون، قال: وإن أكرهه بقطع أو قتل فهو في سعة أن يأخذ ويضمن الآمر دون المأمور، وإن أبى أن يأخذ حتى قتله فهو في سعة. قاله الشارح.

أو حفر بئرا تعديا يعني أن من حفر بئرا تعديا كما لو حفرها في أرض غيره أو طريق المسلمين فهلك فيها شيء فإنه يضمنه والكاف في هذا للتشبيه، ومفهوم قوله:"تعديا" أنه لو حفرها في ملكه بلا قصد ضرر فهلك فيها شيء فإنه لا يضمنه، قال عبد الباقي: أو حفر بيرا تعديا بأن حفرها بأرض غيره أو بطريق المسلمين فإنه يضمن. قاله ال تتائي. والظاهر أن حفرها بلصق الطريق بلا حائل كحفرها بها، فلو حفرها لا بقصد معين لم يضمن. اهـ. أي ولا بقصد ضرر كما يدل عليه كلام المص في باب الجراح، فمن التعدي حفرها بملكه لقصد ضرر، كوقوع سارق بها وإن لم يقصد هلاكه، وكوقوع محترم غير آدمي فإن وقع بها آدمي ضمن فيما يظهر في النوعين المذكورين. اهـ كلام عبد الباقي. والظاهر قبول قوله مع يمينه أنه لم يقصد ضررا إن لم تقم قرينة على خلاف ما ادعاه؛ لأن القصد لا يعلم إلا من جهته. انظر الرهوني.

وقدم عليه المُرَدِّي يعني أن من حفر بئرا تعديا ورَدَّى فيها شخص شيئا فتلف فإن المرَدِّي يقدم في الضمان على حافر البئر تعديا لأنه مباشر والحافر متسبب والمباشر مقدم على المتسبب كما مر،

ص: 459

وعلى المص درك لأن الضامن إنما هو المردي كما تراه قريبا. إلا المعين يعني أن محل تقديم المردي في الضمان إذا لم يكن الحافر تعديا قصد ضرر شخص معين، وأما إن قصد معينا وردَّى ذلك المعين شخص آخر في البئر، فإن الحافر والمردي سيان من غير ترتيب، فإن كان المردى بفتح الدال إنسانا مكافئا للحافر والمردي فالقصاص عليهما، وإن كان غير إنسان ضمناه معا كما في الشارح، وهو يفيد أنه إذا كان أحدهما مكافئا والآخر غير مكافئ كما إذا حفرها حر مسلم لعبد معين ورداه عبد مثله فإنه يقتل العبد المردي ولا يقتل الحافر، وهل عليه شيء من قيمة العبد أم لا؟ ويجري مثل هذا في المتسبب مع المباشر، وفي الجماعة إذا قتلوا شخصا وكان بعضهم مكافئا والآخر غير مكافئ. قاله الخرشي. ونحوه لعبد الباقي. وقال: وقيد قوله: "فسيان" بما إذا علم المردي بقصد الحافر وإلا اقتص من المردي فقط كما نقله المواق عن ابن عرفة. انتهى.

وقال عبد الباقي: فإن كان حفرها حر مسلم لعبد معين ورداه عبد مثله قتل المردي دون الحافر وعليه الأدب. اهـ. وقوله: "وقدم عليه المردي" قال البناني: قال ابن عاشر: لفظ التقديم يشعر بأن للحافر نصيبا في الضمان عند عدم المردي وليس كذلك أي فالذي يتعلق به الضمان هو المردي خاصة، ولا ضمان على الحافر سواء كان المردي موسرا أو معسرا فليس كالكره بالكسر ولعله لأن السبب هنا أضعف. اهـ. ولهذا قال الزرقاني: وقدم بمعنى ضمن لأنه مباشر دون الحافر، وكذا قال ابن الحاجب تبعا لابن شأس، ابن عرفة: وكذا نقله الطرطوشي وعارضه ابن عبد السلام بتسوية سحنون بين المكره غيره على أن يخرج له مال رجل من بيته ويدفعه له مع أن الآمر المكره متسبب والمأمور مباشر، وأجاب بأن التسبب بالإكراه أشد من التسبب بالحفر، قلت: إنهما في مسألة سحنون مباشران معا ضرورة مباشرة المكره أخذ المال من مخرجه واستقراره بيده، والآخذ من الغاصب العالم بالغصب غاصب. اهـ.

وقول عبد الباقي: وقيد قوله فسيان بما إذا علم لخ. قال البناني: لم يذكر ابن عرفة هذا الكلام في باب الغصب، وإنما ذكره في باب الجنايات ونصه: ابن شاس: ومن حفر بيرا ليقع فيها رجل معين فوقف الرجل على شفيرها فرداه فيها غير الحافر، فقال القاضي أبو الحسن: يقتلان معا للاعتدال، وقال القاضي أبو عبد اللَّه بن هارون: يقتل المردي دون الحافر تغليبا للمباشر، قلت:

ص: 460

الأظهر إن علم المردي بتقدم فعل الحافر وقصده قتلا معا كبينة الزور مع القاضي العالم بزورها وإلا قتل وحده على رواية ابن القاسم في بينة الزور. انتهى.

أو فتح قيد عبد ليلا يأبق يعني أن العبد إذا قيد ليلا يأبق، ففتح شخص قيده فأبق العبد عقب فتح قيده أو بعده بمهلة فإن الفاتح يضمن قيمته لربه، قال عبد الباقي: أو فتح قيد عبد قيد ليلا يأبق فأبق عقب الفتح أو بعده بمهلة ضمن قيمته لربه، فمتعلق الجار والمجرور فعل مقدر لا قيد مفتوح القاف المذكور؛ لأنه اسم آلة بدليل تعلق الفتح به فلا يصح تعلقه بما ذكر كذا قرر، ويرده ما صرحوا به من أن الجار والمجرور يتعلق باسم العين كالآلة هنا، ومثلوه بنحو:

أسد علي وفي الحروب نعامة

. . . . . . . . . . . . . .

ومفهوم، "ليلا يأبق" أنه لو فتح قيد عبد قيد لنكاله لم يضمن وهو كذلك، والظاهر أن القول لسيده أنه قيد لخوف إباقه لا قول الفاتح إنه لنكاله، ولم تقم قرينة على صدق واحد منهما لأنه لا يعلم إلا من جهته، ومثل ما ذكره المص: من سقَى دابة واقفة ببير لتشرب فذهبت ولو لم يسقها لم تذهب لوجوب سقيها عليه وحفظها لربها، كما يشملها قوله فيما مر: كترك تخليص مستهلك من نفس أو مال بيده ولو فتح قيد حر وذهب بحيث يتعذر رجوعه ضمن ديته، كما يأتي في قوله:"كحر باعه وتعذر رجوعه" من أنه لا مفهوم لباعه بل حيث أدخله في أمر يتعذر رجوعه فإنه يضمن ديته. انتهى. وقال المواق من المدونة: من حل عبدا من قيد قيد به ليلا يأبق فذهب العبد ضمن، ومن حل دواب من مرابطها فذهبت ضمنها، كالسارق يدع باب الحانوت مفتوحا وليس فيه ربه فيذهب ما في الحانوت فالسارق يضمنه. انتهى.

أو على غير عاقل يعني أن من فتح بابا مغلقا على حيوان غير عاقل فذهب فإنه يضمن لتعديه بفتحه، قال المواق من المدونة: من فتح باب قفص فيه طير فذهب الطير ضمن، إلا بمصاحبة ربه يعني أن محل ضمان الفاتح على غير العاقل إنما هو حيث لم يكن معه ربه، وأما إن كان ربه مصاحبا له فإنه لا ضمان على الفاتح ولو كان ربه نائما، قال المواق من المدونة: من فتح باب دار فيه دواب فذهبت، فإن كانت الدار مسكونة فيها أهلها لم يضمن، وإن لم يكن فيها أربابها

ص: 461

ضمن ولو كان فيها ربها نائما لم يضمن، وكذلك السارق يدع الباب مفتوحا وأهل الدار فيها نيام فلا يضمن ما ذهب بعد ذلك، وإنما يضمن إذا ترك البيت مفتوحا ليس أرباب البيت فيه. اهـ. وقوله:"أو على غير عاقل إلا بمصاحبة ربه" هو لابن القاسم في المدونة، وقال أشهب: إن كانت الدواب التي في الدار مسرحة غير مربوطة ضمنها وإن كان رب الدار فيها واختاره جماعة. قاله الشارح والتوضيح.

تنبيهان: الأول: قال عبد الباقي: لو قال سد الباب على بهيمتي فقال قد فعلت ولم يفعل تعمدا للترك حتى ذهبت لم يضمن؛ إذ لا يجب عليه امتثال أمره وحفظ مال الغير إنما يجب حيث لم يكن ربه متمكنا من حفظه، وقوله: فعلت من الغرور القولي، ولو أدخل أجنبي دابة دار صاحبها فقال له ربها أغلق عليها فلم يفعل ضمن إلا أن يكون ناسيا. اهـ.

الثاني: قال عبد الباقي عند قوله: "إلا بمصاحبة ربه" ما نصه: وهذا في غير الطير وأما هو فيضمن بفتحه عليه ولو صاحبه ربه غير نائم، والظاهر أن المراد بمصاحبته في مسألة المص أن يكون بمكان هو مظنة شعوره بخروجه وإن بعد عنه يسيرا لا الملاصقة فقط. اهـ.

أو حرزا يعني أن من فتح حرزا أو ثقبه فأخذ آخر منه متاعا فالضمان على الفاتح أو الثاقب والآخذ إلا بمصاحبة ربه، فحذف من هذا لدلالة ما قبله عليه، وبقولي تبعا لغيري فأخذ آخر منه متاعا علم أن هذا غير مكرر مع قوله:"أو على غير عاقل"، وإن كان في كل منهما فتح لكن الأول على حيوان غير عاقل فذهب وهنا فتحه فلم يذهب ما فيه بل أخذه الغير.

تنبيه: لو فتح زقا فتبدد ما فيه ضمنه لربه. قاله الخرشي. وظاهره ولو حضر ربه وهو ظاهر. واللَّه تعالى أعلم.

المثلي ولو بغلاء بمثله "المثلي" معمول "ضمن" من قوله: "وضمن بالاستيلاء" يعني أن من غصب مثليا فإنه يضمنه بمثله، ولو كان غصبه وقت غلاء وهو وقت القضاء رخيص، فإذا غصب إردبا وهو حين الغصب يساوي عشرين درهما وحين القضاء يساوي عشرة دراهم فإنما له عليه إردب، وقوله:"ولو بغلاء" هو المشهور، ورد بلو القول بلزوم قيمته وقت الغلاء، وقوله:"بغلاء" أي ولو غصبه بغلاء أي بوقت غلاء فالباء بمعنى: في، أو مع غلاء فهي للمصاحبة، وقوله:"بمثله" قال

ص: 462

الخرشي: متعلق "بضمن"، وقال عبد الباقي: متعلق بمقدر أي وحكم عليه به زمن الرخاء بمثله، وقوله:"بمثله" هذا إذا تعيب أو تلف احترازا عما إذا كان المثلي المغصوب موجودا معه حين القضاء وأراد ربه أخذه وأراد الغاصب إعطاء مثله فلربه أخذه. قاله غير واحد.

وقال البناني: أشار بلو لما ذكره في التوضيح، ونصه: أشار اللخمي إلى أن القول بتغريمه القيمة مخرج على أن الغاصب يغرم أعلى القيم. انتهى. وقول غير واحد: فلربه أخذه، قال البناني: أي لما نقله في التوضيح عن ابن بشير من أنهم اتفقوا على أن الدنانير والدراهم تتعين بالنسبة إلى من كان ماله حراما أو كان في ماله شبهة، خلافا لما نقله الجلاب عن ابن القاسم أن للغاصب أن يرد مثلها مع وجودها، قال بعضهم: لم يقل هذا ابن القاسم في الغصب، وإنما قاله في البيع لأن البيع بها واقع على صفة لا تراد بعينها، وأما المغصوب منه فله غرض في أخذ ماله لأنه حلال ومال الغاصب حرام، وذكر الشيخ سليمان البحيري أن ما قاله الجلاب عن ابن القاسم خلاف المشهور. انظر الحطاب. والذي لابن القاسم في البيع هو ما في كتاب السلم فيمن أسلم في طعام ثم أقالك قبل التفرق ودراهمك في يده فأراد أن يعطيك غيرها فله ذلك، وإن كنت شرطت عليه استرجاعها بعينها. اهـ.

قال الحطاب بعد جلب كلام ما نصه: فعلم مما تقدم أنه ليس للغاصب أن يحبس المثلي حيث لم يحصل فيه مفوت ويدفع مثله. واللَّه أعلم. اهـ. وقال الحطاب: قال ابن رشد في أول كتاب الجامع من نوازله: إذا كان الحرام قائما عند آخذه لم يفت رد بعينه إلى ربه ومالكه، وسواء كان للغاصب مال حلال أو لم يكن ولا يحل لأحد أن يشتريه إن كان عرضا ولا يبايعه فيه إن كان عينا ولا يأكله إن كان طعاما، ولا يقبل شيئا منه هبة ولا يأخذه منه في حق كان له عليه، ومن فعل شيئا من ذلك وهو عالم فسبيله سبيل الغاصب في جميع أحواله، وكذلك إذا فات عند الغاصب ولم يذهب بأمر من السماء وبجناية غير غاصب عليه؛ لأن ذلك لا يقطع تخيير صاحبه في أخذه مثل أن يكون شاة فيذبحها أو بقعة فيبنيها دارا أو ثوبا فيخيطه أو يصبغه وما أشبه ذلك، ولوأفاته إفاتة تلزمه بها القيمة أو المثل فيما له مثل وسقط خيار ربها عند بعض العلماء كالفضة يصوغها حليا والصفر يفعل به قدحا والخشب يصنع منه توابيت أو أبوابا والصوف

ص: 463

والحرير والكتان يعمل من ذلك ثيابا وما أشبه ذلك لما جاز أيضا لأحد أن يشتريه ولا أن يستوهبه، بخلاف من يقول من العلماء إن لرب هذه الأشياء أن يأخذ الفضة مصوغة والصفر معمولا والخشب مصنوعا والثياب منسوجة دون شيء يكون عليه للغاصب، لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرق ظالم حق

(1)

). انتهى.

وصبر لوجوده يعني أن المثلي المغصوب إذا تعذر لعدم إبانه ونحوه فإن المغصوب منه يصبر إلى أن يوجد ذلك المثلي، قال المواق: ابن عرفة: لو فقد المثلي حين طلبه، فقال ابن القاسم: ليس عليه إلا مثله، اللخمي يريد أنه يصبر حتى يوجد. أشهب: يخير الطالب في الصبر أو القيمة. ولبلده يعني أن رب المثلي إذا وجد الغاصب بغير بلد الغصب فإنه يصبر وجوبا حتى يرجع لبلد الغصب، فمن غصب بمكة من رجل قمحا فإنما يأخذ المغصوب منه مثله بمكة لا بمصر مثلا حيث لم يكن المثلي موجودا مع الغاصب، بل ولو صاحبه أي ولو كان الغاصب مصاحبا للمثلي المغصوب بعينه فلا يلزم بدفعه للمغصوب منه، ولا يعارض هذا ما قدمته من أن لرب المثلي أن يأخذه إذا وجده بعينه؛ لأن ذلك فيما إذا لم يحصل مفوت، وهنا حصل فيه مفوت وهو نقله بناء على أنه فوت، ورد المص بلو قول أصبغ وأشهب. ابن عرفة: ومن لقي من غصبه طعاما بغير بلد غصبه والطعام معه ففي كون الواجب مثله في بلد غصبه وتخييره في أخذه أو مثله بالبلد، ثالثها إن لقيه في بلد بعيد عن بلد غصبه فالأول وإلا فالثاني لابن رشد عن ابن القاسم مع سماعه وسماع أصبغ أشهب وقوله. اهـ. قاله الرهوني.

وقال الشارح عند قوله "ولو صاحبه": وإلى هذا ذهب ابن القاسم في المدونة، وروى محمد عن أشهب أن ربه مخير بين أخذه وأخذ الغاصب به في مكان الغصب، وكذلك روى أصبغ عن أشهب في الموازية والعتبية، وقال أصبغ: إن كان بعيدا فالقول ما قال ابن القاسم، وإن كان قريبا أخذه، وعلى قول ابن القاسم يجوز أن يتفق معه على أخذ الطعام بعينه أو مثله بموضع نقله فيه أو يأخذ فيه ثمنا بمنزلة بيع الطعام القرض قبل قبضه. وقاله أصبغ. وعن مالك منع أخذ طعام مخالف للطعام المنقول، وكذلك قال العراقيون: إن حكم طعام الاستهلاك حكم طعام

(1)

الموطأ، كتاب الأقضية، رقم الحديث 26.

ص: 464

البيع. اهـ كلام الشارح. وقال عبد الباقي: ولو صاحبه لأن نقله فوت يوجب غرم مثله لا رد عينه، وظاهره وإن لم يكن فيه كلفة بخلاف القوم فإنما يكون نقله فوتا إن احتاج لكبير حمل كما سيقول:"ومعه أخذه إن لم يحتج لكبير حمل" فإن احتاج لم يجب غرم قيمته قطعا، بل يخير ربه كما يأتي والمبيع فاسدا مخالف للمغصوب إذ قدم أنه يفوت بنقل فيه كلفة مثليا أو مقوما، ويجوز للمغصوب منه أن يأخذ عن المثلي الطعام ثمنا على المذهب؛ لأن طعام الغصب يجري مجرى طعام القرض، ويشترط التعجيل ليلا يكون فسخ دين في دين. قاله بعض الشراح. ونظر فيه الأجهوري.

واعلم أن فوت المثلي يوجب غرم مثله وفوت المقوم لا يوجب غرم قيمته بل يوجب التخيير. اهـ.

قوله: وظاهره وإن لم يكن فيه كلفة، قال الرهوني: هو ظاهر كلام ابن عرفة السابق وابن الحاجب وغيرهما، لكن قال في التوضيح ما نصه: فرأى ابن القاسم في المدونة أن النقل فوت لأن الغاصب غرم على حمله مالا. اهـ. ويفيد أن ما لا كلفة فيه ولا أجرة لا يفوت، وقول عبد الباقي، ونظر فيه الأجهوري معناه أنه نظر في الجواز وعدمه، لا أنه نظر في كلام البعض، ونصر الأجهوري: وانظر إذا فات المثلي وهو طعام هل يجوز أن يأخذ عنه غير مثله ولا يكون من باب بيع الطعام قبل قبضه لأن فواته بمنزلة تلفه؟ أم لا؛ لأن فواته ليس بمنزلة تلفه؟ انتهى. وفي توقفه في ذلك مع شهرة المسألة حتى إنها مذكورة في المواق ما لا يخفى، ففي ابن يونس عن ابن القاسم: إنما له أخذه بمثله حيث غصبه ولو اتفقا على أن يأخذ عينه أو مثله بموضع نقله أو يأخذ فيه ثمنا جاز بمنزلة بيع الطعام القرض قبل قبضه.

(1)

وقاله أصبغ.

وروى ابن القاسم في المجموعة والعتبية: لا يجوز أخذه منه طعاما يخالفه في جنس أو صفة لأنه طعام بطعام مؤخر. انتهى. وفي المدونة ما نصه: ومن غصب من رجل طعاما أو إداما فاستهلكه فعليه مثله بموضع غصبه، فإن لم يجد هناك مثلا له لزمه أن يأتي بمثله إلا أن يصطلحوا على أمر جائز. انتهى. قال ابن ناجي: وقصد بقوله: إلا أن يصطلحوا لخ أن يعطيه دنانير أو دراهم أو عروضا أو طعاما من غير جنسه ولو كان أكثر أو أقل أو من جنسه مثل كيله إن كان ذلك

(1)

في الأصل: قرضه، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 217.

ص: 465

معجلا ليلا يدخله فسخ الدين في الدين، قال: وقال أبو إبراهيم: قولها يدل على أن طعام الاستهلاك كطعام القرض في بيعه قبل قبضه وهو مذهب ابن القاسم، وذهب البغداديون إلى أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه كطعام البيع. انتهى.

ومنع منه للتوثق يعني أن المغصوب منه المثلي إذا وجد غاصبه بغير بلد الغصب ومعه مثليه بعينه، وقلنا إنه لا يقضى عليه بدفعه له، فإن الغاصب يمنع من التصرف إلى أن يتوثق منه المغصوب منه برهن أو حميل خشية ضياع حق ربه، ومثله القوم حيث احتاج لكبير حمل ولم يأخذه ربه فإن للمغصوب منه أن يمنع الغاصب منه، وإذا منع من التصرف فيما ذكر فتصرفه فيه مردود؛ إذ هو الأصل فيما يمنع فلا يجوز لمن وهب له مع علمه بالغصب قبوله ولا التصرف فيه بأكل ونحوه، وقولهم: الحرام لا يتعدى ذمتين ليس مذهبنا، كما يفيده قوله:"ووارثه وموهوبه إن علما كهو" قال عبد الباقي: ومنه يؤخذ منع أكل ما وهب مما فات عند الغاصب ولزمته قيمته، كهبته شاة ذبحها وطبخ لحمها لشخص حيث علم أن الغاصب لا يدفع لرب الشاة قيمتها، وبه كان يفتي شيخنا القرافي ووافقه غير واحد من مشايخي، وبه يتبين صحة ما قاله صاحب المدخل من منع أكل أطراف الشاة ونحوها مما يؤخذ مكسا، وبه أفتى الناصر وشراؤه لا يبيحه لكن مقتضى ما لابن ناجي وقول المص فيما يأتي:"وغرم قيمته" أنه يجوز الأكل لمن وهب له شيء من المغصوب حيث لزمته القيمة. قاله الأجهوري.

وعلى ما لابن ناجي فيجوز شراء رءوس ضأن مشوية مأخوذة مكسا، كلبس سرموجة مغصوب نعلها لا أطراق نيئة غصبت من مدبغ بعد الدبغ باتفاق. ابن ناجي وغيره: وقوله حيث لزمته القيمة أي وعلم أنه لا يردها لربها بشرط حصول المفوت كما هو موضوع المسألة، ولذا كان الأجهوري لا يليس سراميج مصر بل المغربية لعدم تحققه غصب نعلها، بناء على أن الحلال ما جهل أصله، قال: وقد كان شيخنا العارف باللَّه تعالى آخر المسلكين بمصر محمد بن الترجمان يذبح عنزا ملكه ويجعل له منها نعلا. انتهى.

قوله: ومنه يؤخذ منع أكل ما وهب حيث علم أن الغاصب لا يدفع لرب الشاة قيمتها لخ، قال البناني: الذي في الحطاب عن نوازل ابن رشد أنه يمنع ولو علم أن الغاصب يدفع لرب الشاة

ص: 466

مراعاة لمن يقول بتخيير ربها في أخذها حينئذ، نعم لو وقع غرم القيمة بالفعل جاز الأكل كما يأتي. اهـ. قول البناني. الذي في الحطاب عن نوازل ابن رشد أنه يمنع، ولو علم أن الغاصب يدفع القيمة. لخ. قال الرهوني: فيه نظر لأن الحطاب ذكر كلام ابن رشد بالمعنى عند قوله: "أو ذبح" وقدمنا كلامه هناك، وذكره باللفظ عند قوله:"المثلي ولو بغلاء"، وليس فيما نقله عنه في الموضعين تعرض لفوات اللحم بالطبخ أصلا فانظره، نعم يصح الاحتجاج به إذا وجد أحد يقول إن اللحم لا يفوت بالطبخ، ولم أر من ذكر خلافا في اللحم إذا طبخ بأبزار الذي فيه كلام بدر الدين القرافي وناصر الدين اللقاني ومن وافقهما من الشيوخ، فلا يكمل الرد عليهم بكلام ابن رشد هذا. فتأمله بإنصاف.

وقول عبد الباقي: لكن مقتضى ما لابن ناجي وقول المص فيما يأتي: "أو غرم قيمته" أنه يجوز الأكل لخ جعله مقتضى كلام المص الآتي مبني على ما شرحه به من أن معنى غرم قيمته أنها لزمته شرعا وإن لم يغرمها بالفعل ولا حكم عليه بها. فيه نظر. اهـ.

ولا رد له يحتمل أن معناه "ولا رد له" أي إذا زعم المغصوب منه أن ما بيد الغاصب مثليه أي عين شيئه، فإنه لا يلزم الغاصب أن يرده له وفيه شيء لفهم هذه بطريق الأولى من قوله:"ولو صاحبه" لأنه إذا كان المغصوب منه لا يجاب إلى رد عين شيئه الثابت أنه هو فأحرى أن لا يجاب إلى ما زعم أنه شيئه، ويحتمل أن معناه إذا حكم عليه بالقيمة في المثل لعدم المثل ثم وجد المثل فليس له رد المثل، وفيه شيء لأنه يكون المص حينئذ جاريا على غير المشهور؛ إذ المشهور أنه يصبر لوجوده كما مر ويحتمل وهو الظاهر أو المتعين أن معناه أن المغصوب منه إذا طلب من الغاصب رد عين شيئه الذي صاحبه من المثلي في غير بلد الغصب فلا يلزمه ذلك لما مر من أن نقل المثلي فوت والمثلي مثله يقوم مقامه، وهذا يغني عنه قوله:"ولبلده ولو صاحبه" فهو تكرار لكن أعاده ليشبه به قوله: كإجازته أي كما لا رد للمغصوب منه في إجازته بيعه أي بيع الغاصب الشيء المغصوب، حال كونه معيبا وقت بيع الغاصب، سواء كان العيب طارئا عنده أو كان عند ربه قبل الغصب وزال العيب عند المشتري، وقال المغصوب منه: إنما أجزت بيع الغاصب لظن بقائه أي بقاء العيب وما علمت زواله، وعلله الإمام بأنه لو شاء لتثبت، قال عبد

ص: 467

الباقي: فلو زال عند الغاصب فباعه سليما ثم أجازه ربه معتقدا أنه إنما باعه معيبا، وقال إنما أجزته لاعتقادي بيعك له معيبا فلا رد له أيضا عند عبد الحق، وظاهر الحطاب ترجيحه على قول بعض القرويين: له الرد، وقوى الرهوني ما لعبد الحق فإنه عزاه لابن يونس أيضا، وقال: وما لابن يونس وعبد الحق عول عليه البرزلي والغبريني، وسلم لهما ذلك تلميذهما ابن ناجي ولم يرتضيا قول ابن يونس عن بعض فقهائنا يعني به التونسي. اهـ. قال الرهوني: وتعليل الإمام بقوله: ولو شاء لم يعجل يدل على أنه لا فرق بين الوجهين؛ يعني زوال العيب عند المشتري من الغاصب وزواله عند الغاصب، وكون المغصوب منه ليس له رد بيع الغاصب في الوجهين هو ظاهر المص. واللَّه تعالى أعلم.

كنقرة صيغت النقرة القطعة المذابة من الذهب أو الفضة وهو تشبيه في عدم الرد؛ يعني أن من غصب نقرة وصاغها حليا أو ضربها دراهم أو دنانير فإنه لا يلزم الغاصب ردها للمغصوب منه وإنما يلزمه مثلها، قال عبد الباقي: ولما كان لا تسلط للمالك على عين المثلي إذا وجده بغير بلده مع الغاصب، كذلك لا تسلط له عليه إذا وجده على غير صفته، فذكر ذلك مشبها أيضا بما تضمنه قوله:"ولا رد له" فقال: "كنقرة صيغت" أي صاغها الغاصب حليا أو سبكها وضربها دراهم ونحاس ضرب فلوسا فيلزمه مثل النقرة والنحاس ولا يقضى له بالعين؛ لأن مطلق الصياغة والضرب مفيت بخلاف ما تقدم من قوله: "ونحاس بتور لا فلوس" اهـ ونحوه للخرشي: وقال: فإنه يقضى له بمثلها صفة ووزنا ولا يقضى له بعينها حينئذ لدخول الصنعة فيها؛ لأن القاعدة أن المثلي إذا دخلته صنعة فإنه يقضى فيه بالقيمة ويلحق بالمقومات، ومثل الصياغة النحاس يضرب فلوسا فإنه يلزمه مثل النحاس. اهـ المراد منه.

وطين لبن يعني أن من غصب طينا فضربه لبنا فإن رب الطين ليس له اللبن؛ لأن ضربه لبنا فوته على ربه، وإنما له على الغاصب مثل طينه، قال عبد الباقي: وطين لبن أي ضرب لبنا لا يرده بل يضمن مثله إن علم وإلا فقيمته لأن المثلي الجزاف يضمن بالقيمة. اهـ. ونحوه للخرشي ولفظه: وكذلك من غصب طينا معلوم القدر والصفة فضربه لبنا فإنه يغرم لصاحبه مثله إن علم وإلا فقيمته؛ لأن المثلي الجزاف يضمن بالقيمة لأن الطين مما يكال بالقفة وغيرها. انتهى.

ص: 468

وقمح طحن يعني أن من غصب قمحا فطحنه فإنه لا يلزم الغاصب أن يرد له الدقيق لأن عين شيئه فاتت بالطحن، وإنما له مثل قمحه، قال عبد الباقي: وقمح طحن ودقيق عجن وعجين خبز فيما يظهر ويدل له جعله الطحن هنا ناقلا مفيتا، ولم يجعلوه في باب الربويات ناقلا كالعجن فمنعوا التفاضل بينهما احتياطا للربا، وهنا احتاطوا للغاصب فلم يضيعوا كلفة طحنه فهو وإن ظَلَمَ لا يُظْلَم. اهـ. ونحوه للخرشي.

وبذر زرع يعني أن من غصب بذرا -أي حبا فالمراد بالبذر ما يبذر- وزرعه أي ألقاه في وجه الأرض فإنه ليس لمالكه أولا أن يأخذه وإنما له مثل حبة، وقوله:"زرع" أي ألقي بالأرض كما قررت، وأولى إن غطى وجه الأرض، قال عبد الباقي في "وبذر": أي ما يبذر كحب زرع فيلزمه لربه مثله، فبذر اسم لا مصدر إذ هو مصدرًا إلقاء الحب على الأرض وهو الزرع، فلا معنى لقوله:"زرع" ولا يحمل زرع على غطى لاقتضائه أن فوات البذر يتوقف على تغطيته وليس كذلك، ومن غصب نخلا أو شجرا صغيرين فقلعها وغرسها بأرض فكبرت فلربها قلعها وأخذها كحيوان صغير كبر ذكره في المدونة، وظاهرها كانت تنبت بأرض أخرى أم لا، وقيدها سحنون بما إذا كانت تنبت بأخرى أي وإلا أخذ قيمتها على أنها لا تنبت. اهـ.

قوله: وقيدها سحنون بما إذا كانت تنبت لخ هذا خلاف ظاهر كلام ابن رشد في سماع عبد اللَّه بن عمر بن غانم من كتاب الجامع، فإنه إنما ذكر قيد سحنون فيمن أخذ من شجرة غيره ملوخا فغرسه، ونصه: وإن فعل ذلك غصبا وتعديا بلا إذن من صاحبه ولا دلالة عليه ممن يستوجب الدلالة فله أن يقلعه ويأخذه، وإن كان قد علق إلا أن يكون بعد طول زمان وبعد نماء وزيادة بينة، فلا يكون له أن يأخذه بعينه ويكون له قيمته يوم امتلخه من شجره عودا ميتا مكسورا، وإن كان قد أضربا لشجرة كان عليه في ذلك قيمة ما نقص من الشجر. هذا قول أصبغ في الواضحة.

وقال سحنون: إنما يكون أولى بغرسه إذا كان إن قلعه وغرسه ينبت، وأما إن كان لا ينبت إن قلعه وغرسه فإنما له قيمته ولا سبيل له إلى قلعه، ثم ذكر ما إذا اقتلع غرسا من بستان غيره فغرسه في أرضه على وجه الدلالة وبين حكمه، ثم قال ما نصه: ولو كان اقتلعه غصبا غير مدل

ص: 469

لكان صاحب الغرس أحق بغرسه، وإن كان ثبت في أرضه وطال زمانه وتبينت زيادته لأنه شيئه بعينه أخذه حيا فنما وزاد وشب فهو كالصغير يغتصب أو يسرق ثم يجده صاحبه وقد كبر وشب ونما وزاد، فهو أبدا أحق به وسواء كان مما ينبت إن غرس بعد قلعه من أرض الغاصب أو مما لا ينبت وهو أحق به إلا أن يشاء أن يسلمه ويأخذ قيمته نابتا، فيكون ذلك له حكى ذلك ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ. وباللَّه التوفيق. ونقله الحطاب مستوفى آخر هذا الباب. فتأمله تجده شاهدا لما قلناه، لكن يشهد للزرقاني كلام ابن يونس وابن ناجي، ففي المدونة ما نصه: ومن غصب وديا صغارا من نخل أو شجرا صغارا فقلعها وغرسها في أرضه فصارت بواسق فلربها أخذها كصغير من الحيوان يكبر. اهـ منها بلفظها. قال ابن ناجي قلت وظاهره كانت تنبت في أرض أخرى أم لا وهو كذلك عند أصبغ وقال سحنون معناها إذا قلعت نبتت في أرض أخرى وكلاهما حكاه ابن يونس. اهـ. وحكى الرهوني كلام ابن يونس نحو هذا، ثم قال: لكن يرد على الزرقاني اقتصاره على قول سحنون وهو يفيد أنه المذهب، وليس في كلام ابن يونس وابن ناجي ما يفيد ذلك، بل صرح ابن ناجي بأن ما لأصبغ هو ظاهرها وصدق في ذلك، ويقويه كلام ابن رشد السابق لإتيانه به كأنه المذهب، ولم يذكر تقييد سحنون في هذه بل فيما امتلخه، وظاهره أن تقييد سحنون لا يجري في هذا كما رأيته وقد سلمه الحطاب وذلك يدل على رجحانه خلاف ما أفاده كلام الزرقاني. والله أعلم.

وقول عبد الباقي: وإلا أخذ قيمتها على أنها لا تنبت فيه نظر، بل الواجب له قيمتها نابتة بأرض مالكها يوم قلعت هذا هو القياس وهو الذي تقدم في نقل ابن رشد وابن يونس عن أصبغ إذا اختار ربها تغريمه، وكذلك يقول سحنون، والخلاف بينهما عند من جعله خلافا في هذا الموضوع إنما هو [في]

(1)

تخيير ربها في قلعها إذا كانت لا تنبت وعدم تخييره، فإذا تحتم عليه أخذ القيمة عند سحنون فالحكم ما قاله أصبغ إذا اختار أخذ القيمة. فتأمله. واللَّه أعلم.

وقول المدونة وديا هو بالدال المهملة بوزن غني وهو صغار النخل التي تنقل للغرس والبواسق الطوال. قاله ابن ناجي عن عياض. قلت: وهو اسم جنس جمعي واحدته ودية. اهـ. قاله الرهوني. وقال المواق من المدونة: قال مالك: إن عمل الغاصب من الخشبة بابا أو غصب ترابا

(1)

ساقطة من الأصل مثبتة من الرهوني ج 6 ص 219.

ص: 470

فعمل منه بلاطا أو غصب حنطة فزرعها وحصد منها حبا كثيرا أو غصب سويقا فلتَّه بسمن أو غصب فضة فصاغها حليا أو ضربها دراهم فعليه في هذا كله مثل ما غصب في صفته ووزنه أو القيمة فيما لا يكال ولا يوزن وكذلك السرقة، قال ابن القاسم: من غصب قمحا فطحنه ضمن مثله ولا يمكن رب القمح من أخذ الدقيق خلافا لأشهب واتفقا إن طحن القمح سويقا أو لته أن ليس لرب القمح أخذه. اهـ.

وبيض أفرخ يعني أن من غصب بيضا ثم أفرخ ذلك البيض عند الغاصب فعليه مثل البيض والفراخ للغاصب، قال المواق: قال أشهب من غصب بيضة فحضنها تحت دجاجة له فعليه بيضة مثلها، كغاصب القمح يزرعه فعليه مثل القمح والزرع خلافا لسحنون لا ما باض إن حضن يعني أن من غصب دجاجا ثم باض عنده ثم أفرخ فإن الفراخ تكون لرب البيض لا للغاصب، بشرط أن يكون الطير المغصوب يحضن وأولى إن باضت عند ربها فغصبها ببيضها فأفرخت عنده فلربها الفراخ، والتقييد في النص بباضت عند الغاصب نص على المتوهم، وكذا إذا غصب من شخص واحد دجاجة وبيضا ليس منها وحضنه تحتها فإن الفراريخ لربها وعليه أجرة مثله في تعبه فيها، فإن كانا شخصين فلرب البيض بيضه والفراريخ للغاصب، ولرب الدجاجة دجاجته وكراء مثلها في حضنها وما نقصها إلا أن يتفاحش، وشمل قوله:"إن حضن" ما استقل بالحضن أو شاركه فيه غيره، وهذا إن كان المغصوب أنثى فإن كان ذكرا يحضن مع أنثى عند الغاصب فإنما عليه كراؤه. وانظر لو غصب حمامة من رجل وذكرا من آخر وباضت وشاركها الذكر في الحضن وأفرخ، فهل على رب الحمامة أجرة في مقابلة حضن الذكر لأنه ليس للغاصب أم لا؟ اهـ. قاله عبد الباقي.

قوله: ولرب الدجاجة دجاجته وكراء مثلها في حضنها وما نقصها، قال البناني: كذا في الموازية وتعقبه الشيخ كما في ابن عرفة، ونصه: قال في الموازية: وله كراء مثل حضانتها وما نقصت. الشيخ: في قوله وما نقصت نظر إلا أن يكون نقصا بينا فيخير في أخذ قيمتها يوم الغصب. اهـ. ومفهوم قوله: "إن حضن" أنه لو حضن بيضها تحت دجاجة غيرها أو حضن تحتها غير بيضها

ص: 471

فلا شيء من الفراريخ للمستحق، فليس له إلا دجاجته وأجرة مثلها فيما حضنت من بيض غيرها كما في الخرشي.

تنبيه: لو مات حيوان حامل فأخرج رجل ما في بطنه من الحمل وعاش فالولد لرب الحيوان، وعليه أجرة علاج المخرج. اهـ. وانظر هل مثله من أخرج بيضة من ميتة ووضعها تحت دجاجة حتى أفرخت فتكون الفراخ لربها، ويدل له ما يأتي من غصب خمر مسلم فتخلل فالخل للمسلم أم لا، وهو الظاهر لأن من غصب بيضة حتى أفرخت عند الغاصب فإنه لا يكون الفرخ لربها فأولى بيضة الميت، والفرق بينها وبين الجنين أنه بخروجه حيا يملكه رب البهيمة لطهارته، بخلاف هذه فإن رب الدجاجة لا يملكها لنجاستها، والفرق بينها وبين الخمر تتخلل أن الخمر يملكه ربه بتخلله، وأما ما أفرخه البيض فإنما يملكه صاحب من حضنه. اهـ.

وعصير تخمير يعني أن من غصب عصيرا أي ماء عنب ثم تخمر فإنه يلزم الغاصب عصير مثله لانقلابه لما لا يجوز تملكه إن علم كيله وإلا فقيمته، وظاهر كلام المص ولو كان لذمي مع أنه يملك الخمر وينبغي في هذه الحالة أن يخير كما إذا تخلل خمره. قاله عبد الباقي وغيره وإن تخلل خير يعني أن من غصب عصيرا ثم تخلل فإن رب العصير يخير بين أن يأخذ الخل وأن يأخذ مثل عصيره، وقوله:"تخلل" أي العصير ابتداء، وكذا بعد تخمره فيما يظهر، قال عبد الباقي: وإن تخلل العصير ابتداء وكذا بعد تخمره فيما يظهر خير ربه في أخذه خلا، ومثل عصيره إن علم قدرُه فإن جهل فقيمته كان لمسلم أو لذمي بدليل قوله: كتخللها لذمي يعني أن من غصب خمرا لذمي ثم تخللت فإن الذمي المغصوب منه يخير في أخذ الخل، وقيمة الخمر يوم الغصب بمعرفة المسلمين أو الذميين، فالتشبيه في مطلق التخيير في مثل الخمر المغصوبة وأخذ الخل، وقوله:"لذمي" اللام فيه على بابها أي حال كون الخمر كائنة لذمي، وفي شرح عبد الباقي أنه بمعنى: من. اهـ. أي كتخللها مغصوبة من ذمي.

وتعين لغيره أي غير الذمي بمعنى مطلق الكافر؛ لأن المعاهد والمستأمن كالذمي في التخيير المذكور، ومعنى كلامه أن من غصب خمرا لمسلم ثم تخللت فإن المسلم ليس له إلا أخذ الخل،

ص: 472

فالضمير في قوله له وتعين للخل أي يتعين في حقه أخذ الخل، قال عبد الباقي: والضمير في غيره راجع للذمي بوصف الكفر لا بوصف كونه ذميا. اهـ المراد منه.

فرع: في ثمانية أبي زيد ما نصه من تعدى على جرة عصير فكسرها، فإن دخله عرق خل ولم يتخلل غرم قيمته على الرجاء والخوف بمنزلة الثمرة، وإن ظهر أنه خمر ولم يدخله عرق خل فلا شيء عليه لأنه كسره في حين لو علم به صاحبه لم يحل له إمساكه. اهـ.

وإن صنع بصاد مهملة فنون فعين؛ يعني أنه إذا غصب خمر من مسلم ثم تخللت فإنه يتعين على المسلم أخذ الخل كما عرفت، ولا فرق في ذلك بين أن يتسبب الغاصب في تخليلها وأن لا يتسبب هذا هو المعتمد، صرح بذلك ابن عرفة ونصه: ففي كونها بتخللها عند الغاصب له أو لربها، ثالثها إن تسبب في تخليلها لتخريج عبد المنعم والمعروف ومفهوم تعليل الشيخ. اهـ. ونقله المواق وابن غازي في تكميله معبرا عن الشيخ بأبي محمد وابن ناجي في شرح المدونة وسلماه. قاله الرهوني. المواق: أشهب: إن غصب مسلم خمرا لذمي فخللها خير في أخذها خلا وقيمتها يوم الغصب، قال مالك: لو استهلك مسلم لذمي خمرا غرم قيمتها. اهـ. قوله: "وإن صنع" هو كذلك في نسخة، وفي نسخة: وإن ضيع بتشديد الياء مصدره التضييع ومفعوله ما بعده من قوله كغزل وحلي وغير مثلي فقيمته يوم غصبه يعني أن من غصب المثلي بعد أن دخلته صنعة قوية كالغزل والحلي أو غصب غير المثلي وهو المقوم، فضيع ما ذكر أي أتلفه فإنه يضمن قيمة ذلك يوم غصبه لا يوم ضيعه، واعلم أن المثلي هو المكيل والموزون والمعدود، فإذا دخلته صنعة قوية صار من المقومات، واحترز بذلك من الصنعة غير القوية كضرب الذهب والفضة دراهم أو دنانير والنحاس فلوسا. وقوله:"فقيمته" إما بالرفع مبتدأ حذف خبره أي فقيمته لازمة له يوم غصبه، أو خبر حذف مبتدؤه أي فاللازم له قيمته يوم غصبه، وإما بالنصب على أنه مفعول لمقدر أي فيغرم قيمته يوم غصبه، وقوله:"وغير مثلي" بالنصب على نسخة وإن ضيع إن لم يكن مبنيا للمجهول، وكذا على نسخة وإن صنع ويكون معمولا لمقدر أي وإن غصب غير مثلي. وقوله:"كغزل وحلي" مثالا له على التقديم والتأخير. انظر البناني.

ص: 473

وعلم مما قررت أن قوله: "فقيمته" جواب لقوله: "وإن ضيع" على أنه من التضييع، وأما على أنه صنع بالصاد والنون فيكون قوله:"فقيمته" لخ جوابا لشرطٍ مقدر أي وإن غصب غير مثلي كغزل لخ فقيمته يوم غصبه. واللَّه تعالى أعلم. وما ذكره المص من أن القوم تلزم فيه القيمة هو المعروف من المذهب، ووجد في المنتقى رواية عن مالك أنه يضمن القوم بالمثل كالمثلي كمذهب الشافعي وأبي حنيفة. المازري: وهو وهم من الرواة الذين ذكروا ذلك عنه، وفي المجموعة عن مالك أن ما استهلك من الحيوان والرقيق والعروض فالقيمة فيه أعدل، وهو يدل على أنه لو حكم فيها بالمثل لما كان به بأس. قاله الشارح.

وفي شرح حلل ابن الخطيب لابن لب فويق باب يقوم ببيان العلة أن الأرض التي لا دراهم فيها ولا دنانير القيمة فيها الجلود والعروض وكل ما غلب به التعامل؛ لأن الأصل في كون الدراهم والدنانير قيم المتلفات غلبة التعامل بها. اهـ من خط من عزاه لذلك الكتاب. ولا أفتي بهذا قبل أن أنظره في الكتاب المعزو له.

وإن جلد ميتة لم يدبغ مبالغة في الضمان؛ يعني أن من غصب جلد ميتة لم يدبغ وتلف فإنه يضمن قيمته، قال البناني: لو عبر بلو بدل إن كان أولى لرد الخلاف، قال ابن رشد في سماع عيسى: قال في المدونة من غصب جلد ميتة فعليه قيمته دبغ أو لم يدبغ، وقال في المبسوط: لا شيء عليه دبغ أو لم يدبغ؛ لأنه لا يجوز بيعه، وقيل إنه لا شيء فيه إلا أن يدبغ فيكون فيه القيمة، وقيل إن دبغ لم يكن عليه إلا قيمة ما فيه من الصنعة، والصواب أنه يلزمه في ذلك كله قيمة الانتفاع به. اهـ.

أو كلبا يعني أن من غصب كلبا مأذونا في اتخاذه ككلب صيد أو ماشية أو حراسة فأتلفه ضمن قيمته يوم غصبه وإن لم يجز بيعه، قياسا على الغرة في الجنين وإن كان لا يجوز بيع الجنين، وأما من قتل كلبا لم يأذن الشرع في اتخاذه وإن اتخذه شخص جهلا فإنه لا يلزم قاتله فيه شيء ولا يحتاج لتقييد المص الكلب بالمأذون؛ لأن غيره خرج بقوله:"الغصب أخذ مال" وغير المأذون ليس بمال. قاله غير واحد.

ص: 474

ولو قتله تعديا مبالغة في لزوم القيمة يوم الغصب لا يوم قتله تعديا والضمير في قتله للشيء المغصوب، قال عبد الباقي: وبالغ على قوله: "فقيمته يوم غصبه" بقوله: "ولو قتله" أي قتل الغاصب الشيء المغصوب تعديا بعد غصبه فقيمته يوم غصبه لا يوم قتله، فليس قتل الغاصب كقتل الأجنبي، وفي بعض النسخ: بعد ظرفا مبنيا على الضم أي بعد غصبه وهي موافقة للنسخة المذكورة معنى، وفي بعضها بعداء بباء الجر والمد أي غصبه ثم قتل أي الشيء المغصوب بسبب عدائه عليه أي على الغاصب وإن لم يقدر على دفعه إلا بقتله وإن وجب عليه لحفظ نفسه؛ لأن الغاصب ظالم بغصبه فهو المسلط له على نفسه والظالم أحق بالحمل عليه، ولأن أسباب الضمان إذا تعددت من فاعل واحد فإنما يعتبر أولها عند ابن القاسم وأشهب، ولابن القاسم في أحد قوليه: وسحنون له أخذ القيمة يوم القتل كالأجنبي؛ لأن القتل فعل ثان ومن حجة ربه أن يقول لا أواخذه بوضع اليد وإنما أواخذه بالقتل. ابن راشد

(1)

: وهو أقيس. اهـ من عبد الباقي بمخالفة قليلة. وعليه رد المص بلو واللَّه تعالى أعلم.

وقال المواق: ابن القاسم: من غصب أمة فزادت قيمتها عنده أو نقصت ثم قتلها فإنما عليه قيمتها يوم الغصب فقط. اهـ. وقال البناني: بالغ على اعتبار القيمة وما ذكره هو قول ابن القاسم وأشهب خلافا لسحنون وابن القاسم في أحد قوليه، وأما الأجنبي فيأتي اعتبار القيمة في حقه يوم القتل فيفهم منه الفرق بين إتلاف الغاصب والأجنبي ولا خصوصية للقتل، بل لو عبر المص بالإتلاف كابن الحاجب لكان أعم، وكلام المص كما قال ابن غازي راجع لقوله:"فقيمته يوم غصبه"، قال: ورده للكلب كما في الشامل ليس بشيء. انتهى. وهو ظاهر؛ لأن التعدي أنسب بالضمان، فكيف يبالغ عليه في جانب الضمان؟ واعتراض ال تتائي على ابن غازي لا يخفى سقوطه. اهـ.

وخير في الأجنبي يعني أن من غصب شيئا فقتله أجنبي فإن المغصوب منه يخير في اتباع الغاصب أو الأجنبي، قال عبد الباقي: وخير المغصوب منه في قتل الأجنبي للمغصوب عند غاصبه حيث قتله الأجنبي عند عدائه عليه قادرا على دفعه بغير القتل، وإلا فلا شيء لربه في قتله. قاله الأجهوري. أي لا شيء على الجاني وإنما يتبع الغاصب لما تقدم أن الغاصب يضمن

(1)

في عبد الباقي ج 6 ص 143: ابن رشد.

ص: 475

السماوي وجناية الأجنبي؛ وإذا قتله الأجنبي بقيده فيخير ربه بين أن يتبع الغاصب أو الأجنبي. فإن تبعه أي تبع المغصوب منه الغاصب بقيمته يوم غصبه تبع هوأي الغاصب الجاني بقيمته يوم الجناية ولو زادت على قيمته يوم الغصب، وتكون له الزيادة، ولا يقال: الغاصب لا يربح فكيف ربح هنا؟ لأنا نقول لما غرم قيمته لربه يوم الغصب ملكه فلا كلام لربه في الزيادة، وأبرز الضمير لجريان الجواب على غير من هو له إذ ضمير الشرط لرب المغصوب وضمير الجواب للغاصب.

فإن تبع المغصوبُ منه الجاني فإنما يتبعه بقيمته يوم الجناية ولو زادت على قيمته يوم الغصب، فإن كانت قيمته يوم الجناية أقل من قيمته يوم الغصب وأخذ ربه أي أخذ رب الشيء المغصوب من الجاني أقل من قيمته يوم الغصب لكون القيمة يوم الجناية أقل من قيمته يوم الغصب، فله أي فللمغصوب منه الزائد على قيمته يوم الجناية من قيمته يوم الغصب، وإنما يأخذه من الغاصب فقط لا من الجاني؛ لأن الجاني لا يلزمه إلا غرم قيمته يوم الجناية ولو نقصت عن قيمته يوم الغصب، وقد علمت أن هذا الذي قررت إنما هو في القتل أي الإتلاف، وأما إن عيبه الأجنبي فيخير ربه بين أن يضمن الغاصب قيمة جميع المغصوب فيرجع الغاصب على الجاني بأرش الجناية يومها، وبين أخذ الشيء المغصوب ويتبع الجاني بأرش الجناية، وليس له أخذه وأخذ أرش الجناية من الغاصب. هذا ما تفيده المدونة. ففي دعوى أحمد شمول كلام المص لهذا أيضا شيء لاختلاف التخيير في التلف والجناية؛ لأنه لا يجري فيه:"فإن أخذ ربه أقل" لخ، ولأنه يؤدي للتكرار مع قوله الآتي:"وإن تعيب وإن قل ككسر نهديها" لخ.

وله هدم بناء عليه قال الخرشي: يعني أن من غصب عمودا أو خشبة أو حجرا فبنى على ذلك بنيانا فللمالك أن يأمره بهدمه وله إبقاؤه وأخذ قيمته، وإن أخذ ثوبا وجعله ظهارة جبة فلربه أخذه أو يضمنه قيمته، قال أبو محمد: ويفتق الجبة ويهدم البناء والفتق والهدم على الغاصب، وكأنه أفاته ذلك رضى منه بالتزام القيمة، فقوله:"عليه" أي على الشيء المغصوب ولا يدخل في كلامه الأرض لأن حكمها مخالف للخشبة والعمود ونحوهما، ويأتي للمص وفي بنائه في أخذه ودفع قيمته لخ، ولذا لم يذكرها في المدونة مع الحجر والخشبة. قاله البناني. وقوله:"وعليه" من

ص: 476

باب أولى لو غصب أنقاضا فبناها فالتوقف فيه لا محل له. اهـ. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي نحوه ة وقال: ولا يلتفت لقول الغاصب أنا أهدم بناءي ولا أغرم القيمة خلافا لابن القصار، وإذا اختار أخذ شيئه فعلى الغاصب أجرة الهدم كما مر.

مسألة: قال المواق: ومن درة الغواص في ثور احتبس رأسه بين أغصان زيتونة أنه يحكم على صاحب الثور بقيمة ما يقطع من أغصان الزيتونة حتى يتخلص رأسه منها. قاله الداودي. وإذا استحقت خشبة: قال مالك: ليس لربها قلعها إذا كان الباني غير غاصب. اهـ.

وغلة مستعمل يعني أن الغاصب إذا استعمل الشيء المغصوب فإنه يرد غلة ما استعمله، وقررت المص بأنه شامل للعقار وغيره كالحيوان تبعا لغير واحد، قال الخرشي: يعني أن من غصب رقبة عبدا أو دابة أو دارا أو غير ذلك فاستعمله بنفسه أوأكراه فإنه يضمن للمالك ما استعمله ومفهوم مستعمل أنه لو لم يستعمل فلا يضمن شيئا كالدار يغلقها والدابة يحبسها والأرض يبورها والعبد لا يستخدمه، ولا ينافي هذا قوله الآتي: وغيرهما بالفوات أي وإن لم يستعمل لأنه فيما إذا غصب المنفعة فقط وحينئذ لا تعارض. اهـ. اهـ باقتصار.

ونحو ما قرره الخرشي للشارح وال تتائي، فإنهما جعلا ما هنا شاملا للعقار والحيوان تبعا لتشهير المازري وابن العربي وابن الحاجب وغيرهم. قاله عبد الباقي. قال البناني: قال ابن عاشر: حمل كلام المص على هذا هو الظاهر وعليه حمل الحطاب كلام المص، قال في التوضيح: صرح المازري وصاحب المعين وغيرهما بتشهيره وشهره ابن الحاجب، وقال ابن عبد السلام: هو الصحيح عند ابن العربي وغيره من المتأخرين. اهـ. ابن عاشر: وهذا المشهور هو الذي يأتي عليه قوله الآتي: "وما أنفق في الغلة" إذ لو لم تلزمه الغلة لما صح قوله: "في الغلة" اهـ. وهذا الذي مشى عليه المص هنا في المدونة، ومقابله في المدونة أيضا وهو الذي صدر به عبد الباقي وحمل عليه المص، فإنه حمله على العقار خاصة، فإنه قال: وله غلة عقار مغصوب ذاته مستعمل، لا حيوان مستعمل نشأ عن استعماله غلة كما يأتي في قوله عاطفا على ما لا كراء فيه ولا قيمة "أو رجع بها من سفر" أي فلا قيمة ولا كراء إلا ما نشأ عن غير استعماله كسمن ولبن وصوف

ص: 477

فللمغصوب منه، وقرر قوله:"أو رجع بها من سفر" على أنه لا يضمن قيمة ولا كراء والمعتمد أن عليه الكراء كما شهره المازري وابن العربي وابن الحاجب، وسيأتي نحوه عن أحمد. اهـ.

تنبيهات: الأول: قال الرهوني عند قوله: "مستعمل" ما نصه: احترز به عما إذا عطله أصلا فلا شيء عليه على المشهور، وشمل المستعمل ما استعمله بنفسه وما أكراه أو واجره لغيره أو يقصر على الأول ويؤخذ منه الثاني بالأحرى؛ لأن من يقول برد الغلة في الأول يقول به في الثاني ولا عكس.

الثاني: قال الرهوني: تواطأت عبارتهم هنا على أن كون الغاصب يرد غلة المستعمل محله إذا كان المستعمل عقارا فقط، قالوا: وهو مذهب المدونة وأن المشهور خلاف مذهبها وفيه نظر وإن تواطأت عليه عبارتهم بل المدونة فيها القولان، فما عزوه لها هو في كتاب الغصب، وفي كتاب اللقطة والضوال: وما عزوه لغيرها وشهروه هو في كتاب الاستحقاق منها، وفي كتاب الجعل والإجارة، وقد نقل المواق عنها ذلك عند قوله:"وصيد عبد"، وعند قوله:"لا سماوي وغلة"، وعند قوله:"وإلا بدئ بالغاصب" فراجعه. وتأمل. وقد نبه على ذلك أبو الحسن وابن ناجي، فإنه قال عقب كلامها في كتاب الغصب ما نصه: ومثله في اللقطة والضوال، وقال في الاستحقاق: يرد كراء الرقيق، وفي كتاب الجعل والإجارة يرد كراء الدابة. اهـ منه بلفظه. ونحوه لأبي الحسن، ونقل أبو علي كلام أبي الحسن وسلمه، قلت: وكلامهم يدل على أنه لم يذكر في الاستحقاق رد كراء الدابة ولا غلة استعماله الرقيق والدابة بنفسه وليس كذلك، ففيها في كتاب الاستحقاق ما نصه: ولو أن الغاصب بنفسه اغتل العبد وأخذ كراء الدابة لزمه أن يرد الغلة والكراء للمستحق، ولو مات الغاصب وترك هذه الأشياء ميراثا فاستغلها ولده كانت هذه الأشياء وغلتها للمستحق. اهـ. وبه تعلم أن ما شهروه أحد قولين منصوصين فيها لا أنه خلاف مذهبها. واللَّه الموفق. اهـ.

الثالث: قال الخرشي: ونحوه لعبد الباقي عند قوله: "وغلة مستعمل" ما نصه: وسواء هلك المغصوب أم لا، فيأخذ المغصوب منه الغلة وقيمة الرقبة وهذا لفظ الخرشي، وعبارة عبد الباقي: وظاهر قوله "غلة مستعمل": ولو فات المغصوب ولزمت فيه القيمة فيأخذ الغلة وقيمة المغصوب،

ص: 478

ونحوه في ال تتائي عن الكافي وهو المعتمد وهو قول مالك وعليه جمهور أهل المدينة من أصحابه وغيرهم، قيل: وهو الصحيح، وقال ابن القاسم: لا كراء له إذا أخذ القيمة. انظر ابن وهبان. انتهى. قوله: والمعتمد وهو قول مالك وعليه جمهور أهل المدينة من أصحابه لخ، قال البناني: هكذا عزا هذا القول أبو عمر في الكافي لكنه غير معتمد لأنه خلاف مذهب ابن القاسم في المدونة، ففيها: وما أثمر عند الغاصب من نخل أو شجر أو تناسل من الحيوان أو جز من الصوف أو حلب من اللبن فإنه يرد ذلك كله مع ما غصب وما أكل رد المثل فيما له مثل والقيمة فيما لا يقضى فيه بالمثل، فإن ماتت الأمهات وبقيت الأولاد وما جز وما حلب خير ربها، إن شاء أخذ قيمة الأمهات ولا شيء له فيما بقي من ولد وصوف ولبن ولا في ثمنه إن بيع، وإن شاء أخذ الولد إن كان أو ثمن ما بيع من صوف ولبن ونحوه، وما أكل الغاصب أو انتفع به من ذلك فعليه المثل فيما له مثل والقيمة فيما يقوم ولا شيء عليه من قبل الأمهات، ألا ترى أن من غصب أمة فباعها فولدت عند المبتاع ثم ماتت فليس لربها أن يأخذ أولادها وقيمة الأمة من الغاصب وإنما له أخذ الثمن من الغاصب أو قيمتها يوم الغصب، أو يأخذ الولد من المبتاع ولا شيء عليه ولا على الغاصب في قيمة الأم، ثم يرجع المبتاع على الغاصب بالثمن؟ اهـ. نقله مصطفى، واقتصر ابن رشد في بيانه ومقدماته على هذا وكذا ابن عرفة، ولم يعرج ابن عرفة على ما في الكافي على أن صاحب الكافي معترف بأن ما نقله خلاف مذهب ابن القاسم. اهـ. وقال عبد الباقي: واحترز بقوله "مستعمل" عما إذا عطل ولا يخالف ما يأتي من قوله: "وغيرهما بالفوات" لأنه في غصب المنفعة وما هنا في غصب الذات، فإذا غصبه أرضا وبوَّرها فإن علم أنه قصَدَ غصْبَ ذاتها فلا كراء عليه في تبويرها أو منفعتِها فقط فعليه الكراء، وانظر إذا لم يعلم قصده أو تنازع مع ربها في قصده.

الرابع: قال الحطاب من غصب منفعة دار واستأجر منه رجل تلك المنفعة فلربها أخذ الأجرة من الغاصب أو من المستأجر عالما كان أو جاهلا، كما لو غصب طعاما وباعه واستهلكه المشتري فلرب الطعام أن يضمن من شاء منهما، بخلاف ما إذا غصب الرقبة وأكراها. انتهى.

ص: 479

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: قوله بخلاف ما إذا غصب الرقبة لخ، مقتضاه أنه إنما يرجع على الغاصب فقط. واللَّه تعالى أعلم.

الخامس: اعلم أنه لا خلاف بينهم أن رب الحيوان المغصوب إذا ولد عند الغاصب يأخذ الحيوان والولد إن وجدهما قائمين، وأما الغلة المتولدة منه كثمرة النخل ولبن الماشية وصوفها وجبنها ونحو ذلك فقد مر أنه للمغصوب منه وقيل إنه للغاصب بالضمان، فلا يرده لقوله عليه الصلاة والسلام: (الغلة بالضمان

(1)

) وعلى الأول يلزمه ردها إن كانت قائمة وعوضها إن فاتت مع رد عين الشيء المغصوب لخ. انظر الشارح.

وصيد عبد يعني أن من غصب عبدا واصطاد ذلك العبد صيدا فإن الصيد يكون لرب العبد بلا خلاف، وجارح يعني أن من غصب جارحا كباز وكلب وما أشبه ذلك فاصطاد به صيدا فإن ذلك الصيد يكون لرب الجارح على المشهور، وقيل للغاصب إلحاقا له بالآلات التي لا تصرف لها، قال عبد الباقي: وللمغصوب منه عبد أو جارح صيد عبد وجارح باز أو كلب أي مصيدهما وللغاصب أجرة تعبه ولربهما أن لا يأخذ المصيد ويلزم أجرتهما للغاصب. اهـ. وقال المواق: ابن بشير: إن كان المغصوب عبدا وأمره بالصيد فلا خلاف أن الصيد للعبد، وإن كان آلة كالسيف والرمح فلا خلاف أن الصيد للغاصب وعليه أجرة ما انتفع به، وإن كان فرسا فقد ألحقوه بالآلة، وإن كان جارحا كالبازي والكلب فهل يلحق بالعبد قولان؟ وقال ابن رشد: اختلف في الذي يتعدى على كلب رجل أو بازيه فيصيد به، والأظهر قول ابن القاسم أن محمله محمل الذي تعدى على العبد فيرسله يصيد له؛ لأن جل العمل إنما هو للبازي والكلب لأنهما هما اتبعا الصيد وهما أخذاه فلهما سببان، الاتباع والأخذ، وليس للمتعدي فيه إلا التحريض. اهـ المراد منه.

وكراء أرض بنيت يعني أن من غصب أرضا فبنى فيها بيتا واستغله أو سكنه فإن عليه كراءها براحا وهل ينظر لكرائها لمن يعمرها كما في مسألة مركب نخر أو ينظر لكرائها مع قطع النظر عن ذلك وهو ظاهر كلامهم، والفرق بينها وبين السفينة أن الأرض ينتفع بها مع عدم البناء والسفينة مظنة لعدم الانتفاع بها حيث كانت نخرة. قاله الخرشي. وقوله:"بنيت" وأما كراء البناء فهو

(1)

مسند أحمد ج 6 ص 80. البيهقي ج 8 ص 322. الحاكم ج 2 ص 15.

ص: 480

للغاصب قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وله كراء أرض بنيت واستعملت وإلا فلا شيء له انظر المواق والشارح وال تتائي.

وذكر الناصر أن بناءها استعمال، وهو خلاف النقل وعليه كراؤها مع قطع النظر عمن يعمرها كما هو ظاهر إطلاقهم؛ لأنها ينتفع بها مع عدم البناء، وقال المواق: اللخمي: لا أعلمهم اختلفوا فيمن غصب أرضا فبناها ثم سكن أو استغل أنه لا يغرم سوى غلة القاعة، وقال ابن المواز: إذا غصب خرابا لا يسكن إلا بإصلاح فأصلح وسقف ورم ثم استغل، قال: للمستحق جميع الغلة وكراء ما سكن وللغاصب قيمة ما لو نزع كان له ثمن. اهـ. وقول عبد الباقي: واستعملت وإلا فلا شيء له، قال الرهوني: اعترضه أبو علي بأنه ليس في المواق ولا في الشارح التصريح بقوله لا شيء له، وإنما اقتصر على نقل كلام اللخمي. انظر بقيته إن شئت. قلت: وكذا ال تتائي في صغيره وكبيره، وكأن الزرقاني أراد أنه يدل عليه كلامهم بالمفهوم، لكن في استعماله إذ ذاك هذه العبارة ما لا يخفى. واللَّه أعلم. اهـ.

وقال البناني عند قوله: "وكراء أرض بنيت": هذا إن كانت الأرض كلها له، وأما إن كانت مشتركة وبنى أو غرس أحد الشريكين فانظرها فيما يأتي في الاستحقاق عند قول المص: "وإن غرس أو بنى قيل للمالك أعطه قيمته

(1)

قائما" لخ، وقول عبد الباقي: واستعملت وإلا فلا شيء له يريد أن مجرد بنائها لا يعد استعمالا بحيث يجب عليه كراء الأرض بل حتى يسكن مثلا، قال اللخمي: لا أعلمهم اختلفوا فيمن غصب أرضا فبناها ثم سكن أو اغتل أنه لا يغرم سوى غلة القاعة. اهـ. وفهم منه ومن المص أنه إنما يلزمه كراء الأرض براحا لا كراؤها مبنية وهذا متفق عليه، وكذا قوله: كمركب نخر أي من غصب مركبا نخرا وأصلحه واستغله فإن على الغاصب كراءه غير مصلح ممن يصلحه، ومعنى نخر محتاج للإصلاح، وقوله: "كمركب نخر" هذا قول أشهب وأصبغ. اللخمي: وهو أبين، وقال محمد: عليه كراء جميعه مصلحا. انظر ابن غازي. قاله البناني.

(1)

في الأصل: قائمته، والمثبت من البناني ج 6 ص 145.

ص: 481

وقال عبد الباقي: كمركب بفتح الكاف نخر بكسر الخاء المعجمة أي محتاج لإصلاح فرمه الغاصب، وأصلحه فللمالك كراؤه فينظر فيما كان يؤجر به ممن يصلحه فيغرمه الغاصب لعدم الانتفاع به دون إصلاح، وما زاد على ذلك للغاصب والربع الخرب كالمركب النخر كما في الشارح وال تتائي لعدم الانتفاع به بخلاف الأرض، وهذا الذي ذكر في المركب النخر بالنسبة للماضي، وأما بالنسبة لوقت القيام على الغاصب فله أخذه منه كما قال: وأخذ مالا عين له قائمة يعني أن المغصوب منه مركب نخر إذا رمه الغاصب وأصلحه وقام عليه ربه فإنه يأخذ الركب وما أصلح به مما لا عين له قائمة والمراد ما لا منفعة فيه بعد قلعه سواء أمكن انفصاله أم لا، قال عبد الباقي: وإذا أخذ المالك المركب أخذ أي ملك مما أصلحت به ما لا عين له قائمة أي ذاتا لا يمكن انفصالها عنه فلا ينافي أنه مشاهد بحاسة البصر كزفت دون ماله عين قائمة كحبال فلمصلحها. انتهى.

قوله: أي ذاتا لا يمكن انفصالها لخ، قال البناني بل المراد ما لا منفعة فيه بعد قلعه سواء أمكن انفصاله أم لا. انظر المواق. اهـ. وقال عبد الباقي: ثم ما له عين قائمة إن كان مسمرا بها أو كان هو المسامير فرب المركب مخير في إعطائه قيمته منقوضا أوأمرد بقلعه، وإن كان غير ذلك كصواري وحبال ومجاذيف بجيم وذال معجمة ونحوها فللغاصب أخذه إلا بموضع لا غنى عنها، أو مما لابد للمركب في سيره منها كما في ال تتائي، فيخير رب الركب بين إعطاء قيمته بموضعه كيف كان، أو يسلمه للغاصب. اهـ. ومقتضى قوله: أو مما لابد منها للمركب أنها لو كانت تسير بدونها سيرا بطيئا وبه بسرعة فليس لربه أخذه جبرا على الغاصب، ولو قال المص: وترك ما لا قيمة له بعد قلعه لكان أحسن؛ إذ نحو المشاق والزفت القديم يترك له وإن كان له عين قائمة. اهـ.

وصيد شبكة صيد بالجر عطف على أرض أي كراء صيد شبكة؛ يعني أن من غصب شبكة فاصطاد بها فإن لرب الشبكة كراء المثل في اصطياده بها والصيد للغاصب، ومثل الشبكة الشرك والرمح والنبل والسيف ونحو ذلك من الآلات والصيد هنا بمعنى الاصطياد، وقوله فيما مر:"وصيد عبد" بمعنى المصيد، ومثل الآلات الفرس كما مر، وفي بعض النسخ: وله صيد شبكة أي

ص: 482

للغاصب صيد شبكة، وعليها فصيد بمعنى مصيد ويلزم تشتيت الضمير ولا يستفاد منه على هذه النسخة أن عليه كراءها.

وما أنفق في الغلة يعني أن الغاصب إذا طولب بالغلة فطالب بما أنفق على الشيء المغصوب فإن ما أنفق يكون في الغلة، وكلامه في معنى الحصر أي والذي أنفق الغاصب محصور في الغلة وليست الغلة محصورة في النفقة، فإن كانت النفقة مثل الغلة تقاصا فيها فلا طالب ولا مطلوب، وإن زادت النفقة فلا رجوع للغاصب على المغصوب منه لأنها محصورة في الغلة، وإن زادت الغلة تقاصا في المماثل ورجع المغصوب منه بالزاند على الغاصب، فإذا أنفق الغاصب على المغصوب المحتاج للنفقة كالشجر والدواب وما أشبه ذلك مما لابد للمغصوب منه فتكون نفقته في عين الغلة؛ لأنه وإن ظلم لا يظلم.

وعلم مما قررت أنه إذا لم يكن للمغصوب غلة فإن الغاصب لا يرجع بشيء، قال عبد الباقي: وما أنفق الغاصب على المغصوب كعلف دابة ومؤنة عبد وكسوته وسقي أرض وعلاجها وقيام بشجر مما لابد منه في الغلة، والواو في قوله:"وما أنفق" للاستئناف، "وما مبتدأ"، و"في الغلة" خبره. اهـ المراد منه. وقال البناني: قال في التوضيح: هذا مذهب ابن القاسم في المدونة، وحاصله أنه يرجع بالأقل مما أنفق والغلة. وقاله ابن القاسم في الموازية. ثم رجع في الموازية وقال: لا شيء للغاصب واختاره ابن المواز، والأول أظهر لأن الغاصب وإن ظلم لا يظلم، وهذا في كل ما ليس للمغصوب منه بد كطعام العبد وكسوته وعلف الدابة، وأما الرعي وسقي الأرض فإن كان يستأجر له لو كان في يده فكذلك، وإن كان يتولاه بنفسه أو بمن عنده فلا شيء عليه. وقاله أصبغ في سقي الشجر وحرث الأرض. اهـ باختصار. ومثله نقله ابن عرفة عن اللخمي.

تنبيه: قال المواق: ابن يونس: وقد اختلف أيضا فيما سقى وعالج بوجه شبهة كالمشتري والموهوب له، فقال ابن القاسم: لا يأخذ المستحق حتى يدفع قيمة السقي والعلاج وهذا هو الأصوب. اهـ. قال عبد الباقي: ولما قدم أن على الغاصب قيمة المقوم يوم الغصب إذا تلف أفاد هنا أن هذا مخصوص بغير ما أعطاه فيه متعدد عطاء، بقوله: واختلف الشيوخ هل يلزم الغاصب إذا أتلف القوم الذي غصبه الثمن فقط؟ إن أعطاه أي أعطى رب المغصوب فيه أي في الشيء

ص: 483

المغصوب القوم متعددٌ من الناس فاعل أعطى، ومفعوله الأول ضمير النصب في أعطاه، والثاني قوله: كطاءً واحدا لكنه متعدد تصريحا أو ضمنا، كإعطاء واحد عشرة، وآخر خمسة عشر فالعشرة متعددة ضمنا. قاله عبد الباقي. فيلزم الغاصب به بذلك الثمن المتعدد أو يلزم الغاصب في التعدد المذكور بالأكثر منه أي من العطاء المتعدد ومن القيمة فأيهما أكثر لزمه.

وقوله: تردد مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تردد، والحاصل أن الإمام مالكا قال: إن من أتلف سلعة وقفت على ثمن دفعه فيها غير واحد أنه يلزمه ذلك الثمن الذي أعطاه فيها أكثر من واحد؛ لأنه لو شاء أن يبيع به باع، فظاهر كلام العتبي وابن يونس أن المستهلك لا يضمن إلا ما أعطي فيه سواء زاد على القيمة أو نقص، وابن رشد قيد قول الإمام بقول عيسى: يلزم المتلف الأكثر من الثمن والقيمة، فأشار بالتردد إلى اختلاف هؤلاء الأشياخ في فهم كلام الإمام فهو تردد في النقل، فابن رشد ليس في المسألة عنده إلا قولان، قول سحنون أنه لا يضمن إلا قيمتها وإن أعطاه فيها متعدد عطاء واحدا، والثاني قول الإمام المقيد بقول عيسى وابن يونس.

وعلم مما قررت أن الخلاف جار في متلف سلعة وقفت على ثمن واحد وإن لم يتعلق بها غصب، قال عبد الباقي والخلاف المذكور جار أيضا فيمن أتلف مقوما وقف على ثمن وإن لم يتعلق به غصب، وأما إذا وقف المغصوب على ثمن وفات عند الغاصب بغير تلف فإن الغاصب يضمن قيمته ولو أعطاه فيه متعدد عطاء واحدا هكذا يفيده ما تقدم من جعل الخلاف المذكور في كلام المص فيما أتلف. انتهى. واللَّه تعالى أعلم.

وإن غصب مقوم ثم وجد المغصوب منه غاصبه أي غاصب ذلك القوم بغيره الضمير للشيء المغصوب والباء للملابسة؛ أي وإذا وجد المغصوب منه الغاصب متلبسا بغير المغصوب أي ليس المغصوب القوم عنده ووجد الغاصب في غير محله أي محل الغصب، فله أي للمغصوب منه تضمينه أي الغاصب القيمة، قال الخرشي وعبد الباقي: وله أن يكلفه أن يخرج هو أو وكيله ليدفعه للمغصوب منه، واستعمل المص الباء في معنى الملابسة في الأول والظرفية في الثاني، قال عبد الباقي: وإنما كان له تضمينه هنا بخلاف المثلي لأن الذي يغرم في المثلي هو المثل، وربما

ص: 484

يزيد في غير بلد الغصب والذي يغرم في المقوم هو القيمة يوم الغصب في محله، ولا فرق بين أخذها في بلد الغصب وغيره؛ لأنه لا زيادة فيها. قاله أحمد.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: هذا ظاهر إن فات المقوم، وإن كان قائما فمقتضى صنيع الخرشي وعبد الباقي المتقدم أنه يخير في أن يضمنه القيمة هنا وفي أن يكلفه بدفع المغصوب له فيخرج إليه هو أو وكيله، وكلام المص كالصريح في ذلك، وقال البناني: ولو قال المص وإن وجد غاصبه بدونه بدل قوله بغيره كان أولى؛ لأن قوله بغيره يقتضي أنه مصاحب لغيره وليس بمراد. انتهى. وقوله: "وإن وجد غاصبه بغيره وغير بلده فله تضمينه"، قال البناني: هذا في القوم وكذا في المثلي الذي هو جزاف يقضى فيه بالقيمة لا بالمثل، وكذا إذا علم قدر المثلي لكن تعذر الوصول لبلد الغصب على خلاف في هذا. انظر كلام البرزلي في الحطاب. انتهى. وقد مر قول المص:"وصبر لوجوده ولبلده" وهذا لا يجري عليه. واللَّه تعالى أعلم.

ومعه أخذه إن لم يحتج لكبير حمل يعني أن المغصوب منه إذا وجد الغاصب في غير محل الغصب والشيء المغصوب المقوم معه، فإنه يتعين عليه أخذه أي بحيث لا يكون له إلزام الغاصب القيمة، هذا إذا لم يكن الشيء المغصوب محتاجا لكبير حمل أي إلى مؤنة وكلفة كبيرة تصرف إليه إلى أن يصل إلى محل الغصب، وأما إن احتاج إلى ذلك فإن المالك يخير حينئذ بين أن يأخذ متاعه أو يضمن الغاصب قيمته يوم غصبه، ولا فرق بين احتياجه لكبير حمل في ذهاب الغاصب له وفي رجوعه به، والحاصل أن القوم إذا احتاج إلى كبير مؤنة من كراء في الحيوان والرقيق وكلفة ومؤنة في السلع فذلك فوت يوجب الخيار بين أخذ ذلك وتضمينه القيمة. هذا محصل ابن رشد على قول مالك وأما إن لم يحتج ما ذكر إلى ذلك كالرقيق الذي لا يحتاج إلى الكراء والدواب التي إنما تركب أو تكرى والسلع حيث لم تحتج لكبير حمل فيتعين أخذ ذلك، وهذا خلاف قول سحنون: إن نقل القوم ليدر بفوت فليس لربه إلا أخذ ذلك الشيء بعينه، وعبارة عبد الباقي: فإن احتاج ربه لكبير حمل في رجوعه عرضا أو رقيقا خير بين تركه وتضمينه القيمة وبين أخذه بدون أجرة حمله كما هو ظاهر كلامهم؛ لأن خيرته تنفي ضرره، وإنما خير ربه إذا احتاج لكبير حمل؛ لأنه لا انضم لفعل الغاصب الاحتياج صار بمنزلة حدوث عيب فيه في الجملة، وإنما لم

ص: 485

يجعلوا النقل هنا فوتا تتعين فيه القيمة بخلاف البيع الفاسد [لأنه]

(1)

فيه نقله على أنه ملكه وهنا نقله على أنه ملك الغير فهو متعد بالنقل. انتهى.

لا إن هزلت جارية راجع لقوله: "كإن فات" يعني أن من غصب جارية فهزلت الجارية فإن ذلك لا يفيتها، فيأخذها ربها وإن لم تعد لسمنها على المعتمد، وقوله:"هزلت" بالبناء للمجهول. قال الرهوني: قال في المصباح هزلت الدابة أهزلها من باب ضرب هزلا كقفل: أضعفتها بإساءة القيام عليها، والاسم الهزال وهزلت بالبناء للمفعول فهي مهزولة. انتهى. وفي القاموس: والهزال بالضم نقيض السمن هُزِلَ كعُنِى هزالا وهَزَل كنصر هزلا ويضم وهزلته أهزله وهزلته وأهزلوا هزلت إبلهم. انتهى.

أو نسي عبد صنعة ثم عاد يعني أن من غصب عبدا أو جارية وكل منهما له صنعة يعرفها فنسيها ثم عاد إلى صرفة صنعته فإنه لا يفوت، فيأخذه المغصوب منه، ومفهوم قوله:"ثم عاد" أنه إن لم يعد فإنه يفوت، قال عبد الباقي: أو نسي عبدٌ أو جارية صنعة ثم عاد العبد لمعرفتها فلا يفوت فإن لم يعد فات. أو خصاه فلم ينقص يعني أن من غصب عبدا فخصاه فلم ينقصه الخصاء فإنه ليس لربه إلا أخذه، فإن نقصه أخذ مع ما نقصه، قال المواق: ابن شأس: إذا غصب عبدا فخصاه ضمن ما نقصه فإن لم ينقصه ذلك أو زادت قيمته لم يضمن شيئا وعوقب. انتهى. وفهم من المص أن الخصاء ليس بمثلة مفسدة وإلا لعتق العبد، والحاصل أن المثلة إن أفسدت منافع الرقيق أو جلها وجب العتق بها مطلقا في رقيقه وفي رقيق الأجنبي، وإن كانت غير مفسدة لم توجب العتق إلا في رقيقه كما يأتي في كلام المص الآتي في القسم الثاني، وكلام المدونة في الأولى فلا معارضة بينهما، وفي التوضيح عن ابن القاسم: تمثيله بعبد ولده بمنزلة مثلته بعبد خيره من الأجنبي لا يعتق عليه إلا أن تبطل منافعه.

أو جلس على ثوب غيره في صلاة يعني أن من جلس على ثوب غيره في الصلاة فقام صاحب الثوب فانقطع ثوبه فإنه لا ضمان عليه، قال المواق: ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ: من جلس على ثوب رجل في الصلاة فيقوم صاحب الثوب المجلوس عليه وهو تحت الجالس فينقطع فلا يضمن، وهذا مما لا يجد الناس منه بدا في صلواتهم ومجالسهم. انتهى. وقال

(1)

في الأصل: لأن، والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 147.

ص: 486

عبد الباقي: أو جلس على ثوب غيره في صلاة وقام صاحب الثوب فانقطع، قال عبد الملك: لا شيء عليه لأنه مما تعم به البلوى في الصلوات والمجالس، وعلى هذا فلا خصوصية لقوله:"في صلاة". قاله ال تتائي. وعلل المص أيضا بأن صاحب الثوب هو المباشر لقطع ثوبه والجالس متسبب سببا ضعيفا والمباشر مقدم على ذي السبب الضعيف، بخلاف القوي فإن الضمان عليهما معا كما يأتي في الجراح من قوله:"والمتسبب مع المباشر كمكره ومكره" وظاهر قوله: "في صلاة" ولو كان كل منهما عاصيا بها كتنفل كل وعليه فريضة ذاكرا لها، وهذا بخلاف من وطئ على نعل غيره فمشى صاحب النعل فانقطع فيضمنه الواطئ أي يضمن المقطوعة مع نقص الأخرى فيما يظهر، والفرق أن الصلاة ونحوها يطلب فيها الاجتماع دون الطريق؛ إذ لا حق له في مزاحمة غيره، ومثل وطء النعل قطع حامل حطب ثياب مار بطريق كما في المدونة وشرحها، وقول ال تتائي: إنها تقاس على واطئ النعل قصور، وظاهره ولو مع الإنذار وينبغي عدم الضمان معه كما هو مذهب الشافعي، ومثل المص في عدم الضمان عند ابن رشد ما إذا أسند جرة زيت مثلا إلى باب رجل ففتح الباب فانكسرت، فقد سئل عنها ابن رشد فقال لا أذكر في هذه نصا لأحد ويجري فيها على أصولهم قولان: تضمين رب الدار وعدمه، وبه كنت أقضي.

ابن عرفة: ونقل ابن سهل في رجل وضع جرة زيت حذاء باب رجل، ففتح الرجل بابه ولا علم له بالجرة وقد كان مباحا له وغير ممنوع أن يفتح بابه ويتصرف فيه فانكسرت الجرة فضمنه مالك ليس هو مسألة ابن رشد؛ لأن قوله حذاء باب رجل مع قوله أخيرا أن يفتح بابه ويتصرف فيه ظاهر في أن الجرة لم توضع على خشبة الباب بل بقربه، ولذا قال ابن رشد: لا أعرف فيها أي في مسألته نصا فتأمله، وفرق بعض الشيوخ بين فتحه الباب العهود فتحه فلا يضمن وبين فتحه العهود عدم فتحه فيضمن. ذكره ال تتائي عند قوله:"أو حرزا"، واختار ابن أبي زيد في مسألة ابن رشد الضمان وهو ظاهر؛ لأن الخطأ والعمد في أموال الناس سواء، زاد ابن أبي زيد: وهذا بخلاف من بنى تنورا بداره لخبزه فاحترقت منه الدور وبيوت الجيران فلا ضمان عليه كما في المدونة، والفرق على ما لابن أبي زيد مع أن كلا فعل ما يجوز له أن فتح الباب وكسر الجرة

ص: 487

جناية واحدة فهو مباشر، والثاني كان أول فعله جائزا لا جناية فيه وإنما نشأت بعد ذلك فليست بمباشرة. انتهى.

قوله: وليس هو مسألة ابن رشد لخ، فرق ابن عرفة: هذا ليس بظاهر والظاهر ما لأبي الحسن أنهما سواء، ويدل له ما ذكره عبد الباقي نفسه عن ابن أبي زيد ونقله الوانوغي، ونصه: سئل أبو محمد عن الفرق بين الذي يجعل جرة على باب رجل فيفتح الباب فتكسر الجرة أنه ضامن، وبين الذي بنى تنورا في داره لخبزه فاحترقت منه الدور وبيوت الجيران أنه لا ضمان عليه حسبما في كراء الدور، وكل منهما فعل ما يجوز له من فتح الدار والوقيد، فقال: الفرق أن فاتح الباب كان فتحه له وجنايته في فور واحد فهو مباشر، والباني أول فعله جائز ولا جناية فيه، وإنما نشأت بعد ذلك فليس بمباشر فافترقا. الوانوغي: فلم يقف ابن رشد على ما حكينا عن ابن أبي زيد، وقد ذكره ابن سهل رواية عن مالك. انتهى. وقول عبد الباقي في النعل مع نقص الأخرى فيما يظهر. انظر ما يأتي عند قوله:"وإن لم يفته فنقصه".

أو دل لصا يعني أن من دل لصا أو غاصبا أو محاربا لا يضمن ما أتلفه اللص أو الغاصب أو المحارب أو فوته، قال عبد الباقي: أو دل لصا أو غاصبا أو محاربا والمعتمد أن عليه في ذلك الضمان، بل جزم به ابن رشد ولم يحك فيه خلافا، ومثل دلالته ما لو حبس متاعا عن ربه حتى أخذه اللص ونحوه، والظاهر رجوع الدال حيث ضمن على اللص. انتهى. وقال البناني عند قوله:"أو دل لصا" ما نصه: هذا خلاف المعتمد الذي اختاره أبو محمد وجزم به ابن رشد ولم يحك فيه خلافا، واعلم أنه على القول المعتمد يكون للمالك غريمان يخير فيهما. انتهى. وقال الحطاب: انظر كيف مشى هنا على أنه لا يضمن مع أن الذي جزم به ابن رشد أنه يضمن ولو أكره على ذلك، وهو الذي اختاره أبو محمد. انتهى المراد منه. وقال الخرشي: والذي به الفتوى في قوله: "أو دل لصا" الضمان وجزم به ابن رشد، والظاهر رجوع الدال حيث ضمن على اللص. انتهى.

مسألة: يضمن من أقر بالرق لغيره وباعه وهو ساكت لأنه أتلف الثَّمن على المشتري بسكوته إلا أن يكون صغيرا أو نحوه. قاله الشارح. ونحوه للخرشي فإنه قال: قال ابن رشد: من اتفق مع

ص: 488

رجل أن يقر له بالرق ليبيعه ويقسمان الثمن ففعل وهلك البائع ضمن؛ لأنه أتلف الثمن على المشتري بسكوته إلا أن يكون صغيرا أو نحوه. انتهى.

أو أعاد مصوغا على حاله يعني أن من غصب مصوغا أي حليا مصوغا فكسره ثم أعاده على حالته التي كان عليها فإنه لا شيء عليه على المشهور، وهو قول ابن القاسم وأشهب: يأخذه بلا غرم، ومقابل المشهور هو قول ابن يونس: الصواب غرم قيمته وإن عاد لهيئته؛ لأن هذه الصياغة غير تلك. انتهى. ومفهوم قوله: "على حاله" أنه إن لم يعد على حاله لم يكن لربه أخذه، وإنما له القيمة، قال المواق: ابن المواز: وإن صاغه على غير صيغته لم يأخذه ولم يكن له إلا قيمته يوم غصبه، ولهذا قال: وإن أعاده على غيرها أي غير الحالة التي كان عليها، فعلى الغاصب قيمته يوم غصبه وليس لربه أخذه لفواته، قال عبد الباقي: أو أعاد مصوغا غصبه فكسره ثم أعادهُ على حاله فلا شيء عليه ولا يرجع بقيمة الصياغة، وأما لو باعه الغاصب فكسره المشتري وأعاده على حاله لم يأخذه إلا بدفع أجرة الصياغة لعدم تعديه. قاله ال تتائي. أي يأخذ الأجرة من المغصوب منه، ويفهم من تعليله أن ذلك في مشترٍ غير عالم بالغصب وإلا فكالغاصب، وينبغي في الأول أن يرجع المغصوب منه على الغاصب بما دفعه للمشتري من أجرة الصياغة، وربما يدل له رجوع الغاصب على الأجنبي بأرش الجناية حيث غرم القيمة لربه، وإن أعاده على صياغة غيرها أي مغايرة لها أو مثلها لكن أزيد أو أنقص مما كان فقيمته متعينة وليس له أخذه لفواته، والفرق بينه وبين ما تقدم من تخييره مع الفوات في مسألة ما إذا احتاج لكبير حمل أن هذا غير شيئه حكما، وما تقدم عين شيئه. انتهى.

ككسره تشبيه في لزوم القيمة يعني أن من غصب حليا مصوغا وكسره فإنه يلزمه قيمته يوم الغصب وقاله ابن القاسم ورجع إليه بعد أن كان أولا يقول: إنما يلزمه الصياغة ويأخذ عين شيئه: وقال أشهب: يصوغه إن قدر على صياغته فإن لم يقدر فعليه ما نقصه، وما ذكر واضح في المباح، وأما غيره فيأخذه مكسورا إذ الصياغة المحرمة لا يجوز بقاؤها. انتهى؛ يعني واللَّه تعالى أعلم كآنية النقد ونحوها مما لا يجوز كتحلية المرآة.

ص: 489

أو غصب منفعة فتلفت الذات يعني أن من غصب منفعة دار ونحوها مما لا ينقل فتلفت الذات فإنه لا يضمن قيمة الذات وإنما يضمن قيمة المنفعة أي قيمة ما استولى عليه منها ولو جزءا يسيرا من الزمن، كغصبه دارا لقصد انتفاعه بها كسكنى من غير قصد تملك الذات فتلفت بسماوي لا سبَبَ للمتعدي فيه، وبهذا فارقت مسألة تعدي المستعير والمستأجر إذا زادا في المسافة؛ لأن الدابة لما تعدى عليها بزيادة المسافة فمهما طرأ عليها شيء ولو صاعقة من السماء قلنا له تعديك عليها بزيادتك لذلك الموضع هو الموجب لهلاكها فلا يعلم كونه قط بغير سببه، وفرض ابن الحاجب هذه المسألة في غصب الدار لأنها التي يتحقق فيها التلف من غير سبب المتعدي، بخلاف الدابة كما عرفت.

قال الرهوني: وقد وجد ما يقوي نقل ابن الحاجب وهو نقل ابن يونس عن ابن القاسم نصا وإتيانه به فقها مسلما، مع أن ابن عرفة نقل ما هو شاهد لابن الحاجب، ونصه: قال الشيخ في الواضحة عن الأخوين: من غصب سكنى دار دون أصلها فانهدمت من غير فعله فلا شيء عليه إلا كراء ما سكن، وإن انهدمت من فعله خير ربها في قيمتها يوم الغصب ولا كراء له وفي كرائها وله البقعة ولا شيء له من قيمة الهدم وإن شاء فله النفقة وقيمة الهدم، ولا شيء له من الكراء، قلت: فقولهم في هذه المسألة واضح في التفرقة بقصد الملك وعدمه. انتهى. فكلامه هذا وحده كاف في أن الصواب ما لابن الحاجب لا ما لابن شأس، ثم ذكر عن تعاليق أبي عمران ما يشهد لابن الحاجب أيضا ونحوه لأبي عمر في الكافي، ثم قال: فكلام أهل المذهب مخالف لابن شأس. انتهى كلام الرهوني.

وكلام ابن شأس الذي أشار إليه هو قوله: فأما لو غصب السكنى فقط فانهدمت الدار إلا موضع سكناه لم يضمن ولو انهدم مسكنه لغرم قيمته. انتهى. وأعرض ابن الحاجب عن كلام ابن شأس، فغاصب منفعة الدار لا يضمن إلا ما كان من سبب الغاصب عند ابن الحاجب، وعند ابن شأس يضمن ما سكن ولو بسماوي. واللَّه تعالى أعلم.

أو أكله مالكه ضيافة يعني أن من غصب طعاما فقدمه لربه وأكله فإنه لا ضمان على الغاصب لأن ربه أكله، قال عبد الباقي: أو غصب طعاما فقدمه لربه وأكله مالكه ضيافة أو بغير إذن الغاصب

ص: 490

أو أكرهه على أكله فلا ضمان على الغاصب، قال في الذخيرة: وكيف يليق أن ينتفع الإنسان بطعامه ويضمنه لغيره. انتهى. وسواء علم مالكه أنه له أم لا لأن ربه باشر إتلافه، وهذا مقيد بما إذا كان ذلك الطعام يناسب حال مالكه وإلا ضمنه الغاصب لربه ويسقط من قيمته الذي انتفع به ربه أن لو كان من الطعام الذي شأنه أكله. قاله ابن عبد السلام بلفظ ينبغي. كما إذا كان الطعام يساوي عشرة دنانير ويكفي مالكه من الطعام الذي يليق به نصف دينار، فإن الغاصب يغرم له تسعة دنانير ونصفا، وينبغي إذا أكله بغير إذنه أن يقيد بما إذا أكله قبل فوته عند الغاصب، ولزمته قيمته وإلا رجع على الآكل بقيمته لأنه أكل ملك الغاصب ويرجع هو عليه بقيمة المغصوب، وقد تختلف القيمتان أشار له أحمد. انتهى.

أو نقصت للسوق يعني أن من غصب سلعة ولم تتغير عن حالها إلا أنها نقصت قيمتها لأجل تغير الأسواق فإن ربها يتعين عليه أخذها وليس له أن يلزم الغاصب القيمة هذا هو المشهور ولا شيء له على الغاصب، وسواء طال زمانها عند الغاصب أم لا، قال عبد الباقي: أو نقصت السلعة المغصوبة بمعنى نقصت قيمتها للسوق أي لأجل تغيره من غير تغير ذاتها، فيأخذها ربها ولا شيء له لعدم اعتبار تغير السوق في هذا الباب بخلاف المستأجر والمستعير، ولعل الفرق أن جعل حوالة السوق هنا مفيتة فيه إعانة للغاصب على ما قصده من ملك الذات والمستأجر والمستعير إنما تعديا على المنفعة ولم يقصدا تملك الذات. انتهى. وفي نسخة: أو نقصت السوق بلا لام والسوق مرفوع فاعل نقصت، وفي نسخة: لا لسوق ومعناها أن السلعة نقصت في بدنها لا لأجل تغير سوقها، ويكون معطوفا على ما تضمن فيه القيمة وهو قوله:"وعلى غيرها فقيمته ككسره". قاله الخرشي وغيره.

أو رجع بها من سفر قوله: "بها" أي بالدابة المغصوبة يعني أن من غصب دابة فمسافر بها ثم رجع بها ولم تتغير في بدنها فوجدها ربها، فإنه يأخذها ولا شيء له من القيمة، وأما الكراء فيضمنه كما مر تشهيره عند قول المص:"وغلة مستعمل"، ولو بعد يعني أنه إذا رجعت من السفر سالمة ولم تتغير في بدنها فإنه لا يضمن قيمتها كما عرفت، ولا فرق في ذلك بين أن يكون

ص: 491

السفر قريبا وبعيدا وهذا هو المشهور، ومقابل المشهور في هذا والذي قبله أن ربها يخير في أخذها أو أخذ قيمتها.

كسارق يعني أن من سرق دابة فوجدها ربها سالمة في بدنها فإنه ليس لربها سواها، وظاهر كلام الشارح أن التشبيه تام فلا يعتبر تغير سوقها. قاله عبد الباقي. وقال ابن القاسم: ما اغتصب من دواب أو رقيق أو سرقهُ وَطال مكثه بيده فليس لربها أن يلزمه قيمتها إذا كانت على حالها. قاله المواق. وقال الخرشي: قال ابن القاسم: ولولا ما قاله مالك لجعلت على السارق كراء ركوبها وأضمنه قيمتها إذا حبسها عن أسواقها كالمكتري. انتهى.

قال مقيده عفا الله عنه: هذا واللَّه أعلم مبني على ما مر عن المدونة في أن قوله: "وغلة مستعمل" خاص بالعقار. واللَّه تعالى أعلم. وعبارة الشارح بعد أن ذكر معنى قوله: "ورجع بها من سفر ولو بعد" ما نصه: وكذلك حكم السارق.

وله في تعدي كمستأجر كراء الزائد إن سلمت يعني أن من استأجر دابة أو استعار دابة إلى مكان كذا أو ليحمل عليها قدرا معلوما إلى مكان كذا، فتعدى وزاد عليها في المسافة المشترطة زيادة يسيرة كالبريد واليوم ورجعت الدابة سالمة فليس لربها إلا كراء الزائد مع الكراء الأول في حالة الكراء أو كراء الزائد فقط في حالة العارية، وإلا أي وإن لم تسلم بأن عطبت أو تعيبت أو زاد في المسافة عن بريد أو يوم خير المالك فيه أي في كراء الزائد مع الكراء الأول في مسألة الكراء، وفي كراء الزائد فقط في مسألة العارية ولا شيء له من القيمة.

وفي أخذ قيمتها أي الدابة وقته أي وقت التعدي، قال الخرشي: ثم إنها إذا تعيبت واختار كراء الزائد فإنه يراعى في كراء الزائد ما هي عليه من العيب، فيأخذ كراء الزائد على أنها معيبة في بعض المسافة الزائدة إذا تعيبت في بعضها أو معيبة كلها إذا تعيبت في أولها، فيقال: ما كراؤها في هذه المسافة الزائدة على أنها معيبة في كلها أو في بعضها. انتهى. وقال عبد الباقي: وما ذكرناه من تخييره في زائد المسافة الكثيرة لا ينافي ما يأتي في الإجارة من أنها إذا سلمت ليس له إلا كراء الزائد لحمله على ما إذا كانت يسيرة، وما هنا في الكثيرة. انتهى. وقال البناني: لم يفرقوا هنا في زائد المسافة بين ما تعطب به وما لا تعطب به، وفرقوا بينهما في زيادة الحمل كما

ص: 492

تقدم في العارية في قوله: "وإن زاد ما تعطب به" لخ، ومثل ذلك عند ابن يونس، ونصه في كتاب العارية: وإن استعار دابة إلى مسافة فجاوزها فتلفت فربها مخير بين أن يضمنه قيمتها يوم تعدى أو كراء التعدي فقط، قال بعض فقهاء القرويين: لم يراع إذا جاوز المسافة هل جاوزها بما تعطب به في مثله أم لا تعطب في مثله كما قاله في زيادة الحمل؟

ابن يونس: الفرق بينهما أن الذي زاد في المسافة تعدى على جملة الدابة فأشبه الغاصب لها، والذي زاد في الحمل ما لا تعطب في مثله علمنا أن عطبها ليس من أجل الزيادة، فإنه لم يزد عليها شيئا وقد هلكت في موضع أذن له في سيرها فيه فافترقا. انتهى. قوله: لم يفرقوا هنا في زائد المسافة بين ما تعطب به لخ، قال الرهوني: هو كذلك بلا نزاع إذا هلكت قبل رجوعه إلى المحل المأذون فيه وإلا ففيه خلاف، ففي المنتقى ما نصه: ولو لم يعطب البعير إلا بعد أن رجع إلى المسافة التي أكري لها وخرج سالما من مسافة التعدي، فقد روى ابن حبيب عن أصبغ وابن الماجشون أنه إن كان لم يجاوز المسافة إلا باليسير مما لا خيار فيه لصاحبها مع سلامتها فليس له إلا كراء الزيادة، وقال ابن القاسم يضمنها وإن كانت الزيادة يسيرة، وروي عن مالك. انتهى.

مسألة: قال ابن يونس: قال ابن القاسم: وإذا أمرت من يضرب عبدك عشرة أسواط فضربه أحد عشر سوطا أو عشرين سوطا فمات من ذلك، فإن زاد زيادة أعانت على قتله ضمن، وقال سحنون: يضمن ولو زاد سوطا واحدا. ابن يونس: رأى سحنون أن الزائد على الضرب كالزائد على المسافة وهو أقيس، وابن القاسم رأى هذا كزيادة في الحمل فعطبت. قاله البناني. وفيه بعد كلام ما نصه: وبه تعلم أن كلامه هنا خاص بزيادة المسافة، وأن مسألة الحمل لا تدخل هنا وأنَّ إدخال الزرقاني لها هنا غير صحيح. انتهى. وقول غير واحد: وإذا تعيبت واختار كراء الزائد روعي فيه ما هي عليه من العيب؛ يعني ويعطى مع الكراء أرش العيب كما يفيده ابن يونس. قاله البناني. وجلب كلام ابن يونس.

وإن تعيب يعني أن الشيء المغصوب إذا تعيب بسماوي حيث كثر العيب، بل وإن قل فإن المغصوب منه يخير في أخذ شيئه بلا أرش نقص وفي تضمين الغاصب القيمة، ومثل للقليل السماوي بقوله: ككسر نهديها كسر هنا بمعنى انكسار؛ لأن الواقع على النهدين انكسار لا

ص: 493

كسر، أو جنى هو يعني أن الغاصب إذا جنى على الشيء المغصوب فعيبه فإن المغصوب منه يخير بين أن يأخذ شيئه مع أرش نقصه من الغاصب وأن يأخذ قيمته يوم الغصب ولا شيء له، أو أجنبي يعني أن الشيء المغصوب إذا جنى عليه أجنبي أي غير الغاصب والمالك فعيبه، فإن المغصوب منه يخير بين أن يأخذ المغصوب ويتبع الجاني بأرش الجناية وأن يتبع الغاصب بقيمته يوم الغصب، وإذا اتبع الغاصب بالقيمة يوم الغصب فلا شيء له غيرها، ويتبع الغاصب الجاني بأرش الجناية.

وعلم مما قررت أن قوله: خير أي المغصوب منه فيه أي في أخذ الشيء المغصوب بعينه وأخذ قيمته جواب الشرط، فهو راجع للمسائل الثلاث: التعييب بالسماوي، وبجناية الغاصب وبجناية الأجنبي، قال البناني:"خير فيه" يعني يخير المغصوب منه في الشيء المغصوب يريد وفي قيمته في ثلاث مسائل: الأولى إذا تعيبت بسماوي وليس له فيها إلا أخذه بغير أرش أو أخذ القيمة كما في المدونة، الثانية: إذا تعيبت بجناية الأجنبي يخير في أخذ شيئه وأخذ أرش الجناية من الجاني أو تضمين الغاصب القيمة ويتبع الغاصب الجاني كما في المدونة أيضا، وذكر ابن الحاجب هاتين الصورتين ولم يحك فيهما خلافا، الثالثة إذا تعيبت بجناية الغاصب فيخير أيضا فيها بين أخذ شيئه مع أرش الجناية من الغاصب وبين أخذ القيمة منه هذا مذهب المدونة. وذكر ابن الحاجب فيها قولين وعزا هذا لابن القاسم، ومقابله لأشهب وهو أنه ليس له إلا أخذها بغير أرش أو أخذ القيمة وجعل البساطي هذا الثاني هو المذهب، قال الحطاب: وفيه نظر؛ لأن الأول مذهب المدونة كما علمت، ولم أر من رجح الثاني ولا من شهره. واللَّه أعلم انتهى.

وتعقب مصطفى قوله، ولم أر من رجحه بما في الشارح والتوضيح وابن عبد السلام وابن عرفة من أن قول أشهب اختاره محمد. انتهى كلام البناني. وقال عبد الباقي: وإن تعيب المغصوب ذاته القوم بسماوي أو غيره ومنه غيبته على العلية دون الوخش، ثم قال: وقولي المغصوب ذاته تحرز عما تقدم من أنه إذا تعيب المستعار أو المستأجر من فعل من استاجر أو استعار، فإن ربها يخير في أخذ قيمتها أو كراء الزائد وأخذها لأنه في التعدي، وما هنا في غصب الذات كما علمت. انتهى. قوله: تحرز عما تقدم لخ، قال البناني: يقتضي أن ما تعيب في زائد المسافة في الإجارة

ص: 494

والعارية واختار ربه أخذه إنما فيه كراء الزائد دون أرش النقص، وقد تقدم رده بكلام ابن يونس فراجعه. انتهى. قوله: ومنه الغيبة على العلية هو صريح أو كالصريح في أنه يخير في تضمين الغاصب القيمة أو أخذها مع أرش نقص الغيبة عليها. قاله مقيده عفا اللَّه تعالى عنه. والقول بتضمين القيمة للأخوين وهو خلاف قول ابن القاسم لا ضمان عليه. انتهى. أي إنما لربها أخذها ولا شيء له، وقوله:"وإن قل" قال الخرشي: وأشار بالمبالغة لرد قول ابن الجلاب إنه لا يضمن ذلك بحدوث العيب القليل وإن رجحه بعض المتأخرين.

مسألة: قال الحطاب: فلو غصب أشياء مختلفة فنقصت في يده فلربها تضمينه قيمتها يوم الغصب أو أخذها ناقصة ولا شيء له وله أخذ بعضها [بنقصه]

(1)

وقيمة باقيها. انتهى. كصبغه تشبيه في التخيير؛ يعني أن من تعدى على ثوب شخص فصبغه، فإن مالكه يخير في أخذ قيمته أي قيمة الثوب أبيض يوم الغصب، وفي أخذ ثوبه ودفع قيمة الصبغ للمتعدي يوم الحكم ولا يكونان شريكين، قال غير واحد: ومحل التخيير إذا زاده الصبغ عن قيمته أبيض أو لم يزد ولم ينقص كما في التوضيح، وهو مذهب المدونة خلافا لا في البساطي. انظر أحمد. فإن نقصه الصبغ عن قيمته أبيض خير في أخذ قيمته أبيض أو أخذه مجانا كما في الجلاب، وقال أبو عمران: يخير كالتخيير الذي ذكره المص ولو نقصه الصبغ، فقوله:"كصبغه" أي كتخييره في مسألة صبغه بحذف حرف الجر لتقدم نظيره. وقوله: "في قيمته" بدل اشتمال من قوله: "كصبغه" والصبغ هنا بالمعنى المصدري، وقوله:"ودفع قيمة الصبغ" بالكسر بمعنى المصبوغ به. قاله عبد الباقي وغيره. قوله: وهو مذهب المدونة لخ، قال البناني: هذا راجع للتخيير المذكور لا بقيد أن الصبغ زاد أو لم يزد ولم ينقص؛ لأن الذي في المدونة أنه إن أخذ الثوب غرم قيمة الصبغ وأطلقت في ذلك، ومقابله قول أشهب: لا شيء عليه في الصبغ وليس فيها تقييد بالزيادة والمساواة، وإنما التفصيل في التوضيح وغيره عن الجلاب. انتهى. وقال المواق: قال ابن القاسم: ومن غصب ثوبا فصبغه خير ربه في أن يأخذ من الغاصب قيمته يوم غصبه أو يعطيه قيمة صبغه ويأخذ ثوبه ولا يكونان شريكين فيه. انتهى. ولو سقط ثوب في قدر صباغ فانصبغ الثوب، قالوا: يكونان شريكين فيه، هذا بقيمة ثوبه وهذا بقيمة صبغه. انتهى.

(1)

في الأصل: لنقصه، والمثبت من الحطاب ج 6 ص 32 ط دار الرضوان.

ص: 495

وفي بنائه في أخذه ودفع قيمة نقضه يعني أن من غصب عرصة وبنى فيها أو غرس فإن المغصوب منه يخير في أخذ البناء والغرس ودفع قيمة البناء منقوضا والغرس مقلوعا، وفي أن يأمر الغاصب بقلع بنائه وتسوية الأرض، وإذا اختار أخذ البناء والغرس ودفع قيمة ذلك الشيء منقوضا أو مقلوعا فإنما يدفعها بعد سقوط كلفة أي يدفع قيمة البناء منقوضا والغرس مقلوعا بعد أن يسقط من ذلك كلفة النقض والقلع، وهذا إن لم يتولها أي الكلفة الغاصب أي لم يكن من شأنه توليها بنفسه أو خدمه، وأما إن كان شأنه أن يتولاها بنفسه أو خدمه فإنه لا يسقط من قيمة النقض ومقلوع الغرس شيء أي فيدفع للغاصب قيمة ذلك منقوضا أو مقلوعا بتمامها، ويؤخذ من الغاصب في الحالتين أجرة الأرض زمن غصبه كما قدمه بقوله:"وغلة مستعمل" فيسقط ذلك أيضا من قيمة النقض إذا أخذ المغصوب منه البناء وهذا حيث استغل بعد البناء والغرس.

تنبيه: قال عبد الباقي: إن أزال الغاصب ما يأخذه المغصوب بلا شيء كجص وحمرة غرم قيمته قائما للمغصوب. انتهى. الرهوني: قال ابن ناجي عند قول المدونة وكل ما لا منفعة فيه للغاصب بعد القلع كالجص والنقش فلا شيء فيه ما نصه: يريد وإذا أزاله فإنه يغرم قيمته وعرضته على غير واحد ممن لقيناه فارتضى ذلك، وقول عبد الباقي: أو غرسه ظاهره أنه يخير ولو كان الغرس ينبت بأرض أخرى وهو ظاهر المدونة وغيرها، وقيده اللخمي بما إذا كان لا ينبت وإلا فللغاصب أخذها، قال أبو الحسن: ولم أره لغيره.

فرع قال الحطاب: قال ابن عرفة: وفي تضمين الصناع منها ولك أخذ ما خاطه الغاصب بلا غرم أجر الخياطة لتعديه، قلت: الفرق بينهما أن الصبغ بإدخال صنعة في المغصوب فأشبه البناء والخياطة مجرد عمل فأشبه التزيين. انتهى.

وضمن منفعة الحر والبضع بالتفويت يعني أن من غصب امرأة أو حرا واستعملهما بأن وطئ بضع المرءة واستخدم الحر فإنه يضمن منفعة البضع والحر، فالمراد بالتفويت الاستيفاء فعليه في بضع الحرة صداق المثل، وفي بضع الأمة ما نقصها علية كانت أو وخشا، فإن لم يستوف البضع بالوطء ولا استعمل الحر بالاستخدام بل عطل كلا عن العمل والوطء فلا شيء عليه.

ص: 496

كحر باعه وتعذر رجوعه يعني أن من غصب حرا فباعه وتعذر رجوعه فإنه يلزمه أن يؤدي ديته لأهله سواء تحقق موته أو ظن أو شك فية، قال الحطاب: ويضرب ألف سوط ويحبس سنة، وكذا لو فعل به ضياعا تعذر رجوعه به وإن لم يبعه، فإن رجع فإنه يرجع للبائع ما غرمه. قاله عبد الباقي. سحنون: من غصب أم ولد فماتت عنده لا ضمان عليه فيها، كالحرة يغتصبها فتموت عنده. ابن رشد: قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن أم الولد أحكامها كالقن حتى يموت سيدها أصح فلا تشبه الحرة، ألا ترى أن الحرة لا يضمنها بالنقل؟ بخلاف الأمة ومن فيها بقية رق. قاله المواق.

ومنفعة غيرهما بالفوات يعني أن من غصب منفعة غير الحر والبضع بأن لم يقصد تملك الذات وإنما قصد غصب المنفعة فقط، فإنه يضمن تلك المنفعة وإن لم يستعملها ولا استغل، قال عبد الباقي: وضمن منفعة غيرهما بالفوات وإن لم يستعمله ولا استغله كدار غلقها وعبد ودابة حبسهما ولم يستعملهما، وهذا إذا غصب المنفعة فلا يخالف قوله فيما تقدم:"وغلة مستعمل" لأنه في غصب الذات. انتهى. وقال الخرشي: يعني أن من تعدى على منفعة غير منفعة الحر والبضع لا يضمنها إلا بالفوات، سواء استعمل أو عطل كالدار يغلقها والدابة يحبسها والعبد لا يستخدمه، ولا يخالف هذا ما مر من قوله:"وغلة مستعمل" إلى آخر ما مر.

وهل يضمن شاكيه لمغرم زائدا على قدر أجرة الرسول، قوله:"لمغرم" بضم الميم وفتح الراء مشددة ومخففة متعلق "بيضمن"، وبكسرها مشددة ومخففة متعلق بشاكيه، ومعنى كلام المصنف أن من تعدى على شخص بأخذ مال منه أو بمنعه حقا له عليه فشكا ذلك الشخص المتعديَ إلى من غرمه أكثر مما يستوجبه المشكوُّ، فإنه اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها أن الشاكي يضمن الزائد على ما يستوجبه المشكو أي يغرم جميعه للمشكو إن ظلم الشاكي في شكوه بأن قدر على أن ينتصف من المطلوب بدون شكواه، فتعدى بشكوه إلى المشكو إليه فغرمه ما لا يجب عليه فيغرم جميعه أي قدر ما يستأجر به الشاكي رسولا لو فرض أنه استأجره وما زاد على ذلك، وعلى هذا القول إن لم يظلم الشاكي بل كان هو المظلوم فقط فإن الشاكي يغرم للمشكو قدر أجرة الرسول لو

ص: 497

فرض هناك رسول، وتحقيق هذا القول أن الشاكي يغرم جميع الزائد إن كان ظالما في شكواه، فإن لم يظلم فإنما يغرم للمشكو قدر أجرة الرسول.

ثانيها أشار إليه بقوله: أو الجميع يعني أن من الشيوخ من قال: إن الشاكي يضمن للمشكو جميع الزائد إن كان الشاكي ظالما في شكواه أي يضمن أجرة الرسول والزائد عليها إن ظلم، وأما إن لم يظلم الشاكي فلا يغرم للمشكو شيئا لا زائدا ولا غيره، وتحقيق الفرق بين هذين القولين أنهما متفقان على أن الشاكي يضمن الجميع إن ظلم ومختلفان إن لم يظلم، فالأول يوجب غرم قدر أجرة الرسول فقط لا غير، والثاني لا يوجب غرم شيء لا أجرة ولا غيرها.

ثالثها أشار إليه بقوله: أولا يعني أن من الشيوخ من قال: إن الشاكي لا غرم عليه فلا يغرم زائدا ولا غيره، وسواء كان الشاكي ظالما أو مظلوما وإنما عليه الأدب فقط. وقوله: أقوال مبتدأ حذف خبره أي في ذلك ثلاثة أقوال: الأول لبعض شيوخ ابن يونس، والثاني لبعض الأشياخ، قال عبد الباقي: المفتى به بمصر الثاني وهو الموافق لقول ابن عاصم في أجرة الرسول:

وأجرة العون على طالب حق

ومن سواه إن ألد تستحق

فقد جعل الأجرة على المطلوب إن كان ملدا وهو بلدده ظالم فشاكيه غير ظالم، كما أنه إذا كان غير ملد يقتضي كون شاكيه ظالما، وظاهر كلامهم جريان هذه الأقوال سواء قدر المظلوم على الرجوع على الظالم أم لا. انتهى. والثالث عزاه ابن يونس للكثير، قال عبد الباقي: وهو يشعر بترجيحه. انتهى. قال البناني: فيه نظر، بل الذي يدل على ترجيحه ما في الحطاب من عزوه لأكثر الأصحاب. انتهى. قوله وهل يضمن شاكيه لخ لا يختص بالغاصب كما نص عليه غير واحد.

وملكه إن اشتراه يعني أن الغاصب يملك الشيء المغصوب إذا اشتراه من ربه أو وهب له أو حصل نحو ذلك، قال عبد الباقي: وملكه أي الغاصب إن اشتراه من ربه أو ممن يقوم مقامه، وهذا معلوم أن كل من اشترى شيئا ملكه، ونبه عليه ليرتب عليه قوله: ولو غاب يعني أن الغاصب إذا اشترى المغصوب يملكه ولا فرق في ذلك بين كون الشيء المغصوب حاضرا وغائبا، قال عبد

ص: 498

الباقي: ورد بلو قول أشهب إنه إنما يجوز بيعه من غاصبه بشرط أن يعرف القيمة ويبذل ما يجوز فيها بأن ينقد قدر القيمة فأقل ويحبس الزائد حتى يتحقق أنه موجود ليلا يتردد بين السلفية والثمنية، وبدون هذا لا يتم الرد على أشهب؛ لأنه لا يقول بمنع الشراء مطلقا، ونبه على قوله:"وملكه إن اشتراه" ليرتب عليه قوله: "ولو غاب" وليفهم أن التردد أول البيع ضعيف وأنه يكفي العزم على الرد. فقط. انتهى.

قوله: وأنه يكفي العزم على الرد أي بأن يقر له بالغصب وقد عزل وعاد ممن تأخذه الأحكام، قال ابن رشد: فإن كان على حاله من الظلم والتعدي والقدرة على الامتناع من جريان الحق عليه فهو شراء فاسد؛ لأن ربه مغلوب على بيعه منه وإن كان مقرا له. انتهى. قاله البناني. وقول عبد الباقي عن أشهب: إنما يجوز بيعه من غاصبه لخ، قال البناني: نص ابن الحاجب وفيها لو نقل الجارية إلى بلد ثم اشتراها من ربها في بلد آخر جاز، وقال أشهب: بشرط أن تعرف القيمة ويبذل ما يجوز فيها بناء على أصل السلامة ووجوب القيمة. اهـ. التوضيح: قوله جاز أي الشراء بناء على أن الأصل سلامتها في موضعها، ورأى أشهب أن قيمتها قد وجبت على الغاصب بوضع يده عليها، فلابد أن يعرف قيمتها ويشتريها بما يجوز أن يشتري به تلك القيمة، وبه قال سحنون ومال إليه ابن المواز. اهـ. فالمبيع على قول أشهب هو القيمة الواجبة لا ذات المغصوب لفواتها بالغيبة، وبه يتبين لك أن قول الزرقاني بأن ينقد قدر القيمة فأقل ويحبس الزائد لخ غير صحيح فتأمله. اهـ المراد منه.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: وقد مر عند قول المص: "ومعه أخذه إن لم يحتج لكبير حمل" أن نقل الحيوان والعروض فوت يوجب للمغصوب منه الخيار في أخذ عين شيئه وتضمين ربه القيمة للغاصب، فإذا غاب المغصوب واشتراه الغاصب من مالكه ملكه لأن شراءه ذلك جائز، وأشهب إنما يفوت تخييره فيه بشرائه للقيمة التي ترتبت في ذمته بما يجوز شراؤها به. واللَّه تعالى أعلم.

أو غرم قيمته عطف على قوله: اشتراه يعني أن الغاصب يملك الشيء المغصوب إذا غرم قيمته وظاهر المص أنه يملكه إذا غرم القيمة بالفعل وليس ذلك بمراد، وإنما مراده أنه يملكه إذا حكم

ص: 499

عليه بغرم القيمة وإن لم يغرمها بالفعل، فإذا حكم عليه بها ثم وجد المغصوب فإنه ليس للمغصوب منه فيه كلام وإنما هو للغاصب، هذا إن لم يموه الغاصب أي لم يكذب في دعواه التلف. سواء كذب في الصفة أم لا، ففي المنطوق صورتان، وأما إن كذب في دعوى التلف فإنه لا يملكه ولو غرم قيمته بالفعل سواء كذب في الصفة أم لا، ففي المفهوم صورتان أيضا وقوله:"إن لم يموه" شرط في قوله: "أو غرم قيمته" فقط لا في قوله: "إن اشتراه ولو غاب" لأنه يملكه، ولو موه في الغيبة بأن لم يغب، وبهذا تعلم أن قول عبد الباقي: أو غرم قيمته أي حكم الشرع عليه بها لفوته وإن لم يغرمها بالفعل ولا حكم بها قاض، وسواء حكم عليه بها شرعا لزوما أو مع تخيير المغصوب منه. اهـ. غير صحيح. لما علمت أنه إنما يملكه بحكم الحاكم عليه بالقيمة، قال البناني: قول عبد الباقي وإن لم يغرمها بالفعل ولا حكم بها قاض لخ فيه نظر، بل عبارتهم تدل على أنه لابد من حصول الحكم بها من قاض، وعبارة المدونة: قال ابن القاسم: لو قضينا على الغاصب بالقيمة ثم ظهرت الأمة بعد الحكم، فإن علم أنه أخفاها فلربها أخذها ورد ما أخذ. اهـ. وقال ابن الحاجب: وإذا حكم بالقيمة ملكه الغاصب فلا رجوع له في مثل الآبق على الشهور. اهـ.

ومثله في عبارة التوضيح، وقال أحمد: ظاهر المص أنه لابد أن يغرمها بالفعل، وأما الحكم بذلك فلا يكفي، وعبارة المدونة: إذا حكم بذلك. اهـ. وقول المص: إن لم يموه أي لم يتبين كذبه في دعواه التلف، قال في التوضيح: أشهب: ويحلف أنه لم يخفها عن ربها، ولقد كانت فاتت من يده وتبقى له. أبو الحسن: وقوله تفسير اهـ ابن عرفة: قال اللخمي: وأرى إذا وجد الجارية عند الغاصب أن لصاحبها أن يأخذها ويحمل على أنه أخفاها لأنه قد علم رغبته فيها وتحامله عليها بالغصب، ومن غصب يخفي فيحمل على أن يده عليها حسبما كانت حتى يعلم أنها خرجت عن يده ثم عادت. اهـ. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: لو قضينا على الغاصب بالقيمة ثم ظهرت الأمة بعد الحكم، فإن علم أنه أخفاها فلربها أخذها ورد ما أخذ، وإن لم يعلم ذلك لم يقر بها ربها إلا أن تظهر أفضل من الصفة بأمر بين فله الرجوع بتمام القيمة، وقاله أشهب قال: ومن قال إن له أخذها فقد أخطأ. اهـ. وإن لم يكذب في الذات بل كذب في الصفة

ص: 500

فقط، كقوله: أسود فتبين أنه أعلى كأبيض مثلا وغرم قيمته أسود رجع المغصوب منه عليه أي على الغاصب بفضلة أخفاها فهو راجع لإحدى صورتي المنطوق.

قال عبد الباقي: وأما الذكورة والأنوثة فمن الاختلاف في الذات أي قال غصبت جارية وقال المالك عبدا، فالقول للغاصب إلا أن يظهر أنه عبد بعد إعطاء قيمة الجارية فله النقض للبيع كما في الشارح وال تتاني، وإذا اختلف الغاصب والمغصوب منه في تلف الشيء المغصوب فادعى الغاصب أنه تلف وقال المغصوب منه إنه لم يتلف أو اختلفا في نعته أو قدره كان القول له أي للغاصب في تلفه ونعته أي صفته، وقدره وحلف في المسائل الثلاث وظاهر المص أن القول للغاصب في نعته وقدره بيمين أشبه أم لا، وقيده غير واحد بما إذا أشبه وإن لم يشبه فالقول للمغصوب منه بيمين إن أشبه، فإن لم يشبها قضي بأوسط القيم بعد أيمانها، قال الخرشي: يعني أن الغاصب إذا قال إن الشيء المغصوب قد تلف وكذبه ربه فالقول قول الغاصب لأنه غارم، وكذلك القول قول الغاصب في نعته أي في صفته، وكذلك القول قول الغاصب في قدر الشيء المغصوب يريد مع يمينه في المسائل الثلاث كما في المدونة، فالضمير في له للغاصب وإنما يكون القول قوله في نعته وقدره حيث أشبه أشبه الآخر أم لا، فإن لم يشبه وأشبه رب المغصوب فالقول قوله مع يمينه، فإن لم يشبها قضي بأوسط القيم بعد أيمانهما بنفي كل دعوى صاحبه مع تحقيق دعواه، وفهم من قوله:"تعته وقدره" أنهما لو اختلفا في جنسه لم يكن الحكم كذلك وهو كذلك في عدم شبههما فإن القول حينئذ قول الغاصب. اهـ. ونحوه لعبد الباقي وفيه أن القول للغاصب إن اختلفا في الجنس بيمين إن أشبها أو لم يشبه واحد، فإن أشبه المغصوب منه فقط فالقول قوله بيمينه. اهـ.

وقال البناني: قال في التوضيح: وإن غصب جارية وادعى هلاكها واختلفا في صفتها صدق الغاصب في الصفة مع يمينه إذا أتى بما يشبه، فإن أتى بما لا يشبه صدق المغصوب منه مع يمينه، وكذلك نص مالك في المدونة والعتبية على وجوب اليمين على الغاصب إذا اختلفا في القدر، ولم أر في الأمهات وجوب اليمين على الغاصب إذا ادعى التلف، لكن نص فيها في الشيء المستحق إذا كان مما يغاب عليه أنه يحلف إذا ادعى المشتري تلفه وكذلك في رهن ما يغاب

ص: 501

عليه، ولا يمكن أن يكون الغاصب أحسن حالا منهما، وقد نص ابن عبد السلام على وجوب اليمين هنا في التلف. اهـ.

وقال الرهوني: تقييد المص بالشبه في النعت وفي القدر صواب مصرح به في المدونة في النعت، والقدر مصرح به في كلام ابن يونس وغيره في منتهب الصرة، وقد أشار المواق إلى الاعتراض على المص في تركه هذا القيد بقوله: انظر هذا الإطلاق. اهـ المراد منه. وقال الشارح: وقع لابن القاسم في المدونة في

(1)

العتبية فيمن غصب صرة من رجل والناس ينظرون إليه وطرحها في متلف وادعى ربها عددا وأكذبه الآخر ولم يفتحها ولا يدري المنتهب كم فيها أو لم يطرحها، ثم يختلفان أن القول قول المنتهب مع يمينه. وقال مطرف وابن كنانة وأشهب: القول قول ربها إن ادعى ما يشبه وأن مثله يملكه يريدون ويحلف اهـ المراد منه.

كمشتر منه تشبيه تام والضمير في منه للغاصب؛ يعني أن المشتري من الغاصب يكون القول قوله بيمينه في تلفه ونعته وقدره إن أشبه، فالتشبيه هنا باعتبار قوله في هذه الثلاثة، وأما تضمينه وعدمه فيأتي في قوله:"ثم غرم لآخِرِ رؤيةٍ" مع قوله: "وضمن مشتر لم يعلم" لخ، قال البناني: القول قوله في التلف وغيره سواء كان مما يغاب عليه أم لا، علم بغصبه أم لا، لكن إن علم بأن البائع غاصب فحكمه في الضمان حكم الغاصب، وإن كان غير عالم فإن كان مما لا يغاب عليه فلا غرم عليه أي فيصدق في أنه تلف بلا سببه، وإن كان مما يغاب عليه فعليه غرم قيمته فيغرم في ثلاث صور. انتهى.

ثم إذا قلنا بضمان المشتري غرم بعد حلفه قيمة المغصوب الذي اشتراه لآخر رؤية أي تعتبر قيمة المغصوب عند آخر رؤية له بعد الشراء فيعتبر حالته إذ ذاك، وإنما لزمته اليمين مخافة أن يكون أخفاه وهذا فيما يغاب عليه وهو غير عالم ولم تقم على هلاكه بينة، فإن لم ير عنده فيوم القبض أو فيما لا يغاب عليه حيث ظهر كذب المشتري، قال الخرشي: وكلام المؤلف فيما إذا ادعى تلفه بسماوي وكان مما يغاب عليه ولم تقم على هلاكه بينة وفيما لا يغاب عليه إذا ادعى تلفه وظهر كذبه. انتهى. وقال المواق: سئل ابن القاسم عن الرجل يشتري سلعة فيقيم رجل بينة أنها

(1)

كذا في الأصل.

ص: 502

اغتصبت منه فيزعم المشتري أنها قد هلكت، قال: إن كان حيوانا فهو مصدق وإن كان مما يغاب عليه لم يقبل قوله وأُحْلِفَ أنها قد هلكت ويكون عليه القيمة قيل: فإن باعها قال: لا يكون عليه إلا ثمنها، وقوله مقبول في الثمن، ابن رشد: هذه مسألة صحيحة جيدة، وقوله: يحلف إذا ادعى تلف السلعة مخافة أن يكون غيبها، ومثل هذا يجب في المرتهن والمستعير والصانع يدعون تلف ما يغاب عليه. ولما نقل ابن يونس هذا قال: فإن ريء الثوب عنده بعد شهر من يوم اشتراه وادعى ضياعه لا استحق فالأشبه أن يضمن قيمته يوم ريء عنده بعد الشهر، بخلاف الصانع والمرتهن يدعي ضياعه بعد أن ريء عنده بعد شهر فهو يضمن قيمته يوم قبضوه. انتهى.

والفرق أن هؤلاء قبضوه على الضمان فيتهمون في غيبته على استهلاكه فأشبهوا المتعدي؛ بخلاف المشتري فإنه قبضه على الملكية فلا يتهم، ويأتي أن المشتري العالم بالغصب كالغاصب فيضمن بالاستيلاء ولو تلف بسماوي كما في الخرشي وغيره.

ولربه إمضاء بيعه يعني أن الغاصب أو المشتري منه إذا باع الشيء المغصوب فإن للمالك أن يجيز ذلك البيع لأنه بيع فضولي وله أن يرده، قال الخرشي: وظاهره يعني المص سواء قبض المشتري البيع أم لا، وظاهره سواء علم المشتري أنه غاصب أم لا، كان المالك حاضرا أم لا، قرب المكان بحيث لا ضرر على المشتري في الصبر إلى أن يعلم ما عنده أم لا وهو كذلك في الجميع. انتهى. قوله: قرب المكان بحيث لخ فيه نظر، قال الحطاب: وإن علم المشتري أن البائع منه غاصب وأحب المبتاع رد البيع قبل قدوم المغصوب منه لم يكن له ذلك إذا كان قريب الغيبة، وله ذلك إذا كانت الغيبة بعيدة لأن عليه في وقفه في ضمانه حتى يقدم ضررا. اهـ. وقوله:"ولربه إمضاء بيعه" ويرجع بالثمن على الغاصب إن قبضه من المشتري وكان أي الغاصب مليا، فإن لم يقبضه رجع على المشتري، فإن قبضه من المشتري وكان الغاصب عديما فهل لا رجوع له على المشتري أو له الرجوع عليه؟ قولان حكاهما اللخمي. وهما مبنيان على أن البيع هو العقد أو التقابض، فعلى الأول يكون أجاز البيع دون القبض وعلى الثاني يكون أجاز البيع والقبض، ونقل في النوادر القولين وضعف غرم المشتري وأنكره، فاقتصار الزرقاني والخرشي عليه فيه نظر وقد اقتصر الزرقاني خلى الراجح بعد هذا. والله أعلم. انظر البناني.

ص: 503

وقال عبد الباقي: وإذا أمضى البائع البيع فلا يتبع الغاصب بالقيمة ولو أزيد من الثمن؛ لأنه بإمضاء بيعه يقدر كأنه البائع وليس لمبتاع رد البيع حين إمضاء ربه، قال اللخمي: إلا أن يكون المالك المجيز فاسد الذمة بحرام أو غيره. اهـ. البناني: ما قاله اللخمي مبني على أن العهدة في المبيع تنتقل عن الغاصب إلى المغصوب منه وهو ظاهر سماع ابن القاسم ودليل ما في كتاب الاستحقاق من المدونة، وقال سحنون: العهدة لا تنتقل عن الغاصب. نقله عن مالك. وهو دليل ما في كتاب الغصب من المدونة من لزوم الشراء المشتري إذا أجازه المستحق. انظر تحرير ابن رشد لهذه المسألة في مصطفى. انتهى.

تنبيهات: الأول قال الحطاب: وسئل ابن القاسم عن الرجل يشتري السلعة في سوق المسلمين فيدعيها رجل قبله ويقيم بينة أنها غصبت منه فيزعم مشتريها أنها قد هلكت، فإن كان حيوانا فهو مصدق، وإن كانت مما يغاب عليه لم يقبل قوله وأحلف ويكون عليه قيمتها إلا أن يأتي بالبينة على هلاك من اللَّه أتاه من اللصوص أو الغرق أو النار ونحو ذلك فلا يكون عليه شيء، قيل له: فإن باعها؟ قال: لا يكون له عليه إلا ثمنها، قيل له: فإن قال بعتها بكذا وكذا ولم تكن له على ذلك بينة إلا قوله أيصدق على ذلك؟ قال: قوله مقبول في ذلك لأنه قد يعرف الشيء في يديه ثم يتغير عنده قبل أن يبيعه بكسر أو عور أو شيء يصيبه. وقال في التوضيح: وإذا صدق فيما لا يغاب عليه فإنما ذلك إذا لم يظهر كذبه كالرهن والعارية، وقال أصبغ: يصدق في الضياع فيما يغاب عليه مع يمينه، ابن عبد السلام: وإذا بنينا على المشهور وضمانه فخرج بعضهم قولا بعدم اليمين. انتهى.

الثاني: قال الحطاب: قال في المدونة: ومن غصب عبدا أو أمة ثم باعها ثم استحقها مالكها وهي بحالها فليس له تضمين الغاصب القيمة وإن حالت الأسواق، وإنما له أن يأخذها أو يأخذ الثمن كما لو وجدها بيد الغاصب وقد حالت أسواقها، فإن أجاز ربها البيع بعد أن هلك الثمن بيد الغاصب فإن الغاصب يغرمه، وليس الرضى ببيعه يوجب له حكم الأمانة في الثمن. اهـ.

ص: 504

الثالث: قال الحطاب: إذا كان طعام أو غيره مشتركا بين شخصين فغصب منه ظالم حصة أحدهما، فهل ذلك من الشريكين أو هو خاص بمن أخذ باسمه قال ابن أبي زيد: الذي عندي أن المأخوذ بينهما والباقي بينهما، وكذلك أفتى السيوري. انتهى المراد منه.

ونقض عتق المشتري وإجازته يعني أن من غصب عبدا أو أمة فباعها ثم أعتقه المشتري فإن لرب العبد أو الأمة أن ينقض عتق المشتري فيرد البيع وله أن يجيزه أي البيع، فإذا نقض العتق أخذ العبد أو الأمة، وإذا أجاز البيع نفذ العتق وأخذ الثمن، قال المواق من المدونة: من غصب أمة فباعها فقام ربها وقد أعتقها المبتاع فله أخذها ونقض العتق نقصت أو زادت، وله أن يجيز البيع فإن أجازه تم العتق بالعقد الأول. اهـ. وكلام المدونة هذا صريح في أن المجاز هو البيع، فالضمير في إجازته للبيع. واللَّه تعالى أعلم. وبذلك صرح الشارح، وقال عبد الباقي: وللمغصوب منه نقض عتق المشتري من الغاصب وأخذ الرقيق وإجازته فيتم عتقه ويلزم بالعقد الأول ويرجع المغصوب منه بالثمن على الغاصب ولو أعسر ولا رجوع له على المشتري، ويمكن ضبط "وإجارته" براء مهملة أي وله نقض إيجار المشتري لما اشترى.

وضمن مشتر لم يعلم في عمد يعني أن المشتري من الغاصب إذا لم يعلم حين الشراء بأن ما اشتراه مغصوب ثم تلف، فإن كان تلفه من جناية المشتري عمدا فإنه يضمنه ويكون للمالك غريمان: الغاصب والمشتري منه، قال المواق: قال مالك: ومن ابتاع ثوبا من غاصب ولم يعلم فلبسه حتى أبلاه ثم استحق غرم المبتاع القيمة لربه يوم لبسه، وإن شاء ضمن الغاصب قيمته يوم الغصب أو أجاز بيعه وأخذ الثمن، ولو تلف الثوب عند المبتاع بأمر من اللَّه لم يضمنه ولو تلف عند الغاصب بأمر من اللَّه تعالى ضمنه. اهـ. وقال عبد الباقي: وضمن مشتر من غاصب لم يعلم بغصبه في عمد أي في إتلافه عمدا وهو حينئذ مع الغاصب في مرتبة واحدة على المعتمد في اتباع ربة أيهما شاء بمثل المثلي وقيمة المقوم، فإن اتبع الغاصب فيعتبر يوم الاستيلاء ولم يرجع على المشتري، وإن تبع المشتري وذلك يوم الإتلاف رجع على الغاصب. اهـ بتغيير قليل. قوله: وإن تبع المشتري رجع على الغاصب، يحتمل أن مراده رجع المشتري على الغاصب بالثمن الذي كان دفع له وهذا هو الذي في الخرشي، ويحتمل أن مراده رجع المالك على الغاصب بتمام القيمة يوم الغصب إن

ص: 505

كان قيمته يوم الإتلاف أقل منها وهذا مذهب ابن القاسم. قاله اللخمي. ونقله مصطفى. والاحتمالان معا صحيحان. قاله البناني. وقال الشارح ممثلا لقوله: "في عمد" كما إذا أكل الطعام أو لبس الثوب فأبلاه أو هدم الدار أو نحو ذلك. انتهى.

لا سماوي يعني أن المغصوب إذا تلف عند المشتري بسماوي وهو غير عالم بغصبه فإنه لا ضمان عليه، وهذا في مغصوب يغاب عليه وثبت تلفه بالسماوي ببينة، وفيما لا يغاب عليه ولم يظهر كذب المشتري، وقوله:"لا سماوي" أي لا يضمنه المشتري بمعنى أنه لا يكون غريما ثانيا للمالك، فلا يقال كيف لا يضمن السماوي مع أن الغلة له؛ لأنا نقول إنما نفينا نوعا خاصا من الضمان وهو ضمانه للمالك، وإلا فهو ضامن للغاصب بمعنى أنه لا يرجع بثمنه عليه إن كان دفعه: ويدفعه له إن كان لم يدفعه. انظر التوضيح. ونحوه للخرشي، ولفظ الخرشي: أي لا يكون غريما ثانيا للمالك وإلا فهو ضامن للغاصب، فلا منافاة بين قوله:"لا سماوي" وبين قوله: "وضلة" لأنا إنما نفينا نوعا خاصا من الضمان وهو ضمانه للمالك، وإلا فهو ضامن للغاصب بمعنى أنه لا يرجع بثمنه عليه إن كان دفعه ويدفعه له إن كان لم يدفعه. اهـ. ونحوه للش.

وغلة يعني أن المشتري الذي لم يعلم لا يضمن الغلة بل يفوز بها ولا شيء عليه في مقابلتها، قال عبد الباقي: لا ضمان على مشتر في غلة استعملها غير عالم بأن بائعه غاصب، ولا على الغاصب فيما استغله المشتري لأنه لم يستعمل كما يفهم من قوله فيما مر:"وغلة مستعمل" والفرق بين عدم ضمانه غلة المشترى منه وبين ضمانه غلة موهوبه كما يأتي أنه خرج من يده بغير عوض، فكأنه لم يخرج من يده بخلاف بيعه. اهـ.

مسألة: من استُحِقَّ بعد أن تداولته الأملاك بحرية تراجع بائعوه كل واحد على صاحبه، وكذلك إذا استحق برق وأخذه مستحقه أوأجاز البيع الأخير. قاله الحطاب.

وهل الخطأ كالعمد يعني أنه اختلف في جناية المشتري الذي لم يعلم بالغصب على المغصوب خطئا هل تلحق بالعمد؟ وإلى هذا ذهب أشهب في المجموعة أو يكون كالسماوي؟ وإليه ذهب ابن القاسم في العتبية وجعله في البيان تفسيرا لما في المدونة، وقال أبو الحسن: ظاهر المدونة مساواة الخطإ والعمد، ابن عبد السلام: وربما تؤول على المدونة، وإلى هذا أشار بقوله: تأويلان وهو

ص: 506

مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان، الأول لأبي الحسن وابن عبد السلام، والثاني وهو التأويل المطوي لابن رشد، وقول أشهب هو القياس لأن الخطأ والعمد في أموال الناس سواء. انظر الشارح. وقال عبد الباقي: وهل التلف أو التعييب الخطأ من المشتري غير العالم بأن بائعه غاصب كالعمد فيضمن الذات، أو كالسماوي فلا يضمنها؟

ووارثه وموهوبه إن علما كهو يعني أن وارث الغاصب إن علم بالغصب كالغاصب، وكذلك موهوب الغاصب إن علم بالغصب كالغاصب في ضمانهما القيمة، وللمستحق الرجوع بالقيمة على أيهما شاء. قاله الخرشي وغيره. وقال البناني: ووارثه وموهوبه إن علما كهو في الضمان ورد الغلة وتخيير المالك في اتباع أيهما شاء كغاصبين. اهـ. وقال المواق: ابن عرفة فيها مع غيرها: من ابتاع شيئا من غاصب أو قبله وهو عالم أنه غاصب فهو كالغاصب في الغلة والضمان. اهـ. وقال عبد الباقي: ووارثه وموهوبه أي الغاصب إن علما كهو في ضمانهما القيمة لكن الموهوب يضمنها يوم التلف، ويضمن الغلة قبل يوم التلف فللمستحق الرجوع بها على أيهما شاء ولا يتصور بعد يومه، وأما المشتري منه فيضمن القيمة والغلة مع علمه بغصبه، فلو زاد: ومشتريه إن علموا كهو لكان أشمل. اهـ. قوله: فلو زاد ومشتريه إن علموا، لخ قال البناني: فيه نظر إذ لو زاد لم ينزل عليه قوله: "وإلا بدئ بالغاصب" لما مر في المشتري الذي لم يعلم من أنه في العمد كغريم ثان، قال في التوضيح: والفرق لابن القاسم أنه إذا ابتدأ بتضمين المشتري كان للمشتري الرجوع على الغاصب ولا كذلك الموهوب له، فإنه إذا أغْرِمَ لم يكن له رجوع البتة. اهـ باختصار.

وإلا أي وإن لم يعلم الموهوب له بالغصب بدئ بالغاصب في الضمان، فتؤخذ منه القيمة إن فاتت السلعة دون الغلة التي استغلها هو أو موهوبه، وإن كانت قائمة أخذها وأخذ الغلة التي استغلها هو أو موهوبه كما قال: ورجع المغصوب منه عليه أي على الغاصب بغلة موهوبه أي بالغلة التي استغلها الموهوب إن كان المغصوب قائما، فإن فات رجع بالقيمة أو بالغلة أي يخير بينهما ولا يجمع بينهما، فقوله:"بدئ بالغاصب" أي في أخذ القيمة منه إن فاتت وفي أخذ الغلة إن لم تفت، وفهم منه أنه لا رجوع له على الموهوب بما أخذ منه كما هو ظاهر من قوله:"وبدئ بالغاصب" وقصرت المص على الموهوب الذي لم يعلم بالغصب دون وارث الغاصب الذي لم يعلم

ص: 507

تبعا لغيري، قال البناني عند قوله:"وإلا بدئ بالغاصب" ما نصه: الظاهر رجوع هذا للموهوب فقط إذ لا غاصب مع الوارث يبدأ به، وحينئذ فلا فرق في الوارث بين العلم وعدمه، لكن لا يضمن إن لم يعلم إلا جناية نفسه، والمسألة في المدونة وغيرها مفروضة في الموهوب فقط.

قال مصطفى: وأما الوارث فالمراد به وارث الغاصب، وحينئذ فلا تتأتى فيه البداءة بالغاصب ولا في تركته لأن الفرض أنه مات، وقسموا المغصوب واستغلوا ثم استحق ففيها لو مات الغاصب وترك هذه الأشياء ميراثا فاستغلها ولده كانت هذه الأشياء وغلتها للمستحق. اهـ. ووارث الغاصب لا غلة له علم أو لم يعلم، وأما المشتري فيخير المستحق في اتباعه أو الغاصب في العلم وعدمه، والغلة له مع عدم العلم فلا يغرمها ولد الغاصب. اهـ كلام مصطفى باختصار.

تنبيهات: الأول: قد مر قول البناني لا فرق بين العلم وعدمه في وارث الغاصب، لكن لا يضمن إن لم يعلم إلا جناية نفسه، فعلم منه أن الوارث إن لم يعلم لا يضمن السماوي ولا جناية الغير، وقال عبد الباقي: بدئ بالغاصب حتى في السماوي والخطإ فعلم منه أنها إن ماتت عند الموهوب بسماوي أو بجناية الموهوب عمدا أو خطئا وكان الغاصب معدما أن المالك يرجع على الموهوب بالقيمة، وكذا يرجع بالغلة إن كانت قائمة وعممت الضمان في هلاك الدابة في السماوي وغيره لا في المواق أن من غصب سلعة فوهبها فهلكت أن الموهوب يضمن في عدم الغاصب، فقوله: هلكت ظاهره بسماوي أو غيره بل المتبادر منه الهلاك بسماوي. انظره فيه عند قول المص: "واتبع إن أعدم ولم يعلم بالإعارة".

الثاني قال البناني إذا باع عن الصغير قريبه كالأخ والعم بلا إيصاء ولا حضانة، فكبر الصغير وأخذ شيئه فإن المشتري لا يرد الغلة ولو كان عالما يوم البيع بتعدي البائع. قاله في المعيار. قال الشيخ ميارة: لأن في القريب خلافا بين العلماء هل يتنزل منزلة الوصي أم لا؟ وعلى الثاني فالمشتري منه له شبهة تسوغ له الغلة. قاله أبو الحسن الصغير. وكذا من باع ما يعرف لغيره زاعما أن مالكه وكله على بيعه وهو من ناحيته وسببه فلم يثبت التوكيل وفسخ البيع فلا ترد الغلة، وكذلك إذا باع الحاضن ما ليس بيسير ثم فسخ بيعه فلا ترد الغلة أيضا. اهـ من خط سيدي محمد ميارة رحمه الله.

ص: 508

الثالث: وقع في عبارة الشارح والتوضيح هنا: فيغرم القيمة والغلة وظاهرها الجمع بينهما وهو الجاري على ما عزاه في الكافي لمالك وجمهور أهل المدينة، ولكنه خلاف مذهب ابن القاسم في المدونة فينبغي أن تحمل عبارتهما هنا على التفريق أي يغرم القيمة إن فات والغلة إن رده. انظر مصطفى. وعزوه الشارح لابن القاسم إنما يصح على التفريق، وما في الزرقاني من البحث والجواب مبنيان على ظاهرها على ما للكافي والحق خلافه. قاله البناني.

الرابع: قال المواق عند قوله: "وإلا بدئ بالغاصب": أما بالنسبة للموهوب فلا يتبعه المستحق إلا أن يكون الغاصب عديما أو لم يوجد أو لم يقدر عليه، ووجه هذا أن المشتري إذا غرم اتبع الغاصب بخلاف الموهوب إذا غرم لم يرجع إذ لا عهدة له على الغاصب، وهو يقول لم ألبس على معاوضة فلا يجب علي إذا كان ثم من يرجع عليه، وقال أشهب: يبتدئ بأيهما شاء، قال ابن يونس: وبهذا أقول ولا يكون الموهوب له أحسن حالا من المشتري، ومن المدونة: قال ابن القاسم: من غصب دارا أو عبيدا فوهبهم لرجل فاغتلهم وأخذ كراءهم ثم قام مستحق، فإن كان الموهوب له عالما بالغصب فللمستحق الرجوع بالغلة على أيهما شاء، وإن لم يعلم بالغصب فللمستحق أن يرجع أولا بالغلة على الغاصب، فإن كان عديما رجع بها على الموهوب، وكذلك من غصب ثوبا أو طعاما فوهبه لرجل فأكله أو لبس الثوب حتى أبلاه أو كانت دابة فباعها وأكل ثمنها فاستحقت هذه الأشياء بعد فواتها بيد الموهوب على ما ذكرنا، ولو أن الغاصب نفسه اغتل العبد وأخذ كراء الدار لزمه أن يرد الغلة والكراء للمستحق، ولو مات الغاصب وترك هذه الأشياء فاستغلها ولده كانت هذه الأشياء وغلتها للمستحق، قال ابن القاسم: والموهوب لا يكون في عدم الواهب أحسن حالا من الوارث. اهـ المراد منه. وقال عبد الباقي: ثم محل الرجوع على الغاصب بغلة موهوبه إذا كانت السلعة قائمة أو فاتت ولم يختر تضمينه القيمة؟ إذ لا يجمع بين الغلة والقيمة. انتهى.

فإن أعسر فعلى الموهوب يعني أنه يبدأ بالغاصب في القيمة والغلة كما عرفت، فإذا أعدم الغاصب أو لم يقدر عليه فإن المالك يرجع على الموهوب بما ذكر من غلة أو قيمة، قال عبد الباقي: فإن أعسر الغاصب فعلى الموهوب يرجع بما استغله فقط لا بما استغله الواهب قبل الهبة وأعسر، فإن

ص: 509

أعسرا اتبع أولهما يسارا، ومن أخذ منه شيء لا يرجع على الآخر في الصورتين، وقول ال تتائي: فإن أعسر فعلى الموهوب ثم يرجع بها الموهوب على الغاصب إذا أيسر. قاله في البيان. اهـ. خلاف ما كتبه جد علي الأجهوري بطرة الشارح عن المدونة وأبي الحسن عليها من عدم الرجوع؛ لأنه يقول: وهبتك شيئا فاستحق. اهـ. قوله: خلاف ما كتبه الأجهوري

(1)

لخ، قال البناني: هذا قصور، واعلم أن ما نقله ال تتائي عن البيان هو كذلك فيه، إلا أنه ذكره تخريجا وذكر عقبه نص المدونة بعدم الرجوع معترفا به، انظر نصه في مصطفى. ولا ينبغي لأحد أن يعتمد التخريج ويترك نص المدونة، ومثل ما في ال تتائي عن البيان وقع في التوضيح، فإنه اقتصر على تخريج ابن رشد ولم يستوعب كلامه المشتمل على التخريج والنص في المدونة بخلافه. قاله مصطفى. قال البناني: عبارة ابن رشد في المقدمات تقتضي أن مقابل المدونة منصوص لا مخرج. اهـ المراد منه.

وقال عبد الباقي: وأما وارث الغاصب فلا غلة له، علم بغصب مورثه أم لا، مات مليا أم لا حيث كانت السلعة قائمة، وأما لو فاتت وضمن الوارث القيمة فله الغلة لا للمغصوب منه؛ لأنه لا يجمع بين القيمة والغلة. اهـ. وقوله:"وإلا بدئ بالغاصب فإن أعسر فعلى الموهوب" هذا هو المشهور وهو قول ابن القاسم في المدونة، وفي كتاب الاستحقاق منها أنه يرجع أولا على الموهوب لأنه الذي باشر الإتلاف. ابن رشد: فإن وجده عديما رجع على الغاصب، ولأشهب ثالث أنه يرجع على أيهما شاء، فإن كانت قيمته يوم الغصب عشرين وقيمته يوم الإتلاف ثلاثين فاختار اتباع الغاصب أخذ منه عشرين ثم يرجع على الموهوب له بالعشرة الباقية. قاله الشارح

ولفق شاهد بالغصب لآخر على إقراره بالغصب يعني أنك إذا أقمت شاهدا على أن فلانا غصب منك هذه الدابة، وشاهدا آخر على أن فلانا المذكور أقر بأنه غصب منك الدابة المذكورة، فإنه يلفق بعضهما إلى بعض وتتم الشهادة، قال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: إن أقمت شاهدا أن فلانا غصبك هذه الأمة وشاهدا آخر على إقرار الغاصب أنه غصبك تمت الشهادة. اهـ. وقال عبد الباقي: ولفق شاهد بالغصب أي بمعاينته من زيد لآخر على إقراره أي الغاصب بالغصب أي

(1)

في البناني ج 6 ص 154: خلاف ما كتبه جد عج الخ.

ص: 510

بأنه غصبه من زيد. اهـ. وقال الحطاب عند قوله: "ولفق شاهد بالغصب لآخر على إقراره بالغصب" ما نصه: ظاهر كلامه أنه يحتاج إلى يمينين

(1)

وهو كذلك، قال في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب العارية: وسئل عن امرأة أعارت أخرى حجلة لها ولم يشهد على ذلك إلا امرأتان: فتزوجت المستعيرة ودخلت العيرة إلى الريف فأقامت عشر سنين وماتت المستعيرة، فأتت المعيرة تطلب الحجلة وأنكر ورثة المستعيرة فشهدت المرأتان بالعاريَّة وقد غابت الحجلة، قال ابن القاسم: تحلف المرأة مع شهادة المرأتين باللَّه الذي لا إله إلا هو ما قبضتها بعد عاريتها ولا باعت ولا وهبت وتستحق ذلك في مال المتوفاة، قال محمد بن رشد: قوله إن المعيرة تحلف مع شهادة المرءتين لخ معناه بعد يمينها مع شهادتهما لقد أعارتها إياها وهذا ما لا خفاء به، وإنما سكت عنه للعلم به إذ لا تستحق العارية بشهادة المرءتين دون يمين، فأراد أنها لا تكتفي بجعلها مع شهادة المرءتين أنها أعارتها دون أن تحلف ما قبضتها بعد عاريتها ولا باعت ولا وهبت، ولابد أن تحلف أيضا على صفتها فيكون في مال المتوفاة ما قومت به الصفة التي حلفت عليها. وباللَّه التوفيق. اهـ. وتأمل هذا الذي قاله الحطاب فإنه لا يظهر حلفه لأنه حائز لا مالك، ويأتي عن غيره خلاف ما قال أي من الحلف في مسألة المص لا في مسألته هو.

كشاهد بملكك لثان بغصبك تشبيه في التلفيق يعني أنك إذا أقمت شاهدا على أن فلانا غصب منك هذه الأمة مثلا وشاهدا آخر أنها ملكك، فإنه يلفق بعضهما إلى بعض وتتم الشهادة، قال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: وإن أقمت شاهدا أن فلانا غصبك هذه الأمة وشاهدا آخر أنها لك فقد اجتمعا على إيجاب ملكك لها، فيقضى لك بها بعد أن تحلف أنك ما بعت ولا وهبت كمن استحق شيئا ببينة وذلك إذا ادعى الغاصب لنفسه لأنهما لم يجتمعا على إيجاب الغصب. اهـ. وقوله:"بغصبك" أي بغصبه منك.

وجعلت ذا يد. وفي نسخة: وجعلت حائزا يعني أنك تأخذ الشيء المشهود به في المسألتين، وإذا أخذته فإنك تكون ذا يد أي حائزا له فقط، أما في الأولى فلأنه لم يشهد له واحد منهما بملكها إذ قد تغصب من مستعير ومستأجر ومودع ومرتهن، وأما في الثانية فلأن شاهد الغصب لم يثبت له

(1)

في الأصل: ليمين، والمثبت من الحطاب ج 6 ص 36.

ص: 511

ملكا. وشاهد الملك لم يثبت له غصبا فلم يجتمعا في ملك ولا غصب. قاله الشارح. قاله عبد الباقي.

لا مالكا يعني أنك لا تجعل في المسألتين إلا حائزا ولا تجعل مالكا، وفائدة ذلك تأتي قريبا إن شاء اللَّه تعالى، قال البناني: وفي بعض النسخ وجعلت حائزا والمعنى واحد؛ يعني بلا يمين حتى في الصورة الثانية مع قيام السلعة؛ لأن الشهادتين اجتمعتا على حوز الشهود له، فإن فاتت أو تعيبت فليس له أن يضمن المشهود عليه قيمتها إلا إذا حلف مع شاهد الغصب، وهذا الذي عليه المص تبع فيه ما في التنبيهات لعياض ونقل ابن غازي كلامه، والذي اختصر عليه الأكثر المدونة هو أن الشهادة في الثانية تامة يقضى فيها بإيجاب الملك بعد يمين القضاء، وهذان القولان متفقان على التلفيق في الثانية، ونقل ابن يونس عن بعض الفقهاء عدم التلفيق فيها، وأنها شهادة مختلفة، فمع القيام حلف مع أيِّ الشاهدين شاء وثبت ما شهد به من الملك والغصب لأنهما لم يجتمعا على ملك ولا غصب، وأما مع الفوات فيحلف مع شاهد الغصب ويضمن الغاصب القيمة فهي ثلاثة أقوال، قولان بالتلفيق والثالث بعدمه. ولما لم يقف المواق على ما لعياض اعترض المص بأنه مخالف لما في المدونة ولنقل ابن يونس، ووهم الشارحان، فحملا كلام المص على ما نقله ابن يونس وهو غير صحيح لتصريح المص بالتلفيق ولعدم ذكره اليمين فتأمله، وقول عبد الباقي وشاهد الملك لم يثبت له غصبا لخ الصواب إسقاط هذا من التعليل فتأمله.

إلا أن تحلف مع شاهد الملك ويمين القضاء يعني أنك لا تكون مالكا في المسألتين إلا في الثانية حيث حلفت مع شاهد الملك يمينا مكملة للنصاب؛ بأن تحلف أن ما شهد به لك من الملكية حق، وتحلف مع ذلك يمين القضاء أنك ما بعت ولا وهبت ولا تصدقت ولا خرجت عن ملكك بوجه من الوجوه، قال عبد الباقي: إلا أن تحلف مع شاهد الملك أنه شهد لك بحق يمينا مكملة للنصاب في الثانية؛ إذ هي التي فيها شاهد ملك، وكذا تجعل ذا يد إذا حلفت مع شاهدي غصب شهدا على معاينة غصبه منك، أو على إقراره بأنه غصبه منك. ويترتب على قوله:

ص: 512

"وجعلت ذا يد" أن له التصرف فيه باستغلال لا بيع أو نكاح أمة، وأنه إذا أتى أخذها

(1)

مستحقها إن كانت قائمة وقيمتها إن فاتت، وأنه يضمن السماوي على ما يفيده الشارح في اللقطة وتحلف أيضا يمين القضاء ما بعت ولا وهبت ولا تصدقت ولا خرجت عن ملكك بوجه من الوجوه، وهذا على إثبات الواو كما هو خطه فلابد من حلفه يمينين إحداهما مع شاهد الملك والثانية يمين القضاء، ولا يكتفى بالثانية وإن كانت تتضمن الأولى على ما جزم به ابن رشد وجزم اللخمي بالاكتفاء بيمين القضاء، وعلى الأول فهل له جمعهما في يمين واحدة وبه جرى العمل، أولا خلاف؟ اهـ. قوله: لا ببيع أو نكاح أمة لخ، قال البناني: الذي كان يقرره بعض الشيوخ أن له التصرف ظاهرا بالبيع والوطء وغيرهما؛ إذ لا منازع له وإنما فائدة كونه ذا يد أنه إذا قامت بينة بالملك لغيره قدمت على بينته؛ لأنه إنما ثبت الحوز وهو ظاهر. اهـ. وما قاله ظاهر غاية. واللَّه أعلم. وهو كالصريح في أنه لا يضمن السماوي.

وإن ادعت استكراها قال غير واحد: كذا وجد وبعده بياض كمله الأقفهسي بخطه، فقال: على غير لائق بلا تعلق حدت له يعني أن المرءة إذا ادعت على من لا يليق به الزنى وهو الصالح أنه أكرهها ولم تأت متعلقة به، فإنها تحد له حد القذف كانت من أهل الصون أم لا، فضمير "له" للقذف كما يفيده الخرشي، وقال عبد الباقي: وإن ادعت امرأة استكراها أي ادعت أنها أكرهت على الزنى وكان ذلك على رجل غير لائق به ما ادعته عليه بأن كان صالحا بلا تعلق به أي بكمه أو ذيله حدت له أي للزنى المستفاد من ادعت استكراها إن ظهر بها حمل، وكذا إن لم يظهر إلا أن ترجع عن قولها، فإن تعلقت به لم تحد للزنى وتحد للقذف، تعلقت أم لا، كانت ممن تخشى الفضيحة أم لا، ومفهوم غير لائق أمران: أحدهما ادعاؤها على فاسق فيسقط عنها حد القذف وكذا حد الزنى إلا أن يظهر بها حمل ولم تتعلق به فتحد للزنى، ثانيهما ادعاؤها على مجهول حال فحد الزنى كالصالح إن تعلقت سقط وإلا لزمها، وأما حد القذف فإن كانت تخشى الفضيحة سقط إن تعلقت وإلا ففيه خلاف، وإن لم تخش لزمها إن لم تتعلق وإن تعلقت ففيه خلاف، وانظر إذا شك هل هي من تخشى الفضيحة أم لا، وليس لها مهر على واحد من

(1)

في عبد الباقي ج 6 ص 155: إذا أتى مستحقها أخذها.

ص: 513

الثلاثة لأن ما ذكرته إقرار على نفسها، وعلى المدعى عليه فلا تؤاخذ بإقرارها عليه، وأيضا فقد ذكر ابن رشد عن رواية عيسى عن ابن القاسم أنها لا صداق لها فيما إذا ادعته على فاسق وتعلقت به، فأولى إن لم تتعلق وأولى على مجهول الحال والصالح، ولا يرد على ذلك قول مالك في مغصوبة احتملت بمعاينة بينة ثم خرجت مدعية وطأه لها غصبا، وأنكر لها المهرُ، ابن القاسم لأن الشهادة وإن لم تتم في الحد لعدم معاينة الوطء فلها المهر، وإنما لم ترد هذه على ما ذكرناه في مسألة المص لأنها في مجرد دعواها وهذه احتملت مع شهادة بينة على إكراهها على دخولها محله، ولذا ذكرها ابن عرفة قبل مسألة المص. انتهى. قوله: فإن تعلقت به لخ، قال البناني في الحطاب: نقل صاحب الإكمال عن بعض أصحابنا في المشهورة بذلك مثل صاحبة جريج أنها تحد للزنى على كل حال، ولا تصدق بتعلقها به وفضيحتها نفسها لأنها لم تزل مفتضحة بحالها وهذا صحيح في النظر. اهـ.

قال مصطفى: وهو ضعيف فلا يقرر به كلام المص، وقول عبد الباقي: وانظر إذا شك هل هي ممن يخشى الفضيحة لخ، قال البناني: قلت نص المتيطى على أن المجهولة تحد للقذف، ونصه: وإن كان مجهول الحال حدت له حد القذف وإن كانت مجهولة الحال أيضا ولم تكن من أكمل الصون، وأما إن كانت من أهل الصون فيخرج وجوب حد القذف عليها على قولين. اهـ.

ولما ذكر الغصب وبينه وبين التعدي مناسبة عقبه به، فقال: والمتعدي جان على بعض غالبا، قال ابن عرفة: التعدي هو التصرف في شيء بغير إذن ربه دون قصد تملكه، ومعنى كلام المص أن التعدي هو الذي يجني على بعض السلعة في غالب أحواله، قال عبد الباقي: والمتعدي جان على بعض السلعة غالبا، كخرق بخاء معجمة لثوب وكسر بعض صحفة، بخلاف الغاصب فإنه جان على جميع السلعة، ومن غير الغالب أنه متعد على كلها كمكتري دابة أو مستعيرها لموضع معين، وزاد في المسافة الدخول عليها فهما متعديان على كل لا على بعض، وحرق الثوب بحاء مهملة وقتل الدابة كذلك، ومما يفترق فيه الغاصب من التعدي أن الفساد اليسير من الغاصب يوجب لربه أخذ قيمة المغصوب إن شاء، والفساد اليسير من التعدي ليس لربه إلا أخذ أرش النقص الحاصل به وقتها، وأن المتعدي لا يضمن السماوي والغاصب يضمنه، ومنها أن المتعدي

ص: 514

يضمن غلة ما عطل بخلاف الغاصب. أهـ. وقال عبد الباقي أيضًا: وشمل قوله: "جان" الجناية عمدا أو خطئا ولا ينافيه التعبير بلفظ المتعدي لأنه من الأمور الاصطلاحية.

وأشار إلى أن المتعدي يضمن قيمة السلعة في الفساد الكثير دون اليسير فإنَّه يضمن فيه نقصها فقط بقوله: فإن أفات المقصود يعني أن المتعدي إذا أتلف المنفعة المقصودة من الذات فإن ربه يخير بين أن يأخذ قيمة ذلك الشيء يوم التعدي وأن يأخذ متاعه وما نقص، قوله:"فإن أفات المقصود" عمدا أو خطئا، ومثل لما يفيت المقصود بقوله: كقطع ذنب دابة ذي هيئة يعني أن قطع ذنب دابة شخص ذي هيئة ومروءة كقاض وأمير يفيت المقصود، ومفهوم "ذي هيئة" أنَّه إن لم يكن ذا هيئة فإن قطع ذنب دابته لا يفيت المقصود إلا أن تكون دابته ذات هيئة، قال عبد الباقي: فإن أفات المقصود في العمد ومثله في الخطإ كقطع ذنب دابة ذي هيئة ومروءة كقاض وأمير لا غير ذي هيئة إلا أن تكون هي ذات هيئة ولا نتف شعرها أو قطع بعض ذنب ذي هيئة فيضمن النقص فقط إلا لعرف في الجميع ففيه ما ذكره المص، وما تقدم من إيراد الدابة ذات الهيئة على المص مبني على جعل "دابة" مضافة إلى "ذي"، فإن جعل دابة في كلامه منونا وذي صفة له شمل كلامه الصورتين، ولا يمنع ذلك إرادة وصفها بذي فكان الواجب أن يقول ذات، لأنا نقول في الحديث: (دابة أهلب طويل الشعر

(1)

)، وفيه أيضًا: (فأتِيَ بدابة أبيض فوق الحمار ودون البغل

(2)

)، فذكر وصف البراق لأنَّ دابة في معنى حيوان فراعى في الوصف المعنى. أهـ. وقال الخرشي: ومفهوم ذي هيئة أن قطع ذنب دابة غير ذي هيئة لا يفيت المقصود ولو كانت هي ذات هيئة، ولكن في التوضيح عن مطرف وابن الماجشون أنَّه يفيت المقصود منها في هذه الحالة.

تنبيه: في الخرشي ما نصّه: وإنما تعتبر الهيئة للمسلم. انتهى. ونحوه لعبد الباقي، ونصه: كقطع ذنب دابة مسلم ذي هيئة، ثمَّ قال: لا غير إلا أن تكون ذات هيئة لمسلم. أهـ. قال الرهوني: قال التاودي: الظاهر أنَّه لا مفهوم لهذا القيد، وأن الذمي كذلك. أهـ. وما قاله صواب

(1)

صحيح مسلم، كتاب الفتن، رقم الحديث 2942.

(2)

البخاري، كتاب بدء الخلق، رقم الحديث 3207. مسلم، كتاب الإيمان رقم الحديث 164.

ص: 515

وهو ظاهر كلام الأئمة ووجهه بين غاية. والله أعلم. أهـ. وما قالاه جلي ظاهر لا خفاء به. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه. والله تعالى أعلم.

أو أذنها عطف على ذنب فهو من أمثلة المفيت للمقصود؛ يعني أن قطع أذن دابة ذي هيئة مفيت للمقصود أيضًا فيخير المالك بين أخذ قيمتها وأخذها وما نقصها، أو طيلسانه يعني أن قطع طيلسان ذي الهيئة يفيت المقصود منه، وكذا قطع عمامته أو قلنسوته أو ما أشبه ذلك فيوجب الخيار المذكور، وهو معطوف على ذنب فهو مثال أيضًا، والطيلسان ثوب يلبسه خواص الناس وهو مثلث الللام، أو لبن شاة هو المقصود يعني أن من تعدى على شاة ففعل بها أمرًا أذهب منه لبنها أو قلله وكان اللبن هو المقصود الأعظم منها، فإن ذلك يوجب الخيار في أخذ قيمتها أو أخذها مع نقصها، قال الخرشي يعني أن من تعدى على شاة ففعل بها فعلا قطع لبنها كله أو أكثره وكان اللبن هو المقصود منها، فإن ربها يخير إن شاء أخذها وما نقص اللبن من قيمتها، وإن شاء أخذ قيمتها يوم التعدي. أهـ. فإن قلت لا حاجة لقوله هو المقصود لاستفادته من قوله:"فإن أفات المقصود" فالجواب أن المقصود يشمل المقصود الأعظم وغيره، ولا شك أن لبن الشاة مقصود منها، لكن تارة يكون معظم المقصود منها وتارة لا يكون معظمه منها، فلو اقتصر على الأوّل لاقتضى أن الجناية المفسدة للبنها توجب ضمان القيمة، كان هو الأعظم منها أو دونه وليس كذلك؛ إذ الموجب لتضمين القيمة إنما هو الفعل المفسد للبنها حيث كان معظم المقصود منها انظر شرح عبد الباقي.

أو قلع عيني عبد يعني أن قلع عيني الرقيق مفيت للمقصود منه فيوجب التخيير المذكور، بخلاف العين الواحدة كما يأتي قريبا، أو يديه يعني أن قطع يدي الرقيق من المفيت المقصود فيوجب التخيير المذكور. وعلم مما قررت أن قوله: فله أخذه ونقصه أو قيمته أي فالمالك مخير بين أخذ متاعه مع نقصه وأخذ قيمة شيئه يوم الجناية عليه جَوابُ الشرط فهو جارّ في جميع الأمثلة. فإن لم يفته فنقصه هذا مفهوم قوله: "فإن أفات المقصود" يعني أن المتعدي إذا لم يفت بجنايته المنفعة المقصودة من الشيء فإنَّه ليس للمالك إلا أخذ متاعه مع نقصه وليس له أن يلزم

ص: 516

الجاني القيمة، وقوله:"فنقصه" إما بالرفع مبتدأ حذف خبره أي فعليه نقصه فقط أو بالعكس؛ أي فاللازم له نقصه فقط وإما بالنصب أي فيغرم نقصه فقط. والله تعالى أعلم.

ومثل لما إذا لم تفت الجناية المقصود بقوله: كلبن بقرة يعني أن من تعدى على بقرة ففعل بها فعلا أذهب منه لبنها فإنما عليه ما نقصها فقط، فيأخذه المالك مع عين شيئه، قال الخرشي: والمعنى أن من تعدى على بقرة شخص ففعل بها فعلا أذهب به لبنها فإنَّه لا يضمن قيمتها، وإنما يضمن ما نقصتها الجناية؛ لأنَّ البقرة تراد لغير اللبن. أهـ. وقال عبد الباقي: ومثل لما لَمْ يفت المقصود بقوله: كلبن بقرة أو شاة ليس هو المقصود الأعظم منها ويد عبد أو عينه هذا أيضًا من أمثلة ما لم يفت المقصود، والمعنى أن قطع يد الرقيق الواحدة أو قلع عينه الواحدة لا يفيت المقصود، فإنما فيه ما نقصه فقط فيأخذ عبده مع نقصه، وهذا إذا كان له يدان وعينان وإلا فذلك من المفيت فيوجب التخيير، قال عبد الباقي: وقطع يد عبد أو قلع عينه إلا أن يكون صانعا أو ذا يد أو عين واحدة فيضمن قيمته في الأخيرين، وكذا في الصانع كما حكى ابن رشد الاتفاق عليه حسبما ذكره ابن عرفة، وأما قطع الرجل الواحدة فمن الكثير. انتهى.

تنبيهات: الأوّل: قال الحطاب: من استهلك فرد خف لرجل لا يلزمه قيمته على انفراده، وإنما يلزمه ما نقص من قيمتهما جميعًا. أهـ من البيان. وفي المسائل الملقوطة: الصحيح فيمن استهلك أحد المزدوجين أو أحد الأشياء التي لا يستغني بعضها عن بعض إنما يغرم قيمة المستهلك مع قيمة عيب الباقي منهما، وقيل بوجوب قيمتهما، واختلف فيمن استهلك سفرا من ديوان في سفرين، فقال بعضهم: يرد السالم وما نقص من ذهاب أخيه ويغرم قيمة الهالك، وفي شرح الرسالة للقاضي عبد الوهاب أنَّه يغرم قيمة الجميع. أهـ من تسهيل المهمات. أهـ كلام المسائل الملقوطة. أهـ.

الثاني: قال الحطاب: قال ابن كنانة: أكره أن يأخذ الرجل من شجرة غيره

(1)

غرسا إلا بإذنه، قال محمَّد بن رشد: أما إذا أخذ من شجرة غيره ملوخا يغرسها في أرضه وكان ما امتلخ فيها لا قيمة له ولا ضرر فيه على الشجرة التي امتلخت منها فهذا الذي كره ابن كنانة. والله أعلم. وأما

(1)

ساقطة من الأصل، والمثبت من الحطاب ج 6 ص 37 ط دار الرضوان.

ص: 517

إن كان لما امتلخ منها قيمة وكان ذلك يضر بالشجرة التي امتلخت منها فلا يجوز لأحد أن يفعله إلا بإذن صاحب الشجرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه

(1)

)، فإن فعل ذلك بغير إذنه دلالة لسبب بينه وبينه يقتضي الإدلال عليه فعليه أن يتحلل من ذلك، فإن حلله وإلا غرم له ذلك عودا مكسورا يوم امتلخه، وليس له أن يقلعه ويأخذه وعليه مع ذلك قيمة ما نقص من الشجرة التي امتلخ منها، وإن فعل ذلك غصبا وتعديا بلا إذن من صاحبه ولا دلالة عليه ممن يستوجب الدلالة فله أن يقلعه ويأخذه، وإن كان قد علق إلا أن يكون بعد طول مدة وزمان ونماء وزيادة بينة، فلا يكون له أن يأخذه بعينه وتكون له قيمته يوم امتلخه من الشجرة عودا ميتا مكسورا، وإن كان أضر بالشجرة كان عليه مع ذلك قيمة ما نقص من الشجرة هذا قول أصبغ في الواضحة.

وقال سحنون: إنما يكون أولى بغرسه إذا كان إن قلعه وغرسه ينبت، وإن كان لا ينبت فله قيمته ولا سبيل له إلى قلعه، وكان ربيعة يقول في مثل هذا: وإن نبت فإنما له قيمته أو غرس مثله، وأما إن قلع من بستانه غرسا فغرسه في أرضه دلالة على صاحب البستان فله أن يقلعه ويأخذه، وإن كان قد نبت وعلق إلا أن يتطاول أمره ونما نماء بينا فلا يكون له قلعه وتكون له قيمته يوم اقتلعه نابتا؛ لأنَّ دلالته عليه إذا كان من أهل الدلالة شبهة تمنع، ولو كان اقتلعه غصبا غير مدل لكان صاحب الغرس أحق بغرسه، وإن كان قد نبت في أرضه وطال وثبتت زيادته لأنه شيئه بعينه أخذه حيا فنما وزاد وشب فهو كالصغير يغتصب أو يسرق ثمَّ يجده صاحبه وقد كبر وشب ونما وزاد فهو أبدا أحق به، إلا أن يشاء أن يسلمه ويأخذ قيمته نابتا يوم قلعه فيكون ذلك له. حكى ذلك ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ. وبالله التوفيق.

الثالث قال الحطاب: سئل ابن كنانة عن الكرم يقطف والزيتون يجنى والزرع يحصد هل يجوز لأحد أن يأكل بقيته؟ قال: إن كان أهله تركوه لمن أخذه فلا بأس بأخذه، وإن كانوا يريدون الرجعة له فلا يجوز لأحد أخذه. ابن رشد: هذا كما قال، والمعنى فيه بين إن علم أن صاحبه

(1)

التمهيد، ج 23 ص 152 موسوعة الموطأ.

ص: 518

تركه لمن أخذه من فقير أو غني، وأما إن خشي أنَّه إنما تركه لمن أخذه من المساكين فلا ينبغي له أن يأكل شيئًا منه. وبالله التوفيق. أهـ والله أعلم.

وعتق عليه إن قوم يعني أنَّه إذا كان المتعدى عليه رقيقا وكان التعدي عليه يفيت المقصود وأختار السيد أخذ قيمته، فإنَّه يعتق على الجاني هكذا في المدونة، قال الخرشي: وهذا بشرط أن تكون الجناية عليه عمدا كما ذكره البساطي، وزاد مع قصد شيئه بالجناية التي قوم بسببها كما يعلم مما يأتي في باب العتق. انتهى. انتهى. وقال عبد الباقي: وإذا تعدى على عبد مثلا مع قصد شين وأفات المقصود منه أولًا واختار السيد أخذ قيمته عتق عليه أي على المتعدي بالحكم إن قوم أي إن طلب سيده قيمته، لا إن أخذه ونقصه فلا يعتق ولا إن كانت خطئا أو عمدا بغير قصد شين، ويدخل في قوله:"إن قوم" ما إذا تراضيا على التقويم فيما لا يجب عليه فيه تقويم، كجناية عمد فيها شين قصد ولا تفيت المقصود، ونحوه للطخيخي فقوله:"إن قوم" أي برضى صاحبه فقط في مفيت المقصود وبرضاهما معا في غير مفيته. أهـ. قوله: وبرضاهما معا في غير مفيته، قال البناني: هذا غير صحيح لنص المدونة كما في المواق على أنَّه لا يعتق عليه فيما لا تخيير فيه. انتهى. ولا منع لصاحبه في الفاحش هذا خلاف قوله: "فله أخذه ونقصه أو قيمته" فإنَّه عام في الرقيق وغيره، ومعنى كلام المص أن المتعدي على الرقيق إذا عابه عيبا فاحشا فإنَّه لا يكون للسيد أخذه وما نقصه، وإنما له القيمة يجبر على قبولها فيعتق العبد على الجاني، فقوله:"ولا منع لصاحبه" أي ليس لمالك العبد أن يمنع العبد من الجاني بأن يحبسه عنه فيأخذه مع نقصه، بل يجبر على قبول قيمة العبد ويعتق على الجاني هذا هو الذي اختاره ابن يونس، ولهذا قال: على الأرجح، قال عبد الباقي: ولا منع لصاحبه أي ليس له حبسه أي أخذه وأخذ نقصه في الفاحش المفيت معظم المقصود، وإنما له أخذ قيمته على الأرجح عند ابن يونس، وهو مقابل لقوله:"فله أخذه ونقصه أو قيمته" وهو خاص بالجناية على من يعتق بالمثلة؛ أي أنَّه عند ابن يونس يتعين على سيده أخذ قيمة الرقيق لا أخذه مع نقصه، فيجبره الحاكم على أخذ قيمته والجاني على دفعها ليعتق عليه العبد فلا يحرمه سيده العتق بأخذه مع نقصه، فهذا مقابل لما

ص: 519

قدمه من تخيير صاحبه، وما قدمه هو مذهب المدونة، وفي كلام البساطي وجد الأجهوري نظر، وأما غير الرقيق فحكمه عند ابن يونس كحكمه عند غيره وقد تقدم. أهـ.

ورفا الثوب مطلقا يعني أنَّه يجب على الجاني أن يرفأ الثوب مطلقا، سواء كانت الجناية لا تفيت المقصود أو تفيته، واختار رب الثوب أخذ ثوبه مع نقصه لا إن اختار أخذ القيمة، قال عبد الباقي: ورفأ الجاني بهمز وبدونه ويكتب بالألف الثوب الحاصل فيه جناية عمدا أو خطئا مطلقا؛ أي سواء لم تفت المقصود أوأفاتته واختار أخذه ونقصه، وقد يتوهم من المص أن المتعدي يلزم بشيئين رفإ الثوب وأرش النقص قبل الرفإ، وليس بمراد كما قال الناصر، وإنما المراد أنَّه يلزم بشيئين رفإ الثوب وأرش النقص بعد الرفإ لا أرشه قبله إذ هو كثير فيه ظلم على الجاني، وبين الأمرين فرق مثلا أرش النقص قبل الرفا عشرة وبعده خمسة وأجرة الرفإ درهم فإنما يلزمه درهم أجرة الرفإ وخمسة أرشه في نقصه بعده لا عشرة التي هي أرشه قبله. اهـ.

قوله: ويكتب بألف أي على أنَّه غير مهموز، وأما المهموز فلا يحتاج للتنبيه عليه، وأشار بهذا إلى أن ألفه منقلبة عن واو، وقال البناني: اللخمي: قال مالك: فإن كان ثوبا رفاه أو قصعة أصلحها وغرم ما نقصها بعد الإصلاح، وإنما لزمه إصلاحه لأنَّ صاحبه لا يقدر على استعماله إلا بعد إصلاحه، وقد كان في مندوحة عن ذلك وليس هذا من القضاء بالمثل فيما قل قدره، ولو كان ذلك ما غرم النقص بعد الإصلاح، وقول المص:"مطلقا" أي في اليسير والكثير وهو الذي اقتصر عليه عبد الحق واعترضه ابن يونس، فقال: هذا الذي ذكره في الفساد الكثير في الثوب أنَّه يأخذه وما نقصه بعد الرفإ خلاف ظاهر قولهم ووجه فساده أنَّه قد يغرم في رفو الثوب أكثر من قيمته صحيحا وذلك لا يلزمه. أهـ. انظر المواق. أهـ.

وقال الرهوني: رفو اليسير مصرح به في المدونة وغيرها، ولم أر من ذكر فيه خلافا إلا ابن يونس، قال: لو قال قاتل في اليسير إنما عليه ما نقصه فقط لم أعبه؛ لأنه إذا أعطاه ما نقصه دخل الرفو في قيمة هذا النقص. أهـ. وأما الكثير فتبع فيه المص قول ابن الحاجب، وإن كان فسادا كثيرا خير ربه في أخذه وما نقصه وبين قيمته، قالوا: بعد رفو الثوب. أهـ. مع أنَّه قال في توضيحه: قوله قالوا يوهم تواطؤ أهل المذهب أو أكثرهم وإنما نقله ابن يونس، وقال: إن هذا الذي قاله

ص: 520

بعض الأصحاب خلاف ظاهر قولهم، وبعض الأصحاب الذي أجمله هو عبد الحق كما بينه ابن عرفة، ونصه: وعلى أخذه في الفساد الكثير في كونه بعد رفوه كاليسير أو دونه بخلافه قول عبد الحق ونقل الصقلي عن ظاهر أقوالهم. أهـ باقتصار. ثمَّ قال ما نصّه: وهو يفيد أن الراجح خلاف ما قاله المص في الكثير؛ لأنه سلم نقل ابن يونس عن ظاهر قول أهل المذهب وهو ظاهر المدونة. انظر نصها في المواق. وظاهرها حجة حيث لا يعارضه أقوى منه كما هنا، فكيف إذا كان ذلك ظاهر كلام غيرها أيضًا من أهل المذهب؟

وفي أجرة الطبيب قولان يعني أنَّه إذا جنى شخص على حر أو عبد فاحتاج إلى المداواة، فإنَّه اختلف في لزوم أجرة الطبيب وقيمة الدواء للجاني وعدم لزوم ذلك له على قولين مرجحين، قال عبد الباقي: وفي لزوم أجرة الطبيب وقيمة الدواء على جان حر أو عبد بجرحه جرحًا خطئا ليس فيه مال مقرر أو عمد لا يقتص منه لإتلافه أو لعدم المساواة أو لعدم المثل، وليس فيه مال مقرر أيضًا ثمَّ ينظر بعد البرء، فإن برئ على غير شين فالأدب فقط على المعتمد، وعلى شين غرم النقص والقول الثاني عدم لزوم الأجرة وقيمة الدواء له، ثمَّ ينظر بعد البرء فيغرم النقص إن برئ على شين لا على غيره قولان، فمحلهما في جرح خطإ ليس فيه مال مقرر أو عمد لا يقتص منه لإتلافه أو لعدم المساواة أو لعدم المثل، وليس فيه مال مقرر أيضًا كما تقدم قريبا. أهـ.

ص: 521

فصل في الاستحقاق: قال في الصحاح ما نصّه: وأحققت الأمر أوجبته واستحققته أي استوجبته. أهـ منه بلفظه. وفي المصباح ما نصّه: واستحق فلان الأمر استوجبه. قاله الفاري

(1)

وجماعة. فالأمر مستحق بالفتح اسم مفعول، ومنه قولهم: خرج المبيع مستحقا. أهـ منه بلفظه. انتهى. وأما معناه عرفا، فقال ابن عرفة: الاستحقاق رفع ملك شيء بثبوت ملك قبله وحرية كذلك بغير عوض، فيخرج العتق ومطلق رفع الملك بملك بعده وما وجد في المغانم بعد بيعه أو قسمة؛ لأنه لا يؤخذ إلا بالثمن. انتهى. ولا يرد على حدّ ابن عرفة اعتصار الهبة؛ لأنَّ رافع الملك الاعتصار، وإن كان الاعتصار بسبب ثبوت ملك قبل هذا الملك، وأورد عليه مسألتان: إحداهما إذا قال لزوجته: إن تزوجت عليك فأمر الداخلة عليك بيدك، فتزوج عليها بغير إذنها فطلقت الداخلة عليها فإنَّه يصدق عليه الحد، الثانية امرأة المفقود إذا حكم عليه بالتمويت وتزوجت ثمَّ قدم زوجها فإنَّه أحق بها، قال الرهوني: والحق أن المسألتين معا لا يردان على ابن عرفة؛ لأنَّ الملك إذا أطلق في عرف الفقهاء إنما يراد به ملك المال ذاتا أو منفعة، وذكر جوابا غير هذا، وأورد عليه أيضًا استحقاق مدعي الحرية برق فإنَّه غير منعكس لعدم شموله لهذه المسألة، وأجيب عنه بأنّه يشملها لأنَّ مدعي الحرية يملك منافع نفسه واستحقاقه برقية يرفع ذلك. البناني:

قال الحطاب: لا يتصور الاستحقاق إلا بمعرفة حقيقته وحكمه وسببه وشروطه وموانعه، أما حقيقته فهي ما ذكر، وَأَمَّا حُكْمه فقال ابن عرفة حكمه الوجوب عند تيسر أسبابه في الرفع على عدم يمين مستحقه، وعلى يمينه هو مباح كغير الرفع لأنَّ الحلف مشقة. أهـ. وَأَمَّا سَبَبُه فهو قيام البينة على عين الشيء المستحق أنَّه ملك للمدعي لا يعلمون خروجه ولا خروج شيء منه عن ملكه حتى الآن، والشهادة بأنّه لم يخرج عن ملكه إنما تكون على نفي العلم في قول ابن القاسم المعمول به، وأما شروطه فثلاثة: الأوّل الشهادة على عينه إن أمكن، وإلا فحيازته بأن يقول شهود الملكية لمن يبعثه القاضي معهم: هذه الدار هي التي شهدنا بها عند القاضي فلان، الثاني: الإعذار في ذلك إلى الحائز فإن ادعى مدفعا أجله بحسب ما يراه. الثالث: يمين القضاء. أهـ المراد منه.

قال الحطاب: واختلف في لزومها على ثلاثة أقوال: الأوّل أنَّه لابد منها في جميع الأشياء. قاله ابن القاسم وابن وهب وسحنون. الثاني: لا يمين في الجميع. قاله ابن كنانة. الثالث: أنَّه لا يحلف في العقار ويحلف في غيره وهو المعمول به عند الأندلسيين وفي سجلات الباجي: لو استحق

(1)

في الرهوني ج 6 ص 235: الفارابي.

ص: 522

ذلك من يد غاصب لم يحلف، وصفتها أن يقول: بالله الذي لا إله إلا هو ما بعت الفرس أو الثوب أو الجارية المشهود لي بها مثلا، ولا فوته ولا خرج عن ملكي بوجه من وجوه الفوت، وأما موانعه ففعل وسكوت، أما السكوت فمثل أن يترك القيام به من غير مانع أمد الحيازة، وأما الفعل فمثل أن يشتري ما ادعاه من عند حائزه، فلو قال: إنما اشتريته خوف أن يفيته عليَّ فإذا أثبته رجعت عليه بالثمن لم يكن له مقال، وقال أصبغ: إلا أن تكون بينة بعيدة جدًا أو يشهد قبل الشراء أنَّه إنما اشتراه لذلك فذلك ينفعه، ولو اشتراه وهو يرى أن لا بينة ثمَّ وجد بينة فله القيام وأخذ الثمن منه. قال أصبغ والقول قوله. قاله الحطاب.

تنبيهات: الأوّل: قد مر قول ابن عرفة: حكم الاستحقاق الوجوب عند تيسر أسبابه لخ، وقد يقال: لا يظهر الوجوب في ذي الشبهة لأنه إذا كان لإنقاذه من الإثم بتصرفه في ملك الغير بغير إذن فالإثم منتف عنه لعذره بعدم علمه وتمسكه بالظاهر، فالإثم منتف عنه إجماعا وإن كان لما في تركه من إضاعة ماله فهي منتفية هنا لانتفاع الغير به كما أشرنا إليه فيما سبق. انظر الرهوني.

الثاني: قد مر أن القول المعمول به أن لا يحلف يمين القضاء في العقار ويحلفها في غيره، قال الرهوني: هذا المعمول به هو الراجح أيضًا. انظر ما يأتي عند قوله في الشهادات: "واليمين في كل حق" لخ، وظاهر كلام البناني أن هذا العمل مستمر إلى وقته إذ لم ينبه على مخالفته وهو كذلك، وقول أبي زيد الفاسي في عملياته:

كذا في الاستحقاق للأصول

القول باليمين من معمول

قد انتقد عليه راجع شراحه. أهـ.

الثالث: قد مر قول المص: وضمن منفعة الحر والبضع بالتفويت وغيرهما بالفوات، فالذي تعطلت منفعته بجرح إن كان حرا لا شيء له على من فوتها عليه؛ لأنه وجب عليه غرم منفعته لا الحكم عليه بأن يأتي بشخص آخر يعمل مكانه وهذا ظاهر جلي قاله الرهوني.

وإن غصبت أرض أو منفعتها أو تعدي على ذلك فزرعها الغاصب أو المتعدي، فاستحقت الأرض المدلول عليها بزرع أي قام مالكها فإنَّه ينظر إلى الزرع، هل بلغ أن ينتفع به أو لم يبلغ ذلك، فإن لم ينتفع بالزرع بأن لم يظهر أو ظهر ولكن لا ينتفع به أخذ بالبناء للمفعول بلا شيء أي يقضى

ص: 523

لمستحق الأرض أن يأخذ الزرع إن شاء بلا شيء يدفعه للغاصب أو المتعدي في مقابلة بذره وحرثه وغير ذلك، وإن شاء أمره بقلعه كما في التوضيح هذا هو الصحيح، ونقل ال تتائي عن التوضيح أن لربه قلعه إن أراد غير صحيح. قوله:"أخذ بلا شيء" وليس لرب الأرض أن يبقي الزرع للغاصب أو المتعدي، ويأخذ منه كراء الأرض لأنَّ ذلك يؤدي إلى بيع الزرع قبل بدو صلاحه، ونص التوضيح الذي أشرت إليه هو قوله: إن قام رب الأرض بعد الحرث، وقبل الزراعة، ففي اللخمي وغيره: أنَّه يأخذه بغير شيء وإن كان قيامه بعد الزراعة وقبل ظهور الزرع أو بعد ظهوره وقبل أن ينتفع به، فله أن يأمره بقلعه أو يأخذه ابن القاسم وأشهب: بغير ثمن ولا زريعة. انتهى.

وإلا أي وإن بلغ الزرع أن ينتفع به ولو لرعي البهائم فله أي فلمستحق الأرض قلعه؛ أي له أن يأمر رب الزرع بقلعه وتسوية أرضه، وقوله: إن لم يفت وقت ما تراد له شرط في قوله: أخذ بلا شيء، وفي قوله:"فله قلعه" يعني أن الغاصب أو المتعدي المذكور إذا زرع الأرض فاستحقت والحال أن الزرع لم يبلغ حد الانتفاع، فإن رب الأرض له أن يأخذ الزرع بلا شيء كما عرفت، وهذا إن لم يفت وقت الزرع الذي تراد له الأرض، وكذا لرب الأرض أن يأمر من ذكر بقلع الزرع وتسوية أرضه حيث بلغ الزرع أن ينتفع به إن لم يفت وقت الزرع الذي تراد له الأرض، قال عبد الباقي: وذكر شرطا في قوله: أخذ بلا شيء، وفي قوله:"فله قلعه" فقال: إن لم يفت وقت أي إبان ما أي زرع تراد له مما زرع فيها كما حمل عبد الحق وغيره المدونة عليه لأنه قول أصبغ تابعَ أتباعِ الإمام ويحتمل مما زرع فيها وغيره، ابن رشد وهو القياس. انتهى. وهو ظاهر عبارة المص؛ لأنَّ حذف المتعلق يؤذن بالعموم، ولكنه لا يعادل الأوّل، وعدل عن أن يقول وقت ما تراد له مع كونه أخصر ليلًا يتوهم أنَّه لابد من بقاء وقت جميع ما تراد له، فيخرج ما إذا بقي منه جزء، فقال:"إن لم يفت" وعدم فواته يصدق ببقاء جزء منه. انتهى.

قال البناني: ما قرره به الزرقاني تبع فيه ابن غازي، ونصه: وشمل قوله ما تراد له الزرع والمقاثي وغيرها من جنس ما يزرع فيها الغاصب ومن غير جنسه، وهذا خلاف ما لأصبغ في نوازله من كتاب كراء الأرضين، وخلاف ما حمل عليه عبد الحق وغيره لفظ المدونة من أن المراد بالإبان إبان ما زرع فيها الغاصب خصوصا، مع أنَّه اقتصر على ذلك في التوضيح، ولعله اعتمد ما لابن رشد في نوازل أصبغ، وقال بعضهم: إن لفظ العتبية عن أصبغ يدلّ لما فهم ابن غازي. الرهوني: ما قاله

ص: 524

هذا البعض هو الظاهر وهو الذي يدلّ عليه كلام التوضيح لمن تأمله وأنصف، وكذا كلام ابن عرفة. والله أعلم. انتهى.

وله أخذه بقيمته هذا هو الشق الثاني من شقي التخبير فيما إذا بلغ الزرع أن ينتفع به، والأول قوله:"فله قلعه" يعني أن لرب الأرض أيضًا أن يأخذ الزرع بقيمته مقلوعا حيث بلغ أن ينتفع به ويبقيه في الأرض ويسقط من قيمته مقلوعا عنه كلفة قلعه أن لو قلع حيث كان الغاصب شأنه أن لا يتولاها بنفسه أو خدمه، قوله:"وله أخذه بقيمته" وقيل لا يجوز ذلك. اللخمي: والقول بأن ذلك يجوز أصوب؛ (لأن نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الثمار قبل بدو الصلاح

(1)

) إنما هو لأنه يريد الإبقاء ولا يدري هل يسلم أم لا؟ وهذا يدفع قيمته مقلوعا، وإلى هذا أشار بقوله: على المختار، البناني: ما اختاره اللخمي، قال ابن رشد: هو ظاهر المدونة، ونصه على ما نقل ابن عرفة: وفي صحة أخذه بقيمته مقلوعا قولان لظاهر كراء الأرض منها، ودليل سماع سحنون في المزارعة. انتهى. وقال عبد الباقي: وأشار لقسيم قوله: "فله قلعه" وهو الشق الثاني من التخيير بقوله و"له" أي لرب الأرض أخذه بقيمته على المختار مقلوعا تقديرا ويبقيه في الأرض ويسقط من قيمته عنه كلفة قلعه أن لو قلع حيث كان الغاصب شأنه أن لا يتولاها بنفسه أو خدمه على ما لابن المواز في بناء الغاصب وغرسه، وقال ابن القاسم هنا: لا تسقط الكلفة فيهما والمعول عليه كلام ابن المواز هناك كما تقدم، ونحوه لأبي الحسن فينبغي أن يعول عليه هنا أيضًا. انظر أحمد. فإذا كان شأنه توليه بنفسه أو خدمه أخذه بقيمته مقلوعا من غير إسقاط كلفة قلعه لو قلع، وكما له أخذه بقيمته له إبقاؤه لزارعه وأخذ كراء السنة منه في الفرض المذكور إن بلغ أن ينتفع به ولم يفت وقت ما تراد له دون القسم الأوّل في المص وهو إذا لم ينتفع به فليس له إبقاؤه وأخذ كرائها منها وفرق ابن يونس بأنّه فيه يؤدي إلى بيع الزرع قبل بدو صلاحه؛ لأنَّ مالك الأرض لما مكنه الشرع من أخذه بلا شيء وأبقاه لزارعه بكراء فكان ذلك الكراء عوضا عنه في المعنى، فهو بيع له على التبقية. انتهى. قوله: وفرق ابن يونس بأنّه فيه لخ، قال الرهوني: هل نسبه ابن عرفة لابن المواز، ونصه: محمَّد: لا يجوز إبقاؤه للغاصب بكراء لأنه بيع الزرع قبل بدو صلاحه، فقبله الشيخ وابن رشد. انتهى المراد منه.

(1)

البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث 2183 - مسلم، كتاب البيوع، رقم الحديث 1534.

ص: 525

تنبيه: قال عبد الباقي عند قوله: "وإن زرع فاستحقت" ما نصه: أي قام مالكها فليست هذه من مسائل الاستحقاق الذي عرفه ابن عرفة بقوله: رفع ملك شيء بثبوت ملك قبله أو حرية كذلك بغير عوض؛ إذ لا يصدق على أخذ متاعه من غاصب أنَّه رفع ملك لأنه لا ملك للغاصب أو المتعدي. انتهى. قال البناني: فيه نظر، بل هي منها، ومراد ابن عرفة بالملك مطلق الحوز للتصرف والكون تحت اليد مجازا وقرينته إضافة رفع إليه إذ الملك الحقيقي لا يرفع كذلك فتأمله، وبه يسقط قول مصطفى: الاستحقاق المشهور هو أن يكون من ذي شبهة. انتهى.

وإلا هذا مفهوم قوله: "إن لم يفت وقت ما تراد له" أي والإبان فات وقت ما تراد له، فالزرع للغاصب أو المتعدي وعليه لرب الأرض كراء مثلها في السنة، قال عبد الباقي وإلا بأن فات وقت ما تراد له فكراء مثلها في السنة لازم للغاصب. انتهى. وعلم مما قررت -كما يفيده عبد الباقي- أن هذا عام فيما إذا بلغ الزرع أن ينتفع به، وفيما إذا لم يبلغ أن ينتفع به والله تعالى أعلم قال البناني عند قوله:"وإلا فكراء السنة" ما نصّه: اعتمد المص في هذا ما نقله في التوضيح عن اللخمي، ونصه: وإن كان قيامه بعد الإبان فقال مالك: الزرعُ للغاصب وعليه كراء الأرض وليس لربه قلعه. اللخمي: وهو المعروف من قوله: وذكر رواية أخرى أن للمستحق أن يقلعه ويأخذ أرضه لقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرق ظالم حق

(1)

)، وروي عن مالك أيضًا أن الزرع للمغصوب منه الأرض وإن طاب وحصد، واختار هذه الرواية الثالثة غير واحد لما في الترمذي: (من زرع أرضا لقوم بغير إذنهم فالزرع لرب الأرض وعليه نفقته

(2)

). انتهى. وذكر ابن يونس في الرواية الثانية أنها أصح كما في المواق، فظهر ترجيح كل من الروايات الثلاث.

تنبيهات: الأوّل: قال الرهوني عند قول البناني فظهر ترجيح كل من الروايات ما نصّه: الثالثة وإن ترجحت باختيار غير واحد لها كما قال هي شاذة في نفسها على

(3)

الإمام، وقد بحث ابن عرفة في الفتوى بها، لكن هي وإن كانت شاذة فقد عارضها

(4)

أصل. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه.

(1)

الموطأ، كتاب الأقضية، رقم الحديث 26.

(2)

الترمذي، كتاب الأحكام، رقم الحديث 1366. أبو داود، كتاب البيوع، رقم الحديث 3403. ابن ماجه، كتاب المرهون رقم الحديث 466.

(3)

في الرهوني ج 6 ص 237: عن الإمام.

(4)

كذا في الأصل، ولعلها: فقد عضدها أصل. انظر الرهوني ج 6 ص 236.

ص: 526

الثاني: قال عبد الباقي: وشمل قوله: "فاستحقت" استحقاق ذات الأرض أو منفعتها كما أشرنا إليه، كمن استأجر أرضا ليزرعها فتعدى آخر فزرعها فإنَّه يثبت للمستأجر حيث بقي على إجارته ما يثبت لمالك الأرض التي لم يؤجرها وهو ظاهر، ولا يقال الغصب يفسخ إجارته كما يأتي في قوله:"وبغصب الدار وغصب منفعتها"؛ لأنا نقول: فسخ الإجارة حق له فله تركه والبقاء على إجارته، أو يحمل خيار المستأجر هنا على ما إذا تعدى على زرعها من يمكن دفعه بالحاكم، وما يأتي من الفسخ في غصب المنفعة على ما إذا غصبها من لا يمكن دفعه بحاكم. انتهى. قوله: أو يحمل خيار المستأجر هنا لخ، قال البناني: هذا هو الصواب، وقد قال ابن القاسم: إذا نزل سلطان على مكتر فأخرجه وسكن الدار إن المصيبة على صاحب الدار، ويسقط عن المكتري ما سكنه السلطان، وقد قال ابن يونس: إذا اكترى دارا أو أرضا فاغتصبها منه رجل فسكن أو زرع إن الكراء على المكتري إلا أن يكون سلطانا. ابن يونس: وهذا صواب لأنَّ منع السلطان كمنع ما هو من أمر الله تعالى، كهدم الدار وقحط الأرض. انتهى نقله المواق في باب الغصب. انتهى.

الثالث: قال البناني: قال ربيعة: العروق أربعة، عرقان فوق الأرض الغرس والبناء، وعرقان في جوفها المياه والمعدن. نقله المواق. انتهى.

الرابع: قال الرهوني: انظر هل فوات الإبان هنا بالنظر إلى زمن الخصام أو إلى يوم الحكم؟ لم أر من تعرض لذلك، والظاهر أنَّه يجري في ذلك القولان اللذان ذكرهما ابن عرفة في ذي الشبهة، ونصه: ولو خاصم المستحق في الإبان وحكم له بعد ذهابه، ففي كون الكراء للأول أو للمستحق قولان، وخرجهما اللخمي على الخلاف في المترقبات هل يعتبر الحكم بها [يوم

(1)

] ثبوت سببها أو يوم حصولها، وقد يقال إن كانت مخاصمة من استحق منه بما له وجه فالكراء له، وإن كانت بباطل واضح فهو لمستحقها، وحضرت فتوى اللخمي لقاض فيمن دعت زوجها للبناء بها فأنكر [النكاح

(2)

] فأثبتته، فإن كان خصام الزوج بتأويل وشبهة فلا يطلب بالنفقة أيام الخصام، وإن خاصمها بباطل واضح قضي لها بالنفقة. انتهى منه بلفظه بإسقاط ما لا يضر. والله أعلم. انتهى.

(1)

ساقطة من الأصل مثبتة من الرهوني ج 6 ص 237.

(2)

ساقطة من الأصل مثبتة من الرهوني ج 6 ص 237 وابن عرفة مخطوط.

ص: 527

كذي شبهة تشبيه غير تام يعني أن من زرع أرضا بوجه شبهة أو اكتراها بوجه شبهة ثمَّ استحقها شخص قبل فوات إبان ما تراد تلك الأرض لزراعته، فإنَّه ليس لمستحق الأرض إلا كراء تلك السنة وليس له قلع الزرع؛ لأنَّ الزارع زرع فيها بوجه شبهة، فإن فات الإبان فليس للمستحق على الزارع شيء من كراء تلك السنة؛ لأنه قد استوفى منفعتها والغلة لذي الشبهة والمجهول للحكم كما يأتي، فهو تشبيه في لزوم كراء السنة فقط لا بقيد فوات الإبان، بل بقيد بقائه وهذا في أرض لا تزرع إلا مرة في السنة، ويأتي محترز هذا القول في قوله:"وفي سنين" لخ، والمراد بالسنين البطون. قاله عبد الباقي وغيره، ولم يفصلوا في هذه بين أن ينتفع بالزرع وأن لا ينتفع به. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه. والله أعلم.

وقوله: "كذي شبهة" ظاهره أن حكم من كانت الأرض بيده بوجه شبهة حكم الغاصب في جميع الوجوه وليس كذلك، وإنما مراده تشبيهه فيما إذا استحقت بعد أن زرعها وقبل فوات إبان الزراعة كما قررت تبعًا لغير واحد، فإن استحقت من يد ذي الشبهة قبل أن يزرعها فهو قوله:"وللمستحق أخذها" قال الحطاب: ودخل في ذي الشبهة المشتري والوارث والمكتري منهما إذا لم يعلموا بالغصب أو التعدي، وكذلك المكتري من الغاصب إذا لم يعلم بالغصب كما صرح به الرجراجي، ويؤخذ من كلام المص في التوضيح. والله أعلم. أهـ.

وقال عبد الباقي ممثلا لذي الشبهة: بأن كان وارثا لغير غاصب أو كان اشتراها ممن غصبها ولم يعلم بالغصب، ثمَّ استحقها شخص قبل فوات إبان ما تراد له لخ، قوله: بأن كان وارثا لغير غاصب، قال البناني: وكذا وارث الغاصب كما في مصطفى، ونصه ولا فرق في هذه بين وارث الغاصب وغيره وإنما يفترقان

(1)

في الغلة وعدمها، فوارث الغاصب لا غلة له وإن كان ذا شبهة بالنسبة لعدم قلع زرعه. انتهى باختصار. وهذا تقرير الزرقاني نفسه عند قوله الآتي: والغلة لذي الشبهة لكن لا يفرق في وارث الغاصب في لزوم الكراء بين فوات الإبان وعدمه بل عليه الكراء مطلقا. انتهى. المواق: قال مالك: إن الزرع إذا أسبل لا يقلع لأنَّ قلعه من الفساد العام للناس كما يمنع من ذبح فتي الإبل لما فيه من الحمولة، وذبح ذوات الدر من الغنم. انتهى.

(1)

في الأصل: يفترقا، والمثبت من البناني ج 6 ص 159.

ص: 528

أو جهل حاله يعني أن الذي وصلت منه الأرض ليد مستحقها إذا جهل حاله هل غاصب أو ذو شبهة أو جهل حاله، هل هو متعد أو ذو شبهة فإنَّه يكون كذي الشبهة، فإن استحقت الأرض من يده بعد الزرع وقبل فوات الإبان فله كراء السنة، وليس له قلع الزرع، ولو استحقت بعد الزرع وفوات الإبان فلا كراء للمستحق؛ لأنَّ الغلة لذي الشبهة وفي حكمه من جهل حاله.

تنبيه: قال الحطاب: وسئل في رجل ابتاع كتابا من كتب العلم ثمَّ جاء رجل آخر فادعاه وأتى بكتاب بذلك وقد فات الكتاب، فقال: لا يتوجه الحكم لمستحق الشيء إلا بعد شهادة العدول على عينه، والإعذار إلى الذي في يده ولا يصح الحكم دون تعيين المشهود فيه عند الحاكم. انتهى. التسولي: قلت وهذا إذا كان معه في البلد مشارك في الصفة وإلا صح الاستحقاق ورجع بالثمن على قابضه.

وفاتت بحرثها فيما بين مكر ومكتر يعني أن من اكترى أرضا بمعين كعبد أو ثوب أو غيرهما ثمَّ استحق ذلك المعين قبل أن يحرث المكتري الأرض، فإن عقد الكراء ينفسخ ويأخذ المستحق شيئه والمكري أرضه، وإن استحق بعد حرث المكتري لها فإن الأرض تفوت فيما بين المكري والمكتري، بمعنى أنَّه يلزم العقد بينهما ويأخذ المستحق شيئه حيث فسخ الكراء وللمكري على المكتري كراء المثل، وهذه حينئذ من أفراد قوله: وفي عرض بعرض بما خرج من يده وأولى من حرثها زرعها الذي

(1)

لا يحتاج لحرث كالبرسيم، وكذا بإلقاء الحب عليها حيث لم يحتج لحرث فيما يظهر لا إن احتاجت له فلا تفوت. قاله عبد الباقي. قال وما قررناه من أن كلامه هنا فيما إذا استحق الكراء المعين ظاهر لا فيما إذا استحقت الأرض المكتراة؛ لأنها إذا استحقت لم يبق للمكري كلام حرثها المكتري أم لا.

وللمستحق أخذها ودفع كراء الحرث يعني أنَّه إذا استحق الكراء العين بعد حرث الأرض، فإن المستحق يخير بين فسخ الكراء فيأخذ شيئه ويلزم العقد حينئذ بين مكري الأرض ومكتريها، وللمكري على المكتري كراء المثل وأن يجيز الكراء، وإذا أجاز مستحق الكراء المعين العقد كان له أخذها أي الأرض، سواء كانت مؤجرة سنة أو سنتين، ويدفع كراء الحرث أي تقليب الأرض

(1)

في الأصل: التي، والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 159.

ص: 529

للمكتري فيكون العقد بين المكري والمستحق، فإن أبى المستحق من دفع كراء الحرث للمكتري قيل له أي للمكتري: أعط المستحق كراء سنة أو سنتين؛ لأنه لم يرد الفسخ بل أجاز العقد بشيئه، وإلا تعط يا مكتري للمستحق كراء سنة أو سنتين أسلمها أي أسلم الأرض يا مكتري للمستحق بلا شيء من كراء الحرث، قوله:"وللمستحق" أي مستحق الأجرة كما قررت فهو من تتمة ما قبله، وهو شامل أيضًا لمستحق الأرض أيضًا فيكون أول الكلام في مستحق الأجرة، وقوله:"وللمستحق إجازته" لخ فيما إذا استحق الكراء أو الأرض من يد ذي شبهة وقد كان حرثها فالمستحق مخير أيضًا.

والحاصل أن الأرض إذا استحقت بعد أن زرعت من يد الغاصب أو المتعدي فهو قوله: "وإن زرع فاستحقت" لخ ومن ذي الشبهة أو المجهول حاله هو قوله كذي شبهة أو جهل حاله، فإن استحقت الأجرة المعينة قبل الحرث انفسخ الكراء وبعده إن شاء فسخ وأخذ شيئه، ولزم العقد بين المكري والمكتري بكراء المثل بخلاف ما إذا استحقت الأرض فلا كلام للمكري حرثها المكتري أم إلا، وإن شاء المستحق أجاز ودفع كراء الحرث لخ، ومثل استحقاق الكراء في هذه استحقاق الأرض من ذي الشبهة بعد الحرث وقبل الزرع، قال المواق: ابن يونس: وقد قالوا فيمن استحق أرضا بعد أن حرثت إنه يدفع قيمة الحرث ويأخذها، فإن أبى قيل للآخر أعطه كراء سنة، فإن أبى أسلمها بحرثها. انتهى. قاله مستدلا به على مسألة استحقاق الكراء المعين، وهذا قول ابن القاسم وهو أصح من قول سحنون: لا شيء له وإن زبلها؛ لأنَّ ذلك مستهلك فيها. قاله ابن رشد. ووجه قول ابن القاسم. والله تعالى أعلم.

وفي سنين يفسخ أو يمضي يعني أن من آجر أرضا في يده بوجه شبهة سنين ثمَّ استحقت والحال أنَّه قد مضى بعض السنين، فإن المستحق للأرض يخير بين أن يفسخ الكراء وأن يمضيه، فإن فسخ لم يكن له في الماضي شيء، وإن أمضى كان للمستحق كراء ما بقي إن عرف النسبة شرط في قوله:"يمضي" أي إنما يكون لمستحق الأرض أن يمضي عقد الكراء، حيث عرف النسبة أي عرف ما ينوب ما بقي من المدة من الكراء، قال الحطاب: قال ابن يونس: ولا يجيز الكراء فيما

ص: 530

بقي حتى يعلم ما ينوب ذلك ليجيز بثمن معلوم على مذهب من لا يجيز جمع السلعتين للرجلين في البيع. انتهى.

وقال عبد الباقي: ومحل الإمضاء إن عرف النسبة أي عرف ما ينوب ما استحقه من بقية المدة من الأجرة في المستقبل بأهل المعرفة، أو كون المتكاريين من أهل المعرفة، أو كون الزرع في أجزاء المدة مستويا لتكون الإجارة بثمن معلوم، وإلا أدى إلى بيع سلعة بثمن مجهول وهو ممتنع. انتهى. وعلم مما قررت أن قوله:"وفي سنين" لخ في حق ذي الشبهة للعلة التي ذكرها ابن يونس، ولذا قال البناني عند قول عبد الباقي وعممه بعضهم في ذي الشبهة وغيره للعلة المذكورة ما نصّه: فيه نظر، فإن الغاصب إذا أكراها فلا شيء له من الكراء كما تقدم في قوله:"وغلة مستعمل" ويكون للمستحق كراء الماضي والمستقبل، فإن أمضى فقد أمضى في الجميع بكراء معلوم، فلا يتقيد بقوله:"إن عرف النسبة". والله أعلم. انتهى كلام البناني. فقال الرهوني: فيه نظر واحتجاجه المذكور وما فرعه عليه بقوله: فإن أمضى فقد أمضى الجميع بكراء معلوم إنما يتم لو كان الاستحقاق وقع قبل أن يستوفى شيء من المنفعة أصلًا، وأما بعد استيفاء شيء منها كما هنا فلا يتم؛ لأنَّ الواجب للمالك فيما مضى الأكثر مما اكتريت به ومن كراء المثل ويطالب به الغاصب، وتخييره في فسخ الكراء وإمضائه إنما هو باعتبار ما بقي، فإن اختار الفسخ فالأمر واضح، وإن اختار الإمضاء لزم ذلك المكتري ذا الشبهة بنسبة ما وقع به العقد أولًا مع الغاصب، ولا يعرف قدر ما ينوب الباقي إلا بعد معرفة النسبة قطعا. فتأمله بإنصاف. انتهى كلام الرهوني. قال مقيده عفا الله تعالى عنه: الظاهر ما لبناني ومن وافقه؛ لأنه إذا أمضى العقد لم يكن له إلا ما وقع به العقد وإنما يظهر ما قاله الرهوني لو قال أمض ما بقي. والله تعالى أعلم. وقوله: "يفسخ" عطف على "أخذها"، وفي سنين "متعلق" بالمستحق" والتقدير: وللمستحق في مسألة كراء سنين الفسخ والإمضاء.

ولا خيار للمكتري للعهدة يعني أن من اكترى دارا أوأرضا مدة ثمَّ استحقت وأجاز المستحق الكراء لزم العقد، ولا خيار للمكتري في حل العقد ولا حجة له في أن يقول إنما رضيت بأن تكون عهدتي على الأوّل، فإن ذلك لا يفيده، وقوله:"للعهدة" أي لأجل العهدة أي الاستحقاق الطاري

ص: 531

بعد الاستحقاق الأوّل، والعهدة ما عهد عند الشَّارع أي عرف عنه من الرجوع بما دفع عند ظهور الاستحقاق مثلا، قال عبد الباقي: وإذا أمضى المستحق الكراء وكان الأوّل انتقد جميع المدة أو بعضها كما في أحمد، وأولى إن لم ينتقد شيئًا فإنَّه لا خيار للمكتري للعهدة أي لأجلها؛ أي أن خيار المكتري لأجل خوف طرو استحقاق ثان بعد الأوّل منتف، فلا كلام له في فسخ العقد فيما بقي من المدة؛ أي ليس له أن يقول: أنا لا أرضى إلا بأمانة الأوّل لملائه، ولا أرضى بالمستحق لأنها إذا استحقت لا أجد من أرجع عليه لعدم المستحق. أهـ.

وقال البناني: قال في المدونة: لم يكن للمكتري أن يترك الكراء ويقول إنما كانت عهدتي على الأوّل فلا أرضى أن تكون عليك أيها المستحق، فقال عياض: هذا كلام غير محصل، وقد تكلم عليه سحنون، وقال: ليس بصواب ولو رضي ما كانت عهدته عليه؛ لأنَّ العهدة لا تنتقل كما لو باعه الغاصبُ عبدا فاستحقه سيده فالعهدة على الغاصب لا تنتقل عنه قاله مالك. أهـ. وقد تقدم ذلك في قوله: ولربه إمضاء بيعه". أهـ. وقال المواق: من المدونة: من اكترى دارا سنة من غير غاصب فلم ينقده الكراء حتى استحقت الدار في نصف السنة فكراء ما مضى للأول، وللمستحق فسخ ما بقي أو الرضى به، فيكون له كراء بقية السنة، فإن أجاز الكراء فليس للمكتري أن يفسخ الكراء فرارا من عهدته؛ إذ لا ضرر عليه لأنه يسكن، فإن عطبت الدار أدى بحساب ما سكن. انتهى.

وانتقد إن انتقد الأوّل وأمن هو يعني أنَّه يقضى للمستحق أن ينتقد أي يأخذ حصة ما بقي من المدة بشرطين: أحدهما أن يكون الأوّل قد انتقد جميع الأجرة أي أخذها، الشرط الثاني أن يكون المستحق مأمونا. واعلم أنَّه وقع في المدونة أن يكون مأمونا وليس عليه دين محيط، فيحتمل أنهما شرطان احترازا من الملد وممن أحاط دينه، ويحتمل أن الثاني تفسير للأول. أهـ. قاله البناني. قوله: ويحتمل أن الثاني تفسير للأول، بهذا جزم أبو الحسن إذ قال ما نصّه: ثمَّ فسرت بالذي لا دين عليه، وغير المأمون هو الذي أحاط الدين بماله. انظر التاودي وأبا علي. قاله الرهوني.

وقوله: "إن انتقد" أي انتقد الكراء بالفعل أو اشترط نقده أو كان العرف نقده، وأما لو انتقد بعضه بالفعل فإن عينه عن مدة كان لمن له تلك المدة، وإن جعله عن بعض مبهم كان بينهما على

ص: 532

حسب ما لكل، وكذا يقال فيما إذا اشترط بعضه أو جرى به أي بقبض بعضه عرف، وقال عبد الباقي: وانتقد المستحق حصته فيما بقي من المدة أي قضي له بأخذ أجرة ما بقي من مدة الإجارة؛ أي يأخذها الآن بشرطين أشار للأول منهما بقوله: "إن انتقد الأوّل" وهو المكري أي إن كان قد أخذ جميع الأجرة عن مدة الإجارة وحينئذ يلزمه أن يرد إلى المستحق حصة ما بقي، الثاني أن يكون المستحق مأمونا كما أشار إليه بقوله:"وأمن هو" أي المستحق بأن لم يخف من دين أحاط به، فإن خاف لم ينتقد المستحق إلا أن يأتي بحميل ثقة، قال ابن يونس: لعل هذا في دار يخاف عليها الهدم، وأما إن كانت صحيحة فإنَّه ينقد ولا حجة للمكتري من خوف الدين لأنه أحق بالدار من جميع الغرماء. أهـ. قاله عبد الباقي. قوله عن ابن يونس: لعل هذا في دار يخاف عليها الهدم لخ.

قال الرهوني: ظاهره ولو كانت البقعة والنقض بعد السقوط تساوي قيمتها مقدار الكراء، لكن لابد من تقييده بما إذا لم تساو ذلك، لقول أبي الحسن: قال عبد الحق: إنما يكون له الامتناع متى كان لو انهدمت الدار لم تساو قيمتها مهدومة مقدار الكراء الذي دفع المكتري، وإلا فلا كلام له. ابن رشد: هذا صحيح لأنَّ البقعة تكون بيده كالرهن فيما قدم من الكراء إن انهدمت الدار. أهـ بلفظه على نقل أبي علي. ونقله التاودي بأتم منه فزاد عقب قوله: الكراء الذي دفع المكتري ما نصّه. وأما إن كانت قيمتها مهدومة تساوي ذلك فأكثر فلا كلام له؛ لأنَّ له ذمة فيدفع إليه حصة باقي الأمد، وهكذا حفظته من شيوخنا. ابن رشد إلى آخر مامر. اهـ.

وقال المواق: [ولو انتقد

(1)

] الأوّل كراء السنة كلها -يعني فيما إذا كان أمد الكراء سنة- لدفع إلى المستحق حصة كراء ما بقي من المدة إن كان مأمونا وسلم من دين أحاط به ونحوه ولا يرد باقي الكراء على المكتري، قال أبو محمَّد وغيره فإن كان المستحق غير مأمون قيل للمكتري: إن شئت أن تدفع إلى المستحق كراء بقية السنة وتسكن، فإن أبى قيل للمستحق إن شئت أن تجيز الكراء على أنك لا تأخذ منه إلا كراء ما سكن، كلما سكن شيئًا أخذت بحسابه وإلا فلك أن تفسخ بقية كراء المدة. ابن يونس: لعله يريد في دار يخاف عليها الهدم الخ.

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، والمثبت من المواق ج 7 ص 345 ط دار الكتب العلمية.

ص: 533

والغلة لذي الشبهة يعني أن الغلة لذي الشبهة، قال عبد الباقي: كمشتر ومكتر من غاصب لم يعلما بغصبه لا وارثه مطلقا كموهوبه إن أعسر الغاصب ولا محيي أرض يظنها مواتا فلا غلة له كما لأبي الحسن خلافا لل تتائي في كبيره، وإن كان لا يقلع زرع واحد من هؤلاء الثلاثة ولا يهدم بناؤه، فذو الشبهة الذي له الغلة أخص من ذي الشبهة الذي لا يقلع غرسه ولا بناؤه. أهـ. قوله: وإن كان لا يقلع زرع واحد من هؤلاء الثلاثة ولا يهدم بناؤه؛ يعني محيي الأرض يظنها مواتا، وموهوب الغاصب الذي لم يعلم حيث أعسر الغاصب، ووارث الغاصب الذي لم يعلم. ومعنى قوله: مطلقا أعسر الغاصب أو أيسر. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه. قوله: ولا محيي أرض يظنها مواتا نحوه عند ابن يونس ولم يحك فيه خلافا. قاله البناني. وقال المواق عند قوله: "والغلة لذي الشبهة أو المجهول للحكم" ما نصّه في الحديث: (الخراج بالضمان

(1)

) معناه أن المشتري للشيء الذي اغتله لو هلك في يده كان منه.

أو المجهول يعني أن الغلة للمجهول حاله هل هو غاصب أم لا، أو هل واهبه غاصب أم لا؟ قاله غير واحد. وأخصر من هذا وأتم أن تقول: المجهول حاله هل هو ذو شبهة أم لا؟ وقوله: للحكم راجع للأمرين قبله يعني أن من استأجر شيئًا أو اشتراه أو وهب له ولم يعلم أن بائعه أو موجره أو واهبه غاصب ثمَّ استحقه شخص فإن الغلة للمستحق ذلك من يده من يوم وضع يده إلى يوم الحكم به لذلك المستحق؛ لأنه ذو شبهة، وكذلك المجهول حاله من يوم وضع يده إلى يوم الحكم به لذلك المستحق لأنه بمنزلة ذي الشبهة. وكان القياس أن تكون النفقة عليه ليوم الحكم لكن المؤلف مشى على خلاف ذلك، والنفقة على المقضى له به، وما مشى عليه المؤلف هو مذهب المدونة وهو خلاف القياس، قال عبد الباقي: لكن سيأتي أن معنى قوله: والنفقة على المقضي له به في زمن الخصام فقط لا ما قبله فلا إشكال في كلامه هنا وهو القياس. أهـ. قوله: فلا إشكال في كلامه كأنه يعني به ما ذكروه من التوقيف زمن الخصام كما يأتي آخر الشهادات قاله مقيده عفا الله تعالى عنه.

(1)

ابن ماجه، رقم الحديث 2243. البيهقي، ج 5 ص 321. مسند أحمد، ج 6 ص 49.

ص: 534

قال البناني عند قوله: "للحكم" ما نصّه: قيل هذا مخالف لما ذكروه من التوقيف زمن الخصام كما يأتي آخر الشهادات فانظر ما يكون جوابا عنه. انتهى. والجواب ما يأتي مما هو الحق أن التوقيف في الرباع إنما هو بالمنع من التفويت لا بالإخلاء فلا ينافي الاستغلال إلى الحكم. انتهى.

تنبيهات: الأوّل: قال الرهوني عند قول عبد الباقي: فذو الشبهة الذي له الغلة أخص من ذي الشبهة الذي لا يقلع غرسه ولا بناؤه. أهـ. ما نصّه: صحيح ومن ذي الشبهة الذي يعطى الكراء ولا يقلع زرعه من جر السيل زرعه إلى أرض غيره بعد نباته انظر النص بذلك عند قوله في الإجارة: "كمن جره السيل إليه" ومنه من حرث أرض جاره غلطا على مذهب أصبغ في نوازله من كتاب المزارعة، مفرقا بين البناء غلطا وبين الزرع غلطا، ونصه: فأما البناء في العرصة فلا يعذر ولربه أن يعطيه قيمة البناء منقوضا أو يأمره بقلعه، وأما في الحرث فيشبه أن يكون غلطا فأرى أن يحلف ويبقى زرعه ويؤدي كراء المثل كان في إبان الزراعة أو لم يكن وهو على الخطإ أبدا حتى يتبين أنَّه تعمد. قال سحنون: إذا غلط فزرع أرض جاره أو خرج ليلًا فغلط فزرع أرض غيره أو حرثها فلا شيء له على رب الأرض وغلطه على نفسه، وهو مصيبة نزلت بالزارع إلا أن يكونا لم يتحاكما أو لم يعلم بذلك حتى فات إبان الزراعة فيكون الزرع لزارعه وعليه كراء المثل. اهـ.

قال القاضي: ابن رشد: لا يعذر بالعرصة اتفاقا لمعرفة حدودها بخلاف الفدادين، وفي المقصد المحمود: ومن غلط وزرع أرض جاره فلا يمين عليه إلا أن يتهم وعليه الكراء فات الإبان أو لم يفت. انتهى منه بلفظه. فأتى بقول أصبغ غير معزو كأنه المذهب، وقيد الحلف بالمتهم ولا شك أنَّه يفيد أنَّه المعتمد. اهـ. وبحث ابن عرفة في الاتفاق المتقدم عن ابن رشد في بناء العرصة بقول المدونة في الشفعة: من بنى أو غرس في أرض يظنها له ثمَّ استحقت فعلى مستحقها قيمة ذلك قائما للشبهة. اهـ. ثمَّ قال: إلا أن يتأول ما في [الشفعة

(1)

] على أنَّه بنى في مضمون عليه بثمنه، لقوله:"ثمَّ استحقت". أهـ منه. وهذا التأويل هو المتعين فكلامها فيمن اشترى غير عالم بالغصب أو من وهب له أو ورث غير عالم أيضًا وعلى ذلك حمل الشيوخ كلامها. والله أعلم.

(1)

في الأصل: الشبهة، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 238.

ص: 535

الثاني. قال الرهوني: قول عبد الباقي هل هو غاصب لخ يريد وكذلك إذا جهل هل بائعه أو مكري الأرض منه غاصب أم لا؟ وكذلك إذا ادعى الشراء ولم يثبت، قال في كتاب الاستحقاق من المدونة: وإن كان مكر لا يعلم أغاصب هو أو مبتاع فزرعها المكتري منه ثمَّ استحقت فمكريها كالمشتري حتى يعلم أنَّه غاصب. اهـ منها بلفظها. وبهذا استدل أبو الحسن على قولها، قال سحنون في قولها: الغلة للمتصرف هذا إذا كان مبتاعا أو صارت إليه من مبتاع؛ إذ قال عقبه ما نصّه: هذا إذا علم وكذا إذا جهل، قال في الاستحقاق: فذكر كلامها السابق ونحوه لابن ناجي، ونصه: وعلى ذلك حمله أبو إبراهيم، وسئل أبو الهيثم عن غائب عن ماله مدة من الزمان فلما انصرف وجده عند أقوام ادعوا ابتياعه ولم يثبت لهم ذلك وطلب صاحب الأرض منهم الغلة، فقال: إذا ثبت الأصل للقائم وأنه لم يفوته في علم شهوده ولا علم شراء من وجد في يده إلا بقوله، فاختلف فيه أصحاب مالك واختلف فيه قوله، فقالوا: يحمل على الشراء حتى يتبين خلافه ولم يعلم أنَّه غاصب ولا غلة عليه، وقالوا أيضًا: هو كالغاصب عليه الغلة حتى يعلم الشراء، ووقع القولان في أمهات كتبه، وخالفه أبو علي حسون في المسألة وقال: لا رجوع عليه ولا أعلم فيه خلافا من مالك وأصحابه، وإنما يجب الرجوع بالغلة على الغاصب. أهـ.

الثالث: قال الرهوني: وقد نقل في نوازل المعاوضات من المعيار جوابي أبي الهيثم وأبي علي حسون، وزاد في جواب أبي الهيثم بعد قوله: ووقع القولان في أمهات كتبه ما نصّه: وللحاكم أن يأخذ بأيهما شاء. أهـ منه بلفظه. أهـ. قال الرهوني: إذا ادعى الشراء من غير القائم وأبهم، وأما إذا ادعى أنَّه اشترى من القائم فعجز عن إثباته فالخلاف فيه شهير والراجح فيه أنَّه يرد الغلة، ففي نوازل المعاوضات من المعيار: سئل ابن زرب عمن ادعى أنَّه ابتاع دارا من رجل فأنكر ذلك ولم تقم للمدعي بينة، هل يؤخذ بكرائها أم لا؟ فأجاب بأنّه يؤخذ بخرجها، وكان رحمه الله يقضي بذلك فقال له ابن دحون: أليس الغلة بالضمان؟ فقال: ليس في مثل هذا، هذا مقر بأن الدار كانت للقائم ويزعم أنَّه ابتاعها ولم يثبت ذلك فهو يرجع عليه بالغلة، ولو قال: الدار ملكي ولم يدع ابتياعها ثمَّ أثبت للقائم ملكها لم يرجع عليه بالغلة، الوانوغي ويشهد لابن زرب ما في أوائل القذف من المدونة إذ قال: ومن أقر بوطء أمة رجل وقامت عليه بينة وادعى أنَّه ابتاعها

ص: 536

منه وأنكر ذلك ربها، فإن أتى بالبينة على الشراء وإلا حددته وحددت الأمة، وإن أتى بامرأة تشهد له على الشراء لم يزل عنه الحد بذلك، وإن طلب الواطئ يمين السيد أنَّه لم يبعها منه أحلفته، فإن نكل حلف الواطئ وقضي له بها ودرأت عنه الحد، ولابن رشد نحو ما لابن زرب في المدونة، قال ابن القاسم: من زرع أرض رجل وادعى أنَّه اكتراها منه وربها منكر فربها مصدق مع يمينه إلا أن يعلم به حين زرعها فلم ينكر عليه، ثمَّ قالت: قال ابن القاسم: وإن لم يعلم وقد مضى إبان الزراعة فله كراء المثل ولا يقلعه، فإن لم يفت الإبان ولم تقم بينة أنَّه علم به وتركه [ولا

(1)

] أنَّه أكراها حلف على ذلك ثمَّ خير بين أن يأخذ من المكري ما أقر به. قال غيره: أو كراء المثل قالا فإن أتى فله أن يأمره أن يقلع زرعه إلا أن يتراضيا على ما يجوز فينفذ بينهما، ولو تركه لرب الأرض جاز ذلك إن رضي به وإن لم يكن للمكتري في الزرع نفع إذا نقله لم يكن له قلعه وبقي لرب الأرض إلا أن يأباه فيأمره بقلعه، ومثله لابن يونس عنها وسلمه. فتأمله. والله أعلم.

الرابع: قال ابن أبي زمنين في منتخبه ما نصّه وفي سماع يحيى وسألت ابن القاسم عن رجلين تداعيا في أرض فبذرها أحدهما فولا ثمَّ أعقب الآخر فبذرها قمحا على فول صاحبه وقلب ما نبت منه فاستهلك بذلك القول ثمَّ اختصما فيها فاستحقها الذي كان بذرها فولا؟ فقال: إن استحقها في أوان عمل كان له كراؤها على الذي بذر القمح ويكون زرعها للذي بذره ويغرم صاحب القمح لرب الأرض التي استحقها مع كرائه قيمة الفول الذي استهلك، وذلك أنَّه كان زرعها على ما كان يدعي من حقه في الأرض ولم يكن غاصبا لها وإن استحق الأرض ربها وقد فات أوان العمل فلا كراء لمستحقها على الذي بذرها قمحا والقمح للذي بذره، ويغرم صاحب القمح لرب الأرض قيمة الفول الذي استهلكه على كل حال. انتهى منه بلفظه. وسلمه ونقله ابن يونس وسلمه، ولم يتعرض ابن أبي زمنين وابن يونس وابن رشد صريحا لمن يكلف بالبينة منهما ولا يؤخذ من جعلهم الثاني ذا شبهة أن الأوّل هو المكلف بذلك؛ لأنهم قد جعلوا الأوّل ذا شبهة أيضًا فأوجبوا له على الثاني غرم زريعته، لكن يؤخذ من قول ابن رشد في أرض بأيديهما جميعًا أو ليست بيد واحد منهما أنهما معا مكلفان بذلك وباليمين عند عجزهما معا وإقامتهما معا البينة من غير وجود مرجح.

(1)

في الأصل: إلا، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 240 والتهذيب ج 3 ص 496.

ص: 537

كوارث يعني أن وارث ذي الشبهة له الغلة إلى يوم الحكم، وكذلك وارث من جهل حاله له الغلة إلى يوم الحكم، وموهوب يعني أن موهوب ذي الشبهة له الغلة إلى يوم الحكم، وكذلك موهوب من جهل حاله له الغلة إلى يوم الحكم، ومشتر منه يعني أن المشتري من ذي الشبهة له الغلة إلى يوم الحكم، وكذا المشتري من مجهول الحال له الغلة إلى يوم الحكم، قال عبد الباقي: كوارث لذي شبهة أو لمن جهل حاله أو وارث لمشتر من غاصب فلا غلة له اتفاقا كما في ال تتائي وأحمد عن التوضيح. انتفع بنفسه أو أكرى لغيره، علم بأن موروثه غاصب أم لا وموهوب من غير غاصب كمنه إن أيسر الغاصب لا إن أعسر فلا غلة لموهوبه فيرجع عليه. أهـ. وقال الخرشي: يعني أن وارث ذي الشبهة أو وارث من جهل حاله وموهوب ذي الشبهة أو من جهل حاله وموهوب الغاصب حيث كان الغاصب مليا أو المشتري من ذي الشبهة أو ممن جهل حاله أو المشتري من الغاصب حيث لم يعلموا إذا اغتلوا شيئًا ثمَّ استحقه شخص، فإن الغلة تكون لهم إلى يوم الحكم به لذلك المستحق. أهـ. وقال عبد الباقي: ومشتر منه أي من الغاصب إن لم يعلموا أي تحقق عدم علمهم أو جهل علمهم لحملهم على عدم العلم استصحابا لحال المسلم، فالغلة لهم إلى يوم الحكم به للمستحق، وهذا شرط في الثلاثة المذكورة على ما قررنا به قوله:"كوارث" والجمع حينئذ على حقيقته، فإن حمل على وارث الغاصب كان الشرط راجعا لغيره وجمع ضميره باعتبار الأفراد، كقوله تعالى:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} ، وأما وارثه فلا غلة له علم أم لا، انتفع بنفسه أو أكرى لغيره كما مر. اهـ كلام عبد الباقي. قوله: فإن حمل على وارث الغاصب لخ ظاهره أن هذا الحمل صحيح وهو غير صيحح بقرينة الكاف، وقد ذكر عن التوضيح آنفا أن وارث الغاصب لا غلة له اتفاقا. قاله البناني. وقال عبد الباقي: ومفهوم الشرط إن علموا لا غلة لهم بل للمستحق، والمعتبر علم المشتري من الغاصب وعلم الناس في موهوب الغاصب كما لأبي عمران وذكر

(1)

ال تتائي، فيتبع وإن كان خلاف ظاهر قول المص فيما تقدم:"ووارثه وموهوبه إن علما كهو وإلا بدئ بالغاصب" انتهى.

(1)

في عبد الباقي ج 6 ص 161: وذكره ال تتائي.

ص: 538

قوله والمعتبر علم المشتري من الغاصب لخ، قال الرهوني: ما عزاه لل تتائي هو كذلك فيه نقله عن ابن ناجي، وما نسبه

(1)

لابن ناجي هو كذلك فيه، ذكره عند قول المدونة في كتاب الاستحقاق: فإن كان الموهوب له عالما بالغصب فإن المستحق يرجع بالغلة على أيهما شاء، وإن لم يعلم بالغصب فإن المستحق يرجع بالغلة على الغاصب، فإن كان عديما رجع بها على الموهوب، ونصه: قال أبو عمران: لا ينظر إلى معرفة الموهوب وإنما ينظر إلى معرفة الناس بذلك، وأما المشتري فإنَّه ينظر إلى معرفة المشتري بنفسه، فإن كان عارفا بأن البائع منه غاصب لم تكن له الغلة وإلا كانت، وقد نقل في التوضيح كلام أبي عمران وسلمه أيضًا وسلم الناصر في حواشيه ذلك، كما سلم ابن عاشر ومصطفى كلام ال تتائي، وقد نقل كلام التوضيح الشيخ ميارة في شرح التحفة، ونقله جسوس عند قوله فيما مر:"ووارثه وموهوبه إن علما كهو"، وأقره وقد سلم ذلك التاودي والبناني أيضًا بسكوتهما عنه، وذلك كله يدلّ على صحة قول الزرقاني فيتبع وإن كان خلاف ظاهر قول المص فيما تقدم لخ.

تنبيهات: الأوّل: قوله: "كوارث وموهوب ومشتر إن لم يعلموا" إما تشبيه وهو ما يفيده ما قررت به تبعًا للخرشي، وإما تمثيل. والله تعالى أعلم.

الثاني: قال عبد الباقي: قال الشارح أبو الحسن الصغير: انظر هذا مع من ابتاع عبدا فاغتله ثمَّ استحق بحرية أو ابتاع أرضا فاغتلها ثمَّ استحقت بحبس، فعند ابن القاسم: لا يرد الغلة، وعند عبد الملك والمغيرة يردها. اهـ. ويقيد قوله: لا يرد الغلة بما إذا لم يكن المشتري عالما وإلا رد إلا أن يكون البائع له هو الموقوف عليه وهو رشيد فلا يرجع عليه بالغلة، انظر الحطاب عن المشدالي في قوله: لا صداق حرة. انتهى. فمن اشترى بعض أماكن وقف عالما بوقفيته من بعض الموقوف عليهم فله من غلته بقدر حصة بائعه من الغلة؛ لأنه كهبتها له ويرجع المشتري بجميع ثمنه ويرجع عليه غير البائع بغلته، والبيع باطل يفسخ متى عثر عليه ويعاقب بالأدب والسجن إن لم يكن له عذر كما في ابن سهل، وإذا فسخ وقلنا يرجع بجميع ثمنه فإن أعدم هذا البائع اختص المشتري بنصيبه من الغلة في الحبس إلى أن يستوفي ثمنه بعد أو ينتقل الحق لغيره قبل

(1)

في الأصل: سلمه، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 241.

ص: 539

الاستيفاء. اهـ بعضه من عبد الباقي وبعضه من التاودي. وقول عبد الباقي: إلا أن يكون البائع له هو الموقوف عليه وهو رشيد لخ، قال البناني: هذا نقله الحطاب عن ابن سهل، ونصه: إذا كان المحبس عليه هو البائع وكان مالكا أمره ينبغي أن لا يكون له طلب المبتاع بشيء من الغلة، وإن علم المبتاع حين ابتياعه أنَّه حبس وقد نزلت بقرطبة وأفتيت فيها بذلك وكان غيري قد خالفني فيها وخلافه خطأ. أهـ. ونقل مثله عن المشدالي وهو مخالف لقول التحفة:

وما يبيع من عليه حبسا

يرد مطلقا ومع علم أسا

والخلف في المبتاع هل يعطى الكرا

واتفقوا مع علمه قبل الشرا

وقال ابن الناظم في شرحه: ما أفتى به ابن سهل معارض لما نقله الشيخ من الاتفاق على رد الغلة إذا علم قبل الشراء، وما قاله ابن سهل لا يخلو من نظر، والأظهر رجحان قول من خالفه لما في تسويغ الغلة للعالم بالتحبيس قبل ابتياعه من تمكينه من ثمرة عقد باطل لا شبهة له فيه فليتأمل. أهـ. قلت: وفيه أيضًا سلف جر نفعا إذ علمه بالتحبيس قبل الشراء دخول على فسخ البيع ورجوع الثمن له بعد غيبة البائع وهو سلف والغلة منفعة في السلف فتأمله. أهـ. وقوله: فعند ابن القاسم لا يرد الغلة لخ، قال الرهوني: هذا هو الراجح والمعمول به. انظر الحطاب عند قوله بعد: لا صداق حرة.

الثالث: قال عبد الباقي: وارث موهوب الغاصب ووارث المشتري منه حيث لم يكن موروثهما عالما يفرق فيهما بين العالم فلا غلة له كوارث الغاصب، وبين غير العالم فله الغلة. انتهى.

الرابع: في نوازل الأحباس من المعيار أن الإمام سيدي عبد الله العبدوسي سئل عمن أوصى بثلثه لرجل معين فاستغل ذلك ثمَّ ظهر بعد ذلك بنحو ثلاثة أعوام أن الموصي كان أوصى بعرصة وفدان للمسجد، فأجاب بما نصّه: يلزم الموصى له كراء ما ناب الحبس من وقت انتفاعه إلى وقت ظهور الرسم، وليس هذا بمنزلة من استحق من يده ملك بالحباسة ولم يعلم أنَّه لا يرجع عليه بالغلة على قول ابن القاسم، وبه مضى العمل وبالله التوفيق. أهـ. ووجدت بخط بعض من أدركناه وهو الفقيه العلامة أبو العباس الملوي ما نصّه: فقد قال في نوازل الأحباس من المعيار فيمن أوصى

ص: 540

بثلثه للمسجد وجعل الورثة يستغلون جميع عقار الميت زمانا فقام عليهم ناظر الأحباس بالوصية: إنهم يغرمون الغلة قائلا ولا يشمل هذا قولهم لا غلة على من استحق من يده بحبس. نقله -ومسألة العبدوسي- الرهونيُّ قائلا: إن محل كون من استحق من يده بالوقف لا يرد الغلة إذا لم يكن دخوله فيه من جهة المحبس بإرث أو وصية، وأما إن كان دخوله فيه من جهة المحبس بإرث أو وصية فإنَّه يرد الغلة. ولما نقل كلام الملوي قال: انتهى من خطه بلفظه ولم أجد هذا بعينه في نوازل الأحباس من المعيار في النسخة التي بيدي منه فلعله سقط منها أو خفي علي موضعه لأنه ثقة حافظ ورع لا يتهم مع أنَّه موافق في المعنى لما قدمنا من جواب العبدوسي، ووجهه ظاهر لأنه إنما كان يستغل بسبب الميت معتقدا أنَّه المستحق، فكشف الغيب أنَّه لا يستحق ذلك من الجهة التي عول عليها فهو بمنزلة طرو وارث على وارث يحجبه الطارئ الذي لا خلاف فيه أنَّه يرد الغلة كما قاله أبو الوليد بن رشد في المقدمات، وأما من لم يؤد فيه ثمنا ولا كان عليه فيه ضمان كالوارث يرث ثمَّ يأتي من هو أحق منه بالوراثة فلا خلاف أنَّه يرد ما اغتل أو سكن. أهـ منها بلفظها. ونقله المواق بالمعنى فانظره والله أعلم.

الخامس: قال الحطاب: سئلت عن جماعة ورثوا دارا كبيرة بعضها عامر وبعضها خراب وبعض الورثة حاضر وبعضهم غائب، فاستولى الحاضر على الدار وسكن العامر وعمر الخراب وسكنه فهل للغائبين الرجوع عليه بالأجرة في هذه المدة؟ وهل لهم ما عمر من الخراب لكونه بغير إذنهم؟ فأجبت: إن كان الوارث الحاضر الذي سكن لم يعلم بالغائب فلا رجوع له عليه فيما سكن وله الرجوع عليه بحصته فيما أكراه واغتله هذا قول ابن القاسم وروايته عن مالك. قاله في أول كتاب الصدقات من البيان. وهو الذي مشى عليه المص بعد هذا حيث قال: "كوارث طرأ على مثله إلا أن ينتفع" وأما إن علم به فإنَّه يرجع عليه بأجرة ما سكن وبحصته من الغلة، وما عمره الحاضر مما لابد له منه فله الرجوع على القادم بحصته، وما عمره مما ليس بضروري فإن أراد أحدهم القسمة قسمت الدار، فإن وقع ما بناه في حصته كان له وعليه من الكراء بقدر ما انتفع به من نصيب أصحابه قبل القسمة، وإن وقع في نصيب غيره خير من وقع في حصته بين أن يعطيه قيمته منقوضا أو يسلم إليه نقضه، وعلى الباني من الكراء بقدر ما انتفع من نصيب أصحابه قبل

ص: 541

القسمة، وإن أراد واشركته ولم يرد أحد منهم القسمة فلهم ذلك بعد أن يدفعوا حصصهم من قيمة ما عمله، قيل قائما وقيل منقوضا، والقول بأنّه يأخذ قيمته منقوضا هو الظاهر لقول ابن يونس في كتاب العارية في ترجمة من أعار أرضه: كل من بني في أرض غيره من زوجة أو شريك أو غيره بغير إذن ربها أو علمه فله قيمة عمله منقوضا. والله أعلم. أهـ.

بخلاف ذي دين على وارث راجع لقوله: "والغلة لذي الشبهة" يعني أن الغلة لذي الشبهة كما عرفت بخلاف الوارث الذي طرأ عليه دين يستوفي الغلة، وإيضاح هذا أن تقول: إن الوارث إذا ورث عقارا مثلا اغتله ثمَّ طرأ دين على الميت فإن الوارث يرد الغلة حيث كان الدين يستوفيها، ولو قال المص: بخلاف وارث طرأ عليه دين لكان أولى. قاله أحمد لأنه أنسب. قال عبد الباقي، وظاهر هذا الكلام أن الغلة لذي الدين ولو ناشئة عن تجر الوارث أو وصية وهو كذلك، فإذا مات شخص وترك ثلاثمائة دينار مثلا وترك أيتاما فأخذ شخص الوصية عليهم واتجر بالقدر المذكور حتى صار ستمائة مثلا، فطرًا على الميت دين قدر الست مائة أو أكثر فإنَّه يستحق الجميع عند ابن القاسم خلافا للمخزومي. نقله الشيخ أبو الحسن في كتاب النكاح. قاله أحمد.

قلت: وقوله فاتجر بالقدر المذكور أي اتجر به للأيتام، وأما إن اتجر به لنفسه فالظاهر أن ربح المال له كما مر في باب الوديعة عند قوله: كالتجارة والربح له؛ لأنه متسلف. اهـ. قوله: وظاهر هذا الكلام أن الغلة لذي الدين لخ، قال البناني: فيه نظر، والذي انفصل عنه شيخ شيوخنا العلامة سيدي أحمد بن الحاج كما رأيته بخطه أن الربح للأيتام لا لرب الدين، وما في الزرقاني غير صحيح فتأمله. أهـ. وقال الرهوني: سوى عبد الباقي بين تجر الوارث الرشيد وتجر الوصي للأيتام وهو غير صحيح، وما قاله في تجر الوصي للأيتام هو الصحيح المؤيد بالنص الصريح. أهـ. ويأتي ما استدل به قريبا إن شاء الله تعالى، فقول البناني: والذي انفصل عنه شيخ شيوخنا أن الربح للأيتام لخ فيه نظر.

تنبيهات: الأوّل: قال البناني عند قول المص "بخلاف ذي دين على وارث" ما نصّه: ما قرر به الزرقاني عليه حمله الحطاب واستدل عليه بما في سماع يحيى في الورثة يقتسمون التركة ونما ذلك بعد ذلك في أيديهم أو نقص أو استهلك، قال: ما أخذوا على حال الاقتسام فنماؤه للغرماء ولا ضمان على الورثة فيه إلا أن يستهلكوا شيئًا فعليهم غرمه. أهـ. واعترضه مصطفى بما يعلم

ص: 542

بالوقوف عليه، ورد غير واحد اعتراضه وصحح ما حمله عليه الحطاب وقرره عبد الباقي، وهو الذي قررت أنا به المص، قال البناني بعد كلام طويل ما نصّه: وإذا علمت أنهم لا يضمنون السماوي للغرماء كما هو منصوص عليه في غير ما ديوان حتى في ابن الحاجب وابن عبد السلام والتوضيح كما يأتي في القسمة ظهر لك أن الغلة ليست لهم، وإنما هي للغرماء يكمل دينهم بها كما فهمه الحطاب، ولا يكون منها للورثة إلا ما فضل عن الدين، وأن استظهار مصطفى غير صحيح لأنه بناه على غير أساس. انتهى. قال الرهوني في أول مسألة من رسم قطع الشجر من سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا الأوّل: قال مالك في الذي يوصي إلى رجل بولده ويترك ثلاث مائة دينار ويأمر الوصي أن ينظر لهم فيها ويتجر الوصي لهم فيها فتصير ستمائة دينار: أرى أن تؤخذ الست مائة دينار كلها في الدين، وذلك أن الثلاث مائة دينار لوأنفقها الوصي على الورثة لم يضمنها له الوصي ولا يضمنها الورثة المولى عليهم ولو كان الورثة كبارا لا يولى عليهم، وليس مثلهم يولى عليهم باعوا مال الميت ثمَّ تجروا بما نض في أيديهم من المال لم يكن عليهم إلا ما نض بأيديهم، ولهم نماؤه وعليهم نقصانه، وكذلك ما غابوا عليه من العين، وأما الحيوان الذي ورثوه ثمَّ نمى أو تلف فإنَّه ليس عليهم ضمان ما مات من ذلك إذا مات بأيديهم، قال ابن القاسم: أخبرني بهذه المسألة من أثق به عن مالك ولم أسمعها أنا من مالك، قال القاضي ابن رشد: المخزومي يرى الربح للأيتام والضمان عليهم، وسواء كان الذي ترك المتوفى ناضا أو عروضا فباعها، وفرق ابن الماجشون بين العين والعرض، فقال في العين كقول ابن القاسم، وقال في العرض كقول المخزومي، والاختلاف في هذا مبني على اختلافهم في الدين الطارئ على الميت هل هو متعين في التركة أو واجب في ذمة الميت؟ أهـ المراد منه.

الثالث: قال ابن رشد: لا خلاف إذا طرأ غريم على ورثة أنهم لا يضمنون التلف بالسماوي، ولا خلاف أنهم يضمنون ما أكلوا أو استهلكوا أو استنفقوا. أهـ. ومر السماع الذي استدل به الحطاب للمص أن الورثة إذا اقتسموا التركة ونما ذلك بعد ذلك في أيديهم أو نقص أو استهلك فإن ما أخذوا حال الاقتسام نماؤه للغرماء ولا ضمان فيه على الورثة إلا أن يستهلكوا شيئًا فيكون عليهم غرمه. أهـ. وقد مر أن مصطفى اعترض على الحطاب؛ يعني حيث قال إن السماع المذكور ليس فيه تصريح بالغلة، قال: إلا ما يؤخذ من قوله: فنماؤه للغرماء، وفيه بعدٌ إذ ربما يقال نماؤه في

ص: 543

بدنه أو بولادة، ولذا لما نقل المواق قول ابن رشد: لا خلاف إذا طرأ غريم لخ، ثمَّ قال مصطفى: على أن هذا السماع خلاف المشهور. اهـ المراد منه. وقد مر رد كلام مصطفى وأنه منتقد، وقول مصطفى: على أن هذا السماع خلاف المشهور، قال الرهوني: ليس بمسلم لأنَّ محلّ الخلاف والتشهير إذا كان الدين الطارئ غير محيط ولا

(1)

موضوع كلام السماع أن الدين محيط، ويتضح لك صحة ما قلناه بجلب ذلك، ففي أول سماع يحيى من كتاب القسمة: قال يحيى: سألت ابن القاسم عن الذي يوصي بوصايا وعتاقة فتنفذ الوصايا والعتاقة، ثمَّ يطلع على أن على الموصي دينا محيطا بماله وقد شهد العبيد المعتقون على حقوق وطال زمان ذلك واقتسم الورثة ونما بعض ذلك في أيديهم أو نقص أو استهلك؟ فقال: ترد الوصايا التي أخذها أهلها بحال ما توجد في أيديهم نامية أو ناقصة، وما هلك منها فلا ضمان عليهم فيها إلا أن يستهلكوا شيئًا فيغرمونه، أو يكونوا اشتروا شيئًا فحوسبوا به في وصاياهم فيكون لهم نماؤه وعليهم تواه ويردون الثمن الذي حوسبوا به، قال: والورثة بهذه المنزلة فيما اقتسموا ما أخذوا على حال الاقتسام فنماؤه للغرماء ولا ضمان على الورثة فيه إلا أن يستهلكوا شيئًا فيكون عليهم غرمه وما اشتروا على حال البيع وليس على وجه الاقتسام، فنماؤه لهم وضمانه عليهم يغرمون الثمن الذي كان وجب له عليهم، قال: وما اقتسموا من ناض ذهب أو ورق أو طعام أو إدام فإنهم يغرمون ذلك، وإنما يوضع عنهم ضمان ما هلك من العروض والحيوان والعقار التي تقسم بالقيمة، قلت: أرأيت ما اقتسموا من العروض بالقيمة وغابوا عليه ولا يعرف هلاكه إلا بقولهم [أيبرءون

(2)

] من ضمانه أو الطعام أو الادام أتوجب عليهم ضمانه وتراه كالذهب إذا عرف هلاكه بعينه أم يبرءون من ضمانه؟ فقال: ضمانه في كل ما غابوا عليه كضمان المرتهن والمستعير وبراءته مما عرف هلاكه بالبينة كبراءة المرتهن والمستعير وحاله فيما لم يغب عليه كحالهما.

قال محمَّد بن رشد: الأصل في هذه المسألة قول الله تعالى في آية المواريث: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، فنص تعالى على أن لا ميراث لأحد من الورثة إلا بعد تأدية الدين

(1)

في الرهوني ج 6 ص 243: وموضوع كلام لخ.

(2)

في الأصل: لا يبرءون، والمثبت من البيان ج 12 ص 133 والرهوني ج 6 ص 243.

ص: 544

والوصية، واختلف إذا طرأ على الورثة دين أو وصية بعد اقتسام الورثة لما ترك الميت من دنانير أو دراهم أو طعام أو عرض أو حيوان أو عقار على خمسة أقوال: أحدها أن القسمة تنقض لحق الله تعالى شاء الورثة أو أبوا فيكون ما نقص أو هلك من جميعهم وما نما لجميعهم، فيخرج الدين والوصية من ذلك ويقسم الورثة ما بقيَ إن بقيَ شيء وهذا قول مالك في رواية أشهب عنه.

الثاني: أن القسمة تنقض فيكون ما هلك أو نقص أو نما بين جميع الورثة إلا أن يتَّفق جميعهم على أن لا ينقضوها ويخرج الدين والوصية من أموالهم ويقروها فيكون ذلك لهم، وهو المشهور من مذهب ابن القاسم المنصوص له في المدونة، وقد اضطرب في ذلك قوله.

والثالث أن القسمة تنقض أيضًا فيكون ما هلك أو نقص أو نما بين جميعهم إلا لمن شاء من الورثة أن يخرج من ماله ما ينوبه من الدين، ويحصل نوبه مما هلك ويبقى حظه في يديه فيكون ذلك له وهو قول ابن حبيب في الواضحة، مثال ذلك أن يهلك المتوفى وله أربع بنين ويترك عروضا ثماني بقرات في التمثيل، قيمة كل بقرة منها عشرة مثاقيل يقسمونها بينهم فيأخذ كل واحد منهم بقرتين، فتموت بيد واحد منهم بقرة من البقرتين اللتين صارتا له في قسمة ويطرأ على المتوفى دين عشرة مثاقيل، فإن الواجب في ذلك على مذهبه أن تنقض القسمة ويخرج الدين من السبع البقرات الباقية، فإن بيع فيه بقرة واحدة قسمت الستة الباقية بين البنين الأربعة بالسهمة حسبما نص من الاختلاف في صفة القسمة بها إن لم يتفقوا على قسمتها بالتراضي، ولمن شاء منهم على مذهبه أن يخرج من ماله ما ينوبه من الدين وذلك ديناران ونصف رينار، ويحمل نوبه من قيمة البقرة التي ماتت وذلك ديناران ونصف دينار أيضًا إن كانت قيمتها عشرة فيؤدي خمسة دنانير ديناران ونصف دينار لصاحب الدين وديناران ونصف دينار لسائر الورثة ويترك حظه في يديه، ويرد الباقون جميع ما بأيديهم إن أبوا إلا نقض القسمة يقتسمون الخمس بقرات التي بأيديهم مع الدينارين ونصف دينار التي حمل الراضي بالقسمة بينهم على السواء بعد أن يودوا بقية الدين وذلك سبعة دنانير ونصف دينار.

والقول الرابع أن القسمة لا تنتقض وهو قول أشهب وسحنون إلا أنهما اختلفا في فض الدين، فقال سحنون: إنه يفض على كل واحد منهم يوم الحكم، وقال أشهب في أحد قوليه: إنه يفض

ص: 545

على الأجزاء التي اقتسموا عليها، زادت أو نقصت ما كانت قائمة فلا اختلاف أنَّه لا يضمن من تلف ما بيده من السماء لصاحب الدين شيئًا من دينه.

والخامس أن القسمة تنتقض بين من بقي بيده حظه أو شيء منه أو استهلكه أو شيئا منه، وأما من تلف جميع حظه بأمر من السماء فلا يرجع عليه صاحب الدين ولا يرجع هو على الورثة فيما بقي بعد تأدية الدين، فقول ابن القاسم في هذه الرواية: إذا لحق دين يستغرق التركة بعد تنفيذ الوصايا والعتق واقتسام الورثة إن الوصايا ترد بنمائها ونقصانها وتنقض القسمة ويكون النماء للغرماء والضمان عليهم ولا يكون على الورثة شيء منه إلا أن يستهلكوه فيكون عليهم غرمه بَيِّنٌ لا كلام فيه على مذهبه إذا كان الدين يستغرق التركة بنمائها، وأما إذا كان لا يغترقها فاتفق جميعهم على أن يؤدوا الدين وتمضي قسمتهم بذلك على مذهبه، وأما قوله: فيما اشتروا من التركة فحوسبوا به في ميراثهم أو اشتراه الموصى لهم منها فحوسبوا به في وصاياهم إن لهم النماء وعليهم الضمان وليس عليهم إلا الثمن، فهو بين صحيح لا اختلاف فيه إذ لا فرق بين أن يشتروه فيحاسبوا به في ميراثهم وفي وصاياهم، وبين أن يباع من غيرهم فيدفع إليهم الثمن في ذلك. وأما قوله: وما اقتسموا من ناض ذهب أو ورق أو طعام أو إدام فإنهم يغرمون ذلك كله وإنما يوضع عليهم ضمان ما هلك من العروض والحيوان والعقار التي تقسم بالقيمة، فالظاهر منه أن الذهب والورق والطعام والإدام يغرمونه إن هلك ولا يوضع عنهم ضمانه، وإن قامت بينة على تلفه بخلاف العروض والحيوان والعقار التي تقسم بالقيمة، وقد بين ذلك إذ جعل الحكم فيه حكم المستعير لأنَّ العارية فيما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه مضمونة كالقرض، وكذلك قال في العارية من المدونة: إنها قرض وهو قول ابن الماجشون في رسم النكاح من سماع أصبغ خلاف قوله فيه أن لا ضمان عليه في العين ولا في كل ما يغاب عليه إذا قامت البينة على تلفه، وخلاف قول أصبغ في تفرقته بين العين وبين ما سواها مما يغاب عليه.

فيتحصل في العين والطعام والإدام إذا قامت البينة على تلفه ثلاثة أقوال: أحدها أنَّه ضامن وهو قوله في هذه الرواية، والثاني أنَّه لا ضمان عليه وهو قوله في سماع أصبغ من كتاب النكاح، والثالث الفرق بين العين وبين الطعام والإدام وما كان في معناه من المكيل كله وهو قول أصبغ،

ص: 546

وأما إذا لم تقم بينة على تلف ذلك فهو ضامن ولا اختلاف في العروض التي يغاب عليها أَنه ضامن إلا أن تقوم البينة على تلفها ولا في الحيوان الذي لا يغاب عليه أنَّه يصدق في تلفه. وبالله التوفيق.

الرابع: قال عبد الباقي: وأما لو طرأ غريم بعد إيقاف الوليّ المال المخلف على الورثة، فقال في المدونة ما نصّه: وإذا أنفق الوليّ التركة على الطفل ثمَّ طرأ دين على أبيه يغترقها ولم يعلم به الوصي فلا شيء عليه ولا على الصبي وإن أيسر لأنه أنفق بوجه جائز. أهـ. أي لأنه يطلب منه الإنفاق عليهم وهذا بخلاف إنفاق الورثة الكبار نصيبهم من التركة فإنهم يضمنون للغريم الطارئ بلا خلاف أي لكشف الغيب أنهم لا حق لهم في التركة إلا بعد أداء الدين ولا يضمنون التلف بأمر من الله بلا خلاف قاله ابن رشد وسيأتي للمص آخر باب القسمة ما يفيد ذلك وزيادة، والفرق أن التركة في ضمان الورثة بخلاف الوصي، وحَمْلُ الشارح وتبعه ال تتائي كلام المص على أن ذا الدين الطارئَ على الوارث إذا أخذ في دينه شيئًا واستغله ثمَّ استحقه إنسان فإنَّه لا غلة لذي الدين، خلاف النقل من أن لذي الدين الغلة للحكم لأنه ذو شبهة، وأيضًا على هذا الحمل يصير قوله على وارث ضائعا، وكلام المص فيما إذا قسم الورثة عين التركة ونمت في أيديهم، وأما إن اشترى الورثة شيئًا من التركة وحوسبوا به في ميراثهم ونما ذلك في أيديهم فلهم نماؤه ولا شيء لأرباب الدين منه، وكذا يقال في الموصى لهم إذا اشتروا من التركة وحوسبوا به في وصاياهم، فإنَّه يكون ذلك بمنزلة ما إذا اشترى ذلك أجنبي ونما في يده. قاله الحطاب وهو حسن.

كوارث طرأ على مثله تشبيه في قوله: "بخلاف ذي دين على وارث" يعني أن الوارث إذا اغتل ثمَّ طرأ عليه وارث لم يعلم به فإنَّه لا غلة للوارث المطرو عليه، والمراد لا يختص بالغلة بل يقاسم أخاه الطارئ فيها. إلا أن ينتفع يعني أن الغلة لا يختص بها الوارث المطرو عليه كما عرفت إلا فيما إذا حصلت أمور أربعة وأما إن حصلت تلك الأمور الأربعة فإن المطرو عليه يختص بها ولا يرجع عليه الطارئ بحصته أحدها: أن ينتفع بنفسه كأن يسكن البيت مثلا، واحترز بذلك عما لو أكرى فإن الطارئ يرجع عليه بحصته، ثانيها: أن لا يكون في نصيب المطرو عليه ما يكفيه

ص: 547

وأما إن كان في نصيبه ما يكفيه فإن الطارئ يرجع عليه بما ينوبه، ثالثها: أن لا يعلم المطرو بالطارئ وإلا رجع الطارئ بحصته، رابعها: أن يفوت الإبان فيما يعتبر فيه الإبان وأما إن لم يفت الإبان فإن الطارئ يحاص.

تنبيه: قال عبد الباقي: إلا أن ينتفع المطرو عليه بنفسه ولم يكن في نصيبه ما يكفيه ولم يعلم بالطائ وأن يفوت الإبان فيما يعتبر فيه إبان فإن الغلة له ولا يشاركه الطارئ، فإن أكرى أو كان في نصيبه ما يكفيه وتعدى وانتفع بزائد أو علم بالطارئ أو لم يفت الإبان حاص الطارئ وهذه الشروط الأربعة ما لم يكن الطارئ حاجبا للمطرو عليه وإلا رجع عليه بجميع ما اغتله، وبما قررنا علم أن شروط عدم رجوع الوارث الطارئ على الوارث المطرو عليه أربعة، قال ال تتائي: وربما أشعر قوله طرأ وارث بأنّه لو طرأ مستحق وقف على مستحق آخر استغله وهو يرى أنَّه منفرد به أو سكنه لم يرجع بالغلة ولا بالسكنى وهو كذلك. رواه ابن القاسم عن مالك. أهـ باختصار.

وقوله: وهو يرى لخ يفيد أنَّه غير عالم بالطارئ وهو كذلك؛ إذ لو كان عالما لرجع عليه. أهـ.

قوله: ولم يكن في نصيبه ما يكفيه تبع في هذه العبارة ال تتائي والشارح وأصله في التوضيح وهو غير صحيح، بل هو مقلوب لأنَّ الشرط كما صرح به أبو الحسن هو أن يكون في نصيبه ما يكفيه لسكناه وليس به ضرورة إلى مسكن أخيه، وبهذا صرح الأبياري في شرح البرهان، وقد اعترض على ال تتائي بهذا الشيخ أحمد بابا ومصطفى وغيرهما: نعم إن كان في نصيبه ما يكفيه وسكن أكثر منه رجع عليه، فالشرط إذا هو أن يسكن قدر نصيبه. قاله ابن عاشر ومصطفى. قاله البناني. وقول عبد الباقي: ولم يعلم بالطارئ وفات الإبان لخ، قال البناني: جرت الفتوى بخلاف هذين الشرطين وفي العمليات:

وما على الشريك يوما إن سكن

في قدر حظه لغيره ثمن

وإن غرس أو بنى قيل للمالك أعطه قيمته قائما يعني أن من غرس أو بنى في أرض الغير بوجه شبهة ثمَّ استحقت الأرض من يده يؤمر مستحق الأرض منه بأن يعطي الغارس أو الباني قيمة

ص: 548

البناء أو الغرس قائما على أنَّه في أرض الغير بإذنه، قال عبد الباقي: وإن غرس ذو الشبهة مكتر أو مشتر أو نحوهما أو بني قيل للمالك الذي طرأ استحقاقه للأرض: أعطه قيمته قائما على أنَّه في أرض الغير بإذنه على التأبيد إن استعارها أو استأجرها كذلك، فإن استعارها أو استأجرها مدة فقيمته قائما في تلك المدة وبه يندفع استشكال الأشياخ مذهبها بأن مالكا أوجب له قيمة البناء قائما، وإذا قوم قائما فقد أعطي جزءا من الأرض، وإن قوم منفكا عنها صار منقوضا. أهـ.

فجوابه أن تقويمه قائما على الوجه المذكور يفيد قطع النظر عن الأرض، وأنه يقوم قائما لا منقوضا. أهـ. قوله: فقيمته قائما في تلك المدة وبه يندفع استشكال الأشياخ لخ، قال البناني: هذا الجواب نقله ابن عرفة عن عبد الحق وأبي إسحاق التونسي، وذكر أن ابن يونس تعقبه ونص ما نقله عن ابن يونس: انظر كيف صفة تقويم البناء على أن يقلع إلى عشرين سنة، فإن قلت بكم يمكن أن يبنى مثله على أن يقلع إلى عشرين سنة فالقيمة لا تختلف سواء قال إلى سنة أو إلى عشرين سنة، ولذلك قال ابن القاسم: يدفع إليه قيمة البناء قائما ولم يحده بوقت، وإنما يصح ذلك على تأويل ابن حبيب الذي يقول معنى قوله قائما هو ما زاد البناء في قيمة الأرض، وأما على تأويل ابن القاسم فإنما يقال بكم يبنى مثل هذا البناء، فيقال بخمسين ومائة فهذه قيمة البناء قائما. قاله ابن يونس. قال ابن عبد السلام: فمراد ابن القاسم بقيمة البناء قائما قدر ما يبنى به مثله؛ لأنا إذا أبقينا الكلام على ظاهره أدى ذلك إلى أن يكون للباني جزء من الأرض وهو موضع أساس البناء. ابن عرفة: ما فسر به ابن يونس من اعتبار قدر ما يبنى به مثله صواب جار على أصل المذهب. أهـ.

تنبيهان: الأوّل: قال الحطاب: لو قال رب الأرض ما أعطيه الآن وما أريد إخراجه ولكن يسكن حتى يرزقني الله ما أؤدي عنه لم يجز ذلك، ولو رضي الذي عمر الأرض لأنه سلف جر منفعة. قاله في سماع يحيى من كتاب الاستحقاق. ونصه: ولو رضي الذي عمر الأرض أن يؤخر المستحق على أن ينتفع بها ما حل لأنه سلف جر منفعة، قال ابن رشد: ولو أكراه منه المستحق بما وجب له عليه من قيمة البناء لم يجز عند ابن القاسم للدين بالدين، ويجوز على مذهب أشهب لأنَّ قبض أوائل الكراء عنده كقبض جميعه. والله أعلم. أهـ.

ص: 549

الثاني: قال الحطاب: سئلت عن مسألة محصلها شريك غرس أو بنى في بعض أرض مشتركة بينه وبين جماعة، فهل لشركائه إلزامه بقلع ما غرس أو بناه؟ فإن أراد هو أو أحد منهم القسمة قسمت الأرض، فإن وقع غرسه أو بناؤه فيما خصه كان له وعليه من الكراء بقدر ما انتفع من نصيب أصحابه قبل القسمة، وأما إن لم يرد أحد منهم القسمة بل أراد بقاء الأرض مشتركة فلهم أن يدخلوا معه ويشاركوه بقدر حصصهم من الأرض بعد أن يسلموا إليه قدر حصصهم من قيمة عمله، قيل قائما وقيل منقوضا وهو الراجح الجاري على مذهب المدونة. وانظر المسألة في أول كتاب الاستحقاق من البيان وتكررت بعد ذلك في سماع عيسى منه، وفي رسم القطعان من سماع عيسى من الشركة وابن يونس في كتاب العارية وغير ذلك. والله أعلم. انتهى. قوله: وهو الراجح لخ قال الرهوني: ما ذكره الحطاب من أن الراجح أن له قيمة البناء منقوضا، صرح ابن ناجي في شرح المدونة بأنّه المشهور، قال في كتاب العارية: وكذلك اختلف إذا بنى المكتري بغير إذن المكري، ومن بنى في أرض زوجته، والشريك إذا بنى بغير إذن شريكه فالمشهور له قيمة عمله منقوضا. انتهى. وأما إذا كان بعلمه وسكوته بلا عذر، فقال في البيان: وأما إذا كان بنيانه وغرسه حفرة بحضرة شريكه وسكوته دون أن يأذن له في ذلك فيتخرّج ذلك على الاختلاف في السكوت، هل هو كالإذن أم لا؟ فعلى القول إنه كالإذن إن كان قد مضى من المدة ما يرى أنَّه أذن له إلى مثلها لم يكن عليه إلا قدر حظه من ذلك منقوضا، وإن كان لم يمض من المدة ما يرى أنَّه أذن له إلى مثلها كان عليه قدر حظه من ذلك قائما، ويختلف على هذا القول هل يكون له الكراء في حصته لما مضى من المدة أم لا؟ فقيل: إنه لا كراء له وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى عنه، وقيل: إن له الكراء بعد أن يحلف أنَّه ما رضي بترك حقه من الكراء في ذلك وهو قول عيسى بن دينار من رأيه، وعلى القول بأنّه ليس كالإذن يكون له كراء حصته لما مضى من المدة قولًا واحدا، ويكون عليه قدر حظه من البنيان منقوضا وإن لم يمض من المدة ما يرى أنَّه يبنى إلى مثلها، ثمَّ قال الرهوني ما نصّه: وبتأمل ذلك يظهر لك أن الراجح أن السكوت هنا ليس كالإذن كما أفاده إطلاق ابن ناجي والحطاب. والله أعلم. انتهى. ثمَّ قال: ظاهر هذه النصوص وغيرها أنَّه لا فرق بين الأب وغيره في هذا، وبذلك أفتيت حين سئلت عن أب بنى في دار مشتركة بينه وبين أولاد

ص: 550

له صغار فمات وقام بقية الورثة يطلبون حقهم في بناء أبيهم، ويشهد لذلك أيضًا ما في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق، ونصه: قال ابن القاسم: وأبناؤهم وأبناء أبنائهم لاحق لهم فيما عمر الأب والجد من دار مواليه أو أرضه أو صهره أو ابنه أو جده إلا أن يطول الزمان جدًا، ولا ينافي هذا كون الأب له شبهة في مال ولده، ولذلك لا تقطع يده إن سرق منه لأنه لا يلزم من كون ذلك شبهة يدرأ بها الحد أن يكون شبهة هنا، ألا ترى أنَّه لو استغل مال ولده على وجه الغصب لوجب عليه رد الغلة اتفاقا. انتهى المراد منه.

فإن أبى فله دفع قيمة الأرض يعني أن من بنى أو غرس في أرض الغير بوجه شبهة، يقال لمالك الأرض وهو مستحقها: أعط قيمة البناء والغرس للمستحق من يده قائما إن شئت كما عرفت، فإن أبى المالك فله أي للغارس أو الباني أن يدفع قيمة الأرض للمالك براحا أي بغير غرس ولا بناء، فإن أبى ذو الشبهة من دفع قيمة الأرض للمالك براحا بعد إباية المالك من دفع قيمة البناء أو الغرس قائما فهما شريكان في الأرض والبناء أو الغرس بالقيمة لكل بانفراده، هذا بقيمة أرضه وهذا بقيمة غرسه وبنائه، والقيمة فيهما معتبرة يوم الحكم بالشركة لا يوم الغرس والبناء، فيقال ما قيمة البناء قائما على أنَّه في أرض الغير وما قيمة الأرض فيكونان شريكين بقيمة ما لكل.

تنبيهان: الأول: قول: المص "أعطه قيمته قائما" قال الخرشي: ولو من بناء الملوك لأنه وضعه بوجه شبهة. انتهى. قال البناني: فيه نظر، بل قيده ابن عرفة بما إذا لم يكن البناء من بناء الملوك وذوي الشرف، أما إن كان كذلك فالمنصوص أن فيه القيمة منقوضا، واحتج ابن عرفة لذلك بسماع القرينين وذكر أنها نزلت بالشيخ ابن الحباب. انظره. انتهى. وقال الرهوني: إن ما ذكره ابن عرفة وحكم به أبو إسحاق بن عبد الرفيع ونزل بالشيخ أبي عبد الله بن الحباب غير مسلم عندي، فإنَّه بعد أن ذكر عن المازري عن شيخه عبد الحميد أنَّه قال فيمن بنى بشبهة: إن له قيمة بنائه على أنَّه منقوض، قال عقبه: ونزلت هذه المسألة بشيخنا أبي عبد الله بن الحباب استحق منه جنة قد أحدث فيها من اشتراها منه بناء معتبرا، فحكم الفقيه أبو إسحاق بن عبد الرفيع بقيمة البناء منقوضا مقلوعا فاشتكى ذلك بعد موت الحاكم المذكور، فوقع في قضيته ما ذكرته في كتاب الأقضية، وكان أهل الإنصاف والمعرفة ينسبون القاضي للحكم بالشاذ الذي نقله

ص: 551

المازري إلى آخر ما ذكر الرهوني من النقول وما رأى، والذي قاله في ذلك وقواه أنَّه يقوم قائما على إلغاء ما فيه من السرف الخارج عن المعتاد، فيقال: ستمائة مثلا فيعطى ستمائة ويلغى الزائد لأنَّ المستحق إذا دفع قيمة المعتاد وأسقط عنه السرف لا ضرر عليه في ذلك، بل له النفع الذي بيده لتمتعه بزخارف الملوك دون عوض، ولأنه لو استحقه وهو مبني البناء المعتاد فقط لم يكن له سبيل إلى أخذه بقيمته منقوضا، فيا عجبا كيف يقضى عليه بقيمة البناء قائما حيث لا نفع له إلا فيه، ويقضى عليه بقيمة البناء منقوضا حيث يكون له نفع زائد واستمتاع بما يغبطه عليه أبناء الدنيا، فبأي شيء يحتج هذا المستحق وماذا يقول؟ هذا لا تساعده النصوص ولا يجري على القواعد والأصول، قال: وليس السماع المذكور نصا فيما ذكره ابن عرفة لا النص الفقهي ولا الأصولي؛ لأنه محتمل، ومن المعلوم المقرر أن ما احتمل واحتمل لا دليل فيه بل الاحتمال الثاني هو الظاهر، وتعليل أبي الوليد يدلّ على أنَّه فهمه عليه. انتهى. ويعني بالاحتمال الثاني ما قدمته من إلغاء ما فيه من السرف الخارج عن المعتاد. والله تعالى أعلم.

الثاني: قال عبد الباقي: قال أحمد قوله: "وإن غرس أو بنى" لخ أي الأرض، وفرض المسألة في الأرض لأنه وقع نص أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب في ذلك وهي صورة مسألة

(1)

ولو كان المعمر سفينة لكان الحكم كذلك إذ لا فرق وكذا لو اشترى شخص عرضا وصرف عليه مبلغا في تفصيل وخياطة ثمَّ استحق. انتهى. وقال الشارح عند قوله: "وإن غرس أو بنى قيل للمالك" إلى قوله: "فإن أبى فشريكان" ما نصّه: وبذلك قضى عمر رضي الله عنه.

إلا المحبسة فالنقض بضم النون وكسرها يعني أنَّه إذا استحق الأرض مالكها ممن هي بيده بوجه شبهة فالأمر فيها على ما عرفت، وإن استحقت منه بحبس فإنَّه ليس للباني أو الغارس إلا نقضه؛ إذ لا يجوز له أن يدفع قيمة البُقعة لأنه يؤدي إلى بيع الحبس، قال عبد الباقي: إلا المحبسة فالنقض، وهذا استثناء من الأوجه الثلاثة أي أن الأرض إذا استحقت بملك ففيها ما مر من الأوجه وأما إذا استحقت بحبس فلا يجري فيها وجه من الأوجه المتقدمة، فلا يقال لناظر

(1)

في عبد الباقي ج 6 ص 163: وهذه صورة المسألة.

ص: 552

الوقف أعطه قيمته إلى آخر الثلاثة، وإنما يقال للباني اهدم بناءك وخذ نقضه، وظاهره أنَّه لا يؤمر بتسوية الأرض، وليس له أن يعطي قيمة البقعة لأنها حبس، ومحل عدم إعطاء قيمة بنائه إن لم يشترط الواقف أنَّه يشترى بغلة الحبس عقار وإلا اشتري ذلك حيث وجد في حبسه ريع زائد عن مستحقيه فيشترى بقيمته منقوضا، بل قد يقال يشترى وإن لم يشترطه الواقف حيث وجد ريع للوقف؛ لأنَّ وقف ريع الوقف قد يؤدي إلى ضياعه كما بحثه أحمد مع بعض شيوخه، وظاهر كلام المص سواء كان الحبس على معينين أو على غير معينين. أهـ. وقال الحطاب: من أكرى الأرض المحبسة لمن بنى فيها لمدة فله أن يأخذ الأنقاض بقيمتها مقلوعة، وليس عليه أن يلحقها بالحبس، ولو كان الحبس على رجلين فأكرى أحدهما حصته بشيء فليس لصاحبه الدخول عليه. انتهى.

وضمن قيمة المستحقة وولدها يوم الحكم يعني أن من استولد أمة وهو ذو شبهة فيها ثمَّ استحقت منه، فإنها تكون له أم ولد ويضمن لمستحقها قيمتها وقيمة ولدها لمن ثبت أنها ملكه، وتعتبر القيمة يوم الحكم باستحقاقها، قال عبد الباقي: وضمن مشتر ذو شبهة أمة أولدها ثمَّ استحق برق قيمة المستحقة، وقيمة ولدها الحر يوم الحكم بالاستحقاق على المشهور لا يوم الوطء والولد حر نسيب باتفاق، والدليل على أنها مستحقة برق ضمانها بالقيمة. وقوله الآتي:"لا صداق حرة" وقول الشارح: استحقت برق أو حرية غير جيد، وأجاب عنه الوالد بأن قوله: أو حرية على حذف مضاف أي وعقد حرية أي إذا استحقت إما برق خالص أو عقد حرية كما يأتي تفصيله قريبا، فإن كان ولدها رقيقا بأن كان من غير سيدها المشتري لها أو من سيدها العبد فيأخذه ويأخذها، وإذا اعتبرت قيمة ولدها الحر فبدون ماله على المشهور كما قال الفاكهاني؛ أي لأنه حر. انظر أحمد وال تتائي. أي فيبقى ماله وكذا الأم تقوم بدون مالها فيما يظهر لأنَّ أخذه قيمتهما كبيعهما وبائع العبد له ماله إلا أن يستثنيه المشتري. قاله علي الأجهوري. وتعليله ربما ينتج عكس المقصود فتأمله، ومفهوم ولدها أنَّه إن لم يولدها أخذها المستحق ولا شيء على المشتري في وطئها ولو بكرا واقتضها كما في المدونة. قاله عبد الباقي.

ص: 553

تنبيهات: الأوّل: قال عبد الباقي: "قوله" وضمن قيمة المستحقة" لخ أي ويرجع من استحقت منه على بائعه بثمنه ولو غاصبا، وسواء زاد ما دفعه من الثمن على القيمة أم لا، ويرجع ربها على الغاصب بما بقى له من الثمن إن زاد على القيمة التي أخذت من المشتري كما هو قاعدة بيع الفضولي إذا فات؛ لأنَّ أخذ القيمة من المشتري فيه إجازة بيع بائعه الغاصب وهو يضمن يوم الاستيلاء. أهـ. قوله: ويرجع ربها على الغاصب بما بقي له من الثمن لخ فيه نظر، وقال عبد الحق في النكت: إذا استحقت أمة من يد مشتر وقد أولدها فأخذ قيمتها منه على أحد الأقوال يرجع المشتري على البائع بالثمن الذي دفع إليه كله، كان أقل مما دفع من القيمة أو أكثر؛ لأنَّ أخذ قيمتها كأخذ عينها، فلما كان في أخذ عينها يرجع بالثمن لانتقاض البيع فكذلك القيمة إذ هي عوض عنها. أهـ. نقله الطخيخي. وهو صريح في أنَّه لا رجوع لربها على الغاصب بعد أخذ القيمة من المشتري، ولو زاد الثمن عليها لرجوع المشتري بجميعه على الغاصب. وقوله: لأنَّ أخذ القيمة فيه إجازة بيع بائعه لخ غير صحيح، لقول عبد الحق: إن أخذ قيمتها كأخذ عينها، فأخذها نقض للبيع لا إجازة له، وانظر ما تقدم في قوله: "ولربه إمضاء بيعه". أهـ.

الثاني: إذا استحقت مدبرة بعد أن أولدها المشتري أخذ مستحقها ثمنها لا قيمتها وقيمة ولدها قنين، وكانت أم ولد لمن استحقت منه لأنَّ أمومة الولد أقوى من التدبير لعتقها من رأس المال دونه، فهي بمنزلة عتق مشتري المدبرة له، وإذا استحقت مكاتبة بعد إيلاد المستحق منه أخذ المستحق قيمة ولدها وتحسب من الكتابة، فإن وفت بقيمة نجومها أو لم توف ووفت هي بقيمة النجوم خرجت حرة لا يد لواحد منهما عليها، وتكون كمن استحقت بحرية فلا صداق ولا غلة، وإن عجزت كانت بمنزلة القن المستحقة، فيغرم قيمتها وولدها على ما عليه المص، وأما المعتقة لأجل وأم الولد فيغرم الأب قيمة الولد للمستحق كما في المدونة على الرجاء والخوف ويأخذ أم الولد، وكذا المعتقة لأجل إن لم ينقض الأجل قبل يوم الاستحقاق وإلا خرجت حرة ولا يأخذها ولا قيمة ولدها؛ لأنَّ كل ذات رحم ولدها بمنزلتها. أهـ.

الثالث: قوله: "وضمن قيمة المستحقة وولدها يوم الحكم" هو أحد أقوال ثلاثة للإمام، قال البناني عند قول المص هذا ما نصّه: هذا قول مالك الذي رجع إليه، وكان أولًا يقول: لمستحقها

ص: 554

أخذها إن شاء مع قيمة الولد يوم الحكم، قال في المدونة: وعلى هذا جماعة الناس، وأخذ به ابن القاسم ثمَّ رجع عن هذين القولين معا إلى أنَّه يلزمه قيمتها فقط يوم وطئها، وبه أفتي لما استحقت أم ولده إبراهيم، وقيل أم ولده محمَّد، وعبر عنه ابن رشد بقوله: وبه حكم عليه في استحقاق أم ولده. أهـ. وفيه دليل على أن أفتي في كلام غيره مبني للمفعول وأن غيره أفتاه في ذلك بهذا لا أنَّه أفتى به لنفسه. والله أعلم. وفي كلام الفاكهاني ما يقتضي أنَّه هو الذي أفتى بذلك لنفسه. اهـ.

الرابع: قال ابن عرفة في نوازل سحنون من أمهات الأولاد: من اشترى جارية فأولدها ثمَّ استحقها رجل فدفعها الذي أولدها ثمَّ اشتراها منه، إن كان دفعها إليه بحكم قاض فلا تكون له أم ولد إلا بإيلاد مستقبل، وإن دفعها إليه صلحا دون قضاء كانت أم ولد بإيلادها أولًا. ابن رشد: هذا بين لأنها وجبت لها حرمة الإيلاد فلا تنتقض إلا بحكم لأنه يتهم على إبطال ما وجب لها من الحرمة. أهـ. قال الحطاب عند قوله: "وضمن قيمة المستحقة وولدها يوم الحكم" ما نصّه: فإن أعلم الأب اتبعه بقيمته وقيمتها، فإن كان الولد موسرا أخذ منه قيمته فقط ولا يرجع بها على الأب.

الخامس: قال ابن عرفة: قال اللخمي: لو استحقت حاملًا فعلى أن له أخذها تؤخر لوضعها فيأخذها وقيمة ولدها، فإن أسقطته أو ماتت فلا شيء على الأب، وعلى أخذ قيمتها يأخذ قيمتها الآن على ما هي عليه ولا ينتظر وضعها، وعلى القول الآخر ليس له إلا أخذ قيمتها يوم حملت. أهـ.

والأقل إن أخذ دية يعني أنَّه إذا قتل ولد المستحقة المذكورة قبل الحكم باستحقاقها وأخذ الأب دية الولد ثمَّ استحقت الأم، فإن الأب يغرم الأقل من الدية التي أخذ الأب ومن قيمة الولد، قال الشارح: لما ذكر أنَّه يضمن قيمة المستحقة مع قيمة ولدها خشي أن يتوهم أن ذلك عام في كل ولد سواء قتل الولد فأخذ ديته أم لا، فنبه على أن ذلك فيما إذا لم يكن الأب قد أخذ ديته، فإن أخذها فإن المالك يرجع عليه بالأقل من قيمة الولد أو ما أخذ فيه من ديته، قال في المدونة: ومن

ص: 555

قتل من الولد خطئا فديته كاملة للأب وعليه لسيد الأمة الأقل من قيمة الولد يوم القتل عبدا أو ما أخذ من ديته، وإن قتل عمدا فاقتص الأب من قاتله لم يكن على الأب فيهم قيمة ويغرم قيمة الولد الحي وإن جاوزت الدية. اللخمي: وقال أشهب: إذا قتل خطئا فالدية للأب ولا شيء عليه للمستحق وهو كالموت، وقول مالك أحسن. أهـ. وقال عبد الباقي: وإن قتل ولدها ضمن للمستحق الأقل من قيمته يوم قتله خطئا ومن ديته إن أخذ الأب له دية، وكذا إن عفا على المعتمد وله في العمد إذا صالح الأب على أقل من الدية وهو قدر القيمة فأكثر الأقل من قيمته يوم القتل ومما صالح به، فإن صالح بأقل من القيمة وأخذه المستحق رجع الأب على الجاني بالأقل من باقي القيمة والدية؛ لأنه يقول إنما صالحت بأقل من القيمة ليبقى لي، وكذا يقال في صلح الخطإ، وإذا عفا الأب في العمد فلا شيء عليه للمستحق وله الرجوع على القاتل بالأقل من القيمة والدية بتقدير أن فيه دية، فإن اقتصَّ الأب في العمد لم يكن للمستحق شيء. ذكره في المدونة. اهـ. قوله: وله في العمد إذا صالح الأب على أقل لخ قال البناني: لو قال وله في العمد إذا صالح الأب الأقل من قيمته يوم القتل ومما صالح به فإن كان المصالح به أقل من القيمة والدية لخ لكان أشمل وأخصر. والله أعلم. وقوله: ورجع الأب على الجاني بالأقل لخ، قال البناني: انظر من قال هذا وأصله - والله أعلم - لأحمد عن بعض شيوخه فهمه من كلام عبد الحق الذي في المواق، والظاهر أن الذي يرجع على الجاني هو المستحق بدليل الفرع الذي بعده وكلام المواق محتمل لذلك، وقوله: وله الرجوع على القاتل الخ، قال البناني: أي وللمستحق الرجوع على القاتل لخ، وهذا قول عبد الحق، وقال ابن شبلون: لا شيء للمستحق على القاتل انظر ابن عرفة. أهـ. قول البناني: وهذا

(1)

وقال ابن شبلون لخ، قال الرهوني: ما قاله صحيح لكن ما كان ينبغي له إيراد هذا الكلام هكذا لما فيه من الإشعار بأن ما اقتصر عليه الزرقاني أحد قولين متساويين، وأن ابن عرفة سلم ما لابن شبلون وليس كذلك، ونص ابن عرفة: قال عبد الحق: ولو عفا الأب عن قاتله على أقل من الدية، فلابن القاسم في المجموعة: على الأب الأقل من ذلك ومن قيمته يوم القتل، فإن كان ما أخذ أقل من القيمة تبع القاتل بتمام القيمة ولو عفا على غير شيء فلا شيء على

(1)

في الرهوني: وهذا قول عبد الحق وقال لخ ج 6 ص 249.

ص: 556

الأب، ويتبع المستحق القاتل بالأقل من قيمة الولد يوم القتل والدية، واحتج بمتقدم قول ابن القاسم في المجموعة، وقال ابن شبلون: لا شيء للمستحق على القاتل لقولها في كتاب الديات: عفو البنين على غير شيء جائز على البنات؛ لأنَّ القتل لهم دون البنات كالأب مع المستحق، قلت: يفرق بأن أصل حق البنات غير مالي إنما هو دم، وأصل حق المستحق مالي. أهـ منه بلفظه. فاقتصار الزرقاني على ما لعبد الحق هو الصواب فتأمله. أهـ.

لا صداق حرة يعني أن من وطئ أمة بالملك ثمَّ استحقت بحرية فإنَّه لا صداق عليه لها في ذلك الوطء، وكذلك لا يضمن غلتها كما قال: أو غلتَها بالنصب عطف على صداق وهو عطف على قيمة قال الخرشي يعني أن من اشترى أمة فوطئها واستخدمها أو آجرها ثمَّ استحقت بحرية فلا شيء عليه لا من غلة، لما مر أن الغلة لذي الشبهة أو المجهول للحكم، ولا من صداق سواء كانت ثيبا أو بكرا، ومثلها العبد إذا استحق بحرية فلا شيء له على سيده من غلته.

والفرق بين قوله: "لا صداق حرة" والغالط بغير عالمة فإنَّه يضمن صداقها، أن الغالط من وطئ من هي محرمة عليه حال الوطء وإن كانت مباحة بحسب اعتقاده، وأما في مسألتنا فقد وطئ من هي مباحة في اعتقاده وفي نفس الأمر حال الوطء وإن انكشف الأمر بخلاف ذلك بعد. أهـ.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: انظر قوله وفي نفس الأمر لخ فإنَّه غير ظاهر، والظاهر ما في شرح عبد الباقي ونصه: والفرق بينها وبين لزوم الصداق للغالط بغير العالمة كما قدمه والجامع بينهما أن كلا وطء شبهة أن الغالط استند لعقد في زعمه، فتبين أن لا عقد بالكلية وهنا استند لعقد بيع حقيقة وإن تبيّن فساده بحريتها؛ لأنَّ الحقائق تطلق على فاسدها كصحيحها كما لشارح الحدود في غير ما موضع عن شيخه ابن عرفة نفسه والمعدوم شرعا غير معدوم حسا، وإنما هو كالمعدوم حسا، ومثل الأمة العبد يستحق بحرية فلا رجوع له بغلته على سيده الذي استحق منه. أهـ. قول عبد الباقي: كما لشارح الحدود عن شيخه ابن عرفة لخ، قال البناني: الذي في حفظي أن الرصاع شارحَ الحدود لم يدرك ابن عرفة، وإنما أدرك تلامذته. أهـ. قول البناني: الذي في حفظي أن الرصاع لخ، قال الرهوني: ما في حفظه هو ما لأحمد بابا في كفاية المحتاج، ونصه: محمَّد بن قاسم: أبو عبد الله الأنصاري التونسي عرف بالرصاع بمهملتين والتشديد قاضي

ص: 557

الجماعة الفقيه العالم الصالح المفتي أخذ عن جماعة من أصحاب ابن عرفة وغيرهم، كالبرزلي وابن عقاب وابن القاسم العبدوسي وعمر القلشاني. أهـ. محلّ الحاجة منه بلفظه.

وقد كتب بعض الثقات المعاصرين بهامش البناني في هذا المحل أن ما قاله الزرقاني من أن ابن عرفة من شيوخ الرصاع صحيح، وفيه عندي نظر لأنَّ تاريخ وفاتهما يمنع من ذلك أو يبعده جدًا زيادة على ما قدمنا، فإن ابن عرفة رضي الله عنه ورحمه توفيَ سنة ثلاث وثمان مائة كما في الديباج وغيره، والرصاع توفي سنة أربع وتسعين وثمان مائة بين موتهما واحد وتسعون عاما، فلو فرضنا أن الرصاع ولد يوم مات ابن عرفة لكان عمره إحدى وتسعين سنة، فكيف إذا اعتبر مولده قبل ذلك بمدة يمكنه فيها الطلب حتى يقرأ على ابن عرفة؟ فتأمله بإنصاف. ثمَّ وجدت في كلام الرصاع نفسه ما يوافق ما قلناه، ففي أثناء جواب له مذكور في نوازل الجامع من المعيار ما نصّه: وقد وقع للشيخ الإمام ابن عرفة شيخ شيوخنا أسكنه الله دار السلام في كتاب الإيمان ما وقع للأشياخ. أهـ محلّ الحاجة منه بلفظه.

تنبيه: وقع في شرح عبد الباقي بعد قوله المار: ومثل الأمة العبد يستحق بحرية فلا رجوع له بغلته على سيده الذي استحق منه. أهـ ما نصّه. بخلاف ما إذا استحقه شخص آخر برق فيرجع المستحق بغلته على المستحق منه كما يأتي قريبا والفرق لخ، والصواب إسقاط جميع هذا الكلام الأخير لأنه غير صحيح، قال البناني: قول الزرقاني بخلاف ما إذا استحقه شخص آخر برق لخ فيه نظر؛ إذ هو مخالف لقولهم: الغلة لذي الشبهة لأنَّ الفرض أنَّه اشترى واستغل، وقوله كما يأتي قريبا لخ الذي يأتي له خلاف هذا وهو الحر المستحق برق لا الرقيق المستحق بحرية كما هنا، وقوله: والفرق إلى آخر قال البناني: لا حاجة إلى هذا الفرق على كل حال. والله أعلم. انتهى.

وإن هدم مكتر تعديا فللمستحق النقض وقيمة الهدم قال الخرشي: يعني أن من اكترى دارا أو نحوها من ذي الشبهة فهدمها تعديا بأن كان بغير إذن المكري ثمَّ استحقها شخص فإنَّه -يعني المستحق - يأخذ النقض إن وجده وقيمة ما نقصه الهدم؛ إذ [له

(1)

] أخذه قائما فلو كان الهادم باع النقض فالمستحق بالخيار إن شاء أخذ منه الثمن أو قيمة النقض. أهـ المراد منه. وقال عبد

(1)

في الأصل: لو، والمثبت من الخرشي ج 6 ص 156.

ص: 558

الباقي: وإن هدم أو قلع الغرس مكتر لكدار من ذي شبهة ما اكتراه تعديا منه بغير إذن مكريه ثمَّ استحق المهدوم أو المغروس، فللمستحق النقض بضم النون وبالضاد المعجمة لبناء أو غرس وقيمة نقص بفتح النون وبالصاد المهملة الهدم أو القلع، فيقال ما قيمتها مبنية وما قيمة البقعة والأنقاض، فإدا قيل قيمتها مبنية عشرة دراهم وقيمة البقعة والأنقاض ثمانية فإنَّه يكون على الهادم درهمان. انظر أحمد. وهذا إذا كان النقض بالضم باقيا أوأفاته المكتري بغير بيع فللمستحق الأكثر مما باعه به أو قيمته مع أخذ نقص الهدم إن فات عند المشتري، وإلا خير المستحق بين أخذه وإجازة بيع المكتري فليس له حينئذ إلا ما باعه به يرجع به عليه إن أخذه من المشتري، وإلا طالب به المشتري أو المكتري كما تفيده المدونة وشرحها، وهذا بخلاف بيع الفضولي لأنه كالوكيل إذا أجازه فإنما له المطالبة عليه وإن لم يقبض الثمن خلافا لأحمد.

ومفهوم "تعديا" أنَّه إن هدمه لا تعديا فكهدم المكري يأخذه فقط إن لم يبعه، فإن باعه فليس له إلا ثمنه وإن كان قائما وبه جزم أحمد لأنه ذو شبهة أقوى من المكتري، فلم يجعل كالفضولي بالنظر للمستحق، ولعل الفرق أن المشتري أو المكتري استند لعقد حقيقة، والفضولي لم يستند لعقد سابق على بيعه فحين إجازته صار كالوكيل فيطالب هو بالثمن، وقال غيره: إنما له ثمنه إن فات عند المشتري وإلا خير فيه وفي ثمنه، وإن فات بغير سبب المكتري فلا شيء عليه وبسببه ضمن قيمته. أهـ. قوله: فليس له إلا ثمنه وإن كان قائما وبه جزم أحمد لخ، قال البناني: هذا هو ظاهر قول المدونة ولو هدمها المكري لم يلزمه قيمتها وإنما له النقض بعينه إن وجده وإن بيع فله ثمنه. أهـ. وقد علم أن هدم المكتري بإذن كهدم المكري. أهـ.

وقول المص: "فللمستحق النقض وقيمة الهدم" لخ قال البناني: هذا أحد تأويلات لعياض انظرها في الحطاب. أهـ. وقال الحطاب عند قوله: "وإن هدم مكتر تعديا" لخ ما نصّه: هذا كقوله في المدونة: ومن اكترى دارا فهدمها تعديا ثمَّ قام مستحق فله أخذ النقض إن وجده وقيمة الهدم من الهادم، قال في التنبيهات: قوله بقيمة الهدم، قيل بما بينها بقعة وما بينها من القيمة بذلك البناء فيغرمه، وقيل قيمة ما أفسد من البناء، وعند ابن حبيب: يضمن له ما أنفق في البناء،

ص: 559

وقيل يأخذ النقض من مستحقها ثمَّ يغرم له ما أفسد من الهدم، قال الشيخ أبو الحسن: قول عياض بما بينها بقعة يعني من الأنقاض. أهـ.

وإن أبرأه مكريه مبالغة في أن قيمة الهدم للمستحق على المكري تعديا؛ يعني أن للمستحق قيمة الهدم على المكري وإن كان المكري أبرأ المكتري من قيمة الهدم قبل ظهور الاستحقاق، كسارق عبد ثمَّ استحق يعني أن المكتري عليه قيمة الهدم ولا ينفعه في ذلك إبراء المكري له من الهدم قبل الاستحقاق، فهو كمسألة من سرق عبدا وأفاته بوجه من وجوه المفوتات فأبراه منه المسروق منه المالك له بشراء ونحوه من كل ذي شبهة ثمَّ استحق بعد ذلك الإبراء، فإن السارق يضمنه ولا ينفعه إبراء المسروق منه ذي الشبهة الواقع قبل الاستحقاق ولا رجوع له على المسروق منه، فكما لا ينفع الإبراء في هذا لا ينفع الإبراء الواقع من المكري للمكتري من الهدم قبل الاستحقاق، قال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: من اكترى دارا فهدمها تعديا ثمَّ قام مستحق الدار فله أخذ النقض إن وجده قائما وقيمة الهدم من الهادم، ولو كان المكري قد ترك للمكتري قيمة الهدم قبل الاستحقاق لرجع بها المستحق على الهادم كان مليا أو معدما؛ لأنَّ ذلك لزم ذمته بالتعدي ولا يرجع على المكري إذ لم يتعد، وهو كمن ابتاع عبدا فسرقه منه رجل فترك له قيمته ثمَّ قام ربه فإنما يتبع السارق خاصة. انتهى.

بخلاف مستحق مدعي حرية راجع لقوله: "أو غلتها" يعني أن العبد إذا ادعى أنَّه حر فعمل لشخص عملا ثمَّ استحق بالملك، فإن المستحق يرجع على من استعمله بجميع أجرته وغلته، فهو مخالف لمن كان مملوكا بوجه شبهة، ثمَّ استحق بحرية أو بملك لآخر فلا غلة للمستحق على المستعمل ولا للمستحق بحرية على المستعمل، قال عبد الباقي: وأخرج من قوله: "لا صداق حرة أو غلتها" بالنظر إلى الغلة فقط، قوله:"بخلاف مستحق شخص مدعي حرية" نزل ببلد فاستعمله شخص ثمَّ استحق برق فإن مستحقه يرجع على من استعمله بأجرة استعماله. أهـ. قال المواق من المدونة: لو نزل عبد ببلد فادعى الحرية فاستغله رجل فعمل له عملا له بال من بناء أو غرس أو غيره بغير أجر أو وهبه مالا فلربه إذا استحقه أخذ قيمة عمله ممن استعمله إلا أن يكون عملا لا بال له، كسقي الدابة ونحوه.

ص: 560

وإلى هذا أشار بقوله: إلا القليل قال عبد الباقي: إلا الاستعمال القليل كسقي دابة وشراء من سوق مرة فلا رجوع لمستحقه بأجرة ذلك، وإذا رجع بغير القليل سقط منه قدر نفقته فتحسب على المستحق، فإن زادت على الغلة لم يرجع بها وإن نقصت رجع المستحق بما زاد منها على النفقة كذا في بعض التقارير، وانظره مع ما سيأتي من أن النفقة التي تكون على المستحق إنما هي النفقة في زمن الخصام لا فيما قبله. أهـ.

قوله: وانظره مع ما سيأتي لخ أي في باب القضاء لا إشكال مع ما يأتي أصلًا؛ لأنَّ ما هنا لم يدع المستغل أنَّه أنفق على ملك بل على حر، وفيما يأتي المستغل يدعي أنَّه أنفق على ملكه وأيضًا فيما يأتي لا يرجع عليه بالغلة وفيما هنا يرجع عليه بها. قاله البناني. وقال عبد الباقي: وظاهر قوله "بخلاف" لخ سواء استعمل بأجر أم لا، لكن إن استعمل بأجر ولم يدفع خير ربه بين إجازة الأجر وأخذه وبين رده وأخذ أجرة المثل، وكذا لو دفع له وهو قائم بيده فإن أتلفه ففي رجوع مستحقه على مستعملة وعدمه وهو ظاهر المدونة قولان كما في الشارح، وظاهر المص كظاهر المدونة فلو استأجره إنسان فيما يعطب فيه وعطب فينبغي أن يضمنه كما في اللقيط المذكور، بقوله:"وضمنه إن أرسله إلا لخوف" كمن استأجره فيما يعطب فيه أي وعطب فيضمن قيمته، وقد يفرق بأن مستأجر المستحق استأجره ممن له التصرف كتصرف المالك في ملكه بخلاف مستأجر اللقيط. انتهى. قوله: وظاهر المص كظاهر المدونة لخ، قال البناني: غير صحيح، بل ظاهر المص الرجوع سواء استعمل بأجر أم لا، وهو خلاف ظاهر المدونة لأنها فرضت المسألة فيما إذا استعمله بغير أجر. انظر لفظها في المواق. أهـ. وقال المواق من المدونة: لو نزل عبد ببلد فادعى الحرية فاستغله رجل إلى آخر ما مر قريبا.

وله هدم مسجد قال الخرشي: يعني أن من بني مسجدا في أرض ثمَّ استحقها شخص فللمستحق أن يهدم البناء أي له طلب الباني بأن يهدم بناءه، فإذا هدمه فإنَّه يلزمه أن يجعله في مسجد آخر لأنه خرج منه لله تعالى على وجه التأبيد، فلو أخذ قيمته كان ذلك بيعا للحبس، وسواء بنى بوجه شبهة أو غصب. أهـ المراد منه. وقال عبد الباقي: وله أي لمستحق عرصة هدم مسجد بني فيها بوجه شبهة عند ابن القاسم ولا يعطي قيمته ليلًا يباع الحبس، ورجح اللخمي وعبد

ص: 561

الحق قول ابن القاسم كما ذكره ابن ناجي وأولى عنده ما بني غصبا، وخصص سحنون الهدم بما بني غصبا، وأما ما بني بشبهة فلا يهدم ويقال للمستحق: أعطه قيمة بنائه قائما ويجعلها في مسجد آخر، فإن أبى قيل للباني أعطه قيمة الأرض فإن أبى كانا شريكين، وحينئذ فإن احتمل القسم وكان فيما ينوب الحبس ما يكون مسجدًا قسم، فإن لم يحتمل القسم أو لم يكن فيه لمن بنى ما يكون مسجد بيع وجعل أي ما ينوب ذا الحبس في مثله. قاله أبو الحسن. ورجح أبو عمران قول سحنون لأنَّ الحبس قد يباع للضرورة، ففي هدم مسجد بني بوجه شبهة قولًا ابن القاسم وسحنون، وقوله: ويجعلها في مسجد آخر لعله الأولى وإلا فالذي لابن عرفة في حبس آخر أي مسجد أو غيره، ثمَّ ما يهدم يجعل المستحق منه الأنقاض في مسجد آخر فإن لم يكن في موضعه مسجد نقل ذلك النقض إلى أقرب المساجد إليه ويكون الكراء على نقله منه، ويجوز لمن أخذه في كرائه ملكه. نقله الحطاب عن أبي الحسن. وينتفع المستحق بالبقعة انتفاع الأملاك هذا ظاهره، وشق التخيير الثاني من المص هو ترك البقعة للباني مجانا؛ أي للمستحق الهدم وترك ما استحقه مجانا. أهـ. وقال الخرشي: ثمَّ على القول بأن ما بني مسجدا بوجه شبهة يأخذ الباني قيمته يعني وهو قول سحنون، فإنَّه يكون ملكا لمن دفع قيمة بنائه قائما ينتفع به فيما يشاء. انتهى.

وإن استحق بعض فكالمبيع يعني أن من اشترى سلعا متعددة في صفقة واحدة فاستحق بعضها، حكم ذلك كحكم المبيع المتعدد إذا تعيب بعضه فينظر، فإن كان المستحق وجه الصفقة نقضت كلها وحرم التمسك بالباقي. ورُجِعَ للتقويم يعني أنَّه إذا كان المبيع المستحق بعضه مقوما فإنَّه يرجع في معرفة البعض المستحق هل هو وجه الصفقة أولًا للتقويم؟ فإن كان المستحق وجه الصفقة بأن كان أكثر من نصف القيمة نقضت الصفقة كلها وحرم التمسك بالباقي كما عرفت، وإن لم يكن وجه الصفقة بأن كانت قيمة المستحق نصف قيمة الجميع فدون فإنَّه يلزم المشتري التمسك بالباقي والرجوع بمناب المستحق، وهذه المسألة قد تقدم للمص ذكرها في باب البيع فذكرها هناك بطريق الاستطراد وهنا بطريق الأصالة.

ص: 562

البناني: حاصل استحقاق البعض أن تقول: لا يخلو إما أن يكون شائعًا أو معينا، فإن كان شائعًا مما لا ينقسم وليس من رباع الغلة خير المشتري في التمسك والرجوع بحصة المستحق من الثمن وفي رده لضرر الشركة، سواء استحق الأقل أو الأكثر، وإن كان مما ينقسم أو كان متخذا للغلة خير في استحقاق الثلث ووجب التمسك فيما دونه، وإن استحق جزء معين فإن كان مقوما كالعروض والحيوان رجع بحصة البعض المستحق بالقيمة لا بالتسمية وإن استحق وجه الصفقة تعين رد الباقي، ولا يجوز التمسك بالأقل، وإن كان مثليا فإن استحق الأقل رجع بحصته من الثمن وإن استحق الأكثر خير في التمسك والرجوع بحصته من الثمن وفي الرد، قال في المدونة: ولو كان ما ابتاع مكيلا أو موزونا فإن استحق القليل منه رجع بحصته من الثمن ولزمه ما بقي، وإن كان كثيرا فهو مخير في أن يحبس ما بقي بحصته من الثمن أو يرده، وكذلك يخير في التمسك والرد في جزء شائع من الثمن لأنَّ حصته من الثمن معلومة قبل الرضا به. أهـ.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: قوله: فإن كان شائعًا مما ينقسم أو كان متخذا للغلة خير في استحقاق الثلث لخ مخالف لما مر أن الكثير في المثلي والدار الواحدة الثلث، وفيما تعدد من الدور ما زاد على النصف كالحيوان والعروض والنصف في الأرض كثير. أهـ. وقال الرهوني: قول البناني خير في استحقاق الثلث فيه نظر؛ لأنَّ التخيير في استحقاق الثلث خاص بالدار الواحدة المتخذة للسكنى. راجع تحرير المسألة فيما قدمناه في العيوب عند قوله: "أو استحق شائع" لخ. أهـ.

تنبيه: قوله: "ورجع للتقويم" جعله غير واحد مرتبا على ما إذا استحق غير وجه الصفقة وهو خلاف ما قررته به من أنَّه عام فيما إذا استحق وجه الصفقة وفيما إذا استحق ما دونه؛ لأنه لا يعرف وجه الصفقة إلا بالتقويم ولا يرجع في ذلك إلى التسمية، قال عبد الباقي: وإن كان غير وجهها تمسك بالباقي ورجع فيه للتقويم؛ أي نظر لقيمته فيتمسك به بقيمته ولا يرجع فيه لما سمي للجميع حين شرائه قبل الاستحقاق؛ لأنَّ بائعه للمشتري كان من حجته أن يقول بعته بجملته يحمل بعضه بعضا، فلو رجع للتسمية لكان فيه غبن على المشتري المستحق من يده غير وجه الصفقة ولو سكتا، لا إن شرطا الرجوع للتسمية كما قدمه المص في فصل الخيار بقوله:

ص: 563

"وتلف بعضه واستحقاقه كعيب به ورجع للقيمة لا للتسمية وصح ولو سكتا لا إن شرطا الرجوع لها" فذكره هناك استطرادا وهنا بطريق الأصالة.

وعلم مما قررنا أن قوله: "فكالمبيع" أي المعيب المتقدم في الخيار، وأن قوله:"ورجع للتقويم" مرتب على ما إذا استحق غير وجه الصفقة. أهـ. وقوله: "ورجع للتقويم" أي لا للتسمية كما عرفت، قال المواق من المدونة: قال مالك: من ابتاع سلعا كثيرة صفقة واحدة فإنما يقع لكل سلعة منها حصتها من الثمن يوم وقعت الصفقة، ومن ابتاع صبرة قمح وصبرة شعير جزافا في صفقة واحدة بمائة دينار على أن لكلّ صبرة خمسين دينارا أو رقيقا أو ثيابا على أن لكل عبد أو ثوب من الثمن كذا وكذا، فاستحقت إحدى الصبرتين أوأحد العبيد أو أحد الثياب فإن الثمن يقسم على جميع الصفقة، ولا ينظر ما سميا من الثمن لأنه لم يبع هذه بكذا إلا على أن الأخرى بكذا فبعضها يحمل بعضا. أهـ المراد منه.

تنبيه آخر: قد مر قول عبد الباقي: فلو رجع للتسمية لكان فيه غبن على المشتري، قال الرهوني: يعني والمستحق جيد فإن كان رديا فالغبن على البائع. انظر التاودي. أهـ.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: قوله: فإن كان رديا فالغبن علي البائع، لا يطرد ما قال. تأمل. والله تعالى أعلم.

وله رد أحد عبدين استحق أفضلهما بحرية يعني أن من اشترى عبدين صفقة واحدة ثمَّ استحق أفضلهما بحرية، للمشتري أن يرد أحد العبدين المذكورين أي له رد الباقي منهما، قال الحطاب: كذا قال أبو سعيد في تهذيبه: ومن ابتاع عبدين في صفقة واحدة فاستحق أحدهما بحرية بعد أن قبضه أو قبل، فإن كان وجه الصفقة فله رد الباقي، وإن لم يكن وجهها لزمه الباقي بحصته من الثمن. أهـ. وقد تعقب على أبي سعيد في قوله: فله رد الباقي، قال الشيخ أبو الحسن: ليس في الأمهات فله رد الباقي وإنما فيها رد الباقي، وهذه أي عبارة أبي سعيد متعقبة لأنَّ ظاهره له الرد وله التماسك، فيكون كقول ابن حبيب وأشهب. انتهى. وما ورد على أبي سعيد يرد على المص، وقوله:"بحرية" وكذلك برق، وقد دخل في قوله: "وإن استحق بعض

ص: 564

فكالمبيع" وإنما نبَّه عليه لأنه قد يتوهم في هذه أنها صفقة جمعت حلالا وحراما، فترد كلها لأنهما هنا لم يدخلا على ذلك. والله أعلم. اهـ كلام الحطاب.

وقال الخرشي: اعلم أنه لا فرق في الاستحقاق بين أن يكون بحرية أو بملك أو بتدبير أو بولادة أمة، ثم قال: فكلام المؤلف مشكل لأن لفظة له تقتضي التخيير، فإما أن يقال له الرد وله التمسك بالباقي بجميع الثمن، وإما أن اللام بمعنى على. اهـ. وقال عبد الباقي: وله رد أحد عبدين اشتراهما صفقة استحق أفضلهما وهو ما فاق النصف بحرية وله هو التمسك بالباقي بجميع الثمن، أو يحمل على ما إذا فات الباقي أو اللام بمعنى على، فلا يخالف قوله: في الخيار ولا يجوز التمسك بأقل استحق أكثره أي لأنه وجه الصفقة. اهـ. قوله: أو يُحمل على ما إذا فات الباقي نحوه في الخرشي. البناني: لا معنى له إذ كيف يتصور رده مع فواته. انتهى.

كإن صالح عن عيب بآخر تشبيه في قوله: "وإن استحق بعض فكالمبيع" يعني أنه إذا اشترى شخص عبدا ثم اطلع على عيب فيه قديم فصالح عن عيب ذلك العبد بعبد آخر فملك العبدين ثم استحق أحدهما فله الرد كالبيع أي فينظر في المستحق منهما، فإن كان وجه الصفقة نقضت كلها وإن لم يكن وجهها وجب التمسك بالباقي والرجوع بمناب المستحق من الثمن، قال عبد الباقي: وهل يجوز الصلح عن العيب قبل معرفة ما ينوبه من الثمن؟ وهو ظاهر المدونة لأنه وإن كان الصلح بيعا لكن يغتفر فيه الغرر؛ لأن اللاحق للعقد كالواقع فيه، فكأن البيع على المبيع وعلى الصالح به ابتداء بالثمن المعين أولا تأويلان، قلت: مقتضى البناء المذكور أنه إذا وقع الصلح بعد زمن طويل من البيع أنه يمتنع قبل معرفة ما ينوب العيب من الثمن باتفاق التأويلين. واختلف الشيوخ هل يقوم العبد الأول مع الثاني المأخوذ عن العيب؟ فيقومان معا يوم الصلح لأنه يوم تمام قبضهما فيعلم ما ينوب الباقي من الثمن بعد استحقاق الآخر، أو يقوم الأول يوم البيع، وأما الثاني فيقوم يوم الصلح بلا خلاف في ذلك تأويلان، قال البناني: هذه النسخة بكاف التشبيه هي الصواب وهو مشبه بما قبله لأنهما في المدونة سواء، وفي بعض النسخ: لا إن صالح لخ بحرف النفي وهي فاسدة. اهـ. وقوله: تأويلان قال التاودي: الأول نقله عياض عن أبي عمران، والثاني ذكره عبد الحق وعابه أبو عمران، قال: لأن ابن القاسم يقول: كأنهما في صفقة واحدة

ص: 565

وهذا يجعلهما في صفقتين. اهـ. وقال الرهوني: الأول لأبي عمران، والثاني لعبد الحق كما في التنبيهات. ونقله ابن ناجي وغيره لكن عياض أبهم عبد الحق ثم قال الرهوني: وتأويل أبي عمران عندي أقوى لأنه ظاهر المدونة. انظر نصها في المواق. ولأنه الجاري على قول ابن القاسم وهو المشهور أن الصلح على ترك القيام بالعيب مبايعة بعد فسخ الأول، راجع ما قدمناه عند قوله في الصلح:"أو إجارة" والله أعلم. اهـ.

وقال المواق من المدونة: قال مالك: من اشترى عبدا فأصاب به عيبا فصالحه البائع على العيب على عبد آخر دفعه له جاز وكأنهما في صفقة، فإن استحق أحدهما فليفض الثمن عليهما وينظر هل وجه الصفقة أم لا كما وصفنا فيمن اشترى عبدين فاستحق أحدهما. اهـ.

وإن صالح فاستحق ما بيد مدعيه رجع في مقر به لم يفت صورتها أن يدعي زيد على عمرو بجمل مثلا معين فأقر له به عمرو، ثم صالح المقر له المقر على قطيفة مثلا ثم استحقت القطيفة من يد زيد المقر له، فإن المقر له يرجع على عمرو المقر في الجمل المقر به إن لم يفت الجمل بحوالة سوق فأعلى، وإلا بأن فات بحوالة سوق فأعلى فيرجع في عوضه أي عوض شيئه المقر به من قيمة أو مثل. قال عبد الباقي: وإلا بأن فات ولو بحوالة سوق، ففي عوضه وهو قيمته إن كان مقوما ومثله إن كان مثليا. اهـ. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: من ادعى شيئا بيد رجل ثم اصطلحا على الإقرار على عوض فاستحق ما أخذ المدعي فليرجع على صاحبه، فليأخذ منه ما أفر له به إن لم يفت، فإن فات بتغير سوق أو بدن وهو عرض أو حيوان رجع بقيمته حكمه حكم البيع، ابن يونس تحصيله أنه لا خلاف إذا استحق ما بيد المدعي والصلح على الإقرار أنه يرجع في شيئه أو قيمته أو مثله إن فات كالبيع. اهـ.

كإنكار تشبيه في الرجوع بالعوض وإن اختلف العوض في المسألتين؛ إذ الرجوع في الأولى بعوض المصالح عنه، وفي الثانية بعوض المصالح به، وهذا يفرقه ذهن السامع لأن في الإقرار يثبت الشيء له، وأما في الإنكار فلم يثبت فكيف يتوهم أنه يأخذه؟ فيتعين أن يكون المراد عوض الشيء المصالح به: وبهذا يندفع اعتراض المواق وابن غازي والله تعالى أعلم. ومعنى كلام المص أن الصلح إذا كان عن إنكار فاستحق ما بيد المدعي، فإن المدعيَ يرجع بعوض ما صولح به أي بقيمته إن

ص: 566

كان مقوما ومثله إن كان مثليا. هذا قول سحنون أنه يرجع بقيمة المصالح به أو مثله حيث استحق. ابن يونس: وهو الصواب، وإلى تصويب ابن يونس أشار بقوله: على الأرجح وعلى هذا القول الذي رجحه ابن يونس لا يرجع المدعي إذا استحق ما بيده إلى الخصومه، وإنما يرجع بعوض ما صولح به كما عرفت، وقال ابن اللباد: المعروف من قول أصحابنا إذا استحق ما بيد المدعي والصلح على الإنكار أنهما يرجعان إلى الخصومة. قاله الشارح.

وأشار إلى مفهوم قوله فاستحق ما بيد مدعيه بقوله: وإن استحق ما بيد المدعى عليه بعد أن صالح عنه المدعي فينظر في ذلك، فإن كان الصلح واقعا في الإنكار فإن المدعى عليه يرجع على المدعي بما دفع له فيأخذه منه إن كان قائما، وإلا بأن فات بحوالة سوق فأعلى فإنه يرجع على المدعي بقيمته أي بقيمة ما دفع له أو مثله إن كان مثليا، وإن كان الصلح قد وقع في الإقرار واستحق المقر به فإن المدعى عليه المقر لا يرجح على المدعي بشيء لإقراره أنه ملكه، وذلك يتضمن أن أخذ المستحق له منه ظُلم ومن ظلم لا يظلم، ولذلك علل المص عدم رجوعه عليه بقوله: لعلمه أي لا يرجع لأجل علمه صحة ملك بائعه أي بائع المقر به، ومعنى بيعه مصالحته عنه بما أخذ في مقابلته إذ الصلح على غير المدعى بيع، وفي بعض النسخ: كعلمه صحة ملك بائعه بكاف التشبيه فتكون مسألة مستقلة، ومعناها أن من اشترى شيئا من شخص والمشتري يعلم صحة ملك بائعه ثم استحق ذلك الشيء من يد المشتري فإنه لا يرجع بثمنه على بائعه عند ابن القاسم، لعلمه أن المستحق ظلمه فيما أخذه من يده، وقال أشهب: يرجع ونسخة الكاف أولى، قال عبد الباقي: وأما عكس كلام المص وهو ما إذا علم صحة عدم ملك بائعه فالمشهور أن له الرجوع بثمنه حيث استحق من يده؛ لأنه إنما قصد المعاوضة ولم يراع علم المشتري لسبق علم البائع وظلمه بالبيع، ومقابله عدم رجوعه. قاله الغرياني ويقدر كأنه وهبه الثمن. اهـ.

وقوله: كعلمه صحة ملك بائعه، قال البناني: ومثل ذلك ما إذا طعن في الشهود الذين استحق بهم لا رجوع له على البائع ولو لم يطعن رجع. قاله ابن سلمون. ونحوه في المعين. انظر المواق. وقال المتيطى في نهايته في أول البيوع: ولو أن المبتاع صرح بتملك البائع للمبيع ثم استحق ما بيده، ففي رجوعه على البائع روايتان: إحداهما له الرجوع عليه ولا يضره إقراره، والأخرى أنه

ص: 567

لا يرجع بشيء. رواها أصبغ وعيسى عن ابن القاسم. وقال ابن العطار: وبالرواية الأولى القضاء. المتيطى: الذي وقع لابن القاسم في العتبية من سماع عيسى أنه إذا أقر المبتاع أن جميع ذلك المبيع للبائع منه ثم استحق من يده لا يرجع على البائع بشيء، وقال أشهب وعبد الملك وسحنون وابن حبيب: لا يمنع ذلك من الرجوع، وهذا اختيار الشيوخ بالأندلس. اهـ. ومثل عبد الباقي للقول الدال على صحة الملك بقوله: كقوله داره من بناء آبائه أو من بنائه قديما لا مجرد تصريحه بالملك مجردا عن القول المذكور، فلا يمنع الرجوع إذا استحقت من يده كما عليه جمع، خلافا لتصحيح ابن عبد السلام عدم الرجوع أيضا.

وإلى القول الأول أشار بقوله: لا إن قال داره يعني أن المبتاع لدار إذا قال هي دار البائع ولم يذكر سبب إضافتها له من كونها من بناء آبائه أو من بنائه قديما ثم استحقت منه، فإن قوله هي داره لم يعلم منه صحة ملك البائع لها فلا يمنع ذلك رجوع المبتاع على البائع بثمنها، وفي المدونة: فيمن له على رجل ألف درهم فحط عنه خمسمائة على أن يأخذ عبده ميمونا بخمسمائة ثم استحق العبد فإنه يرجع بالألف، فقوله: على أن يأخذ عبده ميمونا كقول الموثق ابتاع منه داره. اهـ. وقد علمت أن ابن عبد السلام قال: الأصح من القولين عدم الرجوع.

وحاصل ما أشار إليه المص إذا قال داره وعبده ولم يذكر سبب ذلك أن له الرجوع وهذا هو المعتمد، وأما لو قال من بنائه قديما أو بناء ابائه، فذكر عن ابن القاسم أنه لا يبطل رجوع المبتاع بقوله: هي داره إلا أن يقر أنها من خطة آبائه وأجداده فيبطل دركه حينئذ، وكذلك في العبيد والدواب لا يبطل دركه إلا أن يقر أن ذلك من تلاد البائع فيبطل دركه. انتهى. ونحوه في الوثائق المجموعة، وقوله: من خطة آبائه أي من بناء آبائه، وقوله: من تلاده أي ولد عنده. والله تعالى أعلم. مثل علم صحة الملك ما إذا طلب الإعذار في البينة ليجرحها فعجز عن الطعن فيها فإنه لا يرجع إلا إذا كان جاهلا بذلك كما ذكره التسولي عن ابن رحال.

تنبيهات: الأول قوله: "كعلمه صحة ملك بائعه" قد علمت أن عبد الباقي فرضه فيما إذا ذكر سببب ملك الدار مثلا وهو الذي قررته به، وقررت قوله:"داره" بأنه لم يذكر سبب الملك، وتحقيق القول في ذلك أن تقول في العلم بصحة الملك قولان: أحدهما لأشهب وعبد الملك وسحنون

ص: 568

وابن حبيب أن ذلك لا يمنع من الرجوع وهو اختيار الشيوخ بالأندلس، ثانيهما لابن القاسم فإنه فصل فوافقهم فيما إذا بين السبب وخالفهم فيما إذا لم يبين السبب، فقال بعدم الرجوع، والذي يظهر من النقول ترجيح قول غير ابن القاسم، وقد علمت مما أشرت إليه أن قول المبتاع داره أو عبده مجردا عن ذكر السبب داخل في علم صحة الملك، خلاف ما درج عليه المص.

وها أنا أذكر ما حَضرني من النقول في ذلك، فأقول: في الرهوني عن البيان: وسألت ابن القاسم عن رجل ابتاع عبدا فادعاه رجل في يديه فاستحقه وأخرجه من يديه أو دارا فشهد المبتاع أنها دار البائع ودار أبيه وجده من قبلهم خطتهم، هل يرجع على صاحبه بالثمن في هذا كله وصاحبه يقول أنت تعلم أنما بعتك مالي وإنما هذا الظالم نزع هذا الحق من يدك؟ قال: لا أرى أن يرجع عليه في جميع هذه الأحوال بشيء إذا كان يعلم أنها خرجت من يده بظلم وأن الحق حق البائع، قال القاضي: لأشهب في المجموعة أن له أن يرجع على البائع وإن علم صحة الظلم الذي قام به المستحق، ولا يضره ذلك لأن البينة قد شهدت أن البائع باع ما ليس له، ومثله لسحنون في نوازله من كتاب جامع البيوع، ولعيسى بن دينار في نوازله من كتاب الدعوى والصلح، ولكلا القولين وجه من النظر. اهـ المراد منه.

وقال عباس في وثائقه: سألت عن ذلك محمد بن إدريس الفقيه فذكر أن ابن القاسم لا يبطل رجوع المبتاع بذلك إلا أن يقر أنها من خطة آبائه وأجداده فيبطل دركه حينئذ، وكذلك في العبيد والدواب لا يبطل دركه إلا أن يقر أنها من تلاد البائع فيبطل دركه، ونحوه في الوثائق المجموعة. اهـ. وفي معين الحكام: إذا صرح المبتاع بصحة ملك المبيع لمن باعه ثم طرأ استحقاق فهل له رجوع على البائع في ذلك أم لا؟ في ذلك روايتان، إحداهما أنه يرجع على البائع ولا يضره إقراره، والأخرى أنه لا يرجع عليه بشيء. رواها أصبغ وعيسى عن ابن القاسم.

قال ابن العطار: وبالرواية الأولى القضاء، ثم قال: وروي عن ابن القاسم أنه لا يبطل رجوع المبتاع بذلك إلا أن يقر أنه من خطة آبائه وأجداده فيبطل دركه أو يقر أنها من تلاده، وفي الحطاب عن ابن الهندي أن محل الخلاف إذا لم يكن في الوثيقة على سنة المسلمين ومرجع دركهم وإلا فله الرجوع قولا واحدا، ومثله لابن عاشر وذلك إذا لم يكن من تلفيف الموثق وإلا فوجوده

ص: 569

كعدمه، وقد جرت العادة اليوم بكتبه تلفيفا فلابد من سؤال الشاهدين إن أمكن وإلا فلا يرتفع به الخلاف. والله أعلم. اهـ كلام الرهوني.

الثاني: من قيم عليه في شيء فلا يقوم على من باع منه قبل الحكم ومن كتاب ابن سحنون: سأل حبيب سحنونا فيمن اعترف أي استحق من يده شيء وثبت عليه بشاهد واحد فيريد الشهود عليه أن يأخذ على من باع ذلك ليلا يحكم عليه في وقت يغيب هذا فيه لا حميل له عليه ولا يعرض له حتى يحكم عليه. اهـ. انظر الحطاب.

الثالث: من ادعى الحرية وذكر أنه من بلد كثر فيه بيع الأحرار ووافقه المبتاع على أنه اشتراه من ذلك البلد، فقال ابن سهل: قال محمد بن الوليد ويحيى بن عبد العزيز: يكلف المشتري إثبات رقه. وقاله سحنون. وقال ابن لبابة: البينة على مدعي الحرية، وقال ابن زرب: على السيد الإثبات على صحة ابتياعه ممن كان مالكا له، وبذلك أفتى في فتنة ابن حفصون. قاله الحطاب.

الرابع: إذا ادعت الحرية ثم أقرت بالرق، فقال ابن سهل: قالت طائفة لا يقبل رجوعها لأنها استحقت بدعواها فليس لها أن ترق نفسها، وقالت طائفة: يقبل رجوعها وتبقى مملوكة لسيدها، قال ابن عتاب: وبه أفتيت واختاره القاضي ابن بشير، وفي سماع ابن القاسم: قال مالك يسمع نزوعها إلا أن يخاف أنها نزعت من خوف وأرادت ذكره واستحيت منه. قاله الحطاب.

الخامس: إذا اعترف المملوك بالرق ثم ادعى الحرية هل يقبل منه ذلك أولا؟ في ذلك قولان، وعلى أنه يقبل منه فإذا ثبت ذلك وكان البائع عديما فهل يرجع بالثمن؟ فيه خلاف. اهـ. قاله الحطاب.

السادس: إذا شهد الشهود في الحرية على العلم هل يفيد ذلك أم لا؟ في ذلك خلاف. اهـ. قاله الحطاب.

السابع: إذا أراد وضع قيمة العبد المستحق والذهاب به إلى البلد الذي فيه بائعه، فله ذلك في المستحق برق لا حرية. اهـ. قاله الحطاب.

ص: 570

وفي عرض بعرض بما خرج من يده أو قيمته قوله: "وفي عرض" أي ورجع في استحقاق عرض أو في بيع عرض فهو متعلق برجع وبعد "في" مضافٌ مقدر، وقوله:"بعرض" متعلق "ببيع أو ببيع" وقوله: "بما" متعلق "برجع"، قال الخرشي: يعني أن من عاوض على عرض بعرض، مقوما كان أو مثليا، معينا أو مضمونا ثم استحق أحدهما بملك أو بحرية فإن المستحق من يده يرجع بما خرج من يده إن لم يفت، فإن فات ولو بحوالة سوق فإنه يرجع بقيمته إن كان مقوما أو بمثله إن كان مثليا، ولا يرجع بقيمة العرض المستحق كالرد بالعيب، فـ"أو" في كلامه تفصيلية. اهـ. والقيمة يوم البيع. قاله في المدونة. قال أبو الحسن: لأن البيع صحيح وإنما يراعى يوم القبض في الفاسد أو الهبة على أحد القولين.

واعلم أن العرض الذي فيه القيمة إنما هو المعين، وأما الموصوف في الذمة فإنه يرجع بمثله مطلقا مقوما كان أو مثليا، قال عبد الباقي: ورَجَع في بيع عرض بعرض مقوم أو مثلي معين ثم استحق أحدهما بما خرج من يده وهو عرضه الذي بذله إن وجده، لا فيما أخذ بالاستحقاق من يده وهو عرض غيره أو قيمته إن لم يوجد وكان مقوما وإلا فبمثله، فأراد بالعرض ما قابل النقد الذي لا يقضى فيه بالقيمة، فالنقد الذي يقضى فيه بالقيمة كالحلي من جملة العرض هنا، وقولي: معين هو قول ابن عبد البر، وأما غير المعين فليس فيه إلا المثلي مطلقا. اهـ. قوله: إن وجده أي وجده على حاله إذْ يفوت بحوالة سوق فأعلى كما في المدونة، وحكم العيب كالاستحقاق. انظر نصها في المواق. قاله البناني. وقال المواق من المدونة: قال مالك: من باع عبدا بعبد فاستحق أحدهما من يد مبتاعه أو رده بعيب فإنه يرجع في عبده الذي أعطاه فيأخذه إن وجده، وإن فات بتغير سوق أو بدن لم يكن له إلا قيمته يوم الصفقة، ولا يجتمع لأحد في هذا خيار في أخذ السلعة وتضمينها. اهـ. ثم استثنى ست مسائل لا يرجع فيها من استحق منه بما خرج من يده وإنما يرجع بما استحق من يده، فقال: إلا نكاحا يعني أن من تزوج امرأة بصداق ثم استحق من يدها ترجع عليه المرأة بقيمته إن كان مقوما أو بمثله إن كان مثليا ولا ترجع فيما خرج من يدها وهو بضعها، ومثل الاستحقاق في هذه المسائل العيب أو الأخذ بالشفعة، ويضاف إلى المسائل الست سابعة وهي: صلح الخطإ عن إنكار، فإذا ضربت ثلاثا في سبع كان الحاصل إحدى وعشرين، فإذا أصدقها

ص: 571

صداقا فتعيب فإنها ترجع بقيمة القوم أو بمثل المثلي ولا ترجع في بضعها، وإذا أصدقها شقصا من دار مشتركة فأخذه الشريك بالشفعة فإنها ترجع على زوجها بقيمة الشقص ولا ترجع في بضعها فتلك ثلاثة.

وخلعا عطف على صداقا فهي إحدى المسائل السبع وفيها أيضا ثلاث صور: يعني أن المرأة إذا خالعت زوجها على مال ثم استحق من يده فإنه يرجع عليها بقيمة المقوم أو مثل المثلي على ما مر في الخلع، وكذا لو تعيب ما خالعته به فإنه يرجع عليها بقيمة القوم أو مثل المثلي، ولا يرجع في العصمة التي خرجت من يده، وكذا لو خالعته على شقص من دار مشتركة فأخذه الشريك بالشفعة فإنه يرجع عليها بقيمة الشقص، ولا يرجع في العصمة التي خرجت من يده. وهذه ثلاث مضافة للثلاث قبلها. فتلك ستة.

وصلح عمد هذه أيضا إحدى المسائل السبع؛ يعني أن المصالح به إذا كان عن عمد كان على إقرار أو إنكار ثم استحق المصالح به أو تعيب أو أخذ بالشفعة، فإن المجني عليه يرجع بقيمة ما صولح به أو مثله ولا يرجع للقصاص ولا إلى الخصومة، وهذه ثلاث مضافة للست قبلها فتلك تسعة، وكذا لو صالح شخص شخصا على إنكار في الخطإ ثم استحق المصالح به أو ظهر به عيب قديم أو أخذ بالشفعة، فإن المجني عليه يرجع بقيمة المصالح به أو بمثله ولا يرجع إلى الخصومة فتلك اثنتا عشرة صورة.

ومقاطعا به عن عبد هذه إحدى المسائل السبع، ومعنى كلامه أن العبد إذا قاطع سيده أي اشترى نفسه منه بمال ثم استحق من يد السيد أو ظهر به عيب قديم أو أخذ بالشفعة فإن السيد يرجع بقيمة ما قوطع به أو بمثله إن كان مثليا، ولا يرجع في عين العبد الذي قاطعه به ولا في قيمته وهذه خمس عشرة صورة قال عبد الباقي: وعبدا مقاطعا به على عبد أي قاطع عبد سيده أي اشترى نفسه منه بعبد موصوف في ملكه أو مملوك لغيره معينا أو موصوفا فإنه يرجع عليه سيده بعوضه وتم عتقه، وأما إن قاطعه بعبد معين يعني في ملكه ثم استحق فلا يرجع عليه سيده بشيء، وكأنه مال انتزعه سيده منه وأعتقه وليس من النظائر السبع حينئذ. اهـ.

ص: 572

قوله: بعبد موصوف لخ، قال البناني: قد مر له أن الاستثناء إنما هو من المعين، أما الموصوف فالرجوع بمثله في هذا وفي غيره لا بقيمته، وحينئذ لا يصح حمل المص عليه هنا، وإنما يحمل على ما إذا قاطعه على عبد معين في ملك الغير كما في المدونة، ونصها: وإذا بعت عبدك من نفسه بأمة له ثم استحقت أو وجدت بها عيبا لم يكن لك ردها عليه، وكأنك انتزعتها منه وأعتقته ولو بعته نفسه بها وليست له يومئذ رجعت عليه بقيمتها لا بقيمته، كما لو قاطعت مكاتبك على أمة في يده فقبضتها وأعتقته وتمت حريته ثم استحقت أو وجدت بها عيبا فإنك ترجع عليه بقيمتها دينا وهذا كالنكاح بها بخلاف البيوع. ابن يونس: لأنه في المكاتب لم يقدر على انتزاعها منه. اهـ.

فهذه المسألة على ثلاثة أقسام: الأول أن يعتق عبده على عبد موصوف فهذا يرجع بمثله، الثاني على عبد معين في يد غيره فيرجع بقيمته، الثالث على معين في ملكه فلا رجوع له. فتعين حمل كلام المص على معين في يد غيره، وقد نقل الطخيخي عن ابن المواز أنه قال: رجع ابن القاسم إلى أن ما بيد العبد كغيره فيرجع بالقيمة مطلقا، وقاله أشهب، وعلى هذا فكلام المص يحمل على المعين مطلقا في يده أو في يد غيره.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: ولا مانع من شمول المص للمعين وغيره مثليا أو غيره بتقدير أو مثله بعد أو قيمته. والله أعلم.

أو مكاتبا هذه أيضا إحدى المسائل السبع يعني أن السيد إذا قاطع عبده المكاتب على مال عن كتابته ثم استحق أو تعيب أو أخذ بالشفعة، فإن السيد يرجع على الكاتب بقيمة ما قاطعه به عن كتابته ثم استحق أو تعيب أو أخذ بالشفعة أو بمثله، ولا يرجع بما خرج من يده وهو الكتابة وهذه ثمان عشرة صورة.

أو عمرى يعني أن المعمر بالكسر أو ورثته إذا صالح المعمر بالفتح على مال ثم استحق المصالح به من يد العمر بالفتح أو تعيب أو أخذ بالشفعة فإن المعمر بالفتح يرجع على المعمر بالكسر أو ورثته بقيمة المصالح به أو بمثله ولا يرجع في منافع عمراه، وهذه إحدى وعشرون صورة ولابن غازي رحمه الله تعالى:

ص: 573

بضعان صلحان وعتقان معا

عمرى لأرش عوض بها ارجعا

قال عبد الباقي: أو عبدا مقاطعا به معينا أم لا عن كتابة مكاتب كان في ملكه أم لا فاستحق أو عبدا عن عمرى دار أعمرها له ثم صالحه المعمر بالكسر أو ورثته به فاستحق العبد من يد المعمر بالفتح فلا يرجع في هذه المسائل السبع بالعرض الذي خرج من يده، كالبضع في الأول والعصمة في الثاني، بل يرجع بعوض ما استحق من يده إلا المقاطع به المعين عن عبد فلا يرجع على العتيق بشيء كما مر؛ لأنه كمال انتزعه وتم عتقه كما علل به في المدونة وليست من النظائر السبع حينئذ، وإنما لم يكن الكاتب كالعبد المقاطع في هذا لأنه ليس له انتزاع ماله بخلاف المقاطع، واحترز بصلح العمد عن الصلح عن الخطإ بشيء فاستحق من يد آخذه فإنه يرجع للدية لا لما خرج من يده، وبما ذكرناه من إطلاقه على البضع والعصمة والجراحات أنها عرض يعلم أن الاستثناء متصل، ويحتمل الانقطاع بناء على أن هذه المذكورات ليست عرضا، وتكلم المص في هذه السبع على ما إذا استحق ما أخذه وحكم ما أخذ منه في السبع بشفعة أو رد بعيب كذلك، فالصور الجارية في هذه إحدى وعشرون من ضرب سبع في ثلاث استحقاق وأخذ بشفعة ورد بعيب وتقدمت أيضا في باب الصلح. اهـ كلام عبد الباقي.

وقال الخرشي شارحا لقوله: "أو عمرى" ما نصه: وكذلك من أعمر داره لشخص ثم إن رب الدار صالح المعمر على عبد دفعه رب الدار إليه في نظير منفعتها ثم استحق ذلك العبد من يد العمر بالفتح، فإنه يرجع بقيمة العبد على صاحب الدار ولا يرجع فيما خرج من يده وهو منافع الدار ولا بعوض ما خرج من يده، وورثة المعمر بالكسر يتنزلون منزلته في جواز معاوضتهم على المنفعة وليس للأجنبي ذلك. اهـ. وقال المواق من المدونة: قال مالك: إن تزوجت المرءة بشقص من دار فأراد الشفيع أخذه فليأخذه بقيمة الشقص لا بصداق مثلها، ومن نكح بعبد فاستحق أو وجدت به المرءة عيبا فإنها ترده وترجع على الزوج بقيمة العبد لا بمهر مثلها وتبقى له زوجة والخلع بهذه المنزلة، قال أشهب: وسواء استحق بحرية أو بملك فإنما ترجع بقيمته. اهـ. قوله: لا بمهر مثلها لخ هو معنى قول الخرشي: لا بما خرج من يدها وهو البضع أو قيمته، ولا بما خرج من

ص: 574

يده وهو العصمة أو قيمتها. اهـ. وقال المواق من المدونة: قال مالك: من صالح عن دم عمد على عبد جاز ذلك، فإن استحق العبد رجع بقيمته إذ لا ثمن معلوم يعوضه ولا سبيل إلى القتل.

وإن أنفذت وصية مستحق برق لم يضمن وصي وحاج يعني أنه إذا أوصى شخص بوصية كحج أو غيره ثم مات وبيعت تركته وأنفذت وصيته، ثم بعد ذلك استحق هذا الميت الذي أنفذت وصيته برق، فإن الوصي الذي صرف ماله في مصرفه من وصية وغيرها لم يضمن، وكذلك لا يضمن من حج عنه، ويشترط في نفي الضمان في المسألتين أن يكون هذا الميت الذي أنفذت وصيته وحج عنه قد عرف بالحرية، كما أشار إلى ذلك بقوله: إن عرف بالحرية، ومعنى قوله:"إن عرف بالحرية" أن لا تظهر عليه مخايل الرق. هذا هو الصواب كما شرح به الحطاب والتاودي والرهوني، فقول الخرشي: وغيره مفسرا لقول المص "إن عرف بالحرية" بأن ورث الوراثات وشهد الشهادات وولي الولايات ولم تظهر عليه علامات الرق غير ظاهر، وقد قال عليه التاودي: ليس حصول هذه المذكورات ولا واحد منها بشرط، وإنما الشرط أن لا تظهر عليه مخايل الرق. اهـ. وعبارة الرهوني: الصواب إسقاط ذلكَ والاقتصار على قوله: ولم تظهر عليه مخايل الرق. اهـ.

وقال الحطاب: ويعني بغير المعروف من ظهرت عليه مخايل الرق ومن فيه ريبة أي صفة تؤذن بالرق، وقولي: صرف ماله في مصرفه، قال عبد الباقي: فإن لم يصرفه أو صرفه في غير ما أمر به ضمنه. اهـ. وقوله: "إن عرف بالحرية" قال عبد الباقي: ومفهوم الشرط أنه لو كان غير معروف بها -يعني بالحرية- لضمن لتصرفه في مال غيره وهو كذلك. نص عليه ابن ناجي. نقله عن ال تتائي. قال: ويفهم منه أن الحاج إذا عينه الميت لا يضمن وإن لم يعرف الميت بالحرية، فقوله:"وحاج" يحمل على ما إذا عينه الوصي لا الميت. اهـ المراد منه. وقال الحطاب بعد قوله: ويعني بغير المعروف من ظهرت لخ ما نصه: وأما مع الجهل بحاله فمحمول على الحرية كما قال في آخر كتاب الرجم. اهـ.

وأخذ السيد ما بيع ولم يفت بالثمن يعني أن سيد المعروف بالحرية يأخذ ما كان قائما من تركته لم يبع، وما بيع وهو قائم بيد مشتريه إنما يأخذه بالثمن، قال الحطاب: قال في المدونة: ويأخذ السيد ما كان قائما من التركة لم يبع، وما بيع وهو قائم بيد مبتاعه فلا يأخذه السيد إلا

ص: 575

بالثمن ويرجع بذلك الثمن على البائع. اهـ. قوله: ويرجع بذلك الثمن على البائع، قال أبو الحسن: قال أولا لا يضمن الوصي، قالوا معنى ما تقدم أن الثمن فات وصرفه في مصرفه، ومعنى قوله: ويرجع على البائع أن الثمن قائم بيده. اهـ. يريد أو صرفه في غير ما لم يوص به الميت. اهـ. وقال عبد الباقي: وأخذ السيد المستحق للميت الموصي ما كان قائما من تركته لم يبع وما بيع منها وهو قاثم بيد مشتريه لم يفت، بالثمن متعلق بقوله:"أخذ" فيدفع السيد الثمن لمشتريه، ويرجع السيد على الوصي الذي باع بالثمن الذي دفعه المبتاع له إن كان قائما بيد الوصي أو صرفه في غير ما أمر به شرعا وإلا لم يرجع. اهـ. ثم رجوع السيد على الوصي البائع حيث صرف فيما لم يؤمر به شرعا ولو عديما بأن يتبع به ذمته ولا شيء على المشتري.

كمشهود بموته يعني أنه إذا شهدت البينة بموت شخص ثم تبين أنه حي فإنه يرد له ما أعتق من عبيدة، وما وجده من تركته لم يبع فإنه يأخذه مجانا وما وجده بيع ولم يفت فإنه يأخذه بالثمن الذي بيع به، قال غير واحد: ثم يرجع السيد على البائع بذلك الثمن، فإن وجده عديما فلا شيء له على المشتري.

إن عذرت بينته شرط فيما بعد الكاف؛ يعني أن محل ما ذكر من كون الشهود بموته لا يأخذ ما بيع من ماله إلا بالثمن إنما هو حيث عذرت بينته الشاهدة بموته في دفع تعمد الكذب عنها، كرؤيتها له في معركة القتلى مصروعا فاعتقدت موته أو طعن فلم تتبين لها حياته، أو شهدت على شهادة غيرها فهذا هو الذي يأخذ ما وجده من متاعه لم يبع، وما بيع وهو قائم لم يتغير بالثمن الذي بيع به إلى آخر ما مر. وإلا أي وإن لم يعرف بالحرية في مسألة الميت الموصي المستحق بالرقية ولم تعذر بينة المشهود بموته في المسألة الثانية، فالآخذ لشيء من ماله في المسألتين كالغاصب فيأخذ القائم وثمن الفائت ولا يعطي للمشتري شيئا، ومما يترتب على كونه كالغاصب أن رب المتاع بالخيار، إن شاء أخذ الشيء الذي بيع به متاعه، وإن شاء أخذ متاعه. والحاصل أن من أخذ شيئا من متاعه حكمه حكم الغاصب، وترد عليه زوجته في القسمين أي عذرت بينته أم لا.

ص: 576

تنبيهات: الأول: وقع في شرح عبد الباقي وغيره ما نصه: فإن قيل البينة في حال العذر من البينات العادلة، وإذا شهدت عادلة بموت شخص وتزوجت زوجته آخرَ ودخل بها فإنها تفوت بدخوله كما قدم آخر باب الفقد، حيث قال عاطفا على ما لا تفوت عليه بالدخول:"أو بشهادة غير عدلين" فإن مفهومه أنهما لو كانا عدلين لفاتت بالدخول قلنا: لأن البينة هنا لم تجزم بموته، وأيضا لا تخلو من نوع تفريط، فلذا كانت شهادتها كالعدم بخلافها هناك. اهـ. قوله: فإن قيل البينة لخ نقل مصطفى هذا السؤال، وجوابه عن علي الأجهوري ثم قال: وهذا سهو منه رحمه الله، لقول المص:"ونقض إن ثبت كذبهم كحياة من قتل" لأن المراد ثبوت كذبهم وإن لم يتعمدوه، واستدلاله بكلام المص آخر باب الفقد سهو منه؛ لأن الفرض هناك في غير ما استدل له إذ مراده أنها تزوجت بشهادة غير عدلين ففسخ لكونهما غير عدلين، ثم تبين أنه على الصحة حسبما هو مقرر هناك، فلو تزوجت بشهادة عدلين فلا سبيل لفسخه، فإذا تبين بطلان شهادتهم بحياته نقض الحكم بموته وترد زوجته ولو دخلت، وبهذا قرر علي الأجهوري: كحياة من قتل، فقد اهتدى للصواب هناك وغفل هنا. والكمال لله تعالى. انظر البناني والتاودي.

الثاني: قوله: "كمشهود بموته". قال الرهوني: قال ابن عاشر: قوله "كمشهود بموته" هذه المسألة ينبغي أن يتفطن لها أنها لا استحقاق فيها مع الفوات، وفيها دون فوت الاستحقاق بالثمن، ولقد رأيت فتوى فقيهين بثبوت الاستحقاق في دار بيعت كذلك وبنيت بعد هدمها أن فيها الاستحقاق وجريان خيار المستحق أولا ثم المستحق منه ثانيا والا اشتركا، وذلك كله غرة بمسائل الفقه. انتهى.

الثالث: قال في المدونة: فإن لم تأت البينة بما تعذر به من شبهة فذلك كتعمدهم الزور فيأخذ متاعه حيث وجده، وإن شاء أخذ الثمن الذي بيع به وترد إليه زوجته، وله أخذ ما عتق من عبد أو كوتب أو دبر أو صغير فكبر، وأمة اتخذت أم ولد فيأخذها وقيمة ولدها من المبتاع يوم الحكم كالمغصوبة يجدها بيد المشتري، ونقله مصطفى ثم قال: وبه يظهر لك أن قول المص: "وإلا فكالغاصب" فيه نظر سواء أعدته لمن وجد المتاع عنده أو للمتصرف في المال، أما الأول فلم يجعله

ص: 577

في المدونة كالغاصب كما ترى؛ إذ لو كان كهو لحد ولم يلحق به الولد بل هو كالمشتري من الغاصب ولذا لحق به الولد، وحكمه في المدونة بأخذه الأمة وقيمة الولد جار على القول المرجوع عنه؛ إذ هو الذي أخذ به ابن القاسم كما تقدم، وأما الثاني فكذلك ولا يلزم من قولها كالمغصوب يجدها بيد المشتري الحكم بأنه غاصب، فلو قال المص: وإلا فكالمشتري من الغاصب لأجاد. انتهى. نقله البناني.

الرابع: قوله: "وإلا فكالغاصب" قال الحطاب: أبو الحسن: ويحملون على الكذب حتى يأتوا بالشبهة. اهـ.

وما فات بالثهن هذا مفهوم "لم يفت"؛ يعني أنه إذا فات المبيع في مسألتي من عرف بالحرية ومشهود بموته إن عذرت بينته، فإن السيد والمشهود بموته ليس لهما إلا الثمن الذي بيع به متاعهما على الوصي إن لم يصرفه فيما أمر به شرعا، وأما ما بعد "إلا" فيرجع به فات أم لا، وقوله:"وما فات" قال عبد الباقي وغيره: والفوات في مسألتي المعروف بالحرية والمشهود بموته إن عذرت بينته، لا بحوالة سوق بل بزوال عين أو تغير صفة، كما أشار إليه بقوله: كما لو دبر المشتري عبدا اشتراه من التركة أو كاتبه أو أعتقه.

أو كبر صغير عند المشتري فيأخذه أو الثمن، وكذا لو كانت أمة أولدها المشتري فيأخذها وقيمة ولدها يوم الحكم. البساطي: وذكر التدبير وكبر الصغير يصلح مثالا للأولى والثانية. اهـ. قوله: فيأخذه أو الثمن لخ، وكذا قوله. بعده: فيأخذها وقيمة ولدها لخ هذا غير صحيح: إذ الموضوع من عرف بالحرية ومن عذرت بينته وليس لهما في الفوات إلا الثمن، وإنما الخيار لغيرهما. انظر المواق.

مسألة: قال الحطاب: قال في كتاب المرهون من المدونة: وإذا باع السلطان الرهن ودفع ثمنه إلى المرتهن ثم استحق الرهن وقد فات عند المبتاع أو غاب عليه فلم يوجد، فللمستحق إجازة البيع وأخذ الثمن من المرتهن ويرجع المرتهن بحقه على الراهن. وقاله مالك فيمن باع سلعة فاستحقها صاحبها وقد دارت في أيدي رجال أنه يأخذ الثمن من أيهم شاء. اهـ. أبو الحسن: وفوات الشيء المستحق إنما هو بزوال عينه أو ما يقوم مقام زوال عينه ولا يرد. هذه مسألة محمد في الذي يباع

ص: 578

عليه ماله وهو غائب ثم قدم فأثبت البراءة من الدين أنه قال: يأخذ ذلك بالثمن، والفرق بينهما أن مسألة محمد بيع على ملك الغائب، وهنا بيع على ملك المستحق، ثم قال أبو الحسن: قوله فللمستحق إجازة البيع وأخذ الثمن من المرتهن، عياض: الذي يقطع به أن مذهب المدونة أن رجوعه على المرتهن والذي قال ابن حبيب وأصبغ عن ابن القاسم أنه إنما يرجع على الراهن إلا أن يكون عديما فيرجع على المرتهن. اهـ المراد منه. ولما أنهى الكلام على الاستحقاق وكانت الشفعة نوعا من الاستحقاق ناسب أن يذكرها عقبه فقال:

ص: 579

باب: في الشفعة وهي بسكون الفاء، واختلف في سبب تسميتها بهذا الاسم فقيل: هي من الشفع ضد الوتر؛ لأن الشفيع يضم ما يأخذه إلى نصيبه فيصير له نصيبان بعد أن كان له نصيب واحد، وقيل: من الزيادة لأنه يزيد ما يأخذه إلى ماله ومنه قوله تعالى {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} أي يزد عملا صالحا إلى عمله وهو قريب مما قبله، وقيل من الشفاعة لأنهم كانوا في الجاهلية إذا باع الشريك حصته أتى المجاور الشريك شافعا إلى المشتري ليوليه ما اشتراه ليتصل له الملك أو ليدفع عنه الضرر فسمي ذلك شفعة وسمي الآخذ شفيعا والمأخوذ منه مشفوعا عليه. اهـ قاله غير واحد. والشفعة بسكون الفاء وضمها والشفيع فعيل بمعنى فاعل، وأما معناها شرعا فقال ابن عرفة: هي استحقاق شريك أخذ مبيع شريكه بثمنه. اهـ. واستحقاق مصدر مضاف إلى فاعله ومفعوله أخذ وهو مصدر مضاف إلى مفعوله، وشريكه مضاف إليه ما قبله، وقوله: بثمنه متعلق باستحقاق والباء للآلة أو للسببية أي يستحقه بسبب دفع ثمنه لمن اشتراه، وكونها للسببية هو لأبي علي. الحطاب: وقد يقال إن حد ابن عرفة غير جامع لعدم شموله الأخذ بقيمة الشقص.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: قد يقال إنه جامع لأنهم قد يطلقون الثمن على القيمة. والله تعالى أعلم. وعرف المؤلف الشفعة بقوله: الشفعة أخذ شريك وتمام التعريف قوله الآتي: "ممن تجدد ملكه اللازم اختيارا بمعاوضة""عقارا" إن انقسم "بمثل الثمن "أو قيمته" أو قيمة الشقص"، قوله:"أخذ" كالجنس، وقوله:"شريك" أخرج به الجار، وقوله:"ممن تجدد ملكه" أخرج به ما إذا اشترى اثنان فأكثر دارا دفعة فلا شفعة لواحد على غيره. قاله ال تتائي. أي حال شرائهما، وأما لو باع أحدهما بعد ذلك حصته لأجنبي فلشريكه الشفعة. قاله عبد الباقي. وقوله:"اللازم" صفة "لملكه"، واحترز به عن ملك غير لازم، كبيع الخيار فإنه لا شفعة فيه إلا بعد مضيه كما سيذكر، وسواء كان الخيار للبائع أو للمشتري أو لأجنبي، واحترز به أيضا عن بيع المحجور أو شرائه بغير إذن وليه. وقوله:"اختيارا" احترازا عمن تجدد ملكه بميراث فلا يأخذ شريك موروثه منه كما سيذكره، وقوله:"بمعاوضة" متعلق "بملكه"، واحترز بذلك عما إذا ملك بعطية كهبة لغير ثواب، وقوله:"عقارا" مفعول. "أخد" خبر المبتدإ، واحترز بذلك من غير العقار فإنه لا شفعة فيه، وقوله:"إن انقسم" معناه أن الشفعة إنما تكون في العقار إن قَبلَ القسم وإلا

ص: 580

فلا، وقوله:"بمثل الثمن" متعلق "بأخذ" خبر المبتدا أي بمثل الثمن الذي أخذه به المشتري إن كان مثليا، وقوله:"أو قيمته" إن كان مقوما، وقوله:"أو قيمة الشقص" فيما إذا خالعت زوجة زوجها بشقص.

وصريح كلام المص أن الشفعة هي الأخذ بالفعل خلاف ما لابن عرفة من أنها استحقاق الأخذ، وحمل عبد الباقي كلام المص على ما لابن عرفة، فقال: الشفعة أخذ أي استحقاق أخذ لا أخذ بالفعل وناقشه البناني، فقال: قول الزرقاني أي استحقاق أخذ لخ ما نصه: هذا وإن قاله ابن عرفة غير ظاهر كما قاله بعض، بل الظاهر ما للمص وابن الحاجب من أن الشفعة هي الأخذ بالفعل، لخ قول البناني: بل الظاهر ما للمص وابن الحاجب، قال الرهوني: وما لهما هو عين ما قدمناه عن ابن رشد، فانظر كيف أغفلوه؟ اهـ؛ يعني ما تقدم من أن الآخذ يسمى شفيعا والمأخوذ منه يسمى مشفوعا عليه، والأخذ يسمى شفعة وهو على أن الشفعه من الشفاعة ويأتي لهذا الحد مزيد بيان عند شرح كلام المص، وقوله:"الشفعة أخذ شريك" قال عبد الباقي: أي استحقاق أخذ لا أخذ بالفعل لأنه عارض لها كضده وهو الترك لا ماهيتها، والعارض للشيء غيره والمعروض لشيئين متنافيين [غيرهما

(1)

] وإلا اجتمع النقيضان. قاله ابن عرفة. ولذا حدها بقوله: استحقاق شريك أخذ مبيع شريكه بثمنه، وأراد بالاستحقاق معناه اللغوي أي طلب الشريك الاستشفاع لا الاستحقاق المتقدم تعريفه بأنه رفع ملك شيء بثبوت ملك قبله لخ، لعدم صحته هنا ولخروج ما هنا بقوله هناك بغير عوض، وأخرجه هنا أيضا بقوله: بثمنه كما قاله الناصر اللقاني. اهـ.

قوله أي طلب الشريك الاستشفاع لخ، قال البناني: كلام لا معنى له كما يعلم بالتأمل، والصواب أن الاستحقاق هنا حالة يتأهل بها للأخذ والترك. والله أعلم. اهـ. وقد مر تصويب البناني لحد المص وابن الحاجب واعتراضه على حد ابن عرفة، قال الرهوني: والحق ما قاله أبو علي في الحاشية والشرح من أنها تطلق في اصطلاح أهل المذهب على ما قاله المص وابن الحاجب وعلى ما قاله ابن عرفة، ونصه: واللفظ للحاشية والذي يدل عليه كلام الناس أن الشفعة تطلق في الاصطلاح باعتبارين، فقولهم: هذا له الأخذ بالشفعة وفلان أخذ بشفعته يدل لابن عرفة أي له

(1)

في الأصل: غيره، والمثبت من عبد الباقي ج 6، ص 169.

ص: 581

الأخذ بسبب استحقاقه الأخذ، وقولهم: اختلف في الشفعة هل هي بيع أو استحقاق؟ يدل لابن الحاجب ومن وافقه هذا هو الحق. اهـ منه بلفظه. وانظر لم أغفل الحطاب وأبو علي التنبيه على أن كلام ابن رشد السابق شاهد لابن الحاجب ومن تبعه مع نقلهما كلامه؟ اهـ.

تنبيهات: الأول: قد اعترض الحطاب حد ابن عرفة بأنه غير جامع كما مر، واعترضه البرزلي بأخذ الشريك الثوب إذا وقف على ثمن وبما إذا وقع ثوب مسلم في الغنائم وأخذه رجلان فأخذ من أحدهما ثم أراد الأخذ من الآخر. اهـ. قاله البناني. وقال: قلت الأول من هذين النقيضين نقله ابن عرفة في مختصره عن ابن عبد السلام، وأجاب عنه بقوله: قلت قول ابن الحاجب جبرا يمنع دخوله لأن قدرة كل منهما على الزيادة في ثمنه تمنع كون أخذه منه جبرا. اهـ. ونحوه في التوضيح فانظره، قلت: وتخرج هذه الصورة أيضا من قول المؤلف من تجدد ملكه لأن المشتري فيها لا يتجدد ملكه إلا بتسليم الشريكين معا، وقد يجاب بنحو هذا أيضا عن النقض الثاني في كلام البرزلي؛ لأن ما تبين أنه ملك لمسلم مما قسم في المغانم لا ملك فيه لآخذه. والله أعلم. انتهى.

الثاني: قول المص: "شريك" أي بجزء شائع، قال عبد الباقي: شريك بجزء شائع لا بأذرع معينة فلا شفعة لأحدهما على الآخر قطعا؛ لأنهما جاران ولا بغير معينة عند مالك ورجحه ابن رشد وأفتى به وحكم به بأمره، ولأشهب فيها الشفعة، فإن قلت: كل من الجزء كالثلث والأذرع غير المعينة شائع، قلت: شيوعهما مختلف إذ الجزء شائع في كل جزء، ولو قل من أجزاء الكل ولا كذلك الأذرع فإذا كانت الأذرع خمسة مثلا فإنما هي شائع في قدرها من الأذرع لا في أقل منها ومما يدل على افتراقهما أن الأذرع مضمونة على البائع وحده، فإذا حصل غصب أو استحقاق لبعض الأرض المبيع فيها الأذرع لم يكن على المبتاع من ذلك شيء.

الثالث: الأصل في الشفعة ما رواه جابر رضي الله عنه (أنه قال: جعل، وفي لفظ: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة

(1)

)، وهو مما اتفق عليه، وقال أحمد بن حنبل: هو أصح حديث روي في هذا الباب وقد تضمن ثلاثة

(1)

البخاري، كتاب الشفعة، رقم الحديث 2257.

ص: 582

أحكام: وجوب الشفعة بالشركة، وسقوطها بالجوار لأنه بعد القسمة جار، وأن الشفعة في الرباع دون العروض. وسيأتي بيان ذلك. واعلم أنه سيتكلم في هذا الباب على الآخذ والمأخوذ منه والشيء المأخوذ والمأخوذ به وهو الثمن ونحوه.

وقوله: "أخذ" جنس، وقوله:"شريك" أخرج به الجار فإنه لا شفعة له عند مالك. قاله الشارح.

ولو ذميا يعني أن العقار إذا كان مشتركا بين مسلم ومسلم فباع أحدهما حصته لمسلم أو ذمي فالشفعة ثابتة، كما إذا كان بين مسلم وذمي فباع المسلم حصته منه فإن لشريكه الذمي أن يأخذ الجزء المبيع من المشتري بالشفعة حيث باع المسلم حصته لمسلم، بل ولو باع المسلم شريك الذمي حصته لذمي فالشفعة ثابتة للذمي، ورد المص:"بلو" قول ابن القاسم في المجموعة: إنه إذا باع المسلم شريك الذمي حصته لذمي فإنه لا شفعة للشريك الذمي أي فهو كما إذا باع أحد الذميين لذمي، ويأتي في قوله:"كذميين تحاكموا إلينا"، وقوله:"باع المسلم لذمي" صفة لذميا، قال البناني: واعلم أن حاصل الصور في المسألة ثمان لأن الشريك والبائع إما مسلمان أو كافران، أو الشريك مسلم والبائع كافر أو العكس، وفي كل من الأربع المشتري إما مسلم أو كافر، فمهمى كان المشتري أو الشفيع مسلما قضي بالشفعة اتفاقا؛ لأنه حكم بين مسلم وذمي. قاله ابن رشد. وإذا كانا ذميين فإن كان البائع مسلما فهو محل الخلاف المشار له بقوله:"ولو ذميا باع المسلم" الخ، وسواء تحاكما إلينا أو رفع إلينا الشفيع فقط، بخلاف ما بعدها ورد بلو على ابن القاسم في المجموعة وإن كان البائع ذميا، فلا شفعة إلا أن يتحاكموا إلينا وهو محل قوله:"كذميين تحاكموا إلينا". انظر الحطاب. وموضوع قوله كذميين لخ ما إذا كان الجميع ذميين الشريكان والمشتري.

واعلم أنه إذا كان العقار بين مسلمين فباع أحدهما جزءه الشائع فالشفعة ثابتة للشريك الذي لم يبع على المشتري مسلما كان أو ذميا، وهاتان صورتان متفق على ثبوت الشفعة فيهما، وإذا كان بين مسلم وذمي فباع الذمي حصته فالشفعة ثابتة للمسلم على المشتري اتفاقا باع الذمي لمسلم أو ذمي، وهاتان صورتان فتلك أربع متفق عليها، فإن كان الشريكان أحدهما مسلم والآخر ذمي وباع المسلم، فإن كان قد باع لمسلم فالشفعة ثابتة للذمي على المشتري المسلم اتفاقا، فتلك خمس متفق

ص: 583

عليها، فإن باع المسلم شريك الذمي لذمي فهي ثابتة للذمي على المشتري الذمي على ما مر عليه المص، ومقابله المردود بلو قول ابن القاسم في المجموعة، وبقيت اثنتان فيما إذا كان الشريكان ذميين، فأما إذا باع أحدهما لذمي فهي محل قوله:"كذميين ترافعوا إلينا" وأما إن باع لمسلم فالشفعة ثابتة للذمي الذي لم يبع على المشتري المسلم.

قال الحطاب: وفي أول سماع يحيى من الشفعة: وسألت ابن القاسم عن النصرانيين الشريكين في الأرض يبيع أحدهما حظه من مسلم أو نصراني فتجب الشفعة لشريكه أيقضى بها على المشتري مسلما كان أو نصرانيا؟ قال: أما على المسلم فيقضى بها للنصراني لأني قد كنت أقضي بها أيضا للمسلم على النصراني، وأما إذا كان الشفيع نصرانيا وكان شريكه مسلما أو نصرانيا فاشترى نصراني نصف شريك النصراني فلا أرى أن يقضى بينهما بشيْءٍ؛ لأن الطالب والمطلوب نصرانيان فهما يردان إلى أهل دينهما؛ لأن المطلوب يقول ليس في ديننا الحكم بالشفعة فلا أرى للمسلم أن يحكم بينهما إلا أن يتراضيا على ذلك. اهـ وهذا الذي ذكر فيما إذا باع المسلم شريك الذمي لذمي هو المردود بلو في كلام المص. والله تعالى أعلم.

وقال الشارح: قال مالك في المدونة: وإن كانت دار بين رجلين أحدهما مسلم والآخر ذمي فباع المسلم حصته من مسلم أو ذمي فلشريكه الذمي الشفعة كما لو كان مسلما، ونبه بذلك على خلاف أحمد والحسن والشعبي والأوزاعي القائلين بعدم الشفعة للكافر، ودليلنا قوله عليه الصلاة والسلام (الشفعة في كل شرك في ربع أو حائط لا يحل له أن يبيعه حتى يرضه على شريكه فإن باعه فشريكه أحق به بالثمن

(1)

) فعم المسلم وغيره، ولأنه حق موضوع لدفع الضرر فاستوى فيه المسلم والكافر كالرد بالعيب، ولابن القاسم في المجموعة أن المسلم إذا باع شقصه من نصراني والشفيع نصراني فلا شفعة له لأن الخصمين نصرانيان. اهـ.

كذميين تحاكموا إلينا يعني أنه إذا كان الشفيع والبائع والمشتري ذميين فإن للشريك أن يأخذ بالشفعة بشرط أن يترافع الشفيع والمشتري إلينا راضيين بحكمنا ولا يشترط رضى أساقفتهم، وظاهره كظاهر المدونة اتفقا في الدين أم لا، وقوله:"تحاكموا" أي المشتري والشفيع كما يفهم من

(1)

مسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث 1608.

ص: 584

التقرير وجمعه باعتبار الأفراد ولا يعتبر البائع في الرضى لأنه لا مدخل له ومفهوم قوله: "تحاكموا إلينا" أنهم لو لم يترافعوا إلينا وإنما رفع الشريك فقط دون المشتري لا نحكم له بالشفعة وهو كذلك، قال في المدونة: ولو كانت أي الشفعة بين ذميين لم أقض بينهما بالشفعة إلا أن يتحاكموا إلينا. اهـ. أبو الحسن الصغير: معناه أنه باع أحدهما من ذمي انتهى وهذا في الذميين المشتركين، وقوله:"كذميين" قال الحطاب: بالجمع لا بالتثنية، وقال عبد الباقي: بالتثنية. والله تعالى أعلم.

أو محبسا ليحبس عطف على قوله: "ذميا" فهو في حيز المبالغة؛ يعني أن أحد الشريكين إذا باع حصته من العقار فإن الشفعة ثابتة لصاحبه، ولو كان هذا الشريك الذي لم يبع حصته محبسا لها فإن له أن يشفع بشرط أن يشفع ليحبس الحصة التي يأخذها من المشتري، ومفهوم قوله:"ليحبس" أنه لو لم يكن ليحبس بل ليتملك فإنه ليس له أن يشفع، قال في المدونة: قال مالك في دار بين رجلين حبس أحدهما نصيبه على رجل وولده فباع شريكه في الدار نصيبه: فليس للذي حبس ولا للمحبس عليهم أخذه بالشفعة إلا أن يأخذ المحبس فيجعله في مثل ما جعل فيه نصيبه الأول. انتهى. ورد المص بلو قولا حكاه اللخمي أن المحبس لا شفعة له، ولو أراد إلحاق الحصة بالحبس، واستحسنه لأن التحبيس أزال الملك وصار كالأجنبي قاله الشارح.

وقال عبد الباقي: أو كان من يريد الأخذ بالشفعة محبسا لحصته فله أخذ حصة شريكه البائع لغيره بالشفعة ليحبس ظاهره ولو في غير ما حبس فيه الأول، وهو واضح من جهة المعنى، وفي الشارح: في مثل ما حبس فيه الأول، وكلام المص مقيد بما إذا لم يكن مرجع الحبس له وإلا فله الأخذ وإن لم يحبس، فمن حبس على عشرة حياتهم أو وقف مدة معينة فإن له الأخذ مطلقا، والظاهر أن المرجع إذا كان للغير ملكا فإن له الأخذ لأنه صار شريكا. انتهى. قوله عن الشارح في مثل ما حبس فيه الأول لخ، قال البناني: هذا هو المتعين لأنه صريح قول المدونة فيجعل فيما جعل فيه نصيبه الأول. انظر المواق. وقوله: "محبسا" بكسر الباء واحترز به عن المحبس عليه فإنه لا شفعة له كما مر عن المدونة، وكما يأتي للمص قريبا. والله تعالى أعلم.

ص: 585

كسلطان تشبيه في استحقاق الشفعة يعني أن السلطان له أن يشفع لبيت المال، قال الخرشي: يعني أن للسلطان أن يأخذ بالشفعة لبيت المال، قال سحنون في المرتد يقتل وقد وجبت له الشفعة: إن للسلطان أن يأخذ لبيت المال أو يترك. انتهى. وقال عبد الباقي: كسلطان له الأخذ بالشفعة لبيت المال نص عليه سحنون في مرتد يقتل وقد وجبت له شفعة في حصة شريكه البائع لغيره فللسلطان أن يأخذ لبيت المال أو يترك، لا يقال المشتري من شريكه لم يتجدد ملكه على ملك بيت المال: لأنا نقول: يتجدد بالنسبة للمرتد والسلطان تنزل منزلته في استحقاق الأخذ، ومثاله أيضا بنت ورثت من أبيها نصف دار ونصفها الآخر ورثه السلطان، فإذا باعت البنت لأجنبي فللسلطان الأخذ. انتهى.

لا محبس عليه يعني أنه إذا كانت دار نصفها ملك لزيد ونصفها الآخر حبس على عمرو فباع زيد حصته، فإنه ليس لعمرو المحبس عليه أن يأخذ بالشفعة، قال عبد الباقي: لا محبس عليه فلا شفعة له حيث لم يكن للحبس اتفاقا، بل ولو أراد الأخذ ليحبس في مثل ما حبس عليه على المشهور، قال الخرشي: المشهور أن المحبس عليه ليس له أن يأخذ بالشفعة ولو كان يأخذ ليحبس في مثل ما حبس إذ لا أصل له في الشقص المحبس أولا، أما لو أراد أن يأخذ للتملك فليس له الأخذ اتفاقا. انتهى. وقال عبد الباقي: لا محبس عليه فلا شفعة له، ولو أراد الأخذ ليحبس مثل ما حبس عليه وهذا ما لم يكن مرجع الحبس له، كمن حبس على جماعة على أنه إذا لم يبق منهم إلا فلان فهو له ملك، وما ذكره المص في المحبس عليه ذكر الشارح ما يفيد اعتماده؛ لأنه قال: هو مذهب المدونة، وأن القول بأنه كالمحبس ضعيف، وذكر المواق ما نصه: سوى ابن رشد بين المحبس والمحبس عليه، وأن أحدهما إذا أراد الأخذ لنفسه لم يكن له ذلك وإن أراد إلحاقها بالحبس فله ذلك، فانظر هذا مع خليل وانظره -أي نص ابن رشد- في ابن عرفة انتهى.

والحاصل أن في الحبس ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا شفعة في الحبس مطلقا، ثانيهما أن فيه الشفعة إذ كان ليلحق المأخوذ بالحبس، ثالثها الفرق بين المحبس والمحبس عليه فلا شفعة للمحبس عليه ولو ليلحق بالحبس والمحبس إن كان ليلحق بالحبس فله الشفعة وإلا فلا، وهذا

ص: 586

هو مذهب المدونة، وأما الأجنبي إذا أراد أن يشفع ليلحق بالحبس فليس له ذلك لأنه لا يملك رقبة ولا منفعة، خلافا لتخريج ابن رشد فإنه معترض. والله تعالى أعلم.

تنبيهان: الأول: قوله: "لا محبس عليه" قال البناني: هذا في شفعة الأصول، وأما الثمار فله فيها الشفعة كما في المدونة، ونقله المواق عند قوله الآتي:"وكثمرة" لخ. انتهى.

الثاني قال الحطاب: لو أعمر إنسان إنسانا جزءا مشاعا من دار وله فيها شريك فباع شريكه فللمعمر بالكسر أن يأخذ بالشفعة؛ لأن الحصة ترجع إليه بعد موت المعمر بفتح الميم. قاله ابن الحاجب.

وجار يعني أن الجار لا شفعة له، فإذا قسمت الدار وتعين لكل شريك حظه بمعرفة حدوده فباع أحدهم ما له منها فلا شفعة لغيره لأنه جار، وإن ملك تطرقا ملك بالبناء للفاعل وتطرقا مفعوله، ومعنى كلام المص أن الجار لا شفعة له وإن كان الجار قد ملك تطرقا أي انتفاعا بطريق في دار كمن له طريق في دار فبيعت الدار فإنه لا شفعة له في الدار، قال الخرشي: والمعنى أن الجار لا شفعة له ولو ملك انتفاعا بطريق الدار التي بيعت كمن له طريق في دار فبيعت الدار لا شفعة له فيها. انتهى. وقال عبد الباقي: وجار لا شفعة له وإن ملك تطرقا أي انتفاعا بطريق الدار التي بيعت أي أن يكون له طريق في دار فبيعت الدار، وكذا لو ملك الطريق كما يأتي في قوله:"وممر قسم متبوعه" انتهى.

وقوله: "وإن ملك تطرقا" هو إشارة إلى قوله في المدونة: ومن له طريق في دار فبيعت الدار فلا شفعة له فيها، زاد بعضهم: وإنما له حق جواز ولا حق له في معنى الملك. قاله الشارح وغيره. وقوله: "وجار" قال في المدونة عن مالك: ولا شفعة بالجوار والملاصقة ولا بالشركة في الطريق، وقال أبو حنيفة: بشفعة الجوار وهو محجوج بقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة

(1)

) وهو نص في عدم الشفعة بعد وقع الحدود وصرف الطرق، وصاحب

(1)

البخارى، كتاب الحيل، رقم الحديث 6976

ص: 587

ذلك أقرب من الجار بلا شك، وبقوله عليه الصلاة والسلام: الشفعة فيما لم يقسم بين الشركاء، فإنه يدل على انتفاء الشفعة مع وجود القسمة. انظر الشارح.

وناظر وقف يعني أن ناظر الوقف لا شفعة له إذا أراد الأخذ ليحبس؛ إذ لا ملك له فليس كالمحبس في هذا، نعم إن جعل له المواقف ذلك فله الأخذ كما جزم به بعض المتأخرين. قاله عبد الباقي. وفي نقل الشارح ما نصه: وليس لناظر مسجد أن يأخذ بالشفعة. انتهى.

تنبيه: قد مر قول المص: "كسلطان" وكلام سحنون، وحكى ابن زرب عن بعضهم أن الناظر لبيت المال إذا وقعت حصة في بيت المال من ملك المواريث له أن يأخذ بالشفعة، قال: وهو خطأ، قال: ولا تجب له شفعة لأنه ليس يتجر للمسلمين إنما هو يجمع لهم ما يجب لهم. ابن رشد: وليس هذا خلاف لقول سحنون في المرتد؛ لأن سحنون قال ذلك بالنسبة إلى السلطان، وقول ابن زرب هو بالنسبة إلى صاحب المواريث؛ لأن السلطان لم يجعل له ذلك، فلو جعل له السلطان ذلك كان له. نقله المواق. ويأتي هذا في كلام المص.

وكراء يعني أنه لا شفعة في الكراء وهذا صادق بصورتين، إحداهما أن يكتريَ شخصان دارا ثم يكري أحدهما حصته لأجنبي فإنه لا شفعة للمكتري الذي لم يكر حصته، ثانيتهما أن تكون دار بين شخصين فيكري أحدهما حصته فإنه لا شفعة للشريك الذي لم يكر حصته، قال عبد الباقي: وعدل عن أن يقول ولا ذي كراء لقصوره على الأولى، واقتصر المص على هذا لأنه مذهب المدونة. ابن ناجي عليها: وهو المشهور. انظر الحطاب. وبه يسقط اعتراض الشارح، وتبعه ال تتائي بتشهير أن في الكراء الشفعة. انتهى. لكنه على ما قالاه مقيد بما ينقسم، وبأن يريد السكنى بنفسه وإلا فلا. قاله اللخمي. والأول هو المعتمد كما علمت، فإن قيل: ما الفرق بينه وبين الشفعة في الثمار مع أن كلا منهما غلة ما فيه الشفعة؟ قيل: الفرق أن الثمار لمَّا تقرر لها وجود في الأعيان ونمو في الأبدان من الأشجار كانت كالجزء منها فأعطيت حكم الأصول ولا كذلك السكنى، وفرق بين الأرض مع الزرع وبين الشجر مع الثمر بأن الزرع غير ولادة والثمرة ولادة أي فهي تبع لأصلها. قاله عبد الباقي وغيره.

ص: 588

وقوله: "وكراء" قد علمت أنه هو المشهور وهو مذهب المدونة، وقال أشهب وابن المواز: له الشفعة: قال ابن يونس: قال محمد: أشهب يرى الشفعة في الكراء وبه أقول. الشيخ: وبه العمل بشرطين، أن يكون مما ينقسم وأن يشفع ليسكن نقله البناني، قال: وبالشفعة في الكراء جرى العمل عندنا بفاس لكن بالشرط الثاني فقط وهو أن يسكن بنفسه، وقد نص على العمل المذكور صاحب المجالس والزقاق في لاميته، والشيخ المنجور قائلا: لكن بشرط أن يسكن الشفيع.

وفي ناظر الميراث قولان يعني أنه اختلف في ناظر الميراث على قولين، هل له الشفعة أم لا؟ قال المغيرة بالشفعة، وقال ابن زرب بعدمها. قاله البناني. وناقنته الرهوني بأنهما للحجاري بالراء نسبة إلى واد الحجارة وابن زرب لا للمغيرة وابن زرب، وقال عبد الباقي: وفي ناظر الميراث قولان بالأخذ بالشفعة لبيت المال وعدمه، وهذا فيما إذا ولاه السلطان على المصالح المتعلقة بأموال بيت المال وسكت عن أخذه بالشفعة وعدم أخذه أو جهل حاله، فإن جعل له الأخذ فهو بمنزلته وإن منعه منه فلا أخذ له. انتهى. وإيضاح معنى المص أن تقول: إذا مات شخص وله بنت مثلا ولا وارث له غيرها وفي تركته دار فللبنت نصفها ولبيت المال نصفها، فباعت البنت نصفها فهل لناظر بيت المال أن يأخذ النصف المبيع من مشتريه بالشفعة، أو ليس له ذلك؟ قولان للحجاري وابن زرب، ومحلهما إن لم يجعل السلطان للناظر المذكور الأخذ بالشفعة ولا عدمه أو جهل ذلك وإلا اتبع ما جعل له.

فرع غريب: وهو أن المرء قد يبيع شقصه ثم يشفع فيه، وذلك إذا ورث شقص شريكه قبل سقوط شفعته. قاله المواق.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: وإيضاح هذا أن تقول: زيد وعمرو مشتركان في دار مثلا فباع زيد حصته منها لبكر فثبتت الشفعة لعمرو فمات عمرو وورثه زيد فإن لزيد أن يأخذ حصته التي باعها لبكر بالشفعة. والله تعالى أعلم. قال عبد الباقي: ولما كانت أركان الشفعة أربعة آخذ اسم فاعل وهو الشفيع، ومأخوذ منه وهو المشتري، وشيء مأخوذ وهو الشقص، ومأخوذ به وهو الثمن وذكر الأول بقوله:"أخذ شريك"، وسيذكر الثالث بقوله:"عقارا"، والرابع بقوله:"بمثل الثمن"، ذكر الثاني بقوله: ممن تجدد ملكه متعلق بقوله: "أخذ" خبر المبتدا أعني قوله:

ص: 589

"الشفعة أخذ شريك" يعني أن الشريك إنما يأخذ بالشفعة ممن تجدد ملكه، وأما من لم يتجدد ملكه فلا يأخذ منه بالشفعة، قال عبد الباقي: ممن تجدد ملكه خرج به ما إذا اشترى اثنان فأكثر دارا دفعة فلا شفعة لواحد على غيره. قاله ال تتائي. أي حال شرائهما، وأما لو باع أحدهما بعد ذلك حصته لأجنبي فلشريكه الشفعة. انتهى. ونحوه لغيره اللاّزمُ صفة لملك؛ يعني أنه إنما يؤخذ بالشفعة ممن تجدد ملكه بشرط أن يكون ملكه لازما، بخلاف غير اللازم فلا شفعة فيه، قال عبد الباقي: احترز باللازم عن الملك غير اللازم كبيع الخيار فإنه لا شفعة فيه إلا بعد مضيه كما سيذكره، وسواء كان الخيار للبائع أو للمشتري أو لأجنبي بناء على أن الملك للمبتاع، واحترز به أيضا عن بيع المحجور أو شرائه بغير إذن وليه. انتهى. ونحوه لغيره.

اختيارا إما مصدر من تجدد أو فاعله، وإما منصوب بنزع الخافض أي تجدد ملكه عن اختيار أو على الحال، واحترز به عمن تجدد ملكه بميراث فلا يأخذ شريك موروثه منه كما سيذكره، قال الخرشي: وقوله "اختيارا" حال، فلو تجدد ملكه لا باختياره بل بالجبر كالإرث فإنه لا شفعة فيه لصاحبه على المشهور. انتهى. وقال البناني: يغني عن هذا -يعني قوله اختيارا- قوله: "بمعاوضة"، قال ابن عرفة: ونقل غير واحد الاتفاق على نفي الشفعة في الميراث. انتهى. وقال ابن عبد السلام: المشهور من المذهب أنه لا شفعة في انتقال الملك بسبب الميراث، وروي عن مالك أنه يشفع من الوارث لتجدد ملكه وهو بعيد. انتهى.

بمعاوضة متعلق "بتجدد" أو بفاعله؛ يعني أن هذا الذي تجدد ملكه لهذا العقار إنما يؤخذ منه بالشفعة حيث ملكه بمعاوضة من بيع أو هبة ثواب أو غير ذلك، قال الخرشي: وقوله: "بمعاوضة" يحترز به عما لو تجدد ملكه اختيارا، لكن لا بمعاوضة بل بهبة لغير ثواب أو صدقة أو وصية وما أشبه ذلك، فإنه لا شفعة لصاحبه على المشهور، ويدخل في قوله "بمعاوضة" البيع وهبة الثواب والمهر والخلع وجميع المعاوضات والصلح، ولو كان عن إنكار. انتهى.

وقال عبد الباقي: بمعاوضة لا بهبة بلا ثواب كما سيذكره، وشمل قوله:"تجدد ملكه بمعاوضة" ما لو رد المشتري الشقص المبيع بعيب، بناء على أنه ابتداء بيع فللشفيع الأخذ بالشفعة وهو ما في سماع يحيى ابن القاسم لا على أنه نقض للبيع إذ لم يتجدد ملكه فلا شفعة، وهو قول

ص: 590

أشهب. انتهى. وقال الحطاب: يدخل في قوله: "بمعاوضة" البيع وهبة الثواب والمهر والخلع وجميع المعاوضات والصلح ولو على إنكار، وقد قال في الجواهر في آخر كتاب الصلح: إذا ادعى رجل على رجلين دارا فكذبه أحدهما وصدقه الآخر، فصالحه المصدق على مال فأراد الكذب الأخذ بالشفعة فله ذلك. انتهى. وقال المواق: ابن شأس: وتثبت الشفعة في المعاوضات بأي نوع كان من التمليكات من مهر وخلع وبيع وإجارة وصلح من أرش جناية أو قيمة متلف أو قتل عمد أو خطإ أو غير ذلك من المعاوضات، ومن المدونة: قال مالك: لا شفعة في هبة الثواب إلا بعد العوض قيل: فلم أجاز مالك الهبة لغير ثواب مسمى؟ قال: لأنه على وجه التفويض في النكاح والقياس لا ينبغي أن يجوز ولكن قد أجازه الناس، وقال الشارح: واحترز بقوله: "بمعاوضة" من الهبة والصدقة فلا شفعة في الحصة الموهوبة أو المتصدق بها على المشهور وهو مذهب المدونة. ابن يونس وغيره: وهو الأصح، وقيل فيها الشفعة وعلى هذا القول لا يحتاج إلى زيادة هذا القيد. انتهى.

ولو موصى ببيعه للمساكين مبالغة في أن له الشفعة يعني أن الشخص إذا أوصى أن تباع حصة عقاره ويفرق ثمنها على المساكين فبيعت الحصة المذكورة، فإن الوارث تثبت له الشفعة على مشتري الحصة المذكورة، قال عبد الباقي: ولو كان تجدد ملكه ببيع عقار موصى ببيعه أي جُزء من عقاره كثلث ليدفع ثمنه للمساكين وباعه الوصي فللورثة الأخذ بالشفعة لذلك العقار الوصى ببيعه. انتهى. وقال البناني: قال في التوضيح: إذا أوصى بثلثه للمساكين فباع الوصي ثلث أرضه، فقال سحنون: لا شفعة فيه للورثة لأن بيع الوصي كبيع الميت، وقال غيره: فيه الشفعة للورثة، قال اللخمي: وهو القياس، وقال الباجي: هو الأظهر، وقد بلغني ذلك عن ابن المواز، وقال ابن الهندي: إنه الأصح.

وإلى قول اللخمي إنه القياس، وتصحيح ابن الهندي وقول الباجي أشار بقوله: على الأصح والمختار أي الأصح عند ابن الهندي والباجي، والمختار عند اللخمي كما عرفت، وقال عبد الباقي عند قوله:"على الأصح" ما نصه: لدخول الضرر عليهم ولأن الميت أخر البيع لبعد الموت لوقت لم يقع فيه البيع إلا بعد ثبوت الشركة والمختار، وأشار بالمبالغة لقول سحنون: لا شفعة لأن بيع

ص: 591

الوصي كبيع الميت. انتهى. والوارث هنا آخذ، ومر قريبا أنه لا يأخذ منه شريك موروثه، ومثل ما هنا من باع شقصا يملكه من دار ثم ورث نصيب شريكه فله أخذ ما باعه بالشفعة كما في نقل المواق؛ لأن من مات عن حق فلوارثه. انتهى. وقد مر هذا قوله لبَعْدِ استعملها مجرورة باللام وهي لا تجر إلا بمن. قاله الحراء وغيره. والله تعالى أعلم. وقوله:"للمساكين" قال الخرشي: ليس صفة لبيع لأن هذا ليس فيه الشفعة وإنما هو متعلق بمحذوف أي ليفرق ثمنه على المساكين.

لا موصى له ببيع جزء يعني أن من أوصى أن يباع حصة من عقاره لزيد فبيع له أي اشتراه بعد موت الموصي فإنه لا شفعة للورثة فيه تنفيذا لغرض الموصي، قال الخرشي: ويجب تقييده بما إذا كانت الدار كلها للميت أما لو كانت بينه وبين أجنبي أو بينه وبين الوارث لوجب الأخذ بالشفعة انتهى المراد منه. وقال عبد الباقي: لا موصى له معين كزيد ببيع جزء من عقار يشتريه بعد موت الموصي فلا شفعة للورثة ليلا يبطل ما قصده موروثهم، وهذا إذا كانت الدار كلها للميت وأوصى بثلثها لشخص، وأما لو كانت إلى آخر ما مر عن الخرشي. وقولي: معين تبعا لل تتائي يقتضي أن الموصى ببيعه للمساكين للورثة الأخذ بالشفعة، وفي بعض التقارير منعهم من ذلك أيضا وهو مقتضى التعليل المتقدم، وبه صرح الأجهوري. انتهى. قوله: لا موصى له معين كزيد لخ نحوه للخمي. ونقله المواق.

عقارا قال الخرشي: هذا منصوب بالمصدر يعني أخذ شريك وهو بيان للمأخوذ بالشفعة، والعقار هو الأرض وما اتصل بها من بناء أو شجر فلا تتعلق الشفعة بعرض ولا بحيوان إلا تبعا كما يأتي في قوله:"إلا في كحائط". قاله الخرشي. وقال عبد الباقي عند قوله: "عقارا" ما نصه: أي إنما تقع استقلالا في العقار لا في غيره إلا تبعا كما يأتي في قوله: "وحيوان إلا في كحائط"، ويأتي عند قوله:"لا عرض زيادة بيان". وبالغ على الأخذ بقوله: ولو مناقلا به أي تثبت الشفعة ولو كان العقار مناقلا به بأن يعطي صاحب شقص شقصه لشخص ويعطيه ذلك الشخص شقصا له في دار أخرى، فينتقل حظ هذا إلى هذه الدار وينتقل حظ هذا إلى الدار الأخرى، والمناقلة بيع عقار بعقار: وقال عبد الباقي: والمناقلة بيع الشقص بعقار كأن يناقل شريك بحصة رجلا بحصته من دار أخرى أو بدار فلشريكه أن يأخذ الحصة، وشمل كلامه صورتين: أن يعطي بعض الشركاء من

ص: 592

شريكه حظه من هذا الموضع بحظ صاحبه من الموضع الآخر فيصير حظه في الموضعين في موضع واحد، وأن يكون لشخص حصة من دار ولشخص آخر حصة من دار أخرى فناقل كل منهما الآخر، فإن لشريك كل واحد منهما أخذ حصة شريكه بالشفعة فيخرجان جميعا، وظاهر كلام المص سواء علم أن المراد المناقلة لا المبايعة أو لا، كان المناقل معه شريكا له في هذه الدار أو لا، دفع ما ناقل به نقدا أي عاجلا أم لا. انظر ال تتائي.

وقال المواق: ابن عرفة: المناقلة بيع الشقص بعقار. ابن رشد: إن باع الرجل شقصه من شريكه أو من أجنبي بأصل أو بشقص من أصل له فيه شرك أو لا شرك له فيه، فمذهب ابن القاسم وروايته عن مالك أن في ذلك كله الشفعة. انتهى. وقال الرهوني: قول الزرقاني: والمناقلة بيع الشقص بعقار لخ هذا هو حد ابن عرفة بعينه، وفيه نظر لأنه يخرج عنه بيع عقار كامل بآخر كذلك وهي مناقلة اتفاقا، فإن أجيب بأنه قصد تعريف المناقلة التي تكون فيها الشفعة فلا يخفى ما فيه. فتأمله. انتهى. وفي الوجيز لابن غلاب في المناقلة الشفعة سواء كانت بين الأجانب أو الشركاء وقيل ثابتة بين الأجانب ساقطة بين الشركاء وهو المشهور، وحكى ابن الحاجب قولا بسقوط الشفعة مطلقا. قاله الشارح.

إن انقسم شرط في قوله: "عقارا" يعني أن الشفعة إنما تكون في العقار إن انقسم أي قبل القسم، وإنما اختصت بما ينقسم دون غيره مما لا ينقسم أو بفساد كحمام على ما صدر به وهو المذهب كما في الأجهوري؛ لأنه إذا طلب البيع فيما لا ينقسم أجبر شريكه على البيع معه لينتفي ضرر نقص الثمن فلذا لم يجب فيه شفعة، بخلاف ما ينقسم لا يجبر فلو لم تجب الشفعة فيه لحصل للشريك الضرر في بعض الأحوال.

وفيها الإطلاق يعني أنه وقع في المدونة أن الشفعة تكون في العقار مطلقا قبل القسم أولا، قال عبد الباقي مفسرا للمص: أي إنما تكون فيما ينقسم وفي غيره لضرر القديم بشركة الداخل عليه، وكان حقه أن يزيد بعد فيها لفظ أيضا لأن الأول فيها أيضا.

وبه عمل يعني أن هذا الإطلاق عمل به بقرطبة، قال عبد الباقي: وبه عمل في الحمام فقط، وصريح نظم ابن عاصم أن العمل في غيره أيضا حيث قال:

ص: 593

والفرن والحمام والرحى القضا

بالأخذ بالشفعة فيها قد مضي

لكن تعقبه شارحه بأنه لم يقع القضاء إلا في الحمام فقط، وهذا إن اتحد القضاء والعمل. قال جميعه عبد الباقي. وقال المواق: قال ابن رشد: الشفعة إنما تكون فيما ينقسم، من الأصول دون ما لا ينقسم وهذا أمر اختلف فيه أصحاب مالك في المدونة، قال مالك: إذا كانت نخلة بين رجلين فباع أحدهما حصته منها فالشفعة لصاحبه فيها، وفي المدونة أيضا: قال مالك: في الحمام الشفعة ولَهو أحق أن تكون فيه الشفعة من الأرض لما في قسم ذلك من الضرر. وقاله مالك وأصحابه أجمع ابن حارث: أخبرني من أثق به أن العمل عند أهل الشورى بقرطبة على الشفعة في الحمام، قال ابن رشد: لا يحكم ببيع ما لا ينقسم إذا دعا إلى ذلك أحد الشركاء إلا فيما التشارك فيه ضرر بين كالدار والحائط، وأما مثل الحمام والرحا وشبه ذلك مما هو للغلة فلا وبالله تعالى التوفيق. انتهى. وقال الشارح: وفي المدونة ما يدل على كل من القولين وبعدم الشفعة، قال أشهب ومطرف: قال في الوجيز وهو المشهور: وبالشفعة قال ابن الماجشون وأصبغ وصاحب المعين وبه القضاء، وأفتى فقهاء قرطبة لما استشارهم القاضي منذر بن سعيد فرفع الشفيع أمره إلى أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد، فكتب بخط يده إلى القاضي أن يحمله على قول مالك ويفتي به، فجمع القاضي منذر بن سعيد الفقهاء وشاورهم فقالوا: مالك يرى في الحمام الشفعة فقضى منذر بذلك.

ابن حارث: أخبرني من أثق به أن العمل عند أهل الشورى بقرطبة على الشفعة في الحمام. الرهوني: لم ينسب أحد ممن وقفنا عليه لمالك فيما لا يقبل القسم بحال كالنخلة إلا سقوط الشفعة هذا الذي في تبصرة اللخمي ومناهج التحصيل وغيرهما، وهو نص لمالك في المدونة والنخلة بين الرجلين يبيع أحدهما حصته منها فلا شفعة لصاحبه فيها. انتهى منها بلفظها. قال أبو الحسن ما نصه: الشيخ: والخلاف الذي بين ابن القاسم ومالك إنما هو فيما لا ينقسم إلا بضرر كالحمام ولا يدخل خلافهما في النخلة الواحدة لأنها لا تنقسم إلا بإفسادها. انتهى منه بلفظه. وقال ابن ناجي ما نصه لا خصوصية للنخلة بل وكذلك الشجرة، وما ذكر هو الصحيح، وقال عبد الملك

ص: 594

وأشهب وأصبغ في كتاب ابن حبيب: في النخلة والشجرة الشفعة حكاه اللخمي. والخلاف الذي بين ابن القاسم ومالك إنما هو فيما لا ينقسم إلا بضرر كالحمام، ولا يدخل اختلافهما في النخلة لأنها لا تنقسم إلا بفسادها. انتهى منه بلفظه. ونقل كلامهما معا أبو علي وسلمه. والله أعلم.

وقال المتيطى: والشفعة في بيت الرحا وأرضها التي يجري فيها ماؤها ولا شفعة في الرحا لأنه كحجر ملقى. هذا قول ابن القاسم في المدونة وغيرها. قال: ويحط عن الشفيع من الثمن بقدر ما يقع منه على المطاحن. انتهى.

بمثل الثمن متعلق بأخذ من قوله: "الشفعة أخذ شريك" ومعنى ذلك أن الشريك الذي لم يبع حصته من العقار له أن يأخذ الحصة التي بيعت بمثل الثمن الذي اشتريت به فيدفعه للمشتري، ويأخذ منه الحصة فيضيفها إلى حصته الأخرى فيملك الحصتين جميعا، وقوله:"بمثل الثمن" أي إن كان الثمن مثليا.

تنبيهات: الأول: قال في المدونة: وإذا قال الشفيع بعد الشراء اشهدوا أني أخذت شفعتي ثم رجع، فإن علم بالثمن قبل الأخذ لزمه، وإن لم يعلم كان له أن يرجع. انتهى. فعلم من هذا أنه يصح الأخذ بالشفعة قبل علم الثمن، وقال اللخمي: تسليم الشفعة قبل معرفة الثمن جائز، واختلف في الأخذ قبل المعرفة بالثمن، فقيل جائز وهو ظاهر الكتاب لأنه قال: إذا أشهد أنه أخذ قبل المعرفة بالثمن ثم قال بدا لي قال له الترك إن أحب فجعله بالخيار في التمسك ولو كان عنده فاسدا لم يكن له أن يتمسك، وفي كتاب محمد أن ذلك فاسد ويجبر على رده. انتهى. قاله الحطاب.

الثاني. قال الحطاب: قال في شرح أول مسألة من سماع يحيى من كتاب الشفعة: واختلف إذا باع نصراني من نصراني شقصا بخمر أو خنزير والشفيع مسلم، فقيل: إنه يأخذ الشفعة بقيمة الشقص وهو قول أشهب فكأنه لم ير للخمر قيمة، وقد قال ابن الماجشون: المسلم يستهلك الخمر للنصراني إنه لا قيمة عليه فإذا دفعها بطوعه فأحرى أن لا تكون لها قيمة، وقيل: يأخذ بقيمة

ص: 595

الخمر أو الخنزير وهو قول ابن عبد الحكم وأشهب على مذهب ابن القاسم أن ذلك مما يضمن للنصراني فأشبه شراء النقض بعرض انتهى ونقله ابن عرفة وغيره. انتهى.

الثالث: قال الحطاب: وما بيع بعين ودفع عرض وعكسه فالشفعة فيه بما دفع أو عقد، ثالثها: يخير في أن يأخذ بما عقد أو نقد والأحب ما عقد عليه للشيخ عن محمد عن عبد الملك مع ابن عبدوس عن سحنون، ونقل محمد: وقوله ورابعها لابن عبد الحكم بما عقد عليه إلا أن يدفع ذهبا عن ورق وعكسه فبما دفع كالمرابحة. انتهى. والراجح القول الثاني كما نص عليه غير واحد.

الرابع: قال في المدونة: ومن ابتاع شقصا من دار بعرض فاختلف المبتاع مع الشفيع في قيمته وقد فات بيد البائع أو لم يفت، إنما ينظر إلى قيمته يوم الصفقة لا اليوم، فإن كان مستهلكا صدق البائع مع يمينه في قيمته، فإن جاء بما لا يشبه وصفه المبتاع وحلف على صفته وأخذ الشفيع بقيمة تلك الصفة يوم الصفقة أو ترك، فإن نكل المبتاع حلف الشفيع على ما يصف هو وأخذه بقيمة صفته. انتهى.

الخاسس: قول المؤلف: "بمثل الثمن" قال في التوضيح: فإن لم يجد مثل الثمن غرم قيمته. انتهى.

ولو دينا يعني أن الشفيع يأخذ الشقص المبيع بمثل الثمن الذي اشترى به ذلك الشقص ولو كان الثمن المأخوذ به دينا لمشتري الشقص في ذمة بائع الشقص، وما يأتي في قوله:"وإلى أجله" في أجنبي اشترى الشقص بدين في ذمته فإذا كان يوم قيام الشفيع بقي من الأجل شيء فإلى ما بقي من يوم الشراء لا من يوم الأخذ بالشفعة، وإذا كان دين الأجنبي يوم شرائه بقي من حوله شهر مثلا ولم يقم الشفيع حتى مضى ذلك الشهر فإنه يأخذ الشقص بثمنه إلى شهر على ما صوبه ابن زرقون وهو المعتمد لا حالا، خلافا للواضحة، وينبغي أن يقيد ضرب الأجل

(1)

للشفيع بما إذا كان موسرا أو ضمنه ملي كما إذا اشترى بدين في ذمة المشتري قاله عبد الباقي.

وقال البناني: قال ابن هارون في اختصار المتيطية: وإن أخذ من مفلس شقصا بدين له عليه حل أو إلى أجل ثم قام الشفيع لم يأخذه إلا بمثل ذلك الدين، إن كان حالا أخذه بمثله حالا، وإن كان إلى

(1)

ساقطة من الأصل، والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 173.

ص: 596

أجل أخذه بمثله إلى ما بقي من الأجل رواه مطرف عن مالك، وقال ابن الماجشون: حكم الدين حكم العرض إنما يأخذه بقيمة الدين حل أو لم يحل، قال سحنون: يقوم الدين بالعرض ثم العرض بعين وبه يستشفع، وقال أصبغ: إنما يستشفع بمثل الدين نقدا إلا أن يهضم له في الشقص هضيمة بينة فيأخذ بقيمة الشقص لا بقيمة الدين. انتهى. وقال في التوضيح: إن أخذه عن دين في الذمة ففي المذهب ثلاثة أقوال: الأول وهو مذهب المدونة أنه يأخذه بمثل الدين، الثاني بقيمته. قاله ابن الماجشون وسحنون، ورأيا أن ما في الذمة الدراهم كالعروض، الثالث الفرق فإن كان عينا أخذه بمثله وإن كان عرضا أخذه بقيمته. قاله أشهب. محمد: وهو غلط وعلى مذهب المدونة، فقال مالك في الواضحة: إن كان الدين يوم قيام الشفيع حالا أخذه به حالا، وإن كان بقي من الأجل شيء فإلى مثل ما بقي. هكذا نقل الباجي. ابن زرقون: وهو غلط وإنما ينظر إلى ذلك يوم الشراء، وكذلك هو في الموازية لا يوم قيام الشفيع واقتصر المواق على القول الثاني ولا ينبغي له ذلك. انتهى.

أو قيمته يعني أن الشفيع يأخذ الشقص بمثل الثمن الذي اشتري به إن كان مثليا أو بقيمته إن كان مقوما، قال عبد الباقي: أو قيمته أي قيمة المقوم الذي اشترى به الأجنبي الشقص يوم الصفقة لا يوم القيام إن لم يكن دينا، وأما الدين فيأخذ بمثله ولو مقوما على مذهب المدونة. انتهى. وقال المواق من المدونة: من اشترى بعين أو مثلي [فالشفعة

(1)

] فيه بمثل ثمنه، وما اشترى بمقوم فبقيمته، ومن المدونة أيضا: ما اشتريَ بعبد شفع فيه بقيمته وما اشترى بعرض فإنما ينظر إلى قيمته يوم الصفقة. انتهى. وقال الشارح: فإن اشترى بكتابة مكاتب وكانت الكتابة عرضا يقوم على أنه يعجز أو يؤدي فإن عجز فهو رقيق لبائع الشقص. انتهى.

برهنه وضامنه حال أو صفة لمثل من قوله: "بمثل الثمن"، والباء بمعنى مع؛ يعني أنه إذا اشترى المشتري الشقص بدين في ذمته وكان دينه ذلك برهن أو ضامن أو بهما فإن الشفيع يأخذ الشقص بدين في ذمته أيضا برهنه وضامنه أي بمثلهما، ولو كان الشفيع أملى من المشتري على أرجح قولي أشهب فإن لم يأت بمثل ذلك فلا شفعة له، وإيضاح هذا أن تقول: اشترى زيد من عمرو نصف دار مشتركة بينه أي بين عمرو وبكر بدين في ذمته أي في ذمة زيد، وكان الدين به رهن أو

(1)

في الأصل: فلا شفعة والمثبت من المواق ج 5 ص 376 ط دار الكتب العلمية.

ص: 597

حميل أو هما، فأراد بكر أن يشفع فإنما يأخذ بالشفعة بمثل الدين برهن أو حميل أو هما مثل ذلك الرهن أو الحميل أو مثلهما معا، وكلام المص صادق بصورتين هذه إحداهما، الثانية أن يأخذ زيد الشقص من عمرو بدين له على عمرو، وكان على عمرو ضامن أو رهن فلما اشترى منه زيد الشقص بالثمن الذي في ذمته أي في ذمة عمرو سقط الرهن أو الضامن، فإذا أخذه الشفيع وهو بكر بمثل الدين إلى مثل أجله فلابد أن يعطي للمشتري مثل ما كان له أولا من رهن أو ضامن. انظر البناني.

وقال المواق: أشهب: إذا اشترى بثمن مؤجل بحميل أو رهن فقام الشفيع وهو أملى منه، فإن لم يجد حميلا أو رهنا مثله فلا شفعة له ولو جاء برهن لا شك أن فيه وفاء لم يقبل منه إلا مثل الأول، ولو كان برهن وحميل فجاء برهن ولم يقدر على حميل فلا شفعة له. انتهى. وقال الخرشي: فلو كان برهن وحميل فإنه لا يأخذ إلا بهما معا، فلو قدر على أحدهما دون الآخر فإنه لا شفعة له.

وأجرة دلال يعني أن المشتري للشقص إذا دفع أجرة لدلال فإن الشفيع لا يأخذ بالشفعة حتى يدفع للمشتري الثمن وأجرة الدلال، وعقد شراء يعني أن المشتري للشقص إذا كان قد دفع لكاتب الوثيقة أجرة كتب عقد الشراء أي الوثيقة التي كتب فيها اشتراؤه للشقص، فإن الشفيع لا يأخذ الشقص بالشفعة إلا أن يدفع للمشتري أجرة كتب الوثيقة، قال المواق: المتيطى: وعلى الشفيع أجرة الدلال وأجرة كاتب الوثيقة وثمن ما كتب فيه يدفع ذلك كله للمبتاع لأن بذلك وصل المبتاع إلى الابتياع، فإن كان المبتاع أدى من الأجرة أكثر من المعهود بين الناس لم يلزم الشفيع سوى المعهود، قال ابن سهل: ولا مخالف في هذا وليس ذلك مثل ما عمره المشتري، فإن الشفيع لا يغرم له في العمارة شيئا بمنزلة أجرة السمسار في المرابحة لا تحسب ولا يحسب عليها ربح. انتهى. وقال عبد الباقي: وأجرة دلال وأجرة عقد شراء أي أجرة كاتب الوثيقة إن كان المشتري غرم ذلك وكذا ثمن ما يكتب فيه. انتهى.

وفي المكس تردد يعني أنه وقع التردد في لزوم غرم المكس للشفيع وعدم لزومه، والتردد هنا لواحد أي تردد في ذلك بعض الفقهاء، هذا الذي يفيده كلام ابن يونس الذي في التوضيح والمواق. قاله

ص: 598

الرهوني. أي تردد بعض الفقهاء هل يلزم غرم المكس الذي غرمه المشتري في شراء الشقص وهو ما أخذ من المشتري ظلما لأنه مدخول عليه ولأن المشتري لم يتوصل إلى الشراء إلا به؟ أو لا يلزمه لأنه أخذ ظلما؟ قال المواق: ابن يونس: انظر لو غرم على الشقص غرما هل يغرمه له الشفيع؟ وقد اختلف فيمن اشترى شيئا من أيدي اللصوص، هل يأخذه ربه بغرم أو بغير غرم؟ انتهى نقله. انظر هذه المسألة في الجهاد. انتهى.

تنبيهان: الأول: قال الحطاب: قال في اللباب: إذا زاد المبتاع للبائع شيئا بعد البيع ففي لزوم ذلك للشفيع قولان لابن القاسم وأشهب، ومذهب المدونة عدم اللزوم.

الثاني: من اشترى شقصا وصالح أحد الشفعاء على تسليم شفعته في مغيب شركائه، ثم قدموا فأخذوا شفعتهم فإنه لا رجوع على المصالح بشيء. قاله ابن رشد في نوازله، والله أعلم.

أو قيمة الشقص في كخلع وصلح عمد يعني أن المرءة إذا خالعت زوجها بشقص لها في دار مشتركة بينها وبين غير زوجها، فإن الشفيع يأخذ الشقص بقيمتة، وكذا من صالح عن دم عمد بشقص له في دار فإن الشفيع يأخذ الشقص المصالح به بقيمة الشقص، وهاتان صورتان من السبع المتقدمة فيما إذا أخذ بالشفعة في الخلع وصلح العمد والخطإ عن إنكار ونكاح إلى آخرها، وتضاف لها نظائرها في الاستحقاق ونظائرها في العيب، فهي إحدى وعشرون. ودخل بالكاف بقية السبع، قال عبد الباقي: ولما قدم أن الشفيع يأخذه بمثل الثمن إن كان مثليا أو قيمته مقوما يدخل تحت التقويم أفاد هنا حكم ما لا يدخل تحت التقويم بقوله: "أو قيمة الشقص" المشفوع فيه المدفوع من زوجة لزوج في الخلع ومن زوج لزوجة في مهر وبقية السبع مسائل المتقدمة في الباب الداخلة تحت الكاف هنا، وحينئذ فلا حاجة للتصريح بقوله:"وصلح عمد" لأن الواجب فيه القود ولا قيمة له، وتعتبر قيمة كل يوم عقد الخلع والنكاح ويوم عقد بقيتها لا يوم قيام الشفيع، واحترز بقوله:"وصلح عمد" عن صلح الخطإ عن إقرار فإن فيه الشفعة بما أخذ به، فإن كانت العاقلة أهل إبل أخذ بقيمة الإبل وإن كانت أهل ذهب أو ورق أخذ بذهب أو ورق ينجم ذلك على الشفيع كالتنجيم على العاقلة. قاله في المدونة. قاله الشارح.

ص: 599

عياض: قال بعضهم: معناه تقوم الآن على أن تقبض إلى آجالها في الدية وتقبض القيمة الآن نقدا وهو تأويل سحنون وحكي عنه أيضا وعن يحيى أنه إنما يأخذ بمثل الإبل على آجالها لا بقيمتها لأنها أسنان معلومة موصوفة، قالوا: ولا يصح أن تقوم الآن على أن تؤخذ القيمة على آجالها. قاله أبو الحسن. وسكت عن جريان مثل ذلك في الدية النقد. اهـ. وقد مر الكلام على هذا عند قوله: "ولو دينا" لخ، وقول عبد الباقي: ودخل بالكاف بقية السبع مسائل لخ صحيح، ومن جملتها الصلح على الإنكار ولا يدخل في ذلك مسألة المدونة وشبهها، ففي كتاب الصلح منها: وإن ادعيت شقصا من دار بيد رجل وله شريك فصالحك عنه على دارهم، فإن كان على إقرار ففيه الشفعة وإن كان على إنكار فلا شفعة فيه. قاله الرهوني. وقال الرهوني أيضا: وإن ادعى رجل شقصا في دار فأنكر المدعى عليه فصالحه على ذلك بشقص من دار أخرى فالشفعة في المصالح به بقيمة الشقص ولا شفعة في المدعى فيه؛ لأن الصلح وقع على الإنكار. انتهى. ويقع الغلط في هذه المسألة. والله الوفق.

فرع: قال الحطاب: قال ابن عرفة: قال أبو عمران: من نكح على تفويض فدفع لزوجته شقصا قبل بنائه شفع بقيمته اتفاقا، فإن دفعه بعد بنائه شفع فيه بمهر المثل اتفاقا أيضا، والشقص بكسر الشين المعجمة هو النصيب نقله في التوضيح عن عياض وغيره. اهـ.

وجزاف نقد يعني أن أحد الشركاء في عقار إذا باع شقصه منه بجزاف نقد فإن لشريكه أن يأخذ الشقص من مشتريه بقيمته أي بقيمة الشقص ولا يأخذه بقيمة الجزاف، وقوله وجزاف نقد قال عبد الباقي مفسرا له: ويأخذ الشفيع بقيمة الشقص يوم الشراء في جزاف نقد مصوغ أو مسكوك بيع الشقص به حيث تعومل به وزنا لا إن تعومل به عددا، ومثل ما للمص هنا ما لو اشترى الأجنبي الشقص بمعلوم ذاتا وقيمة وبمجهول قيمة مع علم ذاته كدنانير ولؤلؤ فالشفعة بقيمة الشقص، وأما لو كان الثمن كله لؤلؤا فالشفعة بقيمته لا بقيمة الشقص، وحينئذ تلتفت النفس للفرق بين ما إذا كان الثمن كله معلوم الذات ومجهول القيمة، وبين ما إذا كان بعضه فقط كذلك. اهـ. قول المص:"وجزاف نقد" قال البناني: ما ذكره في هذا خلاف المذهب، والمص تبع ابن الحاجب التابع لوجيز الغزالي، وتعقبه ابن عبد السلام بأن النقد إن كان التعامل به عددا لم

ص: 600

يصح فرضه جزافا لعدم جواز بيعه جزافا حينئذ، وإن كان التعامل به وزنا جاز بيعه لكن يكون الحكم هو قيمة ذلك الجزاف كما لو وقع المبيع بصبرة طعام. اهـ بمعناه. وأجاب في التوضيح بجواب غير ظاهر وحاصله: يمكن أن يقال لا يلزم ما ذكره ابن عبد السلام؛ لأن جزاف النقد إن قوم بعرض فهو خلاف الأصل في التقويم، وإن قوم بعين موافق أو مخالف لزم البدل أو الصرف المستأخر، ثم نقل عن اللخمي ما يوافق كلام ابن عبد السلام، ونصه: قال اللخمي: ونصه وإن كان الثمن جزافا، فقال محمد: إن اشترى بحلي جزافا فإن الشفيع يشفع بقيمته، فإن كان ذهبا قوم بالفضة أو فضة قوم بالمذهب، يريد والقيمة في ذلك يوم الشراء لا يوم الأخذ بالشفعة، وكذلك كل ما اشترى به جزافا فالقيمة يوم الشراء. اهـ. فهو صريح في رد ما للتوضيح من منع تقويم الذهب بالفضة والعكس. انظر ابن غازي. وبما تقدم عن ابن عبد السلام

(1)

من قوله بعد كلام ابن عبد السلام: مقتضاه أن الشفعة بقيمة الشقص فانظره. اهـ.

وقول الزرقاني: ومثل ما للمص هنا لخ هذه الصورة ذكرها في النوادر ونصها: ومن كتاب محمد بن المواز ومثله في العتبية عن ابن القاسم من رواية أبي زيد: وإذا ابتاعه بدينار ولؤلؤة فاختلفا في قيمتها فليصفها المبتاع ويقوم بصفته مع يمينه، فإن لم يحلف ولم يصف وصفه الشفيع وحلف فإن لم يصفها أخذه الشفيع بقيمته. اهـ. نقله اللقاني. ولا خصوصية لهذا الحكم بهذد الصورة، بل وكذا إذا ابتاعه بلؤلؤة فقط ولم يصفها المبتاع ولا الشفيع، وكذا بعرض إذا استهلك ولم يصفه المبتاع ولا الشفيع، وربما يستروح هذا من كلام المدونة، انظره في التنبيه الثاني من الحطاب عند قوله:"بمثل الثمن" وبه تعلم ما في كلام الزرقاني. والله أعلم. وفي وثائق الجزيري أن جهل الثمن مع الطول وموت الشهود مسقط للشفعة، فإن لم يطل واتهم المشتري بإخفاء الثمن أخذه الشفيع بقيمته. انتهى.

وبما يخصه إن صاحب غيره قال الخرشي: هذا متعلق بقوله: "أخذ شريك" فهو معطوف على "بمثل الثمن"، والمعنى أن من اشترى شقصا وعرضا آخر في صفقة واحدة فإن الشفعة تكون في الشقص فقط بما يخصه من الثمن، بأن يقوم الشقص منفردا ثم يقوم مع المصاحب، فيقال مثلا:

(1)

في البنانى ج 6 ص 174: وبما تقدم عن ابن عبد السلام تعلم ما في كلام المواق من قوله لخ.

ص: 601

قيمته وحده عشرة وقيمته مع المصاحب خمسة عشر فعلم أنه يخصه من الثمن الثلثان، فيأخذه بثلثي الثمن سواء زاد على العشرة أم لا. اهـ. أي فلا يقوم كل واحد منفردا فقط، وإذا أخذ النتفيع الشقص بما يخصه من الثمن لزم المشتري بالنصب مفعول "لزم" الباقي فاعل "لزم" بما يخصه من الثمن أيضا، والفرق بين هذا وبين حرمة التمسك بالقليل الباقي في الاستحقاق كما تقدم أن المشفوع إنما يأخذه الشفيع بما ينوبه من الثمن بعد معرفة ما ينوبه منه، وذلك يستلزم معرفة ما ينوب الباقي فلا جهل فيه. قاله البناني.

وقال عبد الباقي: وأشعر قوله: "ولزم المشتري الباقي" أنه ليس له إلزامه للشفيع ولا للشفيع أخذه جبرا على المشتري وهو كذلك كما نقله ال تتائي عن المدونة. اهـ.

وإلى أجله إن أيسر يعني أن أحد الشريكين إذا باع حصته من العقار بثمن معلوم إلى أجل معلوم فإن الشفيع يأخذ الشقص بمثل الثمن إلى ذلك الأجل إن أيسر الشفيع بالثمن يوم الأخذ.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: هنا ثلاث صور، إحداها أن يشتريه بدين في ذمة البائع، الثانية أن يشتريها بدين في ذمته، الثالثة أن يشتريها بدين في ذمة أجنبي فالأولى هي قوله: ولو دينا، والثانية هي قوله وإلى أجله كما قاله عبد الباقي، والثالثة مر عن عبد الباقي عند قوله:"ولو دينا" ما يفيد حكمها، والحكم في الجميع أنه يأخذ بمثل الثمن إلى ذلك الأجل. والله تعالى أعلم. وقوله:"وإلى أجله إن أيسر" قال الرهوني: ظاهره ولو كان المشتري أكثر يسارا وهو كذلك، قال في التوضيح: وظاهر المدونة وهو ظاهر كلام المص أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون ملاء الشفيع كالمشتري أو أقل هو قول محمد وابن الماجشون والمتيطى وهو المشهور، وقال أشهب: إن لم يكن الشفيع كالمشتري في الملاء أتى بحميل مثل ثقة المشتري وملائه، ونحوه في اختصار المتيطية لابن هارون، وفي المعين ما نصه: وإن كانا مليين والمبتاع أكثر ملاء فلا حميل على الشفيع هذا هو المشهور من المذهب. اهـ.

وقال عبد الباقي: وإذا بيع الشقص مؤجلا أخذه الشفيع إلى أجله الذي اشترى المشتري له إن أيسر الشفيع بالثمن يوم الأخذ ولا يكفي تحقق يسره يوم حلول الأجل في المستقبل، ولم يراع خوف طرو عسره قبل حلول الأجل إلغاء للطواري لوجود مصحح العقد وقته. اهـ.

ص: 602

أو ضمنه ملي يعني أن ثمن الشقص إذا كان مؤجلا فإن الشفيع يأخذ بمثل الثمن إلى ذلك الأجل، بمعنى أنه لا يعطيه مثل الثمن إلا بعد حلول الأجل إن أيسر الشفيع بذلك أو لم يوسر به لكن ضمنه شخص ملي، قال عبد الباقي: أو إن ضمنه ملي ولا يشترط مساواتهما في الملاء، وفهم من قوله. "أجله" أن الشفيع لو لم يقم حتى حل الأجل وطلب ضرب أجل كالأول لم يجب وهو كذلك عند مالك وأصبغ وغيرهما؛ لأن الأول مضروب لهما معا، وقال مطرف وابن الماجشون وابن حبيب: يضرب له كالأول، وصوبه ابن يونس وابن رشد لأن الشفيع يجب أن ينتفع بالتأخير كالأول. قاله ال تتائي. والمعتمد الثاني. كما أنه المعتمد أيضا فيما إذا اشترى الشقص بدين في ذمة البائع قبل حلول أجله ولم يأخذه الشفيع حتى حل كما تقدم. اهـ.

قوله: والمعتمد الثاني لخ، قال البناني: أي لترجيح ابن يونس وابن رشد كما في التوضيح، لكن الذي جرى به العمل عندنا هو الأول. اهـ. وقول عبد الباقي: وهو كذلك عند مالك وأصبغ لخ ما عزاه لل تتائي هو كذلك فيه، وقد سكت عنه ابن عاشر ومصطفى كما سكت التاودي والبناني عن كلام الزرقاني وفيه نظر؛ لأنه لم ينسب لمالك إلا موافقة أصبغ، فلم يسلك طريق المتيطى ومن تبعه كصاحب المعين ولا طريقة الأكثر. اهـ؛ يعني أن صاحب المعين نسب لمالك القولين تبعا للمتيطى، وكلاهما مرجح لما رجحه عبد الباقي، وأما الأكثر فلم ينسب لمالك إلا القول الثاني عند عبد الباقي، ثم قال الرهوني بعد جلب نقول ما نصه: وبه تعلم صحة قول الزرقاني والمعتمد الثاني. اهـ.

وإلا أي وإن لم يكن الشفيع مليا ولا ضمنه ملي عجل الشفيع للمشتري الثمن بأي وجه أمكنه وإلا فلا شفعة له، والحاصل أن الشفيع إذا لم يكن موسرا فإما أن يأتي بضامن ملي وإما أن يعجل الثمن للمشتري فإن لم يعجله له ولم يأت بضامن فلا شفعة له، واعلم أن ما هنا قبل الأخذ بالشفعة وما يأتي من قوله:"وبيع للثمن" موضوعه أنه قد وقع الأخذ بالفعل. والله تعالى أعلم.

إلا أن يتساويا يعني أن محل ما تقدم من أنه يلزم الشفيع أن يأتي بضامن أو يعجل الدين حيث كان معسرا إن لم يكن المشتري مساويا له في الفقر، وأما إن كانا متساويين في العسر فإنه يضمن الحق إلى ذلك الأجل، قال عبد الباقي: فإن كان الشفيع أشد عدما لزمه أن يأتي بضامن، فإن

ص: 603

أبى ولم يأت بقدر الدين أسقط السلطان شفعته، وقوله:"إلا أن يتساويا" وقيل إنهما إذا تساويا عدما لزم الشفيع أن يأتي بحميل أو يعجل والأول صوبه اللخمي، وإلى تصويبه أشار بقوله: على المختار قال الشارح: ونبه بذلك على ما قاله اللخمي أنهما إذا تساويا في العدم فلا يلزم الشفيع الإتيان بحميل، ثم حكى فيه قولا آخر بلزوم ذلك وصوب الأول. اهـ. قال: لأن الشفيع موسر بجميع ذلك النصف الذي يستشفع به والنصف الذي استشفعه. قاله المواق. وقال الشارح: وكذا حكى صاحب البيان قولين إذا استويا عدما، قال: وإن استويا في الملاء لم يلزم حميل باتفاق، وإن كان الشفيع أقل ملاء فعلى الخلاف وإن كان أشد عدما لزمه حميل باتفاق. اهـ.

ولا تجوز إحالة البائع به يعني أن المشتري للشقص بدين مؤجل ليس له أن يحيل بائع الشقص بذلك الدين على الشفيع؛ لأن الحوالة إنما تكون بدين حال فإحالة مصدر مضاف لمفعوله كإن أخذ من أجنبي مالا ليأخذ ويربح تشبيه في عدم الجواز، والضمير في "ليأخذ ويربح"، للشفيع؛ يعني أن الشفيع إذا أخذ من شخص أجنبي أي غير البائع والمشتري مالا ليأخذ بشفعته بمثل الثمن الذي دفعه المشتري للبائع ويربح المال الذي أخذه بأن يعطيه الأجنبي مثل الذي أخذ به ويفوز بالمال الذي دفعه له لأجل أن يشفع له، فإن ذلك لا يجوز لأنه من أكل أموال الناس بالباطل، وإيضاح هذا أن تقول هنا أربعة: زيد وعمرٌو مشتركان في عقار فباع زيد حصته لبكر فدفع خالد مالا لعمرو على أن يأخذ له بالشفعة بأن يعطيَ عمرو لبكر مثل الثمن الذي دفعه لزيد ثم يعطيه خالد مثل الثمن الذي أخذ به ويفوز عمرو بالمال الأول الذي دفعه له خالد ويكون الشقص لخالد فهذا لا يجوز لأنه من أكل أموال الناس بالباطل. قال عبد الباقي: وشبه في عدم الجواز قوله: "كإن أخذ مستحق الشفعة من أجنبي أي غير المشتري والبائع مالا" ليأخذ بشفعته بمثل الثمن الذي دفعه المشتري للبائع ثم يعطي الأجنبي مثله للشفيع ويربح المال الذي أخذه منه قبل ذلك؛ لأنه من أكل أموال الناس بالباطل ويحتمل أن معناه أنه يبيعه بربح عما أخذ به من المشتري ولا مفهوم له فلا يجوز له أن يشفع إلا ليتملك لا ليهب أو يتصدق أو يوليه لغيره، فإن فعل سقطت شفعته.

ص: 604

ولذا قال: ثم لا أخذ له بعد ذلك. اهـ. وقال البناني: زاد الخرشي تبعا لل تتائي صورة أخرى غير الصورتين اللتين عند الزرقاني وهي أن يأخذ من أجنبي مالا على أن يأخذ بالشفعة لنفسه ليس للأجنبي غرض في دفع المال غير الضرر بالمشتري. اهـ. قال الشيخ المسناوي: والظاهر في هذه الصورة أنه لا تسقط شفعته فلا يأتي فيها قول المص: "ثم لا أخذ له"، وقال مصطفى: إن هذه الصورة تحتاج إلى النص عليها، وعلى أنه لا أخذ له بالشفعة. اهـ. يشير إلى قول الخرشي: يحتمل صورا، إحداها أن يأخذ المال وإذا أخذ بالشفعة دفع الأجنبي الثمن بكماله وتكون الشفعة له ويربح الشفيع ما أخذه، الثانية أن يأخذ الأجنبي مالا على أن يأخذ بالشفعة لنفسه ليس للأجنبي غرض في دفع المال غير الضرر بالمشتري ويربح الشفيع المال، الثالثة أن يباع الشقص بعشرة ويقول الأجنبي للشفيع أنا آخذ منك باثني عشر وأربحك اثنين. وكلام المؤلف إن اعتبر مفهومه جاز أن يأخذ الشفيع بالشفعة ويعطيه للأجنبي بغير ربح وإن لم يعتبر فهو مفهوم موافقة فيمنع أيضا وهما قولان. اهـ. وكونه مفهوم موافقة هو الذي مر عن عبد الباقي حيث قال: ولا مفهوم له فلا يجوز أن يشفع إلا ليتملك لا ليهب أو يتصدق أو يوليه لغيره، فإن فعل سقطت شفعته، ولذا قال:"ثم لا أخذ له" بعد ذلك. اهـ.

قوله: فإن فعل سقطت شفعته لخ، قال البناني: يعني إذا علم ذلك ببينة، المتيطى عن أشهب: وكذلك إذا ثبت ذلك بإقرار الشفيع والمبتاع لا بإقرار من أحدهما. اهـ. وقال عبد الباقي عند قوله: "ثم لا أخذ له" ما نصه: ابن سهل: لأن أخذه بالشفعة لغيره إعراض عنها، وصرح به لأن عدم الجواز لا يفيده، وقال ال تتائي: وإن شفع ليبيع فقولان. اهـ. قال الرهوني: ظاهره أنهما متساويان وليس كذلك، بل المذهب أنه ليس له ذلك، ولذا جزم به ابن عاشر فقال: من هذا المعنى أن يشفع ليبيع فإن شفعته تبطل ولا أخذ له، وقد نص المتيطى على هذه المسائل، وفي المدونة على بعضها: وقيد المتيطى مسألة الأرباح التي في المدونة والمختصر بأن يعلم ذلك ببينة. قال أشهب: وكذلك إذا ثبت ذلك بإقرار الشفيع والمبتاع لا بإقرار من أحدهما وقد عورض كما في التنبيهات

ص: 605

مسألةُ من أخذ ليبيع بمسألة المديان له الأخذ بالشفعة فيباع لغرمائه، قال: ولذا استحسن أشهب أن لا شفعة له. اهـ منه بلفظه. وما نسبه للتنبيهات أصله لابن رشد في مقدماته، ونصها: وليس للشفيع أن يأخذ بالشفعة لغيره ولا له أن يأخذ للبيع، وقد قالوا: إن المديان يأخذ بالشفعة فتباع لغرمائه وفي ذلك نظر؛ لأنه إنما أخذ للبيع، وقد استحسن أشهب أن لا يكون له ذلك، وأما المريض فإنه يأخذ بالشفعة ولا اعتراض له في ذلك وإن أخذ في هذه الحال لورثته؛ لأنه إن لم يأخذ في مرضه كان لهم أن يأخذوه لأنفسهم بعد وفاته اهـ ونحوه له في رسم مسائل وبيوع من سماع القرينين من كتاب الشفعة. اهـ.

وفي نوازل الشريف عن الشيخ ميارة أن الشفيع إذا أخذ بشفعته وباع بالقرب الشيء المشفوع فيه فإن الشقص المبيع يرد لمشتريه نص عليه في المعيار في عدة نظائر. قاله الرهوني. وقال: ووجدت بخط الفقيه العلامة المشارك أبي عبد الله سيدي محمد الشاهد رأيت فتيا لبعض الأئمة وأظنه سيدي يحيى السراج أنه لا يبيع إلا بعد مضي ستة أشهر اهـ من خطه بلفظه. اهـ. وقال المواق من المدونة: قال مالك: من وجبت له شفعة فأتاه أجنبي فقال له خذ بشفعتك ولك مائة دينار أربحك فيها لم يجز، ويرد ذلك إن وقع ولا يجوز له أن يأخذ بشفعته لغيره. انتهى.

أو باع قبل أخذه معطوف على الممنوع فهو عطف على أخذ؛ يعني أن الشفيع لا يجوز له أن يبيع الشقص الذي له أن يأخذه بالشفعة قبل أخذه إياه بالشفعة؛ لأنه من باب بيع ما ليس عند الإنسان، ولأن من ملك أن يملك لا يعد مالكا ولا يمضي بيعه ثم لا أخذ له قال المواق من ابن يونس: الشفيع إذا باع شقصه قبل أن يشفع لا شفعة له إن كان قد علم ببيع شريكه وإلا فله الشفعة، ومن المدونة قال مالك: لا يجوز بيع الشفيع للشقص قبل أخذه إياه بشفعته لأنه من بيع ما ليس عندك. انتهى. وأما إذا باع الحصة التي يملكها فسيذكره المص في مسقطاتها حيث قال: أو باع حصته وموضوع المص أنه باع الحصة لأجنبي.

بخلاف أخذ مال بعدد ليسقط يعني أن المستحق للشفعة إذا أخذ من المشتري مالا بعد شرائه للشقص على أن يسقط شفعته فإن ذلك جائز نافذ، وكذا لو أخذ مستحق الشفعة مالا من أجنبي بعده على أن يسقط شفعته فإن ذلك جائز نافذ، قال عبد الباقي: بخلاف أخذ مال أي اتفق على

ص: 606

أخذه مع غيره بعده أي بعد شراء المشتري ليسقط حقه من الأخذ بالشفعة فإنه جائز، وتسقط شفعته لأنه من إسقاط الشيء بعد وجوبه وحيث كان الواقع أن أخذه المال بعد الشراء فلا فرق بين أن يعلم الشفيع بالشراء أم لا، ولا فرق بين أن يأخذ المال المذكور من المشتري للشقص أو من أجنبي كما في ال تتائي، وما ذكرناه من رجوع ضمير بعده لشراء المشتري ظاهر ورجعه الشارح للبيع المفهوم من "باع" وفيه نظر؛ لأن ضمير باع للشفيع وليس المراد بخلاف أخذ مال بعد بيع الشفيع كما هو ظاهر، ويمكن أن يريد الشارح بعد بيع الشريك للمشتري. انتهى.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: والمتعين أن الذي أراده الشارح بيع الشريك للمشتري فلا اعتراض عليه. والله تعالى أعلم.

تنبيهان: الأول: قال الرهوني بعد جلب كثير من النقول. تحصل مما سبق كله أن تسليم الشفعة قبل وجوبها بعوض أو دونه لا يصح مطلقا ويرد العوض، وللمسلم الأخذ بعد وجوبها اتفاقا وبعد وجوبها لغير المشتري تمنع اتفاقا بعوض وبدونه وللمشتري والشفيع واحد أو متعدد مع اتفاقهم على ذلك جائز اتفاقا، خلافا لما توهمه ابن الناظم وأبو حفص الفاسي ومن بعضهم فقط فيه ثلاثة أقوال المشهور والمعمول به أنه لا يصح، ولمن بقي أخذ الجميع خلافا لأصبغ وابن حبيب في تفصيلهما، قال في المعين: وإذا سلم بعض الشركاء شفعته فإن كان على وجه الترك لشفعته والاستغناء عنها وإسقاط حقه فيها فللباقي أخذ الجميع بالشفعة هذا المعروف من المذهب، وأما إن كان قصده بالتسليم صلة المبتاع والعطية والتسليم له فليس للمستحق إلا سهمه منها وللمشتري سهام المسلمين. قاله ابن حبيب عن أصبغ. وبه أخذ ابن حبيب وفي ذلك خلاف. انتهى. وخلافا لما في مختصر الوقار من صحة ذلك مطلقا وإن اختاره اللخمي، وعلى المشهور المعمول به إذا وقع ذلك بعوض فهل يرد أم لا؟ قولان أفتى ابن رشد في نوازله مرة بهذا ومرة بهذا والراجح فتواه بالرد لظهورها من جهة المعنى وموافقتها لما جزم به في البيان، وإذا فرعنا على الأخرى فلا يشفع الباقون إلا بالجميع، ثم إذ رد التسليم بعوض على الراجح فللمسلم المدخول معهم وبدونه لا دخول له معهم لأنه أسقط حقه، والأول وإن كان أسقطه بعوض فلم يتم له فإذا استحق من يده العوض رجع بما كان له على القاعدة المقررة، ولا ينتقض ذلك بما تقدم من أنه إذا أخذ للغير

ص: 607

بربح لا أخذ له بعد لظهور الفارق، وقد نظمت ذلك مع التنبيه على أنه لا يبيع بالقرب تقريبا للحفظ فقلت:

فبيع شفعة لمن قد اشترى

من مستحق الكل حله جرى

وبيعها للغير مطلقا منع

من قبل أخذ أو بقربه استمع

وبيع بعضهم له فيه اختلف

ومنعه على الأصح قد عرف

فإن يقع فاحكم له برد

ثم له الأخذ بعيد الرد

وهبة كالبيع فيما سبقا

لكنها ليست تعود مطلقا

الثاني: في تبصرة اللخمي: من وجبت له شفعة فصالح في تركها على أنه متى بلغه إيذاء المشتري لولده فهو على شفعته، قال: لا يلزم ذلك وله القيام بها ومتى طلبه المشتري بالأخذ أو الترك كان له ذلك ما لم يطل الزمان والطول الشهور الكثيرة، وقال أصبغ: الصلح جائز والشرط لازم فإن نزع عن الصلح وأوقف الشفيع على الأخذ أو الترك فذلك له، فجعل المقال في ذلك والرجوع للمشتري لأن عليه في الترك على تلك الصفة مضرة؛ لأنه إن أحدث بناء أو غرسا ثم أحدث شيء من المشتري أو ورثته قام وأعطى قيمة ما أحدث وأخرجه، فكان له أن يقول إما أن تسقط حقك فانصرف ورأى مطرف أن للشفيع في ذلك مقالا أيضا. اهـ.

كشجر وبناء بأرض حبس أو معير يعني أنه يجوز للشريك أن يأخذ بالشفعة ما باعه شريكه من البناء والغرس الكائن ذلك بينهما في أرض الحبس أو الأرض المستعارة وهذا هو المشهور، وقال ابن المواز: لا شفعة في ذلك وقوله: "كشجر وبناء" لخ قال غير واحد: تشبيه بقوله "عقارا"، ولما كانا

ص: 608

خاصين صح تشبيههما بالعام إذ يكفي في التشبيه المغايرة ولو بالعموم والخصوص، وهذه إحدى المسائل الأربع التي استحسنها مالك ونظمها ابن غازي بقوله:

وقال مالك بالاختيار

في شفعة الأنقاض والثمار

والجرح مثل المال في الأحكام

والخمس في أنملة الإبهام

قال البناني: قال الحطاب: فإن قلت بقيت خامسة ذكرها في المدونة وهي: إذا هلكت المرءة ولها ولد يتيم لا وصي له، فأوصت بالولد والمال إلى رجل لم يجز إلا إن كان المال يسيرا نحو الستين دينارا فلا ينزع من الوصي واستحسنه مالك وليس بقياس. اهـ. وعدها ابن ناجي خمسا في شرح الرسالة فذكر هذه، فالجواب أن الذي في التوضيح وغيره أن مالكا لم يقل بالاستحسان إلا في الأربع ولم يعدوا هذه، وقال أبو الحسن: المسائل التي لم يسبق إليها مالك أربع. اهـ. فلعل مالكا سبقه إليها غيره، قال: وقد نظمت تبعا لابن ناجي فقلت:

وفي وصي الأم باليسير

منها ولا ولي للصغير

اهـ. وفي شرح عبد الباقي: وكون الإمام استحسن أربعا استشكله صاحب المسائل الملقوطة بقول المتيطى: الاستحسان في العلم أغلب من القياس، وقال مالك: إنه تسعة أعشار العلم، وقال ابن خويز منداد في جامعه: عليه عول مالك وبنى عليه أبوابا ومسائل من مذهبه وإن كان كذلك فكيف يصح قصر ذلك على أربع مسائل. اهـ. والجواب أنه وإن استحسن في غيرها لكن وافقه غيره فيه وإن كان له سلف فيه بخلاف هذه الأربعة فإنه استحسنها من عنده ولم يسبقه إليها غيره، لقوله: وما علمت أحدا قاله قبلي وهذا ظاهر. فتأمله. قاله الشيخ أحمد بابا. اهـ.

وقال الخرشي: ومسألة البناء والشجر هذه هي إحدى مسائل الاستحسان الأربع التي قال فيها مالك إنه لشيء استحسناه وما علمت أن أحدا قاله قبلي، الثانية الشفعة في الثمار الآتية عند قوله:"وكثمرة ومقثاة"، الثالثة القصاص بالشاهد واليمين وستأتي في باب الجراح الرابعة في أنملة

ص: 609

الإبهام خمس من الإبل، وستأتي عند قوله:"إلا الإبهام فنصفه" بخلاف كل أنملة من غيرها ففيها ثلث ما في الإصبع. اهـ.

وقدم المعير بنقضه أو ثمنه قد علمت أن الشريكين في البناء بالأرض المستعارة إذا باع أحدهما حصته منه أن لصاحبه الأخذ بالشفعة، فأخبر أن ذلك بعد تخيير المعير، ومعنى كلامه أنه إذا استعار شخصان عرصة شخص وبنياها ثم باع أحدهما حصته من البناء فإنه يقدم المعير على الشفيع في الأخذ لا بالشفعة بل لدفع الضرر، فيخير في دفع الأقل من قيمة البناء أو الغرس منقوضا والثمن الذي اشتراه بحصته من البناء أو الغرس ويبقى ذلك بأرضه، وله أيضا أن يأمره بقلع بناثه وغرسه من أرضه، فإن أبى فللشفيع الأخذ بالشفعة للضرر وهو أصل الشفعة ومحل التخيير المذكور للمعير إن مضى لابتداء العارية ما أي زمن يعار له عادة، والضمير يعود على ما في مطلقة ومقيدة انقضى زمنها أو لم يمض إن دخل البائع فيهما مع المشتري على الهدم، وإلا يمض ما يعار له عادة في المطلقة ولا الزمن المحدود في المقيدة بأجل، فيقدم المعير على الشفيع فيأخذ البناء والغرس بالأقل من قيمته قائما، أو ثمنه في مطلقة دخل البائع مع المشتري على البقاء أو السكت، وأما في مقيدة لم ينقض زمنها ودخل البائع مع المشتري على البقاء أو السكت فيقدم الشريك بالشفعة، ولا كلام للمعير حتى تنقضي المدة فيأخذه بقيمته منقوضا أو ثمنه وقال عبد الباقي: والفرق بينهما أن له الإخراج في المطلقة كما قدم المص. اهـ. وعلم مما مر أنه متى دخل مع المشتري على الهدم في مطلقة أو مقيدة انقضى زمنهما أم لا فللمعير الأخذ بقيمته منقوضا أو ثمنه. والله تعالى أعلم.

وكثمرة عطف على قوله: "كشجر" وهذه إحدى المسائل الأربع كما مر؛ يعني أن الشريكين في ثمرة إذا باع أحدهما حصته منها فإن لشريكه الذي لم يبع أن يأخذ من المشتري الحصة التي اشتراها بالثمن الذي اشتريت به لثبوت الشفعة فيها، قال عبد الباقي: وكثمرة موجودة يوم الشراء مؤبرة أم لا وغير موجودة فللشريك أخذها بالشفعة إذا باعها شريكه لأجنبي؛ لأنها لما كانت ناشئة عن الأصل وكامنة فيه فكأن الشراء وقع عليها، فما قبل المبالغة الآتية يشمل الموجودة وغيرها، ونبه المص بهذا وما بعده على أن كل ماله أصل تجنى ثمرته ويبقى أصله كما

ص: 610

قال الباجي كقطن وقرع فيه الشفعة، وهي إحدى المستحسنات فخرج عن ذلك الزرع كما سيذكره المص، ويستثنى منه الفول الأخضر الذي يباع أخضر ولا يؤكل إلا كذلك، ففي ابن عرفة والغماري على الرسالة أن فيه الشفعة. اهـ. قوله: مؤبرة أم لا وغير موجودة لخ، قال البناني: حمله كلام المص على ما يشمل الثمرة غير المؤبرة يوم الشراء والثمرة غير الموجودة غير ظاهر؛ لأن أخذ الشفيع لها في هذين القسمين مع الأصل ليس من باب الشفعة لعدم وجودها يوم الشراء، والشفعة إنما تكون في الموجود يومئذ وإنما أخذه لها من جهة الاستحقاق كما قاله ابن رشد في المقدمات، ونصها: ولا فرق في وجوب الشفعة في الثمرة عند من أوجبها -وهو قول مالك في المدونة- بين أن تباع دون الأصل بعد زهوها أو مع الأصل بعد الزهوأو قبله وبعد الإبار على مذهب ابن القاسم، وأما إن بيعت قبل الإبار فلا شفعة فيها إذ لم يقع عليها حصة من الثمن، وإنما يأخذها على مذهب ابن القاسم ما لم تجذ أو تيبس إذا كان البيع وقع فيها قبل الإبار من جهة الاستحقاق لا من جهة الاستشفاع. اهـ كلامه. وعن غير المؤبرة وغير الوجودة عبر المص بعد بقوله:"وإن اشترى أصلها فقط" لخ فلا تكرار في كلامه وهو ظاهر. اهـ.

ومقثاة يعني أن الشريكين أو الشركاء في المقثاة إذا باع أحدهما أو أحدهم حصته منها، فإن لمن بقي من الشريكين أو الشركاء أن يأخذ الحصة المبيعة بالشفعة، وقوله:"ومقثاة" قال عبد الباقي: عطف على مقدر أي ثمرة غير مقثاة ومقثاة؛ إذ لا يخفى أن المقثاة ليست اسما للقثاء بل للشجرة التي فيها القثاء. اهـ. ونحوه للخرشي، وقال المواق: إذا كان بين قوم ثمر في شجر قد أزهى فباع أحدهم حصته منه قبل قسمته والأصل لهم أو بأيديهم في مساقاة أو حبس، فاستحسن مالك لشركائه فيه الشفعة ما لم ييبس قبل قيام الشفيع أو تباع وهي يابسة، وقال: ما علمت أن أحدا قاله قبلي، ورواه عبد الملك ولم يأخذ به. اهـ.

وباذنجان يعني أن الباذنجان كالمقاثي وفيه الشفعة، قال عبد الباقي وباذنجان بفتح المعجمة وكسرها عطف خاص على عام فيه الشفعة وبالغ على ثبوت الشفعة في الثمر بقوله ولو بيعت كل واحدة بما ذكر مفردة عن أصلها أي بيعت الثمرة وحدها دون أصلها وهو الشجر والمقاثي والباذنجان مفردة عن أصلها وهو الأرض، وقوله:"كثمرة" لخ هذا قول مالك في المدونة وغيرها،

ص: 611

وإليه ذهب ابن القاسم وأشهب ومعظم الأصحاب وهو المذهب، وقال ابن الماجشون: لا شفعة فيها ولو بيعت مع أصولها، ولأشهب ثالث إن بيعت مع أصلها ففيها الشفعة وإلا فلا وعليه رد المص بلو. انظر الشارح. وقال عبد الباقي: ولو بيعت كل واحدة مما ذكر مفردة عن الأصل في الثمار وعن الأرض فيما بعدها، وبالغ بلو لرد قول أصبغ لا شفعة فيها إن بيعت مفردة على أصلها. اهـ. وقال البناني: عزو عبد الباقي مقابل لو لأصبغ غير صواب، ومقابله لعبد الملك وأشهب. الرهوني: وفيه نظر أي بالنسبة لابن الماجشون لأنه يقول بنفي الشفعة مطلقا والمص لم يشر له، فظاهره نفي الخلاف إذا بيعت مع الأصل وليس كذلك. انتهى.

إلا أن تيبس يعني أن الثمار إذا يبست بعد العقد وقبل الأخذ بالشفعة لا شفعة فيها، وكذلك لا شفعة فيها إذا بيعت وهي يابسة فهو مستثنى من قوله:"كثمرة" وما بعده، قال عبد الباقي: إلا أن تيبس الثمرة بعد العقد وقبل الأخذ بالشفعة فلا شفعة فيها، ومثله إذا وقع البيع عليها وهي يابسة كما في المدونة، ومقتضى هذا أن الجذ قبل اليبس غير كاف وهو ظاهر إذ لو كان كافيا لم يتأت الخلاف بين الموضعين إذ كل من اليبس والجذاذ كاف في كليهما. اهـ. قوله: كاف في كليهما يعني لو فرضناه كافيا هنا، وقوله: "إلا أن تيبس قال البناني: المراد باليبس كما لابن رشد حصول وقت جذاذها للتيبيس إن كانت تيبس أو للأكل إن كانت لا تيبس، وقال ابن عرفة: ظاهر الروايات في غير هذا الموضع أن يبسها ارتفاع منفعتهما ببقائها في أصلها لا حضور وقت قطافها فقد يحضر ويكون لبقائها زيادة منفعة كالعنب والرمان عندنا. اهـ. الرهوني: ما قاله ابن عرفة موافق في المعنى لما نقله أبو الحسن عن عبد الحق وأقره، وهو الموافق أيضا لما قدمناه في الجوانح من أن الجائحة لا تسقط فيها إلا بالمعنى الذي ذكره ابن عرفة لأن سقوط الجائحة وسقوط الشفعة متلازمان كما صرح به ابن رشد نفسه. ويأتي لفظه هنا قريبا. اهـ.

وحط حصتها إن أزهت أو أبرت يعني أنه إذا بيعت الأصول المشتركة أي باع الشريك حظه منها وعليها يوم البيع ثمرة مؤبرة أو مزهية وقد اشترطها المشتري ولم يأخذ الشفيع بالشفعة حتى يبست فإنه لا شفعة فيها كما عرفت، فيأخذ الشفيع الأصل فقط ويحط عنه ما ينوب الثمرة من الثمن لأن لها حينئذ حصة من الثمن، ومفهوم قوله:"إن أزهت أو أبرت" أنها إن لم تكن مؤبرة

ص: 612

يوم بيع الأصل أنه لا يحط عن الشفيع شيء من الثمن إذ لا حصة لها حينئذ كما يأتي ومر ما يفيده. والله تعالى أعلم.

وفيها أخذها ما لم تيبس أو تجذ يعني أن الشفيع يأخذ الثمرة بالشفعة إلا أن تيبس كما عرفت وهو في المدونة، ومقتضاه أنها إذا جذت قبل اليبس يأخذها، ووقع في المدونة أيضا أن الشفيع يأخذ الثمرة بالشفعة ما لم تيبس أو تجذ، فإذا جذت فإنه لا يأخذها وكذا لو يبست ولم تجذ فإنه يأخذها فهما سيان، واختلف الشيوخ هل هوأي ما في الموضعين من المدونة خلاف لأنه قال مرة:"إلا أن تيبس" ومرة ما لم تيبس أو تجذ أو وفاق، وعليه فقوله:"إلا أن تيبس" محله إذا اشتراها بغير أصل فالشفعة ما لم تيبس، فإن جذت قبل اليبس فله أخذها، والثانى إذا اشتراها مع الأصل فالشفعة ما لم تيبس أو تجذ ولو جذت قبل اليبس.

وقوله: تأويلان مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان، وما قررت به المص هو تقرير له بحسب ظاهره، والذي يفيده كلام الأئمة أن الجذ مفيت على كل حال على المشهور، وفي الرهوني عن ابن رشد: قد قال ابن القاسم إن الشفعة في الثمرة وإن يبست ما لم تجذ إذا اشتراها مع الأصول، وفي التوضيح ما نصه: فمذهب ابن القاسم أن فيها الشفعة ما لم تيبس وتجذ، قيل: وليس في الأمهات ما لم تيبس. اهـ.

والحاصل أن الجذ مفيت مطلقا على المشهور، وأن الذي تأوله عبد الحق أن مذهب المدونة أن اليبس مفيت مطلقا، وقال عبد الباقي: حق المص حذف لفظ تيبس ولفظ أو ويزيد لفظ أيضا فيقول وفيها أيضا أخذها ما لم تجذ، ويكون هذا عطفا على قوله: إلا أن تيبس ومعارضا له، وهل هو -أي ما في الموضعين من المدونة- خلاف لأنه قال مرة:"إلا أن تيبس"، ومرة "إلا أن تجذ أو وفاق"، فالأول إذا اشتراها بغير أصل فالشفعة مالم تيبس فإن جذت قبل اليبس فله أخذها، والثاني إذا اشتراها مع الأصل فالشفعة مالم تجذ سواء جذت قبل اليبس أو بعده. اهـ.

تنبيهان: الأول: قال البناني عند قول المص "ولو مفردة" ما نصه: يشمل ثلاث صور، الأولى إذا باع الأصل دون الثمرة ثم باع أحدهما نصيبه منها، الثانية أن يكون الأصل باقيا ويبيع أحدهما نصيبه من الثمرة فقط، الثالثة أن يشتريا معا الثمرة ويبيع أحدهما نصيبه منها. انتهى. قال

ص: 613

الرهوني: مفهوم العدد في كلامه غير معتبر لأنه يشمل غيرها أيضا، كأن يكون الأصل لواحد والثمرة بينهما كالمساقاة، وكهبة شخص آخر جزء شائعا من ثمرة حائطه أو بيعه منه، وكأن تكون الأصول محبسة عليهما أو يكون نصفها ملكا لشخص ونصفها الآخر محبسا على آخر فلا وجه لذكر ذلك العدد. والله أعلم. انتهى.

الثاني: ظاهر كلام المص أن الشفعة في الثمرة ولو صيفية وهو ظاهر كلام الإمام وأصحابه، وصرح في المعيار نقلا عن ابن مرزوق أنها ثابتة فيما لا يدخر، وفي مجالس المكناسي: وقد فرقوا في الثمرة بين المدخر وغيره، والذي جرى به العمل وجوبها في المدخر وغيره. قاله الرهوني ثم ذكر ما يفيد أن طول وجود الثمرة يقوم مقام الادخار.

وإن اشترى أصلها فقط أخذت هذا مفهوم قوله: "وكثمرة" لخ قاله البناني. وقال غير واحد: قسيم قوله: "وحط حصتها إن أزهت أو أبرت" يعني أنه إذا اشترى الأصل فقط ولا ثمرة فيه أو فيه ثمرة غير مؤبرة فإن الشفيع يأخذ الثمرة مع أصلها ولا يحط لها شيء إذ لا حصة لها من الثمن حتى تحط، فقوله:"فقط" احترز به عن المؤبرة، وقوله:"وإن أبرت" مبالغة في أن للشفيع أن يأخذ الثمرة مع أصلها أي للشفيع أن يأخذ الثمرة تبعا للأصل، وإن كان المشتري قد أبرها ولو كانت مزهية ما لم تيبس أو تجذ فلا يأخذها، فقوله:"أبرت" أي عند المشتري.

ورجع بالمؤنة يعني أن الشفيع إذا أخذ الثمرة المذكورة فإن المشتريَ يرجع عليه بالمؤنة من علاج وتأبير وسقي حصلا منه ولو زاد على قيمتها لأنه يرجع في الذمة، والقول له فيما أنفق إن لم يتبين كذبه. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: قوله: "وإن أبرت" أي عند المشتري أي أو أزهت ولم تيبس وحينئذ يرجع المشتري على الآخذ بالمؤنة أي بأجرته في خدمة الأصول والثمرة من سقي وتأبير وعلاج ولو زادت المؤنة على قيمة الثمرة. قاله محمد. وهذا هو المشهور، والقول قوله فيما ادعى من المؤنة إن لم يتبين كذبه. انتهى. وقوله:"ورجع بالمؤنة" هو المشهور كما عرفت، وقال عبد الملك وسحنون: ليس على الشفيع غير الثمن لأن المبتاع أنفق على نفسه فلا يرجع إلا بما له عين قائمة، وفاعل "اشترى""ورجع" واحد وهو المبتاع من الشريك، وقال المواق من المدونة: من ابتاع نخلا لا ثمر فيها أو فيها ثمر لم يؤبر ثم استحق رجل نصفها واستشفع، فإن

ص: 614

قام يوم البيع أخذ النصف بملكه والنصف بشفعته بنصف الثمن، ويرجع المبتاع على بائعه بنصف الثمن وإن لم يقم حتى عمل وأبرت وفيها الآن بلح أو فيها تمر قد أزهت ولم تيبس فكما ذكرنا، ويأخذ الأصل بثمره وعليه للمبتاع قيمة ما سقى وعالج فيما استحق واستشفع، فإن قام بعد يبس الثمرة أو جذاذها لم يكن له في الثمرة شفعة كما لو بيعت الثمرة حينئذ، ويأخذ نصف الأصول بالشفعة بنصف الثمن ولا يحط عنه للثمن شيء إذ لم يقع عليها يوم البيع من الثمن حصة. اهـ.

تنبيه: قال البناني عند قوله: ورجع بالمؤنة "ما نصه" إن أبرت أو أزهت وأما قبل ذلك فلا رجوع له بالنفقة لأنه لم ينشأ عن عمله شيء. انظر المواق.

وكبئر لم تقسم أرضها يعني أن البئر أو العين المشتركة التي لم تقسم أرضها إذا باع أحد الشركاء نصيبه فيها مع الأرض أو مفردة فلشريكه الأخذ بالشفعة. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وكبئر أو عين مشتركة بين شخصين لم تقسم أرضها المشتركة بينهما التي يسقى بها ويزرع عليها لا موضع حفرها وباع أحد الشريكين حصته في البئر والعين خاصة، أو مع الأرض بالشفعة ولو كانت بئرا واحدة لا فناء لها ولا أرض غير التي تزرع بمائها، وإذا باع حصته في المعين والبئر خاصة وبقيت الأرض بينهما قسم شرب العين بالقلد ويجري مثله في قوله: وإلا بأن قسمت الأرض خاصة وبقيت البئر أو العين مشتركة بينهما ثم باع أحدهما حصته منها فلا شفعة للشريك؛ لأن القسم يمنع الشركة كما في المدونة، وفي العتبية: له الشفعة أي لحمل ما قسم أرضها على ما لم تقسم وهل ما في الكتابين خلاف أو وفاق، فتحمل المدونة على البئر المتحدة، والعتبية على المتعددة كما عليه سحنون، أو تحمل المدونة على ما لا فناء لها والعتبية على ما لها فناء أو أرض مشتركة وعليه ابن لبابة.

وشمل المعنيين قوله: وأولت أيضا بالمتحدة أي غير المتعددة وغير ذات الفناء. انظر التتائي. قاله عبد الباقي. وقال البناني: الظاهر أن المص ما أشار إلا لتأويل سحنون. اهـ. وقال المواق من المدونة: إن كان بينهما أرض ونخل ولها عين فاقتسما النخل والأرض خاصة، ثم باع أحدهما نصيبه من المعين فلا شفعة فيه وهو الذي جاء فيه ما جاء لا شفعة في بير وإن لم يقتسموا ولكن

ص: 615

باع أحدهم حصته من العين أو البئر خاصة أو باع حصته من الأرض والعين جميعا، ففي ذلك الشفعة ويقسم شرب العين بالقلد وهو القدر، وقال ابن القاسم في العتبية عن مالك: إن الشفعة في الماء الذي يقتسمه الورثة بينهم بالأقلاد وإن لم يكونوا شركاء في الأرضين التي تسقى بتلك العين والحوائط، قال مالك: وأهل كل قلد يتشافعون بينهم دون أشراكهم. انتهى جميع ما نقل ابن يونس. وقال ابن رشد: إن بيع شقص من البئر مع الأصل أو دونه ولم تقسم الأرض ففيه الشفعة اتفاقا، وإن بيع بعد قسم الأرض ففي المدونة: لا شفعة فيه، وسمع يحيى فيه الشفعة، قال سحنون: ليس هذا باختلاف، ومعنى المدونة أنها بير واحدة فلا شفعة فيها لأنها لا تقسم، ومعنى سماع يحيى أنها آبار كثيرة تقسم. انتهى.

لا عرض بالجر عطف على "بير" من قوله: "كبير" يعني أن العرض لا شفعة فيه، فإذا كان عرض أو طعام مشتركا وباع أحد الشريكين نصيبه من ذلك فلا شفعة لشريكه، وقال البناني عند قوله:"لا عرض" ما نصه: هذا إذا لم يطلع الشريك على الثمن الذي وقفت به السلعة إلا بعد انبرام البيع، أما قبل انبرامه فالشريك أحق به بالثمن الذي وقفت به رفعا لضرره، وليس هذا بشفعة لأنها أخذ من يد المشتري وهذا أخذ من يد البائع. هذا حاصل ما ذكره الزرقاني وهو ظاهر. ونحوه قول ابن عرفة: كل مشترك لا شفعة فيه فباع بعض الشركاء نصيبه منه فلمن بقي أخذه بالثمن الذي أعطيَ فيه ما لم ينفذ البيع. انتهى بمعناه.

وكتابة ودين يعني أن الكتابة إذا كانت مشتركة بين مالكي عبد أو دين بين شخصين، فباع أحدهما ما ينوبه من الكتابة أو الدين فإنه لا شفعة لشريكه في ذلك، وهذا الذي قررت به المص هو ظاهره وهو حسن، وقرره غير واحد بأن معناه أن الدين والكتابة إذا بيعا لأجنبي غير عدو فإنه لا شفعة للمدين ولا للمكاتب بالفتح، بمعنى أنه لا يكون المكاتب أحق بكتابته ولا المدين بدينه إلا أن يبيعه من عدوه، فإن الدين أحق به لرفع الضرر. المواق: أبو عمر: جاء الأثر عن السلف أن المديان أحق من مشتري الدين واختلف في هذا أصحاب مالك وإطلاق الشفعة في هذا مجاز. انتهى. وقال ابن رشد: اختلف قول مالك في الشفعة في الكتابة والدين يباعان هل يكون للمكاتب المدين الشفعة في ذلك. انتهى. وتوضيح هذا أن تقول: إذا كان في ذمة زيد لعمرو فرس

ص: 616

مثلا فاشترى بكر من عمرو فرسه الدين الذي على زيد بعشرة دراهم مثلا فإنه اختلف، هل يكون زيد أحق بالفرس الذي في ذمته من بكر ويؤدي له ما دفع فيها أم لا؟ بل تكون الفرس لبكر وهذا هو الذي مر عليه المص وهو رواية ابن القاسم، ومقابله رواية أشهب. والله تعالى أعلم. وقد مر للمص أن الشفعة خاصة بالعقار.

وعلو على سفل يعني أن صاحب العلو لا شفعة له على صاحب السفل وكذا عكسه وهو أن صاحب العلو إذا باع لا شفعة لصاحب السفل إذ لا شركة بينهما فيما باعه أحدهما؛ لأن الحصص متميزة. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وعلو على سفل وعكسه لأنهما جاران. قاله ال تتائي. والفرض أن لا شركة بينهما لأن الحصص متميزة، وفي الشارح: لشبههما بالجار وهو أولى لأن الجار حقيقة من هو على يمينك أو يسارك أو أمامك أو خلفك وهذا فوقه أو تحته أي فإطلاق الجار عليه مجاز، ولم يكتف المص عن هذه بقوله فيما مر:"وجار" لأن شدة التصاق العلو بالسفل ربما يتوهم منه الشركة بينهما. انتهى.

وزرع يعني أن الشركاء في الزرع إذا باع أحدهم حصته من الزرع فإنه لا شفعة لشريكه ومن المدونة قال مالك: وأما الزرع يبيع أحدهم حصته منه بعد يبسه فلا شفعة فيه وهو لا يباع حتى ييبس. نقله المواق. وقال الخرشي مفسرا للمص: وكذلك لا شفعة في زرع، فلو باع أحد الشريكين حصته في زرعه بعد يبسه فلا شفعة فيه لشريكه. انتهى. وقال عبد الباقي: ولا شفعة في زرع إن لم يبع مع أرضه، بل ولو بيع مع أرضه والشفعة في الأرض بما ينوبها من الثمن سواء بيع بعد يبسه أو وهو أخضر أو قبل نباته، وكلامه فيما إذا كان الزرع لبائع حصته من الأرض، فإن كان المشتري اشترى حصة الأرض ثم بذرها وجاء الشفيع قبل أن ينبت، فللباجي -وصدر به ابن عرفة كما في التتائي والتوضيح- يأخذها الشفيع بزرعها بالثمن وبقيمة البذر على الرجاء والخوف، فإن نبت أخذ الأرض دونه، ووجهه أنه إذا أبر لا يدخل في الأرض وإبار الزرع نباته، ولابن رشد غير هذا، وبحث ابن عرفة في مسألة الباجي هذه بقوله: تصوير المسألة دون فرضها في الاستحقاق عسر لأن المشتري إن زرع دون إذن شريكه فمتعد وبعده تبطل شفعته. انتهى. وقد يفرق بأن

ص: 617

المشتري وإن زرع دون إذن له شبهة العقد الصحيح دون المتعدي السابق في قوله: "وإن زرع فاستحقت فإن لم ينتفع بالزرع أخذ بلا شيء". انتهى كلام عبد الباقي.

الرهوني: سلم عبد الباقي كلام ابن عرفة هذا، كما سلمه كل من وقفنا عليه مع أنه يتصور بلا عسر في غير الاستحقاق بما إذا كان البائع قاسم شريكه في الأرض قسمة استغلال لمدة معينة ثم باع نصيبه في جميع الأرض مشاعا، فإن المشتري يتنزل منزلته في استقلاله بالتصرف فيما إذا كان البائع مستقلا بالتصرف فيه إلى انقضاء المدة؛ إذ لا تنفسخ تلك القسمة بالبيع لأنها كالإجارة والكراء كما يأتي فتأمله بإنصاف. انتهى.

وقال المواق من المدونة: من ابتاع أرضا بزرعها أخضر ثم قام شفيع بعد طيبه فإنما له الشفعة في الأرض دون الزرع بما ينوبها من الثمن بقيمتها من قيمة الزرع على غرره يوم الصفقة؛ لأن الزرع وقع له حصة من الثمن في الصفقة. انتهى. وقال الشارح: قال في المدونة بعد ذكر الشفعة في الثمرة: وأما الزرع يبيع أحدهما حصته منه بعد يبسه فلا شفعة فيه وهو لا يباع حتى ييبس ثم قال: وما يبس في شجره يعني من الثمار فبيع بعد اليبس في شجره فلا شفعة فيه كالزرع، وقال في باب بعد هذا: ومن ابتاع أرضا بزرعها الأخضر ثم قام الشفيع فإنما له الشفعة في الأرض دون الزرع بما ينوبها من الثمن بقيمتها من قيمة الزرع على غرره يوم الصفقة؛ لأن الزرع وقع له حصة من الثمن في الصفقة، ثم قال: ولو كانت الثمرة يوم البيع مأبورة وقام بعد يبسها سقط عنه حصاصها من الثمن، فظهور الزرع من الأرض كإبار الثمر في النخل في هذا، وفي أن ذلك للبائع إلا أن يشترطه المبتاع فيصير له بالاشتراط حصة من الثمن ولم يكن للشفيع في الزرع شفعة لأنه غير ولادة وليس له منه شيء، والثمرة ولادة للشفيع أخذ نصفها، فإذا قام قبل يبسها فله الشفعة. انتهى. الحطاب عن ابن ناجي: ولا شفعة في النهر ولا في مسيل الماء.

وبقل يعني أن البقول لا شفعة فيها كالهندبا ونحوها، فلا يدخل فيها القرع خلافا للبساطي، فمراده بالبقل ما عدا الزرع والمقاثي والقرع من المقاثي، وقوله:"وبقل" قال الشارح: مذهب المدونة أن البقول لا شفعة فيها، قال ابن رشد: ويتخرج فيها قول بوجوب الشفعة على القول بوجوبها في الثمرة ما لم تجذ. انتهى.

ص: 618

وعرصة يعني أن الدار إذا قسمت بيوتها وبقيت ساحة الدار مشتركة بين الشركاء أو الشريكين فباع أحدهم أو أحدهما حصته منها فإنه لا شفعة فيها، قال عبد الباقي: ولا شفعة في عرصة ساحة دار قسمت بيوتها وبقيت ساحة الدار مشتركة بينهما أو بينهم. انتهى. وقال الخرشي: يعني أن الدار إذا قسمت بيوتها لا شفعة في عرصتها أي ساحتها، وسواء باع حصته مع ما حصل له من البيوت بالقسمة أو باع العرصة وحدها ولو أمكن قسمها؛ لأن العرصة لما كانت تابعة لما لا شفعة فيه كانت لا شفعة فيها. انتهى. ويأتي البحث معه في قوله: أو باع العرصة وحدها؛ وقوله: "وعرصة" حكى اللخمي فيها قولا آخر بوجوب الشفعة. قاله الشارح.

وممر يعني أن الممر بفتح الميمين أي موضع المرور وهو الطريق لا شفعة فيه حيث قسمت بيوت الدار، فإذا كان بين قوم دار واقتسموا بيوتها وأبقوا الممر - وهو الطريق التي يتوصل للبيوت منها - ليرتفقوا بذلك فلا شفعة فيه إذا باع أحد الشركاء حصته منه، قال في المدونة: ولا شفعة بالجوار والملاصقة ولا بالشركة في الطرق يريد لأنها تبع لا قد قسم، كالساحة إذا قسمت الدار فباع أحدهم ما صار له من الدار. ابن عبد السلام: ولا يبعد تخريج الخلاف فيه من الخلاف في النخلة الواحدة قاله الشارح.

وعلم مما قررت أن قوله: قسم متبوعه راجع للعرصة والممر والتابع العرصة والممر والمتبوع الدار، وقوله:"متبوعه" أي ما ذكر من العرصة والممر، قال عبد الباقي: وممر طريق مشترك بين قوم لدار أو جنان إذ لا يملك قسم متبوعه ما ذكر من العرصة والممر، ولو قال: متبوعهما بضمير التثنية كان أوضح وبقي هو ليتوصل منه لدار أو جنان فلا شفعة في واحد منهما، سواء باع حصته منهما مع ما حصل له من البيوت بالقسمة، أو باعها وحدها ولو أمكن قسمها؛ لأنها لما كانت تابعة لما لا شفعة فيه وهو البيوت إذا قسمت لصيرورة أهلها جيرانا كان لا شفعة فيها. انتهى.

قوله أو باعها وحدها ولو أمكن قسمها لخ فيه نظر، بل إذا باع حصته منها وحدها وجبت الشفعة إذا كان البيع لأهل الدار كما نقله المواق عن اللخمي. انظره. انتهى. قوله: وجبت الشفعة إذا كان البيع لأهل الدار لخ يوهم أنه إذا بيعت لغيرهم لا شفعة فيها وفيه نظر. وصوابه أن

ص: 619

يقول: إذا كان البيع لأهل الدار أو لغيرهم ورضوا به وإلا فلهم رده. راجع المواق. والله أعلم. قاله الرهوني. وقال المواق: "وعرصة وممر قسم متبوعه". الرسالة: لا شفعة معرصة قد قسمت بيوتها. اللخمي: إن قسمت بيوت الدار دون مرافقها من ساحة وطريق وبير ومأجل ثم باع أحدهم حظه من بيوتها بمرافقها التي لم تقسم لم يستشفع فيما قسم بالشرك فيما لم يقسم ولا يستشفع في الساحة والطريق والبير والمأجل لأجل بقاء الشرك فيها لأنها من منفعة ما قسم ومصلحته، فإن باع نصيبه من الساحة والبير والأجل خاصة كان للشركاء أن يردوا بيعه إذا كان البائع يتصرف إلى البيوت؛ لأن ذلك ضرر

(1)

بهم وإن كان قد أسقط تصرفه فيها وصرف بيوته إلى مرافق آخر، فإن باعها من أهل الدار جاز لبقية الشركاء الشفعة على أخذ القولين في الشفعة فيما لا ينقسم، وإن باعها من غير أهل تلك الدار كان لهم رد البيع لأن ضرر الساكن أخف من ضرر من ليس بساكن، ولهم أن يجيزوا بيعه ويأخذوا بالشفعة إن أحبوا. انتهى.

وحيوان يعني أن الحيوان لا شفعة فيه، قال عبد الباقي: ولا شفعة في حيوان عاقل أو غيره مشترك بين اثنين باع أحدهما حصته منه. انتهى. وقد مر أن الحيوان لا شفعة فيه، وإنما أتى به هنا ليرتب عليه قوله: إلا في حائط يعني أن الحائط إذا كان فيه حيوان يعمل عليه فيه فباع أحد الشريكين حصته فإن الشفعة ثابتة في الشقص والحيوان، قال المواق: سمع عيسى ابن القاسم: من اشترى شقصا من حائط به رقيق يعملون فيه لم يكن للشفيع الشفعة إلا في الشقص ورقيقه لما في أحدهما فقط. انتهى. وقال الخرشي: أي إلا أن يكون الحيوان والرقيق في حائط فإن الشفيع يأخذ ذلك بالشفعة، وسواء احتاج الحائط إلى ذلك الحيوان أم لا، وليس له أن يأخذ بعض ذلك، فلو باع حصته من الحيوان وحده فلا شفعة فيه، وأدخلت الكاف العصرة والمجبسة ونحوهما. انتهى. ونحوه لعبد الباقي فإنه قال: إلا في كحائط ورحى ومعصرة ومجبسة مما يمكن قسمة إن بيع مع ما هو فيه، فإن باع حصته منه فقط فحكى ابن رشد الاتفاق على أنه لا شفعة فيه، وهو وإن نوزع في الاتفاق فأقل أحواله أن يرجح على قول آخر أن فيه الشفعة، وإن وقع الشراء في الحائط بما فيه ثم حصل فيما فيه هلاك من الله ألزم الشفيع بجميع الثمن ولا يسقط لما

(1)

في هامش بخط المؤلف: أي زيادة ضرر كما في الحطاب.

ص: 620

هلك شيء، ثم لا فرق فيما ذكره المص بين كون الحيوان له عمل أو معدا لعمل. انتهى كلام عبد الباقي.

قوله ورحى ومعصرة ومجبسة، قال البناني: ما ذكره وإن كان هو ظاهر المص لكن قال ابن غازي: لم أر من ذكر الشفعة في دابة الرحى والمجبسة، فانظر ما فائدة الكاف؟ وأما ما ذكره الشارح فغير صحيح، وقول عبد الباقي: وهو وإن نوزع في الاتفاق لخ الذي نازعه في الاتفاق هو ابن عرفة نازعه بتخريج اللخمي الخلاف فيه من الخلاف في بيع الرحا وحدها، وبنقل أبي محمد عن الموازية لو بيع شيء من ذلك على حدته ففيه الشفعة ما دام الأصل لم يقسم.

وإرث يعني أنه إذا مات أحد الشريكين فإنه لا شفعة لشريكه على وارث الشريك الميت، وهذا مفهوم ما مر، وكذا قوله:"لا عرض" الخ قال المواق؛ قال ابن عرفة: نقل غير واحد الاتفاق على نفي الشفعة في الميراث. انتهى. وقال الشارح: قد تقدم أن قوله أول الباب "ممن تجدد ملكه اللازم اختيارا" يخرج المتجدد لا اختيارا كالميراث فإنه لا شفعة فيه وهذا هو المشهور وعن مالك: أن فيه الشفعة لتجدد الملك.

وهبة بلا ثواب يعني أن أحد الشريكين إذا وهب شقصه من العقار بغير ثواب لا شفعة لشريكه فيه، وهذا أيضا مفهوم ما مر وإلا بأن وهبه للثواب ففيه الشفعة، ولكن إنما يشفع بعده أي بعد لزوم الثواب، ويأتي أنه يلزم بتعيينه وأولى بدفعه بالفعل ويأخذ الشفيع حينئذ بقيمة الثواب إن كان مقوما أو بمثله قدرا وصفة إن كان مثليا، وأما إن كان الثواب غير معين فإنما يأخذ الشفيع بالشفعة بعد دفع الموهوب العوض للواهب لا قبله؛ لأن الموهوب له الخيار إن شاء تماسك بالهبة وإن شاء ردها، فهي غير لازمة له عند عدم تعيين الثواب، بخلاف ما إذا كان معينا. وفي المدونة: والموهوب له الشقص والتصدق به عليه يقول له الشفيع: أخاف أنك ابتعته منه أو عاوضته فيه سرا وأردتما قطع الشفعة بما أظهرتما فاحلف لي، فإن كان ممن يتهم أحلفه وإلا لم يحلفه. انتهى. قال بعض الشيوخ: فيه حجة في مراعاة الشبهة في المدعى عليه، وأن من ادعي عليه دعوي لا تشبه ولا تليق به ولا جرت عادته به أنه لا يمين عليه نقله صاحب المعيار في نوازل الدعاوي والأيمان ثم نقل أثره عن ابن المكوي أنه أفتى بالشفعة في ذلك حيث تظهر مخايل

ص: 621

الكذب والتحيل على إسقاط شفعة الشفيع، ونقله أيضا ابن غازي في تكميل التقييد. قاله البناني. وقال الحطاب: وهل تلزمه اليمين أنه لغير ثواب؟ قال في الكبير: لم يحلف إلا أن يكون متهما، وقال مطرف وابن الماجشون: يحلف مطلقا. المتيطى: والقضاء بالأول. انتهى.

تنبيهان: الأول: من وهب شقصا من دار ابنه الصغير على عوض جاز، وفيه الشفعة ولا تجوز محاباة في قبول الثواب ولا ما وهب أو تصدق أو أعتق من مال ابنه الصغير ويرد ذلك كله، إلا أن يكون الأب موسرا. انتهى.

الثاني: من عوض في صدقة وقال ظننت أنه يلزمني فليرجع في العوض إن كان قائما وإن فات فلا شيء له. قاله في المدونة. انظر الحطاب. وفيه: قال في المدونة في كتاب الشفعة: ومن وهب شقصا لغير ثواب فعوض فيه فقبل، فإن ريء أنه لصدقة أو لصلة رحم فلا شفعة فيه. انتهى.

وخيار يعني أنه لا شفعة في شقص بيع على خيار، كان الخيار للبائع أو للمشتري أو لغيرهما لأنه غير لازم. إلا بعد مضيه يعني أن بيع الخيار لا شفعة فيه إلا بعد مضيه أي لزومه تثبت فيه الشفعة، ويلزم. ببت من له الخيار ولو قبل مضي زمنه أو بمضي زمنه، قال عبد الباقي: وضمير مضيه للبيع لا للخيار، ثم قال: واختلف هل الخيار الحكمي أي خيار النقيصة كالشرطي أولا؟ أي إذا رد بعد اطلاعه على العيب فله الشفعة إن قلنا إن الرد بالعيب ابتداء بيع، ولا شفعة له إن قلنا إنه نقض للبيع. انتهى. وقال الشارح: وخيار إلا بعد مضيه أي مضي البيع، وهذا مثل قوله في المدونة: من ابتاع شقصا على خيار له أو للمبتاع فلا شفعة فيه حتى يتم البيع. أبو الحسن الصغير: ولا خلاف بين ابن القاسم وأشهب في هذا، وإنما اختلفا في الخيار الحكمي هل هو كالشرطي. انتهى.

ووجبت لمشتريه إن باع نصفين خيارا ثم بتلا فأمضى يعني أن المالك لدار مثلا إذا باع نصفها على الخيار لزيد مثلا ثم باع النصف الآخر لعمرو على البت، ثم أمضى من له الخيار البيع فإن الشفعة تجب لمشتري الخيار الذي هو زيد على مشتري البت الذي هو عمرو؛ لأن إمضاءه يحقق وقوعه من حين العقد وهو سابق على بيع البتل، وهذا على قول ابن القاسم بناء على أن بيع الخيار منعقد وقت صدوره وهو خلاف المشهور، فكلام المص مشهور مبني على ضعيف، وأما

ص: 622

على أنه منحل فالشفعة لصاحب المنبرم على صاحب الخيار لكنه ضعيف هنا، والضمير في "لمشتريه" يرجع للمبيع بالخيار لا الخيار؛ لأن الخيار لا يشترى، والضمير في باع لمالك جميع الدار. وقوله:"فأمضى" أي أمضى من له الخيار بيع الخيار بعد بيع البتل. قال عبد الباقي: وقد علم أن موضوع المص اتحاد بائع الخيار والبتل، ومثله ما إذا لم يتحد بناء أيضا على أن بيع الخيار منعقد؛ لأن مبتاع الملك تجدد ملكه فيؤخذ منه، ومفهوم فأمضى أنه لو رد لا يكون الحكم كذلك، والحكم أنها لبائع الخيار فيما بيع بتلا حيث كان غير بائع البتل لأنه تبين أنه على ملكه بناء على أن بيع الخيار منحل، فإن كان بائع البتل هو بائع الخيار لم يكن له شفعة فيما باعه بتلا. انتهى.

وبيع فسد يعني أن أحد الشريكين في عقار إذا باع نصيبه منه بيعا فاسدا، فإنه لا شفعة لشريكه اتفق على فساد البيع أو اختلف فيه، إلا أن يفوت يعني أن البيع الفاسد لا شفعة فيه كما علمت لعدم لزومه، وهذا حيث لم يفت بمفوت البيع الفاسد، وأما إن فات بحوالة سوق فأعلى فإنه تثبت فيه الشفعة ولا يفوت بأخذ الشفيع بالشفعة، بل يفسخ البيعان البيع الأول والأخذ بالشفعة، قال البناني: ابن عرفة فيها لو علم بفساده بعد أخذ الشفيع فسخ بيع الشفعة والبيع الأول؛ لأن الشفيع دخل مدخل المشتري، ثم قال: وفي الموازية إن لم يفسخ بيع الشفعة حتى فات بيد الشفيع فلزم المشتري القيمة يوم قبضه لزم الشفيع ما لزمه إلا أن يكون أكثر مما أخذ به الشفيع فله الرد أو التماسك به بتلك القيمة. الصقلي قال بعض فقهائنا: فيما فات عند الشفيع يلزمه الأقل من قيمته يوم قبضه والقيمة التي لزمت المشتري. الصقلي: هذا خلاف ما تقدم لمحمد وهو أبين. انتهى. وقال عبد الباقي: ولا شفعة في بيع فاسد اتفق على فساده أم لا إلا أن يفوت المتفق على فساده، فبالقيمة للشقص يأخذ الشفيع، وأما المختلف فيه فيأخلى بالثمن إذا فات في البيع الأول، وكذا في ثان فاسد مختلف فيه بعده وفات لا إن لم يفت فلا شفعة. قاله عبد الباقي.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: ومعنى كلامه أن بيع أحد الشريكين إذا كان فاسدا مختلفا في فساده وباعه المشتري بيعا فاسدا مختلفا في فساده ولم يحصل مفوت، فإن هذا الفاسد الثاني لا

ص: 623

يحصل به فوت فلا شفعة لعدم لزوم كل منهما والله تعالى أعلم. وقوله: "فبالقيمة" كذا في نسخة بفاء داخلة على بالقيمة، وفي الشارح الكبير والبساطي بدون فاء؛ أي فيأخذه بالقيمة فقد حذفت الفاء مع ما عطفت وهو جائز. انظر شرح الشيخ عبد الباقي.

إلا ببيع صح مستثنى من قوله: "إلا أن يفوت" فهو مستثنى من مستثنى؛ يعني أن محل كون الشريك يأخذ الشقص المبيع فاسدا بالقيمة في استشفاعه إنما هو حيث لم يكن الفوت بيعا صحيحا، وأما إن كان المفوت بيعا صحيحا فإن الشفيع يأخذ بالثمن الواقع فيه في هذا البيع الصحيح، ولا يأخذ بالقيمة، قال عبد الباقي: وهذا إذا قام الشفيع قبل دفع المشتري القيمة لبائعه، فإن قام بعد دفع القيمة خير بين الأخذ بها والأخذ بثمن البيع الصحيح. انتهى. وقال عبد الباقي: إلا ببيع صح بعد البيع الفاسد المتفق على فساده أو المختلف فيه فبالثمن فيه أي البيع الصحيح يأخذ الشفيع. انتهى باقتصار. وعلم مما قررت أن البيع الصحيح هو المفوت لا أنه فات قبله ثم فات به كما يقتضيه عبد الباقي فإنه غير صواب. انظر الرهوني.

وتنازع في سبق ملك عطف على ما لا شفعة فيه؛ يعني أنه إذا اشترى زيد وعمرو من بكر دارا مثار وادعى زيد أنه سبق عمرا في الشراء لتكون له الشفعة على عمرو، وادعى عمروأنه سبق زيدا في الشراء لتكون له الشفعة على زيد فإنه لا شفعة لواحد منهما على الآخر. إلا أن ينكل أحدهما يعني أن محل بطلان الشفعة إنما هو حيث حلفا أو نكلا، وأما إن نكل أحدهما وحلف الآخر فإن الشفعة تثبت للحالف على الناكل، قال ابن عرفة: لا أعرف هذا إلا للغزالي وأصول مذهبنا توافقه. قاله المواق.

وسقطت إن قاسم يعني أن الشفيع إذا قاسم المشتري فإن الشفعة تسقط، وقوله:"قاسم" أي بالفعل كما في النوادر قال البناني: ما في النوادر هو المعتمد عند الحطاب، وعليه اقتصر ابن عرفة: قال عبد الباقي: وسقطت شفعة الشفيع إن قاسم المشتري في الذات أو منفعة الأرض للحرث أو الدار للسكنى، والمراد قاسم بالفعل كما في النوادر أو طلب القسمة كما للجزيري ومن وافقه من الموثقين، وأما قسمة الغلة فلا تسقط الشفعة عند ابن القاسم خلافا لأشهب كما لو قاسمه بالخرص فيما يخرص للحاجة.

ص: 624

أو اشترى يعني أن الشفيع إذا اشترى الشقص من المشتري فإن الشفعة تسقط، فإن قيل المشتري للشقص ملكه بالشراء كما يملكه بالشفعة فما معنى سقوطها، فالجواب أنه قد يكون الثمن المشترى به أكثر من ثمن الشفعة، وأيضا الشراء قد يقع بغير جنس الثمن الأول. وذكر أبو الحسن - ونحوه في الحطاب - عن ابن كوثر والتتائي عن الذخيرة عن ابن عتاب أنه لو اشترى الشفيع الحصة جاهلا بحكم الشفعة أنه لا يعذر بالجهل وَلَوْ كَانَ امْرَأَةً. أو ساوم يعني أن الشفيع إذا ساوم المشتري فيما يأخذه بالشفعة فإن الشفعة تسقط لأن مساومته دليل على إعراضه عن الأخذ بالشفعة، قال عبد الباقي: وأما لو أراد الشراء أو المساومة فلا تسقط شفعته. انتهى. قوله: وأما لو أراد الشراء أو المساومة لخ، قال الرهوني: كلام لا معنى له، والذي في تبصرة اللخمي هو ما نصه: وقال ابن القاسم إذا ساومه أو ساقاه أو اكترى منه فذلك قطع لشفعته، وقال أشهب في كتاب محمد: هو على شفعته، ثم قال ما نصه: قال الشيخ رحمه الله: وأرى إن ساوم أن يسئل لم ساوم؟ فإن قال: إن باعني بأقل وإلا رجعت إلى الشفعة أن يحلف ويأخذ بالشفعة، وإن قال: لا أشتري إن باعني بأكثر أو بأقل فذلك مسقط لشفعته. انتهى منها بلفظها. قلت: ومثل الأقل المساواة. انتهى.

أو ساقى ببني أن الشفيع إذا ساقى أي جعل نفسه مساقى في الحصة التي فيها الشفعة فإن الشفعة تسقط لدلالة فعله ذلك على الرضا بالترك لا دفع هو حصته مساقاة للمشتري لعدم دلالته على الرضى بالترك. انتهى. أو استأجر يعني أن الشفيع إذا استأجر الحصة من المشتري أو دعى لاستيجارها فإن الشفعة تسقط.

أو باع حصته يعني أن الشفيع إذا باع حصته التي يشفع بها فإن شفعته تسقط لأنها إنما شرعت لدفع الضرر، وإذا باع حصته فلا ضرر عليه حينئذ ويصير للمشتري الأول الشفعة على المشتري الثاني، قال عبد الباقي: ثم ظاهر المص سقوطها ببيع حصته ولو فاسدا، ورُدَّ عليه لأنه أولى من المساومة وردها بعيب أولى والمراد حصته كلها، فإن باع بعضها لم تسقط شفعته. واختلف هل له شفعة بقدر ما بقي وهو كالصريح في المدونة، أو له الكامل واختاره اللخمي وغيره؟ قاله التتائي.

ص: 625

والمعتمد الأول فقوله الآتي: "وهي على الأنصباء" أي يوم قيام الشفيع لا يوم شراء الأجنبي، وظاهر كلام المص سقوط الشفعة ببيع حصته ولو غير عالم ببيع شريكه وهو ظاهر المدونة. وذكر في البيان من رواية عيسى عن ابن القاسم أنها إنما تسقط إن باع عالما وهو أظهر الأقوال. انتهى.

قوله: ولو فاسدا ورد عليه لأنه أولى من المساومة لخ، قال البناني: فيه نظر، بل الظاهر أن له الشفعة بها إذا ردت عليه من بيع فاسد، كما له ذلك إذا باعها بخيار ورد البيع كما في المدونة إذ لا يظهر فرق بينهما، وقوله: لأنه أولى من المساومة غير ظاهر: لأن المساومة السقطة للشفعة ليست في حصة الشفيع التي هي الموضوع هنا، بل في الحصة التي بيد المشتري، وقوله: واختلف هل له شفعة بقدر ما بقيَ؟ لخ هذا الخلاف هكذا ذكره ابن رشد واللخمي ونقله الحطاب، لكن المظاهر أن محله إذا تعدد الشركاء كثلاثة في دار لكل واحد ثلثها باع أحدهم نصيبه، ثم باع الثاني النصف من نصيبه فيختلف هل يشفع هذا الثاني فيما باعه الأول بقدر ما باع وما بقي له أو بقدر ما بقي له فقط؛ وأما لو لم يكن معه شريك آخر فإنه يشفع الجميع ولا يظهر فيه وجه للخلاف. فتأمله. والله أعلم. وفي المدونة: إن كان الشفيع واحدًا فليس له إلا أن يأخذ الجميع أو يسلم. انتهى.

قول البناني: فيه نظر بل الظاهر أن له الشفعة بها إذا ردت عليه من بيع فاسد لخ، قال شيخنا الجنوي: في هذا النظر نظر، والظاهر ما قاله الزرقاني لأن بيعه لحصته بمنزلة التصريح بالتسليم، كما أن مساومته للحصة المستشفعة دليل على الإسقاط فكذلك هذا، وما استدل به من كلام المدونة لا دليل له فيه إذ مسألة المدونة وقع البيع فيها قبل أن يستحق البائع الأخذ بالشفعة فلم يقع منه إعراض يدل على الإسقاط، وليس هذا معنى كلام المدونة، وإنما يتم الاستدلال لو كان معنى كلام المدونة أنه باع بالخيار بعد أن استحق الأخذ بالشفعة ثم رد له البيع، وليس هذا معنى كلام المدونة على أنا لو سلمنا أن بيع الخيار وقع بعد استحقاقه الأخذ بالشفعة لم يتم الرد به؛ لأنه إن لم يكن عالما ببيع شريكه فلا إعراض، وإن كان عالما فالإعراض ليس بتام لتجويزه رجوع بيعه إليه لخ، وقول البناني: لكن المظاهر أن محله إذا تعدد الشركاء لخ فيه نظر، بل هو عام في التعدد والاتحاد كما أفاده كلام ابن رشد، ثم قال بعد كلام ما نصه:

ص: 626

فتأمله تجده نصا في اتحاد الشفيع. انتهى. وقوله: "أو باع حصته" اعلم أن في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها عموم قوله "أو باع حصته" وهو ظاهر المدونة وظاهر المص، ثانيها أنها إنما تسقط إن باع عالما، قال ابن رشد: وهو أظهر الأقوال كما مر، ثالثها أن له الشفعة وإن باع حظه بعد أن علم ببيع شريكه حظه. انظر الرهوني.

أو سكت بهدم أو بناء يعني أن الشفعة تسقط إذا كان المشتري يهدم أو يبني الحصة التي يستشفع فيها والشفيع عالم بذلك الهدم أو البناء، قال عبد الباقي: أو سكت الشفيع عالما بهدم أو بناء أو غرس من المشتري ولو يسيرا، أو كان الأولان لإصلاح فليست كمسألة الحيازة. أنتهى. وقال الخرشي: أي وكذلك تسقط الشفعة إذا سكت الشفيع والمشتري يهدم في الشقص الذي اشتراه أو يبني فيه؛ لأن سكوته مع ذلك يدل على إسقاط شفعته في ذلك أي يهدم ما لا يهدم أو يبني ما لا يبنى، وأما لو هدم ما يهدم أو بنى ما يُبْنَى فلا تسقط شفعته. قاله بعض. وقال آخر: وظاهره ولو كان الهدم والبناء للإصلاح وظاهره أيضا ولو كان يسيرا. انتهى. وقوله: "بهدم أو بناء" يحتكمل أن تكون الباء بمعنى مع كقولك: اشتريت العبد بماله والفرس بسرجه أي مع ماله ومع سرجه، ويكون معنى كلامه أن الشفيع إذا سكت مع كون المشتري يهدم الشقص ويبنيه فإن سكوته يسقط شفعته، ويحتمل أن تكون بمعنى عن كقوله تعالى:{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} ، و:{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ} ، ويكون المعنى أن الشفيع إذا سكت عن المشتري في هدمه الشقص الذي اشتراه أو بنائه فإن ذلك يسقط شفعته، ولا إشكال في ذلك لأن في الهدم والبناء مع حضور الشفيع وعلمه دليلا على رضاه بما فعله شريكه. انظر الشارح.

أو شهرين إن حضر العقد يعني أن الشفيع إذا حضر عقد الشراء وسكت عن القيام بشفعته بلا مانع شهرين فإن ذلك يسقط شفعته، قال عبد الباقي: أو سكت عن القيام بشفعته بلا مانع شهرين إن حضر العقد المراد كتب شهادته أن البائع باع المشتري من غير تصريحه بإسقاط شفعته لفظا ولا بقرينة، وتسقط شفعته بمضي شهرين من وقت الكتب وإن لم يحضر العقد عند ابن رشد، وقبله ابن عبد السلام. وإلا يحضر العقد بمعنى لم يكتب شهادته فتسقط شفعته مع حضوره بالبلد بسكوته بعد العقد، سنة لا أزيد منها كما هو ظاهره، وكذا هو ظاهر قول الرسالة

ص: 627

وكالشفعة للحاضر بعد السنة لكنه لم يعول فيها ولما في المدونة على عدم كتب شهادته، ومذهب المدونة أنه لا تسقط شفعة الحاضر إلا بعد سنة وما قاربها أي في الزيادة كالشهرين، ولو كتب شهادته كما هو نصها في الشارح والمواق، وبهذا علم أن المص جرى في الجملة الأولى على قول ابن وشد وهو خلاف مذهب المدونة والرسالة، ولم يجر في الثانية على مذهب المدونة بل على مذهب الرسالة لكنه لم يعول على كتب شهادته ولا على عدمها ففيه تلفيق قول لم يقل به، ثم المعتبر في الإسقاط في المدتين المذكورتين كونه من بالغ عاقل وشيد أو ولي سفيه أو صغير حاضر عالم بالبيع لم يمنعه من القيام مانع وإلا لم تسقط، ويستأنف له من زوال الموانع ومحله ما لم يقصد الشفيع ارتياء ويستعجله المشتري، لقوله الآتي:"واستعجل إن قصد ارتياء" لخ. والمريض كالصحيح على الراجح لتمكنه من التوكيل، وقيل لا تسقط شفعته إلا بمضي سنة بعد البرء، وما ذكره المص من الإسغاط بمضي الأمد المسقط جار في الشريك القريب والبعيد، فإذا مضى الأمد والشفعة للمشارك في السهم ثم لمن بعده فإنه يسقط حقهما، ولا يلتفت لقول البعيد إنما سَكَتُّ لوجود من هو أقرب. مني انظر الحطاب. انتهى كلام عبد الباقي.

قوله: انظر الحطاب يشير إلى قول الحطاب: مسألة: من ابتاع شقصا وله شفعاء فيهم أقرب وأبعد فليس للأبعد أن يأخذ بالشفعة حتى يوقف الأقرب، فإما أخذ أو ترك، فإذا قال أنا آخذ ولم يحضر نقده أجل اليومين والثلاثة، وإن لم يأت بالمال لم يكن له شفعة ووجبت لمن بعده، وإن لم يقم واحد من الشفعاء لا الأقرب ولا الأبعد حتى مضى أمد انقطاعها على الاختلاف في ذلك بطلت شفعتهم جميعا القريب والبعيد، ولا حجة للبعيد في أن يقول إنما سكتُّ لأنه كان أمامي من هو أحق بالشفعة مني فلما رأيت الأمد قد تم له حينئذ طلبتها أنا. انتهى.

وقوله: أو ولى سفيه أو صغير حاضر لخ يعني أن سكوت المولي المدة المذكورة يسقط شفعة المحجور أبا كان المولي أو وصيا وهو كذلك، قال في المدونة: ولو كان له أب فلم يأخذ له شفعته ولم يترك له حتى بلغ الصبي وقد مضى لذلك عشر سنين فلا شفعة للصبي لأن والده بمنزلته، قال أبو الحسن: وحكى ابن أبي زمنين في سكوت الوصي قولين، الشيخ: ومقدم القاضي أحرى أن

ص: 628

يدخله الخلاف، وقال ابن المواز: سكوت الوصي ومقدم القاضي سنة يسقط شفعة الصبي. أنتهى. قاله البناني.

وقوله: أو ولي سفيه أو صغير لخ قِرَانُه وليَّ السفيه والصغير بالبالغ الرشيد في حق نفسه يدل على أن سكوت المولي يسقطها ولو كان الأخذ نظرا، مع أنه قيد ذلك فيما يأتي عند قوله:"وإسقاط أب أو وصي" لخ، ويأتي تحقيق ذلك هناك إن شاء الله. قاله الرهوني. وقوله: انظر الحطاب، ما عزاه للحطاب هو كذلك فيه وعزاه لنوازل ابن رشد وهو كذلك فيها، وتلقى كلام ابن رشد هذا بالقبول غير واحد من المحققين واعتمدوه، وبحث فيه ابن عرفة ونقل ابن غازي بحثه وأقره: ورد الرهوني بحث ابن عرفة بما يعلم بالوقوف عليه. والله تعالى أعلم.

تنبيهات: الأول: قال البناني: فإن لم يكن للصبي من يأخذ له بالشفعة فقال اللخمي: إذا بلغ الصبي الذي ليس له من يأخذ بالشفعة، فإن كان مليا حين كان له الأخذ بالشفعة أن لو كان له من يأخذ بها فإنه على شفعته إذا بلغ، فإن بلغ فقيرا أو كان حين كان له القيام فقيرا فلا قيام له بالشفعة إذا بلغ وإن بلغ غنيا. انتهى. وكلام اللخمي هذا مبني على أن المعتبر في السداد هو يوم الوقوع لا يوم النظر وهو خلاف المشهور، قال ابن رشد في كتاب التخيير والتمليك: المهمل إذا قام بعد الرشد ولم يكن له مال يوم وجوب الشفعة هل يكون له الأخذ أو لا؟ وهو مبني على أصل مختلف فيه ما المعتبر في السداد هل هو يوم الوقوع أو يوم النظر؟ المشهور أنه يوم النظر لا يوم الوقوع. انتهى. وبما ذكره ابن رشد جرى الععل عندنا كما نقله الزياتي في نوازله عن العلامة سيدي العربي الفاسي، ونظمه صاحب العمليات لكن رأيت بخط سيدي محمد ميارة شارح التحفة فيما كتبه على نسخة من المتن ناقلا عن خط سيدي إبراهيم الهلالي ما نصه: الشيخ عن اللخمي: ومن شروط الشفعة أن يكون الشفيع مليا يوم البيع، وكذا إذا قدم الغائب البعيد الغيبة يكلف إثبات الغيبة وأنه ملي يوم البيع ومثله المحجور عليه، وبما ذكره اللخمي جرت الفتوى اليوم فتأمله. انتهى.

وقوله يوم البيع يعني أو داخل السنة، ونظم ذلك سيدي محمد ميارة فقال:

ص: 629

وشرط من يشفع بعد العام

كقادم ومهمل الأيتام

كونُهُ ذا مال بيوم البيع أو

ملكه في عام ذا البيع رووا

قول البناني: فقال اللخمي: إذا بلغ الصبي الذي ليس له من يأخذ له بالشفعة لخ، قال الرهوني: لم ينفرد اللخمي به بل به أفتى السيوري أيضا كما في الغنية، وكلام الونشريسي يدل على أنه المذهب وكذلك كلام المكناسي في مجالسه، فإنه اقتصر على كلام اللخمي وساقه كأنه المذهب. والله أعلم. وهو الذي رجحه أبو علي في الحاشية. والشرح. انتهى.

الثاني: قال ابن عرفة: وفيها إن اشتريت شقصا من دار لرجل غائب للشفيع أن يأخذ بالشفعة قال نعم؛ لأن مالكا رآه قضاء عن الغائب. الصقلي عن محمد: ويوكل السلطان من يقبض له الثمن، ثم قال: قيل إذا كان له الأخذ في غيبة المشتري ولا وكيل له فلم لا تسقط شفعته بطول الزمان، قال: للعذر باستثقال اختلاف الناس للقضاة وربما ترك المرء حقه إن لم يأخذه إلا بسلطان. انتهى. وبكلام محمد هذا بحث ابن عرفة في كلام ابن رشد المتقدم الذي تلقاه غير واحد بالقبول، وقال إنه كالنافي له وقد مرأن الرهوني رد عليه.

الثالث: قد مر النقد على المص في قوله: "أو شهرين إن حضر العقد وإلا سنة" وهو لعبد الباقي، وقال المواق: انظر هذه العبارة مع ما يتقرر من المدونة، قال مالك: الشفيع على شفعته حتى يترك أو يأتي من طول الزمان ما يعلم أنه تارك لشفعته، وإذا علم بالشراء فلم يطلب شفعته سنة فلا يقطع ذلك شفعته، وإن كان قد كتب شهادته في الشراء ولم ير مالك التسعة أشهر ولا السنة بكثير إلا أنه إن تباعد هكذا يحلف ما كان وقوفه تركا لشفعته. قال ابن المواز عن مالك: يحلف في خمسة أشهر فأكثر ولا يحلف في شهرين، وأما إذا حضر الشراء وكتب شهادته ثم قام بعد عشرة أيام فأشد ما عليه أن يحلف ما كان ذلك منه تركا لشفعته ويأخذها، قال مالك: وإذا جاوز السنة بما يعد تاركا فلا شفعة له. انتهى. انظر نص ابن يونس. انتهى.

ص: 630

الرابع: قال الشارح: واعلم أن هذه المسألة وقع فيها اختلاف كثير وتحصيلها أن الشفيع إذا ترك القيام بشفعته مع علمه بالعقد وحضوره بالبلد، هل يكون ذلك بمجرده موجبا لإسقاط شفعته أو لا؟ وإلى الأول ذهب ابن وهب نظرا إلى أن الأخذ بالشفعة كالرد بالعيب، وإلى الثاني ذهب الأكثرون. وإذا فرعنا على هذا القول فاختلف فيه على قولين: الأول أن ذلك لا يتقيد بمدة وأن حقه في الشفعة باق مطلقا ما لم يصرح بالسقوط وهو قول مالك. الأبهري: وهو القياس لأنه حق ثبت له فلا يبطله سكوته، والقول الآخر أن ذلك يتقيد بمدة محدودة، واختلف في مقدارها ففي الرسالة: السنة ولا شفعة بعدها. المتيطي: وعليه العمل ورواه أشهب عن مالك، وبالغ فيه حتى قال: إذا غربت الشمس من آخر أيام السنة وهذا القول هو الذي ذكر الشيخ رحمه الله تعالى، ومذهب المدونة أن ما قاربها له حكمها، قال ابن الهندي وغيره من أصحاب الوثائق: وذلك الشهر والشهران وحكى في الطرر ثلاثة أشهر، وقال ابن سهل: أربعة أشهر، ابن الفاكهاني في شرح الرسالة: وروى ابن القاسم ما زاد على السنة وقال به، وقال أصبغ: السنتان والثلاثة قليل: وقال ابن الماجشون خمس سنين قليل، وفي المقدمات أن عبد الملك نص في المبسوط على أن الحاضر لا تنقطع شفعته إلا بعد مضي عشرة أعوام للحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: من حاز شيئا عشر سنين فهو له. وقال بعضهم: لا تنقطع شفعته إلى خمس عشرة سنة، وروي عن أبي عمران إلى ثلاثين سنة، وكان ابن الماجشون يقول بإيجاب الشفعة للحاضر إلى أربعين سنة ثم رجع إلى عشر سنين.

كإن علم تشبيه تام؛ يعني أن الشفيع إذا علم بموجب شفعته فغاب فإنه يكون كالحاضر فتسقط شفعته، بمضي شهرين إن كتب شهادته بعقد الوثيقة وإلا سنة على ما مر، وينبغي أن أمره بالكتب ككتبه في هذه والتي قبلها. قاله عبد الباقي وغيره. قال الشارح: حكم من علم بشفعته فغاب حكم الحاضر فيكون ذلك له إلى سنة، فإن زاد عليها انقطعت شفعته إلا أن يظن أنه يرجع من سفره قبل السنة فيعوقه عائق فإنه يبقى على شفعته بعد أن يحلف في المدة البعيدة. انتهى كلام الشارح.

ص: 631

إلا أن يظن الأوبة قبلها فعيق يعني أنه إذا علم الشفيع بموجب شفعته فغاب فإنه تسقط شفعته إن سكت بمضي شهرين إن كتب شهادته بعقد الوثيقة، وإلا سنة إلا أن يظن الشفيع أنه يرجع من سفره قبلها أي قبل مضي المدة المسقطة فعاقه عن الرجوع عائق فإنه يبقى على شفعته ولو طال الزمن؛ وإنما يقبل قوله في العذر ببينة أو قرينة.

وحلف إن بعد راجع لقوله "وإلا سنة" يعني أنه إذا قلنا إن الشفعة للحاضر في السنة فإنه يحلف أنه على شفعته، قال الخرشي: والقرب والبعد بالعرف كما هو الظاهر. انتهى. وقال البناني مفسرا للمص: أي إذا قام قبل السنة وبعد ما بين العقد وقيامه فإنه لا يمكن منها حتى يحلف، وحد البعد في ذلك السبعة الأشهر ونحوها عند ابن رشد وحمل عليه المدونة، وكذلك إن كتب شهادنه وقام بعد العشرة الأيام ونحوها، فقال ابن رشد أيضا: لا شفعة له إلا بعد يمينه. انظر ابن غازي. ويؤخذ منه إذا علم وغاب وكان يظن الأوبة يحلف بالأولى كما في الحطاب؛ ورجع عبد الباقي وغيره قوله: "وحلف إن بعد" لقوله: "إلا أن يظن الأوبة" فقال: وحلف أنه باق على شفعته إن بعد إتيانه عن الشهرين في الأولى وعن السنة في الثانية ولو مع البينة أو القرينة والإتيان بعدهما عن قرب، وهذا على رجوع قوله:"وحلف إن بعد" لقوله: "إلا أن يظن" لخ، ويمكن رجوعه لقوله قبل:"وإلا سنة" لما مر عن المدونة من أن الشهرين كهي وإن كان خلاف ظاهر المصنف كما مر، فعلى ما فيها إذا قام بعد السنة بجمعة أو أكثر إلى شهرين حلف وأخذ بالشفعة، وإن قام عند رأس السنة أو بعدها بكاليومين أخذ بلا يمين. انتهى.

الحطاب: ولا يصح رجوع قوله: "وحلف إن بعد" لقوله: "إلا أن يظن الأوبة" لأنه يصير قوله: "إن بعد" لا معنى له. فتأمله. انتهى.

تنبيهان: الأول: قال المواق: من المدونة قال مالك: من اشترى دارا وشفيعها حاضر ثم سافر الشفيع بحدثان الشراء فأقام سنين كثيرة ثم قدم فطلب الشفعة، فإن كان سفرًا يعلم أنه لا يئوب منه إلا بعد أمد تنقطع فيه شفعة الحاضر فجاوزه فلا شفعة له، وإن كان سفرا يئوب منه قبل ذلك كان تاركا لشفعته أشهد عند خروجه أنه على شفعته أولا.

ص: 632

الثاني: قال عبد الباقي: أخذ ابن رشد من مسألة "إلا أن يظن الأوبة" لخ أن الزوج إذا شرط لزوجته أن لا يغيب عنها أكثر من شهر مثلا وإلا فأمرها بيدها، ثم سافر فأسره عدو أن لا قيام لها بشرطها. انتهى. وأما لو خرج غازيا فأسره العدو فلها القيام بشرطها. قاله في الطرر. وبه قال جميع شيوخنا. انظر أحمد. ولعل الفرق أن الخروج للغزو مظنة الأسر فكأنه مختار في حصوله ولا كذلك الخروج للسفر في غيره، ثم إن قيامها على هذه المسألة يقتضي أن الحبس ونحوه كالأسر. انتهى.

وصدق إن أنكر علمه يعني أن الشفيع إذا تنازع مع المشتري في العلم بالموجب والشفيع حاضر فادعى عدم العلم بالبيع وادعى المشتري علمه به، فإن الشفيع يصدق في أنه لم يعلم بالبيع فله الأخذ بالشفعة وهو قول ابن القاسم وأشهب. أبو الحسن: وإن طال ذلك لأن الأصل عدم العلم لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} ، وله سنة من يوم العلم. قاله المتيطي. وأما لو علم بالبيع وادعى جهل الأخذ بالشفعة فلا يعذر ولو كان امرأة؛ لأن الناس لا يجهلون أمر الشفعة كالمعتقة تحت العبد. قاله أبو الحسن. وتقدم ذلك ومقابل ما ذكره المص لابن المواز فإنه قال: إن أربع سنين لكثير ولا يصدق في أكثر منها، وكلام ابن المواز هذا قوي ولكنه لا يعادل الأول الذي مر عليه المص. واعلم أنه يقيد كل واحد من القولين بما إذا لم تقم قرينة على كذبه وإلا فلا يصدق وتبطل شفعته باتفاق القولين. والله أعلم. انظر الرهوني.

لا إن غاب أولا قال الشارح: يعني أن ما ذكره من أن الشفيع الغائب حكمه حكم الحاضر إنما هو إذا علم بالشفعة فغاب كما نص عليه؛ يعني المص فيما تقدم فأما إذا كانت غيبته متقدمة على العقد وإليه أشار بقوله: "أولا" يريد أو لم يعلم بالعقد حتى غاب، فإن شفعته لا تسقط ولو أقام سنين كثيرة ما لم يصرح بالسقوط أوما في معناه من المقاسمة ونحوها، وهذا مقيد عند أشهب بغير القريب، وأما القريب الموضع الذي لا كلفة عليه في الإتيان فطول زمانه بعد علمه بوجوب الشفعة يصيره كالحاضر. انتهى المراد منه.

وقال عبد الباقي: لا إن غاب الشفيع عن محل الشقص المشترى أوَّلا أي قبل علمه بالبيع وأحرى قبل البيع كما اقتصر عليه التتائي فلا تسقط شفعته ولو طالت غيبته سنين، وإذا رجع بعد غيبته

ص: 633

كان حكمه حكم الحاضر العالم بالبيع فلا تسقط شفعته إلا بعد سنة من يوم قدومه أو يصرح بإسقاطها فلا شفعة له بعد ذلك، وظاهر كلام المصنف سواء بعد محل غيبته أو قرب وهو ظاهر كلام ابن القاسم، وقيدها أشهب بالبعيد وأما القريب الذي لا كلفة عليه في إتيانه فطول زمانه بعد علمه بوجوب الشفعة يصيره كالحاضر، وهو الموافق لقوله آخر باب القضاء:"والقريب كالحاضر" وغيبة الشخص المشتري كغيب الشفيع وغيبتهما عن محل الشقص غيبة بعيدة وهما بمكان كحضورهما. انتهى.

قوله وهو ظاهر كلام ابن القاسم وقيدها أشهب لخ، قال الرهوني: قال شيخنا الجنوي: لا أظن ابن القاسم يخالف أشهب في هذا ولا يفهم من كلام المدونة، ومعلوم أن القريب كالحاضر كما يأتي للمص وكما في الزقاقية وغيرها، وقد أتى ابن سلمون بالتفصيل المذكور فقها مسلما وهو الظاهر. انتهى. قلت: وما قاله طيب الله ثراه متعين وقد تقدم في كلامي المنتخب والمفيد الجزم بذلك، ونحوه في القصد المحمود ونصه: والغائب على شفعته وإن طال الزمان إلا أن يكون قريب الغيبة يمكنه القيام بها إلا أن يكون شيخا كبيرا أو ضعيفا أو امراة فيعذر. انتهى. وفي طرر ابن عات ما نصه: والرجل على شفعته في مغيبه الثلاثة الأيام فصاعدا، وأما اليوم واليومين فهو كالحاضر. انتهى منها بلفظها. وقد ساق ابن يونس - وتبعه أبو الحسن - قول أشهب مساق التفسير للمدونة، وصرح بذلك ابن ناجي ونصه قوله: والغائب على شفعته لخ يريد إذا كانت الغيبة بعيدة وأما القريبة ولا مؤنة في الشخوص منه على الشفيع فهو فيه كالحاضر لنص أشهب بذلك. انتهى منه بلفظه. قلت: بل نص عليه ابن القاسم نفسه ونقله عن الإمام في المنتخب، وفي تفسير ابن مزين قال عيسى: قلت لابن القاسم فما حد الغيبة القريبة التي تقطع الشفعة؟ قال: ما وقت لنا مالك فيه شيئا، قد تكون المرأة والضعيف على البريد فلا تستطيع أن تنهض ولا تستأجر وإنما فيه اجتهاد السلطان. انتهى منه بلفظه. ومثله في المفيد. انتهى كلام الرهوني.

وقول عبد الباقي: وغيبة المشتري لخ قال البناني: إذا غاب المشتري فللشفيع أن يرفع للقاضي ويأخذ بالشفعة كما في المدونة، لكن قال ابن يونس: لاستثقال الناس الرفع إلى القضاة كانت غيبة المشتري عذرا. ابن عرفة: وهذا يحسن فيمن يعلم منه ذلك، فأما من يعلم منه الطلب والدخول

ص: 634

إلى القضاة فلا شفعة له. انتهى. وقيده أيضا ابن عرفة بغير قريب الغيبة، وأما هو فكالحاضر. انتهى. قوله: لكن قال ابن يونس لاستثقال الناس لخ القائل ذلك هو ابن المواز، وابن يونس نقله عنه كما نقله عنه اللخمي وابن عرفة، وقوله: ابن عرفة وهذا يحسن لخ انظر من نسب هذا لابن عرفة فإني لم أجده فيه، وإنما نسبه ابن غازي في تكميله للخمي وهو كذلك في تبصرته. قاله الرهوني. والله تعالى أعلم.

تنبيه: قال في النوادر: ومن كتاب محمد وهو في العتبية من سماع ابن القاسم: وإذا قال المبتاع نسيت الثمن فإن مضى من طول السنة ما يندرس فيه العلم ويموت الشهود وترتفع فيه التهمة فالشفعة ساقطة، وكذلك إن كان صغيرا أو غائبا، وأما إن كان على غير ذلك فالشفعة قائمة بقيمة الشقص. انتهى المراد منه. وقال اللخمي: اختلف إذا قال المشتري نسيت الثمن وطالت السنون مما ينسى فيه الثمن، أو مات المشتري وقال الورثة لا علم عندنا وكان الشفيع غائبا أو صغيرا، فأسقط ابن القاسم الشفعة وأثبتها عبد الملك بالقيمة. انتهى. قاله الحطاب. ثم قال: علم من كلام ابن يونس والنوادر أنه إذا تجاهل المشتري بالثمن في الأمد القريب أنه يؤخذ الشقص بقيمته، إلا أنه في النوادر لم يقل يوم البيع، وصرح بذلك ابن يونس وصرح به ابن بطال في مقنعه، فقال: يأخذ بقيمته يوم ابتاعه المبتاع. والله أعلم. انتهى.

أو أسقط لكذب في الثمن عطف على قوله: "غاب أولا" يعني أن الشفيع إذا علم بالبيع فلما أخبر بالثمن أسقط شفعته لكثرته، ثم ظهر بعد ذلك أن الثمن أقل مما أخبر به فإن الشفعة تثبت له ولو طال الزمن قبل ذلك، ويحلف أنه ما سلم إلا لكثرة الثمن كما قال: وحلف قال عبد الباقي: أو أسقط أو سكت وسلم لكذب من بائع أو مشتر أو أجنبي له بهما علاقة في الثمن ولو قل الكذب بزيادة، وكذا بنقص وكانت قيمة الأنقص أشد فله الشفعة ولو طال الزمان قبل ذلك لا إن كانت أخف فتسقط شفعته، وحلف أنه ما أسقط إلا لكذب في الثمن. انتهى. قوله: وكذا بنقص وكانت قيمة الأنقص أشد لخ، قال البناني: يتصور هذا إذا اشتراه بعشرة دنانير صغار وأخبرد بثمانية كبار تزيد في القيمة على ما اشتري به، وذلك في الحقيقة يرجع لما قبله. انتهى. وقول عبد الباقي: أو أجنبي له بهما علاقة،

ص: 635

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: الظاهر أنه لا مفهوم لقوله أو أجنبي له بهما علاقة. والله تعالى أعلم.

تنبيه: قال عبد الباقي عند قوله "وحلف" ما نصه: وكالكذب في الثمن لو أسقط لجهل في الثمن ولم يطل ولو اتهم المشتري بإخفاء الثمن فلا تسقط ويأخذ الشقص بقيمته، وأما جهل الثمن مع الطول أو موت الشهود فمسقط. قاله الجزيري في وثائقه. انظر أحمد عند قوله: وسقطت إن قاسم. انتهى. قوله: وكالكذب في الثمن لو أسقط لجهل في الثمن لخ، قال الرهوني: صنيعه يقتضي عزو ذلك للجزيري وليس في المقصد المحمود للجزيري ما يفيد ذلك نصا ولا مفهوما، وقد نقل الحطاب كلامه وأطال في نقله كلام الناس وليس فيه ما ذكره، ولم يذكره الأجهوري أيضا في النسخة التي بيدي منه، والظاهر أنه غير صحيح، وقياسه على مسألة المص لا يصح لظهور الفارق، وقد اختار اللخمي سقوط الشفعة مع جهل الثمن دون إسقاط فكيف معه. والله الموفق. انتهى. وقال الخرشي: ولو أسقط لكذب في جنس الثمن لزمه، كما إذا أخبر أنه باع بدراهم فإذا هو باع بقمح مثلا إلا أن تكون قيمته أقل مما أخبر به. انتهى.

أو في المشترى يعني أن الشفيع إذا أسقط شفعته لأجل الكذب في الشقص المشترى بفتح الراء بأن قيل له فلان اشترى نصف نصيب شريكك ثم أخبر أنه اشترى جميع نصيب شريكه فله القيام بشفعته؛ لأنه يقول لم يكن لي غرض في أخذ النصف لأن الشركة بعد قائمة، فلما علمت أنه ابتاع الكل أخذت لارتفاع الشركة وزوال الضرر. قاله الخرشي. وقال البناني: في الاستغناء عن أشهب: إذا سلم ثم علم أن شريكه باع نصف حصته فقط فأراد الأخذ وقال إنما سلمت لعدم قدرتي على أخذ الجميع فليس له ذلك؛ لأن إسلام الجميع إسلام للنصف. انتهى. نقله في تكميل التقييد. انتهى. ويحتمل أن يكون قوله: "أو المشتري" بكسر الراء يعني أنه إذا أسقط الشفيع الشفعة لأجل كذب في المشتري بكسر الراء بأن قيل له فلان اشترى نصيب شريكك فأسقط لذلك ثم ظهر أنه غير الذي سمي له، فإن له أن يأخذ كائنا ما كان الشخص.

أو انفراده أي أسقط لكذب في انفراده أي المشتري، وتوضيح كلامه أن لا تسقط شفعة الشفيع إذا قيل له إن فلانا اشترى حصة شريكك فأسقط شفعته لأجل حسن سيرة هذا المشتري ثم علم بعد

ص: 636

ذلك أن الشقص اشتراه هو وشخص آخر فله القيام بشفعته؛ لأنه يقول إنما رضيت بشركة فلان وحده لا بشركته مع غيره، ولم يذكر في هذه الأمور الثلاثة الحلف، وينبغي أن يحلف فيها أيضا. قاله الخرشي. وقوله:"أو انفراده" قال عبد الباقي: وكذا عكسه أي أخبر بتعدد المشتري فسلم لغرضه في شركة المتعدد فتبين أنه واحد كذا ينبغي، وعليه فيمكن شمول المص له بتقدير أو شأن انفراده. قاله الأجهوري. انتهى. قوله: لغرضه في شركة المتعدد يوضحه قول الخرشي: لو أخبر بتعدد المشتري فرضي ثم تبين أنه واحد فإنه يمضي ما حصل منه إلا أن يكون له غرض في المتعدد كذا ينبغي، وعليه فيمكن إدخاله في قول المؤلف:"أو انفراده" أي شأن انفراده. انتهى.

أو أسقط وصي أو أب بلا نظر يعني أن الوصي أو الأب إذا أسقط شفعة المحجور وكان ذلك الإسقاط على غير وجه النظر للمحجور، فإن الشفعة تثبت للمحجور، فله إذا رشد أن يأخذ بشفعته، ومفهوم قوله:"بلا نظر" أنه إذا كان على وجه النظر فإنه تسقط شفعته وهو كذلك، قال عبد الباقي: أو أسقط أو سكت وصي أو أب حالة ثبوت أن فعلهما بلا نظر فلا تسقط شفعته وله الأخذ بها إذا بلغ رشيدا، فإن أسقط لنظر ثابت سقطت وحملا عليه عند الجهل بخلاف الحاكم عند الجهل. انتهى. ونحوه للخرشي فإنه قال: وقوله: "بلا نظر" أي إن ثبت أن إسقاطها على غير وجه النظر وذلك لأنهما محمولان على النظر عند الجهل بفعلهما، وأما الحاكم فلا يحمل فعله على النظر عند الجهل. انتهى. وفيه نظر. والصواب أن فعله عند الجهل محمول على السداد فهو مثل الوصي والأب. انظر الرهوني. وقال البناني عند قوله "أو أسقطه وصي أو أب" ما نصه: نحوه في الوثائق المجموعة وظاهر المدونة أن الشفعة تسقط ولو كان غير نظر، قال أبو الحسن: وبه قال أبو عمران، وسبب الخلاف هل الشفعة استحقاق أو بمنزلة الشراء؟ أي فعلى الأول له الأخذ وعلى الثاني لا أخذ له؛ إذ لا يلزم الوصي إلا حفظ المال لمحجوره لا تنميته. انظر الحطاب. وقد مر عن عبد الباقي أن السكوت كالتصريح بالإسقاط فيجري فيه قيده، وما جزم به من أن [له]

(1)

الأخذ في السكوت، قال الرهوني: خلاف الراجح والمعمول به، ثم قال بعد كلام ما نصه: فقد صح سقوطها بسكوت الوصي ولم يحك في سقوطها بسكوت الأب خلافا، فظاهر كلامه أنه متفق عليه وصرح بذلك في المفيد، ونصه: وقال ابن أبي زمنين: إذا لم يقم

(1)

ساقطة من الأصل، مثبتة من الرهوني ج 6 ص 285.

ص: 637

الوصي بشفعته ليتيم ولا علم أنه أسلمها حتى كبر الصبي

(1)

فهو على شفعته حتى يقوم بها، كذلك قال أشهب وقد جاء عن أشهب خلاف ذلك وهذه الرواية أشبه بأصولهم وعليها العمل، ولم يختلف في الأب إذا لم يقم بالشفعة لابنه ولا علم أنه [تركها]

(2)

حتى بلغ الصبي بعد مدة طويلة أنه لا شفعة له. انتهى. وفي التحفة:

والأب والوصي مهما غفلا

عن أخذها فحكمها قد بطلا

قال الشارح: اعتمد الشيخ رحمه الله في مسألة الوصي ما ذكره ابن أبي زمنين عن أشهب ثانيا ونقله الشيخ ميارة قلت: بل اعتمده لذلك ولاعتماد صاحب المفيد عليه مع قوله: وعليه العمل عند أصحاب الوثائق، ثم حكى قولا أنه لا تسقط شفعة الصبي بسكوت. والله تعالى أعلم. انتهى. باقتصار.

ثم قال بعد جلب كثير من النقول ما نصه: قد علمت أن الراجح والمعمول به خلاف ما في المختصر، وأن الإسقاط والسكوت سواء بل من يقول بأن الراجح والمعمول به سقوطها بالسكوت يلزمه أن يقول بسقوطها بالإسقاط بالأحرى، وقد ذكرنا لك دليل ذلك بما لا مزيد عليه فشد يدل عليه. والله الموفق. انتهى.

تنبيهان: الأول: قد فرق أبو عمران بين الحاكم وبين الوصي والأب فيما إذا كان الأخذ نظرا وقبله المتيطي وغيره، ولا يقبله كلام المدونة لأنه صرح فيها بمساواة السلطان للأب والوصي، فإن حمل كلامها على ظاهره ففي الجميع، وإن قيد بما لابن فتوح ومن وافقه فكذلك، والتفريق المذكور عمل باليد وهو مخالف لكلام الرجراجي واللخمي وغيرهما. قاله الرهوني.

الثاني: إذا أسقط الوكيل الشفعة الواجبة لوكله، قال في المدونة: ولك أن توكل بأخذ الشفعة غبت أو حضرت ولا يلزمك تسليم الوكيل إلا أن تفوض إليه في الأخذ والترك ولو أقر الوكيل أنك أسلمتها فهو كشاهد يحلف معه المبتاع، فإن نكل حلفت أنت وأخذت. انتهى. قوله: إلا أن تفوض إليه في الأخذ والترك، مثل ذلك ما لو وكله وكالة مفوضة، ففي النوادر ما نصه: وإذا

(1)

في الأصل: الوصى، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 281.

(2)

ساقطة من الأصل، مثبتة من الرهوني ج 6 ص 281.

ص: 638

وكلته على طلب شفعة فسلم الوكيل، فأما المفوض إليه فذلك يلزمك وإن لم يكن مفوضا لم يلزمك. قاله ابن القاسم وأشهب. انظر الرهوني.

وشفع لنفسه يعني أن المولي إذا كان شريكا لمحجوره في عقار فباع حصة محجوره لأجنبي لمصلحة فإن له أن يأخذ بالشفعة لنفسه ولا يكون توليه للبيع مانعا من ذلك ولابد في ذلك من الرفع للحاكم لاحتمال بيعه برخص لأخذه لنفسه، وكذا العكس كما لو باع حصته من الدار لأجنبي فإنه يشفع لمحجوره ولا بد فيها من الرفع للحاكم أيضا لاحتمال أن يبيع بغلاء لأخذه للمحجور.

أو ليتيم آخر يعني أن من في حجره يتيمان مشتركان في دار مثلا وباع حصة أحدهما فله أن يأخذ للآخر بالشفعة ولا يكون توليه للبيع مانعا من ذلك، وقوله:"وشفع لنفسه" وكذلك الوكيل، ففي المدونة: لو وكل رجلا أن يبيع له شقصا أو يشتريه والوكيل شفيعه ففعل لم يقطع ذلك شفعته. انتهى. وظاهره سواء كان الوكيل مفوضا أم لا وهو كذلك. انظر الرهوني.

وقوله: "أو ليتيم آخر" اعلم أن عقار اليتيم لا يتوقف بيعه على استبدال إذا بيع لحاجة. المواق: عبد الملك: إن باع وصي شقصا لأحد أيتامه فله أخذ الشفعة لباقيهم لا يدخل فيهم من بيع عليه ولا حجة على الوصي بأنه بائع لأنه باع على غيره. محمد: ولو كان له معهم شقص لدخل في تلك الشفعة أحب إليَّ وينظر، فإن كان خيرا لليتيم أمضي.

تنبيه: في الرهوني بعد أن ذكر أن الأب والوصي والوكيل والشريك المفوض لهم الشفعة ما نصه: لم يختلف في وجوب الشفعة لمن ذكر إذا اشتروا، وخالف ابن زرب في ذلك إذا باعوا، قال أبو الحسن: قال ابن زرب: أربعة بيعهم إسقاط لشفعتهم: الأب يبيع حصة ابنه الصغير من دار مشتركة بينهما، والوصي يبيع حصة محجوره، وأحد المتفاوضين والوكيل على بيع شقص هو شفيعه، فهؤلاء لا شفعة لهم؛ لأن البيع تسليم بخلاف الشراء، وقيل في الوكيل له الشفعة. انظر الحطاب. وما حكاه ابن زرب خلاف الكتاب إلا في أحد المتفاوضين. انتهى.

أوأنكر المشتري الشراء يعني أنه إذا ادعى الشفيع على المشتري شراء الشقص وأنكر المشتري الشراء، وحلف على عدم الشراء فإن الشفعة تسقط فقوله:"أنكر" عطف على قاسم من قوله:

ص: 639

وسقطت إن قاسم ولا فرق "في سقوط الشفعة بين أن يقر البائع بالبيع وأن لا يقر، فقوله: وأقر البائع أتى به نصا على التوهم واعتناء بمحل الخلاف المشار إليه بقول ابن الحاجب: وقيل يأخذ لأن البائع مقر أنه حق. انظر الرهوني. وقال الشارح: تجَوَّز رحمه الله تعالى في إطلاق المشتري على من لم يثبت له شراء لأن الفرض أنه منكر، وكذا قوله: وأقر به بائعه وهذا الكلام معطوف على الأمور التي تسقط بها الشفعة، قال ابن القاسم في المدونة: وإذا أنكر المشتري الشراء وادعاه البائع فتحالفا وتفاسخا فليس للشفيع أن يأخذ الشفعة بإقرار البائع؛ لأن عهدته على المشتري، فإذا لم يثبت للمشتري شراء فلا شفعة للشفيع.

أبو الحسن: صوابه فحلف أي المشتري، ابن يونس: قال أبو محمد: قوله فتحالفا إنما يعني أن المبتاع وحده يحلف فإذا حلف برئ. انتهى. ولو نكل المشتري عن اليمين حلف البائع وثبت البيع والشفعة. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: ومفهوم أنكر المشتري أنه لوأقر به مع إقرار البائع فللشفيع الأخذ، وكذا إن غاب البائع وأثبت المشتري الشراء ببينة وإلا فلا. انتهى. ولو ادعى الشفيع أن شريكه باع نصيبه لفلان فأنكر البائع والمشتري ذلك، فقيل يحلف البائع وتسقط دعوى الشفيع، فإن نكل حلف المشتري وسقطت دعوى الشفيع أيضا، فإن نكل حلف الشفيع وأخذ بالشفعة وقيل لا يمين على المتبايعين إلا ببيان السبب. انتهى.

وهي على الأنصباء يعني أن الشفعة تكون على قدر الأنصباء لا على الرؤوس؛ لأن الشفعة إنما وجبت بشركتهم لا بعددهم فيجب تفاضلهم فيها بتفاضل الأنصباء، فإذا كان العقار بين ثلاثة مثلا لأحدهم نصفه وللآخر ثلثه وللآخر سدسه فباع صاحب النصف نصيبه من أجنبي فلشريكيه الأخذ بالشفعة، فيأخذ صاحب الثلث ثلثي النصف ويأخذ صاحب السدس ثلثه، ولو باع صاحب الثلث نصيبه لأخذ صاحب النصف ثلاثة أرباعه وصاحب السدس الربع، ولو باع صاحب السدس نصيبه لأخذ صاحب النصف ثلاثة أخماسه وصاحب الثلث خمسيه، فقوله:"وهي" أي الشفعة قال الخرشي: بمعنى الشقص المأخوذ بالشفعة أي هي مستحقة ومفضوضة على قدر الأنصباء أي حظوظ الشركاء.

ص: 640

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: ولا مانع من كون الشفعة هنا بمعنى الأخذ أو الاستحقاق كما هو معناها الحقيقي؛ أي يستحق الشريك الشقص المبيع على قدر حظه أو يأخذه على قدر حظه. والله تعالى أعلم.

وقال عبد الباقي: وهي أي الشفعة عند تعدد الشركاء مفضوضة على قدر الأنصباء للشركاء لا على الرؤوس؛ لأن فيه غبنا على ذي النصيب الكثير بمساواة ذي النصيب اليسير له، والمعتبر في الأنصباء يوم قيام الشفيع على المعتمد لا يوم شراء الأجنبي، وتقدمت ثمرة ذلك عند قوله:"أو باع حصته".

تنبيه: قال الخرشي: وكلام المؤلف فيما ينقسم وأما فيما لا ينقسم فهي على الرؤوس اتفاقا. انتهى. ونحوه لعبد الباقي. قال البناني: ما ذكراه من الاتفاق غير صحيح إذ المنصوص في المدونة والموطإ إطلاق أنها على الأنصباء، وحكى عليه ابن رشد الاتفاق والتفصيل بين ما ينقسم وما لا ينقسم أصلُه للخمي ذكره جازمًا به كأنه المذهب، ونصه: وهذا أي كونها على الأنصباء فيما ينقسم وأما ما لا ينقسم إذا حكم فيه بالشفعة فعلى الرؤوس؛ لأن المقصود فيه رفع الضرر عند البيع وذلك يستوي فيه القليل النصيب والكثير. انتهى. وجعله ابن عرفة طريقة، وجعله القرافي في الذخيرة مقابلا للمذهب، وظاهر التوضيح ضعفه وكثيرمن الشيوخ لم يعرجوا عليه كالمتيطي وابن رشد وابن شأس وغيرهم. والله تعالى أعلم. انتهى.

وترك للشريك حصته يعني أن الشريك إذا كان هو المشتري من أحد الشركاء فإنه يترك له حصته ويأخذ منه بقية الشركاء على أنصبائهم، مثاله: دار بين أربعة لأحدهم الربع ولآخر الثمن ولآخر الثمن أيضا ولآخر النصف فباعه لصاحب الربع، فإن لصاحبي الثمنين أن يأخذا نصف المبيع ويترك نصفه لمشتريه أي يستحقه بالشفعة، فقوله:"وترك للشريك" هو المشتري، وفي بعض النسخ: وترك للشفيع وكل صحيح ومعناهما واحد، وقوله:"وترك للشريك حصته" أي لأنه يستحق ذلك بالشفعة لو كان البيع لأجنبي. قاله عبد الباقي. وقال البناني عند قوله: "وترك للشريك حصته" ما نصه: كذا في المدونة، قال ابن عرفة: يقوم منها لو اشترت إحدى الزوجتين حظها من الأخرى فطلب بقية الورثة الشفعة في ذلك وطلبت هي الاختصاص به لأنها أشفع منهم

ص: 641

فيه، لو اشتراه غيرها فهي أحق منهم. ونزلت في أيام ابن عبد السلام فحكم فيها بالشفعة لبقية الورثة: فسألني عنها المحكوم عليه فقلت له لا شفعة لهم عليك، فذكر لي أنه حكم عليه بها فذكرت المسألة والأخذ منها للقاضي ابن عبد السلام، فرجع بإنصافه عن الحكم عليه بالشفعة. انتهى. الرهوني: قال ابن غازي: بعد أن ذكر كلام ابن عرفة هذا ما نصه: ووهم ابن عبد السلام في هذا عجيب. انتهى.

ومثلُ نازلة ابن عرفة هذه المسألةُ التي اختلف فيها ابن آملال والقوري، فقد قال في المجالس: فمسألة المدونة تشهد لفتوى القوري، وفي نوازل الشفعة من العيار: وسئل الفقيه أبو عبد الله ابن آملال عمن هلك وترك نصف دار له شفيع، فصير الورثة النصف المتروك للزوجة فأراد الشريك الأجنبي أخذه هل له شفعة أم لا، فأجاب بأن له الشفعة لأن الدار إنما صيرت في الدين على ملك الهالك، وبه أفتى المزجلي

(1)

أيضا، وأجاب القوري بأن لا شفعة للأجنبي وأن المرأة تختص بالنصف المتروك المصير لها، وكأنها اشترت شيئا هي شفيعة لبعضه ولم يقض فيها بقضاء، بل اصطلح الأجنبي مع المرأة. انتهى.

قال الرهوني: قلت كلام هؤلاء الأئمة الأعلام يقتضي أنه لا نص في المسألة لمن قبل ابن عبد السلام، أما اقتضاء كلام ابن عبد السلام وابن آملال والمزجلي

(2)

ذلك فظاهر، وأما اقتضاء كلام ابن عرفة وابن غازي والقوري والونشريسي والمكناسي، فلأنهم لم يستشهدوا على ذلك بنص إنما استشهدوا بأخذه من المدونة وذلك من أغرب الغريب لأن المسألة منصوصة لمن قبل ابن عبد السلام ومن ذكر معه بأزمنة متطاولة مذكورة في الكتب الشهيرة المتداولة، ففي المفيد ما نصه: وقال ابن لبابة في منتخبه: إذا كان مال مشترك بين أهل سهم واحد مع أجنبي كالإخوة للأم والزوجات والجدتين، تكون حظوظهم في أصل ويكون سائره لأجنبي يبيع واحد من أهل السهام من صاحبه الذي هو معه في سهم واحد، فلا شفعة للشريك الأجنبي؛ لأنه لو كان المبتاع أجنبيا لكان هذا الذي اشترى الآن أحق بالشفعة، فكيف إذا كان هو المشتري؟ انتهى.

وقال ابن سلمون: وفي مسائل ابن الحاج: إذا كانت دار بين رجلين على الإشاعة فتوفي أحدهما فتقاومها ورثته وضم أحد الورثة حظوظ سائرهم، فلا يكون للشريك شفعة لأنهم لو باعوها من

(1)

في الرهوني ج 6 ص 289 المزجلدي.

(2)

في الرهوني ج 6 ص 289 المزجلدي.

ص: 642

أجنبي إلا واحدًا لكان أحق بالشفعة من الشريك. انتهى. ووفاة محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة صاحب المنتخب سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، ووفاة ابن عبد السلام سنة تسع وأربعين وسبع مائة. والله سبحانه الموفق. انتهى.

وطولب بالأخذ بعد اشترائه الطالب بكسر اللام هو المشتري أو وكيله، والطالب بفتح اللام هو الشفيع أو وكيله؛ يعني أن الشفيع -لا بقيد كونه مشتريا- للمشتري مطالبته عند الحاكم بالأخذ بالشفعة أو الترك؛ بأن يقول له: إما أخذت وإما تركت لا يلحقه من الضرر بعدم التصرف في الحصة التي اشتراها، وإنما تكون له المطالبة بالأخذ بعد اشتراء الشقص، قال عبد الباقي: وطولب الشفيع لا بقيد كونه مشتريا كما في الذي قبله أي طالبه المشتري عند حاكم بالأخذ بالشفعة بعد اشترائه أي المشتري للشقص لما يلحقه من الضرر بعدم تصرفه في الحصة التي اشتراها، وإن كان لا يجب عليه الترك أي ترك التصرف في الحصة حتى يعلم الشفيع وإنما يندب فقط خلافا لفتوى ابن رزق، كما أنه لا يجب على البائع ترك البيع حتى يعلم المشتري، وإنما يستحب فقط خلافا لفتوى ابن زرب، وقوله:"وطولب بالأخذ" يريد أو الترك كما في الشارح، فإن أخذ وإلا فلا شفعة له على ما يأتي.

لا قبله يعني أن المشتري ليس له مطالبة الشفيع بالأخذ بالشفعة أو الترك قبل شرائه للشقص، وإذا أسقط الشفيع شفعته في هذه الحالة لم يلزمه إسقاطه لأنه إسقاط للشيء قبل وجوبه، فقوله: ولم يلزمه مفرع على قوله: "لا قبله"، قال غير واحد: الأولى التفريع بالفاء ليفيد أنه مفرع عليه أي على قوله: "لا قبله".

قال مقيده عفا الله عنه: ولم يظهر لي كون ذلك أولى، وفي الرهوني أن ما فعله المص هو الأولى ليفيد أنه لا يلزمه الإسقاط، سواء وقع بعد أن طولب بالأخذ أو قبله. انتهى. وفي المدونة: لو قال الشفيع للمبتاع قبل الشراء اشتر فقد سلمت لك الشفعة وأشهد بذلك فله القيام بعد الشراء لأنه سلم ما لم يجب له بعد، قال اللخمي: ويجري فيها قول آخر أنه لا شفعة له، قياسا على من قال إن اشتريت عبد فلان فهو حر وإن تزوجت فلانة فهي طالق، وفرق ابن رشد في الأجوبة بأن الطلاق والعتق من حق الله بخلاف الشفعة، وقال ابن عبد السلام: هذا الفرق ليس بالقوي ويظهر

ص: 643

لبادئ الرأي صحة تخريج اللخمي، وذكر ابن عرفة عن شيخه ابن الحباب أنه فرق بأن التزويج وشراء العبد في مسألتي الطلاق والعتق من فعل الملتزم، وشراء الشقص المشفوع في هذه المسألة ليس من فعله. نقل ذلك في تكميل التقييد، وقد تعقب الأبي في شرح مسلم فرق ابن الحباب قائلا: لم يكن ابن الحباب عارفا بالفقه إنما كان عارفا بالعقليات. انتهى. نقله البناني.

وقال عبد الباقي: لا قبله ولم يلزمه إسقاطه ولو على وجه التعليق الصريح، كإن اشتريت أنت فقد أسقطت أنا شفعتي، وفي نص المواق ما يدل عليه، والفرق بينه وبين تعليق الطلاق والعتق على دخول دار أو نكاح أجنبية وطء لك رقيق تشوف الشارع للحرية والاحتياط في الفروج في النكاح، وأيضا الحق في هذين لله بخلاف الشفعة، وأيضا كل من الطلاق والعتق مقدور عليه بخلاف عقد البيع الناشئ عنه الشفعة. انتهى. قوله: وأيضا كل من الطلاق لخ أي مقدور عليه للملتزم بالكسر؛ إذ له إنشاؤهما متى شاء بخلاف عقد البيع الناشئ عنه الشفعة؛ إذ لا قدرة لملتزم إسقاط الشفعة على إنشاء عقد بيع بين شريكه وشخص آخر، وفي هذا الفرق نظر لاقتضائه أنه لو قال قائل إن باع زيد كذا لعمرو فزوجه طالق أنه لا يلزمه شيء إذا وقع المعلق عليه وليس كذلك فتأمله. قاله الرهوني.

وقال المواق: اللخمي: للمشتري وقف الشفيع على الأخذ أو الترك، فإن أبى جبره الحاكم على ذلك من المدونة، قلت: فمن أراد الأخذ بالشفعة ولم يحضره الثمن أيتلوم له؟ قال: قال مالك: رأيت القضاة عندنا يؤخرون الأخذ بالشفعة في النقد اليوم واليومين والثلاثة، واستحسنه مالك وأخذ به: قال ابن المواز: وإنما يؤخر هكذا إذا أخذ بشفعته، فأما إذا أوقفه الإمام ليأخذ شفعته فقال أخروني اليوم والثلاثة لأنظر في ذلك فليس ذلك له، ويقال له بل خذ شفعتك الآن في مقامك وإلا فلا شفعة لك. وقاله أشهب ومطرف. وقال مالك في رواية ابن عبد الحكم: يؤخر السلطان اليوم والثلاثة ليستشير وينظر. انتهى. ومن المدونة قال مالك: إذا قال الشفيع للمبتاع قبل الشراء اشتر فقد سلمت لك الشفعة إلى آخر ما مر.

واله نقض وقف يعني أن المشتري للشقص إذا وقفه فإن للشفيع أن ينقض ذلك الوقف ولو مسجدا، ويأخذ الشقص بالشفعة، فقوله:"نقض" مصدر مضاف لمفعوله، والنقض هو الإبطال.

ص: 644

كهبة وصدقة يعني أن المشتري للشقص إذا وهبه أو تصدق به فإن الشفيع له أن ينقض ما أحدث فيه المشتري من هبة أو صدقة ويأخذه بالشفعة قاله غير واحد. وقال عبد الباقي: وله أي للشفيع نقض وقف أحدثه المشتري في الشقص ولو مسجدا كهبة وصدقة وعتق بأن يشتريَ نصف حائط به عبد مثلما فيعتقه المشتري وإذا نقض العتق والوقف ورد الثمن للمشتري فعل به ما شاء كما هو ظاهر كلامه؛ ومحل المص ما لم يحكم بعدم ما ذكر مخالف يرى ابطال الشفعة بذلك. قاله البساطي على سبيل التردد. وانظر إذا زاد في الشقص بناء ووقف الجميع وأخذ الشفيع الشقص فقط هل له في أنقاض الوقف التفصيل بين علم المشتري وعدمه؛ فإن علم كانت في وقف آخر وإلا فلات أو يقال وهو المظاهر لما علم بالشفيع دخل على أن الوقف يستمر إلى قيامه فيملكه المشتري بعد قيام الشفيع، كما يأتي في مسألة الإجارة المشار لها بقوله:"والنقض لربه إذا نقضت" والظاهر أيضا للتعليل المذكور أنه لا يكون ثمنها للموقوف عليه معينا. انتهى.

قال البناني: جزم في الثمن بأن المشتري يفعل به ما شاء وتردد في الأنقاض ولا فرق بينهما، وجزم بعضهم في الثمن بجعله في حبس آخر قياسا على ما إذا حبس أحد الشريكين حصته ولم يرض الشريك الآخر شركة الحبس، فإنه يباع ويجعل ثمنه في حبس آخر بناء على ما جرى به العمل من قول ابن الماجشون، وجزم بذلك قياسا على ما تقدم في الاستحقاق من قوله:"وله هدم مسجد". وسواء فيهما علم أن له شفيعا أم لا. والله أعلم. انتهى. ولوأعمر المشتري ما اشتراه لشخص وقد علم أن له شفيعا وأمضى الشفيع العمرى، فالظاهر أنه يجب على الشفيع دفع جميع ثمن الشقص لأن خيرته في نقضها تنفي ضرره، فلا يجاب لدفع ثمنه على أنه معمر بالفتح. انظر شرح الشيخ عبد الباقي.

والثمن لمعطاه يعني أن الثمن الذي يأخذه المشتري للشقص من الشفيع يكون لمن أعطي الشقص في مسألتي الهبة والصدقة، وأما في مسألتي الوقف والعتق فقد مر ما يفعل به، وإنما يكون الثمن لمن أعطي الشقص إن علم المشتري الذي وهبه شفيعه أي شفيع الشقص أي علم أن له شفيعا، وإن لم يعلم عينه لأنه لما علم به فكأنه دخل على هبة الثمن، فإن لم يعلم معطي الشقص بأن له شفيعا فالثمن له لا لمعطاه، قال عبد الباقي: فإن قلت: كيف يتصور أن يشتري شقصا ولا يعلم أن له

ص: 645

شفيعا؟ قلت: يتصور ذلك فيما إذا اعتقد أن بائعه حصل بينه وبين شريكه قسمة، وأنه باع ما حصل له فيها أو اعتقد أن بائعه يملك النصف الآخر. انتهى. ولا حاجة إلى هذا السؤال والجواب؛ لأنه يغني عن ذلك قوله: لا إن وهب مارا فاستحق نصفها هذه الصورة مفهوم قوله: "إن علم شفيعه"؛ يعني أن من اشترى دارا فوهبها كلها لشخص ثم استحق شخص نصفها وأخذ المستحق النصف الثاني بالشفعة، فإنه لا يكون ثمن النصف المأخوذ بالشفعة للموهوب له والمتصدق عليه وإنما هو للمعطي بكسر الطاء لأنه لم يعلم أن له شفيعا، وقول الخرشي: لأنه لم يثبت للمشتري ملك عليه فهبته له كالعدم، وإذا كان ثمن النصف المأخوذ بالشفعة للواهب فأولى المستحق الذي يرجع به المشتري على البائع؛ لأنه إذا لم يكن له ثمن النصف الذي هو ملك للواهب فأولى أن لا يكون له ثمن النصف الذي تبين له أنه ليس ملكا للواهب. انتهى. فيه نظر من حيث التعليل؛ لأن المشتري ملكه بالشراء.

والحاصل أن الثمن كله للمعطي بالكسر ثمن المستحق وثمن غيره، وأن الصواب التعليل بما ذكرت وقوله:"فاستحق نصفها" أي بملك سابق على الهبة ولا مفهوم لنصفها، وضمير وهب للمشتري ونص المدونة: ومن اشترى دارا فوهبها لرجل ثم استحق رجل نصفها وأخذ باقيها بالشفعة كان ثمن النصف المستشفع للواهب. انتفى. أبو الحسن: وكذا ثمن النصف المستحق. انتهى.

وملك بحكم يعني أن الشفيع يملك الشقص المشترى أي يدخل في ملكه بأحد أمور ثلاثة: إما بحكم حاكم بأنه له، وإما بدفع الثمن. للمشتري سواء رضي بذلك أو لم يرض، ولهذا قال: أو دفع ثمن، وإما بإشهاده أي بأن يشهد الشفيع بأنه أخذه بالشفعة، ولهذا قال: أو إشهاد، ابن عبد السلام: المراد بالإشهاد أنه بمحضر المشتري وإلا فلا معنى له، خلافا لابن عرفة فإنه قال يملكه بالإشهاد ولو في غيبة المشتري، قال البناني: ورأيت بخط الشيخ السناوي رحمه الله أن ما لابن عبد السلام من اشتراط حضور المشتري هو الذي جرى به العمل، نقل ذلك عن شيخه أبي عبد الله العربي بردلة، خلافا لما في العمليات. انتهى.

الرهوني: وعلى هذا العمل اقتصر التاودي في شرح التحفة وعزاه لبردلة أيضا، وعليه اقتصر الفشتالي في وثائقه، فقال الونشريسي في طرره عليها: قوله لم ينفعه الإشهاد يعني بطلت

ص: 646

شفعته، وهذا محكي عن ابن القاسم، قال بعض الشيوخ: ووقعت فحكم بهذا. انتهى. وأشار بقوله: وهذا محكي عن ابن القاسم إلى ما في طرر ابن عات عن بعض الموثقين، وإن قال الشفيع قد أخذت بالشفعة من غير توقيف لم يكن له ذلك إلا بحكم القاضي إلا أن يسلم إليه ذلك المشتري فله ذلك؛ وكذلك حكى ابن القاسم. من الاستغناء. انتهى. ثم قال بعد كلام ما نصه: وكل ذلك شاهد لابن عبد السلام وهو الحق الذي لا محيد عنه لا ما لابن عرفة، والعمل الزي ذكره أبو زيد الفاسي بقوله:

والأخذ بالشفعة سرا ينفع

به قضاة الوقت قالوا أجمع

لا عمل عليه لأنه منسوخ بالعمل المنقول عمن ذكرنا. والله أعلم. انتهى. وقال عبد الباقي عند قوله: "أو إشهاد" ما نصه: لا إشهاد خفية أنه باق على شفعته ثم يسكت حتى يجاوز الأمد المسقط حق الحاضر، ثم قام يطلبها "فلا ينفعه ذلك وتسقط كما لأبي عمران العبدوسي، فهذه فيها الإشهاد أنه باق على حقه غير مسألة المص التي هي الإشهاد بالأخذ. انتهى. وقال البناني: ابن عبد السلام: المراد بالإشهاد أنه بمحضر المشتري وإلا فلا معنى له.

ابن عرفة: ونزلت عندنا هذه المسألة عام خمسين وسبع مائة في شفيع أخذ شفعته في دار يملك باقيها بشهادة عدلين دون أن يوقف المشتري ويشهد عليه بذلك، ثم إن الشفيع باع جميع الدار فنازعه المشتري الأول لوقوع البيع قبل الإشهاد عليه بالأخذ منه، فشاور القاضي في ذلك أبا عبد الله السطي فلم يذكر غير ما أشار إليه ابن عبد السلام من كلام ابن رشد، وكنت أنا وابن خليل السكوني شهيدي النازلة فعاتبنا القاضي في الشهادة فاحتججت عليه بما في المدونة من أن من له الخيار من المتبايعين له أن يختار في غيبة صاحبه، ويشهد على ذلك فيقاس عليه الشفيع، وبقولها أيضا: ولا يجوز بيع الشفيع الشقص قبل أخذه بالشفعة؛ إذ مفهومه جواز بيعه بعد أخذه والعمل بمفهوم المدونة معهود من طريقة ابن رشد وغيره. ابن غازي: وفي استدلالة الثاني ضعف. انتهى. باختصار. انتهى.

ص: 647

قوله عن ابن غازي: وفي استدلالة الثاني ضعف، يقتضي أن استدلال ابن عرفة الأول مسلم لا ضعف فيه، وعندي أنه غير مسلم لأن مسألة بيع الخيار قد يراعى فيها القول بأن بيع الخيار منعقد والرد فيه حل للبيع من أصله، وقد بني على هذا القول بعينه في هذا الباب ما تقدم للمص تبعا للمدونة وغيرها من قوله:"ووجبت لمشتريه إن باع نصفين خيارا" لخ، وليس هنا ما يراعى فتأمله. والله أعلم قاله الرهوني.

تنبيهان: الأول: على ما لابن عرفة وأبي زيد الفاسي قال الونشريسي في غنيته: وانظر إذا قلنا إنها تكون له بمجرد الإشهاد ممن يكون ضمانها في هذه المدة ولمن يكون خراجها، والظاهر أن الضمان من المبتاع والخراج له. انتهى. وفيه نظر، والظاهر من كلام ابن عرفة عكس ما فهمه؛ لأن ابن عرفة استدل بإشهاد من له الخيار من المتبايعين في غيبة الآخر وذلك يفيد أن الضمان هنا من الشفيع والخراج له؛ لأن الحكم كذلك في القيس عليه ولأن الحكم بصحة الأخذ يوجب ذلك؛ لأن فائدة صحة العقد ترتب أثره عليه ولا وجه للتوقف في ذلك على المشهور من أن الأخذ بالشفعة بيع؛ لأن العقد الصحيح فيما ليس فيه حق توفية ينقل الضمان بمجرده اتفاقا، ويظهر أن الأمر كذلك على المقابل على أنه استحقاق لأنه قد وقع بالفعل بمجرد الإشهاد. فتأمله. قاله الرهوني.

الثاني: علم مما قررت أن الضمير في ملك للشقص لا للأخذ، وبذلك يسلم المص من التعقب الذي حصل من ابن عرفة على ابن شأس وكلام ابن شاس هو ما في المواق، ونصه: ابن شأس: يملك الأخذ بتسليم الثمن وإن لم يرض المشتري وبقضاء القاضي له بالشفعة عند الطلب وبمجرد الإشهاد، قال البناني: وظاهر كلام ابن شأس وابن الحاجب ما فهمه ابن عبد السلام منهما من أن المراد أن الشفعة تملك بأحد الأمور الثلاثة، فتعقب ابن عرفة عليهما بأن هذا المعنى لا يعلمه لأحد من أهل المذهب إلا لابن شأس تبعا للوجيز على عادته لظنه موافقته للمذهب، قال: وروايات المذهب واضحة بخلافه وإن الموجب للك الشفعة إنما هو ثبوت ملك الشفيع لشقص شائع مع شراء غيره شقصا آخر. انتهى. وأما المص في التوضيح ففهم كلامهما على أن المراد يملك الشفيع الشقص بأحد هذه الوجوه، وجرى على ذلك هنا فهو سالم من تعقب ابن عرفة، ولو

ص: 648

أجيب عن كلام ابن شأس وابن الحاجب بأن تملك الشفعة بمعنى تلزم مجازا لربما كان ظاهرا، فمعنى تملك الشفعة يلزم صاحبها الأخذ بواحد من هذه الوجوه. انتهى المراد منه. والله تعالى أعلم.

واستعجل إن قصد ارتياء يعني أن الشفيع للمشتري أن يستعجله بطلب الأخذ أو الترك حيث طلب الشفيع التأخير بقصد أن يتروى أي ينظر في أمره هل يأخذ أو يترك؟ فيقول له إما أن تأخذ أو تترك، وكذلك له أن يستعجله إذا طلب التأخير بقصد أن ينظر إلى الشقص المشترى بفتح الراء كما قال: أو نظرًا للمشترى فلا يمهل بل يأخذ أو يسقط إلا كساعة يعني أنه إذا طلب الهلة لأجل أن ينظر إلى الشقص المشترى، وكان غائبا كساعة بأن تكون المسافة بين محل الشفيع ومحل الشقص ساعة فإنه يمهل، فهو مستثنى من الثانية فقط كما في الحطاب والبساطي لا من الأولى أيضا خلافا لابن غازي، وليس المراد أن تكون مدة النظر كساعة لأن مدة النظر والإحاطة بمعرفته بعد مدة المسافة والكاف استقصائية كما في نقل المواق، والظاهر أن المراد بها الفلكية وهي خمس عشرة درجة دائما، لا الزمانية التي تختلف باختلاف الزمن من مساواة الفلكية تارة أو نقص أو زيادة عنها تارة أخرى. قاله عبد الباقي. ونحوه للخرشي فإنه قال: الاستثناء قاصر على قوله أو نظرًا للمشترَى ومن رجعه لما قبله أيضا فقد خالف النقل إلى آخر كلامه، وقال المواق: سمع القرينان من باع شقصا في حائط فقال الشفيع حتى أذهب فأنظر أين شفعتي، فقال ليس له ذلك فراجعه السائل، فقال: إن كان الحائط على ساعة من نهار فذلك له وإلا فلا. ابن رشد: ونحو هذا في المدونة. ابن عرفة: ذكر القول بالتأخير ثلاثة أيام اللخمي والصقلي والباجي رواية ابن عبد الحكم. انتهى. انظر نص الرواية عند قوله: "وطولب بالأخد". انتهى. وقال عبد الباقي: وقوله "وطولب" لخ، وقوله:"واستعجل" لخ مخصصان لقوله قبل: "أو شهرين إن حضر العقد وإلا سنة" أي إن محل ذلك ما لم يطلبه المشتري ويستعجله المشتري بدفعه له الثمن. انتهى. وقال غير واحد عند قوله "واستعجل إن قصد ارتياء أو نظرًا للمشترى إلا كساعة" ما نصه: وهذا كله إن وقفه الإمام، وأما إن وقفه غيره فهو على شفعته. انتهى. وقال عبد الباقي:

ص: 649

وانظر إذا كانت مسافة المشترى على أقل من كساعة هل يؤخر كساعة ومقدار مدة النظر أو لا يؤخر إلا مقدار المسافة ومدة النظر؟ انتهى.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: والظاهر أنه لا يؤخر إلا مقدار المسافة ومدة النظر؛ لأن الاستثناء يفهم ذلك باعتبار الأحروية مع عموم ما قبله. والله تعالى أعلم.

ولزم إن أخذ وعرف الثمن يعني أن الشفيع إذا عرف الثمن الذي بيع به الشقص، وقال أخذت بصيغة الماضي أي قال اشهدوا أني أخذت بشفعتي ثم رجع فإنه يلزمه ذلك الأخذ ولا ينفعه رجوعه، وهذا داخل تحت قوله:"أو إشهاد" وصرح به هنا ليرتب عليه قوله: فبيع يعني أن الشفيع يلزمه الأخذ بقوله اشهدوا أني أخذت بشفعتي ولا ينفعه رجوعه حيث عرف الثمن، وقد ملك الشقص المشترى بقوله ذلك، فلهذا إذا لم يدفع الثمن للمشتري يباع الشقص أو غيره من مال الشفيع لأجل أن يدفع الثمن للمشتري، والواو من قوله:"وعرف الثمن" واو الحال فإن لم يرى الثمن: فقال في المدونة ما نصه: وإذا قال الشفيع بعد الشراء اشهدوا أني قد أخذت بشفعتي ثم رجع فإن علم الثمن قبل الأخذ لزمه، وإن لم يعلم به فله أن يرجع. انتهى منها بلفظها. وفي الموازية أن الأخذ غير جائز وفسخ ذلك على ما أحب أو كره. انتهى.

واختلف الشيوخ في ذلك فمنهم من حمله على الخلاف ومنهم من حمله على الوفاق، والقائلون بالتوفيق اختلفوا في وجه التوفيق، فحمل أبو الوليد الباجي ما في الموازية على أن الأخذ وقع على اللزوم؛ ونصه: قال في كتاب ابن المواز: ولو استوجب الشقص قبل المعرفة بما يقع عليه من الثمن لم يجز، ومعنى ذلك أن يستوجبه على أنه عليه بما يصيبه من الثمن دون خيار له عند المعرفة فذلك غير جائز، وأما قول الشفيع قد أخذت بالشفعة ولم يرى الثمن فإنه ليس بأخذ لازم وله الخيار إذا عرف الثمن. انتهى. والله أعلم وأحكم. وحمل بعضهم قول المدونة: فله أن يرجع على أن معناه أن ذلك العقد لا يلزمه لفساده؛ لأنه لم يعرف بما يأخذ. نقله عياض. ويرده قول الأمهات له أن يترك إن أحب إذا عرف الثمن. نقله أبو الحسن. الشيخ: ولا يقال في مثل هذا له أن يترك وإنما يقال يجب عليه الترك. انتهى.

ص: 650

وحمل الأكثر ذلك على الخلاف كاللخمي وابن يونس والمازري والمتيطي وابن شاس وغيرهم؛ ورجحوا مذهب المدونة فمنهم من رجحه بعزوه لها مع عزو الأخذ لأشهب في الموازية فقط كاللخمي وابن يونس وابن عرفة، ومنهم من رجحه باقتصاره عليه كأنه المذهب كابن شأس وابن الحاجب، ومنهم من صرح بمشهوريته كالإمام المازري. نقله عنه في التوضيح وسلمه. ونقله الشيخ ميارة وجسوس وسلماه، وذكر ذلك الشارح هنا أيضا، ونصه: قال المازري إن أخذ قبل علمه بالثمن فقال ظننته أقل، فإن أراد أن يرد فله ذلك اتفاقا، وإن أراد أن يتمسك به فإن له ذلك على المشهور. انتهى منه بلفظه.

وذكر التشهير في الشامل أيضا، وسلم أبو علي التشهير هنا، وفي حاشية التحفة: وكلام البناني مخالف لهذه الطرق كلها فلا يعول عليه. قاله الرهوني. وانظر أي فائدة تظهر للخلاف؛ لأن قول المشهور الأخذ صحيح، وقول الشاذ هو فاسد ثم له الأخذ بها بعد ذلك إذا عرف الثمن واحد. الرهوني: والظاهر أن الثمرة تظهر فيما إذا لم يعلم بالثمن إلا بعد مضي المدة المسقطة للشفعة، فعلى المشهور هي ثابتة إن أحب التماسك لأن الأخذ الأول صحيح، ويؤخذ ذلك من كلام الباجي. والله تعالى أعلم. وقوله:"فبيع" قال عبد الباقي: جواب شرط مقدر أي ويدفعه فإن لم يدفعه بيع الشقص للثمن، وظاهر قوله:"فبيع" من غير تأجيل وفي النقل بعد التأجيل ولم يبين مدته، والظاهر أنها باجتهاد الحاكم، وإذا أراد المشتري أخذ الشقص حيث لزم بيعه للثمن فله ذلك ويقدم على غيره، وقوله:"فبيع" ينبغي أن يباع من ماله ما هو أولى بالبيع. والله تعالى أعلم.

والمشتريَ إن سلم يعني أن المشتري إذا سلم للشفيع الأخذ بالشفعة بأن قال الشفيع: أخذت، وقال المشتري: سلمت فإن المشتري يلزمه ذلك التسليم. فإن سكت المشتري حين قول الشفيع أخذت مع معرفة الثمن فله أي للمشتري نقضه أي نقض البيع إن لم يأت الشفيع بالثمن بعد التأجيل باجتهاد الحاكم، وله البقاء على أخذ الشفيع فيباع للثمن أيضا، فقوله:"فبيع للثمن" يتفرع أيضا على سكوت المشتري كما فرعه على تسليمه ولا يعترض على المص بأن تقديمه على

ص: 651

هذه يوهم أنها ليست كذلك مع أنها كذلك؛ لأن قوله: "والمشتريَ" لخ مرتب على ما قبله. والله أعلم.

والحاصل أن هذه المسألة على ثلاثة أوجه: أحدها أن يوقفه الإمام على الأخذ أو الترك فيقول قد أخذت ويقول المشتري وأنا قد سلمت فادفع إلي مالي فيؤجله الإمام في ذلك فلا يأتي بالمال إلى الأجل، فهذا بيع تام يباع في الثمن جميع ماله الحظ الذي استشفعه والحظ الذي استشفع به، وليس للشفيع أن يقول للمشتري خذ حائطك لا أريده ولا للمشتري أن يقول رد إلى حائطي لا أسلمه لك إذ لم تنقدْ لي مالي إلى الأجل الذي أجله لك السلطان فلا ينحل البيع إلا برضاهما جميعا وهذا هو قول المص:"ولزم إن أخذ" إلى قوله: "والمشتري إن سلم".

الثاني: أن يوقفه الإمام على الأخذ أو الترك فيقول قد أخذت فيسكت المشتري ولا يقول وأنا قد سلمت، فيؤجله الإمام بالثمن بطلب واحدهما لذلك فلا يأتي به إلى الأجل، فهذا إن طلب المشتري أن يباع له في الثمن مال الشفيع كان ذلك له، وإن أراد أن يأخذ شقصه كان له ذلك، وإن أراد الشفيع أن يرد الشقص على المشتري أو يتمسك به حتى يباع ماله في ثمنه لم يكن له في ذلك خيار، وهذا الوجه في المدونة هو قول المؤلف فإن سكت فله نقضه. الثالث: أن يوقفه الإمام على الأخذ أو الترك، فيقول قد أخذت مع معرفة الثمن فيمتنع المشتري من التسليم، قال عبد الباقي: أخذه جبرا إن عجل الثمن وإلا أبطل الحاكم شفعته حيث أراد المشتري وهذا الوجه مفهوم سلم وسكت. انتهى. قال الرهوني: هذا الوجه لم يذكره ابن رشد ولا غيره ممن وقفنا عليه سوى علي الأجهوري، وتبعه الزرقاني، وظاهر كلامهما أو صريحه أن الحاكم يبطل شفعته في الحين من غير ضرب أجل وهو غير صحيح قطعا؛ لأنه إذا كان يؤجله في قوله آخذ فكيف في قوله: أخذت؟ والحق أن حكم هذه الصورة حكم السكوت. فتأمله. والله أعلم. انتهى باقتصار. وهذه الأوجه التي ذكرت هي في قول الشفيع أخذت بصيغة الماضي.

وأشار إلى مفهوم قوله: أخذت بقوله: وإن قال أنا آخذ أجل ثلاثا للنقد يعني أن الشفيع إذا طولب بالأخذ أو الترك، فقال أنا آخذ بصيغة المضارع أو اسم الفاعل فهما سواء، وكذا لو أسقط لفظ أنا وطلب التأجيل ليدفع الثمن وسلم له المشتري فإنه يؤجل ثلاثة أيام لأجل الإتيان بالنقد

ص: 652

أي بالثمن للمشتري، فإن أتى به فلا كلام وإلا أي وإن لم يأت بعد مضي ثلاثة أيام سقطت شفعته، وبقي الشقص لشتريه، فإن لم يسلم المشتري لم يؤجل الشفيع ثلاثا، وكذا لو سكت فليست كالأولى لأن ما حصل من الشفيع ظاهر في الوعد حتى في صيغة اسم الفاعل لاحتمال إطلاقه على ما سيحصل منه أخذ. قاله عبد الباقي. قوله:"وإن قال أنا آخذ" لخ هذا الذي مر عليه المص هو الذي استظهره ابن رشد، قال الرهوني: قال محمد بن رشد: إن قال الشفيع أنا آخذ ولم يقل أخذت، فيؤجله الإمام في إحضار الثمن فلا يأتي به إلى الأجل، قيل يرجع الشقص إلى المشتري إلا أن يتفقا جميعا على إمضائه للشفيع وابتاعه بالثمن، وقيل إن أراد المشتري أن يلزم الشفيع الأخذ كان له ذلك ويباع ما له في الثمن، وإن أراد الشفيع أن يرد الشقص لم يكن له ذلك وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية وقول أشهب، والقول الأول بين. وبالله التوفيق. انتهى. وإن اتحدت الصفقة وتعددت الحصص والبائع لم تبعض يعني أنه إذا باع رجال حصصا لهم من عقار لرجل واحد في صفقة أي في عقد واحد والشفيع واحد، فإن الشفعة لا تبعض أي ليس للشفيع أن يأخذ بالشفعة في بعض الحصص ويترك في بعض، بل يقال له: إما أن تأخذ الحصص كلها أو تتركها كلها، مثال ذلك أن يكون لثلاثة مع رابع شركة هذا يشاركه في دار وهذا يشاركه في حانوت وهذا يشاركه في بستان، فباع الثلاثة أنصباءهم في صفقة واحدة من رجل فقام الشريك وأراد أن يشفع في بعضِ المبيعِ دون بعض، فليس له ذلك لأنه يبعض على المشتري صفقته فليس له إلا أخذ الجميع أو ترك الجميع إلا أن يرضى المشتري بالتبعيض، قوله:"إن اتحدت الصفقة"، قال الخرشي: أي العقد بأن كان واحدا والثمن واحد وإلا لم تكن الصفقة واحدة. انتهى. قوله: "وإن اتحدت الصفقة" أي واتحد الشفيع والمشتري، وقوله:"والبائع" أي وانتقد البائع، قال الخرشي: وأولى إن اتحد، وقال عبد الباقي: ومفهوما

(1)

تعدد الحصص والبائع أحروي، فالدار في عدم التبعيض على اتحاد الصفقة فإن تعددت جاز التبعيض. انتهى. وقوله:"وإن اتحدت الصفقة" لخ انظر مع ما مر من قوله: "كعبدي رجلين بكذا". انظر المواق.

(1)

في عبد الباقي ج 6 ص 186: ومفهوم.

ص: 653

كتعدد المشتري تشبيه في عدم التبعيض؛ يعني أنه إذا تعدد المشتري والمسألة بحالها من اتحاد الصفقة بأن وقع الشراء لجماعة في صفقة واحدة وتميز لكل مشتر ما يخصه تعدد البائع أو اتحد فيلس للشفيع الأخذ من بعض دون بعض، بل إما أخذ من الجميع أو ترك الجميع وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. ومقابله بالتبعيض لأشهب وسحنون واختاره اللخمي والتونسي. وقال ابن رشد وابن شأس: إنه الأصح، وكذا ابن يونس نقل تصحيحه عن بعض الفقهاء، ومع هذا فالذي عليه المص هو الأصح عنده، ولهذا قال: على الأصح، قال عبد الباقي: وشبه في عدم التبعيض عاطفا على كتعدد المشتري لإفادة أنه لا يجري فيه قوله على الأصح.

قال: وكأن أسقط بعضهم يعني أنه إذا أسقط بعض الشفعاء شفعته وأراد من بقي أن يشفع، فإنه يقال له: إما أن تأخذ الحصص كلها أو تتركها كلها، وليس له أخذ نصيبه فقط جبرا على المشتري، أو غاب يعني أنه إذا كان بعض الشفعاء غائبا وبعضهم حاضر وأراد الحاضر أن يأخذ حصته فقط بالشفعة ويترك الباقي فليس له ذلك جبرا على المشتري، وإنما له أن يأخذ الحصص كلها أو يتركها كلها، وإن قال الشفيع: أنا آخذ حصتي فإذا قدم أصحابي فإن أخذوا شفعتهم وإلا أخذت لم يكن له ذلك إما أن يأخذ الجميع أو يدع، فإن سلم فلا أخذ له مع أصحابه إن قدموا، ولهم أن يأخذوا الجميع أو يدعوا، فإن سلموا إلا واحدًا قيل له خذ الجميع وإلا دع، ولو أخذ الحاضر الجميع ثم قدموا فلهم أن يدخلوا معه كلهم إن أحبوا أو الصغير إذا لم يكن له من يأخذ بالشفعة كالغائب وبلوغه كقدوم الغائب. قاله الخرشي.

وقال عبد الباقي: وكان أسقط بعضهم أي بعض الشفعاء حقه من الشفعة قبل أن يأخذ الباقون بشفعتهم، فليس للباقي أخذ نصيبه فقط جبرا على المشتري، بل إما أخذ الجميع أو تركه، وقولي: قبل أن يأخذ الباقون احترازٌ عما لو أخذ جميعهم بها ثم أسقط بعضهم للمشتري حصته وقبلها فليس له إلزامها لأحد الشفعاء؛ لأن قبوله لحصة المسقط رضي منه بتبعيض الصفقة، وبقي ما لو أخذ بعضهم ما يخصه منه مع حضور الباقين ثم امتنعوا من أخذ ما يخصهم، فهل للمشتري إلزام الأخذ أم لا؟ انتهى.

وقال الرهوني عند قوله: "وكأن أسقط بعضهم أو غاب": ما ذكره المص منصوص عليه في المدونة وغيرها، وفي العتبية: انظر إذا كان الشفعاء حضورا فقام أحدهم، هل يكون للمشتري حجة في أن

ص: 654

يقول: أنا لا أعطيك نصيبك إذ يأبى البعض فتتبعض عليَّ صفقتهم ولا الجميع إذ قد يقوم علي الباقون ويقولون أعطيت حقوقنا ويرجعون علي أو يقول له القائم إنما يرجعون علي لا عليك إذ لا حق لهم عندك فابحث على النص فيه. انتهى. قلت: قد بحثت على ذلك غاية فلم أقف على نص صريح في ذلك، لكن ظاهر كلامهم أن من طلب أخذ الجميع ممن حضر يمكن منه إذ لا ضرر في ذلك على المشتري. والله أعلم. انتهى. قال عبد الباقي: ولا ينافي ما ذكره المص هنا قوله: "وهي على الأنصباء" إما لأنها بآخرة الأمر على الأنصباء، وإما لأن ما مر يخص بما إذا حضر جميع الشركاء بدليل ما هنا: فإن قلت: يرد على قوله وكأن أسقط بعضهم ما في الحطاب عن المدونة من أن لبعض المتعدد أخذ بعض الصفقة الواحدة مع اتحاد المشتري، قال أبو الحسن: ظاهره ولو كان ما يأخذه الشفيع جل الصفقة ولا كلام للمشتري، فليس كالاستحقاق يجاب بأن محل عدم التبعيض في تعدد الشفيع حيث كانت الشفعة في كل شقص مشتركة بين شريكين أو أكثر. انتهى.

أو أراده المشتري الضمير البارز للتبعيض يعني أن المشتري إذا قال: خذ بعض الحصص واترك بعضها وأراد التبعيض وحده وامتنع الشفيع، فإن المشتري لا يجاب إلى ذلك، كما أنه إذا أراد الشغيع التبعيض وامتنع المشتري لا يجاب الشفيع إلى ذلك، فالحاصل أنه إذا أراد الشفيع والمشتري التبعيض عمل به وإلا فالقول قول من دعا لعدمه. قاله في المدونة. انظر الخرشي.

ولمن حضر حصته يعني أنه إذا أخذ بعض الشفعاء جميع ما فيه الشفعة ثم حضر الآخر بعد ذلك، فإن كان غائبا وقدم فإن لمن حضر أخذ حصته من الشقص المأخوذ مقسوما على نصيبه ونصيب من أخذ قبله، ولا ينظر لنصيب من بقي غائبا، فإن حضر ثالث أخذ منهما على تقدير أن الشفعة للثلاثة ويقطع النظر عن غائب رابع وهكذا. قاله عبد الباقي. وقال المواق من المدونة: ولو أخذ الحاضر الجميع ثم قدموا فلهم أن يدخلوا كلهم معه إن أحبوا، فيأخذ بقدر ما كان لهم من شفعتهم، فقوله:"ولمن حضر حصته" أي على تقدير أن لو كان حاضرا مع الذي أخذ الجميع لأخذ حصته على تقدير حضور الجميع، فإذا كانت دار بين أربعة لواحد النصف ولآخر الربع ولآخر ثمن ولآخر ثمن أيضا باع صاحب النصف مع حضور صاحب الثمن فأخذ الجميع ثم قدم

ص: 655

صاحب الربع، فإن النصف المأخوذ يقسم بينه وبين الذي قبله على الثلث والثلثين، لصاحب الربع ثلثاه ولصاحب الثمن ثلثه، فإذا قدم الشريك الآخر أخذ من صاحب الربع الثلثين ومن صاحب الثمن ربع ثلثه.

وفي الحطاب عن المنتقى ما نصه: وإن كان أشراكه غيبا لم يكن للشفيع الآن أن يأخذ حصته دون حصة أشراكه الغيب حتى يقدموا، وليأخذ الآن الكل أو يترك، فإن ترك فلا حق له مع أصحابه إذا قدموا وأخذوا بالشفعة، فإذا قدم واحد ممن غاب قيل له خذ الجميع أو اترك الجميع، فمن قدم دخل معه في الشفعة إن أراد ذلك على قدر حصصهما كما لو لم يكن شريك غيرهما. قاله ابن القاسم. في المدونة. وقاله أشهب في غيرها. انتهى.

وهل العهدة عليه أو على المشتري أو على المشتري فقط يعني أنه إذا غاب الشفعاء إلا واحدا فأخذ جميع الشفعة ثم جاء أحد الغيب فأخذ من ذلك الواحد الذي كان حاضرا حصته على ما مر، فإن الشيوخ اختلفوا فيمن تكون عليه العهدة أي فيمن يكتب القادم عهدته عليه عند ظهور غيب أو استحقاق، فقيل: إنه مخير فيمن يرجع عليه عند الاستحقاق أو العيب إن شاء رجع على الشفيع الذي أخذ الجميع أو لا وأخذ منه هو حصته حين قدم، وإن شاء كتب عهدته على المشتري الأول وهذا قول أشهب وإليه أشار بقوله:"وهل العهدة عليه أو على المشتري" فأو للتخيير؛ وقيل يكتب عهدته على المشتري فقط لا على الشفيع المأخوذ منه وهو قول ابن القاسم، ثم إن جاء ثالث فقال ابن رشد: هو مخير إن شاء كتب عهدته على المشتري وإن شاء على الشفيع الأول، وإن شاء عليه وعلى الثاني. قاله البناني.

واختلف الشيوخ في قول أشهب، فمنهم من قال إنه تفسير لقول ابن القاسم فما في المدونة من قول ابن القاسم موافق لقول أشهب، فمعنى قوله: إن العهدة على المشتري إن شاء وإن شاء جعلها على الشفيع، وهذا تأويل ابن رشد وحمل عبد الحق ذلك على الخلاف، فقال: إن العهدة إنما هي على المشتري فقط لا على الشفيع المأخوذ منه، والحاصل أن المدونة تؤولت على أنهما متفقان، وتؤولت على أنهما مختلفان. والله تعالى أعلم وأحكم.

كغيره تشبيه في التأويل الثاني؛ يعني أن غير من لم يكن غائبا من الشركاء إنما تكون عهدته على المشتري فقط، قال عبد الباقي: كغيره أي غير من لم يكن غائبا وهو الحاضر ابتداء، فإنه

ص: 656

يكتب عهدته على المشتري. انتهى. قال الرهوني: صوابه أن يقول فإن عهدته على المشتري؛ لأن الكتب ليس بشرط. انتهى.

تنبيه: قال الرهوني: قال ابن عرفة بعد أن ذكر أن العهدة على المشتري ما نصه: وقول ابن عبد السلام عن سحنون إن للشفيع أن يكتب عهدته على من شاء من بائع أو مشتر لا أعرفه. انتهى. ونقله ابن غازي، وقال عقبه ما نصه: فلم يقف على قول ابن زرقون: حكى أبو إسحاق عن سحنون أن له أن يكتب عهدته على من شاء من بائع أو مشتر. انتهى.

ولو أقاله البائع يعني أن الشفعة لا تسقط بإقالة بائع الشقص للمشتري فتثبت الشفعة للشفيع وعهدته على المشتري، فالإقالة باطلة، وقوله:"ولوأقاله" مرتب على قوله: "كغيره" وهو مذهب المدونة، وأشار "بلو" لرد قول مالك أيضا: إنه مخير في كتبها على البائع أو على المشتري. إلا أنه يسلم قبلها يعني أنه إذا سلم الشفيع الشفعة للمشتري أي ترك الأخذ بها ووقع ذلك التسليم قبل الإقالة ثم تقايلا بعد ذلك التسليم فإن الشفعة ثابتة للشفيع وعهدته على البائع لأن هذا بيع حدث، فلا يكون إسقاطه

(1)

لها قبل التقايل مسقطا لشفعته بعده، قال عبد الباقي: إلا أن يسلم الشفيع أي يترك الشفعة للمشتري قبلها أي الإقالة، وبطل حقه منها ما دام الشقص مع المشتري، فإذا تقايل مع البائع الأول ثبت للشفيع الاستشفاع حينئذ بناء على أن الإقالة بيع ولا يكون إسقاطه للمشتري قبل ذلك مسقطا لأخذه بها عند بيع المشتري لغيره أو تقايله مع البائع ويكتب عهدته عليه. قوله:"ولو أقاله البائع" هذا إذا وقعت الإقالة على الثمن الأول، فإن وقعت بزيادة أو نقص ولم يحصل من الشفيع تسليم للمشتري فإنه يأخذ بأي البيعتين شاء اتفاقات لأن الإقالة بزيادة أو نقص بيع قطعا.

وقوله: تأويلان فيما قبل "كغيره" لا لقوله: "ولو أقالَ"، وفي كلام الشارح نظر. قاله عبد الباقي. قوله: وفي كلام الشارح نظر، قال البناني: عند قوله "ولو أقاله" ما نصه: هذا مذهب المدونة، وأشار بلو لرد قول مالك أيضا إنه مخير في كتبها على البائع أو على المشتري، وجعلهما الشارح والبساطي تأويلين، فيكون قول المص تأويلان راجعا له أيضا ولم يرتض ذلك ابن غازي قائلا لا

(1)

في الأصل: إسقاطها.

ص: 657

يخفى على من مارس اصطلاحه في هذا المختصر أن هذا التشبيه راجع للتأويل الثاني فقط، وأن قوله بعد ذلك:"تأويلان" راجع لأول الكلام. انتهى. وقول الزرقاني: وفي كلام الشارح نظر إشارة إلى ما ذكرناه عن ابن غازي. انتهى.

تنبيهان: الأول: قال عبد الباقي: قال ابن القاسم: من وكل على قبض شفعتة فأقر الوكيل بأن موكله سلم الشفعة فهو شاهد يحلف معه المشتري وتبطل شفعته، ولو كان مع إقرار الوكيل شاهد آخر وكانا عدلين بطلت الشفعة إلا أن يكون المشهود عليه غائبا غيبة بعيدة يتهم وكيله على عدم مال للغائب، ثم تبين أن له مالا فلا تبطل الشفعة. انتهى.

الثاني: قال عبد الباقي: تقدم أن الإقالة بيع إلا في الطعام والشفعة والمرابحة، وانظر ما حكمة كون الإقالة في هذه ليست ببيع؟ ولعله لأنها في الطعام رخصة، وأما المرابحة فلأنها لو جعلت بيعا لكان فيها شبهة تدليس على المشتري، وأما الشفعة فلأن الإقالة فيها حينئذ باطلة لاتهامهما على قطع الشفعة بها. انتهى. بتغيير قليل. وهو قولي: تدليس على المشتري، فإن الذي في شرحه تدليس على البائع. والله تعالى أعلم. قوله:"ولو أقاله المشتري" قال الشارح: التولية والشركة كالإقالة. انتهى.

وقدم مشاركة في السهم الضمير في مشاركة لبائع الشقص؛ يعني أنه إذا باع أحد الأشراك في العقار حصته واختلفت أسباب الشركة بحيث يكون بعضها أخص من بعض، فإنه يقدم في الأخذ بالشفعة المشارك للبائع الأخص وذلك هو المشارك للبائع في السهم، والحاصل أنه يقدم المشارك الأخص على المشارك الأعم، فإذا مات إنسان وترك زوجتين وعاصبا فباعت إحدى الزوجتين حظها من الدار الموروثة فإنه تقدم الزوجة التي لم تبع في الأخذ بالشفعة على العاصب، فلا يأخذ إلا بعد تسليمها لأنها أخص منه لمشاركتها للتي باعت في السهم، وكذا من ترك جدتين وعاصبا أو أختين وعاصبا وكذا من ترك زوجتين وجدتين وعاصبا، فتبيع إحدى الزوجتين حظها فالزوجة الأخرى أحق بالشفعة من العاصب والجدتين، وكذا لو باعت إحدى الجدتين فالأخرى أحق بالأخذ من الزوجتين والعاصب وما أشبه ذلك، قوله:"وقدم مشاركة في السهم". المراد بالسهم الحظ فرضا أو غيره، فيشمل مالا فرض فيها وإنما أهلها العصبة كالوراثة السفلى، قال

ص: 658

في التوضيح: لو حصلت شركة بوراثة عن وراثة لكان أهل الوراثة السفلى أولى. نص عليه في المدونة فيما إذا ورث ثلاثة بنين دارا ثم مات أحدهم عن أولاد، فإنه إذا باع أحد أولاد الولد كان إخوته أولى ثم الأعمام. انتهى.

وإن كأخت لأب أخذت سدسا يعني أنه يقدم المشارك للبائع في السهم في الأخذ بالشفعة، وإن كان المشارك أختا لأب أخذت سدسا معها أخت شقيقة أو بنت ابن أخذت سدسا مع بنت الصلب فإنهما يأخذان السدس تكملة للثلثين، فبنت الصلب إذا باعت فالتي للأب أولى بالأخذ من غيرها من الورثة، وكذا لو باعت التي للأب. قوله:"وإن كأخت لأب" يعتي سواء تعددت التي للأب أو اتحدت وسواء تعددت بنت الابن أو اتحدت، قال في المدونة: ولو مات وترك أختا شقيقة وأختين لأب فأخذت الشقيقة النصف والأختان للأب السدس تكملة الثلثين فباعت إحدى الأختين للأب فإن الشفعة بين الأخت التي للأب وبين الشقيقة؛ إذ هما أهل سهم واحد ولا دخول لبقية الورثة معهما، وعن أشهب أن التي للأب أولى. اللخمي: وهذا أحسن. انتهى. قوله: "وقدم مشاركة في السهم" هو المشهور، وروي أنه لا فرق بين الشريك الأخص والأعم فيشتركون في ذلك. ابن عبد السلام: وهو ظاهر ما قاله ابن القصار وظاهر ما في الموازية وحكاه ابن القصار عن مالك. قاله الشارح. قال عبد الباقي: وبالغ على التي للأب لضعف نصيبها ولم يبالغ على الشقيقة لأنها الأصل، فلا يتوهم فيها عدم المدخول.

ودخل الأخص على غيره يعني أن الشريك الأخص يدخل في الشفعة على الشريك الأعم، فقوله:"غيره" أي غير الأخص وغير الأخص هو الأعم، كميت عن ثلاث بنات ماتت إحداهن عن بنات وباعت إحدى أخوات الميتة، فإن أولاد الميتة يدخلون على خالاتهم إذ الطبقة السفلى أخص والعليا أعم، وإنما دخل في هذه الأخص على غيره لتنزله منزلة موروثه، وإذا باع أحد من أولاد الميتة لم تدخل في حصته واحدة من الخالات، لقوله:"وقدم مشاركة في السهم" وإنما كانت أصحاب الوراثة السفلى أخص لأنهن أقرب للميت الثاني، قوله:"ودخل الأخص على غيره". علم مما قررت أنه عام بحيث يشمل دخول أهل الوراثة السفلى على العليا، ودخول ذي السهم

ص: 659

على غيره من الورثة ذوي فروض أو عصبة، ودخول الورثة على الوصى لهم ودخول الجميع على الأجانب، ويكون ما بعده مثالا له. والله أعلم.

تنبيه: علم مما قررت من التعميم أنه كما يدخل الأخص من ذوي السهام على الأعم منهم، كذلك يدخل الأخص من العصبة على الأعم منهم كميت عن ثلاثة بنين مات أحدهم عن اثنين فباع أحدهما اختص أخوه بنصيبه ولا يدخل عماه معه، فإن باع أحد العمين دخلا مع عمهما.

كذي سهم على وارث هو مثال لدخول الأخص على الأعم كما مر؛ يعني أن الوارث بالسهم يدخل على الوارث بالتعصيب؛ لأن الوارث بالسهم أخص منه، كميت عن ابنتين وعمين باع أحد العمين نصيبه فهو للجميع بقدر حصصهم ولا يختص به العم، وكذا من يرث بوراثة سفلى يدخل على صاحب الوراثة العليا بما ذكر كما مر التمثيل له قريبا في التنبيه بلصق هذا الكلام.

ووارث على موصى لهم عطف على ما قبله، فهو من أمثلة دخول الأخص على الأعم يعني أنه إذا أوصى لجماعة بثلث عقار فباع أحدهم لأجنبي فحصته بين أصحابه وبين الورثة كلهم، ولو باع أحد الورثة فإنه يقدم الورثة على الوصى لهم ولا يدخلون؛ لأن الوصى لهم مع الورثهَ كالأجانب مع الورثة، وقيل: إن بقية الوصى لهم أحق من الورثة. قاله أشهب. وابن عبد السارم. وسلم ابن المواز دخول ذوي السهام على العصبة، ومنع دخولهم على الموصى لهم، ورأى أن الجزء الذي أوصى به الميت كالجزء الذي يجب لذوي السهام بالميراث. قاله الرهوني.

ثم الوارث عطف على "مشارك" من قوله: "مشاركة في السهم" يعني أن الوارث بالفرض أو بالتعصيب يقدم في الأخذ بالشفعة على الشريك الأجنبي، ثم الأجنبي يعني أنه إذا أسقط الوارث حقه في الشفعة فإن الأجنبي يأخذ بها، وكذا لو لم يكن وارث فإن الشريك له الأخذ بالشفعة وهذا واضح متعارف، وإنما نبهت عليه لتتميم المسألة. والله أعلم.

تنبيهات: الأول: تبين مما تقدم أن المراتب أربع: ذوو الفروض والعصبة والموصى لهم والأجانب، وأن كلا منهم يدخل على من بعده دون العكس، وقد نصوا على أن وارث كل يتنزل

ص: 660

منزلته، وكذا المشتري من كل منهم يتنزل منزلة البائع، ونظم ذلك العلامة سيدي أحمد بن عبد العزيز الهلالي فقال:

قدم شريك بائع في السهم ثم

في الإرث ثم من له أوصي أم

فشرك موروث وأدخل كُلًّا

منهم على من بعده قد حلا

ووارث ومشتر في النقل

كلاهما فيما له كالأصل

وما ذكره في المشتري نقله بعضهم عن المفيد وفي التوضيح ما يفيده.

الثاني: هذا الذي نقله بعضهم عن المفيد، وفي التوضيح ما يفيده قال الرهوني: هو كذلك فيه، ونقله عن أحكام ابن بطال عن سماع ابن القاسم، ونقله المتيطي أيضا عن سماع ابن القاسم وزاد أن بعض الشيوخ قال: لا يعلم فيه خلافا، قلت: المسألة في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم من كتاب الشفعة، ونصه: وسئل مالك عن أربعة إخوة باع أحدهم نصيبه من دار لهم فسلم إخوته للمشتري ما اشتراه أتراه شفيعا معهم إذا باع آخر منهم؟ قال: نعم، قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو مما لا أعلم فيه خلافا؛ لأن المبتاع يحل محل بائعه، ونحوه للشيخ أبي محمد وسلمه ابن عرفة ونصه: الشيخ: روى محمد: من أوصيَ له بثلث دار فهو شفيع مع الورثة فيما باع بعضهم. محمد:

(1)

ثم قال محمد فإن أوصى أحد ولد الميت بحظه لرجل ثم باع واحد من بقية الولد، فإن من أوصى له الولد يدخل في ذلك مع بقية الإخوة ولم يختلفوا في هذا وليس كالذي أوصى له أبوهم الذي ورثوا الدار عنه؛ لأنه كمبتاع من أحد البنين فيحل محل بائعه. انتهى.

الثالث: قال عبد الباقي عند قوله "وقدم مشاركة في السهم" ما نصه: كدار بين أجنبيين مات أحدهما وترك ورثة فباع أحد الورثة نصيبه لم يدخل الأجنبي في الأخذ بالشفعة، فإن كانت

(1)

في الرهوني ج 6 ص 298: محمد لأنه رجل واحد الشيخ كذا في الام محمد فإن أوصى لخ.

ص: 661

الورثة أولادًا أو اثنين قدما على الأجنبي حيث كان نصيبهما ينقسم عليهما إذ لا شفعة فيما لا ينقسم على المذهب، فالزوجات التي لهن الثمن مع ابن إذا باعت واحدة منهن، فإن كان نصيبهن ينقسم عليهن قسمة شرعية فالشفعة لبقية الزوجات، فإن كان لا ينقسم عليهن كانت الشفعة للعاصب حيث كان نصيبه ينقسم قسمة شرعية على الثمن، وإلا لم يكن له شفعة. انتهى. وقوله:"كدار بين أجنبيين" لخ قال البناني: هذا المثال لا يصلح هنا إنما موضعه قوله: "ثم الوارث ثم الأجنبي" فعليه أن يؤخره إليه، وقوله: حيث كان نصيبهما ينقسم عليهما لخ، قال البناني: هذا القيد جار على ما تقدم له أنه المعتمد من تخصيص الشفعة بما ينقسم، لكن اعتباره في السهم الواحد بحيث إذا لم ينقسم على أهله انتقلت الشفعة للعاصب إن انقسمت الدار بالنسبة إليه كما ذكره فيه نظر، ولم أر من قاله وإنما الشرط المتقدم على القول به معتبر في الربع بكماله والقسمة إنما تعتبر على أقل الأنصباء فإن قبلها الربع كانت فيه الشفعة وقدم فيها الأخص على غيره وإن لم يقبلها فلا شفعة فيه أصلا هذا ظاهر كلامهم والله أعلم انتهى قول البناني فيه نظر ولم أر من قاله لخ. قال الرهوني: فيه نظر ظاهر، فإن ما قاله الزرقاني مصرح به في كلام الأئمة، قال اللخمي ما نصه: وقال مالك في رجل هلك وخلف ثلاثة بنين ثم مات أحدهم عن ثلاثة من الأولاد: فإن باع أحد الأعمام نصيبه كانت الشفعة لأخيه ولأولاد أخيه، وإن باع أحد من الإخوة كانت الشفعة لبقية الإخوة لا للأعمام، وقال أبو الحسن بن القصار: اختلفت الرواية عن مالك فقال: الأخ أولى بما باعه أخوه من العم، وقال كل من له ملك في ذلك الشيء فله حقه من الشفعة فيما يبيعه أحد من الشركاء، قال: وهو القياس، وسوى بين الشركاء والورثة في ذلك ولا تخلو الدار من ثلاثة أقسام: إما أن تنقسم أتساعا أوأثلاثا أو لا تنقسم بحال، فإن كانت تنقسم أتساعا كان الجواب على ما قاله ابن القاسم عنه؛ لأنه إذا صار إلى بني الابن سهم قسموه أثلاثا كدار قائمة بنفسها فبعضهم أحق برفع الضرر ممن لا يصير له في ذلك الثلث شركة، وإن كانت لا تنقسم بحال أثلاثا كانت الشفعة لجميع من ما له

(1)

فيها شركة بوراثة أو غيرها؛ لأن الأصل فيما

(1)

كذا في الأصل والذي في الرهوني ج 6 ص 295: لجميع من له فيها شرك بوراثة لخ.

ص: 662

جعلت له الشفعة فيما لا ينقسم خوف أن يدعو المشتري إلى البيع فتخرج الدار من أملاكهم، ومضرة خروج الملك من العقار أضر من مضرة المقاسمة، وإن كانت الدار تنقسم أثلاثا خاصة فباع أحد الأعمام كانت الشفعة لجميعهم؛ لأن بني الإخوة شركتهم مع أعمامهم فيما ينقسم وإن باع أحد الإخوة كان فيها قولان، فعلى أحد قولي مالك أن الشفعة فيما لا ينقسم يتشافعون فيما بينهم دون أعمامهم، وعلى قوله: لا شفعة فيما لا ينقسم تكون الشفعة للأعمام دون بني الإخوة لأن الأعمام يقولون نحن نشفع فيما يحمل القسمة ولا شفعة لأحدكم لأن نصيبكم لا يحمل القسم. انتهى. ونقله ابن ناجي في شرح المدونة وسلمه، واختصره ابن عرفة بقوله: فإن كانت الدار تنقسم أتساعا فالجواب على ما روَاه ابن القاسم، وإن لم تقسم أولا أثلاثا فالشريك بإرث أو شراء سواء، وإن انقسمت أثلاثا لا أتساعا فباع أحد الأعمام فالشفعة لجميعهم، فإن باع أحد الإخوة لخ، وقال اللخمي أيضا: ولو كانت دار بين ثلاثة لأحدهم النصف ولاثنين النصف والدار تنقسم نصفين ولا تنقسم أرباعا فإن باع صاحب النصف استشفع الاثنان وإن باع أحد الاثنين كانت الشفعة على أحد قولي مالك لصاحب الربع، وعلى القول الآخر لصاحب النصف دونه. انتهى. وفي التوضيح بعد أن ذكر أن الشفعة لدفع الضرر: وهل هو ضرر الشركة أو القسمة؟ قولان ما نصه: والأول أظهر على وجوب الشفعة فيما ينقسم من حيث الجملة إلا أنه لا يمكن فيه القسمة لكثرة الشركاء. انتهى. فانظر قول البناني هذا ظاهر كلامهم مع هذه المنصوص القاطعة الشاهدة للزرقاني والله الموفق. انتهى.

الرابع: قال الرهوني عند قوله: "ثم الوارث ثم الأجنبي" بعد أن ذكر أن المشتري يتنزل منزلة البائع ما نصه: مثل هذه المسألة ما إذا باع بعض أهل السهم الواحد حظه منه فسلم الشركاء للمشتري ما اشتراه، وأما إذا اشترى السهم كله جماعة فقال ابن رشد: واختلف لو كان المبتاعون للسهم الواحد جماعة فباع أحدهم حظه، فقال ابن القاسم: لا يكون شريكه أحق بالشفعة من أشراك البائع، وقال أشهب: أشراكه أحق بالشفعة من أشراك البائع لأنهم كاهل سهم واحد. وبالله التوفيق. وذكر الخلاف أيضا في رسم الأقضية من سماع يحيى وكلامه فيه يدل على أن قول

ص: 663

ابن القاسم هو الجاري على المشهور، وقد نقل ابن عرفة ما في سماع يحيى وسلمه. والله أعلم. انتهى.

الخامس: قال الرهوني: يشمل المشتري عامل المغارسة، فإذا باع أحد الإخوة مثلا حظه من أرض لأجنبي بالمغارسة فتم عمله فباع أحد الإخوة نصيبه فالعامل كأحدهم، وأما إذا باع قبل تمام العمل فقال ابن غازي في تكميله عند قول المدونة لا يأخذ الوصي للحمل بالشفعة حتى يولد ويستهل إذ لا ميراث حتى يولد ويستهل ما نصه: منه أخذ شيخ الجماعة أبو مهدي عيسى بن علال أن العامل في المغارسة إذا باع صاحب الأرض حصته قبل أن يبلغ الغرس، أنه لا يأخذ الآن بالشفعة حتى يبلغ الغرس فبلوغ الغرس كوضع الحمل. انتهى.

الرهوني: المتبادر من كلامه أنه لا شريك لصاحب الأرض إلا العامل ومثله في المعنى إذا كان له شريك، والظاهر أن الشريك يأخذ جميع الحظ المبيع بالشفعة، ثم إن تم العمل دخل معه العامل فأخذ بقدر ماله منها، وإن عجز بقي الجميع بيد آخذه أولا. والله تعالى أعلم. وأما عكس هذا وهو أن يبيع العامل، فإن كان البيع بعد تمام العمل فلا إشكال في وجوب الشفعة لرب الأرض إن كان وحده أو له ولشركائه إن كان له شركاء كمسألة الإخوة المارة. وإن كان بيعه قبل تمام العمل فعلى القول بأنه لا يجوز له البيع لا شفعة لعدم صحة البيع، وعلى القول بصحة البيع تقع الشفعة. انتهى.

وأخذ بأي بيع شاء يعني أن البيع إذا تكرر في الشقص فإن الشفيع يأخذ بأي بيع شاء وعهدته وهي ضمان الشقص المبيع من العيب، والاستحقاق على من أخذ بشرائه من المشتريين كما قال: وعهدته عليه قال عبد الباقي: "وعهدته" أي درك ثمنه عند عيب المأخوذ أو استحقاقه عليه أي يكتبها على من أخذ بشرائه إن لم يعلم الشفيع بشراء من يأخذ بشرائه، فإن كان حاضرا عالما وسكت حتى باع المشتري لآخر فلا يأخذ شفعته بشرائه؛ لأن بيعه لغيره مع علمه وعدم رده له يسقط أخذه الشفعة بشرائه فقط لا مطلقا، بل له الأخذ بعا بعده وكذا إن كثرت البياعات مع علمه فالأخذ بالآخر فقط، كذا قيد اللخمي إطلاق المدونة كالص. وجزم بالتقييد المذكور الحطاب. ثم إن كان الشقص بيد من أخذ بشرائه أخذه منه، وإن كان بيد من بعده أخذه وسلم له ثمنه إن

ص: 664

ساوى ثمن من أخذ بشرائه، فإن نقص دفع له ثمنه فقط وسلم الزائد لمن أخذ بشرائه وإن زاد لم تلزمه الزيادة ويرجع بها على بائعه. انظر المواق.

وفي كلام الشارح والتتائي نظر، ويستثنى من قوله:"وعهدته عليه" مسألتان: الأولى إذا اشترى عامل القراض بمال القراض شقصا هو

(1)

شفيعه، والثانية إذا اشترى شقصا ورب المال شفيعه فإن الشفعة فيهما على البائع كما لابن رشد، وذكره التتائي على الرسالة لا على المشتري؛ لأن المشتري في الأولى عين الشفيع وفي الثانية عامل الشفيع ونائب عنه في الشراء، ولا يقال في الأولى شراء العامل بمال القراض له مسقط لشفعته كالمقاسمة؛ لأنا نقول بمنع ذلك وسنده ما مر من قوله:"وشفع لنفسه أو ليتيم آخر"، وأيضا شفعته لا تتقرر إلا بعد شرائه لمال القراض؛ إذ قبل الشراء لا يقال فيما يريد شراءه شفعة. انتهى. قوله: وهو شفيعه بأن يكون العقار مشتركا بين العامل وأجنبي، وقوله ورب المال شفيعه بأن يكون مشتركا بين رب القراض وأجنبي، وقوله وأيضا. لخ أي أنه لم تتقرر له شفعة حتى تسقط. قاله مقيده.

وقال الحطاب: وأخذ بأي بيع شاء هذا إذا كان غير عالم أو غائبا، وأما إن كان حاضرا عالما فإنه تسقط شفعته من البيع الأول وكانت له الشفعة في البيع الثاني، وكذلك إن بيعت بياعات وهو حاضر سقطت شفعته إلا من آخر بيع، وإن كان غير عالم كان بالخيار يأخذ بأيهما شاء. انتهى. وعهدته على من أخذ منه، قال في المدونة: وعهدة الشفيع على المبتاع خاصة وإليه يدفع الثمن كان بائعه قد قبض الثمن أو لا، ولو

(2)

باع المبتاع على أن ينقد الثمن ولم يقبض الدار نظر الإمام في ذلك والبائع له منع الشقص حتى يقبض الثمن، فإن شاء الشفيع أن ينقده فذلك

(3)

ويقبض الشقص وعهدته على المبتاع لأنه أدى عنه. انتهى. وقال المواق من المدونة: قال مالك: من ابتاع شقصا ثم باعه فتداولته الأملاك فللشفيع أخذه بأي صفقة شاء وينقض ما بعدها، وإن شاء أخذه بالبيع الأخير وتثبت البيوع كلها.

(1)

في هامش بخط المؤلف: ط أي العامل.

(2)

في الحطاب ج 6 ص 79 ط دار الرضوان والتهذيب ج 4 ص 131: ولو غاب المبتاع قبل أن ينقد الثمن لخ.

(3)

في الحطاب ج 6 ص 79 والتهذيب ج 4 ص 131: فذلك له.

ص: 665

أشهب: إن تبايعه ثلاثة فأخذها من الأول كتب عهدته عليه ودفع من ثمن الشقص إلى الثالث ما اشتراه به؛ لأنه يقول لا أدفع الشقص حتى أقبض ما دفعت ويدفع فضلا إن كان للأول، وإن فضل للثالث شيءٌ مما اشتراه به رجع على الثاني، وليس للثالث حبسة حتى يدفع إليه بقية ثمنه ثم يرجع الثاني على الأول بتمام ما اشترى به الشقص منه، وإن أخذها من الثاني فعهدته عليه ويثبت بيع الأول ويدفع إلى الثالث من ثمن الشقص ما اشتراه به؛ لأنه يقول لا أدفع الشقص حتى أقبض ما دفعت فيدفع فضلا إن كان للثاني وإن فضل للثالث مما اشترى به الشقص شيء رجع به على الثاني، ولا تراجع بين الأول والثاني لتمام بيعهما وإن أخذها من الثالث كانت عهدته عليه وتم ما قبل ذلك من بيع. انتهى.

وإذا تعددت البياعات وقلنا إنه يأخذ بأيها شاء، فإذا أخذ بواحد منها نقض ما بعده أي ما بعد المأخوذ به من البياعات، وتم ما قبله إن كان قبله بيع، ومعنى نقضه تراجع الأثمان، وقوله:"ونقض ما بعده" فإن أخذ بالأول نقض الجميع وبالوسط صح ما قبله ونقض ما بعده، وإن أخذ بالأخير ثبتت البيوع كلها، وقوله:"ونقض ما بعده" هذا بخلاف الاستحقاق إذا تداولت المستحق الأملاك فإن المستحق إذا أجاز بيعا صح ما بعده ونقض ما قبله، والفرق أن المستحق مالك للشيء بالأصالة فإن أجاز تصرف واحد صح ما بعده لأنه مرتب عليه ونقض ما قبله، وأما الشفيع الذي يأخذ بأي بيع شاء فإذا أخذ بواحد نقض ما بعده لأنه غير مجيز له وفسخ ما قبله لإجازته بإجازة الذي أخذ به. قاله بعض الشراح. وهو أظهر من فرق البساطي الذي في التتائي، فإنه يشبه الفرق بالصورة، وأما ما في أحمد فإخبار بالحكم لا فرق. قاله عبد الباقي وغيره.

وله غلته يعني أن غلة الشقص المشترى للمشتري إلى قيام الشفيع بالأخذ بالشفعة لأنه في ضمانه قبل الأخذ بالشفعة و [الخراج بالضمان]، وظاهره ولو علم أن له شفيعا وأنه يأخذ بالشفعة لأنه مجوز لعدم أخذه فهو ذو شبهة، قال المواق من المدونة قال مالك: من اشترى شقصا من أرض فزرعها فللشفيع أخذها بالشفعة ولا كراء له والزرع للزارع، ومن ابتاع نخلا لا تمر فيها فاغتلها سنين فلا شيء للشفيع من الغلة. انتهى. والضمير في "له" للمشتري للشقص، وفي "غلته" للشقص.

ص: 666

وفي فسخ عقد كرائه تردد يعني أن المشتري للشقص إذا أكراه ثم قام الشفيع يطلبه، فإن الشيوخ اختلفوا هل للشفيع أن يفسخ عقد الكراء فيأخذه الآن أو ليس له ذلك؟ أفتى ابن عات وغيره بالفسخ، وأفتى ابن مغيث وغيره بعدم الفسخ، قال عبد الباقي: وفي جواز فسخ عقد كرائه وجيبة أو مشاهرة ونقد بناء على أن الأخذ بالشفعة استحقاق، وظاهره ولو لم يعلم عند إكرائه أن له شفيعا وعدم جواز فسخه بل يتحتم إمضاؤه بناء على أن الأخذ بها بيع وهو المذهب، وكان ما بقي من مدة الكراء لا يزيد على القدر الذي يجوز تأخيرها إليه ابتداء بالأولى من قوله في الإجارة عاطفا على ما يجوز:"وبيع دار لتقبض بعد عام تردد" فإن زاد عن عام أو كان الكراء مشاهرة ولم ينقد اتفق على الفسخ، قال الخطاب: ثم على القول الثاني في المص تكون الأجرة ولو بعد الأخذ بالشفعة للمشتري. انتهى.

وانظر قوله ولو بعد الأخذ مع قول المص وله غلته الموافق لما مر من أن الغلة لذي الشبهة للحكم إلا أن يجاب بأن هذا أقوى من ذي الشبهة لتجويزه عدم أخذ الشفيع، وبأنه لما كان عقد الكراء قبل الحكم كان ما نشأ عنه كأنه حصل قبل الحكم. انتهى. قوله: وكان ما بقي من مدة الكراء لا يزيد لخ هذا القيد غير صحيح يدل لذلك ما حكاه ابن سهل، ونصه: على نقل القلشاني وابن عرفة إن أكرى الشقص مشتريه ثم قام الشفيع، نزلت بطليطلة وأكراه المشتري لعشرة أعوام فأفتى ابن مغيث وابن رَفَعَ رأسَه وغيرهما بأنه ليس له فسخ الكراء إنما له الأخذ بالشفعة إن شاء كعيب حدث بالشقص، قال الشارقي: وكتبنا بها إلى قرطبة فأفتى فيها ابن عتاب وابن القطان وابن مالك أن له الأخذ بالشفعة إن شاء إلا في المدة اليسيرة كالشهر، هذا إن علم المبتاع أن له شفيعا وإلا فلا يفسخ إلا في الوجيبة الطويلة، وأما في ما يتقارب كالسنة ونحوها فذلك نافذ لأنه فعل ما كان جائزا له، قال ابن سهل: هذا منه رجوع عما حكاه الشارقي عنه. انتهى باختصار. فانظر قوله: وأكراه لعشرة أعوام فإنه صريح في بطلان القيد المذكور. والله الموفق. قاله البناني.

وقال الخرشي: ومحل التردد إذا كان الكراء وجيبة أو مشاهرة وحصل النقد فيها وإلا فسخ من غير تردد. انتهى.

ص: 667

ولا يضمن نقصه فاعل يضمن يعود على المشتري، والضمير في "نقصه" يرجع للشقص المبيع يعني أن المشتري لا يضمن للشفيع نقص الشقص، قال المواق من المدونة مع غيرها: لا يضمن المبتاع للشفيع ما حدث عنده في الشقص من هدم أو حرق أو غرق أو ما غار من عين أو بير ولا يحط عن الشفيع لذلك شيء، إما أخذ وإما ترك. انتهى. وقال عبد الباقي: ولا يضمن المشتري نقصه بصاد مهملة الحاصل بغير صنعة كتغير سوق أو بدن، وكذا بصنعة كهدم لصلحة من غير بناء بدليل ما بعده علم بالشفيع أم لا، فإن هدم عبثا ضمن علم أن له شفيعا أم لا؛ لأن الخطأ كالعمد في أموال الناس، ولا يقال هو لم يفعل إلا في ملكه لأنا نقول: لا أخذ الشفيع بشفعته علم بأخرة الأمر أنه ليس ملكه. انتهى.

فإن هدم وبنى فله قيمته قائما يعني أن المشتري إذا هدم ثم بنى وأراد الشفيع الأخذ بشفعته فإنه يكون للمشتري قيمة البناء قائما مع جميع الثمن، وللشفيع النقض الذي كان مبنيا وهدمه المشتري حيث بقي، وإن فات بأي مفوت أسقط عن الشفيع مقابله من الثمن بأن يقال ما قيمة العرصة بلا بناء، فإن قيل خمسة قيل وما قيمة النقض بضم النون وكسرها أي البناء المنقوض، فإذا قيل خمسة حط عن الشفيع نصف الثمن فيأخذ بنصف الثمن وقيمة البناء قائما. والحاصل أنه يأخذ الشقص ببنائه بعد أن يدفع للمشتري ما بقي من الثمن بعد إسقاط قيمة النقض منه مع قيمة البناء قائما؛ أي يدفع الشفيع للمشتري شيئين قيمة البناء قائما وبقية الثمن بعد إسقاط قيمة النقض منه حيث فات بأي مفوت، قال في المدونة: ولو هدم المشتري ثم بنى قيل للشفيع خذ بجميع الثمن وقيمة ما عمر فيها، قال أشهب: يوم القيام وله قيمة النقض الأول منقوضا يوم الشراء، يحسب كم قيمة العرصة بلا بناء وكم قيمة النقض مهدوما، ثم يقسم الثمن على ذلك فإن وقع منه النقض نصفه أو ثلثه فهو الذي يحتسب به الشفيع على المشتري ويحط عنه من الثمن ويغرم ما بقي مع قيمة البناء قائما. انتهى. نقله غير واحد.

قال المواق: قال ابن المواز: وهو قول مالك وأصحابه، قال مالك: فإن لم يفعل فلا شفعة له. انتهى. هذا حيث فات النقض ولو بقي أخذه ودفع جميع الثمن وقيمة البناء قائما. وقال عبد الباقي: فإن هدم وبنى فله قيمته أي البناء قائما يوم الأخذ بالشفعة لعدم تعديه وللشفيع النقض

ص: 668

الذي كان مبنيا وهدمه المشتري ولم يعده في بنائه فيأخذه، ويدفع جميع الثمن الذي وقع به الشراء مع قيمة البناء قائما، فإن أعاده في بنائه أو باعه أو أهلكه سقط عن الشفيع ما قابل قيمته من الثمن فيغرم قيمة البناء قائما مع ما قابل قيمة الأرض من الثمن، فيسقط عنه ما قابل النقض من الثمن إن باعه أو أهلكه، وينبغي اعتبار قيمة النقض يوم دخوله في ضمان المشتري. انتهى.

البناني: قوله وينبغي اعتبار قيمة النقض لخ قصورٌ إذ هو قول المدونة يوم الشراء. انتهى. وقال الشبراخيتي: والحاصل أن النقض إن كان موجودا فإن الشفيع يأخذه ويدفع جميع الثمن الذي وقع به الشراء مع قيمة البناء قائما، وإن فوته المشتري بإعادته في الحائط أو بغير ذلك فإنه يسقط عن الشفيع ما قابل قيمته من الثمن، فيغرم قيمة البناء قائما مع ما قابل قيمة الأرض من الثمن ويسقط ما قابل قيمة النقض. انتهى. واعلم أنه سأل سائل محمد كيف يتصور الأخذ مع دفع قيمة البناء قائما لأن الشفيع إن علم بهدم المشتري وبنائه حين فعلهما فلا شفعة له وإلا فقيمته منقوضا لتعديه كذا قالوا. قاله غير واحد. قوله: وإلا فقيمته منقوضا لخ، قال الرهوني: هذا هو الصواب خلاف قول ابن ناجي في شرح المدونة، وظاهر الكتاب سواء كان المشتري عالما بالشفيع أم لا وهو كذلك، وقيل إن كان عالما فله قيمته منقوضا. انتهى.

وقال أيضا بعد هذا عند قولها: ولو غرسها المبتاع شجرا أو نخلا، فإما ودى الشفيع ذلك قائما مع ثمن الأرض وإلا فلا شفعة له. انتهى. ما نصه: قال أبو إبراهيم ليس في الأمهات قائما، قلت: وظاهر التهذيب سواء كان المشتري عالما بالشفيع أم لا وهو كذلك في مختصر الوقار، وبه أفتى بعض شيوخنا، وقيل معناه ما لم يعلم به فإذا علم فإنما يعطى قيمة البناء منقوضا لأنه متعد. قاله ابن زرب. قال المقري: وحمله الشيوخ على التفسير قلت وبه أفتى شيخنا أبو مهدي غير ما مرة، وأفتى مرة بالأول. انتهى. وكلاهما معا يعني ابن ناجي وأبا الحسن يوهم أن ابن زرب قال ذلك ولم ينقله عن غيره وليس كذلك، ففي نوازل الشفعة من المعيار ما نصه: وسئل ابن زرب عمن اشترى شقصا له شفيع فبنى ثم قيم عليه بالشفعة هل يأخذ قيمة بنائه قائما أو منقوضا؟ فأجاب العتبي: قيمة البناء منقوضا لأنه متعد إذا علم أن له شفيعا، وبنى قبل أن يعلم أياخذ بالشفعة أم لا؟ وفي كتاب الوقار: قيمته قائما، قال ابن زرب: وقول العتبي أصح وأحب

ص: 669

إلي. انتهى. وفي المنتقى: وأما من اشترى شقصا من أرض فبنى فيها ثم قام الشفيع فإن العمارة تقوم مطروحة نقضا، فإن شاء الشفيع أخذ ذلك بقيمته منقوضا وإلا أمره بقلعه. قاله مالك في المجموعة. ووجه ذلك أنه متعد بالبنيان. انتهى. وهو وحده كاف فيما قلناه من أن ما للزرقاني هو الصواب؛ لأنه نقله عن مالك نصا وساقه كأنه المذهب ولم يحك خلافه.

وانظر كيف خفي كلامه هذا على غير واحد من الحفاظ، انتهى. وأجاب المص تبعا للأشياخ عن الاستشكال المذكور بخمسة أجوبة، فقال: إما لغيبة شفيعه فقاسم وكيله يعني أن الشريك إذا غاب وله وكيل وحدث ما يوجب للشريك الغائب الشفعة فلم يأخذ له الوكيل بالشفعة بل قاسم المشتري، فهدم المشتري ثم بنى فقدم الشريك الغائب وهو الشفيع فلم يرض ما فعله الوكيل من عدم الأخذ له بالشفعة، فله أن يشفع بعد أن يدفع الثمن على ما مر، وقيمة البناء الذي أحدثه المشتري قائما لأنه لم يتعد في هدمه وبنائه، وتحت هذا الكلام جوابان: الأول أن يكون أحد الشريكين غائبا ووكل في مقاسمة شريكه فباع شريكه نصيبه ثم قاسم الوكيل المشتري ولم يأخذ بالشفعة فهدم المشتري وبنى فقدم الشفيع ولم يرض بذلك، فإنه يدفع قيمة بنائه قائما ويدفع الثمن على ما مر.

الثاني: أن يكون الشفيع غائبا وله وكيل حاضر على التصرف في أمواله فباع الشريك ولم ير الوكيل الأخذ بالشفعة وقاسم المبتاع فهدم وبنى فللمشتري قيمة البناء قائما مع الثمن على ما مر إن أراد الشفيع الأخذ وأنت خبير بأن هذا في الوكيل غير المفوض، وأما المفوض فمقاسمته تبطل الشفعة. قال أبو الحسن: أخذ الوكيل المفوض للشفعة وتركه لها لازم بخلاف المخصوص. انتهى. وأشار إلى الجواب الثالث بقوله: أو قاض يعني أنه إذا غاب الشريك في العقار فباع شريكه الآخر نصيبه فرفع المشتري الأمر إلى القاضي ليقاسمه فقاسم القاضي عن الغائب فهدم المشتري ما نابه في المقاسمة، ثم بنى فقدم الشريك الغائب فأراد الأخذ بالشفعة فإنه يدفع للمشتري قيمة بنائه قائما ويدفع الثمن على ما مر عنه يعني عن الغائب وهو متعلق بقاسم.

تنبيه: قال عبد الباقي: أو قاسم قاض مالكي عنه على أنه شريك غائب لا على أنه وجبت له الشفعة؛ إذ لو علم ذلك لم يجز له أن يقسم عليه؛ إذ لو جاز لَمَا تقرر عليه شفعة إذا قدم، وَلَمَا

ص: 670

تقرر لغائب شفعة لقدرة المشتري على إبطالها بالحكم. قاله ابن عرفة. فإن كان القاضي غير مالكي يرى أن القسمة تسقط الشفعة سقطت. انتهى. قوله: إذ لو علم ذلك لم يجز له أن يقسم عليه لخ ما نسبه لابن عرفة هو كذلك فيه، ومن جملة ما احتج به قوله: إذ لو جاز قسمه عليه إلى آخر ما في الزرقاني عنه ولكن فيه نظر؛ لأنا إن قلنا بمنع القسم فإما أن نقول إن الحاكم يأخذ بالشفعة للغائب ولا قائل به، وإما أن نقول لا يأخذ له ويمنع المشتري من التصرف حتى يقدم الغائب وقد لا يقدم أبدا، أو يقدم بعد مدة طويلة وفي ذلك من الضرر به ما لا يخفى، مع أن ظاهر نصوص المتقدمين والمتأخرين أن المشتري لا يمنع من التصرف فيما اشتراه إذا كان الشفيع غائبا غيبة بعيدة، وقد أطلق أهل المذهب القول بأن القاضي يجيب شريك الغائب البعيد الغيبة إلى ما طلبه من القسم ولم يقيدوا ذلك بشيء، بل ظاهر كلامهم أنه يجيبه لذلك كان شريكا له بالإرث أو بغيره كالشراء، سواء كان الشراء قبل غيبته أو بعدها وهو ظاهر المدونة وغيرها في هذه المسألة بخصوصها أيضا، ففيها ما نصه: ومن ابتاع شقصا من دار له فيها شفيع غائب يقاسم شريكه ثم جاء الشفيع فله نقض القسم وأخذه؛ إذ لو باعه المشتري بعد القسم كان للشفيع رد بيعه. انتهى.

قال أبو الحسن عقبه ما نصه: وقاله ابن القاسم وأشهب في المجموعة، قال أشهب: وإنه ليأخذ بالقلب ليس له رد القسم لأنه قاسم من يجوز قسمة. الشيخ: يدل على أن القسم وقع بحاكم، وظاهر الكتاب وقع القسم بحكم أو بغير حكم، قال عبد الحق: وإنما قال ينقض لأنه قاسم بغير حكم، وأما إذا رجع إلى الحاكم فالقسم مضى ويأخذ الشفيع ما يقع له في القسم. انتهى. وفي طرر ابن عات: المشاور: إذا قسم القاضي ويقدم الشفيع الغائب فله نقض القسم والأخذ بالشفعة عند مالك وابن القاسم وسحنون يقول القسمة نافذة، ويأخذ الشفيع النصيب الذي صار للمشتري بالشفعة. من الاستغناء. ونحوه لابن سلمون، وذكر اللخمي قول ابن القاسم الذي قدمناه عن المدونة، وقال عقبه ما نصه: وقال في كتاب محمد مثل ذلك وإن كانت المقاسمة من السلطان، وقال سحنون: لا ترد المقاسمة وللشفيع أن يأخذ ما صار للمشتري بالمقاسمة. انتهى. ابن يونس: وإنما كان له نقض القسم على قول ابن القاسم لأنها شفعة وجبت له قبل القسم، وانظر كيف

ص: 671

جعل له سحنون الشفعة مع ثبوت القسم فهو مشكل؟ إلا أن يقال قسم لا ينقض لأنه بحكم فلا ينقض حكم الحاكم وكانت له الشفعة لأن حقه تعلق بذلك الشقص قبل القسمة. انتهى. وتأمل ذلك كله مع الإنصاف يظهر لك ما في كلام ابن عرفة رحمه الله. قاله الرهوني. وقد علمت أن الأقوال ثلاثة ظاهر المدونة وتفريق أشهب وقول سحنون، وعلى ما لعبد الحق ترجع إلى قول واحد ولا يخفى أنها ثلاثة. والله تعالى أعلم.

وأشار إلى الجواب الرابع بقوله: أو أسقط لكذب في الثمن يعني أنه إذا أسقط الشفيع شفعته لإخبار من أخبره بكثرة الثمن، فلما هدم المشتري وبنى تبين الكذب في الثمن فإنه يستمر على شفعته ويدفع للمشتري قيمة البناء قائما، وينبغي أن يكون الكذب في المشترى بالفتح والكسر أو انفراده كالكذب في الثمن، وقوله:"أو لكذب في الثمن" أي من غير المشتري، وأما منه فيدفع له قيمة بنائه منقوضا.

وأشار للخامس بقوله: أو استحق نصفها يعني أنه إذا اشترى دارا بتمامها فهدم وبنى ثم استحق نصفها وأخذ المستحق النصف الثاني بالشفعة، فإن الشفيع يدفع للمشتري قيمة البناء قائما. وحط ما حط لعيب يعني أن الشفيع يحط عنه من الثمن ما حط عن مشتري الشقص لأجل عيب ظهر في الشقص، فإذا اشترى زيد من عمرو شقصا من عقار مشترك بين عمرو ورجل آخر، فاطلع على عيب في الشقص فحط عمرو عن زيد ربع الثمن مثلا لأجل ذلك العيب، وأراد ذلك الرجل أن يأخذ بالشفعة من زيد فإنه يحط عنه ما حط عن زيد وهو ربع الثمن، أو لهبة أي وكذلك يحط عن الشفيع من الثمن ما حط عن المشتري إذا كان ما حط البائع عنه على وجه التبرع مما جرت به العادة بين الناس أن يحطوه، فقوله: إن حط عادة راجع لقوله: "أو لهبة"، ولذلك أعاد اللام فهو خاص به دون قوله:"لعيب" فإن ذلك يحط مطلقا، وقوله:"حط" في الموضعين مبني للمفعول.

أو أشبه الثمن بعده يعني أنه يحط عن الشفيع من الثمن ما حطه البائع عن المشتري من الثمن تبرعا ولم يكن يحط عادة، بشرط أن يكون ما بقي بعد الذي حطه يشبه أن يكون ثمنا للشقص المبيع، فلو لم يشبه الباقي أن يكون ثمنا له لم يحط من الثمن شيء، وقوله:"أشبه" عطف على

ص: 672

قوله: "حط عادة" أي أو لم يحط عادة وأشبه فهو من مدخول إن، فهو خاص بقوله:"لهبة" كالذي قبله. والله تعالى أعلم. وأوفي قوله: "أو أشبه" لتنويع ما يحط عن المشتري لا لتنويع الخلاف ولا بمعنى الواو، خلاف ما لعبد الباقي فإنه غير صحيح. والله تعالى أعلم. وقوله:"بعده" أي بعد ما حط فالضمير عائد على الحط كما في الشبراخيتي. قوله: "وحط ما حط لعيب" لخ قال المواق: ابن شاس: لو وجد المشتري بالشقص عيبا بعد أخذه الشفيع لم يكن له طلب أرش، فإن رد الشفيع عليه رد هو حينئذ على البائع ولو اطلع على عيب قبل أخذ الشفيع إلا أنه حدث عنده عيب يمنع الرد فيأخذ أرشه، فذلك الأرش محطوط عن الشفيع قولا واحدا. انتهى.

ومن المدونة: من اشترى شقصا بألف درهم ثم وضع عنه البائع تسع مائة درهم بعد أخذ الشفيع أو قبل نظر، فإن أشبه أن يكون ثمن الشقص عند الناس مائة درهم إذا تغابنوا بينهم أو اشتروا بغير غبن وضع ذلك عن الشفيع؛ لأن ما ظهر من الثمن إنما كان سببا لقطع الشفعة، وإن لم يشبه أن يكون ثمنه مائة. ابن يونس: يريد أن يكون ثمنه مثل ثلاثمائة أو أربع مائة لم يحط عن الشفيع شيء وكانت الوضيعة هبة للمبتاع. ابن يونس: وقال في موضع آخر: إن حط عن المبتاع ما يشبه أن يحط في البيوع وضع ذلك عن الشفيع، وإن كان لا يحط مثله فهي هبة ولا يحط عن الشفيع شيء. ابن يونس: وهذا والأول سواء. انتهى.

وعلم من المص أن الحطيطة على وجه التبرع على ثلاثة أقسام: وإن استحق الثمن أو رد بعيب بعدها رجع البائع بقيمة شقصه يعني أن الشفيع إذا أخذ بالشفعة ثم استحق الثمن من يد البائع للشقص أو رد بعيب فإن البائع يرجع على المشتري بقيمة شقصه لا بقيمة المستحق أو المبيع، وهذا إذا كان الثمن المستحق أو المعيب معينا أي وقع العقد على عينه، ولو كان الثمن مثليا يعني أن البائع إنما يرجع على المشتري بقيمة الشقص ولا يرجع بقيمة الثمن ولا بمثله، ولو كان الثمن مثليا إلا النقد فمثله يعني أن محل رجوع البائع بقيمة شقصه إنما هو حيث لم يكن الثمن نقدًا مسكوكا بأن كان مقوما أو مثليا غير نقد مسكوك، وأما إن كان الثمن نقدا مسكوكا فإن البائع يرجع على المشتري بمثله ولا يرجع في قيمة شقصه. والحاصل أنه إذا استحق الثمن بعد الأخذ

ص: 673

بالشفعة أو رد بعيب بعد الأخذ بها أيضا، فإن كان معينا فإن البائع يرجع بقيمة شقصه سواء كان الثمن مثليا أو لا إلا في النقد المسكوك، فإن لم يكن الثمن معينا رجع بمثله مقوما أو مثليا كالنقد المسكوك معينا، فعلم أن العين يرجع بقيمته أي الشقص إن كان نقدا غير مسكوك أو غير النقد من المثليات والمقومات، وأما غير المعين فيرجع بمثله مطلقا كالنقد المعين المسكوك. والله تعالى أعلم.

قال عبد الباقي: وهذه المسألة قبل الاستثناء من أفراد قوله: وفي عرض بعرض بما خرج من يده أو قيمته أي إن فات وقد فات الشقص هنا بأخذه بالشفعة، وتقدم أن المراد بالعرض ما قابل النقد المسكوك، فهذه المسألة فيها زيادة بيان على ما تقدم وهي أن المثلي حكمه حكم العرض لا النقد. انتهى.

وقوله: "ولو كان الثمن مثليا" أشار بلو لرد ما في كتاب محمد: يرجع بمثل المثلي المستحق أو العيب. انظر الشبراخيتي. محمد: وهو غلط إنما يرجع بقيمة الشقص. قاله سحنون. وقال المواق من المدونة: قال مالك: من ابتاع شقصا من دار بعبد بعينه فمات بيده فمصيبته من بائع الشقص، وللشفيع الأخذ بقيمة العبد وعهدته على المبتاع لأن الشفعة وجبت له بعقد البيع، فإن أخذ الشفيع بقيمة العبد ثم وجد بائع الشقص بالعبد عيبا فله رده، ويأخذ المبتاع قيمة الشقص وقد مضى الشقص للشفيع بشفعته بخلاف البيع الفاسد الذي تبطل فيه الشفعة؛ لأن البيع فسد لعيبه والعيب لو رضيه البائع لتم وإن استحق العبد قبل قيام الشفيع بطل البيع ولا شفعة في ذلك، وإن استحق بعد أخذ الشفيع فقد مضت الدار للشفيع ويرجع بائع الشقص على مبتاعه بقيمة الشقص كاملا، كان أكثر مما أخذ فيه من الشفيع أو أقل ثم لا تراجع بينه وبين الشفيع إذ الشفعة كبيع ثان، وإذا استحق الثمن من يد بائع الشقص أو رده بعيب فإنه ينتقض البيع فيما بين البائع والمشتري كما عرفت، فيأخذ قيمة شقصه ولم ينتقض في هذه الحالة ما بين الشفيع والمشتري. بل له قيمة المقوم ومثل المثلي، فإن دفعه له قبل الاستحقاق والعيب فواضح، وإن لم يدفع له ذلك دفعه له. وظاهر المص عدم الانتقاض بينهما ولو كانت قيمة الشقص تزيد على قيمة الثمن كثيرا وهو كذلك، وقيل ينتقض ما بين الشفيع والمشتري وعليه فيرجع المشتري على

ص: 674

الشفيع بمثل ما دفعه في الشقص وهو قيمته أي قيمة الشقص، لقول المص "رجع البائع بقيمة شقصه".

وإن وقع قبلها بطلت يعني أن الثمن الذي دفعه المشتري لبائع الشقص إذا استحق من يد بائعه أو رده بعيب قبل الأخذ بالشفعة فإن الشفعة تبطل لانتقاض البيع حينئذ بين البائع والمشتري والشفعةُ فرعُ صِحةِ البيع. قال عبد الباقي: وإن وقع استحقاق الثمن أو عيبه من يد البائع قبلها أي الشفعة بمعنى قبل الأخذ بها بطلت الشفعة فلا شفعة له، وهذا حيث كان الثمن غير نقد فإن كان نقدا لم تبطل باستحقاقه ولا عيبه. قاله التتائي. فقوله:"إلا النقد" محذوف من هذا لدلالة ما قبله عليه وإنما بطلت في غير النقد إن وقع قبلها لأن الرد بالعيب نقض للبيع من أصله والاستحقاق مثله، فإن قلت قد جعلوا الإقالة ليست ببيع في الشفعة كما قال المص، فهي نقض للبيع مع أنهم أوجبوا للشفيع الأخذ بالشفعة كما مر، فما الفرق؟ قلت: إنما أوجبوها له في الإقالة للاتهام على تواطؤ البائع والمشتري على إسقاط شفعة الشفيع كما مر، ولا يأتي مثل هذا في الرد بالعيب ولا الاستحقاق. قاله عبد الباقي.

وإن اختلفا في الثمن فالقول للمشتري بيمين فيما يشبه يعني أنه إذا تنازع الشفيع والمشتري في قدر الثمن الذي وقع به البيع فإن القول للمشتري بيمين إذا ادعى ما يشبه أن يكون ثمنا للشقص، قال عبد الباقي: وإن اختلفا أي الشفيع والمشتري في قدر الثمن للشقص المدفوع للبائع فالقول للمشتري بيمين فيما يشبه أن يكون ثمنا عند الناس، ومما يمكن أن يزيده المشتري فيها كما في الحطاب سواء أشبه الشفيع أيضا أم لا، وإنما يحلف حيث حقق الشفيع عليه الدعوى كأن يقول حضرت مجلس شريكي وعلمت أن الثمن أقل مما تدعيه أنت، أو كان ممن يتهم بما ادعي عليه به، وإلا فقوله بغير يمين، فإن قيل الدعوى على غير المتهم إنما تتوجه فيها اليمين إذا ثبتت الخلطة بين المدعي والمدعى عليه، بأن داينه أو تكرر البيع بينهما قلت: لا يحتاج في مثل هذا إلى ثبوتها؛ لأن الشفيع معترف بأن الشقص المتنازع فيه ملك للمشتري. انتهى. قوله: وإنما يحلف حيث حقق عليه الشفيع الدعوى لخ، قال ابن رشد من سماع القرينين من كتاب

ص: 675

الشفعة: ولا اختلاف عندي في هذه المسألة إذا اختلفا في الثمن وحقق كل واحد منهما الدعوى على صاحبه، وأما إذا لم يحقق الشفيع الدعوى على المشتري وأتى المشتري بما يشبه، فقيل إنه لا يمين عليه وهو قول مالك في هذه الرواية، وقيل القول قوله مع يمينه إلا أن تكون على ذلك بينة بتقار البائع مع المشتري على ذلك. انتهى.

وقوله: أو كان ممن يتهم لخ ما أفاده كلامه من سقوط اليمين في غير هذين الوجهين هو ظاهر المدونة ومختار ابن يونس، وصرح المتيطي بأنه الأشهر في المذهب وقبله المص في توضيحه وغيره، ولكنه خلاف ما اختار اللخمي، ونصه: والأخذ باليمين اليوم في هذا أحسن لأن الناس قد كثر فيهم التحيل فيما يرون أنه يدفع الشفيع عن الأخذ، وربما أظهروا أن ذلك صدقة وهو في الباطن بيع إلا من كان من أهل الثقة والدين فلا يحلف. انتهى. وفي نوازل الشفعة من المعيار آخر جواب العلامة ابن مرزوق ما نصه: واليمين مع تحقق الدعوى متفق عليها ومع التهمة مختلف فيها، والراجح عندي في هذا الوقت اليمين مطلقا. انتهى. وفيه بعد هذا من جواب أبي عبد الله القوري ما نصه: الذي جرت به الفتوى وجوب اليمين ولو حصل الدفع بمعاينة عدلين هذا إن اتهما أن يزيدا في الثمن ولا تنقلب تلك اليمين لكثرة تحيل الناس ولفساد الناس واستحقاقهم التهم، صرح [بذلك

(1)

] الشيخ اللخمي في مواضع من تبصرته وهو في المائة الخامسة، فكيف لو أدرك زماننا؟ نعم يستثنى من ذلك المبرز في العدالة المنقطع في الصلاح والخير، وأين هذا اليوم؟ إنما هو في وقتنا كالغراب الأعصم بين الغربان. انتهى.

قلت: وإذا قال ذلك الإمامان المذكوران في وقتهما وهما في المائة التاسعة؛ إذ الأول ولد ليلة الاثنين رابع عشر ربيع الأول عام ستة وشين وسبع مائة، وتوفي عصر يوم الخميس رابع عشر شعبان عام اثنين وأربعين وثمان مائة، وصلي عليه بعد الجمعة، والثاني ولد بمكناسة أول القرن وتوفي سنة اثنين وسبعين وثمان مائة بفاس، فكيف لو أدرك وقتنا هذا وهو حدود العشرين بعد مائتين وألف، الذي لم يبق فيه من الدين إلا اسمه ولا من الإسلام إلا رسمه، فالعمل بما قالاه

(1)

ساقطة من الأصل، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 303.

ص: 676

اليوم متحتم، وقد نص الثاني منهما على أن الفتوى به في زمانه لكن هناك سيسة

(1)

نشأت عن رقة الديانة وإيثار الدنيا الخسيسة، وهي أن كثيرا من الناس يعمد إلى من يعلم منه أنه يتحرج عن اليمين فيما يتحقق براءة نفسه منه فيدعي عليه ما يوجب عليه يمينا في هذه النازلة ونحوها، ليتوصل بذلك إلى ابطال حق المدعى عليه بالكلية أو يصطلح معه بشيء لأجل ذلك، وقد بلغنا في هذا الوقت عن غير واحد من الفجار نحو هذا حتى إن بعضهم ليقنع بالصلح بنحو درهم، على ادعائه نحو ثلاثمائة درهم فلا بد لمن ابتلي بالحكم بين الناس من نظر خاص في كل نازلة تحدث بين يديه، فينظر فيها إلى حال المدعي والمدعى عليه وإلا لانقلبت المصلحة مفسدة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال جميعه الرهوني.

تنبيهات: قال الرهوني: قول القوري كالغراب الأعصم هو بالعين والصاد المعجمتين، قال في القاموس ما نصه: والأعصم من الظباء والوعول ما في ذراعيه أو أحدهما بياض وسائره أسور أو أحمر وهي عصماء، وقد عصم كفرح والاسم العصمة. انتهى منه بلفظه.

الثاني: قال في المدونة: وإن أقاما بينتين وتكافأتا في العدالة كانا كمن لا بينة له ويصدق المبتاع لأن الدار في يديه، قال أبو الحسن ما نصه: الشيخ: فجعله ابن القاسم تهاترا. ابن يونس: وقال سحنون في المجموعة: البينة بينة المبتاع وليس هذا من التهاتر لأنها زادت، وقال أشهب مثله، وقال محمد: إن شهد البينتان على صفة واحدة في مجلس واحد قضي بأعدلهما وإن تكافأتا كانا كمن لا بينة له ويحلف المشتري على ما ادعاه، وإن كانت الشهادة في مجلس كان القول قول بينة الشفيع إذا كانت عدلة وإن كانت الأخرى أعدل منها؛ لأنها إن كانت هي الأولى فالزيادة وقعت بعد الصفقة، وإن كانت هي الأخيرة فهي وضيعة من الثمن الأول. انتهى. قاله الرهوني. وقال بعد جلب النقل: فتحصل أن مذهب ابن القاسم في المدونة -وبه قال محمد- أنهما إذا تكافأتا في العدالة سقطتا، وأن مذهب أشهب وسحنون أن بينة المبتاع تقدم مطلقا، وأن محل الخلاف إذا كانتا في مجلس واحد وإلا قدمت بينة الشفيع، وقد رجح ابن أبي زمنين في منتخبه

(1)

الرهوني، ج 6 ص 303: دسيسة.

ص: 677

قول سحنون ونصه: قال سحنون: قلت لابن القاسم: فإن أقاما جميعا البينة، فقال إن تكافأت البينة في العدالة فالقول قول المشتري وهما كمن لا بينة له، قال محمد -يعني نفسه- كان سحنون يقول. يؤخذ بما شهدت به بينة المشتري لأنها حفظت الأكثر وهو الأشبه بأصولهم. انتهى. ونقله في معين الحكام وهو ظاهر. والله أعلم. انتهى.

الثالث: قال الرهوني: في نوازل الشفعة من المعيار عن ابن الحاج ما نصه: إذا اختلف الشفيع والمشتري في الثمن وطال خصامهما ووقفت الغلة ثم حكم بالشفعة فالغلة للمشتري، ونزلت بابن فرج وأبي الربيع وكان هو المشتري. انتهى. ظاهره ولو تبين أن مخاصمة المشتري كانت بباطل، والجاري على ما قدمناه عن اللخمي وغيره في الاستحقاق تقييده بما إذا لم يكن كذلك فراجعه هناك،

الرابع: قال الرهوني: في طرر ابن عات: المشاور وإن اختلفا في الثمن فقال المشتري بمائة وقال الشفيع بسمتين أو بسبعين، فالقول قول المبتاع مع يمينه فيما يشبه، وإن قال لا أحلف إلا أن يلتزم الأخذ بالشفعة ولا يكون علي بالخيار فذلك له، ومتى حلف لزمه على ما أحب أو كره وهذا خلاف لقول غيره، وبهذا قال الأبهري. من الاستغناء. انتهى. منها بلفظها. وفي نوازل الشفعة من المعيار أن بعض الشيوخ سئل عن ذلك فأجاب بما نصه أن ذلك من حجة المشتري ومن حقه. انتهى.

الخامس: قال الرهوني في المعيار: من قام له شاهد واحد بمال هل يحلف قبل الإعذار إلى الشهود عليه أو بعده؟ والحق أن من حق القائم بشهادته أن لا يحلف حتى يعذر إلى المشهود عليه في الشاهد، لاحتمال أن يجرحه فتذهب يمينه باطلة وهذا من حق الطالب، فلو أراد أن يحلف قبل الإعذار كان ذلك له لأنه حق له لا حق عليه، وكذلك من قام يطلب حقا على غريم له عليه بينة فادعى الغريم القضاء أو الهبة أو نحو ذلك، فمن حجة الطالب أن يقول لا أحلف هذه اليمين حتى يحضر المال مخافة أن يثبت العدم فتكون يميني لا فائدة لها أو تشهد على نفسك بالملاء بحيث لا تقبل منك بينة العدم إذا أُتِيَ بها، وكذلك من قام بعقد دين فمن حقه أن لا يحلف يمين القضاء حتى يثبت له مال يقتضي منه مخافة أن لا يثبت فيعجز عن ذلك فتذهب

ص: 678

يمينه باطلا، وكذلك المملكة على الطوع تقضي بالثلاث ويقول إنما أردت واحدة، فإنه يحلف على ذلك مهمى أراد مراجعتها إن كان قبل البناء ورجعتها إن كان مدخولا بها ولا يتعجل اليمين الآن؛ إذ قد لا يراجعها فتضيع يمينه.

وحاصله أن كل يمين يتوقع عدم إفادتها للحالف فله أن يقف عنها حتى يتحقق لها فائدة. انتهى.

وقال ابن ناجي عند قول المدونة في كتاب الشهادات: ومن أقام شاهدا على رجل أنه تكفل له بمائة على فلان حلف مع شاهده واستحق الكفالة قِبَلَه ما نصه: وقوة لفظها يقتضي أنه يحلف أولا ثم يستحق الكفالة، ولا حجة له إذا قال لا أحلف حتى يحضر مالي قِبَلَه من الكفالة، وإن كانت الواو لا تفيد الرتبة ولا خصوصية لهذه الصورة وبه قال أبو حفص العطار: ونقل ابن عبد الواحد النجيبي الكفيف أنه لا يحلف حتى يحضر له ماله وبه العمل بتونس، وقيل يكفي أن يشهد المطلوب أنه ملي بحقه ويحلف الطالب ولا تقبل منه بينة بالعدم. قاله ابن أبي زمنين وفضل وغيرهما، ولم يحك أكثر شيوخ المذهب غيره، وأفتى شيخنا أبو مهدي عيسى الغبريني على ما بلغني: إن كان المطلوب يتكلف كلفة بإحضار المال مثل أن يحتاج إلى بيع داره أو نحو ذلك فإنه يحلف الطالب أولا وإلا فحتى يحصله، وما ذكره صواب وبه حكمت بالقيروان. انتهى المراد منه. والله تعالى أعلم.

ككبير يرغب في مجاورته هذا مثال لقوله: "فالقول للمشتري بيمين فيما يشبه" يعني أن المشتري إذا كان كبيرا كالملك أو القاضي مثلا إذا رغب في دار مجاورة لداره ليوسع بها بيته، فاشترى من أحد الشركاء فيها شقصا ليوسع به داره فإن القول قوله في الثمن إذا أتى بما يشبه أن يزيده فيها ويحلف على ما قال، وقول عبد الباقي والخرشي: لا يمين عليه، قال فيه التاودي: فيه نظر؛ لأن هذا قول أشهب ولم يمش عليه يعني المص، كيف وهو يقول فالقول للمشتري بيمين فيما يشبه. انتهى. قال الرهوني: وهو ظاهر. والله أعلم. انتهى. وقال الحطاب: هو مثال لما يشبه فيه قول المشتري، قال ابن غازي: يرغب مبني للفاعل ومجاورته بكسر الواو اسم فاعل، وهو كقوله في المدونة: إلا أن يكون مثل هؤلاء الملوك يرغب أحدهم في الدار الملاصقة له، قلت: ما ذكره هو

ص: 679

الظاهر ويحتمل أن يقرأ يرغب بالبناء للمفعول ومجاورته بفتح الواو مصدر جاور يجاور، وقد جوز أبو الحسن في كلام المدونة أن يكون المراد به ما تقدم، قال: أو أنه أراد أن يرغب أحد المشتركين في الدار التي تلاصق الملك إذا كان عادلا، وإلا أي وإن لم يدع المشتري في الثمن ما يشبه فالقول للشفيع في قدر الثمن إن أشبه، بدليل قوله: وإن لم يشبها حلفا أي وإن ادعى الشفيع ما لا يشبه أن يكون ثمنا للشقص لقلته وادعى المشتري ما لا يشبه أن يكون ثمنا له لكثرته فإنهما يحلفان أي يحلف كل منهما على ما ادعى، وإذا حلفا رد الشقص إلى الثمن الوسط وهو قيمته، قال عبد الباقي: ما لم تزد على دعوى المشتري وما لم تنقص عن دعوى الشفيع كذا ينبغي. انتهى.

قوله: "ما لم تزد" لخ، قال البناني: هذا القيد غير صحيح لأن الموضوع أنه لم يشبه واحد منهما فتأمله، ومثله في الخرشي. ابن رشد: فإن نكل أحدهما وحلف الآخر كان القول قول الحالف، وإن أتى بما لا يشبه لأن صاحبه قد أمكنه بنكوله من دعواه. الشيخ وغيره: أعدل الأقوال أن تسقط الشفعة كنسيان الثمن. انتهى. وفرع على اختلاف البائع والمشتري في الثمن لا على اختلاف الشفيع والمشتري قوله: وإن اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن فقال المشتري اشتريته بمائة مثلا وقال البائع بمائتين فإن حلفا نقض البيع كما لو نكلا،

وإن نكل مشتر وحلف البائع وأخذ ما حلف عليه، ففي الأخذ أي في أخذ الشفيع للشقص بما ادعى المشتري لأنه الثمن الذي أقر به وادعى أن البائع ظلمه في الزائد على المائة، أو بما أدى المشتري للبائع وهو مائتان في المثال المذكور؛ لأن المشتري يقول إنما خلصت الشقص بهذه المائة الثانية فصرت كأنني ابتدأت الشراء بمائتين؛ إذ لو حلفت لانتقض البيع ولم تكن له شفعة.

وقوله: قولان مبتدأ وخبره "في الأخذ" فالفاء داخلة عليه أو فاعل الاستقرار المقدر بعد الفاء، ومما يبين أن الاختلاف هنا بين البائع والمشتري كما قررت لا بين الشفيع والمشتري، قوله:"ففي الأخذ بما ادعى أو بما أدى" إذ لا يتصور ذلك في التنازع بين الشفيع والمشتري. والله تعالى أعلم. وإن ابتاع شخص أي اشترى أرضا بزرعها الأخضر أي اشتراها مع زرعها الأخضر الذي فيها، ومعنى الأخضر أنه لم يبلغ حلية البيع فاستحق نصفها من يد المشتري فقط، أي إنما الذي استحق نصف الأرض دون الزرع واستشفع أي أخذ نصف الأرض بالشفعة فتم له ملك الأرض

ص: 680

باستحقاق نصفها وبأخذه النصف الآخر بالشفعة بطل البيع، جواب الشرط في نصف الزرع الذي بالنصف المستحق وبطل البيع أيضا في نصف الأرض المستحق وسكت عنه لوضوحه ولخفاء بطلان البيع في نصف الزرع بينه بالتعليل بقوله: لبقائه أي الزرع بلا أرض، قال عبد الباقي: وبقي للمبتاع نصف الزرع فقط الذي في المأخوذ بالشفعة على الراجح كما يفيده جد علي الأجهوري، لا للبائع وإن اقتضاه تعليل المص، ويوهم أيضا أن الزرع الأخضر يجوز بيعه منفردا عن الأرض على البقاء مع أنه ممنوع والنصف الذي في المستحق للبائع، وإنما قال: واستشفع مع أن بطلان بيع النصف في المستحق لا يتوقف عليه لرد قول من يقول: إذا استشفع بطل البيع في الزرع كله. انتهى.

قال الرهوني: قوله وبقي للمبتاع نصف الزرع فقط لخ صواب؛ لأن هذا هو الذي صوبه الشيوخ وخطئوا القول بأنه للبائع. انظر التوضيح والحطاب. وقوله: لا للبائع وإن اقتضاه تعليل المص فيه نظر، بل تعليل المص مع قوله بعد:"وله نصف الزرع" يفيد خلاف ذلك. انتهى المراد منه. وإيضاح معنى المص أن تقول: من ابتاع أرضا بزرعها الأخضر ثم استحق شخص نصف الأرض دون الزرع وهو مراده بقوله: "فقط" فإن أخذ هذا المستحق النصف الثاني بالشفعة فإنه يبطل في نصف الزرع أي النصف الذي في نصف الأرض المستحق لبقائه بلا أرض، وإذا بطل البيع فيه فهو للبائع كما يأتي، وأما النصف الذي بالمأخوذ بالشفعة فإنه لا يبطل البيع فيه بل يبقى للمبتاع، وتمام هذه المسألة قوله الآتي:"ورد البائع نصف الثمن وله نصف الزرع وخير الشفيع أولا بيت أن يشفع أولا فيخير المبتاع في رد ما بقي" والله تعالى أعلم.

قال عبد الباقي: ومفهوم بزرعها لو ابتاعها ببذرها ثم استحق نصفها أخذ الشفيع النصف الآخر منها بما ينوبه من الثمن بدون بذر على ما مشى عليه المص من عدم الشفعة في الزرع، ولو بيع بأرضه لا على مقابله فيأخذه مبذورا بجميع الثمن، ومفهوم الأخضر لو ابتاع أرضا بزرعها اليابس لصح البيع حينئذ استقلالا، وكذا إذا لم يحصل الاستحقاق حتى يبس ما ابتاعه أخضر مع الأرض، فإن قلت مقتضى قوله فيما مر: ومضى بيع حب أفرك قبل يبسه بقبضه أن بيعه قبل الإفراك لا يمضي بقبضه ولا يبسه، قلت: يقيد بما إذا بيع مفردا، وأما ما بيع بأرضه ثم

ص: 681

استحقت الأرض بعد ما يبس فإن بيعه ماض نظرا إلى وقت الاستحقاق، فكأن البيع إنما وقع وقته، ومفهوم نصفها أنه لو استحق جلها فإنه يتعين الرد كما في باب الخيار. انتهى. قوله: ومفهوم "نصفها" أنه لو استحق جلها لخ، قال البناني: هذا سهو منه، فإن المستحق هنا جزء شائع واستحقاق الشائع لا يمنع التمسك بالأقل بل فيه الخيار وإن بقي الأقل، لقول المص:"أو استحق شائع وإن قل"، وإنما الذي يمنع هو استحقاق العين وكذا يقال في قوله آخرا لأن استحقاق نصف الأرض لخ. نعم علل في المدونة تخيير المبتاع في رد ما بقي بقوله: لأنه قد إستحق من صفقته ما له بال. انتهى. ووجهه أن الأرض تنقسم وما ينقسم لا يكون الخيار فيه إلا باستحقاق ما له بال، وما تقدم من قول المص:"أو استحق شائع وإن قل" إنما ذلك فيما لا ينقسم. والله أعلم. انتهى.

وشبه في البطلان أي في بطلان البيع بطلان الشراء في قوله: كمشتر قطعة من جنان يعني أن من اشترى قطعة من جنان شخص، حال كون القطعة المشتراة بإزاء أي بحذاء بحذاء جنانه أي جنان المشتري للقطعة ليتوصل المشتري لها أي للقطعة من جنان مشتريه أي مشتري القطعة، وهذا من باب إقامة المظهر مقام المضمر أي لا ممر للقطعة المشتراة إلا من جنان ذلك المشتري، ثم استحق جنان المشتري فإن البيع ينفسخ في القطعة المشتراة لبقائها بلا ممر يتوصل لها منه، فالتشبيه في بطلان البيع من قوله: بطل البيع أي بطل البيع في تلك المسألة، كما أن الشراء يبطل في هذه المسألة: وقوله: "قطعة" مجرور بالإضافة إليه أو منصوب على المفعولية، وقوله:"من جنان" بالتنوين، ومن تبعيضية والمجرور مع جاره صفة لقطعة، وقوله:"ليتوصل" علة في الشراء، ولو قال المص: ليصل إليها من جنانه لكان أخصر وأظهر. وقوله: "جنان المشتري" هذه النسخة هي الصواب، وفي بعض النسخ: جنان البائع بدل المشتري وهي غير صواب؛ لأنه لو استحق جنان البائع فالبطلان لذاته لا لعدم التوصل لما اشترى.

ثم عاد لتتميم مسألة الأرض المبيعة بزرعها الأخضر، فقال: ورد البائع نصف الثمن يعني أنه إذا باع أرضا بزرعها الأخضر فاستحق نصف الأرض، فإن البائع يرد على المشتري نصف الثمن؛ لأن الأرض استحق نصفها وبطل البيع فيه وفي نصف زرعها، وله أي للبائع نصف الزرع الذي بغير

ص: 682

أرض وهذا تصريح بما علم من قوله: "بطل البيع" لخ للإيضاح فقط، وأفاد بقوله: وخير الشفيع وهو المستحق لنصف الأرض أولا أي قبل تخيير المشتري، بين أن يشفع فتكون الأرض كلها له ونصف الزرع في النصف المستحق للبائع ونصفه الآخر للمبتاع على الراجح كما مر، وعلى البائع كراء نصف الأرض المأخوذ بالاستحقاق إن كان الإبان باقيا حين الأخذ بالشفعة؛ لأن الزرع وقع بوجه شبهة وإن كان بعد فوات الإبان فلا كراء عليه لأنه ذو شبهة، وأما المبتاع فلا كراء عليه فإن الشفعة بيع، ومن زرع أرضا وباعها دون زرعها فلا كراء عليه. قاله عبد الباقي. قوله:"إن كان الإبان باقيا" لخ، قال الرهوني: هذا القيد مصرح به في نقل المواق، وكأن الحطاب لم يقف عليه فعبر عنه بينبغي. والله أعلم. انتهى.

أوْ لا يشفع، فإن لم يشفع فإنه يخير المبتاع في رد ما بقي من الصفقة لبائعه وإذا رد أخذ بقية ثمنه، وفي التماسك بنصف الأرض الذي لم يأخذه الشفيع ونصف الزرع فلا يأخذ بقية الثمن، قال عبد الباقي: لأن استحقاق نصف الأرض شائعا من حيز الكثير المثلي الذي لا يحرم فيه التمسك بأقل استحق أكثره، كما قال المص فيما مر: إلا المثلي. انتهى. وقد مر نقد البناني لهذا التعليل وهو جدير بالرد، وقد مر تعليله بما هو الصواب. والله تعالى أعلم.

مسألة: قال اللخمي في تبصرته في آخر كتاب الشفعة: إذا باع أحد الشريكين بنفسه طائفة بعينها كان شريكه بالخيار بين خمسة أوجه: بين أن يمضيها لشريكه وللمشتري ويبقى له ما لم يبع، أو يكون ما لم يبع شركة بينهما وما بيع بينهما والثمن بينهما، أو يرد البيع في نصيبه من المبيع ولا يستشفع، أو يستشفع أو يدعو إلى المقاسمة، فإن صارت الطائفة المبيعة للبائع مضى بيعه فيها، وإن صارت للآخر كان بالخيار في إجازة البيع ورده، وإن صار بعضها عند من لم يبع، فإن أجاز البيع فيه مضى البيع، وإن رد البيع في نصيبه كان للمشتري أن يرد البيع فيما بقي بيده، إلا أن يكون الذي رده الشريك أجنبي الطائفة المبيعة فلا يكون له رد الباقي. واختلف إذا قال البائع ليس لك أن تبقي ما لم يبع شركة بيني وبينك وتشاركني فيما بعته، ولكن نتقاسم فيصير ذلك لي أو لك فقيل لا مقال له في ذلك، والمبدأ الشريك الذي لم يبع وقيل له ذلك وهو أحسن. انتهى المراد منه. ولما كانت الشفعة والقسمة من توابع الشركة وجرى ذكر القسمة في قوله:"عقارا إن انقسم" ناسب أن يذكر القسمة عقبها فقال:

ص: 683

باب ذكر فيه القسمة وأنواعها والمقسوم والمقسوم لهم وغير ذلك، وهي لغة اسم للاقتسام، قال الجوهري: قاسمه المال وتقاسماه واقتسماه بينهما والاسم القسمة. انتهى. وقال في المقرب: القسم بالفتح قَسَمَ القسَّام المال بين الشركاء فرّقه بينهم وعين أنصباءهم ومنه القسم بين النساء، والقِسم بالكسر النصيب، وعرف ابن عرفة القسمة بقوله: القسمة تصيير مشاع من مملوك مالكين فأكثر معينا ولو باختصاص تصرف فيه بقرعة أو تراض، فيدخل فيه قسم ما على مدين ولو غائبا. نقله الشيخ عن ابن حبيب. ورواه ابن سهل في طعام سلم ويخرج تعيين معتق أحد عبديه أحدهما وتعيين مشتر أحد ثوبين أحدهما وتعيين مطلق عدد موصى به من أكثر منه بموت الزائد عليه قبل تعيينه بالقسمة. انتهى.

قوله من مملوك مالكين بيان لقوله: مشاع، وقوله: فأكثر كذا في بعض النسخ وبه يكون حده جامعا، وقوله: فيدخل قسم ما على مدين ولو كان غائبا، الرصاع وهو مخالف لمذهب المدونة، ولعله رأى أن الرسم على ما يعم المشهور وغيره. انتهى. وقول البناني: إن حد ابن عرفة جار على المشهور من جواز قسم ما على مدين واحد وهو مراد ابن عرفة، والممنوع قسم ما على مدينين فأكثر يرد بأن الجائز إنما هو في مدين حاضر وابن عرفة، قال: ولو غائبا، فالصواب جواب الرصاع، وقوله: ويخرج تعيين لخ أي بقوله من مملوك مالكين، وقوله: وتعيين مطلق عدد لخ أي بقوله تصيير مشاع بقرعة أو تراض، وقوله: معينا مفعول ثان لتصيير والأول المضاف إليه، وقوله: ولو باختصاص بتصرف فيه يعني أنه صير المشاع معينا بسبب اختصاصه بالتصرف فيه فقط كقسمة المنافع، وما قبل المبالغة تصييره معينا بملك ذات معينة. والله تعالى أعلم.

والأصل في مشروعية القسمة قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} الآية. وقوله تبارك وتعلى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} ، وقوله تبارك وتعالى:{إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} ، وقوله عليه الصلاة والسلام:(الشفعة فيما لم يقسم)، وحديث عمران بن حصين: (أن رجلا أعتق اثنين من ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعاهم رسول الله صلى

ص: 684

الله عليه وسلم، فجزأهم ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة

(1)

) وقال عليه الصلاة والسلام: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا سفينة فأصاب قوم أعلاها وقوم أسفلها

(2)

). الحديث. وحديث الرقية: (اقتسموا

(3)

واضربوا لي معكم بسهم

(4)

). واعلم أن القسمة على نوعين: قسمة المنافع وقسمة الذوات، وتكون فيهما القرعة والتراضي.

وبدأ المص بقسمة المنافع فقال: القسمة تهانؤ في زمن يعني أن القسمة في المنافع هي أن يهانئ كل منهما صاحبه في زمن معين بأن يجعل له زمنا يملك فيه المنفعة ويختص بها من قولهم هنأه أي جعل له طيبا لذيذا لا يشاركه فيه فهو بالنون، ويقال: تهايؤ لأن كل واحد هيأ لصاحبه ودفع إليه، ومقتضى قول المص:"في زمن" أنه لا بد من تعيين الزمن وإلا فسدت وهو لابن عرفة، فإنه قال: وقسمة المهايأة هي اختصاص كل شريك بمشترك فيه عن شريكه فيه زمنا معينا من متحد أو متعدد، وتجوز في نفس منفعته لا في غلته. انتهى. وحاصله أنه لا بد فيها من تعيين الزمن، اتحد المقسوم كعبد بينهما أو تعدد كعبدين بينهما قال كل لصاحبه يخدمني أنا يوما أو شهرا وأنت كذلك، ولابن الحاجب وتبعه ابن عبد السلام والتوضيح أنه إن عين الزمن لزمت في المتحد والمتعدد، وإن لم يعين صحت في المتعدد وفسدت في المتحد، قال البناني: الذي لابن عرفة فسادها إن لم يعين الزمن مطلقا، وعلى ما لابن عرفة حمل ابن غازي والحطاب كلام المص بدليل مثاله، وقوله:"في زمن" إذ لا وجه لذكره إلا في المعين. انتهى.

وما ذكره ابن الحاجب نحوه في المقدمات، قال الشبراخيتي: وأما على ما ذكره ابن رشد وابن الحاجب فكل من النوعين المذكورين قسمة مهاياة، قال في المقدمات: المهايأة على وجهين، التهايؤ في الزمان مثل أن يتفقا على أن يستخدم أحدهما العبد أو يركب الدابة أو يحرث أو يسكن الدار مدة معينة من الزمان والآخر مثلها أو أقل أو أكثر، فهذا يفترق فيه الاستغلال والاستخدام. الوجه الثاني أن يكون التهايؤ في الأعيان بأن يستخدم هذا عبدا وهذا عبدا أو يزرع

(1)

مسند أحمد ج 4 ص 426 ولفظه: أعتق ستة مملوكين

فدعابهم

فجزأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم

(2)

صحيح البخاري، كتاب الشركة، رقم الحديث، 2493.

(3)

لفظ البخاري، اقسموا.

(4)

صحيح البخاري، كتاب الطب، رقم الحديث 5749

ص: 685

هذا أرضا وهذا أرضا أو يسكن هذا دارا وهذا دارا من غير تعيين مدة. انتهى. وعلى ما لابن عرفة لا يجوز هذا الأخير فلا بد من تعيين الزمان.

ومثل لقسمة التهانؤ بقوله: كخدمة عبد شهرا يعني أنه يجوز لشريكين في عبد أن يقتسما خدمته بأن يخدم هذا شهرا وهذا شهرا، والكاف مدخلة لغير الخدمة كركوب الدابة، وقوله:"شهرا" قال عبد الباقي: لا أكثر، وقوله:"شهرا" رواه ابن القاسم عن ملك، وقال ابن المواز مثل خمسة أيام فأقل، ولا يجوز في أكثر.

وسكنى دار سنين يعني أنه يجوز لشريكين في دار أن يقتسماها قسم التهانؤ؛ كأن يسكنها هذا سنين معلومة وهذا سنين معلومة، قال المواق: ابن رشد: أما التهانؤ في الاستخدام فروى ابن القاسم يجوز في الشهر، قال ابن القاسم: وأكثر من الشهر قليلا، وأما التهانؤ في الدور والأرضين فيجوز فيها السنين المعلومة والأجل البعيد ككرائها. قاله ابن القاسم. ووجه ذلك أنها مأمونة إلا أن التهانؤ إذا كان في أرض الزراعة فلا يجوز إلا أن تكون مأمونة مما يجوز فيها النقد. انتهى.

كالإجارة يعني أن قسمة المهاناة كالإجارة في أنها لازمة كما تلزم الإجارة، وفي أنه لا بد من تعيين المدة كما لا بد من تعيين المدة في الإجارة، وهذا إنما يناسب ما لابن عرفة لا ما لابن الحاجب، عبد الباقي، ومثل الدار أرض مأمونة يزرعها هذا عاما والآخر كذلك، والتقييد بمأمونة لابن رشد قائلا: لا يجوز فيه النقد. انتهى. فغير المأمونة لا يجوز فيها تهانؤ وإن قلت المدة لأنه لا يضمن النقد في غير المأمونة، وأما المحبسة فقال ابن رشد: اختلف في قسم المحبس للاغتلال، فقيل يقسم ويجبر من أبى لمن طلب وينفذ بينهم إلى أن يحصل ما يوجب تغيير القسم بزيادة أو نقص يوجب التغيير، وقيل لا يقسم بحال وهو ما يفيده كلام الإمام في المدونة، وقيل يقسم قسمة اغتلال بتراضيهم. ابن عرفة: الأقرب حمل جواز القسم على ثمن المنفعة والمنع على نفس الشيء المحبس. قال البناني: واستظهر الحطاب الثالث.

لا في غله يعني أنه لا تجوز قسمة التهانؤ في الغلة والمراد بالغلة الكراء، كأن يأخذ هذا كراء شهر أو غيره وهذا كراء شهر أو غيره قل الزمن أو كثر، ولو يوما يعني أنه لا يجوز قسم التهانؤ في الكراء ولو قل الزمن كأن يأخذ هذا كراء يوم وهذا كراء يوم؛ لأن الغلة لا تنضبط لأنها تقل وتكثر

ص: 686

في نحو اليوم بخلاف الاستخدام، قال المواق: ابن المواز: لو كانت الدابة بينكما لم يجز أن تقول له ما كسبت اليوم فلي وما كسبت غدا فلك، وكذلك العبد بينكما قال ملك: وإن قال استخدمه أنت اليوم وأنا غدا فهو جائز وكذلك شهرا وأنا شهرا، قال محمد: ولا يجوز في الكسب ولو يوما واحدا وقد سهله مالك في اليوم وكرهه في أكثر منه. انتهى. ورد المص بلو هذا الذي روي عن مالك. والله تعالى أعلم.

وقال عبد الباقي: لا تجوز قسمة التهايؤ في غلة أي كراء يتجدد بتجدد تحريك المشترك كعبد أو دابة يأخذ أحدهما كراءه ولو يوما والآخر كذلك لعدم انضباط الغلة المتجددة؛ إذ قد تقل وتكثر، فإن انضبطت ككرائها أو كراء دار كل يوم بقدر معين جاز قسمة بينهما على أن لكل واحد يوما مثلا أو شهرا كما يجوز استخدامه كما مر، وكرحا مشترك بين اثنين مثلا دخلا على أن كل واحد يطحن متاعه في مدة معينة فيجوز ولا يضره طحنه لغيره مع ذلك بكراء أي لأنه تبع لما وقعت المهايأة عليه، فإن دخلا على أن كل واحد يكري مدة أي ولم ينضبط لم يجز لأنه من قسم الغلة. انظر المواق. ويستثنى من قوله:"لا في غلة" اللبن كما يأتي فيقيد ما هنا بما يأتي. انتهى. ومراضاة يعني أن من القسمة ما هو مراضاة وهو قسمة التراضي، والمراضاة مفاعلة من الرضى وهي أخذ كل واحد من مشترك فيه حصته منه بتراض، فسميت بذلك لأنها إنما تكون برضى الشريكين معا، وقوله: فكالبيع يعني أن قسمة المراضاة حكمها حكم البيع، قال الحطاب: قال ابن عرفة: وهي أخذ بعضهم بعض ما بينهم على أخذ كل واحد منهم ما يعد له بتراض ملكا للجميع. انتهى. وهي على قسمين: قسمة مراضاة بعد تقويم وتعديل، قال في معين الحكام وغيره: واللفظ للمعين فهذه لا يقضى بها على من أباها ويجمع فيها بين حظين في القسم وبين الأجناس والأصناف والمكيل والموزون حاشا ما يدخر من الطعام مما لا يجوز فيه التفاضل ويقام فيها بالغبن إذا ظهر، والأظهر أنها من البيوع، وقسمة المراضاة بلا تقويم ولا تعديل فحكمها حكم التي بعد التعديل والتقويم إلا في القيام بالغبن وهي بيع من البيوع بلا خلاف. انتهى. وفي التوضيح نحوه، وقاله في التنبيهات. انتهى.

ص: 687

وقال عبد الباقي: ولم يقل وهي بيع لأنه يجوز هنا بالتراضي ما لا يجوز في البيع كمسألة: "وفي قفيز أخذ أحدهما ثلثه والآخر ثلثيه" ويجوز أيضا قسمة ما أصله أن يباع مكيلا مع ما أصله أن يباع جزافا مع خروج كل منهما عن أصله، ويجوز أيضا قسم ما زاد غلثه على الثلث ولم يجيزوا بيعه، وأفاد قوله "فكالبيع" أن من صار له شيء ملك ذاته وأنها تكون فيما تماثل واختلف جنسا وفي المثلي وغيره: وأنه لا يقام فيها بالغبن حيث لم يدخلا مقوما كما يأتي ولا يجبر عليها من أباها ولا تحتاج لتعديل وتقويم، ويجمع فيها بين حظين وأكثر بخلاف القرعة في الجميع، وإنما اختصت هذه باسم المراضاة والسابقة باسم المهانأة مع أن فيها الرضى أيضا؛ لأن المقصود من السابقة التهانؤ وإن استلزم الرضا والمقصود من هذه الرضا. انتهى. وقوله: كمسألة وفي قفيز لخ، قال البناني: أصل هذا لابن راشد عارض به قولهم إنها بيع وسلمه في التوضيح، فلذا عدل عن عبارتهم هنا، وأجاب مصطفى عن معارضة ابن راشد بأن تصريحهم بجواز التفاضل في القسمة يدل على صرف قولهم إنها بيع لغير ذلك، وأجاب أيضا عنها بأن قولهم إنها بيع صحيح على إطلاقة وأن التفاضل يمتنع ولا يعكر عليه مسألة القفيز لأنها صبغ واحدة، وقد قالوا: إن قسمة الصبرة الواحدة ليست حقيقة لاتفاق الصفة والقدر انظره. انتهى. وقوله: ويجوز أيضا قسمة ما أصله أن يباع مكيلا لخ يتصور ذلك فيما يجوز فيه التفاضل من المكيلات، كأن يقتسما فدانا من الزعفران مذارعة بما فيه من الزعفران بعد قسم الزعفران جزافا، وأصله الوزن والأرض كيلا وأصلها الجزاف ولا يجوز جمعهما في البيع كما تقدم، وإنما قيدنا بما يجوز فيه التفاضل؛ لأن ما يحرم فيه التفاضل لا يجوز قسمة مع الأرض كما يأتي في قوله:"كقسمه بأصله" لما فيه من طعام وعرض، بطعام وعرض وفي المدونة: وكذلك يقسم الزرع مع الأرض، ثم قالت ولا يقسم الزرع فدادين ولا مذارعة ولا قتا ولكن كيلا. انتهى. قال أبو الحسن: وإن كان مما يجوز فيه التفاضل جاز ذلك. انتهى.

وقوله: وفي المثلي وغيره لخ بخلاف القرعة فإنها لا تدخل في المثلي أي المكيل والموزون، وعلى المنع اقتصر صاحب المعين وصاحب التحفة وقال به الباجي أيضا، ووجه المنع أنه إذا كيل أو وزن فقد استغنى عن القرعة فلا معنى لدخولهما. ابن عرفة: قال ابن رشد والباجي: لا تجوز

ص: 688

القرعة في شيء مما يكال أو يوزن، وعزاه ابن زرقون لسحنون، قال: وكذا عندي ما قسم بالتحري لأن ما تساوى في الجنس والجودة والقدر لا يحتاج إلى سهم كالدنانير والدراهم، قلت: تقدم للباجي في قسم الأضحية خلافه. انتهى. قال مصطفى: فعلم أن المثلي إذا قسم بالكيل أو الوزن لا تدخل فيه القرعة، وزاد ابن زرقون: إذا قسم تحريا على القول بجوازه، ونقل عن ابن عرفة الخلاف في القسم تحريا، ثم قال: والذي تقدم له في الأضحية هو قوله عن الباجي: وفي جواز قسمها ومنعه قولان لسماع عيسى ابن القاسم مع رواية الأخوين ورواية محمد بناء على أن القسمة تمييز أو بيع. انتهى. فعلم من البناء المذكور أنها بالقرعة إذ هي المختلف فيها، ثم يحتمل أنه قسم تحريا أو وزنا، وعلم من نقل ابن عرفة أن الباجي قائل بالمنع كابن رشد، فقول الزرقاني: وذكر الباجي أنها تكون فيه لخ تبع فيه التتائي، وقد علمت أن الباجي قائل بالمنع وأن ما ذكره في الأضحية ليس من عنده بل نقل الخلاف فقط فلا يعزى له الجواز. انظر مصطفى. قلت: أما عدم دخول القرعة فيما قسم بالوزن فهو خلاف [ما للخمي

(1)

] في قول المدونة: ومن هلك وترك متاعا وحليا قسم المتاع بين الورثة بالقيمة والحلي بالوزن، فإنه قال: يريد ويتراضيان أحدهما هذا والآخر هذا أو بالقرعة إذا استوى الوزن والقيمة، فإن اختلفت القيمة لم يجز بالقرعة. انتهى. قال أبو الحسن عقب كلام المدونة المذكور: يقوم منه جواز القرعة في الوديعة إذا استوت في الوزن والقيمة وكذلك في جميع المدخرات. انتهى. وأما عدم دخولها فيما قسم بالتحري كما قال ابن زرقون فهو خلاف ما قاله الباجي في قسمة الثمار في رءوس النخل بالتحري إنها لا تجوز إلا بالقرعة، وقد سئل سيدي عيسى بن علال عن صفة قسم الوزيعة بالقرعة التي جرى بها العرف عندنا، فقال: كان شيخنا سيدي موسى العبدوسي يقول: إن قسمت وزنا فإن شاءوا اقترعوا أو تركوا على ما قاله اللخمي في قسمة الحلي، وإن قسمت تحريا فهذا موضع القرعة، ثم قال ابن علال: قال الباجي في قسمة الثمار في رؤوس النخل بالتحري عندي أنها لا تجوز إلا بالقرعة وهو ظاهر قول أصحابنا لأنها تمييز حق، ثم ذكر ما تقدم عن ابن زرقون ثم قال: والظاهر

(1)

في الأصل: فاللخمي، والمثبت من البناني ج 6 ص 195.

ص: 689

ما قاله الباجي والوزيعة تجري عليه. نقله في تكميل التقييد. ثم تعبير الزرقاني بالمثلي فيه نظر؛ لأن الخلاف في المكيل والموزون فقط كما علمت في عبارة الأئمة.

وقرعة يعني أن من القسمة ما هو قرعة، وقسمة القرعة هي المقصودة من هذا الباب؛ لأن قسمة المهايأة في المنافع كالإجارة وقسمة التراضي في الرقاب كالبيع.

وهي تمييز حق يعني أن قسمة القرعة تمييز حق لا بيع على المشهور، قال الخرشي: ولذلك يرد فيها بالغبن ويجبر عليها من أباها ولا تكون إلا في ما تماثل ولا تجوز في شيء من المكيل والموزون ولا يجمع فيها حظ اثنين، وبهذه الخمسة تفارق قسمة القرعة قسمة المراضاة؛ لأنه يشترط في القرعة انتفاء هذه الأمور بخلاف التراضي. انتهى. ونحوه لعبد الباقي، قال: وكون القرعة لا تكون إلا في مثلي قول ابن رشد وبه أفتى الشبيبي، وذكر الباجي أنها تكون فيه وبه أفتى ابن عرفة واستظهره صاحب المعيار، وذكر أحمد والحطاب أن محل جواز المراضاة في المكيل والموزون إذا كان من أصناف لا من صنف واحد مدخر لا يجوز فيه التفاضل، ويجب حمل قولهما: لا يجوز على ما إذا وقع القسم جزافا بلا تحر أو بتحر في المكيل للغرر والمخاطرة، وأما بتحر في الوزن فيجوز كما في المواق، وبهذا الحمل لا يشكل ما ذكراه مع قوله فيما يأتي:"وفي قفيز" لخ. انتهى.

قوله: ويجب حمل قولهما لا يجوز على ما إذا وقع القسم لخ، قال البناني: الذي ارتضاه مصطفى أن يحمل ما في الحطاب من منع المراضاة فيما يمنع فيه التفاضل على قسم ما ليس صبرة واحدة كقمح وشعير أو محمولة وسمراء ومغلوثا وغيره؛ لأنه مبادلة وما لابن رشد من التفصيل بين القسم بالكيل أو الوزن فيجوز التفاضل أو التحري فيجوز في الموزون دون المكيل أو بدونهما، فيمتنع مطلقا للمزابنة إنما هو في الصبرة الواحدة كما صرح به ابن رشد لأن قسم الصبرة الواحدة غير حقيقي. انتهى.

تنبيه: اقتضى كلام المص أن القسمة ثلاثة أنواع: مهايأة ومراضاة وقرعة، وهذا يقتضي أن قسمة المنافع فقط قسيمة المراضاة والقرعة وفيه نظر؛ لأن قسيم قسمة المنافع هو قسمة الذوات، وأما القرعة والمراضاة فتكونان في كل منهما. انظر الرهوني. والله تعالى أعلم.

ص: 690

وكفى قاسم يعني أنه يكفي في تمييز الحق بالقرعة قاسم واحد، والمراد بالقاسم الذي يقوم السلع المقسومة ويعدلها فيكفي فيه أن يكون واحدا، قال الشبراخيتي: والذي يظهر من كلامهم هنا أن القاسم هو المقوم للسلع المقسومة. انتهى. ونحوه لغير واحد كعبد الباقي والخرشي وهو الذي في الحطاب، قال الشبراخيتي: وفهم من قوله: "كفى" أن الأولى خلاف ذلك وهو كذلك، قال ابن حبيب: الاثنان أولى من الواحد، وقوله:"كفى قاسم" أي ولو عبدا أو كافرا إذ لا تشترط فيه العدالة إلا أن يكون وجهه القاضي فيشترط فيه العدالة. ذكره الحطاب عن الشافعية. قال: وليس لأصحابنا ما يخالفه. انتهى. وقال الخرشي: يعني أن القاسم الواحد يكفي لأن طريقهُ الخبر عن علم يختص به القليل من الناس كالقائف والمفتي والطبيب ولو كافرا أو عبدا إلا أن يكون وجَّهه القاضي فيشترط فيه العدالة. انتهى. وقال عبد الباقي: وكفى في تمييز الحق بقسم القرعة قاسم عدل حر إن نصبه قاض، فإن نصبه الشركاء كفى ولو عبدا أو كافرا، وأشعر قوله:"كفى" أي في الإجزاء أن الاثنين أولى وبه صرح ابن الحاجب، قال: ولا يقبل قولهما بعد عزل من أرسلهما أي لأنهما شاهدان على فعل أنفسهما. انتهى.

لا مقوم يعني أن المقوم للمتلف لا يكفي فيه أن يكون واحدا، بل لا بد من اثنين، ومعنى المقوم الذي لا بد فيه من التعدد أن يكون مترتبا على تقويمه غرم أو حد، كتقويم لمسروق يترتب عليه القطع، وكتقويم لمتلف ليغرم، فالفرق بين هذا والذي قبله مع أن كلا منهما مقوم أن الأول هو الذي يقوم للقسم ويعدل أجزاء المقسوم؛ كأن يقابل ذراعين بذراع واحد لأمر كجدة أحد البناءين دون الآخر، ونحو ذلك القفيز بقفيزين من شعير وهذا يقوم للغرم أو للحد أو لهما. والله تعالى أعلم. المواق: قال مالك: يكفي الواحد في القوم إلا أن يتعلق بالقيمة حكم السرقة فلا بد من اثنين، وروي: لا بد من اثنين في كل موضع. انتهى. وفيه أيضا: قال مالك: القاسم يكفي أن يكون واحدا والأحسن اثنان، وقال أبو إسحاق التونسي: لا بد من اثنين والفرق بين القاسم والمقوم أن القاسم نائب عن الحاكم فكفى فيه الواحد والمقوم كالشاهد على القيمة فيترجح فيه جانب الشهادة.

ص: 691

وأجره بالعدد يعني أن القاسم أجره على عدد الشركاء وسواء في ذلك من طلب القسم أو أباه لأن تعبه في تمييز النصيب القليل كتعبه في تمييز النصيب الكثير وكذلك أجر كاتب الوثيقة فالضمير في أجره للقاسم والباء بمعنى على، وينبغي أن يكون المقوم كذلك للعلة المذكورة. قاله الخرشي. ونحوه لعبد الباقي، وقال: وعلى أن المقوم كالقاسم في أن أجره على عدد الشركاء فالضمير لمن ذكر من مقوم وقاسم. انتهى. وقال الشبراخيتي: الباء بمعنى على كهي في قوله تعالى: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} ، و {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ} أي وأجر القاسم مفضوض على عدد المقسوم عليهم. انتهى. وقال المواق من المدونة: ولا بأس أن يستأجر أهل مورث أو مغنم قاسما برضاهم، وأجر القاسم على جميعهم ممن طلب القسم أو أباه، وكذلك أجر كاتب الوثيقة.

ابن حبيب: ويكون الأجر في ذلك على عددهم لا على أنصبائهم. الباجي: ووجهه أن اختلاف المقادير لا يوجب زيادة في فعل القاسم، بل ربما أثر قليل الأنصباء زيادة في العمل وذلك أنه لو كان لثلاثة أشراك أرض لأحدهم نصفها وللآخر ثلاثة أثمانها وللثالث ثمنها لأثر الثمن لصغره زيادة في العمل ولاحتاج بسببه أن يقسم الأرض كلها أثمانا، ولو انقسمت على النصف بأن تكون لاثنين لكل واحد نصفها لكان العمل والقسمة فيها أقل، فإذا كان قليل الجزء يؤثر من العمل ما لا يؤثر كثيرة بطل أن يجب على صاحب الجزء الكبير، ولم يؤثر إلا عملا يسيرا أكثر مما يجب على صاحب الجزء اليسير، فقد أثر عملا كثيرا فوجب اطراح ذلك والاعتبار بعدد الرؤوس ونظير أجرة القاسم أنها على عدد الرؤوس أجرة كاتب الوثيقة وكذلك الدية وكنس المراحيض المشتركة والزبول والبير والسواقي، بخلاف التقويم في العبيد فإنها تكون في الأموال وكذلك الفطرة والشفعة ونفقة العامل في قراض مالين، وما طرح خوف الغرق، والصيد يقسم على رؤوس الصيادين لا على رؤوس الكلاب، والمشهور في تعدد الساعي. انتهى.

وكره يعني أن القاسم يكره له أن يأخذ أجرا على قسمة، قال التتائي: محل الكراهة في القاسم المقام من قبل القاضي كما في المدونة والعتبية، قال ابن رشد: فإن استأجره الشركاء لم يكره له الأجر. انتهى. وقال الشبراخيتي: وكره أجره الذي يأخذه من أموال الأيتام على القسم حيث لم يكن له على ذلك أجر من بيت المال وإلا حرم، وكذا يحرم إذا كان يأخذ الأجر قسم أو لم يقسم،

ص: 692

وأما إذا استأجره رشداء لحاجتهم وليس معهم يتامى فإنه جائز، وكرهه في كتاب ابن حبيب ورأى أن الأفضل فعله بلا أجر وهو ظاهر المدونة، لقولها: وقد كان خارجة وربيعة يقسمان بلا أجر لأن ما كان من باب العلم لا يؤخذ عليه أجر. انتهى. وقال الخرشي: أي يكره للقاسم أن يأخذ الأجرة ممن يقسم له من اليتامى وغيرهم وإن استأجره رشيد لنفسه وليس معه يتامى فهذا مباح، وكذا إذا فرض له من بيت المال. انتهى باقتصار.

وقال عبد الباقي: ومحل الكراهة إن لم يكن له في بيت المال أجرة على قسمة لأيتام أو غيرهم، فإن كان له ذلك ببيت المال حرم أخذه ممن يقسم لهم أيتاما أو غيرهم، ومحل الأقسام الأربعة المذكورة حيث كان لا يأخذه إلا إن قسم بالفعل، فإن كان يأخذ مطلقا كالمسمى في زماننا بالقسام حرم مطلقا كان لأيتام أو كبار كان له ببيت المال أجر على القسم أم لا.

وقسم العقار وغيره بالقيمة يعني أن العقار وما أشبهه من المقومات يقسم باعتبار القيمة لا بالعدد ولا بالمساحة إن اختلفت أجزاء المقسوم وإن قوبل واحد بأكثر، فإن اتفقت أجزاء المقسوم لم يحتج للتقويم بل يقسم مساحة. قاله الشارح. وهو حسن فردُّ التتائي عليه غير ظاهر، وهذا في قسمة القرعة وفي قسمة المراضاة إن أدخلا مقوما ولا يخفى أن معرفة تساوي الأجزاء لا تتوقف على التقويم؛ إذ قد يعرفه من لا يعرف التقويم. المواق: ابن رشد: يجوز أن تقسم الرباع والأصول بالسهم إذا عدلت بالقيمة. اللخمي: وإن اختلفت قيمة الدارين فكان بينهما يسير مثل أن يكون قيمة إحداهما مائة والأخرى تسعين فلا بأس أن يقترعا على أن من صارت إليه التي قيمتها مائة أعطى صاحبه خمسة دنانير؛ لأن هذا ما لا بد منه ولا يتفق في الغالب أن تكون قيمة الدارين سواء. انتهى.

وقال البناني: ابن عرفة: يجزأ المقسوم بالقيمة على عدد مقام أقلهم جزءا. الباجي: صفتها أن تنقسم العرصة على أقل سهام الفريضة، ما هو متساو قسم بالذراع وما اختلف قسم بالقيمة. ابن حبيب: هذا قول جميع أصحابنا. انتهى. وبه تعلم أن ما ذكره الزرقاني عن الشارح صحيح وأن رد التتائي عليه وتبعه الخرشي غير صواب. انتهى. الخرشي: وأما ما يكال أو يوزن فإنه يقسم

ص: 693

كيلا أو وزنا عند ابن رشد، وفتوى الشبيبي وفتوى ابن عرفة وعزوه للباجي أن المثليات كالمقومات. انتهى.

وأفرد كل نوع يعني أن قسمة القرعة يفرد فيها كل نوع من أنواع المقسوم أو كل صنف من أصناف المقسوم إذا كان متباعدا على حدته، فلا يجمع فيها بين نوعين ولا بين صنفين من المقسوم. ابن رشد: لا يجمع في القسمة بالسهم الدور مع الحوائط ولا مع الأرضين ولا الحوائط مع الأرضين، وإنما يقسم كل شيء من ذلك على حدته. انتهى. وظاهر قوله:"وأفرد كل نوع" ولو لم يحتمل القسم غير أنه إذا لم يحتمل القسم يباع، ويقسم ثمنه إذا لم يتراضيا على شيء لأن المراد بإفراده عدم ضمه في القسمة إلى غيره، وأما كونه يقسم أو يباع فشيء آخر، وسيأتي:"وأفرد كل صنف كتفاح إن احتمل" ومفهومه إذا لم يحتمل ضم إلى غيره ويقسم. قاله أبو الحسن. فقد بان أن ما لا يحتمل القسم من أنواع العقار والحيوان يباع ويقسم ثمنه بخلاف كالتفاح، والفرق أن كل نوع من أنواع الحيوان والعقار مقصود وتختلف الرغبة فيه ما لا تختلف في أصناف الثمار. قاله الخرشي. ونحوه لعبد الباقي، وسيأتي وجمع بز ولو كصوف وحرير، ووجه جمعهما بأن الغرض من البز متحد في نظر الشرع وهو الستر واتقاء الحر والبرد، فهو كنوع واحد. والله أعلم.

وقال عبد الباقي: وأفرد كل نوع من حيوان آدمي أو غيره احتمل القسم أو لا غير أن ما احتمله يفرد ليقسم، وما لا يحتمله يفرد ليباع ويقسم ثمنه إلا أن يتراضيا على شيء فيعمل به كما في الحطاب. انتهى. وقال الحطاب: يعني أنه لا يجوز جمع جنسين ولا نوعين متباعدين في قسمة القرعة، قال في المدونة: ولا تقسم أصناف مختلفة بالسهم مثل أن يجعلوا الدور حظا والرقيق حظا يستهمون وإن اتفقت قيم ذلك؛ لأنه خطر، وإنما تقسم هذه الأشياء كل نوع على حدة البقر على حدة والغنم على حدة، والعروض على حدة إلا أن يتراضوا على شيء بغير سهم وكذلك لا يجوز أن يجعلوا دنانير ناحية وما قيمته مثلها ناحية من ربع أو عرض أو حيوان ويقرعوا، أما بالتراضي فجائز وأما داران في موضع وإن تفاضلتا في البناء كواحدة جديدة وأخرى رثة أو دار بعضها رث وباقيها جديد فذلك يجمع في القسم؛ لأنه نوع واحد منه جديد ودون بالقيم كقسم

ص: 694

الرقيق على تفاوته، وكل صنف لا بد فيه من ذلك فإن كان كل صنف من ذلك لا يحمل القسمة بيع عليهم الجميع إلا أن يتراضوا على شيء بغير سهم فيجوز. انتهى.

وجمع دور يعني أن الدور يضم بعضها لبعض في قسمة القرعة بالشروط الآتية، ومن المدونة قال مالك: إن كانت مواضع الدور مختلفة مما يتشاح الناس فيها بعمران أو غيره قسمت كل دار على حدتها، إلا أن يتفق منها داران أو ثلاثة فتجمع المتفقة في القسم ويقسم باقيها كل دار على حدة. وأقرحة يعني أن الأقرحة تجمع في القسمة كالدور، قال عبد الباقي: والواو بمعنى أو أي لا تجمع الدور والأقرحة بل تقسم الدور على حدة، والأقرحة على حدة والأقرحة جمع قراح بالفتح وهو الفدان، ومن المدونة قال ابن القاسم: الأقرحة وهي الفدادين إذا كانت بين قوم فطلب بعضهم أن يجمع له نصيبه في القسم في موضع واحد، فإن كان بعضها قريبا وكانت في الكرم سواء جمعت في القسم وجعل نصيب كل واحد في موضع واحد ولم يحد لنا مالك في قرب الأرض بعضها من بعض حدا وأرى الميل وشبهه قريبا في الحوائط والأرضين، وإن كانت الأقرحة مختلفة وهي متقاربة أو كانت في الكرم سواء وبينهما

(1)

تباعد كاليوم واليومين قسم كل قريح على حدته. انتهى. وقوله: "وأقرحة" قال عبد الباقي: جمع قراح بالفتح والكسر مخففا. انتهى. قال البناني في ذكره الكسر نظر، وليس في القاموس والصحاح إلا قراح بالفتح كسحاب وكذا القاضي في التنبيهات، ونصه: الأقرحة الفدادين واحدها قراح بالفتح كسحاب مثل زمان وأزمنة، وذكر في الكتاب واحدها قريح ولا يبعد صوابه إن سمع مثل قفيز وأقفزة وبعير وأبعرة. انتهى. وعليه اقتصر في التوضيح وجمع الدور والأقرحة بشروطها الآتية لا يخالف قوله: وأفرد كل نوع؛ إذ ظاهره أن كل نوع تجمع أفراده مطلقا لحمل ما سبق على أن جمع

(2)

أفراده إنما هو

(3)

عند وجود الشروط الآتية.

ولو بوصف مبالغة في مقدر وهو إن عينت؛ يعني أن جمع الدور أو الأقرحة يجوز إن عينت برؤية بل ولو عينت بوصف. المواق من المدونة: لا بأس أن يقتسما دارا غائبة على ما يوصف لهما من

(1)

في المواق ج 5 ص 398: وبينها.

(2)

في الأصل: جميع، والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 196.

(3)

في الأصل: هي، والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 196.

ص: 695

بيوتها وساحتها ويميزا حصتهما

(1)

منها بالصفة كما يجوز بيعها بالصفة، وتقدم في الفدادين أن تكون في الكرم سواء ولم تبعد مسافة بعضها من بعض، وفي الموطإ لا يقسم ما يسقى بالنضح والسواقي مع ما يسقى بالعيون، ولا يقسم البعل مع السقي إلا أن يتراضوا أن يجمعوه في القسم فذلك لهم. قال سحنون: وذلك بغير قرعة ولا يصلح بالقرعة لأن ذلك مختلف ويصير كمن جمع حمارا وفرسا. انتهى.

وقوله: "ولو بوصف" عند ابن القاسم، وقاله في المدونة ومنع ذلك سحنون ولو وصفت، فقوله:"ولو بوصف" معناه أنه لا تشترط المشاهدة بل يكفي الوصف في الغائبة، ومنع ذلك سحنون قائلا: لا بد من المشاهدة. والله تعالى أعلم. وقال عبد الباقي: ولو كان التعيين بوصف لساحة وبناء لدار غائبة أو أقرحة غائبة فيجوز التقويم حينئذ، ولا بد فيما يقسم بالقرعة بالوصف من كونه غائبا غير بعيد من محل القسم بحيث يؤمن تغير ذاته أو سوقه كما في المدونة وشرحها، وهذا غير قوله:"وتقاربت كالميل" إذ تقارب أمكنتها شرط في جمعها في القسم، ولو قسمت معينة بغير الوصف وهذا غير قريب من محل القسم. انتهى.

فالبعد المانع من قسمها غير البعد المانع من جمعها في القسم، وانظر لم جعلوا هنا حوالة السوق تمنع من قسم العقار الغائب مع أنها لا تمنع من بيعه، وقد يجاب بأن تغير السوق هنا يلزم عليه اختلاف التقويم وعدم ضبطه. قاله عبد الباقي البناني. البعد المانع من القسم هنا هو ما تتغير فيه الأسواق والبعد المانع من البيع بالوصف هو البعد جدا المشار إليه بقول المص:"إن لم يبعد جدا كخراسان من إفريقية". والله أعلم انتهى.

إن تساوت نفاقا ورغبة شرط في قوله: "وجمع" يعني أن الدور إنما يضم بعضها إلى بعض في القسم إن تساوت في النفاق والرغبة، وكذلك الأقرحة إنما يجمع بعضها إلى بعض في القسم إن تساوت في النفاق والرغبة، قال البناني: الذي في بعض النسخ نفاقا عوض قيمة وهو الصواب إذ هو الواقع في عبارة المدونة وابن رشد واللخمي وابن شاس وابن الحاجب وغيرهم، وعطف الرغبة على النفاق إما عطف تفسير ولذا اقتصر ابن عرفة على ذكر النفاق أو يحمل النفاق على رغبة

(1)

في المواق ج 5 ص 398: حصتيهما.

ص: 696

الأجانب والرغبة على رغبة الشركاء؛ إذ لا يلزم من اتحاد رغبة الأجانب اتحاد رغبة الشركاء لأن رغبتهم في مسكن موروثهم أكثر من رغبتهم في غيره ولو كان أفضل منه. مصطفى: وأما الاستواء في القيمة فلم أر من عبر به، فإن أراد الاستواء في القدر بأن يكون قدر قيمة هذه كهذه فلا أخالهم يشترطونه. انتهى. بل لم يشترطوه جزما كما يفيده كلام اللخمي. انظر المواق. انتهى. كلام البناني. وقال المواق: تقدم أن الدور لا تجمع في القسم إلا إذا اتفقت في الصفة والنفاق وتقدم في الفدادين أن تكون في الكرم سواء ولم تبعد مسافة بعضها من بعض.

وتقاربت كالميل يعني أن الدور إنما يضم بعضها إلى بعض في القسم إن تقاربت أمكنتها كالميل والميلين، وكذلك الأقرحة إنما تجمع في القسم إذا تقاربت كالميل والميلين، وإيضاح هذا أن تقول: لا بد في جمع ما ذكر من الأقرحة والدور أن يكون الميل أو الميلان جامعا لأمكنة جميعها فأكثر من ذلك لايجوز فيه الجمع، قال البناني: ظاهره يعني المصنف رجوع هذا للدور والأقرحة وهو الذي ذكره في التوضيح وعزاه للخمي وتبعه ابن فرحون، واعترضه مصطفى بأن المدونة لم تجعل الميل حدا للقرب إلا في الأرضين والحوائط. انظر نصها في المواق. وأما الدور فقالت فيها وإن كان بين الدار

(1)

ومسيرة اليوم واليومين لم تجمع، قال أبو الحسن: ولا يتصور هذا في المصر الواحد وإنما يتصور في البادية، وظاهر كلام بعضهم مثل ما قدمناه عن التقريب. انتهى. والذي قدمه عن التقريب هو قوله وفي التقريب على التهذيب وهذا إنما يكون بين القرى يعني القرب بالميل ونحوه، وأما بين الدور في البلد فالاختلاف حاصل بنصف الميل. انتهى. وقال اللخمي: ويراعى في قسم الدور مواضعها إن كانتا في محلين متقاربين جمعتا، كانتا في طرف البلد أو وسطه وإن كانت إحداهما في وسط البلد والأخرى في طرفه لم تجمعا. انتهى.

إن دعا إليه أحدهم يعني أن الجمع أي جمع الدور والأقرحة في القسم بالشرطين المذكورين إنما يكون إن دعا إلى القسم أحد الشركاء ليجتمع له حظه في موضع واحد، فيجبر على القسم من أباه من الشركاء، قال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: إذا دعا أحد الأشراك إلى قسم ما ينقسم من ربع أو حيوان أو رقيق أو عروض أو غيرها وشركتهم بمورث أو شراء أو غيره جبر على القسم من

(1)

في البناني ج 6 ص 197: بين الدور مسيرة.

ص: 697

أباه، انظر ما اشتري للتجارة. قال اللخمي: لا يقسم وكذلك لو اشترى أحدهما جزءا والآخر كذلك أو بعضهم بعد بعض لم يجبر أحدهم بالبيع مع صاحبه، وقد ذهب ابن رشد لهذا في رباع الغلات أن الشريك فيها لا يجبر على مقاواة ولا على بيع. انتهى.

ولو بعلا وسيحا يعني أنه لا يشترط في جمع الأرض في القسم تساويها من كل وجه بل تجمع الفدادين إن تساوت نفاقا ورغبة، ولو كانت الفدادين المجموعة في القسم بعضها بعلا وبعضها سيحا فإنها تجمع في القسم لاتفاق الجميع في أن كلا زكاته العشر والبعل ما يشرب بعروقه من رطوبة الأرض بغير سقي سماء ولا غيرها، والسيح هو الذي يأتيه الماء السائح من الأودية والجبال. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي: ولو بعلا وهو ما يشرب بعروقه من رطوبة الأرض من غير سقي سماء ولا غيرها بعد المرة الأولى التي زرعت عليها كما في التتائي. الباجي: ولا يكون ذلك إلا بمصر وسيحا وهو ما يسقى مما يجري على وجه الأرض كالعين والأنهار، وإنما جمعا لاشتراكهما في جزء الزكاة وهو العشر، وأما ما يسقى بالسانية فلا يجمع مع واحد منهما لأن ما بالآلة زكاته نصف العشر وإنما يجمع وحده على حدة. انتهى. وقال الخرشي: والمعنى أن الفدادين البعل والفدادين السيح إذا تساوت قيمة ورغبة فإنه يجوز جمع ذلك في القسم لأنهما يزكيان تزكية واحدة وهي العشر، بخلاف ما يسقى بالآلة والنضح فإن زكاته نصف العشر فيجمع على حدة ولا يجمع مع واحد منهما. انتهى. وقوله: ولو بعلا وسيحا، قال الباجي: هو مشهور المذهب، وقال ابن زرقون: لا يجمع بين البعل والسيح اتفاقا إلا على رواية النخلة والزيتونة. انتهى. ومثله لابن رشد كما نقله ابن عرفة، ونقل اللخمي أنه قول ابن القاسم وأشهب. قاله البناني. ثم قال بعد جلب هذا وغيره ما نصه: وظاهر ذلك أن الراجح خلاف ما اعتمده المص. والله أعلم. واستقرأ اللخمي أيضا أن ذات البعل لا تجمع مع ذات العين.

إلا معروفة بالسكنى مستثنى من قوله: "وجمع دور" يعني أن الدور تجمع في القسم على ما مر إلا الدَّار المعروفة بالسكنى للميت، فإن من دعا إلى قسمتها على حدة يجاب إلى ذلك ولا يجاب إليه من طلب جمعها مع غيرها من الدور كما قال: فالقول لمفردها قال عبد الباقي: واستثنى من قوله: "وجمع دور". قوله: إلا دارا معروفة بالسكنى لموروثهم فالقول لمفردها أي لمريده لا لمن أراد

ص: 698

جمعها مع أخرى إن حصل لكل منهم جزءٌ ينتفع به انتفاعا يجانس الانتفاع بكل المقسوم وإلا ضمت لغيرها ولا تباع ويقسم ثمنها، فليست كغيرها مما لا يحتمله من أنواع العقار لشرفها بسكنى موروثهم. وقوله:"فالقول لمفردها" تأول فضل المدونة عليه.

وتؤولت أيضا بخلافه يعني أن المدونة كما تأولت على أن القول لمفرد الدار المعروفة بالسكنى للموروث تؤولت أيضا بخلاف ذلك؛ أي تؤولت على أنها كغيرها من الدور، فالقول لمن دعا لجمعها مع غيرها، قال عبد الباقي: وهذا أرجح من الأول الذي هو تأويل فضل فقط كذا يفيده النقل وذِكْرُ التتائي أن الأول هو المشهور وأنه تأويل الأكثر على المدونة ليس على ما ينبغي. قاله علي الأجهوري. انتهى.

وقال البناني: التتائي عزا الأول لابن حبيب وجعله تأويل الأكثر وليس كذلك، بل التأويل الأول لفضل وأما ما لا بن حبيب فهو قول ثالث، قال: إذا مات الرجل الشريف وترك دارا كان يسكنها ولها حرمة بسكناه فتشاح الورثة فيها أنها تقسم وحدها فقيد بكون الرجل شريفا ولم يقيد بذلك في المدونة، قال مصطفى: ولم أر من تأولها على قول ابن حبيب وإن كان ابن عبد السلام قال: والأكثر ممن لقيناه على ما لابن حبيب ونقله عنه في التوضيح ولكن لم يتأول أحد المدونة عليه، وقد جعله ابن عرفة ثالثا فقال: وفي كون المعروفة بسكنى الميت كغيرها وقبول قول مريد إفرادها ثالثها إن لم يكن شريفا لها به حرمة لابن أبي زمنين مع قول أكثر مختصريها وفضل وابن حبيب. انتهى.

وفي العلو والسفل تأويلان يعني أن الشيوخ اختلفوا في جواز الجمع بين العلو والسفل في قسمة القرعة بناء على أنهما كالشيء الواحد وعدم جوازه إلا بالمراضاة بناء على أنهما كالشيئين المختلفين ولا يجمع بين مختلفين في قسمة القرعة. قاله عبد الباقي. ونحوه للخرشي وقال: وأما في قسمة المراضاة فيجوز الجمع بينهما بلا خلاف. انتهى. وقوله: "تأويلان" هما على قول المدونة، قال ابن القاسم: إذا اقتسم رجلان دارا بينهما على أن يأخذ أحدهما الفوق والأخر السفل جاز ذلك. ابن عرفة: ظاهرها قسم العلو مع السفل بالقرعة، وحملها مرة أبو عمران على التراضي وهو نص ابن الماجشون، ومرة على القرعة نقله المواق.

ص: 699

وأفرد كل صنف كتفاح يعني أن كل صنف من أصناف الأشجار يفرد في القسمة عن غيره من الأشجار؛ أي يقسم على حدته بشرط أشار إليه بقوله: إن احتمل القسم فإن لم يحتمل القسم ضم إلى غيره، قال الشبراخيتي: الأولى عدم تنوين صنف بإضافته لكتفاح وليس تكرارا مع قوله: "وأفرد كل نوع" إذ ما تقدم أفاد أن كل نوع من أنواع العقار يفرد عن غيره فالأشجار تفرد عن البناء وعن الأرض، وما هنا في إفراد أصناف الأشجار المتنوعة كتفاح وخوخ ورمان وغيرها إن احتمل كل القسم، فالتفاح مثلا تجمع أفراده ولو اختلفت قيمتها، وإنما قال هنا: إن احتمل وتركه في قوله: "وأفرد كل نوع" لأن ما تقدم يقسم إن احتمل وثمنه إن لم يحتمل، وأما كالتفاح فإنه إن لم يحتمل القسم يضم لغيره، والظاهر أن إفراد كل صنف في الفواكه وفي الدور عند فقد شرط الجمع حق لله فليس لهما التراضي على خلافه. انتهى. وقال المواق: من المدونة: قال ابن القاسم: إذا كان التفاح جنانا على حدة والرمان جنانا على حدة وكل واحد يحمل القسم فليقسم بينهم كل جنان بالقيمة. انتهى. وما للشبراخيتي من إضافة كل إلى ما بعده نحوه لعبد الباقي، ونازع البناني في ذلك وقال: إنه بالتنوين ويتضح بجعل الكاف للتمثيل صفة لصنف، وقال الشارح: يعني أن كل صنف من أصناف الفواكه أي والثمر يقسم على حدة إن احتمل القسم، يريد وكل صنف منها في غير الحائط الذي فيه الآخر، فأما إن كان الجميع في حائط واحد فإن ذلك كله يقسم بالقيمة ويجمع في القسم.

وإلى هذا أشار بقوله: إلا كحائط فيه شجر مختلفة يعني أن محل إفراد كل صنف من الثمار إنما هو إذا كان كل صنف منفردا في حائط، وأما إن كان الجميع في حائط واحد فإن الأصناف التي فيه تجمع في القسمة بالقيمة، قال عبد الباقي: قال فيها: وإذا كانت الأشجار مثل تفاح ورمان وأترج وغيره وكلها في جنان واحد فإنه يقسم كله مجتمعا بالقيمة، ويجمع لكل حظه من الحائط في موضع واحد، فقول المص:"مختلفة" يريد ومختلطة إذ مع عدم الاختلاط يفرد كل صنف اتفاقا كما في ابن عرفة، وإنما جازت القرعة هنا أي في المختلفة المختلطة مع أنها لا تدخل في صنفين للضرورة. انتهى.

ص: 700

وقال الشبراخيتي: إلا كحائط واحد فيه شجر مختلفة من تفاح ورمان وتمر وغيرها وهو مختلط فيجمع كله في القسم ويعدل بالقيمة. انتهى المراد منه. وقال الحطاب: يعني أن كل صنف من أصناف الفواكه كالتفاح والرمان إذا كان يحمل القسمة بين الشركاء فإنه يفرد، يريد إذا كان كل واحد في حائط، بدليل قوله:"إلا في كحائط فيه شجر مختلفة" فإنه يعني أن الحائط إذا كان فيه أشجار من الفواكه فإنه يقسم بالقيمة، قال في المدونة: وإن كانت قرية ذات دور وأرض بيضاء وشجر فليقسم الدور والأرض على ما وصفنا، وأما الأشجار فإن كانت مختلفة مثل تفاح ورمان وأترج وغيره وكلها في جنان واحد فإنه يقسم كله مجتمعا بالقيمة كالحائط يكون فيه البرني والصيحاني والعجوة والجعرور، واختلف

(1)

التمر فإنه يقسم على القيمة ويجمع لكل واحد حظه من الحائط في موضع، فإن كان كل صنف من تفاح ورمان وغيره في جنان على حدة قسم بينهم كل جنان على حدته بالقيمة إن انقسم. انتهى. وفي الطراز أن القطنية أصناف وأنها لا تجمع في القسم.

أو أرض بشجر متفرقة قال الخرشي: معطوف على حائط، والمعنى أن الأرض التي فيها شجر متفرقة تقسم مع شجرها؛ إذ لو قسموا الأرض على حدة والشجر على حدة صار لكل واحد شجرة في أرض صاحبه، والباء في "بشجر" بمعنى مع، وكلامه مشعر بكون الشجر فيها، ولو قال: أو أرض فيها شجر متفرقة كان أحسن. انتهى. ونحوه لغيره، وقال الحطاب: قال في المدونة: وإن ورثوا أرضا فيها شجر متفرقة ليقسموا الأرض والشجر جميعا ولو أفردنا قسمة الأصول وقعت أصول الرجل في أرض غيره. انتهى. وقال عبد الباقي: إذ لو قسموا كل واحد لربما وقع نصيب أحدهما من الشجر في نصيب صاحبه من الأرض، ولم يتعرض المصنف للحبوب بناء على أنها تقسم بالقرعة، وفي الطراز: القطاني: أصناف لا تجمع في القسم. انتهى. وهذا لا يمكن فيه عدم احتمال القسم. انتهى. بتغيير في العزو.

وجاز صوف على ظهر يعني أنه يجوز قسم الصوف على ظهر الغنم إن جز أي إنما يجوز قسمة على ظهر الغنم بشرط أن يدخلا على أنه يجز الآن أو إلى أيام يسيرة كالخمسة عشر، ولهذا قال:

(1)

في الحطاب ج 6 ص 87 ط دار الرضوان والتهذيب ج 4 ص 179: والجعرور وأصناف التمر.

ص: 701

وإن كان جزه ينتهي لكنصف شهر قال الشبراخيتي: ومفاد النقل أن الكاف استقصائية، قال الشبراخيتي: عن ابن غازي: ولا خفاء أن هذه العبارة جيدة موافقة لقوله في المدونة: ولا بأس بقسمة الصوف على ظهر الغنم إن جزاه الآن أو إلى أيام قريبة يجوز بيعه إليها ولا يجوز ما بعد. انتهى. وقال عبد الباقي: وجاز صوف أي قسمة بين الشركاء حال كونه على ظهر الغنم إن جز أي دخل على جزه، وإن تأخر تمام جزه لكنصف شهر، وأما الشروع فلا يجوز أن يتأخر أكثر من عشرة أيام والكاف استقصائية فلا يجوز أزيد منه لأنه بيع معين يتأخر قبضه، وانظر لو دخلا على جزه لنصف شهر ثم طرأ ما يوجب التأخير عنه هل تفسد القسمة أم لا؟ كما في مسألة مساقاة الحائط الغائب، فإنهم اشترطوا فيها أن يصله قبل طيبه، وأنه إن توانى حتى وصله بعد طيبه لم تفسد أو يجري على مسألة السلم المقبوض بغير بلد العقد، وانظر أيضا لو جز البعض في نصف الشهر وتأخر جز الباقي عنه هل يصح فيما جز فيه أم لا؟ وهذه المسألة والاثنتان بعدها في قسمة المراضاة فقط وأما في قسمة القرعة فيجوز إلى أبعد من نصف شهر لأنها تمييز حق لا بيع كذا في كريم الدين، وفي شرح الدميري أن ذلك في قسمة القرعة أيضا. انتهى.

وقوله: وأما الشروع فلا يجوز أن يتأخر أكثر من عشرة أيام، قال الرهوني: فيه نظر فإن الذي يدل عليه كلام الأئمة أن المدار على الانتهاء، فإن كان لا يزيد على خمسة عشر يوما جاز وإن تأخر الشروع إلى الخامس عشر، وإن كان يزيد لم يجز وإن شرع قبل العاشر لكثرتها. والله أعلم. وقوله: أو يجري على السلم المقبوض لخ يقتضي أنه قدم بيان حكم مسألة السلم التي أشار إليها مع أنه لم يتقدم له فيها إلا التنظير فراجعه، وقوله: في شرح الدميري: إن ذلك في قسمة القرعة أيضا المعول عليه هو الأول. انظر التاودي. والله أعلم. انتهى. وقول عبد الباقي: وأما في قسمة القرعة لخ، قال البناني: قال ابن عاشر من هنا إلى قوله: "إن اتفق القمح صفة" كله في قسمة المراضاة، وقوله:"وجمع بز" خاص بالقرعة بدليل لا كبعل، وقوله:"أو تمر أو زرع" عام فيهما وكذا ما بعده. فتأمل كلام المص تجده في غاية الإجحاف. انتهى وقول عبد الباقي: وإن تأخر تمام جزه لخ صواب، ونحوه لأبي الحسن في البيوع الفاسدة في الزرع ففيها: ولا بأس أن يشتري

ص: 702

زرعا قد استحصد على قفيز بكذا نقدته الثمن أم لا، وإن تأخر دراسه إلى مثل العشرة أيام أو الخمسة عشر يوما، قال أبو الحسن: يعني تمام دراسه. انتهى.

وأخذ وارث عرضا وآخر دينا إن جاز بيعه يعني أنه إذا هلك هالك وترك عروضا حاضرة ودينا جاز قسم ذلك مراضاة، وذلك بأن يأخذ أحد الورثة عرضا ويأخذ غيره دينا يتبع به الغريم بشرط أن يكون الدين قد جاز بيعه بأن حضر المدين وأقر وجمع بينه وبينه، وأشعر قوله:"عرضا" بأنه لو أخذ أحدهما دينا والآخر دينا لم يجز إن كان كل دين على شخص، ففي المدونة: وإن ترك دينا على رجال لم يجز للورثة أن يقتسموا الرجال فيصير ذمة بذمة، وليقسموا ما على كل رجل، قال مالك: سمعت بعض أهل العلم يقول: الذمة بالذمة من وجه الدين بالدين. انتهى. ونحوه للشبراخيتي. وقال: وأما قسم ما على كل واحد فجائز حيث جاز بيعه كما هو الظاهر. انتهى. وقال الخرشي: يعني أن من ترك عروضا وديونا على أقوام شتى يجوز لأحد الورثة أن يأخذ العرض ويأخذ الآخر الدين بشرط أن يجوز بيع الدين بأن يكون الذي عليه الدين حاضرا مقرا مليا تأخذه الأحكام، وانظر هل حصول الإقرار كاف عن الجمع بينه وبين الغرماء وهو الظاهر، ولكن ذكر التتائي عن ابن ناجي أنه لا يكفي ولا بد من الجمع وإقرار الدين، وأشعر قوله: وأخذ وارث عرضا وآخر دينا أن أخذ أحدهما دينا والآخر دينا لا يجوز وهو كذلك، قال مالك: وإن ترك ديونا على رجال لم يجز للورثة أن يقسموا الرجال فتصير ذمة بذمة وليقسموا ما كان على رجل، وقال ابن حبيب: يجوز قسم الدين إذا كان على رجل واحد ولو كان الغريم غائبا لأنه لا غرر فيه. انتهى.

وأخذ أحدهما قطنية والآخر قمحا يعني أنه يجوز في قسمة المراضاة أن يأخذ أحد الشريكين قطنية ويأخذ الآخر قمحا، قال الشارح مفسرا للمص: يعني وكذلك يجوز أن يقسما القطاني والقمح فيأخذ أحدهما قطنية أي فولا أو حمصا أو عدسا أو بسيلة أو نحو ذلك من أنواع القطنية ويأخذ الآخر قمحا. انتهى. وقال عبد الباقي: وجاز في قسمة المراضاة أخذ أحدهما قطنية من فول أو عدس أو نحوه والآخر قمحا يدا بيد وإلا منع؛ لأن فيه بيع طعام بطعام لأجل، وأما في قسم القرعة فلا يجوز ذلك لأنه لا يجمع فيها بين صنفين. انتهى. وقال الشبراخيتي: وجاز أخذ

ص: 703

أحدهما قطنية والآخر قمحا سمراء أو محمولة وهو مقيد بما إذا كان يدا بيد كما في المدونة، وهذا يفيده قول المص:"كالبيع" إن جعل راجعا لهذه أيضا، ولا يرجع لقوله:"وأخذ وارث عرضا" لخ لأن قوله: "إن جاز بيعه" يغني عنه ثم إن هذا في قسمة التراضي لأن القرعة لا تكون في مثلي مختلف الجنس، واختلف هل تكون في متحد الجنس أم لا؟ كما سبق.

خيار أحدهما يعني أنه يجوز في القسمة أن يجعل أحدهما الخيار لصاحبه مدة تختلف باختلاف المقسوم كما في البيع، قال في المدونة: ولو قسم على أن لأحدهما الخيار أياما يجوز مثلها في البيع في ذلك الشيء فجائز وليس لمن لا خيار له منهما رد. انتهى. وقال عبد الباقي: وجاز خيار أحدهما أي يجوز أن يقتسما ويكون الخيار لأحدهما، سواء دخلا على ذلك أو فعلاه بعد القسم وهذا أوضح في المراضاة وكذا القرعة على ظاهر المدونة وذكر بعض الرواة منعه فيها. انتهى. ومر عن ابن عاشر أن هذا في المراضاة.

كالبيع راجع لما قبل هذه فيفيد أنه يدا بيد كما قدمناه، ولهذه أيضا فلا بد أن تكون المدة هنا كالمدة في الخيار في البيع، وأنه إذا فعل من له الخيار ما يدل على الرضا فهو رضى وما يدل على الرد فهو رد وغير ذلك مما تقدم، وأما جواز الخيار هنا فمستفاد من عطفه على فاعل جاز، فلا يكون مرادا من التشبيه ليلا يكون فيه نوع تكرار، وقوله "كالبيع" صفة لقدر أي وجاز خيار أحدهما جوازا كالبيع أو حال من خيار أو خبر له. انتهى.

وغرس أخرى إن انقلعت شجرتك من أرض غيرك إن لم تكن أضر يعني أن من ملك شجرة في أرض غيره بإرث أو غيره كمن استعار أرضا مدة معينة باللفظ أو بالعرف ليغرس فيها شجرا، فغرس فيها فانقلعت الشجرة التي غرس فيها من أرض المعير قبل تمام المدة يجوز له أن يغرس مكانها شجرة إن لم تكن الأخيرة التي يريد غرسها أضر ببياض الأرض من الأولى التي انقلعت بأن تكثر عروقها المغيبة في الأرض فتضر ما تجاوره أو تهلكه، أو تكون فروعها أضر لسترها الأرض عن الشمس فتضعف منفعتها، وإذا جاز الغرس بقيده عند القلع فأولى تدعيم ما لم يقلع، لكن قيده ابن سراج بما إذا كان في حريمها. وكلام المص مقيد بما إذا لم تكن الشجرة محبسة عليه أو له ثمرها، وإلا فليس له غرس أخرى مكانها كما ذكره الطخيخي. قاله عبد الباقي.

ص: 704

قوله: أوله ثمرها أي ليس له إلا ثمرها دون ذاتها. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه. وقوله: "إن انقلعت شجرتك" شامل لصورتين ما إذا انقلعت بنفسها ولا إذا انقلعت بفعل فاعل، وقوله:"غرس أخرى" من جنس المقلوعة أو من غير جنسها، وقال الشبراخيتي: وفهم من قوله: "أخرى" أنه ليس له غرس اثنتين وإن كانا من جنسها وإن لم يكونا أضر وهو كذلك. انتهى. وأفعل التفضيل على بابه أي إن لم تكن أكثر ضررا فيفيد أن له الغرس إذا كانت مساوية لتلك في الضرر. قاله الشبراخيتي. وقال الخرشي: وفهم من قوله: "أخرى" أنه لا يغرس اثنتين وكذا في المدونة. انتهى.

وقال عبد الباقي: في غرس أخرى أو اثنتين من جنسها، وفي المدونة: لا يغرس اثنتين مكان واحدة وظاهرها ولو كانت التي قلعت جميزا والاثنتان غيره. انتهى. وقال الحطاب: قال في أول رسم من سماع ابن القاسم من الأقضية: إن سقطت الشجرة ونبتت فيها خلوف فالخلوف لصاحب الشجرة، ابن رشد: معناه إذا نبتت في موضع الشجرة؛ لأن من كانت له شجرة في أرض رجل فله موضعها من الأرض، وليس لقدر ذلك حد معلوم عند ملك وهو بقدر ما تحتاج إليه الشجرة في شربها، وأما إن نبتت الخلوف خارجة عن قدر حق صاحب الشجرة، فإن كان له منفعة بغرسها في حقه فله قلعها وإلا فهي لرب الأرض بقيمتها حطبا إن كان لها قيمة وإلا فبغير شيء، وإن كان بقاؤها مضرا بأصل الشجرة كان لصاحب الشجرة قطعها بكل حال إلا أن يقطع الذي ظهرت في أرضه العروق المتصلة بالشجرة حتى لا تضر بها فله ذلك، ويعطيه قيمتها إن كانت لها قيمة. انتهى.

تنبيهات: الأول: على رب الشجرة سقيها، فإن امتنع من ذلك وكانت تشرب مع شجر صاحب البستان فالظاهر أنه يلزمه أجرة سقيها، كما قال صاحب البيان فيمن اشترى زيتونة على أن يقطعها فتوانى في قطعها حتى أثمرت، قال ابن القاسم: الثمرة لمشتري الشجرة، قال صاحب البيان: ويكون عليه أجرة قيامه عليها إن كان يسقيها ولم يكن المطر يسقيها. قاله ابن القاسم في رواية أبي جعفر عنه. ويكون عليه كراء موضعها من الأرض إن كان غائبا باتفاق وإن كان حاضرا على اختلاف.

ص: 705

الثاني: قال في وثائق ابن سلمون: قال في مسائل ابن الحاج: إذا اتفق الجيران على رجل يحرس لهم جناتهم أو كرومهم فأبى بعضهم من ذلك فإنه يجبر معهم، قال: وكذلك أفتى ابن عتاب في الدور يتفق الجيران ويأبى بعضهم من ذلك، قال القاضي: إلا أن يقول صاحب الكرم أنا أحرسه بنفسي أو يحرسه غلامي أوأخي فله ذلك وبه أفتيت، وسُئلْتُ عن قوم لهم زرع استأجروا من يحرسه وأبى بعضهم من ذلك، وقال معي من يحرس زرعي وزرع كل واحد منهم على حدته ولم يحرس له أحد حتى كمل الزرع فأفتيت بأنهم يرجعون عليه بما ينوبه من الأجرة، قال: وأما الأجرة على الصلاة للإمام فمن أباها من الجيران لم يجبر عليها ولا يحكم عليه بها لأن الأجرة عليها مكروهة من أصلها، ولأن شهودها في الجماعة سنة لا فريضة وينبغي في أجرة الجمعة أن تلزم من أباها لأن شهودها فرض. انتهى. قال جميعه الحطاب.

كغرسه بجانب نهرك الجاري في أرضه التشبيه في الجواز يعني أنه إذا كان لشخص نهر يمر في أرض غيره، فإنه يجوز لرب الأرض أن يغرس في جانب النهر وليس لرب النهر منعه من ذلك، وظاهره مطلقا أضر بالنهر أم لا، وقيد اللخمي الجواز بأن لا يضر الغرس بإجراء النهر، فإن كانت عروق الشجر تغوص في الماء فيقل جريه فله المنع على هذا التقييد، وهذا هو مقتضى كون التشبيه تاما. وقوله:"كغرسه" أي الغير المتقدم في قوله: "من أرض غيرك" والظاهر أنه لا استخدام هنا؛ إذ المراد بالغير في الموضعين هو مالك الأرض، فمعناه فيهما واحد. قاله البناني. وهذا الذي قررت به المص قرره به الخرشي ونحوه للمواق وهو في المدونة، وقال عبد الباقي: وشبه لإفادة الحكم قوله: "كغرسه" أي كجواز غرس صاحب الأرض أشجارا بجانب أي بقرب جانب نهرك الجاري في أرضه أي أرض الغارس، فيجوز غرس مكان ما قلع إن لم يكن أضر وليس لرب النهر معارضته.

وبما قررنا علم أن الضمير في غرسه راجع لغيرك. انتهى المراد منه. قوله فيجوز غرس مكان ما قلع لخ، قال البناني: هذه المسألة لا تتقيد بالقلع، بل المراد أن لرب الأرض الغرس بجانب النهر ابتداء، وظاهره مطلقا أضر بالنهر أم لا، وقيده اللخمي بأن لا يضر به. انتهى.

ص: 706

وحُمِلْتَ بالبناء للمفعول وفتح التاء نائب الفاعل؛ يعني أنك يا رب النهر تحمل في طرح كناسته أي النهر وكناسته طينه الذي يطرح منه على العرف متعلق بحملت، ومراده بالعرف العادة الجارية بالبلد، فإن اقتضى طرحه بأرض صاحب الأرض طرح فيها أو إلى موضع آخر قضي به؛ إلا أنه إذا جرى العرف بالطرح على حافة النهر التي بها الشجر لم تطرح عليها كما قال: ولم تطرح الكناسة يا رب النهر على حافته أي النهر التي بها شجر غيرك حيث جرى العرف بالطرح عليها، إن وجدت سعة أي مكانا تطرح الكناسة عليه غير الحافة. قال الشبراخيتي: ومفهوم قوله "إن وجدت سعة" أنه إن ضاق طرحت على الحافة، وأما الحافة التي ليس بها شجر فإنك تطرح عليها ولو وجدت سعة. انتهى. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: وإذا كان لك نهر ممره في أرض قوم فليس لك منعهم أن يغرسوا بحافته شجرا، فإذا كنست نهرك حملت على سنة البلد في طرح الكناسة، فإن كان الطرح بضفته لم تطرح ذلك على أشجارهم إن أصبت دونها من ضفتيه متسعا، فإن لم يكن فبين الشجر، فإن ضاق عن ذلك طرحت فوق شجرهم إذا كانت سنة بلدهم طرح طين النهر على حافتيه. انتهى. وفي بعض النسخ: ولم تطرح على شجره إن وجدت سعة؛ أي فإن لم تجد سعة طرحت فوق الشجر كما عرفت. والله تعالى أعلم. وقوله: "ولم تطرح على حافته" لخ كالمستثنى مما قبله.

وجاز ارتزاقه من بيت المال يعني أن القاسم يجوز أن يرتزق من بيت المال أي يجوز إعطاؤه من بيت المال ولا كراهة في ذلك، بخلاف أخذه ممن يقسم له فإنه مكروه على ما مر، قال الخرشي: يعني أن القسام يجوز ارتزاقهم من بيت مال المسلمين كالقضاة والعمال وكل ما يحتاج إليه المسلمون، وحاصله على ما في التوضيح والمدونة أن الإمام إذا رزق القسام من بيت المال فذلك جائز بلا خلاف قسموا أم لا، وإن رزقهم الإمام أو القاضي على أن لهم في كل تركة أو شركة كذا قسموا أم لا فذلك ممنوع بلا خلاف، وإن جعل لهم ذلك على القسم وقسموا فذلك مكروه، وأما الشركاء والورثة إذا تراضوا على من يقسم لهم بأجر معلوم فذلك جائز بلا خلاف. انتهى. ومثله في البناني وزاد ونحوه عند ابن عرفة عن عياض.

ص: 707

لا شهادته يعني أن شهادة القسام على من قسم لهم أن كل واحد منهم وصل إليه نصيبه غير مقبولة ولو تعدد وكان عدلا، قال عبد الباقي: وهذا إذا شهد عند غير من أرسله لأنه شاهد على فعل نفسه، وأما عند من أرسله فيجوز ولو بعد عزله حيث تولى بعد ذلك وشهد عنده حال التولية، وقد يقال إن إعلامه إنما يسمى شهادة إذا كان لغير من أرسله، وأما إن كان لمن أرسله فإنما يسمى إخبارًا وحينئذ فكلام المص غير محتاج للتقييد المذكور، وهذا كله ما لم يكن مقاما من جانب القاضي وإلا جازت شهادته على فعل نفسه عند من أقامه وعند غيره، كالقباني بمصر والقيروان المنصوب من جانب القاضي بين الناس للوزن وكذا الدلال والمشرف لمن له الإشراف عليه؛ إذ ليس بيده قبض مال ولا تصرف. انتهى.

قوله: وهذا كله ما لم يكن مقاما من جانب القاضي لخ غير صحيح والنص بخلافه انظر المواق وغيره. انتهى. وكلام المواق الذي أشار إليه هو قوله انظر هذا الإطلاق سمع القرينان إذا قدم القاضي عدلا للقسم بين قوم فأخبره بما صار لكل منهم قضى به وإن لم يعلم ذلك إلا بقوله. ابن رشد: وكذا كل ما لا يباشر القاضي من أمور نفسه قول مأموره فيه مقبول عنده ولو اختلفت الورثة بعد أن أنفذ

(1)

بينهم ما أخبره به القاسم، ولم

(2)

يوجد رسم أصل القسمة التي قضى بها، فقول القاسم وحده في ذلك مقبول عند القاضي الذي قدمه لا عند غيره، كما لا تجوز شهادة القاضي بعد عزله على ما مضى من حكمه، وهذا معنى قولهم: لا تجوز شهادة القسام فيما قسموا. ابن عرفة: ما قاله ابن رشد وفسر به المدونة مثله عن ابن الماجشون، قال ابن حبيب: وكذلك العاقد والمحلف والكاتب والناظر للعيب لا تجوز شهارتهم عند غير من أمرهم لا وحدهم ولا مع غيرهم، كما لا تجوز شهادة المعزول فيما يذكر أنه حكم به وهو تفسير قول ملك.

وفي قفيز أخذ أحدهما ثلثيه والآخر ثلثه في قفيز متعلق "بجاز""وأخذ" عطف على ارتزاق يعني أنه إذا كان اثنان مشتركين في قفيز فإنه يجوز لهما في قسمة مراضاة أن يأخذ أحدهما ثلثيه ويأخذ الآخر ثلثه بناء على أن قسمة المراضاة تمييز حق لا على أنها بيع، وهذا إذا كان ذلك

(1)

في الأصل: بعد أنفذ، والمثبت من المواق ج 5 ص 401.

(2)

في الأصل: ولو لم، والمثبت من المواق ج 5 ص 401.

ص: 708

بقصد المعروف وهذا في قسم التراضي فقط كما عرفت بأن رضي أحدهما معينا بأخذ الثلث ويأخذ صاحبه الثلثين بقصد المعروف فأخذ صاحبه الثلثين، وأما إذا تراضيا على أن يأخذ أحدهما الثلثين والآخر الثلث من غير تعيين ويقترعا لتعيينه فإن ذلك لا يجوز لأنه هو عين المخاطرة وخلاف فرض الأئمة، وما قاله الأجهوري ومن تبعه غير صواب. والله تعالى أعلم.

المواق: ابن رشد: الصبرة الواحدة من المكيل والموزون لا خلاف في قسمتها على الاعتدال في الكيل أو الوزن وعلى التفضيل اليسير، كان ذلك مما يجوز فيه التفاضل أو من

(1)

الطعام الذي لا يجوز فيه التفاضل ويجوز ذلك كله في المكيل المعلوم والمجهول وبالصحفة المعلومة والمجهولة، ولا خلاف أيضا أن قسمة جزافا بغير كيل ولا وزن ولا تحر لا يجوز؛ لأن ذلك غرر ومخاطرة، وإن كان من الطعام المدخر دخله أيضا عدم المماثلة، وأما قسمة تحريا فلا يجوز في المكيل ويجوز في الموزون. انتهى. وقال اللخمي: التفاضل يجوز في القسمة بخلاف البيع فلو كانا شريكين في قفيز طعام فاقتسماه الثلث والثلثين جاز، قال: والتراضي جائز أيضا فعلى هذا يجوز ما يقع اليوم بين المتزارعين أن يحمل أحدهما ما تصفى من الزرع إلى منزلة حتى يوم آخر يحمل شريكه مما تصفى بعد ذلك إلى منزلة. انتهى.

لا إن زاد عينا أو كيلا لدناءة معناه اقتسما العين على حدة، وزاد أحدهما عينا لصاحبه لأجل دناءة في نصيبه وهذه مسألة أو اقتسما الطعام على حدة وزاد أحدهما طعاما لصاحبه لأجل دناءة في نصيبه من الطعام، فإن ذلك لا يجوز لدوران الفضل من الجانبين في الفرعين، ومحل المنع فيهما إذا اختلف المقسوم بالجودة والدناءة، وأما مع التساوي في الجودة والدناءة فلا تمنع الزيادة، وهو ما أشار إليه المؤلف بأول كلامه في قوله:"وفي قفيز أخذ أحدهما". قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: لا إن زاد آخذ الجيد لمن أخذ الردي عينا ذهبا أو فضة أو كيلا لدناءة في نصيبه في هذه المسألة، فإنه ممنوع لأنهما خرجا من المعروف إلى المكايسة، وعلى هذا فزيادة العين والكيل في قسمة الطعام فقط، وجعل التتائي زيادة العين في قسمة العين وزيادة الكيل في قسمة الطعام. انتهى.

(1)

في الأصل: ومن، والمثبت من المواق ج 5 ص 401.

ص: 709

والحاصل أن قوله: "لا إن زاد عينا أو كيلا لدناءة" فرعان كما صرح به الخرشي ومثله لعبد الباقي، والشبراخيتي جعله فرعا واحدا، ونقل عن التتائي أنه جعله فرعين، ومفهوم قوله:"لدناءة" أنه إن زاد ذلك لأجل التفضل على صاحبه بما زاده لجاز كما مر في أول الحل لعبد الباقي لا يجوز قسم لوز الحرير إلا بالوزن كما في البرزلي، وهو بلام فواو فزاي سمي به لشبهه باللوز في الصورة.

وجاز لمشتركين في كثلاثين قفيزا والقفيز ثمانية وأربعون صاعا وهما مع ذلك مشتركان في ثلاثين درهما أخذ أحدهما عشرة دراهم وزنا وعشرين قفيزا كيلا، وأخذ الآخر عشرين درهما وزنا وعشرة أقفزة كيلا إن اتفق القمح مثلا، صفة كسمراء أو محمولة. وإيضاح معنى المص أن تقول: يجوز للشريكين في ثلاثين قفيزا من الطعام وفي ثلاثين درهما من الفضة أن يقتسما ذلك على التفاضل، فيأخذ أحدهما عشرة دراهم وزنا وعشرين قفيزا من الطعام كيلا، ويأخذ الآخر عشرين درهما وعشرة أقفزة من الطعام، ووجه الجواز أنهما قسما الدراهم على التفاضل والقمح على التفاضل كما علمت، فليس ذلك كالبيع المحض، وإلا لما جاز ومحل الجواز إذا كان القمح متفقا في الصفة كسمراء أو محمولة أو نقيا أو غلثا فإن اختلفت صفته لم يجز لاختلاف الأغراض فينتفي المعروف، ولأن عدولهما عما هو العمل الذي هو أخذ كل واحد حصته من العين والأقفزة إلى غيره إنما يكون لغرض وهو هنا المكايسة، وهذا التعليل يقتضي أنه لا بد من اتفاق صفة الدراهم أيضا وهو كذلك. قاله الخرشي.

وقال: لكن ظاهر ما قدمناه عن اللخمي أنه لا يعتبر اتفاق صفة الدراهم وهو ظاهر لأن الدراهم لا تراد لأعيانها بخلاف القمح ونحوه. انتهى. وقال عبد الباقي: وفي كثلاثين قفيزا من حب وثلاثين درهما من فضة مشتركتين بين اثنين أخذ أحدهما عشرة دراهم وعشرين قفيزا والآخر عشرين درهما وعشرة أقفزة، فيجوز إن اتفق القمح صفة سمراء أو محمولة أو تبنا أو غلثا، وليس من بيع طعام ودراهم بمثلهما لأنها ليست بيعا بل تمييز حق بمنزلة قسم المكيل وحده وقسم الدراهم وحدها على التفاوت على وجه المعروف، فإن اختلفت صفة القمح لم يجز لخ ما مر، ثم قال: وتخصيصه الشرط بالقمح يقتضي عدم اشتراط اتفاق الدراهم صفة لأنها لا تراد لأعيانها

ص: 710

كالقمح إلا إن اختلفت بها الأغراض، ومثل مسألة المص في الجواز مسألة المدونة في الحطاب: لو اقتسما مائة قفيز قمح ومائة قفيز شعير فأخذ هذا ستين قمحا وأربعين شعيرا والآخر ستين شعيرا وأربعين قمحا فيجوز مع اتفاق الصفة. انتهى.

وقال الحطاب: قال في المدونة: ولا يجوز في قسم ثمر الحائط تفضيل أحد في الكيل لرداءة حظه ولا التساوي في المقدار على أن يؤدى آخذ الجيد ثمنا لصاحبه، ولا يجوز بيع حنطة ودراهم بمثلها ولو اقتسما ثلاثين قفيزا قمحا إلى آخر مسألة المص. اللخمي: ويجوز أن يأخذ أحدهما العفنة والآخر الصحيحة؛ يعني بشرط أن تكون العفنة دون الصحيحة من كل وجه، فإن دار فضل من الجانبين منع، ومنع في كتاب محمد إذا كانت بينهما صبرة قمح وصبرة شعير أن يأخذ أحدهما القمح والآخر الشعير، قال ابن القاسم: وإن ترك أحدهما نصيبه من صبرة القمح واقتسما صبرة الشعير سوية بينهما بالكيل جاز ذلك ولا يجوز جزافا، وكأنه في الجزاف خاطره فيه بما ترك له من القمح قوله:"وفي كثلاثين" متعلق "بجاز"، وقوله:"أخذ" عطف على "ارتزاق". ابن عرفة: ابن رشد: وإن لم تكن صبرة واحدة وهو مما لا يجوز فيه التفاضل كصبرتي قمح وشعير ومحمولة وسمراء ونقي ومغلوث لم يجز إلا باعتدال الكيل والوزن بمكيال معلوم وصنجة معلومة، لأنه فضل أحدهما الآخر كمبادلة بمكيال مجهول. نقله الرهوني.

ووجب غربلة قمح لبيع يعني أنه يجب على الشخص إذا أراد أن يبيع حبا من قمح أو غيره أن يغربله أي يزيل غلثه أي ما فيه من النخالة ونحوها، ومحل وجوب غربلة القمح مثلا إن زاد غلثه على الثلث لأن بيعه على مما هو عليه من الغرر وإلا بأن كان الغلث الثلث فدون ندبت الغربلة، وقوله:"لبيع" باللام للتعليل وفي نسخة بالكاف بدل اللام، ومعناها أنه تجب غربلة القمح في القسمة كما تجب في البيع وعلى هذا فالشرط راجع لما قبل الكاف وما بعدها، قال عبد الباقي: هذا ظاهر أبي الحسن والتتائي، لكن يظهر من كلام جمع أنه لا تجب الغربلة في القسمة ولو زاد الغلث على الثلث لأنها تمييز حق فيغتفر فيها ما لا يغتفر فيه. انتهى. قوله: يظهر من كلام جمع أنه لا تجب الغربلة في القسمة لخ، قال البناني: هذا هو ظاهر المدونة، ولو كان الطعام المغلوث صبرة واحدة جاز أن يقسماه، قال أبو الحسن: ظاهره ولو كان الغلث كثيرا، وقال

ص: 711

أبو عمران: معناه في الغلث الخفيف، وأما الغلث الكثير فلا يجوز وإن كان في صبرة واحدة، ولا تكون المقاسمة أشد من البيع. انتهى. فكلام المص على نسخة الكاف جار على تأويل أبي عمران. انتهى.

وجمع بز يعني أن البز بفتح الباء تجمع أصنافه في القسمة وهو كل ما يلبس كان صوفا أو خزا أو كتانا أو قطنا أو حريرا مخيطا أو غير مخيط أو غير ذلك، فيجوز جمع أصنافه المختلفة في القسمة، وقوله:"وجمع" بعد أن يقوم الكتان وحدهُ والقطن وحده والحرير وحده والصوف وحده وما أشبه ذلك، فهي تقوم على الانفراد وتجمع في القسم لأنها عندهم كالنوع الواحد. فقوله:"وجمع بز" عطف على فاعل جاز من قوله: "وجاز ارتزاقه" وهو مصدر مضاف إلى مفعوله؛ أي وجاز جمع بز حيث اتفق، بل ولو اختلف كصوف وحرير فإنه يضم بعض ذلك إلى بعض، قال ابن القاسم في المدونة: أرايت من مات وترك ثياب خز وحرير وقطن وكتان وجيابا

(1)

وأكسية أيقسم كل نوع على حدة أم يجعل ذلك كله في القسم كنوع واحد؟ قال: أرى أن يجمع البز كله في القسمة فيجعل نوعا واحدا فيقسم على القيمة مثل الرقيق عند مالك نوع واحد وفيهم الكبير والصغير والهرمة والجارية الفارهة وثمنهم متفاوت بمنزلة البز أو أشد فالبز عندي بهذه المنزلة، وكذلك تقسم الإبل وفيها أصناف والبقر وفيها أصناف فتجمع كلها في القسم على القيمة. انتهى. قاله المواق.

ورد المص بلو قول مطرف وابن الماجشون وابن حبيب: إن ذلك أصناف. ابن حبيب: والديباج صنف لا يضم مع الحرير، وثياب الكتان والقطن صنف يقسم بالسهم إذا اعتدلت بالقيمة وإن كان بعضها قمصا وبعضها عمائم وبعضها جيابا وأردية، وقال أشهب في المجموعة: كل ما يجوز أن يسلم منه واحد في اثنين على أجل فلا يجمع في القسمة وما لا يجوز ذلك فيه فهو صنف يجمع في القسم. سحنون: وهو الصحيح. قاله الشارح. وقال البناني: وجاز جمع بز ومحل الجواز إن توافقوا كلهم، فإن دعا إليه أحدهم وأباه غيره تعين الجمع هذا هو الظاهر. انتهى.

(1)

في المواق ج 5 ص 402: جبابا.

ص: 712

وقال عبد الباقي: وجاز في القسم جمع بفتح الجيم وسكون الميم مصدر مضاف لقوله: "بز" بفتح الموحدة وبالزاي كل ما يلبس مخيطا أم لا ومنها الفِرَاء كما لعياض أي جمع بعضه لبعض مختلف ولو كان الاختلاف كصوف وحرير وخز وكتان وقطن ونحوه، ففي الكلام كما في أحمد صفة محذوفة أي مختلف ولو انتهى في الاختلاف بأن كان بعضه صوفا وبعضه حريرا، ومعنى كلامه أن ما ذكر يجمع في القسم بعد أن يقوم الكتان وحده وكذا الصوف والحرير وما أشبه ذلك فهي تقوَّم على الانفراد وتجمع في القسم بالقرعة لأنها عندهم كالنوع الواحد.

وبما قررنا علم أنه ليس عطفا على فاعل وجب ولا ندب بل على فاعل جاز المتقدم، وظاهر المص جواز الجمع حمل كل القسم أم لا وهو ظاهر المدونة في مواضع. ابن ناجي: وهو المشهور. انتهى. وقد مر عن البناني أن محل الجواز إن اتفقوا كلهم أي على الجمع أو الإفراد، فإن اتفقوا على الجمع جاز وإن اتفقوا على الإفراد جاز، فإن دعا إلى الجمع أحدهم وأباه غيره تعين الجمع، وقد علمت أن المشهور جواز الجمع، احتمل كل صنف القسم أم لا، قال الشارح: وهو ظاهر المدونة في مواضع؛ لأنه أطلق في الجمع فيها ولم يفصل، وقال في موضع آخر هذا إن لم يحمل كل صنف منها القسم وهو خلاف عند اللخمي وغيره. انتهى.

لا كبعل وذات بير أو غرب يعني أن الفدادين البعل وهي التي تشرب بعروقها من رطوبة الأرض لا تجمع في القسم مع ذات البئر التي تسقى بالدولاب، وكذا لا تجمع البعل في القسم مع ذات البئر التي تسقى بالمغرب وهي الدلو العظيمة، قال الخرشي وغيره: ذات المغرب لا تغاير ذات البئر فيقدر ما يَتغَايَرَانِ

(1)

به، وذات بئر بالدولاب وذات بير بغرب، قال عبد الباقي: وتضمن منطوقه ثلاث صور: ممنوعة وهي بعل مع ذات بئر، وبعل مع ذات غرب، بعل معهما، ومفهومه أن جمع ذات بئر مع غرب جائز وهو كذلك، والسيح وهو الذي يروى بالماء الواصل إليه من الأودية والأنهار كذلك في تلك الأقسام وهو مدخول الكاف. انتهى. وقوله:"لا كبعل" لخ إنما لم يجمع ذلك لاختلافه في الزكاة وجمع البعل والسيح لاتفاقهما في الزكاة كما مر.

(1)

في الأصل: يتغاير، والمثبت من الخرشي ج 6 ص 191.

ص: 713

وثمر أو زرع إن لم يجذاه يعني أنه لا يجوز قسم الثمر في شجره قبل بدو صلاحه إن لم يدخلا على جذه الآن، وأما إن دخلا على جذه الآن فإنه يجوز قسمة بالخرص، وكذلك لا يجوز قسم الزرع قبل بدو صلاحه إن لم يدخلا على جذه الآن، فإن دخلا على جذه الآن جاز قسمة بالخرص، وقوله:"وثمر" المراد به ثمر الشجر نخلا أو غيره لا خصوص النخل، ومعنى قوله:"إن لم يجذاه" لم يدخلا على جذه الآن أي قطعه بأن دخلا على التبقية أو سكتا، قال عبد الباقي. أي أن قسم الثمر أو الزرع قبل بدو صلاحه بالتحري لا يجوز إن لم يدخلا على قطعه بأن دخلا على التبقية أو سكتا؛ لأن القسمة هنا بيع وهو يمتنع بيعه منفردا قبل بدو صلاحه على التبقية، وإنما يجوز إذا دخلا على جذه عاجلا، وبقية شروط بيعه على القطع من النفع والاضطرار وعدم التمالؤ لم أر من تعرض لها هنا. فانظر هل لا بد منها أم لا؟ انظر أحمد.

وأما ما بدا صلاحه فلا يقسم إلا كيلا أو يباع ويقسم ثمنه، وإنما جاز قسم ما لم يبد صلاحه بالتحري ولم يجز مذارعة كما يذكره لقلة الخطر في التحري وكثرته في المذارعة؛ إذ قد تكون جهة أحسن من أخرى. انتهى. قوله: هل لا بد منها أم لا؟ الظاهر لا بد منها كما يعلم من تأمل فيما سبق. قاله البناني. وقال الخرشي مفسرا للمص: وكذلك لا يجوز قسم الثمر في شجره بالخرص قبل بدو صلاحه إن لم يدخلا على قطعه، بأن دخلا على التبقية أو سكتا لأن القسمة هنا بيع وهو لا يجوز بيعه منفردا قبل بدو صلاحه على التبقية، أما إذا بدا صلاحه فالمنع من باب أولى في قسمة بالخرص على أصوله؛ لأنه ربوي والشك في التماثل كتحقق التفاضل، وأطلق الجذاذ على حقيقته ومجازه لأن الجذاذ بالمعجمة والمهملة خاص بالثمار، وأما جز الزرع فبالزاي. انتهى.

وقوله: أو ثمر نخل أو زرع قال البناني: فرض المسألة في المدونة في النخل لكن الحكم في غيره من سائر الفواكه كذلك كما هو ظاهر المص، فلا وجه لتخصيصه به، ونحوه قول صاحب العين: فإن اقتسما الزرع الأخضر فدادين على التحري أو اقتسما الثمرة قبل طيبها فذلك لهما إذا دخلا على جذ ذلك مكانهما، ولا يجوز ذلك على التأخير لهما أو لأحدهما، ومن أراد التبقية منهما أجبر الآخر عليها. انتهى. وفي المدونة ما يدل عليه. انظر مصطفى. انتهى.

ص: 714

وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: لا بأس بقسمة الزرع قبل بدو صلاحه بالتحري على أن يجذاه مكانهما إن كان يستطاع أن يعدل بينهم في قسمة. انتهى. ونقله الشارح، وقال عقبه: فإن تركاه حتى صار حبا انتقض القسم وقسما ذلك كله كيلا، وإن حصد أحدهما حصته وترك الآخر حتى يطيب الزرع انتقض القسم إذ لا يجوز بيع ذلك على أن يترك إلى طيبه، وليرد الذي حصد قيمة ما حصد فتكون تلك القيمة مع الزرع القائم بينهما لأن القسمة ها هنا بيع. انتهى.

كقسمه بأصله تشبيه تام يعني أن قسم ما ذكر من الزرع والثمر مع الأصول قبل بدو صلاحه على التبقية لا يجوز، وأما على الجذاذ فإنه جائز والمراد بأصل الزرع أرضه وبأصل الثمر الشجر، وأما قسم ما بدا صلاحه فإنه ممتنع ولو دخلا على جذاذه لأن فيه بيع طعام وعرض بطعام وعرض. وأفرد المؤلف الضمير لكون العطف بأو وحينئذ فالتشبيه تام، خلافا للشارح في أنه تشبيه في منع قسم الثمر بأصله ولو دخلا على الجذاذ. انتهى. قال البناني: كلام الشارح غير صواب والصواب أن التشبيه تام، ونص المدونة قال مالك: إذا ورث قوم شجرا ونخلا وفيها ثمر فلا تقسم الثمار مع الأصل، قال ابن القاسم: وإن كان الثمار طلعا أو بلحا إلا أن يجذاه مكانه، وحاصل المسألة أن الثمر أو الزرع الذي لم يبد صلاحه يجوز قسمة مع أصله إن دخلا على القطع لا على التبقية كما عرفت. البناني: قسم الأصول التي لم يؤبر ثمرها لا يجوز لا وحدها ولا مع ثمرها؛ لأن قسمها وحدها فيه استثناء ما لم يؤبر والمشهور منعه، وقسمها مع ثمرها فيه طعام وعرض بطعام وعرض، وجعل الثمر الذي لم يؤبر طعاما لأنه يؤول إليه.

ابن سلمون: وإذا كان في الأرض زرع مستكن أو في الأصول ثمرة غير مأبورة فلا تجوز القسمة في الأرض والأصول بحال حتى تؤبر الثمرة ويظهر الزرع؛ لأن ذلك مما لا يجوز استثناؤه حكى ذلك سحنون في الثمر، قال ابن أبي زمنين: وهو بين صحيح على أصولهم والزرع عندي مثله. انتهى. قول البناني: وقسمها مع ثمرها فيه طعام إلخ يريد إن دخلا على التبقية أو الإطلاق ليوافق ما قبله قاله مقيده عفا الله تعالى عنه. وقوله عن ابن سلمون: فلا تجوز القسمة في الأرض والأصول بحال إلخ، قال الرهوني: يفهم منه أنه يجوز قسم الأرض وحدها بعد ظهور الزرع والشجر وحدها بعد الإبار وهو مصرح به في المدونة وغيرها، مذكور في الكتب المتداولة حتى إنه مذكور في نظم

ص: 715

التحفة، وما في المتيطي موافق لما في المدونة لا مخالف لها خلاف ما للمواق فإنه غير صحيح، ونص المدونة: وإذا ورث قوم شجرا أو نخلا وفيها ثمر فلا يقسموا الثمار مع الأصل وإن كان الثمر بلحا أو طعاما، ولا يقسم الزرع مع الأرض ولكن تقسم الأرض والأصول وتترك الثمرة والزرع حتى يحل بيعهما فيقتسموا ذلك حينئذ كيلا أو يبيعو ويقسموا ثمنه على فرائض الله عز وجل. انتهى.

أو قتا أو ذرعا عطف على أصله وهو راجع للزرع؛ يعني أن قسم الزرع قتا وهو الحزم التي تربط عند الحصاد ممتنع، وكذا قسمة ذرعا أي مذارعة بالمساحة بقصبة أو غيرها وهو قائم على أرضه ممتنع أيضا. قاله الخرشي. وقوله:"أو قتا أو ذرعا" يعني أن ذلك ممتنع سواء بدا صلاحه أم لا، وقال عبد الباقي: وعطف على "بأصله" قوله: أو قسم تحريا قتا أي حزما فلا يجوز لأنه يؤدي إلى المزابنة لعدم تحقق التماثل، وإنما جعلت الحزم في السلم مما يضبط به لانتفاء المزابنة فيه، لكون رأس المال غير ذلك الجنس قاله أحمد. أو ذرعا أي مذارعة أي فدادين يمنع بدا صلاحه أم لا، وإنما يقسم بعد تصفيته بمعياره الشرعي وهو الكيل، وإنما امتنع قسمة قتا وجاز بيعه جزافا كما قدمه في بابه بقوله:"وقت جزافا لا منفوشا" لكثرة الخطر هنا إذا

(1)

يعتبر في كل من الطرفين هنا شروط الجزاف لو قيل بجوازه، بخلاف المبيع فإنها إنما تعتبر في طرف المبيع فقط وهو الجزاف، وما ذكره المص هنا فيما يمنع فيه التفاضل، ويأتي الكلام على غيره عند قوله:"كبقل" انتهى.

قال مقيدة عفا الله عنه: كلام عبد الباقي يقتضي أنه لو كان المبيع جزافا قتا وثمنه جزاف آخر ليس من جنسه أن ذلك ممتنع ولا أظن ذلك، والذي يظهر أن العلة هنا الشك في التماثل. والله تعالى أعلم. وقد مر عن ابن عاشر أن قوله:"وجاز صوف على ظهر إن جز" هو في قسمة المراضاة، وكذا ما بعده إلى قوله:"إن اتفق القمح صفة" كله في قسمة المراضاة، وقوله:"وجمع بز" خاص بالقرعة بدليل "لا كبعل"، وقوله:"أو ثمر أو زرع" عام فيهما، وكذا ما بعده.

(1)

في عبد الباقي ج 6 ص 120: إذ.

ص: 716

أو فيه فساد يعني أن ما في قسمة فساد يمتنع قسمة فلا يجوز أن يقسم لا بالمراضاة ولا بالقرعة؛ لأنه إضاعة مال، ومثل لذلك بقوله: كياقوتة أو كجفير يعني أن الياقوتة وما شابهها لا يجوز قسمها لما في ذلك من إضاعة المال، فلا تقسم بالمراضاة ولا بالقرعة وكذلك الجفير وهو وعاء السيف، فلا يجوز أن يقسم هو وما شابهه لا بالمراضاة ولا بالقرعة لما في ذلك من الإضاعة، وقوله:"أو كجفير" بجيم ثم فاء فتحتية فراء مهملة آخره أي غمد سيف، ونحوه قال عبد الباقي، وفي نسخة: كخفين بخاء معجمة ثم فاء فتحتية فنون أي ومصراعين ونعلين وسائر كل مزدوجين، وعلى هذه النسخة فيحمل المنع فيها على القرعة، وأما بالمراضاة فيجوز لإمكان شراء كل من الشريكين فردة أخرى يكمل بها الانتفاع بخلاف الياقوتة والجفير فيمنع مطلقا لأن فيه إضاعة مال لا في مقابلة عوض، كما بينه مع تعليله عن الذخيرة، ونحوه للأقفهسي. انتهى. الحطاب: ومثل الخفين الكتاب من سفرين أو أسفار.

أو في أصله بالخرص يعني أنه لا يجوز قسم الثمر كائنا في أصله على رؤوس الشجر بالخرص أي بالتحري، وهذا بعد بدو الصلاح فلا يتكرر مع قوله:"أو ثمر أو زرع" قال عبد الباقي: أو في أي على أصله وهو رؤوس الشجر أي يمنع قسم جميع الثمر من فواكه وغيرها على أصله بالخرص بخاء معجمة مفتوحة مصدر، وأما بكسرها فاسم، والمراد الأول أي بالحزر فيمنع وخرص من باب قتل، وَمُنِعَ لأنه يؤدي إلى ربا النساء حيث دخلا على التبقية أو السكوت، وجاز ذلك في التمر والعنب بشروطه الآتية بناء على أنها تمييز حق وإن كان فيهما ربا الفضل ويمنع في غيرهما، وعلم من هذا التعليل أن المنع في قوله:"أو في أصله بالخرص" حيث دخلا على التبقية أو السكوت، فإن دخلا على القطع جاز. قاله البناني. ويفيده الرهوني، وقد مر عن عبد الباقي والخرشي أن ما بدا صلاحه لا يجوز قسمة مع أصله بالخرص ولو دخلا على الجذ، فليس قسمة بعد بدو صلاحه مفردا كقسمه مع أصله. والله تعالى أعلم. إذ الشك في التماثل كتحقق التفاضل، وإن اختلفت حاجة أهله لعدم تميزه من شجره باختلاطه بورقه. قاله عبد الباقي. أي بخلاف التمر والعنب المستثنيان لأنهما متميزان عن الشجر فيمكن حزرهما، وبهذا فرق عبد الحق في النكت، ونقله عن الأبهري وذكره أبو الحسن. قاله البناني.

ص: 717

كبقل يعني أن البقل لا يجوز قسمه على أصله بالخرص بل يباع ويقسم ثمنه إلا أن يدخلا على جذه، قال الخرشي: وأشار بقوله. "كبقل" إلى قول ابن القاسم فيها: وإذا ورث قوم بقلا قائما لم يعجبني أن يقتسموه بالخرص وليبيعوه ويقتسموا ثمنه؛ لأن مالكا كره قسم ما فيه التفاضل من الثمار بالخرص وكذلك البقل. انتهى. قال أبو الحسن: حمل سحنون المدونة على منع قسم البقل تحريا ولو كان على الجذ عاجلا؛ أي إلا أن يكون على التفضيل المبين كما ذكره أبو الحسن قبله بيسير، وأنكره ابن عبدوس عليه، وقال: إنما منع ابن القاسم قسمة تحريا على التأخير، وأما على الجذ فيجوز وهو مذهب أشهب، فكلام المؤلف ليس على إطلاقه بل يقيد بما مر. انتهى.

إلا الثمر والعنب هذا مستثنى من قوله: "أو في أصله بالخرص" يعني أن الثمر بالثاء المثلثة والمراد به هنا تمر النخل خاصة والعنب يجوز قسمهما على أصولهما بالخرص مفردين عن الأصول للضرورة، أو لأنهما يمكن حزرهما فليسا كغيرهما من الثمار لعدم تميزه من شجره كما مر، ويشترط للجواز ستة شروط أشار لأولها بقوله: إذا اختلفت حاجة أهله يعني أنه يشترط لجواز قسم ما ذكر من ثمر أو عنب بالخرص أن تختلف حاجة أهله بأن احتاج بعضهم للأكل والآخر للبيع، بل وإن كان اختلاف حاجة الأهل بكثرة أكل وقلته بسكون الكاف، ويأتي محترز هذا الشرط وظاهر المص أن الاختلاف بكثرة الأكل كاف ولو اتفق عدد عيالهما وهو كذلك كما صرح به البناني، فقولُ عبد الباقي: بأن اختلف عدد عيالهما لا إن اتفق ولو كان أحدهما أكثر أكلا والنقل يفيد أنه لا بد من اختلاف عددهما، فيه نظرٌ، وظاهر كلام ابن رشد خلاف ونصه في البيان إرادة كل واحد منهما أن يجذ بقدر حاجة أحدهما قليلا والآخر كثيرا اختلاف حاجة يجوز لهما فيه قسمته على الخرص. انتهى. نقله أبو الحسن. انظر البناني. وقال المواق: اللخمي: إن لم يبع واحد منهما، واختلفت حاجتهما بفضل عيال أحدهما على الآخر جاز أن يقتسما بالخرص القدر الذي يحتاج إليه أكثرهما عيالا. انتهى.

وأشار للشرط الثاني بقوله: وقل يعني أنه يشترط لجواز القسم المذكور أيضا أن يقل المقسوم فلا يجوز قسمة بالخرص إذا كان كثيرا ويَرجع في القلة والكثرة للعرف. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وقل المقسوم وهو ما يكون فيه اختلاف حاجة الشركاء فإن كثر منع. انتهى.

ص: 718

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: هذا يفيد أنه لا بد من قلة المقسوم وأنه إنما يقسم ما يحتاج إلى قسمة، وما زاد على المحتاج إلى قسمة لا يقسم بالخرص. والله تعالى أعلم.

وأشار إلى الشرط الثالث بقوله: وحل بيعه يعني أنه يشترط في جواز قسم الثمر والعنب بالخرص أن يكون قد حل بيعه بأن يكون قد بدا صلاحه.

وأشار إلى الشرط الرابع بقوله: واتحد يعني أنه يشترط لجواز القسم المذكور أيضا أن يتحد المقسوم بأن يكون بسرا كله أو رطبا كله، فلو كان بينهما بسر ورطب لم يجز قسم ذلك بالخرص فيكون لأحدهما الرطب وللآخر البسر، وإنما يجوز حينئذ أن يقسم كل منهما على حدته.

وقوله: من بسر أو رطب بيان للمقسوم أي لا بد بكون المقسوم بسرا فقط أو رطبا فقط، قال عبد الباقي: فلو كان بعضه بسرا وبعضه رطبا قسم كل على حدته، ومفهوم قوله:"من بسر أو رطب" أنه لو صار تمرا يابسا لم يجز قسمة بالخرص؛ لأن في قسمة بالخرص على أصله انتقالا من اليقين وهو قسمة بالكيل إلى الشك وهو قسمة بالخرص؛ لأنهما قادران على جذاذه وقسمه كيلا أو بيعه وقسم ثمنه، فلا فائدة في تأخيره ولذا اغتفر الخرص فيما إذا كان المقسوم بسرا أو رطبا لأنه بيقى، ولذا قال: لا تَمْرٍ.

وأشار إلى الشرط الخامس بقوله: وقسم بالقرعة يعني أنه يشترط لجواز القسم المذكور أيضا أن يكون بالقرعة بعد أن يجزأ أولا؛ لأنها تمييز حق لا بالمراضاة لأنها بيع محض.

وأشار إلى الشرط السادس بقوله: بالتحري أي إنما يجوز القسم المذكور بالتحري في كيله كما في كلامهم؛ أي يجزأ ويتحرى كيله ثم يقرع عليه لا أنه يتحرى قيمته ثم يقرع عليه، ولا أنه يتحرى وزنه وإن شمله الخرص أيضا فلذا لم يستغن عن قوله:"بالتحري" بموضوع المسألة وهو قسمة بالخرص، فلا يقسم العنب إلا بتحري ما فيه كيلا لا وزنا لأن الكيل أقل غررا من التحري بالوزن لتعلق الكيل بما يظهر للناظر، بخلاف الوزن فإن تعلقه منوط بالثقل والخفة وهما لا يظهران للناظر، وهذا في بلد معيار البلح والعنب فيه الكيل فقط أو هو والوزن، وأما في بلد ليس معياره فيه إلا الوزن كما بمصر في العنب فيتحرى وزنه لكونه معياره فقط كذا ينبغي. قاله عبد الباقي.

ص: 719

قوله: فإن تعلقه منوط بالثقل والخفة وهما لا يظهران للناظر.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: هما وإن لم يظهرا للناظر فلهما علامة تظهر له وهي ميلان الثقيل بالآخر، وقال الخرشي: هذا الشرط لا يغني عنه قوله "بالخرص" لأنه يشمل الكيل والوزن مع أنه لا بد هنا من الكيل. انتهى. وقال الشبراخيتي: وهذا الشرط يغني عنه موضوع المسألة وهو قسمة بالخرص، والذي في كلامه بالتحري في الكيل لا في غيره كالوزن وحينئذ فهذا الشرط لا يغني عنه ما تقدم. انتهى المراد منه.

المواق من المدونة: قال مالك: أما ثمر النخل والعنب فإنه إذا طاب وحل بيعه واحتاج أهله إلى قسمته، فإن كان حاجتهم إليه واحدة مثل أن يريدوا كلهم أكله أو بيعه رطبا فلا يقسم بالخرص. ابن القاسم: لأنه إذا كانت حاجتهم إليه واحدة كان بمنزلة الطعام الموضوع بينهم فلا يقسموه إلا كيلا. انتهى. ومن المدونة قال مالك: أما ثمر النخل والعنب فإنه إذا طاب وحل بيعه واختلفت حاجة أهله إليه فأراد بعضهم أن يبيع وآخر يريد أن يتمر وآخر يريد أن يأكل رطبا فإنه يقسم بينهم بالخرص إذا وجدوا عالما بالخرص، قال ابن القاسم: وإذا لم يطب ثمر النخل والعنب فلا يقسم بالخرص ولكن يجذونه إن أرادوا ثم يقسمونه كيلا. انتهى.

المواق: وشرط هذا القسم تساوي الكيل وإن كان بعض ذلك أفضل كالعنب الأحمر والأسود يجمع على التساوي. انتهى نص الباجي. وقد تقدم أن التفاضل جائز ما لم يبد الفضل، ويبقى النظر في هذا هل يكون ممنوعا من أجل عدم تناجز القبض أو يكون مثل لبن في ضرع. انتهى. وقال الشبراخيتي: اللخمي: ويجوز أن يتفضل أحدهما على الآخر على وجه المكارمة، فيأخذ ما خرصه عشرة أوسق والأخر ما خرصه خمسة لأن ذلك معروف إلا إذا كان الأكثر أدنى. انتهى. وهذا نص فيما نظر فيه، وكلام اللخمي هذا مخالف لما نقله عن الباجي. والله تعالى أعلم.

كالبلح الكبير يعني أن البلح الكبير يجوز قسمة بالخرص والبلح الكبير هو الرامخ ويشترط في جواز قسمة بالخرص، أن تختلف حاجة أهله، وأن يقسم بالقرعة، وأن تكون بالتحري، وأما اتحاده من بسر أو رطب فلا يتأتى وأن لا يدخلا على التبقية حتى يزهي، قال الخرشي: والبلح الكبير هو الرامخ الذي لم يبد صلاحه وهو كالبسر في تحريم التفاضل فيجوز قسمة بالخرص وإن

ص: 720

كان ربويا. انتهى. وقال المواق من المدونة: يجوز قسم البلح الكبير إذا اختلفت حاجة أهله وهو كالبسر في حرمة التفاضل ومن عرف حظه فهو قبض وإن لم يجذه [وإن جذه]

(1)

بعد ثلاثة أيام أو أكثر جاز ما لم يتركه حتى يزهي، فإن أزهى بطل قسمة. انتهى. الشبراخيتي: ثم إنه لا بد من اعتبار الشروط السابقة إلا شرط القلة، فإن ظاهر كلام الشارح والتتائي والمواق عدم اعتباره. انتهى. ولا يتأتى اشتراط اتحاده من بسر أو رطب.

تنبيهات: الأول: ناقض بعضهم بين قول المدونة إذا حل بيعهما وإجازتها قسم البلح الكبير، والجواب أنهم شرطوا الطيب إذا دخلا على تأخيره بعد القسم إلى أن يصير تمرا، بخلاف البلح الكبير فإنه إنما يؤخر لدون الإزهاء كما علمت فإن أخر للإزهاء بطل القسم.

الثاني: علم من كلام المص أنه يجوز قسم الزهية بالخرص، قال أبو الحسن بعد أن ذكر أن من دعا إلى قسم الزهية بالخرص فذلك له أي جبرا على صاحبه ومن دعا إلى قسم البلح الكبير لا يجاب ولا يقسم بالخرص إلا مراضاة ما نصه: والفرق بين ذلك أنها إذا كانت مزهية فالداعي منهما إلى بقاء الثمرة يقدر على ذلك إذا وقع القسم، وإن كانت بلحا لا يقدر الذي أراد البقاء على ما أراده؛ لأن بقاءه إلى الطيب يفسد القسم فاعلم ذلك. قاله البناني.

الثالث: اعلم أن المسائل ثلاث: الثمر الذي حل بيعه فيجوز قسمة بالخرص حيث بيع على التبقية بالشروط الستة كما مر، الثاني البلح الكبير لا يجوز قسمة على التبقية إلى أن يزهي فيفسد القسم فإن بيع على التأخير إلى ما دون الإزهاء جاز قسمة بالخرص بالشروط المعتبرة فيما حل بيعه ما عدا القلة واتحادد من بسر أو رطب لأنه لا يتأتى، الثالث البلح الصغير يجوز قسمة بالخرص إن دخلا على الجذ ولا يراعى فيه هذه الشروط.

الرابع: فهم مما مر أنه يجوز قسم ما ذكر بالخرص وإن كان أصنافا من برني وعجوة وغيرهها إن اتحد في البسرية والرطبية. والله تعالى أعلم.

وسقى ذو الأصل يعني أنهما إذا اقتسما الثمرة بحصول الشروط المذكورة بقوله إذا اختلفت حاجة أهله إلخ، ثم اقتسما الأصول فوقع نصيب أحدهما من الثمر في أصل الآخر ووقع نصيب الآخر في

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من الأصل مثبت من التهذيب ج 4 ص 186.

ص: 721

أصل صاحبه، فإن صاحب الأصل يسقي نخله وإن كانت الثمرة لغيره، وكذا الحكم لو اقتسما الأصول ثم اقتسما الثمرة فإن السقي على صاحب النخل، قال الخرشي: تقدم أن الثمر والعنب يقسم في أصله بالشروط المتقدمة، فإذا اقتسما ذلك كذلك ثم اقتسما الأصول فوقع ثمر هذا في أصل هذا، وثمر هذا في أصل هذا فإن صاحب الأصل يسقي نخله وإن كانت الثمرة لغيره وهذا مع التشاح، وما في تناول البناء والشجر الأرض في قوله "ولكليهما السقي" حيث لا مشاحة، ولذا عبر هناك بأن السقي له وهنا بأن السقي عليه كما يفهم من الفعل. انتهى.

وقال عبد الباقي: وإذا اقتسما الثمرة لاختلاف الحاجة ثم اقتسما الأصول فوقع نصيب هذا من الثمر في أصل هذا وعكسه سقى ذو الأصل أصله وإن كانت الثمرة لغيره إلى آخر ما مر عن الخرشي، وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: إذا اقتسما الثمرة كما وصفنا بعد قسمة الأصول كان على كل واحد منهم سقي نخله وإن كان ثمرها لغيره؛ لأن على صاحب الأصل سقيه إذا باع ثمرته. وقال سحنون: السقي هنا على صاحب الثمرة لأن القسم تمييز حق. ابن يونس: ما قال سحنون هو الصواب. انتهى. وقال الشبراخيتي: وإن اقتسما الثمرة لاختلاف الحاجة ثم اقتسما الأصول أو بالعكس فوقع نصيب هذا من الثمرة في أصل هذا وعكسه إلخ.

كبائعه المستثنَى ثمرته يعني أن بائع الأصول الذي استثنى له الشرع الثمرة بأن كان الثمر مؤبرا، فإن سقي الأصول على ذلك البائع إلى أن يسلم الأصول لمشتريها، كما قال: حتى يسلم فاعل يسلم ضمير يعود على البائع وهو لا يسلم الأصول إلا بعد الجذاذ، وفي الاستثناء تجوز إذ المعنى البائع للأصول الذي له الثمرة وذلك بأن يبيع الأصول وفيها ثمر مؤبر، فإنها تكون للبائع إلا أن يشترطها المشتري، فقوله:"المستثنى" اسم مفعول "وثمرته" بالرفع نائب الفاعل، وقوله:"حتى يسلم" غاية لكون السقي على البائع، فإذا سلم الأصول لمشتريها بأن جذ الثمرة فلا سقي عليه وهذا قول مالك وهو المشهور، وقال المغيرة: السقي على المشتري لأنه نخله فتشرب ثمرة هذا. الخرشي: وفي الاستثناء تجوز إذ الحكم يوجب بقاء الثمرة المأبورة للبائع، ولو قال: كبائعه الذي له ثمرته لكان أخصر، وسلم من ارتكاب المجاز. واعلم أنه لا يجوز استثناء الثمر الذي لم يؤبر

ص: 722

أي لا يجوز للبائع أن يستثنيه كما في المدونة خلافا لتصحيح اللخمي الجواز، واقتصر عليه في الشامل. قاله البناني.

أو فيه تراجع عطف على كبعل من قوله: "لا كبعل وذات بير أو غرب" يعني أن قسم القرعة لا يجوز إذا كان فيه تراجع؛ كأن يكون بينهما عرضان قيمة أحدهما عشرون مثلا والآخر عشرة، ووقعت القسمة بينهما على أن من صار له ما قيمته عشرون يدفع لصاحبه خمسة لتعتدل القسمة بينهما، فهذا لا يجوز إذ لا يدري كل منهما هل يرجع له أو يرجع عليه؟ فحصل الغرر، وأما لو كانت القسمة بالتراضي لجاز ذلك.

إلا أن يقل يعني أن محل منع التراجع ما لم يكن ما به التراجع قليلا كالدرهم في أربعين لخفة الأمر في ذلك فإنه جائز، وبعبارة القلة كنصف عشر. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: إلا أن يقل ما يتراجعان فيه كنصف عشر فيجوز وهذا كله كما يشعر به التعليل في قسمة القرعة وأما المراضاة فيجوز ولو كثر، وقوله:"إلا أن يقل" تبع فيه اللخمي وسلمه له ابن عبد السلام، ورده ابن عرفة بأن المعتمد منع ما فيه تراجع ولو قل. انتهى. الرهوني: وقد رجح أبو علي كلام اللخمي وصوب كلام المص قائلا في الشرح ما نصه: وكلام النوادر دليل على صحته، ثم قال الرهوني: قلت وكلام اللخمي يفيد أن ما قاله هو المذهب لا أنه اختيار له من عند نفسه خالف فيه أهل المذهب. وقد تلقاه غير واحد من الأئمة بالقبول، وقد أتى المص في توضيحه بكلام اللخمي فقها مسلما، وإياه اعتمد في الشامل وجزم التاودي في شرح التحفة بما للخمي وهو الذي كان يرتضيه شيخنا الجنوي وهو الظاهر. والله أعلم. انتهى. وهذا تصحيح لما مر عليه المص جدا، وكلام اللخمي الذي مر عليه المص هو قوله وإن اختلفت قيمة الدارين فكان بينهما يسير، مثل أن تكون قيمة إحداهما مائة والأخرى تسعين فلا بأس أن يقترعا على أن من صارت له التي قيمتها مائة أعطى صاحبه خمسة دنانير لأن هذا مما لا بد منه، ولا يتفق في الغالب أن تكون قيمة الدارين سواء. انتهى.

أو لبن في ضروع يعني أنه لا يجوز قسم اللبن في الضروع لا بالقرعة ولا بالمراضاة اتفق ذو اللبن، كبقر فقط أو غنم فقط أو إبل فقط، أو اختلف كإبل وغنم أو غنم وبقر لأنه مخاطرة ولبن بلبن من

ص: 723

غير كيل. إلا لفضل بين يعني أنه يجوز قسم اللبن في الضروع إذا فضل أحدهما الآخر فضلا بينا: قال في المدونة: وأما إن فضل أحدهما الآخر بأمر بين على المعروف وكان إن هلك ما بيد هذا من الغنم رجع فيما بيد صاحبه فذلك جائز؛ لأن أحدهما ترك للآخر فضلا بغير معنى القسم. انتهى. قوله: "بين" يؤخذ منه شرط المعروف، وأما شرط الرجوع فلا يؤخذ منه قطعا فعليه الدرك في إسقاطه. قاله الأجهوري. والحاصل أنه في المدونة قيد الفضل المبين بأمرين، كونه على وجه المعروف وكونه إذا هلك ما بيد أحدهما يرجع على الآخر، والمصنف أسقط الأمرين فعليه الدرك في ذلك، وحاول الجواب عنه بما ذكر في كونه على وجه المعروف، وقوله:"إلا لفضل بين" قال ابن يونس: وقال أشهب: لا يجوز ذلك وإن فضل أحدهما الآخر.

أو قسموا بلا مخرج يعني أن الشركاء إذا اقتسموا دارا أو ساحة أو علوا أو سفلا على أن نصيب أحدهما بلا مخرج أي دخلوا على أنه لا مخرج له أصلا لا من الشرق ولا من المغرب ولا من الجنوب ولا من الشمال فإن ذلك يمنع مطلقا؛ أي سواء كانت القسمة بالقرعة أو مراضاة، وتوضيح قوله:"بلا مخرج" أن لا يكون له ممر يصرف إليه بابه كما يأتي في النقل، ثم إن كلام المص مقيد بما إذا لم يكن لصاحب الحصة التي ليس له فيها مخرج ما يمكن أن يجعل له فيه مخرج وإلا جاز. قاله الشبراخيتي. وظاهر كلام المص المنع، ولو تراضيا بعد القسم على المخرج وهو ظاهر لوقوعها فاسدة فلا تنقلب صحيحة.

وقوله: أي دخلوا على أنه لا مخرج له صحيح يدل عليه قوله: وصحت إن سكتا عنه يعني أنهم إذا اقتسموا وسكتوا عن المخرج أي الممر فإن القسمة صحيحة والمضر أن يقسموا على أن لا مخرج لبعضهم، وإذا اقتسموا البناء ولم يشترطوا في أصل القسم أن طريق كل حصة ومدخلها فيها خاصة ولم يشترطوا قطعها عن أحدهم بل سكتوا فإن الطريق بينهم على حالها، وباب الدار ملك لمن وقع في حظه ولباقيهم المرور، وهذا معنى قوله: ولشريكه الانتفاع أي وإذا سكتوا عن المر ووقع الباب في نصيب أحدهم فلباقيهم المرور منه والباب لمن وقع في نصيبه، وليس له منعهم من المرور منه لأن الطريق بينهم، ومن المدونة: إن اقتسموا الساحة ولم يذكروا رفع الطريق فوقع باب الدار

ص: 724

في حق

(1)

أحدهم ورضي بذلك صاحبه، فإن لم يشترطوا في أصل القسم أن طريق كل حصة ومدخلها فيها خاصة فإن الطريق بينهم على حالها وباب الدار ملك لمن وقع في حظه ولباقيهم فيه المر، قال الشارح: وهذا معنى قوله: "ولشريكه الانتفاع". أبو الحسن الصغير: قوله ولم يذكروا رفع الطريق معناه لم يعينوها ولا شرطوا قطعها، وقوله: فإن الطريق بينهم على حالها جعل مع عدم الشرط الطريق باقية على حالها. اللخمي: اختلف إذا صار الباب في حظ أحدهما، فقال ابن القاسم: الطريق باق على حالها حتى يشترط رفعه، وقال مطرف في كتاب ابن حبيب: تنتقض القسمة وتعاد مفرقة الطرق، وذكر أيضا ابن الهندي هذين القولين عن ابن القاسم. انتهى. كلام الشارح.

وقال المواق من المدونة: إن اقتسما دارا يريد بتراض فأخذ أحدهما دبر الدار وأعطى الآخر مقدمها على أن لا طريق لصاحب المؤخر على الخارج جاز ذلك على ما شرطا ورضيا إن كان له موضع يصرف إليه بابه وإلا لم يجز، وكذلك إذا اقتسما على أن يأخذ أحدهما الغرف على أن لا طريق له في السفل، فعلى ما ذكرنا وإن اقتسما أرضا على أن لا طريق لأحدهما على الآخر وهو لا يجد طريقا إلا عليه لم يجز وليس هذا من قسم المسلمين. انتهى. قوله: فعلى ما ذكرنا يريد إن كان له موضع يصرف إليه طريقه جاز وإلا فلا. قاله الشارح. وقوله: أو قسموا بلا مخرج مثل المخرج المرحاض والمنافع. قاله عبد الباقي.

ولا يجبر على قسم مجرى الماء يعني أنه لا يجبر على قسم الماء الجاري من أباه من الشريكين أو الشركاء، فأطلق المؤلف المجرى على الجاري من باب التعبير باسم المحل عن الحال، أما إن تراضوا على ذلك فلا كلام في الجواز، ومعنى قول المدونة: ما علمت أن أحدا أجازه أي بطريق الجبر، وقولي إن معنى مجرى الماء الماء الجاري تبعت فيه غيري، ولفظ المدونة: ولا يقسم مجرى الماء وما علمت أحدا أجازه، قال البناني: حملها أبو الحسن وابن ناجي على أن معناها ولا يقسم الماء الجاري، قال: وإنما لم يجبر على قسم مجرى الماء لما فيه من الضرر لأنه لا يتأتى

(1)

في التهذيب ج 4 ص 223: حظ أحدهم.

ص: 725

إلا بحاجز بين النصيبين إما في أصل العين وهو يؤدي إلى نقص الماء، وإما في محل جريه وهو لا يضبط الأنصباء لأنه قد يعرض ولو من الريح ما يميل به إلى جهة. والله أعلم. انتهى.

فإن قيل فرض في المدونة المسألة في العين وهي مما لا يمكن قسمة فكيف يقال إنها تقسم بالمراضاة؟ فالجواب أن قسمها بقسم الأماكن التي تجري إلى الشركاء كما يرشد إليه كلام البساطي عبد الباقي ولم يرد يعني المص نفس الموضع الذي يجري فيه الماء؛ لأن عدم الجبر فيه أولى لعدم تمييز نصيب كل بقسمه؛ إذ قد يقوى الجري في محل دون آخر بسبب إمالة الريح، وأشعر قوله:"لا يجبر" أن قسمة بالمراضاة جائز وهو كذلك، ولما علم منه أن القسمة لا تتعلق بالعين بقيد كونها جارية ولا بمحل جري الماء أشار إلى أنها تتعلق بالاء نفسه فقط، وإلى الحيلة في قسمة بقوله: وقسم بالقلد يعني أن الماء يقسم بالقلد، والقلد بالكسر هو الآلة التي يتوصل بها إلى إعطاء كل ذي حق حقه ولا منافاة بين قوله:"ولا يجبر على قسم مجرى الماء"، وقوله:"وقسم بالقلد" وذلك ظاهر إن حمل مجرى الماء على حقيقته، وأما إن حمل مجرى الماء على الماء الجاري فلا منافاة أيضا لأن التقدير في الأول لا يجبر على قسم مجرى الماء بغير المقلد وقسم بالقلد ويأتي للمص في الموات:"وقسم بقلد أو غيره" وتعقُّب بعضهم زيادة أو غيره، قال البناني: يجاب عن المص بأنه في الموات أراد به خصوص القدر كما لابن الحاجب ونحوه في شفعة المدونة، فلذا زاد قوله "أو غيره" وأراد به هنا مطلق الآلة من استعمال الخاص في العام. انتهى المراد منه.

قوله: "وقسم بالقلد" ذكر له ابن الحاجب ثلاث صفات: الأولى أن تجعل قدور على قدر الأنصباء وتثقب والقدر المثقوب لا يرسل الماء الذي فيه على أربابه، وإنما هو آلة للزمن الذي يرسل فيه النهر المشترك على أرباب الحوائط، فإذا كان الشركاء في الماء ثلاثة لواحد النصف ولآخر الثلث ولآخر السدس فإنه يرسل النهر بمقدار نزول ثلاث قدور من مثقابها لذي النصف، ومقدار نزول الماء من مثقاب قدرين لذي الثلث، ولمقدار نزوله من مثقاب قدر مرة لذي السدس، فإرسال الجرار لغير الحوائط وإنما هو لمعرفة قسم ماء النهر. الثانية أن يعرف مقدار ما يسيل من النهر من الماء يوما وليلة ويقسم ذلك القدار من الماء على أنصبائهم ويجعل كل واحد مقداره منه في قدر أو قدور بالمثقاب الأول ويجري النهر له حتى ينفد، وإيضاح هذا أن تقول يأمر الإمام رجلين مأمونين أو

ص: 726

يجتمع الورثة على الرضا بهما، فيأخذان قدرا من فخار وشبهها فيثقبان في أسفلها بمثقب يمسكانه عندهما ثم يعلقانها ويجعلان تحتها قصرية ويعدان الماء في جرار، ثم إذا انصدع الفجر صبا الماء في القدر فسال الماء من الثقب، فكلما هم الماء أن يفرغ صبا حتى يكون سبيل الماء معتدلا النهار كله والميل كله إلى انصداع الفجر، فينحيانها ويقسمان الماء على أقلهم سهما كيلا أو وزنا ثم يجعلان لكل وارث قدرا يحمل سهمه من الماء ويثقبان كل قدر منها بالمثقب الذي ثقبا به القدر الأولى، فإذا أراد أحدهم السقي علق قدره بمائه وصرف الماء كله إلى أرضه فسقى ما سال الماء من قدره، ثم كذلك بقيتهم ثم إن تشاحوا في التبدئة استهموا.

قوله: ثم يجعلان لكل وارث قدرا يحمل سهمه، ابن يونس: إنما يصح ذلك إن تساوت أنصباؤهم؛ لأن القدر كلما كبرت ثقل الماء فيها فقوي جريه من الثقب حتى يكون مثلي ما يجري من الصغيرة أو أكثر، والذي أرى أن يقسم الماء بقدر أقلهم سهما فيأخذ صاحب السهم قدرا ويأخذ صاحب عشرة الأسهم عشرة قدور وهذا بين. انتهى. انظر المواق. وفي نوازل الشعبي: ليس للذي تبعد أرضه من المقلد أن يقول لا تحبسوا علي الماء حتى يدخل أرضه لأن أرضه قد قومت في القسم بدون ما قومت به الأرض القريبة من الماء. انتهى. نقله المواق.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: قد علمت في كلا الطريقين أن الماء الذي يرسل من القدر ليس مرسلا إلى أصحاب الحوائط وإنما هو آلة لمعرفة الزمن الذي يرسل فيه النهر، والذي يظهر لي أن الطريق الأولى هي طريق ابن يونس؛ لأن الطريق الأولى لم يذكر فيها التحديد بمعرفة ما يسيل النهار كله والميل كله. والله تعالى أعلم. الثالثة أن يقسم بخشبة فيجعل فيها خروق. انتهى. وإيضاح هذا أن يرسل النهر إلى الخشبة المثقوبة بعدد الأنصباء فينفذ الماء من الخروق إلى الحوائط. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه.

كسترة بينهما يعني أن الشخصين إذا كان بينهما ساتر فسقط فإنه لا يجبر الآبي منهما عن إعادته على الإعادة، ويقال لطالب الإعادة استر على نفسك، وقوله:"بينهما" معناه موضوعة بينهما لا أنها مشتركة بينهما؛ إذ لو كانت السترة مشتركة بينهما لجبر الآبي منهما على الإعادة، فقوله:"كسترة بينهما" تشبيه في عدم الجبر من قوله: ولا يجبر على قسم مجرى الماء.

ص: 727

قال عبد الباقي: كسترة موضوعة بينهما سقطت فلا يجبر آبي إقامتها لطالبها ويقال له استر على نفسك، وأما المشتركة بينهما فيجبر الآبي من إعادتها لطالبها، فقوله:"بينهما" متعلق بكون خاص كما ذكرنا لا بمشترك. انتهى. ونحوه للخرشي والشبراخيتي. الخرشي: قال في المجموعة: قال مالك في الجدار بين الرجلين يسقط: فإن كان لأحدهما لم يجبر على بنائه، ويقال للآخر استر على نفسك إن شئت وإن كان بينهما أمر الآبي أن يبني مع صاحبه إن طلب ذلك، فقوله:"بينهما" متعلق بكون خاص أي موضوعة بينهما إلى آخر ما مر، وقال الشبراخيتي: كسترة بينهما لا يجبران عليها إذا لم يشترطاها عند قسمة الدار، ويقال لمن دعا لذلك استر على نفسك في حظك إن شئت وإن اشترطاها أخذ من نصيب كل واحد منهما نصف بناء الجدار، وإن كان نصيب أحدهما أقل من الآخر والنفقة عليها بالسواء لمبلغ حد الستر إذا لم يحدا في ذلك حدا. انتهى المراد منه. ونحوه للش وزاد

(1)

عن صاحب المقدمات ما نصه: ولا اختلاف في هذا أعلمه.

ولا يجمع بين عاصبين يعني أنه لا يجمع في قسمة القرعة بين عاصبين فأكثر بل يفرد لكل نصيبه إلا برضاهم يعني أن محل عدم جمع العاصبين أو العصبة في سهم إنما هو إذا لم يرضوا بذلك، وأما إن رضوا بالجمع فإنه يجوز جمعهم في سهم واحد ثم يقتسمون إن شاءوا. إلا مع كزوجة مستثنى من قوله:"ولا يجمع" إلخ يعني أن محل منع جمع العصبة في سهم إنما هو حيث لم يكن معهم ذو سهم، وأما إن كان معهم ذو سهم كزوجة أو أم أو أخت في بعض الأحوال فيجمعوا فيه حذف النون كما في قول الشاعر:

أبيت أسري وتبيتي تدلكي

وجهك بالعنبر والمسك الذكي

أولا أي عند ابتداء القاسمة ثم يقتسمون بعد إن شاءوا، وظاهر قوله:"فيجمعوا" أنهم يجمعون في قسمة القرعة حيث كان معهم ذو سهم وإن لم يرضوا، فقضية كلامه أن العصبة إذا لم يكن معهم ذو سهم لا يجمع بين اثنين منهم أو أكثر في قسمة القرعة إلا أن يرضوا بالجمع فيجمعوا، وأما إن كان معهم ذو سهم فإنهم يجمعون وإن لم يرضوا هذا تقرير المص بحسب ظاهره. وقد ذكره في التوضيح عن الجلاب وجعله خلاف قول مالك وابن القاسم في المدونة وعزاه اللخمي لأشهب،

(1)

في الأصل: وزا.

ص: 728

ولذا اعترضه غير واحد بأن العصبة إذا لم يكن معهم ذو سهم فإنهم لا يجمعون رضوا أم لا، فإن كان ذو سهم جاز جمعهم إن رضوا لا إن لم يرضوا، ولهذا قال غير واحد: الصواب إسقاط إلا الثانية بأن يقول لا يجمع بين عاصبين إلا برضاهم مع كزوجة، فيجمعون إن رضوا ثم يقسمون بعد إن شاءوا.

قال عبد الباقي: وما مر من عدم جبر العصبة حيث لم يكن معهم ذو فرض سواء رضوا أم لا فيه بحث؛ لأنه إن كان لموروثهم شريك أجنبي جمعوا، وإن أبوا وإن لم يكن لهم شريك أجنبي في المقسوم بل كان كامله لهم فلا يتصور جمع جميعهم، ولا معنى له إلا أن يحمل على أنهم رضوا جميعهم بجمع كل اثنين منهم في سهم. انتهى. ولا مفهوم لقوله:"عاصبين" ولو قال شريكين لكان أولى ليشمل الفرضيين الذين لكل سهم والشريكين غير الوارثين فإنه لا يجمع بينهما في قسمة القرعة، قال عبد الباقي: ولو قال شريكين أو كعاصبين كان أولى. انتهى.

وقال الشارح: لا خصوصية للعاصبين بما ذكر من عدم الجمع، بل وكذلك لا يجمع بين اثنين من الشركاء كانوا من العصبة أو من غيرهم. انتهى. وقال عبد الباقي: وإسقاط النون يعني من قوله "فيجمعوا" إما على اللغة القليلة، وإما أن هنا شرطا مقدرا وهو فإن رضوا يجمعوا فالشرط مقدر بعد الفاء. انتهى. ثم قال: وإنما قلنا إن الصواب إسقاط إلا الثانية لأن بقاءها لا يصح إذ يصير مفاد المص أنهم يجمعون مع كزوجة وإن لم يرضوا، أو أن العصبة فقط لهم الجمع في قسمة القرعة وليس كذلك في الأمرين المذكورين، وإنما ثنى أولا وجمع ثانيا للإشارة إلى أنه لا فرق بين الاثنين وأكثر إلا برضى الجميع من العصبة.

كذي سهم يعني أن أهل السهم الواحد يجمعون في قسم القرعة وإن أبوا، فالتشبيه في مطلق الجمع لأن هذا فيه الجمع جبرا بخلاف الذي قبله، فمن مات عن زوجات وأخوات لأم وأخوات لغير أم وجدتين، فإن أهل كل ذي سهم يجمعون في القسم ولا يعتبر قول من أراد منهم عدم الجمع، وسواء كان مع ذوي السهم أو ذوي السهام غيره أم لا.

وورثة يعني أنه إذا كانت الدار مثلا مشتركة بين اثنين فمات أحدهما وترك ورثة فإن الدار تقسم نصفين: نصف للشريك ونصف للورثة، ثم إن شاء الورثة اقتسموا. فقوله:"كذي سهم" أي مع غيره كزوجات مع عاصب أولا كأخوات شقيقات أو لأب مع إخوة لأم، وقوله: وورثة عطف

ص: 729

على ذي سهم ومتعلقة محذوف أي ورثة مع شريك موروثهم. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه. والواو بمعنى أو. قاله الخرشي.

تنبيهان: الأول: قد مر إصلاح المص بأن يقول ولا يجمع بين عاصبين إلا برضاهم مع كزوجة، قال عبد الباقي: أي إلا برضى الجميع من العصبة، قال البناني: هذا هو الصواب وهو الذي في المدونة لابن القاسم، وما في التتائي والشارح من عود الضمير في رضاهم على جميع الورثة غير صواب. انتهى.

الثاني: قد علمت مما مر أن ذوي السهم الواحد كزوجات يجمعون في القسم وإن لم يرضوا، قال البناني: هو الذي حكى عليه ابن رشد الاتفاق ونصه: أما أهل السهم الواحد وهم الزوجات والبنات والأخوات والإخوة للأم والموصى لهم بالثلث فلا اختلاف أحفظه أنهم يجمعون حصتهم بالقسمة بالسوية شاءوا أوأبوا؛ لأنهم بمنزلة الواحد لكنه خلاف ما فسر به ابن القاسم في المدونة قول مالك فيها: ولا يجمع بين حظي رجلين في القسم وإن أراد ذلك الباقون إلا في مثل هذا أي العصبة مع أهل السهم، قال في التنبيهات: اختلف في قول مالك: لا يجمع نصيب اثنين في القسم وإن أراد إلخ، فابن القاسم تأوله في المدونة أنه لا يجمع جملة سهم اثنين اتفقا أو اختلفا، رضيا أو كرها، جمعهم سهم أو فرقهم إلا العصبة إذا رضوا بذلك قالوا، وتأويل ابن القاسم هذا على مالك خلاف قول مالك وغير مراده ولم يرد مالك أنه لايجمع الأنصباء في واحد في جميع الاقتسام بالقرعة، وإنما هذا فيما هم فيه شَرَعٌ مستوو السهام، فإذا اختلفت أنصباؤهم فكان لقوم منهم الثلث ولآخرين السدس ولآخرين النصف فإنه يجمع كل سهم بالقرعة عليه وإن كرهوا ذلك كذا فسره في العتبية عن مالك في سماع ابن نافع وأشهب. وفي كتاب ابن حبيب عن عبد الملك ومطرف وأصبغ مثله، قالوا: وهذا قول جميع أصحابنا فإذا خرج نصيبهم قسم على رؤوسهم إن أحبوا. انتهى. نقله أبو الحسن. وهذا الثاني هو الذي حكى عليه ابن رشد الاتفاق كما تقدم وهو وإن انتقده ابن عرفة بما ذكره عياض من الخلاف لا يخفى رجحانه من كلام عياض ولذا قرر به ابن غازي وغيره فاعتراض مصطفى عليه بأنه خلاف مذهب المدونة غير ظاهر، كيف وهو معنى قول مالك فيها عند الجماعة. انتهى.

ص: 730

ثم شرع في بيان صفة القرعة بين الشريكين أو الشركاء وذكر لها صفتين: الأولى أشار إليها بقوله: وكتب الشركاء ثم رمى يعني أن لك في القسمة بالقرعة أن تعدل المقسوم من دار أو غيرها بالقيمة على قدر مقام أقلهم جزءا، فإذا كان لواحد نصف دار

(1)

ولآخرَ ثلثها ولآخرَ سدسها فإنك تجعلها ستة أجزاء وتكتب أسماء الشركاء في ثلاثة أوراق كل اسم في ورقة وتجعل كل ورقة في بندقة من شمع أو طين أو غيرها، ثم يُرمى ببندقة على طرف معين من أحد طرفي المقسوم الذين هما مبدأ الأجزاء وانتهاؤها، ثم يكمل لصاحبها أي الذي وقع عليها اسمه مما يلي ما رميت عليه إن بقي له شيء ثم يرمى ببندقة ثانية على ما بقي من ما يلي حصة الأول، ثم يكمل لصاحبها مما يلي ما رميت عليه إن بقي له شيء ثم يتعين الباقي للثالث، وبهذا ظهر أن كل واحد يأخذ جميع نصيبه متصلا بعضه ببعض من غير تفريق النصيب. قاله الخرشي وغيره.

وإن كان المقسوم عبيدا متعددين لثلاثة لأحدهم النصف ولآخر الثلث ولآخر السدس عدلوا على أقلهم نصيبا وجعلوا ستة أجزاء، ثم يكتب صاحب النصف في ثلاثة أوراق واسم صاحب الثلث في ورقتين واسم صاحب السدس في ورقة، وتجعل كل ورقة في بندقة ثم يرمي كل بندقة على جزء فيأخذ كل شخص من جاء اسمه عليه ولا يتوقف تمييز نصيب الآخر على رمي لتميزه بأخذ من قبله. قوله:"وكتب الشركاء" يعني وتخلط الأوراق بحيث لا يتميز بعضها من بعض، وقوله:"وكتب الشركاء ثم رمى" قال البناني عنده ما نصه: قال ابن شأس: فإن تراضوا على أن يجعل لأحدهم من طرف وللباقين من الطرف الآخر جاز، وإن تشاجروا في أي الجهتين يبدأ بها أسهم على الجهتين. انتهى. وقال المواق بعد كلام: إذا عرفت القيمة وعدلت على أقل السهام نظر، فإن تراضوا على أن يحصل لأحدهم من طرف والباقي من الطرف الآخر جاز، وإن تشاحوا ضرب السهم بينهم فمن حصل له سهم من جهة كانت له، فإن اختلفوا بأي الجهات يبدأ في الإسهام أسهم على الجهتين فأيهما خرج سهمها

(2)

أسهم عليه ثم كان الحكم فيه على ما بينا. انتهى.

قال مقيده عفا الله عنه: وهذا هو معنى ما في البناني عن ابن شأس. والله تعالى أعلم.

(1)

ساقطة من الأصل، والمثنت من الخرشي ج 6 ص 195.

(2)

في الأصل: سهما، والمثبت من المواق ج 5 ص 406.

ص: 731

أو كتب المقسوم وأعطى كلا لكل هذه هي الصفة الثانية؛ يعني أنك بالخيار في قسمة القرعة بين أن تصنع ما مر وأن تصنع هذا، وهو أن القاسم يعدل المقسوم بالقيمة ثم يكتب أسماء جهات المقسوم في أوراق بعد أن كتب أسماء الشركاء، فيرمي بأسماء الشركاء في الجهات أو يقابل بين الجهات والأسماء والكل سواء، فيعطي كل جهة لمن قابلت اسمه أو وقع عليها فمن قابل اسمه جهة أعطيها وكمل له مما يليها، فقوله:"كتب" معطوف على "رمى"، والمراد بالمقسوم الجهات التي يقع الرمي فيها لا كل أجزاء المقسوم، قال البناني: قال مصطفى عند قوله "أو كتب المقسوم" ما نصه: عبارة غيره كصاحب الجواهر واللخمي وغيرهما من أهل المذهب أو كتب الجهات، والمراد بالجهات التي يقع الرمي فيها فيكون مراده بالمقسوم الجهات لا كل أجزاء المقسوم ومعنى ذلك بعد كتب أسماء الشركاء إما أن ترمي بهم في الجهات أو تكتب الجهات وتقابلها والكل سواء، ولذا قال ابن غازي:"أو كتب المقسوم" عطف على "رمى" لا على "كتب الشركاء"، وإنما قلنا لا كل الأجزاء لأن الرمي لا يقع فيها كلها، ألا ترى أن القسمة إذا وقعت على أقلهم جزءا كالسدس إذا كان فيهم سدس ونصف وثلث فإن الرمي يقع في اثنين لأن الآخر لا يحتاج لضرب، فإن خرج اسم صاحب النصف على جزء يأخذه وما يليه إلى تمام حظه، وكذا صاحب الثلث. قلت: ونحو ما ذكره قول عبد الوهاب بعد أن ذكر الصفة الأولى: وقيل تكتب الأسماء وتكتب الجهات، فيخرج أول بندقة من الأسماء وأول بندقة من الجهات فيعطي لمن خرج اسمه نصيبه في تلك الجهة. انتهى.

إذا تبين هذا فقول الزرقاني: يكتب المقسوم في ستة أوراق فيعطى لصاحب النصف ثلاثة إلخ تبع فيه ما نقله أحمد عن بعض شيوخه، قال مصطفى: والذي ذكره ليس مراد الأئمة وهو غير صحيح في نفسه لما فيه من تخليط الأجزاء، ومراد الأئمة بالقرعة أخذ كل أحد حظه مجتمعا فتأمله. انتهى. فعلم أن قوله:"أو كتب المقسوم" شامل لما إذا رميت أسماء الشركاء في الجهات، ولما إذا قوبلت بها بأن يكتب أسماء الشركاء ويجعلها تحت ساتر ثم يكتب أسماء الجهات ويجعلها تحت ساتر ثم يأخذ واحدا من أسماء الشركاء وواحدا من أسماء الجهات، فمن ظهر

ص: 732

اسمه في جهة أخذ حظه في تلك الجهة وهذا معنى قوله: "وأعطى كلا لكل" أي كلا من الجهات لمن قابلت اسمه أو وقع عليها. والله تعالى أعلم.

ومنع اشتراء الخارج يعني أنه يمنع للشريك أو للأجنبي أن يشتري الخارج أي ما يخرج للشريك قبل خروجه، وعلل المنع بأنه بيع مجهول العين وهذا بخلاف ما إذا اشترى جزءا شائعا على أن يقاسم بقية الشركاء، فإن ذلك جائز. وقوله:"ومنع اشتراء الخارج" أي على البت، وأما على الخيار فجائز. وعلم مما قررت أن المراد بالخارج ما يخرج في المستقبل أي يتميز لأحد الشركاء بالقرعة، ولزم يعني أن القسم إذا وقع بالقرعة أو بالمراضاة على الوجه الصحيح يلزم، فليس لمن وقع له نصيب أن يرده ومن المدونة إذا قسم القاضي بين قوم دورا أو رقيقا أو عروضا فلم يرض أحدهم ما أخرج السهم له أو لغيره، أو قال: لم أظن هذا يخرج فقد لزمه وقسم القاسم ماضٍ كان في ربع أو حيوان أو غيره. انتهى. وقال عبد الباقي: القسم بقرعة أو تراض حيث وقع على الوجه الصحيح لأنه كبيع من البيوع، فمن أراد الرجوع لم يكن له ذلك لأنه انتقال من معلوم إلى مجهول. انتهى. ولا يجوز النقض ولو رضي الجميع إلا إذا اشترطوا أن يأخذ كل واحد شيئا معلوما معينا فيجوز. انظر الحطاب.

ونظر في دعوى جور أو غلط يعني أنه إذا ادعى بعض المتقاسمين أن ما بيده أقل من نصيبه الذي يستحقه بالقسمة، بسبب أنه وقع في القسمة جور وهو ما كان عن عمد من القاسم أو أنه وقع فيها غلط، وهو ما لم يكن عن عمد فإن الحاكم ينظر في ذلك، فإن تحقق عدم ذلك منع مدعيه من دعواه وإن أشكل عليه الأمر بأن لم يتفاحش ولم يثبت بقول أهل المعرفة حلف المنكر لدعوى الجور أو الغلط، وتوضيح هذا أن تقول: إذا ادعى بعض المتقاسمين أنه وقع له الغبن في نصيبه عن تعمد القاسم أو خطأه وأنكر غيره من المتقاسمين ذلك، فإن المنكر يحلف على أنه لم يقع في نصيبه جور ولا غلط، بل أخذ حظه برمته هذا بعد نظر الحاكم فيما ادعاه حيث لم يظهر للحاكم ما قال بأن احتمل عنده ذاك وذاك وذلك إذ لم يتفاحش الغبن ولم يثبت بقول أهل المعرفة، فإن تفاحش الجور أو الغلط بأن ظهر حتى لغير أهل المعرفة، أو ثبت الجور والغلط بقول أهل المعرفة: نقضت القسمة إن قام واجده بالقرب، وحدَّه ابن سهل بعام والظاهر أن ما قاربه كهو

ص: 733

وهذا ظاهر فيما ثبت، وأما في التفاحش فينبغي أن لا تنقض القسمة فيه بدعوى مدعيه، ولو قام بالقرب حيث سكت مدة تدل على الرضى ويحلف في التفاحش مدعيه لاحتمال اطلاعه عليه ورضاه به، فيحلف أنه ما اطلع عليه ولا رضيه لا على أن بها جورا أو غلطا لظهوره للعارف وغيره، قال عبد الباقي: وقد علمت أن قوله: "وحلف المنكر" متعلق بما بعده فلو أخره عن قوله: "تقضت" وأتى معه بإلَّا فقال وإلَّا حلف المنكر لكان أظهر في إفادة المراد، فإن نكل المنكر بدعوى صاحبه قسم ما ادعى الآخر أنه حصل به الجور أو الغلط بينهما على قدر نصيب كل. انتهى. قاله عبد الباقي. ونحوه للشبراخيتي وهذا في قسمة القرعة بدليل قوله: كالمراضاة تشبيه في النظر والنقض يعني أن قسمة المراضاة التي لم ينضم لها قرعة ينظر الحاكم فيها بدعوى جور أو غلط، فيجب نقضها مع ثبوت الجور أو الغلط الكثير كما لعياض أو تفاحشه، وهذا إن أدخلا بينهما مقوما بكسر الواو المشددة يقول هذه السلعة بكذا وهذه السلعة بكذا وهذه تكافئ هذه؛ لأنها حينئذ تشبه القرعة أو قوما لأنفسهما أو وقعت بتعديل من غير تقويم، فإن عرت عما ذكر لم تنقض بتفاحش جور لرضا كل به. قاله عبد الباقي.

والفرق بين التقويم والتعديل أن التقويم أن يقال هذه السلعة قيمتها كذا وهذه السلعة قيمتها كذا، والتعديل أن يقال هذه تكافئ هذه من غير ذكر القيمة. قاله الشبراخيتي.

تنبيهات: الأول: قول المص نقضت يعني مع القيام لا مع الفوات، قال البناني قال في معين الحكام: فإن فاتت الأملاك رجعا

(1)

في ذلك إلى القيمة يقتسمونها وإن فات بعضه وبقي سائره على حاله اقتسما

(2)

ما لم يفت مع قيمة ما فات. نقله الأجهوري. انتهى. قوله: وإن فات بعضه وبقي سائره على حاله إلخ يفيد أن الفوات هنا يحصل بنقص أو زيادة. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه. ويأتي عن معين الحكام كلام في ذلك.

الثاني: ظاهر قول المص في قسمة القرعة نقضت أنه تنقض القسمة بثبوت الغلط ولو كان يسيرا، وعزاه عياض للمدونة وأشهب وابن حبيب وقيل يعفى عن اليسير كالدينار في العدد الكثير وهو

(1)

في البناني ج 6 ص 207: رجع.

(2)

في البناني ج 6 ص 207: اقتسم.

ص: 734

قول ابن أبي زيد وبعضهم، وأما قسمة المراضاة فلا قيام فيها باليسير كما نص عليه عياض وغيره، وحكى عليه ابن عرفة الاتفاق فالتشبيه في قوله:"كالمراضاة" إلخ غير تام. قاله البناني.

الثالث: قد مر قول عبد الباقي فإن عرت عما ذكر لم تنقض بتفاحش أو جور لرضا كل به، قال البناني: صوابه لم تنقض بغبن كما هو ظاهر عبارة الأئمة، قال مصطفى: وأم عدم القيام في الجور فلم أره ولا أخالهم يذكرونه فانظره. انتهى.

الرابع: قوله: "ونظر" بالبناء للفاعل وفاعله الحاكم أو للمفعول وبناؤه للمفعول للعلم بفاعله وهو الحاكم؛ لأن من المعلوم أن الذي ينظر إنما هو الحاكم.

الخامس: قوله: "وحلف المنكر" فإن نكل المنكر قال عبد الباقي: -كما مر- قسم ما ادعى الآخر أنه حصل به الجور أو الغلط على قدر نصيب كل. انتهى. قال الرهوني: ظاهره من دون يمين مدعيه وفيه نظر، بل لابد من يمينه على القاعدة المقررة. فتأمله. انتهى.

السادس: قوله: "تقضت القسمة" وقعت بتعديل أم لا إن قام واجد النقص بالقرب وحدَّه ابن سهل بعام، والظاهر أن ما قاربه كهو. قاله عبد الباقي. كما مر. وقاله الشبراخيتي. وقال الحطاب: قال أبو الحسن في أول كتاب القسمة: قال الباجي في وثائقه: إنما يرجع بالغبن في المقرب. انتهى. وقال في معين الحكام قال بعض الأندلسيين: إنما يقام بالغبن فيما قرب، وأما ما بعد أمده وطال تاريخه فلا يقام فيه بغبن، قال ابن سهل عن أبي إبراهيم: وحد ذلك العام ويفيته أيضا البناء والغرس. انتهى.

وقال في معين الحكام أيضا: وإذا ثبت الغبن في القسمة انتقضت ما لم تفت الأملاك ببناء أو هدم أو غير ذلك من وجوه الفوت، فإن فاتت الأملاك بما ذكرنا رجع في ذلك إلى القيمة يقسمونها، وإن فات بعضها وبقي سائره على حاله اقتسم ما لم يفت مع قيمة ما فات. انتهى. وقال ابن سلمون: قال أبو إبراهيم: ولا يقوم بالغبن إلا بقرب القسمة وأما بعد طول واستغلال فلا يقوم بذلك. انتهى. وقال ميارة: قال في المقصد المحمود: ويرجع فيها بالغبن إذا ظهر وهما بحدثان القسمة يعني قسمة القرعة، وقال ميارة أيضا في قسمة التعديل عند قول ابن عاصم:

ص: 735

وقائم بالغبن فيها يعذر

قال في المقصد المحمود: ويقام فيها بالغبن وإنما يقام به فيها إذا كان بالقرب، أما بعد طول السنة أو بعد البناء والغرس فلا قيام كما يقال:

والغبن من يقوم فيه بعدا

أن طال واستغل قد تعدى

انتهى.

وأجبر لها كل إن انتفع كل يعني أن قسمة القرعة إذا دعا إليها بعض الشركاء وأباها بعضهم فإن الآبي يجبر عليها لطالبها، سواء كانت حصة الطالب لها قليلة أو كثيرة بشرط أن ينتفع كل واحد من الشركاء الطالب وغيره بما ينوبه في القسمة انتفاعا تاما كالانتفاع قبل القسم في مدخله ومخرجه ومرافقه، كمربط دابته وغير ذلك، فقوله:"وأجبر لها" أي عليها فاللام بمعنى على والضمير لقسمة القرعة، وقوله:"كل" الأولى أي كل ممتنع فيعلم أن هناك طالبا، وقوله:"كل" الأخيرة أي كل الشركاء الآبي والطالب فلذا أتى بالظاهر فكل الأولى خاصة والثانية عامة، وقوله:"وأجبر لها كل" يعني إن لم يكن المشترك للتجارة وإلا لم تقسم باتفاق لأن فيها نقصا للثمن وهو خلاف ما دخلا عليه. قاله في التوضيح. ونحوه قول ابن عرفة: وهذا الخلاف إن كانت الدار إرثا أو قنية، وإن كانت للتجارة لم تقسم اتفاقا لأن فيه نقصا للثمن خلاف ما دخلا عليه. انتهى. قوله: وهذا الخلاف إن كانت الدار إرثا إلخ، قال الشارح: قال في المقدمات: واختلف في قسم الدار الواحدة، فقال مالك: تقسم إذا دعا إلى ذلك أحدهم، وإن لم يصر في نصيب كل واحد منهم إلا قدر قدم وما لا منفعة فيه ولم يتابعه على ذلك إلا ابن كنانة، وقال ابن الماجشون: لا يقسم إلا أن يصير في حظ كل واحد ما ينتفع به في وجه من وجوه الانتفاع وإلا فلا يقسم، وقال ابن القاسم: لا يقسم إلا أن ينقسم من غير ضرر ويصير لكل واحد منهم في حصته ما ينفرد به وينتفع بسكناه، ولا يراعى في ذلك نقصان الثمن على مذهبه، وإنما يراعى ذلك في العروض. انتهى.

ص: 736

وقال مطرف وعيسى بن دينار: لا تقسم إلا أن يدعو إلى ذلك صاحب النصيب القليل الذي لا ينتفع به، وقيل إنما يقسم إذا دعا إلى ذلك صاحب النصيب الكثير الذي ينتفع به، قال الشارح: ثم قال يعني ابن رشد والذي جرى عليه العمل عندنا أنها لا تقسم حتى يصير لكل واحد ما ينتفع به، قلت: وهو الذي اعتمده الشيخ واقتصر عليه، وقيد ابن رشد هذا الخلاف بوجهين: أولهما أن تكون الدار للقنية أو من ميراث وإن كانت للتجارة لم تقسم بالاتفاق لأن فيه نقصا للثمن وهو خلاف ما دخلا عليه، ثانيهما إنما هو في قسمة القرعة وأما في قسمة المراضاة والمهايأة فلا يجبر عليهما من أباهما لأنهما راجعان إلى المبيع والإجارة والإنسان لا يجبر عليهما. انتهى.

قوله: والذي جرى عليه العمل عندنا إلخ، مطرف: وبه كان يقضي قضاة المدينة، وقوله: ولا يراعى في ذلك نقصان الثمن معناه أن نقصان الثمن في بيع حظه مفردا لا يمنع جبره على القسم عند ابن القاسم؛ لأنه لا يجبر على البيع بسببه إلا فيما لا ينقسم وما لا يجبر فيه على البيع يجبر فيه على القسم، قال ابن عرفة: قال الباجي: ومعنى الضرر على ورهب ابن القاسم أن لا تبقى فيه المنفعة الثابتة قبل القسم كالدار تنقسم فيصير لكل واحد ما يسكن. انتهى. قاله البناني. وقال عبد الباقي: وأجبر لها كل إن انتفع كل من الآبين والطالبين انتفاعا مجانسا للانتفاع الأول في مدخله ومخرجه ومرتفقه وإن لم يساوه عند ابن القاسم كسكنى قبل القسم وبعده، بخلاف عدم سكناه بعده بل إيجاره فقط فلا يجبر حينئذ خلافا لابن الماجشون المشترط أي انتفاع كان. قاله أحمد. ومفهوم الشرط أنه إن لم ينتفع كل لا يجبر وهو كذلك فيقسم بالتراضي، وورهب ابن القاسم أنه لا يعتبر نقصان الثمن في منطوق المص لا في مفهومه. انتهى. ومعنى قوله لا في مفهومه أن ابن القاسم يجبر على المبيع بنقصان الثمن فيما لا ينقسم كما مر بيانه. والله تعالى أعلم.

وللبيع إن نقصت حصة شريكه مفردة، قال الخرشي: موضوع هذه المسألة فيما لا ينقسم من ربع أو حيوان أو عروض أو غير ذلك. انتهى؛ يعني أن أحد الشركاء إذا دعا لبيع في ما لا ينقسم فإنه يجاب إلى ذلك حيث كان ينقص ثمن حظه مفردا عن حظه في بيعه كله، سواء كان هذا الذي لا ينقسم عقارا أو حيوانا أو غير ذلك، فقوله:"إن نقصت حصة شريكه" أي شريك من أبى البيع،

ص: 737

وأما المنقسم فلا يجبر على البيع لأنه يقسم، قال في المدونة: إذا دعا أحد الشركاء إلى بيع ما لا ينقسم جبر على البيع من أباه، ثم للآبي أخذ الجميع بما يعطى فيه، وسواء كان شركتهم بمورث أو شراء أو غير ذلك. انتهى. وقوله "وللبيع" اللام بمعنى على، قال عبد الباقي: وأشعر الشرط المذكور أن ذلك فيما لا ينقسم وهو كذلك عقارا أو عرضا؛ إذ ما ينقسم لا ينقص فإن فرض نقصه أجبر له الآخر أيضا، وأما المثلي فلا يجبر له الآخر. انتهى. قوله: فإن فرض نقصه أجبر له الآخر إلخ، قال البناني: غير صحيح بل ما ينقسم لا جبر فيه على البيع أصلا كما يفيده نص المدونة وغيرها، وقال الحطاب: يعني وجُبرَ الشركاء لبيع الشيء المشترك من عقار وحيوان وعروض إذا لم يمكن قسمة وكانت حصة أحدهم إذا بيعت مفردة نقص ثمنها، قال ابن عرفة: وفيها إذا دعا أحدهما لقسم ثوب بينهما لم يقسم وقيل لهما تقاوياه بينكما أو بيعاه، فإن استقر على ثمن فلمن أبى البيع أخذه وإلا بيع، وفيها أيضا إن لم ينقسم ما بينهم من ربع أو حيوان أو عرض وشركتهم بميراث أو غيره، فمن دعا إلى بيعه جبر عليه من أباه ثم للآبي أخذ الجميع بما يعطى فيه. انتهى.

وقال في آخر كتاب البيوع من النوادر: قال ابن حبيب: قال ابن الماجشون وأصبغ في الشيء لا ينقسم بين الرجلين فيريد أحدهما المقاواة فيه قالا: لا يلزم صاحبه المقاواة معه وعليه أن ينتفع معه، وإن رضيا بالمقاواة تقاوياه بينهما بالمزايدة وبما أحبا بلا قيمة، ولو باع أحدهما نصيبه وحده مضى ذلك ولم يكن له أخذه بالثمن وليعمل مع من صار له كما كان يعمل مع الشريك الأول، يريد إن لم يقم بالشفعة فيما فيه شفعة. انتهى المراد منه.

وقال سحنون في عبد بين رجلين غاب أحدهما وقام شريكه يطلب بيع نصيبه قال: إن قربت غيبته استوني حتى يحضر فيقاويه أو يجتمعا على البيع، وإن بعدت غيبته فيباع للحاضر العبد وتوقف حصة الغائب من الثمن. انتهى. ونقله أيضا ابن بطال في المقنع في باب القضاء على الغائب، وذكر البرزلي في مسائل القسمة عن المازري أن القاضي يبيع ما لم ينقسم من العقار إذا كان الشريك غائبا ويوقف ثمنه له. انتهى. قاله الحطاب. وحيث مكن من البيع من أراده فطلب

ص: 738

الإخلاء لأجله وقال الآخر تباع وأنا فيها ففيه قولان، وحكم بعض القضاة بالإخلاء في الدور ونحوها دون الحوانيت ونحوها وهذا في القسمة أيضا.

لا كربع غلة يعني أن بعض الشركاء إذا دعا إلى بيع ربع الغلة أي المتخذ للكراء وأبى بعضهم من البيع، فإن من أبى البيع لا يجبر عليه لعدم نقص ما بيع منه مفردا عادة، بل قد يرغب في شراء الشقص دون الجميع فإن اعتيد نقصها أجبر كما لابن عرفة. قاله عبد الباقي. وقوله:"لا كربع غلة" قال عبد الباقي: لا إن اشتريا معا كربع غلة أو تجارة أو حمام أو فرن فلا يجبر الآبي للطالب لعدم نقص ما بيع منه مفردا عادة إلخ، قوله أو تجارة إلخ هذا ذكره عياض وتعقبه عليه ابن عرفة. قاله البناني.

تنبيه: قوله وللبيع إن نقصت إلخ، قال البناني عنده: قال ابن عبد السلام ونحوه في التوضيح: المذهب أن المبيع إذا وقف على ثمن بعد أن نوديَ على جميعه أن من أراد أخذه من الشريكين بذلك الثمن كان له ذلك. انتهى.

أو اشترى بعضا يعني أنه إذا اشترى شخص جزءا أو وهب له أو تصدق به عليه فالمراد ملك بعضا فإنه ليس لأحد الشريكين أن يجبر صاحبه على البيع، قال الخرشي: والحاصل أنه يجبر من أبى البيع لمن طلبه فيما لا ينقسم بشرط أن يكون مما يتخذ للسكنى ونحوها لا للغلة ولم يشتر للتجارة وأن يكون للشركاء اشتراؤه جملة. انتهى؛ يعني وأن تكون حصة شريكه تنقص إذا بيعت مفردة.

واعلم أن القسمة ليست كالبيع فإنه يجبر على القسمة من أباها وإن ترتب الملك فما في عبد الباقي وغيره غير صحيح، بل النقل صريح في خلافه. قاله البناني. والله تعالى أعلم.

ولما ذكر القسمة ذكر ما يطرأ عليها وهو عشرة أمور: عيب (1) أو استحقاق (2) أو غريم (3) على ورثة أو موصى له بعدد على ورثة (4) أو غريم على وارث وعلى موصى له بالثلث (5) أو موصى له بعدد على ورثة وعلى موصى له بالثلث (6) أو غريم على مثله (7) أو وارث على مثله (8) أو موصى له على مثله (9) أو موصى له بجزء على وارث (10))، وذكرها مرتبة وبدأ بالأول فقال: وإن وجد عيبا بالأكثر فله ردها يعني أنه إذا وجد أحد المتقاسمين عيبا بما نابه في القسمة، فإن وجده بالأكثر بأن كان

ص: 739

المعيب هو الأكثر فله أن يرد القسمة، قال البناني: المراد بالأكثر على ما صححه ابن غازي الثلث فأكثر وهو بمعنى الكثير لا حقيقة اسم التفضيل، إلا أنه إذا كان النصفَ فدون له الخيار في التمسك بالقسمة وعدم الرجوع على صاحب السالم من المعيب، وفي الرجوع عليه في السالم بقدر نصف المعيب من السالم، ويكون لصاحب السالم من المعيب قدر ما كان لصاحب المعيب من السالم فلا تنقض القسمة في الكل بل في البعض، وإذا كان المعيب أكثر من النصف فله الخيار على وجه آخر وهو أن يتمسك بالعيب فلا رجوع له أو يفسخ القسمة من أصلها، ففي قول المص:"فله ردها" إجمال. انظر ابن غازي.

قوله: وهو أن يتمسك بالمعيب أي مع السليم، وقال عبد الباقي: وإن وجد أحد المتقاسمين في حصته عيبا قديما لم يظهر له عند القسمة بالأكثر منها كنصفها أو ثلثها على المعتمد كما في نقل ابن غازي من مساواة العيب للاستحقاق الآتي، لا ما زاد على نصفها فقط كما في الشارح والتتائي، فله ردها أي الحصة المعيبة أي برد ما حصل فيه العيب فقط من نصيبه ويكون شريكا بقدره فقط حيث كان نصفا أو ثلثا لا رد جميع نصيبه ورد القسمة بتمامها كما إذا كان أكثر من نصف، والشق الثاني التماسك ولا شيء له وبقاء القسمة على ما هي عليه لأن خيرته تنفي ضرره. وقوله:"عيبا" أي قديمًا كما مر احترازا عما حدث بعد القسم فلا كلام له، فقولهم فيما مر: الطارئ إما عيب معناه إما ظهور عيب قديم لا طرو عيب. انتهى. قوله: "فله ردها" يعني حيث كان ما بيد صاحب السليم قائما لم يفت، بدليل قوله: فإن فات ما بيد صاحبه بالهدم رد نصف قيمته الضمير في "صاحبه" عائد على من نصيبه معيب، وفاعل. "رد" هو صاحب السليم يعني أن القسمة إذا وقعت ثم اطلع أحد الشركاء على عيب قديم في نصيبه وهو كثير، والحال أن ما بيد شريكه قد فات بهدم أو بناء أو حبس أو صدقة أو بيع، فإن صاحب السليم يرد على صاحب المعيب نصف قيمة السليم يوم قبضه، سواء كان يوم القسم أو بعده ويصير المعيب شركة بينهما، وإيضاح هذا أن تقول: إذا كان ما بيد الشريك الذي لم يظهر العيب في نصيبه فائتا فإنه يصير النصيب المعيب بينهما، كما قال: والعيب بينهما وقيمة الفائت بينهما فيرد عليه نصفها وتعتبر القيمة يوم القبض سواء كان القبض يوم القسم أو بعده؛ لأنها أشبهت البيع الفاسد بتخيير واجد

ص: 740

العيب في نقضها، فكأنه بتخييره لم تحصل قسمة وإن كانت كالبيع الصحيح، وقولي: أو بيع خلاف قول عبد الباقي: فإن فات ما بيد صاحبه بكهدم أو حبس أو صدقة لا بيع فيخير واجد المعيب في رده وإجازته وأخذ ما يقابل نصيبه من ثمنه. انتهى.

قال البناني: تبع الحطاب حيث قال لا يدخل البيع أي تحت الكاف وإن ذكره أبو سعيد في تهذيبه؛ لأن القاضي عياضا تعقبه ونقله عنه في توضيحه. انتهى. وتعقبه مصطفى بأنَّ ما في التهذيب من أن البيع فوت أصله في الأم وعياض لم يتعقبه، وإنما قال بعده ما نصه: أمر سحنون بطرح لفظة أو بيع، وقال: إذا باعوا فعليهم الثمن، ثم قال عياض: وقال ابن أبي زمنين: جعل ابن القاسم مرة البيع والهدم فوتا في المقسوم ومرة لم يجعله فوتا، والأظهر من أصولهم أنه فوت وسحنون لا يرى البيع ولا الهدم ولا البناء فوتا. انتهى.

ونقل ابن عرفة من كلام عياض ما قاله ابن أبي زمنين مقتصرا عليه، قال مصطفى: فقد ظهر لك أن لا تعقب على التهذيب أصلا، كيف وهو ثابت في الأم؟ وإصلاح سحنون على مذهبه. تأمله. انتهى. وعلى ما في المدونة جرى ابن شأس وابن الحاجب، قوله نصف قيمته يوم قبضه عبارته موافقة لعبارة المدونة، ونصها: فيرد قيمته يوم قبضه فيقتسمان تلك القيمة مع الحاضر المردود. انتهى. وقوله والعيب بينهما، وفي نسخة ما سلم بينهما أي ما سلم من الفوات وهو المعيب بينهما.

وما بيده رد نصف قيمته يعني أنه إذا فات ما بيده أي بيد صاحب المعيب أي فات المعيب الذي بيده، فإن صاحب المعيب يرد على صاحب السليم نصف قيمته المعيب وحينئذ يكون ما سلم من المعيب والفوات معا وهو ما بيد ذي السالم بينهما نصفين، قال المؤلف: وكذلك إذا فات النصيبان معا فإنه يرجع على من أخذ السالم بنصف قيمة ما زادته قيمة السالم على قيمة المعيب. نقله الخرشي. قوله: "وما سلم بينهما" مبتدأ وخبر وما قررته به حل معنى فقط. وإلا أي وإن لم يجد عيبا بالأكثر بالمعنى المتقدم بل بدونه كربع رجح صاحب المعيب بنصف المعيب أي بنصف مقابل المعيب، فهو على حذف مضاف مما بيده أي بيد صاحب الصحيح، ومن تبعيضية أو بيان لمقابل المقدر والجار مع مجروره حال، وقوله: ثمنا أي قيمة وهو تمييز محول عن المضاف المقدر بين

ص: 741

المتضايفين؛ أي يرجع صاحب المعيب على صاحب السليم بنصف قيمة المقابل للمعيب من الذي بيد صاحب السليم، ولا يرجع شريكا في السليم كما فيما إذا كثر المعيب، والمعيب بينهما يعني أن صاحب السليم يرد على صاحب المعيب نصف قيمة مقابل المعيب من السليم والمعيب بينهما نصفين؛ أي فيما إذا كانت الشركة على النصف. والله تعالى أعلم.

قال عبد الباقي: والمعيب بينهما فصاحب الصحيح يصير شريكا في المعيب بنسبة ما أخذ منه، فإذا كان المعيب سبعا مثلا ورجع صاحبه على صحيح الحصة بمثل بدل نصف السبع قيمة، فلصاحب الصحيحة نصف سبع المعيب وإذا فات المعيب في هذا القسم رجع صاحبه بما زادته

(1)

نصف قيمة السليم، وتعتبر القيمة في هذا القسم يوم القسم لصحته لا يوم القبض، وكذا حكم فوات السالم فهذا القسم حكمه ما ذكره المص، سواء حصل فوات في السالم أو المعيب أم لا. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي عند قوله:"والمعيب بينهما" ما نصه: أي إن لم يفت وإلا تقاصا. انتهى. وقال عبد الباقي في العيب الذي لا ترد به الدار المشار إليه بقوله وفي قدره تردد ما نصه: والظاهر بل المتعين عدم الرجوع به لأنهم اغتفروا في القسمة ما لم يغتفروا في البيع، فقد اختلف في اعتبار ما قل في القرعة واتفقوا على اعتباره في المراضاة. انتهى.

تنبيه مثلوا للقليل هنا بالربع ومثلوا للكثير بالثلث، وأما ما فوق الربع ودون الثلث بيسير فقد قال الرهوني في مسألة الاستحقاق ما نصه: والذي يفيد النقل أن ما زاد على الربع وقرب من الثلث يعطى حكم الثلث. انتهى. وقد تقرر أن العيب كالاستحقاق. والله تعالى أعلم.

ولما فرغ من الكلام على الطارئ الأول تكلم على الطارئ الثاني فقال: وإن اشحق نصف أو ثلث خير يعني أنه إذا استحق نصف ما بيد أحد الشركاء أو ثلثه فإن المستحق من يده يخير بين بقاء القسمة على حالها ولا يرجع بشيء وبين نقضها أي نقض القسمة من أصلها بأن يرد الباقي فيكون مع الآخر شركة بينهما؛ يعني إن كان قائما فإن فات رجع عليه بربع قيمته يوم قبضه وهذا التخيير قرر به المص وابن عبد السلام ابن الحاجب، قال البناني: هو قول أشهب عزاه له اللخمي ونقله ابن عرفة ونصه: وفيها إن اقتسما عبدين فأخذ كل منهما أحدهما فاستحق نصف

(1)

في عبد الباقي ج 6 ص 209: بما زاده.

ص: 742

عبد أحدهما رجع على صاحبه بربع عبده إن كان قائما، وإن فات رجع عليه بربع قيمته يوم قبضه. قال: ولابن حبيب أنه يرجع بربع قيمة ما بيد صاحبه ولم يذكر فات أو لم يفت، وللخمي قال أشهب: للمستحق رد الباقي ليكون مع الآخر شركة بينهما. ابن عرفة: زاد عنه ابن حارث وله أن يتماسك ويرجع بربع العبد. ابن عرفة: فالأقوال ثلاثة لها ولابن حبيب وأشهب فالمص مر على التخيير هنا، وفي التوضيح: وهو قول أشهب كما عرفت، ولما رأى الأجهوري مخالفة التخيير للمدونة حمل المص على مذهبها، فقال في معنى المص خير بين بقاء القسمة على حالها ولا يرجع بشيء وبين نقض القسمة في مقابل المستحق فقط ويرجع شريكا فيما بيد شريكه بنصف مقابل ذلك المستحق. والله تعالى أعلم.

لا ربع يعني أنه إذا كان المستحق بفتح الحاء ربعا فأقل فإنه لا خيار للمستحق منه والقسمة باقية لا تنقض، وليس له إلا الرجوع بنصف قيمة ما استحق من يده ولا يرجع شريكا بنصف ما يقابله.

تنبيهان: الأول: قال الحطاب: هذا الحكم الذي ذكره المص فيما إذا استحق النصف أو الثلث أو الربع أو الأكثر هو فيما إذا استحق معين أو شائع من حصة أحدهم، وأما إذا استحق جزء شائع من جميع المقسوم فلا كلام لأحد الشريكين على صاحبه لأنه استحق من نصيب أحدهما مثل ما استحق من نصيب الآخر وهذا ظاهر.

الثاني: قال الرهوني: يتعارض مفهومه فيما زاد على الربع ولم يبلغ الثلث، والذي يفيده النقل أن ما زاد على الربع وقرب من الثلث يعطى حكم الثلث. انتهى.

وفسخت في الأكثر يعني أنه إذا استحق جل ما بيد أحدهما وهو ما زاد على النصف فإن القسمة تنفسخ وترجع الشركة كما كانت قبل القسمة. والله تعالى أعلم.

تنبيه: قال الرهوني: لا فرق بين قسمة القرعة وقسمة المراضاة في هذا التقسيم على المشهور، ثم قال بعد جلب كثير من النقول على عادته: فتحصل من النقول السابقة أن في مساواة قسمة المراضاة للقرعة ومخالفتها لها أقوالا:

ص: 743

الأول أنهما متساويتان فيما يطرأ عليهما من عيب أو استحقاق فإن وقع ذلك في الجل انتقض القسم من أصله، وإن وقع في الكثير كالنصف والثلث ونحوه انتقض في ما يقابله أي بقدر حظه منه، وهذا مذهب المدونة كما تقدم في نصها صريحا، وصرح اللخمي وأبو عمران وأبو الحسن بأنه مذهب ابن القاسم في المدونة وهو ظاهر إطلاق أكثر الشيوخ، كابن يونس وعياض وابن شأس وابن الحاجب وشروحه وابن ناجي وابن راشد في اللباب وأبي الحسن في أجوبته وابن هلال في شرحه والشيخ خليل في توضيحه ومختصره وشروحه ومحشيه ممن تقدم ذكره. وقد قال الشيح أبو الحسن: إن الظواهر إذا كثرت وأتت على وتيرة واحدة فإن إطلاقها مقصود فهي كالنصوص حسبما في المعيار.

الثاني: للخمي: إن كانت القسمة مراضاة فعلى ما تقدم من التفصيل وإن كانت بالقرعة فتنتقض من أصلها ولا فرق بين قليل وكثير، واستظهره ابن عبد السلام.

الثالث: لابن عرفة إن كانت بالقرعة فعلى التفصيل المتقدم، وإن كانت بالمراضاة فكالبيع. الرابع: لعبد العزيز بن أبي سلمة إن كانت بالقرعة فتنتقض بالقليل والكثير وإن كانت بالمراضاة فكالبيع، والفرق بين قول من قال إن قسمة المراضاة كالبيع وبين قول من قال إنها تجري على التفصيل السابق بين؛ لأنه على تفصيل بعض القرويين السابق القسمة ثلاثية كما تقدم بيانه وعلى أنها كالبيع ثنائية تنتقض من أصلها في استحقاق الجل والكثير دون القليل، ويظهر ذلك من كلام اللباب الذي نقله الحطاب، ونص المحتاج إليه منه أن القسمة تستوي مع المبيع في اليسير الذي لا يردان منه وهو الربع فما دونه وفي الجل الذي يرد معه المبيع وتفسخ معه القسمة، ويفترقان في النصف والثلث ونحوهما فيرد البيع بذلك ولا تفسخ القسمة باستحقاق النصف والثلث، وانظر بقية كلامه. ويفترقان أيضا في أنه على القول بأنها كالبيع إذا استحق الربع فما فوقه لا يرجع المستحق من يده بالقيمة بل بما ينوبه من الثمن، وهو ما سلم فيه لصاحبه مما يقابل المستحق لأن ذلك هو حكم البيع كان عينا، كمن اشترى عبيدا مثلا بأربعين دينارا فاستحق أقلهم فإنه يرجع بنسبة ذلك من الأربعين أو كان عرضا لقول المص: وفي عرض بعرض بما خرج من يده وهو في المدونة وغيرها، ولذلك ضعف ابن لبابة قول ابن القاسم إنه يرجع بالقيمة في القسمة. انتهى.

ص: 744

وتفصيل بعض القرويين السابق الذي أشار إليه هو قول ابن يونس: محمد بن يونس قال بعض فقهاء القرويين: الذي يتحصل عندي في وجود العيب والاستحقاق يطرأ بعد القسم أن تنظر، فإن كان ذلك كالربع فأقل رجع بحصة ذلك ثمنا، وإن كان نحو النصف والثلث فيكون شريكا بحصة ذلك فيما بيد صاحبه ولا ينتقض القسم، وإن كان فوق النصف انتقض القسم وابتدءاه. انتهى.

كطرو غريم أو موصى له بعدد على ورثة أو على وارث وموصى له بالثلث التشبيه في قوله "وفسخت في الأكثر" وهذا الكلام مشتمل على أربع مسائل: الأولى طرو الغريم على الورثة وحدها بعد القسم، الثانية طرو الغريم بعد القسم على الورثة والوصى له بالثلث معا، الثالثة طرو الموصى له بعدد على الورثة وحدهم، الرابعة طرو الموصى له بعدد على الورثة والموصى له بالثلث معا بعد القسم فيهما أيضا فتنتقض القسمة في كل واحدة منها بشرط أن يكون المقسوم مقوما كما قال المص: والمقسوم كدار وأدخلت الكاف كل مقوم قال عبد الباقي عند قوله: "والمقسوم كدار" ما نصه: أو حيوان رقيق أو غيره أو ثياب ونحوها من كل مقوم لتعلق الأغراض بذلك، يريد وقد أبى الورثة من دفع الدين إذ لو دفعوه له فلا كلام له كما يأتي. انتهى. ونحوه لغيره فإن قلت لم فسخت بطرو موصى له بعدد على وارث وموصى له بثلث مع أن وصية الميت إنما تنفذ جبرا على الوارث من الثلث، فالقياس أن لا يرجع الموصى له بعدد إلا على الموصى له بالثلث، قلت: لأن حق الموصى له بعدد متعلق بجميع التركة، وقد يتلف ما قبضه الموصى له بالثلث أو ينقص. انظر أحمد. قاله عبد الباقي. قال: وإذا فسخت فيما ذكره المص فإن الغريم أو الموصى له يأخذ كل منهما حقه ثم يقسم الباقي. انتهى. قوله: "والمقسوم كدار" جملة حالية، وذكر مفهوم كدار بقوله: وإن لم يكن المقسوم مقوما بل كان عينا ذهبا أو فضة أو مثليا، كقمح وشعير وسلت وغير ذلك من كل ما حصره كيل أو وزن أو عدد لم تفسخ القسمة، وإذا لم تفسخ رجع الطارئ ممن ذكر على ى ممن بيده شيء من ذلك بما يخصه إن كان قائما، وبمثله إن فات ولا يأخذ أحدا عن أحد، ولذلك من أعسر منهم فإنه يرجع عليه في ذمته ولا يرجع على الملي إلا بحصته فقط، هذا إن لم يعلموا أي المطرو عليهم بالطارئ، فأما إن علموا به واقتسموا من غير اعتباره فله أن يأخذ الملي عن المعدم والحي عن الميت والحاضر عن الغائب. هذا تقرير المص بحسب ظاهره.

ص: 745

قال البناني: والمعتمد نقض القسمة ولو كان المقسوم عينا أو مثليا مطلقا علموا بالطارئ أم لا، فيأخذ الملي عن العدم ما لم يجاوز ما قبضه كما قدمه في الفلس، ولا فرق بين العلم وعدمه. ابن عرفة: إذا طرأ الغريم على الورثة ففي النوادر: وفي قسم المدونة يتبع الملي في كل حظه من الإرث بما على المعدم بخلاف طروه على غرمائه. قاله مصطفى. ونص المدونة: إذا طرأ الغريم على الورثة وقد أتلف بعضهم حظه وبقي في يد بعضهم حظه فلربه أخذ دينه مما بيده. انتهى. وما ذكره من نقض القسمة ولو كان المقسوم عينا أو مثليا هو الذي صرح به ابن رشد في سماع يحيى، ونصه: واختلف إذا طرأ على التركة دين أو وصية بعد اقتسام الورثة التركة من دنانير أو دراهم أو طعام أو عروض أو حيوان أو عقار على خمسة أقوال، ثم قال: الثاني أن القسمة تنقض فيكون ما هلك أو نقص أو نما من جميعهم إلا أن يتفق جميعهم على أن لا ينقضوها ويخرجون

(1)

الدين والوصية من أموالهم ويقروها فذلك لهم، وهو المشهور من مذهب ابن القاسم المنصوص له في المدونة. انتهى.

ومعنى كون ما هلك أو نقص من جميعهم أن من هلك ما بيده أوبعضه ثم نقضت القسمة لطرو الدين فله الدخول على الورثة فيما فضل لهم عن الدين، وقد يقال لا دخول له عليهم لأنهم يقولون نؤدي الدين من دونك. ابن عرفة: ما عزاه لظاهرها هو قولها: قال مالك: ما فات بأيديهم أو هلك بأمر من الله تعالى من عرض أو غيره ضمانه من جميعهم لا ممن كان بيده. ابن القاسم: لأن القسم كان بينهم باطلا للدين. انتهى. ففائدة نقض القسمة ولو كان مثليا كون الضمان من جميعهم إذا تلف ما بيد أحدهم بسماوي ولولا نقضها لم يكن له دخول فيما بقي بيد غيره، وليس معنى كون ما هلك من جميعهم أنهم يضمنون ما تلف بسماوي للغرماء كما تُوُهِّم.

ففي ابن عرفة: وفيها لا يضمن الورثة ما تلف بسماوي ويضمنون ما تلف بانتفاعهم. ابن رشد: اتفاقا فيهما. انتهى. وفي المقدمات: لا اختلاف أن الورثة لا يضمنون بالقسمة التلف بأمر من السماء، وأما ما أكلوه أو استهلكوه فإنهم يضمنونه. انتهى. ابن الحاجب: وما تلف بسماوي فهدر التوضيح لأن غاية صاحب الدين أن يكون كالمستحق ولا شيء على المستحق منه فيما تلف

(1)

في البناني ج 6 ص 210: ويخرجوا.

ص: 746

بسماوي. انتهى. وما ذكره ابن رشد من عموم النقض وافقه إطلاق ابن الحاجب وابن شأس وغير واحد، وفصل ابن عرفة بين المثلي وغيره كما فعل المص، ونقل ذلك عن اللخمي وابن رشد أيضا، ونص ابن عرفة: وطرو دين على قسم ورثة جهلوه والمقسوم غير مثلي في نقضه لحق الله لزوما أو للدين فتنتقض ما لم يجتمعوا على أدائها. ثالثها تنقض في حق من أدى منابه منه وتحمل حظه مما هلك. ورابعها لا ينقض. وخامسها هذا في حق من تلف كل حظه بسماوي فلا يتبع بدين ولا حق له فيما فضل عنه للبيان عن رواية أشهب، ومشهور قول ابن القاسم المنصوص له فيها وابن حبيب وسحنون مع أشهب وغيرهما. انتهى.

وقال الحطاب: ما ذكره المص صرح به في اللباب يعني في تفصيله بين المقوم وغيره، لكن يعترض على المص بأمرين: أحدهما قوله ومن أعسر فعليه إن لم يعلموا، ثانيهما أن عدم النقض في المثلي محله إذا وجد بأيديهم، وأما مع هلاكه فالنقض انظر البناني. والحاصل أن عموم النقض في المثلي وغيره ذكره ابن رشد ووافقه إطلاق ابن الحاجب وابن شأس وغير واحد، وفصل ابن عرفة بين المثلي وغيره كما فعل المص ونقل ذلك عن اللخمي وابن رشد أيضا، لكن كلام ابن عرفة يدل

(1)

على أن عدم النقض في المثلي محله إذا وجد بأيديهم وأما مع هلاكه فالنقض، وأما قول المص:"ومن أعسر" إلخ فمعترض كما علمت. والله تعالى أعلم.

تنبيه: قال غير واحد: إن قوله "والمقسوم كدار" إلخ حقه أن يذكر عقب المسائل الأربع الآتية وهي طرو غريم أو وارث أو موصى له على مثله أو موصى له بجزء على وارث، فيقول عقب قوله أو وارث ما نصه نقضت إن كان المقسوم كدار وإن كان عينا أو مثليا اتبع كل بحصته فلعل ناسخ المبيضة خرجه في غير محله. انتهى. ومر في الفلس وإن اشتهر ميت بدين أو علم وارثه وأقبض إلخ.

وذكر ما هو كالاستثناء من الفسخ في المشبه فقال: وإن دفع جميع الورثة مضت يعني أن محل الفسخ في قوله: "والمقسوم كدار" إنما هو إذا لم يدفع له جميع الورثة الدين، وأما إن دفعوا للغريم الدين أو للموصى له بالعدد ما أوصي له به، فإن القسمة لا تنقض بل تمضي، قال الشبراخيتي:

(1)

في الأصل: يدل كلامه على أن عدم.

ص: 747

وإن دفع جميع الورثة للطارئ بعد الفسخ دينه أو الموصى به مضت لوصول كل منهما لما يستحقه، ومثل دفع الجميع في عدم الفسخ دفع بعضهم برضى الباقي أو امتناعه حيث كان الدافع لا يرجع بشيء على المدفوع عنه، وأما لو امتنع الجميع من الدفع أو دفع بعضهم وامتنع الباقي وكان الدافع يرجع بما دفع، فإن القسمة تنفسخ فمجموع الصور خمس ينتقض القسم في صورتين دون الباقي. انتهى. وقال عبد الباقي: وإن دفع جميع الورثة أو أجنبي فيما يظهر للغريم ماله من الدين فيما إذا كان المقسوم كدار مضت القسمة ولم تنقض؛ إذ ليس له حق إلا فيما أخذه إن لم يعلموا به قبل القسم، وإلا فلهم دفع دينه وتصح أيضا كما هو ظاهر كلامهم، وقال مالك في كتاب محمد: لا تصح. قاله الشارح. ومثل دفع جميعهم في مضيها دفع بعضهم برضى الباقين إلى آخر ما مر عن الشبراخيتي.

كبيعهم بلا غبن تشبيه في عدم النقض؛ يعني أن الورثة إذا اقتسموا وباعوا التركة ثم طرأ عليهم أحد ممن ذكر فإن ذلك البيع ماض إن وقع بغير غبن أي محاباة، وأما إن كان بمحاباة فكذلك أيضا، فلا مفهوم لقوله:"بلا غبن" ويأتي ما يفيد الجواب عنه، قال البناني: البيع ماض مطلقا فات أم لا يعني ولو بمحاباة؛ لأن المحاباة إن وقع المبيع بها فهي كالهبة والهبة لا تردد واختلف هل يضمن الواهب والمعتق في هذه المسألة فقال ابن حبيب يضمن فيدفع للغريم ولا يرجع على الموهوب له، وذهب سحنون وأشهب إلى أنه لا يضمن فيرجع الغريم على الموهوب له ويرد العتق. ابن عرفة عن ابن رشد: في ضمانهم بإحداثهم كالبيع والهبة والصدقة والعتق قولا ابن حبيب وسحنون مع أشهب، فعلى الأول يودون ولا يرجعون على المعطى بشيء، وعلى الثاني يرجع ذو الدين على المعطى ولا يتبع المشتري بشيء إلا أن تكون فيه محاباة فهي كالهبة وفيها ما يدل على القولين. انتهى. وبه تعلم أن قول الزرقاني ينبغي بطلان عتقهم قصور. مصطفى: فإن قلت: حيث كان البيع يمضي مطلقا فلم قيد المؤلف كابن الحاجب الإمضاء بغير المحاباة، قلت: قول المدونة: وما باع فعليه ثمنه لا قيمته إن لم يحاب يدل على أن عدم المحاباة قيد في إعطاء الثمن لا في الإمضاء، فتحمل عبارتهما على ذلك أي كبيعهم يمضي وعليهم الثمن إن باعوا بغير محاباة. انتهى. وقال عبد الباقي: واختلف هل يرجع الطارئ حيث زاد ماله على ما أخذه من

ص: 748

البائع المحابَى على البائع أو على المشتري كما في هبة الوارث أو صدقته. انظر الشارح. وينبغي بطلان عتقهم. انتهى. وقد مر ما في قوله وينبغي بطلان عتقهم من القصور، واعلم أن الورثة لا يضمنون لمن ذكر السماوي ويضمنون العمد بلا خلاف فيهما، واختلف فيما استهلكوه خطأ. والله تعالى أعلم.

واستوفى مما وجد ثم تراجعوا يعني أن الطارئ إذا وجد شيئا من التركة فإنه يستوفي حقه من ذلك الذي وجد ثم من استوفى منه يرجع على بقية الورثة؛ لأنه لا إرث إلا بعد وفاء الدين، قال عبد الباقي: واستوفى الطارئ مما وجد من التركة بيد من أخذه من الورثة لم يبعه أو من ثمن ما باعه حيث كان يعرف بعينه كحيوان وعقار؛ لأنه لا إرث إلا بعد وفاء الدين للآية الكريمة: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} .

والحاصل أنه يستوفي الطارئ مما وجده من التركة قائما كما يستوفي من ثمن ما بيع إن كان الثمن يعرف بعينه، قال غير واحد: وهذا جار في مسألة كبيعهم بلا غبن وفيما قبلها، فيستوفي من التركة إن وجدها لم تستهلك أو من ثمنها إن بيعت، وإذا استوفى الطارئ من بعض المطرو عليهم فإن المطرو عليه الذي أخذ منه يرجع على كل واحد من أصحابه بما يخصه، ولا يأخذ الملي عن المعدم فمن أعسر فيرجع عليه في ذمته، قال البناني في قوله:"ومن أعسر فعليه" ما نصه: الظاهر في تقريره أن قوله: "ومن أعسر" إلخ في رجوع المطرو عليه على أصحابه فإنه يرجع بما دفع للطاري على كل واحد من أصحابه ولا يأخذ الملي عن المعدم. وقوله: إن لم يعلموا راجع لقوله: "كبيعهم بلا غبن" فإن بيعهم إنما يمضي إذا لم يكونوا عالمين، فإن كانوا عالمين أو كان مشهورا بالدين لم يمض بيعه بل يخير الطارئ في فسخه، وهذا معنى ما قرره به جد علي الأجهوري، ونحوه لابن عاشر وارتضاه المسناوي. قاله البناني. والله تعالى أعلم.

وأشار إلى أربع صور متفقة في الحكم أيضا وبها تمت الطوارئ العشرة فقال: وإن طرأ غريم أو وارث أو موصى له على مثله أو موصى له بجزء على وارث اتبع كلا بحصته يعني أن الغريم إذا طرأ على الغرماء بعد قسمهم للمال، فإنه يتبع الطارئ كل واحد من المطرو عليهم بحصته فقط، ولا يأخذ الملي عن المعدم ولا الحاضر عن الغائب ولا الحي عن الميت، وكذلك الوارث إذا طرأ

ص: 749

على الورثة فإنما يأخذ كل واحد منهم بحصته فقط، ولا يأخذ الملي عن المعدم ولا الحاضر عن الغائب ولا الحي عن الميت، وكذلك الموصى له إذا طرأ على مثله فإنه يرجع عليه بما ينوبه ولا يأخذ الملي من الموصى لهم عن المعدم ولا الحاضر عن الغائب ولا الحي عن الميت، وكذلك الموصى له بجزء أي نصيب إن طرأ على وارث فإنه إنما يرجع على كل واحد من الورثة بما يخصه، ولا يأخذ الملي عن المعدم ولا الحاضر عن الغائب ولا الحي عن الميت. وقوله: "اتبع كلا بحصته، أي ولا تنقض القسمة، ويفهم من كلام المص أن الموصى له بعدد إذا طرأ على الوارث فقط ليس كالموصى له بجزء إذا طرأ على الوارث فقط؛ إذ في الأولى تنقض القسمة حيث كان المقسوم مقوما، وأما على مقابل المص الذي هو المعتمد فإنها تنقض مطلقا أي في المقوم والمثلي، وقد مر عن ابن عرفة أنها إنما تنقض في المثلي حيث فات لا إن بقي، وأما هذه وهي ما إذا طرأ الموصى له بجزء على الوارث فقط فإنه لا تنقض القسمة إن كانت التركة مثلية، بل يتبع الموصى له كل وارث بما ينوبه من الوصية، وظاهر المص أنها لا تنقض في المقوم وليس كذلك، بل محل ما ذكره هنا إنما هو حيث كانت التركة مثلية، فلو قال: اتبع كلا بحصته إن كان عينا أو مثليا وإلا نقضت لوافق الصواب.

قال الحطاب عند قوله: "وإن طرأ غريم أو وارث أو موصى له على مثله أو موصى له بجزء" إلخ ما نصه: هذا إذا كان المقسوم عينا، وأما إن كان دارا فإن للوارث نقض القسمة قاله في المدونة. وابن الحاجب. انتهى. وقال عبد الباقي: وهذا إذا كان المقسوم مثليا أو عينا فإن كان مقوما نقضت القسمة. انتهى. ونحوه للخرشي والشبراخيتي، وقوله:"اتبع كلا بحصته" سواء علم المطرو عليه بالطارئ أم لا، وقدم في الفلس ما يفيد هذه المسائل وأنه يتبع كلا بحصته فقط، وإن علم ما عدا الفرع الأخير. ونص ما قدمه: وإن ظهر دين أو استحق مبيع رجع بالحصة كوارث أو موصى له على مثله. انتهى. وهنا ثلاث مسائل: الأولى طرو الغريم على الغرماء والورثة، فإن كان فيما أخذه الورثة كفاف دين الغريم رجع عليهم كما تقدم في طرو الغريم على الورثة، وإلا رجع على الغرماء ببقية دينه كرجوع الغريم على مثله. الثانية طرو الموصى له بجزء على مثله وعلى الورثة، والحكم فيها أنه إن كان فيما أخذه الورثة كفاف حظ الطارئ كان كطرو الموصى له على

ص: 750

الورثة، وإلا رجع بما بقي على الموصى لهم، الثالثة طرو الغريم على الورثة والموصى له بأقل من الثلث والحكم فيها أن ينظر، فإن كان ما قبضه الموصى له يخرج من الثلث بعد أداء الدين رجع الغريم على الورثة فقط، ولا يرجع الغريم إلا في عدم الورثة وإن كان لا يخرج من الثلث بعد ذلك فيرجع بالزائد على الثلث على من وجد من الموصى لهم مليا، وأما قدر الثلث فلا يرجع به على الموصى له إلا في عدم الورثة. انظر الشبراخيتي.

وأخرت لا دينٌ لحمل نائب أخرت ضمير يعود على القسمة، وقوله:"لحمل" متعلق بأخرت، وقوله:"لا دين" عطف على الضمير في أخرت من دون فاصل وهو يقع في النثر قليلا؛ يعني أن التركة يؤخر قسمها لأجل الحمل، فإذا هلك هالك وكان حمل يرثه إذا استهل فإنه يؤخر القسم وجوبا إلى وضعه، بخلاف قضاء الدين فإنه لا يؤخر لوضع الحمل بل يستعجل لأنه لا إرث إلا بعد وفاء الدين، قال عبد الباقي: وأخرت قسمة التركة لا يؤخر دين على ميت أي قضاؤه بل يقضى عاجلا فهو مرفوع عطفا على الضمير المستتر المتصل في أخرت من غير فاصل وهو قليل. وقوله: "لا دين" فيه رد على قول ابن أيمن: يؤخر قضاء الدين لوضع الحمل ويأتي البحث معه، قال عبد الباقي: لحمل أي لوضعه ولو زوجة لها ثمن مع وجود ولد وقالت عجلوا إلى ثمني لتحققه فلا تجاب لذلك قبل وضع الحمل وسيعيدها في الفرائض بقوله: "ووقف القسم للحمل" واعتذروا عنه هناك بأنه أعادها لأنه لطول العهد ربما تنسى المسألة. انتهى.

قوله: أي لوضعه، قال الرهوني: صحيح فلا سبيل للقسم قبل وضعه وهذا إذا لم تدع موته وإلا فانظر ما الحكم، وفي نوازل الإقرار من المعيار ما نصه: سئل أبو محمد الشقاق عن المرأة الحامل تقر بموت ما في بطنها، فأجاب بأن قال: تسقط نفقتها عن زوجها ولا تنقضي عدتها إلا بالوضع، وانظر إذا كانت الحامل متوفى عنها هل يقسم المال لإقرارها بموت الجنين أو لا؛ لأنه إقرار على الغير وهو الجنين. تأمله فإن للنظر فيه مجالا. انتهى منه بلفظه.

تنبيه: قول ابن أيمن إنه يؤخر الدين لوضع الحمل اعترضه ابن رشد، وقال: إنه من الغلط الذي لا يعد خلافا ولا حجة له، قال ابن عرفة: في تغليطه ابن أيمن وقوله لا حجة له نظر، بل هو الظاهر وبه العمل عندنا ودليله من وجهين: الأول أن الدين لا يجوز قضاؤه إلا بحكم قاض

ص: 751

وحكمه متوقف على ثبوت موت المديان وعدة ورثته، ولا يتصور عدد ورثته إلا بوضع الحمل فالحكم متوقف عليه وقضاء الدين متوقف على الحكم. الثاني أن حكم الحاكم بالدين متوقف على الإعذار لكل الورثة والحمل من جملتهم، ولا يتقرر الإعذار في جهته إلا بمقدم أو وصي وكلاهما يستحيل قبل وضعه فتأمله. انتهى. ويظهر أن هذين الأمرين أمر واحد. والله أعلم. انظر الشيراخيتي.

وقال الحطاب: ما استدل به لابن أيمن مبني على أنه لا يكفي في الحكم بالدين عدد الورثة الموجودين والحمل، وأنه لا يكون للحمل وصي ولا ولي وابن رشد لا يسلم ذلك وهو الظاهر، وقد صرح في رسم مرض من سماع ابن القاسم من كتاب الدعوى بأن للناظر للحمل أن يصالح الزوجة على ميراثها إذا لم يكن به غرر، كأن يشرك

(1)

زوجة حاملا وبنين ونصه: ولا خلاف عندي أن للناظر على الحمل أن يجيز الصلح عليه ويمضيه إذا رآه نظرا ولم يكن فيه غرر إلى آخر كلامه، ورده أي قول ابن عرفة الشبراخيتي أيضا. والله تعالى أعلم.

تنبيه آخر: قد علمت أن القسم يؤخر للحمل وجوبا، وذلك يقتضي أنهم إذا قسموا واحتاطوا للحمل فيما عزلوه له بأن جعلوه ذكرا فإن القسمة تنقض، والدليل على الوجوب قول ابن رشد: من مات وترك امرأة وجب أن لا يعجل إرثه حتى تسئل، فإن قالت إنها حامل وقفت التركة حتى تضع أو يظهر عدم حملها بانقضاء عدة الوفاة وليس بها حمل ظاهر، وإن قالت لا أدري أخر الإرث حتى يتبين أن لا حمل بها بأن تحيض أو يمضي أمد العدة ولا ريبة حمل بها، وكذا إن كان ولد فقالت زوجته عجلوا لي ثمني لم يكن لها ذلك. انتهى. وكذا عبارة غير واحد.

وصرح الرهوني بالوجوب، وذكر الحطاب عن ابن رشد ما هو صريح في أن القسم للحمل ماض فيما إذا عزل الورثة للحمل ميراثه على أنه ذكر حيث لم ينقص ما عزلوه ولو تلف ما نابهم، ونصه: وذكر في رسم العتق الثاني من سماع أشهب أن الورثة إذا عزلوا للحمل ميراثه على أنه ذكر وقسموا بقية الميراث لم يكن لهم رجوع على ما عزلوه للحمل إن نقص ما بأيديهم أو هلك، وإن تلف ما وقفوه له رجع عليهم إن وجدهم أملياء وإن أعدم بعضهم رجع على الأملياء فقاسمهم

(1)

في الحطاب ج 6 ص 103: كأن يترك.

ص: 752

فيما بأيديهم ثم رجع هو وهم على الغرماء فالقسمة تجوز عليهم ولا تجوز عليه، ولو كان للحمل ناظر قسم عليه لجازت القسمة لهم وعليهم، وإنما كان للحمل أن يرجع على من كان مليا لأنهم فعلوا ما لا يجوز لهم؛ يعني فيما إذا لم يفعل ذلك ناظر الحمل، فقد بان لد من كلام ابن رشد الذي عزاه له الحطاب أن قسم الناظر للحمل ماض جائز وأن قسم الورثة له إذا احتاطوا يمضي عليهم إن نقص أو تلف ما بأيديهم، فلا يرجعون عليه إذا كان ما بيده باقيا ويرجع هو عليهم إن نقص ما بيده أو تلف لأنهم فعلوا ما لا يجوز لهم. والله تعالى أعلم.

وقال الحطاب: لو خلف الميت عقارا وأراد بعض الورثة أن يبيع ما خصه منه مما هو له على كل حال، كما لو أرادت الزوجة بيع الثمن ونحو ذلك فلم أر الآن فيه نصا، والظاهر أنه جار على القسمة فعلى المشهور لا يجوز وإن وقع جاز عليها وعلى من معها من الكبار، ولا يجوز على الحمل إلا أن يجيزه الناظر على الحمل. والله أعلم.

وفي الوصية قولان يعني أن الشيوخ اختلفوا في الوصية هل تؤخر لوضع الحمل؟ قال المواق: سمع ابن القاسم أنها لا تنفذ حتى تلك ورواه ابن أبي أويس أيضا وقاله ابن مسلمة قال: لأن ما يهلك من رأس المال وما يزيد فهو منه يريد فيكون الموصى له قد استوفى وصيته على غير ما ورث الورثة أو تنفذ عاجلا، ويؤخر قسم الورثة حتى تلك. رواه ابن نافع. وقاله أشهب. قال عبد الباقي: ومحل القولين في المص إذا كانت الوصية بغير عدد، فإن كانت بعدد فكالدين. انتهى. وقال الحطاب عن ابن عرفة: ولو كانت الوصية إنما هي بعدد من دنانير أو دراهم لو جب أن يعجل بتنفيذ الوصية، وتؤخر قسمة بقية المال حتى يوضع الحمل قولا واحدا؛ إذ لا اختلاف في أن الوصية بالعدد كالدين في وجوب إخراجها من التركة قبل القسم. انتهى.

وقال الشبراخيتي: محلهما يعني القولين إذا لم تكن الوصية بعدد وإلا عجلت اتفاقا. انتهى. والحاصل أن الوصية إذا كانت بغير عدد اختلف فيها هل يكون حكم الموصى له كالغريم يطرأ على الورثة بعد القسم، أو حكمه حكم الوارث يطرأ على الورثة؟ وأما إذا كانت الوصية بعدد فإنه لا اختلاف في أن الموصى له كالغريم يطرأ على الورثة، والفرق بينهما أن الموصى له بالعدد

ص: 753

لا يطرأ عليه النقص بسبب هلاك بعض التركة ولا زيادة بنمائها، بخلاف الموصى له بشائع، وفي كلام البناني حيث جعل الخلاف جاريا في الجميع نظر ظاهر. والله تعالى أعلم.

وقسم عن صغير أب يعني أن الأب يقسم عن ابنه الصغير بالقرعة أو بالتراضي. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: وقسم عن صغير وسفيه ولو عبر بمحجور لكان أشمل أي فيقسم له الدور وغيرها. أو وصي يعني أن الوصي يقسم عن الصغير كان الوصي أما أو غيرها، وكذلك السفيه وإن لم يكن له وصي فمقدم القاضي، وكأنه استغنى عن ذكره بدخوله في الوصي. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي: وقسم عن صغير أب مسلم أو وصي كذلك. انتهى. قوله: مسلم، قال البناني: يعني والصغير مسلم أيضا كما في المدونة وإلا فلا يقيد الأب بالإسلام، والظاهر أن ذلك يعني ولاية الأب الكافر على ولده لا يختص بابنته البكر، وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: يجوز أن يقاسم على الصغير أبوه أو وصية الدور والعقار وغيرها ملك ذلك بمورث عن أمه أو بغير ذلك. وقاله مالك. ولا يقسم الوصي على الأصاغر حتى يرفع ذلك إلى الإمام فيقسم بينهم إن رآه نظرا، وإذا قسم للصغير فحابى لم تجز محاباته في ذلك ولا هبته ولا صدقته في مال ابنه الصغير، ويرد ذلك إن وجد ولم تفت عينه وإن كان الأب موسرا، فإن فات ذلك ضمنه الأب، وفي نوازل ابن الحاج: القسمة بين الأيتام جائزة إذا ثبت السداد ولو كانت بالقرعة كانت أحسن. انتهى. وقال الحطاب: اعلم أنه إذا كان الصغير متحدا وشريكه كبيرٌ أو أجنبي فإنه يجوز قسم الوصي من غير مطالعة حاكم بلا خلاف، وأما إذا تعددت الصغار وكان الشريك كبيرا فإن كان حظ الصغار مشتركا جاز القسم أيضا بلا خلاف، وإن كان حظ كل واحد متميزا فاختلف فيه على قولين بالكراهة والجواز، وأما إذا كان القسم إنما هو بين الصغار فقط ففي ذلك ثلاثة أقوال: مذهب المدونة عدم الجواز وقيل بالكراهة وقيل بالجواز. والله أعلم.

وأما إن كان القسم بينه وبين الأب أو بينه وبين الوصي ومحاجيره، فقال ابن ناجي في شرح المدونة: ويقاسم عن الصغير أبوه أو وصية. أبو إبراهيم الأعرج: أي مع الأجانب، وأما مع الأب أو الوصي فيرفع الأمر إلى القاضي. انتهى. وقال الحطاب عن ابن رشد بعد أن ذكر سماعا عن القرويين ما نصه: ظاهره جواز قسمها يعني الوصية لنفسها على أولادها بأمر العدول دون

ص: 754

السلطان، والمشهور المعلوم أنه لا يجوز إلا بأمر السلطان فإن فعلت نقض قسمها إلا أن يجيزه السلطان، وقيل يجوز إن علم السداد والنظر فيه لهم وهو قوله في هذا السماع. ابن عرفة، المتيطي: قسم الوصي على يتيمه بالسهم جائز وفي جواز قسمة عليه مراضاة بالتعديل قولا ابن أبي زمنين مع ابن القطان والباجي وابن الهندي. الحطاب: مقتضى كلامه أن القول بعدم الجواز لابن الهندي فقط. انتهى.

وملتقط يعني أن الملتقط بالكسر يقسم عن ملتقطه بالفتح المشارك لغيره، قوله:"وملتقط" عطف على أب فهو مرفوع أي قسم الملتقط عن الصغير الملتقط بالفتح، قال المواق من المدونة: يقسم ملتقط اللقيط عليه. كقاض عن غائب يعني أن القاضي يقسم عن الغائب فيعزل له نصيبه، وظاهره كانت القسمة بالقرعة أو بالتراضي، وقوله:"عن غائب" بعيد الغيبة وإلا انتظر. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: كقاض يجوز قسمه عن غائب طلب شركاؤه ذلك. انتهى المراد منه. وقال عبد الباقي: وقيد ببعيد الغيبة وإلا انتظر. انتهى. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم؛ إذا ورث قوم دارًا والشريك غائب فأحبوا القسم فالقاضي يلي ذلك على الغائب ويعزل حظه وكذلك هذا في الرقيق وجميع الأشياء، وقد نصوا أنه جائز أن يقسم القاضي دارا هي بيد اثنين من غير ثبوت ملكها لهما، ويشهد القاضي في القضية أنه قسمها بينهما على إقرارهما. انتهى.

لا ذي شرطة بالجر عطف على قاض يعني أن ذا الشرطة ليس له أن يقسم عن صغير ولا سفيه ولا غائب، قال عبد الباقي: لا ذي شرطة بوزن غرفة فليس له أن يقسم عن غيره، وسمى بذلك لأن جنده وأعوانه ورسله لهم شرط في لبسهم وزيهم يميزون بها عن غيرهم. قاله عبد الباقي. وقال المواق عند قوله:"لا ذي شرطة" ما نصه: تقدم في الحجر قول ابن سهل: كثير من جهال المفتين يتوهم أن لا يبيع على المحجور إلا القاضي، ثم رشح أن من ولي يتيما لقرابة أو لحسبة فهو كالوصي يقسم له ويبيع وقاله ابن القاسم في مولى اللقيط، وروى عن مالك أن صاحب الشرطة العدل في أحكامه يقسم على الصغار، ومن المدونة: إن رفعوا لصاحب الشرط فيقسم بينهم لم يجز ذلك إلا من قاض. انتهى.

ص: 755

أو كنف أخا أي صغيرًا وقوله: "كنف" مصدر منون عطف على شرطة "وأخا" مفعوله أي لا ذي شرطة ولا ذي كنف أخا، وَضُيطَ كنف بأنه فعل ماض وهو صفة لمحذوف معطوف على قاض أي أخ كنف أخا، ومعنى كنفه صانه وحفظه وجعله في كنفه أي في حفظه وصيانته؛ يعني أن الأخ إذا كنف أخاه الصغير أي تكفله وقام بأموره فإنه لا يقسم له، وهذا كقوله في المدونة: من كنف أخا له صغيرا أو ابن أخ احتسابا فأوصى له أحد بمال فقام فيه لم يجز بيعه له ولا قسمة له، قال الشارح: ومعنى كنف أي صيره في كنفه أي كفله، واختلف في الحاضن هل هو كالوصي أو لا؟ أو كالوصي إن كان أما أو من الأجداد أو الجدات أو الإخوة دون سائر القرابات. انتهى.

وقال عبد الباقي عند قوله "أو كنف أخا" ما نصه: وظاهره ولو عدم القاضي، وسواء كان المقسوم قليلا أو كثيرا، وقوله:"كنف" صفة لموصوف محذوف أي أوأخ كنف أخا، وحذف الموصوف في مثل هذا قليل بل قال الرضي إنه ضرورة. انتهى. فالأولى ضبطه الأول كما قال عبد الباقي. والله تعالى أعلم. قوله: وسواء كان المقسوم قليلا أو كثيرا، قال البناني: تقدم في الحجر أن الحاضن يبيع القليل، والظاهر أن قسم القليل كبيعه وهو الذي رجحه ابن سهل كما في المواق.

أو أب عن كبير يعني أن الأب لا يقسم عن الولد الكبير الرشيد والوصي من باب أولى حيث حضر بل وإن غاب وإنما يقسم للغائب وكيله إن وجد وإلا فالقاضي، ومن المدونة: لا يجوز قسم الأب عن ابنه الكبير وإن غاب ولا الأم على ابنها الصغير إلا أن تكون وصية. قاله المواق. وقال الشارح عن المدونة: ولا يجوز قسم الزوج لزوجته البكر ولا قبض مالها، وقوله:"وإن غاب" قال الشبراخيتي: أتى بالمبالغة لدفع توهم الجواز مع الغيبة. البساطي: الظاهر جر أب عطفا على ذي شرطة.

وفيها قسم زيتونة ونخلة قال عبد الباقي: ثم ختم الباب بمسألة واردة على قوله: وأفرد كل صنف، ولذا نسبها للمدونة فقال: وفيها قسم زيتونة ونخلة؛ يعني أنه وقع في المدونة ما يخالف ما مر وهو أنه يجوز قسم زيتونة ونخلة مشتركتين بين رجلين إن اعتدلتا في القسم، وتراضيا على قسمهما

(1)

بأن يأخذ هذا واحدة والآخر أخرى انتهى لفظها.

(1)

في الأصل: قسمها.

ص: 756

واختلف الشيوخ في هذه القسمة التي هي في المدونة، هل هي قرعة؟ واستشكل ذلك بأن قسمة القرعة لا تدخل فيما اختلف جنسه، وأجيب بدخولها هنا في المختلف جنسه لأجل القلة أي إنما أجيزت لأجل القلة وحينئذ فلا إشكال؛ لأنه قد مر للمصنف: وأفرد كل صنف إن احتمل فإن مفهومه أن ما لا يحتمل القسم كهذه يضم إلى غيره كما وقع فيها هنا. أو مراضاة اعتبارا بقوله المار: وتراضيا واعتذروا عن قولها: اعتدلتا مع أن التراضي لا يشترط فيه الاعتدال بأنهما دخلا على بيع لا غبن فيه. تأويلان مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان، الأول للخمي والثاني لبعضهم، ومفهوم الشرط إن لم يعتدلا في القسم لم يجز وتقاوياهما أو باعاهما كبقية ما لا ينقسم من ثوب أو عبد أو غيره ومن طلب منهما البيع جبر له الآخر. ولما أنهى الكلام على القسمة وكان القراض يقسم ربحه بين رب القراض وعامله ناسب أن يعقبها به، فقال:

ص: 757

باب: في القراض، ابن رشد: القراض مأخوذ من القرض وهو ما يجازى عليه الرجل من خير أو شر؛ لأن المقترضين قصد كل واحد منهما إلى منفعة الآخر فهو مقارضة من الجانبين، وقيل من القرض وهو القطع لأنك قطعت له من مالك قطعة وهو قطع لك جزءا من الربح الحاصل بسعيه، وأهل العراق يسمونه مضاربة أخذا من قوله تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} . قاله غير واحد. وقال الشارح: المقارض بالكسر رب المال والمقارض بالفتح العامل والمضارب بالكسر العامل لأنه الذي يضرب بالمال وبالفتح رب المال، والأصل في مشروعيته قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} لأنه بيع منافع ومن عمل الصحابة رضوان الله عليهم.

ففي الموطأ أن عبد الله وعبيد الله ابنا عمر رضي الله عنه خرجا في جيش إلى العراق. فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وهو أمير البصرة فرحب بهما وسَهَّل ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به فعلت؟ ثم قال: بلى ها هنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكما فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون لكما الربح، فقالا: وددنا ففعل وكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا فربحا فلما دفع ذلك إلى عمر قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا، قال عمر: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما أديا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت وأما عبيد الله فقال ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا لو نقص المال أو هلك لضمناه، فقال عمر: أدياه فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا، فقال عمر: قد جعلته قراضا فأخذ رأس المال ونصف ربحه وأخذ ابناه نصف الربح، ويقال إن الرجل الذي كان جالسا عند عمر عبد الرحمن بن عوف. انتهى.

وقال الرهوني: ابن يونس: قال الليث: كان القراض في الجاهلية فأقر وصار سنة في الإسلام وعمل به ضمر وعثمان وصدر الأمة، واتبع فيه خلف الأمة سلفها وهو كالذي سنَّ النبي صلى الله عليه وسلم في المساقاة سواءً، وذلك مسترج بالرخصة من الإجارة المجهولة كاستخراج بيع العرية والشركة والتولية في الطعام والعمل به جائز على ما جرى من سنته ما لم يغير لفساد عقد

ص: 758

أو شرط زيادة فيخرجه عن رخصته، قال عبد الوهاب: ولا خلاف في جوازه بين الأمة وإن اختلفوا في كثير من شروطه وأحكامه. انتهى. محل الحاجة منه.

وأول قراض كان في الإسلام قراض يعقوب مع عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث من يقيم من السوق من ليس بفقيه، فأقيم يعقوب فيمن أقيم فجاء إلى عثمان رضي الله عنه فأخبره فأعطاه مزود تبر قراضا على النصف، وقال له: إن جاءك من يعترضك فقل المال لعثمان، فقال ذلك فلم يقم فجاء بمزودين مزود رأس مال ومزود ربح، ويقال إن أول قراض كان في الإسلام قراض عبد الله [وعبيد الله ابني]

(1)

عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وقضيتهما مشهورة مذكورة في الموطأ. انتهى. قوله: وصار سنة في الإسلام معناه أباحته السنة والرخصة فيه جائزة بالسنة لا بمعنى السنة التي يحض على امتثالها، ولهذا قال ابن عبد الحكم: لا أقول هو سنة. انظر الحطاب.

وقال الحطاب: والقراض مما كان في الجاهلية فأقر في الإسلام لأن الضرورة دعت إليه لحاجة الناس إلى التصرف في أموالهم وتنميتها بالتجارة فيها، وليس كل أحد يقدر على ذلك بنفسه فاضطر فيه إلى استنابة غيره، ولعله لا يجد من يعمل له فيه بإجارة لا جرت عادة الناس فيه بالقراض فرخص فيه لهذه الضرورة، واستخرج بسبب هذه العلة من الإجارة المجهولة على نحو ما رخص في المساقاة وبيع العرية. انتهى.

تنبيه: إذا قيل أبو موسى رضي الله تعالى عنه تصرف على وجه المصلحة لأن المال يصير مضمونا في الذمة، فهو أولى من بعثه على وجه الأمانة مضافا إلى إكرام من ينبغي إكرامه فهو تصرف جامع للمصالح فيتعين تنفيذه وعدم الاعتراض عليه، يقال: قوله يصير مضمونا في الذمة فيه نظر لأنه لو كان الدفع لهذا القصد أوله ولغيره كان هذا هو السفاتج، والمشهور من مذهب مالك أنه غير جانز وإنما يجوز السلف لمجرد منفعة المتسلف، وسواء كان المسلف صاحب المال أو غيره ممن له النظر عليه من إمام أو قاض أو وصي أوأب، فلا يجوز للإمام أن يسلف شيئا من مال المسلمين ليحرزه في ذمة المتسلف وكذلك القاضي والوصي، وفعل أبي موسى رضي الله تعالى عنه

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، والمثبت من المقدمات ج 2 ص 187.

ص: 759

يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون فعل هذا لمجرد منفعة عبد الله وعبيد الله وجاز له ذلك وإن لم يكن الإمام المفوَّضَ إليه لأن المال كان بيده بمنزلة الوديعة لجماعة المسلمين فاستسلفه بإسلافهما إياه، فلو تلف المال ولم يكن عند عبد الله وعبيد الله وفاء لضمنه أبو موسى، والوجه الثاني أن لا يكون لأبي موسى النظر في المال بالتمييز والإصلاح، وإذا أصلحه كان لعمر الذي هو الإمام تعقب فعله فتعقبه ورده إلى القراض. قاله الحطاب.

وعرف ابن عرفة القراض بقوله: تمكين مال لمن يتجر به بجزء من ربحه لا بلفظ إجارة، فيدخل فيه بعض الفاسد كالقراض بالدين والوديعة ويخرج عنه قولها قال مالك: من أعطى رجلا مالا يعمل له على أن الربح للعامل ولا ضمان على العامل لا بأس به. انتهى. قاله الخرشي. وتعبيره بتمكين دون وكالة ليلا يتوهم متوهم أنه يعتبر فيه صيغة الوكالة مع أنه لا يعتبر فيه ذلك وهو وارد على كلام المص كما في الشبراخيتي، وقوله: لا بلفظ إجارة يعني أنه إنما يصح بغير هذا اللفظ. انظر الشبراخيتي.

وعرف المؤلف القراض بقوله: القراض توكيل على تجر في نقد يعني أن القراض هو أن يوكل شخص شخصا على أن يتجر له بنقد ويتعاقدان أي المالك للنقد والمتجر به على جزء من الربح معلوم، كالنصف أو الثلث أو نحو ذلك، كأن يقول اتجر لي بهذه الدراهم العشرة أو الدنانير فإذا صارت مائة مثلا رد إليَّ عشرة رأس مالي ولك نصف الزائد على رأس المال أو ربعه أو ثلثه أو نحو ذلك وهو تسعون في هذا المثال، فيجيبه الآخر إلى ذلك. وعلم مما قررت أن "في" بمعنى الباء أي باء الآلة فالنقد متجر به لا فيه، وفي نقد متعلق بتجر وعلى تجر متعلق بتوكيل، قال الشبراخيتي: القراض توكيل هو كالجنس يشمل الوكالة على خلاص الحق وقضاء الدين وبيع سلعة وقضاء حاجة ونحو ذلك والشركة إذ هي توكيل كل واحد لصاحبه، وفهم من قوله:"توكيل" أن رب المال والعامل لا بد أن يكونا من أهل التوكيل والتوكل، فعلم منه حرمة مقارضة المسلم للذمي، قال الإمام: لا أحب لمسلم أن يدفع مالا قراضا لذمي، قال ابن عرفة: يجب حمله على المنع ونحوه للتونسي، وأما عكسه فهو مكروه، وقوله:"على تجر" فصل أخرج به ما عدا الشركة، وقوله:"في نقد" أخرج به الشركة لجوازها في النقد وغيره من العروض. انتهى. وقوله:

ص: 760

"في نقد" أي يتجر بالنقد في كل شيء، وأما إبقاء "في" على الظرفية فلا يصح لاقتضائه أن القراض إنما هو التوكيل على التجر في النقد، كأن يشترط عليه بيع المذهب بالفضة والفضة بالمذهب فلا يشمل التجارة في غير النقد من العروض، والمراد في القراض المعنى المصدري لقوله:"توكيل"، وما في باب الزكاة من قوله والقراض الحاضر يزكيه ربه إلخ بالمعنى الاسمي.

وقال عبد الباقي: القراض توكيل على تجر بغير لفظ إجارة كما في ابن عرفة، ويشعر المص به كما في التتائي وبأنه بلفظ لأن التوكيل لا بد فيه من لفظ فلا تكفي فيه المعاطاة كما يفيده قوله: بجزء؛ لأن معرفة الجزء إنما تكون باللفظ، وقد يقال: تتصور المعاطاة قبل أن يقول ولك نصف الربح مثلا. انتهى المراد منه. وقال البناني: عبارة ابن الحاجب إجارة على التجر في مال بجزء من ربحه. انتهى. وقد علم أن الإجارة كالبيع تكفي فيها المعاطاة فتصدير التعريف بلفظ الإجارة يشعر بعدم اشتراط اللفظ إذا وجدت القرينة.

مضروب صفة لنقد يعني أنه لا بد في النقد المقارض به من أن يكون مضروبا ومسكوكا أي مجعولا دراهم أو دنانير، بخلاف التبر فإنه لا يصح القراض به، وكذلك المضروب الذي لا يتعامل به، وقضية كلام المص أنه لا يقارض بالتبر ولا بالنقار حيث لم يتعامل بذلك كما يأتي له ولا بغير النقد وإن لم يتعامل إلا به كالودع في بلد لا يتعامل إلا به فيه، وكالفلوس في بلد لا يتعامل فيه إلا بالفلوس، ويأتي الكلام في ذلك قريبا إن شاء الله. وقال المواق: ابن رشد: القراض جائز بالدنانير والدراهم وكذلك النُّقَرُ والأتبار أعني تبر المذهب والفضة في البلد الذي يجري ذلك فيه، ولا يتعامل عندهم بالمسكوك. اللخمي: يجوز القراض بالنقر في البلد الذي يتبايعون بها فيه ولا خلاف في ذلك. انتهى. وقولي: وكذلك المضروب الذي لا يتعامل به نحوه لعبد الباقي، قال البناني: اشتراطه التعامل في المسكوك هو الذي فهمه الشيخ زروق من كلام التنبيهات، قال الحطاب: ولم أر من صرح به لا في التنبيهات ولا في غيرها. انتهى. وقال عبد الباقي: مضروب ضربا يتعامل به لا بتبر وفلوس كما سيذكره، ولا بمضروب لا يتعامل به كما في غالب بلاد السودان ولا بغير نقد يتعامل به، ولو انفرد التعامل به كالودع فلا يكون رأس المال قصرا للرخصة على موردها. انتهى. قوله: ولو انفرد التعامل به كالودع، قال البناني: قال بعضهم: الظاهر في

ص: 761

نحو هذا الجواز؛ لأن الدراهم والدنانير ليست مقصودة لذاتها حتى يمتنع التعامل بغيرها حيث انفرد التعامل به، بل هي مقصودة من حيث التنمية. انتهى.

مسلَّم صفة لنقد يعني أن هذا النقد المتجر به لا بد في صحة المقارضة به أن يسلمه ربه للعامل المقارض به أي يدفعه له، فقوله:"مسَلَّم" بفتح اللام واحترز بذلك من أن يقارضه بدين عليه أو زهن عنده أو وديعة عنده كما يأتي، وقوله:"مسلم" أي من ربه للعامل بدون أمين عليه، واحترز بذلك مما أسلمه له وجعل عليه أمينا، فإن تسليمه حينئذ كلا تسليم.

بجزء من ربحه المجرور الأول متعلق بتجر والثاني صفة لجزء، فهو متعلق بكون عام؛ يعني أن القراض هو أن يوكل رب المال العامل على أن يتجر له في النقد بجزء شائع من الربح نصفا أو ثلثا أو ربعا أو غيرها، والمراد بالربح ما زاد على رأس المال، قال عبد الباقي: بجزء شائع كائن من ربحه لا بقدر معين من ربحه كعشرة دنانير إلا أن ينسبها لقدر سماه من الربح كلك عشرة إن كان الربح مائة فيجوز لأنه بمنزلة عشرة، ولما كان جزء الربح لا يكون إلا شائعا استغنى عن التقييد بشائع بخلاف الجزء فيما يأتي في المساقاة، لما احتمل أن يكون من نخلة أو نخلات معينة احتاج إلى تقييده بشائع أي في الحائط المساقى، واحترز بقوله:"من ربحه" عما إذا جعل للعامل جزءا من ربح غير المال المتجر به فإنه لا يجوز. انتهى. وقال المواق: ابن رشد: سنة القراض أن يدفع الرجل إلى الرجل المال على أن يعمل فيه على جزء من الربح يتفقان عليه. انتهى.

إن علم قدرهها يعني أنه يشترط في جواز القراض أن يكون رأس المال أي المقارض به معلوما، وكذلك يشترط أن يكون الجزء الذي تعاقدا عليه معلوما بأن يكون نصف الربح أو ثلثه أو ربعه أو خمسة أو سدسه أو نحو ذلك فهذا هو معنى علم الجزء لا علم قدره حقيقة، واشترط علم قدر رأس المال لأنه يؤدي إلى الجهل في الربح الذي لا بد من معرفة جزئه، فيؤدي إلى جهل جزئه كما لو دفع له صرة مجهولة الوزن والقدر، قال المواق: ابن عرفة: شرط المال كونه معلوما محوزا ويجب أن يكون حظ العامل جزءا من الربح معلوم النسبة، قال القاضي عياض: ولا خلاف أن القراض

ص: 762

جائز بالدنانير والدراهم غير جائز بالعروض ما كانت، واختلفوا في الشروط التي بها يصح فعندنا أن شروطه عشرة:

1.

نقد رأس المال للعامل.

2.

وكونه معلوما

3.

وكونه غير مضمون على العامل.

4.

وكونه مما يتبايع به أهل بلدهما من العين مسكوكا كان أو غير مسكوك

5.

ومعرفة الجزء الذي تقارضا عليه من ربحه

6.

وكونه مشاعا لا مقدرا بعدد ولا تقدير

7.

وأن لا يختص أحدهما بشيء معين سواه إلا ما يضطر إليه العامل من نفقة ومؤنة في السفر

8.

واختصاص العامل بالعمل

9.

وأن لا يضيق عليه بتحجير أو بتخصيص يضر بالعامل

10.

وأن لا يضرب له أجل. انتهى.

أبو الحسن: فإذا توفرت هذه الشروط جاز القراض وإن اختل شرط منها فسد القراض. انتهى. وقوله: "إن علم قدرهما" إما أن يكون شرطا في قوله: "توكيل" وهو الظاهر فيكون من تمام الحد فلا يكون الحكم داخلا في الحد، وإما أن يكون شرطا في مقدر أي إنما يجوز أو يصح إن علم قدرهما. والله تعالى أعلم.

ولو مغشوشا قال عبد الباقي: مبالغة في مقدر وليس من تمام التعريف أي ويجوز بنقد؛ يعني أن النقد الموصوف بما ذكر يجوز أن يقارض به ولو كان مغشوشا، ورد بلو قول عبد الوهاب بالمنع، قال عبد الباقي: ويقيد المص بالمتعامل به كما صدرت به، وإلا منع ثم لا يعتبر في المتعامل به أن

ص: 763

يروج كرواج الخالص، وفرق أحمد بين ما هنا وبين الزكاة بأن الاشتراط فيها لأجل الإخراج مما هو ناقص وما هنا الغرض التعامل وهو حاصل، والظاهر أن رأس المال الذي يعطى عند المفاصلة يكون مغشوشا أيضا. انتهى.

وقوله: "ولو مغشوشا" قد علمت أنه رد بلو قول عبد الوهاب: إنه لا يجوز القراض به مضروبا كان أو غير مضروب وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن كان الغش النصف أو أقل جاز وإن كان أكثر من النصف لم يجز. انتهى. انظر الرهوني. ابن الحاجب: يجوز بالمغشوش على الأصح، قال ابن عرفة: قول ابن الحاجب هذا وقبول ابن عبد السلام إطلاقه يرد باتفاق الباجي والقاضي على منعه حيث لا يتعامل به. انتهى.

لا بدين عليه يعني أن من له دين في ذمة شخص لا يجوز له أن يقول اعمل بالدين الذي عليك قراضا والربح بيننا على النصف مثلا للاتهام على أن يكون أخره على أن يزيده فيه، قال عبد الباقي: وذكر مفهوم مسلم بقوله: لا بدين لرب المال عليه أي على العامل، فيمنع للاتهام على أن يكون أخره ليزيده فيه، وإذا قال له اعمل بالدين الذي عليك قراضا والربح بيننا فإن ذلك لا يجوز كما عرفت، فإذا وقع وعمل بالدين على وجه القراض فإن الربح للمدين والخسارة عليه واستمر الدين في ذمته على ما كان عليه، وقوله:"لا بدين" عطف على بنقد أي يصح القراض بنقد مسلم لا بدين في ذمة العامل.

ما لم يقبض الظرف يتعلق بقوله: "لا بدين" يعني أن محل النهي عن المقارضة بالدين الذي على العامل ما لم يقبض رب الدين دينه من المدين، وأما إن قبضه منه فإنه يجوز أن يقارضه به لانتفاء التهمة، فإذا قال: للعامل قبل التفرق أو بعده اعمل فيه قراضا صح وكان الربح على ما دخلا عليه.

أو يحضره ويشهد بالنصب على تقدير أن ويحضره عطف على يقبض؛ يعني أن محل منع المقارضة بالدين المذكور ما لم يحضره المدين لرب الدين مع الإشهاد على براءته منه، فأما إذا أحضره له وأشهد على قدره وزال ضمانه عنه فإنه يصح القراض به والربح بينهما على ما دخلا عليه، وقوله:"ويشهد" الواو بمعنى مع، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة، وقوله:"واستمر"

ص: 764

استئناف وهو جواب عن سؤال مقدر، كأن قائلا قال له: قد قلت إن القراض بالدين لا يصح فما حكمه إذا وقع؟ فأجاب بقوله: "واستمر"، وقوله:"ويشهد" الإشهاد برجلين أو رجل وامرأتين ولا يتصور أن يكون هنا بشاهد ويمين.

وعلم مما قررت أن القبض وحده من دون إشهاد كافٍ وأن الإحضار لا بد معه من الإشهاد على براءة الذمة، فإن أحضره من غير إشهاد فذلك غير كاف، وحكى اللخمي والتونسي عن أشهب أن الربح بينهما. قاله الشارح. وقال عبد الباقي: فإن قبضه ربه أو أحضره له مع إشهاد رجلين أو رجل وامرأتين على براءة ذمته منه كما يفيده الشارح أو على وزنه كما في المواق والحطاب ثم دفعه له قراضا صح لانتفاء التهمة المتقدمة وكلامهما في متعامل به وزنا، وأما المتعامل به عددا أو بهما معا فالإشهاد على ما به التعامل، ثم مقتضى كلام المص أنه بمجرد القبض يصح القراض ولو أعاده له بالقرب، وفي السلم الأول من المدونة مثل ما هنا؛ لأنه قال فيمن له على رجل دين فقال أسلمه في طعام لم يجز حتى يقبضه ثم يرده، ونص في صرفها على أن من قضى لرجل دينا له لا يعيده له سلما في طعام بقرب ذلك أي لاحتمال التواطئ في القبض وقصدهما فسخ دين في دين ونصَّ فيه أيضا على أن من أسلم إلى رجل دراهم ثم قضاه دينا له عليه بحدثان ذلك أن ذلك لا يجوز للعلة المتقدمة أيضا، والفرق أنه في مسألتي الصرف نقله من ذمة إلى ذمة، فلذا اشترط فيه عدم القرب، وفي مسألتي القراض والسلم نقله من ذمة إلى أمانة فلذا جاز عند القبض ولو أعاده بالقرب والمغصوب يكفي في صحة القراض به إحضاره. انتهى. كلام عبد الباقي.

قوله: أو على وزنه كما في المواق والحطاب هذا هو الظاهر وهو مستلزم براءة الذمة، وقوله: يصح القراض ولو أعاده له بالقرب لخ بهذا صرح أبو الحسن، ونصه: التهمة تزول بالقبض وإن أعاده بالقرب. انتهى. ونقله في التوضيح. وقوله في مسألتي القراض والسلم نقله من ذمة إلى أمانة هذا الفرق صحيح في القراض، وأما في السلم فيصح بأن صورة مسألة السلم أن يقول رب المال للمديان ادفع مالي في ذمتك لغيرك رأس مال سلم في طعام أو غيره، فالمدين مأمور بأن يدفع ما في ذمته لمسلم إليه نائبا في ذلك عن رب المال، فقبل أن يأمره بالدفع للمسلم إليه كان الدين في ذمة المدين وقبل الدفع وبعد الأمر كان بيد الدين على وجه الأمانة ليدفعه فيما أمره به صاحب الحق،

ص: 765

فيصدق عليه إذ ذاك أنه انتقل من ذمة إلى أمانة، وعلى هذا يتم الفرق الذي ذكره أبو الحسن، وعلى هذا ففاعل قال أسلمه لي يعود على من التي هي واقعة على رب الدين؛ أي قال رب الدين لدينه ادفع مالي عليك سلما لغيرك. انتهى.

ولا برهن أو وديعة يعني أن من رهن عينا لا يجوز للراهن أن يقارضه بها، وكذا المودع إذا كانت الوديعة عينا لا يجوز أن يقارضه المودع بالكسر بها، وإنما لم تجز المقارضة بذلك لاحتمال أن يكون المرتهن أو المودع بالفتح أنفق ذلك فيكون مقارضة بالدين، وقد مر أنه لا تصح المقارضة به وهذا ما لم يقبض الراهن أو المودع بالكسر العين، وأما لو قبضها فإنه تصح المقارضة حينئذ لانتفاء العلة المذكورة، وكذا لو أحضرها مع الإشهاد فإنه تصح المقارضة كما مر في الدين، ولا فرق في منع المقارضة بالرهن والوديعة بين أن يكون ذلك بيد العامل أو المودع بالفتح أو بيد غيره ولهذا قال: وإن بيده أي وإن كان ذلك بيد العامل وهو المودع بالفتح أو المرتهن، وفي قبل المبالغة حيث كان بيد غيرهما وتصور كونه بيد غير المرتهن ظاهر؛ لأن المرهن تارة يكون بيد المرتهن وتارة يكون بيد الأمين، ويتصور كونها أي الوديعة بيد غير المودع بالفتح بأن يودع لسفر أو لعورة حدثت على ما مر في الوديعة، وإذا اتضح لك تصور هذا، ففي المبالغة شيء لأنها أي العين إذا كانت بيد المودع بالفتح أو بيد المرتهن شبيهة بالدين خوف أن يكون المودع بالفتح أو المرتهن أنفقها فهو أشد في المنع، فلو قال: وإن بيد غيره لاتضحت المبالغة فالتعين العكس؛ لأن ما بيده يشبه الدين وما بيد غيره يشبه في إذا قال اقتض الدين الذي على فلان واعمل به، ولا شك أن الأول أشد في المنع فمحل المبالغة هو الثاني كما قاله ابن غازي. قاله البناني. وقوله:"لا برهن أو وديعة" مفهوم قوله: "مسلم"، وكذا قوله:"لا بدين" كما مر. تنبيه: قد مر في الحل أن القبض والإحضار مع الإشهاد كل منهما كاف في صحة المقارضة، قال عبد الباقي: ثم محل المنع في الرهن في لم يقبض كما في المدونة والإحضار ليس كافيا، وعند ابن القاسم أنه كاف وهو خلاف ما فيها، وأما الإحضار مع الإشهاد على براءة الذمة فينبغي أن يكون كالقبض. قاله أحمد. ومحل عدم القراض بالوديعة ما لم يحضرها ويقبضها وإلا جاز كما في المدونة. انتهى. وأما الإحضار مع الإشهاد فقال الأجهوري: إنه يكفي وإن لم ينضم له إشهاد، قال البناني: والصواب في قاله الأجهوري.

ص: 766

تنبيه: قال عبد الباقي: إن وقع القراض بالوديعة يعني في محل المنع فربحها وخسرها لربها وعليه اتفاقا كما نقله ابن عرفة عن ابن حارث عن ابن القاسم وأشهب، والظاهر أن الرهن مثلها والفرق بين هذه وبين ما مر في الوديعة من أن المودع بالفتح إذا تجربها فالربح والخسر له وعليه أن ربها هنا أذن له في القراض بها معتقدين صحته بها، فكان كالوكيل له بخلاف ما مر في الوديعة فهو محض تعد عمل فيه على أن الربح له خاصة. انتهى.

وقال المواق: أما الوديعة فقد تقدم نص المدونة: الوديعة مثل الدين خوف أن يكون أنفقها، وقد تقدم أن الرهن إن كان بيد أمين فلا تعطيه للأمين قراضا حتى تؤدي الحق لربه. انتهى.

ولا بتبر لم يتعامل به ببلده مفهوم قوله: "مضروب"؛ يعني أن الأتبار والنقار والحلي لا يصح القراض بها في البلد الذي لا يتعامل بها فيه؛ أي أن بلد القراض إذا كان لا يتعامل فيه بالتبر ونحوه مما لم يكن مسكوكا فإنه لا يجوز المقارضة بالتبر ونحوه، وأما البلد الذي يتعامل فيه بالتبر ونحوه فإنه تجوز المقارضة به فيه ابتداء ولو تعومل فيه بالمسكوك على المعول عليه، ومقابله أنه إن تعومل بالمضروب فلا يقارض بالتبر ونحوه المتعامل به في ذلك البلد. انظر الرهوني. والنقار جمع نقرة وهي القطعة الخالصة من المذهب أو الفضة، وقوله:"ببلده" أي ببلد القراض.

كفلوس تشبيه في المنع يعني أنه لا يجوز المقارضة بالفلوس ولو تعومل بها، قال عبد الباقي: كفلوس لا يجوز قراض بها ولو تعومل بها على المشهور. قاله في المعتمد. ولعله ما لم تنفرد بالتعامل. انتهى. وقال الخرشي: والمعنى أن الفلوس الجدد لا يجوز أن تكون رأس مال القراض إذا كان يتعامل بها لأنها تؤول إلى الفساد والكساد وهذا هو المشهور. انتهى. وهذا مفهوم "تقد" وكذا قوله: وعرض يعني أن العرض لا يجوز أن يكون رأس مال القراض ولو ببلد لا يتعامل فيه إلا به كالودع ببلد السودان؛ لأن القراض رخصة يقتصر فيها على ما ورد.

ومحل المنع إن تولى بيعه يعني أن محل منع القراض بالعرض إنما هو حيث تولى العامل بيع العرض سواء جعل نفسه قراضا أو ثمنه بعد بيعه، وقيد اللخمي المنع بما إذا كان لبيعه خطب وإلا جاز وتقييده ضعيف. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: وكذلك لا يجوز أن يكون رأس المال عرضا إذا كان العامل هو الذي يتولى بيعه لأن القراض رخصة انعقد الإجماع على جوازه بالدنانير

ص: 767

والدراهم وبقي ما عداه على أصل المنع، وسواء كان لبيعه خطب أم لا، وتقييد اللخمي ضعيف. انتهى. ومفهوم قوله:"إن تولى بيعه" أنه إن لم يتول العامل بيعه فإن جعل رأس مال القراض ثمن العرض جاز، وأما إن جعل رأس المال نفس العرض أو قيمته الآن أو يوم الفاصلة فلا يجوز، ففي المفهوم تفصيل وهو المنع مطلقا تولاه غيره أم لا إن جعل رأس المال نفس العرض أو قيمته الآن أو يوم المفاصلة، فإن جعل رأس المال ثمن العرض منع إن تولى العامل بيع العرض فإن تولاه غيره جاز. قاله الخرشي. وعبد الباقي. والشبراخيتي.

كأن وكله على دين تشبيه في المنع يعني أنه إذا وكله على اقتضاء دين له على شخص فإذا خلصه كان بيده قراضا فإن ذلك لا يجوز، ولو كان الذي عليه الدين حاضرا مقرا مليا تأخذه الأحكام ما لم يقتض بحضرة ربه. أو ليصرف ثم يعمل الظاهر أن اللام في "ليصرف" بمعنى على وهو منصوب بأن مضمرة، ويحتمل أن تكون للتعليل، ومعنى كلامه أنه إذا دفع لشخص ذهبا واشترط عليه أن يصرفه بفضة ثم يعمل بالفضة قراضا أو حصل العكس فإن ذلك لا يجوز.

وقوله: فأجر مثله في توليه ثم قراض مثله في ربحه هذا راجع للمسائل الخمس أعني قوله: "ولا بتبر" وما بعده، قال البناني: قال ابن عاشر: هذا راجع لمسألة التبر وما بعدها يعني أن العامل إذا أخذ هذه الأشياء رأس قال القراض وعمل في ذلك فله أجر مثله في ذمة رب المال في توليه بيع ذلك، وله قراض مثله في ربح المال أي لا في ذمته حتى لو لم يحصل له ربح لا شيء له كما يأتي في الفرق بين أجرة المثل وقراضه، قوله:"وله أجر مثله في توليه" أي في تولي بيع ما ذكر من التبر والفلوس والقرض وله أجر مثله في التقاضي والصرف، ثم إن عمل بعدما ذكر فله قراض مثله في ذلك العمل والأجرة في الذمة وقراض المثل في الربح كما قال المص، فحيث لم يحصل ربح فلا شيء له بخلاف أجرة المثل، وقوله:"فأجر مثله" أي العامل، وقوله:"ثم قراض مثله" أي مثل العامل هذا هو الذي في نصوص أهل المذهب، ومعنى قراض مثل العامل أنه ينظر إلى نباهته وفطنته أو إلى بلادته وكذا ينظر إلى أمانته وعدمها، ولذلك قال الإمام: لأن الرجل قد يقارض الرجل بثلاثة أرباع ويقارض آخر على النصف من أجل أمانته. انظر الرهوني.

ص: 768

وقول ابن عاشر: الظاهر رجوعه للتبر وما بعده، قال الرهوني: هو في التبر مخالف لما جزم به الباجي من أنه يمضي بما اتفقا عليه، ونحوه نقله ابن يونس عن ابن القاسم في الموازية، وتقدم مثله عن ابن القاسم في سماع يحيى ولكنه عبر فيه بالكراهة ابتداء، والمص مر على القول بالمنع وهو المعتمد لأنه مذهب مالك في المدونة من رواية ابن القاسم عنه، فما قاله ابن عاشر صواب لأن ابن رشد رتب على القول بالمنع أن له أجر مثله في بيعها، وقراض مثله إذا عمل في الثمن الذي باعها به انظر الرهوني. وقال المواق من المدونة: لا يجوز أن يقارضه بدين على غيره يقتضيه، وكذلك إذا دفعت إليه دنانير ليصرفها ثم يعمل بها وله أجر التقاضي وأجر الصرف، وقراض مثله إن عمل، اللخمي إن كان الدين على حاضر موسر غير ملد جاز. انتهى. وتقييد اللخمي هذا لم يعتبره المص. قاله غير واحد.

كلك شرك ولا عادة يعني أنه إذا دفع له المال وقال اعمل به ولك شرك في الربح أو والربح شرك فإنه يفسد القراض، فإن لم يكن عمل فسخ وإلا فله قراض المثل فالتشبيه في أن له قراض المثل هذا حيث لا عادة تعين قدر الجزء في القراض المقول فيه ذلك؛ لأن لفظ شرك يطلق على النصف وأقل وأكثر فيكون مجهولا، وأما إن كانت لهم عادة تعين الجزء فإنه يعمل بها قال عبد الباقي: وأما إن قال والربح مشترك فهو يفيد التساوي عرفا فليس فيه جهل فيجوز بلا خلاف. انتهى. وقوله: "ولا عادة" الواو فيه واو الحال، وقوله:"كلك شرك" الشبه محذوف وجملة لك شرك مقول قول محذوف أي كقراض، قال فيه: لك شرك في الربح وجملة القول صفة للمشبه.

أو مبهم عطف على الصفة أي كقراض مقول فيه ذلك أو قراض مبهم؛ يعني أنه إذا دفع إليه مالا ليعمل فيه قراضا وأبهم بأن لم يتعرض لذكر الربح أصلا أو قال بجزء ولم يعينه فإن القراض يفسد ويرد العامل إلى قراض مثله، وقيل يرد إلى أجرة المثل، وقوله:"أو مبهم" أي ولا عادة، قال عبد الباقي عند قوله "مبهم": وهو صادق بما إذا دفع إليه المال ليعمل فيه قراضا ولم يتعرض لذكر الربح أصلا، أو قال بجزء ولم يعينه وحمله الشارح وغيره على الثاني، وحمله على الأول أحسن انظر أحمد. ولعل وجه أحسنيته سلامته من شبه التكرار مع قوله:"لك شرك" اللازم على حمل

ص: 769

الشارح، وقال: أحسن ولم يقل هو الصواب لاختلاف لفظ شرك وجزء وإن تقارب معناهما أو تلازما ولا عادة أيضا. انتهى.

أو أجل أي أو قراض أجل يعني أن القراض يفسد إذا أجل بأجل معلوم وللعامل قراض مثله إذا عمل كما لو قال إذا جاء رأس العام الفلاني فاعمل بالمال أو اعمل به سنة من وقت كذا ففاسد. المواق من المدونة: قال مالك: إذا أخذ قراضا إلى أجل رد إلى قراض مثله، الأبهري: إنما قال ذلك لأن حكم القراض أن يكون إلى غير أجل لأنه ليس بعقد لازم

(1)

لكل واحد تركه لو شاء، فإذا شرط الأجل فكأنه قد منع نفسه من تركه وذلك غير جائز فوجب رده لقراض مثله لما ذكرنا من وجوب رد كل أصل فاسد إلى حكم صحيح ذلك الأصل. انتهى. وهذا بخلاف ما لو قال له اعمل به في الصيف فقط أو اعمل به في موسم العيد أو نحو ذلك مما يعين فيه الزمن للعمل ففيه أجرة المثل كما يأتي للمص، والفرق بينهما أن تعيين الزمن هو أن يشترط عليه أن يشغل جميع المدة بالبيع والشراء، وأن القراض إلى أجل مثل أن يدفع له مال القراض إلى شهر ونحوه، ولا يشترط عليه أن يبيع في جميع الزمان.

أو ضمن عطف على "أجل" يعني أن رب المال إذا اشترط على العامل أن يضمن رأس المال إن هلك وأنه غير مصدق في تلفه، فإن هذا قراض فاسد لأن ذلك ليس من سنة القراض وله قراض مثله إذا عمل والشرط باطل فلا ضمان عليه. قاله اللخمي. وأما إن دفع له المال واشترط عليه أن يأتي له بضامن يضمنه فيما يتلف بتعديه فلا يفسد بذلك فينبغي جوازه. قاله بعض شيوخنا. انظر أحمد. قاله عبد الباقي. فقوله:"أو ضمن" أي اشترط رب المال الضمان على العامل، وأما لو تطوع العامل بالضمان فذهب ابن عتاب وشيخه أبو المطرف إلى أنه صحيح، وذهب غيرهما إلى المنع ومال إليه ابن سهل، قال المتيطي: وفي العتبية ما يدل لهما. قاله البناني وغيره. وقال الشبراخيتي: أو ضمن أي دخلا على أن ضمانه من العامل إن تلف وهذا حيث اشترط ذلك في العقد، وأما لو تطوع به العامل بعد العقد ففي صحة القراض وفساده قولان. انتهى المراد منه. وقوى الرهوني القول بالمنع، وقوله:"أو أجل أو ضمن" بالبناء للمفعول انظر الشارح الكبير.

(1)

في المواق ج 5 ص 424: لازم ولكل.

ص: 770

أو اشتر سلعة فلان ثم اتجر في ثمنها أي أو قراض مقول فيه اشتر سلعة فلان ثم اتجر في ثمنها يعني أن القراض يكون فاسدا في هذه الصورة، وهي ما إذا دفع مالا لآخر قراضا على النصف مثلا على أن يشتري عبد فلان ثم يتجر في ثمنه أي يشتري بعد أن يبيع العبد ما شاء بثمن العبد؛ قال المواق من المدونة: إذا دفعت إليه مالا قراضا على النصف على أن يشتري عبد فلان ثم يشتري بعد ما يبيعه ما شاء فهو أجير في شرائه وبيعه وفيما بعد ذلك له قراض مثله. انتهى. وهذا صريح في أن هذه المسألة فيها أجرة المثل في تولي بيعه وشرائه وقراض مثله فيما عمل بعد ذلك، قال الخرشي: مسألة اشتر سلعة فلان ثم أتجر بثمنها مما فيه أجر مثله في توليه وقراض مثله في عمله. انتهى.

أو بدين يعني أن رب المال إذا اشترط على العامل أن يشتري بالدين فاشترى بالنقد فإن القراض يفسد وله قراض مثله إذا عمل. البناني: ثم إن اشتراط البيع بالدين كالشراء به أي فله قراض المثل إن فات بالعمل، وعلى هذا حمل عياض المدونة، وحملها ابن يونس على أن له أجرة مثله. انتهى. وقال عبد الباقي: أو اشتر بدين أي شرط عليه الشراء به فاشترى بنقد فالخسارة على العامل وفي الربح قراض المثل، فإن اشترى بدين عند شرطه الشراء به أو عند شرطه عليه الشراء بنقد فالربح له في الصورتين والخسارة عليه؛ لأن الثمن صار قرضا في ذمته، وأما إن أمره بشرائه بنقد فاشترى به فالجواز ظاهر فالصور أربع بصورة المص. انتهى.

أو ما يقل وجوده أي أو قال له اشتر ما يقل وجوده يعني أن رب المال إذا قال للعلىل اشتر النوع الفلاني أي اشترط عليه أن يشتريه وكان ذلك النوع الذي عين له يعدم تارة ويوجد أخرى، فإن هذا القراض فاسد سواء اشترى ذلك النوع الذي عين له أو غيره وله قراض مثله إذا عمل، قال الشبراخيتي: المراد بما يقل وجوده ما يوجد تارة ويعدم أخرى وليس المراد به ما يوجد دائما، إلا أنه قليل وصورته أنه عين له نوعا وكان ذلك النوع في نفسه يقل وجوده، أو قال له لا تشتر إلا ما يقل وجوده. انتهى. وقال عبد الباقي: أو شرط عليه شراء ما يقل وجوده تارة ويعدم أخرى فاشترى سواه، وكذا إذا اشتراه على المعتمد كما يفيده أبو الحسن وحلولو، خلافا لما يوهمه التتائي من صحته إذا اشتراه ففاسد فيه قراض المثل في الربح والخسارة عليهما، وأما ما يوجد

ص: 771

دائما إلا أنه قليل فهذا صحيح فلا ضرر في اشتراطه، وما ذكره المص تبع فيه قول عياض إنه جار على مذهب المدونة، واعترضه الشارح بأن الذي فيها إذا قارضه على أن لا يشتري إلا سلعة كذا وليس وجودها بمأمون أن فيه أجرة المثل. انتهى.

وانظر هل يقال السلعة إذا كان وجودها ليس بمأمون أضيق مما يقل؟ انتهى. وقال المواق: قال عياض من المسائل التي يرد فيها لقراض مثله هذه المسألة، ونص المدونة قال مالك: لا ينبغي أن يقارض رجلا على أن لا يشتري إلا البز إلا أن يكون موجودا في الشتاء والصيف فيجوز ثم لا يعدوه إلى غيره. الباجي: فإن كان يتعذر لقلته لم يجز، وإن نزل فسخ. انتهى.

كاختلافهما في الربح وادعيا ما لا يشبه يعني أن رب القراض وعامله إذا اختلفا في الربح أي في قدر الجزء الذي تعاقدا عليه من الربح، فقال العامل: على النصف مثلا، وقال رب المال: على الثلث أو قال العامل على الثلثين مثلا وقال رب المال على الربع وكان تنازعهما بعد العمل الوجب للزوم القراض لكل وادعى كل منهما ما لا يشبه أن يقارض به، فادعى رب المال جزءا قليلا لا يشبه أن يقارض به وادعى العامل جزءا كثيرا لا يشبه أن يقارض به فإنهما يردان إلى قراض المثل، فإن ادعى أحدهما فقط ما يشبه فقوله: وإن أشبها معا فكما إذا أشبه العامل وحده فالقول قول العامل إن كان المال بيده أو وديعة وإن لربه. انظر الشبراخيتي. وقال: هو وغيره، ثم شبه بهذه المسائل مسألة يرد العامل فيها إلى قراض مثله وليست فاسدة، ولذا عدل عن العطف للتشبيه، فقال: كاختلافهما في الربح وادعيا ما لا يشبه. انتهى المراد منه.

وأما إن كان اختلافهما قبل العمل فإنه يرد المال إلا أن يرضى العامل بقول رب المال، قال المواق من المدونة: قال مالك: وإذا اختلف المتقارضان في أجزاء الربح قبل العمل، فقال رب المال: دفعته على أن الثلث للعامل، وقال العامل بل على الثلثين لي رد المال إلا أن يرضى العامل بقول رب المال، وإن اختلفا بعد العمل فالقول قول العامل كالصانع إذا جاء بما يشبه وإلا رد إلى قراض مثله وكذا المساقاة. انتهى. وتكلم المص هنا على ما إذا تنازعا بعد العمل الموجب للزومها وأشبها، ويأتي الكلام على مفهوم هذا الكلام إن شاء الله تعالى.

ص: 772

وفيما فسد غيره أجرة مثله يصح في غير النصب على الحالية والضمير في غيره للمسائل المتقدمة، وما حينئذ نكرة موصوفة بالفعل بعدها أو موصولة، ويصح جر غير على أن ما موصوفة بالجملة وبغير كما في قوله تعالى:{كتاب أنزلناه إليك مبارك} والضمير أيضا عائد على ما ذكره من المسائل المتقدمة، ويصح رفع غير على

(1)

الفاعلية وما مصدرية والضمير في غير عائد على ما ذكر من المسائل المتقدمة ومَعْنَى كَلَامِ المُصَ أَنَّ القراض الفاسد فيه أجرة المثل ما عدا المسائل المتقدمة التي مر أن فيها قراض المثل.

في الذمة يعني أن القراض الفاسد الذي فيه أجرة المثل تكون تلك الأجرة في ذمة رب المال سواء حصل الربح أم لا، بخلاف المسائل المتقدمة التي فيها قراض المثل فإنه لا يكون إلا في الربِح، فإن لم يحصل ربح فلا شيء له على ربه لأنه ليس في الذمة، قال عبد الباقي وغيره: ويُفرَّقُ بَيْنَهُمَا أيضا بأن ما وجب فيه قراض المثل إذا عثر عليه في أثناء العمل لا يفسخ العقد ويتمادى العامل كالمساقاة، بخلاف ما وجب فيه أجرة المثل فإنه يفسخ متى عثر عليه ولا يمكن العامل من التمادي وله أجرة مثله، وبأنه أحق من الغرماء إذا وجب قراض المثل وهو إسوتهم في أجرة المثل على ظاهر المدونة والموازية ما لم يكن الفساد لاشتراط عمل يده، كأن يشترط عليه أن يخيط فإنه حينئذ يكون أحق به من الغرماء لأنه صانع، وهل أحقيته فيما يقابل الصنعة أو فيه وفيما يقابل عمل القراض؟ قولان ذكرهما أبو الحسن على المدونة. انتهى. ونحوه للشبراخيتي قوله: إذا عثر عليه في أثناء العمل لا يفسخ ويتمادى العامل كالمساقاة لخ، قال البناني: ظاهره أنه يتمادى عليه ولو نض المال وليس كذلك كما هو صريح كلام ابن رشد، ونصه على اختصار ابن عرفة يفسخ فاسد القراض قبل العمل وبعده رد لقراض مثله أو إجارته بخلاف المساقاة ما يرد منها لمساقاة المثل إن عثر عليها بعد العمل لا تنفسخ بانقضاء مدتها ولو كانت أعواما، وفسخ ما يرد لأجرة مثله بعد العمل برد السلع لرب المال وللعامل أجر شرائها، وفسخ ما يرد لقراض مثله لا يكون برد العروض لرب المال بل إذا عثر عليه وهو في سلع فإنها لا ترد ولا يجبر على بيعها إلا فيما

(1)

ساقطة من الأصل.

ص: 773

يرجو من أسواقها التي ابتاعها عليها، لا

(1)

أنه يتمادى على العمل بعد نض المال. انتهى والله تعالى أعلم. ولبعضهم:

لكل قراض فاسد أجر مثله

سوى تسعة قد فصلت ببيان

قراض بدين أو بعرض ومبهم

وبالشرك والتأجيل أو بضمان

ولا يشترى إلا بدين فيشتري

بنقد وأن يبتاع عبد فلان

ويتجر في أثمانه بعد بيعه

فهذي إذا عدت تمام ثمان

ولا يشتري شيئا يقل وجوده

ويشري سواه اسمع بحسن بيان

كما ذكر القاضي عياضٌ فإنه

خبير بما يروي فصيح لسان

ثم شرع في أمثلة القراض الفاسد الذي فيه أجرة المثل، فقال: كاشتراط يده يعني أن رب القراض إذا اشترط على العامل أن تكون يده معه في البيع والشراء والأخذ والعطاء فيما يتعلق بالقراض فإنه يكون فاسدا لما فيه من التحجير ويرد العامل فيه إلى أجرة مثله، فالشرط من رب المال، والضمير في يده لرب المال ويصدق كلامه أيضا بما إذا اشترط العامل يد رب المال وهو صحيح أيضا. قاله الخرشي وعبد الباقي والشبراخيتي. وزاد ما نصه: وذكر في المدونة أن عمل رب المال مع العامل بغير شرط كشرطه إلا العمل اليسير. انتهى. قوله: كشرطه نص المدونة على نقل المواق: قال مالك: من أخذ قراضا على أن يعمل معه رب المال في المال لم يجز، فإن نزل كان

(1)

في البنانى ج 6 ص 217: لأنه لا يتمادى.

ص: 774

العامل أجيرا وإن عمل رب المال بغير شرط كرهته إلا العمل اليسير. انتهى. فانظر قوله: كرهته مع قوله إن عمله بغير شرط كالشرط.

أو مراجعته عطف على "يده" يعني أن رب المال إذا اشترط على العامل أن لا يبيع شيئا من سلع القراض أو لا يشتري شيئا للقراض إلا بمراجعته أي مشاورته فإنه يفسد، وللعامل أجر مثله لأنه خرج بذلك عن سنة القراض، فقوله:"أو مراجعته" أي فيما يبيع أو يشتري مثلا، قال مالك في المدونة: لا يجوز أن تقارض رجلا على أن يشتري هو وتنقد أنت ونقبض ثمن ما باع. انتهى.

أو أمينا عليه بالنصب عطف على محل الضمير في مراجعته؛ يعني أن رب القراض إذا اشترط على العامل أن يجعل معه أمينا عليه يراجعه في البيع أو الشراء أو الأخذ للأثمان والإعطاء لثمن ما اشترى فإن القراض يفسد بذلك ويرد الفاسد لأجرة المثل، قال مالك في المدونة: لا يجوز لك أن تقارض رجلا على أن يشتري هو وتنقد أنت وتقبض أنت ثمن ما باع أو تجعل معه غيرك لمثل ذلك أمينا عليه، وإنما القراض أن تسلم إليه المال قال ابن حبيب: فإن نزل ذلك كان أجيرا. قاله المواق.

قال مقيده عفا الله عنه: قوله: "أو مراجعته أو أمينا عليه" قررته على أن رب المال اشترط ذلك والظاهر أن اشتراط العامل لذلك كذلك كما هو ظاهر المص. والله تعالى أعلم.

بخلاف غلام غير عين يعني أن رب المال إذا اشترط على العامل أن يجعل معه غلاما يعمل معه في القراض فإن ذلك جائز، فليس كاشتراط اليد أو المراجعة أو الأمين، وإنما يجوز اشتراط الغلام المذكور بشرطين: أحدهما أن لا يكون الغلام عينا على العامل والعين هو الذي ينظر ما يفعله العامل في القراض، بل يكون معه على وجه المعونة له، الثاني أشار إليه بقوله: بنصيب له يعني أنه إنما يجوز جعل الغلام مع العامل بشرط أن يكون النصيب من الربح المقابل لعمل الغلام للغلام العامل، واحترز بذلك مما إذا جعل النصيب للسيد فيفسد القراض ويكون للعامل أجرة مثله، وقوله:"بنصيب" الظاهر أنه حال من غلام أو صفة له والباء بمعنى مع، وقوله:"بنصيب له" أي للغلام كما عرفت، وأولى بغير نصيب أصلا فالمعنى إن جعل جزء فلا بد أن يكون للغلام فجعل النصيب غير شرط، وإنما الشرط إذا جعل نصيب أن يكون للغلام لا للسيد، وزاد بعضهم

ص: 775

شرطا ثالثا وهو أن لا يقصد بذلك تعليمه أي الغلام وإلا فسد القراض، وكأن المص لم يعتبر هذا الشرط فلم يذكره. قاله الخرشي. والله تعالى أعلم.

قال المواق: روى عيسى عن ابن القاسم إذا دفع إلى رجل وإلى عبده مالا قراضا ليكون عينا عليه أو ليعلمه فلا خير فيه، وإن كانا أمينين تاجرين فلا بأس به. ابن يونس: صواب وليس بخلاف للأول. انتهى. وكان نقل قبل هذا من المدونة: يجوز أن يشترط على رب المال أن يعينه بعبده أو بدابته في المال خاصة لا في غيره. ابن يونس: لأن المنفعة لهما جميعا فليست بزيادة انفرد بها. ابن المواز: اختلف قول مالك في اشتراط عمل غلام رب المال وأجازه الليث ومنعه عبد العزيز ولا بأس به عندي. انتهى.

وكأن يخيط يعني أن رب المال إذا اشترط على العامل أن يخيط ما يشتريه من قماش أو جلود أو غير ذلك فإن ذلك لا يجوز ويفسد القراض بذلك وللعامل أجر مثله، قوله:"وكأن يخيط" عطف على كاشتراط يده. قاله الخرشي.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: المصدر على حذف مضاف أي وكاشتراط أن يخيط أو يخرز بضم الراء وكسرها؛ يعني أن رب المال إذا اشترط على العامل أن يخرز ما يشتريه فإن ذلك لا يجوز ويفسد به القراض، وللعامل أجر مثله، قال الشبراخيتي: ولو حذف المص قوله: "أو يخرز" استغناء عنه بما قبله ما ضره لأن الخرز الخياطة. انتهى. وقال الخرشي: والمعنى أنه لا يجوز لرب المال أن يشترط عمل يد العامل والقراض فاسد مع الشرط المذكور وللعامل

(1)

أجرة مثله، كما إذا شرط عليه أن يخيط ثيابا أو يخرز نعالا وما أشبه ذلك. انتهى المراد منه.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: ويظهر أنه يمكن تغاير قوله: "كأن يخيط أو يخرز" خلاف ما قاله الشبراخيتي. والله أعلم. وقال المواق ومن المدونة: قال ابن القاسم: لا يجوز اشتراط عمل يد العامل لخفاف أو صياغة، فإن نزل كان أجيرا والربح والوضيعة لرب المال وعليه. انتهى. وقوله:"وكأن يخيط أو يخرز" هو المذهب، وفي كتاب محمد: هما على قراضهما. وقاله ابن وهب. وضعف لأن فيه إجارة منفعة بجزء من الربح وهو مجهول، وعند أشهب: له أجرة مثله فيما

(1)

في الأصل: للعامل، والمثبت من الخرشى ج 6 ص 207.

ص: 776

عمل وقراض مثله فيما سوى ذلك وعند ابن نافع: له فيما سوى عمل يده الأقل من المسمى وقراض المثل. قاله الشارح.

أو يشارك يعني أن رب المال إذا اشترط على العامل في العقد أن يشارك غيره في مال القراض أو اشترط عليه أن يشاركه أي العامل بمال من عنده فإنه يفسد القراض بذلك وللعامل أجر مثله، قال عبد الباقي: أو يشترط عليه في العقد أن يشاركه غيره في مال القراض كما في الشارح والتتائي، وأما وقوع ذلك بعد العقد فجائز كما سيأتي أن له أن يشارك بالإذن، ويحتمل أن يحمل على أن رب المال شرط على العامل أن يشاركه العامل بمال من عنده وبه حله المواق مستدلا بالمدونة، فإن وقع وخسر المالان فض الخسر عليهما بقدر كل، وللعامل على رب المال أجرة مثله فيما عمله في مال القراض ويقبل قوله في الخسر والتلف وقدر ما تلف بيمينه كما أفتى به الأجهوري. انتهى. وقال المواق: الباجي: منع ابن القاسم في المدونة أن يشترط في حال العقد أن يشاركه العامل بمال من عنده وأجازه في الواضحة. انتهى.

أو يخلط يعني أن رب القراض إذا اشترط على العامل أن يخلط مال القراض بمال نفسه أو بمال قراض عنده، فإن القراض يفسد بذلك وللعامل أجرة مثله. انظر الخرشي. قال: وأما من غير شرط فله الخلط كما يأتي. أو يبضع يعني أن رب المال إذا اشترط على العامل أن يبضع مال القراض أي يرسله أو بعضه مع غيره ليشتري المبضع معه للعامل ما يتجر به فإن ذلك لا يجوز ويفسد به القراض، وللعامل أجرة مثله، فإن لم يشترط عليه ذلك لم يجز له أن يبضع إلا بإذن رب المال وإلا ضمن خسره وضياعه، فإن ربح حينئذ وكان الإبضاع بأجر فعلى العامل وإن زاد على أجره فإن نقص لم يكن على ربه غير أجرة المبضع لأن العامل لم يعمل شيئا، فإن عمل المبضع بغير أجر فللعامل الأقل من حظه من الربح وأجرة مثل الذي أبضع معه أن لو استأجره لأنه لم يتطوع إلا للعامل وذو المال رضي أن يعمل له فيه بعوض. قاله ابن عرفة. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: وإذا أبضع بغير إذن رب المال في حالة عدم اشتراط الإبضاع عليه وتلف المال أو خسر ضمن، وإن ربح وكانت البضاعة بأجرة كان للمبضع أجرته في ذمة العامل، وإن كانت الأجرة أكثر من حظ العامل من الربح فيجب له حظه من الربح يدفعه فيما عليه من الأجرة ويغرم

ص: 777

الزائد كما في أبي الحسن، وإن فضلها الربح ففضله لرب المال لا للعامل لأنه لم يعمل شيئا، وإن أبضع مكارمة دون أجر فللعامل الأقل من حظه من الربح وأجرة مثل الذي أبضع معه أن لو كان استأجره لأنه لم يتطوع إلا للعامل إلى آخر ما مر.

تنبيهات: الأول: قال عبد الباقي: قال ابن عرفة: سحنون: من أذن لمقارضه أن يبضع ثم سافر رب المال فأبضع مقارضهُ فلما وصل رب المال عرف خريطته وماله فاشترى به، فكل الربح له قلت: إن اشترى به فلنفسه

(1)

فواضح وإن كان للعامل أي أو للقراض فالأظهر كون الربح للقراض. انتهى.

الثاني: قال البناني عند قول المص: "أو يخلط أو يبضع" ما نصه: المواق: انظر من صرح بأن له أجرة المثل فيهما. انتهى. وفي شرح حلولو عن ابن حبيب: التصريح بالثاني، وفي شرح القلشاني على ابن الحاجب أن في الأول خمسة أقوال: أحدها أنه إذا فات بالعمل فللعامل أجرة المثل وهو ظاهر قول مالك في المدونة ونص قول ابن سحنون انظر تمامه. والعجب من المواق نقل عن اللخمي الخلاف عند قوله: "أو يشارك" ثم قال هذا. انتهى.

الثالث: قال ابن حبيب: لا يصلح أن يقارض رجلا ويشترط عليه أن يبضع المال أو يقارض به أو يشارك به أحدا أو يجلس به في حانوت وشبه ذلك، فأما إن قال إن شئت فافعل وإن شئت فدع فهو إذن ولا بأس بالإذن في العقد ما لم يكن شرطا. انتهى.

أو يزرع يعنى أن رب المال إذا اشترط على العامل أن يزرع من مال القراض فان القراض يفسد ويرد العامل إلى أجرة مثله، قال عبد الباقي: أو يشترط عليه أن يزرع من مال القراض لأن عمله فيه زيادة ازدادها ربه عليه، وأما إن كان على معنى أنه ينفقه في الزرع ولا يعمل بيده شيئا فلا ينبغي أن يمنع ذلك إلا أن يكون العامل من

(2)

له وجاهة أو يكون الزرع مما يقل في تلك الناحية. انظر الشارح. ونحود للمص أيضا بحثا. انتهى. وما قررت تبعا لغير واحد قال البناني: أصله في التوضيح وتعقبه مصطفى قائلا: ليس المضر عمل يده إذ ليست المسألة مفروضة كذلك، بل اشترط

(1)

في عبد الباقي ج 6 ص 217: لنفسه.

(2)

في عبد الباقي ج 6 ص 218: ممن.

ص: 778

عليه أن ينفق المال في المزارعة فالمضر الشرط فقط وليس، ثم عمل من العامل ثم قال بعد نقول: قال ابن عبد السلام: اشتراط المزارعة بمال القراض منعه في المدونة، وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا كان الزرع تعسر محاولته في تلك الجهة، بخلاف ما إذا كانت محاولته سهلة كما إذا اشترط عليه التجر في نوع من السلع وهو ظاهر لقولها: لا ينبغي أن تقارض رجلا على أن لا يشتري إلا البز إلا أن يكون موجودا في الشتاء والصيف فيجوز ولا يعدوه لغيره. انتهى.

وقال المواق من المدونة: قال مالك: لا يجوز لرب المال أن يشترط على العامل أن يجلس بالمال ها هنا في حانوت من البزازين يعمل فيه ولا يعمل في غيره، أو على أن يجلس في القيسارية أو على أن لا يشتري إلا من فلان أو على أن لا يتجر إلا في سلعة كذا وليس وجودها بمأمون، أو على أن يزرع فلا ينبغي ذلك كله فإن نزل ذلك كله كان العامل أجيرا، وما كان من زرع أو فضل أو خسارة فلرب المال وعليه ولو علم رب المال أنه يجلس في حانوت فهو جائز ما لم يشترط عليه، ولو زرع العامل من غير شرط في أرض اشتراها من مال القراض أو اكتراها جاز ذلك إذا كان بموضع أمن وعدل ولا يضمن، وأما من خاطر به في موضع ظلم وغرر يرى أنه خطر فإنه ضامن، ولو أخذ العامل نخلا مساقاة وأنفق عليها من مال القراض كان كالزرع ولم يكن متعديا. انتهى.

أو لا يشتري إلى بلد كذا يعني أن رب المال إذا اشترط على العامل أن لا يشتري بمال القراض إلى أن يبلغ البلد الفلاني، ثم بعد بلوغه يكون مطلق التصرف في التجر به في أي محل شاء فإن القراض يفسد بذلك، وللعامل أجر مثله وهذا غير مكرر مع قوله: أو محلا لأن معناه أنه عين محلا للتجر فيه، وهذا يتجر في أي محل شاء بعد بلوغ ذلك البلد ولا يتكرر واحد منهما مع قوله: كإن أخذ مالا ليخرج لبلد ويشتري لأن هذا عين محلا ليشترى منه، ويأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى، قال عبد الباقي وغيره: ويفهم من كلامه أن تعيين ما يتجر فيه من عرض أو رقيق أو غيرهما غير مضر، وقد ذكر الشارح ما يفيده في قوله:"أو يزرع" ويفيده أيضا قوله: أو يبتاع.

ص: 779

وبعد اشترائه إن أخبره يعني أنه إذا اشترى شخص سلعة بعشرين دينارًا مثلا وأخذ عشرين دينارا من شخص آخر على أن ينقدها لصاحب السلعة المشتراة، وتكون العشرون عوضها قراضا بالنصف مثلا فإن ذلك قرض أي فاسد إن أخبره أنه اشترى السلعة المذكورة، وأما إن لم يخبره بالشراء بأن قال له ادفع لي عشرين دينارًا تكون قراضا بيننا فإن ذلك جائز وهو قراض صحيح، وشرحت المص على أن قوله:"وبعد" بالواو وحينئذ فهو متعلق بشرط مقدر، وجوابه فقرض وإن أخبره شرط في الجواب أي وإن انعقد القراض بعد الاشتراء فهو قرض لا قراض إن أخبره، فإن لم يخبره بالشراء فهو قراض صحيح. وقوله:"فقرض" أي فاسد ولذلك يلزم رده لربه عاجلا ولا يلزم ربه أن ينتفع به العامل مدة كالقرض الصحيح لأنه لم يقع على القرض، وإن عمل فالربح للعامل والخسارة عليه، ومفهوم الظرف أن وقوع القراض قبل الشراء جائز وسيصرح به بقوله:"وادفع لي فقد وجدت رخيصا أشتريه"، وفي نسخة بأو ويكون متعلقا بمحذوف أي أو قال له بعد اشترائه ادفع لي مالا قراضا أدفعه في سلعة إن أخبره لخ، ويكون معطوفا على قوله: وكأن يخيط وهو يوهم أنه مما فيه أجرة المثل فيناقض قوله: "فقرض"، وإذا نظر إلى قوله:"فقرض" اندفع الإيهام المذكور والمشاركة بينه وبين ما تقدم في عدم جواز كونه قراضا لا في غير ذلك من الأجرة.

أو عين شخصا عطف على الفاسد يعني أن رب المال إذا شرط على العامل أن لا يشتري أولا يبيع إلا من فلان فإن ذلك قراض فاسد ويكون للعامل أجرة المثل وعلة الفساد التحجير على العامل، قال المواق: من المدونة: لا يجوز أن

(1)

يشتري إلا من فلان فإن نزل ذلك كان أجيرا. أو زمنا يعني أن رب القراض إذا عين للعامل زمنا للبيع والشراء كالشتاء أو الصيف فإن القراض يفسد وللعامل أجرة المثل، قال الحطاب: تعيين الزمان هو أن يشترط عليه أن يشغل جميع المدة بالبيع والشراء مثل أن يدفع له مال القراض يبيع ويشتري فيه شهرا أو شهرين أو نحو ذلك على أن يبيع ويشتري جميع الزمان، وقوله: أجل مثل أن يدفع له مال القراض إلى شهر ونحوه ولا يشترط عليه أن يبيع في جميع الزمان. انظر الحطاب. وقد مر هذا عند قوله: "أجل". أو محلا

(1)

في المواق ج 5 ص 427 ط دار الفكر: لا يجوز أن يشترط عليه أن لا يشتري.

ص: 780

يعني أن رب المال إذا اشترط على العامل أن لا يتجر إلا في المحل الفلاني ولا يتعداه إلى غيره، فإن القراض يفسد وللعامل أجرة المثل، قال عبد الباقي:"أو محلا" للتجر لا يتعداه لغيره كحانوت بمحل كذا ولم يكن العامل جالسا به قبل وإلا جاز. انتهى. وقال الشبراخيتي: أو عين محلا للعمل كالسوق الفلاني أو مكة فقراض فاسد في الثلاثة للتحجير وفيه أجرة المثل. انتهى. قوله: في الثلاثة يعني الشخص والزمن والمحل.

كأن أخذ مالا ليخرج لبلد فيشتري يعني أن العامل إذا أخذ مالا على أن يخرج به من بلد عقد القراض إلى بلد عينه له فيشتري من ذلك البلد ثم يرجع بما اشترى إلى بلد القراض فيتجر به يفسد القراض بذلك، وللعامل أجر مثله فحجر عليه هنا في ابتداء الشراء وفي محل التجر، بخلاف قوله:"أولا يشتري لبلد كذا" فإنه حجر عليه في ابتداء السفر فقط وهي أيضا غير قوله: "أو محلا" لأن معناه اشترط عليه التجارة في محل لا الشراء من محل.

وعليه كالنشر والطي الخفيفين يعني أن العامل عليه في مال القراض ما جرت العادة بتوليه له كالنشر والطي الخفيفين والحزم أي يلزمه ذلك، والأجر إن استأجر يعني أن العامل إذا استأجر على هذا الذي يلزمه كالطي والنشر الخفيفين والحزم فإن الأجرة عليه في ماله أي مال العامل لا في مال القراض ولا في ربحه، قال عبد الباقي: وعليه أي العامل كالنشر والطي الخفيفين وما جرت العادة أنه يتولاه، والكاف اسم مبتدأ مؤخر بمعنى مثل وعليه الأجرة إن استأجر على ذلك، وأما غير الخفيف وما جرت العادة أنه لا يتولاه بنفسه وهو من مصلحة المال فله أجره إن ادعى أنه عمل ليرجع بأجره، وخالفه رب المال بيمين لأنها دعوى معروف وبدون يمين إن سكت رب المال. ابن الحاجب: على العامل ما جرت العادة به من نشر وطي ونقل خفيف وإن استأجر عليه فعليه. ابن فتوح: للعامل أن يستأجر من المال إذا كان كثيرا لا يقوى عليه من يكفيه بعض مؤنته، ومن الأعمال أعمال لا يعملها العامل وليس مثله يعملها. انتهى.

تنبيه: اعلم أن أركان القراض خمسة رأس المال والعمل والربح والعاقدان. قاله المواق.

وجاز جزء قل أو كثر يعني أنه يجوز أن يتعاقد رب المال والعامل على جزء من الربح قل ذلك الجزء أو كثر، قال عبد الباقي: ذكره للتعميم صريحا في قوله سابقا: "بجزء" لأنه نكرة في سياق

ص: 781

إثبات فلا تفيد العموم، وهذا أولى لعدم تكراره من الجواب بأنه ذكره توطئة، لقوله: ورضاهما بعد على ذلك يعني أن المتقارضين إذا تعاقدا على جزء فإنه يجوز لهما بعد ذلك أي بعد العقد أو العمل أن يتراضيا على جزء أقل مما وقع عليه العقد أو أكثر، فقوله:"بعد" مبني على الضم أي بعد العقد وذلك صادق بما بعد العمل أو قبله، وقوله:"على ذلك" الإشارة تعود على قوله: "قل أو كثر" أي يجوز لهما أن يتراضيا بعد العقد على جزء قل عن الجزء الأول أو كثر عنه، قال عبد الباقي: وفي قوله "قل أو كثر" إشعار بأنه لا يشترط جزء محدود لا يتعدى؛ لأن الربح لما كان غير محقق اغتفروا فيه ذلك خلافا لابن حبيب في منعه الزيادة بعد العمل، وأما بعد العقد وقبل العمل فلا يتوهم المنع لأن العقد غير لازم فكأنهما ابتدءا الآن عقدا. انتهى.

قوله: وفي قوله قل أو كثر إشعار لخ يوضحه قول الشبراخيتي عند قوله على ذلك ما نصه: ووجه الجواز بعد العقد وقبل العمل ظاهر لأن لكل منهما حينئذ الفسخ فكأنهما ابتدءا الآن العقد، ووجهه بعد العمل أن الربح لما كان غير محقق اغتفر فيه ذلك بخلاف الهدية المحققة. انتهى. وقال البناني عند قول المص:"ورضاهما بعد على ذلك" ما نصه: قال الحطاب فإن كانت الزيادة للعامل فهو أحق بها في موت رب المال أو فلسه لقبضه لها، وإن كانت لرب المال فقيل تبطل لعدم الحوز، وخرج اللخمي قولا بالصحة قال في التلقين: ومال المتأخرون إلى النفوذ. انتهى من التوضيح. وأصله لابن عبد السلام. وقد ناقض أبو الحسن هذه المسألة بما في القرض من امتناع مهاداة المتقارضين، وأجاب بأن الهدية هنا غير محققة لإمكان أن لا يحصل ربح أصلا بخلاف الهدية هناك فإنها منفعة محققة. انتهى.

وزكاته على أحدهما عطف على جزء على حذف مضاف؛ يعني أنه يجوز اشتراط زكاته أي زكاة الربح على أحد المتقارضين، قال عبد الباقي: وجاز زكاته أي الربح المفهوم من قوله: "جزء" وأما رأس المال فزكاته على ربه ولا يجوز اشتراطها على العامل، فالمعنى جاز اشتراط زكاة الربح. انتهى. وقال الشبراخيتي: وجاز زكاته أي الربح المفهوم من قوله: "جزء" أي وجاز اشتراط زكاته على أحدهما رب المال أو العامل لخ، واستشكل جواز اشتراط زكاة الربح على أحدهما بأنه يؤدي إلى القراض بجزء مجهول؛ لأن الزكاة تارة تجب فيه وتارة لا تجب، وأجيب بأنه يرجع

ص: 782

إلى جزء معلوم وهو ربع عشر الربح، ولهذا قال: وهو أي الجزء المشترط وهو ربع العشر؛ لأن زكاة العين ربع عشرها فالجزء المشترط هو ربع عشر الربح للمشترط لزكاة الربح، كان رب المال أو العامل حيث لم تجب في الربح زكاة، كما قال: وإن أي والحال أن الزكاة لم تجب في الربح لمانع كالدين مثلا، وأما إن وجبت الزكاة فهي للفقراء فتؤخذ من حصة المشترط عليه، وتوضيح هذا أن تقول إن كانت المقارضة على النصف والربح أربعون فزكاته ربع العشر وهو واحد فيؤخذ من العشرين التي تنوب من اشترطت عليه الزكاة ويدفع للمشترط فللمشترط واحد وعشرون وللآخر تسعة عشر هذا هو الذي يقرر به المص، ومقابل المص أن يؤخذ ربع العشر من الأربعين وهو واحد فيأخذه من اشترطه من عامل أو رب المال ويقتسمان ما بقي وهو تسع وثلاثون لكل واحد منهما نصفها وهو تسعة عشر دينارا ونصف دينار فيكون لمشترط الزكاة عشرون دينارا ونصف وللآخر تسعة عشر ونصف. والله تعالى أعلم. وهذا الأخير هو المنصوص فيها وقواه الرهوني، وقيل للمشترط عشرون وللآخر تسعة عشر ويقسم الواحد الباقي بينهما على حسب ما لكل، فلصاحب العشرين منه عشرون جزءا ولصاحب التسعة عشر تسعة عشر جزءًا منه. والله تعالى أعلم.

والحاصل أن ربع العشر يؤخذ من حصة المشترط عليه الزكاة، فعلى ما للمص يدفع للمشترط وعلى مقابليه يقسم بينهما لكن على أحدهما يقسم نصفين وعلى الآخر يقسم على حسب ما لكل، فإذا عرفت هذا عرفت أن قولي تبعا للشارح والتوضيح في القول الثاني لمشترط الزكاة ربع عشر الربح ثم يقتسمان ما بقي إنما هو باعتبار المآل، وقوله وهو للمشترط وإن لم تجب قال الشبراخيتي: يشمل صورا ما لو قصر الجزء ورأس ماله عن النصاب وما لو تفاصلا قبل الحول سواء كان المشترط العامل أو رب المال. انتهى. ومن موانع الزكاة الدين والرق والكفر. واعلم أنه إذا اشترط جزء من الربح لأجنبي ولم يقبله الأجنبي فإنه يكون لمشترطه منهما كما في الشارح والحطاب. والله تعالى أعلم. والربح لأحدهما عطف على فاعل "جاز" يعني أنه يجوز اشتراط الربح كله لأحدهما أي لأحد المتقارضين رب المال أو العامل، بأن يقول رب المال للعامل اعمل ولك الربح كله، أو يقول له العامل اعمل وجميع الربح لك وهذا مكارمة أو لغيرهما يعني أنه يجوز اشتراط الربح كله لغير المتقارضين لأنه من باب الهبة، وإطلاق القراض على هاتين

ص: 783

المسألتين مجاز ويجري على حكم الهبة فإن اشترط لمعين قضي له به إن قبل وإلا فللمشترط، وإن اشترط لغير معين كالفقراء وجب من غير قضاء، وفي مسجد معين قولان وإذا اشترط للعامل لم يبطل بموت ربه أو فلسه قبل المفاصلة لأن المال كله بيده فكان الربح هبة مقبوضة، وإن اشترط لربه فهل يبطل بموت العامل أو لا بناء على أنه أجير ولقوة ملك رب المال قولان. انتهى.

وضمنه في الربح له قد تقدم أنه قال والربح لأحدهما، فقوله:"في الربح له" أي في مسألة الربح له، ومعنى كلامه أنه إذا قال رب المال للعامل اعمل والربح لك فإن الضمان يكون على العامل لأن هذا كالقرض، فانتقل من الأمانة للذمة، قال الشبراخيتي: والربح في كلامه يصح فيه الرفع أي في صورة قوله وقت العقد: الربح له والجر أي في صورة اشتراط الربح له ومحل ضمان العامل مال القراض حيث كان الربح له.

إن لم ينفه أي إن لم ينف رب المال عن العامل الضمان بأن اشترط عليه الضمان أو سكت، فإن نفاه كأن قال: اعمل على أن الربح لك ولا ضمان عليك فإنه لا ضمان على العامل حينئذ. ولم يسم قراضا عطف على ينفه يعني أن محل ضمان العامل في مسألة الربح له إنما هو إن لم ينف الضمان كما عرفت ولم يسم قراضا؛ أي ولم يسم المال قراضا فالضمان يحصل بشرطين فإن انتفيا أو أحدهما لم يضمن العامل، وإيضاح ذلك أن تقول: إذا نفى رب القراض الضمان عن العامل أو سمى المال قراضا بأن قال خذ هذا المال قراضا على أن الربح لك أيها العامل فإنه لا ضمان عليه ولو شرط عليه الضمان، قال الشبراخيتي: فإن سماه قراضا بأن قال اعمل فيه قراضا لم يضمنه ولو شرط عليه الضمان كما يفيده كلام المواق وابن ناجي، لكنه مع اشتراط الضمان يصير فاسدا وفهم من كلامه عدم ضمان العامل إن اشترط الربح لربه وهو كذلك لبقائه على الأمانة، وكذا إن شرطاه لأجنبي. انتهى.

وقال عبد الباقي: فإن نفاه العامل بأن قال آخذه ولا ضمان علي فيه إذا تلف أو سمى قراضا شرط ضمانه أم لا لم يضمنه، وهو مع الشرط قراض فاسد لكن هل الربح كله للعامل عملا بما شرطاه أو فيه قراض المثل، لقوله:"قراض فاسد". انتهى.

ص: 784

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: والظاهر أن فيه أجرة المثل، لقول المص المار:"وفيما فسد غيره أجرة مثله". والله تعالى أعلم.

وشرطه عمل غلام ربه أو دابته في الكثير يعني أنه يجوز للعامل أن يشترط على رب المال أن يترك له غلاما يعمل معه أو دابة له يعمل عليها أو يتركهما له وهذا في المال الكثير، وقوله:"عمل غلام ربه" يعني مجانا ليلا يتكرر مع قوله المار: "بخلاف غلام غير عين بنصيب له" وأيضا المشترط هناك رب المال وهنا العامل، قال عبد الباقي: وجاز شرطه أي العامل على رب المال عمل غلام ربه أو دابته أو هما في المال الكثير عادة. ابن فرحون: مجانا، وبمجانا يندفع التكرار مع قوله:"بخلاف غلام غير عين بنصيب له" وأيضا المشترط هناك رب المال وهنا العامل. قاله التتائي. وقوله وأيضا لخ يقتضي صحة ما هنا ولو بنصيب للغلام والظاهر خلافه كما أفاده عن ابن فرحون، والظاهر أنه لا يتأتى هنا أن يكون عينا عليه وأن لا يقصد تعليمه لأن المشترط هنا العامل، والظاهر أنه يشترط في شرطه عمل الدابة أن يكون مجانا أيضا. انتهى.

قال مفيده عفا الله تعالى عنه: مقتضى كلام عبد الباقي إن لم يكن صريحه أنه إذا كان المشترط العامل لا يجوز ذلك إلا مجانا، وقوله:"وشرطه عمل غلام ربه أو دابته في الكثير" قال ابن عاشر: الجواز مقيد بما إذا لم يشترط العامل الخلف، وقال بعضهم: لا يجوز اشتراط خلف الدابة والغلام إن هلكا فإن اشترط ذلك رد إلى قراض المثل. انتهى. وقوله: "في الكثير" التقييد بالكثير لابن زرقون، وفي الكثير فرض المسألة المتيطي ولم يذكره في المدونة، وقد سبق ابنَ زرقون إلى التقييد بالكثير أبو الوليد الباجي جازما به كأنه المذهب ونصه: وأما إن كان العبد لخدمة المال فهو جائز إذا كان المال كثيرا يحتاج إلى من يخدمه ويعينه. انتهى. وهو المفهوم من كلام المتيطي وهو الظاهر قياسا على المساقاة، وإن كان ابن يونس واللخمي وابن رشد لم يعرجوا على القيد وإنما أطلقوا، وصرح ابن ناجي في شرح المدونة بأنه مقابل للمدونة لا تقييد لها، ولكن جعله ذلك مقابلا لها لا يعادل جعل الباجي ومن تبعه على ذلك تقييدا، وقد سلم أبو علي كلام المصنف ولم يعرج على كلام ابن ناجي وقياس القراض على المساقاة أحروي، وجواز اشتراط الغلام في المساقاة محله إذا كان الحائط كثيرا، فإذا اشترط الكثير في المساقاة مع عدم وجود

ص: 785

الخلاف فيها فكيف بالقراض الذي اختلف فيه قول مالك وغيره؟ والخلاف الذي أشار إليه حكاه ابن ناجي عند قول المدونة: ويجوز للعامل أن يشترط على رب المال أن يعينه بعبده أو دابته في المال خاصة لا في غيره ولم يجزه عبد العزيز في الغلام. انتهى. وفي المسألة قول ثالث رواه ابن أبي أويس وهو يجوز إن كان عمله يسيرا وإلا لم يجز، ورابع وهو يجوز بشرط أن يكون المال كثيرا. انتهى. قال غير واحد: والظاهر أنه ينظر في اليسارة والكثرة للعرف.

وخلطه يعني أنه يجوز للعامل أن يخلط مال القراض بمال آخر كان المال المخلوط به مال القراض للعامل أو لغيره، ولهذا قال: وإن بماله أي وإن كان المال للعامل، وقوله:"وخلطه" أي من غير شرط وإلا فسد كما مر في قوله: "أو يخلط" قال في التوضيح: شرط الخلط أن يكون في العين أو العرض المثلي، وأما إن كان في المقومات فلا لأن القيم تختلف. نص عليه اللخمي في البضائع والباب واحد. انتهى. وقال عبد الباقي: وجاز للعامل خلطه من غير شرط وإلا فسد كما مر، وإن بماله إن كان مثليا، ولمصلحة لأحد المالين غير متيقنة فيمنع خلط مقوم ووجب لمصلحة متيقنة. انتهى. وقال الشارح: ما تقدم من أن خلطه المال يفسد القراض ويرد فيه العامل إلى أجرة مثله إنما ذلك مع الاشتراط كما سبق، وأما إذا خلط من غير شرط فذلك جائز كما قال هنا: وسواء خلط ذلك بماله أو بمال غيره لأن كثرة المال تحصل الربح الكثير.

وهو الصواب إن خاف بتقديم أحدهما رخصا يعني أن خلط مال القراض بغيره قد يكون هو الصواب وذلك فيما إذا خاف العامل بتقديم أحد المالين في البيع والشراء رخصا للمال الآخر ويكون ما اشترى بينهما أي بين المالين، قال عبد الباقي: لكن يجب الخلط إن خاف بتقديم ماله رخص مال القراض لوجوب تنميته على العامل وإن خاف بتقديم مال القراض رخص ماله لم يجب؛ إذ لا يجب على الشخص تنمية ماله. انتهى. قول عبد الباقي: لكن يجب الخلط إن خاف بتقديم ماله لخ، قال البناني: بل الواجب أحد أمرين، إما تقديم مال القراض أو خلطه. انتهى. وقال الخرشي: وهل معنى الصواب أنه يجب أو يندب قولان وينبني عليهما لو لم يخلط فحصل خسر، فعلى أنه يجب يضمن وعلى أنه يندب لا يضمن، فقوله: رخصا أو غلاء أي رخصا في البيع أو غلاء في الشراء، فاقتصاره على الرخص كالمدونة يعلم منه مقابله وهو الغلاء.

ص: 786

انتهى. ويمكن أن يريد بالرخص ما يشمل رخص العين في غلاء السلع، وقال الشارح في نقله ما نصه: ولو أخذ من رجل قراضا فله أن يأخذ من آخر إن لم يكن الأول كثيرا يشغله الثاني عنه. انتهى.

وشارك إن زاد مؤجلا بقيمته يعني أن العامل إذا زاد على مال القراض مالا مؤجلا فاشترى

بالجميع أي مال القراض والمؤجل الذي زاده عليه سلعة فإنه يصير شريكا

(1)

لرب القراض بقيمة

المؤجل الذي زاده، فإن كان الذي زاده عينا قوم يوم الشراء بسلعة ثم تقوم السلعة بنقد فيشاركه

بنسبة ذلك النقد لماله، وهذا مذهب المدونة الذي أصلحها عليه سحنون، وقيل يشاركه بما زادته

قيمة السلعة المشتراة بالمال الذي هو مال القراض وبالمؤجل المزيد على المال فقط، وهذا هو الذي

كان في المدونة قبل الإصلاح، فإذا دفع له مائة قراضا فاشترى سلعة بمائتين مائة مال القراض

ومائة مؤجلة فتقوم المائة المؤجلة بعرض ثم يقوم العرض بنقد، فإن كانت قيمته خمسين كان

شريكا بالثلث على الراجح فيختص بربحه وخسره وما بقي على حكم القراض، وعلى مقابله يقوم جميع المشتري، فإذا كانت قيمته مائة وعشرين كان شريكا بالسدس إذ هو الذي زادت به قيمة السلعة على مال القراض، ومحل القولين إذا اشترى بالمؤجل لنفسه، قاله عبد الباقي. قال: فإن اشترى به للقراض فهل كذلك وهو ظاهر المص والشارح والتتائي؟ أو يخير رب المال في قبوله ويدفع للعامل قيمته فيكون كله قراضا وعدم قبوله فيشارك العامل به كما تقدم. تقريران لمشايخ علي الأجهوري.

واحترز بقوله "مؤجلا" عما إذا زاد حالا فيشارك بعدده ويختص بربحه ولا يتأتى فيه أن يقال يشارك بقيمته ولا خيار لرب المال، وهذا في الحال أيضا إن زاده لنفسه كالمائة في المثال المذكور، فإن زاده للقراض فلربه إمضاؤه فيدفع له المائة الثانية وتكون السلعة كلها للقراض وعدمه فيشارك بالنصف. فتأمل تلك الصور الثلاث الزائدة على المص التي هي كمفهومه. وانظر لم جرى تردد لمشايخ الأجهوري فيما إذا زاده مؤجلا للقراض وجزم بخيار ربه فيما إذا زاده حالا للقراض؟

(1)

في الأصل: فإنه شريكا، والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 223.

ص: 787

وليس بين ما هنا وبين قوله الآتي: "أو بأكثر كثيرا" تكرار إذْ ما هنا بيان للحكم بعد الوقوع، وما يأتي لبيان حكم الزيادة ابتداء. انتهى. كلام عبد الباقي.

قوله: وانظر لم جرى تردد لمشايخ الأجهوري لخ هذا التردد قصور؛ لأن ابن رشد صرح بالخيار في المؤجل. انظر البناني. وقال البناني عند قوله: "وشارك إن زاد مؤجلا بقيمته" ما نصه: يعني إذا اشتراه لنفسه ويصدق في ذلك. قاله ابن رشد. ونقله ابن عرفة أو للقراض وأبى رب المال الزيادة إذ الخيار له إذا اشترى العامل زائدا للقراض ولو في المؤجل صرح به ابن رشد ونقله ابن عرفة، قال مصطفى: وفيه نظر إذ الظاهر أنه لا تخيير له في المؤجل، وتتعين المشاركة بقيمته لأن شراء العامل بالدين للقراض لا يجوز ولو بإذن رب المال، فكيف يكون له الخيار وعلى هذا قرر الشارح والتتائي فجعلا تخيير رب المال فيما دفعه العامل من عنده نقدا فقط وهو الظاهر من كلامهم. انتهى. قلت: بل صرح ابن رشد بجواز شرائه بالدين للقراض إن أذن له متحملا ضمانه، ونصه: وللعامل إذا كان مديرا أن يشتري على القراض بالدين إلى أن يبيع ويقضي، وأما إن كان محتكرا فاشترى سلعة بجميع مال القراض فليس له أن يشتري غيرها بالدين على القراض، فإن فعل لم يكن على القراض وكان له ربحها وعليه وضيعتها وإن أذن له رب المال في ذلك إلا أن يأذن له أن يشتري على القراض على أنه إن ضاع كان ضامنا لذلك بذمته فيجوز وتكون السلعة على القراض. انتهى. فحيث كان له الإذن في الشراء بالدين ثبت له الخيار بعد وقوعه فتأمله. انتهى؛ يعني ثبت له الخيار بعد وقوعه بغير إذن إذا التزم الضمان؛ لأن العلة عند ابن رشد في منع الشراء كون رب المال يأخذ ربح ما لم يضمن، فإذا التزم الضمان انتفت العلة ويلزم عليه أنه إذا اشترى بغير إذن ثبت له الخيار إن التزم الضمان وهو ظاهر، لكن إنما يتم به الرد على مصطفى لو كان كلام ابن رشد هذا مسلما، وقد اعترضه ابن عرفة وسلم اعتراضه البناني نفسه، فكيف يستقيم له الاحتجاج به وهو يسلم أنه معترض؟ انظر كلامه فيما يأتي عند قوله:"أو نسيئة". والله أعلم. انتهى.

وسفره إن لم يحجر عليه قبل شغله يعني أنه يجوز للعامل السفر بمال القراض إن لم يحجر رب المال عليه السفر أي لم ينهه عنه قبل شغل المال أي قبل اشتغال العامل فيه بالعمل، وقوله:

ص: 788

"قبل" متعلق بيحجر، ومنطوقه صادق بصورتين أن لا يمنعه من السفر به أو منعه منه بعد الشغل، ومفهومه صورة واحدة وهي أن يمنعه من السفر قبل الشغل فلا يجوز له السفر به حينئذ، قال عبد الباقي: وجاز للعامل سفره بمال القراض إن لم يحجر رب المال عليه قبل شغله، متعلق بيحجر أي إن انتفى الحجر عليه قبل الشغل، بأن لم يوجد أو وجد بعد شغله، فإن حجر عليه قبله لم يجز له السفر به وليس لرب المال أن يمنعه بعد شغل المال من السفر به، سواء كان المال قليلا أو كثيرا، وسواء كان السفر قريبا أو بعيدا، وسواء كان العامل من شأنه السفر أم لا للزوم العمل بالشغل. انتهى. وقاله غير واحد، وقال الشبراخيتي: وجاز سفره عند الإطلاق على المشهور، ولذا قال: إن لم يحجر بأن ينهاه عن السفر قبل شغله أي المال أو قبل أن اكترى وتزود كما سيأتي. انتهى المراد منه.

وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: للعامل أن يتجر بالمال في الحضر والسفر وحيث شاء إلا أن يقول له رب المال حين دفعه إليه بالفسطاط: لا تخرج من أرض مصر أو من الفسطاط فلا ينبغي أن يخرج، قال مالك: ولرب المال رد المال ما لم يعمل به العامل أو يظعن به لسفر، قال ابن القاسم: وكذلك لو تجهز واشترى متاعا يريد به بعض البلدان فهلك رب المال فللعامل النفوذ به، وليس للورثة منعه وهم في هذا كموروثهم. انتهى. وقال سحنون: ليس للمقارض أن يسافر بالمال القليل سفرا بعيدا إلا بإذن رب المال. انتهى. وقال الشارح: والحاصل أن للعامل السفر عند الإطلاق لأن عقد القراض يقتضي ذلك وهذا هو المشهور، وقال ابن حبيب: ليس له أن يخرج من بلد المال إلا بإذنه، وقال سحنون: ليس له أن يسافر بالمال اليسير سفرا يعيدا إلا بإذن ربه، واعتبر اللخمي قرائن الأحوال فإن كان من شأن العامل السفر فله ذلك وإلا فلا. انتهى.

وادفع لي فقد وجدت رخيصًا أشتريه يعني أنه يجوز أن يقول شخص لآخر ادفع لي مالا أعمل لك فيه قراضا فقد وجدت شيئا رخيصا أي ينال بثمن قليل أشتريه بما تدفعه إلي، لما روي أن عثمان رضي الله تعالى عنه قال له رجل: وجدت سلعة تباع فأعطني قراضا أبتاعها به ففعل وهذه مفهوم قوله: وبعد اشترائه إن أخبره لخ، ومحل كلام المص حيث لم يسم السلعة ولا البائع. قاله الشارح هناك والمواق هنا. فإن سماهما فانظر هل تكون السلعة لرب المال وعليه

ص: 789

للمشتري أجرة توليه؟ أو للمشتري والقراض فاسد؟ أو إن عين البائع فكمسألة اشتر سلعة فلان فله قراض المثل وإن عين السلعة فأجرة المثل. انتهى قاله غير واحد.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: والظاهر أن هذا الذي نظر فيه حيث سماهما كمسألة اشتر سلعة فلان ثم اتجر في ثمنها لتضمنها لها. والله تعالى أعلم. وقوله: "وادفع" عطف على فاعل "جاز".

وبيعه بعرض يعني أن العامل يجوز له أن يبيع عروض القراض بعروض من غير إذن رب المال ولا يضمن، قال الخرشي: وليس له البيع بالدين فليس العامل كالوكيل المخصوص وإلا لامتنع بيعه بالعروض، ولا كالمفوض وإلا لجاز بيعه به، والجواب أنه كالمخصوص وإنما جاز بيعه بالعرض؛ لأنه لما كان شريكا قوي جانبه. انتهى. ونحوه لغيره، وقوله:"وبيعه" عطف على فاعل "جاز".

ورده بعيب يعني أنه يجوز للعامل رد ما اشتراه إذا وجده معيبا على بائعه ولو أبى رب المال، وظاهره ولو قل العيب والشراء فرصة، وقوله:"ورده" مصدر مضاف إما لفاعله والمفعول محذوف كما في الخرشي، وإما لمفعوله كما لعبد الباقي.

وللمالك قبوله إن كان الجميع والثمن عينا يعني أن العامل إذا اشترى سلعة بها عيب قديم له أن يردها ولا كلام لرب القراض إذا ردها العامل إلا فيما إذا كان الثمن الذي اشتريت به هذه السلعة المعيبة جميع مال القراض وذلك الثمن الذي اشتريت به عين، فإن للمالك حينئذ قبول السلعة المعيبة المشتراة بجميع مال القراض؛ لأن من حجة رب المال على العامل أن يقول لو رددته لنض المال وكان لي أخذه، فإن كان الثمن عرضا لم يكن لرب المال قبول ذلك المعيب لأن العامل يرجو ربحه إذا عاد ليده، فهذان شرطان في نفوذ قبول رب المال للمعيب، وزيد قيد آخر وهو أن يأخذ على وجه المفاصلة للعامل أي لا على وجه البيع. قاله التتائي. وقوله:"عينا" بالنصب كذا في بعض النسخ على أنه خبر كان المحذوفة، وفي بعض النسخ: والثمن عين بالرفع على أنه مبتدأ وخبر. انظر الحطاب.

ص: 790

قال مقيده عفا الله عنه: وهذا -أي كلام المص- صادق بصورتين، أن يبيع رأس المال كله بسلعة ثم يظهر فيها على عيب قديم، الثانية أن يكون الثمن عينا وهي جميع مال القراض بعد أن اشترى برأس المال عرضا بيع بذلك الثمن. والله تعالى أعلم. وقال المواق من المدونة: قال مالك: إذا اشترى العامل بجميع المال عبدا ثم رده بعيب فرضيه رب المال فليس ذلك لرب المال؛ لأن للعامل إن أخذ كذلك جبر ما خسر فيه بربحه إلا أن يقول له رب المال إن أبيت فاترك القراض وأخرج لأنك إنما تريد رده وتأخذ الثمن فكان القراض عينا بعد، فإما أن ترضى بذلك وإلا فاترك القراض وأنا أقبله، قال: ولو رضي العامل بالعيب على وجه النظر جاز وإن حابى فمتعد. انتهى.

ومقارضة عبده يعني أنه يجوز للشخص أن يقارض عبده أي عبد نفسه، وقوله:"ومقارضة عبده" عطف على فاعل "جاز". وأجيره يعني أنه يجوز للشخص إذا استأجر أجيرا يخدمه مدة معلومة أن يقارضه، قال عبد الباقي: وأجيره المؤجر عنده لخدمة مدة معلومة كسنة بأجرة معلومة، سواء بقي على خدمته أم لا عند ابن القاسم، خلافا لمنع سحنون مقارضة أجيره لما فيه من فسخ دين في دين. انتهى. لأنه فسخ لما ترتب له في ذمته من المنفعة التي هي خدمة سنة مثلا في عمل القراض، قال الخرشي: ثم إنه على المذهب إن كان يعمل ما استؤجر عليه لا يشغله ذلك عن عمل القراض فالأمر واضح، وإن كان عمله في القراض يمنعه من عمل ما استؤجر عليه أو من بعضه فإنه يخير المستأجر بين أن يعطيه ما جعل له من الربح ويعطيه جميع الكراء الذي استأجره به، وبين أن يعطيه جزء الربح الذي شرطه له ويسقط من الأجرة ما يقابل المدة التي اشتغل فيها بعمل القراض [عن

(1)

] عمل ما استؤجر عليه، كمسألة أجير الخدمة إذا أجر نفسه. انتهى. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: لا بأس أن يقارض الرجل عبده أوأجيره للخدمة إن كان مثل العبد، قال سحنون: ليس الأجير مثل العبد ويدخله في الأجير فسخ الدين في الدين.

ابن يونس: معنى قول ابن القاسم إذا كان الأجير مثل العبد يريد إذا ملك جميع خدمته كالعبد ويكون ما استأجره فيه شبيه القراض، مثل أن يستأجره ليتجر له في السوق ويخدم في التجارة،

(1)

في الأصل: عمن، والمثبت من الخرشي ج 6 ص 211.

ص: 791

فمثل هذا إذا قارضه لم ينقله من عمل إلى خلافه، ولو كان إنما استأجره لعمل بعينه مثل البناء والقصارة فنقله إلى التجارة لدخله فسخ الدين في الدين كما قال سحنون. انتهى. وقال البناني: قيد ابن يونس الأجير بأن يكون استؤجر في عمل التجارة بشيء معلوم مدة معلومة وإلا لم يجز كالبَنَاء والنّجّار، وظاهر المدونة إطلاق الأجير وقال ابن عرفة في جواز مقارضة أجيره مطلقا ومنعه: ثالثها يكره، ورابعها بشرط بقائه على عمله، وخامسها إن كان أجير تجر وإلا لم يجز، والقول الخامس ليحيى بن عمر وهو الذي قيد به ابن يونس المدونة، والقول الرابع عزاه عياض لبعضهم وهو الذي صوبه ابن عرفة وعليه تأولها القرافي في التقريب وبه قرر الخرشي كلام المص، تبعا لقول الأجهوري: إنه المذهب. والله أعلم. انتهى. وقوله: وخامسها إن كان أجير تجر وإلا لم يجز أي لأن التجر من جملته عمل القراض فلا ينافيه، فيمكن أن يجتمعا في وقت واحد. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه.

ودفع مالين يعني أنه يجوز للشخص أن يدفع مالين معا لعامل واحد يعمل فيهما قراضا إن شرطا الخلط؛ أي دخلا على أن العامل يخلطهما في البيع ويكون ثمنهما واحدا، مثال ذلك أن يدفع له مائة من المذهب على النصف ومائة من الفضة على النصف، فلذا أطلق عليهما مالين. قاله عبد الباقي. ويشمل أيضا ما إذا دفع له مائة دينار على النصف مثلا ومائة دينار على النصف، ويشمل أيضا ما إذا دفع له ذلك باختلاف الجزء كالثلث في واحدة والنصف في واحدة. أو متعاقبين عطف على مقدر بعد قوله:"مالين" أي دفع مالين معا أو متعاقبين أي واحدًا بعد واحد؛ يعني أنه يجوز للشخص أن يدفع لشخص قراضا ثم يدفع له مالا آخر قراضا، قبل شغل الأول أي يجوز ذلك إن دفع المال الثاني قبل شغل المال الأول أي قبل شغل العامل فيه، ويجوز ما ذكر في المسألتين إن كان القراضان الأول والثاني بجزءين متفقين كالنصف والنصف أو الثلث والثلث، بل وإن كانا جزءين مختلفين كنصف في الأول وثلث في الثاني وهو راجع للمسألتين وهما دفع المالين معا ودفعهما متعاقبين.

وقوله: إن شرطا خلطا قرره الشارح على أنه شرط في المختلفين، وأما إن كانا بجزءين متفقين كنصف ونصف فيجوز وإن لم يشترطا الخلط بأن سكتا أو شرطا التجر بكل واحد على حدته وهو

ص: 792

لابن المواز وهو ظاهر المدونة عند ابن رشد والتونسي وابن يونس، وروى أبو زيد عن ابن القاسم: لا يجوز على غير الخلط وإن كان على نصف ونصف وكذلك قال ابن حبيب، والمراد بالخلط كما يعلم مما يأتي خلط المتجر فيه بأن يكون مالا واحدا لا يتميز بعضه من بعض، وكون الخلط شرطا في المختلفتين كنصف وثلث ظاهر فإنه يتهم أن يعمل في الأكثر دون الآخر دون المتفقين فإنهما كجزء واحد لأن له النصف أو الثلث من الجميع، وقد مر أن كلامه شامل لأن يكون أحد المالين ذهبا والآخر فضة، وحينئذ فإن اتفق الجزءان فالأمر ظاهر أي له الثلث من الجميع أو النصف من الجميع، وإن اختلف الجزءان فلا بد من معرفة نسبة الفضة من المذهب بالقيمة. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه.

وقوله: "وإن بمختلفين"، سحنون: إذا كان أحد المالين على النصف والآخر على الثلث إن دخلا على أن يخلطهما لأنه يرجع إلى جزء واحد معلوم. انتهى. بيان ذلك لو دفع إليه مائتين مائة على الثلث للعامل ومائة على النصف على أن يخلطهما فحسابه أن ينظر أقل عدد له نصف وثلث وهو ستة، وقد علمت أن للعامل من ربح إحدى المائتين نصفه ومن ربح الأخرى ثلثه فخذ نصف الستة وثلثها وذلك خمسة ولرب المال نصف ربح المائة الواحدة وثلثا ربح الأخرى، فخذ له نصف الستة وثلثيها سبعة فيجمع ذلك مع الخمسة التي صحت للعامل، فيكون ذلك اثني عشر فيقسمان الربح على اثني عشر جزءًا، للعامل خمسة أجزاء وذلك ربع الربح وسدسه ولرب المال سبعة أجزاء وذلك ثلث الربح وربعه. ابن يونس: وينبغي أن يكون للعامل إذا لم يشترط الخلط في هذه المسألة قراض مثله. انتهى. نقله المواق. وقال الشبراخيتي عند قوله: "إن شرطا خلطا" فإن شرطا عدمه فإن اختلف الجزء امتنع اتفاقا وإن سكتا فحكمه حكم ما إذا اشترط عدمه. انتهى. وإن اتفق الجزء ففيه الذي قدمته، ويصح حمل المص على كل من القولين. والله تعالى أعلم. وقوله:"قبل شغل الأول" متعلق "بدفع".

أو شغله إن لم يشترطه يعني أنه إذا دفع المال الثاني بعد شغل المال الأول فإن ذلك جائز إن لم يشترطا الخلط بأن شرطا عدمه أو سكتا عنه، فإن شرطاه أو حصل بالفعل منع لأنه كزيادة اشترطها رب المال على العامل، ومفهوم إن لم يشترطه أنهما إن شرطا الخلط لم يجز اتفق الجزء

ص: 793

أو اختلف، وقوله:"أو شغله إن لم يشترطه" عطف على معنى "قبل شغل الأول" أي إن لم يشغل الأول أو شغله. قاله الخرشي.

والحاصل أن الأقسام أربعة: دفع المالين معا، دفعهما واحدًا بعد واحد قبل شغل المال الأول، دفعهما واحدا بعد واحد بعد شغل المال الأول وقبل نضوض المال ففي القسمين الأولين لا بد من شرط الخلط على ما مر وفي الثالث الجواز بشرط أن لا يشترطا الخلط، وأشار إلى القسم الرابع بقوله: كنضوض الأول يعني أنه إذا لم يدفع الثاني إلا بعد شغل المال الأول ونضوضه فإن ذلك جائز بشرطين: الأول أشار إليه بقوله: إن ساوى أي إنما يجوز بشرط أن يكون هذا الذي نض مساويا لرأس المال بأن لم يحصل في المال الأول ربح بل باعه بعرض وباع ذلك العرض بمثل رأس المال لا أزيد ولا أنقص، وأشار إلى الشرط الثاني بقوله: واتفق جزءهما أي إنما يجوز إذا كان الذي نض مساويا لرأسه واتفق الجزءان بأن يكون الأول على النصف والثاني على النصف، قال عبد الباقي: كنضوض الأول أي يجوز لرب المال إذا نض ما بيد عامله أن يدفع له مالا آخر على أن يعمل فيه مع الأول بشرطين، أولهما قوله:"إن ساوى" أي نض الأول مساويا لرأس ماله بغير ربح ولا خسر، الثاني قوله:"واتفق جزءهما" بأن يكون الربح للعامل في الثاني كالأول، وظاهره سواء شرط الخلط أم لا، ومفهوم الشرط الأول المنع إن نض الأول بربح أو خسر وهو كذلك؛ لأنه في الربح قد يضيع على العامل وبحه وفي الخسر قد يجبر الثاني خلل الأول، فهو في الحالين كاشتراط الزيادة على العامل، ومفهوم الشرط الثاني المنع إذا اختلف الجزء مع نضوض الأول مساويا وهو ظاهر حيث لم يشترط الخلط، فإن شرطاه مع نضوض الأول مساويا جاز ولو مع اختلاف الجزء. انظر التتائي متأملا. انتهى كلام عبد الباقي.

قوله لأنه في الربح قد يضيع على العامل ربحه لخ، قال البناني: هذه العلة تأتي مع الخلط لا مع عدمه، وقال البناني عند قوله "إن لم يشترطه" ما نصه: لفظ المدونة وإن أخذ الأول على النصف فابتاع به سلعة ثم أخذ الثاني على مثل جزء الأول أو أقل أو أكثر على أن يخلط بالأول لم يعجبني، فأما على أن لا يخلطه فجائز. انتهى. وقول المص:"إن لم يشترطه" يخالف قوله: "على أن لا يخلطه" ولعله أخذ بمفهوم قولها: أولا على أن يخلطه، وماله هنا نحوه في ابن

ص: 794

الحاجب والتوضيح. انتهى. ونقله المواق وزاد بعد قولها فجائز ما نصه: فإن خسر في الأول وربح في الآخر فليس عليه أن يجبر هذا بهذا. انتهى. ومن المدونة: إن تجر في الأول فباع ونض في يده ثم أخذ الثاني، فإن كان باع برأس المال الأول سواء جاز أخذه للثاني مثل جزء الأول لا أقل ولا أكثر. ابن يونس: يريد على أن لا يخلطهما ولو كان على الخلط جاز على كل حال. انتهى.

واشتراء ربه منه إن صح عطف على فاعل "جاز"؛ يعني أنه يجوز لرب القراض أن يشتري من العامل شيئا من سلع القراض إن صح قصد رب القراض بأن لا يتوصل به إلى أخذ شيء من الربح قبل الفاصلة كما في الموطإ، فمحله إذا كان على غير شرط عند العقد وسواء اشترى بنقد أو بمؤجل. قاله عبد الباقي. وقال المواق: من الموطإ: قال مالك: لا بأس أن يشتري رب المال ممن قارضه بعض ما يشتري من السلع إذا كان ذلك صحيحا على غير شرط. الباجي: وسواء اشتراه بنقد أو بأجل ما لم يتوصل بذلك إلى أخذ شيء من الربح قبل المقاسمة. انتهى. وقال الخرشي: إن صح قصده في ذلك بأن لا يتوصل بالشراء إلى أخذ شيء من الربح قبل المفاصلة وأن لا يشترط ذلك عند العقد.

واشتراطه أن لا ينزل واديا يعني أنه يجوز لرب القراض أن يشترط على العامل أن لا ينزل بطن واد، فإن اشترط عليه ذلك وفعله ضمن، أو يمشي بليل يعني أنه يجوز لرب القراض أن يشترط على العامل أن لا يسري بالمال في الليل لما فيه من الخطر، فإن فعل ضمن والخطر الإشراف على الهلاك والتلف والجمع أخطار مثل سبب وأسباب، أو ببحر يعني أنه يجوز لرب القراض أن يشترط على العامل أن لا ينزل في البحر الملح أو الحلو لما فيه من الخطر فإن خالف ضمن، أو يبتاع سلعة عطف على ينزل يعني أنه يجوز لرب القراض أن يشترط على العامل أن لا يبتاع أي يشتري سلعة كذا أي سلعة عينها له، فإن فعل بأن اشترى تلك السلعة التي اشترط عليه أن لا يشتريها فإنه يضمن.

وعلم مما قررت أن قوله: وضمن إن خالف راجع للمسائل الأربع؛ أي فإن خالف العامل ما شرط عليه رب المال في المسائل الأربع ضمن ما تلف من مال القراض لتعديه، قال المواق من المدونة:

ص: 795

قال الفقهاء السبعة مع مشيخة سواهم من نظرائهم

(1)

أهل فقه وفضل: يجوز لرب المال أن يشترط على العامل أن لا ينزل بطن واد ولا يسري به بليل ولا يحمله ببحر ولا يبتاع به سلعة كذا، فإن فعل به شيئا من ذلك ضمن المال. انتهى. وقال الخرشي: أي وضمن العامل إن خالف واحدًا مما ذكر أي وحصل التلف، وأما لو خاطر وسلم ثم تلف بعد ذلك فلا ضمان. انتهى. وقضية كلام المدونة أنه اشترط عليه الأمور الأربعة في آن واحد، ولكن لا فرق بين اشتراط كلها أو بعضها كما يفهم من كلام غير واحد.

تنبيهات: الأول: قال عبد الباقي عند قوله: "أو يبتاع سلعة" ما نصه: عينها له لقلة ربح فيها أو لوضيعة فيها. انتهى. ونحوه للخرشي إلا أنه أصرح منه في تقييدها بذلك، قال الرهوني: هذا التقييد فيه نظر لمخالفته لإطلاق الأئمة.

الثاني: قوله: سلعة قال الرهوني: السلعة بالكسر المتاع وما تجر به. انتهى.

الثالث: قال عبد الباقي: وضمن في المسائل الأربع إن تعدى وخالف وحصل نهبٌ أو غرق أو سماوي في الثلاثة الأول زمن المخالفة فقط ولا يضمن السماوي بعدها ولا الخسر مطلقا، بخلاف الرابعة فيضمن فيها السماوي والخسر، والمراد ضمن إذا حصل تلف بشرطه المار، وأما لو خاطر وسلم ثم تلف المال بعد ذلك فلا ضمان عليه. انتهى. وقوله: ولا يضمن بالسماوي بعدها، يريد ويقبل قوله إن التلف وقع بعد الرد. كذا في الحطاب عن ظاهر المدونة وأبي الحسن. ولم يحك فيه خلافا، ونقل ابن ناجي عن أبي الحسن ما نصه: هو مصدق في الرد عند ابن القاسم، وعند عبد الملك ضامن. انتهى. قلت: وكلام المدونة يوافق ما عزاه لابن القاسم لأنه زاد فيها بعد نصها الذي في الحطاب ما نصه: كمن أخذ وديعة أو بعضها ثم رد ذلك مكانه فضاعت لم يضمن. انتهى منها بلفظها. فتشبيه ذلك بمسألة الوديعة يفيد أن القول قوله في ردها لأنه الراجح في الوديعة حسبما تقدم.

كأن زرع تشبيه في الضمان يعني أن العامل إذا زرع بموضع جور له أي للعامل من غير إذن رب المال فهو ضامن، واحترز بقوله: له أي للعامل عما إذا كان الموضع فيه ظلم وجور، ولكن كان

(1)

في الأصل: نظائرهم، والمثبت من المواق ج 5 ص 430.

ص: 796

يرى أنه لا يظلم فيه لوجاهته ونحو ذلك فإنه لا يضمن، أو ساقى يعني أن العامل إذا ساقى في موضع جور له من غير إذن رب المال فإنه يضمن، واحترز بقوله:"له" عما إذا كان الموضع فيه ظلم وجور ولكن كانَ يرى أنه لا يظلم فيه لوجاهته ونحو ذلك فإنه لا يضمن.

وعلم مما قررت أن قوله: بموضع جور له أي للعامل راجع لما بعد الكاف فهو راجع للأمرين، وقوله:"كأن زرع" قال عبد الباقي: وهذا غير مكرر مع قوله: "أو يزرع" لأنه اشترط على العامل كما مر بخلاف ما هنا، فإن العامل هو الذي خالف وزرع. انتهى. وقوله:"بموضع جور له" قال عبد الباقي: أي للعامل كما في الشارح وإن لم يكن جورا لغيره فاللام على بابها لا بمعنى على فيضمن المال في المسألتين؛ لأنه عرضه للتلف، واحترز به عن موضع جور لغيره لا له لكوجاهته فلا ضمان عليه. انتهى. وقال الشبراخيتي: وحيث كان الوضع جورا له ضمن حتى السماوي، ونحوه للحطاب.

أو حركه بعد موته عينا عطف على قوله: "كأن زرع" وصورتها مات رب المال والحال أن المال بيد العامل عينا ثم حركه أي تجر به عالما بموت رب المال، فإن العامل يضمن لانتقال المال للورثة بمجرد الموت، قال عبد الباقي: أو حركه العامل بعد موته أي ربه وعلمه به حالة كون مال القراض عينا، فهو حال من الهاء في حركه فيضمن تجر لنفسه أو للقراض والربح له في الأولى، فإن تجر قبل علمه بموته فخسر لم يضمن على الراجح لأن له فيه شبهة، وقيل يضمن لخطإه على مال الوارث فإن لم يكن عينا لم يضمن، وظاهر كلام المص حرك ببلد ربه أو بغيره، قال التتائي: وقيده ابن يونس بالأول، وأما إن كان بغيره أو ظعن منه فله العمل به، كما لو شغله ولم يعتمد المص تقييده. انتهى. باختصار وظاهر الشارح اعتماده، وعليه فظاهره قرب محل الغيبة أو بعد وينبغي أن القريب كالحاضر. انتهى.

قوله وقيده ابن يونس قال البناني: تقييد ابن يونس هو المعتمد عند أبي الحسن وابن عرفة وغيرهما. انتهى. الرهوني: وهو المعتمد أيضا عند ابن ناجي إذ أتى به تقييدا للمدونة إلى آخر كلامه، وقال الخرشي: أما لو كان المال عرضا يحركه فلا ضمان عليه وليس للورثة أن يمنعوه من التصرف فيه وهم في ذلك كموروثهم، وكذا لا ضمان عليه إذا اتجر قبل علمه بموته.

ص: 797

أو شارك عطف على ما فيه الضمان؛ يعني أن العامل إذا شارك بمال القراض صاحب مال آخر فإنه يضمن حيث كان المشارك غير عامل أو عاملا لغير رب المال، بل وإن كان المشارك له عاملا آخر لرب القراض إذا كان ذلك بغير إذن رب المال وغاب العامل الثاني على شيء من المال، فيضمن الأول لتعديه بتعريضه للضياع؛ لأن ربه لم يستأمن غيره، فإن لم يغب على شيء لم يضمن إذا تلف. قاله ابن القاسم. واعتمده أبو الحسن قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: الغربي: وهوأي قول ابن القاسم تفسير لها. انتهى. وقال الشارح وغيره قال في المدونة: ولا يجوز للعامل أن يشارك بمال القراض أحدا وإن عملا جميعا، فإن فعل ضمن ولا يجوز له أن يشارك عاملا آخر لرب المال كما لا يسوغ للمستودع أن يودع الوديعة عند من لربها عنده وديعة ولا عند غيره. انتهى. زاد المواق بعد قوله قال ما نصه مالك في المدونة لخ وزاد بعد قوله ولا عند غيره ما نصه: فهذا إن شارك كأنه أودع غيره. انتهى.

أو باع بدين يعني أن العامل إذا باع سلعة القراض بالنسيئة من غير إذن رب المال فإنه يضمن لأنه عرضه للضياع، أو قارض يعني أن العامل إذا قارض بمال القراض أي دفعه لعامل آخر قراضا من غير إذن رب المال، فإنه يضمن ما تلف لرب المال لتعديه ولا ربح للعامل الأول والربح لرب المال وللعامل الثاني، وعلم مما قررت أن قوله: بلا إذن أي من رب القراض للعامل راجع للمسائل الخمس التي أولها: "كأن زرع أو ساقى"، الثانية قوله:"أو حركه بعد موته عينا"، الثالثة قوله:"أو شارك"، الرابعة قوله:"أو باع بدين"، الخامسة قوله:"أو قارض". واحترز بقوله: "بلا إذن" عما لو أذن له رب المال فلا ضمان عليه حينئذ. والله تعالى أعلم.

وغرم للعامل الثاني إن دخلا على أكثر مرتب على قوله: "أو قارض" يعني أن عامل القراض إذا دفع مال القراض لعامل آخر يعمل فيه بجزء أكثر مما قورض عليه الأول، فإن العامل الأول يغرم للعامل الثاني الزيادة والربح للعامل الثاني مع رب المال والأول لا ربح له كما مر، واعلم أن الأول لا ربح له مطلقا دخل مع الثاني على أكثر أو أقل أو التساوي، مثال ذلك ما لو قورض الأول بالثلث وقارض هو الثاني على النصف فيكون للثاني ثلث الربح وثلثاه لرب المال، ويغرم العامل الأول للثاني من ماله الخاص به ما زاد على الثلث، وقال عبد الباقي: وغرم الأول للعامل الثاني

ص: 798

إن دخل معه على أكثر مما دخل عليه مع رب المال، فإن دخل معه على أقل فالزائد لرب المال، وانظر لو لم يحصل ربح هل على العامل الأول للثاني قدر ما دخل معه عليه من الربح مما الغالب حصوله في المال لو ربح أم لا؟ لأن الأول يقول له لو لم يحصل ربح لا يغرم لي رب المال شيئا فأنت كذلك. انتهى.

قال البناني: لا معنى لهذا النظر لما علم من أن عامل القراض لا يستحق شيئا مع عدم الربح. انتهى. قال عبد الباقي: قال أحمد: وأما إن قارض بإذن فإن الأول لا عبرة به فليس له شيء مطلقا وللثاني ما شرطه له والباقي لرب المال، قوله:"وغرم للعامل الثاني" هذا هو المشهور، وقال أشهب: العامل الثاني أحق بما دخل عليه ويتبع رب المال العامل الأول بالزائد، فلو أخذه الأول على النصف ودفعه للثاني على الثلثين يغرم الأول للثاني الزائد على النصف، ويأخذ رب المال نصف الربح على المشهور، وعلى ما لأشهب يأخذ العامل الثاني ثلثي الربح ورب المال ثلثه ويتبع الأول بالسدس. قاله الشارح والله تعالى أعلم.

كخسره وإن قبل عمله يعني أن العامل إذا اتجر في المال فخسر أو تلف بعض المال المدفوع له قبل عمله فدفعه لآخر بلا إذن من ربه فربح فيه فإن رب المال يرجع على الثاني برأس ماله وحصته من الربح، ويرجع العامل الثاني على الأول بما يخصه من الربح الذي أخذه رب المال، فإذا كان المال ثمانين مثلا فعمل فيه فخسرا أربعين فدفعها لآخر على نصف الربح فاتجر فيه فصار مائة فيأخذ رب المال ثمانين رأس ماله، ويأخذ عشرة ربحه ويأخذ العامل عشرة ويرجع على الأول بعشرين ولا رجوع لرب المال عليه؛ لأن خسره قد جبر، ومثل الخسارة تلف ذلك بأمر من الله كضياع. قاله عبد الباقي وغيره. وإطلاق الخسر على ما قبل العمل مجاز وإنما هو تلف، وقوله:"كخسره" لخ تشبيه في غرم العامل الأول للعامل الثاني، فهو تشبيه تام وتحقيق هذا أن تقول العامل الثاني قورض على النصف بأربعين فربح ستين، فرأس المال بالنسبة للثاني أربعون وبالنسبة للعامل الأول ثمانون، فيأخذ رب المال من المائة ثمانين رأس ماله بالنسبة للأول بقيت عشرون والربح بينه وبين العامل الثاني على النصف، فيأخذ رب المال عشرة، ويأخذ العامل الثاني عشرة وقد علمت أن ربحه ستون فله منها النصف ثلاثون أخذ منها عشرة ويرجع

ص: 799

بتمامها وهو عشرون على العامل الأول، ولا رجوع لرب المال على العامل الأول لجبر خسره بربح العامل الثاني. وقال أشهب: لا يحسب رب المال على الثاني إلا الأربعين رأس ماله فيأخذها ثم يأخذ نصف الربح وهو ثلاثون. انتهى المراد منه.

وقوله: "كخسره" قال عبد الباقي: أو تلفه بسماوي أو ضياع بعضه أو نقصه ولو بتعد كما في أحمد أو جناية الأول على بعضه قبل دفع باقيه. انتهى. وقوله: ولو بتعد أو جناية الأول على بعضه لخ، قال البناني: نحوه لابن الحاجب ولو قارض تعديا فلا شيء له وللثاني ما شرط، فإن كان أكثر من ربحه غرمه وفي تعيين متبعه من القارض الثاني أو رب المال قولان لابن القاسم وأشهب، وكذلك لو خسر خسرانا متقدما أو كان بتعد. انتهى. وفي الشامل: فلو أخذ ثمانين فخسر نصفها ثم دفع باقيها لثان لم يعلم فصارت مائة أخذ ربه ثمانين رأس ماله وعشرة نصف ما بقي، وأخذ الثاني عشرة ورجع على الأول بعشرين، ثم قال: فلوأتلف الأول الأربعين تعديا رجع عليه ربه بتمام مائة وعشرة. انتهى. وقال البناني عند قوله: "كخسره وإن قبل عمله" ما نصه: الغرم في المسألتين مقيد بما إذا لم يعلم الثاني بتعدي الأول في الأولى يعني قوله: "وغرم للعامل الثاني" لخ وخسره في الثانية. انتهى.

والربح في هذا يرجع لقوله: "أو شارك وإن عاملا"، ولقوله:"أو باع بدين" يعني أن العامل إذا شارك بغير إذن من رب المال فإن الربح يكون بين العامل ورب المال على ما دخلا عليه، وكذلك إذا باع العامل بالنسيئة فإن الربح يكون بينهما على ما دخلا عليه، وأما في مسألة أو قارض فيجري فيها قوله:"والربح لهما" أي لرب المال والعامل بالنظر إلى العامل الثاني، وأما الأول فلا ربح له كما مر، وقال الشبراخيتي: وذكر بعضهم أن قوله والربح لهما راجع للمسائل العشر التي يضمن فيها العامل وهي من قوله: وشرطه أن لا ينزل واديا لخ، وفيه شيء لأنه لا ربح للعامل فيما إذا حركه بعد موته عينا، وكذا لا ربح للأول في مسألة المقارضة. انتهى المراد منه.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: قد سلم أن ما ذكره هذا البعض جار في ثمان من هذه العشر، وقد مر في مسألة التحريك بعد الموت أنه له الربح إن تجر لنفسه وإلا فلا. والله تعالى أعلم.

ص: 800

ككل آخذ مال للتنمية تشبيه في اللازم وهو عدم استبداد العامل بالربح أعم من أن يكون له حظ يشمل الجميع الذي أذكره؛ يعني أن كل من أخذ مالا للتنمية أي لأجل أن ينميه لربه وحده، فتعدى واتجر به لنفسه فحصل فيه خسر أو تلف فإنه يكون عليه، فإن حصل ربح فلرب المال وحده نظرا لما دخلا عليه كالمبضع معه فالعامل هنا لا شيء له، ويشمل كلامه أيضا ما إذا أخذه لأجل أن ينميه لربه ولنفسه كعامل القراض إذا شارك في المال أو باع بدين أو نحو ذلك بغير إذن ربه فخسارته عليه وحده والربح له ولرب المال، فالعامل هنا له حظ من الربح، واحترز بقوله:"للتنمية" عن كل من أخذ مالا لا على وجه التنمية كالمودع والغاصب والوصي إذا حركوا المال العين بالتعدي إلى أن نما، فإن الربح لهم والخسارة عليهم.

تنبيه قال عبد الباقي عند قول المص "ككل آخذ مال للتنمية" ما نصه: كوكيل على بيع شيء ومبضع معه ثم قال ما ذكرنا من أن الوكيل لا ربح له إذا تعدى محله فيما باعه بالوكالة، فإذا أمره ببيع سلعة بعشرة فباعها بأكثر فلا ربح له، وأما لو باعها بما أمره به ثم اتجر في الثمن فربح فالربح له، وكذا لو دفع له ثمنا يشتري به سلعة فاتجر به فالربح له لأنه كالمودع في الصورتين، لكن في التتائي عند قول المص:"وإن أمرته بمائة" لخ أنه إذا أمره بشراء جارية معينة بمائة فاشترى غيرها ثم باعها بمائة وعشرة ثم اشترى بالمائة وعشرة شيئا لنفسه فباعه بمائة وعشرين قسمت العشرة الثانية أحد عشر جزءا، عشرة منها لك وجزء له والخسارة عليه.

لا إن نهاه عن العمل قبله عطف على مقدر وهو: "والربح لهما" إن لم ينهه عن العمل قبل العمل؛ يعني أن رب المال إذا نهى العامل عن العمل قبل أن يعمل فإن القراض منحل بينهما، وحينئذ فإذا تعدى العامل بالعمل فإن الربح يختص به العامل ولا شيء منه لرب المال، قال عبد الباقي: ثم عطف على مقدر بعد قوله: "والربح لهما" إن لم ينهه عن العمل، قوله:"لا إن نهاه عن العمل قبله" أي العمل وانحل عقد القراض حينئذ ولم يجز له أن يعمل به له، فإن عمل به فالربح له فقط لأن المال صار بيده كالوديعة، فليس قوله:"لا إن نهاه عن العمل قبله" راجعا لقوله: "والربح لهما" الذي ذكره المص، بل لما يفهم من كلامه وليس في هذه عامل ثان، وإنما فيها العامل المعقود معه القراض، فالضمير في نهاه للعامل لا بقيد كونه ثانيا ثم كون الربح للعامل

ص: 801

فقط حينئذ قيده ابن حبيب بما إذا لم يقر أنه اشتراه للقراض وإلا فالربح لهما لالتزامه لرب المال نصيبه من الربح، فليزمه الوفاء به ويضمن المال ولم يعتبره المص لبحث ابن عبد السلام فيه باحتمال أن يقال: إنما التزم الربح على شرط عدم الضمان. انتهى.

وقال المواق: ابن الحاجب: أما لو نهاه عن العمل قبل العمل فاشترى فكالوديعة له ربحها وعليه غرمها، ومن المدونة: إذا لم يشغل العامل المال حتى نهاه ربه أن يتجر به فتعدى فاشترى به سلعة لم يكن فارًّا وضمن المال والربح له، كمن تعدى على وديعة عنده فاشترى سلعة فهو ضامن للوديعة والربح له بخلاف الذي نهاه رب المال عن شراء سلعة. وإن نهيته عن شراء سلعة في عقد القراض الصحيح أو بعد العقد قبل أن يعمل به ثم اشتراها فهو متعد ويضمن، ولك تركها على القراض وتضمينه المال ولو كان قد باعها كان الربح بينكما على شرطكما، والوضيعة عليه خاصة لأنه فر بالمال من المال

(1)

حتى تعدى ليكون له ربحه، وكذلك إن تسلف من المال ما ابتاع به سلعة بنفسه ضمن ما خسر، وما ربح كان بينكما. انتهى.

ولو جنى كل أو أخذ شيئا فكأجنبي يعني أن العامل أو رب المال إذا جنى أحدهما على شيء من مال القراض أو أخذ أحدهما شيئا منه فإن حكمه حكم جناية الأجنبي في أنه لا يعد مفاصلة ولا يحاسب بربح ما أخذ، فيجب رد ما أخذ إلى المال الباقي كما يرد ذلك من يد الأجنبي؛ أي فيكون ما بقي بعد الأخذ أو بعد الجناية هو رأس مال القراض والربح لما بقي، ويضاف ما في ذمة الآخذ إلى الباقي وإلى ما حصل في الباقي من الربح بعد الأخذ ويقسم الجميع، وهذا معنى كونه كأجنبي، والحاصل أن الأجنبي الذي قدر على الانتصاف منه هو المراد هنا فلا يجبر ما جنى عليه أو أخذه بالربح، بل يؤخذ منه ذلك ويجعل في الربح وفيما بقي ويقسم، والذي لم يقدر على الانتصاف منه يجبر نقصه بالربح كالسماوي، وقال البناني عند قوله:"أو جنى كل" لخ: أي لا يعد ذلك مفاصلة ولا يحاسب بربح ما أخذ. ابن عبد السلام: لأن المفاصلة إنما تكون بعد نضوض رأس المال، فإذا كان كذلك كان أخذ أحدهما كأخذ الأجنبي له يجب رده إلى المال كما يرد ذلك من يد الأجنبي. انتهى.

(1)

في المواق ج 5 ص 431: من القراض.

ص: 802

أبو الحسن: ولا يحاسب بقدر ما كان من ربح فيما تسلفه، وفي المدونة: وإذا كان القراض بمائة فاشترى به عبدا يساوي مائتين فجنى عليه رب المال جناية نقصته مائة وخمسين ثم باعه العامل بخمسين فعمل فيها فربح مالا لم يكن ذلك من رب المال قبضا لرأس المال وربحه حتى يحاسبه ويفاصله، فإذا لم يفعل فذلك على رب المال مضافا لهذا المال. انتهى. وقد علمت مما مر أنه لا فرق بين أن تكون الجناية قبل العمل وأن تكون بعده، واعلم أن الربح لا يجبر الأخذ ولا الجناية لا قبل شغل المال ولا بعده واعلم أن ما جناه العامل أو أخذه هو في ذمته على كل حال عمل بنفسه أوأعطاه لغيره، فقول عبد الباقي: ثم كلام المص مقيد بما إذا عمل العامل بنفسه فيه نظر، وكذا قوله مقيد أيضا بما إذا كان قبل شغل المال لخ، ففيه نظر أيضا كما مر التنبيه عليه قريبا.

ولا يجوز اشتراؤه من ربه يعني أن العامل لا يجوز له قبل العمل أي يكره أن يشتري بمال القراض عرضا من رب القراض لأن ذلك يؤدي إلى قراض بعروض؛ لأن رأس المال رجع إلى ربه وكأنه دفع الآن عروضا، وأما لنفسه من غير مال القراض فجائز وكذا بعد العمل ولو للقراض كما في أحمد عن التوضيح. قاله عبد الباقي. وقوله: لأنه يؤدي إلى قراض بعروض لخ، قال الرهوني: أي يتهمان على ذلك كما قاله ابن رشد في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب القراض، ونصه: لأنهما يتهمان إلى القصد إلى القراض بالعرض. انتهى. وهذا هو الصواب في التعليل لا ما ارتضاه البناني تبعا للمسناوي؛ لأنه يقتضي الكراهة ولو وقع الشراء بعد العمل لوجود العلة فيه وهي تدور مع معلولها وجودا وعدما مع أن الزرقاني تبعا للتوضيح قيد الكراهة بما إذا كان الشراء قبل العمل وسلم له ذلك البناني نفسه وغيره، وأصله لابن رشد في الرسم المذكور ءانفا، ونصه: وهذا عندي إذا وقع الشراء بالذي دفع إليه قبل أن يصرفه كان قد غاب عليه أو لم يغب، وأما إن وقع الشراء بما نض بيد العامل مما باعه من السلع التي اشترى بالقراض فيصدقان على أنهما لم يعملا على ذلك قولا واحدا. والله أعلم. انتهى.

وبحث التوضيح في هذه العلة بكراهته في المدونة مصارفته مع رب المال مع أن الصرف لا يتصور في العروض، فالصواب تعليل الكراهة بالعلة الأخرى التي ذكروها أيضا وهي خوف محاباة رب

ص: 803

المال بأن يشتري منه السلعة بأكثر من ثمنها، فيؤدي ذلك إلى أن يجبر العامل النقص الحاصل بسبب المحاباة بالربح، فيكون لرب المال أكثر مما دخلا عليه. انتهى. قاله الشيخ المسناوي. انتهى. وهذه العلة هي العلة التي تقدم رد الرهوني لها لأنها تقتضي الكراهة، ولو وقع الشراء بعد العمل لوجودها فيما بعد العمل، وأجاب الرهوني عن البحث المذكور في الصرف بأنه يدخله الصرف المستأخر. انظر ذلك فيه إن شئت. وقوله:"ولا يجوز اشتراؤه من ربه" قد مر عكس هذا في قول المص: "واشتراء ربه منه إن صح". والله تعالى أعلم.

أو بنسيئة وإن أذن يعني أن العامل لا يجوز أن يشتري القراض بالنسيئة بأن يأخذ سلعة للقراض بدنانير مؤجلة فإن ذلك لا يجوز ولو أذن له رب المال في ذلك، فإن فعل ضمن والربح له، وقد تقدم أن العامل يجوز له أن يبيع بالنسيئة إذا أذن له رب المال، وهنا قال: لا يجوز له الشراء بالنسيئة وإن أذن رب المال، والفرق أن بيعه بالدين فيه تعريض لإتلاف المال وهو من حق ربه، فإذا أذن جاز له ذلك وأما شراؤه بالدين فإنه يكون ضامنا فالربح له ولا شيء منه لرب المال؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ربح ما لم يضمن، فكيف يأخذ رب المال ربح ما يضمنه العامل في ذمته؟ وقوله:"أو بنسيئة" أي للقراض، وقوله:"أو بنسيئة وإن أذن" هذا حيث كان لرب المال حصة من الربح ولو كان الربح كله للعامل جاز؛ لأنه [تخلص من نهيه عليه الصلاة والسلام عن ربح ما لم يضمن

(1)

].

البناني: ابن عرفة: سمع أبو زيد ابن القاسم: لا خير في شراء العامل المتاع بنظرة أيام؛ لأنه يضمن الدين إن تلف وإن ربح أعطاه نصف الربح. ابن رشد: إن نزل فالربح والوضيعة للعامل وعليه، وهو قوله في الموازية وهو ظاهر المدونة؛ ولو أذن له رب المال في ذلك إلا أن يأذن له أن يشتري على القراض على إن ضاع مال القراض ضمن ذلك في ذمته فيجوز وتكون السلعة على القراض. ابن عرفة: قوله فيجوز وتكون السلعة على القراض خلاف ما تقدم للخمي من كون العامل في ذلك أجيرًا وهو الصواب لأنها زيادة على القراض الأول بعد اشتغاله. ابن رشد: هذا في

(1)

سنن أبي داوود، أبواب الإجارة، رقم الحديث، 3504، الترمذي، كتاب البيوع، رقم الحديث، 1234، سنن ابن ماجه، كتاب التجارات، رقم الحديث، 2188.

ص: 804

غير المدير، وأما المدير فله الشراء على القراض بالدين حسبما ما مضى في سماع ابن القاسم. ابن عرفة: لأن عروض المدير كالعين في الزكاة ويجب أن يقيد ذلك بكون ما يشتريه بالدين يفي به مال القراض وإلا لم يجز. انتهى.

أو بأكثر يعني أن العامل لا يجوز له أن يشتري سلعا للقراض بأكثر من مال القراض، للنهي عن ربح ما لم يضمن وذلك لأن العامل يضمن ما زاد في ذمته ويكون في القراض، وحينئذ يؤدي إلى ما ذكر، فإن فعل كان له أجر مثله، وأما إن اشترى بالزائد لنفسه فإنه يكون شريكا بنسبة ذلك كما مر. قاله غير واحد. والله تعالى أعلم.

ولا أخذه من غيره إن كان الثاني يشغله عن الأول أخذه مصدر مضاف لفاعله والضمير حينئذ للعامل أو مضاف لفعوله والضمير للقراض؛ على الاستخدام والضمير في غيره لرب القراض يعني أن العامل لا يجوز له أن يأخذ قراضا ثانيا من غير رب المال، ومحل عدم الجواز إن كان الثاني يشغله عن العمل في القراض الأول؛ لأن رب المال استحق منفعة العامل، فإن لم يشغله عن العمل فيه جاز له أن يأخذ قراضا ثانيا، قال الخرشي: ومفهوم "من غيره" جوازه منه وإن كان الثاني يشغله عن الأول. انتهى. ونحوه لغيره قوله: ومفهوم لخ هذا هو قوله المار أو متعاقبين وإن بمختلفين لخ، وقال المواق من المدونة: قال مالك: إن أخذ من رجل قراضا فله أن يأخذ قراضا من رجل آخر إن لم يكن الأول كثيرا يشغله الثاني عنه، فلا يأخذ حينئذ من غيره شيئا، قال ابن القاسم: فإن أخذ وهو يحمل العمل بهما فله أن يخلطهما ولا يضمن ولا يجوز أن يكون ذلك بشرط من الأول أو الثاني. انتهى. قوله: "ولا أخذه من غيره" لخ، فإن فعل وشغله عن الأول لم يكن عليه سوى رأس المال على المشهور، وقيل قدر ما حرمه من الربح وكذا إن اشتغل بالأول عن الثاني جرى فيه القولان، وإنما ضمن لأنه متعد في أخذه وهذا إذا لم يعلمه بأن في يده قراضا لغيره، أوأعلمه ولم يعلمه أنه عاجز عن القيام بالمالين. انظر الحطاب.

ولا بيع ربه سلعة بلا إذن يعني أنه لا يجوز لرب المال أن يبيع سلعة من سلع القراض بغير إذن العامل وإذا منع في سلعة فأحرى في الجميع؛ لأن العامل هو الذي يحرك المال وينميه وله حق فيما يرجوه من الربح، فإن أذن العامل لرب المال في البيع فقد رضي بإسقاط حقه. قاله الخرشي.

ص: 805

وقال المواق من المدونة: قال مالك: لا يبيع رب المال عبدا من القراض بغير إذن العامل، وللعامل رده وإجازته. انتهى.

وجبر خسره وما تلف وإن قبل عمله الخسر هو النقص الحاصل من حوالة الأسواق والتلف هو الحاصل بأمر سماوي من الله تعالى؛ يعني أن مال القراض إذا حصل فيه خسر ولا يكون إلا بعد العمل، أو تلف بأمر سماوي من الله تعالى سواء كان قبل العمل أو بعده، فإن ذلك يجبر بالربح مثال الخسر ما لو قارضه بثمانين على النصف فباعها بسلعة فرخص السوق فباع تلك السلعة بأربعين ثم باع واشترى إلى أن صار المال مائتين مثلا، فإنه لا يأخذ الربح على أن رأس المال أربعون، بل يأخذ على أن رأس المال ثمانون، فالحاصل من الربح بعد الأربعين يجبر به النقص الحاصل في الثمانين، بمعنى أنه يأخذ رأس ماله الثمانين من المائتين وما بقي وهو عشرون ومائة يقتسمانه على التناصف، ومثال التلف ما إذا تلف أربعون من الثمانين بأمر سماوي قبل العمل ثم ربح في الأربعين مائتين فأجْرِها على ما مر في الخسر يا فتى، وكذا لو تلفت بعد العمل كما لو باع الثمانين بسلعتين فتلفت إحداهما فباع الأخرى بخمسين ثم ربح فيها مائتين فأجرها على ما مريا فتى، وكذا لو باع السلعتين بمائة فتلفت منها ستون ثم ربح في الأربعين مائتين فأجر ذلك على ما مر يا فتى.

والحاصل أنه لا ربح إلا بعد أخذ رأس المال الذي تعاقدا عليه ولو حصل فيه خسر أو تلف، وقوله:"جبر" بالبناء للفاعل وهو الربح وحينئذ فلا نقص في كلامه، أو بالبناء للمفعول ويكون نقص بالربح، قال المواق: ومن ابن يونس: القضاء في القراض ألا يقسم فيه ربح إلا بعد كمال رأس المال. انتهى. قال مالك: وإذا ضاع بعض المال بيد العامل قبل العمل أو بعده أو خسره أو أخذه لص أو العشار ظلما لم يضمنه العامل، إلا أنه إن عمل ببقية المال جبر بما ربح فيه أصل المال، فما بقي بعد تمام رأس المال الأول كان بينهما على ما شرطا، ولو كان العامل قد قال لرب المال لا أعمل حتى تجعل ما بقي رأس المال ففعل أو أسقط الخسارة فهو أبدا على القراض الأول وإن حاسبه وأحضره. انتهى. انظر الشارح.

ص: 806

وقال عبد الباقي: وجبر خسره بالربح الذي يحصل في الباقي وإن شرط خلافه أي خسر مال القراض الواحد كما في النقل، وينبغي في المتعاقبين إن شرطا خلطا أن يجبر أيضا ربح أحدهما خسر الآخر وجبر بالربح أيضا ما تلف أي بعضه بسماوي أو أخذ لص، أو عشار ولو علما وقدر على الانتصاف منهما، أو قتل عبد من عبيد القراض واقتص من قاتله المماثل والخسر ما نشأ عن تحريك والتلف ما كان لا عن تحريك، وكلام المص في القراض الصحيح أو الفاسد الذي فيه قراض المثل، وأما الذي فيه أجرة المثل فلا يتأتى فيه جبر، وسيذكر قريبا تلف جميعه، ومعنى جبر المال بالربح الذي يحصل في الباقي أنه يكمل منه أصل المال، وما بقي بعد تعام رأس المال يقسم بينهما على ما شرطا. انتهى.

قوله: ولو علما وقدر على الانتصاف منهما، قال الرهوني: فيه نظر، بل غير صحيح لأنهما إذا

علما وقدر على الانتصاف منهما داخلان في قول المص قبل فكأجنبي فالواجب تقييد اللص والغاصب ونحوهما بما إذا لم يعرف أو عرف ولم يقدر على الانتصاف منه، وكلام اللخمي كالصريح في ذلك فإنه قال ما نصه: فإن قدر بعد ذلك على الغاصب للخمسين كانت في الربح واقتسماها نصفين. انتهى. وهو يدل على أن الغاصب الذي جبر الربح ما أخذه كان غير مقدور عليه وهو واضح غاية. والله أعلم.

وقوله: وينبغي في المتعاقبين إن شرطا خلطا أن يجبر ربح أحدهما خسر الآخر، قال البناني: قد علم مما تقدم أن شرط الخلط ممنوع بعد شغل الأول، وإنما يكون الأول عينا وحينئذ فلا يتصور الربح من أحدهما دون الآخر لوجود الخلط، اللهم إلا أن يقال إن العامل خالف ما شرط عليه من الخلط وتجر في كل مال وحده فيحكم له بحكم الخلط. والله تعالى أعلم.

إلا أن يقبض يعني أن محل الجبر بالربح في مسألتي الخسر والتلف إنما هو حيث لم يقبض رب القراض المال ولو أحضره العامل وحاسبه كما مر، وأما إن قبضه ورده له فإن هذا قراض مؤتنف فلا يجبر بربحه تلف الأول وخسره، قال عبد الباقي: وظاهر كلام المص أن الربح يجبر خسره وما تلف ولو اتفق معه على أن الباقي فقط رأس المال وهو ظاهر ما لمالك وابن القاسم، وحكى

ص: 807

الشارح مقابله عن جمع، قال: واختاره غير واحد وهو الأقرب لأن الأصل إعمال الشروط ما لم يعارضه نص لخبر: (المؤمنون عند شروطهم). انتهى. بتقديم وتأخير.

قوله: وهو ظاهر ما لمالك وابن القاسم لخ، قال الرهوني: بل هو مصرح به عنهما في المدونة وغيرها، وصرح ابن ناجي بأنه المشهور ونص المدونة: ولو كان العامل قد قال لرب المال لا أعمل حتى تجعل ما بقي رأس المال ففعل وأسقط الخسارة فهو أبدا على القراض الأول، وإن حاسبه وأحضره ما لم يقبضه. انتهى. ومثله في ابن يونس عنها، وزاد ما نصه: قال أصبغ على باب الصحة والبراءة. انتهى. قال ابن ناجي في شرحها: قوله ولو كان العامل قد قال لرب المال لخ، ثم أصبغ قوله بأن يكون قبضه الحسي على باب الصحة والبراءة. حكاه ابن يونس. قال المغربي: البراءة أن يتبرأ والصحة احتراز من أن يضمرا في أنفسهما القراض الأول، وما ذكره في الكتاب هو المشهور. انتهى. وهو تابع في تشهيره لقول شيخه ابن عرفة: إنه المعروف من المذهب، وقول الزرقاني، وحكى الشارح مقابله عن جمع أصل ما في الشارح للتوضيح، وسمى الجمع الذي أبهم الشارح، وأصل ما في التوضيح لابن يونس فإنه ذكره عن ابن حبيب، وزاد عقبه ما نصه: قاله ربيعة ومالك والليث ومطرف وابن الماجشون ومن لقيت من أصحاب مالك إلا ابن القاسم. انتهى.

لكن تعقبه بقوله بعده: قال أبو محمد بن أبي زيد: والذي ذكره ابن حبيب عن ابن القاسم هو قول ربيعة والليث ذكره ابن المواز، قال: وأخبر أصحاب مالك عنه أنه قال: لا يجوز أن يتفاصلا حتى يحضر جميع المال ثم يقبض رأس ماله ثم يقتسمان الربح. انتهى. ونحوه في التوضيح عن المازري، ونصه: المازري: وهذا الذي نقله ابن حبيب عن هؤلاء الفقهاء رأيت ابن المواز نقل عنهم خلافه. انتهى. وقول عبد الباقي: قال الشارح واختاره غير واحد لخ أصل ما في الشارح للتوضيح تبعا لابن عبد السلام وقد تعقبه عليه ابن عرفة، فقال: ما ذكره عن غير واحد لا أعرفه، ومشاهير مؤلفي المذهب كالصقلي واللخمي والتونسي وابن رشد ونحوهم ليس لهم في ذلك شيء، وكذا ما نقله عن الموطإ يعني قول ابن عبد السلام: إن ظاهر الموطإ ما اختاره غير واحد، وقول عبد الباقي: لأن الأصل إعمال الشروط أصله للتوضيح أيضا. نقله أبو علي. وجسوس وسلماه.

ص: 808

وفيه نظر لقول التوضيح نفسه قبل هذا: إذا اتجر فخسر ثم ربح فإن الخسران يجبر بالربح، وإنما يقتسمان في زاد على رأس المال لأن هذه سنة القراض ولا خلاف في ذلك. انتهى. فهذا نص صريح منه على أن القائلين بإعمال الشرط متفقون مع القائلين بإلغائه على أن سنة القراض عند السكوت هي الجبر، وإذا كان الحكم ما ذكر فالأصل في الشروط الخالفة لمقتضى العقد إلغاؤها لا إعمالها وقد اعتبروا ذلك هنا، فصرح في المدونة وغيرها بأن شرط ضمان العامل يفسده وعللوه بمناداة سنة القراض، وقالوا في شرط أن لا يجبر الخسر بالربح إنه ملغى وعللوه بما تقدم فتأمله بإنصاف والله أعلم. انظر الرهوني.

وله الخلف يعني إذا تلف بعض مال القراض بعد العمل فإن لرب المال أن يخلفه للعامل يعمل فيه، وله أن لا يخلفه فإن خلفه لزم العامل قبوله. وإن تلف جميعه أي جميع مال القراض لم يلزمه أي لم يلزم العامل قبول الخلف، فتقدير الكلام وله الخلف سواء تلف جميعه أو بعضه، لكن إن تلف بعضه لزم العامل قبول الخلف وإن تلف جميعه لم يلزمه قبول الخلف، قال الخرشي: والحاصل أن رب المال لا يلزمه الخلف تلف الكل أو البعض، فإن أخلف رب المال لزم العامل القبول في تلف البعض لا الكل إن كان التلف بعد العمل، وفي تلف الجميع يكون الثاني قراضا مؤتنفا فلا يجبر خسر الأول بالثاني، وفي تلف البعض يكون رأس المال الأول ويجبر خسر الأول بالثاني ونحوه لعبد الباقي وهو الصواب، قال ابن يونس: ابن المواز: قال ابن القاسم: ولو أخذ مائة قراضا فأخذ له اللصوص خمسين فأراه ما بقي فأتم له المائة لتكون هي رأس المال، فإن رأس المال في هذا خمسون ومائة حتى يقبض ما بقي على المفاصلة، وكذلك لو رضي أن يبقي ما بقي رأس المال لم ينفعه ذلك، وأما لو أخذ اللصوص جملة رأس المال فأعطاه رب المال مالا آخر فلا جبر في ذلك، وهذا الثاني هو رأس المال وإنما يصح الجبر إذا بقي من الأول شيء. انتهى.

تنبيه: ما قدمته من أنه إذا تلف البعض وأخلفه رب المال للعامل يلزمه قبوله هو لغير واحد كما عرفت، قال البناني: محل لزوم العامل قبول ذلك إن كان الباقي عرضا وإنما لزمه القبول حينئذ لينض المال فيرده لربه كما دفعه له لا لأجل الربح، فإن كان الباقي عينا لم يلزمه القبول كتلف

ص: 809

الجميع. انتهى. قال عبد الباقي: وليس المراد من تلف الجميع قتل عبد عمدا عبدا اشتري بجميع مال القراض واستحياه ولي المقتول الذي هو رب مال القراض وأخذه وتساوت قيمتهما؛ لأنه يلزم العامل العمل فيه قراضا، فإن اختلفت خير في العمل وتقدم حكم ما إذا قتل وهو بعض مال القراض. انتهى.

ولزمته يعني أن العامل إذا اشترى سلعة للقراض ثم ذهب ليأتي بثمنها من مال القراض فوجده قد ضاع ولم يخلفه ربه، فإن السلعة تلزم العامل بالثمن وتكون السلعة له خاصة، والحاصل أن رب المال يخير في دفع الثمن وتركه، فإن دفعه فالسلعة باقية على القراض وإن لم يدفعه فإن السلعة تكون للعامل يختص بها ويلزمه غرم ثمنها، قال المواق من المدونة: إذا اشترى العامل سلعة ثم ضاع المال خير ربه في دفع ثمنها على القراض، فإن أبى لزم العامل الثمن وكانت له خاصة. انتهى. وقال الشبراخيتي: وإذا اشترى العامل سلعة وضاع المال وأبى ربه من خلفه لزمته أي لزمت العامل السلعة التي اشتراها، فإن لم يكن له مال بيعت عليه وما ربح فله وما وضع فعليه. انتهى.

وإن تعدد فالربح كالعمل يعني أنه إذا تعدد عامل القراض فإن الربح يفض عليهم على العمل كشركاء الأبدان، فقوله:"كالعمل" معناه أن الربح في القراض حيث تعدد العامل يكون مفضوضا عليهم على حسب أعمالهم كمسألة الشركاء بالعمل، فإن كل واحد منهم إنما يأخذ على قدر عمله كما مر في باب الشركة ويجوز الإقدام على التعدد حينئذ بخلاف استواء الربح مع تفاوت العمل أو تفاوت الربح مع استواء العمل فلا يجوز هذا، وقال عبد الباقي: وكان الأنسب أن يقول فالعمل كالربح. هذا مراده. أي أن كل واحد عليه من العمل قدر ما جعل له من الربح، فإذا دفع القراض على أن لواحد نصف الربح ولآخر سدسه فعلى صاحب السدس ربع عمل القراض وعلى صاحب النصف ثلاثة أرباعه؛ لأن النصف ثلاثة أسداس يضم لها السدس الرابع، ثم ينسب واحد لمجموع الأربعة فالعمل كله عليهما بتلك النسبة، وليس لرب المال عمل وله اشتراط كونه عند أحد العاملين مع لزوم العمل لهما، فإن اختلفا في بيع أو شراء فالقول لمن وضع عنده، فإن وضعه عندهما رداه لربه إن لم يتفقا. انتهى.

ص: 810

وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: وإن قارضت رجلين على أن لك نصف الربح ولأحدهما الثلث وللآخر

(1)

السدس لم يجز، كما لو اشترك العاملان على مثل هذا لم يجز لأن أحدهما يأخذ

(2)

ربح صاحبه بغير شيء، قال أصبغ: ويفسخ فإن فات بالعمل كان نصف الربح لرب المال والنصف بين العاملين على ما شرطا، ويرجع صاحب السدس على صاحبه بإجارته في فضل جزئه، وقال ابن حبيب: قال ابن المواز: ولو شرط العمل على قدر إجارتهما

(3)

من الربح لكان مكروها إلا أن ذلك إذا نزل مضى، قال فضل: ظاهر المدونة أنه لو كان عملهما على قدر إجارتهما

(4)

من الربح جاز. عياض: ونحو هذا لحمديس. انتهى.

وقال الشارح قوله: "كالعمل" أي يكون لكل واحد من الربح بقدر عمله، فلا يجوز أن يتحدا في العمل ويختلفا في الربح كشركاء الأبدان، وهذا هو المشهور وهو مذهب ابن القاسم، وفهم صاحب البيان المدونة عليه لتعليله فيها بأنهم كالشركاء، وكرهه في كتاب محمد، واعترض سحنون هذا المنع وقال بالجواز ابن رشد وهو اعتراض صحيح بين. انتهى. قال الرهوني: فلا يعدل عن

(5)

المشهور، وقول ابن القاسم في المدونة: لاعتراض سحنون وتصحيح ابن رشد له. انتهى. وقال الخرشي: يعني أن عامل القراض إذا تعدد فإن الربح يفض عليهم على قدر العمل كشركاء الأبدان؛ أي فيأخذ كل واحد من الربح بقدر عمله فلا يجوز أن يتساويا في العمل ويختلفا في الربح أو بالعكس، بل الربح على قدر العمل على المشهور. انتهى. قوله: على المشهور، قال الرهوني: هذا التشهير صرح به الشارح والحطاب واعترضه سحنون وقال بالجواز، قال ابن رشد: اعتراض سحنون صحيح بين ثم قال: فلا يعدل عن

(6)

المشهور، وقول ابن القاسم في المدونة لاعتراض إلى آخر ما مر.

(1)

في الأصل: ولآخر، والمثبت من التهذيب ج 3 ص 515.

(2)

في الحطاب ج 6 ص 117 ط دار الرضوان والتهذيب ج 3 ص 515: يأخذ بعض ربح.

(3)

في المواق ج 5 ص 433: أجزائهما.

(4)

في المواق ج 5 ص 433 والتنبيهات ج 4 ص 2042: قدر أجزائهما.

(5)

في الأصل: يعول على، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 334.

(6)

في الأصل: يعول على، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 334.

ص: 811

وقال عبد الباقي: عند قوله: "فالربح كالعمل": أي على قدره ويجوز الإقدام على التعدد حينئذ بخلاف استواء الربح مع تفاوت العمل أو تفاوت الربح مع استواء العمل فلا يجوز ولهما حينئذ أجر مثلهما على الراجح كما يفيده الحطاب، قال الرهوني: ما ذكره من أن كلام الحطاب يفيد ذلك صحيح وهو خلاف ما رجحه أبو علي، فإنه قال: مفهومه إن لم يكن كذلك فالقراض غير جائز ويقسم الربح بينهما على ما شرطا إلى آخر كلامه، ثم قال الرهوني بعد كلام ما نصه: فالصواب ما رجحه الحطاب ومن تبعه وهو الذي اختاره أبو الوليد بن رشد لخ.

فرع: قال في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى من كتاب القراض ما نصه: أرأيت المتقارضين يقتسمان المال فيتلف من أحدهما ويؤدي الآخر هل يلزم الذي أدى غرم ما لم يود صاحبه أم لا ضمان عليه فيما تلف بيد صاحبه؟ أم هل يكونان متعديين حين اقتسما المال أم ما الأمر فيه؟ قال: نعم يلزم الذي أدى ما تلف من صاحبه، قال القاضي: أوجب ابن القاسم على المتقارضين ضمان المال إذا اقتسماه وهو قول ابن الماجشون في الوصيين، فيضمن كل واحد منهما على مذهبه ما بيده وما بيد صاحبه إن تلف شيء من ذلك، وكذلك المودعان والمستبضعان ثم وجهه، ولسحنون في الوديعة والقراض أنهما إذا اقتسماهما لم يضمناهما، وكذلك البضاعة على مذهبه إذ لا فرق في ذلك بين القراض والوديعة والبضاعة وهو قول أشهب وابن عبد الحكم في الوصيين، ثم وجه هذا القول أيضا وقال ما نصه: وقول ابن القاسم أظهر ونقله ابن عرفة مختصرا وأقره، وعلى الضمان في الوصيين اقتصر المص في باب الوصية. انتهى. والله أعلم. نقله الرهوني.

وأنفق إن سافر قال الخرشي: يعني أن العامل إذا سافر للتجارة وتنمية المال فإنه ينفق من مال القراض جميع نفقته بالعرف مدة سفره ومدة إقامته ببلد يتجر فيه إلى أن يرجع إلى بلده، فقبل الخروج لا نفقة له وظاهره ولو شغله التزود للسفر عن الوجوه التي يقتات بها، وتقييد اللخمي ضعيف. انتهى. وقال عبد الباقي: وأنفق العامل أي جاز له الإنفاق من مال القراض أي قضي له به إن سافر أي شرع أو احتاج لما يشرع به في سفره لتنمية المال ولو لدون مسافة قصر زمن سفره وإقامته ببلد يتجر فيه، فينفق لطعام وشراب وركوب ومسكن وحمام وحلق رأس وحجامة وغسل ثوب ونحوه معتادا كما يأتي حتى يعود لوطنه لا سرفا، ومفهوم الشرط لا نفقة له في الحضر

ص: 812

وقيده اللخمي بما إذا لم يشغله عن الوجوه التي يقتات بها وهو معتبر كما في أبي الحسن خلافا للتتائي. انتهى.

قال البناني: جعل الخرشي تقييد اللخمي خاصا بما إذا شغله التزود للسفر عن الوجوه التي يقتات منها؛ أي وأما إذا شغله العمل بالقراض في الحضر فلم يقل به اللخمي وليس كذلك بل تقييد اللخمي يشمل الصورتين، قال ابن عرفة: قال اللخمي: محل قول مالك بسقوطها في الإقامة على أن عمل القراض لم يعطله عما كانت نفقته تقوم منه ولو كانت له صنعة أو تجارة منها نفقته فعطلها لأجل عمل القراض كانت له نفقته كسفره. انتهى. ونحوه في التوضيح. وزاد: وعلى هذا التقييد حكى ابن القاسم المسألة مقتصرا عليه. انتهى. وقال الشارح قال عبد الوهاب: الإجماع على وجوب النفقة للعامل إلى زمن الشافعي، فقال في أحد قوليه: لا نفقة له، وقوله:"إن سافر" أي إن ظعن من بلده وذلك يتناول أيضا ما إذا أقام في سفره ببلد لأجل التجر وتنمية المال فلو أقام بوطنه فلا نفقة، وقاله في المدونة وغيرها، وقيده اللخمي بما إذا لم يشغله عن الوجوه التي يقتات منها، وإن شغله فله النفقة كالمسافر، وقال الليث: لا بأس أن يتغدى بالأفلس إن شغله ذلك في الحضر. انتهى.

وقال الشبراخيتي: وأنفق العامل على نفسه من مال القراض في طعام وشراب وركوب ومسكن وحمام وحلق رأس وحجامة وفصد وغسل ثوب ونحوه من المعتاد لا سرفا، بشروط أشار لأولها بقوله:"إن سافر" به من بلد القراض أي إن شرع في السفر بأن انفصل عن المحل الذي هو فيه وخرج منه وينفق في ذهابه وإقامته ورجوعه حتى يصل لبلده، وظاهره ولو كان سفره دون مسافة القصر وهو كذلك في المدونة، ومفهوم الشرط أنه لا نفقة له في الحضر إن أقام ببلد القراض ولو كان في وقت شرائه وتجهيزه وهو كذلك في المدونة وغيرها، وقيدها أبو الحسن بما إذا لم يشغله عن الوجوه التي يقتات منها وإلا فله النفقة كالمسافر، ونحوه للخمي. انتهى.

وقال عبد الباقي: ولاستمرار النفقة على نفسه شروط أشار لأولها وجعل إن سافر موضوعا لأصل الإنفاق وما هنا لاستمرارها كما عبر به التتائي، فقال:"ولم يبن بزوجته" لخ، قال البناني: قوله ولاستمرار النفقة شروط لخ لا يصح بالنسبة لما بعد الشرط الأول؛ يعني بالأول قوله: "ولم يبن

ص: 813

بزوجته" فإن قوله: "واحتمل المال" وما بعده شرط في أصل الإنفاق لا في استمراره. انتهى. والله تعالى أعلم.

وأشار إلى ثاني الشروط بقوله: ولم يبن بزوجته يعني أن محل كون العامل ينفق من مال القراض في سفره إنما هو إذا لم يتزوج في حال سفره أو تزوج ولم يبن بها، وأما إن تزوج في حال سفره وبنى بزوجته فإنه لا نفقة له من مال القراض حينئذ، قال الخرشي: ونحوه لعبد الباقي وهذا أي محل إنفاقه من مال القراض ما لم يتزوج في حال سفره، فإن تزوج وبنى بها أو دعي إلى الدخول فإنه لا نفقة له من مال القراض حينئذ. انتهى. وهذا غير قوله لغير أهل لأنه في هذه سافر لمحل ليس له فيه زوجة ثم تزوج به، ومسألة لغير أهل سافر لمحل له به زوجة وجبت نفقتها عليه. انتهى. ولم يبن فيما سافر له للتجر بزوجته التي تزوجها في بلد تجره، فإن بني أو دعي له سقطت نفقته من القراض لأنه حينئذ كالحاضر، فإن بني بها في طريقه لبلد التجر لم تسقط. انتهى. وقال الشبراخيتي: ولم يبن في البلد الذي سافر إليه للتجر فيه أو للشراء منه بزوجته التي تزوجها في سفره، وأما لو بني بها فلا تسقط النفقة كما يفيده النقل والسرية كالزوجة، ومثل البناء وجوب النفقة عليه بالدعاء بشرطه، والظاهر أنه إذا طلقها طلاقا بائنا تعود له النفقة ولو كانت حاملا؛ لأن النفقة للحمل لا للزوجة. انتهى. وللوانوغي في حاشيته عند قول المدونة: ولو خرج بالمال من بلده إلى بلدة فنكح بها وأوطنها فمن يومئذ تكون نفقته على نفسه. انتهى، ما نصه: قوله فنكح بها، القابسي: يريد ودعي إلى الدخول لأنه إذا دُعِيَ لزمته النفقة للزوجة فيكون حينئذ مستوطنا. انتهى. ونقله ابن غازي وأقره. انتهى.

وأشار إلى ثالث الشروط بقوله: واحتمل يعني أنه يشترط في إنفاق العامل على نفسه من مال القراض أن يكون المال يحتمل النفقة بأن كان المال له بال فلا نفقة في المال اليسير، وهل الكثرة بالاجتهاد كما وقع في المدونة لمالك؟ ووقع له السبعون يسير وله أن ينفق في الخمسين وجمع بينهما بحمل الأول على السفر البعيد والثاني على القريب. انتهى. وفهم من قوله:"ولم يبن بزوجته" وقوله: "لغير أهل" أنه لو سافر بزوجته أن له النفقة على نفسه فقط في سفره ذهابا وإيابا، وأما في إقامته بالبلد فانظر هل له النفقة بناء على أن الدوام ليس كالابتداء أم لا؟ وهو

ص: 814

ظاهر كلامهم هنا بمنزلة بلد بنى بها بزوجته بناء على أن الدوام كالابتداء. ابن عبد السلام: لو كان بيده مالان لرجلين وكل منهما لا يحتمل الإنفاق ومجموعهما يحتمل الإنفاق فإنها تجب على نصوص المذهب والقياس سقوطها، وحجة كلّ في سقوطها ظاهرة. ابن عرفة: لَمْ أر هذه الرواية لغيره. قاله عبد الباقي. البناني: ظاهره أن هذا الكلام لابن عبد السلام وأن ابن عرفة اعترض عليه وليس كذلك، ونص كلام ابن عرفة: وروى اللخمي إن حمل المالان باجتماعهما النفقة ولا يحملانها بانفرادهما فله النفقة والمقياس سقوطها لحجة كلّ منهما بأنه إنما دفع مالًا تجب فيه نفقة. ابن عرفة: لا أعرف هذه الرواية لغيره ولم أجدها في النوادر وهي خلاف أصل المذهب فيمن جنى على رجلين مالًا تبلغ جنايته على كلّ منهما ثلث الدية وفي مجموعهما ما يبلغه أن ذلك في ماله لا على العاقلة، فالرواية للخمي ولا اعتراض عليه ولم ينقل ابن عرفة عن ابن عبد السلام في هذه شيئًا. انتهى.

وأشار لرابع الشروط وهو كون السفر. للمال بقوله: لغير أهل وحج وغزو متعلق بقوله: "سافر" يعني أن العامل ينفق على نفسه من مال القراض بشرط أن يكون سفره لغير أهل وحج وغزو بأن يسافر للتجر بمال القراض، وأما إن سافر لأحد هذه الثلاثة بأن سافر للأهل أي الزوجة أو سافر للحج أو سافر للغزو فإنه لا نفقة له، والمراد بالأهل الزوجة المدخول بها قديما والمتقدمة بنى بها في حال التجارة، ثم قال عبد الباقي: وأما أقاربه غير الزوجة فهم كالأجانب هذا مقتضى كلامهم. انتهى.

قال الرهوني: انظره مع قوله بعد بقريب ومثل الحج والغزو سفره لصلة رحم فإنهما متدافعان، إلَّا أن يقال مراده بالأول أن القصد في الأول للتجارة في بلد فيها أقاربه، ومراده بالثاني أن القصد صلة الرحم والتجارة تبع لذلك. فتأمله انتهى. ويقال أيضًا: إن السفر للأقارب قد يكون لغير صلة الرحم بل لحبهم ولغير ذلك من الحاجة إليهم. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه. قال الشبراخيتي: ومثل سفر الحج والغزو السفر لسائر القرب كصلة الرحم ورْيارة الأولياء، ثم إنه لا نفقة له في السفر للقربة حتى في رجوعه بخلاف رجوعه من عند أهله لبلد ليس له بها أهل، والفرق أن سفر القربة والرجوع منه لله تعالى، ولا كذلك الرجوع من عند الأهل ويؤخذ من هذا التعليل أن من

ص: 815

سافر لبلد تجر في كهند ويمن ومر بمكة لكونها بطريقه وقصد الحج أيضًا فإن له النفقة بعد فراغه من النسك وتوجهه لبلد التجر. انتهى. ونحوه لعبد الباقي والخرشي.

بالمعروف لغو متعلق بأنفق أي إنفاقا متلبسا بالمعروف، والمراد بالمعروف ما يناسب حاله وصريح كلام عبد الباقي أن قوله "بالمعروف"، وقوله: في المال كلّ منهما مستقر حال، ونصه حال كون ما ينفقه أو كاننا ما ينفقه بالمعروف وكائنا في المال أي مال القراض لا في ذمته، وتوضيح معنى المصنّف أن تقول إنفاق العامل من مال القراض إنما يكون بالمعروف أي لا ينفق منه إلَّا ما جرت العادة به من الإنفاق المعتاد ولا ينفق سرفا، وهذه النفقة المعتادة إنما تكون في مال القراض لا في ذمة القارض بالكسر وهو رب المال، فإن أنفق في سفره من مال نفسه رجع في مال القراض، فإن هلك أو زاد إنفاقه عليه بطرو حادث فيه لَمْ يلزم ربه قال عبد الباقي: قال الوالد: وينبغي إذا أنفق سرفا أن يكون له القدر المعتاد. انتهى. وقال الخرشي: مفسرا للمص يعني أن نفقة العامل بالمعروف أي النفقة الجارية بها العادة أي بالنسبة لا يناسب حاله وهذه النفقة تكون في مال القراض لا في ذمة رب المال، وكذا إن زادت النفقة على مال القراض لَمْ يرجع بالزائد على رب القراض، قال الشبراخيتي: ولا يخالف هذا قوله: "واحتمل" لأنه قد يعرض للمال ما تصير به النفقة التي أنفقها أكثر منه.

واستخدم إن تأهل يعني أن عامل القراض له أن يستخدم أي يكري خادما يخدمه من مال القراض إذا كان العامل متأهلا لأن يخدمه غيره بأن كان مثله لا يخدم نفسه، وقوله:"إن تاهل" أي مع الشروط السابقة وهي أن يسافر ولم يبن بزوجته واحتمل المال، وأن يكون سفره لتنمية المال. انظر الخرشي. وقال عبد الباقي: واستخدم العامل أي أكرى خادما في السفر من مال يتحمله إن تأهل أي كان أهلا لأن يخدمه خادم وإلا لَمْ يستخدم كفي حضر مطلقًا؛ لأن رضاه بعمله بنفسه في القراض يقتضي عدم استخدامه وإن تأهل، وأيضا الاستخدام من جملة الإنفاق وهو إنما يكون في السفر للتجر واحتمل المال كما مر، فإن لَمْ يحتمل المال لَمْ يستخدم وأما عدم البناء بزوجة وكونه لغير حج وغزو وقربة فلا يعتبر في الاستخدام خلافا لأحمد، وتقدم أن

ص: 816

الركوب من جملة النفقة فيعتبر فيه

(1)

ما يعتبر فيها لا ما يعتبر في الخدمة والكسوة. انتهى. وقوله: فلا يعتبر في الاستخدام خلافا لأحمد قال البناني: فيه نظر، والظاهر ما قاله أحمد من اعتبار الشروط المتقدمة بدليل قول ابن عبد السلام: الخدمة أخص من النفقة وكل ما هو شرط في الأعم شرط في الأخص. انتهى.

تنبيه: قال المواق: قال ابن رشد: وافق ابن القاسم مالكا إن كانت البضاعة كثيرة لها بال أن للمبضع معه أن يفض نفقته على البضاعة وعلى ماله قياسا على القراض. انتهى المراد منه. وقال الشارح عند قوله: "واستخدم" ما نصه: وهكذا قال ابن القاسم في المدونة. وزاد إن كان المال كثيرًا. انتهى.

لا دواء بالجر عطف على مقدر يعني أن العامل ينفق على نفسه من مال القراض إن سافر لمعاشه لا لدواء فلا يتداوى من مال القراض، وليس من الدواء حجامة وفصد وحلق رأس وحمام احتيج له وإنما هي من النفقة كما تقدم. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: لا دواء لمرض أصابه لأنه ربما طال فأنفق غالب المال ثم إنه يصح في دواء الجر عطفا على مقدر؛ أي وأنفق في معاشه لا في دواء والرفع على أن لا عاملة عمل ليس والخبر محذوف أي لا له دواء أي ليس له دواء.

واكتسى إن بعد يعني أن العامل له أن يكتسي من مال القراض إن بعد سفره حتى امتهن ما عليه من الثياب فيكتسي إن احتاج للكسوة، وإن لَمْ يبعد المكان الذي هو به فالمراد ببعد السفر طول الزمن الذي يحتاج معه إلى الكسوة، قال الشبراخيتي: وجعل ابن القاسم في المدونة الشهرين والثلاثة طولا ولا يكتسي في الزمن القصير كشهر وإن خلقت ثيابه واحتاج للكسوة، ثم لا يكتسي مع الطول إلَّا إذا احتاج إلى ذلك، وظاهر كلام المصنّف أنه لا يعتبر في الكسوة ما يعتبر في النفقة، وذكر المواق أنه يعتبر فيها احتمال المال. انتهى.

وقال الخرشي: يعني أن عامل القراض يكتسي إن بعد سفره ويلزم من البعد طول الزمن فيؤخذ باعتبار لازمه، فلا يكتسي في الزمان القصير، وقوله:"إن بعد" أي مع بقية الشروط السابقة، وإنما سكت عنه لوضوحه لأن ما كان شرطا في الأعم فهو شرط في الأخص والبعد زائد على

(1)

في الأصل: فيها، والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 227.

ص: 817

الإنفاق. انتهى. وقال عبد الباقي: واكتسى إن بعد سفره حتى امتهن ما عليه بالطريق أو بموضع إقامته للتجر إقامة طويلة يحتاج معها للكسوة فإنها منزلة منزلة بعده كما في التتائي، وقوله:"إن بعد" أي مع الشروط السابقة وسكت عنه لوضوحه؛ لأن ما كان شرطا في الأعم فهو شرط في الأخص والبعد زائد على الإنفاق، وجَعْلُ ابن القاسم في المدونة الشهرين والثلاثة طولا معناه إذا احتاج لها وإلا لَمْ يكن له ثم إنه إنما يكتسي مع البعد إن احتمل المال كالنفقة كما مر، وفي كون البضاعة كالقراض في النفقة والكسوة وسقوطهما فيها وكراهتهما فيها ثلاثة أقوال كما في التتائي عن ابن عرفة، واقتصر الأقفهسي على أنَّها مثله. انتهى. قوله: أو بموضع إقامته للتجر لخ انظر عزوه للتتائي وهو في المدونة وغيرها، وانظر نص المدونة في المواق. انتهى.

تنبيهات: الأول: قال الرهوني في نوازل سحنون من كتاب القراض ما نصه: وسئل سحنون عن القارض يسلب هل يكتسي من مال القراض؟ قال: نعم، قال القاضي: هذا بين على ما قاله لأنه إذا كان من حقه أن يكتسي من مال القراض وجب إذا سلب كسوته أن يخلفها من مال القراض لا فرق بين الأولى والثانية. وبالله التوفيق. انتهى.

الثاني: قال المواق ما نصه: وانظر لمن تكون الكسوة عند الفاصلة نصوا على أنَّها تبقى للعامل بخلاف بقية النفقة. انتهى. قوله: تبقى للعامل فيه إجمال قال الرهوني: قال مالك: فيما يفضل عن المقارض إذا قدم من سفره مثل الجبة وأشباه ذلك ما علمت أنه يؤخذ منه مثل هذا، قال القاضي: مثل هذا في نوازل سحنون أن رب المال إذا أخذ ماله من العامل لا يأخذ منه الثياب التي كان اشتراها لسفره من مال القراض إلَّا أن يكون لها قدر وبال وهو مثل قول مالك في موطإه. انتهى المراد منه. ونص ما في نوازل سحنون من كتاب القراض إذا كانت الثياب لها قدر وبال فإنها ترد وتباع ويدخل ثمنها في جملة المال، وإن كانت ثيابا خلقة تافهة ليس لها قدر وبال تركت للعامل كما قال مالك في القربة والحبل والشيء الخفيف التافه قال القاضي: مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم وهو نحو ما في الموطإ ولا اختلاف في ذلك أحفظه. وبالله التوفيق.

ص: 818

الثالث: قد مر قول عبد الباقي: وفي كون البضاعة كالقراض في النفقة لخ، قال الرهوني: ما ذكره عن ابن عرفة هو كذلك فيه، وعزا الأول لسماع ابن القاسم مع رواية محمد، وعزا الثاني لسماع القرينين، وعزا الثالث لرواية أشهب ثم قال: وصوب هو أي ابن رشد واللخمي والصقلي الثاني. انتهى. وقد أغفل عزو الأول لابن القاسم نفسه مع أنه مصرح به في سماع ابن القاسم الذي ذكره كما نقله ابن يونس آخر كتاب الوكالات، ونصه: ومن العتبية قال ابن القاسم عن مالك في المبضع معه ببضاعة أيحسب عليها من نفقة نفسه، قال: إن كانت كثيرة فذلك له، وأما التافه فلا. وقاله ابن القاسم. انتهى. ومثله لأبي الحسن. وهذا يدلُّ على رجحانه. ولذلك والله أعلم اقتصر عليه الأقفهسي. قاله الرهوني.

ووُزِّعَ إنفاق العامل إن حضج العامل لحاجة لنفسه غير ما مر في قوله لغير أهل وحج وغزو على مال القراض وما ينفقه في خروجه لحاجته وعلى كلّ ما ينوبه حيث أخذ القراض قبل أن اكترى للحاجة وتزود لها، بل وإن أخذ مال القراض بعد أن اكترى للحاجة وتزود لها، وإيضاح كلامه أن تقول إذا خرج الإنسان لحاجة تخص نفسه أي أراد الخروج لها وقد قورض قبل أن يكتري لخروجه لهذه الحاجة وتزوده لها، بل وإن قورض أي أخذ القراض بعد أن اكترى للخروج لها وبعد أن تزود لأجل الخروج لها وهذه الحاجة التي خرج لها وتزود لها ليست بزوجة ولا حج ولا غزو، بل هي غير ذلك فإن نفقته توزع أي تجزأ على ما ينفقه في خروجه لهذه الحاجة، وعلى مال القراض فإذا كان ينفق في حاجته مائة وفي مال القراض مائة كان على كلّ نصف ما ينفقه، فيكون نصف نفقته من مال القراض ونصفها الآخر عليه في ماله، وما ذكره المؤلف نص المدونة ورد المص بالمبالغة على اللخمي القائل بسقوط النفقة عن مال القراض في هذه الحالة كالذي خرج لأهله وعزاه للمعروف من المذهب وعزاه في اختصار المتيطية للمشهور، قال الخرشي: ونحوه لعبد الباقي وارتضاه ابن عرفة بقوله: ومعروف المذهب خلاف نصها. انتهى.

البناني: في كلامه نظر بل لَمْ يرتضه ابن عرفة ولم يقل ذلك، بل تعقبه عليه ونصه: الصقلي: فيها لمالك إن خرج في حاجة لنفسه فأعطاه رجل قراضا فله أن يفض النفقة على مبلغ قيمة نفقته ومبلغ القراض. اللخمي: من أخذ قراضا وكان خارجا لحاجته فمعروف المذهب لا شيء له كمن

ص: 819

خرج إلى أهله، وقال أيضًا: ينظر قدر نفقته في سفره يجعل كأنه رأس مال وتفض على قدره من قدر القراض. ابن عرفة: جعل معروف المذهب خلاف نصها ومثله سمع ابن القاسم. انتهى. وقال المواق: من المدونة: قال ملك: من تجهز لسفر بمال أخذه قراضا ثم أخذ قراضا ثانيا من غيره فليحتسب نفقته وركوبه على المالين، قال مالك: وإن خرج في حاجة لنفسه فأعطاه رجل قراضا فله أن يفض النفقة على مبلغ قيمة نفقته في سفره ومبلغ القراض، فيأخذ من القراض حصته ويكون باقي النفقة عليه، قال في العتبية: ينظر قدر قيمة نفقته فإن كانت مائة والقراض سبع مائة فعلى المال سبعة أثمان النفقة. انتهى. وقوله: "ووزع" لخ هذا الذي قررته به قرر به غير واحد وهو الذي في العتبية وغيرها ونحوه في المدونة، وقال العوفي: الصحيح عندي حمل قول ابن القاسم على أن الحاجة أقلّ من مسافة القراض أو أكثر والإقامة فيها أقلّ أو أكثر من الإقامة في القراض، فلذا اعتبر القيمة، فأما لو سئل عما إذا تساوت المسافة وتساوت الإقامة لأجاب بما قاله في مسألة الصلح عن موضحتي عمد وخطإ بأنهما نصفان. نقله البناني. وحمل التتائي المص على أن معناه وكان خروجه لحاجته بعد أن اكترى وتزود للخروج للقراض. قاله الشبراخيتي. [وعلى

(1)

] هذا يكون المص لَمْ ينبه على الخلاف فالتقرير الأول هو الظاهر. والله تعالى أعلم.

وإن اشترى عامل القراض من مال القراض من يعتق على ربه أي رب مال القراض حال من العامل عالما بأنه قريبه وإن لَمْ يعلم بالحكم إذ الجهل به لا أثر له عندهم كما قال ابن عبد السلام، عتق الرقيق الذي اشتراه العامل عليه أي على العامل بمجرد الشراء كما في المواق لتعديه، ولا يحتاج لحكم إن أيسر العامل والولاء لرب المال، ويغرم له العامل رأس ماله وحصته من الربح الحاصل فيه قبل الشراء، كما لو أعطاه مائة رأس مال فتجر بها فصارت مائة وخمسين فاشترى بها ابن رب المال عالما بأنه ابنه فيغرم لربه مائة وخمسة وعشرين حيث كان للعامل نصف الربح ولا يلزم ردها للعامل قراضا ولا قبوله لها، وقول التتائي: وجعل ذلك في القراض معناه إن شاءا معا ويكون قراضا مؤتنفا، وكون ضمير عليه للعامل يفيده قوله:"إن أيسر" وما بعده، وكذا قوله:"وغيرها" لخ فعلى ربه قال جميعه عبد الباقي. قال البناني: ما ذكره من غرم

(1)

ساقطة من الأصل.

ص: 820

رأس المال وحصة ربحه من الربح فقط إن أراد المفاصلة، فإن أراد بقاء القراض غرم ثمنه كله. انتهى. والظاهر أن فيه مخالفة لقول عبد الباقي ويكون قراضا مؤتنفا. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه.

وإلا أي وإن لَمْ يكن العامل موسرا بل كان معسرا بيع من العبد بقدر ثمنه أي بقدر رأس المال، فالضمير في ثمنه لرب المال لا للعبد فلو عبر برأس المال كان أولي، وحصة رب من ربحه قبله أي ربح رب المال الكائن قبل الشراء، فإن اشتراه بمال القراض قبل حصول ربح فيه بيع منه بقدر ثمنه فقط أي بقدر رأس المال فقط.

وعتق باقيه إن وجد من يشتريه مبعضا وإلا بيع كله لأجل حق رب المال؛ لأن العامل كأنه التزم عتقه عن رب المال، مثال ذلك لو كان أصل القراض مائة فتجر بها العامل فربح مائة فاشترى بالمائتين قريب رب المال وكان هذا القريب ثلاثمائة فإنه يباع منه النصف بمائة وخمسين مائة رأس المال وخمسون حصة رب المال قبل الشراء، ويعتق منه النصف لأن حصة العامل قبل الشراء خمسون أفسدها على نفسه والمائة الربح في نفس العبد هدر وهذا إذا وجد من يشتري بعضه كما مر، فإن لَمْ يوجد إلَّا من يشتريه كله أو أكثر من رأس من المال وحظ ربه من الربح بيع كله في الأول وأكثره في الثاني ويأخذ العامل حصته من الربح قبله وفيه وكذا رب المال، وقولهم لا يربح الشخص فيمن يعتق عليه معناه حيث عتق وأخذ حظه من الربح، وأما إن بيع ولم يعتق فيأخذ ربحه كما أنه قد يحسب عليه فيما وجب له إذا عتق كمسألة اشتراء العالمل من يعتق على نفسه الآتية في قوله:"ومن يعتق عليه". انتهى.

قال عبد الباقي: وفي ذكرناه من أن قوله: "بقدر ثمنه وربحه" راجع لقوله: "بيع" عليه جماعة" ويصح رجوعه لقوله: "عتق" أيضًا فيتنازعه مع قوله: "بيع" ويكون مع تعلقه بعتق على حذف مضاف قبل بقدر أي عتق بغرم قدر ثمنه؛ لأنه لا يعتق قدر ثمنه وربحه بل يعتق جميعه مع غرم العامل قدر رأس المال وحصة ربه من الربح قبله، كما أشار له أحمد. انتهى.

ص: 821

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: وقد عرف أن الكلمة ترجع إلى شيئين، ويختلف التوجيه في رجوعها لهما كما في الحديث الشريف:(ألا أخبركم بمعنى لا حول ولا قوة إلَّا بالله؟ لا حول عن معصية الله إلَّا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلَّا بعون الله). انتهى. والله تعالى أعلم.

وغير عالم فعلى ربه يعني أن العامل إذا اشترى من يعتق على رب المال والحال أن العامل غير عالم بالقرابة حين الشراء، فإن القريب المشترى يعتق على رب القراض بمجرد الشراء لدخوله في ملكه لا على العامل ولا شيء عليه لعذره بعد علمه بقرابته لرب المال.

وللعامل ربحه فيه يعني أن العامل إذا اشترى من يعتق على رب المال والحال أن العامل غير عالم بقرابته من رب المال، فإنه يعتق على رب المال كما عرفت ويكون للعامل ربحه في العبد وأولى قبله. قاله عبد الباقي وغيره. واعترضه مصطفى قائلا: مراد المص الربح الكائن قبل الشراء فقط، واستدل بأن كلام المص كقول المدونة وعليه للعامل حصة ربحه إن كان فيه فضل. انتهى. فقال ابن رشد: يريد إذا كان في المال ربح يوم الشراء مثل أن يكون رأس مال القراض مائة ويربح فيها مائة أخرى ثم يشتريه بالمائتين، فنصيب العامل منه على هذا التنزيل الربع، فيغرم رب المال للعامل قيمة ربع العبد يوم الحكم إن كان له مال يوم الحكم ويعتق كله عليه، وإن لَمْ يكن له مال بقي ربعه رقيقا للعامل. هذا معنى قوله في الكتاب وإرادته. نقله أبو الحسن. ومثله للغرياني قائلا: فإن لَمْ يكن في الثمن ربح لكن إن بيع هذا بيع بربح فلا شيء للعامل لأنه يعتق بنفس العقد على رب المال قاله غير واحد من الشيوخ. انتهى.

ونقل ابن عرفة كلام المدونة وكلام ابن رشد المتقدم بإثرها وأقره مقتصرا عليه، وقال: قوله قيمة ربع العبد صوابه ربع قيمة العبد. انتهى. قال مصطفى: إذا علمت هذا فقول الأجهوري ومن تبعه ربحه فيه وأولى ربحه قبله غير صواب. انتهى. قال البناني: قلت قول ابن رشد للعامل قيمة ربع العبد صريح في أن له نصيبا من الربح الواقع فيه، وإلا لَمْ يكن إلَّا ربع الثمن في مثاله. فتأمله. انتهى. قال الرهوني: قول البناني: قلت قول ابن رشد للعامل قيمة ربع صريح في أن له نصيبا من الربح لخ صواب ولم يجب -يعني البناني- عن احتجاج مصطفى بكلام الغرياني، وجوابه أنه لا حجة فيه على رد ما للزرقاني؛ لأن موضوع كلام الزرقاني أن المال فيه ربح يوم الشراء

ص: 822

وذلك يدلُّ على أنه إذا لَمْ يكن فيه ربح يومئذ أنه لاحق للعامل، وإن كان العبد لو بيع بيع بربح وهذا عين ما للغرياني، ووجه الفرق بين الصورتين ظاهر لأنه إذا كان في المال ربح فقد تحققت الشركة في المال المشترى به فتحقق في الرقبة المشترأة أيضًا فنماؤها ونقصانها بينهما، وإذا لَمْ يكن في المال ربح يوم الشراء فلا حق للعامل فيه إذ ذاك، والرقبة تعتق بنفس الشراء كما تقدم في كلام ابن رشد

(1)

فلم يتقرر له شركة في الرقبة أصلا. والله تعالى أعلم. وقول البناني عن ابن عرفة: صوابه ربع قيمة العبد، هذا الاعتراض غير مسلم لأنه مبني على أن

(2)

من أعتق جزء عبد مشترك أن يقوم عليه جميعه ويغرم لمن شاركه جزءهم من القيمة، وابن رشد لا يقول بذلك بل يقول الواجب عليه غرم قيمة أجزائهم كما قاله هنا، وهذا الذي قاله هو ظاهر المدونة والرسالة، وصرح ابن ناجي والقلشاني بأنه المشهور وإن كان المص اعتمد تقويمه كاملا. انظر ما قيدناه فيما يأتي يتضح لك سقوط اعتراض أبي عبد الله بن عرفة على أبي الوليد وإن سلمه غير واحد من أهل النظر السديد. والله أعلم. اننهى.

ومن يعتق عليه وعلم عتق عليه بالأكثر من قيمته أو ثمنه يعني أن العامل إذا اشترى من مال القراض من يعتق عليه أي على العامل نفسه فإنه يعتق عليه أي على العامل نظرا لأنه شريك، ويعتق عليه بحكم كما في المواق بناء على أنه أجير كان في المال فضل أم لا، ويتبع رب المال العامل بالأكثر من قيمة الرقيق يوم الحكم بالعتق كما في التوضيح وابن عرفة، وثمنه الذي اشتراه به فأيهما أكثر كان له أن يتبعه به فيعطيه القيمة إن كانت أكثر من الثمن؛ لأنه مال أخذه ينميه لصاحبه فليس له أن يختص بربحه أو الثمن إن كان أكثر من القيمة لأنه أتلفه على ربه لغرضه

(3)

في قريبه، وقوله:"بالأكثر من قيمته أو ثمنه" قال عبد الباقي: ويتبعه بما ذكر ما عدا حصة العامل من الربح في الأكثر المذكور، ولا يلزم عليه ربحه في قريبه لأنه لَمْ يأخذه وإنما أسقط عنه، فإذا دفع له مائة رأس مال فربح فيها خمسين واشترى بها ولد نفسه عالما عتق عليه، فإن كان

(1)

ساقطة من الأصل، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 337.

(2)

في الرهوني ج 3 ص 337: على أن الواجب على من أعتق.

(3)

في عبد الباقي ج 6 ص 229: لفرضه.

ص: 823

ثمنه أكثر من قيمته غرمه ما عدا حصته من الربح في الثمن، وإن كانت قيمته يوم الحكم أكثر غرمها ما عدا حصته من الربح في ثمنه.

"لو لَمْ يكن في المال فضل مبالغة في عتق العبد على العامل أي في قوله: "عتق عليه" يعني أن العامل إذا اشترى بمال القراض من يعتق عليه أي على العامل وهو عالم بأنه قريب له أي للعامل، فإنه يعتق على العامل ولو لَمْ يكن في المال الذي اشتراه به فضل أي ربح بأن كان قدر رأس المال أو دونه، ولكن العامل موسر كما سيذكره، قال البناني: لأنه لما كان عالما فكأنه تسلف ذلك المال فلا يقال إذا لَمْ يكن في المال فضل فقد اشتراه بمال غيره، فلم يدخل في ملكه حتى يعتق عليه كما قال به المغيرة وعليه رد بلو، وهذا أولى مما وجهه به الزرقاني لأنه ينتقض بما بيده. انتهى؛ يعني قوله لأنه بمجرد قبض المال تعلق به حق له فصار شريكًا، ورد بالمبالغة على من يقول إنه إذا لَمْ يكن في المال ربح لا يعتق لأنه لا يتعلق حقه بالمال، ويكون شريكا إلَّا إذا حصل فيه ربح. انتهى. والحاصل أن المال إذا اشتراه به وهو على قدره أو أقلّ عتق على العامل باختلاف، فإن كان المال حصل فيه ربح واشتراه من مال القراض عتق على العامل باتفاق القولين. وإلا أي وإن لَمْ يكن العامل حين اشترى قريب نفسه عالما بأنه قريبه فإنه يعتق عليه أيضًا بقيمته يوم الحكم بالعتق ما عدا حصة العامل من الربح منها لا بالأكثر من القيمة والثمن كما في مسألة العلم، والباء في قوله "بقيمته"، وفي قوله: "بالأكثر" من قيمته أو ثمنه" باء المقابلة. وعلم مما قررت أن في قوله: "بعتقه"

(1)

مسامحة كما في التي قبلها لاقتضائه أنه يغرم القيمة كلها أو الأكثر كله وليس الأمر كذلك، وقوله:"فبقيمته" محل عتقه في هذه حيث كان في المال فضل وإلا لَمْ يعتق منه شيء كما في المواق عن ابن رشد، وإذا لَمْ يعتق منه شيء فيما ذكر المواق فيباع ويدفع لرب المال ماله، وظاهر قوله:"فبقيمته" أنَّها إذا كانت يوم الحكم أقلّ من رأس المال فإنه يغرم ذلك فقط، فإذا كان بيده مائة وتجربها فصارت مائتين واشترى بها قريبه غير عالم وقيمته يوم الحكم خمسون فإنه يغرم الخمسين، وهذا ظاهر لأنه معذور.

(1)

كذا في الأصل والذي في عبد الباقي ج 6 ص 229 بقيمته.

ص: 824

إن أيسر فيهما يعني أن محل عقق العبد [على]

(1)

، العامل بالأكثر من قيمته أو ثمنه في مسألة العلم وعتقه بقيمته في مسألة عدم العلم إنما هو إذا كان العامل موسرا، وهذا لا ينافي اشتراط يسره في المبالغة المتقدمة لإمكان يسره من غير مال القراض مع كونه لا فضل فيه، وإلا يكن العامل موسرا فيهما أي في مسألتي العلم بيع من العبد بقدر ما يجب على العامل لرب المال، والواجب له في العلم الأكثر من الثمن والقيمة وفي عدم العلم القيمة وهذا إن كان في المال فضل، فإن لَمْ يكن فيه بيع كله، وكلام المصنّف أعني قوله:"بيع بما وجب" فيه إجمال أبينه إن شاء الله تعالى.

واعلم أن الصور ثمانية وهي أن العامل إذا اشترى من يعتق عليه، فإما أن يكون عالما به أم لا وفي كل إما أن يكون في المال فضل أم لا فهذه أربع، وفي كلّ منها إما أن يكون العامل موسرا أو معسرا فهذه ثمان، وتفصيلها أن تقول إذا اشترى العامل من يعتق عليه وهو عالم بأنه قريبه عتق عليه بالأكثر من قيمته وثمنه الذي اشتراه به وفي المال فضل أم لا، وهاتان صورتان: صورة اتباعه بالثمن حيث كان الأكثر، الثانية سورة اتباعه بالقيمة حيث كانت أكثر، وفي هاتين الصورتين لا فرق بين أن يكون في المال فضل أم لا خلافا للمغيرة القائل: إنه إذا لَمْ يكن في المال فضل لا يعتق العبد على العامل.

والصورة الثالثة: أن لا يعلم العامل بأنه قريبه حين الشراء وفي المال فضل فإنه يعتق على العامل بالقيمة.

الصورة الرابعة: أن لا يعلم بالقرابة وليس في المال فضل فإنه يباع ويدفع إلى رب المال ماله وفي هذه الأربع العامل موسر وفي عسر العامل أربع أيضًا.

فتقول: الصورة الخامسة وهي الأولى من صور عسر العامل اشترى العامل من يعتق عليه وهو عالم معسر وفي المال ربح قال ابن رشد: يباع منه بقدر رأس المال وربح رب المال يريد يوم الحكم فيدفع إلى رب المال ويعتق ما بقي إن كان ما اشتراه به مثل قيمته يوم الحكم فأقل، وإن كان أكثر منها تبعه بالزائد مثاله لو اشترى بمائتين ورأس المال من ذلك مائة وقيمته يوم الحكم مائة وخمسون، فإنما يباع منه بمائة وخمسة وعشرين ويعتق الباقي ويتبعه في ذمته بخمسة وعشرين،

(1)

ساقطة من الأصل.

ص: 825

فقوله: ويتبعه لخ هذا إذا ابتاعه وهو عالم كما عرفت، وإلا لَمْ يتبعه بشيء وإنما لَمْ يبع لرب المال بقدر رأس ماله وحصته من الربح الحاصل قبل الشراء في المذكور وهو خمسون في حالة علمه لتشوف الشارع للحرية، وحينئذ فيقيد قوله بما وجب بما إذا لَمْ يزد ثمنه الذي اشترى به على قيمته يوم الحكم، فإن زاد بيع له بقدر رأس ماله وحصته من الربح الحاصل في القيمة يوم الحكم، وتبع رب المال العامل بما بقي له من الربح.

السادسة: اشتراه وهو عالم معسر وليس في المال ربح فلا يعتق عليه ويتبعه بقيمته دينا في ذمته. السابعة: اشتراه وهو غير عالم وهو معسر وفي المال فضل يباع بقدر رأس المال وحصة رب المال يوم الحكم ويعتق الباقي.

الثامنة: اشتراؤه وهو لا يعلم أنه يعتق عليه وهو أيضًا معسر ولا فضل فيه فإنه يباع ويدفع إلى رب المال ماله. انتهى. انظر المواق.

وإن أعتق مشترى للعتق غرم ثمنه وربحه يعني أن عامل القراض إذا اشترى من مال القراض عبدا للعتق أي اشتراه بقصد أن يعتقه وأعتقه وهو موسر فإنه ينفذ عتقه ذلك ويغرم لرب المال ثمنه أي رأس ماله وربحه إن كان فيه فضل، وتبع المؤلف في هذه العبارة ابن الحاجب فقال ابن عبد السلام: لعل المؤلف أراد بالثمن رأس المال وعلى هذا التقرير فالضمير في ربحه للثمن الذي هو رأس المال، وعليه فلا يغرم الربح الحاصل في العبد، وقرره البساطي والتتائي وهو ظاهر الشارح بأن معناه غرم الثمن الذي اشترى به العبد وربحه، وعلى هذا التقرير فالضمير في ربحه للعبد والتقرير الأول أصله لجد الأجهوري واستظهره مصطفى، قال: وما للشارح من اعتبار الربح الذي في العبد ليس بظاهر إذ لو كان كذلك لَمْ يكن فرق بينه وبين اشترائه للقراض.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: وتقرير الأجهوري ومن تبعه متعين، قال المواق: إذا أعتق العامل عبدا أو جارية من مال القراض، فإن كان موسرا اشتراه للعتق عتق عليه وغرم لرب المال رأس ماله أو رأس المال وربحه إن كان فيه فضل. انتهى.

كان كان موسرا واشترى عبدا للقراض ثم أعتقه غرم لرب القراض قيمته أي قيمة العبد الذي اشتراه للقراض وأعتقه يومئذ أي تعتبر قيمته يوم شرائه بمال القراض، فيغرمها العامل لرب

ص: 826

المال. قاله البساطي وتبعه التتائي. والذي في الشارح يوم العتق ونحوه في المواق عن ابن رشد. قاله عبد الباقي. إلَّا ربحه يعني أن العامل يغرم قيمة العبد المذكور لرب القراض ويحط عنه منها قدر ربحه، فالضمير في ربحه للعامل قال عبد الباقي: إلَّا ربحه أي حصة العامل من الربح الحاصل حتى في العبد من قيمته يوم العتق فلا يغرمها كذا في بعض النسخ بإلا الاستثنائية وفي بعضها بلا النافية وكلاهما هو الصواب دون نسخة وربحه.

فإن أعسر ما مر في المعتق المشترى للعتق أو للقراض محله إذا كان موسرا كما قررت، وأما إن أعسر العامل في مسألتي العتق المشترى للعتق أو للقراض بيع منه أي من العبد المعتق المشترى للعتق أو القراض، بقدر ما وجب لربه أي لرب القراض في المسألتين وهو رأس المال وربحه في الأولى وقيمته إلَّا ربحه في الثانية، وعتق على العامل ما بقي إن كان ربح وإلا لَمْ يعتق شيء. قاله التتائي. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: أي فإن كان العامل معسرا في الحالتين أي في حالة اشترائه للعتق وفي حالة اشترائه للقراض ثم أعتقه في الحالتين فإنه يباع من العبد بما لرب المال في العبد وهو ثمنه الذي اشتري به، وماله فيه من الربح إن كان في المال فضل فإن لَمْ يكن في العبد فضل فإنه لا يعتق منه شيء. انتهى.

وإن وطئ أمة قوم ربها أو أبقى إن لَمْ تحمل يعني أن العامل إذا اشترى من مال القراض أمة للوطء أو للقراض ووطئها في الصورتين، فإن لَمْ تحمل خير رب المال إن شاء اتبعه بقيمتها يوم الوطء وإن شاء أبقاها للقراض كما قاله ابن عبد السلام وهو ظاهر المص، وقرر عبد الباقي المص بما لابن شأس، فقال: يخير ربها بين أن يتبع العامل بقيمتها يوم الوطء وأن يبقيها للواطئ أيضًا لكن بالثمن الذي اشتراها به إن لَمْ تحمل فهي تبقى للعامل في التخييرين والقابلة بين الثمن والقيمة كما لابن شأس، وأقره ابن عرفة والناصر لا بين اتباعه بالقيمة وإبقائها للقراض كما للش والبساطي والتتائي، وظاهر المص سواء أيسر أوأعسر وحينئذ تباع أو بعضها فيما يختاره من قيمتها أو ثمن كما لابن شأس، وما ذكرناه من شموله للمشتراة للوطء والقراض مطابق للمتيطي وظاهر ابن عرفة وقصره التتائي وأحمد على الثاني، قال أحمد: المشتراة للوطء ولم يحبلها ينبغي أن يكون حكمه حكم الشريك. انتهى.

ص: 827

والحاصل أن المشتراة من مال القراض للوطء أو القراض ووطئها العامل في الصورتين حكمها حكم أمة الشركة، يخير رب المال بين أن يبقيها للقراض وأن يتبع الواطئ بالقيمة هذا هو الذي لابن عبد السلام وهو الحق إن شاء الله تعالى، وابن شأس وابن عرفة جعلا الأمة المذكورة ليست كأمة الشركة، بل قالا: إن رب المال يخير بين اتباع العامل بالقيمة فتبقى الأمة له وبين اتباعه بالثمن فتبقى الأمة له أيضًا، فالمقابلة عندهما بين الثمن والقيمة، قال عبد الباقي: وظاهر المص سواء أيسر أو أعسر وحينئذ تباع أو بعضها فيما يختاره من قيمة أو ثمن. انتهى.

وقد علمت أن عبد الباقي حمل المص على ما لابن شأس وقد جلب الرهوني في المسألة كثيرا من النقول، ثم قال ما نصه: فتحصل أن الحق ما قاله ابن عبد السلام لا ما قاله ابن عرفة، والصواب أن هذا في المشتراة للوطء والمشتراة للقراض كما قدمت، واعلم أن الأمة المشتركة إذا وطئت ولم تحمل فيها أربعة أقوال: أحدها وهو المعروف من المدونة والفسر فيها في غير ما كتاب أن سيدها بالخيار في التقويم والتماسك، ثانيها يجب عليه تقويمها، وثالثها يتقاومانها، رابعها إنما يجب عليه في نقصها. وقوله:"قوم" بالبناء للفاعل وهو ربها.

فإن أعسر اتبعه بها وبحصة الولد أو باع بقدر ماله هذا مرتب على مفهوم قوله: "إن لَمْ تحمل" يعني أن عامل القراض إذا وطئ أمة القراض ظلما أي من غير إذن رب المال له في وطئها فحملت، فإن كان الواطئ موسرا وقد اشتراها للقراض أخذ منه قيمتها يوم الوطء وتجعل في القراض وهي له أم ولد؛ لأنه من وطء شبهة فهو حر نسيب ولا شيء له من قيمة الولد، فإن كان معسرا فإن رب المال يخير بين أن يتبع العامل بقيمتها يوم الوطء على المشهور كما يفيده كلام ابن الحاجب لا يوم الحمل وبحصة ربها من قيمة الولد، وبين أن يباع له منها بقدر ماله وهو جميعها إن لَمْ يكن في المال فضل وإلا فهو رأس ماله وحصته من الربح ولو الحاصل فيها، وأما حصته من الولد فيتبعه بها ولا يباع لأنه حر ولا يباع شيء من الأم في قيمة الولد، فحذف بحصة الولد من هذا لدلالة الأول عليه، قال عبد الباقي: واعترض كلامه في الأول بأنه إذا اتبعه بقيمتها يوم الوطء فقد تحقق أنه تخلق على الحرية فلا شيء له من قيمته كما لابن رشد والمتيطي، ولذا قال الناصر: لو أخر المختصر قوله: "وبحصة الولد" عن قوله: "أو باع له بقدر ماله" كان أولى أي

ص: 828

ويقدر حينئذ، وتبعه بحصة الولد لا باع له بحصة الولد، وسكت المص عن حكم ما إذا أيسر لظهوره وهو اتباعه بقيمتها يوم الوطء ولا شيء عليه من قيمة الولد كما في أحمد لتخلقه على الحرية، وتكون به أم ولد. انتهى. قوله: فلا شيء له من قيمته لخ، قال البناني: نص المتيطي على اختصار ابن هارون وإن كان معدما والجارية للقراض فأحبلها خير رب المال في أن يتبعه بقيمتها يوم الوطء ولا شيء له في الولد، أو تباع إذا وضعت إن لَمْ يكن فيها ربح فيما لزمه من قيمتها ويتبعه بقيمة الولد فإن كان في المال فضل فإنه يباع منها بقدر رأس المال وحظ ربه من الربح ويتبعه بنصيبه من قيمة الولد، وإن شاء تماسك بحصته منها واتبعه بحصة الولد رواه عيسى عن ابن القاسم ولا شيء له عند أشهب من قيمة الولد. انتهى. ونحوه في الجواهر وابن عرفة. انتهى.

وإن أحبل مشتراة للوطء فالثمن واتبع إن أعسر يعني أن عامل القراض إذا اشترى جارية من مال القراض لأجل الوطء فوطئها وأحبلها، فإن كان موسرا فإنه يغرم ثمنها فقط أي الذي اشتراها به وإن كان معسرا فإنه يتبع بالثمن ولا يباع منها شيء لرب المال، فإن لَمْ تحمل فقد مر الكلام عليها في قوله:"وإن وطئ أمة قوم ربها أو أبقى" فإنه شامل لا إذا اشتريت للقراض أو للوطء، وقوله:"فإن أعسر اتبعه بها" لخ فيما إذا اشتريت للقراض وحملت، وقوله:"وإن أحبل" لخ فيما إذا اشتريت للوطء وحملت.

ولكل فسخه قبل عمله يعني أن المتقارضين لكل منهما أن يفسخ عقد القراض عن نفسه قبل العمل والسفر، ومعنى الفسخ أن يتركه ويرجع عنه قال عبد الباقي: ولكل من رب المال والعامل فسخه أي عقد القراض قبل عمله وسفره لأنه من العقود الجائزة لا اللازمة، قال أحمد: المراد بالعمل تحريكه المال، وأما السفر فمستفاد. من قوله: وإلا فلنضوضه. انتهى. وقال الشارح: يعني أن لكل من العامل ورب المال فسخ القراض عن نفسه والرجوع عنه قبل العمل لأنه منحل حتى يعمل فيلزم كلا منهما، وحكى المازري في العتبية قولين: أحدهما أنه لا يلزم بالعقد والثاني أنه لازم لرب المال فقط. انتهى. والأول منهما هو الذي مر عليه المص وهو المشهور.

ص: 829

كربه وإن تزود لسفر ولم يظعن يعني أن العامل إذا تزود من مال القراض لأجل السفر للعمل في مال القراض فإن رب المال له أن يفسخ عن نفسه عقد القراض حيث لَمْ يظعن العامل أي لَمْ يسر أي لَمْ يشرع في السفر، وليس للعامل أن يحل عقد القراض عن نفسه حينئذ إلَّا أن يدفع ثمن التزود لرب المال وإن تزود العامل من مال نفسه فليس لرب المال الانحلال إلَّا بعد دفع ثمن التزود للعامل.

والحاصل أن العامل إن تزود للسفر ولم يظعن فإنه ينظر إن كان التزود من مال القراض لزم العامل إلَّا بدفع ثمن التزود لرب المال، ولرب المال الفسخ لأنه لا ضرر على العامل في الفسخ بل الضرر إنما هو على رب المال لما صرف من متاعه، وإن كان التزود من مال العامل لَمْ يلزمه العقد ولزم رب المال إلَّا أن يدفع ثمن التزود للعامل. والله تعالى أعلم. وقوله:"وإن تزود" الواو للحال. قاله غير واحد. وقال المواق من المدونة: قال مالك: لرب المال رد المال ما لَمْ يعمل به العامل أو يظعن به لسفر وإن ابتاع به سلعا وتجهز يريد بعض البلدان فنهاه ربه أن يسافر به فليس له أن يمنعه بعد شرائه لأنه يبطل عليه عمله، كما لو اشترى سلعا فأراد رب المال أن يبيع ذلك مكانه فليس له ذلك ولكن ينظر السلطان فيؤخر منها ما يرجى له سوق ليلا يذهب عمل العامل باطلا. محمد: لو اشترى مثل الزاد والسفرة فإن رضي رب المال بأخذ ذلك بما اشتراه فذلك له، وإلا بأن عمل العامل فيه في الحضر أو ظعن فإنه يجب الصبر لأي إلى نضوضه أي نضوض المال، ومعنى نضوضه صيرورته عينا، وهذا مفهوم قوله:"قبل عمله" وقوله: لَمْ يظعن أي فإن عمل أو ظعن لزمهما العقد إلى أن ينض المال، وهذا إن لَمْ يتراضيا على الفسخ قبل نضوض المال، فإن تراضيا عليه فلهما ذلك. قال عبد الباقي: وإلا بأن عمل العامل فيه في الحضر أو ظعن فلنضوضه يجب الصبر إليه، فاللام بمعنى إلى لا تعليلية، وهذا إن لَمْ يتراضيا على الفسخ قبله وبنضوضه تم العمل إن نض ببلد القراض لا بغيره فله تحريكه ثانيا كبلد القراض إن جرى عرف بتحريكه مرّة أخرى فيما يظهر؛ لأنه أصل من أصول الشرع فيتبع إلَّا أن يتفقا على خلاف. انتهى. قوله:"لأنه" الضمير فيه للعرف. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه. والله تعالى أعلم.

ص: 830

وإن استنضه فالحاكم يعني أنه إذا استنض أحد المتقارضين المال أي طلب أن يجعل ناضا أي عينا فإنه ينظر الحاكم في الأصلح من تأخير نضوضه أو تعجيله، فيحكم به ويجوز قسمة العروض إذا رأى تعجيل ذلك أصلح كما إذا تراضيا وتكون بيعا، فالضمير المرفوع الستتر راجع لكل على البدلية والمنصوب البارز للمال، فإن لَمْ يكن حاكم فجماعة المسلمين وينبغي الاكتفاء باثنين. قاله عبد الباقي. وقال المواق من المدونة: قال مالك: ليس لرب المال جبر العامل على بيع سلع قراضه لأخذ رأس ماله وينظر الإمام فيها إن رأى وجه بيعها عجله وإلا أخره إلى الآن سوقها، كالحبوب تشترى في الحصاد ترفع لإبان بقائها والضأن تشترى قبل أيام النحر ترفع ليومه، اللخمي: وكذا العامل إن أراد تعجيل بيعها وأبى ربها. انتهى.

وإن مات فلوارثه يعني أن العامل إذا مات قبل نفوض المال فإن القراض لا يفسخ، وحينئذ فلوارثه الأمين أن يكمله أي العمل ولو كان أقلّ أمانة من موروثه، وإلا يكن الوارث أمينا أتى الوارث بأمين أي كان عليه أن يأتي بأمين يتم العمل في القراض، كالأمين الأول في أمانته وثقته بصيرا بالبيع والشراء بخلاف أمانة الوارث فلا يشترط فيها مساواتها لوروثه كما مر، والفرق أنه يحتاط في الأجنبي ما لا يحتالم في الوارث، وإلا أي وإن لَمْ يأت وارث العامل بأمين كالأول والحال أنه غير آمين سلموا المال لربه تسليما هدرا، قال عبد الباقي: فهو منصوب على الصدر النوعي أو حال أي هادرين وعلى كلّ فالمعنى بغير شيء من ربح أو أجرة؛ لأن عمل القراض كالجعل لا يستحق فيه العامل شيئًا إلَّا بتمام العمل. انتهى.

وقال الشبراخيتي: إن هدرا خبر لكان مضمرة أي وكان العمل هدرا أو مصدرٌ نوعي أي تسليما هدرا أو حال أي هادرين، وقال المواق من المدونة: قال مالك: من أخذ قراضا يعمل به ثم مات العامل، فإن كان ورثته مأمونين قيل لهم تقاضوا الديون وبيعوا السلع وأنتم على سهم وليكم، فإن لَمْ يؤمنوا [وأتوا]

(1)

، بأمين ثقةٌ كان ذلك لهم وإن لَمْ يأتوا بأمين ولم يكونوا مأمونين سلموا ذلك لربه ولا ربح لهم. انتهى. وقال عبد الباقي: وإن مات العامل قبل نضوضه لَمْ يفسخ كالجعل لا كالإجارة المنفسخة بتلف ما يُستوفى منه ارتكابا لأخف الضررين هنا لحق الورثة في التمكين. قاله

(1)

في الأصل: وأتى، والمثبت من المواق ج 6 ص 370 ط دار الفكر.

ص: 831

في توضيحه. وإذا لَمْ ينفسخ فلوارثه الأمين أن يكمله على حكم ما كان موروثه عليه، والفرق بين المساقاة يستأجر من التركة من يعمل فيها وفي القراض يسلم لربه هدرا أن عمل المساقاة في الذِّمة بخلاف القراض، فإن المقصود فيه عين العامل. انتهى.

تنبيه: قال عبد الباقي عند قوله: "وإلا سلموا هدرا" ما نصه: إلَّا أن يستأجر ربه من يعمل بقية عمله فللأول بنسبة الثاني كالجعل. انتهى. قال البناني: هذا التفصيل حكاه في التوضيح على أنه مقابل لمذهب المدونة الذي هو الإطلاق. انظر مصطفى. انتهى.

والقول في تلفه يعني أنه إذا تنازع رب المال والعامل، فقال العامل: تلف بغير تفريط مني وكذبه رب المال فإن القول للعامل، وكذا لو لَمْ ينازعه بأن سكت كما هو مقتضى غير واحد لأن رب القراض رضيه أمينا. قاله اللخمي. ولو كان غير آمين في الواقع واختلف في حلفه كما في المواق ومحل تصديقه إن لَمْ تقم قرينة على كذبه. وخسره يعني أن القول للعامل في خسر مال القراض وقد علمت أن الخسر هو ما نشأ عن تحريك السلع، وقوله:"وخسره" بيمين ولو غير متهم على المشهور. قاله الشارح. وقال الشارح: يعني أن العامل مصدق إذا قال تلف المال أو خسرت فيه لأنه آمين بإجماع. حكاه ابن رشد وغيره. وقيد اللخمي قبول قوله في الخسارة بما إذا أتى بما يشبه ويعرف ذلك بقول التجار في بلد السلع، هل يخسر في مثل هذا أم لا؟ انتهى. وما ذكره المص في التلف والخسر يجري في صحيح القراض وفاسده.

وفي رده يعني أن العامل إذا ادعى أنه رد القراض إلى ربه فإنه يصدق في ذلك بشرط أشار إليه بقوله: إن كان العامل قد قبض رأس المال بلا بينة مقصودة للتوثق خوف الجحود فيحلف أنه رده ولو غير متهم اتفاقا كما في التتائي، قال: ولا يجري هنا الخلاف السابق لأن رب المال هنا قد حقق عليه الدعوى أنه لَمْ يقبض، ولهذا تنقلب إذا نكل عنها بخلاف ما تقدم لأنه اتهمه فقط، فإن قبض بحضرتها وشهادتها على الدفع والقبض معا لَمْ يقبل، قوله: فلوأشهد القابض على نفسه بالقبض بغير حضور رب المال أو أشهد رب المال لا لخوف الجحود بل لخوف إنكار ورثة العامل إن مات فكقبضه بلا بينة، والظاهر أنه يقبل قول الدافع في أن الشهادة لخوف الجحود، ويفهم مما مر أن ما يقع من بعض الموثقين ليس من القبض ببينة مقصودة للتوثق وهو

ص: 832

كما في أحمد عن أبي الحسن أن رب المال إذا أراد أن يدفع قراضا لشخص يأمره أن يأتيه بوثيقة من عند الشهود، فيذهب العامل لهم يكتبون له حجته بأنهِ أشهد على نفسه أنه تسلم من فلان قدر كذا وكذا من النقد قراضا، فيأتي بها يدفعها لرب المال ويسلمه له حينئذ. انتهى. قاله عبد الباقي.

تنبيه: قوله: "وفي رده إن قبض بلا بينة" قال عبد الباقي: كلام المصنّف هنا مقيد يما إذا ادعى العامل رد رأس المال وجميع الربح حيث كان فيه ربح، فإن ادعى رد رأسه مقرا ببقاء ربح جميعه بيده لَمْ يقبل على ظاهر المدونة وقبل عند اللخمي، وقال القابسي: يقبل إن ادعى رد رأسه مع رد حظ رب المال من الربح. ذكر الثلاثة ابن عرفة. ومشى ابن المنير في نظم المدونة على ما للقابسي. انتهى. وقوله: "إن قبض بلا بينة" إنما هو شرط في دعوى الرد فقط لا فيه وفيما قبلها، فلو قال: كرده بالكاف ليفيد أن القيد خاص بما بعدها لكان أولى. انظر الرهوني. قول عبد الباقي: ومشى ابن المنير في نظم المدونة على ما للقابسي يشير به لقوله في النظم:

فإن يقل رددته والربح

هو الذي بقى فلا يصح

ما لم يقل رددته وقسطكا

في الربح واستوفيت مني شرطكا

فصحح القول الذي ادعاه

وأعطه الإبراء من دعواه

فإنه لَمْ يفترق بعلقه

باقية عليه مستحقه

ص: 833

تنبيه: آخر علم مما مر أن دعوى رب القراض عدم الرد لا تكون إلَّا محققة بخلاف دعوى التلف والخسر، وقد مر نحو ذلك في الوديعة. والله تعالى أعلم.

أو قال قراض وربه بضاعة بأجر عطف على المعنى أي "في تلفه"، وفي قوله:"قراض". قاله مقيده؛ يعني أنه إذا تنازع العامل ورب المال فقال العامل: المال الذي بيدي قراض بجزء، وقال رب المال: بضاعة بأجر معلوم، فالقول للعامل بأربعة شروط: أن تكون المنازعة بعد العمل الوجب للزوم القراض وأن يكون مثله يعمل في قراض ومثل المال يدفع قراضا، وأن يشبه أن يقارض بما ادعاه من نصف الربح مثلا، والرابع بحثا وهو أن لا يطابق العرف دعوى ربه ويحلف العامل إن زاد جزؤه على جزء البضاعة وإلا لَمْ يحلف، فإن اختل شرط لَمْ يقبل قوله: فإن نكل حلف ربه ودفع أجرة البضاعة الناقصة عن جزء القراض، وتجري الشروط المذكورة في قوله: وَعَكْسه أي إذا قال العامل بضاعة بأجر، وقال رب المال: قراض فإن القول للعامل، قال عبد الباقي: واحترز بقوله بأجر عما إذا قال قراض وربه بضاعة بغير أجر فالقول لربه بيمينه، وعليه للعامل أجر مثله كما في المدونة، قال سحنون: ما لَمْ يزد على ما ادعاه من جزء القراض فلا يزاد. نقله التتائي. قال أحمد عقب نحوه ففائدة كون القول لربه عدمه غرامة جزء القراض الذي ادعاه العامل حيث زاد، وبهذا يندفع ما يقال إذا كان القول قول رب المال فينبغي أن لا يكون للعامل أجرة مثله، وظاهر هذا كان مثله يأخذ أجرًا أم لا ولا يتأتى دعوى العامل أنه بضاعة بغير أجر لاستحالة ذلك عادة.

أو ادعى عليه الغصب يعني أن من بيده مال ادعى ربه أنه غصب منه أو سرق وقال من هو بيده قراض يكون القول قوله أي يكون القول قول من بيده المال فيصدق في أنه قراض بيمينه؛ لأن الأصل عدم العداء ولو كان العامل مثله يغصب أو يسرق وعلى رب المال إثبات ذلك لأنه مدع.

أو قال أنفقت من غيره يعني أن العامل إذا قال قبل المفاصلة أنفقت على نفسي من غير مال القراض لأرجع به، وقال ربه بل أنفقت منه فالقول للعامل بمجرد دعواه، ويرجع بها ربح المال أو خسر كان يمكن منه الإنفاق لكونه عينا أم لا لكونه سلعا، واستغنى المص عن تقييد الإنفاق بما يشبه كما في المدونة؛ لأن النفقة من نفس المال كذلك كما مر، وأن الشرط الآتي راجع لهذه أيضًا

ص: 834

كما لبعض فإن ادعى ذلك بعد المفاصلة لَمْ يقبل قوله. قاله عبد الباقي. قوله: فإن ادعى ذلك بعد الفاصلة لَمْ يقبل قوله، قال الرهوني: ظاهره ولو قرب وهو ظاهر المدونة أيضًا، وقيدها أبو الحسن وابن ناجي بما إذا لَمْ يقم بالقرب لكن قال أبو علي بعد أنقال ما نصه: وقد تبين أن إطلاق المدونة هو المتعين وأنه لا يقبل قوله بعد القسم مطلقًا. انتهى منه بلفظه. قلت: ويشهد لما قاله كلام

(1)

ابن رشد ثم جلب كلام ابن رشد.

وفي جزء الربح يعني أنه إذا اختلف العامل ورب المال في الجزء الذي وقع عليه القراض من الربح وكان تنازعهما بعد العمل، فإن القول قول العامل بيمينه بشرطين أحدهما قوله: إن ادعى العامل مشبها بأن ادعى جزءا لا يستنكر القراض عليه لكثرته أشبه الآخر أم لا، الثاني أشار إليه بالجملة الحالية وهي قوله: والمال أو الربح فقط أو الحصة التي يدعيها منه بيده أي بيد العامل حسا أو معنى ككونه وديعة عند أجنبي، بل وإن لربه اللام بمعنى عند كقوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ، فإن نكل العامل فالقول لربه بيمينه فإن نكل فهو تصديق للعامل. قاله الرهوني. وقال عبد الباقي: قال أحمد في قوله: "وإن لربه" معناه واتفقا على الإيداع عنده، وأما لو قال العامل هو بيدك وديعة، وقال ربه بل قبضته على المفاصلة فينبغي أن يكون القول قول رب المال. انتهى. ومفهوم قوله:"بيده" أنه لو سلمه لَمْ يكن القول قول العامل ولو مع وجود شبهة وهو كذلك إن بعد قيامه، فإن قرب فالقول قوله. قاله أبو الحسن. انتهى وقد مر تعقب أبي على والرهوني لأبي الحسن حيث قال: هذا في الإنفاق ثم ذكر مسائل يقبل فيها قول رب المال، فقال:

ولربه إن ادعى الشبه فقط يعني أنه إذا تنازع رب المال والعامل في قدر جزء الربح الذي وقع به القراض وانفرد رب المال بالشبه فإن القول قول رب المال، فمعنى قوله:"فقط" أن العامل لَمْ يشبه وإنما أشبه رب المال، فإن لَمْ يشبه واحد منهما فقراض المثل كما قدمه بقوله كاختلافهما في الربح وادعيا ما لا يشبه، وهذا فيما إذا كان التنازع بعد العمل كما يدلُّ عليه قوله: أو في جزء قبل العمل مطلقًا وفيما إذا حلفا أو نكلا وإلا قضي للحالف على الناكل. قاله غير واحد. فعلم

(1)

في الأصل: قاله ابن رشد، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 34.

ص: 835

أنهما إذا اختلفا في جزء الربح وأشبه رب المال فقط كان القول قوله، وإن أشبه العامل فقط أو أشبها معا فالقول للعامل بما تقدم من الشروط وإن لَمْ يشبه واحد منهما فقراض المثل هذا في التنازع بعد العمل وفيما إذا حلفا أو نكلا وإلا قضي للحالف على الناكل. والله تعالى أعلم.

أو قال قرض في قراض أو وديعة يعني أنه إذا قال رب المال هو قرض وقال الذي بيده المال هو قراض، فإن القول قول رب المال بيمينه وكذا يكون القول لرب المال حيث قال هو قرض، وقال الذي بيده المال هو وديعة بيمينه أيضًا، قال عبد الباقي: أو قال رب المال هو قرض في قول العامل قراض أو وديعة فالقول لربه بيمينه؛ لأن الأصل تصديق المالك في كيفية خروج ماله من يده، ولأن العامل يدعي عدم ضمان ما وضع يده عليه، قال الخرشي: وسواء كان تنازعهما قبل العمل أو بعده ولو قال رب المال دفعته إليك قراضا وقال العامل بل قرض صدق العامل لأن رب المال هنا مدعي الربح فلا يصدق، والحاصل أن القول قول مدعي القرض منهما. انتهى. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: إن أخذ رجل من رجل مالًا وقال هو بيدي وديعة أو قراض، وقال ربه بل أسلفتكه فالقول قول رب المال مع يمينه؛ لأن العامل قد أقر أن له قبله مالًا ويدعي أن لا ضمان عليه فيه، ولو قال ربه أعطيتكه قراضا وقال العامل بل سلفا صدق العامل لأن رب المال هنا مدع في الربح فلا يصدق. انتهى. أو في جزء قبل العمل مطلقًا يعني أنه إذا تنازع رب المال والعامل في جزء الربح وكان تنازعهما قبل العمل الذي يحصل به لزومه لكل فإن القول لرب المال بيمين مطلقًا أشبه رب المال أم لا لقدرته على ردها له، لما علمت أن عقد القراض منحل قبل لزومه، وأما ما يحصل به لزومه للعامل فقط فهو بمنزلة العدم.

وإن قال وديعة ضمنه العامل إن عمل يعني أنه إذا تنازع رب المال ومن بيده المال فقال رب المال: هو وديعة عندك، وقال العامل بل هو قراض صدق رب المال وضمن العامل المال إن عمل وتلف بعدم موافقته ربه على دعواه أنه أذن له في تحريكه قراضا والأصل عدمه، ومفهوم الشرط عدم الضمان إن ضاع قبل العمل لاتفاق دعواهما أنه كان أمانة وعكس المص وهو قول ربه قراض والعامل وديعة، فالقول للعامل لأن ربه مدع على العامل الربح، وهذا إن تنازعا بعد العمل وإلا

ص: 836

فقول ربه كاختلافهما في الجزء قبل العمل. أشار له ابن عبد السلام. ولا يخفى أنه لا يظهر فائدة حينئذ لكون القول قول ربه لأن للعامل الترك قبل العمل كما مر، اللهم إلَّا أن يحمل كلامه على ما إذا تنازعا قبل العمل وبعد التزود للسفر.

ولما ذكر ما يصدق فيه العامل وما يصدق فيه رب المال ذكر ما هو أعم فقال: ولمدعي الصحة يعني أنه إذا تنازع رب المال والعامل فادعى أحدهما عقدا صحيحا وادعى الآخر عقدا فاسدا، فإن القول قول مدعي الصحة منهما كان العامل أو رب المال، قال المواق من المدونة: إن ادعى أحدهما ما لا يجوز كدعوى أن له من الربح مائة درهم ونصف ما بقي صدق مدعي الحلال منهما إن أتى بما يشبه. انتهى. وقال عبد الباقي: والقول لمدعي الصحة دون مدعي الفساد، كقول رب المال: عقدت القراض على النصف ومائة تخصني، وقال العامل: بل على النصف فقط فالقول للعامل وعكسه القول لربه وظاهره ولو غلب الفساد. ابن ناجي: وهو المشهور لأنَّها يعني الصحة هي الأصل أي ولأن هذا الباب ليس من الأبواب التي يغلب فيها الفساد. انتهى المراد منه.

قوله: وظاهره ولو غلب الفساد لأن هذا ليس من الأبواب لخ فيه نظر إذ يقتضي أن غلبة الفساد إنما ينظر إليها في أبواب خاصة كان الفساد غلب فيها في الزمان المتقدم، وأما غيرها وإن غلب فيه الفساد فلا ينظر إليه وليس كذلك، بل كلّ ما غلب فيه الفساد فالقول لدعيه على أن القول لمدعي الفساد إن غلب وهو الذي جرى عليه المصنّف في اختلاف المتبايعين بقوله: كمدعي الصحة إن لَمْ يغلب الفساد، وقد قال ابن الحاجب هنا: فإن اختلفا في الصحة والفساد فكالبيع. انتهى. على أن الشركة والقراض من جملة ما مثلوا به للأبواب التي غلب فيها الفساد، وفي الشامل: وصدق مدعي الصحة وإن غلب الفساد على المنصوص، وأشار بالمنصوص لمقابله قال في التوضيح عن الجواهر: ويجري فيه القول الثاني أن القول قول مدعي الفساد إن غلب.

تنبيهات: الأول: قال الرهوني: قال في المفيد: ومن أتى قوما فقال أشهدكم أبي قبضت من فلان المائة الدينار التي كانت عليه وقد أبرأته منها فلقي الشهود ذلك الرجل، فقالوا له قد أشهدنا فلان أنه قبض منك المائة الدينار التي زعم أنَّها كانت له عليك، فقال لهم: كذب ما كان له علي

ص: 837

شيء وإنما أسلفته المائة الدينار التي ذكر، فقال ابن القاسم والمخزومي: القول قول الذي زعم أنه أسلفه مع يمينه إن لَمْ تقم للآخر بينة، وقال غيرهما: القول قول المقر. انتهى. بلفظه.

الثاني: قال الرهوني في أجوبة ابن رشد أنه سئل عن رجل ادعى على رجل أنه باع منه طعاما بثمن إلى أجل، فلما حل الأجل وطلب منه الثمن قال المدعى عليه: لَمْ أشتره منك وإنما أعطيته لي سلفا القول قول من منهما؟ وهل يتصور في هذه المسألة من الخلاف ما يتصور في مسألة من قال أقرضتك وقال الثاني إنما أودعتني وتلف؟ فإنها نزلت عند بعض الحكام وشبهها بها بعض من سأله عنها، وقال غيره: لا تشبهها والقول في هذه المسألة قول مدعي السلف قولا واحدًا، والفرق بينها وبين تلك المسألة أن هناك من ادعى الوديعة لَمْ يوجب في ذمته شيئًا لن ادعى عليه وفي هذه المسألة أوجب في ذمته سلفا طعامًا، فمن ادعى على الذِّمة خلاف ما اعترف به أو زائدًا فعليه البيان، فهل لهذا الفرق وجه أم لا فما وجه الحكم في ذلك فأجاب بقوله: فالواجب فيه أن القول قول المدعى عليه الابتياع في أنه أخذ منه الطعام سلفا، ولا يدخل في ذلك الاختلاف في المسألة التي ذكرتها؛ لأن المعنى فيهما مفترق والوجه في افتراقهما هو المعنى الذي أشرت إليه. انتهى. وأتى الفشتالي بهذا فقها مسلما غير معزو لأحد كأنه المذهب، ونقل البرزلي في نوازله جواب ابن رشد هذا وسلمه وكذا أبو العباس الونشريسي في المعيار. انتهى.

ومن هلك وقبله كقراض أخذ وإن لَمْ يوجد "من" مبتدأ خبره الجملة وجوابها على أنَّها شرطية وعلى أنَّها موصولية يكون الخبر جملة أخذ، والكاف من قوله:"كقراض" اسم بمعنى مثل مبتدأ وخبره الظرف قبله وهو قبله بكسر القاف وفتح الباء والجملة حالية؛ يعني أن الشخص إذا هلك أو فقد ومضت مدة التعمير كما في البرزلي ومختصره أو أسر والحال أنه قبله قراض ببينة أو إقرار أو وديعة أو بضاعة فإنه يؤخذ ذلك من تركته، وإن لَمْ يوجد فيها ولم يعلم أنه رده إلى ربه ولا ادعى تلفه ولا ما يسقط وإنما أخذ من ماله حينئذ بعد حلف ربه أنه لَمْ يصل إليه ولا قبض منه شيئًا لاحتمال كون العامل أنفقه أو ضاع منه لتفريطه قبل موته، قال عبد الباقي: فإن ادعى ورثته أنه رده قبل موته أو تلف بسماوي أو خسر فيه أو أخذه ظالم أو نحو ذلك مما يقبل فيه

ص: 838

قول موروثهم لَمْ يؤخذ من ماله لأنهم نزلوا منزلته ولا تقبل دعواهم أن الرد منهم لرب المال. انتهى.

قوله: فإن ادعى ورثته أنه رده لخ، قال البناني: هذا القيد أصله للعوفي كما نقله عنه الطخيخي، قال الشيخ أبو علي: وهو خطأ فإن الورثة إن قالوا موروثنا ذكر لنا هذا وقامت البينة على قوله فهذا لَمْ يمت العامل حتى برئ من المال، وقد لا يبرأ لأجل اليمين حيث كان متهما وإن لَمْ يكن إلَّا مجرد قولهم لَمْ يصدقوا؛ لأن العامل هنا إنما صدق لكون رب المال رضيه أمينا كما علل به اللخمي ولم يرض أمانة الوارث، وأيضا هذا القيد خلاف ظاهر المدونة وشروحها وابن الحاجب وابن شاس وأتباعهما وابن عرفة وغيره وانظر تمام كلامه. انتهى. وقوله:"ومن هلك وقبله" قال الرهوني: اعتمد المص هنا مذهب المدونة والعتبية مع قول ابن رشد إنه لا يعلم في ذلك خلافا وتصريح غيره بأنه المشهور، ولم يشر إلى اختيار ابن عبد السلام وغيره من المحققين مع أنه نقله في التوضيح وقبله، ونصه: وقد اختلف المذهب في عمارة ذمة المودع بالفتح بذلك ويتخرج مثله في القراض بل عدم الضمان أولى إلى آخر كلامه. والله تعالى أعلم. وقوله: "ومن هلك وقبله" لخ قال الشبراخيتي: ومحل الضمان حيث لَمْ يطل الأمر كما نبه عليه في الوديعة بقوله: "وبموته ولم يوص ولم توجد إلَّا كعشر سنين" فإذا أوصى بالوديعة فلا ضمان وإن لَمْ توجد، ومن الوصية أن يقول وضعتها في موضع كذا فلم توجد فيه. قاله الشارح. ويجري مثل ذلك في القراض والبضاعة، وأما إذا طال الأمر كعشر سنين فقال ابن عبد السلام: إنه مذكور في الوديعة ويتخرج مثله في القراض بل القراض أولى من ذلك لأن للعامل التصرف فيه فيحمل على الخسارة والبضاعة كذلك. انتهى.

وقال المواق من المدونة: قال مالك: ومن هلك وقبله قراض وودائع لَمْ توجد ولم يوص بشيء فذلك في ماله ويحاص به غرماءه، وانظر حكموا في مال الميت برأس مال القراض مع احتمال الضياع والخسارة؟!، قال البرزلي: ولا يقضى على التركة بالربح إلَّا أن يحقق. انتهى.

وإلى كلام المدونة ويحاص به غرماءه أشار بقوله: وحاص غرماءه يعني أن القراض يؤخذ من تركة العامل إذا مات، فإن كان على العامل ديون تغترق التركة فإن رب المال يحاص الغرماء بماله من رأس مال ويحاص بالربح إن حقق كما نقله المواق عن البرزلي، فأما إذا لَمْ يحقق فلا يقضى به على

ص: 839

التركة، قال عبد الباقي: وإن كان على العامل ديون حاص رب القراض ونحوه غرماءه ومحل الضمان والمحاصة حيث لَمْ يوص ولم يطل الأمر كما قدمه في الوديعة بقوله: "وبموته ولم يوص ولم توجد إلَّا لكعشر سنين". انتهى.

فإن أوصى بالوديعة فلا ضمان وإن لَمْ توجد لأنه علم أنه لَمْ يتلفها، ومن الوصية أن يقول وضعتها في موضع كذا فلم توجد فيه إلى آخر ما مر عن الشبراخيتي، وقوله:"ومن هلك" قال عبد الباقي: وهلك يقال للميت كافرًا أو غيره قال تعالى: {حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} . انتهى.

تنبيه: نقل الناصر في حواشي التوضيح عن أبي الحسن في باب المفقود ما نصه: لو دفع قراضا إلى أجل كشهر ثم سافر به العامل للتجارة ثم رفع رب المال أمره إلى الحاكم ليعديه في مال المقارض الحاضر فليس له ذلك؛ لأنه يحتمل أنه خسر في المال أو ضاع بغير تفريط منه فلا يعديه حتى يثبت أنه تصرف فيه لنفسه أو تصرف فيه على وجه يوجب ضمانه في ذمته، بخلاف من أخذ مال القراض فمضت مدة ولم يحركه ثم مات ولم يوص به ولم يوجد فإنه يعديه فيه بعد أن يحلف رب المال أنه لَمْ يوصله إليه ولا قبض منه شيئًا، قال: وهو مذهب المدونة نقله الشيخ عن ابن الفخار. انتهى فتأمله والله أعلم. انتهى. نقله البناني. والله تعالى أعلم.

وتعين بوصية يعني أن العامل ونحوه إذا عين القراض أو الوديعة أو البضاعة بوصية بأن قال: هذا قراض زيد أو هذه وديعة زيد أو هذا بضاعة عمرو فإن ذلك يتعين أي يلزم للمقر له بعينه، فيأخذ رب المال من مقارض بالكسر ومودع بالكسر ومبضع بالكسر، قال الشبراخيتي: وتعين القراض بوصية كهذا قراض زيد ومثل القراض البضاعة والوديعة لكن إن لَمْ يكن مفلسا يقبل تعيينه مطلقًا، وإن كان مغلسا فإن عين في مرضه فكذلك وإلا قبل إن قامت بينة بأصله كذا فهمه بعض الشيوخ، وإن كان ظاهر إطلاقهم أن المفلس لا يقبل تعيينه القراض أو الوديعة إلَّا إذا قامت بينة بأصله سواء كان صحيحا أو مريضا. انتهى.

وقدم يعني أن المعين له القراض ونحوه كهذا قراض زيد أو وديعة عمرو أو بضاعة بكر، فإن رب ذلك الشيء يأخذه مقدما على غيره من الغرماء، وقوله: في الصحة والمرض قال البناني: قال ابن

ص: 840

عاشر: الظاهر تعلقه بوصية. انتهى. وهو ظاهر وجعله مصطفى متعلقا بمقدر أي قدم على الديون الثابتة في الصحة والمرض، وبهذا قرر في التوضيح عبارة ابن الحاجب التي هي كعبارته وهو مقتضى كلام المدونة. انظر المواق. انتهى.

وقال عبد الباقي: وتعين القراض وكذا الوديعة والبضاعة إن أحرزه وشخصه بوصية كهذا قراض زيد أو وديعته أو بضاعته فيأخذه من عين له إن كان العين غير مفلس مطلقًا في الصحة أو في المرض قامت بينة بأصله أم لا، ولذا قال: وقدم العين له على الغرماء في الصحة والمرض هذا كله إن كان العين غير مفلس كما قدمنا، فإن كان مفلسا قبل تعيينه إن قامت بينة بأصله سواء كان مريضا أو صحيحا، فإن لَمْ تقم لَمْ يقبل سواء كان صحيحا أو مريضا هذا ما يفهم من ظاهر إطلاقهم هنا، وفيما تقدم في باب الفلس من قوله:"وقبل تعيينه القراض والوديعة إن قامت بينة بأصله". انتهى. والبضاعة مثل ذلك خلافا لما فهمه شيخنا عن الشارح من أن المفلس إن عين في مرض قبل مطلقًا، وإلا قبل إن قامت بينة بأصله حاملا لقول المص هناك:"وقبل تعيينه القراض" لخ، على ما إذا عين في صحته فإن عينه في مرضه قبل مطلقًا. قاله علي الأجهوري وأراد بشيخه كريم الدين. انتهى. قال عبد الباقي: ومفهوم قوله: "وتعين بوصية" أنه لو أقر بقراض أو وديعة من غير تعيين فإن كان غير مفلس قبل حيث لَمْ يتهم وحاص الغرماء، وإن كان مفلسا فإقراره لغو سواء أقر بقرب مجلس التفليس أو ببعده كما هو ظاهر النوادر وجعله أحمد كالدين وفيه بحث. انتهى. وقوله: "قبل حيث لَمْ يتهم هذا القيد إنما محله في المعين، وفي المعين ذكره أبو الحسن والزرقاني أسقطه في المعين وأثبته في غيره فلو عكس لأصاب. والله أعلم بالصواب. قاله الرهوني. وقال المواق من المدونة: من أقر بوديعة بعينها أو بقراض بعينه في مرضه وعليه دين ببينة في صحته أو بإقراره في مرضه هذا قبل إقراره ذلك أو بعد فلرب الوديعة أو القراض أخذ ذلك بعينه دون غرمائه.

ولا ينبغي لعامل هبة أو تولية يعني أنه لا ينبغي للعامل أن يهب شيئًا من مال القراض أي يحرم عليه ذلك، وكذلك لا ينبغي للعامل أن يولي غيره سلعة اشتراها من مال القراض بالثمن الذي اشتراها به لتعلق حق رب المال بالربح فيها، قال عبد الباقي: ولا ينبغي أي يحرم عليه في مال

ص: 841

قراض هبة لغير ثواب ولكثير ولو للاستئلاف وحملناه على التحريم، وإن كان لفظه تبعا للفظ المدونة يقتضي الكراهة لحمل ابن يونس - وتبعه ابن ناجي - لفظها على التحريم وتولية السلعة من سلع القراض أي يوليها لغيره بمثل ما اشتراها لأجل تعلق حق رب المال بالربح فيها، وقيد المنع بما إذا لَمْ يخف الوضيعة وإلا جاز. انتهى.

وقال الشبراخيتي: بعد أن ذكر أن لا ينبغي محمول على المنع ما نصه: وهذا إذا كان يرجو ربحه لتعلق حق رب المال بربحه، وأما لو خاف الوضيعة فإنه يجوز لأنه من حسن النظر. انتهى. وقوله:"هبة" قال البساطي: ظاهره قلت الهبة أو كثرت. انتهى. وليس كذلك بل هذا في الكثير وأما اليسير فجائز لسماع ابن القاسم: لا بأس على العامل في إعطاء الكسرة للسائل وكذا التمرات والماء. ابن رشد: لأنه من اليسير الذي لا يتشاح بمثله، وقوله:"لا ينبغي" لخ ظاهره ولو فعله استئلافا، بخلاف الشريك فإن له التبرع للاستئلاف كما سبى لأن الشريك أقوى من العامل. انتهى. وقال عبد الباقي: وقيد المنع بما إذا لَمْ يخف الوضيعة وإلا جاز كمكافأة لمعروف

(1)

أسدي لمال القراض على وجه التجارة والنظر، فإن أسدي ليختص به هو منعت. قاله الغرياني. والفرق بين منع هبة الكثير هنا للاستئلاف وبين جوازها له في الشريك كما قال المص فيه وله أن يتبرع إن استالف أو خف، وفي المأذون كما قال فيه وله أن يبضع ويضيف ويؤخر

(2)

أن العامل رجح فيه أنه أجير فالشريك أقوى منه، وكذا المأذون لأنه له المال أو لسيده وجعل له ربحه فتصرفه أقوى من العامل. انتهى.

ووسع أن يأتي بطعام كغيره إن لَمْ يقصد التفضل قال الخرشي: يعني أن الإمام مالكا وسع لعامل القراض أي رخص وجوز أن يأتي بطعام من مال القراض كما يأتي غيره بطعام ويشتركون في أكله إن لَمْ يقصد التفضل بذلك على غيره أي إن لَمْ يأت بطعام أفضل مما يجيء به الآخر، وأما إن أتى بطعام أفضل مما يأتي به غيره فإن الإمام لَمْ يوسع له في ذلك ويضمن العامل حينئذ. انتهى. وقال عبد الباقي: ووسع بالبناء للمفعول أي وسع ورخص في الشرع للعامل أولى من بنائه للفاعل

(1)

في الأصل: المعروف، والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 235.

(2)

في الأصل: يرخو، والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 235.

ص: 842

أي وسع الإمام مالك للعامل أن يأتي بطعام كغيره أي كما يأتي غيره بطعام ليشتركوا في أكله إن لَمْ يقصد العامل التفضل على غيره بأن لا يأتي بأكثر من غيره كثرة لها بال. وإلا بأن أتى بأكثر كثرة لها بال لم يوسع له في ذلك، وحينئذ فليتحلله الضمير البارز لرب المال والمستتر للعالم أي [فليتحلل]

(1)

العامل رب القراض أي يطلب منه أن يسامحه فيما أكل من حظه، فإن أبى أي امتنع رب المال من مسامحة العامل فليكافئه أي فليكافئ العامل رب المال فيما يخصه من ذلك أي يعوضه نظيره كما في الخرشي والشبراخيتي.

وقوله: "كغيره" المماثلة فيه في الإتيان لا في الطعام فيحسن الشرط بعده، وهو قوله:"إن لم يقصد التفضل "وقوله: "إن لم يقصد التفضل" بأبي لا يأتي بأكثر مما يأتي به صاحبه أو بأفضل مما يأتي به، فإن أتى بأكثر منه كثرة لها بال أو بأفضل منه قصد التفضل أم لا، فهو قوله:"وإلا فليتحلله" لخ، وقوله:"وسع" بالبناء للفاعل أي الإمام أو بالبناء للمفعول كما مر عن عبد الباقي، وقال المواق من المدونة. قال مالك: ليس للعامل أن يهب من مال القراض شيئًا ولا يولي ولا يعطي عطية ولا يكافئ منه أحدا، فأما أن يأتي بطعام إلى قوم ويأتون بمثله فأرجو أن يكون له ذلك واسعا إذا لم يتعمد أن يتفضل عليهم، فإن تعمد ذلك بغير إذن صاحبه فإن حلله فلا بأس به وإن أبى فليكافئه بمثله إن كان شيئًا له مكافأة.

تنبيه: في المواق في غير مسألة القراض قال البرزلي: إن ابن عرفة أجاز أن يغدي أحدهما الحصادة ويعشيهم الآخر كما في المكاتب يأخذ أحدهما نجما حتى يأخذ صاحبه النجم الآخر، وفي جامع الموطإ أن أبا عبيدة جمع أزواد الجيش، قال الباجي: يحتمل أن يكون ذلك بموافقة أهل الجيش ورضاهم وإن كان يجوز أن يكون بعضهم أكثر زادا من بعض ويكون منهم من فني زاده جملة إلَّا أنهم أرادوا التواسي، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الأشعريين إذا أرملوا جمعوا أزوادهم فتواسوا فيه فهم مني وأنا منهم

(2)

)، وسمع ابن القاسم: لا بأس على عامل القراض في إعطاء السائل كسرة وكذلك التمرات. ابن رشد: لأنه من اليسير الذي لا يتشاح في مثله،

(1)

في الأصل: فليتحل.

(2)

صحيح البخاري، كتاب الشركة، رقم الحديث، (2486).

ص: 843

وكذلك الوصي يعطي السائل من مال يتيمه وأصله قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ} الآية يعني - والله تعالى أعلم - أو ما ملكتم مفاتحه. وفي المنتقى: لا بأس أن يأخذ رب المال رأس ماله عينا ويقسمان ما بقي من سلع أو غيرها، أو يأخذ رب المال رأس ماله سلعا ويقسمان ما بقي من عين أو عرض بشرط أن يكون المأخوذ مما يسلم رأس المال فيه. ولما أنهى الكلام على القراض وكان بجزء شائع ناسب أن يذكر المساقاة عقبه؛ لأنَّها إنما تكون بجزء شائع فقال:

ص: 844

باب: في المساقاة وهي مشتقة من السقي بفتح السين وسكون القاف لأنه غالب عملها، ولفظها إما من الواحد وهو قليل كسافر وعافاه الله أي رزقه الله العافية وطاوقت النعل أي جعلت لها طاقا على طاق أو لوحظ فيه العقد وهو منهما وهو من التعبير بالمتعلق بالفتح وهو المساقاة عن المتعلق بالكسر وهو العقد، ولم يُعرفها المص تبعا لابن الحاجب، وعرفها المتيطي في نهايته فقال اعلم وفقنا الله وإياك أن المساقاة عمل الحائط على جزء من ثمرته، وهي مأخوذة من السقي لأن السقي جل عمل الحائط وهو يصلح ثمرتها ويقيمها، قال الله عز وجل:{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} .

وعرف ابن عرفة المساقاة بقوله: هي عقد على عمل مؤنة النبات بقدر لا من غير غلته لا بلفظ بيع أو إجارة أو جعل، فيدخل قولها: لا بأس بالمساقاة على أن كلّ الثمرة للعامل ومساقاة البعل. انتهى. والظاهر أن جعلها لأجنبي كذلك. قاله الشبراخيتي. الخرشي: ويبطل طرده على قول ابن القاسم بالعقد عليها بلفظ عاملتك لأنَّها ليست بمساقاة عند ابن القاسم. انتهى. لا على مذهب سحنون الذي مشى عليه ابن شأس وابن الحاجب من انعقادها بنحو عاملتك، وابن القاسم لا تنعقد عنده إلَّا بلفظ ساقيتك، وقوله: لا من غير غلته يشمل ما إذا كان القدر كل الثمرة أو بعضها، فلذا قال: ويدخل لخ، بخلاف ما لو قال بقدر من غلته فلا تدخل صورة ما إذا جعل كلّ الثمرة للعامل في التعريف. الشبراخيتي: وأورد عليه أنه نص في المدونة على جواز مساقاة حائط لَمْ يطب بجزء من ثمرة حائط آخر. انتهى. وفيه نظر بل هو سهو منه رحمه الله تعالى. انظر الرهوني.

وقال الشارح؛ قال في الكافي: معنى المساقاة أن يدفع الرجل كرمه أو حائط نخله أو شجر تينه أو زيتونه أو سائر ثمر شجره لمن يكفيه القيام بما يحتاج إليه من السقي والعمل على أن ما أطعم الله من ثمرها بينهما نصفين أو على جزء معلوم من الثمرة. انتهى. وهي مستثناة من أصول أربعة كلّ واحد منها على المنع: الأول الإجارة بالمجهول، الثاني المخابرة وهي كراء الأرض بما يخرج منها، الثالث بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بل قبل وجودها، الرابع الغرر لأن العامل لا يدري

ص: 845

أتسلم الثمرة أم لا فيذهب عمله باطلا، وعلى تقدير سلامتها لا يدري كيف يكون مقدارها، وهل تلزم بالعقد وهو نقل الأكثر عن المذهب أو بالشروع؟ قولان.

وأركانها أربعة متعلق العقد وهو الأشجار وسائر الأصول المشتملة على الشروط الآتي بيانها، الثاني الجزء المشترط للعامل من الثمرة، الثالث العامل، الرابع في تنعقد به وهو الصيغة. وقد مر عن ابن القاسم أنَّها لا تنعقد إلَّا

(1)

بلفظ المساقاة، وعند سحنون أنَّها تنعقد بساقيت وعاملت واختاره ابن الحاجب وابن شأس، والأصل في جوازها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ساقى يهود خيبر يوم افتتحها في النخل على أن لهم نصف الثمرة بعملهم والنصف الثاني يودونه إليه صلى الله عليه وسلم

(2)

)، وقال:(أقركم ما أقركم الله) وأشار المؤلف إلى ما تصح مساقاته بقوله: إنما تصح مساقاة شجر يعني أن المساقاة إنما تصح في الشجر ويندرج فيه النخل، قال عبد الباقي: والحصر منصب على الشروط الآتية فلا يناقض في ذكره من أنَّها تكون في الثمرة والمقثاة وغيرهما. انتهى. قال البناني: يصح جعل الحصر منصبا على الشجر بقيد محذوف أي لا تصح صحة مطلقة إلَّا في شجر، ومعنى الإطلاق سواء عجز ربه أم لا. انتهى. ونحو ما لعبد الباقي للخرشي.

وإن بعلا يعني أن الشجر البعل تصح مساقاته لأن في فيه من المؤن والكلف يقوم مقام السقي والبعل هو الذي لا يسقى فيه وإنما يشرب بعروقه من غير سيح ولا عين ويزكى بالعشر كشجر إفريقية والشام. انتهى. قاله الخرشي وغيره. وقال عبد الباقي: وبالغ على صحة مساقاة البعل أي وجوزها لأن ما فيه من المؤن والكلف يقوم مقام السقي، وقصد به الرد على من منعه محتجا ببعده عن محل النص وهو الشجر. انتهى. وفي ذكره من بعده عن محل النص فيه نظر، ففي المتيطي: ويجوز أن يجمع بين شجر البعل والسقي في عقد على جزء واحد، وقد كان في خيبر السقي والبعل وكانت على سقاء واحد. انتهى. على اختصار ابن هارون. فأفاد أن البعل من محل النص، وقوله: وهو الشجر صوابه السقي وفي ذكره من قوله: وقصد به الرد على من منعه لخ،

(1)

ساقطة من الأصل، والمثبت من المقدمات ج 2 ص (181).

(2)

الموطأ، كتاب المساقاة، رقم الحديث، 1.

ص: 846

قال الرهوني: قال أبو علي: البعل قال فيه الحفيد أجاز فيه المساقاة مالك والشافعي وأصحابه ومحمد بن الحسن، وقال الليث: لا تجوز المساقاة فيه وإنما أجازها الجمهور؛ لأن العامل وإن كان ليس عليه فيها سقي فيبقى عليه أعمال أخر كالإبار ونحوه، ومن المدونة: لا بأس بمساقاة النخل وفيها ما لا يحتاج إلى سقيه كمساقاة شجر البعل لأنَّها تحتاج إلى عمل ومؤنة. انتهى. قاله المواق.

وقال الشبراخيتي: عبر بتصح دون تجوز تنبيها على أنه متى لَمْ تجتمع الشروط لَمْ تصح وتكون فاسدة بخلاف جاز؛ لأن الشيء قد لا يجوز ويصح بعد الوقوع، فإن قلت لكن يفوته حينئذ حكم جوازها ابتداء مع الشروط مع أنه المقصود، فالجواب أن الأصل في صحة الشيء مع شروطه جوازه ابتداء ثم إن الحصر مصبه قوله:"ذي ثمر لَمْ يحل بيعه ولم يخلف" فلا يرد جوازها في غير الشجر كما سيأتي أو أنه في الشجر لكنه نسبي أي إنما تصح مساقاة شجر لا أرض كما يأتي في قوله: أو إعطاء أرض ليغرس لكنه لا يجري على قاعدة المحصور بإنما من وجوب تأخيره بخلاف جعل مصبه ذي ثمر وما بعده، ويصح أن يكون مصبه قوله:"بساقيت" وهو متعلق بتصح أي إنما تصح بساقيت لكن على قول ابن القاسم، والذي قاله سحنون وابن المواز واختاره ابن الحاجب وابن شأس أنَّها تنعقد بساقيت وعاملت، وأما جواب التتائي عن الحصر بقوله: تصح صحة مطلقة لخ فغير ظاهر لأن صحة مساقاة الشجر مقيدة بقيود لا مطلقة. انتهى. وبما تقدم عن البناني يندفع ما قال الشبراخيتي أعني قوله أي البناني، ومعنى الإطلاق سواء عجز ربه أم لا. والله تعالى أعلم.

ذي ثمر يعني أن من شروط مساقاة الشجر أن يكون ذا ثمر أي بلغ حد الإثمار أي أوانه كان فيه ثمر بالفعل أم لا فلا يصح مساقاة شجر لَمْ يبلغ كالودي، وسيأتي ذلك في قوله:"أو شجر لَمْ تبلغ خمس سنين وهي تبلغ أثناءها فهي محترز هذه، قال الشبراخيتي: ومما يخرج بقوله: "ذي ثمر" الصفصاف ونحوه فلا مساقاة فيه. انتهى. وقال عبد الباقي: ذي ثمر كان موجودا عند العقد أم لا لكنه يبلغ الإطعام في عامة، واحترز بذلك من الودي فإنه لا يبلغ الإطعام في عامة.

ص: 847

انتهى. قال الرهوني في القاموس: الودى كغنى صغار الفسل الواحدة كغنية، وقال الفسيلة النخلة الصغيرة الجمع فسائل وفسل وفسلان. انتهى.

لم يحل بيعه يعني أنه إذا كان في الشجر ثمر فإن مساقاته إنما تجوز إذا لَمْ يحل بيع الثمر الذي فيه، وأما إن حل بيعه بأن بدا صلاحه فإن المساقاة فيه غير جائزة لأنه لا ضرر حينئذ على صاحبه لأنه يجوز بيعه وبدو صلاحه في كلّ شيء بحسبه كما مر في فصل تناول البناء والشجر. قاله غير واحد. ابن سلمون: ولا تجوز المساقاة في الثمرة إذا حل بيعها باتفاق. انتهى. قوله: باتفاق فيه نظر لما في سماع سحنون من كتاب الجوائح والمساقاة، قال سحنون: لا بأس بمساقاة النخل بعد أن يبدو صلاحها، قال القاضي: قول سحنون هذا خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة لأنه نص فيها على أن ذلك لا يجوز لأنه راعى تسميتها مساقاة إذ حكم المساقاة أن لا يرجع فيها بالجائحة فرآها إجارة فاسدة يجب فسخها ما لَمْ تفت بالعمل، فإن فاتت به كان للعامل أجر مثله على حكم الإجارة الفاسدة، وحملها سحنون على الإجارة فأجازها إذ رأى أن الإجارة تنعقد بلفظ المساقاة ولم يحملها ابن القاسم على الإجارة إذ رأى أنَّها لا تنعقد بلفظ المساقاة، وكذلك على مذهبه لا تنعقد المساقاة بلفظ الإجارة لو قال أو آجرك على سقي حائظي هذا بنصف ثمرته إذا طابت لَمْ يجز، ويأتي على مذهب سحنون أن ذلك يجوز وتكون مساقاة وينبغي على قول سحنون أن ذلك لا يجوز في الزرع؛ لأنه كمن قال احصده وهذبه ولك نصفه وهذا لا يجوز عنده، وقول ابن القاسم أظهرُ لأن الإجارة والمساقاة عقدان مفترقا الإحكام فلا ينعقد أحدهما بلفظ الآخر. وبالله التوفيق.

وما صرح به ابن رشد في البيان من أنه على قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة يكون للعامل في الفوات أجر مثله مخالف لما في المقدمات من أن في ذلك مساقاة المثل، والصواب عندي ما في البيان لأني لَمْ أجد في المدونة ما نسبه لها في المقدمات، ولم أجد من ذكره عنها. انتهى المراد منه. قاله الرهوني. وقال بعد كلام: فهم مما تقدم أن إعطاء الشجر بجزء منه بعد الطيب على وجه الإجارة جائز حتى على قول ابن القاسم وروايته وهو كذلك، وعليه فرب الحائط قادر على دفعه بجزء من ثمرته قبل الطيب وبعده، لكن قبل الطيب على وجه المساقاة وبعده على

ص: 848

وجه الإجارة، وهذا المعنى - والله أعلم - هو الذي أشار إليه المواق، فكأنه يقول هو وإن امتنعت فيه المساقاة على المشهور فلربه أن يدفعه بجزء منه، لكن على وجه الإجارة لا ما فهمه عنه البناني فاعترضه. انتهى. وعلم مما مر أن الحائط إذا أزهى لَمْ يجز مساقاته ولا مساقاة شيء منه وهذا هو المشهور، ومقابله ما مر عن سحنون تجوز مساقاته.

ولم يخلف مضموم الأول مكسور الثالث إذ هو رباعي، قال الجوهري: أخلف النبات أي أخرج الخلفة وهو معطوف على ذي ثمر لا على لَمْ يحل بيعه وهو ظاهر؛ لأن جملة لَمْ يحل بيعه صفة لثمر وعدم الإخلاف إنما هو من أوصاف الشجر لا الثمر؛ يعني أن الشجر الذي له ثمر إنما تصح مساقاته إذا لَمْ يخلف فإن كان يخلف لَمْ تصح مساقاته، قال عبد الباقي مفسرًا للمصنف: أي إنما تصح مساقاة شجر لَمْ يخلف فإن كان يخلف لَمْ تصح مساقاته حيث كان لا يقطع كالموز، فإنه إذا انتهى طيبه أخلف لأنه تنبت أخرى منه مع وجود الأولى فانتهاؤه بمثابة جذه، فلا يجوز مساقاته لأنه يناله من سقي العامل فكأنه زيادة عليه أشار له أحمد بعبارة حسنة، وأما ما يخلف مع كونه يقطع كالسدر فتصح مساقاته، ويأتي في مساقاة الزرع أن من جملة ما يعتبر فيها أن لا يخلف والإخلاف فيه إنما يكون بجذه كالقرط بطاء مهملة والقضب بضاد معجمة والبقل والكراث والريحان؛ لأن المراد بالشجر الأصول وهذه الخمسة لها أصول، وإذا جذت أخلفت وقد نص في المدونة على أنه لا تجوز المساقاة عليها، فمعنى الإخلاف في الشجر غير معنى الإخلاف في الزرع. انتهى.

إلَّا تبعا راجع للمسائل الثلاث فهو مستثنى من مفهوم يعني أن الشجر الذي لَمْ يبلغ أوان الإثمار، لا تصح مساقاته إلَّا أن يكون تبعا لما بلغ أوان الإثمار وكذلك الشجر الذي بدا صلاحه لا تصح مساقاته إلَّا أن يكون تبعا لما لَمْ يبد صلاحه، وكذلك الشجر الذي يخلف لا تصح مساقاته إلَّا أن يكون تبعا لما لا يخلف والتبعية في المسائل الثلاث الثلث فدون، فإذا كان في الحائط ودي لَمْ يبلغ حد الإطعام إلَّا أنه قليل بأن كان الثلث فدون فإنه تجوز المساقاة على الجميع، وإذا كان في الحائط أكثر من نوع والذي حل بيعه من غير جنس ما لَمْ يحل بيعه وهو تبع فإنه تجوز المساقاة على الجميع بتبعية ما حل بيعه لما لَمْ يحل، وإذا كان ما يخلف تبعا لما لا يخلف فإنه

ص: 849

تجوز المساقاة على الجميع بتبعية ما يخلف لما لا يخلف، قال عبد الباقي: واستثنى من المفهوم قوله "إلَّا تبعا" وهو راجع للشروط الثلاثة قبل كما في الحطاب عن الباجي، لكن عوده لمفهوم الثاني إن لَمْ يحل بيعه إنما يصح إذا كان في الحائط أكثر من نوع، والذي حل بيعه من غير جنس ما لَمْ يحل، وأما إن كان الحائط كله نوعا واحدا فبحل البعض يحل الجميع كما مر من أن الجنس الواحد يحل بيعه ببدو الصلاح في بعضه، فلا يتأتى فيه تبعية والتبعية في المسائل الثلاثة الثلث فدون، وهل هو فيما لا ثمر له قيمة أصوله؟ فإذا كانت قيمتها الثلث من قيمتها مع قيمة الثمرة جازت المساقاة وإلا فلا، أو المعتبر عدد ما لا يثمر من عدد ما يثمر. انتهى. والله أعلم.

تنبيه: قال البناني عند قوله: "إلَّا تبعا" ما نصه: وإذا دخل تبعا كان بينهما. سحنون: ولا يجوز إلغاؤه للعامل. ابن رشد: هو تفسير لابن القاسم وكذا لا يجوز لغوه لرب الحائط لأنه زيادة على العامل يناله سقيه، والفرق بينه وبين الأرض البيضاء ورود السنة في الأرض. انتهى.

تنبيه آخر: فإذا عمل رب الحائط في حائطه مدة ثم ساقاه قبل أن يثمر أو بعد أن أثمر ولم يحل بيع الثمرة جاز ذلك، لكن يشترط أن لا يرجع بأجرة ما سقى ولا شيء منه، قال في رسم مسائل البيوع من سماع أشهب من كتاب المساقاة: قال ابن رشد: فإن ساقاه بعد أن سقى شهرا على أن يتبعه بما سقى فإنه يرد إلى إجارة مثله. انتهى.

بجزء قل أو كثر متعلق بمساقاة كما للشبراخيتي؛ يعني أن المساقاة إنما تكون بجزء معلوم قل ذلك الجزء أو كثر، قال الخرشي: ويشترط فيه أن يكون معلوم النسبة كالنصف ونحو ذلك من الأجزاء فلا يجوز بكيل معلوم من الثمرة كعشرة آصع، فالمراد بالجزء ما قابل المعين كثمر نخلة معينة أو آصع أو أوسق لا ما قابل الكل لأنه يجوز أن تكون الثمرة كلها للعامل أو لرب الحائط. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: بجزء لا بعدد آصع، ولم يحترز به عن الجميع إذ يصح جعل كله للعامل فالحصر المتعلق بهذا نسبي أي لا بعدد آصع، ثم المراد بجزء من الحائط كما يدلُّ عليه قول ابن عرفة لا من غير غلته، وعبر بقدر ليشمل جعل الجميع للعامل. قاله عبد الباقي. والله تعالى أعلم.

ص: 850

شاع يعني أن هذا الجزء الذي وقع في مقابلة عمل العامل لا بد فيه من أن يكون شائعا كثلث أو ربع أو نصف أي شائعا في جميع الشجر المساقى عليه، فلا يصح أني يكون من ثمر شجر معين من الحائط. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: شاع أي في جميع الحائط احترازا مما لو كان مشاعا في نخلة معينة مثلا، ولو قال لك ربع الثمرة وثلث الزيتونة فلا تصح المساقاة لأن الشائع في جميع الحائط إنما هو الربع وما زاد على الربع من تتمة الثلث ليس شائعا في جميع الحائط. وعلم يعني أنه لا بد في الجزء الشائع من أن يكون معلوما احترازا من قوله: ساقيتك بجزء شائع أو بجزء فقط، ومثل ذلك ما لو اختلف الجزء كما مر قريبا كما لو كان في الحائط أصناف أو أنواع ويأخذ النصف من أحدهما والثلث من آخر وهكذا وقوله وعلم ولو بالعادة بساقيت يعني أن المساقاة إنما تصح بساقيت لا بلفظ آجرت ولا عاملت، قال عبد الباقي: بساقيت أو أنا مساقيك أو أعطيت حائطي مساقاة عند ابن القاسم، وكذا ينعقد بعالملتك عند سحنون وهو المذهب، واختاره ابن شاس وابن الحاجب وابن عرفة. انتهى. قوله: وهو المذهب فيه نظر بل قول ابن القاسم هو المذهب، وقوله: إن ابن عرفة اختاره فيه نظر بل ابن عرفة اقتصر على قول ابن رشد وفيه تصحيح قول ابن القاسم. انتهى. انظر البناني. وقوله: "بساقيت" قال عبد الباقي: أي أن البادئ منهما كالنكاح ويكفي في الجانب الآخر رضيت أو قبلت أو نحو ذلك، ونحوه للشبراخيتي: فإنه قال: قوله "بساقيت" أي من البادئ منهما، ويكفي من الآخر ما يدلُّ على القبول ولو بإشارة من ناطق، وقوله:"بساقيت" متعلق "بتصح". المواق: عياض: لا تنعقد إلَّا بلفظ المساقاة على مذهب ابن القاسم، فلو قال: استأجرتك على عمل حائطي أو سقيه بنصف ثمرته أو ربعها لَمْ يجز حتى يسميها مساقاة. انتهى.

وقال الشبراخيتي: ابن فرحون: تنعقد من الأخرس بالإشارة. انتهى. وقال الحطاب: قال في المدونة: وتجوز المساقاة على أن تكون الثمرة كلها للعامل بعمله، وقد قيل فيه إنه منحة فيفتقر إلى الحيازة ويبطل بالموت وهو بعيد. انتهى. قلت: وأما عكس هذا فظاهر جوازه وهو أن تكون الثمرة كلها لرب المال؛ لأن العامل متبرع بعمله، قال ابن ناجي: وظاهرها يعني فيما إذا كان الثمر كله للعامل أنَّها مساقاة حقيقة، فيجبر العامل على العمل أو يستأجر من يعمل إلَّا أن يقوم

ص: 851

دليل على أنه أراد الهبة لقلة المؤنة وكثرة الخراج، وقال التونسي: هي كالهبة وإن انتفع ربها بسقي أصوله ولو مات قبل الحوز بطلت. انتهى. اللخمي: وإن أشكل الأمر حملا على المعاوضة لقوله أساقيك ورب الحائط أعلم بمنافعه ومصلحة ماله. انتهى.

ولا نقص من الحائط يعني أنه إذا كان في الحائط دواب أو عبيد أوأجراء وآلة يوم عقد المساقاة، فإنه لا يجوز لرب الحائط أن يشترط على العامل أن ينقص عنه ذلك بأن يأخذ ما في الحائط أو بعضه، قال الخرشي: يعني أنه يشترط في صحة عقد المساقاة أن لا يشترط رب الحائط إخراج ما كان فيه من دواب وعبيد وأجراء وآلة يوم عقدها، فإن شرط ذلك فسدت لأنه يصير كزيادة شرطها إلَّا أن يكون قد نزعهم قبل عقدها ولو أراد المساقاة، وليس كالمرأة يخرجها زوجها وهو يريد طلاقها فلا يجوز ويقضى عليه بعودها لمحلها لانقضاء عدتها. انتهى. وقال الشبراخيتي: ولا يصح اشتراط نقص من في الحائط يوم عقد المساقاة من رقيق ودواب، فالمضر شرط النقص كما يفيده قول الرسالة: ولا تجوز المساقاة على إخراج ما في الحائط من الدواب أو الرقيق، قوله:"ولا نقص" على حذف مضاف وهو بالجر عطف على "ساقيت" أي وبلا اشتراط نقص من في الحائط. اللخمي: لو أراد رب الحائط أن يخرج من فيه ويأتي بمن يعمل عملهم لَمْ يكن للعامل في ذلك مقال. والله أعلم قاله الحطاب.

ولا تجديد هو كالذي قبله بالجر والمشترط في الأولى رب المال وفي الثانية العامل؛ يعني أنه لا يجوز في ضقد المساقاة أن يشترط العامل على رب الحائط أن يجدد فيه ما لَمْ يكن فيه يوم عقد المساقاة.

قال مقيده عفا الله تعالى عنه: الذي يفيده النص أنه لا يجوز أن يشترط العامل في عقد المساقاة على رب الحائط أن يأتي له بمن يخدم معه في الحائط، والحال أنه لَمْ يكن فيه يوم عقد المساقاة وإن لَمْ يكن في الحائط قبل ذلك لا ما يقتضيه قوله تجديد، قال المواق من المدونة: قال مالك: لا ينبغي لرب الحائط أن يساقيه على أن ينزع ما فيه من غلمان أو دواب فيصير كزيادة شرطها إلَّا أن يكون نزعهم قبل ذلك، قال: ومن لَمْ يكن في الحائط يوم عقد المساقاة فلا ينبغي أن يشترطه

ص: 852

العامل على رب الحائط إلَّا ما قل كغلام أو دابة في حائط كبير، ولا يجوز ذلك في حائط صغير والمضر اشتراط ذلك أي ما ذكر من النقص والتجديد، وأما حصوله من غير شرط فلا يضر.

ولا زيادة لأحدهما يعني أنه لا يجوز أن يشترط أحدهما زيادة على الجزء المذكور يختص بها كقدر معين من الثمر أو غيره، وقرره غير واحد بأنه لا يصح اشتراط زيادة خارجة عن الحائط لأحدهما فهو غير قوله:"ولا تجديد" إلَّا إن كانت الزيادة قليلة، قال عبد الباقي: ولا زيادة خارجة عن الحائط لأحدهما فهو غير قوله: "ولا تجديد" إلَّا إن كانت قليلة أو دابة أو غلاما في الحائط كما سيقول عطفا على ما يجوز: "وعامل غلاما أو دابة في الكثير أو ما قل وفي الممنوع كأن ازداد أحدهما عينا أو عرضا. انتهى. وما ذكرته من الجر في نقص وما عطف عليه هو الذي ظهر لي وهو الذي شرح به عبد الباقي وغيره، وقال البناني: إن فيه من الركاكة ما لا يخفي، وقال: قال ابن عاشر: الظاهر أن الواو للحال وخبر لا محذوف والتقدير: والحالة أن لا نقص رقيق وحيوان في الحائط حاصل. انتهى. وهو مقتضى قول ابن غازي: كأنه وما عطف عليه من النفيات جمل حالية، ويحتمل غير ذلك مما فيه قلق. انتهى.

وعمل العامل جميع ما يفتقر إليه يعني أن العامل يلزمه أن يعمل جميع ما يفتقر إليه الحائط عرفات فإن لَمْ يكن عرف وجب بيان ما يفتقر إليه، كما أنه إذا لَمْ يعلم العامل ذلك لزم بيانه له ولو كان عرف، قال الشبراخيتي:"وعمل" فعل لا مصدر خلافا لما يقتضيه حل التتائي حيث قال: ويشترط عمل لخ، ولو قرئ مصدرا اقتضى أن يكون مشروطا فيقتضي أنه إذا لَمْ يشترط تكون مساقاة فاسدة وليس كدلك، وقوله:"وعمل" أي وجوبا، وفي بعض النسخ: وعلى العامل لخ. وعلى النسخة الأولى فلا يصح تسلطه على دواب وأجراء إلَّا بتضمين عمل معنى لزم وأما الثانية فالكلام عليها ظاهر لا يحتاج لتضمين العامل جميع ما أي عمل أو العمل الذي يفتقر أي الحائط المفهوم من السياق، وكان ينبغي له أن يبرز الضمير، فيقول:"يفتقر" هو لأن الصفة أو الصلة جرت على غير من هي له، ويمكن أن يقال مشى على مذهب الكوفيين لأن اللبس مأمون لأن من المعلوم أن الذي يفتقر للعمل إنما هو الحائط إليه عرفا، وهو يتضمن أن يعلم العامل ذلك غالبا وقد

ص: 853

لا يعلمه، وحينئذ فلا بد من البيان، ولهذا قال الباجي: ما كان له عرف قام مقام الوصف وما لَمْ يكن له عرف فلا بد من وصفه من عدد حرث وسقاء وسائر العمل. انتهى.

وقوله: ما كان له عرف قام مقام الوصف، قال ابن عبد السلام: يريد إذا كان منضبطا وإلا فلا بد من البيان أي إذا كان منضبطا بأعمال مخصوصة؛ لأنه إذا لَمْ يكن كذلك كان مجهولا فلا بد من بيانه وإلا فسدت المساقاة. انتهى كلام الشبراخيتي. قوله: "إلَّا بتضمين عمل معنى لزم هذا لا يصح لأنه يقتضي أن يكون "العامل" مفعولا "وجميع" فاعلا وعندي أن هذا لا يقوله أحد. والله تعالى أعلم. وقال عبد الباقي: وعمل العامل لزوما جميع ما أي عمل أو العمل الذي يفتقر إليه الحائط المفهوم من السياق حال المساقاة عليه عرفا لقيامه مقام الوصف، ولو بقي بعد مدة المساقاة وهذا إذا انضبط وإلا اشترط بيان ما يعمل، وكذا إذا لَمْ يكن عرف أو لَمْ يعلمه العامل. انتهى.

وقال مالك في المدونة: جميع العمل والنفقة وجميع المؤنة على العامل وإن لَمْ يشترط ذلك عليه، قال: ويلزمه نفقة نفسه ونفقة دواب الحائط كانوا له أو لرب الحائط. ابن الحاجب: لا يشترط تفصيل العمل ويحمل على العرف. ابن عبد السلام: لعل مراده إن كان العرف منضبطا وإلا فلا بد من البيان. نقله المواق.

ومثل لما يفتقر إليه الحائط. بقوله: كإبار وما عطف عليه؛ يعني أن العامل في المساقاة يلزمه الإبار وهو تعليق طلع الذكر على الأنثى، وكذا ما يؤبر به على المعتمد من أحد قولين، وتنقية يعني أنه يلزم العامل تنقية مناقع الشجر، قال عبد الباقي: وأما تنقية العين فعلى رب الحائط ويجوز اشتراطها على العامل فلا يصح دخولها هنا خلافا للشارح والتتائي لا علم من أن كلام المص فيما على العامل لزوما وما يلزم بالاشتراط غيره. انتهى. وقال البناني: سوى في المدونة بين تنقية العين أي كنسها وتنقية مناقع الشجر في أنهما على رب الحائط إلَّا أن يشترطها على العامل كما في نقل المواق، وما ذكره المص من الفرق بينهما تبع فيه ابن شأس وابن الحاجب وهو قول ابن حبيب. ابن عرفة: لَمْ يذكر ابن رشد خلافا أن سرو الشرب على رب الحائط، وقال الباجي: قال ابن حبيب: هو على العامل وإن لَمْ يشترط عليه، زاد اللخمي: وهو أصوب. عياض: هو

ص: 854

بفتح السين المهملة وسكون الراء في الكلمة الأولى وفتح الشين المعجمة

(1)

وفتح الراء في الكلمة الثانية الشربة الحفرة حول النخلة يجتمع فيها الماء لسقيها، جمعها شربات وشرب وسروها كنسها مما يقع فيها. انتهى. ويحتمل أن يريد المص هنا بالتنقية تنقية النبات فلا يخالف المدونة. انظر مصطفى. انتهى.

ودواب وأجراء يعني أن العامل يلزمه أن يأتي بالأدوات فيلزمه الدلاء والحبال والأجراء والدواب، قال المواق من المدونة والواضحة: السنة في المساقاة أن على العامل جميع المؤنة والنفقة والأجراء والدواب والدلاء والحبال والأدوات من حديد وغيره إلَّا أن يكون شيء من ذلك في الحائط يوم عقد المساقاة، فإن للعامل أن يستعين به وإن لَمْ يشترطه. انتهى. وقال الشبراخيتي: كإبار هل المراد به ما يؤبر به وفعل ذلك أو فعل ذلك فقط؟ وأما ما يؤبر به فعلى رب الحائط خلاف، قال في الصحاح: على وزن إزار وتأبير النخل تلقيحه، وعلى هذا اقتصر الفاكهاني في شرح الرسالة وتشديده هو الجاري على الألسنة. الزمخشري في قوله تعالى:{وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} هو فاش في فعل كفسره فسارا. انتهى. وقال غيره: إنه لغة لبعض عرب اليمن. انتهى. وقوله: "كإبار" أي وحصاد ودراس ومكيلة وتذرية.

وأنفق يعني أن العامل يلزمه أن ينفق من يوم عقد المساقاة على من في الحائط من عبيد ودواب تحتاج لنفقة كانت لرب الحائط أو للعامل، وكسا يعني أن العامل يلزمه أن يكسو من يحتاج إلى الكسوة سواء كان لرب الحائط أو العامل، وسواء كان فيه عند عقد المساقاة أم لا، والحاصل أنه ينفق ويكسو إن احتيج لذلك، سواء كان المنفق عليه أو المكسو موجودا في الحائط يوم عقد المساقاة أم لا، وقوله:"ودواب وأجراء" أي ليسوا في الحائط فيلزمه الإتيان بهما. قاله عبد الباقي. قال: وكذا عليه الجذاذ والحصاد لثمر وزرع والكيل وما أشبه ذلك يعني كتيبيس الثمرة ونحو ذلك.

فائدتان: الأولى: أخرج البزار عن علي قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننصب الجماجم في الزرع، قال أحد رواته: من أجل العين. الفائدة الثانية: وقع في الموطإ وغيره من حديث جبير (أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص عليهم ثم يقول إن

(1)

في الأصل: وفتع السين وفتح الراء، والمثبت من البناني ج 6 ص 239.

ص: 855

شئتم فلكم وإن شئتم فلنا بخرصها ونؤدي إليكم نصفها

(1)

] هكذا ذكره في المقدمات، قال الباجي: قال ابن مزين: سألت عيسى عن فعل عبد الله أيجوز ذلك للمساقين والشريكين؟ فقال: لا يعمل ذلك ولا يصلح اقتسامه إلَّا كيلا إلَّا أن تختلف حاجتهما إليه فيقسما بالخرص. انتهى. قال الباجي: وهذا الذي حمل عيسى عليه الحديث وأنه كان يسلم إليهم جميع الثمرة ليضمنوا حصة المسلمين منها لا يجوز لأنه بيع الثمر بالثمر بالخرص في غير العرايا، فلذلك تؤول الحديث على أن الخرص للقسمة خاصة، وإذا حمل الحديث على أنه إنما كان الخرص للزكاة سلم مما جاء به وأنكره، ويكون قوله إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا على سبيل التخفيف لصحة خرصه. انتهى. بالمعنى وخرص الحائط للأكل إنما يجوز بشروط تقدمت في القسمة. قاله الحطاب. وفي المدونة: وإن شرط العامل على رب النخل صرام النخل لَمْ يتبع ذلك والصرام هو القطع، ومنه قوله تعالى:{لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} وهو الجذاذ وفيه دليل على أن ما كان على العامل لا ينبغي اشتراطه على رب المال، ويأتي أنه يجوز اشتراط ما على رب المال حيث كان قليلا على العامل. انتهى. قال الخرشي: وأما ما ترتب في ذمة رب الحائط قبل عقد المساقاة فإنه عليه لا على العامل.

لا أجرة من كان فيه يعني أن حكم الأجرة مخالف لحكم النفقة والكسوة فهما على العامل، وأما أجرة من كان في الحائط فلا تلزمه بخلاف ما استأجره هو من الأجراء فإن أجرته عليه، قال المواق: الباجي: ما استأنف العامل من استئجار الأجراء فأجرتهم على العامل ومن كان فيهم يوم المساقاة فأجرتهم على رب الحائط، ولا يجوز اشتراط أجرتهم على العامل بخلاف نفقتهم وكسوتهم ذلك على العامل. انتهى. وقال عبد الباقي: لا أجرة من كان فيه بالرفع عطف على المعنى أي على العامل ما ذكره لا أجرة لخ، فإنها ليست عليه فيما مضى وفيما يستقبل أو فالنفقة على الأجير لازمة للعامل لا أجرة لخ، وأما أجرة ما استأجره العامل فعليه وظاهر المص أنه لا يلزمه أجرة من كان فيه ولو كان كراؤه مشاهرة، وقال اللخمي: إنما ذلك في الوجيبة نقد فيها أم لا، قال البساطي: وينبغي التعويل على ما للخمي. انتهى. قال البناني: فيه نظر بل

(1)

الموطأ، كتاب المساقاة، رقم الحديث: 1 ولفظه: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبث عبد الله بْنَ رواحة فيخرِّصُ بينه وبينهم ثم يقول: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي، فكانوا يأخذونه.

ص: 856

الذي في الحطاب أن كلام اللخمي مخالف لظاهر المدونة فانظره، وظاهر المدونة أنه إذا انقضت مدة الإجارة في بعض العام أنه يلزمه استئجار شخص آخر خلفه. انظر الحطاب.

أو خلف من مات أو مرض يعني أنه إذا كان في الحائط يوم عقد المساقاة عبيدٌ أو دواب ومات بعض ذلك أو مرض فإنه لا يلزم العامل خلف من مات أو مرض، وإنما يلزم رب الحائط ذلك، فقوله:"أو خلف" عطف على "أجرة" قال الشبراخيتي: أو خلف من مات أو مرض مما كان في الحائط يوم المساقاة فإنه لا يلزم العامل بل على رب الحائط، وظاهره ولو شرط ذلك على العامل وهو كذلك لمخالفة السنة، ولا مفهوم لقوله: مات أو مرض إذ من غاب أوأبق أو سرق كذلك. انتهى. وقال البناني مفسرا لقوله: "أو خلف من مات أو مرض" ما نصه: معناه أنه لا يجب على العامل خلف من مات أو مرض من الدواب التي كانت فيه بل هو كما في المدونة على رب الحائط، وإن لَمْ يشترط العامل ذلك إذ عليه عمل العامل ولو شرط خلفهم على العامل لَمْ يجز. انتهى.

وقال في المدونة أيضًا: لا يجوز للعامل أن يشترط على رب الحائط خلف ما أدخل العامل فيه من رقيق أو دواب إن هلك ذلك. انتهى. وقوله: "أو خلف" معنى الخلف أن يأتي بنظير ما هلك مكانه. والله تعالى أعلم.

كما رث تشبيه في قوله: "وأنفق وكسا" يعني أن العامل عليه خلف ما رث أي بلي من الحبال والدلاء وما أشبه ذلك من الآلات كالحديد ونحوه، وإنما كان على العامل لأنه دخل على انتفاعه بها حتى تهلك أعيانها وتجديد ذلك معلوم بالعادة، قال المواق: الباجي: لو استعمل ما في الحائط من الحبال والآلة حتى خلق، فعلى العامل خلفه ولو سرق فعلى رب الحائط خلفه. قاله بعض شيوخنا. وقيل على رب الحائط خلفه في الوجهين والأول أظهر.

وإلى ذلك أشار بقوله: على الأصح ثم شبه بقوله أول الباب: "إنما تصح مساقاة شجر" فقال: كزرع قال الخرشي: هذا أخفض رتبة من الشبه به وهو الشجر فإنه تصح مساقاته عجز ربه عنه أم لا، بخلاف هذا لأن السنة إنما وردت في الثمر فجعل ملك الزرع وما معه أخفض رتبة من

ص: 857

الثمار، فلم تجز مساقاته إلَّا بشروط أربعة. انتهى؛ يعني أن الزرع تصح مساقاته ولو بعلا؛ إذ قد يخاف عليه الهلاك عند عدم سقيه واحتياجه لعمل ومؤنة كزرع مصر أو إفريقية على غير ماء.

وقصب يعني أن القصب للسكر تجوز مساقاته بالشروط الآتية كالزرع، وقوله:"قصب" بفتح الصاد المهملة في بلد لا يخلف فيه كبعض بلاد المغرب، وأما قصب مصر فلا تصح مساقاته لأنه يخلف بعد قطعه، وبصل يعني أن البصل تجوز المساقاة عليه بالشروط الآتية وكالبصل اللفت والفجل، ومقثاة يعني أن المقثاة بوزن المحبرة تصح مساقاتها وكذا الباذنجان واللوبيا والقرع والعصفر ونحو ذلك، وإنما تجوز مساقاة ما ذكر بأربعة شروط أشار لأولها بقوله: إن عجز ربه يعني أن الزرع وما عطف عليه إنما تجوز مساقاته إذا عجز ربه عن عمله الذي ينمو به كان عجزه أصليا أو عارضا، قال عبد الباقي: إن عجز ربه عن عمله الذي يتم به أو ينمو به وليس منه فيما يظهر اشتغاله عنه بسفر ونحوه لقدرته على أن يستأجر من يتم عمله بلا مساقاة. انتهى. وقوله: وليس منه فيما يظهر لخ، قال البناني: فيه نظر وكلام التوضيح عن الباجي يدلُّ على خلافه.

وأشار لثانيها بقوله: وخيف موته يعني أنه يشترط في جواز مساقاة الزرع وما بعده أن يخاف موته بأن تكون له مؤنة لو تركت لمات، ولا يلزم من عجز ربه خوف موته لأن ربه قد يعجز وتسقيه السماء، قال عبد الباقي: وخيف أي ظن موته إذا ترك العمل فيه وفي النقل ما يدلُّ على هذا الشرط، خلافا لقول البساطي: ليس هو في كلامهم صريحا. قاله عبد الباقي. وقال البناني: كلام المدونة في نقل المواق صريح في هذا الشرط وبه يرد كلام البساطي. انتهى. وكلام المواق الذي أشار إليه هو قوله من المدونة إنما تجوز مساقاة الزرع إذا استقل من الأرض وإن أسبل إذا احتاج إلى الماء وإن ترك مات، فأما بعد جواز بيعه فلا يجوز سقاؤه. انتهى.

وأشار لثالثها بقوله: وبرز يعني أنه يشترط في مساقاة الزرع وما معه أن يبرز من الأرض أي يخرج منها ويظهر ليصير مشابها للشجر احترازا من البذر، فإنه لا تصح مساقاته، قال غير واحد: فإن قيل لا معنى لاشتراط هذا الشرط لأن التسمية بالزرع والقصب والبصل إنما تكون بعد البروز، وأما قبل ذلك فلا يسمى بهذا الاسم فالجواب أنه أطلق الاسم المذكور على البذر باعتبار ما يؤول إليه

ص: 858

مجازا، انتهى. قال عبد الباقي: وعبارة الجواهر وبرز واستقل ولا يخفى اشتمالها على قيد أخص، قال الرهوني: فيه نظر فإن الذي في الجواهر هو ما نصه: الثالث أي من الأركان وهو مختص بالزرع والمقاثي وغير ذلك مما عدا النخل والكرم وسائر الأصول المثمرة أن يعجز ربه عنه على أشهر القولين، ويشترط فيه أن يكون ظاهرا فلا تجوز المساقاة عليه قبل ظهوره من الأرض. انتهى. ونقله التاودي معترضا به على الزرقاني أيضًا. انتهى.

وأشار لرابعها بقوله: ولم يبد صلاحه يعني أن الزرع وما معه إنما تجوز مساقاته إذا لَمْ يبدُ صلاحه، وأما إن بدا صلاحه فلا تجوز مساقاته ففي المدونة: لا تجوز مساقاة القضب بضاد معجمة والقرط والبقل وإن عجز ربه لأنه بعد استقلاله يجوز بيعه. انتهى. وقال الخرشي: وخرج بهذا القيد يعني قوله: "ولم يبد صلاحه" أيضًا القضب والبقل فإنهما إذا برزا بدا صلاحهما والبروز مشترط. انتهى.

وقال عبد الباقي: وترك المصنّف شرطا خامسا لفهمه بالأولى من اشتراطه في الشجر، وهو أن لا يكون مما يخلف فإن كان مما يخلف لَمْ تجز مساقاته. انتهى. وقوله: وترك شرطا خامسا لخ قال البناني: بل الشرط الرابع يغني عن هذا الخامس. انتهى. فإذا توفرت هذه الشروط جازت مساقاة الزرع وما معه، فإن اختل منها واحد لَمْ تصح مساقاته، قال المواق: ابن رشد: ما كان خير ثابت الأصل كالمقثاة والباذنجان والزرع والكمون وقصب السكر فلا تجوز فيه المساقاة حتى يعجز عنه صاحبه. هذا على مذهب مالك بن أنس. رأى مالك أن السنة إنما وردت في الثمار فجعل الزرع وما أشبهه أخفض رتبة من الثمار، فلم يجزه إلَّا عند شدة الضرورة وهي أن يعجز عن القيام به وبعد خروجه من الأرض فيصير نبتا. انتهى.

وهل كذلك الورد ونحوه والقطن؟ يعني أن الشيوخ اختلفوا في الورد ونحوه كالياسمين مما تجنى ثرورته ويبقى أصله، وكذلك القطن هل ما ذكر كالزرع ونحوه فلا تجوز مساقاته إلَّا بالشروط الأربعة لا؟ أو هو كالأول أي كالشجر فتجوز مساقاته من غير اعتبار الشروط المذكورة وهذا التأويل الثاني عليه الأكثر من الشيوخ، في ذلك تأويلان؛ قال الرهوني عن أبي الحسن ما نصه: عياض اختلف تأويل شيوخنا المتأخرين على مذهب المدونة فيما عدا المقاثي والزرع من ذوات الأصول:

ص: 859

غير الثابتة كالورد والياسمين هل محملها محمل الزرع والمقاثي على ورهبه في المدونة ألا تساقى إلَّا بعد العجز أو تجوز على الجملة. انتهى. محل الحاجة منه بلفظه على نقل أبي علي.

ولذا سلم أبو علي كلام المص ونبه على أن تأويل الأكثر هو الراجح، ثم قال بعد كلام ما نصه: وهو صريح في أن كلام التوضيح والحطاب يفيد جريان التأويلين في الورد ونحوه خلاف ما عزاه لهما البناني. والله أعلم. انتهى.

تنبيهان: الأول: التأويل الأول لبعضهم والثاني لأبي عمران وابن القطان وهو ظاهر قول اللخمي، وهو قول محمد وأكثر الأشياخ.

الثاني: قال المص: وهل كذلك الورد ونحوه، وقال بعدهما: والقطن ولم يكتف عنه بنحوه ولم يقل كالقطن، وفي الرهوني وغيره ما يفيد توجيه ذلك، فإنه نقل عن ابن عاشر ما نصه: الورد ونحوه جاء فيهما التأويلان ومن جهة ترددهما بين الأشجار الثابتة والمقاثي، وأما القطن فهو من جهة اختلافه باختلاف البلدان ولاختلاف السبب الموجب للتردد فصل خليل بين القطن وسابقيه. انتهى. وقال الشارح: لما نقل ابن يونس عن ابن المواز جواز مساقاة هذه الثلاثة يعني الورد والياسمين والقطن وإن لَمْ يعجز عنه أربابه، قال: يريد لأن القطن عندهم شجر يجنى سنين فهو كالأصول الثابتة، قال: وأما في بلدنا فلا تجوز مساقاته إلَّا أن يعجز عنه أربابه كالزرع؛ لأن أصله غير ثابت. انتهى. والله تعالى أعلم. وقال عبد الباقي: وهل كذلك أي مثل الزرع في المساقاة بشروطه الورد ونحوه كالياسمين والآس مما تجنى ثمرته ويبقى أصله؛ والقطن الذي يجني ثمرته ويبقى أصله فيثمر مرّة أخرى، وأما ما يجنى مرّة واحدة فكالزرع اتفاقا. انتهى. ونحوه للخرشي. وأقتت بالجذاذ يعني أن الشأن في المساقاة أن تؤقت أي تؤجل بالجذاذ، قال المواق من المدونة: قال مالك: الشأن في المساقاة إلى الجذاذ لا تجوز شهرا ولا سنة محدودة وهي إلى الجذاذ إذا لَمْ يؤجلاه، قال ابن القاسم: وإن كانت تطعم في العام مرتين فهي إلى الجذاذ الأول حتى يشترط الثاني، وإلى ذلك أشار بقوله: وحملت المساقاة حيث كانت تطعم في السنة مرتين على الجذاذ الأول إن لم يشترط جذاذ ثان، قال عبد الباقي: وأقتت بالجذاذ ولو حكما كتأقيتها بسنة مثلا، وجرى العرف بأنها القبطية أي الجذة أو أراداها بها أو لَمْ يريدا بها شيئًا أو كانت لا تطعم في

ص: 860

السنة العربية إلَّا مرّة فتصح في هذه الصور الأربع، كالتاقيت بالجذاذ صريحا لا إن أرادا بها العربية أو أراداها مع الجذاذ حيث كانت تطعم فيها بطونا فتفسد في هاتين فليس التوقيت شرطا في صحتها، فالمراد أنَّها إذا أقتت لا توقت إلَّا بالجذاذ. انتهى. قوله: حيث كانت تطعم بطونا راجع للمسألتين، وقوله: لا إن أرادا بها العربية لخ. قال البناني: أي أرادا التحديد بها سواء تقدمت على الجداد أو تأخرت فهذا محل فسادها، وأما إن أرخت بالعربية فانقضت قبل الجداد تمادى العامل. انتهى.

وقال الحطاب: والذي يقتضيه كلامه المدونة أن التوقيت بالجداد ليس بشرط، قال فيها: والشأن في المساقاة إلى الجداد ولا يجوز إلى آخر ما مر، وقال الشبراخيتي: وأقتت بالجداد وهو قطع الثمرة، والمراد بالجداد صريحا أو حكما كقولك ساقيتك سنة أو عاما والعرف استعمال كلّ منهما في الجداد فقط، ومثله إذا أراد بكل منهما ذلك، فإن أراد بكل منهما السنة العربية فسدت فإن أطلق ولم يرد واحد منهما حمل على الجداد كما قال الحطاب، والمعتبر إرادة اللافظ سواء كان رب الحائط أو العامل كذا في بعض التقارير، وقوله:"وأقتت بالجداد" أي لا بسنة محدودة ولا بشهر. أبو الحسن: لأن الأجل إن كان لا ينقضي إلَّا بعد الجداد فهي زيادة اشترطها رب الحائط على العامل وإن كان ينقضي قبل ذلك فهي زيادة اشترطها العامل على رب الحائط لأن رب الحائط يعمل في نصيبه. انتهى. قوله: فإن أراد بكل منهما السنة العربية فسدت يعني حيث أراد التحديد بها لخ ما مر عن البناني.

تنبيه: قد علمت أن ما يخلف من الشجر لا تجوز المساقاة عليه، والمراد بالمخلف من الشجر الذي لا تجوز المساقاة عليه إنما هو كالموز، فإنه إذا انتهى طيبه أخلف بمعنى أنه تنبت منه ثمرة أخرى مع وجود الأولى فانتهاؤه بمثابة جذه فلا تجوز مساقاته لأنه يناله من سقي العامل فكأنه زيادة عليه، وأما ما يخلف من الشجر مع كونه يقطع كالسدر فإن هذا تصح مساقاته كما مر، وأما المخلف من غير الشجر فمعنى الإخلاف فيه أنه يخلف بعد القطع فلا تصح المساقاة فيه كالقضب والقرط والبقل فاتضح من هذا أن الإخلاف في الشجر غير الإخلاف في الزرع؛ إذ هو في الشجر أن يخلف بعد انتهاء طيبه من غير جذ، وأما إن جذ فأخلف بعد جذه فليس هو المراد

ص: 861

بالمخلف الذي تمنع مساقاته والإخلاف في الرزع هو بعد جذه فتأمل ذلك، فإذا عرفت هذا عرفت أن قوله:"وحملت على الأول إن لَمْ يشترط ثان" إنما هو في غير المخلف وقد عرفت حقيقة الخلف من الشجر والزرع. والله تعالى أعلم.

ولهذا الذي ذكرت قال عبد الباقي مفسرا للمصنف ما نصه: وحيث صحت فيما مر واحتملت أكثر من جذة بأن كانت تطعم بطونا في السنة العربية ولم يريداها حملت بفتح اللام لمناسبة أقتت أي المساقاة أي انتهاؤها على أول جذاذ إن لَمْ يشترط ثان فيما يطعم بطنين في السنة. انتهى. وقال الحطاب: وحملت على أول إن لَمْ يشترط ثان فإن اشترط الثاني جاز، قال في المدونة: وإن كانت تطعم في العام مرتين فهي إلى الجذاذ الأول حتى يشترط الثاني، ثم قال: ولا بأس بمساقاة نخل يطعم في السنة مرتين كما تجوز مساقاة عامين وليس ذلك مثل ما ذكر هنا من مساقاة القضب؛ لأن القضب يحل بيعه وبيع ما يأتي بعده والشجر لا يباع ثمرها قبل أن تزهي؛ يعني أن النخل والشجر وإن كان يطعم في السنة مرتين ليسا كالقضب الذي يخلف لما ذكره والقضب بالضاد المعجمة. والله أعلم. انتهى.

وكبياض نخل أو زرع يعني أن البياض سواء كان منفردا على حدة أو كان في أثناء النخل أو في أثناء الزرع يجوز إدخاله في عقد المساقاة بهذه الشروط التي يذكرها وبياض النخل أو الزرع هو الأرض الخالية من الشجر أو من الزرع، وإنما سمي بياضا لأن أرضه مشرقة في النهار بضوء الشمس وفي الليل بنور الكواكب، فإن استترت بالشجر أو بالزرع سميت سوادا لأن الشجر يحجب عن الأرض بهجة الإشراق فيصير ما تحته سوادا، ولو قال شجر بدل نخل لكان أشمل.

وأشار إلى أول الشروط وهي ثلاثة بقوله: إن وافق الجزء يعني أنه يشترط في جواز إدخال البياض في عقد المساقاة أن يوافق الجزء الذي للبياض الجزء المجعول في مساقاة الشجر أو الزرع، فإذا ساقى في الشجر أو الزرع بالربع مثلا فلا بد أن يساقي البياض بالربع، وأشار لثاني الشروط بقوله: وبذره العامل يعني أنه يشترط في جواز إدخال البياض في عقد المساقاة أيضًا أن يكون بذر البياض على العامل فعليه البذر والعمل، قال الشبراخيتي: معناه أن يكون البذر من عند العامل

ص: 862

فإن كان من عند رب الحائط والعمل على العامل فسد، ورد لساقاة مثله في الحائط وأجرة مثله في البياض قاله ابن حبيب.

وكان ثلثا هذا هو الشرط الثالث يعني أنه يشترط للجواز أيضًا أن يكون كراء البياض تبعا لقيمة الثمرة بأن يكون ثلثا فدون بعد أن يسقط منها ما أنفق عليها، كما قال: بإسقاط كلفة الثمرة مثال هذا أن يكون كراء البياض منفردا مائة والثمرة على المعتاد منها بعد إسقاط كلفتها أي ما أنفق عليها تساوي مائتين، فقد علم أن كراءه ثلث.

تنبيهات: الأول: قال الشبراخيتي ثم إن قوله "إن وافق" يحتمل أن يكون بمعنى توافق، فالجزء فاعلٌ وأل عوض عن المضاف إليه أي إن توافق الجزء أي جزءهما وإطلاق المفرد على المثنى حيث العلم بذلك سائغ، نحو تنام عيني أي عيناي ويحتمل أن يكون على بابه، "والجزء" أيضًا فاعل وأل عوض عن المضاف إليه أي إن وافق جزءُ البياض جزءَ غيره.

الثاني: قال البناني: ذكر للبياض أربعة أحوال: الأولى إدخاله في المساقاة ويجوز بالشروط الثلاثة، الثانية أن يشترطه رب الحائط لنفسه فيمنع، الثالثة أن يسكتا عنه فيلغى للعامل إن قل، الرابعة أن يشترطه العامل لنفسه وهي جائزة أيضًا إن قل.

الثالث: قال البناني: لَمْ يشترط أصبغ موافقة الجزء وقد جرى العرف عندنا بأن البياض لا يعطى إلَّا بجزء أكثر فله مستند فلا يشوش على الناس إذ ذاك بذكر المشهور. قاله الشيخ المسناوي رحمه الله. انتهى.

الرابع: قال الرهوني عند قول المص: "وكان ثلثا بإسقاط كلفة الثمرة" ما نصه: هذا

(1)

قول ابن القاسم واعتمده غير واحد وساقه الباجي والمتيطي غير معزو كأنه المذهب، ثم قال اللخمي: وما ذكره ابن القاسم من الإسقاط غلط لأن السقي والعلاج ثمن الثمرة فكيف يصح أن يحط أحدهما من الآخر؟ وإنما باع العامل منافعه من عمل وسقي بالجزء الذي يأخذه بعد الطيب، وإنما يطيب على ملك رب الحائط. انتهى. ونقله في التوضيح وقبله، وقال ابن عرفة بعد أن نقله: تغليطه

(1)

ساقطة من الأصل، والمثبت من الرهوني ج 3 ص 348.

ص: 863

لابن القاسم غلط لأن كراء البياض لما كان محض فائدة وجب أن لا ينسب إلى ما هو فائدة من الثمرة إنما هو الباقي بعد قيمة مؤنتها. انتهى. ونقله أبو علي والتاودي وقبلاه. انتهى.

وإلا بأن اختل شرط من الثلاثة بأن لَمْ يكن جزؤه موافقا لجزء المساقاة أو كان ولكن ليس البذر من عند العامل أو كان ولكن البياض أكثر من الثلث فسد عقد المساقاة، ويرد العامل إن عمل إلى مساقاة مثله في الحائط وإلى أجرة مثله في البياض. قاله الخرشي. وهو كالصريح في أنه يرد العامل إلى مساقاة مثله في الحائط، وإلى أجرة مثله في البياض في صور الفساد الثلاث. والله تعالى أعلم. المواق من المدونة: قال مالك في البياض: التبع مثل الثلث فأدنى لا بأس أن يشترط في المساقاة على مثل ما أخذ الأصول، قال مالك: وأحب إلي أن يلغى للعامل وهو أحله، فإن شرط أنه بينهما فجائز إن كان البذر والمؤنة من عند العامل، ولا يجوز أن يشترطه رب الحائط لنفسه إن كان العامل يسقيه، قال ابن حبيب: فإن كان بعلا أو كان لا يسقى إلَّا بماء الحائط فجائز. ابن عرفة: وفيها بياض الزرع كبياض النخل وعزاه الباجي للموازية. ابن عبدوس: صفة اعتبار التبعية أن ينظر إلى كراء الأرض كأنه خمسة وإلى غلة النخل على المعتاد منها بعد إسقاط قدر الإنفاق عليها، فإن بقي عشرة كان كراء الأرض الثلث فجائز لأنه تبع، ولو بقي من قيمة الثمرة ثمانية لَمْ يجز أن يساقى في النخل قولا واحدا. انتهى كلام المواق.

كاشتراطه يعني أنه لا يجوز لرب الحائط أن يشترط البياض لنفسه أي يعمل فيه لنفسه ويفسد العقد هذا إذا كان يُسقى بماء الحائط فيفسد لنيله سقي العامل فهي زيادة اشترطها على العامل، وأما إن كان البياض بعلا أو كان لا يسقى بماء الحائط فإنه جوز لربه أن يشترطه وأُلغي للعامل إن سكتا عنه أو اشترطه يعني أن البياض اليسير إذا سكتا عنه عند عقد المساقاة أي لَمْ يبينا كونه بينهما أو لأحدهما فإنه يكون للعامل، وكذا يكون للعامل لو اشترطه حين عقد المساقاة ومعنى إلغائه للعامل أنه يكون له يختص به، وقد علمت أن هذا إذا كان يسيرا وإلا فلا يجوز أن يدخلاه المساقاة ولا أن يلغى للعامل، قال عبد الباقي: وألغي البياض في العقد الصحيح المستوفي شروطه المتقدمة للعامل إن سكتا عنه أو اشترطه العامل وكان يسيرا في المسألتين بأن كان كراؤه الثلث كما مر، فإن كثر لَمْ يلغ له وكان لربه ولم يجز اشتراطه للعامل، فإن اشترطه له فسد

ص: 864

والمعتبر في يسارته وكثرته بالنسبة لجميع الثمرة على المعتمد لا بالنسبة لحصة العامل فقط. انتهى. وقال الشبراخيتي: قال في المعين: لو ألغي للعامل فزرعه لنفسه ثم أجيحت الثمرة كان عليه كراء الأرض. قاله ابن أشرس عن مالك. سحنون: وهي جيدة كذا في التتائي وعن سماع سحنون أيضا مثله فيما إذا اشترطه وحصلت جائحة. ابن رشد: ومعناه إذا أبى العامل م التمادي على العمل في الحائط يعني أو عجز، فلو تمادى على ذلك إلى آخر ما يلزمه من العمل لم يكن عليه كراء في البياض، وقال المواق: ابن المواز: إن سكتا عن البياض في العقد فما زرع فيه العامل فهو له خاصة وكذا لو سكتا عنه ثم تشاحا عند الزراعة فهو للعامل. وقاله ابن حبيب. ابن عبدوس: إذا ألغى للعامل فإنما يراعى فيه أن يكون تبعا لحصة العامل خاصة ولم ينقل ابن يونس خلاف هذا، وقال الباجي: ظاهر قول أصحاب مالك أنه يراعى في البياض أن يكون تبعا لثمرة جميع الحائط فيما يلغى للعامل وفيما يشترط أي يدخل في مساقاة النخل. انتهى.

قوله: "وألغى للعامل إن سكتا عنه أو اشترطه" هو الراجح، ومقابله أنه لرب الأرض وعليه فيجوز لربه أن يشترطه وهو مخالف لما مر، قال الرهوني بعد جلب نقول كثيرة ما نصه: فصح ما قلناه وتعين أن الراجح ما للمص لما ما زعمه أبو علي وادعاه. والعلم كله لله. انتهى؛ يعني أن أبا علي رجح مقابل المصنف. والله تعالى أعلم.

ودخل شجر تبع زرعا يعني أنه إذا ساقاه على زرع وفيه نخل يسير بأن كان تبعا أي قيمته الثلث فدون فإن النخل يدخل في عقد المساقاة حيث سكتا عنه لزوما فيكون بينهما، ولا يجوز إلغاؤه للعامل ولا لربه لأن السنة إنما وردت بإلغاء البياض لما الشجر، قال عبد الباقي: وتبعيته أن تكون قيمته الثلث فأقل بالنسبة لمجموع قيمته وقيمة المتبوع، ولا يعتبر في قيمة كل منهما سقوط الكلفة كما هو ظاهر التبصرة وهو ظاهر إذ الغالب أن البياض لا كلفة فيه وحكم عكس المص كذلك. انتهى؛ يعني أنه يدخل في عقد المساقاة زرع تبع شجرا، وقال عبد الباقي: ودخل لزوما شجر تبع زرعا عقدها عليه فقط فيكون بينهما. انتهى المراد منه. وقال عبد الباقي أيضا: ولا يعتبر شروط التابع في مسألة المص ولا في عكسها ولا يحتاج إلى شروط مساقاة الزرع. انتهى.

ص: 865

قوله: ولا يحتاج إلى شروط مساقاة الزرع، قال البناني: هذا إن كان الزرع تابعا ظاهرٌ، أما إن كان متبوعا فلا بد من شروطه. انتهى. وقال المواق من الموازية والدونة: إذا ساقى زرعا فيه شجر متفرقة هي تبع له جاز أن يشترط على ما شرط في الزرع ولا ينبغي أن يشترطها العامل لنفسه، وإن قلت بخلاف البياض ولا يجوز على أن ثمرها لأحدهما دون الآخر، وإنما يجوز على أن ثمرها بينهما على ما شرطا في الزرع، قال ابن المواز: إذا ساقاه زرعا وفيه شجر تبع له أو كان الزرع تبعا للشجر، فروى ابن القاسم أنه بخلاف البياض وكراء الأرض، وقال: لما يجوز أن يلغى للعامل ولا يجوز إلا على سقاء واحد كحائط فيه أصناف.

وجاز زرع وشجر وإن غير تبع يعني أنه تجوز مساقاة زرع مع شجر في عقد واحد وإن كان كل منهما غير تبع للآخر، ويعتبر شروط كل من التبوع فقط في مسألتي المص وفي عكس الأولى لما التابع وشروطهما معا في العقد عليهما وكل منهما غير تبع، والحاصل في هذه المسألة والتي قبلها أنه يعتبر شروط المتبوع فقط لا التابع وكذا عكس الأولى، وأما إن

(1)

كل منهما غير تبع كما في هذه المبالغة فالمعتبر شروط كل، وأما اتفاق الجزء فلا بد منه في جميع الصور فإن انتفى ذلك أو ما قبله فسد وفيه في اختلاف الجزء مساقاة مثله في كل، وأما فيما قبله ففيما إذا كان بعقد وليس كل منهما تبعا أجرة المثل في فاقد الشرط ومساقاة المثل في الآخر، وفيما إذا كان أحدهما تبعا وهما بعقد أو دخل الآخر تبعا أجرة المثل. قاله عبد الباقي. ونحوه للشبراخيتي فإنه قال: ثم إنه لا بد من تساوي الجزء فيما إذا ساقى على أحدهما ودخل الآخر تبعا، وفيما إذا وقعت المساقاة في كل سواء كان أحدهما تبعا للآخر أم لا حيث كانا في عقد واحد، وأما إن كان كل واحد في عقد فتجوز المساقات ولو اختلف الجزء فيهما، وإذا حصل الفساد في العقد فإن كان لاختلاف الجزء ففي كل مساقاة مثله وإن كان الفساد فيه لفقد بعض شروطء المساقاة المعتبرة في أحدهما فإن في ذلك الأحد الذي فقد فيه بعض الشروط أجرة المثل وفي الآخر مساقاة المثل، وهذا إذا كان كل منهما غير تابع للآخر، وأما إن كان أحدهما تابعا للآخر وفقد بعض الشروط المعتبرة في المتبوع أن لو

(1)

كذا في الأصل، ولعلها: وأما إن كان كل منهما ..

ص: 866

وقع السقي فيه منفردا فإن فيهما أجرة المثل. هكذا يؤخذ مما ذكره أبو الحسن والمتيطي بالتأمل. انتهى.

تنبيه لا يجوز إلغاء التابع من زرع أو شجر للعامل لأنه كمساقاة صنفين في حائط ويستبد أحدهما بصنف منه وهو ممنوع، والفرق بينه وبين البياض أن السنة وردت بإلغائه دون إلغاء الشجر، والزرع ثم إن المساقاة في مسألة المص هذه وقع عقدها على كل من جزءيها سواء كان أحدهما تابعا أم لا، وأما في التي قبلها فإنما تعلقت المساقاة بأحد جزءيها ودخل الآخر تبعا فلا تكرار، وفي كلام الشارح نظر. انتهى. قاله عبد الباقي. وقال المواق في المدونة: من ساقى رجلا زرعا على الثلث ونخلا على النصف لم يجز حتى يكونا على جزء واحد جميعا ويعجز عن الزرع ربه وإن كانا في ناحيتين. انتهى.

وحوائط وإن اختلفت بجزء يعني أنه تجوز مساقاة حوائط والعامل في الجميع واحد أو متعدد، وكذا رب الحوائط وسواء اتفقت في النوع أو اختلفت أنواعها بأن كان بعضها نخلا وبعضها تينا وبعضا رمانا بشرط أن يكون الجزء متفقا كثلث من كل أو نصف من كل مثلا، وأما بثلث من بعضها ونصف من غيره فإن ذلك لما يجوز.

واستثنى من ذلك قوله: إلا في صفقات يعني أن محل اشتراط الاتفاق في الجزء إنما هو حيث كانت المساقاة في الحوائط في صفقة واحدة أي في عقد واحد، وأما إن وقعت المساقاة في الحوائط في عقود متعددة فإنه يجوز الاختلاف في الجزء كثلث من هذا وربع من هذا مثلا، والحاصل أنه إذا تعددت الصفقة جاز الاختلاف في الجزء اتفق النوع أو اختلف، وإن اتحدت الصفقة اشترط اتفاق الجزء اتفق النوع في الحوائط أو اختلف، وقوله: وحوائط المراد بالجمع هنا ما فوق الواحد فيتناول الاثنين فما فوقهما. الشبراخيتي: ثم إن قوله بجزء إلا في صفقات يجري مثله في قوله: "وجاز زرع وشجر" لخ فهو راجع للمسألتين. انتهى.

وقوله: "إلا في صفقات" مستثنى من مفهوم بجزء أي لا بجزئين إلا في صفقات. قاله الشبراخيتي. وقال المواق في المدونة: لا يجوز أن تدفع إلى رجل حائطين مساقاة أحدهما على النصف والآخر على الثلث في صفقة، ولا بأس أن يكونا على جزء واحد، وإن كان أحدهما أفضل

ص: 867

من الآخر مما لو أفرد أحدهما لسوقي هذا على الثلث وهذا على الثلثين وقد كان في خيبر الجيد والردئ حين ساقاها النبي صلى الله عليه وسلم على الشطر كلها. انتهى. ثم قال: ويجوز حوائط مختلفة أو متفقة في صفقة بشرط جزء واحد، وأما في صفقات فلا شرط. انتهى.

وغائب إن وصف يعني أنه تجوز مساقاة حائط غائب ولو بعيدا بشرطين أحدهما أن يوصف ما فيه من رقيق ودواب، أو أنه لا شيء فيه ويوصف ما فيه من جنس الشجر وعدده، وهل هو بعل أو سقي بعين أو غرب وأرضه؟ وما هي عليه من صلابة أو غيرها؟ والقدر المعتاد مما يوجد فيها من الثمر ونحوه، قوله:"إن وصف" هو غير معتبر في الحاضر وسواء وصفه للعامل ربه أو غيره، وظاهر المدونة هو ما قاله الحطاب من جواز المساقاة عليه برؤية متقدمة، وعلى خياره بالرؤية لأنه في المدونة شبه مساقاته بالبيع. والله أعلم. قاله البناني. الرهوني: كلام البناني وكلام الحطاب يدل على أنهما لم يقفا على نص في ذلك مع أنه مصرح به في النهاية للمتيطي ومختصرها لابن هارون، ونص النهاية: وتجوز مساقاة الحائط الغائب على وصف أو رؤية متقدمة انتهى منها بلفظها.

ثانيهما أشار إليه بقوله ووصله قبل طيبه يعني أنه يشترط أيضا في مساقاة الحائط الغائب أن يمكن وصول العامل إلى الحائط المساقى عليه قبل طيبه، قال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: لا بأس بمساقاة حائط ببلد بعيد إذا وصف كالبيع، يريد إذا كان يصله قبل طيبه. انتهى. وقال عبد الباقي: والشرط الثاني قوله: "وصله" أي أمكن وصوله قبل طيبه وإن لم يصل بالفعل، فإن عقداها بزمن يمكن فيه وصوله قبل طيبه فتوانى في طريقه فلم يصل إليه إلا بعد الطيب لم تفسد وحط عن العامل بنسبة ذلك كما يأتي في قوله: وإن قصر عامل عما شرط حط بنسبته ثم نفقته في ذهابه وإقامته عليه لأنه أجير بخلاف عامل القراض لأنه شريك على قول مرجح، فإن جزم عند العقد بعدم وصوله قبل طيبه فسد وإن وصل قبله. انتهى. ويأتي أنه إذا حصل السقي من الله لم يحط له شيء مما للعامل.

واشتراط جزء الزكاة يعني أنه يجوز أن يشترط أن الزكاة تخرج من حصة أحدهما لأن ذلك يرجع إلى جزء معلوم مساقى عليه فإذا اشترطت على رب الحائط في مساقاة النصف أخرجت من

ص: 868

النصف الذي نابه في القسم، وعلى العامل أخرجت من نصفه فإن لم يشترطا شيئا فشأن الزكاة أن يبدأ بها ثم يقتسمان ما بقي، فهو من إضافة المصدر لمفعوله أي واشتراط أحدهما جزء الزكاة على الآخر وهو للمشترط، وإن لم تجب كما مر في القراض وهو لابن العطار، وصدر في الشامل بما يفيد أن الشرط يلغى ويقتسمان الثمرة على ما شرطا. قاله الشبراخيتي. وقول ابن العطار هو الراجح. انظر الرهوني. وقال المواق: ابن رشد: إن بلغت ثمرة الحائط المساقى نصابا أو كان لرب الحائط ما إن ضمه إليها بلغته فالزكاة من جملة ثمرة الحائط ثم يقتسمان ما بقي، ومن المدونة: لا بأس أن تشترط الزكاة في حظ أحدهما لأنه يرجع إلى جزء معلوم، فإن لم يشترط شيء فشأن الزكاة أن يبدأ بها ثم يقتسمان ما بقي. اللخمي: وقول مالك إن المساقاة مزكاة على رب الحائط يجب ضمها لماله من ثمر غيرها ويزكى جميعها، ولو كان العامل ممن لا تجب عليه وتسقط إن كان ربها ممن لا تجب عليه، والعامل ممن تجب عليه. انتهى.

وقال عبد الباقي: وجاز اشتراط جزء الزكاة أي جزء هو الزكاة للحائط بتمامه على أحدهما بأن يخرجها من حصته لرجوعه لجزء معلوم، فإن سكتا عن شرطها بدئ بها ثم قسما الباقي على ما شرطا، وعلم مما قررنا أن الإضافة بيانية كما في أحمد، وحينئذ فلو قال: واشتراط الزكاة كفاه. انتهى.

واعلم أن ما ذكرته من زكاة المساقى جار في الثمر والزرع فلا فرق بينهما في الوجوه التي قدمتها، وفي كلام عبد الباقي نظر وكلام عبد الباقي إنما نقله الأجهوري في مسألة الشريكين في الزرع لا في المساقاة. انظر البناني. وكلام عبد الباقي الذي أشار إليه هو قوله:"بخلاف مساقاته على الزرع" فإنه لهما وطاب على ملكهما فيزكي كل من نابه نصاب. انتهى؛ يعني أنه لا يفرق بين أن يكون رب الحائط ممن لا تجب عليه الزكاة أو ممن تجب عليه فيزكي العامل بخلاف الثمر فإنه لا زكاة على العامل حيث كان رب الحائط ممن لا تجب عليه الزكاة؛ لأن الثمر يزكَّى على ملك رب الحانط ونحو ذلك من بقية المسائل، فمعنى كلامه أنه يزكي في الزرع من نابه نصاب ولو بالضم إن كان ممن تجب عليه دون غيره وليس الأمر كذلك، بل الزرع والثمر لا فرق بينهما في زكاة المساقاة. والله تعالى أعلم. البناني: والصواب أيضا أن الخماس كالمساقي فالزكاة على رب

ص: 869

الزرع إن كان من أهلها وكان عنده نصاب، وإلا فكما تقدم في المساقى ثم ما فضل بعد أخذ الزكاة يكون بينهما على ما دخلا عليه. قاله بعض شيوخنا. انتهى.

وسنين ما لم تكثر جدا يعني أنه يجوز أن تعقد مساقاة عامل في حائط سنين ما لم تكثر جدا، وأما إن كثرت السنون جدا فلا تجوز المساقاة والكثرة جدا هي التي لا تنقضي إلا بتغير الأصول، قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: فإن كثرت بأن احتمل أن لا يبقى الحائط على حاله إليها منع، وقال البساطي: الكثير جدا هو الذي يحتمل أن لا يبقى الحائط إليه. انتهى. وقوله: "جدا" مفعول مطلق نائب عن مصدر محذوف أي كثرة جدا. قاله عبد الباقي.

بلا حد يعني أن الكثرة في السنين غير محدودة، والظاهر أن الباء في قوله:"بلا حد" للملابسة وأنه لغو متعلق بتكثر، قال في المدونة: قيل لمالك العشرة؟ قال: لا أدري عشرة ولا عشرين ولا ثلاثين. انتهى. قال في التوضيح: هذا يحتمل معنيين أحدهما أنه لم يثبت عنده شيء من السنين، الثاني أنه رأى أن ذلك يختلف باختلاف الحوائط إذ الجديد ليس كالقديم، فلو حدد لفهم الاقتصار على ذلك الحد نقله غير واحد، وإذا وقعت جائزة فالسنة الأخيرة بالجذاذ تقدم أو تأخر؛ وقوله: سنين أي ولو عربية إذا طابقت الجذاذات بأن يشترط من الشهور أو السنين ما يوافق الجذاذات فلا ينافي قوله: "وأقتت بالجذاذ". انتهى. قاله غير واحد.

وعامل دابة أو غلاما في الكبير يعني أنه يجوز أن يشترط العامل على رب الحائط دابة أو غلاما في الحائط الكبير، وحيث اشترط لم يجز إلا بشرط الخلف حيث كان كل منهما معينا، ومفهومه المنع في الصغير وهو كذلك لأنه ربما كفاه ذلك فيصير كأنه اشترط جميع العمل على رب الحائط. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وجاز اشتراط عامل على رب الحائط دابة وإن تعددت أو غلاما كذلك أو هما في الحائط الكبير، ولا بد من شرط الخلف وإلا لم يجز وهذا إذا كان كل منهما معينا وإلا جاز في الكبير. وإن لم يشترط الخلف كما في الحطاب، ومفهومه المنع في الصغير وهو كذلك لأنه ربما كفاه ذلك فيصير كأنه اشترط العمل على ربه. انتهى. وقاله الشبراخيتي.

وقوله: وعامل معطوف على جزء وهو من إضافة المصدر لفاعله فعطف المصدر المضاف لفاعله على المصدر المضاف لمفعوله وهو جائز كما نص عليه الشيخ أبو بكر في حاشيته على الشيخ خالد، وهو

ص: 870

في قوة الاستثناء من قوله: "ولا زيادة لأحدهما". انتهى. وقال الحطاب: والمعنى أنه يجوز أن يشترط العامل على رب المال أن يعينه بدابة أو غلام إذا كان الحائط كبيرا، وأما إن كان صغيرا فلا يجوز ذلك. انتهى. وقوله: في الكبير بالباء الوحدة، وقال النتمرح: قال في المدونة: وأما إن لم يكن في الحائط يوم العقد فلا ينبغي للعامل أن يشترطه على رب الأرض إلا ما قل، كغلام أو دابة في حائط كبير ولا يجوز ذلك في صغير ورب حائط تكفيه دابة واحدة لصغره، فيصير هذا كشرط جميع العمل على ربه، وإنما يجوز اشتراط ما قل فيما كثر وإذا اشترط العامل ذلك فلا يجوز إلا بشرط الخلف. قاله مالك في العتبية وسحنون. وقيل يجوز ذلك وإن لم يشترط الخلف والحكم يوجبه، قال ابن رشد: وهو ظاهر ما في الواضحة والذي أقول به وأنه تفسير لجميع الروايات أنه إذا عين الغلام أو الدابة بإشارة إليهما أو تسمية فلا تجوز المساقاة إلا بشرط الخلف وإن لم يعينا فالحكم يوجب الخلف وإن لم يشترط، ونحوه للخمي. انتهى.

وقسم الزيتون حبا يعني أنه إذا جرى العرف بأن الزيتون يقسم بعد عصره فإنه يجوز لأحدهما أن يشترط على الآخر أنه يقسم حبا، بهذا فسره غير واحد. وفسره الحطاب بقوله: ويمكن أن يحمل كلام المص على أن المراد أن قسم الزيتون حبا إن شرطه أحدهما عمل به، ولو كان العرف على أن عصره على أحدهما. انتهى المراد منه. وإنما حمل المص على هذا لأن المذهب قول سحنون وهو أن مساقاة الزيتون تنتهي بجناه. انتهى. أي وإذا انتهت المساقاة بجناه فإنه يقسم حبا فلا فائدة لجواز اشتراط قسمة حبا، وأجيب عن ذلك بما ذكرته وقوله:"قسم " عطف على "جزء" من قوله: "واشتراط جزء الزكاة"، وقال البناني: قال في المدونة: قال مالك في الزيتون: إن شرطا قسمة حبا جاز وإن شرطا عصره على رب الحائط، قال ابن يونس: وإن لم يكن فيه شرط فعصره بينهما وحكاه اللخمي عن ابن المواز وسحنون، قال سحنون: متهى المساقاة جناه، قال الحطاب: ومقتضى كلام ابن رشد أن كلام سحنون

(1)

هو المذهب.

كعصره يعني أن عصر الزيتون يجوز اشتراطه على أحدهما أي أحد المتعاقدين في المساقاة، فإن شرط على العامل فهو عليه وعلى الحائط فهو عليه والعرف كالشرط، فإن لم يكن عرف ولا شرط

(1)

ساقطة من الأصل، والمثبت من الحطاب ج 6 ص 131 ط دار الرضوان.

ص: 871

فالعصر بينهما كما مر عن سحنون وابن يونس وغيرهما، قال عبد الباقي: كعصره يجوز اشتراطه على أحدهما والعادة كالشرط، فإن لم يكونا فهو عليهما، وإذا جرت بشيء واشترط خلافه عمل بالشرط.

وإصلاح جدار يعني أن إصلاح الجدار يجوز اشتراطه على العامل وفهم منه أن هذا والثلاثة بعده علي رب الحائط عند عدم الشرط، فإن اشترطت على العامل كانت عليه وجاز ذلك ليسارته.

وكنس عين يعني أنه يجوز اشتراط كنس العين على العامل وقد مر أن كنسها على ربها، وذكر هنا جواز اشتراط ذلك على العامل لدفع توهم أنه يضر وأن التطوع لا يضر كالنقد في الخيار. وشد حظيرة يعني أنه يجوز اشتراط شد الحظيرة على العامل، والحظيرة بالظاء المشالة من الحظر وهو المنع وهي الزريبة تجعل على الحائط لمنع التسور، وشد بالشين المعجمة وبالمهملة ولا يتكرر مع قوله:"وإصلاح جدار" لأن الزريبة تجعل عليه لمنع التسور وإصلاح الجدار إصلاحه هو في نفسه وسد الزريبة إصلاحها هي في نفسها، وقال الخرشي: يعني إصلاح الحائط وكنس عين الحائط وإصلاح ظفيرته وهي الموضع الذي يجتمع فيه الماء لسقي الحائط، وسد حظيرة الحائط أي الزرب بأعلاه لمنع التسور من الحظر وهو المنع يجوز اشتراط ذلك على العامل ليسارته ولجريان العادة باشتراط ذلك عليه؛ لأن ذلك يبقى في الحائط بعد انقضاء مدة المساقاة غالبا، وسد يروى بالسين المهملة وبالشين المعجمة، ونقل عن يحيى بن يحيى أن ما حظر من زرب فبالمعجمة وما كان من جدار فبالمهملة، ومقتضى تفسير المواق تكرار قوله:"وإصلاح جدار" مع قوله: "وسد حظيرة" فإنه قال: سد الحظار هو تحصين الجدر وتزريبها. انتهى.

وإصلاح ضفيرة يعني أنه يجوز اشتراط إصلاح الضفيرة على العامل، قال عبد الباقي: وإصلاح ضفيرة بضاد معجمة مجتمع الماء كصهريج، وقال الباجي: عيدان تضفر وتطين يجتمع فيها الماء، وجاز اشتراط الأربع المذكورة على العامل ليسارتها وعدم بقائها بعد انقضاء مدة المساقاة غالبا، ولو انهارت البئر فعلى ربها إصلاحها، فإن أبى فللمساقي أن ينفق عليها قدر ثمرة سنة فقط. انظر الجزيري. وفي ابن عبد السلام والمص والشارح: ينفق العامل وإن لم يكن عند رب الحائط

ص: 872

شيء ويكون نصيبة من الثمرة رهنا بيده. انتهى. وقال الشبراخيتي: ثم إن إصلاح الجدار وما معه على ربه عند عدم الشرط.

أوما يعني أن غير ما تقدم من الأمور الأربعة مما هو على رب الحائط يجوز اشتراط ما قل منه على العامل، كناطور وهو حارس التمر، وقولي غير ما تقدم نحوه لعبد الباقي، وقال: وقولي غير ما تقدم دفع لما في كلامه من أن ظاهره جواز اشتراط الأربع المذكورة على العامل ولو كانت كثيرة لعطف، "أو ما قل" عليها، وليس كذلك بل لا بد من يسارتها أيضا، فكان ينبغي أن يقدم أو ما قل على إصلاح جدار، فيقول: أو ما قل من إصلاح لخ. انتهى. ونحوه للشبراخيتي، وقال: لو قال المص أو ما قل كإصلاح جدار لخ ليفيد أن جواز هذه الأم ور مشروط بيسارتها. انتهى.

وقال المواق: قال عبد الوهاب: ما لا يتعلق بالثمرة لا يلزم العامل ولا يجوز اشتراطه، وما يتعلق بالثمرة إن كان ينقطع بانقطاعها أو يبقى بعدها الشيء اليسير فهو جائز مثل التلقيح والسقي وإصلاح مواضعه وجلب الماء والجُدَاد وما يتصل بذلك، فهذا أو شبهه لازم وعليه أخذ العوض وإن كان يبقى بعد انقطاعها وينتفع به ربها مثل حفر بير لها أو بناء بيت يجنى فيه كالجرين أو إنشاء غراس فهذا لا يلزم العامل، ولا يجوز اشتراطه على العامل لأنها زيادة ينفرد بها رب الحائط فهو كالوجه الأول الذي لا يتعلق بالثمرة. انتهى.

وتقايلهما هدرا يعني أنه يجوز لرب الحائط والعامل أن يتقايلا أي يتركا المساقاة هدرا أي إنما يجوز تقايلهما إذا كان التقايل هدرا أي بلا شيء يدفعه أحدهما للآخر، فمعنى قوله:"هدرا" مجانا قال المواق من المدونة: قال مالك: ومن ساقيته حائطك لم يجز أن يقيلك على شيء تعطيه إياه كان قد شرع في العمل أم لا لأنه غرر إن أتمر النخل فإنه بيع التمر قبل زهوه وإن لم يتمر فهوأكل المال بالباطل. انتهى. وقوله: "هدرا" منصوب على أنه مفعول مطلق أي تقايلا هدرا. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وجاز لرب الحائط والعامل تقايلهما ولو قبل العمل للزومها بالعقد كما في المدونة بخلاف القراض حال كون تقايلهما هدرا من غير أخذ أحدهما من الآخر شيئا. انتهى المراد منه. ثم قال عبد الباقي: واحترز بقوله "هدرا" عن تقايلهما بشيء فيمنع

ص: 873

مطلقا بجزء سمي أم لا قبل العمل أم لا هذا مقتضى المدونة؛ لأنه إما بيع للثمرة قبل زهوها إن أثمر النخل وإما من باب أكل أموال الناس بالباطل إن لم يثمر، خلاف ما قال ابن رشد لكن قال الحطاب: تفصيل ابن رشد ظاهر كلامه أنه المذهب وحكاه في التوضيح وقبله وذكره في الشامل بقيل وليس بظاهر. انتهى. انتهى المراد منه.

قوله: فيمنع مطلقا بجزء سمي أم لا قبل العمل أم لا هذا مقتضى المدونة لخ فيه نظر، بل ما لابن رشد هو الذي تدل عليه المدونة لأنها تدل على جواز التقايل بجزء مسمى من الثمرة قبل العمل وبعده ما لم تطب فتأملها، ونص ما قاله في التوضيح ابن المواز: وإن تقايلا على شيء غير الثمرة أو من الثمرة بمكيلة مسماة أو ثمرة نخلة معروفة أو على أكثر مما أخذ بحيث يصير العامل يزيده من ثمر حائط آخر لم يجز، وأما إن كان على جزء مسمى ولم تطب الثمرة فإن كان قبل العمل، فقال في البيان: لا خلاف في جوازه على مذهب ملك الذي يرى المساقاة من العقود اللازمة، وعلى مذهب من يرى أنها من العقود الجائزة لأن الجزء الذي يعطيه العامل على هذا القول هبة من الهبات، وأم بعد العمل فأجازه ابن القاسم في رسم الأقضية والأحباس من سماع أصبغ، وقال في رسم البيوع من سماع (أشهب: لا يجوز وعلله باتهام رب الحائط على استئجار

(1)

العامل تلك الأشهر بسدس ثمر الحائط فصارت المساقاة دلسة بينهما وصار من بيع الثمار قبل بدو صلاحها، وقال ابن حبيب: إن تشاركا بجعل دفعه العامل لرب الحائط يعني من غير الثمرة فعثر عليه قبل الجذاذ رد الجعل ورجع العامل إلى مساقاته وغرم لرب الحائط أجر ما عمل بعد رده عليه، وكذلك إن عثر عليه بعد الجذاذ فللعامل نصف الثمرة، ويؤدي قيمة ما عمل بعد رده عليه ويأخذ ما كان أداه. انتهى. وبه تعلم حكم ما نظر فيه عبد الباقي حيث قال: وظاهر كلامهم هنا أن المعطي رب الحائط لا العامل، فانظر هل يمنع أيضا لخ؟ قوله: وقال في رسم البيوع من سماع أشهب لا يجوز لخ، وعلى قول ابن القاسم: هذا بالمنع فإن وقع ذلك رد إلى إجارة مثله، قال ابن رشد: فإن فعلا ذلك لأمر بدا لهما دون دلسة فلا حرج عليهما لأنها بانفرادها مساقاة صحيحة. انظر الحطاب.

(1)

ما بين المعقوفين غير مقروء من خط المؤلص والمثبت من البناني ج 6 ص 243

ص: 874

فرع: فإن خرجا عن المساقاة قبل العمل أو بعده على شيء يعطاه أحدهما وليس بجزء مسمى لم يجز باتفاق، فإن وقع ولم يعثر على ذلك حتى فات بالعمل رد فيما عمل إلى أجرة مثله. انظر الحطاب.

ومساقاة العامل آخر يعني أن عامل المساقاة يجوز له أن يساقي عاملا آخر بغير إذن رب الحائط بشرط أن يكون أمينا، ولو كان هذا العامل الذي ساقاه رب الحائط غير أمين كما استظهره عبد الباقي، وهو ظاهر لأن رب الحائط ربما رغب في الأول لأمر ليس في الثاني، فإن لم يكن في الثاني أمانةٌ لم تجز مساقاته وإن كان الأول غير أمين، وقال الشارح: قال في المدونة: ولن سوقي في أصل أو زرع مساقاة غيره في مثل أمانته. انتهى. وأبقى بعض الأشياخ لفظ المدونة على ظاهره فقال: لا بد أن يكون الثاني مثل الأول في الأمانة ونص اللخمي على الجواز، ولو كان الثاني أقل من الأول أمانة. وعلى بعض الشيوخ رد المص بلو حيث قال: ولوأي تجوز مساقاة العامل لآخر ولو كان هذا الثاني أقل من الأول أمانة، قال عبد الباقي: وجازت مساقاة العامل عاملا آخر أمينا ولو أقل أمانة، فقوله:"آخر" فيه حذف موصوف وصفته يدل عليهما، قوله:"ولو" لخ ولفظ آخر معمول مساقاة ولا يقال شرط عمل المصدر أن لا يكون مختوما بالتاء؛ لأنا نقول: التاء في مساقاة ليست للتأنيث ولا للوحدة بل بني عليها المصدر من أصله، فإن لم يكن فيه أمانة لم تجز مساقاته وإن كان الأول مثله فيما يظهر لأن رب الحائط رغب فيه لأمر ليس في الثاني، وظاهر كلام المص كان جزء الثاني أقل من جزئه أو أكثر أو مساويا له وهو كذلك، والزيادة له في الأقل وعليه في الأكثر ودخل في قوله:"آخرا" رب الحائط إن دفعه له بجزء أقل أو مساو لا بأكثر؛ لأنه يؤدي لدفع بعض الثمرة من حائط آخر وهو خلاف سنة المساقاة واعترض بلزوم ذلك في دفعه لأجنبي، وقد يفرق بأن رب الحائط عالم بأنه يعطيه الزيادة من حائط آخر والأجنبي غير عالم ولو علم لم يجز. انظر الشارح.

والظاهر أنه لا يجري فيه قوله: "وحمل على ضدها وضمن" ومحل الجواز في المص إن لم يشترط رب الحائط عمل العامل بعينه وإلا منع من مساقاته لآخر، والفرق بين منع عامل القراض مطلقا وجوازه هنا بقيده المذكور أن مال القراض يغاب عليه بخلاف هذا، وتقدم ذلك. انتهى. وقال

ص: 875

الشارح: إذا أخذ العامل الحائط على النصف ودفعه إلى غيره على الثلثين، ففي كتاب محمد: يكون ربه أولى بنصف الثمرة ويرجع الثاني على الأول بفضل ما بقي له. انتهى.

وحمل على ضدها يعني أن العامل الثاني الأجنبي يحمل على ضد الأمانة حيث جهل حاله، قال عبد الباقي: وحمل العامل الثاني الأجنبي حيث جهل حاله على ضدها أي الأمانة وإن لم يدع عليه ذلك؛ بخلاف باب الحضانة فإن الحاضن إنما يحمل على ضدها إن ادعي عليه لأنها حق له؛ فإن ادعي عليه أثبتها مراعاة للقول بأنها حق للمحضون وهنا العامل الأول متعد بالثاني لا حق له ولو ظنه الأول أمينا، فكذلك حيث كان ظاهر الفسق مشهورا وإلا صدق، وإذا حمل الثاني علي ضد الأمانة ضمن الأول موجب فعل الثاني؛ لأنه محمول على غير الأمانة. وقوله:"وضمن" كانت المساقاة في شجر أو زرع، وقوله:"وضمن" لا يرجع لا إذا كان أقل أمانة لأنه لا ضمان حينئذ، وورثة الأول ليسوا كالأجنبي بل يحملون على الأمانة حتى يتبين ضدها، والفرق بينهم وبين الأجنبي أن الوارث يثبت له حق موروثه فلا يزال عنه إلا بأمر محقق، بخلاف الأجنبي.

وفرق بينهم وبين حمل ورثة عامل القراض على ضدها بأنه يغاب عليه كما مر وبأن العمل فيه ليس في ذمة العامل بخلاف المساقاة في الأمرين. انتهى. قاله عبد الباقي. وعلم مما قررت أن قوله: "ضمن" جواب شرط مقدر أي وإذا حمل الثاني لخ.

فإن عجز ولم يجد أسلمه هدرا يعني أن العامل في المساقاة إذا عجز هو أو وارثه عن العمل ولم يجد أمينا، قال عبد الباقي: فإن عجز العامل أو وارثه عن العمل ولم يجد أمينا يساقيه أسلمه لربه هدرا بغير شيء لأنها كالجعل لا تستحق إلا بتمام العمل، ولزم ربه القبول للنهي عن إضاعة الماء، فإن لم يقبل حتى حصل فيه تلف أو نحوه فضمانه منه فإن عجز أيضا وكل من يعمل فيه. انتهى. وقوله:"فإن عجز ولم يجد أسلمه" لخ قال البناني: قال ابن عبد السلام: ظاهر المدونة وغيرها أن ذلك للعامل وإن لم يرض رب الحائط، قال في التوضيح: لكن تأول المدونة أبو الحسن وغيره بأن معناه إذا تراضيا على ذلك ويدل عليه تعليله بقوله؛ لأنه إن ساقاه إياه جاز كجوازه لأجنبي والمساقاة لا تلزم إلا برضاهما. خليل: وهذا التأويل متعين، ثم استدل عليه بكلام

ص: 876

المدونة، ثم قال: وقد نص اللخمي وابن يونس على مخالفة ما لابن عبد السلام أيضا؛ لأنهما قالا: لو قال رب الحائط أنا استأجر من يعمل تمام العمل وأبيع ما صار له من الثمرة وأستوفي ما أديت، فإن فضل فله وإن نقص اتبعته به أن ذلك له. انتهى.

ثم قال في التوضيح: وظاهره أنه لا شيء له ولو انتفع رب الحائط بما عمل العامل وهو ظاهر المدونة أيضا، وقال اللخمي: له قيمة ما انتفع به من العمل الأول قياسا على قولهم في الجعل على حفر البئر ثم يترك ذلك اختيارا، ويتم رب البئر حفرها وقد قدمنا نحو هذا من كلام ابن يونس في القراض. انتهى. وبه تعلم ما في كلام الزرقاني. والله أعلم. انتهى.

ولم تنفسخ بفلس ربه يعني أن عقد المساقاة لا ينفسخ بفلس رب الحائط الأخص أو الأعم الطارئ على عقدها قبل العمل أو بعده، ومعنى لم تنفسخ أنه لا يحكم بفسخ المساقاة بفلس رب الحائط، فإن تأخر عقد المساقاة عن الفلس فللغرماء فسخه. قاله عبد الباقي وغيره.

وبيع مساقى يعني أن عقد المساقاة لا ينفسخ بفلس رب الحائط كما عرفت وإذا لم ينفسخ بفلس رب الحائط فإن للغرماء أن يبيعوا الحائط على أن العامل مساقى فيه بالنصف أو الثلث مثلا، قال البناني: التوضيح: إذا قلنا إن المساقاة لا تنفسخ، فقال ابن القاسم في المدونة: للغرماء أن يبيعوا الحائط على أنه مساقى فيه كما هو، فقيل له لم أجزته ولو أن رجلا باع حائطه يريد قبل الإبار واستثنى ثمرته لم يجز؟ فقال: هذا وجه الشأن فيه وليس هذا عندي باستثناء ثمرة انتهى وأما إن باعه ربه بعد عقد المساقاة، فإن علم المشتري حين الشراء بذلك فظاهر، وإن لم يعلم إلا بعد الشراء فنقل الحطاب عند قول المص:"واستيجار مؤجر" ما نصه: قال ابن التلمساني: قال مالك: ومن ساقى حائطا ثم باعه فالبيع ماض والسقي ثابت لا ينقضه البيع. الأبهري: لأن عقد السقي لازم كعقد الإجارة. انتهى. ونحوه للقرافي. انتهى كلام الحطاب. وهو مشكل مع ما في الجلاب وغيره من أن من باع دارا بعد عقد الإجارة فيها ثم علم المشتري بعد الشراء فهو عيب إن شاء رضي به وإن شاء رد، والفرق بأن المساقاة لا بد منها غيرُ ظاهرٍ لإمكان أن يعمل المشتري بنفسه أو بعبيده مثلا انتهى.

ص: 877

وقوله: وهو مشكل مع ما في الجلاب وغيره لخ، قال الرهوني: لا إشكال فيه لأن قول ابن التلمساني عن مالك: فالبيع ماض والسقي ثابت لا ينقضه البيع ليس فيه نفي ثبوت الخيار للمشتري إذا لم يعلم لأنه إنما تكلم على ما يتوهم من نقض المساقاة، فقال: والسقي ثابت لا ينقضه البيع، وقوله: متصلا به عن الأبهري لأن عقد المساقاة لازم كعقد الإجارة يدل على ثبوت الخيار للمشتري إذا لم يعلم لتشبيهه ذلك بالإجارة، فهو موافق لما في الجلاب وغيره عند التأمل الصادق والإنصاف لا مخالف له حتى يستشكل، ولذلك ذكره الحطاب بين مسائل قبلها وبعدها ثبت فيها الخيار للجاهل. فتأمله بإنصاف. والله أعلم. انتهى.

وقال المواق من المدونة: وإن فلس رب الحائط لم تنفسخ المساقاة كان قد عمل أم لا، ويقال للغرماء بيعوا الحائط على أن هذا أي العامل فيه مساقى كما هو، قيل لابن القاسم إلى آخر ما مر، وقال عبد الباقي: وإذا لم تنفسخ بفلسه الطارئ بيع الحائط على أنه مساقى، ولو كانت المساقاة سنين على الأصح ولو قبل تأبيره وتوهم أنه يفسخ بيعه على ربه ويلزم أن يستثنى من الثمرة جزء العامل وهو ممتنع يدفع بأنه لا اسثناء، وإنما يباع على أنه مساقى كما تباع الدار على أنها مستأجرة والموت كالفلس لأن المساقاة كالكراء لا يفسخ بموت التكاريين أو أحدهما، والظاهر أنه إذا استحق خير المستحق بين إبقاء العامل وفسخ عقده لكشف الغيب أن العاقد له غير مالك وحينئذ فيدفع له أجر مثله، كمسألة وللمستحق أخذها ودفع كراء الحرث. انتهى. ونحوه للشبراخيتي، وقال عند قول المص:"وبيع مساقى": ظاهره كظاهر المدونة ولو كانت المساقاة سنين وهو ظاهر كلام سحنون أي ما لم تكثر جدا كما سبق، وله أيضا في كتاب ابنه إنما يجوز بيعه إذا كانت المساقاة سنة واحدة كبيع الربع والحائط على أن يقبض بعد سنة والفرق بينه وبين الربع والحائط على أن يقبض بعد سنة أن الأصول وهي الأشجار مقبوضة، والذي امتنع قبضه إنما هو حصة العامل من الثمرة وظاهره الجواز أيضا ولو قل التأبير وهو كذلك، وقال ابن المواز: لا يجوز إلا إذا أبر. انتهى. والجواب عن ذلك أنه لا اسثناء هنا. والله تعالى أعلم.

ومساقاة وصي يعني أن الوصي له أن يدفع حائط محجوره مساقاة، قال عبد الباقي: وجاز مساقاة من قبل أب أو أم -يعني والله أعلم- إذا كان الماء من قبلها وهو يسير لصحة إيصائها في

ص: 878

هذا وكذا تجوز مساقاة القاضي ومقدمه وجازت مساقاة من ذكر لمحجورهم لأنه من جملة تصرفهم له، وللوصي أخذ حائط غيره مساقاة لمحجوره، وقوله:"مساقاة وصي" عطف على فاعل "جاز". ومدين بلا حجر يعني أنه يجوز للمدين أن يدفع حائطه مساقاة حال كون المدين بلا حجر، والمراد به قيام الغرماء، قال عبد الباقي: وجازت مساقاة مدين حائطه أي دفعه لعامل مساقى حالة كون الدين بلا حجر أي بلا قيام غرماء عليه لأنه ككرائه أرضه وداره ولا فسخ لغرمائه، بخلاف ما لو أكرى أو ساقى بعد قيامهم فلا يجوز ولهم الفسخ كذا للشارح، وما ذكره من أن الحجر النفي قيام الغرماء هو ظاهر المدونة كما في أبي الحسن، ولا إشكال فيه لأن الذي يمنع التبرع فقط إنما هو مجرد إحاطة الديون بماله، وأما قيام الغرماء عليه فيمنع التصرف مطلقا. راجع ما مر في الفلس. والله تعالى أعلم.

ودفعه لذمي لم يعصر حصته خمرا يعني أنه يجوز للمسلم أن يدفع حائطه لذمي مساقاة إن أمن أن يعصر الذمي حصته من الثمر خمرا وإلا فلا؛ لأن فيه إعانتهم على العُدْوَان وهو خلاف ما أمر الله به قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، ومن المدونة: لا بأس أن تدفع نخلك إلى نصراني مساقاة إن أمنت أن يعصر حصته خمرا. انتهى. ابن ناجي: قال بعض شيوخنا: ظاهر المدونة أنه محمول على عدم الأمانة حتى يثبت الأمن وهذا كله يفيد أنه لا بد من وجود الأمن، واعترض ابن العربي على أهل المذهب بأن أصل هذا الباب مساقاته صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، ولم يرو عنه أنه اشترط عليهم ذلك، وجوابه أن حالتهم التي كانوا عليها من الجهد والشدة وضيق العيش وقتل المصطفى صلى الله عليه وسلم لأهلهم وبغضه لهم كأنها شرط حكما، أو الظن الغالب حينئذ أمنهم من العصر ودفعه لمسلم يعصر حصته خمرا كذمي فيما يظهر بل أشد وكذا لحربيٍّ أو معاهد. قاله عبد الباقي.

وقال مفسرا للمص: وجاز لمسلم دفعه أي حائطه لذمي مساقاة حال كون الذمي لم يعصر أي تحقق المسلم أو ظن قويا أنه لا يعصر حصته التي يأخذها على العمل خمرا، ونحوه في المدونة ثم قال: وخرج بقولنا تحقق أو ظن قويا ما لو ظن غير قوي عصره فإنه يحرم، وكذا لو شك على مقتضى هذا ولكن الظاهر الكراهة قياسا على مسألة المغشوش المتقدمة وعلى ما ذكروه هنا من

ص: 879

كراهة مقارضة من شك في عمله الربا ومعاملته وأنه يندب التصدق بالربا؛ لأن من تحقق أو ظن قويا عمله بالربا فيجب التصدق به، وإن شك أنه يعمل في الخمر ندب تصدقه بجميع المال وإن تحقق ضمله به وجب تصدقه بجميعه. قاله في البيان عن ابن المواز. وكره ملك مقارضة من يستحل الحرام أو من لا يعرف الحلال من الحرام وإن مسلما. انتهى.

لا مشاركة ربه يعني أنه لا يجوز لرب الحائط أن يشترط على العامل في عقد المساقاة أن يشاركه في العمل، وكذا لا يجوز للعامل أن يشترط على رب الحائط أن يشاركه في العمل فكلامه هنا شامل للصورتين فأفاد هنا أن ذلك لا يجوز ابتداء، وما يأتي هو حكم ذلك بعد الوقوع، فيأتي ما فيه من التفصيل وهو أنه إن كان المشترط هو رب الحائط ففيه أجرة المثل، وإن كان المشترط هو العامل ففيه مساقاة المثل وكأن وجه ذلك أنه لا اشترط رب الحائط على العامل أن يعمل هو معه ولم يسلم له الحائط فكأنه آجره على معاونته في العمل فكان فيه أجرة المثل، بخلاف ما إذا سلم الحائط للعامل واشترط عليه العامل مشاركته في العمل فإنه ترجح جانب المساقاة دون الإجارة فكان فيه مساقاة المثل. هذا ما أفاده ابن رشد. وقد نقل الحطاب كلامه مستوفى. انظر البناني.

وقال عبد الباقي مفسرا للمص: أي لا يجوز لرب الحائط أن يقول لشخص [أسقي]

(1)

أنا وأنت في حائطي ولك نصف ثمره مثلا؛ لأن السنة أن يسلم الحائط إليه وليس المراد أن الشركة وقعت بينهما بعد عقد المساقاة، فإن هذه جائزة ويصح حمل كلامه هنا على أن يشترط العامل على رب الحائط العمل معه ويشاركه في الجزء المجعول له، وليست هذه ما تقدم من أن قوله:"ومساقاة العامل آخر" شامل لما إذا كان الآخر رب الحائط لأن هذه شرط عليه في أصل عقدها أن يعمل معه ويشاركه في الجزء الذي اشترط له، والسابقة عقد مستقل إن كان المشترط رب الحائط فللعامل أجرة مثله وإن كان العامل فله مساقاة مثله. انتهى.

أو إعطاء أرض ليغرس فإذا بلغت كانت مساقاة عطف على مشاركة يعني أنه لا يجوز لشخص أن يدفع أرضه لمن يغرس فيها شجرا سماه له كنخل مثلا، فإذا بلغ الشجر قدرًا معلوما مما لا يثمر قبله كانت الأرض بيد الغارس مساقاة سنين ثم يكون ملكا لرب الأرض لأنه خطر، فإن لم

(1)

في الأصل: أسق، والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 245.

ص: 880

يقل كانت مساقاة بأن قال خذ هذه الأرض واغرس فيها نوعا معينا، فإذا بلغت قدرا مخصوصا كان الشجر والأرض بينهما صحت وكانت مغارسة، فإن انخرم شرط من ذلك فسدت فإن اطلع عليها قبل العمل فسخت وإلا فلا وعلى الغارس نصف قيمة الأرض يوم الغرس براحا، وعلى رب الأرض نصف قيمة الغرس يوم بلغ وهو بينهما على ما شرطا. قاله الخرشي. قال الأمير: والذي في الأجهوري تبعا للذخيرة أنه إن لم يجعل له شيئا من الأرض فقولان قيل كراء فاسد فعليه كراء الأرض وقيل إجارة فاسدة فعلى رب الأرض قيمة الغرس يوم وضعه وكلفة العمل، وإن جعل له شيئا من الأرض لكن أجل بأجل بعد الإطعام مثلا، فأقوال ثلاثة أصحها قول سحنون: إجارة فاسدة. انتهى.

وقال الأمير: باب جازت المغارسة، قال في الشرح: المفاعلة على غير بابها إلا أن يعتبر إعانة رب الأرض بدفعها وقد أهملها الأصل. انتهى كلامه في الشرح. قال في المتن متصلا بما قدمته من المتن: تدفع أرضك لمن يغرسها نوعا معينا ولا يشترط تعيين العدد على أنه إذا بلغ كذا مما لا يثمر قبله من السنين كانت الأرض والشجر بينكما على ما سمى، قال في الشرح: وقد تضمن هذا التصوير شروطها فإن اختل شرط فسدت، ثم ذكر ما قدمته عن الخرشي والأجهوري، ثم قال في المتن: وإن عجز فكالمساقاة، معناه إن لم يجد أمينا سلم هدرا ثم قال: وجاز شرط البياض الخالي من الشجر لربه وعمل قل على الغارس لا كجدار ولك بكل شجرة تنبت كذا جعل، قال في الشرح: وقد يكون إجارة كاغرس لي كذا ولك كذا، فإن كان الغرس من عند العامل جرى على مسألة ابن لي دارا والجص من عندك السابقة، ولا تكون المغارسة إلا في الأصول الثابتة كالشجر لا فيما يزرع كل سنة.

ومثلها بناؤه رحى في أرضك بصفة مخصوصة على أن الأرض والرحا بينكما، فإن شرطت عليه إصلاحها كل ما اختلت منع للغرر، ثم ذكر فرع المص أعني قوله:"أو إعطاء أرض" قال التاودي: ولم يلمم المص بالمغارسة إلا ما يؤخذ من هذا المفهوم، وقال ابن سلمون: والمغارسة من عمل الناس وهي من باب المجاعلة؛ إذ للعامل أن يترك العمل وهي أن يدفع الرجل إلى الرجل أرضه ليغرسها فإذا أطعم يكون بينهما على جزء معلوم، وتجوز المغارسة إلى شباب معلوم ما لم

ص: 881

يكن يثمر قبل ذلك فإن لم يسميا شيئا معلومًا، فقال ابن حبيب: ذلك جائز وتكون إلى الإطعام، وقال غيره: المغارسة فاسدة وإن كان في الأرض شجر كثير فلا تجوز المغارسة على قلعها، ولا يشترط عليه في ذلك إلا ما خف، وكذلك لا يجوز له أن يننْمترمعليه بناء جدارات تعظم النفقة فيها ونحو ذلك إلا أن يشترط عليه التزريب الخفيف أو ما قل من البناء ونحوه فلا شيء للعامل حتى يبلغ الحد المشترط، فإن أثمر البعض دون البعض فإن كان الذي أثمر أكثرها كان الغير تبعا واقتسما الجميع وإن كان الأقل فإن كانت إلى ناحية بعينها كانت بينهما وسقط عن العامل العمل فيها ويعمل في الباقي حتى يثمر، وإن كان مختلطا لزمه العمل في الجميع حتى يتم مطعمه.

وهل يكون ما أثمر من ذلك بينهما أم لا؟ في ذلك قولان أحدهما أنه لا شيء للعامل فيما نبت حتى يكون الجل فيستحق حظه من الجميع، والثاني وهو قول أشهب أنه إذا مات النخل كلها إلا ثلاث نخلات فهي بينهما، فإن كانت المغارسة على أن يكون الشجر بينهما مع مواضعها من الأرض وبقية الأرض لربها فذلك جائز، وإن كانت على الشجر خاصة دون مواضعها من الأرض أو على الأرض دون الشجر لم يجز، فإن نزل ذلك كان للعامل أجر عمله فإن كانت في الأرض شجرة فهي لصاحب الأرض، ولا يكون للعامل فيها حق ولا يسوغ له أن يشترط أن تكون بينهما مع الغرس وللعامل أجرة سقيها وعلاجها وما نبت فيها في أثناء المغارسة مما لم يعلما به، فإن كان العامل لم يغرسها فإنها تكون بينهما مع الغرس وإن كانت المغارسة أنواع ثمار فلا تجوز إلا أن يكون أمد إطعامها واحدا أو متقاربا، وإن كان بين ذلك بعد فالغارسة فاسدة ولا

(1)

تجوز المغارسة إلا في الأصول خاصة، وإذا بلغ الغرس الحد المشترط وجب للعامل حظه فإن بقي لم يقتسماه، وإن احترق الغرس أو طرأت عليه آفة فإن الأرض تكون بينهما إذ قد استحق العامل حظه بتمام الغرس.

وفي مسائل ابن الحاج: إذا غارس رجل رجلا في كرمه إلى شباب معروف فأراد بيع نصيبه قبل بلوغ الشباب فإن البيع لا يجوز؛ لأنه لم يجب له نصيب إلا أن يبلغ الشباب المتفق عليه، ولو مات عن ورثة كانوا أحق بعمله أو تركه، فقد نزل في رحى ابن عتاب ما يشبهها: أعطى رحى

(1)

في الأصل: وإلا، والمثبت من ابن سلمون ج 2 ص 24.

ص: 882

لشخص على أن يبلغ السد إلى كذا فإذا بلغت كانت الرحا بينهما، فباع نصيبه قبل ذلك فتجاذبتها مع ابن رشد وظهر أن البيع غير جائز كالمغارسة، وإن ادعى أحد المتغارسين الصحة وادعى الآخر الفساد فالقول قول مدعي الصحة، وقيل القول قول مدعي الفساد لغلبته فيها، وإذا دفع رجل لرجل أرضه ليغرسها ويكون له بكل شجرة تنبت جعل مسمى فذلك جائز. انتهى.

وفي مسائل ابن رشد: سئل عن مغارس يغرس الأرض بجزء معلوم فيلقح غرسه ويقوم عليه العام والعامين. ثم يعجز عن العمل ويذهب إلى بيع ما عمل من رب الأرض أو من غيره ممن يقوم على المغارسة إلى تمامها بذلك الجزء الذي أخذها هو به، دقال: ذلك كله جائز ولا كلام لرب الأرض في ذلك إن أدخل في المغارسة غيره على شيء يأخذه منه. انتهى كلام ابن سلمون.

واعلم أن المغارسة الفاسدة إذا اطلع عليها قبل شروع العامل في عمله فإنها تفسخ ولا شيء لواحد منهما على الآخر، وإذا اطلع عليها بعد الغرس ومعالجته ففي ذلك طريقان: الطريقة الأولى وهي للمتيطي في نهايته وغيره أن ينظر لهذه المغارسة، فإن جعل فيها جزء للعامل من الأرض وفسدت من وجه آخر ككونها إلى أجل بعيد تثمر الشجرة قبله أو يخدمها العامل ما عاش ونحوه، فإنها تمضي ويترادان قيمة الأرض ويرجع عليه العامل بنصف قيمة عمله، نم قال: الطريقة الثانية وهي لابن رشد ومن تبعه أنه ينظر، فإن جعل للعامل فله قيمة غرسه أي الأعواد التي غرسها وضمله أي معالجته إلى يوم الحكم، وعبارة ابن رشد: وأما إذا جعل له جزءًا من الأرض على وجه لا يجوز في المغارسة مثل أن يقول له اغرس هذه الأرض وقم على الغرس كذا وكذا سنة أو حتى يبلغ كذا وكذا لأجل أو حد يكون الإطعام دونه، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنها إجارة يرد عليه الغارس ما أخذه منها يريد من الثمرة المكيلة إن عرفت أو خرصها إن جهلت، قال بعد هذا: وهو القول الصحيح. انتهى. وعلى هذا فالغرس كله لرب الأرض ولا شيء للعامل إلا ما ذكر فيما تقدم من قيمة غرسه وقيمة عمله. انتهى.

واعلم أن الراجح من الطريقتين طريقة ابن رشد. والله تعالى أعلم. وقال صاحب التبيين والتشهير: وفسخت فاسدة بلا عمل وإلا فهل تمضي ويترادان قيمة الأرض؟ والعمل إن جعل للعامل جزءا وإن كان كذلك فله قيمة غرسه وعمله فقط، وإلا ففي كونه كراء فاسدا أو إجارة كذلك تردد.

ص: 883

انتهى. والتردد فيما إذا جعل للعامل جزء هو الذي أشرت له بالطريقتين، وتحصل مما مر أنه إن جعل له جزء من الأرض أنه اختلف فيها على أقوال وأرجحها اثنان: أحدهما تمضي المغارسة ويترادان قيمة الأرض والعمل، والثاني أنها إجارة فاسدة فالأرض وما فيها لربها ويرجع عليه العامل بقيمة غرسه وعمله، والمراد بالغرس الأعواد التي غرسها ويرجع رب الأرض على العامل إن كان قد أخذ الثمرة بمكيلة ثمرته إن عرفت، وبخرصها إن جهلت والظاهر بقيمة خرصها لأن المثلي إذا جهل تجب فيه القيمة، وهذا القول أرجح من الأول، ولنقتصر في مسألة الجزء على هذين القولين لرجحانهما ولأن الكلام على غيرهما يستدعي طولا، وأنه إن لم يجعل للعامل جزء من الأرض فإنه اختلف في كون ذلك كراء فاسدا فالغرس للعامل وعليه لرب الأرض كراء مثله أو إجارة فاسدة، فالجميع لرب الأرض وعليه للعامل قيمة عمله وقيمة غرسه أعوادا. والله تعالى أعلم.

أو شجر لم تبلغ خمس سنين وهي تبلغ أثناءها يعني أنه لا يجوز لمن له شجر لم يبلغ حد الإطعام أن يساقي عليه خمس سنين، والحال أن هذا الشجر يبلغ أثناء السنين الخمسة أي حيث كان يبلغه بعدها، فقوله:"أو شجر" معطوف على "أرض" من قوله: "أو إعطاء أرض" وقوله: "أو إعطاء أرض" مفهوم قوله: "إنما تصح مساقاة شجر"، قال عبد الباقي: أو إعطاء شجر لم تبلغ حد الإطعام في عام العقد فساقى عليه خمس سنين وهي أي الشجر تبلغ أثناءها أي بعد عامين كما في المدونة، فيمنع للخطر "فخمس سنين" ظرف لإعطاء ويساقي والجملة بعده حال، فإن كانت تبلغ في عام العقد لم تفسد فإن عثر على الممنوع قبل بلوغها الإطعام فسخ وللعامل أجرة مثله، وإن لم يعثر عليه حتى بلغت الإطعام لم تنغسخ المساقاة بقية المدة وله في بقيتها مساقاة المثل، فإن قيل المساقاة إنما تكون فيما لم يطعم حال عقدها ويطعم بعده وهذه المسألة كذلك فلم منعت؟ فالجواب أن المساقاة تكون جائزة فيما يطعم في عامة كما تقدم أول الباب، وهذه إنما تطعم بعد عام العقد ولا مفهوم لقوله:"خمس سنين" وإنما المدار على إعطائه شجرا مدة لا تبلغ حد الإطعام إلا بعد العام الأول، وتبلغ بعده كانت المدة خمس سنين أو أقل أو أكثر. انتهى.

ص: 884

قال البناني: اعلم أن المساقاة إذا وقعت فاسدة فإما أن يعثر عليها قبل العمل أو بعد الفراغ منه أو في الأثناء، فالحكم في الأولى الفسخ ولا شيء للعامل وفي الثانية إن خرجا منها إلى غيرها فأجرة المثل وإلا فمساقاة المثل، وأما الثالثة فيتكلم فيها على الفسخ وعدمه وعلى ما يكون للعامل إذا وقع الفسخ، حاصله أنهما إن خرجا من المساقاة إلى غيرها فالفسخ وللعامل أجرة مثله وإلا فلا فسخ وله مساقاة مثله، وقد رتب ابن الحاجب هذا الترتيب وذكر مسائل أجرة المثل ومساقاة المثل بجنب القسم الثاني في كلامه، فوقعت الإحالة في القسم الثالث في كلام على معلوم بخلاف المص، فإنه أحال في قوله:"إن وجبت أجرة المثل" على متأخر. انتهى. كلام البناني.

وقال عبد الباقي: ولما ذكر في توضيحه كأهل المذهب أن المساقاة إذا فسدت فإن وجب فيها أجرة المثل فسخت متى اطلع عليها وحاسب بما عمل للفسخ، وإن وجب فيها مساقاة المثل لم تنفسخ بعد الشروع في العمل لأنه إنما يدفع له من الثمرة، فلو فسخ عقده قبل طيبه لزم أن لا يكون للعامل شيء لما تقدم أنها كالجعل، ولأن أجرة المثل متعلقة بالذمة فلا يكون أحق بما عمل فيه في فلس ولا في موت ومساقاة المثل متعلقة بالحائط، فيكون العامل أحق به في الموت والفلس.

أشار المص لذلك بقوله: وفسخت فاسدة بلا عمل فاسدة نائب فاعل فسخت وهو صفة لمحذوف؛ أي مساقاة فاسدة يعني أن المساقاة إذا وقعت فاسدة وعثر على ذلك قبل العمل فإنها تفسخ ولا شيء للعامل حينئذ، ويصح في فاسدة النصب على أنها حال من الضمير في فسخت أي فسخت المساقاة حال كونها فاسدة بلا عمل وهو صفة لفاسدة والباء للملابسة. والله تعالى أعلم.

أو في أثنائه يعني أن المساقاة إذا وقعت فاسدة واطلع عليها في أثناء العمل أي قبل تمامه فإنها تفسخ إن وجبت فيها أجرة المثل، وسيأتي بيان ما تجب فيه أجرة المثل منها إن شاء الله تعالى، وإذا فسخت فله بحساب ما عمل وهذا إن عمل عملا له بال وإلا فكالعدم. انظر الشبراخيتي وغيره. وقوله:"أو في أثنائه" أي إن كانت مدة المساقاة سنة، بدليل قؤل: أو بعد سنة من أكثر يعني أن المساقاة الفاسدة إذا كانت مدتها سنتين أو أكثر واطلع عليها بعد كمال سنة فإنها تفسخ إن وجبت فيها أجرة المثل، وله بحساب ما عمل إن عمل عملا له بال وإلا فكالعدم، وقوله:"أو بعد سنة" داخل في قوله: "أو في أثنائها".

ص: 885

وعلم مما قررت أن قوله: "إن وجبت أجرة المثل" راجع للأمرين قبله، وهما قوله:"أو في أثنائه"، وقوله:"أو بعد سنة من أكثر" أي إنما تفسخ في الأمرين إن وجب فيها أجرة المثل، ومفهومه أنه إن وجبت فيها مساقاة المثل لم تنفسخ في الصورتين وهو كذلك، ويأتي بيان ما تجب فيه مساقاة المثل إن شاء الله تعالى، قال الحطاب: وقول المص: "أو بعد سنة" هو داخل في قوله: "أو في أثنائه"، ولهذا لو قال: أو في أثنائه وإن بعد سنة لكان أوضح بل لو أخره عن قوله إن وجبت أجرة المثل لكان أحسن؛ لأنه إنما تظهر فائدته في مفهوم الشرط وهو ما إذا كان الواجب مساقاة المثل؛ فإنه قد يقال: كان ينبغي إذا اطلع على فسادها عند كمال السنة أن تنفسخ المساقاة في باقي

(1)

السنين؛ لأن العامل قد تم عمله في تلك السنة وأخذ مساقاة مثله فيها، فلم يذهب عمله باطلا فلم يتركونه يعمل بقية السنين؟ والجواب عن ذلك أن يقال: إن الحائط قد تقل ثمرته في عام وتكثر في آخر، فلو لم يتماد على العمل في جميع السنين لكان فيه غبن على أحدهما، كما أشار إلى ذلك في مسألة المدونة: من ساقى حائطه وقد أطعم لخ.

ولما بين المحل الذي تفسخ فيه والذي لا تفسخ بين ما يترتب على الفسخ في مسألة الفسخ وما يترتب على عدمه في مسألة عدمه فقال: وإن عثر على فساد المساقاة بعده أي بعد الشروع في العمل تم العمل أم لا، فله أجرة مثله بشرط أشار إليه بقوله: إن خرجا عنها أي عن المساقاة إلى إجارة فاسدة أو إلى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، ومعنى قوله:"إن خرجا عنها" أن الفساد لأمر خارج عن ذات المساقاة، ومثل لذلك بقوله: كإن زاد عرضا أو عينا يعني أنه إذا اشترط أحدهما على صاحبه زيادة على الجزء فإن ذلك خروج عن المساقاة إلى الإجارة، سواء كان الذي زاده عرضا أو عينا فيكون للعامل أجرة مثله فيما عمل سواء تم العمل أم لا، وقد علمت أن هذا يفسد المساقاة لأنه إن زاده رب الحائط ذلك فكأنه استأجره على أن يعمل له في حائطه بما أعطاه من المعين أو العرض وبجزء من ثمرة الحائط وذلك إجارة فاسدة توجب أن يرد إلى إجارة مثله، ويحاسبه ربه على حكم إجارة المثل بما أعطاه من العين أو العرض ولا شيء له من الثمرة إلا لضرورة، كأن لا يجد ربه عاملا إلا مع دفعه له شيئا زائدا على الجزء فيجوز كما ذكره ابن

(1)

في الأصل: باب، والمثبت من الحطاب ج 6 ص 135.

ص: 886

سراج، وإن كانت الزيادة من العامل فقد خرجا عن المساقاة إلى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكأنه اشترى منه الجزء المسمى له في المساقاة بما دفع له من العين أو العرض وبأجرة عمله فوجب أن يرد إلى أجرة مثله ولا شيء له من الثمرة. قاله الحطاب وغيره.

وإلا أي وإن لم يخرجا عن المساقاة إلى غيرها بأن لم يجئها الفساد من غيرها وإنما جاءها الفساد من عقدها على غرر مثلا، فللعامل مساقاة المثل مبتدأ حذف خبره أو العكس أي مساقاة المثل هي الواجبة في ذلك، وقد علمت أن هذا بعد أن عمل لأنه مرتب على قوله:"وبعده كالذي قبله"، وأما إن لم يحصل عمل فالفسخ كما مر للمص بقوله:"وفسخت فاسدة بلا عمل"، ومثل المص لذلك بتسع مسائل فقال: كمساقاته مع ثمر أطعم هذه هي المسألة الأولى من التسع؛ يعني أن رب الحائط إذا ساقي عامله في ثمر لم يطعم مع شهر أطعم أي بدا صلاحه وليس تبعا فإن ذلك مساقاة فاسدة تفسخ قبل العمل، فإذا عمل لم تفسخ حيث شرع في عمل ما لم يطعم ورد إلى مساقاة مثله، قال عبد الباقي: كمساقاته حائطا واحدا سنين آتية وحاضرة مع ثمر أي فيه ثمر أطعم وليس تبعا كما يدل عليه كلامه لأنه بيع ثمر مجهول بشيء مجهول، لا يقال إن المساقاة كذلك لأنا نقول خرجت عن أصل فاسد لا يتناول هذا فبقي على أصله، وشمل كلامه صورة أخرى وهي مساقاته حائطين أحدهما غير مثمر والآخر مثمر أطعم، وصورة أخرى وهي حائط بعض ثمرة أطعم وليس تبعا، وإذا اطلع عليه في الصورة الأولى في العام الأول فيفسخ وله أجر مثله فيما سقى وإن لم يطلع عليه حتى شرع في العام الثاني فأجر مثله في الأول ومساقاة مثله في الثاني، وإذا اطلع عليه في الصورتين بعدها فله فيما لم يثمر مساقاة مثله. اهـ. وقوله:"كمساقاة ثمر أطعم" قال الحطاب: يشير إلى قوله في المدونة: ومن طابت ثمر نخله فساقاه هذه السنة وسنتين بعدها لم يجز وفسخ، وإن جذ العامل الثمرة كان له أجر مثله وما أنفق فيها، فإن عمل بعد جذه الثمرة لم تفسخ بقية المساقاة وله استكمال الحولين الباقيين وله فيهما مساقاة مثله، ولا أفسخها

(1)

بعد تمام العام الثاني إذ تقل ثمرة العام الثاني وتكثر في الثالث فأظلمه. اهـ المراد منه.

(1)

في الأصل: أفسخهما، والمثبت من الحطاب ج 6 ص 136 ط دار الرضوان.

ص: 887

قال مقيده عفا الله عنه: علم مما مر أنه إذا ساقاه أكثر من عام وثمر المساقى عليه بدا صلاحه أنها تفسخ فيما بدا صلاحه وله أجر المثل فيما عمل، فإن لم يفسخ حتى شرع في العام الذي بعده في العمل لم تفسخ بقية المساقاة وله مساقاة المثل، فإن كان في المساقى عليه ثمر أطعم وفيه ثمر لم يطعم أو في بعضه ثمر أطعم وبعضه لم يثمر، فإن لم يعمل فسخ وإن عمل فله فيما لم يثمر أو أثمر ولم يطعم مساقاة المثل وله فيما أطعم أجر مثله، وفسخ العقد فيه بخلاف غيره. هذا ما ظهر لي في هذه المسألة. والله تعالى أعلم.

الثانية أشار لها بقوله: أو مع بيع عطف على قوله "مع ثمر" يعني أن المساقاة إذا وقعت مع بيع فإنها تفسد، فإن اطلع على ذلك قبل العمل فسخت، فإن عمل لم تفسخ ورد إلى مساقاة المثل، قال عبد الباقي: أو وقعت مع بيع أي ساقاه حائطه بجزء وباعه سلعة في صفقة واحدة أو إجارة له بشيء مع المساقاة في عقد واحد فيمنع وفيه مساقاة المثل، وينبغي أن كل ما يمتنع اجتماعه مع المساقاة في عقد كذلك أي فيه مساقاة المثل، وجمع ذلك بعضهم في قوله:

نكاح شركة صرف وقرض

مساقاة قراض بيع جعل

فجمع اثنين منها الحظر فيه

فكن فطنا فإن الحفظ سهل

الثالثة أشار لها بقوله: أو اشترط عمل ربه يعني أن العامل إذا اشترط على رب الحائط أن يعمل معه فإن ذلك مساقاة فاسدة تفسخ إن اطلع عليها قبل العمل، فإن عمل لم تفسخ وله مساقاة المثل: وأما لو كان المشترط رب الحائط ففيه أجرة المثل كما سبق، والفرق بينهما أن الشرط إن كان من رب الحائط فالسقي عليه بالأصالة، وإنما العامل أجير فخرجا عن المساقاة وإن كان الشرط من العامل فلم يخرج عن معنى المساقاة. والله تعالى أعلم. وقوله:"أو اشترط عمل ربه" هذا قول ابن القاسم الذي رجع إليه بعد أن كان يقول له أجر مثله، وهذا قول أشهب فإنه قال: يرد إلى أجر مثله، وقال سحنون: يجوز ولا يرد إلى أجر مثله.

الرابعة أشار لها بقوله: أو عمل دابة أو غلام وهو صغير يعني أنه إذا اشترط العامل على رب الحائط أن يأتيه بدابة يستعين بها على عمل الحائط أو بغلام يستعين به في عمله في الحائط،

ص: 888

فإن المساقاة تفسد بذلك إذا كان الحائط صغيرا، وأما إن كان كبيرا فلا بأس باشتراط ذلك وإذا قلنا بفسادها في هذا الفرع فإنها تفسخ قبل العمل، فإن عمل لم تفسخ وكان فيها مساقاة المثل، قال عبد الباقي: أو اشترط العامل عمل دابة أو غلام لرب الحائط وهوأي الحائط صغير وهذه مفهوم قوله فيما مر في الكبير والظاهر في هذه وما بعدها الفساد ولو أسقط الشرط، وقوله:"دابة" بالجر كما قررت عطفا على "ربه" وبالنصب عطفا على "عمل".

الخامسة أشار لها بقوله: أو حمله لمنزله يعني أن العامل إذا اشترط على رب الحائط أن يحمل الجزء الذي يصير له من الثمرة بعد طيبها إلى منزلة أي منزل العامل، فإن المساقاة تفسد بذلك وتفسخ قبل العمل، فإن عمل فله مساقاة المثل، قال عبد الباقي: أو اشترط العامل على رب الحائط حمله أي نصيب العامل لمنزله أي العامل، وكذا اشتراط ربه على العامل ذلك حيث كان فيه بعد ومشقة وإلا جاز، وينبغي دفع أجرة الحمل في الممنوعة مع مساقاة مثله. انتهى. وقال الشبراخيتي: أو اشترط العامل على رب الحائط حمله أي الجزء الذي يخصه من الثمرة لمنزله أطلقه ولم يقيده بقرب ولا بعد تبعا لعياض، وقال في الحاشية: هذا إذا كان فيه بعد ومشقة وإلا جاز وما قررناه به هو المتبادر من كلامه، وحمله التتائي على ما إذا كان الشرط من رب الحائط على العامل ولا فرق بينهما في الحكم كما ذكره في السماع، إلا أنه ينبغي إذا كان الشرط من رب الحائط أن يكون للعامل مع مساقاة مثله أجرة الحمل.

وإلى السادسة بقوله: أو يكفيه مؤنة آخر يعني أن رب الحائط إذا دفع للعامل حائطا يعمل فيه بالنصف مثلا واشترط عليه أن يكفيه مؤنة حائط آخر، فإن هذا مساقاة فاسدة تفسخ قبل العمل لا بعده فللعامل مساقاة المثل في الذي ساقاه بجزئه وله في الآخر أجرة المثل، وقوله:"يكفيه مؤنة آخر" بعوض أو بغير عوض، قال الشبراخيتي: أو اشترط رب الحائط على العامل أن يكفيه مؤنة آخر بأن يعمل له فيه بنفسه بغير عوض أو بكراء وله أجرة المثل في الحائط الذي اشترط عليه كفاية مؤنته، ويرد في الذي وقعت فيه المساقاة إلى مساقاة مثله. انتهى. ونحوه لعبد الباقي.

وإلى السابعة أشار بقوله: أو اختلف الجزء سنين يعني أن المساقاة تقع فاسدة في هذه الصورة فتفسخ قبل العمل وبعده يرد العامل لمساقاة المثل، والصورة المذكورة هي أن يساقيه سنين بأجزاء

ص: 889

مختلفة كنصف في واحدة وثلث في أخرى وربع في أخرى، والمراد بالسنين ما زاد على الواحدة ولو اتفق الجزء جاز ما لم تكثر السنون جدا كما مر.

وإلى الثامنة بقوله: أو حوائط عطف على "سنين" يعني أنه إذا وقعت المساقاة في حوائط أو حائطين بجزء مختلف كحائط بنصف وآخر بربع مثلا في صفقة واحدة، فإنها تفسد فتفسخ قبل العمل لا بعده، فيرد العامل إلى مساقاة المثل، وأما إن اتفق الجزء أو كان ذلك في صفقات فإنها تجوز، قال عبد الباقي: أو حوائط أو حائطين صفقة واحدة بجزء مختلف فمساقاة المثل لا متفق أو في صفقات مع اختلافه فيجوز كما مر.

وإلى التاسعة بقوله: كاختلافهما ولم يشبها يعني أن رب الحائط إذا اختلف هو والعامل بعد العمل في قدر الجزء الذي وقعت به المساقاة ولم يشبها فإن العامل يرد إلى مساقاة المثل بعد يمين كل منهما، فإن أشبه أحدهما فقط فقوله "بيمينه" فإن أشبها فللعامل بيمينه، فإن اختلفا قبل العمل تحالفا وتفاسخا ولا ينظر لشبه ونكولهما كحلفهما في الصورتين أي ويقضى للحالف على الناكل، بخلاف القراض إذا تنازعا قبل العمل فيرد الماء إلى ربه بلا تحالف؛ لأن عقده قبل العمل منحل بخلاف المساقاة فتلزم بالعقد كما مر، والمساقاة في صورة المص هذه صحيحة وإنما التشبيه في الرجوع فيها إلى مساقاة المثل، ولذا فصلها عن الفاسد بكاف التشبيه. انتهى.

تنبيهات: الأول: قال الشبراخيتي: قال ابن عرفة آخر باب المساقاة: عبد الحق عن بعض شيوخ صقلية: ما فيه مساقاة المثل فالعامل أحق فيه من الغرماء بالثمرة في الموت والفلس، وكذا ما يرجع فيه لقراض المثل أي وأما ما يرجع فيه لأجر المثل فلا يكون في القراض أحق به في موت ولا فلس، وفي المساقاة يكون أحق به في الفلس لا في الموت. انتهى.

الثاني: اعلم أن إجارة المثل تتعلق بذمة رب الحائط وأن مساقاة المثل لا تتعلق بذمته بل تكون في الحائط، وقد تقدم هذا المعنى في القراض. والله تعالى أعلم.

الثالث: ما مر عليه المص في الفاسد من التفصيل هو قول ابن القاسم، وفي المسألة أربعة أقوال ذكرها ابن الحاجب وغيره: أحدها مساقاة المثل مطلقا، ثانيها أجرة المثل مطلقا وهما مبنيان على أن المستثنى من أصل هل يرد إذا فسد إلى صحيح أصله أو إلى صحيح نفسه؟ الثالث مساقاة المثل

ص: 890

ما لم تكن أكثر من الجزء الذي شرط عليه إن كان الشرط للمساقي أو أقل إن كان الشرط للمساقى بالفتح، الرابع التفصيل الذي مر عليه المص هو لابن القاسم كما عرفت وهو أن الواجب أجرة المثل إذا خرجا عن المساقاة، ومساقاة المثل إذا لم يخرجا عنها. والله تعالى أعلم.

وإن ساقيته أو أكريته فألفيته سارقا لم تنفسخ يعني أنك إذا ساقيت شخصا أو أكريته دارك مثلا فألفيته أي وجدته سارقا يخشى منه على الثمرة وأبواب الدار أو خشبها فإن المساقاة لا تفسخ، وكذلك عقد الكراء وإذا لم يفسخ ما ذكر من مساقاة وكراء فليتحفظ أي فليتحفظ المساقي والمكري، فإن لم يمكن أكرى الحاكم عليه المنزل وساقى الحائط ولا يفسخ العقد كما يأتي في الإجارة في قوله:"وآجر الحاكم إن لم يكف" قال عبد الباقي: وحملنا قوله: "أو أكريته" على دارك مثلا كما هو مدلوله احترازا عما إذا اكتريته أي جعلته كَرِيًّا عندك فألفيته سارقا فعيب، فتخير كما قال فيما يأتي:"وخير إن تبين أنه سارق" فهي محترز هذه كما في الحطاب، والظاهر أن اكتراءه لحمل ككرائه داره لا كاكترائه نفسه، وفرق بين مسألة المص هنا ومحترزها الآتية له بإمكان التحفظ هنا دون الآتية، وبأن الكراء هنا وقع في ذمة المكتري والكراء في الآتية وقع على عينه، فهو كمن اشترى دابة فوجد بها عيبا. انتهى. وقال المواق من المدونة: من ساقيته حائطك أو أكريت منه دارك ثم ألفيته سارقا لم يفسخ لذلك سقاء ولا كراء وليتحفظ منه، وكذلك قال مالك فيمن باع من رجل سلعة إلى أجل فإذا هو مفلس ولم يعلم البائع بذلك أن البيع قد لزمه. ابن يونس: لأن حقك في السقاء والكراء في غير عين الساقي والمكتري، بخلاف ما لو اكتريت عبدا فوجدته سارقا هذا لك أن ترد لأن الكراء وقع على منافع معينة، والمكتري والمفلس إنما وقع شراؤك على الذمة فإن لم تقدر على التحفظ منه أكري عليه وسوقي عليه ولم يفسخ العقد. انتهى. وإلى مسألة البيع في المدونة أشار المص بقوله: كبيعه ولم يعلم بفلسه يعني أن من باع سلعة لشخص بثمن ولم يقبضه منه فوجده مفلسا والحال أن البائع لم يعلم بفلسه حين البيع فإن البيع لازم للبائع، ولا يعذر بعدم علمه بفلس المشتري، قال عبد الباقي: وشبه في عدم الفسخ قوله كبيعه سلعة لشخص مفلس ولم يعلم البائع بفلسه السابق على البيع له، فيلزم البيع لتفريطه حيث لم يتثبت، وليس له أخذ عين ماله، بخلاف السابقة في باب الفلس من قوله "وللغريم أخذ

ص: 891

عين ماله المحوز عنه في الفلس لطرو الفلس فيها على البيع فلا تفريط عنده" ويجري في دخوله هنا مع غرمائه ما جرى في الفلس من أنه إن باعه بعد ما اقتسم ماله غرماؤه فلا دخول له معهم، كما لا دخول لهم معه وإن باعه قبل فلسه بيعت سلعته وتحاص هو وهم فيها وفي غيرها من ماله. اهـ. وقوله: "ولم يعلم بفلسه" قال الشبراخيتي: المراد بالفلس العام فلس بالفعل أم لا.

وساقط النخل كليف كالثمرة يعني أن ما سقط من النخل حال كون الساقط كليف وجريد وبلح وغيرها يكون مقسوما بينهما على حكم الثمرة الباقية، فإن كان له نصفها كان له نصف ذلك أو ربعها كان له ربع ذلك، والحاصل أن العامل يكون له من الساقط المذكور مثل ماله من الثمرة، قال الشبراخيتي: وساقط النخل كليف وجريد وثمرة ألقاها الريح وتبن زرع كالثمرة الباقية فتكون بينهما على حسب ما دخلا عليه، وقوله:"كليف" حال من ساقط أي حالة كون ساقط النخل كليف غاية ما فيه أنه حال من المبتدإ وهذا أجازه سيبويه، وبهذا يخرج الساقط من الأصل فإن النخل على ملك ربه. انتهى. وقال الخرشي: وبعبارة الإضافة على معنى من ويقدر مضاف أي الساقط من النخل أي من أجزاء النخل، وقوله:"كليف" مثال فلا يصدق بالساقط من الأصول. انتهى. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: وما كان من سواقط النخل أو ما يسقط من بلح أو غيره والجريد والليف وتبن الزرع بينهما. اهـ.

والقول للمدعي الصحة يعني أنه إذا اختلف رب الحائط والعامل في الكيفية التي وقع عليها عقد المساقاة فادعى أحدهما عقدا صحيحا مستوفيا للشروط وادعى الآخر كيفية فاسدة، فإن القول قول مدعي الصحة مع يمينه كدعوى رب الحائط أنه جعل للعامل جزءا معلوما، ودعوى العامل جزءا بينهما أو عكسه وهذا بعد العمل، وأما قبله فالمذهب أنهما يتحالفان ويتفاسخان كما في البيع، وهذا أيضا إن لم يغلب الفساد وإلا صدق مدعيه هذا هو الراجح، وقيل يقدم مدعي الصحة مطلقا غلب الفساد أم لا، كان اختلافهما قبل العمل أو بعده. والله تعالى أعلم.

وإن قصر عامل عما شرط حط بنسبته يعني أن العامل إذا قصر في عمله عما شرط عليه أن يعمله، أو قصر عما جرى العرف بأنه يعمله فإنه ينظر إلى جميع عمل الحائط المشترط أو الجاري به عرف وذلك كالحرث والسقي وغيرهما، فإن قصر العامل بأن ترك بعض ذلك فإنه يحط من

ص: 892

نصيبه بنسبة ذلك التقصير، كأن يشترط عليه أن يحرث ثلاث مرات أو يسقي ثلاث مرات فحرث أو سقى مرتين، فإنه ينظر إلى قيمة جميع ما عمل وقيمة ما ترك، فإن كانت قيمة ما ترك الثلث حط من جزئه المشترط له الثلث، وإيضاح هذا أن تقول ما أجرة مثله لو حرث ثلاث مرات أي ولم يترك من عمله شيئا؟ فإذا قيل عشرة فيقال وما أجرهُ لو حرث مرتين أي عمل جميع العمل غير واحدة؟ فإذا قيل ثمانية حط من حصته من الثمرة خمسها وهكذا، وأشعر قوله:"قصر" أنه لو لم يقصر بأن شرط عليه السقي ثلاث مرات فسقى مرتين وأغنى المطر عن الثالثة لم يحط من نصيبه شيء. ابن رشد: بلا خلاف، قال بخلاف الإجارة بالدنانير والدراهم على سقاية حائط زمن السقي وهو معروف عند أهل المعرفة، فجاء ماء السماء فأقام به حينا حط من إجارته بقدر إقامة الماء، والفرق أن الإجارة مبنية على المشاحة بخلاف المساقاة. والله تعالى أعلم. قاله الخرشي.

وقال المواق: قال سحنون: من أعطى كرمه أو زيتونه مساقاة على أن يسقي ويقطع ويجني وعلى أن يحرثه مرات فعمل ما شرط عليه إلا أنه لم يحرث إلا حرثتين، قال: ينظر عمل جميع الحائط المشترط من سقاء وحرث وقطع وإجناء فينظر ما عمل مع ما ترك ما هو منه، فإن كان ما ترك يكون منه الثلث حط من النصف الذي هو له ثلثه إن ساقاه على النصف، وإن ساقاه على الثلث أو الربع حط من حصة الثلث على ما ذكرنا. اهـ. ونحوه للشارح. انتهى.

الله عظم قدر جاه محمد

وأناله فضلا عليه عظيما

في محكم التنزيل قال لخلقه

صلوا عليه وسلموا وتسليما

انتهى الجزء الخامس من لوامع الدرر في هتك أستار المختصر للشيخ الفقيه الولي محمد بن محمد سالم بن محمد سعيد المجلسي العلوي الفاطمي الحسني الإدريسي

ص: 893