المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ولما أنهى الكلام على (1) منفعة بعوض فقال:   ‌ ‌باب، ذكر فيه الإجارة - لوامع الدرر في هتك استار المختصر - جـ ١١

[محمد بن سالم المجلسي]

فهرس الكتاب

ولما أنهى الكلام على

(1)

منفعة بعوض فقال:

‌باب، ذكر فيه الإجارة وكراء الدواب والحمام والدور والأرض وما يتعلق بذلك

والإجارة مأخوذة من الأجر بمعنى الثواب، والمشهور فيها كسر الهمزة: وحكي فيها الضم أيضا، حكاه المبرد، وقد غلب وضع الفِعالة بالكسر للصنائع نحو الخياطة والتجارة، والفعالة بالفتح لأخلاق النفوس الجبلية نحو السماحة والفصاحة، والفعالة بالضم لما يطرح من المحقرات نحو الكناسة والقلامة والفضالة. قاله في المتيطية. والأصل في مشروعيتها قوله تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وقوله، حكاية عن شعيب مع موسى على نبينا وعليهما الصلاة والسلام:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ فذكر تأجيل الإجارة وسمى عوضها، وقال تعالى في قصة الخضر وموسى:{لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} ، وقال تعالى في قسم الصدقات:{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} ، والعامل أجير يعطي مها أجرة مثله على قدر شخوصه وتعبه، وقال عليه الصلاة والسلام: (من استاجر أجيرا فليعلمه أجره

(2)

)، وفي حديث آخر (فليؤاجره بأجر معلوم إلى أجل معلوم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة أنا خصمهم رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره

(3)

)، الحديث. وهو عقد لازم بالاتفاق عليه، قال ابن المنذر: والإجماع على جواز الإجارة، وشذت طائفة منهم أبو بكر المعزي الأصم إلى منع جواز الإجارة لأنها بيع منافع لا يتوصل إلى قبض جميعها في الحال، كما في قبض الأعيان، فكان جوازها غررا، وهذا خلاف الكتاب والسنة والإجماع فلا يعد مثل هذا خلافا، وعرفها ابن عرفة بقوله: بيع منفعة ما أمكن نقله غير سفينة ولا حيوان لا يعقل، بعوض غير ناشئ عنها بعضه، يتبعض بتبعيضها. قوله: بيع منفعة، أخرج به بيع الذوات؛ وقوله: أمكن نقله، أخرج به كراء الدور والأرضين، فالعقد المتعلق بمنافعهما ليس بإجارة وإنما هو كراء؛ وقوله: ولا حيوان لا يعقل، أخرج به كراء الرواحل؛ وقوله: غير ناشئ عنها، أخرج به

(1)

بياض في الأصل.

(2)

البيهقي، ج 6 ص 120، الإتحاف، ج 5 ص 459.

(3)

البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث:2227.

ص: 1

القراض والمساقاة والمغارسة؛ وقوله: بعضه يتبعض بتبعيضها، الضمير في بعضه عائد على العوض؛ والضمير في تبعيضها عائد على المنفعة، وإنما زاد قوله: بعضه، ليدخل في الحد قوله تعالى:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} ؛ لأن هذه الصورة أجمعوا على أنها إجارة عوضها البضع وهو لا يتبعض، فلو أسقط بعضه لخرجت هذه الصورة من الحد فيكون غير منعكس، وهي إجارة شرعية كما أجاب به ابن عرفة نفسه. قاله الخرشي. وقال الحطاب: قال في القاموس: الأجر الجزاء على العمل كالإجارة مثلثة. اهـ. وقال القرافي في الذخيرة: يقال أجر بالمد والقصر، وأنكر بعضهم المد وهو منقول، قال: ولما كان أصل هذه المادة الثواب على الأعمال وهي منافع، خصصت الإجارة ببيع المنافع على قاعدة العرب

(1)

في تخصيص كل نوع تحت جنس باسم لتحصيل التعارف عند الخطاب، وقال البرزلي: قال الغرناطي: الإجارة تطلق على منافع من يعقل، والأكرية على منافع من لا يعقل، البرزلي: يريد اصطلاحا وقد يطلق أحدهما على الآخر، ففي غررها: وإن استأجرت منه دارا بثوب، إلخ. اهـ. وقال ابن عرفة: محمد: وهي جائزة إجماعا وقد يعرض لها الوجوب إذا لم يجد الإنسان قوته إلا ممن يستأجره.

وحكمة مشروعيتها التعاون ودفع الحاجات، وقد نبه الله على ذلك بقوله:{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} . انتهى. وأركان الإجارة خمسة: المنفعة، وستأتي في قوله: بمنفعة، والؤجر، والمستأجر وقد أشار لهما بقوله:

صحة الإجارة بعاقد، وهو المؤجر والمستأجر؛ والعوض وإليه أشار بقوله: وأجرة وسكت عن الصيغة لوضوحها، وقوله: كالبيع؛ يعني به أن العاقدين للإجارة كالعاقدين للبيع والأجر الذي تباع به المنفعة كالمبيع المتقدم ذكره في قوله: وشرط للمعقود عليه طهارة لخ، ومعنى كلام المص أن شرط صحة الإجارة أن تصدر من مميزين؛ لأن المتعاقدين في البيع يشترط فيهما التمييز، ويشترط في الأجر أي العوض المأخوذ في مقابلة المنفعة ما يشترط في المعقود عليه في البيع، ويأتي للمص ما يفيد أنه يشترط في لزومها أن يكون العاقدان مكلفين رشيدين، فقوله: بعاقد، يشمل المستأجِر

(1)

في الأصل: العرف والمثبت من الذخيرة ج 5 ص 3 ط دار الكتب العلمية.

ص: 2

والمستأجَر، وقوله: وأجرت هو المعقود عليه. وقوله: كالبيع، إشارة إلى أن المتعاقدين هنا كالمتعاقدين في البيع المشار إليهما بقوله:"وشرط عاقده تمييز إلا بسكر فتردد"، والصيغة هنا كالصيغة في البيع وهي ما دل على الرضا وإن بمعاطاة، وقوله: كالبيع، أشار به أيضا إلى أنه يشترط في الأجر المعقود عليه طهارة وانتفاع وقدرة عليه، إلى غير ذلكَ من الشروط المتقدمة في البيع، وأشار به أيضا إلى أن الصبي المميز إذا آجر نفسه بغير إذن وليه صح ووقف على رضى وليه، وهو نص المدونة، والعبد كالصبي، وأما السفيه فإن عقد على نفسه فلا كلام لوليه إلا إن كان في الأجر محاباة؛ وإن عقد على سلعة فهو صحيح متوقف على إجازة وليه، واستفيد من كلام المص هنا من يصح منه عقد الإجارة وأما من يلزمه عقد الإجارة، فهو مستفاد من قوله في آخر الباب وبرشد صغير عقد عليه. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي: قال أحمد: عبر بالصحة دون اللزوم لأن اللزوم هنا ليس كاللزوم في البيع؛ إذ السفيه له أن يؤاجر نفسه ولا كلام لوليه إلا إن كان في الأجر محاباة كما هو مقتضى كلام ابن رشد، بخلاف البيع إذ لوليه النظر فيه مطلقا كما تقدم، وعلم من التشبيه أيضا كما في الحطاب أن الصبي المميز إذا آجر نفسه بغير إذن وليه صح ووقف على رضاه، ونحوه في المدونة، ومثله العبد، قال في المتيطية: فإن عملا فلهما الأكثر من المسمى وأجرة المثل، فإن أصابهما شيء من سبب العمل فلهما قيمة ما نقصهما أو ديتهما إن هلكا، ولهما الأجرة إلى يوم أصابهما ذلك، وليس لهما فيما أصابهما من غير سبب العمل شيء. اهـ. وقوله: فلهما قيمة ما نقصهما، إنما تعتبر القيمة في الحر فيما فيه حكومة، وأما ما فيه الدية فالواجب فيه الدية، وأما لو أوجر بإذن السيد أو الولي لجاز ولزم. الباجي: وتدفع لهما أجرتهما ما لم يكن شيئا له بال. اهـ. واستفيد من المص أنه لو علم المعقود عليه تفصيلا وجهل جملة لجاز عقد الإجارة، كأستاجرك على حراسة الأندر كل إردب مثلا بقدح؛ لأنه معلوم التفصيل وإن جهلت الجملة كما في البيع.

تنبيهات: الأول: بحث في قول المص: بعاقد وأجر كالبيع، بما لابن القاسم في العتبية في الخياط الذي لا يكاد يخالف مستخيطه وهو مخالط لمؤجره يخيطه الثوب فإذا فرغ أرضاه فإنه جائز مع كون الأجر غير معلوم، وأجاب في التوضيح بندورها على أن ابن حبيب خالف فيها. قاله بناني.

ص: 3

الثاني: قال الحطاب: وسئل يعني ابن القاسم في العتبية عن الخياط الذي بيني وبينه الخلطة ولا يكاد يخالفني أستخيطه الثوب فإذا فرغ منه وجاء به أراضيه على شيء أدفعه إليه؟ قال: لا بأس بذلك. قال ابن رشد: وهذا كما قال لأن الناس استجازوه ومضوا عليه، وهو نحو ما يعطى الحجم من غير أن يشارط على عمله قبل أن يعمله، وما يعطى في الحمام، والمنع من هذا وشبهه تضييق على الناس وحرج في الدين وغلو فيه. قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وقال تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} ويدل على جوازه من السنة ما ثبت (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة فأمر له بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا من خراجه

(1)

). وكره النخعي أن يستعمل حتى يقاطع بشيء مسمى؛ وكره ذلك ابن حبيب أيضا، قال: ولا يبلغ التحريم والأمر في ذلك واسع. اهـ. ونقله ابن عرفة.

الثالث: قال الإمام الحطاب: قال في الذخيرة عن ابن يونس: إذا قلت: خطه بدرهم، وقال: بدرهمين، فخاطه فليس له إلا درهم. قاله ابن القاسم. وكذلك قول ساكن الدار. اه. معنى هذا الكلام أنه تأخر قول الساكن، وإذا تقدم قول الساكن فقال: اسكنها بدرهم، ثم قال رب الدار: بدرهمين، فإن القول قول رب الدار لا قول الساكن. قاله مقيده عفا الله عنه. بدليل قوله وفي النوادر قال مالك من رواية ابن المواز: من دفع ثوبا لخياط فقال: لا أخيطه إلا بدرهمين؛ وقال ربه: لا تخيطه إلا بدرهم، وجعله عنده فخاطه فليس له إلا درهم، وقال: ومن سكن منزلا فقال له ربه: بدينارين في السنة، وقال الساكن: لا أعطي إلا دينارا وإلا خرجت إن لم ترض: فسكن ولم يجبه بشيء حتى تمت السنة، قال: لا يلزمه إلا دينار. انتهى. ومسألة الخياط لا تشبه كراء المنزل، لأن رب الثوب لم يتول استيفاء المنفعة بنفسه، فلذلك لم يفرقوا فيها بين تقدم قول الخياط وقول صاحب الثوب، بخلاف المنزل فإن المستأجر تولى استيفاء المنفعة بنفسه مع علم رب المنزل بذلك، ففرقوا فيما بين تقدم قول الساكن وتأخر قوله عن قول صاحب المنزل. قاله ابن رشد في نوازل سحنون من جامع البيوع؛ وذكر فيه أيضا أن حكم ما ابتاعه المشتري من السلع بحضرة

(1)

صحيح البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث 2102

ص: 4

ربه حكم ما ذكر من استيفاء المستأجر للمنفعة مع علم رب المنزل أنه يلزم من قوليهما الآخر. انتهى.

الرابع: قال الإمام الحطاب: علم من تشبيه الأجرة بالثمن أنه يشترط فيها أن تكون معلومة الجملة والتفصيل أو التفصيل دون الجملة؛ لأن المذهب جواز هذا في البيع، وقيل: لا يجوز، وقيل: بالكراهة. ونقل القول بالنع خارج المذهب في التوضيح، ونقله ابن عرفة عن أبي مسلمة وسحنون، فعلى هذا لا تمنع حراسة الأندر كل إردب مثلا بقدح؛ لأنه معلوم التفصيل مجهول الجملة ما

(1)

لم يقترن بذلك ما يفسده من أعمال مجهولة. الخامس: لو سكن أجنبي طائفة من دارك وقد علمت به فلم تخرجه لزمه كراء ما سكن. أبو الحسن: لاحتمال تركه الإرفاق وكونه علي جهة الإجارة، فلما احتمل الوجهان كان الأصل أن الأملاك على ملك مالكها، ولا يمين عليه إلا أن يدعي عليه بالنص أنه أرفقه فيختلف في يمينه على الخلاف في دعوى المعروف. اهـ. وفي نوازل ابن الحاج: إذا خرج أحد الشريكين في دين لاقتضائه دون إذن صاحبه فاقتضاه أو بعضه وطلب الأجرة من صاحبه وجبت له بعد حلفه أنه ما خرج لذلك متطوعا. قلت: إلا أن تشهد العادة أن مثله لا يأخذ أجرة

(2)

فيما ولي، أصله مسألة كتاب العارية وكراء الدور إذا سكن طائفة من داره بغير إذنه اهـ. نقله الحطاب.

السادس: قال الحطاب: وسئل مالك عن رجل يرهن الدار من رجل يضعها على يديه ويقتضي غلتها ويقوم في ذلك ثم يطلب أن يعطى في ذلك أجرا فيما قام به؛ قال: من الناس من يكون له ذلك ومنهم من لا يكون له ذلك، فأما الرجل الذي مثله يشبه أن يعمل بأجر ومثله من يؤاجر نفسه في مثله فإن طلبه فأرى ذلك له، وأما من ليس كذلك فلا أرى له ذلك. ابن رشد: هذا نحو ما في رسم جاع من كتاب الجعل من سماع عيسى أنه يكون له إجارة مثله إن كان يشبه أن يكون مثله يعمل بالإجارة؛ وإنما له ذلك بعد يمينه ما قام في ذلك وعنى فيه احتسابا، وإنما فعل ذلك

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من الحطاب ج 6 ص 142.

(2)

ساقصة من الأصل والمثبت من الحطاب الجزء 6 ص 143

ص: 5

ليرجع بحقه فيه. اهـ. وفي الذخيرة: وإذا تهدمت دار فتقوم عليها فلك الأجرة إن كان مثلك يعمل ذلك بأجرة بعد أن تحلف ما تبرعت.

السابع: قال في المتيطية: وإذا آجر الرجل ابنه من نفسه أو من غيره ومثله لا يؤاجر فسخت الإجارة وأنفق الأب عليه إن كان غنيا والابن عديما لا مال له، فإن كان له مال أنفق عليه منه، وله أن يؤاجره فيما لا معغ فيه على الابن إن كان الأب فقيرا أو مقلا أو يريد تعليم الابن فيجوز ذلك حينئذ: وينفق من أجرته، فإن فضل شيء حبسه عليه، وليس له أن يأكل مما فضل من عمل الصبي وإن كان فقيرا خوفا من أن لا يتمكن الصبي من العمل فيما يستقبل أو يمرض فلا يجد ما يأكل؛ وقال ابن لبابة: لا بأس أن يأكل بالمعروف. اهـ. نقله الحطاب. الثامن: قال ابن عرفة: قال المتيطي وابن فتوح: ويجوز عقد الحاضنة أما كانت أو غيرها ولا ينفسخ إلا أن يزاد الصبي في أجرته فيقبل الزيادة، ويفسخ عقد الأم وينظر له أحسن المواضع ولو كان بأقل من موضع آخر، ولا تقبل الزيادة في عقد الوصي إلا أن يثبت أن فيه غبنا على اليتيم. اهـ.

التاسع: قال في المتيطية: ولا يجوز استئجار العزب المرأة لتخدمه في بيته مأمونا كان أو غيره، فإن كان له أهل جاز إن كان مأمونا، وإن كانت المرأة متجالة لا أرب للرجال فيها أو كانت شابة ومستأجرها شيخ كبير فإن ذلك جائز، ونحوه في اللخمي، ونقله ابن عرفة، وفي الجعل منها: وكره

(1)

للأعزب أن يؤاجر حرة ليس بينه وبينها محرم أو أمة لخدمته يخلو معها ويعادلها في الأحمال. اهـ. أبو الحسن الكبير: انظر هل الكراهة على بابها أو على المنع؟ لأن فيه خلوة، وعلى هذا حملها اللخمي وقال: لم يجز، وكذلك نقله المتيطي وابن فتحون، وفي رسم لم يدرك من سماع عيسى من النكاح: وسئل عن المرأة العزبة الكبيرة تلجأ إلى الرجل فيقوم لها بحوائجها ويناولها الحاجة هل ترى لها ذلك حسنا؟ قال: لا بأس به وليدخل معه غيره أحب إلي، ولو تركها الناس لضاعت. ابن رنتد: وهذا على ما قال أنه جائز للرجل أن يقوم للمرأة الأجنبية في حوائجها ويناولها الحاجة إذا غض بصره عما لا يحل له النظر إليه مما لا يظهر من زينتها لقوله

(1)

في الحطاب ج 6 ص 145 والتهذيب ج 3 ص 368 وأكره.

ص: 6

تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . وذلك الوجه والكفان على ما قاله أهل التأويل، فجائز للرجل أن ينظر إلى ذلك من المرأة عند الحاجة والضرورة، فإن اضطر إلى الدخول عليها أدخل غيره معه ليُبعد سوء الظن عن نفسه؛ فقد روي (أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لقيا النبي صلى الله عليه وسلم ومعه صفية زوجته فقال لهما: (إنها صفية، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما فتهلكا

(1)

). اهـ. قاله الحطاب.

العاشر: قال المواق: الركن الثالث

(2)

الأجر وهو كالثمن يطلب كونه معروفا قدرا وصفة، قال أبو عمر: وذهب أهل الظاهر وطائفة من السلف إلى جواز المجهولات في الإجارات من البدل؛ وأجازوا أن يعطي حماره لمن يسقي عليه أو يعمل بنصف ما يرزق بسعيه على ظهره، ويعطي الحمام لمن ينظر فيه بجزء منه مما يحصل منه كل يوم قياسا على القراض والمساقاة، قالوا: وأباح الله إجارة المرضع وما يأخذه الصبي من لبنها مع اختلاف أحوال الصبيان في الرضاع واختلاف ألبان النساء وورد القرآن بجوازه. اه. وقال عبد الباقي: ولما كانت قاعدة ابن القاسم أن الثمن في البيع على الحلول، والأجرة في الإجارة على التأجيل، ذكر ما خرج عن قاعدته في الأجرة وأنه يجب تعجيلها في مسائل:

وعجل إن عين يعني أنه يجب تعجيل الأجر إذا كان معينا، كأستاجرك على كذا بهذا الثوب فإنه يجب تعجيله خوف بيع معين يتأخَّر قبضه، وقد علمت أن الأصل في الأجر التأخير لكون المنفعة لا تحصل حين العقد، وقوله: إن عين، ليس مستغنى عنه بقوله: أو بشرط أو عادة، يشي أنلأ إذا اشترط تعجيل الأجرة أو جرت العادة بالتعجيل فإنه يجب تعجيلها حيث كانت الأجرة غير معينة.

واعلم أن الأجر إذا كان معينا فإن اشترط تعجيله أو جرى به عرف وجب التعجيل وعقد الإجارة صحيح، وإن كان العرف تأخيره أو لا عرف بتأخير ولا بتعجيل فسد العقد حيث لم يشترط

(1)

البخاري، أبواب الاعتكاف، رقم الحديث 2039، ومسلم، كتاب السلام، رقم الحديث 2175.

(2)

في المواق الثاني.

ص: 7

التعجيل كما يأتي، وقوله: أو بشرط معطوف على معنى قوله: إن عين؛ أي وعجل الأجر بتعيينه، ومقتضى التعبير بأو المغايرة فيكون قوله: أو بشرط أو عادة في غير المعين، وبه قررته تبعا لبعضهم؛ ولا يَرِد عليه أنه يقتضي صحة الإجارة حيث كان العرف تأخير المعين أو لا عرف؛ لأنه يقال: هذا الاقتضاء رفعه بقوله الآتي: وفسدت إن انتفى عرف تعجيل المعين.

أو في مضمونة يشرع فيها؛ يعني أنه يجب تعجيل الأجر إذا وقع في مقابلة منافع مضمونة لم يشرخ المستأجر في استيفانها؛ كأحملك إلى مكة بعشرة دنانير؛ لأنه إذا لم تعجل العشرة أدى ذلك إلى ابتداء الدين بالدين، بيانه أن ذمتك مشغولة له بالدابة وذمته مشغولة لك بالعشرة، قال في المقدمات: الإجارة الثابتة في الذمة حكمها حكم المسلم في تقديم الأجر وضرب الأجل ووصف العمل. وقال القاضي عبد الوهاب: يجب فيها تعجيل أحد الطرفين من الأجر أو الشروع في الاستيفاء: ولهذا لو شرع في السير لجاز التأخير لانتفاء الدين بالدين حينئذ، بناء على أن قبض الأوائل كقبض الأواخر؛ لأنه لما شرع في السير فكأنه استوفى جميع المنفعة. قاله الخرشي. وفي نقله: ليس المراد أنه لم يشرع فيها الآن، وإنما المراد لم يشرع فيها بعد أكثر من ثلاثة أيام؛ وتأخير اليومين أو الثلاثة لا يضر، وقوله: أو في مضمونةٍ لم يشرع فيها؛ أي فلا بد من تعجيل الجميع وإلا فسدت. اهـ. وقال بناني عند قوله: أو في مضمونة لم يشرع فيها: التقييد بعدم الشروع لعبد الوهاب لا لابن المواز خلافا للتوضيح ونص المقدمات الثابت في الذمة حكمه حكم السلم في تقديم الأجر وضرب الأجل ووصف العمل. وقال عبد الوهاب: يجب فيها تعجيل أحد الطرفين من الأجر أو الشروع في الاستيفاء، يريد إذا كان العمل يسيرا ليخرج عن الدين بالدين. اهـ. وقد علمت من كلام ابن رشد أن جواز التأخير مع الشروع يقيد بكون العمل يسيرا، فإن كان كثيرا وجب التعجيل شرع أم لا، وقد نقله في التوضيح وأقره فلا يكون قبض الأوائل كقبض الأواخر إلا في اليسير، ثم قال الإمام الحطاب، ما يفيد أن التأخير الذي لا يضر إنما هو تأخير يوم فقط. اهـ. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: أو الأجر غير معين كدراهم في إجارة مضمونة في ذمة المؤجر، كأستاجرك على كذا في ذمتك إن شئت عملته بيدك أو بغيرك، لم يشرع المستأجر فيها مع إمكانه أو عدمه والعقد بت فيهما ولم يجر عرف بتعجيله ولا اشترط، فيجب تعجيل

ص: 8

جميعه ليلا يؤدي عدم تعجيله لابتداء الدين بالدين، لشغل ذمة المكري بالدابة والمكتري بالدراهم ولا يكفي تعجيل اليسير منه. اهـ.

تنبيهات: الأول: في الخرشي قوله: وعجل إن عين إن كانتت نقدا فلا إشكال إلا كاليومين والثلاثة لأنه ابتداء دين بدين فيجوز فيه تأخير اليومين والثلاثة، وإن كان عرضا فينبغي أن يجرقي فيه التفصيل في البيع بقوله: وبيعها واستثناء ركوبها الثلاثة، وبيع دار لتقبض بعد عام؛ وبرؤية لا يتغير بعدها، وغائب ولو بلا وصف على خياره بالرؤية. الثاني: ما مر من قوله: وعجل إن عين، شامل للعين وغيرها، قال المواق: قال ابن القاسم: وإن اكترى بدنانير معينة ثم تشاحا في النقد فإن كان الكراء بالنقد قضِيَ بنقدها، وإلا لم يجز الكراء إلا أن يشترط تعجيلها في العقد. اهـ.

الثالث: اعلم أنه إذا كانت الإجارة معينة ولم يكن الأجر معينا فإنه يجوز تأخير الأجر وتقديمه، ومحل ذلك ما إذا شرع في العمل أو تأخر الشروع نحو العشرة الأيام، وإن طال ذلك لم يجز تقديم الأجرة. قال ابن رشد: الإجارة مثل نسج الغزل وخياطة [الثوب

(1)

] على قسمين، مضمونة في ذمة الأجير فلا تجوز

(2)

إلا بتعجيل الأجر أو الشروع في العمل أو تعجيلهما، أو معينة في عينه فيجوز بتعجيل الأجر وتأخيره على أن يشرع في العمل، فإن لم يشرع إلى أجل لم يجز النقد إلا عند الشروع في العمل. اهـ. وتأخير الشروع إلى يومين لا يضر. قاله في المدونة. أبو الحسن: وإلى عشرة أيام، وعلى هذا إذا كان العمل معينا على أن لا يشرع في العمل إلا إلى أجل وكان الأجر شيئا معينا تفسد هذه الصورة؛ لأن كون الأجر معينا يقتضي تقديمه، وكون العمل في عين الأجير يقتضي تأخيره، والله أعلم. قاله الحطاب.

الرابع: قال ابن رشد إن صرح بكون العمل مضمونا كقوله: استاجرتك على كذا في ذمتك إن شئت عملته بيدك أو بغيرك، أو معينا كاستأجرتك علي عمل كذا بنفسك، فلكل منهما حكمه وإن لم يصرح، وظاهر اللفظ أنه مضمون كقوله: أعطيتك كذا على خياطة هذا الثوب، حمل على

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من الحطاب ج 6 ص 147.

(2)

في الأصل: يجوز، والمثبت من الحطاب ج 6 ص 147.

ص: 9

المضمون اتفاقا، إلا أن يعرف أنه يعمله بيده أو كان عمله مقصودا لرفقه وإحكامه، وإن كان ظاهره التعيين كاستأجرتك على خياطة هذا الثوب أو على تخييطه ولا يقول: أنت، ففي حمله علي المضمون والمعين قولان. المشهور أنه يحمل على المضمون أيضا إلا أن يعلم أنه يعمله بيده أو يكون قصد عمله لرفقه وإحكامه اهـ. الخامس: قال في الذخيرة عن ابن يونس: كره مالك نقد الكراء في السفن لأنها لا تجب إلا بالبلاغ وجوزه ابن نافع؛ وقال: له من الكراء بحساب ما قطع، فإن عطب قبل البلاغ وادعيت النقد صدق عليك لأن الأصل عدمه، ولا يشهد بعضهم لبعضٍ للتهمة، وقيل: يجوز كما في قطع الطريق. اهـ.

السادس: قوله: إن عين إلخ، لا يخفى شمول كلام المص منطوقا ومفهوما لثمان صور؛ لأن المعين من الأجر إما أن يقع في مقابلة منافع معينة أو مضمونة، وفي كل إما أن يحصل منه الشروع فيها أم لا، وفي كل إما أن يشترط التعجيل أو يكون العرف كذلك، وإما أن لا يكون كذلك، فهذه ثمان صور، أربع معنها فاسدة وهي ما إذا انتفى عرف تعجيله ولم يشترط تعجيله، سواء كانت المنافع معينة أو مضمونة، شرع فيها أم لا، وأربع منها صحيحة وهي ما إذا كان العرف تعجيله وعجل أو اشترط تعجيله، سواء كانت المنافع معينة أو مضمونة شرع فيها أم لا، وكل هذا إذا وقع على البت، فإن وقع على الخيار فسدت في هذه الأربع؛ أيضا فتكون الصور كلها فاسدة، وهذه الصور كلها إذا وقع العقد على أجر معين كما بَيَّنَّاه، وأما إن وقع على غير معين ففيه ثمان صور أيضا، لأنه إما أن يقع في مقابلة منافع معينة أو مضمونة، وفي كل إما أن يحصل فيه شروع أم لا، وفي كل إما أن يشترط تعجيله أو يكون العرف تعجيله وإما أن ينتفيا، فإن اشترط تعجيله أو كان العرف تعجيله وجب تعجيله سواء كانت المنافع معينة أو مضمونة، وسواء شرع فيها أم لا، وإن لم يشترط تعجيله ولا جرى العرف به فإن كانت المنافع معينة جاز تعجيله وتأخيره؛ يعني إلا أن يتأخر الشروع في الاستيفاء أكثر من نصف شهر، فلا يجوز اشتراط التعجيل كما مر، وإن كانت المنافع مضمونة فإن وقع العقد في إبان ما وقعت فيه الإجارة فالواجب أحد أمرين، إما تعجيل جميع الأجر أو الشروع، فإن وقع في غير الإبان فالواجب تعجيل جميع الأجر إن كان يسيرا أو اليسير منه إن كان كثيرا، وكل هذا إذا وقع العقد على البت. اهـ. فإن وقع على الخيار

ص: 10

فإنه يفسد بشرط النقد كما مر وإن لم ينقد، وقال بناني: الفساد في الكراء بخيار إذا وقع فيه التعجيل بشرط أو غيره وإلا فلا. اهـ.

إلا كراء حج؛ يعني أنه إذا كان الكراء مضمونا فإنه لا بد من أحد أمرين، إما الشروع في استيفاء المنفعة؛ وإما تعجيل جميع الأجر؛ ولا يكفي تعجيل اليسير منه كما عرفت، هذا في غير كراء الحج، وأما كراء الحج فإنه يُكتفَى فيه بتعجيل اليسير من الأجر خوف هروب الجمال إن أعطي كثيرا بجماله وأموال الناس، كما قال:

فاليسير؛ أي فاليسير منه يجب تعجيله، وفي بعض النسخ: إلا كري حج، والمكري واحد الأكرياء وهم هنا الجمالون؛ أي الذين أكروا جمالهم للسفر عليها، وقوله: إلا كراء حج فاليسير، قال المواق: من تكارى كراء مضمونا إلى أجل مثل الحج في غير إبانه فإنه لا يجوز أن يتأخر النقد، ولكن يعجل مثل الدينارين ونحوهما، وقد كان يقول لا ينبغي إلا أن ينقد مثل ثلثي الكراء في مثل هذا المضمون إلى أجل، ثم رجع وقال: قد اقتطع الأكرياء أموال الناس فلا بأس أن يؤخروهم بالنقد ويعربنونهم الدينار وشبهه، قال أبو محمد: يريد ولو كان مضمونا بغير أجل وشرع في الركوب جاز بغير نقد؛ لأن نقد أوائل الركوب كقبض جميعه إذ هو أكثر القدور عليه في قبضه؛ ابن يونس: يريد أنه اكترى كراء مضمونا لا يركب فيه إلا إلى أجل فالنقد فيه جائز، بل لا يجوز تأخير النقد كله بشرط في هذا المضمون، كتأجيل رأس مال المسلم، وإنما أجازه مالك إذا أخر بعض النقد لأن الأكرياء اقتطعوا أموال الناس فأجاز فيه تأخير بعض الثمن لهذه الضرورة، بخلاف تأخير بعض رأس الماء. اهـ. وقال بناني عند قوله: إلا كري حج فاليسير، ما نصه: لا خصوصية للحج بل المسألة مفروضة في الكراء المضمون المؤجل غير الشروع فيه، وأما لو كان غير مؤجل فلا بد من الشروع أو تعجيل الجميع؛ أي جميع الأجر إذ لا ضرورة حينئذ. قاله مصطفى. وهو معنى قول الزرقاني: في غير ايانه، ونحوه في الموازية.

وإلا أي وإن لم يكن الأجر معينا ولم تكن المنافع مضمونة ولم يشترط تعجيلي الأجر ولا جرى به عرف فمياومة؛ أي كلما استوفى منفعة يوم أو تمكن من استيفائها لزمه أجرته، قال الخرشي بعد جلب كالأم: وقد استفيد من هذا وما قبله أن المنفعة المتعلق بها العقد إما صنعة وإما عمل أجير في

ص: 11

غير بيع سلع ونحوه، والحكم في هذين أن العوض لا يستحقه مستحقه إلا بتمام العمل إلا بشرط أو عرف يخالف ذلك فيعمل به، وأما منفعة دار وأرض ونحوهما أو عمل أجير في بيع سلع ونحود ففي هذا كلما حصل ما ينتفع به المستأجر فإنه يجب عليه دفع عوضه إلا لشرط أو عرف. اهـ. وقال عبد الباقي: وإلا فمياومة كلما استوفى منفعة يوم أي قطعة معينة من الزمن أو تمكن من استيفانها لزمته أجرته، فليس المراد حقيقة اليوم لغير صانع وأجير، ومحله أيضا عند الشاحة: وأما مع التراضي فيجوز تعجيل جميعه وتأخيره، فإن اشترط تعجيل جميعه أو اعتيد عجل. اهـ. ومحله حيث وقع العقد على البت، فإن وقع على الخيار فسد حيث وقع التعجيل بشرط أو غيره؛ وإلا فلا. وقال عبد الباقي: وقولي: لغير صانع وأجير؛ احتراز عنهما ففي المدونة: وإذا أراد الصناع والأجراء تعجيل الأجر قبل الفراغ وامتنع رب الشيء حملوا على المتعارف بين الناس فيه، فإن لم تكن لهم سنة لم يقض لهم إلا بعد الفراغ، وأما في الأكرية في دار أو راحلة أو في إجارة بيع السلع ونحوه فيقَدرِ ما مضى، وليس لخياط خاط نصف القميص أخذ نصف أجرته إذا لم يأخذه على ذلك بل حتى يتم. اهـ. وقولها في الصانع

(1)

والأجراء: لم يقض لهم إلا بعد الفراغ، محله إن بقي على التمام للزوم العقد، فإن تقايلا قبل تمامه فله بحساب ما عمل، ولا يخفى أن عمل الصانع تارة يتعين بالعمل كاستئجاره على خياطة ثوب، وتارة بالزمن كاستئجاره على خياطة عشرة أيام مثلا، ففي الأول لا يستحق الأجرة إلا بتمام العمل؛ وكذا في الثاني كما ذكره أحمد، ونازعه بعض أشياخي يعني الأجهوري، وقال: بل يستحق أجرة عمل كل يوم بتمام عمله؛ لأن عمل كل يوم يتم بتَمامه. قال عبد الباقي: قد يحمل كالأم بعض أشياخي

(2)

على ما إذا كان العرف ذلك، وكلام أحمد على ما إذا لم يكن العرف ذلك. وفسدت إن انتفى عرف تعجيل المعين، يعني أنه إذا كان الأجر في عقد الإجارة مُعينا بأن وقع عقد الإجارة على عينه وانتفى عرف التعجيل بأن كان عرفهم التأخير أو لا عرف لهم، فإن عقد الإجارة يفسد لأجل ذلك ولو عجل، ما لم يشترط التعجيل في العقد وإلا صَحَّ، كما في المدونة،

(1)

في عبد الباقي 7 ص 4: في الصناع.

(2)

في عبد الباقي ج 7 ص 4: بعض أشياخه.

ص: 12

وقوله: وفسدت إن انتفى، راجع لقوله: وعجل إن عين، وقوله: إن انتفى عرف؛ أي عرف البلد لا عرف المتكاريين. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وفسدت عقدة إجارة عينت فيها أجرة إن انتفى فيها عرف تعجيل المعين بأن كان العرف في البلد التأخير أو لا عرف بأن كانوا يتبايعون بالوجهين. اهـ. وعلل الفساد في المدونة بأن فيه بيع معين يتأخر قبضه، ومحل الفساد فيهما إن لم يشترط التعجيل أو يشترط الخلف في الدنانير والدراهم كما يأتي، واعلم أن وجوب تعجيل المعين حق لله تعالى، وكذا غير المعين في مضمونة لم ينترع فيها، وأما غير المعين في غير مضمونة أو في مضمونة شرع فيها فوجوب تعجيله حيث الشرط أو العرف حق لآدمي، هذا هو التحرير لا ما ذكره أحمد. قاله عبد الباقي؛ يعني أنه يفسد العقد حيث لم يعجل فيما يجب فيه التعجيل حيث كان الحق لله تعالى، لا فيما إذا كان الحق لآدمي فيغضى بالتعجيل؛ وقال عبد الباقي: ومما يجب تعجيله لحق آدمي كراء أرض النيل إذا رويت. اهـ. وقال التتائي: وفسدت عقدة إجارة عينت فيها الأجرة إن انتفى فيها عرف تعجيل المعين عند المتعاقدين، سواء كان العرف التأخير أو لم يكن عرف بأن يتبايع بالوجهين، وهو مذهب ابن القاسم في كراء الرواحل. ابن حبيب: يصح في الوجهين، حكى القولين في التوضيح.

كمع جعل، تشبيه في الفساد؛ يعني أن الإجارة إذا وقعت مع جعل في عقد واحد فإنها تكون فاسدة لتنافر الأحكام بينهما؛ لأن الإجارة لا يجوز فيها الغرر وتلزم بالعقد ويجوز فيها الأجل، ولا يجوز شيء من ذلك في الجعل؛ أي لا يلزم بالعقد، ولا يجوز فيه ضرب الأجل، وكذلك لا يجوز اجتماع بيع الأعيان مع الجعل في صفقة واحدة للعلة المذكورة وهي تنافر الأحكام، وقوله: كمع جعل؛ أي فتفسد الإجارة، وكذا الجعل، وكذا يمنع جمع الإجارة مع السلف كما في المدونة، وقوله: كمع جعل، هذا هو المشهور.

لا بيع؛ يعني أن الإجارة لا تفسد إذا وقعت مع البيع في عقد واحد كأبيعك هذه السلعة على أن تؤجرني دابتك بكذا. قال المواق من المدونة: لا بأس باجتماع بيع وإجارة. وقال سحنون: كذلك إلا في المبيع. ابن رشد: قول مالك وابن القاسم أن البيع والإجارة يجوز اجتماعهما في المبيع وغيره إلا أنه يشترط إذا كانت الإجارة في المبيع أن يكون مما يعرف ربه خروجه كالثوب على أن

ص: 13

على البائع خياطته، وفيما لا يعرف ربه خروجه إذا أمكنت إعادته كالصّفر على أن يعمله البائع قدحا. اهـ. وقال الخرشي: لا بيع، أفي فيجوز اجتماع الإجارة والبيع في صفقة واحدة، وسواء كانت الإجارة في نفس المبيع كما لو باع جلودا علي أن يحذوها

(1)

البائع للمشتري نعالا، أو كانت الإجارة في غير المبيع كما لو باع له ثوبا بدراهم معلومة على أن ينسج له ثوبا آخر وما أشبه ذلك، علي المشهور. وقوله: لا بيع؛ أي لا اجتماعها مع بيع فلا يفسدها، وهذا إذا شرع كما أشار إليه في السلم بقوله: وإن اشترى المعمول منه واستأجره جاز إن شرع. اهـ. وفي نقله لا بيع ولو في نفس المبيع على المذهب، لكن بشرط أن يعلم وجه خروجه، كالثوب على أن يخيطه، أو الجلد على أن يخرزه، أو القمح على أن يطحنه، أو تمكن إعادته كالنحاس على أن يصنعه قدحا، فإن انتفى الأمران كالزيتون علي أن يعصره فلا، وإن كانت في غيره جازت من غير شرط. اهـ. وقال عبد الباقي: لا إجارة وقعت مع بيع بعقد واحد فلا يفسد واحد منهما؛ سواء كانت الإجارة في نفس البيع كشرائه ثوبا بدراهم معلومة علي أن يخيط له المبيع، أو في غيره كشرائه ثوبا بدراهم معلومة علي أن ينسج له آخر، ويراعى في الصورة الأولى شروعه أو ضرب أجل الإجارة ومعرفة خروجه، عَيَّنَ عاملهُ أم لا، أو إمكان إعادته كالنحاس على أن يصنعه قدحا، كما قدمه في السلم بقوله: وإن اشترى المعمول منه واستأجره لخ، فإن انتفى الأمران كالزيتون على أن يعصره فلا، وأما إن كانت الإجارة في غير نفس المبيع فيجوز بغير شرط. اهـ. وقال الحطاب: قوله: لا بَيع؛ يعني أن الإجارة مع البيع ليست بفاسدة بل يجوز اجتماعها معه، وأطلق رحمه الله. وفي ذلك تفصيل فإن كانت الإجارة في غير الشيء المبيع فذلك جائز، وإن كانت الإجارة في الشيء المبيع كما لو باع جلودا علي أن يحذوها البائع نعالا للمشتري، ففي التوضيح عن ابن عبد السلام: في ذلك قول مشهور بالمنع، خليل: هو قول سحنون، قال في النوادر: وهو خلاف قول ابن القاسم وأشهب. انتهى. وقول سحنون هذا في العتبية، قال ابن رشد: هذا معلوم مشهور من مذهب سحنون أن المبيع والإجارة في الشيء المبيع عنده لا يجوز بحال، ومذهب ابن القاسم

(1)

في الخرشي الصغير ج 7 ص 4: يخرزها.

ص: 14

وروايته عن مالك وهو الصحيح إن كان ذلك فيما يعرف وجه خروجه كبيعه ثوبا على أن على البائع خياطته، أو قمحا على أن على البائع طحنه، أو فيما لا يعرف وجه خروجه ولكن يمكن إعادته للعمل، كبيعه صفرا علي أن يعمل للبائع منه قدحا، وما أشبه ذلك فذلك جائز؛ وأما ما لا يعرف وجه خروجه ولا يمكن إعادته للعمل كبيعه غزلا على أن على البائع نسجه، أو الزيتون على أن على البائع عصره، أو الزرع على أن على البائع حصاده ودرسه، وما أشبه ذلك فلا يجوز اتفاقا. اهـ. قوله: كبيعه ثوبا على أن على البائع خياطته أو قمحا على أن على البائع طحنه، قال أبو الحسن: فإن هلك الثوب أو القمح قبل خياطته أو قبل طحنه سقط عن المشتري قدر الأجرة وكان ضمان الباقي منه، وهذا إذا كان غير البائع يتولى ذلك العمل كله، وإن كان البائع هو الذي يتولى عمله ضمنه لأنه صانع. انتهى.

تنبيهات: الأول: قال الحطاب: زاد اللخمي فيما لا يعرف وجه خروجه ويمكن إعادته إلا أن يكون اشترى جملة ما يعمل منه فلا يجوز؛ لأنه كلما أعيد نقص منه؛ فلا يقدر أن يعمل منه إلا دون الأول، كالفضة على أن علي البائع صياغتها، والصفر على أن يعمل منه أقداحا، وما أشبه ذلك. الثاني: من البيع والإجارة أن يدفع الإنسان ثوبه لمن يرقعه له أو نعله لمن يشركها، فلا يجوز ذلك حتى يريه الجلد والرقعة؛ لأن ذلك مبيع فلا بد من رؤيته أو ما يقوم مقام الرؤية من الصفة في الشيء الغائب الذي يتعذر الوصول إليه حالة العقد، هذا إذا كان عند الصانع الجلود والرقاع، فإن لم يكن عنده انضاف إلى ذلك بيع ما ليس عنده على غير أجل السلم، إلا أن يكون لا يعدم ذلك فلا يحتاج إلى طول الأجل، ويكفي الوصف التام كما في سائر السلم، ولا يكتفى بالوصف إلا إذا كان ما يريد أن يعمل منه غير موجود عنده حين العقد ولا يتعذر عليه غالبا لكونه لا يعدمه ويكثر عنده. قاله القباب.

الثالث: اعلم أن صورة المسألة أن يشتري منه المبيع بكذا على أن يعمل له فيه كذا، أو يعمل له في غيره، وأما لو اشترى المبيع على حدة ثم استأجره بأجرة أخرى فليس من هذا الباب؛ لأن المراد أن يجتمعا في عقد واحد وذلك واضح. اهـ. قاله الحطاب.

ص: 15

الرابع: إذا اشترى جبنا أو لحما بالوزن على أن على البائع أن يقلي ذلك، فقال ابن الحاج: إن في ذلك وجوها من المنع، منها أنه اشترى منه الدهن الذي يُقلَى به وهو مجهول، وأنه اشترى منة ما يوقد به تحته وهو مجهول كذلك، وأنه لا يعلم وزنه بعد القلي، وأنه لا يعلم أجرة قليه، وهذان الأخيران لا يضر جهلهما كما يظهر ذلك مما تقدم، وأما الأولان فالمنع فيهما ظاهر. اهـ. قاله الحطاب.

الخامس: إذا هلك المبيع قبل أن يعمل العمل المستأجر عليه فيه، فقال في الرسم المتقدم: لا ضمان على البائع ويحط عن المشتري بقدر الخياطة والطحن من الثمن، إلا أن يكون البائع ممن يعمل تلك الصناعات بنفسه فيسلك فيه مسلك الصناع في الضمان، فيكون عليه قيمة الثوب يوم البيع وهو الصحيح، وقيك: يوم ذهب، ويقوم غير معمول ويفض الثمن الذي وقع به البيع على الثوب والعمل، فيكون للبائع منه ما ناب الثوب، فإن كان له فضل على القيمة أخذه. وإن كان عليه أداه، وإن قامت على الضياع بينة سقط عنه الضمان، وفض الثمن أيضا على الثوب والعمل، فلا يكون للبائع منه إلا ما ناب الثوب. انتهى. وقال عن أبي الحسن بعد جلب كلام ما نصه: وفهم من هذا أنه لو ضاع بعد العمل لم يحط عن المشتري شيء من الثمن ويفصل فيه بين أن يكون البائع هو الصانع أو غيره كما تقدم. اهـ. ولو اختلفا في الضياع هل هو قبل العمل أو بعده لم أر فيه نصا والظاهر أن القول قول المشتري، وعلم مما مر أن البيع والإجارة يجوز اجتماعهما ولو كان البائع لا يتولى العمل المستأجر عليه بنفسه. والله أعلم. وهذه التفريعات كلها إنما هي على المشهور من جواز اجتماعهما، وقد حكى اللخمي عن القاضي قولا بالمنع. والله أعلم. قاله الحطاب.

السادس: المبيع والكراء كالبيع والإجارة يجوز جمعهما في عقد واحد، صرح به في المدونة. قاله الحطاب. السابع: قال في المدونة: وإن دفعت إلى جارك غزلك لينسج لك ثوبا بعشرة دراهم على أن يسلفك فيه رطلا من غزله لم يجز لأنه سلف وإجارة. انتهى.

وكجلد لسلاخ، معطوف على قوله: كمع جعل؛ يعني أنه لا يجوز لشخص أن يستأجر شخصا على سلخ شاة مثلا بجلدها أو وهو مع غيره، وهي إجارة فاسدة، ولا فرق بين كون الشاة مذبوحة

ص: 16

أو حية؛ لأنه لا يستحق الجلد إلا بعد تهام سلخه، وقد ينقطع قبل الفراغ وقد يسلم، ومثل الجلد اللحم وهو أولى من الجلد، فلا يجوز أن يستأجره على سلخ شاة مثلا بشيء من لحمها؛ واستظهر الحطاب أنه لا يجوز أن يستأجر على الذبح أو هو مع السلخ برأس الشاة أو بالأكارع، لأنه لا يدري هل تصح ذكاتها أم لا، وأما إن استأجره على السلخ وحده بعد الذبح فذلك جائز لأنه لا غرر فيه بعد أن نظر فيه. اهـ. ثم إنه يجوز بيع جلود نحو السباع على ظهورها بخلاف بيع جلود الغنم علي ظهورها على المذهب. قاله الخرشي. وبحث بناني في قوله: لأنه لا يدري هل تصح ذكاته أم لا، بأنه غرر يسير، واعلم أن بيع الجلد قبل السلخ والإجارة به لا يجوز كل منهما، فلا فرق بين بيعه والإجارة به، وفي شرح عبد الباقي: أن جواز بيع جلد السبع على ظهره هو المذهب، وأما بيع جلود الغنم على ظهورها فإنه وإن صححه بعض شيوخ ابن ناجي كما في التتاني فليس هو المذهب. اهـ. والفرق أن جلود السباع هي المقصودة فيحتاط لها لأن السالخ يفر عنها إلى اللحم، بخلاف جلود غيرها فإن المقصود اللحم فيفر من اللحم، إلى الجلد لتتم كسوة العظام من اللحم وذلك سبب في قطعها أي الجلود. انظر التوضيح.

ونخالة لطَحَّانِ؛ يعني أنه إذا استأجره على طحن الحنطة بنخالتها فإن الإجارة تقع فاسدة، قال الخرشي: عطفَ على جلد؛ يعني وكذلك تكون الإجارة فاسدة إذا استأجره على طحن الحنطة بنخالتها للجهل بقدرها أي النخالة، وللجهل بصفتها، فأشبهت الجزاف غير المرئي. قاله ابن عبد السلام. وأما لو استأجره بكيل معلوم من النخالة بأن يقول للطحان: اطحنه ولك صاع من النخالة، فقال ابن عبد السلام: يحتمل أن يتخرج على القولين في الإجارة على الطحن بصاع من الدقيق، ويحتمل الجواز علي القولين لاختلاف صفة الدقيق دون النخالة غالبا، والنفس أميل إلى مساواتها للدقيق لأن من الطحن ما يخرج نخالة كثيرة الأجزاء ومنه ما لا يخرج كذلك، والمشهور جواز الاستئجار على الطحن أقي أو غيره بصاع مما يخرج من الدقيق كما يأتي. انتهى. وقال عبد الباقي: ونخالة أجرة لِطحانٍ أوجر على طحن حب أو أجرة لمن يكيل دقيقا أو يعجنه أو يخبزه ففاسدة لجهل قدر النخالة قبل خروجها وصفتها، فهو كالجزاف غير المرئي، وأما لو استأجره بكيل منها معلوم كَاطْحَنْه ولك صاع من نخالة فتجوز كصاع من دقيقه على المشهور، كما يأتي؛

ص: 17

قال التتائي: ابن ناجي عن شيخه: عصر الزيتون بالفيتور أي ثفله كالنخالة. اهـ. وقال المواق من المدونة: لا تجوز الإجارة على سلخ شاة بشيء من لحمها. ابن شأس: لو استأجر السلاخَ بالجلد والطحانَ بالنخالة لم يجز. ابن عرفة: الجلد

(1)

جار على ما يجوز بيعه، والنخالة تجري على حكم الدقيق، وقد قال في المدونة: تجوز الإجارة على طحن إردب حنطة بدرهم وقفيز من دقيقه، فإن مالكا قال: ما جاز بيعه جازت الإجارة به.

وجزء ثوب لنساج؛ يعني أنه إذا آجر شخص شخصا على غزل ينسجه له ثوبا بجزء من ذلك الثوب فإن الإجارة فاسدة، قال الحطاب: يعني أن الإجارة تفسد إذا جعل أجرة النساج جزء الثوب الذي ينسجه للجهل، وكذلك جزء جلد أو جلود لدَبَّاغ، قال في المدونة: ولا يجوز أن يؤاجره على دبغ جلود أو عملها أو ينسج ثوبا على أن له نصف ذلك إذا فرغ؛ لأنه لا يدري كيف يخرج، ولأن ما لا يجوز بيعه لا يجوز أن يؤاجر به فهذا مجهول. وقال عليه الصلاة والسلام:(من استأجر أجيرًا فليعلمه بأجره). وقال في حديث آخر: (فليؤاجره بشيء معلوم

(2)

). وفهم من قوله: وجزء ثوب، أنه لو استأجره بجزء الغزل أو بجزء الجلد أو الجلود قبل الدباغ أن ذلك جائز، وهو كذلك إذا شرط عليه تعجيل ذلك أو يكون العرف وإلا فسدت الإجارة، وكذلك لو دفع له نصف الجلود ونصف الغزل من الآن وشرط عليه نسج الجميع أو دبغ الجميع ثم يأخذ جزءه فلا يجوز للتحجير، فإن أعطاه الغزل على جزء ولم يبين هل من الثوب أو من الغزل، فقال ابن حبيب: يجوز. وقال المص في التوضيح: أصل ابن القاسم المنع وجزم به في الشامل، فقال: لو دخل على جزء غير معين منع خلافا لابن حبيب. اهـ. وقال الخرشي: قال فيها عن مالك: وإن واجرته على دبغ جلود أو عملها أو نسج ثوب على أن له نصفها إذا فرغ لم يجز، قال ابن القاسم: لأنه لا يدري كيف يخرج، ولأن مالكا قال: ما لا يجوز بيعه لا يجوز أن يستأجر به، أصبغ: فإن نزل ذلك فله أجر عمله والثوب والجلود لربها، يريد لأنه لم يجعل له النصف إلا بعد الفراغ من العمل، فعلى هذا إن فاتت الجلود بيد الصانع بعد الدبغ فله النصف

(1)

لفظ الحطاب ج 5 ص 150 الجلد جار على ما تقدم في بيعه لخ.

(2)

البيان والتحصيل، ج 8 ص 444.

ص: 18

بقيمته يوم خرجت الجلود من الدباغ، ولربها النصف الآخر، وعليه أجرة المثل في دباغ الجميع، يعني إذا فات الجلود بيد الصانع فإنه يملك النصف الذي جعل له بقيمته فيدفعها للمستأجر، لأن البيع فيه فاسد وقد فات فيغرم قيمته مدبوغا، وأما النصف الآخر فهو ملك لربه وعليه أجرة دبغلأت أما لو جعل له النصف قبل الدبغ على أن يدبغها مجتمعة فأفاتها بالدبغ فله نصفها بقيمته يوم قبضها، وله أجر عمله في نصفها للتحجير في نصف الدابغ: يعني إذا دفع له النصف قبل الدبغ على أن يدبغها مجتمعة فإن ذلك لا يجوز، وإذا أفاتها بالدباغ فيكون عليه قيمة النصف الذي هو أجرة يوم القبض كما قال؛ لأن البيع فاسد وقد فات كما تقدم، وأما النصف الآخر فهو لربه وعليه أجرة عمله فيه، واحترز المؤلف بجزء الثوب عن جزء الغزل فإنه يجوز، ومعنى ذلك أن يقول له: لك من الغزل كذا تفعل فيه ما شئت في نظير نسجك، وأما لو جعل له نصفها الآن على أن ينسجها مجتمعة ويقطع بعد ذلك ما يخصه فإنه لا يجوز. قال فيها: ولو قلت له: انسج لي هذا الغزل بغزل آخر عجلته له جاز ذلك. ابن يونس: ابن المواز: ولو قال: انسج لي نصفه فإن دفعت إليه نصف الغزل على أن ينسج لك نصفه ثوبا وانتقد ذلك ثم تشاركا فيه فنسجه كله مشاعا فذلك جائز، ما لم يكن مع ذلك زيادة دراهم أو شيء فيصير شركة وإجارة. اهـ. وقال المواق عن اللخمي - ونحوه للخرشي - ما معناه: لو قال له: ادبغ هذه الجلود وهي مائة بنصفها وشرطا نقدَ النِّصف فإن ذلك جائز بشرط أن تكون الجلود تعتدل في القسم والعدد أو تتقارب، فإن تباين اختلافها لم يجز من أجل الجهل بما يدبغ لأنه لا يدري هل يدبغ ستين أو أربعين، وليس يفسد من أجل الجهل بما يصير للعامل في أجرته؛ لأن شراء نصفها مع الشياع جائز وإن لم يعتدل في القسم. اهـ. وقال الخرشي: سند: فإن لم يفسخ في هذه الصورذ حتى قاسمه ودبغ جميعها كان له النصف الذي أخذه أجرة بقيمته يوم قبضه؛ أي وله أجرة المثل في النصف الآخر، كما في الحطاب، ولو كان النصف قائما لرده وكان له أجرة مثله، وهذا بين. والله أعلم. اهـ. وقال الحطاب: قال اللخمي في الجعل والإجارة: وإن قال: ادبغ نصف المائة بنصفها وشرطا نقد النصف جاز إذا كانت تعتدل في القسم والعدد أو تتقارب: وإن تباين اختلافها لم يجز من أجل الجهل بما يدبغ؛ لأنه لا يدري هل يدبغ ستين أو أربعين؛

ص: 19

وليس من أجل الجهل بما يصير للعامل في أجرته؛ لأن شراء نصفها على الشياع جائز وإن لم تعتدل في القسم، فإن لم يفسخ في هذه الصورة حتى قاسمه ودبغ جميعها كان له النصف الذي أخذه أجرة بقيمته يوم قبضه بعد القاسمة وله أجرة المثل في النصف الآخر. انتهى. وكذا لو فات النصف الذي أخذه أجرة بغير الدبغ للزمه قيمته يوم قبضه، ولو كان قائما لرده وكان له أجر مثله، وهذا بيِّنٌ والله أعلم.

أو رضيع، معطف على ثوب؛ يعني أن الإجارة تكون فاسدة إذا استأجره على إرضاع حيوان صغير صامت أو ناطق بجزء منه، وإن قبض الجزء من الآن، قال عبد الباقي: وعطف على ثوب قوله: أو رضيع عاقل أو غيره جعل جزء منه أجرة على رضاعه وإن ملكه الجزء من الآن؛ أي من حين العقد فيمنع وتفسد الإجارة؛ لأنه قد يتغير وقد يتعذر رضاعه بموت أو غيره ولا يلزم ربَّه خلفُه فيصير نقد الإجارة فيه كالنقد في الأمور المحتملة بشرط. قاله الشارح. أي والنقد في الأمور المحتملة ممتنع سواء كان النقود غير مقوم أو مقومًا كما هنا للغرر، إذ لا يدرَى ما الذي يأخذه، والعلة فيما إذا كان مثليا للتردد بين السلفية والثمنية. اهـ. قوله: أو رضيع وإن من الآن: فإن مات الرضيع أثناء المدة فإن ملك نصفه من الآن فعليه نصف قيمته يوم قبضه يدفعها لربه؛ وله أجرة المثل في المدة التي رضعها، وإن ملكه بعد الفطام فله أجرة المثل فيما أرضعه ومصيبته من ربه ولا شيء على الأجير لأنه على ملك ربه، هذا إن مات قبل الفطام فإن مات بعدد يعني في الفرض الأخير كما في الخرشي فعليه نصف قيمته يوم الفطام وله أجرة رضاع مثله. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: النقد في الأمور المحتملة ممتنع سواء كان المنقود مثليا أو مقوما، أما الأول فللتردد بين السلفية والثمنية، وأما الثاني فللغرر إذ لا يدرَى ما الذي يأخذه. اهـ. وقال الحطاب بعد هذا التعليل: وعلى هذا التقرير فسواء كانت الأجرة جزءا منه أو غير ذلك. اهـ. ثم قال: ذكر ابن أبي زيد رحمه الله في مسألة التعليم التي جعلها المص وابن عرفة مساوية لهذه: أنه إذا وقع وشرط قبض نصفه بعد السنة فسخ، فإن فات وعلَّمه سنة ولم يفت العبد فله قيمة تعليمه والعبد لسيده؛ وإن فات بعد السنة بيد العلم فالعبد بينهما وعلى ربه قيمة تعليمه: وعلى المعلم نصف قيمته يوم تمام السنة معلما، وإن شرط قبضه الآن وفات بيد العلم بعد تمام السنة فله

ص: 20

نصف قيمة تعليمه وعليه نصف قيمة العبد يوم قبضه ويكون بينهما. والله أعلم. اهـ. وعلم مما قررت أن قوله: وإن من الآن، خاص بمسألة الرضيع ولا يرجع لمسألة الجزء من الثوب المنسوج ونحوه، ومسألة ابن أبي زيد التي أشار إليها بعضها في المواق فإنه قال عن ابن عرفة: في المدونة من وَاجرته على تعليم عبدك الكتابة سنة وله نصفه لم يجز إذ لا يقدر على قبض ما له فيه قبل السنة: وقد يموت العبد فيها فيذهب عمله باطلا، قال أبو محمد: وكذلك لو كان الشرط فيه أن يقبض المعلم نصفه الآن على أن يعلمه سنة لم يجز. ومن المدونة: لا يجوز تعليم العبد صنعة سنة بنصفه. انتهى. وذكرها التتائي فقال عن المدونة: من واجرته على تعليم عبدك الكتابة أو القرآن سنة وله نصفه لم يجز إذ لا يقدر على قبض ما له قبل السنة. وصرح بذلك أبو محمد فقال لو قبض المعلم نصفه الآن لم يجز، فإن وقع وشرط القبض بعد السنة فسخ، فإن علمه سنة ولم يفت فهو لسيده وللمعلم قيمة تعليمه وإن فات بعد السنة بيد المعلم فهو بينهما وعلى ربه قيمة تعليمه، وعلى الآخذ نصف قيمته معلَّما رأس السنة وإن شرط قبضه الآن وفات قبل السنة، بيد المعلم فله نصف قيمة تعليمه وعليه نصف قيمته يوم قبضه وهو بينهم ابن ناجي؛ ظاهرها أنه لو شرط عليه قبض النصف الآن جاز. ابن يونس عن أبي محمد: لا يجوز، وظاهره أنه تفسير ووفاق، ويقوم منها امتناع من دفع دابة لرجل يقوم بها سنة بنصفها. ابن عرفة: مسألة العبد تشبه مسألة الرضيع ولا أعرفها بشخصها في الرضاع لأهل المذهب، بل للغزالي في الوجيز. انتهى. وتعقب بنقل ابن رشد في مختصر المبسوطة عن ابن القاسم في الرجل يعطي فصيله لمن يغذيه بناقته ويكون الفصيل بينهما فقال: لا خيْرَ فيه. اهـ. ولهذا والله تعالى أعلم قال المص: أو رضيع ولم يقيده بالرقيق لِيشمَلَ الرقيق وغيره.

تنبيه: في شرح التحفة للشيخ ميارة: أن أحمد بن حنبل وجماعة من علماء السلف أجازوا الإجارة بالجزء في جميع الإجارات قياسا على القراض والمساقاة. اهـ المراد منه. والله تعالى أعلم. وقال أبو عَلِيٍّ على هذا الشرح في مسائل فيها الكلام على الإجارة بالجزء: التفصيل في هذه المسائل هو أن الأمر إن اضطر إليه غاية ولا محيد عنه أصلا أو المشقة فادحة تلحق الناس بأبدانهم وأموالهم كمسألة الخماس التي جرى العمل بها ولا محيد للناس عنها على ما هي عليه

ص: 21

فإن المنع من ذلك يضر بالناس غاية وكل ما يشبه ذلك فالأمر فيه سهل بل جائز وإلا فلا. انتهى.

وبما سقط أو خرج في نفض زيتون أو عصره؛ يعني أنه إن قال: انفض زيتوني فما سقط منه فلك نصفه أو ربعه أو ما أشبه ذلك من الأجزاء فإن العقد يكون فاسدا للجهل بقدر ما يسقط فهو جهل في الكم، وأما لو قال له: انفض زيتوني كله ولك نصفه فإن ذلك جائز، وكذا تفسد الإجارة إذا قال له: اعصر زيتوني فما خرج منه فلك نصفه أو ربعه وما أشبه ذلك. قال عبد الباقي: وفسد كراء بما أي بجزء ما سقط أو خرج في نفض زيتون أي تحريكه في الأول للجهل بالكم أو عصره في الثاني؛ أي قال: انفض زيتوني فما سقط منه فلك نصفه مثلا، واعصر زيتوني فما عصرت فلك نصفه مثلا؛ فيفسد للجهل بالكم وبالصفة، وقوله: في نفض زيتون، قيد ابن القصار منع النفض بما إذا كان باليد، وأما إن كان بعصا فجائز، واستبعده أبو الحسن بأن النفض باليد غير معتاد، أي فالنفض بالعصا مراد المنع، وفي الخرشي عن الأجهوري: اعلم أن لنا ثلاث مسائل،

إحداها: أن يقول اعصر زيتوني هذا ولك نصفه، أو ما عصرت منه فلك نصفه، والحكم في هذه المنعُ للجهل بما يخرج صفة وقدرا، ومثله ادرس زرعي هذا ولك نصفه، أو ما درست فلك نصفه، لما فيه من بيع الحنطة في سنبلها وتبنها على غير كيل. ثانيها: أن يقول له: القط زيتوني هذا وما لقطته فلك نصفه، والحكم في هذه الجواز، ومثل اللقط الحصاد والجذاذ. ثالثها: أن يقول: ما نفضت من زيتوني هذا فلك نصفه، فهي ممتنعة، وأما إن قال له: انفض زيتوني هذا أو انفضه كله فإن ذلك جائز، والفرق بين الحصاد والجذاذ واللقط، وبين النفض والعصر، أن الحصاد والجذاذ واللقط من مقدوره ولا مانع له إلا الكسل، بخلاف النفض والتحريك فإنه غير منوط بمقدوره؛ لأن الشجر منه ما هو قاصح يقل ما يسقط منه بالنفض أو التحريك، ومنه ما هو بخلافه، فهو لا يدري قدر ما يخرج، وكذلك العصر لا يدري قدر ما يخرج ولا صفته. اهـ. ونحوه لعبد الباقي فإنه قال ما معناه: انفضه ولك نصفه جائز، بخلاف ما نفضت فلك نصفه فممتنع، والقطه ولك نصفه أو ما لقطت فلك نصفه يجوز كل، واعصره ولك نصفه أو ما عصرت فلك نصفه يمتنع كل منهما. اهـ. وإذا وقع شيء من هذه الأمور الفاسدة فالزرع لربه وللعامل أجرة

ص: 22

مثله، فإن قسما على ما قالا فما أخذه العامل حرام وما أخذه رب الزرع فلا يحرم عليه لأن الزرع جميعه له. قاله الحطاب.

كاحصد وادرس ولك نصفه؛ يعني أن الإجارة تكون فاسدة إذا قال له: احصد زرعي وادرسه ولك نصفه، بأن جمع له بين اللفظين، قال في المدونة: وإن قال احصده وادرسه ولك نصفه لم يجز، لأنه استأجره بنصف ما يخرج من الحب وهو لا يدري كم يخرج، ولا كيف يخرج ولأنك لو بعت زرعك جزافا وقد يبس على أن عليك حصاده ودرسه وذريه لم يجز؛ لأنه اشترى حبا جزافا لم يعاينه؛ ولو قال: على أن كل قفيز بدرهم جاز؛ لأنه معلوم بالكيل، وهو يصل إلى جملة

(1)

القمح بفرك سنبله، وإن تأخر درسه إلى مثل عشرة أيام أو خمسة عشر يوما فهو قريب اهـ. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: كاحصد وادرس هذا الزرع ولك نصفه، وكذا ادرسه ولك نصفه، ففاسدة للعلة المتقدمة؛ يعني الجهل بالكم والكيفية؛ وأما احصده ولك نصفه فجائز كما يأتي، ومثله جذ نخلي وما جذ فلك نصفه لأنهما من مقدوره ولا يمنعه إلا الكسل. انتهى. وقال الحطاب: قال في المدونة: ومن قال لرجل: احصد زرعي هذا ولك نصفه أو جذ نخلي هذا ولك نصفها جاز، وليس له الترك لأنها إجارة، وكذا لقط الزيتون. اهـ. أي إذا قال له: القط زيتوني ولك نصفه، قال أبو الحسن عن الأمهات: فحين يحصده وجب له نصفه. اهـ. ولا يجوز قسمة قتا. ابن القاسم: إذا تلف قبل أن يحصده أو بعد أن حصد بعضه هو منهما وعليه أن يستعمله في مثله أو مثل ما بقي منه وخالف في ذلك سحنون.

وكراء الأرض بطعام، قوله: وكراء، بالكسر عطف على جلد؛ يعني أنه يحرم كراء الأرض بالطعام سواء كان ذلك الطعام مما تنبته الأرض أم لا، ومحل المنع إنما هو إذا اكتريت الأرض للحرث، وأما إن اكتريت لغيره كالبناء والسكنى ونحوه مما عدا الحرث فإنه يجوز ولو كانت الأرض من شأنها أن تحرث، هذا ما يدل عليه كلام أهل المذهب وتعليلهم المنع بأنه طعام بطعام إلى أجل. قال عياض في الإكمال. وتبعه الأبي: عللوا المنع بأن النابت يقدر كأنه باق على ملك رب الأرض

(1)

في الحطاب ج 6 ص 153 والتهذيب ج 3 ص 393: إلى صفة.

ص: 23

وكأنه باعه بطعام فصار بيع طعام بطعام لأجل. انتهى. وفي المدونة: وإذا خيف باكترائها ببعض ما تنبت من الطعام أن يدخله طعام بمثله إلى أجل خيف باكترائها بطعام لا تنبته أن يكون طعاما بطعام إلى أجل، وقد قيد ابن عرفة ممع كرائها بطعام بما إذا اكتريت للحرث كما قلنا، ونصه: لا يجوز كراء الأرض للحرث بطعام أو بما تنبته بغير طول. اهـ. وقال الباجي: قال ابن حبيب: كره ملك كراءها بالطعام لأنه طعام بطعام إلى أجل. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. وقال التتائي: وكراء الأرض للزراعة بطعام على المشهور، سواء أنبتته كالقمح أو لم تنبته كاللبن والعسل والأشربة والأنبذة، ليلا يدخله الطعام بطعام لأجل مع التفاضل ومع الغرر والمزابنة والمحاقلة المنهي عنهما؛ سحنون: ويجرح فاعله ولا يؤكل طعامه ولا يشترى منه شيء من ذلك، وفي المدونة: ولا بأس بكرائها بالماء. انتهى. وقال عبد الباقي: وكراء أرض شأنها أن تحرث بطعام أنبتته أو لم تنبته كلبن؛ لأنه يؤدي إلى بيع طعام بطعام لأجل، ومنه شاة لحم وحيوان لا يراد إلا للذبح كخصي معز، وكذا سمك وطير ماء وشاة لبون، وأما شاة لا لبن فيها فتجوز الإجارة بها ولو حصل بها لبن قبل فراغ مدة الإجارة، كجوازها بالماء ولو ماء زمزم، وتوابل

(1)

الطعام عند من لا يجعلها من توابع الطعام كمصطكى ونارنج، لا عند من يجعلها

(2)

من توابعه كملح فيمنع كزعفران، وأما أرض غير الزراعة كالدور والحوانيت فيجوز كراؤها بالطعام إجماعا، ومفهوم قوله: كراء، أنه يجوز بيع أرض الزراعة بالطعام وهو كذلك. اهـ. قوله: كزعفران، قال بناني: يقتضي أن منع كرائها بالزعفران لكونه من توابع الطعام وليس كذلك لما تقدم في فصل الربا أن الزعفران ليس من الطعام ولا من توابعه، بل وجه المنع فيه أنه مما تنبته، كما في ابن الحاجب والمواق. اهـ. وقال عبد الباقي: قال في المدونة: ومن أكرى أرضَه بدنانير مؤجلة حلت فلا يأخذ بها طعاما ولا إداما ولا ما تنبته غير كخشب، وليأخذ ما يجوز أن يبتدئ به كراءها. انتهى. قال أبو الحسن: يؤخذ من قوله: وليأخذ ما يجوز أن يبتدئ به كراءها، أن من باع حيوانا للذبح بدراهم إلى أجل فله أن يقتضي من ثمنه طعاما، كما يجوز بيعه به إن كان يصلح

(1)

في الأصل: توابع، والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 6.

(2)

في الأصل: يجعله، والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 6.

ص: 24

للقنية، فإن كان لا منفعة فيه إلا اللحم أو قلت أو لا تطول حياته فلا يجوز. اهـ. وهذا يفيد جواز بيع ما يقتنى من الحيوان بالطعام أي ابتداء وإن اشتُرِيَ للذبح، وأما بيع ما لا منفعة فيه

(1)

إلا اللحم أو قلت أو لا تطول حياته فلا يجوز بطعام لأجل وإن لم يشتر للذبح فإن كان نقدا جاز. اهـ.

أو بما تنبته؛ يعني أنه يمتنع كراء الأرض بما تنبته طعاما أو غيره كقطن وكتان، وعلة الفساد المزابنة، وهذا مما شأنه أن يستنبت قال عبد الباقي: وإن نبت بنفسه، فلا تكرى بنحو قصب بصاد مهملة مفتوحة ولو نبت بنفسه، وهو القصب الفارسي، وتكرى بما شأنه أن ينبت بنفسه كذهب أو فضة ورصاص ونحاس وكبريت. اهـ. قال بناني: قوله: فلا تكرى بنحو قصب بصاد مهملة لخ هذا ما لابن عرفة معترضا على ابن شأس وابن الحاجب، ونصه: وجعْلُ ابن الحاجب وابن شأس القصب كالجذوع وقبولُه ابن هارون لا أعرفه، بل قولها: لا يجوز كراؤها بالقصب. اهـ. ونقل في التوضيح الجواز عن صاحب التلقين، وقال: هو بفتح الصاد المهملة، قال الحطاب: وبه يرد إنكار ابن عرفة، قال: وما ذكره ابن عرفة عن المدونة إنما هو القضب بالضاد المعجمة كذا رأيته في نسخه مصححة، وبدليل ذكرها له مع القرط والتين، ولعله ظن أن كلام ابن الحاجب كذلك. اهـ. قلت: وكذا ضبطه أبو الحسن بالضاد المعجمة الساكنة قائلا هو المذكور في الكتاب العزيز، وبه تعلم أن الصواب في القصب بالصاد المهملة هو جواز كرائها به كالخشب، وأن القضب بالضاد المعجمة لا يجوز كراؤها به كما في المدونة. اهـ. وقال عبد الباقي: ثم المراد بالقطن والكتان شعرهما، وأما ثيابهما

(2)

فجائز. قاله الحطاب. ومقتضى آخر كلامه أنه لا يجوز كراؤها بالغزل ولعله لكونه هين الصنعة وإن كان لا يعود. اهـ. وقال المواق: من المدونة قال مالك: لا يجوز كراء الأرض بشيء مما تنبت قل أو كثر، ولا بطعام تنبت مثله أو لا تنبته، ولا بما تنبت من غير الطعام من قطن أو كتان أو أصطُبَّة. اهـ. وهي بالضم مشددة الباء مشاقة الكتان. قاله في القاموس. وقال المشاقَة كثمامة ما سقط من الشعر أو الكتان عند المشط أو ما طرأ أو ما

(1)

ساقطة من الأصل، والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 7.

(2)

في عبد الباقي ج 7 ص 7 بثيابهما.

ص: 25

خلص. اهـ. وقال المواق عقب قوله: من قطن أو كتان أو أصطبة: إذ قد يزرع ذلك فيها فتصير محاقلة، ولا بقضب أو قرط أو تبن أو علف، ولا بلبن محلوب أو في ضروعه، ولا بجبن أو عسل أو سمن أو تمر أو خبز أو ملح، ولا بسائر الأشربة والأنبذة، ولا تكرى بالفلفل، ولا بزيت زريعة الكتان، ولا بزيت الجلجلان، ولا بالسمك ولا بطير الماء الذي هو للسكين، ولا بشاة لحم لأن هذا من الطعام، ولا بزعفران لأنه مما تنبته، ولا بطين يشبه الزعفران يريد مما تنبت الأرض، ولا بعصفر: وعلى منعه بالكتان قال محمد: يجوز بثيابه. انتهى. كذا في نسختين من المواق: يجوز بغير نفي قبلها، وكذا في ثالثة، وقال اللخمي: يجوز كراؤها؛ يعني الأرض بثياب القطن والكتان لأن الصنعة غيرتها. والله أعلم. اهـ. قاله الحطاب. وقال عن الجواهر: كره مالك شراء طعام من مكتري الأرض بالحنطة، ومذهبه أن الطعام كله له، وإنما عليه كراء الأرض عينا. انتهى. وهذا والله أعلم إذا لم ينبت، ويصح ما وقع له على الوجه الشرعي، وأما لو فعل ذلك فلا يظهر للتوقف حينئذ وجه، وقد ذكر الشيخ أبو الحسن الصغير في أواخر الشفعة أنه يقوم من مسألة الأخذ بالشفعة ممن اشترى بدراهم مغصوبة جواز شراء ما يحصل بالمعاملة الفاسدة قبل أن يصلح شأنه مع ربها، فالكلام الأول على التنزه وما هو الأولى. والله أعلم. اهـ. وقال الخرشي: وانظر لو غزل القطن أو الكتان هل يجوز كراؤها به لأن الصنعة نقلته أم لا؟ والظاهر الأول، وإن وقع الكراء بما يمنع فإنها

(1)

لربها كراؤها بالدراهم كما في التوضيح. في تعريف المواق الأرضَ إشارةٌ أنها للزراعة. اهـ. وعلم مما قررت أن قوله: مما تنبته، معناه ما يستنبته الناس فيها، واحترز بذلك مما ينبت فيها بنفسه كالحشيش والحلفاء، والمذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والكبريت، ونحو ذلك، واستثنى من قوله: مما تنبته، قوله:

إلا كخشب؛ يعني أن الخشب يجوز أن يكترى بها الأرض؛ يعني وإن كانت مما يستنبته الناس فيها. قال عبد الباقي: إلا أن يكون ما تنبته مما يطول مكثه حتى يعد كأنه جنس منها، كخشب وعور هندي، وصندل وهو ما يصنع منه الطيب، وحلفاء، فيجوز كراؤها به، وكذا

(1)

في التوضيح ج 7 ص 159: فإنما.

ص: 26

حشيش، خلافا للباجي، ولو طعام بهيمة كما في البادية، بخلاف تبن فيمنع لأنه عين ما تنبته. اهـ. قوله: وحلفاء، وكذا حشيش، قال بناني: إنما جاز الكراء بالحلفاء والحشيش لأنهما ينبتان بأنفسهمات فحقه أن يذكرهما قبل الاستثناء. اهـ. وقوله: إلا كخشب، وكذا يجوز كراؤها بشجر ليس به ثمر أو به ثمر مؤبر لأنه يبقى لربه، لا به وهو غير مؤبر، سحنون: من أكرى أرضا بما يخرج منها فذلك جرحة في حقه، وتأوله أبو محمد على العالم بالمنع وهو مذهبه أو قلد سحنونا، وقال سحنون أيضا: ولا يؤكل طعامه ولا يشترى منه ذلك الطعام الذي أخذ من كرائها، وتأوله ابن رشد على أنه من الورع. اهـ. من الحطاب. وصريحه أنه فيما تنبته، ونقله التتائي عن سحنون في كرائها بطعامها، فيحتمل أن له نقلين. اهـ. وقال التتائي: إلا كخشب وقصب وعود هندي وحطب فيجوز. قاله سحنون لطول مكثه، وفي الذخيرة عن محمد: جواز كرائها بالحشيش لأنه لا يزرع، وقيل: يجوز كراؤها بكل شيء. اهـ. وفي الحطاب: وقال في المدونة: ويجوز بيع رقبة الأرض بشجر فيها ثمر كما تباع بطعام عاجل وآجل. اهـ. وقال في النوادر بعد أن ذكر منع كراء الأرض بما يؤكل أو يشرب من الأشربة ما نصه: ولا بأس بشرائها بذلك كله ما لم يكن فيه يومئذ طعام، وصوابه: ما لم يكن فيها يومئذ طعام، ثم قال: ولا بأس أن تكتري بئر أرض إلى جانب أرضك لتسقيها بمائها بما شئت من الطعام. اهـ. وقد مر أنه يجوز كراء الأرض بالماء، وقال الخرشي: قال محمد: لا بأس أن تكتري الأرض بالحُصُر.

وحمل طعام لبلد بنصفه؛ بالجر عطف على مدخول الكاف من قوله: كمع جعل؛ يعني أن الإجارة تفسد فيما إذا استأجره على حمل طعام وما أشبهه لبلد كذا بنصفه أو ثلثه مثلا لأنه بيع معين يتأخر قبضه، ولهذا قال:

إلا أنه يقبضه الآن؛ يعني أن محل المنع إنما هو حيث لم يقبض الجزء المستأجر به الآن، وأما إن دخلا على أن يقبضة الآن؛ أي حين العقد فإن ذلك جائز لانتفاء العلة المذكورة، قال عبد الباقي: وفسدت إجارة على حعل طعام ونحوه لبلد بعيد لا يجوز تأخير قبض المعين إليه بنصفه مثلا لأنه بيع معين يتأخر قبضه، فإن نزل فأجر مثله والطعام كله لربه، ولا فقدت هذه العلة مع القبض قال: إلا أن يقبضه؛ أي الجزء المستأجر به الآن؛ أي حين العقد بالفعل. اهـ المراد منه،

ص: 27

ثم قال عبد الباقي: هذه المسألة من أفراد الإجارة بمعين فيجري فيها تفصيله، فيقال: إن وقعت هذه الإجارة والعرف التعجيل فلا بد منه وإلا فسدت، وإن كان العرف التأخير أو لا عرف لهم فلا بد من اشتراط التعجيل وإلا فسد العقد، وحيث قلنا: لابد من التعجيل فينبغي أن يغتفر هنا التأخير اليسير كاليومين والثلاثة؛ إذا علمت هذا فإنْ حُمِل كلام المص على ما إذا كان العرف التعجيل فقوله: إلا أن يقبضه الآن، على ظاهره، وإنْ حُمِل على ما إذا كان العرف التأخير أو لا عرف لهم فلا بد من حمل قوله: إلا أن يقبضه الآن، على أن المراد إلا أن يشترط قبضه فقبضه مع عدم الاشتراط غير كاف. اهـ كلام عبد الباقي، وتعقبه بناني بقوله: قول الزرقاني: فينبغي أن يغتفر هنا التأخير اليسير لخ، الذي في حاشية الشيخ أحمد الزرقاني ما نصه: وحيث وقع الشرط أو كان العرفُ النقدَ فالجواز وإن لم يقبض إلا بعد تمام العمل. اهـ. فانظره مع ما لعبد الباقي. اهـ كلام البناني. وقد مر لعبد الباقي أنه قال عند قوله: وحمل طعام لبلد بنصفه؛ ما نصه: فإن نزل فأجر مثله والطعام كله لربه. اهـ. وكتب عليه بناني: هذا الذي صوبه ابن يونس وتعقبه أبو الحسن بأنه خلاف ظاهر الكتاب، ونص ابن يونس: قال ابن أخي هشام: فإن نزل هذا وحمله للبلد فإن للحمال نصفه وعليه مثله في الموضع الذي حمله منه وله كراؤه في النصف الآخر ما بلغ، وعاب هذا القول بعض شيوخنا، وقال: يلزم على هذا إذا هلك الطعام أن يضمن نصفه لأنه على قوله بالقبض لزم ذمته وهذا بعيد؛ ابن يونس: يريد وإنما يكون الطعام كله لربه وعليه أجرة حمله كله ابن يونس: وهو الصواب كما قالوا إذا استأجره على دبغ جلود أو نسج ثوب على أن له نصف ذلك إذا فرغ فعمله على ذلك فإن له أجر مثله والثوب والجلود لربها فكذلك هذا. اهـ. أبو الحسن: ويظهر لي أن قول ابن أخي هشام هو ظاهر الكتاب من قوله: لأنه شيء بعينه بيع على أن يتأخر قبضه؛ تأمله. وفي مسألة الثوب والجلود شرط أنه إنما يقبض بعد الفراغ. اهـ. وكذلك أيضا رد ابن عرفة ما صوبه ابن يونس فانظره. اهـ. وقال الحطاب: إلا أن يقبضه؛ أي إلا أن يشترط أن يقبض نصفه الآن. أبو الحسن: ولو اشترط أن لا ينقده فلا إشكال في المنع، وإن وقع الأمر مبهما فعلى مذهب ابن القاسم هو على الفساد حتى يشترط قبض نصفه الآن، وعلى مذهب أشهب وابن حبيب وسحنون هو جائز حتى يشترط أن لا يقبضه إلا بعد

ص: 28

البلاغ، ونحوه في ابن يونس: ولو قال، له: احمل طعامي إلى بلد كذا، لم يجز إلا أن يعطيه نصفه نقدا، ولا يجوز على تأخيره إلى البلد، ولو اكتال نصفه ها هنا ثم يحمل الجميع إلى البلد لم يجز قال ابن حبيب: ولو أسلم له نصفه إن شاء حبسه أو حمله لجاز. اهـ. وقال المواق عن المدونة: لو قلت: احمل طعامي إلى موضع كذا ولك نصفه لم يجز إلا إن انتقده

(1)

الآن مكانك. وفي المدونة قال ابن القاسم: إن واجرت رجلا على حمل طعام بينكما إلى بلد يبيعه بها على أن عليك كراء حصتك وسميت ذلك فإن اشترطت أن لا يعين حصته منه قبل الوصول إلى البلد لم يجز، وإن كان على أنه متى شاء يبرزها

(2)

قبل أن يصل أو يخرج جاز إن ضرب للبيع أجلا يريد ضربا أجلا، بعد الوصول إلى البلد، ولا ينقد إجارة البيع؛ قال ابن القاسم: وكذلك إن واجرته على طحنه فإن كان إذا شاء أفرد وطحن حصته جاز، وإن كان على أن لا يطحنه إلا مجتمعا لم يجز وكذلك إن واجرته على رعاية غنم بينكما جاز ولزمته الإجارة إذا كان له أن يقاسمك حصته ويبيعها متى شاء وضربت للرعاية أجلا وشرطت خلف ما هلك من حصتك. انظر المتيطي، فيمن باع نصف غنمه بثمن معلوم إلى مدة على أن يرعى له المبتاع النصف الباقي على ملكه طول المدة أن ذلك يجوز إذا شرط خلف ما نقص من نصفه ولم يشترط ترك المقاسمة. اهـ.

وكإن خطته اليوم بكذا وإلا فبكذا، عطف على قوله: مع جعل، ومدخول الكاف محذوف أي وكقوله؛ يعني أن الإجارة تكون فاسدة إذا استأجره على خياطة ثوب مثلا على أنه إن خاطه اليوم فله درهم وإن لم يخطه في هذا اليوم فله نصف درهم، وعلة الفساد الجهل بقدر الأجر، فإن وقع ذلك وخاطه فله أجر مثله سواء زاد على التسمية أو نقص عنها. قاله مالك. قاله الخرشي. فإن مكسورة، وقوله: بكذا، ليس متعلقا بخِطَّته بل الفاء محذوفة مع المبتدإ، والجملة جواب الشرط بدليل ذكرها فيما بعد المبتدأ، والمبتدأ أيضا محذوف مما بعده؛ أي فهو بكذا وإلا فهو بكذا، ولعبد الباقي: وكإن؛ أي وكقوله: إن خطته اليوم مثلا فهو بكذا من الأجر، وإلا تخطه اليوم بل أزيد فبكذا من الأجرة؛ أي أجرة دون الأولى ففاسد للجهل بقدر الأجرة، فإن وقع فله

(1)

في المواق ج 5 ص 475 والتهذيب ج 3 ص 347 ط دار الفكر: إلا أن تنقده.

(2)

في المواق ج 5 ص 475 والتهذيب ج 3 ص 347: متى شاء ميزها.

ص: 29

أجر مثله، خاطه في يوم أو أكثر، زاد عما سمَّى أم لا، والمنع حيث كان على اللزوم ولو لأحدهما، فإن كان على الخيار لكل جاز. اهـ.

قال مقيده عفا الله عنه: فإن قلت: كيف يتصور الخيار؟ فالجواب: أن معنى ذلك أن يكون له الخيار على أن يفسخ العقد أو يمضيه بأحد الأمرين، فإن اتفقا على ذلك أي على أن يخيطه اليوم بدرهم أو على أن يخيطه في أكثر بدون درهم، وكان على الخيار، وكان على يقين من إتمام العمل في ذلك الزمن جاز ذلك. والله سبحانه أعلم.

تنبيه: قال عبد الباقي إن عين رب الثوب للخياط قدرا وعين الخياط غيره عمل بما عينه وبه تقدم أو تأخر، وكذا إن عين رب الدار لمستأجرها قدر أجرة إن تأخر تعيينه عن تعيين المستأجر. اهـ. وإنما عمل بقوله في مسألة الثوب لأن المستأجر في الثوب لم يتول استيفاء المنفعة بنفسه فلذا عمل بقوله مطلقا، بخلاف المستأجر في المنزل فإنه تولى استيفاءها بنفسه مع علم رب المنزل. قاله الحطاب، كما مر. والله تعالى أعلم وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: إذا واجرت رجلا يخيط لك ثوبا على أنه إن خاطه اليوم فبدرهم وإن خاطه غدا فبنصف درهم لم يجز عند مالك لأنه آجر نفسه بما لا يعرف. ابن المواز: قال مالك: من واجر من يبلغ له كتابا ثم قال بعد صحة الإجارة: وإن بلغته في يومين فلك زيادة كذا فكرهه واستخفه في الخياطة بعد العقد؛ قال ابن عبد الحكم: وإجازة ذلك أحب إلينا، وبه أخذ سحنون. اهـ. وقال الحطاب: قال فيها: وإن واجرت رجلا يخيط لك ثوبا إن خاطه اليوم فبدرهم وإن خاطه غدا فبنصف درهم، أو قلت له: إن خطته خياطة رومية فبدرهم وإن خطته خياطة عربية فبنصف درهم لم يجز وهو من وجه بيعتين في بيعة، فإن خاطه فله أجر مثله زاد على التسمية أو نقص، وإذا استأجره على خياطة ثوب بدرهم ثم قال له: عجل لي اليوم وأزيدك نصف درهم فإن كان على يقين من أنه يمكنه تعجيله فلذلك جائز، وإن كان لا يدري إذا أجهد نفسه هل يتم أم لا؟ فكرهه مالك، ومثله استئجار رسول على تبليغ كتاب إلى بلد كذا ثم زيادته على أن يسرع في السير فيبلغه في يوم كذا ليصل فيه كما تقدم. اهـ.

ص: 30

واعمل على دابتي فما حصل فلك نصفه، عطف على الممنوع؛ يعني أن الإجارة تكون فاسدة إذا قال له: اعمل على دابتي أو سفينتي فما حصل من ثمن ما أفادته في عملك عليها فلك نصفه، قال في المدونة: ولو أعطيته الدابة ليعمل عليها فما أصاب فبينكما لم يجز ذلك. اهـ. قال أبو الحسن: قوله: فما أصاب فبينكما؛ أي أثمان ما أصاب، وأما لو كان ما يصيب من الاحتشاش والاستحطاب لجاز ذلك. اهـ. ونحوه لابن يونس. قاله بناني. وعلم من هذا أن الفرق بين ما هنا وقوله الآتي: وجاز بنصف ما يحتطب عليها، هو أن الكراء هنا جزء من ثمن ما حصل في العمل على الدابة، والكراء فيما يأتي هو نصف ما حصل من العمل عليها كالاحتطاب مثلا.

وهو للعامل وعليه أجرتها؛ يعني أنه إذا قال له اعمل على دابتي فما حصل فلك نصفه، فإن ذلك لا يجوز ويفسد به العقد كما عرفت، فإن وقع ذلك فإن ثمن ما حصل من العمل يكون للعامل على الدابة لا لربها، ويكون لرب الدابة على العامل أجرة المثل؛ أي كراء المثل في استعماله لدابته بالغا ما بلغ؛ لأنه اكتراها كراء فاسدا. ابن يونس: ولو عمل ولم يجد شيئا كان مطالبا بالكراء لأنه يتعلق بذمته، ومقابله لابن حبيب أنه إن عاقه عن العمل عائق وعرف ذلك بأمر معروف فلا شيء عليه إذا لم يكرها بشيء مضمون عليه؛ قال ابن عرفة بعد نقله للقولين: وهذا نحو اختلافهم في السلف على الأداء من شيء بعينه فتعذر. اهـ. قاله بناني. وقال عبد الباقي: إنه إذا قال له: اعمل عليها فأكراها فهل كذلك أي ما حصل يكون للعامل وعليه أجرتها؟ أو يكون ما حصل لرب الدابة وعليه الأجرة، قولان مرجحان، واقتصر التتائي على أن ما اكتريت به للأجير ولربها أجرة المثل، وأنه قول ابن القاسم.

عكس لتكريها؛ يعني أنه إذا قال له: أكر دابتي فما حصل من الأجرة فلك نصفه، فإن ذلك فاسد والحكم فيه إذا وقع عكس مسألة اعمل على دابتي فما حصل فلك نصفه، فيكون ما اكتريت به الدابة لربها، وللعامل أي المكري أجرة مثله بالغة ما بلغت، وقوله: عكس لتكريها، اعلم أن هذه المسألة أعني قوله: لتكريها، يستوي فيها الدابة والسفينة مع الدار والحانوت والحمام ونحو ذلك، وفي الحطاب: زاد في المدونة في مسألة لتكريها الدار والحمام مع الدابة والسفينة، وسكت في مسألة اعمل على دابتي عن الدار والحمام، فقال عياض: لأن ما لا يذهب

ص: 31

به ولا عمل فيه لمتوليه كالرباع فهو فيها أجير والكسب لربها ويستوي فيها اعمل وواجر، ونقله أبو الحسن وقَيله، وكذلك قال اللخمي نقله بناني.

تنبيهات: الأول: قال الإمام الحطاب عند قوله: واعمل على دابتي فما حصل فلك نصفه، لا فرق بين الدابة والسفينة والإبل. قاله في المدونة. وكذلك عكس المسألة لا فرق بينهما، وزاد في المدونة معها في هذه المسألة الدار والحمام، أعني فيما إذا دفع إليه هذه الأشياء ليكريها، وسكت في المسألة الأولى أعني قوله: اعمل على دابتي، عن الدار والحمام، فقال عياض: لأن ما لا يذهب به ولا عمل لمتوليه فيه كالرباع فهو فيها أجير والكسب لربها ويستوي فيها اعمل وواجر؛ ونقله أبو الحسن وقَبله، وكذا قال اللخمي قوله: في السفينة أكرها واعمل عليها، سواء إن كان فيها قَوَمَةُ ربها لأنه إنما يتولى العقد فغلتها لربها وله أجر مثله ولو كان سافر فيها بمتاعه فالربح له ولربها الإجارة.

الثاني: قال الحطاب: لا فرق فيما إذا قال: اعمل على دابتي أو في سفينتي أو إبلي بين أن يقول: لي، وأن لا يقولها على ظاهر رواية الأكثرين وصريح رواية الدباغ، وفي الجلاب: إذا قال اعمل لي. كان الكسب كله لرب الدابة، قال عياض: والصواب الأول. الثالث: الحمام والفران إن لم يكن فيهما دواب ولا آلة الطحن كان ما يؤاجر به للعامل وعليه أجرة المثل، وإن كانا بدوابهما ويشتري الحطب من عند صاحبهما أو من غلتهما فما أصاب لربهما وللعامل أجر المثل، وإنما هو قيم فيهما، وكذلك الفندق فما أكرى به مساكنه لربه وللقيم إجارته.

الرابع: إذا أصيب

(1)

ما عمل عليها قبل بيعه فهو من العامل. نقله أبو الحسن. اللخمي: إن قال أكر دابتي ولك نصف ما تكريها به فمضى بها ثم ردها وتعسر عليه كراؤها لم يكن له شيء إلا أن الحكم أن يردها ولا يتم ذلك الفاسد، ولو قال: أكرها فعمل عليها كان الكسب للعامل ولربها كراء المثل لأنه تعدى على منافع الدابة في غير ما أذن له، وإن قال: اعمل عليها فأكراها فقال ابن القاسم: ما اكتريت به للأجير ولربها أجر المثل، وقال في كتاب الشفعة ما اكتريت به لربها

(1)

في الأصل: أجيب، والمثبت من الحطاب ج 6 ص 158 ط دار الرضوان.

ص: 32

لأن ضمان منافعها منه. اهـ. من ابن عرفة. قاله الحطاب. الخامس: من هذا الباب لو قال: بع سلعتي والثمن بيني وبينك أو ما زاد على مائة

(1)

بيني وبينك، فقال في المدونة: ذلك لا يجوز والثمن له وللبائع أجر مثله إلا أن يتأول أنه جعل فاسد والأشبه الأول

(2)

). اهـ المراد منه. قاله الحطاب. اعلم أن المسائل هنا أربع ذكر المص منها اثنتين وهي اعمل على دابتي فما حصل فلك نصفه وعمل عليها، والثانية: خذها لتكريها وأكراها، والثالثة: اعمل عليها وأكراها، والرابعة: أكرها واعمل

(3)

عليها؛ وقد مر التعريف بأحكامها، وهي أن الأولى يكون ما حصل للعامل وعليه الأجرة، والثانية عكس ذلك، والثالثة فيها قولان قد مرا، والرابعة ما حصل للعامل وعليه الأجرة.

السادس: محل قوله: واعمل على دابتي، إلى قوله: لتكريها، إنما هو بعد العمل وإلا فسخ، قال عبد الباقي: ومحل المنع في صورة المص الأولى في غير الضرورة وإلا جاز، فقد سئل أصبغ عن رجل يستأجر الأجير على أن يعمل له كرمه على النصف مما يخرج الكرم أو ثلثه أو جزء منه معين؟ فأجاب: بأنه لا بأس به في جميع ما يضطر إليه. انتهى. قوله: فقد سئل أصبغ لخ، المراد أصبغ بن محمد كما في نوازل الشعبي، ونقله المواق أول الباب، ثم في تقييد الجواز بالضرورة فيها إشكال؛ لأن المسألة دائرة بين المساقاة إن كان العقد قبل

(4)

الطيب وبين الإجارة بالجزء بعد بدو الصلاح إن كان بعد الطيب، وكلاهما جائز اختيارا كما علم من باب المساقاة، فإن قلت: المراد الأول ومنعت في الاختيار للتعبير عن المساقاة بالإجارة وهو ممنوع على مذهب ابن القاسم كما تقدم، قلت: لا ضرورة تدعو إلى التعبير بالإجارة، وتأمل كلام المواق في هذه المسألة فربما لا تجد فيه التقييد بالضرورة فيها. والله أعلم. قاله بناني.

السابع: قال في المدونة: وإن دفعت إليه دابة أو إبلا أو دارا أو سفينة أو حماما على أن يكري ذلك وله نصف الكراء لم يجز، فإن نزل كان لك جميع الكراء وله أجر مثله، كما لو قلت له: بع

(1)

في الأصل: مؤنة، والمثبت من الحطاب ج 6 ص 159 والتهذيب ج 3 ص 347.

(2)

في الأصل: الأولى، والمثبت من الحطاب ج 6 ص 159 دار الرضوان.

(3)

كذا في الأصل ولعله وعمل.

(4)

في الأصل بين والمثبت من بناني ج 7 ص 8.

ص: 33

سلعتي فما بعتها به من شيء فهو بيني وبينك، أو قلت له: فما زاد على مائة فهو بيننا فذلك لا يجوز، والثمن لك وله أجر مثله. اهـ. قال في تكميل التقييد إثر قوله: كما لو قلت له بع سلعتي ما نصه: من معنى المسألة مجاعلة الدلال على بيع ثوب بدرهم من كل أوقية من غير أن يسمي له غاية، ومن معنى المسألة الثانية [تقويم]

(1)

المالك في ثمرة الحائط على المساقَى أو غيره بكذا فما زاد فبينهما. بخلاف الذي تبيعه جزءًا على أن يفعل به الآن ما شاء ويقوم له على الجزء الباقي. اهـ. وانظر المواق أول الباب فقد ذكر الجواز في أجرة الدلال للضرورة. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني.

الثامن: قال التتائي، قال اللخمي: إن قال: أكرها ولك نصف كرائها، فأكراها المسافر

(2)

على أن يسوق به ويقوم بها نظر، فإن كان كراؤها على أن لا أحد معها دينارا أو على أن معها سائقا دينارا وربعا فالكراء بينهما أخماس، ثم ينظر فإن كان أجر مثله في تولي العقد ثمن دينار تبع الدابة بأربعة أخماس ثمن دينار، فإن كان يتولى حفظها بعد انقضاء الكراء فله عليه أجرة أخرى. اهـ. وقال عبد الباقي: لوأعطاها ليكريها وله نصف الكراء فأكراها لمن يسافر عليها وسافر معها يسوقها فله أجر سوقه وتوليه لعقد الكراء، وما بقي من الكراء من ربها قاله الأقفهسي، وذكره التتائي.

وكبيعه نصفا بأن يبيع نصفا، عطف على قوله: كمع جعل، صورتها أن يبيع شخص نصف ثوب أو نصف عبد أو نصف دابة مثلا من شخص بدينار على أن يبيع له النصف الآخر أي جعل ثمن النصف المبيع للسمسار مجموع الدينار وسمسرته على بيع النصف الآخر، فهذه الإجارة فاسدة، فالباء في قوله: بأن يبيع نصفا، بمعنى على كما في قوله تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} . قاله الخرشي. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: وعطف على قوله: كمع جعل، قوله: وكبيعه نصفا لكثوب بدينار يدفعه العامل، بأن الباء بمعنى على نحو:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} أي باعه نصف ثوب بدينار على أن يبيع نصفا ثانيا للناس،

(1)

في الأصل تقديم والمثبت من بناني ج 7 ص 9.

(2)

كذا في الأصل، ولعلها: ما كراها لمسافر على أن .. انظر تبصرة اللخمي ج 10 ص 4940 ففيها: فأكراها ممن يسافر بها.

ص: 34

أي جعل ثمن النصف المبيع للسمسار مجموع الدينار الذي يدفعه العامل لرب الثوب وسمسرته على بيع النصف الآخر، فتفسد إن أبهم في محل بيعه أو عين غير بلد العقد لأنه بيع معين يتأخر قبضه، لا إن عين بلده فيجوز كما قال:

إلا بالبلد؛ يعني أن محل المنع في الصورة المذكورة إنما هو حيث أبهم في محل البيع أو عين بلدا غير البلد الذي هما به، وأما لو كان محل البيع هو البلد الذي هما به لجازت تلك الصورة المذكورة لتمكنه من قبض نصيبه الآن، فليس فيه بيع معين يتأخر قبضه، ويلحق به بلد قريب يجوز تأخير قبض المعين له، ومحل الجواز المذكور حيث أجلا ولم يكن الثمن مثليا كما قال المص:

إن أجلا لم يكن الثمن مثليا، وتحقيق ما أشار إليه المص أنه يشترط للجواز المذكور ثلاثة شروط، أحدها: أن يكون البيع بالبلد الذي هما به. ثانيها: أن يؤجلا أي يضربا لبيع النصف الذي لرب السلعة أجلا لتكون إجارة، وهي تجامع البيع، فيخرجان عن البيع والجعل، فإن جمعهما ممتنع، ثم الجواز وإن لم يكن الأجل قريبا يجوز تأخير المعين إليه كاليوم واليومين والثلاثة كما في الذخيرة عن

(1)

المدونة خلافا لأبي الحسن، فإن باع في نصفه فله نصف الأجرة، فإن مضى الأجل ولم يبع فله الأجر كاملا؛ لأنه مجعول على السمسرة لا على البيع، ومفهوم الشرط المنع إن لم يضربا أجلا لأنها إجارة مجهولة مع بيع كما في الذخيرة. قاله عبد الباقي. ثالث الشروط: أن لا يكون الثمن أي ثمن السمسرة والدينار الذي هو النصف الذي أخذه السمسار مثليا، وأما لو كان الثمن مثليا وذلك يتضمن أن يكون المبيع كله مثليا فيمنع ذلك، وعلة المنع حيث كان الثمن مثليا أنه قبض إجارته وهي مما لا يعرف بعينه، فتصير تارة سلفا إن باع في نصف الأجل لأنه يرد حصة ذلك، وتارة ثمنا إن باع في آخر الأجل أو مضى الأجل ولم يبع، ويفهم من هذا التعليل أنه إن شرط عليه إن باع في نصف الأجل لا يرد باقيَ الثمن بل يتركه له ويأتيه بطعام آخر يبيعه

(2)

له فإنه يجوز، وبهذا الثاني صرح في الذخيرة، فقوله: ولم يكن الثمن مثليا؛ أي فإن

(1)

في الأصل على والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 9

(2)

في الأصل يبعه والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 9

ص: 35

كان مثليا منع إلا أن يشترط أنه إن باع في نصف الأجل إلى آخر ما مرت والظاهر أن الحلي والغزل من القوم كما مر في باب الغصب من أن المثلي إذا دخلته صنعة صار مقوما. قاله عبد الباقي.

تنبيهات: الأول: في الخرشي وجه المنع إذا لم يؤجلا أنه إما بيع وجعل أو بيع وإجارة غير مؤجلة، فإن قيل: هذه المسألة تشكل مع ما سيأتي من أن الجمع بين الزمن والعمل مفسد مع أنه قد جمع بينهما، فالجواب: أن العمل فيما يأتي لا كان لأجل إذ الإجارة تنعقد بالعمل وتارة بالزمن كان اشتراط التأجيل مضرا، بخلاف اشتراطه هنا فإنه محقق لكونها إجارة انتهى.

الثاني: اعلم أن التعيين بالعمل بالإجارة كاف كالتعيين بالزمن. قاله الخرشي؛ يعني والله تعالى أعلم أنه لا بد في الإجارة من التوقيت بالزمن أو ما يقوم مقامه من التحديد بالعمل أو بالمسافة. والله سبحانه أعلم. الثالث: قال عبد الباقي: ما قررت به المص من قولي: بدينار يدفعه

(1)

العامل، ومن جعل الباء بمعنى على، هو المتعين لقوله: إن أجلا، لا ما قرر به الشارح والتتائي من أنه أعطى نصف الثوب مثلا على السمسرة في النصف الثاني من غير أن يأخذ ربه من السمسار شيئا، وإن كان الأصلُ في الباء المتعلقة بالبيع العوضيةَ، تقول: بعت الثوب بدرهم؛ إذ ليس هذا بيعا حينئذ، وإنما هو إما جعالة وذلك مناف لقوله: إن أجلا، وإما إجارة فقط، وحينئذ فيكفي التعيين بالعمل، والمص شرط التأجيل إشارة إلى أنها مسألة اجتماع بيع وإجارة لا إجارة فقط ولا جعالة. انتهى. واعلم أن المسألة في ابن الحاجب على فرضين، بيعه نصفا على أن يبيع نصفا، وبأن يبيع نصفا [ببيع نصف]

(2)

، وفرق ابن عبد السلام بينهما كالمؤلف بأن الأولى

(3)

باضه النصف بثمن مع سمسرته النصف الآخر، والثانية ثمن النصف هو مجرد سمسرته النصف الباقي، والمسألة مفروضة في المدونة على الفرض الأول، وقال ابن عبد السلام وابن عرفة: إن الفرض الثاني لم يكن فيه بيع وإنما هو مجرد إجارة إن أجل أو جعل إن لم يؤجل؛ ابن عرفة:

(1)

في الأصل بدينارين رفعه والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 9

(2)

ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل والمثبت من بناني ج 7 ص 9

(3)

في الأصل الأول والمثبت من بناني ج 7 ص 9

ص: 36

وكلاهما جائز، ومراد المص الفرض الأول، والجواب عنه ما ذكره غير واحد أن الباء بمعنى على، وذلك متعين بدليل تقييده للجواز بقوله: إن أجلا. انظر حاشية الشيخ محمد بن الحسن بناني. وجاز بنصف ما يحتطب عليها؛ يعني أنه يجوز للشخص أن يؤاجر دابته أو سفينته لمن يحتطب عليها أو يستقي وله نصف ذلك، ولا فرق بين أن يكون لهذا نقلة وللآخر مثلها، أو لهذا يوم وللآخر مثله، أو لهذا خمسة أيام وللآخر مثلها، كل ذلك جائز، وقوله: بنصف، كذا في غالب النسخ بالباء، وفي بعضها بإسقاط الباء، ونصف حينئذ بدل كل من الضمير المستتر في جاز؛ أي وجاز هو أي الكراء أي وجاز كراء هو نصف ما يحتطب عليها أي الدابة، وقوله: وجاز، قال عبد الباقي: وقيد الجواز بقيدين، أحدهما: أن يعلم ما يحتطب عليها بعرف أو غيره سواء قيد بزمن كاليوم لي وغدا لك، أم لا كنقلة لي ونقلة لك، كما في اللخمي، وهو المعتمد كما يفيده الحطاب والمواق. ثانيهما

(1)

: أن لا يزيد على الصيغة المذكورة ولا تأخذ نصفك إلا بعد بيعه مجتمعا أو بعد نقله مجتمعا لموضع كذا فيمنع كما ذكره ابن عرفة، واحترز بقوله: بنصف ما يحتطب عليها، من ثمن ما يحتطب عليها فلا يجوز لقوة الغرر لعدم انضباطه. اهـ. وقد مر أن هذا الذي احترز عنه هنا هو قوله: واعمل على دابتي فما حصل فلك نصفه، وقال عبد الباقي: ومثل الدابة الشبكة والسفينة في جواز كرائها بنصف ما يحمل عليها معينا من بلد معينة لا غير معين [من بلد غير

(2)

معينة] كنصف ما يحمل عليها مطلقا في السنة، فيمنع إلا لضرورة كما تقدم عن ابن سراج، ثم قال: فإن تلفت بعد أخذ العامل ما يخصه فلربها أن يأتيه بأخرى يعمل له عليها، ولابن القاسم في العتبية: له كراؤها وهو أبين، هذا في مسألة اليوم لك وغدا لي، وإن أخذ المالك ما يخصه في عكس هذا المثال ثم تلفت فعلى ربها أجرة عمله وليس له أن يكلف ربها دابة أخرى. اهـ. وقال الحطاب: وجاز بنصف ما يحتطب عليها، وكذا إن قال: ما تنقل اليوم لي وغدا لك أو تعمل عليها اليوم لي وتبيعه وتعمل عليها غدا لك فإن شئت بعته وإن شئت أخذته لنفسك، نقله ابن عرفة وغيره. انتهى.

(1)

في الأصل ثانيها والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 10

(2)

ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 10

ص: 37

تنبيهات: الأول: قال الحطاب: إذا قال: بنصف ما يحتطب عليها، جائز كما تقدم، وقد يعرض له ما يفسده كقوله: ولا تأخذ نصفك إلا بعد بيعه مجتمعا أو نقله لوضع كذا

(1)

مجتمعا. قاله ابن عرفة. الثاني: إذا وقع على الوجه الفاسد فالكسب بينهما نصفان ويرجع العامل على ربها بنصف إجارة مثله ويقوم لربها نصف كراء الدابة في ذلك العمل. قاله ابن عرفة. الثالث: في الطرر: فيمن أعطى دابته وفأسه مناصفة فضاع الفأس فضمانه على ربه ويحلف الأجير إن كان متهما. اهـ. الرابع: لو قال: اعمل على دابتي ولم يقيد باحتطاب ولا غيره. وإذا عملت فما حصل فلك نصفه فإنه فاسد كما عرفت؛ وإذا عمل فما حصل فهو للعامل وعليه أجرتها أي كراء مثلها لربها، وكذا يقال في السفينة. ذكره عبد الباقي عند قوله واعمل على دابتي لخ؛ وقد مر أن قوله نقلة لي ونقلة لك جائزة في مسألة المص، أعني قوله: وجاز بنصف ما يحتطب عليها، وخالف ابن يونس في ذلك فقال: إنه لا يجوز. والله سبحانه أعلم.

الخامس: قوله: وجاز بنصف ما يحتطب عليها، قد مر أنه يجوز أن يقول له: لك خمسة أيام ولي مثلها، وهذا بخلاف ما لو قال: شهرا لنفسك وشهرا لي، قال المواق: قال ابن المواز: ولو قال: خذ دابتي فاعمل عليها شهرا لنفسد وتعمل عليها شهرا لي لم يجز إلا في مثل الخمسة الأيام وشبهها؛ لأنه في الأول نقده منفعة دابة شهرا ليعمل له بعد شهر وقد منع مالك وابن القاسم النقد في إجارة عبد يؤخذ إلى عشرة أيام وأجازه ابن القاسم إن كان يؤخذ إلى خمسة، ونقل عن ابن رشد الجواز إن بدأ العامل بشهره والمنع إن بدأ بشهر رب الدابة؛ لأنه كمكتر دابة بنقد على أن يركبها بعد شهر وذلك لا يجوز اتفاقا. اهـ. قوله: إلى عشرة أيام، هذا مخالف لكلام غير واحد أنه يجوز النقد في نصف الشهر فدون، وما نقله عن ابن رشد من أن التفريق مشكل إذ كما يمتنع النقد في دابة تأخرت شهرا كذلك يمتنع في أجير تأخر شهرا كما في المواق عن الإمام، انظر البناني عند قوله: وأجير تأخر شهرا.

(1)

في الأصل كذلك والمثبت من الحطاب ج 6 ص 159 ط دار الرضوان

ص: 38

وصاع دقيق منه؛ يعني أنه يجوز الاستئجار طحن قمح أو غيره والأجرة صاع دقيق من ذلك القمح أو غيره. أو من زيت؛ يعني أنه يجوز الاستئجار على عصر زيتون والأجرة صاع من زيته. لم يختلف، قال عبد الباقي: لم يختلف كل منهما في الخروج فإن تحقق الاختلاف منع فيهما للغرر، كأن احتمل في الزيت ونحوه كبزر سمسم وحب فجل لحمله على الاختلاف كما في المدونة، لا في الحنطة لحملها على عدمه. اهـ. وفي الخرشي: أنه إذا اختلف خروج ما ذكر لم يجز، ولا يتأتى فيه التقييد الذي في البيع وهو الخيار لأن العمل هنا قد حصل فلا يمكن فسخ الإجارة إذا لم يكن جيدا. وقوله: وصاع، بالجر عطف على نصف والضمير في منه عائد على ما دل عليه دقيق وهو القمح، وقررت المصنف بأنه مسألتان إحداهما في الإجارة على طحن قمح مثلا والأخرى في الإجارة على عصر زيتون، وفُسِّر المص أيضا بأنه في الإجارة على طحن قمح مثلا فيجوز الاستئجار على طحنه بصاع دقيق منه، ويجوز أيضا الاستئجار على طحنه بقسط من زيت. والله سبحانه أعلم. وقال عبد الباقي عند قوله: وصاع دقيق منه أو من زيت لم يختلف، ما نصه: ثم المنع هنا مقيد بما إذا لم يخير كما في البيع إن اطلع عليه قبل العمل وإلا لم [يجر]

(1)

فيه قوله المار: إلا أن يخير لأن العمل قد حصل فلا يمكن فسخ الإجارة إذا لم يجده جيدا. اهـ. قال بناني عند قول عبد الباقي: ثم المنع هنا مقيد بما إذا لم يخير لخ يتصور شرط الخيار فيما إذا استأجره على طحن قمح بصاع دقيق من غيره أو بصاع من زيت زيتون قبل طحنه، كما جعلهما

(2)

الشارح صورة واحدة في كلام المص، فإذا رأى الصاع بعد طحنه كان بالخيار إن قبله عمل وإلا لم يعمل. اهـ. وقال التتائي: وجاز دفع قمح معين لطحان يطحنه على صاع دقيق منه أجرة طحنه أو على صاع من زيت زيتون قبل عصره إذا لم يختلف خروجه، هذا ظاهر كلامه، وعليه قرره الش، ويحتمل أنه يجوز عصر الزيتون بصاع من زيته إذا لم يختلف خروجه، وعليه قرره البساطي. اهـ. وقال المواق: من المدونة: لا بأس أن تواجر

(3)

على طحن إردب بدرهم وبقفيز

(1)

في الأصل يجز والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 10

(2)

في الأصل: جعلها، والمثبت من بناني ج 7 ص 10.

(3)

في المواق والتهذيب أن تؤاجره

ص: 39

من دقيق

(1)

إذ ما جاز بيعه جازت الإجارة به. ولو آجرته يطحنه لك بدرهم وبقسط من زيت زيتون قبل أن يعصرها

(2)

جاز ذلك، ولو بعت منه دقيق هذه الحنطة كل قفيز بدرهم قبل أن يطحنها جاز لأن الدقيق لا يختلف، فإن تلفت هذه

(3)

الحنطة كان ضمانها من البائع، وإن كان الزيت والدقيق مختلفا

(4)

خروجه إذا عصر أو طحن لم يجز ذلك فيه حتى يطحن أو يعصر؛ وقد خفف مالك أن يبتاع الرجل حنطة على أن على البائع طحنها إذ لا يكاد الدقيق يختلف، ولو كان خروجه مختلفا ما جاز. انتهى. وبهذا يتضح لك صحة رجوع قوله: لم يختلف، للدقيق والزيت، خلافا لمن رجعه للزيت. والله سبحانه أعلم.

واستئجار المالك منه؛ يعني أنه لو آجر زيد عبده أو دابته أو غير ذلك لعمرو مثلا فإنه يجوز لزيد المالك أن يستأجر تلك العين المستأجرة ممن استأجرها بمثل الأجرة الأولى أو أقل أو أكثر، إلا إن أدى ذلك إلى دفع قليل في كثير، كإيجاره بعشرة إلى شهر [واستيجاره]

(5)

بثمانية نقدا فيمتنع هنا ما يمتنع في بيوع الآجال ويجوز هنا ما جاز هناك؛ لأن الإجارة بيع منافع فحكمها كالبيع، قال الإمام الحطاب: واستئجار المالك منه يريد ما لم يود إلى دفع قليل في كثير اهـ وقال الخرشي: فقوله: واستئجار المالك؛ أي ما لم يمنع مانع من سلف جر نفعا أو بدل مستأخر أو صرف مستأخر أو غير ذلك. اهـ وقال الشبراخيتي: واستئجار المالك للعين منه؛ أي ممن استأجرها منه إلا أن تحصل تهمة سلف جر منفعة ونحوها مما يقتضي المنع كما تقدم في بيوع الاجال. اهـ. وقال المواق عند قوله: واستئجار المالك منه، ما نصه: ابن الحاجب: ويجوز استئجار المالك من المستأجر ويقوم الوارثون مقام المستأجرين. انتهى.

وتعليمُه بعمله سنة، بالرفع عطف على فاعل جاز، والباء للعوضية، وسنة تتعلق بعمله؛ يعني أنه يجوز لك أن تدفع غلامك إلى من يعلمه الصنعة الفلانية بخدمة سنة. قاله الخرشي. وقال

(1)

في المواق ج 5 ص 479 والتهذيب ج 3 ص 345 من دقيقه.

(2)

في التهذيب ج 3 ص 345 يعصر جاز.

(3)

في الأصل هذا والمثبت من التهذيب ج 3 ص 345.

(4)

في التهذيب ج 3 ص 345 يختلف.

(5)

في الأصل يستأجرها والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 10.

ص: 40

عبد الباقي: وجاز لمن له رقيق أو ولد تعليمه أي دفعه لمن يعلمه صنعة معينة بعمله للمعلم سنة مثار ظرف لقوله: عمله، وأما التعليم فمطلق.

من أخذه؛ يعني أن ابتداء السنة عند الإطلاق يكون من أخذ الغلام لا من يوم العقد، فإن عينا زمنا آخر لمبدئها عمل به. وفي المواق: من المدونة: إن دفعت غلامك إلى خياط أو قصار ليعلمه ذلك العمل بعمله سنة جاز. قال عيسى: والسنة من يوم أخذه. اهـ. وقال الشبراخيتي: وجاز لمن له رقيق أو ولد أو غيرهما تعليمه أي دفعه لمن يعلمه بعمله سنة لا مفهوم لقوله: سنة، وهو ظرف لقوله: بعمله، قطعا ويجوز أن يكون ظرفا لقوله: وتعليمه، ويجوز أن لا يكون ظرفا له لأن الإجارة تتقيد بالزمن وبالعمل كما يفيده ما يأتي عند قوله: ويوم أو خياطة ثوب مثلا، والظاهر أن هذا لا يختص بمن يعقل، وقوله: من أخذه صفة لسنة؛ أي سنة كائنة من أخذه أو خبر مبتدإ محذوف؛ أي وابتداء السنة من أخذه. قال عبد الباقي: فإن مات المتعلم نصف السنة وزع عمله على قيمة التعليم من صعوبة وسهولة وينظر ما ينوب قيمة تعليمه إلى موته وقيمة العمل، فإن حصل قدر ذلك للمعلم فلا كلام له وإن زاد له شيء رجع به كأن تكون قيمة العمل في السنة كلها [اثني]

(1)

عشر درهما وما استوفاه منه في نصفها قبل موته يعدل درهمين لضعف عمله في مبدثه مع صعوبة تعليمه فإنه يرجع بأربعة. انتهى. قوله: فإنه يرجع بأربعة؛ أي من قيمة التعليم زيادة على درهمي العمل، فيكون قد رجع بنصف قيمة التعليم، وهذا لا يناسب قوله قبل. وزع على قيمة التعليم من صعوبة وسهولة، فلو قال: يرجع بستة مثلا زيادة على درهمي العمل فيكون قد رجع بثلثي قيمة التعليم لكان صوابا؛ لأن التعليم في المبدإ أصعب منه في الانتهاء، وبهذا يناسب قوله المذكور. اهـ. وقال عبد الباقي: وما ذكرناه من أن المفضوض على مدة التعليم قيمة عمل الغلام هو المعتمد، واقتصر عليه التتائي وابن عرفة وهو المظاهر الموافق لما ذكروه فيما إذا تعذر بعض المنفعة المستأجرة وكانت مختلفة القيمة في أيام الإجارة، وجعل أحمد المفضوض أجرة المثل وفيه نظر، وإن عزاه لأبي الحسن واحتمله الشارح لأنها إجارة صحيحة،

(1)

في الأصل اثنتي عشر والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 10

ص: 41

وإنما يرجع لأجرة المثل في الفاسدة، والظاهر أن تعليم الدابة بعملها سنة مثلا كمسألة المص. اهـ. وقال الحطاب: قال أبو الحسن في الكبير بعد أن نقل عن عبد الحق والتونسي كلاما طويلا: تحقيق هذا الذي قالوه في مسألة الغلام أن معلم الصناعة باع منافعه بمنافع الغلام سنة، فإذا مات الغا، م عند تمام المدة فلا كلام، وإن مات قبل الشروع في المدة فلا كلام أيضا في فسخ الإجارة بينهما، [وإن مات]

(1)

قبل تمام المدة فلا بد من المحاسبة. اهـ المراد منه.

واحصد هذا ولك نصفه؛ يعني أنه يجوز له أن يقول لشخص احصد هذا الزرع ولك نصفه أو القط هذا الزيتون ولك نصفه، أو جذ نخلي هذا ولك نصفه، أو اجنه ولك نصفه، كل ذلك جائز وهي إجارة لازمة، والدراس والتذرية عليهما، وقوله: واحصد بكسر الصاد وضمها، قال عبد الباقي: وجاز قول رجل لآخر: احصد بضم الصاد وكسرها زرعي هذا ولك نصفه، وجذ نخلي هذا ولك نصفه، والقط زيتوني هذا ولك نصفه كما مر، وهي إجارة لازمة فليس له الترك، والدراس والتذرية عليهما، ويملك الأجير حصته بالحصاد، ولكن يمنع قسمة قتا لأنه خطر ويدخله التفاضل: بل يقسم حبا كما للتتائي، فإن اشترط قسمة حبا جاز لأنه اشترط ما يوجبه الحكم وهذا بناء على منع قسم الزرع القائم، وأما على جوازه فيمنع شرط قسمة حبا. اهـ. قال بناني: قول الزرقاني: ويملك الأجير حصته بالحصاد، فيه نظر بل يملكها بالعقد، قال عياض: والآتي على أصولهم في احصده ولك نصفه أنه وجب له بالعقد، قال: ألا تراهم جعلوا ما هلك قبل حصاده من الأجير فهو يحصد النصف له والنصف الآخر لنفسه. اهـ. وصرح بذلك ابن رشد أيضا. انظر المواق فيما تقدم. انتهى.

وما حصدت فلك نصفه: يعني أنه يجوز أن يقول شخص لآخر: ما حصدت أو لقطت أو جذذت فلك نصفه مثلا وهو جُعْلٌ، فليس بلازم وله الترك متى شاء، وذكر هذا هنا وإن كان من باب الجعالة لأن العامل هنا لما كان كل ما [عمل]

(2)

استحق أجرته أشبه الإجارة بهذا الاعتبار وإن كان

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من الحطاب ج 6 ص 159 ط دار الرضوان.

(2)

في الأصل عجل والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 11.

ص: 42

كل جزء مجاعلا

(1)

عليه. قاله أحمد. قاله عبد الباقي. وقوله: وما حصدت فلك نصفه، قال محمد بن الحسن بناني: عارض أبو الحسن بين الجواز في هذه وبين قولها: ما لا يجوز بيعه لا يجوز كونه ثمنا لجعل ولا إجارة وهذا لا يجوز بيعه. انتهى. ابن عرفة: والجواز في هذه مبني على الاكتفاء في علم قدر الجعل بالنسبة للجاعل بمجرد معرفة نسبته لا يحصل له، وبالنسبة للمجعول له بعلمه به حين [جعله]

(2)

اهـ. وهو مأخوذ من قول اللخمي: أجازوا الإجارة وإن كان لا يدري هل يحصد قليلا أو كثيرا إلا أن الأجير عالم بما يبيع به منافعه لأنه كلما أراد أن يقطع عرجونا أو يحصد موضعا إذا وضع يده عليه ليجذه علمه حينئذ قبل أن يجذه فيجذه على علم أن له نصفا. اهـ. وبه يندفع معارضة أبي الحسن. ثم الجواز مقيد بعدم تعيين الزمان وإلا فلا يجوز. ابن يونس: ومن المدونة: وإن قال: احصد اليوم أو القط اليوم وما اجتمع فلك نصفه فلا خير فيه؛ إذ لا يجوز بيع ما يحصد اليوم، وما لم يجز بيعه لم يجز أن يستأجر به مع ضرب الأجل في الجعل ولا يجوز في الجعل، إلا أن يشترط أن يترك متى شاء فيجوز. اهـ. وقال التتائي: وجاز أن يقول: ما حصدت فلك نصفه مثلا، زاد في المدونة: أو لقطت فلك نصفه جاز، وله الترك متى شاء لأنه جعل، وقال غيره لا يجوز؛ أي وهما روايتان، وأطلق المص هنا تبعا للمدونة؛ وقيد محمد هذا بما إذا علم كمية الزرع ونظر إليه وإن لم يعلم كميته لم يكن فيه خير. اهـ.

وإجارةُ دابة لكذا على أنه إن استغنى فيها حاسب، قال الخرشي: معطوف على فاعل جاز؛ أي وكذلك تجوز الإجارة إذا قال المكتري للمكري، أنا آخذ دابتك إلى المدينة مثلا بدينار وإن وجدت حاجتي في أثناء الطريق رجعت وحاسبتك بنسبة ما سرت عليها إذا لم ينقد الأجرة ليلا يصير سلفا تارة وثمنا أخرى، فلو قال: آخذها إلى المدينة بدينار وأيما بلغت من الأرض بعد ذلك فبحسابه لم يجز، فلو قال أجنبي لرب الدابة: إذا وصلت دابتك مع فلان إلى غاية سفره آخذها

(1)

في الأصل مجاعل والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 11

(2)

في الأصل فعله والمثبت من بناني ج 7 ص 11

ص: 43

منه إلى المكان الفلاني بدينار لم يجز لأن الكراء في الدابة المعينة لا يكون إلا مشروعا فيه كما في الش؛ أي إذا كان ذلك بشرط النقد وإلا جاز، وهو قوله: واستئجار مؤجر، فلا منافاة بين هذا وبين كلام المؤلف، ولا مفهوم لدابة وكان الأحسن أن يقول: كدابة ليدخل الدار والسفينة ونحو ذلك. اهـ. وفي الخرشي أيضا عن بعض الشراح: أشار المؤلف بهذه المسألة إلى أنه يجوز أن يكون العقد لازما من جهة المؤجر منحلا من جهة المستأجر، وكذلك يجوز عكسه، كما لو اكترى

(1)

له دارد وجيبة على أن يخرجه متى شاء، وقوله: لكذا؛ أي لموضع معلوم، مفهومه لو استأجرها لا لموضع معلوم بأن قال: يذهب بها حيث شاء، لا يجوز، وقوله: حاسب أي كان له بحساب ما سار وما بقي على حسب سهولة الطريق وصعوبتها. اهـ. وقال الخرشي أيضا: قوله: فيها، أي في المسافة المدلول عليها بقوله: لكذا؛ إذ هو غاية حذف مبدؤها للدلالة عليه بالغاية المستلزمة للبدء وهو موضع العقد فلم يلزم عود الضمير على غير مذكور. اهـ. وقال عبد الباقي: وجاز كراء دابة ودار أو سفينة لكذا أي إلى مدة معينة. اهـ المراد منه. فتحصل مما مر أن قوله: لكذا، معناه إلى أمد معين زمان أو مكان، وقوله: وإجارة دابة لخ، إنما جاز هذا مع أن مقتضى القياس منعه لأنه لا يدري ما أكرى دابته إليه هل إلى الغاية التي سماها فيستحق جميع الأجرة أو أقل فبحسابه؟ فقدر ما يصل إليه هنا غير معلوم حال العقد لأنه لما كان استغناؤه عنها أمرا غير محقق لم يعتبر لأن الطوارئ لا تعتبر والغالب عدم الحصول، وأيضا هو غرر يسير لم يقصد فاغتفر، وقوله: على أنه إن استغنى فيها حاسب، قال عبد الباقي: ويصدق في استغنائه لأنه أمين وأما إن كان إن زاد على المدة المعينة فله بحساب ما أكرى فإن عين غاية ما يزيد جاز أيضا وإلا منع للجهل به عند العقد، وأما إن جعل لما يزيد كذا من الأجر أزيد أو أنقص من الأجر الأول فيمتنع ولو عين غايته، لأنه من بيعتين في بيعة، وإن كان على أن لربها كراء المثل فيما يزيده منع أيضا ولو عين غايته، وأما إن قال: الرجعة ككراء الذهاب فيجوز إن اتفقا في الحمل

(1)

كذا في الأصل، ولعلها: كما لو أكرى له.

ص: 44

ونحوه وإلا فلا، والصور تسع بمسألة المص، ومسألته مقيدة بشرط عدم النقد، وكذا الأولى الجائزة من الثمانية وإلا منع للتردد بين السلفية والثمنية. اهـ. قوله: فيمتنع ولو عين غايته لأنه من بيعتين في بيعة: قال بناني: ما ذكره من المنع وعلته كلاهما غير ظاهرٍ وإن كان المنع هو ظاهر سماع أشهب، والظاهر الجواز إذ لا فرق في المعنى بين هذه والتي قال فيها قبلها: فإن عين غاية ما يزيد جاز، وهو قول ابن القاسم كما نقله ابن رشد. انظر الحطاب. اهـ. وقال عبد الباقي: لا ينخرط فيما يظهر في سلك مسألة المص الجائزة من يأخذ شمعة يمشي بها في زقاق على أن ما نقص يكون عليه كل أوقية بكذا، أو من يأخذ شقة كل ذراع بكذا على أنه إن استغنى عن بقيتها حاسب؛ لأن مسألة المص دخل على شيء معين بخلاف هاتين فالظاهر قياسهما على مسألة لا منها وأريد البعض، والخلاص فيهما أن يشتري قدرا معينا يظن فيه الكفاية على إن استغنى عن بعضه حاسب، أو على إن احتاج لشيء زائد عينه واشتراه بعد ذلك. انتهى. وفي الشبراخيتي: أشار المص بهذه المسألة إلى أنه يجوز أن يكون العقد لازما من جهة [الموجر]

(1)

منحلا من جهة المستأجر، وكذلك عكسه كما لو أكرى له داره وجيبة على أنه يخرجه متى شاء. انتهى.

تنبيهات: الأول: قال الحطاب: ولا مفهوم لقوله: دابة، [بل وكذلك]

(2)

غيرها إذ يجوز أن يستأجر الرجل [شهرا على أن يبيع]

(3)

له ثوبا على أن المستأجر متى شاء أن يترك ترك إذا لم ينقد، نقله في التوضيح عن المدونة، ومنعها سحنون، قال في البيان: والجواز أظهر، ووافق سحنون على الجواز في كراء الدار سنة على أنه إن خرج قبلها حاسب. انتهى. الثاني: قال الإمام الحطاب: فإن اكترى دابة لبلد معين على أنه إن لم يجد حاجته فيه تقدم إلى موضع آخر، فقال ابن رشد: في ذلك ثلاثة أقوال، أحدها: أن ذلك لا يجوز إلا أن يسمي الموضع الذي شرط أنه بالخيار في أن يتقدم إليه ويكون تبعا للكراء الأول ويحاسبه إن لم يكن تبعا للكراء الأول، والمراد بكونه تبعا أن يكون أقل من الأول. والله أعلم.

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من الشبراخيتي ج 1 خير مخطوط.

(2)

في الأصل: دابة، وكذا والمثبت من الحطاب ج 6 ص 160.

(3)

في الأصل شهرا ان بيع والمثبت من الحطاب ج 6 ص 160.

ص: 45

واستئجار مؤجر، بفتح الجيم؛ يعني أنه يجوز استئجار الشيء المؤجر؛ أي يجوز أن يستأجر الشيء المستأجر من هو بيده أو غيره سواء كان هذا الشيء المستأجر حيوانا أم لا كدار، وسواء كان الحيوان عاقلا كرقيق أم لا كدابة، وبكسر الجيم ولا يتكرر مع قوله: واستئجار المالك منه، لشموله استئجار المستأجر ما آجره لغيره، ولا يقال للعام إنه تكرار مع الخاص. قاله الشبراخيتي. وقال الخرشي: والمعنى أن العين المستأجرة دابة أو عبدا أو غير ذلك يجوز إجارتها لمن استأجرها ولغيره مدة تلي مدة الإجارة؛ وقال عبد الباقي: وجاز استئجار شيء مؤجر بفتح الجيم دابة أو عبدا أو دارا أو غيرها مدة تلي مدة الإجارة الأولى للمستأجر الأول، كلغيره إن لم يجر عرف بعدم إيجاره إلا للأول.

تنبيه: قال الإمام الحطاب: قال في كتاب الجعل والإجارة من معين الحكام: إذا اكترى دارا عشر سنين بعدد معلوم دفعه إليه وسكن الدار شهرا أو سنة ثم أراد اشتراءها من ربها فقال أبو بكر بن عبد الرحمن: شراء المكتري لها عندي جائز، وهو فسخ لما تقدم من الكراء، وعلى هذا لو انهدمت الدار قبل انقضاء أمد الكراء كانت المصيبة من المشتري إذ الكراء قد انفسخ، وقال الشيخ أبو عمران: شراء المكتري لها جائز ويكون ذلك فسخا للكراء ويكون بقية الكراء مضافة إلى ثمن الدار فيجعل ذلك كله ثمن الدار. اهـ. ثم قال بعد هذا: وقد اتفقا؛ يعني أبا بكر بن عبد الرحمن وأبا عمران على أن ذلك فسخ لا بقي من المدة، فقال أبو بكر: الثمن ما وقع به البيع دونه؛ وصوبه ابن سهل، وقال أبو عمران: الثمن ما وقع به البيع وما يجب لبقية المدة من الكراء. اهـ. وفيه أيضا: من واجر أمته لم يمنع من وطئها فإن حملت انفسخت الإجارة إذا كان الحمل منه، ومن واجر عبده ثم باعه فالإجارة أولى به، فإن كانت الإجارة كاليوم واليومين جاز البيع، وإن بعدت مدة الإجارة فسخ البيع، ونحو هذا في المدونة، قال أبو الحسن في الكبير: قال عبد الحق: وهذا إذا رضي المبتاع وإلا فله القيام بهذا العيب إذا لم يعلم (أنه في إجارة

(1)

)، وقال في معين الحكام أيضا: مسألة: لو آجره شهرا ثم باعه فلم يعلم المشتري حتى انقضى الشهر، قال بعض

(1)

في الأصل أنه غير ظاهر والمثبت من الحطاب ج 5 ص 160

ص: 46

المتأخرين: البيع ماض وهو كعيب ذهب وللمشتري أجرة الشهر أحب البائع أو كره، ويدخله بيع عبد وذهب بذهب لأن هذا أمر جرت إليه الأحكام، وقال بعضهم: الإجارة للبائع ويخير المشتري في أن يأخذه بغير إجارة أو يرده، ولا يجوز أن يتراضيا على أخذ العبد وإجارته. انتهى مند. وقيل: بل يقوم العبد على أن يقبض يوم عقد البيع، ثم يقوم على أن يقبض بعد شهر، فما نقص رجع بحصة ذلك من الثمن وهذا أحسنها صح منه وهو لأبي إسحاق. اهـ منه. وإن كان إنما علم بها بعد انقضاء الإجارة وكانت قريبة كاليوم واليومين يختلف هل له متكلم في إجارة هذين اليومين على ما سيأتي. اهـ. ويشير إلى الاختلاف المتقدم في الأمد البعيد. والله أعلم. وفي المدونة: يجوز للمؤاجر أن يبيع العين المستأجرة من المستأجر وغيره إن بقي من مدة الإجارة ما لا يكون غررا يخاف تغيرها في مثله خلافا لأبي حنيفة، ولأحد قولي الشافعي لقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ولأنه ليس في بيعها إبطال حق المستأجر لأن المشتري إنما يستلمها بعد انقضاء أمد الإجارة وكل تصرف لا يبطل حق المستأجر لا يمنع، وقال فيها أيضا: ويجوز بيع المستأجرة من مستأجرها وغيره والمنفعة للمستأجر إلى انقضاء الإجارة وللمؤجر جميع الإجارة، وفي جهل المشتري الإجارةَ يثبت الخيار له. انتهى. وقال ابن جزي في القوانين: ويجوز بيع الأرض والرباع الكتراة خلافا للشافعي، ولا ينفسخ الكراء ويكون واجب الكراء في بقية أمد الكراء للبائع، ولا يجوز أن يشترطه المشتري ليؤول إلى الربا إلا إن كان البيع بعروض، وإن لم يعلم المشتري أن الأرض مكتراة فذلك عيب وله القيام به، وفي كتاب الإجارة: ومن اكترى دارا أو أرضا مدة معلومة فلا بأس أن يبيعها من مكتريها قبل تمام المدة، ولا بأس أن يبيعها من غيره إذا أعلمه بالإجارة، فإن باعها منه ولم يعلم المشتري بالإجارة فهو عيب إن شاء المشتري رضي به وإن شاء رد، ولا سبيل إلى فسخ الإجارة قبل مضي المدة على كل حال للبائع دون المبتاع، قال التلمساني: لأنه ليس في ذلك أكثر من أنه باع دارا أو أرضا يتأخر قبضها مدة من الزمان لا يتغير في مثلها، ولا يجوز أن يشترط المشتري الإجارة لنفسه لأنه يدخله الذهب بالذهب متفاضلا؛ ثم قال مالك: ومن ساقى حائطا ثم باعه فالبيع ماض والسقاء ثابت لا ينقضه البيع. الأبهري: لأن عقد السقاء لزم كعقد الإجارة. انتهى.

ص: 47

أو مستثنى منفعته؛ يعني أنه يجوز استئجار شيء مستثنى منفعته كأن يشتري إنسان شيئا ويستثني بائعه منفعته مدة معينة تبقى فيها الرقبة غالبا، وصرح المص بأنها عام في الدار وسنون في الأرض وثلاثة أيام في الدابة لا جمعة، وكره المتوسط فللمشتري أن يؤجرها مدة تلي المدة التي استثناها البائع فيقبضها المشتري بعدها، وقوله: أو مستثنى، عطف على مؤجر ومنفعته بالرفع نائب فاعل مستثنى، وفي الخرشي عن الناصر اللقاني: من عقد على عين واستثنى منفعة من منافعها لا تفسد الإجارة بذلك، ولا يقال: إن ذلك شرط مناف للعقد كالبيع؛ لأن المبيع في الإجارة منفعة معينة، فللمؤجر أن يعمم وأن يخصص باستثناء أو غيره. انتهى. وقال المواق: ابن الحاجب: وتصح إجارة الرقبة وهي مستأجرة أو مستثنى منفعتها مدة تبقى فيها غالبا. اهـ. والنقت فيه؛ يعني أنه يجوز النقد في الشيء المؤجر والشيء المستثنى منفعته، ولم يثن

(1)

الضمير لأن العطف بأو فتجوز المطابقة وعدمُها؛ أي يجوز النقد فيما ذكر.

إن لم يتغير غالبا، راجع للمسائل الثلاث؛ يعني أنه يجوز استئجار الشيء المستثنى منفعته واستجار الشيء المستأجر، ويجوز النقد فيه إن لم يتغير غالبا بأن انتفى التغير غالبا؛ أي كان الغالب انتفاؤه بأن يغلب على الظن بقاؤه بحاله، فالحال قيد في النفي لما في النفي: فيجوز له أن يكري الدار مثلا إلى حد لا تتغير فيه غالبا وينقد، فأما ما لا يؤمن تغيرها فيه لطول المدة أو ضعف البناء وشبه ذلك فيجوز العقد دون النقد، ما لم يغلب الظن أنها لا تبقى إلى

(2)

المدة المعينة فار يجوز كراؤها إليها. قاله ابن شأس. وتحقيق ما أشرت إليه أن الصور ثلاث؛ لأنه إما أن يكون الغالب سلامة هذا الشيء إلى انقضاء مدة الإجارة أي الإجارة الثانية في المسألة الأولى والإجارة التالية لمدة الاستثناء، أو يكون الغالب تغيره فيها، أو يحتمل الأمرين على السواء، فإن كان الغالب التغير فلا إشكال في منع العقد، وحينئذ فلا نقد، وإن كان الغالب السلامة جاز النقد والعقد، وإن احتمل الأمرين جاز العقد عند ابن عرفة وابن شأس؛ وامتنع عند ابن الحاجب والتوضيح؛ إذا عرفت فقول المص: إن لم يتغير غالبا، يصح رجوعه للمسائل الثلاث على ما

(1)

في الأصل يبين والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 11.

(2)

في الأصل إلا والمثبت من المواق ج 3 ص 482 ط دار الفكر.

ص: 48

قررت به المص بأن معناه: إن كان الغالب انتفاء التغير فإنه حينئذ يجوز النقد، فأحرى العقد، فلو جعل معنى المص انتفى التغير الغالب شمل احتمال الأمرين، وحينئذ فلا يستقيم المعنى، سواء رجع الشرط لقوله: واستئجار مؤجر، أو مستثنى منفعته، لاقتضائه أن النقد يجوز في احتمال الأمرين، وليس كذلك إذ الخلاف حينئذ إنما هو في العقد لا النقد، أو رجع له ولما بعده لأجل ذلك؛ أو رجع لقوله: والنقد فيه فقط، لاقتضائه ذلك ولاقتضائه أيضا أن العقد جانز في الصور الثلاث وليس كذلك، والله سبحانه أعلم.

تنبيه: قال عبد الباقي: وعلم مما مر أن مدة الاستثناء في الإجارة مساوية لمدته في البيع إلا في الدابة فإنه لا يجوز في البيع أن تكون مدة الاستثناء جمعة كما أشار له بقوله فيما يأتي "وبيعها واستثناء ركوبها الثلاث لا جمعة وكره التوسط" وقال في كرائها: وكراء دابة إلى شهر إن لم ينقد. اهـ. وما قدمته من أن المراد بقوله: إن لم يتغير غالبا في المدة الثانية هو الذي قاله بناني، وهو المظاهر لأن الكلام في جواز الإجارة للمؤجر أو المستثنى منفعته ويستثنى من مفهوم قوله: إن لم يتغير غالبا قوله: الآتي "وأرض غمر ماؤها وندر انكشافه".

وعدم التسمية لكل سنة؛ يعني أنه يجوز للشخص أن يستأجر الرقبة سنين معلومة بأجرة وإن لم يسم ما يخص كل سنة من الأجرة، كما يجوز له أن يستأجر الرقبة مدة سنة بأجرة معلومة وإن لم يسم ما يخص كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر من الأجرة، قال عبد الباقي: وجاز عقد إجارة شيء سنين أو شهرا أو أياما معلومة بأجر معلوم مسمى مع عدم التسمية لكل سنة ما يخحها منه، فإن كانت سنة تخالف سنة أو شهرا

(1)

أو أياما كذلك كدور النيل بمصر ودور مكة وحصل مانع فإن [شرطا]

(2)

الرجوع للتقويم

(3)

جاز اتفاقا، أو للتسمية لكل مدة

(4)

منع اتفاقا، وإن سكتا رجعا للقيمة على المذهب وقضي بها. اهـ. وقال الحطاب: فإن شرطا الرجوع للتسمية دون القيمة امتنع اتفاقا: وإن دخلا على السكت فمذهب ابن القاسم وروايته في المدونة أن التسمية لغو

(1)

في عبد الباقي ج 7 ص 12: أو شهر أو أيام كذلك.

(2)

في الأصل شرط والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 12.

(3)

في الأصل وعبد الباقي للتقديم والمثبت من العدوي على الخرشي ج 7 ص 11.

(4)

في الأصل حدة والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 12.

ص: 49

ويقضى بالقيمة، وهو قول أصبغ وسحنون، ولمالك في العتبية أن الكراء فاسد. ذكر ذلك في البيان. والله أعلم. اهـ.

وكراء أرض لتتخذ مسجدا مدة؛ يعني أنه يجوز كراء الأرض لمن يتخذها مسجدا مدة الإجارة؛ إذ لا يشترط في الحبس التأبيد، كما يأتي في باب الوقف، وقوله: مدة؛ يتنازعه كراءُ وتُتَّخَذَ.

والنقض لربه إن انقضت؛ يعني أنه إذا اكترى الأرض ليبني بها مسجدا فإن ذلك جائز كما عرفت، فإذا بنى مسجدا فيها وانقضت مدة الإجارة فإن النقض يكون لرب المسجد الذي بناه فيصنع به ما شاء، فليس كمسجد استحقت أرضه فهذا يجعل نقضه في آخر لأنه أخرج لله على التأبيد، وقوله: والنقض لربه؛ أي وليس لرب الأرض دفع قيمة البناء ليبقيه دارا لأنه لا ينتفع به مع بقاء صورة المسجد لحرمته، إلا أن يريد إبقاءه مسجدا مؤبدا فله ذلك ولا ينقضه؛ نقله بهرام عن ابن يونس. وفي الحطاب عن ابن عرفة: أن هذا فيما لا يوقف

(1)

بناء الدار ولا يصح بقاؤه للسكنى، وأما ما يصح بقاؤه لها فإن لم يجعله الباني حبسا فلرب الأرض أخذه بقيمته منقوضا، واختلف إن حبسه هل يأخذه بقيمته؟ واستحسن اللخمي أن له ذلك، وما مر من أن الباني يصنع بالنقض ما شاء هو المذهب، وقيل: يجعل في حبس كما لو استحقت كما في التتائي، أو غصب أرضا وبناها مسجدا كما في الاستحقاق عند قوله: وله هدم مسجد فإنه يجعل النقض في حبس فيهما، والفرق أنه دخل في مسألة المص هنا على تحبيسه مدة

(2)

وفي هاتين على التأبيد. قاله عبد الباقي. وقوله: إلا أن يريد بقاءه حبسا مؤبدا، مقتضاه أنه لو أراد ابقاءه مسجدا لا على التأبيد فللثاني

(3)

الامتناع. قاله عبد الباقي. قال: واختلف كما في الحطاب إذا استأجرها مدة وبناها بيتا وقفه على مسجد معين وانقضت مدة الإجارة فهل لربها دفع قيمته منقوضا إن

(1)

في الحطاب ج، م ص 163 يوافق.

(2)

في الأصل مدة في والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 12.

(3)

كذا في الأصل والذي في عبد الباقي ج 7 ص 12 فللباني.

ص: 50

أبقاه وقفا على حاله؟ كما تقدم في المسجد أو له ذلك ليتملكه لأنه

(1)

ليس له حرمة المسجد. اهـ. وهذا معنى ما مر عن الحطاب عن ابن عرفة. والله سبحانه. أعلم.

وعلى طرح ميتة؛ يعني أنه يجوز الاستئجار على طرح ميتة ونحوها كعذرة وكنس مرحاض، وعبر بطرح وعدل عن حمل لشموله لحملها للانتفاع بها على الوجه المحرم لأنه لا تجوز الإجارة على ذلك، قال عبد الباقي: وهذا عطف على فاعل جاز، لكن بتقدير عامل مخصوص وهو استئجار، واغتفر عمل المصدر محذوفا لكون معموله جارا ومجرورا، وذكر الشارح عن المدونة ما نصه: ولا يلبس الرجل جلد الميتة للصلاة. ابن يونس: وأما لغير

(2)

الصلاة فجائز. اهـ. وهذا من باب الانتفاع بالنجس لا بالمتنجس، وقد مر أن قوله: لا نجس، يستثنى منه جلد الميتة المدبوغ، ولفظ المدونة: ولا يؤجر على طرح الميتة بجلدها لأنه لا يجوز بيعه وإن دبغ، ولا يصلى عليه ولا يلبس. اهـ. قال ابن يونس: أي للصلاة، وأما لغير الصلاة فجائز ويجري هنا وتصدق بالكراء حيث استؤجر على حملها على الوجه المحرم، وفي المدونة: قال ابن القاسم: ولا بأس بالإجارة على طرح الميتة والدم والعذرة. اهـ.

والقصاص؛ يعني أنه يجوز الاستئجار على القصاص، ومعنى ذلك أن من وجب له قصاص على شخص وثبت عند الحاكم وأسلم لمستحقه فإنه يجوز له أن يستأجر من يقتص له من غريمه؛ ومن المدونة: من قتل رجلا ظلما بأجر فلا أجر له، ومن وجب لهم الدم قِبَل رجل فقتلوه قبل أن ينتهوا به إلى الإمام فلا شيء عليهم إلا الأدب، ليلا يجترأ على الدماء، ولا يمكن الذي له القود في الجراح أن يقتص لنفسه ولكن يقتص له من يعرف القصاص بأرفق ما يقدر عليه، وأجرة ذلك على من يقتص له، وأما في القتل فإنه يدفع إلى ولي القتول فيقتله وينهى عن العبث فيه. ومن المدونة أيضا: لا بأس بالإجارة على قتل قصاص، يريد وقد ثبت ذلك في حكم قاض عدل. نقله المواق. وقال عبد الباقي: وجاز إيجار على القصاص؛ أي إذا أسلم الحاكم قاتلا لأولياء المقتول فيجوز لهم الاستئجار على القصاص الثابت بحكم قاض عدل كجائر إن علم صحة ذلك وعدالة

(1)

في الأصل لأن والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 12.

(2)

في الأصل غير والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 12.

ص: 51

البينة. اهـ. وقال الشبراخيتي: والقصاص كقتل وقطع وجرح، ومثله القطع للسرقة والحرابة ونحو ذلك. اهـ.

والأدب؛ يعني أنه يجوز الاستئجار على الأدب الثابت موجبه، قال عبد الباقي: والأدب الثابت موجبه فللأب والسيد الاستئجار عليه. انتهى. وقال الشبراخيتي: وعلى الأدب لعبده أو لولده، ويشمل من وجب عليه لجناية، لكن قال البساطي: الأول هو المنصوص، قال في الشرح: قال في كتاب الرجم: إذا دعاك إمام عادل عارف بالبينة إلى قتل رجل وأنت لا تعرف صحة ما حكم به فعليك طاعته، وأما الجائر فلا إلا أن تعلم صحة ذلك وعدالة البينة، وكان بعض جلساء أمير المؤمنين قال لأبي حنيفة بين يدي أمير المؤمنين، أتنفذ أمره أم تتوقف؟ فقال له: يا أمير المؤمنين بحق أم بباطل، فقال: بالحق، فقال أنفذوا الحق حيث وجدتموه.

(1)

اهـ.

تنبيه: قال الشارح هنا: لو قال شخص لآخر: أحرق ثوبي أوألقه في البحر ففعل فلا غرم عليه. اهـ. ويحرم ابتداء فعل ذلك لأنه من إضاعة المال النهي عنه، كذا ينبغي قاله شيخنا. اهـ كلام الشبراخيتي. وقال الخرشي: واحترز بالقصاص مما لو استأجره على أن يقتل له رجلا ظلما أو غير ذلك من المحرمات فإنه لا يجوز، فإن نزل ذلك وفعل فعليه القصاص ولا أجر له كما يأتي عند قوله: ولو قال: إن قتلتني أبرأتك، فلو قال: اقتل عبدي أو أحرق ثوبي وشبه ذلك ففعل فلا شيء عليه لأنه أباحه له، وهذا هو المشهور؛ أي لا غرم عليه، وأما ابتداء فيحرم لأنه من إضاعة المال المنهي عنها، كذا ينبغي؛ كما قاله الشيخ كريم الدين. وقوله: والقصاص، وكذلك القطع والسرقة والحرابة ونحو ذلك، ولو قال: والاستيفاء ليشمل حقوق الله وحقوق العباد كان أحسن؛ وقوله: والأدب، ويصدق الأب والسيد في أن الولد والعبد فعلا ما يوجب الأدب، ويصدق في الزوجة أنها فعلت ما تستوجب به الفرب. اهـ. وقال الحطاب: قال اللخمي: الإجارة على القتل والجراح جائزة إذا كان عن قصاص أو لحق الله تعالى، ولا يستأجر في ذلك إلا من يرى أنه يأتي الأمر على وجهه، ولا يعبث في القتل ولا يجاوز في الجرح. انتهى. وفي المدونة: ولا بأس

(1)

في الأصل وجد نحوه والمثبت من الشبراخيتي ج أخير مخطوط.

ص: 52

بالإجارة على قتل قصاص أو على ضرب عبدك وولدك للأدب، وأما لغير ما ينبغي من الأدب فلا يعجبني. اهـ. وفي الميسر: ولو قال: اقتل عبدي بأجرة أو غيرها فقتله ضرب مائة وحبس سنة، وهل للسيد عليه قيمته؟ وهو لأشهب، أو لا وصوبه أبو محمد، كما لو قال: احرق ثوبي، ففعل فلا قيمة لأنه أباحه له، نقله بهرام وغيره. انتهى.

وعبد خمسة عشر عاما؛ يعني أنه يجوز استئجار العبد خمسة عشر عاما ولو بالنقد ولو بشرط، كما ذكره الزرقاني والتتائي والحطاب، ونحوه لأبي الحسن، وأما الدابة فحد إجارتها سنة، إلا أن يكون في سفر فغاية ذلك الشهر، قال فيها: لا بأس بإجارة العبد عشر سنين أو خمس عشرة

(1)

سنة، ولا أرى به بأسا، والدار أبين أن ذلك فيها جائز، ويجوز تقديم الأجرة فيها بشرط. ابن يونس: تجوز إجارة الدار ثلاثين سنة بالنقد والمؤجل لأنها مأمونة. انتهى من المواق. وقوله: وعبد، عطف على مؤجر، قاله الخرشي؛ وفي نقل الخرشي: وينظر للصغير والكبير والشيخ والهرم والدابة الصغيرة والكبيرة والقوية والضعيفة، ولا شيء أحسن من قول المؤلف: والنقد فيه إن لم يتغير غالبا، فينظر في هذا للسن والقوة والضعف، وليس معناه أن كل عبد يستأجر خمسة عشر عاما. انتهى. وقال عبد الباقي: وتجوز إجارة دار جديدة وأرض مأمونة إلى ثلاثين سنة بالنقد والمؤجل لأمن البناء والري، فإن كانت الدار قديمة فدون ذلك قدر ما يرى أنه يؤمن سلامتها غالبا، والأرض غير المأمونة الري يجوز العقد بغير، نقد ومحل جواز إيجار العبد المدة المذكورة إن لم يتغير غالبا. اهـ. قال محمد بن الحسن محشيه: هو نحو قول اللخمي: وأرى أن ينظر في ذلك إلى من العبد، ولعله قصد به تقييد المدونة. انتهى. وفي الحطاب عن اللخمي: أن أمد الإجارة يختلف باختلاف العادة، فيختلف الحيوان باختلاف العادة في أعمارها، فالبغال أوسعها أجلا لأنها أطول أعمارا، والحمير دون ذلك، والإبل دون ذلك، والملابس في الأجل مثل ذلك، فيفترق الأجل في الحرير والكتان والصوف، والقديم والجديد فيضرب من الأجل بقدره.

(1)

في الأصل وخمس عشر والمثبت من التهذيب ج 3 ص 368

ص: 53

ويوم بالجر عطف على المالك؛ يعني أنه يجوز تحديد الإجارة بزمن معلوم كيوم مثلا؛ أي وجاز الاستئجار على عمل يوم يخيط له فيه مثلا.

أو خياطة ثوب؛ يعني أنه يجوز تحديد الإجارة بعمل كخياطة ثوب، قال الخرشي مفسرا للمص: يعني أنه يجوز أن تحد الإجارة بزمن كيوم أو شهر أو عام، وأن تحد أيضا بعمل كخياطة ثوب أو جبة وما أشبه ذلك، ونبه المص بقوله: مثلا، على أن الجواز ليس مقصورا على المثالين المذكورين، وقوله. مثلا، مفعول مطلق أي أمثل لك مثلا. قاله الخرشي. ومصب الجواز انفراد أحد الأمرين لأن جمعهما مختلف فيه كما يأتي، وأما أصل التقييد فيجب لأن شرط المنفعة أن تعلم إما بأجل أو بغاية عمل، كخياطة أو بناء دار أو طحن قفيز وحمل شيء إلى بلد معين أو ركوب دابة إليه، فالعمل إن علم قدره كخياطة ثوب ونحوها لم يحتج لأجل، وإن لم يعلم قدره كالسكنى والخدمة والركوب فلا بد من أجل أو حد مسافة الحمل والركوب. قاله في اليسر.

وهل تفسد إن جمعهما وتساويا أو مطلقا خلاف؛ يعني أنه إذا جمع بين العمل والزمن، كما إذا قال له: خط هذا الثوب في هذا اليوم بدرهم، ففيه خلاف بين الأشياخ، فقال بعضهم: إن تساويا أو كان العمل أكثر من الزمن فسدت، وعليه إن كان الزمان أكثر جازت؛ وقال بعضهم: تفسد مطلقا، وعلله في الجواهر بأن العمل ربما تيسر في اليوم أو بعده، والحاصل أنك تقول: إن كان الزمان أوسع من العمل بكثير فيجوز بلا خلاف، وإن كان أضيق من العمل عادة فالمنع بلا خلاف، وفي التساوي قولان. قاله ابن عبد السلام. وقال ابن رشد: فإن كان الأمر في ذلك مشكلا فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز، وإن كان لا إشكال

(1)

في أن العمل يمكن تمامه قبل انقضاء الأجل فقد قيل: إن ذلك جائز، والمشهور أن ذلك لا يجوز. قاله الحطاب. وقال: فالضيق لا يجوز، والمساوي لا يجوز أيضا عند ابن رشد باتفاق، وعند ابن عبد السلام على أحد المشهورين، وإلى اتفاق ابن عبد السلام هذا ومشهور ابن رشد أشار بالخلاف، فالضيق لم يتعرض له لأنه واضح الفساد، ولأنه لما لم يحك قولا بالجواز مع التساوي عُلِمَ أن الضيق أحرى منه، فقوله: وتساويا

(1)

في الأصل: وإن الاشكال، والمثبت من الحطاب ج 6 ص 164 ط دار الرضوان والبيان ج 8 ص 411.

ص: 54

مفهومه أنه إن لم يتساويا يريد بأن كان أوسع فلا تفسد على القول الأول، ثم قال: أو مطلقا، أي تفسد مطلقا سواء كان متساويا أو واسعا خلاف. والله أعلم. قال

(1)

في شرح مسألة في أول رسم من سماع أشهب: فعلى القول بأن ذلك لا يجوز يكون للأجير إن فاتت الإجارة بالعمل أجرة مثله بالغة ما بلغت على تعجيلها أو تأخيرها، وأما

(2)

على القول بأن ذلك جائز فإن فرغ منه في اليوم الذي سمى كانت له الإجارة المسماة، وإن لم يفرغ منه إلا بعد ذلك كانت له إجارته على غير التعجيل؛ لأن المستأجر إنما رضي [بما رضي]

(3)

به من الأجرة على التعجيل، فإذا أخطأ ذلك لم ينبغ أن [يؤخذ]

(4)

ماله باطلا. اهـ. وقال الخرشي: وأما على القول بالصحة فإن عمله في الزمن الذي عين له فله المسمى، وإن عمله في أكثر فيقال: ما أجرته على عمله في الزمن الذي سماه له؟ فإذا قيل: خمسة مثلا، فيقال ما أجرته على عمله في الزمن الذي عمله فيه؟ فإذا قيل: أربعة، حُطَّ عنه من المسمى خمسة؛ لأنه لم يرض بتلك الأجرة التي سماها إلا على عمله في الزمن الذي سماه، وقوله: أو مطلقا عطف على معنى تساويا؛ أي وهل تفسد الإجارة إن جمعهما مع التساوي أو مطلقا. اهـ. وعلم مما قررت أن كلام المص في الاستصناع وغيره كركوب دابة لموضع معين وضرب لذلك أجلا. والله سبحانه أعلم. وبيع دار لتقبض بعد عام؛ يعني أنه يجوز لك أن تبيع دارا في تستثني منفعتها عاما فيقبضها المشتري بعد مضي عام وبعد أن ذكر في التوضيح الخلاف في ذلك قائلا: أجاز ابن القاسم استثناء سكنى الدار ما بينه وبين العام ولم يجز أكثر من ذلك لما يخشى من تغيرها، وأجاز ابن حبيب السنتين، وقيل: السنة ونصف لخ قال: والخلاف في حال لا في فقه، فإن كانت المدة لا يتغير فيها غالبا جاز. اهـ. ويوافقه قول المواق:

(5)

من المدونة وغيرها: يجوز بيع الدار واستثناء سكناها مدة لا تتغير فيها غالبا، وبه تعلم أن ما هنا من التحديد غير معتمد. والله تعالى أعلم. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني.

(1)

في الأصل قله والمثبت من الحطاب ج 6 ص 165

(2)

في الأصل فأما والمثبت من البيان ج 8 ص 447 والحطاب ج 6 ص 156 ط دار الرضوان

(3)

ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل والمثبت من البيان ج 8 ص 447 والحطاب ج 6 ص 165 ط دار الرضوان

(4)

في الأصل يأخذ والمثبت من الحطاب ج 6 ص 165 ط دار الرضوان.

(5)

في الأصل المؤلف والمثبت من بناني ج 7 ص 14

ص: 55

أو أرض لعشر، يعني أنه يجوز له أن يبيع أرضه ويستثني منفعتها عشر سنين ويقبضها المشتري بعد ذلك. قال الخرشي: قال في المدونة وكذلك يجوز له أن يبيع أرضه ويستثني منفعتها عشرة أعوام ويقبضها المشتري بعد ذلك لقوة الأمن. قاله في التوضيح عن ابن القاسم. اهـ. وقال عبد الباقي: وبيع أرض واستثناء البائع منفعتها لعشر من السنين على أن تقبض بعدها لقوة الأمن فيها، فاغتفر فيها بيع معين يتأخر قبضه، وأما الحيوان فلا يجوز استثناء منفعته أكثر من عشرة أيام لسرعة التغير فيه كذا لبعض. اهـ. قال التاودي: مقتضاه جواز استثناء عشرة أيام في الحيوان، ويأتي للمص: وبيعها واستثناء ركوبها الثلاثَ لا جمعة لخ، اهـ. وقال عبد الباقي ما نصه: وقال أحمد: المشهور جواز العقد على منفعة عبد أو دابة لتقبض بعد شهر، وإنما يمنع بشرط النقد خاصة. انتهى. قال محشيه محمد بن الحسن: ما قاله أحمد هو قول المدونة ونصها: وأما إن اكترى الراحلة بعينها على أن لا يركبها إلى ثلاثين يوما ونحوها فلا يجوز الكراء بالنقد ويجوز بغير النقد. اهـ. وقال عبد الباقي: ولم يذكر المص هنا إيجار دار على أن تقبض بعد عام يستثنيه المؤجر لأنه داخل في قوله قبل "واستئجار مؤجر أو مستثنى منفعته" ويجوز النقد في ذلك، فإن أوجرت لتقبض بعد أكثر من عام جاز العقد لا النقد، وضمانها في مدة الاستثناء الجائز وما زيد عليها من المشتري؛ لأن الضمان منه في الصحيح بالعقد، وفي الممنوع من البائع؛ لأنه بيع فاسد لم يقبض، وعلم مما قررنا أن اللام في لعشر بمعنى بعدَ، ويصح جعلها بمعنى إلى، وعلى كل فهو معطوف على بعد عام المعمول لتقبض، كما أن قوله: أوأرض بالجر عطف على دار ففيه العطف على معمولي عاملين مختلفين وهو لا يجوز على الصحيح. اهـ.

تنبيهان: الأول: وجه ذكر هاتين المسألتين هنا أنه إذا باع الدار مثلا بمائة لتقبض بعد عام فقد باعها بالمائة والانتفاع بالدار تلك المدة، ولا شك أن الانتفاع من الإجارة فهي لها ارتباط بهذا الباب، ويقال مثل ذلك في قوله أو أرض لعشر. الثاني: قال عبد الباقي: قال أحمد: فإن انهدمت الدار في مدة الاستثناء فلا رجوع للبائع فيما اشترطه من السكنى في قول ابن القاسم إلا أن يبنيها المبتاع في أثناء المدة فيسكنها البائع إلى تمام السنة، ومثل هذا الدابة تباع ويشترط البائع ركوبها اليوم واليومين، فإن تلفت الدابة فمصيبتها من المبتاع ولا يرجع البائع على

ص: 56

المشتري بما ينوب الركوب. اهـ. ومن الممنوع شراء شيء بعينه على أن لا يقبضه المبتاع إلا إلى أجل إلا ما له وجه، كبيع دار واستثناء سكناها شهرا، أو دابة يستثني ركوبها يومين، أو زرع يبس على كيل يتأخر خمسة عشر يوما، أو تمر كذلك. قال مالك: ومن اشترى طعاما بعينه على شرط أن يكتاله إلى يومين أو ثلاثة لا بأس بذلك. قال ابن القاسم: وكذلك السلع كلها عندي وهو فيها أبين. انتهى.

واسترضاع؛ يعني أن الإجارة على الاسترضاع جائزة لنص القرآن العزيز وللضرورة الداعية إلى ذلك، فلا يدخل في قوله الآتي: بلا استيفاء عين قصدا، وسواء كانت أجرة الظئر نقدا أو عرضا أو طعاما، ولا يكون من بيع الطعام بالطعام إلى أجل، وقوله: واسترضاع.

قال مفيده عفا الله عنه: الظاهر أنه في الآدمي وغيره، قال عبد الباقي: ولو كان الرضيع محرم الأكل جاز أن تكون

(1)

له حمارة ترضعه للضرورة. اهـ. ونحوه في الخرشي وغيره. وقال بناني عند قول عبد الباقي: ولا يكون من بيع الطعام بالطعام ما نصه: قال في المدونة: وكذلك إن اشترطت عليهم طعامها وكسوتها. ابن يونس: ولا يدخل في ذلك طعام بطعام إلى أجل؛ لأن النهي إنما ورد في الأطعمة التي جرت عادة الناس أن يقتاتوا بها ويأتدموها، وأما الوضاع فقد جرى العمل على جوازه في مثل هذا ولا خلاف فيه، ولأن اللبن الذي يرضعه الصبي لا قدر له من الثمن، وإنما أكثر الإجارة لقيامها بالصبي وتكلفها مؤنته، فكان اللبن في جانب ذلك لا قدر له. انتهى. وقال المواق: من المدونة قال مالك: لا بأس بإجارة الظئر على رضاع الصبي حولا وحولين بكذا، وكذلك إن شرطت عليهم طعامها وكسوتها فهو جائز. ابن حبيب: وذلك معروف على قدرها وقدر هيئتها وقدر أبي الصبي في غناه وفقره. ابن يونس: ولا يدخل في ذلك طعام بطعام إلى أجل، إلى آخر ما مر.

والعرف في كغسل خرقه، مبتدأ وخبره؛ يعني أن العرف يتبع في غسل خرق الصبي وشبهه، فإن جرى العرف بذلك على أحد كان عليه، وإن لم يكن عرف كان ذلك على الأب، قال عبد

(1)

في الخرشي ج 7 ص 13: أن تكرى.

ص: 57

الباقي: والعرف معتبر أو يعتبر أو يحملان عليه في كغسل خرقه وحميمه ودق ريحانه ونحو ذلك إن وجد عرف، وإلا فعلى الأب على المعتمد. انتهى. وقوله: وحميمه، قال بناني: قال عياض: تحميم الصبيان غسلهم بالحميم وهو الماء الحار. اهـ. وقال الخرشي: وأما غسل خرقه وجسمه ودهنه ودق ريحانه فيحمل ذلك على عرف الناس، فإن لم يكن عرف فليس عليها غير الرضاع إلا لشرط، وقوله: واسترضاع، قال اللخمي: هذا إذا كان الولد حاضرا لترى سنة وتعلم قوة رضاعة، فإن كان غائبا فإنك لا يجوز إلا بعد معرفة سنة، وتجوز الإجارة بالدنانير والدراهم والعروض والطعام. اهـ. وقال المواق: من المدونة: ويحملون فيما يحتاج إليه الصبي من المؤنة في غسل خرقه وحميمه ودهنه ودق ريحانه وطيبه على ما تعارفه الناس. اهـ. وقال التتائي: والعرف عند الناس يحملان عليه في كغسل خرقه وربطه في تحميمه وحمله. اللخمي: ما يحتاج إليه الولد من ريحانٍ أو زيت أو غسل خرقه غير داخل في الأجرة إلا أن تكون العادة أنها فيما لها. ابن حبيبْ فإن لم يكن عرف فليس عليها غير الإرضاع إلا لشرط. اهـ. وقوله: والعرف في كغسل خرقه، هو محل اتفاق، فإن لم يكن عرف فالمشهور أنها على الأب كما عرفت، وقيل: على الظئر. انظر الحطاب.

ولزوجها فسخه إن لم يأذن؛ يعني أن المرأة إذا آجرت نفسها للرضاعة بغير إذن زوجها فإن له أن يفسخ الإجارة لما يلحقه من الضرر: وسواء كان له ولد منها أم لا، كانت شريفة أم لا وله أن يجيزه، فلو لم يعلم زوجها بذلك إلا بعد أن طلقها فليس له فسخه، والمذهب أن الشريفة إذا آجرت نفسها لرضاع ولد غيرها أن الإجارة لازمة لها ليس لأبيها ولا أخيها فسخه، وقال اللخمي: أرى لأبيها أو أخيها الفسخ إذا أدركه معرة من ذلك. قاله الخرشي وغيره. وقوله: ولزوجها فسخه إن لم يأذن فإن لم يعلم إلا بعد مدة فما مضى من الأجرة لها دون الزوج إذ ليس له منها إلا منافع الأشياء الباطنة؛ وقوله: إن لم يأذن فإن أذن فلا؛ وفي الحطاب: قال فيها: وترضعه حيث اشترطوا وإن لم يشترطوا موضعا فشأن الناس الإرضاع عند الأبوين إلا امرأة لا يرضع مثلها عند الناس، أو يكون الأب وضيعا لا يرضع مثلها عنده فذلك لها، وقال أبو الحسن اللخمي: ورضاع الولد في بيتها إلا أن تكون العادة رضاعه عند أبويه. اهـ. وقال المواق: من

ص: 58

المدونة قال مالك: وليس لزوجها وطؤها إن واجرت نفسها بإذنه وإن كان بغير إذنه فله أن يفسخ إجارتها.

كأهل الطفل إذا حملت، التشبيه في فسخ الإجارة يعني أن الظئر المستأجرة للرضاع إذا حملت فلأهل الطفل ولو أما ولذا عبر بأهل دون ولي أن يفسخوا الإجارة لأن لبنها حينئذ يضر بالطفل، ولها بحساب ما أرضعت؛ وفي الحطاب: قوله: كأهل الطفل إذا حملت ولهم فسخ الإجارة إلا أن يخاف على الصبي الموت فيكون عليهم فسخ الإجارة، وإن خيف عليه ضرر غير الموت فيكون لهم تركه ولكن على الكراهة؛ قال أبو الحسن: وهذا والله أعلم إذا لم يتحقق الضرر. وفي المدونة: ولا يلزمها أن تأتي بغيرها. أبو الحسن: ولا يلزم الأب ذلك إذا طلبته هي وإن تراضيا على ذلك، فإن كان نقدها الأجرة فلا يجوز لأنه فسخ دين في دين على أصل ابن القاسم، وإن لم ينقد جاز. اهـ. وقال الشيخ محمد بن الحسن بناني: وقع في الخرشي ما نصه: فإن كانت أكلت الأجرة لم تحسب عليها لأنه تطوع بدفعها. قاله ابن عبد السلام. اهـ. وانظره فإنما نقله في التوضيح عن ابن عبد الحكم ولعله مقابل كما يعلم فتأمله مع ما في التوضيح، ونصه: ولا يلزمها أن تأتي بأخرى ترضعه، قال في المدونة: ولا يجوز أن تأتي بالغير إن نقدها الأجرة لأنه فسخ دين في دين على أصل ابن القاسم وإلا جاز. اهـ. ونقله الحطاب، فهذا صريح في خلاف ما في الخرشي، وكذا يرد بقول المدونة: وإن هلك الأب فحصة ما بقي في مال الولد قدمه الأب أو لم يقدمه، وترجع حصة باقي المدة إن قدمه الأب ميراثا وليس ذلك عطية وجبت. اهـ. وفي المواق: ومن المدونة وإذا حملت الظئر فخيف على الصبي فلهم فسخ الإجارة ولا يلزمها أن تأتي بغيرها ترضعه لأنها إنما اكتريت على رضاعه بعينها، وإن سافر الأبوان فليس لهما أخذ الصبي إلا أن يدفعا إلى الظئر جميع الأجرة. اهـ.

وموت إحدى الظئرين؛ يعني أنه إذا استأجر ظئرين معا في عقد واحد لرضاع لطفل فماتت إحداهما فللثانية فسخ العقد ولها أن ترضى برضاع الطفل وحدها، وأما إذا استأجر واحدة بعد أخرى تطوعا فماتت الثانية فالرضاع للأولى لازم، وإن. ماتت الأولى فعليه أن يأتي بأخرى ترضعه مع الثانية، كما في المدونة؛ قال عبد الحق: هذا إن كانت عالمة حين إجارتها أنها ثانية وإلا

ص: 59

لزمتهما. قاله حمديس. ومحل خيار الظئر الباقية ما لم يأت أبو الولد بمن يشاركها في الرضاع وإلا فلا خيار لها، إذا استمرت الباقية ترضعه وقامت تطلب ما كان لها وللأولى بعد انقضاء المدة أي واستأجرهما صفقة واحدة بأجرة معلومة فليس لها إلا قدر ما يخصها لأنها متبرعة لقدرتها على الفسخ. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وللظئر فسخ الإجارة في موت إحدى

(1)

الظئرين المستأجرتين بعقد واحد أو بعقدين وعلمت الثانية بالأولى التي ماتت فللباقية الفسخ: وليس لرب

(2)

الطفل إلزامها برضاعهِ يومًا بعد يوم كما كانت زمن الأولى التي ماتت لكثرته منه حال عدم رضاعه كل يوم. اهـ. وإنما يلزم الثانية الرضاع كله كما يلزم الحميل الثاني جميع الكفالة مع علمه بالأول

(3)

للفرق بأنه دخل على جميع المال، وهي إنما دخلت على نصف مؤنة الولد، وقوله: الظئرين، تثنية ظئر - بكسر الظاء مهموزا همزة ساكنة وقد تسهل - المرضع غير ولدها جمعه أظْؤر وأظئار وظُؤْور وظؤار بضم الظاء. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: الأقسام ثلاثة: أن يستأجرهما صفقة واحدة فماتت إحداهما فللباقية الفسخ، إلا أن يأتي بمن ترضع معها فيلزمها الرضاع. الثاني: أن يستأجرهما مترتبتين وعلمت الثانية بالأولى فعليه أن يأتي بمن تشاركها ويلزمها الرضاع، كما يلزمها إن لم تعلم بالأولى. القسم الثالث: أن يستأجرهما مترتبتين لأن الأولى اشترطت عليه أن يستأجر معها أخرى، والظاهر في هذه أنه إن ماتت الثانية فللأولى الخيار إلا أن يأتي بمن تشاركها، وأنه إن ماتت الأولى فإن علمت الثانية حين العقد بالأولى فعليه إن

(4)

لم يأت بمن تشاركها، وإن لم تعلم لزمها الرضاع. والله سبحانه أعلم.

تنبيه: وقع في الحطاب وغيره عند قول المص: وموت إحدى الظئرين ما نصه: يريد المص إذا استأجرهما جميعا أو استأجر الثانية بعد الأولى وعلمت بها، قال في المدونة: ومن واجر ظئرين فماتت واحدة فللباقية أن لا ترضع وحدها، ومن واجر واحدة ثم واجر أخرى فماتت الثانية

(1)

في الأصل أحد والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 15.

(2)

كذا في الأصل وعبد الباقي ولعلها لأب.

(3)

في الأصل بالأولى والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 15.

(4)

كذا في الأصل ولعل الأصل فعليه أن يأتي بمن تشاركها.

ص: 60

فالرضاع للأولى لازم كما كانت، وإن ماتت الأولى فعليه أن يأتي بمن ترضع مع الثانية. قال أبو الحسن: قال عبد الحق: هذا إن علم، حين الإجارة لخ، قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: هذا الذي ذكره الحطاب وغيره صريح في أن للثانية الخيار حيث علمت بالأولى والميتة الأولى، وقد علمت أن الذي في المدونة إنما هو على الأب أن يأتي بمن ترضع معها، يفيد أنه يقضى لها على الأب بأن يأتي بمن ترضع معها بخلاف الأولى. والله سبحانه أعلم. وعبارة التتائي: وربما أشعر كلام المص بأنه استأجرهما معا وهو كذلك، ففي المدونة عقب نصها السابق: وإن واجر واحدة بعد أخرف تطوعا فماتت الثانية فالرضاع للأولى لازم كما كانت، وإن ماتت الأولى فعليه أن يأتي بمن يرضع مع الثانية. قال عبد الحق: هذا إذا علمت لخ، وهذا كالصريح في أن الحكم في المسألتين مختلف، ولم ينقل المواق عن المص هنا إلا مواجرة الظئرين في عقد واحد، وكلام الخرشي في كبيره صريح أو كالصريح في ذلك أيضا. والله تعالى أعلم.

وموت أبيه ولم تقبض أجرة؛ يعني أن للِظئرِ أن تفسخ عقد الإجارة إذا مات أبو الرضيع والحال أن الظنر لم تقبض أجرتها قبل موت أبي الرضيع كلا أو بعضا، كما في الخرشي وغيره؛ يريد ولم يترك الأب مالا. قاله غير واحد. قوله: ولم يترك الأب مالا، نحوه في المدونة وليس مفهومه أنه لو ترك مالا يكون في ماله ولا تفسخ الإجارة، بل مفهومه أنه لو ترك الأب مالا لم يكن لها الفسخ ولكن تكون أجرتها في نصيب الولد من إرثه، كما أن مفهوم ولم تقبض، أنها إذا قبضت لا تفسخ ولو كان عديما ويتبع الورثة الصبي، كما قاله ابن يونس وأبو الحسن قاله بناني. والله سبحانه أعلم.

إلا أن يتطوع بها متطوع. يعنى أن محل كون الظئر لها أن تفسخ عقد الإجارة حيث مات أبو الصبي والحال أنها لم تقبض الإجارة ولا مال للصبي كما عرفت حيث لم يتطوع بها متطوع، وأما إن تطوع لها بالأجرة متطوع فإن الإجارة لا تفسخ ويلزمها الرضاع قال عبد الباقي إلا أن ينطوع بها متطوع فلا فسخ لها، كما إذا قبضتها من أبيه قبل موته فلا فسخ لها ولا للورثة وإن كانوا يحاسبون الرضيع بما زاد على يوم موت الأب من إرثه، فإن زاد لهم شيء رجعوا به على

ص: 61

مال الرضيع لا على الظئر، فليس إعطاء الأب

(1)

أجرة رضاعه هبة منه له، وإنما إرضاعه فرض انقطع بموته، ولو كان هبة للرضيع لرجع ميراثا بينه وبين الأم عند موت الصبي، مع أنه يختص به الأب دونها، فيرجع به على الظئر؛ ذكرفى في المدونة فارقا بينه وبين التزام ثمن الأجنبي

(2)

اشترى شيئا ثم مات الملتزم فليزمه في ماله لأنه أوجبه في ماله فلزم بعد موته، بخلاف رضاع ولده فواجب عليه أصالة وبموته انقطع وجوبه عليه. اهـ. قوله: اشترى شيئا، قال بناني: صوابه باع شيئا بدل اشترى، كما في المدونة. انتهى. والله سبحانه أعلم. وقال الحطاب: قال في المدونة: وإن هلك الأب فحصة باقي المدة من الأجر [في مال الولد قدمه الأب أو لم يقدمه وترجع ححمة باقي المدة من الأجر]

(3)

إن قدمه الأب ميراثا، وليس ذلك عطية وجبت إذ لو مات الصبي لم تورث عنه وكان للأب خاصة دون أمه ففارق معنى الضمان. اهـ. قال في النكت وهذا بخلاف ما إذا قدم الأب أجرة تعليم ولده ثم مات فإنها لا تكون ميراثا، والفرق بينهما أن التعليم لا يلزم الأب، فلما أوجبه على نفسه لزمه حيا وميتا، وأما أجرة الرضاع فهي واجبة على الأب، فإنما قدم ما يلزمه فإذا مات ينقطع ذلك؛ إلا أن يعلم أن الأب قدم ذلك خوف الموت فيكون عطية أوجبها في صحته

(4)

في فلا سبيل إلى أن تكون ميراثا، وتستوي أجرة الظئر وأجرة التعليم. وأعرف نحو هذا التفسير لابن المواز. اهـ. وقال الشبراخيتي عند قوله: ولم تقبض أجرة، ولو قبضت أجرة مستقبلة قبل موت الأب فقال ابن عرفة: في كونها لورثته أو للولد، ثالثها مناب الزائد على كامين للولد لابن القاسم مع روايته، ولأشهب، واللخمي قاثلا: لأنه هبة له، وعلى كونه للورثة ففي أخذه لبنًا أو أجرة نقلا اللخمي مصوبا الثاني كموت الصبي والأب حي. اهـ. قوله: ففي أخذه لبنًا بأن يأتوا لها بولد ترضعه. انتهى. وقال التتائي: ولو مات الأب في أثناح المدة فمناب ماضيها عليه، ولا مقال للورثة، ومناب باقيها على الولد فإن لم يكن له مال ولا تطوع بها متطوع

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 15

(2)

في الأصل الأجنبي والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 15

(3)

ما بين المعقوفين ساقط من الأصل وقد ورد في التهذيب ج 3 ص 378 والحطاب ج 6 ص 166 ط دار الرضوان

(4)

في الأصل حصته والمثبت من الحطاب ج؛ ص 167 ط دار الرضوان

ص: 62

فلها الفسخ، فلو قالت: أرضعه لأتبعه، فلا اتباع لها إن طرأ له مال كنفقة على يتيم. اهـ؛ يعني لا مال له، وأشهد أنه يتبعه إن طرأ له مال فذلك غير لازم له. والله سبحانه أعلم.

وَكظُهُورِ مُسْتَأجَرِ أوجِرَ بأكْلِهِ أكُولاً؛ يعني أن من استأجر أجيرا بأكله فظهر أنه أكول أي كثير الأكل فإن له أنَّ يفسخ الإجارة لأنه كعيب ظهر به، إلا أن يرضى الأجير بأكل وسط فليس للمستأجر أن يفسخ الإجارة. قال الشبراخيتي: وكظهور مستأجَر بفتح الجيم أوجر بأكله فظهر أكولا خارجا عن المعتاد إلا أن يرضى الأجير بطعام وسط فليس للمستأجر الفسخ، ولو رضي المستأجر أن يعطي الأكول الطعام الوسط وأبى الأجير من ذلك فليس للمستأجر جبره على ذلك، وهذا بخلاف الزوجة تظهر أكولة فلا كلام للزوج وهي مصيبة نزلت به، والفرق أن النكاح مبني على المكارمة، والإجارة من ناحية البيع وهو مبني على المشاحة، ومقتضى الفرق المذكور الخيار في عبد مبيع ظهر أكولا، ولكن أفتى الناصر اللقاني بعدم رده لأنهم لم يعدوه من عيوب المبيع المتقدمة، ولأن له مندوحة وهي بيعه بعد، قال عبد الباقي: وفيه نظر؛ لأن المص لم يحصر عيوب المبيع، بل قال: وبما العادة السلامة منه، ثم ذكر أمثلة بالكاف تدل على عدم الحصر، وما ذكره من قدرته يرد بأنه قد لا يجد من يبلغه ثمنه، وجملة أوجر صفة، وأكولا حال من الضمير المضاف إليه؛ لأن المضاف صالح للعمل في المضاف إليه، بل المظاهر أنه حال من مستأجر والعامل فيه ظهور. اهـ. وقوله: أكولا، صفة مبالغة فقد استغنى عن قول ابن يونس: خارجا عن عادة الناس في الأكل. قاله الخرشي. وقال المواق: ابن يونس: إن وجد الأجير الذي استأجره بطعامه أكولا خارجا عن عادة الناس في الأكل فقال في المبسوط: له أن يفسخ إجارته. ابن يونس: لأند كعيب به إلا أن يرضى الأجير بطعام وسط، وأما إن تزوج امرأة فوجدها أكولة خارجة عن عادة الناس فليس له فسخ نكاحها، فإما أشبعها أو طلقها؛ لأن المرأة لا ترد إلا بالعيوب الأربعة، فهو كما لو وجدها عوراء أو سوداء ولو شاء لاستثبت

(1)

). انتهى.

(1)

في الأصل لمثبتت والمثبت من المواق ج 5 ص 487.

ص: 63

ومنع زوج رضي من وطء ولو لم يضر، فصل بين مسائل الرضاع بقوله: وكظهور مستأجر لخ، لأنها نظيرة المسائل المتقدمة في الخيار. والله سبحانه أعلم ومعنى كلام المص أنه إذا رضي الزوج بأن تواجر زوجته نفسها للرضاع وفعلت، أو واجرت نفسها بغير إذنه ورضي بذلك، فإن الإجارة تلزم ولو كانت شريفة لا يلزمها رضاع ولدها، ويمنع الزوج حينئذ من وطئها، وسواء كان وطؤه يضر بالطفل أم لا، وسواء اشترط ذلك عليه أم لا، خلافا لأصبغ في قوله: لا يمنع إلا بالشرط أو حصول الضرر، فقوله: من وطء، متعلق بمنع، وأقاموا من منع الزوج من الوطء لو اختلعت على رضاع ولدها فليس لها أن تتزوج حتى تتم رضاعه. قاله أبو إبراهيم. وانظر لو بأن أنه تزوج بمن آجرت نفسها ظئرا لترضع في بيت الصبي هل هو عيب يوجب فسخ نكاحها؟ قال ابن عرفة: الأظهر أنه عيب، ومفهوم زوج أن السيد لا يمنع والعلة تقتضي استواءهما. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: قال في الحاشية: وينبغي، وكذلك السيد، وقوله: ومنع زوج رضي لخ، فلو تعدى ووطئ هل تفسخ الاجارة أم لا؟ قولان، قيل: إن لأهل الطفل الفسخ، وقيل: ليس لهم الفسخ، وقوله: ولو لم يضر؛ لأنه مظنة الضرر أي فهو تعليل بالظنة، واختلفوا في تعليل استئذان الزوج، قال في التوضيح: وجعل ابن القاسم استئذانه لأجل حقه بالأصالة في الوطء، وجعل أصبغ استئذانه من المعرة والمضرة. قاله الخرشي. وقال الحطاب: فإن وطئ فلأبي الرضيع فسخ الإجارة لا يتقى من الضرر. قاله مالك وابن القاسم. وخالفهما ابن الماجشون ولم يفسخه. اهـ.

وسفر، عطف على قوله: من وطء؛ يعني أن الزوج كما يمنع من وطء زوجته المستأجرة للرضاع بإذنه يمنع من السفر بها حينئذ، وإن كان ذلك بغير إذنه فله أن يفسخ الإجارة ويسافر بها، وأما سفر الأبوين بالولد فليس لهما إلا أن يدفعا للظئر جميع الأجرة كما في المدونة.

كأن ترضع معه تشبيه في المنع؛ يعني أن الظئر تمنع من أن ترضع مع الطفل غيره ولو كان بها كفاية لغيره؛ لأن أهله اشتروا جميع لبنها، إلا أن يكون معها ولد رضيع حال العقد فإنها لا تمنع من رضاعه معه؛ لأنه حينئذ بمنزلة الشرط. قاله الباجي. وهو واضح. قاله الخرشي: وقال

ص: 64

الشبراخيتي ثم شبه في المنع فقال: كان ترضع معه غيره، ظاهره ولو كان فيها كفاية

(1)

وهو كذلك لأنه اشترى جميع لبنها، وسواء شرط ذلك عليها أو سكت عنه، وأما لو اشترطت هي غيره فلا منع. اهـ.

ولا يستتبع حضانة، فاعل يستتبع ضمير يعود على الاسترضاع؛ يعني أن من استأجر امرأة ترضع له رضيعا فإن ذلك الاسترضاع المستأجر عليه لا يستتبع أي لا يستلزم حضانة ذلك الرضيع بل حضانته على أهله، قال ابن عبد السلام: من استأجر امرأة ترضع ولده لا يلزمها أن تحضنه. انتهى.

كعكسه؛ يعني أن من استأجر امرأة على حضانة ولده لا يلزمها أن ترضعه، وهذا إن لم يكن عرف أو شرط في المسألتين، فإن كان عرف أو شرط عمل به، فلو عقد عليهما معا فانقطع اللبن جرى ذلك على مسائل الاستحقاق، فإن كان اللبن وجه الصفقة فسخ البيع، وعلم من هذا أنها لو استوجرت على الإرضاع وأرادت أن تحضنه أي تقوم بأموره من غسل خرق وقيام به ليكون لها قبض الولد والسكنى مما هو للحاضنة فليس لها ذلك، وهذا كله ما لم يكن عرف وإلا عمل عليه فيهما، فإن شرطت إرضاعه في بيت الصبي فمات زوجها رجعت لبيته للعدة إذ لا بيت لها بغيره، فإن قيل: قد لزمها شرط المقام قبل العدة، فالجواب: أنه طرأ ما هو أقوى منه وهو العدة لحفظ النسب، فإن قيل: قد مر أنه إن سبق الاعتكاف الطلاق لم تخرج منه، قيل: مقام المعتكفة بالمسجد وهو موضع أمن عليها، وفي المدونة: إذا مرضت بحيث لا تقدر على رضاعه فسخت الإجارة، فإن صحت في بقيتها جبرت على رضاعه بقيتها، ولها من الأجرة بقدر ما أرضعت، ولا عليها رضاع ما مرضت، وفي التتائي: ولا يستتبع الإرضاع حضانة بحيث تندرج.

(1)

في الشبراخيتي ج أخير مخطوط: كفايته.

ص: 65

فيه، لكن لا بد من فعل معها كتلقي الطفل ووضعه لأخذ الثدي كعكسه، فلا تستتبع الحضانة الإرضاع، وفي المدونة: لا بأس أن يؤاجر الرجل أمه أو أخته أو ذات محرم منه على رضاع ولده، ولا ينافيه نقل اللخمي في العارية منع استخدام الرجل والده لأن الإرضاع خفيف، وقال الصقلي عن ابن عبد الحكم: ولو تكفلت بوجه رجل فقام عليها التكفل له لغيبة الغريم لم تحبس له لأن حمالتها تطوع بعد العقد، وليس لها أن تتطوع بما يفسخه. ونقله اللخمي غير معزو كأنه المذهب قال: ولو كانت كفالتها قبل عقد إجارتها فسخت له ونظر في مدة سجنها كمرض.

وبيعه سلعة على أن يتجر بثمنها سنة إن شرط الخلف، هذه المسألة فيها بيع وإجارة، وقوله: وبيعه عطف على فاعل جاز، وسلعة مفعول بيعه، والشرط في الجواز، وصورة المسألة شخص باع سلعة لآخر تساوي مائة وخمسين مثلا على أن يتجر له سنة بثمنها، فآل الأمر أن ثمن السلعة مائة دينار وعمله سنة في المائة فهي جائزة، ولجوازها شروط ثمانية:

أحدها: أن يكون الثمن معلوما.

الثاني: العمل إلى أجل معلوم.

الثالث: أن يعين النوع الذي يتجر فيه.

الرابع: أن يكون موجودا في

(1)

السنة.

الخامس: أن يحضر الثمن ليخرج من ذمته إلى أمانته.

السادس: أن يكون المشتري السلعة مديرا.

السابع: أن يشترط الخلف. الثامن: أن لا يشترط أن يتجر له في الربح. ففهم من قوله: ثمنها، أنه معلوم، وفهم من قوله: على أن يتجر بثمنها، أنه لا بد من إحضاره مع الإشهاد كما في القراض؛ وفهم من جعل التجارة من جملة الثمن أنه لا بد من عملها

(2)

وذلك يقتضي علم ما يقع

(1)

كذا في الأصل والذي في عبد الباقي ج 7 ص 16 في جميع السنة.

(2)

كذا في الأصل ولعله من علمها.

ص: 66

فيه التجر وعلم وجوده في جميع السنة؛ ويفهم من قوله: ثمنها، أنه لا يتجر في الربح. وظاهر قول المص: إن شرط الخلف أنه لو

(1)

جرى به عرف لا يكفي عن شرطه، ثم إذا شرط الخلف فحصل تلف البعض ورضي رب السلعة بالتجر بما بقي جاز.

قال بناني: جمعت هذه الشروط في بيتين وهما:

شروط بيعك بشرط التجر

علم حضورٌ ذكر نوع التجر

وأجل مع أمن فقد خلف

إدارة والتجر بالربح نُفِي

وقد مر أن من شروط الجواز إحضار الثمن، فلو تجر بالثمن ولم يحضره فإنه يكون الربح للمشتري والخسارة عليه ويرجع البائع بقيمة ثمنه وهو قيمة عمله في التجارة؛ لأن الاتجار سنة من جملة الثمن، فإذا كان الثمن مائة وقيمة التجر خمسين فإنه يرجع بقيمة سلعته إن فاتت، وأما إن كانت قائمة فهل يرجع شريكا بثلثها أو بثلث قيمتها؟ وهو أبين لأنه إذا رجع في عينها صارت بين اثنين بعد أن كانت لواحد، وهذا يفيد أن البيع صحيح، وأن الإجارة فاسدة، وإلا رجع بجميع قيمة سلعته أو بثمنها كلها، وينبغي أن يجري مثل ذلك فيما إذا أحضر الثمن ولم يشهد كما مر في القراض، وقد ذكروا أنه لو شرط عليه التجر [بالربح]

(2)

فالربح للبائع والخسارة عليه وللعامل أجر مثله ويرد السلعة إن كانت قائمة، وإن فاتت مضت بالقيمة كما ذكره ابن عرفة وغيره، وانظر لو اختل شرط من باقي الشروط هل يكون الربح للمشتري والخسارة عليه؟ كما في المسألة الأولى، أو للبائع وعليه وللعامل أجر مثله كما في المسألة الثانية، واعلم أن الربح إن

(1)

سقطت من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 16

(2)

ساقطة من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 16.

ص: 67

[كان

(1)

] قدره في مدة الإدارة متقاربا جاز شرط التجر به وإلا لم يجز، وهذا يعود على ما تقدم من منع التجر بالربح. عبد الحق: وإذا أحضر الدنانير وصحت التجارة عليها بقدر ذلك فعمل بها نصف السنة ثم مات فإنه يرجع بما خص باقي المدة، وهل يرجع بقدر ذلك في عين السلعة أو قيمتها؟ فيه الخلاف المتقدم فيما إذا اتجر بالثمن ولم يحضره، وإذا اتجر بالمائة وانقضت السنة وهي عروض لم يلزمه بيعها بخلاف القراض وسلم إليه تلك العروض. اهـ. وأشار ابن يونس للفرق بينهما بقوله: لأن القراض لا يجوز فيه الأجل، وإنما أجله بيع تلك العروض، والإجارة لا تجوز إلا بأجل، فإذا انقضى لم يلزمه بيعها. انتهى. عبد الحق: وإذا اتجر بالمائة فنقصت في خلال السنة فللبائع أن يزيد تمام المائة ليتجر فيها المشتري ولا كلام له. انتهى. وهو يفيد أنه لا يلزم البائع الخلف وهذا واضح، سواء وافقه المشتري على ذلك أو طلبه الخلف لأنه لا حق له في الربح. عبد الحق: ولو استحقت السلعة المشتراة وقد اتجر المشتري بعض السنة كان له أجر المثل فيما اتجر، ويرجع على البائع بثمنه والربح والخسارة في المائة التي يتجر بها للبائع وعليه، ولو لم يتجر المشتري بالمائة إلا نصف السنة ثم اطلع على عيب في السلعة التي اشترى وقد فاتت فقيمة العيب قد وجبت له، فإن كانت قيمة العيب تنقصها الربع رجع مشتري السلعة على البائع بربع المائة وهو خمسة وعشرون، ويرجع أيضا بربع قيعة الإجارة في الستة الأشهر الماضية، ويتجر في الستة الأشهر الباقية بخمسة وسبعين في السنة التي استأجره يتجر له فيها. انظر الخرشي وعبد الباقي وتحصل مما مر أن صورة المسألة أنه يجوز بيع سلعة بمائة يتجر المشتري للبائع في ثمنها مدة معلومة كسنة، فثمن السلعة مائة، والتجر في تلك المائة سنة،

(1)

ساقطة من الأصل هنا وستأتي فيه في كلام ابن عرفة.

ص: 68

ولجواز ذلك شروط ثمانية: أن يكون الثمن معلوما، وأن يكون العمل إلى أجل معلوم، وأن يعين النوع الذي يتجر فيه، وأن يكون موجودا في جميع السنة، وأن يحضر الثمن ليخرج من ذمة إلى أمانة، ولابد من الإشهاد على الإحضار، وأن يكون مديرا، وأن يشترط الخلف، وأن لا يشترط أن يتجر في الربح، أما الأولان فليكون الثمن معلوما، وأما الثالث فلاختلاف الأنواع بالثقل والخفة، وأما الرابع فليلا يدخله الغرر، وأما الخامس فليخرج من الذمة للأمانة وإلا فهو سلف بمنفعة إذ يتهم أنه أخره ليزيده، وأما السادس فلأنه إذا كان محتكرًا لزم الجهل لأنه إنما يبيع إذا غلت السلع فلا يدري ما باع من منافعه، ولو شرط أن يتجر له في تلك السنة مرتين لم يجز لأنه نقد بعض سلعته في منافع رجل معين يتأخر قبضها. قاله اللخمي، وأما السابع وهو شرط الخلف فلأنه إذا لم يشترط الخلف أدى إلى الغرر، وأما الثامن وهو أن لا يشترط التجر بالربح فلأن الربح مجهول؛ وصورة التجر بالثمن سنة أن يبيعه بالنوع الذي عين له التجر فيه من السلع فيبيع له تلك السلع، فمهما حصل من ثمن تلك السلع أزيد من الثمن الأول ترك التجر بالزائد وتجر بمائة وهكذا إلى تمام السنة، فلو تجر بالثمن ولم يحضره لكان الربح للمشتري والخسارة عليه، ويرجع البائع بمقدار قيمة تجارته بالثمن سنة، فإذا كان الثمن مائة وقيمة التجر خمسين فإنه يرجع بثلث قيمة سلعته إن فاتت، فإن كانت قائمة رجع بثلث قيمتها لا في عينها على الراجح لضرر الشركة، وينبغي أن يجري، ذلك فيما إذا أحضر الثمن ولم يشهد، ولو اشترط عليه التجر بالربح فالربح للبائع والخسارة عليه وللعامل أجر مثله، ويرد السلعة إن كانت قائمة وإن فاتت مضت بالقيمة؛ كما ذكره ابن عرفة وغيره، والفرق بين المسألتين أنه يملك الثمن بالإحضار بخلاف ما إذا لم يحضر فلا يملكه وإنما له دراهم لم تعين، ولذا كان الربح والخسر للعامل والله تعالى أعلم. واتظر لو اختل شرط من الشروط الباقية هل يكون الربح للمشتري والخسارة عليه كما في المسألة الأولى، أو للبائع وعليه وللعامل أجر مثله كما في المسألة الثانية، وقال ابن عرفة إن الربح إن كان قدره في مدة الإدارة متقاربا جاز شرط التجر به وإلا لم يجز، ولو وقعت المسألة بشروطها فمات بعد أن عمل بعض السنة رجع بما خص باقي المدة في قيمة السلعة إن فاتت، فإن لم تفت رجع في قيمتها أو عينها على الخلاف المتقدم، وإذا اتجر بالمائة وانقضت السنة وهي عروض لم يلزمه

ص: 69

بيعها وسلم العروض إليه، ولو استحقت السلعة المشتراة وقد إلى آخر ما مر. هذا ما ظهر لي. والله سبحانه أعلم.

تنبيه: قال بناني: قال ابن عرفة: الصقلي: إن عمل ولم يحضره فالربح والخسارة للأجير ويرجع البائع بقدر قيمة الإجارة منها مع الثمن في قيمة سلعته ولو كانت قائمة، لضرر الشركة، وعلى قول أشهب ويحيى بن عمر يرجع في عينها إن كانت قائمة وإن فاتت ففي قيمتها، وقال عبد الحق: يرجع في قيمة السلعة أو عينها إن كانت قائمة، على الخلاف فيمن باع نصف ثوب على أن يبيع له النصف الباقي شهرا فباع في بعض الشهر، المسألتان سواء والأجود أن لا يرجع في عينها لزيادة ضرر الشركة؛ لأنها تصير بين ثلاثة بعد أن كانت بين رجلين اهـ والتعليل راجع لمسألة بيع النصف وهو ظاهر لا لما قبلها. اهـ.

كغنم عينت؛ يعني أنه يجوز للشخص أن يستأجر شخصا يرعى له غنما بعينها سنة بأجرة معلومة بشرط أن يشترط في العقد أن ما مات من الغنم أو تلف منها أخلفه، فإن لم يشترط الخلف في العقد لم يجز، فإن امتنع رب الماشية من الخلف قيل للراعي: اذهب بسلام ويأخذ جميع الإجارة. قال فيها: ومن باع من رجل سلعة على أن يتجر له بثمنها سنة كان كمن. واجره على أن يتجر له بهذه المائة دينارا سنة، أو يرعى له غنما بعينها سنة، فإن شرط في العقد خلف ما هلك منها أو تلف جاز، وإلا لم يجز. انتهى. وله أجر مثله في الرعاية. قاله الخرشي. وقال بناني: كغنم عينت أي لا يجوز في العينة إلا بشرط الخلف، فإن فقد شرط الخلف فسدت. قاله في المدونة. وقال سحنون: يجوز وإن لم يشترط الخلف والحكم يوجبه. وقاله ابن الماجشون وأصبغ. ابن حبيب: وبه أقول. ابن يونس: وهو عندي أصوب. اهـ. قال غير واحد: وإنما جاز أن يشترط عليه رعايه ما تلده أو كان العرف كما يأتي، ولم يجز اشتراط الربح في التجر في المسألة السابقة إن لم يكن متقاربا لأنه مجهول، بخلاف ما تلده الغنم فإنه معروف. اهـ. قال بناني: كذا قالوا. قال الحطاب: والذي يظهر لي أن ما تلده الغنم أيضا غير معروف لاحتمال ولادتها ولدا أو أكثر إلا أنه أقل غررا من ربح الثمن. اهـ.

ص: 70

وإلا، أي تعين الغنم كما إذا استأجره على رعاية مائة من الغنم غير معينة. فله؛ أي الراعي. الخلف على آجره؛ أي مستأجره يعني أنه إذا لم تكن الغنم معينة فإنه يقضى للراعي على من استأجره على رعاية الغنم أن يخلف له ما هلك منها إلى تمام ما عمله، وسواء اشترط الراعي الخلف عند العقد أو لم يشترطه، فإن امتنع رب الماشية من الخلف قيل للعامل: اذهب بسلام ويأخذ جميع الإجارة، والحاصل أن الغنم المعينة يتوقف صحة العقد في رعايتها على شرط الخلف، فإن انتفى الشرط المذكور كان العقد فاسدا وله أجرة المثل في الرعاية، بخلاف غير المعينة فلا يشترط في صحة إجارتها شرط الخلف فإذا اشترط الخلف، في المعينة وكانت غير معينة ولم يخلف المستأجر الراعي ما هلك أو ضاع في المسألتين، فإن الراعي له جميع الأجرة، وتنفسخ الإجارة بموت الراعي، ولا تنفسخ بموت الغنم ولا بموت من استأجره، ولا يجوز للراعي أن يأتي بمن يرضى مكانه وإن رضي رب الغنم، ووجه أنه فسخ دين في دين لأنه فسخ ما عليه من المنافع في منافعَ لا يتعجلها.

تنبيهات: الأول: قال الملوي: اعلم أن استيجارة الراعي على ثلاثة أوجه، الوجه الأول: أن يستأجر على رعاية غنم معينة ولا يجوز ذلك إلا إذا اشترط في العقد أن ما ضاع منها بموت أو غيره أخلفه ربة، هذا هو المشهور، وقال سحنون وابن الماجشون وأصبغ: يجوز وإن لم يشترط الخلف والحكم يوجبه. واختاره ابن حبيب وصوبه ابن يونس. الوجه الثاني: أن يستأجره على عدد لمعلوم غير معين كمائة مثلا فقال ابن القاسم: يجوز ذلك وإن لم يشترط الخلف، ويقضى على رب الغنم بخلف ما مات منها أو ما ضاع، وعليه مشى في المختصر، وظاهره أو صريحه أن شرط الخلف جائز لأنه اشتراط ما يوجبه الحكم وفي ابن سلمون: أنه لا يجوز اشتراط الخلف فإن فعل فسد العقد. الوجه الثالث: أن يستأجره على أن يرعى له غنما ولم يذكر له عددًا ولا عيَّن الغنم فيجوز ذلك ويضمه إلى نفسه ويأتيه من الغنم بما يقدر على رعايته، زاد اللخمي: هذا إن

ص: 71

كان المستأجر يعلم قدر رعاية مثله وقد ملك المستأجر في هذا الوجه جميع منافع الراعي؛ وضمُّه إلى نفسه ليس بشرط، فإن عزله ورتب له نفقة معلومة جاز، كما في المتيطية. انتهى.

الثاني: قال المواق: من المدونة قال مالك: من باع لرجل سلعة على أن يتجر له بثمنها سنة فإن اشترط في العقد إن تلف المال أخلفه له البائع حتى يتم عمله بها سنة جاز ذلك، وإلا لم يجز، فإن اشترط ذلك فضاعت الدنانير فللبائع أن يخلفها حتى يتم السنة، فإن أبى قيل: للأجير اذهب بسلام؛ وكذلك لو استأجرت رجلا يعمل لك بهذه المائة دينار سنة جاز ذلك؛ إذا اشرطت عليه إن ضاعت أخلفتها له، فإن ضاعت كان لك أن تخلفها أو تدع، وقد لزمتك الأجرة، وإن لم تشترط ذلك في أصل الإجارة لم يجز؛ قال مالك: وكذلك إن واجره يرعى له غنما بعينها سنة فإن شرط عليه في العقد أن ما هلك منها أو باعه أو ضاع أخلفه جاز ذلك وإلا لم يجز، فإن شرط ذلك وضاع منها شيء قيل للأجير: أوف الإجارة: وخير رب الغنم في خلف ما ضاع أو تركه، قال ابن القاسم: ولو واجره على رعاية مائة شاة غير معينة فلا بد من الشرط فيها. وقال سحنون: يجوز في المعينة من خنم ودنانير وإن لم يشترط خلف ما هلك، والحكم يوجب عليه خلف ما هلك. ابن حبيب: وقاله ابن الماجشون وأصبغ، وبه أقول. ابن يونس: وهو عندي أصوب لأن الأشياء المستأجر عليها لا تتعين، ولو استأجره على حمل طعام أو متاع ما احتاج إلى شرط خلفه إن هلك، والحكم يوجب عليه خلفه، وكذلك في المدونة وكتاب محمد الباجي: لو استأجر على حصد زرع معين فهلك، فقال أشهب: تنفسخ الإجارة، وقال ابن القاسم: لا تنفسخ. ابن عرفة: هذا من ابن القاسم خلاف لقوله: إن تعذر الحرث بنزول المطر سقط الأجر، قال ابن القاسم: وإن تعذر الحرث بكسر المحراث أو بموت الدابة لم يسقط أجره. وقال سحنون: إن منع أجير البناء أو الحصاد أو عملٍ [مَّا مطرٌ]

(1)

لم يكن له إلا بحساب ما عمل من النهار؛ وقال غيره: له كل الأجر. ابن عرفة: لا يدخل هذا الخلاف في نوازل تونس؛ لأن العرف تقرر عندهم بفسخ الإجارة

(1)

في الأصل ماء المطر والمثبت من المواق ج 5 ص 488.

ص: 72

بكثرة المطر ونزول الخوف. اهـ. انظر قول ابن عرفة: إنه يحكم بالعرف هل يكون من هذا المعنى ما صدرت به فتيا شيخي ابن سراج رحمه الله أن

(1)

المكتري إذا شرط أن لا يغرم كراء إن أفسدت النصارى الغلة أنه

(2)

له شرطه؟ ومن ابن يونس: من بعث معه بخادم يبلغها موضعا بأجر فماتت فله الأجرة كلها ويستعمله في مثل ذلك. اهـ.

الثالث: قد مر أنه لا يجوز للراعي أن يأتي بمن يرعى مكانه وإن رضي رب الغنم لأنه فسخ دين في دين؛ لأنه فسخ ما عليه من المنافع في منافع لا يتعجلها، فإن أتى بمن يرعى مكانه من غير إذن رب الغنم ضمن، كان مثله في الأمانة أو لم يكن. قاله ابن حبيب وسحنون، وقال ابن لبابة: إن كان مثله لم يضمن كراكب؛ يعني أن من استأجر دابة للركوب فتعذر ركوبه كما لو مات أو مرض فإن الإجارة لا تنفسخ ويلزمه أو ورثته إن مات أن يأتوا بخلفه أو يدفعوا جميع الأجرة. قاله الحطاب. فهو تشبيه في الخلف؛ أي كما يجب خلف الراكب إذا تعذر، ولا ينفسخ الكراء لأنه مما يستوفى به. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: كراكب تعذر ركوبه كموت عروس أو مرضها أو مرض زوجها أو تعسر فلا تنفسخ الإجارة، خلافا لقول اللخمي في الأول: تنفسخ، وعلى المعتمد فيلزمه أو ورثته إن مات أن يأتي بخلفه أو يدفع جميع الأجرة كما في الحطاب، وقرر الشارحان المص على أن معناه أن من اكترى دابة غير معينة يركبها لموضع كذا فهلكت فعلى المكري خلفها، وما قرراه به مفهوم قول المص فيما يأتي وفسخت بتلف ما تستوفى منه، لأن الآتي الدابة فيه معينة، فيفهم أنها لو كانت غير معينة لا تنفسخ، وهو ما قرراه به هنا، وتقرير الحطاب منطوق قوله الآتي: لا به، فصار لتقرير الشارحين ترجيح لعدم ذكره صريحا فيما يأتي. اهـ.

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من المواق ج 5 ص 488.

(2)

كذا في الأصل ولفظ المواق ج 5 ص 488: أن له.

ص: 73

تنبيه: وقع في شرح عبد الباقي في نصه: فإن قلت ما الفرق بين عدم الفسخ في هذه المسألة على تقرير الحطاب وبين في ذكروه أن من اكترى دواب ليحمل عليها علفا يبيعه لقافلة تأتي لمحل معين فذهبت لغيره فلا كراء عليه ويفسخ الكراء، وكذلك إذا اشترى علفا لها؟ قلت: لعله أن المكتري للقافلة أو مشتري العلف لها مثلا قد عين عند الكراء والشراء ملاقاتها بمحل معين، فلما لم تأت منه لم يلزم العقد، بخلاف مكتري دابة لحمل عروس فمرضت أو ماتت لخ، وهذا الذي ذكره من عدم لزوم الكراء في الأولى والشراء في الثانية انظر الحاشيتين، حاشية البناني وحاشية التاودي.

وحافتي نهرك ليبني بيتا؛ يعني أنه يجوز لك أن تواجر حافتي نهرك لمن يبني عليه بيتا أو لمن ينصب عليلا رحى، ولا يشترط هنا وصف البناء كما ذكره ابن ناجي، وهو مستفاد من قوله: وبناء على جدار. فقوله: وحافتي نهرك، عطف على مؤجر من قوله: واستئجار مؤجر، وكذا ما بعده قال التتائي: وجاز استئجار حافتي نهرك ليبني عليهما المستأجر بيتا ويصير النهر سفل ذلك البناء، وفي هذه المسألة دليل على جواز إجارة الفناء. ابن رشد في رسم تأخير صلاة العشاء في الجامع: سئل مالك عن الأفتية التي تكون في الطرق يكريها أهلها أترى لهم ذلك وهي طريق المسلمين؟ قال: إذا كان فناء ضيقا إذا وضع فيه شيء أضر بالمسلمين فلا أرى أن يمكن أحد من الانتفاع به، وأما إن كان فناء إن انتفع به أهله لم يضيق على المسلمين لسعته لم أر بذلك بأسا. ابن رشد: هذا كما قال لأرباب الأفنية أن يكروها ممن يضع فيها ما لا يضيق على المارة، فإنه إذا كان لهم أن ينتفعوا بها وكانوا أحق من غيرهم كان لهم أن يكروها؛ لأن ما

(1)

للرجل أن ينتفع به كان له أن يكريه وهذا لا أعلم فيه خلافا. اهـ. وقال الشبراخيتي: وجاز استئجار حافتي نهرك ليبني عليهما المستأجر بيتا ويصير النهر تحت سقف ذلك البناء. اهـ. وقال المواق: قال ابن القاسم: ولا بأس أن تواجر حافتي نهرك لمن يبني عليه بيتا أو ينصب عليه رحى. اهـ. وقال

(1)

في البيان ج 9 ص 342: لأن ما كان للرجل.

ص: 74

عبد الباقي: وجاز إيجار حافتي نهرك ليبني عليهما المستأجر بيتا أو ينصب رحا ماء، ولا يشترط هنا وصف البناء على الجدار كما تقدم، قال التتائي: وفيه شيء أي لأنه قد يعرض الجدار فيضيق مجرى النهر. اهـ. وقال بناني: قال الشيخ المسناوي: الظاهر أنه لا مفهوم لهذه الإضافة، بل وكذلك إذا كان النهر لغيرك ولكنه جار بأرضك فلك أن تكري حافتي النهر لأنهما لك. اهـ.

وطريق في دار، عطف على مؤجر؛ يعني أنه يجوز لك أن تستأجر طريقا في دار رجل لتتوصل بها إلى منافعك وما تريد، وإلا لم يجز لأنه من باب أكل أموال الناس بالباطل. قاله ابن يونس. وقد علمت أن الأرض كالدار فلا مفهوم لها. قاله عبد الباقي. قال الأجهوري: فإن استحق المحل بحيث صار لا نفع بالطريق انفسخت الإجارة كما يرشد له قوله آخر الشفعة كمشتر قطعة من جنان لخ، وكلام المؤلف هنا ظاهر في خلافه. اهـ. وقال الخرشي: ولا مفهوم لقوله: دار، وإنما المراد طريق في أرض غيرك كان دارًا أو أرضا أو بستانا أو نحو ذلك. اهـ. وفي الميسر عن اللخمي: أن مشتري طريق ليتوصل لدار أو أرض فاستحقت الدار أو الأرض له رد البيع، وجعل مثله مشتري ورق التوت لِدودِ الحرير فمات دود الناس، وفي المواق عن ابن يونس انظر لو مات دود الحرير أو أكثره وهذا الورق لا يراد إلا له، والأشبه أن ذلك كالجائحة، كمن اكترى حماما أو فندقا فخلا البلد فلم يجد من يسكنه. قال: وكذلك من اشترى ثمار بلد فخلا أهله أن جائحة ذلك من بائعه؛ لأن مشتريه إنما اشتراه لمن يبيعه منه، قال: وكذلك من اكترى رحا سنة فجلا أهل البلد وجلا معهم وأقام آمنا إلا أنه لا يأتيه الطعام بجلاء الناس، وهو كبطلان الرحى، ويوضع عنه قدر مدة [الجلاء

(1)

]، وكذا مكتري فندق لأيام الموسم إذا أخطأ ذلك لفتنة نزلت أو غيرها. اهـ. واعلم أنه يظهر الفرق بين مسألة الفندق ومسألة من اشترى علفا لقافلة تأتي لمحل معين، أو من اكترى دواب لحمل علف يبيعه لقافلة تأتي لمحل معين بأن الفندق لا يمكن نقله لموضع آخر بخلاف غيره والله سبحانه أعلم.

(1)

ساقط من الأصل والمثبت من الميسر ج 4 ص 16 ط دار الرضوان

ص: 75

وسيل مصب مرحاض مسيل اسم مكان أي المحل الذي يسيل فيه الماء، ومصب مصدر ميمي بمعنى مصبوب، صفة لماء أو شيء والمرحاض الكنيف؛ يعني أنه يجوز لك أن تستأجر موضعا ينصب فيه ما في مرحاضك من الفضلات وهذا إن علم عيال المستأجر، قال الشبراخيتي: وجاز استئجار مسيل أي موضع مصب مرحاض أي ما ينصب فيه من الفضلات. اهـ. وقال عبد الباقي: أيَ يجوز أن يستأجر مكانا يصب فيه الماء من قناته كما يقع ذلك عندنا بمصر فيمن يستأجر مجرى يتوصل منها ما في مرحاضه إلى الخليج. اهـ. وقال الحطاب: في المحكم: المرحاض المغتسل، ومنه قيل لموضع الخلاء: مرحاض، والحاصل أنه يجوز لك أن تستأجر محلا مملوكا لغيرك ليسيل فيه ما في مرحاضك أو ميزابك.

لا ميزاب؛ يعني أنه لا يجوز شراء ماء الميزاب لأنه يقل ويكثر ويوجد ويعدم، والميزاب الخشبة التي تكون في ظهر الدار منجورة ليجتمع فيها المطر الجاري في ظهر الدار وطرفها خارج، فيسيل الماء منه ليلا تضعف الدار بسبب الماء، وفي الخرشي: قال في التنبيه: الميزاب بكسر الميم وبعدها همزة ويجوز تخفيفها بقلبها ياء كما في نظائره، فتقول: ميزاب بياء ساكنة، ويقال أيضا: مرزاب براء ثم زاي وهي لغة مشهورة، وعلم مما قررت أن قوله: لا ميزاب، من مسائل البيع أي لا يجوز شراء ماء ميزاب، قال عبد الباقي، وغيره: أي لا يجوز أن يشتري ماء سائلا من ميزاب لعدم علمه إذ يقل ويكثر ويكون ولا يكون، وسواء طال أمد الماء أو قصر والطريق المفصلة ضعيفة اهـ وذكر هذا الفرع هنا وهو من مسائل البيع ليرتب عليه قوله:

إلا لمنزلك في أرضه؛ يعني أنه يجوز لك أن تستأجر موضعا في أرض جارك يسيل فيه ماء ميزاب منزلك، قال الخرشي: مستثنى من قوله لا ميزاب؛ أي إلا أن يكون الميزاب منسوبا ومضافا لمنزلك تستأجر من جارك مسيله ليجري ماء ميزابك في أرضه ويستقر فيها فيجوز، ويصير كمسألة مصب المرحاض، وفي بعض النسخ: إلا بميزابك، وعلى النسخة الأولى اللام للاستحقاق، وعلى الثانية اللام للتعليل. كالحبل للفرس. اهـ. قاله التتائي. وهذا الذي قررت به هو الذي تأول عليه

ص: 76

المص المدونة، قال بناني: لو قال المص: ومسيك ماء مرحاض أو ميزاب لا ماؤه في أرضك لكان أجرف على ما

(1)

قصده، وهو تأويل ابن يونس، ونص المدونة: ويجوز أن تستأجر طريقا في دار ومسيل مصب مرحاض، وأما إجارة مسيل ميزاب المطر في دار رجل فلا يعجبني لأن المطر يقل ويكثر. اهـ. ثم اختلفوا في فهم هذه الأخيرة فحملها ابن يونس على شراء ما يسيل من الماء قال: ولو أراد إجارة مسيل ماء الميزاب من داره في أرض غيره جاز، وعلى هذا التأويل مر المص، وحمله غيره على ظاهره، قيل: وهو الظاهر لقوله: أن تستأجر وأما إجارة لخ، وإطلاق الإجارة على الشراء بعيد.

(2)

اهـ.

وكراءُ رحى ماء بطعام أو غيره، معطوف على فاعل جاز؛ يعني أنه يجوز كراء الرحى التي تدور بالماء بالطعام وغيره كما في المدونة، وإنما نص على ذلك لأن الرحى لما كانت متشبثة بالأرض ويعمل فيها الطعام فقد يتوهم أنه من كراء الأرض؛ أي أرض الزراعة بالطعام، الباء في بطعام للتعويض، ولا يجوز اشتراط النقد إلا أن تكون مأمونة من نقص الماء وزيادته التي تمنع طحنها، وللمكتري القيام على رب الرحا بنقصان الماء وزيادته المانعين من الطحن بأسره أو بعضه، ويحط عنه من الكراء بقدر ذلك النقص، وإن عاد الماء في بقية المدة لزم المكتري بقدر ما بقي من المدة إلا أن يرضيا بالتفاسخ، يجوز اشتراط إسقاط القيام بذلك، فإن وقع فسخ الكراء. اهـ.

وفي المواق: من المدونة قال مالك: ولا بأس بإجارة رحى الماء بالطعام وغيره، قال ابن القاسم: فإن انقطع عنها الماء فهو عذر تفسخ به الإجارة، وإن رجع الماء بقية المدة لزمه باقيها كقول مالك في العبد المستأجر يمرض ثم يصح اهـ ومن استأجر رحى ماء شهرا على أنه إن انقطع الماء قبل الشهر

(1)

ساقطة من الأصل وقد وردت في بناني ج 7 ص 18.

(2)

في الأصل يفيد والمثبت من بناني ج 7 ص 18.

ص: 77

لزمته الأجرة كلها لم يجز ذلك. قاله الشارح. وهو نص المدونة، قال ابن ناجي: هذا إذا لم ترج إعادته أو ترجى لكن على بعد، وأما مع القرب فيجوز ذلك. قاله اللخمي.

تنبيه: يجوز في الرحا أن تكتب بألف أو ياء؛ لأن الألف المقلوبة عن واو تكتب بالألف وعن ياء تكتب بالياء وهي فيها الوجهان، فيقال في تثنيتها: رحوان ورحيان والواو هو الكثير، ويقال: حوت الرحا عملتها وأدرتها كرحيتها، والرحا مؤنثة ومن استعمالها بالياء قول مهلهل:

كأنا غدوة وبني أبينا

بجنب عنيزة رحيا مدير

وكل من مد قال: رحاء ورحاءان وأرحية، مثل عطاء وعطاءان وأعطية، والصواب ثبوت أرحية سماعا على قلة كما في القاموس وتجمع الرحا على أرحٍ وأرحاء ورحي والرَّحاء بالمد مذكر، فهي على لغة القصر مؤنثة. وعلى لغة المد بالتذكير، ولذلك جمعت على أرحية. والله سبحانه أعلم.

تنبيه آخر: إن اختلف رب الرحا والمكتري في انقطاع ماء الرحا فقال ربها: انقطع عشرة أيام، وقال المكتري. بل شهرا، فإن تصادقا في أول السنة وآخرها صدق رب الرحا، وكذلك اختلافهما في (1) انهدام البيت في بعض المدة.

ولو قال المكتري: بعد السنة كانهدام الدار وانقطاع الماء في السنة كلها فالمكتري في ذلك كله مدع، وإن قال رب الرحا أو الدار: الآن قد انقضت السنة، وقال المكتري: ما مضى منها إلا شهران وقد انهدمت الدار الآن وانقطع ماء الرحا صدق المكتري. اهـ.

قوله: إن اختلف رب الرحا والمكتري؛ يعني اختلفا في مبدإ انقطاعه واتفقا في وقت عوده، فلو اتفقا على انقطاعه واختلفا متى عادت فالقول للمستأجر الرحا مع يمينه لأن رب الرحا مدع. اهـ. انظر التتائي.

ص: 78

وعلى تعليم قرآن مشاهرة أو على الحذاق؛ يعني أن الإجارة على تعليم القرآن جائزة مشاهرة أو مسانهة أن مياومة أو ساعة من يوم، أو على الحذاق أي الحفظ للقرآن كله أو لجزء منه معين؛ وأفاد بأو أنه لا يجوز الجمع بينهما أي الحفظ والمشاهرة، ومعنى المشاهرة أن تقول له: كل شهر بكذا أو كل سنة بكذا أو كل يوم بكذا أو كل أسبوع بكذا أو نحو ذلك، ومن المدونة قال ابن القاسم: ولا بأس بالإجارة على تعليم القرآن كل سنة بكذا أو على أن يعلمه القرآن كله أو سدسه بكذا وروى ابن وهب: ولا بأس أن يشترط مع أجره شيئا معلوما كل فطر أو أضحى. قاله المواق. وقوله: الحذاق، بالذال المعجمة كذا في الصحاح وغيره. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: وفهم من قوله: أو على الحذاق، أنه لا يجوز الجمع بينهما أي الحفظ وكونه في شهر مثلا هذا هو المشهور، وقيل: يجوز. انظر ابن عرفة. اهـ المراد. وَاعلم أن من يقول: يمنع الجمع هنا بين الحذاق والأجل، يسوي بين ما هنا وما تقدم، ونص ابن عرفة: ابن حبيب قال مالك: يجوز أن يشارط المعلم على الحذقة حفظا أو نظرا ولو سميا أجلا، أصبغ: إن تم الأجل ولم يحذقه فله أجر مثله. القابسي: فرق أصبغ بين ضرب الأجل للمعلم والخياط إذا كان الفعل يمكن الفراغ منه فيه. ابن عرفة: وسوى اللخمي وابن رشد بينهما اهـ قاله البناني. وقال الشبراخيتي: وجازت إجارة على تعليم قرآن مشاهرة كل شهر بكذا أو مسانهة أو مياومة كذلك؛ لأنه عمك لا يجب عليه فجاز له أخذ الأجرة عليه أو على الحِذاق حفظا وهو حفظ كل القرآن أو جزء منه معينا، ولا يضر الخطأ في الكلمة والكلمتين، أو نظرا وهو قراءته في المصحف.

وأخذها وإن لم تشترط؛ يعني أن المعلم يأخذ الحذقة أي الاصرافة وإن لم تشترط وتسمى الختمة، وفي الخرشي: ولو عبر بأو لأفاد خلاف أبي إبراهيم القائل: لا تجب إلا بالشرط؛ يعني أن المعلم يأخذ الحذقة أي الاصرافة وإن لم تشترط أي يقضى له بها، وهذا قول سحنون خلافا لأبي إبراهيم، ولا يقضى للمعلم بهدية الأعياد والجمع، وقال الأقفهسي: مذهب مالك لا حد في الحذقة وأنها راجعة إلى حال الأب في يسره وعدمه: وينظر أيضا لناحية الصبي فإن كان حافظا فيكون خدمته

ص: 79

أكثر من الذي لا يحفظ، وينبغي للمعلم أن يضربهم على السب والكذب والهرب من الكتب وعلى المعاملة بالربا.

تنبيهات: الأول: اعلم أن المعلم يلي تعليم الصبيان بنفسه ولا يحيل بعضهم على بعض التعليم؛ لأن ذلك ينصرف إلى الفساد، ولا يفضل بعضهم على بعض في التعليم والمجلس، فإذا لم يسو بينهم كان جرحة في شهادته، ويطلقهم في النهار في ثلاثة أوقات، بعد المحو للإفطار، وقبك الظهر للغداء وبعض الراحة، ومع عشية النهار، ولا حد في الأدب، وذلك راجع إلى اجتهاد المؤدب، وقيل: ثلاثة أسواط ولا يكون الأدب إلا من أسفل القدم، وأما غير ذلك من الظهر والبطن فلا. ولا يجوز للمعلم أن يقبل هديتهم فإن فعل كان ذلك جرحة في شهادته وأمانته؛ لأن الصبي لا يجوز للمعلم قبول هديته إلا أن يفضل لهم فضلة يخاف عليها الضياع فيجوز أن يأكلها أو يتصدق بها: ولا يجوز له أن يستخدهم مثل أن يأتوا له بالماء إلا أن يشترط ذلك عليهم أو يكون لهم عادة فيجوز.

الثاني: سئل أبو عمران عن مداد الصبيان الذين لا يتحفظون من النجاسة يصيب ثوب الرجل، فأجاب: يستحب له غسله. انتهى. نقله الخرشي. الثالث: لو مات أبو الصبي أو المعلم فلا يقضى بالحذقة لأنه إن مات الأب فقد وهب شيئا لم يحز عنه حتى مات، وإن مات المعلم فهي هبة لمعين مات قبل وصولها إليه، وينبغي أن يقيد الأول بما إذا لم يشهد فيها الأب على نفسه، وعليه لو أشهد بها قضي بها وأخذت من تركته، سحنون: وإذا بلغ الصبي عند المعلم ثلاثة أرباع القرآن فقد وجبت لها الختمة، بمنزلة المدبر وأم الولد للسيد انتزاع مالهما ما لم يتقارب عتقهما بمرض السيد فلا ينتزع منهما

(1)

شيء، ثم إن الضمير في قول المص: وأخذها، للحذقة بمعنى الاصرافة التي تعطى على الأحزاب أو الأرباع والسور إذا جرى بها عرف؛ أي قضى بأخذها ممن جرت العادة بأخذها منه أبا أو غيره، وعلى هذا فقراءتها فعلا أحسن لا مصدرا لأنه لا يعلم منه هل يقضى بها أم لا. انتهى قاله الخرشي أيضا.

(1)

في الأصل: منهم.

ص: 80

الرابع: قال الخرشي: سبب مسامحة الأولاد يوم الخميس والجمعة هو أن سيدنا عمر بن الخطاب لما قدم من الشام إلى المدينة بعد أن طالت غيبته وتشوقت إليه الناس ففرحوا لقدومه وخرجوا للقائه، فسبقت إليه الصبيان لنشاطهم، ففرح بهم وبات الناس عنده ليلة الجمعة، ودخل المدينة قبل صلاة الجمعة فقال للصبيان: أنتم اشتغلتم بقدومي يوم الخميس فرحا بي وأنا قد سامحتكم هذين اليومين وخففت منكم، ودعا على من خالف ذلك بالفقر. اهـ.

الخامس: قد مر أن الضمير في قوله: وأخذها، عائد على الحذقة المفهومة من الحذاق، وقال عبد الباقي: أي أخذ المعلم الحذاقة التي هي الاصرافة وإن لم تشترط حيث جرى بها عرف، فالضمير عائد على الحذاقة باعتبار هذا المعنى الآخر، وحينئذ فهو النوع المسمى (في علم البديع بالاستخدام

(1)

) إذ لفظ الحذاق له حينئذ معنيان استعمل أولا في أحدهما وأعاد إليه الضمير باعتبار الآخر، ومحل الحذقة من السور ما تقررت فيه عرفا مثل {لم يكن} و {عم} و {تبارك} و {الفتح} {والصافات}. انتهى. فالعرف بها مختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. انتهى. وقال الخرشي: الحذاق بالذال المعجمة كما يفيده كلام الصحاح وإن فسره بأخص مما ذكرنا، فإنه قال: حذق الصبي القرآن بالذال المعجمة والفعل يحذق حذقا وحذاقة وحذاقا إذا فهم فيه وحذق بالكسر حذقا لغة فيه. انتهى. وما ذكره من تعليم الحذاق هو المشهور واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام في البخاري (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله

(2)

). وأجمع أهل المدينة على ذلك، وتكره الإجارة على تعليم الفقه وغيره من العلوم كالنحو والأصول والفرائض وغير، فكذلك تجوز الإجارة على تعليمها، وقوله: مشاهرة، بالنصب إما على الحال أو على نزع الخافض أي على المشاهرة. اهـ. وقال الشبراخيتي: قال البرزلي: وحكم القضاة فيها عندنا يعني الاصرافة من دينار إلى دينار ونصف على المتوسط، وإلى أقل فيما

(3)

دونة وقدر الدينارين على الملي إلى دينار

(1)

في الأصل بالبديع فللاخدام والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 18 والشبراخيتى ج أخير مخطوط

(2)

البخاري، كتاب الإجارة، رقم الحديث 2275؛ وكتاب الطب، رقم الحديث 5737.

(3)

في فتاوي البرزلي: فيمن.

ص: 81

ونصف

(1)

)، فإن أخرج الأب ابنه قرب محلها لزمته، وإن بقي ما له بال كالسدس ونحوه سقطت، ولو ترك المعلم التعليم وقد قارب محله منها فلا شيء له منها. اهـ.

السادس: قال البناني: قال ابن عرفة: قال القابسي: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه

(2)

). يشمل الوالد بتعليمه ولده بأجرة.

وأجاب ابن سحنون أبا ولد كان يطلب العلم عنده: إذا توليت العمل بنفسك ولم تشغل ولدك عما هو فيه فأجرك في ذلك أعظم من الحج والجهاد والرباط، فإن ترك الأب تعليم ولده القرآن لشح قبح فعله. وإن تركه لقلة يد فإن كان للولد مال فلا يدعه دون تعليم وليه أو قاض أو جماعة إن لم يكن قاض، وإن لم يكن له مال توجه حكم الندب على وليه وأمه الأقرب فالأقرب.

السابع: ذكر ابن عرفة عن القابسي أيضا أن على المعلم زجر المتخاذل في حفظه أو صفة كتبه بالوعيد والتقريع لا بالشتم نحو يا قرد، فإن لم يفد فالضرب بالسوط من واحد إلى ثلاثة ضرب إيلام دون تآثير في العضو، فإن لم يفد زاد إلى العشرة، فإن ناهز الحلم فلا بأس بالزيادة عليها. ابن عرفة: الصواب اعتبار حال الصبيان فيضرب العشرين وأزيد، ومنع الزجر بنحو يا قرد، والصواب فعل بعضهم ذلك وقد أجازوه للقاضي، وكان بعض شيوخنا يزجر به في مجلس إقرائه ونقلوه عن بعض شيوخهم، وكان يصدر كثيرا من شيخنا ابن [الحباب

(3)

] وقليلا من شيخنا ابن عبد السلام: وفائدة ذلك واضحة لمن أنصف لأنها تكسب تثبت الطالب فيما يريد أن يقوله من بحث أو نقل. اهـ. نقله بناني أيضا.

(1)

ساقطة على الأصل والمثبت من الشبراخيتي ج أخير مخطوط.

(2)

البخاري، كتاب فضائل القرآن، رقم الحديث 5027.

(3)

في الأصل ابن الحاجب والمثبت من بناني ج 7 ص 18.

ص: 82

الثامن. قال البناني. القابسي أما تعليمهم في المسجد فروى ابن القاسم إن بلغ الصبي مبلغ الأدب فاز بأس أن يؤتى به المسجد، وإن كان صغيرا يعبث فلا أحب ذلك، وروى سحنون لا يجوز تعليمهم فيه لأنهم لا يتحفظون عن النجاسة، وهذا هو الصحيح. نقله ابن عرفة.

التاسع: قال القابسي: سئل أنس كيف كان المؤدبون على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين؟ قال: كان للمؤدب إجانة يجيء كل صبي يوم نوبته بماء طاهر يصبه فيها يمحون به ألواحهم، ثم يصبون ذلك الماء في حفرة بالأرض فينشف، وينبغي أن يصب ذلك الماء في المواضع البعيدة عن النجاسة، وكان معلمنا يأمرنا بصبه في حفرة بين القبور. انظر ابن عرفة. قال البناني. قال الرهوني:

(1)

قال ابن عرفة: قال الجوهري: الإجانة واحدة الأجاني، ويقال: الجانة والإجانة التي يغسل فيها الثياب. ابن سيده: يقال: إجانة وإنجانة. اهـ. وزاد في القاموس لغة ثالثة ونصه: والإجانة بالكسر مشددة والإجانة مكسورتين معروفة والجمع الأجاجين. والأجانة تمتنع الفصحاء من استعمالها. اهـ. وهي المسماة في عرف الناس اليوم بالجفنة، والأوقاف على من يقرأ القرآن إن لم يكن ثواب القرآن هل للقارئ أو للمستمع؟ كان ابن عرفة يقول: هما شريكان، ولا يبطل ثواب القارئ بكونه يقرأ بإجارة كالإمام يستأجر على أن يؤم، فإن فضل الجماعة مشترك بين الجميع. نقله في الدر النثير.

العاشر: قال الرهوني: ابن عات: شهد رجل عند السوَّار بن عبد الله القاضي، فقال: ما صناعتك؟ فقال: أنا مؤدب؛ فقال: أنا لا أجيز شهادتك، فقال: ولم؟ قال: لأنك تأخذ على القرآن أجرا، فقال له الرجل: وأنت لا تأخذ على القضاء أجرا، فقال: إني أكرهت على القضاء،

(1)

نص ما في الرهوني قال الجوهري الإجانة واحدة الإجاجين ولا يقال انجانة وقال في باب آخر المركن بالكسر الاجانة التي يغسل فيها الثياب ابن سيده يقال إجانة وإنجانة اهـ منه بلفظه وما ذكره عن ابن سيده جزم به في القاموس وزاد لغة ثالثة ونصه والاجانة بالكسر مشددة والإنجانة والإلجانة مكسورتين معروفة الجمع أجاجين اهـ منه بلفظه وفي المصباح ما نصه والإجانة بالتشديد إناء يغسل فيه الثياب والجمع أجاجين والإنجانة لغة تمتنع الفصحاء من استعمالها اهـ منه بلفظه الرهوني ج 7 ص 15 والذي في القاموس وتاج العروس والاجانة بالكسر مشددة والإيجانة والإنجانة مكسورتين لخ

ص: 83

فقال له: إن أكرهت على القضاء فهل أكرهت على أخذ الدراهم، فقال له: هات شهادتك فأجازها، وسوار بن عبد الله القاضي أبو عبد الله بصري ثقة وهو بشد الواو، وكان بالبصرة أربعة كل واحد منهم لا يعلم في زمانه في الأمصار مثله، سوَّار في عدله وتحريره للحق: والحَسَن في زهده وفصاحته وسخائه وموضعه من قلوب الناس، والمهلَّب بن أبي صفرة في عقله ورأيه وطاعته، والأحنف بن قيس في حلمه وعفافه ومنزلته من علي رضي الله تعالى عنه.

الحادي عشر: قال مالك: لم يبلغني عن أحد كراهية تعليم القرآن والكتابة بأجر، قال ابن حبيب: وما روي من النهي في ذلك فذلك في أول الإسلام والقرآن قليلٌ في صدور الرجال، فأما بعد أن فشا وانتشرت المصاحف فلا، وكان مالك وجميع علماء المدينة يجيزون أخذ الأجرة على تعليم الصبيان للكتب والقرآن. وفي أجوبة ابن رشد: وسئل عن إجارة معلم القرآن؟ فأجاب: بأن مذهب مالك وجل أهل العلم أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن جائزٌ، ومن لم يجز ذلك من أهل العلم اشترط ذلك أو لم يشترطه أو لم يجزه له مع الشرط فمحجوج بمن أجاز ذلك؛ لأنهم القدوة والجمهور، والحجة لهم من طريق الأثر الحديث الذي قصصته في سؤالك بالنص على إجازته وما كان مثله وفي معناه، ومن طريق النظر والقياس أن هذا عمل لا يلزمه أن يعمله فجائز أن يأخذ الأجرة عليه وإن كان فيه قربة، كالاستيجار على بنيان المساجد وشبهه. انظر الرهوني. وقال الدرعي: قال ابن هلال: يجب على المعلم أمرُهم بالصلاة ويؤدبُهم على تركها وتعليمُه إياهم أحكامَها وأحكام الطهارة والعقيدة وما لا بد منه من الحلال والحرام، ويعفى عن مدادهم ما لم تنحقق نجاسته. اهـ. وسئل سحنون عن المعلم يعلم الصبيان بغير شرط فيُجري له الدرهم والدرهمين كل شهر ثم يجئ المعلم يطلب الحذقة ويأبى الأب ويقول حقك فيما قبضت، قال: ينظر إلى سنة البلد فيحملون عليها، وليس في الحذقة حد معروف إلا على قدر الرجل وحاله. قال: وإذا بلغ الصبي عند المعلم ثلاثة أرباع القرآن فقد وجبت له الختمة. ابن حبيب: نحن نوجب حق الحذقة ونقضي بها للمعلم. قاله المواق.

الثاني عشر: اعلم أنه يكفي وإباحة انتصابه ستر حاله للمتزوج، ويسأل عن غيره فإنما لم يسمع عند إلا العفاف أبيح له، ويمنع من يتحدث عنه بسوء، وبهذا جرف العمل وهو الحق، وقال

ص: 84

البرزلي في نوازله: الصواب اليوم المنع للعزب مطلقا ما لم يكن شيخا كبيرا لغلبة الشهوات على النفوس إلا من عصمه الله بدينه وقليل مَّا هم: وهي معصية هلك بها أمة من الأمم، فالصواب أن لا يتولى إلا متزوجٌ مشهورٌ بالعفاف أو شيخ كبير لا أرب له. نقله الرهوني. وقال: قال ابن عرفة: وأما حكم بطالة الصبيان فقال سحنون: تسريحهم يوم الجمعة سنة المسلمين، ابن عبد الحكم: لمن استؤجر شهرا بطالة يوم الجمعة وتركهم من عشي يوم الخميس لأنه أمر معروف، وبطالتهم كل يومه بعيد، وبطالتهم في الأعياد على العرف، وهي في الفطر ثلاثة أيام وكذا في الأضحى، ولا بأس بالخمسة، سحنون من عمل الناس بطالة الصبيان في الختمة اليومَ وبعضَه، ولا يجوز أكثر من ذلك إلا بإذن أولياء الصبيان، قيل له: ربما أهدى الصبي للمعلم ليزيده في البطالة، قال: هذا لا يجوز. القابسي: ومن هنا سقطت شهادة أكثر المعلمين لأنهم غير مؤدين ما يجب عليهم إلا من عصمه الله تعالى، وبعثهم لمن تزوج أو ولد له ليعطوا شيئا يأتون به مؤدبهم لا يجوز، وكذا من بيوت آبائهم إلا بإذنهم، قلت: بعثهم لدار بعض الأولاد لختمة أو لِنِفَاسٍ أو ختان أمر معروف ببلدنا، والغالب أنه لا يكون الولد يسير لذلك إلا بعلم وليه لأنهم لا يمشون لذلك بمعهود ثيابهم، بل بثياب التَّزَيُّنِ والتجمل في الأعياد، قال: واتخاذه بعضهم يملي على بعض حسن، ولا يجوز بعثهم في حوائجه، لا ينبغي أن يتشاغل عن تعليمهم بشيء، وإن نزلت به ضرورة استناب مثله فيما قرب. اهـ. قلت: ظاهر قوله: أن بعثهم بإذن أوليائهم لعرس ونحوه جائز مطلقا، وقال البرزلي عقب ما ذكره: قلت: وهو عندنا بالقيروان أمر معروف في نفاس الذكور، فهو جائز إلا أن يأخذوا شيئا بغير طيب نفوس أربابه فلا يجوز. اهـ. وظاهر قول ابن عرفة: وكذا من بيوت آبائهم إلا بإذنهم، أنه يجوز قبوله مع إذنهم مطلقا، ولكن يجب تقييده بما ذكره هو نفسه قبل، فإنه لما ذكر عن ابن حبيب استحباب إعطاء العلم في أعياد المسلمين قال متصلا به: ويكره في أعياد النصارى كالنيروز والمهرجان؛ أي لا يجوز فعله ولا يحل لمن قَيله لأنه من تعظيم الشرك، قلت: فلا يحل على قوله قبول هدايا النصارى من أعيادهم للمسلمين وكذا اليهود، وكثيرٌ من جهلة المسلمين من يقبل منهم في عيد الفطيرة عندهم. اهـ. قال جميعه الرهوني. وإذا أتى الصبي بشيء للمؤدب وزعم أن أباه أعطاه ذلك فإن جرت عادة بهدية

ص: 85

الأب للمؤدب فيأخذها إلا أن يأتي بما يستنكر أو في غير وقت اعتياده ذلك، ومكن عبد الله بن غانم لولده عشرين دينارا يعطيها لمؤدبه لكونه أحسن الفاتحة قراءة فمكنها له فجاء بها المؤدب إلى ابن غانم: فقال ابن غانم فكأنك استقللتها؟ فقال: لا ولكن ظننت بالصبي، فقال له ابن غانم: لحرف واحد مما علَّمته يعدل الدنيا وما فيها. البرزلي: وصدق لأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة في حال من أحوالها فأحرى في أمور الآخرة. اهـ. نقله الرهوني. وفيه عن ابن عرفة: لا تقبل شهادة بعضهم على بعض إلا من عرف بالصدق فيقبل قوله. اهـ.

الثالث عشر: جرت عادة كثير من المؤدبين بزجر الصبيان باللعنة له ولأبيه وجده وذلك مما لا يجوز، وقد وقع في نقل الأبي عن شيخه ابن عرفة ما يوهم الجواز فإنه قال في إكمال الإكمال عند تكلمه على قوله صلى الله عليه وسلم: (ولعن المؤمن كقتله

(1)

). المازري: في الإثم. عياض: وقيل: في الحرمة. ووجه التشبيه أن القصد باللعن قطعه عن الرحمة كما يقطعه القتل عن التصرف، وقيل: لأن القصد بها إخراجه عن المؤمنين فينقص عددهم كما ينقص عددهم بقتله، وقيل: لأن اللعنة تقتضي قطع منافعه الأخروية فهو كمن قتل في الدنيا، قلت: ولا فرق بين أن يقول: لعنه الله أو هو في لعنة الله. وكان الشيخ يقول: إن اللعن في سياق التأديب لا يتناوله الحديث. اهـ. فقوله عن الشيخ ومراده به الإمام ابن عرفة لا يتناوله الحديث يوهم جوازه والظاهر أن مراده لا يتناوله خصوص هذا الوعيد وإن كان يحرم عليه ذلك، فقد نص الأبي وغيره أن لعن المعيَّن لا يجوز إن كان كافرا ولم يستثنوا مؤدبا ولا غيره، وهذا كله في اللعن بتقديم اللَّام على العين وتأخير النون عنها كما هو نص الحديث وصريح كلام الأبي عن شيخه، والواقع اليوم في عبارة الناس تقديم النون وتأخير اللام، ولا شك أن مدلول هذا وضعا لا محذور فيه، وفي الأبي متصلا بما قدمناه عنه وما يجري على ألسنة العوام من قولهم نعله الله بتقديم النون ليس بلعن لأنه من النعال. اهـ. قلت: هو كما قال ولكن قائله إنما يقصد به مدلول اللعن بتقديم اللام وقد ورد في الأحاديث وكلام الفقهاء في غير ما مسألة ما يدل على أن المدار على المقاصد لا على مدلول الألفاظ

(1)

مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث 110.

ص: 86

في أصل وضعها. فتأمله. والله تعالى أعلم. وفي الشوشاوي: إذا تفرق أصحاب المعلم تبع الأكثر وله على الأقل أجره سواء تفرقوا اختيارا أو لا. وأما الراعي فله أجره إن تفرقوا اختيارا وإلا فله بقدر ما رعى. اهـ.

وإجارة ماعون، الجوهري: الماعون منافع البيت؛ يعني أنه تجوز إجارة الماعون، ومثل له بقوله: كصفحة وقدر، وفي أشبه ذلك، قال عبد الباقي: وإجارة ماعون كصحفة وقدر، نص على جواز إجارة ما ذكر كان مما يعرف بعينه أم لا ردا لقول ابن العطار ومن وافقه بمنع ما لا يعرف بعينه كقدور الفخار يغيرها الدخان بحيث لا تعرف إلا أن ينقش عليها. اهـ. وإشارة إلى أنه ليس المراد بالماعون في الآية الشريفة الصحفةُ والقدر ونحوهمَا إذ لوأريد ذلك ما جازت إجارته لأنها تقتضي أن له أن يمنع عاريته إن شاء، والمشهور في الآية أنها الزكاة، ويدل عليه إقرانه بقوله:{الذين هم يراءون} . قاله أبو الحسن. والأولى أن يقول المص: آلة، بدل ماعون ليشمل الغربال والمنخل لأن الماعون الوعاء. اهـ. ونحوه للخرشي. وقال التتائي: وفيها لمالك: وتجوز إجارة المكيال والميزان والدلو والفأس وشبه ذلك، وقد قيل في قوله تعالى:{ويمنعون الماعون} : ذلك مثل الفأس والدلو وقيل الزكاة. اهـ. وفي المواق: من المدونة: تجوز إجارة الآتية والقدر والصحاف.

وعلى حفر بئر؛ يعني أنه تجوز المعاقدة على حفر لبئر لكن تارة تكون إجارة، بأن وصف له البئر وعين مقدار الحفر في ملكه أو في الموات، وإذا انهدمت قبل تمام العمل فله بحساب ما عمل، وإن انهدمت بعد الفراغ من عملها فله جميع الأجرة، وتارة تكون جعالة، فلا يستحق شيئا إلا بتمام العمل، والفرق بين الإجارة والجعالة أن الجعالة لا تكون إلا فيما لا يحصل فيه نفع للجاعل، بخلاف الإجارة: ولهذا لا يجوز أن يجاعله على حفر بئر إلا في الموات، فإذا جاعله على حفر بئر في الموات فحفر نصف البئر وترك العمل فلا شيء له، إلا أن يستأجر من يتمها أو يجاعله أو يتمها بنفسه وعبيدة كما يأتي في باب الجعل، قال البناني: وهذا هو المصرح به في سماع أصبغ عن ابن القاسم كما سيأتي، وإنما يبطل جعل العامل إذا ترك العمل ولم يحصل للجاعل نفع بما عمله. اهـ. وقال الخرشي: والمراد بالبئر البئرُ اللغوية وهي خرق الأرض، بَأرْتُ الأرض خرقتها، يعني سواء كان بئرا أو بركة أو خليجا أو قناة أو نحو ذلك، فلا يقال لو قال: كبيرٍ، كان أولى.

ص: 87

وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: لو آجرته على حفر بئر من صفتها كذا ثم انهدمت فله بحساب ما عمل، ولو انهدمت بعد فراغها أخذ جميع الأجرة حفرها في ملكك أو في غير ملكك من الفلوات. ابن يونس: لأنها إجارة والإجارة تجوز في ملكك أو غير ملكك من الفلوات: إلا أن تكون بمعنى الجعل تجعل له دراهم معلومة على أن يحفر لك بثرا من صفتها كذا وكذا فحفر نصفها ثم انهدمت، فإن انهدمت في هذا قبل إسلامها إليك فلا شيء له، إسلامها إليك فراغه من حفرها، وقد قال مالك في الأجير على حفر بئر إن انهدم قبل فراغه فلا شيء له، وإن انهدم بعد فراغه فله الأجر. قال ابن القاسم: وهذه الإجارة فيما لا يملك من الأرضين. ابن يونس: يريد أنه جعل. قال ابن المواز: لا يكون الجعل في شيء إذا أراد المجعول له ترك العمل بعد أن شرع يبقى من عمله شيء ينتفع به الجاعل. قال أبو محمد: وهذا أبين فرق بين الجعل والإجارة. قال ابن المواز: فأما البناء والحفر فيما يملك من الأرضين فلا يجوز فيها إلا الإجارة. انتهى. وفي التتائي: وجاز العقد على حفر بئر ويكون إجارة إن عين مقدار العمل وصفته، وله بحساب ما عمل، وجميع الأجرة إن انهدمت بعد الفراغ، ويكون جعالة إن لم يعين ولا شيء له إلا بتمام العمل. اهـ المراد منه. وقال عبد الباقي: في كلامهم ما يدل على أنه لا بد من الوصف في كل، وأنه متحد كقوله: اعمل لي بئرا طولها كذا وعرضها كذا وعمقها كذا. اهـ.

قال مقيده عفا الله عنه: والفرق بينهما هو ما مر أن الجعالة لا تكون إلا فيما لا يحصل منه نفع للجاعل. اهـ. وقال عبد الباقي: وقدرنا الفاعل معاقدة دون إجارة لأنه يؤدي إلى تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره وهو ممتنع. اهـ. وفي التتائي: قال مالك: ولا بأس بالإجارة على حفر بئر بموضع كذا عمقها كذا وقد خبرا الأرض، فإن لم يخبُراها لم يجز لأنه قد يسهل أعلاها ثم يظهر حجر أو صلابة، هذا هو المشهور، وعن ابن القاسم: إن جهلا الأرض جاز كما إذا عرفاها، وإن عرفها أحدهما فقط لم يجز الجعل فيه. اهـ. وحاصل ما ذكره الدرير والدسوقي أنه إذا وقع العقد على الحفر فيما يملك كان إجارة سواء صرح بالإجارة أو ذكر ما يدل عليها كقوله: فإن انهدمت قبل تمام العمل فلك بحساب ما عملت أو لم يذكر ما يدل على شيء أصلا، فإن ذكر ما يدل على الجعالة كان جعالة فاسدة لانتفاع المجاعل بما قبل تمام العمل باطلا بلا عوض، وأما إن وقع

ص: 88

العقد على الحفر فيما لا يملك، فإن صرح بالإجارة أو بما يدل عليها كان إجارة، وإن صرح بالجعالة أو بما يدل عليها كقوله: ولك بتمام العمل كذا، كان جعالة، وإن لم يصرح بواحد منهما ولم يأت بما يدل عليها، فانظر هل يحمل على الإجارة أو الجعالة؟ أو يكون فاسدا. انتهى.

تنبيه: قد ختم هذه المسألة غير واحد بمثال فيه غموض، وهو: ما إذا استأجره على حفر بئر عشرة أذرع، في عشرة أذرع أي عشرة طولا مع عشرة عرضا، وعلى أن عمقها عشرة فعمل خمسة في خمسة، أو استؤجر على أن يعمل صندوقا عشرة في عشرة ففعل خمسة في خمسة، وظاهر الحال أن لهذين نصف الأجرة لأنهما عملا خمسة وهي نصف العشرة وليس كذلك، بل له في مسألة البئر الثمن، وفي مسألة الصندوق الربع، ووجْهُ صحة ذلك أن البئر كلما نزَّل فيه ذراعا فقد شال منه بساطا ساحته عشرة في عشرة وذلك مائة، فكل ذراع ينَزِّله في البئر مائة فجملة ذلك ألف ذراع، والمستأجر عليه ألف ذراع، فإن عمل خمسة في خمسة شال في الذراع الأول تراب خمسة في خمسة وذلك خمسة وعشرون، فكل ذراع من هذا المعمول خمسة وعشرون والأذرع المعمولة خمسة في خمسة وعشرين بمائة وخمسة وعشرين، وذلك جميع ما عمله، ونسبتها للألف الثمن، فيستحق الثمن، وأما الصندوق فليس فيه عمق وإلا استوت المسألتان، بل ألواح ستة يلفقها أربعة أجناب وواحد قعر وواحد غطاءٌ، وكل لوح منها مائة ذراع لأنه عشرة في عشرة، فجملتها ستمائة ذراع، فإذا عمله ستة ألواح كل لوح خمسة في خمسة فجملة الألواح مائة وخمسون ذراعا، ونسبتها إلى الستمائة ربع، فله ربع الأجرة. قوله: فليس فيه عمق؛ يعني أن العمق في مسألة الألواح ليس من عمل الأجير بخلاف مسألة البئر فالعمق كائن في كل منهما، لكن في مسألة البئر حو من عمل الأجير بخلاف مسألة الصندوق. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه. والله سبحانه أعلم. قال التتائي: قال القرافي: وكم يخفى على الفقيه والحاكم الحق في مسائل كثيرة بسبب الجهل بالحساب والطب والهندسة، فينبغي لذوي الهمم العالية أن لا يتركوا الاطلاع على العلوم ما أمكنهم:

ص: 89

فلم أر في عيوب الناس عيبا

كنقص القادرين على التمام

ولما تكلم على الممنوع والجائز، تكلم على المكروه فقال:

ويكره حلي؛ يعني أن إجارة الحلي مكروهة والمراد به غير المحرم الاستعمال، وهل الكراهة لنقصه وقد أخذ في مقابلته نقدا أو لأنهم كانوا يرون إعارته زكاته؟ خلافٌ. قال البناني: تعليل كراهته بأن الاستعمال ينقصه فيدخله ذهب أو فضة إلى أجل أصله لابن العطار، وتعقبه ابن الفخار بأنه كلام غير معقول، والمشاهدة تبعده؛ لأن الحلي من الجامدات فلا يؤثر فيه الانتفاع. اهـ. فالصواب تعليل ابن يونس بأنهم كانوا يرون أن إعارته زكاته. اهـ. وقال التاودي: كون العلة نقصه غير ظاهر لأنه يقتضي الجواز حيث كانت الأجرة غير نقد ولأنه يقتضي المنع لا الكراهة. اهـ. وقوله: حلي، إما مفرد فيكون بفتح الحاء وسكون اللام، وإما جمع فيكون بضم الحا، وكسر اللام، وقوله: ويكره حلي؛ أي حلي ذهب أو فضة، وقوله: حلي، على حذف مضاف أي إجارته قال المواق من المدونة قال ابن القاسم: لا بأس بإجارة حلي الذهب بذهب أو فضة. واستثقله مالك مرة وخففه مرة. ابن يونس: قال مالك: ليس كراء الحلي من أخلاق الناس. معناه أنهم كانوا يرون زكاة الحلي أن يعار فلذلك كرهوا أن يكرى. اهـ.

فرع: في الذخيرة عن ابن رشد: الحوانيت المبنية بالمال الحرام يكره كراؤها ولا يحرم؛ لأن البناء لبانيه والحرام مرتب في ذمته، وكذا المسجد تكره فيه الصلاة فقط، وأما مسجد بني بمال لم يعلم أن ربه اكتسبه مماذا فسبيله سبيل الفيء لا سبيل الصدقة على المساكين، فتجوز الصلاة فيه دون كراهة. نقله عبد الباقي.

كإيجار مستأجر دابة، قال الخرشي: هذا من باب إضافة المصدر إلى فاعله، والمعنى أن من استأجر دابة لركوب يكره له أن يكريها لمثله ليركبها، وإن وقع وضاعت فلا ضمان عليه حيث كان مثله في خفته وأمانته، فالتشبيه في الكراهة. اهـ. وقال عبد الباقي: كإيجار مستأجر دابة، أي كما يكره لمن استأجر دابة للركوب أن يؤجرها لمثله، فالمصدر مضاف للفاعل، وإن وقع وضاعت فلا ضمان عليه، ومحل الكراهة إن لم يؤجرها بحضرة ربها أو يؤجرها وارثه لموته أو

ص: 90

يَبدُ لَه الإقامة وعدم الركوب إلى المحل الذي أكراها إليه كما ذكره ابن الحاجب، وظاهر ابن المواز وإن لم يضطر إلى ذلك، وحملنا كلامه على ما إذا اكتراها لركوب؛ لأنه يجوز لمن استأجرها للحمل أن يكريها لحمل مثله، كما يفيده ما يأتي عند قوله: وفعل المأذون. انتهى. قال بناني: قيد اللخمي جواز كرائها إذا كانت مكتراة للحمل بأن يصحبها ربها في السفر، وأما إن كان المكتري هو الذي يسافر بها فهي بمنزلة التي للركوب، وكذلك ذكر ابن يونس عن ابن حبيب وقَبله. زاد ابن حبيب: إلا أن يكون ربها يعلم أن المكتري لا يسوقها بنفسه فلا حجة له. اهـ. نقله الحطاب. وكلام الحطاب الذي أشار إليه هو قوله: ما ذكره من الكراهة إنما هو إذا اكتراها للركوب، قال في الإجارة منها: وكره ملك لمكتري الدابة لركوبه كراءها من غيره كان مثله أو أخف منه، فإن أكراها لم أفسخه، وإن تلفت لم يضمن إن كان أكراها فيما اكتراها فيه من مثله في حاله وأمانته وخفته، ولو بدا له عن السفر أو مات أكريت من مثله في مثل ما اكتراها له. أبو الحسن: عن ابن يونس: من غير كراهة. وقيد اللخمي جواز كرائها إذا كانت مكتراة للحمل بأن يصحبها ربها في السفر، وأما إن كان المكتري هو الذي يسافر بها فهي بمنزلة التي للركوب، وكذلك ذكر ابن يونس عن ابن حبيب وقَبله، وزاد ابن حبيب: إلا أن يكون ربها يعلم أن المكتري لا يسوقها بنفسه، فلا حجة له. وذكر اللخمي أنه إذا أراد كراءها من غيره وكان اكتراها للركوب أو للحمل لم يكن له ذلك حتى يُعلِمَ صاحبها، فإن أعلمه وسلم أن الثاني كالأول أكراها وإن كره، وإن خالف في ذلك رفع، فإن كان الأمر على ما قال صاحب الدابة منعه، وإن كان لا مضرة عليه مضي كراؤها ومكن الثاني، فإن لم يعلم صاحبها حتى سافر الثاني أو عَلِم وغلبه نظر في ذلك، فإن كان الأمر لو رفع للحاكم مكنه من السفر لم يكن عليه شيء، وإن كان يمنعه من السفر كان على حكم المتعدي، فإن سلمت أخذه بفضلِ كراء الثاني عن الأول، وإن حدث عيب ضمنه إن كان العيب لأجل ركوبه، وإذا كان متعديا في كرائها من الثاني بأن كان غير مأمون وادعى ضياعها، ضمن الأول لأنه متعد، ولم يرجع على الثاني لأنه أذن له، ولو كان الأول

ص: 91

عديما، إلا أن يكون الثاني عالما بتعديه فيضمن لأنه متعد، واختلف إن حدث عيب من غير سبب الركوب هل يضمنه الأول أو لا يضمنه؟ وكذلك إذا علم الضياع ببينة أو أكراها من أمين أضر منه في الركوب وادعى الضياع، هل يضمن أم لا؟ لأنه غير الوجه الذي تعدى به، ولا أرى أن يضمن الأول إلا أن يؤتَى من سبب الوجه الذي تعدى به. اهـ. قال الحطاب: علم منه أنه إذا علم صاحبنها عند كرائها من غيره لم يكره، وأن كراءه إياها ممن ليس مثله ممنوعٌ لأنه جعله متعديا. والله سبحانه أعلم. انتهى.

فرع: لو شرط عليه أنه لا يكريها لمثله فهو شرط يناقض المقصود، فيفسد به العقد، فإن حذف صح العقد.

أو ثوب؛ يعني أنه يكره لمن استأجر ثوبا للبسه أن يكريه لمثله، وضمنه المكتري الأول إلا لبينة على تلفه من غير تعدي الثاني؛ لأن الضمان ضمان تهمة فيزول مع البينة، لا ضمان عداء. كذا يظهر. قاله عبد الباقي. وقال والظاهر أنه يجري في الثوب نحو ما تقدم، فإذا استأجره ليحمل فيه شيء

(1)

فلا يكره أن يؤجره في حمل مثله، وله أن يؤجره بحضرة ربه، ولعدم إرادة لبسه أو وارثه لموته، وقد استفيد مما ذكرناه أن الكراهة حيث جهل رضي المكري وعدم رضاه فإن علم رضاه. لم يكره، وإن علم عدمه فانظر هل يكون ذلك كشرطه أن لا يكري لمثله فيفسد العقد لأنه شرط مناقض لمقتضاه إلا أن يسقطه بأن يرضى بالكراء لمثله؟ أو لا يكون كالشرط فالعقد صحيح ويحرم عليه فعل ذلك، وينبغي أن تكون الكتب كالثياب لاختلاف استعمال الناس فيها، وعلم مما قررت أن قوله لمثله راجع للدابة وللثوب، ومفهوم: مثله، أنه لا يجوز له أن يكري الدابة ولا الثوب ممن ليس مثله كما مر في الدابة، وقوله: دابة، يتنازعه إيجار ومستأجر، ويصح تنوين مستأجر وإضافته إلى دابة والله تعالى أعلم وما مر من التفرقة بين الدابة فلا يضمنها والثوب فيضمنه. نحوه في المدونة. قال في التوضيح: الذي في المدونة أنه يضمن الثوب إذا هلك بيد الغير لاختلاف حال الناس في اللبس، ولا يضمن إن هلك بيده. انتهى. وقال الحطاب: قال في مسألة

(1)

في عبد الباقي ج 7 ص 20 شيئا.

ص: 92

كراء الثوب: فإن هلك بيدك لم تضمنه، وإن دفعته إلى غيرك كنت ضامنا إن تلف، أبو الحسن: ظاهره ولو كان مثله. وقال سحنون: لا يضمن إذا كان مثله، ومسألة من اكترى فسطاطا إلى مكة فأكراه من مثله في مثل حاجته إليه هي الأصل. وقال ابن القاسم فيها: ذلك جائز قال في التوضيح: وفي استدلال سحنون نظر؛ لأن الاختلاف في اللبس أكثر من الاختلاف في الفسطاط. انتهى. وهذه النسخة التي شرحت عليها المصنف هي لابن غازي وهي بينة موافقة لما في الإجارة من المدونة، وفي بعض النسخ: كإيجار مستأجر دابة أو لفظ لمثله، ومعناها أن الفظ إذا استأجر دابة ليركبها فإنه يكره له أن يكريها لفظ مثله يركبها، وهو معطوف على محذوف أي لغير فظ، أو لفظ فيكره له أن يكريها لفظ مثله، فإن قيل: هذا يستفاد من المعطوف عليه فما فائدته؟ فالجواب: أنه لما كان يتوهم فيه الجواز لكون رب الدابة دخل على إعطائها لفظ فتساهل فيها فنبه عليه لذلك، وقوله: لفظ الفظ من الرجال الجافي الغليظ، وقد فظظت يا رجل بالكسر، والفظ أيضا ماء الكرش. قال سيدنا زيد الخير رضي الله تعالى عنه:

كأن لهم إذ يعصِرون فُظوظَها

بدَجلةَ أو فَيضِ الأُبُلَّةِ مَوْرِدُ

إذا ما استَبَالُوا الخيلَ كانت أكُفُّهم

وقائِعَ للأبوالِ والماءُ أبْرَدُ

وقال التتائي: كإيجار مستأجر دابة ليركبها فآجرها لمثله، ففي جُعل المدونة وإجارتها: كره مالك لمكتري الدابة لركوبها [كراؤها من غيرها]

(1)

وإن كان أخفَّ منه أو مثله، فإن أكراها لم أفسخه، وإن تلفت لم يضمن إذا أكراها فيما اكتراها فيه من مثله في حالته وأمانته وخفته، وفيها أيضا: من اكترى دابة ليركبها بنفسه ليس له أن يكريها من غيره وإن كان مثل حاله وخفته؛ لأنه قد يجد من هو مثله في الأمانة والحالة والخفة ولا يكون مثله في الرفق، وربما أشعر قوله: لمثله بأن ذلك في الركوب، فلو اكتراها لغير الركوب لم يكره، وهو كذلك ففي توضيحه عن محمد: لم يختلف من أدركت من العلماء في إجازة ربح الكراء في الدور والسفن والمتاع وسائر

(1)

وفي التهذيب ج 3 ص 353: كراها من غيره.

ص: 93

الصناعات في مثل ما اكترى، وقد استثقله مالك في الركوب إلا أن يقيم أو يموت، ولم يختلف قوله في الأحمال. انتهى. وقوله: إلا أن يقيم أي إلا أن يبدُوَ له أن يقيم أو يموت، وفي ابن عرفة: وفيها ولمكتري الدابة للحمل والسفينة والدار كراؤها من مثله في مثل ما اكتراها له، وكذلك الفسطاط له كراؤه من مثله في حاله وأمانته وصنعه فيه، وبهذا يظهر لك أن قول البساطي: إذا اكتراها لغير الركوب فإنه أيضا مكروه غيرُ ظاهر. اهـ. وقال المواق في سماع عيسى: أن من استأجر أجيرا يعمل له، له أن يؤاجره من غيره لأنه قد استحق منافعه.

وتعليم فقه؛ يعني أن الإجارة على تعليم الفقه مكروهة. وفرائض؛ يعني أنه تكره الإجارة على تعليم الفرائض أي المواريث، وأما أخذ الأجر على تعليم عمل الفرائض فلا كراهة فيه، كما قاله أبو الحسن. وقوله: وفرائض، من عطف الخاص على العام، وإنما كرهت الإجارة على تعليم الفقه وعلم الفرائض ليلا يقل طالب ذلك والمطلوب خلافه. قاله غير واحد. وكذا تكره الإجارة على تعليم نَحْوٍ وشِعْرٍ: وعلى كتابة ذلك، وعلى نوح أي تَغَنِّي متصوفة، وعلى رسائل وأيام العرب، ومنعت على هجو وغناء محرم، والفرق بين الفقه والقرآن أن الإجارة على تعليم الفقه ليس عليه العمل عندهم، بخلاف الأخذ على القرآن فقد جرى به العمل عندهم وهو ظاهر، وهذا الفرق هو الحق لا ما لعبد الباقي، فقد رده البناني. والله تعالى أعلم. وقوله: وتعليم فقه وفرائض، كذا في المدونة، وقال ابن يونس: الصواب جواز الإجارة على تعليم ذلك. اللخمي: يختلف في الإجارة على تعليم العلم وكتْبه وبيع كتبه، ولا أرى أن يختلف اليوم في جواز ذلك؛ لأن حفظ الناس وأفهامهم نقصت وقد كان كثير ممن تقدم ليس لهم كتب، قال مالك: لم يكن للقاسم ولا لسعيد كتاب، ولقد قلت لابن شهاب: أكنت تكتب العلم؟ فقال: لا. فقلت: أكنت تسألهم أن يعيدوا عليك الحديث؟ قال: لا. فهذا كان شأن القوم، فلو سار الناس اليوم بسيرهم ذلك لضاع العلم وذهب رسمه، والناس اليوم يقرءون كتبهم ثم هم في التقصير على ما هم عليه، ثم قال: ويجوز للمفتي أن يكون له رزق من بيت المال، والأجرة على القضاء والفتيا رشوة قال ابن عرفة بعت نقله في الأجر على الشهادة خلافا، "وكذا في الرواية: ومن شغله ذلك عن جل تكسبه فأخذه

ص: 94

الأجرة من غير بيت المال

(1)

عندي خفيف، وقد مر أن الإجارة على تغني المتصوفة مكروه، قال عياض: معناه نوح المتصوفة وأناشيدهم المسمى بالتغني على طريق النوح والبكاء، وفي المواق: قال في المدونة: وقد كره ملك القراءة بالألحان فكيف بالغناء، وكره مالك بيع الأمة بشرط أنها مغنية، قال ابن القاسم: فإن وقع فسخ البيع. قال سحنون: وينبغي أن تباع ولا يذكر غناءها، فإذا تم البيع ذكر ذلك فإما رضيها المبتاع أو ردها، وفي كتاب ابن المواز: لا ترد إلا أن يشترط ذلك في البيع فيفسخ. اهـ. وفي التتائي بعد أن ذكر الكراهة، وقيل: تجوز في الفقه والنحو والرسائل وأيام العرب، ومنع ابن القاسم ذلك على تعليم شعر ونحو، فأما على الهجو والغناء فممنوعة اتفاقا انتهى وقال الخرشي: قال الشارح: قال في المدونة: وأكره الإجارة على تعليم علم الشعر والنحو وعلى كتابة ذلك، وإجارة كتب فيها ذلك. اهـ المراد منه.

كبيع كتبه؛ يعني أن بيع كتب الفقه مكروه، وقوله: كبيع كتبه، قال عبد الباقي: أي ما ذكر.

قال أحمد: اللخمي: وعليه تكره الإجارة على كتابته. اهـ. وكذا ما ألحق بهما فيما يظهر لكراهة الإيجار عليهما كما مر، وهذا في غير المفلس كما قدمه في بابه؛ والفقه لغة الفهم واصطلاحا - وهو المراد هنا- العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، فيخرج نحو:{وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة} ، ونحو:{إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} . الآية. فلا يسمى فقها، ولذا قالوا: ضروريات العلوم لا تعد من مسائله. انتهى وقال التتائي: وتكره الإجارة على تعليم فقه كبيع كتبه، كرهه مالك. اللخمي: وعليه تكره على كتابته. ولمحمد بن عبد الحكم بيعت كتب ابن وهب بثلاثمائة دينار وأصحابنا متوافرون فلم ينكروه.

وقرءة بلحن، قال الخرشي: المراد باللحن التطريب وهو تقطيع الصوت بالأنغام على حده المعروف- والمعنى أنه تكره الأجرة على القراءة بالألحان، فهو على حذف مضاف؛ أي وأجرة قراءة، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وليس المراد أنه يكره القراءة باللحن ليلا يلزم التكرار مع ما سبق من غير فائدة، وقوله: وقراءة بلحن؛ أي لحن لم يخرج به القرآن عما

(1)

في البناني ج 7 ص 20: من غير بيت المال لتعذره عندي خفيف.

ص: 95

اجتمعت السبعة على وجوبه: وقال عبد الباقي: وتكره إجارة على تعليم قراءة القرآن بلحن وهو تقطيع الصوت بالأنغام حيث لا يخرجه عما اجتمعت عليه السبعة، وإلا حرمت كقراءته بما وراءها، ويصح تقرير المص بأن المعنى: وكره أخذ أجرة على قراءة بألحان. اهـ. قوله: كقراءته بما وراءها؛ أي كحرمة القراءة بما وراء السبعة. قال الرهوني: سكت عنه محمد بن الحسن البناني وما كان ينبغي له ذلك؛ لأنه مبني على أن الشاذ ما وراء السبعة وهو قول باطل. انظر المحلي وابن أبي شريف عند قوله في جمع الجوامع: ولا تجوز القراءة بالشاذ، والصحيح أنه ما وراء العشرة وفاقا للبغوي والشيخ الإمام، لا ما وراء السبعة. وقد أشار التاودي إلى هذا. والله تعالى أعلم انتهى.

فرع: قال القرطبي في أوائل شرح مسلم: واعلم أن أخذ الأجرة والجعل على ادِّعاء علم الغيب أو ظنه لا يجوز بالإجماع على ما حكاه أبو عمر ابن عبد البر. قاله الحطاب.

وكراء دف ومعزف لعرس، الدف بضم الدال وفتحها لغة هو الدور المغشى من جهة واحدة، فإن غشي منهما وكان مربعا فهو المزهر، والمعزف نوع من أنواع العيدان، قال النووي في تهذيبه عن الرافعي: المعازف الملاهي ويشمل الأوتار والمزاهر اهـ والمعنى أنه يكره إجارة الدف للعرس، وكذا تكره إجارة غيره من الملاهي للعرس، والمراد بالعرس خصوص النكاح، وبه عبر في المدونة، فلا يقال: المراد بالعرس كل فرح كاجتماع بعض الناس ببعض في ليالي معروفة ويجعلونه فرحا وسرورا فلا يجوز فيه ما ذكر. قاله الشبراخيتي. وقال: قال الجوهري: المعازف الملاهي؛ أي لأنه من العزف وهو الصوت فيشمل الأعواد والرباب والسنطير والكنيجا وغير ذلك. وقال الشارح: العزف بكسر الميم شيء من أنواع العيدان. قال غير واحد: والمناسب هنا في تعريف المعازف ما ذكره الجوهري؛ لأنه يخرج على كلام الشارح أشياء كثيرة، فإن قلت: قد تقرر أن الوسيلة تعطى حكم مقصدها، وضرب الدف ونحوه جائز في العرس، فكيف يكره إجارة ذلك له؟ فالجواب: أن هذا مبني على أنه مرجوح الفعل، وهو قول مالك في المدونة، لا على أنه من الجائز الذي استوى فعله وتركه. اهـ. وقال الخرشي بعد ذكر أن المعازف الملاهي فيشمل الأوتار والمزاهر ما نصه: والمعنى أن ملكا كره ما ذكر للأعراس، ولا يلزم من إباحة ضرب الدف في العرس إباحة إجارته

ص: 96

فيه: وأما إجارة المعزف في غير العرس فإنه لا يجوز، ثم ذكر ما مر عن الشبراخيتي من السؤال والجواب، وقال عقبه: ولذا قال ابن رشد: إن ضرب الدف في العرس من الجائز الذي استوى فعله وتركه" وقيل: مرجوح الفعل، وهو قول ملك في المدونة، ثم نقل أن المراد بالمعزف جميع آلات الملاهي. اهـ. وقال البناني عن ابن عرفة: كره الإجارة للمعزف في العرس لأنه غير عمل الصالحين وإن كان ضربه مباحا في العرس، فليس كل مباح تجوز الإجارة عليه. اهـ. وقال التتائي: الدف بضم الدال وفتحها لغة هو الدور المغشى من جهة كالغربال، فإن غشي من الجهتين وكان مربعا فهو المزهر. اهـ. وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: لا ينبغي إجارة الدف والمعازف كلها في العرس، وكره ذلك ملك وضعفه. قال ابن يونس: يريد ضعف قول من يجيز ذلك ابن يونس: أما الدف الذي أبيح ضربه في العرس ونحوه فينبغي أن تجوز إجارته. انتهى. وتحصل مما مر أنه لا معارضة في كلام المص؛ لأن ما مر في ضرب الدف للنكاح وما هنا في إجارته.

وكراء كعبد كافرا، قال الخرشي: يعني أنه يكره للمسلم أن يؤاجر نفسه أو ولده أو عبده المسلمَ أو دابته لكافر، ومحل الكراهة المذكورة إذا كان المسلم يجوز له فعل ذلك لِنفسه كالخياطة والبناء والحرث وما أشبه ذلك، وأما ما لا يجوز للمسلم فعله لنفسه كعصر الخمر ورعي الخنازير وما أشبه ذلك فإنه لا يجوز للمسلم أن يؤاجر نفسه، وما ذكر معها لكافرٍ في ذلك فإن وقع شيء من ذلك فإن الإجارة ترد قبل العمل، فإن فاتت بالعمل فإن الإجارة تؤخذ من الكافر ويتصدق بها على الفقراء أدبا للمسلم، إلا أن يعذر لأجل جهل ونحوه فإنه لا تؤخذ منه، ونصب قوله كافرا على نزع الخافض، وأما الإجارة لعيد الذمي فقد تقدمت في باب الذكاة ومر أنها مكروهة، ثم إن كلام المؤلف مقيد بما إذا كان العمل يجوز للمسلم عمله كما مر، وبما إذا لم يكن فيه إذلال ولم يكن الصانع يعمل في حانوته والكافر يأتي إليه. قال الشيخ عبد الحق في النكت: وإجارة المسلم نفسه من النصراني على ثلاثة أوجه: فإن استأجره في مثل رعاية الخنازير وحمل الخمر وشبه ذلك فهذا يفسخ متى ما عثر عليه، فإن فات ذلك وقبض الأجرة تصدق عليه بها الوجه الثاني: إن استأجره في شيء يمتهنه النصراني فيه ويكون تحت يده من خدمة ونحوها فهذا يفسخ متى

ص: 97

ما عثر عليه، فإن فات لم يتصدق عليه بالأجرة وساغ له. الوجه الثالث: إن استأجره في شيء لا يكون فيه تحت يده وامتهانه مثل حراسةٍ وقراض يأخذه منه يعمل به، فهذا إذا نزل مضى بالثمن وساغت له الأجرة. اهـ. الشيخ أبو الحسن: وزاد أبو الوليد قسما رابعا وهو المباح، وهو: أن يأتيه إلى حانوته فيخيط له ثوبا أو للموثق يوثق له وثيقة، فهذا مباح، وسمى الوجه الثاني من الأوجه التى ذكرها عبد الحق فاسدا، وسمى الأولَ حراما. اهـ كلام الخرشي يزيادة قليلة. وقال عبد الباقي: ويكره كراء كعبد كافر بالجر والتنوين في كافر وإضافة كراء إليه، وفصل بينهما بقوله: كعبد. وهو جائز في مثل هذا، وفي نسخة كافرا بالنصب وهو مفعول ثان لكراء؛ لأنه اسم مصدر بمعنى إكراء ومفعوله الأول كعبد، ومحل الكراهة حيث كان الكافر يستبد بعمل المسلم وليس تحت يده ولا اكتراه في عمل محرم، فإن لم يستبد بعمله كخياطة بين المسلمين والكفار ولم يكن تحت يده ولا اكتراه في فعل محرم جاز، وإن كان تحت يده فمحظور، وإن كان في فعل محرم حرم وفسخ في المحظور إلا أن يفوت فيمضي ويكون له الأجر، بخلاف المحرم فإنه إذا فات فسخه بمضيه وأخذ الكراء تصدق به أدبا للمسلم إلا أن يعذر بجهل ونحوه، وكذا يكره كراء دابة لكافر لعيده أو ليركبها لكنيسةٍ كما مر، وقد مر عن عبد الباقي أن قوله: كافرا، بالنصب في بعض النسخ وبالجر في بعض. وفي الحطاب: أن في بعض النسخ وكراء عبد لكافر، بإضافة كراء لعبد وجر كافر باللام، وفي بعضها وكراء كعبد كافر بإدخال كاف التشبيه على عبد وتجريد كافر من اللام فيكون كراء مضافا إلى كافر. اهـ. ثم قال الحطاب: وما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى من أن إجارة العبد المسلم للكافر مكروهة فإنما ذلك إذا لم يغب عليه، وأما إن كان يغيب عليه في بيته فلا يجوز لما في ذلك من المفاسد، منها استيلاء الكافر على المسلمين وإهانتهم والتمكن من إذايتهم، والله تعالى يقول:{ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} . ومنها ما يخشى من أنهم يفْتِنُونَهم عن دينهم والعياذ بالله لتمكنهم منهم، ومنها أنه ربما أطعموهم شيئا من المحرمات كالخمر والخنزير، ومنها أنهم يمنعونهم من الواجبات، ومنها ما يخشى من وطء

ص: 98

الإماء؛ فإن وقعت الإجارة على الصفة المذكورة فسخت. انتهى المراد منه. وقال التتائي: قال ابن عرفة: والإجارة على بناء دورهم إن كانت لمجرد سكناهم دون بيع الخمر فيها فكالمساقاة وإلا فكالكنيسة. اهـ.

وبناء مسجد للكراء؛ يعني أنه يكره لك أن تبني مسجدا لتكريه لتأخذ أجره من المصلين. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وكره بناء مسجد للكراء؛ أي لأخذه ممن يصلي فيه لأنه ليس من مكارم الأخلاق، فإن بناه لله ابتداء ثم قصد أخذ الكراء ممن يصلي به كره القصد الثاني، وكذا يكره أخذ الكراء ممن يصلي ببيته كما في المدونة، وأجاز غيرها أخذه في البيت، واعتَرَض الحطاب المص بأن أكثر عبارات أهل المذهب عدم الجواز لا الكراهة. انتهى. وقال التتائي: وكره بناء مسجد للكراء بأن يكريه لمن يصلي فيه، وقول المدونة: لا يصلح أن يبني مسجدا ليكريه ممن يصلي فيه، قال ابن ناجي: لا يصلح، على التحريم، فهو مخالف لما هنا، اللخمي: إذا بناه ليكريه جاز ولد بيعه ولو صلى الناس فيه، وإن بناه ليصلَّى فيه ولم يحَز عنه ولا صلى الناس وامتنع من إخراجه من يده ولم يُحَز عنه فإن مات قبل احتيازه أو كان على العادة حبسا فهل يمضي حبسا أو ميراثا؟ قياسا على الصدقات إذا لم يفرط وخروجها حتى مات قولان. اهـ. وقال الشبراخيتي: وكره بناء مسجد للكراء أكراه لمن يصلي فيه أم لا، ومثله البيت عند ابن القاسم بناه للكراء أم لا؛ لأن هذا ليس من مكارم الأخلاق. اهـ. وقال البناني: لفظ المدونة: ولا يصح أن يبني مسجدا ليكريَه ممن يصلي فيه أو يكري بيته ممن يصلي فيه وأجاز ذلك غيره في البيت. أبو الحسن: انظر قوله: ولا يصلح، هل هو على الكراهة أو على المنع؟ فعلى ما نقل ابن يونس عن سحنون هو على المنع، وعلى ما نقل عياض هو على الكراهة؛ لأنه قال: ليس من مكارم الأخلاق. اهـ. لكن أكثر عبارات أهل المذهب عدم الجواز كما في الحطاب، فعلى المص درك في مخالفتها. اهـ. وقال الحطاب: قال في التهذيب: ولا يصح أن يبني مسجدا ليكريه ممن يصلي فيه، أو يكري بيته ممن يصلي فيه وأجاز ذلك غيره في البيت. اهـ. وحكى الأصحاب في التوفيق بين ابن القاسم والغير في البيت وجهين، أحدهما: أن الغير تكلم بعد الوقوع وابن القاسم قبل الوفوع. الثاني أن قول ابن القاسم فيما إذا كان يكريه منهم في أوقات الصلاة فقط ويرجع إليه

ص: 99

في غيرها. وقول الغير فيما إذا كان يكريه منهم لينتفعوا به مدة كرائه للصلاة وغيره وفيما شاءوا مما هو من جنس الصلاة. انتهى.

وسكنى فوقه؛ يعني أنه يكره السكنى بالأهل فوق المسجد الذي بنيَ للكراء، وأما السكنى قوق ظهر المسجد بغير أهل فإنها جائزة بني للكراء أولا، وأما السكنى فوق ظهر المسجد الذي بني للعبادة بالأهل فممنوعة حيث بني فوقه بعد تحبيسه. والله تعالى أعلم. وقال عبد الباقي: وكره سكنى بأهله فوقه أي المسجد الذي بني للكراء إذ هو أقرب مذكور، وأولى ما بني للعبادة فقط حيث بني محل السكنى بالأهل فوقه قبل تحبيسه مسجدا بأن يكون نوى حالة بناء المسجد بناء محلٍّ فوقه للسكنى بالأهل، أو بني علوا وسفلا لنفسه ثم جعل السفل مسجدًا لله على التأبيد، وأبقى الأعلى للسكنى بالأهل وأما ما بني فوقه بعد تحبيسه فحرام، كما أفاده في الموات بقوله: ومنع عكسه، فلا معارضة بين ما هنا وبين ما يأتي في الإحياء إذ ما هنا فيما بني للكراء وما يأتي فيما بني لغيره، وهذا الجمع بين الموضعين أصله لابن عبد السلام وهو الذي ارتضاه الحطاب وأيده بنقول، وحمل الناصر اللقاني الكراهة هنا على التحريم ليوافق ما يأتي والأول أولى، وقوله: وسكنى فوقه، وأما السكنى تحته فيجوز بالأهل وغيره بني للكراء أم لا. قال عبد الباقي: وانظر لو جهل فعل الواقف في المبيت فوقه بالأهل هل هو قبل تحبيسه أو بعده؟ اهـ. وذكر ملك أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه كان يبيت على ظهر المسجد بالصيف فكان لا يقرب فيه امرأة، وما ذكره المص هنا من الكراهة موافق لظاهر ما في الجعل من المدونة، قال في التهذيب: وكره مالك السكنى بالأهل فوق ظهر المسجد، قال أبو الحسن في الكبير: ونقلها ابن يونس، وكره مالك أن يبنى الرجل مسجدا ثم يبني فوقه يبتا يسكنه بأهله. ابن يونس: يريد لأنها إذا كانت معه صار يطؤها على ظهر المسجد وذلك مكروه. انتهى. قاله الحطاب. ثم قال: وتحقيق هذه المسألة أن المسجد إذا بناه الشخص لله وحيز عنه فلا ينبغي أن يختلف في أنه لا يجوز له البناء فوقه، فقد قال القرافي في الفرق الثاني عشر بعد المأتين: اعلم أن حكم الأهوية تابع لحكم الأبنية فهواء الوقف وقف وهواء الطلق طلق وهواء الموات موات وهواء الملك ملك وهواء المسجد له حكم المسجد، لا يقر فيه الجنب، ومقتضى هذه القاعدة أن يمنع هواء المسجد والأوقاف إلى عنان

ص: 100

السماء لمن أراد غرز خشب حولها، ويبني على رؤوس الخشب سقفا عليه بنيان، ولم يخرج عن هذه القاعدة إلا فرع وهو إخراج الرواشن والأجنحة على الحيطان، ومثله في قواعد المقري. اهـ. وقال الشبراخيتي: وأما ما بني للسكنى بعد تحبيسه فحرام وإن كان قبل حوزه عنه. اهـ.

قال مقيده عفا الله عنه: يعني والله تعالى أعلم إذا لم يحصل مبطل.

بمنفعة، متعلق بقوله: صحة الإجارة، والباء للسببية أو للآلة. والله تعالى أعلم يعني أن الإجارة إنما تصح فيما له منفعة وما لا منفعة فيه لا تصح إجارته. تتقوم؛ يعني أن من شروط هذه المنفعة أن تكون متقومة، ومعنى المتقومة أن تكون لها قيمة، قال المواق: قال ابن شأس: الركن الثالث من أركان الإجارة المنفعة، ومن شروطها أن تكون متقومة. ابن عرفة: فسروا متقومة بما لها قيمة وهو قول الغزالي، فلا يصح استئجار تفاحة للشم والطعام لتزيين الحوانيت فإنه لا قيمة له. انتهى. وقال الخرشي: قال القرافي: معنى المتقوم الذي له قيمة احترز عما لو استأجر تفاحة للشم أو استأجر الطعام لتزيين الحوانيت فإنه لا يصح إذ لا قيمة له، وما لا يعرف بعينه فإنه لا يجوز استيجاره خشية السلف بزيادة الأجرة. انتهى. وقال التتائي عند قوله: تتقوم أي تدخل تحت التقويم احترازا من التافه الحقير الذي لا تجوز مقابلته بالمال في نظر الشرع كالدنانير لتزيين الحوانيت، وكل ما لا يعرف بعينه خشية السلف بزيادة الأجرة، وأجازه القاضي أبو بكر وغيره إذا كان ربها حاضرا معها. اهـ. وفي الشبراخيتي: تتقوم بخلاف ما لا قيمة له كرائحة التفاحة مثلا فإنه لا يجوز استيجارها للشم والفرجة على الرياض ونحوها، وكذا لا يجوز استئجار الدراهم والدنانير لتزيين الحوانيت، ولا السراج للاستصباح ولا الجدار للاستظلال، وتتقوم مضارع تَقَوَّمَ أي قبل التقويم وهو فعل لازم. اهـ. وقال الحطاب: تتقوم في كثير من النسخ بضم التاء الأولى والظاهر فتحهما معا، والمعنى أن لها قيمة واحترز به من التافه الحقير الذي لا يجوز مقابلته بالمال في نظر الشرع. البساطي: كاستيجار نار ليوقد منها سراجا، وقد اختلف في جواز الإجارة في فروع نظرا إلى كون المنفعة فيها متقومة أم لا. منها إجارة المصحف للقراءة فيه، وإجارة الأشجار لتجفيف الثياب. اهـ. وقال الخرشي وعبد الباقي: والظاهر أن استئجار مسك وزباد لشم

ص: 101

كاستيجار تفاحة له. اهـ. زاد الخرشي ومثل هذا والله أعلم كراء الشمع للمشي بها في الزقاق كما عندنا بمصر. انتهى والله تعالى أعلم.

تنبيهات: الأول: قال ابن عرفة: المنفعة ما لا يمكن الإشارة إليه حسا دون إضافة يمكن استيفاؤه غير جزء مما أضيف إليه، فتخرج الأعيان ونحو العلم والقدرة، ونحو نصف العبد ونصف الدابة مشاعا، وهي ركن لأنها المشتراة. انتهى. قال شارحه: قوله: ما لا يمكن؛ أي الشيء الذي لا يمكن الإشارة إليه وهو عام جنس للمنفعة، وقوله: حسا، احترز به مما يمكن الإشارة إليه حسا من الأعيان بنفسه كالثوب والدابة فليسا بمنفعة. وقوله: دون إضافة، معمول الإشارة وهو قيد فيها: ومعناه ما لا يشار إليه حسا إلا بقيد الإضافة كمثل ركوب الدابة ولبس الثوب، بخلاف الثوب والدابة فإنهما تمكن الإشارة إليهما حسا من غير إضافة، فركوب الدابة منفعة والدابة ليست كذلك، وقوله: يمكن استيفاؤه، خرج به العلم والقدرة لأنهما لا يمكن استيفاؤهما ولا يمكن الإشارة إليهما حسا إلا بإضافتهما

(1)

هذا علم زيد. وقوله: غير جزء مما أضيف إليه، أخرج نصف نفس العبد ونصف الدار مشاعا لأنه يصدق عليه وهو مشاع لا يمكن الإشارة إليه إلا مضافا، ويمكن أخذ المنفعة منه لكنه جزء مما أضيف إليه، وليس ركوب الدابة وفي شابهه كذلك فقوله: يمكن، صفة لما لا يمكن. اهـ.

الثاني: قال الخرشي: نسخة المواق: وبمنفعة، وهي ظاهرة لتكون الأركان متعاطفة فهي عطف على قوله: بعاقد وأجر. الثالث: وقع في كلام غير واحد أن معنى تتقوم بأن تكون الذات بحيث تتأثر باستيفائها من حيث استيفائها تأثرا شرعيا يقع في مقابلة الأجرة التي هي كالقيمة، وأما تأثر التفاحة ونحوها بالشم فإنما هو من مرور الزمن وليس ناشئا عن الاستيفاء من حيث إنه استيفاء. اهـ.

(1)

في شرح الرصاع لحدود ابن عرفة ج 2 ص 521: بإضافتهما تقول هذا علم زيد.

ص: 102

قال مقيده عفا الله عنه: والظاهر ما قدمته عن غير واحد، وأما هذا وهو أنه إذا أتلف المنفعة واستوفاها تنقص الذات فتقع الأجرة في مقابلة ذلك النقص فإنما يظهر في الدابة ونحوها لا في سكنى الدار ونحو ذلك. والله تعالى أعلم.

الرابع: قال ابن رشد: كل ما للرجل أن ينتفع به يجوز له أن يكريه ابن عرفة: هذه الكلية غير صادقة ولا يجوز أن يكرَى جلد الأضحية ولا بيت المدرسة. اهـ. قوله: جلد الأضحية، أجاز سحنون إجارة الأضحية واقتصر عليه الشيخ وابن يونس والباجي.

قال مقيده عفا الله عنه: هذا يدل على جواز إجارة جلد الميتة والكلب. والله تعالى أعلم. قدر على تسليمها؛ يعني أنه يشترط في هذه المنفعة أن تكون مقدورا على تسليمها. قال الحطاب: قال القرافي: احترازٌ من استئجار الأخرس للكلام والأعمى للإبصار وأرض الزراعة ولا ماء قطعا ولا غالبا. وقاله الأئمة. ومن فروع ذلك استئجار أرض الزراعة وماؤها غامر أي كثير وانكشافه نادر، ومذهب المدونة الجواز إذا لم ينقد، وعليه مشى المص كما يأتي، فهو راجع لهذا القيد. اهـ. وقال عبد الباقي: قدر على تسليمها حسا فلا يستأجر أخرس لتكلم ولا أعمى لكخط، وشرعا فلا تجوز الإجارة على إخراج الجان والدعاء وحل الربوط ونحو ذلك لعدم تحقق ذلك، ولا على تعليم غناء ودخول حائض لمسجد كما يأتي، كذا لبعض، وقد يقال: يستغنى عن قوله: شرعا بقول المص: ولا حظر. اهـ. قوله: فلا تجوز الإجارة على إخراج الجان وحل المربوط لخ، انظر هذا وفي الحطاب عن الأبي: لا يحل ما يأخذه الذي يكتب البراءات لرد التليفة لأنه من السحر، ثم قال: وما يؤخذ لحل المعقود فإن كان يرقيه بالرُّقَى العربية جاز، وإن كان بالرُّقَى العجمية امتنع، وفيه خلاف، وكان الشيخ يعني ابن عرفة يقول: إن تكرر منه النفع فذلك جائز. اهـ. قاله البناني. وقال في الإكمال: واختلف قول ملك في رقية اليهودي والنصراني للمسلم فله في المستخرجة كراهة ذلك، ورويَ عنه جوازه، وهو قول الشافعي، وقال فيه: إن سنة المسح باليد اليمنى عند الرقَى. وفي الدر النثير: وسئل عمن يعالج الجان ويداوي المصاب هل يجوز له أخذ شيء على ذلك؟ وإن جاز هل يلزم تعيينه أم لا؟ فأجاب: إذا كان ذلك مما جرب نفعه وعلمت فائدته ومصلحته بمجرى العادة وكان ما يأتي من رقية أو كتب بأسماء الله أو من القرآن فذلك

ص: 103

حسن، وله عليه أجرة بحسب شرطه، أو يكون موكولا إلى ما تسمح به نفس المعمول له ذلك، وليس فيه قدر معلوم ولا حد محدود. انتهى. وقال الشبراخيتي: قدر على تسليمها؛ أي حسا فلا تجوز إجارة الأعمى للخط والأخرس للكلام، ولا من لا يحسن العوم على إخراج ما في قعر بئر غامر الماء ونحو ذلك، وشرعا فلا يجوز الاستئجار على قطع عضو محترم، وتعليم الغناء، وحائض على كنس مسجد. اهـ.

تنبيه: قال في المدونة: يجوز كراء المشاع كنصف عبد أو دابة. قال اللخمي: وإذا أكرى رجل من رجل نصف عبده أو دابته أو داره جاز ذلك، ثم هما في العبد والدابة بالخيار بين أن يقتسما المنافع يومًا بيوم أو يومين بيومين، فيستعمله المستأجر في الأيام التي تصير إليه يستخدم العبد ويركب الدابة، وإن شاء آجره من غيره، وإن شاء أن يؤاجر ذلك من أجنبي ويقتسما الأجرة، وإن لم يكن العبد من عبيد الخدمة وكانت له صنعة لا يمكن تبعيضها ترك لصنعته واقتسما خراجه. وأما الدار فإن كانت تنقسم قسمت منافعها وسكن المكتري فيما يصير إليه أو أكراه، وإن كانت لا تحمل القسم أكريت واقتسما كراءها إلا أن يحب أحدهما أن يأخذها بما يقف عليه كراؤها. وإن كان العبد أو الدابة أو الدار شركة فأكرى أحدهما نصيبه بإذن شريكه جاز، وعاد الجواب في قسمة منافعه إلى ما تقدم إذا كان جميعه لواحد، فإن أكرى ذلك بغير إذن شريكه فلم يُجِز ودعا إلى البيع كان له ذلك في العبد والدابة والدار إذا لم تنقسم، وإن لم يَدْعُ إلى البيع ورضي ببقاء الشركة لم يكن له رد الكراء، وإن كانت الدار تنقسم ودعا الشريك إلى قسمة المنافع كان ذلك له وقسمت بالقرعة، فما صار للمكري أخذه المكتري وإن أراد المكري أن يقسم بالتراضي كان للمكتري منعه من ذلك. اهـ المراد منه. ثم قال الحطاب: ولم يذكر المص من شروط المنفعة أن تكون مملوكة، وكذا ابن شأس وابن الحاجب، وذكره القرافي احترازا من الأوقاف والرباط ومواضع الجلوس من المساجد والطرقات والمدارس وغير ذلك؛ لأن المملوك في هذه الأمور كلها الانتفاع دون

ص: 104

المنفعة، ويتفرع على هذا الشرط كراء دور مكة ونقل في المقدمات عن ملك فيها أربع روايات، والمنع والكراهة في أيام الموسم

(1)

)، ولا خلاف عن مالك وأصحابه أنها فتحت عنوة. اهـ.

قال مقيده عفا الله عنه: قد مر المص على أن الموقوف عليه مالك منفعة حيث قال: وبموت مستحق وقف آجر لخ، ومر للبناني في العارية شيء من الكلام على الوقف هل الموقوف عليه مالك منفعةٍ أو انتفاع والله سبحانه أعلم. وقوله: قدر على تسليمها قد ينشد هنا قول القائل:

ومن عَجَب الدنيا طبيب مصفِّر

وأعمش كحال وأعمى منجم

بلا استيفاء عين؛ يعني أنه يشترط أن لا يكون العقد على المنفعة متضمنا لاستيفاء عين، احترازا معا لو استأجر الأشجار للتجفيف عليها وأخذ ثمرتها معا، وقوله: بلا استيفاء عين، حال من المنفعة، قال عبد الباقي: حال كون المنفعة بلا استيفاء عين، دخل فيه استئجار الشجر للتجفيف عليها لا استيجارها لأخذ ثمرتها. قصدا؛ يعني أن المضر إنما هو قصد استيفاء العين، وأما إذا كان ذلك يتضمن استيفاء العين لا قصدا فإن ذلك لا يضر، فلو استأجر ثوبا للبسه فإن ذلك جائز وإن كان فيه استيفاء عين لكنه غير مقصود، فإن المقصود إنما هو لبس الثوب فقط لا استيفاء عينه، وقد مر أنه إذا استأجر الطعام أو الدنانير لتزيين الحوانيت فإن ذلك لا يجوز لأنه سلف بمنفعة؛ لأن الغيبة على المثلي تعد سلفا، وأما إذا لم يغب على ذلك بل زين بها حانوته بحضرة ربها، فقيل: بالجواز، والمشهور المنع والخلاف مبني على أن المنفعة فيها متقومة أم لا. قاله البناني رادا على عبد الباقي عن بعض شيوخه هذا التعليل إنما يأتي إلى آخر كلامه؛ وقوله: والمشهور المنع لخ، جزم بوجود الخلاف في ذلك وأصل ذلك لعبد الوهاب، وتبعه على ذلك غير واحد كابن شأس وابن الحاجب والقرافي وغيرهم، ولم يجعل الباجي ذلك خلافا فإنه قال: إن ابن القاسم إنما منع استيجارها لمنافعها المقصودة منها وليس المقصود من الدنانير والدراهم ما أباح استيجارها له، الشيخ أبو بكر: وهذا كما يقال لا يجوز استئجار الشجر لمنفعتها

(1)

لفظ المقدمات ج 2 ص 219 ط دار المغرب الإسلامي: فيتحصل عنه في ذلك أربع روايات الجواز والمنع والكراهة وكراهة كرائها في أيام الموسم خاصة المقدمات.

ص: 105

المقصودة لأنه بيع ثمر قبل بدو صلاحه ولا بأس أن تستأجر يكمد عليها الثياب، قال في التوضيح: وكلام المص وابن شأس يأتي على طريقة عبد الوهاب، وأما على طريقة الباجي فليس في المسألة إلا قول واحد. اهـ.

ولا حظر؛ يعني أنه يشترط في صحة الإجارة أن لا يكون استيفاء المنفعة فيه حظر؛ أي منع، قال عبد الباقي: ولا حظر أي منع فلا تستأجر حائض أو جنب أو كافر لكنس مسجد، ومن الممنوع أيضا الاستئجار على صنعة ءانية من نقد. اهـ. وفي الخرشي: ولا يجوز الاستئجار على قلع سن أو قطع يد صحيحتين، ولو كانت اليد متأكلة أو السن متوجعة جاز. ومن ذلك من بعض كفه فيه الأكلة وخاف على باقي يده جاز قطع يده من المفصل إن لم يخف الموت، وإن كان خوف الموت من بقاء يده كذلك أشد من خوف موته بقطعها فله القطع، ومن خلق بإصبع زائد أو عضو زائد لم يجز قطعه ولا نزعه لأنه تغيير لخلق الله، إلا أن يؤذيه فلا بأس بقطعه. اهـ.

ولا متعين؛ أي وبلا تعين؛ يعني أنه لا تجوز الإجارة على ما لا يقبل النيابة سواء كان واجبا كالصلوات الخمس أم لا كركعتي الفجر؛ لأن الصلاة عمل بدني لا فرق فيها بين الواجب العيني والكفائي كصلاة الجنازة وغير الواجب كالنوافل. والله سبحانه أعلم.

ولو مصحفا، يعني أن المصحف مما استكمل الشروط المذكورة فتجوز إجارته. قال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: تجوز إجارة المصحف لمن يقرأ فيه كجواز بيعه، وأجاز مالك بيعه، ومنع ابن حبيب إجارته. اهـ. وهذا مبني على أن المنفعة في المصحف متقومة أم لا؛ وفي المدونة: وتجوز إجارة المصحف لجواز بيعه، وأجاز بيعه كثير من التابعين؛ قال ابن عباس: ما لم يجعله متجرا، أما ما عملته بيدك فجائز، وتجوز الإجارة على كتابته. اهـ. أبو الحسن: انظر قول ابن عباس: ما لم يجعله متجرا، هل معناه لا يجوز أو يكره؟ اهـ. والله سبحانه أعلم. قاله الحطاب. وأرض غمر ماؤها وندر انكشافه؛ يعني أن الأرض التي غمرها الماء أي علاها والحال أنه ندر انكشافه تجوز إجارتها بشرط عدم الانتقاد، فمتى وُجد النقد ولو تطوعا وجد المنع. قال الخرشي: والمعنى أن الأرض التي غمرها الماء تجوز إجارتها بشرط عدم انتقاد الأجرة، فمتى وجد النقد ولو تطوعا وجد المنع. قال البناني: الصواب أنه إنما يمنع النقد فيه بشرط، والأقسام ثلاثة

ص: 106

محل الخلاف هو ما ذكره المص، وأما لو كان الكشاف الماء غالبا فلا نزاع في الجواز، كما أنه لا نزاع في المنع إذا كانت لا تنكشف أصلا وظاهر، قول المدونة: ومن اكتريت منه أرضه الغرقة بكذا إن انكشف عنها الماء وإلا فلا كراء بينكما جاز إن لم ينقد. انتهى. أنه لا بد من الدخول على هذا الشرط وكلام المؤلف لا يفهم منه ذلك. اهـ المراد منه. وأما إن دخلا على أن الكراء لازم له علي كل حال سواء انكشف عنها الماء أم لا فإنه لا يجوز، فقوله: وأرضا لخ، معطوف على مصحفًا فهو في حيز المبالغة، ولذا قيد محل الخلاف بقوله: وندر انكشافه، وقوله: غمر ماؤها، قال الجوهري: الغمر الماء الكثير وقد غمره الماء يغمره أي علاه، ومنه قيل للرجل: غمر القوم إذا عَلاهم شرفا، وفي الحطاب: قال في التوضيح: قال صاحب المقدمات: تحصيل مذهب ابن القاسم جواز العقد كانت الأرض أرض مطر أو نيل أو غيرهما مأمونة أو غير مأمونة، وأما بالنسبة إلى جواز النقد ووجوبه فما كان من الأرض مأمونا كأرض النيل والمطر المأمونة وأرض السقي بالعيون الثابتة والآبار المعينة فالنقد فيها للأعوام الكثيرة جائز، وما كان منها غير مأمون فلا يجوز النقد فيه إلا بعد أن تروى ويتمكن من الحرث، كانت من أرض النيل أو المطر أو السقي بالعيون أو الآبار، وأما وجوب النقد فيجب عنده في أرض النيل إذا رويت إذ لا تحتاج إلى غير ذلك، وأما غيرها فلا يجب فيها النقد حتى يتم الزرع ويستغني عن الماء. اهـ.

وشجرا للتجفيف عليها، هذا أيضا داخل في حيز المبالغة ففيه الخلاف المذكور؛ يعني أنه تجوز إجارة الأشجار لمن يجفف عليها لأن الأشجار تنتقص بذلك منفعتها وتتأثر، فقوله: وشجرا، معطوف على مصحفا، وسبب الخلاف هل المنفعة متقومة أم لا؟ ابن عرفة: تبع ابنُ الحاجب ابنَ شأس في حكاية القولين ولا أعرف المنع، ومقتضى المذهب الجواز. قاله الخرشي. والقول بالجواز اختاره ابن عبد السلام، ولهذا قال: على الأحسن، قال الإمام الحطاب: الأحسن هو اختيار ابن عبد السلام من القولين الذين ذكرهما ابن الحاجب.

ص: 107

لا لأخذ ثمرته؛ يعني أنه لا يجوز إجارة الأشجار لأخذ ثمره

(1)

لأن ذلك يؤدي إلى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها: بل قبل وجودها، وهذا وما يليه من باب البيع لكنه لما بقيت عين الشجر والحيوان جعل إجارة من تلك الحيثية. أو شاة للبنها، عطف على شجر بعد لا؛ أي لا شجر لأخذ ثمره ولا شاة للبنها؛ يعني أنه لا يجوز أخذ شاة لأجل لبنها، وظاهر المص المنع مطلقا، وهو خلاف ما في التوضيح عن ابن عبد السلام وغيره: المذهب أنه لا يمنع مطلقا خلافًا لقول ابن الحاجب: ولا تصح في الأشجار لثمارها والشاة لنتاجها ولبنها وصوفها؛ لأن غاية استيجاره لذلك أن يؤدي إلى بيع اللبن، وقد أجازه في المدونة إذا كان جزافا بشروط: أن تكون كثيرة كالعشرة ونحوها، وأن يكون في الإبان، وأن يعرفا وجه حلابها، وأن يكون إلى أجل لا ينقضي اللبن قبله، وأن يشرع في الأخذ يومه أو إلى أيام يسيرة، وأن يسلم إلى ربها لا إلى غيره فإن كان على الكيل أسقطت الشرْطَ الأول فقط. قاله التتائي. وقال الحطاب عمد قوله: أو شاة للبنها: يصح أن يقرأ بالجر عطفًا على مقدر في قوله: لا لأخذ ثمرته؛ أي لا شجر لأخذ ثمرته ولا شاة لأخذ لبنها، فيكون من الممنوع، ويصح أن يقرأ بالنصب عطفا على قوله أو شجرا ويكون من الجائز، وعلى كل تقدير فلا بد من عناية في كلامه؛ لأنا إن جعلناه ممنوعا نقول: يريد إلا بشروط ويأتي ذكرها، وكذلك إذا جعلناه جائزًا، والشروط: أن تكون الغنم كثيرة كالعشرة ونحوها، وأن يكون في الإبَّان، وأن يعرفا وجه حلابها، وأن يكون إلى أجل لا ينقضي اللبن قبله، وأن يشرع في أخذ ذلك يومه أو إلى أيام يسيرة، وأن يسلم إلى ربه لا إلى غيره؛ هذا إذا كان جزافا، فإن كان على الكيل أسقطت الشرط الأول فقط؛ ولا يقال: قوله: أو شاة بالإفراد يُنافي الأول؛ لأن المراد جنس الشاة. والله تعالى أعلم. انتهى. وقال المواق: قال ابن رشد: ويجوز شراء لبن غنم معينة شهرا أو شهرين إذا عرف وجه حلابها، بخلاف ثمرة المقثاة ويكره بيع لبن شاة أو شاتين، والأظهر أنه لا يعارض هذا بإجازته في المدونة أن يكتري البقرة ويشترط حلابها؛ لأن الغرر خف بما انضاف إليها من الكراء كما خف في الغنم إذا كثرت. انتهى.

(1)

في الخرشي ج 7 ص 21: لأخذ ثمارها.

ص: 108

تنبيه: صور عبد الباقي الكثرة بأن يشتري شاتين مثلا من عدد كثير كالعشرة، والشاتان غير معينتين، تبعا لعلي الأجهوري التابع لجده، قال البناني: قال المصطفى: هذا خطأ صراح، بل في المدونة: أن الجواز مشروط بشراء لبن الغنم الكثيرة كالعشرة ونحوها، وقال عياض عقبها: أجاز شراء لبن الغنم الكثيرة ولا تؤمن فيها جائحة الموت وغيره لكن هي

(1)

آمن من القليلة. انتهى. تنبيه آخر: وقع للشبراخيتي أنه لا بد من الكيل في الصورتين، وأن معنى قول ابن عبد السلام: هذا إذا كان جزافا؛ أي جزافا على كيل كقوله: كل رطل من اللبن بكذا، وقوله: وإن كان على الكيل صورته أن يقول له: أشتري رطلا من لبن هذه الشاة أو الشاة، ففي الصورتين لا بد من الكيل لكن الأولى جزاف على كيل، وأما الثانية فالكيل فيها ابتداء، وهذا هو المراد، وأما شراؤه جزافا لا على كيل فلا يجوز لأنه من شراء اللبن في الضروع. اهـ.

قال مقيده عفا الله عنه: هذا مخالف لكلامهم فإن في كلامهم جوازَ شراء ذلك جزافا على غير شرط الكيل. والله سبحانه أعلم. وقال عبد الباقي: ومما ذكر يؤخذ منع ما يقع بمصر من شراء لبن بعض البقر مثلا جزافا مدة حلابها بثمن معلوم ويلزم المشتري كلفتها في المدة المذكورة ويعبرون عنه بالضمان لعدم استيفاء الشروط المذكورة فهو فاسد، فيرجع مالك البهيمة على الآخذ بمثل اللبن إن علم قدره، وإلا فبقيمته يوم قبضه، ويرجع عليه الآخر بكلفة البهيمة، وكذا أفتى به الوالد، وبما ذكر من شروط جواز شراء اللبن يستثنى من قوله: بلا استيفاء عين قصدا، وكذا الإجارة على الاسترضاع كما قدمها، وكذا استئجار أرض أو بيت في كل عين أو بئر فإنه جائز، ولا ذكر أن من شروط المنفعة أن لا يكون فيها استيفاء عين قصدا ذكر هنا جواز ذلك إن كان الثلث فدون بقوله:

واغتفر ما في الأرض؛ يعني أنه يغتفر أي يجوز اشتراط ما في الأرض المكتراة والدار المكتراة من ثمر في شجر، ومحل الجواز ما لم يزد على الثلث، بأن يقال: ما قيمة كراء الأرض والدار بلا شجر؟ فيقال: عشر مثلا، وما قيمة الثمرة مفردة بلا أرض بعد إسقاط الكلفة؟ فيقال: خمسة أو أقل.

(1)

في الأصل: هو، والمثبت من البناني ج 7 ص 22.

ص: 109

وأشار بقوله: بالتقويم، إلى أن الثلث فما دونه إنما يعرف بالتقويم لا بما استؤجرت العين به، وفهم من قوله: ما لم يزد على الثلث عدم اغتفار ما زاد عليه ولو شرط منه قدر الثلث فأقل. قاله ابن القاسم. وهو المشهور، وأما لو لم يقع اشتراط لدخول الشجر المذكور فلا يدخل في عقد الكراء بل هو للمكري، وقوله: واغتفر أي وإن كان فيد استيفاء عين قصدا ليسارته ولدفع الضرر في الدخول عليه لأجل الشجر. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: واغتفر اشتراط ما في الأرض المكتراة وجيبة من شجر فيه ثمر، وكذا دار ما لم يزد على الثلث بالتقويم بأن يقال: ما قيمة كراء الأرض أو الدار بلا شجر مثمر؟ فيقال: عشرة، وما قيمة الثمرة منفردة بلا أرض بعد إسقاط الكلفة؟ فيقال: خمسة أو أقل، فإنما ينظر ذلك بالتقويم أي لا بما استؤجرت العين به لأنه قد يزيد على القيمة، ولا بد أن يكون طيب الثمرة في مدة الكراء وأن يكون اشتراطها لدفع الضرر، فإن زاد على الثلث بعد إسقاط الكلفة لم يغتفر اشتراطه، وإن اشترط منه قدر الثلث فأقل على المشهور وقدرنا اشتراط لأنه لا يدخل الثلث فما دونه إلا به كما في المدونة، وأما المكتراة مشاهرة فلا يغتفر فيها شيء، وأما الزرع الموجود في الأرض المكتراة فيجوز اشتراطه إن كان دون ثلثٍ لا إن كان ثلثا. قاله في المدونة. والفرق بين الأصول والزرع أنه أخفض من رتبة الأصول، ألا ترى أنه لا تجوز مساقاته إلا بشروط؟ كما قدمه المص ومنعها ابن عبدوس رأسا، وإذا اكترى دارا سنين وبها ثمر اشترط فإن كانت قيمته في كل سنة الثلث فأقل جاز، وإن كان في سنة الثلث فأقل وفي سنة أكثر وإذا نظر إلى قيمة جميعه من الكراء في المدة كانت الثلث لم يجز. اهـ. وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: ومن اكترى دارا أو أرضا وفيها سدرة أو دالية أو كان في الأرض نبت من نخل أو شجر ولا ثمرة فيها حينئذ أو فيها ثمرة لم تزد فالثمرة للمكري، إلا أنه إن اشترط المكتري ثمرة ذلك فإن كانت تبعا مثل الثلث فأقل فذلك جائز، ومعرفة ذلك أن يقوم كراء الأرض أو الدار بغير شرط الثمرة، فإن قيل: عشرة، قيل: ما قيمة الثمرة فيما عرف مما تطعم كل على بعد طرح قيمة المؤنة والعمل فيعلم الوسط من ذلك، فإن قيل: خمسة فأقل جاز. قال أصبغ: وهذا إذا علم أن الثمرة تطيب قبل مدة الكراء وإلا لم يجز أن يعقداه. ابن يونس: إنما جاز للضرر الذي يدخل على المكتري في دخول رب الدار لإصلاح الثمرة وجذاذها، كما أجيز شراء العرية بخرصها ثمرا.

ص: 110

انظر قول ابن يونس: للضرر بالدخول على المكتري، هل يجوز أن يستثنى بعض الشجر؟ أجازه ابن أبي زمنين، ومنعه ابن العطار، وقال المتيطي: أجاز ذلك أشهب ومنعه ابن القاسم، قال: وإذا كان الكراء سنين واشترط الثمرة وانقضت المدة وبالشجر ثمر، لم يزه فهو للمكتري. اهـ. وقال بناني: قال ابن رشد في كتاب الجوائح من المقدمات: مذهب ملك أنَّ كلَّ ما يجب فيه اعتبار القليل من الكثير فالثلث في حد اليسير إلا ثلاثة، الجوائح، ومعاقلة المرأة الرجل، وما تحمله العاقلة من الدية. قال ابن غازي في تكميل التقييد: ويجمع الثلاثة للحفظ أن تقول:

الثلث نزر في سوى المعاقله

ثم الجوائح وحمل العاقله

وذيل الرهوني بيت ابن غازي بقوله:

كذا كراء الأرض مع زرع بها

مخرق الخف فكن منتبها

اهـ. وهذا ينقض هذه الكلية. مسألة: إن كان في الدار برج حمام أو نحل فأراد المكتري أن يشترط ذلك كالشجرة لم يجز ذلك؛ لأنه ليس من نفس الدار كالشجرة، وهما غير الدار فلذلك لا يجوز اشتراطهما. اهـ. نقله الرهوني. وقال الخرشي: ابن يونس: قال بعض الفقهاء القرويين: وإذا اكترى الدار سنين فكانت الثمرة في بعض السنين تبعا وفي بعضها ليست بتبع إلا أنها إذا أضيفت جملتها إلى جملة الكراء كانت تبعا فالأشبه أن لا يجوز، وينبغي إذا اكتريت سنين أن ينظر إلى ثمرة كل سنة فإن كانت تبعا جاز وإلا فلا، كما لو اكترى دورا في صفقة واحدة وفي الدور ثمرة غير تبع، أو اكترى دارا واشترى عرضا في صفقة واحدة وفي الدار ثمرة غير تبع، إلا أنها إذا أضيفت إلى كراء الدار والعرض كانت الثمرة تبعا للجميع، لا يجوز، فكذلك حكم الثمرة في كراء الدار سنين لا ينظر هل هي تبع إلا لكل سنة.

ولا تعليم غناء؛ يعني أن الإجارة على تعليم الغناء لا تجوز، ومثله آلة الطرب كالعود والمزمار، لأن ثبوت الملك على العوض فرع ثبوتِه على المعوض عنه، ولخبر: (إن الله إذا حرَّم شيئا حرَّم

ص: 111

ثمنه

(1)

). ويدخل في تعليمه المويسيق وهو علم بأصول يعرف بها النغم وكيفية الألحان بعضها من بعض بأن يتقدم المعلم بصوته ثم يقول له: احك، ويردد عليه حتى يحكي، وفائدته بسط الأرواح وقبضها: ولهذا يستعمل في الأفراح والحروب وعلاج المرضى. قاله الخرشي. ثم قال: وجد عندي ما نصه: وسماع الغناء مكروه إذا خلا عن الفحش ولم يكن معه آلة، وما يؤخذ على حل المربوط فإن كان بالرقى العربية جاز، وإلا فلا، وفيه خلاف، وكان ابن عرفة يقول: إن تكرر النفع به جاز. اهـ. وقال الحطاب: قوله: ولا تعليم غناء، هو وما بعده إلى قوله: ولا متعين، راجع إلى قوله: ولا حظر، والحظر المنع؛ قال الأبي في شرح مسلم في حديث (مهر البغي وحلوان الكاهن

(2)

): ولا خلاف في حرمة مهر البغي ولا في حرمة ما تأخذه المغنية والنائحة، ولا خلاف في حرمة ما يأخذه الكاهن، وأما ما يؤخذ على المعقود فإن كان يرقيه بالرقى العجمية لم يجز، وبالرقى العربية جاز، وفيه خلاف، وكان الشيخ يقول إن تكرر منه النفع بذلك جاز. اهـ. بتقديم وتأخير تبعا لتوضيح من الرهوني. قوله: غناء، الجوهري الغني مقصور مكسور الأول هو اليسار والغناء بالكسر والمد هو الصوت المعزوف وبالفتح هو النفع. قاله الخرشي.

أو دخول حائض لمسجد؛ يعني أن الحائض لا يجوز دخولها للمسجد لا بإجارة ولا بغيرها، فإذا كانت الإجارة متعلقة بذمتها فيجوز لها أن تقيم من يخدم المسجد عنها نيابة للضرورة، ومثلها النفساء والكافر. قاله الخرشي. وقال الحطاب: وقوله: ودخول حائض لمسجد، فرضه ابن الحاجب في استيجارها على كنس المسجد، وذكر المص ما هو أعم من الكنس وغيره، ويريد إذا كانت هي التي تكنس، وأما لو كانت الإجارة متعلقة بذمتها لجاز، وعكس هذه المسألة أن يؤاجر المسلم نفسه لكنس كنيسة أو نحو ذلك، أو ليرعى الخنازير أو يعصر له خمرا فإنه لا يجوز، ويؤدب المسلم إلا أن يعذر بجهالة، واختلف هل تؤخذ الأجرة من الكافر ويتصدق بها أم لا؟ ابن القاسم: التصدق بها أحب إلينا. قاله في التوضيح. اهـ. وقال الشبراخيتي: أو على دخول حائض

(1)

الدارقطني، ج 3 ص 7. وأبو داود، أبواب الإجارة، رقم الحديث 3488.

(2)

مسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث 1567.

ص: 112

أو نفساء لِمسجدٍ لِكنسٍ أو غيره، وأشعر قوله: دخول، بجواز استئجارها لذلك ولا تدخل بل تقيم غيرها وهو كذلك. اهـ.

أو دار لتتخذ كنيسة؛ يعني أنه لا يجوز للمسلم أن يكري داره أوأرضه لمن يتخذها كنيسة أو خمارة أو بيت نار أو مجمعا للفساق أو نحو ذلك. كبيعها لذلك؛ يعني أنه لا يجوز للمسلم بيع داره أو أرضه لمن يتخذها كنيسة أو بيت نار أو خمارة أو نحو ذلك من كل ما لا يجوز. وتصدق بالكراء؛ يعني أنه إذا أكرى داره لمن يتخذها كنيسة أو نحو ذلك، فإن فات العقد باستيفاء مدة الإجارة فإن المكري يجب عليه أن يتصدق بجميع الكراء، وقال الشبراخيتي: وتصدق بالكراء جميعه في الإجارة إن كان الكراء وقع في الدار كما هو فرض المسألة، وأما إن أكرى أرضا لتتخذ كنيسة فإنه يتصدق بالزائد على من يتخذها دارا، ومثل ذلك من واجر نفسه لحمل زق من زيت وحمله ثم تبين أنه خمر، فإنه يتصدق بزائد أجرة الخمر على أجرة الزيت. قاله ابن عرفة عن اللخمي.

وفضلة الثمن؛ يعني أنه إذا باع الأرض أو الدارَ لمن يتخذها كنيسة أو نحو ذلك، فإنه يلزمه التصدق بما زاد من الثمن على ثمنها لو بيعت لغير من يتخذها كنيسة أو نحو ذلك. وقوله: على الأرجح، راجع للمسألتين كما قاله التتائي وغيره، لقول ابن يونس: به أقول. وقال غيره: بفضلة الأجرة وبجميع الثمن.

تنبيهات: الأول: قال التتائي: ظاهر كلام المص عدم الجواز ولو صرف المستأجر ذلك لغير المحرم، كما لو اكتراها لبيع الخمر فصرف ذلك للسكنى، ففي الذخيرة: الكراء للمكتري لأن الأول غير منعقد وإقرار الثاني عقد آخر، إلا أن يكون كراء الثاني أقل فيحط عنه ما بين الكراءين. قاله ابن حبيب. فإن تعدى على الحانوت فباع فيها الخمر تعديا أخذ كراءها إن كان التعدي ذميا ولا شيء له إن كان مسلما. قاله ابن القاسم. لأن المنفعة معدومة شرعا، وله الأجرة عند ابن حبيب إلا أن يكون لا يتكسب إلا بثمن الخمر. وقال قبله: ولو اكترى ليسكن فباع الخمر ولم يعلم بذلك المكري قومت الدار ثلاث قيم، قيمة السكنى، وقيمة ما يضر كمضرة الخمر، وقيمته مع الخمر، ويتصدق بما يزاد لأجل الخمر، فإن علم بذلك تصدق بالجميع لأنه فسخ الأول

ص: 113

في الثاني لما علم بالثاني، وقيل: لا يتصدق. انتهى. الثاني: إذا غصب النصراني سفينة لمسلم وحمل فيها الخمر، قال في رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب الغصب: له أن يأخذ كراءها ويتصدق به. قال ابن رشد: معناه كراء مثلها على أن يحمل فيها الخمر أن لو أكراها نصراني من نصراني لذلك، وأما قوله: يتصدق به فهو بعيد أن يجب عليه ذلك إلا أن يعلم بتعديه فلا يمنعه من ذلك وهو قادر على منعه، وأما إن لم يعلم بذلك أو علم ولم يقدر على منعه فلا يجب أن يتصدق إلا بالزائد على قيمة كرائها على أن يحمل عليها غير الخمر فحمل عليها خمرا. قاله ابن حبيب. نقله الحطاب وغيره.

الثالث: قوله: وتصدق بالكراء وبفضلة الثمن على الأرجح، اعلم أن هنا ثلاثة أقوال، قال ابن عرفة: فإن نزل بيع الدار أو كراؤها لمن يتخذها كنيسة أو بيت نار ففي لزوم صدقته بكل الثمن والكراء أو بجزء الثمن المسمى للخارج من تسمية فضل قيمتها مبيعة لما فرض على قيمتها مبيعة لا يجوز من هذه القيمة وكذا في الكراء، ثالثها هذا في البيع والأول في الكراء، للصقلي قائلا عن شيوخنا. ابن عرفة: لم يذكر عبد الحق غير الثالث، وجعل كراء الأرض لأن تبنى كنيسة كبيع الدار، لا ككرائها. اهـ. ونقل المواق عن ابن يونس ترجيح الثالث، ويوضح كلام ابن عرفة قول المواق: ابن يونس: فإن نزل ذلك فقال بعض شيوخنا: يتصدق بالثمن وبالكراء، وقال بعضهم: يتصدق بفضلة الثمن وبفضلة الكراء، تقوَّم الدار أن لو بيعت أو أكريت على أن تتخذ كنيسة، وتقوَّم أن لو بيعت أو أكريت على غير هذا الوجه فيعلم الزائد، فإن كان ثلث الكراء أو ربعه تصدق بمثل ذلك الجزء من المسمى؛ لأن الفضل هو ثمن ما لا يحل، وقال بعضهم: أما في البيع فيتصدق بالفضلة كما ذكرنا، وأما في الكراء فيتصدق بالجميع لأنهءَاجَر داره لما لا يحل، كمن أكرى داره لبيع الخمر

(1)

أو دابته لحمل الخمر. ابن يونس: وبهذا أقول. اهـ. اللخمي: إن واجره على حمل زق زيت معين بعشرة فظهر أنه خمر تصدق بفضل قيمة حمله خمرا على المسمى، وإن

(1)

ساقطة من الأصل: والمثبت من المواق ج 5 ص 501.

ص: 114

كان على غير معين فأحضره زقا فحمله ثم ظهر أنه خمر فله أجر مثله فيه على أنه زيت، وما زاد للخمر تصدق به. والعقد الأول باق. انتهى.

الرابع: الفرق بين مسألتي المص أن المكري لما كان يعود له ما أكراه لم يكن عليه ضرر كثير في التصدُّق بجميع الكراء، بخلاف البائع فإنه لا يعود له ما باعه، فلو وجب عليه التصدق بجميع الثمن لاشتد ضرره. قاله عبد الباقي. وقوله: وتصدق بالكراء وبفضلة الثمن، اعلم أنه لا خصوصية لهذا بل كل ما دفع على وجه محرم فإنه يتصدق بالكراء وفي البيع بفضلة الثمن، مثال ذلك لو زنى بامرأة أو نحو ذلك. قاله الخرشي. الخامس: قوله: وبفضلة الثمن، هو كالصريح في أنه إذا لم تكن فضلة فإنه لا يتصدق عليه بشيء. والله سبحانه أعلم.

ولا متعين، هذا محترز قوله: وتعين؛ يعني أن الأعمال البدنية أي التي تتعين أي التي لا تقبل النيابة لا يجوز للشخص أن يكري نفسه فيها كان ذلك واجبا كالصلوات الخمس أو غير واجب، كركعتي الفجر، والحاصل أن الأعمال البدنية لا تجوز الإجارة عليها، ومنها الصلاة فلا تجوز الإجارة على الصلاة على الجنازة، فلا تدخل في قوله:

بخلاف الكفاية؛ يعني أن الواجب وجوب كفاية تجوز الإجارة على فعله حيث كان يقبل النيابة، فقول عبد الباقي: بخلاف الكفاية كصلاة الجنازة حيث لم تتعين، فيصح استئجار من يصلي عليها. اهـ. غير ظاهر. قال البناني: كون صلاة الجنازة مما يصح الاستئجار عليها أصله للشارح وهو غير صواب، فقد نص ابن عبد السلام وغيره على منع الاستئجار عليها. قال ابن فرحون: فإن قلت: صلاة الجنازذ عبادة لا يتعين فعلها على أحد ولا يجوز الاستئجار عليها، قلت: لما كانت عبادة من جنس الصلاة المتميزة بصورتها للعبادة والصلاة لا تفعل لغير العبادة منع الاستئجار عليها، وأما الغسل فيكون للعبادة والنظافة وغير ذلك، وكذا الحمل للميت شاركه أشياء في الصورة كثيرة فلم يتمحض بصورته للعبادة في جميع أنواعه، بخلاف صلاة الجنازة فألحقت بما أشبهته. انتهى.

تنبيه: أدخل المص المندوب في المتعين تبعا لابن عبد السلام إذ فسره بأعم من الوجوب، وقال: ولا يلزم من تعين العبادة وجوبها لأن أكثر مندوبات الصلاة متعينة كصلاة الفجر والوتر وصيام

ص: 115

عاشوراء وعرفة، فهذه يمنع الاستئجار عليها وإن لم تكن واجبة على المكلف، ومعنى تعينها على المكلف أنه لا يصح وقوعها من غير من خوطب بها، فلوأجيز الاستئجار عليها لأدى ذلك إلى أكل المال بالباطل اهـ لكن ليس مرادهم بذلك كل مندوب بل ما لا يقبل النيابة كالصلاة والصوم، وأما غيرهما من سائر المندوبات كقراءة القرآن وسائر الأذكار فتجوز الإجارة عليها. قال ابن فرحون بعد ذكر كلام ابن عبد السلام المتقدم: هذا حكم الصلاة والصوم الواجب من ذلك والمندوب، وأما قراءة القراءن فالإجارة عليها مبنية على وصول ثواب القراءة للميت، ثم استدل على أن الراجح وصول ذلك له بكلام ابن رشد وغيره. اهـ.

تنبيه آخر: اعلم أن القاعدة أنه لا يجوز اجتماع العوض والمعوض ومن ثم منع الإجارة على المتعين، لكن استثنوا من ذلك صورا يلغز بها، منها الإجارة على الإمامة على القول بجوازها فيها الأجرة وثواب الصلاة، ومنها أخذ الخارج في الجهاد جعلا من قاعد إذا كان من أهل ديوانه فيجتمع له الأجر والأجرة، ومنها الإجارة على الحج فله الأجر والأجرة أي للحاج على الصحيح من عدم سقوطه عن المحجوج عنه، وإنما له أجر النفقة والدعاء. قاله الشبراخيتي. والله أعلم. وعين متعلم؛ يعني أنه إذا استؤجر لتعليم قراءة أو كتابة أو صنعة فإنه يجب تعيين المتعلم بالشخص لاختلاف حاله ذكاء وبلادة. ورضيع؛ يعني أنه إذا استؤجر على الرضاع فإنه لا بد من تعيين الرضيع لاختلاف حال الرضيع بكثرة الرضاع وقلته. قال الخرشي مفسرا للمص: يريد أن ذلك يلزم تعيينه حال العقد وإلا فسد، فأما تعيين المتعلم والرضيع فلاختلاف حال المتعلم ذكاء وبلادة ولاختلاف حال الرضيع بكثرة الرضاع وقلته. اهـ. وقال الشبراخيتي: وعين بالشخص وجوبا متعلمٌ لّقراءةٍ أو كتابة أو صنعة، وعين رضيع بالشخص لزوما لاختلاف حالهما ذكاء وبلادة وكثرة رضاع وقلته، قال الزرقاني: ولا يلزم اختبار حالهما لإمكان علم ذلك بالنظر إلى ذات الصبي الرضيع من نحله وقوته وكبره وصغره، والتعلم يعلم غالبا ذكاؤه وبلادته بالنظر إليه، وعورضت هذه المسألة أي مسألة الرضيع هنا بما في بيوعها الفاسدة إذا باع أمة ولها ولد رضيع وشرط على المشتري رضاعه ونفقته سنة، جاز إذا كان إن مات أتى له بآخر، وفرق ابن يونس بأن مسألة البيع الرضاع فيها تبع والرضاع في هذي هو المقصود، قال في الشرح: فإن قلت:

ص: 116

لا شك أن البيع هنا وقع في الأمة فقط وهذا بيع فيه التفرقة، ومقتضى كلامه أنه بيع صحيح، يعني ماض. والله أعلم. قلت: يحمل على ما إذا رضيت الأم بالتفرقة لأن التفرقة حق لها وبأن الولد حر. انتهى.

ودار وحانوت؛ يعني أنه يلزم تعيين دار اكتريت، وكذا يلزم تعيين حانوت اكتري، ولا بد من تعيينهما بالشخص. وبناء على جدار؛ يعني أنه إذا استاجر جدارا ليبني عليه فإنه يلزم تعيين ذلك البناء، فيعين قدره وكونه بطوب أو حجر أو نحو ذلك، والمراد بالتعيين في البناء على الجدار الوصف لا التعيين الحقيقي لأنه غير ممكن، ومحمل؛ يعني أنه إذا اكترى محملا ليركب فيه فإنه يلزم تعيينه بالإشارة إليه، والمحمل مركب من مراكب النساء.

إن لم توصف؛ يعني أن محل لزوم تعيين المذكورات إنما هو حيث لم توصف، وأما إن وصفت فيكفي ذلك في جواز عقد الإجارة، وتحقيق المسألة أن المتعلم والرضيع والمحمل لا بد في صحة عقد كرائها من أحد أمرين، إما التعيين بالإشارة إليها، وإما الوصف، فأحدهما كاف، فإذا عينت لم يلزم وصفها، وإذا وصفت لم يلزم تعيينها، وأما الدار والحانوت فلا بد من تعيينهما أيضا إن لم يوصفا، ويكفي وصفهما بشرط كونهما معينتين لعدم صحة كونهما في الذمة؛ إذ لا بد من ذكر موضعهما وحدودهما ونحو ذلك، وأما البناء على الجدار فلا يمكن فيه إلا الوصف كما مر. والله تعالى أعلم. وفي الشبراخيتي: وعين حتما دار وحانوت وحمام وشبهها إذ لا يصح كونها في الذمة، ولا بد من ذكر موضعها وحدودها، وأشعر تمثيله بالعقار أن الدواب والسفن ليست كذلك فلا يلزم تعيينها بل تجوز على معين وفي الذمة وهو كذلك، وعين بناء على جدار فيذكر قدره وكونه بطوب أو حجر أو غيره، واحترز بالبناء على الجدار عن كراء الأرض للبناء عليها فلا يجب تعيين ما يبنى فيها من كونه بحجر أو طوب، وعين محمل بفتح أوله وكسر ثالثه ما يركب فيه من شقذف أو محفة لأنه يختلف باختلاف السعة والضيق والطول والقصر، وأما بكسر أوله وفتح ثالثه فعلاقة السيف إن لم توصف راجع للجميع لكن البناء على الجدار لا يمكن فيه إلا الوصف. اهـ. وقال الخرشي: قوله: إن لم توصف، راجع للجميع لكن البناء على الجدار لا يمكن فيه إلا الوصف. انتهى. وقال عبد الباقي عند قوله: إن لم توصف: وإلا اكتفي بالوصف

ص: 117

فالشرط راجع للجميع لكن البناء على الجدار لا يمكن فيه إلا الوصف. اهـ. اللخمي: لو وصفوا سن الرضيع من غير اختبار رضاعه جاز عقد الإجارة عليه. اهـ. قال غير واحد: ما ذكره اللخمي في الرضيع وفاق للمذهب، وذكره الشارح كالمقابل. اهـ. وفي الرهوني: أن الصواب ما للشارح لأن المراد بوصفه ذكر سنة وقلة رضاعه وكثرته، واللخمي قال: يكتفى بذكر سنة. اهـ. لكن قوى الرهوني بعد هذا ما للخمي. والله سبحانه أعلم. وقال عبد الباقي: والظاهر أنه لا يكفي وصف المذكورات إذا حضرت مجلس العقد من غير رؤية، بل لا بد من رؤيتها. اهـ. وقوله: إن لم توصف بالتاء المثناة فوق أي المذكورات، وبالياء التحتية أي إن لم يوسف ما ذكر، وفي الخرشي: وقوله: متعلم، سواء كان يتعلم صناعة أو قراءة أو كتابة أو غير ذلك. اهـ؛ يعني كتعلم علم، وقال المواق عند قوله: ومحمل: من المدونة: وإن أكرى محملا لمكة ولم يذكر وطاءه أو زاملته ولم يذكر ما يحمل من أرطال جاز وحملا على فعل الناس لأن الزوامل عرفت عندهم. وقال ابن الحاجب: يحين المحمل أو يوصف. اهـ. ودابة لركوب؛ يعني أن الدابة المعينة للركوب لا بد أن تكون معينة أي مشارًا إليها أو نحو ذلك، وليس في ذلك إشكال؛ لأن معنى التعيين الأول ما ليس في الذمة، ومعنى الثاني المشاهدة مع الإشارة، والحاصل أنه إذا قال أكتريت

(1)

منك دابتك هذه أو سفينتك هذه كانت معينة، وإن قال: اكتريت منك دابة أو سفينة أو دابتك أو سفينتك كانت مضمونة، ولو كانت حاضرة مشاهدة، ولو لم تعلم له دابة أو سفينة غيرها، ولا يخرجها من الضمان إلى التعيين إلا الإشارة إليها، والوصف في هذا الباب يقوم مقام التعيين، كما قال المؤلف كأن يقول دابتك البيضاء أو السوداء أو نحو ذلك، وكذلك لو قال: اكتريتك لتخيط لي هذا الثوب أو لتبني لي هذا الحائط فهو مضمون حتى تقول بنفسك. اهـ. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: أي أن الدابة المعينة للركوب يجب تعيينها، وليس فيه إشكال؛ لأن مَعنى التعيين الأول ما ليس في الذمة، والثاني يكون بوقوع الإشارة إليها كأكتري منك هذه الدابة، وبوقوع الكراء على جزء معين منها كأن يكري منه نصفها مثلا، كأكتري منك نصف دابتك وإن لم يحضرها، كما هو ظاهر

(1)

في الأصل: أكريت، والمثبت من الخرشي ج 7 ص 23.

ص: 118

النقل، وليس من المعين أكتري منك دابة أو سفينة أو دابتك، ولو زاد التي عندك أو التي في منزلك أو سفينتك فهو من الكراء المضمون ولو كانت حاضرة مشاهدة ولو لم يعلم له دابة أو سفينة غيرها، ولا يخرجها من الضمان إلى التعيين إلا الإشارة إليها أو كراء جزء منها، والوصف في هذا الباب يقوم مقام التعيين، كأن يقول: دابتك البيضاء أو السوداء أو نحو ذلك، وكذلك لو قال: اكتريك لتخيط لي هذا الثوب أو لتبني لي هذا الحائط فهو مضمون حتى يقول بنفسك أو يعرف أنه يعمله بنفسه أو كان عمله مقصودًا لِحِذاقتِه وإحكامه. قال في التوضيح: محمد وإن وقع الكراء على الإطلاق حمل على المضمون حتى يدل دليل على التعيين. اهـ. وقال عبد الباقي: حذف المص إن لم توصف من هنا لدلالة ما قبله عليه، فالوصف في هذا الباب يقوم مقام التعيين من حيت صحة العقد فقط ولكن، التعيين بالإشارة يفسخ العقد بتلف المعقود عليه بخلاف المعينة بالوصف. اهـ. وقال البناني عند قوله ودابة لركوب ما نصه: ظاهره الاكتفاء بالتعيين في دابة الركوب، وقال ابن عبد السلام: ينبغي أن يختبرها لينظر سيرها في سرعته وبطئه، فرُبَّ دابةٍ - كما قال ملك- المشي خير من ركوبها. اهـ. وفي الخرشي: تأخير قوله: ودابة لركوب، عن قوله: إن لم توصف، يوهم أن الوصف غير كاف هنا، وينبغي أن يكون كافيا، وحينئذ فقد حذف من هنا لدلالة الأول عليه. اهـ. وقال الحطاب: قال في التوضيح: محمد: وإن وقع الكراء على الإطلاق حمل على المضمون حتى يدل دليل على التعيين، ولو أكراه نصف السفينة أو ربعها فيكون كشرط التعيين. اهـ.

فرع: لو أراد رب الجمال أن يبدل دابة بغيرها تحت المستأجر في الكراء المضمون وأبى المستأجر إلا أن يبقى ما تحته لموافقتها له في الليونة أو نحو ذلك فالقول قوله، وليس لرب الداوب الإدارة إلا برضى المستأجر، كما نقله المواق عن ابن رشد، وهي فائدة حسنة. اهـ. قاله الخرشي. وفي الميسر: وعينت دابة لركوب إن لم تضمن بل عقد على عينها، وتُعَيَّن بإشارة أو تسمية كدابتك هذه أو الفلانية، قال بعينها أو لم يقله كذا في المقدمات. اهـ.

وإن ضمنت؛ يعني أنه إذا لم يقع العقد على عين دابة الركوب بل ضمنت بأن قال له: أكريتك دابة أو عينت بالوصف فقط كدابتك البيضاء أو السوداء أو أكريتك دابتي أو أكتري دابتك وليس

ص: 119

للمكري غيرها أو زاد بعد دابتك التي عندك لاحتمال إبدالها بغيرها، فالواجب جنس؛ أي تعيينه كخيل أو بغال أو إبل، ونوع أي صنف كبرذون وعربي وبخت وعراب، قال عبد الباقي: واعلم أنه لا بد من تعيين المعقود عليها معينة أو مضمونة، لكن معنى تعيين المعينة بالشخص الإشارة إليها، وتعيين المضمونة بالوصف وذكر جنس ونوع وذكورة؛ أي لا بد في دابة الركوب من بيان الجنس والنوع والذكورة أو الأنوثة، وفي شرح عبد الباقي ومفهوم لركوب عدم لزوم تعيينها لحمل أو استقاء أو حرث، وإنما يجب فيهن بيان ما تختلف به الأغراض في كل، ففي الشامل: ولا توصف إن أكريت لحمل إلا في حمل زجاج ونحوه مما يتلف إن سقط، وفي الشارح: وتوصف أيضا إن أكريت لحراثة لاختلاف صلابة الأرض وعدم صلابتها وقرب الأرض وبعدها، وفي إجارتها للسقي لا بد من معرفة قدر الدلاء والعدد وموضع البئر وبعد الرشاء إذا كان مباينا للمتعارف مباينة بينة. اهـ. ونحوه للتتائي، وتحصل مما مر أن العين المؤجرة إذا كانت متعلما أو رضيعا أو دارا ونحوها أو محملا فلا بد في صحة عقد الإجارة من تعيينها بالإشارة إليها أو بوصفها، وأن البناء على الجدار لا بد فيه من الوصف، بخلاف البناء على الأرض، وأن الدابة المكتراة للركوب لا بد من تعيينها إن كانت مُعينة، فيصح عقد الإجارة بتعيينها، وإن لم يقع العقد على عينها بأن كانت مضمونة بأن قال: اكتريت منك دابة أو دابتك البيضاء أو السوداء مثلا، ولو لم يكن له غيرها لاحتمال إبدالها بغيرها، حتى يدل دليل على التعيين، كأن يقول: التي رأيتها عندك بالأمس بعينها، ولا بد من وصفها وبيان جنسها ونوعها وذكورتها، وإن كانت الدابة مكتراة لغير الركوب فلا يلزم تعيينها ولا وصفها كالحمل والاستقاء والحرث، وإنما يجب فيها بيان ما تختلف به الأغراض. والله سبحانه أعلم.

وليس لراع رعي أخرى إن لم يقو؛ يعني أن من استأجر من يرعى له ماشية فليس له أن يرعى غير تلك الماشية إن لم يقو على رعي غيرها، ومفهومه أنه لو قوي على رعي غيرها لكان له ذلك، وقوله: وليس لراع رعي أخرى لخ، فلو تحمل المشقة في هذه الحالة ورَعَى كانت له الأجرة حيث لم يشترط خلافه قال الشبراخيتي: وليس لراع المراد بالراعي أجير الرعي رعي دواب أخرى كانت إبلا أو بقرا أو غنما أو غير ذلك إن لم يقو. انتهى. وقال عبد الباقي: وليس لراع

ص: 120

استؤجر على رعاية غنم كثيرة رعي غنم أخرى إن لم يقو على رعي أخرى معها لغير ربها بحيث يخل بما يلزمه فيها. ابن ناجي: أقام شيخنا من هذا أن المؤدب ومن يشبهه من معلم صنعة لا يزيد على

(1)

أكثر مما يطيق. اهـ. ونحوه للتتائي، وقوله: إن لم يقو شرط في المعينة وغيرها، فلا فرق بين أن يؤاجره على رعاية غنم بأعيانها وعدد معلوم غير معين.

إلا بمشارك، مستثنى من قوله: وليس لراع إلى آخره بقيده ولا فساد في ذلك، وكلام عبد الباقي غير ظاهر، والله تعالى أعلم. ومعنى كلامه أن محل كون الراعي ليس له رعي غير ما استؤجر عليه حيث لم يقو، إنما هو إذا لم يكن معه مشارك يقوى به على رعاية الماشيتين، وأما إن كان معه مشارك يقوى معه بحيث لا يخل بما يلزمه في الأولى والثانية فإنه يجوز له رعي أخرى. أو تقل، عطف على المستثنى، والفاعل ضمير يعود على الأولى، قال عبد الباقي: أو تقل الأولى بحيث يطيق معها رعي غيرها، ولو كثرت حيث قوي بحيث لا يخل برعي الأولى لأن قلة الأولى مظنة قوته على غيرها، وجعْلُ البساطي ضمير تقل للثانية فيه شيء لاقتضائه جواز رعي الثانية القليلة وإن لم يطق غير الأولى، وليس كذلك. اهـ.

قال مقيده عفا الله عنه: فيه شيء على كلا التقريرين لأنه إذا عَاد الضمير على الأولى وقلنا: إنه غير قوي على رعاية شيء معها على قلتها فليس له أن يرعى غيرها. ولم يشترط خلافه، مقتضى كلام التتائي أنه قيد في المسألتين؛ يعني أن محل كون الراعي إذا قوي على رعاية الأخرى بسبب المشاركة أو بسبب قلة الأولى أو الثانية إنما هو حيث لم يشترط عليه رب الماشية الأولى أن لا يرعى غيرها.

وإلا؛ أي وإن لم يكن الأمر كذلك بأن اشترط عليه أن لا يرعى غيرها. فأجره، الكائن من رعي الأخرى. لمستأجره، بكسر الجيم، والمراد به رب الماشية الأولى، قال الخرشي: قوله: وليس لراعٍ لخ، كلام المؤلف فيمن استأجر راعيا على عدة محصورة أو قال له: على هذه، أما لو قال له: ترعى لي غنما، فليس له رعي أخرى ولو قوي عليها وأجره لمستأجره؛ لأن منافعه كلها صارت

(1)

كذا في الأصل وفي عبد الباقي.

ص: 121

لمستأجره، كما ذكره الشارح عن اللخمي. اهـ. وقال بناني: ولا فرق بين المعينة وغيرها إذا واجره على عدد معلوم، والذي في الشارح هو ما نصه: هذا إذا استأجره على رعاية غنم، وأما إذا استأجره على رعاية غنمه وضمه إلى نفسه فكان تحت يده فليس عليه أن يسمي عدة ما يرعى له، وله أن يسترعيه ما يقوى مثله على رعيه، وليس للأجير أن يرعى لغيره وإن لم يضر بغنمه لأنه أجيره وله خدمته. كلها قاله ابن حبيب. اهـ. قاله رادا على عبد الباقي في قوله: ثم قوله: إن لم يقوَ، شرط في المعينة لخ، وكلام الخرشي الذي نقلته سالم من الاعتراض والله تعالى أعلم. وقوله: فأجره لمستأجره، قال عبد الباقي: وطريقة معرفة ذلك أن يقال ما أجرته على رعيها وحدها؟ فإذا قيل: عشرة مثلا، قيل: ما أجرته على رعيها مع غيرها؟ فإذا قيل: ثمانية، فقد نقص الخمس، فيخير مستأجره بين أن ينقصه خمس المسمى وبين أخذ ما آجر به نفسه، ويجري نحوه في قوله: كأجير لخدمة آجر نفسه. اهـ. ونحوه للشبراخيتي وهو في الحطاب، وقد مر أن رعاية الغنم على ثلاثة أوجه: رعايةٌ على غنم معينة، رعايَة على عدد معلوم، وهاتان فيهما كلام المص هنا. الوجه الثالث: أن يستأجره على أن يرعى له غنما أو إبلا أو غير ذلك ولم يذكر له عددا ولا عين الماشية: فيجوز ذلك أيضا ويضمه إلى نفسه ويأتيه بما يقدر على رعايته، زاد اللخمي: هذا إذا كان المستأجر يعلم قدر رعاية مثله وقد ملك المستأجر في هذا الوجه جميع منافع الراعي، وضمُّه إلى نفسه ليس بشرط فإن عزله ورتب له نفقة معلومة جاز كما في المتيطية. كأجير لخدمة آجر نفسه؛ يعني أن أجير الخدمة إذا آجر نفسه بحيث فوت على المستأجر ما استأجره عليه أو بعضه فإن المستأجر يخير بين أن يسقط عن نفسه أجرة ما فوته عليه وبين أن يأخذ منه الأجر الذي آجر به نفسه، وهذا حيث آجر نفسه فيما يشبه أجره أجر الأولى، وأما إن استأجره شهرا بدينار فيؤجر نفسه في أمر مخوف يوما بدينار أو يقاتل فيدفع له في سهمه عشرة دنانير، فإنه يُسقط من الأجرة التي استأجره بها مدة تعطيلة، كما قاله ابن يونس. قاله الشبراخيتي. وقال الخرشي: في المدونة: من استأجر أجيرا للخدمة استعمله على عرف الناس من خدمة الليل والنهار انتهى وقال عبد الباقي: كأجير لخدمة آجر نفسه فأجره لمستأجره حيث استأجر جميع منفعته بقيدين أن يعطل جميع ما استؤجر عليه من الخدمة أو بعضه وإلا فلا

ص: 122

شيء عليه للمستأجر. القيد الثاني: أن يؤجر نفسه بما يشبه أجرته، وأما إن استأجره شهرا بدينار فآجر نفسه في أمر مخوف يوما بدينار أو قاتل فدفع له في قسمته عشرة دنانير فليس عليه إلا قيمة ما عطل، وفهم من قوله: فأجره، وقوله: آجر نفسه، أنه إن عمل لغير المستأجر مجانا فإنه يسقط من كرائه بقدر ما عمل أي بقدر ما نقص مما سمى له في الأجر. اهـ. قوله: وإلا فلا شيء عليه لخ، يتصور هذا بأن يستعمل نفسه في الأوقات التي جرت العادة أنه لا يعمل فيها لمستأجره كاليل مثلا، فلا ينافي أن الموضوع أنه استأجر جميع منفعته، قال الرهوني: وهذا التخيير المذكور في المسألتين، أعني قوله: وإلا فأجره لمستأجره، وقوله: كأجير لخدمة آجر نفسه، تظهر فائدته فيما إذا كان الأول أكثر من الثاني أو العكس، وقوله: كأجير لخدمة آجر نفسه، لو أصاب الأجير بيض الحجل فهو له.

ولم يلزمه رعي الولد؛ يعني أن الراعي لا يلزمه رعي ما تلده الماشية، قال الشبراخيتي: ولم يلزمه أي الراعي رعي الولد الذي تلده الغنم المستأجر على رعيها لأنه زائد على ما استؤجر عليه فلم يتناوله العقد، وقال عبد الباقي: وإذا لم يلزم رعي الولد عند عدم العرف، فقال ابن اللباد: على ربها أن يأتي براع يرعى معه أولادها للتفرقة أي لضررها أي لما يلحق راعِي الأمهات من ضرر تفرقتها وجريها وذهابها عن محل الرعي بسبب تولهها بأولادها حين بعدها عنها، فليس المراد منع التفرقة لما تقدم أنه خاص بالعقلاء. اهـ. قال البناني: في توجيه كلام ابن اللباد بهذا نظر لأن ذلك لا يتم إلا لو كانت الأمهات تتوله إذا رَعت وحدها، والواقع خلاف ذلك، ولما ذكر أبو الحسن كلام ابن اللباد قال بعده: راعى التفرقة في الحيوان البهيمي ومثله في سماع عيسى. اهـ. وقال ابن عرفة بعده: قلت: معناه أن التفرقة تعذيب لها فهو من النهي عن تعذيب الحيوان. انتهى.

إلا لعرف؛ يعني أنه إذا جرى العرف بأن الراعي يرعى أولاد الماشية التي استؤجر على رعايتها فإنه يلزمه رعي الولد، قال أبو الحسن: لأنه يقيد ما أطلقاه، ويفسر ما أجملاه، ويكون شاهدا لمن ادعاه.

ص: 123

تنبيهات: الأول: قال في الطرر: إذا امتنع راعي قوم أن يرعى لأحدهم لم يجبر، وفي جبر الفران والرحوي والحمامي ونحوهم إن لم يوجد غيرهم قولان، الجبر استحسان، وعدمه قياس، وكان القضاء بطليطلة جبر الفران على طبخ خبز جاره بأجر مثله. اهـ. ونقله في التكميل. قاله البناني. الثاني: يأتي من مر براع كره أن يعطيه اللبن إن كان الغالب إباحته لإمكان أن ربها ممن يمنع وإن غلب منعه لم يجز، وإن كانوا يبيحونه لم يكره. الثالث: لو أتى الراعي بمن يرعى مكانه لم يجز ولو رضي رب الغنم إن كان معينا لأنه فسخ دين في دين، ثم إن ضاع شيء من الثاني ضمنه الأول حيث لم يرعَ الثاني بإذن رب الماشية ويضمن وإن كان مثله في الأمانة، وقيل: إنما يضمن إذا لم يكن مثله أمانة، هذا إن لم يكن العرف إتيانه بمثله لضرورة، فإن كان لم يضمن اتفاقا، وكذلك إن كان العرف إتيانه بدونه كولده.

الرابع: قال التتائي: ويحرم عليه أي الراعي السقي من لبنها لعدم الإذن فيه، وقال اللخمي: مكروه لأن الغالب الإباحة، ابن ناجي: قال شيخنا أبو مهدي: ليس مثلها من يمر بجنان رجل وله غلة ولم يكن عرف يقتضي الإذن لأن اللبن يتجدد في كل يوم فالأمر فيه أخف. اهـ. الخامس: قوله: ولم يلزمه رعي الولد، ظاهر في المعينة. قال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: إذا استؤجر على رعاية غنم بأعيانها وشرط ربها أن ما مات منها أخلفه فتوالدت الغنم حُمِلا في رعاية الولد على عرف الناس، فإن لم تكن لهم سنة لم تلزمه رعاية الولد. انتهى. لكن في الملوي أنه لا فرق بين المعينة وغيرها في ذلك. والله تعالى أعلم.

وعمل به في الخيط؛ يعني أنه يعمل بالعرف في الخيط الذي يخاط به فإن جرى العرف بأنه من عند الخياط كان عليه وإن جرى العرف بأنه من عند رب الثوب مثلا كان عليه. ونقش الرحى، يحتمل أن معناه أن من اكترى رحا ليطحن فيها فإن نقشها يكون على من جرى العرف بفعله له، فإن جرى العرف بأن ربها هو الذي ينقشها كان النقش عليه، وإن جرى العرف بأن رب الدقيق هو الذي ينقشها فإن النقش يكون على رب الدقيق، ويحتمل أن معناه أن من له رحا واستأجر من يطحن له فيها يتبع العرف في نقشها، فإن جرى العرف بأن ربها وهو رب الدقيق هو الذي ينقشها كان عليه النقش، وإن جرى العرف بأن الطحان هو الذي ينقشها كان عليه

ص: 124

النقش، فرب الرحى على هذا هو رب الدقيق كالدقاقين بفاس الذين يستأجرون الطحَّانين. والله تعالى أعلم.

وآلة بناء؛ يعني أنه يعمل بالعرف في آلة البناء كالفؤوس والقفاف والدلاء فإن جرى العرف بأن البنَّاء هو الذي يخرجها من عنده كانت عليه، وإن جرى العرف بأن الذي يخرجها هو رب البناء كانت عليه. وإلا؛ أي وإن لم يكن عرف. فعلى ربه؛ أي رب الشيء المصنوع من ثوب ودقيق وجدار، هذا هو ظاهر المص وهو الظاهر في مسألتي الخيط وآلة البناء، وكذا في مسألة الرحا على أن رب الرحا هو رب الدقيق، وأما على أن معناه أن الرحا مكتراة للطحن فإن النقش يكون على رب الرحا حيث انعدم العرف. والله سبحانه أعلم. ولذا قال ابن غازي: فلعل عرفهم أي في بلاد المص أن رب الرحا هو رب الدقيق كالدقاقين بفاسٍ الذين يستأجرون الطحانين وإلا فما هنا مخالفٌ للمدونة، وفي الشبراخيتي: واختلف إذا لم يوجد إلا واحد من أهل هذه الصنائع هل يجبر على صنعته بأجرة مثله أو لا؟ قولان، البساطي: وعندي أنه إن كان من التتمات كالخياط لم يجبر، وإن كان من الحاجيات أجبر كالفران. اهـ.

عكس إكاف وشبهه؛ يعني أن من اكترى دابة يعمل بالعرف فيما يجعل على ظهرها من إكاف وشبهه فإن جري العرف بإخراج مكتري الدابة له كان عليه، وإن جرى العرف بكونه على رب الدابة كان عليه، وإن لم يكن عرف فعلى مكتري الدابة، فقوله: عكس، خبر مبتدأ محذوف أي وذلك عكس إكاف وشبهه، قال عبد الباقي مقررا للمص وذلك عكس إكاف بكسر الهمزة وضمها البرذعة على ما في القاموس خلاف ما في الشارح والتتائي من أنه شيء أصغر من البرذعة بموحدة مفتوحة فراء ساكنة فذال معجمة أو مهملة وشبهه من سرج ولجام وحلس تحتها أو فوقها؛ أي إن كان عرف عمل به وإلا فعلى المكتري، هذا مراده ولكن مذهب المدونة أن حكم الإكاف ونتبهه حكم الخيط وفي معه إن كان عرف عمل به وإلا فعلى رب الدابة. اهـ. قال البناني: هو الموافق أيضا لما استظهره ابن عرفة حيث قال: والأظهر بمقتضى القواعد أن يلزم المكري البرذعة والسرج ونحوهما لا مؤنة الحط والحمل اهـ وقال الشبراخيتي: واعلم أن الإكاف وشبهه حكمه حكم الخيط وفي معه في أنه إن كان عرف عمل به وإلا فعلى رب الدابة كما في المدونة. اهـ.

ص: 125

وقال المواق: قال ابن شأس: على رب الدابة تسليم ما العادة تسليمه معها من إكاف وبرذعة وحزام وسرج في الفرس وغير ذلك من معتاد لأن العرف كالشرط، وكذا الحكم في إعانة الراكب في النزول والركوب في المهمات المتكررة وكذا رفع الحمل. اهـ. وقال الشبراخيتي: عكس إكاف وشبهه كالبرذعة والسرج والمقود والحزام واللجام. اهـ. وقال الخرشي: الإكاف بكسر الهمزة وضمها شيء يكون للحمار كالسرج للفرس؛ قال بعضهم ويطلق في بلاد مصر على ما يوضع فوق البرذعة ويشد عليه معها الحزام والبرذعة بفتح الباء وذال معجمة وحكي إهمالها، وفسرها الجوهري بالحلس الذي يلقى تحت الرحل، وفي شرح البخاري: الإكاف شيء يركب عليه أصغر من البرذعة وهذا هو المناسب هنا لأن المراد آلة الركوب والحمل، وقوله: عكس خبر مبتدإ محذوف أي هذا عكس الإكاف وشبهه. اهـ.

وفي السير؛ يعني أنه إذا اكترى دابة أو دواب فإنه يعمل بالعرف في كيفية السير وتفصيله. والمنازل؛ يعني أنه يعمل بالعرف أيضا في قدر المنازل، وفي محل النزول في معمور أو صحراء، وفي مقدار الإقامة بالمنزل. والمعاليق، جمع مُعلُوق بضم الميم واللام كعصافير جمع عصفور وهو ما يعلقه المسافر معه. قاله الخرشي. وقال التتائي: وفي المعاليق التي يحتاج لها المسافر من سمن وزيت وعسل ونحوها. انتهى. وقال الشبراخيتي: ما يعلقه المسافر معه من سمن وعسل وزيت ونحوها. انتهى. ومعنى كلام المص أنه يعمل بالعرف في المعاليق التي يحملها المسافر معه فيتبع العرف في ذلك، وفي المواق: قال ابن شأس: يصف الحمل بالسعة والضيق ويُعَرِّف تفاصيل المعاليق، فإن أطلق في شيء من ذلك وكان معلوما بالعادة صح العقد. اهـ. والزاملة ما يحمل فيه المسافر حاجته من خرج ونحوه؛ يعني أنه يتبع العرف في حمل الزاملة، وقد علمت أن العرف يتبع في هذه المسائل الأربع، فإن لم يكن لهم عرف في السير والمنازل فلا بد من تعيينه وإلا فسد العقد، وأما المعاليق وما معها فإن لم يكن عرف بحملها فلا يلزم المكري حملها. قاله غير واحد. والله تعالى أعلم.

ووطائه بمحمل؛ يعني أن من اكترى دابة ومعها محمل ليركب عليه فإنه يتبع العرف في الوطاء وهو الذي يفرشه تحته في المحمل، فإن كان العرف جاريا بحمله على رب الدابة عمل به،

ص: 126

وإن كان العرف أن رب الدابة لا يأتي به من عنده للراكب عمل به. قاله الشبراخيتي. ونحوه للخرشي فإنه قال: قوله: ووطائه؛ أي حملا وإتيانا فإذا كان العرف أن حمل وطاء الراكب وهو ما يفرشه تحته على رب الدابة عمل به، وإن كان العرف أن رب الدابة لا يأتي بوطاء من عنده للراكب عمل به. اهـ. وقال: وسكت عن ذكر الغطاء مع أنه مما يعمل فيه بالعرف أيضا لفهمه بالأولى إذ لا يمكن الاستغناء عنه غالبا بخلاف الوطاء.

وبدل الطعام المحمول؛ يعني أنه إذا استأجر دابة أو داوب لحمل طعام عليها فحمله عليها ونقص الطعام المحمول ببيع أو أكل أو غير ذلك فرغب المكتري في بدل النقص بأن يجعل في الطعام مثل ما نقص منه ورغب المكري في أنه يترك الطعام على نقصه فإنه يتبع العرف في ذلك، فإن جرى العرف بأنه يوفيه لزم، وإن جرى عرف بأن لا يوفيه فليس له أن يوفيه، وإن لم يكن عرف بشيء فعليه حمل الوزن الأول، قال الحطاب مفسرا للمص: يعني إذا نقص الطعام المحمول ببيع أو أكل فأراد ربه أن يوفيه فإن كان فيه عرف عمل به، وإن لم يكن لهم عرف فعليه حمل الوزن، الأول نقله في التوضيح عن المدونة، قال: وعكسه إذا استأجره على حمل مائة رطل فأصابه مطر حتى زاد فلا يلزمه إلا حمل الوزن الأول. قاله سحنون. وقال المواق: من المدونة: إن نقصت زاملة الحاج أو نفِدَت فأراد إتمامها وأبى الجمَّال حملا على عرف الناس. اهـ.

وتوفيره؛ يعني أنه يرجع للعرف في توفير الطعام المذكور فإن أراد ربه توفيره أي تركه على حاله فلا ينقصه ببيع ولا غيره، وإن أراد المكري عدم توفيره بأن أراد تخفيفه فإنه يتبع العرف في ذلك، فإن لم يكن عرف فعليه حمل الوزن الأول إلى غايته. اهـ. وهذا يفيد أنه لا يلزم تخفيفه بل عليه حمله على حالته ما لم يزد كما لوأصابه بلل. والله تعالى أعلم.

كنزع الطيلسان قائلة، الطيلسان مثلث اللام وجمعه طيالس وطيالسة؛ يعني أن من استأجر طيلسانا للبسه فإنه ينزعه في وقت القائلة لجري العادة بذلك، ولا مفهوم لقائلة بل ينزعه في الوقت الذي جرى العرف بنزعه فيه سواء كان قائلة أم لا، قال التتائي: كنزع الطيلسان قائلة إذا استأجره للبسه لجريان العادة بنزعه ذلك الوقت إلا لضرورة وأحرى ليلا، البساطي: إلا أن

ص: 127

يكون استأجره لحفظ عمامته عن سقوطها ليلا، وأفرده بكاف التشبيه لتقرر العرف فيه بذلك، وما قبله يختلف باختلاف العرف فيه، فجعل ذلك أصلا باعتبار العرف فيه. انتهى. ابن شأس: لو استأجر ثوبا للبسٍ نَّزَعَه في أوقات نزعه عادة كاليل والقائلة. ابن عرفة: هو صواب، فإن اختلف العرف في لبسهَ لزم بيان وقت نزعه أو داوم لبسه اهـ ونحوه لغير واحد ابن عبد السلام: مما يرجع فيه للعرف في هذا الباب في المكان كما يرجع إليه في الزمان ما قاله بعض الشيوخ: من اكترى على متاع دواب إلى موضع وفي الطريق نهر لا يجاز إلا على المركب قد عرف ذلك كالنيل وشبهه فجواز المتاع على ربه والدواب على ربها، وإن كان يخاض في المخايض فاعترض حملان لم يعلموا به فحمل المتاع على صاحب الدابة وتلك جائحة نزلت به، وكذلك إن كان النهر شتويا يحمل بالأمطار إلا أن يكون وقت الكراء قد علموا جريه وعلى ذلك دَخَلوا فيكون كالنهر الدائم. انتهى. وقوله: حِملان بكسر الحاء المهملة وسكون الميم مصدر منون. وهو أمين فلا ضمان؛ يعني أن من ذكر من مستأجر كمكتري الدابة مثلا وأجير كالراعي أمين فيما أسلم إليه، وإذا كان أمينا فلا ضمان عليه فيما ادعى تلفه بغير تفريط. قال الخرشي: يريد أن من استأجر شيئا فادعى ضياعه أو تلفه فإنه يصدق ولا يضمنه لأنه أمين على الأصح، كان مما يغاب عليه أم لا، وفي كتاب سحنون: قول بضمانه. اهـ. وقال البناني: قال ابن يونس: قال ابن حبيب: وقال ابن المسيب والأوزاعي ومكحول والحسن: يضمن الراعي المشترك ولا يضمن من يرعى لرجل واحد خاصة. ابن يونس: رأوا الراعي المشترك كالصانع لأنه أجير مشترك. اهـ. قال في التكميل: وظاهره أن ابن حبيب حاكٍ لمذهب الأربعة لا قائل به ولذا لم ينقله ابن عرفة، وأفتى بتضمينه العبدوسي. اهـ. وقال الخرشي: وجد عندي في نصه: ولا ضمان على المستأجر ويصدق فيما ادعى ضياعه أو تلفه ولو مما يغاب عليه ولكن عليه الأجرة كاملة، ولا يصدق أنها هلكت في أثناء الطريق إلا ببينة، ويكفي أن تقول: رأيناه يطلبها في الموضع فلم يجدها، ولا يشترط مشاهدة الضياع ولو ادعى ردَّ الشيء المستأجر فالقول قوله ولوأخذه ببينة قال محمد وهو الصواب كما قاله ابن عرفة، لكن هذا قول من أقوال أربعة مشهورها إن ادعى الدفع إلى اليد الدافعة وكان قد قبضه بغير إشهاد صدق مع يمينه متهما أم لا، وإن كان قد قبضه بإشهاد فلا يصدق إلا

ص: 128

بإشهاد، فهو نظير عامل القراض في دعوى العامل الرد على ربه في التفصيل المذكور. اهـ. وقال الحطاب: قال ابن ناجي في شرح قول الرسالة: ومن اكترى ماعونا أو غيره فلا ضمان عليه في هلاكه بيده وهو مصدق إلا أن يتبين كذبه: قول الشيخ: مصدق، يريد ويحلف إن كان متهما لقد ضاع ولا فرطت ولا يمين عليه إن كان غير متهم. قاله ابن القاسم. وقيل: يحلف مطلقا، وقيل: يحلف غير المتهم ما فرطت، والقول قول المستأجر في رد الشيء المستأجر إلا أن يكون قبضه ببينة، نص عليه ابن رشد وغيره، وقال ابن الحاجب والمستأجر أمين على الأصح، قال ابن عبد السلام: يعني أن من ملك منفعة بعوض فالقول قوله في تلف الذات التي قبضها لاستيفاء تلك المنفعة سواء كانت تلك الذات من نوع ما لا يغاب عليه كالحيوان أو ما يغاب عليه كالجفنة، هذا هو المعروف في المدونة وغيرها، وأنكر بعضهم وجود الخلاف فيه في المذهب، ومن أثبته لم يثبته عموما كما يقتضيه ظاهر المؤلف؛ يعني ابن الحاجب، بل هو مقصور عندهم على ما يغاب عليه. اهـ. ونحوه في التوضيح، وفي المدونة: ومن استأجر فسطاطا أو بساطا أو غرائر أو آنية إلى مكة ذاهبا وجائيا جاز ذلك، فإن ادعى حين رجع ضياع هذه الأشياء في البداءة صدق في الضياع ولزمه الكراء كله، إلا أن يأتي ببينة على وقت الضياع، فإن كان معه قوم في سفره فشهدوا أنه أعلمهم بضياع ذلك وطلبه بمحضرهم حلف وسقط، من يومئذ حصة باقي المدة، وقال ابن رشد في شرح المسألة الثانية من سماع أشهب من كتاب تضمين الصناع: وحُكْمُ اكتراء العروض بشرط الضمان على قول مالك في هذه الرواية حُكْمُ بيع الثياب يفسخ الكراء إلا أن يرضى المكري بترك الشرط، فإن فات الكراء كان على المكتري الأكثر من المسمى وكراء المثل على غير شرط الضمان، ثم قال: وأما قوله في الدمياطية فيمن اكترى دابة بالضمان: أنه لا خير فيه ويرد إلى كراء مثله مما لا ضمان عليه، فظاهره كان أكثرَ من المسمى أو أقل ومعناه إن فات الكراء وأنه يفسخ قبل فوته وإن ترك المكري الشرط وهو القياس، خلاف رواية أشهب. اهـ. وصدق مكترٍ ادعى إباق العبد أو تلف الدابة أو ضياع ما يغاب عليه أو تلفه إلا أن يتبين كذبه. ولو شرط إثباته إلا أن يأتي بسمة الميت؛ يعني أن المكتري أو الراعي أمين فلا ضمان عليه ولو اشترط رب الدابة أو الماشية، الضمان حيث لم يأت بسمة ما مات من الدابة أو الماشية أي قال له في عقد الإجارة إن ادعيت موت شيء مما ذكر ولم تأتني بسمته فأنت غير مصدق في ذلك فتكون ضامنا

ص: 129

له، فإن هذا الشرط لا يؤثر الضمان. قال عبد الباقي: مقتضى المص صحة الإجارة مع الشرط المذكور مع أنها تفسد به لأنه شرط مناقض لمقتضى العقد وإن كان لا يضمنه وله أجر المثل زاد على التسمية أو نقص عند ابن القاسم، إلا أن يسقط الشرط قبل الفوات بانقضاء العمل فتصح. التتائي عن ابن ناجي: وهذه المسألة كالنص في أن قناديل المسجد لا ضمان عليهم فيما كسروه منها إلا مع التفريط، ولو شرط عليهم أنهم يغرمونه لا يلزمهم. المغربي: ويقوم منها أن الأمة والعبد والصبي لا يضربون على ما كسروا من الأواني، ففي الحديث: (لا تضربوا إماءَكم على كسر أوانيكم فإن لها آجالا مثل آجالكم

(1)

). وهذا ما لم يكن منهم تفريط فيؤدبون كما لو أمر أمته بحمل الشيء الثقيل بيديها معا فترفعه بيد واحدة فيغلبها فيسقط فينكسر. اهـ. وقال الحطاب: ابن القاسم: وإذا اشترط على الراعي الضمان فسدت الإجارة ولا شيء عليه وله أجر مثله بغير ضمان نَافَ على التسمية أو نقص، وقال غيره: إن كان ذلك أكثر من التسمية لم يزد عليها. وقال في المسائل الملقوطة: ولا ضمان على الراعي فيما تلف أو ضل وعليه اليمين إن اتهم أنه ما فرط ولا تعدى ولا دلس، ولا يضمن إن نام مغلوبا في إبان النوم إلا أن يأتي من ذلك ما يُنكَرُ، وإن شرط عليه الضمان فسخت الإجارة وله أجر المثل فيما رعى، وفي الإرشاد في باب الإجارة: وتلزم في الفاسدة أجرة المثل.

مسائلُ حسانٌ: الأولى: قال الإمام الحطاب: قال في الطرر: وإذا ادعى الراعي أن بعض الغنم له لم يصدق إلا أن يأتي بسبب يدل على صدقه فيحلف، ونقله عن نوازل ابن رشد. اهـ.

الثانية: إذا قال الصانع: هذا متاع فلان، وقال فلان: ليس هو لي فالظاهر أن القول قول الصانع، قال البرزلي: قال ابن الحاج: إذا احترق الخبز في الفرن فقال الفران: هو لفلان، وقال صاحبه: ليس هو لي، فالقول قول الفران، قاله ابن زرب، ثم ذكر عن اللخمي إن كان يعمل للناس فإنه يصدق وإن كان يعمل لنفسه لم يصدق. اهـ. قاله الحطاب. الثالثة: قال الملوي: كثيرا ما يقع في البادية الدخول مع الراعي على أنه إن خرج قبل تمام العدة بغير عذر فلا شيء له،

(1)

الفردوس للديلمي، ج 5 ص 34، رقم الحديث 7379.

ص: 130

وإن أخرجه رب الغنم أعطاه جميع الأجرة، وأجاب سيدي محمد بن الحسن البناني بأنها عقدة فاسدة تجب فيها أجرة المثل وتفسخ متى عثر عليها، وأجاب التاودي أيضا بفساد العقد. الرابعة: في أجوبة سيدي عبد القادر الفاسي: أنه لا يجوز إعطاء البقرة لمن يرعاها على أن يأخذ نصف زبدها قائلا: لكن في المواق والمعيار عن ابن سراج ما يؤذن بالترخص في ذلك لأجل الاضطرار؛ لأن مذهب مالك مراعاة المصلحة إن كانت كلية حاجيَّة، فإن تعاقدا على زبد في ذمته فقال: لا خلاف في فساد العقد. والله أعلم. اهـ. وفي الدرر المكنونة، في نوازل مازونة، عن المشدالي أن ما يأخذه الراعي من الزبد بالعادة على رعايته مفسد لعقد الإجارة ويقضَى له بأجرة مثله؛ لأنه لم يدخل معهم على تحديد ما يأخذه من الزبد بالوزن، وإنما دخل على أن يأخذ مخضة في الشهر مثلا، ومثله يقع كثيرًا في إجارة معلم الصبيان في البادية، والواجب في هذه الإجارة الفسخ والرجوع إلى أجرة المثل فيما مضى من مدة التعليم. والله أعلم. الخامسة: إذا فسد العقد وقلنا: إنه يأخذ أجرة المثل لما مضى فإنه يدفعه له حالا كما هو واضح، وأما الإجارة الصحيحة إذا وقع فيها ما يوجب عدم الإتمام وكانت مؤجلة بأجل معلوم فإنه يأخذ من الأجرة المسماة بقدر عمله ويبقى مؤجلا بأجله، وذلك أي إبقاؤها إلى أجلها واضح، إلا أن يفهم منه إرادة تعجيل ما ينوبه من الأجرة عند التفاسخ. قاله الملوي. المسألة السادسة: قال الشارح في كتاب الأكرية: من المدونة: وكل شيء فعله الراعي مما لا يجوز فعله فأصاب من فعله عيب فهو ضامن، وإن صنع ما يجوز له أن يفعله مثل أن يضربها كضرب الرعاة فتعيبت الغنم فلا ضمان عليه. وفي شرح الشيخ عبد الباقي عاطفا على ما فيه الضمان: وكضربه لها ضربا لا يضرب مثله فتعيبت الغنم، فإن كان مما يضرب مثله فتعيبت لم يضمن كما في الشارح، ولو رماها بحجر فتعيبت ضمن من غير تفصيل بين أن يكون يرمى بمثله أم لا؛ لأن شأنه أن يعيب. انظر الحطاب. السابعة: قال ابن حبيب: ولا يضمن ما حدث عن رميه مثل أن تفر الشاة لرميه وتحيد فتقع في مهواة فتنكسر، أو تغرق في نهر أو تنطح شجرة، هذا إن رمى كرمي الرعاة ولو رمى عبثا ضمن مطلقا كأجنبي، واقتصر في المتيطية على قوله: وإن ندت فرمى فتردت في مهواة فلا شيء عليه ما لم يرمها متعمدا فيضمن. اهـ. ونحوه في معين الحكام فاقتصر على كلام ابن

ص: 131

حبيب وفي المتيطية: فلو رمى صيدا فأصاب شاة ضمن. اهـ. الثامنة: في المؤلفة لابن لبابة: إذا عقر الراعي من الغنم مرة وثانية وثالثة ولم يضمنه صاحب الغنم وأمضاه على فعله ولم ينكره عليه ورضي لم يضمنه بعد ذلك. قاله الحطاب. وقال الملوي: قال ابن زرب: الراعي محمول على التعدي حتى يثبت خلافه، وهو معنى ما في المدونة، قال ابن عرفة: ما نقله ابن زرب رد بقولها: لا ضمان على الرعاة إلا فيما تعدَّوا فيه وفرطوا. اهـ. التاسعة: الراعي إذا كان صبيا فاستهلك الغنم فلا ضمان عليه ولو فعل ذلك عمدا كما استظهره ابن عرفة معترضا على ابن فتوح، قال الملوي بعد كلام ما نصه: وبه تعلم أن الراعي السفيه حكمه حكم الراعي الصبي لا ضمان عليه فيما أتلفه من الغنم عمدا وإن استُرعِيَ بإذن أهله، وأما إذا باع الشاة أو ذبحها فإن أكلها وصان بها ماله فيضمن في ذلك المال المصون. اهـ. العاشرة: قال في أجوبة ابن سحنون: وسألته عن الراعي تهرب له الشاة مما رعى؟ فقال لرجل عندك: يا فلان، فأراد أن يردها فاستصعبت عليه، فقال له الراعي: اضربها، فضربها فقتلها هل ترى الضمان على الراعي؟ فقال: قول مالك رحمه الله تعالى: على الراعي الآمر. وقال عبد العزيز: الضمان على الضارب، وقال غيرهما: إن كان الآمر ممن يلي الإجبار على المأمور كالعبد لسيده والسلطان لأعوانه والرجل لولده فالضمان على الآمر وإلا فعلى المأمور. وروي هذا عن ابن القاسم. انتهى. والظاهر أن يقال إذا كان الضرب المأمور به مأذونا فيه كضرب مثلها فلا ضمان على واحد منهما لأنه توكيل على فعل مأذون فيه، وإن كان ضرب عداء ضمن المباشر إلا أن يكون الآمر أبا أو معلما أمر ولدا صغيرا أو سيدا أمر عبده مطلقا، فإن كان الآمر مالكا فلا ضمان على الضارب الأجنبي، كمن قال لغيره: احرق ثوبي، فإن أمر المالك الراعي أن يضربها ضرب عداء جرى على ما قاله صاحب الاستغناء في المودع بالكسر يقول للمودَع: احرق الوديعة، فيفعل فإنه ضامن في قول بعضهم. (للنهي عن إضاعة المال

(1)

) قال الحطاب: وفيه نظر، فإن كان الآمر ليس بمالك ولا راع قدم المباشر هذا الذي يظهر لي جريانه على قواعد الفقه. والله أعلم. قاله الملوي: وقال: وإذا ثبت تعدي الراعي وقد

(1)

الجامع الكبير للسيوطي، رقم الحديث 2801.

ص: 132

تعيبت الشاة فإن كان العيب لا يفيت المقصود منها غرم ما نقصها فقط ويترك الشاة لربها معيبة، وإن كان العيب متفاحشا يفيت المقصود خير المالك بين أن يضمنه قيمتها وبين أن يأخذها وما نقصها كذا قالوا في مطلق التعدي، وعول عليه في المختصر وهو المشهور، الحادية عشرة: قال الشيخ الملوي: كثيرا ما يقع أن الراعي يتعدى على الشاة فيعيبها فيخاف عليها صاحبها الموت فيذبحها ثم يريد أن يغرم الراعي موجب فعله، وقد اقتصر في المنتخب على ما في سماع يحيى: سألت ابن القاسم عن رجل يكسر يد البقرة لرجل أو الشاة يخاف صاحب البقرة أو الشاة عليها فيذبحها ما يجب على كاسرها؟ فقال: إن كسرها كسرا معطبا لها يجب فيه على الكاسر غرم جميع القيمة، فإن ذبحه إياها رِضًى بحبسها ولا أرى على الذي كسرها غرم كثير ولا قليل، وإن كان الذي أصابها غير معطب فإنما على الذي أصابها قيمة قدر ما نقصها العيب ذبحها ربها أو تركها. ولما تكلم ابن رشد في البيان على قول ابن القاسم هذا ذكر أنه لا يجري على المشهور من أنه يخير في الفساد الكثير بين أن يضمن القيمة وأن يأخذها وما نقصها، وإنما يجري على قول أشهب. والذي يأتي على قول ابن القاسم المشهور أنه يأخذ ما نقصها وإن ذبحها صاحبها وكان الكسر معطبا.

الثانية عشرة: إذا أراد الراعي ذبح الشاة فغلصمها فالظاهر أنه يضمنها إن فرط لقول ابن عرفة: ويضمن الجزار إن أخطأ بالغلصمة إن فرط. الثالثة عشرة: إنما يضمن الراعي بتوكيل غيره على الحفظ حيث لم تدعه ضرورة لذلك مع عجزه عن رد الماشية لصاحبها كما يفيده قول المختصر في الوديعة "إلا لعورة حدثت أو سفر عند عجز الرد" وفي الدر النثير وسئل رضي الله عنه عن راع رجع بغنم رعاها عشية النهار إلى موضع مبيتها فعرج منها كبش فتخلف عن الغنم فلم يشعر حتى قيل له بقي خلفك كبش فأودع الغنم رعاة كانوا معه والغنم كثيرة ورجع إلى الكبش وأتى به فوجد الغنم دخلت في شعب فأخذ في إخراجها وأتاه الليل فوجد جملة منها ضاعت هل يضمن أم لا؟ فأجاب: لا ضمان عليه لأنه لما رجع إلى الكبش أوصى الرعاة والتزموا ذلك له، وهذا مثل من عنده وديعة فخاف وأودع غيره فضاعت. وفي الدر النثير: في أهل مدينة اتفقوا على رعاية بقرهم بالنوبة وشرطوا أن لا يرعى في الدولة صبي فأرسل أحدهم في نوبته صبيا أنه إن عاين أهل الموضع

ص: 133

الصبي حين رعى ورضوا فلا شيء على الذي أرسله يرعى، وإن لم يروه غرم لمن لم يره ولا يغرم لمن رآه. اهـ.

الرابعة عشرة: قال ابن عرفة: قال ابن حبيب: لا يضمن الراعي إن نام فضاعت ولو نام نهارا في أيام النوم، إلا أن يأتي من ذلك ما يستنكر أو بموضع خوف فيضمن. اللخمي: إن خرج عن المعتاد من نومه ضمن، فإن نام في الشتاء أو في الصيف أول النهار أو آخره ضمن وفي القائلة لم يضمن إلا أن يطول. اهـ. ونحوه في الدر النثير، زاد في كتاب الغصب من النوادر: لو قلت: احرس ثيابي أو طعامي أو دابتي حتى أرجع أوأنام، فقال: نعم، فغلبه النوم فسرق لم يضمن. قال: وهو ضامن في نوم النهار، أما نوم الليل المعروف الذي لا بد منه فلا شيء عليه فيه، وسواء جعل له أجرة أم لا، ولو قال: غلبني النوم ولم أتهيأ له قُيلَ قوله وحلف، وفي المتيطية: ويغرم الراعي ما تعدى أو فرط من النوم في غير موضعه وزمانه ووقته. اهـ. وفي المسائل الملقوطة: ولا يضمن إن نام مغلوبا في أيام النوم إلا أن يأتي من ذلك ما ينكر.

الخامسة عشرة: سئل سحنون عن راع يرعى للجزارين لهذا شاة ولهذا شاة فهربت واحدة فطلبها قليلا ثم رجع للذود، وقال: خفت ضياعه لم يضمن وليس هذا تفريطا ما لم يكن الذود بمحل أمن. قاله الملوي. وفيه: أن الراعي يبقى مع الأكثر من الماشية إذا ذهب الأقل وكان الوضع مخوفا. والله سبحانه أعلم. ابن لبابة: لو استأجر راعيين فذهب أحدهما لشراء طعامهما أو مصلحة فضاع شيء من الغنم أو أكل السبع بعضها لم يضمنها لأنه لا بد أن يعمل أحدهما فيما يحتاجان إليه نقله الملوي. ولو تعدى الراعي في وقت ورجع عن التعدي كما لو ذهب عن الماشية ثم رجع إليها أو تركها عند غيره ثم رجع إليها وضاع منها شيء فادعى ربها أنه في وقت تعديه وخالفه الراعي، فقد قال الملوي بعد جلب أنقال: فتحصل أن الذي أفتى به ابن المكوي واقتصر عليه في الدر النثير وكذا صاحب المعيار في موضعين وذكره الشيخ ابن رجال كأنه المذهب أنه لا ضمان على الراعي إذا ثبت عليه تعدي ساعة مثلا وادعى رب الشاة أنها ضاعت في الساعة التي تعدى أو فرط فيها، وأفتى ابن محسود بضمانه وهو مفاد فتوى أبي الحسن. اهـ. والقول قول الراعي فيما تلف أنه لم يقبضه إلا إن قامت بينة بقبضه، ولا فرق بين راعي البادية والحاضرة،

ص: 134

ويصدق الراعي في قوله: إن الشاة راحت مع الغنم، ففي نوازل الإجارة من المعيار: وسئل أبو محمد عن راعي الغنم يسأل عن شاة من الغنم فقال جئت بها مع الغنم وقد دخلت الدار، فطلبت ولم توجد وكان ذلك وقت مجيئه بالغنم من الجبل؛ أيضمن أم لا؟ فأجاب: يحلف الراعي بالله لقد دخلت الدار في ظنه، ولا باع ولا دلس ولا فرط ثم لا شيء عليه في غير ذلك. اهـ. وذكر الزرقاني في كتاب العارية أنه يجب على الأمناء تفقد الأمانة التي تحت أيديهم وإلا غرموا، وقد شاع عند طلبة البادية أن صاحب الغنم إذا أقر أنه افتقد بعض الغنم قبل تفقد الراعي فسأله عنه فقال: لا أدري، فذلك من الراعي تفريط، قال الملوي: فقد فاوضت فيها شيخنا ابن سودة التاودي، فأجابني: أنه لا يجري على قواعد المذهب، والجاري على القواعد أنه يحلف ما فرط ولا خان ولا غرم عليه، وكذا فاوضت فيها غيره ممن عاصره فظهر له مثل ذلك، ووقفت على فتوى للفقيه الشريف مولاي علي بن محمد السلجماسي تضمنت عدم غرم الراعي المذكور، محتجا بقول المختصر في الوديعة: لا إن قال لا أدري متى تلفت، وذكر في الدر النثير أنه لا فرق بين الراعي والمودع عنده في موجبات الضمان، هكذا جعلوه قاعدة عامة وتقرر أن أخذ الأجرة على الأمانة لا يخرجها عن حكمها والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى.

السادسة عشرة: أفتى أبو الحسن أن الراعي إذا تفقد بعض الماشية وجب عليه أن يسأل عنه حينئذ وإلا فهو مفرط، وأفتى ابن أبي زيد وعبد الوهاب بوجوب إعلام صاحبها وأنه إن لم يعلمه فهو مفرط، ووجهه أن من حق صاحب الماشية إن لم يعلمه أن يقول له: لو أعلمتني لكنت بحثت على متاعي بقرب ذهابه لعلي أجده، ومحله والله أعلم إذا لم يقل الراعي: إنما أخرت إعلامك لأني كنت أبحث عنها وأرجو وجدانها لقول المختصر: لا إن قال: ضاعت منذ سنين وكنت أرجوها ولو حضر صاحبها، ومفهوم كنت أرجوها مفهوم مخالفة كما مال إليه الزرقاني تبعا لابن فجلة قائلا: لأن ربها يقول: لو أعلمتني لكنت أفتش، قال: ومفهوم سنين أحروي. قاله الملوي. ثم قال: وبالجملة فالذي يقتضيه النظر الفقهي أنه إذا آخر الراعي إعلام رب الماشية بذهابها مدة يمكنه فيها الإعلام فإن قال: كنت أطلبها وأرجوها فلا ضمان عليه، وإن لم يقل ذلك ضمن إن تعذر على صاحبها الآن التفتيش. المفيد: ومن تعذر الأعلام على الراعي أن لا يجد

ص: 135

من يحرس له الماشية إن ذهب لإعلامه لأن حفظ الأكثر واجب عليه والله أعلم. اهـ. واعلم أن الذي تركن إليه النفس أن يقال: متى فعل ما جرت العادة بفعله لم يضمن وإن خرج عن المعتاد ضمن، وإذا حمل الوصي مال اليتيم على ما ظاهره السلامة أو الأغلب عليه السلامة فعطب فلا ضمان عليه، وإن حمله على ما الأغلب فيه العطب والسلامة مرجوحة فعطب فهو ضامن، ويضمن الراعي إن رعى الماشية في موضع مخوف قاله في المتيطية قاله الملوي.

السابعة عشرة: قال في الدرر المكنونة: وسئل أيضا عن راع يرعى لجماعة ثم غاب ذات ليلة للعرس فسرحت البهائم غدوة وحدها فأكل السبع منها بقرة، وادعى صاحب البقرة أنه لم يعلم بغيبة الراعي، وادعى الراعي أنه عالم فهل يلزمه الغرم أم لا؟ فأجاب: بأن القول قول صاحب البقرة ويضمن الراعي. والله أعلم. قاله الملوي. واعلم أن الراعي المشترك فيه كلام طويل، والمشهور فيه أنه كالراعي الخاص فلا ضمان عليه إلا أن يفرط أو يتعدى، وعن مكحول والحسن وابن المسيب: أنه يضمن كالصانع المشترك، والمراد بالراعي المشترك من يرعى لكل من أتى إليه، وأما إن كان يرعى لأهل دار أو مدثر أو جماعة خاصة كعشرة فليس بمشترك بل حكمه حكم الراعي الخاص. الثامنة عشرة: اعلم أن الراعي إذا قتل بقرة مثلا أو تلفت بتفريطه وأريد مصالحته فإن صولح بحالٍّ بعد معرفة قيمة المستهلك جاز ذلك، سواء كان المصالح به قدر القيمة أو أقل، ولا يجوز بدراهم أكثر من القيمة، فإن صولح بمؤخر غير دراهم كعرض منع مطلقا، وأما إن صولح قبل معرفة قيمة المستهلك فإن وقع بغير مجانس القيمة من غير مجانس المستهلك، كما إذا قتل بقرة فصالحه قبل معرفة قيمتها بثوب مُنِعَ بلا إشكال، وإن صالحه بمجانس المستهلك كما لو قتل بقرة فلما كلمه قال: هذه بقرتي فأخذها قبل معرفة قيمة الهالكة ففي الجواز والمنع قولان، والظاهر المنع، وقد صرح أبو الحسن بأن معرفة القيمة في هذا شرط في الجواز، وإن صولح بدراهم حالة أو مؤخرة تحقق أنها لا تزيد على القيمة فقد ذكر أبو الحسن أن ذلك جائز، واقتصر عليه الشيخ مصطفى، وكذا عول عليه البناني، ووجهه أن الغرض إنما هو إسقاط التنازع والخصام لا المبايعة، والذي ذهب إليه معظم المشايخ كابن يونس واللخمي وابن محرز وغيرهم من مشايخ القرويين إطلاق اشتراط معرفة القيمة، أعني سواء كان المأخوذ من جنس القيمة أم لا، وهو معنى

ص: 136

المدونة عندهم، وفي المسألة أقوال خمسة، الأول: اشتراط ذلك وهو المشهور. الثاني: مقابله للموازية. الثالث: الفرق بين أن يكون الثمن دنانير فيجوز وغيرها فيمنع، عزاه المازري للموازية. الرابع: إن كان الصلح مما لا شك أنه أكثر منها أو أقل جاز وإلا امتنع، قاله ابن محرز. الخامس: الفرق بين ما يكون قبل نقد الثمن فيجوز وما يكون بعد النقد فلا يجوز، قاله أصبغ. نقله الملوي. وقال: فتحصل أن مصالحة الراعي على ما ثبت أنه قتله أو فرط فيه لا تجوز إلا بعد معرفة القيمة إما اتفاقا أو على المشهور؛ لأن المصالحة بيع للمأخوذ بالقيمة.

التاسعة عشرة: إذا قتل الراعي بقرة فلا يجوز له أن يصالح ببقرة أخرى إلا بعد معرفة فوات لحمها، قال في المدونة: وإن استهلك لك بعيرا لم يجز أن تصالحه على بعير مثله إلى أجل، قال أبو الحسن: انظر قوله: إلى أجل، فمفهومه إذا كان نقدا جاز، أما إن كان اللحم قائما حيث يكون ربه مخيرا فلا يجوز؛ لأنه بيع اللحم بالحيوان من جنسه، وإن كان فائتا جاز بعد المعرفة بالقيمة. انتهى. المسألة المتممة للعشرين: قال الملوي: ذكروا في الصانع والمكتري والسارق والغاصب أنهم إذا غرموا قيمة ما ادعوا تلفه ثم وجد فهو لهم إلا أن يوجد ذلك عندهم قد أخفوه فيكون لربه أو كذبوا في الصفة فيرجع عليهم بالفضلة، وكذا من ادعي عليه سرقة عبد فصالحه وهو منكر فوجد فهو له كما في العتبية، والراعي مساو لما ذكر فإذا غرم قيمة البهيمة أو صالح ثم وجدت فالظاهر أنها له، فإن صالح على شرط إن وجدت فهي لمالكها فالظاهر فساد الصلح. اهـ. الحادية والعشرون: قال ابن عرفة ما نصه: ابن عات عن المشاور وغيره: إن كان بقرية نعم ليس عند كل واحد من مالكيها

(1)

ما يرعاه له راع فأخذ بعضهم من يرعى نعمهم إلا رجلين كرهوا إدخالهما معهم فلهم ذلك، وكذلك إن كره ذلك الراعي لم يجبر لهما اهـ ونحوه في ابن سلمون. قاله الملوي. وقال: إذا رعى الراعي ثورا أو غنما لحاضر بغير أمره ساعة أو غيرها فله أجرته، ولا كلام لصاحبه أن يقول: هلا دفعت عن نفسك، فإن كانت سائمة فتركها ولم يضمها فضاعت فلا ضمان عليه، كما في ابن سلمون. وفي الاستغناء: إذا ادعى رجل في غنم بيد رجل خاص

(1)

في الأصل: مالكها، والمثبت من ابن عرفة، مخطوط بمكتبة أحمد سالك بن أبوه.

ص: 137

فصدقه الراضي وأنكر رب الغنم فالقول قوله مع يمينه ولا يقبل قول الراعي. اهـ. يريد إذا لم يكن عدلا وإلا كان شاهدا له يحلف معه. والله أعلم. وإذا كان الراعي يرعى لجماعة فتداعوا في شاة من الغنم فادعى كل واحد أنها له فإن قال الراعي: إنها لفلان منهم وكان عدلا حلف معه وأخذها، وإن لم يكن عدلا ولا بينة حلفوا وكانت بينهم، هذا الذي يأتي على قول ملك: وليس الوسم بشيء فلا يعتبر، كما في ابن سلمون قاله الملوي. وإذا ادعى الراعي في شيء من الغنم أنه له وكذبه رب الغنم فلا يقبل قول الراعي إلا أن يأتي بسبب يدل على صدقه فيحلف معه، وسواء كان الراعي يأتي إلى داره أو إلى دار الذي استأجره، كما أفتى به ابن رشد، وقد مر هذا؛ فإن لم يدع ذلك الراعي لنفسه وادعاه لرجل أجنبي حاضر أو غائب فهو له شاهد تقبل شهادته له إن كان عدلا. نقله الملوي. الثانية والعشرون: سئل الوغليسي عمن اختلطت غنمه بغنم آخر في الدار فدفع من غنم صاحبه شياها مدعيا أنها له ولا بينة، هل يقضى بالشياه للذي كانت في غنمه أو للذي ادعاها؟ فأجاب: الحمد لله القول قول صاحب الغنم الذي دخلت الشياه في غنمه مع يمينه إلا أن يشهد من تجوز شهادته بتعيين الشياه لصاحبها. والله أعلم. نقله الملوي.

الثالثة والعشرون: تفسخ الإجارة بموت الراعي ولا تفسخ بموت الغنم أو بيعها كلها أو بعضها، ولربها أن يأتي بغيرها يرعاه له إن أراد، فإن أبى من ذلك لزمته الأجرة كلها، ومثل الموت إذا أغار على الغنم لصوص وأخذوها فلا تفسخ الإجارة، كما ذكره الوغليسي، وهو واضح. والله أعلم. قاله الملوي. الرابعة والعشرون: ذكر الملوي عن أبي الفضل العقباني في قوم اتخذوا معلما يقرئ أولادهم وقال لهم: إن افترقتم علي قبل انقضاء الأجل آخذ أجرتي تامة فأخذهم الهول فافترقوا قبل انقضاء الأجل أنه لا شيء له في المدة التي فارقوه فيها غلبة، وليس له إلا بحسب ما أقرأ من السنة، ولا أثر لشرطه إلا إذا فارقوه اختيارا، وكذلك ذكر عن ابن عثمان أنه أفتى أنهم إن افترقوا لعذر بين فلا يأخذ المعلم الأجرة، وقد أقيمت مسألة ارتحال آباء الصبيان من ارتحال والد الرضيع المشار إليها في المختصر بقوله: ومنع زوج رضي من وطء وسفر؛ أي وسفر أبي الصبي كسفر زوج الظئر كما في المدونة، ويقاس تفرق أرباب الماشية على تفرق آباء الصبيان. والله أعلم انتهى. الخامسة والعشرون: إذا امتنع الراعي من إتمام السنة التي استؤجر على رعايتها أجبر

ص: 138

على الإتمام إذا كان عقد الإجارة صحيحا، وليس له الخروج قبل تمام المدة؛ لأن الإجارة من العقود اللازمة اتفاقا، فإن خرج بغير رضا صاحب الماشية ولم يحاكمه حتى تمت السنة وجاء يطلب أجرته فله بحساب ما عمل على المشهور، كما في نوازل ابن هلال: أن المعلم للصبيان والراعي والخماس إذا أبوا من إتمام العمل هل لهم شيء أو لا شيء لهم إلا بتمام العمل؟ أجيب عن ذلك بما صورته: الحمد لله، المستأجر مطلقا متى لم يتم مدة الاستئجار له بحساب ما عمل، ومن امتنع من إتمام الأجل من المستأجرين لزمه إتمام الأجل، ولا فرق بين معلم الصبيان وغيره. والله أعلم. ويشمله عموم قول التحفة:

وللأجير أجرة مكمله

إن تم أو بقدر ما قد عمله

وفي المازونية: إذا انفصل الراعي عن رعايته قبل تمام المدة من غير ضرر يلحقه ففيها قولان عن الشيوخ، المشهور له بحساب ما رعى، واختار أبو الحسن وبعض شيوخه أنه ليس له ذلك. وذكر بعضهم عن سيدي عبد الرحمن الفاسي وسيدي أحمد المقري أنهما أفتيا بأن الراعي إن خرج قبل تمام السنة لا شيء له وقد أسقط حقه، قالا: إلا أن يكون اشترط في العقد أنه متى شاء خرج فله شرطه. وفي المازونية أيضا: للأجير بحساب ما عمل، رواه عيسى عن ابن القاسم في كتاب الإجارة، ومن العتبية: ولست أحفظ فيها خلافا، وفي كلام القاضي ابن رشد إشارة إلى أنه متفق عليه، لكن تلك الإشارة ليست صريحة في الاتفاق ويعاقب الأجير على هروبه متى وجد، يعاقبه القاضي بما يظهر له من سجن أو ضرب. اهـ. قاله الملوي. وقال الرهوني بعد جلب كثير من المنقول: فتحصل أن القول بأن له بحساب ما عمل فقط هو المعتمد والأقوى، وأنه الذي يجب به القضاء والفتوى؛ لأنه قول ابن القاسم في سماع عيسى وسلمه الإمامان الجليلان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد وأبو بكر بن يونس، ولم يحكيا غيره كما سلمه حافظ المذهب أبو الوليد ابن رشد قائلا: إنه صحيح بلا خلاف، وبه أفتى الإمام ابن عرفة، وقال في الاستغناء: به القضاء، وسلمه ابن عات وابن سلمون، وبه أفتى العقباني، وهو المشهور على ما نقله المازوني والونشريسي وسلماه، وقد علم مما سبق أن الخلاف جار في صورتين: إذا خرج الأجير، وإذا أخرجه

ص: 139

المستأجر، لكن الخلاف في الأولى هل له بحساب ما عمل؟ أو لا شيء له أصلا؟ وفي الثانية هل له بحساب ما عمل؟ أو له الأجرة كاملة؛ والمعتمدُ الأولُ فيهما، ومحل القولين إذا تراضيا على فسخ الإجارة كما تقدم التصريح به في كلام الطرر، ومثله إذا وقع ذلك من أحدهما فلم يطلبه الآخر بإتمام العقد مع حضوره، أو غاب فلم يتأتَّ لصاحبه طلبه، وأما إذا لم يرض صاحبه بذلك ورفعه إلى القاضي فإنه يجبره على الإتمام ولا يقول أحد هنا: إنه يمكن مما أراد جبرًا على صاحبه، فيجري القولان السابقان؛ لأن الإجارة من العقود اللازمة، كما صرح به غير واحد من الأئمة. قال في المنتقى: عقد الإجارة لازم من الطرفين ليس لأحد المتعاقدين فسخه خلافا لأبي حنيفة، فلم ينسب عدم اللزوم إلا لأبي حنيفة. وقد وقع الغلط كثيرًا في هذا ممن يتعاطى الفتوى والقضاء في هذه الأوقات بأن الأجير كالراعي ومعلم الصبيان وما أشبههم إذا رام الخروج قبل تمام المدة يمكن من ذلك، مع إعطائه من الأجرة بحساب ما عمل دون رضي من صاحبه ودون إثبات عذر، وهذا غلط فاحش، فالمستأجر كرب الغنم وولي الصبي ونحو ذلك إذا أراد إخراج الراعي أو المعلم مثلا وأبى صاحبه فرفعه إلى القاضي جبره القاضي على إبقائه الأجير على عمله إلا أن يدفع له جميع الأجرة فلا كلام حينئذ للأجير، كما نص على ذلك غير واحد، ففي ابن يونس: وليس لأبي الصبي إخراجه حتى يتم الشرط، محمد بن يونس: إلا أن يدفع جميع الأجرة فله إخراجه، ولو أراد المعلم أو الراعي مثلا الخروج وأبى الآخر جبره الحاكم على إتمام عمله، ولذلك قال التاودي عند قول التحفة:

وللأجير أجرة مكمله. . . .

البيتَ، ما نصه: هذا إذا تراضيا على عدم الإتمام وإلا أجبر الأجير كالراعي مثلا على إكمال سنته إلا لعذر من مرض ونحوه. انتهى. ولا يدخل في قوله: ونحوه حلف الأجير أن لا يتم مدته كما في الدرر المكنونة من جواب للإمام سيدي سعيد العقباني، وقد سئل عن مؤدب أقْرَأَ نصف السنة فتشاجر مع بعض الجماعة فحلف ألاَّ يتم المدة عندهم فطلب نصف أجرته ونصُّ جوابه: الحمد لله، أما إتمام المدة فهو لازم له إلا أن يسلموا له، وظاهره أنهم إذا لم يسلموا له يلزمه

ص: 140

الإتمام، ولو سلم لهم جميع الأجرة لما مضى ولما يستقبل وهو ظاهر كلام غيره أيضا، فيجبره الإمام بالضرب ونحوه، فليس الأجير كالمستأجر بكسر الجيم لظهور الفارق؛ لأن المعلم مثلا إذا دفع له جميع الأجرة فقد تم العقد بتمكينه من نفسه فقد بذل ما وجب عليه وترتب عليه بتمكينه من الاستيفاء وتمكن المستأجر منه، بخلاف ما لو أسقط الأجير حقه من الأجرة لأن للمستأجر بالعقد اللازم الاستيفاء لمنفعة الأجير، كالمعلم والراعي ونحوهما، ولا سيما الرعاة زَمَن المطر مثلا فلا يكتفي الحاكم منهم بمجرد وضعهم الأجرة، بل حتى يفعل به ما يكون زاجرا لأمثاله من ضرب ونحوه، فإن استمر على إبايته بعد ذلك حكم عليه حينئذ بأنه لا شيء له من الأجرة ولا يجبره بالسجن إلا أن يكون يسيرا؛ لأن السجن الطويل لأجل تمام العقد يتضمن فسخه بذهاب مدته، وكل ما تضمن إثباتُه رفعَه ملغى. اهـ. كلام الرهوني.

السادسة والعشرون: إذا جاء الراعي بعد انقضاء السنة وطالبه صاحب الماشية أن يعاوض تلك الأيام التي عطلها من السنة التي بعدها وكره الراعي ذلك فلا يجبر عليه وإن أراد الراعي ذلك وكرهه رب الماشية، فإن اتفقا على ذلك وأراداه معا جاز إن لم ينقده الأجرة، وإلا منع لما فيه من فسخ الدين في منافع معينة. قاله الملوي. وقال: وإذا جاء قبل انقضاء السنة لزمه أن يتم ما بقي منها، ففي المدونة: ومن واجر عبدا فهرب لبلاد الحرب أوأبق فإن الإجارة تنفسخ بينهما إلا أن يرجع العبد في بقية من المدة فإنه يلزمه إتمامها. قال غيره: إلا أن يكونا تفاسخا أو فسخ ذلك بينهما فلا يلزمه إتمامها وهو وإن لم يكن في خصوص الراعي فهو من أجزاء الأجير.

السابعة والعشرون: لا تنفسخ الإجارة بمرض الراعي، فإن صح في بقية المدة لزمه عمل باقيها وكان له من الأجر بمقدار ما عمله، فإن اختلف مع رب الغنم في قدر مدة مرضه، فإن كان مأوى الراعي عند المستأجر فالقول للمستأجر وإلا فالقول للراعي قبض الأجرة أو لا، قاله ابن القاسم في مطلق الأجير، وبه مضت الفتيا عند الشيوخ، وقيل: القول للأجير على كل حال إن كان حرا، وأما إن تخالفا في أصل العطلة فقال الأجير: عملت السنة كلها، وقال المستأجِر: عطلت منها، فالقول للأجير ويأخذ جميع الأجرة عند ابن القاسم. انتهى. انظر الملوي. الثامنة والعشرون: إذا تنازع الراعي مع رب الغنم في قبض الأجرة فإن كان ذلك عند تمام السنة أو بعدها بقرب فالقول

ص: 141

قول الراعي مع يمينه في عدم قبض الأجرة بلا إشكال، وإن كان ذلك بعد طول ففي المدونة: أن الصانع إذا قام بعد طول فادعى أنه لم يقبض الأجرة لم يصدق والقول لخصمه بيمين. قاله الملوي. التاسعة والعشرون: إن تمت المدة وطلب الأجير أجرته حرا أو عبدا فطلب من استأجره الفسحَة وضرب الأجل فيها كغيرها من سائر الديون، فقال ابن حبيب لا ينبغي أن تحمل أجرة الأجير محمل غيرها من الحقوق ويجب تعجيلها لقوله عليه الصلاة والسلام (أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه

(1)

) إلا أن يؤخِّر الأجيرُ من استأجره بالأجرة ثم يطلبها بعد تمامها فتحمل على الحقوق، وأما من واجر عبده فقام يطلب أجرته بعد تمام العمل فإن أجرته تجري مجرى الحقوق في الفسحَة وضرب الأجل. قاله ابن فتوح. نقله الحطاب. المسألة المتممة الثلاثين: قال ابن عرفة: وفيها لمالك: لا يعجبني أن يسقي الراعي مارًّا من لبن ما يرعى. اللخمي: يريد إن كان الغالب إباحته كره ولم يحرم لغلبة الإباحة، وإن كان أكثرهم يمنعون لم يجز، وإن كانوا يبيحونه ولا يمنعونه لم يكره وقال أبو مهدي عيسى الغبريني: وليس مثل هذا من يمر بجنان رجل وله غلة ولم يكن عرف يقتضي الإذن؛ لأن اللبن يتجدد في كل يوم فالأمر فيه أخف. اهـ. واعلم أن أكل المار من الثمار التي يمر عليها فيه ثلاثة أقوال المنعُ، قال: الجزولي وهو المشهور، والجوازُ، وهو خارج المذهب؛ والفرقُ بين أن تكون لصديقك فيجوز لك الأكل منها أو لغيره فيمتنع. قال ابن رشد: وهو أولى الأقوال وأحقها بالصواب، وعلى القول بالمنع قال ابن رشد لا يجوز ذلك ولو أطعمه حراسها، كما لا يجوز للرجل أن يشتري من الراعي شاة يريدها، قال الجزولي: واختلف على القول بالمنع إذا أذن الأجير أو الراعي أو الشريك، وقال له: إن ربها أباح ذلك لمن يأكلها، هل يصدقه ويأكل؟ أو لا يصدقه. قولان. نقله الملوي.

الحادية والثلاثون: اعلم أن الثمرة إذا انجلى عنها أهلها لفتنة رحلوا بها من بلدهم فإن كانوا معروفين أو ورثتهم لم يجز أكل تلك الثمرة اتفاقا وحكمها حكم أعيان المغصوب، وإن كانوا مجهولين لكن تمكن معرفتهم بالسؤال والبحث فحكم تلك الثمرة حكم اللقطة، وكذلك الحكم لو

(1)

ابن ماجه، كتاب المرهون، رقم الحديث 2443، ولفظ المؤلف في الحطاب والنوادر.

ص: 142

انقرضوا لطول العمر وأيس من معرفتهم. قاله ابن رشد. اهـ. الثانية والثلاثون: سئل بعضهم عن ثلاثة قالوا لصاحبهم: احفظ غنمنا هذه ونمضي نحن للصيد وما صدناه يكون بيننا وبينك فرضي بذلك وأخذوا صيدا؟ فأجاب: الصيد لمن صاده وله عليهم قيمة ما رَعَى، وإن نزل في الغنم شيء لم يضمن. قاله الملوي. الثالثة والثلاثون: قال الملوي: قال في الدرر في سياق أسئلة الصديقين: وسئل أيضا عن راعي البقر والغنم هل يكون دورانه على عدد الرؤوس أو على عدد الماشية؟ فأجاب يبيت عندهم على قدر الماشية إن تشاحوا لأن الإجارة إنما تكون على عدد الماشية لأنها عمل الأبدان، فالمبيت مثل الإجارة تكون على عدد الماشية إلا أن يتفقوا على ما يريدون، ومثله أيضا والله أعلم يجري في معلم الصبيان ونحوه، ومثله راعي البقر بالنوبة أي فتكون على عدد البقر لا على عدد رؤوس المالكين إلا أن يتفقوا على ما يريدون. اهـ.

الرابعة والثلاثون: قال في نوازل الدعاوي من البرزلي: وفي الطرر عن يحيى بن عمر: في رجل كان مع غنم بين زرع وخاف فوات وقت الصلاة أنه يصلي ويغرم قيمة الزرع إن أفسدته الغنم. وفي نوازل ابن هلال: أن عياضا سئل عن قوم استأجروا إماما للصلاة بطعام فجمعوا ما عليهم غير أربعة رجال يحرزون بقر القرية وغنمها ويأتون كل ليلة ويبيتون فيها يدخلونها في المغرب ويخرجون قبل طلوع الشمس وأبوا أن يعطوا مع جيرانهم؟ فأجاب: لزمهم ما يلزم جيرانهم، ثم قال بعد كلام: حاصل كلام ابن الحاج أن الأجرة لا تجب إلا على من التزمها في صلاة الجماعة غير الجمعة إلا إن جرى عرف أهل القرية على ذلك، وعند عياض تلزم مطلقا، وعند ابن رشد أنها لا تلزم من لم يلتزمها حتى في الجمعة. قاله الملوي.

الخامسة والثلاثون: في نوازل الشركة من الدرر المكنونة عن أبي عبد الله الزواوي: الشركة في البهائم على أقسام القسم الأول: أن يقول له: خذ بهيمتي على أن تخدمها مدة معلومة وله جزء معلوم، هذا على ثلاثة أقسام، القسم الأول: أن يقول له: خذ هذا الجزء الآن وتصرف فيه كيف شئت، وهذا جائز إن شرط عليه الخلف، فإن لم يشترطه فهو فاسد، ولا يختلف في ذلك لأن العرف عدم الخلف. الثَّاني: أن لا يتصرف فيه إلا بعد انقضاء المدة وهذا فاسد للتحجير. الثالث: أن يقول: لا شيء لك فيها إلا بعد انقضاء المدة، وهذا فاسد أيضا، فإن عثر على ذلك

ص: 143

فسخ في لم يتغير السوق أو تتغير البهيمة في ذاتها، فإن فاتت بما ذكرناه فالواجب القيمة يوم انقضاء المدة، ويرجع على صاحب البهيمة بأجرة المثل، وإن عثر على ذلك قبل انقضاء المدة فالواجب ردها لربها وأجرة المثل. القسمُ الثاني: أن يبيع له جزءًا من البهيمة على أن يخدم له الباقي فذلك جائز بشروط، الأول: أن تكون الخدمة لمدة معلومة والثاني: أن يشترط الخلف. والثالث: أن يتصرف المشتري فيما اشترى من غير تحجير عليه. والرابع: أن يكون لا يتصرف عنها إلا لمواضع معلومة في أوقات معلومة. والخامس: أن لا يشترط عليه القيام بنسلها، وتقدم ما في اشتراط رعي أولاد الغنم، فإذا سقط شرط من هذه الشروط فالعقد فاسد، فيجب فسخه ويرجع على ربها بالأجرة، وإن لم يعثر على ذلك إلا بعد الفوات فالواجب القيمة يوم القبض في الجزء المشتري ويرجع بأجرة المثل على ربها في الباقي. قاله الملوي.

أو عثر بدهن أو طعام، كنصر وضرب وعلم؛ يعني أن من واجر شخصا لحمل دهن أو طعام على ظهره أو دابته فعثر هو أو الدابة فتلف في ذكر فإنه لا ضمان عليه، فقوله: أو عثر، عطف على المبالغة؛ أي وهو أمين فلا ضمان ولو شرط إثباته أو عثر بدهن أو طعام، وقوله: أو طعام، من عطف العام على الخاص، وقضية المص أن أجير الطعام هذا أمين فلا ضمان عليه حيث ادعى أنه عثر بدهن أو طعام، وليس كذلك لأن محل عدم الضمان حيث صدقه ربه أو قامت بينة بتصديقه وإلا ضمن، فالصواب لو قال: لا إن عثر بدهن أو طعام لخ. قال بناني: كان على المؤلف أن لو أتى في هذا بصيغة الاستثناء من قوله: وهو أمين؛ لأنه في الدهن والطعام غير أمين فلا يقبل قوله في التلف إلا ببينة، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، ونصها: وإن كان المكرى وحده فلا يصدق في الطعام والإدام إذا قال: سرق مني، حمله على نفسه أو دابته أو سفينته إلا أن تقوم له بينة. اهـ. وعبارة ابن يونس: ومن المدونة قال مالك: ومن استأجرته يحمل لك دهنا أو طعاما فحمله فعثر به فأهريق لم يضمن لأنه أجير، والأجير لا يضمن إلا أن يتعدى، وإن كذبته في ذلك وقلت: لم تعثر ولم يذهب لك شيء فهو ضامن في الطعام والإدام، وأما في البز والعروض إذا حملها فالقول قوله إلا أن يأتي بما يدل على كذبه. انتهى. وقال ابن عرفة: وفيها مع غيرها: لزوم ضمان الأكرياء الطعام والإدام إلا أن تقوم بينة بهلاكهما أو يكون معه ربه والسفينة كالدابة،

ص: 144

وفي الموازية: أو وكيل رب الطعام، وفيها قال ابن القاسم: لا يضمن الأكرياء سائر العروض ولا شيئا غير الطعام. اهـ. ابن الحاجب: وفي حمل الطعام يضمن مطلقا إلا ببينة أو يصحبه ربه، وقال به الفقهاء السبعة. انتهى. ابن عرفة: وقول ابن الحاجب: وقال به الفقهاء السبعة، لا أعرفه، إنما فيها الطعام أمر ضمنه أهل العلم ولم يجدوا من ذلك بدا. انتهى.

قال مقيده عفا الله عنه: تأمل قول ابن عرفة: لا أعرفه، فإن ابن الحاجب عدل لا يتهم في النقل ولم يعزه ابن الحاجب للمدونة حتى يقول ابن عرفة إنما فيها لخ. والله تعالى أعلم.

أو بآنية فانكسرت؛ يعني أنه إذا واجره على حمل آنية على ظهره أو دابته فعثر هو أو الدابة فانكسرت الأواني فإنه لا ضمان على الأجير كما لا ضمان عليه في الدهن والطعام ولم يتعدَّ؛ يعني أن محل عدم الضمان في الدهن والطعام والآنية التي انكسرت إنما هو حيث لم يتعد الأجير في فعله ولا في سَوْق دابته وإلا ضمن؛ قال عبد الباقي: أو عثر أجير حمل على رأسه أو عثرت دابته بدهن أو طعام غير دهن أو عثر بآنية فانكسرت، والحال أنه لم يتعد في فعله ولا في سوق دابته لم يضمن إن صدقه ربه أو كان بحضرته أو حضرة وكيله أو قامت بينة بتصديقه وإلا ضمن، سواء ادعى تلفه بعثار دابته أو من الله، وحينئذ فيضمن مثله لوضع غاية المسافة وله جميع الأجرة وليس لربه إلزامه حمله مثله بقية المسافة وإن أخذ جميع الأجرة؛ لأنه ضمن له مثله بموضع، غايتها كما علم، والمراد بحضرة ربه مصاحبته له ولو في بعض الطريق ثم فارقه فادعى تلفه بعد مفارقته فإنه يصدق. قاله في التوضيح. انتهى. ونحوه لغيره، والله تعالى أعلم. وقال الرهوني: قال ابن يونس: وتحصيل ما يضمنه الحاملون أم لا على خمسة أوجه، فالأول: ما هلك بسبب حامله ولم يغر. والثَّاني: ما غرَّ فيه. والثالثُ: ما ثبت هلاكه من عرض أو طعام بأمر من الله تعالى بالبينة.

والرابعُ: ما هلك من الطعام بقولهم. والخامسُ: ما هلك من العروض بقولهم، فالأول: ما هلك بسبب حامله من عثار حامله أو ضعف أحبل لم يغروا منها أو ذهاب دابة أو سفينة بما عليها، فقال: ملك لا ضمان في ذلك كله ولا كراء ولا على ربه أن يأتي بمثله ليحمله ويرجع بالكراء إن دفعه، وقال غيره: ما هلك بسبب حامله من عثار كما هلك من الله، وقال ابن نافع: لرب

ص: 145

السفينة بحساب ما بلغت. والثاني: ما غر فيه من عثار أو ضعف حبل فإنه يضمن قيمة ذلك العرض بموضع هلك وله من الكراء بحسابه، وقيل: قيمته بموضع حمل منه إن أراد لأن منه تعدى. والثالث: ما هلك بأمر من الله تعالى بالبينة من عرض وغيره فللمكري الكراء بأسره وعليه حمل مثله من موضع هلك فيه. والرابع: ما هلك بقولهم من الطعام فلا يصدقون فيه ويضمنون مثله بموضع حملوه إليه ولهم جميع الكراء. والخامس: ما هلك بقولهم من العروض فهم مصدقون فيه. قال ابن المواز: ولهم الكراء بأسره وعليهم حمل مثله من موضع هلك فيه إلى موضع يحمله إليه، كالذي ثبت هلاكه بأمر الله تعالى. وقال ابن حبيب: لهم من الكراء بحسب ما بلغوا من الطريق وفسخ الأمر بينهم، فوجه قول ابن المواز أنه لما كانوا مصدقين في تلف العروض أشبه ذلك ما لو قامت البينة بتلفه من غير سببهم، وهذا مما لا اختلاف فيه أن لهم جميع الكراء وعليهم حمل مثله إلى غايته، ووجه قول ابن حبيب أنه لما لم يعلم ذلك إلا من ناحيتهم أشبه ما هلك بسببهم من عثار ونحوه، وقول ابن المواز أصوب لما قدمناه. اهـ. فالقسم الرابع في كلامه هو مسألة الزرقاني وجزم فيه بما قاله الزرقاني، وما رده به البناني هو القسم الثاني في كلام ابن يونس، ومحلهما مختلف عنده وكلامه نص في ذلك، وما جزم به في القسم الرابع منصوص عليه لابن القاسم وسلمه ابن رشد ولم يحك فيه خلافا ونقله ابن عرفة وقبله. اهـ المراد منه. وبه تعلم ما في كلام البناني هنا. والله سبحانه أعلم.

تنبيه: ظاهر قول المص: فانكسرت، أنه يشمل ما إذا ثبت أنها انكسرت وما إذا لم يثبت فيكون مصدقا أنه عثر بها. وفي الرهوني: سمع أبو زيد ابنَ القاسم من عثر بجرة استحملها فانكسرت وهو قوي على حملها لا ضمان عليه ولا أجر له وإن لم يكن معها ربها فهو مصدق أنه عثر بها، وإن كان كسرها غير معروف فله الأجرة إذا ضمن. اهـ. قال الرهوني: فقوله: له الأجر إذا ضمن معناد لا يصدق فيما ادعاه من العثار. اهـ.

قال مقيده عفا الله عنه: قضية المص أن الأجير على حمل الطعام أمين فلا ضمان عليه وهو مصدق، وقد علمت أن ذلك لا يصح كما مر، وأن الأجير على حمل الآنية أمين عرف الكسر أم لا. وهو خلاف ما مر عن ابن القاسم قريبا، ابن رشد: هذا مثل قول ابن القاسم فيها وروايته أن

ص: 146

ما تلف من قبل حامله ولم يغر به فلا ضمان ولا كراء لأنه على البلاغ، وقيل: إذا سقط ضمانه لزم رب المحمول أن يأتي بمثله وهو يأتي على قول ابن نافع فيها في السفر، وإذا ظهر الكسر صدق في العثار، وإن لم يظهر وكأن غير معروف فقوله: له الأجر إذا ضمن، معناه لا يصدق فيما ادعاه من العثار والتلف ويضمن مثله في أقصى الغاية وتكون له أجرة كاملة، هذا في الطعام والمتاع القول قوله في تلفه وإن لم يعلم ذلك إلا بقوله، وابن الماجشون لا يصدقه في أنه عثر به وإن ظهر كسره. نقله الرهوني. وفي الخرشي قوله: أو عثر أي عثرت دابته.

أو انقطع الحبل ولم يغر بفعل؛ يعني أنه لا ضمان على الأجير حيث انقطع الحبل المربوط به الحِمْلُ والحال أن الأجير لم يغر بفعل بأن لم يغر أصلا أو غر بالقول، مثل أن يكون المكتري هو الذي تولى الربط حين قال له المكري: اربط بهذا الحبل أو سر بهذا الطريق فانقطع الحبل الذي قال له: اربط به، أو عثرت الدابة في الطريق الذي قال له: سر به؛ وقد مر أنه يضمن في مفهوم المص "ولم يتعد" قال عبد الباقي: ومفهوم لم يتعد، أنه إن تعدى بأن أفرط في السير مثلا فإنه يضمن وكان له من الأجر بحساب ما سار. واعلم أن قول المص: ولم يغر بفعل صريح في أن الأجير لا يضمن في غروره بالقول وهو خلاف المشهور، فإن المشهور أن الغرور القولي الذي انضم إليه عقد يضمن صاحبه، كما لو قال الأجير للمستأجر: اربط بهذا الحبل فإنه قوي، وهو ضعيف فانقطع، أو قال له: سر بهذا الطريق وهو يعلم أنه يعثر به، فسار فيه فعثر فيه فتلف المحمول ونحو ذلك، وأما الغرور القولي الذي لم ينضم إليه عقد فإنه لا يضمن صاحبه، مثاله أن يأتي بشقة لخياط فيقول له: هل تكفي هذه؟ فيقول: نعم، وهو يعلم أنها لا تكفي فيذهب صاحبها فيفصلها فلا تكفي، ومثاله أيضا أن يقول له الصيرفي في درهم يعلم أنه زائف: إنه طيب، وفي المسألة خلاف، ثالثها إن كان بأجرة ضمن وإلا فلا، رابعها العكس، والصواب عدم الضمان ولو علم بالرداءة لأنه من الغرور القولي، ومن علم منه ذلك عوقب وأخرج من السوق، ومثاله أيضا أن يعيرك دابة ويقول لك: ليس بها ضرر وهو يعلم أن بها عثارا فتلف ما عليها من عثارها. والله تعالى أعلم.

ص: 147

واعلم أن الأجير على الحمل أمين ما عدا أجير الطعام، وقد مر تقسيم ابن يونس حيث تلف المحمول طعاما أو غيره، وحكى البناني فيما إذا تلف المحمول أربعة أقوال، أحدُها: أن له الكراء مطلقا ويلزمه حمل مثله من موضع الهلاك هلك بسبب حامله أو بسماوي وهو المشهور عند ابن رشد. الثَّاني: له بحسب ما سار مطلقا. الثالثُ: إن هلك بسبب حامله فله بحسب ما سار، وإن هلك بسماوي فله الكراء كله ويلزم حمل مثله من موضع الهلاك. الرابعُ: مذهب المدونة إن هلك بسبب حامله فلا كراء له وإن هلك بسماوي فله الكراء كله ويلزمه حمل مثله، وظاهره في جميع الأقوال سواء ضمن أم لا طعاما كان أو غيره. انتهى. وقال ابن الحاجب: وأما أجير حمل غير الطعام فإن غر فيه أو فرط ضمن وإلا فلا، وفي حمل الطعام يضمن مطلقا إلا ببينة أو بصحبة ربه. وقاله الفقهاء السبعة. انتهى. قوله: مطلقا؛ أي لا فرق في الأنواع

(1)

والإدام ولا فرق بين الحضر والسفر. اللخمي: وهو المعروف، وقال ابن كنانة: لا ضمان عليه في المدينة لأنه في المدينة قادر على أن يصحبه من غير ضرورة، وما ذكره من الإطلاق هو المشهور، ومقابله لابن حبيب إنما يضمنون من الطعام والإدام ما كان قوتا خاصة، فمن ذلك القمح والشعير والدقيق والسلت والذرة والدخن والعلس والكرسنة والفول والحمص والعدس واللوبيا والجلبان، لا الأرز والترمس والجبن واللبن والزبد وسائر اللحم اهـ المراد منه. كحارس؛ يعني أن أجير الحراسة لا يضمن ولو كان المحروس طعاما فليس أجير الحراسة كأجير الحمل، فأجير الحراسة أمين، وأما أجير الحمل فأمين في غير الطعام بخلاف الطعام كما مر، قال عبد الباقي: كحارس لدارٍ أو بستانٍ أو طعام أو غيره يغاب عليه أم لا حيث لم يظهر كذبه كما في الطراز، لا ضمان عليه، ولو شرط إثباته فلا عبرة بما يكتب على خفراء الحوانيت والأسواق من أنه إذا ضاع شيء في دركهم يضمنونه إذ ذاك التزام ما لا يلزم فلا ضمان عليهم حيث لم يفرطوا في الحراسة، وهو الموافق لقول المص: ولو شرط إثباته. اهـ. قوله: خفراء، جمع خفير بالخاء المعجمة، قال في الصحاح: الخفير المجير خفرت

(1)

في التوضيح ج 7 ص 228: في الأقوات والإدام.

ص: 148

الرجل أخفره بالكسر خفرا إذا أجرته وكنت له خفيرا تمنعه، وأخفرته بالرباعي إذا نقَضت عهده وغدرت به، ويقال: أخفرته إذا بعثت معه خفيرا. قاله البناني.

ولو حماميا؛ يعني أن أجير الحراسة لا يضمن حيث لم يفرط، ولا فرق في ذلك بين الحارس الحمامي نسبة إلى الحمام البيت المعروف أي الذي يحرس الثياب وغيره. قال الشبراخيتي عند قوله: ولو حماميا: سواء كان من جانب رب الحمام أو رب الثياب فلا ضمان عليه ولو أخذ على ذلك أجرا حيث لم يفرط، ومن التفريط في أشار إليه الشارح بقوله: ابن القاسم وإذا قال الحارس: جاءني إنسان فشبهته بك فدفعت إليه الثياب ضمن، وكذلك إذا أتى إنسان ليأخذ ثيابا فتركه ظنا منه أنه صاحبها فإنه يضمن، فإن سرقت من الحارس لم يضمن. اهـ. ومحل عدم الضمان أيضا إذا لم يجعل رب الثياب ثيابه رهنا على الأجرة وإلا ضمنها ضمان الرهان. اهـ. ورد المص بلو قول ابن حبيب: يضمن لأنه أجير مشترك. نقله اللخمي، وصوب أنه لا يضمن لأن الثياب وديعة لا صنعة فيها، وإن أخذ أجرة فهي أجرة للأمانة ولا يخرجه ذلك عن كونه أمينا كالمودع إلا أن تظهر خيانته. قاله في الميسر. وقال المواق: قال ملك: من جلس يحفظ ثياب من دخل الحمام فضاع منها شيء لم يضمن لأنه بمنزلة الأجير. ابن المواز: قال ملك: من استؤجر يحرس بيتا فنام فسرق في فيه لم يضمن وإن غاب عليه وله جميع الأجر، وكذلك حارس النخل، قال ابن المواز لا يضمن جميع الحراس إلا أن يتعدوا كان في يحرسونه مما يغاب عليه أم لا طعاما أو غيره وكذلك من يعطى متاعا يبيعه فيضيع أو يضيع ثمنه، إلا أن هذا لا أجر له ولا ضمان عليه. اهـ.

وأجير لصانع؛ يعني أن الصانع إذا استأجر أجيرا يعمل معه فإنه لا ضمان على الأجير إذا لم يفرط لأنه أجير أمين، وإنما الضمان على الصانع؛ قال المواق: من المدونة: يضمن القصار ما أفسد أجيره ولا شيء على الأجير، وفي سماع أصبغ من تضمين الصناع: في الغسال يكثر عليه المتاع فيستأجر الأجراء يبعثهم إلى البحر بالثياب أنهم ضامنون، قال ابن رشد: ليس هذا بخلاف لما في المدونة: لا ضمان على أجير القصار؛ لأنهم لما انقلبوا بها لعملها وغابوا عليها فهم كالصناع، سواء أخذوا ذلك من التجار أو من صناع مثلهم. اهـ. وقال عبد الباقي: ولا ضمان على أجير

ص: 149

لصانع أي عند صانع تلف منه شيء يغاب عليه أم لا لأنه أمين حيث لم يفرط، وعن أشهب: في الغسال تكثر عليه الثياب فيؤاجر آخر يبعثه بشيء منها إلى البحر يغسله فيدعي تلفه أنه ضامن، وقال ابن ميسر: هذا إذا آجره على عمل أثواب مقاطعة كل ثوب بكذا، وأما إن كان آجره يوما أو شهرا أو سنة فدفع له شيئا يعمله في داره وغاب عليه فلا ضمان عليه. اهـ. قال البناني: ما نقله الزرقاني عن أشهب جعله في التوضيح تقييدا للمشهور، ومثله في المواق عن ابن رشد، فيقيد المص بما إذا لم يغب الأجير عن الصانع، خلافا للتتائي حيث جعله مقابلا، وكذا كلام ابن ميسر يظهر من التوضيح أنه تقييد لأشهب. والله أعلم. انتهى. وقال الحطاب مفسرا للمص: يعني أن الأجير الذي يعمل عند الصانع لا ضمان عليه والضمان على الصانع. قاله في المدونة. وفي أول كتاب تضمين الصناع: ويضمن القصار ما أفسده أجيره ولا شيء على الأجير إلا أن يتعدى أو يفرط. انتهى. وقوله: وأجير، عطف على حارس وكذا ما بعده، وقال التتائي: ولا ضمان على أجير لصانع ضامن استأجره يعمل معه على المشهور إذا لم يتعد لأنه أمينه، ونحوه قول المدونة: ويضمن القصار ما أفسد أجيره ولا شيء على الأجير إلا أن يتعدى أو يفرط. البساطي: هذا هو المشهور. اهـ وقيده ابن الحاجب بما إذا كان الأجير الصانع تحت يد الصانع، قال المص: احترز به عما لو غاب على السلع فإنه يضمن، فقد نص أشهب في العتبية والموازية: لو كثرت الثياب على الغسال فؤاجر أجيرًا فبعث بها إلى البحر فادعى تلفها أنه ضامن، وقيد ابن ميسر بما إذا واجره على عمل أثواب مقاطعة أي كل ثوب بكذا، وأما إن كان آجره يوما أو شهرا أو سنة فدفع إليه شيئا يعمله في داره وغاب عليه فلا ضمان عليه. اهـ.

وسمسار؛ يعني أنه لا ضمان على السمسار فيما تلف من السلع بغير تفريطه، والسمسار هو الذي يطوف بالسلعة على التجار، والدلال هو الذي يعرفهم بمواضع السلع، وكره ابن القاسم الدلالة في النكاح وأجازها ابن الماجشون. قاله الدرعي. وقال الشبراخيتي: ولا ضمان على سمسار وهو الذي يطوف بالسلعة ذكرا أو أنثى في السلعة التي يبيعها ولا في ثمنها، ابن رشد: إلا أن يدعي بيع سلعة من رجل عينه وهو ينكر، فلا خلاف أنه يضمن لتفريطه بترك الإشهاد، ولو جرى العرف

ص: 150

بتركه: إذ ليس هذا من المسائل التي يراعى فيها ذلك، وقيد ابن رشد عدم ضمان السمسار بالشهور بالخير، ولهذا قال المص:

إن ظهر خيره على الأظهر، أشار به لقول ابن رشد: الذي أُفْتِي به تضمينه إلا أن يكون مشهورا بالخير والصلاح فلا ضمان عليه، قائلا: ورأيت بعض قضاة الأسكندرية ضمن السمسار، وكأنه ذهب إلى أن ذلك من مصالح العامة لفساد الزمان، وتعبير المص بالاسم صحيح والاعتراض عليه ساقط؛ لأن هذا الذي مشى عليه المص تبعا لابن رشد قول أشهب، فصح تعبير المص بالاسم كما في الرهوني، قال: وفي مفيد ابن هشام: وإذا ادعى الدلال ضياع السلعة عنده وأكذبه ربها فالقول قوله، ولا ضمان عليه إلا أن يكون الضياع من صنعه، هكذا في كتاب الرواحل من المدونة، ثم قال: وكان سحنون يجعل الدلالين كالصناع، وفرق أشهب بين المؤتمن وغيره. اهـ. قوله: ضياع السلعة عنده، هذا كالصريح في أن الدلال هو السمسار خلاف ما قدمته عن الدرعي، لكن لا منتاحة في الاصطلاح. والله تعالى أعلم. وفي مر من قول ابن رشد: فلا خلاف أنه يضمن لخ، قال الرهوني: هو في الحطاب، وتبعه في تسليمه الاتفاقَ المذكور كل من وقفنا عليه ممن تكلم على المتن وفيه نظر، ففي المفيد: قال ابن أبي زيد: إذا قال السمسار: بعت الثوب من فلان، وأنكر فلان الشراء ولم تقم بينة على البيع فلا ضمان على السمسار، وهو مصدق فيما يدعيه؛ لأن من عرف الناس أن السمسار لا يشهد حين البيع، وفيها قول آخر أنه يضمن إذا لم يتوثق بالإشهاد حين البيع، ولا أقول بهذا القول. اهـ. وقال عبد الباقي: وسمسار إن ظهر خيره فلا ضمان عليه على الأظهر، ولا عهدة عليه فيما يظهر فيما باعه من عيب أو استحقاق، وإنما يتبع في ذلك رب المبيع، ومفهوم الشرط إن لم يظهر خيره ضمن وصار كالصانع، كما أن الجلاس يضمنون لأنهم يأخذون السلع عندهم فصاروا كالصناع. اهـ. والجلاس هم الذين ينصبون أنفسهم في الحوانيت لشراء الأمتعة. انظر المواق. وقال الرهوني: قال ابن عرفة: وأما مسمى السمسار ففي ضمانه ما دفع له ليبيعه وما طلبه من ربه لمشتر أمره بشرائه، ثالثها: ما لم يكن مأمونا، ورابعها: فيما دفع لهم لا فيما طلبوه، اهـ. الأول لسحنون، والثاني للعتبية، والثالث هو ما أفتى به ابن رشد، والرابع نقله ابن رشد؛ وعلى عدم الضمان في كون ما أرسلوا لطلبه من مرسله أو دافعه، ثالثها

ص: 151

بينهما، الأول والثاني نقلهما ابن رشد، والثالث هو قوله: لو كان بينهما لكان له وجه. انظر الرهوني. وقوله: وسمسار لخ، استظهر ابن عرفة أنه إن نصب نفسه ضمن، وفيه نظر لأن ذلك هو محل الخلاف، فالقيد حينئذ غير صواب. انظر الرهوني.

ونوتي غرقت سفينته بفعل سائغ؛ يعني أنه لا ضمان على النوتي إذا غرقت سفينته بفعل سائغ فعله فيها، وأما إن غرقت بفعل غير سائغ فيضمن الأموال والدية في ماله، وقيل: الدية على عاقلته. ذكره المواق. قاله الخرشي. والنوتي هو خادم السفينة كان ربَّها أم لا. قاله غير واحد. وقال الشبراخيتي: ولا ضمان على نوتي وهو خادم السفينة كان ربها أم لا، غرقت سفينته بغير فعل كهيجان البحر أو اختلاف الريح مع عجزه عن صرفها لشيء ترجى معه سلامتها، فلا ضمان عليه فيما غرق منها، وكذا لو غرقت بفعل سائغ فعله فيها كربط حبل في شيء ثابت وجرها لتصل فينقطع الحبل، ولا أجر له ولو وصلت غاية المسافة ولم تمض مدة يتمكن فيها من إخراج أحماله، فأما إذا مضت مدة بعد الوصول يمكن أصحاب الأحمال أن يخرجوا أحمالهم بحيث لو بادروا لأخرجوها فتوانوا فغرقت فلا ضمان؛ لأن التقصير منهم وعليهم الأجرة، وأفهم الضمان بفعل غير سائغ وهو كذلك. البساطي: كجهل النوتي فصدمت شيئا يجتنبه العالم، أو جهل أمارات الريح كسفره عند أمارة لا يسافر عندها غيره فتلفت. قال في الشرح: وضمن المال في ماله وكذا الدية، وقيل: على عاقلته. ذكره المواق. وقال في الحاشية: ضمن الدماء والأموال في ماله على المذهب ما لم يقصد قتلهم فيقتل بهم، وقوله: سائغ أي جائز. انتهى كلام الشبراخيتي. وقال محمد بن الحسن البناني: مذهب مالك وابن القاسم أنه لا كراء لرب السفينة ضمن أم لا لأنها تكرى على البلاغ، قال مالك: من اكترى سفينة فغرقت في ثلثي الطريق وغرق ما فيها من طعام وغيره فلا كراء لربها وأرى ذلك على البلاغ. انتهى. قوله: ضمن أم لا؛ يعني غرقت بفعل سائغ أو غيره. والله تعالى أعلم. وقال ابن الحاجب: وإذا عطبت السفن أو عرض ما يمنعها من البلوغ، فقال ملك وابن القاسم: هو على البلاغ فلا شيء لربها ولو غرقت بالساحل. اهـ. نقله البناني. وفي التوضيح: قيد يحيى بن عمر قوله: ولو غرقت بالساحل بما إذا لم يكن

ص: 152

من أرباب المتاع تفريط في نقل المتاع، وأما لو فرطوا لزمهم الكراء، وكذا لو أخذوا في التفريغ فركبهم الهول ومنعهم منه حتى غرقت لكان الكراء على من سلم متاعه دون من لم يسلم.

تنبيهات: الأول: قد مر أن كراء السفينة على البلاغ فلا يستحق ربها الكراء ولو غرقت بالساحل وهو قول ملك وابن القاسم، وقال ابن نافع: حكمها حكم البر ما سارت فلربها بحسابه، وقال أصبغ: إن أدرك مأمنا يمكنه السفر معه

(1)

أو حاذاه فكالبر وإلا فعلى البلاغ، وفي المسألة قول رابع: إن كان سيرهم عرضا فهو على البلاغ وإن كان طولا فلهم بحساب ما ساروا وانظر التوضيح. الثاني: قال ابن الحاجب: وإذا خيف على المركب الغرق جاز طرح ما يرجى به نجاتها غير الآدمي بإذنهم أو بغير إذنهم ويبدأ بما ثقل جسمه أو عظم جرمه. انتهى. قال في التوضيح: ومراده بالجواز الوجوب لأن حفظ النفوس واجب، وعبر المص بعبارة الأكثرين هنا، وذلك أن إتلاف المال لغير فائدة محرم، والجواز هو المقابل للتحريم، فإذا أرادوا رفعَ التحريم رفعوه بالجواز، وقوله: ما ترجى به نجاتها من حيوان بهيمي أو عرض، ولما كان الطرح واجبا لإحياء نفوسهم لم يحتج إلى إذن المالك، وقوله: غير الآدمي، قد تقدم في الجهاد أن اللخمي انفرد بجواز الطرح بالقرعة ويبدأ بما ثقل جسمه أو عظم جرمه وإن لم يثقل، كأعدال القطن ولا يطرح ذلك ليسلم ما هو أرفع منه.

الثالث: هذا المطروح يوزع على جميع ما في المركب من مال التجار مما يطرح وما لا يطرح كالعبيد، قال ابن الحاجب: ويوزع على مال التجار مما يطرح أو مما لا يطرح عبيدا أو ناضا أو جوهرا. انتهى. قال في التوضيح: يوزع المطروح فيكون من رميَ له شريكا بما يحسب له في النماء والنقص، ابن القاسم: حتى يكون ما يطرح وما يسلم كأنه لجميعهم. ابن أبي زيد: فإن كانت قيمة ما رمي كقيمة ما سلم فلمن رُمِي متاعُه نصف السالم، وإن كانت قيمته نصف السالم فله ثلث السالم، ولا شركة بين من لم يرم لهم، وقوله: عبيدا أو ناضا أو جوهرًا؛ يعني يوزع على جميع مال التجارة وإن كان ذلك المال لا يطرح وهو العبيد أو قليل الجرم وهكذا قال ابن حبيب:

(1)

في التوضيح منه

ص: 153

إن كان معهم

(1)

دنانير أو دراهم يريد بها التجارة فهي داخلة في الشركة، وقال ابن عبد الحكم وابن أبي زمنين: من كان معه عين فلا يلزمه شيء من قيمة ما طرح. اهـ. وقال ابن الحاجب: والمذهب أن المركب وعبيدة لا تدخل، وفي التوضيح: قال محمد بن عبد الحكم: أجمع أصحابنا على أن المركب لا يدخل في شيء من حكم الطرح.

الرابع: قال ابن الحاجب: وما ليس للتجارة كالعدم طرح أو لم يطرح، قال في التوضيح: يعني فإن طرح فلا شيء لصاحبه، وإن لم يطرح فلا شيء على صاحبه، ونقل على ذلك الاتفاق، وقد قال أهل العراق -وهو الذي مال إليه ابن يونس، وقال: إنه القياس- إنه لا فرق بين عروض القنية وعروض التجارة في التوزيع. الخامس: قال ابن الحاجب: والقول للمطروح متاعه فيما يشبه. انتهى. قال في التوضيح: لأن ذلك لا يعرف إلا من جهته، وظاهره أنه يصدق في ثمنه وفي صفته ومقداره، وفي ذلك تفصيل، أما الثمن فقال ابن القاسم: هو مصدق بيمينه في ثمن متاعه الطروح للسالم

(2)

ما لم يأت بما يستنكر ويتبين كذبه فيه، وقال سحنون: القول قوله بغير يمين إذا ظهر صدقه إلا أن يتهم فيحلف، وأما الصفة فقال ابن أبي زيد: إذا ادعى صاحب المتاع أن صفته كذا وكذا وكذبه الباقون فالقول قولهم مع أيمانهم، فإن جهلوا فالقول قوله مع يمينه، وأما قدره فإذا ادعى المطروح الكثير، وقال رب المركب: لم يستحق عندي إلا أقل مما ادعى، فقيل يرجع إلى ما في التنزيل لأن أمر الناس جرى عليه، وما كان في داخل المتاع مما يخفى ذكره في التنزيل فالقول قول صاحب المتاع فيه مع يمينه إذا أتى بما يشبه أن يملك مثله، وخالفه ابن يونس فيما لم يكتبه في التنزيل ورأى أنه مدع فيه، قال: وقد ظلم نفسه إذْ لم يكتبه فيجب أن لا يصدق.

السادس: فإن زعم رب السفينة أنه رمى بعض ما فيها لهول أصابه فكذبه أصحابه، فقال أبو سعيد ابن أخي هشام: هو مصدق في العروض في قول ابن القاسم، ولا يصدق في الطعام إلا ببينة. قاله في التوضيح. وهل تعتبر القيمة يوم الطرح؟ وهو لأشهب، أو بأقرب المواضع إليه، ذكره ابن

(1)

في التوضيح ج 7 ص 213: معه، ط نجيبويه.

(2)

في التوضيح ج 7 ص 214: المطروح والسالم.

ص: 154

شأس، أو في المكان الذي حمل منه وهو لمالك في المختصر، وقال مالك في موضع آخر من المختصر: تعتبر قيمته في موضع يحمل إليه، أو تعتبر قيمته بما اشتري به وهو لابن القاسم، وقيده في الموازية بأن يكون الشراء لا محاباة فيه، وقال: وهذا إن اشتروه من مكان واحد، وأما إن كان شراؤه من مواضع شتى أو فيهم من اشترى وفيهم من لم يشتر وقد طال مكث شرائه حتى حالت أسواقه قوم الذاهب والسالم بالموضع الذي ركبوا منه يوم ركبوا ثم يكونون بتلك القيمة شركاء في السالم. انتهى.

لا إن خالف مرعًى شرط، المعطوف محذوف والمعطوف عليه مدخول الكاف، أعني حارس أي لا راع إن خالف مرعًى شرط، ومعنى كلام المص أن الراعي إذا اشترط عليه رب الماشية أن لا يسرحها في الموضع الفلاني فخالف ورعى في ذلك الموضع فهلك بعض الماشية لذلك فإن الراعي يضمن لتعديه. قال الخرشي مفسرا للمص: أي فإنه يضمن لتعديه مثل أن يقول له: لا ترع في الموضع الفلاني فيرعى فيهلك بعض الماشية لأجل ذلك، قال في المدونة: يضمن ذلك يوم تعديه، وقوله: لا إن خالف مرعًى شرط ما لم يكن صبيا أو سفيها. قاله غير واحد. وقال التتائي، لا إن خالف الراعي مرعى شرط مكانا أو زمانا فيضمن، أما الأول فكأن يقول: لا ترع بموضع كذا خوف وحوشه أو لصوصه أو خوف ضر عشبه لأنه يورث إحراضا تموت منه الأنعام، وكأثر رعي الجاموس إذا نهاه أن يرعى فيه الغنم لأن الغنم إذا رعت فيه غشت، كذا تزعم أربابها، وأما الثاني، فإنه يورثها ذلك أيضا وهو رعيها أيام الخريف قبل ارتفاع الندى عن النبات وما أشبه هذه المسائل له حكمها. انتهى. وقال المواق: من المدونة: إن شرط رعيه في موضع فرعى في غيره ضمن يوم التعدي وله أجره إلى يومه. انتهى. وكذا يضمن الراعي إن رعى في محل مخوف، وكذا إن نام فذهب شيء إن خرج عن معتاد النوم كنومه أول النهار أو آخره، وإن نام قائلة لم يضمن إلا أن يطول أو كان في محل مخوف من كثرة السباع أو رجع إلى منزلة وتركها، وقوله: لا إن خالف مرعى شرط؛ يعني وتعيبت أو تلفت فيضمن. قاله عبد الباقي. وقال الملوي: قال في المدونة: وإن شرط رعيه في موضع فرعى في غيره ضمن يوم التعدي وله أجرة يومه، وهو قول صاحب المختصر: لا إن خالف مرعى شرط. ثم اعلم أن الماشية إذا هلكت بالأمر الذي خافه

ص: 155

صاحبها فضمان الراعي واضح، وإن هلكت بغيره كما إذا خاف من لصوص فهلكت بغيرهم كرعي عشبة تموت الماشية منها وما أشبه ذلك، فكنت أسمع من شيخنا أبي عبد الله التاودي بن سودة في تقريره: أن ابن عرفة نقل عن ابن فتوح أن لا ضمان عليه، وذكر الجزولي: أنه يضمن، وأحرى في عدم تضمينه إذا هلكت لا بسبب مخالفة كما إذا خالف فماتت له شاة حتف أنفها.

أو أنزى بلا إذن؛ يعني أن الراعي إذا أنزى الفحل على أنثى من ماشيته التي استؤجر على رعايتها فعطبت من الإنزاء أو من الولادة فإنه أي الراعي يضمن ما حصل فيها من العيب أو التلف، قال الشبراخيتي: أو أنزى الراعي أي حمل الفحول على الإناث بلا إذن من أربابها فتلفت منه أو من الولادة فيضمن. ابن عرفة: إن تقرر عرف بالإذن أو المنع فلا اختلاف وإلا فالقولان، وينبغي إن كان الفحل لغير رب الأنثى أن يضمن اتفاقا. اهـ. وقال الملوي: قال في المدونة: إذا أنزى الراعي على الغنم بغير إذن أهلها ضمن، وقال أشهب: لا يضمن، وقال ابن عرفة: إن تقرر عرف بالإذن أو المنع فلا اختلاف. لخ.

أو غر بفعل، هذا مفهوم قوله: ولم يغر بفعل؛ يعني أن الأجير إذا غر بالفعل وتلف شيء بسبب ذلك، فإن الأجير يضمن ما تلف بسبب فعله، كما لو علق المحمول بحبل ضعيف أو مشى في موضع يعثر فيه، وقد مر أن الغرر القولي المعتمد فيه الضمان حيث انضم إليه عقد، خلاف ما مر عليه المص.

فبقيمته يوم التلف؛ يعني أنه إذا غر بفعل وتلف الشيء المستأجر عليه فإن الأجير يضمن قيمة التالف يوم التلف فهو راجع للأجرة، وأما إن خالف مرعى شرط أوأنزى بلا إذن فإنه يضمن يوم التعدي، هذا هو ظاهر المدونة، وهو الذي قاله الأجهوري، وجعله الشارح راجعا للمسائل الثلاث، وفسر قولها في الراعي يوم تعديه بيوم التلف، ومر أن الغرور القولي إن انضم إليه عقد ضمن الأجير، وأن مجرد الغرور القولي لا ضمان فيه. قال البناني: هذا التفصيل في الغرور القولي هو الذي اختاره ابن عرفة، وفي المدونة: ومن اكتريت منه دابة أو ثورًا ليطحن فكسر المطحنة لما

ص: 156

ربطته فيها وأفسد آلتها لم يضمن إلا أن يغرك وهو يعلم ذلك منه فيضمن؛ لأن مالكا قال: فيمن أكرى دابة لرجل وهي ربوض أو عثور أو عضوض وقد علم بذلك فلم يعلمه فحمل عليها فربضت أو عثرت فانكسر ما عليها أنه ضامن. انتهى. ابن عرفة: قال أبو إبراهيم: هكذا في أكثر الروايات لما ربطته؛ أي بتاء الخطاب، وفي بعضها: لما ربطه؛ أي بضمير الغيبة، فعلى الأول يكون غرورا بالقول، ومثله في التدليس بالعيوب وخلافه في الاستحقاق، ابن عرفة: القول إن تضمن عقدا كان غرورا بالفعل لا بالقول. اهـ المراد منه. وقال عبد الباقي عند قوله: فبقيمته؛ أي يضمن قيمته يوم التلف في موضع التلف وله من الكراء بحسابه طعاما كان أو غيره. انتهى. وعلى هذا فلا يلزم حمل مثله بقية المسافة فلا وجه لتنظير عبد الباقي في ذلك، وقال البناني: إن هذا إنما يأتي على قول أصبغ وروايته عن ابن القاسم: أن الإجارة تفسخ بتلف ما يستوفى به مطلقا، وهو خلاف المشهور وخلاف مذهب المدونة. انتهى. وقد مر القولان في كلام ابن يونس، وظاهره ترجيح ما لعبد الباقي، ونحو ما لعبد الباقي في التوضيح. والله تعالى أعلم. وأخرج المص من قوله: وهو أمين، الصانعَ بقوله:

أو صانع في مصنوعه؛ يعني أن الصانع يضمن في مصنوعه لأن تضمينه من المصالح العامة، وتضمين الصُّناع قضى به الخلفاء، وقوله: وصانع في مصنوعه، تلف بصنعته أو بغير صنعته كما لو ادعى أن سارقا سرقه. انتهى. وفي المسائل الملقوطة: قال في الكافي في الصانع تضيع عنده السلعة فيغرم قيمتها ثم توجد أنها للصانع وكذلك من ادعى على رجل أنه سرق عبده فأنكر فصالحه على شيء ثم وجد العبد، قال ابن رشد في سماع يحيى: هو للمدعَى عليه ولا ينقض الصلح صحيحا كان أو معيبا، إلا أن يجده عنده قد أخفاه فيكون لربه، وفي التهذيب: في المكتري يتعدى على الدابة فتضل فيغرم قيمتها ثم توجد، هي للمكتري. انتهى. قاله الحطاب. وفي التوضيح: ابن رشد: والضمان بسبب الصنعة إنما هو إذا لم يكن فيها تغرير، وأما إن كان فيها تغرير كثقب اللؤلؤة ونقش الفصوص وتقويم السيوف واحتراق الخبز عند الفران والثوب عند الصبّاغ فلا ضمان عليه فيها، إلا أن يعلم أنه تعدى فيها، أو أخذها على غير وجه مأخذها. ونحوه لابن المواز.

ص: 157

تنبيه: قال في التوضيح: وذكر أبو المعالي أن مالكا كثيرا ما يبني مذهبه على المصالح، وقد قال: إنه يقتل ثلث العامة لمصلحة الثلثين. انتهى. وتكلم القرافي في المسألة، وأنكر ما ذكره إمام الحرمين عن ملك، وقال: إنه لا يوجد في كتب المالكية. والله تعالى أعلم. قاله الحطاب.

وقال المواق: ابن رشد: الأصل في الصناع أن لا ضمان عليهم وأنهم مؤتمنون لأنهم أجراء، (وقد أسقط النبي صلى الله عليه وسلم الضمانَ عن الأجراء)، وخصص العلماء من ذلك الصناع وضمَّنوهم نظرا واجتهادا لضرورة الناس، وقول مالك: إنهم ضامنون لما غابوا عليه وادعوا تلفه ولم يعلم ذلك إلا من قولهم ولا ضمان عليهم فيما ثبت ضياعه بالبينة من غير تضييع، وتابعه على ذلك جميع أصحابه إلا أشهب فإنه ضمَّنهم، وإن قامت البينة على التلف، ولقوله حظ من النظر لأنه لا وجب تضمينهم للمصلحة العامة لم يسقط الضمان عنهم بالبينة وقول ملك أصح. انتهى المراد منه. لا غيره؛ يعني أن الصانع إنما يضمن مصنوعه فقط، ولا يضمن غيره حيث لم يحتج عمله له كزوج نعل أتى له به ليصلح التالف فضاع الصحيح، بل ولو محتاجا له عمل؛ أي لا يضمن غير مصنوعه ولو كان عمل المصنوع محتاجا لذلك الغير لأنه فيه أمين لا أجير، كظرف القمح عند طحان فيضمن القمح دون ظرفه، وكتاب ينسخ منه فيضمن كتابه لا الذي ينسخ منه، وقوله: عمل، فاعل محتاجا لا نائب إذ لا يصح أن يكون محتاجا هنا اسم مفعول. والله تعالى أعلم. وما مشى عليه المص هو قول سحنون، والردود بلو هو قول ابن المواز، فإنه قال: يضمن الصانع المحتاج له العمل دون ما لا يحتاج له العمل، وقول ابن حبيب: يضمن ما لا يستغنى عنه، قال محمد بن الحسن البناني: وانظر من رجح القول الذي اقتصر عليه المص. اهـ. ونحوه لأبي علي، قال الرهوني: وما قالاه ظاهر فقد بحثنا على من رجح قول سحنون الذي اعتمده المص أشدَّ البحث فلم نجده، والذي يظهر أن قول ابن المواز الردود بلو هو الراجح لأنه المنصوص لملك وابن القاسم، ولموافقته لأشهب وابن حبيب واختيار اللخمي، فكيف يعدل عن ذلك إلى قول سحنون. انتهى. واعلم أن الأقوال ثلاثة، قول سحنون: لا يضمن مطلقا وهو الذي مشى عليه المص كما

ص: 158

عرفت، وقول ابن المواز: يضمن الصانع المحتاجَ له العمل مثل الكتاب المنتسخ منه والدملج الذي يصنع عليه والمثال الذي يطرز عليه، دون ما يحتاج إليه المعمول، كظرف القمح الذي يطحن، وقول ابن حبيب: يضمن ما لا يستغنى عنه. والله تعالى أعلم.

وإن ببيته؛ يعني أنه يضمن عمله في بيته أو في غيره، وبالغ عليه ليلا يتوهم أنه لم ينصب نفسه حيث عمله ببيته. قاله غير واحد، وقال المواق: سمع عيسى: لا ضمان على الصانع حتى يكون نصب نفسه للعمل، اللخمي: سواء كان بسوقها أو بداره. أو بلا أجر، هو في حيز المبالغة أيضا، يعني أن الصانع يضمن مصنوعه مطلقا عمله بأجر أو بغير أجر، تلف بصنعه أو بغير صنعه ما لم يكن فيه تغرير كما مر، وقوله: بلا أجر، رد به على من يقول: إنما يضمن ما فعله بأجرة، ومما فيه تغرير فلا ضمان عليه البيطار يصرع الدابة والخاتن يختن الصبي أو الطبيب يسقي المريض أو يكوي أو يقطع شيئا أو الحجام يقلع ضرسا لرجل، فيموت كل من ذلك، فلا ضمان على واحد من هؤلاء في ماله ولا على عاقلته لأنه مما فيه التعزير، فكأن صاحبه هو الذي عرضه لما أصابه، إلا أن يخطئ في فعله وهو من أهل المعرفة ففي ماله إن نقص عن الثلث وإلا فعلى عاقلته، فإن لم يكن من أهل المعرفة أو تعمد التناول على غير وجهه فعليه العقوبة، وفي كون الدية على عاقلته أو عليه قولا ابن القاسم وظاهر ما لملك. انتهى. وينبغي أن يكون الراجح قول ملك لأن فعله عمدٌ. قاله عبد الباقي. واعلم أن لضمان الصانع شروطًا ثلاثة أحدها قوله:

إن نصب نفسه؛ يعني أن الصانع إنما يضمن حيث نصب نفسه لجميع الناس، واحترز بذلك مما إذا كان خاصًا بشخص أو جماعةٍ مخصوصين فلا ضمان عليه. قال عبد الباقي: إن نصب نفسه لعموم الناس، فلا ضمان على أجير خاص لشخص أو لجماعة مخصوصين. انتهى. وقال الشبراخيتي: إن نصب نفسه للصنعة لعامة الناس. قاله اللخمي. واحترز به من الأجير الخاص لشخص أو لجماعة مخصوصين فلا ضمان عليه. انتهى. وقال التتائي: إن نصب نفسه للصنعة تحرز عن صانع مخصوص. انتهى. ونحو ذلك للخرشي. وقال المواق عند قوله: إن نصب نفسه. ابن رشد: وهذا في الصانع المشترك الذي نصب نفسه للناس، وأما الصانع الخاص الذي لم

ص: 159

ينصب نفسه للعمل للناس فلا ضمان عليه فيما استعمل إياه أسلم إليه أو عمله في منزل رب المتاع، وأشار للشرط الثاني والثالث بقوله:

وغاب عليها؛ يعني أنه يشترط في ضمان الصانع أيضا أن يغيب عليها أي على الذات أو الأشياء المصنوعة، ولو قال: عليه، كان أولى، والمراد غاب عليها في بيت نفسه، قال الإمام الحطاب: قوله: وغاب عليها، يريد في بيته، فشمل شرطين، الأول: أن لا يكون عمله في بيت رب السلعة، وإن كان في بيته فلا ضمان عليه جلس معه ربها أم لا عمل بأجر أم لا، الثاني: ألا يكون ربه مُلازمَه وإلا فلا ضمان عليه. قاله في التوضيح. انتهى. وقال الشبراخيتي: والشروط الثلاثة مأخوذة من كلامه الأول أن ينصب نفسه على العموم لا لناس مخصوصين. الثاني: أن يغيب عليها. الثالث: أن يكون في بيت نفسه فإنَّ عمَلَها في بيت ربها كفعله بحضوره. انتهى. وقال عبد الباقي: فإن صنعها ببيت ربها ولو بغير حضوره أو بحضوره لم يضمن ما نشأ عن غير فعله، كتلفه بنار أو مطر أو غصب أو سرقة بغير تفريط، لا إن فرط كإن نشأ عن فعله قطع ثوب أو خرقهُ من كَمْدِه بحضرة ربه فيضمن عند ابن رشد وهو المعتمد، خلافا لشيخه ابن دحون في عدم ضمان ما صنع بحضرته مطلقا، وبقي عليه شرطان آخران وهما: أن لا يكون في الصنعة تغرير كما مر تفصيله، وأن يكون مما يغاب عليه، وهذا غير قوله: وغاب عليه، كما لا يخفى، وأما لو دفع شخص غلامه لمن يعلمه وقد نصب نفسه لذلك وادعى هروبه فلا ضمان عليه كما يفيده البرزلي، كما في أحمد.

تنبيه: قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: قد مر عن الحطاب والشبراخيتي أن قوله: أو غاب عليها بأن يعملها في بيت نفسه وأن لا يكون ربها حاضرا، وأحسن من ذلك عبارة عبد الباقي: بأن صنعها بغير بيت ربها وبغير حضوره؛ لأن كلام عبد الباقي يفيد أنه إذا غاب عليها وقد عملها في غير بيت ربها يضمن، سواء عملها في بيت نفسه أو بالسوق مثلا وهو كذلك، ونحو عبارة عبد الباقي للخرشي، والدليل على أن الصانع يضمن إذا عملها في غير بيت نفسه كالسوق مثلا مما هو غير بيت رب الشيء المصنوع قول المص: وإن ببيته، وقول اللخمي: المنتصب من أقام نفسه لعمل الصنعة التي استعمل فيها كان بسوقها أو داره. انتهى.

ص: 160

فبقيمته يوم دفعه؛ يعني أن رب الشيء المصنوع يرجع على الصانع حيث ضَمِنَ بقيمة الشيء المصنوع يوم دفعه ربه إليه بموضع دفعه إليه، قال عبد الباقي: ومحل ضمانه هنا يوم دفعه ما لم ير عنده بعد ذلك فإن ريء عنده بعد ذلك، غرم قيمته وقت رؤيته، فإن تعددت فآخِر رؤية، وكذا إذا اعترف بأنه إنما تلف بعد يوم الدفع فيوم اعترافه. اهـ. قوله: فيوم اعترافه، قال البناني: أي إن كانت قيمته يوم اعترافه أكثر، وعبارة ابن رشد: فإنه يضمن قيمته يوم دفع له إلا أن يقر أن قيمته يوم ضاع كانت أكثر من قيمته يوم دفعه إليه فيكون عليه قيمته يوم أقر أنه تلف عنده. انتهى. نقله المواق. انتهى. وقال الشبراخيتي: يوم دفعه إلا أن يرى عنده بعد ذلك فيغرم قيمته يوم رؤيته، فإن تعددت الرؤية غرم آخِرَ رؤية، وكذا إذا اعترف أنه إنما تلف بعد ذلك وكانت قيمته أكثر من قيمته يوم آخر رؤية. انتهى. وقال الخرشي: قوله: فبقيمته يوم دفعه، هذا صريح في عدم لزوم الأجرة لأنه ضمن قيمتها يوم قبضها غير مصنوعة. انتهى. وقوله: فبقيمته يوم دفعه ولو أراد رَبُّه دفع أجرة عمله وأخذ قيمته معمولا لم يكن له ذلك، وإن أقر الصانع بتلفه معمولا إلا على القول بلزوم الأجرة إذا ثبت ببينة تلفه معمولا فيكون ذلك إن أقر الصانع بتلفه معمولا. ذكره اللخمي وابن رشد.

ولو شرط نفيه؛ يعني أن الصانع يضمن مصنوعه ولو اشترط على رب الشيء المصنوع أنه لا ضمان عليه فيه. قال عبد الباقي: وبالغ على الضمان بقوله: ولو شرط الصانع نفيه، ويفسد العقد بالشرط المذكور لأنه شرط مناف لمقتضى العقد، وله أجر مثله على أن الضمان عليه لأنه إنما رضي بالمسمى لإسقاط الضمان عنه في زعمه، ثم محل الفساد إلا أن يسقطه، كما مر في مسألة الراعي يشترط عليه الضمان. اهـ. وقال الشبراخيتي: وضمان الصانع ثابت ولو شرط نفيه عند ابن القاسم خلافا لأشهب. انتهى المراد منه. وفاعل شرط ضمير يعود على الصانع. اهـ. وقال التتائي: ولو شرط نفيه عند ابن القاسم خلافا لأشهب وهما روايتان، وظاهره أنه لا فرق بين أن يكون المشترط نفي الضمان صانعا واحدًا أو جميع الصناع وفي التوضيح عن اللخمي وغيره: أرى هذا الخلاف إنما هو في الصانع الواحد، وأما لو اشترطه الصناع كلهم لاتفق على أن لا يوفى لهم لما في الوفاء لهم به من هدم ما تقدم من الدليل. اهـ.

ص: 161

أو دعا لأخذه، عطف على المبالغة ففيه الخلاف؛ يعني أنه إذا دعاك الصانع لأخذ الثوب مثلا وقد فرغ منه فلم تأخذه فهو له ضامن حتى يصير إلى يدك. قاله في المدونة. انظر الخرشي وغيره، ابن عرفة: هذا إذا لم يقبض أجرة فإن قبضها كان الشيء المصنوع عنده كالوديعة فلا يضمن. قاله غير واحد. وقال الشبراخيتي عند قوله: أو دعا لأخذه: وهذا إذا لم يقبض الأجرة كما قال ابن عرفة، فإن قبضها فلا ضمان. اهـ. وهو مخالف لما مشى عليه المص كما يأتي في قوله: إلا أن يحضره لخ. إلا أن تقوم بينة، مستثنى من قوله: أو صانع في مصنوعه؛ يعني أن محل ضمان الصانع في مصنوعه إنما هو حيث لم تقم بينة بتلفه من غير تفريطه، وأما لو قامت بذلك بينة فإنه لا ضمان على الصانع حينئذ دعاه لأخذه أم لا. قاله غير واحد.

فتسقط الأجرة برفع تسقط؛ يعني أنه إذا قامت بينة على التلف من غير تعد ولا تفريط فإن الصانع يسقط عنه الضمان كما عرفت، وإذا سقط الضمان لأجل قيام البينة فتسقط الأجرة، وقوله: فتسقط الأجرة إنما هو فيما إذا دعاه لأخذه أو قامت البينة بتلفه، ولا يرجع لقوله: فبقيمته يوم دفعه؛ لأنه صريح في عدم الأجرة لأنه إنما ضمن قيمتها غير مصنوعة، ولذا قال في المدونة والواضحة: ليس لربه أن يقول: أنا أدفع الأجرة وآخذ قيمته معمولا، ابن رشد: إلا أن يقر الصانع أنه تلف بعد العمل. انتهى. قاله عبد الباقي. قال: وما ذكره المص من سقوط الأجرة مع قيام البينة هو المشهور، وذهب محمد إلى أنها لا تسقط نظرا إلى أن وضع الصنعة في السلعة كوضعها في يد ربها، وظاهر هذين القولين سواء شهدت البينة بالتلف قبل العمل أو بعده، وقال بعضهم: إن شهدت بذلك بعد العمل لم تسقط الأجرة وإلا سقطت. قاله الشارح. انتهى كلام عبد الباقي. قوله عن ابن رشد: إلا أن يقر الصانع أنه تلف بعد العمل، ظاهره أن هذا هو المعتمد وليس كذلك، بل كلام ابن رشد يدل على أنه خلاف المعتمد، ونص المقدمات: إلا أن يقر أنه تلف بعد العمل فيكون لربه إلا أن يؤدي إليه أجرة عمله ويضمنه قيمته معمولا. قال: وهذا على القول بأن البينة إذا قامت على تلفه معمولا أنه يلزمه أداء الأجرة وتكون مصيبته منه، وهو أحد قولي ابن القاسم في الموازية، وقوله: وظاهر هذين القولين سواء شهدت البينة لخ، هذا الإطلاق لا يصح في القول الثاني، وهو قول محمد، بل ظاهره محله إذا قامت البينة على تلفه مصنوعا، قال

ص: 162

ابن الحاجب: فإن قامت بينة ففي سقوطه أي الضمان قولان لابن القاسم وأشهب، وعلى سقوطه ففي سقوط الأجرة قولان لابن القاسم وابن المواز. التوضيح: يعني ويتفرع على سقوط الضمان إذا قامت البينة على هلاكه مصنوعا في سقوط الأجرة قولان، فابن القاسم يسقطها ومحمد لا يسقطها، وحكاية المص الخلاف في الأجرة يستلزم أن تكون البينة قامت على هلاكه مصنوعا كما قلنا، والنقل أيضا كذلك. انتهى.

وإلا أن يحضره لربه بشرطه؛ يعني أن محل ضمان الصانع في مصنوعه إنما هو حيث لم يحضره بشرطه أي على الصفة التي شرطها عليه رب الشيء المصنوع ويدفع له الأجرة، وأما إن أحضره لربه على الصفة المشترطة ودفع له الأجرة فتركه عنده فادعى ضياعه أو تلفه فلا ضمان عليه، فإن لم يدفع له الأجرة ضمن. انتهى. وهذا الذي مشى عليه المص هنا هو للخمي، وهو مخالف لما مر عن ابن عرفة عند قوله: أوْ دَعاه لأخذه، فإنه قال: هذا إذا لم يقبض الأجرة. اهـ. وإن قبضها لم يضمن، فإنه كالصريح في نفي الضمان حيث قبض الأجرة وإن لم يحضره لربه. قال الرهوني: فهم ابن عرفة المدونة على خلاف ما فهمها عليه اللخمي وهو معترف بمخالفته، وقد ذكر ابن ناجي تأويلهما معبرا عن ابن عرفة ببعض شيوخنا على عادته، وزاد تأويلين آخرين، فقال عند قول المدونة: وإذا دعاك الصانع إلى أخذ الثوب وقد فرغ ولم تأخذه فهو له ضامن حتى يصل إلى يدك. اهـ. ظاهره وإن مكنه من أخذه ودفع إليه الأجرة وبه أقول لأن الأصل ضمانه فيستصحب، وقال اللخمي: يريد إن لم يحضره وإن

(1)

أحضره مصنوعا على ما شرط عليه وقد دفع الأجرة ثم تركه عنده لصار وديعة، واختار شيخنا حفظه الله تعالى أن الإحضار كاف وإن لم يدفع الأجرة، وقال بعض شيوخنا: معنى قولها أنه لم يأخذ أجرته ولو أخذها لم يضمن ولو لم يحضره فهو عكس ما يليه، فتحصل في حملها أربعة أقوال. انتهى منه بلفظه. وتأويل ابن ناجي بعيد جدا والظاهر تأويل ابن عرفة. انتهى المراد منه.

(1)

عبارة اللخمي في التبصرة ج 10 ص 487: ولو كان قد أحضره الخ.

ص: 163

تنبيه: قد مر عن التوضيح أنه قال: ذكر أبو المعالي أن ملكا قال يقتل ثلث العامة لمصلحة الثلثين. المازري: وهذا الذي حكاه أبو المعالي صحيح. انتهى. وفي شرح المحصول: أن القرافي أنكر ما ذكره أبو المعالي وقال: إنه لا يوجد في كتب المالكية قال الشيخ محمد بن الحسن البناني: قال شيخ شيوخنا المحقق أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد القادر عقب ما تقدم: هذا الكلام لا يجوز أن يسطر في الكتب ليلا يغتر به ضعفة الطلبة وهو لا يوافق شيئا من القواعد الشرعية. قال الشهاب القرافي: ما نقله إمام الحرمين عن مالك المالكيةُ ينكرونه إنكارا شديدا ولم يوجد ذلك في كتبهم وإنما نقله المخالف وهم لم يجدوه أصلا. اهـ. وقال ابن الشماع: ما نقله إمام الحرمين لم ينقله أحد من علماء المذهب ولا كَثُرَ نقله عند المخالفين ولم يخبر أنه رواه لقلته وإنما ألزمه ذلك، وقد اضطرب إمام الحرمين في ذكره ذلك عن مالك كما يتضح ذلك من كتابه البرهان، وما حكاه في التوضيح عن المازري أنه قال هذا الذي حكاه أبو المعالي عن مالك صحيح إنما ترجع فيه الإشارة إلى أول الكلام، وهو أن مالكا كثيرا ما يبني مذهبه على المصالح، لا إلى قوله بإثره وقد قال: إنه يقتل ثلث العامة لإصلاح الثلثين، وأنه حمله على مسألة تترس الكفار بالمسلمين، ثم إن في قوله: إن مالكا يبني مذهبه على المصالح نظرا، فإن المخالفين ينسبون ذلك لمالك والمالكية يأبون ذلك على وجه يختص به حسبما تقرر ذلك في علم الأصول، والذي أنكره العلماء وتبرءوا منه في هذا النقل هو حمله على الإطلاق والعموم حتى يجري في الفتن الواقعة بين المسلمين عياذا بالله منها وما يشبه ذلك. انتهى. قلت: وقد أشبع الكلام في هذه المسألة شيخ شيوخنا المحقق العلامة أبو عبد الله سيدي العربي الفاسي في جواب له طويل، وقد نقلت منه ما قيد أعلاه وهو تنبيه متعين ينبغي المحافظة عليه ليلا يغتر بما في التوضيح. انتهى كلام سيدي محمد بن عبد القادر. وأما ما قاله الزرقاني. من أن مراد إمام الحرمين مثل الثلث من المفسدين حيث تعين طريقا لإصلاح الباقي فغير صحيح، ولا يحل أن يقال به، فإن الشارع إنما وضع لإصلاح المسلمين إقامةَ الحدود عند ثبوت موجبها ومن لم تصلحه السنة فلا أصلحه الله، ومثل هذا التأويل الفاسد هو الذي يوقع كثيرا من الظلمة المفسدين في سفك دماء المسلمين نعوذ بالله من شرور أنفسنا، وفي الحديث: (من شارك في دم امرئ مسلم ولو بشطر كلمة جيء به يوم القيامة

ص: 164

وبين عينيه مكتوب آيس من رحمة الله

(1)

). ولما ذكر اللخمي أن المركب إذا ثقل بالناس وخيف عليه الغرق فإنهم يقترعون على من يرمى، والرجال والنساء والعبيد وأهل الذمة في ذلك سواء، قال ابن عرفة عقبه: تعقب غير واحد نقل اللخمي طرح الآدمي لنجاة غيره، وربما نسبه بعضهم لخرق الإجماع، وقال بعضهم: لا يرمى الآدمي لنجاة الباقين ولو كان ذميا. انتهى.

وصدق إن ادعى خوف موت فنحر؛ يعني أن الراعي إذا جاء ببهيمة مذكاة، كما إذا جاء ببعير منحور وادعى أنه إنما نحره خوف موته، ونازعه المالك فإنه يصدق في ذلك ولا ضمان عليه. أو سرقة منحوره؛ يعني وكذلك يصدق الراعي أيضا إذا ادعى أنه خاف موت البهيمة فنحرها أو ذبحها وادعى سرقة ما نحره أو ذبحه ولا ضمان عليه. قال عبد الباقي: وصدق الراعي إن ادعى خوف موت فنحر أو ذبح وجاء بها مذكاة كما يفهم من قوله: أو سرقةَ منحوره؛ أي الراعي إذ العطف بأو يقتضي المغايرة، فلم يخل بقيد المجيء بها في الأولى، فإن ترك الذكاة حتى ماتت ضمن، فإن ذكى خوف موت وقال: أكلتها لم يصدق، وينبغي ما لم يجعل له أكلها كلها أو بعضها وأتى بباقيها وهو بمكان قريب يمكن مجيئه به والملتقط كالراعي يصدق إن ادعى خوف موت فنحر، وأما الأجنبي والمستأجر والمستعير والمرتهن والمودع والشريك فلا يصدق كل في دعواه تذكيته خوف موته لأنه شوهد منهم سبب التلف وهو التذكية وإنما ضمن الأجنبي وهو من ليس له فيها أمانة ولا إجارة ونحوها، ولم يضمن مارٌّ أمكنته ذكاته وذكى لأنه لما كان في الصيد أثر الجرح لم يكذب المار في دعواه التذكية خوف موت بخلاف الأجبني هنا. انتهى. وفي هذا التعليل نظر لاقتضائه أنه إذا كان في الشاة أثر أكل السباع أن الأجنبي يصدق، والذي عللوا به الصيد أنه لا يراد إلا لذلك غالبا. اهـ. وقال الرهوني: وصدق إن ادعى خوف موت فنحر، ظاهره ولو كانت صحيحة، وهو كذلك إن لم تقم قرينة على خلاف دعواه، قال اللخمي: فإن ذبح الراعي الشاة وكانت مريضة صدق قولا واحدا، وإن كانت صحيحة رأيت أن يصدق لأنه لا يتهم في ذلك إذ لا فائدة له فيه إلا أن يكون جرى بينه وبين صاحب الغنم شنئان فيتهم أن يقصد ضرره لذلك. اهـ.

(1)

مجمع الزوائد، ج 7، ص 301.

ص: 165

ونقله ابن عرفة وأقره، لكن ابن ناجي في شرح المدونة صرح بأن تفصيل اللخمي ثالث، فإنه قال عند قول المدونة: وإذا خاف الراعي الموت على شاة فذبحها لم يضمن ويصدق إذا جاء بها مذبوحة، وقال غيره: يضمن ما انتحر والراعي مصدق فيما هلك أو سرق، ولو قال: ذبحتها ثم سرقت صدق، وقال غيره بالذبح ضمن. انتهى. ما نصه: واختار اللخمي قولا ثالثا فذكر معنى ما تقدم، وينبغي أن يكون ما قاله اللخمي تقييدا لظهور وجهه، ولذلك قبله ابن عرفة، وقوله: وصدق إن ادعى خوف موت فنحر، اعلم أن المتهم يحلف، قال الشبراخيتي: قال في الحاشية: فحوى كلام ابن عرفة في هذه المسائل أن يحلف المتهم دون غيره.

تنبيه: لو وجد ثورا ميتا فسلخه وقال لمالكه: وجدته ميتا وسلخته، وقال الآخر: بل قتلته، حلف أنه ما قتله ولا تعدى عليه إذ لا يؤاخذ بأكثر مما أقر به على نفسه، ولو قال: وجدته على الموت وذبحته نظرًا لك، ضمن قولا واحدا كما في مختصر البيان، ولو ترك من يصدق في الذكاة ذكاة ما يصدق في ذكاته كالراعي حتى مات فإنه يضمنه لربه. قاله الشبراخيتي والخرشي، وقال الرهوني: قال ابن عرفة: ومقتضى قول ابن القاسم وغيره لا ضمان عليه فيما أتى به ميتا منها، فإن كان مع عدم إمكان ذكاته فواضح، وإن ثبت تفريطه في ذلك ضمن. انتهى. وقال ابن عرفة: وهل يجب على الراعي أن يحمل معه سكينا لذكاة ما يخشى موته اعتبر في ذلك عرف موضعه، فإن لم يكن عرف فالأظهر سقوطه. قال بعضهم: إلا أن يكثر فيها الموت.

تنبيه آخر: قال الرهوني: سمع القرينان في البضائع والوكالات: إن بعث مع عبد لا يزال يبعث معه ببعير فقال: تهشم في صحراء الطريق فخفت موته فنحرته وأكلت منه، ضمنه، كمن نحر بعير رجل وقال: خفت موته، قيل: إن العبد مؤتمن على تبليغه، قال: ليس على مثل هذا اؤتمن، لو تركه حتى مات لم يضمنه، وغرم ما ضمنه على سيده، ابن رشد: لأنه ليس له نحره ولو خاف موته فهو متعد، ولعله لو لم ينحره لم يمت، فهو كمن ذبح بعير رجل وقال: وجدته يموت، وسواء كانت للعبد بينةٌ بأنه خشي عليه الموت وأنه لذلك نحره أم لا، وضمانه إن لم تكن بينة ولا أحد يعلم ذلك أبين، ومعنى قوله: غرم ذلك على سيده أنه جناية في رقبته، لا أن غرم قيمة البعير على سيده.

ص: 166

وقلع ضرس؛ يعني أن الحجام إذا ادعى قلع الضرس المأذون فيه ونوزع في ذلك بأن المقلوع غير المأذون فيه، فإن القول قول الحجام وله من الأجرة ما سماه له، هذا هو الذي في المدونة، لا أجرُ مثله خلافا للتتائي، وإنما الذي قال بأجر المثل هو سحنون حيث قال: كل منهما مدع ومدعًى عليه فيتحالفان ويكون للحجام أجر مثله ما لم يتجاوز التسمية. قاله البناني. وقال الشبراخيتي: وقلع ضرس مأذون في قلعه، فالصفة محذوفة إذا قال الحجام إنه المأذون فيه، ونازعه ربه وزعم أنه غير المأذون فيه فالقول قول الحجام وله من الأجر ما سماه له، إلا أن يصدقه الحجام فيما قال فلا أجر له وعليه القصاص في العمد والعقل في الخطإ. قاله ابن يونس. وقول التتائي: وله أجر مثله غير ظاهر قاله الشبراخيتي. ولا مفهوم للضرس أي ضرس أو سن أو ناب، أو أن المؤلف أراد به ما يشمل الأسنان. قاله الخرشي. وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: وإذا قلع الحجام ضرس رجل بأجر فقال له: لم آمرك إلا بقلع الذي يليه، فلا شيء عليه لأنه علم به حين قلعه فتركه، وله أجره إلا أن يصدقه الحجام فلا يكون له أجر، يريد ويكون عليه القصاص في العمد والعقل في الخطإ. انتهى. وقال عبد الباقي: وانظر هل بيمين في هذه واللتين قبلها أم لا؟ قاله الحطاب، وظاهر المدونة عدمها، وقيل: فحوى كلام ابن عرفة حلف التهم دون غيره. انتهى.

أو صبغا، بالنصب عطف على قوله: خوف؛ يعني أنهما إذا تنازعا في قدر الصبغ بأن قال الصباغ أمرتني أن أصبغه بقدر من الصبغ عينه، وقال رب الثوب مثلا: أمرتك بأقل منه أو أكثر، فإن الأجير وهو الصباغ يصدق بيمين إن أشبه وإلا صدق رب الثوب إن أشبه، وإن أتيا بما لا يشبه فله أجر مثله، كذا في المدونة. قاله الخرشي. وأما خلافهما في اللون فيشمله قوله الآتي: أو خولف في الصفة، وكذا يأتي نزاعهما في أمره بصبغه. وعلم مما قررت أن قوله: فنوزع فيه، راجع للمسائل الأربع، وهي: إذا ادعى خوف موت فنحر، أو سرقة منحوره، أو قلع ضرس، أو صبغا. قاله غير واحد ثم ذكر ما يطرأ على الإجارة فقال: وفسخت بتلف ما يستوفى منه؛ يعني أن الإجارة تنفسخ بتلف ما تستوفى منه المنفعة، كموت الدابة المعينة وانهدام الدار. لا به؛ يعني أن الإجارة لا تفسخ بتلف ما تستوفى به المنفعة كتلف الغنم المواجر على رعيها، وموت الراكب،

ص: 167

قال التتائي: وفسخت بتلف ما أي كل شيء يستوفى منه المنفعة، كموت دابة معينة، ولا تنفسخ بتلف ما تستوفى به المنفعة على الأصح. انتهى. وقال الخرشي: أشار بهذا إلى قول أهل المذهب: كل عين يستوفى منها المنفعة فبهلاكها لا تنفسخ الإجارة، كموت الدابة المعينة وانهدام الدار، وكل عين تستوفى بها المنفعة فبهلاكها لا تنفسخ الإجارة على الأرجح كموت الشخص المستأجر للعين المعينة، ويقوم وارثه مقامه. انتهى. وقال الشبراخيتي: وفسخت بتلف أي حقيقة أو حكما كالأسر وسكون ألم السن وعفو القصاص ومرض صبي التعلم ومن معه مرضا لا يقدر معه على استيفاء ما استؤجر له، وإنما عبر بالتلف لأن الغالب أن التعذر إنما يكون بسبب التلف. انتهى. وقوله: ما يستوفى منه المنفعة إذا وقع العقد على عينه، وظاهر كلامه أنها تنفسخ بمجرد ذلك ولا يحتاج في ذلك إلى حكم حاكم ولا إلى تراضيهما على ذلك، وما موصولة، والموصول عندهم من صيغ العموم؛ أي بتلف الذي يستوفى منه، لا نكرة بمعنى شيء لأنها نكرة في سياق الإثبات، والنكرة في سياق الإثبات لا عموم فيها لا به أي لا تنفسخ بتلف ما تستوفى به المنفعة. اهـ. وقوله: لا به، اعلم أن في المسألة أربعة أقوال، قال ابن رشد: أحدها: وهو المشهور أن الإجارة لا تنتقض، وإليه ذهب ابن المواز. والثاني: تنتقض بتلفه بسماوي، وهو قول أصبغ وروايته عن ابن القاسم: ويكون له من كرائه بقدر ما سار من الطريق. الثالث: الفرق بين تلفه من قبل الحامل فتنتقض وله من الكراء بقدر ما سار، وبين تلفه بسماوي فلا تنتقض ويأتيه المستأجر بمثله، وهو قول مالك في أول رسم من سماع أصبغ.

الرابع: إن كان تلفه من قبل الحامل انفسخت ولا كراء له، وإن كان من السماء أتاه المستأجر بمثله ولم ينفسخ الكراء، وهو ورهب ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك انتهى باختصار على نقل مصطفى. ثم قال: إذا علمت هذا فإن حملت قول المص: لا به، على إطلاقه كان جاريا على ما شهره ابن رشد، وخالف مذهب ابن القاسم فيها وروايته فيما تلف بسبب حامله، وعلى هذا لا يفسر قول المص: أو عثر بدهن أو طعام لخ، بقولها: لا ضمان ولا كراء، خلافا لجد علي الأجهوري في تفسيره بذلك واستدلاله بكلامها؛ لأن المؤلف جار على غير ومذهبها، وإن قيد المص هنا بغير ما كان بسبب حامله جرى على مذهبها، وصح تفسير جد علي الأجهوري في قوله: أو

ص: 168

عثر بدهن لخ، لكن يبعد هذا إطلاق المص تبعا لغيره، ولم يستثن إلا هذه الأربعة بقوله: إلا صبي تعلم لخ

(1)

). اهـ من البناني. قال: والذي رأيته لابن رشد في البيان أن القول المشهور هو الذي عزاه لابن القاسم في المدونة وروايته، وجلب كلام البيان، وناقش الرهونيُّ البنانيَّ في قوله: إن المشهور عند ابن رشد هو قول ابن القاسم في المدونة وروايته، وقال: ليس في كلام البيان ما يدل على اتحاد المشهور عنده. وقول ابن القاسم وروايته في المدونة لأنه إنما جعل في البيان المشهورَ وقولَ ابن القاسم متحدين فيما إذا سرق المتاع، ولا شك أنهما متحدان في السرقة وما أشبهها، والخلاف بينهما إنما هو فيما تلف من سبب حامله بغير تعد ولا غرور، فعلى مذهب المدونة لا ضمان ولا كراء فينفسخ العقد، وقال ابن المواز: لا تنقض الإجارة، وللأجير جميع الكراء وعليه حمل مثله من موضع هلك فيه، وأما في السرقة ونحوها من غير فعل الأجير فلا ينتقض الكراء على مذهب المدونة وابن المواز الذي هو المشهور عند ابن رشد، وجلب المنقول في ذلك. والله تعالى أعلم. واستثنى المص من قوله: لا به، أربعة أمور أحدها قوله:

إلا صبي تعلم؛ يعني أن الإجارة لا تفسخ بتلف ما تستوفى به المنفعة كما عرفت إلا في هذه المسائل، وهي أن يستأجر معلما لصبي، ويموت الصبي فإن الصبي هو الذي تستوفى به المنفعة من العلم فتنفسخ الإجارة لأجل موت ذلك الصبي، نص على ذلك ابن ميسر، وقوله: إلا صبي، وكذلك البالغ وقوله: تعلم، لأي صنعة. قاله غير واحد. ثانيها قوله: أو رضع؛ يعني أنه إذا استؤجرت امرأة لإرضاع صبي فمات ذلك الصبي فإن الإجارة تنفسخ بموت ذلك الصبي قبل تمام مدة الإجارة أو قبل الشروع فيها. ثالثها قوله: وفرس نزو؛ يعني أنه إذا استأجر فحلا من الخيل لنزو زمانا أو مرات فماتت الفرس الأنثى التي استؤجر الذكر للنزو عليها فإن الإجارة تنفسخ، وأما موت ذكر النزو فداخل في قوله: وفسخت بتلف ما يستوفى منه، وقوله: وفرس، وكذا غيرها من الدواب، فلو قال: ودابة، كان أشمل. قاله الشبراخيتي. وروض؛ يعني أنه إذا استأجر من يروض له فرسا فماتت الفرس فإن الإجارة تنفسخ. قال التتائي: واقتصر على هذه الأربعة وإن

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من البنانى ج 7 ص 32.

ص: 169

شاركها غيرها في هذا الحكم؛ لأن هذه الأربعة لا تصح الإجارة عليها إلا معينة، وأما غيرها فليس كذلك لكنه إذا عين شاركها، فمن ذلك ما قاله المازري: ألحق أهل المذهب حصد زرع بعينه وحرث أرض بعينها ليس لربهما غيرهما وبناء حائط بدار فيمنع من ذلك مانع، قال: وزاد الشيوخ ثوبا يدفع لخياط أو غزلا لحائك للبس لا للتجارة وليس لربه غيره وما زاده الباجي: موت عليل قبل برئه شرط على طبيب مداواته وزاد آخر تلف جوهرة نفيسة قبل الصنعة فيها قال المص كغيره: والعلة في الكل تعذر الخلف غالبا. انتهى. وفيه بالنسبة للمتعلم والرضيع مخالفة لقول المص: إن لم توصف، وذكر في التوضيح ما يفيد أن المشهور في هذه كلها عدم الفسخ، ويستثنى من كلام التوضيح حصد الزرع فإنه ذكر ابن عرفة أن العرف بتونس الفسخ في هذا، وحينئذ ففيه قولان، وقد تقرر أن ما به العمل مقدم على المشهور. اهـ. قاله الشبراخيتي. وقال الخرشي: وظاهر قوله: تعلم، أنه فيمن يعقل وهو كذلك، وأما غيره فإنما يكون حكمه كذلك في شيء خاص كما أشار إليه بقوله: وروض. انتهى. وقوله: وفرس نزو، قد علمت أن موت الحصان بالكسر وهو خاص بالذكر داخل في بتلف ما يستوفى منه، وقال عبد الباقي: وفرس روض؛ أي رياضة أي تعليمها حسن السير فماتت أو انكسرت فتنفسخ الإجارة وله بحساب ما عمل. انتهى المراد منه.

تنبيه: قال عبد الباقي عقب قوله: وله بحساب ما عمل ما نصه: عند ابن أبي زيد كسحنون، وقال ابن عرفة: له جميع الأجر لأن المانع ليس من جهته. انتهى. قال الإمام الرهوني: قول الزرقاني: وله بحساب ما عمل عند ابن أبي زيد غير صحيح؛ إذ لم يذكر ابن عرفة ولا غيره في هذه المسائل المستثناة في كلام المص إلا قولين، أحدهما: ما اقتصر عليه المص من الفسخ فله بحساب ما مضى فقط وهو المشهور، والشاذ هو عدم الفسخ، ويلزم المستأجر أن يأتي بآخر أو يدفع جميع الأجرة، ولم يعز ذلك لابن أبي زيد وسحنون، وخلاف سحنون وابن أبي زيد مع غير ابن عرفة وهو في غير هذه المسائل المسثتناة في المص، قال الحطاب: قال في مسائل الإجارة من البرزلي: سئل ابن أبي زيد إذا أصاب الأجير في البناء مطر في بعض اليوم منعه من البناء في بعض اليوم؟ قال: فله بحساب ما مضى ويفسخ في بقية اليوم، ومثله لسحنون، ولغيره يكون له

ص: 170

جميع الأجرة لأن المنع لم يأت من قبله. انتهى. ابن عرفة: ولا يدخل هذا الخلاف في نوازل وقتنا بتونس لأن العرف تقرر عندهم بفسخ الإجارة بكثرة المطر ونزول الخوف. انتهى. ومن المانع الاستحقاق، وقال عبد الباقي بعد أن ذكر المسائل الملحقة بالمسائل التي استثناها المص ما نصه: وظاهر المص عدم اعتبار ذلك، وكذا في التوضيح ما يفيد أن المشهور خلاف ذلك. اهـ. قال البناني: الذي في التوضيح أن الأصح عند ابن شأس عدم الفسخ بتلف ثوب الخياطة ونحوه، وكذا قال عبد الوهاب: الظاهر من مذهب أصحابنا أن محل استيفاء المنافع لا يتعين في الإجارة وأنه إن عين فذلك كالموصوف، ثم قال في التوضيح بعد هذا: وفي المقدمات المشهور انفساخ الإجارة إذا تلف ثوب الخياطة، ومراده إذا كان للباس. انتهى. وقال الرهوني: قال أبو الوليد الباجي في منتقاه: محل استيفاء المنافع ينقسم على ثلاثة أضرب، الأول: ضرب لا يختلف بالجنس ولا تختلف أعيانه، كحمل القمح وحمل الشعير وحمل الشقة، فهذا لا فائدة في تعيينه لأنه لا خلاف بين حمل قمح وحمل قمح آخر من جنسه في مثل وزنه، ولا تتضرر الدابة بحمل أحدهما إلا بتضررها بحمل الآخر، فلا يتعين بالعقد عليه. والضرب الثاني ضرب تختلف أعيانه بتباين، كالعليل يستأجر الطبيب على علاجه، والرضيع تستأجر الظئر على رضاعه، والمعلم يستأجر على تعليم الصبي، ورياضة الدابة، وما جرى مجرى ذلك، فإن هذا يتعين بالعقد، ولا يجوز العقد فيه على مضمون في الذمة، لاختلاف الناس وتفاوتهم في أمراضهم، واختلاف الأطفال في كثرة الرضاع وقلته، وكذا من يُعلِّمُ القرآن والصنائع يتفاوتون في التعليم لاختلافهم في الذكاء وقبول التعليم. والضرب الثالث تختلف أعيانه اختلافا يسيرا كالغنم والماشية يستأجر عليها من يرعاها ويحفظها، فيختلف الجنس من الماشية في سكونه وأنسه، وليس بكثير اختلاف، ففي مثل هذا الجمهور من أصحابنا على أنها لا تتعين بالعقد لتقارب الجنس منها. اهـ. وعبارة ابن الحاجب: تنفسخ الإجارة بتلف العين المستأجرة كموت الدابة المعينة وانهدام الدار، وأما محل المنفعة فإن كان مما يلزم تعيينه كالرضيع والمتعلم فكذلك وإلا لم تنفسخ على الأصح. كثوب الخياطة.

ص: 171

وسن لقلع فسكنت؛ يعني أنه إذا استأجره على أن يقلع له سنا مألومة فسكنت أي سكن ألمها قبل القلع فإن الإجارة تنفسخ، وقوله: وسن، عطف على صبي وهو مجرور لأنه بدل من قوله: لا به، هو وما بعده والله تعالى أعلم. وقوله: لقلع، اللام للتعليل فيفيد أن المستأجر عليه قلعها لا هي إذ لا معنى لذلك، وقوله: فسكنت، قال عبد الباقي: ووافقه الآخر على ذلك وإلا لم يصدق إلا لقرينة كنومه وهو كان يسهر، والأظهر أن يمينه تجري على أيمان التهم. قاله ابن عرفة. انتهى. وهذا التقييد استظهارٌ لابن عرفة. قال الشيخ أبو علي: وابنُ شأس وابن الحاجب والمص في توضيحه لم يذكروا شيئا مما قيد به ابن عرفة مع كلامهم على المسألة. انتهى. قاله الرهوني. كعفو القصاص؛ يعني أنه إذا استأجره على أن يستوفي له قصاصًا ثبت له على شخص ثم إن غير المستأجر ممن له الاستيفاء والعفو عفا عن الجاني فإن الإجارة تنفسخ، وأما لو كان العافي هو المستأجِرَ فتلزمه الأجرة، فإن عفا كل فالظاهر أنه كعفو المستأجر وحده. قاله عبد الباقي. وقال ما نصه. فرع: من استأجر شخصا على أن يكويه ثم قال: الإجارة على الكي حرام فهي باطلة فإنه لا يلتفت لقوله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كوى [أسعد

(1)

] بن زرارة واكتوى ابن عمر، ثم إن ذكر عدد الكي وآلته لزمته الأجرة المسماة لصحة الإجارة وإلا لزِمَه أجرة المثل لفسادها. قاله ابن غازي. انتهى.

قال مقيده عفا الله عنه: كلامه كالصريح في أن هذا بعد الكي، وأما قبله فتفسخ الإجارة لفسادها. والله سبحانه أعلم. قال عبد الباقي: وسبب وهم المستأجر الحرمة أن فيه تعذيبا بالنار (ولا يعذب بها إلا خالقها كما روي

(2)

) ولم يلتفت لقوله لأن النهي عنه مقيد بما إذا كان لغير علة. اهـ. وقال: وعدل عن العطف إلى التشبيه لأن السن مما تستوفى به المنفعة، والعفو عن القصاص ليس من ذلك بل هو مانع. انتهى. وفي المواق عن ابن شأس: تنفسخ الإجارة بمنع استيفاء المنفعة شرعا كسكون ألم السن المستأجر على قلعها وعفو القصاص. اهـ.

(1)

في سنن الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى اسعد بن زرارة من الشوكة، كتاب الطب، رقم الحديث 2050

(2)

صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، رقم الحديث 3016.

ص: 172

وبغصب الدار يعني أنه إذا غصب رقبة الدار المستأجرة من لا تناله الأحكام فإن الإجارة تنفسخ. وغصب منفعتها؛ يعني أن الإجارة تنفسخ بغصب منفعة الدار المستأجرة ممن لا تناله الأحكام سلطانا أو غيره كما في التي قبلها، وسواء كان الغصب في المسألتين قبل تسليم المكتَرَى أم لا، والفسخ في هذين حق للمستأجر، فله البقاء على إجارته ويصير بمنزلة المالك، فيجري فيه قوله "وإن زرع فاستحقت"، والمستفاد من النقل أنه إذا غصب بعض المنفعة يكون بمنزلة استحقاق بعضها، فيفصل فيه بين أن يكون قليلا أو كثيرا. قاله غير واحد. وفي المواق عن الواضحة: من اكترى دارا سنة أو شهرا فقبضها ثم غصبها السلطان فمصيبة ذلك على ربها ولا كراء له فيما بقي. قاله مالك. ابن حبيب: وسواء غصبوا الدور من أصلها أوأخرجوا منها أهلها وسكنوها لا يريدون إلا السكنى حتى يرتحلوا. انتهى.

وأمر السلطان بإغلاق الحوانيت؛ يعني أن إجارة الحوانيت تنفسخ إذا أمر السلطان بإغلاق الحوانيت ولم يتمكن المكتري من المنفعة وهو المشهور، والمراد بالسلطان هنا ذو القهر. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وفسخت إجارة حانوت بسبب أمر السلطان ومن لا تناله الأحكام بإغلاق الحوانيت، وتلزمه الأجرة إن لم يقصد غصب ذاتها كما هو المتبادر من قوله: إغلاق دون أخذ، وإذا قدر المغصوب منه على خلاص ما غصب منه بمال ولم يفعل فالظاهر أنه لا تفسخ الإجارة بمنزلة ما إذا كان الغاصب تناله الأحكام.

وحمل ظئر؛ يعني أن الإجارة تنفسخ بحمل الظئر، قال عبد الباقي: وتحقق بذلك ضرر الرضيع أو خيف موته، وما تقدم من قوله: كأهل الطفل إذا حملت أي أنهم يخيرون في الفسخ حيث انتفيا فلا تعارض، أو أنه هناك فيما إذا حملت بعد العقد كما يشعر به لفظه، وهنا حملت قبله، فظهر بعد العقد، والفسخ هنا حق لله فيجب ولو تراضَى العاقدان على بقائه. انتهى. قال البناني: قول الزرقاني: أو أنه فيما إذا حملت بعد العقد كما يشعر به لفظه، وهنا حملت قبله فظهر بعد العقد الفسخ هنا لحق الله فيجبر ولو تراضي العاقدان على بقائه. اهـ. قال البناني:

ص: 173

قول الزرقاني: أو أنه

(1)

فيما إذا حملت بعد العقد لخ، ما جمع به أولا بين المحلين صواب وأصله لأبي الحسن، وأما الجمع الثاني بأن ما هنا إذا حملت بعد العقد لخ، فقال ابن عاشر: إنه يحتاج إلى نقل يساعده وهو لا يجده. انتهى. وقال مصطفى: لا مستند له فيه، وهو غير ظاهر لأن الدار على إرضاع الحامل، ولا فرق بين المسألتين حتى يقال: يجب الفسخ في إحداهما دون الأخرى، وقد سوى ابن ناجي بينهما. اهـ.

أو مرض لا تقدر معه على رضاع؛ يعني أن الإجارة تنفسخ بسبب مرضها مرضا لا تقدر معه على إرضاع الصبي الذي استؤجرت لرضاعه، ولها من الأجر بقدر ما أرضعت، ولو صحت في بقية من المدة أجبرت على الإرضاع بقيتها إلا أن يكونا تفاسخا، ومفهوم قوله: لا تقدر معه على رضاع، أنها إن قدرت معه على الرضاع لم تنفسخ إلا أن يضرَّ به، ففي المفهوم تفصيل. قاله عبد الباقي. ومرض عبد؛ يعني أنه إذا استأجر عبدا فمرض فإن الإجارة تنفسخ، وقوله: ومرض عبد بحيث لا يقدر على فعل ما استؤجر عليه. وهربه لكالعدو؛ يعني أنه إذا واجر عبدًا فهرب العبد لبلاد العدو بأرض الحرب أو ما نزل منزلة ذلك كقطر بعيد في الإسلام فإن الإجارة تنفسخ، فإن هرب لقريب لم تفسخ وتسقط أجرة مدة هروبه.

إلا أن يرجع في بقيته، الاستثناء راجع لقوله: وبغصب الدار، وما بعده يعني أن الشيء المستأجر من مغصوب ومريض وغيرهما مما مر إذا رجع إلى حالته التي كان عليها بأن زال الغصب وصح المريض وأسقطت الظئر وعاد العبد من هروبه في بقية مدة الكراء فإنه يلزم إتمام المدة المذكورة، فيرجع لاستيفاء المنافع منه إلى أن تنقضي مدة الإجارة. والله سبحانه أعلم. ثم إنه لا يلزم من الرجوع في بقية مدة الكراء وصحة الإجارة أنَّ له جميع المسمى، بل يسقط منه بقدر ما عطل، كما تقدم نظيره في قوله: كأجير لخدمة آجر نفسه، ولا يجوز أن يتفقا على قضاء مدة الهروب بعد انقضاء مدة الإجارة إن كان نقد الأجرة لما فيه من فسخ دين في منافع يتأخر قبضها، وأما إن كان لم ينقدها فيجوز لفقد العلة المذكورة، قال ابن رشد: من استأجر أجيرا لشهر بعينه فمرضه أو

(1)

في البناني ج 7 ص 34: وأنه هناك فيما لخ.

ص: 174

مرض بعضه أو راغَ فيه لا يلزمه أن يقضيه في يوم آخر، بل لا يجوز وإن رضيا به إذا كان قد نقد إلا فيما قل لأنه فسخ دين في دين قاله البناني، وفي الخرشي: أن قوله: إلا أن يرجع، راجع لجميع المسائل أي لقوله: وبغصب الدار وما بعده إلى هنا، وما ذكره المؤلف من أنه إذا حصل الرجوع المذكور لا تنفسخ يدل على أن المراد بالفسخ عدم لزوم الإجارة. انتهى. وفي الشبراخيتي: أن قوله: إلا أن يرجع، راجع لجميع المسائل؛ أي إلا أن يرجع الشيء المستأجر على حالته التي كان عليها قبل المانع، وقوله: في بقيته أي زمن الإجارة. اهـ. وقد مر أنه إذا نقد الأجرة لا يجوز أن يتفقا على قضاء مدة الهروب مثلا لأنه فسخ دين في دين، ومحل ذلك ما لم يقبض المستأجر الأجرة التي نقدها في مدة الهروب مثلا. والله سبحانه أعلم. وفي المواق: من المدونة قال ابن القاسم: من واجر عبده ثم هرب السيد إلى بلد الحرب فالإجارة بحالها لا تنتقض، وأما إن هرب العبد لبلد الحرب فإن الإجارة تنفسخ بينهما إلا أن يرجع العبد في بقية من المدة فيلزمه تمامها. قال مالك: وكذلك لو مرض العبد المستأجر فرضا بينا انفسخت الإجارة بينهما إلا أن يصح العبد قبل تمام المدة فيلزمه تمامها، وقال غيره: إلا أن يكونا تفاسخا أو فسخ ذلك بينهما قبل ذلك فلا يلزمه تمامها. ابن يونس: وكذا الدار ينهدم بعضها ثم يصلحها ربها قبل الفسخ وقد بقي بعض المدة يلزمه تمامها، وأما لو انهدم جميعها ثم بناها فلا يلزم المكتري سكنى بقية المدة. انتهى. قوله: إلا أن يكونا تفاسخا قبل ذلك، قال أبو الحسن: قوله: انفسخت الإجارة، ظاهره بحكم وعليه فقول الغير خلاف وعليه حمله ابن يونس، ويحتمل الوفاق وأنه لم يفسخ أولا بحكم. انتهى. وقد مر الكلام على ما يستحقه الأجير من معلم وراع وغيرهما إذا فعل بعض ما استؤجر عليه ولم يفعل البعض الآخر لعذر أو لغير عذر، فراجعه إن شئت.

بخلاف مرض دابة بسفر ثم تصح؛ يعني أنه إذا استأجر دابة أو عبدا ثم إنه مرضت الدابة في السفر أو العبد فيه فإن الكراء ينفسخ، ثم إن صحَّا في بقية من زمن الإجارة لا يرجعان للإجارة بخلاف الحضر، كما مر في قوله: ومرض عبد لخ، قال عبد الباقي: بخلاف مرض دابة بسفر ثم تصحَّ بالنصب عطف على مصدر وهو مرض، فلا ترجع للإجارة بعد الفسخ لما يلحقه من الضرر بالصبر في السفر، ومثلها مرض عبد بسفر ثم يصح، وما تقدم في مرض عبد من الرجوع في بقيته

ص: 175

حيث صح فهو في مرضه بالحضر، ومثله مرض الدابة في الحضر، وإنما اختلف جواب الإمام فيهما باختلاف السؤال، فعلم أن مرض دابة وعبد بحضر وهربه لكالعدوِّ يفسخ إلا أن يرجع في بقيته، بخلاف مرض كل بسفر ثم يصح فلا تعود الإجارة بعد الفسخ لسرعة التغير في السفر. انتهى. ونحوه لغير واحد، وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: وإذا اعتلت الدابة المكتراة في الطريق يريد وهي بعينها فسخ الكراء، وإن صحت بعد ذلك لم يلزمه كراؤها بقية الطريق، بخلاف العبد للضرورة في صبر المسافر عليها وهي إن صحت بعده لم تلحقه وإن لحقته فلعله قد اكترى غيرها. ابن يونس: يريد وكذلك لو كان كراؤه للعبد في السفر لأنه يلحقه فيه من الضرورة ما يلحقه في الدابة، وإنما اختلفا لأن مسألة العبد في الحضر. قاله بعض فقهائنا. انتهى. وخير إن تبين أنه سارق؛ يعني أنه إذا استأجر أجيرا لخدمة مثلا فوجده سارقا فإن المستأجر يخير في فسخ الإجارة، قال عبد الباقي: وخير المستأجر في فسخ الإجارة إن تبين أنه أي المستأجَر لخدمة بداره أو حانوته سارق مما لا يمكن التحفظ منه فيه لأن السرقة عيب يوجب الخيار في الإجارة كالبيع، وأما لو آجره دارا ليسكنها ونحو ذلك فلا تفسخ الإجارة بتبين أنه سارق كما قدمه في المساقاة بقوله: وإن ساقيته أو أكريته فألفيته سارقا لم تنفسخ وليتحفظ منه وكما يأتي في قوله أو فسق مستأجر لخ، ونحوه لغير واحد.

تنبيهات: الأول: قال الخرشي عند قوله أو مرض لا تقدر معه على رضاع: ينبغي أن مرض الولد بحيث لا يقدر على الرضاع كذلك أي يكون سببا للفسخ. الثاني: لا يمنع المؤجر من وطء أمته المؤجرة، وإذا بيعت الدار المؤجرة من المستأجر صح البيع ولم تنفسخ الإجارة ويستوْفي المبتاعُ المنفعةَ بحكم الإجارة ولو باعها لغيره صح أيضا واستمرت الإجارة إلى آخر المدة. انتهى من المبسوط. نقله الخرشي. الثالث: قال المواق: من المدونة: لو تروَّغ العبد المستأجر حتى تمت المدة انفسخت الإجارة وإن عمل شيئا فله بحسابه، وهذا في شهر أو سنة معينة، وإنما الذي يلزمه عمله بعد ذلك مثل أن يقول له: اطحن في هذا الشهر كل يوم ويبة، فهذا لا يضره ذكر الوقت، ويلزمه العمل بعد ذلك، وليس هذا بواقع على وقت ولكن على عمل مسمى، وكمن قال للسقاء:

ص: 176

اسكب لي في هذا الشهر ثلاثين قلة فتروغ فيه فذلك باق عليه. الرابع: وجود جيران الدار سراقا أو وجودها مجاورة للقاضي ليس بعيب خلافا لأبي مهدي شيخ ابن ناجي. قاله الخرشي.

وبرشد صغير عقد عليه أو سلعه ولي، عطف على ما فيه التخيير؛ يعني أنه إذا عقد ولي الصغير أبا أو وصيا أو مُقاما على نفس الصغير الإجارة أو على سلعه كعبد أو دابة أو دار فبلغ الصبي رشيدا وقد بقي من مدة الإجارة شيء فإنه يخير في فسخ الإجارة عن نفسه وسلعه بسبب رشده لا بالبلوغ فقط، فقولُ عبدِ الباقي: وخير برشد صغير وبلوغه عقد عليه نفسِه راجع للمعطوف المحذوف هو والعاطف كما قررته؛ لأنه فيما إذا عقد عليه المعتبر بلوغه فقط، فإذا بلغ ولو سفيها خير في الفسخ عن نفسه وفي عدمه على المعتمد، فيه نظرٌ لأنه إنما يخير في العقد على نفسه أو سلعه برشده. إلا لظن عدم بلوغه؛ يعني أن محل التخيير المذكور إنما هو حيث كان الولي يظن بلوغ الصبي في مدة الإجارة أو لم يظن شيئا، وأما إن ظن عدم بلوغه في المدة فإنه لا خيار له في الفسخ حيث عقد على سلعه بل يلزمه إتمام الإجارة لأنه دخلها على وجه جائز، وأما في العقد على نفسه فلا خيار له أيضا حيث لم يبق من المدة إلا يسير كالشهر ويسير الأيام، ولذا قال:

والحال أنه بقي من مدة الإجارة كالشهر، ويسير الأيام، والحاصل أن العقد على نفس الصغير أو سلعه الحاصل من الولي يخير الموَلَّى عليه حيث بلغ رشيدا أثناء المدة في فسخه وعدمه بقي من المدة كثيرٌ أو قليل، هذا إذا كان الولي يظن بلوغه في أثناء المدة أو لم يظن شيئا، وأما إن ظن عدم بلوغه في أثناء المدة فلا خيار له في الفسخ حيث كان العقد على سلعه بقي من المدة كثيرٌ أو قليل، وأما إن كان العقد على نفسه فإن بقي من المدة كالشهر ويسير الأيام فلا خيار له، وإن بقي أكثر من ذلك فله الخيار، وهذا هو تحرير المسألة. والله سبحانه وتعلى أعلم. وفي بعض النسخ: كرشد صغير تشبيه في الخيار، ولفظ المدونة صريح في الخيار، ونصها: ومن واجر يتيما في حجره ثلاث سنين فاحتلم بعد سنة ولم يظن ذلك به فلا يلزمه باقي المدة إلا أن يبقى كالشهر ويسير الأيام. انتهى. فقوله: فلا يلزمه، صريح في التخيير، وإذا تأملت ظهر لك أن هذا مراد من عبر بالفسخ كابن الحاجب، واعلم أن المدونة وإن اقتصرت على البلوغ لكن قيد ابن القاسم ويحيى بن عمر المسألة بأن يبلغ رشيدًا، قال عياض: ولا يختلف فيه نقله في التوضيح، ولهذا اعتمد الرشد في

ص: 177

الجميع هنا. واعلم أن الاستثناء راجع للمسألتين، وإنما المختص بالأولى عند ابن القاسم هو قوله: وبقي كالشهر، خلافا لأشهب وبالجملة فلا درك على المص إلا في قوله: وبقي كالشهر، فإن ظاهره أنه يرجع للمسألتين وهو قول أشهب، والمعتمد قول ابن القاسم بأنه في الأولى فقط. والله سبحانه أعلم. قاله البناني. وشبه بحكم المستثنى قوله:

كسفيه ثلاث سنين؛ يعني أن الولي إذا عقد على سلع سفيه ثلاث سنين ثم رشد ولو في أول يوم منها فإنه يلزمه إتمام عقد الإجارة؛ لأن الولي فعل ما يجوز له. وفي المواق عن المدونة: وأما سفيه واجر عليه ولي أو سلطان ربعه ورقيقه سنتين ثم انتقل إلى حال الرشد فذلك يلزمه لأن الولي عقد يومئذ ما يجوز له. انتهى. وفي الخرشي: ولا مفهوم لثلاث سنين وإنما المراد مدة يرشد في أثناءها. انتهى. وقال عبد الباقي: وأما عقد الولي الإجارة على نفس السفيه فإن كان لعيشه فكذلك أي يلزم وإن كان لغيره فله الفسخ لأن الولي إنما يتسلط على ماله لا على ذاته، وحينئذ فلو آجر السفيه نفسه فلا كلام لوليه إلا أن يحابي، وكذلك لا كلام له إن رشد لأن تصرفه في ذلك لا حجر عليه، فيه فهو كتصرف الرشيد وقد قالوا: إذا بلغ الولد ذهب حيث شاءو إنما النزاع هل بماله أم لا؟ انظر أبا الحسن، وظاهر المص أنه لا يعتبر في السفيه ظن عدم رشده ولا ظن رشده حال العقد على سلعه أو على نفسه لعيشه بخلاف الصغير؛ لأن بلوغه يعلم أمره بخلاف الرشد، وإذا آجر الولي نفسَ السفيه فإن كان لأجل أن لا يضيع فليس له إذا رشد فسخ العقد، وإن كان لغير ذلك فهو مفسوخ إذ هو الأصل فيما لا يجوز. انتهى.

وبموت مستحق وقف آجر ومات قبل تقضيها؛ يعني أن الشخص إذا وقف على أولاده مثلا طبقة بعد طبقة أو على زيد وبعده على عمرو فآجرت الطبقة الأولى أو آجر زيد ثم مات المؤجر وانتقل الحق لمن بعده فإن الإجارة تنفسخ ولمن انتقل إليه الإجارة، فقوله: وقف على معينين، وقوله: قبل تقضيها أي المدة، وظاهره ولو كانت المدة الباقية يسيرة لأنه حق للغير، وقوله: وبموت مستحق وقف ولو كان المستحق ناظرا، ولا يخالف كلام التتائي من أنها لا تنفسخ بموت الناظر لأن كلامه في ناظر غير مستحق، فإن قلت: لمَ لمْ يكن لوارث المالك إذا مات قبل انقضاء المدة الفسخ وكان ذلك لمن ذكر؟ قلت: المالك له التصرف في تلك المنفعة أبدا، ومستحق الوقف

ص: 178

إنما له التصرف فيها مدة حياته، قوله: وبموت مستحق وقف، وإذا قلنا بالفسخ بذلك فينبغي أن يرجع المستأجر في تركة الميت بما بقي له من الكراء في نظير تلك المدة التي انفسخ التواجر فيها إن كان قد عجل له الأجرة؛ لأنه دفع البلغ ليتم له غرضه فلم يتم فيرجع، فتأمله. انتهى. قال مقيده عفا الله عنه: ما كان ينبغي له أن يجعل هذا في مرتبة ينبغي، والله تعالى أعلم. وقوله: وبموت مستحق وقف، أما العمَر فلا يؤجر إلا ما قرب، وأما الخدم فيؤجر ما شاء إلى أن تنقضي المدة، قال فيها: وإن أعمرك رجل حياتك عبده لم تواجره إلا لمدة قريبة كسنة أو سنتين أو أمدا مأمونا، ولو أوصى لك بخدمته عشر سنين فأكريته فيها جاز، وهذا خلاف المخدم حياته لأنه إذا مات المخدم سقطت الخدمة، والمؤجل بزمن يلزمه لورثة الميت. قاله الخرشي، ونحوه في المواق. وقوله:

على الأصح قال ابن شأس: إذا مات البطن الأول من ذوي الوقف بعد الإجارة قبل تمام مدتها انفسخت الإجارة في باقي المدة لتناولها ما لا حق للمستأجر فيه، وقيل: إن أكرى مدة يجوز الكراء إليها لزم باقيها. ابن عرفة: لا أعرف هذا القول الثاني لغير ابن شأس. انتهى. نقله المواق، وقوله: على الأصح، عند ابن راشد وغيره. قاله التتائي. لا بإقرار المالك، عطف على بتلف؛ يعني أن المؤجر لعبد أو دابة أو دار إذا قال: هذا الشيء المؤجر لغيري فإن الإجارة لا تنفسخ بذلك لأنه يتهم على نقضها، وسماه المؤلف مالكا باعتبار الحكم، قال عبد الباقي: لا تنفسخ الإجارة بإقرار المالك لذات أو منفعة بأنه باع ما أكراه أو وهبه أو آجره لآخر قبل الإجارة إذا أنكر المكتري ولا بينة لاتهامه على قصد فسخ الكراء، وسماه مالكا مع دعواه البيع باعتبار الحكم، فإن أقر بفور الكراء خير المقر له بالبيع بين أربعة أشياء: فسخ البيع الذي أقرَّ به المؤجر إن كان الثمن أكثر من القيمة، وأخذها يوم البيع إن كانت أكثر؛ لأنه حال بينه وبين المبيع، وأخذ ما أكريت به أو قيمة الكراء إن كان أكثر، فإن كان إقراره بعد انقضاء مدة الكراء كان له الأكثر من كراء المثل وما اكتريت به. قاله اللخمي. وهو معتمد. وهو كلام على ما يترتب على عدم الفسخ كما ترى، وللموهوب فيما إذا أقر أنه وهبه الأكثر من المسمى وكراء المثل على المقر أو أخذ قيمةِ الموهوب لأنه حال بينه وبينه. انتهى. قال عبد الباقي عقب هذا: فإن أعدم فعلى

ص: 179

المكتري، كذا ينبغي. انتهى. قال البناني: فيه نظر؛ إذ كيف يغرم المكتري بمجرد إقرار المالك مع كونه يكذبه فيه ويتهمه؟ ولو صدقنا المالك في إقراره لفسخ الكراء من أصله، فكيف يجب الغرم على المكتري بسببه؟ انتهى. وقال الشبراخيتي: وشمل قوله: المالك مالك الذات ومالك المنفعة وللمقر له في هذه الحالة الأكثر من كراء المثل وما أكريت به. انتهى. وقوله: لا بإقرار المالك، يشمل ما إذا أقر أنه غصبه فأكراه. والله تعالى أعلم.

أو خلف رب الدابة في غير معين وحج، عطف على بإقرار، وخلف بمعنى تخلف؛ يعني أن الإجارة لا تنفسخ إذا تخلف المكري عن الإتيان بالدابة في الزمن الذي وعد المكتري أن يأتي له بها فيه حيث العقد على زمن غير معين وغير حج، فالحج من غير المعين لكنهم ألحقوه بالمعين، وإذا وقع العقد على زمن غير معين في غير حج ووعد المكري المكتريَ أن يأتيه بالدابة غدا فلم يأته بها إلا بعده فإن الإجارة لا تنفسخ حيث لم يفت مقصد المكتري، بل وإن فات مقصده من تشييع مسافر أو ملاقاته، والمراد مقصوده في نفس الأمر فلا ينافي أنه غير معين حين العقد، وأما إن اكتراها في معين أو حج فلم يأت بها إلى أن تقضى ذلك الزمن المعين أو فات الحج فإن الكراء يفسخ لأن أيام الحج كالمعينة، وليس للمكتري الرضا مع المكري بالتمادي على الإجارة إذا نقد الكراء للزوم فسخ الدين في الدين فإن لم ينقد جاز، هذا في غير الحج، وأما في الحج فقال ابن القاسم: يخير المكتري في البقاء لقابل بخلاف الأيام المعينة لا بد من الفسخ. قاله المواق. وقال غير واحد: والمراد بالزمن المعين أن لا يجمع معه العمل فإن جمع بينهما فالعبرة بالعمل أي فيكون الزمن غير معين كأن يقول: أكتري منك دابتك أركب عليها في هذا اليوم أو تسكب لي مائة قلة في هذا الشهر ونحو ذلك، فالعبرة بالركوب والخياطة والطحن والخدمة والسكب والبناء والحرث، ولا عبرة بخصوص الزمن، وأما الحج فهو غير معين لكنه ألحق به أي فحقيقته. غير معينة لأنها كما توجد في هذا العام توجد في العام الثاني وإن كانت أياما معينة. قاله الخرشي. وما ذكرته عن غير واحد أنه إن جمع بين الزمن والعمل فالعبرة بالعمل فلا تنفسخ الإجارة بفوات الزمن في غير الحج لا بد فيه من قيد، فيقال: إن قصد زمن معين فالعمل تبع، وإن قصد عمل معين فالزمن تبع، فيفسخ العقد في الأول بفوات الزمن لأنه المقصود لا في الثاني لأن المقصود العمل وهو لم يفت

ص: 180

لأنه أعم من زمنه، وقوله: أو خلف رب الدابة معينةً كانت أم لا. قاله البناني. وقال عبد الباقي: أو خلف أي تخلف رب دابة في عقد على زمن غير معين أي إذا اكتراها على أن يأتيه بها يوم كذا أو شهر كذا فإن الكراء لا ينفسخ في عدم إتيانه بها في ذلك اليوم أو الشهر لأن هذا من الأخص لقصد تحصيل أعمه لا لقصد عينه لأنه جعل الكراء لها، وجعل قوله: على أن يأتي بها يوم كذا كالشرط، بخلاف ما إذا اكتراها يوم كذا فلم يأت بها فتفسخ لأنه أوقع الكراء على نفس ذلك اليوم فهو من الأخص لقصد تحصيل عينه كما في ابن عرفة. انتهى. قوله: لأن هذا من الأخص لخ، في المدونة قال ابن القاسم: ومن اكترى دابة بعينها إلى بلد ليركبها في غده فأخلفه المكري فليس له إلا ركوبه، وإن اكتراها أياما معلومة انتقض الكراء فيما غاب منها. انتهى. ابن عرفة: فقوله في المسألة الأولى: ليركبها في غده، هو من اعتبار الأخص؛ أي الغد لقصد تحصيل أعمه أي الركوب، وحكم هذا أن فوت الأخص لا يبطل العقد؛ لأن المقصود الأعمَّ باق، وقوله في الثانية: اكتراها أياما معلومة، هو من اعتبار الأخص لقصد عينه، وحكم هذا انفساخ عقده بفوت الأخص لأنه بفوت الأخص لا يبقى للعقد متعلَّقٌ لانحصار القصد في الأخص وقد فات. انتهى. ثم جعل من هذين القسمين ما في سماع عيسى: من واجر أجيرا مدة معينة شهرا أو يوما لخياطة أو بناء أو غيره فراغ عنه حتى زال الأجل انفسخت الإجارة فيما عطل وإن عمل شيئا فبحسابه، وإنما الذي يلزمه عمله بعد المدة مثل أن يقول: اعجن لي في هذا اليوم ويبة أو اطحن لي في هذا الشهر كل يوم ويبة فإن هذا وإن كان شهرا بعينه أو يوما بعينه إذا راغ في ذلك ثم جاء لزمه عمل الذي سمى لأن هذا إنما وقع على عمل مسمى. ابن عرفة: فقول ابن القاسم في الأولى من سماع عيسى هو من اعتبار الأخص لعينه كالثانية في المدونة، وقوله في الثانية من السماع هو من اعتبار الأخص لتحصيل أعمه كالأولى في المدونة، وتعقب ابن رشد الثانية من السماع بأنها على خلاف المشهور في المذهب من منع مدتين في مدة أي اجتماع الزمن والعمل، قال ابن عرفة: وفي تعقبه نظر لأن منع مدتين في مدة إنما هو فيما اعتبر فيه الزمن الأخص لعينه لا فيما اعتبر فيه لأعمه، ولذا والله أعلم لم يتعقبه أبو محمد ولا ابن يونس. انتهى باختصار وتقديم وتأخير. قاله البناني.

ص: 181

تنبيهات: الأول: قال الإمام الحطاب عند قوله: أو خلف رب دابة في غير معين ما نصه: وله أن يرفع الأمر إلى الحاكم فينظر في ذلك، فإن رأى أن في الصبر ضررا فسخ الكراء وإن لم يضر لم يفسخ، نقله ابن عرفة عن اللخمي. الثاني: لو غاب مكري

(1)

كراء مضمونا ووجد له مثله لم يستحقه مكتريه إلا بالحكم وإن لم يوجد وله ما يكرى به عليه أكرى عليه الحاكم منه، وإن لم يكن له شيء وطَاعَ المكتري بسلفه جاز إن علم له مال، وإن لم يعلم ففي صحة سلفه لذلك قولا ابنِ القاسم ومحمد، ورجح اللخمي الأول. انظر الحطاب. وقال المواق: من المدونة قال مالك: وإن اكتريت من رجل إبله إلى بلد فهرب بها والكراءُ إلى مكة أو غيرها تكارى عليه الإمام ورجعت عليه بما اكتريت به. ابن المواز: إنما يكري عليه إذا كان له مال معروف. الثالث: لو اشترى شاة لذبح يوم النحر فلم يأت بها حتى مضت أيام النحر لا ينفسخ البيع لأنه اشترى ذاتا هي موجودة بخلاف الحج فإنها منافع تنفسخ بمضيها سواء عَيَّن العام أم لا لأنه يحمل على العام الأول. قاله الخرشي. وقال التتائي: وعورضت مسألة الحج بما في المدونة أيضا: من أسلم في أضحيته فأتِيَ له بها بعد أيام الأضاحي فإنها تلزمه، وفرق بأن الأضحية لا تتعين بالسلف فيها فله التصرف فيها بما شاء، وليس كذلك الكراء. انتهى. أو فسق مستأجر؛ يعني أنه إذا أكرى داره مثلا لشخص فظهر أن المستأجر لكالدار أي المكتري لها فاسق فإن الإجارة لا تفسخ، قال عبد الباقي: أو ظهور فسق مستأجِر لكدار وجيبة ومشاهرة ونقد فلا تنفسخ به وأمر بالكف. وآجر الحاكم إن لم يكف؛ يعني أن المستأجر إذا أمر بالكف ولم يكف عن الفسق فإن الإجارة لا تنفسخ كما عرفت وحينئذ فيؤاجر الحاكم الدار على الفاسق إن لم يكف، فإن تعذر كراؤها أخرج حتى يوجد من يكتريها، فإن لم يجد مكتريا حتى خرج الشهر الذي أكراه لزمه الكراء، وفي الحطاب: قال في المدونة: وإذا ظهر من مكتري الدار دعارة وخلاعة وفسق وشرب خمر لم ينقض الكراء ولكن الإمام يمنعه ويكف أذاه عن الجيران وعن رب الدار، وإن رأى إخراجه أخرجه

(1)

في الحطاب ج 6 ص 188 وابن عرفة ص 286 مخطوط بمكتبة أحمد سالك بن أبوه: ولو غاب كري مضمون ووجد له مثله.

ص: 182

وأكراها عليه. قال أبو الحسن: قال ابن يونس: من اكترى دارا ولها جيران سوء فله ردها لأن ذلك عيب، ولهذا قال ملك: فيمن اشترى دارا ولها جيران سوء إنه عيب ترد به قال الشاعر:

بجيرانها تغلو الديار وترخص

وقال ابن عرفة: روى ابن حبيب: في فاسق ذي دار بين الناس يعاقبه السلطان ويمنعه فإن لم ينته بيعت عليه. اللخمي: وأرى أن يبدأ بعقوبته فإن لم ينته أكريت عليه فإن لم ينته عن إذايته لإتيانه إليها بيعت عليه، وسمع ابن القاسم: قال مالك: في فاسق يأوي إليه أهل الفسق يخرج من منزلة وتُخارَجُ عليه الدار والبيوت ولا تباع عليه لعله يتوب، ابن القاسم: يتقدم إليه مرة أو مرتين أو ثلاثا فإن لم ينته أخرج وأكريت عليه، ابن رشد: رواية ابن حبيب خلاف هذا السماع، وإن لم تكن الدار له إلا بكراء أكريت عليه ولم ينفسخ كراؤه. وروَى يحيى بن يحيى: يحرق بيت الخمار، قال: وأخبرني بعض أصحابنا أن مالكا كان يستحب حرق بيت المسلم الذي يبيع الخمر، قيل له: فالنصراني يبيعها بين المسلمين، قال: يتقدم إليه فإن لم ينته أحرقت بيته، قال: وحدثني الليث أن عمر بن الحطاب أحرق بيت رويشد الثقفي لأنه كان يبيع الخمر، وقال: أنت فويسق لا رويشد. انتهى. والله تعالى أعلم. انتهى. وقال التتائي: وفهم من قوله: فأجره، وقوله: وآجر الحاكم أن بيت الخمار لا يحرق وهو كذلك، وإن روى يحيى بن يحيى حرق بيت الخمار لخ، ابن ناجي: المغربي: قال ابن يونس: من اكترى دارا لها جيران سوء فله ردها لأنه عيب وكذا قال ابن رشد: هو عيب في الشراء، والصواب عندي أنه ليس بعيب فيهما لأن كلا منهما فرط حين لم يسأل، وأفتى شيخنا أبو مهدي. على ما بلغني أن دار القاضي بجوارها عيب لكثرة الناس ولغطهم، والصواب أنه ليس بعيب، وقد أفتى أنه لا متكلم في الدار إذا ثبت أنها يتشاءم بها. انتهى.

أو بعتق عبد؛ يعني أن من واجر عبده سنة مثلا ثم أعتقه ناجزا فإن الإجارة لا تنفسخ ويستمر رقيقا إلى تمام مدة الكراء كما قال المص: وحكمه على الرق: قال عبد الباقي: أو بعتق عبد مؤجر أو أمة ناجزا لا تنفسخ الإجارة وكذا المخدم منهما سنة إذا أعتقهما قبلها وحكمه على الرق أي

ص: 183

يستمر رقيقا إلى تمام مدة الكراء في شهادته وقصاص له أو عليه لا في وطء السيد لها إن كانت أمة ويستمر رقيقا لتمام مدة الكراء ولو مات سيده قبل تمامها وسواء أراد أنه حر بعدها أم لا كما في النقل لتعلق حق المستأجر بذلك، فإن أسقط المستأجر حقه فيما بقي من المدة بعد العتق مجانا أو بشيء يأخذه من العبد نجز عتقه، ولا كلام لسيده. وفي المواق: من المدونة: من واجر عبده سنة أوأخدمه ثم أعتقه قبل السنة لم يعتق حتى تتم، ولو مات السيد قبل السنة لم تنقض الإجارة ولا الخدمة ويعتق العبد لتمام السنة من رأس ماله إلا أن يترك المستأجر أو المخدم. انتهى. وقال المواق: قال في سماع عيسى: والكراء للسيد وإن لم يستثن ماله ولو كانت أمة لم يطأها. ابن حبيب: الإجارة أملك به وأحكامه أحكام العبد.

وأجرته لسيده؛ يعني أن الأجرة للسيد بشرط أشار إليه بقوله: إن أراد أنه حر بعدها؛ أي بعد مدة الإجارة، قال عبد الباقي: لأنه بمنزلة من أعتقه، واستثنى منفعته مدة معينة فإن أراد أنه حر من يوم عتقه فأجرته للعبد مع بقائه إلى تمامها لتعلق حق المستأجر كما مر، فالشرط عائد على أجرته فقط لا لقوله: وحكمه على الرق. انتهى. وقال المواق: عن ابن حبيب، واختلف في الأجرة، فقال مالك: يسأل السيد إن أراد أنه حر بتمام الإجارة صدق وله الأجرة ولو لم يقبضها، وإن أراد تعجيل عتقه فهي للعبد قبضها أم لا. انتهى.

وقال أشهب: يحلف على ذلك فإن نكل فللعبد وإن أراد أنه حر من حين العتق فللعبد من حينه قاله التتائي. وقال الشبراخيتي: وأجرته في بقية زمن الإجارة لسيده إن أراد أنه حر بعدها، وإن أراد أنه حر من حين عتقه أو لم تكن له إرادة بشيء فالأجرة للعبد.

ص: 184

‌فصل: في كراء الرواحل والدواب

وما يتعلق بذلك وكراء الدابة كذلك

يعني أن كراء الدابة كذلك أي يجري فيه جميع ما تقدم في الباب السابق، فما جاز هناك جاز هنا وما امتنع هناك امتنع هنا، وأنه يلزم بالعقد، وأنه إذا استأجرها بأكلها أو وقع أكلها جزءا من الأجر وظهر أنها أكولة فيخير المستأجر، والمناسب للاختصار أن يسقط قوله: فصل وكراء الدابة كذلك ويذكر ما بعده من المسائل، إلا أنه قال ذلك للإشارة إلى ما اصطلح عليه أهل المذهب من الفرق بين التعبير بالإجارة لمن يعقل وبالكراء لما لا يعقل، وقوله: وكراء الدابة، الكراء هنا بالمعنى المصدري وهو العقد.

وجاز على أن عليك علفها؛ يعني أنه يجوز لك أن تكتري دابة من شخص على أن عليك علفها وحده أو مع دراهم مثلا، والعلف بفتح اللام اسم لما يعلف به كالشعير وبالسكون اسم للفعل وهو مناولة ذلك للدواب والمراد الأول.

أو طعام ربها؛ يعني أنه يجوز كراء الدابة على أن عليك يا مكتري طعام رب الدابة أو عليك علفها وطعام ربها معا. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: وكذا يجوز بعلفها وطعام ربها سواء انضم لها نقد أم لا. أو عليه طعامك؛ يعني أنه يجوز كراء الدابة على أن على المكري طعامَك يا مكتري حيث لم يكن الكراء طعاما. قال الشبراخيتي: أو عليه طعامك أي إن لم يكن الكراء طعاما. انتهى. وقال الخرشي: أي وجاز كراء الدابة على أن عليك يا مكتري طعام رب الدابة أو كراؤها بدراهم على أن على ربها طعامَ المكتري وإن لم توصف النفقة لأنه معروف. انتهى. وقال المواق: من المدونة: ولا بأس أن تكتري إبلا من رجل على أن عليك رِحْلَتها أو تكتري دابة بعلفها أو أجيرا بطعامه أو إبلا على أن عليك علفها أو طعام ربها أو على أن عليه هو طعامك ذاهبا وراجعا فذلك كله جائز وإن لم توصف النفقة لأنه صروف وقد قال مالك: لا بأس أن يؤاجر الحر العبد أجلا معلوما بطعامه في الأجل أو بكسوته، وكذلك إن كان مع الكسوة أو الطعام دنانير أو دراهم أو عروض بعينها معجلة فلا بأس به، وإن كانت عروضا مضمونة بغير عينها جاز تأخيرها إن ضربا لذلك أجلا كأجل المسلم.

أو ليركبها في حوائجه؛ يعني أنه يجوز للشخص أن يكتري دابة لمن يركبها في حوائجه شهرا مثلا إذا عرف ذلك بالعادة، قال الخرشي: قال في المدونة: ومن اكترى دابة ليركبها في حوائجه

ص: 185

شهرا فإن كان على ما يركب الناس الدواب جاز، وهكذا يجب تقييد كلام الشيخ بما قال وأن ركوب الناس إن لم يكن معروفا عند المتكاريين لم يجز، وقول اللخمي: وحيث شاء عطف تفسير أي حيث شاء في حوائجه، فكلام المؤلف والمدونة واللخمي شيء واحد. انتهى. وانظره مع ما في نقل البناني فإنه قال: أو ليركبها في حوائجه، قال في المدونة: إن كان على ما يركب الناس الداوب جاز، قال أبو الحسن: معناه في البلد. انتهى. ونقل اللخمي عنها: يكتريها شهرا على أن يركبها في حوائجه حيث شاء وإن كانت تقل مرة وتكثر أخرى لأجل الضرورة إذ لا يقدر على تعيين ما يحتاجه. اهـ. فتأمله مع نصها. انتهى.

أو ليطحن بها؛ يعني أنه يجوز له أن يكتري دابة ليطحن بها شهرا، قال الخرشي: أي وكذلك يجوز أن يكتري منه دابة ليطحن عليها حنطة شهرا بعينه أي والطحن بينهم معروف، فإن لم يكن لهم عادة لم يجز كما في المدونة. انتهى. وعلم مما قررت أن قوله: شهرا، راجع للمسألتين ولا مفهوم له بل المراد زمنا معينا، ثم إن قوله: أو ليركبها في حوائجه وما بعده معطوف على قوله: أن عليك علفها؛ أي وجاز كراؤها على أن عليك علفها أو للركوب والطحن أو الحمل، وكذا على حمل آدمي. قاله الخرشي. وقال: قوله: شهرا يتنازعه كل من يركب ويطحن على أنه ظرف له. انتهى. وقال البناني: أو ليطحن بها نحوه في المدونة لكن قالت: ليطحن عليها قمحا لأنه أمر معروف. قال اللخمي: إن كانت لهم عادة في صنف معروف جاز وإن كان مرة شعيرا ومرة قمحا ومرة أرزا وكانت الإجارة على كل واحد بانفراده سواءً أو متقاربة جاز، وإن تباعدت لم يجز إلا أن يسمي الصنف، وكلام المص لا يقتضي تعيين ما يطحن. انتهى. وقال عبد الباقي: وظاهر قوله: شهرا، أن أكثر منه لا يجوز لكثرة الغرر. انتهى. وقال المواق: من المدونة: من اكترى دابة ليركبها في حوائجه شهرا متى شاء من ليل أو نهار فإن كان على ما يركب الناس الدواب جاز، وكذلك إن اكتراها لطحن قمح شهرا بعينه ولم يذكر كم يطحن كل يوم جاز؛ لأن طحن الناس معروف. انتهى. أو ليحمل على دوابه مائة؛ يعني أنه يجوز لمن له دواب أن يواجرها لشخص على أن يحمل عليها مائة إردب أو قنطارٍ حيث سمى لكل دابة قدر ما يحمل عليها، بل وإن لم يسم ما لكل من الدواب مقدار ما يحمل عليها، وإنما حذف المميز ليعم الموزون

ص: 186

والمعدود والمكيل، وهنا أربع صور، ثلاث فيما قبل المبالغة، والرابعة هي ما بعد المبالغة، فالصور التي قبل المبالغة إحداها: أن يسمي ما لكل ويتحد قدره. الثانية: أن يختلف قدره ويعين ما تحمله هذه الدابة وما تحمله هذه الدابة وهكذا، وكلتاهما جائزة. الثالثة: أن يختلف قدره ولا يعين ما تحمله هذه، من هذه وهذه فاسدة، فما قبل المبالغة فيه تفصيل. الرابعة: وهي ما بعد المبالغة أن لا يسمي ما يحمل على كل بل اكتراها ليحمل عليها مائة مثلا ولم يزد على ذلك، وهذه جائزة أيضا وفي هذه يحمل على كل دابة بقدر قوتها، ونبه بقوله: على دوابه بإضافة الدواب إلى الضمير المفرد على أن الجواز مشروط بكون الدواب كلها لشخص واحد، وأما لو كانت لرجال شتى وحملها مختلف لم يجز إذ لا يدري كل واحد بما أكرى دابته، قال المواق: من المدونة: من استأجر دواب لرجل واحد في صفقة ليحمل عليها مائة إردب قمح ولم يسم ما يحمل على كل دابة جاز وليحمل على كل دابة بقدر قوتها، وإن كانت الدواب لرجال شتى وحملها مختلف لم يجز إذ لا يدري كل واحد بما أكرى دابته. انتهى.

وعلى حمل آدمي لم يره؛ يعني أنه يجوز الكراء على حمل آدمي لم يره مكري الدابة، قال محمد بن الحسن البناني: ظاهره كالمدونة أنه لا يحتاج لتعيين الراكب من رجل أو امرأة، والأظهر وجوب تعيين أحدهما لأن ركوب النساء أشد قاله ابن عرفة. وقال المواق: من المدونة: من أكرى من رجل على حمل رجلين أو امرأتين لم يرهما جاز لتساوي الأجسام. انتهى. وقال التتائي: وجاز الكراء على حمل آدمي لم يره صاحب الدابة حين الكراء ولزمه حمله لتقارب الأجسام. انتهى. وقال الشبراخيتي: وجاز الكراء على حمل آدمي لم يره صاحب الدابة حين الكراء أي لم يَعْلَمْه فَرَأَى عِلْمِيَّةٌ وهو أولى من جعلها بصرية، وأما إن علمه فإما أن يعلمه برؤية سابقة أو وصف وكلام المص يفيد الجواز فيهما بالأولى، وظاهر كلامه أنه يجوز الاستئجار على حمله وإن لم يتقدم له رؤية ولا وُصف له ولم يكن على خياره بالرؤية. انتهى. وقال عبد الباقي: وعلى حمل آدمي لم يره ولم يوصف له وإن لم يكن على خياره بالرؤية لتساوي الأجسام غالبا. ولذا لم يلزمه الفادح، وهو العظيم الثقيل قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: الثقيل. انتهى. فإذا استأجره على حمل آدمي أو أكثر فإنه لا يلزمه حمل الفادح أو أكثر إذا أتاه به والكراء باق وليأته

ص: 187

بغير الفادح. قال المواق: من المدونة: من أكرى من رجل على حمل رجلين أو امرأتين لم يرهما جاز لتساوي الأجسام إلا الخاص فإن أتاه بفادحين لم يلزمه ذلك، يريد لا يلزمه حملهما والكراء قائم بينهما ويأتي بالوسط، وأجاز مالك للمكتري أن يحمل في غيبته ثوبا أو ثوبين لغيره ولا يخبر بذلك الجمال وهو من شأن الناس ولو بين هذه الأشياء ووزنها كان أحسن. انتهى. وقال عبد الباقي تبعا لشيخه: وليست المرأة من الفادح مطلقا فإذا استأجره على حمل آدمي لم يره فأتاه بامرأة فإنه ينظر لها فإن كانت فادحة لم يلزمه وإلا لزمه، نعم إن استأجره على حمل رجل فأتاه بامرأة لم يلزمه، وفي عكسه نظر، والظاهر الجواز. انتهى. وقال عبد الباقي: ومن الفادح المريض إن جزم بذلك أهل المعرفة، وكذا ينبغي أن يكون منهم من يغلب عليه النوم أو عادته عقر الدواب بركوبه، وحيث لم يلزمه الفادح فليأت بالوسط أو يكري الإبل في مثل ذلك، فالعقد منبرم. انتهى. بخلاف ولد ولدته؛ يعني أن المرأة المحمولة بالكراء إذا ولدت يلزم المكري حمل ولدها، وظاهر كلامهم لزوم حمل الولد ولو طالت المسافة بحيث يكبر فيها الولد. قاله الخرشي. وقال التتائي: بخلاف ولد ولدته المرأة في أثناء ركوبها فإن الجمال يلزمه حمله. انتهى. والفرق بين لزوم حمل الولد هنا وعدم لزوم رعي الولد فيما مر وزيادة البلل أن هذا كان محمولا معها قبل الولادة بخلاف ذينك. انظر التتائي والشبراخيتي.

وبيعها واستثناء ركوبها الثلاث؛ يعني أنه يجوز له أن يبيع دابة ويستثني ركوبها أو حملها أو عملها في كسقي اليومين والثلاثة، ولا يجوز أن يبيعها ويستثني ذلك جمعة وكره المتوسط؛ يعني أنه يكره أن يبيعها ويستثني ركوبها أو حملها أو عملها في كسقي الزمن المتوسط بين الجمعة والثلاثة، فيجوز استثناء الثلاثة وما دونها، ويكره استثناء ما زاد على ذلك ولم يبلغ الجمعة، ويمنع استثناء الجمعة، قال البناني: نوقش المص في هذا يعني في قوله: وكره المتوسط، فإن الذي نص على كراهة المتوسط هو اللخمي، واليوم الثالث عنده داخل فيه، ونصه: من باع راحلته واستثنى ركوبها يوما أو يومين وهو في الحضر أو السفر جاز، ويكره ما زاد على ذلك ويمنع ما كثر كالجمعة. انتهى. وقال التتائي: وجاز بيعها أي الدابة واستثناء ركوبها اليوم واليومين

ص: 188

والثلاثة (لخبر جابر بن عبد الله

(1)

) في إباحة القريب. مالك: كان بين المدينة وموضع البيع مرحلتان وشيء لا الجمعة وأكثر فلا يجوز وكره المتوسط بينهما كالأربعة. انتهى. وقال الخرشي: ولا مفهوم لركوبها بل وكذلك استثناء حملها، وقوله: وبيعها بالرفع عطف على فاعل جاز المستتر، وقوله: واستثناء يجوز رفعه على أنه مبتدأ حذف خبره؛ أي واستثناؤه حاصل أو مستقر، والجملة حالية؛ أي وجاز بيعها في حال استثناء ركوبها الثلاث، ويجوز نصب استثناء على أنه مفعول معه، وقوله: ركوبها تبع المدونة في التقييد بذلك وليس بشرط، وكذلك ما في معناه مما لا يضر بها. كما قاله أبو الحسن أي كاللبن والصوف. وقوله: الثلاث، في بعض النسخ بإثبات التاء وفي بعضها بحذفها، والخطب في ذلك سهل؛ لأن المعدود إذا حذف يجوز تذكير العدد وتأنيثه، وقوله: ركوبها، المراد منافعها من ركوب وحمل وحرث ونحو ذلك، وضمانها في المدة الجائزة والمكروهة من المشتري وفي الممنوعة من البائع، والمتوسط هو الزائد على الثلاثة والناقص عن الجمعة، وهذا لا يخالف ما قاله الشارح في باب الإجارة من أنه لا يستثنى في الحيوان إلا عشرة أيام؛ لأن المراد بالحيوان الرقيق فهو يغتفر فيه عشرة أيام، بخلاف الدابة المستثناة للركوب أو الانتفاع فإنه لا يغتفر فيها ذلك. انتهى. وقال عبد الباقي: وجاز بيعها أي الدابة واستثناء ركوبها أو حملها أو عملها في كسقي الثلاث لا جمعة بالنصب عطف على الثلاث فيمنع لأنه بيع معين يتأخر قبضه، ولأنه لا يدري كيف ترجع إليه فيؤدي إلى الجهالة في المبيع، وكره المتوسط عند اللخمي ومنعه غيره، وينبغي أن الثوب كالدابة وعلفها في مدة الاستثناء على المشتري كالدابة المستأجرة وضمانها في غير الممنوعة منه وفي الممنوعة من البائع. انتهى. وقال الرهوني: فَصَّل الزرقاني في الضمان والظاهر أن العلف تابع له. اهـ.

وكراء دابة شهرا إن لم ينقد؛ يعني أنه يجوز للشخص أن يكري دابته المعينة على أن لا يقبضها المكتري إلا بعد شهر ليستوفي منها المنافع بشرط أن لا يشترط تعجيل الأجرة، فإن شرط ذلك فسد عقد الكراء نقد بالفعل أم لا، وكلام المؤلف لا يفي بالمقصود، ولذا قال ابن غازي: الصواب ما في

(1)

البخاري، كتاب الاستقراض، رقم الحديث 2385. ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث 715.

ص: 189

بعض النسخ: وكراء دابة إلى شهر إن لم ينقد بجر شهر بإلى، ويكون إشارة لقوله فيها: ومن اكترى دابة بعينها على أن يركبها إلى اليوم واليومين، وما قارب ذلك جاز فيه النقد، وإن كان الركوب إلى شهر أو شهرين جاز إن لم ينقد. انتهى. وقوله: شهرا وكذا يجوز الكراء لِتقبضَ بعد شهرين إن لم ينقد، وموضوع كلام المؤلف أن الدابة معينة لأن غير المعينة لا يتأتى فيها قوله: إن لم ينقد؛ لأن تلك لا بد فيها من الشروع أو تعجيل جميع الأجرة حيث كان العقد في إبان الشيء المستأجر فيه: فإن كان قبل إبانه فلا بد من تعجيل جميع الأجرة إلا في مثل الحج يستأجر عليه قبل إبانه فيكفي تعجيل اليسير كما مر قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: وجاز كراء دابة معينة شهرا أي بعد شهر، ولو قال: لتقبض بعد شهر وافق المدونة، وفي بعض النسخ إلى شهر وهي أقرب لإفادة المعنى من نسخة شهرًا إن لم ينقد أي بشرط، ولو قال: إن لم يشترط النقد كان أحسن لأن شرط النقد مفسد. انتهى. وقال عبد الباقي: وجاز كراء دابة واستثناء ركوبها شهرا، فهو معمول لمحذوف لدلالة ما قبله عليه. قاله أحمد. ففي دعوى أنه لا دليل عليه شيء إن لم ينقد فإن نقد بشرط منع لتردده بين السلفية والثمنية، وشرطه بدونه ممنوع أيضا، وإن لم تظهر فيه العلة حملا على ما ظهرت فيه، ومفهوم إن لم ينقد أنه إن نقد منع إلى شهر وجاز لعشرة أيام، وفي ابن يونس ما يقتضي جوازه لنصف شهر لكن فرضه في السفينة، والظاهر أن غير السفينة عند ابن يونس مثلُها، والفرق بين الكراء والشراء أنه لو أجيز الشراء إلى شهر كان ضمانها من المشتري كقريب الاستثناء فيدخله الغرر وفي الكراء الضمان من ربها. اهـ. وقوله: وإن لم تظهر فيه العلة لخ، قال الرهوني: قال التاودي: وجه منعه دخولهما على موجب الفساد، فقوله: وإن لم تظهر لخ، غير ظاهر. انتهى. وقال المواق: قال ابن القاسم: إن أكرى راحلة بعينها على أن يركبها إلى يومين وما قرب جاز ذلك، وإن كان الركوب إلى شهر أو شهرين جاز ما لم ينقد. ابن يونس: لأن ضمانها من ربها ففارقت بيع المعين يتأخر قبضه. اهـ. وفي التتائي بعد قوله: وإن كان الركوب إلى شهر أو شهرين جاز ما لم ينقد ما نصه: وقال غيره: لا يجوز. انتهى.

ص: 190

والرضى بغير المعينة الهالكة إن لم ينقد؛ يعني أن الدابة المعينة مثلا إذا هلكت ببعض الطريق فإنه يجوز للمتكاريين أن يتراضيا على أن يعطي المكري للمكتري دابة أخرى يركبها بقية سفره إن لم يكن قد نقد الأجرة، أو كان نقدها والحال أن المكتري اضطر، أي ألجأته الضرورة إلى أخذ البدل، ومفهومه أنه إن نقد ولو تطوعا ولم يضطر لمنع ذلك لما فيه من فسخ ما في الذمة في مؤخر، لأن الدابة المعينة لما هلكت انفسخ الكراء، كما مر في قوله وفسخت بتلف ما يستوفى منه، وقد ترتب للمكتري في ذمة المكري دنانير مثلا، ففسخها في منافع يتأخر قبضها. والله تعالى أعلم. قال عبد الباقي: وجاز الرضى بغير الذات المكتراة المعينة من عبد أو دار أو ثوب أو دابة وإن كان سياقه فيها. اهـ. وقوله: الهالكة، صفة للموصوف المقدر وقوله: أو نقد واضطر، قال عبد الباقي: فيجوز حتى يزول الاضطرار لا مطلقا لأنه فسخ ما وجب له من الأجرة في منافع يتأخر قبضها بناء على أن قبض الأوائل ليس كقبض الأواخر، فإن لم يضطر منع للعلة المتقدمة ولأنه كما في أحمد إن كانت التي يرضى بها مضمونة لزم فسخ دين في دين إذ بفسخ الإجارة استحق المكتري الأجرة، ففسخها في المنافع المضمونة وإن كانت معينة لزم ما هو منزل منزلة فسخ الدين في الدين وهو فسخ الدين في مؤخر وإن لم يكن فسخ دين؛ لأن المعينات لا تقبلها الذمم. انتهى. ومفهوم المعيَّنة ظاهر إذ لا تنفسخ الإجارة بهلاك الذات غير المعينة بل يلزم المكري خلفها، وكلام المص شامل لما إذا كانت الأجرة معينة أو مضمونة، وقوله: واضطر قال الخرشي أي حصل له ضرورة شديدة ولا يشترط أن يصل إلى حالة يباح له فيها أكل الميتة. انتهى. وقول عبد الباقي: فيجوز حتى يزول الاضطرار. قاله غير واحد.

وفعل المستأجر عليه ودونه، قال الخرشي: أي وجاز للمستأجر أن يفعل المستأجر عليه بعينه أو ما هو مساو له أو دونه ولا يفعل ما هو أضر منه. انتهى. وقال عبد الباقي: وفعل المستأجر عليه ودونه قدرا وضررا أي جاز له فعل ما ذكر لا أكثر قدرا ولو أقل ضررا، ولا دونه قدرًا وأكثر ضررا، فإن خالف ضمن، وترك النص على فعل مثل المستأجر عليه لأن منه ما هو جائز وهو الحمل، ومنه ما هو ممتنع وهو المسافة، كما يفيده قوله: أو ينتقل لبلد وإن ساوت، والمناسب

ص: 191

لقوله: وكراء الدابة، أن يقول: المكترَى عليه، لكنه نبه على أن هذا اصطلاح [غالبٌ

(1)

]. اهـ. وقال المواق: من المدونة: من اكترى دابة لحمل محمل فحملها زاملة فعطبت فإن كان ذلك أقل ضررا من المحمل أو مساويا له لم يضمن، وله أن يحمل غير ما سمى إن لم يكن ذلك أضر ولا أثقل، ورب زاملة أثقل من محمل. اهـ.

وحمل برؤيته؛ يعني أنه يجوز لك أن تكتري دابة لتحمل عليها حملا يراه المكري، فقوله وحمل بكسر الحاء وهو الشيء المحمول لإعادة الضمير عليه وبفتح الحاء الفعل والأحسن هنا الأول كما قدمته، ويصح الفتح ويكون الضمير عائدا على المحمول كقوله تعالى:{اعدلوا هو} أي العدل المفهوم من اعدلوا. قاله الشبراخيتي. أو كيله؛ يعني أنه يجوز لك أن تكتري دابة لتحمل عليها حملا عرف كيله. أو وزنه؛ يعني أنه يجوز لك أن تكتري دابة لتحمل عليها حملا معروفا وزنه. أو عدده؛ يعني أنه يجوز لك أن تكتري دابة لتحمل عليها حملا عرف عدده فيما يعد. قال الخرشي مفسرا للمص: هذا مما لا خفاء فيه وهو جواز كراء الدابة ليحمل عليها حملا، إمَّا برؤيته وإن لم يوزن ولم يُكَل ولم يعد، ولا يشترط بيان جنسه للاكتفاء برؤيته. اهـ. وإما بكيله أو وزنه أو عدده، ولا بد من بيان ذكر جنس المحمول في هذه الثلاثة الأخيرة. وقوله:

إن لم يتفاوت، أي العدد فهو خاص بالأخير من الثلاثة وهو العدد، وأما الكيل والوزن فقد علمت أنه لابد من ذكر جنس المحمول فيهما، والجنس المكيل أو الموزون لا تَفَاوتَ يتصور فيه. قاله بناني. أي بخلاف الجنس المعدود فإنه هو الذي يتصور فيه التفاوت، ومفهوم قول المص: إن لم يتفاوت، أنه إن تفاوتت آحاد المعدود فلا بد من بيان ذلك، فإذا تفاوتت آحاد المعدود كبرا وصغرا لم يجز حتى يبين. قال الشبراخيتي: أو عدده إن لم يتفاوت آحاد المعدود فالشرط خاص به كما قال البساطي وهو موافق لما في الجواهر، ولم يقل: كعدده، على قاعدته الأغلبية لأن كلا من الكيل والوزن لا تفاوت فيه، فاتكل على ظهور المعنى في ذلك، وفي كلام التتائي نظر فإنه جعله قيدا في الثلاثة. انتهى. وقال عبد الباقي: ثم تنويعه يقتضي أنه لا يكفي في جواز

(1)

في الأصل غالبا والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 38.

ص: 192

الكراء ذكر صنف المحمول وهو مذهب ابن القاسم عند القرويين إذ قالوا: لا يجوز الكراء على مذهبه وإن سمى الجنس أي الصنف حتى يكون القدر معروفا نصا أو عرفا، ولا يكفي الاجتهاد. وأما الأندلسيون فقالوا: إنما لم يجز لعدم تسمية الجنس، فإن سماه جاز وصرف القدر للاجتهاد، وكلامهم يناسب قوله الآتي: أو ليحمل عليها ما شاء ففي المص إشارة إلى القولين. انتهى. والله تعالى أعلم.

وإقالة قبل النقد؛ يعني أن الإقالة أي بزيادة تجوز قبل النقد مطلقا سواء كانت الزيادة من المكري أو من المكتري كانت مما يغاب عليه أم لا، قال الخرشي: وكلام المؤلف هذا فيما إذا وقعت الإقالة بزيادة من المكتري على المنافع ومن المكري على الأجرة، وأما إن وقعت على رأس المال فجائزة من غير تفصيل قبل النقد أو بعده، غاب المكري على النقد أم لا. انتهى. ونحوه للشبراخيتي وعبد الباقي. والله تعالى أعلم. وقوله: وإقالة قبل النقد أي بزيادة كما عرفت، قال عبد الباقي: وسواء كانت الزيادة دنانير أو دراهم أو عرضا، لكن يشترط تعجيل الزيادة لأنه اشترى الركوب الذي وجب للمكتري بالزيادة التي وجبت له، ويمنع لأجَلٍ لأن المنافع دين عليه للمكتري ففسخها في دين. انتهى.

وبعده إن لم يغب عليه؛ يعني أن الإقالة بزيادة تجوز قبل النقد مطلقا حيث عجلت، وأما بعد النقد فتجوز إن لم يغب المكري على النقد أصلا، أو غاب عليه غيبة لا يمكن الانتفاع به فيها، سواء كانت منه أو من المكتري، لكن بشرط تعجيل الزيادة إن كانت من المكري؛ لأنه إذا كانت مؤجلة فهي فسخ ما في الذمة في مؤخر؛ لأن المكتري ترتب له في ذمة المكري ركوب فسخه في شيء لا يتعجله وهو الزيادة من المكري، ومحل ذلك حيث كان الكراء مضمونا، وأما في دابة معينة فلا يجب التعجيل إذ منافعها لا تكون في الذمة فلا يلزمُ فسخ ما في الذمة في مؤخر، وأما إن كانت من المكتري فقال عبد الباقي: لا يشترط التعجيل لأنه إن لم تحصل غيبة على النقد فكأنه لم يقبض. انتهى. قال البناني: أطلق فيه وهو غير صحيح، والصواب أنها إن كانت من نوع الكراء فلا بد من المقاصَّة، وإن كانت فضة والكراء ذهب أو العكس جرى على حكم البيع والصرف وفي العرض يجوز التعجيل والتأجيل. انتهى. وما جزم به عبد الباقي في المعينة قال

ص: 193

الرهوني: هو الحق الذي لا محيد عنه؛ لأن منافع المعينة ليست في الذمة. انتهى. وهو جار في الدابة والسفينة. انظر الرهوني. والله تعالى أعلم.

وإلا، بأن غاب المكري على النقد غيبة يمكنه انتفاعه فيها به. فلا تجوز بزيادة إلا من المكتري، أي لا تجوز الإقالة بزيادة إلا أن تكون من المكتري فقط، لا من المكري وإنما تجوز من المكتري إن اقتصا؛ أي بشرط أن يكونا قد دخلا على المقاصة، كما إذا اكترى دابة بعشرة دنانير ونقدها وغاب المكري عليها ثم تقايلا قبل السير مثلا على دينارين يدفعهما المكتري للمكري، فإن دخلا على المقاصة أي على إسقاط الدينارين مما على المكري ويرجع عليه المكتري بثمانية جاز ذلك، لأن المكتري دفع عشرة وأخذ ثمانية، فقد أخذ أقل مما دفع وإلا منع. ابن يونس: لأنه إذا لم يقاصه كأنه دفع الدنانير الزائدة وركوبا في دنانيره التي نقد. انتهى. فيدخله التفاضل، فلو زاده دراهم مع المنفعة أقل من صرف دينار وتعجل الجميع أو زاده عرضا جاز ذلك ولو لم يعجل العرض، وقوله: إن اقتصا، قد مر أن معناه دَخلا على شرط المقاصة فلا يكفي وجودها حيث لم يدخلا عليها، قال الشبراخيتي: وهو ما قاله بعض أشياخ شيخنا، وظاهر كلام ابن يونس أن وجودها كافٍ حيث لم يدخلا عليها. انتهى. وقال عبد الباقي: ومثل الدخول عليها حصولها بالفعل كما هو ظاهر ابن يونس وإن لم يدخلا عليها حيث لم يُشتَرَط عدمها. أو بعد سير كثير، يعني أنه إذا حصل سير كثير فإنه تجوز الإقالة. بزيادة من المكري لأنه إذا حصل سير كثير انتفت التهمة، ولو قال المص: وإقالة بزيادة عجلت قبل النقد مطلقا وبعده من المكتري إن اقتصا أو من المكري إن لم يغب عليه وإلا فلا إلا بعد سير كثير لحسن كلامه. انظر الرهوني.

تنبيه: قال البناني: وحاصل مسألة الإقالة بزيادة في الكراء كما في المقدمات أن الزيادة في الكراء المضمون والحال أن الكراء وقع بالذهب إما ذهب أو فضة أو عرض، وهي في الثلاث إما معجلة أو مؤجلة، هذه ستة، والزيادة في كل منها إما من المكتري أو من المكري، وفي كل منها إما قبل النقد أو بعده، فهذه أربع وعشرون صورة، فأما إن كانت الزيادة من المكتري قبل النقد فتجوز مع التعجيل ذهبا أو عرضا، وأما إن كانت فضة فتجوز بشرط أن تكون أقل من دينار على مذهب ابن القاسم في اجتماع البيع والصرف، وأما مع التأخير فيمتنع في الثلاثة لأنها في المذهب بيع

ص: 194

عرض وذهب بذهب مؤجل، كذا قال ابن رشد، والظاهر أن العلة فيه الجمع بين الكراء والسلف، وفي الفضة صرف مؤخر، وفي العرض فسخ دين في دين، وأما إن كانت الزيادة من المكتري بعد النقد غاب عليه الجمَّال أم لا، فأما مع التعجيل فتجوز في العرض مطلقا، وفي المذهب بشرط المقاصة، وفي الفضة بشرط أن تكون أقل من صرف دينار، وأما مع التأخير فتمنع في الذهب لأنه بيع عرض وذهب بذهب لأجل، قاله ابن رشد، وفيه الكراء والسلف أيضا، وتمنع في الفضة لأنه صرف مؤخر، وتجوز في العرض بشروط المسلم، فهذه اثنتا عشرة صورة في الزيادة من المكتري يمنع منها خمس، وأما إن كانت الزيادة من الجمال قبل النقد أو بعده وقبل الغيبة عليه فتجوز مع التعجيل ذهبا أو فضة أو عرضا، وتمنع مع التأخير ذهبا أو فضة أو عرضا، لأنها في الثلاث فسخ دين في دين، وأما إن زاد الجمال بعد الغيبة فتمنع مع التعجيل في الثلاث، إلا بعد سير كثير يرفع التهمة فتجوز، ومع التأخير تمنع الثلاث مطلقا، فهذه اثنتا عشرة في الزيادة من الجمال، تجوز منها ثلاث هذا حاصل ما لابن رشد حسبما نقله عنه

(1)

في التكميل؛ وقد علمت به أن قول المص: إلا بعد سير كثير، إنما هو في زيادة المكري بعد الغيبة على النقد: وهذا كله إن كان الكراء في دابة مضمونة، وأما إن كان في دابة معينة فإن كان الكراء نقدا بشرط أو عرف فهو كالمضمون في جميع أحكامه، وإن كان مؤجلا بشرط أو عرف، فإن كانت الزيادة من المكتري فمع التعجيل تجوز في العرض وتمنع في المذهب لأنه ذهب نقدا ومنافع بذهب لأجل وهو ما في ذمة المكتري، وفي الفضة لأنه صرف مؤخر، ومع التأخير تجوز في الذهب بشرط المقاصة، وتمنع في الفضة لأنه صرف مؤخر، وفي العرض لأنه فسخ دين في دين، وإن كانت الزيادة من الجمال فمع التعجيل تجوز ذهبا كانت أو فضة أو عرضا، ومع التأخير تمنع في الثلاث لأنها في الذهب والعرض فسخ دين في دين، وفي الفضة صرف مؤخر، فهذه اثنتا عشرة صورة في المعين المؤجل، وفي المعين المعجل أربع وعشرون صورة كما ذكرنا، فمجموع صور المعين ست وثلاثون، وأما الإقالة في الدور فهي كالإقالة في الكراء المعين فيها ست وثلاثون أيضا، إلا في

(1)

ساقطة من الأصل وقد وردت في البناني ج 7 ص 39

ص: 195

صورة واحدة وهي: إذا غاب المكري على المال فلا تجوز الإقالة على الزيادة منه وإن طال ذلك، فلا يكون سكنى بعض المدة كسير بعض المسافة لضعف التهمة في المسافة، وتحصل مما تقدم أن مجموع صور الإقالة بزيادة ست وتسعون بتقديم المثناة، هكذا حصلها ابن رشد وأبو الحسن وصاحب التكميل، ونظمها أبو الحسن وغيره ووضع لها في التكميل جَدْولًا، وأما الأرض فإن كانت مأمونة فكالدور، وإن كانت غير مأمونة فإن الزيادة من المكري لا تجوز نقدا لاحتمال عدم الري فيفسخ الكراء. والله تعالى أعلم. اهـ كلام الشيخ محمد بن الحسن البناني. قال الرهوني: قال ابن عاشر: المقاصة إنما هي في زيادة المكتري بعد النقد غيب عليه أم لا. انتهى. وقال: يظهر أن هذا لا ينافي ما مر، وقال الرهوني عند قول عبد الباقي على قول المص: وبعده إن لم يغب: ثم محل وجوب تعجيل الزيادة إن كانت من المكري حيث كان الكراء مضمونا، وأما في دابة معينة فلا يجب مع التعجيل إذ منافعها لا تكون في الذمة. انتهى. قول الزرقاني، وأما في دابة معينة لخ، جزم بذلك في الدابة وحكى قولين بالمنع والجواز في الدار وفيه نظر؛ لأن الدابة والدار في هذا سواء، فإما أن يجزم بالجواز فيهما أو يحكي القولين فيهما، وقد سكت عنه التاودي والبناني، لكن ما نقله عن ابن رشد بواسطة ابن غازي في تكميله يرد جزم الزرقاني بذلك؛ لأن ابن رشد جزم بمساواة المعينة للمضمونة في ذلك، وما نقله ابن غازي عنه هو كذلك في مقدماته، وقد سلمه ابن عرفة وأثنى عليه بقوله: وتحصيلها ابنُ رشد في المقدمات حسن. انتهى. وعليه عول أبو الحسن أيضا في شرح المدونة وسلمه ابن غازي في تكميله وغير واحد، المحققين، وقد قال ابن عاشر: وقد حرر ابن رشد في مقدماته هذه المسألة تحريرا أثنى عليه ابن عرفة بالحسن. انتهى. وقد سوى أيضا الرجراجي في منهاج

(1)

التحصيل بينهما إلا أنه ذكر الخلاف في المعينة، ونصه: ولا فرق فيما وصفنا بين الكراء المضمون والمعين لأن المنافع كالدين على أحد قولي المذهب، وعلى القول الآخر يجوز في المعين. اهـ على نقل أبي علي؛ وهو يفيد أن المعتمد هو المنع، ومع ذلك فالذي يظهر هو ما جزم به الزرقاني أولا من الجواز، وأنه الحق الذي

(1)

في الرهوني ج 7 ص 47 ط دار الفكر: مناهج.

ص: 196

لا محيد عنه؛ لأن منافع العين ليست في الذمة، وقد تقدم تصريح ابن الحاجب بأن منفعة المعين كالمعين، وسلمه ابن عبد السلام وابن هارون والمص وابن عرفة، ولا دليل فيما استدل به الرجراجي من منع دفعها في دين على المشهور؛ لأن ذلك ليس لكونها في الذمة بل لأن قبض الأوائل ليس قبضا للأواخر، ومقابله على أنه قبض لها ولكونها ليست في الذمة جاز جعلها رأس مال سلم كما صرح به في المدونة وغيرها، ولذلك جاز أيضا كراء المعينة التي يتأخر قبضها من غير تعجيل الأجر، ولا فرق في ذلك بين الدابة والدار خلاف ما اقتضاه صنيع الزرقاني، وعلى هذا فصور الزيادة من المكري مؤجلة كلها جائزة إذ ليس في شيء منها فسخ ما في الذمة في مؤخر، ولم يظهر لي وجه لجواز جعلها رأس مال سلم، ولجواز تأخير الأجرة في العقد عليها مع تأخير الشروع، ومنع هذه الصورة فتأمله، وقول البناني: ومع التأخير تجوز في الذهب بشرط المقاصة، ظاهره مطلقا اتحد أجل الزيادة والكراء أو اختلف، والذي في المقدمات هو: وإن كانت الزيادة ذهبا والكراء بذهب لم يجز إلا إلى محل أجل الكراء على المقاصة، ولا يجوز نقدا لأنه ضع وتعجل، ولا إلى أجل سوى محل أجل الكراء، ولم يبين علة المنع في اختلاف الأجلين، وبينه الرجراجي فقال: وإن كانت ذهبا لم يجز إلا إلى محل الكراء على معنى المقاصة، أما نقدا أو إلى أجل دون الأجل فلا يجوز لأنه ضع وتعجل، ولا إلى أبعد من الأجل لأنه بيع وسلف. اهـ على نقل أبي علي. انتهى كلام الرهوني.

واشتراط هدية مَكّة؛ يعني أنه يجوز للمكتري أن يشترط على الجمال حمل هدية مكة؛ أي ما يهدى لمكة من كسوة الكعبة وطيبها، ويجوز للمكتري أيضا أن يشترط على الحمال حمل ما يهدى من مكة أي ما يأتي به المكتري من مكة من الهدية لأهله ولغيرهم على وجه العادة، كذا قرره الشارح، وقرره البساطي على أنه يجوز لرب الدابة اشتراط هدية مكة على المكتري وهي حينئذ من الأجرة، ونسب كل منهما للمدونة. قاله عبد الباقي. وقوله: إن عرف، شرط في الجواز؛ يعني أنه يشترط في الجواز أن يكون ما يهدى لمكة معروفا بالعادة. والله سبحانه أعلم. وقد مر أنه يجوز للمكتري أن يحمل في غيبة الجمال ثوبا أو ثوبين لغيره ولا يخبر بذلك الجمال وهو من شأن الناس، ولو بين هذه الأشياء ووزنها لكان أحسن. اهـ. وقال الخرشي عن الزرقاني:

ص: 197

يحتمل كلام المؤلف ثلاث معان، أحدها: ما يحمل لمكة من كسوة الكعبة وطيبها. ثانيها: ما يهدف لمكة يشترطه رب الدابة على المكتري لأنه من جملة الأجرة. ثالثها: الهدية التي تحمل من مكة لبلاد المستأجر. اهـ.

وعقبة الأجير؛ يعني أنه يجوز أن يشترط المكتري على الجمال عقبة الأجير وهي عندهم معروفة رأس ستة أميال؛ أي يشترط المكتري على الجمال أن يركب أجيره أي المكتري الميل السادس، قال عبد الباقي: وذكر بعض أنه هل يندب للمكتري اشتراطها ليخرجا من الكراهة في فعل مثل ما استأجر له أو وجوبه ليخرجا من الحرمة في فعل أضر مما استؤجر له؟ قولان، والمتبادر من المص الجواز المستوي الطرفين. انتهى. انتهى. وأشار بهذا إلى ما نقله ابن غازي عن أبي الحسن ونصه: قال بعضهم: إنما يرفع الاشتراط الكراهة لأنه يكره كراؤها لغيره إذا اكتراها للركوب. أبو الحسن الصغير: وليس هذا ببين لأنه إذا لم يشترط ذلك فكان يعاقبه يصير كمن أكرى ممن هو أثقل منه؛ لأن العييَّ أبدا أثقل من غيره فظهر أن فائدة الاشتراط رفع المنع. انتهى. وما قاله بعضهم هو ظاهر قول ابن القاسم في سماع عيسى، وما قاله أبو الحسن الصغير هو نص قول أصبغ فيه، قال ابن رشد: وقول أصبغ هو القياس. قاله البناني. وعلم مما قررت أن المراد بالأجير أجير المكتري.

لا حمل من مرض؛ يعني أنه إذا اكترى رجل أو رجال دابة أو دواب لحمل أزوادهم واشترطوا على المكري حمل من مرض منهم فإن ذلك لا يجوز لما فيه من الجهالة، وقد يظهر الصحيح المرض فيؤدي إلى التخاصم. ولا اشتراط إن ماتت معينة أتاه بغيرها؛ يعني أنه إذا اكترى دابة معينة واشترط في العقد أنه إن ماتت تلك الدابة المعينة أتى له بغيرها فيمنع نقد الكراء أم لا، فقول عبد الباقي: فيمنع إن نقد الكراء ولو تطوعا غير صحيح؛ لأن العقد فاسد لأجل الشرط وإن لم ينقد أصلا كما أفادته عبارة المص، وهو تابع في ذلك للمدونة وغيرها، ففي المنتقى ما نصه: فلا يجوز أن يكتري الدابة المعينة كراء مضمونا. قاله مالك في المدونة. وكلام المدونة: وإن شرط في المعينة إن ماتت أتاه بغيرها لم يجز والدابة هنا كالراعي لا يشترط إن مات أن يأتي ببديل. انتهى. ومفهوم اشتراط أنه إن لم يشترط ذلك ففيه تفصيل، فيمنع إن نقد الكراء ولو تطوعا ليلا

ص: 198

يصير فسخ دين في دين، فإن لم ينقد جاز. ابن القاسم: إن سأله أن يحوله من محمل إلى زاملة ويرد عليه دينارا أو من زاملة إلى محمل ويزيده دينارا فإنه جائز.

كدوابّ لرجالٍ؛ يعني أنَّ الدواب إذا كانت لرجال شتى لكل دابة أو لواحد واحدة ولغيره أكثر والحمل مختلف فلا يجوز أن تكترى إلا بعد تعيين ما يحمل على كل. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: كدواب لرجال أو لرجلين يكتريها واحد للحمل في عقد واحد لكل واحد واحدة أو كل مشترك في الجميع بأجزاء مختلفة واختلف حمل كل واحدة، فإن كان بينهم بأجزاء متساوية أو اتفق الحمل جاز الكراء فيها. انتهى. وقال الخرشي: فمتى اتفق الحمل فإنه يجوز الكراء ولو كانت الدواب لرجال ولو لم يكن بينهم شركةٌ أو مشتركة بينهم بأجزاء مختلفة إذ يعلم حينئذ ما تحمل كل دابة وقدر ما ينوب محمولها من الأجرة، ومتى كانت الدواب مشتركة بينهم بأجزاء متساوية فإنه يجوز الكراء أيضا. اهـ.

أو لأمكنة؛ يعني أنه لا يجوز له أن يكري دوابه إلى أمكنة مختلفة يريد دفعة واحدة كبرقة وإفريقية وطنجة من غير تعيين. ابن يونس: لاختلاف أغراض المتكاريين؛ لأن المكتري قلى يرغب في ركوب القوية للبعيد وربه يريده للضعيفة ليلا تضعف القوية فيدخله التخاطر. قاله الخرشي. وقوله: كدواب لرجال؛ أي مملوكة لرجال، وقوله: لأمكنة؛ أي أو دوابَّ مكتراة لأمكنة كانت لواحد أو أكثر. والله تعالى أعلم. فقوله: أو لأمكنة معطوف على رجال بتقدير عامل خاص فيهما. أو لم يكن العرف نقد معين؛ يعني أن الكراء إذا وقع بشيء معين ولم يكن العرف في ذلك البلد نقد المعين فإن ذلك العقد لا يجوز حيث لم ينقد. بل وإن نقد، يريد النقد الذي لم يشترط، وأما إن اشترط في أصل العقد فإنه يجوز، وكلام المص صادق بصورتين: أن يكون عرفهم التأخير، أو لم يكن عرف بأن كانوا يتكارون بالوجهين، فيفسد العقد في الصورتين إن لم يشترط النقد ولو نقد بالفعل، وأما لو اشترط النقد فيصح في الصورتين، ومفهومه أنه لو كان العرف نقد المعين فإنه يصح العقد بل يجوز. الخرشي: وكلام المؤلف هذا مكرر مع قوله: وفسدت إن انتفى عرف تعجيل المعين، وكرره لأجل قوله: وإن نقد، وكلام المؤلف خاص بغير الدنانير والدراهم بدليل قوله:

ص: 199

أو بدنانير عينت؛ يعني أنه إذا وقع العقد على دنانير معينة أو دراهم معينة وطلب المؤجر قبضها وأبى المستأجر فإن كان الكراء في البلد بالنقد قضي بنقدها، وإلا لم يجز الكراء إلا أن يشترط الخلف لا تلف منها، ولهذا قال:

إلا بشرط الخلف، ونحوه قول المدونة عقب التي قبلها: قال ابن القاسم: وإن اكترى ما ذكرنا بدنانير معينة ثم تشاحا في النقد فإن كان الكراء في البلد بالنقد قضي بنقدها وإلا لم يجز الكراء، إلا أن يعجلها كقول مالك فيمن ابتاع سلعة بدنانير له ببلد آخر عند قاض أو غيره فإن شرطا ضمانها إن تلفت جاز، وإلا لم يجز البيع فأرى إن كان الكراء لا ينقد في مثله فلا يجوز، إلا أن يشترط في الدنانير إن تلفت فعليه مثلها. قاله التتائي. وقال البناني عند قوله: إلا بشرط الخلف ما نصه: هذا قول ابن القاسم، وقال غيره بالجواز وإن لم يكن شرط الخلف، والقولان مبينان على أن الدنانير تتعين بتعينها أولا، الأول لابن القاسم، والثاني لغيره، لكن مقتضى الأول أنها إذا تلفت انفسخت الإجارة، وكأن ابن القاسم توسط فقال بالصحة إذا شرط الخلف. والله أعلم. انتهى. وقول المدونة: وإلا لم يجز الكراء إلا أن يعجلها؛ أي إلا أن يشترط تعجيلها.

تنبيه: ظاهر قول المص: إلا بشرط الخلف، كانت هذه الدنانير المعينة أو الدراهم المعينة حاضرة أو غائبة، ومعنى التعيين أن يقول: بهذه الدنانير أو الدراهم، ويريه إياها إن كانت حاضرة أو التي هي أمانة عند فلان ببلد كذا أو عند القاضي فلان إن كانت غائبة، ولا تتعين بالوصف كدراهم صفتها كذا من سكة كذا، فإن ذلك لا يخرجها عن كونها في الذمة، ألا ترى أن المسلم فيه شرطه أن يكون في الذمة مع أن شرط صحة عقد المسلم كون المسلم فيه موصوفا كما هو مقرر. وما في الأجهوري ومن تبعه من أن شرط الخلف لا يكفي في الدنانير الحاضغ غيرُ صحيح، فإن قول المتن: أو بدنانير عينت، يشمل الحاضرة والغائبة. قاله الرهوني وأبو علي، وجلبا من المنقول على ذلك ما فيه كفاية، وقد نقل الرهوني عن اللخمي أنه قال: قال ابن القاسم: فيمن اكترى راحلة بعينها بدنانير بأعيانها فإن كان الكراء عندهم بالنقد جاز، وإن كان بغير النقد لم يجز، إلا أن يشترط إن ضاعت أخلفها أو توضع على يد غيره ويجعلها رهنا، وقال غيره: ذلك جائز، وإن تلفت فعليه بدلها فقد اتفقا على أنها تتعين، وإنما اختلفا هل الحكم الخلف من غير شرط

ص: 200

أو حتى يشترط؟ وعن سحنون أنها لا تتعين فلا يمنع صاحبها منها ومن التصرف فيها، وعلى قول ابن حبيب تتعين ويجوز العقد، ويجبر على أن يعجلها إلا أن يشترط وقفها، وإذا وقفت على ما في المدونة كان للمكري كلما مضى يوم أن ينتقد منها بقدره إلا أن يشترط أن لا ينتقد منها شيئا حتى يبلغ غاية سفره فيكون فاسدا. اهـ. وفي الرهوني بعد جلب كثير من النقول: وبذلك كله تعلم صحة ما قلناه من أن الخلاف في المعينة غائبة كانت أو حاضرة، وأن المص ذهب على قول ابن القاسم في المدونة، وأن إطلاقه ليشملهما مقصود. اهـ. واعلم أن عبد الباقي وأحمد اتفق نقلهما عن أبي الحسن على أن ذلك خاص بالغائبة، واختلفا في الحاضرة، فنقل عبد الباقي أن ذلك ألا يجوز ولو شرط الخلف، ونقل أحمد أنه يجوز ولو لم يشترط الخلف، والمنقول عنه واحد، قال الرهوني: وكل منهما غير صحيح، فإنه في المدونة وغيرها ذكر الخلاف بين ابن القاسم والغير، وهو يفيد الخلاف بينهما في الحاضرة. انتهى المراد منه. وبما مر تعلم أن قول عبد الباقي: أو بدنانير غائبة عينت بوصف مطلقا أو موضوعة عند حاكم، غير صحيح لأن الكلام هنا في الحاضرة والغائبة كما عرفت، ولأن قوله: بوصف، ليس بتعيين كما مر. والله تعالى أعلم. وقال الرهوني: قول اللخمي: فقد اتفقا أي ابن القاسم والغير على أنها تتعين لخ، مخالف لما تقدم عن ابن عرفة عن ابن رشد وسلمه، وقد قال أبو الحسن بعد ذكره كلام اللخمي: هذا خلاف ظاهر الكتاب. انتهى. والذي تقدم عن ابن رشد هو ما في رسم القبلة من سماع ابن القاسم، قال ابن رشد: قول الغير بناء على أن العين لا تتعين، وقول ابن القاسم على أنها تتعين. انتهى.

أو ليحمل عليها ما شاء؛ يعني أنه إذا اكترى دابة ليحمل عليها ما شاء فإن ذلك لا يجوز، قال الخرشي عند قوله: أو ليحمل عليها ما شاء، هذا كقوله في المدونة: ومن اكترى دابة ولم يسم ما يحمل عليها لم يجز إلا في قوم قد عرف حملهم فذلك لازم على ما عرفوا من الحمل، وقال الأجهوري كلام المؤلف يقتضي أنه إذا ذكر نوع المحمول كفى [ويحملها ما تطيق

(1)

] وهذا يوافق ما عليه الأندلسيون، وقوله فيما تقدم: وحمل برؤيته لخ، يفيد أنه لا بد من معرفة قدر

(1)

في الأصل: ويحملها على ما تطيق، والمثبت من الخرشى الصغير ج 7 ص 40.

ص: 201

المحمول، وهذا يوافق قول القرويين، ففي كلامه إشارة للقولين. انتهى. وقد مر هذا ونحوه لعبد الباقي.

أو لمكان شاء؛ يعني أنه إذا اكترى دابة ليذهب بها إلى أي مكان شاءه فإن هذا لا يجوز لاختلاف الطرق بالسهولة والوعورة، وفي الخرشي: وكذا الدور والحوانيت إذا قال: اعمل فيها ما شئت، وأما لو لم يقل: ما شئت، بل سكت عنه صح العقد ويعمل ما جرت العادة به ويمنع ما يضر. انتهى. وقال التتائي: أو ليركبها لمكان شاء من الأمكنة لم يجز لأن بعضها أشق وأوعر من بعض، وقول الشارح: أو لأي بلد شاء، يفهم منه أنه لو قال: إلى البلد الفلاني لجاز، ينبغي أن يقيد بما إذا لم يقل إلى غير مضر لما في الذخيرة عن الكتاب يجوز الكراء إلى مصْر وإن كان اسم الإقليم لأن العادة الفسطاط بخلاف الشام وخراسان لعدم الانضباط. انتهى.

أو ليشيع رجلا؛ يعني أنه إذا اكترى دابة ليشيع عليها رجلا فإن ذلك لا يجوز حتى يذكر منتهى التشييع فيجوز، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وكذا إذا عرف العادة. قاله الخرشي. وقال المواق: من المدونة: لا يجوز كراء دابة ليشيع عليها رجلا حتى يسمي منتهى التشييع، وقال غيره: إلا أن يكون مبلغ التشييع بالبلد قد عرف فلا بأس به. انتهى. ونحوه لغير واحد، وقال التتائي عقب قوله: وقال غيره فيها لخ، ما نصه: وهو تفسير. اهـ.

أو بمثل كراء الناس؛ يعني إذا قال: أكتري منك لموضع عينه بمثل كراء الناس فإن ذلك لا يجوز إلا لعرف في الكراء له، قال عبد الباقي: أو بمثل كراء الناس لموضع معين إلا لعرف في الكراء له. اهـ. وقال الخرشي: هو كقولها: ومن تكارى من رجل إلى مكة بمثل ما تكارى الناس لم يجز للجهالة كبيع السلعة بقيمتها وإن كان لهم عرف في الموضع الذي أكرى إليه جاز. اهـ.

أو إن وصلت في كذا فبكذا؛ يعني أنه إذا قال: أكتري منك هذه الدابة إلى الموضع الفلاني فإن وصلت إليه في كذا أي في زمن عينه كيوم فأنا مكتريها بكذا أي بعشرة دراهم، وإن لم تصل إليه في ذلك الزمن بل وصلت إليه في أكثر منه فالأجرة أقل من ذلك كخمسة مثلا أو لا شيء لك فإن هذا الكراء لا يجوز، فكلا الصورتين ممنوع، قال عبد الباقي: أو كراء، قال فيه: إن وصلت الدابة في زمن كذا فبكذا من الأجر كعشرة، ولم يصرح بمقابله ليصدق بما إذا قال: وإلا فبكذا

ص: 202

لأقل منه أو مجانا، والمنع في الثاني مطلقا، وفي الأول حيث وقع على الإلزام ولو لأحدهما وكان على وجه يتردد فيه النظر كما في البيع؛ لأنه من بيعتين في بيعة، وتقدم نحوه في كإن خطته اليوم لخ، ويفسخ الكراء قبل الركوب فإن ركب للمكان الذي عينه فعليه كراء المثل لا المسمى، قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: الظاهر أن معنى الخيار هنا أن يكون له الخيار في فسخ العقدة عن نفسه وفي أن يمضي إحدى العقدتين شاء، وكذا يقال في مسألة: وكإن خطته لخ، والله تبارك وتعلى أعلم. وقال التتائي: وفي المدونة: ويفسخ قبل الركوب وإن ركب للمكان الذي سماه فله كراء مثله في سرعة السير وإبطائه ولا ينظر لما سميا.

أو ينتقل لبلد وإن ساوت، بالنصب عطف على حمل من قوله: لا حملَ من مرض؛ يعني أنه لا يجوز للمكتري أن يننقل بالدابة لبلد غير بلد الذي اكتراها إليه حيث لم تساوها بل وإن ساوتها مسافة وسهولة وصعوبة، وسواء كان الكراء معينا أو مضمونا، وقوله: وإن ساوت، قال التاودي: هكذا في المدونة ومقتضاه جواز الانتقال لأدون، ومقتضى تعليلهم المنعُ لكنهم لم ينقلوه فانظره. انتهى. إلا بإذن؛ يعني أنه إذا أذن له في الانتقال إلى غير البلد الذي اكتراها إليه فإن الانتقال حينئذ جائز لأنه ابتداء عقدة، وقيل: يمنع لأنه فسخ دين في دين، قال المواق: من المدونة: ومن اكترى من رجل على حمولة إلى بلد فليس له صرفها إلى غير البلد الذي اكتراها إليه وإن ساواه في المسافة والصعوبة والسهولة إلا بإذن الكري، ولم يجزه غيره وإن رضيا لأنه فسخ دين في دين. اهـ. وقوله: أو ينتقل لبلد وإن ساوت؛ لأنَّ ربها قد يكون له غرض في عدم ذهابه بها لغير الوضع الذي أكراها له للخوف عليها من كغاصب، وضمن ما حصل ولو سماويا وعليه كراء المثل لا المسمى، وفي حاشية الشيخ البناني ما نصه: ونص المدونة بعد قولها: إلا بإذن الكري ولم يجزه غيره وإن رضيا لأنه فسخ دين في دين إلا بعد صحة الإقالة. ابن يونس: يريد وبعد رد النقد إن كان نقده على قول غيره. انتهى. فعلى قول الغير محل المنع حيث كان الكراء مضمونا أو معينا ونقد الأجرة، فإن كان معينا ولم ينقد أو نقد ما يعرف بعينه جاز، وقوله: وإن ساوت، إن للمبالغة، وفي الخرشي. ومقتضى ما ذكره الزرقاني في الانتقال للأدون المنع، وقد يقال إنه في حكم المساوي. انتهى.

ص: 203

كإردافه خلفك؛ يعني أنك إذا اكتريت دابة معينة للركوب فإنه لا يجوز للمكري أن يردف خلفك أحدًا إلا بإذنك، قال عبد الباقي: وشبه في المنع قوله: كإردافه أي رب الدابة وهو مصدر مضاف لفاعله؛ أي يمنع رب الدابة من أن يردف شخصا خلفك يا مكتري للمعينة إلا بإذنك. اهـ. وقال التتائي: كإردافه أي رب الدابة رديفا خلفك على دابةٍ اكتريتها بعينها فإنه لا يجوز. انتهى. أو حمل معك؛ يعني أنك إذا اكتريت دابة معينة فإنه لا يجوز لربها أن يحمل معك متاعا لملكك ظهرها، قال المواق: من المدونة قال ملك: وإن اكتريت دابة بعينها فليس لربها أن يحمل تحتك متاعا ولا يردف رديفا وكأنك ملكت ظهرها. والكراء لك؛ يعني أنه إذا أردف خلفك أو حمل معك متاعا فإن ذلك لا يجوز كما عرفت إلا بإذنك، فإذا فعل ذلك بغير إذنك فإن الكراء لك يا مكري إن شئت، وإن شئت أسقطت عن نفسك مقدار ذلك من الكراء قاله الشبراخيتي. إن لم تحمل زنة، قيد في المنع والكراءُ لك؛ يعني أنك يا مكتري إنما يكون الكراء لك حيث لم تكتر الدابة على أن تحمل عليها زنة أي قدرا معروفا، وأما إن اكتريتها لتحمل عليها قدرا معروفا كإردب فإنة لا كراء لك، كما أنه يجوز له أن يحمل متاعا معك حينئذ أي حين اكتريتها لتحمل عليها قدرا معروفا، قال الخرشي: التشبيه في المنع، والضمير في إردافه راجع لرب الدابة، فهو مصدر مضاف لفاعله، والمفعول محذوف، وخلف ظرف، والمعنى أن رب الدابة إذا أكرى دابته المعينة من شخص ليس له أن يردف خلفك يا مكتري رديفا ولا أن يحمل معك متاعا لأن المكتري ملك ظهرها، فإن فعل فالكراء للمكتري إلا أن يكون اكترى حمل أرطال مسماة أو وزن معين، وإلى هذا أشار بقوله: والكراء لك يا مكتري إن لم تكن اكتريت زنة معلومة، فإن اكتريت زنة معلومة كقنطار مثلا فالكراء للمكري، فقوله: إن لم تحمل زنة شرط في منع الحمل وفي الكراء؛ أي ليس له الحمل إن لم تحمل زنة، والكراء لك إن لم تحمل زنة. انتهى. وسَأتكلم إن شاء الله على هذه المسألة آخر ما أنقله عليها، وقال البناني: إن لم تحمل زنة شرط في منع الحمل وهو مقيد بأن لا تضر زيادة الحمل بالمكتري كما إذا كان يصل في يومه بدون الزيادة، وإذا زاد لا يصل إلا في يومين فيمنع المكري من الزيادة حينئذ. انتهى. وقال المواق: من المدونة قال مالك: وإن اكتريت دابة بعينها فليس لربها أن يحمل تحمل متاعا ولا يردف رديفا، وكأنك ملكت ظهرها،

ص: 204

وإن حمل في متاعك على الدابة متاعا بكراء أو بغير كراء فلك كراؤه، إلا أن تكون اكتريت منه حمل أرطال مسماة فالزيادة له، قال أشهب: إن أكراه ليحمله وحده أو مع متاعه فكراء الزيادة للمكْرِي. ابن يونس: قال غير واحد من أصحابنا: قول أشهب وفاق لابن القاسم. اهـ. وقال الرهوني: والكراء لك، ظاهره ولو علم المكتري وسكت، وفي المدونة من قول أشهب: وإن كان اكتراه ليحمله وحده أو مع متاعه فكراء الزيادة للمكري، وقد كان للمكتري منعه من الزيادة عليها. ابن يونس: قال غير واحد من أصحابنا: وقول أشهب هذا وفاق لابن القاسم. المغربي: وجهه أن يقال: تكلم ابن القاسم إذا لم يعلم المكتري بالزيادة، وتكلم أشهب إذا علم بها؛ لأنه نص على أنه علم في قوله: وكان للمكتري منعه. اهـ. وذكر ابن عرفة كلاما عن أبي إسحاق، قال عقبه: قلت: وظاهر قوله أن قول أشهب خلاف، وقال الصقلي: قال غير واحد من أصحابنا. وقوك أشهب هذا وفاق لابن القاسم. اهـ. وقال أبو الحسن: قال أبو إسحاق: هو خلاف، وإن ظاهر قول ابن القاسم أن الزيادة للمكتري وإن علم. انتهى. قال الرهوني: لكن على تسليم أن أبا إسحاق صرح بذلك فلا يعادل ذلك نقل ابن يونس عن غير واحد من الأصحاب حملة على الوفاق وتسليمه ذلك مع اقتصار ابن ناجي عليه وتصدير أبي الحسن. انتهى.

تنبيه: قال ابن ناجي: في شرح المدونة عن التونسي: وإن اكتراها لوزن معلوم فلربها زيادة ما لا يضر بحمل المكتري، وكذلك الركوب فيهما. انتهى. قف على قوله: وكذلك الركوب فيهما، قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: معناه والله تعالى أعلم أنك إذا اكتريت دابة لركوبك فقط فإنه يجوز له أن يحمل معك ما لا يضر بك ولا يجوز له أن يحمل معك ما يضر بك، وحينئذ فهو مخالف لقوله: كإردافه خلفك أو حمل معك؛ إذ ظاهره أنك إذا اكتريت الدابة للحمل أو للركوب لا يجوز له أن يحمل معك شيئا، وظاهره وإن كان لا يضر بك، وذكر

(1)

بهرام في المسألة ثلاثة أوجه: أن يكتريها لحمل مثلها أو لحمل جنس سماه، فإن حمل المكتري أقل من حمل مثلها فكراء الزيادة له، وإن حمل مثلها فالكراء لربها؛ لأن المكتري استوفى منه. الثاني: أن يكتري منه وزنا

(1)

في نسخة وفي الخرشي أن للمسألةَ لخ.

ص: 205

مسمى فكراء الزيادة لربها، ولا كلام للمكتري إلا أن يضر به في ذلك، ككونه يصل دونها في يوم، ومعها في يومين. الثالث: أن يكتري جميع منافعها لركوبه أو مع متاع. اهـ. وهذه هي قوله: كإردافه خلفك أو حمل معك، إلا أن ظاهر ذلك كان ذلك يضر أم لا، وقد مر عن الإمام أنه إذا اكترف دابة معينة يقول: إنه ملك جميع منافعها فيس لربها إردافه خلفك أو حمل معك، ويجري فيه قوله: والكراء لك، كما جرى حيث اكتراها لحمل مثلها أو لحمل جنس سماه وحمل عليها المكتري أقل من حمل مثلها، وحيث اكترى جميع منافعها أو مع متاع. والله تعالى أعلم.

كالسفينة، قال غير واحد: تشبيه في جميع في تقدم من قوله: وكراء الدابة إلى هنا، لا فيما قبله فقط، من قوله: والكراء إن لم تحمل زنة. وضمن إن أكرى لغير أمين؛ يعني أن المكتري يضمن أذا أكرى لغير أمين أو من هو أقل أمانة منه أو من هو أثقل منه أو أضر. قال الشبراخيتي: وضمن المكتري إن أكرى لغير أمين، وكذا لمن هو أقل أمانة كما في المدونة، أو من هو أثقل منه، وظاهر كلامه الضمان بذلك وإن لم يكن هو أمينا، وهو ظاهر إذ قد يرى ربها أن الأول يرعى حقه ويحفظ متاعه بخلاف الثاني. انتهى. وقال البناني: قال ابن عرفة: وفيها: من اكترى دابة ليركبها فحمل مثله في الخفة والأمانة لم يضمن، وإن

(1)

اكترى من غير أمين ضمن، فإن ادعى غير المأمون تلفها لم يضمن إلا بسبب أو تبين كذبه وضمنها الأول بتعديه، وأكره أن يكري من غيره، وأما في موته فلوارثه حمل مثله، وأكثر قول مالك أن له ذلك في الحياة. انتهى. وفي التوضيح: قال في كتاب الإجارة: وكره مالك لكتري الدابة كراءها من غيره وإن كان أخف منه أو مثله فإن أكراها لم أفسخه، وقال في كراء الرواحل: وأكثر قول مالك أن له في حياته أن يكريها من مثله في حاله وأمانته وخفته. انتهى. وقال البناني في تضمين الثاني: والحاصل أن الدابة إذا تلفت عند الثاني فإما عمدا أو خطأ أو بسماوي، وفي كل إما أن يعلم بتعدي الأول أو بأنه مكتر فقط أو يظن أنه المالك، فإن كان عمدا ضمن مطلقا، وإن كان خطأ فإن علم بالعداء ضمن وإلا فقولان، وإن كان بسماوي فإن علم بالتعدي ضمن مطلقا، وإن علم بالكراء فقط ضمن إن أعدم الأول، وإن ظن أنه

(1)

لفظ البناني: وإن كان أثقل منه أو غير أمين ضمن فإن ادعى لخ البناني ج 7 ص 42.

ص: 206

المالك فلا ضمان عليه. والله أعلم. انتهى. وقال التتائي: ومفهومه عدم الضمان إن أكرى لأمين فادعى تلفها فلا يضمن الثاني إلا أن يأتي من سببه أو تبين كذبه. انتهى.

أو عطبت بزيادة مسافة؛ يعني أن المكتري إذا زاد في المسافة التي اكترى إليها ولو قلت الزيادة كالميل وعطبت الدابة بالزيادة فإن المكتري يضمن، والذي يضمنه بينه في المدونة ففيها: وإذا بلغ المكتري الغاية ثم زاد ميلا مثلا ونحوه فعطبت الدابة فلربها كراؤه الأول، والخيار في أخذ كراء المثل ما بلغ، أو قيمة الدابة يوم التعدي، فهو يضمن الكراء الأول بكل حال، ويخير في القيمة يوم التعدي وفي أخذ كراء المثل فيما زاد. اهـ. قاله الخرشي. ونَكَّر المؤلف مسافة ليشمل ما تعطب بمثلها، وما لا ويستثنى من الزيادة في المسافة ما يعدل الناس إليه عرفا، وقوله: أو عطبت بزيادة مسافة كان العطب في الزيادة أو بعد الرجوع للمأذون فيه عند ابن القاسم؛ إذ بالانضمام يزيد الإيلام، خلافا لسحنون في قصره على الزيادة لا فيما بعدها فلا ضمان، كرد ما تسلف من الوديعة وعليه كراء الزائد، واستحسن ابن يونس الأول.

تنبيه: قال الخرشي: ومن المعلوم أن الأرش يتنزل منزلة القيمة في التلف والموضوع بحاله أي وهو أنه تعدى بزيادة المسافة. انتهى. وقال عبد الباقي: وأفهم قوله: بزيادة؛ أي بسببها سواء كانت تعطب بمثلها أم لا، بخلاف ما لو كان العطب بأمر سماوي. انتهى. ونحوه للخرشي. قوله: بخلاف ما لو كان العطب بأمر سماوي، قال الرهوني: غير صحيح، وإن سكت عنه التاودي والبناني، وقد قدمنا عند قوله في الغصب أو غصب منفعة فتلفت الذات، ما هو كاف في رده، ويرده أيضا ما ذكره هو هنا عن ابن يونس من قوله: لأن زيادة المسافة محض تعد. اهـ. وقال البناني: قال في التوضيح: مقتضى كلام المص أن الدابة إذا عطبت في زيادة المسافة تضمن مطلقا، وهو قول نقله ابن المواز أنه يضمن ولو زاد خطوة؛ أبو الحسن: وهو خلاف المدونة؛ لأن الذي فيها: يضمن في الميل ونحوه، وأما مثل ما يعدل الناس إليه في الرحلة فلا ضمان، خليل: وقد يقال: ليس هذا خلافا لأن هذا لما كان الناس يعدلون إليه لم تبق زيادة. انتهى. قال الرهوني: قَيل كلام التوضيح هذا كما قبله جسوس وهو ظاهر لكن كان من حقهم الجزم به. انتهى. وقال الإمام الحطاب: قوله: أو عطبت بزيادة مسافة، ظاهره أنه إذا زاد على المسافة التي اكترى إليها

ص: 207

يضمن ولو اكترى ذاهبا وراجعا، ولا يعتبر قدر الرجوع مما زاد على المسافة، كما تقول الشافعية: إنه لا يضمن حتى تزيد على المسافة المشترطة قدر الرجوع الذي يستحقه وهو كذلك، قال في كتاب الرواحل من المدونة: قال مالك: وإذا اكتراها إلى بلد ذاهبا وراجعا فعطبت الدابة يوم وصوله إلى البلد لم يضمن المكتري ولربها نصف الكراء فقط، وإذا جاوزها فلربها أخذ قيمتها يوم تعديه مع كرائها إلى ذلك الموضع، وإن شاء أخذ دابته وكراء ما تعدى فيه. قال ابن يونس: يريد مع كرائه الأول، ويفهم ذلك من مسألة المدونة الآتية في شرح قول المص: إلا أن يحبسها كثيرا. انتهى.

أو حمل تعطب به؛ يعني أن المكتري إذا زاد حملا تعطب به الدابة فعطبت فإنه يضمن. وحاصل ضمانه هنا أنه إن زاد من أول المسافة خير ربها بين أخذ قيمتها ولا شيء له من الكراء الأول ولا من كراء الزائد وبين أخذ الكراءين، وإن زاد في أثنائها خير بين أخذ قيمتها مع كراء ما قبل الزيادة وبين أخذ الكراء الأول إن كان استوفى المسافة أو قسطه مع كراء الزائد، فهو مخير بين أمرين، هذا إذا تلفت، وأما إن تعيبت فيتنزل الأرش منزلة القيمة، والموضوع بحاله وهو أنه تعدى بزيادة الحمل، ونكر حمل ليشمل زيادة الوزن. ابن يونس: قيدوا الحمل بما تعطب به وأطلقوا في المسافة لحصول الإذن في الجعلة دونها فكلها تعد بخلافه إذ بعضه وبعضه. انتهى. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: أو عطبت بزيادة حمل تعطب به أي بمثله فيضمن، والمراد يخير ربها في أخذ قيمة كراء الزائد مع الكراء الأول وفي أخذ قيمتها يوم التعدي، فلا شيء له من الكراء الأول ولا من كراء الزائد، هذا إذا زاد ذلك أول الحمل، فإن زاده بعد ما سار بعض الطريق خير بين أخذ قيمتها مع كراء ما قبل الزيادة وبين أخذ الكراء الأول والزيادة، وإنما ضمن فيعا عطب بزيادة المسافة وإن قلت، بخلاف زيادة الحمل فإنما يضمن إذا كان يحصل العطب بمثلها؛ لأن زيادة المسافة محض تعد، وزيادة الحمل اجتمع فيها تعد ومأذون فيه، كذا فرق ابن يونس. انتهى.

وإلا بأن زاد حملا لا تعطب بمثله وعطبت فالكراء؛ أي فإنما عليه كراء الزائد بالغا ما بلغ مع الكراء الأول، ولا تخيير له في القيمة. قال عبد الباقي: وإلا تكن زيادة الحمل مما يعطب به

ص: 208

وعطبت فالكراء، قال الشبراخيتي: أي كراء الزائد بالغا ما بلغ مع الكراء الأول ولا ضمان عليه، وقال الخرشي: فإنما عليه الكراء فقط أي مع كراء الزائد بالغا ما بلغ مع الكراء الأول ولا تخيير له في القيمة. انتهى.

فرع: قال الحطاب: عن الشعبي عن أحمد بن عبد الله: إذا حمل على الدابة المكتراة إلى موضع أقل من الشرط غلطا منه حتى وصل فعليه الكراء كاملا إذ لو شاء لتثبت في حمل الجميع. انتهى.

كأن لم تعطب؛ يعني أن الدابة إذا لم تعطب فلا يلزم المكتري إلا كراء ما زاد من الحمل والمسافة مع الكراء الأول كانت الزيادة مما يعطب بمثلها أم لا، ولا تخيير له في القيمة إن لم تتعيب. قال عبد الباقي: وإلا تكن زيادة الحمل مما تعطب به وعطبت فالكراء كأن لم تعطب في المسألتين فله كراء ما زاد من حمل أو مسافة مع الكراء الأول، ولا تخيير له في القيمة إن لم تتعيب، فإن تعيبت لا بسبب الزيادة يعني بأن تعيبت من المكتري عمدا أو خطأ فله كراء الزائد وأرش العيب، فإن كان من سبب الزيادة فله الأكثر من كراء الزائد وقيمة العيب، فإنْ قِيلَ: إذا عطبت بحمل لا تعطب به فليس له إلا كراء الزائد فكيف يكون له إذا تعيبت الأكثر من أرش العيب وكراء الزائد؟ قُلتُ: العيب الذي فيه الأكثر هو الناشئ من حمل تعطب به أو من زيادة مسافة وأما العطب الذي فيه الكراء فهو في حمل لا تعطب به. انتهى. وأما لو تعيبت بسماوي فلا أرش. إلا أن يحبسها كثيرا، مستثنى مما بعد الكاف؛ يعني أنها إذا لم تعطب فإنه ليس على المكتري إلا الكراء الزائد مع الكراء الأول كما عرفت، وهذا إذا لم يحبسها مكتريها زمنا كثيرا، وأما إن حبسها زمنا كثيرا زائدا على ما اكتراها له وردها بحالها لم تتغير. فله أي لرب الدابة كراء الزائد الذي حبسها فيه مع الكراء الأول أو قيمتها يوم التعدي مع الكراء الأول. قال عبد الباقي: واستثنى مما بعد الكاف قوله: إلا أن يحبسها أي المكتري زمنا كثيرا على ما اكتراها كما لو اكتراها يوما أو يومين فحبسها شهرا تغير سوقها الذي تراد له بيعا وكراء، كحبسها عند خروج القَفَلِ مثلا أو لم يتغير أو حبسها حتى تغير سوقها بالفعل ولو في دون شهر أو ركبها أميالا كثيرة فله مع كراء اليوم أو اليومين كراء الزائد الذي حبسها فيه إذا ردها بحالها لم تتغير،

ص: 209

أو قيمتها يوم التعدي مع الكراء الأول، ومفهومُ كثيرا أنه لو حبسها يَسيرًا كيوم ونحوه فليس له إلا كراء الزائد. انتهى. قال الشبراخيتي: وظاهر قوله: كراء الزائد سواء حضر ربها أم لا وهو كذلك عند ابن القاسم، وقال غيره: إن كان ربها حاضرا معه فله فيما حبسها بحساب الكراء الأول، وكأنه لقدرته على أخذها قد رضي به، وإن كان غائبا عنه وردها بحالها فلربها فيما حبسها فيه الأكثر من كراء المثل وما يجب له بحساب الكراء الأول وإن شاء أخذ قيمتها، وأما إن عطبت فإن كان ربها حاضرا فيتفق ابن القاسم وغيره على أنه ليس لربها أخذ قيمتها لأنه مفرط بتركها عند المكتري بعد مدة الإجارة، وإن كان غائبا يتفقان على أن له أخذ قيمتها يوم التعدي من المكتري مع الكراء الأول، واعلم أنه إذا تغيرت أسواقها بالفعل فإنَّ فيه ما ذكره المص وإن لم تتغير أسواقها وحبسها الشهر ونحوه فكذلك، وإن حبسها خمسة عشر يوما أو أكثر فعلى ما بحثه ابن العطار يكون الحكم كذلك أيضا. انتهى. وقال المواق: قال ابن القاسم: وأما إن كثرت الزيادة أو حبسها أياما أو شهدا وردها بحالها فلربها كراؤه الأول والخيار في أخذ قيمتها يوم التعدي أو كرائها فيما حبسها فيه من عمل، أو حبسها أياما بغير عمل ما بلغ ذلك ولو لم تتغير. انتهى. وقال الشبراخيتي: فله كراء الزائد الذي حبسها فيه إذا ردها بحالها لم تتغير: وسواء استعملها أم لا أو قيمتها يوم التعدي وظاهره سواء كان ربها حاضرا أم لا وهو كذلك عند ابن القاسم لخ، وقال الحطاب عند قوله: إلا أن يحبسها لخ، يشير به إلى قوله في المدونة: ومن اكترى دابة من مصر إلى برقة ذاهبا وراجعا إلى مصر فتمادى إلى إفريقية وعاد إلى مصر فرب الدابة مخير في أخذ قيمة كرائها من برقة إلى إفريقية ذاهبا وراجعا إلى برقة ما بلغ مع كرائه الأول ونصف الكراء الأول مع قيمتها ببرقة يوم التعدي، ردها بحالها أو بغير حالها؛ لأن سوقها قد تغيرت وقد حبسها المكتري عن نفعه بها وعن أسواقها. انتهى كلام الحطاب.

قال مقيده عفا الله عنه: تحصل مما مر أن معنى قول المص: إلا أن يحبسها كثيرا، أنه إذا حبسها كثيرا يخير ربها في أخذ القيمة وكراء الزائد وله الكراء الأول سواء اختار القيمة أو كراء الزائد، وسواء ردها بحالها أم لا، وهذا أي التخيير المذكور إنما هو حيث غاب ربها عن المكتري: وأما لو حضر معه فلا خيار في القيمة، وأن ابن القاسم وغيره لم يختلفا في ذلك وإنما

ص: 210

اختلافهما في كراء الزائد، فابن القاسم يقول: له كراء الزائد حضر أو غاب، وغيره يقول: له بحساب الكراء الأول إن حضر، وإن غاب فله الأكثر من كراء المثل ومما يجب له بحساب الكراء الأول، واعلم أن قوله: إلا أن يحبسها، يجري فيما إذا حبسها كثيرا ولو لم يتعد بزيادة مسافة ولا حمل، وفيما إذا حبسها ولم يستعملها أو استعملها. والله تعالى أعلم.

ولك فسخ عضوض؛ يعني أن المكتري له أن يفسخ الكراء عن نفسه إذا وجد الدابة المكتراة عضوضا، ولد البقاء بالأجر الذي وقع عليه العقد، والعضوض الذي يعض من يقرب منه كما في الشارح، ونحوه لأبي الحسن، وبه يعلم أنه ليس المراد من عضوض المبالغة فيه، وأن المراد به الدلالة على أصل الفعل. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: ولك يا مكتري فسخ كراء بعير عضوض لمن يقرب منه ولو مرة لواحد، فصيغة المبالغة غير مرادة، ولك البقاء بالكراء المعقود عليه إذ خيرتك تنفي ضررك، والمراد اطلع على ذلك وعلى ما يذكره بعد العقد لا عنده. انتهى. وقال التتائي: ولك فسخ كراء بعير مثلا عضوض. انتهى المراد منه. وقال الشبراخيتي عند قوله: ولك فسخ عضوض: وظاهره يشمل ما لو فعل به ما يأمن معه أن يعضه كجعل شبكة ونحوها على فيه لأن غائلته لا تؤمن. انتهى. وتعقب أبو علي ما مر من تفسير العضوض بالقلة، وقال كلامهم: يقتضي كثرة العض والجموح والعثار، وكأنَّ القليل ليس بعيب إذ لا تخلو دابة من العض والعثار والجموح على وجه القلة، ولذلك يقال: الجواد يكبو. انتهى. قال الرهوني: وعندي أن قوله: لا تسلم دابة من العض والجموح غير مسلم بدليل المشاهدة، والذي يفيده كلام المتيطي أن الدار على ما فيه ضرر بالمكتري لا على الكثرة وهو الظاهر. انتهى. والله تعالى أعلم.

أو جَموح؛ يعني أنك يا مكتري لك الفسخ إذا اكتريت دابة فوجدتها جَمُوحا، ولك البقاء بما وقع عليه العقد، والجَموح قوي الرأس الذي لا ينقاد إلا بعسر. قاله غير واحد. أو أعشى؛ يعني أنه إذا وجد المكتَرَى أعشى فإن له الفسخ لعقد الكراء عن نفسه، وله البقاء عليه بالمسمى، والأعشى هو الذي لا يبصر بالليل، قال عبد الباقي: أو أعشى لا يبصر ليلا إن اكتراه ليسير به ليلا فقط، كما قيده اللخمي، وظاهر المدونة كظاهر المص خلافه، ولك البقاء ويحط عنك من الكراء أرش العيب كأن سار به نهارا فقط في الفرض المذكور، كإن اكتراه ليسير به ليلا ونهارا أو نهارا فقط أو

ص: 211

أطلقا عند العقد، كذا بحث علي الأجهوري، والقياس أن عليه جميع الكراء إن اكتراه ليسير به ليلا فلم يسر به إلا نهارا لا لكونه أعشى بل يسير الناس نهارا فقط، وكذا إن اكتراه ليسير به نهارا فقط. انتهى. وقال الشبراخيتي: وظاهر كلام المص سواء كان في مكان مستعتب أي تمكن الإقامة فيه أم لا، وقيده بعضهم بما إذا كان في مكان مستعتب أي لأنه يمكن استئجار غيرها حينئذ وإلا تمادى وحط عنه قيمة العيب. انتهى. وقال التتائي: أو أعشى، وهو الذي لا يبصر ليلا، ابن ناجي: هذا إذا كان يحتاج إليه ليلا. انتهى. وقال البناني على قول عبد الباقي: ولك البقاء ويحط عنك من الكراء أرش العيب لخ، مقتضى الخيار أنه إن تمسك لا يحط عنه شيء، هذا هو ظاهر المدونة وغيرها: ولم أر من ذكر الحط مع التمسك. انتهى.

أو دبره فاحشا؛ يعني أنك يا مكتري لك أن تفسخ الكراء بسبب كون الدابة المكتراة فاحشا دبرها بحيث تضر رائحتها بالراكب لا من لا شم له فلا فسخ، كذا ينبغي. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: قال في الشامل: ولك فسخ كراء عضوض وأعشى وعثور وجموح وذي دبرة فاحشة، وقيل: إن كان في مستعتب وإلا تمادى وحط عنه قيمة العيب كما لو لم يعلم به حتى وصل. انتهى. والأعشى هو الذي لا يبصر بالليل والجموح القوي الرأس الذي لا يقاد إلا بعسر، والعضوض الذي يعض من يقرب منه، والدبر العقد الذي يحصل في ظهور الإبل. وقاله بهرام. انتهى. وقال المواق: من المدونة وإن اكتريت دابة أو بعيرًا بعينه فإذا هو عضوض أو جموح أو لا يبصر بالليل أو دبرت تحتك دبرة فاحشة يؤذيك ريحها فما أضر من ذلك براكبها فلك فيه الفسخ لأنها عيوب والكراء غير مضمون. انتهى. وقال عبد الباقي: وشمل قوله: دبره الموجود حال العقد ولم يرض به أو وجد تحت الراكب بسبب ركوبه وهو كذلك في المدونة: وكأنه لما دخل رب الدابة مجوزا حصوله من الراكب فكأنه وجد عنده مع تضرره برائحته، وإن اتفق المتكاريان على حدوث الدبر واختلفا في وقت حدوثه، فقال المكتري: من أول سيره ليحط عنه مناب العيب من الكراء من أول المسافة، وقال المكري: من آخر سيره ليحط عنه من آخر المسافة، فاستظهر الأجهوري أن القول للمكري، قال الرهوني: وما استظهره الأجهوري من أن القول للمكري ظاهر جار على المشهور المعمول به، وهو مذهب المدونة في مسألة الرحا، ويجري على مقابله أن القول للمكتري،

ص: 212

فلو قاسها الأجهوري عليها لكان أنسب من قياسه إياها على مسألة اختلاف المتبايعين التي أشار إليها؛ يعني اختلافهما في قدم العيب وحدوثه، ففي المفيد ما نصه: وإن اختلف المكري والمكتري في بطلان الرحا فقال ربها: عشرة أيام، وقال المكتري: شهرا، فالقول قول رب الرحا، هذا مذهب ابن القاسم في المدونة وبه الحكم، وقال ابن الماجشون: القول قول المكتري مع يمينه، وبه قال ابن المواز، وقاله أيضا ملك. انتهى. وقال البناني على قول عبد الباقي: وشمل قوله: دبره الموجود حال العقد أي ما يتبين أنه كان موجودا حال العقد ولم يطلع عليه إلا بعده. انتهى. وقوله: دبره اسم كان محذوفة وفاحشا خبرها أي أو كان دبره فاحشا. قاله عبد الباقي. وفي الخرشي: أن الدبر الحادث بعد عقد الكراء حكمه حكم ما كان قبله: والظاهر أنه يجري مثله في العضوض وما بعده، وهو ظاهر كلام المؤلف. انتهى. وقاله غيره.

كأن يطحن لك كل يوم إردبين بدرهم فوجد لا يطحن إلا إردبا، تشبيه في خيار المكتري بين الفسخ والإبقاء، ومعنى كلام المص أنك إذا اكتريت ثورا على أن يطحن مثلا لك كل يوم إردبين مثلا بدرهم مثلا فوجد لا يطحن في اليوم إلا إردبا مثلا فإنه يثبت لك الخيار في الفسخ والإبقاء، وخيرته تنفي ضرره، قال عبد الباقي: وشبَّه في خيار المكتري بين الفسخ والإبقاء قوله: كأن اكتريت ثورا على أن يطحن مثلا لك كل يوم إردبين مثلا بدرهم مثلا فوجد لا يطحن إلا إردبا مثلا والمراد أقل مما وقع عليه العقد معتقدين أن الزمان يزيد على العمل فتبين خلافه، ثم إن فسخ فله في الإردب نصف درهم، وإن بقي فعليه الكراء كله، كذا ينبغي أي ويدل له قول المص فيما يأتي: فإن بَقيَ فالكراء؛ أي ولأن خيرته تنفي ضرره، وأنت خبير بأن الجمع بين الزمن والعمل يفسد الكراء حيث تساويا على المعتمد أو زاد العمل على الزمن، فإن زاد الزمن على العمل ففي الفساد خلاف، وحينئذ فيحمل ما هنا على أنهما حين عقد الكراء اعتقدا أن الزمن يزيد على العمل كما قدمنا، وقول المص: فوجد لخ، ظاهر في أنهما لم يدخلا على ذلك انتهى قوله فإن بقي فعليه الكراء كله، كذا ينبغي. قال البناني: أصله لأحمد، وتبعه الأجهوري واعترضه مصطفى قائلا: فيه نظر والصواب ما قال التتائي: أنه إن بقي فعليه نصف درهم لأن إلزامه الكراء في كل يوم مع كونه لا يطحن إلا إردبا إلزام لما لم يدخلا عليه ولم يتعاقدا عليه، واستدلاله

ص: 213

بقوله فيما يأتي: فإن بقي فالكراء لا ينهض لأنهما تعاقدا على ذلك فبينهما فرق. فتأمله. انتهى. قوله: واعترضه مصطفى لخ، قال الرهوني: سلم اعتراض مصطفى، وقال التاودي: ما قاله الأجهوري حق فاعتراض مصطفى عليه وتصويب ما قاله التتائي غير ظاهر. انتهى. قال الرهوني: وما قاله طيب الله ثراه هو الصواب، وفي تسليم البناني لما قاله مصطفى مع جزمه فيما مر بأنه في الأعشى وما معه إذا اختار البقاء يلزمه جميع الكراء ورده على من قال: يحط عنه من المسمى أرش العيب نظرٌ ظاهر إلى آخر كلامه. وقال الحطاب عند قوله: كأن يطحن لك كل يوم إردبين بدرهم فوجد لا يطحن إلا إردبا، هكذا قال في كتاب الرواحل من المدونة ففيها: وإن اكتريت ثورا لتطحن عليه كل يوم إردبين بدرهم فوجدته لا يطحن إلا إردبا فلك رده وعليه في الإردب نصف درهم. انتهى. وظاهر المدونة أن عقد الكراء صحيح وليس بفاسد، وهو جار على أحد القولين المشهورين الذين تقدما فيما إذا قيد بالزمان والعمل. انتهى؛ يعني في قوله: وهل تفسد إن جمعهما وتساويا أو مطلقا خلاف.

وإن زاد أو نقص ما يشبه الكيل فلا لك ولا عليك؛ يعني أنه إذا زاد المكتري في حمل الدابة على ما استأجرها أو نقص عنه ما يشبه اختلاف المكاييل فلا لك يا مكتري في مسألة النقص رجوع على المكري بشيء ولا عليك في مسألة الزيادة شيء؛ أي لا يرجع المكري عليك بشيء فيما زدته، وكذا الحكم لو زاد ما طحن الثور عن إردبين أو نقص عنهما ما يشبه الكيل، فلا لك يا صاحب الثور في هذا الزائد شيء ولا عليك شيء في نقص، فهو عام في مسألة الطحن وغيرها، قال الشبراخيتي: وإن زاد ما طحن الثور عن إردبين أو نقص عنهما ما يشبه الكيل فلا لك يا صاحب الثور في هذا الزائد ولا عليك شيء في نقص، فهو من تتمة ما قبله كما قال التتائي والحطاب، ويحتمل أنه مستأنف كما عند الشارحين، فيجري في الموزون والمعدود أيضا ويحتمل أنه أعم وهذا أولى انتهى وقال عبد الباقي وإن زاد المكتري أو نقص في مسألة الطحن وغيرها لا فيها فقط ما يشبه الكيل، فلا لك يا مكتري في النقص رجوع عليه بشيء، ولا عليك شيء في الزيادة، فهو لف ونشر مشوش، هذا على جعل ضمير زاد أو نقص للمكري كما مر؛ أي أن المكري زاد قدر ما طحنه مثلا للمكتري، كأن يستأجره على طحن إردب فيطحن ما يزيد عليه مما يشبه أن يزاد في

ص: 214

كيله، أو نقص الإردب مما يشبه أن ينقص في كيله، وحينئذ فيكون ضمير الحطاب فيهما للمكتري كما قدمنا، كما أنه فيما قبلُ كذلك، ويصحح عود ضميرهما للمكتري والخطاب للمكري، وحينئذ فيكون في الكلام لف ونشر مرتب، غير أنه يكون الخاطب حينئذ هنا غير المخاطب فيما قبله، ثم يحتمل أن يكون هذا من تتمة ما قبله ويحتمل أن يكون مستأنفا أعم، وهذا أتم فائدة فيشمل مسألة الثور وغيرها. انتهى.

تنبيه: قال الخرشي هنا: وفي الدميري: الدابة يجوز بيعها وإجارتها واستثناء منفعتها في الحالتين خمسة فأقل، ويجوز اشتراط النقد للثمن وللأجرة مع هذه المدة، ويجوز بيعها إذا بقي من مدة إجارتها خمسة أيام فأقل، والدار يجوز بيعها وإجارتها واستثناء منفعتها في الحالتين عاما فأقل، ويجوز اشتراط نقد الثمن مع هذه المدة، ويجوز بيعها إذا بقي من مدة إجارتها عام فأقل، والأرض يجوز بيعها وإجارتها واستثناء منفعتها في الحالتين عشرة أعوام فأقل، ويجوز اشتراط النقد للثمن وللأجرة مع هذه المدة، ويجوز بيعها إذا بقي من مدة إجارتها عشرة أعوام فأقل، والعبد يجوز بيعه وإجارته واستثناء منفعته في الحالتين عشرة أيام فأقل، ويجوز اشتراط نقد الثمن والأجرة مع هذه المدة، ويجوز بيعه إذا بقي من مدة إجارته عشرة أيام فأقل. انتهى المراد منه.

ص: 215

‌فصل: ذكر فيه كراء الحمام والدار والأرض

والعبد واختلاف المتكاريين وما يتعلق بذلك.

ابن رشد: الكراء اشتراء المنافع فهو بيع من البيوع يحله ما يحلها ويحرمه ما يحرمها، فلا يجوز فيه الغرر والجهل، وتكلم المص على ما في الفصل شيئا فشيئا، فقال: جاز كراء حمام؛ يعني أنه يجوز كراء الحمام، قال في المدونة: ولا بأس بكراء الحمامات، أبو الحسن: فيؤخذ منه جواز دخول الحمام بشرطه: وقال اللخمي: إجارة الحمام للرجال جائزة إذا كانوا يدخلون مستترين، وإجارته للنساء على ثلاثة أوجه: جائزة إن كانت عادتهن ستر جميع الجسد، وغير جائزة إن كانت عادتهن عدم التستر، واختلف إذا كانت عادتهن الدخول بالمآزر. انتهى. وقال ابن ناجي: دخول الرجل الحمام على ثلاثة أوجه، الأول: دخوله مع زوجته أو جاريته أو وحده فمباح، الثاني: دخوله مع قوم لا يستترون فممنوع. الثالث: دخوله مع قوم مستترين فمكروه إذ لا يأمن أن يكشف بعضهم فيقع بصره على ما لا يحل، وقيل في هذا الوجه: هو جائز، وقوله: كراء حمام، اعلم أنه إذا جاز الإكراء جاز الاكتراء وكذا العكس؛ لأن العقد لا يكون جائزا من أحد الجانبين دون الآخر، فلا معنى لقول عبد الباقي: يحتمل أنه بمعنى الإكراء فلا يعلم منه حكم الاكتراء لخ، والله تعالى أعلم. وظاهر المص كالمدونة الجواز المستوي الطرفين، وفي العتبية قال مالك: والله ما دخوله بصواب، وهو إن كان في الدخول والأول في العقد يقال عليه: إن العقد وسيلة للدخول، ويأتي قريبا حمله على ما يوافق المدونة والله سبحانه أعلم.

ودار غائبة؛ يعني أنه يجوز كراء الدار الغائبة، وقوله: كبيعها؛ أي الدار الغائبة، أفاد به أنه يشترط في كرائها أن يكون المكتري قد تقدمت له رؤية لا تتغير بعدها أو وصفت له ولو من المكري أو على خياره بالرؤية، قال عبد الباقي: ودار أو ربع أو حانوت غائبة، وكراؤها يكون كبيعها وهي غائبة، فيجوز كراؤها بمصر مثلا برؤية من المكتري لها وهي بمكة مثلا سابقة لا تتغير بعدها أو بوصفها ولو من المكري وعلى خيار المكتري بالرؤية. اهـ. وقال الحطاب: قال في المدونة: ولا بأس بكراء أرض أو دار غائبة ببلد قريب أو بعيد على صفة أو رؤية متقدمة وينقده كالبيع، ثم لا رد له إن وجدها على الصفة، وإنما يجوز ذلك على رؤية متقدمة لا يتغير بعدها، أبو الحسن: قوله: وينقده كالبيع، قال أحمد: قال محمد بن إبراهيم: ولا ينقده على صفة ربها

ص: 216

وإنما ينقده على صفة غيره أو يرسل المكتري رسولا يبصرها. اهـ. وفي بعض النسخ: كبيعهما. بضمير التثنية أي جاز كراء الحمام والدار الغائبة كما يجوز بيعهما، واعلم أن الحمام مذكر باتفاق أهل اللغة، ويقال للذي يخرج من الحمام: طاب حميمك أي عرقك. قاله الخرشي. وقال: أخرج الحافظ ابن السني في كتابه عمل اليوم والليلة عن أبي موسى: قال: قال عليه الصلاة والسلام: (أول من صنعت له الحمامات والنؤرة سليمان بن داود عليه السلام فلما دخله وجد غَمَّه، قال: أوه من عذاب الله أوه ثم أوه قبل أن لا يكون أوه

(1)

). اهـ. وأول من بني الحمام في القاهرة العزيز بن المعز العبيدي، وتقدم في أول الإجارة في نقل المواق أنه يجوز أن يدخل الحمام وإن لم يتفقا على أجرة معلومة كالحجام. اهـ. وينبغي أن لا يدخله إلا الرجال، وأما النساء فلا ويمنعن من دخوله. قاله ابن عات. وقال عبد الملك: يمنع السلطان النساءَ الحماماتِ أشد المنع ويضربهن على ذلك ويؤدب صاحب الحمام حتى لا يدخله امرأة، إنما الحمامات للرجال بشرط التستر. وقاله أصبغ. وقال ابن عرفة: أخبرنا شيخنا ابن عبد السلام أن بعض من له النظر الشرعي كان أمر الحمامين باتخاذ أزر للنساء كما هو اليوم للرجال، فصرن يتضاربن الأزر على وجه اللعب فصارت المصلحة زيادة في المفسدة، ولا يشك منصف في حرمته اليوم للنساء. اهـ المراد منه.

تنبيه: قال مالك: والله ما دخوله بصواب، فحمل على المنع إذا كان بغير وجهه وهو الظاهر، ولمن أراد دخوله شروط، فشروطهُ الواجبة ثلاثة: غض البصر، وستر العورة، واستيفاء الحقوق بإعطاء الواجب وأخذ المعتاد، وتغيير ما يقدر عليه من المنكر بحسب الإمكان، وآدابه ثلاثة: دخوله بالتدريج، وخروجه كذلك، وصب الماء البارد على القدمين عند الخروج، وهو أمان من ورم الرجلين، وأضر ما على داخله ثلاثة، دخوله على غير اعتدال من شبع أو جوع، والخروج منه قبل منفعته، والإقامة فيه أكثر من المحتاج إليه، ولا يجوز تمكين الدلاك مما فوق الركبة،

(1)

عمل اليوم والليلة لابن السني، رقم الحديث 313.

ص: 217

ولا تدخل المرأة الحمام إلا من علة مخوفة. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} . اهـ. قاله الخرشي. وقال التتائي: ثم نتبه في الجواز قوله: كبيعها أي الحمام والدار.

أو نصفها؛ يعني أنه يجوز كراء جزء مشاع من دار وحمام وغيرهما كنصف أو سدس أو ربع أو ثلث أو غير ذلك أقل أو أكثر، وفي نسخة ونصفهما بضمير التثنية عائد على الحمام والدار، وإنما ذكر المؤلف الدار والحمام والعبد على سبيل التمثيل، وكذا الحيوانات والرباع والأرضون وغير ذلك، قال الحطاب: قال في كراء الدور: وتجوز إجارة نصف دابة أو نصف عبد يكون للمستأجر يوما وللذي له النصف الآخر يوما كالبيع، ثم قال: ولا بأس بكراء دار أو سدسها أو جزء شائع أقل أو أكثر كالشراء. انتهى. راجع ما مر عند قوله: قدر على تسليمها، وقوله: ونصفها سواء كان الباقي للمكري أو للشريك، وسواء أكراه للشريك أو لغيره، خلافا لقول أبي ثور وأبي حنيفة وابن حنبل بمنع كراء المشاع لغير الشريك، ولو قال المص: كبيعه أو نصفه، بتذكير الضمير العائد على المذكور من حمام ودار لكان أحسن؛ لأن الحمام مذكر ولا شفعة للشريك بكراء النصف. أو نصف عبد؛ يعني أنه يجوز كراء نصف عبد ودابة لشريك له أو لغيره كما مر في الدار، قال عبد الباقي: أو أي وكذا يجوز كراء نصف عبد أو دابة، ولا مفهوم للنصف، ويستعمله المكتري يوما والمالك يوما، وإن كان له غلة اقتسماها على الحصص. اهـ.

وشهرا على إن سكن يوما لزم؛ يعني أنه يجوز كراء الدار والحانوت وما أشبه ذلك شهرا على شرط أنه إن سكن المكتري يوما فأكثر من الشهر لزم الكراء أي العقد بينكما، بشرط أشار إليه بقوله: إن ملك البقية؛ يعني أنه إنما يجوز العقد المذكور إن دخلا على أن المكتري يملك البقية مدة الإجارة التي لزمت، ومعنى ملكه لها أنه يكون له التصرف فيها بالسكنى والإسكان والكراء وغير ذلك، قال عبد الباقي: وجاز كراء حمام ودار غائبة أمدا معلوما وشهرا، وذكر هذا مع اندراجه في المعطوف عليه المقدر كما ذكرناه، لقوله: على إن سكن يوما مثلا لزم الكراء؛ أي العقد إن ملك البقية أي دخلا على ملكها إما بشرط أو بعدم اشتراط ما ينافي ذلك كالإطلاق، لا إن دخلا على ما ينافيه كدخولهما على أنه إن خرج رجعت الذات المستأجرة لربها، أو على أن لا يتصرف فيها بكراء أو غيره، ويفسخ وإن أسقط الشرط في الأول للغرر، فإن أسقطاه في الثاني صح

ص: 218

العقد عند ابن عرفة وبعض القرويين، وقال اللخمي: إنه شرط باطل، وظاهر المص سواء عين الشهر كرجب أم لا وكان من يوم العقد في الثاني، ولزمه بسكنى يوم ولو في آخر يوم منه، لا إن سكن بعض يوم، ولا إن مضى شهر من يوم العقد، أو مضى العين فلا يلزمه ما بعده ولو سكن منه يوما، وانظر إذا نقد الشهر الذي اكتراه على أن يلزمه إن سكن منه يوما سواء عينه أي الشهر أم لا، وعلى أن ابتداء السكنى أول يوم من الشهر هل يصح العقد أم لا؟ لجهل مدة الخيار لأنه على الخيار إلى أن يسكن. اهـ. قوله: وقال اللخمي: إنه شرط باطل؛ يعني والعقد صحيح لازم، سواء أسقط الشرط أم لا، واعترضه ابن عرفة بأنه مخالف للأصول، وقوله: وانظر إذا نقد الشهر لخ، لا وجهَ للتوقف في منع النقد هنا مطلقا لأن هذا الكراء بخيار، وقد مر في باب الخيار أن النقد فيه يمتنع مطلقا بشرط، أو تطوعا في قول المص: ومنع وإن بلا شرط لخ، قال عبد الباقي وغيره هناك: لا مفهوم لقول المص: ضُمِن، بل لا فرق بين المضمون وغيره. انتهى. قاله البناني. وقال مقيده عفا اللَّه عنه: انظر تعليله أي عبد الباقي بقوله: لجهل مدة الخيار لأنه على الخيار إلى أن يسكن، فإن هذا هو الذي في مسألة المص ولم يفسدها، وإنما أفسد مسألة عبد الباقي النقد، كما بينه محمد بن الحسن، واللَّه سبحانه أعلم. وقال المواق: من المدونة: من استأجر بيتا شهرا بعشرة على أنه إن سكن يوما واحدًا فالكراء لازم جاز إذا كان له أن يسكن البيت بقية الشهر أو يكريه إذا خرج وإلا لم يجز. ابن يونس: قال بعض فقهائنا القرويين: ظاهر هذا العقد أنه جائز وأنه بالخيار ما لم يسكن، فإذا سكن انعقد في شهر، فإن أراد إن سكنت فالكراء لي لازم وليس لي أن أكري من غيري كان هذا من بيع الشروط التي يبيع منه على أن لا يبيع ولا يهب، فهذا إن أسقطوا الشروط على أحد القولين تم الكراء، وأما إن شرطوا إن خرجت عاد المسكن إلى المكري وعليك جملة الكراء فهذا فاسد لا بد من فسخه لأنه غرر. انتهى. وقال الحطاب: وللمكري أن يأخذ كراء كل يوم ويمضي إلا أن يكون بينهما شرط فيحملان عليه. ابن يونس: وإن لم يكن شرط وكانت سنة البلد النقد قضي به. انتهى.

وعدم بيان الابتداء؛ يعني أنه إذا اكترى مدة معلومة كسنة أو شهر فإنه يجوز عدم بيان ابتداء تلك المدة. وحمل من حين العقد؛ يعني أنهما إذا بينا ابتداء المدة فالأمر ظاهر، وإن لم يبينا

ص: 219

ابتداءها فإنه يحمل الابتداء على أنه من حين العقد، فإن وقع الكراء على شهر فإن كان من أوله لزمه كله على ما هو عليه من نقص أو تمام، وإن كان في أثنائه لزم الكراء ثلاثين يوما من يوم عقدت وكذا السنة إن كان في أول شهر منها لزم اثنا عشر شهرا بالأهلة، وإن كان بعد ما مضى من السنة عشرة أيام مثلا حسبا أحد عشر شهرا بالأهلة وشهرا على تمام ثلاثين يوما. قاله غير واحد. وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: من اكترى دارا سنة أو سنين ولم يسم متى يسكن جاز، ويسكن أو يسكن غيره متى شاء، ما لم يأت من ذلك ضرر بين على الدار، يريد ضررا في السكنى. قال مالك في المختصر الكبير: وإن أغلقها المكتري وخرج فذلك له، وليس لصاحب الدار أن يقول: يخربها علي، قال ابن القاسم: والسنة محسوبة من يوم التعاقد، كما لو قال: هذه السنة بعينها. اهـ. وقال التتائي: وجاز لمن اكترى شهرا أو سنة عدم بيان الابتداء، وحمل أن أول ذلك يكون من حين العقد إذ لو لم يحمل على ذلك لفسد العقد؛ لأن الكراء لا يجوز على سنة غير معينة. اهـ. وفي المدونة: ومن اكترى دارا ثلاث سنين فمنعه ربها من سكناها سنة فحاصه بعدها فإنه يقضى للمكتري بسكنى عامين وعليه كراؤهما فقط، كالعبد يمرض أو يأبق في الإجارة فليس عليه قضاء ذلك، ولو مكنه رب الدار منها فتركها المكتري سنة فإن لم يكن رب الدار فيها أو ساكن أو شاغل فجميع الكراء لازم للمكتري، كمن اكترى إبلا أو دواب ليركبها فأتاه بها ربها فأبى أن يركبها فإن عليه جميع الكراء، وضمير حمل راجع للابتداء. قاله الخرشي. وقال البناني: وحمل من حين العقد. التوضيح: لأنه لو لم يحمل على ذلك لزم فساد العقد؛ لأن الكراء لا يجوز على سنة غير معينة. انتهى. ونحو ما قال المص لابن الحاجب، ثم قال ابن الحاجب. بعد ذلك بنصوص: ولو كانت المدة غير معينة وحبسها فكذلك والكراء الأول باق. التوضيح: يعني لو كانت الإجارة غير معينة بل اكترى دابة على أن يذهب عليها إلى موضع كذا أو يحمل عليها شيئا ولم يذكر أياما بأعيانها فحبسها المكتري عنده ولم يخرج عليها للزمه في مدة حبسها ما ذكره فوق هذا على القولين والكراء الأول باق. اهـ. ولا معارضة بين هذا وبين قوله: وحمل من حين العقد؛ لأن مسألة وحمل من حين العقد اكترى منه سنة ولم يذكر ابتداءها، ومسألة ما إذا كانت المدة غير معينة معناه أنه اكترى منه الركوب إلى موضع كذا أو

ص: 220

حمل شيء ولم يذكر أياما بأعيانها كما هو ظاهر، وعلى هذا فلا يرد سؤال التوضيح حتى يتكلف الجواب عنه بما ذكره، ونصه إثر ما تقدم: فإن قلت: قد قال المص أولا: وإذا لم يعين ابتداء المدة فمن حين العقد فينبغي أن يفسخ في غير العين كالعين، قيل: لعل قولهم: من حين العقد، محمول على الحكم؛ أي لو رفعه إلى الحاكم لحكم عليه بأخذها والانتفاع بها حتى لو ترك حينئذ للزمه الكراء ويصير كالمعين، ولعله في هذه المسألة لم يرفعه، هكذا ظهر لي فتأمله. اهـ. والله أعلم. انتهى. وقوله: وحمل من حين العقد، سواء كان الكراء وجيبة أو مشاهرة، أما الأول فواضح، وأما الثاني فلأنه لما كان متمكنا من السكنى وإن لم يكن العقد لازما كفى ذلك ما لم يحُلّ عن نفسه، وإذا مضى بعض المدة قبل تمكنه سقط عنه ما ينوبه من الكراء ويسكن بقية المدة، وليس له بدل ما مضى منها قبل التمكن، قال في المدونة: ومن اكترى دارا ثلاث سنين فمنعه إلى آخر ما مر. انظر الخرشي. وقال عبد الباقي: وإذا مضى بعض المدة قبل تمكنه بأن منعه المكري منها إما لسكناه وإما لكرائه لآخر حط عنه ما ينوبه من الكراء، وله الخيار في الثاني بين ذلك وبين الرجوع بالأكثر من كراء المثل، وما اكتريت به، ويدفع جميع الكراء حينئذ لربها. اهـ.

ومشاهرة، معطوف على شهرًا يعني أنه يجوز الكراء حال كونه مشاهرة أو مسانهة أو مياومة أو مجامعة، قال التتائي: وجاز كراء الدار ونحوها مياومة ومجامعة ومشاهرة ومساناة، كأكتريها منك كل يوم أو جمعة أو شهر أو سنة بكذا، وصح العقد على المشاهرة لكنه لم يلزم لهما، فيما ذكر من المشاهرة ونحوها. اهـ. وقال الشبراخيتي: وجاز كراء مشاهرة، وهي لقب للمدة غير المحدودة، والوجيبة لقب للمدة المحدودة، والمشاهرة نحو أكتري منك كل سنة بكذا أو في كل سنة بكذا أو في الشهر بكذا أو الشهر بكذا. اهـ. وقوله: ولم يلزم لهما؛ يعني سواء كان بعضه أولا وهذا قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، واختاره ابن يونس، وروى مطرف وابن الماجشون لزومها في أقل ما سمّى من يوم أو جمعة أو سنة أو شهر شرع أم لا، واختاره اللخمي، وروى ابن أبي أويس عن مالك أنه لا يلزم إلا أن يشرع، فيلزم أقل ما سمى. ذكره ابن رشد.

ص: 221

قال مقيده عفا الله عنه: قوله: أقل ما سمى؛ يعني فإذا قال: كل سنة بكذا، يلزمه سنة واحدة فقط. وعلى هذا فقس، ويأتي التصريح بذلك لابن رشد. واللَّه تعالى أعلم. وقال المواق: من المدونة قال مالك: من قال لرجل: أكتري منك دارك أو حانوتك أوأرضك أو غلامك أو دابتك في كل شهر أو في كل سنة بكذا أو كل سنة بكذا، أو قال: في الشهر أو في السنة أو الشهر أو السنة فلا يقع الكراء على تعيين، وليس بعقد لازم، ولرب الدار أن يخرجه متى شاء، وللمكتري أن يخرج متى شاء ويلزمه فيما سكن حصته من الكراء. ابن يونس: وكأنه في ذلك كله قال له: أكريك من حساب الشهر أو من حساب السنة بكذا، هذا موضوع هذه الألفاظ. انتهى. وقال البناني عند قوله ولم يلزم لهما: هذا قول ابن القاسم وهو أحد أقوال ثلاثة، قال ابن رشد في المقدمات: في كراء الدور مشاهرة ثلاثة أقوال، أحدها: قول ابن القاسم لا يلزمه الشهر الأول ولا ما بعده وله أن يخرج متى شاء، ويلزمه من الكراء بحساب ما سكن. الثاني: قول ابن الماجشون أنه يلزمهما الشهر الأول ولا يلزمهما ما بعده. والثالث: رواية يحيى بن أبي أويس عن مالك أنه يلزمه كراء الشهر بسكنى بعضه، كان أول الشهر أو لم يكن، وكذلك الثلاثة الأقوال داخلة في كراء الدور مساناة. انتهى. وهكذا ذكر الأقوال الثلاثة ابن عرفة وغيره، والقول الأول هو مذهب المدونة، وعبارتها: وليس بعقد لازم ولرب الدار أن يخرجه متى شاء وللمكتري أن يخرج متى شاء. اهـ. وذكر أبو الحسن القول الثاني عن رواية مطرف وابن الماجشون ثم قال: وهو أحسن؛ لأنهما أوجبا بينهما عقدا ولم

(1)

يذكرا فيه خيارا فوجب أن يحمل على ما تقتضيه تلك التسمية. انتهى. وذكر الشيخ ميارة في شرح التحفة الأقوال، وقال: وعلى هذا القول الثالث العمل عندنا، وأن من اكترى مشاهرة كل شهر بكذا إذا سكن بعض الشهر كأربعة أيام ونحوها لزم كلا منهما بقية الشهر، وليس لأحدهما خروج عن ذلك إلا برضى صاحبه، ومن قام منهما عند رأس الشهر فالقول قوله. اهـ. وقوله: لهما، متعلق بيلزم واللام زائدة، كقوله:

وملكت ما بين العراق ويثرب

ملكا أجار لمسلم ومعاهد

(1)

في الأصل ولد والمثبت من البنانى ج 7 ص 46.

ص: 222

إلا بنقد؛ يعني أن محل عدم لزوم المشاهرة للمتكاريين إنما هو حيث لم ينقد المكتري للمكري الأجرة، وأما إن نقد له فيلزم قدره؛ أي قدر ما نقد، فإذا قال له: أكتري منك كل شهر بدينار مثلا، ثم عجل له خمسة دنانير فإنه يلزمه خمسة أشهر. كوجيبة، تشبيه في اللزوم؛ يعني أن الكراء يلزم كلا من المتعاقدين إذا كان وجيبة، والوجيبة لقب للمدة المحدودة.

تنبيه: قال عبد الباقي والخرشي والشبراخيتي في قوله: إلا بنقد فقدره ما لم يشترط عدم اللزوم فيعمل به ويجري مثله في الوجيبة. انتهى. قال البناني: قول الزرقاني: ما لم يشترط عدم اللزوم لخ، فيه نظر، فإنه إذا اشترط عدم اللزوم بأن يخرج متى شاء فالنقد حينئذ ممنوع ولو تطوعا لأنه كراء بخيار والعقد فاسد، وقد قال ابن رشد في المقدمات: وإذا انعقد الكراء لمدة معينة لزمهما جميعا ولم يكن لأحدهما الخروج إلا أن يشترطه على صاحبه فيجوز ذلك ما لم ينقد بشرط ولا طواعية لأنه كراء بخيار، فلا يجوز فيه النقد بشرط ولا طواعية. انتهى. وعلة المنع فسخ ما في الذمة في مؤخر كما تقدم في باب الخيار، وبين المص الوجيبة بصيغ أربع إحداها قوله:

بشهر كذا، الباء للتصوير؛ يعني أن من الكراء وجيبة أن يقول له أكتري منك شيئك شهر ربيع مثلا أو سنة كذا أو ما أشبه ذلك وقوله: شهر، يعرف بالإضافة إلى كذا الثانية أن يشير إلى الزمن، وإليها أشار بقوله: أو هذا الشهر؛ يعني أن من الوجيبة أن يقول له: أكتري منك دارك أو دابتك مثلا هذا الشهر أو هذه السنة أو نحو ذلك. الثالثة التنكير دون إضافة، وإليها أشار بقوله: أو شهرٍ؛ يعني أنه إذا قال له: أكتري منك هذه الدابة أو هذه الدار شهرا مثلا، فإن ذلك وجيبة على أحد التأويلين الآتيين في قوله: وفي سنة بكذا تأويلان، قال جد علي الأجهوري: جعل شهرا من ألفاظ الوجيبة كما في المقدمات، وسيقول: وفي سنة بكذا تأويلان، فالظاهر أن هذا على أحد التأويلين، وكأن وجهه أنه إذا حمل على أن الابتداء من حين العقد يصير بمنزلة قوله: هذا الشهر. انتهى. وصدق في أن هذا من محل التأويلين، ونص عياض: إذا قال: أكتري منك سنة بدِرْهَمٍ أو شهرا بدِرْهَم فحمل أكثرهم ظاهر المدونة أن هذا مثل قوله: هذه السنة تلزمهما السنة أو الشهر. قاله البناني. الرابعة قوله:

ص: 223

أو إلى كذا؛ يعني أنه إذا قال له: أكتري منك هذه الدار إلى رمضان مثلا، فإن ذلك الكراء وجيبة فهو لازم لهما في هذه والثلاثة قبلها، ما لم يشترط أحدهما الخروج متى شاء كما مرَّ، وسواء في اللزوم نقد الأجرة أم لا، لكنه إذا نقد لا يجوز اشتراط الخروج متى شاء كما مر. واللَّه تعالى أعلم. وفي سنة بكذا تأويلان؛ يعني أنه إذا قال: أكتري منك دارك سنة بكذا، فإنه اختلف شارحو المدونة في كون ذلك وجيبة أو مشاهرة، فكونه وجيبة هو تأويل الأكثر ابنِ لبابة وابنِ رشد وغيرهما، وكونه غير وجيبة هو تأويل أبي صالح، ولو قال: أكتريها أشهرا أو سنين لكان وجيبة، قال البناني: وإنما جرى الخلاف في المفرد لأنه تارة يذكر لتحديد المدة وتارة يذكر لتحديد قدر الكراء. قاله الشارح. وقد علمت أن مثل قوله: سنة بكذا شهرًا بكذا.

فرع قال الشبراخيتي: إذا قال: اكتريت هذه السنة يلزمه اثنا عشر شهرا ولا يلزمه بقيتها. قاله الشبراخيتي.

وأرض مطر عشرا إن لم ينقدة عطف على حمام، قال الخرشي: يعني أن أرض المطر يجوز كراؤها عشر سنين إن لم يشترط النقد في العقد وإلا فسد لدوران الثمن بين السلفية والثمنية، ويجوز النقد تطوعا، فقوله: إن لم ينقد بشرط، وشرط النقد كالنقد بشرط ولا مفهوم لقوله: عشرا، وقوله: وأرض مطر بالجر عطف على حمام. اهـ. وفي نقله أنه لا مفهوم لأرض المطر لأن كراء جميع الأرض بغير نقد جائز عند ابن القاسم، وحاصله أن الكراء في الجميع جائز عند ابن القاسم، ويجوز النقد فيها بغير شرط في الجميع، وأما بشرط فهو ما ذكره المؤلف، فالكلام عليها من ثلاثة أوجه. اهـ. وقال البناني: إن لم ينقد أي إن لم يشترط النقد. قاله أبو الحسن. اهـ. وإن سنة، مبالغة في المفهوم؛ يعني أنه إذا شرط النقد في العقد فإنه يفسد ولو في سنة من السنين التي اكتراها المكتري، قال عبد الباقي: وجاز كراء أرض مطر غير مأمونة بدليل الاستثناء عشرا سنين أو أكثر إن لم ينقد، فإن نقد بشرط أو شرطه منع وإن كان النقد سنة بل وأقل.

إلا المأمونة؛ يعني أن أرض المطر المأمونة الري يجوز كراؤها السنين الكثيرة ويجوز فيها النقد بشرط قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: إلَّا أرض المطر المأمونة الري كما في بلاد المشرق فيجوز كراؤها بالنقد ثلاثين عاما أو أربعين عاما، كما ذكره الحطاب عند قوله: وعبد خمسة عشر عاما،

ص: 224

وعلم مما قررت أن الاستثناء من مفهوم قوله: إن لم ينقد، وهو متصل. واللَّه تعالى أعلم. وقال البناني: ومثل أبو الحسن لمأمونة أرض المطر بأرض المغرب، قال: لأن الغالب فيها المطر، وزعم التتاني أن وصف أرض النيل بالأمن غير ضروري لأنه صفة لازمة موضحة، قال مصطفى: وهو غير صواب لقول ابن رشد في المقدمات: فما كان مأمونا كأرض النيل وأرض المطر المأمونة وأرض السقي بالأنهار والعيون والآبار فالنقد فيها الأعوامَ الكثيرة جائزٌ، وما كان منها غير مأمون فلا يجوز النقد فيه إلا بعد أن تَروَى وتَمَكَّنَ من الحرث كان من أرض النيل أو المطر أو السقي. اهـ. ومراده بالجواز وعدمه مع الشرط، وعلم من كلام ابن رشد أن غير المأمونة يجوز النقد فيها مع الشرط سنة واحدة بعد الري والتمكن من الحرث. اهـ.

كالنيل والمعينة، تشبيه يعني أنه يجوز النقد بشرط في أرض النيل والمعينة بفتح الميم وكسر العين، هي التي تسقي بالعين النابعة والآبار المعينة، وقد مر عن ابن رشد ما يفيد أن قوله كالنيل في المأمونة. وقوله: فيجوز؛ أي النقد بشرط، صرح به وإن استفيد من الاستثناء ليفرق بين النقد الجائز والواجب في قوله:

ويجب في مأمونة النيل إذا رويت؛ يعني أنه يجب النقد أي يقضى به في أرض النيل المأمونة إذا رويت، واحترز بالمأمونة عن غير مأمونة النيل كالمرتفعة التي لا يبلغها النيل غالبا. قاله التتائي. أي فلا يقضى بالنقد فيها إذا رويت، هذا معناه عندي، وعندي أنه غير مسلم لما يأتي واللَّه تعالى أعلم، قال الشبراخيتي: ويجب النقد في مأمونة النيل إذا رويت لعدم احتياجها للسقي وتمكن

(1)

)، ويدل له ما يأتي من قوله: ولزم الكراء بالتمكن، وحقه أن يقول: في أرض النيل إذا رويت؛ إذ كلامه يقتضي أن غير المأمونة من أرض النيل إذا رويت لا يجب فيها النقد وليس كذلك، وقوله: إذا رويت؛ أي تحقق ريها وإن لم ترو بالفعل. انتهى. وقال عبد الباقي: ويجب في مأمونة النيل إذا رويت بالفعل أو تحقق ريها كري المرتفعة عنها وانخفاضها وتمكن، بدليل قوله: ولزم الكراء بالتمكن. اهـ. وغير المأمونة من أرض النيل هي التي لا يبلغها النيل غالبا لعلوها. قاله الخرشي.

(1)

كذا في الأصل وفي الشبراخيتي وتمكنه.

ص: 225

وقوله: تحقق ريها، قال البناني: فيه نظر، وأصله للأجهوري، والظاهر من كلام ابن رشد أنه لا بد من الري بالفعل، وقال اللخمي: معنى قول ابن القاسم: يلزم النقد في أرض النيل إذا رويت إذا انكشف الماء عنها وأمكن قبض المنافع، والقياس أن لا يلزم النقد فيها بريها لأن المشتري اشترى شيئين، الماءَ ومنافع الأرض، فلا يلزم النقد بأحدهما. انتهى. ولو أسقط المص لفظ مأمونة ما ضره. اهـ. وقال التتائي: ويجب أي يقضى به لرب الأرض على المكتري في مأمونة النيل إذا رويت لعدم احتياجها للسقي فيما يستقبل، وبريها يكون المكتري قابضا لما اكترى، وأما أرض السقي والمطر فلا يجب على المكتري فيهما دفع الكراء حتى يتم الزرع ويستغني عن الماء. قاله ابن رشد. وكذا ما يزرع بطونا لا يلزمه في البطن حتى يستغني عن الماء. انتهى. وقال المواق: قال ابن رشد: وتنقسم في وجوب النقد على قسمين أرض النيل وأرض السقي والمطر، فأما أرض النيل فيجب النقد فيها إذا رويت لأنها لا تحتاج إلى السقي فيما يستقبل، فبالري يكون المكتري قابضا لما اكترى، وأما أرض السقي والمطر فلا يجب على المكتري فيها دفع الكراء حتى يتم الزرع ويستغني عن الماء. انتهى.

وقدرٍ من أرضك إن عين أو تساوت، عطف على حمام فهو بالجر؛ يعني أنه يجوز لك يا مكري أن تكري من أرضك قدرا معلوما من أذرع أو فدادين بشرط أن يعين ذلك الوضع الذي يأخذه المكتري إن تفاوتت الأرض، وإن لم تتفاوت بل تساوت في الجودة والرداءة والأغراض فإنه يجوز وإن لم تعين الجهة التي يأخذها المكتري، قال المواق: من المدونة: من اكترى مائة ذراع من أرض معينة جاز إن تساوت وإلا لم يجز حتى يعين موضعها. انتهى. وقال الشبراخيتي: وجاز كراء قدر من أذرع أو فدادين وهو بالجر عطف على حمام من أرضك التي بموضع كذا، إن عين موضعه أو تساوت في نفسها أو في الأغراض، واحترز بالقدر من جزء معين كثمن أو ربع فلا يشترط تعيينه، ومفهوم المص المنع إذا لم يعين واختلفت، وهو واضح إذا لم يذكر عدد ما فيها من الأذرع ويكتري قدرا منه معينا، فإن فعل ذلك كقوله: أرضك ألف ذراع وأكتري منك مائة، فإنه يجوز ويكون شريكا فيها بنسبة قدر ما استأجر لجميع قدر أذرعها. قاله الطخيخي. اهـ. ونحوه لعبد الباقي، وقال الخرشي: والمعنى أنه يجوز له أن يكري من أرضه قدرا معلوما إن كان عين الجهة

ص: 226

التي يأخذ منها المكتري، وإن كانت الأرض متساوية في الجودة والرداءة فيجوز له أن يكري منها قدرا معلوما وإن لم يعين الجهة التي يأخذ منها المكتري لخ.

وعلى أن يحرثها ثلاثا؛ يعني أنه يجوز كراء الأرض والأجرة أو بعضها أن يحرثها ثلاث مرات ويزرعها في الرابعة حيث كانت مأمونة، قال المواق: قال ابن عرفة: شرط منفعة في الأرض كشرط نقد بعض كرائها. من المدونة: من اكترى أرضا على أن يحرثها ثلاث مرات ويزرعها في الكراء الرابع جاز ذلك. ابن يونس: يريد إذا كانت مأمونة لأن زيادة الحرثات منفعة تبقى في الأرض إن لم يتم زرعها فيصير كنقد اشترطه في غير المأمونة. اهـ. وقال عبد الباقي: وجاز كراء أرض على أن يحرثها مكتريها ثلاثا أي ثلاث مرات ويزرعها في الحرثة الرابعة، والضمير للمأمونة لا غيرها، فيفسد الكراء باشتراط ذلك. انتهى. وقال الشبراخيتي: وجاز كراء أرض على شرط أن يحرثها المكتري أي يقلبها ثلاثا زيادة على الأجرة ثم يزرعها. انتهى. وقوله: وعلى أن يحرثها ثلاثا، المعطوف محذوف، والتقدير وأرض على أن يحرثها فهو معطوف على حمام. قاله الخرشي وغيره.

أو يزبلها؛ يعني أنه يجوز له كراء الأرض على شرط أن يزبلها مكتريها ويزرعها ويكون ما يزبلها به كراءها إن كان أمرا معروفا عندهم إذا كانت الأرض مأمونة، قال الحطاب عن ابن عرفة: وشرط منفعة في الأرض كشرط نقد بعض كرائها. فيها: من اكترى أرضا على أن يكربها ثلاث مرات ويزرعها في الكراب الرابع جاز وكذا على أن يزبلها بشيء معروف. الصقلي وغيره: يريد إن كانت مأمونة لأن زيادة الكراب والتزبيل منفعة تبقى في الأرض إن لم يتم زرعه. انتهى. وقال عبد الباقي: وعلى أن يزبلها، إن عُرِفَ نوع كل منهما، فإن لم يعرف منع وفسد الكراء، وإذا فسد وزرع فإن لم يتم زرعه فله ما زاد عمله في كرائها في العام الثاني، وإن تم فعليه كراء المثل بشرط تلك الزيادة؛ لأن زيادة الحرثات والتزبيل منفعة تبقى في الأرض، ولذا اشترط كون الأرض مأمونة وإلا فيصير كنقد بشرط في غير المأمونة، وإنما اشترط المص معرفة الزبل أي نوع ما يزبلها به من زبل أو غيره لأن الزبل أنواع، وينبغي أن يعرف قدره أيضا كعشرة أحمال مثلا، لأن الأرض مختلفة فبعضها ضعيفة الحرارة ويقويها كثرة الزبل، وبعضها قوي الحرارة يضعفها

ص: 227

كثرة الزبل. اهـ. وقال الخرشي: قوله: إن عرف، راجع لقوله: أو يزبلها، ولا مانع من رجوعه لقوله: يحرثها أيضا؛ لأن الحرث تختلف صفته وعدده فلو كان معلوما بالعرف كفى ذلك.

تنبيهان: الأول: قال الرهوني: قال في المصباح: كربت الأرض من باب قتل كرابا بالكسر قلبتها للحرث. اهـ. وقال الخرشي: الكراب بكسر الكاف الحرث كما في الحطاب، وفي الصحاح: كربت الأرض إذا قلبتها للحرث. اهـ. الثاني: زبل الأرض أصلحها يزبلها بضم الباء وكسرها زبلا وزبّلها تزبيلا. انظر الرهوني. وقوله: أو يزبلها، قال أبو الحسن: أجاز هنا بيع الزبل فهو يناقض ما في البيوع الفاسدة إن كان لمالك، وإن كان لابن القاسم فهو موافق. اهـ. وقال ابن غازي بعد ما أشار إلى كلام أبي الحسن: قيل ولعله زبل الماشية لا زبل الدواب فلا تناقض، أو لعل زبل الدواب بذلك الموضع لا ثمن له، وإنما شرط عليه نقله للأرض والإجارة على نقله جائزة. انتهى. أبو علي: في كلامه نظر لأن المشايخ إنما فهموا منها زبل الدواب وهو الذي يطلق عليه الزبل في العرف. اهـ. وقال الشبراخيتي: مفهوم إن عرف أنه إن لم يعرف لا يجوز أي يفسد الكراء، وعليه أجر مثلها معمولة بما شرط عليه إن لزمه كراءٌ مطلقا، وإلا فله في العام التالي لعام الزرع ما زاد من أجرها معمولة بالمشترط على أجرها بالعمل المعتاد، ولا شك أن أجرها معمولة بما شرط يكون أقل من أجرها معمولة بالمعتاد بالنسبة له، وقولي: إن لزمه كراء مطلقا؛ أي سواء سلم زرعه أم لا بأن فسد بما لا يسقط الكراء، وقولي: وإلا بأن لم يلزمه الكراء بأن فسد لفار ونحوه فإن له ما زاد أجرها معمولة بما شرط عليه على أجرها أن لو عملت بالمعتاد في عملها، وإنما يكون ذلك في العام التالي للعام الذي فسد فيه الزرع. انتهى. وتحصل من كلامه أنه إذا فسد بما لا يسقط الكراء بمنزلة ما إذا تم الزرع بخلاف ما إذا فسد لفار ونحوه. قال الشبراخيتي: وصفة العمل فيما إذا تم الزرع أن يقال: ما كراؤها في ذلك العام الذي تم زرعه فيه على من يحرثها مرتين زيادة على المعتاد؟ فإذا قيل: عشرة، فإنه يلزمه ذلك، ولا ينظر لكراء مثلها على من يحرثها مرة وهو اثنا عشر مثلا، ومثل ذلك ما إذا لم يتم الزرع، ولزمه الكراء لفساده بجائحة، وصفة العمل فيما إذا لم يتم زرعه أن يقال: ما كراؤها في العام الثاني مع قطع النظر عما زادته بما اشترطه على المعتاد؟ فإذا قيل: عشرة، فيقال: ما كراؤها في العام المذكور بما حصل فيها مما

ص: 228

زاد على المعتاد؟ فيقال: اثنا عشر، فيرجع بالزيادة على رب الأرض، ويرجع عليه أيضا بجميع ما دفع له من الأجرة إن كان عدم تمام الزرع لعطش ونحوه مما يسقط الكراء، فإن كان مما لا يسقط الكراء كفساده بجائحة فهو بمنزلة ما إذا تم زرعها، وكذا الحكم إذا فسد الكراء لاشتراط زيادة الحرث فيها على المعتاد أو تزبيلها وهي غير مأمونة، فيجري فيه التفصيل المذكور بين تمام الزرع وعدمه، ومن التمام ما إذا فسد الزرع لجائحة ونحوها مما يلزم معه الكراء. واللَّه تعالى أعلم.

وأرض سنين لذي شجر بها سنين مستقبلة، صورتها أن تكتري أرضا سنين معلومة فتغرس فيها شجرا وانقضت المدة وفيها شجرك فإنه يجوز لك أن تكتريها من ربها سنين مستقبلة فالشجر في هذه لمن اكترى الأرض أولا وثانيا، بل وإن كان الشجر لغيرك، بأن اكتريتها سنين فأكريتها لمن غرس فيها ثم انقضت مدة الكراء وفيها غرسه فلك أن تكتريها من ربها سنين تلي الأولى، ثم إن أرضاك الغارس وإلا قلع غرسه، فقوله: وأرض، بالجر عطف على حمام؛ أي وجاز كراء أرض، وسنين الأولى معمول لصفة أرض محذوفة؛ أي وجاز كراء أرض مكتراة سنين ماضية، فحذف صفة سنين الأولى بقرينة صفة سنين الثانية، وقوله: لذي، متعلق بمكتراة صفة أرض، وسنين الثانية معمولة لكراء؛ أي وجاز كراء أرض سنين مستقبلة وتلك الأرض قد اكتريت سنين ماضية لمن غرس فيها شجرا، سواء كان الغارس للشجر فيها من اكتريت له سنين مستقبلة أو غيره من مكتريها من المكتري لها قبله الذي هو مكترٍ لها الآن؛ أي في السنين المستقبلة، قال في المدونة: وإن اكتريت أرضا سنين مسماةً فغرست فيها شجرا وانقضت المدة وفيها شجرك فلا بأس أن تكتريها من ربها سنين مستقبلة. اهـ. وقال الشبراخيتي: وإن كان الشجر لغيرك بأن اكتريتها سنين فأكريتها لمن غرسها ثم انقضت مدة الكراء وفيها غرسه فلك أن تكتريها من ربها سنين تلي الأولى، ثم إن أرضاك الغارس وإلا قلع غرسه، ونحوه في المدونة. اهـ. وقال الخرشي: قال ابن القاسم: ولو اكتريتها ثم أكريتها من غيرك فغرسها ثم انقضت مدة الكراء وفيها غرسه فلك أن تكتريها من ربها سنين مستقبلة، ثم إن أرضاك الغارس وإلا قلع غرسه، قال ابن يونس: وإنما جاز كراؤها عند ابن القاسم لأن لرب الأرض أن يجبر الغارس على قلع غرسه بعد تمام كرائه،

ص: 229

فكأن المكتري إنما دخل على أن يقلع عنه الغارس غرسه لأنه ملك من الأرض ما كان ربها يملكه، ولا يستطيع الغارس مخالفته فقد دخل على أمر معروف، وهذا إذا لم يكن في الشجر ثمر قد أبر، وأما لو كان فيها ذلك لكانت كالزرع، وقوله: وأرض، عطف على حمام. اهـ كلام الخرشي.

تنبيه: قررت المص بأن قوله: لذي شجر متعلق بمكتراةٍ صفة محذوفة لأرض؛ لأن تعلقه بكراء أو جاز فيه أمران، أحدهما: التصريح بما قبل المبالغة. ثانيهما: الالتفات من الغيبة إلى الحضور. واللَّه تعالى أعلم.

لا زرع؛ يعني أنه إذا انقضت المدة وكان موضع الشجر زرع فإنه لا يجوز أن تكرَى الأرض إلا أن تكرى الآن على أن تقبض بعد تمام الزرع، قال في المدونة: قال ابن القاسم: ولو كان موضع الشجر زرع أخضر لم يكن لرب الأرض أن يكريها ما دام زرع هذا فيها؛ لأن الزرع إذا انقضت الإجارة لم يكن لرب الأرض قلعه، وإنما له كراء أرضه وله أن يقلع الشجر فافترقا، إلا أن يكريها منك إلى تمام الزرع. انتهى. قال أبو الحسن: هذا الاستثناء متصل من قوله: لم يكن لرب الأرض أن يكريها لخ، وقوله: إلى تمام الزرع، إلى هنا بمعنى بعد؛ أي مدة بعد تمام الزرع؛ أي أكراها الآن ليقبضها بعد تمام الزرع، وعبارة ابن يونس: إلا أن يكريها الآن بعد تمام زرعه فلا بأس به. اهـ. وقال المواق: قال اللخمي: إن انقضت المدة وفي الأرض زرع لم يكن للمكتري الأول ولا لغيره أن يكتري إلا ما بعد هذا الزرع بخلاف الغرس. اهـ. وقال ابن القاسم: وإذا انقضت السنون وللمكتري في الأرض زرع لم يبد صلاحه لم يجز لرب الأرض شراؤه، وإنما يجوز بيع زرع أخضر يشترط مع الأرض في صفقة، وكذلك الأصول بثمرها فإن لم يشترطه المبتاع كان ما أبر من الثمرة أو ما ظهر من الأرض من الزرع للبائع، وإذا لم تؤبر الثمرة ولم يظهر الزرع من الأرض فذلك للمبتاع. ابن يونس: قال بعض القرويين: الأشبه أن يكون لرب الأرض شراء ما فيها من زرع لأن الأرض ملك له فصار مقبوضا بالعقد، وما يحدث فيه من نماء إنما هو من ضمان مشتريه

ص: 230

لكونه في أرضه، (وإنما منع عليه الصلاة والسلام من بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها

(1)

)، لكون ضمانها من البائع لكونها في أصوله، لقوله:(أرأيت إن منع اللَّه الثمرة لم يأخذ أحدكم مال أخيه)؟

(2)

وعلى هذا التعليل أجاز عبد الملك شراء جنان فيه ثمرة بقمح أو بجنان فيه ثمرة تخالفها لأن كل ثمرة مقبوضة فكانا متناجزين. اهـ. وقوله: لا زرع، عطف على شجر؛ أي لا إن كانت مكتراة لذي زرع فلا يجوز استئجارها لربه ولا لغيره.

وشرط كنس مرحاض؛ يعني أنه يجوز لمن قضَى العرف بأن كنس المرحاض عليه من مكر أو مكترٍ أن يشترط الكنس على غيره، وكنس المرحاض إزالة ما فيه، قال عبد الباقي: وجاز لمن قضى العرف أن كنس المرحاض عليه شرط كنس مرحاض على غيره. اهـ. وقال البناني: وقع في المدونة ما ظاهره أن كنس المرحاض على المكتري أصالة حتى يشترطه على المكري، ووقع فيها ما يدل على أنه بالعكس، وجمع الزرقاني بين الموضعين بمعنى أن من قضى العرف بأنه عليه يجوز له شرطه على غيره، ومثله في الخرشي وهو ظاهر، واللَّه أعلم. انتهى. وقال الشبراخيتي: وجاز شرط كنس مرحاض لدار ونحوها على المكتري، ومقتضى كلام المص أن كنس المرحاض أصالة على رب المنزل، وهو الموافق لقول المدونة ومن اكترى دارا فعلى ربها مرمتها وكنس المراحيض اهـ ووقع فيها قبل ذلك ما يخالف. قال فيها: من اكترى دارا أو حماما وشرط كنس المراحيض والتراب وغسالة الحمام على المكري جاز لأنه أمر معروفٌ وجهُه، وظاهر هذا أن ما ذكره على المكتري بالأصالة، فحمل بعضهم المحلين على ظاهرهما، ووفق بعضهم بينهما بأن الثاني يعني -واللَّه تعالى أعلم- المحل الذي يفيد أنه على المكتري بالأصالة فيما كان متجددا من تلك القاذورات، والأول فيما كان حاصلا منها حين العقد، ووفق بعضهم أيضا بأن الثاني في غير الفنادق والأول في الفنادق. انتهى. وقال التتائي بعد ذكر المحلين ما نصه: فحمله ابن رشد على الخلاف وهما قولان خارجها لابن القاسم، وقال أشهب بالأول، وقيل: يحمل ما فيها على

(1)

البخاري، كتاب الزكاة، رقم الحديث 1487.

(2)

البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث 2198؛ ومسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث 1555.

ص: 231

الوفاق الأول على الحادث والثاني على القديم. قاله بعض القرويين. المتيطي: قيل: هذا في غير الفنادق والآخر في الفنادق. ابن يونس: هذا كله ما لم يكن عرف أو شرط فيحملان عليه. اهـ.

أو مرمة، عطف على كنس ومرمة الدار إصلاح ما وهى منها؛ يعني أنه يجوز للمكري أن يشترط على المكتري ما تحتاج إليه الدار من المرمة من كرائها الواجب. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: أو مرمة بفتح الميم من الترميم، والترميم الترقيع أي ترقيع ما وَهَى منها. اهـ. وقال التتائي أو مرمة بفتح الميم، عياض هي البناء والإصلاح يجوز اشتراطه على المكتري عند الاحتياج إليه، ونحوه في المدونة. اهـ. وتطيين؛ يعني أنه يجوز للمكري أن يشترط على المكتري أن يطين الدار وتطيين الدار، هو طرها أي جعل الطين على سطحها. من كراء وجب، قال الشبراخيتي: راجع لهما أي للمرمة والتطيين كما يفيده كلام أبي الحسن، والمراد بقوله: وجب، أن يشترط تعجيله أو يجري العرف بتعجيله أو يسكن مقابله. انتهى. ونحوه لعبد الباقي فإنه قال: من كراء وجب بسكنى مقابله أو بشرط تعجيله أو جرى به عرف، وهو راجع للأخيرتين كما يفيده الشارح وأبو الحسن. انتهى. قوله: بسكنى مقابله، قال الرهوني: صوابه بتمكينه من سكنى مقابله. انتهى. وقوله: من كراء وجب، قال البناني: هذا إن كان التطيين والمرمة مجهولين أي كلما احتاجت إلى مرمةٍ أو تطيينٍ، وأما إن سمى مرة أو مرتين في السنة فيجوز مطلقا كان من عند المكتري أو من كراء وجب أو لم يجب. اهـ. لا إن لم يجب؛ يعني أنه لا يجوز أن يشترط المكري على المكتري أن يرمها أو يطينها من كراء لم يجب للمكري لأنه سلف وكراء، قال الخرشي: وكذلك لا يجوز اشتراط ما ذكر من كراء لم يجب على المكتري كإجارتها سنة واشترط عليه تطيينها، ويكون ذلك سلفا في ذمته، فيفسخ للغرر لأنه لا يدري ما يحل عليه بالهدم، وإذا وقع ونزل فللمكري قيمة ما سكن المكتري وللمكتري قيمة ما رَمَّ. اهـ.

أو من عند المكتري؛ يعني أنه إذا وقع العقد على شرط أن ما تحتاج إليه الدار من مرمة أو تطيين على المكتري فإن ذلك لا يجوز للجهل في الأجرة، وقوله: لا إن لم يجب أو من عند المكتري، قال عبد الباقي: فإن وقع الممنوع فيما ذكر المص فللمكري قيمة ما سكن المكتري وللمكتري قيمة ما رم أو طين من عنده. اهـ.

ص: 232

تنبيه: هذا الذي قررت به المص هو الذي قرره به البناني كما عرفت، فإنه قال: يجب حمل كلام المص على مرمة وتطيين مجهولين بأن يشترط على المكتري كلما احتاجت الدار إلى مرمة رمها أو إلى تطيين طينها، ويدل لهذا الحمل قوله: من كراء وجب، وأما إن كانا معلومين بأن يعين للمكتري ما يرمه أو يشترط عليه التطيين مرة أو مرتين أو ثلاثا في السنة فيجوز مطلقا، سواء كان من عند المكتري أو من الكراء بعد وجوبه أو قبله، ثم قال: وأما تقييد الكراء بكونه واجبا فإنما ذكره أبو الحسن بصيغة التمريض، وجعله القابسي محلَّ نظر، وجزم اللخمي بخلافه، فعلى المص المؤاخذة في اعتماده. قاله مصطفى. ثم قال: وقول الزرقاني: وهذا إن سمى مرة أو مرتين لخ، فيه نظر لما علمت أن هذا جائز مطلقا للعلم به، فلا يحمل عليه كلام المص، وإنما محل كلامه في المجهول. اهـ. وقال الرهوني: قول البناني عن مصطفى فعلى المؤلف درك سلم كلام المصطفى وفيه نظر، فإن ما جزم به المص جزم به ابن فتوح وبه قيد كلام المدونة في جامع الطرر جازما به، وبه جزم المتيطي وساقه كأنه المذهب، ونقل كلامه أبو علي وسلمه، كما سلمه ابن هارون، ثم قال الرهوني إن كلام المص وغيره مطلق غير مقيد باليسير اهـ واللَّه تعالى أعلم.

فرع: قال في المبسوط: ومن واجر دارا ليس لها باب أو ميزاب فليس عليه تجديد ذلك إلا أن يجهل ذلك المكتري أو يكون العرف وجوده فعليه تجديده. قال الخرشي.

أو حميم أهل ذي الحمام أو نؤرتهم مطلقا؛ يعني أن من اكترى حماما على أن عليه لربه ما احتاج إليه أهله من نؤرة أو حميم لم يجز مطلقا سواء عرف مكتري الحمام قدر عيال المكري أو لم يعرف ذلك، قال المواق: من المدونة قال ابن القاسم من اكترى حماما على أن عليه لربه ما احتاج إليه أهله من نؤرة أو حميم لم يجز حتى يشترط شيئا معروفا، وقال ابن حبيب: ذلك جائز إذا عرف ناحية عيال الرجل من كثرة وقلة وعلم عدتهم، وقد أجازه مالك وأجاز استئجار الخياط على خياطة ما يحتاج إليه هو وأهله من الثياب في السنة أو الفران على خبز ما يحتاج له من الخبز سنة أو شهرا إذا عرف عيال الرجل وما يحتاجون إليه من ذلك، وهذا معروف لأن الأكل لابد منه ومقدار أكل الناس معروف، والخياطة قريب منه. اهـ. وقال عبد الباقي: أو حميم بالجر عطف على إن لم يجب باعتبار محله، "أهل ذي الحمام أو نؤرتهم مطلقا" علم المكتري عيال

ص: 233

المكري أم لا، قال الطخيخي: إن لم يكن لهم عرف في الحميم. اهـ. فإذا عرف العيال وعرف قدر دخولهم في الشهر أو في السنة جاز، فإن علم قدر دخولهم دون قدرهم فظاهر كلام الطخيخي الجواز، وفيه شيء؛ لأن العلة الجهل بقدر ما يحتاجون إليه من الحميم أو النؤرة وهو موجود. اهـ. وقوله: أو حميم، الجوهري الحميم الماء الحار وقد استحممت إذا اغتسلت به، هذا هو الأصل: ثم صار كل اغتسال استحماما بأي ما كان، والحميم المطر الذي يأتي في شدة الحر، والحميم العرق والقريب الذي يهتم بأمرك. قاله الخرشي.

أو لم يعين في الأرض بناء وغرس وبعضه أضر، عطف على لم يجب؛ يعني أنه لا يجوز لأحد أن يكتري أرضا يفعل فيها ما يشاء من بناء وغرس ولم يعين حال العقد أي شيء يفعل والحال أن بعض ذلك أضر من بعض ولم يكن عرف يصار إليه، ولهذا قال:

ولا عرف، قاض بأحدهما فيفسد العقد عند غير ابن القاسم، وهذا صادق بصورتين، إحداهما: أن يكتريها للبناء وبعض الأبنية أضر فلا بد من تبيين البناء الذي يريده، وكذا الغرس. الثانية: أن يكتريها للبناء ولم يعين هل يبني فيها أو يغرس فلا بد من التعيين حيث كان البعض أضر، والكل حميم، وعند ابن القاسم ذلك جائز عند الإجمال لكن يمنع المكتري من فعل ما فيه ضرر، قال ابن الحاجب: ولو لم يعين في الأرض بناء ولا زراعة ولا غرسا ولا غيره وبعضه أضر فله ما يشبه فإن أشبه الجميع فسد. انتهى. التوضيح: قوله: فله ما يشبه أي ما دل العرف عليه، وقوله: فإن أشبه الجميع أي فإن كان العرف يقتضي الجميع أو لم يكن هناك عرف فسد أي العقد، وهذا يشبه مذهب غير ابن القاسم في المدونة، قال في أكرية الدور: إذا كانت الأعمال يتفاوت ضررها وأكريتها لم يجز كراؤها إلا على شيء معروف يعمل فيه، وإن لم يختلف فلا بأس، وهو مخالف لظاهر مذهب ابن القاسم فيها، قال: ومن اكترى دارا فله أن يدخل فيها ما شاء من الدواب والأمتعة وينصب فيها الحدادين والقصارين والأرحية ما لم يكن ضرر فيمنع، ولم يقل يفسد، وقال في الأرضين: من اكترى أرضا ليزرعها عشر سنين فأراد أن يغرس فيها شجرا

ص: 234

فإن كان ذلك أضر بها منع وإلا فله ذلك، وفي اللخمي: أجاز يعني ابن القاسم كراء الحوانيت والديار على الإطلاق من غير مراعاة لصنعة مكتري الحوانيت ولا لعيال من يسكن الدار، وعلى قول غيره لا يجوز إلا بعد المعرفة، وصرح اللخمي بأن قول الغير خلاف. انتهى. فانظر قول الغير: لم يجز كراؤها، فهو صريح في منع العقد وهو يقتضي فساده. قاله البناني. وقال ابن الحاجب: لو لم يعين في الأرض بناءً ولا غرسا ولا زراعة ولا غيره وبعضه أضر فله ما يشبه، فإن أشبه الجميع فسد، ولو سمى صنفا يزرعه جاز مثله ودونه، ومفهوم المص الجواز حيث عين أو لم يعين وليس بعض ما يفعل بها أضر من بعض، كاستيجارها ليزرعها شعيرا ثم يبدو له فيزرعها حنطة إذ لا ضرر في ذلك. قاله عبد الباقي. وقال: منطوق قوله: وبَعْضه أضر، مقدم على مفهوم قوله: وبناء على كجدار؛ إذ مفهومه لو كان البناء على أرض لم يحتج لوصف البناء، وظاهره ولو كان بعضه أضر، وليس بمراد بدليل منطوقه هنا.

فائدة: صرح جماعة بمنع الغرس في المسجد وبمنع الحفر والدفن فيه، وأنه لعل من عبر بالكراهة أراد كراهة التحريم. اهـ. وفي الخرشي: من خط الناصر اللقاني قال في المدونة: ومن أكرى حانوته من رجل فإذا هو حداد أو قصار ولا ضرر في عمله على البنيان إلا أنه يقذر الحانوت فكره رب الحانوت تقذيره فله منعه لأن فيه ضررا عليه. اهـ.

وكراء وكيل بمحاباة أو بعرض؛ يعني أنه يجوز كراء وكيل لأرضِ موكله أو داره بمحاباة لأن الوكيل لا يتصرف إلا بما فيه المصلحة والحظ لموكله، وكذلك لا يجوز له أن يكري ذلك بعرض لأن العادة أن الأرض والدور لا تكرى إلا بالنقد، قال ابن يونس: وله فسخ الكراء وإجازته إن لم يفت، فإن فات رجع على الوكيل بالمحاباة. اهـ. ويرجع على الوكيل بالمحاباة في حال ملائه، ثم لا رجوع للوكيل على الساكن، فإن كان الوكيل عديما رجع على الساكن بالكراء، ثم لا رجوع للساكن على الوكيل، ويجري مثل هذا في ناظر الوقف حيث حابى في إجارة الوقف لأنه بمنزلة الوكيل، وينبغي أن يكون الوصي كذلك بجامع التصرف عن الغير في الكل على غير وجه المصلحة. اهـ. وقوله: وكراء وكيل بمحاباة مفوضا أو خاصًّا وهذا هو الصواب خلاف ما في التتائي. وقال البناني: عن الوانوغي: عن القابسي: محل رجوع المكري على الوكيل بالمحاباة

ص: 235

وحده -يعني في حال ملائه- إن لم يعلم الساكن بأنه غير مالك فإن علم فالخيار لربها أن يرجع على أيهما شاء. اهـ. وهو ظاهر. انتهى. وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: من وكل رجلا يكري داره فأكراها بغير العين أو حابى في الكراء فهو كالبيع لا يجوز. ابن يونس: وله فسخ الكراء أو إجازته إن لم يفت فإن فات رجع على الوكيل بالمحاباة، قال: ولو أعارها أو وهبها أو تصدق بها أو أسكنها أو حابى في كرائها رجع ربها على الوكيل بالكراء في ملائه ثم لا رجوع للوكيل على الساكن، فإن كان الوكيل عديما رجع ربها بالكراء على الساكن ثم لا رجوع للساكن على الوكيل. اهـ. وقوله: وكراء وكيل بمحاباة، قال ابن عاشر: لا خصوصية للإجارة بهذا الحكم والأنسب به باب الوكالة. انتهى.

أو أرض مدة لغرس فإذا انقضت فهو لرب الأرض أو نصفه؛ يعني أنه لا يجوز لأحد أن يكري الأرض مدة عشر سنين مثلا على أن يغرس فيها شجرا سَمَّاه له، فإذا انقضت المدة كان الشجر كله أو بعضه في أجرتها، وعلة المنع الغرر والجهالة لأنه أكرى أرضه بشجر لا يدري أيسلم أم لا، وفي المدونة: ومن اكترى أرضا عشر سنين على أن يغرسها المكتري شجرا سماها على أن الثمرة للغارس فإن انقضت المدة فالشجر لرب الأرض، لم يجز لأنه أكراها بشجر لا يدري أيسلم أم لا، وإذا وقع العقد على ما قال المص وفات فقيل: إنه كراء فاسد، وهو ظاهر قول المدونة: لأنه أكراها بشجر لا يدري أيسلم أم لا؟ وقيل: إن العقدة بتمامها إجارة فاسدة، وعلى الأول فالغرس لمن غرسه وعليه لرب الأرض كراء المثل وتفوت بالغرس، وعلى الثاني يفسخ متى اطلع عليه والغرس لرب الأرض وعليه أجرة عمله وقيمة الغرس يوم غرسه، ويطالبه أيضا بما أكل من الثمر فيما مضى.

تنبيه: في المدونة: ومن اكترى أرضا فغرسها شجرا ثم انقضت المدة فصالح ربها على إبقاء الغرس في أرضه عشر سنين على أن له نصف الشجر لم يجز لأنه أكراه بنصف الشجر يقبضها إلى عشر سنين وقد تسلم أو لا تسلم، ولو بتل له الآن نصف الشجر جاز، وقال غيره: لا يجوز لأنه فسخ دين في دين. اهـ. وهذه المسألة غير مسألة المص، فقد وهم من رتب آخر هذه على مسألة المص قولها: لأنه فسخ دين في دين وجه قول الغير أنه لما كان له أن يعطيه قيمة الشجر مقلوعة فكأنه

ص: 236

أكرى منه بقاء نصف الشجر التي بقيت للمكتري بالقيمة التي وجبت له عليه في نصف الشجر الذي أسلمه إليه، وقال اللخمي إثر قولها: وهو فسخ الدين في الدين: يريد لأنه أمكن أن يكون قد اختار أن يأخذها بقيمتها مقلوعة ثم انتقل إلى أن يدفع عن القيمة منافع الأرض. اهـ. ابن القاسم: إذا قال رب الأرض لآخر: اغرس لي أصولا في أرضي فإذا بلغت كذا فهي بيننا جاز ذلك لأنها مغارسة. قاله الخرشي.

والسنة في المطر بالحصاد؛ يعني أن من استأجر أرض النيل أو أرض المطر سنة أو سنتين أو أكثر فإن السنة تنقضي فيها بالحصاد أي ببلوغ الحصاد حصد أم لا. وفي السقي بالشهور؛ يعني أن من اكترى أرض السقي سنة مثلا فإن السنة تحسب بالشهور أي فهي اثنا عشر شهرا، والسقي هو الحاصل بالآلة. قال الخرشي: يعني أن من استأجر أرض المطر أو أرض النيل سنة فإنها تنقضي فيها بحصاد الزرع منها، وأما أرض السقي التي تسقى بالآلة فالسنة تنقضي فيها بالشهور؛ أي فيلزم فيها اثنا عشر شهرا، وقوله: بالحصاد سواء كانت الأرض تزرع مرارا في السنة أو مرة، والحصاد في كل شيء بحسبه أي بحصده أو قطعه أو جذه أو رعيه، كالزرع والبريسيم واللفت والكمون، فلو كانت مما تخلف بطونا فبآخر بطن، وقد علمت أن معنى الحصاد بلوغ الحصاد حصد أم لا، وفي نقل الخرشي: بالشهور أي باثني عشر شهرا إن تأخر تمام الزرع إلى اثني عشر شهرا وإلا أخذ زرعه.

فإن تمت وله زرع أخضر فكراء مثل الزائد؛ يعني أن مدة الإجارة إذا انقضت وللمستأجر في الأرض زرع أخضر فإنه يلزم رب الأرض أن يبقيه فيها إلى تمام طيبه، وله على المكتري أجرة المثل؛ أي ما زاد على السنة يلزم فيه كراء المثل إلى أن يستوفي الزرع، فلو بقي الزرع في الأرض بعد انقضاء مدة الإجارة نحو الشهرين مثلا فيقال: ما تساوي هذه الأرض في هذه المدة لو أكريت؟ فيقال: كراؤها كذا، فيعطاه رب الأرض، وهو واضح، فقوله: فإن تمت أي الشهور، وهذا مفرع على ما قبله، ولا يصح تفريعه على الأول؛ لأن السنة في المطر الحصاد، فلا يمكن مضي اثني عشر شهرا وزرعه أخضر، وقوله: فكراء مثل الزائد ولو علم أن الزرع إنما يتم بعد السنة بكثير على قول ابن القاسم، وأما التفصيل فضعيف، وهو أن محل هذا إن كان يظن تمامه بعدها بيسير

ص: 237

كالشهر، وأما لو كان يظن تمامه بعدها بكثير فهو متعد، فلربها قلعه أو تركه بالأكثر من المسمى وكراء المثل. قاله الشبراخيتي. والتفصيل لابن حبيب، والقول بعدم التفصيل لابن القاسم، قال عبد الباقي: وهو المعتمد. اهـ. قال البناني: قول عبد الباقي: إن قول ابن القاسم هو المعتمد، صحيح موافق لما في التوضيح وابن عرفة، وفيه اعتراض على الحطاب في اقتصاره في شرح المص على قول ابن حبيب. اهـ. قال الرهوني: قد صرح أبو علي بالاعتراض على الحطاب، فإنه قال: والحق أن المذهب هو كلام ابن القاسم، فإنه لا سبيل لجعل المكتري متعديا، وأنَّ قول ابن حبيب خلافٌ، وهذا هو الذي في المتن لأنه أطلق ولم يقيد، وهو قول مالك وابن القاسم، وكلام الشامل تبع فيه ابن شأس وابن الحاجب، وفي ذلك ما لا يخفى، وأعجب من ذلك اقتصار الحطاب عليه، فأوهم أنه المذهب، وليس كذلك. اهـ. وقال عبد الباقي: فكراء مثل الزائد على السنة لازم للمكتري إلى أن يستوفي زرعه، فلو بقي في الأرض بعد انقضاء مدة الإجارة شهرين مثلا فعليه في الزيادة كراء المثل على حساب ما أكرى؛ أي يقوم كراء الزيادة، فإن قيل: دينار، قيل: ما قيمة السنة؟ فإن قيل: خمسة، فقد وقع للزيادة مثل كراء خمس السنة فيكون عليه الكراء المسمى ومثل خمسة، كذا وجه ابن يونس قول المدونة: وله فيما بقي على حساب ما أكراها، معترضا على طرح سحنون قولها على حساب ما أكراها، وتبعه أبو محمد في مختصرها، وعلى ما لسحنون فيعطى الزائد من غير نظر لحساب ما أكريت به في العام، وهو ظاهر المص كما قال علي الأجهوري وأحمد. اهـ. قوله: وعلى ما لسحنون فيعطى لخ، قال الرهوني: هو ظاهر المص كما قاله ولكن ما قرره به أوَّلا تبعا لاختصار أبي سعيد وابن أبي زمنين هو الصواب، وبه جزم عبد الحق أيضا، واختاره غير واحد، ولذلك قال أبو علي: وقول المتن: فكراء مثل الزائد، مَرَّ فيه على اختصار الشيخ أبي محمد ومن وافقه، لكن مقابله هو الأقوى. اهـ. وقال المواق: قال ابن القاسم: وأما ذات السقي التي تكون على أمد الشهور والسنين فللمكتري العمل إلى تمام سنة فإن تمت وله فيها زرع أخضر أو بقل فليس لرب الأرض قلعه، وعليه تركه إلى تمامه، وله فيما بقي كراء مثلها على حسب ما أكراها منه، وطرح سحنون على حساب ما أكراها وأبقى كراء المثل، ونقلها أبو محمد في مختصره، وله فيما بقي كراءُ مثلِه لا على ما أكراه. ابن يونس: وكلام ابن

ص: 238

القاسم جيد. اهـ. وقوله: وله زرع أخضر، قال عبد الباقي: في الشامل: أنه ليس لرب الأرض شراء الزرع على الأصح. انتهى. قال البناني: هذا هو قول ابن القاسم في المدونة، وقال ابن يونس: قال بعض القرويين: الأشبه أن يجوز لرب الأرض شراء ما فيها من زرعٍ لأن الأرض ملك له فصار مقبوضا بالعقد، وما يحدث فيه من نماء إنما هو في ضمان مشتريه لكونه في أرضه، وإنما (منع عليه السلام من بيع الثمار قبل بدو صلاحها

(1)

) لكون ضمانها من البائع لكونها في أصوله. اهـ. نقله المص في التوضيح والمواقُ عند قوله: وأرض سنين لذي شجر بها لخ، قال أبو الحسن: ومنه يؤخذ شراء خمس الخماس. انتهى. وقد مر هذا، قال الرهوني: قول البناني: قال أبو الحسن: ومنه يؤخذ جواز شراء خمس الخماس أي شراء شريكه رَبِّ الأرض خمس الخماس كما يدل عليه المعنى، وهو مصرح به في كلام أبي الحسن، ونقله ابن ناجي وقبله، فمراد أبي الحسن أن شراء رب الأرض خمس الخماس قبل أن يحل بيعه يجري فيه القولان، فعلى المشهور من المنع هنا يمنع شراؤه، وعلى قول التونسي هنا يجوز. واللَّه تعالى أعلم. والتونسي هو المراد ببعض القرويين.

وإذا انتثر للمكتري حب فنبت قابلا فهو لرب الأرض؛ يعني أن من اكترى أرضا فزرعها فعند حصاده انتثر حب في الأرض فنبت في العام القابل فإنه يكون لرب الأرض؛ لأن الأول أعرض عنه عادة، والفاء في قوله: فنبت للتعقيب، وتعقيب كل شيء بحسبه، كتزوج زيد فولد له إذا لم يكن بينهما الأمد الطويل، ولا مفهوم للمكتري في كلام المؤلف، بل هو فرض مسألة كما قاله ولد ابن عاصم في شرح أرجوزة والده: كل ما ينثر من الزرع في الأرض المزروعة بكراء أو غيره فنبت فيها بعد تمام مدة زارعها فإن ذلك النابت فيها هو لمكريها لا لزارعها. قال ابن يونس: قال سحنون: إذا زرع هذا أرضه قمحا وهذا أرضه شعيرا وطار من بذر كل واحد في أرض جاره ونبت فإن ذلك لمن حصل في أرضه ولا شيء لجاره فيه، ولو كان بين الأرضين جسر فنبت فيه ما تطاير من الحب فذلك بينهما اختلفت زريعتهما أو اتفقت؛ لأن ذلك الموضع من أرضيهما، وقوله: وإذا

(1)

البخاري، كتاب الزكاة، رقم الحديث 1487.

ص: 239

انتثر لخ؛ أي إذا انقضت مدة كراء من انتثر حبة فإن بقيت فهو له. قاله الخرشي. وقال: وأما إن أكراها ربها لغيره ونبت في مدة كرائها للغير فهو لرب الأرض لا للمكتري، ومفهوم انتثر أنه لو زرع ولم ينبت في سنة بذره ونبت في السنة القابلة لا يكون الحكم كذلك، وهو كذلك، فيكون لربه وهل عليه كراء في العام الذي لم ينبت فيه يجري على ما يأتي من أنه إذا كان لعطش ونحوه لا كراء عليه فيه وإلا فعليه الكراء، قوله: قابلا، منصوب بنزع الخافض أي في زمن قابل. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: وإذا انتثر للمكتري حب في الأرض بحصاد أو غيره فنبت قابلا أي في زمن قابل كان في عامة أو في عام قابل ولا يقدر عاما قابلا كما قدر البساطي وقوله: للمكتري لو قال: لكالمكتري ليدخل من وُهبت له منفعة الأرض مدة لكان أحسن. انتهى. وقال عبد الباقي: وإذا انتثر بآفة أو بغيرها للمكتري أرضا فزرعها حب في الأرض فنبت زمنا قابلا في عامة أو في العام القابل فهو لرب الأرض لإعراض ربه عنه حيث انقضت مدته بالحصاد، فإن بقيت كان له لا لرب الأرض، وكذا إذا اكتراها قابلا عقب اكترائه الأول، وأما إن أكراها ربها لغيره ونبت في مدته فلرب الأرض لا للمكتري الثاني قياسا على مسألة الصيد، ومفهوم انتثر أنه لو زرع ولم ينبت في سنة بذره ونبت في القابلة لم يكن الحكم كذلك وهو كذلك، فيكون لربه وعليه كراؤه وعليه كراء العام الذي لم ينبت فيه إن كان لغير عطش ونحوه وإلا فلا كما يأتي، وقوله: فهو لرب الأرض، انظر لو لم يكن لها رب هل يكون لرب الحب أو هو مباح كالعشب قاله علي الأجهوري. فإن قلت: سيأتي في الموات أن حرثها من الإحياء، قلت: لعله حيث لم يعرض عنها وما هنا أعرض عنها. انتهى.

تنبيه: قوله: وإذا انتثر للمكتري، ظاهره كان بآفة أو غيرها، وبذلك قرره غير واحد، لكنه إذا انتثر عند حصاده يكون ذلك متفقا عليه، وإذا كان بآفة يكون مختلفا فيه، قال المواق: من المدونة قال مالك: وإذا انتثر للمكتري في حصاده حب في الأرض فنبت قابلا فهو لرب الأرض. اهـ. قال أبو الحسن: هذا بلا خلاف لأن العادة أن من تركه لا يعود إليه، وأما من لم يحصده وأتى عليه مطر أو غيره فانتثر منه ونبت قابلا ففيه خلاف، قيل: هو لرب الأرض، وقيل: للزارع، واقتصر عبد الباقي وغيره على القول الأول. قال الرهوني: واقتصار عبد الباقي على القول الأول هو

ص: 240

الصواب وإن كان كلام أبي الحسن ليس فيه ترجيح؛ لأن كلام اللخمي الذي أشار إليه يفيد ذلك: ويفيده أيضا اقتصار المتيطي وابن سلمون وصاحب المعين عليه. انتهى. وقال الشبراخيتي: قال أصبغ: في العتبية فيمن زرع في أرضه كمونا فلم ينبت وأبطأ حتى لم يشك أنه هلك فأكراها ربها ممن زرعها مقثاة فنبتت المقثاة ونبت معها الكمون أيضا فالكمون لربه ويفض كراؤها الذي أكراها به على قدر ما انتفع هذا بكمونه وهذا بمقثاته، فيسقط من الكراء بقدر ما ناب الكمون، فإن أضر الكمون بالمقثاة حتى نقصها في حملها وتمامها فليس له قلعه ولكن يوضع عنه من حصته بقدر ما نقصت المقثاة؛ لأن هذا من سبب الأرض، وكذلك لو أبطلها لرجع بجميع الكراء فأخذه ومصيبة المقثاة منه كما لو غرسها فلم تنبت أصلا، وكذا في الشامل لكن على وجه يشمل الكمون وغيره، فإنه قال: وإن أيس من نبات بذره فأكرى الأرض لمن يبذر فيها فنبتا معا فلكل زرعه إن عرف ويفض الكراء عليهما، فإن تلف الثاني دون الأول لزم الأولَ جميع الكراء، وإن نقص الثاني فبحسابه وليس لربه قلع الأول. انتهى. وقوله: إن عرف، مفهومه إن لم يعرف فإن اتفقا على شيء عمل به، وإن ادعى كل واحد منهما أن النابت جميعا له فإنه يقسم بينهما نصفين، وإن ادعى أحدهما أن أكثره له وادعى الآخر كله أو نصفه فإنه يقسم على الدعوى كالعول. انتهى.

كمن جره السيل إليه؛ يعني أن السيل إذا جر حب رجل إلى أرض غيره فنبت فيها فإن الزرع يكون لصاحب الأرض التي انجر إليها، وكذلك إذا جر السيل زرع رجل إلى أرض آخر فنبت فيها فهو لرب الأرض ولا شيء فيه لصاحب الزرع، ولو قلع السيل من أرضٍ شجرة فصيرها بأرض رجل فنبتت فيها فينظر فإن كان لو قلعت وردت إلى أرضه نبتت فله قلعها، وإن كان إنما ينقلها للحطب لا ليغرسها في أرضه فهذا مضار وله القيمة، وإن كانت الشجرة لو قلعت لم تنبت في أرض ربها وإنما تصير حطبا فهذا الذي جرت في أرضه يخير بين أن يأذن لربها في قلعها أو يعطيه قيمتها مقلوعة، ولو نقل السيل تراب أرض إلى آخر فإن أراد ربه نقله إلى أرضه وكان معروفا أي متميزا فله ذلك، وإن أبى أن ينقله فطلبه من صار في أرضه بتنحيته لم يلزمه لأنه لم يكن عن فعله، ما لم يكن جره بطريق أو مسجد، وإلا فعلى ربه نقله كموت دابة بطريق، وإن

ص: 241

ماتت بدار رجل ولم يدخلها ربها فليس على ربها نقلها. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وأما لو جر له شجرة فنبتت فإن كانت إن قلعت لا تنبت أو تنبت وأبى ربها من أخذها في هذا الثاني خير رب الأرض بين دفع قيمتها مقلوعة وأمره بقلعها، فإن أراد أخذها لغرسها فله ذلك، فإن أرادها حطبا فلرب الأرض منعه من قلعها، وهل يعطيه قيمتها قائمة أو مقلوعة؟ تردد فيه شيخنا، قال البناني: لا وجه لهذا التردد بل تتعين قيمتها مقلوعة وهو الذي يفيده ابن عرفة. انتهى. وينبغي تصديق ربها في أنه يريد غرسها، لا قول [الآخر:]

(1)

إنه يجعلها حطبا، ولو جر السيل أو الريح ترابا ينتفع به أو رمادا لأرضِ آخر وطلب ربه أخذه فله ذلك، وإن طلب من جاء لأرضه من ربه نقله وأبى لم يلزمه لأنه ليس من فعله، وأما إن جره بطريق أو مسجد فعلى ربه نقله. كموت دابة بطريق لا بدار رجل لم يدخلها ربها. انتهى. ونحوه للشبراخيتي. والله تعالى أعلم. وقال عبد الباقي: كمن جره السيل إليه؛ أي كشخصٍ صاحب أرض جَرَّ السيل الحب الملقَى على الأرض لينبت أو النابتَ من الزرع، على ما يفيد الشارح ترجيحه إليه أي إلى أرضه فنبت فيها فإنه يكون لرب الأرض التي انجر إليها ولا شيء لصاحبه. انتهى. قوله: أو النابت من الزرع لخ، قال البناني: هو مذهب المدونة لخ، وقال الرهوني: ما عزاه الزرقاني للشارح من الترجيح غير راجح، بل الراجح ما أفاده كلام المص وبه قرره أبو علي، فإنه قال: قوله: كمن جره السيل إليه، الضمير عائد على الحب وهذا هو صورة المدونة كما في أبي محمد وابن يونس، فالمص اختصر كلامهما وفهم من قوله: كمن جره؛ أي الحب أن المجرور إذا كان نباتا لا يكون لرب الأرض وهو كذلك على خلاف ولزم الكراء بالتمكن يعني أن المكتري لأرضٍ أو غيرها إذا تمكن من المنفعة فإنه يلزمه الكراء، قال البناني: ولزم الكراء بالتمكن أي من النفعة سواء استعمل أو عطل كما إذا بور الأرض، والتمكن من منفعة أرض المطر باستغناء الزرع عن الماء وضمان العام، هذا هو الظاهر في تقرير كلام المص، وليس مراده التمكن من التصرف كما في الزرقاني والخرشي، فإنه قد كان متمكنا منه من أول ما عقد. قاله المسناوي رحمه الله اهـ وقال الشبراخيتي: ولزم

(1)

في الأصل لآخر والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 51.

ص: 242

الكراء لمكتري

(1)

أرض أو غيرها بالتمكن، والقول قول المكتري بيمين في عدم التمكن إن نازعه المكري، فإن أقر المكتري بالتمكن لكن ادعى أنه حصل له مانع من التمكن فالقول للمكري وعليه إثبات المانع؛ لأن الأصل عدمه، وكذا إذا ادعى حصول ما يسقط الكراء فإن القول للمكري، ثم إنه إنما يلزم الكراء بالتمكن حيث لم يخش من نحو الفار، فإذا تمكن من زَرَعَ ولكن خشي إن زرع أكله الفار ونحوه فإنه لا يلزمه الكراء ويكون بمنزلة من لم يتمكن. الباجي: وكذلك الجراد إذا باضت في الأرض فمنعه الحرث في إبان الزراعة خيفة أن يؤذي ما يخرج منها فلا كراء لصاحب الأرض. انظر أبا الحسن. فإذا تمكن ولم يستعمل فهل يحط من الكراء مقدار ما ينقصه الاستعمال أن لو استعمل؟ وهو الراجح أم لا، ومما انتفى فيه التمكن الأرض التي غمر ماؤها وندر انكشافه. وتقدم أنه لا يجوز النقد فيها، كما يفيده كلام المتيطي. اهـ. ولو حبس الدابة أو الثوب المدة المعينة ثبتت الأجرة إذ التمكن كالاستيفاء. قاله ابن الحاجب. وفيها: وإن اكتراها يومه بدرهم فأمكن منها فلم يركبها حتى مضى اليوم لزمه الكراء، وفي الخرشي: قال في كتاب الدور من المدونة: ومن اكترى أرضا أو دارا كراءً فاسدا وقبض ذلك ولم يسكن ولم يزرع حتى مضت السنة فعليه كراء المثل، ثم قال: وكذلك الدابة، قال ابن يونس في كتاب الرواحل في قوله: وكل من ركب أو حمل في كراء فاسد فعليه كراء المثل: يريد وكذلك لو قبض الدار أو الدابة فلم يحمل ولم يسكن حتى انقضت مدة الكراء فعليه كراء مثلها على أنها مستعملة. اهـ. وقال عبد الباقي: ولزم الكراء بالتمكن وإن لم يستعمل لكن إن لم يستعمل يحط عنه من الكراء بقدر ما ينقصه الاستعمال أن لو استعمل على الراجح. انتهى.

وإن فسد بجائحة؛ يعني أن الكراء يلزم المكتري بالتمكن من منفعة العين التي استأجرها وإن فسد زرعها لأجل جائحة نزلت بالزرع كبرد أو جليد أو غير ذلك مما لا دخل للأرض فيه على ما يأتي بيانه، فالكراء لازمٌ وفي الحديث:(الجراد نثرة حوت في البحر)

(2)

(وقد دعا عليه الرسول

(1)

في الشبراخيتي: ولزم الكراء المكتري أرضا لخ، مخطوط.

(2)

الترمذي، كتاب الأطعمة، رقم الحديث 1823، وابن ماجه، رقم الحديث 3221 وينظر البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث، ج 2 ص 265.

ص: 243

عليه الصلاة والسلام) وسببه ما رواه الحاكم في تاريخ نيسابور والبيهقي عن ابن عمر أن جرادة وقعت بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم فإذا مكتوب على جناحها بالعبرانية نحن جند الله الأكبر ولنا تسع وتسعون بيضة، ولو تمت لنا مائة لأكلنا الدنيا بما فيها، فقال صلى الله عليه وسلم:(اللهم أهلك كباره واقتل صغاره وأفسد بيضه واقطع دابره وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء، فجاء جبريل فقال: إنه قد استجيب في بيضه)). اهـ. ولبعضهم:

مر الجراد على زرعي فقلت له

ارحل بخير ولا تشغل بإفساد

فقام فيهم خطيب فوق سنبلة

إنا على سفر لا بد من زاد

قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: وإن فسد لجائحة سماوية من ثلج أو جليد أو مطر أو جيش أو نحو ذلك فقوله: لجائحة؛ أي لا دخل للأرض فيها، وضمّن فسَد معنى تعطل وهو أعم من أن يكون بعد الوجود أم لا، هذا ما لم يحصل فيه بعد الجائحة السماوية ما يسقط الكراء وإلا فلا كراء: كما إذا حصلت الجائحة السماوية ثم حصل دود أو فار أو عطش بحيث لو كان باقيا لسقط الكراء اهـ ونحوه لعبد الباقي، فإنه قال: وإن فسد الزرع بجائحة لا مدخل للأرض فيها كطير وجراد وجليد وبرد وجيش وغاصب وعدم نبات حب، بخلاف جائحة تتعلق بالأرض فتارة تسقط الكراء كما يأتي في قوله عكس تلف الزرع لكثرة دودها لخ، وتارة تسقط بعضه كعطش أو غرق فبحصته، فأراد بالجائحة هنا نوعا خاصا. انتهى. وقال المواق: من المدونة: لو هلك الزرع ببرد أو جليد أو جائحة فالكراء عليه. اهـ.

أو غرق بعد وقت الحرث؛ يعني أنه يلزم الكراء إذا غرقت الأرض بعد فوات إبان الزرع وسواء زرعها أو لا، قوله: أو غرق بالمصدر عطف على جائحةٍ، وبالفعل عطف على فسد، وقوله: أو غرق بعد وقت الحرث أي حرث ما يزرع لا ما حرثت له فقط، وقوله: بعد وقت الحرث؛ أي

ص: 244

بعد خروج وقت الحرث، ولو غرق قبله أو فيه وانكشف فيه لزمه الكراء، وهاتان الصورتان منطوق قوله: ولزم الكراء بالتمكن، وأما لو غرق قبله وانكشف بعده فلا كراء، وهذه الصورة هي مفهوم المص، وقد اشتمل كلام المص على خمس صور: غرق قبل الوقت وانكشف قبله، غرق قبله أو فيه وانكشف فيه بحيث يتمكن من الحرث فيهما، غرق بعده، غرق قبله وانكشف بعده، ففي الأربع الأول يلزم الكراء، وفي الخامسة لا يلزم الكراء. وفي المواق: من المدونة: إن أتى مطر فغرق زرعه في إبَّانٍ لو انكشف الماء عن الأرض أدرك زرعها ثانية فلم ينكشف حتى فات الإبان فذلك كغرقها في الإبان قبل أن تزرع حتى فات الحرث فلا كراء عليه، ولو انكشف الماء في إبان يدرك فيه الحرث لزمه الكراء وإن لم يحرث، ومن المدونة أيضا: إن أتى مطر بعد ما زرع وفات إبان الزراعة فغرق زرعه حتى هلك بذلك فهو جائحة على الزارع وعليه جميع الكراء، بخلاف هلاكه من القحط. انتهى.

أو عدمه بذرا؛ يعني أن المكتري للأرض إذا لم يزرع لكونه عدم البذر فإنه يلزمه الكراء، قال الشبراخيتي: لتمكنه من إجارتها لغيره، وهذا إن عدم البذر وحده كما قال اللخمي، وأما لو عدم أهل الوضع البذر لسقط عنه الكراء، وقوله: أو عدمه، معطوف على جائحة، لكن فسد مضمن معنى تعطل اهـ ونحوه لعبد الباقي، وقوله: وأما لو عدم أهل الموضع البذر لخ، نحوه في نقل الحطاب عن اللخمي. اهـ. والمراد بالبذر ما يزرع فيشمل الكراث والفجل وغير ذلك.

أو سجنه، بفتح السين يعني أنه إذا اكترى أرضا ليزرعها فمنع من الزرع لأجل سجنه وسواء سجن ظلما أم لا فإنه يلزمه جميع الكراء لأنه متمكن من أن يكريها لغيره فهو قادر على الانتفاع، وهذا حيث لم يقصد من يسجنه بسجنه أن يحول بينه وبين زرعها، فإن قصد ذلك سقط عنه الكراء؛ أي والكراء على المانع ويعلم قصده بقرينة أو بقوله، قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: أو سجنه بفتح السين لأن المراد به الفعل، وأما بالكسر فاسم للمكان، وهذا حيث لم يقصد من يسجنه بسجنه أن يحول بينه وبين زرعها إلى آخر ما مر عن الخرشي. وقال عبد الباقي: أو سجنه بفتح السين أي إرخاله السجن إلى آخر ما مر عنهما.

ص: 245

أو انهدمت شرفات البيت؛ يعني أنه إذا اكترى بيتا وبعد ذلك انهدمت شرفاته فإن ذلك لا يضر في لزوم الكراء للمكتري بل يلزمه جميع الكراء ولا له الفسخ لخفة ذلك، وهذا ما لم ينقص هدم الشرفات من قيمة الكراء، بدليل ما يأتي قريبا، قال عبد الباقي: أو انهدمت شرفات -بشين معجمة مضمومة- البيت ولم ينقص من قيمة الكراء بدليل ما ذكره فيلزمه الكراء، فإن أنفق عليها شيئا بغير إذنه فلا شيء له لأنه متطوع. اهـ. وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: إذا لم يكن فيما انهدم ضرر على المكتري ولم يبينه رب الدار لزم المكتري السكنى بجميع الكراء، ولا يوضع عنه من الكراء شيء لذلك، وانهدام الشرفات لا تضر بسكنى المكتري، وإن أنفق فيها كان متطوعا ولا شيء له، يريد إلا أخذ النقض فله أخذه إن كان ينتفع به. اهـ. والشرُفة بضم الشين وبضم الراء كغرفة، وفي بعض النسخ شرافات بالألف جمع شرافة وهي الشرفة وحاصل ما ذكره ابن رشد في المقدمات من الأقسام هنا كما نقله عنه في التوضيح والمواق وغيرهما أن يقال الهدم في الدار المكتراة إما يسير وهو ثلاثة أوجه، الأول: ما لا مضرة فيه ولا ينقص من الكراء كالشرفات فهو كالعدم يلزمه السكنى من غير حطٍّ. الثاني: ما لا مضرة فيه لكن ينقص من الكراء فيلزم السكنى ويحط بقدره. الثالث. مضر كالهطل فيخير المكتري بين السكنى بجميع الكراء وبين الخروج وإما كثير وهو ثلاثة أوجه، الأول: أن يعيب السكنى ولا يبطل شيئا من منافع الدار كذهاب تجصيصها فيخير كما تقدم. الثاني: أن يبطل بعض المنافع كانهدام بيت من دار ذات بيوت فيسكن ويحط. الثالث: أن يبطل منافع أكثر الدار فيخير كما تقدم. اهـ. وقد استوفاها المص: قاله البناني.

أو سكن أجنبي بعضه؛ يعني أنه يلزم المكتري جميع الكراء فيما إذا اكترى دارا ونحوها وسكن أجنبي بعض ذلك ويرجع على الأجنبي بأجرة مثل ما سكنه، وأما لو سكن صاحب الدار بعضها فإن المكتري لا يلزمه إلا حصة ما سكن فقط كما يأتي. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: أو سكن أجنبي بعضه فالكراء جميعه لازم للمكتري ويرجع على الأجنبي بأجرة المثل في الحصة التي سكنها من الدار. انتهى. وقال عبد الباقي: أو سكن أجنبي بعضه بإذن المكتري أو غصبًا فيلزمه جميع الكراء ويرجع هو على الأجنبي بأجرة المثل فيما سكنه، وأما بإذن المكري فيحط عن

ص: 246

المكتري حصته كسكنى المكري لها كما يذكره. اهـ. قوله: أو غصبا، قال البناني: الذي عند ابن عاشر قوله: أو سكنى أجنبي؛ يعني وسكت المكتري عنه، أما إن سكن غصبا فلا. انتهى. وهو ظاهر إذا كان الغاصب لا تناله الأحكام كما مر عند قوله: وبغصب الدار لخ، انتهى. لا إن نقص من قيمة الكراء؛ يعني أن الشيء المنهدم من الدار المكتراة كالشرفات والبياض ونحوهما إذا كان ذلك ينقص من قيمة الكراء فإنه يحط عن المكتري من الأجرة بقدر ذلك النقص واللَّه تعالى أعلم. قال الشبراخيتي: لا إن نقص من قيمة الكراء فيحط بقدره كذهاب تبليطها أو تجصيصها كما قال اللخمي، أو واجهتها أو ما يزاد في الكراء لأجله ولو شرفات. انتهى. وقال التتائي: لا إن نقص بهدم الشرفات ونحوها شيء من قيمة الكراء فينحط بقدره. اهـ. وقال عبد الباقي: لا إن نقص من قيمة الكراء ولو مما فيه جمال الدار كالبياض. اهـ. وقوله: لا إن نقص من قيمة الكراء حيث لم يقل المنهدم، بل وإن قل المنهدم فإنه يحط عن المكتري بقدره ويلزمه السكنى ولا خيار له، كما إذا لم يقل كما عرفت، وقوله: لا إن نقص من قيمة الكراء وإن قل، مقيد بما إذا لم يحصل بذلك ضرر على المكتري كما يأتي في قوله: وخير في مضر، وقوله: وإن قل، قال غير واحد: يحتمل أن تكون الواو للحال فيكون القليل ما لا ضرر فيه على المكتري، وهذا هو الذي يظهر من حل الشارح، فار يكون كلامه مقيدًا. والله تعالى أعلم. وقال الحطاب: لا إن نقص من قيمة الكراء وإن قل، يريد إذا قام بذلك فإن سكت وسكن ولم يقم به فلا شيء له. قاله في المقدمات. ونقله في التوضيح وابن عرفة وغيرهما، والظاهر من كلامهم أن حكم انهدام البيت منها كذلك لا شيء له إن سكت. وتحصيل مذهب المدونة أنه إذا انهدم شيء من الدار قليلا كان أو كثيرا لم يجبر ربها على إصلاحه مطلقا كما قال المص، الش: ينظر فإن كان فيه مضرة على الساكن خير بين أن يسكن بجميع الكراء أو يخرج، فإن خرج ثم عمرها ربها لم يلزمه الرجوع إليها، وإن عمرها وهو فيها لزمه بقية الكراء، وإن سكن الدار مهدومة لزمه جميع الكراء، وإن كان لا ضرر على المكتري في السكنى فالكراء له لازم، وينظر إلى المنهدم فإن نقص من قيمة الكراء حط ذلك النقص إذا قام به المكتري ولم يصلحه رب الدار، فإن سكت وسكن فلا شيء له، وإن لم ينقص من قيمة الكراء شيئا فلا شيء له. والله أعلم. انتهى.

ص: 247

أو انهدم بيت منها؛ يعني أن الدار المكتراة إذا انهدم بيت منها وليس فيه ضرر كبير على الساكن فإنه يلزمه السكنى ويحط عنه من الكراء بقيمة ذلك، فإن كان فيه ضرر كبير على الساكن فإنه مخير بين أن يسكن بجميع الكراء أو يفسخ الكراء عن نفسه، وقوله: أو انهدم بيت منها لا شك في شمول ما قبله له فهو من عطف الخاص على العام بأو وهو ممتنع، ويجاب بحمل الأول على ما لا يشمل الثاني قاله الخرشي والشبراخيتي. أو سكنه مكريه؛ يعني أنه إذا اكترى دارا وسكن مكريها بيتا منها أو شغله بمتاعه أو لم يمكنه منه فإنه يحط عن المكتري من الكراء بقدر ما يقابل الحصة التي سكنها المكري أو شغلها أو منع منها، والضمير في سكنه راجع لقوله: بيتا منها، قال ابن القاسم: إذا سكن صاحب الدار طائفة منها، فقال: المكتري إنما أعطيك حصته أن ذلك له.

أو لم يأت بسلم للأعلى؛ يعني أنه إذا اكترى دارا فيها علو وسفل ولم يأت المكري للمكتري بسلم يصعد عليه للأعلى لينتفع به فإنه يحط عن المكتري من الكراء بقدر ما يقابل الأعلى لأنه لم ينتفع به. قاله الخرشي. وقال: ولا بد من القيام في الأمور الحادثة وإلا فالكراء يلزم المكتري جميعه إلا في سكنى المكري مع المكتري فإنه يحط عن المكتري حصة ما سكن المكري معه ولو لم يقم. قاله الخرشي. وقال بعده: وقال الأجهوري في شرحه: تنبيه: ذكر الحطاب أنه إنما يحط عن المكتري فيما ينقص من قيمة الكراء إذا قام، واستظهر مثل ذلك فيما إذا انهدم بيت، والذي ينبغي اعتبار القيام في هاتين المسألتين، ثم إنه يعمل بقول المكري حيث ادعى المكتري القيام فيما يعتبر فيه وخالفه المكري في ذلك، ويعمل بقوله أيضا فيما إذا تنازعا في وقت انهدام البيت المذكور، كما يفيده قول المدونة، وذكر نصها. انتهى. وقال البناني: أو لم يأت بسلم للأعلى، نحوه في العتبية في رسم يوصي من سماع عيسى، قال ابن رشد: إنما قال: إنه إذا لم يأت المكري للمكتري بسلم يخلص به إلى الانتفاع بالعلو حتى مضت السنة أنه لا كراء عليه فيه لأنه باع منه جميع منافع الدار فعليه أن يسلمها إليه، وتسليمه للعلو هو بأن يجعل له سلما يرقى عليه إليه، والكراء في هذا بخلاف الشراء لو باع منه الدار وفيها علوٌ لا يرقى إليه إلا بسلم لم يكن عليه أن يجعل له سلما يرتقي عليه، كما لا يلزمه أن يجعل له دلوا أو حبلا يصل به إلى ماء البئر؛ لأن

ص: 248

ما باع منه قد سلمه إليه، فهو إن شاء سكنه وإن شاء هدمه وإن شاء باعه، لا يمنعه من التصرف فيه بما شاء كونه دون سلم، ومثله في المنتخب عن ابن القاسم: إذا توانى صاحب المنزل فلم يجعل للعلو سلما ولم ينتفع به المكتري حتى انقضت السنة، فقال: ينظر إلى ما يصيب ذلك العلو من الكراء فيطرح عن المكتري. انتهى.

أو عطش بعض الأرض؛ يعني أنه إذا اكترى أرضا للزرع فعطش بعضها قبل الزراعة أو بعدها وكان ذلك البعض تابعا فإن المكتري يحط عنه من الكراء بقدر ما يقابل البعض الذي عطش. أو غرق؛ يعني أنه إذا اكترى أرضا ليزرعها فغرق بعضها قبل الزراعة وكان ذلك البعض تابعا فإن المكتري يحط عنه من الكراء حصة ما يقابل البعض الذي غرق. قال المواق: في المدونة: من استأجر أرضا ليزرعها فغرق بعضها قبل الزراعة أو عطش فإن كان أكثرها رد جميعها وإن كان تافها حط عنه بقدر حصته من الكراء. انتهى. وقال الخرشي مفسرا للمص: يعني أن الأرض إذا غرق بعضها أو عطش بعضها يريد قبل الزراعة كما في المدونة فإنه يحط عن المكتري بقدر ما يقابل ذلك من الكراء، والمراد بالبعض ما دون الجل، وأما إذا غرق كلها أو جلها أو عطش جلها أو كلها فإنه لا شيء على المكتري من الكراء، فيقيد كلام المؤلف بذلك، فإن البعض صادق بالأكثر ليوافق المدونة، وقوله: أو بعدها، هو قول الأجهوري: أو عطش مطلقا، وقال في قوله: أو غرق قبل الزرع أو بعده: واستمر حتى فات الإبان كما مر، وغرق كفرح ومثله عطش. انتهى. وعلم مما قررت أن قوله:

فبحصته، راجع للمسائل الست؛ أي فيرجع المكتري بحصة ما ذكر في المسائل الست من الكراء، فقوله: بحصته، متعلق بيرجع أو ينحط. واللَّه تعالى أعلم. وقوله: فبحصته، قال الشبراخيتي: قيمة لا مساحة، وهو راجع للمسائل الست، وهذا إذا قام وخاصم، وأما لو سكت فإنه يلزمه الكراء. انتهى. وقال عبد الباقي: فبحصته؛ أي حط عن المكتري في هذه المسائل الست حصته من الكراء إن قام به وإلا لم يحط، وعقد الكراء لازم له في المسائل الست، فإن ادعى القيام وخالفه المكري: عمل بقول المكري كما يعمل به إن تنازعا في وقت انهدام بيت منها، ثم إن كلا من الغرق والعطش حكمه حكم الاستحقاق حيث حصل كل منهما قبل الزرع، فينظر إلى كونه

ص: 249

بأكثرها فليس له التمسك بالباقي، أم لا فيتمسك. انتهى. وقوله: فبحصته قال الإمام الحطاب: قال في معين الحكام: وصفة الحكم في ذلك أن يشهد أهل المعرفة بما عهد من حال هذه الأرض في الأعوام المتوسطة، فإن قيل: للقفيز خمسة أو ثمانية نظر ما رفع الآن منها وأعطي من الكراء بحسب ذلك. انتهى.

وخير في مضر؛ يعني أن المكتري يخير بين المقام وعليه جميع الكراء والفسخ عن نفسه فيما إذا حدث في الدار المكتراة ما يضرُّ بالمكتري، وذلك كهطل، وهو نزول ماء المطر من السقف، ومثل الهطل هدم الدار وهدم الساتر وتعطيل الدار. قاله الشبراخيتي. وقال: وقوله: كهطل، تنبيه بالأخف فأولى الهدم أو التعطيل. انتهى. وقال عبد الباقي: وخير المكتري بين الفسخ والبقاء في حدوث مضر من غير نقص منافع كهطل وهو تتابع مطر ينزل من السقف وخراب البادهنج، وأولى هدم الدار أو الساتر. فإن بقي فعليه الكراء جميعه، وليس له البقاء مع إسقاط حصة المضر من الكراء، وأما مضر مع إسقاط منافع فيحط عنه بقدره كما مر. انتهى كلام عبد الباقي. وانظره مع ما مر له عند قوله: لا إن نقص من قيمة الكراء، من أن محله حيث لم يحصل به ضرر ففيه مع كلامه هنا تهافت، والصواب إسقاط قوله: وأما مضر مع إسقاط لخ، وعدم تقييد مضر بقوله: من غير نقص منافع، ولهذا قال محمد بن الحسن البناني: قول الزرقاني: من غير نقص منافع مع قوله بعده: وأما مضر مع إسقاط منافع فيحط عنه بقدره، فيه نظر بل لا فرق في المضر بين ما ينقص المنافع وبين ما لا ينقصها فيخير في الصورتين معا، فإن بقي فعليه جميع الكراء على مذهب ابن القاسم في المدونة، ولفظ المقدمات في الصورة الثانية: الثالث: أن تكون فيه مضرة على الساكن من غير أن يبطل من منافع الدار شيئا كالهطل وشبهه فهذا اختلف فيه على قولين، أحدهما قول ابن القاسم: إن رب الدار لا يلزمه الإصلاح إلا أن يشاء، فإن أبى كان المكتري بالخيار بين أن يسكن بجميع الكراء أو يخرج، فإن لم يخرج وسكن لزمه جميع الكراء. انتهى بلفظه. ولفظها في الصورة الأولى هو ما نصه: الثالث أن يبطل أكثر منافع الدار أو منفعة البيت الذي هو وجهها أو ما أشبه ذلك فهذا يكون المكتري فيه مخيرا بين أن يسكن بجميع الكراء أو يخرج، فإن أراد أن يسكن على أن يحط عنه ما ينوب ما انهدم من الكراء لم يكن ذلك له إلا أن

ص: 250

يرضى بذلك رب الدار، فإن رضي بذلك رب الدار جرى جوازه على الاختلاف في جواز جمع الرجلين سلعتيهما في البيع، وإن بنى المكري الدار قبل أن يخرج المكتري منها لزمه الكراء ولم يكن له أن يخرج، وإن بناها بعد أن خرج لم يكن عليه الرجوع إليها إلا أن يشاء، وإن سكت وسكن الدار مهدومة لزمه جميع الكراء على مذهب ابن القاسم في المدونة. اهـ. ولا يعارض هذا قول المص: أو انهدم بيت منها؛ لأن ذلك في غير المضر، ولهذا لا يخير فيه وهذا في المضِرِّ. اهـ.

تنبيه: قال الخرشي: الهطل بسكون الطاء تتابع المطر والدمع وسيلانه، يقال: هطلت السماء تهطل هطلا وهطلانا وتهطالا

(1)

وسحاب هطل ومطر هطل كثير الهطلان، ثم إن في قوله: وخير في مضر: سببية كقوله عليه الصلاة والسلام: (دخلت النار امرأة في هرة) أي بسبب هرة. انتهى المراد منه. وفي القاموس: الهطل المطر الضعيف الدائم وتتابع المطر المتفرق العظيم القطر كالهطلان والتهطال، وقد هطل يهطل وديمة هطل بالضم وهطلاء، ولا يقال: سحاب أهطل، ومطر وسحاب هطِل ككتِف وشداد وسحائب هطَّل كركع. اهـ المراد منه.

كعطش أرض صلح تشبيه في اللزوم؛ يعني أن أرض الصلح إذا عطشت فتلف زرعها فإنه يلزمه الكراء كاملا لأنه ليس بإجارة محققة، إنما صالحهم السلطان على أن عليهم مالا معلوما، بخلاف أرض الخراج كأرض مصر فإنه إجارة محققة لأنها أرض عنوة آجرها السلطان، فإذا عطشت سقطت الأجرة كما مرَّ، وظاهر المص سواء كان العطش قد طرأ بعد الزرع أو قبله، والذي في المدونة: وأما أرض الصلح التي صالحوا عليها إذا زرعوا فعطش فعليهم خراج أرضهم، ولذا قال الشارح عقب هذه متوركا على المؤلف ما نصه: ولم يبين الشيخ كان قبل الزرع أو بعده، وبينه في المدونة بقوله: إذا زرعوا فعطش. انتهى. فالظاهر أنه بعد الزرع. انتهى. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: كعطش أرض صلح حتى تلف زرعها فيلزمهم الكراء كاملا لأنه ليس بأجرة محققة وإنما صالحهم السلطان على أن عليهم مالا معلوما، بخلاف الأرض الخراجية كأرض مصر فإنها إجارة محققة؛ لأنها أرض عنوة آجرها السلطان، فإذا عطشت سقطت الأجرة كما مر. انتهى.

(1)

في الأصل: تهطلا، والمثبت من القاموس المحيط.

ص: 251

وهل مطلقا؛ يعني أنه اختلف هل ما مر أن أرض الصلح إذا عطشت يؤدي أهلها ما عليهم مطلق غير مقيد كما هو ظاهره، فيكون قوله فيها مخالفا لقول الغير؟ أو ما مر مقيد بأن لا يصالحوا على الأرض وأما إن صالحوا على الأرض، فعطشت حتى تلف الزرع فإنه لا شيء على أهل الصلح كما قال:

إلا أن يصالحوا على الأرض في ذلك تأويلان، في قول الغير هل هو خلاف لما قال في المدونة أو وفاق له. قال البناني: في المدونة: ومن زرع في أرض الخراج بكراء مثل أرض مصر فغرقت أو عطشت فلا كراء عليه إذا لم يتم الزرع، فأما أرض الصلح التي صالحوا عليها إذا زرعوا فعطش زرعهم فعليهم الخراج، قال غيره: هذا إذا كان الصلح وظيفة عليهم واختلفوا في قول الغير، فقال أبو عمران هو خلاف لقول ابن القاسم، وقال بعض القرويين: هو وفاق. اهـ. والظاهر من هذا أن التأويلين في صورتين فقط، وهما: إذا صالحوا على الأرض وحدها، أو عليها وعين ما ينوب الأرض منه، فإن صالحوا على الرؤوس فقط أو عليها وعلى الأرض إجمالا فمحل وفاق. اهـ. فالصور أربع، اثنتان هما محل التأويلين، فعلى أنه خلاف فقوله في المدونة على عمومه، فيقول: إن الخراج لازم لهم في الصورتين، والغير يقول بعدم لزومه، لهم وهما ما إذا صالحهم الإمام على الأرض وحدها أو عليهما وعين ما ينوب الأرض [منه]

(1)

وعلى الوفاق يقول هو والغير في الصورتين بعدم اللزوم والصورتان اللتان هما محل اتفاق في أنهما يلزم فيهما الخراج أن يصالحوا على الرؤوس فقط أو عليهما إجمالا. واللَّه تعالى أعلم. وتأويل الخلاف لأبي عمران وتأويل الوفاق لبعض القرويين.

عكس تلف الزرع لكثرة دودهما أو فأرها، راجع لقوله: ولزم الكراء بالتمكن؛ يعني أن الكراء يلزم بالتمكن كما عرفت وذلك عكس تلف الزرع لكثرة دود الأرض أو فأرها ونحو ذلك من الجائحة التي للأرض فيها مدخل، فيسقط جميع الكراء حيث تلف الزرع كله أو بقي منه القليل، كما يذكره المص قريبا، فإذا اكترى أرضا للزرع فتلف الزرع من أجل كثرة دود الأرض المكتراة أو

(1)

في الأصل منهم والمثبت من البناني ج 7 ص 53.

ص: 252

فأرها فإنه يسقط عنه الكراء، ولو قال المص: بدودها وفأرها لكان أحسن وأخصر. قاله الشبراخيتي؛ يعني أن زيادة الكثرة مضرة لأنه إذا تلف الزرع بالدود فلا فرق بين كثرة ما ذكر وقلته، قال عبد الباقي: لكثرة دودها، وكذا لو وجده ولو لم يكثر فلو قال: لدودها لكان أحسن. اهـ. وقال الخرشي: فإذا تلف الزرع لأجل دود الأرض أو لأجل فأرها فإنه يحط عنه جميع الكراء. انتهى.

أو عطش؛ يعني أنه إذا تلف الزرع من أجل العطش فإنه يحط عن المكتري جميع الكراء، قال المواق: قال اللخمي: هلاك الزرع إن كان لقحط المطر أو تعذر ماء البئر أو العين أو لكثرة نبوع الماء من الأرض أو الدود أو فأر، سقط كراء الأرض كان هلاكه في الإبان أو بعده، وإن هلك لطير أو جراد أو جليد أو برد أو جيش أو لأن الزريعة لم تنبت لزم الكراء، هلك في الإبان أو بعده، المتيطي: ومثل قحط المطر توالي المطر، وكذلك إذا منعه من الازدراع فتنة. انظر هذا مع ما تقدم عند قوله: أو غرق، انظر إن أذهب السيل وجه الأرض، الرواية لزوم الكراء، وقال اللخمي: لا كراء، وَعُدَّ قوله قولا. اهـ.

أو بقي القليل؛ يعني أنه إذا هلك الزرع كله في الجائحة التي من جهة الأرض أو لم يبق منه إلا القليل فإنه لا شيء على المكتري لرب الأرض، قال المواق من المدونة: إن جاءه من الماء ما كفى بعضه وهلك بعضه فإن حصد ما له بال وله فيه نفع فعليه من الكراء بقدره، ولا شيء عليه إن حصد ما لا بال له ولا نفع فيه، قال في كتاب محمد: مثل الخمسة فدادين أو الستة من المائة. اهـ. وقال الخرشي: يعني أن الحكم هنا عكس الحكم فيما تقدم، فكما يجب جميع الكراء فيما تقدم يسقط جميعه هنا، فإذا تلف الزرع لأجل دود الأرض أو لأجل فأرها أو لأجل فتنة منعته من ازدراعها أو بقي من الزرع شيء قليل كخمسة أو ستة أفدنة من مائة فدان فإنه يحط عنه جميع الكراء. ولا شيء عليه أيضا لهذا القليل، وظاهر كلامهم أن المراد القلة النسبية، وقوله: وبقي القليل أي وقد كان الزرع تلف بالدود، ونحوه تلفه بما ينشغ منها من الماء. اهـ. وقال عبد الباقي، عند قوله: لكثرة دودها أو فأرها أو عطش ما نصه: وهذا إن عمة التلف أو بقي القليل كخمسة أفدنة من مائة فدان، ومدلول عبارته كغيره أنه لا يلزمه كراء ما بقي، وظاهره ولو كان

ص: 253

منفردا في جهة، وفي بعض الطرر عن أبي الحسن أن اللخمي قال: إذا كان ذلك متفرقا في جميع الفدادين المكتراة لأن ذلك كالهالك، وأما لو سلمت الخمسة فدادين أو الستة على المعتاد لزمه الكراء. اهـ. قوله: وفي بعض الطرر عن أبي الحسن مثله في نقل ابن عرفة عن اللخمي. قاله البناني. وقال الرهوني: نسبة ذلك للخميِّ صحيحة، ونصه: وقال ابن القاسم في كتاب محمد: إذا كان السالم [مثل الخمسة الفدادين]

(1)

والستة من المائة وشبهها فلا كراء عليه، يريد إذا كان متفرقا في جملة الفدادين المكتراة لأن ذلك كالهالك، وكثير من الناس لا يتكلف جمع مثله، وأما لو سلمت الخمسة الفدادين والستة على المعتاد من سلامتها لزمه كراؤها. اهـ. منه بلفظه. وقوله: أو بقي القليل، أما لو بقي منه غير القليل لكان له كراء ما بقي كما مر عن المواق. ولم يجبر آجر على إصلاح مطلقا؛ يعني أن الدار المكتراة ونحوها إذا وجد بها شيء مما مر فإن الآجر أي المكري لها لا يجبر على إصلاحها مطلقا، سواء كان الذي يحتاج إلى الإصلاح يضر بالساكن أو لا، وسواء كان يمكن معه السكنى أم لا، وسواء حدث بعد عقد الكراء أو لا، وإذا لم يجبر المكري على الإصلاح جرى المكتري على ما تقدم من التخيير في المضر والحط عنه من الكراء فيما ينقصه وهو غير مضر. قاله البناني. وقال عبد الباقي: ولم يجبر آجر بالمد مالك دار مثلا على إصلاح لمكتر ساكن مطلقا؛ أي سواء كان المحتاج للإصلاح يضر بالساكن أم لا، حدث بعد العقد أم لا، أمكن معه السكنى أم لا، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، وقال غيره فيها: يجبر، ابن عبد السلام: وعليه العمل في زماننا. اهـ. قال البناني: خلاف الغير ليس عاما في جميع الصور بل هو خاص بالمضر اليسير كما لابن رشد، فإنه قال: وإن أضر بالساكن ولم يبطل من نفع الدار شيئا كالهطل وشبهه، هذا فيه قولان، أحدهما قول ابن القاسم: إن رب الدار لا يلزمه الإصلاح إلا أن يشاء، فإن أبى كان المكتري بالخيار بين أن يسكن بجميع الكراء أو يخرج، فإن لم يخرج وسكن لزمه جميع الكراء. انتهى. وقال غير ابن القاسم فيها: يجبر لخ، وقال عبد الباقي: قال أحمد: لو طاع المكتري بالإصلاح من ماله -أي لا ليحسبه من الكراء بدليل ما يأتي عن المدونة- جبرَ ربَّها

(1)

في الأصل من الخمسة فدادين والمثبت من الرهوني ج 7 ص 75.

ص: 254

لأنه بمنعه صار مضارا. اهـ. وهل يلزمه كراء البقعة فقط أو الكراء الذي سمياه؟ قولان أرجحهما. الثاني؛ قال ابن عات في الطرر: فإن تهدمت الدار كلها فأراد المكتري بناءها من ماله فيها أو السكنى فيها من غير بنيان كان له بقدر كراء القاعة دون البناء. اهـ. ويكون له إن بنى فيها قيمة بنيانه مقلوعا، وكذلك الحانوت وغيره، وكذلك إن احترق، وقال المشاور: عليه جميع الكراء، وعلى مثل قول المشاور عول ابن رشد رحمه اللَّه تعالى أن عليه جميع الكراء، وقال: إنه معنى ما في كتاب ابن المواز والمدونة وغيرهما والذي يأتي على أصولهم ولم يحك في ذلك خلافا، وقال عبد الباقي: قال أحمد: لو طاع المكتري بالإصلاح من ماله أي لا ليحسبه من الكراء جُبر ربها لأنه بمنعه صار مضارا. قاله ابن حبيب، وزاد فإن انقضت الوجيبة أخذه بقيمته منقوضا إلا أن يكون بإذنه فيأخذه بقيمته قائما. ابن يونس: قال الشيخ: وهذا على قوله لا على قول ابن القاسم؛ أي وأما على قول ابن القاسم فيأخذه بقيمته منقوضا مطلقا أي، وينبغي أن المعتمد ما لابن القاسم، كما يدل عليه من حيث المعنى قول المص: وإن انقضت مدة البناء والغرس فكالغاصب. اهـ. قوله: قال ابن يونس: قال الشيخ: يعني بالشيخ أبا محمد بن أبي زيد وبه عبر ابن يونس، لا بلفظ الشيخ فإنه ذكر عن ابن حبيب: فإذا تمت الوجيبة وكان الإصلاح بأمر ربها فعليه له قيمة ما بنى قائما، ثم قال متصلا به: قال أبو محمد: يريد في قوله لا في قول ابن القاسم، قال ابن حبيب: وإن أصلح بغير إذنه وقد أذن له السلطان في ذلك حين طلبه فلربه أن يعطيه قيمته منقوضا أو يأمره بقلعه. قاله الرهوني. وقال عبد الباقي: وأما لو أراد أن يصلح ليحسب له من الكراء فليس له ذلك إلا أن يأذن ربها. قاله في المدونة. فلو أصلح بغير إذنه لكان لربها أن يعطيه قيمته منقوضا أو يأمر بقلعه. وقوله: ولم يجبر آجر شامل للمالك وللناظر من حيث الساكن وإن وجب عليه الإصلاح من حيث ذات الوقف، ولذلك كان من استأجر وقفا يحتاج لإصلاح وأصلح بغير إذن ناظره يعطى قيمة بنائه قائما لقيامه بما لا بد منه بغرم.

تنبيه: قال الأجهوري أخذ غير واحد من أشياخي من مسألة المص هذه أنه لا يجبر من له خربة بجواره شخص يحصل له منها ضرر كسارق ونحوه على عمارتها ولا يبيعها، ويقال له: اعمل ما يندفع به الضرر عنك، ولا ضمان على ربها إن صعد منها سارق لبيت جارها، وبه أفتى الشيخ

ص: 255

أحمد بن عبد الحق السنباطي الشافعي، وكتب تحت خطه نظما أيضا موافقا لجوابه في فتوى الشيخ سالم السنهوري، ويدل له مسألة عدم إعادة الساتر ومسألة ما أضر من فروع الشجرة، وأفتى بعضهم بلزوم رب الخربة بفعل ما يندفع به ضرر جاره من عمارتها أو بيعها لمن يعمر، وربما يدل له مسألة إجارة دار الفاسق وبيعها، وعلى الأول فقد يفرق بأن الفاسق لا يمكن تحرز جاره عن فسقه، بخلاف الخَرِبة يمكن التحرز منها بتعلية بنائه. انتهى. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: وسَأَلَ الشيخَ أحمدَ بنَ عبد الحق بعضُهُم عن هذا نظما بقوله:

ما قول من بصفاتهم أترنم

وأنا الذي لهمُ محب مغرم

فيمن له ملك خراب بلقع

مأوى للص جا إليه يغنم

بجواره ملك لآخر عامر

ملآن فيه لكل لص مغنم

جاءت لصوص للذي هو عامر

من ذي الخراب وما ارعووا بل أقدموا

فاستأصلوا ما بالعمار وبالغوا

في الأخذ والمأخوذ منهم نوم

أو لا ولكن أظهروا نوما لهم

خوفا ولم يبدوا ولم يتكلموا

فإذا شكوا رب الخراب لحاكم

فرأى اللزوم له فهل ذا يلزم

وكذا لهم إلزامه بعمارة

بالجبر حتى من لصوص يسلم

ردوا جوابا للفقير تفضلا

نظما بليغا عاجلا لا تسأموا

ص: 256

وأجاب الشيخ بما صورته:

حمدا لك اللهم وفقني إلى

صوب الصواب له أجيب وأنظم

رب الخراب ولو جوار معمر

بعمارة لخرابه لا يلزم

ولمن يعمر ليس يلزم بيعه

بل ليس للجيران أن يتحكموا

فيه بإحداث البنا من غير أن

يرضى وإن منه السلامة تعلم

بل لا ضمان عليه إن جا اللص من

ذات الخراب إلى العمار ليغنموا

وعلى ذوي العمران حفظ متاعهم

في كل وقت إن يريدوا يسلموا

واللَّه أعلم قال هذا أحمد

نجل ابن عبد الحق أحمد فاعلموا

وأجاب الشيخ سالم السنهوري تحت جواب الشيخ بما نصه:

حمدا لك اللَّه العليم المحكم

رب العباد بهم رؤوف منعم

وجوابنا مثلى الذي رسموا بلا

نقص ولا زيد بهذا يعلم

واللَّه أعلم بالصواب من الخطا

فهو الذي منا بذلك أعلم

ص: 257

وأنا الفقير بسالم أدعى وما

لي عمدة إلا الإله الأكرم

ولمالك قلدت لا لخلافه

فهو المضيء إذا بدت لك أنجم

بخلاف ساكن أصلح له بقية المدة قبل خروجه؛ يعني أن رب الدار إذا أصلح ما انهدم من الدار قبل خروج المكتري فإنه لا خيار له حينئذ بل يجبر على السكنى بقية المدة ويلزمه جميع الأجرة، فإن أصلح ذلك بعد خروجه منها لم يكن له أن يجبره على عوده إليها بقية المدة، وقوله: أصلح؛ أي أتم الإصلاح قبل تمام المدة وقبل خروجه جميعا، وله نائب الفاعل وبقية ظرف لأصلح، أو يتعلق بمحذوف أي فيلزمه الكراء بقية المدة، ثم إن هذا في كراء الوجيبة أو في المشاهرة حيث نقد فيلزمه الكراء بنقده. اهـ. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وأخرج من قوله: ولم يجبر آجر، قوله: بخلاف ساكن أصلح له رب الدار أو ناظرها ما انهدم منها فيجبر على السكنى بقية المدة ويلزمه جميع الكراء، وقوله: قبل خروجه، متعلق بأصلح، ولا يتعلق به بقية لإغناء الظرف عنه بل بمقدر كما قررنا، فإن أصلح ذلك بعد خروجه منها لم يكن له جبره على عوده إليها بقية المدة. انتهى. وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: من اكترى بيتا فهطل عليه لم يجبر رب الدار على الطر ولا للمكتري أن يطر من كرائها ويسكن، وله الخروج في الضرر البين من ذلك إلا أن يطرها ربها فلا خروج له. اهـ. وتحصل من هذا أن من اكترى دارا فانهدمت كلها أو بيت منها أو حائط لم يجبر ربها على البنيان إلا أن يشاء، فإن انهدم منها ما فيه ضرر على المكتري قيل له: إن شئت فاسكن يريد بجميع الكراء أو فاخرج وناقصه الكراء، وليس للمكتري أن يصلح من كرائها ويسكن إلا أن يأذن له بذلك ربها، فإن بناها ربها في بقية من وقت الكراء لزم المكتري أن يسكن ولم يكن له أن ينقض الكراء، هذا إن بناها ربها قبل خروج المكتري.

ص: 258

وإن اكتريا حانوتا فأراد كل مقدمه قسم إن أمكن؛ يعني أنهما إذا اكتريا حانوتا فأراد كل منهما مقدمه فإنه يقسم بينهما إن كان يحتمل القسم، وإلا يكن محتملا للقسم أكري عليهما، ذلك الحانوت الذي لا يحتمل القسم، وسواء اختلفت صنعتهما أو اتفقت لاختلاف الأغراض في ذلك، وفرضها في المدونة في حداد وقصار. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وإن اكتريا حانوتا فأراد كل مقدمه وصلحت صنعة كل لمقدمه عرفا اتفقت صنعتهما أو اختلفت قسم إن أمكن لاتساعه وحمله القسم، وهذا حيث لا عرف وإلا أكري عليهما، والبيت المطل بعضه على كبحر كذلك، وظاهر المص أنه لا كلام لرب الحانوت، ومثل الاكتراء الاشتراء، وإذا اتفقا على المقدم واختلفا في الجهة فالقرعة إذ ليس كاختلافهما في المقدم والمؤخر. اهـ. وقال المواق: قال ابن القاسم: في قصار وحداد اكتريا حانوتا ثم تنازعا فقال كل واحد منهما: أنا أكون بالمقدم، ولم يكن بينهما شرط فإن حمل القسم وإلا أكري عليهما؛ قال: وإن اختلفا في الجانبين لأن أحدهما أفضل لَعُدِّلا في القيمة واقترعا عليهما. اهـ. وقال الشبراخيتي: وإن اكتريا ومثله الشراء حانوتا أو بيتا فتنازعا فأراد كل منهما مقدمه لوقوع الكراء غير معين قسم بينهما إن أمكن قسمة لوقوع الكراء لهما، وإلا يمكن قسمة أكري عليهما لأنه ضرر، وإذا اتفقا على المقدم واختلفا في الجهة فالقرعة إذ ليس كاختلاف الغرض في المقدم والمؤخر. اهـ. وقال التتائي: قال اللخمي: أرى إن كان حائكا وخياطا والعادة أن الحائك داخله والخياط خارجه قضي بذلك. اهـ. وقوله: قسم، ظاهره سواء كان ملكا أو وقفا كره ربه أو رضي لأنه لما أكراه لِمتعدد دخل على هذا، وقوله: وإلا أكري عليهما وإذا وقف على شيء فلأحدهما أن يأخذ بالزيادة على ذلك، وتنظير الزرقاني في ذلك فاسد. اهـ.

وإن غارت عين مكتري سنين بعد زرعه نفقت حصة سنة فقط، نفقت صرفت وهي لغة قليلة، واللغة الكثيرة أنفقت كما في الشبراخيتي، وفي القاموس: نفق كفرح ونصر نفد وفني أو قل. اهـ. يعني أن من اكترى أرضا سنين ليزرعها فغارت عينها أو انهدمت بيرها بعد أن زرع وأبى ربها أن يصلح فإن لمكتريها أن ينفق عليها حصة تلك السنة لأجل الضرورة ويلزم ذلك ربها؛ لأن المكتري متى ترك ذلك فسد زرعه، ولم يكن لرب الأرض كلام إذ لو بطل زرع هذا لم يكن له كراء، فلا يمتنع من أمر ينتفع به غيره، ولا ضرر عليه هو فيه. انتهى. فإن زاد على حصة سنة

ص: 259

كان متطوعا بذلك الزائد، فلو لم يزرع الأرض ولا سقى النخل حتى غارت العين فإنه لا ينفق على إصلاحها شيئا وصارت بمنزلة الدور، فإن أنفق شيئا كان متطوعا به حينئذ؛ ابن عرفة: فإن كان قبل أن يزرعها فقال أشهب: لا شيء على ربها وللمكتري الفسخ، فإن أنفق من عنده فلرب الأرض كراؤه كاملا، ولا شيء للمكتري فيما أنفق إلا في نقض قائم يعطيه قيمته منقوضا أو يأمره بقلعه: وقوله: وإن غارت أي جَفَّ ماؤها وهذا في قوة الاستثناء من قوله: ولم يجبر آجر على إصلاح مطلقا، وقوله: نفقت أي بَعْدَ إباية ربها من إصلاحها. قاله الخرشي. وقال علي الأجهوري: وتنكيره سنة يقتضي أنه ينفق حصة أي سنة شاء ولو اختلف الكراء، وكلام ابن عرفة يفيد أنه ينفق حصة السنة التي حصل فيها الضرر، فإنه قال: فيها: من أكرى

(1)

أرضا ثلاث سنين فزرعها ثم غارت عينها أو انهدمت [بيرها]

(2)

وأبى ربها إصلاحها فللمكتري أن ينفق عليها حصة تلك السنة فقط: وما زاد عليه فهو متطوع به. الصقلي عن محمد: إن كان قبضه ربها غرمه فإن كان عديما فللمكتري إنفاق قدره ويتبعه به، وإن كان ذلك في السنة الثانية فله إنفاق حصتها، ولا ينفق عليها شيئا من حصة الأولى، فإن كان ذلك قبل أن يزرعها فقال أشهب لا شيء على ربها وللمكتري الفسخ، فإن أنفق من عنده فلرب الأرض كراؤه كاملا ولا شيء للمكتري فيما أنفق. اهـ. قوله: إن كان قبضه ربها غرمه؛ يعني كراء السنة الأولى التي وقع فيها الغور قاله مقيده عفا اللَّه تعالى عنه. واللَّه تعالى أعلم. وقوله: مكتري اسم فاعل مضاف لسنين، وقال عبد الباقي: وإن غارت عين مكتري لأرض لآخر

(3)

أو انهدم بيره سنين بعد زرعه أي المكتري وأبى المكري من إصلاحها نفقت بفتح النون والفاء وكسرها من باب نصر وفرح نفد وفني أو قل، ومن جملة ما يكون به الفناء الصرف وهو لازم، فلا يبنى منه للمفعول أي صرفت حصة سنة فقط؛ أي لمكتريها أن يصرف عليها للإصلاح أجرة سنة ويلزم ربها ذلك، وظاهره أي سنة شاء ولو اختلف الكراء، وكلام ابن عرفة يفيد أنه ينفق حصة السنة التي حصل فيها الغور وما

(1)

في الحطاب ج 6 ص 195: اكترى.

(2)

ساقطة من الأصل والمثبت من الحطاب ج 6 ص 195.

(3)

لفظ عبد الباقي ج 7 ص 54 ط دار الفكر: وإن غارت عين مكر لأرض أو انهدم لخ.

ص: 260

زاد عليها فهو متطوع به، ومفهوم الظرف أنه لو غارت قبل زرعه وأبى ربها من الإصلاح فليس له إنفاق فإن أنفق حمل على التطوع، كما يحمل عليه إذا أنفق أزيد من سنة بعد زرعه على الماء، وإنما قال: سنين، مع أن مكتري سنة واحدة ينفق أجرتها أيضا ردا لمن يقول: أجرة السنين كلها حيث اكترى سنين لأنها عقدة واحدة، والمساقاة يجري فيها ما للمص هنا، فإذا ساقى الحائط سنين وغارت عينه وأبى من إصلاحها فللعامل أن ينفق قدر قيمة ثمرة سنة لا أزيد. انظر وثائق الجزيري. اهـ. قوله: ردا لمن يقول ينفق أجرة السنين كلها، قائله هو ابن الماجشون، وصوبه ابن ناجي مع اعترافه بأنه خلاف المشهور ومذهب المدونة، فإنه قال بعد أن ذكر أنه المشهور وكلام المدونة وقال ابن الماجشون له أن ينفق كراء الثلاث سنين حكاه ابن الجلاب، وهو أصوب؛ لأنهما صفقة واحدة. انتهى. وفي نسخة: مكري، وقال الشبراخيتي: نفقت حصة سنة فقط أي بعد إباية ربها من إصلاحها وأن يعلم أن الزرع يتم عليها بقية المدة، وهو في قوة الاستثناء من قوله: ولم يجبر آجر على إصلاح مطلقا لخ، وقال الخرشي: ومثل الزرع ما يتوقف عليه كالحرث لأنه إن لم ينفق عليه كراء سنة ضاع الحرث. انتهى. وقال المواق: من المدونة قال مالك: من اكترى أرضا ثلاث سنين فزرعها سنة أو سنتين ثم تغور بيرها أو انقطعت عينها فأراد أن يحاسب صاحبها فلا يقسم الكراء على السنين سواء ولكن يقسم على قدر نفاقها وتشاح الناس فيها، وليس كراء الأرض في الشتاء والصيف واحدا، ولا ما ينقد فيه كالذي يستأخر نقده، وكذلك يحسب كراء الدور في الهدم ولا يحسب على عدد الشهور والأعوام، وقد تكترى سنة لأشْهُرٍ فيها كدور مصر ودور مكة تكثر عمارتها بالموسم، وقد تقدم أن من اكترى أرضا ثلاث سنين فزرعها ثم غارت عينها أو انهدمت بيرها فأبى رب الأرض أن ينفق عليها أن للمكتري أن ينفق عليها حصة تلك السنة خاصة من الكراء ويلزم ذلك ربها، وإن زاد على كراء سنة فهو متطوع. اهـ المراد منه.

وإن تزوج ذات بيت وإن بكراء فلا كراء؛ يعني أن من تزوج امرأة ذات بيت تملك ذاته أو تملك منفعته بإجارة وجيبة أو مشاهرة مع حصول نقد فسكن معها فإنه لا أجرة لها عليه لأن النكاح مبني على المكارمة، وكذلك إن سكن معها في بيت لأبيها أو لأمها لأن العادة جارية بعدم

ص: 261

المطالبة. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: وإن تزوج ذات بيت مالكة له أو لمنفعته وإن بكراء أي وجيبة لأنه إذا أطلق لا ينصرف إلا إليه، ومثله المشاهرة إذا نقد الكراء. اهـ. وقال عبد الباقي. وإن تزوج ذات بيت رشيدة وإن بكراء لازم وجيبة أو مشاهرة ونقدت جملة فلا كراء عليه حينئذ لبناء النكاح على المكارمة.

إلا أن تبين؛ يعني أن محل كون الزوج لا كراء عليه إن لم تبين له عند العقد أو عند سكناه معها أنها ساكنة بالكراء، فإن بينت له أنها ساكنة بالكراء، وأنه إما أن يؤدي الكراء أو يخرج فإن الكراء يكون عليه، والمراد إلا أن يحصل [منها]

(1)

بيان في أي وقت فيكون عليه الكراء من ذلك الوقت ولو بعد مدة من الدخول، ثم إن اشتراط الزوج في العقد سكناه معها مفسد للعقد. قاله البناني. وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: من نكح امرأة وهي في بيت اكترته سنة فدخل بها فيه وسكن باقي السنة فلا كراء عليه لها ولا لرب البيت وهي كدار تملكها هي إلا أن تبين له أني بالكراء فإما وديت أو خرجت. اهـ. وقال عبد الباقي: إلا أن تبين عند سكناه معها كما في التتائي، أو عند العقد كما في العجماوي، بأن تقول: إنها ساكنة بالكراء وإن عليك الأجرة، فتلزمه للشرط، وفي شرح العاصمية ما يفيد أن المراد: إلا أن يحصل منها بيان في أي وقت فيكون لها الكراء من ذلك الوقت ولو بعد مدة من البناء، وبيت أبيها وأمها كبيتها لجري العادة بعدم مطالبته، وقيد الوجيبة وما في حكمها والتبيين جار فيهما إن لم تجر العادة بخلاف ذلك، قال بعض: وأما ملك أخيها وعمها فقال اللخمي: أرى إن طالت المدة فلا شيء [لها عليه]

(2)

وإن قصرت حلفا أنهما لم يسكناه إلا بأجرٍ، وأخذاها منه، وأما أخوه أو عمة فينبغي أن يكون لهما عليه الأجرة إذا قالا: إنما أسكناه بأجرٍ، والفرق بين أخي الزوجة أو عمها وبين أخي الزوج أو عمة أن العادة جارية بانضمام البنت إليهما خشية الفتنة وحفظا للعرض، بخلاف أخي الزوج أو عمة فإنه لم تجرِ عادة بانضمامه إليهما لأنه لا يخشى منه ما يخشى من البنت اهـ وقد علمت أن قوله: وإن بكراء معناه الوجيبة وما في معناها من المشاهرة حيث لزم عقدها بالنقد، وأما لو

(1)

في الأصل: فيها، والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 54.

(2)

في عبد الباقي ج 7 ص 35: فلا شيء لهما عليه.

ص: 262

كان الكراء مشاهرة فإن الكراء لازم له بيَّنت أم لا لعدم لزوم الكراء حيث لم يحصل نقد. قاله غير واحد.

والقول للأجير أنه وصل كتابا؛ يعني أن من استأجر أجيرًا على تبليغ كتاب إلى بلد كذا أو استأجره على تبليغ حمل إلى بلد كذا ثم ادعى بعد ذلك أنه أوصل ذلك ونازعه المستأجر في ذلك فإن القول قول الأجير مع يمينه في أمد يبلغ في مثله لأنه ائتمنه ويستحق الأجرة. قال التتائي: ولا عبرة ببعض الأفراد فقد اجتمعت في الصعيد برجل متصف بالولاية أخبرني جماعة كثيرة عنه أنه إذا أعطي كتابا يوصله إلى موضع كذا لمسافة بعيدة لا يبلغ إلا في أيام عديدة فيأخذه ويرد جوابه في بعض يومه، وهذا أمر غير بعيد على من منحه اللَّه برا من ففله، فقد حكى بعض شراح الرسالة عن بعض الأولياء أنه يقرأ مئين من الختمات في يوم واحد. اهـ. والتقييد المذكور ليس زائدًا على المتن لأن المؤلف قال بعد: إن أشبه؛ إذ هو راجع للفروع الأربعة، أولها هذا الفرع، والقول مبتدأ وللأجير خبره وأنه منصوب بنزع الخافض، هذا هو الذي يظهر لا قول الخرشي: إن للأجير متعلق به، وأنه وصل كتابا خبره، بتقدير في، ولا مفهوم للكتاب أي وصل ما أرسل به كتابا أو غيره أو إبلاغ خبر لبلد كذا. اهـ. وقال عن الأجهوري: وكلام المؤلف هذا في استحقاق أجرته لا في نفي الضمان عنه حيث أنكر المرسل إليه الوصول، فلا مخالفة بينه وبين قوله في الوكالة "وضمن إن أقبض الدين ولم يشهد" وتقدم أن غير الدين كالدين، وبين قوله في الوديعة: أو المرسل إليه المنكر، وأما الجواب بأن ما هنا فيما إذا كان العرف عدم الإشهاد، وما مر فيما إذا كان العرفُ الإشهاد، فمبني على أنه يعمل بالعرف في هذا، وتقدم في باب الوكالة أن المشهور أنه يضمن إذا لم يشهد وإن كان العرف عدم الإشهاد. قاله الحطاب هناك. وتقدم عن تكميل التقييد ما يوافقه، وأن ابن الحاجب مشى عليه أيضا، وحكى التقييد بقيل. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: والقول للأجير على إيصال كتاب لرجل أو حمولة إليه بيمينه أنه وصل كتابا أو حمولة في أمد يبلغ في مثله عادة كما سيقول: إن أشبه، ومعنى كون القول له فيما ذكر في استحقاق الأجرة لا في نفي الضمان حيث أنكر المرسل إليه الوصول، فلا مخالفة بين هذا وبين قوله في الوديعة عاطفا على ما فيه الضمان أو المرسل إليه المنكر، ولا بينه وبين قوله في

ص: 263

الوكالة "وضمن إن أقبض الدين ولم يشهد" وتقدم أن غير الدين كالدين إلى آخر ما مر، وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: وإن واجرت رجلا على تبليغ كتاب من مصر إلى إفريقية بكذا فقال بعد ذلك: أوصلته وأكذبته، فالقول قوله مع يمينه في أمد يبلغ في مثله؛ لأنك ائتمنته عليه، وعليك دفع كرائه إليه، وكذلك الحمولة كلها يكتريه على توصيلها إلى بلد كذا فيدعي بعد ذلك أنه أوصلها، فالقول قوله في أمد يبلغ في مثله. اهـ.

أو أنه استصنع وقال ربه: وديعة؛ يعني أن الأجير إذا ادعى الاستصناع ورب المتاع يقول: بل هي وديعة عندك، فإن القول قول الصانع لأن جلوسه للصنعة صيره كأنه أتى بما يشبه، والآخر أتى بما لا يشبه، ولأن الغالب إنما يدفع للصانع للاستصناع، والإيداع نادر، والنادر لا حكم له، ورجوع الشبه لهذه يحترز به عن دعوى الصانع استصناع ما تكذب القرينة دعواه، كدعواه أنه قال له: افتق خياطة المخيط وأعدها حيث لا موجب لذلك قاله غير واحد وقال الشبراخيتي: والقول للأجير في أنه استصنع فيه والحال أن ربه قال: وديعة، وينبغي تقييده بما إذا لم تقم قرينة على نفي الاستصناع، كما إذا كان المدفوع للصانع شاشا أبيض وربه مسلم غير تاجر والصانع يصبغ الأزرق، فإن القول قول ربه في دعوى الوديعة لأن القرينة هنا تكذب الصانع في دعواه. اهـ. وقال التتائي: والقول للأجير في أنه استصنع فيه وقال ربه: هو وديعة عندك، وإنما قبل لعسر الإشهاد على الصناع. انتهى. وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: من ادعى على صباغ أو صانع فيما قد عمله أنه قد أودعه إياه، وقال الصانع: بل استعملتني فيه، فالصانع مصدق لأنهم لا يُشهِدون في هذا، ولو جاز هذا لذهبت أعمالهم.

أو خولف في الصفة؛ يعني أن الأجير يصدق إذا خولف في الصفة كما إذا قال: أمرتني أن أصبغه أحمرَ أو أسود، وقال رب الشيء: أمرتك بصبغه أخضر، حيث أشبه الأجير، وقوله: أو خولف معطوف على معنى أنه استصنع فيصير التقدير والقول للأجير إن خولف في الاستصناع أو خولف في الصفة، قال ابن عرفة: وإن اختلفا في صفة الصنعة صدق الصانع فيما يشبه فيها إن صبغه أحمر أو أسود وقال: بذلك أمرني ربه، وقال ربه: بل أخضر، صدق الصباغ إلا أن يصبغه صبغا لا يشبه مثله، أو صاغ الصانع سوارين، وقال ربه: أمرتك بخلخالين، صدق الصانع، وكذا إذا

ص: 264

اختلفا في ذات المصنوع كإن قال الصانع: إنه هو، وخالفه ربه فالقول للصانع إن أشبه. قاله الشبراخيتي. وقوله: أو خولف في الصفة، قبول قول الصانع بيمين كما في الجواهر عن سحنون، وبه جزم في التوضيح، وصرح بذلك الإمام في الموطإ، وقبله الباجي في المنتقى ولم يحك فيه خلافا، وظاهر المدونة بغير يمين وهو مفاد ابن عرفة، وقول الشبراخيتي معطوف على معنى أنه استصنع لخ غير ظاهر، والظاهر لو قال: خولف في الصفة عطف على كالعامل في أنه استصنع، يعني أنه خولف في أنه استصنع.

وفي الأجرة؛ يعني أن الصانع إذا ادعى من الأجر ما يشبه أن يكون أجرًا لذلك الثوب المصنوع وخالفه ربه في ذلك فإن القول قول الصانع مع يمينه ويأخذ ما ادعى من الأجر أشبه ربه أم لا، وعلم مما قررت أن قوله: إن أشبه، راجع للفروع الأربعة؛ أي والقول للأجير إن أشبه، واعلم أنه في الفرع الأخير يكون القول للأجير إن أشبه أشبه ربه أم لا، وإن أشبه ربه فقط فالقول قوله: وإن لم يشبها حلفا ثم يكون عليه أجر مثله، ونكولهما كحلفهما، ويقضى للحالف على الناكل، كما يأتي تحصيل ذلك، وقوله: في الأجرة؛ أي في أصلها أو قدرها. اهـ. وقوله: وحاز، خاص بالفرع الأخير وهو اختلافهما في الأجرة، ومعنى حاز أنه حازه تحت يده، قال البناني: شرط الحوز إنما يحتاج إليه إذا أشبها معا وأما إن أشبه الصانع فقط فلا يحتاج إلى الحوز. والحاصلُ أنهما إن أشبها معا فالقول قول الحائز منهما وإن لم يشبها معا فأجرة المثل ولا ينظر إلى حوز، وإن أشبه أحدهما فقط فالقول له وإن لم يحز. اهـ. وقال عبد الباقي: إن أشبه في الفروع الأربعة وحاز الأجير المصنوع تحت يده في الفرع الأخير، ولا يتصور في الفرع الأول اعتبار الحيازة، وأما الثاني والثالث فإنه وإن تصور فيهما لكن النقل عدم اعتبارها؛ يعني الحيازة فيهما فإن لم يشبه في الفرع الأول فلا شيء له، ولا يتأتى فيه دعوى شبههما ولا عدم شبه واحد، وإن لم يشبه في الثاني والثالث نظر لا زادته صنعته في المصنوع عن قيمته بدونها، فيرجع به أو يدفع قيمته بدونها ومفاد ابن عرفة في الثالث أنه إذا لم يشبه الصانع حلف ربه وثبت له الخيار المذكور لا للصانع إلا أن يسلمه لربه مجانا فلا خيار له. اهـ. قال البناني: قول الزرقاني: ومفاد ابن عرفة في الثالث لخ، نص ابن عرفة فيه: الصقلي إن ادعى الصانع ما لا يشبه صدق رب الثوب مع

ص: 265

يمينه وخير في أخذه مصبوغا ويدفع أجرته أو يسلمه ويأخذ قيمة ثوبه أبيض، الصقلي: هذا وفاق لقول ملك، قال: إلا أن يشاء الصباغ أن يسلم صنعته بلا ثمن، فإن أبى كان شركة بينهما هذا بقيمة ثوبه أبيض وهذا بقيمة صنعته واختلف فيه وهذا أحسن. انتهى. قال الرهوني: عَقِبَ قوله: وهذا أحسن ما نصه محمد بن يونس: هذا خلاف أصلنا لأنه إذا أتى الصباغ بما لا يشبه وصدق رب المتاع مع يمينه صار حكم الصباغ حكم المتعدي فربه يخير بين أن يغرمه قيمة ثوبه أو يأخذه ويدفع قيمة الصبغ ولا كلام للصباغ. اهـ. وقال البناني: كلامه آخرًا يشمل الثاني فلا يقصر على الثالث. اهـ؛ يعني بكلامه آخرا هذا الذي ذكرت عن الرهوني، وقول ابن عرفة: فإن أبى كان شركة بينهما، معناه فإن أبى الصانع من تسليمه مجانا وأبى ربه من دفع الأجرة ومن قبض القيمة، هذا ظاهره فتأمله. قاله البناني. وتحصل مما مر أن القول للأجير في الفروع الأربعة إن أشبه أشبه الآخر في الثاني والثالث أم لا، لكن في الفرع الأول لا يتأتى شبههما معا ولا عدم شبه واحد منهما، فإن لم يشبه الأجير في الفرع الأول فلا شيء له، وإن لم يشبه في الثاني والثالث فله ما زادته صنعته في الشيء أو دفع قيمته بدونها، ومفاد ابن عرفة في الثاني والثالث أنه إذا لم يشبه الصانع حلف ربه وثبت له الخيار المذكور لا للصانع إلا أن يسلمه لربه مجانا فلا خيار له، وظاهر ما لابن عرفة ثبوت الخيار لرب الشيء المصنوع ولو كان الصبغ ينقصه وهو ظاهر لأن خيرته تنفي ضرره، فإن أبى من الحلف جرى على حكم النكول، وإن لم يشبه في الفرع الرابع فإن أشبه رب الشيء المصنوع فقط فالقول قوله مع يمينه ويدفع للصانع ما حلف، فإن لم يشبها حلفا وكان للصانع أجرة المثل، وكذا لو نكلا ويقضى للحالف على الناكل. انظر الخرشي والشبراخيتي. واعلم أنه في الفرع الرابع إنما يكون القول للأجير بشرطين أحدُهما عام وهو قوله: إن أشبه، والآخر خاص وهو قوله وحاز.

لا كبناء، هذا مفهوم قوله: وحاز؛ يعني أن محل كون القول للأجير إن حاز كما عرفت فإن لم يحز كالبناء فإن القول لرب الشيء المصنوع، فإذا قال الأجير: بَنَيْتهُ بدرهمين، وقال رب البناء: بنيته بدرهم واحد، فإن القول لرب البناء، وكذا إن لم يحز الخياط فقال: خطته بدرهمين، وقال المالك: خطته بدرهم، فإن القول لرب الثوب، وقد مر عن البناني أنه إنما يحتاج إلى الحوز إذا

ص: 266

أشبها معا، فإن حاز يكون القول للأجير وإن لم يحز فالقول لرب الشيء المصنوع لحوزه، فالحاصل أنهما إن أشبها معا فالقول قول الحائز منهما، وإن لم يشبها معا فأجرة المثل ولا ينظر إلى حوز، وإن أشبه أحدهما فقط فالقول قوله إن لم يحز، وقوله كبَنّاء بفتح الباء وتشديد النون ويصح كونه بباء مكسورة ونون مخففة. قاله الخرشي.

ولا في رده فلربه؛ يعني أن الصانع إذا تنازع هو ورب الشيء المصنوع في رده فقال الصانع: رددته له، وقال ربه: لم تردَّه إلي، فإن القول يكون لرب الشيء المصنوع أنه لم يردَّه له، وهذا مخصوص بما لا يقبل فيه دعوى التلف وهو ما يغاب عليه وأما إن كان مما لا يغاب عليه، فإنه يقبل قوله إنه رده لربه لأن دعواه تلفه مقبولة إلا أن يكون قبضه ببينة مقصودة للتوثق. قاله غير واحد. قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه عنه: انظر كيفية التنازع في رد ما لا يغاب عليه ما هي؟ وقد يقال إنه يصنع

(1)

الحلف فيما لا يغاب عليه ونحو ذلك. وإن بلا بينة؛ يعني أن القول قول رب الشيء المصنوع في أن الصانع لم يرده إن نازعه الصانع في ذلك، ولا فرق في هذا بين أن يكون الصانع قبضه ببينة مقصودة للتوثق وبين أن يقبضه بلا بينة، والفرق بينه وبين المودع إذا قبض الوديعة بلا بينة وادعى ردها لربها أنه مصدق أن المودع قبض الوديعة على غير وجه الضمان، والصانع قبض مصنوعهُ على وجه الضمان فافترقا. قاله الخرشي وغيره وقوله: وإن بلا بينة رد بالمبالغة قول ابن الماجشون: إن الصانع لا يضمن إلا أن يكون قد قبضه ببينة كالوديعة والقراض، وأما مع البينة فالضمان اتفاقا. قاله التتائي.

وإن ادعاه، ضمير الفاعل يعود على الصانع وضمير المفعول على الاستصناع؛ أي وإن ادعى الصانع أن رب الشيء استصنعه وكذبه رب الشيء وقال: سرق أبيض مني، بالبناء للمجهول ليشمل الصانع وغيره، لكن إن كان صالحا لا يشار إليه بمثل ذلك فإنه يؤدب، والحال أن رب الشيء أراد أخذه؛ أي أخذ عين شيئه دون تضمين الصانع القيمة دفع للصانع قيمة الصبغ بكسر الصاد أي المصبوغ به مع أجرة عمل الصانع على المعتمد، خلاف ما يفيده أحمد من الاقتصار

(1)

كذا.

ص: 267

عليها وأن الصبغ بفتح الصاد. بيمين على رب المتاع دون الصانع وتعتبر قيمته يوم الحكم، وقوله: إن زادت دعوى الصانع عليها، قيد في قوله: قيمة الصبغ، وفي قوله: بيمين؛ أي فإن لم تزد بأن ساوت أو نقصت أخذ ما ادعى ولا يعطى أكثر منه ولا يمين على رب المتاع قاله عبد الباقي. وعليه يكون معنى قوله: إن زادت دعوى الصانع عليها أي على قيمة الصبغ مع الأجرة، وقال الشبراخيتي: وإن ادعاه أي الاستصناع المفهوم من قوله: استصنع، وقال ربه: بل سرق مني أبيض، وبناه للمجهول ليشمل ما إذا قال: سرقه غيرك أو أنت مني وأراد ربه أخذه لأنه مخير فيه وفي تضمينه، فإن أراد أخذه دفع قيمة الصبغ يوم الحكم، والمراد بالقيمة الأجر، والصَّبغ بالفتح العمل أي دفع أجر العمل بيمين يحلفها رب الثوب أنه ما استصنعه إن زادت دعوى الصانع عليها أي على قيمة الصنعة، ومفهوم الشرط أنها لو كانت مساوية أو أقل أخذه بغير يمين. اهـ. ونحوه للتتائي والخرشي.

وإن اختار؛ أي وإن اختار رب الشيء المصنوع تضمينه؛ أي تضمين الصانع القيمة، فإن دفع الصانع قيمته أبيض يوم الحكم، كذا في بعض التقارير، وفي بعضها يوم التعدي على زعم ربه فلا يمين على واحد منهما، وإلا بأن أبى من دفع القيمة حلفا؛ أي حلف الصانع على ما ادعاه من الاستصناع، وحلف رب الشيء على ما ادعاه من السرقة مثلا واشتركا فيه هذا بقيمة ثوبه غير مصبوغ وهذا بقيمة عمله، وظاهر المص ولو نقصه الصبغ؛ لأن الشركة بقيمة الثوب أبيض وقيمة الصبغ لا بما زاده على قيمته أبيض ونكولهما كحلفهما، ويقضى للحالف على الناكل، فإذا حلف رب الثوب فقط قضي له بقيمة الثوب أبيض إن شاء وإن شاء أخذه ودفع قيمة الصبغ ولو نقصت الثوب لأن خيرته تنفي ضرره، إلا أن يتحقق أنه سرقه أو غصبه فيأخذه بدون قيمة الصبغ. اهـ. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: واشتركا ولو نقصه الصبغ لأن الشركة بقيمة الثوب أبيض، وقيمة الصبغ لا بما زاده الصبغ على قيمته أبيض. اهـ. وقوله: حلفا، والمبدأ هو رب الثوب، ونص ابن عرفة الصقلي: عن الشيخ يبدأ بالحلف رب الثوب ما استعمله. اهـ. ونحوه في التوضيح والحطاب. قاله البناني. وقال الحطاب: مشى رحمه اللَّه تعالى على ما قيد به صاحب النكت والتونسي واللخمي قول ابن القاسم: فجعل رب الثوب تارة يريد أخذه وتارة يريد

ص: 268

تضمين الصانع قيمته، فقال: إن أراد أخذه دفع قيمة الصبغ ثم ينظر فإن زادت دعوى الصانع، على قيمة الصبغ حلف رب الثوب ليسقط الزائد على قيمة الصبغ من التسمية التي ادعى الصانع، وهذا معنى قول المؤلف: بيمين، وهو متعلق بمحذوف؛ أي أخذه بيمين، ومفهوم الشرط وهو قوله: إن زادت دعوى الصانع عليها أنه لو كانت دعواه مساوية لها أو أقل أخذه بغير يمين وهو كذلك، وأما إن اختار رب الثوب تضمين الصانع فإنه يقال للصانع: ادفع له قيمة الثوب أبيض، فإن فعل فلا يمين على واحد منهما، وإن امتنع حلفا واشتركا، وكيمْية حلفهما أن يبدأ رب الثوب فيقال له: احلف أنك لم تستعمله، فإذا حلف قيل للصانع: احلف أنه استعملك، فإن حلف قيل لربه: ادفع قيمة عمله وخذه، فإن أبى قيل للصانع: ادفع إليه قيمة ثوبه غير معمول، فإن أبى كانا شريكين هذا بقيمة ثوبه غير معمول وهذا بقيمة عمله. اهـ.

فرع: قال ابن عرفة في آخر التجارة: وإن اختلف الأجير ومن واجره في مرضه أو عطلته في مدة الإجارة ففي قبول قول من واجره إن آواه إليه ليلَهُ ونهاره وإلا فالأجير وعكسه، ثالثها الأول في العبد وفي الحر قول الأجير مطلقا، ورابعها القول قوله مطلقا، وخامسها عكسه، لابن عتاب عن ابن مغيث عن ابن القاسم مع أصبغ وفتوى الشيوخ، وعن اللخمي مع محمد مع أشهب، وعن ابن حبيب مع ابن الماجشون، وعن التونسي عن أصل ابن القاسم وغيره. قاله الحطاب. وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: إذا قال الصانع: استعملتني هذا المتاع وقال ربه: بل سرق مني: تحالفا ثم قيل لربه: ادفع إليه أجر عمله وخذه، فإن أبى كانا شريكين، هذا بقيمة ثوبه معمولاً وهذا بقيمة عمله لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه، قال بعض فقهاء القرويين: إذا قال رب الثوب: سرق مني، وقال الصانع وقد صبغه: بل استعملتني، لا يتحالفان حتى يقال لصاحب الثوب ما تريد؟ فإن قال: أريد أخذ الثوب، نظر إلى قيمة الصبغ، فإن كانت مثل دعوى الصانع فأكثر فلا أيمان بينهما لأنه يقال لرب الثوب: هبك أن الأمر كما قلت: إنه سرق لك وأردت أخذه لم تقدر على أخذه إلا بدفع الأجرة التي قال الصانع إذا كانت مثل قيمة الأجرة أو أقل، ولا يمين ها هنا، وإن كان ما ادعاه الصانع لخ.

ص: 269

لا إن تخالفا في لت السويق، مخرج من قوله: حلفا واشتركا؛ يعني أنهما لا يحلفان ولا يشتركان في هذه المسألة، وهي ما إذا لت شخص سويق آخر أي خلطه بسمن مثلا واختلفا في الأمر باللت وقال اللاتُّ: أمرتني أن ألته بخمسة دراهم، وقال رب السويق: ما أمرتك أن تلته بشيء أصلا، فإنه يقال لرب السويق: ادفع له ما قال من الأجرة فإن دفع فالأمر واضح. وإن أبى رب السويق من دفع ما قال اللات أنه استأجره به فعلى اللات لرب السويق مثل سويقه غير ملتوت، هذا قول غير ابن القاسم أنه يتعين مثل سويقه؛ لأن من حجة ربه أن يقول: لا أرضى به ملتوتا، لأنه صار لا يبقى بل يسرع إليه التغير، وقال ابن القاسم: لا يتعين على الصانع المثل بل هو مخير إن شاء دفع لرب السويق مثل سويقه وإن شاء دفعه له ملتوتا، قال البناني: مشى المص على قول غير ابن القاسم في المدونة، ونصها: من لت سويقًا بسمن وقال لربه: أمرتني بلته بعشرة دراهم، وقال ربه: لم آمرك أن تلته بشيء، قيل لصاحب السويق: إن شئت فاغرم له مثل سويقه غير ملتوت، وإلا فأسلمه له بلتاته ولا شيء لك، ولا يكونان شريكين في الطعام لوجود مثله، وقال غيره: إذا امتنع رب السويق أن يعطيه ما لته به قضي له على اللات بمثل سويقه غير ملتوت. اهـ. أبو الحسن: مسألة السويق دائرة بين أن يقول ربه: أودعتك إياه أو يقول: سرق مني، وقوله في الكتاب: وقال ربه: لم آمرك بلته أعم من ذلك، وكذا لفظه في الأمهات، ونقلها عبد الحق بلفظ وقال ربه: ما دفعت إليك شيئا، عبد الحق فهذا مثل قوله في الثوب: سرق مني، ثم ذكر قول ابن القاسم وقول الغير، وهل هو خلاف أو وفاق؟ نقله الحطاب. والظاهر أن المؤلف حمله على الخلاف وترك قول ابن القاسم لترجيح قول الغير عنده. انتهى. وعلى أنه خلاف وهو الظاهر اعترض قول ابن القاسم بأن دفع سويقه ملتوتا يؤدي لبيع طعام بطعام متفاضلا، وأجيب عن ابن القاسم بأنه ليس فيه التأدية المذكورة إذ الصانع يقول: لم أتعَدَّ فيما فعلته في طعامك حتى يجب علي مثله، بل لتَتُّهُ بإذنك فلم أدفع إليك إلا ما تملكت وأنت ظلمتني في دفع العوض، فإذا أبى الصانع من دفع المثل سلم الملتوت لربه ولا شيء له كما مر، وهذا واضح على أن اللت غير ناقل، وأما على أنه ناقل فكيف يقول أشهب بعدم جوازه ملتوتا مع ما فيه من التفاضل بين الطعامين؟ إلا أن يكون أشهب يقول: إنه غير ناقل، وعلم مما قررت

ص: 270

أن قوله: لا إن تخالفا في لت السويق لخ، عام في دعوى السرقة وغيرها، وقال الشبراخيتي: وهل قول ابن القاسم وقول الغير متخالفان أو متوافقان؟ فيحمل كلام ابن القاسم على ما إذا رضي ربه بأخذه ملتوتًا، وكلام غيره على ما إذا لم يرض تأويلان. اهـ. وكلام المص في هذه في المثلي وفيما قبلها في القوم، وفي الخرشي وغيره: يفهم، مما تقدم أنه إذا ثبت تعدي الصانع فليس لربه إلا أخذ مثله؛ لأن من غصب مثليا وفات له مثله، واللت فوت. اهـ. ثم ذكر مسائل ثلاثا في اختلاف الجمال والمكتري، الأولى في قبض الأجرة وعدمه، والثانية في المسافة، والثالثة فيها وفي قدر الأجرة، وبدأ بالأولى فقال عاطفا على الأجير:

وله وللجمال بيمين في عدم قبض الأجرة: الضمير في له يرجع إلى الأجير؛ يعني أن الأجير إذا طلب أجرته وقال رب المتاع: قد دفعتها إليك، فإن القول قول الأجير بيمينه، وكذلك إذا تنازع الجمال مع صاحب المتاع في عدم قبض الأجرة بأن قال الجمال: ما قبضت أجرتي، وقال صاحب المتاع: بل أقبضتها لك، فالقول قول الجمال مع يمينه أنه ما قبض الأجرة حيث كان الاختلاف قبل بلوغ الغاية، بل وإن كان اختلافهما بعد أن بلغا الغاية؛ أي البلد الذي تكاريا إليه. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: والقول له أي للأجير ويحتمل لرب الدار والأرض؛ لأن الكلام في كرائهما، وكذا للجمال بيمين من كل في عدم قبض الأجرة إن ادعاه كل على الآخر، وظاهره ولو كان العرف التعجيل، وتقدم في البيع "وفي قبض الثمن والسلعة فالأصل بقاؤهما إلا لعرف" لخ، والظاهر إجراء مثله هنا لتوافق الإجارة والبيع في أكثر المسائل، وظاهره أيضا ولو كانت الأجرة معينة وكانت دعواه تؤدي إلى الفساد ودعوى المكتري تؤدي إلى الصحة، وتقدم في البيع خلافه. اهـ. وقال عبد الباقي: وله وللجمال بيمين في عدم قبض الأجرة وإن بلغا الغاية التي تكاريا إليها إلا لعرف بتعجيلها أو كانت معينة ودعواها تؤدي للفساد ودعوى المكتري للصحة، كذا يظهر في هذين قياسا على ما مر في البيع لموافقة الإجارة له في أكثر المسائل. اهـ. إلا لطول؛ يعني أن محل ما مر حيث لم يسلم المتاع لربه أو بعد تسليمهِ له في القرب كيوم أو يومين، وأما لو سلم الأجير أو الجمال الأمتعة للمكتري وبعد ذلك بطول قال الأجير أو الجمال: لم أقبض الأجرة، وقال المكتري وهو مالك الأمتعة: قبضتها، فإن القول حينئذ للمكتري بيمين، قال المواق: من المدونة قال

ص: 271

مالك: وإذا قال المكتري دفعت الكراء وأكذبه الجمال وقد بلغ الغاية فالقول قول الجمال مع يمينه إن كانت الأحمال بيده أو بعد أن سلمها للمكتري بالقرب كيوم أو يومين وعلى المكتري البينة، فإن تطاول ذلك فالمكتري مصدق مع يمينه، قال مالك: وكذلك قيام الصناع بالأجرة بحدثان رد المتاع، وإن قبض المتاع ربه وتطاول ذلك فالقول قول رب المتاع وعليه يمين. اهـ. ولو قال المؤلف: ولمستحق الأجر بيمين في عدم قبضه لكان أخصر وأشمل بل لو اقتصر على قوله: وله بيمين، مع جعل الضمير للمؤجر لأفاد ذلك، والمتبادر من قوله: وإن بلغا الغاية، رجوعه لمسألة الجمال فقط، ويجوز أن يرجع لمسألة الأجير أيضا الشامل للصانع، وبلوغ الغاية بالنسبة إليه استيفاء العمل في المصنوع قاله الخرشي وقد علمت أن الاختلاف هنا في قبض الأجرة وعدمه، وقوله في الأجرة الاختلاف في قدرها.

تنبيه: قال الخرشي: لو قامت بينة جمال على إقرار المكتري بأن الأجرة في ذمته فإنه لا يقبل قوله في دفعها ولو بعد طول من شهادة البينة، قال الشارح: ومعناه إذا شهدت البينة على إقراره يعدم تسليم الأمتعة له، وأما قبل ذلك فالقول قول المكتري؛ لأن من حجته أن يقول: لم يسلم إليَّ الأمتعة إلَّا بعد أخذ أجرته. اهـ. وقال الحطاب: قال في كتاب الرواحل: قال ابن القاسم: وإن قال المكتري دفعت الكراء، وأكذبه الجمال وقد بلغ الغاية فالقول قول الجمال إن كانت الحمولة بيده أو بعد أن سلمها بيوم أو يومين وما قرب وعلى المكتري البينة، وكذلك الحاج إن قام الكري بعد بلوغهم ما لم يبعد صدق مع يمينه، فإن تطاول ذلك فالمكتري مصدق مع يمينه إلا أن يقيم الجمال بينة، وكذلك قيام الصناع بحدثان رد المتاع، فإن قبض المتاع ربه وتطاول ذلك فالقول قول رب المتاع وعليه اليمين. انتهى. فقول المؤلف: وله أي وللأجير، ويشير إلى قوله في المدونة: وكذلك قيام الصناع إلى آخره، وقوله: إلا أن يقيم الجمال بينة، معناه على إقرار المكتري أنه لم يدفع إليه شيئا فيقضى بها. اهـ. وقال الحطاب: ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: وله، راجعا لرب الدار، والحكم في المسألة كذلك. اهـ. وقال عبد الباقي: إلَّا لطول بعد تسليم الجمال الأمتعة لربها فلمكتريه القول بيمين وإن ادعى أنه دفع بعد تسليم الأمتعة، قال أحمد: وانظر ما حد الطول؟ وفي الشارح عن المدونة ما يفيد أنه ما زاد على اليومين وما قاربهما

ص: 272

بعد تسليم الأحمال لربها الذي هو المكتري. اهـ. وفي نقل الخرشي عن بعض الشراح: أن الطول والقصر هنا بالعرف. اهـ. ثم ذكر المسألة الثانية وهي اختلافهما في المسافة فقط بقوله:

وإن قال الجمال: أكريتك جمالي بمائة لبرقة القريبة، وقال المكتري: بل اكتريتها بمائة لإفريقية البعيدة، وإفريقية القيروان ولم يذكر المبدأ لاتفاقهما عليه حلفا وبدئ الجمال لأنه بائع، وفسخ عقد الكراء إن حكم به كما في اختلاف المتبايعين إن عدم السير جملة أو قل السير بحيث لا ضرر على الجمال في رجوعه ولا على المكتري في طرح متاعه. قاله التتائي. وظاهره ولو أكرى على متاعه لعوده، وبالغ على الحكمين المذكورين بقوله: وإن نقد؛ أي فلا يكون القول للجمال بسبب أنه انتقد الكراء فلا يترجح قوله بالنقد في هذه وهو قول ملك في المدونة، وقال غيره فيها: إن انتقد الجمال وكان يشبه ما قال فالقول قوله. قاله التتائي. وقوله: وإن نقد ولا يراعى في هذه شبه ولا عدمه بدليل إطلاق المص هنا وتفصيله في الآتية. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: المنازعة هنا في المسافة فقط، والمعنى أن الجمال وصاحب المتاع إذا تنازعا في المسافة فقال الجمال: وقع الكراء بيننا إلى برقة وهي القريبة بمائة، وقال صاحب المتاع: بل لإفريقية البعيدة بالمائة، فإنهما يتحالفان ويبدأ صاحب الظهر باليمين لأنه بائع، ثم يفسخ الكراء إن عدم السير أي قبل أن يسير شيئا من المسافة أو سار شيئا يسيرا بحيث لا ضرر على الجمال في رجوعه ولا ضرر على صاحب المتاع في طرح متاعه، ولا فرق حينئذ بين أن يكون صاحب المتاع دفع الأجرة للجمال أو لا، فالضمير في قال الأول للجمال، وفي الثاني للمكتري، ولو حذف عدم مع أو وقدم لفظ قل على السير فقال: إن قل السير لكان مناسبا لمرامه من الاختصار لاستفادة ما إذا عدم السير من قوله: إن قل السير، بالأولى ثم إنه لا ينظر إلى دعوى شبه كما دل عليه إطلاق المؤلف هنا وتفصيله فيما بعده، وهذا على أصل ابن القاسم في اختلاف المتبايعين أنه لا يراعى الأشبه مع قيام السلعة وليس هنا مفوت، خلافا لابن عبد الملك وابن حبيب وابن وهب، وإفريقية بكسر الهمزة وتشديد الياء وتخفيفُها أكثر والمراد بها القيروان أي المدينة المخصوصة، وقصد المؤلف بالمبالغة بقوله: وإن نقد، رد قول غير ابن القاسم: إن الجمال يعمل بقوله إذا أشبه وانتقد. اهـ.

ص: 273

وإلا بأن اختلفا في المسافة فقط بعد سير كثير أو بلوغ الغاية على دعوى الجمال، فالحكم في هذه المسألة حينئذ كالحكم في مسألة فوت المبيع، فيقبل قول المكتري إن أشبه وحده بيمينه نقد الكراء أم لا، ولزم الجمال ما قال، إلا أن يحلف الجمال على ما ادعى فيكون له حصة مسافة برقة على دعوى المكتري، ويفسخ الباقي، وأما إن أشبها ففيه تفصيل يذكر قريبا، وبهذا التقرير علم أن التشبيه غير تام لأنه مع فوات المبيع القول للمشتري إن أشبه، أشبه الآخر أم لا، وليس المكتري هنا كذلك، وأن قوله الآتي: حلف المكتري ولزم الجمال ما قال إلا أن يحلف لخ، يرجع لهذه أيضا. قاله عبد الباقي وغيره.

وللمكري في المسافة فقط إن أشبه قوله فقط أو أشبها وانتقد، قد مر عند قوله: وإلا فكفوت المبيع، أن القول قول المكتري حيث أشبه وحده، وتكلم في هذه على ما إذا أشبه المكري أو أشبها معا وانتقد المكري، والموضوع بحاله من اختلافهما بعد سير كثير، ومعنى كلامه أن المكري والمكتري إذا اختلفا في المسافة فقط كما هو فرض المسألة وأشبه قول المكري فقط وهو الجمال وقد سار كثيرا أو بلغ برقة التي هي القريبة فالقول قوله أي الجمال وهو المكري، وسواء انتقد الكراء أم لا، وكذلك يكون القول قول الجمال إن أشبها معا والحال أنه انتقد الكراء لترجيح جانبه بالنقد فقوله: وللمكري لخ، كأنه قال: فالقول للمكتري إن أشبه فقط وللمكري إن أشبه فقط انتقد فيهما أم لا، وقوله: أو أشبها وانتقد؛ أي إذا أشبها في هذه الحالة أي بعد سير كثير أو بلوغ برقة القربية فالقول للمكري حيث انتقد الكراء.

وإن لم ينتقد الجمال الكراء فيما إذا أشبها وكان التنازع في المسافة فقط بعد سير كثير أو بلوغ برقة القريبة حلف المكتري على ما قال من أن المسافة إلى إفريقية بالمائة، وإذا حلف المكتري لزم الجمال ما قال المكتري فتلزمه المائة مع إيصاله إلى إفريقية، إلا أن يحلف الجمال على ما ادعى من برقة فلا يلزمه تبليغه لإفريقية وإذا لم يلزمه فله أي للجمال حينئذ حصة المسافة التي سارها كثيرًا أو بلغا برقة على دعوى المكتري أن المائة إلى إفريقية، فيقال: ما حصة بلوغ برقة من المائة؟ فإن قيل: النصف مثلا، أعطي للجمال النصف. وفسخ الباقي بعد برقة، وأما بعد السير

ص: 274

الكثير وقبل برقة فلا بد من إيصاله لبرقة، هذا الذي صرح به الأئمة، وصرح به الرجراجي في عين هذه المسألة وفي التي بعدها.

وإن لم يشبها والحال أن تنازعهما بعد سير كثير حلفا وفسخ بكراء المثل فيما مشى؛ يعني أنه إذا لم ينت به قول واحد منهما فإنهما يتحالفان ويتفاسخان وله كراء المثل فيما مشى ويقضى للحالف على الناكل، وقد علمت أن هذا بعد سير كثير. قال الخرشي عن الأجهوري: وظاهر كلام ابن يونس أنهما يتحالفان ويتفاسخان فيما إذا لم يشبها وإن لم يبلغا الغاية الأولى، وفي كلام ابن رشد خلافه، فإنه قال: الثاني من الأوجه أن لا يشبه قول واحد منهما فإنما يتحالفان ويتفاسخان في المسألة ويكون على المكتري في المسافة التي اتفقا عليها كراء مثلها، وكذا الحكم إن نكلا معا. انتهى. فهذا يفيد أنهما لا يتحالفان ويتفاسخان قبل بلوغ الغاية الأولى، وهو واضح حيث لم يتفقا على التحالف والتفاسخ قبلها، وإلا عمل بما اتفقا عليه، وكلام ابن يونس يفيد أنهما يتحالفان ويتفاسخان قبل وصول المسافة الأولى، ولو طلب أحدهما المشي إلى المسافة الأولى وأبى الآخر، وهو ظاهر كلام المؤلف. اهـ. وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين النقد وعدمه مع عدم الشبه لهما.

تنبيهات: الأول: تلخيص هذه المسألة أن تقول: إن عدم السير أو قل حلفا وفسخ، انتقد الجمال الكراء أم لا، ولا يراعى شبه ولا عدمه على قول مالك في المدونة، وقال غيره: إذا انتقد الجمال وأشبه كان القول قوله، وأما بعد سير كثير أو بلوغ برقة فإن أشبه قول المكتري فقط فالقول قوله انتقد الجمال الكراء أم لا، فيلزم الجمال ما قال المكتري من إفريقية، إلا أن يحلف الجمال على ما ادعى من المسافة الكثيرة فيكون له حصة مسافة برقة على دعوى المكتري ويفسخ الباقي، وإن أشبه قول المكري فقط فالقول قوله بيمينه انتقد الأجرة أم لا، فلا يلزمه إلا تبليغه لبرقة بالمائة، وإن أشبها معا فإن انتقد الجمال فالقول قوله بيمين أيضا فلا يلزمه إلا تبليغه لبرقة القريبة بالمائة، وإن لم ينتقد حلف المكتري ولزم الجمال ما قال المكتري إلا أن يحلف الجمال على ما ادعى من المسافة القريبة فله حصة برقة على دعوى المكتري أن المائة إلى إفريقية وفسخ الباقي،

ص: 275

وإن لم يشبه واحد منهما تحالفا وتفاسخا، ويكون له كراء المثل فيما مشى، وسواء انتقد أم لا، ويقضى للحالف على الناكل، ونكولهما كحلفهما.

الثاني: قوله: وللمكري في المسافة فقط، قال فيه ابن غازي: قد كان المص في غنى عن أن يقول: في المسافة فقط. انتهى. ولعله مقدم من ناسخ المبيضة، ومحله بعد قوله: فإن نقده فالقول للجمال فيما يشبه لخ؛ لأن المراد به أن القول للجمال في المسافة فقط لا في دعوى أن الكراء بمائة. قاله البناني. وإنما كان المص في غنى عن قوله: في المسافة فقط؛ لأنها هي الموضوع، ولذا قال عبد الباقي: وأتى بهذه وإن كانت موضوع المسألة لأجل قوله: إن أشبه لخ. اهـ.

الثالث: قال ابن يونس: تلخيص هذه المسألة وبيانها على أصل قول ابن القاسم أن تنظر فإن أشبه قول المكري خاصة فالقول قوله انتقد أو لم ينقد، وإن أشبه قول المكتري خاصة فالقول قوله نقد الكراء أو لم ينقد، وإن أشبه ما قالا جميعا نظرت فإن انتقد الكراء فالقول قول المكري وإن لم ينتقد فالقول قول المكتري، وإذا كان القول قول المكري فيحلف ويكون له جميع الكراء، وإذا كان القول قول المكتري حلف ولزم الجمال ما قال، إلا أن يحلف على ما ادعى فيكون له حصة مسافة برقة على دعوى المكتري ويفسخ عنه الباقي، وإن لم يشبه قول واحد منهما تحالفا وتفاسخا وكان له كراء المثل فيما مشى، وأيهما نكل قضي لمن حلف. انتهى.

الرابع: قال الرهوني عند قول المص وفسخ بكراء المثل فيما مشى، ظاهر المص أنه لا يلزمه أن يبلغه إلى المسافة المتفق عليها، وظاهره كان في مستعتب أم لا، ثم نقل عن الرجراجي النص في ذلك فقال عنه: فإن لم يشبها فلا يخلو إما أن يكون في مستعتب أم لا، فإن كان في مستعتب بحيث يجد، [ما يكتري]

(1)

فالتحالف والتفاسخ بينهما في الحال، ومن نكل منهما قضي لصاحبه عليه، وإن لم يكونا في مستعتب فهل يقع التحالف بينهما ويكون له من المسافة كراء المثل أو لا بد أن يبلغا رأس المسافة أو يجدا مستعتبا دونه؟ قولان، الأول لابن القاسم على ظاهر ما في كتاب الرواحل، والثاني للغير على ظاهر ما في كتاب الأرض، ويكون له في الجميع كراء المثل، ولا فرق

(1)

ساقطة من الأصل، والمثبت من الرهوني ج 7 ص 79.

ص: 276

عند ابن القاسم بين الدابة المعينة والمضمونة. اهـ. قال الرهوني: وهو نص في عين النازلة، لكن قال أبو علي: وقول الرجراجي: إذا كان في غير مستعتب يفسخ الكراء على ظاهر قول ابن القاسم، غير صحيح إلى آخر كلامه. واللَّه تعالى أعلم. ثم ذكر المسألة الثالثة وهي تخالفهما في المسافة، وفي قدر الكراء معا بقوله:

وإن قال: أكريتك للمدينة بمائة وبلغاها، وقال: بل لمكة بأقل؛ يعني أنهما إذا اختلفا في المسافة وفي قدر الأجرة معا، فإن عدم السير أو قل فإنهما يتحالفان ويتفاسخان كما في التي قبلها، وإن كان اختلافهما بعد أن بلغا الغاية أو سارا كثيرا فإن قال الجمال: أكريتك للمدينة القريبة بمائة والحال أنهما بلغاها يريد أو سارا كثيرا، وقال المكتري: بل اكتريت الجمال لمكة البعيدة بأقل من ذلك كخمسين، فلا يخلو ذلك من أن يكون المكتري نقد الكراء للمكري أو لا، فإن نقده المكتري الخمسين فالقول للجمال فيما يشبه، يريد مع شبه المكتري أيضا بدليل ذكره بعد ذلك شبه الجمال وحده، وحلفا أي يحلف الجمال ما أكريتك إلا للمدينة بمائة، ويحلف المكتري إنما اكتريت منك لمكة بخمسين. وفسخ العقد بينهما فيما بقي، فإن نكل المكتري كان القول قول المكري ويأخذ ما ادعاه، وقوله: وفسخ، مرتب على حلف الجمال، ولا يتوقف على حلف المكتري، وإنما حلف لإسقاط خمسين عنه على دعوى الجمال. قاله عبد الباقي. وقال عند قوله: وحلفا ما نصه: وعمل بقول الجمال [بترجيح]

(1)

جانبه بالنقد ودعواه الشبه في المسافة التي بلغاها، فيحلف لإسقاط زائد المسافة والمكتري لإسقاط خمسين عنه ولزوم خمسين فقط له ويبلغه المدينة بعد السير الكثير. انتهى. وقال الشبراخيتي: وإن اختلفا في المسافة وقدر الأجرة بأن قال الجمال: أكريتك للمدينة بمائة وبلغاها؛ أي والحال أنهما بلغاها يريد أو سارا كثيرا وإن لم يبلغاها بأن عدم السير أو قل تحالفا وتفاسخا؛ يعني كما في التي قبلها، ولا يراعى شبه ولا عدمه، ولم يتعرض لما إذا لم يشبه واحد منهما وحكمها فيه أيضا حكم التي قبلها؛ يعني قوله المار: وإن لم يشبها حلفا وفسخ بكراء المثل فيما مشى، ولم يتعرض أيضا لما إذا أشبه قول

(1)

لفظ عبد الباقي ج 7 ص 58 لترجح.

ص: 277

المكتري فقط، وسواء نقد أم لا، وحكمها حكم ما إذا أشبها ولم ينقد، ولذا قال الشيخ أبو الحسن: إن حكم هذه المسألة حكم المسألة السابقة. انتهى؛ يعني قوله: وإن لم ينقد فالقول للجمال، وذكر مفهوم قوله إن نقده بقوله:

وإن أشبها ولم ينقد المكتري الخمسين للجمال فالقول للجمال في المسافة التي ادعاها، ويبلغه المدينة بعد السير الكثير، لا في ما ادعى من الكراء بدليل قوله: والقول للمكتري في حصتها؛ أي المدينة مما ذكر المكتري من مسافة مكة لكن بقول أهل المعرفة، ولا يقبل قوله في أنه لمكة لأن عدم بلوغ المسافة التنازع فيها يرجح قول المكري، وعدم النقد يرجح قول المكتري، بعد يمينهما، فيحلف الجمال ما أكريتك إلا للمدينة بمائة، ويحلف المكتري اكتريت لمكة بخمسين، ويأخذ الجمال حصة المسافة بأن يقال: ما تساوي حصة المدينة من ابتداء السير إلى مكة باعتبار السهولة والوعورة والأمن والخوف؟ فيقال: الربع أو النصف مثلا، فيعطى الجمال من الخمسين بتلك النسبة نصفا أو ربعا أو غيرهما.

وإن أشبه قول المكري فقط في المائة للمدينة فالقول له أي للمكري وهو الجمال بيمين، نقد أم لا، فيأخذ المائة ولا يلزمه غير مسافة المدينة ولو حلف المكتري. قاله عبد الباقي. وقال: وقد اختصر المص الكلام في هذه المسألة تبعا للمدونة فلم يذكر ما إذا تخالفا قبل الركوب أو بعده بعد سير يسير اعتمادا على ما مر في المسألة الأولى من التحالف والتفاسخ، وأما بعد سير كثير فتقدم أنه كبلوغ المدينة، وسكت أيضا عما إذا أشبه المكتري فقط نقد أم لا، وحكمه كما إذا أشبها ولم ينقد، وعما إذا لم يشبه واحد منهما لمساواة حكمها أيضا للمسألة التي قبل هذه من التحالف والتفاسخ بكراء المثل فيما مشى، وترك هناك بلوغ الغاية اتكالا على ما هنا، وهذا صنع عجيب. اهـ. وتحصل مما مر على سبيل الاختصار أنه إن عدم السير أو قل تحالفا وتفاسخا، وأما بعد سير كثير أو بلوغ المدينة فإنه إذا أشبها وانتقد الجمال فإن القول قوله بالنسبة للمسافة كخمسين فيبلغه بخمسين ويبلغه للمدينة بعد سير كثير ويحلف المكتري لإسقاط الخمسين، فإن لم يحلف أخذ الجمال المائة، وأنه إن أشبه المكتري فقط نقد أم لا أو أشبها ولم ينقد فإن القول للجمال في المسافة فلا يتجاوز به المدينة، وأن القول للمكتري في حصة المدينة مما ذكر المكتري من المسافة

ص: 278

لمكة فتكون الأجرة خمسين من مبدأ ما سار إلى مكة، وللجمال من الأجرة حصة المسافة إلى المدينة إن كانت نصفا فله نصف الخمسين وهكذا، وأنه إن أشبه المكري فقط فالقول له بيمين، فيأخذ المائة ويبلغه المدينة بعد سير كثير. والله تعالى أعلم.

فرع: قال الإمام الحطاب: إذا اختلفا فيمن يبدأ باليمين فإنهما يقترعان، نقله أبو الحسن الصغير. وإن أقاما بينة قضي بأعدلهما؛ يعني أنه إذا أقام كل واحد من الجمال والمكتري بينة على ما قال فإنه يقضى بأعدل البينتين، قال عبد الباقي: وإن أقاما أي أقام كل واحد ولذا لم يقل بينتين، بل قال: بينة على ما ادعاه قضي بأعدلهما، كان ذلك قبل الركوب أو بعد [بلوغ]

(1)

المدينة: وهذا راجع للباب بتمامه، وكذا يقضى بالعادلة دون الفاسقة، وإلا بأن تكافأتا في العدالة سقطنا وصارا كمن لا بينة له، فأجْرِهِما على ما مر يا فَتى. وكما يقضى بأعدلهما يقضى بذات التأريخ وبتقدمه. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: إنما نبه على هذه المسألة وإن كان الحكم في تعارض البينتين كذلك لينبه على قول غير ابن القاسم في المدونة، فإنه قال: أقبل بينة كل منهما إذا كانت عادلة لأن كل واحد منهما ادعى فضلة أقام عليها بينة، فأقضي بأبعد المسافتين وبأكثر الثمنين، وليس هذا من التهاتر أي التعارض، وسواء انتقد أو لم ينتقد، والله تعالى أعلم. اهـ.

مسألة: قال الحطاب: قال في كراء الرواحل: وإن طلب الجمال نقد الكراء قبل الركوب أو بعد السير القريب فامتنع المكتري حُمِلَا على سنة الناس في نقد الكراء وتأخيره، وإن لم يكن لهم سنة كان كالسكنى لا يعطيه إلا بمقدار ما سكن، وإن عجل الكراء من غير شرط فلا رجوع له فيه، فإن أراد أحدهما نقد البلد الذي بلغا إليه وطلب الآخر نقد بلد التعاقد قضي بنقد البلد الذي عقد فيه الكراء. اهـ. فائدة: قال أبو الحسن: يقال: الكري والمكاري والمكري لِبائعِ المنافع، ويقال: المكتري والمتكاري لمشتريها، فحيث دخلت التاء فهو مشتر للمنافع، وجمع المكري مُكْرُون، وجمع الكري أكرياء، وجمع المكتري مكترون. اهـ. قاله الحطاب. وقوله: بينة، هو في بعض النسخ، وفي بعضها بينتين بالتثنية وهي ظاهرة. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: ويستفاد من

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 58.

ص: 279

كلامه هنا أنه يرجح بالتاريخ وتقدمه وذلك لأن التاريخ وتقدمه، يقدمان على زيادة العدالة كما ستعرفه، وقد ذكر هنا أنه يرجح بزيادة العدالة فيرجح بهما بالأولى. انتهى.

وإن قال: اكتريت عشرًا بخمسين، وقال: بل خمسا بمائة حلفا وفسخ؛ يعني أن من اكترى أرضا أو دارا سنين ثم تنازعا في قدر المدة والأجرة، فقال المكتري: اكتريت عشر سنين بخمسين، وقال رب الأرض أو الدار: بل خمس سنين بمائة، يريد ولا بينة لواحد منهما فإنهما يتحالفان ويبدأ صاحب الأرض باليمين، فيحلف على ما ادعاه، ويحلف المكتري على ما ادعاه ويفسخ العقد، وذلك قبل أن يزرع المكتري شيئا من المدة أي بأن تحالفا بحضرة العقد، ولا يراعى في هذا نقد ولا عدمه. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وإن قال اكتريت عشرا من فدادين أو سنين لأرض زرع أو لبيت بخمسين دينارا، أو قال المكتري: بل خمسا بمائة، حلفا ويبدأ صاحب الأرض أو الدار باليمين، والموضوع أن التنازع قبل الزرع والسكنى، ولا يراعى هنا نقد ولا عدمه وفسخ العقد. انتهى. وقال الشبراخيتي: وإن قال المكتري لأرضٍ أو دار مثلا: اكتريت منك عشرا من السنين أو من الأفدنة بخمسين، وقال ربها: بل اكتريت مني سنين أو أفدنة خمسا بمائة، ولا بينة لهما حلفا وفسخ العقد إن كان تحالفهما بحضرة العقد كما في المدونة، وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: إذا قال المكتري: اكتريت الأرض عشر سنين بخمسين دينارا، وقال ربها: خمس سنين بمائة دينار، فإن كان بحضرة الكراء تحالفا وتفاسخا. انتهى. والمراد بحضرة الكراء كونه قبل الزرع والسكنى، ولهذا قال:

وإن كان تنازعهما بعد أن زرع المكتري بعضا أو سكن بعضا والحال أن المكتري لم ينقد الكراء للمكري فلربها بحساب ما أقر به المكتري من الأجرة فيما مضى من المدة إن أشبه المكتري أشبه ربها أم لا وحلف؛ أي المكتري، قال الخرشي: يعني إذا كان تنازعهما بعد أن زرع المكتري بعض المدة أو سكن الدار بعض المدة والحال أنه لم ينقد من الكراء شيئا فلربها ما أقر به المكتري فيما مضى من المدة؛ لأن المكتري ترجح جانبه بعدم النقد واستيفاء المنفعة ودعوى الشبه، ويحلف على ما أقر به، وسواء أشبه قول المكري أم لا، قوله: فلربها أي فلربها بحساب ما أقر به المكتري. انتهى. وقوله: فلربها ما أقر به المكتري لخ، هو خمسة في كل سنة فيما إذا ادعى

ص: 280

الاكتراء عشر سنين بخمسين دينارا، فإذا زاد سنة أو سكن الدار سنة وتنازعا حينئذ فإنه يكون للمكري في تلك السنة خمسة لأنه إنما أقر بخمسين في مقابلة عشر من السنين تنوب كل سنة خمسة. واللَّه تعالى أعلم.

وإلا يشبه المكتري حلف أم لا أو أشبه ولم يحلف فالقول قول ربها؛ أي الذات المستأجرة إن أشبه ربها وحلف، فلرب الأرض أو الدار فيما مضى من المدة على حساب ما قال رب الأرض، فإذا زرع أو سكن سنة وتنازعا حينئذ فإنه يكون لرب الأرض أو الدار عشرون لأنها التي تنوب سنة فيما إذا قال ربها: إنه أكراها خمسا بمائة، وعلم مما قررت أن قوله وإلا فقول ربها إن أشبه وحلف، شامل لثلاث صور. وإن لم يشبها حلفا؛ يعني أنه إذا زرع بعضا أو سكن بعضا والحال أن المكري والمكتري لم يشبه واحد منهما فيما ادعاه فإنهما يتحالفان، وإذا تحالفا وجب كراء المثل فيكون له فيما زرع أو سكن كراء المثل. وقوله: فيما مضى، يتنازع فيه جميع العوامل السابقة.

وفسخ الباقي مطلقا، فسره الشارح بجميع الصور أشبها أو أحدهما أم لا، والبساطي بقوله: أشبه أحدهما أم لا، واشتمل كلام المص على أربعة أوجه: أن يشبه قول المكتري فقط، أو يشبها، الثالث: أن لا يشبه المكتري أو يشبه ولم يحلف ويشبه المكري ويحلف، والرابع: أن لا يشبها معا. انظر الحطاب. وتحصل في هذه المسألة أنه إذا كان التنازع قبل الزرع أو السكنى حلفا وفسخ، ولا يراعى نقد ولا عدمه ولا شبه ولا عدمه، فإن زرع بعضا أو سكن بعضا ولم ينقد فللمكري ما أقر به المكتري إن أشبه المكتري وحلف أشبه المكري أم لا، فإن لم يشبه المكتري أو لم يحلف فالقول للمكري إن أشبه وحلف، فإن لم يشبها حلفا ووجب كراء المثل، وهذا الذي ذكر في كل الوجوه حاصل فيما مضى من المدة، وأما الباقي فيفسخ في جميع الصور حصل شبه أم لا، وقوله: وإن زرع بعضا ولم ينقد، وأما إذا نقد فهو قوله:

وإن نقد المكتري الكراء للمكري ففي ذلك تردد، في قول ابن القاسم هل هو مخالف لقول ملك موافق لغيره أو هو موافق لقول ملك؟ وذلك أن ابن القاسم في المدونة بعد أن ذكر الأوجه الأربعة المتقدمة قال: وهذا إذا لم ينتقد، قال أبو الحسن: وأما لو نقد لكان القول قول ربها ولا تفسخ

ص: 281

بقية السنين، فيكون كقول الغير ومخالفا لقوله: ويفسخ باقي المدة على كل حال، وقيل معنى قوله: هذا إن لم ينتقد؛ أي هذا الذي سمعت من ملك ولم أسمع منه إذا انتقد والحكم عندي سواء فيهما. انتهى. والذي قاله الغير هو أنه إذا انتقد وأتى رب الأرض بما يشبه أوأتيا معا بما يشبه لا ينفسخ الكراء فيكون في هذين الوجهين مخالفا لما تقدم فيما إذا لم ينقد، فمن الشيوخ من حمل قول ابن القاسم: وهذا إذا لم ينتقد، على معنى أنه، وأما إذا انتقد فلا يفسخ يريد في هذين الوجهين، ويكون قول ابن القاسم موافقا لقول الغير، ومنهم من يرى أن مذهب ابن القاسم أنه يفسخ مطلقا، ويكون قول الغير خلافا، وهو تأويل ابن يونس. انظر الحطاب. وبه تعلم أن المحل للتأويلين لا للتردد. اهـ. قاله البناني. وفي الحطاب بعد أن قال: وهذا تأويل ابن يونس فإنه قال: هذا الذي ذكر الغير موافق لقول ابن القاسم إلا قوله: إذا أشبه قول ربها أو أشبه ما قالا أن المكتري يلزمه أن يسكن ما أقر به المكري، فهذا يخالفه فيه ابن القاسم ويرى أنهما يتحالفان ويتفاسخان في بقية المدة. اهـ. وقال عبد الباقي: ثم ذكر قسيم قوله: ولم ينقد، فقال: وإن نقد وأشبها أو المكري فقط فتردد، هل هو كالمتقدم في قبول قول ربها ووجوب كراء المثل فيما مضى وفسخ الباقي أو يعمل بقول المكري ولا فسخ ويلزم المكتري جميع الكراء؟ وأما إذا نقد ولم يشبها أوأشبه المكتري فقط فحكم ذلك كحكم ما قدم فيما إذا لم ينقد. اهـ. قول الزرقاني: ووجوب كراء المثل فيما مضى لخ، فيه نظر؛ إذ الذي تقدم في شبههما وشبه رب الأرض وجوب الكراء بحساب ما قال. انتهى. قال الرهوني: قول البناني: إذ الذي تقدم له في شبههما وشبه رب الأرض وجوب الكراء بحساب ما قال. انتهى؛ يعني أنه إذا لم يحلف المكتري وحلف رب الأرض، هذا مراده وهو الذي تقدم للزرقاني. تأمله. واللَّه سبحانه أعلم. انتهى. وإيضاح قوله: وإن نقد فتردد، أن ابن القاسم قال في المدونة بعد أن ذكر الأوجه الأربعة: وهذا إذا لم ينتقد، واختلف في قوله: هذا، هل هو مخالف لقول الإمام ويفسخ باقي المدة على كل حال؟ فيكون مفهومه أنه لو انتقد وأشبه رب الأرض أو أشبها معا لكان القول قول رب الأرض، وعلى هذا فهو موافق لقول الغير في المدونة القائل: إنه إذا انتقد لا يفسخ باقي المدة في الوجهين، أو موافق لقول الإمام مخالف للغير فالحكم عنده فسخ بقية المدة في الوجهين، فيكون معنى قوله: هذا إذا لم ينتقد؛ أي هذا الذي

ص: 282

سمعت من مالك ولم أسمع منه إذا انتقد، والحكم عندي سواء فيهما، واعترض هذا التأويل بقول الإمام: إن رب الأرض والدابة والدار مصدق في الغاية فيما يشبه وإن لم ينتقد؛ إذ هذا الكلام يظهر منه أنه مصدق إذا انتقد من باب أولى، وهذا يعطي سماعه للوجهين. قاله الحطاب فالإمام سواء النقد وعدمه عندة في الأوجه الأربعة فيفسخ الباقي عنده في جميعها، والغير يقول إذا انتقد وأشبها أوأشبه المكري لا يفسخ بقية المدة والقول لرب الأرض والدار، ويوافق في الوجهين الأخيرين، وهما: ما إذا نقد ولم يشبها، أوأشبه المكتري فقط، كما يوافق في جميعها حيث لم ينقد، واختلف في قول ابن القاسم: وهذا إذا لم ينتقد هل هو خلاف لقول الإمام موافق للغير؟ أو موافق للإمام مخالف للغير، وهو معترض كما علمت. وحاصلُ هذا الإيضاح أن تقول: وإن نقد وأشبها أو أشبه المكري فقط فتردد، هل هو كما مر فيما إذا لم ينقد؟ فيفسخ بقية المدة، فيوافق قول ابن القاسم قول الإمام، أو لا فسخ في الوجهين حيث نقد، فيخالف ابن القاسم الإمام ويكون موافقا للغير، وأما إذا نقد ولم يشبها أو أشبه المكتري فقط فحكم ذلك كما مر فيما إذا لم ينقد. واللَّه سبحانه أعلم.

تنبيه: قال ابن الحاجب: وكل من أوصل نفعا من عمل أو مال بأمر المنتفع أو بغير أمره مما لا بد له منه بغرم فعليه أجرة العمل ومثل المال، بخلاف عمل يليه بنفسه أو بعبده، أو مال يسقط مثله عنه، التوضيح: أوصل يريد ولو بغير قصد كما قالوا فيمن حرث أرض غيره أو حصد زرعه أو قطع ثوبه أو خاطه أو طحن قمحه بغير أمره، ومثال المال لو أنفق على زوجته أو ولده أو عبده، وسواء كان ذلك بأمر المنتفع أو بغير أمره، وقوله: من عمل أو مال، تبيين للنفع، وقوله: مما لا بد له منه؛ أي بشرط أن يكون ذلك الواصل مما لا بد منه للمنتفع به، وقوله: منه بغرم، شرط فيما يرجع به، واحترز به من أن يعمل عملا لا يحتاج إليه أو يتولاه صاحبه بنفسه فلا غرم عليه، أو ينفق على من لا يلزمه الإنقاق عليه، أو ينفق أكثر من القدر المحتاج إليه؛ المازري: ولا خلاف فيه إذا كان ربه ممن يتولاه بنفسه، وإلا فقد ذكروا خلافا فيمن خاط مثلا

ص: 283

ثوب غيره بغير إذنه، فقال سحنون: يأخذه ربه ولا شيء عليه لخياطة هذا الفضولي، وقيل: لا يأخذه حتى يغرم لهذا الأقل من قيمة خياطته أو ما يخيطه به هو: قوله: فعليه أجرة العمل أي قيمة المنفعة ومثل المال، هو ظاهر إن كان من ذوات الأمثال. انتهى المراد منه. ولما أنهى الكلام على الإجارة أتبعه بالكلام على الجعل وهو فرع من الإجارة فقال:

ص: 284

‌بابٌ: ذكر فيه الجعل وما يتعلق به

وأفرده عن الإجارة ببابٍ لاختصاصه ببعض أحكام، قال النووي: الجعل بضم الجيم ما يجعل للعامل عوضا. وقال في التنبيه: الجعالة بفتح الجيم وكسره وضمه ما يجعل في العمل وقال القاضي عياض: الجعل رخصة وهذا أصل منفرد لا يقاس عليه، وهو أن يجعل الرجل للرجل أجرا معلوما ولا ينقده إياه على أن يعمل له في زمن معلوم أو مجهول مما فيه منفعة للجاعل على خلاف في هذا، على أنه إن كمله كان له الجعل وإن لم يتمه فلا شيء له مما لا منفعة فيه للجاعل إلا بعد تمامه، وقد أنكر هذا العقد جماعة من العلماء، ورأوا أنه من الغرر والخطر، والأصل في ذلك قوله تعالى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} . مع العمل به من كافة المسلمين، وقوله: عليه الصلاة والسلام يوم حنين: (من قتل قتيلا فله سلبه

(1)

). قال ابن عرفة: وهو رخصة اتفاقا. اهـ. وتمسك غير واحد من أشياخ المذهب في جوازه بقضية الرهط مع الحي الذي لدغ سيدهم، وقضية الرهط ما رواه أبو سعيد الخدري (أنه قال: انطلق رهط من أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء فلم ينفعه، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا عندنا لعل أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم فقالوا: إن سيدنا لدغ وقد سعينا له بكل شيء فلم ينفعه شيء، فهل عند أحدٍ منكم شيء؟ فقال بعضهم: نعم واللَّه إني لأرقي ولكن قد استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق حتى تجعلوا لي جعلا فصالحوه على قطيع من الغنم، قيل: ثلاثون، فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد للَّه فكأنما نشط من عقال يمشي وما به قَلَبَة، فأوفوهم جعلهم

(2)

). الحديث. وأيضا فإن الضرورة تدعو إلى ذلك أشد مما تدعو إلى القراض والمساقاة، وقد مضى عمل المسلمين على ذلك في سائر الأقطار على قديم الأوقات والأعصار، وقوله: قلبة بالباء الموحدة بعد اللام أي ألم أو علة، وتنظير ابن عرفة في الاستدلال بالحديث يرده قوله في الحديث: حتى تجعلوا لي جعلا، وقد بحث في تنظيره ابن ناجي، وحَدَّ ابن عرفة حقيقته العرفية بقوله عقد معاوضة على عمل آدمي بعوض غير ناشئ

(1)

صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس، رقم الحديث 3142.

(2)

البخاري، كتاب الإجارة، رقم الحديث رقم الحديث 2276.

ص: 285

عن محله به لا يجب إلا بتمامه، وإنما لم يقل بيع عمل آدمي الخ؛ لأن العقد أعم من البيع، والجنس الأقرب البيع كما قال في الإجارة، ولعله لما كانت الإجارة لازمة من الجانبين بخلاف الجعالة ناسب في الإجارة البيع وهنا العقد، وقوله: آدمي، أخرج به كراء السفن وكراء الأرضين والرواحل، وقوله: بعوض غير ناشئ عن محله، أخرج به المساقاة والقراض وشركة الحرث، وقوله: به، قال الشيخ ابن عرفة، ما معناه أنه زيد به خوف نقض عكس الحد أو الرسم بقوله: إن أتيتني بعبدي الآبق فلك عمله كذا أو خدمته شهرا لأنه جعل فاسد لجهل عوضه والمعرف حقيقته المعرضة للصحة والفساد، وبيان ذلك أن التعريف لماهية الجعل المطلق القابل للصحيح والفاسد، ولو اقتصر على قوله: غير ناشئ عن محله، محافظة على طرده لإخراج المساقاة والقراض لأن ما ذكر نشأ عن محل العمل لكان رسمه غير منعكس، فيقال: حافظ على طرده فأخل بعكسه، فإن صورة النقض من الجعالة الفاسدة، وقد شارك

(1)

القراض فيما خرج به؛ لأن عوضها نشأ عن محل العمل فتكون خارجة، والمقصود دخولها وإن كانت فاسدة، فزاد به لتدخل الصورة المذكورة، وضمير محله عائد على عمل آدمي، وضمير به كذلك، وتقريره عوض من صفته أنه غير مأخوذ عن محل العمل بسبب عمل فاعلها

(2)

)، فتدخل صورة الجعالة الفاسدة لأن عوضها غير ناشئ عن عمل عاملها، بل أخذ من عمل محلها لا بسبب عمل عاملها، وقوله: ولا يجب إلا بتمامه، الجملة صفة لِعوضٍ أي بعوض موصوف بكونه لا يجب إلا بتمامه، فيخرج بذلك الإجارة في الآدمي لأن عوضها يتبعض على قدر العمل، وانظر ما وجه قوله: معاوضة مع قوله: بعوض؟ ثم إنه يرد على تعريف ابن عرفة ما إذا جاعله على غرس أصول حتى تبلغ حد كذا ثم هي والأرض بينهما نصفان فإن هذا ناشئ عن محله به. قاله الخرشي. وهذه الصورة جائزة، وأجاب عنها الخرشي بأنها ليست من الجعالة إذ المغارسة على هذا الوجه ليست بجعالة منفردة وإنما هي أصل في نفسها، وقال الرهوني: إن مراد ابن عرفة بالمحل الذي وقع فيه العمل قطعا وهو البستان ورأس مال القراض وذات العبد الآبق، وبهذا يظهر لك أنه لا يستغنى عن لفظة به.

(1)

في الخرشي الصغير ج 7 ص 59 شاركت

(2)

في الخرشي عاملها.

ص: 286

اهـ. وهذا الذي قاله ظاهر جدا. واللَّه سبحانه أعلم. وقال بناني بعد أن ذكر تنظير ابن عرفة في الاستدلال بالحديث ما نصه: وتعقبه ابن ناجي بأن قوله لهم عليه الصلاة والسلام: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله

(1)

). يقتضي صرف ما أخذوه للرقية. اهـ. قال الحطاب: والصواب مع ابن ناجي فتأمله. اهـ. وتنظير ابن عرفة هو قوله: في الاستدلال بالحديث نظر لجواز أن يكون صلى الله عليه وسلم أقرهم على ما أخذوه من الرقية لاستحقاقهم إياه بالضيافة لأنهم استضافوهم فلم يضيِّفوهم فأجاز لهم استخلاص ذلك بالرقية لا لأنه جعل. اهـ. وقد علمت رد ما قال ابن عرفة، والحق ما قال الحطاب وابن ناجي. واللَّه سبحانه أعلم. وقال الشبراخيتي: وقوله في الحديث: فأوفوهم جعلهم أي الذي صالحوهم عليه، وقال بعضهم: اقتسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان فننظر الذي يأمرنا، فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له فقال: (وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم اقتسموا واضربوا لي معكم سهما وضحك النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

). كذا في البخاري، وفي رواية: (فجعل يقرأ أم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل فبرأ الرجل

(3)

). وفي رواية: (فأمر له بثلاثين شاة

(4)

) وقوله في الحديث: (حتى تجعلوا لي جعلا) يرد قول ابن عرفة: فيه نظر. اهـ. وقال الرهوني: قول بناني عن التوضيح: الأصل في الجعالة قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} ، الاستدلال بالآية وقع لابن رشد في المقدمات وغيره، وهو مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، وهو أحد قولين، واستدلال ابن رشد وغيره بذلك يدل على أن ذلك هو الصحيح من القولين، وصرح في المنتقى بذلك فقال: إنه الصحيح. اهـ. وقولُ بناني: وتعقبه ابن ناجي لخ، كلام ابن ناجي الذي أشار إليه هو في شرح الرسالة، وقد تعقبه أيضا البرزلي بنحو ما لابن ناجي، وبحث فيه أيضا الرصاع وابن غازي في تكميله وتصويب الحطاب تعقب ابن ناجي صواب، قلت: ومما يرد ما قاله ابن عرفة: أن أبا سعيد وأصحابه سألوا النبي صلى اللَّه عليه

(1)

البخاري، كتاب الإجارة، رقم الحديث 2275. وكتاب الطب، رقم الحديث 5737.

(2)

البخاري، كتاب الإجارة، رقم الحديث 2276.

(3)

البخاري، كتاب الطب رقم الحديث 5736.

(4)

البخاري، كتاب فضائل القرآن، رقم الحديث 5007.

ص: 287

وسلم عن حلية ما أخذوه على الوجه المذكور، فإخباره صلى الله عليه وسلم بحليته لهم يدل على أنه حلال لهم بما أخذوه به وسألوه عنه لا بالضيافة، وإلا لزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على خطإ وهو اعتقادهم حليته من الوجه الذي سألوه عنه مع عدم بيانه لهم أن سبب الحلية استحقاقهم الضيافة، وهو صلى الله عليه وسلم لا يُقِرُّ على باطل، وقال المواق: أركان الجعل أربعة: المتعاقدان، والجعل، والعمل.

صحة الجعل بالتزام أهل الإجازة جعلا علم؛ يعني أن صحة عقد الجعل مشروطة بأن يلتزم المتأهل لعقد الإجارة جعلا أي ثمنا معلوما بأن يلتزم العامل قبوله ويلتزم الجاعل دفعه، والمتأهل لعقد الإجارة قدمه في البيع بقوله: وشرط عاقده تمييز ولزومه تكليف لخ، فالمتأهل لأن يلتزم الجعل هنا هو الرشيد أو المحجور بإذن وليه، وبما قررت اندفع ما يقال، وهو نص التتائي: ظاهر المص أن الشرط قاصر على الجاعل، وليس كذلك بل لا يصح شيء من ذلك إلا من الرشيد أو المحجور بإذن وليه، قال ابن عرفة: شرطه أهلية المعاوضة فيها، وقال ابن شأس وابن الحاجب: شرطهما أهلية الاستئجار والعمل. ابن عبد السلام: يعني بقوله: والعمل، أن عمل الجعالة قد يمنع من بعض الناس كما لو جوعل ذمي على طلب مصحف ضاع، وكذلك الحائض مدة الحيض. ابن عرفة: هذا الامتناع إنما هو شرعي ولا يتم إلا بقصر الجعالة على الجائز منها، والأظهر اعتبارها من حيث ذاتها، والمراد بالأهل المتأهل كما قررت، وفي شرح الشيخ عبد الباقي: صحة الجعل أي العقد كائنة أو حاصلة بالتزام أي بسبب التزام أهل الإجارة، وتقدم أنه أحال عقد الإجارة على البيع، وتقدم أنه قال في البيع ما نصه: وشرط عاقده تمييز إلا بسكر فتردد ولزومه تكليف جعلا أي عوضا قبولا ودفعا، وهو منصوب بالتزام علم هو أي قدره، وشمل العين وغيرها، ولكن في اللخمي: إن كان الجعل عينا معينا أي دراهم معينة مطبوعا عليها امتنع وللجاعل الانتفاع بها ويغرم المثل إذا أتى العبد، ولو كان مكيلا أو موزونا لا يخشى تغيره إلى وجود العبد أو ثوبا جاز ويوقف وإن خشي تغيره كحيوان امتنع للغرر. اهـ. وبقولي: العقد، سقط ما قيل: إنه أخذ الجعل في تعريف الجعل، ففيه دور بناء على أن ما ذكره تعريف، فجوابه أنه أراد بالأول العقد وبالثاني العوض، وبقولي: قبولا، سقط اعتراض ابن غازي أنه يشترط في العامل

ص: 288

أيضا التأهل، فلم اقتصر على اشتراطه في الجاعل فقط الدافع للعوض، وأجيب أيضا بأنه اقتصر عليه لأنه الذي يظهر فيه فائدة لزوم العقد بَعْدَ الشروع في العمل، وأما المجعول له فلا يتوجه عليه اللزوم لا قبل العمل ولا بعده، وإنما اقتصر من شروط العوض على قوله: علم، مع أنه يشترط فيه أيضا كونه طاهرا منتفعا به مقدورا على تسليمه لدفع توهم اشتراط جهلة كالمجاعل عليه؛ إذ من شرطه أن يجهَلا مكانه، فإن علمه أحدهما لم يجز، ثم إن علمه الجاعل فقط فللعامل الأكثر من الجعل وأجرة المثل، وإن علمه العامل فقط فلا شيء له، وقال ابن القاسم في العتبية: له بقدر تعبه وعنائه، المتيطي: ومن ادعى عدم العلم منهما فالقول قوله كما هو الأصل، إذ الأصل في العقود الصحة، وينبغي إذا علماه أن له جعل مثله نظرا لسبق الجاعل بالعداء. اهـ كلام عبد الباقي. قوله: ولكن في اللخمي لخ، نسبة الزرقاني للخمي صحيحة، وقوله: وينبغي إذا علماه أن له جعل مثله نظرا لسبق الجاعل بالعداء، تأمل هذا التعليل مع حكمه بأن له جعل المثل؛ إذ المناسب لذلك أن يكون له الأكثر من المسمى وأجرة المثل. قاله الرهوني. وقوله: إذ من شرطه أن يجهلا مكانه، يوهم أن الجعل من حيث هو يشترط في صحته جهل المجاعل عليه، وليس بصحيح ولا قائل به، وإنما الذي في كلام أهل المذهب أنه لا يشترط كونه معلوما، بخلاف عمل الإجارة، وبجلب كلامهم يتبين ذلك، قال ابن عرفة: والعمل في الجعل لا يشترط علم متعسره بخلاف متيسره كل المذهب جوازه مع جهلهما ناحيته، بخلافه على استخراج الماء من الأرض، ففي المدونة: يجوز بعد معرفة ماء الأرض وقربه وشدتها ولينها، فإن لم يعرف ذلك لم يجز لأنه جهل لا تدعو الضرورة إليه، وهو نص نقل ابن فتوح عن الذهب. ابن الحاجب: العمل كعمل الإجارة إلا أنه لا يشترط كونه معلوما، فإن مسافة الآبق والضالة غير معلومة، ابن عبد السلام: كلامه يوهم العموم في كل أنواع عمل الجعالة وليس كذلك، بل مذهب المدونة لا يجوز الجعل على حفر البئر إلا بعد خبرتهما الأرض معا. ابن عرفة: ما نسبه ابن عبد السلام لابن الحاجب من إيهام العموم مثله لفظ المقدمات والتلقين. ابن رشد: لا يجوز الجعل في طلب الآبق إلا باستوائهما في الجهل بمحله، ومن علمه منهما دون صاحبه فهو غار له، كبيع الصبرة جزافا لا يجوز إلا باستوائهما في جهل قدره، فإن كان المجعول له يعلم ذلك في الآبق والضالة دون

ص: 289

الجاعل فله إمضاء الجعل أورده، فإن لم يعلم ذلك حتى جاء بالآبق فله الأقل من قيمة عنائه لذلك الموضع والمسمى، هذا معنى قول ابن القاسم في سماع عيسى: ولا يرد فيه لِجعلِ المثل أو أجر المثل لأنه ليس بفاسد، ولو كان الجاعل هو الكاتم لمحل العبد كان له الأكثر من قيمة عنائه أو المسمى. ابن عرفة: ظاهر كلام اللخمي أن الجعل على الآبق جائز علِمَ المجعول له موضعه أو جهله، خلاف نقل ابن رشد، وظاهر كلام اللخمي جوازه فيما علماه معا، وظاهر كلام ابن رشد إن علما موضعه معا لم تجز فيه مجاعلة، وإنما تجوز فيه الإجارة. اهـ كلام ابن عرفة. وبتأمله تعلم ما في كلام الزرقاني. واللَّه الموفق. اهـ. ولقد صدق، فإن ابن رشد لا يجيز الجعل في طلب الآبق إلا باستوائهما في الجهل، لكن صرح بعدم الفساد حيث علم المجعول له مكانه دون الجاعل، ويفهم منه ذلك في العكس واللخمي يجيز ذلك، وعبد الباقي يقول: من شرطه أن يجهلا مكانه،

قال مقيده عفا اللَّه عنه: وقوله: جعلا علم، في المدونة:

(1)

من جاءني به فله نصفه لم يجز لأنه لا يدري ما دخله.

تنبيهان: الأول: نفقة الآبق والشارد على المجعول له ولو استغرقت الجعل؛ لأنه إنما عاقده على توصيله فهو داخل على أن ينفق عليه. قاله ابن الحاجب. وأورد عليه أنه يلزم منه اجتماع البيع والجعل، وأجيب بأن هذا بيع غير مقصود لأنه من ضروريات العمل. قاله الخرشي. الثاني: أورد الشيخ أحمد على المص أن الالتزام فرع اللزوم والعقد غير لازم. قال بناني: معناه أن كون العقد التزاما فرع كونه من العقود اللازمة، ويجاب عن بحثه بأن عقد الجعل التزام بشرط العمل وهذا مراد المص لا مطلقا. انتهى.

يستحقه السامع بالتمام؛ يعني أن الجاعل إذا قال: من أتاني بعبدي الآبق فله عشرة دراهم مثلا فإن من سمعه يستحق الجعل المذكور أي الدراهم العشرة إذا تم العمل، وتمام العمل هو إتيانه بالآبق أي الشيء المجاعل عليه، وقوله: يستحقه السامع؛ أي السامع بلا واسطة أو بواسطة ولو

(1)

لفظ التهذيب وإن قال: من جاءني لخ ج 3 ص 390.

ص: 290

تعددت الوسائط، لكن بشرط أن يثبت حيث كان السامع من غير ربه أن ربه قال ما قاله الغير، وقد مر الخلاف في أنه إذا علم المجعول له موضعه دون الجاعل لا شيء له أو له الأقل من قيمة عنائه لذلك الموضع والمسمى. واللَّه سبحانه أعلم. وقوله: بالتمام، قال الخرشي: هو تسليمه للجاعل، وقال عبد الباقي: يستحقه السامع للجاعل ولو بواسطة غيره إن ثبت أن ربه قاله بالتمام، وهو قبض ربه له، فإن أبق قبل قبض ربه له بعد مجيء العامل به لبلد ربه لم يستحقه، وإنما يكون الجعل على الجاعل فيما لا يجب على المجاعَل بالفتح كفحصه وتفتيشه عن امرأة تصلح لمن جاعله على ذلك ولا يعرفها الدال، فأما ما يجب عليه من قول أو فعل كدلالة على امرأة تصلح له يعرفها الدال فليس له فيه جعل، بل ولا يحل له أخذ شيء على ذلك لوجوب النصيحة لخبر: (الدين النصحية قلنا: لمن يا رسول اللَّه؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم

(1)

) اهـ وقال الشبراخيتي يستحقه السامع من الجاعل أو بواسطة إن ثبت أن الجاعل وقع منه ذلك فالمراد بالسامع بلا واسطة أو بواسطة ولو تعددت الوسائط والظاهر أن المراد بالسامع من علم بقول ربه بدليل ما يأتي في الشارح في قوله كحلفهما بعد تخالفهما فلا يستحق من عمل البعض شيئا إلا فيما سيذكره وقوله يستحقه السامع بالتمام قال غير واحد هو في قوة الحصر كأنه قال: لا يستحقه السامع إلا بالتمام. اهـ. وقال الخرشي: وإن لم يتم العمل فلا يستحق منه شيئا، قال ابن المواز: قال ملك: من قال لرجل: بع حائطي ولك كذا، ثم جاء صاحب الحائط قوم فساوموه حتى باع منهم فطلب الرجل جعله فلا شيء له، إنما جعل له على أن يبيع ويماكس، فبائعهم ومماكسهم ليس هو، قال في المتيطية: ونفقة العبد الآبق على المجعول له من حيث يجده ولا يرجع بشيء منها على سيده ولو استغرقت الجعل ولو فر منه قبل دفعه لسيده فلا نفقة له ولا جعل، ومن أبق له عبدان فقال: من جاءني بناصح فله ديناران، ومن جاءني بمرزوق فله دينار، فإن كان المجعول له قبل الإباق يعرفهما فلا بأس به، وقيل: لا بأس به وإن لم يعرفهما، فإن أعتق السيد الآبق بعد أن جعل فيه جعلا فلمن خرج قبل العتق جعله

(1)

صحيح مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث 55

ص: 291

وإن لم يعمل شيئا. وقاله سحنون. وقال عبد الملك في الموازية: لا شيء لمن وجده بعد العتق وإن لم يعلم به قال بعض الموثقين: ولا خلاف في وجوب جعله إن كان العتق بعد أخذ المجعول له العبد. اهـ. وقال الشارح عند قول المص: بالتمام؛ أي بتمام العمل ولعله فيما لا يحصل للجاعل فيه نفع إلا بتمام العمل وإلا فمتى حصل له ذلك ولو لم يتم العمل فينبغي أن يكون له مقدار ما انتفع به، كما سيذكره بقوله: ككراء السفن إلا أن يستأجر على التمام لخ، فهو مثال لما يكون حكمه حكم الجعالة، وكذا ما أشبهه كمشارطة الطبيب على البرء والمعلم على حفظ القرآن. اهـ.

وقال المواق: من المدونة: ما لا يجوز بيعه لا يجوز أن يكون ثمنا لإجارةٍ أو جعل. وقال ابن القاسم: كل ما جاز بيعه جاز الاستئجار به وأن يُجْعَل جعلا، وما لم يجز بيعه لم يجز الاستئجار به ولا جَعْله جُعْلًا إلا خصلتان في الذي يجعل لرجل على أن يغرس له أصولا حتى تبلغ حد كذا ثم هي والأصل بينهما فإن نصف هذا لا يجوز بيعه، وفي الذي يقول: القط زيتوني فما لقطت من شيء فلك نصفه، فإن هذا يجوز. ابن رشد: يريد وبيعه لا يجوز.

ككراء السفن؛ يعني أن كراء السفن لا يستحق فيه شيء إلا بالتمام، فقبله لا يستحق منه شيء، قال مالك في المدونة: من اكترى سفينة فغرقت في ثلثي الطريق وغرق ما فيها من طعام وغيره فلا كراء لربها، وأرى أن ذلك على البلاغ. اهـ. قاله الخرشي. فقوله ككراء السفن، تشبيه لا تمثيل. قاله غير واحد. قال بناني: هذا هو الصواب خلاف ما في التتائي من أنه تمثيل؛ لأن هذا كراء على البلاغ كما في المدونة لا جعل، قال في التوضيح: لأن الجعالة لا تلزم بالعقد، وكراء السفن يلزم بالعقد عند ملك وابن القاسم. اهـ. ورد بذلك على قول ابن الحاجب: إنها جعالة، وقوله: ككراء السفن، الكاف للتشبيه وكاف التشبيه لا تدخل شيئا قال ابن الحاجب: ومشارطة الطبيب على البرء والمعلم على حفظ القرآن والحافر على استخراج الماء بتعريف شدة الأرض وبعد الماء وكراء السفينة متردد بين الجعل والإجارة، قال في التوضيح: هكذا ذكر ابن شأس هذه الأربعة وزاد الغارسة وهي أن يعطي الرجل أرضَه لمن يغرس فيها عددا من الأشجار، فإذا بلغت كذا وكذا كانت الأرض والأشجار بينهما، قال: وكل هذه الفروع مختلف فيها وسبب الخلاف فيها، ترددها بين العقدين. ابن عبد السلام: وظاهر الذهب أن هذه الفروع كلها من الإجارة على البلاغ

ص: 292

إلَّا مسألة الحافر فإنها من الجعالة. نقله بناني وغيره. وقوله: بتعريف شدة الأرض، الباء للمصاحبة وهي تجري مجرى الشرط. قاله الخرشي. وقال المواق: قال ابن عرفة: في حكم كراء السفن اضطراب. قال ابن رشد: قول ابن القاسم وروايته أنه على البلاغ كالجعل الذي لا يجب إلا بتمام العمل. وقال يحيى بن عمر: إن كان كراؤهم على قطع البحر مثل السفن من صقلية إلى إفريقية أو من إفريقية إلى الأندلس فلا شيء لهم من الكراء، وإن كان كراؤهم مع

(1)

الريف مثل الكراء من مصر إلى إفريقية وشبهه فله بحساب ما سار، وبهذا كان أصبغ يقول. انتهى.

إلا أن يستأجر على التمام، مستثنى من مفهوم قوله: يستحقه السامع بالتمام؛ أي فإن لم يتم العمل فلا شيء للعامل إلا أن يستأجر على التمام من يتم العمل أو يجاعل من يتمه، فإنه يكون للأول نسبة الثاني. أي يكون للأول على قدر ما يأخذه الثاني، فإذا جاعل رجل رجلا على الإتيان بخشبة إلى موضع كذا بخمسة دراهم ثم جاء بها إلى نصف الطريق فتركها فجاعل صاحبها آخر بعشرة فإنه يكون للأول عشرة، فقوله: نسبة الثاني؛ أي للأول نسبة الثاني أي للأول مثل ما يأخذه الثاني لأن الثاني، لما استؤجر نصف الطريق بعشرة علم أن قيمة الإتيان بها يوم استؤجر الأول عشرون، ولا يقال: الأول رضي بحملها جميع الطريق بخمسة فكان يجب أن يعطى نصفها، والمغابنة جائزة في الجعل كالبيع؛ لأنه لما كان عقد الجعل منحلا من جانب العامل بعد العمل فلما ترك بعد حمله نصف المسافة صار تركه بلا تَمامٍ إبطالا للعقد من أصله، وصار الثاني كاشفا لما يستحقه الأول، وإذا أتى به بنفسه أو عبده يقال: ما قيمة ذلك أن لو استأجر أو جاعل عليه؟ فيرجع به، قال عبد الباقي: واستثنى من مفهوم قوله: بالتمام؛ أي فإن لم يتم فلا شيء له، قوله: إلا أن يستأجر ربه على التمام أو يجاعل عليه أو يتمه بنفسه أو بعبيده، فالمراد إلا أن يحصل الانتفاع بالعمل السابق كما في كلامهم. انظر أحمد [فنسبة]

(2)

الثاني أي يأخذ الأول قدر ما يأخذ الثاني لإعراضه عن العقد الأول، وهو قول مالك، وقال ابن القاسم: له قيمة عمله. اهـ. قال الرهوني: أجمل فيما نسبه لابن القاسم وبيانه في سماع عيسى: قال فيه

(1)

في المواق ج 5 ص 536 دار الفكر: من الريف.

(2)

لفظ عبد الباقي ج 7 ص 61: فبنسبة الثاني.

ص: 293

بعد أن ذكر قول ملك الذي درج عليه المص ما نصه: وكنت أقول: له قيمة ما عمل يوم عمل، وقال ابن كنانة: بل قيمة ما عمل اليوم. اهـ. قال ابن رشد: وقول مالك أظهر من قول ابن القاسم وابن كنانة؛ لأنه لما كان لا يجب عليه شيء إن لم ينتفع وجب أن لا يكون عليه إن انتفع إلا بقدر ما انتفع به، وإنما يشبه أن يكون عليه قيمته يوم انتفع به أو يوم عمله إذا انتفع به كما هو دون أن يتمه بإجارة أو جعل في وجه من وجوه المنافع من كنيف وشبه ذلك. اهـ. قال عبد الباقي: وقولي: ربه، احتراز عما لو جاعل أو استأجر نفسُ العامل الأول على التمام فيستحق الجعل المعقود عليه أولا فقط. اهـ. وقال بناني: إن قوله: إلا أن يستأجر على التمام، يجري في مسألة السفن كما يجري في مسألة الجعل، ونصه: الذي نقله في التوضيح وابن عرفة وغيرهما أن حكم السفينة حكم الجعل في ذلك، قال ابن عرفة: ابن رشد: وقول ابن القاسم وروايته عن مالك أن كراء السفن على البلاغ كالجعل الذي لا يجب إلا بتمام العمل كان على قطع الموسطة أو الريف وهو معلوم مذهبه، قال: من أكرى سفينة من الإسكندرية إلى الفسطاط فغرقت في بعض الطريق فخرج نصف القمح وحمل في غيرها فلربها من كراء ما خرج من القمح بقدر ما انتفع به ربه في بلوغه حيث غرق، فلم ير لرب السفينة كراء فيما ذهب من القمح، ورأى له فيما سلم منه بقدر ما انتفع ربه ببلوغه إليه، كقوله في الجعل على حمل خشبة. اهـ. وقال البناني: قال ابن عرفة: قال اللخمي كراء السفن جعل وإجارة، فالجعل قوله: إن بلغتني محل كذا فلك كذا وإلا فلا شيء لك وهو جائز كما شرط، والإجارة أن يجعل له شيئا معلوما على إن بلغه دون المحل فيحاسب بسيره. اهـ. قال مصطفى: فعلم أن محل الخلاف إذا عدم البيان وعبر بلفظ الكراء هل يحمل على الإجارة على البلاغ أو على الإجارة المحققة؟ فافهم. قاله بناني. وقال الخرشي: وقد وقع في المستخرجة لو كان جعل للأول خمسة وجعل للثاني عشرة بعد أن بلغها الأول نصف الطريق ونصف الحفر في البئر أن الأول يأخذ عشرة لأنه الذي ينوب فعل الأول من إجارة الثاني، لأن الثاني لما استؤجر نصف الطريق بعشرة علم أن قيمة إجارته يوم استؤجر عشرون. اهـ. ثم قال في نقله: ولا مفهوم لقوله: يستأجر؛ أي أو يجاعل أو يأتي بها بنفسه أو غلامه، فللأول من الأجر بنسبة عمل الثاني لو كان له أجر، فيدخل في ذلك ما إذا عمله مجانا، ولو قال: إلا أن

ص: 294

يتم العمل لكان أشمل. اهـ. وقال عبد الباقي: لو فرط المكتري في نقل متاعه بعد بلوغ الغاية فإن عليه جميع الكراء، ذكره ابن الحاجب والتوضيح والشامل، وإذا خرج المكتري منها لا لعلة قبل وصوله الغاية فعليه جميع الكراء، وأما لو خرج منها لوحل ثم خلصت فانظر هل يكون كمرض دابة بسفر ثم تصح أم لا؟ ولا يخفى أنه إن اكترى منه مضمونة لم تنفسخ بتلفها، بخلاف المعينة لقوله: وفسخت بتلف ما يُستوفى منه. اهـ. وقال: وفهم من كراء أنه إن وقع جعل في سفينة جاز فيها، وأشعر قوله: إلا أن يستأجر؛ أي ربه على التمام أنه لو انتفع به في المحل الذي وصل له العامل ببيع ونحوه فإن له من المسمى بحسبه، وهو كذلك. انتهى. وإن استحق، مبالغة في قوله: يستحقه السامع دون قوله: بالتمام؛ يعني أن العامل إذا وجد المجاعل عليه واستحق بعد أن وجده فإنه يستحق الجعل سواء استحق في أثناء المسافة أو بعد وصوله للبلد وقبل قبض المجاعل له، وأحرى لو استحق بعد أن قبضه الجاعل، وأما لو استحق قبل أن يجده العامل فلا شيء للعامل، قال عبد الباقي: ثم بالغ على قوله: يستحقه السامع فقط، بدون قوله: بالتمام فقال: وإن استحق المجاعل عليه بعد وصوله به للبلد وقبل قبض ربه له أوأثناء الطريق. اهـ. وقال عبد الباقي ما معناه أنه إذا استحق المجاعل عليه قبل أن يقبضه العامل فإن العامل يستحق الجعل حيث عمل عملا كثيرا. اهـ. قال الرهوني: وفيه نظر لمخالفته لظواهر النصوص، قال اللخمي: وقال ابن القاسم في العتبية وذكره محمد عنه: فيمن جعل في عبد آبق له جعلا فأتي به فاستحق قبل أن يقبض الجعل وقبل أن يقبضه ربه فالجعل على الجاعل ولا شيء على المستحق. اهـ. وقال ابن يونس: قال ابن المواز عن ابن القاسم: وإن لم يصل به إلى ربه حتى استحقه مستحق فالجعل على الجاعل ليس على مستحقه من ذلك شيء. اهـ. وفي الجواهر: وفي كتاب محمد: وإن استحق بعد أن وجده وقبل وصوله إلى ربه فالجعل على الجاعل ولا شيء على المستحق. اهـ. وقال ابن الحاجب: ولو استحق بعد أن وجده فالجعل على الجاعل ولا شيء على المستحق. التوضيح: قوله: بعد أن وجده؛ يعني قبل أن يقبضه الجاعل، وقال ابن عرفة: وسمع أصبغ ابن القاسم: من جوعل على آبق فاستحق منه بعد أخذه إياد وقبل أخذه جعله وقبضه مَن جاعلَه عليه رجع على من جاعله ولا شيء على مستحقه. انتهى. فهذه النصوص كلها تدل على

ص: 295

خلاف ما قاله عبد الباقي. وقال أبو علي: وإن استحق يعني قبل دفعه لربه لأنه بعد الدفع لا يتوهم فيه سقوط الجعل، ويعني أيضا بعد وجوده لا قبله، وهذا لا يحتاج المختصر إلى التنصيص عليه لوضوحه. اهـ. وقوله: وإن استحق؛ يعني بملكية، وقال بناني: قال ابن المواز: ومن جعل لرجل في عبد آبق له جعلا فقطعت يده أو فقئت عينه قبل أن يصل به إلى ربه فصار لا يساوي الجعل أو نزل به ذلك قبل أن يجده ثم وجده فله جعله كاملا. انتهى.

ولو بحرية؛ يعني أنه إذا استحق المجاعل عليه بعد أن وجده العامل فإن العامل يستحق الجعل من الجاعل، ولا فرق في ذلك بين أن يستحق المجاعل عليه بملك أو بحرية أصلية، وقال أصبغ: إن استحق بحرية من الأصل فلا جعل له، فالمص رد بلو قول أصبغ. قال الرهوني: وظاهر كلامه هنا وفي توضيحه أن أصبغ يخالف في الحرية ولو لم تكن أصلية، وهو ظاهر كلام ابن الحاجب أيضا، وليس كذلك، ففي ابن يونس: قال أصبغ في العتبية: إذا استحق بحرية من الأصل فلا جعل له على أحد. انتهى. وفي الجواهر: قال ابن القاسم في العتبية: وكذلك إن استحق بحرية، وقال أصبغ: إن استحق بحرية من الأصل فلا جعل له على أحد. اهـ. وقال ابن عرفة: وفي سماع أصبغ: استحقاقه بحرية كاستحقاقه بملك الشيخ عن أصبغ: إن استحق بحرية من الأصل فلا جعل له على أحد، فلو قال المص: ولو بحرية أصلية لسلم من ذلك.

واعْلم أنه إذا أعتق الجاعل الآبق المجاعَل عليه فإنه إن كان عتقه بعد الشروع في العمل فإن للعامل الجعلَ، وأما لو أعتقه الجاعل قبل الشروع في العمل فلا شيء للعامل، هذا هو الراجح، ومقابله لعبد الملك، قال من جعل في آبق جعلا ثم أعتقه فلا شيء لن وجده بعد ذلك وإن لم يعلم بعتقه، ولو أعتقه بعد أن وجده فله جعله. اهـ. وهو مرجوح، قال الرهوني: كلام الباجي يفيد أن قول عبد الملك مرجوح، وأنه إنما ينبني على الضعيف من أن الجاعل له الرجوع ولو شرع العامل في العمل، وما قاله ظاهر لأن العتق بعد الشروع هو من نوع الرجوع بعد الشروع قطعا لأنه أنشاه باختياره، فالجاري على المشهور هو قول أصبغ وسحنون، ونص الباجي: ولو جعل له جعلا في رد آبق ثم أعتقه فإن أعتقه بعد أن عمل وشخص فيه فله جميع الجعل، وإن لم يعمل عملا ولا شخَص فلا شيء له. قاله أصبغ. وهذا على ما قدمناه وفي الموازية: قال عبد الملك: من

ص: 296

جعل في آبق جعلا لخ، وأشار بقوله: وهذا على ما قدمناه إلى قوله قبله متصلا به: قال سحنون في العتبية: إذا شرع العامل في العمل لم يكن للجاعل إخراجه وللمجعول أن يخرج متى شاء. انتهى. ولسحنون مثل ما لأصبغ، وبه صدر المتيطي وصاحب المعين، ونص المتيطي على اختصار ابن هارون: فإن أعتق السيد الآبق بعد أن جعل فيه فلمن خرج إليه قبل العتق جعله. قاله سحنون. وقال عبد الملك في الموازية: لا شيء لمن وجده بعد العتق وإن لم يعلم به، قال بعض الموثقين: ولا خلاف في جعله إن كان العتق بعد أن أخذه العامل. انتهى. وفي المعين: فإن أعتق السيد آبقه بعد أن جعل فيه فلمن خرج في طلبه قبل العتق جعله وإن لم يعمل شيئا. قاله سحنون. وخالفه عبد الملك، ولا خلاف أنه إن كان العتق بعد أن حصل في يد المجعول له أن له جعله. انتهى. ويتأمل ذلك كله مع الإنصاف تعلم صحة ما قلناه، (وبه يظهر لك ما في اختصار المواق

(1)

) وبه يظهر لك ما في اقتصار المواق والحطاب وبناني على قول عبد الملك وكذلك جسوس اهـ وقال الحطاب: قال عبد الملك: ومن جعل في آبق جعلا ثم أعتقه فلا شيء لمن وجده وإن لم يعلم بالعتق، ولو أعتقه بعد أن وجده كان له جعله، فإن كان عديما فذلك في رقبة العبد لأنه بالقبض وجب له الجعل.

بخلاف موته؛ يعني أن العامل إذا أتى بالعبد الآبق فمات قبل أن يسلمه لربه فإنه لا يستحق شيئا من الجعل لعدم تمام العمل، قال ابن عرفة: وموت الآبق قبل إيصاله يُسقط جعله لعدم تمام العمل، كما لو هرب العبد، وأما موته بعد أن أسلمه لسيده فإنه يستحق الجعل بتمامه، ومن المعلوم أن حقيقة الموت عرض يضاد الحياة أو هو عدم الحياة، فإذا سَلَّمه منفوذ القاتل فقد سَلَّمه حيا، وقد أعطي منفوذ القاتل حكم الحي في بعض المسائل. قاله غير واحد. [والفرق بين

(2)

الاستحقاق] بحرية أن الميت لا ينتفع به بخلاف المستحق. قاله غير واحد. وهو في عبد الباقي، وفي الشبراخيتي والخرشي ما نصه: والظاهر أن الفقد والأسر والغصب كالموت. اهـ. وقال عبد الباقي بعد أن قال: والظاهر أن الفقد والأسر والغصب كالموت، ما نصه: ومقتضى الفرق المذكور

(1)

ما بين المعقوفتين ليس في نسخة الرهوني التي بأيدينا.

(2)

في الشبراخيتي مخطوط: والفرق بين موته والاستحقاق.

ص: 297

أنها كالاستحقاق لا كالموت والأسر، والظاهر أن هبته كالعتق، وأما بيعه قبل رؤية العامل له فلا يصح. اهـ. قوله: والفرق بين الاستحقاق لخ، معناه أن المستحق منه قد انتفع وإن لم يصل إلى يده لأنه تمكن من الرجوع على بائعه، بخلاف ما لو لم يوجد فإن مصيبته تكون من الجاعل فلا يجد سبيلا إلى الرجوع، بهذا علله وهو فيما قبل المبالغة وفيما بعدها، وبه تعلم أن قول الزرقاني: في الفقد والأسر والغصب مقتضى الفرق المذكور أنها كالاستحقاق، غير صحيح لأن مصيبتها حينئذ من الجاعل كالموت. انتهى.

بلا تقدير زمن، حال من الجعل في قوله: صحة الجعل أي صحة الجعل حال كونه متلبسا بلا تقدير زمن. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: قال البساطي: يمكن تعلقه بصحة الجعل أو بالتمام، والمعنى أن الجعل لا يجوز فيه تقدير الأجل للجهل والغرر؛ إذ لو قدر بزمن لاحتمل أن ينقضي قبل تمام العمل فيذهب عمله باطلا. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: صحة الجعل حال كونه متلبسا بلا تقدير زمن سواء شرط عدم التقدير أو سكت عنه، فإن شرط تقديره امتنع لأنه إنما يستحق فيه الأجر بتمام العمل، وقد ينقضي الأجل قبل تمامه فيذهب عمله باطلا، ففيه زيادة غرر اهـ ومعنى تقدير الزمن أن يضرب فيه الأجل، كأن يقول: إن أتيتني بعبدي الآبق في شهر مثلا أعطيتك كذا.

إلا بشرط ترك متى شاء؛ يعني أنه إذا ضرب في الجعل أجل فإن العقد لا يصح إلا إذا دخلا على أن العامل يترك العمل متى شاء، فإن قيل: شأن هذا العقد الترك متى شاء فلم كان العقد غير جائز عند عدم الشرط؟ أجيب بأن المجعول له عند عدم الشرط دخل على التمام وإن كان له الترك، وحينئذ فغرره قوي، وأما عند الشرط فقد دخل ابتداء على أنه مخير فغرره خفيف، ومثل الترك متى شاء إذا جعل له بتمام الزمن عمل أم لا فيجوز؛ لأنه خرج من باب الجعالة ودخل في باب الإجارة قاله غير واحد. وقال غير واحد: والحاصلُ أن معنى كلام المص أنه إن قدر بزمن لا بد من اشتراط الترك متى شاء، أو أن له بحساب ما عمل، وذلك بقرينة العلة، وهي الفرار من إضاعة العمل، وفي نسخة الخرشي ما شاء، قال: ما واقعة على الزمن، وترك مضاف إلى ما، أو ما منصوب بنزع الخافض، وما أعم من الزمن أو العمل. واللَّه سبحانه أعلم. وقال المواق: من

ص: 298

المدونة قال مالك: لو قال: بع هذا الثوب ولك درهم، فذلك جائز وقت له في الثوب ثمنا أم لا وهو جعل، فإن قال: اليوم، لم يصلح إلا أن يشترط أن يترك ما شاء. اهـ.

ولا نقد مشترط، عطف على لا تقدير؛ يعني أن من شرط الجعل أن لا يشترط فيه النقد، فإن اشترط فيه النقد فسد العقد، سواء حصل نقد بالفعل أم لا لدوران الجعل بين الثمنية إن وجد الآبق وأوصله إلى ربه والسلفية إذا لم يوصله إلى ربه بأن لم يجده أصلا أو وجده وهرب منه أو مات، وأما النقد تطوعا فجائز، ولو قال المؤلف: بلا شرط نقد، لكان أحسن؛ لأن عبارته تعطي أن الذي يفسد الجعل إنما هو النقد بالفعل لا شرطه وليس كذلك. قاله الخرشي. وقوله: ولا نقد مشترط، قال مالك: لا يصلح الأجل في الجعل ولا النقد فيه بشرط، وقال ابن الحاجب: ونقده كالخيار. اهـ. وقال عبد الباقي: وأما النقد تطوعا فجائز. في كل ما جاز فيه الإجارة؛ يعني أن كل ما تجوز فيه الإجارة يصح فيه الجعل. بلا عكس؛ أي ليس كل ما جاز فيه الجعل تجوز فيه الإجارة، فالجعل أعم، بهذا قرره غير واحد، وقُرر المص أيضا بأن الإجارة مبتدأ وخبره في كل، وفاعل جاز ضمير يعود على الجعل؛ أي أن الإجارة تجوز في كل ما جاز فيه الجعل، ولا يجوز الجعل في كل ما تجوز فيه الإجارة، قال عبد الباقي: وهو عكس

(1)

قول التهذيب: كل ما جاز فيه الجعل جازت فيه الإجارة، وليس كل ما جازت فيه الإجارة يجوز فيه الجعل. وأجيب عن المص ليوافق التهذيب بأن الإجارة مبتدأ مؤخر وفي كل خبر والضمير في جاز للجعل. اهـ. وقال بناني: قول عبد الباقي: وأجيب عن المص لخ، اعترض هذا الجواب وهو لابن غازي بوجهين، أحدهما: أن الكلام في محل الجعل لا في محل الإجارة، والآخر عدم مناسبة قوله: إلا كبيع سلع لخ، فالصواب إبقاء عبارة المص على ظاهرها، وبالاستثناء بعدها تكون مساوية لعبارة التهذيب، لولا قوله: بلا عكس، فالصواب إسقاطه. واللَّه أعلم. اهـ. وقال عبد الباقي: والحق أن التهذيب قاصر أيضا، وأن بينهما عموما وخصوصا من وجه، فيجتمعان في إجارة أو جعالة على بيع أو شراء ثوب أو ثوبين أو حفر آبار في فيافي واقتضاء دين ومخاصمة في حق، وتنفرد الإجارة

(1)

ساقط من الأصل: والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 62.

ص: 299

في خياطة ثوب وبيع كثير سلع بلا شرط وحفر بير في ملك، وينفرد الجعل باشتراط جهل الجاعل والعامل محل المجاعَل عليه كآبق. اهـ. قوله: والحق أن التهذيب لخ، الاعتراض على التهذيب بهذا أصله لابن عرفة، ونصه: صِدْقُ هذه الكلية على ظاهر قول ابن الحاجب وابن رشد والتلقين القائلين بصحة الجعل في العمل المجهول لا يصح، وعلى منعه فيه صدقها [واضح]

(1)

. اهـ. وأقره ابن غازي، واعترضه مصطفى بأن المراد كل محل يصح فيه الجعل جازت فيه الإجارة بشرطها، فاعتبار شرطها لا يخرجها عن صحتها في ذلك المحل، وقد أبقى أبو الحسن كلامها على ظاهره قائلا: ولا يعترض على هذه الكلية بالآبق لكونه لا تجوز فيه الإجارة، بل تجوز فيه على أن يطلبه كل يوم بكذا، أو يطلبه في محل كذا، وهكذا. اهـ. قاله بناني. وقال الرهوني: قول الزرقاني وحفر بير في ملكه أي يجوز فيه الإجارة ولا يجوز فيه الجعل. قال ابن عرفة: والجعل على الحفر على المشهور لا يكون فيما يملكه الجاعل، وتقدم نقل الشيخ عن محمد عن ابن القاسم: إن كانت الأرض للمستأجر لم يجز فيها جعل على بناء أو حفر. اهـ. وقال المتيطي: ولا يصلح في حفر بير أو عين إلا في غير ملك الجاعل. وقاله الجم الغفير. قال بعض الموثقين: وهو أحسن. وأجاز مالك الجعل في الغرس في ملك الجاعل، وعقد ابن القطان وثيقة جعل في حفر بير وطيها بالصخر في ملك الجاعل واشترط الصخر على المجعول له، قلت: فيدخله أمران الجعل في أرض الجاعل واجتماع الجعل والبيع، ابن عات: الجعل على الحفر في أرض يملكها الجاعل خطأ، وما عقده ابن القطان جوزه مالك في المغارسة، وهي في أرض الجاعل، قلت: إنما جوزها مالك في ملك المالك لأن عدم تمام العمل فيها لا يبقي نفعا للجاعل في أرضه بخلاف الحفر فيها فتأمله، فاعتراضهم بها لغو. اهـ. قلت: وهو جواب حسن. اهـ كلام الرهوني.

ولو في الكثير؛ يعني أن الجعل يجوز في الكثير كبيع سلع كثيرة وكجعالة على ضوالَّ كثيرة أو عبيد كثيرة آبقة، وهذا هو الصحيح، ورد بلو قول عبد الوهاب بالمنع في الكثير. إلا كبيع سلع لا يأخذ شيئا إلا بالجميع؛ يعني أنه إذا جاعله على بيع سلع كثيرة واشترط عليه أنه لا يأخذ

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من البناني ج 7 ص 62

ص: 300

شيئا من الجعل إلا إذا باع جميع السلع التي جاعله على بيعها فإن ذلك لا يجوز، قال الخرشي: المشهور أن الجعل يجوز على بيع أو شراء سلع كثيرة من ثياب أو حيوان أو دواب إلا أن يكون الجعل وقع على بيع سلع كثيرة أو على شرائها على شرط أن لا يأخذ شيئا من جعله إلا إن باع أو اشترى الجميع، فإن ذلك لا يجوز، والعرف كالشرط، ولو دخلا على أنه بحساب ما باع أو ابتاع لجاز، والاستثناء من قوله: في الكثير، ودخل تحت الكاف كل ما تبقى فيه منفعة للجاعل إن لم يتم العمل، قال ابن رشد في المقدمات: ليس من شرط صحة الجعل أن يكون في القليل وإن كان قد قال ذلك عبد الوهاب وغيره فليس بصحيح، وإنما الصحيح جوازه في كل ما لا منفعة فيه للجاعل إلا بتمامه، كان قليلا أو كثيرا، ثم إن المستثنى مقيد بالكثرة أخذا من قوله: ولو في الكثير، وأما الثوبان فقال في المقدمات: تجوز الجعالة عليهما، فانظر ما الفرق بين الثوبين والثياب؟ حتى جاز الجعل في الأول ومنع في الثاني مع أن علة المنع موجودة في الجميع. قاله ابن عاشر. قال الرهوني: يمكن أن يفرق بخفة الغرر في الثوبين لتيسر بيعهما غالبا وعلى احتمال ردهما أو رد واحد منهما لا كبير فائدة في ضمان المجعول له مدة [بقائهما]

(1)

عنده لخفة أمره وتيسر حفظ ذلك غالبا على كل أحد، والغرر اليسير مغتفر في العقود حيث لم يقصد كما هنا، مع مسيس الحاجة لذلك، فتأمله. انتهى. وقال عبد الباقي: واستثنى من الكثير قوله: إلا كبيع أو شراء سلع كثيرة فلا يجوز الجعل عليها إذا كان لا يأخذ شيئا من الجعل إلا بالجميع، أي إلا ببيع أو شراء الجميع، والمراد وقع على هذا بشرط أو عرف، فإن شرط أو جرى العرف بأن ما باعه أو اشتراه فله بحسابه جاز، ولا يقال: هذا يخالف قوله: يستحقه السامع بالتمام، لأنا نقول: كثرة السلع بمنزلة عقود متعددة، وهو يستحق الجعل في كل عقد بانتهاء عمله، ويشترط في الجواز أيضا أن يشترط له الترك متى شاء، وأن لا يسلم له جميع السلع وإلا منع، لأنه قد لا يبيع فينتفع ربها بحفظ العامل لها، وإذا سكت عن شرط أن لا يأخذ شيئا إلا بالجميع لم يجز لانتفاء شرط الجواز وهو دخولهما على أن كل ما باع أو اشترى شيئا أخذ

(1)

في الأصل بقائها والمثبت من الرهوني ج 7 ص 88.

ص: 301

بحسابه، ابن عرفة: والرواية ناصة بأن شرط الجعل على البيع تسمية الثمن أو تفويضه للمجعول له، وهو نقل ابن رشد والصقلي، فيجب تقييد قولها: يجوز الجعل في بيع قليل السلع بالبلد سموا لها ثمنا أم لا بالتفويض له فيه. انتهى. ومر أن العرف في ذلك كالشرط. انتهى.

قال مقيده عفا اللَّه عنه: تحصل مما مر أن قوله: ولو في الكثير محل الجواز فيه حيث اشترط أو جرى عرف أنه إن باع شيئا استوجب بحسابه، فإن لم يشترط ذلك ولا جرى به عرف فسد الجعل، وأنه لا بد أن يشترط أن له التركَ متى شاء، وأن لا يسلم له جميع السلع وإلا منع، وأنه لا بد من تسمية الثمن أو تفويضه للمجعول له بشرط أو عرف، فإن انتفيا لم يجز، ففي بناني: ولا يجوز الجعل على البيع إلا بأحد وجهين: إما أن يسمي له ثمنا، أو يفوض له البيع بما يراه، ولا اختلاف في هذا. انتهى. نقله بناني على قول عبد الباقي، قال أحمد: انظر ما الحكم إذا انتفيا هل يحمل على الفساد كما هو مذهب ابن القاسم في الإجارة وكما يدل على ذلك كلام بعض الشيوخ هنا أم لا؟ كما يقتضية كلام. المص. انتهى. فإنه قال: هذا قصور، ففي العتبية: قال سحنون: في الرجل يستأجر على الصياح على المتاع في السوق على جعل إن ذلك الجعل فاسد لا يدري أيعطى في السلعة ما يرضى به صاحب السلعة أم لا؟ ولو كان إمضاء البيع والنظر إلى الصائح لم يكن بالجعل بأس، قال سحنون: هذه المسألة جيدة. قال ابن رشد: هذه مسألة صحيحة على ما قال سحنون، ولا يجوز الجعل إلا بأحد وجهين لخ.

وفي شرط منفعة الجاعل قولان؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا فيما إذا وقع عقد الجعل على شيء لا منفعة فيه للجاعل هل ذلك الجعل فاسد؟ فهذا القولُ يشترط في صحة عقد الجعل أن يكون المجاعل عليه فيه منفعة للجاعل أو هو صحيح وهذا القول لا يشترط ذلك. قال عبد الباقي: وفي شرط منفعة الجاعل أي هل يشترط في صحة الجعل توقفه على منفعة الجاعل بما يحصله العامل كالآبق أو لا يشترط كمجاعلة على صعود موضع عين ولا يأتي له بنفع قولان، المشهور الأول. انتهى. وقوله: قولان، محلهما حيث لا منفعة فيه للجاعل بعد تمام العمل، وقد علمت أن المشهور القول باشتراط منفعة الجاعل، وهل يشترط انتفاء المنفعة للجاعل قبل تمام العمل أم لا؟ قولان. قاله الشبراخيتي. وقد مر أن الجعل لا يجوز إلا فيما لم تبق فيه للجاعل منفعة إن لم يتم

ص: 302

العمل. قال عبد الباقي: ولا يجوز الجعل على إخراج الجان عن شخص لأنه لا تعرف حقيقته، وكذا الجعل على حل المربوط والمسحور لأنه لا تعرف حقيقته. نقله المواق. انتهى. قال بناني: هكذا نقله المواق عن ابن عات، وقد نقل الحطاب أول الإجارة عن الأبي ما نصه: وما يؤخذ لحل العقود فإن كان يرقيه بالرقى العربية جاز وإن كان بالرقى العجمية امتنع، وفيه خلاف، وكان الشيخ يقول: إن تكرر منه النفع في ذلك جاز. انتهى. ونحوه في الخرشي، وقال الخرشي: ويمكن الجمع بين ما نقله المواق وهذا بما حمله عليه البرزلي. انتهى. وسُئِل الشيخ ابن عرفة عمن ذهبت له حوائج فقرأ في دقيق وأخذ يطعم ناسا اتهمهم وكانت فيهم امرأة حامل، فقالت: إن أطعمتموني أموت فطعمت منه فماتت؟ فأجاب بأنه ليس عليه إلا الأدب. انتهى. وقول الأبي: وفيه خلاف. قال الرهوني: وفيه أي الأخذ إذا كان بالرقى العربية. وقال الرهوني: الظاهر أن مَن يقول بجواز الأخذ على حل المربوط إذا كان بالرقى العربية يلزمه أن يجيز ذلك في إخراج الجان، وقد شاهدنا من تكرر منه النفع وشفاء الناس على يده من الجنون، ولا شك أن ضرر الجنون مِن أعظم الأضرار وهوأشد من كثير من الأمراض، والمنع من ذلك على الإطلاق فيه قطع لهذا النفع، وظاهر كلام الإمام المازري في العلم يشهد لما قلناه، ونصه: وجميع الرقى عندنا جائزة إذا كانت بكتاب اللَّه عز وجل، وينهى عنها بكلام الأعجمي، وما لا يعرف معناه لِجوازِ أن يكون فيه كفر، وقد وقع في بعض الأحاديث (لا رقية إلا من عين أو حمة

(1)

) وهذا تأوله أهل العلم على أنه لم يرد به نفي الرقى عما سواهما لكن المراد به لا رقية أحق من العين والحُمَة. انتهى. والحمة السم، وقال الرهوني: قال أبو الحسن بن القطان في كتابه الإقناع في مسائل الإجماع في كتاب الجامع: وأجمعوا على إباحة الرقى وعلى أن في الرقى الشفاءَ من كل داء إذ الله أذن بذلك. وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه ورقى غيره، وأمر بالرقية، وهذا إجماع من المسلمين إذا كانت الرقى بكتاب اللَّه تعالى وأسمائه، وقد كره ذلك قوم. انتهى. فانظر قوله: من كل داء فإنه شامل للجنون وغيره. انتهى كلام الرهوني.

(1)

الترمذي، كتاب الطب، رقم الحديث 2057. وأبو داود، كتاب الطب، رقم الحديث 3884.

ص: 303

ولمن لم يسمع جعل مثله إن اعتاده، هذا مفهوم قوله: يستحقه السامع، قال الخرشي: يعني أن المالك إذا قال: من أتى بعبدي الآبق أو بعيري الشارد فله كذا فجاء به شخص لم يسمع كلام سيده لكن عادته طلب الضوال والأباق فإنه يستحق جعل مثله سواء كان مثلَ جعل مثله المسمى أو أقل أو أكثر، فإن لم يكن عادته طلب الضوال والأباق فلا جعل له وله نفقته كما يأتي للمؤلف التصريح به، وقوله: ولمن لم يسمع جعل مثله، صادق بما إذا قال ربه: من جاءني بعبدي الآبق فله كذا فجاء به شخص قبل أن يسمعه، وبما إذا لم يقل ربه شيئا فجاء به كما هو نص المدونة في الثانية، وظاهر قوله: فله جعل مثله إن اعتاده ولو كان يتولى ربه ذلك بنفسه أو بخدمة. انتهى. وقال الشبراخيتي: ولمن لم يسمع أصلا لا بلا واسطة ولا بها، وهو شامل لما إذا قال ربه ولم يسمعه، ولا إذا لم يقل شيئا، كما قاله الشيخ عبد الرحمن. الأجهوري: جعل مثله إن اعتاده ولو كان ربه يتولى ذلك بنفسه أو بخدمة. اهـ. ومثله في شرح عبد الباقي.

كحلفهما بعد تخالفهما؛ يعني أنه إذا اختلف الجاعل والعامل بعد تمام العمل في قدر الجعل ولم يشبها فإنهما يتحالفان، وإذا تحالفا فإنه يرد العامل إلى جعل مثله، فالتشبيه في أن للعامل جعل مثله. قال عبد الباقي: كحلفهما بحاء مهملة بعد تخالفهما بخاء معجمة في قدر الجعل بعد تمام العمل فيرد العامل إلى جعل مثله، ومن أشبه فالقول قوله: فإن أشبها معا فكما إذا أشبه العامل وحده فالقول قوله، ونكولهما كحلفهما، وقضي لحالف على ناكل، وفي بعض التقارير أنهما إذا أشبها معا فالقول لحائز الآبق منهما، فإن وجد ولكن ليس بيد واحد منهما فالظاهر أن حكمه كما إذا لم يشبه واحد منهما ولا يظهر لاختلافهما قبل العمل فائدة؛ لأن لكل تركه. انتهى. قوله: وفي بعض التقارير لخ، ما ذكره عن هذا التقرير هو الذي لابن عبد السلام: فإنه قال فيما إذا أشبها معا: فإن كان العبد باقيا بيد المجعول له فالقول قوله، ويفهم منه أنه إذا لم يكن باقيا بيده فالقول للجاعل، والذي لابن هارون: أن القول للجاعل إن أشبها مطلقا لأنه غارم، قال ابن عرفة: وقول ابن عبد السلام أظهر من قول ابن هارون. اهـ. انظر ابن غازي، فقول الزرقاني: فإن أشبها معا فكما إذا أشبه العامل وحده، لخ غير صحيح لما علمت من كلام ابن هارون. انتهى. وقال عبد الباقي: وتقريرنا المص باختلافهما في قدر الجعل متعين لا في السماع وعدمه؛ لأن

ص: 304

المذهب في هذه أن القول قول ربه، ثم ينظر في العامل هل عادته طلب الآبق فله جعل مثله أو لا؟ فالنفقة. انتهى. وقوله كحلفهما لخ، قال الخرشي عن الأجهوري: ويبدأ أحدهما باليمين بالقرعة تقرير، وقد يقال: يبدأ العامل لأنه بائع منافعه. ولربه تركه، هذا مرتب على قوله: ولمن لم يسمع يعني أن العامل إذا أتى بالعبد الآبق قبل أن يلتزم ربه الجعل فإن له أن يتركه لمن جاء به ولا مقال للعامل حينئذ، وسواء كان الجعل يساوي قيمة رقبة العبد أو يزيد عليها، وأما إن أتى به العامل بعد أن التزم ربه الجعل فإنه يلزمه ذلك، ولو زاد على قيمة العبد لأن المالك هو الذي ورط العامل في ذلك، قال حلولو: يعني إذا أتى به مَن عادته التكسب قبل قول ربه فلربه تركه لأن أجرته ربما زادت على قيمته، فلو كلف الأجرة لكان عليه ضررٌ في ذلك. اهـ. وفي الجواهر: قال عبد الله بن عبد الحكم: وإن جاء به من عادته طلب الأباق فإن كان ربه جعل فيه جعلا فهو لازم، وإن لم يجعل فيه جعلا أخذ العبد ورد الجعل، وإن شاء تركه ولا شيء عليه. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وإذا جاء العامل بالآبق قبل التزام ربه الجعل كان لربه تركه. اهـ. قوله: قبل التزام ربه الجعل لخ، صواب موافق لابن الحاجب وغيره، وأما إن أتى ربه به بعد التزام ربه الجعل لكنه لم يسمعه فليس له إلا جعل مثله إن اعتاده وإلا فالنفقة وليس لربه تركه في هذا خلافا للاجهوري. قاله مصطفى. قاله بناني. وقال الشبراخيتي: وإذا جاء العامل بالآبق قبل التزام ربه الجعل لربه تركه أي الآبق لمن جاء به ولا مقال له كان الجعل كقيمته أو أقل أو أكثر، وهو راجع لقوله: ولمن لم يسمع جعل مثله وكان ينبغي له تأخيره عن قوله:

وإلا فالنفقة؛ يعني أن من لم يسمع قول المالك: من جاءني بعبدي الآبق فله كذا فجاء به شخص ليس من عادته طلب الضوال والأباق فإنه لا جعل له، وليس له إلا النفقة فقط أي نفقة الآبق، وأما نفقته هو فهي عليه، وينبغي أن يكون المراد بالنفقة الكلفة عليه من نفقة وكسوة وحمل. قاله الخرشي. وفي نقله مفسرا للمص أي نفقة العبد أي ما أنفقه على العبد من أكل وشرب ولباس ودابة إن احتاج إلى الركوب، لا نفقة تحصيله أي لا نفقته على نفسه ودابته في زمن تحصيله. اهـ. ولربه تركه في النفقة أيضا، فلو أخر قوله: ولربه تركه عن قوله: وإلا فالنفقة لكان أحسن. اهـ. قال الخرشي: وقال عبد الباقي: وإلا يكن الآتي بالآبق سمع قول ربه ولا معتادا لطلب

ص: 305

الأباق فالنفقة أي أجرة عمله في تحصيله وفي طعام الآبق وشرابه ولا جعل له، وأما إن اعتاده ووجب له جعل المثل أو المسمى كما مر فنفقة الآبق على العامل ولو استغرقت الجعل، فإن أبق منه قبل دفعه لسيده فلا نفقة له كما لا جعل له، وله إن رآه بمكان بعيد يستغرق النفقة عليه قدر ثمنه أو أزيد في مسألة كون نفقته على ربه أن يرفعه للحاكم هناك، فإن رأى بيعه على سيده أولى فعل. انتهى. قوله: فنفقة الآبق على العامل، ابن عرفة: سمع ابن القاسم: من جاء بعبد آبق جعل له فيه جعل وقد أنفق عليه نفقة فنفقته عليه والجعل له فقط. ابن عرفة: وهذا إنما هو في مؤنة توصيله لا في نفقة قوته وكسوته التي يقضى بها على ربه لو كان حاضرا هذه على ربه مطلقا فاعلمه، وقد علمت أن نفقة القوت واجبة على السيد، وأن من قام عن غيره بنفقة من تجب عليه نفقته تبعه بها، وقول عبد الباقي: أي أجرة عمله في تحصيله، قال الرهوني: فيه نظر ظاهر إن لم يكن تصحيفا، والصواب ما في الخرشي. انتهى. وقال الحطاب: مسألة إذا كان الآبق في موضع بعيد ونفقته تستغرق الجعل الذي عليه فليرفع المجعول له الأمر للقاضي ليبيعه ويحكم بجعله، فإن جاء به فليس فيه غير الجعل الذي جعل له. انتهى.

وإن أفلت فجاء به آخر فلكل نسبته؛ يعني أن الآبق إذا أتى به العامل ثم أفلت منه في أثناء الطريق ولم يرجع إلى مكانه الأول ثم أتى به شخص آخر إلى أن سلمه لربه فإن الجعل يقسم بينهما على حسب فعليهما، فإن جاء به الأول ثلث الطريق والثاني ثلثيها كان للأول ثلث الجعل والثاني ثلثاه، وأما لو أتى به الثاني بعد رجوعه لمحله الأول أو قريبا منه فلا شيء للأول، سمع ابن القاسم: من جعل جعلا على آبق فانقلب به ثم أفلت منه فأخذه آخر فأتى به إن أفلت بعيدا من مكان سيده فكل الجعل للثاني ولا شيء فيه للأول، وإن أفلت قريبا منه فالجعل بينهما على قدر شخوص كل منهما، فقوله: نسبته، الضمير يرجع لكل، وهو مبتدأ خبره المجرور قبله، ومعنى قوله: فلكل نسبته، أنه ينسب عمل أحدهما لعمل الآخر أي ينظر بينهما هل جاء به أحدهما الثلث أو الثلثين؟ والآخر ما قابل ذلك، وقوله: فلكل نسبته، قال الخرشي: أي بحسب السهولة والصعوبة في الطريق لا بحسب المسافة، وقال عبد الباقي: وإن أفلت الآبق أثناء الطريق ممن حصله ولم يرجع إلى مكانه الأول فجاء به آخر من غير استئجار ولا

ص: 306

مجاعلة فهو غير قوله، قبل: إلا أن يستأجر لخ، وكانت عادة الآخر ذلك فيما يظهر فلكل من الجعل نسبته، فإن جاء به الأول ثلث الطريق والثاني باقيها فللأول ثلث الجعل المسمى وللثاني ثلثاه، فالضمير في نسبته يرجع لكل أي بحسب السهولة والصعوبة في الطريق لا بحسب المسافة، فإن جاء به الثاني بعد رجوعه للمحل الأول أو قربه فلا شيء للأول، وحيث كان عمل أحدهما له بال وعمل الآخر لا بال له أعطي من له بال دون الآخر. اهـ. وفي الخرشي: ولا يعارض هذا قوله: إلا أن يستأجر على التمام فنسبة الثاني لأن الأولى استأجر على التمام وهنا أتى به الثاني من غير عقد. انتهى المراد منه. وقوله: فلكل نسبته، قال الأجهوري في شرحه: هل يقيد بما إذا كانت عادته ذلك؟ وهو الظاهر، وربما يفيده قوله: ولمن لم يسمع جعل مثله أم لا. انتهى. وقوله: وإن أفلت لخ، قال الشبراخيتي: وحيث كان عمل أحدهما له بال وعمل الآخر لا بال له فلا شيء لمن كان عمله لا بال له. انتهى.

وإن جاء به ذو درهم وذو أقل اشتركا فيه، الضمير في فيه يرجع للدرهم، صورتها أن رب المجاعَلِ عليه جَعَلَ لرجلٍ يأتيه بعبده الآبق درهما مثلا، وجَعَلَ لشخصٍ آخر نصفَ درهم، ثم أتيا به جميعا، فإنهما يشتركان في الدرهم، فيأخذ الأول ثلثيه ويأخذ الثاني ثلثه؛ لأن نسبة نصف الدرهم إلى الدرهم ثلث ونسبة الدرهم إلى النصف ثلثان، وهذا قول ابن القاسم وهو المشهور، فلو جعل للأول درهم وللثاني درهم فأتيا به جميعا كان لكل نصف ما سمى له اتفاقا، ولا فرق بين النقد والعروض، ففي نكت عبد الحق: لو جعل لأحدهما عشرة وللآخر عرضا وأتيا به، فعلى قول ابن القاسم يقوم العرض فإن ساوى خمسة فلصاحب العشرة ثلثاها ويخير الآخر بين أن يأخذ ثلث العشرة وما يقابل ذلك من العرض الذي جعله له. انتهى. وكذا الحكم لو جعل لكل واحد منهما عرضا وأتيا به جميعا، وسواء اتفق قيمة العرضين أم لا، وإذا سمى لأحدهما ووجب للآخر المثل لكونه يجيء بمن يأبق مثلا أي يعتاد ذلك ولم يسمع ربه، فاستظهر الأجهوري في شرحه أنهما يشتركان في الأكثر حيث اختلفا قدرا قاله الخرشي والأولى كدرهم ليشمل غيره، ولو جعل لأحدهما درهما وللآخر ثمن درهم فإنه يجعل الدرهم ثمانية أجزاء ويضيف الثمن إليها فتصير تسعة أجزاء، ثم تقسم الدرهم على تسعة أجزاء، فيكون لصاحب الدرهم ثمانية أتساعه

ص: 307

ولصاحب الثمن تسع، وعلى هذا القياس، ولو زاد المؤلف كالعول أو كالديون لكان نصا في المقصود. انتهى. وقد مر أنه لو كان الجعل عينا معينا امتنع ذلك وللجاعل الانتفاع بها، ويغرم المثل إذا أتى بالعبد، وإن كان مثليا أو موزونا لا يخشى تغيره إلى وجود الآبق أو ثوبا جاز ويوقف، فإن خشي تغيره كالحيوان امتنع للغرر. انتهى. وقوله: اشتركا فيه، قد علمت أنه هو المشهور: وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقال ابن نافع فيها: لكل واحد منهما نصف جعله، ورجحه التونسي واللخمي. قاله بناني. وقال التتائي: وفي الذخيرة عن الكتاب: إن جئتني بالعبدين الآبقين فلك دينار يمنع، فإن أتى بأحدهما فله أجر مثله، ولابن نافع: نصف دينار نظرا للرضى بالتسمية. اللخمي: قال أشهب: يقسم على قدر القيم يوم الإباق؛ لأن الجعل إنما يبذل على ما يعرف منه يوم الإباق، والمشهور أبين لأنهما لم يدخلا على أن الجعل على العدد أو القيم. انتهى المراد منه. وفي التتائي عن ابن عرفة عن ابن رشد: إن جعل في الآبقين جعلا واحدا على أن لا شيء له إلا أن يأتي بهما معا فسد اتفاقا، وفيه إن وقع ما تقدم في الفاسد فإن كان على إن أتى بأحدهما فله نصف الجعل أو على إن أتى بفلان فله منه كذا وإن أتى بالآخر فله منه كذا جاز. انتهى.

ولكليهما الفسخ؛ يعني أن الجاعل والمجعول له يجوز لكل واحد منهما أن يحل عن نفسه عقد الجعل قبل الشروع في العمل بدليل ما بعده؛ لأن عقد الجعالة غير لازم على المشهور، وإطلاق الفسخ على غير اللازم مجاز، علاقته المشابهة للعقد اللازم. قاله الخرشي عن التوضيح. وقال التتائي: ولكليهما الفسخ قبل الشروع في العمل لأنه عقد جائز على المشهور، وقيل: لازم لهما كالإجارة، وقيل: لازم للمجعول له دون الجاعل. انتهى. ولزمت الجاعل بالمشروع؛ يعني أن الجعالة إذا شرع العامل في العمل فيها فإنها تلزم الجاعل فيسقط خياره دون العامل فهو باق على خياره إن شاء حل عن نفسه وإن شاء لم يحل وهذا هو المشهور، وظاهره ولو كان ما حصل به المشروع لا بال له، والمراد بالجاعل هنا ملتزم الجعل.

فرع: قال اللخمي: وأما البلاغ فإنها تلزم بالقول بلا خلاف كالإجارة، وهي جعالة لأن يحمل على نفسه أو على دابته أو على سفينته على أنه إن بلغ استحق وإن لم يبلغ لم يستحق. قاله

ص: 308

الخرشي. وقال الشبراخيتي: ونحوه للخرشي، والمراد بالجاعل هنا ملتزم الجعل، وإنما قلنا المراد؛ لأن الجاعل يطلق على من تعاطى عقد الجعل. انتهى. وقال المواق: ابن يونس: للجاعل أن يفسخ الجعالة إذا لم يشرع المجعول له في العمل، وأما العامل فقد قال ملك له أن يدع العمل متى شاء ولا شيء له.

وفي الفاسد جعل مثله؛ يعني أن الجعل أي عقد الجعل الفاسد فيه جعل المثل إن تم العمل ردًّا له إلى صحيح نفسه وإن لم يتم العمل فلا شيء له، هذا هو المشهور، وقيل: له أجر مثله ردًّا له إلى صحيح أصله وهو الإجارة، فيأخذ بحساب ما عمل كصحيح الإجارة. إلا بجعل مطلقا فأجرته؛ يعني أن الجعل الفاسد إذا دُخِل فيه على أنه يأخذ جعلا مطلقا تم العمل أم لا فإنه يكون للعامل أجرة مثله تم العمل أم لا، مثال ذلك ما إذا قال له: إن جئتني بعبدي الآبق فلك عشرة دراهم وإن لم تأتني به فلك ثوب مثلا، فهذا الجعل فيه أجرة المثل. قال عبد الباقي عند قوله: فأجرته؛ أي أجرة المثل وإن لم يأت به لأن هذا ليس بحقيقة الجعل، ويَرِد على قوله: وفي الفاسد جعل المثل الجعالة على رد آبق بنصفه فإنه إن وقع وقبضه العامل وفات ضمن لربه نصف قيمته يوم قبضه لأنه بيع فاسد وله أجرُ تعبه وعنائه في ذهابه ورجوعه إلى وقت هلاكه. انظر التوضيح. ووجه وروده أن العمل لم يتم لعدم قبض ربه. انتهى. قوله: وله أجرُ تعبه وعنائه في ذهابه ورجوعه لخ، عبارة التوضيح: له قيمة عنائه في ذهابه في طلبه ونصف قيمة عنائه في رجوعه إلى وقت هلاكه. انتهى. وهو الصواب. انتهى. وقال الشبراخيتي عند قوله: فأجرته أي أجرة المثل وإن لم يأت به، والفرق بين جعل المثل وأجرة المثل أن أجرة المثل يستحقها تم العمل أم لا، بخلاف جعل المثل. انتهى.

تنبيه: هل الباء في قوله: إلَّا بجعل شبية فيفسد العقد بسبب ذلك فيكون عقد الجعل فاسدًا إذا اشترط فيه أن للعامل الجعل مطلقا تم العمل أم لا؟ أو هي بمعنى مع فلا يفسد الجعل بمجرد ذلك، في كلام الخرشي ما هو صريح أو كالصريح في أنه يفسد بذلك، ونصه: ثم إن قوله: إلَّا بجعل مطلقا، هو من الفاسد أيضا. انتهى المراد منه. ولما كان المجعول عليه ضائعا يشبه موات الأرض ناسب ذكره بعد الجعل فقال:

ص: 309

‌باب: في إحياء الموات

قال المواق: قال ابن يونس: وفيه ثلاثة أبواب: البابُ الأول في ملك الأرض بالإحياء، وفيه فصلان: ما يملك من الأرضين، وكيفية الإحياء. الباب الثاني: في المنافع المشتركة في البقاع كالشوارع والمساجد. البابُ الثالث: في الأعيان المستفادة من الأرضين كالمعادن والمياه. انتهى. وقال الخرشي: قال الشارح: المُوات بضم الميم، قال الجوهري: هو الموت وبالفتح ما لا روح فيه، وأيضا هو الأرض التي لا مالك لها ولا منتفَع بها. انتهى. ومنتفعَ بصيغة اسم المفعول بمعنى الانتفاع، وفي الحطاب: الموات بفتح الميم، ويقال الموتان بفتح الميم والواو، الأرض التي ليس لها مالك ولا بها ماء ولا عمارة ولا ينتفع بها إلا أن يجرى إليها ماء [ويستنبط]

(1)

فيها عين أو يحفر فيها بير، ويقال لها: ميتة والمُوات بضم الميم، ويقال: الموتان بضم الميم أيضا الموت الذريع. انتهى. وقال في التنبيه: الموات بالفتح لا غير، والموتان بالفتح لا غير، والواو تسكن وتفتح، والميت والميتة الأرض التي لم تعمر قط، ويطلق الميت والميتة على الأرض التي لم تمطر، وقال الأزهري: كل شيء من متاع الأرض لا روح فيه يقال فيه: موتان، وما فيه روح حيوان، وسميت مواتا تشبيها لها بالحيوان الميت في عدم الانتفاع به، وعرف المؤلف الموات بقوله:

موات الأرض ما سلم عن الاختصاص بعمارة؛ يعني أن الموات من الأرض أي الذي يستحقه من أحياه هو ما سلم أي تجرد عن الاختصاص بعمارة، قال الخرشي: والمعنى أن موات الأرض ما سلم عن الاختصاص، وإيضاح هذا أن موات الأرض هو ما كان باقيا على حاله ليس له مالك ولا به عمارة، فإن زالت عنه هذه الحالة بأن أجري فيه ماء مثلا فقد اختص بما أحدث فيه وصار ملكا لمن أحدث ذلك فيه، فقد كان عاما بسبب إباحته لجميع الناس، فلما أحدث فيه ما أحدث تخصص أي صار خاصا بمن أحياه، وقوله: بعمارة؛ يعني أن الاختصاص يكون بعمارة كبناء الأرض، فإذا بنى شخص بالموات فقد اختص الباني بذلك المكان، وإيضاح هذا الإيضاح أن من أعمر أرضا أو أجرى فيها ماءً مثلا بعد أن كانت مواتا فقد حصل له الاختصاص بها بسبب ما

(1)

في الحطاب ج 6 ص 207: أو تستنبط.

ص: 310

أحدث فيها وكانت قبل ما أحدث فيها عامة إباحتها لجميع الناس. واللَّه تعالى أعلم. وبعمارة يتعلق بالاختصاص كما للتتائي، أو بمحذوف خبر أي الاختصاص كائن بعمارة كما في الشبراخيتي.

ولو اندرست؛ يعني أن العمارة إذا اندرست فإنه لا يزول عن الأرض الاختصاص ولا ترجع الأرض مواتا فلا تكون لمن أحياها ثانيا، والخلاف الذي أشار إليه بلو ليس منصوصا بل هو مخرج، قال في البيان: ولا أعرف نص خلاف أن من اشترى مواتا أو اختطه لا يزول ملكه عنه بتركه إياه حتى يعود إلى حالته الأولى إلا أن الاختلاف يدخل في ذلك بالمعنى من مسألة الصيد يندُّ من صاحبه فيستوحش ويصيده غيره إذ قال محمد بن المواز: إن الثاني أحق به. ولم يفرق بين أن يكون الأول قد صاده أو ابتاعه فيلزم على قوله مثل هذا في إحياء الموات. انتهى المراد منه. وقوله: حتى يعود إلى حالته الأولى، غاية في الترك لا في قوله: لا يزول ملكه عنه. كما هو ظاهر. قاله مقيده عفا اللَّه عنه. واللَّه تعالى أعلم.

إلا لإحياء، مستثنى من قوله ولو اندرست يعني أن العمارة لا يزول بسبب اندراسها عن الأرض اختصاصها المذكور كما عرفت هذا إذا كانت ناشئة عن ملك كشراء أو هبة، وأما إن كانت العمارة التي حصل بسببها اختصاص الأرض ناشئة عن إحياء فإن الاختصاص يزول عن الأرض باندراس العمارة اندراسا طويلا، ولا بد من طول مدة الاندراس كما في الخرشي، فترجع مواتا، فإذا أحياها شخص بعد ذلك فهي له أي لهذا الثاني. واللَّه سبحانه أعلم. قال بناني عند قوله: إلا لإحياء، ما نصه: حاصِلُ ما أشار إليه المص على ما يفيده نقله في التوضيح عن البيان أن العمارة تارة تكون ناشئة عن إحياء وتارة عن ملك، ويحصل الاختصاص بها إذا لم تندرس في القسمين، وأما إن اندرست فإن كانت عن ملك كإرث أو هبة أو شراء فالاختصاص باق اتفاقا خلافا لما تفيده لو في قول المص: ولو اندرست، وإن كانت عن إحياء فهل الاختصاص باق أو لا؟ قولان، وعلى الثاني درج المص ولكنه مقيد بما إذا طال الأمر كما في التوضيح عن ابن رشد، هذا هو الحق في تقرير المص، وما في الزرقاني تبعا للتتائي غير محرر، فقول المص: بعمارة؛ أي سواء كانت عن مُلْك أو إحياء، واللام في قوله: إلا لإحياء، بمعنى عن أي إلا العمارة الناشئة عن إحياء

ص: 311

فاندراسها يخرجها عن ملك محييها، قال في التوضيح: فإن كانت عمارة إحياء فقولان، أحدهما: اندراسها يخرجها عن ملك محييها، ويجوز لغيره أن يحييها وهو قول ابن القاسم، والثاني لسحنون أنها للأول وإن عمرها غيره، حكاه عنه صاحب البيان وغيره، وقوله: ما سلم عن الاختصاص لخ، اعترضه المصطفى بأنه يقتضي أن حريم البلد لا يسمى مواتا لعدم سلامته من الاختصاص، وهو مخالف لا أطبق عليه أهل المذهب من أن حريم العمارة يطلق عليه أنه موات، وقد قال ابن شأس: الموات قسمان قريب من العمران وبعيد، القريب يفتقر لإذن من الإمام لخ، قال: وأصل هذا التعريف للغزالي، وارتكبه ابن شأس وابن الحاجب، وتبعهم المص، قال: والعجب من هؤلاء الأئمة كيف ارتكبوه مع مناقضته لكلامهم وكلام غيرهم من أهل المذهب؟ والصواب في تعريف الموات أنه ما لم يعمر من الأرض. انتهى. نقله بناني. قال: وفي التوضيح إشارة إلى نحو هذا الإيراد عند تقسيم الموات إلى قريب وبعيد، ويمكن أن يجاب عن المص بأن يجعل قوله: بعمارة، من تمام التعريف فيدخل فيه كل ما وقع فيه الاختصاص بغير العمارة كالحريم والحمى وما أقطعه الإمام، ويكون قوله: ولو اندرست، مبالغة على ما فهم من التعريف من أن المعمر ليس بموات، ويقدر لقوله: وبحريمها عامل يناسبه. والله أعلم. انتهى. قال الرهوني: هذا الجواب صحيح إلا أنه لا يخلو من تكلف، والأقرب عندي في الجواب عن بحث مصطفى أن المص لم يقصد تعريف كل موات، وإنما قصد تعريف خاص وهو ما يتعلق به الإحياء، وفائدة ذلك الإشارة إلى أن عموم الموات الواقع في الحديث المستفاد من وقوع النكرة في سياق الشرط مخصوص بموات لم يتعلق به حق لغير من أراد إحياءه. اهـ المراد منه. وعرف ابن عرفة إحياء الموات بقوله: هو لقب لتعمير داثر الأرض بما يقتضي عدم انصراف المعمر عن انتفاعه بها. انتهى. والمراد بتعمير داثر الأرض ما يشمل تفجير الماء وإخراجه مما يأتي للمص في الإحياء، واحترز بقوله: بما يقتضي لخ، عما لا يحصل به الإحياء من التعمير كالتحويط ورعي الكلإ وحفر بير الماشية، ولا يخفى أنه لا يعلم من التعريف ما يكون من التعمير مقتضيا للاختصاص وما لا يكون كذلك فهو من التعريف بما هو أخفى وهو ممتنع، ويجاب بأن بيانه لذلك بعد يدفع ذلك، ثم إن مقتضى هذا التعريف أن الإقطاع والحمى ليسا من الإحياء إذ ليس

ص: 312

فيهما تعمير داثر الأرض وهو كذلك، وكلام المص لا يخالف ذلك لأنه جعلهما مما يحصل به الاختصاص الذي الإحياء من أقسامه، ولم يجعلهما من أفراد الإحياء الذي التعريف له فهما قسيمان للإحياء لا قسمان منه قاله الشبراخيتي.

تنبيهات: الأول: قدم المص الموات على الإحياء لتقدم الموات على الإحياء في الوجود، وقوله: موات الأرض، من إضافة الصفة للموصوف أي الأرض الموات أي الميتة، والمَوات بفتح الميم، وقوله: بعمارة، الباء للسببية. الثاني: اعترض بناني قوله: ولو اندرست، بأن صوابه وإن لدفع التوهم فليست لو للخلاف وقد مر الجواب عن المص وأنها للخلاف المخرج. الثالث: قد مر أن العمارة إذا كانت ناشئة عن إحياء واندرست فإن الاختصاص يزول عن الأرض وترجع مواتا، ومحل ذلك كما مر إن طال أمد الاندراس فإن لم يطل الأمر فقال عبد الباقي: ثم إن إحياء الثاني قبل طول إن كان عن جهل بالأول فله قيمة عمارته قائمة للشبهة، وإن كان عن [معرفته]

(1)

به فليس له إلا قيمة عمارته منقوضة بعد يمين الأول أن تركه إياه لم يكن إسلاما له وأنه كان على نية إعادته. قاله ابن رشد. قال الحطاب: وينبغي أن يقيد بأن لا يكون الأول علم بعمارة الثاني وسكت عنه وإلا كان سكوته دليلا على تسليمه إياه. فتأمله. واللَّه أعلم. انتهى. وفي المدونة: من أحيا أرضا ميتة ثم تركها حتى دثرت وطال زمانها وهلكت أشجارها وانهدمت آبارها وعادت كأول مرة ثم أحياها غيره فهي لمحييها آخرًا. ابن يونس: قياسا على الصيد إذا أفلت ولحق بالوحش وطال زمانه فهو للثاني. قال مالك: وهذا إذا أحيا في غير أصل كان له فأما من ملك أرضا بخطة أو شراء ثم أسلمها فهي له وليس لأحد أن يحييها. انتهى. نقله المواق.

الرابع: الأصل في الإحياء قوله صلى الله عليه وسلم (من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق

(2)

). قاله بناني. وقال الخرشي: والأصل فيه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أعمر أرضا ميتة

(1)

في عبد الباقي ج 7 ص 65: معرفة به.

(2)

الموطا، كتاب الأفضية، رقم الحديث 26. وأبو داود، كتاب الخراج والفيء والإمارة، رقم الحديث 3073.

ص: 313

ليست لأحد فهو أحق بها

(1)

). وخرج أبو داود عن عروة بن الزبير قال: أشهد (أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قضى أن الأرض أرض اللَّه وأن العباد عباد اللَّه ومن أحيا مواتا فهو أحق بها، جاءنا بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم الذين جاءوا بالصلاة عنه

(2)

). اهـ. الخامس: معنى اندراس العمارة ذهاب عينها وخفاء أثرها. قاله الخرشي. السادس: قال ابن عرفة: ومعروض الإحياء ما لم يتعلق به حق ذي حق ويمنع في ما تعلق به ملك بغير إحياء ولا يصح بتبوره بالترك ويمنع في حريم المعمور. انتهى.

وبحريمها؛ يعني أن موات الأرض ما سلم عن الاختصاص بعمارة وما سلم عن الاختصاص بحريم العمارة. قال بناني: معنى كلام المصنف أن الاختصاص بالأرض يكون بعمارتها وبكونها حريم العمارة، فالباء سببية. انتهى. قال التتائي: وهو -يعني الحريم- ما ليس لأحد أن يحدث فيه ما يضر بها. قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه عنه: في هذا الحد دور، واللَّه سبحانه أعلم. ولما كان الحريم يختلف باختلاف العمارة أخذ في بيانه، فقال: كمحتطب؛ أي الموضع الذي يؤخذ منه الحطب وهو مثال للحريم؛ يعني أن المكان الذي يحتطب منه أهل البلد من حريم البلد حيث كان المحتطب يلحق غدوا ورواحا أي ذهابا وإيابا في يوم مع قضاء مصالحه، كالانتفاع بالحطب من طبخ ونحوه فليس لأحد إحياؤه. ومرعى؛ يعني أن محل الرعي أي المحل الذي يرعى فيه مواشي أهل البلد حريم للبلد إذا كان المرعى يلحق غدوا ورواحا أي ذهابا وإيابا في يوم واحد مع ما يسع الرعي عادة وقضاء مصالحه كالانتفاع بالدواب من الحلب ونحو ذلك، فليس لأحد إحياؤه، وعلم مما قررت أن قوله:

يُلحقُ غدوا ورواحا، راجع للأمرين، وقوله: لبلد، قال الخرشي: حال من المحتطب والمرعى، وكمحتطب ومرعى خبر لمبتدأ محذوف؛ أي وذلك كمحتطب لخ. انتهى. وقال الشبراخيتي: كمحتطب ينتفع به لوقود أو غيره، ومرعى يلحق غدوا ورواحا راجع لهما، والمراد في يوم واحد مع ما يسع الاحتطاب والرعي فيه عادة، وقضاء مصالحه كالانتفاع بالحطب من طبخ ونحوه،

(1)

البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، رقم الحديث 2335.

(2)

أبو داود، كتاب الخراج والفيء والإمارة، رقم الحديث 3076.

ص: 314

والانتفاع بالدواب من الحلب والطبخ بلبنها وما يحتاج إليه، لا مجرد الغدو والرواح أي يلحق غدوا ورواحا لتحصيل المطلوب من الغدو والرواح، والغدو الذهاب أول النهار، والرواح الرجوع آخر النهار، وقوله: ورواحا معمول لقدر أي ويرجع منه رواحا أي في وقت الرواح، ولا يصح أن يكون العامل فيه يلحق لأنه يقتضي أن لحوقها به أي بالمرعى في وقت الرواح أيضا وليس كذلك، إذ الذي يكون في وقت الرواح إنما هو رجوعها من المرعى لنزلها، ثم إنه قد يكون الخروج وقت طلوع الشمس وقد يكون قبله، ووقت الرجوع يختلف أيضا، وقد يقيلون في وسط النهار وقد لا يقيلون، فيعتبر الغالب في ذلك كله، وقد يكون المحتطب أبعد من المرعى وعكسه، والظاهر أن الحريم أبعدهما. انتهى. وقال عبد الباقي: كمحتطب؛ أي مكان يقطع منه الحطب، ومرعى مكان رعي يلحق مبني للمجهول؛ أي ما ذكر أي يلحقه الراعي والحاطب غدوا على عادة وصول الراعين والحاطبين إليه أول النهار، ويلحق كل إلى محله في ذلك اليوم رواحا بعد الزوال للغروب مع مراعاة المقيل عادة حال كون كل من المحتطب والمرعى لبلد، وتقدير يلحق قبلَ رواحا مناسب للمص، فمعنى اللحوق في المعطوف عليه للمرعى والمحتطب، وفي المعطوف لبلد الرعاة والحطابين لا اللحوق للمحتطب والمرعى رواحا، ويصح تقدير يرجع في الثاني، والمعنى يدل كل عليه إذ المعنى يرجع لبلده لينتفع بالحطب في طبخ ونحوه وينتفع بالدواب في حلب وطبخ ما يحلب لا مجرد الغدو والرواح ولا تكلف فيه. انتهى. وقال في الجواهر: والاختصاص أنواع، الأول: العمارة إلى أن قال: النوع الثاني أن يكون حريم عمارة فيختص به صاحب العمارة ولا يملك بإحياء. اهـ.

تنبيه: قال ابن الحاجب: والاختصاص على وجوه، الأول: العمارة ولو اندرست فإن كانت عمارة إحياء فاندرست فقولان. قوله: العمارة أي عمارة ملك كما لو ملك أرضا بإرث أو هبة أو شراء. قال في المدونة: أو خطة، الخطة هي الإقطاع من الإمام أعم من أن يكون إقطاع تمليك أو إقطاع إحياء، وقلنا: مراده عمارة ملك لِمقابلتِه بقوله: فإن كانت عمارة إحياء لخ.

وما لا يضيق على وارد؛ يعني أن حريم البئر هو الذي لا يضيق على من يرد ذلك البئر. ولا يضر بماء؛ يعني أن حريم البئر هو الذي لا يضيق على الواردين ولا يضر بماء البئر، قال المواق: قال

ص: 315

ابن شأس: أما البئر فليس لها حريم محدود لاختلاف الأرض بالرخاوة والصلابة، ولكن حريمها ما لا ضرر معه عليها، وهو مقدار ما لا يضر بمائها ولا يضيق مناخ إبلها ولا مرابض مواشيها عند الورود، ولأهل البئر منع من أراد أن يحفر أو يبني بيرا في ذلك الحريم. اهـ. وقوله: وما لا يضيق على وارد ولا يضر بماء؟ اعلم أن الكلام في الحريم الذي له المنع منه، وما لا يضيق ولا يضر ليس له المنع منه، ففي الكلام شيء، والجواب عن المص أن فيه تقديرَ مضاف وهو غاية؛ أي غاية الحريم ما لا يضيق لخ، وفي بعض النسخ: وما يضيق وهو بيان للحريم نفسه، وفيه حذف مضاف أيضا أي وداخل ما يضيق لخ وقوله:

لبير، راجع لهما كما قررت، وهو حال كما مر في قوله: لبلد، وما عطف على مدخول الكاف، وقوله: لبير، يعم كل بير، فقولُ عبد الباقي: وما لا يضيق على وارد عاقل أو بهيمة حريم لبئر ماشية، وأما بير الزراعة ونحوها فأشار له بقوله: ولا يضر بماء حريم لبير يقتضي أن ما يضر بماء خاص ببير الزراعة وليس كذلك، بل هو حريم لكل بئر. عياض: فحريم البئر ما يتصل به من الأرض التي من حقها أن لا يحدث فيها ما يضر بها لا باطنا من حفر بير ينشف ماءها أو يذهبه أو مطمر تطرح النجاسة فيه يصل إليها وسخها ولا [ظاهر]

(1)

كالبناء والغرس. قاله بناني. وقول عبد الباقي: وفي بعض النسخ لخ، هكذا أيضا اختلفت الرواية في المدونة بالنفي والإثبات، قال عياض: وكلاهما صواب، فما يضر فحريمها وما لا يضر هو حد حريمها. قاله بناني. وقد مر كلام ابن شأس في البئر قريبا فراجعه إن شئت تعرف به صحة ما قاله بناني. واللَّه سبحانه أعلم.

مسألة: سئل سيدي عبد القادر الفاسي رضي اللَّه تعالى عنه عمن أحيا بقعة من الأرض في جنب جبل قريبة من العمران أو بعيدة هل يختص بما فوقها مسامتا لها إلى قنة الجبل على جري العادة أم كيف الأمر؟ فأجاب: وأما من ملك أرضا في جنب جبل فيملك ما فوقها من الهواء على ما يمكن: ولا يملك ما يحاذيها وما يجاورها من البُقَع إلى قُنّة الجبل. قاله الرهوني. وقال

(1)

في البناني ج 7 ص 65: ولا ظاهرا.

ص: 316

التتائي: ولم يعتمد المؤلف على ما وقع من التحديد، فعن سحنون: حريم البئر والأرض والدار والوادِ في أرض غير مملوكة عشرون ذراعا، وقيل: ستون. وقال ابن نافع: حريم البئر العادية خمسون، والتي ابتدأ عملها خمسة وعشرون. وعكس ذلك أبو مصعب، وزاد: وحريم بير الزراعة خمس مائة ذراع، وحد النهر ما لا يضر بمن يرده. انتهى. وفي المدخل: حد النهر ألف ذراع، ثم قال: ولم يحد مالك في ذلك حدا إلا ما يضر بالناس، فعلى هذا لو كان أكثر من ألف ذراع إذا أضر بهم منع لخبر (لا ضرر ولا ضرار

(1)

)، وعكسه إن كان أقل ولم يضر بالناس لم يمنع، ثم حكى عن ابن هبيرة اتفاق الأئمة الأربعة على أن الطريق لا يجوز تضييقها. انتهى. ثم رتب هو على ذلك أن البناء على النهر أكثر ضررا وأشد من تضييق الطريق؛ لأن الطريق يمكن المرور فيها مع تضييقها بخلاف النهر، فمن بنى عليه كان غاصبا له لأنه موردة للمسلمين، فإذا جاء أحد يَرِدُ الماء احتاج أن يدور من ناحية بعيدة حتى يصل إليه وليس عليه ذلك، فكان من أحوجه إلى ذلك غاصبا لخبر: (من أخذ شبرا من أرض طُوِّقَه يوم القيامة إلى سبع أرضين

(2)

). رواه الشيخان. انتهى. وقال الشبراخيتي: ثم إن عدم الضرر بالماء حريم لكل بير وتزيد بير الماشية ما لا يضيق على الوارد لها، فقول التتائي الأول في بير الماشية والثاني في غيرها فيه نظر. انتهى. وقوله: لبير، في بعض النسخ لكبير باللام والكاف جميعا وهي واضحة لشمولها الغدران والبرك والأنهار في ذلك ولا كذلك تلك النسخة الأولى.

وما فيه مصلحة لنخلة؛ يعني أن حريم النخلة هو قدر ما يرى فيه مصلحتها ويرجع في ذلك لأهل المعرفة، ولا مفهوم لنخلة، ولو قال: لشجرة، كان أشمل وإنما ذكر النخلة لأن أصل (الحديث) إنما ورد فيها فذكرها تبركا بالحديث. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وما فيه مصلحة عرفا حريم لِنخلةٍ وشجرة، واقتصر على النخلة لأن أصل الحديث إنما ورد فيها فذكرها تبركا به. انتهى. وقال الشبراخيتي: وما فيه مصلحة لنخلة ويرجع في ذلك لأهل المعرفة، ولا مفهوم له أي نخلة أو زيتونة أو كرمة أو جميزة أو نحو ذلك، ولو قال: لشجرة، لكان أشمل.

(1)

الموطأ، كتاب الأقضية، الحديث 1461.

(2)

البخاري، كتاب بدء الخلق، رقم الحديث 3198. ومسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث 1610.

ص: 317

انتهى. وقال المواق: سأل ابن غانم مالكا عن حريم النخلة؟ فقال: قدر ما يرى أن فيه مصلحتها ويترك ما أضر بها. وسئل عن ذلك أهل العلم؟ وقد قالوا: من اثنيْ عشر ذراعا من نواحيها كلها إلى عشرة أذرع، وذلك حسن. ويسأل عن الكرم أيضا وعن كل شجرة أهل العلم به فيكون لكل شجرة بقدر مصلحتها. اهـ. ونحوه للتتائي، ولما كانت الدار على ضربين محفوفة بموات ومحفوفة بأملاك أشار لحريم الأولى بقوله:

ومطرح تراب ومصب ميزاب لدار، يعني أن حريم الدار المحفوفة بالموات هو ما يرتفق به أهلها من مكان يطرح فيه ترابها ويسيل فيه ماء ميزابها، وقوله: ومطرح، هو محل الطرح ومصب ميزابها هو المحل الذي يصب فيه الميزاب، ولو قال: كميزاب، ليشمل مصب المرحاض لكان أشمل، ثم إنه يراعى في التراب ما جرت العادة بطرحه بحريمها لا ما يندر. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: ومطرح تراب ويراعى فيه ما جرت العادة بطرحه بحريمها لا ما يندر، ومصب ميزاب لو قال: كميزاب، ليشمل مصب المرحاض لكان أحسن لدار محفوفة بموات. انتهى. وعلم مما قررت أن قوله: لدار، راجع للفرعين قبله، ونحوه لعبد الباقي: وقال المواق: قال ابن شأس: حريم الدار المحفوفة بالموات ما يرتفق به من مطرح تراب ومصب ميزاب. ابن عرفة: مسائل المذهب تدل على صحة ما قال ابن شأس. اهـ. وقال التتائي عند قول المص: لدار: ابن عرفة هذا الحكم في هذه الصورة لا أعرفه لأحد من أهل المذهب، لكن مسائل المذهب تدل على صحته. منها قولها: لمن حفر بيرا منع من أراد أن يبني أو يحفر بيرا في حريمها ولو لم يكن على البير من حفر بير أخرى ضرر لصلابة الأرض لما يضر بهم من مناخ الإبل ومرابض المواشي عند ورودها ونحو هذا في الأمهات كثير، وتبع ابنُ الحاجب وابنُ شأس في لفظهما الغزاليَّ، ففي وجيزه: وأما الدار فإن كانت في موات فحريمها مطرح التراب والثلج ومصب الميزاب والممر في صوب الباب. انتهى. وأشار للثانية بقوله:

ولا تختص محفوفة بأملاك، يعني أن الدار المحفوفة بالأملاك ليس لها حريم خاص بها، أي أن الدار المحفوفة بأملاك من دار ونحوها لا تختص هي وحدها بالحريم، ونفي الاختصاص لا يستلزم أن لا يكون لها حريم لأن نفي الأخص لا يسلتزم نفي الأعم، وهذا واضح فيما إذا لم يكن

ص: 318

بعضها أقدم من بعض، وأما إن كان بعضها أقدم من بعض وثبت للأقدم حريم ثم حصل إحياء الثاني فالظاهر أن القديمة تختص بما ثبت لها من الحريم قاله الشبراخيتي. ونحوه لعبد الباقي، فإنه قال: ولا تختص دار محفوفة فاعل وعلق به بأملاك ومتعلق تختص محذوف وهو بحريم خاص يمنع من انتفاع الغير به، واستلزم ذلك أن لكل من الجيران الانتفاع بذلك، وإنما صرح بقوله: ولكل من ذوي الأملاك الانتفاع لأجل تقييده بقوله: ما لم يضر بالآخر، ولا تناقض في كلامه لأن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم بخلاف العكس، وكلامه من القسم الأول، ثم إن قوله: ولا تختص محفوفة بأملاك محله ما لم يكن بعضها أقدم من بعض في الإحياء وإلا قُدِّمَ حيث ثبت له حريم على غيره. اهـ كلام عبد الباقي. فتحصل من هذا أنَّ معنى قوله: ولا تختص لخ، الدار المحفوفة بالأملاك تشترك مع غيرها من الأملاك في الحريم فينتفع كل بذلك الحريم المشترك انتفاعا لا يضر بالآخر. والله تبارك وتعلى أعلم. وقوله: لأن نفي الأخص لخ، قال بناني: فإن الاختصاص الذي نفاه المص أخص من الانتفاع الذي أثبته وإثبات الأعم لا ينافي نفي الأخص ونحو هذا في التوضيح. انتهى. وقال المواق: قال ابن شأس: المحفوفة بالأملاك لا تختص ولكل الانتفاع بملكه وحريمه. انتهى. قال التتائي: قال ابن عرفة: في تسويته الانتفاع بحريمه وملكه بمجرد عطفه عليه نظر، لأن مسمى حريمه المغاير لِمسمى ملكه لعطفه عليه إنما يصدق على الفناء وليس انتفاعه به كانتفاعه بملكه إذ يجوز كراؤه ملكه مطلقا، وأما فناؤه فسمع ابن القاسم: لأرباب الأفنية التي انتفاعهم بها لا يضيق على المارة أن يكروها. ابن رشد: لأن كل ما للرجل أن ينتفع به كان له أن يكريه. قلت: وهذه الكلية غير صادقة لأن بعض ما للرجل أن ينتفع به لا يجوز له أن يكريه كجلد الأضحية وبيت المدرسة للطالب ونحوه وفناء الدار وما بين يدي بنائها فاضلا عن حد الطريق العد للمرور غالبا كان بين يدي بابها أو غيره، وكان بعض شيوخنا يشير إلى أنه الكائن بين يدي بابها وليس كذلك، ولا يباح لذي الفناء أن يدخله في داره، فإن فعل وهو يضر بالطريق هدم عليه ورد كما كان، وإن كان لا يضر ففي هدمه عليه كذلك قولان. اهـ.

ص: 319

وبإقطاع، عطف على بعمارة، يعني أن الاختصاص يكون بإقطاع الإمام، أي إعطائه أرضا فيملكها من أقطعها له فيبيعها ويهبها وتورث عنه. قال الخرشي: الإقطاع مصدر قولك: أقطعه إذا ملكه أو أذن له في التصرف في الشيء. قال أبو السعادات: والإقطاع يكون تمليكا وغير تمليك. قال أهل اللغة: استقطعت الإمام قطعة، أي سألته إياها فأقطعني أي أذن لي فيها وأعطانيها، وسميت قطيعة لأنه اقتطعها من جملة الأرض. ومعنى كلام المؤلف أن الاختصاص يكون بإقطاع الإمام لأحد فيملكه فيبيعه ويهبه ويورث عنه، وسواء كان في المهامه والفيافي أو في قرية من العمران. قال في التوضيح: وليس كالإحياء وإنما هو تمليك مجرد، فله بيعه وهبته ويورث عنه رواه يحيى بن يحيى عن ابن القاسم. اللخمي: وهو ظاهر المذهب. انتهى. وهذا يشعر بأن الاختصاص الحاصل في شيء بالإحياء لا يوجب ملكه له أي دائما، ويدل له ما يأتي في حريم البلد أن للإمام أن يأذن في إحيائه. وقال الأجهوري في شرحه: والمشهور أن إقطاع الإمام يحتاج لحوز كسائر العطايا ولو أقطعه على أن عليه كل عام كذا عمل به. قال ابن عرفة: فإن شرط عليه في الإقطاع العمارة اعتبرت، وإن نص على لغوها سقطت اتفاقا وإلا فطريقان، وظاهر كلام ابن رشد أن الإقطاع لا يكون إلا من الإمام أو بإذنه فإنه ليس للعامل أن يقطع شيئا من الموات إلا بإذن الإمام. انتهى. فظاهره أن الإذن من الإمام معتبر ولو على وجه العموم فيه بأن يأذن له في إقطاعه لمن أراد. انتهى المراد منه. انتهى ونحوه لغيره. قوله: يحتاج لحوز كسائر العطايا يأتي ما فيه، وقال التتائي: وبإقطاع من الإمام، قال في التوضيح: وليس هو من الإحياء وإنما هو تمليك مجرد، فله بيعه وهبته ويورث عنه. رواه يحيى بن يحيى عن ابن القاسم. اللخمي: وهو ظاهر المذهب. وظاهره وسواء كانت في المهامه والفيافي أو قريبا من العمران، ولا يطالبه الإمام بعمارتها بخلاف الإحياء. ولما ذكر ابن عرفة الخلاف في المطالبة بالعمران قال: فالحاصل إن شرط في الإقطاع العمارة اعتبرت لخ ما مر قريبا. وقال عبد الباقي: والاختصاص بإقطاع الإمام لأرض موات ولأرضٍ تركها أهلها لكونها فضلت عن حاجتهم كما في أحمد، ويفتقر الإقطاع إلى حيازة على المشهور كسائر العطايا. انتهى. قوله: ولأرض تركها أهلها لخ، قال الرهوني: قال التاودي: انظر هذا فإن الظاهر أنه لا كلام له في هذه بل هي لأهلها. انتهى. وهو ظاهر. انتهى. وقوله:

ص: 320

ويفتقر إلى حيازة على المشهور، قال الرهوني: كلام بناني يفيد أنه سلم التشهير ولكن العمل بخلافه وليس كذلك، فإن أبا الوليد بن رشد لم يعرف القول بذلك أصلا فضلا عن أن يكون مشهورا، إنما ذكر أن بعض الناس تأول ذلك على ما في رسم الأقضية الثالث من سماع القرينين، قال القاضي أبو الوليد رضي الله تعلى عنه بعد كلام: فإذا أقطع الإمام أحدا شيئا في الأرض المعمورة فلا كلام في أن المقطع يستحقه بنفس الإقطاع فيورث عنه ويكون له أن يتصرف فيه بما شاء من بيع أو غيره، وأن للإمام أن يأخذه بإحيائه، فإن لم يفعل وعجز عن ذلك أقطعه سواه إذ ليس له أن يحجر ما أقطعه على الناس فلا ينتفع به هو ولا سواه، ثم قال بعد كلام: وأما لو أحياها سواه قبل أن يعجز هو عن عمارتها وهو عالم بذلك لكان متعديا عليه فيها لأنه قد استوجبها بنفس الإقطاع وإن لم يحزها بعمارة ولا بناء، خلاف ما تأول بعض الناس عليه ما وقع في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب وليس ذلك بتأويل صحيح. انتهى. وقد ذكر الخلاف ابن سلمون والمتيطي والجزيري وغيرهم على وجه يفيد ضعفه، قال المتيطي: ولا يحتاج لحيازة بخلاف الهبة، وقيل: لا بد فيه من الحيازة، وبالأول العمل. انتهى. وفي المقصد المحمود: ولا يفتقر الإقطاع إلى حوز إذ ليس بهبة، وإنما هو بمعنى الحكم، وقيل: يفتقر إلى حوز، وذلك ضعيف. وإن لم يُشهد أميرُ المؤمنين جازت علامة يده في عقد الإقطاع، ولا يجوز إقطاع الأمراء والقواد والقضاة وإنما ذلك للخليفة خاصة. انتهى كلام الرهوني. ثم قال: فالمشهور والمعمول به متحدان. والله تعلى أعلم. وقد مر قول ابن عرفة: وإن لم يذكر شرطها ولا لغوها فطريقان. اهـ. أي وإن لم يشترط العمارة ولا لغوها فطريقان في أن للإمام مطالبته بالعمارة أو ليس له ذلك، الأولى: لزوم اعتبار العمارة لابن رشد مع ابن زرقون عن غير واحد من الشيوخ، والثانية: عدم اعتبارها لابن شأس عن الأستاذ الطرطوشي مع الباجي ونقل اللخمي عن المذهب، وقال في التوضيح: ولا يطالبه الإمام بعمارتها بخلاف الإحياء هكذا قال اللخمي: إنه ظاهر المذهب، ولمطرف وابن الماجشون: إذا ظهر عجزه فللإمام أن يقعطها لغيره ابن زرقون: رأى غير واحد أنه تفسير، وعده الباجي خلافا، والأول أظهر إذ لا منافاة بينهما لأن الإقطاع في الأول لم يكن للعمارة. انتهى. قاله بناني.

ص: 321

ولا يقطع معمور العنوة ملكا، يعني أن الأرض التي أخذت عنوة كمصر ومكة والشام والعراق لا يجوز للإمام أن يقطع معمورها لأحد ملكا بل إمتاعا، ولا يجوز شراء أرض مصر ولا تقطع لأحد. قال غير واحد: لأنها فتحت عنوة. قال ابن رشد: الإقطاع يكون في البراري والمعمور إلا معمور أرض العنوة التي حكمها أن تكون موقوفة. قال ابن عرفة: يريد إقطاع تمليك، وأما إقطاعها للانتفاع بها مدة فجائز. قاله الطرطوشي. قال عبد الباقي: ولا يقطع الإمام لأحد معمور أرض العنوة كمكة والشام ومصر والعراق كما مر في الجهاد الصالحة للزراعة ولا عقارها ملكا، أي لا يجوز له ذلك لأنها وقف بمجرد الاستيلاء بل إمتاعا، وأما معمور غير العنوة فيقطعه ملكا وإمتاعا، كما أنه يقطع موات العنوة إمتاعا وملكا، ومفهوم العنوة أن أرض الصلح لا يقطع معمورها ولا مواتها لا ملكا ولا إمتاعا وهو كذلك كما مر في الجهاد، ووقع في عبارة عبد الباقي هنا قلق، وهو قوله: كمعمور العنوة غير عقارهم لخ، إذ في تسميته مَعمورًا نظر، والصواب أنه موات وأنه خارج عن كلام المص، كما قاله بناني. والله سبحانه أعلم. وقال التتائي: ولا يقطع معمور العنوة ملكا بل إمتاعا. ابن رشد: وللخمي جوازُ إقطاع معمورها وليس بصحيح على مذهب مالك من رواية ابن القاسم. ابن عرفة: في النوادر ما نصه قال سحنون: إنما الإقطاع فيما فضل عن منافع ملك أهل الأرض من المسارح والمراعي، (وقد أقطع النبي صلى الله عليه وسلم الزبير أرضا فيها نخل من أموال بني النضير (1))، (وأقطع عمر للناس العقيق أجمع (2)). الباجي في [المدنية (3)]: لا بأس أن يقطع الإمام الأغنياء إن كان أقطع الفقراء بما يكفيهم. قلت: الإقطاع لا يكون إلا لمصلحة المسلمين، فإن تعدد ذو الصلحة وتقاربوا في تحصيلها بدئ بفقيرهم قبل غنيهم، ولو انفرد الغني بتلك المصلحة دون الفقير صح تبدئته عليه: كمصلحة الجهاد في ذوي الفروسة وقتال عدو الدين ومصلحة خدمة العلم تعلما وتعليما. اهـ. (وقد أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث معادن القبلية (4)) بفتح القاف والباء الموحدة، (وتميما الداري عينون بالشام

1 - مصنف بن أبي شيبة، ج 7 ص 640.

2 -

سنن البيهقى الكبرى، ج 6 ص 149.

3 -

في الأصل: المعونة، والمثبت من منتقى الباجي ج 7 ص 382 وابن عرفة مخطوط.

4 -

الموطأ، ص 183.

ص: 322

قبل فتحها، وأبا ثعلبة الخشني شيئا من بلاده قبل فتحها (1)). وروي عنه صلى الله عليه وسلم (أنه أقطع بلالا من العقيق ما يصلح للعمل فلم يعمله، فقال له عمر: إن قدرت على عمله وإلا أقطعته للناس، فقال: أقطعنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر له: إنه صلى الله عليه وسلم اشترط عليك شرطا فأقطعه عُمرُ الناس (2)). وقال المواق: ابن شأس: النوع الآخر من أنواع الاختصاص الإقطاع إذا أقطع الإمام رجلا أرضا كانت ملكا وإن لم يعمرها ولا عمل فيها شيئا يبيع ويهب ويتصرف وتورث عنه وليس هو من الإحياء بسبيل وإنما هو تمليك مجرد، يعني أن الإحياء لا يحصل إلا بعمارة بخلاف الإقطاع، قال ابن القاسم: وسواء كانت الأرض التي أقطعها في المهامه والفيافي أو قريبة من العمران. سحنون: ما كان في أرض العنوة لم يعمل ولا أجري فيها ملك لأحد فهي لمن أحياها. الباجي: لا فرق بين موات أرض العنوة أو غيرها، هي لمن أحياها. ومن المدونة: لا يجوز شراء أرض مصر ولا تقطع لأحد، قال غير واحد: لأنها فتحت عنوة. ابن رشد: الإقطاع يكون في البراري والمعمور إلا أرض العنوة التي حكمها أن تكون موقوفة. ابن عرفة: يريد إقطاع تملك، وأما إقطاعها للانتفاع بها مدة فجائز. قاله الطرطوشي وغيره. انتهى. وقال الخرشي: فلو أقطع معمور العنوة ملكا فهل يمضي؟ كما لو قسم أرض العنوة بين الجيش أو لا يمضي لأنه الأصل وهو الظاهر لأنه وقف. انتهى.

وبحمى إمام، يعني أن الاختصاص يكون بحمى إمام، فالموضع الذي حماه الإمام بالشروط التي تذكر لا يجوز لأحد أن يحييه، والحمى قال المواق: قال الباجي: هو أن يحمي موضعا لا يقع به التضييق على الناس للحاجة العامة لذلك لماشية الصدقة والخيل التي يحمل عليها. ابن عرفة: يقوم من هذا تأخير صرف الزكاة لمصلحة. اهـ. وقال بناني: والأصل في الحمى ما رواه البخاري عن مصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا حِمَى إلا لله ولرسوله (3)). وقال ابن شهاب: وبلغنا (أن النبي (رسول الله) صلى الله عليه وسلم حمى النقيع (4)). ورواه أيضا أبو

1 - جامع المسانيد، ج 2، ص 378.

2 -

سنن البيهقي الكبرى، ج 6 ص 149.

3 -

البخاري، كتاب المساقاة، رقم الحديث 2370.

4 -

أبو داود، كتاب الخراج والفئ والإمارة، رقم الحديث 3083.

ص: 323

داود والنسائي. ولفظ النقيع بالنون قبل القاف وهو موضع على عشرين فرسخًا من المدينة هو صدر واد العقيق. قاله في المشارق. اهـ. وقال الخرشي: حماه عليه السلام لا ينقض بخلاف غيره من الولاة فيجوز نقضه لمصلحة سواء كان الناقض له من حماه أو غيره. انتهى. وقال عبد الباقي: وبحمى إمام أو نانبه المفوض له وإن لم يفوض له في خصوصه، بخلاف الإقطاع فإنما يفعله النائب بشرط إذن الإمام في خصوصه كما مر، والفرق أن الإقطاع يحصل به التمليك كما مر بخلاف الحمى وهو بالقصر فقط كما في المشارق، وظاهر القاموس جواز المد، وهو بمعنى المحمي، وهو مصدر بمعنى المفعول، وهو خلاف المباح وتثنيته حميان. انتهى. والمصنف هنا إنما يفسر عندي بالمعنى المصدري كما مر عن المواق وكما في الشبراخيتي، وحكى الكسائي أنه سمع في تثنيته حموان بالواو. قاله بناني. والصواب الأول لأنه يائي، وأصل الحمى عند العرب أن الرئيس منهم كان إذا نزل منزلا مخصبا استعوى كلبا على مكان عال، فحيث انتهى صوته حماه من كل جانب لا يرعى فيه غيره ويرعى مع غيره فيما سواه، وأما الحمى الشرعي فهو أن يحمي الإمام موضعا خاصا يمنع فيه رعي كلإ ليتوفر لرعي دواب خاصة. انتهى. وقال الحطاب مفسرا لقوله: وبحمى إمام: يعني أن الوجه الرابع من أوجه الاختصاص التي تَمنعُ إحياء الموات الحمى، والحِمى بكسر الحاء المهملة وفتح الميم والقصر هو المكان الذي يمنع رعيه ليتوفر فيه الكلأ فترعاه مواشٍ مخصوصةٌ، ويمنع غيرها من رعيه، والكلأ بالهمز من غير مد هو المرعى رطبا كان أو يابسا، والخلا بالقصر من غير همز النبات الرطب، قال في المشارق: وضبطه السمرقندي والعذرى مرة بالمد وهو خطأ، وقال الحافظ ابن حجر: ومن مده فقد أخطأ، والحشيش [هو السعب](1) اليابس، وأما الحمى الشرعي فهو أن يحمي الإمام موضعا لا يقع به التضييق على الناس للحاجة العامة إلى ذلك، إما للخيل التي يحمل عليها الناس للغزو، أو لماشية الصدقة، ولابد من كون الحامي هو الإمام أو نائبه، كما قال المص: وبحمى إمام، فليس لأحد من الناس غيره أن يحمي. اهـ. وقال التتائي: ولجواز الحمى شروط أشار لأولها بقوله:

1 - في الحطاب ج 6 ص 208: العشب.

ص: 324

محتاجا إليه، يعني أنه لا يجوز للإمام أن يحمي موضعا إلا إذا دعت حاجة المسلمين إلى ذلك لنفعهم، فلا يحمي لنفسه ولا لأحد عند عدم الحاجة إليه. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: الشرط الثاني أن يكون ذلك الحمى محتاجا إليه أي لمصلحة المسلمين، إما لخيل المجاهدين والإبل التي يحمل عليها للغزو أو لماشية الصدقة، قال الشافعية: ويجوز للإمام أن يحمي للضعفاء من المسلمين لترعاه مواشيهم ويمنع الأغنياء، وكذلك يجوز للإمام أن يحمي للمسلمين ويمنع منه أهل الذمة. قلت: والظاهر أن هذا جار على مذهبنا كما يؤخذ من حديث الموطإ الآتي، وقوله:(أدخل رب الصريمة والغنيمة (1)). وقول الحطاب: الشرط الثاني والأول الإمام في كلام اللخمي، وأشار إلى الشرط الثاني بقوله: قل، يعني أن هذا الموضع المحمي لا بد أن يكون قليلا بأن لا يضيق على الناس بأن يكون فاضلا عن منافع أهل ذلك الموضع، فلا يجوز أن يكون الحمى كثيرا يضر بالناس ويضيق عليهم، وللثالث بقوله: من بلد، أي محل أي موضع من الأرض عفا، أي لا بناء فيه ولا غرس: قال عبد الباقي: وهذا غير ضروري الذكر لاستفادته من قل. اهـ. وقال الحطاب: أي ليس فيه بناء ولا غرس، فلا يجوز أن يكون الحمى في المواضع المعمورة بالبناء والغرس، وأشار المص رحمه الله بما ذكره في هذين الشرطين إلى ما قاله سحنون ونقله في النوادر وغيرها، قال في التوضيح: قال سحنون: الأحمية إنما تكون في بلاد الأعراب العافية التي لا عمارة فيها بغرس ولا بناء، وإنما تكون الأحمية فيها في الأطراف حتى لا يضيق على ساكن، وكذلك الأودية العفاء التي لا مساكن بها إلا ما فضل عن منافع أهلها من المسارح والمراعي. اهـ. وجعل الشارح قول المص: قل من بلد عفا، شرطا واحدا، وأشار إلى الشرط الرابع بقوله:

لكغزو، يعني أنه يشترط في الحمى أن يكون لمصلحة المسلمين كالخيل للغزو والإبل للحمل في الجهاد ودواب الصدقة، وقوله: لكغزو، متعلق بمحتاجا فلا يحمي الإمام لنفسه وإنما يحمي لكغزو، والحمى للنفس من خصائصه صلى الله عليه وسلم كما مر، قال الإمام الحطاب: قالوا:

1 - الموطأ، كتاب دعوة المظلوم، رقم الحديث 1890.

ص: 325

ولم يقع ذلك منه صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ زكريا: ولو وقع ذلك منه صلى الله عليه وسلم لكان ذلك من مصالح المسلمين، لأن ما كان مصلحة له صلى الله عليه وسلم فهو مصلحة لهم وهو كلام صحيح. اهـ. وقال عبد الباقي: لكغزو ودواب صدقة ودواب فقراء، وقال: قال - يعني الحطاب - وللشافعية يجوز الحمى لفقراء المسلمين دون أغنيائهم وللمسلمين دون أهل الذمة ولا يجوز العكس في المسألتين.

تنبيهات: الأول: قال في النهاية في معنى الحديث: (لا حمى إلا لله ولرسوله (1)) أنه صلى الله عليه وسلم نهى عما كانت تفعله الجاهلية، وأضاف الحمى لله ولرسوله أي إلا ما يحمى للخيل التي ترصد للجهاد والإبل التي يحمل عليها في سبيل الله. اهـ. وقال ابن عبد السلام في شرح ابن الحاجب لما ذكر الحديث تأوله الجمهور على معنى أنه لا ينبغي أن يُحمَى إلا كما حَمَى رسول الله صلى الله عليه وسلم لخيل المهاجرين، وشبه ذلك مثل ما فعله الخلفاء بعده حموا لإبل الغزاة. اهـ. وقال الجلال السيوطي في حاشية البخاري: قوله: (لا حمى إلا لله ولرسوله)، قال الشافعي: يحتمل معنيين أحدهما: لا حِمى إلا ما حماه صلى الله عليه وسلم، والثاني: لا حِمى إلا مثل ما حماه؛ فعلى الأول ليس لأحد من الولاة أن يحمي بعده، وعلى الثاني يختص بمن قام مقامه وهو الخليفة دون نوابه. اهـ. ومقتضى كلامه أنه يتفق على أنه ليس لنواب الإمام أن يحموا، وقال في فتح الباري: والأرجح عند الشافعية أن الحمى يختص بالخليفة، ومنهم من ألحق به ولاة الأقاليم. اهـ. وقوله في الحديث الشريف: لا حمى، بلا تنوين. وفي بعض الروايات بالتنوين، فتكون حينئذ لا بمعنى ليس، أي فتكون للاستغراق على الأول بخلاف الثاني، وقالت الشافعية: وينبغي للمولى إذا حمى أن يجعل للحمى حافظا يمنع أهل القوة من الرعي فيه ويأذن للضعيف والعاجز، فإن دَخَله أحد من أهل القوة ورعى منع ولا غرم عليه ولا تعزير، قال الحطاب: وهو ظاهر وكلام أهل المذهب يقتضيه، فقد قال المص في التوضيح وابن عبد السلام: (وقد صح أن عمر رضي الله عنه قال لِهُنَيٍّ حين ولاه على الحمى أدخل رب الصريمة والغنيمة

1 - البخاري، كتاب المساقاة، رقم الحديث 2370.

ص: 326

وإياي ونعم ابن عوف وابن عفان). اهـ. إلا أن قولهم: لا تعزير، فيه نظر، والظاهر أن من بلغه النهي وتعدى بعد ذلك ورعى في الحمى فللإمام أن يعزره بالزجر والتهديد، فإن تكررت منه المخالفة فيعزره بالضرب، وقولهم: لا غرم عليه ظاهر لا شك فيه. والله أعلم. قاله الحطاب.

الثَّاني: هذا الذي ذكره ابن عبد السلام عن عمر رضي الله تعلى عنه هو ما رواه مالك رضي الله تعلى عنه في آخر جامع الموطإ في باب ما يتقى من دعوة المظلوم: عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (استعمل مولى له يدعى هُنَيًّا على الحمى، فقال: يا هني اضمم جناحك عن الناس، واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة والغنيمة، وإياي ونعم ابن عوف وابن عفان فإنهما إن تهلك مواشيهما يرجعان إلى المدينة إلى زرع ونخل: وإن رب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيته يأتيني ببنيه فيقول: يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالماء والكلأ أيسر علي من المذهب والورق، وايم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم ومياههم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا (1)). انتهى. وهذا الحديث رواه البخاري وهو ثابت في الموطإ موجودا في جميع نسخه، وهذا الحمى هو حمى الربذة بالتحريك والذال المعجمة على ثلاث مراحل من المدينة من جهة مكة، والصريمة مصغر صرمة بالكسر القطعة من الإبل، وقوله: يدعى هنيا بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء، قال النووي: هكذا ضبطه ابن ماكولا وغيره من أهل الإتقان، وكون ءاخره همزة خطأٌ ظاهر، روى هني عن أبي بكر وعمرو ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، وقوله: اضمم جناحك، أي اكفف يدك عن ظلمهم في المال والبدن، والجناح اليد، قال تعلى:{اضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} . وفي رواية البخاري: (اضمم جناحك عن المسلمين (2))، وقال أبو عمر: قوله: اضمم جناحك، يقول: لا تستطل على أحد لمكانك مني، وقوله: واتق دعوة المظلوم، كناية لطيفة عن النهي عن الظلم، وقوله: وأدخل رب الصريمة بهمزة قطع مفتوحة وكسر الخاء المعجمة، ومتعلق الإدخال محذوف، والمراد المرعى،

1 - الموطأ كتاب دعوة المظلوم، رقم الحديث 1890.

2 -

وصحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، رقم الحديث 3059.

ص: 327

والصريمة بضم الصاد مصغر الصرمة بكسر الصاد المهملة وهي القطعة من الإبل نحو الثلاثين. قاله في الصحاح. وقال الأسنوي: ما بين العشرة إلى الثلاثين من الإبل خاصة. وقال في القاموس: ما بين العشرين إلى الثلاثين أو إلى الخمسين أو إلى الأربعين أو ما بين العشرة إلى الأربعين، أو ما بين العشرة إلى بضع عشرة، والغنيمة على وزن الصريمة مصغرٌ أيضا هي ما بين الأربعين إلى المائتين. قاله الأسنوي. وقوله: وإياي ونعم ابن عوف وابن عفان، فيه تحذير التكلم نفسه وهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهور النحويين، قال الأسنوي: وقد وقع في الرافعي وغيره بالكاف، والوارد في رواية الشافعي وغيره إنما هو بالياء، وخص ابن عوف وابن عفان رضي الله تعالى عنهما بالذكر على طريق المثال لكثرة نعمهما لأنهما من مياسير الصحابة، قال الحطاب: وظاهر الخبر أنه أراد منع نعمهما ليتوفر المرعى لإبل الصدقة، خلاف ما لابن حجر أنه لم يرد منعهما البتة، وإنما أراد إذا لم يسع المرعى إلا أحد الفريقين فنعم المقلين أولى، فنهاه عن إيثارهما على غيرهما أو تقديمهما على غيرهما، وقوله: يأتني، كذا في أكثر نسخ الموطأ بحذف الياء للجزم في جواب الشرط وهو الراجح، وفي بعض النسخ يأتيني بإثبات الياء وهو ضعيف، وقوله: ببنيه، كذا في نسخ الموطإ بالنون قبل المثناة التحتية جمع ابن وهي رواية الكشميهني في البخاري، ووقع عند أكثر رواة البخاري ببيته بالمثناة التحتية ثم الفوقية بلفظ البيت، والمعنى متقارب، وقوله: فيقول: يا أمير المؤمنين، مقول القول محذوف لدلالة السياق عليه، ولأنه لا يتعين في لفظ مخصوص نحو يا أمير المؤمنين أنا فقير أنا محتاج إلى كذا، وقوله: أفتاركهم أنا؟ استفهام إنكاري، أي لا أتركهم محتاجين، وقوله: لا أبا لك، مذهب سيبيويه والجمهور أنه مضاف واللام زاندة مؤكدة لمعنى الإضافة معتد بها من حيث إن اسم لا لا يضاف إلى معرفة، فاللام لصون اسم لا عن الإضافة لمعرفة، وغير معتد بها من حيث إن ما قبلها منصوب بالألف، وإنما ينصب بها إذا كان مضافا ويشكل على هذا لا أبا لي، لأنه لا ينصب بالألف إذا أضيف للياء، وقال ابن الحاجب وابن مالك: شبيه بالمضاف، وسمع لا أباك بدون لام وهو شاذ، وقوله: إنهم ليرون بضم التحتانية أوله بمعنى الظن وبفتحها بمعنى الاعتقاد، وقوله: قاتلوا عليها في الجاهلية، قال ابن المُنيّر: لم يدخل ابن عوف ولا ابن عفان في ذلك، فالكلام عائد على عموم

ص: 328

أهل المدينة لا عليهما، وقوله: لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله، قال في فتح الباري: من الإبل التي كان يحمل عليها من لا يجد مركوبا، وجاء أن عدة ما كان في الحمى في عهد عمر بلغ أربعين ألفا من إبل وخيل بينهما. اهـ. وقال الأسنوي: قوله: لولا المال الذي أحمل عليه أي الخيل التي أحمل عليها من لا مركوب له. قال مالك رضي الله عنه: وكانت عدتها أربعين ألفا. اهـ. وهو مخالف لما ذكره في فتح الباري، وفي هذا الأثر أن عمر رضي الله تعلى عنه بمكان من التقى، وأنه لا يخاف في الله لومة لائم لأنه لم يداهن عثمان ولا عبد الرحمن: وآثر المساكين والضعفاء، وبَيَّن وجه ذلك، وامتثل قوله صلى الله عليه وسلم:(لا حمى إلا لله ولرسوله (1))، يعني إبل الصدقة. قال ابن عرفة: لما ذكر عن الباجي أنه يحمي لماشية الصدقة يقوم منه طول تأخير صرف الزكاة إذا كانت (2) لتأخر مصرفها، وقد مر هذا.

الثالث: قال الشافعية: إن ما حماه الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينقض فلا ينقض حمى النقيع، وأما ما حماه غيره من الولاة فيجوز نقضه لمصلحة، وسواء كان الناقض هو الذي حماه أو غيره. قال الحطاب: هذا ظاهر إن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لا حمى النقيع أمر أن يجعل ذلك حمى للمسلمين، دائما وأما إذا حماه في سنة من السنين ولم يفهم أن ذلك حكم مستمر فالظاهر أنه لا يلزم استمراره، ولو ثبت ذلك لاستمر عمل الخلفاء بعده على حمى ذلك الموضع. انتهى. ويقال: أحمى المكان رباعيا وحماه ثلاثيا وهو الذي في الحديث، قال الحطاب بعد كلام: فعلم من كلامه في المشارق أنه يقال: حميته بالفعل الثلاثي، وأنه لا يقال: أحميتة بالرباعي إلا بعد المنع. اهـ.

الرابع: في صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه (حمى الشرف والربذة (3))، قال في فتح الباري: وهو بلاغ الزهري، والشرف بفتح المعجمة والراء بعدها فاء في المشهور، وذكر عياض أنه عند البخاري بفتح المهملة وكسر الراء، قال: وفي موطإ ابن وهب بفتح المعجمة والراء، وكذا رواه بعض

1 - البخاري، كتاب المساقاة، رقم الحديث 2370.

2 -

لفظ الحطاب ج 6 ص 217 ط دار الرضوان إذا كان لتأخر مصرفها والذي في ابن عرفة إذا كان لتوخى مصرفها.

3 -

صحيح البخاري، كتاب المساقاة، رقم الحديث 2370.

ص: 329

رواة البخاري وهو الصواب، وأما سرف فهو موضع بقرب مكة ولا يدخله الألف واللام. اهـ. وهو ماء لبني باهلة أو بني كلاب، وقال الزركشي: هو من عمل أهل المدينة، وأما شرف فمن عمل مكة على ستة أميال، وقيل: سبعة، وقيل: اثني عشر. وأما الربذة بفتح الراء وفتح الموحدة وبعدها ذال معجمة، قال في فتح الباري: موضع معروف بين مكة والمدينة، وقال الزركشي: موضع على ثلاث مراحل من المدينة، وقال ابن عبد السلام المالكي: قال البكري: الربذة التي جعلها عمر حمى لإبل الصدقة، وكان حماه الذي حماه بريدا في بريد، قال: ثم تزيدت الولاة في الحمى أضعافا، ثم أبيحت الأحمية في أيام المهدي فلم يحمها أحد، وحمى عمر رضي الله عنه وزاد فيه عثمان. اهـ. وقال في النوادر: وحمى أبو بكر رضي الله عنه الربذة لما يحمل عليه في سبيل الله خمسة أميال في مثلها، وحمى ذلك عمر لإبل الصدقة التي يحمل عليها في سبيل الله، وحمى الشرط. اهـ.

الخامس: قال البخاري: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع. قال عبد الحق: بالنون قبل القاف، وذكره البكري بالباء قبل القاف، والبقيع موضع فيه أروم الشجر من ضروب شتى، وبه سمي البقيع الغرقد. وفي الشبراخيتي: قال في التوضيح عن عياض في المشارق: هو بالنون قبل القاف صدر وادي العقيق على عشرين فرسخا وطوله بريد وعرضه ميل لخيل المهاجرين. انتهى. وقد يصحفه بعض الناس فيروونه بالباء الموحدة، والبقيع بالباء موضع القبور يعني مقبرة المدينة وهو بقيع الغرقد. انتهى. والغرقد شجر له شوك كان ينبت هناك فذهب وبقي الاسم لازما للموضع. السابع: قال الحطاب: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم (صلى الصبح في المسجد بأعلى عسيب وهو جبل بأعلى قاع العقيق، ثم أمر رجلا صيتا فصاح بأعلى صوته فكان مدى صوته بريدا وهو أربعة فراسخ فجعل ذلك حمى طوله وعرضه ميل وفي بعضه أقل من ميل). انتهى.

وافتقر لإذن، فاعل افتقر ضمير يعود على الإحياء، يعني أن الإحياء يفتقر لإذن من الإمام حيث كان المحيي ذميا، بل وإن كان المحيي مسلما إن قرب المكان الذي يراد إحياؤه من العمران، وأما لو بعد من العمران فإنه لا يفتقر في إحيائه لإذن من الإمام، وما قررت به المصنف من أن

ص: 330

الذمي يفتقر في الإحياء لإذن الإمام حيث قرب المكان المذكور من العمران هو ظاهر المص، ولكن المنصوص للمتقدمين في الذمي أنه لا يجوز إحياؤه ولو أذن له الإمام، واعلم أن حد القريب الذي يفتقر لإذن الإمام هو حريم العمارة نفسه. قال الحطاب: والقريب هو حريم العمارة مما يلحقونه غدوا ورواحا. اهـ. وقال ابن رشد: وحد البعيد من العمران الذي يكون لمن أحياه دون إذن الإمام ما لم ينته إليه مسرح العمران واحتطاب المحتطبين إذا رجعوا إلى المبيت في مواضعهم من العمران. اهـ. قاله بناني. وقال عبد الباقي: وافتقر المحيي أو الإحياء أو الموات لإذن وإن مسلما على ما مال إليه الباجي في الذمي، ولكن المنصوص للمتقدمين: أنه لا يجوز للذمي الإحياء في القريب أي بمعنى حريم بلد لا يحتاج له أهله ولو بإذن الإمام. انظر التوضيح. ويمكن تمشية المص عليه بجعل الواو للحال لا للمبالغة إن قرب. انتهى. أي قرب لِعمارةِ البلد بأن كان حريمها. قوله: على ما مال إليه الباجي لخ، قال بناني: نص الباجي: لو قيل: حكمهم كحكم المسلمين لم يبعد. اهـ. لكن قال بعده: وفي إحياء غير المسلم ما قرب مضرة، فلا يأذن فيه الإمام. اهـ. قال ابن عرفة: هذا خلاف قوله: لم يبعد. اهـ. وصرح ابن عرفة بأن ما للمتقدمين هو المشهور، فعلى المؤلف درك في العدول عنه، لكن العذر له أن ابن شأس صدر بما للباجي وعزاه لابن القاسم. والله أعلم. انظر مصطفى. اهـ. وقال الخرشي: والمنصوص للمتقدمين أنه لا يجوز الإحياء للذمي في القريب ولو أذن الإمام. اهـ. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعلى عنه: علم مما مر من تفسير القريب بأنه الحريم أن حريم البلد للإمام أن يأذن في إحيائه ويتصرف فيه بأن يخص به أو ببعضه شخصا وقوله وافتقر لخ هذا هو المشهور، أي المشهور أن الإحياء في القريب يفتقر لإذن الإمام، ومقابل المشهور أن إذن الإمام مستحب في القريب، قال الرهوني عند قوله: إن قرب، هذا هو المشهور، صرح به غير واحد منهم ابن رشد فإنه قال: وحكم إحياء الموات يختلف باختلاف مواضعه، وهي على ثلاثة أوجه: بعيد من العمران، وقريب منه لا ضرر على أحد في إحيائه، وقريب من العمران في إحيائه ضرر على من يختص بالانتفاع به فأما البعيد من العمران فلا يحتاج في إحيائه إلى استيذان الإمام إلا على طريق الاستحباب على ما حكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون؛ وأما القريب الذي لا ضرر في إحيائه على أحد فلا يجوز إحياؤه إلا بإذن

ص: 331

الإمام على المشهور في المذهب، وقيل: إن الاستيذان للإمام في ذلك مستحب وليس بواجب. اهـ. وأما القريب الذي في إحيائه ضرر كالأفنية التي يضر أخذ شيء منها بالطريق وشبه ذلك فلا يجوز إحياؤه بحال ولا يبيح ذلك الإمام. واعلم أن إذن الإمام في الإحياء ليس إقطاعا لأن الإذن في الإحياء والإقطاع حقيقتان.

تنبيهات: الأول: قال في المنتقى: من أحيا أرضا في الفيافي فليس لغيره أن يحيي ما قرب منه إلا بإذن الإمام. قاله سحنون في المجموعة. قال: لأنه صار بالإحياء عمرانا فلا يعمر بقربه إلا بإذن الإمام انتهى ونقله ابن عرفة وقبله، وقد نقل في النوادر كلام المجموعة وسلمه، والمراد بذلك الإحياء بالسكنى كما يدل عليه كلامهم، وصرح بذلك أبو علي. الثاني: قال في النوادر: قال ابن كنانة: فيمن نزل منزلا فيبني فلم يعمر غير منزله فأراد رجل أن ينزل إلى جانبه فمنعه، قال: ليس له أن يمنعه، وليس للثاني أن يضر به فيما عمر، وليس للحريم حد إلا ما يمنع من الضرر. اهـ. وقال اللخمي: وإذا أحيا الأول بالسكنى فأراد الثاني أن يحيي ليسكن، وأحب الأول أن يبعد عنه. فقال: تكشفني إن كنت قريبا، كان ذلك له، وقد قضى عمر بن عبد العزيز في ذلك أن ينزل عنه نحو مائة ذراع، قال: حيث لا تتبين امرأة ولا يسمع كلام الحي وإن شكا أنه يضيق عليه في المرعى أبعدَ عنه، ورأى أن يُبَعدَ إذا خاف الكشف أكثر من مائة ذراع، ولا يضيق على النساء في تصرفهن هناك؛ ونقله ابن عرفة مختصرا، وقال عقبه: هذا الذي ذكره اللخمي كأنه المذهب عنده خلاف ما تبع فيه ابنُ شأس وابن الحاجب الغزاليَّ وجعلاه المذهب، وهو قولهما: حريم المحفوفة ما يرتفق به من مطرح تراب ومصب ميزاب، والحق عندي أن الإحياء إن كان أذن الإمام فيه أو مقتضى حال الموضع المُحيا فيه جعل ذلك الموضع مدينة أو قرية لا تتقرى غالبا إلا باجتماع الساكنين واتصال مساكنهم فالحق ما قاله ابن شأس وابن الحاجب، وإن لم يكن الأمر كذلك كما ذكر لي عن مساكن أهل الجبال كجبال زواوَة ونحوها فالحق ما قاله اللخمي. اهـ. ونقله أبو علي وقال: وجمع ابن عرفة ظاهر لا رد له، ثم قال بعد بقريب: وكلام اللخمي أصله في النوادر. اهـ.

ص: 332

وإلا بأن أحيا في القريب من العمارة ولم يستأذن الإمام. فلإمام الخيار في أحد شيئين إما إمضاؤه بأن يمضي له فعله فيكون الموضع المحيا لمن أحياه أو جعله متعديا فيعطيه قيمة بنائه منقوضا وقيمة زرعه وغرسه مقلوعا ويثبته للمسلمين أو يعطيه لغيره. قال الخرشي: فإن تعدى المسلم وأحيا بغير إذن من الإمام فيخير فيه فإن شاء أمضاه وإن شاء جعله متعديا أي فيعطيه قيمة ما بنى أو غرس أو زرع مقلوعا: ونقل بعد هذا ما نصه: فإن شاء يأمره بقلعه أو يعطيه قيمته منقوضا ويثبته للمسلمين أو يعطيه لغيره ولا غرم عليه فيما مضى، وكأن وجهه أن أصله مباح اهـ ونحوه لعبد الباقي وغيره، فإن كان المكان الذي يقع فيه الإحياء بعيدًا من العمران فإن المحييَ لا يفتقر في إحيائه لإذن ولو كافرا حيث كان المحيا بغير جزيرة العرب، وظاهر هذا منع إحياء الذمي بجزيرة العرب ولو كان لا يسكن فيها، وكأن وجهه أنه مظنة أن يسكن ويصير يتردد إلى ذلك المحل. اهـ المراد منه. وفي المدونة: من أحيا أرضا ميتة بغير إذن الإمام فهي له. قاله أبو الحسن. سحنون: وحد القرب ما تلحقه الماشية بالرعي في غدوها ورواحها وهو مسرح ومحتطب، وأما ما كان على اليوم وما قاربه وما لا تدركه المواشي في غدوها ورواحها فهو من البعيد من الفيافي. اهـ. قاله الخرشي. وقال الحطاب عند قوله: أو جعله متعديا: قال ابن عبد السلام: فإذا فرعنا على القول الأول وهو المشهور من أن القريب الذي لا ضرر فيه يفتقر لإذن الإمام فإذا أحياه أحد من غير استيذان تعقب الإمام ما فعله هذا، فإن رأى إمضاءه أمضاه وإن لم ير ذلك أخذه منه وأعطاه قيمة ما صنعه منقوضا إن رده لبيت المال، وإن شاء كلفه بهدمه، وإن شاء أقطعه غيره، فكان لذلك الذي أقطعه الإمام إياه أن يأمر هذا بما كان الإمام يأمره به، وهذا هو الذي أجمله المؤلف، يعني ابن الحاجب. بقوله: أو جعله متعديا. اهـ كلام ابن عبد السلام. ومثله يقال على كلام المؤلف. اهـ كلام الحطاب. وهذا الذي مشى عليه المص هو المشهور، وهو قول مالك وابن القاسم، ورأى اللخمي أنه يعطى قيمته قائما للشبهة. انتهى المراد منه.

بخلاف البعيد، يعني أن البعيد من العمران لا يفتقر من أراد أن يحييه على المشهور كما في التتائي عن البيان لإذن من الإمام حيث كان المحيي مسلما، بل ولو كان المحيي في البعيد ذِمَّيًّا، فإنه لا يفتقر لإذن من الإمام في ذلك، وقال ابن القصار: وليس للذمي إحياء في دار المسلمين بغير

ص: 333

جزيرة العرب، يعني أن الذمي لا يحيي في جزيرة العرب لا في القريب من العمران ولا في البعيد منها. قال المواق: قال الباجي: إن أحيا ذمي فقال ابن القاسم: هي له إلا أن يكون ذلك في جزيرة العرب، وإنما يحيي الذمي ذلك فيما بعد، وأما ما قرب من العمران فيخرج عنه ويعطى قيمة ما عمر لأن ما قرب بمنزلة الفيء ولا حَقّ للذمي في الفيء، وكذلك جزيرة العرب مكة والمدينة والحجاز كله والنجود واليمن. قاله مطرف وابن الماجشون: وفيه نظر. ولو قيل: إن حكمهم في ذلك حكم المسلمين لم يبعد كما كان لهم ذلك فيما بعد. انتهى. وفي الجيزي: أن من أحيا في البعيد بغير إذن الإمام ليس له بيعه. قال عبد الباقي: وهو مستغرب. اهـ. وهو إنما يتمشى على مقابل المشهور، ولما قدم أن من أسباب الاختصاص الإحياء وذكر عياض أنه يحصل بعشرة أمور، منها سبعة متفق عليها وثلاثة مختلف فيها، بيَّن المؤلف ذلك وذكر جميعها عاطفا بعضها على بعض، واعلم أن كل ما عطفه بالباء فهو شرط على انفراده إلا إذا كان بعده معطوفٌ عليه بغير الباء فهو مع ما قبله شرط واحد وأنه ذكر المختلف فيه مخرجا بلا، قال المص مشيرا إلى ذلك بقوله:

والإحياء بتفجير ماء، يعني أن الإحياء يكون بتفجير ماء أي إخراجه في الأرض بأن يحفر بيرا مثلات فإن ذلك يكون إحياء للبير وللأرض التي تزرع عليها. قاله الخرشي. قال: وتنظير الزرقاني بقوله: وانظر هل يحصل بحفر بير الزرع أو فتق العين الإحياء للبير خاصة أو لها مع الأرض التي تزرع عليها. اهـ. فاسدٌ. اهـ. وقاله بناني عن الفيشي، ونحوه بغيره، فبان أن ذلك التنظير غير صحيح، وقال التتائي: والإحياء بتفجير ماء من الأرض بحفر بير أو فتق عين. وبإخراجه، يعني أن الإحياء يكون بإخراج الماء أي إزالته عن أرض غامرة به بالغين المعجمة كما في الشبراخيتي، لا بإخراجه فيها ليلا يتحد مع قوله: بتفجير ماء، قال عبد الباقي: أي إزالته عن أرض غامرة به لزراعة أو غرس ونحوهما، وليس المراد بإخراجه فيها لأنه يتحد حينئذ مع ما قبله. اهـ. ونحوه للشبراخيتي. وببناء، يعني أن الإحياء يكون ببناء، وظاهره وإن لم يكن عظيم المؤنة، وفي الجواهر اشتراط كونه عظيم المؤنة. وغرس، يعني أن الإحياء يكون بغرس الشجر،

ص: 334

وظاهره وإن لم يكن عظيم المؤنة، وفي الجواهر اشتراط ذلك وهذه أربع أمور كل واحد منها بانفراده يحصل به الإحياء.

وبحرث وتحريك أرض، هذا هو الأمر الخامس من الأمور السبعة التي يحصل بها الإحياء، ومعنى كلامه أن حرث الأرضى أي شقها مع تحريك الأرض يحصل بهما الإحياء أي بمجموعهما هذا ظاهره، واعلم أن تحريك الأرض وحده يحصل به الإحياء وهو يغني عن الأول، قال بناني: الظاهر أنه إنما جمع المص بينهما وإن كان الثاني يغني عن الأول لأنه تبع عبارة عياض، ونصه: وأما السبعة يعني المتفق عليها: فتفجير الماء فيها بحفر بير أو فتق عين، الثاني: إخراج الماء عن غامرها. الثالث: البناء. الرابع: الغرس. الخامس: الحرث وتحريك الأرض بالحفر ونحوه. السادس: قطع غياضها وأشجارها. السابعُ: كسر أحجارها وتسوية حزونها (1) وتعديل أرضها. اهـ. وقال الخرشي بعد أن ذكر أن في الجواهر اشتراط عظم المؤنة في البناء والغرس وبعد أن جلب كلامها ما نصه: بل ظاهره اشتراط ذلك في جميع الأسباب. انتهى. وقال الخرشي أيضا: وقال الجيزي: المراد بالحرث شق الأرض بالمحراث ونحوه؛ قال المفسرون في سورة الواقعة: الحرث إثارة الأرض وإلقاء البذر فيها داخل في مفهوم الحرث. اهـ. ثم قال: وقوة كلام المؤلف تقتضي أن الزرع وحده بغير تحريك أرض لا يكون إحياء وإن اختص به صاحبه. اهـ. ثم إنه يجوز قراءة حرث بترك التنوين على الإضافة لمثل ما أضيف إليه تحريك على حد قول القائل: قطع الله يدَ ورجلَ من قالها؛ ففيه الحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، وكأنه قال هنا: وبحرث أرض وتحريك أرض. قاله الخرشي.

وبقطع شجر، يعني أن الإحياء يكون بقطع الشجر، والمراد بالقطع إزالة الشجر عن الأرض بقطع أو حرق أو غيرهما، قال عبد الباقي: وبقطع شجر أي إزالته ولو بحرق. اهـ. وقال الخرشي: يعني، وكذلك يكون الإحياء بقطع شجر الأرض، ولو قال: وبإزالة شجر لكان أشمل ليشمل حرقه. اهـ. وقال التتائي: وبقطع شجر كان بها وغياض. اهـ. وقوله: وبقطع شجر، هذا هو

1 - في البناني، ج 7 ص 68، حروفها.

ص: 335

الأمر السادس من الأمور السبعة المتفق عليها، والسابع قوله: وبكسر حجرها وتسويتها. يعني أن الأرض الموات يحصل إحياؤها بكسر أحجارها مع تسوية جروفها وتعديلها، قال الخرشي: يعني أن الأرض الموات يكون كسر أحجارها مع تسوية جروفها وتعديل آراضها إحياء لهاث فقوله: وتسويتها هو وما قبله شرط واحد. اهـ. وقال عبد الباقي: وبكسر حجرها وتسويتها، وكذا تسوية جروفها. اهـ. وقال التتائي: وتسويتها بأن يعدل أرضها. اهـ. وقال الباجي: أما صفة الإحياء فقال مالك: إحياء الأرض أن يحفر فيها بيرا، أو يجري عينا، أو يغرس شجرا، أو يبني، أو يحرث، ما فعل من ذلك فهو إحياء، وقاله ابن القاسم وأشهب. عياض: اتفق على سبعة: تفجير الماء، وإخراجه عن غامرها، والبناء، والغرس، والحرث، ومثله تحريك الأرض بالحفر، وقطع شجرها، وسابعها: كسر حجرها وتسوية حدوبها وتعديل أرضها. اهـ. وقوله: حدوبها، قال الشبراخيتي: ولا مفهوم لكسر ولا لحجرها، والمدار على تسوية حزونها كما قال عياض. القلشاني: حدثني والدي محمد القلشاني أنه وقع في مجلس شيخه القاضي أبي العباس أحمد بن حيدرة أن بعض كبار مجلسه نقل كلام عياض، فقال عنه: وتسوية حدوبها، فاشتد نكير الشيخ عليه، وقال: وإنما هي حزونها بالزاي والنون جمع حزن لا بالدال والباء. اهـ. من شرح ابن الحاجب له. اهـ. وأشار إلى الثلاثة المختلف فيها بقوله:

لا بتحويط، يعني أن التحويط على الأرض لا يعد إحياء، قال التتائي: لا بتحويط عليها كضرب حدود حول ما يريد إحياءه منها قصدا لمنع الناس عنه. قال في الشامل: إن لم يقو على إحيائها اتفاقا وإن قوي على الأصح، وظاهر كلام المص أنه لا ينتظر، وقيل: ينتظر ثلاث سنين. انتهى. وقال الرهوني عند قوله: لا بتحويط: أطلق المص رحمه الله، ولم يقيده الزرقاني بشيء، وكذا ابن غازي، وفي المواق التقييد عن أشهب فانظره، قلت: وما ذكره المواق عن أشهب نقله في المنتقى، وساقه كأنه المذهب، ونسبه لأشهب في المجموعة، ونقله عنه أيضا اللخمي فقها مسلما، فإنه قال: وليس التحجير إحياء، قال أشهب: ولا يكون أولى لأجْل التحجير إلا أن يعلم أنه حجره ليعمله إلى أيام يسيرة حتى يمكنه العمل، وليس ليقطعه من الناس، ولو حجر كثيرا وعمر منه يسيرا كان الزائد كمنفرد عنه، فينظر فيما حجر، فإن كان قويا عليه وإنما أخر عمله لوقت تلين

ص: 336

فيه الأرض عليه أو ليرخص الأجراء وما أشبه ذلك مما يؤخر الناس أعمالهم إليه لمثله من العذر فذلك له، فإن رأى أنه أراد أن يحجر على الناس ما لا يقوى على عمله فأراد أن يستحق كثير ما حجر بقليل ما عمل وعمر فليس له إلا ما عمر، ويشرع الناس معه في فضل ذلك فيكون لمن عمره وقوي عليه، وحكى ابن حبيب في الواضحة أن الإمام ينظر فيما حجر، فإن كان به قوة على عمارته في عامه أو ما قرب من عامه مثل السنة والثلاث خلاه وإياه، وإلا منعه منه وأقطعه غيره، وقد حكى أشهب عن عمر بن الخطاب في ذلك حديثا (أنه ضرب له أجلا ثلاث سنين). انتهى. وقال ابن عرفة: التحجير، عياض: هو ضرب حدود حول ما يريد إحياءه وهو ممن لا يقدر على الإحياء لغو اتفاقا، وما يقوى عليه وتأخيره الأيام اليسيرة لتلين الأرض أو ليرخص الأجير معتبرٌ لسماع يحيى ابن القاسم ونقل اللخمي والباجي عن أشهب، وفي السماع مع اللخمي: إن حجر كثيرا وعمر منه يسيرا فالزائد عليه كمنفرد عنه، والتأخير أكثر من ذلك في لغوه مطلقا أو إن زاد على ثلاثة أعوام سماع يحيى بن القاسم مع نقلها، ونقل ابن رشد عن الواضحة مع اللخمي عن الأخوين. انتهى.

ورعي كلإ، يعني أن رعي الكلإ لا يكون إحياء، قال المواق: قال ابن القاسم وأشهب: لا يكون الرعي إحياء. الباجي: ووجهه أنه ليس له أثر باق في الأرض. اهـ. وقال الشبراخيتي: ورعي كلإ فيها. وفهم من قوله: ورعي كلإ أن إزالة نحو الشوك والحَلْفَاء لا يكون إحياء وهو واضح. اهـ. وقات عبد الباقي: ورعي كلإ وإزالة شوك ونحوه. اهـ. وقوله: ورعي كلإ هو الأمر الثاني من الأمور الثلاثة الختلف فيها، وأشار إلى الأمر الثالث من الأمور الثلاثة المختلف فيها بقوله: وحفر بير ماشية، يعني أن حفر بير الماشية لا يحصل به إحياء الموات. قال بناني: معناه أن حفر بير الماشية لا يكون إحياء للأرض التي هو بها. انظر ابن عاشر. اهـ. وقال عبد الباقي: وحفر بير ماشية أو شفة يشرب الناس منها بشفاههم إن لم يبين الملكية، فإن بينها فإحياء، وانظر لو فعل هذه الثلاثة التي في المص هل يحصل بها إحياء لقوة الهيئة المجتمعة عن الانفراد كما هو ظاهر كلامهم أم لا؟ ثم محل كلامه في التحويط ما لم تجر العادة به مع مناداة السلطان بأن من حوط شيئا مما خرب فهو له فيعمل بذلك. قاله عبد الباقي. قوله: ما لم تجر العادة به

ص: 337

مع مناداة لخ، هذا إن وقع يكون إقطاعا لا إحياء، والكلام هنا فيما به الإحياء فلا حاجة للتقييد به. قاله بناني. وقال الخرشي: قال الشيخ أبو الحسن: في قول المدونة: [ولو نزل (1)] قوم أرضا من أرض البرية فرعوا ما حولها أو حفروا بيرا لمواشيهم لم يكن هذا إحياء، وقد قال فيما تقدم: وإحياؤها شق العيون وحفر الآبار، فهذا تناقض، والفرق بينهما أن الأول أشهد أنه حفرها للتمليك وهذا لم يشهد، فمقتضى هذا أن معنى قول المؤلف: وحفر بير ماشية، إن لم يبين الملكية أما لو بين لكان إحياء للأرض كما اقتضاه كلام أبي الحسن، ومثل بير الماشية بير الشَّفَة، عياض هي التي حفرت للشرب بشفاه الناس، أبو الحسن: لأن الشفة تطلق على شفاه الناس وشفاه المواشي، ولكن العرف استعمله في شفاه الناس. اهـ. وقال التتائي عقب قوله: وبتحويط ورعي كلإ وحفر بير ماشية ما نصه: فليس واحد من هذه الثلاثة إحياء عند ابن القاسم خلافا لأشهب، ولما جرت عادة أهل المذهب بذكر الإحياء معنى وهو القيام بحقوق المسجد عقب الإحياء الحسي تبعهم المص فقال:

وجاز بمسجد سكنى لرجل تجرد للعبادة، يعني أنه يجوز للرجل أن يسكن في مسجد لأجل تجرده للعبادة من قيام الليل وإحيائه، ويدخل في ذلك تعليم العلم وتعلمه، وخرج بذلك المرأة والرجل الذي لم يتجرد للعبادة، لأنه تغيير له عما حبس له. قاله الخرشي. وفي نقله التصريح بالكراهة مع عدم المتجرد، وقوله: بمسجد، متعلق بجاز، وقوله: رجل، أي لا امرأة فلا يجوز لها السكنى بالمسجد وإن تجردت للعبادة لأنها تحيض، ولأنها قد يشتهيها أحد ممن يأتي المسجد فتقلب العبادة معصية، لأن كل ساقطة لها لاقطة. اهـ. وقال عبد الباقي: وجاز بمسجد سكنى لرجل تجرد للعبادة بصلاة بليل وقراءة قرآنٍ وذكر وتعلم علم وتعليمه، وخرج بالرجل المرأة، وبالمتجرد للعبادة غير المتجرد لها، فلا يجوز لكل سكنى به، لأنه إنما شرع بناؤه للعبادة، فلا يجعل لغيرها، كما فسر بهِ قولُه تعلى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} ، أي تغلق فلا تفتح، فلا يجوز فتحها إلا للعبادة أي علما أو ذكرا أو صلاة، فلا يمنع من أراد قراءة علم

1 - في الأصل: ترك، والمثبت من التهذيب ج 4 ص 397.

ص: 338

بمسجد إن لم يضيق على المصلين لوضعه للصلاة أصالة، لا إن بني للتدريس فقط، وصرح بعضهم بالكراهة للرجل غير المتجرد، وبالحرمة للمرأة وإن تجردت لأنها تحيض ولأنها قد يلتذ بها أحد من أهل المسجد فتنقلب العبادة معصية. اهـ. قوله: وصرح بعضهم بالكراهة لغير المتجرد لخ، قال بناني: الذي صرح به في التوضيح هو المنع، ابن الحاجب: ولا ينبغي أن يتخذ المسجد مسكنا إلا المتجرد للعبادة، قال في التوضيح: والظاهر أن ينبغي هنا للوجوب، لأن السكنى في المسجد على غير وجه التجرد للعبادة ممتنعة، لأنه تغيير له عما حبس له، وعلى وَليِّ الأمْرِ هدم المقاصير التي اتخذوها في بعض الجوامع للسكنى. انتهى. وقال بناني: جرت عادة الفقهاء أن يذكروا الإحياء المعنوي الذي هو إحياء المساجد لتنزيهها وترفيعها عما لا يليق بها شرعا عقب الإحياء الحسي وهو إحياء الأرض الموات. انتهى. وقال التتائي: وجاز بمسجد سكنى لرجل تجرد للعبادة كصلاة وتلاوة، ويدخل فيه تعلم العلم وتعليمه، وخرج بذلك المرأة والرجل الذي يتخذه كالدار ويعده لادخار ما ينتفع به لأنه تغيير له عما حبس له. اهـ. وقال المواق: قال ابن شأس: لا ينبغي أن يتخذ المسجد مسكنا إلا لرجل تجرد للعبادة فيه بقيام اليل وإحيائه، فلا بأس أن يكون ذلك منه فيه دائما دَهْرَه إن قوي على ذلك. انتهى. وقال الشبراخيتي: وجاز بمسجد سكنى لرجل، لا مفهوم له، وكذلك المرأة إذا تجردت للعبادة كما في بعض التقارير تجرد للعبادة وإلا كره. انتهى.

وعقد نكاح، يعني أنه يجوز عقد نكاح في المسجد، وأطلق الجواز هنا على المأذون فيه ليشمل الندب. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وعقد نكاح واستحبه بعضهم فيه. انتهى. وقال التتائي: وجاز فيه عقد نكاح واستحسنه جماعة. انتهى. وقال الشبراخيتي: وعقد نكاح أي مجرد إيجاب وقبول من غير ذكر شروط ونفقة أو كسوة أو مهر أو تكثير كلام أو رفع أصوات وإلا كره، واستحب جماعة عقد النكاحِ فيه. اهـ.

قال مقيده عفا الله عنه: انظر قوله: أو مهر، فإنه غير متجه إذ كلامه يقتضي أن جواز النكاح في المسجد إنما هو حيث كان النكاح نكاح تفويض، وهذا غير ظاهر لمخالفته لظاهر كلام غيره. والله سبحانه أعلم.

ص: 339

وقضاء دين، يحني أنه يجوز قضاء الدين الشرعي في المسجد على غير وجه التجر والصرف كما في المواق وإلا كره. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وقضاء دين يسير يخف معه الوزن أو العدد لا كثير فيكره. اهـ. ونحوه للشبراخيتي وغيره. وقال المواق: سمع ابن القاسم خفة كتب ذُكْر الحق بالمسجد ما لم يطل، وجواز قضاء الحق على غير وجه التجر والصرف. اهـ. وقال الحطاب: يعني أنه يجوز قضاء الدين في المسجد لأنه معروف بخلاف البيع والصرف؛ وقوله: وقضاء دين، أي الذي فيه يسير العمل. اهـ.

وقتل عقرب، قال الخرشي: يعني أنه يجوز قتل العقرب في المسجد إذا أرادته، وكذلك الفأر والثعبان وما أشبه ذلك، نص عليه اللخمي، وفي البرموني: وقتل عقرب أرادته أم لا. انتهى. وقال عبد الباقي: وقتل عقرب أو فأر كما قدم في فصل الجماعة، وأولى الثعبان ونحوه وإن لم يرده شيء من ذلك، وتقدم فيه أنه إذا كان بصلاة أي بمسجد أو غيره فله ذلك إن أرادته. اهـ. وقال الشبراخيتي: وقتل عقرب وأحرى ما هو أشد ضررا منها كالثعبان ونحوه. انتهى. ونحوه للتتائي، وقال المواق: سمع ابن القاسم كراهة قتل القملة أو دفنها بالمسجد، ابن رشد: وقتل البرغوث أخف عنده. اللخمي: البرغوث من دواب الأرض لا بأس بطرحه به وتقتل بالمسجد العقرب والفارة. اهـ. وقال الحطاب: قال في أواخر كتاب الجامع من الذخيرة: قال مالك: وينهى السُّوَّال عن السُّؤال في المسجد والصدقة في المسجد غير محرمة. اهـ. وقال ابن عبد الحكم في النوادر: من سأل فلا يعطى وأمر بحرمانهم وردهم خائبين. وقال التادلي: كان الشيخ أبو عبد الله محمد بن عمران يغلظ عليهم في النهي وربما أمر بإخراجهم إلى السجن، وكان بعض الشيوخ على العكس منه فيرفق بهم ويسأل عن أحوالهم ويتصدق عليهم، فالأول تصرف بالشرع، والثاني بعين الحقيقة، وقال بعض الشيوخ: إنما يمنع في المساجد من عمل الصناعات ما يختص بنفعه آحاد الناس مما يكتسب به فلا يتخذ المسجد متجرا، فأما إن كانت لما يشمل المسلمين في دينهم مثل المثاقفة وإصلاح آلة الجهاد مما لا مهنة في عمله للمسجد فلا بأس. اهـ. وفي الذخيرة: ويجعل الماء العذب في المساجد، وكان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.

ص: 340

ونوم بقائلة، قال الخرشي: والمعنى أن النوم في المسجد بالقائلة جائز للمسافر وللمقيم، فمفهومه أن النوم في المسجد في الليل غير جائز، قال ابن عبد السلام: ومنهم من أجاز المبيت في مساجد المدائن وهو خلاف المشهور، ولا بأس بالمبيت فيه للمسافر. اهـ. ومفهومه أيضا أن النوم في غير قائلة لا يجوز فانظره فيه. انتهى. وقال الشبراخيتي: ونوم بقائلة، عبارة ابن الحاجب: وابن شأس أعم لأنه قال: والنوم فيه نهارا ومطلق النهار أعم من القائلة، ابن عرفة: وسمع ابن القاسم: لا أحب لذي منزل مبيته به وسهل فيه للضيف ومن لا منزل له. وقال الشارح: ابن شأس: وخفف يعني الجلوس في المساجد والنوم فيها نهارا للمقيم والمسافر والمبيت للمار والمنتاب إلى أن يرتاد. اهـ. وليس في كلام ابن شأس تقييد النوم نهارا بكونه بقائلة، وقوله: المنتاب، هو المتردد مرة بعد مرة في طلب مسكن يسكنه، وقوله: إلى أن يرتاد، أي إلى أن يتخذ مسكنا يسكن فيه، وأشار لهذا في النهاية. اهـ. وقال عبد الباقي: ونوم بقائلة أو ليل لضيف ومقيم ومسافر لا منزل لكل. اهـ. وقوله: لا منزل لكل لخ، ليس قيدا في نوم القائلة لقول الجواهر: خفف في القائلة النوم نهارا في المسجد للمقيم والمسافر. اهـ. وإنما هو قيد في نوم اليل. قال ابن رشد: وكذلك يجوز لمن لم يكن له منزل أن يبيت في المسجد. انتهى.

فائدة: قال إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل قال: أخبرنا أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة (أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها فكانت معهم قالت فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور، قالت: فوضعته أو وقع منها فمرت به حُدَيَّاة وهو ملقى، فحسبته لحما فخطفته، قالت: فالتمسوه فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به، قالت: فطفقوا يفتشون حتى فتشوا قبلها، قالت: والله إني لقائمة معهم إذ مرت الْحُدَيَّاةُ فألقته، قالت: فوقع بينهم، قالت: فقلت: هذا الذي اتهمتموني به زعمتم وأنا منه بريئه وهُوَ ذَا هُوَ، قالت: فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حِفْشٌ، قالت: فكانت تأتيني فَتَحَدَّثُ عندي، قالت: فلا تجلس عندي مجلسا إلا قالت:

وَيَوم الوشاح من تعاجيب ربنا

ألا إنه من بلدة المكفر نجاني

ص: 341

قالت عائشة: فقلت لها: ما شأنك لا تقعدين معي مَقْعَدًا إلا قلت هذا؟ قالت: فحدثتني بهذا الحديث (1)). اهـ. الوشاح بكسر الواو ويجوز ضمها ويجوز ابدالها همزة خيطان من لؤلؤ يخالف بينهما وتتوشح به المرأة، وقيل: ينسج من أديم عريضا ويرصع باللؤلؤ وتشده المرأة بين عاتقها وكشحها، وعن الفارسي لا يسمى وشاحا حتى يكون منظوما بلؤلؤ وودع. اهـ. وقولها في الحديث: من سيور، يدل على أنه كان من جلد، وقولها: فحسبته لحما، لا ينفي كونه مرصعا لأن بياض اللؤلؤ على حمرة الجلد يصير كاللحم السمين، وقوله: حُدَيَّاة بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وتشديد التحتانية، والأصل همزة مفتوحة سهلت فأدغمت فيها الياء وأشبعت الفتحة فصارت ألفا، وقوله: ففتشوا قبلها كأنه من كلام عائشة رضي الله تعلى عنها، وإلا فمقتضى السياق أن تقول: قبلي، وكذا هو في رواية المص في أيام الجاهلية والخباء بكسر المعجمة بعدها موحدة وبالمد الخيمة من وبر أو من غيره، والحفش بكسر المهملة وسكون الفاء بعدها شين معجمة البيت الصغير القريب السمك، مأخوذ من الانحفاش وهو الانضمام. وفي الحديث إباحة المقيل والمبيت في المسجد لمن لا مسكن له من المسلمين رجلا كان أو امرأة عند أمن الفنتة، وفيه الخروج من البلد الذي تحصل للمرء فيه محنة، ولعله يتحول إلى ما هو خير له كما وقع لهذه المرأة، وفيه فضل الهجرة من دار الكفر، وإجابة دعوة المظلوم ولو كان كافرا لأن في السياق أن إسلامها كان بعدُ. اهـ. انظر ابن حجر.

وتضييف بمسجد بَادِيَةٍ، يعني أن مساجد البادية يجوز للإنسان أن ينزل فيها الضيفان ويطعمهم الطعام، قال مالك: وذلك شأن تلك المساجد. قال ابن رشد: في هذا ما يدل على أن الغرباء الذين لا يجدون مأوى يجوز لهم أن يأووا إلى المساجد ويبيتون فيها ويأكلون فيها ما أشبه التمر من الطعام الجاف، وانظر ما المراد بالبادية؟ هل هو ظاهره أو ما يشمل الريف، لكن قول مالك: وذلك شأن تلك المساجد يدل على الإطلاق لأن مساجد الأرياف شأنها ذلك. قاله الخرشي. ويأتي

1 - البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث 439 وانظر أيضا رقم الحديث 3835، وفيهما أنجانى، مكان نجاني.

ص: 342

عن المواق ما يفيد أن هذا في مساجد المدن فأحرى غيرها. والله تعلى أعلم. وقال عبد الباقي عند قوله: بادية: راجع للأمرين قبله. الْتهى. قوله: راجع للأمرين قبله، كلامه يفيد أن التقييد بالبادية يرجع للنوم بقائلة أيضا وفيه نظر، وقد أطلقه ابن شأس وابن الحاجب والتوضيح وغيرهم، ونص التوضيح: ابن حبيب عن عبد الملك: لا بأس بالقائلة بالمسجد والنوم فيه نهارا للمسافر والمقيم، ثم قال: ورخص مالك أن يطعم الضيف في مساجد البادية، وقال: ذلك شأن تلك المساجد، وكره أن يوقد فيها نار. ابن عبد السلام: ومنهم من أجاز المبيت في مساجد المدائن والمشهور خلافه وهو أقرب إلى ما روي من الآثار. انتهى. فلم يقيد بالبادية إلا التضييف والمبيت. انتهى. وقال المواق: سمع ابن القاسم: يجوز تعليق الأقناء بكل مسجد لضيافة من أتى يريد الإسلام، قال ابن القاسم: ولم ير مالك بأسا بأكل الرطب التي تجعل في المساجد. ابن رشد: في هذا ما يدل على أن الغرباء الذين لا يجدون مأوى يجوز لهم أن يأووا إلى المساجد ويبيتوا فيها [ويأكلوا (1)] فيها ما أشبه التمر من الطعام الجامد، وقد خفف مالك أيضا للضيفان المبيت والأكل في مساجد القرى بمعنى أن الباني لها للصلاة يعلم أن الضيفان يبيتون فيها لضرورتهم إلى ذلك، فصار كأنه قد بناها لذلك، وإن كان أصل بنائه لها إنما هو للصلاة فيها لا لما سوى ذلك من مبيت الضيفان، وكذلك يجوز لمن لم يكن له منزل أن يبيت في المسجد. اهـ.

وإناء لبول إن خاف سبعا، يعني أن من التجأ إلى المسجد يجوز له أن يتخذ إناء للبول إن خاف أن يفترسه الأسد مثلا إذا خرج إلى الخلاء. قال الخرشي مفسرا للمص: يعني أن من التجأ إلى المبيت في المسجد يجوز له أن يتخذ إناء ليبول فيه أو يتغوط فيه في المسجد إذا علم أنه إذا خرج منه في اليل لأجل البول أو غيره يفترسه الأسد، وفي بعض النسخ سبقا قبل خروجه أي بالقاف بدل المعين، قال ابن رشد: فإذا بات في المسجد وخاف إن خرج منه لقضاء حاجته من اللصوص فإنه يتخذ معه إناء لقضاء حاجته فإن لم يجده بال فيه، قال ابن المواز: وكذلك الغريب إذا لم يجد من يدخل دابته فإنه يدخلها في المسجد إذا خاف عليها اللصوص. انتهى. وقد ظهر من هذا

1 - في الأصل: ويأكلون، والمثبت من المواق ج 7 ص 617 ط دار الكتب العلمية.

ص: 343

أن قول المؤلف: لبول ليس للتقييد وإنما المراد قضاء الحاجة مطلقا أعني بولا أو غائطا كما دل عليه النقل السابق، وهذا الفرع مستثنى من قاعدة حرمة المكث بالنجس في المسجد للضرورة، وظاهره سواء كان الإناء يرشح كالفخار أولا كالزجاج، وظاهره وإن لم يكن ساكنا كما دل عليه كلام ابن رشد قاله الخرشي وقال عن الأجهوري: الظاهر أنه يجب عليه أن يرتكب ما هو أقل ضررا: فمتى كان إذا بال أو تغوط في صدر المسجد يكثر ضرره بالناس وإذا بال بغيره يقل فإنه يجب عليه أن يبول بغيره، وانظر هل مثل الإناء ما إذا كان معه ثوب يقضي فيه حاجته وهو غير محتاج للبسه ولا يفسده؟ وهو الظاهر، فإن كان يفسده الغسل فإنه لا يفعل به. انتهى. وقال الشبراخيتي: وجاز إناء أي اتخاذه فيه لبول ولا مفهوم له إذ الغائط كذلك، فإن لم يجد آنية بال فيه أو تغوط إن خاف سبقا بالقاف أي أن يسبقه البول إذا خرج لذلك، هذا والذي في أجوبة ابن رشد: أنه أجاز لمن التجأ إلى المبيت وخاف إن خرج لصا أو سبعا أن يتخذ معه آنية فيه للبول، ويقع في بعض النسخ موضع القاف عين أي أسدا وهي مسألة ابن رشد، ويفهم من قوله: إن خاف، أنه لو تحقق ذلك لم يكن الحكم كذلك والحكم الوجوب، ويجب عليه أن يرتكب ما هو أقل ضررا، فمن كان إذا بال أو تغوط في صدر المسجد يكثر إضراره بالناس وإذا بال بغيره يقل فإنه يجب عليه أن يبول بغيره. انتهى. وقال عبد الباقي: وإناء لبول أو غائط إن خاف سبعا ونحوه يفترسه إذا خرج لحاجته، وفي بعض النسخ بالقاف بدل المعين، ويستثنى ذلك من قاعدة حرمة المكث في المسجد بالنجس، وظاهر المص سواء كان الإناء مما يرشح كالفخار أو لا كالزجاج، وظاهره وإن لم يكن ساكنا فيه كما دل عليه كلام ابن رشد، فإن لم يجد إناء بال فيه وتغوط وإن لم يضطر للنوم فيه، ابن العربي: وكذا الغريب إذا لم يجد من يدخل دابته عنده فإنه يدخلها في المسجد، وفهم من قوله: إن خاف، أنه لو تحقق ذلك وجب، والظاهر أنه يقدم ثوبا معه غير محتاج للبسه ولا يفسده الغسل على أرض المسجد، فإن كان يفسده الغسل لم يفعل. انتهى. وقال المواق: قال ابن عرفة: في فتوى ابن رشد بسعة إدخال من لا غنى عن بيته بالمسجد من سرقتها (1)

1 - لفظ ابن عرفة: وفي فتوى ابن رشد بجواز إدخال من لا غنى عن مبيته بالمساجد من سدنتها لحراستها ومن اضطر للمبيت بها من شيخ ضعيف وزمن ومريض ورجل لا يستطيع الخروج للمطر والريح والظلمة ظروفا بها للبول، نظر.

ص: 344

لحراستها، ومن اضطر للمبيت بها من شيخ ضعيف وزمن ومريض ورجل لا يستطيع الخروج ليلا للمطر والريح والظلمة ظرفا بها للبول نظر، لأن ما يحرس بها اتخاذها بها غير واجب، وصونها عن ظروف البول واجب، ولا يدخل في نفل بمعصية، وروى الخطابي جواز دخول الجنب المسجدَ عابرا، وأجازه ابن مسلمة مطلقا، فألزمه اللخمي الحائض المستثفرة. عياض: بينهما فرق للدم. ابن عرفة: لعل ابن مسلمة يجيزه مستورا دمه ببعضه. اهـ بزيد قليل. وما قاله. ابن عرفة متجه، ولا يرد بما ذكره عبد الباقي لأنه مبحوث فيه، وقول عبد الباقي: وإن لم يضطر للنوم فيه لخ، قال بناني: كذا رأيته في نسخ من هذا الشرح وهو غير صحيح، بل لا يجوز له فعل ذلك إلا إذا اضطر للمبيت فيه كما في نص ابن رشد وغيره، وعبارة التوضيح: وأجاز ابن رشد في أجوبته لمن التجأ للمبيت فيه وخاف إن خرج لصا أو سبعا أن يتخذ معه آنية ليبول فيها. اهـ. وهكذا في عبارة ابن عرفة عنه، وقال أحمد في حاشيته: هذا إذا اضطر للمبيت في المسجد، وأما إذا لم يضطر فلا يجوز له ذلك.

كمنزل، يسكن فيه تحته. تشبيه في الجواز، يعني أنه يجوز لباني المسجد أن يتخذ منزلا تحته. ومنع عكسه، يعني أنه لا يجوز السكنى فوق المسجد، أي لا يجوز لأحد أن يتخذ منزلا للسكنى فوق المسجد. قال الخرشي: والمعنى أنه يجوز للإنسان أن يتخذ له بيتا تحت المسجد، ولا يجوز له أن يتخذ فوقه بيتا، لأن ما فوق المسجد، له حرمة المسجد وهذا في مسجد أعلاه متأخر عن مسجديته، بأن يبنى مسجدا ابتداء ثم أحدثت السكنى فوقه، وقوله فيما سبق في باب الإجارة: وسكنى فوقه إنه مكروه في مسجد أعلاه سابق وهذا أحسن الفروق، وكل مسجد كره سكناه أو منع فمعناه بأهله، وأما بنفسه فهو رجل تجرد للعبادة. انتهى. وقال عبد الباقي: كمنزل تحته ولو بأهله ومنع عكسه إن سكن بأهله وحدث بناؤه على المسجد بعد تحبيسه ولو قبل تخليته للناس، وأما لو بني فوقه قبل تحبيسه أو كان يملك محلا أعلى وأسفل فجعل الأسفل مسجدا فإنه يكره فقط سكنى فوقه بأهله فيهما، كعلى مسجد بني للكراء، وأما سكنى فوقه بغير أهله بل لمجرد مبيته فجائز بالأولى من سكنى لرجل تجرد للعبادة. اهـ. وقال بناني: ومنع عكسه، قال في التوضيح: ونحو هذا في كتاب الصلاة من المدونة والواضحة، وما في كتاب الجعل من لفظ

ص: 345

الكراهة الظاهر حمله على المنع. انتهى. وما في كلام الزرقاني من التوفيق هو الذي اختاره الحطاب فيما تقدم، وقد تقدم التنبيه عليه. اهـ. وقال الشبراخيتي: كمنزل يتخذه باني المسجد تحته فيجوز، ومنع عكسه بأن يجعل السفل مسجدا والعلو منزلا، ومحل المنع حيث سكن بأهله وحيث كان المسكن طارئا على المسجد الذي بناه لله بعدما حيز عنه، وأما لو بنى المنزل فوق المسجد الذي بناه للكراء أو فوق المسجد الذي بناه لله قبل ما حيز عنه فإنه يكره، وقال: المواق من المدونة قال مالك: من بنى مسجدا وبنى فوقه بيتا فلا يعجبني ذلك لأنه يصير مسكنا يجامع فيه ويأكل؛ قال مالك: وجائز أن يكون البيت تحت المسجد، ويورث البنيان الذي تحت المسجد، ولا يورث المسجد إذا كان صاحبه قد أباحه للناس. اهـ. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: تحصل من هذا أن السكنى تحت المسجد تجوز بالأهل وبغير الأهل، وأنها لا تجوز فوقه بالأهل، وتجوز بغير الأهل، ومحل منعها بالأهل حيث حدث البناء بعد الوقفية، وأما لو كان البناء قبل الوقفية فالسكنى فوقه بالأهل مكروهة فقط، وقد مر حكم السكنى في المسجد قريبا فراجعه إن شئت.

كإخراج ريح، تشبيه في المنع، قال الخرشي: والمعنى أنه لا يجوز إخراج الريح في المسجد تعمدا، قال اللخمي: ولا يجوز جلب الريح فيه وإن كان خاليا لحرمة المسجد وللملئكة. اهـ. وأما خروج الريح فيه غلبة فإنه لا يحرم. انتهى. وقال ابن العربي: يجوز إرسال الريح في المسجد كما يرسله في بيته إذا احتاج لذلك. انتهى. وقال الأمير: والريح بصوت بحضرة الناس حرام. انتهى. وقال المواق: قال ابن رشد: ولا يحدث حدث الريح في المسجد. انتهى. ومكث بنجس، قال الخرشي: يجوز رفعه عطفا على عكسه وجره عطفا على مدخول الكاف. اهـ. والمعنى أنه يحرم على الإنسان المكث بعين النجس في المسجد سواء في ذلك المتنجس الذي فيه عين النجس والنجس نفسه، وأما إن أزيل عينها وبقي حكمها كما لو أزيلت المعين بغير المطلق فهل هو كذلك أو لا يمنع المكث به؟ استظهر الشيخ كريم الدين أنه لا يمنع المكث به، وقال التتائي: ومكث بنجس ظاهره قل أو كثر دما أو غيره كان في الصلاة أو لا، قال في الشامل: ولو غطاه على الأصح، وأما ما في مختصر ما ليس في المختصر: يجب على من رأى في ثوبه دما في الصلاة أن يخرج عن

ص: 346

المسجد ولا يخلعه فيه، فلا ينافي ما هنا. انتهى المراد منه. وقال عبد الباقي: ومنع فيه مكث ومرور بنجس غير معفو عنه ولو ستر النجس بطاهر على الراجح، وقيل: يجوز، وعليه فيضع النعل في شيء طاهر يكنه، والمتنجس كالنجس غير المعفو عنه، وإن أزيل عن النعل أو نحوه المتنجِّس عينُها بغير المطلق كحكها بالأرض خارج باب المسجد لم يمنع كما استظهره كريم الدين، لأن بعض العلماء ذهب إلى طهارته بذلك. انتهى. وقوله: غير معفو عنه، مفهومه مسلم إن كان لا يصل من سلسه شيء إلى محل جلوسه بأن كان يتقي ذلك بثيابه أو بشيء أعده لذلك وإلا فلا. قاله الرهوني. وقال الخرشي: قال ابن شعبان: من رأى بثوبه كثير الدم وهو بالمسجد يخرج من المسجد ولو كان في صلاة وقال غيره: ينزعه ويتركه بين يديه ساترا له ببعضه. اهـ. وقال الشبراخيتي: ومكث، ومثله المرور كما يفيده كلام ابن غازي في تكميل التقييد، بنجس أي غير معفو عنه، كما يفيده النقل. اهـ. وقوله: ومكث، قال في القاموس: المكث مثلثا ويحرك والمكيثا ويُمد والمكوث والمكثان بضمهما اللبث والفعل كنصر وكرم.

تنبيهات: الأول: في المعيار سئل سيدي أحمد القباب عمن به جرب كثير فإذا أتى للصلاة فيه فتقع قشور الجرب في المسجد وهو لا يقدر على التحفظ هل يجوز له دخول المسجد أم لا؟ فأجاب: لم أقف فيه على نص، ولو صلى خارج المسجد بصلاتهم إن قدر كان أحوط له. اهـ. نقله الرهوني، وقال: قلت: أما على ما قاله ابن عرفة: من أن ما أبين من الآدمي الحي نجس على كلا القولين فلا وجه للتوقف في منعه، وكذا على ما قاله ابن عبد السلام: من أنه يجري على القولين في ميتة الآدمي إذا فرعنا على ما صدر به في المختصر من قوله: ولو قملة وآدميا، وأما على مقابله فوجه التوقف ظاهر، والصواب له هو في نفسه أن يترك دخوله وأن يمنع منه إن طلب ذلك غيره، لأن ذلك يؤذي الناس وليس ضرره بأخف من رائحة البصل ونحوه، ولأن كثيرا من الناس يتورع ويحتاط لنفسه، والقول بنجاسة ذلك قوي، فلا تطيب نفس المتورعين بالصلاة على تلك القشور. تأمله بإنصاف. انتهى.

الثاني: قال الحطاب: قال ابن رشد في رسم نذر من سماع ابن القاسم من كتاب الجامع: لا خلاف أن لظهر المسجد من الحرمة ما للمسجد ولا يورث المسجد ولا البنيان الذي فوقه ويورث

ص: 347

البنيان الذي تحته، وإنما اختلف في صلاة الجمعة عليه هل تكره ابتداء وتصح إن فعلت أو لا تصح ويعيد أبدا؟ والله تعلى أعلم. انتهى. الثالث: قال ابن العربي في عارضته في باب تطييب المساجد في شرح قول عائشة رضي الله تعلى عنها: (أمر عليه الصلاة والسلام ببناء المساجد وأن تنظف وتطيب)(1): ونظافتها أن لا تبقى فيها قمامة من الخرق والقذى والعيدان، وليس من ذلك الحَدَث فيكون فيه ريح أو صوت، ولا يناقض تنظيفه تعليق قنو فيه من ثمر يأكله المساكين، ولا الأكل لما فيه إذا وضع لقاطة أو سقاطة ما يأكل في حجره أو كمه. اهـ. وقال في باب المشي إلى المسجد وانتظار الصلاة فيه في شرح قوله صلى الله عليه وسلم:(لا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في المسجد اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث (2)) قال رجل من حضرموت لأبي هريرة ما الحدث؟ قال: فساء أو ضراط، فيه دليل على إرسالهما في المسجد كما يرسله في بيته إذا احتاج إلى ذلك، وإنما ينزه عن نجاسة عينية. اهـ.

الرابع: قال الإمام الحطاب: قال في التوضيح قال في مختصر ما ليس في المختصر: ويجب على من رأى في ثوبه دما كثيرا في الصلاة أن يخرج من المسجد ولا يخلعه فيه، قال: وقد قيل: يخلعه ويتركه بين يديه ويغطي الدم. اهـ. وقال القلشاني في شرح الرسالة: من رأى بثوبه كثير دم، فقال ابن شعبان: يخرج من المسجد ولو كان في صلاة، وقال غيره: ينزعه ويتركه بين يديه ساترا نجاسته ببعضه. قال القلشاني: قلت: وعليهما الخلاف في إدخال النعل الذي لحقته نجاسة في محفظة أو ملفوفة في خرقة كثيفة. انتهى. وقال الأقفهسي: قال الجزولي: ودخول المسجد بالثوب النجس مكروه وكذلك نعلاه إذا كان فيهما نجاسة فلا يدخلهما المسجد حتى يحكهما ولا يغسلهما فإن ذلك يفسدهما. انتهى. فما ذكره من الكراهة مخالف لما مشى عليه المص. والله أعلم. انتهى.

وكره أن يبصق بأرضه، يعني أنه يكره أن يبصق بأرض المسجد البلاط لا التراب ولا الحصباء، فالمترب والمحصب لا يكره البصاق بأرضهما، هذا هو الذي قرر به بناني رادا على عبد الباقي

1 - الترمذي، أبواب السفر، رقم الحديث 594.

2 -

البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث 477.

ص: 348

قوله: وكره أن يبصق بأرضه البلاط لا التراب، وكذا يكره فوق الحصباء وفوق حصير الثلاثة، لا في خلال الحصباء أو تحتها فيجوز، وكتحت حصير المحصب والمترب فيجوز كما أسلفه في صلاة الجماعة. انتهى. فإنه قال عليه: لم أر من ذكر هذا التفريق في المحصب، بل أطلقوا الجواز فيه وهو الذي مر عند الزرقاني في باب الصلاة، وهو ظاهر نقل المواق هنا. انتهى. وقال المواق: من المدونة قال مالك: لا يبصق أحد في حصير المسجد ويدلكه برجله، ولا بأس أن يبصق تحت الحصير، قال ابن القاسم: وكذلك إن كان المسجد غير محصب فلا يبصق تحت قدمه ويحكه برجله بمنزلة الحصير؛ قال مالك: وإن كان المسجد محصبا فلا بأس أن يبصق بين يديه وعن يساره وتحت قدمه ويدفنه، ويكره أن يبصق أمامه في حائط القبلة. قال: إن كان عن يمينه رجل وعن يساره رجل في الصلاة بصق أمامه ودفنه، وإن كان لا يقدر على دفنه فلا يبصق في المسجد بحال، كان معه الناس أو وحده، لقوله صلى الله عليه وسلم: إذا صلى أحدكم فلا يبصق في القبلة بين يديه ولا عن يمينه ولكن عن شماله فإن لم يجد فليبصق في ثوبه. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه، [أو إن] ربه بينه وبين قبلته، فليبصق إذا بصق عن يساره أو تحت قدمه (1)). أبو عمر: في هذا الحديث دليل على أن للمصلي أن يبصق وهو في الصلاة إذا لم يبصق قِبل وجهه ولا عن يمينه. انتهى. وقال المواق: قال ابن القاسم: لا بأس بوضوء طاهر بصحن المسجد. ابن رشد: قول سحنون: لا يجوز أحسن لما يسقط من غسالة الأعضاء، وقد كره مالك الوضوء في المسجد وإن جعله في طست، عياض: قرأ لقمان بن يوسف على أصحاب سحنون وكان حافظا لمذهب مالك مفتيا ثقة صالحا غسل رجليه في يوم مطر في جامع تونس، فأنكر إنسان عليه، فقال لقمان: عطاء بن أبي رباح يتوضأ في المسجد الحرام، وهذا يمنعني أن أغسل رجلي في جامع تونس. انتهى. وروى الشيخ: يكره السواك في المسجد، وقال في المدونة: ولا يأخذ المعتكف بالمسجد من شعره وأظفاره وإن جمعه وألقاه. انتهى.

1 - صحيح البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث 405 و 417.

ص: 349

وحَكّه يعني أنه إذا بصق بغير أرض المسجد، كما إذا بصق بكفه أو ثوبه فإنه يكره أن يحكه بعد ذلك بأرض المسجد، ويحتمل أن يكون قوله: وحَكَّه مستأنفا، أي والحكم إذا وقع ونزل أن يحكه، ونسخة حلولو صريحة في ذلك، وهي: ويحكه، وهي عبارة ابن الحاجب وابن شأس، وعليها حل التتائي فإنه قال: وكره أن يبصق بأرضه أي عليها وإن فعل حكه كما في الحديث: (كفارتها دفنها (1)). وقال البساطي: يكره أن يحك البصاق في غير الأرض بالأرض كما لو بصق بثوبه أو بكفه ثم حكه بأرض المسجد، فقوله: وحكه معطوف على أن يبصق مقدر فيه المتعلق، أعني بأرضه أي حكه بأرضه. اهـ. وفهم منه جوازه تحت الحصباء أو الحصير إن كان محصبا. انتهى. وقال الشبراخيتي: يحتمل أنهما فرعان كما قال البساطي، أي يكره البصق فيه، ويكره أيضا إن بَصَق في ثوبه أو يده أن يحكه بالمسجد، ويحتمل أنه فرع واحد أي يكره بصقه فيه مع حكه، وأحرى إن لم يحكه لأنه قد لا يبقى شيء منه مع الحك، وعليه فقوله: وحكه فعل ماض، وهذا في غير المحصب، واعلم أن البصق فوق فُرُش المسجد مكروه مطلقا، وكذا تحته إن كان مبلطا أو ما يشبهه، وأما إن كان محصبا فلا يكره البصق تحت فرشه. اهـ.

وتعليم صبي، يعني أنه يكره تعليم الصبيان في المسجد قرآنا أو غيره، قال ابن حبيب: قال مالك: لا يعلم الصبيان ولا يمكنون من المدخول إلا أن يدخل صبيٌّ لصلاةٍ ثم يخرج منه انتهى. فيحمل النهي على الكراهة، وقوله: وتعليم صبي، أي لا يعبث ويكف إذا نهي وإلا حرم إدخاله المسجد، وقوله: وتعليم صبي، أي فيه القرآن، وأما تعليم الصنائع بالمسجد فلا يختص بالصبي. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وكره فيه تعليم صبي مراهق ونحوه وصغير لا يعبث ويكف إذا نهي قرآنا أو غيره، والمذهب المنع. انظر المواق. اهـ. وقال الشبراخيتي: وكره تعليم صبي قرآنا أو غيره، والمذهب المنع كما رواه سحنون، لأن الغالب عليه عدم التحفظ من النجاسة، وقال ابن عرفة: إنه الصحيح. اهـ. وقال التتائي: وكره تعليم صبي فيه مثله لابن الحاجب قرآنا أو غيره لعدم تحفظه. اهـ. وقال المواق: قال ابن عرفة: أما تعليم الصبي في المسجد فروى ابن القاسم: إن

1 - البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث 415.

ص: 350

بلغ الصبي مبلغ الأدب فلا بأس أن يؤتى به المسجد، وإن كان صغيرا لا يقر فيه ويعبث فلا أحب ذلك؛ وروي سحنون لا يجوز تعليمهم فيه لأنهم لا يتحفظون من النجاسة، وهذا هو الصحيح. اهـ.

وبيع وشراء، يعني أنه يكره البيع والشراء في المسجد، لقوله صلى الله عليه وسلم:(إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك (1)). ولا فرق في البيع بين بيع الذوات والمنافع كأن يؤجر نفسه لتعليم القرآن في المسجد كبيرا أو صغيرا لا يعبث ويكف إذا نهي، وقد ارتضى الأجهوري في شرحه ما يفيده كلام الشارح من أن كلام المؤلف يشمل عقد البيع فقط في المسجد أو مع النظر والتقليب للبيع، وبحث في قول أحمد الزرقاني: وأما عقد البيع فهو كعقد النكاح بأن عقد النكاح مطلوب فيه الإعلان والمسجد محله بخلاف عقد البيع. قاله الخرشي. وقوله: وبيع أي من غير رفع أصوات، وأما لو ارتفعت الأصوات وحصل تخليط على المصلين كما يفعل بالجامع الأزهر بعد صلاة الجمعة فإنه يحرم، وعبارة الشبراخيتي: ومحل الكراهة حيث لم يحصل بذلك تخليط على المصلين وإلا حرم. اهـ. وقوله: وبيع أي بغير سمسار وإلا حرم، وظاهره أن الهبة والصدقة لا كراهة فيهما، وإذا ثبت ذلك فإنه يوجه بأنه معروف مرغب فيه، ولم يكتف المؤلف بالبيع عن الشراء مع أنه لازم عليه. اهـ. وقال الشبراخيتي: وبيع وشراء أي بغير سمسار وإلا حرم. اهـ. وقال عبد الباقي: وكره فيه بيع وشراء بغير سمسار وإلا حرم، ومحل الكراهة حيث جعله محلا لهما، وأما مجرد عقدهما فلا يكره، وأراد بالبيع الإيجاب وبالشراء القبول، وإلَّا لاكتفى عن الشراء لأنه من لازمه، ولا فرق بين بيع الذوات والمنافع، وظاهر المص أن الهبة والصدقة لا يكرهان لأنهما مرغب فيهما. اهـ. وقال بناني عند قوله: وبيع وشراء ما نصه: ابن الحاجب: ويكره فيه البيع والشراء وسل السيف وإنشاد الضالة والهتف بالجنائز ورفع الصوت ولو بالعلم. اهـ. التوضيح: ينبغي أن تكون الكراهة هنا أيضا على المنع. اهـ. وقول الزرقاني: محل الكراهة حيث جعله محلا لهما لخ، أي بأن أظهر سلعته فيه للبيع،

1 - الترمذي، كتاب البيوع، رقم الحديث 1321.

ص: 351

ففي المبسوط: قال ملك: لا أحب لأحد أن يظهر سلعته في المسجد للبيع، فأما أن يساوم رجلا بثوب عليه أو سلعة تقدمت رؤيته لها فلا بأس به. اهـ. وقال الحطاب: وقال الجزولي في شرح الرسالة: ولا يجوز البيع في المسجد ولا الشراء، واختلف إذا رأى سلعة خارج المسجد هل يجوز له أن يعقد البيع في المسجد أم لا من غير سمسار؟ وأما البيع بالسمسار فيه فممنوع باتفاق، فإن وقع البيع في المسجد. قال ابن بطال: الإجماع على أنه لا يفسخ وأنه ماض. اهـ.

وسل سيف، قال الخرشي: قال المغربي: السل إخراج الشيء من الشيء بجذب ونزع سل السيف من الغمد والشعرة من العجين، والمعنى أنه يكره في المسجد سل السيف والسكين لِمجرد التقليب أو لحاجة لقطع أو لمصلحة لا لإخافة فيحرم، قال ابن رشد: لا يسل في المسجد سيف. اهـ. وفي نقل الخرشي عن يحيى بن سليم عن مكحول عن واثلة بن الأسقع قال: (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم وبيعكم وشراءكم وسل سيوفكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وجمروها أيام جمعكم واجعلوا مطاهركم على أبواب مساجدكم أيام جمعكم (1)). اهـ. ولعب الحبشة في المسجد منسوخ. اهـ. وروى ابن حبيب: لا يمر بالمسجد بلحم ولا تنفذ فيه النبل ولا تمنع فيه القائلة. ابن حبيب: يريد بتنفيذ النبل إدارتها على الظفر ليعلم مستقيمها من معوجها. قاله المواق. وقال الشبراخيتي: وسل سيف وخنجر وسكين لمجرد التقليب أو لقطع حاجة أو لمصلحة لا لإخافة فيحرم. اهـ.

وإنشاد ضالة، يعني أنه يكره إنشاد الضالة في المسجد وهو تعريفها أي سؤال من وجدها عن ربها، ويقال، أيضا لسؤال ربها عنها، فالمص شامل للمعنيين مفيد لِكراهة كل منهما في المسجد، قال بناني: في القاموس ما يفيد أن كلا من الرباعي والثلاثي يستعمل في الطلب والتعريف، ونصه: نشد الضالة نشدا ونشدانا ونشدة بكسرهما طلبها وعرَّفها، ثم قال: وأنشد الضالة عرفها واسترشد عما ضل. انتهى. وعليه يكون لفظ المص شاملا للمعنيين. والله أعلم. انتهى كلام بناني. وقال عبد الباقي: وإنشاد ضالة أي تعريفها لملتقطها، وكذا نشدها لمن ذهبت منه في المسجد

1 - سنن ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، رقم الحديث 750.

ص: 352

بالأولى، وهو الوارد في خبر:(إذا رأيتم من ينشد ضالته في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك (1)). وهو بفتح التحتية وضم الشين المعجمة أي يطلب ما ضاع منه بدليل قوله: لا ردها، وذكر المص غير محل النص لأنه يتوهم فيه عدم الكراهة لوجوب تعريفها على ملتقطها وترك محل النص. انتهى. واعلم أنه إنما يجب حفظ مال الإنسان عليه مع وجوده لا مع ضياعه. انظر شرح الشيح عبد الباقي. وقال بناني: ما ذكره الزرقاني من التفريق بين الرباعي والثلاثي في المعنى هو الذي في الصحاح والنهاية لابن الأثير وهو المعروف المألوف، لكن في القاموس ما يفيد، إلى آخر ما مر قريبا. والله سبحانه أعلم. وقال الشبراخيتي: وإنشاد ضالة وهو سؤال من وجدها عن صاحبها، وكذا نشدها وهو سؤال ربها عنها، ويبين لك الفرق بينهما قول الشاعر:

تصيخ للنبأة أسماعه

إصاخة الناشد للمنشد

اهـ. وقال المواق: قال أبو عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الرجل يبيع ويشتري في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك (2)) وإذا رأيتم الرجل ينشد ضالته في المسجد فقولوا:. لا ردها الله عليك). وقال الحطاب عند قوله: وإنشاد ضالة، قال الطرطوشي في كتاب البدع: ولو لم يرفع بذلك صوته ولكن سأل عن ذلك جلساءَه غير رافع صوته فلا بأس بذلك لأنه من حسن المحادثة وذلك غير ممنوع اهـ يريد غير مكروه كما يفهم من كلامه. اهـ.

تنبيهان: الأول: قال الحطاب: قال القرطبي في شرح مسلم في قوله إن عمر مر بحسان ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه، قال: أي رمى إليه بعينه أن اسكت، وهذا يدل على أن عمر كان يكره إنشاد الشعر في المسجد، وكان قد بنى رحبة خارج المسجد، وقال: من أراد أن ينشد شعرا فليخرج إلى هذه الرحبة، وقد اختلف في ذلك فمن مانع مطلقا ومن مجيز مطلقا، والأولى التفصيل، فما كان يقتضي الثناء على الله وعلى رسوله والذب عنهما كما كان يشعر حسان أو يتضمن الحث على الخير فهو حسن في المساجد وغيرها، وما لم يكن كذلك لم يجز، لأن الشعر

1 - الترمذي، كتاب البيوع، رقم الحديث 1321.

2 -

ابن حبان، رقم الحديث 1648، ج 3 ص 81.

ص: 353

لا يخلو في الغالب عن الكذب والفواحش والتزيين بالباطل، ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللغو أو الهذر، والمساجد منزهة عن ذلك لقوله تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي للذكر وللصلاة ولقراءة القرآن (1)). اهـ.

الثاني: قال الطرطوشي: ولم أرَ لمالك شيئا في كتابة المصاحف في المساجد، قال: فأما الرجل المتقي الذي يصون المسجد ويكتب المصاحف فظاهره الجواز. اهـ.

وهتف بميت، يعني أن يكره الهتف بالميت أي النداء في المسجد أو بابه بموت الميت إعلاما به، قال عبد الباقي: وكره هتف أو صياح بمسجد أو بابه إعلاما بميت أي بموته، وأما بغير صياح بل بصوت خفي فجائز، كما قدم الأمرين في الجنائز حيث قال عاطفا على ما يكره: ونداء به بمسجد أو بابه، لا بكحلق بصوت خفي. اهـ. خلافا لقول ابن الحاج: يجوز ببابه عند انصراف الناس. اهـ. وقال الخرشي: أي ومما هو مكروه الهتف بالميت في المسجد أو على بابه بأن يقول: أخوكم فلان قد مات بصوت يجهر به على سنة الجهر، وأما في المسجد بصوت خفي فجائز، فالهتف الصياح أي الإعلام بموته أي رفع الصوت بذلك في المسجد أو بابه، يقال: هتفت الحمامة تهتف هتفا وهتف به أي صاح، ولا يسوغ تفسير المص هنا بما مر عن ابن الحاج، وكلام الشارح غير ظاهر.

ورفع صوت، يعني أن رفع الصوت في المسجد مكروه كان رفعه بعلم أو بغيره، قال ابن مسلمة: رفع الصوت ممنوع في المساجد إلا ما لا بد منه كالجهر بالقرآن في الصلاة والخطبة والخصومة تكون من الجماعة عند السلطان فلا بأس به، ولا بد لهم من مثل هذا، وهذا إنما يكون في القراءة على وجه، كالإمام يجهر بالقراءة والمتنفل بالليل وحده، وأما جهر بعضهم على بعض بالقراءة فممنوع. قاله المواق. وقال الشبراخيتي: وكره فيه رفع صوت ولو بالقرآن، ويستثنى من ذلك رفع الصوت بالتلبية في مسجد مكة ومنى، فإن المشهور جواز ذلك فيهما، وتقدم: وجاز رفع صوت

1 - مسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث 285.

ص: 354

مرابط بالتكبير. اهـ. وقال التتائي: وكره فيه رفع صوت بعلم أو غيره. البساطي: إلا للتبليغ. اهـ. وقال عبد الباقي: ورفع صوت بمسجد بقرءان أو علم أو ذكر إلا لتلبية بمسجد مكة ومنى فيجوز رفعه بها فيهما على المشهور، وقدَّمَ رفْعَ صوت مرابط بالتكبير والجهرَ في الصلاة الجهرية والخطبةِ وجهرَ متنفل بليل إن لم يخلط على غيره، زاد المواق هنا عن ابن مسلمة: رفعه في خصومة جماعة عند سلطان فيه حيث لا بد لهم من مثله. اهـ. وقال بناني: قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية: كره العلماء رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم، وبحضرة العالم، وفي المساجد، (وفي هذه كلها آثار) بعد أن قال عن ابن زيد في قوله تعالى:{لَا تُقَدِّمُوا} : إنه نهى عن المتقدم في المشي، وكذلك بين يدي العلماء لأنهم ورثته. انتهى.

كرفعه بعلم، يعني أن رفع الصوت بالعلم مكروه في المسجد وفي غير المسجد، والمراد بالرفع ما زاد على إسماع المخاطب، ذكره الأبي، قال عبد الباقي: كرفعه بعلم بغيره. اهـ. قال بناني: أي بغير المسجد أي يكره رفع الصوت بالعلم في كل موضع على المشهور كما صرح بذلك في التوضيح، خلافا لابن مسملة في غير المسجد. اهـ. وقال المواق: قال ابن القاسم: رأيت مالكا يعيب على أصحابه رفع أصواتهم في المسجد. ابن حبيب: يكره رفع الصوت بالمسجد والهتف بالجنائز به، وكل ما يرفع فيه الصوت حتى بالعلم، فقد كنت أرى بالمدينة رسول أميرها يقف بابن الماجشون في مجلسه إذا استعلى كلامه وكلام أهل المسجد بالعلم، فيقول: يا أبا مروان اخفض صوتك ومر جلساءك أن يخفضوا أصواتهم. اهـ. ولم يقل: ورفع صوت ولو بعلم، كما فعل ابن الحاجب، إذ لا تحسن المبالغة إلا لو كان رفع الصوت بالعلم في غير المسجد جائزا، وذلك خلاف المشهور وهو قول ابن مسلمة كما مر، وأتى بكاف التشبيه لنكتة وهي أن الكراهة في رفع الصوت بالعلم لا تتقيد بالمسجد.

ووقيد نار، يعني أنه يكره وقيد النار في المسجد، قال الخرشي: أي وكذلك يكره وقيد النار في المسجد، هكذا حكاه ابن حبيب عن مالك، وقال ابن وهب: لا يوقد نار في المسجد اهـ ويستثنى من قوله: وقيد نار، وقيدها لتبخيرها وللاستصباح، والوقيد الفعل نفسه. قاله الخرشي وعبد

ص: 355

الباقي. وقال بناني: الوقود الذي هو الآلة بالفتح كما في الآية، وأما الوقود بالضم فهو المصدر، وقوله: إن الوقيد بالياء هو الفعل مخالف لما في القاموس، ونصه: والوقود كصبور الحطب كالوقاد والوقيد، وقرئ بهن. اهـ ونسخة حلولو بالواو، ونسخة غيره بالياء، قاله عبد الباقي. وقال التتائي: وكره فيه وقيد نار. البساطي: ولو بالمستغنى عنه من القناديل. انتهى. وقال الشبراخيتي: وكره فيه وقيد نار، مستثنى منه وقيدها لتبخيره وللاستصباح. اهـ. ويكره أن يوقد من القنديل بالمسجد، كما في الخرشي.

ودخول كخيل لنقل يعني أنه يكره دخول الخيل ونحوها مما فضلته نجسة لأجل نقل حجارة وغيرها من المسجد أو إليه خوف أن يقع شيء من فضلاتها، قال الخرشي مفسرا للمص: أي وكذلك يكره دخول الخيل والبغال والحمير في المسجد لأجل نقل حجارة أو غيرها منه أو إليه خوف أن تبول فيه، وكان مالك لا يرى بأسا بدخول الإبل المسجد لأن النبي صلى الله عليه وسلم (طاف على بعير في المسجد (1))، وفي سماع أشهب: أن مالكا وسع في جواز دخول النصارى المسجد ليبنوا فيه، قال: وليدخلوا من الجهة التي تلي عملهم. اهـ. وفي كتاب الأمير في الغسل ما نصه: ككفر وإن أذن مسلم إلا لضرورة عمل، ومنها قلة أجرته عن المسلم، وإتقانه على الظاهر. اهـ. فقوله: كخيل، أدخلت الكاف كل ما كان بوله وروثه نجسا، وقوله: لنقل وأما الدخول لغير النقل فلا يجوز وإن كانت فضلته طاهرة لأنه استعمال في غير ما حبس له. اهـ. وقال عبد الباقي: ودخول كخيل مما فضلته نجسة لنقل لكحجر منه أو له لا ما فضلته طاهرة فيجوز إدخاله لذلك لا لغير ذلك فلا يجوز، لأنه استعمال له في غير ما حبس له، لكن ورد أنه صلى الله عليه وسلم (طاف في المسجد على بعير). انتهى.

وفرش، يعني أنه يكره أن يجعل فراشا في المسجد ليجلس عليه، قال عبد الباقي: وكره فرش فيه ليجلس عليه لغير اتقاء حر أو برد. اهـ. وقال الخرشي: أي وكذلك يكره للإنسان أن يتخذ في المسجد فراشا يجلس عليه لأن ذلك ينافي الخشوع والتواضع في المسجد، وكان مالك يوسع في

1 - البخاري، كتاب الحج، رقم الحديث 1607. ومسلم، كتاب الحج، رقم الحديث 1272.

ص: 356

اتخاذ المصليات والحصر في المسجد، روى ابن حبيب عن مالك: لا بأس أن يتوقى برد الأرض والحصا بالمصليات والحصير في المساجد. أو متكأ، يعني أنه يكره المتكأ في المسجد أي وسادة يجلس أو يضطجع عليها، روى ابن حبيب عن مالك: وكره أن يجلس فيها أي في المساجد على فرش أو يتكئ على وسادة. اهـ. قاله الخرشي. وقال: وجد عندي ما نصه: أو متكأ أو طراحة أو مخدة ونحو ذلك لا كسجادة أو فروة ونحوهما، وقوله: أو فرش أو متكأ هما مرفوعان عطف على نائب فاعل كره، وأما الوضوء في المسجد فمكروه، وقيل: جائز ما لم تكن الأعضاء متنجسة وإلا حرم، وقال ابن ناجي في شرح الرسالة: قال الباجي: واختلف أصحابنا في الوضوء، وأجازه ابن القاسم في صحنه في رواية موسى بن معاوية وكرهه سحنون لما في ذلك من مج الريق في المسجد، قال الباجي: ورحاب المسجد كالمسجد في التنزيه. اهـ. وقال في المدخل لما تكلم على الخلاوى المبنية على سطح المسجد: وقد منع علماؤنا الوضوء في المسجد ومن كان ساكنا في سطوحه فإنه يتوضأ فيه وذلك ممنوع، كما لو توضأ داخل المسجد لأن حرمة سطحه كحرمته، وقد اختلف علماؤنا في الخطيب إذا أحدث في أثناء خطبته أو بعد فراغه منها هل يجوز له أن يتوضأ في المسجد أو في البيوت التي تليه؟ اهـ. وظاهره أنه حرام لا يجوز، وأن الخلاف إنما هو في الخطيب فانظره مع ما تقدم. اهـ. ويجوز قفل المسجد في غير أوقات الصلاة، ولما جرت عادة الناس من شيوخ المذهب أنهم يعقبون الإحياء بالكلام على المياه وأقسامها وعلى الآبار والعيون والكلإ وما أشبه ذلك اتبعهم المؤلف وبدأ بالكلام على أقسام المياه، فقال:

ولذي مأجل، يعني أن لذي المأجل منعه من غيره وله بيعه، والماجل بفتح الميم والجيم وبضم الميم وفتح الجيم أي صهريج ونحوه مما يجعل لخزن الماء. وبير، يعني أن المالك لبير له أن يمنعه من غيره وله أن يبيعه أي له أن يمنع الماء المذكور أي ماء الماجل وماء البير من غيره وله أن يبيعه. ومرسال مطر، يعني أن المالك لمرسال المطر له أن يمنع ماءه من غيره وله أن يبيعه، ومرسال المطر مكان جريانه. كماء، يعني أن المالك لماء في أوانيه له أن يمنعه من غيره وله أن يبيعه. يملكه، أي ما ذكر من الثلاثة أي الماجل والبير ومرسال المطر أي يملك ذاته أو منفعته كبركة وقفها شخص على ذريته فقط، وقوله: ولذي ماجل خبر مقدم، والمبتدأ قوله:

ص: 357

منْعه، أي له منع ما ذكر من المياه الأربعة من غيره، وله بَيْعُه، قال عبد الباقي: ولذي ماجل بفتح الميم والجيم وبضم الميم وفتح الجيم أي صهريج ونحوه مما يجعل لخزن الماء، وبير ومرسال مطر أي محل جريه وهو ما يسيل ماء المطر في أرضه الخاصة به وإن لم يكن كثيرا كما يوهمه صيغة المبالغة كما في آنية يملكه، أي ما ذكر من الثلاثة أي يملك ذاته أو منفعته كبركة وقفها شخص على ذريته فقط منعه من غيره وبيعه، وبما قررنا من تعلق قوله: كماء، بمقدر وهو آنية كجرة أو قصعة أو قربة يندفع دعوى اتحاد المشبه والمشبه به، ومن جعل يملكه لما ذكر من الثلاثة أي يملك ذاته أو منفعته سقط الاعتراض عليه بأن قوله يملكه، يوهم أن ما قبله لا يملكه مع أنه يملكه أيضا. اهـ. وأما ما يملك الانتفاع به فليس له بيعه ولا هبته كالماء المسبل، وله أن يعطيه لمن هو من أهل الحبس.

إلا من خيف عليه ولا ثمن معه، مستثنى من قوله: منعه وبيعه، يعني أن المالك لِماءٍ له أن يمنعه من غيره وله أن يبيعه حيث لم يكن هناك من يخاف عليه الهلاك أو المرض الخطر إذا لم يدفع له الماء، والحال أن [المخوف](1) عليه لا ثمن معه، أما لو كان هناك من يخاف عليه الهلاك أو المرض الخطر إذا لم يبذل له فإنه يجب عليه بذله له مجانا حيث لا ثمن معه.

تنبيهات: الأول: قال بناني عند قوله: ولذي ماجل وبير لخ، قال في التوضيح: فيجوز له بيعه ومنعه على المشهور، وقال يحيى بن يحيى: أربعة لا أرى أن تمنع، الحطب والماء والنار والكلأ، وقد ورد بعدم منع هذه الأربعة حديث ضعيف، وقيد ابن رشد هذا الخلاف بما إذا كانت البير أو العين في أرضه مما لا ضرر عليه في الدخول إلى الاستقاء منها، وأما البير التي في دار رجل أو حائطه التي قد حظر عليها فله أن يمنع من الدخول عليه. اهـ. ويقيد المنع بغير ما استثناه المص، وفي المقدمات: حمل مالك النهي عن منع الماء على من خيف عليه الهلاك، والمراد بالحطب والكلإ اللذان في الفحص لا في منزله. انتهى.

1 - في الأصل: المخيف.

ص: 358

الثاني: قال الرهوني: قول بناني عن التوضيح: وقال يحيى بن يحيى لخ، صريح في أن قول يحيى جار في الماء المستخرج، وقد سلمه بناني كما سلمه الناصر في حواشي التوضيح وجسوس، وأصل ذلك لابن رشد وتعقبه غير واحد، وتعقب ذلك ابن عرفة بقوله: والماء في آنية لربه يختص به ويتعلق به حق المواساة، وما بأرض مملوكة إن كان باستخراج كحفر أصله فالمعروف كماء الآنية، ولم يجد الباجي وغيره فيه خلافا، وهو نصها في حريم البير والتجارة لأرض الحرب، وفي المقدمات: حمل جماعة من أهل العلم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنع نقع بير)(ولا رهو ماء) على عمومه فقالوا: لا يحل بيع الماء ولا منعه بحال كان من بير أو غدير في أرض متملكة أو غيرها إلا أنه في المتملك أحق بقدر حاجته منه، وهو قول يحيى في العتبية: أربع لا يمنعن الماء والنار والحطب والكلأ، قلت: الأظهر أن لا خلاف في أن رب الماء المستخرج في أرضه أحق به كالماء في الآنية، وهو ظاهر قول عياض في الإكمال، ونقل الباجي واللخمي، وإياهم تبع ابن شأس وابن الحاجب، وأخْذُ ابنِ رشد خلافَه من قول يحيى المتقدم واتَباعُه ابن عبد السلام وابنُ هارون يُرَدُّ باحتمال حمله على المياه في الأرض الملوكة بنزول وتفجر فيها دون تسبب فيه بحفر، ونحوه ولذا قرنه بالنار والحطب والكلإ. اهـ. ورد الرهوني هذا التعقب وقوى ما قاله ابن رشد غاية. والله تعالى أعلم. فلا فرق بين ما تسبب فيه وغيره على ما ليحيى، ومثل ما في المقدمات في البيان، وزاد قولا ثالثا بعد أن ذكر أن المسرح يقسم، قال: فيجوز لمن أخذ نصيبه وأراد أن يقره مسرحا لماشيته أن يحميه من الناس ويبيع كلأه، قال يحيى: قد كرهه بعضهم، وأجازه بعضهم وقول الذي كرهه أعجب إليَّ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلإ (1)). فقد نهى عن فضل الماء فكيف الكلأ؟ فلا أرى أن يبيعه ولا يمنعه. وقال ابن رشد: والحكم في الحطب كالحكم في الكلإ سواء على التفصيل الذي ذكرناه، وأما الماء فالكلام إنما هو في فضلته، فما كان في ملك الرجل منه فاختلف هل له أن يمنع فضلته من جاره فيما يريد من الابتداء بالانتفاع به أم لا؟ على ثلاثة أقوال، أحدها: أن له أن يمنعه إياها إلا بثمن يوجبه عليه

1 - البخاري، كتاب الحيل، رقم الحديث 6962.

ص: 359

وجد لها ثمنا عند سواه أو لم يجده وهو المشهور في المذهب، والثاني: ليس له أن يمنعه إياها إلا أن يجد لها ثمنا عند سواه، فإن لم يجد لها ثمنا عند سواه لم يكن له أن يحبسها عنه وهو لا يحتاج إليها، والقول الثالث: أنه ليس له أن يمنعه إياها بحال، ولا أن يأخذ فيها ثمنا من أحد، وهذا هو الذي ذهب إليه يحيى على ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يمنع نقع بير (1)) ولا يمنع رهو ماء (2)). وهذا كله في المعين أو البير التي تكون في أرض الرجل ولا ضرر عليه في الدخول إلي الاستقاء منها، وأما البير تكون في دار الرجل أو في حائطه الذي حظر عليه فله أن يمنع من الدخول عليه في ذلك، وأما النار فلا اختلاف أنه لا يجوز لأحد أن يمنع من الاقتباس منها إذا كان لا يضر به لنهيه عليه الصلاة والسلام، (عن الضرر والضرار (3)). اهـ. وقال اللخمي: وأما الماء يكون في الأرض المملوكة فعلى ثلاثة أوجه، أحدها: أن يجتمع فيها منها ولم يدخل إليها من غيرها. والثاني: أن يصير إليها من غيرها. والثالث: أن يرده إليه، فإن اجتمع فيها منها كان صاحبه أحق بما تحتاجه أرضه، وإن كان أكثر من الكعبين، فإن فضل منها وكانت له أرض أخرى كان له أن يخرجه إليها ولا مقال لمن أرضه أسفل منه، فإن لم يكن له أرض أخرى كان للأسفل بغير ثمن بخلاف الكلإ، لأن هذا إن أمسك فضل الماء فسد ما فيها من الزرع، وإن لم يكن له زرع فهو يرسله إذا أراد الزرع فلم يكن له أن يأخذ ثمنا، وجعل ابن سحنون الجواب في السيل يدخل أرض رجل مثل ذلك. اهـ. وقال ابن عرفة بعد نقله كلام اللخمي ما نصه: عزاه الباجي لسحنون لا لابنه. انتهى.

الثالث: قد مر عن ابن رشد أن له منع الفضلة على المشهور وإن لم يجد لها ثمنا على المشهور، قال الرهوني: وهو مشكل مع ما نقله عنه الحطاب، وأبو علي من أن من قرب من الماء له أن ينتفع بالفضلة دون ثمن اتفاقا إن لم يجد لها ثمنا، وعلى اختلاف إن وجد لها ثمنا، ومشكل مع ما في المعيار، وأما الانتفاع بالشرب والوضوء منه والاستقاء منه وغسل الأثواب من هذا الماء إن

1 - الموطا، كتاب الأقضية، رقم الحديث 30.

2 -

مسند أحمد، ج 6 ص، بلفظ: لا يمنع نقع ماء ولا رهو بير.

3 -

الموطأ، كتاب الأقضية، رقم الحديث 31.

ص: 360

ثبت أنه حبس أو ثبت أنه ملك لمعين من الناس فإن ذلك كله جائز بغير إذن مالكه، قال أشهب في العتبية: وليس لمالكه منع الناس من ذلك، قال ابن رشد: ولا اختلاف في ذلك، ورأيت للمحاسبي رضي الله تعالى عنه مثل ذلك في الشرب والوضوء ولم يتكلم في الغسل. اهـ. ونقله أبو علي هنا وسلمه، وكلا النقلين عن ابن رشد صحيح.

والأرجح بالثمن، قوله: الأرجح بصيغة الاسم ويكون راجعا للمفهوم، يعني أنه إذا كان مع المضطر الثمن فإن مذهب المدونة أنه يجب على صاحب الماء بذله له بالثمن خلافا لمن قال: إنه لا ثمن لصاحب الماء وإن كان موجودا مع المسافر، ورجح ابن يونس مذهب المدونة، وإلى ترجيح ابن يونس لمذهب المدونة أشار المص بقوله: والأرجح بالثمن، وبهذا تعلم أن ما قاله غير واحد: أن قوله: والأرجح بالثمن، يرد عليه أنه نص المدونة، وليس لابن يونس فيه ترجيح. قال الشبراخيتي: وإنما له فيه نقله وتقريره على ما هو عليه. اهـ. غير ظاهر، بل الظاهر ما للمص رحمه الله تعالى، قال أبو علي فإن قيل: مذهب المدونة هو هذا، فلا يحتاج إلى من يرجحه، قلنا: مذهبها إذا خولف يحتاج إلى ترجيح، ولذا تجد ابن رشد وأضرابه إذا حكوا الخلاف في المسألة يقولون: ومذهب المدونة أصح وأشهر وأبين إلى غير ذلك، وهنا مذهبها قد خولف، وأنه لا ثمن لصاحب الماء وإن كان موجودا مع المسافر. اهـ. قال الرهوني: وهو ظاهر بل تجدهم في بعض المواضع يرجحون خلاف مذهبها، فكيف لا يحتاج إلى ترجيح؟ والله تعالى أعلم. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: وهذا الذي قاله هذان الإمامان الجليلان بين ظاهر لا غبار عليه. والله تعالى أعلم. وفي الحطاب: قال في المدونة في كتاب حريم الآبار: ولو حرث جار لك على غير أصل ماءٍ له فلك منعه أن يسقي بفضل ماء بيرك التي في أرضك إلا بثمن إن شئت. أبو الحسن: قالوا: هذا إذا كان له ثمن. ابن يونس: أما إذا كان لا ثمن له ولا ينتفع صاحبه بفضله، فما الذي يمنع الجار أن يبتدئ الزرع عليه؟ وذكره أبو إسحاق. اهـ. وقال ابن رشد: من حق من قرب من المياه أن ينتفع بما فضل منها دون ثمن إن لم يجد له صاحبه ثمنا باتفاق، وإن وجد له ثمنا فعلى اختلاف. اهـ.

ص: 361

كفضل بير زرع خيف على زرع جاره بهدم بيره، تشبيه في عدم المنع من الماء وفي أخذ الثمن إن وجد مع جاره على ما رجحه ابن يونس، والمعنى أن من له بير يسقي منها زرعه ففضل عن سقي زرعه فضلة من الماء وله جار له زرع أنشأه على أصل ماء فانهدمت بير زرع الجار وخيف على الزرع الهلاك من أجل العطش. وأخذ الجار يصلح بيره المنهدمة فإنه يجب عليه بذك الفضلة لسقي زرع جاره، ويجبر على ذلك بالثمن إن وجد على ما رجحه ابن يونس، فإن لم يكن مع الجار ثمن فلا شيء لصاحب الفضلة، بل يجب عليه بذله له مجانا، فإن انخرم شرط من هذه الشروط فلا يجبر على دفع الفضلة، بأن كان زرع الجار لا على أصل ماء لأنه قد عرض زرعه للهلاك، أو لم تنهدم بيره، أو لم يشرع في إصلاحها، وقوله: بهدم بيره، متعلق بخيف، والباء سببية، وهذا المقيد يستفاد منه أن الزرع على أصل ماء إذ نسبة الزرع إلى البير ظاهرة في أن الأصل ماء سابق نشأ عنه هذا الزرع، وقوله: أخذ يصلح، أي شرع وقوله: وأخذ يصلح، وينبغي أن يكون ممن يقدر على الإصلاح، ومثل الهدم النزح، وما أفاده التشبيه من أنه يدفع الثمن إن وجد على ما رجحه ابن يونس ضعيف، لأن ظاهر المدونة في مسألة الزرع لا ثمن له فيها سواء وجد أم لا، بخلاف مسألة من خيف عليه الهلاك فيدفع له الثمن إن وجد، وفرق بعض بأن المسافرين مختارون بسبب السفر، والذي انهارت بيره ليس بمختار، أي أن الغالب في المسافر أن يكون مختارا، وفي الزرع أن يكون مضطرا، والمراد بالجار ما يمكنه سقي زرعه من ماء البير، وإن لم يكن ملاصقا. وقوله:

وأجبر عليه، أي على إعطاء الفضل راجع للفرعين، أي لقوله: إلا من خيف عليه لخ: ولقوله: كفضل بير زرع لخ، قاله غير واحد. وقال الشبراخيتي: كفضل ماء بير زرع فلو لم يفضل عن زرعه شيء لم يجب عليه، رواه ابن القاسم وابن نافع وأشهب، وفي كلام المص حذف مضاف أي كبذل فضل لخ. اهـ. فلدفع الماء في هذه المسألة أربعة شروط، أحدها: أن يكون الماء فاضلا عن سقي زرعه، فيجب عليه بذل الفضل، وعلم مما قررت أن التشبيه في الحكم أي وجوب بذل الفضل وفي الترجيح، والثاني قوله: خيف على زرع جاره أو نخله الهلاك، فلا مفهوم للزرع ولو لم يخف عليه لم يجب. رواه أشهب. قاله الشبراخيتي. وقال: والمراد بالجار من يمكنه سقي

ص: 362

زرعه من ماء البير وإن لم يكن ملاصقا، فالجار ليس بشرط، وإذا كان جيرانه فيهم أقرب وأبعد وطلب من الأبعد فليس له أن يقول خذ من الأقرب كما يفيده ظاهر تفسير الجار بمن يمكنه السقي منه، وقوله: خيف على زرع جاره، جملة حالية من محذوف، والمحذوف مجرور متعلق بالمضاف القدر، والتقدير كبذل فضل بير زرع لجار حالَة كونه قد خيف على زرعه، ولما حذف صاحب الحال أقام الظاهر مقام الضمير، فقال: زرع جاره. والشرط الثالث قوله: بهدم بيره أو نزحه، وفهم منه أنه زرع على ماء، فلو زرع لا على ماء لم يجب على جاره لمخاطرته وتعريضه للهلاك. قاله ابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ وابن القاسم وأشهب، ورووه. والمراد بالخوف الظن، وأشار إلى الشرط الرابع من الشروط بقوله: وأخذ يصلح، أي شرح يصلح، فإذا لم يأخذ في الإصلاح فلا يلزمه دفع فضل الماء إليه، وهذا الشرط معتبر مع الإمكان أما مع عدمه فلا. اهـ. وقال عبد الباقي: وما ذكره ابن يونس وتبعه المص خلاف ما في المدونة من أنه لا ثمن على صاحب الزرع وإن وجد معه، وما فيها هو المعتمد، فإن قيل: يقال على المعتمد الذي هو مذهب المدونة لم يأخذ بالثمن على إحياء المهج في مسألة العطش إن وجد معه وفي مسألة الزرع هذه يأخذ بلا ثمن؟ فالجواب: أن الماء في مسألة الزرع لا ثمن له عندهم لكونه فاضلا عن حاجة صاحبه، بخلافه لإحياء نفس المسافر المجهود لوجوب تقديمه على دواب رب الماء ومواشيه وزرعه، ثانيهما: أن المسافرين مختارون بسبب السفر لخ، وقوله: خيف على زرع جاره، قال عبد الباقي: وينبغي وجوب بذله إذا خيف تلف بعض زرع ربه وهلاك جميع زرع الجار ارتكابا لأخف الضررين مع غرم قيمة البعض الذي يتلف لرب الماء على من يأخذه، وقوله: خيف أي ظن، فإن لم يكن يظن هلاكه عادة بأن شك فقط لم يجب.

تنبيه: قال الرهوني بعد جلب نقول: وحاصل كلامه يعني ابن رشد في هذه المواضع التي نقلها أن ما كان يملكه من الماء وكان محظرا عليه أو غير محظر عليه وفي انتفاع غيره بفضلته ضرر عليه فله منع غيره من ذلك اتفاقا، إلا أن يخاف على غيره الهلاك من العطش فيجري على حكم المواساة كالطعام، وغير المحظر عليه مما لا ضرر فيه عليه إن أراد أحد أن ينتفع بفضلته بابتداء غرس شجر عليه أو زرع أو خضر ونحو ذلك، ففي منعه منه ثالثها إن وجد له ثمنا عند غيره،

ص: 363

والأول هو المشهور، وإن أراد أن ينتفع به في سقي شجر ونحوه كأن تقدم له سقيه بها قبل وعليه أنشاها فإن كان ابتداء غرسه عليه بلا علم من صاحب الماء فله الانتفاع بها بلا ثمن، ويوجل له [إلى (1)] أن يحفر بيرا أو يستنبط عينا إن لم يجد لها ثمنا عند غيره، وإلا فله منعه منه إلا بثمن، وهو أحق بها بما أعْطِيَ فيها قبل نفوذ البيع فيها لغيره، وإلا فلا كلام له، وإن كان يعلم صاحبه به وسكت أولا فهو أحق بها بلا ثمن مطلقا لكن يوجل كالذي قبله، وإن صرح له بالإذن فإن كان على وجه الهبة أو الصدقة أو نحوهما من أوجه التمليك جرى على حكم ذلك، أو بالعارية المقيدة أو المطلقة فكذلك، وإن احتمل الأمر حمل على العارية بعد يمينه، وأما الانتفاع

بالشرب والوضوء وغسل الثياب فليس له المنع من ذلك قولا واحدا. اهـ المراد منه.

كفضل بير ماشية بصحراء، تشبيه في الجبر، والمعنى أن من حفر بيرا للماشية في الصحراء وفضل من مائها فضلة فليس له أن يمنع ذلك الفضل ممن طلبه ويجبر على بذله له بلا ثمن، وهو مراده بقوله: هدرا، لأنه لا يجوز له بيعه ولا هبته ولا يورث عنه، وهذا أي محل وجوب بذله له هدرا إن لم يبين، حين حفرها الملكية، وأما إن بين حين حفرها الملكية فله حينئذ أن يمنع الناس منها، قال الخرشي: والمعنى أن من حفر بيرا في البادية في غير ملكه لماشية وفضل منها فضلة فليس له أن يمنع ذلك ممن طلبه أو أراده ويأخذه بلا ثمن، وهو مراده بالهدر، ولا يجوز له بيعه ولا هبته، ولا يورث عنه، هذا حيث لم يبين الملكية، فإن بينها فله حينئذ أن يمنع الناس منها، ومعنى بيان الملكية أن يقيم بينة تشهد له أنه بناها لنفسه، فقوله: كفضل بير ماشية لخ، مشبه بقوله: وأجبر أي كما يجبر على دفع فضل بير الماشية إذا بنيت بصحراء في أرض موات لا في غيرها ومثل بير الماشية بير الشفة وهي التي يستقي الناس منها، وإنما كان فضل بير الزرع لصاحبه منعه وبيعه بخلاف فضل بير الماشية حيث لم يبين الملكية فإنه ليس له منعها ولا بيعها، لأن حافر بير الماشية نيته في حفرها أن يكون له قدر كفايته، وأما حافر بير الزرع فنيته أن يكون له جميع ما فيها، ولا منافاة بين ما هنا وما تقدم من أن حفر بير الماشية لا يكون إحياء

1 - ساقط من الأصل والمثبت من الرهوني ج 7 ص 120.

ص: 364

لتلك الأرض، وأن البير نفسها لا يمنع أحد من فضلها إن لم يبين الملكية، فإن بيَّنها فله المنع، وهذا الكلام صحيح في نفسه: إلا أن الشيخ أبا الحسن عارض بين الموضعين، وأجاب بما حاصله: أن الأول لم يبين الملكية فلا يكون إحياء، والثاني بيَّن فيه الملكية بأن يشهد عند الحفر أنها ملكه. اهـ كلام الخرشي. وقال عبد الباقي: وشبه تشبيها ناقصا في الجبر بدون الشروط السابقة وبدون اضطرار في أخذه لغير ذي زرع، ولذا لم يعطف بالواو، وقوله: كفضل أي كبذل فضل بير ماشية أو شفة بصحراء بذلا هدرا أي بلا ثمن ولو مع وجوده، وليس له منعه مع فضله عن حاجته كما أشار له بقوله: كفضل ولا يجوز له بيعه ولا هبته ولا يورث عنه، هذا كله إن لم يبين حين حفرها الملكية لعدم الإحياء به حينئذ، ولأن نيته أخذ كفايته فقط، فإن بينها بأن أشهد عند الحفر أنها له لم يجب بذلها بدون ثمن لاختصاصه بها حينئذ لأنه إحياء. اهـ. وقال الشبراخيتي: كفضل ماء بير ماشية حفرها بصحراء في أرض موات فإنه يجبر على دفع فضل مائها هدرا لأنه لا يجوز له بيعه ولا هبته ولا يورث عنه، وشرط في قوله: هدرا قوله: إن لم يبين الملكية فإن بينها فله المنع، ويحصل تبيين الملكية بأن يشهد عند الحفر أنها لنفسه أو أنها ملكه، ومثل بير الماشية بير الشفة وهي التي يستقي الناس منها، وتقدم مفهوم بصحراء وهو حفرها بملكه، ولا منافاة بين ما هنا وبين ما تقدم من أن حفر بير الماشية لا يكون إحياء، لأن ما تقدم حيث لم يبين الملكية، وما هنا حيث بين الملكية فيكون إحياء، كما أجاب به الشيخ أبو الحسن، أو أن حفر بير الماشية لا يكون إحياء لتلك الأرض، وأن البير نفسها لا يمنع أحد فضلها إن لم يبين الملكية فإن بينها فله المنع، أو أن ما هنا حيث أشهد على الملكية، وما تقدم حيث ادعى ذلك فقط. اهـ. وقال بناني عند قوله: إن لم يبين الملكية: قال في المقدمات: ولو أشهد عند حفره إياها أنه إنما يحفرها لنفسه لوجب أن لا يمنع من بيع مائها وأن يستحقها ملكا بالإحياء على حكم إحياء الموات، قال في المدونة: أكره بيع ماء بير الماشية، وقال في المجموعة: لا يجوز ذلك، فقيل: إنه اختلاف من القول، والصحيح أن ذلك إنما يعود إلى الفرق بين أن يحفرها على وجه الصدقة أو على غير وجه الصدقة. انتهى. وقال المواق: سمع القرينان: لا تباع مياه المواشي، ولا تمنع من أحد، ولا يصلح فيها عطاء. ابن رشد: مياه المواشي هي الآبار

ص: 365

والمواجل والجباب يصنعها الرجل في البراري للماشية، هو أحق بما يحتاج لماشيته ويدع الفضل للناس، والبير والماجل والجب عند مالك سواء، فلو أشهد عند حفرها أنه يحفرها لنفسه لم يمنع من بيع مائها واستحقها ملكا بالإحياء.

وبدئ بمسافر، يعني أنه إذا اجتمع على بير الماشية التي فضل عن ري ربها مستحقون والماء يكفيهم فإنه يبدأ وجوبا بالمسافر غنيا أو فقيرا لاحتياجه لسرعة السير، يعني يبدأ بعد ري ربها، قال ابن رشد: وجه التبدئة في الشراب في بير الماشية إذا كان الماء يقوم بالجميع أن يبدأوا أهل الماء فيأخذوا لأنفسهم حتى يرووا، ثم المارة حتى يرووا، ثم دواب أهل الماء حتى يرووا. اهـ.

وله عارية آلة، يعني أن المسافر له على رب الماء وعلى الحاضر إعارة آلة السقي أي يجب عليهم أن يدفعوا له آلة الاستقاء كالدلو والرشاء إن لم تكن له آلة، والضمير في له لرب الماء أو الحاضر، واللام بمعنى على أو للمسافر، فهو حق له يقضى له به، وهذا ما لم يجعل رب الماء أو الحاضر الآلة للإجارة وإلا أخذ الأجرة وتبعه بها إن لم توجد معه. قاله عبد الباقي. وقال المواق: قال ابن عرفة: لابن السبيل عارية الدلو والرشاء والحوض إن لم تكن أداة تعينه، ويخلى بينه وبين البركة فيسقي. ابن عبد السلام: ظاهر إطلاقات أهل المذهب وجوب عارية هذه الآلة للملي والفقير، ولعل هذا لأن مالكها لم يتخذها لكراء. ابن عرفة: مقتضاه لو اتخذها مالكها للكراء لم تجب عليه عاريتها للمسافر، ومقتضى الرواية خلافه. اهـ. وقال الشبراخيتي: وله عارية آلة، الضمير في له إن عاد لرب الماء فاللام بمعنى على، أي عليه ذلك للمسافر، وإن عاد على المسافر لم يحتج لجعلها بمعنى على، وهذا ما لم يتخذها صاحبها للإجارة، فإن اتخذها لها فله أن لا يعطيها إلا بأجرة، سواء كانت معه أو لا ويتبعه بها، وليست كالماء فإنما يوخذ ثمنه إن وجد معه لأن أصله بلا شيء. اهـ. قوله: وهذا ما لم يتخذها لخ، قال بناني: أصل هذا المقيد لابن عبد السلام، وبحث معه ابن عرفة، فقال: مقتضى الروايات خلافه. اهـ. وقال التتائي: وله أي للمسافر على الحاضر، وقال البساطي: وعلى ذي الماء عارية آلة كالدلو والرشاء والحوض إن احتاج إليها لاستخراج الماء، والرشاء ممدود الحبل. اهـ.

ص: 366

ثم حاضر، يعني أنه بعد التبدئة برب الماء يبدأ بالمسافر بعد ذلك، ثم بعد المسافر يبدأ بالحاضر، فيبدأ بأرباب الماء حتى يرووا، ثم بالمسافرين حتى يرووا، ثم بالحاضرين حتى يرووا. ثم دابة ربها، يعني أنه يبدأ بعد أرباب الماء والمسافرين والحاضرين بدابة رب الماء، يعني أن التبدئة بالأنفس هي ما مر، فإذا رووا الناس فإنه يبدأ بعد ذلك بدابة رب البير، ثم بدابة المسافر، ثم مواشي ربها، ثم مواشي الناس. قال المواق: قال ابن رشد: وجه البتدئة في الشراب في بير الماشية إذا كان الماء يقوم بالجميع أن يبدءوا أولا أهل الماء فيأخذوا لأنفسهم حتى يرووا، ثم المارة حتى يرووا، ثم دواب أهل الماء حتى يرووا. اهـ ثم دابة المارة، ثم مواشي أهل الماء حتى يرووا، ثم الفضل لسائر مواشي الناس، وقال عبد الباقي: ثم دابة ربها أي البير، ثم دابة المسافر، ثم مواشي ربها، ثم مواشي الناس، كذا في المقدمات وهو يفيد كالمص أن مواشي المسافر مؤخرة عن دوابه، وما ذكره في تعليل تقديمه يخالف ذلك إذ تقديم دوابه وتأخير مواشيه يفيد انتظاره، فالوجه استواء مواشيه مع دوابه، وإنما لم يصرح في النص بذلك لأن الغالب أن المسافر لا مواشي له أو لأنها تذكى، بخلاف الدواب فإنه إذا خيف موتها خيف على المسافر، والتعليل يفيد أنها إن كانت معه فإنها تكون مع دوابه فما وقع في كلام بعضهم كالأقفهسي من التصريح بتأخير مواشي المسافر عن دوابه وأنها بعد مواشي أهل الماء التالية في المرتبة لدواب المسافر فيه نظر. قاله أحمد مع بعض زيادة عليه. اهـ. وقال الشبراخيتي: ثم دابة ربها، أي البير، ثم دابة الحاضر، ثم مواشي رب الماء، ثم مواشي المسافر، ثم مواشي الحاضر. فالمراتب تسعة، وسكوته في المدونة عن ماشية المسافر اعتذروا عنه بأن الغالب أن المسافر لا ماشية له، وأن الذي يصحب المسافر في الغالب هو الدواب فقط، والفرق بين الدواب والمواشي أن الدواب إذا خيف موتها لا تذكى فتوكل، بخلاف المواشي. اهـ.

لجميع الري: يعني أنه إذا كان في الماء كفاية لجميع ما مر فإن المبدأ يبدأ إلى أن يروى، فاللام لام الغاية، أي وبدئ بالمسافر بعد التبدئة برب الماء، ثم حاضر لجميع الري إلى آخر المراتب، وقوله: لجميع، متعلق ببدئ، والري بكسر الراء وفتحها، قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: انظر قوله: لجميع الري، لم جمع بين جميع والري؟ والذي يظهر لي أنه أراد بالري الجنس،

ص: 367

أي ري كل فرد من الأفراد أي إلى أن يحصل ري رب الماء وري المسافر وري الحاضر وهكذا، وفي بعض النسخ بالباء وهي بدل اشتمال من بمسافر، وادعاء فساد هذا الإعراب غير ظاهر. والله تعالى أعلم.

وإلا أي وإن لم يكن في الماء كفاية لجميع الري فإنه يبدأ بنفس المجهود أي بالذات المجهودة، عاقلة أم لا: قال عبد الباقي: وإلا يكن في الماء فضل عن ري ربه بحيث يُروِي غيره فبنفس المجهود، أي يبدأ بالذات المجهودة عاقلة أم لا، ولو غير ربه ودابته، والظاهر ارتكابا لأخف الضررين التبدئة بما يزيل الهلاك فقط لا لجميع الري. اهـ. قال بناني: ما استظهره هو صريح ابن رشد، ونقله ابن عرفة. انتهى. وقال عبد الباقي: وقال ابن رشد: فإن استووا في الجهد تواسوا عند أشهب. اهـ. وذهب ابن لبابة إلى أن أهل الماء أحق بتقديم أنفسهم ودوابهم وهما قولان متساويان، ولكن الأظهر الثاني لموافقته لقول المص: وفضل طعام وشراب لمضطر، إلا أن قوله فيه: ودوابهم، أي على دواب المارة لا على أنفسهم لوجوب تقديم حفظ النفس العاقلة على غيرها مجهودين، وقوله: تساووا (1) أي شرب كل قدر ما يدفع الجهد لا أنهم يروون، ونحوه في الشارح. اهـ. وقال الشبراخيتي: وإلا أي وإن لم يكن في الماء فضل وهو ما صرح به ابن رشد فبنفس المجهود أي الذين يجهدهم التأخير لا المجهود بالفعل، فإن هذا يقدم من غير تفصيل لأن هذا من باب المواساة والكلام السابق لا مجهود فيه، وقوله: فبنفس المجهود من الآدميين أو غيرهم ويسقط الترتيب، فإن خيف الموت رجع إلى الترتيب السابق، فإن كان الحاصل مستو في الجهد فهل يتواسون أو يقدم رب الماء؟ قولان. وقال المواق: ابن رشد: فإن لم يكن الماء يقوم بالجميع وتبدئة أحدهم تجهد الآخر بدئ مَن الجهد عليه أكثر بتبدئة صاحبه، فإن استووا في الجهد فقيل: يتواسون. وقيل: يبدأ أهل الماء. اهـ. وقوله: يتواسون، أي يشرب كل منهم قدر ما يدفع الجهد. قاله عبد الباقي. وإن سال مطر بمباح سقي الأعلى إن تقدم للكعب، قال الخرشي: يعني أن الماء إذا سال بمكان مباح وهناك قوم لهم جنان فإن الأعلى وهو الذي يقرب من الماء يبدأ

1 - في عبد الباقي: تواسوا ج 7 ص 72.

ص: 368

بالسقي لزرعه أو شجره حتى يبلغ الماء الكعب، وهذا إن تقدم الأعلى في الإحياء على غيره أو كان إحياؤهما معا، فإن كان الأسفل هو المتقدم في الإحياء فإنه يقدم في السقي لزرعه أو شجره على الأعلى ويرسل الفضل للأعلى، قال الخرشي: هذا حيث خيف على الأسفل الهلاك وإلا قدم الأعلى المتأخر عن الأسفل في الإحياء، فلو قال المؤلف: إن تقدم أو ساوى كأن تأخر ما لم يخف على الأسفل الهلاك لأدى المراد، واحترز بالمباح مما لو سال المطر بمكان مملوك فإن صاحبه له منعه من غيره كما مر، ولو قال: وإن سال ماء بمباح، كفى وشمل المطر والنيل والعين واستغنى عن التنزل للنيل، لكن إنما فرضها أولا في المطر لأن (الحديث الشريف) إنما ورد فيه، والمراد بالكعب الجندى أي للكعبين، والمراد بهما ما تقدم في باب الوضوء وهما العظمان الناتئان بمفصلي الساقين لا العظمان الصغيران الكائنان بمعقد الشراك. اهـ. ويأتي ما في تقييد الخرشي ثم إذا بلغ الماء الكعب يرسل لمن يليه جميع الماء على المعتمد لا ما زاد على الكعب فقط. قاله عبد الباقي. قوله: على المعتمد لخ، قال بناني: هذا قول ابن القاسم، لكن الذي استظهره ابن رشد هو القول الثاني، ونصه في المقدمات: ثم اختلف هل يرسل إلى الأسفل جميع الماء ولا يبقى منه شيء وهو قول ابن القاسم أو يرسل ما زاد على الكعبين وهو قول مطرف وابن الماجشون وابن وهب؟ وهو الأظهر. انتهى. ومعناه في الثاني يرسل الماء من وراء جنانه ويبقي فيه ما وصل للكعبين، قال عبد الباقي: ومفهوم الشرط أن الأسفل إذا تقدم إحياؤه فإنه أحق، ثم ذكر تقييد الخرشي وأصله للأجهوري، وتعقب المصطفى هذا التقييد ولم يرتضه، قال الرهوني: ويشهد للمصطفى ما في المعيار عن المازري ونصه: الماء لصاحب الجنان الأسفل لأنه قد حازه أولا وملك الماء قبل هذا الثاني فيكون أحق به وإن كان أبعد عن الماء لأنه قد سبق بالإحداث. اهـ. وبهذا وقعت الفتوي من غير واحد ممن يعتد بفتواه، وأجاب الفقيه راشد بصحة هذا وأنه لا حق للأعلين إلا ما فضل عن غروس الأسفلين القديمة، وأجاب سيدي أبو الحسن الصغير بما نصه: أجوبة الشيوخ رضي الله تعالى عنهم صحيحة لا إشكال فيها أن الماء غير المتملك إذا غرس الأعلى والأسفل معا أو غرس الأعلى قبل الأسفل أن يكون الأعلى أحق بمقدار كفايته ثم يرسل فضله على الأسفلين على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في سيل مهزور، وإن غرس الأسفل قبل

ص: 369

الأعلى انعكس الأمر، فيكون الأسفل أحق بكفايته، ثم يكون الفضل للأعلى، هذا قول ابن القاسم، وبه أفتى ابن رشد رحمة الله تعالى على جميعهم في نوازله، ووجهه أن الأسفل إذا غرس قبل الأعلى فقد استحق قدر كفاية غرسه، فليس لأحد أن يحدث ليبطل ما استحقه بحوزه. اهـ. وكلام ابن القاسم صحيح إلا أنه لا يجب الحكم به إلا بعد ثبوت تقدم غرس الأسفلين. قاله الرهوني. وقال بعد جلب كثير من المنقول: فتحصل أن ما قاله مصطفى هو الصواب لا ما قاله الأجهوري، وقول مصطفى: إن ما قاله الأجهوري لا مستند له فيه نظر، فالصواب ما لأبي علي، ونصه: وقد تحصل من هذا أن الأسفل إذا تقدم هو أولى من الأعلى خيف فساد زرعه أم لا انفرد بالانتفاع أم لا، مع كون الخلاف في المسألة. اهـ. وقوله مهزور بتقديم الزاي على الواو وتأخير الراي هذا هو الصواب، وعكس بعضهم، وفي النهاية في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم (قضى في سيل مهزور ومذينيب أن يحبس حتى يبلغ الماء الكعبين (1)). ومهزور وادي بني قريظة بالحجاز، فأما تقديم الراء على الزاي فموضع سوق المدينة تصدق به رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين. اهـ كلام الرهوني. وقال غير واحد: وأما الجنان مع الرحى فتقدم على الرحى ولو تأخرت في الإحياء عن الرحى وكانت أقرب من الجنان للماء كما قال ابن رشد، لأن ماء الجنان يصرف إذا بلغ الكعب للرحا، ولا يصرف ماء الرحى لها، ولأن تأخير سقي الجنان قد يؤدي لتلف ما في الحائط، وتأخير الماء عن الرحى لا يؤدي لتلفها، وإنما يؤدي لتعطيلها. هكذا ظهر في توجيهه. قاله الأجهوري. وقال الرهوني: سئل ابن وهب عن القوم يكون لهم مرج يزرعون فيه وللمرج واد فإذا كانت السيول سقى مرجهم وإن ذلك الوادي انصرف عن موضعهم إلى مرج غيرهم، هل يجوز لهم أن يسدوا مصرف الوادي عن مرج الآخرين حتى يرجع إليهم؟ قال: إن كان الماء قد دخل أرضهم قبل أن ينصرف فهم أولى به حتى يسقوا به ما عندهم ثم يسرحوا الفضل إلى إخوانهم حتى يسقوا ما عندهم، وإن كان الماء إنما انصرف عنهم قبل أن يدخل شيئا من أرضهم فلا أرى لهم أن يقطعوه عن إخوانهم إلا أن يكون فيه سعة لهم جميعا، لأن الماء غيث

1 - النهاية في غريب الحديث والأثر.

ص: 370

يسوقه الله تعالى إلى من يشاء، وقد قال الله تعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} . يريد المطر، فإذا صرفه الله تعالى إلى قوم فلا ينبغي لأحد أن يقطعه دونهم إلا أن يكون ذلك الماء وقع بأرضهم فهم أولى به حتى يسقوا ما عندهم، فأما أن ينقلوه من مكان بعيد فيصرفوه إليهم دون من هو أقرب إليه منهم فلا. قال ابن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، والأصل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيل مهزور ومذينيب: يسقي الأعلى إلى الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل؛ لأنهما واديان من أودية المدينة يسيلان بالمطر. اهـ. وفي القاموس: والمذنب كمنبر المغرفة، ومسيل الماء إلى الأرض، ومسيل في الحضيض، والجدول يسيل عن الروضة بمائها إلى غيرها. اهـ. وقد مر مفهوم قول المص: إن تقدم، وهو أنه إن تقدم إحياء الأسفل أي الأبعد يكون الأسفل أحق بالماء فيسقي للكعب ثم يرسل للأعلى، وهذا هو المشهور كما مر، وقال ابن عرفة: في شرط تقديم الأسفل على الأعلى بمجرد تقدم إحيائه على الأعلى، أو مع خوف هلاك زرعه: ثالثها: مع انفراده بالانتفاع بالماء، لنقل ابن الحاجب مع ظاهر سماع أصبغ ابنَ القاسم، وقول سحنون، وتفسير أصبغ قول ابن القاسم. اهـ.

وأمر بالتسوية، يعني أن صاحب الأعلى يومر بالتسوية الممكنة لأرض حائطه التي بعضها أعلى من بعض، وليس له حبسها للكعب من غير تسويتها، وقوله: وأمر بالتسوية أي قضي عليه بها، قال عبد الباقي: وأمر صاحب الأعلى أي قضي عليه بالتسوية الممكنة لأرض حائطه التي بعضها أعلى من بعض، وليس له حبسها للكعب من غير تسويتها. وإلا يمكنه تسويتها لتعذرها وكان السقي في الأعلى لا يبلغ الكعبين حتى يكون في الأسفل أكثر من الكعبين.

فكحائطين، أي فالأعلى والأسفل كحائطين، والحكم في الحائطين أنه يسقى كل منهما على حدته حتى يبلغ كل منهما الكعبين ثم يرسل الماء للأسفل، فكذلك هنا تسقى الجهة العليا على حدتها للكعب، وتسقى الجهة السفلى على حدتها للكعب، فيصير هذا الحائط الذي هو غير

ص: 371

متساو كحائطين، فقوله: وإلَّا، راجع لصفة مقدرة بعد التسوية، أي التسوية الممكنة، أي وإن لم تمكن التسوية، ولم يصرح المص بهذه الصفة لأنه لا يومر بها إلا وهي ممكنة.

تنبيه: قد مر أن الأصل في هذه المسألة أعني قوله: وإن سال مطر بمباح، الحديث الذي قدمته، قال التتائي: وأصل هذه المسألة خبر الموطأ: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينيب: يمسكه حتى الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل (1)). أبو عمر: هما واديان بالمدينة شتويان يسيلان بالمطر يتنافس أهل المدينة في سيلهما، وفي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال للزبير لما أتاه مخاصما لغيره:(اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري، فقال يا رسول الله: أن كان ابنَ عَمتك، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا زبير اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر (2)، قال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} . الأزهري: نظرنا في قوله صلى الله عليه وسلم: احبس الماء حتى يبلغ الجدر فكان إلى الكعبين). قال الأئمة: وكان صلى الله عليه وسلم ندب الزبير إلى إسقاط بعض حقه رعيا للمجاورة، فلما تكلم الرجل بذلك الكلام استوفى للزبير حقه. اهـ.

وقسم للمتقابلين، هذا مفهوم قوله: وإن سال مطر بمباح سقي الأعلى إن تقدم، يعني أن الجنان إذا كانت متقابلة بالنسبة إلى الماء الذي سال بمباح أي ليس أحدهما أقرب إلى الماء من الآخر ولا تقدم إحياء بعضها عن بعض فإن الماء يقسم بينهم ولا يتقدم أحد منهم على غيره بل هم فيه سواء، قال سحنون: فإن كان الجنانان متقابلين فيما حكمه أن يكون للأعلى فالأعلى قسم الماء بينهم، وإن كان الأسفل مقابلا لبعض الأعلى حكم لما كان أعلى بحكم الأعلى ولمقابل الأسفل بحكم الأسفل. اهـ. قوله: فالأعلى عطف على الأعلى، وقسم جواب الشرط، وقوله: وقسم للمتقابلين، أي في الجهة، قال الأمير: وقسم بالتسوية. اهـ. أي لا على المساحة. والله تعالى

1 - الموطأ، كتاب الأقضية، رقم الحديث 28.

2 -

البخاري، كتاب الصلح، رقم الحديث 2708.

ص: 372

أعلم. وقولي: ولم يتقدم إحياء بعضها عن بعض، احترازٌ عما لو تقدم إحياء بعضها فقد مر أنه إن تقدم الأسفل في الإحياء تقدم في السقي فأحرى أحد المتقابلين. قاله بناني.

كالنيل، تشبيه في جميع ما مر من قوله: وإن سال مطر بمباح لخ، يعني أن النيل إذا سال فإنه يُسْقَى الأعلى إن تقدم للكعب إلى آخر ما مر من غير فرق يا فتى وإن مُلِّكَ أوَّلًا قسم، يعني أنه إذا ملك الماء أولا أي قبل وصوله إلى الأرض المملوكة لأرباب الجنان بأن اجتمع جماعة على إجرائه بأرضهم فإن الماء يقسم بينهم على حسب أعمالهم من غير تبدئة أعلى على أسفل لملكهم له قبل وصوله لأرضهم. ابن عرفة: وابتداء زمن الحظ من حين ابتداء جريه لأرض ذي الحظ ولو بعدت إن كان أصل أراضيهم شركة ثم قسمت بعد شركتهم في الماء لأن على ذلك قومت الأرض حين قسمها، وإلا فمن وقت وصوله لأرضه. اهـ. فإن قلت: لما اعتبر الحظ من حين ابتداء الجري حيث قسمت الأرض بعد شركتهم في الماء وأما في غير ذلك فمن حين وصول الماء إليه؟ قلت: لأنه إذا وقع القسم بعد شركتهم في الماء فإنما يعدل على أقلهم نصيبا بالقيمة فيراعى في التعديل قرب الماء وبعده، بخلاف ما إذا كان القسم قبل الشركة في الماء أو لم تكن بينهم شركة في الأرض.

بقلد، متعلق بقوله: قسم، يعني أن القسم يكون بالقلد، والباء للآلة والقلد بالكسر الحظ من الماء، وعند الفقهاء الآلة التي يتوصل بها لإعطاء كل ذي حق حقه من الماء، ومن صفته أن يثقب قدرٌ ويملأ ماء لأقلهم جزءًا ويجرى له النهر كله حتى ينفَدَ ما في القدر من الماء، ثم كذلك لغيره مرة أو أكثر بقدر حصته. أو غيره، أي يقسم بالقلد أو بغير المقلد كساعات رملية محققة، قال عبد الباقي: أو غيره كساعات رملية محققة، ولكن يراعى اختلاف كثرة الجري وقلته، فإن جريه عند كثرته أقوى من جريه عند قلته، فيرجع في ذلك لأهل المعرفة، فإن قالوا: جريه عند كثرته خمس درج يعدل جَرْيَه عند قلته ثمانيَ درج عمل بذلك، ومن ذلك جريه بالليل فإنه أكثر منه نهارا كما يفيده ابن عرفة، وقال: يقسم ماء اليل على حدته وماء النهار، وإذا ملئ القدر وأجري النهر لأحدهم حتى ينفد ما في القدر فإنه يحسب ابتداء زمن الحظ من حين ابتداء جري النهر لأرض ذي الحظ ولو بعدت إن كان أصل لخ، وقوله: أو غيره، ومنه أيضا قسمه بالأيام كيوم ويوم مثلا. قاله الشبراخيتي. ثم إن تراضَى الشركاء بتبدئة بعضهم على بعض فالأمر ظاهر،

ص: 373

وإن لم يتراضوا بتبدئة بعضهم على بعض أقرع بينهم لأجل التشاح في السبق، أي لأجل عدم تراضيهم على من يبدأ به منهم في أخذ نصيبه من الماء، أي إرسال النهر على زرعه أو غرسه، وإذا أقرع بينهم فمن خرج اسمه أولا بدئ به ويجرى له الماء إلى أن ينتهي قلده، ولا يتقيد ذلك بالكعبين، وفي كلام عبد الباقي نظر ظاهر، قال الشبراخيتي مفسرا للمص: أي أن الشركاء في ملك الماء إذا تشاحوا في التبدئة فإنه يقرع بينهم فمن خرج اسمه أولا بدئ به ثم الذي يليه وهكذا، وصفة القرعة أن تجعل أوراق بقدر عدد الشركاء ويكتب في كل ورقة اسم واحد من الشركاء، ثم يعطى الأوراق واحدة واحدة لهم فمن خرج اسمه في الذي أعطيت أولا بدئ به، ثم لمن خرج اسمه في الذي أعطيت ثانيا، وهكذا.

ولا يمنع صيد سمك، يعني أنه لا يجوز لأحد أن يمنع أحدا من أن يصيد سمكا من ماء الأودية والأنهار إن لم يكن ذلك في ملك أحد، لأن الماء لما كان غير مملوك والصيد غير مملوك كانا كسائر المباحات، فمن سبق إليه فهو أحق به سواء طرح فيه فتوالد أو جره الماء إلى تلك الأرض. وَإن من مُلْكِه. يعني أنه لا يجوز لأحد أن يمنع أحدا من أن يصيد سمكا حيث لم يكن في أرض مملوكة بل وإن كان الماء الذي فيه السمك في أرض مملوكة، فليس للمالك أن يمنع من صيد السمك في الماء الذي هو في أرض مملوكة له، وقوله: من حرف جر، فما قبل المبالغة حيث لم يكن الماء في ملكه لكونه في أرض غير مملوكة، بل وإن كان الماء من جهة ملكه، وقوله: وإن من ملكه شامل لملك الذات ولملك المنفعة فقط كأرض العنوة فإنها توقف بمجرد الاستيلاء، وإنما تقطع إمتاعا لا ملكا، وإنما لم يمنع صيد السمك من ملك وجاز له منع ماء يملكه كما مر لجهل قدر السمك ولأنه يقل ويكثر كما يفيده الشارح، بخلاف الماء لانضباطه غالبا. قاله عبد الباقي. وفي هذا التعليل عندي شيء لأن هذا إنما يظهر في البيع. والله تعالى أعلم. وهل عدم المنع في الأرض المملوكة منفعتها دون ذاتها كأرض العنوة بفتح المعين فقط صاد المالك أم لا، وأما الأرض المملوكة ذاتها فللمالك أن يمنع من أراد أن يصيد فيها من الصيد أراد المالك الصيد أم لا، أو عدم المنع حاصل مطلقا في أرض العنوة وغيرها إلا أن يصيد المالك أي يريد الصيد فله المنع من ذلك تأويلان، الأول لابن الكاتب، والثاني قال ابن يونس: لغيره من شيوخنا القرويين. اهـ. والتأويلان على قول المدونة، قال ابن القاسم: سألت مالكا عن بحيرات تكون عندنا بمصر لأهل قرى أراد أهلها بيع سمكها لمن يصيد فيها؟ قال مالك: لا يعجبني أن تباع لأنها تقل وتكثر ولا أحب لأحد أن يمنع أحدا

ص: 374

من تلك البحيرة يصيد فيها. اهـ. واختلف الشيوخ في تاويل قوله: لا أحب لأحد أن يمنع لخ، فقال ابن الكاتب: إنما منعهم من ذلك لأن الأرض ليست لهم إذ أرض مصر أرض خراج ولو كانت الأرض ملكا لهم لكان لهم منع الناس منها، وقال غيره من القرويين: إنما لا يمنع الناس منها إذا كان هو لا يصيد ذلك فلم يبق إلا أن يبيعه وهو لا يجوز لأن بيعه غرر فلا يمنع الناس منه، هذا ما نقله أبو الحسن في كتاب البيوع الفاسدة منه، ونص كلامه إثر قولها: ولا يمنع من أن يصيد فيها ولا الشرب منها، قال ابن الكاتب: إنما قال: لا يمنع أربابها الناس منها لأن الأرض ليست لهم وإنما هم منزلون بها، وإنما هي أرض مصر وهي أرض خراج السلطان، وأما لو كانت أرض إنسان وملكه فله منع الناس، ولا فرق بين ذلك وبين جوابه عمن حفر بيرا في أرضه أن له منعَ مائه من الناس وله بيعه. والله أعلم. وقال غيره من شيوخنا القرويين: إنما لا يمنع الناس منها إذا كان لا يصيد ذلك إذ لا يجوز بيعه، لأن بيعه غرر فلا يمنع الناس منه، كما قال في الكلإ إن احتاج إليه لرعي أو بيع فله منع الناس، منه وإن لم يحتج إليه ولا وجد له ثمنا فليخل بين الناس وبينه، فكذلك برك الحيتان، ولم يقف المواق على هذا فتوقف فيه. قال عبد الباقي: وعلم مما قررنا أن الاستثناء من التأويل الثاني المطوي في كلامه ومحلهما فيما ملكه حيث لا يضر به الصيد، فإن أضر به كاطلاع الصائد على حريمه وكإفساده زرعه عند دخوله للصيد منع اتفاقات ثم التأويلان ضعيفان، فإن المذهب أنه لا يمنع صيد سمك وإن من ملكه في أرض عنوة أو غيرها طرحت فتوالدت أو جرها الماء إلا في الصورة المستثناة التي قدمتها. انتهى. يعني بالصورة الصورةَ المستثناة بقوله: فإن أضر به كاطلاع الصائد لخ، وما ذكره عبد الباقي من أن التأويلين ضعيفان نحوه للفيشي، قال الرهوني: وهو الصواب، وقد نقل جسوس كلام الفيشي وسلمه، وهو حقيق بالتسليم، فإن جل الشيوخ لم يعرجوا على هذين التأويلين بحال، كالباجي واللخمي وابن رشد، وابن يونس في كتاب التجارة لأرض الحرب وفي كتاب حريم البير، وابن شأس وابن الحاجب وابن عرفة وغيرهم، وقد جزم في النوادر بأن مذهب ابن القاسم أنه ليس للمالك المنع ولم يحك عنه غيره، ونصه: قال أصبغ وابن القاسم: يسوى بين من كان في ملكهم وفي غير ملكهم كالكلإ. اهـ. وقال الباجي في منتقاه: وأما ما يحدث في المياه من الحيتان ففي المجموعة من رواية ابن القاسم عن مالك في البركة والغدير والحفرة فيها الحيتان: لا يعجبني أن يبيعها أهلها ولا ينبغي أن يبيعوا التصيد فيها وقال أشهب في المجموعة: من كانت له عين أو

ص: 375

غدير فيها سمك فإن كان طرح فيها سمكا فتوالدت فهو أولى به، وإن كان ذلك جاء من المطر فليس له أن يمنع من تصيده فيه إلا أن يضر به الصائدون؛ وقال سحنون في المجموعة: له أن يمنع مراعي أرضه وحيتان غدره لأن ذلك في ملكه وحوزه وذلك سواء. وروى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: ما كان من ذلك ملكا في حوزه فله منع الناس منه، وما كان في الأنهار والخلج التي لا تملك فليس لمن دنا إليه سكناه أن يمنع منه طارئا. وقال ابن الحاجب: وأما المملوكة فقال ابن القاسم: سألت مالكا عن بحيرات بمصر يبيع أهلها سمكها؟ فقال: لا يعجبني لأنها تقل وتكثر، ولا أحب لهم منع أحد يصيد فيها. وقال سحنون: لهم منعه. وقال أشهب: إن طرحوها فتوالدت منعت. اهـ.

تنبيهات: الأول: اعلم أن هذه المسألة على ثلاثة أقسام، القسم الأول: الماء الذي في الأودية والأرضين التي ليست بمملوكة لأحد، فهذا لا يجوز لأحد أن يمنع من يصيد منه بلا خلاف. القسم الثاني: الأرض الملوكة منفعتها. القسم الثالث: الأرض المملوكة ذاتها. ومقتضى ما للرهوني وعبد الباقي وغيرهما أن التأويلين يجريان في المملوكة الذات وفي المملوكة المنفعة فقط، فابن الكاتب يفصل بين المملوكة المنفعة فلا يمنع صاحبها من يصيد فيها، بخلاف المملوكة ذاتها فله المنع مطلقا صاد المالك أم لا، وغيره من القرويين يقول: للمالك المنع إن صاد وليس له المنع إن لم يصد، كان مالك ذات ومنفعة أو مالك منفعة فقط، هذا هو تحرير المسألة. والله سبحانه أعلم. وكلام الرهوني عند قول المص: وهل في أرض العنوة فقط لخ: هذا يفيد أن المص أراد بقوله: وإن من ملكه ما يشمل ملك المنفعة وحدها وملكها مع الذات فتأمله. اهـ.

الثاني: قال الخرشي ما نصه: وينبغي النظر فيما إذا أراد مالك ذات الأرض منع صيد مالك منفعتها أو أراد مالك منفعتها منع صيد مَالكِ ذَاتِها، والظاهر العمل بقول مالك ذاتها وربما يفيد ذلك مسألة ما إذا وقع الصيد في دار مؤجرة فإنه يكون لمالك ذاتها. اهـ. واعلم أن تأويل ابن الكاتب في المملوكة موافق لقول الأخوين وسحنون وابن حبيب، وانظر هل هم موافقون له في أرض العنوة أو لا؟ لم أر من تعرض لذلك الآن. والله تعالى أعلم. قاله الرهوني. الثالث: قال في المدونة: وإذا كان في أرضه غدير أو بركة أو بحيرة فيها سمك فلا يعجبني بيع ما فيها من السمك، ولا يمنع من يصيد فيها، ولا الشرب منها، ولا يمنع الماء لشفة أو سقي كبد، إلا ما لا فضل فيه عن أربابه. اهـ. قال ابن ناجي: قال المغربي: البحيرة تصغير بحر والبحيرة أكبر من البركة والبركة

ص: 376

أكبر من الغدير، ثم قال: قوله: ولا يمنع الماء لشفة أو سقي كبد: الشفةُ في بني آدم والكبد في الحيوان. قاله المغربي. اهـ. نقله الرهوني.

الرابع: قال ابن عاشر: واعلم أن قول خليل: وإن من ملكه، معناه من أرض هي ملكه من غير أن يملك الماء، أما لو ملك الماء لملك تابعه الذي هو السمك. انتهى. قال أبو علي بعد أنقال: وبتحرير ما نقلناه يظهر لك أن محل الخلاف في ماء أرض مملوكة لإنسان، وأما إن ملك نفس الماء فالصيد تابع له كما أشار إليه ابن عاشر، لكن فيه نظر، فإن من له بركة ماء في أرضه مثلا فهو مالك لمائها بدليل منعها وبيعها. اهـ. الخامس: قال الشبراخيتي: وسئل ابن أبي زيد عن أكل ما صيد من نهر أبيح صيده لبعض الناس خصوصا دون سائر الناس؟ فوقف فيما، ثم رُوجع فوقف، ثم أجاب: بأنه غير حرام شراء ما صاده من أبيح له الصيد، لأن من مُّنِع لم يملك الصيد وإنما منع من تملكه، فليس فيه حقيقة غصب، وعن أبي الحسن القابسي ما ظاهره المنع والتشديد فيه، وجواب أبي الحسن أقرب للورع، وجواب أبي محمد أقرب لأصول العلم. اهـ. ولا كلأ بفحص، يعني أن الكلأ الذي في الفحص ليس لمالك الفحص أن يمنع من الرعي فيه، والفحص هي الأرض التي ترك ربها زرعها استغناء عنها ولم يبورها للرعي، قال عبد الباقي: ولا يمنع أحد كلأ أي رعيه وهو ما ينبت في المرعى من غير زرع وهو منون معطوف على صيد بفحص وهو أرض ترك ربها زرعها استغناء عنها ولم يبورها للرعي. انتهى. وقال الشبراخيتي: ولا يمنع أحد كلأً بقصر همزِه وهو ما ينبت من الرعي غير الزروع يابسا كان أو رطبا والعشب الكلأ الرطب فهو أخص بفحص وهو الأرض التي ترك صاحبها زرعها استغناء عنها ولم يبورها لأجل الرعي فينبت الكلأ فيها. انتهى بإيضاح. ونحوه للتتائي وقال الخرشي: والمعنى أنه لا يجوز له أن يمنع من رعي الكلإ وهو الذي ينبت في المرعى من غير زرع، وهو الذي يكون في فحصه والفحص هي الأرض التي ترك ربها زرعها استغناء عنها. وقال عياض: الكلأ مقصور مهموز العشب وما تنبته الأرض مما يأكله المواشي. انتهى. وقال المواق: قال ابن رشد: الكلأ بأرض غير مملوكةٍ الناسُ فيه سواء اتفاقا ليس لأحدهم منعه ولا بيعه، فإن جاء رجلان لرعي كلإ؟ موضع كانا فيه أسوة. انتهى.

وعفاء، يعني أنه لا يجوز المنع من الرعي الكائن في العفاء، والعفاء بالمد هو الأرض التي أعفيت عن الزراعة بأن كانت لا تقبل الزراعة، قال الشبراخيتي: والمنع من كل منهما منوط باستغناء

ص: 377

رب الأرض عنه فيهما. اهـ. ودليل هذا ما في الحديث: (لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ (1)). فهو دليل على أن الكلأ لا يجوز منعه. لم يكتنفه زرعه، يعني أن محل عدم المنع أي منع رعي الكلإ في الفحوص والعفاء ما لم يكتنفه زرعه، أما إذا كان ذلك مكتنفا بزرعه بحيث يكون عليه الضرر في تخلص الناس إليه بمواشيهم ودوابهم ذهابا وإيابا فله حينئذ أن يمنع من رعيه خيفة على زرعه، وفي الصحاح: العفاء بالمد الدروس والهلاك، ولا يتورك على المص بهذا إذ يطلق العفاء على نفس الأرض، ففي النهاية لابن الأثير في الحديث:(أقطع من أرض المدينة ما كان عفاء (2)). أي ما ليس لأحد فيه أثر، من عفا الشيء إذا درس ولم يبق له أثر. يقال: عفت الدار عفاء. وقد فسر ابن فرحون في شرح ابن الحاجب العفاء هنا بالدارس من الأرض التي لا تزرع. قاله بناني. والأرض المحظرة لصاحبها منعها من الرعي فيها. قال ابن رشد: وأما الأرض إذا كانت محظرة فلا اختلاف فيما إذا كان فيها كلأ أن صاحبها أحق بها له أن يبيعه ويمنعه احتاج إليه أو لم يحتج إليه. اهـ.

بخلاف مرجه، يعني أن الكلأ النابت في المرج مخالف لحكم الكلإ الذي بالفحص والعفاء، فلصاحب المرج أن يمنع من رعي ما نبت فيه من الكلإ، والمرج الموضع الذي ترعى فيه الدواب، يعني أن محل رعي دوابه له أن يمنع من رعي ما فيه من الكلإ وله بيعه. وحماه، أي له أن يمنع ما نبت من الكلإ في حماه وله بيعه، والحمى الموضع الذي بوره من أرضه للمرعى، وهو عطف تفسير على مرجه، وهذه الأقسام الأربعة، والخامس الذي هو المحظر عليه في الأرض المملوكة، وأما الفيافي فالناس فيها سواء اتفاقا، واختلف فيمن سبق إلى موضع فتركه ورعى ما حوله فقيل: هو والناس فيه سواء، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وقيل: يكون أحق بقدر حاجته، وقيل: إن حفر بيرا فهو أحق. قاله المغيرة. وهو أعدل الأقوال وأولاها بالصواب ت لأنه لا يقدر على المقام إذا لم يكن في ذلك الموضع مرعى، فتذهب نفقته في البير باطلة.

1 - الموطأ، كتاب الأقضية، رقم الحديث 29.

2 -

النهاية، ج 3 ص 266.

ص: 378

‌باب في الوقف:

وهو في اللغة مصدر وقفه إذا حبسه: ويقال للموقوف تسمية للمفعول بالمصدر، ويجمع على أوقاف، ولا يقال: أوقفه إلا على لغة رديئة حكاها الأزهري. قاله التتائي. وقال في التوضيح: الأصح فيه وَقَف، وفيه لغة رديئة أوقف. اهـ. وحبست فرسا في سبيل الله أي وقفته فهو حُبُس بضمتين، قال في القاموس: والحبس بضمتين كل ما وقف. اهـ. وفي الشرع قال ابن عرفة: الوقف مصدرا إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازما بقاؤه في ملك معطيها ولو تقديرا، فتخرج عطية الذوات والعارية والعمرى والعبد المخدَم حياته يموت قبل موت سيده لعدم لزوم بقائه في ملك معطيه لجواز بيعه برضاه مع معطاه، واسما ما أعطيت منفعته مدة وجوده لازما بقاؤه في ملك معطيها ولو تقديرا، وقولي: مدة وجوده، مبني على أن الحبس لا يكون إلا مؤبدا، وإطلاق الحبس على غير المؤبد مجاز عنده كما صرح به، ونصه: والروايات واردةٌ بإطلاق الحبس على ما حبس مدة يصير بعدها ملكا وهو مجاز. انتهى وعلى ما ذهب إليه ينبني أيضا قوله: لازما بقاؤه لخ، وأخرج ابن عرفة بقوله: لازما بقاؤه، العبد المخدم حياته يموت قبل موت سيده لعدم لزوم بقائه في ملك معطيه لجواز بيعه برضاه مع معطاه، وإنما قيد بقوله: يموت قبل موت سيده لأنه فيه يظهر قوله: مدة وجوده، وأما إن مات سيده قبله فإنه يبطل إخدامه ويرجع لورثة السيد. قاله ابن القاسم. فهو حينئذ خارج من قوله: مدة وجوده. والله أعلم. قاله محمد بن الحسن بناني ولنبين تفصيل الإخراج، فأقول: قوله: مصدرا منصوب على نزع الخافض، وقوله: منفعة، أخرج به إعطاء الذوات كالهبة، وقوله: مدة وجوده، أخرج به العارية والعمرى والعبد المخدم مدة حياته يموت قبله ربه. اهـ. وأما العبد المخدم مدة حياته يموت قبل سيده فاللزوم في بقاء الملك يخرجه لجواز البيع بالرضى كما مر عن البناني وخاصية الحبس عدم جواز بيعه مطلقا. اهـ. وقوله: ولو تقديرا، قال الشبراخيتي: يحتمل ولو كان الملك تقديرا، ويحتمل ولو كان الإعطاء تقديرا، فالأول كقوله: إن ملكت دار فلان فهي حبس، والثاني كقوله: حبس على من سيكون. اهـ. وقال في المقدمات: والأحباس سنة قائمة عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده، وقد حبس عمر بن الخطاب رضى الله عنه وعثمان بن عفان وعلي وطلحة والزبير وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنهم. قاله الرهوني. وقال

ص: 379

بناني: قال النووي: وهو مما اختص المسلمون به. قال الشافعي: لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته دارا ولا أرضا تبررا بحبسها، وإنما حبسها أهل الإسلام. اهـ. ولا يرد عليه بناء قريش الكعبة وحفر بير زمزم لأنه لم يقع تبررا بل فخرا. اهـ.

صح وقف مملوك، يعني أن المملوك يصح وقفه ويلزم وإن لم يجز بيعه كجلد الأضحية وكلب صيد وعبد آبق بل يندب، وعَبَّرَ بصح للتنبيه على قول أبي حنيفة: إنه لا يصح ولا يلزم في حال الحياة وهو ملكه يورث عنه، إلا أن يحكم حاكم بصحتة أو يعلقه على موته. كإذا مت فداري وقف على كذا، حكاه في الذخيرة، وقيل: يجوز عنده ولا يلزم فيورث ويرجع عنده ويباع، ومنعه على قوله الأول لصدق السائبة عليه ولخروجه عن ملك واقفه ولم يملكه الموقوف عليه، وأجيب بأن السائبة كانت في عرف التخاطب اسما لشيء مخصوص فلا يتعدى لغيره، ولم يخرج عن ملك واقفه وعدم تصرفه فيه للحجر عليه في المنافع بسبب جعلها لغيره كالعمرى وهو مندوب إليه. اهـ. قاله التتائي. وقال ابن رشد: والصحيح ما ذهب إليه مالك وجل أهل العلم من إجازة الحبس. اهـ. قاله الرهوني. وقال التتائي: (وقد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم [سبع (1)] حوائط، وحبس أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر دورا وحوائط (2))، وبقي ذلك بعدهم. اهـ. والوقف والحبس لفظان مترادفان، قال التتائي: وهما عند ابن رشد وغيره سواء. انتهى. وقال الرهوني: قال محمد بن أسعد بن زرارة: ما أعلم أحدا من المهاجرين والأنصار من الصحابة إلا وقد وقف من ماله حبسا، منهم عمر بن الخطاب وابن عمر وعثمان وطلحة والزبير وزيد بن ثابت وعمرو بن العاصي وعبد الله بن زيد وأبو طلحة وغيرهم، وجعلها عمر للسانل والمحروم، ولذي القربى، وفي سبيل الله، وابن السبيل، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. اهـ. وقد قيل لمالك: إن شريحا لا يرى الحبس، فقال مالك: تكلم شريح ببلاده ولم يَرِد المدينة فيرى [داثر الأكابر](3) من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين

1 - في الأصل: تسع، والمثبت من البيهقي، ج 6 ص 160.

2 -

البيهقي، ج 6 ص 160.

3 -

كذا في الأصل والذي في الرهوني وكنون ج 7 ص 130 آثار الأكابر.

ص: 380

بعدهم وهلم جرا إلى يوم القيامة، وما حبسوا من أموالهم، لا يطعن فيها طاعن، وهذه صدقات النبي صلى الله عليه وسلم سبعة حوائط، ولا ينبغي للمرء أن يتكلم إلا فيما أحاط به خبرا، وبهذا احتج مالك رحمه الله تعالى لما ناظره أبو يوسف بحضرة الرشيد، فقال: هذه أحباس رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقاته ينقلها الخلف عن السلف قرنا بعد قرن، فقال أبو يوسف: كان أبو حنيفة يقول: إنها غير جائزة، وأنا أقول: إنها جائزة، فرجع في الحال عن قول أبي حنيفة إلى الجواز، قال الباجي: وهذا فعل أهل الدين والعلم في الرجوع إلى الحق حين ظهر وتبين. اهـ.

تنبيهات: الأول: قال الشبراخيتي: قوله: صح ويلزم إن وقع من مسلم، وأما من الكافر فلا يلزمه وقفه اتفاقا ولو حِيزَ عنه، وله أن يرجع فيه متى شاء بخلاف هبته وصدقته وعتقه. اهـ. المراد منه. الثاني: احترز بالمملوك من وقف الفضولي فإنه لا يصح كما يفيده كلام القرافي وغيره بخلاف بيعه. قاله الشبراخيتي. الثالث: شمل قوله: مملوك المشاع، قال بناني: وقد حصل ابن عرفة في تحبيس المشاع ثلاثة أقوال، الأول: الجواز مطلقا لظاهر المدونة وظاهر سماع ابن القاسم ونص ابن زرب؛ والثاني: وقفه على إذن شريكه فيما لا ينقسم فإن أذن له وإلا بأن لم يأذن له بطل، لِلخمي عن المذهب، والثالث الجواز مطلقا، ويجعل الحظ المحبس مما لا ينقسم في مثل ما حبسه فيه، لابن حبيب عن ابن الماجشون. اهـ. وعبارته تعطي أن الخلاف في جواز التحبيس من غير إذنه ابتداء، وكلام التوضيح وغيره صريح في أن محل الخلاف هو النفوذ بعد الوقوع والنزول، وأما ابتداء فلا يجوز الإقدام على تحبيس ما لا ينقسم دون إذن الشريك، فانظره. قال الشيخ سيدي عبد القادر الفاسي في جواب له بعد نقول: فإذا تقرر هذا فقول ابن الماجشون هو جواز الإقدام على تحبيس المشاع مطلقا انقسم أم لا، وعدم التوقف على إذن الشريك، فإن رضي الشريك بذلك [فظاهر (1) فإنه] يبقى شريكا للحبس أو يبيع وحده أيضا على الإشاعة إن شاء، وإن لم يرض بيع ويجبر على جعل الثمن بمثله، وعلى هذا القول استمر عمل فاس، ونفذت به أحكام

1 - في البناني ج 7 ص 74: فظاهر انه يبقى.

ص: 381

قضاتها، ثم إنه يطلب في بيعه استقصاء الثمن، ولعل ما يفعله الناس من تقويمه أرباب البصر إنما هو محافظة على استقصائه. والله أعلم. اهـ. وقال الحطاب: وظاهر كلامه يعني المص سواء كان مشاعا أو غير مشاع، فيصح في العقار المملوك من الأرض والديار والحوانيت والحوائط والمساجد والمصانع والآبار والقناطر والمقابر والطرق، شائعا وغيره. اهـ. وقال عبد الباقي: صح وقف مملوك ولو كان المملوك شائعا فيما يقبل القسم، وأجبر عليه الواقف إن أراده الشريك، وفي صحته فيما لا يقبل القسم وعدم صحته قولان مرجحان، وعلى الصحة يجبر المواقف على البيع إن أراده شريكه، ويجعل الواقف ثمن حصته في مثل وقفه، وهل يجبر أم لا؟ قولان. وظاهر قوله: مملوك ولو تعلق به حق لغير مالكه كمرهون ومؤجر بالفتح حيث أراد المالك بوقفهما الآن أنه بعد خلاصهما من الرهن والإجارة وهو كذلك لأنه لا يشترط التنجيز كما سيذكره، فإن أراد بوقف ذلك من الآن مع كونه مستأجرا أو مرهونا لم يصح لمتعلق حق الغير بهما.

الرابع: اعلم أن أركان الوقف أربعة، الأول: العين الموقوفة وإليه أشار بقوله مملوك. الثاني الواقف وأسقطه هناك اتكالا على ذكره للواهب في باب الهبة بقوله: من له تبرع بها فإن الباب باب واحد. الثالث: الموقوف عليه وإليه أشار بقوله: على أهل التملك. الرابع: الصيغة، وهي المشار إليها بقوله: بحبست لخ، وهل يشترط في صحة الوقف أن يقع على ذات موجودة حين العقد أم لا؟ أفتى الشيخ الجيزي بأن من التزم ما يبنيه بالمحل الفلاني فهو وقف ثم بنى فيه يلزمه ما التزمه ولا يحتاج لإنشاء وقف لذلك. انظر الخرشي. الخامس: قال الخرشي: اللخمي: يجوز تحبيس العلو بغير إذن صاحب السفل إذ لا ضرر عليه فيه، ولا يجوز تحبيس السفل إلا بإذن صاحب العلو لما يدخل عليه من الضرر عند طلب الإصلاح، ونقل ابن عرفة أنه ليس لأحدهما أن يحبس نصيبه إلا بإذن صاحبه سفلا أو علوا. اهـ.

وإن بأجرة، أي يصح وقف المملوك كان المملوك ذاتا أو منفعة كما لو ملك منفعة دار مثلا بأن استأجرها من مالكها فإنه يصح أن يقف منفعة تلك الذات المستأجرة، قال الخرشي: المشهور أنه يصح وقف المعين المؤجرة مدة استيجارها وبعد ذلك ترجع ملكا لمالكها ويرجع النقض للذي بناه. انتهى. وقوله: وإن بأجرة، اعلم أن في المسألة خلافا فقد اقتصر ابن الحاجب على المنع. والله

ص: 382

تعالى أعلم. قال عبد الباقي: وإن كان الملك المدلول عليه بالملوك بأجرة لكدار يقف ماله فيها من منفعة الإجارة وينقضي الوقف بانقضائها لأنه لا يشترط فيه التأبيد، ويرد على قوله: مملوك تحبيس السلاطين على الخيرات مع عدم ملكهم ما حبسوه كما في ابن عرفة، وإن كان الأحوط تجنبه كما قال سحنون. وفي التتائي عند قوله: وإن كان على محجوره عن الذخيرة: إن وقفوا على مدرسة أكثر مما يحتاج إليه بطل فيما زاد فقط لأنهم معزولون عن التصرف إلا على وجه المصلحة والزائد لا مصلحة فيه. اهـ. قوله: ويرد على قوله مملوك لخ، قال بناني: هذا لا يرد على المص لأن السلطان وكيل على المسلمين وهو كوكيل المواقف، وما ذكره ابن عرفة من صحة تحبيسهم استنبطه من سماع محمد بن خالد، لكن تأوله القرافي على ما حبسه الملوك معتقدين فيه أنهم وكلاء لا مالكون، فإن حبسوه على وجه من وجوه الخير معتقدين أنه ملكهم بطل تحبيسهم وَرُدَّ مطلقا، وبذلك أفتى العبدوسي ونقله ابن غازي في التكميل. انظره. والله أعلم. اهـ. وقال الشبراخيتي: وأشار بقوله: وإن كان بأجرة إلى صحة وقف المنفعة لمن لم يملك الذات، وهذا ما لم يكن منفعةَ حبس.

ولو حيوانا أو رقيقا، مبالغة في المملوك، يعني أن المملوك يصح وقفه ولو كان حيوانا صامتا أو ناطقا، وفي الحديث أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال:(من حبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده كان شبعه وريه في ميزانه يوم القيامة (1)). كما في البخاري، واستدل به اللخمي والمتيطي على تحبيس ما سوى الأرض. ابن عرفة: وهو وهمٌ شنيع في فهمه إن ضبطا حبس بالتخفيف وفي روايته إن ضبطاها بالتشديد. اهـ. واعترضه الحطاب بأنه يقتضي أن رواية البخاري حبس بالتخفيف وأن حبس بالتخفيف، ليس معناه وقف، وليس كذلك فيهما، بل روايته احتبس على وزن افتعل، وكذا نقله عنه المنذري، وفي المشارق احتبس درعه أوقفها في سبيل الله، واللغة الفصيحة حَبَّس، ويقال مخففا ومشددا اهـ فدل على أن الألفاظ الثلاثة بمعنى الوقف، وصح ما قاله اللخمي والمتيطي. انظر الحطاب. ومقابل لو في المصنف قول بالمنع حكاه

1 - البخاري، كتاب الجهاد والسير، رقم الحديث 2853.

ص: 383

ابن القصار، وحكى الكراهة غير واحد، قال ابن رشد: ومحل الخلاف في المعقب أو على قوم بأعيانهم، وأما تحبيس ذلك لينتفع بعينه في سبيل الله أو لتصرف غلته في إصلاح الطريق أو منافع المساجد أو ليفرق على المساكين وشبه ذلك فجائز اتفاقا إلا في الرقيق فيكره لرجاء العتق، وإن وقع وفات مضى وما لم يفت استحب لربه صرفه لما هو أفضل. اهـ. ابن عرفة: يريد بفوته بالحوز لا بالموت. اهـ. قاله بناني. وفي جواز وقف الثياب ومنعه قولان، والجواز لابن القاسم وأشهب. انظر الحطاب. وقال المواق: من المدونة: من حبس رقيقا أو داوبّ في سبيل الله استُعْمِلوا في ذلك ولم يباعوا، ولا بأس أن يحبس الرجل الثياب والسروج. قال مالك: وما ضعف من الدواب المحبسة في سبيل الله حتى لا يكون فيها قوة على الغزو بيعت واشتري بثمنها ما ينتفع به من الخيل لخ، وكلام ابن رشد يفيد أنه على القول بالجواز والكراهة يمضي ويلزم، وكلام الباجي يفيد اللزوم على القول بالجواز، وعلى القول بالكراهة فروايتان، اللزوم والجواز، والمراد بالجواز عدم اللزوم، وما ذكره من الروايتين باللزوم والجواز يمنع من حمل الكراهة على المنع. والله تعالى أعلم. واعلم أن من العلماء من قال: إن الخيل يجوز وقفها قولا واحدا، ومنهم من حكى فيها الخلاف. انظر الرهوني.

كعبد على مرضى لم يقصد ضرره، يعني أنه يصح وقف العبد لخدمة الرضى بشرط أن لا يقصد سيده إضراره بوقفه عليهم، وأما إن قصد ذلك فإنه لا يصح وقفه بقصد الضرر بكونه على المرضى، لا بإحرامه المعتق لأن هذا لا يختص بكون الوقف على مرضى. قاله الخرشي. ومثل العبد الأمة ولا يطؤها المواقف لأن الأمة المملوكة المنافع لغير المالك لا يجوز وطؤها كالمستعارة والمستأجرة. قاله الخرشي. وقد مر جواز وطء المستأجرة عن عبد الباقي، وقال المواق: المتيطي: يجوز أن يحبس الرجل مملوكه على المرضى إذا كان ذلك من السيد على غير الضرر بمملوكه، قال ابن رشد: يكره تحبيس الرقيق لرجاء العتق فيه، فإن وقع وفات مضى، وما لم يفت يستحب لمحبسه صرفه لما هو أفضل. ابن عرفة: يريد بفوته بالحوز لا بالموت. اهـ. وقال الشبراخيتي عند قوله: ضرره: هذا الذي ذكره المص خلاف ما ذكره حلولو عن المتيطي من أن الصواب منع وقفه عليهم وإن لم يقصد ضرره. اهـ. وقال عبد الباقي لم يقصد ضرره، وعرف

ص: 384

بالإحسان إليهم كما في كلام غيره، فإن قصد ضرره لم يصح، فإن لم يعلم قصده صح، وكلام المص شامل لذلك، ومثل العبد الأمة على إناث مرضى، وينبغي أن لا يجوز للواقف وطؤها.

وفي وقف كطعام تردد، يعني أنه اختلف في وقف المثلي هل يجوز أو لا؟ ومحل الخلاف إن وقف للسلف للانتفاع به ورد مثله، وأما إن وقف لبقاء عينه فإنه يمنع اتفاقا، وسواء كان المثلي طعاما أو غيره. قال الشارح: في هذا التردد نظر لأنك إذا فرضت المسألة فيما إذا قصد بوقف الطعام ونحوه بقاءَ عينه فليس إلا المنع لأنه تحجير من غير منفعة تعود على أحد وذلك مما يؤدي إلى إفساد الطعام المؤدي إلى إضاعة المال، (وقد ورد النهي عن ذلك)، وإن كان على معنى أنه وقف للسلف إن احتاج إليه محتاج ثم يرد عوضه فقد علمت أن مذهب المدونة وغيرها الجواز، والقول لابن رشد بالكراهة ضعيف، وأضعف منه قول ابن شأس: إن حمل على ظاهره يعني المنع. اهـ. والله تعالى أعلم. فإن أراد المص بالتردد قولي الكراهة والمنع ورد عليه أنهما خلاف مذهب المدونة، وإن أراد به الجواز وعدمه ورد عليه أنه مخالف لاصطلاحه، وأما استثناء الزرقاني الدنانير والدراهم فغير صحيح لأن الجواز على مذهب المدونة عام فيها وفي غيرها، كما أن القول بالكراهة وبالمنع فيها وفي غيرها أيضا. قاله بناني. وأشار إلى أحد أركان الوقف بقوله:

على أهل التملك، يعني أنه يشترط في الموقوف عليه أن يكون أهلا للتملك حسا كالآدمي أو حكما كالمسجد، لأن المسجد وإن كان لا يتأتى منه الملك يتأتى به الانتفاع ممن يصح منه التملك، وكلام المؤلف يشمل الموجود والمعدوم كالأعقاب والمسلم والكافر، فقوله: كمن سيولد، مثال للأهل أي لأهل التملك ولو في ثاني حال إذ لم يقيد صحة ذلك بحال الوقفية، فهذا منه رحمه الله تعالى إشارة إلى أن الوقف لا يشترط في صحته أن يكون الموقوف عليه موجودا يوم الوقف كمن سيولد لزيد مثلا، قال المتيطي: المشهور المعمول به صحة الوقف على الحمل، قال ابن المنذري: والروايات واردة بصحته على من سيولد، وبه استدل الجمهور على الحمل، وفي لزومه على من يولد قبل ولادته قولا ابن القاسم ومالك لنقل الشيخ، وروى محمد: فيمن حبس على ولده ولا ولد له بيع ما حبسه ما لم يولد، له ومنعه ابن القاسم قائلا: لو جاز لجاز بعد وجود الولد وموته. اهـ. وقوله: كمن سيولد له، قال الخرشي: وتوقف الغلة إلى أن يوجد ما لم يؤيس منه فلا توقف

ص: 385

وترد الغلة والوقف للمالك، وهذا كله ما لم يحصل مانع قبل الولادة، وأما إن حصل مانع كموته فيبطل. اهـ. وسيأتي الكلام إن شاء الله على هذا عند قول المص: كعلى ولدي ولا ولد له، وقال عبد الباقي: على أهل التملك حقيقة كزيد والفقراء أو حكما كقنطرة لانتفاع المارة بها ومسجدة ومثل للأهل ثاني حال ليعلم منه بالأولى أهل التملك حين الوقف، فقال كمن سيولد فيصح ويوقف لزومه والغلة إلى أن يولد له فيعطاها ويلزم فإن أيس من حملها أو مات ببطنها أو نزل ميتا بطل ورجعت الغلة للمالك. اهـ. وقال ابن الحاجب: ولو قال: على أولادي ولا ولد له ففي جواز بيعه قبل إياسه قولان، ابن الماجشون: يحكم بحبسه ويخرج إلى يد ثقة ليصح الحوز وتوقف ثمرته فإن ولد له فلهم وإلا فلأقرب الناس إليه. التوضيح: قول ابن الماجشون قول ثالث يرى أن الحبس قد تم وإن لم يولد له رجع إلى أقرب الناس. وتحصل مما مر أن الأقوال ثلاثة لابن القاسم ومالك وابن الماجشون، فابن القاسم يقول باللزوم وإن مات قبل أن يولد له صار ميراثا، ومالك يقول بعدم لزومه فللواقف بيعه وتوقف الغلة واللزوم إلى أن يولد له فيلزم وتدفع له الغلة، وابن الماجشون يقول بأنه يحكم بلزوم الوقفية ويكون وقفا مؤبدا يجعل تحت يد عدل ليصح الحوز فإن ولد له فللأولاد الغلة والحبس وإن لم يولد له رجع لأقرب الناس إلى المحبس. والله تعالى أعلم.

وذمي، عطف على مدخول الكاف فهو من أمثلة أهل التملك، يعني أن الوقف على الذمي من مسلم يصح قريبا كان أو أجنبيا لأن الوقف عليه صدقة وفي الصدقة عليه أجر، وفي نوازل ابن الحاج: من حبس على مساكين اليهود والنصارى جاز ذلك لقوله تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} ولا يكون الأسير إلا كافرا.

تنبيهان: الأول: اعلم أن وقف الكافر ينبغي أن يكون مثل هبته له في عدم لزومه خلاف ما مر عن الشبراخيتي من لزوم الهبة وله الرجوع عنه لأنه ليس من التظالم الذي يمنعون منه، واعلم أنه جزم النووي وإبراهيم الجرمي وابن بطال والقرطبي وابن المنير بأن الكافر إذا أسلم ومات على إسلامه وكان قبل إسلامه عمل أعمالا صالحة كصدقة وصلة رحم وما أشبه ذلك أنه يثاب عليه،

ص: 386

وفي الحديث: (أسلمت على ما أسلفت من خير (1)) قاله الخرشي. الثاني: اعلم أنه يجب أن يتبع قول المحبس في وجوه تحبيسه، فما كان من نص جلي لو كان حيا فقال: إنه أراد ما يخالفه لم يلتفت إلى قوله ووجب أن يحكم به ولا يخالف أحد فيه إلا أن يمنع منه مانع من جهة الشرع، وما كان من كلام محتمل لوجهين فأكثر حمل على أظهر محتملاته إلا أن يعارض أظهرها أصل فيحمل على الأظهر من باقيها إذا كان المحبس قد مات ففات أن يسأل عما أراد بقوله من محتملاته فيصدق فيه إذ هو أعرف بما أراد وأحق ببيانه من غيره. انتهى. قاله ابن رشد. فعلم منه أنه إذا كان حيا وفسر اللفظ بأحد احتمالاته قبل تفسيره ولو كان خلاف الظاهر، ولا يقبل قوله في التصريح (2) إن ادعى أنه أراد خلاف معناه. والله أعلم. قاله الحطاب.

وإن لم تظهر قربة، يعني أن الوقف من مسلم على الذمي أي الذي تحت ذمتنا يصح وإن لم تظهر فيه قربة كما إذا وقف المسلم على أغنياء الذميين وأجانبهم من المواقف لأن الوقف من باب العطايا والهبات لا من باب الصدقات، وجاز إن كان لصلة رحم وإلا كره، والكراهة لا تنافي الصحة، واعلم أن المنفي ظهور القربة لا أصلها.

أو يشترط تسليم غلته من ناظره، عطف على قوله: لم تظهر، لا على مدخول لم، يعني أنه يصح الوقف ولو شرط المواقف على الناظر أنه يسلم له غلة الوقف ليصرفها الواقف في مصارفها الشرعية، لأن شرط الواقف قبضَ الغلة لا يبطل حوز الوقف، ومفهوم ليصرفها أنه لو كان ليأكلها لا يكون الحكم كذلك فيبطل الشرط ويصح الوقف كذا ينبغي، نقله الخرشي، ونقل الناصر اللقاني أنه يشترط في ناظر الوقف ما يشترط في الوصي. قاله الخرشي أيضا.

أو ككتاب عاد إليه بعد صرفه في مصرفه، عطف على لم تظهر فهو من حيز المبالغة، يعني أن من وقف كتابا على طلبة العلم وصرفه في مصرفه فقد صح الوقف فإذا عاد ذلك الكتاب إلى يد واقفه للانتفاع أو للحفظ فإن ذلك لا يضر في حوز الكتاب لأنه ما عاد إليه إلا بعد صحة الحوز، فالضمير في صرفه ومصرفه للكتاب، وقد نص اللخمي على أن حكم الكتب تحبس ليقرأ فيها

1 - مسلم، كتاب الايمان، رقم الحديث 123 والبخاري، كتاب الزكاة، رقم الحديث 1436 ولفظه أسلمت على ما سلف من خير.

2 -

في الحطاب ج 6 ص 229 ط دار الرضوان: الصريح.

ص: 387

حكم الخيل ليغزى عليها والسلاح ليقاتل به، وفي المدونة: من حبس في صحته ما لا غلة له مثل السلاح والرقيق والخيل وما أشبه ذلك فلم ينفّذها ولا أخرجها من يده حتى مات فهي ميراث، وإن كان يخرجه في وجهه ويرجع إليه فهو نافذ من رأس ماله لأنه خرج في وجهه، وإن أخرج بعضه وبقي بعضه فما أخرج فهو نافذ وما لم يخرج فهو ميراث. انتهى. قاله الخرشي. وقال بناني بعد كلام ما نصه: فأفاد أن عوده للانتفاع به كعوده للحفظ، قال ابن القاسم: فإن احتاج أن ينتفع به مع الناس فلا بأس به. انتهى. وسمع ابن القاسم: من حبس شيئا في السبيل وأنفذ فيه زمانا فله الانتفاع به مع الناس إن كان محتاجا. ابن رشد: ينتفع به فيما حبسه فيه لا فيما سواه من منافعه ولا ينافي ما قيده به اللخمي فإن الذي منعه اللخمي هو أن يتصرف فيه تصرف المالك بأن ينتفع به على غير الوجه الذي حبس فيه أو بالكراء مثلا، وما أجازه ابن القاسم هو أن ينتفع به مع الناس في الوجه الذي حبس فيه وهو ظاهر، واعلم أيضا أن المسألة مفروضة عند اللخمي وأبي الحسن وابن عرفة وغيرهم في الحبس على غير معين، ويتبين ذلك بكلام اللخمي، ونصه: الحبس أصناف: صنف لا يصح بقاء يد المحبس عليه ولا يحتاج إلى حائز مخصوص، وصنف لا يصح بقاء يد المحبس عليه ويتعين حائزه وهو الحبس على معين، وصنف يصح بقاء يده عليه إذا أنفذه فيما حبسه عليه كالخيل يغزى عليها والكتب يقرأ فيها فإذا لم يكن الحبس على معين صح أن يعود إلى يده بعد قبضه، ويختلف إذا لم يأت وقت إنفاذه للجهاد أو لم تطلب الكتب للقراءة حتى مات المحبِّس، فقيل: يبطل الحبس ولو كان يركب الدابة إذا عادت إليه لرياضتها لم يفسد حبسه ولو كان يركبها حسبما كان يفعل المالك بطل حبسه وقراءة الكتب إذا عادت إليه خفيف. انتهى كلام بناني. قوله: المسألة مفروضة في الحبس على غير معين صحيح، إذ لو كان معينا لاتفق على بطلان الحبس وهو ظاهر إذا عاد إليه قبل مضي عام، فأما لو عاد إليه بعد مضي عام لصح الوقف لما تقرر من أن الرجوع من اليد بعد حوز عام فأكثر غير مضر في التبرعات كان من حبس وهبة ونحوهما. فعلم أنه إذا كان على غير معين وأخرج فيما حبس فيه وعاد إليه قبل مضي عام فلم يخرجه حتى مات وهو بيده فإن الوقف صحيح، وقوله: وككتاب عاد إليه لخ، اعلم أن تحرير هذه المسألة أن تقول: إن الموقوف إما أن يكون له غلة أو لا، وفي

ص: 388

كل إما أن يكون على معين أم لا، فأما إن كان على معين فإن عاد إليه قبل عام ومات وهو بيده بطل الوقف، وإن عاد إليه بعد عام فلا إشكال في صحة الوقف، وإن كان على غير معين فإن أخرج من يده في مصرفه وعاد إليه قبل عام صح الوقف على ما مر، فإن عاد إليه بعد عام فالصحة بينة، فإن لم يخرجه من يده حتى مات بطل الوقف كان على معين أو غيره، كان للموقوف غلة أم لا؟ وفي المدونة: وأما من حبس في صحته ما لا غلة له مثل السلاح والخيل وشبه ذلك فلم ينفذها ولا أخرجها من يده حتى مات فهي ميراث، وإن كان يخرجه في وجوهه ويرجع إليه فهو نافذ من رأس ماله، وإن أخرج بعضه وبقي بعضه فما أخرج فهو نافذ وما لم يخرج فهو ميراث، وأما ما حبس في صحته أو تصدق به على المساكين من حائط أو دار أو شيء له غلة فكان يليه ويفرق غلته في كل عام على المساكين ولم يخرجه من يده حتى مات لم يجز ذلك، وقال عبد الباقي: أو ككتاب عاد إليه بعد صرفه في مصرفه، أي بعد صرف جميعه كما هو المتبادر منه ولو مفرقا حتى تم فإن ذلك لا يضر في الحوز ولا يبطله، بل الوقف صحيح، فإن صرف بعضه في مصرفه صح فيه الوقف وإن قل. انتهى. وما لم يصرفه لا يصح إن كان فوق الثلث فإن كان الثلث فدون فيتبع الأكثر. انظر الرهوني.

تنبيه: سئل ابن أبي زيد عمن حبس كتبا لله تعالى ثم باعها وحبسها الثاني هل يكون فوت أو ترد إلى تحبيس الأول؟ فأجاب: إن قدر على نقض البيع ورده قبل موت البائع فعل ويبقى حبسا، وإن لم يقدر حتى مات مضى البيع لفوات الحيازة ويصير حبسا بتحبيس المشتري. قاله الخرشي.

وبطل على معصية، يعني أن الوقف على المعصية باطل، كمن وقف على شربة الخمر وأكلة الحشيشة وما أشبه ذلك، قال الباجي: لو حبس مسلم على كنيسة فالأظهر عندي رده لأنها معصية: كما لو صرفها إلى أهل السفه. انتهى. والمتبادر من الحكم ببطلان الوقف في هذه المسائل أنه مال من أموال الواقف يملكه ويرثه لا أنه يرجع مراجع الأحباس لأقرب فقراء عصبة المحبس. انتهى. قاله الخرشي. وفيه: ويدخل في الوقف على معصية وقف الكافر على الكنيسة لأن المذهب أنهم مخاطبون بفروع الشريعة، والذي في السماع: أن وقفهم على كنائسهم باطل،

ص: 389

وقال عياض في شرح مسلم: إن للحاكم أن لا ينفذ وقفهم سواء أشهدوا على ذلك أم لا بان من تحت أيديهم أم لا، ولهم الرجوع فيه إذا شاءوا، وهذا بخلاف عتقهم إذا بان المعتق عنهم ثم أسلموا فلا رجوع لهم، ذكره عند نبش قبور الكفار حين نبشها عليه الصلاة والسلام حين بناء مسجده. انتهى. ثم إن قوله: على معصية، حال من الضمير المستتر في بطل العائد على الوقف قاله الخرشي. وقال بناني: قال أحمد الزرقاني: من المعصية وقف الكافر على عباد الكنيسة، أما على مرمتها أو الجرحى أو المرضى فالوقف صحيح معمول به، وإذا أراد الأسقف بيعه وصرف ثمنه في ذلك ونوزع فيه وترافعوا إلى الحاكم مع تراضيهم بحكمنا فإن للحاكم أن يحكم بينهم بحكم الإسلام من إمضاء الحبس وعدم بيعه، هذا حاصل ما عند ابن رشد، وقول أحمد: فإن للحاكم أن يحكم بينهم بحكم الإسلام، أي إذا اختاروا الحكم بينهم فلا يحكم إلا ببقائه وهو حكم الإسلام، هذا الذي تأول عليه ابن رشد سماع ابن القاسم كما نقله الناصر اللقاني: وهو مخالف لما مر عن عياض. قال عبد الباقي: ومفهوم معصية صحته على مكروه وهو كذلك، ولو اتفق على كراهته كما جزم به كريم الدين. انتهى. وقال الحطاب: وانظر الوقف على مكروه والظاهر أنه إن كان مختلفا فيه فإنه يمضي، وإن اتفق على كراهته فلا يصرف في تلك الجهة ويتوقف في بطلانه أو صرفه إلى جهة قريبة. انتهى. وقال الخرشي: ولا يبطل الوقف على مكروه كمن وقف دارا على جماعة يؤذنون بصوت واحد. انتهى. وقال الرهوني: ما جزم به عبد الباقي من صحة الوقف على المكروه المتفق على كراهته هو ظاهر كلام ابن عرفة.

وحربي، يعني أن الوقف على حربي باطل وهذا من عطف الخاص على العام وكذلك الصدقة والوصية، لأن ذلك إعانة له على حربه، والمراد بالحربي من هو مقيم بدار الحرب تصدى للحرب أم لا.

وكافرٍ لكمسجد، يحني أن الوقف من الكافر لمسجد من مساجد المسلمين أو رباط وسائر القرب الدينية باطل، وكذلك وقف رقبة الكافر من يملكها على خدمة مسجد باطل لأنه يدخل المسجد، وقال مالك: في نصرانية بعثت بدينار إلى الكعبة يرد إليها ولا يجعل في الكعبة. ابن عرفة: لا يصح الحبس من كافرٍ في قربة دينية ولو كان في منفعة عامة دنيوية كبناء القناطر ففي رده نظر،

ص: 390

والأظهر إن لم يحتج إليه رد، وقوله: وكافر، بالجر مضاف إليه والضاف محذوف عطف على فاعل بطل، أي وبطل وقف على معصية ووقف كافر لكمسجد أي على كمسجد. قاله الخرشي. تنبيهان: الأول: قد مر عن الباجي أنه قال: ولو حبس مسلم على كنيسة فالأظهر عندي أن يرد لأنه صرف صدقة إلى وجه معصية محضة، كما لو صرفها إلى شرب الخمر وإعطائه أهل الفسق. انتهى. ونقله ابن عرفة: وقال عقبه عادة الأشياخ أنهم لا يقولون: الأظهر عندي، إلا فيما فيه نظرٌ ما، لا في الأمر الضروري، وردُّ هذا ضروري من القواعد الأصولية لأنه تسبب في معصية وإعانة عليها خالية عن مصلحة شرعية وما شأنه هذا حرام إجماعا. الثاني: قال عبد الباقي: وأما القرب الدنيوية كبناء القناطر وتسبيل ماء ونحوهما فيصح، واستظهر ابن عرفة أنه يرد إن لم يحتج له، وأما وقفه على غير قربة أصلا فإن كان على عباد كنيسة فباطل كما مر، وإن كان على مرمتها أو جرحى أو مرضى كفار فصحيح، أي معمول به لأن لهم مرمتها على قول، ولكنه غير لازم اتفاقا عند شيوخ عياض كما في الحطاب فله رده، وإن زعم أن جميع الأمور قرب دينية عندهم وإذا لم يردوه وأراد الأسقف بيعه ونوزع في ذلك ورفع الأمر لحاكم المسلمين ورضوا بحكمنا حكم ببقائه. انتهى.

أو على بنيه دون بناته، يعني أنه إذا وقف على بنيه دون بناته فإن الوقف باطل، قال الخرشي: أي وكذلك يبطل الوقف إذا وقف على بنيه الذكور دون بناته الإناث، فلو وقفه على بناته دون بنيه صح، ولو وقفه على بنيه وبناته معا وشرط أن من تزوجت من البنات لا حق لها في الوقف وتخرج منه فإنه يكون باطلا أيضا التوضيح: وإنما بطل اتباع شرطه هنا لقول مالك: إنه من عمل الجاهلية، ولرواية ابن القاسم عنه: الشأن أنه يبطل وعلى بني بنيه دون بنات بنيه صح لأنه ليس من فعل الجاهلية، وقولهم: لأنه من فعل الجاهلية، أي يشبه فعلهم، لأن الوقف خاص بالإسلام، كما نقله النووي عن الشافعي لأن الجاهلية كانوا إذا حضرهم الموت ورثوا الذكور دون الإناث فصار فيه حرمان الإناث دون الذكور فكل موضع فيه حرمان الإناث من فعل الجاهلية وسنتهم، وأما هبة الرجل لبعض ولده ماله كله أو جله فمكروه، ويكره أيضا أن يعطي

ص: 391

ماله كله لأولاده وليقسم بينهم بالسوية إن كانوا ذكورا فقط أو إناثا فقط، وإن قسمة بينهم على قدر مواريثهم فذلك جائز.

تنبيه: ما اعتمده المؤلف هنا من بطلان الوقف على البنين دون البنات هو ما فهم في توضيحه عليه كلام مالك لكنه مخالف لا صرح به أبو الحسن من حمل الكواهة في المدونة على التنزيه، وكذا ابن ناجي وصاحب التكميل، وقال ابن هلال: العمل قديما وحديثا على ما في المدونة من إمضائه، وبه جرى العمل واستمرت الأحكام، وعقد الموثقون عقود الوثائق عليه، فما ذكره هنا خلاف المدونة وخلاف ما جرى به العمل، ومحل البطلان على ما مشى عليه المص ما لم يحكم بصحته حاكم وإن مالكيا حيث لم يكن جائرا أو جاهلا. قاله الخرشي. وقال الرهوني: والعمل قديما وحديثا إنما هو على قوله في المدونة، وبالنفوذ والإمضاء جرى العمل واستمرت به الأحكام وعقد الموثقون فيه وثائقهم ولم يزل هذا العمل مستمرا إلى وقتنا هذا، وهو مؤيد بتشهير عياض، وبكونه مذهب المدونة، فلا حرج والحمد لله. انتهى. وقال في المنتقى حين تكلم على هذه المسألة: والخلاف في هذه المسألة مبني على ما تقدم من الخلاف فيمن وهب بعض بنيه دون بعض. انتهى. وقال الشبراخيتي: والأشهر عن مالك كراهة ذلك وإجازته، وصرح أبو الحسن بأن الكراهة في المدونة على التنزيه وعليه العمل، فما هنا خلاف المدونة وخلاف ما جرى به العمل. انتهى. وقال عبد الباقي: أو علي بنيه دون بناته لصلبه، وأما وقفه علي بني بنيه دون بنات بنيه فيصح كعلي بناته دون بنيه، ثم قال بعد كلام: فقول المص دون بناته معناه ابتداء أو أخرجهن بعد تزوجهن. انتهى. وقال بناني بعد كلام ما نصه: وبما ذكرناه يتبين صحة الاعتراض على المص في تركه مذهب المدونة الذي شهره عياض، وأن ما دفعه به الزرقاني غير صحيح، ورواية ابن القاسم التي مشى عليها المص ليست في المدونة، وإنما هي في العتبية، ونصها: في الرسم الأول من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس قال مالك: من حبس حبسا على ذكور ولده أو أخرج البنات منه إذا تزوجن فإني لا أرى ذلك جائزا له. انتهى. مسألة: من البيان قال مالك: إذا قال: داري حبس على أم ولدي وزوجتي فمن تزوجت منهما لا حق لها فيها فتزوجت واحدة منهما، قال: يرجع حظها للأخرى، فإن طلقها الزوج أو مات عنها رجع لها

ص: 392

حظها، وهذا بخلاف ما لو قال: هي بينكما، فمن تزوجت فلا حق لها، فإن من تزوجت منهما رجع حظها للورثة فإن طلقها أو مات عنها رجعت لما كانت تستحق. انتهى من شرح الشامل للمدني. قال بعض مشايخي: ولعل الفرق أن لفظ بين يقتضي قسم كل نصف من الدار على واحدة بخلاف العطف. انتهى. نقله الخرشي عن الأجهوري. وقال عبد الباقي: ومفهوم بنيه دون بناته صحتة في عكسه كما مر، وكذا في بنيه وبناته دون بنات بناته، وفي بعض بنيه دون بعض بناته، وفي إخوانه دون أخواته أو وقف علي بني شخص دون بنات ذلك الشخص فيما يظهر لانتفاء العلة المذكورة. انتهى.

أو عاد لسكنى مسكنه قبل عام، يعني أن من وقف دارا مثلا وحيزت عنه ثم إن الواقف عاد لسكناها بعد ذلك فإن كان عوده لسكناها قبل عام من يوم التحبيس فإن الوقف يبطل، بخلاف ما إذا عاد لسكناها بعد عام فإن الوقف يصح وينفذ، وقوله: أو عاد لسكنى مسكنه قبل عام، الوقف هنا على معين، وسواء كان الوقف مما لا غلة له أو له غلة، وأما لو كان على غير معين وعاد له قبل عام فإنه ينفذ إذا انتفع به على الوجه الذي وقف فيه، كالفرس في سبيل الله فيركبها في الجهاد أو لرياضتها، فإن الوقف ينفذ، وسواء كان الوقوف مما له غلة أم لا، وأحرى في الصحة لو عاد له بعد عام فإن لم يحز بالكلية بطل في الجميع، هذا هو تحرير المسألة كما مر عند قوله: أو ككتاب عاد إليه بعد صرفه في مصرفه، هكذا حرره الرهوني رحمه الله تعالى، قال الرهوني: وانظر إذا جهل وقت رجوعه أقَبْلَ السنة أم بعدها؟ والظاهر أنه يجري على ما يأتي في الهبة، وفيه: أن ما يقال في الهبة في المحجور وفي عودها له بإرفاق أو كراء يقال هنا. والله سبحانه أعلم. وقوله: عاد، صفة لموصوف محذوف أي وبطل وقف على معصية ووقف واقف عاد لسكنى لخ، وقوله: قبل عام، قد علمت صحته بعد عام على محجوره أو غيره، هذا هو المشهور ومقابله جار في المحجور وغيره. قاله الرهوني: وفي البناني أن طريقة ابن رشد تقول بالبطلان في عوده ولو بعد عام إذا كان على المحجور، وليس العمل عليها، ولسيدي حمدون المزوار:

رجوع واقف لما قد وقفا

بعد مضي سنة قد خففا

ص: 393

على صبي كان أو ذي رشد

واعترضت طريقة ابن رشد

أو جهل سبقه لدين إن كان على محجوره، يعني أن من عليه دين ووقف وقفا على محجوره ولا يدرى هل الدين قبل الوقف أو الوقف قبل الدين؟ فإن الوقف يكون باطلا، وإن أشهد المواقف وصرف الغلة له ويباع في الدين تقديما للواجب على التبرع. قال المتيطي بعد أن ذكر أنه إن تحقق سبق الدين بطل الحبس والهبة والصدقة مطلقا: وإن تحقق سبق العطايا نفذت وبقيت الديون على الغريم وإن جهل السابق منهما فما كان من تحبيس أو هبة أو صدقة على كبير حاز لنفسه أو على صغير حاز له أجنبي بأمر من الأب فهو ماض على حسب ما عقد وتبقى الديون في ذمته، وما كان من ذلك على صغير حاز له الأب فالديون أولى من ذلك، وكذلك قال مالك في كتاب الهبة. انتهى من ابن هارون. قاله بناني. واعلم أنه إذا لم يحصل حوزٌ أو إشهاد للمحجور على ما يأتي فإن الوقف يبطل ولو علم تقدمه على الدين لحصول المانع قبل الحوز وهو الدين المحيط. والله سبحانه أعلم. وعلم مما قررت أن قوله: إن كان على محجوره، قيد في هذه المسألة فقط لا فيها والتي قبلها.

أو على نفسه، مني أن الوقف يبطل إذا كان على نفس المواقف خاصة اتفاقا لأنه حجر على نفسه وعلى وارثه بعد موته. قاله الشبراخيتي وغيره. وقال عبد الباقي: أو جعله على نفسه ابتداء أو بعد أن حبسه على غيره كحبس على زيد وعمر ثم بعدهما علَيَّ ثم بعدي على كذا أو سكت عما بعد نفسه. ولو بشريك، يعني أنه إذا وقف على نفسه مع غيره فإن الوقف يبطل. قال الشبراخيتي: ومصب المبالغة قوله: أو على نفسه، أي يبطل على نفسه، وأما حصة الشريك فإن حازها قبل حصول مانع صح وقفها وإلا بطل الجميع حصته هو - ولا كلام - وحصة الشريك لعدم حوزه قبل المانع. انتهى. ورد المص بلو على ابن شعبان القائل: من حبس على نفسه وغيره صح الحبس ودخل معهم. وقال ابن عرفة: الحبس على نفس المحبس وحده باطل اتفاقا، وكذلك مع غيره على المعروف، وظاهر المذهب بطلان حبس كل من حبس على نفسه وغيره إن لم يحز عنه، فإن حيز صح على غيره فقط. انتهى. وقال الرهوني: قال ابن عرفة: ظاهر المدونة

ص: 394

بطلان كل من حبس حبسا على نفسه وغيره إن لم يحز عنه، فإن حيز صح ما على غيره ولا يرد على صحة وقف حصة الشريك إن حيزت قبل المانع قولهم: الصفقة تفسد إذا جمعت حلالا وحراما، لأن ذلك مخصوص بالمعاوضة المالية بالبيع والشراء، وكلام القرافي في تقسيم المنقطع إلى منقطع الأول وإلى غيره يقتضي صحة الوقف على غير نفسه ممن تقدم عنه أو تأخر كوقفه على نفسه ثم عقبه، فيرجع بعد موته حبسا على عقبه قاله عبد الباقي.

أو على أن النظر له، يعني أن المواقف إذا شرط في وقفه أن النظر له فإن الوقف يبطل، هذا هو الذي يظهر من كلام المص وليس الأمر كذلك، بل يصح الوقف، وإنما يبطل بعدم الحوز فقط، فإذا لم يحصل مانع أخرج من يد المواقف إلى يد ثقة، وإن حصل مانع قبل ذلك بطل الوقف، هذا هو الذي قاله غير واحد، وفي المختصر الكبير: لا يجوز للرجل أن يحبس ويكون هو ولي الحبس. والله تعالى أعلم. أو لم يحزه كبير وقف عليه، معطوف بالمعنى على معصية، أي وبطل على معصية أو لعدم حوز كبير يعني أن الوقف إذا لم يحزه الكبير حتى حصل للواقف مانع من الموانع الآتية الفلس وما بعده فإن الوقف يبطل، قال الخرشي: والمعنى أن الوقف إذا كان على كبير وهو يشمل الولد والأجنبي ولم يحزه قبل موت المواقف أو قبل فلسه أو قبل مرضه الذي مات فيه فإن الحبس يبطل، وسواء كان هذا الكبير رشيدًا أو سفيها، ولهذا قال: ولو سفيها، هو مبالغة في المفهوم، أي فإن حازه الكبير صح ونفذ ولو كان هذا الكبير الحائز للوقف سفيها محجورا عليه على المذهب، قال الحطاب: وأشار بقوله: ولو سفيها، إلى أن حوز السفيه لما وقف عليه جائز على القول الراجح. وفي وثائق الباجي: أنها لا تصح قال الحطاب والخرشي: وظاهر كلام المص أن حيازة السفيه لما وقف عليه مطلوبة ابتداء وليس كذلك، بل الحائز له ابتداء وليه أو وصيه أو من يقدمه القاضي له، وإنما الخلاف إذا حاز لنفسه هل يصح حوزه أم لا؟ فالقول الراجح وهو الذي مشى عليه المص أن حيازته لما وقف عليه جائزة، والذي في وثائق الباجي أنها لا تصح. قاله ابن رشد. ونقله في التوضيح، ونقله الشارح، والخلاف في صحة حيازة السفيه وعدمها إنما هو إذا كان له ولي فإن لم يكن له ولي جازت حيازته اتفاقا، وأما حيازة وليه له

ص: 395

فهي جائزة بلا خلاف، بل هي المطلوبة ابتداء، ويفهم ذلك من قول المؤلف الآتي: إلا لمحجوره. انتهى. واعلم أن حوز الصغير كَافٍ على الراجح قال في التحفة:

ونافذٌ ما حازه الصغيرُ

لنفسه وبالغٌ محجورُ

وأما قول المص: أو ولي صغير، فيشير به إلى أن الحكم ابتداء في الصغير أن يحوز له وليه، قال الحطاب: فلو حاز لنفسه لصح حوزه كالسفيه، فحكم الصغير كالسفيه، قال في كتاب الطرر: ومن تصدق على صغير من أب أو غيره ثم أسلم الصدقة إلى ذلك الصغير وحازها في صحة المتصدق بها فإنها حيازة تامة، وإن كان الحائز صغيرا، وتنفذ الصدقة إلا أنه يكره ابتداء أن يحوز الصغير، فإن وقع نفذ. انتهى. ومعنى قوله: أو وَّلي صغير، أن الوقف إذا كان على صغير واستمر بيد المواقف ولم يحزه ولي الصغير إلى أن مات المواقف مثلا فإن الوقف يبطل، وقد علمت أنه لو حازه الصغير لنفسه لنفذ. والله تعالى أعلم. قال عبد الباقي: حوز الصغير المميز كاف على المعتمد ولو فيما وقَفَه وليُّه عليه، وانظر إذا لم يميز وحاز. انتهى. وليس لولي الصغير أو السفيه الامتناع من قبول ما وهب للمحجور أو تصدق به عليه أو وقف عليه لأنه الواجب عليه.

أو لم يخل بين الناس وبين كمسجد، يعني أن من وقف مسجدا أو قنطرة وما أشبه ذلك ولم يزل واضع اليد على ذلك إلى أن فلس مثلا فإن الوقف يبطل، اللخمي: حوزُ المساجد والقناطر والواجل والآبار رفع يد المحبس عنها وتخليته بين الناس وبينها، فإذا مات قبل التخلية لم يحصل فيها الحوز وبطل وكان ميراثا، ويستفاد من كلام ابن عرفة وابن الحاجب وغيرهما أن حوز التخلية يكون الشيء حبسا بمجردها وإن لم يحصل من المحبس صيغة الحبس، فقول المؤلف: بحبست، في غير هذا، ثم كلام المص فيما إذا حصل التحبيس في الصحة، فإن حصل في المرض فإنه يخرج من الثلث، قال في الرسالة: ولا تتم صدقة ولا هبة ولا حبس إلا بالحيازة، فإن مات قبل أن يحاز عنه فهو ميراث إلا أن يكون ذلك في المرض فذلك نافذ من الثلث إن كان لغير وارث. قاله الخرشي. وقال الحطاب: قال في الشامل وصح الحوز بوكالة من محبس عليه وإن بحضوره وإن قدَّم الواقف من يحوز له جاز، وفي الهبة والصدقة يجوز للغائب فقط انتهى ويأتي

ص: 396

لهذا الكلام مزيد بيان قريبا إن شاء الله تعالى. وقال عبد الباقي عند قوله: أو لم يخل بين الناس وبين كمسجد ما نصه: والتخلية فيما ذكر حوز حكمي، وفي المسألتين قبله حوز حسي فتغاير المعطوف والمعطوف عليه. قبل فلسه وموته ومرضه، يتنازعه يُحَزْ ويخل، يعني أن الحيازة التي هي شرط في صحة الحبس إنما تكون قبل حدوث واحد من هذه الثلاثة للواقف، فإن بقي بيده إلى أن فلس بطل الوقف وبيع للغرماء، وكذا إذا لم يخل بين الناس وبين كمسجد حتى فلس فإنه يباع للغرماء، وما قيل في الفلس يقال في الموت وفي المرض المتصل بالموت، والمراد بالفلس الإحاطة، كما في الهبة "وبطلت إن تأخر لدين محيط" لأنه لا فرق بين الهبة والصدقة والوقف، فمتى تأخرت الحيازة حتى حصل للواقف واحد من هذه الأمور بطل الوقف لعدم التمام لحق الغرماء في الأول ولحق الورثة في الأخيرين، والضمير في فلسه وموته عائد على الواقف، وفي مرضه عائد على الموت أي ومرض موته ومرض الموت لا يكون إلا متصلا بالموت، فلله در المص ما أدق إشارته وألطف عبارته، وكم له مثل هذا من الصناعة العجيبه، والإشارات اللطيفة الغريبة، ومعنى كلام المص كما مر أن من حبس في صحته على معين أو غيره ولم يحز عنه - والتخلية حوز حكما - حتى حصل مانع من أحد الثلاثة فإن الوقف يبطل، فأما من تبرع في مرضه بشيء من التبرعات فإنه لا يحتاج لحيازة بل ينفذ من الثلث، واعلم أن من حبس في صحته واطلع عليه قبل حصول مانع فإنه يجبر على التحويز وليس له إبطاله إلا أن يشترط لنفسه الرجوع عنه أو البيع إن احتاج فيعمل بشرطه، فإن لم يشترط ذلك في أصل الوقف لم يكن له إبطاله خلاف ما توهم متوهم أن له إبطاله عند كبر سنه، ومراد المص بالبطلان قبل الثلاثة المذكورة عدم التمام لا حقيقته لأن ذلك حق للغرماء في الأول وللورثة في الأخيرين، فإن أجازوه مضى، ومفهومُ قوله: لم يحزه: أنه لو حازه من ذكر قبل المانع لصح ويشترط معاينة البينة لقبض المحبس عليه ولو بدفع المفاتيح له أو عقد الكراء أو المزارعة إن كانت بياضا أو دفع عقد المساقاة إن كانت سوادا، ولا يكتفى بإقرار المحبس. قاله عبد الباقي. وقوله: ويشترط معاينة البينة، قال في المدونة: ولا يقضى بالحيازة إلا في معاينة البينة لحوزه في حبس أو رهن أو هبة أو صدقة، ولو أقر المعطَي في صحته أن المعطى قد حاز وقبض وشهدت عليه بإقراره بينة ثم مات لم يقض بذلك إن أنكر ورثته

ص: 397

حتى تعاين البينة الحوزَ. انتهى. وقال في المتيطية: ويصح حوز الحبس بعقد كرائه أو زراعته إن كان بياضا أو مساقاته إن كان سوادا، ويستغنى بذلك عن معاينة الحوز، وهذا هو المشهور وبه العمل، ودفع مفاتح الدار إلى المتصدق عليه حوز. قاله في سماع يحيى. ونحوه في ابن سلمون. قاله بناني. قوله: ومرضه، دخل في المرض الجنون، قال في المتيطية: قال ابن القاسم في العتبية: وكذلك إن فقد عقله قبل أن تحاز عنه الصدقة بطلت، يريد إلا أن يرجع إليه عقله قبل أن تحاز الصدقة عنه أو يصح من مرضه فتنفذ الصدقة وتؤخذ منه، وفي التوضيح: حوز غير المحبس عليه بوكالة يكفي حضر أو غاب، وبغيرها فإن غاب وجعل الواقف أو الواهب ذلك بيد حائز حتى يقدم جاز، وإن حضر جاز تقديم المحبس من يحوز له ويُجري الغلة عليه ولا يجوز ذلك في الهبة والصدقة. انتهى. ونحوه لابن سلمون، وفي المدونة: أن من تصدق على رجل بدراهم وجعلها بيد غيره والموهوب له عالم حاضر جائز الأمر فلم يقم ولا قبض حتى مات الواهب فذلك نافذ إن لم يكن نهى الذي بيده عن دفعها إليه إلا بأمره، فإن نهاه فهي لورثته، وإن لم ينهه فللمعطى أخذها بعد موته وفي حياته. انتهى.

إلا لمحجوره، مستثنى من قوله: أو لم يحزه، يعني أن الولي إذا وقف على محجوره وبقي الموقوف بيد الولي فإنه يصح وقفه عليه وينفذ، وسواء كان المحجور صغيرًا أو سفيها، كان الولي أبا أو غيره، وإنما يصح ذلك بشروط أشار إلى أولها بقوله: إذا أشهد، يعني أنه إذا بقي الموقوف بيد الواقف إلى أن حصل له مانع وكان الوقف على محجوره فإنما يصح إذا أشهد الواقف بأصل الوقف ليكون بذلك حائزًا لمحجوره، وتحقيق هذا أن الوقف إذا كان على معين فإنه لا بد فيه من الحوز الحسي إلا أن يكون الموقوف عليه محجورا للواقف فإنه يكفي حينئذ الحوز الحكمي وهو الإشهاد وما معه من قوله: وصرف الغلة له لخ، قال الخرشي: وسواء كان الحائز الأب أو الوصي أو المقام من قبل الحاكم فيصح الوقف، ولو كان تحت يد الحائز إلى موته أو إلى فلسه أو إلى مرضه الذي مات فيه لكن الصحة تكون بشروط ثلاثة، الأول: أن يشهد الواقف على الحبس قبل حصول المانع ولا بد من معاينة البينة لذلك الإشهاد، فلا يكفي إقرار الواقف لمنازعة الغرماء أو الورثة، ولا يشترط أن يقول: المواقف عند الإشهاد على الوقفية رفعت يد الملك ووضعت يد

ص: 398

الحوز ونحو ذلك، فقوله: أشهد أي على الوقف لا على الحيازة فإنه لا يشترط. انتهى كلام الخرشي. وقال الرهوني: وكذا لا يشترط أيضا أن يقول في الوثيقة: وحاز لهم ذلك حتى يبلغوا مبلغ القبض لأنفسهم فيحوزوا كما في نوازل الأحباس من المعيار. انتهى. وقال الشبراخيتي: إذا أشهد على التحبيس على المحجور وليس المراد أنه أشهد أنه يحوز للمحجور. انتهى. وقال الحطاب: قال في الشامل: وفي حوز الحاضر ثالثها إن كان أما أو جدة أو جدا صح، والنصوص ليس بحوز مطلقا. انتهى. الشرط الثاني أشار إليه بقوله:

وصرف الغلة له، يعني أنه يشترط في صحة وقف الولي على المحجور مع الإشهاد أيضا أن يصرف الغلة للمحجور أي يثبت أنه صرف الغلة له أو يحتمل أنه صرفها له، فإن تحقق عدم صرفها له بطل الوقف، قال الحطاب: فلو شهدت بينة أن الأب صرف الغلة في مصالح نفسه فالمشهور البطلان. والله تعالى أعلم. وقال الشبراخيتي: وصرف الغلة له أي كلها أو جلها قياسا على الهبة، أما إذا لم يصرف الغلة له أو لم يصرف له إلا الأقل أو النصف بطل الوقف. انتهى. يعني بطل نصفه في مسألة النصف. والله تعالى أعلم. الشرط الثالث أشار إليه بقوله:

ولم تكن دار سكناه، يعني أن الولي إذا وقف على محجوره وبقي الوقف بيده إلى أن حصل مانع للواقف فإنه يصح وينفذ بشرط الإشهاد وصرف الغلة للمحجور عليه في غير دار سكنى المواقف، وأما إن كان الموقوف دار سكنى الواقف فلا يصح وقفها على محجوره إلا بعد مشاهدة البينة لها فارغة من شواغل المحبس، لكن ظاهره أنها إذا كانت دار سكناه بطل الوقف مطلقا وليس كذلك، بل يجري على الهبة وكذا لو صرف الغلة أو جلها للمحجور وأكرى له جل دار سكناه صح في الجميع والنصف فلكل حكمه، وإن سكن لنفسه أو استغل لنفسه الأكثر بطل الجميع، وبقي على المص شرط رابعٌ للصحة، وهو: أن لا يكون ما حبسه عليه مشاعا، فإن كان مشاعا ولم يعين له حصته حتى مات بطل وصار إرثا بينه وبين إخوته الرشداء، وخامس على أحد قولين، وهو: أن يكري الأب لمحجوره ما حبسه عليه، فإن تركه بغير كراء بطل على أحد قولين، والآخر لا يبطل؛ وفهم من كلامه أن حيازة الأم ما حبسته على ولدها غير معتبرة. انتهى. قاله عبد الباقي. إلا أن تكون وصية، قال الرهوني: قول عبد الباقي: وبقي على المص شرط رابع

ص: 399

للصحة، وهو: أن لا يكون ما حبسه عليه مشاعا فيه نظر، بل ما فعله المص من إسقاط هذا الشرط هو الصواب لمواقفته لقول مالك وابن القاسم المصرح بهما في غير ما موضع من العتبية، وفي المنتقى: ومن تصدق على ابنه الصغير أو وهبه نصف غنمه أو نصف داره أو نصف عبده مشاعا، قال القاضي أبو محمد: فيها روايتان إحداهما الجواز والأخرى البطلان، ومعنى ذلك أن من تصدق بجزء من ذلك وترك بقية لنفسه أو جعل الباقي للسبيل فحاز ذلك الأب حتى مات ففي كتاب محمد والعتبية: ما كان للابن فهو نافذ ويبطل ما كان للسبيل، رواه أصبغ عن ابن القاسم، ورواه أشهب في المدونة عن مالك، وقال أصبغ: أرى أن يبطل ذلك كله في المسألتين جميعا ولا شيء للابن ولا للسبيل. انتهى. ولا يصح حمل المدونة على قول أصبغ، لأنه بنى ذلك على مذهبه من أن الحوز في المشاع لا يصح إلا في الأجنبي والابن الرشيد، وقوله في ذلك شاذ، والراجح المعمول به خلافه، ومذهب المدونة في هذا خلاف قول أصبغ. انتهى. ثم جلب من النقول على عادته مما يدل على ما للمص ما لا مزيد عليه، والحاصل منها: أن الراجح المعمول به المشهور صحة حوز المشاع فيحوزه الأب بما يحوز لمحجوره وكذا غيره من الأولياء ويحوز غير من ذكر مع بقاء يد المتبرع بأن يبقى تحت يد المتبرع ويد المتبرَّع عليه. وفي الرهوني بعد جلب كثير من النقول: فتحصل مما سبق كله أن الولي كالأب ونحوه إذا تصدق على محجوره بجزء شائع من ماله أووهبه له أو حبسه عليه وأبقى الباقي لنفسه أو جعله في السبيل مثلا فحيازته له في غير دار السكنى وما ألحق بها صحيحة على الراجح، لأنه الذي نسبه ابن سهل لابن القاسم في موضعين من المدونة، ولمالك في العتبية والواضحة، ولكافة أصحابه، ونسبه الباجي لمالك في المدونة، وابن القاسم في العتبية، ولم يعز مقابله إلا لأصبغ، ونسبه ابن هلال لظاهر فتوى ابن عات، وصريح فتوى ابن مالك، ونقلِ ابنِ سهلٍ عن الأكثر، ولم يعز مقابله إلا لأصبغ، ونسبه ابن رشد لابن القاسم وروايته عن مالك، ولابن الماجشون، ولم يعز مقابله إلا لأصبغ، وعزاه الرجراجي لابن القاسم وأشهب، ولم يعز مقابله إلا لأصبغ، وأخذ من تصريح الأئمة بأن ما جرى في الجزء الشائع إذا كان لأجنبي أو للابن الرشيد يجري في هذا أنه المشهور المعمول به، وأن قول أصبغ شاذ لم يصحبه عمل. انتهى. وقال بناني: وفي البيان: اختلف فيمن تصدق بجزء شائع من

ص: 400

ماله على ولده الصغير هل تصح حيازته له؟ على ثلاثة أقوال، أحدها: أنها جائزة سواء أبقى الباقي لنفسه أو تصدق به على كبير أو في السبيل وهو قول مالك، والثاني: أن حيازته له غير جائزة وهو قول أصبغ، والثالث: إن أبقَى الباقي لنفسه أو تصدق به في السبيل فحيازته جائزة، ولا يجوز إن تصدق به على كبير إلا أن يحوز الكبير لنفسه وللصغير، وهو قول ابن القاسم في العتبية. انتهى. ولا فرق على مذهب المدونة بين الحبس والصدقة في ذلك. انتهى. قال الرهوني: ليس الأمر كذلك، بل هي خاصة بالهبة والصدقة، وقد صرح بذلك ابن رشد في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الحبس، فإنه قال: فهي ثلاثة أقوال، قول مالك: وقول أصبغ، وقول ابن القاسم، والحبس خارج عن هذا كله لا اختلاف في أنه إذا حبس علي بنيه الصغار والكبار فلم يحز الكبار بطل نصيب الصغار من أجل أن القسمة فيما بينهم لا تصح من أجل أنهم لا يثبت نصيبهم على شيء واحد. انتهى. واعلم أنه لا خلاف أنه يجوز بيع جزء شائع من الغنم مثلا، كما أنه لا خلاف أنه لا يجوز بيع عشرة من الغنم من مائة منها من غير تعيين، واختلف في جواز حيازة الأب للابن فيما إذا تصدق عليه بعدد من غنمه أو خيله، فقيل: حيازته لا تجوز حتى يعين العدد باسم أو سمة، وهو لمالك في الموازية والعتبية، وبه قال ابن القاسم ومطرف، قال أصبغ: وقد كان مالك يقول: إن ذلك جائز، قال ابن حبيب: وبه أخذ ابن وهب وابن عبد الحكم وابن الماجشون والمغيرة وابن دينار، وفي المسألة ثلاثة أقوال: الجواز فيهما، الجواز في الجزء الشائع وعدم الجواز في العدد، عدم الجواز فيهما.

تنبيه: قال الشبراخيتي عند قوله: ولم تكن دار سكناه، ومثل السكنى اللبس، والظاهر أن الانتفاع به بركوب ونحوه إلى أن مات كذلك. انتهى.

أو على وارث بمرض موته، يعني أن الوقف على الوارث بمرض موت المواقف باطل وسواء حمله الثلث أم لا أم لا لأنه وصية بوقف على وارث، والوصية للوارث باطلة لقوله صلى الله عليه (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث (1)). فإن صح المواقف بعد ذلك ثم مات صح الموقف،

1 - مسند أحمد، ج 5 ص 267.

ص: 401

وقوله: أو على وارث بمرض موته سواء وقف على بعض الورثة أو على جميعهم. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: أو وقف على وارث بمرض موته أي المرض الذي عقبه الموت ولو خفيفا فيبطل الوقف ولو حمله الثلث، لأنه كالوصية ولا وصية لوارث، ثم محل بطلانه إذا لم يجِزهُ باقي الورثة، فإن أجازوه لم يبطل، ولذا كان دخول الأم والزوجة فيما للأولاد في الآتية محله حيث لم تجيزا فإن أجازتا لم تدخلا. انتهى. وقال الشبراخيتي: وكلام الشارح يفيد أن المرض الذي يعقبه الموت إذا تصرف فيه وكان حال تصرفه غير مخوف أنه كتصرفه في حال صحته وهو ظاهر كلامهم كالمص في باب الحجر، وفهم منه أنه لو لم يكن مرض موته بأن صح منه ثم مات لم يبطل وهو كذلك، وكذا لو وقف في صحته. انتهى. ثم استثنى من عدم صحة وقف المريض على الوارث المسألة المعروفة بمسألة ولد الأعيان وهي من حسان المسائل وقل من يعرفها فقال:

إلا معقبا خرج من ثلثه فكميراث للوارث، قال أبو محمد: اعلم أن هذه المسألة من المسائل التي يتسع فيها المقال، ويتفرعُ فيها السؤال، يعني أنه إذا وقف في مرض موته على ورثته والثلث يحمل وقفه والحال أنه عقَّبَ وقفه بأن قال: هو وقف على أولادي وعقبهم، فإنه يصح وينفذ، ولا يبطل ما ناب أولاد الأعيان لتعلق حق الغير بالوقف، لأن أولاد الأعيان إذا ماتوا رجع الوقف لأولاد الأولاد، فإذا صح الوقف على هذا الوجه كان ما بأيدي أولاد الأعيان وقفا لا ملكا، ويأخذ الذكر مثل حظ الأنثيين، وإليه أشار بقوله: فكميراث للوارث، ويدخل في الوقف جميع الورثة، فقوله: إلا معقبا، هو شرط في صحة الوقف، وقوله: خرج من ثلثه من ابتدائية، ومعناه أنه يصح كله إن حمله الثلث، فإن لم يحمل الثلث إلا بعضه صح منه ما حمله الثلث وبطل ما لم يحمله الثلث إلا أن يجيزه الورثة، وقوله: فكميراث للوارث، إشارة إلى أنه ليس ميراثا على الحقيقة فهو كالميراث بالنسبة للغلة في كون الذكر له مثل حظ الأنثيين، وأما الرقاب فلا يتصرفون فيها تصرف الملاك بل هي وقف، ومثل للمسألة بقوله:

كثلاثةِ أولادٍ وأربعةِ أولادِ أولادٍ، يعني أنه إذا وقف في مرض موته على ولده وعقبهم وله ثلاثة أولاد لصلبه وأربعة أولاد أولاد، ثم مات وخلف السبعة وترك أمه وزوجته، فإن الوقف يقسم على سبعة أسهم، لأولاد الصلب الثلاثة ثلاثة أسهم وهو بأيديهم كالميراث للذكر مثل حظ

ص: 402

الأنثيين، ولكونه وقفا لم يبطل ما ناب أولاد الصلب لتعلق حق غيرهم به، فتدخل فيه الأم والزوجة وغيرهما من الورثة، فتأخذ الأم سدس الغلة إرثا وتأخذ الزوجة ثمنها، والباقي من الأسهم الثلاثة يقسم بين أولاد الصلب الثلاثة، ولأولاد الأولاد أربعة أسهم، فالأسهم السبعة أربعة منها لأولاد الأولاد، وثلاثة سدسها للأم، وثمنها للزوجة، والباقي يقسم أثلاثا بين أولاد الصلب للذكر مثل حظ الأنثيين أو بالسوية إن كانوا ذكورا فقط أو إناثا فقط. فقوله: وعقّبه، بتشديد القاف أي قال: وقف على ولدي وعقبهم، وقوله: وترك أما وزوجة، أي ترك بعد موته مع السبعة المذكورين أما أي أما للواقف وزوجة له، فإنه يقسم جميع الموقوف على السبعة القسم المذكور، وإذا قسم فإن الزوجة والأم تدخلان فيما للأولاد، فتأخذان السدس والثمن، والباقي يقسم بين الأولاد القسم المار، وسواء كان الولد ذكورا أو إناثا أو ذكورا وإناثا، وسواء قال المواقف للذكر مثل حظ الأنثيين أو لا، وهذا إذا منعتا وأما إن أجازتا فلا تدخلان.

وأربعة أسباعه لولد الولد وقف، فالذكر والأنثى فيه سواء إن لم يشترط فيه فضلا، وهذا هو نكتة قوله: لولد الولد وقف، وحاصل المسألة أن الموقوف في المرض المذكور يقسم ابتداء على سبعةٍ عددِ الرؤوس، لأولاد الأعيان ثلاثة، ولأولاد الأولاد أربعة، ثم تقسم الثلاثة التي لأولاد الأعيان للذكر مثل حظ الأنثيين، وتدخل فيها الأم والزوجة، للأم سدسها، وللزوجة ثمنها، فتقسم من أربعة وعشرين مخرج الثمن والسدس، للأم سدسها أربعة، وللزوجة ثمنها ثلاثة، تبقى سبعة عشر لا تنقسم على أولاد الأعيان الثلاثة، فتضرب عدد رؤوسهم في أربعة وعشرين تبلغ اثنين وسبعين، ومن له شيء من أربعة وعشرين أخذه مضروبا في ثلاثة عدد رؤوس الأولاد، فللزوجة تسعة، وللأم اثنا عشر، ولأولاد الأعيان الثلاثة سبعة عشر في ثلاثة بواحد وخمسين، فلكل واحد سبعة عشر. واعلم أنه إذا قال: وقف على أولادي وأولاد أولادي، فإن الوقف صحيح وإن لم يقل: وعقبهم، لأن ذلك الأول يفيد التعقيب، فلا معنى لقول عبد الباقي: فإن لم يقل: وعقبهم، بأن قال: وقف على أولادي وأولاد أولادي بطل على الأولاد وصح على أولاد الأولاد. انتهى كلام الرهوني. وعلم مما قررت أنه يقسم أولا على حكم الوقف فيسوى فيه بين الذكر والأنثى، ثم ما ناب أولاد الأعيان تقسم غلته على حكم الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين، وتدخل فيه الأم والزوجة، وسواء

ص: 403

أطلق أو سوى بين الذكر والأنثى، أو شرط للذكر مثل حظ الأنثيين، لأن شرطه لا يعتبر فيما ناب أولاد الأعيان، لأنهم لا يأخذون على حكم الوقف، وإنما يأخذون على حكم الميراث، ولهذا قال: فكميراث للوارث. قاله عبد الباقي. فإن حبس على الأم والزوجة مع من ذكر فإنه يحسب رؤوسهما في القسم أولا بين الأولاد وأولاد الأولاد، ويقسم ما ناب الأولاد والزوجة والأم على حكم الميراث، واعلم أنه إن لم تجز الزوجة والأم الوقف في مسألة المص هو حيث تدخلان فيما للأولاد: وأما إن أجازتا فلا شيء لهما من الوقف أصلا، لأن المحبس لم يدخلهما في الوقف. قاله بناني. والله تعالى أعلم ومفهوم قول المص: إلا معقبا، بأن عين الأولاد الموقوف عليهم، فإن الوقف باطل وهو داخل فيما قبل الاستثناء، وفي نقل المواق: واعلم أنه إذا حبس على ولده وولد ولده والتلث يحمل ذلك كان ذلك حبسا على غير وارث وهم ولد الولد وعلى وارث وهم الولد، فنحن لا نقدر أن نبطل ما كان للولد من ذلك لأن فيه شركاء ليسوا بورثة من ولد الولد وما تناسل من الأعقاب، فلم يكن بد من إيقاف ذلك على معاني الأحباس، إلا أن ما صار من ذلك بيد ولد الأعيان دخل فيه بقية الورثة من أم وزوجة وغيرهم إن لم يجيزوا فيدخلون في تلك المنافع، إذ ليس لوارث أن ينتفع دون وارث معه، إذ لا وصية لوارث، وما صار لولد الولد نفذ لهم بالحبس، قال سحنون وابن المواز: إذا كانت حالتهم واحدة وإلا فعلى قدر الحاجة. انتهى. وهذا هو الذي شهره في البيان، وصرح في الأجوبة: بأن العمل بخلافه، ونصها: والذي جرى به العمل أن يقسم بينهم على السوية، الذكر والأنثى، والغني والفقير. انتهى. ابن عرفة: وفي قسمه بالسوية مطلقا أو إن استوت حالهم أي وإلا فعلى قدر الحاجة قولان، وقال المواق: إذا قال: وقف على ولدي، ثم على عقبه، فلا شيء للعقب حتى يموت الولد، بخلاف لو قال: على ولدي وعقبه، قال الباجي: لأن ثم للترتيب، وأما الواو فهي للجمع فاقتضى الشركة. انتهى. وقال بناني بعد كلام التوضيح فإن شرك المريض الوارث مع غيره فذلك لا يوجب صحة الوقف مطلقا، وإنما يصح منه ما للأجنبي، وما خص الوارث فميراث على جهة الملكية إن لم يكن معقبا وإن كان معقبا، رجع النصيب الموقوف بين جميع الورثة، ولا يبطل الوقف بسبب ما فيه من التعقيب. انتهى. ما نصه: ويعني أن غير المعقب يقسم فيه الحبس بذاته، فما ناب الأولاد يكون ذاته ميراثا، وما

ص: 404

ناب أولاد الأولاد يكون حبسا، وأما المعقب فإنما تقسم غلته، وأما ذاته فحبس كلها، وقد فرض المص وغيره المسألة مع تساوي الدرجة لعطفه بالواو والمرتب كالمعطوف بثم مثله كما في العتبية، فيكون لأولاد الأعيان إرثا وتدخل فيه الأم والزوجة معهم لكن لا شيء لأولاد الأولاد لأجل الترتيب. انظر المواق. انتهى. وكلام البناني هذا يوهم تسليم كلام عبد الباقي الذي مر نقد الرهوني له: والصواب ما تقدم عن الرهوني، لأن لفظ ولدي تعقيب فكيف بلفظ ولدي وولد ولدي، وكلام التوضيح لا يدل لشيء من كلام عبد الباقي، ولم يتسع المحل لجلب النقول في ذلك.

وانتقض القسم بحدوث ولد لهما، يعني أنه إذا حدث ولد أو أكثر لواحد من الفريقين الأولاد وأولاد الأولاد فإن القسمة تنتقض، لأنها كانت من سبعة فصارت من ثمانية، ومن تسعة إذا حدث اثنان، وهكذا، وهذا مما لا خلاف فيه. قاله عبد الباقي. كموته علي الأصح، يعني أنه ينتقض القسم بموت واحد من الفريقين الأولاد وأولاد الأولاد، هذا هو الأصح، قال المواق: قال ابن يونس: اختلف إن مات واحد من ولد الأعيان، فقال ابن القاسم وابن المواز وسحنون: ينتقض القسم كما ينتقض بحدوث ولد لولد الأعيان أو لولد الولد، ويقسم جميع الحبس على عدد بقية الولد وولد الولد، فما صار لولد الولد نفذ لهم بالحبس، وما صار لولد الأعيان أخذت الأم سدسه والزوجة ثمنه، وما بقي قسم على ثلاثةٍ عددِ أصل ولد الأعيان، فيأخذ الحيان سهميهما، وورثة الميت منهم سهما تدخل فيه أمه وزوجته إن كانت له زوجة وولده، وهو أحد ولد الولد، فيصير فيه لِولدِ هذا الميت نصيبٌ بمعنى الحبس من جده في القسم الأول والثاني ونصيب بمعنى الميراث، وروى عيسى: لا ينتقض القسم. انتهى. وقال عبد الباقي: على الأصح من قولي ابن القاسم وهو مذهب المدونة، ولذا أتى بالكاف، فيختص الخلاف بما بعدها على قاعدته الأكثرية. انتهى. وفيه نظر، فإن الذي نسب لظاهر المدونة هو مقابل الأصح، ونص المدونة: وإذا مات أحد ولد الأعيان قسم نصيبه على من بقي من ولد الأعيان وعلى ولد الولد لأنهم هم الذين حبس عليهم، ثم تدخل الأم والزوجة وورثة الميت من ولد الأعيان في الذي أصاب ولد الأعيان من ذلك على فرائض الله. انتهى. وعلى الأصح الذي مشى عليه المص اقتصر ابن الحاجب، وقوله: كموته

ص: 405

على الأصح، قال عبد الباقي: فإذا مات واحد من ولد الأعيان فالقسمة من ستة، لهم سهمان من ستة، للأم منهما السدس، وللزوجة منهما الثمن، والباقي يقسم على ثلاثة، الاثنين الباقين من أولاد الأعيان، وعلى أخيهم الذي مات، فإنه يُحيَى بالذكر تقديرا، ولكن نصيبه لوارثه مفضوض على الفرائض، وكذا لو مات ثان، فلو مات أولاد الأعيان كلهم رجع الحبس جميعه لولد الولد وقفات مع رجوع ما بيد الزوجة والأم، لأن أخذهما إنما كان تبعا للأولاد، وإن كان الميت واحدا من ولد الولد صار لأولاد الأعيان النصف ولأولاد الأولاد النصف، فإن انقرض أولاد الأولاد رجع الحبس كله لأولاد الأعيان وللأم والزوجة مقسوما على الميراث، وليس لهم تصرف فيه ببيع ونحوه، فإن انقرضت السبعة رجع مراجع الأحباس كما يأتي في قوله "ورجع إن انقطع لأقرب فقراء عصبة المحبس".

لا الأم والزوجة، بالجر عطف على موته، يعني أن زوجة المواقف أو أم المواقف إذا ماتت واحدة منهما فإن القسمة لا تنتقض ويكون ما بيد من مات منهما لورثتهما على الفرائض أي بالنسبة للغلة، وأما الرقاب فهي على وقفيتها المتيطي: فإن ماتت أم المحبس أو زوجته أو أحد من ورثة الابن الميت ممن لم يدخل في الحبس فنصيبه بين ورثته على فرائض الله تعالى، لا يدخل فيه غيره، ولا تنتقض القسمة بموته. انتهى. قال عبد الباقي: فإن لم يكن للأم أو الزوجة وارث فنصيبهما لبيت المال. انتهى. ونحوه للخرشي. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: تأمل هذا فالذي يظهر أنه غير صحيح، لأنه يرث الأم أولاد المواقف، فكيف يقول: ولا وارث لهما، نعم يصح ما قاله في زوجة الواقف التي ليست أمَّا للموقوف عليه، وقد مر النقل أنه إذا مات أحد الأولاد يصير لولده نصيب بمعنى الحبس ونصيب بمعنى الإرث.

تنبيه: وقع في كلام عبد الباقي والخرشي عند قوله: لا الزوجة والأم، أنه إن ماتت الأم أو الزوجة يرجع منابها وقفا على ورثتها. انتهى. وتعقبه بناني بأن قوله: وقفلا الصواب إسقاطه، قال: وإنما يرجع لهم ملكا. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: والذي يظهر لي أن كلام عبد الباقي والخرشي صحيح، ومعنى وقفا عندهما أن الرقاب باقية على وقفيتها، والغلة هي التي تكون ملكا فتقسم على الفرائض والله أعلم فيدخلان فيما للأولاد، هذا مرتب على قوله:

ص: 406

وانتقض القسم بحدوث ولد لهما، أي وإذا انتقض القسم بحدوث ولد لأولاد الأولاد أو ولد لأولاد الأعيان فإن الزوجة والأم تدخلان فيما للأولاد، فيحصل لهما النقص بسبب حدوث الولد. ودخلا فيما زيد للولد، يعني أنه إذا مات بعض أولاد الأولاد واحدا أو أكثر فإن الزوجة والأم تدخلان فيما زيد لأولاد الأعيان بسبب موت واحد أو أكثر من أولاد الأولاد، وكذا تدخلان فيما زيد لأولاد الأعيان بالموت من الفريقين، كموت واحد من أولاد الأعيان، واثنين من أولاد الأولاد، فعلم أن قوله: فتدخلان فيما للأولاد، معناه يحصل لهما النقص الحاصل للأولاد، وأن قوله: ودخلا فيما زيد للولد تحصل لهما الزيادة بسبب ما زيد للولد، فلا تكرار، لكن لو اقتصر على قوله: فيدخلان، لكفى، أي فيدخلان فيما للأولاد حصل نقص أو زيادة؛ قوله: خرج من ثلثه، أي خرج جميع ما حبسه من ثلثه، قال أحمد: وهذا واضح حيث كان الحبس على بعض الورثة، فإن كان على جميعهم فانظر هل هو كذلك أم لا؟ نقله عبد الباقي، قال: ومراده أنه حبس على جميعهم ولم يكن فيهم غيرهم في الحبس بدليل ما قدمناه إذا حبس على جميعهم وعلى الأم والزوجة. انتهى. قال الرهوني: إنما يظهر وجه التوقف إذا حبس الثلث على جميعهم على قدر إرثهم، وأما على غير ذلك فلا وجه له، ثم لا محل للتوقف مع وجود النص، ففي تبصرة اللخمي: قال محمد: فيمن حبس داره في مرضه على جميع ورثته فلم يدخل غيرهم معهم فليس بحبس إن شاءوا باعوا وإن شاءوا حبسوا، وكذلك لو قال: حبس على ولدي فلم يدخل في ذلك غيرهم، وقاله ابن القاسم وأشهب، وأشار إلى الصيغة بقوله:

بحبست، متعلق بوَقْفُ، يعني أنه لا بد في صحة الوقف من الصيغة، وهي تكون بالفعل كالتخلية بين الناس وبين كمسجد، وتكون بالقول كحبست بالتخفيف والتشديد. ووقفت، يعني أن الصيغة تكون بوقفت، وهاتان الصيغتان يقتضيان التأبيد من غير شرط، بخلاف تصدقت، كما يأتي قريبا. قال عبد الباقي: بحبست ووقفت أو ما يقوم مقامهما، كالتخلية بين كمسجد وبين الناس، ولم يخص قوما دون قوم ولا فرضا دون نفل، وكالإشاعة بشروطها فإنه يثبت الوقف بها، وكذا بكتابة على أبواب المدارس والربط في الأحجار القديمة وعلى الحيوان، وكذا يثبت بكتابة لفظ وقف على كتاب من مدرسة بها كتب مشهورة لا كتابة على كتاب لم يشتهر كونُه من

ص: 407

محل مشهور، كما بين ذلك في تبصرة ابن فرحون. انتهى. قوله: ولم يخص قوما دون قوم لخ، هكذا في عبارة ابن الحاجب ونصه: الركن الثالث: الصيغة وما يقوم مقامها، فإن أذن في الصلاة مطلقا ولم يخص شخصا ولا زمانا فهو كالتصريح. انتهى. والذي في عبارة ابن فرحون في التبصرة بصيغة المبالغة، ونصه: ومن ذلك لو بنى مسجدا وأذن فيه فذلك كالتصريح بأنه وقف وإن لم يخص زمانا ولا شخصا ولا قيد الصلاة فيه بفرض ولا نفل فلا يحتاج إلى شيء من ذلك، ويحكم بوقفيته. انتهى. وتبعه في المسائل الملقوطة. قاله بناني. انتهى. وفي الخرشي: الحبس بضمتين جمع حبيس، وهو كل ما وقف لله تعالى حيوانا كان أو أرضا أو دارا، يقال: حبس فرسا وأحبس فهو حبيس ومحبس، وقد جاء حبس بالتشديد، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في نخل له (حبِّس الأصل وسبل الثمرة (1)). أي اجعله وقفا مؤبدا، واجعل ثمرته في سبيل الخير لله. انتهى. وقال الخرشي: ويثبت الوقف بالكتابة على الحيوان. انتهى. قال: ولو كان لفظ الواقف يحتمل احتمالات فإن كان حيا رجع إليه ولو فسر بأضعف الاحتمالات، فإن فسر بما لا يحتمله اللفظ فلا يعتبر، وإن كان ميتا عمل على أظهر الاحتمالات، وللواقف إذا ولى ناظرا أن يعزله متى شاء، ويولي من شاء بخلاف القاضي إذا ولى ناظرا، وليس له ولا لمن ولي بعده عزله إلا لجنحة، وإذا مات الواقف وعدم كتاب الوقف قُبل قول الناظر إن كان أمينا، وإذا ادعى الناظر أنه صرف الغلة صدق إن كان أمينا أيضا ما لم يكن عليه شهود في أصل الوقف لا يصرف إلا بعلمهم، وإذا ادعى الناظر أنه صرف على الوقف من ماله قبل قوله من غير يمين إلا أن يكون متَّهما فيحلف، ولو التزم حين أخذ النظر أنه يصرف على الوقف من ماله إن احتاج لم يلزمه ذلك، وله الرجوع، وله أن يقترض لمصلحة الوقف من غير إعلام الحاكم ويصدق في ذلك، وله عزل نفسه ولو كان من جهة الواقف، بخلاف وصي الأيتام، وإذا عزل نفسه لم يكن له الرجوع بعد ذلك خلافا للشافعية، وله أن يفعل في الوقف كل ما كان أقرب إلى غرض الواقف بحيث لو كان الواقف حيا لرضيه ولو خالف شرطه، ولو جعل الواقف النظر لغائب صح وينتظر قدومه،

1 - البيهقي، ج 6 ص 163.

ص: 408

وليس للحاكم أن يولي غيره، ولو غفل الواقف عن أن يجعل على الوقف ناظرا فللقاضي أن يجعله ويجعل له معلوما من غلته، وإذا وقف على مصالح المسجد صرف في حُصُره وزيْتِه، ولا يصرف لمؤذنه وإمامه لأنهم ليسوا من مصالحه، فإن صرف لهم الناظر لا يرجع عليهم، والعبرة في الوقف بتقرير الناظر لا القاضي، لأن الناظر أخص والقاضي أعم، والأخص مقدم على الأعم، ولو شرط المواقف أن لا يخرج الكتاب من المدرسة أو لا يعطى منه أكثر من كراس جازت المخالفة إن كان الآخذ أهلا، ولو شرط أن لا يعطى ذلك إلا برهن فإن كان مراده الرهن الشرعي فلا يعمل بشرطه إن كان الآخذ أهلا، فإن وقع أجري عليه حكم الرهن الصحيح، وإن كان مراده التذكار خوفا من النسيان فلا بأس به. انتهى. ونحوه للشبراخيتي.

أو تصدقت يعني أن الوقف يثبت بقول الشخص تصدقت بشرط أشار إليه بقوله: إن قارنه، أي تصدقت. قيد لا يباع ولا يوهب، قال عبد الباقي: وتصدقت إن قارنه أي تصدقت فقط، ولذا أفرد الضمير، قيد لا يباع ولا يوهب بخلاف الصيغتين قبله فيفيدان التأبيد بلا مقارنة قيد. انتهى. قال بناني: ما قرره به من رجوع القيد للثالث فقط هو الراجح من المذهب على ما يفيده في التوضيح، وذكره الحطاب ونصه: الذي يتحصل من كلامه في التوضيح أن الراجح من المذهب أن حبست ووقفت يفيدَانِ التأبيد سواء أطلقا أو قيدا بجهة لا تنحصر أو على معينين أو غير ذلك إلا في الصورة الآتية، وذلك إذا ضرب للوقف أجل أو قُيِّد بحياة شخص، وأما لفظ الصدقة فلا يفيد التأبيد إلا إذا قارنه قيد. انتهى. وهذا خلاف ما قاله الحطاب أول تقريره من أن المقيد يرجع للثلاثة، وخلاف ما لابن شأس وابن الحاجب من رجوعه لحبست وتصدقت فقط، وقد جزم المصطفى بحمل المص على ما في أول كلام الحطاب، وما تقدم عن التوضيح يرده، وليس فيما نقله المصطفى عن ابن رشد ما يدل لما زعمه. فتأمله. والله تعالى أعلم. قاله بناني. وقال الشبراخيتي: الشرط خاص بقوله: تصدقت، ولذا عطفه بأو، وهذه نكتة لطيفة. انتهى. وتحصل مما مر أن وقفت وحبست مترادفان يفيدان التأبيد مطلقا، وأن تصدقت إنما يفيد التأبيد إن قارنه قيد، هذا هو المعول عليه. والله سبحانه أعلم.

ص: 409

أو جهة لا تنقطع، يعني أن تصدقت إذا قارنه جهة لا تنقطع كقوله: تصدقت على الفقراء، أو على المساكين، أو على المساجد، أو على طلبة العلم، أو ما أشبه ذلك، فإنه يثبت الوقفية بذلك، وهذا إنما يكون إذا قارنه مع ذلك قيد لا يباع ولا يوهب، قال عبد الباقي: وجهة لا تنقطع كتصدقت على الفقراء أو المساكين، أو على المساجد، أو على طلبة العلم، أو شبه ذلك إذا قارنه قيد أيضا كقوله: لا يباع ولا يوهب، وإلا كان ملكا للموقوف عليه يباع ويفرق ثمنه بالاجتهاد كما يأتي في قوله: أو المساكين، فحذف المص إن قارنه قيد من هذا لدلالة الأول عليه، وإن كان ظاهر عطفه بأو يقتضي أن الصدقة عليها حبس وإن لم يقارنها قيد وليس كذلك. انتهى. وقال الشبراخيتي: وأما إن قيدها أي تصدقت بالاستغلال والسكنى فهو في الجهة التي لا تنقطع كالتقييد بلا يباع ولا يوهب، وأما في المعين كداري صدقة على زيد يستغلها ويسكنها فهل يكون كقوله: لا يبيعها ولا يهبها وهو الظاهر أم لا؟ انتهى. وقال المواق: قال ابن رشد: التحبيس ثلاثة ألفاظ، حبس، ووقف، وصدقة، فأما الحبس والوقف فمعناهما واحد ولا يفترقان في وجه من الوجوه، وأما الصدقة فإن قال: داري أو عقاري صدقة، أو في سبيل الله، أو على بني زهرة، فإنها تباع ويتصدق بها على مساكين على قدر الاجتهاد، إلا إن قال: صدقة على المساكين يسكنونها ويستغلونها فتكون حبسا على المساكين للسكنى والاستغلال ولا تباع. انتهى.

أو لمجهول وإن حصر، الواو للحال وليست للمبالغة، يعني أن الصدقة على مجهول محصور كزيد وعقبه تكون وقفا ولا يحتاج ذلك إلى قيد، ولا يصح جعل وإن للمبالغة لأنه يكون ما قبل المبالغة المجهول غير المحصور، وذلك هو قوله: أو جهة لا تنقطع، قال الخرشي عند قوله: أو لمجهول وإن حصر، ما نصه: معطوف على "إن قارنه قيد" تقريره أو وقع لِمجهولٍ محصور كعلى فلان وعقبه، فإنه يصح ويتأبد، ولا يحتاج إلى قيد لأن ذكر العقب قيد لأجل حق من يأتي بَعْدُ. واعلم أن بني تميم والمجاورين بالمحل الفلاني من غير المحصور، والمنقول في العتبية أن أهل مسجد كذا من غير المحصور.

فائدةٌ: استشكل النووي قول الفقهاء: محصور، بأن كل ما في الكون محصور، وقال: لم أزل أطلب الفرق فلم أجد من أفصح عنه إلا الغزالي حيث قال: كل عدد اجتمع في صعيد واحد يمكن

ص: 410

عده من غير مباشرة للمعدود كان محصورا، وإلا كان غير محصور. انتهى. نقله الخرشي. وقال الحطاب عن النووي: قال الإمام الغزالي: إن قلت: كل عدد فهو محصور في علم الله، ولو أراد إنسان حصر أهل بلد لقدر عليه إن تمكن منهم، فاعلم أن تحديد أمثال هذه الأمور غير ممكن، وإنما يضبط بالتقريب، فنقول: كل عدد لو اجتمع في صعيد واحد لعسر على الناظر عده بمجرد النظر كالألف ونحوه فهو غير محصور، وما سهل كالعشرة والعشرين فهو محصور، وبين الطرفين أوساط مشابهة تلحق بأحد الطرفين بالظن، وما وقع فيه الشك استفتيَ فيه القلب، وقال الحطاب بعد أن ذكر أن الكتب تثبت وقفيتها بكتابة لفظة وقف عليها، وقد اشتهرت بذلك مدة طويلة: وأما إذا رأينا كتبا لا نعلم مقرها ولا نعلم من كتب عليها الوقفية فهذه يجب التوقف في أمرها حتى يتبين حالها، وهو عيب يثبت للمشتري به الرد. انتهى.

ورجع إن انقطع لأقرب فقراء عصبة المحبس، يعني أن الحبس إذا كان على جهة معينة كزيد وعقبه فانقرضت تلك الجهة فإن الحبس يرجع إلى أقرب فقراء عصبة المحبس ويكون باقيا على وقفيته، قال الحطاب: فإن كان أهل المرجع أغنياء فقيل: يرجع إلى أولى الناس بهم، وقيل: يرجع إلى الفقراء. والله أعلم. انتهى. وقال الشبراخيتي عند قوله: لأقرب فقراء عصبة المحبس يوم المرجع نسبا وولاء بدليل أنه تدخل بنت المعتق في المرجع ويرجع لهم حبسا لا ملكا، ولو كان المحبس حيا فإنه يرجع لهم ولا يدخل هو في المرجع ويراعى في الأقربية الترتيب المذكور في باب النكاح المشار إليه بقوله: وقدم ابن فابنه لخ، وكلامه هنا يشمل عصبته وعصبة عصبته كما لو تزوج حر بأمة فأتت منه بولد ثم أعتقه سيده فالمعتِق بالكسر من عصبة الولد وليس من عصبة الأب فيرجع أولا للأقرب فالأقرب من عصبة المحبس الفقراء فإن كانوا أغنياء أو لم يكونوا رجع للأقرب فالأقرب من عصبتهم الفقراء، فلو أخذ الفقير كفايته وبقي شيء فهل يرد عليه أو يدفع للأبعد؟ قولان، كما لو انقطع المحبس عليهم وكان للواقف ابن وابن ابن مثلا وكلاهما فقير هل يعطى للابن الجميع ولو زاد على كفايته أو إنما يعطى قدر كفايته وما زاد يعطى لابن الابن؟ والأول هو الراجح كما يفيده كلام المواق، فإن لم يكن في المرجع فقراء فالمذهب أنه يعطى لفقراء المسلمين ولا يدخل المحبس في المرجع ولو كان فقيرًا. انتهى. وقال عبد الباقي: لأقرب فقراء

ص: 411

عصبة المحبس نسبا وولاء، فبنت المعتق تدخل في المرجع، فإن كانوا أغنياء أو لم يوجدوا فلأقرب عصبتهم، وهكذا عصبة عصبتهم وهلم جرا، فإن كانوا أغنياء أولم يوجدوا فللفقراء على المشهور، ويستوي في المرجع الذكر والأنثى، ولو شرط الواقف في أصل وقفه للذكر مثل حظ الأنثيين فإن فرض أنه قال: إن انقطع رجع لأقرب فقراء عصبتي للذكر مثل حظ الأنثيين، فالظاهر أنه لا يعمل بشرطه. انتهى. قال بناني: فيه نظر، بل إذا فرض أن المحبس نص على المرجع فهو من جملة المحبس عليه فيتبع شرطه، وإنما قالوا بعدم اتباع شرطه في المرجع إذا سكت عنه ولم يذكر إلا من حبس عليهم أولا وشرط فيهم شرطه، ففي المواق عن محمد: والذكر والأنثى سواء في المرجع، فإن اشترط أن للذكر مثل حظ الأنثيين فلا شرط له، لأنه لم يتصدق عليهم أي لأنه لم يصرح بهم في حبسه، فلا يجري فيهم شرطه، فيفهم منه أنه لو صرح بهم في حبسه لجرى فيهم شرطه وهو ظاهر، وعبارة التوضيح عن الموازية صريحة فيما قلناه، ونصه: وعلى دخول النساء في المرجع فقال مالك في الموازية: الذكر والأنثى سواء، وإن شرط في أصل الحبس للذكر مثل حظ الأنثيين، قال: لأن المرجع ليس فيه شرط ولو لم يكن له يوم يرجع إلا ابنة واحدة كان لها جميعه. انتهى. وبذلك صرح الأجهوري فانظره. انتهى. وبحث الرهوني مع بناني قائلا: إن ما استظهره عبد الباقي صحيح منصوص عليه، نص عليه ابن يونس ونقله المواق، قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه الظاهر ما قاله بناني لا ما قاله الرهوني، وما استدل به لا يدل له بل الظاهر أنه يدل لبناني. والله تعالى أعلم.

وامرأة يعني أنه يدخل في مراجع الأحباس كل امرأة لوْ رجّلتْ أي قدرت رجلا عصَّبَ ذلك الرجل أي كان من العصبة كالعمة والأخت وبنات الأخت وبنات المعتق فلو لم يكن للواقف إلا بنت أو عمة فإنها تأخذ جميعه، وأما المرأة التي إذا رجلت لم يكن ذلك الرجل عاصبا فإنها لا تدخل في مراجع الأحباس، بلا خلاف، كالأخت للأم والخالة وبنت البنت وبنت الأخت. قاله الخرشي. وقال مالك: ولا يدخل في ذلك ولد الأخت ذكرا كان أو أنثى ولا بنو الأخوات ولازوج ولا زوجة. قاله المواق. وقال عبد الباقي: ورجع إلى امرأة أم أو عمة أو أخت أو بنت ابن أو بنت عم أو بنت معتق لأنها عاصب بتقدير ذكورتها لو رجلت، أي قدرت رجلا بتقدير واحد عصب

ص: 412

ذلك الرجل المقدر، ولذا ذكر الضمير، فخرجت الخالة والجدة من قبل الأم وبنت البنت وبنت العمة لأن ما ذكر لا يكون عصبة إلا بتقديرين في بنت البنت وبنت العمة دون الخالة والجدة من قبل الأم، وقوله: وامرأة لو رجلت عصب أي وإن ساوت عاصبا موجودا كما في التوضيح والشارح والمتيطي، ولا يشترط كونها أقرب منه خلافا للمواق. انتهى. قال بناني: ليس في المواق ما يقتضي اشتراط كون النساء أقرب، وإنما فيه ما نصه: قلت: بأن كان ثمَّ مَن عصب من النساء وثَمَّ عصبة معهن والنساء أقرب. قاله ابن القاسم. قال مالك: يدخلون كلهم إلا أن لا تكون سعة فليبدأ بإناث ذكور ولده على العصبة. انتهى. فهذا لا يقتضي اشتراط كون النساء أقرب، وإنما هو سؤال عن دخول الرجال معهن حينئذ بدليل الجواب بدخولهم في السعة دون الضيق، وهذه الصورة هي قول المص: فإن ضاق قدم البنات، قال الشارح: واعلم أن الأقسام ثلاثة مشاركة في الضيق والسعة إذ (1) تساوى النساء مع العصبة في القعدد كأخ وأخوات وعدم مشاركة في الضيق والسعة إذا كان النساء أبعد من العاصب كأخ وعمة ومشاركة في السعة دون الضيق إذا كان النساء أقرب. انتهى. وقوله: وامرأةٍ بالجر. قال الرهوني عطف على عصبة لا على أقرب لأنه يقتضي أنها تدخل مع رجل أقرب منها كالأخت مع الابن والعمة مع الأخ ونحو ذلك، واعلم أن المرأة لا تدخل إلا إذا كانت فقيرة كالرجل، فلا فرق بينهما، وقول من قال: إن المرأة تدخل فقيرة أم لا لأنها فقيرة بالطبع غير صحيح، لأن حفاظ المذهب كالباجي وابن يونس واللخمي وابن رشد والمتيطي وابن عرفة وغيرهم قد حصلوا ما في المسألة من الخلاف، ولم يذكر أحد منهم هذا القول بالفرق بين الرجال فيشترط فيهم الفقر والنساء فلا يشترط فيهن، وحاصل ما لهم أنه اختلف في النساء هل هن من أهل المرجع بالشرط الذي ذكره المص أو بشرط إرثهن أو لا حظ لهن في ذلك أصلا؟ ثم إذا قلنا: إنهن من أهل المرجع فهي (2) كالرجال فيجري فيهن ما جرى فيهم من اختصاص ذلك بالفقراء وعدم الاختصاص، وصرح في التوضيح نقلا عن ابن عبد السلام، وفي المعيار نقلا عن ابن رشد بأن الأول هو المشهور، ففي ابن رشد: فإن كان أصل الحبس على

1 - في البناني، ج 7 ص 83: إذا تساوى.

2 -

في الرهوني ج 7 ص 147: فهن.

ص: 413

محتاجين مثل أن يقول: هو حبس على الفقراء من ولدي وولد ولدي أو على محتاج آل فلان وما أشبه ذلك فلا يرجع الحبس إلا إلى أقرب الناس بالمحبس من الفقراء، وأما إن كان الحَبس على ولده أو على آل فلان دون أن يخص الفقير منهم فالمشهور أن الحبس يرجع بعد انقراض المحبس عليهم إلى أقرب الناس إلى المحبس من الفقراء، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وقد روى ابن نافع عن مالك في المدونة أنها ترجع إلى أقرب الناس إليه من الأغنياء والفقراء، إلا أنه يبدأ الفقير على الغني، وقد قيل: إن كان سكنى دخل فيه الفقير والغني إذ لا يستغني الغني عن مسكن، وإن كان غلة لم يكن للغني فيها مدخل وبالله تعالى التوفيق. انتهى. والقول الثاني أنهن لا يدخلن إلا بشرط إرثهن وهن البنات وبنات الابن والأخوات الشقائق والتي للأب، وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون، والقول الثالث أنهن لا يدخلن أصلا، هو الذي في سماع أصبغ.

تنبيه: قال عبد الباقي: لا يصح عطف امرأة على عصبة لفساد المعنى لأن الكلام في المرأة نفسها. فإن ضاق قدم البنات، يعني أنه إذا قلنا إنه إن انقطع يرجع لأقرب فقراء لخ، وكان الأقرب عصبة مع نساء أقرب من العصبة كالبنات مع الإخوة أو الأعمام وضاق الحبس الراجع عن كفاية الجميع فإنه يقدم البنات أي يخصصن بما يغنيهن، وليس المراد إيثارهن بزيادة. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: قال ابن هارون: المشهور أن البنت إن كانت مساوية للعاصب شاركته في السعة والضيق، وإن كانت أقرب منه قدمت عليه في الضيق، وإن كانت أبعد منه قدم العاصب عليها في السعة والضيق، وعلم مما قررت أن قوله: قدم البنات، إنما هو مع كونهن أقرب من الذكور، إذ لو كن مساوياتهم لم يقدمن عليهم، بل الجميع شركاء ولو كن أبعد منهم لقدموا عليهن. والله تعالى أعلم.

تنبيه: قال الخرشي: قال عيسى: عن ابن القاسم: كل ما يرجع من الأحباس ميراثا يراعَى فيه من يرث المحبس يوم مات، وأما ما يرجع حبسا فلا. انتهى.

وعلى اثنين وبعدهما على الفقراء نصيب من مات لهم، يعني أنه إذا وقف على معينين كزيد وعمرو وبعد موتهما يكون وقفا على الفقراء فإنه إذا مات أحدهما فإن نصيبه يكون وقفا على

ص: 414

الفقراء ولا يرجع لرفيقه، قال التتائي مفسرا للمص: ولو وقف على اثنين معينين عطف أحدهما على الآخر بالواو كزيد وبكر أو أشار إليهما كهذين وبعدهما أو ثم على الفقراء كان نصيب من مات من الاثنين لهم أي للفقراء لا لرفيقه. البساطي: هذا اختيار ابن رشد وهو الحق، فإن قوله: بعدهما، يحتمل أن يريد بعد موت كل واحد منهما، ويحتمِل أن يريد من بعدهما معا، والأول أرجح من وجهين، أحدهما احتياج الثاني إلى مقدر يفتقر إليه معناه بخلاف الأول، والثاني: أن بعدية الميت أولا لم تفد شيئا فلا حاجة إلى جَمعِهما في الضمير، فتأمل. وظاهر المص سواء كان الحبس مما يتجزأ بالقسمة كغلة الحائط أو لا كركوب دابة وسكنى دار وهو كذلك على إحدى الروايتين، والأخرى إن تجزأ صرف للفقراء وإن لم يتجزأ فلرفيقه، واحترز المص عما لو قال: هو وقف على فلان وعقبه أو على بني تميم، فإنه إن بقي واحد منهم فله الجميع. انتهى. وقال الشبراخيتي: وبعدهما على الفقراء كان نصيب من مات من الاثنين لهم أي للفقراء لا لرفيقه، سواء قال: حياتهما أم لا، ويوخذ من هذه المسألة أن قول الواقف: تحجب الطبقة العليا منهم أبدا الطبقة السفلى، المراد به أن كل أصل يحجب فرعه فقط، وليس المراد به أنه يحجب فرعه وفرع غيره، ويجري مثل ذلك في الترتيب بين الأصول والفروع نحو وقف على أولادي ثم على أولاد أولادي، وهذا حيث لم يجرِ العرف بخلاف ذلك فيعمل به لأن ألفاظ الواقفين مبناها على العرف. انتهى. ونحوه لعبد الباقي. قوله: إن كل أصل يحجب فرعه فقط لخ، بهذا أفتى ابن رشد، وخالفه عصريه ابن الحاج، وحاصله: أنه إذا مات واحد من الطبقة العليا فقال ابن رشد: يكون حظه لولده بناء على أن الترتيب في الوقف باعتبار كل واحد وحده أي على فلان ثم ولده وعلى فلان ثم ولده وهكذا، فكل من مات انتقل حظه لولده، وكل واحد من الطبقة العليا إنما يحجب فرعه دون فرع غيره، وقال ابن الحاج: بل يكون حظ من مات من العليا لبقية إخوته بناء على أن الترتيب باعتبار المجموع أي لا ينتقل للطبقة الثانية حتى لا يبقى أحد من العليا، والله تعالى أعلم. انتهى. وقوله: نصيب من مات لهم، مبتدأ وخبر، والجملة جواب الشرط، أي وإن وقف على اثنين وبعدهما على الفقراء فنصيب من مات من الاثنين للفقراء، فحذف الفاء من جملة الجواب، وقوله:

ص: 415

إلا كعلى عشرة حياتهم، مستثنى من قوله: ورجع إن انقطع لأقرب فقراء عصبة المحبس، يعني أنه إذا وقف على عشرة مثلا معينين حياتهم أو ما عاشوا فإنه إذا مات منهم شخص فإن نصيبه لأصحابه، فإن ماتوا كلهم فإنه يملك بعدهم، أي يرجع ملكا لمالكه إن كان حيا، ولوارثه إن مات، ومثل حياتهم ما إذا قيد بأجل، والفرق بين هذه والتي قبلها أن الأولى لما كان الوقف فيها مستمرا احتيط فيه لجانب الفقراء فكان لهم بعد كل وفي هذه يرجع ملكا، فاحتيط لجانب الموقوف عليهم ليستمر جميع الصدقة مدة حياتهم، وقوله: إلا كعلى عشرة حياتهم لخ، فإن لم يقل حياتهم ولا قيد بأجل رجع مراجع الأحباس على المعتمد لأنه هو رواية المصريين، ومنهم ابن القاسم وأشهب، ومقابله أنه يرجع ملكا رواية المدنيين، وقوله: إلا كعلى عشرة أي عدد معين سواء كانوا عشرة أو أقل أو أكثر، وقوله: حياتهم، أي مثلا وكذا حياة زيد مثلا أو حياته هو أو قيد بأجل معروف كعشرة أعوام.

وفي كقَنطَرَةٍ لم يُرْجَ عودُها في مثلها، القنطرة هي الجسر بفتح الجيم وكسرها وهي واحدة القناطر، يعني أن من حبس حبسا علي بناء قنطرة أو في مصالح مسجد وما أشبه ذلك فخربت القنطرة أو المسجد مثلا فإن رجي عود ذلك لما كان عليه فإن الحبس يوقف له، وإن لم يرج عود ذلك لما كان عليه فإنه يصرف في مثل ذلك، يعني في بناء مسجد أو قنطرة أو طريق أو مقبرة لأن كل ما كان لله تعالى فإنه يستعان به في مثله، قال ابن عرفة في نوازل الشعبي: عن ابن المكوي من حبس أرضا على مسجد فخربت وذهب أصله وصار ما حوله مزرعة لطول المعهد يجتهد القاضي في حبسه لما يراه، وقال الباجي: لو كانت أرض محبسة لدفن الموتى فضاقت بأهلها فلا بأس أن يدفنوا بمسجد بجانبها وذلك حبس كله. قاله ابن الماجشون. وقال أصبغ عن ابن القاسم في مقبرة عفت: لا بأس ببنائها مسجدا، وكل ما كان لله فلا بأس أن يستعان ببعضه على بعض، ولابن علاق في حبس على طلاب العلم الغرباء أنه إن لم يوجد غرباء دفع لغير الغرباء، قال: ويشهد لهذا مسائل المذهب منها فتوى سحنون في فضل الزيت عن المسجد أنه يوقد منه في مسجد آخر، وفَتْوى ابن دحون في حبس حصن تغلب عليه العدو يدفع في حصن آخر، قال: وما كان لله واستغني عنه فجائز أن يستعمل في غير ذلك الوجه مما هو لله، ومنها فتوى ابن رشد

ص: 416

في فضل غلات مسجد زائدة على حاجته أنه يبنى منها مسجد تهدم. قاله الخرشي. قال: وقوله في مثلها أي مثلها بالنوع لا بالشخص. انتهى. وقال التتائي: وقوله: مثلها، فيه إجمال لأنه يحتمل المثل حقيقة كقنطرة أخرى، ويحتمل ما هو مماثل مما فيه منفعة للناس كمسجد وطريق وهما قولان. انتهى. وقال عبد الباقي في مثلها حقيقة إن أمكن كنقل فاضل زيت مسجد لوقيد مسجد آخر وإلا ففي مثلها من القرب. انتهى. وإلا بأن رجي عودها أو إحداثها المشترط وُقِفَ لَهَا للترميم أو الإحداث. قاله عبد الباقي.

وصدقة لفلان فله، يعني أنه إذا قال: داري صدقة لفلان أي لزيد مثلا فإنها تكون ملكا لزيد يصنع به ما شاء، وعلم مما قررت أن قوله: فله جواب شرط مقدر. أول لمساكين فرق ثمنها بالاجتهاد، يعني أنه إذا قال داري صدقة للمساكين أو للفقراء، فإنها تكون لهم ملكا فتباع ويفرق ثمنها بالاجتهاد من الحاكم أو غيره ممن له ولاية ذلك، وإنما كانت تباع لأن بقاءها يؤدي إلى النزاع، لأنه قد يكون الحاضر من المساكين في البلد حال الوقف عشرة مثلا ثم يزيدون فيؤدي إلى النزاع، بخلاف ما إذا بيعت وفرق ثمنها بالاجتهاد فيقطع النزاع لأنه لا يلزم التعميم كما في الوصية. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: والمراد بالاجتهاد ممن يتولى الصرف فيمن يعطَى ولا يعطى، وفي قدر ما يعطى، ثم إن قوله: صدقة لخ، تصريح بمفهوم القيد لقوله: أو تصدقت.

ولا يشترط التنجيز، يعني أن الوقف لا يشترط في صحته التنجيز، بل يصح منجزا وغير منجز، بأن يكون للأجل كالعتق، فإذا قال: إذا جاء اليوم أو الشهر أو العام الفلاني فداري مثلا وقف على كذا، فإنه يلزم إذا جاء ذلك الأجل، كما إذا قال لعبده: أنت حر إذا جاء الشهر الفلاني، فإنه يكون حرا إذا جاء الأجل الذي عينه، ولا إشكال في لزوم العقد عند مجيء الأجل، فإذا حدث على المواقف دين أو على المعتق في ذلك الأجل لم يضر في عقد العتق لتشوف الشارع للحرية، ويضر عقد الحبس إذا لم يحز عن الواقِف في ذلك الأجل، فإن حيز عنه وكانت منفعته لغير المواقف في ذلك الأجل لم يضر عقد الحبس، قال ابن عرفة بعد أن ذكر عن ابن عبد السلام أن استحداث الدين في الأجل لا يضر في العتق ويضر في الحبس: ما قاله ظاهر إن لم يحز عنه الحبس، ولو حيز عنه فإن بتل منفعته في الأجل لغيره لم يضره حدوث الدين، وإن أبقاها لنفسه

ص: 417

بطل بحدوث الدين على المشهور في لغو حوز المستأجر لغيره، وعلى إعماله لا يبطل به. انتهى. وكلام المؤلف يقتضي أن الوقف صحيح ولو كان الشيء المعلق عليه الوقفية مجهولا كما إذا قال: هو وقف إذا أمطرت السماء في هذا الشهر أو قدم زيد، والظاهر اللزوم لأن الغرر والجهالة إنما يمنعان في المعاوضة. نقله الخرشي. وهذا الذي استظهره هذا القائل في التتائي والبساطي كما قاله الخرشي.

وحمل في الإطلاق عليه، يعني أن الواقف إذا أطلق فلم يصرح بالتنجيز ولا بالأجل فإنه يحمل على التنجيز فيكون وقفا من الآن، قال الخرشي: لأنه إنشاء يحصل معناه عند وجود لفظه، فإذا لم يقيده بزمن بل قال: هو وقف فإنه يكون منجزا. انتهى. وقال الشبراخيتي: وحمل الوقف في الإطلاق عن التقييد بتأجيل وتنجيز عليه أي على التنجيز لمقارنة لفظ الإنشاء لمعناه، وقال المواق: قال ابن رشد: لا خلاف أن من حبس أو وهب أو تصدق أنه لا رجوع له في ذلك، ويقضى عليه بذلك إن كان لمعين اتفاقا ولغير معين باختلاف. انتهى. كتسوية أنثى بذكر، يعني أنه إذا قال: هذا وقف على أولادي أو أولاد زيد مثلا وأطلق في ذلك أي لم يبين التسوية بين الذكر والأنثى ولا التفاوت، فإنه يلزم أن يسوى بينهما في غلة الوقف. قال الخرشي: والمعنى أن الإنسان إذا قال: داري وقف على أولادي ولم يعين تفضيل أحدهم على أحد فإن الذكر والأنثى في ذلك سواء. انتهى. فإن بَيَّن شيئا اتبع. قاله عبد الباقي.

ولا التأبيدُ، يعني أن الوقف لا يشترط فيه التأبيد بل يصح ويلزم مدة، ثم بعد ذلك يكون ملكا، فإذا قال: جعلت داري وقفا على فلان سنة وبعدها يكون ملكا، أو لزيد مثلا، فإن ذلك صحيح. قاله الخرشي. وقال المواق: ابن شأس: لا يشترط في الحبس التأبيد بل لو قال: على أن من احتاج منهم باع أو أن العين تصير لآخرهم ملكا صح واتبع الشرط. محمد: إذا قال: داري حبس على عقبي وهي للآخر منهم، فإنها تكون للآخر منهم بتلا، وهي قبل ذلك محبسة، فإن كان آخرهم رجلا يرجى له عقب وقفت عليه، فإذا مات ولم يعقب ورثها عنه ورثته لأنه تبين بموته أنها صارت له. انتهى. وقال عبد الباقي: ولا يشترط في صحة الوقف التأبيد بل يصح ويلزم مدة تعيينه سنة مثلا ويكون بعدها ملكا، ويؤخذ منه أن اشتراط التغيير والتبديل والإدخال والإخراج

ص: 418

معمول به. قاله بعض شيوخنا. وفي المتيطي ما يفيد منع ذلك. انتهى. قوله: وفي المتيطي ما يفيد منع ذلك أي منعه ابتداء ويمضي إن وقع، ففي الحطاب ما نصه: في النوادر والمتيطية وغيرهما: أنه إن شرط في وقفه إن وجد فيه ثمن رغبة بيع واشتري غيره أنه لايجوز له ذلك، فإن وقع ونزل مضى وعمل بشرطه، وهو موافق لما يأتي للزرقاني أنه إن لم يقيد بالاحتياج منع ابتداء ومضى بعد الوقوع. انتهى. وقوله: أن اشتراط التغيير، المراد بالتغيير في الموقوف عليهم لا اشتراط إبطاله إن بدا له، لما سيأتي عن ابن عرفة عند قوله: لا بشرط إصلاحه. انتهى. قاله عبد الباقي. ولا تعيين مصرفه، يعني أن الوقف لا يشترط في صحته تعيين المصرف أي المحل الذي يصرف فيه الوقف، فإذا قال: داري وقف ولم يزد على ذلك صار وقفا لازما. قاله غير واحد. وقال عبد الباقي: ولا تعيين مصرفه بخلاف العمرى فلا يلزمه شيء حتى يعين المعمَر بالفتح، والفرق أن لفظ الحبس أكثر ما يستعمل على وجه المعروف، بخلاف العمرى، ومقتضى هذا أنه لو قال: داري مثلا صدقة ولم يعين المتصدق عليه أنه يلزمه لأن الصدقة سبيلها القربة. انتهى. وصرف في غالب، يعني أنه إذا لم يعين الواقف المصرف وتعذر سؤاله فإن الوقف يصرف في غالب مصرف أوقاف تلك البلد وإلا، بأن لم يكن لهم أوقاف أصلا أو لهم ولا غالب فيها فمصرفه الفقراء، قال المواق: عياض: أما لفظة الحبس المبهم كقوله: داري حبس، فلا خلاف أنه وقف مؤبد لا ترجع ملكا وتصرف عند مالك في الفقراء والمساكين وإن كان في الموضع عرف للوجوه التي توضع فيها الأحباس وتجعل لها حملت عليه. انتهى. وقال عبد الباقي: وإلا فالفقراء بمحل الوقف أو غيره. ولا قبول مستحقه، يعني أن الوقف إذا كان على غير معينين كالفقراء والمساجد وما أشبه ذلك فإنه لا يشترط في صحة الوقف القبول لتعذره من المساجد ونحوها، ولأنه لو اشترط قبوله لما صح على الفقراء ونحوهم. داله غير واحد. إلا المعين الأهل، يعني أن الموقوف عليه إذا كان معينا أهلا للقبول بأن يكون مكلفا رشيدا فإنه يشترط في صحة الوقف عليه القبول، قال الخرشي: يعني أن الوقف إذا كان على معين كزيد مثلا وهو أهل للرد والقبول فإنه يشترط في صحة الوقف عليه قبوله، وإن لم يكن أهلا للقبول كالمجنون والصغير فإن وليه يقبل له، فإن لم يكن له ولي أقيم عليه من يقبل عنه كما في الهبة والصدقة، واعلم أن الولي لا يجوز له رد ما وقف على المحجور.

ص: 419

فإن رد فكمنقطع، يعني أن المعين الأهل إذا لم يقبل الوقف بأن رده على الواقف فإن حكم ذلك كحكم المنقطع المتقدم في قوله "ورجع إن انقطع لأقرب فقراء عصبة المحبس" هذا هو ظاهر المص، وهو الذي شرح به الشارح والتتائي، وقال عبد الباقي: فإن رد فكمنقطع فيرجع لأقرب فقراء عصبة المحبس، هذا مفاد التشبيه، والمعتمد أنه يرجع حبسا باجتهاد الحاكم، وهذا إن جعله حبسا سواء قَيله من عُيِّن له أم لا، وأما إن قصده بخصوصه فإن رد عاد ملكا للمحبس، والمعين غير الأهل لصبا أو جنون لا يعتبر رده فيقبل له وليه، فإن لم يكن له ولي أقيم له من يقبل له. قال بناني: ما حمله عليه التتائي عزاه لمالك ورده الرماصي بأن هذا ليس بموجود فضلا عن أن يكون مشهورا، ففي عزوه لمالك وتشهيره نظر، وإنما المنقول في المسألة كما في ابن شأس وابن الحاجب وابن عرفة وغير واحد قولان، أحدهما لمالك: أنه يكون على غير من رده، والآخر لمطرف أنه يرجع ملكا للمحبس أو لورثته. انتهى. ولا شك أن مراد المص قول مالك، ولذا قال: فكمنقطع، والمتبادر من قول مالك: يكون لغيره، أن ذلك باجتهاد الحاكم كما قاله الزرقاني وهو الظاهر، خلاف ما قال الخرشي: من أنه يرجع حبسا على الفقراء والمساكين، ولم يأت به معزوا والله أعلم. قاله الشيخ المسناوي. وقول الزرقاني: وهذا إن جعله لخ، هذا التفصيل هو الذي ذكره ابن رشد في نوازله، ونقله المواق، وهو الذي يجعع ما ورد في ذلك من الروايات المختلفة التي في المواق وغيره. قاله الشيخ المسناوي. انتهى وقال الرهوني: إن المتبادر من قول مالك ما قاله الخرشي: من أنه يرجع للفقراء، إلا أنه ترك قيدا لا بد منه، فحقه أن يقول: إنه يرجع حبسا على الفقراء إن لم يكن غالب وإلا صرف فيه، وإيضاح ذلك أن موضوع المسألة أنه جعله حبسا سواء قبله من عُين له أم لا، ولم يقصد معينا بخصوصه، وإذا كان الأمر كذلك فقد رجعت المسألة برد المعين إلى تحبيس وقع مبهما من غير بيان المصرف، فهي في المعنى كمسألة المص السابقة قريبا في قوله وصرف في غالب وإلا فالفقراء، وليس في السابقة دخول الاجتهاد فكذلك في هذه، فتأمله بإنصاف. انتهى.

وائبع شرطُه إن جاز، يعني أن الواقف إذا شرط في وقفه شروطا فإنه يجب اتباعها حسب الإمكان إن كانت تلك الشروط جائزة، لأن ألفاظ الواقف كألفاظ الشارع في وجوب الاتباع، فإن

ص: 420

شرط شروطا غير جائزة فإنه لا يتبع كما يأتي. قاله الخرشي. وقال بناني: واتبع شرطه إن جاز: أي أذن فيه ولو متفقا على كراهته، وأما الختلف في حرمته كشرطه إن وجد ثمن رغبة بيع واشتري غيره، وكاشتراط إخراج البنات من وقفه إذا تزوجن فهذا لا يجوز الإقدام عليه وإذا وقع مضى هذا ما يتحصل من نقل الحطاب. انتهى. وقولهم: ألفاظ الواقف كألفاظ الشارع، قال بناني: كذا قال القرويون وهو أشهر من قول الأندلسين إن النظر إلى القصد، فإذا حبس على قربة فلا بأس أن يصرف إلى قربة أخرى لأن القصد الأجر، وهو حاصل لكل منهما. قاله الشيخ المسناوي. انتهى. وفي نَوازل الأحْباسِ من المعيار: سئل السيد أبو عبد الله القوري رحمه الله تعالى عن إمام خطيب بالجامع الأعظم كان له ولمن قبله بمدة طويلة مرتب من جزية اليهود ثم اتفق في اليهود ما اتفق فانقطع المرتب بسبب ذلك، فهل يجري المرتب من وفر الأحباس الذي يفضل عن جميع مصالحه ومرمته ومن تعلق به وما تعلق به أم لا؟ فأجاب: بأن المسألة ذات خلاف في القديم والحادث، وأن الذي جرت به الفتيا إباحة ذلك وجوازه وتسويغه وحله لآخذه، وهذا مروي عن ابن القاسم رواه عنه ابن حبيب عن أصبغ، وبه قال عبد الملك بن الماجشون، وأن ما قصد به وجه الله يجوز أن ينتفع ببعضه في بعض إن كانت لذلك الحبس غلة واسعة ووَفْرٌ بَيِّنٌ كثير يومن من احتياج الحبس إليه حالا ومئالا، وبالجواز أفتى ابن رشد رضي الله عنه برم مسجدٍ من وفر غيره، وإلى هذا ذهب الأندلسيون خلاف مذهب القرويين، والأصح الجواز وهو الأظهر في النظر والقياس، ومن هذا ما جرت به العادة من إخراج الكتب من موضع شرط محبسها عدم إخراجها منه ومما بني على مراعاة اللفظ دون القصد ما أجاب به بعض الفقهاء فيمن بنى مدرسة وشرط أن لا يسكنها إلا من يصلي الصلوات الخمس في مسجدها لخ، من أنه يجب الوفاء بذلك، والظاهر أن هذا من اعتبار اللفظ والمقصد، ومنه ما أفتى به القابسي من أخذ كتابين فأكثر شرط محبسها أن لا يعطى منها إلا كتاب بعد كتاب إن كان مأمونا نقله البرزلي.

وللشيخ ميارة في تكميل المنهج:

قلت كذاك الحبس قالوا إن شرط

لا تخرج الكتب فخلف قد فرط

يجرى بها كذاك أن لا يدفعا

إلا كتاب بعد آخر اسمعا

ص: 421

للقصد جاز فعل ما لو حضرا

موقفه رآه أيضا نظرا

وهذه قاعدة اللفظ إذا

عارضه المقصد فقيل ذا وذا

وذكر سيدي عبد القادر الفاسي في أجوبته أن العمل جرى بمراعاة المقصد، ونظم ذلك أبو زيد في عملياته فقال:

وروعي المقصود في الأحباس

لا اللفظ في عمل أهل فاس

ومنه كتب حبست تقرأ في

خزانة فأخرجت عن موقف

تنبيهات: الأول: إنما يتصور اختلاف اللفظ والقصد حيث لا يكون لفظ المحبس نصا صريحا في المراد، أما إذا كان كذلك فلا، بل يجب اتباعه كما نص عليه ابن رشد ونقله المحققون كابن هلال في نوازله والحطاب في التزاماته وغيرهما وقبلوه، فلو قال المحبس في مسألة القابسي لا يعطى منها إلا كتاب واحد ولو كان الطالب مأمونا لم يجز إعطاؤه ولا يخالف فيه القابسي: ولا غيره.

الثاني: ظاهر ما تقدم في إخراج الكتب من الوضع المشترط سواء كانت كتب فقه أو غيرها، وفي نوازل الأحباس من المعيار: وسئل عن كتب ومصاحف تحبس باسم قصر معين أو مسجد هل يجوز لمن يأخذ منها شيئا أن يمضي إلى داره به يقرأ فيه وينسخه ويرده؟ فأجاب: أما كتب العلم فإنها من أصلها من باب الحبس فوضعها في مكان بعينه [إنما المراد منه (1)] تعريفها بذلك المكان، وفائدة من يصلح له النظر فيها فيه فإذا انتفع بها في غير ذلك الموضع ويردها إليه فما به بأس إن شاء الله تعالى. وأما المصاحف فهي على شرط محبسها إن عرف شرطه.

الثالث: سلم الحطاب والشيخ ميارة وغيرهما ما ذكره البرزلي عن القابسي وسلمه، من أنه يجوز للمأمون أخذ أكثر من واحد، وبحث في ذلك أبو علي فقال: فيما ذكره نظر، لأن المأمون من

1 - ساقطة من الأصل والمثبت من المعيار ج 7 ص 37 والرهوني ج 7 ص 152.

ص: 422

الطلبة يعرض له النسيان والتلف وهو ليس له مال، وقد يكون ظاهر الأمانة وليس كذلك في نفس الأمر، ومن كانت عنده كتب ويعيرها علم ما أشرنا إليه، وما قاله ظاهر لكل منصف. قاله الرهوني. الرابع: قال عبد الباقي: واتبع شرطه بلفظه ولو في كتاب وقفه إن جاز وأمكن، لأن ألفاظ الواقف كألفاظ الشارع في وجوب الاتباع، وأراد به ما قابل المنع، فيجب اتباعه ولو مكروها متفقا على كراهته، كشرطه أن يضحى عنه كل عام، وهو يخصص قوله "وفعلها عن ميت" وهذا إن لم يمكن إلا فعل المكروه، فإن أمكن فعل غيره كشرطه أذانا على صفة مكروهة ووجد مؤذن على صفة شرعية لم يتعين ما شرطه، فإن لم يمكن اتباع لفظه كشرطه انتفاعا بكتاب في خزانة ولا يخرج منها ولا ينتفع به إلا بمدرسته التي بنى بصحراء أو طالب علم بها أيضا وتعذرا بها فتخرج لغيرها للانتفاع بها، ويأخذ الطالب استحقاقه بها حيث كان مقبلا على طلب العلم عملا بقصده عند تعذر لفظه ثم فعله كلفظه، كتقريره في مشيخة الحديث محدثا شافعيا على ما أفتى به الرملي الشافعي، وأفتى الشيخ سالم شيخ شيوخنا بأن العمل على كونه محدثا وإن لم يكن شافعيا لأنه لم يقرره في زمنه لكونه شافعيا بل بوصفه بمحدث. انتهى.

الخامس: قال الحطاب: مفهوم قوله: إن جاز أنه إن لم يجز لا يتبع وهذا إذا شرط - والله أعلم - شيئا متفقا على منعه وإلا فقد نص في النوادر والمتيطية وغيرهما أنه إذا شرط في وقف الرباع إن وجد فيه ثمن رغبة بيع واشتري غيره فإنه لا يجوز له ذلك وإن وقع ونزل مضى. السادس من التنبيهات: قال الحطاب: قال في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب الحبس: وسئل عن الرجل يحبس الحائط صدقة على المساكين أيقسم بينهم تمرا أو يباع ثم يقسم الثمن بينهم؟ فقال: ذلك يختلف ذلك إلى ما قال المتصدق أو إلى رأي الذي يلي ذلك واجتهاده إن كان المتصدق لم يقل في ذلك شيئا، إن رأى خيرا أن يبيع ويقسم الثمن وإن رأى خيرا أن يقسم ثمره قسمه ثمرا، فذلك يختلف، فإن كان الحائط نائيا بالمدينة فإن حمل أضر بالمساكين حمله وربما كان في الناس الحاجة إلى الطعام فيكون ذلك خيرا لهم من الثمن فيقسم، وهذه صدقات عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه منها ما يباع فيقسم ثمنه ومنها ما يقسم تمرا، ابن رشد: هذا بين إن لم يقل المتصدق شيئا، وإن قال شيئا أو حد فيه حدا وجب أن يتبع.

ص: 423

السابع: قال في المسائل الملقوطة من وقف وقفا على منافع الجامع صُرِفَ في العمارة والحُصُر والزيت وغير ذلك، ولا يعطى منه الإمام والمؤذن وقد مر ذلك، وكل جامع مسجد ولا ينعكس، فإن صرف للإمام شيء من غلته فلا يرجع به عليه ولا ضمان على من دفع ذلك لأن المحبس لم ينص على دخوله ولا خروجه، فلا يدخل إلا بيقين، فإذا قبض شيئا لم يغرم لاحتمال أن يكون المحبس قد أراد خلاف ظاهر لفظه. الثامن: قال في المسائل الملقوطة: من ولاه الواقف على وظيفة بأجرة فاستناب فيها غيره ولم يباشر الوظيفة بنفسه فإنه لا يجوز له تناول الأجرة ولا لنائبه لأنه لم يباشر الوظيفة بنفسه، [وما عين له الناظر لا يستحقه إلا بمباشرته بنفسه ولا عين الناظر النائب في الوظيفة فما تناولاه (1)] ولا عينه للناظر والناظر لا يستحق إلا بمباشرته فما تناوله حرام. البرزلي: سألت شيخنا الفقيه الإمام رحمه الله هل يجوز أن يأتي بوظيفة القراءة التي عليه في الصلاة؟ فقال: لا كأنه جعله إجارة.

التاسع: سأل ابن وضاح سحنونا عن زيت المسجد يكون كثيرا يباع ويدخل في منفعة المسجد؟ قال: يجعل فتائل غلاظا ولم ير بيعه، قال: أيوقد في مسجد آخر؟ قال: لا بأس به. قال: فالخشبة تكون في المسجد قد عفت قد لا يكون فيها كبير منفعة أتباع ويشترى بثمنها خشب يرم بها المسجد؟ قال: أما أنا فلا أجعل سبيلا إلى بيعها أصلا إلا أن ثم قولا ضعيفا. قاله التتائي. كتخصيص مذهب أو ناظر، هذا مثال للجائز في قوله: واتبع شرطه إن جاز، يعني أن الواقف إذا اشترط في أصل وقفه تخصيص غلة الوقف بمذهب معين كمذهب إمامنا مالك وكمذهب الإمام الشافعي أو غيرهما فإن ذلك الشرط يتبع ويختص الوقف بذلك المذهب الذي عينه، وكذلك إذا جعل للوقف ناظرا بعينه فإنه يجب اتباع ذلك ويكون النظر لذلك الشخص الذي خصه بالنظر للوقف، قال الخرشي: والمعنى أن الواقف إذا خصص مذهبا بعينه أو مدرسة بعينها أو ناظرًا بعينه فإنه يجب اتباع ذلك الشرط ولا يجوز العدول عنه إلى غيره، قال ابن عرفة: والنظر في الحبس لمن جعله إليه محبسه. المتيطي: لمن يثق به في دينه، فإن غفل المحبس عن ذلك كان

1 - ساقط من الأصل، والمثبت من المسائل الملقوطة ص 281.

ص: 424

النظر فيه للحاكم يقدم له من يرتضيه ويجعل للقائم به من كرائه ما يراه سدادا على حسب اجتهاده. قاله الخرشي. قال الأجهوري: قلت: فإن غفل المحبس عن ذلك كان النظر للحاكم، هذا والله أعلم إذا لم يكن المحبس عليه معينا مالكا أمر نفسه وإلا فهو الذي يحوزه ويتولاه، يدل على ذلك عبارات أهل المذهب، ثم إن ناظر الوقف لا يوصي بالنظر لغيره إلا أن يكون الواقف جعل له ذلك وله عزل نفسه ولو ولاه الواقف، وحيث لم يكن له أن يوصي به فإن مات والواقف حي جعل النظر لمن شاء، فإن مات فوصيه إن وجد وإلا فالحاكم.

تنبيهات: الأول: يجوز للناظر تغيير بعض الأماكن لمصلحة كتغيير ميضأة وقفها إلى محل آخر لانقطاع مسلك الماء مثلا وبناء موضعها بيوتا كما قاله البرزلي، وإذا جاز ما ذكر لمصلحة فأولى تحويل باب مثلا إلى مكان آخر مع بقاء المكان ذي البناء على حاله. الثاني: إذا ترك المحبس عليه الحبس بلا إصلاح وهو يستغله حتى وهى هل يلزمه في ماله إصلاح ما وهى منه؟ قال في نوازل ابن سهل: إذا ترك الوكيل جنان المحجور عليه وأهمل عمارتها حتى تبورت ويبست فعليه قيمة ما نقص منها لتضييعه إياها. الثالث: قال ابن عرفة: إذا كان علو وسفل لرجلين فلرب العلو رد تحبيس ذي السفل لأنه إن فسد منه شيء لم يجد من يصلح له وكذا العكس. قال الخرشي: ولو غاب الناظر في بلدة بعيدة واحتاج الحبس إلى من ينظر في بعض شأنه فالظاهر أن للقاضي أن ينظر في ذلك ويمضي ما فعله في غيبة الناظر، وليس للناظر إبطال ما فعله القاضي في غيبته.

الرابع: قال ابن عرفة: لو قدم المحبس من رأى لذلك أهلا فله عزله واستبداله، وإذا قدم القاضي على الحبس مقدما فلا يعزله من جاء بعده إلا لوجب لأنه كحكمه في القضايا، واعلم أنه لا يجوز للقاضي ولا للناظر التصرف إلا على وجه النظر ولا يجوز على غير ذلك، ولا يجوز للقاضي أن يجعل التصرف بيد الناظر كيف شاء. الخامس: سمع ابن القاسم من حبس علي بنات له وقد بلغن وكان عمهن يلي حبسهن فاتهمنه وطلب بعضهن أن توكل على حقها، فإن كان حسن النظر لم يكن لها ذلك، وإن كان على غير ذلك جعل معه من توكله على ذلك. ابن رشد: معناه أن العم قدمه المحبس ولو كان بتقديمهن له لكان لمن شاءت منهن توكيل غيره على حقها ولم

ص: 425

يكن للسلطان في ذلك نظر. وقوله: وإن كان على غير ذلك، يريد سيء النظر أو غير مأمون، وإنما رأى أن توكل لحقها ولم تعزله لأنه رضي بعضهن به ولو لم ترضه واحدة منهن لعزله القاضي عنهن، ولو كن غير مالكات أنفسهن لوجب تقديم السلطان غيره.

السادس: في نوازل الأحباس من المعيار من جواب للإمام الحفار، وقد سئل عن النظر في المساجد في مصالحها من خدمتها من المؤذنين وغيرهم ما يليق بها من جهة الديانة والعلم والمعرفة، هل يكون ذلك للقضاة ولأثمة المساجد أهل العلم بما تقتضيه الشريعة أم لأشياخ المواضع وأهلها إن لم يكن لهم صلاح في موضعهم؟ فأجاب: النظر في ذلك إلى جماعة المسجد إن كان نظرهم جاريا على مقتضى القواعد الفقهية، فإن كان نظرهم خارجا عن الاستقامة نظر في ذلك القاضي بما توجبه السنة. وسئل الفقيه الحافظ أبو القاسم بن سيدي أبي عمران العبدوسي عمن قدمه سلطان البلد على النظر في حبس وعادة أمراء تلك البلد التسلف من مال الحبس والتوسع فيه فتسلف، فهل يقبل قول صاحب الحبس مع يمينه إن السلطان تسلف ذلك المال جريا على عادة من تقدمه أم لا؟ فأجاب: إذا ثبت أن العادة كما ذكرتم فالقول قوله، وقد وقعت الرواية بهذا منصوصا بنحو ما ذكرنا، وممن نص عليه المازري وغيره. قاله الرهوني. وهل للقاضي أن يجعل لمن قدمه للنظر في الأحباس أجرة منها، قال عبد الحق بن عطية: ذلك جائز لا أعلم فيه نص خلاف، وقال المشاور: لا يكون أجره إلا من بيت المال فإن أخذ الأجرة من الأحباس أخذت منه ورجع بها في بيت المال، وبمثل قول المشاور أفتى ابن ورد. انتهى. وقال ابن ورد: لا يجوز أخذ أجرته من الأحباس إلا أن يجهل على من حبست قاله الرهوني.

أو تبدئة فلان بكذا، يعني أن الواقف إذا شرط في وقفه أن يبدأ فلان من غلة الوقف بكذا كل عام فإنه يعطى ذلك القدر مبدءا على غيره. وإن من غلة ثاني عام، يعني أنه إذا شرط أنه يبدأ فلان كل عام من غلة الوقف بكذا، أي بمائة أردب مثلا ولم يحصل في بعض الأعوام ما يسع ذلك فإنه يعطى من العام الذي يلي ذلك ما فاته من ذلك القدر في العام الذي قبله مع ماله في العام الثاني، هذا إذا لم يضف الغلة لكل عام، وأما لو أضافها إليه بأن قال: يُجرَى على فلان

ص: 426

من غلة كل عام كذا وكذا فجاء عام لا غلة فيه فإنه لا يعطى شيئا من غلة غير ذلك العام، ولهذا قال:

إن لم يقل من غلة كل عام والحاصل أنه إذا لم يضف الغلة أي لفظ الغلة إلى كل عام ولم يحصل في عام ما يعطى منه أو ما يفي بحقه وحصل في عام آخر ما يعطى منه حقه بعد إعطاء ما يستحقه في العام الآخر فإنه يعطى ما لم يحصل له في غيره، وأما إن أضاف لفظة غلة إلى كل عام فإنه لا يعطى من ريع عام من عام غيره واعلم أنه لا فرق بين أن يقول: يبدأ وأن يقول يعطى أو يدفع أو يجرى عليه أو نحو ذلك، فقوله: وإن من غلة مبالغة في التبدئة والوصية كالوقف في التفصيل. قاله غير واحد. وقال بناني: ما فرضه المص من أنه يجبر ما نقص في العام الأول ما حصل في العام الثاني هو الذي فرضه في رسم الوصايا من سماع أشهب، وفرض المتيطي عكسه وهو أنه يجبر ما نقص في العام الثاني مما كان فضل في العام الأول، وجعله الحطاب داخلا فيما قبل المبالغة، وكلام المدونة في كتاب الوصايا الثاني مشتمل على الفرضين معا، ونصها: فللموصَى له أخذ وصيته كل عام ما بقي من غلة العام الأول شيء، فإن لم يبق منه شيء فإذا أغل ذلك أخذ منه لكل عام مضى لم يأخذ له شيئا. انتهى. وقال الشبراخيتي: إن من في قوله: وإن من غلة ثاني عام بمعنى عن، فيفيد الأخذ من فضل العام الأول للعام الثاني حيث لم يسع ما ذكر. انتهى. وعلم معا مر عن المدونة أنه يأخذ من العام الذي حصلت فيه غلة لما مضى من الأعوام ولو تعدد. والله سبحانه أعلم. وفي المدونة: ومن أوصى لرجل بدينار من غلة داره كل سنة أو بخمسة أوسق من حائطه كل عام والثلث يحمل الدار والحائط فأخذ ذلك عاما ثم بار ذلك أعوامًا فللموصى له أخذ وصيته كل عام ما بقي من غلة العام الأول شيء، فإذا أغل ذلك أخذ منه لكل عام لم يأخذ له شيئا، ولو أكروا الدار في أول سنة بعشرة دنانير فضاعت إلا دينارا كان ذلك للموصى له، لأن كراء الدار لا شيء للورثة منه إلا بعد أخذ الموصى له منه وصيته، وكذلك غلة الجنان، ولو قال: أعطوه من غلة كل سنة لم يعط من سنة أخرى، فلو اكتريت الدار أول عام بأقل من دينار وجاءت النخل بأقل من خمسة أوسق لم يرجع بتمام ذلك فيما بعده. انتهى. ولو طلب أن يوقف له من العام الأول شيء أو يعطاه في الصورة الأولى فهل يجاب إلى ذلك لا؟ قال

ص: 427

اللخمي: وإذا أغلت أول سنة عشرة دنانير وأخذ دينارا وبقي تسعة نظر في ذلك فإن كانت مأمونة لا تبور أو إن بارت تأتي كل سنة بأكثر من دينار أخذ الورثة هذه التسعة، وإن كان يخشى أن لا تأتي بذلك وقف منها ما يخاف أن لا تأتي به إلا أن يكون الوارث مأمونا غير ملد ولا ممتنع [ورضي (1)] بأن يأخذها في ذمته فيكون أحق بها لأن له فيها شبهة الملك.

أو أن من احتاج من المحبس عليه باع، هذا من أمثلة ما يتبع فيه شرط الواقف لجوازه، يعني أن المحبس إذا شرط أن من احتاج من المحبس عليهم إلى بيع نصيبه باعه فله شرطه، وعلى من ادعى منهم الفقر والحاجة أن يثبت ذلك ويحلف أنه لا مال له ظاهرًا ولا باطنا، والاحتياج شرط لجواز شرط البيع لا لصحته إذ يصح شرطه بدون قيد الاحتياج، لكن لا يجوز ابتداء. قال الحطاب: وإن شرط له البيع إن وجد ثمن رغبة لم يجز لكن يمضي إن وقع. انتهى. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: أو شرط المحبس أن من احتاج من المحبس عليه أو هو نفسه إلى بيع باع فيتبع شرطه لخ، ما مر عن الخرشي قالا وقوله: إن جاز، شرط في مقدر أي ويجوز اشتراطه إن جاز. انتهى. وقال الشبراخيتي: إن اشترط الواقف أن الموقوف عليه يصدق في الحاجة بغير يمين عمل بشرطه. انتهى. ونحوه في الحطاب.

أو تسور عليه قاض أو غيره رجع له أو لوارثه، هذا أيضا من أمثلة الشرط المتبع وسَوْرة السلطان سطوته واعتداؤه. قاله الجوهري. يعني أن الواقف إذا شرط في وقفه أنه إذا تسور عليه قاض أي تسلط عليه. بما لا يحل شرعا يرجع له ملكا إن كان حيا ولوارثه إن مات فإن ذلك الشرط يتبع، وكذلك لو شرط رجوعه صدقة لفلان عند التسور إليه اتبع شرطه. قاله المتيطي. قاله الخرشي. وقال: والمراد بوارثه يوم التسور والرجوع فيقدر موت الواقف الآن، فمن أخذ ميراثه رجع الوقف له، ومن مات قبل ذلك سقط، أشار له البساطي. قال البرزلي: قال مالك: فيمن حبس على ولده حبسا وشرط لهم إن احتاجوا باعوا ذلك فلحقهم دين، إن لأصحاب الدين بيع الحبس من أجل ما شرط المحبس لهم من البيع عند حاجتهم. انتهى. ابن رشد: لمالك في كتاب ابن المواز خلاف

1 - في الأصل وضى والمثبت من الحطاب ج 6 ص 248.

ص: 428

قوله هذا: أنه ليس للغرماء أن يجبرُوه على أن ياخذ أموالهم أي العبيد فيقضيها إياهم ولا لهم أن يأخذوها إلا أن يشاء هو أن يفعل ذلك. انتهى. قال البرزلي: قد يفرق بينهما بأن منفعة الدار حاصلة الآن ورقبتها كذلك للحاجة إليها وقد انفك الحبس عنها ومال العبد الأصل أنه له حتى ينتزعه، فالأصل بقاؤه على ملكه حتى يحدث السيد فيه حدثا يدل على الانتزاع. انتهى المراد منه.

كعلى ولدي ولا ولد له، تشبيه في رجوع الوقف ملكا للواقف أو لوارثه، يعني أن الشخص إذا قال هذا وقف على ولدي ولا ولد له حين التحبيس، فإنه يرجع للواقف ملكا، فله بيعه ما لم يولد له، فإن ولد له ولد فإنه لا يجوز له بيعه حينئذ. قال في الجواهر: إذا قال على أولادي ولا أولاد له حينئذ فله البيع ما لم يولد له، وقال ابن القاسم: ليس له البيع حتى يويس له من الولد. انتهى. فإن مات الأب قبل أن يولد له فلا حبس ويصير ميراثا. وفي الشامل: وفي جواز البيع قبل إياسه إن قال على ولدي ولا ولد له ومنعه قولان لمالك وابن القاسم، ومقتضى ما في الشارح أن محل هذا ما لم يكن قد ولد له سابقا، وإلا فينتظر بلا نزاع. قاله الخرشي. وقال التتائي: قال في اختصار المتيطية: إذا حبس على أولاده وأعقابهم فانقرض ولده وأعقابهم وهو حي رجع الحبس إلى مرجعه، إلا أن يولد له فيرجع الحبس إلى ولده، ولا يوقف الحبس في الفترة بعد موت المحبس عليهم. انتهى.

لا شرط إصلاحه على مستحقه، صورتها: وقف هذا الشيء على زيد مثلا فاستحقة أي استحق غلته لكونه وقف عليه، وشرط الواقف على زيد الموقوف عليه أن يصلح الوقف إن احتاج إلى الإصلاح من عنده، فإن ذلك الشرط لا يجوز لأنه كراء بمجهول، فيبطل الشرط ويصح الوقف، وقوله: لا شرط بالرفع عطف على شرطه، أي واتبع شرطه إن جاز لا شرط إصلاحه، أو بالجر عطف على مدخول الكاف من قوله: كتخصيص مذهب، أي واتبع شرطه إن جاز كشرط تخصيص مذهب لا شرط إصلاحه على مستحقه فيبطل الشرط والوقف صحيح ومرمته من غلته، وقال الشبراخيتي: قال في الشرح: فإن أصلح من شرط عليه الإصلاح رجع بما أنفق لا بقيمته منقوضا كما قال الشارح، بخلاف مسألة كتاب العارية إذا أعطى الرجل أرضه لشخص على أن

ص: 429

يبني فيها ويسكن ما بدا له أي ثم يكون البناء للمعير لم يجز، فإن وقع فعليه قلع بنائه وعليه كراء ما سكن. قال في المدونة: ولك أن تعطيه قيمته مقلوعا لا نقضه، والفرق بينهما أن الباني في العارية إنما بنى لنفسه لينتفع، والباني هنا إنما بنى لرب الدار، لأن الوقف على ملك المحبس. انتهى. قلت: قف على قوله: فإن وقع فعليه قلع بنائه وعليه كراء ما سكن، فإنه يستغرب لأنه إنما سكن على وجه العارية، فكيف يكون عليه كراء في السكنى؟ ولعل وجهه أن العارية لما فسدت صارت كالعدم، فليس فاسد العارية كصحيحها في عدم الكراء. انتهى. وقال بناني بعد كلام ما نصه: فالحاصل أن نفقته من فائدته فإن عجزت بيع وعوض من ثمنه ما هو من نوعه، فإن عجز صرف في مصرفه. انتهى. وقال ابن عرفة قبل هذا: والأظهر عندي أن ينظر فإن كان ذلك يعني الحبس الذي لا تفي غلته بنفقته لا ثمن له رد لمحبسه، وأَن كان له ثمن يبلغ ما يشترى به ما فيه نفع ولو قل بيع واشتري بثمنه ذلك. وفي الزاهي: لو شرط الواقف أن يبدأ من غلته بمنافع أهله ويترك إصلاح ما ينخرم منه بطل شرطه. انتهى.

كأرض موظفة، تشبيه في مطلق النفي، يعني أن الأرض الموظفة أي التي عليها وظيفة أي مكس للحاكم لا يجوز تحبيسها إلا أن تكون الوظيفة من غلتها فإنه يجوز تحبيسها حينئذ على القول الأصح، ومقابل الأصح أنه لا يجوز تحبيسها ولو كانت الوظيفة من غلتها، قال بناني: لما قال في المدونة: إن اشترط على الذي حبس عليه إصلاح ما رث منها من ماله لم يجز، قال أبو الحسن: انظر قوله: من ماله، فلو كان من غلتها لجاز. قالوا: يقوم منه أنه يجوز تحبيس الأرض الموظفة، وحكى ابن الهندي في ذلك قولين، ولو كان على أن ترمَّ من غلتها ويخرج الوظيف من غلة الأرض لجاز تحبيسها، وقد قيل: لا يجوز. قال ابن كوثر: والأول أصوب، وهذا الذي قررت به المص هو الذي يفيده بناني والرهوني، وقرر المص غير واحد بأن معنى قوله: كأرض موظفة، أنه تشبيه في بطلان الشرط وعدم اتباعه وصحة الوقف، أي إذا حبس أرضا موظفة وشرط إخراج الوظيفة من مال الموقوف عليه فإن وقع ذلك صح الوقف وبطل الشرط لا شرط إخراج الوظيفة بعد غلة الأرض فصح الشرط ورجع غير واحد الاستثناء للمسألتين.

ص: 430

أو عدم بدء بإصلاحه، يعني أن الواقف إذا شرط في وقفه عدم البدء بإصلاح ما انثلم من الوقف فإنه يصح الوقف ولا يتبع شرطه، قال المواق: قال ابن شعبان شرط الواقف البداءة بمنافع الموقوف عليه على إصلاحه باطل. ونفقته، يعني أن الواقف إذا شرط في وقفه عدم البداءة بنفقته فيما يحتاج للنفقة كالحيوان، فإن الوقف صحيح والشرط باطل، فيبدأ بنفقته، وقوله: أو عدم بدء عطف على إصلاحه، الشبراخيتي: أو عدم بدء بإصلاحه ونفقته فلا يوفى بشرطه لأن غرض الواقف دوام الانتفاع فشرط ما يؤدي لتعطيله ساقط.

تنبيه: قال ابن الحاجب: والوقف لازم، ولو قال: لي الخيار، وبحث فيه ابن عبد السلام بأنه إلزام له غير ما التزمه. انتهى. وهذا البحث ظاهر متجه فله الخيار، وقد قالوا فيمن قال: أنت طالق إن شئت إنه يتوقف الطلاق على مشيئته، وهذا خيار في الطلاق، ومدلوله إنشاء إجماعا، والاحتياط في الفروج أولى، والطلاق لا يتوقف نفوذه على شيء، والحبس يتوقف على الحوز ويبطله حصول مانع قبله. انتهى. انظر الرهوني. وأخرج الساكن الموقوف عليه للسكنى إن لم يصلح لتكرى له، يعني أن من وقف دارا أو نحوها على شخص معين لأجل أن يسكن فيها فاحتاج ذلك إلى إصلاح فإن الموقوف عليه يخير بين أن يصلح من عنده ما تهدم منها وبين أن يخرج منها لأجل أن تكرى تلك الدار ونحوها لأجل الإصلاح، فإن حصل الإصلاح وانقضى أجل الكراء رجع إليها من حبست عليه فسكنها. قاله الخرشي. قال: ونقل شيخنا ما صورته: قوله: فإن كانت دارا لخ، الشيخ أبو الحسن عن عبد الحق: قال يحيى بن عمرَ: إن احتاجت إلى مرمة أخرجناه منها وأكريناها من غيره بقدر مرمتها، فإذا رمت وانقضى الأجل رجع فسكن، إلا أن يقول المحبس عليه: أنا أسكن وأرم بقدر ما تكرى به من غيري فذلك له، وكذلك إن احتاجت بعد فهو على ما فسرنا، وهذا معنى ما في المدونة. انتهى. وصريحه أن اللام في لتكرى للتعليل وكذلك في له وكذلك للسكنى، وقال عن البساطي: إن اللام في لتكرى غاية للإخراج. انتهى. وفي الرهوني: عن اللخمي أن ديار الغلة والفنادق والحوانيت وما أشبه ذلك ينفق عليها من الغلة كان الحبس على معين أو مجهول إن احتاجت إلى إصلاح، وإن كانت الدار للسكنى خير المحبس عليه في أن يصلح أو يخرج فتكرى بما تصلح به ثم يعود، وأن البساتين إن كانت حبسا في

ص: 431

السبيل أو على المساكين أو على عقب أو معين فلم تسلم إليهم الأصول، وإنما تقسم الغلة عليهم كانت النفقة منها تساقى أو يستأجر عليها فما فضل بعد ذلك صرف فيما حبس عليه، وإن كان على معينين وهم يلونه كانت النفقة عليهم، والحكم في الإبل والبقر والغنم على ما ذكرنا في الثمار إن كانت تقسم الغلة عليهم استوجر عليها وما فضل صرف في الوجه الذي جعلت له، وإن كانت حبسا على معينين سلمت إليهم كانوا بالخيار بين أن يلوها بأنفسهم أو يستأجروا عليها، وأن الخيل لا تواجر في شيء من النفقة عليها، فإن كانت حبسا في سبيل الله فمن بيت المال، وإن لم يكن بيعت واشتري بالثمن ما لا يحتاج إلى نفقة كالسلاح والدروع، وإن كانت حبسا على معين ينفق عليها إن قبلها على ذلك وإلا فلا شيء له. انتهى. ونحوه للشبراخيتي وزاد: والعبيد إن كانوا على السبيل ولهم صنعة تراد للسبيل فكالخيل من بيت المال، وإن كانوا للغلة فمنها، وفي كون نفقة المخدَم على ربه أو على المخدم أي من جعل له ربه خدمته قولان، الثاني أصوب لانقطاعه إليه ليلا ونهارا، ولو كان مأواه ليلا عند ربه كانت عليه، ولو قيل: نفقته نهارا على المخدَم، كان له وجه، وكذا العبد يحبس على معين ليخدمه، نقله عن ابن عرفة. قال: ثم قال: والمساجد والقناطر ليس نفقتها على محبسها بل من بيت المال وإن لم يكن ولم يتطوع أحد بقيت حتى تهلك. انتهى.

تنبيه: قال عبد الباقي في شرحه للمص هنا ما نصه: فعلم أن الموقوف عليه مخاطب ابتداء بالإصلاح فإن أباه أخرج إلى أن تكرى مدة لأجل الإصلاح، ثم قال: وأجيز ذلك يعني الكراء للضرورة وإن كان مالك الانتفاع لا يؤجر. انتهى. فجعل الموقوف عليه مالك انتفاع.

وأنفق في فرس لكغزو من بيت المال. يعني أن من وقف فرسا في سبيل الله لغزو أو رباط من ربط المسلمين ونحو ذلك فإن نفقته تكون في بيت مال المسلمين إن كان يوصل إليه، فإن وقفه على معين فإنه ينفق عليه من عنده فإن قبله على ذلك وإلا فلا شيء له، والفرس الموقوف في السبيل إن لم يكن بيت مال قد مر أنه لا يوجر في نفقته، فيباع ويشترى بثمنه ما لا يحتاج إلى نفقة كالسلاح والدروع. قال عبد الباقي مفسرا للمص: وأنفق في فرس وقف في سبيل الله لكغزو ورباط وقنطرة ومسجد من بيت المال، ولا يلزم المحبس ولا المحبس عليه، ولا توجر. انتهى. وخرج

ص: 432

بكغزو الموقوف على معين للجهاد فإنه ينفق عليه المعين له كما مر قريبا، فالمحبس للجهاد من الخيل لا يوجر في نفقته كان على معين أم لا، وأما قول التوضيح: لو كان وقفا على معين فإنه ينفق عليه من غلته. انتهى. فمراده: إذا كان حبسا لغير الجهاد والرباط بدليل أنه جعله محترزَ قولِ ابن الحاجب: وإن كان فرسا للجهاد وشبهه، لخ.

فإن عدم بيع وعوض به سلاح، يعني أن الفرس الموقوف في سبيل الله إذا لم يكن بيت مال ينفق عليه منه فإن الفرس يباع ويشترى بثمنه ما لا يحتاج لنفقة من السلاح كالسيوف والرماح والدروع. قال الخرشي مفسرا للمص: تقدم أن الفرس الموقوف في سبيل الله نفقته من بيت المال، فإن عدم بيت المال أو لم يصل إليه فإن الفرس يباع ويشترى بثمنه ما لا يحتاج إلى نفقة كالسلاح لأنه أقرب إلى غرض الواقف، والأولى أن الضمير في عدم راجع للإنفاق المفهوم من أنفق ليشمل ما إذا وجد بيت المال ولم يمكن الوصول إليه ولما إذا عدم، وأما رجوعه لبيت المال فلا يفيد حكم ما إذا وجد ولم يتوصل إليه إلا أن يقال العدم أعم من أن يكون حقيقة أو حكما فلا أولوية. انتهى. وقال عبد الباقي: نحو ما مر وزاد: فإن لم يوجد بيت مال لإصلاح قنطرة ومسجد ولم يتطوع أحد ولا غلة موقوفة عليهما بقيا حتى يهلكا. انتهى.

كَمَا لَوْ كَلِبَ قال الخرشي: كلب بكسر اللام إذا أصابه الكلَب الذي يعتري الكلاب فلا يأكل ولا يشرب وتحمر عيناه ويعض كل شيء قابله حتى يموت، وربما مات المعضوض وربما عاش أياما والمعنى أن الفرس الموقوف في سبيل الله ونحوه إذا أصابه الكلب وهو شيء يعتري الخيل كالجنون وصار لا ينتفع به في خصوص ما وقف فيه وهو الغزو ويمكن الانتفاع به في غيره كالطاحون مثلا فإنه يباع ويشترى بثمنه فرس كما في رواية ابن وهب عن مالك في المدونة لا سلاح، والمعنى يرشد إليه، لأن الذي يشترى بثمنه سلاح هو المحتاج للنفقة حيث عدمت بخلاف مسألة الكلب، فالتشبيه في كلام المؤلف في أنه يباع لا فيه وفي أنه يعوض بثمنه سلاح كما فعل الشارح والتتائي وغيره ففيه نظر. انتهى. ونحوه لعبد الباقي، وفيه: بل يباع ويجعل في مثله أو شقصه ويدل عليه ما بعده، ولو حذف هذا استغناء عنه لسلم من إيهام التشبيه الذي هو الأصل فيه وإن كان غير مراد هنا. انتهى. ومن المدونة قال مالك: ما ضعف من الدواب المحبسة

ص: 433

في سبيل الله حتى لا يكون فيها قوة على الغزو بيعت واشتري بثمنها ما ينتفع به من الخيل فتجعل في السبيل. قال ابن القاسم: فإن لم يبلغ ثمن فرس. أو هجين أو برذون فليعَن بذلك في ثمن فرس قال ابن وهب عن مالك وكذلك الفرس يكلب ويخبث. قال ابن القاسم: وما بلي من الثياب المحبسة ولم يبق فيها منفعة بيعت واشتري بثمنها ثياب ينتفع بها فإن لم تبلغ تصدق به في السبيل. انتهى.

وبيع ما لا ينتفع به من غير عقار في مثله أو شقصه. يعني أن الشيء الموقوف على معين أو على غير معين من غير عقار إذا صار لا ينتفع به في الوجه الذي [وقف (1)] فيه كالثوب يخلق والفرس يمرض أو يهرم والعبد يعجز وما أشبه ذلك فإنه يباع ويشترى بثمنه مثله مما ينتفع به في الوجه الذي وقف فيه، فإن لم يبلغ ثمنه ما يشترى به مثله فإنه يستعان به في شقص مثله. قال ابن شأس: روى ابن القاسم ما سوى العقار إذا ذهبت منفعته التي وقف لها كالفرس يكلب أو يهرم بحيث لا ينتفع به في الوجه الذي وقف له وشبه ذلك فإنه يجوز بيعه ويصرف ثمنه في مثله ويجعل مكانه، فإن لم يصل ثمنه إلى كامل من جنسه جعل في شقص من مثله. انتهى. وقوله: وما لا ينتفع به المنفي كما أشرت إليه في أول الحل هو النفع المقصود للواقف ولكن ينتفع به في الجملة، لأنه يشترط في صحة البيع كون المبيع ينتفع به، وكلام المؤلف لا يشمل الحُصُرَ والزيت، لأن قوله: في مثله أو شقصه، يخرج ذلك. قاله الخرشي. وقد مر أنه لا يجوز بيع زيت المسجد ولا حُصُره. وقوله: من غير عقار أي موقوف غير عقار وهو في موضع الحال. وقوله: في مثله، يجوز أن يتعلق بفعل محذوف أي وجعل في مثله، ويجوز أن يكون في محل حال أي وبيع ما لا ينتفع به حال كونه مجعولا ثمنه في مثله. وما وقع في المدونة من أن الثوب إذا لم يبلغ ثمنه ثمن ثوب آخر تصدق به وإذا لم يبلغ ثمن الفرس فرسا شورك به، قال بعض القرويين: هو وفاق، وفي التوفيق وجهان: أحدهما: أن مسألة الثوب محمولة على ما إذا لم يوجد من يشارك، ومسألة الفرس على ما إذا وجد. والثاني: أنه لما كان المقصود في الخيل نفعَها في الغزو وجعل

1 - ساقطة من الأصل.

ص: 434

ثمنها في مثلها، ومنفعةُ الثياب للغزاة، وإذا تلفت لم ينتفعوا بها أعطوا ثمن ما بيع من خلقها.

وقوله: وبيع ما لا ينتفع به لخ، أي وجوبا كما في الخرشي.

كأن أتلف، يعني أن تلك الأشياء إذا أتلفها شخص فإنه يلزمه قيمتها، فإذا أخذت القيمة فإنه يشترى بها مثلها إن بلغت فإن لم تبلغ فإنه يشترى شقصها، وقوله: كأن أتلف أي ما ذكر لا بقيد كونه غير منتفع به. وفضل الذكور وما كبر من الإناث في إناث، يعني أن ما فضل من ذكور الأنعام الموقوفة عن النزو يباع ويشترى بثمنه إناث تكون حبسا كأصلها، وما كبر من الإناث وانقطع لبنه يباع ويشترى بثمنه إناث تحبس كأصلها. وقوله: وفضل الذكور، قال الخرشي مفسرا للمص: قد علمت أن ولد الحيوان المحبس مثل أصله في التحبيس، فإذا ولدت البقر أو الإبل أو الغنم ذكورا وإناثا فما فضل من الذكور عن النزو وما كبر من الإناث وانقطع لبنه يباع ويشتري بثمنه إناث تحبس كأصلها، فقوله: وفضل عطف على نائب بيع، وقوله: في إناث متعلق بمحذوف، أي وجعل ثمنه في إناث، ومثل ما كبر من الإناث ما كبر من الذكور مما لا يباع لكونه محتاجا إليه ثم طرأ عدم الحاجة له لعدم ما كان فيه من المنفعة فيشترى بثمنه مثله أو شقصة لحاجة الإناث له. انتهى. وقوله: كبر بكسر الباء. فإن قيل: قوله: وفضل الذكور داخل في قوله: وبيع ما لا ينتفع به لخ، قلت: ذكره لقوله: في إناث ولو لم يذكره لتوهم أن ثمنها إنما يجعل في مثلها أو شقصها. قاله الخرشي. وقال التتائي: ويباع فضل المذكور من نتاجها عن النزو وما كبر من الإناث في إناث وقفت ليقسم ألبانها، سمع ابن القاسم: ما ولد بقرات حبست ليقسم لبنها على المساكين من أنثى حبست معها ويحبس ولدها الذكر لنزوها وما فضل من ذكورها عنه وما كبر من أنثى فذهب لبنها بيعا ورد ثمنها في أنثى وفي علوفتها. انتهى. ومثلها في المواق، ابن عرفة: وهذه الرواية خلاف رواية من منع ذلك. وهو قول ابن الماجشون: من حبس غلاما فكبر أو كثرت سرقته وإباقه لم يجز بيعه ليشترى بثمنه [غيره (1)] مكانه، وكذا البعير والتيس إن انقطع ضرابه لكبره لم يبع ليشترى بثمنه غيره إلا أن يكون المحبس شرط ذلك

1 - في الأصل عطف، والمثبت من ابن عرفة، مخطوط بمكتبة أحمد سالك بن أبوه.

ص: 435

في حبسه. انتهى. وقد مر جواز بيع ما كبر من المذكور في مثله أو شقصه لحاجة الإناث إليه، وهذا الخلاف إنما هو في بيعه ليشترى بثمنه غيره يكون مكانه، وأما بيعه فيما يلزم من علفها ورعيها فجائز اتفاقا. انظر التتائي.

لا عقار وإن خرب، يعني أنه لا يجوز بيع العقار الحبس خرب أم لا. قال مالك: لا يباع العقار الحبس ولو خرب، وبقاء أحباس السلف داثرة دليل على منع ذلك وقوله: عقار، يصح فيه الرفع عطفا على نائب بيع والجر عطفا على غير، نقله الخرشي. وقوله: وإن خرب بكسر الراء. وقال المواق؛ ابن عرفة عن المدونة وغيرها: يمنع بيع ما خرب من ربع حبس مطلقا قال ابن الجهم: إنما لم يبع الربع المحبس إذا خرب لأنه يجد من يصلحه بإجارته سنين فيعود كما كان.

ونقض ولو بغير خرب، النقض بكسر النون بمعنى المنقوض، واقتصر الأزهري على الضم، فقال: النقض بالضم اسم للبناء المنقوض إذا هدم، وبعضهم يقتصر على الكسر ويمنع الضم، والجمع نقوض؛ يعني أن نقض الحبس لا يجوز بيعه، وكذلك لا يجوز أن يبدل ربع خرب بغير خرب، وقوله: ونقض، كان نقض مسجد أو غيره، وفتوى ابن عبد الرفيع ضعيفة. وقال أبو الحسن الصغير: بيع حُصُر المسجد جائز إذا استغني عنها وكذلك أنقاضه وتصرف في مصالحه، نقله ابن سهل في أحكامه، والقولان قائمان من المدونة. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي عند قوله: ولو بغير خرب: أي لا يجوز أن يبدل ربع خرب بربع غير خرب، وظاهره أن الإغياء الثاني راجع للربع الخرب والنقض، ولم أره منصوصا إلا في الربع الخرب قاله ابن غازي. انتهى. وقال التتائي: وحكى ابن الحاجب في بيع النقض قولين، واختلف إذا خرب المسجد هل يؤخذ نقضه ويعمر به مسجد بموضع غير خرب إن وفي وإن لم يوف رمم به في مسجد آخر أو لا؟ ابن عبد السلام: والأصل منع بيعه ونقله. وللشيوخ خلاف في حصره العتيقة هل تباع في مصالحه وكذا بسطه وفضلات ترميمه وقناديله المكسرة ونحو ذلك. انتهى. وقال المواق: وعبارة الرسالة: ولا يباع الحبس وإن خرب، ثم قال: واختلف في المعاوضة بالربع الخرب بربع غير خرب. وقال ابن رشد: إذا كانت القطعة من الأرض المحبسة انقطعت منفعتها وعجز عن عمارتها وكرائها فلا بأس بالمعاوضة فيها بمكان يكون حبسا مكانها ويكون ذلك بحكم من القاضي بعد ثبوت ذلك

ص: 436

السبب والغبطة في العوض عنه ويسجل ذلك ويشهد به. وفي الزاهي: لا يباع نقض الحبس، وأجاز بعض أصحابنا بيعه ولا أقوله، وفي الطرر عن ابن عبد الغفور: لا يجوز بيع مواضع المساجد الخربة لأنها وقف، ولا بأس ببيع نقضها إذا خيف عليه الفساد للضرورة إلى ذلك وتوقيفه لها إن رجي عمارتها أمثل، وإن لم يرج عمارتها بيع وأعين بثمنه في غيره أو صرف النقض إلى غيره، وحكيَ عن أحمد أنه إن فقد أهل المسجد ولم يرج له عمارة أنه يباع أصله وينفق في أقرب المساجد إليه، وهذا شبيه بما في الفرس المحبس يكلب، ويذكر عن ابن مزين: أنه يؤخذ نقضه وينتفع به في سائر المساجد، ويترك ما يكون علما له ليلا يدرس أثره. ونحوه حكى ابن حبيب عن غير ابن القاسم، وكذلك قال المشاور: في شقص محبس على المساكين أو غيرهم إنه يباع الجميع ويشترى بما يقع منه للحبس مثل ما بيع فيه يكون صدقة محبسة مسبلة كما سبلها صاحبها، قال: وبه العمل قال وهي في الواضحة منصوصة. وأفتى ابن عرفة في جوامع خربت وأيس من عمارتها برفع أنقاضها إلى مساجد عامرة احتاجت إليها. انتهى.

إلا لتوسيع كمسجد، مستثنى من منع بيع العقار، يعني أنه يجوز بيع العقار في هذه المسألة وهي ما إذا ضاق المسجد بأهله واحتيج إلى توسعته وبجانبه عقار حبس أو ملك فإنه يجوز بيع الحبس لأجل توسعة المسجد وإن أبي صاحب الحبس أو صاحب الملك على المشهور. ولهذا قال: ولو جبرا، وإذا جبر على ذلك في الوقف ففي الملك أولى. قال: المواق قال ابن رشد: اختلف متأخرو الشيوخ إن امتنعوا من البيع للمسجد، فقال أكثرهم: يؤخذ منه بالقيمة جبرا. انتهى. وقال بناني: إلا لتوسيع كمسجد، أي فيجوز بيع الحبس إن احتيج إليه لتوسيع المسجد، وظاهره سواء كان حبسا على معين أو على غير معين، وأنه في ذلك كله لا يدخل في المسجد إلا بثمن وهو ظاهر النقل في التوضيح والمواق وغيرهما، وذكر الشيخ المسناوي في جواب له أن ما وُسَعَ به المسجد من الرباع لا يجب أن يعوض منه إلا ما كان ملكا أو حبسا على معين قال وأما ما كان حبسا على غير معين فلا يلزم تعويضه سواء كان من أحباس المسجد الموسع أو غيره، أو على الفقراء ونحوهم، على ما يفيده جواب أبي سعيد بن لب. انتهى. وقال عبد الباقي: واستثنى من منع بيع العقار الحبس خرب أم لا قوله: إلا أن يباع لتوسيع كمسجد للجماعة كما في النص

ص: 437

تقدم عن العقار أو تأخر وطريق ومقبرة فيجوز بيع حبس غير هذه الثلاثة لتوسيع الثلاثة أو واحد منها، أي يؤذن فيه، ولهذا قال: ولو جبرا، وكذا يجبر صاحب ملك على بيعه لتوسيع ما ذكر، واحترز بقوله: كمسجد عن ميضأته فلا يباع حبس لتوسيعها، والفرق أن إقامة الجماعة فيه سنة يقاتل على تركها على الأظهر أو واجبة، والوضوء في الميضئات لا فضل فيه. انتهى. قوله: للجماعة كما في النص، هكذا في نسخ هذا الشارح فأفاد أن المنصوص مسجد الجماعات أقيمت فيه الجمعة أم لا، والذي في المواق ما نصه: ابن رشد: ظاهر سماع ابن القاسم أن ذلك جائز في كل مسجد كقول سحنون، وفي النوادر عن مالك والأخوين وأصبغ وابن عبد الحكم: أن ذلك إنما يجوز في مساجد الجوامع إن احتيج إلى ذلك لا في مساجد الجماعات إذ ليست الضرورة فيها كالجوامع. انتهى. نقله بناني. قال: وللمسألة نظائر عشرة تقدمت في أول البيوع. انتهى. وعلم مما مر أن الكاف أدخلت الطريق والمقبرة. والله سبحانه أعلم. وفي نقل الخرشي: ولا يهدم المسجد لتوسيع الطريق بخلاف الدفن فيه لضيق المقبرة.

وأمروا بجعل ثمنه لغيره، يعني أن العقار الحبس إذا بيع لأجل توسعة مسجد أو طريق أو مقبرة فإن ثمنه يشترى به عقار مثله يجعل حبسا مكانه، وهل يجبر البائع على البدل أو لا يجبر؟ فيه خلاف، والمشهور عدم الجبر على جعل الثمن في غيره، قاله ابن رشد. قال: وهو قول ابن القاسم، وإنما لم يجبروا على جعل الثمن لغيره لأنه لما جاز لهم البيع اختل حكم الوقفية المتعلقة به، فقوله: وأمروا أي المحبس عليهم. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وأمروا أي المحبس عليهم بجعل ثمنه أي الحبس الذي بيع لتوسيع الثلاثة لغيره وجوبا، أي يشترى بالثمن عقار مثله ويجعل حبسا مكانه من غير قضاء على المشهور، لأنه لا جاز بيعه اختل حكم الوقفية، وسكت عن توسيع بعض الثلاثة من بعض وهي ست صور، ويؤخذ الجواز من قول الشارح عند قول المص: واتبع شرطه إن جاز ما كان لله فلا بأس أن يستعان ببعضه في بعض. انتهى. وفي الخرشي: ولا يأخذ الثمن إلا الواقف أو ورثته لأن الثمن عوض الرقبة وهي على ملك الواقف لقوله: والملك للواقف. انتهى. وقال التتائي: ولمالك وابن القاسم: إن استحق حبس فعل ربه بثمنه ما شاء، وفهم من قوله: أمروا أي الموقوف عليهم عدم القضاء به وهو كذلك، واختلف

ص: 438

متأخرو الشيوخ إن امتنعوا من البيع للمسجد فقال أكثرهم يؤخذ منهم بالقيمة جبرا، وهو الآتي على قول ابن القاسم: إنه لا يحكم عليهم بجعل الثمن في دار أخرى هي تكون حبسا، وعلى قول ابن الماجشون يقضى عليهم بجعل الثمن في أخرى لا يقضى عليهم ببيعها إن امنتعوا. انتهى. وسئل العبدوسي عن حبس يستأجر بغلته معلم صبيان في مسجد بعينه فوجد المعلم شجرة عظيمة لا تصلح إلا للحطب؟ فأجاب: لا يجوز للمعلم احتطابها ولا أن ينتفع بشيء منها بإجماع، بل تباع ويغرس بثمنها شجرة أخرى مكانها إن أمكن وإلا صرف ثمنها في مصالح ذلك الحائط. اهـ بنقل المعيار. اهـ من الرباطي على العمليات الفاسية.

ومن هدم وقفا فعليه إعادته، يعني أن من هدم بناء موقوفا فإنه يجب عليه إعادته إلى الحالة التي كان عليها قبل الهدم، ولا يجوز أخذ القيمة لأنه كبيعه، وتبع المص في ذلك ابن الحاجب وابن شأس، واقتصر عليه في النوادر، وعليه اقتصر ابن سلمون، وفي نوازل المياه من المعيار ما نصه: وعلى من هدم الحائط بناؤه ورده على صفته، ولا يجوز لهم ما فعلوا، وهذا قول أصحاب مالك ونص أهل العلم أجيب به عمن هدم بناء إنسان لسد طريق كانت على أرضه، وإذا كان هذا في غير الحبس فالحبس أولى، فقول المص: ومن هدم وقفا فعليه إعادته، هو المذهب والصحيح، وهو الآتي على قول ابن القاسم الذي رجحه اللخمي وعبد الحق، وصريح قول ابن كنانة. نقله الرهوني عن الشيخ أبي علي. قال: وما قاله ظاهر. اهـ. وقال عبد الباقي: والذي ارتضاه ابن عرفة ونحوه شهر عياض وهو ظاهر المدونة أن عليه قيمته كغيره من التلفات، فيقوم قائما ومهدوما. ويؤخذ ما بين القيمتين والنقض باق على الوقفية. اهـ. وقال: قال الشيخ أحمد بابا: واعترض ابن فائد الزواوي على ابن عرفة بأن تشهير عياض لم يقله إلا في حائط حبدر ولا يلزم تعميمه في هدم جميعه، وما ذكر عن ظاهر المدونة معارض لنقل النوادر عن العتبية. اهـ. وقال الرهوني: قد اعترض أبو علي أيضا كلام ابن عرفة بأبين وأوضح مما اعترضه به ابن فائد إلي آخر كلامه. وقال عبد الباقي: وجمع الناصر بين القولين فقال: عليه إعادته إن كانت الأنقاض باقية وقيمته إن أزال الهادم أنقاضه بحرق ونحوه، وعلى ما للمص لو أعاده على غير صفته حمل على التبرع إذا زاده. اهـ. فإن نقصه أخذ النقص، وعلى القول بأخذ القيمة ولم يطلع عليه حتى

ص: 439

بناه وكانت قيمة البناء أنقص لا ينقض بل يوخذ النقض. قاله الخرشي. وقول المص: هدم أي تعديا، فإن هدمه خطئا فعليه قيمته كما إذا هدمه يظنه غير وقف، وعلى غير ما مشى عليه المص لا فرق بين هدمه تعديا أو خطئا، وظاهر قوله: فعليه إعادته ولو كان المهدوم باليا لأنه ظالم ومفهوم قوله: وقفا: أن من هدم ملكا عليه قيمته وهو المشهور. اهـ كلام عبد الباقي. وقال بناني عند قول المص: ومن هدم وقفا فعليه إعادته: قال الأبي على حديث جريج. (أعيدوه ترابا (1)) ما نصه: عياض: يحتج به من يقول: يقضى في المتلفات كلها بمثلها، وهو قول الشافعي والكوفيين، ولمالك في العتبية مثله، والمشهور عنه وعن أصحابه أنه إنما يقضى بالمثل في المكيلات والموزونات، وأما في غيرها فإنما يقضى فيه بالقيمة، ولا حجة للأولين فيه لأنه شرع غيرنا وليس فيه أنهم أمروا بذلك، ولعله تراض من الجميع، ألا ترى قولهم: نبنيه بذهب فإنما هو بتراضيهم، فكذلك بناؤه بالطين. الأبي: وألحق أهل المذهب بالكيل والموزون في القضاء بالمثل المعدودات. اهـ. وقال عبد الباقي: ومن قلع شجرا أو حرقه أو قطعه أو ضيع أوقتل حيوانا أو أتلف ثوبا أو كتابا أو مكتوبا وقفا تعديا فعليه بدل ما أتلفه وقيمة الثوب والكتاب والمكتوب والحيوان. اهـ. قال الرهوني: انظر من قال هذا، فإن أراد القياس على الهدم فلا يصح قطعا لأن إعادة البناء كما كان ممكن ولذلك فرقوا بين مثل الغلام والفرس مثلا المحبسين وبين هدم الحائط على ما اعتمده المص، قال أبو علي: وبإمكان العود في البناء فارقت الدور العبد الحبس إذا قتل لأنه بعد موته لا يمكن رده على ما كان عليه ولا كذلك الدار إلى آخر كلام أبي علي. قال الرهوني: وليست الشجرة كذلك إذ ليس في طوق أحد غرس شجرة تاتي بعد غرسها مثل ما أتلف. فتأمله.

وتناول الذرية، يعني أن قول الواقف: هذا وقف على ذريتي، يتناول الحافد أي ولد البنت أي يشمله ذلك، فقوله: الذرية فاعل تناول وهو على حذف مضاف أي لفظ الذرية، ومفعول تناول الحافد الآتي. قال الشيخ الخرشي رحمه الله تعالى: هذا شروع في بيان ألفاظ الواقف باعتبار ما

1 - مسلم، كتاب البر والصلة والأدب، رقم الحديث 2550.

ص: 440

تدل عليه، والمعنى أنه إذا قال: هذا وقف على ذريتي فإنه يتناول ولد البنت، حكى ابن العطار الاتفاق على ذلك لأن سيدنا عيسى من ذرية سيدنا إبراهيم عليهما السلام. قال الله تعالى:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} وهو ولد بنتٍ، وحكى ابن رشد قولا بعدم دخول ولد البنات وهو نقض للاتفاق، ويتناول لفظ الذرية الحافد وإن سفل ذكرا أو أنثى.

وولدي فلان وفلانة، يعني أن لفظ الواقف وقف على ولدي فلان وفلانة وأولادهم يتناول الحافد ذكرا أو أنثى وإن سفل. أو الذكور والإناث، يعني أن الشخص إذا قال هذا وقف على أولادي الذكور والإناث وعلى أولادهم فإن هذا اللفظ يتناول الحافد أي ولد البنت وإن سفل ذكرا أو أنثى، وعلم مما قررت أن قوله: وأولادهم، راجع لكل من الصيغتين، أعني قوله: ولدي فلان وفلانة، وقوله: الذكور والإناث، إذ لو لم يقل فيهما وأولادهم لم يتناول، وأما لفظ الذرية فلا يشترط فيه ذلك لأنه مستغنى عنه. وقوله،

الحافد. قد مر أنه مفعول تناول، قال عبد الباقي: وهو ولد البنت وإن سفل ذكرا أو أنثى، والظاهر أن إفراد ضمير أولادهم في الصيغتين كجمعه بتأويل أولاد من ذكر، وفي القاموس: حفدة الرجل بناته وأولاد أولاده كالحفيد. اهـ. وفي البيضاوي في {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} : أولاد أولاد أو بنات فإن الحافد هو المسرع في الخدمة، والبنات يخدمن في البيوت أتم خدمة، وفي القاموس: السبط بالكسر ولد الولد جمعه أسباط. اهـ.

فرع: إن قال: حبس على ولدي الذكور والإناث فمن مات منهم فولده بمنزلته دخل ولد البنت إن ذكر فمن مات لخ، من تمام صيغة الوقف، فإن ذكره بعد مدة لم يدخل عند مالك، واقتصر عليه في معين الحكام لتأخره عن تمام الوقف إلا أن يكون اشتَرَط لنفسه الإدخال والإخراج والتغيير والتبديل، وذكر أنه أدخلهم، فإن قال: وقف على ابنتي وولدها دخل ولدها المذكور والإناث، فإن ماتوا كان لأولاد الذكور ذكورهم وإناثهم، ولا شيء لولد البنت ذكرا أو أنثى. قاله ابن القاسم، واستحسنه اللخمي. ثم هذه الألفاظ المذكورة في المص تحمل على العرف، فإن جرى

ص: 441

عرف بإطلاق لفظ على معنى غير ما وقع عليه النص أعم من معناه أو أخص أو مباين له حمل عليه. اهـ كلام عبد الباقي.

مسألة: لو قال: وقف على ولدي فلان وفلانة ولم يسم الآخرين فهل تجري على مسألة الشيوخ المشهورة فيمن قال في الإيصاء: جعلت النظر على ولدي فلان وفلان إلى فلان وفي أولاده من لم يسم، فهل الإيصاء قاصر على المسمَّيْنَ أو لا؟ فيه تنازع بين ابن زرب وغيره، فهل مسألة التحبيس مثلها أو لا؟ قال بعض الفضلاء المشارقية: ليس مثلها لا يدخل في الحبس ويدخل في الإيصاء، والفرق بينهما أن الوصية بالأولاد قد علم المقصود بها وهو القيام بهم وهو مظنة التعميم، فالتسمية ليست للتخصيص، وأما الوقف فالمقصود به صرف المنافع ويجوز قصرها على بعض، دون بعض فيصح أن يقال للتسمية أثر، قال المشدالي: قلت: وهذا فرق لا بأس به. قال الوانوغي: وفي نوازل ابن رشد نحوه. اهـ. قاله الحطاب. وقال الخرشي: إذا قال: وقفت على ولدي (1) أولادي فيتناول ولد الصلب وولده المذكور دون الإناث، ويؤثر البطن الأول، وقال المغيرة: بل يسوى بين الجميع. اهـ. وقال الخرشي أيضا: والذرية بضم الذال المعجمة وكسرها لغتان حكاهما صاحب المحكم، والأولى أفصح من ذرأ الله الخلق أي خلقهم. انتهى.

لا نسلي، يعني أن الشخص إذا قال هذا وقف على نسلي، فإن ذلك لا يتناول الحافد. قال ابن رشد: اختلف الشيوخ في الذرية والنسل، فقيل: إنهما بمنزلة العقب والولد لا يدخل ولد البنات فيهما على مذهب مالك، وقيل: إنهم يدخلون فيهما، وفرق ابن العطار النسل كالولد والعقب لا يدخل فيه ولد البنت بخلاف ذريتي فتشمل ولد البنات اتفاقا لقول الله تعالى {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} إلى قوله {وَعِيسَى} .

وعقبي، يعني أن لفظ العقب لا يتناول الحافد، فإذا قال هذا وقف على عقبي اختص به الأولاد وأولاد الذكور وهلم جرا، ولا يدخل فيه ولد البنت. ابن رشد:[لا فرق (2)] عند أحد من العلماء بين لفظ العقب والولد في المعنى، فإذا قال المحبس: حبست على ولدي أو على أولادي ولم يزد على

1 - كذا في الأصل.

2 -

ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، والمثبت من المواق ج 6 ص 49 ط دار الفكر.

ص: 442

ذلك فيكون الحبس على أولاده دنية الذكران والإناث وعلى أولاد بنيه الذكور دون الإناث، ولا يدخل في ذلك أولاد البنات للإجماع على أن ولد البنات لا ميراث لهم قاله المواق. يعني أن الإجماع انعقد على أنهم غير داخلين في قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} الآيات.

وولدي وولد ولدي، يعني أن الشخص إذا قال: وقف على ولدي وولد ولدي فإن هذا اللفظ لا يتناول الحافد بل يختص بالوقف أولاد الصلب وأولاد الأولاد الذكور، فلا يدخل أولاد الإناث ذكورا أو إناثا، هذا الذي رواه ابن وهب وابن عبدوس عن مالك ورجحه ابن رشد في المقدمات، وقال الشيخ أبو الحسن: إذا قال: وقف على ولدي وولد ولدي يدخل أولاد البنات، قال ابن غازي: وهو المشهور. قاله بناني. وقال الرهوني: هكذا قال في تكميل التقييد لكنه خلاف ما يفيده كلام ابن الحاجب والتوضيح، ونص ابن الحاجب: وولدي وولد ولدي، المنصوص أيضا لا يدخل ولد البنات. التوضيح: والمنصوص قول مالك وهو مذهب المدونة على ما وقع في بعض الروايات، ومقابله ما ذكره ابن العطار أن أهل قرطبة كانوا يفتون بدخولهم.

وأولادي وأولاد أولادي، يعني أنه إذا قال: وقف على أولادي وأولاد أولادي فإن هذا اللفظ لا يتناول الحافد بل يختص بأولاد الصلب وأولاد البنين أي البنين الذكور وهلم جرا، وقوله: ولدي وولد ولدي، علم مما قررت أنه جمع بين اللفظين، بأن قال: وقف على ولدي وولد ولدي وكذا قوله: وأولادي وأولاد أولادي، وكذا الحكم بالأولى لو أفرد في كل من الصيغتين بأن قال: وقف على ولدي، أو قال: هو وقف على ولد ولدي، أو قال: هو وقف على أولاد، أو قال: هو وقف على أولاد أولادي، فهذه الصور كلها لا يدخل فيها الحافد.

وبنيَ وبني بنيَّ، يعني أن الشخص إذا قال هو وقف علي بنيَّ وبني بنيَّ فإن هذا اللفظ لا يتناول الحافد، ودخل بنات الأبناء دون أولاد البنات، قال الشيخ أحمد: المفهوم من كون هذه الألفاظ لا تتناول الحافد أنها تتناول أولاد الذكور ذكورا وإناثا وهو كذلك، وحينئذ فالمراد بقوله: بني، وبني بني أولادي وأولاد أولادي. انتهى. انتهى. ومقتضى تقرير الشارح أن هذه الألفاظ مفردة لقوله: إنها ثمانية: أحدُها نسلي. ثانيها: عقبي. ثالثها: ولدي. رابعها: ولد ولدي. خامسها:

ص: 443

أولادي. سادسها: أولاد أولادي. سابعها: بني. ثامنها: بني بنيَّ. فكل واحد من هذه الألفاظ الثمانية لا يتناول الحافد وجعل غير واحد من الشراح الألفاظ ستة أولها: نسلي. ثانيها: عقبي. ثالثها: ولدي. رابعها: ولد ولدي. خامسها: أولادي وأولاد أولادي. سادسها: بنيَّ وبني بنيَّ. وجعلها عبد الباقي خمسة، أولها: نسلي. ثانيها: عقبي. ثالثها: ولدي وولد ولدي. رابعها: أولادي وأولاد أولادي. خامسها: بني وبني بني. وقال في ولدي وولد ولدي ما نصه ويدخل ولده الذكر والأنثى وأولاد ولده الذكر، وقال في أولادي وأولاد أولادي: ويعلم منه حكم ما إذا أفرد بالأولى في عدم التناول وكذا في الآتية. اهـ. يعني بنيَّ وبني بنيَّ. واعلم أنه إذا قال: وقف على ولدي ولم يزد على ذلك فهو معقب، وكذا لو قال: على أولادي كما في الخرشي، وكذا لو قال: وقف على نسلي، وكذا لو قال: على عقبي، وكذا لو قال: على بني بخلاف ما لو قال وقف على ابني لأن اسم ابني معين، وفي نقل الرهوني ما نصه: الحبس المعقب له خمسة ألفاظ، الولد والعقب والبنون والذرية والنسل. اهـ. ويأتي كلام الحطاب عند قوله:

وفي ولدي وولدهم قولان، يعني أن الشخص إذا قال: وقف على ولدي وولدهم فإنه اختلف في هذا اللفظ هل يتناول الحافد أو لا يتناوله؟ قال الخرشي: يعني أنه اختلف إذا قال: حبس على ولدي وولدهم هل يدخل في ذلك ولد البنت أو لا؟ قولان، أفتى أهل قرطبة بدخوله نظرا لآخر الكلام، وقال مالك بعدم دخوله نظرا لأول الكلام، ومثل ولدهم ولده بضمير الإفراد. انتهى. وقال الرهوني: الذي يظهر رجحانه في هذه هو تناول الحافد لخ، ومثل وقف على ولدي وولدهم وقف على عقبي وعقبهم ففيها القولان كما في بناني.

تنبيه: قال الخرشي: وأما لفظ البنين فإنه يتناول عند مالك الولد وولد الولد الذكور ذكورهم وإناثهم، قال مالك: من تصدق علي بنيه وبني بنيه فإن بناته وبنات بنيه يدخلن في ذلك، وروى عيسى عن ابن القاسم فيمن حبس على بناته فإن بنات بنيه يدخلن مع بنات صلبه، قال أبو الوليد: والذي عليه جماعة أصحابه أن ولد البنت لا يدخل في البنين. اهـ. وقوله: وفي ولدي وولدهم قولان بدخول الحافد قضى محمد بن السليم بفتوى أكثر أهل زمانه، قال الرهوني: جعل ابن رشد قضاء ابن السليم في هذه الصورة، وجعله الباجي في التي قبلها، قال أبو علي: ويمكن

ص: 444

أن يكون وقع منه القضاء في كل من اللفظين بفتوى أهل زمانه. اهـ. وفي الحطاب: ينبغي أن يكون مراد المص إذا قال: وقف على ولدي وولد ولدي، أو قال: على أولادي وأولاد أولادي، أو قال: على بني وبني بني فإن الحافد لا يتناوله هذا اللفظ، وليس مراده أن الواقف أتى بلفظة من الألفاظ الستة، فقال: وقف على ولدي، أو قال: على ولد ولدي، أو قال: على أولادي، أو قال: على أولاد أولادي، أو قال: على بني، أو قال: على بني بني، فإنه يفوته التنبيه على ما إذا جمع بين اللفظين والخلاف فيه قوي، فإن ابن العطار ذكر أن أهل قرطبة كانوا يفتون بدخولهم، قال: وقضى به محمد بن السليم بفتوى أهل زمانه، وأما إذا قال: وقف على أولادي أو على ولدي فالمعروف من المذهب عدم دخولهم، وكذلك ينبغي أن يكون الحكم إذا قال: على ولد ولدي فقط. اهـ. وقوله: وفي ولدي وولدهم قولان. قال بناني: هنا لا يظهر كبير فرق بين هذه المسائل كلها، ولهذا قال بعضهم في مسألة القولين: لعل الشيوخ إنما اعتمدوا في ذلك على عرف تقرر عندهم لأن أكثر هذه المسائل مبنية على العرف كما لابن رشد وغيره، وبذلك تزول صعوبة الفرق. اهـ. والله أعلم. وهذا كلام حسن.

وتناول الإخوة، يعني أن الواقف إذا قال: هذا وقف على إخوتي فإنه يتناول الأنثى، قال الخرشي: يعني أنه إذا قال: هو حبس على إخوتي فإنه يتناول الأنثى ولو كانت أختا لأم لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} ، فإنه يشمل ذلك، فقوله: والإخوة الأنثى عطف على الذرية والحافد. اهـ.

ورجالُ إخوتي ونساؤهم الصغيرَ، يعني أن الشخص إذا قال هذا وقف على رجال إخوتي، أو قال: هذا وقف على نساء إخوتي فإنه يتناول الصغير فيدخل فيه من لم يبلغ من الذكور، ويدخل فيه من لم يبلغ من الإناث، قال الخرشي: يعني أنه إذا قال: هذا وقف على رجال إخوتي أو على نسائهم فإنه يتناول الصغير والصغيرة منهم. قال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً} فإنه يشمل الصغير والصغيرة. انتهى. قوله: ورجال والصغير عطف على الذرية والحافد، وشمل كلام المصنف ما لو جمع الواقف بين اللفظين كما لو قال: وقف على رجال إخوتي ونسائهم، وما إذا لم يجمع بينهما بأن قال: وقف على رجال إخوتي فقط أو على نسائهم فقط فإنه يشمل

ص: 445

الصغير أيضا كما قررت، ولكون ما ذكر يشمل الصغير من حلف لا يكلم رجال بني فلان يحنث بتكليم الصغير.

وبني أبي إخوته الذكور وأولادهم، يعني أن الشخص إذا قال: هذا وقف علي بني أبي فإنه يتناول إخوته الذكور أشقاء أو لأب وأولادهم الذكور خاصة، قال ابن شعبان لفظ بني أبي يشمل إخوته لأبيه وأمه وإخوته لأبيه فقط، ومن كان ذكرا من أولاده خاصة مع ذكور ولده. اهـ. وقال ابن عبد السلام: لفظ بني أبي إنما يستعمل عرفا عند المفاخرة والتعصب وهذا لا يناسب إرادة المونثات، وعلم مما مر أن ذكور الواقف نفسه يدخلون كما في الرواية. قاله الخرشي. وقال الحطاب: قال في الجواهر: ولو قال: علي بني أبي، دخل فيه إخوته لأبيه وأمه وإخوته لأبيه ومن كان ذكرا من أولادهم خاصة مع ذكور ولده. اهـ. وقاله ابن شعبان في الزاهي. اهـ. فإن قلت: قول المص: إخوته، يشمل الإخوة للأم مع أنهم لا يدخلون في قول الواقف هذا وقف على بني أبي، فالجواب: أنه إذا لم يدخل في ذلك الأخوات الأشقاء والأخوات للأب مع أنهم من أولاد أبيه فأحرى في عدم المدخول الإخوة للأم أشار له الحطاب، وقوله: وبني أبي لخ، في دخول الواقف نفسه إن كان ذكرا وعدم دخوله قولان، ولعلهما مبنيان على الخلاف في دخول المتكلم في عموم كلامه وعدمه، ولا يرد على القول بدخوله ما مر من بطلان الوقف على النفس ولو بشريك لأنه في القصدي وما هنا تبعي لعموم كلامه هنا، وعرف مصر أنه لا يدخل هو ولا أولاده ولا أبوه ولا أمه وهو ظاهر قول المص: إخوته. قاله عبد الباقي.

وآلي وأهلي العصبة، يعني أن الشخص إذا قال: هذا وقف على آلي أو قال هذا وقف على أهلي فإن ذلك يتناول العصبة من ابن وأب وجد وإخوة وبنيهم الذكور وأعمامهم وبنيهم. وكذا يتناول أيضا من لو رجلت أي فرضت رجلا عصبت، أي كانت من العصبة وهن البنات والأخوات والعمات وبنات الابن وبنات الأخ وبنات العم ولو بعدن، وتدخل الأم والجدة من قبل الأب، والأهل أصل للآل لكن الآل لا يستعمل إلا في ذي شرف بخلاف الأهل فيستعمل مطلقا، وراعى المص معنى من فأنث الضمير العائد عليها في قوله: عصبت.

ص: 446

وأقاربي أقارب جهتيه مطلقا، يعني أنه إذا قال هذا وقف على أقاربي فإنه يدخل فيه أقاربه من الجهتين أي من جهة أبيه ومن جهة أمه، فيدخل كل من يقرب منهما من الذكور والإناث، فيدخل كل من يقرب لأبيه من جهة أبيه أو من جهة أمه من الذكور والإناث، ويدخل كل من يقرب لأمه من جهة أمها ومن جهة أبيها من الذكور ومن الإناث، فتدخل العمات والخالات والأخوات وبنات الأخ وبنات الأخت، ويدخل ابن الخالة، وإليه أشار بالإطلاق. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: مطلقا أي سواء في ذلك أقاربه من جهة الأب وأقاربه من جهة الأم. انتهى. وقال عبد الباقي: مطلقا أي ذكورا أو إناثا كان من يقرب له من جهة أبيه أو من جهة أمه. اهـ. وقال المواق: قال ابن القاسم: ولا يدخل الخال ولا الخالة ولا قرابته من قبل الأم إلا أن لا يكون له قرابة من قبل الأب. انتهى. قال بناني: ظاهره أنه أشار للاعتراض على المص وفيه نظر، ففي المتيطي: اختلف إذا أوصى لقرابته أو ولد قرابته على ثلاثة أقوال، قال ابن القاسم: لا يدخل في ذلك قرابته من قبل النساء بحال، وروى مطرف وابن الماجشون عن مالك أنهم يدخلون بكل حال، قال ابن حبيب: وهو قول جميع أصحاب مالك، وقال عيسى بن دينار: ويدخلون مع عدم قرابته من الرجال، وأما إن لم يكن له يوم أوصى قرابة إلا من قبل النساء فلا اختلاف أن الوصية تكون لهم. اهـ. ومعتمد المواق في الاعتراض على المص هو كلام ابن رشد ولا اختلاف في أنه إذا لم يكن له يوم أوصى قرابة من قبل أبيه أن الوصية تكون للقرابة من قبل أمه، وإنما اختلف إذا كان له يوم أوصى قرابة من قبل أبيه هل يدخل معهم قرابة من قبل أمه أم لا؟ فمذهب ابن القاسم وروايته عن مالك أنه لا يدخل فيه قرابته من قبل أمه، قال في سماع أبي زيد: وإن لم يبق من أهل أمه إلا خال أو خالة فلا شيء لهم، وقال أشهب: إنه يدخل في ذلك قرابته من الرجال والنساء من قبل أبيه وأمه. اهـ. ونقله ابن عرفة مختصرا، ولا شك أنه شاهد للمواق، ولكن ما رجحه المص هو الراجح. انظر الرهوني.

وإن نصرى، يعني أنه إذا وقف على أقاربه فإن ذلك يتناول أقارب أمه وأبيه كما عرفت، ولا فرق في الأقارب من الجهتين بين المسلم والكافر في دخولهم في ذلك، وأراد بالنصارى غير الحربيين فيشمل اليهودَ والمجوس، ولا بد من كون الجميع ذميين، وقد مر قول المص: وذمي

ص: 447

وإن لم تظهر قُرْبَةٌ، وقد مر أيضا قوله: وبطل على معصية وحربي، وقوله: وإن نصرى، عزاه في الذخيرة لنتقى الباجي عن أشهب، وقد علمت أنه موافق لقول المص: وذمي لخ، وبهذا سقط قول ابن غازي: لم أر ما ذكره المص، إذ لا يلزم من عدم رؤيته عدم وجوده، وجعل ابن غازي بدل قوله: وإن نصرى، وإن قَصوا، أي بعدوا، قال عبد الباقي: قال كريم الدين وعلي الأجهوري: لم نر هذه النسخة. اهـ. وقال التتائي: ولم نر هذه النسخة يعني نسخة وإن قصوا، وقال الخرشي: والأولى وإن ذميين ليخرج الحربيون، فالمراد أقاربه النصارى الذميون، وأما الحربيون فلا يدخلون اتفاقا، ولا فرق بين اليهود والنصارى وغيرهم. اهـ.

ومواليه المعتَق وولده، يعني أنه إذا قال: وقف على مواليَّ فإنه يدخل في ذلك المعتق بفتح التاء وولده، قال الخرشي: يعني أنه إذا وقف على مواليه فإنه يدخل فيه المعتق بفتح التاء وهو الذي أعتقه الواقف، ويدخل فيه أيضا ولد من أعتقه الواقف فإن نزل أجري على ما تقدم من أن كل ذكر أو أنثى يحول بينه وبين المحبس أنثى فليس بولد ولا عقب، ولا يدخل الوالي الأعلون على مذهب المدونة إن لم تكن قرينة، فلو قال: عتقائي هل يدخل أولادهم وهو الظاهر أم لا اهـ وقال عبد الباقي: نحوه.

ومعتق أبيه وابنه، يعني أنه إذا قال وقف على موالي فإن ذلك يشمل المعتق وولد المعتق بفتح التاء فيهما، ويشمل أيضا معتق أبي الواقف بفتح التاء ومعتق ابن الواقف بفتح التاء، والمراد بالأب الأصل وبالابن الفرع، فيشمل الجد للأب وإن علا ويشمل الابن وإن سفل، قال الشبراخيتي: ومعتق أبيه والظاهر وإن سفل ومعتق ابنه أي الواقف والظاهر وإن سفل، ولو قال ومعتق أصله وفرعه لكان أحسن، وظاهر كلام المص عدم دخول المولى الأعلى وهو كذلك إن لم يقم دليل على إرادته وهو مذهب المدونة. قاله الحطاب. وقال عن ابن عرفة: وفي دخول المولى الأعلى مع الأسفل إن لم يقم دليل على إرادة أحدهما فقط قولان لأشهب ونصِّ وصاياها. اهـ. قال أشهب: فإن كان كل منهما ثلاثة فأكثر أو أقل منها قسم الحبس أو الوصية بينهما نصفين ولو كان عدد أحدهما أكثر من الآخر، فإن كان عدد أحدهما أقل من ثلاثة اختص به الآخر. ابن رشد: ولو قيل: يقسم على عددهم ما كانوا إن استووا في الحاجة كان له وجه وهو أظهر من قول

ص: 448

أشهب وكون أهل أحدهما أغنياء دون أهل الآخر دليل على إرادة الفقراء. فقط. اهـ. وقوله: فإن كان كل منهما ثلاثة أي لأنه لما قال: موالي علم أن الواقف أو الموصي أراد الموالي من كل جانب، وكذا إذا كان في كل جانب أقل من ثلاثة بأن كان في كل جانب واحد أو اثنان أو كان في جانب واحدٌ وفي الآخر اثنان فإنه يقسم بينهما نصفين كما قال، وأما لو كان في جانب ثلاثة وفي الآخر واحد أو اثنان فقط فإنه يختص به الأكثر فالأقسام ثلاثة. اهـ. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي: ويدخل في وقفه على مواليه معتق أبيه أي الواقف ومعتق ابنه أي الواقف، والمرادُ مُعتَقُ أصله وإن علا وفرعه وإن سفل ولو بالجر فيهما، فيشمل من ولاؤه للمعتق بالكسر بالانجرار بولادة أو عتق ومن ولاؤه لأصله أو لفرعه كذلك، ولو قال: وقفت على عتقاءي وذريتهم اختص بعتقائه وذريتهم كما في عرف مصر ولا يشمل عتقاء أصله وفرعه.

وقومه عصبته فقط. يعني أنه إذا قال: هذا وقف على قومي فإنما يتناول عصبته فقط دون النساء ومن لو رجلت عصبت قال عبد الحق عن بعض شيوخه: ينبغي الرجوع في ذلك للعرف وقد مر تعريف العصبة بأنها الأب وإن علا والابن وإن سفل والأخ شقيقا أو لأب وابنه وإن سفل والعم وإن بعد وبنو العم وإن بعدوا، قال الجوهري: القوم الرجال دون النساء لا واحد له من لفظه، قال زهير:

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

وقال تعالى {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} وربما دخلت النساء فيه على سبيل التبع، لأن قوم كل نبي رجال ونساء، وجمع القوم أقوام وجمع الجمع أقاويم، والقوم يذكر ويؤنث.

فرع: لو قال: وقف على أولاد ظهري أو أعمامي لم يدخل من أولادهم أحد. قاله الخرشي.

وطفل وصبي وصغير لمن لم يبلغ، يعني أنه إذا قال: وقف على أطفال أولادي مثلا، أو قال: هذا وقف على صبيان أولادي مثلا، أو قال: وقف على صغار بني عمرو، فإن ذلك يتناول من لم يبلغ ذكرا أو أنثى، وقوله: وطفل، مبتدأ وخبره لمن لم يبلغ فلا شيء للبالغ كما أنه لا شيء بعد

ص: 449

البلوغ لهؤلاء الذي أعطوا قبل البلوغ فتصرف الغلة إلى غيرهم بسبب بلوغهم، ويحتمل أن تكون اللام زائدة ويكون مدخولها وطفل عطفا على الذرية والحافد.

وشاب وحدث للأربعين، مبتدأ ومعطوف عليه والخبر محذوف واللام للغاية، يعني أنه إذا قال: هذا وقف على شاب قومي أو على شباب قومي أو على أحداثهم فإنه لا يدخل فيه إلا من بلغ ولم يجاوز الأربعين عاما، وسواء في ذلك الذكر والأنثى، وتقدير الخبر وشاب وحدث اسم لمن بلغ الحلم إلى الأربعين، وهل ينتهي بدخوله فيها أي في السنة المكملة للأربعين؟ وهو ظاهر المدونة أو بكمالها وهو ما لابن عرفة وابن الحاجب والبساطي وبه صرح ابن شعبان. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي: للأربعين أي لتمامها. وإلا فكهل، يعني فإن قال هذا وقف على كهول قومي أو على كهول قوم فلان مثلا فإنه يدخل فيه من جاوز الأربعين لأي إلى أن يبلغ الستين، ويجريي فيه ما سبق في الأربعين، قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: وتقرير المص وإلا أي وإن لم يقل طفلا وما في حكمه ولا شابا وما في حكمه فالمقول: كهل، بأن يقول: هذا وقف على كهول قومي فإنه يكون الوقف لمن جاوز الأربعين إلى أن يبلغ تمام الستين على ما مر، فينزع منه بعد تمام الستين ويصرف إلى غيره ممن يستحق ذلك. وإلا بأن زاد على الستين المتقدمة فهو شيخ، فإذا قال هذا وقف على شيوخ قومي مثلا، فإن الوقف يكون لمن جاوز الستين منهم إلى منتهى العمر. قال عبد الباقي: وما ذكره المص هنا مخصص لقوله الآتي ولم يخرج ساكن لغيره، وتبع في هذا التفصيل ابن شعبان، ولعله في عرف زمانه وإلا فهو مخالف للعرف الآن [واللغة (1)] ففي القاموس: الكهل من وخطه الشيب، وفيه: الشيخ والشيخة من استبان فيه السن أو من خمسين أو إحدى وخمسين إلى آخر عمره أو إلى الثمانين. اهـ. قال الرهوني: وتبعه أيضا ابن عرفة ولكنه زاد ما نصه: وأمر الوصايا والأحباس على المتعارف بين الناس.

وشمل الأنثى، يعني أن جميع ما تقدم من قوله: وطفل لخ يشمل الذكر والأنثى، وقوله: وشمل بكسر الميم وفتحها. كالأرمل، يعني أنه إذا قال: هذا وقف على الأرمل من قومي أو على أرامل

1 - في الأصل: وفي اللغة، والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 91.

ص: 450

قومي أو على الأرامل من بني فلان مثلا فإنه يشمل الذكر والأنثى، وإطلاق الأرمل على الأنثى استدل له بقول الشاعر:

.........................

فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر

والأرمل من لا زوج له، وينبغي أن يقيد الأرمل بالبالغ وهو ظاهر لأنه لا يقال ذلك إلا له، وسواء تقدم له زوج أم لا. قاله الخرشي. وقال التتائي: كالأرمل إذا وقف عليه فإنه يشمل الذكر والأثنى، قال الشارح لأن الأرمل من لا زوج له منهما، وقيل: هو المسكين من الذكور والإناث، وفي الجوهري: الأرمل الذي لا زوجة له والأرملة المرأة التي لا زوج لها.

والملك للواقف، يعني أن الملك لرقبة الوقف للواقف، الباجي: هو لازم تزكية حوائط الأحباس على ملك محبسها. انتهى. ويستثنى منه المساجد فإنه لا خلاف أن ملك المحبس قد ارتفع عنها أو المشهور ذلك. قاله الشبراخيتي. وقال الفيشي: قوله: والملك للواقف، يستثنى منه المساجد إما باتفاق أو بإجماع [أو (1)] على المشهور. اهـ. نقله الرهوني، والحاصل أن القرافي نقل الإجماع على أن المساجد ارتفع عنها الملك وهو خلاف ما في النوادر: أن المساجد باقية على ملك محبسها، وإذا لم يصح الإجماع فأقل أحواله أن يكون هو الراجح، مع أن المحققين كابن الشاط وغيره سلموا حكاية الإجماع، واعتمده أبو عبد الله المقري بخلاف أبي علي، ولم يأت أبو علي بدليل قاطع على ما أدعاه من أن الراجح مساواة المساجد لغيرها. انظر الرهوني. وقال الشبراخيتي: قال القرافي: واتفق العلماء على أن المساجد من باب الإسقاط كالعتق لاملك لأحد فيها لقوله تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} ، ولأنها تقام فيها الجمعات والجمعات لا تقام في المملوكات لا سيما على أصل مالك في أنها لا يصليها أرباب الحوانيت في حوانيتهم لأجل الملك والحجر، ولا يجري في المساجد القولان. اهـ. وقبله ابن الشاط، والذي في النوادر أن الخلاف جار في المساجد ولكن المشهور من باب الإسقاط. اهـ.

1 - ساقط من الأصل والمثبت من الرهوني ج 7 ص 169.

ص: 451

لا الغلة، يعني أن الذي للواقف إنما هو ملك الرقبة، وأما الغلة فإنها للموقوف له، قال ابن شأس: الوقوف عليه يملك الغلة والثمرة واللبن والصوف والوبر. اهـ. فله، أي فبسبب كون رقبة الحبس على ملك الواقف كان له أي للواقف إن كان حيا ولوارثه إن مات منع من يريد إصلاحه، قال عبد الباقي وغيره: ليلا يؤدي الإصلاح إلى تغيير معالم الوقف فإن لم يمنع الوارث فللإمام المنع. اهـ. قوله: ليلا يؤدي الإصلاح لخ، قال الرهوني: قال التاودي: هذا التعليل غير ظاهر لإمكان أن يقول مريد الإصلاح: لا أغَيِّره عن الوجه الذي كان عليه بل أرده كما كان أولا، والذي وجه به ابن عبد السلام المنع المذكور هو أن الحبس مملوك لمحبسه، وكل مملوك لشخص لا يجوز تصرف غيره فيه بغير إذنه بوجه، ابن عرفة: والجاري عندي في ذلك على أصل المذهب التفصيل، فإن كان خراب الحبس لحادث نزل به كوابل مطر أو شدة ريح أو صاعقة فالأمر كما قالوا، وإن كان بتوالي عدم إصلاح ما ينزل به من هدمه شيئا بعد شيء ومن عليه يستغل ما بقي منه في أثناء توالى الهدم كحال بعض أهل وقتنا من أيمة المساجد يأخذون غلته ويدَعون بناءه حتى يتوالى عليه الخراب الذي يذهب كل منفعته أو جلها فهذا الواجب قبول من تطوع بإصلاحه ولا مقال فيه لمحبسه ولا لوارثه، لأن مصلحه قام بأداء حق [عنه (1)] لعجزه عن أدائه أو لدده. اهـ. وقوله: فله أو لوارثه منع من يريد إصلاحه، قال عبد الباقي: وهذا إذا أصلحوه وإلا فليس لهم المنع ولغيرهم إصلاحه كما لابن عرفة. اهـ. قال الرهوني: الذي لابن عرفة تفصيل آخر غير ما ذكر، وأما تقييده بقوله وهذا إذا أصلحوه فنسَبه بعض المحشين للمشاور. اهـ. وقال الشبراخيتي: قال في التوضيح كابن عبد السلام: ويستحسن للواقف أو ورثته تمكين الأجنبي من البناء إذا كان وقفا على وجه من وجوه الخير وأراد الباني إلحاق ما يبنيه بالوقف لأنه من باب التعاون على الخير، وقال ابن عرفة: قلت الجاري على المذهب في ذلك التفصيل، فإن كان خراب المسجد إلى آخر ما مر، وقال التتائي عند قوله: فله أو لوارثه لخ، ما نصه: إن لم يمنع الواقف ولا الوارث فللإمام المنع لأنه حق لله تعالى والواقف إذا ترك حقه قام الإمام بحق الله.

1 - ساقطة من الأصل، والمثبت من الرهوني ج 7 ص 170.

ص: 452

اهـ. وبه تعلم أن قول الشيخ محمد بن الحسن على قول عبد الباقي: فإن لم يمنع الوارث فللإمام المنع ما نصه: انظر من قال هذا، والذي يظهر أن الإمام ليس له منع من أراد التبرع بإصلاح الوقف. انتهى. غير ظاهر والله سبحانه أعلم. وعلم مما قررت أن المراد بالملك للواقف إنما هو في شيء خاص، وقوله: ولوارثه أي ولورثته ما تناسلوا. قاله الخرشي.

ولا يفسخ كراؤه لزيادة، يعني أنَّ الحبس إذا صدرت إجارته بأجرة المثل ثم جاء شخص يزيد فيه فإن الإجارة لا تنفسخ لتلك الزيادة، فإن صدرت إجارته بدون أجرة المثل فإن الزيادة تقبل لمن أرادها كان حاضرا للإجارة الأولى أو غائبا، قال المشاور: إن أكرى ناظر الحبس ربع الحبس بعد النداء عليه والاستقصاء ثم جاءت الزيادة لم يكن له نقض الكراء إلا أن يثبت بالبينة أن في الكراء الأول غبنا على الحبس ولو ممن كان حاضرا، وكذا الوصي في كرائه ربع يتيمه وإجارته ثم يجد زيادة لم تنتقض الإجارة، انظر هذا مع ما تقدم عند قوله: وكراء وكيل بمحاباة أن للموكل أن يفسخ الكراء أو يجيز. قاله المواق. وقال الخرشي بعد نقله كلام المشاور ما نصه: يشبه ظاهر هذا النص أن إثبات كون الكراء الأول فيه غبن علي الثاني حيث وقع العقد أوّلًا بالنداء والاستقصاء، وعلى الأول أنه ليس فيه غبن حيث وقع من غير مناداة عليه ونحوه فيكون على الأول، والفرق واضح يظهر بأدنى تأمل. اهـ. قال: ويظهر منه أيضا أنه لا يجوز إجارته إلا بالنداء عليه واشتهاره والاستقصاء حتى تنتهي فيه الرغبات وهو ظاهر، لأن الناظر يجب عليه أن يفعل ما هو الأصلح لجهة الوقف، ولا شك أن هذا هو الأصل كوصي الأيتام ويعتبر كون الكراء كراء المثل وقت عقد الإجارة، فإن كان أقل من كراء المثل وقت العقد قبلت الزيادة ما لم يكن المستأجر يدفع الزيادة فهو أحق، وما لم يزد الآخر فيتزايدان لأنه حينئذ انحل العقد، وكلام المص فيما إذا كان الكراء وجيبة، وأما لو كان مشاهرة فيفسخ ولو وقع بأجرة المثل. والله تعالى أعلم. اهـ. وفي نقله أيضا أن القول قول الناظر في أنه أجر بأجرة المثل وعلى من ينازعه في أنه بدونها الإثبات، ونقل عن الأجهوري أنه قال: إن أشياخه أطبقوا على أن ناظر الوقف يجري فيه ما يجري في الوكيل حيث حابى وفات فإنه يرجع على الوكيل بالمحاباة. اهـ.

ص: 453

ولا يقسم إلا ماضٍ زمنه، يعني أن الوقف إذا كان على معينين وأولادهم فإن الناظر عليهم لا يقسم من غلته إلا ما مضى زمنها ووجبت، وأما إذا كانت الغلة عن منافع مستقبلة كسكنى أو زراعة ونحو ذلك فإنه لا يجوز له أن يقسم ذلك قبل وجوبه لأنه يؤدي إلى إحرام المولود والغائب وإعطاء من لا يستحق إذا مات، وأما إن كان الحبس على غير معينين كالفقراء والمساكين والغزاة فإنه يجوز للناظر القسم. قاله الخرشي. وقوله: ماض صفة لمحذوف، أي ولا يقسم إلا خراج ماض زمنه، وقال عبد الباقي مفسرا للمص: ولا يقسم غلة الوقف على قوم معينين وأولادهم إلا ماض زمنه، أي لا يقسم الناظر إلا غلة ما مضى زمنه كغلة سكنى وخراج أرض إذ لو قسم ذلك قبل وجوبه وقبل مضي الزمن لأدى إلى إحرام المولود وإعطاء من لا يستحق إذا مات، وأما إن كان الوقف على غير معينين كالفقراء والغزاة فيجوز للناظر كراؤه بالنقد أي بالتعجيل، والفرق الأمن فيه من إحرام من يستحق وإعطاء من لا يستحق لعدم لزوم تعميمهم انتهى. وقال عبد الباقي: واعلم أن نحو الإمام والمؤذن كالأجير له بحساب ما عمل سواء كان الوقف خراجيا أو هلاليا، وأما القراء فإن شرط عليهم أن الثواب يعني ثواب القراءة لمعين فهم كالأجراء وإلا فكالتدريس، فمن مات أو عزل قبل استحقاق الخراج وقبل طيب الثمر وحصاد الزرع فلا شيء له، ومن كان موجودا حين استحقاقه وقسمته استحق، ومن وجد حين الاستحقاق ولم يوجد حين القسم فهل يستحق أو لا؟ خلاف. هذا ما يفهم من كلام ابن عرفة، لكن الموافق لنقل المواق يعني في الأذان والونشريسي ومن وافقهما أنه لا يستحق المقرر إلا من وقت تقريره خراجيا كان مال الوقف أو هلاليا وبه أفتى بعض فضلاء المالكية والشافعية، وهو وجيه ليلا يكون عمل الأول بلا شيء وهو خلاف غرض الواقف وغاية ما تشبث به الأول أن التدريس إحسان وارتزاق في الأصل فينقطع بالموت والعزل، وجوابه أنه وإن كان في الأصل كذلك لكن صار العمل كالتدريس بالمحل المعين كالإجارة فلا يسقط أجر عمله ويلزم على ما لابن عرفة ومن تبعه أخذ المتولي وقد بقي من السنة شهر جميع معلومها بوصف عمل لم يعمل منه إلا يسيرا، وهذا يشبه أكل المال بالباطل. اهـ. وقوله: ومن وجد حين الاستحقاق ولم يوجد حين القسم لخ، هذا التفصيل كما يوخذ من كلام ابن عرفة في الحبس المعقب كفلان وعقبه وما في معناه نحو التدريس، ثم قال: وأما الحبس على

ص: 454

بني زهرة فلا يجب إلا بالقسم فمن مات قبله سقط حظه ومن ولد قبله ثبت حظه. اهـ. ومثله الفقراء فإن مات قبل الطيب في المعقب وقد تقدم له فيها نفقة فقال ابن يونس: يرجع الورثة عليهم بالأقل من نفقة الميت التي أنفق وما ينوبه من الثمرة، ولو أجيحت الثمرة لم يكن لورثته شيء. قاله بعض فقهائنا. اهـ. باختصار. انظر المواق. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. وقوله: ولكن الموافق لنقل المواق والونشريسي لخ، ما ذكره عن المواق صحيح نسبته إليه، لكن لم يذكره هنا بل ذكره في الأذان عند قوله وأجرة عليه أو مع صلاة، قاله الرهوني. وما ذكره عن الونشريسي هو مذكور له في المعيار من جوابي الإمامين الحفار وابن علال. قاله بناني. قال: ونقل في تكميل التقييد أن الفقيه الحافظ أبا محمد عبد الله الورياجيلي صرف عن تدريس المدرسة المصباحية بفاس، وقدم لذلك الفقيه المحصل أبو العباس أحمد الونشريسي يعني صاحب المعيار وكان بعد ما درس بها المعزول شهرين أو ثلاثة من تلك السنة ومرتب التدريس بها نوعان شهري وسنوي فتنازعا في السنوي منه، واحتج المعزول باستحقاقه إياه بالتمكين من منافع نفسه وهو كالاستيفاء لأنه أجير، واحتج الموَليَّ بأنه لا يستحق ولا يجب إلا بالطيب، فأفتى شيوخ فاس للمعزول وقُضِي له، وأفتى شيوخ تلمسان كالشيخ السنوسي وغيره للموَلَّى استنادا لما ذكره ابن عرفة. اهـ. وقال الرهوني: لم يستوف بناني كلام ابن غازي فإنه زاد بعد ذكره فتوى أهل تلمسان ما نصه: فأعطاهم فقهاء فاس الأذن الصماء وقضوا بحرمان المولَّى فكاد يموت غما، فحدثني أنه رفع بعد ذلك الأمر لموليه فأنفذ له جميع مرتب العام الذي ولاه فيه. اهـ. وقوله: ولا يقسم إلا ماض زمنه، اعلم أن هنا ثلاثة أقسام: الوقف على معين، والوقف على رجل وعقبه وما في حكمه، والوقف على الفقراء وما في حكمهم، فأما الحبس على معين فقال ابن عرفة: وفيما تجب به الثمرة لمن حبس عليه اضطراب، يعني إذا كان المحبس عليه معينا. قاله الحطاب. قال المواق: قال ابن عرفة: فيما تجب به الثمرة لمن حبس عليه اضطراب. قال ابن رشد: من مات منهم بعد الطيب فحظه لوارثه، ومن مات قبل الإبار لا شيء لوارثه اتفاقا فيهما، فإن مات أحدهم بعد الإبار وقبل الطيب فخامس الأقوال راجعه فيه. وقال ابن يونس في الحبس على رجل وعقبه: لو ولد لأحدهم بعد الإبار أو قبله كان حقه في الثمرة، وإن ولد بعد طيبها فلا شيء له من

ص: 455

ثمرة العام وله ذلك في المستقبل، قال ابن يونس: وإذا مات أحد المحبس عليهم قبل طيب الثمرة وقد تقدم له فيها نفقة إن لورثة الميت الرجوع بالنفقة لأن أصحابه انتفعوا بنفقته وهو قد مات قبل أن يجب له حق في الثمرة ويستأنى بها حتى تطيب الثمرة فيرجع الورثة عليهم بالأقل من نفقته التي أنفق وما ينوبه من الثمرة بعد محاسبتهم لورثته بما أنفقوا أيضا، ولو أجيحت الثمرة لم يكن لورثتهم شيء، قال بعض شيوخنا: إذا تقدمت لميت نفقة فعلى أصحابه غرمها معجلا لأنه كالاستحقاق إذا استحق الأصل أن عليه غرم السقاء والعلاج. ابن يونس: وهذا أبين إلا أن يشاءوا أن يبقوه على نصيب الميت في هذه الثمرة فلا تلزمهم نفقة ثم نقل ابن عرفة عن الباجي: لو كانت أرضا فحرثها من حبست عليهم وهم معينون ثم ماتوا خير ربها في إعطائه الوارث كراء الحرث أو يسلمها لهم بكرائها تلك السنة. اهـ.

قال مقيده عفا الله عنه: فتحصل من هذا أنه إن كان الحبس على معين ومات بعد الطيب فهي للوارث، وإن مات قبل الإبار فلا شيء للوارث اتفاقا فيهما، وأنه إن كان الحبس على رجل وعقبه ومات بعد الإبار وقبل الطيب فإن الوارث لا يستحق الثمرة على ما يفيد كلام ابن يونس أنه الراجح، لكن للوارث الرجوع بما تقدم لموروثه من النفقة فيستأني بالثمرة حتى تطيب فيرجع الوارث على المستحقين بالأقل من النفقة وما ينوب موروثهم من الثمرة على ما مر، ويرجع الورثة للموقوف عليه المعين بحرث الأرض إن مات موروثهم بعد حرثها، فيخيَّر رب الأرض بين أن يعطي لورثة المحبس عليهم كراء الحرث أو يسلمها لهم بكرائها تلك السنة، واعلم أن الحبس على رجل وعقبه في وجوبها أي الغلة بالطيب أو القسمة قولان لمالك وابن الماجشون، وحكى أكثر شيوخ المتأخرين إجماع المذهب على وجوبها بالطيب وذلك لا يصح، وفيها قول ثالث لأشهب أنها تجب بالإبار، وفي معنى الوقف على زيد وعقبه الوقف على التدريس، وأما الحبس على الفقراء ونحوهم كبني زهرة فلا يجب ذلك إلا بالقسم، فمن مات منهم قبل القسم سقط حظه ومن ولد قبل القسم ثبت حظه.

وأكرى ناظره إن كان على معين كالسنتين، يعني أن الوقف إذا كان على معين فإن الناظر عليه لا يجوز له أن يكريه أكثر من سنتين ونحوهما، فإن كان على قوم غير معينين كالفقراء فإنه

ص: 456

يجوز للناظر عليه أن يكريه أكثر من ذلك كأربعة أعوام ونحوها، وقرر غير واحد المص بأن المراد بالمعين الوقف على زيد وعقبه، فالمراد بالعين صورتان. قال المتيطي: يجوز كراء من حبس عليه رَبْعٌ من الأعيان والأعقاب لعامين لا أكثر في رواية ابن القاسم وبها القضاء، والحبس على غير معينين كالمرضى والمساكين أو مسجد أو قنطرة يجوز لمدة طويلة، واستحسن قضاة قرطبة كونه لأربعة أعوام خوف اندراسه بطول مكثه بيد مكتريه. اهـ. وقولي: إن المص شامل لصورتين، أما شموله لزيد وعقبه فصرح به غير واحد، وأما شموله لوقف على زيد وعمرو مثلا فنقله الخرشي عن القرافي، قال: قال القرافي في شرحه لهذا المحل: المراد بالمعينين من عينهم الواقف بأسمائهم أو بالإشارة، كقوله: داري وقف على زيد وعمرو لخ، وقوله: وأكرى ناظره إن كان على معين كالسنتين، قال في التوضيح: وساقه كأنه المذهب إذا أكرى مستحق الوقف بالنقد لم يجز إلا السنةَ والسنتين، وجزم الحطاب بأنه لا يجوز النقد وأحال على النوادر فانظره وهو ظاهر الجواهر، ولكن هذا لا يعادل الأول. قاله الرهوني. وقال: وإذا قلنا: يجوز الكراء بالنقد فلا يستحق المحبس عليه منه إلا ما مضى زمنه فلو أخر المص قوله: ولا يقسم إلَّا ماض زمنه عن هذا لكان أحسن اهـ وقوله كالسنتين فإن وقع الكراء في السنين الكثيرة فعثر على ذلك وقد مضى بعضها فإن كان الذي بقي يسيرًا لم يفسخ وإن كان كثيرا فسخ على ما قاله في كتاب محمد. قاله الحطاب. قال: ولم يبين حد اليسير، والظاهر أنه كالشهر والشهرين كما في مسألة كراء الوصي ربع الصغير ثم تبين رشده ابن رشد: وذكر البرزلي في مسائل الحبس عن نوازل ابن رشد في حبس على بني فلان أكرى أحدهم نصيبه خمسين عاما، فأجاب: إن وقع الكراء لهذه المدة على النقد فسخ وفي جوازه على غير النقد قولان، الصحيح منهما عندي المنع وهذا فيما ينفسخ فيه الكراء بموت الكري كمسألتك، وأما الحبس على المساجد والمساكين وشبهها فلا يكريها الناظر لأكثر من أربعة أعوام إن كانت أرضا أو أكثر من عام إن كانت دارا وهو عمل الناس ومضى عليه عمل القضاة، فإن أكرى أكثر من ذلك مضى إن كان نظرا على مذهب ابن القاسم وروايته ولا يفسخ. اهـ. وقال في الشامل: وجاز كراء بقعة من أرض محبسة على غير معين أربعين سنة لتبنى دارا بعد أن بذل مكتريها فيها عوضا خارجا عن العادة في الكثرة. اهـ. وقال عبد الباقي عند

ص: 457

قوله: كالسنتين والثلاث لا أكثر، فإن كان على الفقراء وشبههم فيكون أربعة أعوام لا أكثر إن كانت أرضا ولا أكثر من عام إن كانت دارا وهو عمل الناس ومضى عليه عمل القضاة، فإن كان أكثر من ذلك مضى إن كان نظرا على مذهب ابن القاسم وروايته ولا يفسخ، والمراد بالناظر في كلام المص هو الموقوف عليه، وأما غيره فيجوز له أن يكري أكثر من ذلك لأن بموته لا تفسخ الإجارة بخلاف مستحق الوقف كما مر، وقال الشارح عن ابن رشد: يجوز كراء الأمد القريب بغير النقد اتفاقا، ولا يجوز في البعيد بالنقد، ويختلف هل يجوز في البعيد بغير النقد وبالنقد في القريب على قولين؟ اهـ. وقد مر أن الدار لا تكرى أكثر من عام إن كانت حبسا على الفقراء وشبههم، ومحل ذلك حيث لم تدع ضرورة إلى أكثر من ذلك وإلَّا جازَ، ففي البرزلي: وقعت مسألة بالقيروان في حائط حبس للفقراء انهدمت فأكراها قاضي الجماعة إلى سنين كثيرة بما تبنى به ورءاه خيرا من تفويتها بالبيع. اهـ. وهذا هو المعتمد. قاله عبد الباقي.

ولمن مرجعها له كالعشر، علم من هذا أن قوله: وأكرى ناظره، معناه إن أكراه لغير من مرجعه له، وأما إن أكراه لمن مرجعه له فهو قوله: ولمن مرجعه، وصورة المص أنه إذا قال: هذه الدار حبس على زيد مثلا ثم لعمرو فإنه يجوز لزيد أن يكريها لعمرو عشرة أعوام، وسواء كان رجوعها لعمرو بتحبيس عليه أو ملك. قاله الخرشي، ونحوه لعبد الباقي، وهذا إن لم يشترط الواقف مدة وإلا عمل عليها، أي في قوله: كالسنتين، وفي قوله: كالعشر، كما في الخرشي وعبد الباقي.

وإن بنى محبَّس عليه فإن مات ولم يبين فهو وقف، يعني أن من حبس عليه بالشخص كزيد أو بالوصف كالإمامة فبنى المحبس عليه في المحل الموقوف بناءً فمات الوقوف عليه الباني فإن كان قد بيَّن أنه وقف فهو وقف، وإن قال: إنه ملك فهو ملك، وإن لم يبين هل هو وقف أو ملك فهو وقف ولا شيء لورثته قل أو كثر، ولا يقال: إنه لم يحز لأن المحبس عليه إنما بنى للواقف بملكه، والظاهر أن الغرس كالبناء، فإذا قال: هو ملك فليس له إلا النقض، وإن بنى غير المحبس عليه فله النقض أو قيمته منقوضا إن كان في الحبس ما يدفع منه ذلك، وقوله: وإن بنى محبس عليه لخ، هذا حكمه بعد الوقوع، وأما ابتداء فينبغي أن لا يجوز. قاله الخرشي. ونحوه لعبد الباقي. وقال: إن محل كون الأجنبي له النقض أو قيمته حيث لم يحتج له الوقف وإلا وفي

ص: 458

من غلته، وقال: وعلم مما قررنا أن إصلاح بيت إمام على الوقف لا عليه، ولا ينافيه قوله: وأخرج الساكن الموقوف عليه لخ، لحمله على ما إذا لم يوجد في الوقف ريع يبنى منه. اهـ. وقال بناني: فإن بين أنه غير وقف فالذي يظهر أنه كبناء الأجنبي فليس له إلا قيمته منقوضا أو الأنقاض. انتهى. وقال التتائي: وإن بنى محبس عليه في الحبس أو أصلح بخشب أو غيره فإن مات ولم يبين كونه وقفا أو ملكا فهو وقف قل أو كثر وهو لمالك في المدونة ولا شيء لورثته فيه، وإن بين أنه له فهو له ويورث عنه، وقال المغيرة: إن كان يسيرا كميزاب ونحوه فهو وقف وإلا فلا. التونسي: وهو الصواب. اهـ. وقال الشبراخيتي: وظاهر كلام المص أن البيان يكفي ولو تأخر عن البناء.

وعلى من لا يحاط بهم، يعني أن الحبس إذا كان على قوم لا يحاط بهم كالفقراء والمساكين والمجاهدين وما أشبه ذلك فإن المولَّى على ذلك يفرق غلته على من حضر من الفقراء والمساكين مثلا، ويفضل أهل الحاجة على غيرهم، ويفضل أهل العيال في الغلة وفي السكنى باجتهاده، لأن قصد الواقف الإرفاق والإحسان إلى الموقوف عليهم وسد خلتهم، فقوله: وعلى متعلق بشرط مقدر تقديره وإن وقف على من لا يحاط بهم. أو على قوم وأعقابهم، يعني أن الوقف إذا كان على قوم وأعقابهم فإن الموَلّى يفضل أهل الحاجة على غيرهم وأهل العيال على غيرهم في الغلة وفي السكنى باجتهاده، فإن استووا في الفقر والغنى فإنه يؤثر الأقرب على غيره أو على كولده ولم يعينهم، يعني أنه إذا وقف على ولده ولم يعينهم، بل وقف على ولده وولد ولده أو على إخوته وأولادهم ولم يعينهم أو على أعمامه وأولادهم ولم يعينهم فإن المولَّى يفضل أهل الحاجة والعيال على غيرهم في الغلة والسكنى باجتهاده، وعلم مما قررت أن قوله: فضل المُوَلى أهل الحاجة والعيال في غلة وسكنى. جواب الشرط المقدر قبل قوله: على من لايحاط بهم، فهو راجع للمسائل الثلاث، وظاهر المص أن ذا العيال يفضل وإن لم يكن ذا حاجةٍ لأنه مظنة الاحتياج، قاله كريم الدين، وهو مخالف لمقتضى الشارح من أن الغنيَّ ذا العيال لا يعطى. قاله عبد الباقي. وقوله: فضل المولى لخ، هذا هو المشهور، وفي المدونة فضل الأعلى، فإن كان فضل أعطى الأسفل، وسوى بينهم المغيرة وغيره، قال ابن رشد: وعليه العمل ورجحه اللخمي، والقولان الأخيران في المعقب

ص: 459

فقط، أما من لا يحاط بهم فيقسم بالاجتهاد اتفاقا، وفهم من المص أنه لو عين كولدي زيد وعمرو وزينب سوّى بين الفقير والغني والذكر والأنثى والحاضر والغائب، وقوله: أهل الحاجة ولا يعطى للأغنياء إلا أن يفضل عنهم شيء فإن استووا في الفقر والغنى ولم يسعهم أكري ذلك عليهم وقسم الكراء بينهم سواء إلا أن يرضى أحدهم أن يكوِن عليه ما يصير لأصحابه من الكراء فله ذلك. انظر الخرشي. وقال عبد الباقي: فإن تساووا فقرًا وغنى أوثر الأقرب وأعطي الفضل لمن يليه، وإذا اختلفوا أوثر الفقير الأبعد، وهذا إذا كان عدد المحبس عليه لا يحصى ولا يفضل عن فقرائهم شيء، فإن فضل عنهم شيء أعطيَ للأغنياء كما في الشارح، والواو في قوله: ولا يفضل عن فقرائهم بمعنى أو، وقوله: فإن تساووا فقرا وغنى أوثر الأقرب، فإن تساووا فقرا وغنى ولم يكن أقرب ولم يسعهم أكري عليهم، وقسم كراؤه بالسواء إلا أن يرضى أحدهم بما يصير لأصحابه من الكراء ويسكن فيها فله ذلك كما في الحطاب، ثم هذا التفصيل كله لا يتصور في الوقف على الفقراء أو على قوم وأعقابهم، وإنما يتصور في الوقف على محصورين. اهـ. قوله: ثم هذا التفصيل كله لا يتصور في المحصورين لخ، وفي بعض نسخ هذا الشرح: إنما يتصور في الوقف على محصورين، وكل ذلك فيه نظر، والظاهر أن التفصيل المذكور يتصور في كل من المحصورين ومن لا يحاط بهم كطلبة العلم وبني زهرة مثلا فتأمل.

مسألة: أفتى ابن رشد فيمن حبس رحى على ابنيه وعقبيهما بالسواء فمات الابنان وتركا عقبا كثيرا بأنه يقسم على عدد الأعقاب وإن كان عقب أحدهما أكثر من عقب الآخر بالسواء إن استوت حاجتهم، وإلا فضل ذو الحاجة على غيره بالاجتهاد على قدر العيال، ولا يبقى بيد كل واحد ما كان بيد أبيه، نقله الحطاب، وقال الحطاب: قال في النوادر: ومن المجموعة: من حبس على قوم وأعقابهم إن ذلك كالصدقة لا يعطى الغني منها شيئا ويعطى المسدد بقدر حاله، فإن كان للاغنياء أولاد فقراء وقد بلغوا أعطوا بقدر حاجتهم. الباجي: يريد بالمسدد الذي له كفاية وربما ضاق حاله لكثرة عياله. اهـ. وفهم من قوله: ولم يعينهم أنه لو عينهم أنه يسوى بينهم وهو كذلك. اهـ. وقال عبد الباقي: وما ذكره المص من اعتبار الحاجة في الوقف على قوم

ص: 460

وأعقابهم أو على كولده ومثله على زيد وعمرو الفقيرين إنما هو في الابتداء لا في الدوام، ولهذا قال:

ولم يخرج ساكنٌ لغيره، يعني أن من سكن في الحبس بوصف استحقاق الأحوجية ثم استغنى فإنه لا يخرج من الحبس لأجل أن يسكن غيره ولو كان غيره محتاجا ولو لم يكن في الربع سعة، لأنه سكن بحق فلا يخرج إلا برضاه، قال مالك في المدونة: من حبس دارا على ولده فسكنها بعضهم ولم يجد بعضهم فيها سكنا، فقال الذي لم يجد: أعطوني من الكراء بحسب حقي فلا كراء له ولا أرى أن يخرج أحد لأحد، ولكن من مات أو غاب غيبة يريد المقام بالموضع الذي انتقل إليه استحقه الحاضر مكانه، وأما إن أراد السفر إلى موضع ثم يرجع فهو على حقه. انتهى. وإذا كان على حقه يكريه إلى أن يعود. قاله الخرشي. وقوله: ولم يخرج ساكن لغيره، قال الخرشي: هذا إذا كان على معينين محصورين وإلا وجب إخراج من زال منه ذلك كالوقف على الفقراء أو طلبة العلم مثلا، فإذا زال الفقر أو ترك التعلم أخرج. اهـ. وقال أيضا: كلام المؤلف فيما إذا عين الموقوف عليه بأن قال ويسكن فلان وفلان الفقيران مثلا، وأما لو قال: على الفقراء أو طلبة العلم فمن زال منه هذا الوصف أخرج. انتهى. وقال عبد الباقي: ولم يخرج ساكن بوصف استحقاق الأحوجية ثم استغنى لغيره ولو محتاجا لأن العبرة بالاحتياج في الابتداء لا في الدوام، فإن سبق غير الأحوج وسكن أخرج، فإن تساووا في الحاجة فمن سبق بالسكنى فهو أحق والغلة كالسكنى، وأما الوقف على الفقراء أو الشباب أو الأحداث فإن من زال وصفه بعد سكناه به يخرج ولو كان وصف الشباب من قوم بأعيانهم، والفرق بينهم وبين الوقف على قوم وأعقابهم أو على كولده أو على زيد وعمرو الفقيرين إذا سكن كل بوصف الأحوجية لا يخرج لغيره كما قال المص أن وصف الشبوبية لا يمكن عوده بعد زواله ووصف الفقر في الوقف على الفقراء قد انتفى فاستحق السكنى غيره، بخلاف وصف الفقر في معينين فإنه يمكن عوده بعد زواله اهـ وقال بناني عند قوله: ولم يخرج ساكن لغيره ما نصه: ظاهر المص أن هذا مُفرعٌ على المسائل الثلاث قبله، واعترضه مصطفى بأنه لا يتأتى تفريعه على من لا يحاط بهم لتصريح ابن رشد بأن من استحق مسكنا من حبس على الفقراء لفقره أخرج منه إن استغنى، قال: وإنما هو مفروض في كلام الأئمة

ص: 461

في المجموعة وابن رشد وابن شأس وابن الحاجب وغيرهم في الحبس المعقب. اهـ. وفيه نظر، بل التفريع على الثلاث كما فعل المص صواب، لأن الحبس على من لا يحاط بهم كالمدرسة على طلبة العلم وكالحبس على بني زهرة مثلا إذا فضل المتولي أهل الحاجة منهم بالسكنى فلا يخرج لغيره وإن استغنى مثل المعقب كما يدل عليه كلام ابن رشد وغيره، وما تقدم عن ابن رشد من أنه يخرج لغيره إنما محله إذا زال الوصف الذي قصده المحبس كالفقر في الحبس على الفقراء وكطلب العلم في التحبيس على الطلبة. فتأمله. والله أعلم. اهـ. وقال التتائي: ولم يخرج ساكن سكن بوصف استحقاق فقره ثم استغنى لغيره ممن هو محتاج، وقيده ابن شأس بما إذا لم يكن في الدار سعة، وأما لو بادر بعضهم وسكن فليس له ذلك بابتداره، ولكن ينظر الإمام أحوجهم وأقربهم. قاله ابن كنانة فإن تساووا في الغنى والحاجة فمن سبق فهو أحق. اهـ. وقال الشبراخيتي: فإن بادر من ليس متصفا بوصف الاستحقاق فإنه يخرج، فإن تساووا في الحاجة فمن سبق منهم فهو أحق بالسكنى، ولا يخرج منها، وهذا إن كان الوقف على معين أو مجهول محصور كزيد وعقبه، كما يفيده كلام الحطاب، وأما لو كان على الفقراء مثلا أو طلبة العلم وسكن واحد منهم لقيام الوصف به ثم زال فإنه يخرج، وأما الوقف على الشباب أو الأحداث ونحوهما فليس من الوقف على معين، وهذا واضح إن لم يقل على الشباب من أولاد فلان مثلا وإلا فهو من الوقف على معين مع أنه يخرج لزوال هذا الوصف، والمخلص أن الوصف بشباب ونحوه ليس كالوصف بالفقر، لأن وصف الشباب أو نحوه لَمَّا كان أمرا لازما للذوات كان زواله مؤثرا مطلقا لأنه لا يمكن عوده، بخلاف الوصف بالفقر فلا يؤثر زواله. اهـ. أي في المعين. والله سبحانه أعلم. وقال الحطاب: قال الفاكهاني في شرح قوله في الرسالة: ومن سكن فلا يخرج لغيره ما نصه: إلا أن يرى الناظر إخراجه وإسكان غيره مصلحة للحبس فله ذلك لا سيما إن خاف من سكناه ضررا ولمثل هذا جعل الناظر. اهـ. من شرح زروق. وهو ظاهر فتأمله. والله أعلم. وقال المواق: ولو كان الحبس على معينين مسمين لم يستحق السكنى من سبق إليه وهم فيه بالسوية حاضرهم وغائبهم. قاله ابن القاسم. محمد: وغنيهم وفقيرهم سواء.

ص: 462

إلا بشرط هو مستثنى من قوله ولم يخرج ساكن لغيره، يعني أن الواقف إذا شرط في وقفه أن من استغنى يخرج لغيره فإنه يعمل بشرطه، فإذا سكن بوصف استحقاق الأحوجية فاستغنى وقد شرط الواقف أن من استغنى يخرج فإنه يخرج ويسكن غيره ممن هو غير غني عملا بشرط الواقف. قاله غير واحد.

أو سفر انقطاع، يعني أن من سكن بوصف الأحوجية ثم سافر سفر انقطاع وإقامة فإنه يسقط حقه من السكنى ويسكن غيره مكانه، قاله التتائي. وأما إن سافر ليعود كسفره لبعض ما يعرض للناس فإن حقه باق. قال الباجي وغيره: ويكريه إلى أن يعود. اهـ. وقال الحطاب: وفي رسم أدرك من سماع ابن القاسم: من استحق مسكنًا من حبس على العقب وهو غني لانقطاع غيبة المحتاج ثم قدم فإنه لا يخرج لأنه لم يدخل عليه ولكنه سكن بها حيث لم يكن أحد أولى بها منه، وروى الباجي: إن سافر مستحق السكنى لبعض ما يعرض للناس كان له كراء مسكنه إلى أن يعود، ولو انتقل إليه أحد من أهل الحبس رد لمنزله وأخرج منه من دخل فيه. اهـ. وقال المواق: وأما إن أراد السفر إلى موضع ثم يرجع فهو على حقه، قال في كتاب محمد: وله أن يكري منزله إلى أن يرجع. اهـ وقال الخرشي: واحترز عما إذا سافر لبعض حوائجه فإنه باق على حقه في السكنى بل له أن يكري مسكنه إلى أن يرجع، ولو انتقل إليه أحد من أهل الحبس رد لمنزله، ويقوم من عدم سقوط من سافر لا بنية الانقطاع أن من قام من موضعه في المسجد للصف الأول أو غيره لتجديد وضوء أو لعذر ما على أنه يئوب إليه أنه أحق كما في العتبية. انظر أبا الحسن. قوله: أو سفر انقطاع أي ولو كان قريبا. اهـ. وقال الشبراخيتي: وأما إن سافر ليعود كسفره لبعض ما يعرض للإنسان فإن حقه باق. قال الباجي: ويكريه إلى أن يعود. وقال عبد الباقي: فإن سافر ليعود لم يسقط حقه وله حبس مفاتحه لا كراؤه لأنه مالك انتفاع. وقال الباجي وغيره: يكريه إلى أن يعود. وفي حمل سفره عند جهل حاله على الانقطاع أو على الرجوع قولان، وظاهر ابن عرفة ترجيح الثاني.

أو بعيد، يعني أن الساكن في الحبس بحقه إذا سافر سفرا بعيدا فإن ذلك السفر يسقط حقه من السكنى ولغيره أن يسكن مكانه، والسفر البعيد هو الذي يحمل صاحبه على الانقطاع كالهند

ص: 463

مثلا. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: يغلب على الظن عدم عوده منه. فائدة: قال في التوضيح: من كان يسكن من أهل الحبس مع أبيه فبلغ فإن كان قويا يمكنه الانفراد فله مسكنه من الحبس وإن لم يتزوج إذا ضاق عليه مسكن أبيه، وإن ضعف عن الانفراد فلا مسكن له إلا أن يتزوج فله حقه في السكنى، والإناث لا مسكن لهن لأنهن في كفالة الأب.

مسألة: وفي المتيطية: وإذا باع المحبس عليه الحبس وهو عالم به فإنه يعاقب بالأدب والسجن عند ثبوت الحبس وثبوت البيع إذا لم يكن في بيعه عذر يعذر به، ويرجع المبتاع عليه فيستوفي منه الثمن، فإن كان مُعدما وثبت عدمه وحلف بما يجب عليه الحلف به فللمبتاع استغلال الحبس حياة المحبس عليه حتى يستوفي ثمنه، فترجع إليه غلته عام فعام، فإن استوفى ثمنه رجعت الغلة إلى البائع، وإن مات قبل أن يستوفي ثمنه رجع الحبس إلى المرجع المذكور ولم يكن للمبتاع من الغلة بعد موت البائع شيء ولا رجوع له على من رجع إليه الحبس بشيء، وإنما يرجع على مال البائع منه إن كان له مال وإلا فهي مصيبة نزلت به. اهـ. من التبصرة.

ص: 464

‌باب: في الهبة والصدقة

قال في التوضيح: الهبة مصدر، الجوهري: وهبت له شيئا وهْبا ووهَبا محركة وهبة، والاسم الموهِب والموهِبة بكسر الهاء فيهما والاتهاب قبول الهبة، والاستيهاب سؤال الهبة، وتواهب القوم إذا وهب بعضهم لبعض، ورجل وهاب ووهابة أي كثير الهبة، والهاء للمبالغة. صاحب المحكم: ولا يقال: وهبكه، هذا قول سيبويه، وذكر السيرافي عن أبي عمرو أنه سمع أعرابيا يقول لآخر: انطلق معي أهبك نيلا. اللخمي: وغيره وهو نقل الملك بغير عوض، وأحكام الهبة والصدقة متفقة إلا في أمرين، أولهما: منع الاعتصار في الصدقة، وثانيهما: كراهة اشترائها وقبولها بخلاف الهبة فيهما، إلا أن تكون الصدقة على الابن فعن مالك في ذلك ثلاث روايات، أولها: أن الرجوع فيها لا يجوز إلا من ضرورة مثل أن تكون أمة فتتبعها نفسه ويحتاج فيأخذ لحاجة، وهو ظاهر ما في المدونة.

وثانيها: أن الرجوع فيها بالبيع والهبة يجوز وإن لم تكن ضرورة ولا يجوز الاعتصار.

ثالثها: أن الرجوع فيها والهبة يجوز وأن الاعتصار يكون له وهو قول مالك في سماع عيسى، لأنه أجاز أن يأكل ما تصدق به على ابنه الصغير، وذلك لا يكون إلا على معنى الاعتصار. اهـ. وقال الشبراخيتي: باب ذكر فيه الهبة وما يتعلق بها، وحكمها من حيث ذاتها الندب، وهي لغة مصدر محذوف الأول الذي هو فاء الكلمة معوض عنها هاء التانيث التي في الآخر، ومعناه إيصال ما ينتفع به مالا أو غيره، واصطلاحا قال الحطاب: ابن عرفة: العطية التي الهبة أحد أنواعها تمليك متمول بغير عوض إنشاء، فيخرج الإنكاح والحكم لوارث باستحقاق إرثه، ودخلت العارية والحبس والعمرى والصدقة، فقوله: تمليك متمول من إضافة المصدر لمفعوله، ويخرج بقوله: متمول الكلب غير المأذون في اتخاذه: والمتمول يشمل الذات والمنفعة، ويخرج بقوله: بغير عوض، الإنكاح ويخرج بقوله: إنشاء الحكم للوارث باستحقاق إرثه، ولو استغنى بقوله تمليك عن قوله: إنشاء لكفاه، وفي الذخيرة: وضعت العرب لأنواع الإرفاق أسماء مختلفة، فالعارية لتمليك النافع بغير عوض وبعوض هو الإجارة، والرقبى إعطاء المنفعة لمدة أقصرهما عمرًا لأن كل واحد منهما يرقب صاحبه، والعمرى تمليك المنفعة مدة عمره، والعمر بضم العين وفتحها البقاء فهي أخص من العارية، والإفقار عارية الظهر للركوب مأخوذ من فقار الظهر، وهي عظام سلسلته، والإسكان

ص: 465

هبة منافع الدار مدة من الزمان، والمنحة هبة لبن الشاة، والعرية هبة ثمر النخل، والوصية تمليك بعد الموت، والنفع والعطاء يعم جميع ذلك. اهـ. وقال الخرشي: باب ذكر فيه أحكام الهبة والصدقة والعمرى، وحكمها أي الهبة الندب لذاتها، قال ابن عبد السلام ويستحب كون الصدقة من أنفس ماله وكونها في الأقارب. اهـ. والمناسبة بينها وبين الوقف ظاهرة وهي المعروف والخير ونفي العوضية، وأما هبة الثواب فكالبيع، ولذا ذكرها آخر الباب كالتبع. اهـ. وعرف ابن عرفة العطية التي الهبة أحد أنواعها بقوله: تمليك متمول لخ، وعرف الصدقة رحمه الله تعالى بقوله: تمليك ذي منفعة لوجه الله، وعرف الهبة لا للثواب بقوله: تمليك ذي منفعة لوجه المعطَى، وأخرج بقوله: ذي منفعة العاريةَ ونحوها، وقوله: لوجه المعطَى، أخرج به الصدقة فإنها لوجه الله تعالى فقط، أو لإرادة ثواب الآخرة مع وجه المعطَى. قاله الخرشي. وعرف المص الهبة بقوله: الهبة تمليك بلا عوض: يعني أن الهبة بالمعنى المصدري تمليك للموهوب له بلا عوض، وهذا التعريف بحسب ظاهره أعم من العطية التي الهبة أحد أنواعها لصدقه بتمليك الإنكاح والطلاق وتمليك المنافع، ولهذا قال الخرشي: في الكلام حذف تقديره والهبة لا لثواب تمليك بلا عوض لوجه المعطى. اهـ. وقال المص في الصدقة: ولثواب الآخرة صدقة، يعني أن العطية لثواب الآخرة هي الصدقة، فالتقدير والعطية لثواب الآخرة صدقة، كما قال عبد الباقي وغيره، أو تمليك. والله سبحانه أعلم. ابن عرفة: الأكثر أن الهبة إذا أريد بها وجه المعطَى وثواب الآخرة صدقة، ومقابل الأكثر مطرف القائل إن الهبة لوجه المعطَى مع ثواب الآخرة ليست بصدقة. والله تعالى أعلم. وقال الشيخ محمد بن الحسن: نص ابن رشد واللخمي على أن الهبة مندوبة، وحكى ابن رشد عليه الإجماع، وقد قيل: لا ثواب فيها، ومن لازم المندوب الثواب، والظاهر أن المهدي إذا قصد الرياء والإجماع فلا ثواب له، وإن قصد التودد للمعطَى غافلا عن حديث (توادوا تحابوا (1)) فكذلك، وإن استحضر ذلك فإنه يثاب. قاله بعض الشيوخ. انتهى كلام البناني. وقوله عن ابن رشد: أنه نص على أن الهبة مندوبة، وأنه حكى الإجماع على الندب، غير مستقيم على نقل الرهوني

1 - انظر الرهوني، ج 7، ص:173.

ص: 466

عنه، وذلك أنه نقل عن ابن رشد الإجماع على جواز الهبة، ثم قال: وقد يُدَعَى أنه معارض لقول اللخمي: إنها مندوبة، لكن يتعين حملها على أنها مأذون فيها لا الجائز الذي استوى طرفاه لأنه قرنها بالصدقة، وباستدلاله على ذلك بالآية والأحاديث، ولما نقل كلام ابن رشد، قال: وتأمل ذلك كله مع قول البناني: نص ابن رشد واللخمي على أن الهبة مندوبة. اهـ. وقوله: قاله بعض الشيوخ، الذي قال هذا القول هو أبو علي، فإنه قال: قد رأيت أن الهبة مندوب إليها في كلام اللخمي، وفي كلام ابن رشد لا ثواب فيها في الدنيا ولا في الآخرة كما رأيته، ومن لازم المندوب أن فاعله يثاب عليه إلى آخر كلامه. قال الرهوني: من تأمل وأنصف ظهر له أنه لا تعارض بين كلامي اللخمي وابن رشد، لأن ابن رشد قال: إذا أراد بهبته وجه الله تعالى وابتغى عليه الثواب من عنده فله ذلك بفضله ورحمته، وإن أراد بهبته وجوه الناس ليحمدوه عليه ويثنوا عليه من أجلها فلا منفعة له في هبته لا ثواب في الدنيا ولا أجر في الآخرة، فأنت تراه إنما نفى الأجر فيما قصد به وجوه الناس رياء لا فيما قصد به وجه المعطَى. اهـ المراد منه. وقد أطال في ذلك. والله سبحانه أعلم.

فائدة: ورد في الحديث (داووا مرضاكم بالصدقة (1)) سئل ابن رشد عن هذا الحديث ومعناه؟

فأجاب: بأني لست أذكره في نص من المصنفات الصحيحة ولو صح فمعناه الحث على عيادة المرضى لأن ذلك من المعروف، و (كل معروف صدقة (2)) فيحصل له السرور والدعاء، ولا شك في رجاء الإجابة له والشفاء فينفعه في الدواء. قال البرزلي: وحمله بعض شيوخنا على ظاهره وأنه إذا تصدق عنه ويطلب له الدعاء من المتصدق عليه يرجى له الشفاء، والحديث أخرجه الطبراني والبيهقي، وفي حديث (الصدقة تسد سبعين بابا من السوء (3)). انظر الحطاب. الرهوني: الحديث ذكره في الجامع الصغير ونسبه لأبي الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب عن أبي أمامة. والديلمي في مسند الفردوس عن ابن عمر. وزاد في رواية ابن عمر: (فإنها تذهب عنكم الأمراض والأعراض).

1 - البيهقى، ج 3، ص:382. الطبراني، رقم الحديث 1963.

2 -

البخاري، كتاب الأدب، رقم الحديث 6021.

3 -

الجامع الصغير، رقم الحديث 5142 والإتحاف، ج 4 ص 467.

ص: 467

وقال المناوي في شرحه: رواه الطبراني وغيره بإسناد جيد. نقله الرهوني، وذكر شرح الشيخ المناوي للحديث المذكور، وقال الرهوني عقبه: وهو نص في أنه حمله على ظاهره خلاف ما فهمه منه أبو الوليد بن رشد، وظاهر في أنه لا يتوقف على طلب الدعاء من المتصدق عليه ووقوعه خلافا لا نقله البرزلي عن بعض شيوخه فتأمله. والله أعلم.

تنبيه: اختلف فيمن وهب لرجل هبة أو تصدق عليه على أن لا يبيع ولا يهب مثلا على خمسة أقوال، الأول: أن الصدقة أو الهبة لا تجوز إلا أن يشاء الواهب أن يبطل الشرط فإن مات أحدهما بطلت الثاني: أن الواهب مخير بين أن يترك شرطه ويسترد هبته وورثته بعده ما لم ينتقض أمره بموت الموهوب، والفرق بين هذين القولين أن القول الأول على الرد حتى يمضيها صاحبها بترك الشرط، والثاني على الإجازة حتى ترد، فإذا مات الموهوب له وهي في يده قبل أن يجيزها الواهب أو ورثته بترك الشرط بطلت على القول الأول دون الثاني فإنه يخير بين أن يستردّ هبته أو يترك الشرط وورثته بعده ما لم ينقض أمره لموت الموهوب له فيكون ميراثا عنه. قاله الرهوني. القول الثالث: أن الشرط باطل والهبة جائرْة. الرابع: أن الشرط عامل والهبة ماضية لازمة فتكون الصدقة بيد المتصدق عليه كالحبس لا يبيع ولا يهب حتى يموت، فإذا مات ورث عنه على سبيل الميراث وهو قول عيسى بن دينار في هذه الرواية، وقول مطرف في الواضحة وهو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب لأن الرجل له أن يفعل في ملكه ما يشاء. الخامس: أن يكون ذلك حبسا فإذا مات المتصدق عليه أو الموهوب له يرجع إلى المتصدق أو ورثته أو أقرب الناس إليه على اختلاف قول مالك. اهـ. ولما ذكر ابن ناجي القول الذي قال فيه ابن رشد إنه أظهر الأقوال، لخ قال عقبه ما نصه. قلت: ولم يحفظه اللخمي فاختاره من رأيه. اهـ. والله سبحانه أعلم. وقال بعض الشيوخ: من أخذ مالا ليغزو به فلم يغز به يرده، وكذا ابن السبيل إذا دفع له مال ليتحمل به فلم يسافر فإنه يرده، ومن دفع له مال ليقرأ فلم يفعل فإنه يرده وحكى الفقيه التادلي أنه وقعت له هذه الحكاية دفع له أبوه مالا ليقرأ عليه فلم يفعل فرأى أن غرض أبيه لم يحصل فردّ له المال، وأخبر أنه لم يبلغ من القراءة غرضه، فأتى أبوه إلى بعض الصالحين فشكا له أمره فدعا له، وقال: اللهم افتح له المدونة كما فتحت لسحنون. قال المشدالي: والصالح الذي

ص: 468

دعا له ذكر بعضهم أنه أبو يعزى رحمه الله. قاله الشيخ أبو الحسن في كتاب المكاتب إذا قال الرجل لولده: أصلح نفسك وتعلم القرآن ولك قريتي الفلانية أو لزوجته النصرانية أسلمي ولك داري وأشهد بذلك كله فأسلمت الزوجة وأصلح الولد نفسه وتعلم القرآن فإن ذلك يكون لهما ولا يحتاج إلى حيازة على ما رجحه. ابن رشد: لأن ذلك ثمن للإسلام والتعلم، وبه جزم صاحب المعين، وحَكَى مقابله بصيغة التمريض راجعه في أوائله، وانظر الحطاب في باب الهبة وفي الباب الثالث من التزاماته. اهـ من التسولي. وفي المدونة: في قوم أعانوا مكاتبا ليفكوه فلم يكن فيما أعانوه كفافٌ أن لهم أن يرجعوا فيه إلا أن يجعلوا المكاتب في حل، ومن هذا ما لو صالح أولياء أحد رجلين قتلهما شخص القاتل وأبى أولياء الآخر فإن له أن يرجع لأنه إنما صالح على نجاة نفسه ولم تحصل. وقال الشيخ أبو الحسن في مسألة الوصايا: يقوم منه أن من أعطى مالا للاستعانة على طلب العلم أنه لا ينفقه في غير ذلك، وكذلك من توهم فيه صلاح أو غيره من وجوه الخير وهو يعلم أنه ليس كذلك فإنه لا يجوز له أخذه، ومن قال: تصدقت بجميع ميراثي أو بميراثي على فلان وهو كذا وكذا من البقر والغنم والرمك والثياب والدور والأرضين إلا الأرض البيضاء فإنها لي وفي تركته جنان لم ينص عليه. قال أصبغ: له كل شيء إلا ما استثناه إذا كان يعرفه وأرى الجنان إن كان يعرفه داخلا في الصدقة لأنه إنما استثنى الأرض البيضاء ولم يستثن الجنان إلا أن تكون الأرض هي الجنان عند الناس. ابن رشد: وهذا كما قال. قاله الحطاب. وأركان الهبة أربعة: الشيء الموهوب، والواهب، والموهوب له، والصيغة. وأشار إلى الأول بقوله: وصحت في كل مملوك ينقل، يعني أن الهبة تصح في كل مملوك للواهب ذاتا أو منفعة ينقل شرعا، واحترز مما لا يقبل النقل شرعا كالاستمتاع بالزوجة وأم الولد. قال التتائي: وصحت في كل مملوك للواهب ينقل أي يقبل النقل شرعا فلا يصح في حر ومدبر وأم ولد واستمتاع. اهـ. وأما جلد الأضحية ونحوه فإنه قابل للنقل شرعا. وإنما الممتنع نقله على وجه خاص كالبيع. ولابن شعبان: من وهب ما لا يحل بيعه بطلت هبته كانت لثواب أو غيره، وظاهره بطلان هبة جلد الأضحية وكلب الصيد والمذهب الصحة. انظر التتائي. وقال بناني: وأخرج ابن عبد السلام بقوله: ينقل الاستمتاع بالزوجة وأم الولد، وزاد ابن هارون إخراج الشفعة ورقبة المكاتب. ابن

ص: 469

عرفة: وما زاده حسن لأنهما ماليان، وكذا الحبس لا تصح هبته. اهـ. وقال عبد الباقي: وكره القرطبي دعاء الله بتصدق علينا لإشعار الصدقة بقصد فاعلها ثواب الآخرة ويرده خبر: (صدقة تصدق الله عليكم بها فاقبلوا صدقته (1)) وعلم مما قررت أنه ليس الراد بالنقل هنا النقل الحسي. وأشار إلى الركن الثاني وهو: الواهب بقوله:

ممن له تبرع بها، أي بالهبة والمجرور متعلق بقوله صحت ومعنى كلامه أن الهبة إنما تصح ممن له التبرع بها وهو من لا حجر عليه بوجه، فلا تصح هبة الصغير والسفيه والمجنون وأما هبة الزوجة والمريض في زائد الثلث ومن أحاط الدين بماله فصحيحة موقوفة على الإجازة كما في الشبراخيتي، وذكر المص هنا الواهب وأسقط الموهوب له، ويشترط فيه أن يكون أهلا للتملك، وأسقط الواقف، فما أسقطه هنا يؤخذ مما ذكره هناك، كما أنه يؤخذ ما أسقطه هناك مما ذكره هنا، فإن البابين واحد بل سائر أبواب التبرعات كذلك، فيشترط في التبرع أن يكون ممن يصح تبرعه، وفي المتبرع عليه أن يكون من أهل التملك. واعلم أن الهبة تطلق على الإعطاء المذكور وعلى الشيء الموهوب، والله سبحانه أعلم. وقال المواق: ابن شأس: الواهب من له التبرع. ابن عرفة: العامي يعرف الهبة ولا يعرف التبرع وهي أعرف من التبرع، والأولى الواهب من لا حجر عليه بوجه، فيخرج من أحاط الدين بماله. اهـ.

قال مقيده عفا الله عنه: يظهر أن الصحة هنا بمعنى اللزوم والمضي، وحينئذ يندفع البحث الذي قدمته عن الشبراخيتي. والله تعلى أعلم. وقال الرهوني: يشمل قولهم: ممن له تبرع بها، المالك وغيره كالخازن والزوجة إذا أذن لهما بالنص أو بالعادة، ففي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إن الخازن المسلم الأمين الذي ينفد وربما قال: يعطي ما أمر به فيعطيه كاملا موفرا طيبة به نفسه فيدفعه للذي أمر له به أحدُ المتصدقين (2)) وفيه عن عائشة رضي الله تعلى عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن

1 - مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث 686.

2 -

مسلم، كتاب الزكاة، رقم الحديث 1023

ص: 470

مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا (1)). ومثله في صحيح البخاري (2). قال الأبي: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول: (فيعطي ما أمر به) عياض شرط في هذا الطريق إذن رب المال ولم يشترط ذلك في الطريق الثاني فيه ولا في المرأة والعبد، ويجمع بين الطريقين بأن تكون هذه في الكثير الذي لا يسمح به والثانية في القليل الذي جرت العادة في قيام الزوجة والعبد والخازن في غيبة صاحب المنزل بإعطاء مثله للقاصد والسائل والضيف، وأن قدر ما يعطون في ذلك كالمأذون فيه، ولذلك قال في الحديث في الزوجة: غيرَ مفسدة، وجعل لكل واحد أجرا: صاحب المنزل بما خرج من ماله، ولهؤلاء أجر سعيهم، هذا الحديث في الخازن الذي ليس له أن يتصرف، وها الذي نقل عن عياض هو التحقيق دون من قال: إن للزوجة والعبد ذلك دون إذن الزوج والسيد لتعدد الأدلة الواضحة على أنه (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس)، ويشهد لما قاله عياض حديث الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه لهند بنت عتبة حين قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح لخ: (خذي ما يكفيك وولدَكِ بالمعروف). فإنه صلى الله عليه وسلم لم يبح لها أن تأخذ من مال زوجها إلا القدر الواجب على أبي سفيان لها ولولدها مع أنها أرادت أخذ ذلك لنفسها ولولدها فكيف يسوغ لها دَفع ماله لأجنبي، على أنه في الحديث الثاني إشعارٌ ما بتقييد صدقة الزوجة بالقليل الذي تسمح النفوس به وجرت العادة بمثله، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:(من طعام زوجها). فعُدُولُه صلى الله عليه وسلم عن قوله: من ماله الشامل للدراهم والدنانير والثياب ونحو ذلك إلى الطعام يفيد ما قلناه، وقد يقع في بعض الأحيان جواز إعطاء الكثير كما إذا عرضت حاجة لمسكين والمالك غائب وانتظاره يفوت قضاء تلك الحاجة. وقد علم من حال المالك أنه يحب إنفاذ ذلك لو حضر ويرغب في تحصيله ويكره فواته. فتأمله. والله أعلم. وإن مجهولا، مبالغة في قوله: وصحت في كل مملوك ينقل، يعني أن المجهول تصح هبته. قال المواق: حكى محمد الإجماع على جواز هبة المجهول. ومن المدونة: ومن وهب موروثه وهو لا يدري كم هو جاز والغرر في الهبة لغير الثواب يجوز. وقال عبد الباقي: وبالغ على صحة هبة

1 - مسلم، كتاب الزكاة، رقم الحديث 1024

2 -

البخاري، كتاب الزكاة، رقم الحديث 1425

ص: 471

غير الثواب إذ الكلام فيها بقوله: وإن كان المملوك القابل للنقل شرعا مجهولا أي مجهول العين أو القدر لهما أو لأحدهما، ودخل في المجهول هنا المكاتب بتقدير عجزه وهبة ملك غيره بتقدير ملكه. انتهى. وقوله: وإن مجهولا، قال عبد الباقي: ولو خالف ظنه بكثير كما قال ابن عبد الحكم، وتفصيل ابن القاسم في الواضحة ضعيف. اهـ. قال بناني: إن هذا يقتضي أن هذا الخلاف في مخالف الظن واقع في الصحة وليس كذلك وإنما هو في اللزوم وعدمه، وأما الصحة فليس فيها خلاف، ثم قال بعد كلام: فثبت بذلك أن الخلاف إنما هو في اللزوم لا في الصحة، لكن اللزوم مطلقا هو مذهب المدونة كما في ابن عرفة، ونصه: هبة ما جهل قدره من إرث ناجز في لزومها، ثالثها: إن عرف قدر الميراث ولو جهل نصيبه منه، وإن جهل قدر الميراث لم يلزمه وإن عرف نصيبه منه، لها مع ابن رشد عن أشهب وابن عبد الحكم، ونقل اللخمي عن ابن القاسم في العتبية، وكذا في الواضحة وابن فتوح عن بعضهم مع ابن رشد عن بعض المتأخرين. ابن رشد: وهو تفريق غير صحيح لا وجه له. اهـ. فبان بهذا ضعف قول العتبية والواضحة. والله سبحانه أعلم. اهـ. وقوى الرهوني ما لابن القاسم في العتبية. والله تعالى أعلم. وقال الحطاب: قال محمد بن عبد الحكم: تجوز هبة المجهول وإن ظهر له أنها كثيرة بعد ذلك. وقال الرهوني عن اللخمي: وهبة المجهول والصدقة به ماضية ويستحب أن لا يفعل إلا بعد معرفة قدر العطية خوف الندم. اهـ. وقال اللخمي: وإن كان ما ورث دارا يعرفها وأبدلها الميت في غيبته بأفضل كان له رد الجميع إن قال: قصدت تلك الدار. وإن خلف مالا ثم طرأ مال لم يعلم به مضت فيما علم به وله رد غيره، وإن حضر ماله كله وظن أن قدره كذا ثم تبين أنه أكثر كان شريكا بما زاد. وقال التتائي: قال ابن القاسم: إن قال: كنت أظنه أقل حلف إن ظهر صدقه فإن كان عارفا لموروثه ويسره نفذ ذلك عليه وإن لم يعلم مبلغه لدخوله على ذلك.

فرع: قال في المدونة: وإذا وهب له حائطه وبه ثمر وزعم أنه إنما وهبه الأصل دون الثمرة فإن كان لم يؤبر فهو للموهوب له وإن كانت مؤبرة فهي للواهب ويقبل قوله ولا يمين عليه. انتهى. وكلبا، عطف على قوله: مجهولا، يعني أن الكلب المأذون في اتخاذه تصح هبته، قال الشبراخيتي: وكلبا مأذونا فيه، ولا يحتاج إلى تقييده بذلك لأن المبالغة متعلقة بالملوك، وأما

ص: 472

غيره فهو خارج به، وقوله: وإن مجهولا وكلبا في غير هبة الثواب، وأما هي فلا. اهـ. وقال التتائي: أو كان الملوك كلبا مأذونا فيه ابن عبد السلام: لا خلاف في جواز هبته لأنه يورث. اهـ. وقال الشارح: وأما غير المأذون فالظاهر عدم جوازه. اهـ. وقوله: وكلبا، مثله الآبق وغيره مما فيه غرر كملك الغير بتقدير ملكه والكاتب بتقدير عجزه.

ودينا، يعني أن هبة الدين صحيحة جائزة سواء وهب للمدين أو لغيره. وهو، أي إعطاء الدين إبراء لذمة المدين إن وهب المدين لمن هو عليه، والإبراء من قبيل الهبة لا بد فيه من القبول عند ابن القاسم وهو في المدونة، وقال أشهب: إنه لا يشترط في الإبراء القبول والإسقاط لا يفتقر للقبول كالطلاق والعتق. وقال الحطاب: قال في المدونة: ومن وهبك دينا له عليك فقولك: قد قبلت قبض، وإن قبلت سقط، وإن قلت: لا أقبل بقي الدين بحاله. أبو الحسن: وإن سكت فقولان. اهـ.

تنبيهات: الأول: قال ابن عات عن المشاور: ومن سكت عن قبول صدقة زمانا فله قبولها بعده، فإن طلب غلتها حلف ما سكت تاركا لها وأخذ الغلة. اهـ. وقال الرهوني: عن ابن عرفة: لو تصدق بنصاب قبل بعد عزله سنين ففي زكاته لمدة عزله (1) وسقوطها قولا ابن القاسم وسحنون. ابن رشد: بناء على أن قبوله يوجب ملكه من يوم القبول أو الصدقة، وعليهما لو كانت للصدقة غلة في كونها للمتصدق عليه أو للمتصدق قولان. وإيضاح ما أشار إليه أن ابن القاسم يقول بوجوب الزكاة على المتصدق وسحنون يقول بسقوطها عنه وأما المتصدق عليه فيستقبل باتفاقهما.

الثاني: قال الرهوني بعد إتيانه بكلام ابن رشد مبسوطا ما نصه: كلام ابن رشد السابق صريح في أن ابن القاسم وسحنونا متفقان على أنه لا يشترط فورية القبول، وقد سلمه ابن رشد ولم يحك فيه خلافا، لكن ليس في كلامه ما يدل على أن المتصدق عليه علم بالصدقة حين إيقاعها، فظاهره الإطلاق، وقد تقدم التصريح بوجود الخلاف فيما إذا علم وتأخر قبوله، ولم نر من صرح بوجود الخلاف فيما إذا لم يعلم حتى طال الأمر وقبل بقرب علمه ولا يلؤم من جريان الخلاف في الأولى

1 - في الأصل: عزلها، والمثبت من الرهوني ج 7 ص 183.

ص: 473

جريانه في هذه، والراجح في الأولى عدم شرطية فور القبول فيها، فهذه أحرى بأن يكون الراجح فيها ذلك أو يتفق فيها على عدم شرطيته. الثالث، في رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات وسألته عن الرجل يتصدق على الرجل بالأمة فلا يقبضها المتصدق عليه حتى تلد الأولاد، هل يأخذها هي وولدها؟ قال: نعم يأخذها وولدها، قلت فإن قتل بعض ولدها فأخذ السيد له أرشا؟ قال: يأخذها ويأخذ أرش ولدها ويدها ورجلها وما أصيبت به. قال القاضي رضي الله تعالى عنه: وهذا كما قال بين لا اختلاف فيه لأن الأمة قد وجبت له بالصدقة وولدها الذي ولدته بعد الصدقة بمنزلتها لقول النبي صلى الله عليه وسلم (1): (كل ذات رحم فولدها بمنزلتها (2)). وإنما وقع السؤال عن هذا لقول من يقول: إن الصدقة والهبة لا تلزم الواهب والمتصدق وله أن يرجع عنها ما لم يدفعها، ولا يحكم عليه بها إلا بعد قبضها، وهذا ما لا يقول به مالك ولا أحد من أصحابه علمته. وبالله تعالى التوفيق. انتهى. نقله الرهوني.

وإلا فكالرهن، يعني أن الدين إذا وهب لغير من هو عليه فإن تلك الهبة صحيحة وحكم الدين الموهوب لغير من هو عليه كالرهن أي قبضه كقبض الرهن. قال بناني: أي فقبضه كقبض الدين إذا جعل رهنا. وقال الخرشي: قوله: وإلا فكالرهن، أي وإن وهب الدين لغير من هو عليه فكقبض دين الرهن. وقال الحطاب: أحال على الرهن ولم يتقدم له فيه شيء. اهـ. وقال بناني: فيه إحالة على مجهول، وهذه الإحالة وقعت في كلام ابن الحاجب، إلا أن ابن الحاجب ذكر رهن الدين في باب الرهن فجاءت الإحالة في كلامه حسنة. اهـ. وإيضاح معنى المص أنه يشترط في حوز الدين إذا وهب لغير من هو عليه الإشهاد أو يشهد رب الدين أنه وهب دينه الذي على زيد لعمرو ويدفع له ذكر الحق إن كان أي الكتاب المكتوب فيه الدين، وهل هذا الدفع شرط كمال أو شرط صحة، قال عبد الحق: هو شرط صحة، وفي الوثائق لابن العطار: هو شرط كمال، والجمع بين الموهوب له ومن عليه الدين قيل: هو شرط صحة فيكون حائزا للموهوب له، وقيل: شرط كمال، وفي التوضيح عن البيان الاتفاق على عدم اشتراط الجمع بينه وبين الغريم، والقول

1 - رقم 1 ولفظه: وقد مالك: كل ذات رحم لخ.

2 -

الموطأ، كتاب المدبر، رقم 1 ولفظه: وقد ملك كل ذات رحم الخ.

ص: 474

باشتراط دفع ذكر الحق قواه الرهوني، وفي الرهوني عن ابن عرفة: فالحاصل إن أشهد له وأحاله على الدين بحضوره ودفع ذكر الحق كفى اتفاقا، وإن تعذر كفى الإشهاد، وفي لزوم دفع ذكر الحق له إن كان قولان، لظاهرها ولظاهر قول ابن أبي زمنين، والأول هو ظاهر كلام اللخمي، ونص عبد الحق عن بعض شيوخه: إن لم يدفع ذكر الحق للموهوب له حتى مات الواهب بطلت الهبة، ومقتضى قول ابن رشد في سماع عيسى ابن القاسم عدم شرطية قبض ذكر الحق كابن أبي زمنين. انتهى. واقتصر الباجي على أنه لا بد من دفع ذكر الحق، ونقله عن مالك في الموازية. اهـ. وإيضاح هذا الإيضاح أنه يشترط في صحة رهن الدين إذا رهن عند غير الدين الإشهاد على الرهنية فيحصل الحوز ودفع الوثيقة والجمع بين المرتهن ومن عليه الدين شرط كمال فكذا إذا وهب الدين لغير الدين يشترط أن يشهد رب الدين على الهبة ودفع ذكر الحق إن كان، والجمع بين الموهوب له ومن عليه الدين شرط كمال على ما مر، هذا هو تحرير المسألة وإيضاحها. والله سبحانه أعلم.

ورهنا لم يقبض، عطف على قوله: مجهولا، يعني أن هبة الرهن الذي لم يقبض صحيحة والحال أنه أيسر راهنه، ولم يرض المرتهن بهبته وبقي دينه بلا رهن لأنه مظنة تفريطه في قبضه ولو جد فيه قبل هبة الراهن الأجنبي وإنما أبطلت الهبة الرهن مع تأخرها عنه لأنا لو أبطلناها لذهب الحق فيها جملة، بخلاف الرهن لو أبطلناه لم يذهب حق المرتهن. قاله عبد الباقي. وقال الرهوني بعد جلب كلام كثير: فتحصل أنه إذا قبض الموهوب له الرهن قبل أن يحوزه المرتهن والراهن ملي فالوهوب له أحق به قولا واحدا، وفي تعجيل الحق للمرتهن وبقائه للأجل لتفريطه قولان، الأول: لأشهب وعليه اقتصر ابن يونس كأنه المذهب ولم يحك غيره، والثاني: لابن المواز وعليه اقتصر اللخمي وساقه كأنه المذهب ولم يحك غيره لا عن أشهب ولا عن غيره، وعلى ما لابن المواز اقتصر المص في توضيحة وابن عرفة، وعليه اقتصر أيضا في الشامل، وعليه اقتصر أيضا أبو علي وأغفلوا كلهم كلامَ ابن يونس، فاقتصار الزرقاني على عدم تعجيله صواب. اهـ.

أو رضي مرتهنه، عطف على أيسر راهنه، يعني أنه إذا رضي المرتهن بهبة الراهن للرهن فإن الهبة تصح ويبقى الدين بلا رهن، وإلا بأن قبض المرتهن الرهن ولم يرض بالهبة قضي عليه أي

ص: 475

على الراهن إن كان موسرا بفكه أي الرهن ودفعه للموهوب له، وقوله: بفكه أي بتخليصه من الرهنيَّة بأن يدفع الدين للمرتهن، ومحل القضاء على الراهن بفك الرهن إن كان الدين مما يعجل، أي كان الدين مما يقضى على رب الدين بقبوله إذا عجل له قبل الأجل وهو العين من بيع والقرض مطلقا، ومحل القضاء على الواهب بفكه إذا وهبه وهو يعلم أنه يُقضَى عليه بفكه، وأما لو وهبه وهو لا يعلم بذلك فلا يقضى عليه بذلك قولا واحدا. قاله ابن شأس. ويبقى لأجله إن حلف.

وإلا بأن كان الدين مما لا يعجل كعرض من بيع أو كان الراهن معسرا بقي الرهن لبعد الأجل، أي بقي الرهن إلى انقضاء الأجل، أي إلى أن يحل الأجل، أي فالمرتهن أحق به ولا يجبر المرتهن على قبض دينه ولا على قبول رهن آخر فيما إذا كان الراهن موسرا. وَإيضاح المسألة أنه إذا رضي المرتهن بالهبة صحت مطلقا، أي سواء كان الراهن موسرا أو معسرا وسواء وهبه قبل قبض المرتهن له أو بعده ويبقى دينه بلا رهن ووجهه ظاهر، وأما إن لم يرض فإن وهبه قبل أن يقبضه المرتهن وكان الراهن موسرا فكذلك يكون صحيحا ويبقى الدين بلا رهن لأن المرتهن مفرط، أي أن ذلك مظنة التفريط فإن الجد في قبض الرهن ليس بمنزلة القبض، بخلاف الجد في قبض الهبة، وأما إن كان معسرا فإنه يبقى رهنا للأجل، وأما لو قبضه المرتهن ووهبه الراهن فإن كان الراهن موسرا عجل الدين إن كان الدين مما يعجل حيث لم يدع الراهن جهل أن الدين يعجل في هذه الحالة أو ادعى الجهل ولم يحلف وإلا بقي رهنا للأجل، وأما لو كان معسرا فإنه يبقى رهنا للأجل. قاله الشبراخيتي. وقوله: وإلا بقي لبعد الأجل، أي وإلا بقي لانقضاء الأجل، لكن لا كان تحقق انقضائه لا يكون إلا بدخول جزء بعد الأجل عبر بما ذكر وجر المص بعد باللام، ولم يجرها بمن مع أنها من الظروف غير التصرفة، وفي المواق: من المدونة: من رهن عبده ثم وهبه جازت الهبة ويقضى على الواهب بافتكاكه إن كان له مال، وإن لم يقم الموهوب حتى افتكه الواهب فله أخذه ما لم يمت الواهب فتبطل الهبة، وليس قبض المرتهن قبضا للموهوب له إن مات الواهب، لأن للمرتهن حقا في رقبة العبد؛ قال أشهب: إلا أن يقبضه الموهوب قبل أن يحوزه المرتهن فهو أحق إن كان مليا ويعجل له حقه إلا في هبة الثواب فتنفذ الهبة على كل

ص: 476

حال، ويعجل للمرتهن حقه من الثواب كالبيع، وإن كانت الهبة لغير ثواب فقبضها الموهوب قبل حوز المرتهن والواهب ملي ثم أعدم فليتبع بالدين وتمضي الهبة. اهـ. وقال عبد الباقي: وانظر إذا كان الواهب معسرا ووهبه بعد القبض والدين مما يعجل ثم أيسر أثناء الأجل، فهل يقضى عليه بفكه نظرا ليسره ويأخذه الموهوب له وهو الظاهر أو يبقى رهنا على ما كان نظرا لعسره. اهـ.

تنبيه: من وهب له شيء دين أو غيره أو تصدق به عليه ولم يقم على أصل ذلك الشيء إلا شاهد واحد فإنه يحلف معه الموهوب له أو المتصدق عليه إذ لا يحلف أحد ليستحق غيره. انظر الحطاب.

بصيغة، هذا هو الركن الرابع من أركان الهبة، يعني أن الهبة لا تصح إلا بصيغة أي لفظ دال عليها من لفظ الهبة. أو مفهمها، أي ما يقوم مقام الصيغة من مفهمها، أي مفهم الهبة من قول، كأعطيت وبذلت ونحلت ونحو ذلك، وليس الضمير عائدا على الصيغة ليلا يقتضي أن الصيغة تحتاج لصيغة أخرى، بل وإن بفعل، إذ مقصود الشرع الرضى فأي شيء دلّ عليه اعتبر. ابن عرفة: الصيغة ما دل على التمليك ولو فعلا كالمعاطاة، وقدمنا افتقار التبرع للقبول واستشكل ذلك بقول عتقها: من وهب لعبد نفسه أو تصدق بها عليه عتق وإن لم يقبل، ولو قال له أنت حر إن شئت، لا عتق له إلا أن يشاء، فلو كان القبول ركنا في الهبة كان كقوله: أنت حر إن شئت، ويجاب بأن هبة العبد نفسه عتق له لا هبة فهي في الأول عتق غير معلق وفي الثاني عتق معلق على أمر. قاله التتائي. وقال المواق: ابن شأس: الركن الأول السبب الناقل للملك وهو صيغة الإيجاب والقبول الدالة على التمليك بغير عوض أو ما يقوم مقامها في الدلالة على ذلك من قول أو فعل. اهـ. ونحوه لابن الحاجب. وتحصل من هذا أن المراد بالصيغة ما يشمل الإيجاب من جهة الواهب والقبول من جهة الموهوب له، فاللفظ وهبت وأعطيت وبذلت ونحو ذلك من جهة الواهب، وقبلت وأخذت ما أعطيتني من جهة الموهوب له، والفعل كالمعاطاة بأن يعطي الواهب أي يناولها للموهوب له ويأخذها الموهوب له. والله سبحانه أعلم. ومثل للفعل بقوله: كتحلية

ص: 477

ولده، يعني أن الأب إذا حلى ولده الصغير ذكرا أو أنثى بحلي ولو ذهبا أو فضة ولو على القول بحرمة تحلية الذكر الصغير، فإن ذلك فعل دال على الهبة، ويكون الولد حائزًا للحلي بذلك، فإذا مات الأب فإن الولد يختص بذلك دون الورثة، وكذا إذا حلَّت الأم ولدَها الصغير فهي كالأب في ذلك، فإذا ماتت الأم فإن الولد يختص بذلك الحلي دون الورثة لحيازته له، ولا يشترط إشهاد الأب أو الأم على أصل الهبة لحيازة الولد لذلك كما في ابن رشد، وأما ما نقل ابن هشام في المفيد: ومن الكافي وإذا حلى الرجل أو المرأة ولدهما الصغير حليا وأشهد له بذلك ومات الأب أو الأم فالحلي الذي على الصبي له دون الورثة. اهـ. فيأتي الكلام فيه قريبا إن شاء الله تعالى. وقد نقل أبو علي كلام الكافي هذا وسلم تسويته بين الأب والأم. قال الشيخ الرماصي: وفي إلحاق الأم بالأب إشكال لأنها لا تحوز إلا أن تكون وصية على المذهب، ويأتي على قول ضعيف بجواز حوزها مطلقا أو مراده إذا كان الأب حيا نقله الرهوني قال الشيخ الرهوني واستشكاله ظاهر إن كان الولد ينزع ذلك عنه تارة ويلبسه أخرى ثم مات الأب أو الأم وهو غير لابس لذلك ولا واضع له بمحل لا تجول بوضعه فيه يد الأب أو الأم وإلا فلا إشكال فيه لأنه إذ ذاك حائز له حقيقة وحوز الصغير ما وهب له أو تصدق به عليه معتبر نافذ على الراجح قال الرهوني والحق أن كلام الكافي ليس فيه ما يخالف ما قاله ابن رشد والمتبادر منه أنه أراد الإشهاد بالتحلية المدلول عليها بقوله حلَّى وهذا الذي قاله أمر لا بد منه لأن الصغير إذا ادعى أن أباه حلاه شيئا أو كساه قبل حصول المانع لم يكن له ذلك إذا أنكر سائر الورثة بمجرد دعواه وإن كان بيده الآن إلا أن تقوم له بينة بذلك والمراد بالإشهاد الشهادة بالتحلية كانت بإشهاد أو بدونه وبهذا يظهر سقوط ما يقال في كلام الكافي انتهى باختصار واقتصار وقوله كتحلية ولده قد علمت أنه دال على الهبة فلا يكون لغير الولد إلا أن يشهد الوالد أنه على وجه الإمتاع وتحلية الزوجة إمتاع لا هبة إن كانت معه وأما ما أرسله لها فيحمل على أنه هدية لا عارية إلا أن يصرح بالعارية وأم الولد كالزوجة وفي حاشية بناني بعد كلام ما نصه فعلم من هذا أن المولى عليها حكمها حكم الصغيرة اهـ وفيه أيضا أن تعليل ابن رشد يدل على أن الولد السفيه مثل الولد الصغير اهـ وقال

ص: 478

الشبراخيتي والأولى حمل التحلية على التزيين أي كتزيين ولده بتحلية أو إلباس أو ركوب بأن يركبه على فرس ويجعل لها سرجا أو ركابا مثلا محلى بالذهب اهـ لا بابن مع قوله داره يعني أن الإنسان إذا قال لولده ابن هذه العرصة دارا فبناها وهو أي الأب مع ذلك يقول هذه دار ابني فإن ذلك لا يقتضي التمليك للعرصة وكذا اركب هذه الدابة مع قوله دابة ولدي قال المواق قال ابن مزين من قال لابنه اعمل في هذا المكان كرما أو جنانا أو ابن فيه دارا ففعل الولد في حياة أبيه والأب يقول كرم ابني وجنان ابني أن الابن لا يستحق القاعة بذلك وهو موروث وليس للابن إلا قيمة عمله منقوضا وأما قول الرجل في شيء يعرف له هذا كرم ولدي أو دابة ولدي فليس بشيء ولا يستحق منه شيء للابن صغيرا كان الابن أو كبيرا إلا بالإشهاد بصدقة أو عطية أو بيع وقد يكون مثل هذا كثيرا في الناس فليس بشيء في الولد والزوج اهـ وقال الشبراخيتي لا بابن في هذه العرصة مع قوله داره ففعل في حياة أبيه وصار أبوه يقول لا بنى داره فإن الابن لا يستحق العرصة بذلك وهي موروثة وتكون هبة للمنفعة لا للذات وليس للابن الباني إلا قيمة بنائه منقوضا ومثل ذلك اركب هذه الدابة واستعملها مع قوله: دابته، بل هذه أولى، وهذا بخلاف الأجنبي، فإذا قال شخص لأجنبي: ابن عرصتي هذه دارا، وبنى وأضافها له فإنها تكون له، وأشار العجماوي لتعليل مسألة المص للعرف في تضمين الآباء. انتهى. ونحوه لغير واحد، قال التتائي: ولا يفهم من كلام المص أن للابن قيمة عمله. اهـ. أي مع أن له قيمة بنائه منقوضا، وكذا للزوج قيمة بنائه منقوضا.

وحيز وإن بلا إذن، يعني أن حوز الهبة لا يفتقر لإذن من الواهب، فيصح حوزُ الموهوب له وإن لم يأذن له الواهب فيه، فلا يشترط التحويز لأن الهبة تملك بالقول، ابن عبد السلام: القبول والحيازة [معتبران (1)] إلا أن القبول ركن والحيازة شرط، قال ابن عرفة: وحقيقة الحوز في عطية غير الابن رفع تصرف المعطي في العطية بصرف التمكن منه للمعطَى أو نائبه كالحبس، ولا بد من

1 - في الأصل معتبرة والمثبت من الخرشي ج 7 ص 105.

ص: 479

معاينة البينة للحوز في الحبس والهبة والصدقة والرهن. قاله الخرشي. أي لا يثبت بإقرار المعطي. وقال التتائي: وحيز الموهوب ولو كان الحوز حكما كما تقدم في الحبس، وإن كان الحوز بلا إذن من الواهب. اهـ. وقال عبد الباقي: وحيز الشيء الموهوب أي حازه الموهوب له ليتم له وإن بلا إذن، فلا يشترط التحويز، وقول ابن عرفة: المذهب لغو التحويز في الحوز معناه لغوُ اشتراطه. اهـ. وقال الشبراخيتي: وحيز ولو حكما كما تقدم في قوله: إلا لمحجوره إذا أشهد وصرف الغلة ولم تكن دار سكناه. اهـ. فالحوز الحكمي كحوز الولي هبته لمحجوره إذ يكفي الإشهاد كما يأتي إلا ما يستثنى من ذلك.

وأجبر عليه، يعني أن الموهوب إذا طلب حوز الهبة وأبى الواهب ذلك فإن الواهب يجبر للموهوب له على الحوز لتتم الهبة. قال المواق: من المدونة: من وهب هبة لغير ثواب فقبضها الموهوب بغير أمر الواهب جاز قبضه إذ يقضى بذلك على الواهب إن منعه إياها. اهـ. وقوله: وحيز، اعلم أن الحائز هو الموهوب له إن كان رشيدا وإلا فلوليه، والراجح صحة حوز الصغير، فالسفيه أولى. المازري: للواهب الرجوع في هبته قبل حوزها عند جماعة، وفي قولة شاذة عندنا وحكاها الطحاوي عن مالك. قاله الحطاب.

وحكاها: من سمى شيئا لفقير معين ونوى أن يعطيه ولم يبتله له بقول ولا نية كره صرفه لغيره، وإن بتله له بقول أو نية لم يجز صرفه لغيره، وإن فعل ضمن، وكذلك من جعل إليه تنفيذ ما أخرجه غيره للصدقة، ومن أمر لسائل بشيء أو خرج به إليه فلم يجده يكره له رده إلى ماله إن كان إنما نوى أن يعطيه له ولم يبتله له. اهـ. والفرق بين تبتيله بالنية ونية تبتيله أنه لو عبر عن التبتيل بالنية لقال أعطيته له، ولو عبر عن نية تبتيله لقال: أعطي أو نيتي أن أعطي، وذكر عن الذخيرة أن مالكا رأى فيمن أخرج شيئا لسائل فلم يجده أن يعطيه لغيره تكميلا للمعروف، وإن وجده ولم يقبل فهو أولى من الأول لتأكيد العزم بالدفع، واختلف هل له أكلها؟ ثالثها: إن كان

ص: 480

معينا أكلها وإلا فلا. ومن قال لابنه: أصلح نفسه (1) أو تعلم القرآن ولك كذا، أو قال لذمي: أسلم ولك كذا ففعل، ففي كون ذلك عطية تفتقر لحيازة أو إجارة لا تفتقر إليها قولان. وقد مر أن كل من دفع مالا لغرض فلم يحصل رجع فيه. انظر الحطاب. وفيه: وقال فيها: قال مالك: ولا بأس بشراء كسر السؤَّال لقوله عليه الصلاة والسلام لبريرة (هو لها صدقة ولنا هدية (2)). اهـ. ولما ذكر الحوز ذكر مانعه فقال: وبطلت إن تأخر لدين محيط، يعني أن الهبة تبطل إذا تأخر حوز الموهوب له للشيء الموهوب حتى أحاط الدين بمال الواهب. قال عبد الباقي: وبطلت الهبة إن تأخر حوزها لدين محيط بماله ولو بعد عقدها، وأنث بطلت كقوله: وصحت في كل ولم يؤنث ضمير حيز لتعلقه بالمملوك الموهوب المشار إليه بقوله: في كل مملوك، إذ هو الذي يتصف بالحوز، وأما الصحة والبطلان فبالمعنى المصدري وهو الفعل الذي يتعلق به الحكم وهو عقد الهبة، واللام في لِدينٍ يحتمل أن تكون للغاية فهي متعلقة بتأخر، ويحتمل أن تكون للتعليل فهي متعلقة ببطلت، والفرق بين بطلانها بالإحاطة وعدم بطلان الوقف بها بل بالتفليس ولو الأعم على ما مر للمص قُوَّته دونها لكن تقدم أن المعتمد كفاية الإحاطة فيه أيضا. اهـ. قال بناني: قوله: المعتمد كفاية الإحاطة فيه هو الصواب. والمذهب كله عليه خلافا للأجهوري. اهـ. وقال عبد الباقي: قال الشارح: وإذا جهل سبق الدين للهبة فإنه لا يؤثر إلا أن تكون لمحجوره. اهـ. أي وقد حازها له. وقوله: وبطلت إن تأخر لخ، سواء كانت الهبة قبل الدين أو حدثت بعده كما مر التنبيه عليه وهو أحد قولين، وعليه اقتصر ابن الحاجب، والثاني أنها لا تبطل إذا حدثت بعد الدين. وفي المتيطي بعد أن ذكر أنه إن تحقق سبق الدين بطل الحبس والهبة والصدقة مطلقا، وإن تحقق سبق العطايا نفذت وبقيت الديون على الغريم، وإن جهل السابق منهما فما كان من تحبيس أو صدقة أو هبة على كبير حاز لنفسه أو على صغير حاز له أجنبي بأمر من الأب فهو ماض على حسب ما عقد، وتبقى الديون في ذمته، وما كان من ذلك على صغير حاز له الأب فالديون أولى من ذلك، وكذلك قال مالك في كتاب الهبة. اهـ.

1 - في الحطاب ج 6 ص 263: أصلح نفسك.

2 -

البخاري، كتاب الهبة، رقم الحديث 2577 - مسلم، كتاب الزكاة، رقم الحديث 1074.

ص: 481

تنبيه: قال الرهوني عند قول المص: وبطلت إن تأخر لدين محيط: يشارك الهبة في بطلانها بهذا وما عطف عليه جميع التبرعات سواء كانت تمليك ذات أو تمليك منفعة فقط كالعارية كما صرح بذلك غير واحد منهم صاحب الجواهر، ونصها: ويشترط حصول الحوز مقارنا لصحة جسمه وعقله والقرض كالهبة، وتبعه عليه ابن الحاجب وسلمه في التوضيح، وقال: كل معروف كالعرية والمنحة والسكنى والحبس. ابن عبد السلام: واختلف في الكفالة والمشهور أنها لا تفتقر لحيازة، وفي كلام الشيخ أبي علي نظر حيث قال: إن القرض لا يفتقر لحيازة، فقد رده الرهوني والإقالة المتطوع بها بعد العقد بمثل الثمن الراجح فيها بطلانها بموت المشتري التطوع قبل الأخذ لها لأنه الذي قال أبو الفضل راشد وأبو محمد صالح، واختاره أبو الحسن ورجحه الحطاب في التزاماته. أو وهب لثان وحاز، يعني أنه إذا وهب شخص شيئا ثم وهبه بعد ذلك لغير من وهبه له أولا وحاز الموهوب له الثاني الشيء الموهوب قبل أن يحوزه الموهوب له أولا فإن الموهوب يكون للثاني وتبطل بالنسبة للأول ولا قيمة على الواهب للأول سواء علم الأول وفرط أم لا، مضى من الزمان ما يمكنه فيه القبض أم لا. هذا هو المشهور. وفي شرح الشيخ عبد الباقي: أو وهب لثان وحاز قبل الأول فللثاني لتقَوِّي جانبه بالحيازة، ولو كان الواهب حيا لم يقم به مانع من موانع الهبة عند أشهب، وهو أحد قولي ابن القاسم، وقال في المدونة: الأول أحق بها إن كان الواهب حيا، وعلى ما مشى عليه المص فلا فرق بين علم الأول وتفريطه أم لا، مضى زمن يمكن فيه القبض أم لا، ولا يخالف هذا ما يأتي في قوله: أو جد فيه، لأنه فيما لم يوهب لثان، ومثل المص هبة الدين لغير من هو عليه ثم هبته لمن هو عليه قبل قبض الأول بالإشهاد ودفع ذكر الحق إن كان على أحد القولين بأن الإبراء هو العمول به، وإن كان يعد قبض من صير إليه بأنه يعمل بالتصيير، ومن هذا طلاق امرأة على براءتها من مؤخر صداقها ثم تبين أنها وهبته قبل ذلك لآخر ففيه التفصيل المذكور، فإن كانت أشهدت أنها وهبته لأجنبي ودفعت له ذكر الصداق طلقت بائنا ولزم الزوج دفع مؤخره للموهوب له، وإن كانت لم تشهد ولم تدفع الذكر للأجنبي فإن الزوج يسقط عنه المؤخر ببراءتها له من ذلك المؤخر بطلاقه إياها عليه، ولا يشمل قوله: أو وهب لثان وحاز ما إذا وهبه المنفعة فقط بإعارة أو إخدام وحازه المستعير أو الخدم بعد أن وهب ذاته أو منفعته لشخص،

ص: 482

فإن الحق له في المنفعة أيضا دون الثاني. اهـ. وقال الشبراخيتي: أو تأخر حوزها حتى وهب الواهب لثان، المراد حصل منه تبرع لثان فيشمل الهبة والصدقة والوقف وغير ذلك، وحاز الثاني أي ولم يحز الأول، فإن حاز كل منهما فالأول أحق، وظاهر المص أنها للثاني وإن كان الواهب حيا ولم يقم به مانع من موانع الهبة وهذا يوافق ما لأشهب وما لابن القاسم في أحد قوليه، ولكن الذي قاله ابن القاسم في المدونة أنه إذا كان الواهب حيا فإن الأول أحق بها، وفي كلام ابن عبد السلام ما يفيد ترجيح ما لأشهب، وهذه الفروع مبنية على ضعيف، وهو ما روي عن مالك أن الهبة لا تلزم بالقول، والذهب أنها تلزم به. اهـ. وقال المواق: ابن عرفة: لو أعطى ما وهب قبل حوز الموهوب له وحازه الثاني ففي رده للأول ومضيه للثاني، ثالثها: إن فرط في الحوز لابن القاسم والغير مع محمد وأصبغ.

أو أعتق الواهب، يعني أن من وهب رقيقا وبعد أن وهبه أعتقه قبل أن يحوزه الموهوب له فإن العتق ماض ولا قيمة على الواهب للموهوب. قال عبد الباقي: أو أعتق الواهب ما وهبه ناجزا أو لأجل أو دبر أو كاتب قبل الحوز بطلت، علم المعطي بعتق الواهب أم لا. انتهى. وعلم من بطلان الهبة أنه لا شيء للموهوب له من خدمة الدبر ولا كتابة المكاتب ولا رقبته إن عجز. اهـ. وقال الشبراخيتي: أو أعتق الواهب الرقيق الموهوب قبل حوز الموهوب له سواء علم الموهوب له أم لا كان العتق ناجزا أو لأجل أو تدبير أو كتابة. وقال البساطي: والجاري على فرع المؤلف أنه لو قَتلَ العبدَ قبل الحوز كانت القيمة للموهوب له، وقد نص عليه ابن القاسم، وقال المواق: ومن المدونة: ومن وهب عبدا أو تصدق به على رجل أو أخدمه ثم أعتقه المعطي قبل حوز المعطَى جاز العتق وبطل ما سواه علم المعطَى بالهبة والصدقة أو لم يعلم، محمد: وكذلك لو كانت أمة فأحبلها قبل الحيازة وإلى ما قال محمد أشار بقوله: أو استولد، يعني أن الواهب لأمةٍ إذا استولدها قبل أن يحوزها الموهوب له فإن الهبة تبطل وتصير الأمة أم ولد للواهب، ولا قيمة عليه للموهوب له، وعلم مما قررت أن قول المص: ولا قيمة، راجع للمسائل الثلاث، قال عبد الباقي: أو استولد جارية وهبها أي حملت منه قبل قبض الموهوب له، بخلاف الوطء دونه فغير مفيت، ومثل الهبة الوصية فلا يفيتها الوطء وإنما تفوت بالإيلاد، فالأمة الموصى بها كالأمة الموهوبة في

ص: 483

هذا، وقد مر عن الشبراخيتي أنه لو قتل الواهب العبد لكانت عليه قيمته للموهوب له. قاله ابن القاسم.

أو استصحب هدية أو أرسلها ثم مات أو المعيَّنةُ له إن لم يشهدت يعني أن الهبة تبطل أيضا فيما إذا استصحب المعطي هدية أي سافر بها لآخر غائب عن بلد المعطي، أو أرسلها له مع رسوله، فمات الواهب، أو مات الموهوب له المعينة هي له قبل وصول الهبة له، وترجع للواهب إن كان حيا أو لوارثه إن مات لعدم الحوز في موت الواهب، ومحل البطلان ما لم يشهد الواهب في الصور الأربع، أما إن أشهد أنها هدية لفلان حين الإرسال أو حين الاستصحاب فإنها لا تبطل بموت الرسل إليه، ويقوم وارثه مقامه، ولا بموت الوارث، فهذه صور أربع أيضا، ومفهوم المعينة له أنها إن لم تعين بأن قال: لفلان إن كان حيا أو لوارثه إن مات فإنها لا تبطل بموت المرسل إليه سواء أشهد الواهب أم لا، فهاتان صورتان أيضا، فجملة الصور عشرة. قاله الخرشي. ومعنى المعينة له أن يقول الواهب: إنما تصدقت بها قصدا له بعينه إن وجد حيا ويصدق، إذ لا يلزمه إلا ما أقر به من معروفه حيث لم يشهد. قال عبد الباقي: أو المعينة له، أي الذي قصد عينه بأن يقول: هي له إن كان حيا كما في كلام عياض، سواء استصحب أو أرسل، فالمراد المعين لها لعلمه وورعه وزهده لا هو وذريته. اهـ. فعلم منه أن من عدم التعيين ما إذا أعطاه لعياله. وقال الشبراخيتي: أو المعينة له، أي مات الذي عينت له أي قصد بها عينه قبل وصولها إليه في صورتي الاستصحاب والإرسال بأن يقول: هي له إن كان حيا اهـ ويقبل قول الواهب قبل موت الموهوب له أو بعده إن قصد عينه. اهـ. والحاصل أن صور هذه المسألة ست عشرة صورة، لأن الواهب إما أن يستصحبها أو يرسلها، والموهوب له إما معين أو غير معين، وفي كل إما أن يموت الواهب أو الموهوب له، وفي كل إما أن يشهد أو لا، فصور الإشهاد كلها صحيحة وهي ثمانية، وذلك لأن الواهب إما مستصحب أو مرسل، والموهوب له إما أن يكون القصد عينه أم لا، وفي كل إما أن يموت الواهب أو الموهوب، وأما الصور المجردة عن الإشهاد فهي ثمانية، فصور موت الواهب منها أربع، وذلك لأنه إما مستصحب أو مرسل، والموهوب له إما معين أو غير معين، وكلها صحيحة، وصور ما إذا لم يمت الواهب ومات الموهوب له أربع أيضا، منها صورتان غير

ص: 484

صحيحتين، وهما: إذا كان الموهوب له معينا والواهب مرسل أو مستصحب، وصورتان صحيحتان، وهما: إذا كان الموهوب له غير معين والواهب مرسل أو مستصحب. قاله الشبراخيتي. وقال الرهوني: صحة الهبة إذا مات الواهب بعد الإشهاد ودفعها للرسول وأضح وجهها، لأنه كمن وهب لغائب ووكل من يحوز له فحاز قبل حصول مانع للواهب، وهذه قد نص في المدونة على صحتها، وأما صحتها مع الإشهاد فيما إذا استصحبها معه فمات قبل دفعها لن أشهد له بها فإنما يظهر إذا استصحبها لن يصح حوزه له، وإلا فهو مشكل لفقد القبول والحوز، وقد اختلف في تأويل المدونة في هذا الوجه. اهـ.

كإن دفعتَ لمن يتصدق عنك بمال ولم تشهد، التشبيه في البطلان لعدم الحوز، يعني أن من دفع مالا لمن يفرقه صدقة على الفقراء والساكين ولم يشهد على ذلك فلم يتصدق واستمر المال عنده حتى مات الواهب أو المتصدق فإن الصدقة تبطل وترجع إلى ورثة الواهب أو المتصدق، وأما إن أشهد على ذلك حين دفع المال إلى من يتصدق به فإن الهبة لا تبطل بموت الواهب أو المتصدق وتكون للفقراء أو المساكين وهي من رأس المال، وقوله: كإن دفعت لن يتصدق عنك لخ، يعني وحصل المانع كما قررت أي حصل قبل تفرقة جميعها أو بعضها فتبطل كلها في الأول، والذي لم يفرق في الثاني، وأما بعد التفرقة فهي ماضية، فلو فرقها أو بعضها بعد علمه بالمانع ضمن الكل في الأول وما فرق في الثاني. قاله الخرشي. وهذا إن علم بموته كما عرفت وإلا فخلاف. قاله عبد الباقي. وقوله: كإن دفعت لخ، قال بناني: يجب تقييد المص بالصحة كما في المدونة، ونصها: ولو دفعت في الصحة مالا لن يفرقه على الفقراء أو في السبيل ثم مت قبل إنفاذه فإن كنت أشهدت فإنه ينفذ ما فات وما بقي وهو من رأس المال، وإن لم تشهد فالباقي لورثتك. اهـ. فالتفصيل بين الإشهاد وعدمه إنما هو في الصحيح لتوقف صحة تبرعه على الحيازة، وأما المريض فكل ما فعل فهو في الثلث مطلقا أشهد أو لم يشهد. قال في المدونة: وكل صدقة أو حبس أو هبة أو عطية بتلها مريض لرجل بعينه أو للمساكين فلم تخرج عن يده حتى مات فذلك نافذ في ثلثه كوصاياه اهـ. وبحث الرهوني في قول بناني: يجب تقييد المص بالصحة لخ بما لم يلح لي وجهه والله سبحانه أعلم. ولو نازعه الورثة في كونه أمر بالتفرقة ضمن ما فرقه قبل المانع وبعده

ص: 485

إن حلف من يظن علمه منهم. قاله عياض. قاله في الميسر. وقال عبد الباقي: ومفهوم قوله: ولم تشهد، أنه إن أشهد حين دفع المال إلى من يتصدق به ومات المتصدق لم تبطل قبل التفرقة بل تصح وتنفذ من رأس مال الصحيح وثلث مال المريض حين الدفع ويعطى للفقراء، ويصدق الفرق في التصدُّقِ بيمينه إن كانت الصدقة على غير معين وإلا لم يصدق. اهـ كلام عبد الباقي. لا إن باع واهب قبل علم الموهوب، هذه النسخة هي الصواب والعنى أن الهبة لا تبطل فيما إذا باع الواهب الهبة قبل أن يعلم بها الموهوب له أو بعد علمه ولم يفرط في حوزها كما يأتي، فله نقض البيع وإجازته وأخذ الثمن، وفي كثير من النسخ بأو عطفا على المفهوم، وإن عطف على المنطوق أفاد البطلان، وهو قول أشهب ومحمد. قاله بهرام لكن ذلك لا يناسب قوله: وإلا لخ، لأنه للخلاف فيما بعد العلم والتفريط، فالتبادر الصحة فيما قبل ذلك، وإلا بأن باع الواهب بعد علم الموهوب وتفريطه انعقد البيع على المشهور، وإذا انعقد فالثمن للمعطي رويت المدونة بفتح الطاء وكسرها، فعلى أنه اسم فاعل يكون الثمن للواهب وهو قول أشهب، وعلى أنه اسم مفعول يكون للموهوب له وهو قول مطرف.

أو جن أو مرض واتصلا بموته، عطف على المثبت والعاقل يميز، يعني أن الواهب إذا لم تحز عنه الهبة حتى جن أو مرض واتصل الجنون أو المرض بموته فإن الهبة تبطل وترجع للورثة، ولو قبضها الموهوب له قبل الموت لأن شرط الحوز كونه في صحة الواهب وعقله، واحترز بقوله: واتصلا بموته مما إذا أفاق المجنون أو صح المريض قبل موته فإن الموهوب له يأخذ هبته ولا تبطل. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: ولا تنفذ من ثلث ولا غيره (1) لوقوعها في الصحة ولم تخرج مخرج الوصية حتى تكون من الثلث، وظاهر المص أنها توقف حتى يعلم أيُفِيقُ أو يَصِحُّ قبل الموت وهو كذلك. اهـ. وقوله: أو مرض أي بغير جنون لأن عطف العام على الخاص كعكسه إنما يكون بالواو. قاله الخرشي.

1 - في الأصل: غيرها، والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 98.

ص: 486

تنبيهان: الأول: قال الحطاب: من بعث مالا ليشتري به ثوبا لزوجته فإن لم يبتله لها بالنية ويشهد لها فهي عدة له أن يرجع فيها. قاله ابن رشد. الثاني: قال الحطاب: من تصدق على رجل بمائة دينار وكتب له كتابا لوكيله ليدفعها إليه فقام على الوكيل بالكتاب ودفع إليه منها خمسين وقال له: اذهب سأدفع إليك الخمسين الباقية اليوم أو غدًا فمات المتصدق قبل أن يقبض المتصدق عليه الخمسين الباقية من الوكيل، قال: لا شيء عليه منها إذا لم يقبضها حتى مات المتصدق، وليس له أكثر من الخمسين التي قبض، لأن الوكيل بمنزلته. ابن رشد: هذا بين لأن يد الوكيل كيد الموكل. أو وّهَبَ لمودَع وَلم يَقبل لمَوْته، يعني أن الواهب إذا وهب وديعته لمن هي مودعة عنده ولم يقل قبلت حتى مات الواهب ثم ادعى الموهوب له أنه كان قد قبل قبل موته ونازعه الوارث فإن الهبة تبطل لعدم الحوز الذي هو شرط في صحة مُلْكِ الهبة وترجع الهبة حينئذ إلى ورثة الواهب، وإنما لم يعتبر حوز المودع لنفسه حيث لم يقبل لأن حوزه أوَّلًا إنما كان لغيره فيده كيد الواهب، فكأنها باقية بيده حتى مات، وتقدم أن الحوز يصح ولو كان على التراخي، وحكم العارية من عقار أو حيوان أو غير ذلك حكم الوديعة في القبول قبل الموت وعدم القبول كما في المدونة، وأشعر جعل المؤلف موت الواهب غاية لعدم القبول من المودَع بالفتح أنه قبل بعده، وأولى إذا لم يقبل أصلا. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: ولم يقبل لموته أي لم يظهر منه قبول ولا رد لموته ثم ادعى أنه كان قبل قبل موته ونازعه الورثة بطلت، وأما لو ظهر منه قبول أو رد فلا إشكال. اهـ. وقوله: أو وهب لِمودَعٍ ولم يقبل لموته، خالف في ذلك أشهب وقال بالصحة، لأن كونها بيده أحوز الحوز، واختاره محمد، وقوله: أو وهب لمودع ولم يقبل لموته، تحصيل القول فيمن وهب شيئا لمن هو في يده وديعة أو عارية أو كراء ونحو ذلك أو دينا عليه، فإن قبل في حياة الواهب صحت الهبة باتفاق، وإن علم ولم يقل: قبلت حتى مات الواهب بطلت عند ابن القاسم وصحت عند أشهب، وإن لم يعلم حتى مات الواهب بطلت باتفاق إلا على رواية شاذة أن الهبة لا تفتقر إلى قبول. قاله ابن رشد. ومفهوم قوله: لموته أن قبوله قبله معتبر ولو فارق المجلس، بخلاف من قال: بعتك بكذا ولم يقل له المبتاع شيئا فليس له بعد

ص: 487

الافتراق أن يقول: رضيت. قاله في التوضيح. وقال التتائي: ومفهومه أنه إذا قال قبل الموت: قبلت صحت ولو كان بين الإيجاب والقبول زمن طويل وهو ظاهر المدونة. اهـ.

وصح إن قبض ليتروى، يعني أنه يصح قبول الهبة بعد موت الواهب حيث قبضها الموهوب ليتروى أي ينظر في أمره هل يقبل الهبة أم لا؟ قال الخرشي: أي وصح القبول بعد موت الواهب إن كان الموهوب له قد قبض الشيء الموهوب ليتروى في أمره هل يقبل أم لا؟ انتهى. وقال الشبراخيتي: وصح الحوز إن قبض الموهوب له الهبة ليتروى في قبولها ثم قبل بعد موت الواهب وأولى قبله. اهـ. والفرق بين هذه والتي قبلها إنشاء القبض بعد الهبة لنفسه بخلاف الأولى، وفاعل صح ضمير يعود على القبول كما في تقرير الخرشي وعبد الباقي أو الحوز كما قال الشبراخيتي. والله سبحانه أعلم. أو جد فيه، يعني أن الموهوب له إذا جد في قبض الهبة والواهب يمنعه حتى مات فإن الهبة تصح، ففاعل جد ضمير يعود على الموهوب، والضمير المجرور عائد على القبض أو الحوز. قال الشبراخيتي: أو جد الموهوب له فيه أي في الحوز بعد حصول الهبة وامتناع الواهب منه حتى حصل المانع. اهـ. وقال عبد الباقي: أو جد الموهوب له فيه أي في قبض الهبة والواهب يمنعه حتى مات.

أو في تزكية شاهده، يعني أنه يصح الهبة حيث جد الموهوب له في تزكية الشاهد على الهبة واحدًا أو أكثر فمات الواهب ثم زكَّى الموهوب له الشاهد بعد أن مات الواهب. قال الخرشي: وكذلك لا تبطل الهبة إذا أنكرها الواهب وأقام الموهوب له بذلك بينة واحتاجت إلى التزكية فجد الموهوب له في تزكيتها فمات الواهب قبل التزكية، فإن الهبة ماضية، وذلك حوز وظاهره ولو طال زمن التزكية، والمراد بالشاهد الجنس. اهـ. وقوله: أو في تزكية شاهده، محمد: وليس له إيقافها إلا ببينة قريبة كالساعة، وأما في البعيدة فلا يحال بينها وبين ربها إلا بشاهد نقله في التوضيح، وقال الرهوني عند قوله: أو في تزكية شاهده ما نصه: يؤخذ منه بالأحرى أنه إذا قبل القاضي ثم أجل الواهب للإعذار فيه فمات أنها صحيحة، وانظر إذا لم يكن إلا مجرد الدعوى فأجل لإقامة الحجة فلم يأت بها حتى مات الواهب، وظاهر كلام المنجور الآتي أن الحكم كذلك، وقال ابن عرفة: وفيها إن تأخر الحوز لموت الواهب لخصومته بإنكاره إياها قضي بها إن

ص: 488

عدلت بينة الموهوب له. الباجي: قاله مطرف وأصبغ، وقال ابن الماجشون: تبطل. ولابن القاسم إن وقف القاضي العطية لينظر في صحتها قضي بها أشهب: إن منعها من الواهب فرفع حكمه عنها قضي بما ثبت عنده كما يقضى به في حياته، وإن لم يمنعه منها بطلت. وقال في المدونة: ومن تصدق عليه رجل بأرض فقبضها حيازتها، فإن كان لها وجه تحاز به من كراء تكرى أو حرث تحرث أو غلق يغلق عليها، فإن أمكنه شيء من ذلك فلم يفعله حتى مات المعطي فلا شيء له، وإن كانت أرضا قفارا مما لا تحاز بغلق ولا فيها كراء تكرى ولا أتى لها إبان تزرع فيه أو تمنح أو يحوزها بوجه يعرف حتى مات المعطي فهي نافذة للمعطى وحوزها الإشهاد، وإن كانت دارا حاضرة أو غائبة فلم يحزها حتى مات المعطي بطلت وإن لم يفرط لأن لها وجها تحاز به. اهـ. ابن ناجي: قوله: قفارا، بكسر القاف، يعني خالية، ثم قال: قوله: إن كانت دارا لخ، عياض: هذا أبين لأنه لا يراعى في عدم الحوز التفريط. اهـ. وسئل مالك عن الرجل يتصدق على ابن له حاضر معه بدار غائبة ببلاد غير بلاده فلا يقبضها ابنه حتى يموت أبوه أتراها له؟ قال: إن كان صغيرا يحوز له وليه فإني أرى ذلك له، وإن كان كبيرا فإني لا أرى ذلك له. فقلت له: فإنه لم يفرط في الخروج لعله كان يريد الخروج حتى مات أبوه؟ قال: وكذلك أيضا لو كان غيره ممن ليس هو مثله في القرابة، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن لم يخرجها فهي مال الوارث، فأرى إن لم يخرجها (1) فهي للورثة. اهـ. وليس في هذا مع قوله المتقدم في الأرض اختلاف حيث عذره في الأرض فاكتفى بالإشهاد دون الدار الغائبة للفرق بينهما بأن الدار لها وجه تحاز به. قاله الرهوني. واعلم أن المشهور أن التفريط وعدمه سواء في عدم الحوز، فتبطل الهبة بعدم الحوز وإن لم يفرط الموهوب له فيه ولا يرد على ذلك مسألة الجاد في الحوز، فإن العلة فيها ليست عدم التفريط وحده بل ذلك مع العاملة بنقيض المقصود قاله الرهوني. وأجاب عن مسائل منها هذه، ومنها مسألة الاستصحاب، ومسألة الإرسال، بما يعلم بالوقوف عليه.

1 - في الرهوني ج 7 ص 194: إن لم يحزها.

ص: 489

أو أعتق يعني أن الموهوب له إذا أعتق الرقيق الموهوب وهو بيد الواهب فمات الواهب وهو لم ينقل عنه فإن العتق ماض ويكون ذلك إمضاء للهبة. أو باع، يعني أن الموهوب له إذا باع الهبة قبل أن يقبضها فإنه تكون ماضية بذلد فلا يضر موت الواهب وهي عنده. أو وهب، يعني أن الهبة إذا وهبها الموهوب له وهي بيد الواهب فإنها تكون نافذة فلا يضر موت الواهب وهي بيده. قال الخرشي: يعني أن الهبة إذا أعتقها الموهوب له أو باعها قبل أن يقبضها أو وهبها فإنها تكون ماضية ويعد فعله ذلك حوزًا لها إذا أشهد على ذلك وأعلن بما فعله، وانظر ما فائدة الإعلان مع الإشهاد؟ ولعله بمثابة الحوز والإشهاد لإثبات ما ادعاه، والإعلان لا يشترط في العتق بل يكفي فيه الإشهاد لتشوف الشارع للحرية اهـ ويأتي قريبا أن القيدين إنما هما في الهبة. والله تعلى أعلم. وظاهر قوله: أو أعتق يشمل العتق لأجل فهو مفيت كالعتق الناجز، والظاهر أيضا أن الكتابة والتدبير مفيتان، كما قاله الرهوني. والله سبحانه أعلم.

إذا أشهد وأعلن، يعني أن الهبة إنما تفيت الهبة إذا أشهد الموهوب له عليها وأعْلنَ بذلك الإشهاد أي أظهره عند الحاكم، وأما العتق والبيع فلا يفتقران لذلك كما قاله الرماصي، فإنه قال: والنقل أنه يعني الإشهاد في الهبة فقط، وقال المص في التوضيح: إن القيدين يجريان في البيع فإنه قال: والقول بأنه يعني البيع حوز لمطرف ونحوه لمالك من رواية ابن وهب، لكن إن أشهد المعطَى على فعله وأعلن. انتهى. وأما الشهادة على الثلاثة فلا بد منها. قاله أبو علي. أو لم يُعْلَم بها إلا بعد موته، يعني أن الموهوب له إذا لم يعلم بالهبة حتى مات وعلم بها ورثته بعد موته فإن الهبة لا تبطل بل هي نافذة، وتنزل ورثة الموهوب له منزلته فيأخذها الوارث من الواهب الصحيح. قاله في المدونة. فقوله: يعلم مبني للمفعول أي لم يقع علم بالهبة إلا بعد موت الموهوب، والمتصف بالعلم هو وارث الموهوب له، لأن علم الموهوب له بعد الموت لا يمكن، وبها نانب الفاعل، وأما إذا جعل الضمير في موته راجعا للواهب فالهبة باطلة، وقد لا تبطل كما في مسألة أو أرسلها ثم مات، وقوله: ولم يُعلم بها إلا بعد موته أي الموهوب له كما علمت، قال الشيخ محمد بن الحسن بناني: واعلم أنه تارة تقوم قرينة على قصد التعميم، ولا شك أن للورثة المطالبة وتارة تقوم على قصد ضين الموهوب له ولا كلام لورثته، وعند الشك درج المص على أنه

ص: 490

بمنزلة ما إذا قامت قرينة على قصد التعميم، بهذا قرره الشيخ السناوي، ونحوه للشيخ أحمد بابا. اهـ. قوله: وتارة تقوم على قصد عين الموهوب له ولا كلام لورثته،

قال مقيده عفا الله عنه: هذا حيث لم يشهد الواهب على الهبة، وأما إن أشهد فقد مر أنها لا تبطل بموت من قصدت عينه، والله سبحانه أعلم. وقال عبد الباقي: أو لم يعلم بالبناء للمجهول، ونائب الفاعل بها أي الهبة، إلا بعد موته أي الموهوب له، فلما مات علم بها وارثه إن كان حرا أو سيده إن كان عبدا فلا تبطل ويأخذها من ذكر، وقوله: أو لم يعلم بها إلا بعد موته لو قال: أو لم يقبضها حتى مات ليشمل ما إذا علم بها الموهوب له وتركها بيد الواهب حتى مات الموهوب له فإن ورثته يقومون مقامه كما هو ظاهر المدونة، ونحوه قول ابن رشد: إذا مات المعطى المتصدق عليه فإن ورثته يقومون مقامه ويتنزلون منزلته في الرد والقبول إذا علموا قبل موت المعطي المتصدق. اهـ.

وحوز مخدم ومستعير مطلقا، معطوف على فاعل صح، يعني أن من أخدم رقيقا أي أعطى خدمته لشخص أو أعار شيئا لشخص ثم إن المالك وهب الرقيق المخدَم أو أعطى الشيء الستعار لغير المخدم أو المستعير فإن حوز المخدم بفتح الدال أو المستعير يكون حوزا للهبة فتنفذ الهبة للموهوب له ولو مات الواهب قبل أن يقبض الموهوب له الشيء المخدم أو المعار، ومعنى قوله: مطلقات سواء علم كل من المستعير أو المخدم بالهبة أم لا، قال في المدونة: ومن أخدم عبده لرجل أي وهب له خدمته سنين ثم هو بعد ذلك هبة لرجل آخر فقبضه المخدم ثم مات السيد في الأجل كان قبض المخدم قبضا لنفسه وللموهوب له. اهـ. وما في المواق من اشتراط رضى المخدم والمستعير بالحوز للموهوب له، قال مصطفى: وهو سهو منه إذْ لم يشترط في المدونة العلم ولا الرضى، ونصها: وأما العبد المخدم والمعار إلى أجل فقبض المخدم والمستعير له قبض للموهوب وهو من رأس المال إن مات الواهب قبل ذلك. ومودع إن علم، يعني أن من وهب وديعة لغير المودع فإنه يصح حوز المودع للموهوب له بشرط أن يعلم المودع بالهبة، ولا يشترط رضاه بأن يحوز للموهوب له. قال بناني: ولا يشترط إلا علمه فقط على ما مشى عليه المص، وهو قول ابن القاسم في العتبية، وأما علمه ورضاه معا فليس بمنصوص بل مخرج على فضلة الرهن، قال ابن عرفة: ومن وهب

ص: 491

وديعة لغير مودعها ولم يأمره بحوزها ففي صحة حوزها بمجرد كونها بيده أو بشرط علمه بالصدقة بها، ثالثها: بعلمه ورضاه بالحيازة، لابن رشد في رسم العشور من سماع عيسى عن المدونة، وابن القاسم في نوازل سحنون مع سماعه إياه في كتاب الوديعة، والتخريج على رهن فضلة الرهن إلا أن يفرق بقوة حوز الرهن. وقال اللخمي: إذا لم يعلم المودع لم يكن حوزه حوزًا بخلاف المخدم لأن المودع قبل العلم يحوز لربه والمخدم لنفسه. اهـ. وفي التوضيح: إذا وهب ما تحت يد المودع وعلم صحت، بخلاف ما تحت يد وكيله فإنه لا يصح إلا ما قبض. اهـ. ومن وهب لغائب هبة وأعلن بها وأشهد عليها وتخلى عنها صحت الهبة، وقيل: لا تصح حتى يخرجها إلى من يحوزها للغائب، وإن كانت الهبة لرجلين أحدهما غائب كان قبض الحاضر حيازة له وللغائب إذا قدم فإن قبلها وإلا رجعت حصته إلى الواهب. قاله ابن سلمون.

فرع: يصح حوز الغريم للموهوب له في الدين الذي عليه، ففي القلشاني: لو تصدق على ابنه الصغير بدنانير دين على رجل ومات الأب وهي بيده صحت لأنها حيزت لكونها على الغريم، فلو أخذها بقرب الهبة لم تبطل لأنها قد حيزت وكذا تسلفها، بخلاف ما لو وهبه دنانير وجعلها بيد الغير حيازة لابنه ورجعت إليه قبل السنة لغير عذر كسفر لا بعدها فتنفذ، كما لو أخذها لِعُذرٍ قبل السنة كغيرها. اهـ. وفي اختصار البجاءي لنوازل البرزلي: ومن تصدقت عليه بنصف عبدك فالحوز فيه أن يخدمك يوما ويخدمه يوما، أو عشرة أيام، فإن مت فهو حوز تام كان العبد حينئذ بيد المعطي أو المعطى، وإن كان عبدًا لغلَّة أجراه جميعا واقتسما الغلة، وأما إن تصدق بشقص له في عبد فلا يجوز أن يبقى بيد المتصدق منه شيء ولكن بيد الشريك أو المعطَى أو بأيديهما.

لا غاصب، يعني أن الشيء المغصوب إذا وهبه مالكه لأجنبي فإن حوز الغاصب لا يكون حوزا للموهوب له. قال عبد الباقي: لأنه ليس بوكيل عنه ولا أمره به، فإن أمره به ورضي بحوزه للموهوب له صح لأنه صار كالمودع. اهـ. قال بناني: ظاهره أن الحوز يصح بأمر الواهب، ولو كان الموهوب حاضرا رشيدا وفيه اختلاف، اهـ وقوله: لا غاصب هذا هو المشهور خلافا لأشهب، وقال بناني: قال عياض: قالوا لا خلاف إذا اشترط الواهب على الغاصب أن لا يدفعها إلى

ص: 492

الموهوب له إلا بأمره أنها لا تمضي، كما لا خلاف إذا قال له خذها له أو ادفعها له أو قال الموهوب: أمسكها عندك أنها تمضي، واختلف إذا لم يقل ادفعها ولا أمسكها. اهـ. ومرتهن، يعني أن حوز المرتهن إذا وهب الراهن الرهن الذي عنده لا يكون حوزًا للموهوب له، فإذا مات الواهب وهو بيد المرتهن فإن الهبة تبطل وتصير ميراثا، وإنما لم يكن حوز المرتهن حوزًا للموهوب له لأن له حقا في الرقبة بخلاف المخدم.

ومستأجر، يعني أن المستأجر لا يكون حوزه حوزًا للموهوب له لأنه إنما هو حائز لضرورة الاستيفاء، ولذلك إذا وهب المالك الأجرة للموهوب له أيضا فإنه يكون حائزا له، ولهذا قال: إلا أن يهب الإجارة، أي الأجرة، ولو عبر بها كان أولى، وهذا إذا وهب الأجرة للموهوب له قبل قبض الأجرة، وأما إن وهبها للموهوب له بعد ما قبضها من المستأجر فلا يكون حوز المستأجر حينئذ حوزًا له. ذكره ابن ناجي. قاله الخرشي وغيره. وقررت المص بأن المالك وهب الأجرة للموهوب له الرقبة المؤجرة وهو منقول عن المدونة، والظاهر أنه إذا وهب الأجرة للمستأجر صح الحوز أيضا كما للرهوني.

ولا إن رجعت إليه بعده بقرب، يعني أن الهبة إذا حازها الموهوب له ثم بعد ذلك رجعت إلى الواهب بقرب فإن كان أمد الحوز قليلا فإن حوز الموهوب له يبطل حيث بقيت عند الواهب حتى مات، وللموهوب له استرجاعها من الواهب ليصح حوزه، فالذي يبطل إنما هو الحوز الأول، ومراد من عبر من أهل المذهب ببطلان الهبة هنا إنما هو بطلان الحوز لا بطلان الهبة حقيقة. قال الشبراخيتي: وانظر لو رجعت إليه بنكاح كما لو كانت أمة فزوجها منه، وأفتى بعض شيوخنا بأنه ليس كذلك فلا تبطل الهبة. اهـ. وقوله: بقرب، مفهومه يأتي قريبا إن شاء الله تعالى. بأن آجرها أو أرفق بها، الفعلان مبنيان للفاعل، والفاعل فيهما الموهوب له، والباء للتصوير، وهو الظاهر أو للآلة أو للسبب، يعني أن الهبة إذا رجعت إلى الواهب بعد حوز الموهوب له بقرب الحوز بأن يواجرها الموهوب له للواهب أو يرفق بها أي يعطيها له على وجه الرفق كالعارية والعمرى والإخدام وحصل مانع في الصورتين فإن تلك الحيازة كعدمها ويبطل حقه، وأما إن لم يحصل مانع فلا تبطل وله أن يحوزها وتتم الهبة، والضمير في بها راجع

ص: 493

للهبة. قاله الشبراخيتي وغيره. بخلاف سنة، هذا مفهوم قوله: بقرب، يعني أن الهبة إذا رجعت إلى الواهب بعد بُعد كسنة فإن الحوز لا يبطل حينئذ وتتم الهبة، ولَا فرقَ بين المحجور وغيره على الراجح كما في الرهوني، كان للهبة غلة أم لا، لطول مدة الحيازة، وهذا بخلاف الرهن فيبطل برجوعه للراهن، وبخلاف الوقف إذا عاد إليه بعد صرفه ولو بقرب فلا يبطل. قاله عبد الباقي. يعني فيما لا غلة له فقط كما مر في قوله: أو ككتاب عاد إليه لخ، وقوله: بخلاف سنة هو الذي رواه محمد عن مالك وأصحابه، ومقابله البطلان لمطرف وابن الماجشون، والأول قال ابن عبد السلام: هو الأقرب. اهـ. وهو الذي نصره المحققون، ومقابله في نوازل الهبات والصدقات من المعيار، قال المدنيون: لو حاز الموهوب له الهبة الزمن الطويل أو السنين الكثيرة ثم رجعت الهبة للواهب ومات وهي بيده بطلت الهبة قياسا على الرهن وليس كما قاسوا، وحيازة الرهن بكتاب الله عز وجل لا يجوز لأحد خلافه، وحيازة الهبة لا بنص. اهـ. قاله الرهوني. ومحل الخلاف إذا لم يرجع مختفيا ونحوه وإلا فلا تبطل عند مطرف ومن وافقه، ولو رجع قبل السنة فأحرى بعدها. قاله الرهوني أيضا. وقوله: بخلاف سنة، قال المواق: قال ابن حبيب: ذهب ابن القاسم إلى أنه إذا حازها المعطَى سنة ثم سكنها المعطِي بكراء أو منحة أو بأي وجه فإن ذلك لا يبطلها وهي نافذة.

أو رجع مختفيا أو ضيفا فمات، يعني أنه لو وهب شخص دارا فحازها الموهوب له ورجح الواهب للدار مختفيا عند الموهوب لخوف مثلا فمات في الدار فإن الهبة لا تبطل، وكذلك لو استضاف الواهب الموهوب له فأسكنه في الدار فمات الواهب في الدار فإن الهبة نافذة، قال التتائي ونحوه للشبراخيتي: أو رجع الواهب مختفيا عن الموهوب له لدار وهبها وحازها الموهوب له بأن وجدها الواهب خالية فسكنها ومات فيها، أو رجع ضيفا فنزل عند الموهوب له بالدار الموهوبة فمات بها، فإن ذلك لا يبطل الهبة في المسألتين، وظاهره كان الرجوع عن قرب أو بعدٍ وهو كذلك، قال مطرف وابن الماجشون: ولو بعد يوم واحد. اهـ. وعلم مما قررت أن قوله: فمات، راجع للمسألتين، قال الشبراخيتي: ومثل ما إذا كان ضيفا ما إذا كان زائرا كما نقله ابن

ص: 494

عرفة عن ابن حارث. اهـ. وقال بناني: في المواق عن ابن المواز: وإذا حاز [المعطى (1)] الدار وسكن ثم استضافه المعطي فأضافه أو مرض عنده حتى مات أو اختفى عنده حتى مات فلا يضر ذلك العطية. اهـ.

وهبة أحد الزوجين للآخر متاعا، هبة بالرفع عطف على فاعل صح، وبالجر عطف على سنة، يعني أن أحد الزوجين إذا وهب لصاحبه متاعا فإن الهبة نافذة صحيحة وإن لم يرفع الواهب يده عن متاعه حتى مات للضرورة، قال بناني: المراد بالمتاع هنا متاع البيت والخادم فقط كما في لفظ ابن الحاجب ونقل التوضيح والمواق وغيرهما، فيقيد بهما كلام المؤلف. ابن عاشر: الأظهر خفض هبة عطفا على مدخول بخلاف، والمعنى أن هبة أحد الزوجين صاحبه متاعا تدعو الحاجة إلى جولان يد الواهب فيه تصح، وأما غير ذلك فلا بد من حوز الموهوب له إياه. اهـ. وقال بناني أيضا: اعلم أن الجزيري ألحق أيضا الحيوان بالرقيق وألحق بالزوجين الأب يهب لابنه الصغير والأم كذلك. اهـ. وقال في اليسر: وبخلاف هبة أحد الزوجين للآخر متاعا، قال في الكافي: وهذا في المتاع كله والعروض كلها وما يكون بين أيديهما في البيت معهما. اهـ. وكذلك الخادم. اهـ. وقال المواق: من كتاب محمد والعتبية قال ابن القاسم عن مالك: من تصدق على امرأته بخادمه وهي معه في البيت فكانت تخدمها بحال ما كانت فذلك جائز، قال سحنون: وكذلك لو وهبها إياها فهو حوز. اهـ. وقي التوضيح من سماع أشهب عن مالك: في امرأة نحلت ابنا لها صغيرا عبدًا فلم يحزه الأب ولا الولي حتى ماتت الأم إن ذلك يختلف، فأما غلام الخراج فليس بحوز للصبي، وأما غلام الخدمة يخدمه ويختلف معه ويقوم في حوائجه فإنه حوزت وكذا لو نحله أبوه الغلام وهو مع أبيه لكان اختلافه معه وخدمته له حوزًا وإن خدم الابن مع الأب إلى أن مات الأب. اهـ. وقال الشبراخيتي: ومثل هبة أحد الزوجين للآخر متاعا هبة أم الولد لسيدها أو سيدها لها متاعا. اهـ.

1 - في الأصل المعطى والمثبت من المواق ج 6 ص 66 ط دار الفكر.

ص: 495

وهبة زوجة دار سكناها لزوجها، يعني أن هبة الزوجة دار سكناها لزوجها تصح وتنفذ ولو أقامت بها معه حتى ماتت. لا العكس، يعني أن هبة الزوج لزوجته دار سكناه وأقام بها معها حتى مات فإن ذلك لا يصح والدار ميراث قال ابن القاسم: والمسكن الذي هما به يتصدق هو به عليها فأقاما فيه حتى مات فإن ذلك ميراث، ولو قامت عليه في صحته قضي لها. أصبغ: يعني أن يسكنها غيره حتى تحوز السكن، وأما لو تصدقت هي عليه بالمنزل وهما فيه فذلك حوز لأن عليه أن يسكن زوجته فسكناه بها فيه حوز، أصبغ: وكذا إذا تصدقت بدارها على ولدها الصغير والأب ساكن معها فيها فالصدقة جائزة إذا أسكنت الأب من الدار حتى لو شاء أن يخرجها من الدار فعل. اهـ. قال بناني: لو وهبت دار سكناها لزوجها أو لبنيه وشرطت عليه أن لا يخرجها منها أو لا يبيعها، فقال ابن رشد في نوازل أصبغ من العتبية: لا يجوز ذلك ولا يكون سكناه معها فيها حيازة له ولا لهم. اهـ. وبه يرد ما ذكره الأجهوري من صحة الهبة بالشرط المذكور. اهـ. قال الرهوني بعد كلام: فإن كان مراد بناني أنها شرطت عليه الأمرين معا كما هو مقتضى ما في النسخة التي بيدي منه من عطفه بالواو صح ما قاله من أنه يُرَدُّ كلام الأجهوري، وإن كان ابن رشد لم يذكر البيع أصلا ولكن الذي في كلام الرماصي عن الأجهوري عطفُه بأو، والظاهر من كلامه أنه إنما رد عليه في مسألة أن لا يخرجها، وكيف يجمل به أن يعترض ما قاله الأجهوري في مسألة شرطة أن لا يبيع من أنه يجري فيها ما جرى فيمن وهب هبة وشرط على الموهوب أن لا يبيع. اهـ.

ولا إن بقيت عنده، عطف على قوله: لا العكس، يعني أن الهبة إذا بقيت عند واهبها إلى أن حصل له مانع من فلس أو موت مثلا فإنها تبطل لفوات الحوز الذي هو شرط في صحة الهبة، وسواء علم الموهوب بها أم لا فالضمير في بقيت عائد على الهبة بمعنى الشيء الموهوب المفهوم من الهبة بمعنى التمليك. قاله غير واحد. وقال الرهوني عند قوله: ولا إن بقيت عنده، هذا مقيد بقيدين: الأول: أن يكون ذلك في الصحة أو في المرض ثم صح منه صحة بينة، فإن وهب في مرضه فمات منه فلا تبطل ببقائها بيده كما في نص المدونة وغيرها. الثاني: أن لا يقول حين وهب له هي له عشت أو مت وإلا فلا تبطل بل تكون في ثلثه. قال ابن القاسم: أما الذي قال:

ص: 496

ثلاثون دينارا من مالي صدقة على فلان عشت أو مت، فهو إن قام عليه في حياته أخذها منه متى قام عليه، وإن مات الواهب قبل أن يأخذها منه كانت في الثلث وأخذها من ثلثه، وإن مات المتصدق عليه قبل أخذها فورثته بمثابته لهم ما كان له في حياة المتصدق وبعد مماته. اهـ المراد منه.

إلا لمَحْجُورِه مستثنى من مقدر، أي ولا إن بقيت لكل شخص موهوب إلا لمحجوره، يعني أنه إذا وهب لمحجوره هبة واستمرت عند الواهب إلى أن فلس أو مات فإنها لا تبطل لأن الواهب هو الذي يحوز لمحجوره، وسواء كان المحجور صغيرا أو سفيها، وسواء كان الولي أبا أو وصيا أو مقدما من قبل القاضي، ولا بد في صحة الحوز له من الإشهاد على الهبة، وإن لم يحضرها لهم ولا عاينوا الحيازة ولا صرف الغلة على المعتمد، كما أفتى به ابن عرفة والغبريني والرصاع، ونحوه لابن رشد وبه العمل. قاله عبد الباقي. وقال بناني: ذكر ابن سلمون فيما إذا لم يصرف الغلة للموهوب له قولين، ويظهر منه ترجيح القول ببطلان الهبة إذا ثبت أن الأب كان يصرف الغلة في مصالح نفسه مثل ما في الوقف، وكذا قال الشيخ ابن رحال في حاشية شرح التحفة: الذي رجحه الناس هو شرط صرف الغلة لمحجوره في الحبس والهبة وأنه لا فرق بينهما. اهـ. وقال الرهوني بعد جلب أنقال: والحق أن كلا من القولين راجح لكن ما اعتمده الأجهوري ومن تبعه في الهبة والصدقة أرجح، ثم قال بعد جلب كثير من النقول: فَتَحَصَّلَ أن ما رجحه الأجهوري وأتباعه وسلمه التاودي راجح غاية، وأنه من الشهرة والوضوح في نهاية، وأن اعتراض محمد بن الحسن بناني عليهم ساقط وإن تبع فيه أبا علي، والحكم كله للكبير المتعال. اهـ. والفرق خلى هذا الراجح الذي مشى عليه المص بين الوقف والصدقة والهبة أن الواقف خرج عن الغلة فقط فاشترط صرفها بخلاف الواهب والتصدق فكل منهما خرج عن الذات.

إلا ما لا يعرف بعينه، مستثنى من مقدر بعد قوله: إلا لمحجوره، كما أن الاستثناء الذي قبله من مقدر كما مر، أي إلا لمحجوره فيحُوزُ له كلَّ شيء موهوب إلا ما لا يعرف بعينه، والمعنى أن الواهب إذا وهب لمحجوره شيئا لا يعرف بعينه كالدراهم والدنانير والمكيلات والموزونات وأبقاها تحت يده إلى أن فُلِّس مثلا فإنها تبطل، ولو ختم عليها بختمه بحضرة الشهود على المشهور،

ص: 497

وبه العمل، نعم إن ختم عليها وحازها له عند غيره إلى أن فُلِّس أو مات فإنها تصح. قاله الخرشي. وقوله: ولا إن بقيت عنده هذا مستغنى عنه بما تقدم، وكأنه أتى به توطئة لما ذكره بعد. قاله بناني. وقال عن المتيطي: قبض الأب لابنه الصغير جائز، والإشهاد بالصدقة يغني عن ذكر الحيازة، قال: ويضمن ذلك معرفة الشهود صغر الابن ليلا يقوم عليه من يدَّعي أن الأب إنما تصدق عليه وهو كبير لم يحز، ويقول هو: كنت صغيرا، ولم يعلم الشهود ذلك، واختلف إذا وقع ذلك أيهما يقبل؟ اهـ. ونقل أبو محمد صالح الاتفاق على أنه إذا أشهد الأب على هبته لولده ولم يزد على قوله: أشهد أني وهبت له كذا، فإنها حيازة، وهذا فيما يعرف بعينه من الأصول والعروض، واختلف في هبة ما لا يعرف بعينه كالذهب والفضة واللؤلؤ والمكيلات والموزونات، فروى ابن القاسم عن مالك وبه أخذ المصريون وغيرهم: أنه لا يتم ولو ختم عليه بحضرة الشهود إلا أن يُجعل على يد غيره، وذهب المدنيون إلى أنه يتم الحوز فيها بوضعها على يده إذا أحضرها وختم عليها بخاتمه، قالوا: وتصح أيضا وإن لم يختمها الشهود، وإن ختموا عليها كان خيرا وأحسن. اهـ.

تنبيهات: الأول: دليل ما مر من أنَّ الإشهاد حوز للمحجور لا بد منه في صحة الهبة حيث مات الواهب وهي بيده لم تحز عنه قول عثمان رضي الله عنه: من نحل ولدا له صغيرا لم يبلغ فأعلن ذلك وأشهد فهي جائزة (1) وفي الواضحة نحوه عن الخلفاء الأربعة، وابن عمر، وابن عباس، وعن ابن عبد السلام أنه يقال في الإشهاد: رفع يد الملك ووضع يد الحوز. ومعنى ذلك كما للأجهوري أن البينة تقول ذلك. وذكر ابن غازي أن ابن راشد القفصي وهب كتابا لولده وكتب على ظهره، ولا أقول كما يقول جهلة الموثقين: رفع يد الملك ووضع يد الحوز. انتهى. نقله في الميسر. الثاني: لو ثبت الحوز للهبة كانت للمحجور أو غيره وعادت إلى الواهب وشك في ذلك هل عادت إليه قبل السنة أو بعدها، فقيل: تبطل الهبة، وقيل: لا تبطل. الرهوني: عدم البطلان هو الظاهر عندي. الثالث: لو شهد شاهدان أنه حاز وشهد آخران أنه لم يحز فشهادة من شهد له بالحوز

1 - الموطأ، كتاب الوصية، رقم 9.

ص: 498

هي المعمول بها ولو كانت الأخرى أعدل، وهذا هو الراجح الأقوى الذي يتعين القضاء به والفتوى.

ودار سكناه، معطوف على ما مر من قوله: ما لا يعرف بعينه، يعني أن هبة الولي دار سكناه لمحجوره إذا سكنها حتى حصل له مانع فإنها لا تصح بل تبطل وترجع ميراثا، قال بناني عن مصطفى: تفارق دار سكناه غيرها في كونها لا بد من إخلائها من شواغله ومعاينة البينة لذلك ثم تبقى بيده، ففي وثائق الباجي: وإن كانت الصدقة في دار يسكنها الأب فلا تجوز حتى يُخليها الأب من أهله وثقله وتكون فارغة ويكريها للابن، فإن لم يكن على هذا لم تجز الصدقة. اهـ. ونحوه للمتيطي والجزيري وابن عرفة، والحاصل أنه تفترق دار السكنى من غيرها في هبة الأب للصغير في أن دار السكنى لا بد فيها من معاينة البينة للتخلي ومثلها الملبوس، وأما غيرهما فيكفي الإشهاد بالصدقة وإن لم تعاين الحيازة. المتيطي: والإشهاد بصدقته يغني عن الحيازة وإحضار الشهود لها فيما لا يسكنه الأب ولا يلبسه. اهـ. وتقدم النقل عن الباجي الموثق، وليس هو القاضي أبا الوليد المشهور صاحب المنتقى، بل الباجي صاحب الوثائق هو ابن شريعة يضبط آخره بالعين المهملة وبالفاء كان معاصرا لابن المكوي. قاله في تكميل التقييد في كتاب الوقف. اهـ.

إلا أن يسكن أقلها ويكري له الأكثر، يعني أن الواهب لمحجوره دار سكناه إذا سكن أقلها أي ما دون النصف على ظاهر المص، والثلث فدون على ما رجحه الرهوني، وأكرى لمحجوره الأكثر أي أكثر الدار التي وهبها له فإن الهبة صحيحة نافذة ولو حصل بالواهب مانع على تلك الحالة. فإن سكن النصف، أي وإذا سكن الواهب دار سكناه نصفها وأكرى النصف الآخر لمحجوره بطل النصف الذي سكنه الحاجر فقط دون النصف الذي أكرى لمحجوره، فإن الصدقة به أو الهبة صحيحة نافذة، وإن سكن الحاجر الأكثر أي أكثر الدار وأكرى للموهوب له أقلها بطل الجميع، أي ما سكن وما أكرى، أي تبطل الهبة أو الصدقة بالدار وترجع ميراثا، ومقتضى كلام المص أن ما دون النصف من قبيل الأقل، ولكن قال الرهوني بعد جلب نقول: فَتَحصَّلَ مما سبق أن الراجح أن الأقل في كلام المص هو الثلث فدون. اهـ. وما يقتضيه المص من أن ما دون النصف وإن

ص: 499

زاد على الثلث هو الأقل هو الذي في كلام عبد الحق في النكت الذي اختصره المص هنا. وقد سلم ابن عرفة كلام النكت. وقال عياض بعد أن نقل كلام النكت: هذا صحيح من النظر ظاهر من لفظ الكتاب. اهـ. قاله الرهوني أيضا. وقال الخرشي: وكلام المص في المحجور، أما لو وهب الأب دار سكناه لكبار ولده يعني الرشداء فلا يبطل منها إلا ما سكنه فقط، ويصح ما حاز الولد كان كثيرا أو يسيرا، والوقف مثل الهبة في ذلك. اهـ. وقال عبد الباقي: وإلا دار سكناه فلا تصح هبتها له وكذا ثوب لبسه إلا أن يسكن الأقل ويكري له الأكثر فلا يضر وتصير كلها للمحجور، وإن سكن النصف وأكرى له النصف الثاني بطل ما سكن فقط وصح ما أكراه له، فإن لم يكره له ولا الأكثر في الأولى بطل الجميع، وإن سكن الأكثر وأكرى له الأقل، وأولى إن أبقاه خاليا بطل الجميع، وموضوع تفصيله المذكور في المحجور، ولو بلغ أو رشد ولم يحز، وأما لو وهب الأب دار سكناه لولده الكبير الرشيد أو تصدق بها عليه فلا يبطل فيهما إلا ما سكنه فقط، ويصح ما حازه ولو أقلها، والوقف مثل الهبة في ذلك، ولو تعددت الدور الموهوبة لمحجوره في عقد واحدٍ وسكن واحدة جرى في ذلكَ تفصيل المص بين كون التي سكنها جل الموهوب أو تبعا أو نصفا. اهـ. قوله: ولو بلغ أو رشد ولم يحز، هذا يقتضي أنه بعد رشده لا يحتاج إلى أن يحوز لنفسه وأن حوز الأب له كاف وليس كذلك، لقول المص فيما تقدم "أو لم يحزه كبير وقف عليه" وقال في المدونة: والأب يحوز لصغار ولده. ثم قال: فإن مات الأب قبل رشد الابن فذلك لهم نافذ، وإن بلغوا مبلغا تجوز حيازتهم فلم يحوزوا حتى مات الأب بطلت هبة الأب من ذلك. انتهى. وقول الخرشي وعبد الباقي في هبته للولد الكبير الرشيد، تعقبه بناني بقوله: في الهبة للرشيد تفصيل آخر، قال ابن عرفة: بعض شيوخ عبد الحق: إن سكن الأقل صح جميعها ولو كان الأولاد كبارا، وإن سكن الأكثر بطل الجميع إن كان الأولاد صغارا، وما سكنه فقط إن كانوا كبارا. اهـ. وبه يتبين ما في كلام الزرقاني. والله أعلم. اهـ. وقال الشبراخيتي عند قوله: إلا أن يسكن أقلها ويكري له الأكثر ما نصه: وأما لو عطل بأن أغلق الدار مثلا فإنها تبطل وهو ظاهر إن وجد من يكري له أي لأن تركه لكرائه مَنْعٌ له فكأنه أبقاه لنفسه، وذلك كإشغاله إياه بسكناه. اهـ. ومثله في المواق.

ص: 500

تنبيهات: الأول: قال الرهوني عند قول المص: أو دار سكناه ظاهره أنه إذا لم تكن دار سكناه تصح ولو سكنت بها أم المحجور من زوجة أو أم ولد وهو كذلك، قال في المفيد: قال ابن حبيب: قال عبد الملك: وإن سكن مع البنين الصغار أو الكبار في أحباسهم أو صدقاتهم أمهاتُهم فذلك لهم قبضٌ وحوزٌ، وإن كانت أمهاتهم تحت آبائهم المحبِّسين أو المتصدِّقين بتزويج أو شراء ما لم يكن ذلك لهم مسكنا خاصا يستوطنونه معهم، كذلك قال المدنيون والمصريون ولم يختلفوا فيه. اهـ. وفي المعين: قال ابن حبيب يجوز للأب أن يسكن مع أولاده الصغار أو الكبار أمهاتِهم حياتهم فيما تصدق به عليهم، ولا يبطل ذلك حيازتهم وصدقاتهم وإن كانت الأمهات تحت الآباء بتزويج أو شراء أو غيره ما لم يكن ذلك مسكنا للأب خاصة يستوطنه مع أهله. قال ابن حبيب: وكذلك قال المصريون والمدنيون، يريد من أصحابنا. اهـ. وظاهر هذا ولو شرط الأب ذلك وصرح به في طرر ابن عات، ففيها: إذا تصدق على ابنه الصغير أو الكبير وشرط سكنى أمه معه فيها ولم تكن سكنى للأب بخاص جاز ذلك، وإن كانت الأم في العصمة. اهـ.

الثاني: قال بناني عند قول المص: إلا أن يسكن أقلها، ظاهره أن هذا التفصيل خاص بدار السكنى وليس كذلك، بل هو جار في هبة الدار مطلقا كما هو ظاهر المدونة ونقله المواق، بل وكذا الثياب يلبسها أو بعضها، وكذا ما لا يعرف بعينه إذا أخرج بعضه وبقي البعض في يده. قاله في البيان. انظر مصطفى. ونحوه في المتيطي، ونصه: فإن كانت الدار التي سكن تبعا لما لم يسكن من الدور، والثياب التي لبس تبعا لما لم يلبس، والناض الذي لم يخرجه من يده تبعا لما أخرجه منه، وحوزه على يد غيره جاز ذلك، وإلا لم يجز. اهـ. وهذا فيما وهبه لمحجوره، وفي الرشيد تفصيل إلى آخر ما مر. الثالث: إذا وهب الولي لصغير وبلغ ولم يحز قبل موت وليه فقد اختلف هل يحمل على الرشد أو السفه؟ وهو ظاهر المدونة، والأول أي حمله على الرشد رواية زياد، قال أبو الحسن لا ذكر الخلاف في الصبي إذا بلغ هل يحمل على السفه أو الرشد ما نصه: وفائدة الخلاف تظهر في موت الأب، فعلى قول ابن القاسم إذا مات الأب بعد بلوغ الصبي لا تبطل الهبة حتى يُؤنس منه الرشد، وعلى رواية زياد تبطل، ثم قال: وهذا فيمن جهل حاله. اهـ. قاله بناني.

ص: 501

الرابع: قد مر عن الشيخ محمد بن الحسن بناني أن الولد إذا لم يحز بعد رشده فإن الهبة تبطل، فظاهره أنها تبطل ولو لم يعلم بهبة الأب أو صدقته عليه وهو أحد أقوال ثلاثة، وثانيها: الصحة، قال الرهوني: والصواب هو البطلان وإنه الحق الذي لا ينبغي أن يختلف فيه. اهـ المراد منه. وسئل أبو الفضل العقباني عن رجل تصدق على أولاد صغار بدار وبستان واحتازها لهم بأتم حوزت فمات اثنان منهم فعمد الوالد للبستان فباعه ولم يكن عند الولد الباقي علم بالصدقة إلى أن مات والده، فوجد الرسم وقام على المشتري، فهل بيع الوالد نصيبه مع نصيب ولده الحي ماض أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، موت المتصدق قبل حوز المتصدق عليه وعلمه بالصدقة مبطل للصدقة وموجب أن لا يكون له شيء في الثمن ولا في المثمون، لكن لو كان البيع من الأب والولد صغير وجب للولد الثمن في مال الأب. اهـ. الخامس: قد مر أنه يجري ما مر من التفصيل في الدار في غيرها كالثياب والدنانير وكذا الحكم فيما إذا كانت الهبة مشتملة على أصناف، قال القاضي أبو مروان: كان أبي وهبني وأخي جميع دوره ورباعه وكتبه من الفقه والطب والأدب في صحته ثم إنه قرأ في الكتب، وأرادوا إبطال الهبة فَكُتِبَ فيها إلى الشيخين أبي عبد الله بن عتاب وأبي عمر أحمد بن عيسى بن القطان، فأفتيا أن الكتب إذا كانت ثلث جميع الموهوب من الدور وغير ذلك فأقل فالهبة جائزة. اهـ. وفي المعيار وسياقه أن المسؤول أبو القاسم: وسئل رحمه الله عمن تصدق بقرية وفيها أرض وكرم ودور فسكن منها دارًا هل يصح الجميع وتكون الدار تبعا للجميع كالدار في الدور التي لها عدد إذ الصدقة بالجميع في مرة واحدة؟ فأجاب: إن كانت هذه الصدقة التي سألت عنها على من يحوز له المتصدق ووقع السكون في ثلث الكل فدون فإن الصدقة كلها جائزة، وإن وقع السكون في النصف ودون النصف وفوق الثلث بطل ما سكن وجاز ما لم يسكن، وإن كان السكون أكثر من النصف بطل الكل، وأما إن كانت على من يحوز لنفسه فسكن المتصدق الأقل جاز الجميع أيضا إن حاز المتصدق عليهم الأكثر وإن حاز المتصدق عليهم الأقل جاز لهم ما حازوه، وهذا كله على مذهب مالك ومشهوره، وجله استحسان، وفي بعضه اختلاف وهذا أحسنه اهـ ونقله الرهوني رحمه الله تعالى وعزا مثل هذا لابن زرب ولابن رشد في الأجوبة، وله في البيان خلاف هذا، قال: ونقل المواق هنا بعضه، ونقله المتيطي بتمامه وسلماه، وفي تسليمهما له

ص: 502

واقتصارهما عليه نظر لمخالفته كلام ابن رشد نفسه وكلام غيره من الأئمة، ففي أجوبته ما نصه: لخ، فأفاد أن المعول عليه ما له في الأجوبة لموافقته لفتاوي الأئمة لا ما له في البيان فإنه يعترض. والله سبحانه أعلم.

السادس: قال الرهوني: قال في طرر ابن عات: وهو في الدار محمول على أنه كان يسكنها ويشغلها بمتاعه وحشمه حتى يثبت إخلاؤه لها أو أنه لم يكن قبل موته يسكنها أو لا يشغلها. اهـ. السابع: قال ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ: إن ما عدا المسكون والملبوس من الأشياء كلها فحيازة الأب بالإشهاد عليها والإعلان بها كما جاء عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، قالوا: وسواء كانت أرضا فاحترثها أو أكراها أو منحها، أو كانت جنانا فأكل ثمرها أو أطعمها أو باعها باسمه أو باسم ولده، أو كان غلاما فاختدمه، أو دابة فركبها وحمل عليها، أو كانت ماشية فاحتلبها وأكل رسلها، أو بقرا فاحترث بها أو درس عليها، أو مصحفا فقرأ فيه، أو قوسا فرمى بها، هذا كله جائز والصدقة به ماضية، قال ابن الماجشون: وهذا الذي سمعنا من علمائنا وجميع أصحابنا والذي قضت به حكامنا. اهـ. نقله الرهوني. ونقل غيره مما يدل على أن تعدي الأب على غلة واجبة لبنيه لا يكون نقضا لحبسه ولا لهبته رادا على المتيطي ومن تبعه، ولا ذكر الهبة التي هي تمليك الذات أعقبها بالعمرى، فقال:

وجازت العمرى، يعني أن العمرى جائزة في كل شيء من دور وثياب وحلي وغير ذلك، وعبر بالجواز وإن كانت مندوبة ليفيد عدم الجواز فيما يذكر في الخرج وهي في الحوز كالهبة. قاله غير واحد. والعمرى بضم المعين وسكون الميم مأخوذ من العمر، وعرف ابن عرفة العمرى بقوله: تمليك منفعة حياة المعطَى بغير عوض إنشاء. انتهى. فخرج بقوله منفعة إعطاء الذات، وبحياة المعطَى بفتح الطاء الحبس المؤبد والعارية، وأخرج بقوله: بغير عوض، ما إذا كان بعوض فإنها إجارة فاسدة، وقوله: إنشاء، أخرج به الحكم باستحقاق العُمْرى. قاله غير واحد. ولا يشترط لفظ الإعمار والعمرى، بل ما دل على إعطاء المنفعة فهو صيغة كما قال ابن عرفة كلفظ الهبة والإنحال والإغلال والإملاك والإسكان والإخبال والإمتاع والإعطاء والإفقار ونحو ذلك، والإفقار إعارة فقار الناقة ليركبها، والإخبال بخاء معجمة فموحدة إعارة الناقة بأوبارها وألبانها، أو فرسا لمن يغزو

ص: 503

عليها، وهي مثل الإكفاء. اهـ. قاله الشبراخيتي. وحكمها الأصلي الندب كما مر. وقد تعرض لها الكراهة كما إذا أعمرها لمن يخشى منه فعل معصية فيها، والتحريم كما إذا تحقق فعله فيها معصية. انظر الشبراخيتي. وقال الحطاب: قال الماجي: العمرى ما دل على هبة المنفعة دون الرقبة، كأسكنتك هذه الدار عمرك أو وهبتك سكناها عمرك ومن المدونة ومن قال قد أعمرتك هذه الدار حياتك أو قال: هذه الدابة أو هذا العبد، جاز ذلك وترجع بعد موته إلى الذي أعمرها أو إلى ورثته، ومن قال: داري هذه لك صدقة سكنى فإنما له السكنى دون رقبتها، وإن قال له قد أسكنتك هذه الدار وعقبك من بعدك، أو قال: هذه الدار لك ولعقبك سكنى فإنها ترجع إليه ملكا بعد انقراضهم، فإن مات فإلى أوْلَى الناس به يوم مات، أو إلى ورثتهم لأنهم هم ورثته، وفي المجموعة والموازية لابن القاسم وأشهب: من قيل له: هي لك صدقة سكنى فليس له إلا سكناها دون رقبتها. اللخمي: والعمرى ثلاثة أقسام، مقيدة بأجل أو حياة المعمر، ومطلقة، ومعقبة، فإن كانت مقيدة بأجل كأعمرتك هذه الدار سنة أو عشرًا أو حياتي أو حياتك كانت على ما أعطى، وإن أطلق ولم يقيد كانت محمولة على عمر المعطَى، وإن عقَّبها فقال. أعمرتك وعقبك لم ترجع إليه إلا أن ينقرض العقب. انتهى. وقال ابن جزي: والعمرى جائزة إجماعا، وهي أن يقول: أعمرتك داري أو ضيعتي أو أسكنتك أو وهبت لك سكناها أو استغلالها، فهو قد وهب له منفعتها فينتفع بها حياته، فإذا مات رجعت إلى ربها، وان قال: لك ولعقبك فإذا انقرض عقبه رجعت إلى ربها أو إلى ورثته. كأعمرتك، مثال للصيغة يعني أنه إذا قال أعمرتك هذه الدار أو غيرها فإن ذلك هو حقيقة العمرى، فينصرف ذلك لحياة المعمر، وأشعرت الكاف باشتراط تعيين المعمر بالفتح بخلاف الحبس كما يشعر به قوله: بحبست. أو وارثك، يعني أنه إذا قال أعمرت وارثك فإن ذلك ينصرف لحياة المعمر الذي هو الوارث. قال الشبراخيتي: أي من العمرى أن يقول: أعمرت وارثك. قاله الشارح. اهـ. وهو يشمل الوارث بالقوة، فإذا قال، الشخص: أعمرت وارثك وله ولد فكأنه قال للولد أعمرتك فهو بمنزلة أعمرتك ويشمل الوارث بالفعل، ونص على الجواز فيها لأنه يتوهم منع أعمرت وارثك لقوة الغرر فيه لأنه لا يدري هل يستمر المعمر بالكسر بلا مانع إلى أن يصير المعمر بالفتح وارثا. انظر الشبراخيتي.

ص: 504

قال مقيده عفا الله عنه: وقد مر أنه يشترط تعيين المعمر بالفتح، فعلم أنه إذا قال: أعمرت وارثك فإنما يصح إذا أراد شخصا معينا، سواء حمل على الوارث بالقوة أو بالفعل، وأما لو أراد بمن يرثه غير معين بل من يرثه إذا مات فإن العمرى لا تصح لا عرفت أنه يشترط في صحة العمرى تعيين المعمر بالفتح. والله تعالى أعلم. واعلَمْ أن الأقسام ثلاثة، أن يقول: أعمرتك، أو أعمرت وارثك، وقد مر الكلام عليهما. الثالث: أن يقول: أعمرتك ووارثك، فلا يستحق المعمر شيئا إلا بعد موت الجميع، فإن قلت: قد مر اشتراط تعيين المعمر بالفتح وإذا قال: أعمرتك وعقبك صح التعمير فلا ترجع للمعمِر بالكسر حتى ينقرض المعمَر بالفتح وعقبه ولا شك في العقب أن فيهم غير معين، فالجواب أنهم تبع للمعين كما هو واضح، وقد مر النقل عن الحطاب فيما إذا قال: أعمرتك وعقبك بما يغني عن الكلام عليه هنا، ثم إذا أعمره ووارثه معا فلا يستحق الوارث إلا بعد موت موروثه كوقف عليك وولدك، لكن المعمول به قول المغيرة: أنه يساوي الولد الوالد، ولعل الفرق أن مدلول العمرى المعمر فكأنه إنما أعمر الوارث بعد موت موروثه. قاله عبد الباقي. ورجعت للمعمر أو وارثه، يعني أنه إذا مات المعمَر بالفتح فإن العمرى بمعنى الشيء المعمَر ترجع للمعمِر بالكسر إن كان حيا ولوارثه أي المعمر بالكسر إن مات المعمر، وسواء كانت معقبة أم لا، فترجع للمعمر بالكسر أو لوارثه بعد موت المعمَر بالفتح فيما إذا قال: أعمرتك وبعد موت المعمر وانقراض عقبه فيما قال: أعمرتك وعقبك، وكذا ترجع للمعمر بالكسر أو لوارثه فيما إذا قال: أعمرتك ووارثك بعد موت الجميع. يوم موته أي المعمر بالكسر متعلق بوارث، يعني أن المعتبر في الوارث للمعمر بالكسر من يرثه وقت موته عند ابن القاسم ولا يعتبر وارثه يوم رجوع العمرى أي يوم موت المعمَر بالفتح، فلو مات المعمر بالكسر، عن أخ مسلم وابن كافر أو رقيق فورث المسلم أخاه ثم أسلم الابن الكافر أو تحرر الابن الرقيق ثم مات المعمر بالفتح رجعت للأخ المسلم لأنه وارث يوم موت المعمر بالكسر، لا للابن لأنه إنما اتصف بصفة الإرث يوم المرجع، وهو لا يعتبر، وكذا ترجع ملكا لوارث المعمر بالكسر بعد موت عقب المعمر بالفتح في إعماره وعقبه، خلافا لمن قال: إن العمرى العقبة ترجع مراجع الأحباس للأقرب فالأقرب، ولا ترجع للمعمر بالكسر، وما مشى عليه المص هو القوي جدا حتى كأنه أمر متفق عليه.

ص: 505

تنبيهات: الأول: لو حرث المعمر بالفتح أرضا أعمرت له ومات أخذها ربها ودفع أجرة الحرث لورثة المعمر بالفتح، وإن شاء أسلمها لهم بحرثها تلك السنة أي وله أجرة مثلها عليهم، فإن مات وبها زرع فلورثته الزرع الوجود ولا كراء عليهم، لأن موروثهم زرع بوجه شبهة. الثاني: قال الشبراخيتي: ظاهر كلام المص أن العمرى تكون في الثياب. اهـ. وهو كذلك فلا تستثنى من كلام المص، فإن كلام المدونة وغيرها يفيد أنه لا استثناء. قال الرهوني: وقد بحثت عن ذلك غاية فراجعت الكتب التي اتصلت بأيدينا فلم أجد من ذكر أنها تستثنى، بل كلام اللخمي نص في صحة تعميرها فإنه قال: قد أتت هبات متقاربة اللفظ مختلفة الأحكام، وهو أن يقول: كسوتك هذا الثوب، وأخدمتك هذا العبد، وحملتك على هذا الفرس أو البعير، وأسكنتك هذه الدار، أو أعمرتك، وحمل قوله: أسكنتك أو أخدمتك أو أعمرتك، على أنها منافع موهوبة حياة المخدم والمسكن والمعمر، وقوله: كسوتك هذا الثوب أو حملتك على هذا البعير أو الفرس على هبة الرقاب، وقال ابن القاسم في المدونة: فيمن أعمر عبدا أو دابة أو شيئا من العروض، قال: أما الدواب والحيوان والرقيق فتلك التي سمعنا فيها العمرى، وأما الثياب فهي عندي على ما أعاره عليه يريد أنه إن مات المعطَى وقد بقي منها شيء رجع للمعطي وإلا فلا شيء له.

الثالث: قال الشبراخيتي: ثم إن حوز العمرى كالحوز في الهبة، كما يفيده تشبيه ابن الحاجب لها بها فيه، وعلى هذا فإذا أعمر محجوره جاز له أن يحوز له ما أعمره له، فإن صار رشيدا ولم يحز لنفسه حتى حصل مانع فإنها تبطل، ويجري فيها ما جرى في الهبة من الحوز الذي منه وحوز مخدم ومستعير مطلقا ومودع إن علم وغير ذلك، والظاهر أنه يجري فيها ما جرى في الهبة من عتق الواهب ونحوه، فتبطل بعتق المعمِر واستيلاده ونحو ذلك اهـ ولو قال أعمرتك حياتي أو سنتين أو إلى قدوم زيد اتبع ذلك. الرابع: قال ابن رشد: فيمن أعمرت أبويها دارا فمات أحدهما فطلبت نصف الدار أنها تصدق أنها أرادت أنها يرجع لها حظ من مات منهما، وإن ادعى الحي أنها نصَّت على أن الدار تبقى لآخرهما حلفت، ولو ماتت ولم يدر ما أرادت جرى على الخلاف فيمن حبَّس على معينين هل يرجع نصيب من مات منهم إلى المحبس أو إلى من بقي منهم حتى يموتوا كلهم؟ ولا فرق بين هذين الأبوين وغيرهما. انتهى. والمعتمد الثاني كما في الرسالة، ومن

ص: 506

مات من أهل الحبس العينين فنصيب من مات لهم، وفي الموازية لمالك وابن القاسم وأشهب: أن من مات نصيبه لبقية أصحابه حتى ينقرضوا كان مرجع الحبس لربه أو لغيره، هذا إذا كان مشاعا فإن كان لكل منهم يوم على حدة أو ليل مسمى أو سكنى معروفة فهذا نصيب من مات منهم لمن له المرجع قاله الحطاب.

كحبس عليكما وهو لآخركما. تشبيه في الجواز ورجوع الشيء ملكا، يعني أنه إذا قال لشخصين: عبدي مثلا حبس عليكما ولم يقل حياتكما، بل قال: حبس عليكما وهو لآخركما فإن ذلك جائز، ويكون ملكا لآخرهما يصنع به ما شاء، وقبل موت الأول يكون بينهما ينتفعون به انتفاع الأحباس، وعلم مما قررت أن قوله: ملكا ليس من مقول الواقف بل تبيين للحكم وهو إما حال أي ورجعت له حال كونها ملكا، وإما مصدر أي ورجعت رجوع ملك فهو راجع لا قبل الكاف ولا بعدها، وفي بعض النسخ بالرفع أي والرجوع ملك، فإن قال: حياتكما أو أسقط وهو لآخركما كان للآخر حبسا، ويجري فيه الخلاف بعد موت الآخر هل يرجع ملكا للمحبس أو وارثه أو يرجع مراجع الأحباس وهذا الأخير هو المعتمد، وقوله: ملكا بمعنى اسم الفعول أي مملوكا. لا الرقبى، عطف على العمرى، يعني أن الرقبى لا تجوز فهي حرام والرقبى بضم الراء وسكون القاف. قاله التتائي. وقال: فلا تجوز عند مالك وأبي حنيفة، وتجوز عند الشافعي وأحمد. الجوهري: أرقبته دارا أو أرضا إذا أعطيته إياها فكانت للباقي منكما، وقلت: إن مت قبلك فهي لك وإن مت قبلي فهي لي، والاسم منه الرقبى وهي من الراقبة لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه. وقال قبله: الرقيب الحافظ والرقيب المنتظر، تقول منه: رقبت الشيء أرقبه رقوبا ورقبة ورقبانا بالكسر فيهما إذا رصدته. اهـ. وقال الشبراخيتي: لا الرقبى بضم الراء وسكون القاف وبالباء الوحدة لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه. اهـ. فإن وقع واطلع عليه قبل الموت فلا أثر له وإن لم يطلع عليه إلا بعده بقيت له أو لوارثه ملكا، ولا ترجع مراجع الأحباس لأنه عقد باطل. اهـ. وقال عبد الباقي: لا الرقبى بضم الراء وسكون القاف وباء موحدة مقصورة فلا تجوز في ملك ولا حبس، وأعطى حقيقتها العرفية بالمثال، فقال:

ص: 507

كذوي دارين قالا إن مت قبلي فهما لي وإلا فلك، أي كصاحبي دارين قال كل واحد منهما لصاحبه: إن مت قبلك فداري حبس عليك أو فهي لك، فهذا لا يجوز لأنهما خرجا عن وجه المعروف إلى المخاطرة، فإن وقع واطلع عليه قبل الموت فلا أثر له، وقال عبد الباقي: كذوي دارين أو عبدين، أو ذوي دار وعبد، ولم يقل كذوي دار ليلا يتوهم قصرها على دار مشتركة بينهما. قالا في عقد واحد أو فعل أحدهما بصاحبه مثل ما فعل حيث دخلا على ذلك وإلا جازت، ولا يخفى أن دار كل متكلم له، وإنما المعنى: قال أحدهما لصاحبه: إن مت قبلي فدارك لي مضمومة لداري وإن مت قبلك فداري [لك (1)] مضمومة لدارك. اهـ. وعلم من كلام عبد الباقي أنه لو أرقب أحدهما صاحبه دون الآخر أو أرقب كل منهما صاحبه من غير شرط فإن ذلك يجوز وهو كذلك، قال أشهب: وأما من فعل بصاحبه هذا ففعل الآخر مثله فجائز ولا تهمة فيه. قاله التتائي. والله سبحانه أعلم. وقال المواق: وفسرت الرقبى بأن تكون داران بين رجلين فيحبسانهما على أن من مات أولا فنصيبه حبس على الآخر.

كهبة نخل واستثناء ثمرتها سنين والسقي على الموهوب له: تشبيه في المنع، يعني أن من وهب لشخص نخلا واستثنى الواهب لنفسه ثمرتها سنين معلومة وشرط على الموهوب له السقي للنخل في تلك السنين فإن ذلك لا يجوز لأنه مخاطرة وبيع معين يتأخر قبضه، لأن سقيه للنخل خرج مخرج المعاوضة، وهذا كمن باع نخلا واستثنى ثمرتها أعواما واشترط على المشتري سقيها في تلك الأعوام، فهذا لا يجوز لأنه غرر ولأنه لا يدري ما يصير النخل إليه بعد تلك الأعوام، وقوله: واستثناء ثمرتها لا فرق بين استثناء الثمرة كلها واستثناء بعضها، وفهم من قوله: والسقي على الموهوب أنه لو كان على الواهب أو على الموهوب ولكن بماء الواهب لجاز ذلك. قاله غير واحد. وقوله: كهبة نخل، أي شيء يحتاج إلى سقي وعلاج، ولا مفهوم لسنين فإن اطلع على ذلك قبل التغير رجع الموهوب له بما أنفق والثمرة والأصول لربها، وإن فاتت بتغير ملكه الموهوب له فبقيمته يوم وضع يده ويرجع على الواهب بما أكله إن عرف وإلا فبقيمته. قاله الخرشي وغيره.

1 - ساقط من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 104.

ص: 508

وقال المواق: من تصدق على رجل بحائط وفيه ثمر فزعم أنه لم يتصدق بالثمرة فإن كانت الثمرة يوم الصدقة لم تؤبر فهي للمعطى كالبيع ويقبل قوله، وكذلك الهبة ورب الحائط مصدق من حين تؤبر الثمرة، قال ابن القاسم: ولا يمين عليه في ذلك قلت وكيف حيازة النخل وربها يسقيها لمكان ثمرتها، فقال: إن خليَ بينه وبين الثمرة يسقيها كانت حيازة، قال ابن المواز: يقبض الموهوب النخل ويكون سقيها على الواهب في مائه لكان ثمرته، ويتولى الموهوب سقيها لمكان حيازتها. ومن المدونة: قال ابن القاسم: وكذلك لو استثنى الواهب ثمرتها لنفسه عشر سنين فإن أسلم النخل إلى الموهوب له يسقيها بماء الواهب ويدفع إليه ثمرها كل سنة فذلك حوز، وإن كان الموهوب يسقيها بمائه والثمرة للواهب لم يجز لأنه كأنه قال: اسقها عشر سنين ثم هي لك، ولا يدري أتسلم النخل إلى ذلك الأجل أم لا، ولو كانت النخل بيد الواهب يسقيها ويقوم عليها ولم يخرجها من يده فذلك جائز للموهوب له إن سلمت إلى ذلك الأجل، ولم يمت ربها ولا لحقه دين وله أخذها بعد الأجل وإن مات ربها أو لحقه دين فلا حق له فيها. اهـ.

تنبيه: لو كان عبد بين رجلين فقال كل منهما: من مات منا فنصيبه يخدم الآخر حياته ثم هو حر فإنه لا يجوز وهو من الرقبى، ولكن إذا مات آخرهما فنصيب كل واحد منهما حر من ثلثه، ومن مات منهما أولا فنصيبه يخدم ورثته دون صاحبه قاله الإمام مالك رضي الله عنه. قاله التتائي.

وفرس لمن يغزو عليه سنين وينفق عليه المدفوع له ولا يبيعه لبعد الأجل، يعني أنه لا يجوز للشخص أن يدفع فرسا لمن يغزو عليه سنين معلومة بشرط أن ينفق عليه الذي دفع إليه الفرس من عنده في تلك السنين ويكون له بعدها، ويشترط عليه أن لا يبيعه إلا بعد مضي تلك السنين لأنه باع الفرس بالنفقة عليه تلك السنين ولا يدري هل يسلم الفرس إلى ذلك الأجل أم لا؟ فتذهب نفقته باطلة، فهذا غرر؛ والواو في قوله: ولا يبيعه واو الحال، أي والحال أنه شرط عليه أن لا يبيعه إلا بعد الأجل، وقوله: ولا يبيعه أي لا يملكه إلا بعد الأجل، فإن وقع هذا فإن اطلع عليه قبل حلول الأجل فالدافع بالخيار إن شاء أمضى عطيته بلا شرط ويدفع للمنفق ما أنفق وإن أبى ارتجع فرسه وغرم ما أنفق عليه، وإن لم يعلم بذلك حتى مضى الأجل فإن لم يتغير الفرس

ص: 509

بحوالة سوق فأعلى فسخ البيع لأنه الآن صار بيعا فاسدا فيفسخ ويغرم له ما أنفق عليه، وإن فات بشيء من وجوه الفوت غرم القابض قيمة الفرس حين الأجل. ابن يونس: يريد ويرجع على الدافع بما أنفق عليه. قاله أبو الحسن. نقله بناني. وهذه المسألة والتي قبلها ذَكَرَهُمَا في المدونة مشبها الأولى بالثانية. قال المواق. ومعنى مسألة الفرس أن المدفوع إليه الفرس يغزو عليه وثواب غزوه في الأجل لدافعه. ولما كان في الحديث (لا يحل لأحد أن يهب هبة ثم يعود فيها إلا الوالد (1)) أشار إلى ذلك بقوله:

وللأب اعتصارها من ولده، يعني أنه يجوز للأب أن يعتصر ما وهبه لولده أي يسترجعه لملكه. قال الخرشي: هو معطوف على الجائز، وضمير اعتصارها عائد على الهبة لا الصدقة والحبس، فإنه لا اعتصار فيهما، والعنى أن الأب إذا وهب لولده هبة فإنه يجوز له أن يعتصرها منه مطلقا، أي سواء كان الولد صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، غنيا أو فقيرا، حيزت الهبة أم لا على المشهور، لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يحل لأحد أن يهب هبة ثم يعود فيها إلا الوالد. واعلم أن الاعتصار مختص بالهبة وما في معناها من العطية والمنحة وما أشبه ذلك دون الصدقة والحبس، وكذلك الهبة والعطية والمنحة وما أشبه ذلك إذا قال فيه: هو لله تعالى، أو جعله صلة رحم فلا اعتصار في ذلك، كما أن الصدقة إذا شرط اعتصارها فله شرطه. اهـ. وقال الحطاب: أبو الحسن قال عياض: معنى الاعتصار الحبس والمنع، وقيل: الارتجاع، وكلاهما في ارتجاع الهبة صحيح. اهـ. وقال ابن عرفة: والاعتصار ارتجاع المعطي عطيته دون عوض لا بطوع المعطى، والصيغة ما دل عليه لفظا وفي لغو الدلالة عليه التزاما نقلا ابن عات عن بعض فقهاء الشورى وابن ورد، قال بعض فقهاء الشورى: من شرط في هبة ابنه الصغير الاعتصار ثم باعها باسم نفسه ردت قيمتها لابنه من ماله وليس ذلك اعتصارا إلا بالإشهاد، وفي الاستغناء رأيت لابن ورد ما ظاهره خلاف هذا، قال: إن باع الأب مال ابنه ونسبه لنفسه وأفصح بذلك والمبيع لم يصر للابن من قبل أبيه بهبة يجوز اعتصارها فيختلف في ذلك والأظهر أنه بيع عداء يتعقبه حكم

1 - البيهقي، ج 6 ص 179.

ص: 510

الاستحقاق. وقال ابن [راشد](1) في اللباب: الصيغة ما يدل على ذلك نحو اعتصرت ورددت ثم ذكر بعض ما تقدم وهو أن بيعه لا يكون اعتصارا، قال: ولا يجوز اعتصارها بعد البيع والثمن للولد، ولا يكون اعتصار الأبوين إلا بإشهاد. اهـ. واعلم أن ابن ورد متأخر عن ابن عبد الغفور صاحب الاستغناء بكثير، فكيف ينقل عنه؟ فصدور هذا من ابن عرفة وهم. قاله بناني. وفي الحطاب: ولو تصدق على ابنه بعرض ثم باعه بعد ذلك فإن الثمن يكون للابن سواء باع العرض لابنه باسمه أو جهل ذلك فلم يعلم إن كان باع لنفسه أو لابنه، وأما إن باع ذلك لنفسه على سبيل الرجوع فيها والأكل لها فالبيع مردود والصدقة جائزة، ويتبع المشتري الأب بالثمن في حياته وبعد وفاته وجده أو لم يجده لأن الصدقة قد كانت حيزت للابن، ولو كانت الصدقة دارًا يسكنها الأب فباعها قبل أن يرحل عنها لنفسه استرجاعا لصدقته واستخلاصا لنفسه بطل البيع إن عثر عليه في حياته، ومضت الصدقة للابن، وإن لم يعثر على ذلك حتى مات الأب بطلت الصدقة ولم يكن للابن فيها حق ولا في الثمن وصح البيع للمشتري. والله أعلم. اهـ. وقال في مفيد الحكام: ومن وهب عبدا لولده الصغير ثم أعتقه لم ينفذ عتقه فيه إلا أن يكون الوالد موسرا فيعطي الولد قيمة العبد وينفذ العتق، وإلا فلا وقد قيل إن ذلك رجوع فيما وهب من العبد، وليس عليه شيء، وهذا في الوضع الذي يجوز له الرجوع في هبته. قاله الحطاب. وفيه أيضا أن من ملك ولده بيرا أو أرضا ثم أوقف بعد ذلك جميع أملاكه على أولاده وأدخل في ذلك الأرض والبير التي أوقفها على ولده فإن ما ملَّكه من البير والأرض للولد الأول صحيح لا يبطله الوقف الذي بعده، هذا إذا كان الولد الأول كبيرا وحاز لنفسه أو صغيرا وأشهد أبوه أنه حاز له، ومحل الصحة المذكورة حيث لم يشهد الأب أنه رجع فيما ملكه لولده قبل الوقفية، وإن كان الولد كبيرا ولم جز أو صغيرا ولم يحز الأب له حتى أوقفه فالوقف صحيح، والتمليك باطل، إلا أن يحكم به حاكم لا يشترط الحيازة، وهذا على القول الراجح أن الاعتصار لا يكون إلا بالقول ولا يكون بالعتق اهـ.

1 - في الأصل ابن رشد والمثبت من الحطاب ج 6 ص 268 ط دار الرضوان.

ص: 511

كأمٍّ يعني أنه يجوز للأم أن تعتصر ما وهبته لولدها، وقوله: فقط، راجع للأم والولد والأب، فالأب هو الذي يعتصر فقط لا الجد مثلا، والولد هو الذي يُعْتَصَرُ منه فقط لا غير الولد، والأم هي التي تعتصر ما وهبته لولدها فقط لا الجدة مثلا، ورَاجِعٌ للهبة أي إنما تعتصر الهبة فقط أي وما في معناها لا الصدقة وما في حكمها وعلم مما مر أن الاعتصار لا يكون إلا باللفظ على الراجح، فلا يكون بالبيع إلا أن يشهد عند بيعه أو قبله أن بيعه اعتصار كما في أحمد. قاله عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: والحق أن الاعتصار يكون بكل لفظ يدل على استرجاع الهبة من الولد كما يفيده ابن عرفة وغيره. اهـ. قال الرهوني: كأنه لم يقف على نص صريح في ذلك، مع أنه مصرح به في كلام غير واحد، ثم جلب النقل في ذلك.

وهبت ذا أب، يعني أن الأم إذا وهبت لولدها فإنما تعتصر ما وهبت إن كان له أب، فإن لم يكن له أب فليس لها أن تعتصر منه وهذا إذا كان الولد صغيرا وأما إن كان كبيرا فلها أن تعتصر منه كان له أب أو لم يكن قاله الحطاب. وقال في المدونة: وللأم أن تعتصر ما وهبت أو نحلت لولدها الصغير في حياة أبيه أو ولدها الكبير، فإن لم يكن للصغير أب حين وهبته أو نحلته فليس لها أن تعتصر، وإن وهبتهم وهم صغار والأب مجنون جنونا مطبقا فهو كالصحيح في وجوب الاعتصار لها، وإلى هذا الأخير أشار المص بقوله: وإن مجنونا، قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: ومحل جواز اعتصار الأم حيث وهبت صغيرا لا يتيما حين هبتها بل ذا أب، فلها أن تعتصرها منه، وسواء كان الأب والابن موسرين أو معسرين أو أحدهما وإن كان الأب مجنونا جنونا مطبقا وقت الهبة، وأخذ منه أن البكر بنت المجنون لا تستأمر إذا قدم القاضي من يزوجها لأن لها أبا، ولكن المشهور رواية عيسى أنه لا بد أن تستأمر كاليتيمة وابنة الغائب، وانظر لو جن الأب بعد هبته لولده هل لوليه الاعتصار أم لا؟ والظاهر الأول وإنما قلنا صغيرا لأجل قوله:

ولو تيتم على المختار، يعني أنها إذا وهبت لولدها الصغير وهو ذو أب فإنها تعتصر منه وإن مات أبوه بعد الهبة إن طرأ له اليتم بعد هبتها له في حياة أبيه، هذا هو المشهور كما قاله غير واحد، ومقابل المختار لابن المواز وأبي محمد، فإنه قال: والأم تعتصر ما دام الأب حيا، واعترض المص بأن هذا اختيار للخمي من عند نفسه، فالمناسب التعبير بالفعل، وأجيب بأنه عبر بالاسم لأنه

ص: 512

ظاهر المدونة، ونصها: وللأم اعتصار ما وهبت أو نحلت لولدها الصغير في حياة أبيه أو لولدها الكبير لخ، أبو الحسن: انظر قوله: في حياة أبيه ما العامل فيه، هل هو قوله: تعتصر، أو قوله: وهبت؟ فإن كان العامل فيه تعتصر فيكون كقول محمد، وإن كان العامل فيه وهبت فمثل ما رجحه اللخمي، فيتخرج القولان منه. اهـ. ولا شك أن ظاهرها هو التعلق بأقرب الفعلين وهو الثاني. اهـ. انظر حاشية الشيخ بناني، وفي الرهوني تقوية ما للمص وأنه اختيار له من الخلاف، وأن ما مشى عليه المص من القول الذي اختاره اللخمي هو الصواب. والله تعالى أعلم.

تنبيه: قد مر عن الخرشي وعبد الباقي أن الحبس لا يعتصر. قال بناني: ظاهره أن الحبس لا يعتصر مطلقا وفيه نظر، ففي المدونة ما نصه: وأما الهبة والعطية والعمرى والنحل فلهما الاعتصار في ذلك، وأما الحبس فإن كان بمعنى الصدقة لم يعتصر وإن كان بمعنى الهبة تكون سكنى أو عمرى إلى شهر أو شهرين ثم مرجعه إليه فإنه يعتصر. قال ابن عبد الغفور في كتاب الاستغناء: وقال سحنون: تعتصر العمرى على كل حال ضرب لها أجلا أو لم يضرب كان قريبا أو بعيدا وكذلك الحبس. انتهى.

إلا فيما أريد به الآخرة، مستثنىمن قوله: وللأب اعتصارها لخ، يعني أن ما كان من الهبة وما في معناها من العمرى والإخدام والإسكان والعارية والعطية مرادًا به ثواب الآخرة فإنه ليس للأب ولا للأم اعتصاره، وإنما لهما اعتصار ما ذكر حيث لم يريدا بذلك الآخرة، قال الخرشي: يعني أن الهبة والإخدام والعمرى أو نحو ذلك إذا أراد المعطي بما ذكر وجه الله تعالى وثواب الآخرة صار صدقة وهي لا تعتصر، وسواء كان الواهب أبا أو غيره، وكذلك لا اعتصارَ للأب ولا للأم إذا أراد كل بالهبة صلة الرحم كما إذا كان الولد صغيرًا محتاجا أو كبيرا بائنا عن أبيه، وكذا لا اعتصارَ لأحدهما إذا أشهد على الهبة على المشهور ونحوه لعبد الباقي، وقوله: لا اعتصارَ لأحدهما إذا أشهد لخ، قال بناني: لم أجده في أبي الحسن ولا ابن عرفة ولا التوضيح ولا غيرهم ممن وقفت عليه فانظر من أين أتيا به. اهـ. وقال التاودي ليس هو في الشيخ إبراهيم، ولا في الأجهوري، ولا في التتائي، ولا في الحطاب، ولا في الشامل، ولا في التوضيح، ولا في ابن عبد السلام، ولا في ابن الحاجب، ولا ابن شأس، ولا في المدونة، ولا أبي الحسن عليها، وليس

ص: 513

بظاهر. اهـ. وقال التتائي: إلا فيما أريد به الآخرة من الهبة، لأنها صارت صدقة والصدقة لا تعتصر. وقال مطرف: له الاعتصار وبالأول جرى العمل. اهـ. وقال المواق: في نوازل سحنون هبته لابنه للصلة لا يجوز اعتصارها، وكذا هبته لضعفه وخوف الخصاصة عليه، وقال ابن الماجشون: كل هبة لوجه الله أو لطلب الأجر أو لصلة الرحم لا تعتصر. ابن رشد: هذا مثل قول عمر في المدونة، ونحوه في مختصر ابن عبد الحكم وهو أظهر من قول مطرف اهـ.

كصدقة بلا شرط، شبه ما وقع بلفظ الصدقة بما وقع بلفظ الهبة وما في حكمها مرادًا به الآخرة، يعني أنه إذا تصدق على ولده بأن قال: هذا صدقة عليك ونحوه فإنه لا اعتصار له، سواء كان المتصدق أبا أو أما، وهذا حيث لم يشترط الاعتصار، وأما إن اشترط فيه الاعتصار فإنه يعمل بالشرط المذكور فيكون له الاعتصار. قال الخرشي: أي إذا تصدق على ولده الصغير أو الكبير بلفظ الصدقة ولم يشترط أن يعتصرها فإنه لا يجوز له أن يعتصرها منه، فلو اشترط المتصدق أنه يرجع في صدقته كان له شرطه وله أن يعتصرها. اهـ. ونحوه لعبد الباقي، وقال: فإن شرط المتصدق أنه يرجع في صدقته كان له شرطه وله أن يعتصرها، وكذا يعمل بشرط عدمه في الهبة، وكما يعمل بشرط الاعتصار في الصدقة من الأب والأم يعمل بشرطه فيها على أجنبي كما في أحمد، وفي المشدالي: لا يعمل به في الأجنبي. اهـ. قال بناني: ما ذكره أحمد هو الذي يؤخذ من توجيه ابن الهندي، ففي المتيطية: إذا شرط الأب في صدقته الاعتصار ففي وثائق ابن الهندي أن ذلك له، وحكاه أيضا الباجي في وثائقه، قال: وقال غيره: شرطه لا يجوز: وقال ابن الهندي: فإن قيل: كيف يجوز له أن يشترط الرجوع في الصدقة والصدقة لا تعتصر؟ قيل: وسنة الحبس لا يباع وإذا شرطه المحبس في نفس الحبس كان له شرطه، وقال ابن رشد الاعتصار لا يكون في الصدقات إلا بشرط. اهـ من التكميل. اهـ.

إن لم تفت، شرط في الاعتصار من الأب أو الأم، يعني أن محل ما مر من قوله وللأب اعتصارها، وقوله: كأم إنما هو حيث لم تفت الهبة وما في حكمها، وأما إن فاتت فليس للأب ولا للأم اعتصار، قال عبد الباقي: إن لم تفت عند الموهوب ببيع أو غصب أو عتق أو تدبير أو بوجه من وجوه المفوتات فإن حصل شيء من ذلك فلا اعتصار لواهبها حينئذ. اهـ.

ص: 514

لا بحوالة سوق، يعني أن حوالة الأسواق لا تفيت الاعتصار، هذا هو الذي تجب به الفتوى واقتصر عليه في معين الحكام، وبه جزم ابن الحاجب وتبعه في الشامل، ولذا قال ابن عرفة: تغير الأسواق لغو، وظاهر كلام ابن رشد واللخمي وغيرهما الاتفاق عليه، وبه صرح عياض. قاله الشبراخيتي وغيره. ولم يفت الاعتصار بحوالة السوق لبقاء الموهوب بحاله، وزيادة القيمة أو نقصها عارض لا يعتد به كنقلها من موضع لآخر. اهـ. بل بزيد أو نقص، يعني أن الهبة يفوت اعتصارها بزيد في الموهوب أو نقص فيه، قال عبد الباقي: بل بزيد أي زيادة معنوية كتعليم صنعة لها بال، أو حسية ككبر صغير وسمن هزيل، أو نقص كهزال السمين، أو نسيان صنعة لها بال، وكذا يفوت بخلط الموهوب له المثلي بمثله دراهم أو غيرها فليس للوالد اعتصار حينئذ ولا يكون شريكا للولد بقدره. قاله في الجلاب. وقد اقتصر في الفيد على ما للجلاب والمعونة والمنتقى وساقه غير معزو كأنه المذهب، ونص الجلاب: وإن وهب له دنانير أو دراهم أو شيئا من ماله مثلي (1) فخلطه بمثله فليس للوالد فيها رجعة ولا يكون شريكا للولد بقدره انتهى وهذا هو المنصوص، ومقابله مخرج، ولا يخفى أن العول عليه هو النصوص لا المخرج، وفي الخرشي: يفوت الاعتصار ببيع أو غصب أو عتق أو تدبير أو بزيادة أو نقص كما إذا كبر الصغير أو سمن الهزيل أو هرم الكبير، أو بجعل الدنانير حليا أو بوجه من وجوه المفوتات. انتهى. وقال المواق: وأما إذا تغيرت الهبة في عينها فقد قال مطرف وابن الماجشون: زيادتها في عينها ونقصها لا يمنع اعتصارها، وقال أصبغ: يمنع اعتصارها وهو الظاهر من قول مالك وابن القاسم، لأن تغير حالة ذمة المعطَى تمنع الاعتصار، فأن يمنعه تغير الهبة في نفسها أولى. وقال مطرف وابن الماجشون: زيادتها في عينها ونقصها لا يمنع اعتصارها. قاله الباجي. اهـ. ونقل في الميسر عن الأجهوري أنه إذا اشترط الرجوع في الصدقة يرجع فيها ولو تغيرت كما أن للحبس مدة يرجع فيه بعدها ولو تغيرت وهذه المفوتات خاصة بالهبة. والله تعالى أعلم.

1 - لفظ الجلاب ج 2 ص 314 ط دار الغرب الإسلامي: ما له مثل.

ص: 515

ولم يُنكَحْ أو يداين لها، ببناء الفعلين للمفعول ونائب الفاعل الموهوب ذكرا كان أو أنثى، ومعنى كلامه أن اعتصار الأبوين يفوت بما إذا أنكح الابن لأجل هبة الوالد له أو أنكحت البنت لأجلها: فإذا زُوِّجَ رجل لأجل هبة والده له فليس لوالده أن يعتصر تلك الهبة، وإذا تزوج رجل امرأة رغبة فيها لأجل هبة والدها لها فإن تلك الهبة لا تعتصر، وكذا لا تعتصر الهبة إذا داين رب الدين الولد لأجل الهبة ليسره بها، قال عبد الباقي: ولم ينكح أو يداين ببناء الفعلين للمجهول ونائب الفاعل الموهوب ذكرا أو أنثى لها قيد فيهما كما في ابن غازي وغيره، خلافا للشارح في قوله: إنه للثانية فقط، والمراد بالإنكاح العقد، وبهذا الضبط علم أن المانع من اعتصار الأبوين قصد الأجنبي العقد للذكر الموهوب أو على البنت الوهوبة رغبة لهبة كل منهما وحصل عقد بالفعل، وكذا إعطاء الدين لأجل يسرهما بالهبة، فإن لم يقصد الأجنبي ذلك وإنما قصد ذاتها فقط لم يمنع الأبوان من الاعتصار. اهـ. وقال بناني: التقييد بكونهما أي الإنكاح والمداينة لأجل الهبة هو الذي في الموطإ والرسالة وسماع عيسى، لكن قال ابن عرفة ظاهر المدونة والجلاب خلاف السماع المذكور، ونص التهذيب: وللأب اعتصار ما وهب أو نحل لبنيه الصغار والكبار، وكذلك إن بلغ الصغار ما لم ينكحوا أو يحدثوا دينا. اهـ. ففي فقل المواق عن المدونة التقييدَ نظرٌ انظر المصطفى. قلت: ظاهر كلام أبي الحسن أنه حمل المدونة على التقييد ولذلك والله أعلم اعتمده المص. اهـ.

أو يطأ ثيبا، يعني أن الولد إذا وهب له أبوه أو أمه أمة ثيبا فوطئها الولد الكبير فإن ذلك يفيت الاعتصار. قال الشبراخيتي: أو يطأ الولد وهو بالغ ثيبا، وأما غيره فإنما يفيت الاعتصار إذا كانت بكرا واقتضها، وقوله: أو يطأ ثيبا، ظاهره ولو كان الوطء حراما كما إذا وطئها وهي حائض ونحو ذلك ويصدق الابن في دعواه الوطء إذا غاب عليها، وفي معنى ذلك الكتابة والتدبير والعتق إلى أجل، وقوله: ثيبا ليس للاحتراز وإنما نص على المتوهم، وكان الأولى بالاختصار لو حذف ثيبا. أو يمرض، يعني أنه إذا حدث مرض الولد المخوف بعد الهبة فإن ذلك يفيت الاعتصار، قال عبد الباقي: أو يمرض الولد الموهوب له مرضا مخوفا فلا اعتصار لتعلق حق ورثته بالهبة. ونحوه للخرشي. كواهب، يعني أنه إذا حدث المرض للواهب بعد الهبة فإنه ليس له

ص: 516

الاعتصار. قال الشبراخيتي: أو يمرض موهوب له كواهب إذ مرض كل منهما بعدها يمنع الاعتصار، أما مرض الموهوب له فلتعلق حق ورثته بالهبة، وأما مرض الواهب فاعتصارها لغيره وهو وارث. وقيد الزرقاني المرض بالمخوف. اهـ. وقال التتائي: أو يمرض موهوب له كوارث إذْ مرض كل منهما يمنع الاعتصار عند ملك وابن القاسم. قال في البيان: وهو المشهور، أما مرض الموهوب له إلى آخر ما مر عن الشبراخيتي، وقال المواق: قال يحيى بن عمر: إن مرض الأب والابن فلا اعتصار في مرض أحدهما، وإن زال المرض فله أن يعتصر بخلاف النكاح والدين، وقال أصبغ: إذا منع الاعتصار بمرض أحدهما أو بنكاح الولد أو بدين ثم زال المرض والدين والنكاح فلا اعتصار، وإذا زالت العصرة يوما فلا تعود. اهـ.

إلا أن يهب على هذه الأحوال، يعني أن الأب أو الأم إذا وهب أحدهما ولده هبة وهو متزوج أو هو مديان أو هو مريض فله أن يعتصرها منه لأن وجود هذه الأحوال وقت الهبة لا يكون مانعا من الاعتصار. قال المواق: ابن الحاجب: لو وهب على هذه الأحوال ففي إفاتتها الرجوع قولان، ابن عبد السلام: الأقرب صحة الاعتصار. اهـ. وقوله: إلا أن يهب على هذه الأحوال أي والولد على هذه الأحوال، وأما هبة الوالد وهو مريض فإنها لا تصح لأنها وصية لوارث إلا أن يصح بعد فتصح هبته والله سبحانه أعلم. وقوله: إلا أن يهب على هذه الأحوال، الاستثناء منقطع قاله غير واحد وقال الشبراخيتي: إلا أن يهب على هذه الأحوال المانعة من الاعتصار وهي النكاح والدين ومرض الموهوب له فله الاعتصار. أو يزول المرض، يعني أنه إذا زال مرض الواهب فإن الهبة يصح اعتصارها، وكذا يصح الاعتصار إذا زال مرض الولد الموهوب، والحاصل أن المرض المانع للاعتصار إذا زال فإن الاعتصار ثابت سواء في ذلك مرض الواهب ومرض الموهوب له. قال الشبراخيتي: أو إلا أن يزول المرض الحاصل للموهوب له وللواهب بعد الهبة فيعود الاعتصار حينئذ على المختار عند اللخمي وهو قول ابن القاسم وأشهب والمغيرة، وصورة المسألة أنه وهبه وهو صحيح فله أن يعتصر في هذه الحالة، فإذا مرض لم يكن له ذلك، فإذا زال المرض فله أن يعتصر على ما قاله ابن القاسم وأشهب والمغيرة وهو الذي اختاره اللخمي، لأن مانع الاعتصار وهو المرض قد زال، وتخصيصه المرض يقتضي أن غيره من النكاح والمداينة ليس حكمه حكمه

ص: 517

وهو كذلك، فإن مرض الأب أو الابن فلا اعتصار في مرض أحدهما، وإن زال المرض فله أن يعتصر، بخلاف النكاح والدين، لأن المرض أمر لم يعامله الناس عليه، بخلاف النكاح والمداينة. قاله الشبراخيتي. وقال التتائي: أو إلا أن يزول المرض الحاصل للموهوب له أو الواهب فيعود الاعتصار على المختار عند اللخمي. وهو قول ابن القاسم وأشهب والمغيرة وابن دينار وابن الماجشون. وعن ملك في الواضحة: لا يعود. البساطي: لو قام الأب ليعتصر في مرض الابن فمنع من ذلك ثم زال المرض فليس له أن يعتصر، وإن قلنا: إنه يعتصر عند زواله اهـ وقال الخرشي عند قوله: بل بزيد أو نقص ما نصه فلو زال النقص ورجع الزيد فإنه يعود الاعتصار. اهـ. وقال عبد الباقي: أو يزول المرض الحادث بعدها من موهوب أو واهب فله الاعتصار بعد زواله على المختار، وكذا إن اعتصر في وقته ثم صح المريض فيصح الاعتصار السابق، وتخصيصه بالمرض يقتضي أن زوال النكاح والدين يمنع الاعتصار وهو كذلك، وفرق ابن القاسم بأن المرض لم يعامله الناس عليه، بخلاف النكاح والمداينة، ويقتضي أيضا أن زوال النقص أو الزيادة ليس كزوال المرض، وذكر بعض أنه يعود الاعتصار. اهـ.

وكره تملك صدقة بغير ميراث، قال الخرشي: يعني أن عود الصدقة إلى ملك من تصدق بها ببيع أو هبة أو صدقة أو غير ذلك مكروه، واحترز بالصدقة من الهبة فإنه يجوز أن يتملكها على المشهور، واحترز بقوله: بغير ميراث مما إذا عادت إليه بميراث فإنه لا كراهة فيه لانتفاء التسبب فيه، ويستثنى من كلام المؤلف العرية كما مر في قوله ورخص لمعر وقائم مقامه اشتراء ثمرة تيبس، لخ. اهـ. وقال عبد الباقي: وكره تملك صدقة ببيع أو هبة أو صدقة أو نحو ذلك واجبة أم لا من متصدق عليه أو ممن وصلت له منه ولو تعدد، وأشعر قوله تملك بقصد ذلك، فقوله: بغير ميراث غير داخل حتى يخرجه إلا على ضرب من التجوز، واحترز بالصدقة عن الهبة فيجوز تملكها على المشهور، وأما العود فيها فمكروه لغير الأب كما مر، وبغير الميراث عن ملكها به فلا كراهة، ويستثنى من قوله كره، لخ، الغلة المتصدق بها دون الذات فله شراؤها. نقله ابن عرفة عن ملك وأصحابه، وما يأتي من قوله: ولا يركبها، لخ، في هبة الذات والعارية لقوله فيما تقدم: ورخص لمعمر وقائم مقامه اشتراء ثمرة تيبس والعمرى، ففي أحمد عن معين

ص: 518

الحكام: ويجوز للمعمر أو ورثته أي كلهم أن يبتاعوا من المعمَر بالفتح ما أعمر له وإن كان حياة المعمر لأنها من المعروف، إلا أن تكون معقبة فيمنع، ولكل واحد من ورثة العمر بالكسر أن يشتري قدر ميراثه منها لا أكثر. اهـ. ويستثنى منه أيضا تصدق بالماء على مسجد أو غيره فله أن يشرب منه لأنه لم يقصد به الفقراء فقط بل هم والأغنياء كما لبعض شراح الرسالة، وفي العلمي عليها: من أخرج كسرة لسائل فلم يجده فلابن رشد إن كان معينا أكلها مخرجها وإلا فلا، وفي النوادر: إن أخرجها له فلم يقبلها فليعطها لغيره وهو أشد من الذي لم يجده اهـ قوله وأما العود فيها فمكروه، لخ، تأمل العود فيها كيف يتصور مع أن المشهور لزومها بالقول. وقال بعضهم: يتصور فيما إذا أسقط الوهوب له حقه من الطلب، قال بناني: وقوله: ويستثنى الغلة المتصدق بها، يعني كالإخدام وما يذكره بعد من العرية والعمرى، ولعل الفرق بين صدقة الذات وصدقة المنفعة أنه في المنفعة تكون الرقبة على ملكه وهو لا يأمن عليها من تفريط المتصدق عليه فيها فتهلك أو تتغير. والله أعلم. اهـ. وقال المواق عند قوله: وكره تملك صدقة بغير ميراث، من المدونة قال ملك: لا يشتري الرجل صدقته من المتصدق عليه ولا من غيره. محمد: ولا ترجع إليه باختيار من شراء أو غيره وإن تداولته أملاك وميراث واختلف هل النهي على الندب أو الوجوب؟ فقال ملك: لا ينبغي أن يشتريها. وقال: يكره. وظاهر الموازية أنه لا يجوز. اللخمي: والأول أحسن لأن المثل ضرب لنا بما ليس بحرام. ابن عرفة: التعليل يدل على ذم الفاعل وشبهه بالكلب العائد في قيئه، والذم على الفعل يدل على حرمته، ورجوعها بالإرث جائز اتفاقا لأنه جبري. اهـ. وقال بناني عند قوله: وكره تملك صدقة بغير ميراث، عبارة ابن الحاجب: لا ينبغي. ولفظ المدونة والموازية وسماع ابن القاسم: لا يجوز. اللخمي: اختلف هل النهي على الندب أو الوجوب؟ والأول أحسن. ابن عبد السلام والتوضيح: المشهور أنه على الكراهة. ابن عرفة: وفيه نظر، وقال قبله: التعليل يدل على ذم الفاعل لتشبيهه بالكلب العائد في قيئه والذم على الفعل يدل على حرمته. وقاله عز الدين. التوضيح: ظاهر المدونة الكراهة لقوله في باب

ص: 519

الزكاة: وأكره للرجل شراء صدقته، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لعمر في الفرس الذي نصدق به (لا تشتره ولو أعطاكه بدرهم واحد فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه)

(1)

. والحديث في الموطإ والبخاري وغيرهما. الباجي: المذهب أن كل ارتجاع يكون باختياره فهو ممنوع كالابتياع، فتحصل أن المذهب عند اللخمي وابن عبد السلام والتوضيح الكراهة، وعند الباجي وابن عرفة التحريم. والله أعلم. وقد مر قول عبد الباقي عن ملك وأصحابه: استثناء الغلة المتصدق بها. قال الرهوني: ابن عرفة نقله عن الصقلي لكنه استثنى فقال: قاله ملك وأصحابه إلا عبد الملك، ومثله للخمي إلا أنه اختار قول عبد الملك، وقال الأبي بعد كلام: الذي تلخص من جميع ما ذكر أنه اختلف في شراء الصدقة بالكراهة والتحريم والجواز، وأنه اختلف في إلحاق الهبة بالصدقة، وزعم ابن عبد السلام أن المشهور في شراء الصدقة الكراهة، وأن المشهور عدم إلحاق الهبة بالصدقة، وإذا وقع شراء الصدقة فعلى القول بالكراهة لا يفسخ وعلى قول الداوودي بالحرمة يفسخ، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يفسخ. وقول بناني: فتحصل أن المذهب عند اللخمي. لخ. يفيد أن القولين متساويان مع أن أبا علي رجح الكراهة قائلا ما نصه: وليس اعتمادنا في هذا على تشهير ابن عبد السلام فقط، بل جل كلام الناس على هذا ولذلك نقلناه. اهـ. وقال الحطاب: واحترز بالصدقة من الهبة فإنه يجوز له أن يتملكها على المشهور. ولا يركبها، يعني أنه لا يجوز لمن تصدق على ولده أو غيره أن يركب صدقته أي الدابة التي تصدق بها. أو يأكل من غلتها، يعني أنه لا يجوز لمن تصدق بصدقة على ولده أو على أجنبي أن يأكل من غلتها. قال عبد الباقي: ولا يركبها أي الدابة المتصدق بها على ولده أو على أجنبي أي [أو يأكل]

(2)

من غلتها كثمرتها أو يشرب من لبنها أو ينتفع بصوفها أو بشيء من غلتها غير ما ذكر، واعلم أن عبارة المص هنا كالمدونة كالصريحة في المنع انظر الشبراخيتي. وهل محل عدم الجواز حيث لم يرض الابن الكبير باستعمال الوالد للغلة وأما لو رضي باستعماله للغلة، فإنه يجوز للوالد حينئذ أن يأكل الثمرة ويستعمل الصوف ويركب ويشرب اللبن كما قال: إلا أن يرضى

(1)

البخاري، كتاب الهبة، رقم الحديث 2623 - الموطأ، كتاب الزكاة، رقم الحديث 49

(2)

في الأصل: أو لا يأكل، والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 107.

ص: 520

الابن الكبير بشرب اللبن، فلو قال: بكشرب اللبن لشمل الصوف والركوب والثمار ونحو ذلك، وعلى هذا توافق المدونة الموازية، فإن ابن المواز يقول: إنه يجوز للمتصدق الانتفاع بصدقته إذا كانت الصدقة على ابنه الكبير أي المالك أمر نفسه ورضي بانتفاع أبيه بالركوب ونحوه ولو كان له ثمن كثير أو عدم الجواز غير مقيد برضى الولد المالك لأمر نفسه، وقوله: تأويلان، مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان، وأفاد المص أن التأويلين متفقان على عدم الجواز حيث لم يكن الولد مالكا لأمر نفسه مطلقا أو مالكا لأمر نفسه ولم يرض باستعماله للغلة، وأن محلهما حيث رضي الولد المالك لأمر نفسه باستعمال الغلة. واعلم أن في كلام المص تدافعا حيث حكم بالكراهة في تملك الصدقة، وحكم بعدم الجواز في استعمال غلتها. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: ولا يجاب عنه بأن المراد هنا بالنهي الكراهة لقول المص: إلا أن يرضى الابن، لخ، لأنه يفيد الكراهة حيث لم يرض الابن بذلك وذلك لا يصح والله سبحانه أعلم. واعلم أن مقتضى المص عدم جواز استعمال الغلة كانت الصدقة على أجنبي أو ولد إلا في صورة واحدة، وهي ما إذا رضي الولد الكبير باستعمالها ففيه تأويلان، وخرج عن التأويلين ما إذا كانت على أجنبي فلا يجوز استعمالها رضي أم لا، وما إذا كانت على ولد صغير أو كبير لم يرض، هذا هو ظاهر المص، وفي المدونة: من تصدق بصدقة على أجنبي لم يجز له أن يأكل من ثمرتها ولا يركبها إن كانت دابة ولا ينتفع بشيء منها، وقال أبو محمد في الرسالة: ولا بأس أن يشرب من لبن ما تصدق به، فظاهره خلاف ما هنا، وقيل: معنى ما في الرسالة إن كان حيث لا ثمن له، وقيل: يخرج ما في الرسالة على ما في كتاب محمد أن للرجل أن يأكل من لحم غنم تصدق بها على ابنه ويشرب من لبنها ويكتسي من صوفها إذا رضي الولد وكذا الأم. قال محمد: وهذا في الولد الكبير، وأما الصغير فلا يفعل. قاله أبو الحسن. نقله بناني. وقال: فأنت ترى تقييده المدونة بالأجنبي موافقا بظاهره لكلام محمد. اهـ. وفي الميسر عن الشارح عن الموازية: للرجل أن يأكل من لحم غنم تصدق بها على ابنه ويشرب من لبنها ويكتسي من صوفها إذا رضي الولد وكذا ثمر الحائط. وقاله في العتبية. وزاد محمد: وكذلك الأم، قال: وهذا في الولد الكبير، وأما الصغير فلا يفعل. قاله ملك. وأما الأجنبي فلا إلا أن يخلط طعامه بطعامه أو نفقته وفي الكافي: ولكل من الأبوين مما تصدق به

ص: 521

على ابنه أكل ثمرة وشرب لبن وركوب ظهر مما لا يضر بنسل ولا ينهك حلبا ولا يفسد شيئا. اهـ. وقال الحطاب عند قول المص: ولا يركبها، لخ، انظر هل النهي على الكراهة أو على المنع؟ وظاهر المدونة المنع.

وينفق على أب افتقر منها، قال الخرشي: يعني أن الأب إذا تصدق على ولده بصدقة فافتقر الأب فإنه ينفق عليه منها ولا يدخل تحت النهي. اهـ. وهو تقييد لقوله: ولا يركبها أو يأكل غلتها. اهـ. وقال عبد الباقي: وينفق على أب تصدق على ابنه بصدقة أو أم كذلك افتقر منها، وكذا على زوجه من صدقتها عليه وإن غنية لوجوب نفقتها عليه. اهـ. وقال المواق: من المدونة: من تصدق على أجنبي بصدقة لم يجز له أن يأكل من ثمرتها ولا يركبها إن كانت دابة ولا ينتفع بشيء من ثمنها، وأما الأب والأم إذا احتاجا فلا بأس أن ينفق عليهما مما تصدقا به على الولد قال محمد: ولا يستعير ما تصدق به أو أعطاه لرجل في السبيل، وإذا تصدق بذلك عليه فلا يقبله. قال محمد: وإن لم يبتل الأصل وإنما تصدق بالغلة عمرى أو أجلا فله شراء ذلك. قاله ملك وأصحابه إلا عبد الملك. اهـ. وقال التتائي: ويُنفِق الابن المتصدق عليه على أب افتقر منها، وكذا على أم كما تقدم عن المدونة، وفي شرح عبد الباقي: أن من عزل زكاته وضاع أصلها وصار فقيرا لا يجوز له الأخذ منها لأنها صارت حقا للفقراء وهم أجانب من ربها، فلا يجب عليهم الإنفاق عليه منها. وتقويم جارية أو عبد لضرورة، يعني أن الأب إذا تصدق على ولده الصغير بأمة فتبعتها نفسه فله أن يقومها على نفسه للضرورة، وإذا قومها على نفسه فإنه يستقصي في القيمة لأجل الولد ويشهد بذلك، وأما لو تصدق بها على ولده الكبير أو أجنبي فإنه لا يجوز له أن يقومها، وكذلك العبد للأب أن يقومه على نفسه بعد أن تصدق به على ولده الصغير، والمراد بالاستقصاء السداد في الثمن بأن لا يشتريَ بأقل من القيمة، فالشراء بالقيمة سداد وليس المراد الزيادة عليها، وأخل المؤلف بالتقييد بالصغير وكذا بإشهاد الأب أنه إنما أخذها بثمن لا باعتصار ثم هذا في الصدقة ومثلها الهبة التي لا تعتصر. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وللأب تقويم جارية تصدق بها على ابنه أو تقويم عبد على أب وأو أم تصدقا به على ابنهما للضرورة وهي أن تتبعها نفس الأب وتميل إليها، وأن يحتاج الأصل إلى خدمة العبد بحيث تتعسر بدونه

ص: 522

ويستقصي في الثمن بأن يكون سدادا، والمراد به أن لا تقوم بأقل من القيمة فالشراء بها سداد، وأخل المص بالتقييد بالابن الصغير، ومثله السفيه البالغ، وأما الكبير الرشيد فليس للأب ذلك، وأخل أيضا بإشهاد الأب على أنه إنما أخذ بثمن لا باعتصار، لكن الظاهر أن الإشهاد حق له لخوف دعوى الابن عليه الاعتصار. اهـ. قال الرهوني: ما حاصله أن الأم ليست كالأب، فإن كانت وصية فيجب الجزم بأنها مثله. اهـ. وقال بناني: المراد بالتقويم شراؤه من نفسه كما عبر به في العتبية لا تقويمه بالعدول، ولذا قال أبو الحسن وانظر أجاز له أن يشتري من نفسه لنفسه وحمله على السداد، وفي كتاب الجعل جعله كالوصي يتعقب الإمام فعله ابن رشد لأن بيعه من نفسه محمول على غير السداد، بخلاف بيعه من غيره فأجاز هنا أن يشتري الرجل ما تصدق به على ابنه ودعموه بوجوه منها الضرورة، الثاني: أن له شبهة الملك، وله أيضا شبهة التصرف في مال الصغير، بخلاف الكبير الذي ليس له فيه إلا شبهة الملك. اهـ. قال الرهوني: كلام بناني يوهم أن في المدونة ذكر العبد والأمة وكذا في العتبية وليس كذلك، وإنما ذكر في المدونة الجارية وفي العتبية: العبد، ثم قال: حاصل ما أفاد أبو الحسن أن ما ذكر أن للأب شراء الأمة والعبد هنا محمول فيه على السداد، وجواب العارضة المذكورة أن ما هنا في شرائه ما تصدق به هو عليه مع شرطه وإلا فلا بد من إثبات السداد، وقد صرح بذلك ابن ناجي، ثم قال: هذه غفلة منهم رضي الله عنهم عن كلام أبي الوليد بن رشد، فإنه صريح في أنه لا معارضة أصلا وأنه لا بد من معرفة السداد أيضا، فإنه قال في آخر كلامه: ويحتاج في هذا أيضا إلى معرفة السداد هنا للابن ليلا يشتريه منه بأقل من قيمته، لأن الأمر فيما بينه وبينه محمول على غير السداد، بخلاف ما يبيعه له أو يشتريه من غيره وذلك بين من قول ابن القاسم في كتاب الجعل والإجارة: من المدونة: وفي رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب النكاح لأنه شَرَطَ في شراء الأب لنفسه الرأس يساق إلى ابنته البكر في صداقها أن يكون الشراء صحيحا ببينة وأمر معروف. وبالله تعالى التوفيق. اهـ. ونقل الرهوني عن ابن رشد أنه لابد من أن يشتري العبد بعد مدة ليعلم بذلك أنه شراء صحيح بعد صدقة متقدمة، وأما إن تصدق عليه بالعبد ثم اشتراه منه في فور ذلك فإنه يتهم على أنه لم يتصدق عليه بالعبد وإنما أراد أن يكتب له على نفسه دينا يأخذه بعد موته فتحيل لجواز

ص: 523

ذلك بإظهار الصدقة. اهـ. قال الشبراخيتي: ويستقصي، وليس المراد بالاستقصاء الزيادة على القيمة وإنما المراد بأن لا يشتريها بأقل من القيمة. اهـ.

وجاز شرط الثواب، يعني أنه يجوز اشتراط الثواب في الهبة أي المكافأة. واعلم أن الهبة للثواب حكمها حكم المبيع، وصورة اشتراط الثواب أن يقول له أهب لك هذا على أن تثيبني عليه فهذا جائز ولو لم يذكر الثواب قياسا على نكاح التفويض وقوله شرط أي اشتراط، قال الخرشي: والثواب العوض وأصله من ثاب إذا رجع فكأن المثيب يَرْجِعُ للمثاب مثل ما دفع. اهـ. وقال الشبراخيتي: وجاز شرط أي اشتراط الثواب على الموهوب له مقارنا للفظ الهبة سواء عين المثاب به أم لا، فالأول كوهبته لك بمائة والثاني كوهبت هذا على أن تثيبني، ولا يقدح اشتراط الثواب في عقد الهبة لأنها كالبيع، فاشتراط الثواب كالثمن. ابن عرفة. هبة الثواب عطية قصد بها عوض مالي، وشرط الثواب ليس من مكارم الأخلاق. اهـ. وقال عبد الباقي: وجاز للواهب في عقد الهبة شرط أي اشتراط الثواب أي العوض على الموهوب مقارنا للفظها كوهبتك كذا على أن تثيبني، ولا يقدح اشتراطه في عقدها لأنها حينئذ بيع، فاشتراطه كالثمن وإن لم يذكر عينه قياسا على نكاح التفويض، وهو المعتمد من قولين هنا. اهـ، وقال الحطاب مفسرا للمص: يعني أن الهبة تجوز بشرط الثواب، وسواء عين الواهب الثواب الذي يريد أم لا، أما إذا عينه فقالوا: إنها جائزة وهي حينئذ بيع من البيوع قال في التوضيح: كما لو قال: أهبها لك بمائة دينار ويشترط في ذلك شروط المبيع. اهـ. ولم يذكر في ذلك خلافا، وأما إن شرط الواهب الثواب ولم يعينه فأجاز ذلك ابن القاسم في المدونة وقاله أصبغ، ومنعه ابن الماجشون، لأنه كبيع سلعة بقيمتها. الباجي: والأول أولى. اهـ وقال المواق: ابن يونس: الهبة لثواب كالبيع في أكثر الحالات وإن لم يسم العوض عند الهبة، أجازها العلماء على ما رويَ عن عمر وغيره، وخالفت البيع في هذا كخلاف نكاح التفويض نكاح التسمية.

ولزم بتعيينه، قال الخرشي: فاعل لزم هو الثواب والضمير المجرور بالمضاف يرجع للثواب أيضا، والمعنى أنه إذا قال: وهبت لك هذا على أن تثيبني الشيء الفلاني لشيء معين حاضر أو معلوم غائب جاز ذلك وليس لأحدهما رجوع بعد ذلك كالبيع إذا انعقد. اهـ. وقال الحطاب:

ص: 524

يعني أن الموهوب إذا عين الثواب لزمه تسليمه للواهب وليس له الرجوع فيه ولو لم يقبضه الواهب. قاله ابن شأس وابن الحاجب. قال في التوضيح: لأنه التزمه، وقال بناني: قال ابن الحاجب: ليس له الرجوع في الثواب بعد تعيينه وإن لم يقبض. اهـ. وقال بناني: والذي يظهر أنه إذا عين الثواب عند عقد الهبة ورضي الموهوب به أنها لازمة بالعقد لأنها حينئذ بيع من البيوع كما قال ابن رشد، وأن اللزوم بالقبض للواهب إنما هو إذا لم يعين الثواب. اهـ. فَتحَصَّلَ من هذا أنه إذا عُيِّنَ الثواب لزم عقد الهبة أي لزم الواهب والموهوب معا. والله تعالى أعلم. ومفهوم قوله: بتعيينه، أنه لو لم يعين الثواب أنها لا تلزم، فلا يلزم الواهب دفعها ولو بذل له الموهوب أضعاف قيمتها، فإن قبضها الموهوب له لزمت الواهب بالقبض ولا تلزم الموهوب له بالقبض، بل له ردها للواهب إلا أن تفوت والله سبحانه أعلم. وقال عبد الباقي: ولزم الثواب بتعيينه أي تعيين الثواب قدره ونوعه حاضرا أو معلوما من موهوب أو واهب ورضي به الآخر. اهـ. وتحصل مما مر أنه يلزم دفع الثواب بتعيينه، فإن اختلف نوع ما عين جودة ورداءة فالظاهر تعين الوسط قاله عبد الباقي. وقال محمد بن الحسن بناني عن التوضيح واختلف في فوات الهبة بالنسبة إلى الواهب حتى يلزمه أخذ القيمة على خمسة أقوال، الأول: مجرد الهبة. ثانيها: القبض وهو المشهور. ثالثها: التغير بالزيادة والنقص. رابعها: بالنقص فقط. خامسها: لا تفوت إلا بذهاب عينها أو العتق ونحوه. اهـ. وقال المواق: ابن رشد: هبة الثواب على ثلاثة أوجه، الأول: أن يهب على ثواب يرجوه ولا يسميه ولا يشترطه فهذا على مذهب ابن القاسم كنكاح التفويض. والثاني: أن يهب على ثواب يشترطه ولا يسميه، فقيل: إنه كالهبة التي يرى أنه أراد بها الثواب. قاله أصبغ. وقاله ابن القاسم. وقال ابن الماجشون: هذا غرر لأنه باع سلعة بقيمتها. الثالث: أن يهب على ثواب يشترطه ويسميه فهذا بيع من البيوع يحله ما يحل البيع ويحرمه ما يحرم البيع. الباجي: من الجهالة في الثمن أن يبيعه السلعة بقيمتها أو بما يعطى فيها، ولو قال: بعتكها بما شئت. قال ابن القاسم: إن أعطاه القيمة لزمه، الباجي: حمل ابن القاسم هذا على المكارمة كهبة الثواب، واعتبر محمد لفظ البيع فمنعه، ولم يجعله كهبة الثواب فجعل لِلفظِ تأثيرا. اهـ. ثم قال: والمعروف في المذهب أن الموهوب له بالخيار بعد القبض بين

ص: 525

الإمساك والرد ما لم يفت الموهوب. اهـ. والله سبحانه أعلم. وقال الشبراخيتي: قال في معين الحكام: مسألة: اختلف في الذي يثيبُ جهلا عما لا ثواب فيه أو المثيب عن الصدقة، فقال ملك: يرد إليه ثوابه ولا شيء له إذا فات. اهـ.

تنبيه: قال البساطي: فاعل لزم العقد. قال بناني: وهو صحيح أيضا على معنى لزوم العقد لهما بتعيين الثواب، لقول ابن رشد: إن وهب على ثواب يشترطه ويسميه فهو بيع من البيوع. اهـ.

وصدق واهب فيه إن لم يشهد عرف بضده، يعني أن الهبة إذا وقعت مطلقة أي غير مقيدة بثواب ولا بعدمه ثم اختلفا بعد ذلك، فقال الواهب: إنما وهبت للثواب، وقال الموهوب له: بل وهبت لي لغير ثواب، فإن القول قول الواهب إن شَهد له العرف أو لم يشهد له ولا عليه، وأما إن شهد العرف للموهوب له بأن كان مثل الواهب لا يطلب في هبته ثوابا فالقول حينئذ قول الموهوب له، فقوله: وصدق واهب فيه أي في الثواب أي في قصده وإرادته لا في شرطه لأنه إذا ادعى الشرط فلا بد من إثباته، ولا ينظر لعرف ولا ضده، وقوله: وصدق واهب فيه، هذا إذا قبض الموهوب له الهبة وإلا فالقول لربها مطلقا. اهـ. قاله الخرشي وغيره. وفي نسخة باللام بدل الباء أي إن لم يشهد عرف لضده أي الواهب وهو الموهوب له ويصدق ذلك بثلاث صور، فيكون القول للواهب فيها وهي أن يشهد له العرف أو لا يشهد له ولا عليه أو يشهد لهما، ومفهومه أن يشهد العرف للموهوب له بأن الواهب مثله لا يطلب في هبته الثواب فيكون القول للموهوب له، فالصور أربع. انظر الشبراخيتي. والله تعالى أعلم. وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: وما وهبت لقرابتك أو ذوي رحمك وعلم أنك أردت ثوابا فذلك لك إن أثابوك وإلا رجعت فيها، وما علم أنه ليس للثواب كصلتك لفقيرهم وأنت غني فلا ثواب لك ولا تصدق أنك أردته ولا رجعة لك في هبتك، وكذلك هبة غني لأجنبي فقير أو فقير لفقير ثم يدعي أنه أراد الثواب فلا يصدق إذا لم يشترط في أصل هبته ثوابا ولا رجعة له في هبته.

وإن لعرس، يعني أن الواهب يصدق في إرادة الثواب بالقيد المذكور وإن كانت هبته لأجل عرس حدثت للموهوب له. قال عبد الباقي وبالغ على تصديق الواهب أنه إنما وهب لثواب مع قيده بقوله: وإن كان الشيء الموهوب لعرس، ويرجع بقيمة شيئه معجلا ولا يلزمه تأخير إلى حدوث

ص: 526

عرس عنده. قاله الأجهوري. وظاهره أنه لا يعمل بعرف التأخير، ونحوه للتتائي. وفي البرزلي: أنه يعمل به وللموهوب له أن يقاصَّه بقيمة ما أكله هو ومن حضر الوليمة تبعا له. اهـ. قوله: ويرجع بقيمة شيئه معجلا، لخ، هذا الذي عزاه المتيطي لأبي بكر بن عبد الرحمن قاله بناني، وقال الرهوني عن شيخه الجنوي: ظاهر قوله ولا يلزمه تأخيره لخ، أنه يجوز التأخير إذا رضي، وليس كذلك، لأن القائل بأنه يعجل هو أبو بكر بن عبد الرحمن، وهو يقول بوجوبه، قال: يجمع بينه وبين ما للبرزلي بأن ما لأبي بكر بن عبد الرحمن في الطعام وما للبرزلي في غيره. اهـ. قال الرهوني: انظر من نقل عن أبي بكر بن عبد الرحمن الوجوب، والذي في نقل المتيطي عنه موافق لما قاله عبد الباقي، ففي اختصار المتيطية: قال أبو بكر بن عبد الرحمن: ولو قال له المعْطَى: لا أعطيك إلا أن تحدث عرسًا فله الرجوع عليه بقيمة هديته معجلا. قال أبو عمران: وإذا كانت المكافأة عندهم كالشرط فهو فاسد يُقضَى فيه بالقيمة فيما يقوم وبالمثل فيما له مثل، وكذلك الجفان التي توجه إلى أولياء الميت. وقال ابن أبي زيد: أما الجفان الموجهة لأهل الميت بخلاف ما يهدَى في نفاس أو عرس فإن للناس فيه عرفا يقوم مقام الشرط، ومثله في مختصر ابن عبد الحكم. وقال أبو الحسن القابسي: لا رجوع في شيء من ذلك كله. اهـ. ونقله ابن عرفة، وقال: قلت: مقتضى المذهب أنه إن اقتضى العرف قصد الثواب أثيب وإلا سقط، ثم إن اقتضاه على ما يوجب الفساد في وقته أو قدره أو نوعه حكم فيه بحكم البيع الفاسد، وإلا حكم بحكم ثواب الهبة، والغالب في صور ثوته عرفا الفساد، ولذا ينبغي عدم الأكل منه فيمن حضره، وربما يفرق في ذلك بين حاله قبل الفوت فيتأكد الكف وبعد فوته فيخف. اهـ. وقال أبو علي عقب نقله كلام ابن عرفة: انظر قوله: وإلا سقط فهو خلاف المتن في صورة الإشكال، ثم قال: وإنما يأتي ما قاله ابن عرفة على ما قاله اللخمي ومن تبعه وليس هو المذهب. انتهى. وهو ظاهر. انتهى كلام الرهوني. وقال الشبراخيتي: ولو قال: وإن لكعرس ليكون شاملا للنفاس والعزاء كان أحسن، ولو قال المهدَى له في العرس: لا أكافئك إلا أن تحدث عرسا وذلك شأن الناس فله الرجوع بهديته معجلا. اهـ. وهل يحلف أو إن أشكل، يعني أنه حيث يكون الواهب مصدقا في قصد الثواب فهل يحلف أنه أراد الثواب مطلقا شهد له العرف أم لا؟ أو لا يحلف الواهب إلا إذا أشكل الأمر

ص: 527

فيحلف حينئذ، في ذلك تأويلان. الأول: قال عياض هكذا وقع في بعض نسخ المدونة. البساطي: سوَّى جماعة بينهما وهو الظاهر لأن العرف وإن شهد قد يقصد الواهب التبرع، والثاني: قال البساطي: ذهب إليه جماعة من شيوخ المدونة. اهـ. قاله التتائي. والتأويلان متفقان على حلف الواهب حال الإشكال، والخلاف في حال شهادة العرف للواهب هل يحلف أم لا؟ وقال المواق عند قوله: تأويلان ما نصه: عياض: قوله: في هبة الفقير إن قال: إنما وهبت للثواب القول قول الواهب وقع في بعض نسخ المدونة مع يمينه، ومثله في كتاب ابن الجلاب، وقال ابن زرب: لا يمين عليه، وقال أبو عمران: أما إذا أشكل فإحلافه صواب، وإن لم يشكل وعلم أنه أراد الثواب فلا يحلف. اهـ. وقررت كلام المص بأن فاعل يحلف هو الواهب تبعا للخرشي، وجعل عبد الباقي التأويلين فيمن هو مصدق من واهب وموهوب ونحوه للشبراخيتي والتتائي، قال بناني عند قول عبد الباقي ذلك ما نصه: جعل التأويلين في كل من الواهب والموهوب له وليس كذلك، بل هما في كلامها في الواهب فقط كما لابن رشد وعياض وأبي الحسن وابن عرفة. اهـ. وقوله: تأويلان، قال عبد الباقي مبنيان على أن العرف كشاهد فيحلف معه أو كشاهدين فلا يحلف، ومفاد كلامه اتفاقهما على حلفه عند الإشكال، وأن الخلاف في حال شهادة العرف. اهـ.

في غير المسكوك، متعلق بقوله: وصدق يعني أن محل تصديق الواهب في إرادة الثواب إنما هو في غير المسكوك وأما المسكوك، ومثله المكسور والتبر فلا ثواب فيه بخلاف الحلي ففيه الثواب. إلا لشرط، يعني أن محل كون المسكوك لا ثواب فيه إنما هو حيث لم يشترط ثواب، وأما إن اشترط فيه الثواب فإنه يكون فيه الثواب ويكون العوض عرضا أو طعاما قال المواق: من المدونة قال ملك: لا ثواب في هبة الدنانير والدراهم وإن وهبها فقير لغني، وما علمته من عمل الناس. ابن القاسم: إلا أن يشترط الثواب فيثاب عرضا أو طعاما، وأجاز ملك هبة الحلي المصاغ للثواب ولا يعوِّض من ذلك عينا لا ذهبا ولا فضة. قاله في المدونة. الباجي: يريد بعد التفرق، ويجوز قبله بغير جنسه بحضرة الحلي. اهـ. وقال الحطاب: في غير المسكوك أي فلا ثواب فيه ولو رأى أنه وهبه للثواب إلا بشرط، وثوابه عرض أو طعام، ومثل المسكوك السبائك والحلي المكسور على الأصح بخلاف الحلي الصحيح. اهـ. وقال الشبراخيتي: في غير المسكوك من الدراهم والدنانير

ص: 528

ومثل المسكوك السبائك والحلي المكسور والتبر فلا يصدق الواهب في دعوى الثواب فيه، ولو قال: في غير نقد إلا الحلي لكان أشمل لإفادته أن المسكوك والمكسور والتبر لا ثواب فيه. قال في الشرح:

تنبيه: كل من قوله: فيه، وقوله: في غير المسكوك، متعلق بقوله: صدق، وقد علمت أنه يمتنع تعلق جارين متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد، والجواب: أن قوله: في غير المسكوك حال أو أنه أخص من الأول، وهو جائز نحو جلست بالمسجد بمحرابه. اهـ.

وهبة أحد الزوجين، عطف على المسكوك، يعني أن الزوج إذا وهب لزوجته شيئا أو وهبت هي له شيئا ثم إنه طلب منها الثواب وادعى أنه قصده أو طلبت هي منه الثواب وادعت أنها أرادته فإنه لا ثواب لأحدهما على الآخر لقضاء العرف بنفي الثواب في ذلك، إلا أن يُشترطَ الثوابُ عند عقد الهبة أو تقوم قرينة على إرادته فيأخذ الثواب في غير المسكوك، وأما هو فلا بد فيه من الشرط ولا تكفي القرينة، ومثل الزوجين جميع الأقارب. قاله الخرشي وعبد الباقي. وقال: ومثل الزوجين الهبة بين الوالد وولده كما في المدونة، وألحق بهما الأقارب. اهـ. ونحوه للشبراخيتي فإنه قال: ولا مفهوم لقوله: أحد الزوجين، وكذلك جميع الأقارب إلا لشرط أو قرينة ينبغي أو عرف في غير المسكوك، وأما المسكوك فلا بد فيه من الشرط ولا تكفي القرينة. اهـ. وقال المواق: من المدونة قال ملك لا يقضَى بين الزوجين بالثواب في الهبة ولا بين والد وولده إلا أن يظهر ابتغاء الثواب بينهم، مثل أن تكون للمرأة جارية فارهة فطلبها منها زوجها وهو موسر فأعطته إياها تريد بذلك استغزار صلته، والرجل كذلك يهب لامرأته، والابن لأبيه مما يرى أنه أراد بذلك استغزار ما عند أبيه، فإن كان مثل ذلك مما يرى الناس أنه وجه ما طلب في هبته ففي ذلك الثواب، فإن أتى به وإلا رجع كل واحد منهما في هبته، وإن لم يكن وجه ما ذكرنا فلا ثواب بينهما. اهـ. وقال التتائي: وفيها: الهبة بين القرابة وذوي الأرحام إن علم قصد الثواب قضي به، وإن علم نفيه كغني لفقير سقط. اللخمي: لم يذكر حكم فقد دليل القصدين. اهـ. وقد مر عن الخرشي وعبد الباقي والشبراخيتي أن الهبة بين الأقارب لا ثواب فيها اهـ فعلم مما هنا وما مر أن الأقسام في هبة الأقارب ثلاثة، علم قصد الثواب ففيها الثواب، علم عدم قصده فلا

ص: 529

ثواب فيها، أشكل الأمر فلا ثواب فيها. والله سبحانه أعلم. قال التتائي: الباجي لمحمد عن أشهب: لا ثواب فيما وهبه ذو سلطان، وفي كون الهبة كذلك قول ابن شعبان ونقل الباجي عن ظاهر المذهب. ابن شعبان: لا ثواب في هبة لفقيه. اللخمي عن القاضي: وكذا لرجل صالح، وفيما أهداه الثواب. الباجي: الظاهر أنه أراد الفقير منهم والغنيُّ كسائر الأغنياء إلا أن تكون بين فقيهين، الباجي: لا ثواب فيما أهداه المولى لسيده. ابن عرفة: إن كان المولى غنيا وإلا فلا. انتهى. وقال الحطاب: وهبة أحد الزوجين للآخر وكذا الأب وولده. قال في المدونة: إلا أن يظهر ابتغاء الثواب. انتهى. فمسألة الزوجين والأقارب ليست كمسألة المسكوك ومسألة السبائك والحلي فإنه لا ثواب فيها ولو فهم ذلك، بخلاف مسألة الزوجين فإنه إذا دلت قرينة على إرادة الثواب حكم به، فهي إنما تخالف هبة الثواب بين الأجانب في كونها لا يحكم فيها بالثواب إلا لقرينة، وهبة الأجانب يحكم فيها بالثواب إلا إذا قامت قرينة على عدم الثواب.

ولقادم عند قدومه وإن فقيرا لغني، عطف على المسكوك بتقدير مضاف إليه، أي وغير هبة لقادم، يعني أن القادم إذا أهدى إليه شخص هدية من الفواكه والرطب وشبه ذلك عند قدومه وقال: إنما أهديت إليه ليثيبني وكذبه القادم في ذلك فإن القول قول القادم في نفي الثواب، ولو كان دافع الهبة فقيرا والقادم غني، وقوله: ولقادم عند قدومه، يعني إلا لشرط أو عرف. قاله غير واحد. وقال المواق: من المدونة قال ملك: وإذا قدم غني من سفره فأهدى إليه جاره الفقير الفواكه والرطب وشبهه ثم قام يطلب الثواب، وقال: إنما أهديت إليه رجاء أن يكسوني أو يصنع بي خيرا فلا شيء فيه لغني أو فقير. اهـ. وقال الشبراخيتي: وهذا في الفواكه والرطب وشبهه كما في المدونة، وأما في الخراف والدجاج والقمح والشعير والثياب وشبهه فالقول قول الواهب في الثواب إن ادعاه. اهـ.

ولا يأخذ هبته وإن قائمة، يعني أن الهبة للقادم عند قدومه لا ثواب فيها كما علمت إلا لشرط أو عرف، وحيث كانت لا ثواب فيها فليس للواهب أن يأخذ هبته التي أهداها للقادم ولو كانت عند القادم قائمة بعينها. قال ابن القاسم: وليس له أخذ هديته وإن كانت قائمة بعينها. اهـ. وقال التتائي: ولا يصدق في دعوى الثواب من أهدى لقادم عند قدومه من سفر حج أو غيره وإن

ص: 530

فقيرا لغني، وهذا من قول ملك، وقال ابن القاسم: لا يأخذ الفقير هبته وإن قائمة وهو المشهور، وأطلق المص اعتمادا على العرف فلا ينافيه ما قيد في المدونة بالفواكه والرطب وشبهه، ولذا قال محمد: أما القمح والشعير ففيه الثواب. اهـ. وعلى هذا فالثياب ونحوها أولى. اهـ. ولابن غازي رحمه الله تعالى في الهبة للفقيه:

ليس على الفقيه من ضيافه

ولا شهادة ولا مكافه

ذكر ذا القاضي لدى المدارك

عن سعد المعافري عن ملك

قال عبد الباقي: وحيث كان ذلك عن ملك فلعله أراد بالفقيه من هو مثله في الاجتهاد واستنباط الأحكام من الأدلة لشغله بذلك عما ذكر، فلا يشمل مجرد نقل كلام الغير، ويؤخذ من نقل التتائي أنه ليس على الفقيه مكافأة إلا أن يكون غنيا أو يجري العرف بمكافأته أو يكون المهدي فقيها مثله. اهـ. قال بناني: مقتضى ما نقله ابن غازي في التكميل عن شيخه القوري خلاف ذلك وهو ظاهر، فإن من شغل أوقاته بالمطالعة والتعليم والفتوى جدير بذلك وإن قصر عن الاجتهاد. وسعد المعافري هو سعد بن عبد الله بن سعد المعافري من كبار أصحاب ملك المصريين، سمع منه ابن القاسم وأشهب وابن وهب وغيرهم، وبه تفقه ابن وهب وابن القاسم، توفي بالأسكندرية سنة ثلاث وسبعين ومائة، والمعافري بفتح الميم وكسر الفاء نسبة إلى معافر بن يعفر بن ملك بن النضر. اهـ. وقوى الرهوني أنه ليس على الفقيه مكافأة الهدية ولو أهدى إليه فقيه.

فائدة: قال الرهوني: سعد المعافري هذا من كبار أصحاب ملك، سمع منه ابن القاسم وأشهب وابن وهب وغيرهم، وهو ثقة، وكان سعد فاضلا حتى إن الليث الذي هو من نظراء ملك قال: لو كان أهل الإسلام في ناحية وسعد في ناحية كنت قرينا له، يعني لسعد، ويذكر أن سعدا أوصى بابنته لابن القاسم وابن وهب فطلبها رجل بعد موته ذا يسار وليس هو بذلك الدين وطلبها آخر فقير ذا دين، فمال ابن القاسم إلى ذي الدين، ومال ابن وهب إلى ذي اليسار، فتناظرا فيه، فقال ابن القاسم: أرأيت لو كان سعدٌ حيا لمن يعطيها؟ أليس يقدم ذا الدين؟ فقال ابن وهب: نعم فقال

ص: 531

له ابن القاسم: ونحن في موضع سعد نفعل ما كان يفعل، فسلم له ابن وهب فهو شيخ ابن القاسم وابن وهب وبه تفقها. اهـ.

مسألة: في حكم هبة الطعام للثواب، قال الحطاب: قال في المدخل في آخر فصل آداب الأكل: وينبغي له أن يتحفظ من هذه العادة المذمومة التي أحدثت وهو أن يهدي أحد الأقارب أو الجيران طعاما فلا يمكن المهدى إليه أن يرد الوعاء فارغا، وقد وُجِدَ على فاعل ذلك فكان سببا لترك المهاداة، ولسانُ العلم يمنع من ذلك كله لأنه يدخله بيع الطعام بالطعام غير يد بيد، ويدخله أيضا بيع الطعام بالطعام متفاضلا، ويدخله الجهالة، فإن قيل: ليس هذا من باب البياعات إنما هو من باب الهدايا وقد سومح فيها، فالجواب: هو مسلم لو مشوا فيه على مقتضى الهدايا بالشريعة، لكنهم يفعلون ضد ذلك لطلبهم العوض، فإن الدافع يتشوف له والمدفوع إليه يحرص على المكأفاة، فخرج بالمشاحة من باب الهدايا إلى باب البياعات، وإذا كان كذلك فيعتبر فيه ما تقدم ذكره. اهـ. وقول أبي علي إنه ترك هذا النقل لأنه لا يعلم ما فيه مما نقله. قال فيه الرهوني: الظاهر أن النقول تدل على صحته فراجعه متأملا. والله تعالى أعلم. وقال في التوضيح: قوله: ولقادم عند قدومه لخ، خلافا لابن عبد الحكم. اللخمي: وهو أبين إلا أن الناس على ضربين، من لا يتكلم على ذلك إن لم يكاف فهذا لا شيء له إن وقعت بينهما مقابحة على الهبة، ومن يتكلم على الثواب فيقضى له. اهـ.

ولزم واهبها لا الموهوب له القيمة، يحني أن الواهب إذا طلب الثواب في الهبة المدفوعة للثواب ودفع له الوهوب له قيمة هبته فإنه يلزمه قبولها، وأما الموهوب فإنه لا يلزمه أن يدفع القيمة للواهب، بل له أن يقول للواهب خذ عني هبتك لا حاجة لي بها إلا أن تفوت بيد الموهوب له بزيادة ككبر الصغير أو سمن الهزيل، أو بنقص كهرم الصغير مثلا، وإلى هذا أشار بقوله:

إلا أن تفوت بزيد أو نقص، أي إذا قبض الموهوب له الهبة للثواب وفاتت عنده بزيادة أو نقص فإنه يلزمه أن يدفع القيمة للواهب للزوم الهبة للموهوب حينئذ، وقوله: ولزم واهبها، هذا بعد قبض الموهوب له للهبة، وأما قبل القبض فله الامتناع من قبول القيمة، ولو بذل له الموهوب له أضعافها وهذا أيضا فيما إذا لم يعين الثواب، وأما لو عين فقد مر أن العقد لازم للواهب والموهوب

ص: 532

له لأنها حينئذ كصريح البيع. والله تعالى أعلم. قال الشبراخيتي: إلا لفوت بزيد أو نقص أو ما هو أولى من ذلك كعتق وبيع لا حوالة سوق، ويجب تقييده بما إذا كان الفوات بيده أي الموهوب له، وأما إن كان الفوات بيد الواهب فإنه لا يلزم الموهوب له دفع القيمة بل هو مخيرٌ في قبول الهبة وردها. اهـ. ونحوه للخرشي. وقال المواق: هبة الثواب يكون الموهوب له مخيرا ما كانت الهبة قائمة لم تفت بين أن يثيبه ما يكون فيه وفاء بقيمة الهبة أو يردها عليه، ولا تجب عليه القيمة إلا بالفوات، وعلى قول مطرف وروايته عن ملك لا يلزم الواهب الرضى بقيمة الهبة إلا بعد فواتها بذهاب عينها، كقول ابن الماجشون في الذي يتزوج المرأة على حكمها: إنه لا يلزمها الرضى بصداق المثل إلا بعد الدخول، بخلاف مذهب ابن القاسم وابن عبد الحكم وأصبغ في قولهم: إنه يلزمها الرضا بصداق المثل إذا فرضه لها في التفويض. اهـ. وقوله: القيمة قال الشبراخيتي: فاعل لزم نفيا أو إثباتا. اهـ. قال في الميسر: وهل القيمة يوم القبض كما في الموطأ وشفعة المدونة واختاره محمد أو يوم الهبة كما في المدونة والعتبية، وفي الكافي: أنها إن فاتت واختلفا في قيمتها فالقول للموهوب. اهـ. أي لأنه غارم. اهـ. وقال التتائي: إلا لفوت بزيد أو نقص على المشهور ويلزمه القيمة يوم القبض اهـ وقال الخرشي والقيمة يوم القبض. اهـ. وقال عبد الباقي: والقيمة يوم القبض، وقيل: يوم الهبة وله ردها إن ارتفع المفيت إلا فيما إذا باعها ثم اشتراها وكان البائع المذكور مليا فإنما عليه دفع القيمة. اهـ. وله منعها حتى يقبضه، يعني أن الواهب للثواب له أن يحبس الهبة عنده حتى يقبضه أي ثوابها المشترط أو ما يرضى به من الموهوب له، ولو قبضها الموهوب له قبل الثواب وقف فإما أثابه أو ردها، ويتلوم لهما تلوما لا يضر بهما، ولو مات الواهب للثواب والهبة بيده فهي نافذة كالبيع أي حيث عين الثواب كما في بناني، وللموهوب قبضها إن دفع العوض للورثة، وإن مات الموهوب له قبل أن يثيب الواهب فلورثته ما كان له. اهـ. قاله الخرشي وغيره. وعلم مما مر أن الهبة للثواب ضمانها من الواهب ما دامت بيده، فإذا قبضها الموهوب له فضمانها منه.

تنبيه: قال عبد الباقي: واعتُرض قول المص: القيمة بأن مثل هذا التركيب لا نظير له في العربية، إذ التقدير في الأول قبول وفي الثاني دفع، وأجيب بأنها محذوفة من الأول لدلالة

ص: 533

الثاني، والمعين للتقدير في الكل ما يناسبه. اهـ. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: مثل هذا التقدير سائغ في العربية كما في الحديث (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:(ألا أخبرك بمعنى لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله).

وأثيب بما يقضى عنه ببيع، يعني أنه إذا أثابه بما فيه وفاء بالقيمة لزمه بشرط أن يراعى في الثواب ما يراعى في البيع، أي لابد أن يثيبه بما يجوز أن يقضى به في السلم، وقوله: عنه، أي عن الشيء الموهوب حال كون الموهوب المقضي عنه كائنا ببيع أي مراعًى فيه شروط بيع السلم، ومعنى ذلك أن الموهوب له إذا أثاب الواهب له في هبته ما يعاوض الناس عليه في البيع وفيه وفاء بالقيمة فإنه يلزمه قبوله، فقوله: عنه، متعلق بيقضى وهنا أمران، أحدهما: أنه إذا أثابه بما فيه وفاء بالقيمة فإنه يلزمه قبوله، ويُراعَى مع ذلك أمر ثان لا بد منه، وهو أن يكون ذلك الثواب مما لو كانت الهبة رأس مال السلم يجوز أن يقضى عن المسلم فيه، فإذا كانت الهبة لحما فلا يثاب عنها بحيوان من جنسه، أو طعاما فلا يثاب عنها بطعام على ما مر، أو ذهبا فلا يثاب عنها بورق أو عكس ذلك، إلا أن يكون ذلك قبل التفرق فيجوز للسلامة من الصرف المؤخر، ويثاب عن العرض بطعام أو ذهب أو فضة، ولا يثاب عن الذهب بذهب، ولا عن الفضة بفضة إلا بالحضرة على ما مر، قال المواق: قال أبو محمد: ولما كانت الهبة للثواب كالبيع في أكثر الحالات كان لها حكمه فيما يحل ويحرم من عوضها. قال ابن القاسم: ومن وهبك حنطة فلا خير في أن تعاوضه عنها حنطة أو تمرًا أو غيره من مكيل الطعام أو موزونه، إلا أن تعاوضه قبل التفرق طعاما من طعام فإنه يجوز لأن هبة الثواب بيع من البيوع إلا أن تعاوضه مثل طعامه في صفته وجودته وكيله فلا بأس بذلك وإن افترقا اهـ ولو فاتت أو تغيرت فعوضت منافع لم يجز ذلك، بخلاف ما إذا لم تتغير، وإن تغيرت وأحلته على دين لجاز ذلك لأنه حوالة إذا كان مثل القيمة في الصفة والقدر لا أكثر من القيمة.

وإن معيبا، يعني أنه إذا أثابه بمعيب فيه وفاء بالقيمة أو ليس فيه وفاء بها ولكن كملها له ولا مانع من جهة الاقتضاء فإنه يلزم الموهوب له قبوله، ومحل هذا إذا لم يكن العيب فادحا كجذام

ص: 534

وبرص وإلا فلا يلزمه قبوله ولو كمل له القيمة. انظر ابن غازي. قاله بناني. وقال الحطاب عند قوله: وإن معيبا: هو من العيب، كما قال ابن غازي. وعكسه في المدونة أيضا، قال في كتاب الهبات منها: وإذا وجد الموهوب بالهبة عيبا فله ردها وأخذ العوض. اهـ. وقوله: وأثيب بما يقضى عنه ببيع، هذا هو المشهور وهو مذهب المدونة، وقيل: يجوز ذلك. والخلاف مبني على أن هبة الثواب بيع أو لا كما أشار إليه في تكميل المنهج بقوله:

هل هبة الثواب بيع أو لا

فالبيع قبل القبض والربا انجلا

ونسب في التوضيح القابل للموازية، وقد نقله عنها ابن يونس وغيره، ونصه: قال في كتاب محمد: ويعاوض عن الذهب ورقا وعن الورق ذهبا، ونقله أبو الحسن وزاد ما نصه: اللخمي: وجه ما في كتاب محمد أن هبة الثواب خرجت على وجه المعروف والمكارمة فضعفت التهمة فيها، وعلى هذا يجوز أن يأخذ عن الحنطة تمرا، ونقل جسوس عن نوازل ابن هلال: أن ما يهدى للعروس لا بأس بالأكل منه على ما في الموازية، ولا يجوز على مذهب المدونة، قال: فصار ترك الأكل من باب الورع على القاعدة فيما اختلف فيه، وكان بعض الفضلاء إذا أهدي لهم شيء من الطرف والفواكه ونحوها يترك ما أهديَ له من الطعام بالموضع حتى يخرج إليه شيئا من الطعام فيحصل التناجز ليخرج من الخلاف. اهـ. ونقل التاودي هنا وسياقه أنه منقول عن الأجهوري ما نصه: يجوز ما يفعله الناس من إهداء الطعام في الولائم والأعياد ويثيبون عليه طعاما آخر مثله أو أكثر من الجنس أو غيره، لا يدا بيد، وذلك لأنهم لا يقصدون المبايعة والمعاوضة. والحمد لله على اختلاف العلماء. اهـ. قاله الرهوني.

تنبيه: قال عبد الباقي: الهبة للثواب كالبيع في أكثر الحالات فيما يحل ويحرم وتخالفه في أقلها، وذلك في ستة أمور:

1 -

جوازها مع جهل عوضها حين عقدها،

2 -

وأنه لا يلزم عاقدها الإيجاب والقبول،

3 -

ولا تفيتها حوالة سوق،

4 -

وعوضها إنما يلزم بتعيينه،

5 -

ويجوز جهل أجل العوض،

6 -

ولا يجوز تعويضها بأكثر من قيمتها إلا لعرف. اهـ المراد منه.

ص: 535

قوله: وعوضها إنما يلزم بتعيينه، لا فرق بين البيع والهبة في هذا، وقوله: ولا يجوز تعويضها بأكثر من قيمتها، نفي الجواز غير صحيح. قاله بناني. فلم يصح من الأمور الستة إلا أربعة وفي كلام الشيخ عبد الباقي هنا غير هذا. واعلم أن جميع ما مر في الهبة الصحيحة، وأما الفاسدة فترد إن كانت قائمة، فإن فاتت لزم عوضها من قيمة في القوم ومثل في المثلي.

إلا كحطب، مستثنى من قوله: ولزم واهبها، يعني أن الموهوب له إذا دفع للواهب ثواب هبته حطبا أو تبنا أو نحو ذلك مما لم تجر العادة أن يثاب به فإن الواهب لا يلزمه قبوله لعدم جريان العرف بدفعه في مقابلة ما وهب، ولهذا لو جرى العرف بالإثابة به لزمه قبوله. انظر حسن نتائج الفكر وغيره. وقوله: إلا كحطب لخ، هو قول ابن القاسم، وقال سحنون: يلزمه قبول ما فيه وفاء بالقيمة. اهـ. وقال المواق: قال ابن شأس: نوع الثواب الذي يلزم قبوله باتفاق الدنانير والدراهم، وروى أشهب انحصاره فيهما إلا أن يتراضيا على غيرهما، وروى سحنون أن كل ما يصح أن يكون ثوابا يلزم الواهب قبوله إذا كان فيه وفاء بقيمتها، ووافقه ابن القاسم في عدم الاقتصار على العين، إلا أنه استثنى الحطب والتبن وشبههما مما لا يثاب في العادة بمثله.

وللمأذون وللأب في مال ولده الهبة للثواب، يعني أن العبد المأذون له في التجارة يجوز له أن يهب من ماله هبة للثواب، ويجوز له أخذ هبة للثواب، وكذلك الأب يجوز له أن يهب من مال ولده هبة للثواب، ولا يجوز له أن يهب من مال ولده هبة لغير الثواب، والمراد بالولد هنا المحجور لا الرشيد، فلا يجوز ذلك في ماله وليس له إبراء من مال ولده مجانا، وليس الوصي كالأب في جواز الهبة للثواب، وأعاد اللام في للأب لاختلاف المتعلق إذ الأول في ماله والثاني في مال ولده.

وإن قال داري صدقة بيمين مطلقا، يعني أن الشخص إذا قال: داري صدقة، فإن كان ذلك في صيغة يمين وحنث فإنه لا يقضى عليه بإخراجها من يده مطلقا كان ذلك على معين كقوله: هي صدقة على زيد إن دخلت، أو لم يكن على معين كقوله: هي صدقة على الفقراء والمساكين، وهو وإن لم يقض عليه فإنه يجب عليه تنفيذ ذلك فيما بينه وبين الله، والكلام هنا فيما يفيد إنشاء

ص: 536

الصدقة، فلا يدخل هنا قوله: والله لأتصدقن بداري لأن هذا وعد بالصدقة، وإنما المراد باليمين هنا مجرد التعليق. قاله ابن عاشر. قاله بناني.

قال مقيده عفا الله عنه: وهذا صريح في أنه لا فرق بين قوله: إن شفى الله مريضي فداري صدقة على الفقراء مثلا أو على زيد، وقوله: إن دخلت الدار ممتنعا من دخولها فداري صدقة على الفقراء أو على زيد، ويأتي ما يخالفه. والله سبحانه أعلم. وقوله: وإن قال: داري صدقة لخ وكذا لو قال: هي هبة أو حبس، وقال الشبراخيتي عند قوله: مطلقا ما نصه: كان المتصدق عليه غير معين كعلى الفقراء، أو لم يقل: على كذا بأن قال: صدقة أو حبس أو هبة إن فعلت كذا أو قال: على زيد.

أو بغيرها ولم يعين، يعني أنه إذا قال داري صدقة في غير يمين ولم يعين المتصدق عليه بأن قال: داري صدقة، وكذا لو قال: حبس أو هبة على الفقراء أو صدقة أو حبس وسكت، فإنه لا يقضى عليه بإنفاذ ذلك، ولكن يجب عليه إنفاذه فيما بينه وبين الله، ومفهوم قوله: إن لم يعين أنه لو عين بأن قال: داري صدقة أو حبس مثلا على زيد لقضي عليه بتنفيذ ذلك كما يأتي. وعلم مما قررت أن قوله: لم يقض عليه، جواب الشرط، فهو راجع للمسائل كلها. قال عبد الباقي: لم يقض في واحدة من هذه الصور، لكن يجب عليه تنفيذ ذلك في الصور المذكورة فيما بينه وبين الله. وقيل: يستحب. اهـ. وقال المواق من المدونة: من قال: داري صدقة على المساكين أو على رجل

(1)

بعينه بيمين فحنث لم يقض عليه بشيء، وإن قال ذلك في غير يمين وإنما بتله لله أجبره السلطان إن كان للرجل بعينه. عياض: على هذا اختصرها أكثر المختصرين. وفي نوازل ابن الحاج: إذا كانت الصدقة بغير يمين لغير معينين كالمرضى والمساكين ففيها قولان، في حبس المدونة. وفي الهبات منها: من المدونة قال ملك: من قال لمديان أنا أهبك فلا يلزمه. اهـ.

بخلاف العين، يعني أنه لو قال: داري صدقة أو حبس أو هبة لزيد مثلا لقضي عليه بذلك أي حكم عليه بأنها لزيد.

(1)

في الأصل: الرجل، والمثبت من المواق ج 6 ص 68.

ص: 537

تنبيه: قال غير واحد: إن المراد باليمين في قوله: وإن قال: داري صدقة بيمين التعليق لامتناع من أمر كان يمينا أو نذرا، ولهذا لو قصد بالالتزام القربة لقضي عليه. قال عبد الباقي: بخلاف المعين للصدقة أو الهبة أو الحبس بغير يمين، كداري صدقة أو هبة أو حبس على زيد، فيقضى عليه بها لزيد لأنه قصد التبرك

(1)

والقربة حينئذ. اهـ. وقال الشبراخيتي: وأما إن كان قاصدا بالتزامه الخير والصلة فإنه يقضى عليه، وكذا لو كان التزامه بغير يمين لمعين. قاله عند قوله: بيمين مطلقا ونحوه للخرشي فإنه قال: المراد باليمين ما فيه حرج ومشقة وإلا قضي عليه، كما إذا قال: إن شفى الله مريضي أو قدم غائبي، ولو تصدق بداره على زيد ثم من بعده على الفقراء أو المرضى مما هو غير معين وطلبها غير المعين فامتنع ربها فإنه يقضى عليه بذلك نظرًا للحال الأول، كما أجاب به ابن الحاج. اهـ. وقال عبد الباقي: مفهوم قوله: وإن قال: داري صدقة، أن من قال: إن فعلت كذا فعبدي فلان حر أو عبدي ولا عبد له سواه حر وحنث فيقضى عليه به كما يفيده قوله: في باب العتق ولم يقض إلا ببت معين.

وفي مسجد معين قولان، يعني أنه لو قال: داري صدقة أو حبس على المسجد الفلاني، فإنه اختلف فيه هل يجبر على إنفاذ ذلك وهو قول ابن زرب كمن تصدق على رجل بعينه أو يؤمر بذلك ولا يجبر وهو قول عبد الملك؟ ومحل القولين إن لم تكن الصيغة في يمين فإن كانت مع يمين فلا قضاء قطعا في المعين وأولى في غيره. وقضي بين مسلم وذمي فيها بحكمنا، يعني أن الذمي إذا وهب للمسلم أو وهب له المسلم وتنازعوا في ذلك فإنه يحكم بين الذمي والمسلم فيها بحكمنا أي بحكم المسلمين من لزوم وإثابة عليها وغير ذلك، لا بحكمهم لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وأما فيما بين الذميين فلا نتعرض لهم فيها لأنه ليس من التظالم الذي نمنعهم منه، واختلف إذا ترافعوا إلينا في العتق والطلاق والنكاح والزنى والهبة هل يحكم بينهم بحكمنا على قولين؟ واعلم بأن الوفاء بالوعد مطلوب اتفاقا وهو إخبار عن إنشاء المخبر معروفا، وفي لزوم الوفاء به أربعة أقوال، أحَدُها: يلزم الوفاء به مطلقا. قاله عمر بن عبد العزيز. الثاني: إن كان على

(1)

في عبد الباقي ج 7 ص 110: التبرر.

ص: 538

سبب لزم وإن لم يدخل به في السبب. وهو لأصبغ مع ملك. الثالث: إن كان على سبب ودخل بسببه في السبب. لابن القاسم. الرابع: لا يقضى به مطلقا. لابن القاسم أيضا مع سحنون. قاله بناني.

تنبيهات: الأول: اعلم أن معنى الالتزام في اللغة إلزام الشخص نفسه ما لم يكن لازما له، وهو في هذا المعنى شامل للبيع والشراء والإجارة والنكاح والطلاق وسائر العقود، وهو في عرف الفقهاء إلزام الشخص نفسه شيئا من المعروف مطلقا أو معلقا على شيء، فهو بمعنى العطية، وقد يطلق في العرف على ما هو أخص من ذلك، وهو التزام المعروف بلفظ الالتزام، وهو الغالب في عرف الناس اليوم، وأركان الالتزام أربعة: كأركان الهبة، الملتزم بالكسر، الملتزَم له، والملتزم به، والصيغة؛ فيشترط في كل ركن منها ما يشترط في الهبة، فأما الركن الأول وهو الملتزم بالكسر فيشترط فيه أن يكون أهلا للتبرع وهو المكلف الذي لا حجر عليه وليس بمكره، فلا يلزم التزام المحجور عليه كالسفيه، والمأذون له في التجارة، والمكاتب، والمعتق بعضه، ومن أحاط الدين بماله، والمكره، والزوجة، والمريض في ما زاد على الثلث، ومن أنواع الالتزام ما يكون من باب المعاوضة فيشترط في الملتزم فيه أهلية المعاوضة فقط وذلك الرشد وعدم الإكراه، وأما الركن الثاني وهو الملتزم له فهو من يصح أن يملك أو يملك الناس الانتفاع به كالمساجد والقناطر، وأما الركن الثالث وهو الملتزم به فهو كل ما فيه منفعة، وسواء كان فيه غرر أم لا إلا فيما كان من باب المعاوضة فيشترط فيه انتفاء الغرر كما يأتي، وأما الركن الرابع وهو الصيغة فهي لفظ أو ما يقوم مقامه من إشارة أو نحوها تدل على إلزام الشخص نفسه ما التزمه. واعلم أن الالتزام إذا لم يكن على وجه المعاوضة فلا يتم إلا بالحيازة ويبطل بالموت والفلس قبلها كما في سائر التبرعات، وينقسم الالتزام إلى أربعة أقسام، لأنه إما معلق، أو غير معلق والمعلق إما معلق على فعل الملتزم بكسر الزاي أو على فعل الملتزم له بفتح الزاي أو على غير ذلك.

الثاني: اعلم أن الالتزام الذي ليس بمعلق هو إلزام الشخص نفسه شيئا من المعروف من غير تعليق على شيء، فدخل في ذلك الصدقة والهبة والحبس والعارية والعمرى والعرية والمنحة والإرفاق والإخدام والإسكان والنذر إذا كان غير معلق والضمان، والالتزام بالمعنى الأخص أعني

ص: 539

بلفظ الالتزام، والفرق بين هذه الحقائق إنما هو بأمور اعتبارية اعتبرها الفقهاء، فخصوا الصدقة والهبة بتمليك الرقاب، وجعلوا الأولى فيما كان لقصد الثواب من الله تعالى خاصة، والثانية فيما كان لقصد ثواب من المعطى، أو لوجه المعطى لصداقة أو قرابة أو نحو ذلك، وخصوا الحبس وما بعده إلى الإسكان بإعطاء المنفعة، فإن كان ذلك على التأبيد فهو الحبس، وإن كان ذلك مدة حياة المعطى فهو العمرى، وإن كان بمدة أو غير محدود فهو العارية، فإن كان ذلك في عقار أطلق عليه الإسكان، وإن كان في ثمرة أطلق عليه العرية، وإن كان في غلة حيوان أطلق عليه المنحة، وإن كان في خدمة عبد أطلق عليه الإخدام، وإن كان في منافع تتعلق بالعقار أطلق عليه الإرفاق، وخصوا الضمان بالتزام الدين لمن هو له، وخصوا النذر المطلق بالتزام طاعة لله تعلي بنية القربة، والالتزام الأخص بما كان بلفظ الالتزام، وتخرج العدة لأنه لا التزام فيها، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ما يقضى به؛ منها وما لا يقضى به قال الإمام الحطاب: وهذا القسم يقضى به على الملتزم ما لم يفلس أو يمت أو يمرض مرض الموت إن كان الملتزم له معينا، ولا أعلم في القضاء به خلافا إلا على القول بأن الهبة لا تلزم بالقول، وهو خلاف المعروف من المذهب، وأما إن كان الملتزم له غير معين فيأتي الكلام عليه إن شاء الله. ابن زرقون: قال المازري: للواهب الرجوع في هبته قبل حوزها عند جماعة، وفي قولة شاذة عندنا، وحكاه الطحاوي عن ملك، وابن خُوَيْز مَنْدَادَ عن ملك، وقال ملك في المدونة: وإن أشهد رجل على نفسه أنه ضامن لا قُضِيَ به لفلانٍ على فلان أو أنا كفيل بفلان على فلان وهما حاضران أو غائبان أو أحدهما لزمه ما أوجبه على نفسه من الكفالة والضمان، لأن ذلك معروف، والمعروف من أوجبه على نفسه لزمه، ومن ضمن لرجل ماله على ميت ثم بدا له فقد لزمه وذلك لأن المعروف كله إذا أشهد به على نفسه لزمه. قال الإمام الحطاب: وذكر الإشهاد هنا ليس شرطا في اللزوم وإنما خرج مخرج الغالب. وقال ابن رشد عن ملك: إذا قال له: بع ولا نقصان عليك لزمه، لأن معناه: بع ولا نقصان عليك والنقص علي، فهذا أمر أوجبه على نفسه، والمعروف على مذهب ملك وجميع أصحابه لازم لمن أوجبه على نفسه ما لم يمت أو يفلس إلى آخره، ومن التزم الإنفاق على شخص مدة معينة أو مدة حياة المنفق أو المنفَق عليه أو حتى يقدم زيد أو إلى أجل مجهول لزمه ذلك ما لم يفلس أو يمت، ومن

ص: 540

التزم الإنفاق على رجل وأبى أن يكسوه، فقال: إنما أردت الإنفاق لا الكسوة فقد قال ابن زرب: لزمه أن ينفق عليه ويكسوه، والحجة إجماع العلماء على وجوب الكسوة مع النفقة في الحوامل في قوله عز وجل:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، وخالفه ابن سهل: وقال من التزم الإنفاق على أحد إحسانا إليه لا يلزمه كسوته إذا قال: إنما أردت الإطعام، بدليل قول ملك في المدونة لا بأس أن يستاجر العبد السنة على أن على الذي استأجره نفقته وكذا الحر، فقلت لملك: فلو شرط الكسوة؟ فقال: لا بأس بذلك. فإنه يدل على أن النفقة لا تقتضي الكسوة، ولو كانت عنده مقتضية لها لقال له: لفظ النفقة يقتضيها، ويؤيده أيضا أنه لو التزم الإنفاق على إنسان فأنفق عليه شهرا أو سنة وقال: هذا الذي أردت ولا أزيد على ذلك وطلب الآخر الإنفاق عليه حياته لصدق الملتزم ولا يلزمه أكثر مما ذكر أنه أراده. وفي المدونة: من تصدق على رجل بحائطه وفيه ثمرة مأبورة أو طيبة، وقال: إنما تصدقت بالأصل لا الثمرة فهو مصدق بلا يمين، وكذا روى أشهب في كتاب ابن المواز أنه لا يمين عليه، وقد يتخرج من بعض مسائل هذا المعنى أنه يحلف، وفي سماع أشهب: من استرعى أنه متى أعتق عبده أو متى حبس داره التي بموضع كذا ثم أعتق أو حبس لم يلزمه وإن لم ترف البينة ذلك وصدق فيما يدعيه ويذكره، وقد مر أن كل متطوع مصدق، وأما إن قال ملتزم الإنفاق: لم تكن لي نية في مطعم ولا ملبس فإنه يقال له: قم بهما جميعا. اهـ. نقله الإمام الحطاب. المتيطي في الموازية: قال ملك: من أوصى بنفقة رجل حياته أخرج له من الثلث ما يقوم به منتهى سبعين سنة من ماء وحطب وطعام وكسوة. اهـ. قال الإمام الحطاب: الذي يظهر من كلام ابن رشد أن لفظ النفقة يطلق في العرف على الطعام والكسوة وعلى الطعام فقط، وأن الأول هو الأشهر، فإذا أطلق الملتزم اللفظ ولم تكن له نية حمل على الأول، يعني لزومهما معا وهو الأشهر، وإن ادعى الملتزم أنه أراد المعنى الآخر قبل قوله مع يمينه، وإلى هذا يرجع كلام ابن سهل والمتيطي. اهـ. وقال أيضا بعد جلب كلام في الحبس ما نصه: فعلم منه أنه إذا كان المحبس حيا وفسر اللفظ بأحد محتملاته قبل تفسيره ولو كان خلاف الأظهر، ولا يقبل قوله في الصريح إنه أراد خلاف معناه. اهـ. وإن طاع الزوج لزوجته بجميع مؤنة ولدها من غيره من كسوة وغيرها مدة الزوجية بينهما لزمه، ولا يكون هذا الشرط إلا بعد

ص: 541

البناء، ولو كان في عقد النكاح لم يجز، وفسخ قبل البناء ويثبت بعده بالدون من صداق المثل والمسمى، قال أبو بكر بن عبد الرحمن: إلا أن يكون إلى أجل معلوم فيجوز لانتفاء الغرر، فإن مات الولد رجعت بنفقته بقية المدة ويلزمه لأنه من صداقها وإنما تأخذه على حسب ما اشترطت، وقال ابن زرب: لا يجوز وإن كان الأجل معلومًا ويفسخ قبل البناء ويثبت بعده بصداق المثل ويسقط الشرط. اهـ. نقله الحطاب عن اختصار المتيطية إلا قوله: ويسقط الشرط، فإنه من المتيطية، وقوله: بالدون من صداق لخ، صوابه: وثبت بعده بالأكثر من المسمى وصداق المثل، ولفظ المتيطية: ولو كان يعني الشرط في عقدة النكاح لم يجز وفسخ قبل البناء وثبت بعده بصداق المثل وبطل الشرط. اهـ. والمشهور في المسألة أعني مسألة اشتراط المرأة على الزوج أن ينفق على ابنها فساد النكاح وإن أسقطت المرأة الشرط، وعن أصبغ: أن النكاح لا يفسخ إذا أسقطت المرأة الشرط. ابن رشد: والفساد فيه بين لاشتراطها نفقة مجهولة غير محدودة بمدة معلومة.

فرع: وللزوج الرجوع على المرأة بما أنفق بالشرط على ولدها أو على من لا تلزمه نفقته من خدمها إلى حين فسخ النكاح أو تصحيحه بصداق المثل. قاله ابن رشد.

فرع آخر: قال البرزلي: وفي الطرر رأيت في بعض الكتب إن كان التطوع بنفقة الولد لمدة الزوجية فإنما يلزم الزوج الإنفاق على الربيب ما دام صغيرا لا يقدر على الكسب. اهـ. وجزم به ابن سلمون، وهذا يحتمل أن يكون تقييدا لما مر كما هو الظاهر، وفي الطرر: إن اختلف الزوج والزوجة في نفقة بنيها من غيره فقالت: شرطت عليك الإنفاق، وأنكر ذلك، فإنه يحلف. قاله ابن الهندي؛ ولابن فتحون لا يمين عليه. الحطاب: إن ادعت أنه شرط في العقد فلا يمين عليه إلا على القول بصحة ذلك إذا كان لمدة معلومة وإلا فهي مدعية لفساد النكاح، فالقول قول الزوج كما قالوا فيما إذا ادعت أنه تزوجها في العدة، وقال الزوج: بعدها، إلا أن يشهد العرف لها فيكون القول قولها، وإن ادعت عليه أنه التزم ذلك بعد العقد فيجري الخلاف في توجه اليمين على الخلاف فيمن ادعى عليه شخص أنه وهبه، قال ابن عرفة: وفي إيجاب دعوى هبة معين يمينَ الواهب قول الجلاب ونقل الباجي عن ظاهر المذهب، وقال الرعيني: من ادعى على أحد من الناس هبة لله أو صدقة أو عطية أو نحلة أو عارية إلى أجل أو سكنى أو عمرى أو حبسا أو

ص: 542

إخدام عبد أو وصية وكان ذلك بيد المدعى عليه وعجز المدعي عن إثبات ذلك بالبينة فلا يمين على المدعى عليه إذا أنكر، وإن كانا أخوين أو خليطين أو كانت هذه الأشياء بيد المدعي وأنكر المدعى عليه ذلك حلف وأخذ متاعه استحسانا، والقياس أنه أولى بمتاعه بلا يمين، وفي المدونة: من تصدق بحائطه على رجل وفيه ثمرة فزعم أنه لم يتصدق بثمرتها، فإن كانت الثمرة يوم الصدقة لم تؤبر فهي للمعطى، وإن كانت مأبورة فهي للمعطي ويقبل قوله، ولا يمين عليه، وكذا الهبة. اهـ. وتفصيل الرعيني وابن عرفة ظاهر فليعتمد عليه. قاله الحطاب وتفصيلهما هو الذي عناه ابن عاصم بقوله:

ولليمين أيما إعمال

فيما يكون من دعاوي المال

إلا بما عد من التبرع

ما لم يكن في الحال عند المدعي

مسألة: امراة لها أولاد تأخذ نفقتهم من أبيهم وتزوجت رجلا وشرطت عليه نفقة الأولاد أجلا معلوما أو تطوع بها بعد العقد مدة الزوجية وأرادت الرجوع بذلك على أبيهم، فوقعت الفتيا: إن كان ذلك مكتوبا من حقها بحيث لها الرجوع متى شاءت وإسقاطه عن زوجها فلها أن ترجع بنفقتهم على أبيهم، وإن كان ذلك للولد فلا رجوع على أبيه بشيء، وهو جار على الأصول، وكأنه شيء وهب للولد والأول مال وهب لأمه، فإذا أنفقته على الولد رجعت به على أبيه. اهـ. قلت: وللأب أن يمتنع من إنفاق الزوج على ولده. اهـ. كلام الحطاب.

قال مقيده عفا الله عنه: هذا واضح إلا فيما اشترط حال العقد من مدة معينة فإن ذلك لا يكون إلا من حق الأم لما مر في الصداق من قوله: وهدية اشترطت لها أو لوليها والله تعالى أعلم. ومن زوج عبده وأشهد على نفسه تطوعا بعد العقد أنه ينفق عليها مدة الزوجية ثم مات فلا شيء في تركة السيد لأنها هبة لم تقبض. ابن رشد: اختلف قول ملك في شرط النفقة في النكاح على أبي الصغير حتى يبلغ وولي السفيه حتى يرشد، فأجازه مرة وكرهه أخرى، وقال بكل منهما كثير من أصحابه، وهذا الخلاف إنما هو إذا لم يقع بيان إن مات الأب قبل بلوغ الصبي أو الولي قبل

ص: 543

رشد اليتيم فسقطت النفقة بموتهما هل تعود في مال الصغير ومال اليتيم أو لا تعود عليهما إلى بلوغ الصغير ورشد اليتيم؟ فإن شرط عودها في مالهما جاز اتفاقا، وإن شرط سقوطها إلى بلوغ الصبي ورشد اليتيم فسد النكاح اتفاقا، وإنما الخلاف إذا وقع الشرط مبهما، وعلى القول بالفساد قال ابن القاسم: إن دخل جاز وكانت النفقة على الزوج، ولم يبين هل هو بالمسمى أو بصداق المثل؟ وهو الأظهر، قال الإمام الحطاب والقول بفساد النكاح وفسخه قبل البناء هو قول ابن القاسم وروايته عن ملك، ثم قال ابن رشد: ولو شرطت النفقة في نكاح الكبير المالك أمر نفسه في نفس العقد على غيره فسخ قبل البناء. ابن حبيب: إلا أن ترضى المرأة بكون النفقة على الزوج ويثبت بعده وتكون النفقة على الزوج. انتهى. وقوله: فسخ قبل البناء ولا يدخله الخلاف الذي في المسألة الأولى، ولا يجوز النكاح على إعطاء حميل بالنفقة لأنها ليست بدين ثابت في ذمته كالمهر، فإن وقع النكاح على ذلك فسخ قبل البناء وثبت بعده بمهر المثل إن كان أكثر من المسمى إذ لم ترض بالمسمى إلَّا لأجْلِ ما اشترطته من الحمالة، وتسقط الحمالة ولو وقع في مسألة المالك أمر نفسه بيان رجوعها على الزوج إن مات من شرطت عليه، أو طرأ عليه دين أو ما يبطل النفقة عنه جاز النكاح على قياس ما تقدم، وقيل: يفسخ قبل البناء على كل حال، لأن شرطها على غير الزوج خلاف السنة، ويمضي بعده بمهر المثل، ويبطل الشرط، وإليه نحا الأبهري، وما قلناه أظهر وأبين اهـ واعلم أن الضمان لما قد وجب من الحقوق يلزم في تركة الضامن لأنه خرج على عوض وهو ما رضي المتحمل له من ترك ذمة غريمه بخلاف

(1)

لما يجب كضمانه بعد العقد نفقة زوجة ابنه سنين مثلا فذلك يلزم ما دام الأب حيا، فإذا مات سقط ذلك عنه والله تعالى أعلم. وسئل ملك عمن طلق امرأته وهي حامل فأقام شهرا ثم بارأها على أن عليها إرضاع ولدها فطلبته بالنفقة لما مضى من الشهور قبل المبارأة؟ فقال: ذلك لها. قيل: أرأيت إن قالت: إنما باريتك على رضاعه فأما نفقة الحمل فلا؟ قال: أما نفقة حملها قبل المبارأة فذلك لها، وأما بعد مبارأتها فإنه يعرف أنه لم يكن يمنعها الرضاع ويعطيها هذا.

(1)

كذا في الأصل.

ص: 544

فرع: إذا خالع الزوج زوجته على نفقة الولد إلى الحلم على القول بجوازه فبلغ مجنونا أو زمنا عادت نفقته على الأب، ولو قال: إلى حين سقوط النفقة عن الأب لزمت المرأة النفقة حينئذ قاله في المتيطية.

فرع آخر: إذا خالع زوجه على أن تتحمل بالولد مدة معينة، وشرط عليها أن لا تتزوج مدة الرضاع ففي سماع أشهب عن ملك أن ذلك لا يلزمها، ولها أن تتزوج، وقال: يشترط عليها تحريم ما أحل الله، ولملك في كتاب ابن المواز أن ذلك يلزمها ولا تنكح حتى تفطم ولدها. وقاله ملك في سماع أشهب وأما اشتراطه عليها ترك النكاح بعد أمد الحولين مدة قريبة أو بعيدة فلا اختلاف أن ذلك لا يلزمها كما لا يلزم الزوج اشتراط ذلك انتهى وهو مخالف لما ذكره ابن سلمون عن الاستغناء: إذا التزمت الأم حضانة ابنتها وتزوجت فسخ النكاح حتى تتم أمد الحضانة. قال بعضهم: يريد قبل البناء، وقال الأبهري: شرطه باطل. قال الإمام الحطاب: ولا شك أن ما ذكره ابن رشد وإن لم يكن متفقا عليه هو الظاهر، وفي كلام ابن سلمون ترجيح القول بأنه لا يلزم ولا في مدة الرضاع وهو الظاهر. اهـ المراد منه. وأما عكس هذه المسألة فذكر في رسم سعد من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير في رجل صالحته زوجته على أن يفارقها وتعطيه شيئا من مالها على أن لا ينكح أبدا فإن فعل رد إليها مالها، قال ملك: له ما أخذ منها والشرط باطل. ابن رشد: هذا بين لأنه إذا لم يلزمه بالشرط أنه لا يتزوج عليها فأحرى أنه لا يلزمه أن يرد إليها ما أخذ منها إن نكح لأن الخلع يؤول بذلك إلى فساد إذ لا تدري هل يرجع إليها فيكون سلفا أو لا يرجع؟ وإذا أعطى الرجل زوجته أو أم ولده مالا على أن لا تتزوج فذلك جائز، ويُرجَعُ عليها بما أخذت، فإذا أوصى لإحداهما بشيء على أن لا تتزوج جاز ذلك، فإذا تزوجت أخذ ذلك منها. عبد الحق: ولو أوصى لأم ولده بعرض على أن لا تتزوج فباعته أو وهبته ثم تزوجت ففعلها ماض ويرجع عليها بقيمته، وقال بعض شيوخنا: إذا باعته فليس عليها إلا الثمن ولو ضاع العرض بأمر من الله تعالى لم تضمنه. أبو الحسن: هذا إذا قامت البينة على الضياع، ولو أعطت المرأة زوجها مالا على أن لا يتزوج عليها فمتى تزوج عليها رجعت عليه بما أخذ منها، ومر أن الالتزام المطلق يقضى به على الملتزم ما لم يفلس أو يمت أو يمرض، وهذا إذا حصل شيء من هذه

ص: 545

الأمور قبل حوز الشيء الملتزم به كما في الهبة، فإن التزم شخص لشخص السكنى في دار مدة فأسكنه إياها ثم مات الملتزم لا تبطل السكنى لأن الحوز قد حصل، قال البرزلي: في

(1)

مسائل الأنكحة من نوازل ابن الحاج: فيمن زوج ابنته والتزم لصهره الإسكان مدة العصمة ثم أرهقه دين ثم مات فقام أرباب الديون يطلبون ديونهم وذهبوا لبيع الدار وإبطال السكنى، أنه إذا حاز الزوج السكنى بالفعل قبل الدين وجبت له، ولا تباع الدار حتى تنقضي مدة العصمة بموت أو طلاق. اهـ. وعلم مما مر أنه يصح التزام المجهول لأنه كالهبة وهبة المجهول صحيحة، قال في التوضيح في شرح قول ابن الحاجب من كتاب القراض: ولو شرط الربح لغيرهما جاز: قال ابن عبد السلام: وهل يلزمهما الوفاء بذلك إن كان المشترط له معينا؟ فأصل المذهب أنه يلزم الوفاء به ويقضى به على الملتزم إن امتنع، وأما إن كان غير معين كالمساكين فالمشهور أنه لا يقضى به إن امتنع، قال أبو الحسن في قول المدونة: ولا أحب لهما الرجوع فيه ولا يقضى بذلك عليهما، يعني إذا كانوا غير معينين، وأما لو كانوا معينين لقضي به. البرزلي: في أخ التزم لأخيه وأخته مثل ما التزم لهما أخ لهم رابع في قطع دعواه عنهما من ميراث لهم ولم يكن الرابع بين للأخ جميع ما التزمه فلما علم بذلك ذهب إلى أنه لم يقصد إلا أشياء معينة لا غير، فأفتى ابن عيسى وأكثر أصحابه أنه لا يلزمه إلا ما نص وفسر، وقال ابن خلف: الذي أعتقده أنه يلزمه ما التزمه أخوه، قلت: إن كان الأخ الملتزم أولا قد ذكر لأخيه بعض أشياء مما التزمه وأفهمه أن ذلك جميع ما التزمه فلا إشكال أنه لا يلزم الملتزم ثانيا إلا ما بين له، وكذا إن دل سياق الكلام والبساط على أشياء معينة ثم ذكر له أشياء أجنبية عن ذلك، وإن كان الأمر على خلاف ذلك فالظاهر ما قاله ابن خلف وأنه يلزمه جميع ما التزمه أخوه، وللشخص الرجوع عن وصيته بلا خلاف إن لم يلتزم عدم الرجوع فيها، فإن التزم عدم الرجوع عنها فالأصح أنه يلزمه، وقيل: لا يلزمه، وقيل: يلزمه، إن كان كعتق. وفي مختصر الحوفي: إن التزم عدم الرجوع لزمه على الأصح. قاله الحطاب.

(1)

في الأصل: من، والمثبت من التزامات الحطاب ص 113.

ص: 546

فرع: لو التزم الواهب من الوالدين عدم الاعتصار من ولده فالظاهر لزوم ذلك له، ولم أقف عليه منصوصا. والله أعلم. قاله الحطاب. والوكالة إن لم يتعلق بها حق للغير فله عزل وكيله، والظاهر أن له ذلك ولو التزم عدم عزله، وأما إن تعلق بها حق الغير فالراجح أنه ليس للموكل عزل الوكيل، قال في الذخيرة عن ابن الجلاب: إذا وكلت في بيع الرهن فليس لك عزل الوكيل إلا برضى المرتهن لأن القاعدة أن الوكالة عقد جائز من الجانبين ما لم يتعلق بها حق للغير، وعلى القول بأن للموكل أن يعزل وكيله ولو تعلق بالوكالة حق للغير فإذا التزم عدم عزل الوكيل فالظاهر أنه يلزمه كما يفهم من كلام ابن عبد السلام، ومن أعتق رضيعا فإنه إن كان له أب حر ملي كان رضاعه ونفقته على أبيه، وإن لم يكن له أب أو كان له أب وكان عبدا أو معدما فإرضاعه ونفقته على معتقه، قال ابن رشد: في آخر سماع ابن القاسم من كتاب الرضاع لأن من أعتق صغيرا ليس له من ينفق عليه فنفقته عليه إلى أن يبلغ لأنه يتهم أن يكون إنما أعتقه ليسقط عن نفسه نفقته. اهـ. وقوله: حتى يبلغ ظاهره حتى يبلغ الحلم وهو الذي يفهم من كلامه في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم، بل هو كالصريح في ذلك، لكنه مخالف لا صرح به هو في غير هذا الموضع، ولما صرح به غيره من أنه إنما تجب نفقته إلى حين قدرته على الكسب ولو بالسؤال، وصرح في مختصر الوقار بأن نفقته تسقط إذا بلغ القدرة على الكسب، ونقل البرزلي أن نفقته تلزم ما دام لا يقدر على السؤال الكسب. اللخمي: القياس أن لا نفقة على سيده وتكون مواساته على أهل بلده وسيده أحدهم، قال المتيطي: وهو الذي في وثائق ابن العطار. قال المتيطي: ثم حكى ابن العطار جواب ملك في شرط نفقته، وقال: هذا يدل على أن نفقته عليه، وكلام اللخمي: وفي كتاب محمد أن على من أعتق صغيرا نفقته لعجزه عنها، والقياس أن لا شيء عليه وتكون مواساته على من بذلك البلد، والسيد أحدهم، وإن كان بيت مال أنفق عليه.

فتحصل في نفقة الصغير إذا أعتق ثلاثة أقوال، الأول: نفقته على من أعتقه حتى يقدر على الكسب، والسؤال وهو المنصوص في كتاب ابن المواز وغيره، وهو المأخوذ من المدونة. الثاني: أنها على من أعتقه إلى البلوغ، وهو الذي يفهم من كلام ابن رشد في كتاب التجارة إلى أرض الحرب، ومما نقله البرزلي عن ابن عرفة. الثالث: أنه لا نفقة على سيده، ونفقته في بيت المال أو على

ص: 547

المسلمين، وهو الذي في وثائق ابن العطار، وقال اللخمي: إنه القياس، والراجح أن النفقة على معتقه إلى حين قدرته على الكسب ولو بالسؤال، فإن استمر عجزه استمرت النفقة إلى البلوغ، ومقتضى كلام ابن عبد السلام أن النفقة تسقط بالبلوغ ولو استمر عاجزا، وهو ظاهر على القول بأن من أعتق زَمِنًا لا تلزمه نفقته، وأما على القول بأنها لازمة للمعتق فالظاهر لزومها، وجعل ابن رشد نفقة هذا الصغير كالدين فلم يسقطها بالفلس فيحاص الغرماء بمبلغ جميع نفقته الواجبة له عليه بعتقه إياه وهو صغير لأنه يضر به في ذلك، فصارت نفقته كالدين الواجب له عليه. اهـ. قال الحطاب: وإذا قال بذلك في الفلس فأحرى في الموت، فيؤخذ من تركته قدر رضاعه ومؤنته حتى يقدر على الكسب، ويوقف ذلك ليصرف عليه، فإن مات الصغير قبل استكمال ذلك رجع للورثة، وكذلك مسألة الفلس يوقف فإن مات رجع للغرماء، واختاره ابن عرفة، واختار البرزلي أنه لا يلزمه في تركته شيء، قال الحطاب: وهو الظاهر عندي، وكذلك عندي في مسألة الفلس لأن هذا من باب المعروف اهـ

قال مقيده عفا الله عنه: قد مر لابن رشد أنه أضر به بعتقه صغيرا فصار كالدين الواجب، وهو كالصريح في أن ذلك عنده ليس من باب المعروف. والله تعالى أعلم. ولملك في مختصر ما ليس في المختصر، إن أعتق الصغير وأمه مملوكة وأمها حرة فتنازعاه فأمه دِنْيةً أحق به إلا أن يكون ذلك مضرا به، ومثله في العتبية، ومن أعتق ابن أمته الصغير فله بيع أمه ويشترط على المبتاع نفقة الولد ومؤنته وأن لا يفرق بينه وبين أمه إلى وقت التفرقة فترجع النفقة عليه إلى أن يبلغ القدرة على الكسب، وقيل: لا يجوز البيع إلا عند الضرورة من فلس أو شبهه، وقيل: إن البيع لا يجوز بحال لأنه غرر إذ لا يُدرَى هل يعيش الصبي إلى حد التفرقة أو يموت قبل ذلك؟ وقيل: البيع جائز، وإذا مات الولد قبل الإثغار رجع البائع على المشتري بقدر ذلك من قيمة الأم، ولو اشترط أن تكون النفقة مضمونة إلى حد الإثغار وإن مات الولد قبل ذلك لجاز المبيع باتفاق. قاله ابن رشد. نقله الحطاب. ومن أعتق زمنا كانت نفقته عليه، ومثله في كتاب محمد، وقيل: نفقته على المسلمين وهو واحد منهم أو على السلطان. اهـ.

ص: 548

قال مقيده عفا الله عنه: فهو كالصغير وقد مر أن المشهور من المذهب المنصوصَ عليه هو وجوبُ النفقة. والله تعالى أعلم. ومن أعتق صغيرا فإنه يخرج عنه زكاة الفطر لأن نفقته وجبت بسبب الرق السابق. قاله في مختصر الوقار.

فرغ: اختلفوا في التزام المتسلف التصديق في القضاء دون يمين تلزم السلف في دعوى القضاء، فأجازه ابن العطار على الطوع، ومنعه أحمد بن سعد مطلقا، لأنه إن كان شرط فهو سلف جر نفعا، وإن كان بعد العقد فهدية مديان. اهـ. وحاصلُ كلام ابن رشد أن الذي يختاره أن المنصوص في اشتراط التصديق في اقتضاء الديون دون يمين أنه لا يفيد واليمين لازمة، وأما من باع رقيقا واشترط أنه لا يحلف إن ادعي عليه بعيب قديم فذلك لازم في الرجل المأمون وفي الذي يبيع لغيره، وأما غير المأمون إذا باع لنفسه ففيه قولان.

فرع: قد يكون الالتزام بالكلام النفسي. قال ابن رشد: من عزل لمسكين معين شيئا وبتَّله له أي جعله له من الآن فلا يجوز له أن يصرفه إلى غيره وهو ضامن له إن فعل، وسواء كان المال من عنده أو جُعل له تفرقتُه. قال: ولو نوى أن يعطيه ولم يبتله بقول ولا نية كره له أن يصرفه إلى غيره. والله أعلم. قاله الحطاب. وقد مر أن الملتزم له من يصح أن يملك، فيصح الالتزام للحمل ولمن سيوجد، كما تصح الصدقة عليه والهبة، فمن التزم لحمل بشيء لزمه ووقف ذلك الشيء، فإن ولد حيا وعاش كان ذلك له، وإن استهل صارخا ومات كان لورثته، وإن خرج ميتا أو انفش الحمل بقي الشيء على ملك صاحبه، كما قاله المتيطي. قاله الحطاب. ومن التزم لمن سيوجد بشيء صح الالتزام إذا وجد الملتزم له، والملتزم حي لم يفلس وكان الشيء الملتزم به بيده لم يفوته، كما لو قال شخص: إن ظهر لفلان ولد فهذه الدار له أو هذا العبد أو هذا الثوب أو نحو ذلك، فإن أراد الملتزم تفويته ببيع أو غيره قبل وجود الملتزم له فالظاهر من قول ملك أن ذلك له. قاله الحطاب. واستدل على ذلك بمسألة من حبس على ولده ولا ولد له وذكر فيها ثلاثة أقوال، الأوَّلُ: قول ملك: له بيع ما حبَّسه ما لم يولد له. الثاني: قول ابن القاسم ليس له أن يبيع حتى ييئس من الولد، وإن مات قبل أن يولد له صار ميراثا. الثالث: قول ابن الماجشون: يحكم بحبسه ويخرج إلى يد ثقة ليصح الحوز وتوقف ثمرته، فإن ولد له فلهم وإلا فلأقرب الناس إليه

ص: 549

قال الباجي مُتِمًا لقول ابن الماجشون: وإن ولد له رد الحبس إليه لأنه هو الحائز لولده، وقال في كتاب العتق من المدونة: من قال لأمته في صحته: كل ولد تلدينه فهو حر لزمه عتق ما ولدت، واستثقل ملك بيعها وأنا أرى بيعها جائزا إلا أن تكون حاملا حين قال ذلك أو حملت بعد قوله، أو يقول: ما في بطنك حر، أو إذا وضعته فهو حر، فإن الأمة لا تباع حتى تضع إلا أن يرهقه دين فتباع فيه ويرق الجنين. قال أبو الحسن: الاستثقال بمعنى الكراهة، وأباحه ابن القاسم من غير كراهة، ولو قال: ما في بطنك حر وليس في بطنها شيء فلم يبعها حتى حملت فله بيعها ولا عتق عليه، فإن تبين بعد قوله بها حمل فلا يدري أكان بها يوم القول أو حدث فلا عتق إلا أن تضعه لأقل من ستة أشهر من يوم القول. اهـ. والظاهر أنه ليس له الرجوع عما التزمه من عتق ما تلده وإن كان بيعه لها ماضيا أو جائزا. انظر التزامات الحطاب. فرع: واعلم أن الحر الفقير نفقة أولاده الصغار على المسلمين، واعلم أن الملتزم له بفتح الزاي إذا كان غير معين كالمساكين والفقراء ونحو ذلك فالمشهور من المذهب أنه يؤمر بالوفاء بما التزمه ولا يقضى به. قال في المدونة: ومن قال: داري صدقة على المساكين أو رجل في يمين فحنث لم يقض عليه بشيء، وإن كان ذلك في غير يمين فليقض عليه إن كان لرجل بعينه، وفي كتاب ابن سهل: فليخرجه السلطان إذا كان لرجل بعينه أو للمساكين.

فَرْع: وكذا حكم النذر المطلق، فإن كان لمعين قضي به وإن كان لغير معين لم يقض به على المشهور.

فرع: قال الإمام الحطاب: يجب الوفاء بنذر العتق ولا يقضى به، ولو كان المنذور عتقه معينا كقوله: لله علي أن أعتق عبدي فلانا، وإنما يعتقه عليه السلطان أن لو حلف بعتقه فحنث أو أبت عتقه بغير يمين، وقال أشهب: إذا قال: لله علي عتق رقيقي فأمر بعتقهم، فقال: لا أفعل، قضي عليه بعتقهم، وإن قال: أفعل ترك فإن مات قبل أن يفعل لم يعتق عليه في ثلث ولا في غيره. وقال في آخر سماع يحيى في الرجل يقول: علي نذر أن أعتق عبدي فلانا ماذا عليه؟ قال: أحب إلي الوفاء بما جعل لله ولا أرى ذلك لازما كالحنث فيه، وإنما هو رجل نذر ليفعلن خيرا. ابن رشد: ليس قوله: أحب، على ظاهره من أن ذلك مستحب، فهو تجوز في العبارة لأن

ص: 550

من نذر طاعة، فالوفاء بها عليه واجب، وقوله: ولا أرى ذلك لازما، معناه لا يحكم به عليه لا أن ذلك ليس بلازم فيما بينه وبين الله.

فرع: اعلم أن العِدَة ليس فيها إلزام الشخص نفسه شيئا الآن، وإنما هي كما قال ابن عرفة: إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل، ولا خلاف في أن الوفاء بها مطلوب شرعا، واختلف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال، قيل: يقضى بها مطلقا، وقيل: لا يقضى بها مطلقا، وقيل: يقضى بها إن كانت على سبب وإن لم يدخل الموعود بسبب العدة في شيء، كقولك: أريد أن أتزوج أو أن اشتري كذا أو أن أقضي غرمائي فأسلفني كذا، أو أريد أن أركب غدا إلى بلاد كذا فأعرني دابتك، أو أن أحرث أرضي فأعرني بقرك، قال: نعم، ثم بدا له قبل أن يتزوج أو قبل أن يشتري أو أن يسافر فإن ذلك يلزمه ويقضى عليه به ما لم يترك الأمر الذي وعدك عليه، وكذا لو لم تسأله وقال لك هو من نفسه: أنا أسلفك كذا أو أهب لك كذا لتتزوج أو لتقضي دينك أو نحو ذلك، فإن ذلك يلزمه ويقضى عليه به، ولا يقضى بها إن كانت على غير سبب، كما إذا قلت: أسلفني كذا ولم تذكر سببا أو أعرني دابتك أو بقرتك ولم تذكر سفرا ولا حاجة، فقال: نعم، ثم بدا له. القولُ الرابع: يقضى بها إن كانت على سبب ودخل في الشيء بسبب العدة، وهذا هو المشهور من الأقوال. قاله ابن رشد. قاله الحطاب. وقد مر ذكر هذه الأقوال على سبيل الاختصار.

التنبيه الثالث: قال الإمام الحطاب: الالتزام المعلق على فعل الملتزِم بالكسر لا يخلو إما أن يكون القصد بالالتزام الامتناع من ذلك الفعل المعلق عليه كقوله: لزوجته إن تزوجت عليك فلك ألف دينار، وإما أن يكون القصد حصول ذلك الفعل ويكون الشيء الذي التزمه شكرا لله على حصوله، كقوله: إن قدمت من هذا السفر فلفلان علي ألف درهم، وإن أتممت هذه الدار أو هذا الكتاب فعلي كذا، وهذا الثاني من باب النذور، وقد ذكروا في باب النذر أن من علق العتق أو الهدي أو الصدقة على الملك يلزم مثل أن يقول: إن ملكت عبد فلان فهو حر، فإنه يلزمه العتق إذا ملكه، وذكر ابن عبد السلام وغيره: أن المفلس إذا التزم عطية شيء إن ملكه أنه يلزمه إذا ملكه بعد ذلك ولم يكن عليه دين. قال الحطاب: وهذا في العتق لازم ويقضى به، وأما الهدي فإنه لازم ولا

ص: 551

يقضى به لأن الكفارات والهدايا واجبة على التراخي، وأما الصدقة فإن كانت على وجه اليمين فهي النوع الأول المعقود له هذا الباب، وإن لم تكن على وجه اليمين وإنما القصد بها القربة فهي لازمة ويقضى بها إن كانت لمعين، ولا يقضى بها إن كانت لغيره على المشهور، والنوع الأول الذي يسمى يمينا اختلف في القضاء به، والمشهور من المذهب أنه لا يقضى به سواء كان الملتزم له بفتح الزاي معينا أم لا. اهـ. وفي المدونة: من نكح امرأة بألف درهم على أنه إن كانت له امرأة أخرى فصداقها ألفان لم يجز كالبعير الشارد، وإن نكح بألفين فوضعت عنه في عقد النكاح ألفا على أن لا يخرجها من بلدها، أو نكحها بألف على أنه إن أخرجها من بلدها فمهرها ألفان، له أن يخرجها وليس لها إلا الألف، وهو كالقائل لزوجته: إن أخرجتك من الدار فلك ألف فله أن يخرجها بغير شيء، قال أبو الحسن الصغير: قوله: فله أن يخرجها بغير شيء، قال أبو عمران: لأن هذه ليست على وجه البر وإنما قصد بها اليمين، وما كان من الهبات لمعين على وجه اليمين فإنه لا يقضى به لأن الهبة التي يقضى بها لمعين إنما هي التي يقصد بها وجه البر والصلة لا معنى اليمين، وكل شيء إذا خرج عن حكمه، بطل حكمه وعلم أنه لم يقصد نفس العطية والهبة وإنما حرم على نفسه ما أحل الله له، وأما الذي يقول: إن شفاني الله من مرضي فلك ألف درهم، فهذا يقضى عليه لأنها بر، وما كان على هذا الوجه يقضى به على قائله، وكذا الذي يقول: إن قدمت فلك درهم لأن هذه عطية محضة غير متعلقة بيمين ولا معاوضة ونحوه في التنبيهات، وعلم مما مر أن هذا كله في غير العتق، وأما هو فيقضى به ولو كان في يمين. قاله الحطاب. وفي المدونة: ومن أبتَّ عتق عبده أو حنث بذلك في يمين عتق عليه بالقضاء.

فرع: من قال لعبده: إن بعتك فأنت حر، ثم باعه عتق على البائع ورد الثمن للمشتري، قال عبد الحق: ومال العبد هنا للبائع، ولو كان المشتري استثنى ماله كان المال تبعا للعبد لانتقاض شراء المشتري والبائع لم يبق مال العبد لنفسه. اهـ. قاله الحطاب. ولو قال: إن بعت هذا الشيء فهو صدقة فباعه لم ينتقض المبيع وتصدق بالثمن وجوبا أو ندبا على خلاف في ذلك. والله تعالى أعلم.

ص: 552

واعلم أن الشروط في النكاح إذا لم تتعلق بطلاق أو عتق معين أو تمليك للعصمة فالمشهور عدم القضاء بها، وامرأة تزوجها رجل وكانت قبله تحت آخر فارقها والتزمت للزوج الثاني أنها متى تزوجت الأول مدة عشرين سنة فعليها مائة دينار لزوجها الثاني، ففارقها الثاني وتزوجت الأول قبل تمام المدة، الجاري على المشهور لا شيء عليها، وحديث (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)

(1)

في الصحيحين، وهو إنما هو في اشتراط المرأة على الزوج، فالحانث في العطية لا يقضى عليه كهي في هذا الفرض، فلا فرق بين زوج وغيره. والله تعالى أعلم.

فرع: لو طلبت الحاضنة الانتقال بالأولاد إلى موضع بعيد فشرط الأب عليها نفقتهم وكسوتهم جاز ذلك، وكذا إن خاف أن تخرج بهم بغير إذنه فشرط عليها إن فعلت ذلك فنفقتهم وكسوتهم عليها لزمها ذلك. قاله بعض الأندلسيين. قال الحطاب: بل الظاهر أن خروجها بهم إلى المكان البعيد بغير إذنه يوجب نفقتهم عليها لا سيما إن تعذر على الأب ردهم، بل قد اختلف في سقوط النفقة عن الأب إذا خرجت بهم إلى المكان القريب الذي يجوز لها الخروج بهم إليه ولا تسقط حضانتها. قال ابن راشد القفصي: حيث قلنا: تخرج بهم فحقهم في النفقة باق على أبيهم في ظاهر المذهب، وحكى في الطرر عن ابن جماهر الطليطلي إذا خرجت ببنيها إلى الصائفة يسقط الفرض عن أبيهم مدة مقامهم. اهـ. واقتصر ابن عرفة على ما حكاه صاحب الطرر، ورجح في الشامل الأول، وحكى الثاني بقيل. ومن التزم لإنسان أنه إن سافر من هذه البلدة فله عليه كذا وكذا فالمشهور أنه لا يقضى عليه بهذا الالتزام.

التنبيه الرابع: اعلم أن الالتزام المعلق على فعل الملتزم له بفتح الزاي على سبعة أنواع، لأن ذلك الفعل إما أن يكون غير اختياري أو اختياريا، والاختياري إما أن يكون واجبا أو حراما أو جانزا، والجائز إما أن يكون لا منفعة فيه أو فيه منفعة، والذي فيه المنفعة لا يخلو إما أن تكون المنفعة فيه للملتزم بكسر الزاي أو الملتزَم له بفتح الزاي أو لغيرهما. النوع الأول: الالتزام المعلق على الفعل الذي ليس باختياري كقوله لزوجته: إن ولدت غلاما فلك كذا وكذا، وحكمُه إذا وجد

(1)

البخاري، كتاب الشروط، رقم الحديث 2721: بلفظ إن أحق الشروط الخ.

ص: 553

المعلق عليه حكمُ الالتزام المطلق في اللزوم والقضاء به نحو إن ولدت غلاما فلك كذا وكذا من مالي.

النوع الثاني: الالتزام المعلق على الفعل الواجب على الملتزم له بفتح الزاي كقولك: إن جئتني بعبدي الآبق أو بعيري الشارد أو متاعي الضائع فلك عندي كذا وكذا إن كان العبد أو البعير أو المتاع عنده أو يعلم مكانه، فإن ذلك غير لازم للملتزم ولا يحكم به عليه، ورد ذلك واجب عليه، وكذلك الإعلام بموضعه، ولا يجوز له أن يأخذ على ذلك شيئا لأن ذلك من باب الجعل، وقد قالوا: إن من شروط الجعل أن لا يكون الفعل مما يلزم المجعول له، أما ما كان واجبا على الكفاية فيلزم الالتزام المعلق عليه كقوله: إن غسلت هذا الميت فلك كذا، قال ابن القاسم: في رجل قالت له امرأته، وكانت صرورة: إيذن لي أن أحج وأنا أعطيك المهر الذي عليك، فقبل وتركها تحج، قال: يلزمه المهر لأنه كان يلزمه أن يأذن لها في أن تحج وقد بلغني ذلك عن ربيعة، قال ابن القاسم: وذلك إذا لم تعلم أنه يلزمه أن يأذن لها، وأما إذا علمت بذلك فإنه لازم لها لأنها أعطته مالها طيبة بذلك نفسها، ولو أعطته مهرها على أن يأذن لها في الخروج قبل أشهر الحج أي قبل خروج الحاج من ذلك البلد لزمها ذلك ولم يكن لها أن ترجع فيه إذ لا يلزمه الإذن في الخروج في ذلك الوقت. نقله الحطاب عن ابن رشد. ثم قال: فعلى ما لابن رشد إذا كان الملتزم يعلم أن ذلك الفعل يجب على الملتزم له ثم علق الالتزام عليه فإنه يلزمه، ويحمل على أنه أراد أن يرغبه في الإتيان بذلك الفعل، كقوله: إن صليت الظهر اليوم فلك عندي كذا وكذا ونحو ذلك والله أعلم. وقال في الذخيرة: من وجد آبقا أو ضالا بغير عمل فلا جعل له، وكذلك من علم موضعه فدل عليه لأن ذلك واجب عليه، وقال أيضا: من طلب من يعلم موضعه فلا شيء له. وقال في اللباب في شروط الجعل: الأول: أن يكون مما لا يلزم المجعول عليه عمَلُه فإن كان مما يلزمه عمله لم يجز له أخذ الجعل عليه، مثل أن يجد آبقا من غير عمل لأن رده واجب عليه، وكذلك ما لا يجوز له فعله لا يجوز له أخذ الجعل عليه، كالجعل على فعل الحرام سواء كان فعلا أو قولا، كما إذا قال له: إن اشتريت هذا الإناء من الخمر أو إن سببت فلانا فلك كذا، وفي النوادر: وإنما يجوز الجعل على طلب عبد يجهل مكانه، فأما من وجد آبقا أو ضالة أو ثيابا فلا يجوز له أخذ الجعل على رده ولا على أن يدل على مكانه لأن ذلك واجب

ص: 554

عليه، فأما من وجد ذلك بعد أن جعل ربه فيه جعلا فله الجعل علم بما جعل فيه أو لم يعلم تكلف طلب هذه الأشياء أو لم يتكلف، ومن قال لكافر: إن أسلمت فلك عندي كذا فإنه لازم له ويحكم به عليه، ولم يحكوا في ذلك خلافا وإنما اختلفوا هل ذلك من باب العطية فيفتقر إلى الحيازة أو من باب المعاوضة فلا يفتقر إلى حيازة؟ ولا فرق في ذلك بين الزوجة وغيرها، وفي كلام ابن رشد ترجيح أن ذلك لا يفتقر لحوز، وبذلك أفتى ابن الحاج، ومن قال لعبده: إن تركت شرب الخمر فأنت حر أو تركت الزنى فأنت حر فإن ذلك لازم له، لكن لا يصدق العبد في قوله: تركت ذلك حتى يظهر صدقه النوع الثالث: الالتزام المعلق على فعل محرم على الملتزم له، كقوله: إن قتلت فلانا أو إن شربت الخمر فلك كذا وكذا، وحكمه أن ذلك غير لازم، ومن قال لرجل: إن قتلتني فلك كذا أو إن قتلت عبدي فلك كذا فلا جعل له، واختلف هل يقتل أو يسقط عنه القصاص؟ ولا يأتي في هذا النوع ما مر في النوع الثاني أن الملتزِم بكسر الزاي إذا كان يعلم أن ذلك الفعل لخ، لأن ذلك قربة ومعروف، وهذه إعانة على معصية وترغيب في فعل المعصية، فلو قبض الملتزم له الشيء الملتزم به فهل يرده على ربه أو يتصدق به، يأتي فيه الخلاف الذي في حلوان الكاهن وما تأخذه الزانية والقواد والمخنث ونحوهم، هل يلزمهم أن يردوا ما أخذوه على من أعطاهم أو يتصدقوا به؟ والظاهر لي من القولين التصدق بذلك، وعدم رده لربه، لأنه دفع في غير حق فلا يرده له أدبا له، وقالوا: إنه لا ينفع التحليل في هذه المسائل.

النوعُ الرابعُ: الالتزام المعلق على الفعل الجائز الذي لا منفعة فيه لأحد، كقوله: إن صعدت هذا الجبل فلك كذا، واختلف فيه على قولين ذكرهما ابن الحاجب والشيخ خليل وغيرهما، وكلام الشيخ خليل هو قوله: وفي شرط منفعة الجاعل قولان، قال ابن غازي: وظاهر كلام عياض في التنبيهات أن المشهور اشتراط منفعة الجاعل. قاله الحطاب. وقال: تنبيه: وقع في كلام القاضي عياض وكلام ابن يونس وكلام غيرهما أن تكون فيه منفعة للجاعل، والظاهر أن قولهم: للجاعل خرج مخرج الغالب وأنه لا مفهوم له، بل القصد أن يكون في ذلك منفعة سواء كانت للجاعل أو غيره. انتهى.

ص: 555

النوع الخامس: الالتزام المعلق على الفعل الذي فيه منفعة الملتزم بكسر الزاي وهو على أربعة أوجه، الوجه الأول: أن يكون الفعل المعلق عليه إعطاء الملتزم له للملتزم أو لغيره شيئا وتمليكه إياه نحو إن أعطيتني عبدك أو دارك أو فرسك فقد التزمت لك بكذا أو فلك علي كذا لشيء يسميه، أو فقد أسقطت عنك الدين الذي لي عليك، أو إن أعطيت ذلك لفلان أو أسقطت الدين الذي لك على فلان فلك عبدي الفلاني أو داري أو نحو ذلك، فهذا من باب هبة الثواب، وقد صرحوا بأنه إذا سمي فيها الثواب أنها جائزة ولم يحكوا في ذلك خلافا، وأنها حينئذ بيع من البيوع، يشترط في كل من الملتزم به والملتزم عليه ما يشترط في الثمن والمثمون من انتفاء الجهل والغرر، إلا فيما يجوز في هبة الثواب مما سيأتي ذكره في الفرع الرابع من الفروع التي أذكرها، ويشترط فيهما أيضا كون كل منهما طاهرا منتفعا به مقدورا على تسليمه، فلا يجوز أن يكون أحدهما آبقا، ولا بعيرا شاردا، ولا جنينا، ولا ثمرة لم يبد صلاحها، ولا يجوز أن يكونا طعامين، كقولك: إن أعطيتني أردبا من القمح فلك عندي قنطاران من السمن إلا أن يكون ذلك في موضع واحد والطعامان حاضران، ولا يجوز أن يكونا دينين كقولك: إن التزمت لي ثوبا صفته كذا وكذا فلك في ذمتي عشرة دنانير، أو إن أسقطت عني الدين الذي كان لك علي فلك في ذمتي كذا وكذا، ولا يجوز أن يؤجل أحدهما بأجل مجهول، ويشترط في صحة ذلك أن يكون كل من الملتزم والملتزم له مميزا وأن يكون طائعا رشيدا.

فروع الأول: لا فرق بين أن يقول: إن أعطيتني أو ملكتني أو إن زوجتني، وبين أن يقول: تصدقت علي، فإن الصدقة وإن كانت لا يقضى فيها بالثواب فإنه إذا شرط فيها الثواب لزم كما صرح به في كتاب الهبات من المدونة، وصرح به ابن رشد في أول رسم من سماع يحيى من كتاب الصدقات والهبات في المرأة تضع مهرها عن زوجها على أن يهب لها منزله أو يتصدق عليها أن ذلك [لازم]

(1)

.

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من التزامات الحطاب ص 201.

ص: 556

الثاني: إذا قال الملتزم بكسر الزاي: إن أعطيتني عبدك فلانا فلك عندي كذا وكذا، فقال له الآخر: قد أعطيتك أو قد فعلت أو نحو ذلك مما يدل على العطاء، فإن أجابه الآخر بما يدل على قبول ذلك فقد لزم كل واحد منهما ما التزمه بالقول الصادر منه وإن لم يحصل قبض، قال ابن الحاجب: وليس له الرجوع في الثواب بعد تعيينه وإن لم يقبض، وإن قال الأول: لا أرضى وإنما أردت اختبارك هل ترضى أم لا؟ فإن كان ذلك في مجلس واحد فالظاهر أنه يحلف ما أراد إلا اختباره ولم يرد إيجاب الالتزام، فإن حلف وإلا لزمه، وإن انقضى المجلس ثم جاء الملتزم له إلى الملتزم وقال له: قد رضيت، فالظاهر أنه لا يلزم الملتزم ما التزمه، وأنه لا يمين عليه إلا أن يكون قد أتى في التزامه بلفظ يقتضي اللزوم وإن انقضى المجلس، كقوله: متى أعطيتني كذا فلك كذا وكذا، وأي وقت ونحو ذلك، ولم أقف في جميع هذا على نص فليتأمل. قاله الحطاب.

الثالث: إذا قلنا: إن ذلك لازم فللملتزم له الامتناع من التسليم حتى يسلم الملتزم ما التزمه كالبيع، ولا ينبغي أن يدخل في ذلك الخلاف الذي في هبة الثواب، لأنه حيث صرح بالعوض صار حكمه حكم البيع، على أن مذهب المدونة أن للواهب المنع من قبض الهبة حتى يقبض الثواب خلافا لابن المواز. الرابع: إذا قال: إن أعطيتني عبدك أو سلعتك فلك علي أن أرضيك فذلك جائز، لأنه يجوز في هبة الثواب اشتراط الثواب دون تعيينه، كقولك: أهب لك كذا على أن تثيبني فإن أعطاه ما رضي به فلا إشكال، وإن قال: لا أرضى بهذا، فالظاهر أنه ينظر في ذلك الشيء الذي أعطاه فإن كان دون قيمة سلعته فلا يلزمه قبوله، وإن كان قدر قيمة سلعته أو أكثر مما يقول الناس إن فيه إرضاء له فيلزمه قبوله. قاله الحطاب.

الخامس: إذا قال: إن بعتني سلعتك بكذا فلك عندي كذا وكذا، أو فقد التزمت لك بكذا وكذا، فالشيء الملتزم به دخل في جملة الثمن، فيشترط فيه ما يشترط في الثمن، وكذلك إن قال: إن اشتريت مني سلعتي بكذا فلك عندي كذا وكذا، فالشيء الملتزم به دخل في جملة المبيع، فيشترط فيه شروطه وهذا ظاهر. والله تعالى أعلم.

الوجه الثاني: أن يكون الفعل المعلق عليه إعطاء الملتزم له للملتزم أو لغيره منفعة شيء من دار أو عبد أو دابة أو غير ذلك، نحو إن أسكنتني دارك سنة أو سنين مسماة، أو أسكنت فيها فلانا

ص: 557

سنة أو سنين مسماة فلك كذا وكذا، أو إن أخدمتني عبدك، أو إن أعطيتني ثوبك ألبسه مدة معينة، أو إن حملتني على دابتك إلى موضع كذا فلك كذا وكذا، فهذا من باب الإجارة يشترط فيه شروط الإجارة، وهي أن تكون المدة معلومة، والمنفعة معلومة، والشيء الملتزم به مما يصح أن يكون أجرة، فلا يجوز إن أسكنتني دارك مدة حياتي أو حياتك أو حياة زيد، أو إلى أن يقدم فلان وقدومه غير معلوم، فلك عندي كذا وكذا، أو إن أسكنتني دارك فلك عبدي فلان الآبق أو بعيري الشارد أو نحو ذلك، ولا يجوز أن يقول: أسكنتك داري على أن أسكن دارك، ولا أسكنتك داري بعشرة دنانير في كل سنة على أن أسكن دارك بعشرة أو بخمسة في كل سنة حتى يبين مدة السنين.

الوجه الثالث: أن يكون الفعل المعلق عليه عملا يعمله الملتزم له للملتزم أو لغيره، نحو إن جئتني بعبدي الآبق أو بعيري الشارد، أو إن حفرت لي بيرا في أرضي، أو إن جئت بعبدي فلان أو غيره فلك كذا وكذا، فهذا من باب الجعل، فيشترط فيه أن لا تحصل منفعة للملتزم بكسر الزاي، أو ممن اشترط العمل له إلا بتمام العمل، وأن لا يضرب في ذلك أجل، وأن يكون الشيء الملتزم به معلوما مما يجوز كونه جعلا وغير ذلك من شروط الجعل. الوجه الرابع: أن يكون الفعل المعلق عليه أن يترك الملتزم له حقا من حقوقه لأجل ما التزمه له الملتزم، نحو قول الشخص للحاضنة: إن أسقطت حقك من الحضانة فلك كذا وكذا، و

(1)

كمسألة إعطاء الزوجة زوجها شيئا على أن لا يتزوج عليها، وهذا يشبه أن يكون من باب الجعل، وَمِنَ الوجه الأول ما لو أعطته مالا على أن يمسكها ثم فارقها بقرب العطية كان لها أن ترجع فيما أعطته، وإن كان فراقه بعد أن طال الأمر وما يرى أنها بلغت الغرض في مقامها لم ترجع، وإن طال ولم تبلغ ما يرى أنها دفعت المال لمثله كان لها من المال بقدر ذلك على التقريب فيما يرى، ولو أعطته شيئا على أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى عليها، أو وضعت له شيئا من صداقها على ذلك، فظاهر كلامه في المدونة أنه إن تزوج عليها أو تسرى فلها أن ترجع عليه، سواء كان ذلك بالقرب أو بَعدَ

(1)

الواو ساقطة من الأصل وقد وردت في التزامات الحطاب ص 202.

ص: 558

بُعدٍ، ولو أسقطت عن زوجها صداقها على أن لا يتزوج عليها فطلقها بحضرة ذلك فلها أن ترجع عليه، وإن طلقها بعد ذلك فيما يرى أنه لم يطلقها لم ترجع عليه قاله ملك. أصبغ: إلا أن يعليه كون الطلاق بحدثان الإسقاط ليمين نزلت ولم يتعمد ولم يستأنف اليمين فلا شيء عليه أيضا، اللخمي: وأرى أن ترجع في عطيتها وإن كان الطلاق بيمين حنث فيها، وإذا أعطته الزوجة شيئا على أن يطلق ضرتها فطلقها ثم أراد أن يراجعها فنص في التوضيح في الكلام على الشروط على أنه يفصل في ذلك بين القرب والبعد كما في المسائل المتقدمة، ولم أقف على ما يخالفه. قاله الحطاب. والله تعالى أعلم. وإن أسقطت حضانتها فقال ابن رشد: الذي أراه على منهاج قول ملك أنه يلزمها تركها للأب تركتها له على عوض أو مجانا لأن الحضانة حق لها، وعلى القول بأنها حق للولد لا يلزمها تركها، فلها أن ترجع فيها تركتها بعوض أو بغير عوض، ويرجع الزوج في العوض إن كانت تركتها على عوض، وإن أعطته شيئا على أن يبيح لها صيام أيام يسيرة نذرتها فليس له منعها من صومها ولا يجوز له أن يأخذ منها شيئا على ذلك، وإن كانت الأيام كثيرة فله أن يمنعها من صيامها لا عليه في ذلك من الضرر، ويجوز له أن ياخذ ما أعطته على أن لا يمنعها، ويجوز أن تترك الحضانة على ثمرة لم يبد صلاحها وما أشبه ذلك من الغرر إذ ليس بمبايعة، وإنما هو صلح على غير مال فيشبه الخلع. قاله ابن رشد. نقله الحطاب. وقال: ما قاله ابن رشد من جواز الغرر في ذلك ظاهر، ويقاس عليه ما أشبهه مثل مسألة إذن الزوج لزوجته في حج التطوع والصوم، وإعطاء الزوجة شيئا لزوجها على أن يمسكها ونحو ذلك من مسائل هذا النوع، وعكس هذه المسألة ما إذا أسقطت الحضانة بزواجها أو غير ذلك ووجب للأب أخذ الولد منها فأرادت إبقاءه عندها على أن تلتزم نفقته فذلك لازم، وقال الرماح: إن التزمت الأم نفقة البنات على أن لا ينتزعن منها وإن تزوجت لم يجز ذلك، وعلى أن يكون الأمر إليها في تزويجهن ويكون العاقد غيرها فيجوز. قال البرزلي: في الأول نظر. قال الحطاب: أما إن كان التزامها نفقة الولد على أن لا ينتزع منها فإن كان ذلك في عقد الخلع فعلى اللزوم العمل، كما

ص: 559

قال البرزلي، ولعل هذا الوجه هو الذي فيه كلام الرماح وأما إذا كان ذلك بعد الخلع فإن التزمت نفقة [الأولاد]

(1)

بعد الخلع على أن يكونوا عندها ولو تزوجت إلى البلوغ ونحو ذلك فلا إشكال في لزوم ذلك والله أعلم وأما إذا التزمت نفقة البنات على أن يكون الأمر في تزويجهن إليها، فإن كان على أنها تلي ذلك بنفسها فلا إشكال في فسادها. وقال ملك في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم: في رجل قال لرجل: بلغني أنك تشتمني، فقال: ما قلت، فقال: احلف لي ولك كذا وكذا هبة مني، فحلف، أنه يلزمه ذلك ابن رشد: هذا فيه منفعة للجاعل وهي تطييب نفسه من جهته وتحسين ظنه به حتى لا يعتقد شرا ولا مكروها فيأثم باعتقاده ذلك فيه، وكذا قوله في رسم إن خرجت: ولني بيع دارك ولك كذا وكذا، وهو أن يشتري الدار من أحب، وأما قوله في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب النكاح: والذي يقول وَلِّني إنكاح ابنتك ولك كذا وكذا أنه لا يجوز، فإنما لم يجز ذلك لأن لصاحب الولية أن يعزله عما جعل له من ذلك فدخل الغرر. انتهى. المتيطي: ومن الحزم للمدعى عليه إذا طلب المدعيَ عليه أن يلزم المدعى أنه أسقط بينته ما علم منها وما لم يعلم، فإذا عقد على نفسه عقدا لم يكن له أن يقوم عليه بعد يمينه بالبينة. انتهى. فهذا التزام من المدعي معلق على حلف المدعى عليه، ولا يلزم المدعيَ التزام ذلك إلا أن يشاء. قاله الحطاب. وسئل ابن القاسم عن الرجل يقول للرجل: ولني إنكاح وليتك ولك كذا وكذا أو يجعل ذلك إليه ولا يأخذ شيئا ثم يريد أن يعزله عما جعل إليه من ذلك؟ فأجاب: لا يحل ذلك ولا يصح ويرد الجعل على كل حال وله عزله في الوجهين جميعا إن شاء، فإن وقع النكاح رد الجعل على كل حال، ثم إن كانت المرأة مالكة أمر نفسها ورضيت بالزوج قبل العقد أو كانت بكرا في ولاية أبيها ثبت النكاح، وإن كانت مالكة لنفسها ولم يسم لها الزوج ولم تعرفه فسخ النكاح إن كان لم يدخل، وإن دخل بها رأيت أن يثبت ذلك لأنه رضي منها. وقال سحنون: إذا فوضت إليه نكاحها ليزوجها ممن شاء فزوجها كفؤا فالنكاح جائز سمى لها أو لا، بكرا كانت أو ثيبا، ومن وكل رجلا على أن يبيع له سلعة فباعها واشترط لنفسه شيئا على

(1)

في الأصل البنات والمثبت من التزامات الحطاب ص 210 ..

ص: 560

المشتري يأخذه منه فلا حق له فيه وهو لرب السلعة كمسألة شرط الولي على الزوج لنفسه شيئا فلا فرق بينهما. والله تعالى أعلم. ابن القاسم: من قال لرجل: ولِّني بيع دارك ولك عندي عشرة دنانير. قال: إذا فعل وسمى للدار ثمنا فالعشرة لازمة فلا بأس بهذا. قال محمد بن رشد: قوله: وسمى للدار ثمنا يريد أو فوض إليه الاجتهاد فيما يبيعها به، فلو لم يسم له ثمنا ولا فوض إليه الاجتهاد فيما يبيعها به لما جاز ذلك إذ لعله لا يرضى ببيعها بما يعطَى فيها فتذهب العشرة التي أعطى باطلا أو يردها فتكون سلفا جر منفعة، وإذا ولى له بيع الدار على ما بذل له فليس له أن يعزله عن ذلك قبل أن يبيع إذ لا يتعلق بذلك حق لغيره، بخلاف النكاح الذي يتعلق به حق للولية المتزوجة. ملك: من قال: دُلَّ عَليَّ من يشتري مني جارية ولك كذا وكذا فدله عليه فذلك لازم، ومن قال: دلني على امرأة أتزوجها ولك كذا وكذا فلا شيء له. وقول أصبغ وسحنون، إن ذلك يلزم في النكاح معناه أنهما فهما ذلك على أنه أراد ابحث لي عن امرأة تصلح لي ودلني عليها ولك كذا وكذا، فأوجبا له الجعل إذ لا يلزم الرجل أن يبحث للرجل عمن يصلح له من النساء، والفرق بين البيع والنكاح أن البيع مباح والنكاح مندوب إليه وقد يكون واجبا، فلو اضطر الرجل إلى بيع سلعته في أمر لا بد له منه فقال الرجل: دلني على من يشتري مني سلعة وهو يعلم من يمكن أن يشتريها منه لما حل له أن يقول لا أدلك إلا أن تعطيني كذا وكذا لوجوب ذلك عليه، فهذا وجه القول في هذه المسألة، وعلى هذا اتفق الروايات، ومن التزم لشخص أن يزوجه ابنته أو من له ولاية الجبر عليها فإنه يقضى عليه بذلك إلا أن يعقد نكاحها لغيره فإنه لا يفسخ. والله سبحانه أعلم. قاله الحطاب. ومن قال لبعض الحاضرين في البيع: كف عن الزيادة ولك دينار مثلا، جاز ذلك ولزمه اشترى أو لم يشتري ولو قال: كف عني ولك نصفها على سبيل الشركة لجاز أيضا، ولا يجوز أن يعطيه النصف على طريق العطية. قاله الحطاب. ثم قال: ولا يشترط ظهور المنفعة بل يكفي مظنتها لأن العاقل لا يفعل إلا ما فيه مصلحة، ولذلك أجازوا الخلع من الأجنبي وجعلوه لازما، بل قالوا: إنه لا يفتقر لحيازة ولا يبطل بالموت والفلس، فإذا قال شخص لرجل: طلق زوجتك ولك عندي كذا وكذا أو علي كذا وكذا وطلقها لزمه ذلك. الحطاب: الالتزام هنا - يعني في باب الجعل - مخالف لغيره في أنه لا يبطل بالموت والفلس

ص: 561

لأنه معاوضة، وينظر فإن مات الملتزم قبل أن يشرع الملتزم له في العمل فلا يلزم الورثة التمادي، وإن مات بعد أن أتم العمل لزم الجعل، وإن مات في أثناء العمل فإن كان مما لا يتبعض كطلب الآبق وحفر الآبار فهذا ليس للورثة أن يمنعوه من إتمامه، وأما ما يتبعض كالحصد واللقط

(1)

وحفر الآبار فهذا لا يلزم ورثة الملتزم أن يبقوه على ذلك إلا أن يكون الاقتضاء يحتاج إلى شخوص من البلد ومات الملتزم بعد أن شرع الملتزم له في الطلب والشخوص. قال ابن رشد: فهذا يجب أن يكون له القيام في اقتضاء ما كان قام فيه ولورثته إن مات يعني الملتزمَ له القيامُ مقامَه. والله تعالى أعلم؛ واعلم أن في كلام ابن رشد الخلاف في مسألة الخلع وفي مسألة من قال: احلف لي ولك كذا وكذا هل يفتقر للحوز قبل الموت والفلس أم لا؟ والظاهر من كلامه ترجيح القول بأنه لا يفتقر إلى ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم. وفي المدونة: وإن كان لك عليه ألف درهم حالة فأشهدت أنه إن أعطاك مائة من الألف الحالة إلى شهر فباقيها ساقط عنه وإن لم يفعل فالألف كله لازم له فذلك جائز ولكما لازم. قال أبو الحسن: إن أتى بالحق كله للوقت فذلك لازم، وإن مضى الأجل ولم يأت به أو بقي منه ما له بال رجع إليه بجميع حقه، وإن أتى به للوقت إلا درهما أو بعد الوقت بيوم فهل يلزمه أم لا؟ في ذلك اختلاف. اهـ. وهذا كله إذا كان الحق حالا أو حل أجله، وأما إذا كان مؤجلا ولم يحل الأجل فلا يجوز أن يضع بعض الحق على أن يعجله له لأنه يدخله ضع وتعجل، وإن وقع ذلك فالحق باق إلى أجله.

النوع السادس: الالتزامُ المعلق على الفعل الذي فيه منفعة للملتزَم له بفتح الزاي كقولك لشخص: إن بنيت بيتك أو إن تزوجت فلك كذا وحكمه حكم الالتزام المعلق على فعل غير الملتزم والملتزم له فهو لازم إذا وقع العلق عليه، إلا أنهم لاحظوا في هذا كونه في معنى العوض عن تلك المنفعة فجعلوه لازما لا يفتقر إلى حيازة. قال عبد العزيز بن أبي حازم: في رجل قال لابنه: إن تزوجت فلك جاريتي فلانة، هل يلزمه ذلك؟ قال: نعم، إذا تزوج فهي له، فإن مات الأب أخذها من رأس المال، قال ابن أبي حازم: وإن كان على الأب دين حاص الغرماء بذلك. قال عيسى: قال

(1)

في تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص 230: كالحصد واللقط واقتضاء الدين فهذا لا يلزم لخ.

ص: 562

ابن القاسم: هي له دون الغرماء إن فلس وإن مات أخذها من رأس المال ولم يكن لأهل الدين فيها شيء. قال ابن القاسم: ولو قال: لك مائة دينار إن تزوجت كان هو والغرماء سواء في الموت والفلس لأنه ليس شيئا بعينه. وقول ابن القاسم: يكون أحق بالجارية من الغرماء وأنه يحاصهم بالدين هو الصحيح لا ما قاله ابن أبي حازم، ومعناه إذا وهبت له الهبة بالتزويج قبل أن يتداين الأب. وبالله التوفيق. قاله الحطاب. قال: ومن هذا النوع ما إذا قال البائع للمشتري: بع السلعة التي اشتريتها ولا نقصان عليك فكأنه قال له: إن بعتها بأقل مما اشتريتها مني فالنقصان عليَّ. ابن رشد: لا يخلو هذا من أن يبيع السلعة على ذلك أو يقول ذلك بعد تمام المبيع، فقال ملك في سماع أشهب: إن ذلك لازم له. قال ابن رشد: وهذا كما قال: إنه يلزمه، لأن معنى قوله: بع ولا نقصان عليك، أي والنقصان علي فهو أمر قد أوجبه على نفسه، والمعروف على مذهب ملك وجميع أصحابه لازم لمن أوجبه على نفسه يحكم به عليه ما لم يمت أو يفلس، وسواء قال ذلك قبل أن ينتقد أو بعد ما انتقد، إلا أن يقول له قبل أن ينتقد، انقدني وبع ولا نقصان عليك، فلا يجوز لأنه يدخله بيع وسلف. وقال في سماع عيسى من كتاب العدة: إنه لا خير في ذلك، لأنه يكون فيه عيوب وخصومات. اهـ. وكلام ابن رشد هذا صريح في أنه إذا قبض البائع الثمن جاز له أن يقول للمشتري: بع ولا نقصان عليك، وأما إن باع السلعة على ذلك فقال ابن رشد: اتفق ملك وأصحابه فيما علمت أنه لا يجوز أن يبيع الرجل سلعته أو جاريته من الرجل بثمن يسميه له على أنه لا نقصان عليه فيه، فإن وقع وعثر على ذلك قبل أن يفوت بوجه من وجوه الفوات فسخ، وإن لم يعثر عليه حتى فات ببيع أو حوالة سوق أو موت، فاختلف هل يحكم في ذلك بحكم البيع الفاسد أو بحكم الإجارة الفاسدة؟ فعلى القول بأنه بيع فاسد يفسخ البيع في ذلك كله بالقيمة يوم القبض، وهو أحد قولي ملك، وأحد قولي عبد العزيز بن أبي سلمة، وقيل: يحكم في ذلك بحكم الإجارة الفاسدة لأنه كأنه استأجره على [بيعها]

(1)

بما كان فيها من ربح على الثمن الذي سماه له، فتكون المصيبة فيها من البائع إن [كانت]

(2)

وترد إليه إن فاتت بحوالة الأسواق أو

(1)

سقطت من الأصل وقد وردت في التزامات الحطاب ص 251.

(2)

في الأصل: فاتت، والمثبت من تحرير الكلام ص 251.

ص: 563

عيب من العيوب المفسدة، ويكون له الثمن الذي بيعت به إن فاتت بالبيع كان أقل من الثمن الذي سماه له أو أكثر، ويكون للمبتاع أجر مثله في بيعه إياها، وهذا قول ملك في هذه الرواية، وقوله في موطئه، وقول عبد العزيز بن أبي سلمة في الواضحة، وأما إذا لم يعثر على ذلك حتى فوَّتها المبتاع بهبة أو صدقة أو عتق إن كان عبدا وحملٍ إن كانت أمة، فاختلف في ذلك على القول بأنها إجارة فاسدة فقيل: إنما يكون في ذلك على المبتاع القيمة يوم الهبة أو الصدقة أو العتق أو الإحبال مراعاة لمن يقول: إنها بيع فاسد ويراها في ضمانه بالقبض، وهو قول ملك في هذه الرواية، وقيل: إنها في السلعة تكون عليه بالثمن الذي اشتراها به، لأن ذلك رضى بالثمن، وهو قول ابن القاسم من رواية أصبغ، وأما على القول: بأنه بيع فاسد، فتكون عليه القيمة في ذلك يوم القبض على حكم البيع الفاسد قولا واحدا. اهـ المراد منه.

النوع السابع: الالتزام المعلق على الفعل الذي فيه منفعة لغير الملتزِم والملتزَم له كقولك: إن وهبت لفلان عبدك فلك عندي كذا، أو إن جئت بعبده فلك عندي كذا، أو إن أسكنته دارك فلك عندي كذا، وهو كالنوع الخامس، فهو إما من باب هبة الثواب، أو من باب الإجارة، أو من باب الجعل، فيشترط في كل نوع شروطه، ولذلك أجازوا أن يقول له: إن أعتقت عبدك فلك عندي كذا، أو خذ كذا وأعتق عبدك، وقالوا: إنه لازم لأنه بيع بشرط العتق وهو جائز، بخلاف خذ مائة ودبر عبدك أو اتخذ أمتك أم ولد فإنه لا يجوز، فإن وقع لزمه التدبير ويرد المال.

التنبيه الخامس: اعلم أن الالتزام المعلق على غير فعل الملتزم والملتزم له حكمه حكم الالتزام المطلق فيقضى به إذا وجد المعلق عليه إن كان الملتزم له معينا، وإن لم يكن معينا فلا يقضى به، فمن قال: إن شفاني الله من مرضي فلك ألف درهم، وحصل الشفاء، يقضى بذلك على قائله، ومن قال لرجل: إن لم يوفك فلان حقك فهو علي، تلوم لذلك السلطان بقدر ما يرى، ثم ألزمه المال إلا أن يكون [القديم]

(1)

حاضرا مليا، وإن قال: إن لم يوفك حقك حتى يموت فهو علي فلا شيء على الكفيل حتى يموت الغريم لأنه أجل ضربه لنفسه، وإن كان الالتزام إلى أجل معين

(1)

في تحرير الكلام ص 261: أن يكون الغريم.

ص: 564

كقوله: لك علي كذا بعد سنة أو شهر أو عشر سنين، وكان الشيء الذي أعطاه معينا كالعبد والدابة والثوب فإنه يمنع من بيعه وإخراجه عن ملكه، بخلاف ما إذا علق الالتزام إلى أجل مجهول، كقوله: إذا جاء أبي أو فلان الغائب فإنه لا يمنع من البيع. قال في كتاب العتق من المدونة: ومن قال لعبده: أنت حر إذا قدم أبي، فذلك يلزمه ولا يعتق حتى يقدم أبوه. قال ملك: ويوقف لينظر أيقدم أبوه أم لا؟ وكان يُمَرِّضُ في بيعه، وأجاز ابن القاسم بيعه ووطأها إن كانت أمة، وقال: هي في هذا كالحرة، يقال لها: أنت طالق إن قدم فلان، فله وطؤها ولا تطلق حتى يقدم فلان: وأما إن أعتق إلى أجل آتٍ لا بد منه، كقوله: أنت حرة إلى شهر أو سنة، أو إذا مات فلان أو إذا حضت فهو ممنوع من البيع والوطء، وله أن ينتفع بغير ذلك حتى يحل الأجل، قال ابن يونس: قال محمد: إن قال: أنت حرة إن قدم أبي، فكان ملك يصرح بإجازة بيعها ويُمَرِّض في بيع التي يقول فيها: إذا قدم أبي، ثم جعلهما سواء، ونحوه في كتاب الطلاق، قال ابن يونس: إنما فرق بين إن وإذا في أحد قوليه لأن إذا كأنها تختص بأجل يكون وقد يمكن أن لا يكون، قال الله تعالى {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} وذلك كائن لابد منه، وإن أغلب مواضعها الشرط وقد تكون بمعنى الأجل، فحمل مالك كل لفظ على الغالب من أمره، ثم رجع فسوى بينهما لأن العامة لا تكاد تفرق بينهما. اهـ. قاله الإمام الحطاب. ثم قال بعد جلب كلام ما نصه فتحصل من هذا أنه يجوز البيع سواء قال: إن أو إذا على القول المرجوع إليه، وإذا جاز هذا في العتق فيجوز في التزام الهبة والصدقة من باب أحرى، وهذا بَيِّنٌ. والله تعالى أعلم. ولو قال الأب: اشهدوا عَليَّ أني وهبت لابني كذا وكذا دينارًا أوجبتها له في ذمتي، لم يجز ذلك وبطل إذا مات وهي عليه قبل أن يحضرها، ولو قال رجل لشخص: إن تصدقت على ابنك بعشرة دنانير تصدقت عليه بمثلها وابنه صغير ولم يخرجها حتى مات فذلك باطل وترجع أنت في عشرتك لأن الأب لم [يحز]

(1)

العشرة ولم يخرجها، ولو وضعها على يد عدل لم يكن لك أن ترجع وكانت للابن. والله تعالى أعلم. البرزلي: من التزم الكفارة عن غيره إذا حنث لزم الملتزم الوفاء ولا شيء

(1)

في تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص 266 والبيان ج 14 ص 122: لم يفرز العشرة.

ص: 565

على الحالف. قوله: ولا شيء عليه، قال الحطاب: يريد إن أخرجها الملتزم، وأما إن لم يخرجها وامتنع ولم يقدر على إجباره على إخراجها فيلزم الحالف أن يخرجها ويرجع بها على الملتزم متى قدر عليه. والله أعلم. اهـ. اللخمي: واختلف إذا قال: إن صار في ملكي فهو لك بكذا وكذا ولم ينقد، وأن يجوز أحسن لأنه لا غرر فيه، وليس من هذا الباب ما إذا علق شيئا على جهة الإقرار ولم يرد به إنشاء المعروف، قال في كتاب الإقرار من النوادر قال ابن سحنون وابن عبد الحكم: وإذا قال: لفلان عليَّ ألف درهم إن شاء فلان، فهذا باطل شاء فلان أو لم يشأ، لأنه خطر، كما إذا قال: له علي ألف درهم إن تكلم، أو إن دخل الدار، وقاله ابن المواز، وقال: هو كمن قال: فلان مصدق في شهادته فذلك لا يلزمه، قال ابن سحنون: وكذلك إن أمطرت السماء أو هبت الريح أو دخل فلان الدار، فهو باطل في إجماعهم، ولو قال: له علي ألف إن حمل متاعي إلى منزلي بالبصرة ففعل فهذه إجارة وهو جائز. اهـ. فهذا كله إذا كان على جهة الإقرار لا يلزمه شيء، ولو كان ذلك على وجه المعروف والهبة فالظاهر لزومه. والله أعلم. قاله الحطاب.

قال مقيده عفا الله عنه: تقدم ما هو كالصريح في اللزوم إذا كان على وجه المعروف.

التنبيه السادس: في إسقاط الشيء قبل وجوبه، اعلم أنه إذا أسلم الشفيع الشفعة بعد البيع فلا قيام له، ولو قال للمبتاع قبل الشراء: اشتر، فقد سلمت لك الشفعة وأشهد بذلك فله القيام بعد الشراء، لأنه سلم فيما لم يجب له، وإن سلم بعد الشراء على مال أخذه وقبل الشراء بطل ورد المال وكان على شفعته، قال ابن يونس: لأن من وهب ما لا يملك لم تصح هبته. قال أشهب وعبد الملك: كمن أذن له ورثته أن يوصي بأكثر من ثلثه في صحته فلا يلزمهم ذلك، وقال اللخمي: ويختلف إذا سلمها قبل الشراء، وقال: اشتر، فإذا اشتريت فلا شفعة لي عليك، فقيل: لا يلزمه ذلك وله أن يستشفع، ويجري فيها قول آخر: أنه لا شفعة له قياسا على من قال: إن اشتريت عبدَ فلان فهو حر، أو تزوجت فلانة فهي طالق، ومن جعل لزوجته الخيار إن تزوج عليها فأسقطت ذلك الخيار قبل أن يتزوج عليها فقد قالوا: إن ذلك لازم لها، وإذا أجاز الورثة الوصية بأكثر من الثلث أو لبعض الورثة فلهم ثلاثة أحوال، الأول: أن يكون ذلك في

ص: 566

الصحة من غير سبب، فإجازتهم غير لازمة لهم، كمن أعطى شيئا قبل ملكه أو جريان سبب ملكه، هكذا أشار إليه ملك في الموطإ، وروي عن ملك أن ذلك لازم لهم، ومثله في الموازية فيمن قال: ما أرث من فلان صدقة عليك، وفلان صحيح، قال: يلزمه ذلك إذا كان في غير يمين. اللخمي: الأول أشهر، وهذا أقيس. اهـ. قال الحطاب: كلام اللخمي يدل على أنه خرج القول باللزوم من مسألة الموازية، والظاهر أنه لا يتخرج لأن الوارث في مسألة الإجازة لم يهب شيئا وإنما أجاز فعل شخص لا يقدر على رد فعله الآن، قال في الموطإ: إن الشخص إذا كان صحيحا كان أحق بجميع ماله يصنع به ما يشاء، وفي مسألة الموازية: الوارث نفسه وهب ما يرثه إذا دخل في ملكه.

الثاني: إذا أجاز الورثة الوصية في الصحة لسبب كالسفر والغزو، فروى ابن القاسم في العتبية أن ذلك يلزمهم، وقاله ابن القاسم، وقال ابن وهب في العتبية: كنت أقول بهذا ثم رجعت إلى أن ذلك لا يلزمهم، وقاله محمد، وهو الصواب. اهـ. واقتصر الشيخ خليل في مختصره على عدم اللزوم.

الثالث: إذا أجاز الورثة الوصية في المرض فإن كان غير مخوف فحكمه كالإجازة في الصحة، وإن كان مخوفا فإن صح بعده لم يلزمهم الإجازة حتى يأذنوا له في المرض الثاني. قاله ابن القاسم. وقبله ابن رشد، ونقل نحوه عن ابن كنانة، لكن قال: بعد أن يحلفوا ما سكتوا إلا عن غير رضى ولا يلزمهم ذلك، وعلى قول ابن القاسم اقتصر الشيخ خليل في مختصره، وإن لم يصح بعد ذلك المرض بل مات فيه فالورثة على ثلاثة أقسام، فمن كان منهم بالغا رشيدا بائنا عن الموصي ولا سلطان له عليه ولا نفقة فلا رجوع له، ومن كان منهم سفيها فهذا لا يجوز إذنه ولا يلزمه، ولم يحك أبو الحسن في هذين القسمين خلافا، وصرح الرجراجي بنفي الخلاف في الثاني، وحكى في الأولين قولين، قال: والمشهور اللزوم، والقسم الثالث: من كان رشيدا وهو في نفقة الموصي كزوجته وأولاده أو له عليه دين أو في سلطانه، فلا يخلو إما أن يسألهم في الإذن أو يتبرعوا له به، فإن تبرعوا بالإذن ففي لزوم ذلك لهم قولان، المشهور منهما عدم اللزوم، وهو مذهب المدونة، وإن سألهم في ذلك لم يلزمهم قولا واحدًا. وإذا قال الوارث بعد أن أجاز الوصية في الحال الذي

ص: 567

يلزمه إجازتها فيه: لم أعلم أن لي ردّ الوصية، فإن كان مثله يجهل مثل ذلك حلف ولم يلزمه هذا إذا لم ينفذوها، فإن أنفذوها ثم ادعوا الجهل ففي ذلك ثلاثة أقوال، أحدها: أنه لا يرجع فيما نفذوا إن علم أنه جهل. والثاني: أنه يرجع إذا كان يشبه ما ادعاه من الجهل. والثالث: ليس له أن يرجع إلا أن يُعْلَمَ أنه جهل ذلك، وفي المختصر: ولزم إجازة الوارث بمرض لخ، وسئل ابن القاسم عن رجل صالح مالكٍ لأمر نفسه تصدق على آخر مثله بميراثه من أبيه إذا مات والأب باق أيجوز هذا؟ فقال: أرى أن يجوز هذا ولا أقضي به عليه، وليس للأمة إسقاط حقها في قسمها إلا بإذن سيدها كالعزل لحقه في الولد إلا أن تكون غير بالغة أو يائسة أو حاملا. المتيطي: الذي عليه العمل وقاله غير واحد أن الأم إذا أسقطت حضانتها بشرط المبارأة أن ذلك يرجع إلى الجدة والخالة. وقاله أبو عمران. وقال غيره من القرويين: يسقط بذلك حق الجدة والخالة ولا كلام لهما في ذلك، ولبعضهم:

وإسقاط حق المرء قبل وجوبه

حكى فيه خلفا أهل مذهب ملك

ويجري على هذا الخلاف مسائل

يحققها أهل النهى والمدارك

شريك سخا طوعا بإسقاط شفعة

وذلك حق قبل بيع المشارك

وتارك إرث أو مجيز وصية

بصحة موروث له غير هالك

كذلك من أمضى وصية منفق

عليه مريض قد غدا في المهالك

وراضية بالهجر ليلة وصلها

ومِن بعد أمسى سِنُّها غيرَ ضاحك

ومختارة من بعد عتق لنفسها

تروم فكاكا من فتى متماسك

ص: 568

وتاركة للشرط من بعد عقدها

تشكت بحال بعد ذلك حالك

ومسقط حق للحضانة لم تجب

كذا حكمه فاحذر مقالة آفك

وعاف صحيح قبل قتل يناله

تجاوز عن جان عليه وفاتك

وقد كملت تسعا وأحكم نظمها

فجاءت

(1)

بحمد الله سهل المسالك

على أنني إن ألف بعد زيادة

فلست لها يوما أصاح بتارك

وزاد بعضهم فيها هذا البيت:

على أن مشهور المسائل كلها

سقوط لزوم فاعتمد قول ملك

أي ما عدا مسألة ذات الشرط، وزاد بعضهم:

ومسقطة الإنفاق قبل وجوبه

ومنكوحة التفويض يا خير ناسك

إذا أبرأت من قبل فرض لها ومن

عفا عن مئال الجرح قبل المهالك

وربة شرط واحد ومعدد

إذا أبرأت قبل الوقوع لماسك

وهذا الخلاف في إسقاط الحق قبل وجوبه، وليس لأحد أن يأخذ الحق قبل وجوبه بلا خلاف، كالذي يقول: إن طلقت امرأتي يوما فقد ارتجعتها ثم طلقها. واعلم أن الشروط المتعلقة بالقرض

(1)

كذا في الأصل.

ص: 569

على ثلاثة أقسام: قسم يفسد به المقرض، وهو كل ما جر نفعا لغير القترض جره للمقرض أو لغير المقرض والمقترض، وقسم لا يفسد به المقرض ويلزم الوفاء به، كشرط رهن أو حميل أو أجل، وقسم مختلف فيه، وهو ما إذا شرط فيه ما يوجبه الحكم، كما إذا شرط رد المثل، وقد منع ابن القاسم أن يقول الشخص: أقرضك هذه الحنطة على أن تعطيني مثلها، وإن كان المقرض يقتضي إعطاء المثل لإظهار صورة المكايسة، وقال أشهب إن قصد بالمثل عدم الزيادة فغير مكروه وكذا إن لم يقصد شيئا فإن قصد المكايسة كره، ولا يفسد العقد لعدم النفع للمقرض، وقال ابن ناجي: واختلف في فساد العقد به إن وقع وشرط على ثلاثة أقوال، ثالثها في الطعام، فإن وقع فسخ، وقال المغيرة في كتاب المدنيين: فيمن وهب أمة وشرط لنفسه كل ولد تلده فهو حلال جائز، وقد يهب الرجل الحائط ويشترط ثمرته، يريد اشتراط الثمرة السنة والسنتين، ولا يجوز فيما كثر، وتجوز في الولد، وإن كانت السنون لأن المقصود منها المنافع والخدمة وهي للموهوب له والولد تبع ليس بمقصود وقد يكون أو لا يكون. اهـ. والله تعالى أعلم. قاله الحطاب. ومن قال لعبده: أعتقتك على أن لا تفارقني كان حرا وشرطه باطل، ومن أعتق أمة وشرط عليها إرضاع صبي فهي حرة ولا شيء عليها لأنه لا يجوز أن يعتق عبدًا ويشترط عليه خدمة. قال ابن رشد: وهذا كما قال: أنه لا يجوز للرجل أن يعتق عبده ويشترط عليه خدمة بعد العتق. قاله في المدونة وغيرها. ويجوز أن يعتقه ويشترط عليه دنانير بعد العتق. قال ابن القاسم: وإن قال: أنت حر واحمل هذا العمود فهو حر ولا شيء عليه، إلا أن يقول: أنت حر على أن تخدمني سنة، ولم يعجل الحرية قبل الخدمة فذلك، وفي المدونة: ولا بأس أن تأخذ مالا على أن تعتق مدبرك وولاؤه لك، ولا أحب أن تبيعه ممن يعتقه، أبو الحسن: انظر قوله: لا أحب هل هو على بابه أم لا؟ ونقله ابن يونس بلفظ: لا يجوز أن تبيعه، قال سحنون: قال ابن شهاب وعمرو بن شعيب: لا يباع إلا من نفسه، قال الشيخ أبو الحسن: كبيع العمري من المعمر لتخلص لك فكذلك المدبر إذا اشترى نفسه، فكأنه اشترى ما للسيد عليه من الخدمة لتخلص له رقبته، وإن أعتق أمته لأجل على أن يطأها بطل الشرط وجاز العتق لأجل. قاله الحطاب.

ص: 570

مسألة: قال الشبراخيتي وغيره: إن الحيوان الموقوف ليفرق نسله يزكى أي الحيوان، كأن يقول: نسل حيواني هذا في عام أو عامين أو على الدوام يعطى للفقراء مثلا، وليس له التصرف في الأمهات ببيع ولا بهبة مثلا، وهذا لا يستلزم وقفها. اهـ. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: يعلم من هذا حكم نازلة، وهي: أن شخصا وهب جنينا في بطن ناقة لشخص آخر ثم أراد المالك أن يبيعها، هل له ذلك أم لا؟ والحكم في ذلك والله تعالى أعلم أنه لا يجوز له ذلك، وفي المختصر: ولا يستثني لبيع أو عتق، ويعلم من هذا أيضا حكم نازلة كثيرة الوقوع جدا، وهي: أن يهب الوالد لولده ناقة أو أكثر مثلا ويستثني الوالد ما ولدت من المذكور، فالحكم في ذلك والله تعالى أعلم أنه لا يجوز للولد التصرف في ذلك ببيع ولا هبة مثلا إلا بإذن الواهب. والله تعالى أعلم.

ولما أنهى الكلام على الهبة وكان تملكها بغير عوض واللقطة كذلك أتبعها بالكلام عليها فقال:

ص: 571

‌باب ذكر فيه اللقطة والضالة والآبق

وأحكام كل منها وما يتعلق به

واللقطة فيها أربع لغات، لُقَطَة كهمزة، ولقطة كغُرْفَةٍ، ولُقاطة بضم اللام، ولقط بالتحريك، ونظمها ابن ملك بقوله:

لقاطة ولَقَط ولُقَطَه

ولُقْطَة ما لاقط قد لَقَطة

وقال الشبراخيتي: عياض: هي بضم اللام وفتح القاف ما التقط، وعليه الأكثر ابن عبد السلام، وهو خلاف القياس، لأن فعلة اسم لمن يكثر منه الفعل كهمزة، وفسرها الزبيدي على الأصل فجعل سكون القاف للشيء الملتقَط وبفتحها للرجل الملتقِط لها، وظاهره وإن لم يتكرر ذلك منه، وحكى ابن الأثير القولين، قال: والأول أصح، وفيها لغة ثالثة لقاطة بضم اللام، ورابعة بفتح اللام والقاف، وأصل الالتقاط وجود الشيء من غير طلب ولا قصد. وعرفها ابن عرفة بقوله: اللقطة مال وجد بغير حرز محترما ليس حيوانا ناطقا ولا نعما، فخرج بالأول اللقيط لأنه آدمي حر صغير، وبالثاني السرقة، وبالثالث مال الحربي والركاز، وبالرابع الرقيق والإبل، لأن الأول يسمى آبقا والثاني ضالة، ويدخل في التعريف الدجاجة وحمام الدور، ولا تدخل فيه السمكة تقع في السفينة فهي لمن وقعت إليه. قاله ابن عات وابن شعبان. ابن عرفة: والضالة نعم وإن بغير حرز محترما، والآبق حيوان ناطق وجد كذلك، ومقتضى قول ابن الحاجب وابن شأس كون الجميع لقطة خلاف ظاهرها مع غيرها. انتهى. قال الحطاب: واعلم أن حده اللقطة غير مانع، لأنه يدخل فيه التمر المعلق وليس لقطة، فقول الجماعة: معرض للضياع أحسن فتأمله. انتهى. قلت: ويرد عليه أيضا أنه غير جامع لعدم شموله الرقيق الصغير لأنه لقطة كما صرح به ابن عرفة نفسه في تعريف اللقيط، وهو وارد أيضا على طرد تعريف الآبق. [فتأمل

(1)

]. قاله بناني. وقال الشبراخيتي عن ابن عرفة: الأظهر في السمكة إن كانت بحيث لو لم يأخذها من سقطت له لنجت بنفسها لقوة حركتها وقرب محل سقوطها من ماء البحر فهي كما قال ابن شعبان وإلا فهي لرب السفينة. انتهى. وقال الخرشي بعد إتيانه بتعريف ابن عرفة: فيدخل في اللقطة

(1)

في بناني ج 7 ص 111: فتأمله.

ص: 572

الذهب والعروض وما وجد بشاطئ البحر من رمي المسلمين للنجاة، وقيل: لواجده. انتهى. وعرف المؤلف اللقطة بقوله: اللقطة مال معصوم عرض للضياع، يعني أن اللقطة هي مال معصوم عرض للضياع، فمال جنس يشمل كل مال معصوما كان أم لا، وخرج بالمعصوم غيره كمال الحربي والركاز، وبعرض للضياع الإبل وما بيد حافظ، والمال المعصوم هو الذي لا يجوز لواجده التصرف فيه لنفسه. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: اللقطة مال معصوم وهو ما لا يتصرف فيه أحد لنفسه، عرض للضياع بأن وجد بمضيعة في غامر بمعجمة أي خراب وبمهملة ضد الأول، فخرج بمعصوم غيره كمال حربي وركاز، وبعرض للضياع الإبل وما بيد حافظ، وعرض بالتخفيف مبني للفاعل لا بالثقيل مبني للمفعول، لإيهامه أن ما ضاع ولم يقصد ضياعه ليس بلقطة، والمراد عرض الضياع له ففيه قلب، نحو عرضت الحوض على الناقة فهو بديع.

وإن كلبا يعني أنه لا فرق في المال المعصوم الذي عرض للضياع بين أن يكون كلبا أي مأذونا في اتخاذه وبين أن يكون غير ذلك فالكل لقطة، وأما الكلب غير المأذون في اتخاذه فليس بلقطة لجواز قتله، ومن قتله فلا شيء عليه فيه، وبالغ على الكلب لأنه يتوهم من منع بيعه أنه غير لقطة، فهو مبالغة في قوله: مال، ويعلم كونه مأذونا في اتخاذه بعلم الملتقط حال ربه فيه أو بغلبة صنعه للصيد. قاله غير واحد.

وفرسا وحمارا، يعني أن المال المعصوم الذي عرض للضياع إذا كان فرسا أو حمارا فإنه لقطة، قال التتائي: ذكرهما للخلاف في كونهما يستقلان بحياتهما كالإبل أو لا، وسيذكر البقر. قاله التتائي. وقال عبد الباقي: بالغ على الفرس والحمار ليلا يتوهم أنهما كضالة الإبل لا تلتقط، وقال ابن سلمون: واختلف في البقر والخيل والبغال والحمير، فقيل: إنها كالإبل لا تلتقط، وقيل: ليست كالإبل وتلتقط. انتهى. وقال المواق: قال ابن شأس: من وجد كلبا التقطه إن كان بمكان يخاف عليه. ابن عرفة: يخص هذا بالمأذون فيه، لقول المدونة: من قتل كلبا من كلاب

ص: 573

الدور [مما

(1)

] لم يؤذن فيه فلا شيء عليه لأنه يقتل ولا يترك، وإن كان مأذونا في اتخاذه فعليه قيمته، هذا وجه قول ابن شأس، وفيه مع هذا نظر. انتهى. وقال الحطاب: وفي المدونة: ولا يصاد حمام الأبرجة، ومن صاد منها شيئا رده أو عرف به إن لم يعرف ربه ولا يأكله، وإن دخل حمام برج لرجل في برج لآخر ردها إلى ربها إن قدر وإلا فلا شيء عليه، ومن وضع أجباحا في جبل فله ما دخلها من النحل، ومن صاد طائرا في رجليه سباقان، أو ظبيا في أذنيه قرطان، أو في عنقه قلادة، عرف بذلك ثم ينظر فإن كان هروبه ليس بهروب انقطاع ولا توحش رده وما وجد عليه لربه، وإن كان هروبه هروب انقطاع وتوحش فالصيد خاصة لصائده دون ما عليه، فإن قال ربه: ندَّ مني منذ يومين، وقال الصائد: لا أدري متى نَدَّ منك، فعلى ربه البينة والصائد مصدق. انتهى. وانظر قوله: وإن كان هروبه ليس هروب انقطاع فهل يجب تعريفه في هذه الحالة كاللقطة؟ وهو الظاهر. فتأمله.

ورد بمعرفة مشدود فيه وبه وعدده بلا يمين، يعني أن من عرف هذه الأوصاف الثلاثة تدفع إليه اللقطة بلا يمين على عارفها، وهي المشدود فيه، وهو العفاص، أبو عمر: أجمعوا أن العفاص الخرقة المربوط فيها وهو لغة ما يسد به فم القارورة، والمشدود به، وهو الوكاء أي الخيط المربوط به، والعدد أي عدد الدنانير أو الدراهم مثلا ككونها ثمانية مثلا أو أقل أو أكثر. والله سبحانه أعلم. والوكاء بالمد. قال الشبراخيتي: وكذا لو عرف العفاص والوكاء فقط فإنه يأخذها بلا يمين على المشهور، وقال أشهب: لا بد من اليمين، وقال الخرشي وعبد الباقي: وكذا لو عرف العفاص والوكاء فقط فإنه يأخذها بلا يمين على ظاهرها، فلو حذف المؤلف وعدده لطابق المشهور، وقوله: ورد بمعرفة، لخ، ومن باب أولى لو قامت له بينة، وقال الشبراخيتي: قال في شرح اللمع: وما لا عفاص له ولا وكاء فإنه يُكتفى فيه بذكر الأوصاف التي يغلب على الظن صدق الآتي بها. انتهى. وقال التتائي: إذا لم يكن عفاص ولا وكاء ووصف بصفات خاصة محصلة للظن رد بذلك، وقوله: بلا يمين، قال المواق عن الباجي: هل يلزمه يمين إذا وصف

(1)

في الأصل ما والمثبت من التهذيب ج 2 ص 45.

ص: 574

العفاص والوكاء والعدد؟ المشهور أن لا يمين عليه، ووجهه أنه ليس هناك من ينازعه فيها ولا من ينازع عنه. اهـ. والأصل في اللقطة قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن لقطة الذهب والورق: (اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة ثم استمتع بها فإن جاء ربها فأدها إليه

(1)

).

وقضي له على ذى العدد والوزن، يعني أنه لو اختلف اثنان في وصف اللقطة فرف أحدهما عفاصها ووكاءها وعرف الآخر عددها ووزنها فإنه يقضى بها لمن عرف العفاص والوكاء بعد يمينه اتفاقا. قاله ابن رشد. قال الخرشي: وكذا يقضى لمن عرف العفاص والعدد على من عرف العفاص والوكاء بيمين، هذا هو الظاهر كما أن الظاهر أن من عرف أوصافا يقوى بها الظن يقدم على من عرف أوصافا يحصل بها ظن دونه بيمين، وكذا يقضى لمن عرف العفاص وحده بيمين على من عرف العدد والوزن، وإنما قدم من عرف الصفات الظاهرة على من عرف الصفات الباطنة كالوزن والعدد وكان الأولى العكس لموافقة الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام (اعرف عفاصها ووكاءها) وإن وافق الآخر العرف. انتهى. وقال المواق: قال أصبغ: لو عرف واحد العفاص والوكاء ووصف الآخر عدد الدنانير ووزنها كانت لمن عرف العفاص والوكاء، وكذلك لو لم يعرف إلا العفاص وحده. انتهى. وقال بناني عن البيان: سئل أشهب عن الرجلين يدعيان اللقطة فيصف أحدهما العفاص والوكاء ويصف الآخر العدد والوزن؟ فقال: فهي للذي عرف العفاص والوكاء، وكذلك لو عرف العفاص فقط وحده كانت له أيضا بعد يمين الاستبراء. ابن رشد: قوله: فهي للذي عرف العفاص والوكاء يريد مع يمينه ولا اختلاف في هذا، وإنما الاختلاف إذا جاء وحده فقيل: إنها تدفع إليه بالصفة دون يمين وهو ظاهر مذهب ابن القاسم في المدونة، وقيل لا تدفع إليه إلا بيمين وهو قول أشهب. انتهى.

وإن وصف ثان وصف أول ولم يبن بها حلفا وقسمت بينهما، قال الخرشي: يعني أن اللقطة إذا وصفها شخص وصفا يستحقها به وقبضها ولم ينفصل بها انفصالا يمكن معه إشاعة الخبر، ثم جاء شخص آخر فوصفها مثل وصف الأول، فإن كل واحد منهما يحلف أنها له وتقسم بينهما

(1)

البخاري، كتاب اللقطة، رقم الحديث 2429 ومسلم، كتاب اللقطة، رقم الحديث 1722.

ص: 575

وكذا لو نكلا، ويقضى للحالف على الناكل وأما إن كان الأول قد انفصل بها بحيث يمكن منه المعلم للثاني فلا شيء للثاني لاحتمال أن يكون سمع وصف الأول، وكذا لو لم ينفصل ولكن اشتهر وصفه لها بحيث أمكن علمه لغيره كما قاله عبد الباقي، وقد مر أنهما لو نكلا تقسم بينهما وهو الذي اختاره اللخمي ونقله في البيان عن ابن حبيب، وقال أشهب: لا يدفع لهما. كبينتين لم تؤرخا، يعني أنه إذا أقام شخص بينة أن اللقطة له وأقام آخر بينة أنها له وتكافأت البينتان بأن استوتا في العدالة ولم تؤرخ واحدة منهما: بأن قالت كل واحدة منهما ضاع له مائة دينار مثلا ولكن لا نعلم في أي زمن ضاعت، أو أرختا واستوتا في التاريخ وفي غيره من المرجحات، فإنها تقسم بينهما بعد حلفهما، ونكولهما كحلفهما، ويقضى للحالف على الناكل، فلو أرخت إحداهما فهي لمن أرخت بينته، وكذا تكون لمن كانت بينته أعدل.

وإلا بأن أرختا بأن قالت إحداهما: ضاعت له مائة في ذي القعدة، وقالت الأخرى: ضاعت له مائة في المحرم، فإنها تكون للأقدم تاريخا، أي تكون لأولهما ملكا بالتاريخ، وفي التوضيح عن أشهب ما يخالف هذا وهو: أنه إن دفعها للأول ببينة ثم أقام الثاني بينة فهي لأولهما ملكا بالتاريخ، فإن لم يكن التاريخ فهي لأعدلهما، فإن تكافأتا كانت لمن هي في يده وهو الأول بعد يمينه أنها له ما يعلم لصاحبه فيها حقا، فإن نكل حلف الثاني وأخذها، فإن نكل فهي للأول ابن يونس: ويحتمل على أصل ابن القاسم أن تقسم بينهما وإن حازها الأول، قال التتائي والفيشي ومصطفى: إن المص مشى على قول ابن القاسم أولا وآخرا، لأن ابن القاسم لا يخالف أشهب في الترجيح بالأعدلية أو تقدم التاريخ، ولم ينفرد أشهب إلا ببقائها عند التكافؤ عند من هي بيده، والمص خالفه فيه ومشى على ما عزاه ابن يونس لأصل ابن القاسم، وبه تعلم قصور نقل المواق. والله أعلم. نقله بناني. فقوله كبينتين لخ، تشبيه في اليمين والقَسْمِ. والله تعالى أعلم. وعلم من قوله: كبينتين، أنها لو دفعت للأول بالوصف وأقام الثاني بينة أنها له فإنها تنزع من الأول وتدفع للثاني، ويأتي ما يدل له، وهو ظاهر من قوله: ولا ضمان على دافع لخ، ولو قال المص: كبينتين لم ترجح إحداهما وإلا فللمرجحة، لكان أشمل، وفي نقل التتائي: ولو أخذت اللقطة بالصفة فأقام غيرك بينة ثم أقمت بينة لَقُدِّمْتَ لرجحانك بالصفة وتبقى في يدك. انتهى.

ص: 576

تنبيهات: الأول: قال الحطاب: قال في النوادر في باب الصبي الصغير تدعي أمه أنه التقط دنانير: ومن كتاب ابن سحنون: وكتب شجرة إلى سحنون في امرأة أتت بابن لها صغير معه أربعة دنانير فزعمت أنه التقطها من الطريق في غير صرة، فرفعتها على أيدي أُنَاس، فأتى من ادعاها ووصف سكة بعض الدنانير ولم يصف البعض، فكتب إليه الأمُّ مقرة أن الصبي أصابها فليس لها أن تقر على غيرها، فأرى الدنانير للصبي، وما كان من لقطة معروفة فوصف الدعي لها بعضا ولم يصف بعضا فلا شيء له الثاني: قال في البيان: وسئل ملك عن رجل دخل حانوت بزار يشتري منه ثوبا ثم خرج منه فاتبعه صاحب الحانوت فقال: يا عبد الله هذا دينار وجدته في حانوتي ولم يدخل عليَّ اليوم أحد غيرك، فَعَدَّ الرجل نفقته فافتقد منها دينارا، أترى أن يأخذه؟ قال ملك: لا أدري هو أعلم بنفقته إن استيقن أنه ديناره فليأخذه، قيل له: التاجر يقول لم يدخل علي اليوم أحد غيرك وقد افتقد الرجل من نفقته دينارا؟ قال: إن استيقن أنه له فليأخذه. قال محمد بن رشد في قوله: إن استيقن أنه له فليأخذه، دليل على أنه لا يأخذه إلا أن يستيقن أنه له بزيادة على ما ذكره له، فحصل له بها اليقين أنه له، وهذا على سبيل التورع والنهاية فيه إذ لم يعترضه

(1)

شك في أنه له فأخْذُه له حلال سائغ، لأن الغالب على ظنه أنه له إذ قد افتقد من نفقته دينارا، ولو لم يعلم عدد نفقته لساغ له عندي أخذه لقول صاحب الحانوت له: إنه لم يدخل عَلِيَّ اليوم أحدٌ غيرك وإن كان التورع عن أخذه أولى وأَحْسَنَ، ولو قال له صاحب الحانوت: هذا الدينار وجدته في مكانك بعد خروجك عني ولا أدري هل هو لك أو لغيرك ممن دخل الحانوت؟ والرجل لا يعلم عدد نفقته لا ساغ له أن يأخذه. وبالله التوفيق. انتهى.

الثالث: قال في البيان: وسئل ملك عن اللقطة يجدها الرجل فعرَّفها

(2)

سنة فلا يجد صاحبها فيستنفقها ثم تحضره الوفاة فيوصي بها ويترك دينا عليه لا وفاء له، قال: أرى أن يحاص الغرماء أهل المدين بقدر ما يصيبها، قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأن إقْرَارِ الديان عند ملك

(1)

الذي في البيان ج 15 ص 353 يعتره.

(2)

في البيان ج 15 ص 355: فيعرفها.

ص: 577

جائز لمن لا يتهم عليه كان إقراره في صحته أو في مرضه، إنما تفرق عنده الصحة من المرض في رهنه وقضائه بعض غرمائه دون بعض، وفي إقراره بالدين لمن يتهم عليه، فلا يجوز شيء من ذلك عنده في المرض، واختلف قوله في جواز ذلك في الصحة، فمرة أجاز ذلك كله، ومرة لم يجزه، ومرة فرق بين الرهن والقضاء والإقرار لمن لا يتهم عليه، فأجاز الرهن والقضاء، ولم يجز الإقرار، ومرة أجاز القضاء خاصة ولم يجز الرهن ولا الإقرار، وأما إن أقر أنه استنفق اللقطة ولا دين عليه ولم يقم بذلك عليه حتى مات فإن كان إقراره بذلك في صحته جاز ذلك من رأس ماله على ورثته، وإن كان إقراره بذلك في مرضه فإن كان يورث بولد جاز إقراره من رأس المال أوصى أن يتصدق بها عن صاحبها أو توقف له، واختلف إن كان يورث كلالة فقيل: إنه إن أوصى أن تحبس وتوقف حتى يأتي صاحبها جازت من رأس المال، وإن أوصى أن يتصدق بها عنه لم يقبل قوله ولم تخرج من رأس المال ولا من الثلث، وقيل: من الثلث، وقيل: إن كانت يسيرة جازت من رأس المال، وإن كانت كثيرة لم تكن في رأس المال، ولا في الثلث، وقد مضى هذا المعنى مجودا في رسم ليرفعن من سماع ابن القاسم من كتاب الديان والتفليس. وبالله التوفيق.

ولا ضمان على دافع بوصف، يعني أن الملتقط إذا دفع اللقطة لشخص بوصف يسوغ دفعها به وأولى البينة فإنه لا ضمان عليه لمن وصفها بعد ذلك وصفا تؤخذ به بل وإن قامت بينة لغيره، أي لغير الواصف المدفوع له لأنه دفعها له بوجه يسوغ دفعها به ويكون النزاع بين القائم والقابض، ويجري على ما مر من وصف الثاني وصف أول ولم يبن بها أو بان ومن إقامة بينة لكل منهما أو لأحدهما. قاله عبد الباقي. وقال المواق عن المدونة: إن دفعها لمن عرف عفاصها ووكاءها وعددها ثم جاء آخر فوصف مثل ما وصف الأول أو أقام بينة أن تلك اللقطة له لم يضمنها لأنه دفعها بأمر يجوز له. انتهى. قوله: وإن قامت بينة لغيره هو مذهب ابن القاسم وأشهب. قاله التتائي. وقولي: ويكون النزاع بين القائم والقابض، يدل على أن موضوع المص أن الملتقط يرد المال وإلا ضمن على ما نقله غير واحد عن ابن الماجشون، واختلف هل هو وفاق للمذهب أو خلاف؟ وكلام ابن الماجشون يدل على أن الضمان عنده ليس مقصورا على ذلك، بل الدار عنده على التفريط بترك الإشهاد، فيشمل أيضا ما إذا قال: دَفعْتُها لفلان فأنكر فلان. قاله الرهوني.

ص: 578

واستوني في الواحدة إن جهل غيرها يعني أن من عرف واحدة من العفاص والوكاء وجهل غيرها بأن قال: لا أدري، فإنه يستأنى بدفع اللقطة له مدة باجتهاد الإمام ولا تدفع له عاجلا، فإن أثبت غيره أكثر منه أخذها وإلا دفعت للأول قاله عبد الباقي. قال بناني: هو نحو عبارة ابن رشد حيث قال: يستبرأ أمره، فإن لم يأت أحد بأثبت مما أتى به دفعت إليه. انتهى. وظاهره أنه إذا عرف أحدهما العفاص فقط وعرف الثاني الوكاء فقط أو العكس أنها تدفع للأول، لأن الثاني لم يأت بأثبت منه، وهو غير ظاهر، والظاهر أنها تقسم بينهما كما يؤخذ من ظاهر قول ابن الحاجب: ولو وصفها اثنان بما يأخذها به المنفرد تحالفا وقسمت بينهما انتهى ولا ينافي هذا ما مر من دفعها لواصف العفاص على ذي عدد ووزن لأنه لا ينافي الاستيناء واعلم أنه لا بد من الاستيناء في الواحدة كان ثمَّ منازع أم لا.

لا غلط، يعني أنه إذا عرف واحدة من العفاص والوكاء وغلط في غيره بأن ذكر الصفة على غير ما هي عليه، لأن الغالط هو الذي يبدِّل وصفا بوصف بأن قال: أحمر، فإذا هو أسود مثلا، فإنه لا شيء له، وهذا التفصيل فيما إذا عرف واحدة من العفاص والوكاء بين أن يجهل غيره فلا يضر ذلك بل تدفع له اللقطة بعد الاستيناء، وبين أن يغلط في ذلك الغير فيضر فلا تدفع له اللقطة، وهو القول الذي استظهره ابن رشد، ولهذا قال: على الأظهر، فهو راجع لهما. والله سبحانه أعلم. قال بناني: واستوني في الواحدة أي من العفاص والوكاء لا من غيرهما، ونص ابن رشد: الاختيار أن يصف مدعي اللقطة العفاص والوكاء وما اشتملا عليه من عدد الدارهم والدنانير وصفتهما، فإن وصف بعضا وجهل بعضا أو غلط فيه ففي ذلك خلاف وتفصيل، فأما العفاص والوكاء إذا وصف أحدهما وجهل الآخر أو غلط فيه ففي ذلك ثلاثة أقوال. ثالثها: إن ادعى الجهالة استبرئ أمره، وإن غلط لم يكن له شيء، وهذا أعدل الأقوال وهو نص المقدمات أيضا. انتهى. وإلى قول ابن رشد: وهذا أعدل الأقوال، أشار المص بقوله: على الأظهر. والله سبحانه أعلم. وقال المواق: لا غلط على الأظهر، أي إذا عرف واحدا من العفاص والوكاء وجهل الآخر أو غلط فيه ففي ذلك ثلاثة أقوال، أعدل الأقاويل إن ادعى الجهالة استبرئ أمره، وإن ادعى الغلط لم يكن له شيء. انتهى. وقال التتائي: وتعقب البساطي قول المص: واستوني بالواحدة إن جهل

ص: 579

غيرها لا غلط بأمرين، الأول: أن ابن رشد فرض المسألة في الغلط في معين من العفاص والوكاء والمص عمم، والثاني: إذا قلنا: إنه غلط لا يستأنى أعم من أنه لا شيء له أو تدفع له عاجلا. انتهى. والأول ظاهر، وقد يجاب عن الثاني بأنه إنما تركه للعلم بأن ابن رشد إنما رجح القول بأن لا شيء له، ومفهوم قوله: استوني في الواحدة أنه إذا وصف اثنتين دفعت له ناجزا وهو كذلك. قاله أشهب. ابن الحاجب: وهو الأصح، ومقابله لابن عبد الحكم لو أصاب تسعة أعشار الصفة وأخطأ بالعاشر لم يعطها إلا في معنى واحد أن يذكر عددا فيوجد أقل منه لاحتمال أن يكون اغتيل عليه. انتهى.

ولم يضره جهل بقدره، يعني أنه إذا عرف العفاص والوكاء أو أحدهما وجهل قدر الدنانير مثلا فإن ذلك لا يضره بل تدفع له اللقطة، وتحرير المسألة أنه إذا عرف العفاص فقط أو الوكاء فقط وجهل الآخر لم يضره ذلك، بخلاف ما لو غلط فيه على ما استظهره ابن رشد، ومقابله قولان أن ذلك يضره مطلقا، والثاني: لا يضر مطلقا، وأما الدنانير مثلا مع معرفة العفاص أو الوكاء فجهلها أي جهل قدرها لا يضر، وفي جهل صفتها خلاف، كما أن معرفة السكة فقط فيها خلاف، وأما الغلط فيها فإن كان بزيادة فلا يضر، وإن كان بنقص ففيه قولان، وإن غلط في صفة الدنانير مثلا فلا شيء له بلا خلاف، وأما لو عرف العفاص والوكاء معا فمقتضى مفهوم المص واستوني بالواحدة التعميم، فيقال: مفهوم قوله في الواحدة تدفع لمن عرف العفاص والوكاء معا مطلقا، أي سواء جهل القدر أو غلط فيه بزيادة أو نقص لجواز الاغتيال عليه، أو جهل صفة الدنانير أو غلط فيها وهو كذلك في توضيحه عن ابن رشد ما عدا الصورة الأخيرة، وهي إذا عرف العفاص والوكاء وغلط في صفة الدنانير، فقال عنه: لا أعلم خلافا أنه لا شيء له. انظر التتائي.

ووجب أخذه لخوف خانن، يعني أن المكلف يجب عليه أن يأخذ المال المعصوم الذي عرض للضياع إذا خاف عليه من عدم أخذه الخائن، وهذا إذا علم أمانة نفسه، وإنما وجب لوجوب خفظ مال الغير. لا إن علم خيانته هو، يعني أنه إذا علم خيانة نفسه فإنه لا يأخذ اللقطة بل يحرم عليه أخذها سواء خاف الخائن أم لا. وإلا أي وإن لم يخف عليها الخائن ولا علم من نفسه الخيانة كره له أخذها، قال الشبراخيتي: وإلا كره، شامل لثلاث صور إن قيد قوله:

ص: 580

ووجب أخذه لخوف خائن بما إذا علم أمانة نفسه، وهي ما إذا شك في أمانته سواء خاف الخائن أم لا، وما إذا علم أمانة نفسه ولم يخف الخائن. وإن لم يقيد بما ذكر كان قوله: وإلا كره شاملًا لصورتين، وهما: إذا شك في أمانة نفسه ولم يخف الخائن، أو علم أمانة نفسه ولم يخف الخائن. واعلم أن حاصل صور هذه المسألة ست، لأن مريد أخذ اللقطة إما أن يعلم أمانة نفسه أو خيانته أو يشك في ذلك، وفي كل إما أن يخاف الخائن أم لا، فمتى علم خيانة نفسه حرم عليه أخذها خاف الخائن أم لا، ومن علم أمانة نفسه وجب أخذها إن خاف الخائن وإلا كره، ومتى شك في أمانة نفسه فإن لم يخف الخائن كره أيضا، وإن خافه فظاهر كلام ابن الحاجب الكراهة أيضا، وفي كلام الطخيخي ما يفيد اعتماده، وظاهر كلام المص أنه يجب أخذه، فلو قال المص: وحرم لمن علم خيانة نفسه أخذه، ووجب لمن علم أمانتها وخاف الخائن وإلا كره، كأن شك في أمانته ولم يخف الخائن، كأن خافه على الأحسن، لَوَفَى بهذه الصور، ومشى على المعتمد في مسألة ما إذا شك في أمانة نفسه وخاف الخائن، وأكد المص الضمير المتصل بالمنفصل لرفع إيهام عود الضمير على الخائن بالنظر إلى ظاهر اللفظ من غير ملاحظة المعنى، وليس هنا شيء جرى على غير من هو له، وأبرز الضمير لذلك كما لا يخفى. انتهى. وقال عبد الباقي بعد تقرير المصنف: فالوجوب في صورة والحرمة في صورتين والكراهة في ثلاث، فالصور ست. انتهى. فالوجوب فيما إذا خاف الخائن مع علمه أمانة نفسه، والحرمة فيما إذا علم خيانة نفسه

(1)

خاف الخائن أم لا، والكراهة فيما إذا لم يخف الخائن علم أمانة نفسه أو شك، وفيما إذا خاف الخائن وشك في أمانة نفسه، وفي التوضيح: الأقسام ثلاثة، الأول: أن يعلم من نفسه الخيانة فيحرم التقاطها. الثاني: أن يخاف ولا يتحقق ذلك فيكره. الثالث: إن لم يتبين أمانة نفسه، وهذا ينقسم إلى قسمين، إما أن يخاف عليها الخونة أم لا، فإذا خاف وجب عليه الالتقاط، وإن لم يخف فثلاثة أقوال للك، الاستحباب، والكراهة، والاستحباب فيما له بال، والترك في غيره أفضل، واختار التونسي من هذه الأقوال الكراهة كما في الجواهر، وإليه أشار المص بقوله: على

(1)

في الأصل نفسها.

ص: 581

الأحسن، وبهذا تعلم أن المص فيه إجمال لإيهامه أن الخلاف والاستحسان في الصور المكروهة كلها، مع أن ذلك إنما هو في صورة واحدة، وهي أن يعلم أمانة نفسه ولم يخف خائنات واستظهر ابن عبد السلام فيما إذا علم خيانة نفسه أو شك فيها وجوب الالتقاط عليه وترك الخيانة، ولا يكون ذلك عذرا يسقط عنه ما وجب عليه من حفظ مال الغير، قال الحطاب: وما قاله حسن. انتهى. والله أعلم. نقله بناني. وتعريفه سنة، يعني أنه يجب على الملتقط أن يعرف اللقطة سنة من يوم الالتقاط. قاله غير واحد. قال الشبراخيتي: ووجب تعريفه أي المال الملتقط وهو معطوف على أخذه سنة من حين أخذه، وإنما قلنا من حين أخذه لأن التعريف واجب على الفور، واتضح من هذا أن قول الشراح من يوم الالتقاط متعلق بتعريفه، ولهذا قال الحطاب: يجب التعريف من يوم الالتقاط، وقال الشبراخيتي: إن التعريف واجب على الفور، فإن أخر فتلفت أو ضاعت ضمن، وقال الحطاب: قال ابن الحاجب: ويجب تعريفها سنة عقبه، قال في التوضيح أي عقب الالتقاط، وظاهره لو أخر التعريف لضمن، وفي اللخمي: إن أمسكها سنة ولم يرفها ثم عرفها فهلكت ضمن. انتهى. وينبغي أن لا يتقيد بالسنة. انتهى. وقال ابن عبد السلام: الضمير من قوله: عقبه، راجع إلى الالتقاط المفهوم من السياق، ولا يؤخر التعريف، فإن ذلك داعية إلى إياس، فلا يتعرض إلى طلبها، فإن ترك تعريفها حتى طال ضمنها، هكذا قال بعض الشيوخ، نقلت كلامه على ما فهمت، وفي معين الحكام: وإذا أمسك الملتقط اللقطة سنة ولم يعرفها ثم عرفها في الثانية فهلكت ضمنها، وكذلك في السنة الأولى ضمنها إلا أن يتبين أن صاحبها من الموضع الذي وجدت فيه، وإن كان من غيره فغاب بقرب ضياعها ولم يقدم في الوقت الذي ضاعت فيه لم يضمن، وجزم المؤلف بأن الكثير وما دونه وفوق التافه يعرف سنة، أما الكثير فلا خلاف فيه، وأما ما دون الكثير وفوق التافه وهو المشار إليه بقوله:

ولو كدلو، فحكى ابن الحاجب قولين فيه، تعريفه سنة، وتعريفه أياما مظنة طلبه، ورجح في التوضيح الثاني. ابن رشد: ولا خلاف في وجوب تريفه إلا أنه يختلف في حده، فقيل: سنة كالذي له بال وهو ظاهر رواية ابن القاسم في المدونة وقيل: لا يبلغ به الحول وهو قول ابن القاسم في المدونة، ورواية عيسى عن ابن وهب في العتبية في مثل الدريهمات والدينار أنه يعرف ذلك

ص: 582

أياما. ابن عبد السلام: تأول المدونة بعضهم على القول بتعريفه أياما مظنة طلبه وهو الذي عليه الأكثر من أهل المذهب وغيرهم. انتهى. فترك المؤلف القول الذي عليه الأكثر. قاله الحطاب. وقوله: كدلو، واحد الدلاء التي يسقى بها وجمع القلة أَدْلٍ وفي الكثرة دلاء، ومما يدخل تحت الكاف المِخْلاة بكسر اليم وسكون الخاء العجمة ما يوضع فيه العلف للدواب. قاله الرهوني. وقوله: وتعريفه، يحتمل أنه من إضافة المصدر للفاعل أي الملتقط بكسر القاف، ويحتمل أنه من إضافة المصدر للمفعول أي الملتقط بفتح القاف.

لا تافها، يعني أن الشيء الملتقط إذا كان تافها فإنه لا يجب تعريفه بل للملتقط أكله والتافه ما لا تلتفت إليه النفوس. قال التتائي: لا تافها لا تلتفت إليه النَّفْس كفلس وتمرة وكسرة فلا يُعَرَّف أصلا وهو لمن وجده إن شاء أكله أو تصدق به، وجعل الشارح من أمثلة التافه العصا والسوط وفيه شيء لأن قيمة كل منهما قد تكون أكثر من قيمة الدلو فلا ينبغي الإطلاق فيهما. انتهى. وقال الشبراخيتي: لا تافها وهو ما دون الدرهم الشرعي، كما قاله الشيخ أبو الحسن، وهو مأخوذ من قول المدونة: درهما فصاعدا، وقال أشهب في الدرهم وما أشبهه: لا بأس أن يتصدق به قبل السنة. انتهى. قاله الرهوني. وقوله لا تافها، مخرج من تعريفه لا من سنة، فلا يُعَرَّف التافه أصلا ويجوز للملتقط أكله، ولا ضمان عليه. انتهى. وقال عبد الباقي: لا تافها بالنصب عطف على محل الضمير في تعريفه، بناء على أنه من إضافة المصدر لمفعوله، أو على محل كدلو لأنه خبر كان المحذوفة بعد لو بناء على أنه من إضافة المصدر لفاعله، وهو ما دون الدرهم الشرعي أو ما لا تلتفت إليه النَّفْس وتسمح بتركه كعصا وسوط لا كثير قيمة لهما، فإن لم تسمح بتركه عادة عُرِّفَ، ثم له أكل التافه ولا ضمان عليه حيث لم يعلم ربه وإلا لم يجز له أكله ويضمن، ويجري نحوه في قوله: وله أكل ما يفسد.

تنبيه: حجة القول الذي لم يفرق بين الكثير وما فوق التافه في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعريف اللقطة سنة ولم يفرق بين قليل ولا كثير.

بمظان طلبها، يعني أنه يجب تعريف اللقطة بمظان طلبها أي المواضع التي يظن أن أربابها يطلبونها فيها، وقوله: بمظان طلبها، مقتضى كلام التتائي والخرشي أنه متعلق بالكون، أي

ص: 583

والتعريف يكون بمظان طلبها، ومقتضى كلام عبد الباقي والشبراخيتي أو صريحه أنه متعلق بالتعريف. والله سبحانه أعلم. بكباب مسجد، بدل من قوله: بمظان طلبها، يعني أنه يعرفها بباب المسجد والجامع لا داخلهما للنهي عنه لخبر مسلم عنه صلى الله عليه وسلم (من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: (لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا

(1)

) وفي بعض النسخ: أو سوق عطف على باب أي يعرفها بالسوق ولو داخله.

في كل يومن أو ثلاثة، يعني أن التعريف يكون مرة في كل يومين أو مرة في كل ثلاثة من الأيام. ابن عبد السلام: ينبغي أن يكون أكثر من ذلك في أول تعريفه، وقوله: في كل يومين أو ثلاثة، رواه ابن نافع عن ملك. قاله التتائي. وقال الحطاب: قال في المدونة: وتعرف اللقطة حيث وجدها وعلى أبواب المساجد وحيث يظن أن ربها هناك أو خبره. انتهى. وفي سماع أشهب من كتاب اللقطة: وسأله يعني مالكا عن تعريف اللقطة في المساجد؟ فقال: لا أحب رفع الصوت في المساجد، وقد بلغني أن عمر بن الخطاب أمر أن تعرف اللقطة على أبواب المساجد، وأحب إلي أن لا تعرف في المساجد، ولو مشى هذا إلى الحلق في المساجد يخبرهم بالذي وجد لا يرفع صوته لم أر بذلك بأسا. انتهى. وقال ابن الحاجب: في الجوامع والساجد، قال في التوضيح: ظاهره أن التعريف يكون فيها ولعل ذلك مع خفض الصوت، ويحتمل أن يكون ذلك على حذف مضاف أي أبواب الجوامع والمساجد وهو أحسن لأنه كذلك في المدونة وغيرها. و (للحديث). انتهى. وفي التمهيد: التعريف عند جماعة الفقهاء فيما علمت لا يكون إلا في الأسواق، وأبواب المساجد، وموضع العامة، واجتماع الناس، انتهى.

بنفسه، يعني أنه يخير في تعريفها بين أن يعرفها بنفسه وبين أن يعرفها بمن يثق به كما قال: أو يعرفها بمن يثق به، أي بأمانته مثل نفسه ولو لإمام مأمون، أو يدفعها لمن يعرفها بأجرة منها إن لم يعرف مثله، أي لا يناسب أن يعرف عليها، فإن استوني بتعريفه مع وجوبه عليه حتى ضاعت ضمنها، وإن ضاعت ممن يثق به فلا ضمان عليه. قاله عبد الباقي. قال بناني: قال في

(1)

مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم الحديث 568.

ص: 584

التوضيح: ونحوه لابن عرفة عن اللخمي هو مخير بين أربع، بين أن يعرفها بنفسه، أو يدفعها إلى السلطان إذا كان عدلا، أو إلى مأمون يقوم مقامه، أو يستأجر منها من يعرفها، فجاز له أن يعرفها للحديث، وأجاز له في المدونة أن يدفعها إلى السلطان، وأجاز ابن القاسم في العتبية أن يدفعها إلى المأمون يرفها، وأجاز ابن شعبان أن يستأجر عليها. انتهى. ابن عرفة: الباجي: قال ابن القاسم: لو دفعها لغيره ليعرفها وهو مثله في الأمانة لم يضمنها لأن ربها لم يعينه لأمانته، بخلاف الوديعة؛ قال: وفي قبول قوله: ضاعت، دون يعين قولا ابن القاسم والقرينين. انتهى. وهو يقتضي اعتبار المثلية في الأمانة، وكلام اللخمي يقتضي عدم التقييد بالمثلية، وقوله: إن لم يعرف مثله، قال بناني عن ابن عرفة: تبع ابنُ الحاجب ابنَ شأس في قوله: ثم أجرة تعريفه منها إن كان لا يعرف مثله، وظاهر لفظ اللخمي أجاز ابن شعبان أن يستأجر عليها منها، أنه ولو كان ممن يلي ذلك إن لم يلتزمه. انتهى. وقال التتائي: بنفسه أو بمن يثق به ليدفعها له ليعرفها بغير أجرة، كما أجازه ابن القاسم في العتبية، أو بمن يثق به بأجرة منها. قاله ابن شعبان. وقيده اللخمي بأن يكون مثله لا يلي ذلك، وإلى تقييد اللخمي أشار بقوله: إن لم يعرف مثله، فإن كان مثله يلي ذلك بنفسه لم يستأجر عليها إلا من مال نفسه، لأنه بالتقاطه كالملتزم تعريفها وهذا ظاهر كلامه تبعا لابن الحاجب وابن شأس، وقال ابن عرفة: ظاهر لفظ اللخمي أجاز ابن شعبان أن يستأجر عليها منها أنه لو كان ممن يلي ذلك لم يلتزمه، وقيده اللخمي أيضا بأن لا يلتزم تعريفها ولم يذكره المص ولا الأمر الرابع الذي أجازه في المدونة، وزاده اللخمي على الثلاثة السابقة، وهو دفعها للإمام إن كان عدلا، وسأل المص لم جاز له هنا أن يستنيب ولم يجز في الوديعة. والمقصود فيهما الحفظ؟ وأجيب: بأن رب اللقطة لم يعين الملتقط للحفظ، بخلاف الودع، قال: ولا ضمان على الملتقط إذا دفعها لمن يرفها إذا ادعى ضياعها، ولو ادعى صاحبها أنه التقطها ليذهب بها فالقول لملتقطها أنه أخذها للتعريف. انتهى كلام التتائي. وقال الشبراخيتي: إن لم يعرف مثله فإن كان مثله يلي ذلك بنفسه لم يستأجر عليها إلا من مال نفسه لأنه بالتقاطه كالملتزم لتعريفها، وبقي وجه رابع ذكره في المدونة وزاده اللخمي على الثلاثة

ص: 585

السابقة، وهو: دفعها للإمام إن أمنت جهته، ويمكن دخول هذا في قوله: أو بمن يثق به، والجار هنا يصح تعلقه بتعريفه لاختلافه مع الأول معنى، ويصح جعله حالا من ضمير تعريفه. وبالبلدين إن وجدت بينهما، يعني أن الملتقط إذا وجد اللقطة بين البلدين فإنه يعرفها بكل واحد منهما، إذ لو عرفت بواحدة فقط احتمل كون صاحبها من الأخرى. قاله التتائي. وقال عبد الباقي: وعطف على مقدر بعد قوله: بمظان طلبها، وهو بالبلد الواحد، فقال: وبالبلدين إن وجدت بينهما لأنهما حينئذ من مظان طلبها، وقال الشبراخيتي: وتعرف بالبلدين أي بكل منهما إن وجدت بينهما إذ لو عرفت بواحد فقط احتمل كون صاحبها من الأخرى، قال في الحاشية: ظاهره ولو كانت أقرب إلى إحداهما من الأخرى، وينبغي إذا كانت أقرب إلى إحداهما من الأخرى قربا متأكدا بحيث يقطع القاطع بأنها من هذه دون الأخرى أنه إنما يعرفها في التي أقربُ القربَ المذكور دون الأخرى. انتهى. وقال المواق عن اللخمي: إن وجدت في طريق بين مدينتين عرفها في [تينك

(1)

] المَدِينَتَينِ وكذلك القريتان أو القرية والمدينة. انتهى. وقال الخرشي: وبالبلدين إن وجدت بينهما عطف على مقدر بعد قوله: بمظان طلبها، تقديره بمظان طلبها بالبلد الواحد وبالبلدين إن وجدت بينهما، فاقتضى أن المظان تطلب بها أيضا هنا.

ولا يذكر جنسها، يعني أن الملتقط يجب عليه أن لا يذكر جنس اللقطة، بل يذكرها بوصف عام كيا من ضاع له شيء، وأولى أن لا يذكر نوعها ولا صفتها، ومقتضى كلام اللخمي أن النهي للكراهة، لأنه قال: وأن لا يسمي أحسن، وفي عزو المص ذلك للخمي مع عدم تصريحه بالمنع إشارة لذلك، كذا قيل وفيه نظر إذ معنى قوله: أحسن أي أحسن القولين لا أن معناه استحب، والمص ذكر صيغة الاسم لاختياره القول بأنه لا يذكر جنسها، ولذا فهمه على أن معناه يجب عليه أن لا يذكر جنسها. قاله عبد الباقي. وقوله: ولا يذكر جنسها، هو مروي عن ملك، وروى عنه أيضا أنه يسمي جنسها، قال المواق عن اللخمي: اختلف عن ملك هل يسمي جنس اللقطة إذا أنشدها؟ وأن لا يسمي أحسن. انتهى. وإلى اختيار اللخمي عدم تسمية الجنس أشار بقوله:

(1)

في الأصل تلك والمثبت من المواق ج 8 ص 42 ط دار الكتب العلمية والتبصرة ج 7 ص 3195.

ص: 586

على المختار، قال المواق: روى ابن نافع عن ملك: ينبغي للذي يعرف اللقطة أن لا يُرِيَها أحدا ولا يسميها بعينها لكي يعني بذلك ليلا يأتي من يتحيل فيصفها بصفة المعرفة فيأخذها وليست له، وليعرفها بين اليومين والثلاثة، ولا يجب عليه أن يدع صنعة

(1)

ويعرفها. انتهى بالمعنى. وقال الشبراخيتي وعبد الباقي: المراد بالجنس الذي إذا سمعه السامع أو المبلغ فهم منه ما يأخذها به من الوصف. والله سبحانه أعلم.

ودفعت لحبر إن وجدت بقرية ذمة، الحبر بكسر الحاء أفصح من فتحها وهو العالم، وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنه يقال له: حبر هذه الأمة وبحرها، وفي المصباح: الحبر العالم وجمعه أحبار كحمل وأحمال والحبر بالفتح لغة فيه جمعه حبور كفلس وفلوس. قاله الرهوني. وقد يطلق على عالم المسلمين لقول أبي موسى الأشعري في حق ابن مسعود: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم. قاله عبد الباقي. ومعنى كلام المص أن اللقطة إذا وجدت بقرية ذمة أي ليس فيها إلا أهل الذمة كما في عبارتهم فإن الملتقط يدفعها للحبر أي العالم، ولا يجب عليه أن يعرفها هو ليلا يكون فيه خدمة لأهل الذمة، وظاهر المص سواء كان الحبر من المحل الذي وجدت فيه اللقطة أم لا، قال عبد الباقي: والظاهر أن الدفع للحبر مندوب له أي للملتقط إذ له أن يعرفها بنفسه ولم يجب عليه ليلا يكون فيه خدمة لأهل الذمة، فإن لم يكن لها حبر فانظر هل تدفع لعابدهم أو للسلطان. انتهى. وقال المواق عن ابن يونس: روى عن ابن القاسم في اللقطة توجد في قرية ليس فيها إلا أهل الذمة، قال: تدفع إلى أحبارهم، وقال الحطاب عند قوله: ودفعت لحبر إن وجدت بقرية ذمة هذه المسألة في سماع موسى من كتاب اللقطة، ونصه: وسئل ملك عن اللقطة توجد في قرية ليس فيها إلا أهل الذمة فقال: تدفع إلى أحبارهم، قال ابن رشد: هذا قول فيه نظر، إذ في الإمكان أن تكون لمسلم وإن كانت وجدت بين أهل الذمة فكان الاحتياط أن لا تدفع إلى أحبارهم إلا بعد التعريف لها، فإن دفعت إليهم بعد التعريف بها ثم جاء صاحبها غرموها له، وإنما كان يلزم أن تدفع ابتداء إلى أحبارهم لو تحقق أنها لأهل الذمة بيقين لا شك فيه، مع أن يقولوا: إن

(1)

في المواق ج 8 ص 42: صنعته.

ص: 587

من ديننا أن يكون حكم لقطة أهل ملتنا مصروفا إلينا، وأما إذا لم يتحقق ذلك فكان القياس أن لا تدفع إلى أحبارهم وتكون موقوفة أبدا. وبالله التوفيق. فتأمله. والله أعلم.

وله حبسها بعدها أو التصدق أو التملك، يعني أن الملتقط إذا عرف اللقطة سنة ولم يعرف ربها فإنه يخير بين أحد أمور ثلاثة، إن شاء حبسها إلى أن يأتي ربها، وإن شاء تصدق بها عن ربها، وإن شاء تملكها، ويدخل فيه ما إذا تصدق بها عن نفسه، ومحل التخيير إذا كانت بيد غير الإمام وإلا فليس له إلا حبسها أو بيعها لصاحبها ووضع ثمنها في بيت المال حتى يأتي ربها، وليس للإمام التصدق بها ولا التملك لها، ولعل الفرق بينه وبين غيره مشقة خلاص ما في ذمته بخلاف غيره، ولذلك لا يجوز لرب الآبق بيعه إذا وجده الإمام حتى يقبضه منه، ويجوز بيعه إذا وجده غيره. قاله الخرشي. ونحوه لعبد الباقي والشبراخيتي، وقال التتائي: أو التملك لها أي يصيرها ملكا له يتصرف فيها بما شاء، وما ذكره من التخيير صرح به الجلاب ومثله لابن الحاجب، وقيل: يكره التملك وهو ظاهرها. انتهى. وقال المواق: قال اللخمي: ثبت في الحديث (عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها

(1)

) وفي الصحيح: (فاستنفقها

(2)

) وفي النساءي: (فإن لم يأت صاحبها فهو مال الله يؤتيه من يشاء

(3)

) وتضمنت هذه الأحاديث أن الحكم فيها بعد الحوز خلافه قبله وله أن يتصرف فيها لنفسه، والذي يقتضيه قول ابن القاسم في المدونة أن له أن يستنفع بها غنيا كان أو فقيرا، وقال ملك: في الذي اشترى كبة الخيوط من المغنم بدرهم فوجد فيها صليب ذهب فيه سبعون مثقالا إن له أن يحبسه لنفسه، قال ابن رشد: لأنه لما لم يمكنه قسمة ذلك على الجيش لافتراقه صار حكمه حكم اللقطة بعد التعريف واليأس من وجود صاحبها في جواز أكلها لملتقطها لقول النبي صلى الله عليه وسلم (فشأنك بها)، لأن مالكا إنما كره له أكلها بعد التعريف مخافة أن يأتي صاحبها فيجده عديما لا شيء له، ولو علم أنه لا يجد صاحبها أبدا لما كره أكلها، وافتراق الجيش في هذه المسألة كاليأس من وجود صاحبها

(1)

البخاري، كتاب اللقطة، رقم الحديث 2429 - مسلم، كتاب اللقطة، رقم الحديث 1722.

(2)

البخاري، كتاب اللقطة، رقم الحديث 2427 ومسلم، كتاب اللقطة، رقم الحديث 1722.

(3)

سنن النسائي الكبرى، رقم الحديث 5811.

ص: 588

كاللقطة، وهذا في الأربعة الأخماس الواجبة للجيش، وأما الخمس فواجب عليه أن يضعه في مواضع الأخماس، وقاس في نوازله على هذا حكم مستغرق الذمة بالحرام يتوب وما بيده ليس عين المغصوب وأرباب متاعه مجهولون، قال: حكم ما بيده حكم اللقطة بعد التعريف، وحكم كبة الخيوط، قال: بل هذا في الجواز أحرى لأن أهل تبعاته حقهم في ذمته لا في عين ما بيده بخلاف اللقطة. انتهى.

تنبيه: قال الحطاب: قال في المدونة: وأكره أن يتصدق بها قبل السنة إلا أن يكون الشيء التافه. انتهى. قال أبو الحسن: الكراهة هنا على المنع لأن الشرع لم يأذن له انتهى.

تنبيه قال النووي في شرح مسلم: وفي جميع أحاديث الباب دليل على أن التقاط اللقطة وتملكها لا يفتقر إلى حكم حاكم ولا إذن، وهذا مُجْمَعٌ عليه، وفيها أنه لا فرق بين الغني والفقير وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور. والله أعلم. انتهى. وفي التمهيد: أجمعوا على أن للفقير أن يأكلها بعد الحول وعليه الضمان، واختلفوا في الغني فقال ملك: أحب إلي أن يتصدق بها بعد الحول ويضمنها، وقال ابن وهب: قلت لملك: ما شأنه بها؟ قال: إن شاء أمسكها، وإن شاء تصدق بها، وإن شاء استنفقها، وإن جاء صاحبها أداها إليه. وقال الشافعي: يأكل اللقطة الغني والفقير بعد حول. انتهى.

ولو بمكة، يعني أن التخيير في هذه الأمور الثلاثة لا فرق فيه بين مكة وغيرها من سائر البلاد، فإذا التقط ملتقط لقطة بمكة وعرفها سنة فإنه إن شاء حبسها لربها، وإن شاء تصدق بها، وإن شاء تملكها، فيتصرف فيها من التصدق بها عن نفسه وغير ذلك من التصرفات، وما ذكره المص من أن لقطة مكة كغيرها لم يحك المازري عن المذهب غيره، وعزاه عياض لملك وأصحابه، ورد المص بلو القول بأنه يعرفها أبدا لقوله صلى الله عليه وسلم: لا تحل ساقطتها إلا لمنشد. قاله الباجي وابن رشد عن المذهب. ولفظ ابن رشد أقوى منه، ونصه في المقدمات: لقطة مكة لا يحل استنفاقها بإجماع، وعليه أن يعرفها أبدا، قال ابن عبد السلام: وبهذا أيضا قال اللخمي وابن العربي في القبس. ابن عرفة: لم يذكره اللخمي على أنه المذهب بل على أنه اختاره بعد أن ذكر القول الأول عن ابن القصار، وكذا ابن العربي إنما اختار ما ذكر بعد أن ذكر الأول لملك، وقال

ص: 589

تكلم علماؤنا في الاحتجاج لملك والانفصال عن الحديث ولا أرى مخالفة الحديث، ولا تأويل ما لا يقبل، وأجابه ابن عرفة بقاعدة ملك في تقديمه العمل على الحديث الصحيح حسبما ذكره ابن يونس في كتاب الأقضية، ودل عليه استقراء المذهب. انتهى المراد منه. انظر حاشية الشيخ بناني. قال: وبما ذكر تعلم أنه كان على المص أن لو عبر بخلاف إشارة إلى تشهير كل من القولين. انتهى. وقال عبد الباقي: ولو بمكة، خلافا لقول الباجي كالشافعي: لا تستباح لقطتها بعد سنة، ويجب تعريفها أبدا لخبر: (لا تحل ساقطتها إلا لمنشد

(1)

). وأجاب: المشهور بأن تخصيصه عليه الصلاة والسلام بمكة لوجود اللقطة فيها كثيرا في الحرم بسبب اجتماع الناس فيه من كل فج للنسك، والغالب أن الحاج من أهل الآفاق لا يعود لطلب اللقطة فكأن الآخذ فيها آخذ لنفسه، فخص عليه الصلاة والسلام لهذا المعنى.

ضامنا فيهما، يعني أن الملتقط إذا تصدق باللقطة عن ربها أو تملكها فإنه يضمنها لربها حيث علمه. فقوله: فيهما، أي في مسألتي التصدق بها عن ربها والتملك لها، وفهم منه أنه في مسألة حبسها لربها لا يضمنها وهو كذلك، قال المواق عن الجلاب: إن مضت السنة ولم يأت طالبها فهو مخير إن شاء أنفقها أو تصدق بها وضمنها أو حبسها ليأتي ربها. وفي البيان: وقد اختلف هل للملتقط أن ينفق اللقطة بعد التعريف أم لا؟ على أربعة أقوال، أحدها: أنه ليس له أن يستنفقها غنيا كان أو فقيرا وهو مذهب ملك. والثاني: أن له أن يستنفقها غنيا كان أو فقيرا على ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم (فشأنك بها) فإن جاء صاحبها غرمها له وهو مذهب الشافعي. والثالث: أنه ليس له أن يستنفقها إلا أن يحتاج إليها وهو قول ابن وهب ومذهب أبي حنيفة وسائر أصحابه. والرابع: أنه ليس له أن يستنفقها إلا أن يكون له بها وفاء وبالله التوفيق. كنية أخذها قبلها، أي قبل التقاطها بالفعل ثم أخذها، أي أن الملتقط إذا رأى اللقطة فقبل أن يضع يده عليها نوى أن يتملكها، ثم وضع يده عليها وحازها فتلفت منه أو غصبت، فإنه يضمنها لأنه بتلك النية مع وضع يده صار كالغاصب، فيضمن السماوي، بهذا قرره غير واحد،

(1)

البخاري، كتاب اللقطة، رقم الحديث 2433.

ص: 590

وقرر أيضا على أن الضمير في قبلها عائد على السنة، أي أن الملتقط إذا نوى أخذ اللقطة لنفسه قبل مضي سنة فإنه يضمنها بالسماوي، واعترضه الشارح بأن النية بمجردها لا تنقل، وقد قال أبو الحسن: وهل توجب النية بمجردها شيئا أم لا؟ المشهور أنها لا توجب شيئا لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما لم تعمل أو تتكلم) واعترضه الحطاب بأن أبا الحسن لم يقل ذلك هنا، وأجاب مصطفى: بأن أبا الحسن لما أتى به على سبيل العموم صح استدلال الشارح به هنا، واختار الحطاب عود الضمير للسنة معتمدا بحث ابن عرفة مع ابن عبد السلام، وذلك أن ابن الحاجب قال وهي أمانة ما لم ينو اختزالها فتصير كالمغصوبة، فقال ابن عبد السلام: فهذا بين إن كانت هذه النية حين التقطها، فإن حدثت بعد الالتقاط جرى ذلك على تبديل النية مع بقاء اليد. انتهى. ابن عرفة: يرد بأن القول بلغو أثر النية إنما هو مع بقاء اليد كما كانت لا مع تغير بقائها عما كانت بوصف مناسب لتأثير النية، ويد الملتقط قبل نية الاغتيال كانت مقرونة بالتعريف أو العزم عليه، وبعدها مقرونة بنقيض ذلك، فصار ذلك كالفعل، فيجب الضمان اتفاقا. انتهى. قال مصطفى: والظاهر ما قاله ابن عبد السلام، وهذا من ابن عرفة تحامل. انتهى. قال بناني: بل الظاهر ما لابن عرفة والحطاب لأن نية الاغتيال هنا لم تتجرد بل قارنها الكف عن التعريف، ولا حجة لمصطفى فيما نقله بعده عن ابن عرفة لأن موضوعه في نية تملكها بعد السنة، وبمجرد مرور السنة سقط عنه التعريف، فتمسكه به غفلة واضحة. انتهى. وقال الشبراخيتي: كنية أخذها، إن جعلت الضمير راجعا إلى اللقطة وقدرت مضافا أي قبل التقاطها فلا إشكال، وهذا لا يخالف أحد في أنه ضامن، وإن جعلته راجعا إلى السنة فتمشيه على بحث ابن عرفة أنه لا يضمن. انتهى المراد منه. وقد مر ذلك مستوفى.

وردها بعد أخذها للحفظ، يعني أن الملتقط إذا أخذ اللقطة ليحفظها أي ليعرفها، وكذا لو أخذها لا ليعرفها كأخذها ليسأل جماعة مثلا هل هي لهم أم لا؟ ثم إنه ردها إلى موضعها بَعْدَ بُعْدٍ فإنه يضمنها، وقوله: وردها عطف على نية من قوله: كنية أخذها. إلا بقرب فتأويلان، يعني أنه إذا أخذها ليحفظها وردها عن قرب فإنه جرى في ضمانه تأويلان، قيل: يضمن، وقيل: لا يضمن. قال بناني: اعلم أن الأقسام ثلاثة، إما أن يأخذها بنية التعريف، وإما بنية الاغتيال، وإما بنية

ص: 591

سؤال مُعَيّنٍ ثم يرد، ففي الثالث يفرق بين ردها ببعد فيضمن وبقرب فلا يضمن، وفي الثاني ردها واجب ولا ضمان به مطلقا، وفي الأول يضمن إن ردها ببعد وفي القرب تأويلان، الضمان لابن رشد، وعدمه للخمي، كما في نقل أبي الحسن. انظره في الحطاب. انتهى. وقول المص: للحفظ، احترازا مما إذا أخذها لا بنية الحفظ ولا بنية اغتيالها فإنه لا يضمن إذا ردها بالقرب بلا خلاف، ويضمن إذا ردها بعد البعد، قال في المقدمات: واجد اللقطة على ثلاثة أوجه، أحدها: أن يأخذها ولا يريد التقاطها ولا اغتيالها. والثاني: أن يأخذها ملتقطا لها. والثالث: أن يأخذها مغتالا لها. فأما الأول مثل أن يجد ثوبا وهو يظنه لقوم بين يديه ليسألهم عنه، فهذا إن لم يعرفوه ولا ادَّعَوْه كان له أن يرده حيث وجده ولا ضمان عليه فيه. قاله ابن القاسم في المدونة، ورواه ابن وهب عن ملك، لأنه لم يلتزم فيه حكم اللقطة ولا تعدى عليه، وهذا إذا ردها بالقرب، وأما إن ردها بعد طول فهو ضامن. انتهى. انظر الحطاب. وقِسْمَا الاغتيال والتعريف هما المتقدمان في كلام بناني.

تنبيه: قال في كتاب الزكاة من التوضيح: وأما ملتقط اللقطة فلا زكاة عليه إن لم ينو إمساكها لنفسه، وإن نوى ذلك ولم يتصرف ففي ضمانه قولان، والقول بعدم ضمانه لابن القاسم في المجموعة، وإن تصرف فيها ضمنها بلا خلاف، ونقله ابن عبد السلام وابن عرفة ونصه وفي صَيْرُورتها دينا على ملتقطها لإرادة أكلها أو لتحريكه لها، نقلا الشيخ عن سحنون مع المغيرة، وعن ابن القاسم في المجموعة، وعزى ابن رشد الأول لرواية ابن القاسم وابن وهب عن ملك. نقله الحطاب. وفي المدونة: وإن ضاعت اللقطة من الملتقط لم يضمن. ابن يونس: قال أشهب وابن نافع: وعليه اليمين، ومذهب الكتاب في هذا أنه لا يمين عليه إلا أن يتهم. وقاله ابن رشد. ثم قال في المدونة إثر ما تقدم: وإن قال له ربها: أخذتها لتذهب بها. وقال هو: بل لأعَرِّفها، صدق الملتقط. ابن يونس: قال أشهب: بلا يمين، وقال ابن رشد في المقدمات: ولا يعرف الوجه الذي التقطها إليه إلا من جهته، فإن ادعى تلفها وادعى أنه أخذها ليحرزها على صاحبها فهو مصدق دون يمين إلا أن يتهم، وسواء أشهد حين التقطها أو لم يشهد على مذهب ملك، لأن الإشهاد

ص: 592

مستحب. انتهى. وقال في التوضيح: ولا يلزم الإشهاد عليها حال التقاطها خلافا لبعض الحنفية. انتهى. قاله الحطاب.

وذو الرق كذلك، يعني أن ذا الرق إذا التقط كذلك أي كالحر في جميع ما تقدم من وجوب الالتقاط وحرمته وكراهته ووجوب التعريف وغير ذلك، كان قنا أو ذا شائبة، وليس لسيد ذي الرق منعه منه، ولا يخالف هذا قوله: وليس لمكاتب لخ، إذ هو في التقاط اللقيط دونها، إذ تعريفها ممكن مع سعيه في حوائج سيده، وشمل التشبيه أيضا ضمانه لها في ذمته بعد السنة في التصدق والتملك، وليس لسيده إسقاط الضمان عنه، بخلاف الوديعة فله إسقاط ضمانها عن ذمته إذا تلفت حيث لم يأذن له في أخذها، لأن ربها سلطه عليها، بخلاف اللقطة. قاله غير واحد. وقال التتائي: ولسيده نزعها وإيقافها بيد عدل خوف تلفها أو تصرف العبد فيها وإن كان غير مأمون كان أبين. انتهى. ونحوه في الحطاب عن اللخمي.

وقبل السنة في رقبته، يعني أن العبد إذا استهلك اللقطة قبل تمام السنة فإنها تكون جناية في رقبته، بخلاف ما لو استهلكها بعد السنة فإنها في ذمته كما علمت، وإذا كانت جناية في رقبته في استهلاكه لها قبل السنة فإنه يخير سيده بين إسلامه وفدائه، قال في المدونة: فإن استهلكها قبل السنة كانت في رقبته، وإن استهلكها بعد السنة لم تكن إلا في ذمته. ابن يونس: ولم يكن لمولاه أن يسقطها عنه لأن صاحبها لم يسلط يده عليها ولولا الشبهة لكانت في رقبته، قال ابن القاسم: وإنما جعلها بعد السنة في ذمته لقوله عليه الصلاة والسلام: (عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها). انتهى. وقوله: قبل السنة في رقبته أي حيث استهلكها كما قررت، بخلاف ما لو ضاعت بلا سبب منه. قاله الرهوني. وقال الحطاب: قال اللخمي: قال في النوادر: قال ملك: في العبد يستهلك اللقطة قبل السنة إنها في رقبته، قال ابن القاسم وأشهب ومطرف وابن الماجشون وأصبغ: سواء أكلها أو أكل ثمنها أو تصدق بها أو وهبها. قال أشهب والمغيرة: وكذلك المدبر فإن أسلم سيده خدمته فيها ثم عاد إلى ربه قبل استيفاء ربها قيمتها من خدمته عتق في ثلث سيده واتبع بما بقي. قال أشهب: وإن كان مكاتبا فهي في رقبته! ما أن يؤدي قيمتها وإلا عجز ثم خير ربه في إسلامه فيها عبدا أو يفديه ويبقى له عبدا، وإن استهلكها بعد السنة

ص: 593

فهي في ذمته، وكذلك المدبر وأم الولد، وإن استهلكتها أم الولد قبل السنة فكالجناية يضمن سيدها الأقل من قيمتها وقيمة اللقطة. انتهى.

وله أكل ما يفسد، يعني أن الملتقط حرا كان أو عبدا له أكل ما يفسد بالتأخير كالفاكهة واللحم والخضر. ولا ضمان عليه فيه إذا وجد رَبّه كان له بال أم لا في عامر أو غامر حيث لم يكن بقرية، بل ولو كان بقرية، وقوله: ولو بقرية، قال ابن رشد: فإن أكله لم يضمنه لربه كالشاة يجدها في الفلاة إلا أن يجده في غير فيفاء فإنه يبيعه ويعرفه، وقال التتائي: وله أي الملتقط أكل ما يفسد إن تأخر كالفاكهة واللحم كان له بال أو لا، وإن كان بقرية ولا ضمان عليه على الأصح والتصدق به أولى وأكله أولى من طرحه. وقال الشبراخيتي: وله أي الملتقط أكل ما يفسد إن تأخر كالفاكهة والخضراوات واللحم قال ابن غازي في بعض النسخ: وله أكل ما يفسد ولا ضمان وهو جيد. قال الحطاب: ظاهره من غير تعريف أصلا، وهو ظاهر كلام ابن رشد وابن الحاجب، وفي المدونة ما يدل على التعريف لقولها: ولم يؤقت ملك في التعريف به وقتا، وظاهر كلام المص كان له ثمن أو لا وليس كذلك، فقد صرح ابن رشد بأنه إذا كان له ثمن بيع ووقف ثمنه. قال الزرقاني: وينبغي الاسْتيناء بأكله شيئا يسيرا لاحتمال إتيان صاحبه. انتهى. وإن كان بقرية انظر الشرح. وقال في الحاشية: قوله: وله أكل ما يفسد، ظاهره من غير تعريف أصلا وهو ظاهر كلام ابن رشد وابن الحاجب، وما يؤخذ من ظاهر المدونة ضعيف، وظاهر كلام المؤلف كان له ثمن أم لا، وليس كذلك، فقد صرح ابن رشد بأنه إذا كان له ثمن أي سواء كان في الفلاة أو بالبلد بيع ووقف ثمنه، وقول الشيخ عبد الرحمن في القسمين: لا ضمان أي إذا لم يكن له ثمن، وهذا حاصل الرواية، والفرق بينهما إنما هو في جواز الإقدام وعدمه. انتهى. وقال عبد الباقي: وله أكل ما يفسد ولو بقرية إن لم يكن له ثمن وإلا أكله وضمن ثمنه، ظاهر المص من غير تعريف وما يؤخذ من المدونة من التعريف ضعيف، وأما ما لا يفسد فليس له أكله، فإن أكله ضمنه إن كان له ثمن، وقول الشيخ عبد الرحمن في القسمين: لا ضمان أي إذا لم يكن له ثمن، وقال بناني: قول الزرقاني إن لم يكن له ثمن، بهذا قيده الحطاب نقلا عن ابن رشد قائلا: صرح ابن رشد بأنه إن كان له ثمن بيع ووقف ثمنه، ذكره في أول سماع عيسى من كتاب الضحايا، واعترضه مصطفى

ص: 594

بأن صاحب المقدمات أطلق عدم الضمان، ونسبه لظاهر المدونة، ونصها على نقل ابن عرفة: ما كثر ويخشى تلفه كشاة الفيفاء والطعام الذي لا يبقى لواجده أكلُه ولا شيء عليه، ولو وجده بالحاضرة وحيث الناس ففي غرمه ولو تصدق به ونفيه ولو أكله ثالثها إن أكله، الأول لظاهر قول أشهب، والثاني لظاهر قولها، والثالث لابن حبيب. انتهى. فأنت تراه فرض الخلاف في الكثير يوجد في الحاضرة والغالب أن له الثمن. قال مصطفى: وما نسبه الحطاب لابن رشد ذكره في كتاب الضحايا على سبيل الاستطراد غير معزو، فيحمل على قول أشهب. فتأمله. انتهى. وقال الرهوني: قول الزرقاني: وما يؤخذ من ظاهر المدونة من التعريف ضعيف سلمه التاودي والبناني وفيه نظر، فقد جزم أبو علي بأنه لا بد من التعريف في المدة التي لا يتغير لمثلها، وجلب أبو علي من النقول الدالة على ما قال ما فيه كفاية. والحاصل من كلام الرهوني هنا أن الطعام المذكور إذا لم يكن في محل يمكن بيعه فيه فإنه يوكل ولا ضمان كثر أو قل وإلا فكذلك على قول ملك وظاهرها، ولكن الراجح هو بيعه والتعريف بثمنه، فقول الحطاب عن ابن رشد: يباع ويوقف ثمنه هو الراجح خلافا للْمُصْطَفَى ومن تبعه ونظر في كلام المصطفى. والله تعالى أعلم.

وشاة بفيفاء، يعني أن من وجد شاة بفيفاء فذبحها فيها وأكلها فإنه لا ضمان عليه على المشهور، وقوله: بفيفاء، قال الحطاب: يعني لا عمارة فيها لكونه يخشى عليها السباع، وترك المؤلف شرطا آخر ذكره ابن الحاجب، وهو كونه يعسر حملها، وأقَرَّهُ في التوضيح، فقال ابن عبد السلام: والثاني لم يذكره في المدونة، وظاهر كلام المؤلف يعني ابن الحاجب أنه لو لم يعسر حملها للزمه حملها ولم يجز له أن يأكلها. انتهى. وقال الجلاب: من وجد شاة في الصحراء فليضمها إلى غنمه إن كان معه غنم أو إلى قرية إن كان بالقرب منها، فإن لم يجد ما يضمها إليه فلا بأس أن يأكلها. انتهى. وإذا أكلها بالفيفاء فلا ضمان عليه فيها. قاله في المدونة. وقوله: بفيفاء، احترز به مما لو وجدها في القرية أو بقرب العمران فإن عليه أن يعرفها، قال في المدونة: ومن وجد ضالة الغنم بقرب العمران عرف بها في أقرب العمران إليها ولا يأكلها، وإن كانت في فلوات الأرض والمهامه أكلها ولا يعرف بها ولا يضمن لربها شيئا. انتهى. وفي التوضيح: فلو ذبحها في الفلاة ثم أتى بلحمها أكله غنيا كان أو فقيرا. أصبغ: ويصير لحمها وجلدها مالا من

ص: 595

ماله ولا ضمان عليه في ذلك إلا أن يأتي ربها وهي في يديه فيكون أحق بها، وإن أتى بالشاة من الفلاة إلى العمران فلها حكم اللقطة يعرفها اللخمي يريد ويعطيه أجرة نقلها. انتهى. وقوله: شاة، عطف على ما، فيجوز جرها ونصبها.

فرع: قال ابن يونس: قال سحنون: فيمن وجد شاة اختلطت بغنمه فهي كاللقطة يتصدق بها أو بثمنها يريد بعد السنة فإن جاء ربها ضمنها له. انتهى. نقله الحطاب. وقال المواق: ونص المدونة: من وجد ضالة الغنم بقرب العمران عرف بها في أقرب القرى إليه ولا يأكلها، وإن كانت في فلوات الأرض والمهامه أكلها ولا يعرف ولا يضمن لربها شيئا. وقال عبد الباقي: وشاة بفيفاء ولا ضمان عليه سواء أكلها في الصحراء أو في العمران، لكن إن حملها مذكاة أو طعاما وجده بفيفاء إلى العمران ووجد ربه فهو أحق به ويدفع له أجرة حمله، فإن أتى بها حية إلى العمران فعليه تعريفها بنفسه أو من يثق به لأنها صارت كاللقطة، كما إذا وجدها بقرب العمارة أو اختلطت بغنمه في الرعي. انتهى. قوله: سواء أكلها في الصحراء أو في العمران، قال بناني: ظاهره ولو أتى بها العمران حية وليس كذلك بل يعرفها كما ذكره بعد. انتهى. وقال التتائي: وله أكل شاة وجدها بفيفاء كصحراء ومواضع لا عمارة بها، وله التصدق بها ولا ضمان عليه فيهما، وفي الحديث لما سئل صلى الله عليه وسلم عن ضالة الغنم قال: (إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب

(1)

) ومفهوم الفيفاء أنه لو وجدها بالعمارة أو قربها عرفها ولا يأكلها وهو كذلك، وأما لو أتى بلحمها فكماله إلا أن يأتي ربها وهو بيده فيكون أحقَّ به، قال في المدونة: ومن وجد ضالة الغنم بقرب العمران عرفها في أقرب القرى إليه ولا يأكلها، وإن كانت في فلوات الأرض أكلها ولا يعرفها ولا يضمن لربها شيئا الطحاوي: لم يوافق أحد مالكا على قوله إن أكلها في موضع خوف لا يضمنها انتهى ولا يتعقب ملك بانفراده بذلك لأنه مجتهد. انتهى. وفي الجلاب: فلا بأس أن يأكلها ويضمنها، وقيل: لا ضمان عليه. انتهى.

(1)

البخاري، كتاب اللقطة، رقم الحديث 2427 - مسلم، كتاب اللقطة، رقم الحديث 1722.

ص: 596

وكبقر بمحل خوف، يعني أن البقر إذا وجدها بمحل يخاف عليها من السباع أو من الجوع فحكمها حينئذ حكم الشاة في الفيفاء فله أن يأكلها حينئذ ولا ضمان عليه فيها كالشاة، وكذا إذا خيف عليها من الناس هذا معنى التشبيه. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: كبقر في محل خوف من سباع ونحوها من جوع أو عطش أو من الناس وجدت بفيفاء فله أكلها ولا ضمان عليه إن عسر سوقها للعمران وإلا لم يأكلها، فإن أكلها ضمن. انتهى.

وإلا تكن البقر بمحل خوف بل كانت بمحل أمن في فيفاء تركت، أي فإنها لا يتعرض لها وتترك في مكانها إلى أن يأتي صاحبها. قال الشبراخيتي: كبقر إن كانت بمحل خوف تشبيه في أن له أن يأكلها ولا ضمان عليه، أي أن البقر إذا كانت في الفيفاء وخيف عليها من سباع ونحوها أو جوع أو عطش فإن لواجدها أكلها ولا ضمان عليه، وكذا إذا خيف عليها من الناس كما ذكره الزرقاني، فالمراد أنها بمحل خوف في الفيفاء، فيخرج ما إذا كانت بمحل خوف في العمران فإنها تصير لقطة، ثم إن كلام المص مقيد بما إذا عسر الإتيان بها، وأما لو تيسر سوقها للحاضرة فليس له أكلها قطعا. انتهى. وقال عبد الباقي: فإن كانت بمحل خوف من الناس مثلا في العمران فلقطة.

كإبل، يعني أن الإبل لا تلتقط كانت بمحل أمن أم لا. وإن تعدي عليها وآخذت عرفت سنة، ثم إن لم يوجد ربها تركت بمحلها الذي أخذت منه أي ردت له. قاله في المدونة. وليس له أكلها ولا بيعها ولا تملكها لما في الخبر: (دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وترعى الشجر

(1)

). قال في التنبيهات حذاؤها أخفافها لا فيها من الصلابة فأشبهت الحذاء الذي هو النعل، وسقاؤها كرشها لكثرة ما تشرب فيه من الماء تكتفي به الأيام فأشبه السقاء الذي هو القربة، وكلاهما من مجاز التشبيه. قال في الحاشية: قوله: وإن أخذت عرفت راجع للجميع، أي وإن أخذت الحيوانات السابقة وهي الشاة إذا حملها للعمران حية والبقر بمحل خوف أو أمن مع العصيان في الأمن والإبل مع العصيان مطلقا، وإنما عصى فيما ذكر لأنه يضيعها على ربها لأنه قد يطلبها

(1)

البخاري، كتاب المعلم، رقم الحديث 91.

ص: 597

في محلها فلا يجدها فيه. انتهى. قاله الشبراخيتي. وقال المواق عن ابن القاسم: وإن وجد ضالة الإبل في الفلاة تركها فإن أخذها عرفها سنة وليس له أكلها ولا بيعها، فإن لم يجد ربها فليخلها في الموضع الذي وجدها فيه. انتهى. وقال الخرشي: كإبل لخ، وهذا ما لم يخف عليها من خائن، فإن خيف عليها منه فيجب لقطها من هذه الحيثية، فقولهم: ولا يراعى خوف أي خوف هلاك من جوع أو عطش أو سباع للحديث، أما خوف الخائن فهو موجب للالتقاط ونحوه لعبد الباقي. وقال بناني: كإبل ظاهره وجدها في الصحراء أو في العمران. ابن عبد السلام: وهو أسعد بظاهر المذهب، وقول الزرقاني: إن لم يخف عليها خائن لخ، فيه نظر بل مذهب المدونة تركها مطلقا وفي التوضيح: قال في المقدمات بعد أن ذكر التقاط الإبل، قيل: إن ذلك في جميع الأزمان وهو ظاهر قول ملك في المدونة والعتبية، وقيل: هو خاص بزمن العدل وصلاح الناس، وأما في الزمن الذي فسد فالحكم فيه أن تؤخذ وتُعَرَّف، فإن لم تُعرْف بيعت ووقف ثمنها لصاحبها، فإن أيس منه تصدق به كما فعل عثمان رضى الله عنه لما دخل الناس في زمنه الفساد، وقد روي ذلك عن ملك. انتهى. ابن عبد السلام: وصحيح مذهب ملك عدم التقاطها مطلقا. انتهى. وما ذكره الزرقاني من أن خوف السباع لا يعتبر كخوف الجوع والعطش فيه نظر فإن الذي ذكره ابن رشد واقتصر عليه ابن عرفة والتوضيح والحطاب هو قوله في المقدمات، واختلف إن كانت الإبل بعيدة من العمران حيث يخاف عليها السباع، فقيل: إنها في حكم الغنم لواجدها أكلها، وقيل: إنها تؤخذ فتعرف إذ لا مشقة في جلبها وهما متفقان على عدم تركها حينئذ. انتهى. وقال التتائي: وظاهر كلامه يعني المصنف أنها لا تلتقط ولو كانت بموضع بعيد من العمران يخاف عليها السباع وهو كذلك على أحد قولين حكاهما ابن رشد، والآخر تؤخذ وتعرف، أو كانت بالعمران وهو كذلك على أحد القولين لسهولة وجدان ربها لها، والآخر تلتقط إذ لا تجد ما تأكل غالبا فتهلك. ابن عبد السلام: وصميم مذهب ملك عدم التقاطها، وظاهره يعني المص أن ردَّها لا يحتاج لإشهاد وهو كذلك، يعني في غير المتهم لأنه لا تلحقه اليمين إن لم يشهد كما في ابن رشد، وقيل: يستحب رفعا للتهمة. انتهى. وقال الحطاب: كإبل، ظاهره أن هذا في جميع الأزمان، قال في المقدمات: وهو ظاهر قول ملك في المدونة وفي سماع أشهب من

ص: 598

العتبية، وقيل: هو خاص بزمان العدل وصلاح الناس لخ ما مر، ثم قال: قال في التوضيح: قال ابن عبد السلام: وصميم مذهب ملك عدم التقاطها مطلقا. انتهى. وظاهره أيضا سواء كانت بموضع يخاف عليها السباع أم لا [أنها

(1)

] لا تؤخذ، وقال ابن عبد السلام: واختلف هل تلتقط حيث لا يومن عليها السباع أم لا؟ وظاهره أيضا سواء كانت في العمران أو في الصحراء لإطلاقه، قال ابن عبد السلام: والأول أسعد بظاهر المذهب. انتهى. وقال في البيان: قال ابن رشد: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ضالة الإبل (ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها

(2)

) فالاختيار فيها أن لا تؤخذ، فإن أخذت عرفت فإن لم تعرف ردت حيث وجدت، جاء ذلك عن عمر بن الخطاب، وأخذ به ملك في أحد قوليه وهو قوله ههنا وفي المدونة، وقيل: إنها تؤخذ وتعرف فإن لم تعرف بيعت ووقف ثمنها لصاحبها، فإن لم يأت وأيس منه تصدق به عنه، جاء ذلك عن عثمان بن عفان، وروي ذلك عن ملك أيضا، قال: من وجد بعيرا ضالا فليأت به الإمام يبيعه ويجعل ثمنه في بيت المال، يريد بعد أن يعرف، وقال في مدونة أشهب: يوقف ثمنه حتى يأتي ربه، وإن كان الإمام غير عدل خلي حيث وجد، وإنما اختلف الحكم في ذلك عن عمر وعثمان لاختلاف الأزمان لما ظهر من فساد الناس في زمن عثمان، وكذلك ينبغي أن يكون الحكم فيها اليوم إن كان الإمام عدلا، وإن كان غير عدل يخشى عليها إن أخذت لتعرف تركت ولم تؤخذ، وإن كان إنما يخشى على ثمنها إن بيعت أخذت فعرفت وإن لم تعرف ردت حيث وجدت، واختلف في الإبل الضوال إن كانت بعيدة من العمران يخاف عليها السباع، فقيل في حكم الشاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر العلة التي من أجلها فرق بين ضالة الغنم وضالة الإبل في قوله في الشاة (هي لك أو لأخيك أو للذئب)، وقيل: توخذ وتوقف إذ لا مشقة في جلبها.

مسألة: قال في العتبية: وسألته عمن أخذ ضالة فباعها وتصدق بثمنها وجاء صاحبها أتغرمه؟ فقال: لم أقل في هذا شيئا ولو جُوِّزَ هذا للناس لعمد الفاجر فباعها وأكل ثمنها، ثم قال: تصدقت

(1)

في الحطاب ج 6 ص 285 ط دار الرضوان: لأنها.

(2)

البخاري كتاب اللقطة، رقم الحديث 2429 - مسلم، كتاب اللقطة، رقم الحديث 1722.

ص: 599

بها. قال محمد بن رشد: أما الفاجر فلا يصدق أنه تصدق بها ويلزمه غرمها، وإنما اختلف في غير الفاجر فقيل: إن عليه الغرم لصاحبها إذا جاء إلا أن يشاء أن ينزل على أجرها كلقطة الدنانير والدراهم والعروض، وحكى ابن حبيب في الواضحة عن ملك من رواية مطرف عنه إذا وجد الشاة في العمران فعرفها فلم يجد صاحبها فأكلها أو تصدق بها أنَّه يغرم لصاحبها قيمتها يوم أكلها أو تصدق بها إلا أن يشاء أن يجيز الصدقة ويكون له أجرها وهو قول سحنون في نوازله من هذا الكتاب، وقيل: إنه لا ضمان عليه في الواشي إن تصدق بها أو بأثمانها بعد بلوغ ما عليه من التعريف بخلاف لقطة الدنانير والدراهم والعروض إذ لا يقدر على حبسها لعلفها، وهو قول ملك في الرسم الذي بعد هذا، ومثله في كتاب ابن عبد الحكم عنه، واختلف قول ملك أيضا هل له أن يأكلها بعد التعريف؟ فقال مرة: إن له أن يأكلها ويضمنها لصاحبها إن جاء، وهو قوله في رواية ابن عبد الحكم عنه، وفي رواية مطرف أيضا على ما حكى عنه ابن حبيب بخلاف لقطة الدنانير والدراهم، وقال مرة: ليس له أن يأكلها كما ليس له أن يأكل لقطة الدراهم والدنانير، لأن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (فشأنك بها) أنه مخير بين أن يمسكها لصاحبها ويزيد في تعريفها، وبين أن يتصدق بها ويضمنها لصاحبها إن جاء، إلا أن يشاء أن يجيز الصدقة ويكون له الأجر، ومن أهل المعلم من يجيز له أن يأكلها على وجه السلف على ظاهر الحديث غنيا كان أو فقيرا، وهو مذهب الشافعي، ومنهم من لا يجيز له أكلها إلا إذا كان محتاجا إليها وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وقول ابن وهب في رسم القسمة بعد هذا، ومنهم من لا يجيز ذلك له إلا أن يكون له بها وفاء إن جاء صاحبها وهو أظهر الأقوال وأولى بالصواب، فيتحصل في المسألة على هذا أربعة أقوال، أحدها: أن له استنفاقها بكل حال. والثاني: أن ليس له استنفاقها على حال. والثالث: أن ليس له استنفاقها إلا أن يكون محتاجا إليها. والرابع: أن ليس له استنفاقها إلا أن يكون له وفاء بها. والأظهر أن لا فرق بين لقطة الماشية إذا وجدها قريبة من العمران حيث يجب عليه تعريفها وبين لقطة الدنانير والدراهم في جواز أكلها على وجه السلف، ولا في وجوب الغرم عليه فيها لصاحبها إن تصدق بها. وبالله التوفيق.

ص: 600

مسألة: وسئل عن قول عمر بن الخطاب: من أخذ ضالة فهو ضال، ما يريد بقوله؟ قال: يقول: هو مخطئ فلا يأخذها يرى أن يتركها، وإنما يعني بذلك الإبل وليس يقول أحد ضل غلامي وإنما يقال الضالة للإبل، وقد قال ابن شهاب: كانت ضوال الإبل في زمن عمر إبلا مؤبلة. انتهى من البيان. ومن كتاب الأقضية الثاني: وسئل عن الرجل يجد الضالة فتنتج عنده أيجوز له أن يأكل من نتاجها شيئا أو يأكل من ألبانها؟ فقال: أما نتاجها فلا يأكل منه شيئا، وأما ألبانها فعسى أن يأكل منها، فقيل له: كيف يصنع بها؟ فقال: إذا بلغ الذي عليه فيها فليتصدق بها، قيل له: فلا يحبس لنفسه منها شيئا؟ فقال: نعم، لا يحبس لنفسه منها شيئا، ولكن يتصدق بها، قيل له: فإن جاء صاحبها لم يغرم من ثمنها شيئا؟ فقال: لا، لأن المواشِيَ في مثل هذا ليست كالدنانير والدراهم، المواشي تأكل فلا يقدر على حبسها لعلفها فإذا تصدق بثمنها ثم جاء طالبها لم أر عليه شيئا، قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لمن أخذها: خلها حيث وجدتها، وأول من أمر ببيعها عثمان بن عفان، قال: تباع وقد عرف صفاتها ثم توقف أثمانها، فإن جاء طالبها أعطيَ ثمنها، فقال الذين يعذرون عثمان فيما أمر به من بيعها: إنه أمر ببيعها لأن الناس سرقوها وذهبوا بها، فلذلك أمر عثمان ببيعها. قال محمد بن رشد: حكم نتاج الضالة حكم أمهاتها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ذات رحم فولدها بمنزلتها) فلذلك قال: ليس له أن يأكل من نتاجها شيئا على وجه الاقتطاع، وأما أكله منها على وجه السلف بعد بلوغ ما عليه من التعريف بها فعلى ما ذكرناه في الرسم الذي قبل هذا من الاختلاف في أمهاتها إذ لا فرق بينها وبين نتاجها، وأما ألبانها فخفف أن يأكل منها يريد بقدر قيامه عليها. والله أعلم. لأنه يتنزل في ذلك منزلة الوصي في مال يتيمه، وقد قال ابن عباس في ذلك: إن كنت تبغي ضالة إبله وتهنأ جرباها وتَلُوط وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب، وأما الزائد على ذلك فإن كان له قدر يَشِحُّ به صاحبه فحكمه حكم اللقطة نفسها، وإن كان يسيرا لا قدر له ويعلم أن صاحبه لا يشح به فله أن يأكله، وقوله: إنه لا شيء لصاحبها إن تصدق بها خلاف قوله في الرسم قبل هذا.

ص: 601

وكراء بقر ونحوها في علفها كراء مضمونا، يعني أن الملتقط له أن يكري البقر الذي ليس له أكله في علفه أي النفقة عليه كراء مأمونا لا يخشى عليها منه، ومثل البقر في ذلك ما شابهه من الخيل ونحوها، قال ابن غازي: صواب قوله مضمونا مامونا، وقال عبد الباقي: كراء مضمونا عاقبته عليها أي لا يخشى عليها منه فلا يحتاج لتصويب، ابن غازي: ووجه تصويبه أن المضمون هو كراء دابة غير معينة، والفرض هنا أنها معينة وشق التخيير الثاني في المص أن له أن ينفق عليها من عنده، وإنما جازله كراؤها في علفها مع أن ربها لم يوكله فيه لأنها لا بد لها من نفقة عليها فكان ذلك أصلح لربها، والظاهر أنه إذا أكراها كراء مأمونا وجيبة ثم جاء ربها قبل تمامه فليس له فسخه كما يفيده من حيث المعنى قوله الآتي: وإن باعها بعدها فما لربها إلا الثمن، وأيضا لم يعدوا هذا من مواضع فسخ الإجارة، فاستظهار الحطاب الفسخ فيه توقف. انتهى. وقد يقال: ما استظهره الحطاب هو الظاهر قياسا على ما يأتي من قوله: وبرشد صغير عقد عليه أو على سلعه لخ، وقد عبر ابن رشد بأنه ينزل منزلة الوصي في الأكل من ألبان الماشية. انظر الرهوني. وقال التتائي: وفهم من قوله في علفها أنه ليس له كراؤها لغير ذلك، قال في الشامل: وله كراؤها في غير ذلك. انتهى. وقال الشبراخيتي: وله كراء بقر حيث لم يكن له أكلها ونحوها كخيل وبغال وحمير ويصرف في علفها كراء مضمونا، وفي نسخة المواق كراء مأمونا بدل مضمونا. قال ابن غازي: وهو الصواب كما في ابن الحاجب وغيره، قال شيخنا: وقد يقال: إن معنى مضمونا أن عاقبته مضمونة أي أنه مضمون العاقبة بحيث لا يخشى الهلاك منه، فكلام المص صواب أيضا. انتهى. ونحوه قول بعض الفضلاء، قوله: مضمونا أي مضمون السلامة، ومقتضى كلام اللخمي أنه إذا لم يوجرها في نفقتها يبيعها، وقال في المسائل الملقوطة: وله كراء بقر وغيرها في علفها كراء مأمونا وله بيع ما يخاف ضياعه وتلفه. انتهى. وقال المواق: فإن خيف من خروجها إلى الرعي استوجرت في مأمون من الأعمال بقدر من النفقة، فإن لم توف الإجارة بعلفها أو قال واجدها: لا أتكلف الصبر عليها بيعت.

وركوب دابة لموضعه: يعني أن الملتقط له أن يركب الدابة من موضع التقاطها إلى موضعه أي الملتقط بالكسر، وظاهر كلام المص أن له ركوبها وإن لم يتعذر أو يتعسر قودها عليه وهو موافق

ص: 602

لظاهر كلام التتائي، ولما نقله المواق، وهو خلاف ما في الشارح فإنه قال في تعليل كلام المصنف لتعذر قودها أو للضرورة التي تعتريه في ذلك. انتهى. قاله الشبراخيتي: وقال عبد الباقي: وللملتقط ركوب دابة من موضع الالتقاط لموضعه أي محل إقامته وإن لم يتعذر أو يتعسر عليه قودها كما في التتائي والمواق خلافا للشارح: وإلا بأن أكراها في أزيد من علفها أو كان الكراء غير مأمون أو ركبها لغير موضعه. قاله غير واحد. ضمن قيمتها إن هلكت والمنفعة إن سلمت ويقدم المستأجر في الكراء غير المأمون لأنه مباشر على المكري لأنه متسبب. قاله غير واحد وغلاتها دون نسلها يعني أن الملتقط له غلات اللقطة من لبن وسمن وزبد وجبن، ولو قال: وغلتها لكان أخصر مع أنه مفرد مضاف فيعم. قاله غير واحد. وضمير وغلاتها عائد على المذكورات من الشاة وما بعدها، وأما نسل اللقطة فليس للملتقط لقول النبي صلى الله عليه وسلم (كل ذات رحم فولدها بمنزلتها)، وقوله: من الشاة، قال بناني: لا يخفى أن محله في الشاة حيث يلزم تعريفها بأن كانت لا يعسر حملها مثلا، كما إذا وجدها في الفلاة مع غنمه فحملها لا يعسر لاتباعها لغنمه. انتهى. قال مقيد هذا الشرح: مقتضى ما مر من قوله: وركوب دابة لموضعه وإلا ضمن، أن المراد بالغلة التي للملتقط هي اللبن والسمن والزبد، لا الركوب عليها ولا الحمل ولا الحرث، وهو خلاف ما في الحطاب عن المسائل الملقوطة وأما منافع اللقطة وغلاتها ولبنها فقال ملك: للملتقط ولا يتبع بذلك، ويتبع بها وبنسلها خاصة، وقيل: يتبع بالجميع إن كان له ثمن وله أن يكري البقر وغيره في علفها كراء مأمونا، وله الركوب، وله بيع ما يخاف ضياعه وتلفه. انتهى. وقوله: دون نسلها، مثل النسل الصوف تم أم لا، وظاهر المصنف أن له الغلة ولو زادت على قدر قيامه بها، وهو الموافق لرواية ابن نافع، وظاهر نقل ابن رشد وسماع القرينين أنما له منها بقدر قيامه عليها والزائد عليه لقطة. انتهى. قاله عبد الباقي. وقال التتائي: وله غلاتها دون نسلها، ظاهره جميع الغلات من لبن وزبد وسمن وصوف وهو كذلك، فإن صاحب الشامل وغيره جعلوا وقف ثمن الصوف واللبن لربه قولا مقابلا لهذا، ويحتمل أن تخص الغلات بما عدا الصوف لما تقدم في خيار النقيصة أن المشتري لا يرد الغلة بخلاف الصوف التام حيث قال: والغلة له ولم ترد بخلاف ولد وثمرة أبرت وصوف تم كما يخص بأنه ليس له الكراء فيما زاد على علفها لما تقدم

ص: 603

قريبا، ولذا كان قول البساطي له الانتفاع بما يعد غلة كاستعمال الثور في الحرث غير ظاهر. انتهى.

وخير ربها بين فكها بالنفقة أو إسلامها، يعني أن الملتقط إذا أنفق من عنده على اللقطة ثم جاء ربها فإنه بالخيار بين أن يفك اللقطة بأن يدفع للملتقط ما أنفق عليها وبين أن يترك اللقطة لمن التقطها في نفقته التي أنفق عليها، فإن أراد أخذها بعد ذلك لم يكن له ذلك. قاله أشهب. فلو ظهر على صاحبها دين فإن الملتقط يقدم بنفقته على الغرماء كالرهن حتى يستوفي نفقته. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وإن أنفق الملتقط على اللقطة من عنده خير ربها إذا حضر بين فكها بالنفقة أي بمثلها لأنه قام عنه بواجب أي وبين إسلامها للتقطها في مقابلة نفقته، فإن أسلمها ثم أراد أخذها لم يكن له ذلك. قاله أشهب. فلو ظهر على صاحبها دين قدم الملتقط بنفقته على الغرماء كالرهن حتى يستوفي نفقته لأن تعلق حقه أقوى، وهذه المسألة في المص تدل على أن النفقة في ذات اللقطة لا في ذمة ربها، فيستفاد من ذلك أن مسألة كرائها المتقدمة لو نقص عن نفقتها لم يرجع بباقيها على ربها. انتهى كلام عبد الباقي. قوله: فيستفاد لخ، قال بناني: فيه نظر بل غير صحيح، فإن الباقي من النفقة حكمه التخيير الذي في لفظ المص، وصوابه لو قال: يستفاد من كون النفقة في اللقطة أنه إذا لم توف اللقطة بالنفقة فلا رجوع للملتقط بالزائد على ربها، بخلاف نفقة الرهن فإنها في ذمة الراهن كما تقدم في بابه. انتهى. قال عبد الباقي: واعترض تعبيره بأو بأن الواجب في مقابلة بين الواو لا أو وجعله بمعنى الواو كما في قول الشاعر:

قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم

ما بين ملجم مهره أو سافع

يتوقف على جواز مثله في النثر. انتهى. وقوله: وخير ربها بين لخ، عام في الإبل وغيرها. قال المواق: من المدونة: إن وجد الخيل والبغال والحمير فليعرفها، فإن جاء ربها أخذها وما أنفق على هذه الدواب وأنفق على ما التقط من عبد أو أمة أو على إبل قد كان ربها أسلمها أو على بقر أو غنم أو ما أكرى بمحله من موضع إلى موضع بأمر سلطان أو بغير أمره، فليس لرب ذلك

ص: 604

[أخذه

(1)

] حتى يدفع إليه ما أنفق فيأخذه إلا أن يسلمها إليه فلا شيء عليه، وفي رهونها: النفق على الضالة أحق بها من الغرماء حتى يستوفي نفقته. انتهى.

وإن باعها بعدها فما لربها إلا الثمن، يعني أن الملتقط إذا باع اللقطة بعد تمام السنة التي عرفها فيها بأمر السلطان أو بغير أمره ثم إن ربها جاء فإن المبيع ماض لا يفسخ وليس لرب اللقطة إلا الثمن الذي بيعت به على الملتقط لا على المشتري ولو كان الملتقط عديما ويرجع بالمحاباة أيضا لأنه كالوكيل، فإن أعدم في هذه رجع على المشتري بما حاباه به فقط لا بأصل الثمن، والفرق أن المشتري لا شارك البائع في العداء بالمحاباة رجع عليه بها عند عدم بائعه، ولا كذلك عدمه في غير ذلك من الثمن. قال التتائي: ومفهوم الظرف أنه لو باعها قبل السنة أن حكمها ليس كذلك، والحكم أن ربها يخير في إمضاء المبيع وأخذ الثمن ورده وأخذها. وقوله: ورده وأخذها، أي إن كانت قائمة، فإن فاتت فعليه قيمتها في ذمته إن كان حرا وإلا ففي رقبته كالجناية كما تقدم في قوله: وقبل السنة في رقبته. قال بناني: اعلم أنه بعد السنة إذا تملكها تارة يبيعها وتارة يجدها ربها معيبة وتارة سالمة، فأشار إلى الأول بقوله: وإن باعها بعدها لخ، وللثاني بقوله: إن نقصت، وأما الثالث فلوضوحه لم يتكلم عليه، وأما إن تصدق بها فإما عن نفسه أو عن ربها، وقد أشار إليهما بقوله: بخلاف ما لو وجدها لخ، وأما إذا أمسكها لربها فلا إشكال. انتهى. وقال الشبراخيتي: وقوله: وإن باعها بعدها لخ، أي حيث لم ينو ملتقطها تملكها قبل التقاطها، فإن نوى ذلك ثم التقطها فإنه يضمن قيمتها، وإن لم ينو تملكها إلا بعد التقاطها وباعها باسم نفسه فإن عليه القيمة. كذا ذكره بعض الشيوخ. انتهى.

بخلاف ما لو وجدها بيد المسكين، يعني أن الملتقط إذا تصدق باللقطة بعد السنة على شخص ثم إن ربها جاء ووجد اللقطة قائمة بيد المسكين لم تتعيب فليس له على الملتقط شيء، وإنما له أخذها أو تركها مجانا ولا شيء له، وأما لو وجدها بيد المسكين معيبة فله أخذها وله تركها وأخذ قيمتها من الملتقط، وإن فاتت فليس له إلا قيمتها على الملتقط، هذا إذا تصدق بها عن

(1)

ساقط من الأصل والمثبت من المواق ج 8 ص 52 ط دار الكتب العلمية.

ص: 605

ربها، وأما إن تصدق بها عن نفسه فله تضمين الملتقط القيمة، وله أخذها مطلقا تعيبت أو فاتت أو سلمت. أو مبتاع منه، يعني أن الملتقط إذا تصدق باللقطة وباعها المسكين ثم إن ربها جاء فوجدها بيد المبتاع من المسكين فله أخذها من المبتاع من المسكين. قال عبد الباقي: ويرجع المبتاع على المسكين بثمنه إن كان بيده، فإن فات رجع المشتري من المسكين بثمنه على الملتقط، وله أي ولربها تضمين الملتقط القيمة، ومحل التخيير حيث تصدق بها عن نفسه مطلقا كعن ربها وتعيبت، فإن بقيت بحالها فليس له تضمينه وإنما له أخذها إن كانت قائمة وقيمتها إن فاتت. انتهى. قوله: ويرجع المبتاع على المسكين لخ، قال بناني: عبارة ابن يونس مفرعا على قول ابن القاسم كما نقله ابن عرفة والتوضيح: فإذا أخذها من المبتاع من المساكين رجع المبتاع بالثمن على المساكين إن كان قائما بأيديهم وإن أكلوه فالأولى أن يرجع على الملتقط الذي سلطهم عليها، وينبغي أن يرجع عليه بالأقل من ثمنها أو قيمتها يوم تصدق بها، ويرجع بتمام ثمنها على المساكين لأنهم البائعون منه. انتهى. وعلم مما قررت أن قوله: فله أخذها، جواب عن قوله: لو، فهو جواب عن المسألتين.

وللملتقط الرجوع عليه إن أخذ منه قيمتها، يعني أن الملتقط إذا عرَّف اللقطة سنة ثم تصدق بها ثم جاء ربها فوجدها معيبة عيبا طارئا بعد التصدق فإن شاء أخذ من الملتقط قيمتها يوم التصدق بها وإن شاء أخذها ناقصة ولا شيء له كما مر، فإن أخذ ربها من الملتقط القيمة فإن للملتقط حينئذ الرجوع بعين اللقطة على المسكين أو بما بقي منها، وهذا فيما إذا تصدق بها عن ربها، ولهذا قال:

إلا أن يتصدق بها عن نفسه، يعني أن الملتقط إذا تصدق باللقطة عن نفسه ثم إن ربها جاء فَغَرَّمَه القيمة فإن الملتقط لا يرجع على المسكين بشيء من عين اللقطة أو باقيها، وقد مر تقرير قوله: وللملتقط الرجوع لخ، بأنه فيما إذا تعيبت السلعة عند المسكين، أما لو بقيت بحالها فقد مر أنه ليس لربها إلا أخذها بعينها، فلا يتأتى فيه أخذ القيمة من الملتقط أي فيما إذا تصدق بها عن ربها، وعلم مما قررت أنه لو فاتت اللقطة ولم تكن قائمة بيد المسكين لم يكن للملتقط رجوع على المسكين تصدق بها عن نفسه أو عن ربها.

ص: 606

وإن نقصت بعد نية تملكها فلربها أخذها أو قيمتها، يعني أن الملتقط إذا عرف اللقطة سنة ثم بعد ذلك نوى تملكها ثم جاء ربها فوجدها قد نقصت عند الملتقط بعد أن نوى الملتقط تملكها فإن ربها بالخيار بين أن يأخذها ولا شيء له وبين أن يأخذ قيمتها من الملتقط والقيمة يوم نوى التملك، وهذا إذا نقصت باستعمال الملتقط، فإن نقصت بسماوي فليس له إلا أخذها كما إذا كانت باقية بحالها، وهذا إذا نوى تملكها بعد السنة، فإن نواه قبلها فكالغاصب يضمن السماوي، ومفهوم الظرف أنها لو نقصت قبل نية التملك فليس له إلا أخذها فقط، وظاهره ولو نقصت بسبب استعماله وهو كذلك على أحد قولين. قاله عبد الباقي والخرشي. وقوله: بين أن يأخذها ولا شيء له، قال بناني: فيه نظر، بل المعتمد أنه إن اختار أخذها فله ما نقصها. ابن عرفة: ابن رشد في أول سماع ابن القاسم: إن وجدها ربها بيد ملتقطها وقد نقصها باستعمال فله أخذها وما نقصها، وإن انتهكها ففي تخييره في أخذ قيمتها وأخذها ولا شيء له أو مع قيمة نقصها، ثالثها: ليس له إلا ما نقصها. انتهى. ثم ذكر عن ابن رشد أنه عزا ثاني الأقوال للمعروف من قولها. انتهى.

ووجب لقط طفل نبذ كفاية، يعني أن من وجد طفلا منبوذا أي مطروحا يجب عليه لقطه أي التقاطه أي أخذه وجوب كفاية فقوله: كفاية مفعول مطلقٌ، قال المواق عن ابن شأس: كل صبي ضائع لا كافل له فالتقاطه من فروض الكفاية، وقال عبد الباقي: ووجب لقط طفل ذكر أو أنثى صغير لا يقدر على قيامه بمصالح نفسه كنفقة أو غذاء، وقوله: نبذ، صفة لطفل أي منبوذ، وكلام المص شامل للمرضع وغيره ممن لم يبلغ وهو غير قادر على القيام بمصالح نفسه، وعرف ابن عرفة اللَّقِيطَ بقوله: صغير آدمي لم يعلم أبواه ولا رقه، فيخرج ولد الزانية المعلومة ومن علم رقه لقطة لا لقيط. انتهى. قال بناني: وهو غير ظاهر، لأن حد ابن عرفة السابق للقطة يُخرج الرقيق مطلقا، وقد تقدم ذلك، وكذا قول ابن عرفة في الرقيق، إنه آبق لا لقطة ولا لقيط غير ظاهر أيضا، لأن الآبق عرفا هو الفار من سيده. قاله المسناوي. وقوله: ووجب لقط لخ، قال بناني: نحوه في ابن الحاجب، وقال ابن عرفة: حكم التقاطه عبر عنه بقوله: ينبغي أن يؤخذ المنبوذ ولا يترك، وفي المعونة: من التقط لقيطا أنفق عليه أو تركه لأنه فقير من فقراء المسلمين يلزم الكافة إعانته، وقول

ص: 607

ابن الحاجب كابن شأس تبعا للغزالي: إن التقاطه فرض كفاية لا أعرفه، والظاهر إن كان بيت المال تعين حفظه على الناظر فيه وعلىمن أبصره رفع علمه به، وإن لم يكن كان فرض كفاية على القادرين على حفظه، وقول ابن شأس: إن خاف عليه الهلاك إن تركه لزمه أخذه هو مقتضى قواعد المذهب وغيره. انتهى. وقال الشبراخيتي: وقوله: نبذ كان ينبغي له أن يقول: يخشى ضياعه أو ضائع لأن المنبوذَ الطووحُ قصدا كان يطرح لغلاء أو شدة أو جلاء، وهذا لا يشترط لأنه لو مات أهله أو نَسُوه في مكان أو سافروا ليلا فذهب فالحكم كذلك. وقال الحطاب عند قوله: ووجب لقط طفل نبذ كفاية، قال ابن الحاجب: اللقيط طفل ضائع لا كافل له. ابن عبد السلام: سواء علم نسبه أو لم يعلم والكافل المنفي هو القريب وإلا فالملتقط كافل. انتهى. وقوله: كفاية، قال في الجواهر: وكل صبي ضائع لا كافل له فالتقاطه من فروض الكفاية، فمن وجده وخاف عليه الهلاك إن تركه لزمه أخذه ولم يحل له تركه، واعلم أن اللقيط هو المنبوذ، وقيل: اللقيط ما التقط صغيرا في الشدائد والجلاء وشبه ذلك، والنبوذ ما طرح صغيرا أول ما ولد، أو اللقيط ما أخذ، والمنبوذ ما دام مطروحا ولا يسمى لقيطا إلا بعد أخذه.

وحضانته، يعني أن حضانة اللقيط واجبة على الملتقط، قال المواق عن ابن عرفة: حضانة اللقيط على ملتقطه اتفاقا. وقال الشبراخيتي: ووجب عينا حضانته على ملتقطه. ونفقته، يعني أن نفقة اللقيط تجب على ملتقطه، قال الشبراخيتي: وكذا يجب عينا نفقته حتى يبلغ ويستغني بالواو كما في [الرواية

(1)

]، نقله الباجي وغيره، خلافا لقول ابن الحاجب: بأو، ولم يصرح المص بغاية ما ينفق عليه اكتفاء بما قدمه في النفقة من قوله: ونفقة الولد الذكر حتى يبلغ عاقلا قادرا على الكسب والأنثى حتى يدخل بها زوجها. انتهى. وقال عبد الباقي: ووجب حضانته ونفقته على ملتقطه عينا لأنه التزم ذلك بالتقاطه حتى يبلغ عاقلا قادرا على الكسب والأنثى حتى يدخل بها زوجها فيما يظهر وهو ظاهر، ابن عرفة: لأنه ولده حكما بالتقاطه ثم لا رجوع له حينئذ عليه. قوله: وهو ظاهر، ابن عرفة: قال بناني: بل به جزم في التوضيح وابن عرفة والشامل وهو ظاهر

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من الشبراخيتي ج أخير مخطوط بمكتبة أحمد سالك بن ابوه.

ص: 608

رواية محمد، وذلك أن الباجيَّ قال: فإن لم يكن بيت مال ينفق عليه منه فروى محمد على ملتقطه حتى يبلغ ويستغني، وقال ابن الحاجب: فإن تعذر فعلى الملتقط حتى يبلغ أو يستغني. انتهى. فعطف بأو خلاف ما في الرواية من عطفه بالواو، وجزم في التوضيح بما في الرواية معترضا على ابن الحاجب، وتبعه في الشامل، وقال ابن عبد السلام: ما في الرواية من عطفه بالواو يوهم أن يكون في النفقة عليه كالولد تستمر إلى بلوغ الولد صحيحا أو دخول زوج الأنثى بها، وما أظنه يريد مثل هذا انتهى واعترضه ابن عرفة بأنه يقتضي أنه تنقطع نفقته بالبلوغ وإن لم يستغن، وظاهر الرواية خلاف ذلك وهو مقتضى المدونة وغيرها. انتهى. وقال الحطاب: لم يتعرض المص لمنتهى النفقة، وقال ابن الحاجب: فإن تعذر فعلى ملتقطه حتى يبلغ أو يستغني. قال ابن عبد السلام: يعني فإن تعذر الإنفاق عليه من شيء من الوجوه المقدمة وجبت نفقته على ملتقطه إما بمقتضى العادة لأن العادة تدل على مثل هذا، وإما لأنه أولى الناس به ويستمر إنفاقه عليه إلى البلوغ أو يستغني قبل ذلك، على أن الباجيَّ وغيره ممن نقل هذا الفرع من كتاب محمد إنما عطف يستغني على ما [قبله

(1)

] بالواو وذلك يوهم أن يكون حكمه في النفقة حينئذ كحكم الولد تستمر النفقة عليه إلى أن يبلغ الذكر صحيحا أو تتزوج الأنثى ويدخل بها زوجها، وما أظنه يريد مثل هذا. انتهى. وقال الخرشي: وحضانته ونفقته يعني أن حضانة الطفل المنبوذ ونفقته واجبتان على من التقطه حتى يبلغ ويستغني ولا رجوع له عليه، لأنه بالتقاطه ألزم نفسه ذلك. انتهى. وقال التتائي: ووجبت حضانته على ملتقطه لالتزامه ذلك بأخذه ولو جاز له تركه المودي إلى ضياعه لخرج من ضياع لمثله وكذا تجب نفقته حتى يبلغ ويستغني. انتهى. وإنما وجب لقط الطفل وحضانته ونفقته لوجوب حفظ النفوس وإن خيف عليه وجب لقطه عينا كما قاله غير واحد. والله سبحانه أعلم.

إن لم يعط من الفيء، يعني أن محل الوجوب عينا إن لم يعط هذا المنبوذ من الفيء أي بيت المال بأن لم يكن بيت مال ينفق عليه منه، وأما إن كان بيت مال ينفق عليه منه فهو واجب على

(1)

في الأصل قاله والمثبت من الحطاب ج 6 ص 286 ط دار الرضوان.

ص: 609

بيت المال: فبيت المال هو المبدَّأ، فإن لم يكن بيت مال ينفق عليه منه فإن ذلك يجب على ملتقطه، قال المواق عن ابن عرفة: وإن لم يكن له مال فقال الباجي: من بيت المال، فإن لم يكن بيت مال ينفق عليه منه، فروى محمد على ملتقطه حتى يبلغ ويستغني ولا رجوع له عليه وإن استأذن الإمامَ ومن المدونة اللقيط حرٌّ ونفقته من بيت المال وكذلك أجْرُ رضاعه ورضاع من لا مال له من اليتامى.

إلا أن يُمَلَّك كهبة، يعني أن محل وجوب النفقة على الملتقط المقيد بعدم العطاء من الفيء محله حيث لم يكن للمنبوذ مال وأما إن كان له مال فإن نفقته في ماله، كما إذا مُلِك هبة أو صدقة أو وصية أو حبسا، وقوله: إلا أن يملك بالتشديد والبناء للمفعول.

أو يوجدَ معه، عطف على يُمَلّك والظرف حال ونائب يوجد ضمير عائد على المال المفهوم من السياق، يعني أنه إذا وجد مع المنبوذ مال فإن نفقته من ماله وليست على بيت المال ولا على الملتقط، قال التتائي: أو يوجد معه مال مربوط معه مثلا، وقال بناني: أو يوجد المال مصاحبا له، وقال الخرشي: أو وجد معه مال بثيابه مربوطا أو محزوما عليه. وقال عبد الباقي: إلا أن يملك بالتشديد كهبة وصدقة وحبس فينفق من ذلك ويحوزه له الملتقط بدون نظر حاكم إن كانت الهبة ونحوها من غيره، وكذا منه على ما في سماع زونان، وفي سماع يحيى لا يحوزها له لأن ذلك خاص بالولي لمن في حجره واللتقط ليس كذلك. أو مدفونٌ، بالرفع عطف على نائب فاعل يوجد قال عبد الباقي: بتقدير صفة أي مال ظاهر أو مدفون، والنصب على الحال وهو أجود لأنه صفة في الحقيقة للمال قاله ابن غازي. وقوله:

إن كانت معه رقعة، قيد في الأخيرة فقط، أي وإنما يكون المال المدفون تحته له بشرط أن تكون معه رقعة مكتوب فيها إن المال المدفون لهذا المنبوذ، فإن لم تكن معه رقعة فإن المال المدفون لا يكون له، وتجب نفقته على ملتقطه والمال لقطة، وفي بعض النسخ: أو مدفون تحته، وفي بعضها بإسقاطها. والله سبحانه أعلم. والضمير في معه إما عائد على الشخص وهو الظاهر، أو على المال المدفون. والله سبحانه أعلم. قال الشبراخيتي: ولا مفهوم لقوله: مدفون، لأنه لو وجد على ثوب أو دابة أو نحو ذلك فهو كذلك، وتحصل من كلامهم هنا أن النفقة تكون أولا في مال المنبوذ، فإن

ص: 610

لم يكن له مال فمن بيت المال، فإن يكن بيت مال أو تعذر الإنفاق منه فإن نفقته على الملتقط. قال المواق: ابن شأس: نفقة اللقيط في ماله وهو ما وقف على [اللقيط

(1)

] أو وهب لهم أو وصي لهم به أو ما وجد تحت يد اللقيط عند التقاطه لكونه ملفوفا عليه، وفي الزاهي: إن وجد على فراش أو ثوب أو دابة أو معه مال مشدود أو حزم على مال موضوع مشدود فهو له. ابن شأس: وأما ما هو مدفون في الأرض تحته فهو ليس له إلا أن توجد معه رقعة مكتوب فيها إنها له فيكون حينئذ له. ابن عرفة: وإن لم يكن له مال إلى آخر ما مر.

ورجوعه على أبيه، يعني أن الملتقط إذا أنفق على اللقيط ثم ثبت أن له أبا فإنه يجب له الرجوع بما أنفق على ذلك الأب بشرط أشار له بقوله: إن طرحه عمدا، أي إنما يرجع عليه بشرط أن يكون قد طرحه عمدا بإقراره أو ببينة لا بدعوى الملتقط لأن القول قول الأب فيما يظهر لما جبل عليه من الحنان والشفقة، ولا بد في الرجوع عليه أيضا من أن يكون موسرا حين الإنفاق وأن يحلف المنفق أنه أنفق ليرجع لا حسبة، وأن تكون نفقته غير سرف، فإن كانت سرفا رجع بنفقة المثل، ومفهوم الشرط أنه لو ضل من أبيه أو هرب أو نحو ذلك لم يرجع المنفق على الأب ولو كان موسرا، لأن الإنفاق حينئذ يحمل على أنه هبة، فإن تنازعا في قدر النفقة فلا بد من إثباتها، وإلا فقول أبيه بيمين لأنه غارم، ويجري فيه قوله: واعتمد البات على ظن قوي كإن اختلفا في يسر الأب وقت الإنفاق، وقوله: ورجوعه عطف، على لَقْطُ كما علم من التقرير لكن الوجوب في الأول عليه وهنا له، ويحتمل أن يكون الوجوب في الفرع الأول مستعملا في معناه الشرعي وهو ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه، وفي الفرع الثاني في الثبوت، ويحتمل أن يكون رجوعه مبتدأ وعلى أبيه خبره، انظر شرح الشيخ عبد الباقي، وقال الشبراخيتي: إن طرحه عمدا يحترز به عمن تاه منه أو ضل أو سقط أو نسيه أو هرب أو نحو ذلك، وجعل البساطي أن من طرح ولده لوجه كمن سمع أن من طرح ولده يعيش له ليس من الطرح عمدا ولا رجوع للملتقط عليه بالنفقة وفيه نظر، فإن كلام أبي الحسن يفيد أنه من الطرح عمدا، ونحوه

(1)

في المواق ج 8 ص 53 ط دار الكتب العلمية: على اللقطاء.

ص: 611

لبناني فإنه قال: فيه نظر، وإن سلمه الحطاب، ثم قال الشبراخيتي: ويثبت طرحه عمدا بإقرار أو ببينة، قال الحطاب: ولا بد من كون الأب حين الإنفاق موسرا كما ذكره في المدونة والتوضيح، وتركه المص اعتمادا على ما قدمه من أن النفقة إنما تجب على الوسر، ولا بد من كونه لم ينفق حسبة وإلا فلا رجوع له، وهذا يفهم من قول المص: والقول له أنه لم ينفق حسبة، ولو اختلف الملتقَط والأب فادعى الملتقَط أن أباه طرحه عمدا وأنكر الأب ذلك فالظاهر أنه يعمل بقول الأب لما جبل عليه من الحنان والشفقة الدالين على ذلك، وكذلك لو اختلفا في يسر الأب وعسره وقت الإنفاق عليه. قاله الحطاب. وذكر المص هنا رجوعه على الأب، وأما عليه نفسه فإنه يرجع عليه بخمسة شروط. أحدها: أن يكون له مال يوم أنفق الثاني: أن يكون المنفق عالما به. الثالث: أن ينفق قصدا لا سرفا. الرابع: أن يقول أنفقت لأرجع. الخامس: أن يحلف على ذلك إن لم يشهد قبل الإنفاق أو حينه على أنه أنفق ليرجع وإلا رجع بلا يمين، وهذا إذا كان ماله عرضا إذ لو كان عينا وتيسر الأخذ منه فإنه يحمل فيما أنفقه على التبرع. وقال الحطاب: ويفهم من كلامه يعني ابن الحاجب وكلام المؤلف أنه لو لم يطرحه أو طرحه لا عمدا لا رجوع عليه. وقال في المدونة: ومن التقط لقيطا فأنفق عليه فأتى رجل أقام البينة أنه ابنه فله أن يتبعه بما أنفق إن كان الأب موسرا أي حين النفقة، هذا إن تعمد الأب طرحه وإن لم يكن هو طرحه فلا شيء عليه، وقال ملك في صبي ضل عن والده فأنفق عليه رجل فلا يتبع أباه بشيء، وقال المواق: من المدونة قال ملك: لا يتبع اللقيط بشيء مما أنفق عليه وكذلك اليتامى الذين لا مال [لهم

(1)

]. قال: ومن كفل يتيما فأنفق عليه ولليتيم مال فله أن يرجع عليه بما أنفق أشهد أو لم يشهد إذا قال: أنفقت عليه لأرجعَ في ماله. قال: ولو قال من في حجره يتيم: أنا أنفق عليه فإن أفاد مالا أخذته منه وإلا فهو في حل فذلك باطل، ولا يتبع اليتيم بشيء إلا أن يكون له أموال عروض فيسلفه حتى يبيع عروضه فذلك له، وإن قحر المال عما أسلفه لم يتبعه وكذلك اللقيط، وأما الأب إذا أنفق على ولده وله مال عين أو عرض ثم قال حاسبوه حوسب بذَلِكَ، وإن مات ولم يقل شيئا فإن

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من المواق ج 8 ص 54 ط دار الكتب العلمية.

ص: 612

كان ماله عرضا حوسب لأنه قد يرى بقاءه إلى أن يباع، وإن كان ماله عينا حاضرا فلا يحاسب [لأنه تركه

(1)

] الإنفاق منه وذلك يمكنه دليل أنه لم يرد الرجوع عليه، قال ابن القاسم: ومن التقط لقيطا فأنفق عليه فأتى رجل أقام بينة أنه ابنه فليتبعه بما أنفق إن كان الأب موسرا في حين النفقة، هذا إن تعمد الأب طرحه وإن لم يكن هو طرحه فلا شيء عليه، وقال أشهب: لا شيء على الأب بحال لأن المنفق محتسب. اللخمي: قول ابن القاسم أبين لأنه يقول: لو علمت له من تلزمه نفقته لم أنفق عليه. ومن المدونة قال ملك: في صبي ضل من والده فأنفق عليه رجل فلا يتبع أباه بشيء، قال ابن القاسم: وكذلك اللقيط الذي لم يتعمد الأب طرحه، لأن النفقة عليه على وجه الحسبة، ومن أنفق على وَلدِ غائب وهم صغار بغير أمره أو أنفقت زوجته على نفسها في غيبته ثم قدم فلهما أن يرجعا عليه بما أنفقا إن كان موسرا في غيبته وإلا فلا، ولو غاب وهو موسر فأمر الإمام بالنفقة على ولده الصغير رجلا لزمه ذلك. وكذلك إذا أنفق هو عليه بغير أمر الإمام على وجه السلف له لاتَّبعه بذلك إذا حلف أن ذلك منه بمعنى السلف وكانت له على النفقة بينة، وكان الأب في حال النفقة موسرا، أو أنفق عليه نفقة مثله، فإن زاد لم يتبعه بالزائد، وإن كان الأب معسرا في ذلك لم يتبع بشيء، ولو أيسر بعد عسره فمات لم يتبع بشيء. والقول له أنه لم ينفق حسبة، يعني أنه لو تنازع الملتقط وأبو المنبوذ فقال أبو المنبوذ: أنت أنفقت على ولدي حسبة أي تبرعا فلا رجوع لك علي، وقال الملتقط: بل أنفقت لأرجع، لكان القول قول الملتقط. إنه لم ينفق على اللقيط حسبة، وإنه إنما أنفق ليرجع عليه بما أنفقه عليه ويحلف على ذلك. قال التتائي: والقول له أي للملتقط مع يمينه أنه لم ينفق حسبة أي تبرعا لله تعالى. إذا خالفه الأب وهذا إن لم يقم دليل لواحد منهما بأن أشكل الأمر. قاله ابن شأس. انتهى. وقال عبد الباقي: والقول له أي للملتقط بيمين أنه لم ينفق حسبة أي تبرعا بل أنفق ليرجع لا قول الأب: حسبة، فإن نوى حسبة لم يرجع كأن لم ينو شيئا على ظاهر المص، ثم ظاهره أنه إن أنفق حسبة لا يرجع ولو طرحه أبوه عمدا أي نظرا لنية المنفق. انتهى. قوله: كأن لم ينو شيئا

(1)

في المواق ج 8 ص 54 ط دار الكتب العلمية: لأن ترك الإنفاق.

ص: 613

على ظاهر المص، قال بناني: ظاهر المص أنه إذا لم ينو شيئا يرجع كما إذا نوى الرجوع لأن منطوق لم ينفق حسبة صادق بما إذا لم ينو شيئا.

تنبيه: قال عبد الباقي عن ابن عرفة إن مقتضى المدونة أن الأب إذا طرح ولده عمدا أو أنفق عليه الملتقط حسبة فإنه يرجع عليه. قال بناني: على هذا المقتضي يكون الصواب إسقاط قوله: والقول له أنه لم ينفق حسبة لأنه حينئذ لا يبقى له موضوع ينزل عليه، ونص ابن عرفة: قال ابن الحاجب وابن شأس: فإن ثبت له أب بالبينة طرحه عمدا لزمه إلا أن يكون أنفق حسبة فلا رجوع، فإن أشكل فالقول قول النفق، وتبعهما ابن عبد السلام وابن هارون، ففهموا المذهب على أنه إن أنفق عليه حسبة فلا رجوع له على أبيه مع تعمد طرحه، ومقتضى المدونة [خلافه

(1)

] وأن لمن أنفق عليه احتسابا ثم ظهر أن له أبا موسرا تعمد طرحه أن يرجع عليه بالنفقة، ثم ساق لفظ المدونة، ثم قال: وهو ظاهر فهم اللخمي المذهب بقوله: اختلف فيمن أنفق على صغير تعمد أبوه طرحه وهو موسر، فقال ابن القاسم: يتبعه بالنفقة، وقال أشهب: لا شيء له، يريد لأنه أنفق على وجه الحسبة والأجر، والأول أبين لأنه يقول: لو علمت أن له من تلزمه نفقته لم أنفق عليه إلا على اتباعه بها، قلت: فقوله: لو علمت لخ، نص في أنه إنما أنفق عليه على وجه الحسبة لا ليتبعه. انتهى باختصار. وقال المواق عند قوله: والقول له إنه لم ينفق حسبة، هكذا قال ابن الحاجب، قال ابن عرفة: ومقتضى المدونة خلافه، وقد تقدم نص المدونة وترشيحُه اللخميُّ بقوله: إذ يقول: لو علمت أن له من تلزمه نفقته ما أنفقت عليه.

وهو حر، يعني أن اللقيط حر وليس عبدا للتقطه، قال المواق: من المدونة: اللقيط حر، قال عمر رضي الله عنه: وولاؤه للمسلمين، وعقله على بيت المال، وقال التتائي: وهو حر لا عبد لملتقطه وولاؤه للمسلمين لا لملتقطه خلافا لمن خالف فيهما، ومعنى ولاؤه للمسلمين أي ميراثه لا الولاء العرفي الذي هو لحمة كلحمة النسب، لأن هذا إنما يكون عن عتق. وقال الشبراخيتي: وهو حر أي محكوم [له

(2)

] بالحرية حتى يثبت رقه، وظاهره سواء التقطه حر أو عبد وهو كذلك، وظاهره

(1)

ساقط من المطبوع والمثبت من البناني ج 7 ص 118.

(2)

ساقط من الأصل والمثبت من الشبراخيتي ج أخير مخطوط بمكتبة أحمد سالك بن ابوه.

ص: 614

ولو أقر على نفسه بالرق وهو واضح، إذ لا يثبت رق الشخص بإقراره، وولاؤه للمسلمين لا لملتقطه، وكلام المصنف مقيد بما إذا لم يجعله الإمام للملتقط، فإن جعله له كان له لأن الولاء من الأمور التي ينظر فيها الإمام، وقد ورد عن عمر أنه قال لملتقطٍ طفلا: اذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته، فقوله: ولك ولاؤه إنشاء لا إخبار. انتهى. ومعنى ولاؤه للمسلمين، إرثه لا الولاء العرفي الذي هو لحمة كلحمة النسب. انتهى المراد منه. وقال الحطاب: وولاؤه للمسلمين، قال في الجواهر: ولا يختص به الملتقط إلا بتخصيص الإمام. انتهى. وقال فيها أيضا: وأرش خطائه على بيت المال، وإن جني عليه فالأرش له. انتهى. وقال عبد الباقي: وهو أي اللقيط حر أي محكوم بحريته لأنها الأصل في الناس الذين لم يتقرر عليهم ملك، ولو أقر بالرقية لأحد ألغي عند ظهور الحرية فيه، وسواء التقطه حر أو عبد أو كافر، وولاؤه أي إرثه للمسلمين أي يرثونه ويعقلون عنه، وبهذا التفسير سقط ما يقال: إن قوله: حر، يناقض قوله: وولاؤه للمسلمين، لمنافاة الحرية لـ (ـلولاء لمن أعتق

(1)

)، ولا يكون ميراثه للتقطه إلا بتخصيص من الإمام، فيرثه حينئذ، لأن ذلك من الأمور العامة التي النظر فيها للإمام، قال الشيخ يوسف الفيشي: وتوقف الشيخ سالم في هذا القيد بأن من أعتق عبدا عن المسلمين فولاؤه لهم وليس للإمام أن يخص به أحدا. انتهى. وقوله: توقف الشيخ سالم في هذا القيد لخ، قال بناني: لا وجه للتوقف، وقد قال في الجواهر ما نصه: ولا يختص به ملتقطه إلا بتخصيص الإمام. انتهى. والظاهر أن المعتق عن المسلمين مثله إذ لا فرق بينهما، وما فرق به الزرقاني بينهما لا معنى له، لأنه حيث فسر الولاء بالمال ففي كل منهما النظر للإمام، نعم الولاء الذي هو لحمة كلحمة النسب لا يتأتى فيه ذلك لكن ليس الكلام فيه. تأمله. انتهى.

وحكم بإسلامه في قرى المسلمين، يعني أن اللقيط إذا وجد في بلاد المسلمين فإنه يحكم بإسلامه لأنه الأصل والغالب، وسواء التقطه مسلم أو كافر. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: وحكم بإسلامه إن وجد في قرى المسلمين للأصل والغالب، ولو عبر بقرية بدل قرى كان مناسبا فيما هنا

(1)

الموطأ، كتاب الطلاق، رقم الحديث 25.

ص: 615

وفيما يأتي لأن اللقيط إنما ينسب لمحله الموجود فيه ولا يوجد إلا في قرية واحدة. انتهى. وقال عبد الباقي: وحكم بإسلامه أي اللقيط إن وجد في قرية من قرى المسلمين لأنه الأصل والغالب، وإن كانت بين قرى الكفار ولو التقطه كافر.

كأن لم يكن فيها إلا بيتان إن التقطه مسلم، يعني أن اللقيط إذا وجد في قرية أهلها كفار ولم يكن فيها من المسلمين إلا بيتان فإنه يحكم بإسلامه بشرط أن يكون ملتقطه مسلما، فإن التقطه ذمي فإنه يحكم بكفره على المشهور. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: وقوله: إلا بيتان، هكذا يقع في كثير من النسخ، ويقع في بعضها إلا بيتين، ويمكن تصحيحها بجعل إلا اسما بمعنى غير في محل رفع فيكون بيتين مضافا إليه، وأما على ما في كثير من النسخ وإلا استثنائية، وقال عبد الباقي: كأن لم يكن فيها أي القرية لا بقيد كونها للمسلمين وإلا نافى قوله: إلا بيتان للمسلمين أو ثلاثة، فيحكم بإسلامه تغليبا للإسلام إن التقطه مسلم، فإن التقطه مشرك فمشرك ولا يحكم بإسلامه، وظاهر المص الحكم بإسلامه حيث التقطه مسلم، ولو سئل أهل البيتين فجزموا بأنه ليس منهم وينبغي أن يكون كذلك لخبر: (كل مولود يولد على الفطرة

(1)

)، وقياسا على إسلام المسبي تبعا لإسلام سابيه، ولأنهما قد يُنكرَانِه لنبذهما إياه، واستظهر علي الأجهوري أنه لا يكون مسلما، فإن كان فيها أربعة فأكثر حكم بإسلامه، وإن التقطه كافر كما هو مفهوم المصنف، وهو المفهوم من المدونة أيضا. قاله الحطاب. وفي الشارح تبعا للتوضيح: إنما يحكم بإسلامه مطلقا إن ساوى المسلمون الكفار في القرية أو تقاربوا أي عرفا، وأولى إن كان المسلمون أكثر لا إن كانوا دون الكفار من غير تقارب، فيفصل في ملتقطه. قال علي الأجهوري: وما في التوضيح والشارح ظاهر صنيعهما أنه ليس من عندهما فهو من حمل الشيوخ المدونة عليه فيتبع دون ما فهمه الحطاب عنهما. انتهى. ولا يخفى أن ما للحطاب مفهوم المص وإلا ضاع قوله: كأن لم يكن فيها إلا بيتان لخ، قوله: لا إن كانوا دون الكفار من غير تقارب لخ، قال بناني: هذا القيد لم يصرح به في التوضيح لكنه مفهوم كلامه لكن [نكت

(2)

] عليه الحطاب بمفهوم المدونة الذي هو كمفهوم

(1)

البخاري، كتاب الجنائز، رقم الحديث 1385 ومسلم، كتاب القدر، رقم الحديث 2658.

(2)

في الأصل نكت والمثبت من الحطاب ج 6 ص 287 ط دار الرضوان.

ص: 616

المص. انتهى. وقال التتائي كأن لم يكن فيها أي القرية التي وجد بها اللقيط إلا بيتان من المسلمين إن التقطه مسلم. وأما إن التقطه كافر فكافر عند ابن القاسم خلافا لأشهب، والذي في النوادر والمدونة: قال ابن القاسم: من التقط لقيطا من قرية ليس فيها إلا البيتان والثلاثة من المسلمين فهو للنصارى إلا أن يلتقطه مسلم فيجعله على دينه. وقال أشهب: هو مسلم التقطه مسلم أو نصراني أو غيرهما من الأديان. البساطي: هذا الحكم إذا ثبت الالتقاط بالبينة وأما لو أقر أنه التقط ولم تقم بينة بالالتقاط فلا ينزع من يد الملتقط الذمي، رأيت ذلك في النوادر لسحنون في يهودية أقرت أنها التقطت صبية فربتها على دينها. انتهى. ونص النوادر: ومن كتاب ابن سحنون: كتب شجرة لسحنون في نصرانية التقطت صبية فربتها حتى بلغت على دينها؟ قال: إن ثبت أنها لقطة تردها إلى الإسلام وهي حرة. انتهى. وقال الحطاب: وانظر قولهم: البيتين والثلاثة، لو لم يكن فيها إلا واحد والظاهر أن الحكم متحد. والله أعلم. انتهى. وقال الشبراخيتي عند قوله: إن التقطه مسلم وأما إن التقطه كافر فكافر، ومفهوم المدونة أنه إذا كان أكثر من الثلاثة ولم يكونوا قريبا من التساوي يحكم بإسلامه مطلقا أي سواء التقطه مسلم أو كافر، خلافا لما في الشارح والتوضيح من أنه يفصل في اللقيط بين أن يلتقطه مسلم أو كافر، وأما لو كان المسلمون [مساوين

(1)

] للكفار أو أكثر منهم أو قريبا من التساوي لحكم بإسلام اللقيط وهو واضح تغليبا للإسلام على غيره، وسواء التقطه مسلم أو كافر، وجَعْلُ الضمير في فيها راجعا للقرية أي المفهومة من قرى واضح مطابق للنقل، ولا يصح رجوعه لقرى لأنه يقتضي أنه إذا كانت قرى ووجد في قرية منها بيتان أنه يحكم بإسلامه إن التقطه مسلم، وإن كانت القرية التي التقط منها ليس فيها أحد من المسلمين وليس هذا بصحيح. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: هذا مبني على أنه إذا التقطه مسلم في قرية ليس فيها إلا المشركون يحكم بكفره ويأتي الكلام فيه عند قوله:

(1)

في الأصل مساوون والمثبت من الشبراخيتي ج أخير مخطوط بمكتبة أحمد سالك بن أبوه.

ص: 617

وفي قرى الشرك مشركٌ، يعني أن اللقيط إذا وجد في قرية من قرى المشركين فإنه يحكم بكونه مشركا. قال عبد الباقي وغيره: وإن التقطه مسلم، قال بناني: نحوه لأبي الحسن، والذي في الذخيرة أنه إن التقطه مسلم يكون على دينه وهو الظاهر. والله أعلم. انتهى. وقال عبد الباقي: وإن وجد في قرية من قرى الشرك ولو كانت بين قرى المسلمين فهو مشرك، وإن التقطه مسلم تغليبا للدار وإنما لم يعبر كما في الجواهر في الموضعين بقرية كما قررناه به فيهما لفهم ذلك من المعنى إذ يستحيل أن اللقيط يوجد في بلد واحد في قريتين، ولا يقدح في ذلك أن ضمير فيها لقرية لا لقرى لأن المعنى يفهم منه ذلك أيضا، ولا يقال: عبَّر بقرى وإن كان المراد قرية للاحتراز عما وجد في قرية مسلمين بين قرى الشرك وكذا يقال في قوله: وفي قرى الشرك، لأنا نقول: ظاهر ابن شأس وغيره أن من وجد بقرية مسلمين مسلم ولو كانت بين قرى مشركين وأن من وجد في قرية مشركين، مشرك ولو كانت بين قرى مسلمين كما أشرنا له. انتهى. وقال التتائي: وفي قرى الشرك مشرك عند ابن القاسم سواء وجده مسلم أو كافر، وقال أشهب: إن التقطه مسلم فمسلم تغليبا للإسلام. انتهى. وقال المواق: ومن المدونة قلت: من التقط لقيطا في مدينة الإسلام أو في قرية الشرك في أرض أو كنيسة أو بيعة وعليه زي أهل الذمة أو المسلمين وكيف إن كان الذي التقطه في بعض المواضع مسلم أو ذمي ما حاله؟ قال: إن التقطه نصراني في قرى أهل الإسلام ومواضعهم فهو مسلم، وإن كان في قرى الشرك وأهل الذمة ومواضعهم فهو مشرك، وإن وجد في قرية ليس فيها إلا اثنان أو ثلاثة من المسلمين فهو للنصارى، ولا يعرض له إلا أن يلتقطة هناك مسلم فيجعله على دينه، وقال ابن الحاجب: يحكم بإسلام اللقيط في قرى الإسلام ومواضعهم، فإن كان في قرى الشرك فمشرك، وقال أشهب: إلا أن يلتقطه مسلم فإن لم يكن فيها غير بيتين من المسلمين فمشرك إلا أن يلتقطه مسلم. انتهى. يعني عند ابن القاسم. وأما أشهب فمسلم عنده ولو التقطه كافر، ومحل الخلاف إذا كان في أرض الإسلام وحكمهم وإلا فكافر بلا خلاف. فقول أشهب مقيد بما قاله الرهوني.

ص: 618

ولم يلحق بملتقط ولا غيره، يعني أن اللقيط لا يلحق بملتقطه إذا استلحقه ولا يلحق بغير الملتقط إذا استلحقه، قال عبد الباقي مفسرا للمص: ولم يلحق أي لم يلحقه الشرع بملتقطه ولا غيره إذا استلحقه. إلا ببينة، تشهد لكل بأن هذا ولده، ولا يكفي قولها: طرح له ولد فإذا أقامها لحق به ملتقطا أو غيره مسلما أو كافرا، سواء في هذه الأربعة كان اللقيط محكوما بإسلامه أو بكفره، فهذه ثمانية.

أو وجهٍ، يعني أن اللقيط إذا استلحقه شخص ملتقطا أو غيره فإنه يلحق به إن أتى بوجه أي أمر يدل على ما قال، كرجل لا يعيش له ولد فزعم أنه رماه لا سمع أنه إذا طرح الجنين عاش، ونحوه مما يدل على صدقه، وكما إذا طرحه بغلاء أو عجز ونحو ذلك، فيلحق بصاحب الوجه. قال عبد الباقي: وهل في الصور الثمانية المتقدمة وهو ما يفيده ابن عرفة والتتائي والشيخ عبد الرحمن الأجهوري أو في أربع منها فقط، وهي إذا استلحقه مسلم كان هو الملتقط أو غيره كان المستلحق بالفتح محكوما بإسلامه أم لا؟ وهو ما ذهب إليه بعضهم ونحوه في أحمد قائلا: وأما إذا استلحقه ذمي فلا بد فيه من البينة. انتهى. أو في صورتين فقط من الثمانية، وهما: إذا استلحقه مسلم غير الملتقط سواء حكم بإسلام اللقيط أم لا؟ وهو ما ذهب إليه بعضهم، فإن قيل: لِمَ تَوقَّف الاستلحاق هنا على البينة والوجه كما قال المص وقد قدم أن الأب يستلحق مجهول النسب؟ قلت: تقدم أن شرطه أن لا يكون مولى لمن كذب المستلحِقَ بالكسر وهذا لا ثبت ولاؤه للمسلمين كان ذلك بمنزلة تكذيب مولاه لمن استلحقه فلذا توقف هنا على ما ذكر. انتهى. قوله: وهو ما يفيده ابن عرفة لخ، قال بناني: فيه نظر، بل ابن عرفة نقل قبول الوجه من الذمي عن أبي إسحاق التونسي، واعترضه بحرمة الإسلام، ونصه: قال ابن الحاجب: وأما الذمي فلا يلحقه إلا ببينة، فقبله ابن عبد السلام، والظاهر تعليله بأن الاستلحاق خبر وخبر الكافر لغو. وما نقله ابن الحاجب خلاف قول التونسي: النصراني يدعي اللقيط في بلد الإسلام أنه ابنه فإذا كان له دليل مثل ما ذكرنا أنه سمع قول الناس أنه إذا طرح عاش وجب أن يلحق به، قلت: فَجَعَلَهُ كالسلم وفيه نظر لحرمة الإسلام وقبول خبر المسلم، وتقدم قولها: اللقيط حر وولاؤه للمسلمين. انتهى

ص: 619

كلامه. فعزوه الإطلاق لابن عرفة فيه نظر بل مرتضاه هو القول الثاني. وهو قول ابن الحاجب وابن عبد السلام أيضا كما علمت، وأما الثالث فعزاه ابن عرفة لنقل اللخمي عن محمد، وقول الزرقاني: وهذا لما ثبت لخ، هذا التوجيه نحوه في التوضيح، واعترض بأن مجهول النسب مثله في كون ولائه للمسلمين فلا فرق، ولهذا قال ابن يونس: خالف ابن القاسم هنا أصله في الاستلحاق كما في المواق، وقال المواق: من المدونة قال ملك: من التقط لقيطا فأتى رجل فادعى أنه ولده لم يصدق ولم يلحق به إلا أن يكون لدعواه وجه، كرجل عرف أنه لا يعيش له ولد فزعم أنه رماه لقول الناس إذا طرح عاش ونحوه مما يدل على صدقه، فإنه يلحق به وإلا لم يصدق إلا ببينة، قيل لابن القاسم: فإن صدقه الملتقط؟ قال: أراه شاهدا ولا تجوز شهادة واحد مع اليمين في النسب. ابن يونس: خالف ابن القاسم أصله في الاستلحاق. انتهى. وقال التتائي: وسكت المص هنا عن تصديق المرأة وعدمه في قولها لمن التقطته: هذا ابني، لما تقدم في الاستلحاق أنه إنما يكون من الأب. انتهى.

ولا يرده بعد أخذه، يعني أن الملتقط إذا أخذ اللقيط فإنه لا يجوز له بعد ذلك أن يرده إلى موضعه ولا إلى غيره، لأنه تعين عليه حفظه بمجرد أخذه لأن فرض الكفاية يتعين بالشروع فيه. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: ولا يرده ملتقطه بعد أخذه لأن فرض الكفاية يتعين بالشروع. انتهى. وقال عبد الباقي: ولا يرده أي الملتقط أي يحرم عليه رده لموضعه بعد أخذه ليحفظه أو بلا نية حفظه ولا رفعه للحاكم لأن فرض الكفاية يتعين بالشروع. وقال التتائي: ولا يرده ملتقطه بعد أخذه لأنه فرض كفاية يتعين بالشروع. قاله ملك في الموازية. وقيده أشهب فقال: إلا أن يأخذه ليرفعه للحاكم، يعني أن الملتقط إذا أخذ اللقيط ليرفعه للحاكم لا لقصد تربيته ولا التزمها فرفعه له، فلم يقبله والموضع مطروق لا يخشى هلاكه فيه بل يوقن أن غيره يأخذه فله رده لعدم أخذه للحفظ، فلم يشرع في فرض الكفاية حتى يتعين عليه، فإن لم يكن الموضع مطروقا بأن لم يوقن أن غيره يأخذه حرم رده، فإن تحقق عدم أخذه حتى مات اقتص منه، وإن شك في أخذه ثم مات ضمن ديته، وانظر هل دية خطإ أو عمد؟ ومثل أخذه لرفعه للحاكم أخذه ليسأل معينا

ص: 620

هل هو ولده أم لا؟ انتهى. وقال الخرشي عند قوله: ولا يرده بعد أخذه لخ، يعني أن الملتقط إذا أخذ الطفل اللقيط فإنه لا يجوز له بعد ذلك أن يرده إلى موضعه ولا إلى غيره، لأنه تعين عليه حفظه بمجرد أخذه، لأن فرض الكفاية يتعين بالشروع فيه، إلا أن يكون إنما أخذه ليرفعه للحاكم لينظر في أمره فلما رفعه إليه لم يقبله منه، والحالة أن الموضع الذي أخذه منه مطروق بأن يكون موضعه لا يخاف عليه فيه الهلاك لكثرة الناس ويوقن أن غيره يأخذه فإنه يجوز له أن يرده إلى الموضع المأخوذ منه، فإن لم يكن الموضع مطروقا أو لم يوقن أن غيره يأخذه فإن تحقق عدم أخذه حتى مات اقتص منه، وإن شك ضمن ديته إلى آخر ما مرث وقوله: والموضع مطروق، هذا التقييد للباجي والواو للحال. قاله التتائي. وقد علم مما مر أن معنى قوله: والموضع مطروق أنه تيقن أن غيره يأخذه.

تنبيه: قال غير واحد: إن الاستثناء في قوله: إلا أن يأخذه لخ، منقطع لأن ما قبله في أخذه للالتقاط وهذا أخذه ليرفعه للحاكم. انتهى. وهو خطأ بل هو متصل، لأن ما قبله يشمله وغيره، انظر حاشية الشيخ بناني. وهو ظاهر، وقد وقع في كلام عبد الباقي هنا ما نصه: ولا يرده الملتقط أي يحرم عليه رده لموضعه ولا إلى أحد. قوله: ولا إلى أحد، قال بناني: غير صحيح، وعبارة غيره يحرم رده لموضعه ولغيره أي غير موضعه. انتهى.

وقُدِّم الأسبقُ، يعني أنه لو رأى اللقيط اثنان فأكثر فبادر إليه أحد منهم وسبق إليه فإنه يكون للأسبق أي لذلك الذي سبق إليه. ثم الأوْلى، يعني أنه إذا لم يسبق إليه أحدهم فإن استويا أو استووا في وضع اليد عليه فإنه يقدم في كونه عنده الأولى أي الأصلح لحفظه والقيام به مع الأمن من بيعه.

وإلا فالقرعة، أي وإن لم يكن أصلح بأن استويا في الأصلحية والسبق فالقرعة متعينة، قال عبد الباقي مفسرا للمص: ولو رأى اللقيط اثنان فأكثر وأراد كل أخذه للحفظ وكل أهل لحفظه وكفايته قدم الأسبق في وضع اليد، فإن أخذه غيره بعد وضع يد الأسبق نزع منه ودفع للأسبق، فقوله: قدم: أي ابتداء أو بعد نزع الطفل من يد من هو دونه، وكذا يقال في قوله: ثم إن استويا في

ص: 621

وضعهما قدم الأولى أي الأصلح لحفظه والقيام به مع الأمن من بيعه، وإلا يكن أصلح بل استويا في الأصلحية والسبق فالقرعة، وظاهر المدونة تقديم الأكفى في مؤنته وكفايته مع الأمن من بيعه على الأسبق، ومثل اللقيط فيما ذكر المص اللقطة، وقال التتائي: وقدم الأسبق ولو كان غيره أولى منه. وقال الحطاب: وقدم الأسبق لخ، قال في التوضيح: وهذا مقيد بما إذا لم يود إلى ضياعه عند الأول. انتهى. ونقله في الجواهر ونصه: لو ازدحم اثنان كل منهما أهل قَدَّم السابق فإن استويا قدم الإمام من هو أصلح للصبي، فإن استويا في ذلك أقرع بينهما. انتهى. وقال في تضمين الصناع من المدونة: ومن التقط لقيطا فكابره عليه رجل فنزعه منه فرافعه إلى الإمام نظر الإمام إلى الصبي فأيهما كان أقوى على مؤنته وكفايته وكان مأمونا دفعه إليه. اهـ. قال الشيخ أبو الحسن: قال أبو إسحاق: هي للأول إلا أن يكون الثاني أكفى وأحرز، الشيخ: وهو معنى الكتاب، وقوله: مأمونا أي من بيعه. انتهى. فتأمل كلام المدونة وشارحها فإنه يقتضي تقديم الأكفى ثم الأول فتأمله مع كلام التوضيح، وانظر هل يرجح هنا بالصلاح فيقدم غير الفاسق على الفاسق فيتلمح ذلك من قول المدونة وكان مأمونا. فتأمله. والله أعلم. انتهى.

وينبغي الإشهاد، يعني أن من التقط لقيطا يستحب له الإشهاد عند التقاطه أنه التقطه خوف الاسترقاق، ومثل اللقيط اللقطة، قال عبد الباقي مفسرا للمص: وينبغي للملتقط الإشهاد عند التقاطه أنه التقطه خوف الاسترقاق، فإن تحقق أو غلب على الظن الاسترقاق وجب الإشهاد واللقطة كذلك فيهما، وليس لمكاتب ونحوه التقاط بغير إذن السّيد، يعني أنه ليس للمكاتب ومن فيه شائبة حرية وأولى القن أن يلتقط أي يأخذ لقيطا إلا أن يأذن له سيده في ذلك. قال عبد الباقي: وليس لمكاتب ونحوه ممن فيه شائبة حرية وأولى قن التقاط بغير إذن السيد واحتاج المكاتب لإذنه مع أنه أحرز نفسه وماله، لأن التقاطه ربما أدى لعجزه لاشتغاله بتربيته، ولأن حضانته تبرع، وليس المكاتب من أهله، فقوله: التقاط أي أخذ لقيط، وأما الالتقاط بمعنى أخذ اللقطة أي المال فتقدم في قوله: وذو الرق كذلك فله ولو قنا أخذها وتعريفها بغير إذن السيد لعدم اشتغاله بتعريفها عن خدمة سيده، ثم إذا التقط لقيطا بغير إذن السيد فله إجازته ورده إلى موضع

ص: 622

الالتقاط إن كان الموضع مطروقا وأيقن أن غيره يأخذه كما مر، ومفهوم بغير إذن السيد جوازه بإذنه، ويلزم السيد حضانته ونفقته لأنه بإذنه كأنه هو الملتقط، والظاهر أن الزوجة أولى من المكاتب في المنع من التقاطها بغير إذن زوجها، بل وكذا من لقطة بغير إذنه. انتهى. وقال بناني عند قوله: وإلا فالقرعة ما نصه: القرعة والإشهاد ومنع المكاتب كل من الثلاثة أصله للغزالي في وجيزه. قاله ابن عرفة. انتهى. وقال التتائي: وليس لمكاتب ونحوه من قن وذي شائبة التقاط بغير إذن السيد، ابن عرفة في وجيز الغزالي: لو التقط العبد والمكاتب بغير إذن السيد انتزع من أيديهما فإن الحضانة تبرع وليس لهما ذلك، فإن أذن السيد فهو الملتقط، فنقله ابن شأس كأنه نص المذهب، وتبعه ابن الحاجب ولا أعرفه نصا لأهل المذهب، لكنه مقتضى أصل المذهب في أن العبد ومن فيه بقية رق ليس له أن يتبرع بشيء من عمله دون إذن ربه، والحق فيما ليس نصا في المذهب واقتضته أصوله أن لا ينقل على أنه نص فيه، بل على أنه مقتضاه. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: وفي كلام ابن عرفة من الدلالة على ترشيح ما للمص ما لا يخفى. والله سبحانه أعلم. وقال الشبراخيتي: وليس لمكاتب ونحوه من قن وذي شائبة التقاط أي أخذ لقيط، وأما أخذ لقطة فتقدم في قوله: وذو الرق كذلك فله أخذ اللقطة بغير إذن، والفرق بينهما ظاهر لأن اللقطة الواجب فيها التعريف، وذلك لا يشغل عن خدمة السيد لأنه يمكن صدوره منه في حال تصرفه لسيده، وأما حضانة اللقيط فتشغله عن مصالح سيده لأنها قد لا تتيسر له حالة اشتغاله بمصالح سيده، والظاهر أن الزوجة أولى من المكاتب في الاحتياج إلى الإذن، وهذا ما لم يخف على اللقيط فيجب عليها، وانظر نفقة من التقطه المكاتب ونحوه بإذن السيد ومن التقطته الزوجة بإذن زوجها، والظاهر أنه على السيد والزوج لأنه بإذنه كالملتقط. انتهى. وعلم مما قررت أن قوله: بغير إذن السيد راجع للمكاتب ونحوه، وقال المواق: عن ابن شأس: لو التقط العبد والمكاتب بغير إذن السيد انتزع من أيديهما فإن الحضانة تبرع ولييس لهما ذلك، فإن أذن السيد فهو الملتقط. ابن عرفة: قاله الغزالي. وإن كان مذهبنا يقتضيه لكن الحق أنه لا ينقل على أنه نص فيه بل على أنه مقتضاه. انتهى.

ص: 623

ونزع محكوم بإسلامه من غيره، يعني أن اللقيط الذي حكم الشرع بإسلامه كالموجود في قرى المسلمين التقطه مسلم أو كافر أو في قرية ليس فيها إلا بيتان أو ثلاثة إن التقطه مسلم يُنزَعُ ممن وجد بيده إذا كان كافرا. قال الشبراخيتي مفسرا للمص: ونزع محكوم بإسلامه أي من حكم الشرع بإسلامه كالموجود في قرى المسلمين أو في قرية ليس فيها إلا بيتان أو ثلاثة من المسلمين إن التقطه مسلم، لا أنه حكم فيه حاكم، وسواء كان المحكوم بإسلامه صغيرا أو كبيرا، بأن لم يطلع عليه حتى كبر، لكن إن كان صغيرا يجبر على الإسلام، وإن لم يطلع عليه حتى كبر فيؤمر بالإسلام، فإن أسلم فواضح وإن أبي أجري عليه حكم الرتد يُستتاب ثلاثة أيام، فإن أسلم فيها وإلا قتل مرتدا مِن غَيْرِه أي غير المسلم، وهو الكافر خشية أن يربِّيَه على دينه أو يطول الأمر فيسترقه. قاله مطرف وأصبغ. انتهى. والضمير في غيره عائد على المسلم المفهوم من قوله: بإسلامه، ومفهوم قوله: بإسلامه، أنه لو لم يحكم بإسلامه كما لو التقطه كافر في قرى الشرك فإنه لا ينزع من يده. والله سبحانه أعلم. وقال التتائي: ونزع محكوم بإسلامه من غيره. ابن عبد السلام: لو لم يفطن له حتى كبر الصبي أو الصبية على دين ملتقطه لم يلتفت إلى ذلك وحكم بإسلامه وإلا فهو مرتد، هذا هو ظاهر كلامهم، وقال عبد الباقي: ونزع لقيط محكوم بإسلامه من جهة الشرع وإن لم يحكم حاكم به بأن وجد في قرية المسلمين على ما مر من ملتقط غيره أي من غير المحكوم بإسلامه وهو الكافر، فالضمير عائد على المحكوم بإسلامه من باب عندي درهم ونصفه، ويصح عوده على المسلم المفهوم من قوله: بإسلامه. قاله أحمد. أي التقطه كافر مع الحكم بإسلامه أي اللقيط فينزع منه ويبقى تحت يد المسلمين، فإن لم ينزع حتى عقل نزع وجبر على الإسلام قبل بلوغه، فإن نزع بعده فمرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وقال المواق عن ابن عرفة: فيها مع غيرها: اللقيط في قرى الإسلام مسلم ولو التقطه كافر. مطرف وابن الماجشون: إن التقطه نصراني نزع منه ليلا ينصره أو يسترقه. ابن سحنون: إن التقطت نصرانية صبية فربتها حتى بلغت على دينها ردت للإسلام وهي حرة. ومن المعونة: إن التقط كافر لقيطا فرباه على دينه لم يترك على النصرانية إلا أن يبلغ على ذلك فيختلف فيه هل يقر عليه؟ انتهى.

ص: 624

ولما أنهى الكلام على اللقيط شرع في الكلام على أحكام الآبق، فقال: وندب أخذ آبق لمن يعرف يعني أنه يندب لمن يَعْرِفُ مَالكَ الآبق أن يأخذه ليعرفه لربه حفظا للمال، فقوله: لمن يعرف متعلق بندب، ومفعوله محذوف أي مالكه، قال التتائي: وندب أخذ آبق لمن يعرف ربه قريبا أو جارا أو غيره، ويعرف ثلاثي أي مضارع عرف بالتخفيف. وإلا يعرف ربه فلا يأخذه، أي يكره له أخذه إن لم يعرف ربه، قال المواق: من المدونة قال ملك: ومن وجد آبقا فلا يأخذه إلا أن يكون لقريبه أو جاره أو لمن يعرفه فأحب إلي أن يأخذه، قال ابن القاسم: فإن لم يأخذه أيضا فهو في سعة. انتهى. وقال عبد الباقي: ومحل الندب يعني قوله: وندب أخذ آبق لخ، إذا لم يخش ضياعه وإلا وجب حفظا لمال الغير. انتهى. وقال الشبراخيتي: ووقع في بعض التقارير أن محل ندبه حيث لم يخف الخائن ولم يعلم خيانة نفسه، فإن خاف الخائن وعلم أمانة نفسه وجب، وإن علم خيانة نفسه حرم الأخذ، والآبق هو الذاهب خفية بغير سبب، والهارب هو الذي يذهب خفية أيضا لكن بسبب، كذا فرق بينهما ابن حجر العسقلاني. انتهى. وقال عبد الباقي: وندب آخذ آبق لخ، وإنما أخذه لأنه يخبر ربه من غير إنشاد وتعريف إذ الإنشاد يخشى منه أن يصل إلى علم السلطان فيأخذه. وقال الشبراخيتي: وإلا بأن لم يعرف ربه فلا يأخُذْه نهي وهو محتمل للحرمة والكراهة، والمراد الثاني أي يكره له أخذه البساطي: ما لم يخش هلاكه. انتهى. وقال الشبراخيتي: وندب أخذ آبق وهو كما قال ابن عرفة: حيوان ناطق وجد بغير حرز محترم. قال شارحه: وتأمل حده للآبق فإنه صادق على اللقيط فهو غير مانع. انتهى. قلت: فلو زاد في الحد رقيق غير صغير لسلم من هذا، إذ الرقيق الصغير لقطة لا آبق، واللقيط والحر ولو صغيرا ليسا بلقطة ولا آبق، وقال الحطاب: قال اللخمي: أما إذا كان على الأميال اليسيرة من الموضع الذي أبق منه فلا سعة في تركه إذا لم يخف منه. الشيخ: لأن تركه تلف. انتهى.

فإن أخذه رفع للإمام، مفرع على قوله: وإلا فلا يأخذه، يعني أنه إذا لم يعرف رب الآبق فإنه يكره له أخذه كما عرفت، فإن فعل الأمر المكروه بأن أخذه وهو لا يعرف ربه فإنه يرفعه إلى

ص: 625

الإمام رجاء من يطلبه منه، قال الشبراخيتي: فإن أخذه وهو لا يعرف ربه رفعه للإمام، قال أبو الحسن: ظاهر المدونة أنه مطلوب بذلك، وقال الرجراجي: إن كان الإمام عدلا فهو مخير في الرفع إليه، وإن كان جائرا فلا ينبغي له أن يرفعه إليه، ومحل رفعه للإمام إن لم يخف ظلمه. انتهى. وقوله: رفع للإمام ولو جاء من يدعيه. قال الشبراختي: ونقل التتائي هنا في غير محله. انتهى.

ووقف سنة، يعني أنه إذا رفع الآبق للإمام فإن الإمام يوقفه عنده سنة وينفق فيها عليه، فإن أرسله فيها ضمن. قال الشبراخيتي: ووقف عنده سنة على مذهب المدونة المشهور وأنفق عليه في زمن إيقافه، وهذا إن لم يخش عليه الضيعة في هذا الأمد، فإن خيف عليه بيع قبل السنة. ثم إن لم يأت ربه بيع، أي باعه الإمام بعد السنة، قال عبد الباقي: إن لم يخش عليه قبلها وإلا بيع قبلها، كما روى عيسى عن ابن القاسم. ابن رشد: وهو تفسير للمدونة. ولا يهمل، قال الشبراخيتي: صادق بأمرين أحدهما لا يهمل أمره بعد بيعه بل يكتب الحاكم اسمه وحليته وبلده وزيه ويشهد بجميع ذلك ويجعله عنده، فإذا جاء من يطلبه قابله بما عنده، فإن ظهر أنه له دفع له بقية ثمنه أي لأنه يأخذ نفقته من الثمن ويحبس بقيته لربه في بيت المال كما قال:

وأخذ نفقته، أي إذا باعه الإمام فإنه يأخذ ما أنفق عليه في سنة الإيقاف من ثمنه عاجلا، ولا يلزمه الصبر بها إلى قدوم ربه، ويحبس بقيته لربه في بيت المال، وأجرة الدلال كالنفقة كما دل عليه كلام الجزيري وإنما كان الإمام يحبس بقية الثمن لربه في بيت المال لأنه لا يضع أمانة تحت يده لا يعلم ربها لاحتمال موته فتصير مالا من أمواله فتضيع على ربها. والأمرُ الثاني لا يهمله أي لا يطلقه بعد السنة، بخلاف ضالة الإبل لقول المدونة: أمر مالك ببيع الأبّاق بعد السنة، ولم يأمر بإطلاقهم يعملون ويأكلون لأنهم يأبقون ثانية، كذا في التتائتي والأمران منقولان أي ولا يهمل أمره بعد المبيع ولا يطلق بعد السنة، إلا أن الثاني يغني عنه ثم بيع. انتهى. وقال عبد الباقي: ولا يهمل أمره أي يكتب اسمه وحليته وبلده وزيه إن علمه بأمارة ونحوها، ويشهد بجميع ذلك، ويجعل ثمنه في بيت المال، فإن جاء من يطلبه قابل ما عنده، فإن وافق دفع له

ص: 626

الثمن، وهذا أحسن من حمله على أن معناه لا يطلقه بعد السنة كضالة الإبل ليلا يأبق لاستفادة ذلك من قوله. بيع وأخذ نفقته عليه، أي مقابلها من ثمنه ولا يلزمه الصبر إلى أن يحضر ربه، وكذا أجرة الدلال، وظاهره وإن كانت النفقة من بيت المال لأنه لِلأحْرَارِ ومصالحهم، والعبد غني بسيده أو بيعه لمن ينفق عليه وهذا هو الظاهر. انتهى. وقال المواق: قال ملك: من أخذ آبقا رفعه للإمام فوقفه سنة وأنفق عليه ويكون فيما أنفق عليه كالأجنبي فإن جاء صاحبه وإلا باعه وأخذ من ثمنه ما أنفق وحبس بقية الثمن لربه في بيت المال. قال سحنون: ولا أرى أن يوقف سنة ولكن بقدر ما يتبين أمر ثم يباع ويكتب الحاكم صفته عنده حتى يأتي طالبه. ابن يونس: وهذا هو الصواب. انتهى.

ومضى بيعه، أي بيع الإمام للعبد بعد السنة، ويجوز ابتداء حيث لم يقل ربه كنت أعتقته بل وإن قال ربه كنت أعتقته، نَاجِزًا أو لا قبل أن يأبق أو بعده وقبل أن يباع فإنه لا يعمل بدعواه لاتهامه على نقض بيع الإمام الواقع بوجه جائز، وكذا لا يعمل بقوله كنت أولدتها إلا أن يحضره ويقول: هو ولدها، إن لم يتهم فيها لمحبة ونحوها فلا ترد إليه ولا يرد ثمنها وقول المص في الاستلحاق: ورد ثمنها، مقيد بما إذا ردت إليه كما مر أنه يفيده النقل خلافا للطخيخي، فإن لم ترد هي لم يرد الثمن ويفعل به ما شاء، وإذا ثبت عدم رد الثمن في هذه الحالة التي هي أقوى من دعوى العتق فأولى في دعوى العتق، ومفهوم قال أنه إذا ثبت ذلك ببينة عمل بمقتضاها. قاله عبد الباقي. وقد مر أن قوله: ومضى بيعه أي بعد السنة، وقال الشبراخيتي: ومضى بيعه إذا كان لمصلحة ولو قبل السنة، وقوله: ومضى أي ويجوز ابتداء. انتهى.

تنبيهات: الأوَّل: قال الحطاب: قال الرجراجي: فإن ادعى أنها ولدت منه فلا يخلو من أن يكون معها ولد أم لا، فإن كان معها ولد فهل ترد إليه أم لا؟ على قولين منصوصين في المدونة، أحدهما: [أنها

(1)

] ترد إليه سواء اتهم أم لا، وهو قول أشهب والثاني: أنها ترد إليه إن لم يتهم،

(1)

في الأصل أنه والمثبت من الحطاب ج 6 ص 290 ط دار الرضوان.

ص: 627

وإن اتهم فيها لم ترد إليه، وهو قول ابن القاسم، فإن لم يكن معها ولد فإن اتهم فيها لم ترد إليه قولا واحدا، وإن لم يتهم فهل ترد إليه أم لا؟ المذهب على قولين قائمين من المدونة، أحدهما: أنها لا ترد إليه، وهي رواية أكثر الأندلسين، وهي رواية [ابن

(1)

] اللباد. والثاني: أنها ترد إليه، وهي رواية أكثر القرويين وعليه اقتصر الشيخ أبو محمد وابن أبي زمنين والْبَرَادُعي وحكاها ابن حبيب عن ابن القاسم.

الثاني: قال الحطاب قبل هذا الكلام: قال في المدونة: ولو كانت أمة فباعها الإمام بعد السنة ثم جاء سيدها فقال: قد كانت ولدت مني وولدها قائم فإنها ترد إليه إن كان ممن لا يتهم. وقاله ملك فيمن باع جارية له وولدها ثم استلحق الولد أنه إذا كان ممن لا يتهم على مثلها ردت إليه، ولو قال: كنت أعتقتها لم يصدق ولم ترد إليه إلا ببينة، قيل: فإن لم يكن معها ولد فقال بعدما باعها: كانت ولدت مني، قال: أرى أن ترد إليه إن لم يتهم فيها. قال عبد الحق: إنما قال في العتق لا يصدق، وفي الاستيلاد يصدق إن لم يتهم فيها من أجل أن العتق سبيله أن يتوثق فيه ويشهد، هذا عادة الناس فلما لم يثبت ذلك اتهم، وولادة الأمة ليس شأن الناس فيها الإشهاد والإشهار، فإذا انتفت التهمة صدق. انتهى. وقوله في المدونة: يتهم، قال عياض: يعني بصبابة إليها. انتهى. من أبي الحسن. والله أعلم.

الثالث: قد مر قول المص: ووقف سنة ثم بيع، قال الحطاب: قال الرجراجي: قال ملك في المدونة: لم أزل أسمع أن الآبق يحبس سنة وذلك يختلف باختلاف الأحوال، وتحصيله أن العبد لا يخلو من أن يخشى عليه الضَّيعة في هذا الأمد أم لا، فإن خيف بيع قبل السنة وهي رواية عيسى عن ابن القاسم، وهي تفسير لقول ملك، وإن لم يخش عليه فهل ينتظر به سنة وهو مذهب المدونة وهو المشهور، والثاني أنه لا يوقف سنة وإنما يوقف قدر ما يتبين أمره وهو قول سحنون، وقال في سماع أشهب: إنه إذا عرفه فلم يجد من يعرفه أن يخليه خير له من أن يبيعه

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من الحطاب ج 6 ص 290 ط دار الرضوان.

ص: 628

فيهلك ثمنه، ويوكل أو يطرح في السجن فيقيم ولا يجد من يطعمه. قال ابن رشد: أما الأُبَّاق فساوى في هذه الرواية بينهم وبين ضوال الإبل في أنهم يُرْسَلَونَ إذا عُرِّفُوا فلم يُعْرَفُوا، وقال في المدونة: إنهم يحبسون ثم يباعون فتحبس أثمانهم لأربابهم ولا يرسلون، والظاهر أن ذلك اختلاف من القول، وعلى ذلك يحمله الشيوخ، والأولى أن لا يحمل ذلك على الخلاف، فيكون الوجه في ذلك أنه إن خشي عليه أن يضيع في السجن بغير نفقة وأن يتلف ثمنه إن بيع كان إرساله أولى من حبسه على ما قال في هذه الرواية، وإذا لم يخش عليه أن يضيع في السجن ولا يتلف ثمنه إن بيع كان حبسه سنة ثم يبيعه بعد السنة واستمساك ثمنه أولى من إرساله، وموضع الخلاف عند من حمله على الخلاف إنما هو إذا خشي عليه أن يضيع في السجن وأن يتلف ثمنه إذا بيع، فمرة رأى أن إرساله أولى ليلا يضيع أو يتلف ثمنه، ومرة رأى أن حبسه وبيعه واستمساك ثمنه أولى ليلا يأبق ثانية، والاختلاف إنما هو بحسب الاجتهاد وأي الخوفين أشد، وأما إن لم يخش عليه أن يضيع في السجن ولا أن يتلف ثمنه إذا بيع فلا يرسل ليلا يأبق قولا واحدا، وإن لم يخش عليه أن يضيع في السجن وخشي على ثمنه أن يضيع لموجب أن يسجن سنة يعرف فيها ثم يسرح ولا يحبس أكثر منها التي هي حد تعريف اللقطة، ولو لم يخش على ثمنه ضياعا وخشي عليه إن سجن لموجب أن يباع ويوقف ثمنه ولا يسجن. انتهى. فتأمله. والله أعلم. وقد مر قول المص: فإن أخذه رفعه للإمام، وهو كقوله في المدونة: رفعه إلى الإمام، أبو الحسن: ظاهره أنه مطلوب بذلك وإن كان لا يجب عليه، فالرفع إلى الإمام أولى، وله أن يفعل فيه ما يفعل الإمام، وقوله: ويكون فيما أنفق عليه كالأجنبي، يظهر منه أن الأجنبي يفعل فيه ما يفعل الإمام ولا يجب عليه الرفع. انتهى. وقال الرجراجي: فإن أخذه فلا يخلو السلطان من أن يكون عدلا أو جائرا، فإن كان عدلا خير في الرفع إليه، وإن كان جائرا فلا ينبغي أن يرفعه إليه ويُعَرّفُه سنة وينفق عليه ويكون حكمه في النفقة حكم السلطان. انتهى.

الرابع: قال الشبراخيتي عند قوله: وإن قال ربه: كنت أعتقته والظاهر أن له أخذ ثمنه، ويفهم من قوله: وإن قال: لخ، أنه لو ثبت ذلك بالبينة فإن المبيع ينتقض، وينبغي أن تذهب نفقته

ص: 629

عليه ولا تكون في ذمة العبد، وكلامه يفيد أن غير العتق من تدبير، ونحوه أولى بهذا الحكم، وقد صرح بذلك الرجراجي. انتهى.

وله عتقه، يعني أن رب الآبق له أن يعتقه في حال إباقه، قال عبد الباقي: وله أي لرب الآبق عتقه حال إباقه وتدبيره وإيصاء به وتصدق به على الغير. انتهى. وقال الشبراخيتي: وله أي لرب الآبق عتقه ناجزا مجانا وعن ظهاره، ويمنع من زوجته حتى تظهر حياته وسلامته من العيوب، وإلى أجل وكتابته وتدبيره والتصدق به والوصية به، وقال التتائي: وله أي رب الآبق عتقه ناجزا مجانا، وعن ظهاره وإلى أجل وكتابته وتدبيره والتصدق به، وقال: وله عتقه لخ، أبو الحسن: وجميع المعروف فيه جائز. ابن يونس: وهو لازم وكذلك عتقه إلى أجل، فإن جعل الأجل من يوم أبق ثم لم يقدر عليه حتى انقضى الأجل كان حرا. انتهى. وقال التتائي: وأما عتقه عن الظهار فجائز ويمنع من زوجته حتى تعلم حياته وسلامته من العيوب يوم العتق، وأما عتقه إلى أجل فإن جعل الأجل من يوم عتقه ولم يقدر عليه حتى مضى الأجل فهو حر، وقبله خدمه بقيته وإن جعله بعد وجوده جاز واستونف الأجل بعد وجوده، وأما كتابته فتجوز موقوفة على رضاه إن وجده، وفائدتها الآن انعقادها على السيد فإن قبلها العبد لم يكن للسيد رجوع، ذكره كله في التبصرة. انتهى.

وهبته لغير ثواب، يعني أن الآبق لربه أن يهبه لغير الثواب، قال الخرشي: يعني أن لرب الآبق أن يعتقه ويهبه لغير الثواب، وأما للثواب فلا يجوز لأنها بيع والآبق لا يجوز بيعه. انتهى المراد منه. وقال الشبراخيتي: وهبته لغير ثواب، وأما الثواب فلا تجوز كبيعه للغرر. ونحوه للتتائي وعبد الباقي.

وتقام عليه الحدود، يعني أن الآبق إذا فعل حال إباقه فعلا يوجب عليه الحد فإنه تقام عليه الحدود وجوبا. قال عبد الباقي: أي يقيمها السلطان ولو رجما كاللواط فاعلا أو مفعولا، ونص على ذلك ليلا يتوهم أنها لا تقام عليه لغيبة سيده ولتعلق حق من أنفق عليه خشية ضياعها بموته في الحد. انتهى. وقال الشبراخيتي: وتقام عليه أي على الآبق الذي رفع للحاكم أو بقي

ص: 630

عند أخذه الحدود إن سرق أو زنى أو قذف، أي تجب إقامة الحدود عليه، وإنما نص على هذا لأنه قد يتوهم أنه لا يقام عليه الحدود فيما إذا كان في يد من أنفق عليه نفقة، وكان يخشى إن أقيم عليه الحد أن يموت خشية ضياع نفقة النفق فنص عليه لدفع هذا التوهم. انتهى. ونحوه للخرشي، وقال التتائي عند قوله: وتقام عليه الحدود: ونحوه في المدونة. البساطي: تحير الشارح في فائدة هذا الكلام حتى قال: انظر وعندي أنه لا تقرر أن السيد يقيم الحد على رقيقه قد يتوهم منه أن السلطان لا يقيمه على الآبق فدفع هذا التوهم. انتهى. وسبق الشارح إلى هذا التنظير المغربي حيث قال في قول المدونة: إنه يقيم عليه الحد: انظر ما الذي يتوهم؟ قلت: خاف أن يتوهم أن غيبة سيده تمنع من إقامة الحد عليه فنفاه. انتهى. ولما لم يستحضر البساطي هذا الجواب أو لم يقف عليه قال. وعندي. والله أعلم.

وضمنه إن أرسله، يعني أن من أخذ آبقا فأرسله بعد أخذه فهلك فإنه يضمنه، قال عبد الباقي: وضمنه الملتقط إن أرسله بعد أخذه فهلك، ولو كان إرساله لشدة النفقة عليه أي ضمن قيمته يوم الإرسال إذا حضر. انتهى. أي إذا حضر ربه. والله سبحانه أعلم. وقال الخرشي: يعني أن العبد الآبق إذا أرسله الذي أخذه فهلك ثم جاء ربه فإنه يضمنه له ولو كان أرسله لشدة النفقة عليه. وقال التتائي: وضمنه آخذه إن أرسله بعد أخذه نحوه في المدونة. قال ابن عبد الحكم:

إلا إن أرسله لخوف منه، فإنه لا يضمنه حينئذ، وقال المواق: من المدونة قال ملك: من أخذ آبقا فأبق منه فلا شيء عليه، وإن أرسله بعد أخذه ضمن. قال ابن عبد الحكم: ولو خاف بعد أن أخذه لعذر، كما لو خاف أن يقتله أو يضربه فلا شيء عليه، وإن أرسله بعد أخذه لشدة النفقة فهو ضامن. انتهى. وقال التتائي: إلا لخوف منه أن يقتله أو يضربه فلا يضمنه حينئذ، وظاهره أنه لا ضمان عليه إن أرسله في حاجة فأبق، وإن كانت مما يأبق في مثلها خلافا لأشهب في تضمينه فيما يأبق في مثله، وأما حاجة خفيفة فلا لأنه ليس بتفريط عادة. انتهى. وقال الشبراخيتي عقب نقله هذا الكلام: وفيه نظر، فقد ذكر الش كلام أشهب ولم يذكر له مقابلا، ويمكن دخوله في كلام المص، وفي كلام المواق ما يدل عليه، والظاهر أنه حيث وجدت قرينة

ص: 631

بتصديق أحدهما عمل بها وإلا فالأصل أنه أرسله لخوف منه، لأن الأصل عدم العداء، وانظر إذا خاف منه ولكنه يمكنه التحفظ منه فهل يرسله ولا يكلف الحيلة في التحفظ منه أو لا يرسله؟ والظاهر ارتكاب أخف الضررين، وفي الحطاب ما يفيد ذلك. انتهى. وقال عبد الباقي: إلا لخوف منه أن يقتله أو يؤذيه أو يسرق متاعه، أو من السلطان بسبب أخذه أن يفعل به ما ذكر حتى الصفع لذي مرؤة فيما يظهر، فلا يضمنه لربه إذا هلك بإرساله، ويقبل قوله: إنه خاف منه بقرائن الأحوال، والظاهر أن عدم الضمان حيث لا يمكن رفعه للإمام وإلا فليرفعه ولا يرسله وإلا ضمن، والظاهر أنه إذا أمكنه التحفظ منه بحيلة أو أجرة عند خوفه منه لا يرسله ارتكابا لأخف الضررين، وقال الشبراخيتي: وضمنه آخذه إن أرسله بعد أن أخذه إلا لخوف منه أن يقتله أو يضربه أو يسرق ماله فإنه لا ضمان عليه إذا أرسله كما قاله ابن عبد الحكم، والظاهر أن هذا حيث لا يمكن رفعه للإمام وإلا فليرفعه ولا يرسله. قاله الحطاب: فإن أرسله ضمن. وقال الحطاب: قال الرجراجي: فإن أرسله لعذر كما إذا خاف منه أن يقتله أو يضربه أو يذهب بحوائج بيته ونحو ذلك، فقد قال ابن عبد الحكم: لا ضمان عليه وينبغي أن لا يختلف فيما إذا غلب على الظن الخوف، كما إذا ظهر من ظواهر العبد ثم قال: وليس شدة النفقة بعذر يسقط عنه الضمان. قاله ابن عبد الحكم. انتهى. والظاهر أن هذا إذا لم يمكن رفعه إلى الإمام وإلا فلا يرسله وليرفعه إلى الإمام. فتأمله. انتهى. وقوله: منه، ليست من للتعليل بل هي للتعدية. قاله بناني.

كمن استأجره فيما يعطب فيه، يعني أن من استأجر عبدا آبقا أو غير آبق بغير إذن سيده في عمل يعطب فيه وعطب أو سلم فإنه يضمن قيمته يوم الإيجار في الأول أي فيما إذا عطب ومنفعته في الثاني أي فيما إذا سلم حيث كان لها بال، قال عبد الباقي: وشبه في الضمان قوله كمن استأجره من الملتقط أو من نفس العبد الآبق فيما أي في عمل يعطب فيه وعطب أو سلم فيضمن قيمته يوم الإيجار في الأول ومنفعته في الثاني إن كان لها بال، وسواء علم المستأجر أنه آبق أو لم يعلم، فيضمن المستأجر، ويقدم على الملتقط إن آجر لأنه مباشر، والملتقط متسبب. انتهى. وقال

ص: 632

الشبراخيتي: كمن استأجره من نفسه أو غيره لأنه مباشر وغيره متسبب، والمباشر مقدم على المتسبب فيما أي في عمل يعطب فيه وعطب أو سلم فإنه يضمن، لكنه يضمن فيما إذا سلم قيمة المنفعة، وكلام المصنف صادق بهذا إذ الضمان يشمل ضمان الذات وضمان المنفعة، وقال التتائي: كمن استأجره فيما أي في عمل يعطب فيه فعطب فإنه يضمن، ونحوه في المدونة في موضع ودرج عليه المؤلف، وفي موضع أطلق الضمان ولم يقيده بكونه يعطب في مثله، وأما إن لم يعطب فالأجرة لربه فيما له بال لأنه منفعة عبده، وقال الخرشي: قوله: استأجره أي من نفسه أو من غيره لأنه مباشر وغيره متسبب والمباشر مقدم. انتهى. وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: من استأجر آبقا فعطب في عمله ولم يعلم أنه آبق ضمنه لربه. وقاله ملك فيمن واجر عبدا على تبليغ كتاب أو لبلد ولم يعلم أنه عبد فعطب في الطريق أنه يضمنه. انتهى. وبهذا تعلم أن من استأجر عبدا بغير إذن سيده فيما يعطب فيه وعطب فإنه يضمنه سواء كان آبقا أو لا، علم أنه عبد أو لا، علم أنه آبق فيما إذا كان آبقا أو لا. قاله مقيده عفا الله عنه.

لا إن أبق منه لأ يعني أن من أخذ آبقا ثم ادعى أنه أبق منه أوأنه مات أوتلف فلا شيء عليه. قال الخرشي: يعني أن من أخذ عبدا آبقا فادعى أنه أبق من عنده أو أنه مات أو تلف مثلا فإنه يصدق بلا يمين ولا ضمان عليه لأنه أمين. انتهى. وقال عبد الباقي: لا إن التقط آبقا ثم بعد أخذه ادعى أنه أبَق بفتح الباء منه أي من عند ملتقطه أو أنه مات عنده أو تلف فلا ضمان عليه لربه حيث لم يفرط لأنه أمين ولا يمين عليه. انتهى. وقال الشبراخيتي: لا إن أبَق بفتح الباء وفي مضارعه الكسر والفتح والضم لأنه جاء من باب ضرب ومنع ودخل، منه أي من آخذه حيث لم يكن أرسله في حاجة أو أرسله في حاجة لا يأبق في مثلها، وفي القاموس: أبق العبد كسمع وضرب ومنع أبقا ويحرك وإباقا ككتاب ذهب بلا خوف ولا كد عمل أو استخفى ثم ذهب فهو آبق وأبوق جمعه ككفار ورُكَّع. وقال المواق: من المدونة قال ملك: من أخذ آبقا فأبق منه فلا شيء عليه، وقال التتائي: لا إن أبق منه أي من ءاخذه فلا شيء عليه إن لم يفرط وقال الحطاب: يعني أن العبد إذا أبق من الذي هو في يديه فلا ضمان عليه، ثم بالغ فقال:

ص: 633

وإن كان هذا الذي في يديه مرتهنا، أي أخذه من ربه على جهة الرهن لكن يحلف، فقوله: وحلف، راجع إلى مسألة الرهن لأنه إذا أبق منه، قال الرجراجي: فلا يخلو أن يهرب من الدار أو يرسله إلى بعض حوائجه، فإن أبق من داره فإن ظهر ذلك واشتهر قبل قوله بلا يمين قولا واحدا كان [مما يتهم

(1)

] أم لا، فإن لم يكن إلا دعواه هل يحلف أم لا؟ المذهب على ثلاثة أقوال، أحدها: أنه لا يمين عليه، وهو ظاهر المدونة. والثاني: أنه يحلف لقد انفلت منه من غير تفريط، وهو قول ابن الماجشون. والثالث: إن كان من أهل التهمة حلف وإلا فلا، وإن أرسله في حاجة خفيفة فلا ضمان عليه، وإن أرسله في حاجة يأبق في مثلها فهو ضامن، وهو قول أشهب في كتابه. واقتصر ابن يونس على الثاني فانظره فيه. انتهى كلام الحطاب. وقال عبد الباقي: وإن كان الآخذ لعبد لا بقيد كونه آبقا مرتهنا بكسر الهاء ويصح فتحها ويقدر وإن كان الآبق عبدا مرتهنا وفيه على كل منهما استخدام، لأن الكلام كان في آخذ الآبق إذا ادعى آخذه أنه أبق منه فخرج منه لأخذ العبد رهنا في دين فادعى المرتهن أنه أبق منه فلا ضمان عليه لأنه مما لا يغاب عليه فإن وجده سيده وقامت الغرماء عليه فالمرتهن أحق به إن كان قد حازه قبل الإباق، إلا أن يعلم أنه بيد الراهن فتركه حتى فلس فهو أسوة الغرماء، وحلف المرتهن أنه أبق بغير تفريطه، ولم يحلف الملتقط كما مر مع أنه أمين أيضا لأن نفقته في رقبة العبد، فلا يتهم في إباقه لضياع نفقته عليه، ونفقة المرتهن في ذمة الراهن. انتهى. وقال الشبراخيتي: وإن مرتهنا، أي أن العبد إذا أبق من المرتهن فإنه لا ضمان عليه، وحذف كان المحذوفة مع اسمها بعد إن، ويصح فيه فتح الهاء وكسرها، أي وإن كان العبد مرتهَنًا أو وإن كان آخذ العبد موتهنا لا بقيد كون الأخذ من إباق، فهو كقول ابن الحاجب: وفي لبن الجلالة وبيضها ففيه استخدام، كما قال ابن غازي، ويمكن أن يقال: منه، أي ممن هو في يده وإن كان الذي هو في يده مرتهنا فلا استخدام، وهذا أولى من كلام ابن غازي، وحلف المرتهن أنه أبق على إحدى روايتي المدونة، والأخرى: لا

(1)

في الحطاب ج 6 ص 221: ممن يتهم ط دار الرضوان.

ص: 634

يمين، قال التتائي: لا خصوصية للإباق بل وكذلك دعوى التلف والموت إلا أن يدعي موته في مستعتب. انتهى. ومحل الخلاف في اليمين وعدمه إذا لم يتبين كذبه، أما لو تبين كذبه فهو ضامن من غير نزاع. انتهى. وقوله: لا إن أبق عطف على إن أرسله، وقال المواق: وإن مرتهنا وحلف، من المدونة: إذا أبق العبد الرهن لم يضمنه المرتهن وصدق في إباقه ولا يحلف وكان على حقه، وفي رواية الدباغ: يحلف. انتهى. وقال التتائي: وحلف أنه أبق، كذا في إحدى روايتي المدونة. عياض: وهي التي في كتب شيوخنا وفي أصل ابن عتاب وابن سهل، وهي رواية الدباغ، وعليها اختصر أبو محمد، والرواية الأخرى لا يحلف، وعليها اختصر البرادعي وابن يونس وابن ناجي. انتهى.

واستحقه سيده بشاهد ويمين، مني أن من أقام شاهدا على عبد آبق أنه له يحلف أنه له ويستحقه، وأما لو أقام عليه شاهدين فإنه يأخذه بلا يمين، قال عبد الباقي: ومن التقط آبقا لم يعرف سيده فحضر استحقه سيده ملكا بغير استثناء بشاهدٍ أقامَه ويمينٍ، ولو شهد له شاهدان أخذه بغير يمين. قاله غير واحد. وقال المواق: من المدونة: قال ملك: من اعترف آبقا عند السلطان وأثبت شاهدا حلف معه وأخذ العبد.

وأخذه إن لم تكن إلا دعواه إن صدقه، يعني أنه إذا ادعى شخص أن الآبق عبده وصدقه العبد على ذلك، فإنه يأخذه بذلك لأن الاعتراف حجة، وذلك بعد أن يتلوم الحاكم في أمره، ويضمنه إن جاء غيره بأثبت مما جاء به. قوله: وأخذه، أي حوزا بعد الاستيناء لا ملكا، ولهذا غاير بين العبارتين فعبّر في الأولى باستحق المقتضي للملك، وفي الثاني بأخذ المشعر بالحوز، وذلك بعد الرفع للحاكم. انتهى. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: ومن ادعى أن الآبق له ولم يُقِم على دعواه بينة أخذه إن لم يكن إلا دعواه من غير منازع له إن صدقه العبد أنه سيده، قال ابن يونس: يأخذه بعد التلوم، يعني باجتهاد الحاكم وهذا مأخوذ من كلام المصنف، لأنه لا يعلم حصر دعواه إلا بعد الاستيناء والتلوم، وفي مفهوم صدقه تفصيل، وهو أنه إن وصفه ولم يقر لغيره أو أقر لغيره وكذبه ذلك الغير فيدفع له أيضا، وإن صدقه دفع لمن أقر له. قاله الحطاب. وأما إن

ص: 635

لم يصفه فلا يدفع له بحال حيث كذبه، وقال عبد الباقي: وأخذه إن لم يكن إلا دعواه أنه عبده من غير شاهدين أو شاهد ويمين إن صدقه العبد على دعواه وصفه أم لا، أقر العبد بعد ذلك أنه لغيره أم لا، إذ لا يعتبر إقراره ثانيا لغير من صدقه قبل ذلك، وذلك أي الأخذ بعد الرفع للحاكم وتلومه في أمره، ويضمنه إياه إن جاء غيره بأثبت مما جاء به، وقوله: وأخذه، أي حوزا بعد الاستيناء واليمين لا ملكا، ولذا غاير حيث عئر في الأولى باستحقة المقتضي للملك، وفي الثاني بأخذ الشعر بالحوز، فليس له وطؤها إن كانت أمة فيما بينه وبين الناس، وله فيما بينه وبين الله حيث كان صادقا، ومفهوم صدقه فيه تفصيل، وهو أنه إن وصفه الدعي أخذه أيضا حوزًا حيث لم يقر العبد لغيره أو أقر لغيره وكذبه ذلك الغير، فإن صدقه نزع من الأول وكان لمن صدقه العبد وإن لم يصفه. انتهى. وقال بناني: اعلم أن الذي في المدونة هو أنه يدفع إليه. فقال ابن يونس: يريد بعد الاستيناء. وقال أشهب: وبعد أن يحلف. فظاهره أنه وفاق، وجعله عبد الحق خلافا لها لأنه عارض بين سقوط اليمين هنا ووجوبها مع الشاهد، وأجاب بأنه يأخذه حوزا ومع الشاهد ملكا. انتهى. وقال المواق: من المدونة: إن ادعى أن هذا الآبق عبده ولم تقم بينة فإن صدقه العبد دفع إليه يريد بعد التلوم وتضمينه إياه، قال ملك: في متاع وجد مع لصوص يدعيه قوم لا يعرف ذلك إلا بقولهم إن الإمام يتلوم فيه فإن لم يأت سواهم دفعه إليهم فكذلك الآبق. قال أشهب: لأن هذا أكثر ما يوجد. انتهى. وقال التتائي: وأخذه إن لم يكن إلا دعواه من غير منازع له إن صدقه الآبق أنه ربه. قال ابن يونس: بعد التلوم ويضمنه إياه. انتهى. وفي المدونة: إن اعترف العبد أنه رق ولكن يقول: ليس هذا سيدي وإنما سيدي فلان ببلد كذا، قال: يكتب السلطان إلى البلد فإن كان كما قال وإلا ضمن هذا ودفعه إليه، وإن وصف العبد رجل وأقر هو لآخر قدم المقر له. انتهى. وقال الحطاب عند قوله: وأخذه إن لم يكن إلا دعواه إن صدقه: هذا نحو قوله في المدونة: وإن ادعى أن هذا الآبق عبده ولم تقم بينة فإن صدقه العبد دفع إليه. ابن يونس: يريد بعد التلوم ويضمنه إياه. قال أشهب في كتابه: بعد أن يحلف مدعيه، ثم إن جاء له طالب لم يأخذه إلا ببينة عادلة وإن أقر له العبد بمثل ما أقر للأول من الرق. انتهى.

ص: 636

تنبيه: قال الرجراجي: فإن ادعاه يعني الآبق أحد بغير بينة يقيمها فلا يخلو العبد من أن يقر له أم لا، فإن أقر له أخذه بعد الاستيناء ويضمنه كما لو اعترف له وهو قول ابن القاسم في المدونة وغيرها، والثاني لا يدفع له وهو قول أشهب، واعلم أن ابن القاسم إنما قال: يدفع إليه وإن لم يقر له إذا وصفه ولم يعترف لغيره بالرق. وقال الشيخ أبو الحسن: قال اللخمي: إن اعترف الآبق لأحد بالرق كان لمن اعترف له دون من وصفه قولا واحدا، فإن اعترف لغائب كتب إليه فإن ادعاه كان أحق به، واختلف إذا أنكر العبد هذا المدعي ولم يقر لغيره وهو مقر بالعبودية، أو قال: أنا حر، وهو معروف بالرق، هل يكون لمن ادعاه؟ فأما بالصفة فأرى أن يدفع إليه إذا وصفه صفة تخفى وليست ظاهرة، فمفهوم الشرط في قول المؤلف: إن صدقه ليس على إطلاقه، بل وكذلك يدفع إليه وإن لم يصدقه إذا وصفه ولم يقر لغيره أو أقر وأكذبه الغير. انتهى كلام الحطاب.

وليرفع للإمام إذا لم يعرف مستحِقَّه، بكسر الحاء يعني أن من أخذ آبقا لا يعرف ربه ثم جاء رجل فادعى العبد أنه له فإنه لا يدفعه له إلا بعد الرفع للإمام، فليس هذا مكررًا مع قوله: فإن أخذه رفعه للإمام، ولا يخفى أن هذا اقتحم النهي أولا وثانيا، أما أولا فحيث التقط آبقا لا يعرف مالكه، وأما ثانيا فحيث أبقاه بيده ولم يرفعه للإمام، ويَحْتَمِلُ أن معنى كلامه إن التقط من يعرف مالكه فمات ثم جاء شخص لا يعرف أنه وارثه، أو التقط من يظن أنه لزيد الذي يعرفه فجاء غيره فادعاه فليرفعه للإمام عند مجيء الوارث أو المدعي أنه ربه ومن بيده لا يعرفه، ويحتمل أنه التقط عبدا لا يعرف سيده فإنه يرفعه للإمام، وعليه فهو مكرر مع قوله: فإن أخذه رفعه ل 4 لإمام، وأعاده ليرتب عليه قوله: إن لم يَخَفْ ظلمَه، أي إنما يرفعه للإمام إذا لم يخف ظلم الإمام بأن كان الإمام عادلا، وأما إن خاف ظلمه فلا يرفعه للإمام، ويجري فيه قوله: واستحقه سيده بشاهد ويمين لخ، كما أنه يجري ذلك فيما إذا رفعه للإمام حيث لم يخف ظلمه. وإن أتى رجل أبق له عبد من قُطر إلى قاضي قُطر ’خر بكتاب أي مكتوب قاض قد أقام عنده الرجل الذي أبق له عبد ببينة تشهد بأنه أبق له عبد صفته كذا وحليته كذا وكان ذلك الوصف

ص: 637

مطابقا لوصف عبد آبق بالقطر الذي فيه القاضي الذي أتى الرجل إليه بالكتاب، ويبدل من قوله: كتاب قوله: أنه قد شهد عندي أن صاحب كتابي هذا فلان خبر مبتدأ محذوف، أي وهو فلان أو بدل من اسم أن على مذهب الكوفيين، وخبر أنَّ الثانية هو قوله: هرب منه عبد ووصفه فليدفع إليه وجوبا بذلك، ولا لجث عن البينة ولا يطلب إحضارها إليه بعد يمين القضاء أنه ما خرج عن ملكه. قال الخرشي مفسرا للمص: يعني أن من أبق له عبد من قطر إلى قطر فأقام صاحب العبد بينة عند قاضي قطره شهدت له أنه أبق له عبد ووصفته البينة وحَلَّته وصفا يطابق العبد الذي هو عند القاضي المرسل إليه الكتاب المتضمن للشهادة المذكورة، فإذا جاء هذا الكتاب إلى القاضي المرسل إليه ووجد فيه ما يطابق العبد الذي عنده فإنه يدفع العبد لصاحبه بذلك، فقوله: بكتاب أي مكتوب قاض والمكتوب هو ما في الكاغد، فقوله: إنه قد شهد عندي لخ، بدل كل من كل، وقوله: فلان بدل من محل اسم أن، لأن محله رفع بالابتداء، والخبرُ قوله: هرب. والله تعالى أعلم. وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: وإن أتى رجل إلى قاض بكتاب من قاض يذكر فيه أنه قد شهد عندي قوم أن فلانا صاحب كتابي هذا إليك قد هرب منه عبد صفته كذا فحلَّاه ووصفه في الكتاب، وعند هذا القاضي عبد محبوس على هذه الصفة، فليقبل كتاب القاضي والبينة التي شهدت فيه على الصفة، ويدفع إليه العبد. انتهى. وقال الشبراخيتي: وإن أتى رجل بكتاب قاض أي مكتوب قاض والمكتوب هو ما في الكاغد، وحينئذ فقوله: قد شهد عندي أن صاحب كتابي هذا لخ، بدل اشتمال أو بدل كل من كل فلان ليس خبرًا لأن الثانية، لأنه ليس محط الفائدة وإنما مَحَطُّها هرب لخ، فكان الأولى نصبه على أنه بدل من اسم أن لأنه منصوب، فرفعه على أنه بدل من محل اسم أن لأنه في محل رفع بالابتداء عند من لا يشترط المُحرِزَ وهم الكوفيون، والخبر قوله: هرب منه عبد ووصفه القاضي في الكتاب، وعند القاضي المكتوب إليه عبد محبوس بهذه الصفة، فليدفع هذا العبد إليه بذلك ويقبل الكتاب والبينة التي فيه على الصفة، وذلك بعد يمين القضاء أنه ما خرج عن ملكه، ونحوه في المدونة. انتهى. وقال التتائي: وإن أتى رجل بكتاب قاض إلى قاض، قال الشارح: أو نحوه ممن يلي أمور الناس في ذلك الموضع أنَّه شهد عندي أن صاحب كتابي هذا فلان هرب منه عبد صفته كذا وحلَّاه ووصفه

ص: 638

وعند القاضي المكتوب إليه عبد محبوس على هذه الصفة فليدفع هذا العبد إليه بذلك ويقبل الكتاب والبينة التي فيه على الصفة، ونحوه في المدونة. والله تعالى أعلم. وقال عبد الباقي: وإن أتى رجل أبق له عبد من قطر إلى قاضي قطر آخر عنده آبق، فأقام بينة عند قاضي قطره شهدت له أنه أبق له عبد صفته كذا وحليته كذا وصفا يطابق الذي في القطر الآخر، وكتب له به كتابا، فأتى بكتاب أي مكتوب قاض، وذكر ما كتب فيه بدل كل من كل بقوله: أنه قد شهد عندي أن صاحب كتابي هذا فلان هرب منه عبد ووصفه فليدفع إليه بذلك، ولا يبحث عن البينة ولا يطلب إحضارها إليه بعد يمين القضاء أنه ما خرج عن ملكه، ثم نقل عن الشيخ أحمد ما يقتضي أنه رفع فلان على أنه بدل من اسم أن الثانية عند من لا يشترط وجود المُحْرِزِ وهم الكوفيون. انتهى المراد منه. والمُحْرِزُ هو الطالب لذلك المحل، وهو هنا الابتداء، ولم يوجد بل انعدم لأجل وجود الناسخ. والله سبحانه أعلم. وما ذكره المص هنا لا يخالف قوله في القضاء: ولم يفد وحده، قال بناني: قال مصطفى: الظاهر أنه قبل هنا وحده لخفة الأمر فيه إذ له أخذه بمجرد قوله، وقد أشار لهذا في المدونة. انظر تمامه.

ولما كان الإنسان لا يقوم بمعيشته غالبا إلا باجتماعه مع غيره وهو مود للتنازع عادة لاختلاف الأغراض في الأشياء، احتيج للحاكم لدفع النزاع المفضي لإتلاف النفوس، فلذا عقد للقضاء المص بابا فقال:

ص: 639