الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب: في القضاء
قال الأزهري: القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقضاء الشيء وتمامه، وقال القسطلاني: القضاء في اللغة بمعنى الأمر، ومنه {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} والمعلم منه وقضيت لك بكذا أعلمتك به، والموت منه {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} ، والإتمام منه {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} والفعل منه {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} ، والإرادة منه {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا} ، والكتابة منه {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} ، والفصل منه {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} ، والخلق {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} ، وفي الصحاح: قد يكون القضاء بمعنى الأداء، تقول: قضيت ديني، والإنهاء ومنه {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} أي أنهيناه إليه وبلغنا له ذلك، وقال الشيخ طفى: اختلف أهل التفسير في معنى قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} ، والأكثر أنه بمعنى أمَر لا حَكَمَ إذ لو حكم لم يقع إلا ما حكم به. ابن عطية: ويصح أن يكون بمعنى حكم على أن الضمير في أن لا تعبدوا للمؤمنين. انتهى.
ويقال: قضى نحبه أي مات، وأصل النحب النذر واستعير للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان. وقال القرافي قوله تعالى {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ}: [أي امضوا إلي
(1)
] ويقال استقضي فلان أي صير قاضيا، وفي الخرشي: القضاء الحكم والجمع الأقضية، والقضية مثله والجمع القضايا، وعرف ابن عرفة القضاء عند أهل الشرع بقوله: صفة حكمية توجب لموصوفها نفوذ حكمه الشرعي ولو بتعديل أو تجريح لا في عموم مصالح المسلمين، فيخرج التحكيم وولاية الشرطة وأخواتها والإمامة، قوله: صفة حكمية، يعني أن القضاء في الشرع معنى حكمي لا فصل بين الخصوم كما زعم بعضهم لقصوره عن الفصل الفعلي، والقضاء أعم من ذلك لأن القضاء معنى يوجب. له نفوذ الحكم فصل أو لم يفصل، وقوله: نفوذ بالذال المعجمة أي مضي ولزوم، وقوله: حكمه، والمراد به الإلزام الذي يطاوعه اللزوم الذي هو النفوذ، فالقاضي هو الذي إذا ألزم أحدا شيئا لزمه، فتفسير الشيخ ميارة النفوذ في كلام ابن عرفة بالإلزام غير جيد، قال الشيخ أبو علي: وقوله: توجب لخ، أخرج به من لم تكن له هذه الصفة التي اختص بها عن غيره ولا يلزم ما
(1)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من الحطاب ج 6 ص 292 ط دار الرضوان.
ألزمه. والله سبحانه أعلم. وقول ابن عرفة: إن التحكيم يخرج من تعريفه، قال الحطاب: لم يظهر لي وجه خروجه أي لأن القاضي وإن كان له الحكم في كل شيء ولا كذلك المحكم يشاركه المحكم في النفوذ وإنما يفترقان في الجواز ابتداء. والله سبحانه أعلم. وقول ابن عرفة: ولو بتعديل لخ، أي توجب له نفوذ حكمه بكل شيء ولو كان الحكم بتعديل لخ، وقوله: لا في عموم مصالح المسلمين، أخرج به الإمامة لأن القاضي ليس له قسمة الغنائم، ولا تفريق أموال بيت المال، ولا ترتيب الجيوش، ولا قتل البغاة، ولا الإقطاعات. وفي شرح الشيخ عبد الباقي: أن ولاية الشرطة وأخواتها تخرج بقوله: الشرعي، قال الشيخ بناني: فيه نظر إذ الجميع شرعي، نعم يخرج بهذا العموم ولاية الشرطة. اهـ. وعرفه ابن رشد
(1)
بأنه: الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام، وقال الشيخ بناني
(2)
: وكما أن القضاء يطلق في الاصطلاح على الصفة المذكورة ويطلق على الحكم بين الخصمين كما يقال: قضى القاضي بكذا وقضاء القاضي حق أو باطل اهـ ولا كان مستحق القضاء هو من اجتمعت فيه أوصاف وهي ثلاثة أقسام، الأول: ما هو شرط في صحة ولايته ابتداء ودواما، وما هو شرط جواز ولايته ومتى خلا منها عزل، وما هو مستحب لا يمنع فقده صحة ولا يوجب عزلا، أشار إلى القسم الأول بقوله: باب في القضاء.
أهل القضاء عدل، يعني أن المتأهل للقضاء أي الصالح له في نفس الأمر والمستحق له من اجتمعت فيه أوصاف أربعة، أحدها: العدالة، والمراد عدل الشهادة، ويأتي للمؤلف تعريفه في باب الشهادة، وهو وصف مركب من خمسة أوصاف، الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، وعدم الفسق؛ وقوله: عدل ولو عتيقا عند الجمهور، وعن سحنون المنع لاحتمال أن يستحق فترد أحكامه، واحترز بالعدل عن غير العدل فلا تصح ولايته، وقال ابن رشد: انفرد الله تعالى بالحكم والقضاء بين عباده في الآخرة، فقال {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} ، وصرف تبارك وتعالى الحكم بينهم في الدنيا إلى من استخلفه في الأرض عليهم من
(1)
الذي في التبصرة ج 1 ص 9 ابن راشد.
(2)
كما يطلق القضاء في الاصطلاح على الصفة المذكورة كذلك يطلق على الحكم بين الخصمين البناني ج 7 ص 123.
الأنبياء، ومَن بعدهم من الخلفاء، وأُولِي الأمر من القضاة والحكام والعلماء، وفرض عليهم العدل بينهم في الحكم، وأن لا يتبعوا الهوى، ولا يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وفرض لهم على الناس التسليم والطاعة والانقياد، فقال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} . نقله الرهوني. ثانيها: أشار إليه بقوله:
ذكر، يعني أنه يشترط في تولية القاضي أن يكون ذكرا محققا، فتولية المرأة لغو لخبر: (لمن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة
(1)
). والخنثى كذلك، وروي عن ابن القاسم جواز تولية المرأة، واعلم أن القول بأن الفسق لا ينافي القضاء ضعيف جدًّا. والله سبحانه أعلم. ثالثها: أشار إليه بقوله.
فطن، يعني أنه يشترط في صحة تولية القاضي أن يكون فطنا أي جيد الذهن بأن يكون عنده من جودة العقل ما يرد به التحد متعددا، وما يرد به التعدد متحدا، وما يرد به الصحيح فاسدا، والفاسد صحيحا، كما إذا كان عند غيره متحد البلاهة أو البلادة ويكون عنده هو متعددا أو بالعكس: أو يكون عند غيره صحيحا وعنده هو فاسدا أو بالعكس، فلا يكتفى بالعقل التكليفي، بل لا بد أن يكون بَيِّن الفطنة بعيدا من الغفلة، وعَدَّ ابن رشد وابن شأس الفطنة من الصفات المستحبة، وفي الحطاب: والحق أن مطلق الفطنة المانع من كثرة التغفل من القسم الأول، يعني المشترطة [الموجبة
(2)
] للشهرة بها غير النادرة ينبغي كونها من الصفات المستحبة، فلو قال المؤلف: ذو فطنة لكان أحسن لأن فطنا من أبنية المبالغة كحذر. والله سبحانه أعلم. وقوله: فطن، قيل: يستغني عنه بعدل، قال التتائي: وليس بظاهر لأن المراد كونه أشد تفطنا بحجاج الخصوم وخداعهم. انتهى. وفي الشبراخيتي: أن فطنا من باب النسب وليست للمبالغة، وأنه من جملة ما أخذ من مفهوم العدل، وقال ابن عبد السلام: والمراد من الفطنة بحيث لا يستزل في رأيه ولا تتمشى عليه حيَل المشهود وأكثر الخصوم. انتهى.
لطيفة: قال المشدالي في حاشية المدونة: روي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بالبصرة عدي بن أرطاة أن اجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة فول القضاء أنفذهما، فجمع
(1)
البخاري، كتاب المغازي، رقم الحديث 4425.
(2)
في الحطاب ج 6 ص 294 ط دار الرضوان والبناني ج 7 ص 124 والفطنة الموجبة للشهرة لخ.
عدي بينهما وقال لهما ما عهد به عمر إليه، فقال له إياس: سل عني فقيهي المصر الحسن وابن سيرين وكان القاسم يأتي الحسن وابن سيرين وإياس لا يأتيهما: فعلم القاسم أنه إن سألهما أشارا به، فقال له: لا تسل عمي ولا عنه فوالله الذي لا إله إلا هو لإياس أفقه مني وأعلم بالقضاء، فإن كنت كاذبا فما عليك أن توليني وأنا كاذب، وإن كنت صادقا فينبغي لك أن تقبل مني قولي، فقال له إياس: إنك جئت برجل وأوقفته على شفير جهنم فنجَّى منها نفسه بيمين كاذبة فيستغفر الله منها وينجو مما يخاف، فقال له عدي: أمَا إنك إذ فهمتها فأنت لها [فاستقضاه
(1)
] انتهى. نقله غير واحد. رابعها: أشار إليه بقوله: مجتهد، يعني أنه يشترط في تولية القاضي أن يكون مجتهدا، فلا تصح تولية المقلد إن وجد المجتهد يعني المطلق، وأما غير المطلق فهو داخل في قوله: وإلا أي فإن لم يوجد مجتهد فأمثل مقلد، أي فالمتأهل للقضاء والمستحق له الأمثل أي الأفضل من المقلد وهو الذي له فقه نفس إن طبع
(2)
وقدرة على الترجيح لأقوال مذهبه ويعلم منها ما هو أجرى على قواعد إمامه، وظاهر قوله: إن وجد جواز الاجتهاد المطلق بعد الأربعة وفيه نزاع، وقوله: فأمثل مقلد، قال الشيخ بناني: هذا يقتضي أن ولاية الأمثل شرط صحة فلا تنعقد ولاية من دونه مع وجوده، ولا أظن هذا يسلم، وعبارة ابن عبد السلام وغيره: ينبغي أن يختار أعلم القلدين ممن له علم نفس. انظر الحطاب وغيره. وقوله: مجتهد، المجتهد هو الذي يقدر على إقامة الأدلة، الشبراخيتي: وظاهره يعني المص أن تولية أمثل مقلد مع وجود المجتهد باطلة، وهذا قول وعليه طائفة من أهل المذهب، وقول الآخر أنها صحيحة وعليه طائفة أيضا كالمازري وغيره، وعليه العمل في زمن ملك وغيره ممن قبله ومن بعده من المجتهدين، فكان ينبغي الاقتصار عليه أو يذكر القولين، وقوله: فأمثل مقلد، ظاهر كلام المص أنه شرط صحة وهو الذي فهمه ابن عرفة من كلام المازري وغيره، وظاهر المدونة أنه شرط كمال. انتهى. وفي الحطاب: بقي على المؤلف شرط آخر وهو أن يكون القاضي
(1)
في الأصل استقضاه والمثبت من الحطاب ج 6 ص 295 ط دار الرضوان.
(2)
كذا في الأصل.
واحدا، نص عليه في المقدمات، ونصه: فأما الخصال المشترطة في صحة الولاية فهي أن يكون حرا مسلما عاقلا بالغا ذكرًا واحدًا فهذه الستة الخصال لا يصح أن يولَّى القضاء على مذهبنا إلا من اجتمعت فيه، فإن ولِّي من لم تجتمع فيه لم تنعقد له الولاية، وإن انخرم شيء منها بعد انقضاء الولاية سقطت الولاية. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: معنى كونه واحدا أن يكون مستقلا بالحكم لا يتوقف على غيره. والله سبحانه أعلم. وهذا الذي فسرت به فسر به الشيخ ميارة وغيره: وأما تعددُ القاضي المستقل فلا خفاء فيه. والله سبحانه أعلم.
تنبيهات: الأول: قال البرزلي: إذا تحَرج الناس لعدم القضاة أو لكونهم غير عدول فجماعتهم كافية في الحكم في جميع ما وصفته وفي جميع الأشياء، فيجتمع أهل المدين والفضل فيقومون مقام القاضي مع فقده في ضرب الآجال والطلاق وغير ذلك، نقله الحطاب. وفي الرهوني عند قول المص: وكمل هو العباسي، أن جماعة المسلمين الذين ينزلون منزلة الإمام هم أهل العدالة والمعلم بما تتوقف عليه صحة الإمامة. الثاني: نص في النوادر على أنا إذا لم نجد في جهة إلا غير العدل أقمنا أصلحهم وأقلهم فجورا للشهادة عليهم، ويلزم مثل ذلك في القضاة وغيرهم ليلا تضيع المصالح، وما أظنه يخالفه أحد في هذا، لأن التكليف مشروط بالإمكان، وإذا جاز نصب المشهود فسقة لأجل عموم الفساد جاز التوسع في أحكام المظالم. قاله الحطاب. الثالث: قال في التبصرة: قال المازري في شرح التلقين: القضاء ينعقد بأحد وجهين، أحدهما: عقد أمير المؤمنين أو أحد أمرائه الذين جعل لهم العقد في مثل هذا. والثاني: عقد ذوي الرأي وأهل المعلم والمعرفة والعدالة لرجل منهم كملت فيه شروط القضاء، وهذا حيث لا يمكنهم مطالعة الإمام في ذلك، ولا أن يستدعوا منه ولايته، ويكون عقدهم له نيابة عن عقد الإمام الأعظم أو نيابة عمن جعل له الإمام للضرورة الداعية إلى ذلك.
الرابع: قال في التبصرة: قال سحنون: واختلف أبو محمد عبد الله بن فروخ وابن غانم قاضي إفريقية وهما من رواة ملك، قال ابن فرُّوخ: لا ينبغي للقاضي إذا ولاه أمير غير عادل أن يلي
القضاءت وقال ابن غانم: يجوز أن يلي وإن كان الإمام غير عادل فكتبا [بها
(1)
] إلى ملك، فقال ملك: أصاب الفارسي يعني ابن فرُّوخ وأخطأ الذي زعم أنه عربي، يعني ابن غانم، واعلم أن القاضي له الإنهاء،
(2)
وأما قوة التنفيذ فأمر زائد على كونه حاكما، فقد [يفوض
(3)
] إليه التنفيذ فقد لا يندرج في ولايته انظر التبصرة والشبراخيتي ولاية القضاء للإمام الأعظم ولنائبه إن كان عدلا وإلا فلجماعة المسلمين، وولاية الإمام للقاضي إن كانت مشافهة فلا بد من القبول على الفور، وإن كانت بإرسال فلا يشترط ذلك ولا يشترط التصريح، بل يكفي الشروع في الأحكام، ويكفي في الولاية معرفة خط المولّي دون إشهاد، ويكفي فيها الشياع فلو حكم من غير شياع مضى، وللقاضي أن يستنيب في غير محل ولايته بخلاف حكمه فلا بد أن يكون في محل ولايته، ولا تجوز تولية القضاء لمن يسأل فيه إلا أن يكون منفردا بشروط القضاء، فإن ولي مضى ونفذت أحكامه إلا أن يكون سأل التولية بدفع مال فلا تمضي ولايته ولو تعين عليه القضاء، ولا تنفذ أحكامه ولو وافقت الحق، وكذلك لا يجوز لأحد أن يدفع مالا على عزل قاض آخر ليتولى موضعه، فإن وقع فهو باطل والمعزول باق على ولايته، وكذلك لا يجوز للقاضي أن يتولى من الإمام غير العدل، ويجوز للإمام أن يولي قاضيا لا يرى مذهبه، ومن ادعى [أن القاضي
(4)
] استنابه قُبل قوله، ولا يلزمه الإثبات، لكن لا يلزم الناس العمل بمجرد قوله حتى يثبت ما ادعاه، ويشترط في القاضي معرفة الأمير الذي ولاه، والمحل الذي ولي عليه، والنوع الذي ولي فيه، وألفاظ الولاية صريحة وكناية، فالصريحة: وليتك. والكناية: أقمتك مقامي ونحو ذلك. انتهى. الخامس: اعلم أن حكمة القضاء رفع التهارج، [ورَدُّ التواثب: وقمع المظالم، ونصر المظلوم،
(5)
] وقطع الخصومات، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر قاله ابن [راشد
(6)
] وغيره. قال
(7)
في التبصرة.
(1)
في الأصل ها والمثبت من التبصرة ج 1 ص 19.
(2)
في التبصرة ج 1 ص 15 الإنشاء.
(3)
في الأصل يفرض والمثبت من التبصرة ج (ص 5) ط دار الكتب العلمية.
(4)
ساقط من الأصل والمثبت من الشبراخيتي ج أخير مخطوط بمكتبة أحمد سالك بن أبوه.
(5)
في الأصل ورد التواثق وقطع المظالم ونصه المظلوم والمثبت من التبصرة ج 1 ص 10.
(6)
في الأصل رشد والمثبت من التبصرة ج 1 ص 10.
(7)
كذا في الأصل ولعله قاله.
السادس: اعلم أن أكثر المولفين بالغوا من التحذير من الدخول في ولاية القضاء، وشددوا في كراهة السعي فيها، ورغبوا في الإعراض عنها والنفور والهروب منها، وفي الجامع الصغير: (عجَّ حجر إلى الله تعالى فقال: إلهي وسيدي عبدتك كذا وكذا سنة ثم جعلتني في أسِّ كنيف، فقال: أو ما ترضى أن عدلت بك عن مجلس القضاء
(1)
). قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: تأمل هذا الحديث الشريف حيث منَّ على هذا الحجر بالعدول عن مجلس القضاة إلى الكنيف القذر المستبشع الخبيث الرائحة الكريه المنظر الذي يكاد تزهق معه الروح لخبثه وقذارته ونفور النفوس منه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقال الزقاق بعد أن ذكر فصل القضاء:
ولكن حِذارًا يا عليما بشرعة
…
توقاه واحذر واهرب إن كنت مبتلى
تأمل حديث القاضيين وثالثا
…
وقول رسول الله يحيا مُغَلَّلا
وقوله في ذبح بلا مدية وآ
…
ية الجن فيمن جار تكفي لتعدلا
ويروى بتفضيل عُتُوّ وبغضه
…
وبعد بمن قد جار إياك والبلا
قوله حذارا بكسر الحاء منونة أي احذر، ومفعول توقاه للقضاء وحقه أن يحذف ألفه، واهرب أي منه، وقوله: وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، عطف على حديث، وكذا قوله: وقوله في ذبح وآية وفي من جار حال، وتكفي جواب تأمل، ومعنى كفاية الأحاديث والآية المذكورة معها أنه تكفي عن غيرها من الأحاديث والآي الواردة في وعيد من جار ولم يعدل، ويحتمل أنما تكون آية الجن مبتدأ ومضاف إليه وجملة تكفي خبره وفيمن جار يتعلق بتكفي، وقوله: لتعدلا يتعلق بتأمل. وقوله: بتفضيل أي بصيغته وباء بمن قد جار ظرفية تتعلق بيروى، وكذا بتفضيل يتعلق
(1)
الجامع الصغير، رقم الحديث 5396.
بيروى أيضا، وقوله: إياك والبلا تحذير من الجور، والآية التي أشار إليها هي قوله تعالى:{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} أي الجائرون، وأما الأحاديث فالأولُ منها قوله صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة، قاض عمل بالحق في قضائه فهو في الجنة، وقاض علم الحق فجار متعمدا فذلك في النار، وقاض قضى بغير علم واستحيا أن يقول: إني لا أعلم فهو في النار
(1)
) وقد يتبين من هذا أن الوعيد في القاضي الجائر أو الجاهل، وأما من اجتهد في طلب الحق على علم فأخطأ فلا يلحقه الوعيد المذكور بل هو مأجور، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد
(2)
). والثاني من الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إن القاضي يأتي يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه فيطلقها عدله ويوثقها جوره) نقله التيطي أول كتاب القضاء، ويحيى أي يبعث مضارع حيي. والثالث قوله صلى الله عليه وسلم: (من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين
(3)
). وفي هذا الحديث تنبيه على عظم هذا الأمر لأن الغالب عدم السلامة إلا من عصمه الله تعالى. والرابع قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أعتى الناس على الله وأبغض الناس إلى الله وأبعد الناس من الله رجل ولاه الله من أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم شيئا ثم لم يعدل بينهم).
وقوله صلى الله عليه: فقد ذبح بغير سكين أورده أكثر الناس في معرض التحذير من القضاء، وقال بعض أهل العلم: هذا الحديث دليل على شرف القضاء وعظم منزلته، وأن التولي له لمجاهد لنفسه وهواه، فجعله ذبيح الحق لتعظم له الثوبة، فقد استسلم لحكم الله وصَبَر على لمخالفة الأقارب والأباعد في خصوماتهم، فلم تأخذه في الله لومة لائم حتى قادهم إلى أمر الحق وكلمة العدل، وكفهم عن دعاوي الهوى والعناد. انتهى. وجاء عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (هل تدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سألوه بذلوه، وإذا حكموا للمسلمين
(1)
أبو داود، كتاب القضاء، رقم الحديث 3571 والترمذي، كتاب الأحكام، رقم الحديث 1325.
(2)
البخاري كتاب الاعتصام، رقم الحديث 7352 ومسلم، كتاب الأقضية، رقم الحديث، 1716.
(3)
أبو داود، كتاب القضاء، رقم الحديث 3471 والترمذي، كتاب الأحكام، رقم الحديث 1325.
حكموا حكمهم لأنفسهم وقال صلى الله عليه وسلم: المقسطون على منابر من نور يوم القيامة على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين. وقال عبد الله بن مسعود: لأن أقضي يوما أفضل من عبادة سبعين سنة. فلذلك كان العدل بين الناس أفضل أعمال البر وأعلى درجات الأجر.
السابع: اعلم أن حكم القضاء الوجوب كفاية، ولا خلاف بين الأمة أن القيام بالقضاء واجب، ولا يتعين على أحد إلا أن [لا
(1)
] يوجد منه عوض، وقد اجتمعت فيه شرائط القضاء فيجب عليه. ابن المناصف: ويجب على من ولي القضاء أن يعالج نفسه ويجتهد في مصالح نفسه وبذل حاله ويكون ذلك من أهم ما يجعله من باله، فيحمل نفسه على آداب الشرع، وحفظ المروءة، وعلو الهمة، ويتوقى ما يشينه في دينه ومروءته وعقله ويحطه في منصبه وهمته، فإنه أهل لأن ينظر إليه ويعتنى به، وليس يسعه في ذلك ما يسع غيره، وفي التبصرة: أنه قد تقرر في ذهن كثير من الفقهاء والصلحاء أن من ولي القضاء فقد سهل عليه دينه وألقى بيده إلى التهلكة، وهذا غلط فاحش تجب التوبة منه، إلى أن قال واعلم أن كل ما جاء من الأحاديث التي فيها تخويف ووعيد فإنما هو في حق قضاة الجور من العلماء وفي حق الجهال الذين يدخلون أنفسهم في هذا المنصب بغير علم. انتهى. وقوله: غلط فاحش، قال الشيخ ميارة ليس هو غلطا وإنما هو نظر للغالب الذي هو كالمحقق، فإن الطبيعة البشرية واحدة، وما جاز على المثل يجوز على مماثله، والعيب يحدث لمن لم يكن فيه، والنفس مجبولة على حب الدنيا والإمارة والميل للنفس والأقارب والأصحاب، فالتحذير من القضاء من باب سد الذرائع وتقديم درء المفاسد على جلب الصالح، ومن باب قول القائل:
إن السلامة من سلمى وجارتها
…
أن لا تمر بواد حول واديها
(1)
ساقط من الأصل والمثبت من التبصرة ج 1 ص 9.
وزيد للإمام الأعظم قرشي، يعني أنه يشترط في الإمام الأعظم وهو الخليفة أن يكون عدلا ذكرا فطنا مجتهدا إن وجد وإلا فأمثل مقلد، ويشترط زيادة على ذلك وصف خامس وهو كونه قرشيا، وقريش هم ولد فهر فهو جِمَاعُهُم وهذا هو الأصح والأكثرون على أنهم ولد النضر قال عبد الباقي وكون الخليفة من بني العباس [أولى
(1)
] لا واجب. انتهى. قال بناني: هذا أصله للشارح، وتبعه التتائي وعلي الأجهوري، وقال مصطفى: وذلك خطأ صراح إذ لم أو من قال إن الأولى كونه عباسيا ولا وجه له، وقول المص في الأضحية: ليس المراد أنه يطلب فيه كونه عباسيا، وإنما اختصر قول اللخمي وغيره: وهل الإمام المعتبر سبقه الخليفة كالعباسي اليوم. انتهى. وقال ذلك لأنه في زمن دولة بني العباس فافهم، وقد نبهنا على ذلك في الأضحية. انتهى. وفي كتاب الأسير: أن الخليفة لا يتعدد إلا بقطر بعد جدا، واعلم أن النسبة لقريش قرشي وربما قالوا قريشي قال:
وكل قريشي عليه مهابة
…
سريع إلى داعي الندى والتكرم
تنبيهات: الأول: اعلم أنه انعقد الإجماع على وجوب نصب الإمام الأعظم وهو الخليفة، والخليفة هو الذي له الخلافة، والخلافة هي خلافة شخص للرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الشرع وحفظ الله على وجه يوجب اتباعَه كافةُ الناس وهذا التعريف للآمدي، وقال الماوردي: الإمامة موضوعة لخلافة النبوءة لحراسة المدين وسياسة الدنيا. الشريف الجرجاني: محل وجوب نصب الإمام إذا وجد الجامع لشروطها، وأما إن لم يوجد فلا يجب نصبه، لكن للأمة أن ينصبوا فاقدها دفعا للمفاسد التي تندفع بنصبه. انتهى. وإذا ثبت وجوب الإمامة وأنها فرض على الكفاية فإن لم يقم بها
(2)
خرج فريقان أحدهما أهل الاختيار حتى يختاروا للإمامة إماما. والثاني: أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة، فأما أهل الاختيار فالشروط المعتبرة فيهم ثلاثة،
(1)
في الأصل بغير خط المؤلف أولا واجب والمثبت من الشبراخيتي.
(2)
انطر الأحكام السلطانية ولابد ص 5.
أحدها: العدالة الجامعة لشروطها. الثاني: المعلم الذي يتوصل به إلى من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة. الثالث: الرأي والمكنة الوديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح ولتدبير الصالح أقوم وأعرف، وليس لمن كان في بلد الإمام على غيره من أهل البلاد مزية، وأما أهل الإمامة فالشروط المعتبرة فيهم سبعة: أحدها: العدالة على شروطها الجامعة. والثاني: المعلم الودي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام. والثالث: سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك معها. الرابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع من استيفاء الحركة وسرعة النهوض. الخامس: صحة الرأي الفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح. السادس: الشجاعة والنجدة المودية إلى حماية البيضة وجهاد العدو السابع: النسب وهو أن يكون من قريش لوجود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه، ولا اعتبار بمن شذ فجوزها في جميع الناس لأن أبا بكر رضي الله عنه احتج يوم السقيفة على الأنصار في دفعهم عن الخلافة لما بايعوا سعد بن عبادة عليها بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش
(1)
) فأقلعوا عن التفرد بها ورجعوا عن المشاركة فيها حين قالوا: منا أمير ومنكم أمير تسليما لروايته وتصديقا لخبره ورضوا بقوله: (نحن الأمراء وأنتم الوزراء
(2)
). وقال صلى الله عليه وسلم: (قدموا قريشا ولا تتقدموها
(3)
)، فليس مع هذا النص المسلَّم شبهة لمنازع فيه ولا قول لمخالف له. قاله الماوردي. قال الشيخ ميارة: ويعني بالعدالة في الشرط الأول عدالة الفقهاء لا عدالة المحدثين، فيخرج العبد والمرأة والصبي والكافر وغير العاقل، واحترز بوصف العدالة من الفاسق ولا شك أن الموصوف بالفسق قبل عقدها لم يجز نصبه بلا خلاف وإن طرأ عليه الفسق بعد نصبه لم يجز عزله ولا الخروج عليه عند بعض أهل السنة لا في ذلك من الفتن وانتشار المفاسد بأضعاف مضاعفة عما كانت عليه مع بقائه، بل ظاهر المنصوص والأحاديث أن الإمامة إذا وقعت لمتصف بالفسق ابتداء تفوت ولا تنقض لما ينشأ عن نقضها من المفاسد، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الأزمنة الفاسدة ووصف ملوكها بما هو مشهور،
(1)
الإتحاف، ج 2 ص 339، الأحكام السلطانية ص 6.
(2)
البخاري، كتاب فضائل الصحابة، رقم الحديث 3668.
(3)
مجمع الزوائد، ج 10 ص 28، والأحكام السلطانية ص 6.
ولم يأمر بالقيام عليهم ولا بالخروج عنهم، بل أمر أن تؤدى إليهم حقوقهم ويسأل الإنسان حقه من الله تعالى، وزاد الشيخ السنوسي أن يكون مقتدرا على إنفاذ حكمه، فإن قيل: يلزم سقوط إمامة عثمان رضي الله تعالى عنه حين حصره، أجاب الآمدي: بأنا لا نسلم عدم قدرته بل كانا أمره نافذا شرقا وغربا، وإنما هاش عليه رجال أوباش فقصد المسلم وترك الفتنة. انتهى. وعد بعضهم في الشروط كونه ذا كفاية يقدر بها على تجهيز العساكر، وإقامة الحدود، والذب عن بيضة الإسلام، واشتراط كونه قرشيا هو مذهب أهل السنة، وخالف في ذلك الخوارج وبعض المعتزلة، قال المازري: غلا بعضهم فقال: لو استوى قرشي وقبطي في شروط الإمامة ترجح القبطي الأنه أقرب لعدم الظلم والجور، واحتج أصحابنا بإجماع الصحابة والأحاديث.
الثاني: اعلم أن الإمامة تنعقد بوجهين، اختيار أحل الحل والعقد، والثاني بعهد الإمام من قبل، واختلف العلماء في عدد من تنعقد بهم الإمامة، فقالت طائفة: أقل من تنعقد بهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضى الأربعة استدلالا بأمرين، أحدهما: أن بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعت عليها ثم تابعهم الناس فيها وهم عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وأسيد بن حضير، وبشر بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة. والثاني أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه جعل الشورى في ستة تنعقد لأحدهم برضى الخمسة، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة، وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضى الاثنين ليكونوا حاكما وشاهدين، كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين، وقالت طائفة: لا تنعقد إلا بإجماع جمهور أهل الحل والعقد من كل بلد ليكون الرضى به عاما والتسليم لإمامته إجماعا، وهذا مذهب مدفوع لبيعة أبي بكر رضي الله عنه على الخلافة باختيار من حضرها ولم ينتظر بها قدوم غائب عنها، وإذا اجتمع أهل الحل والعقد للاختيار تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجود فيهم شروطها، فإذا تعين لهم من بين الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه، فإذا أجاب إليها بايعوه عليها وانعقدت بينهم الإمامة، ولزم كافة الأمة الدُّخول في بيعته والانقياد في طاعته، وإن امتنع من الإمامة ولم يُجب إليها لم يجبر عليها لأنه عقد مراضاة
واختيار ولا يدخله إكراه ولا إجبار، وعدل عنه إلى سواه من مستحقها ولو تكافأ في شروط الإمامة اثنان قدم إليها أشبههما، فإن بُويع أصغرهما سنا جاز، ولو كان أحدهما أعلم والآخر أشجع روعي في الاختيار حكم الوقت، فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدْعَى لانتشار الثغور وظهور البغاة كان الأشجع أحق، وإن كانت الحاجة إلى فضل المعلم لظهور البدع مثلا كان الأعلم أحق، فإن وقع الاختيار على أحد من متكافئين فتنازعا فقال بعض الفقهاء: يكون قدحا يمنعهما منها ويُعدل إلى غيرهما، والذي عليه جمهور الفقهاء والعلماء أن التنازع فيها لا يكون قدحا مانعا وليس طلب الإمامة مكروها، فقد تنازع فيها أهل الشورى فلم يرد على طالبها ولم يمنع منها راغب، وَاختلف الفقهاء فيما يقطع به تنازع المتكافئين، فقيل: يقرع بينهما، وقيل: يكون أهل الاختيار بالخيار في بيعة أيهما شاءوا من غير قرعة، وإذا تعين لأهل الاختيار واحد هو أفضل الجماعة فبايعوه ثم ظهر بعده من هو أفضل منه انعقدت إمامة الأول، ولو ابتدءوا بيعة المفضول مع وجود الأفضل نظر فإن كان ذلك لعذر دعا إليه من كون الأفضل غائبا أو كان المفضول أطوعَ في الناس وأقرب إلى القلوب انعقدت بيعة المفضول، وإن بويع لغير عذر فاختلف في انعقاد البيعة وصحة إمامته، والقول بصحتها هو قول الأكثر من الفقهاء والمتكلمين، وإذا انفرد في الوقت بشروط الإمامة واحد لم يشاركه فيها غيره تعينت فيه الإمامة ولم يجز أن يعدل بها عنه، واختلف في ثبوت إمامته وانعقاد ولايته بغير عقد ولا اختيار، فذهب فقهاء العراق إلى ثبوت ولايته وإن لم يعقدها أهل الاختيار، وذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أنها لا تنعقد إلا بالرضى والاختيار، وإذا انعقدت الخلافة في بلدين لشخصين لم تنعقد لأنه لايجوز أن يكون إمامان في وقت واحد، وإن شذ قوم فجوزود فاختلف الفقهاء في الإمام منهما فقالت طائفة: هو الذي عقدت له الإمامة في البلد الذي مات فيه من تقدمه، وعلى كافة الأمة في الأمصار كلها أن يفوضوا عقدها إليهم ويسلموها لمن بايعوه، وقال آخرون: بل على كل واحد منهما أن يدفع الإمامة عن نفسه ويسلمها إلى صاحبه طلبا للسلامة وحسما للفتنة ليختار أهل العقد غيرهما، وقال آخرون: يقرع بينهما دفعا للتنازع، والصحيح في ذلك ما عليه الفقهاء أن الإمامة لأسبقهما مبايعة وعقدا، وعلى المسبوق تسليم الأمر إليه والدخول في بيعته، وإن عقدت الإمامة لهما في حال واحد ولم يسبق لها أحدهما
فسد العقد واستؤنف العقد لأحدهما أو لغيرهما، وإن تقدمت بيعة أحدهما وأشكل المتقدم منهما وقف أمرهما على الكشف، فإن تنازعاها وادعى كل واحد منهعا أنه أسبق لم تسمع دعواه ولم يحلف عليها، ولو سلم أحدهما إلى الآخر لم تسمع إمامته إلا ببينة تشهد بتقدمه، فإن أقر أحدهما لصاحبه بالتقدم وشهد مع شاهد آخر سمعت شهادته إن ذكر اشتباه الأمر عليه عند التنازع ولم تسمع منه إن لم يذكر الاشتباه لا في القولين من التكاذب، وإذا لم تقم بينة لأحدهما لم يقرع بينهما ويستأنف أهل الاختيار عقدها لأحدهما، فلو أرادوا العدولَ بها إلى غيرهما فقيل: بجوازه لخروجهما منها، وقيل: لا يجوز لأن البيعة لهما قد صرفت الإمامة عمن عداهما، ولأن الاشتباه لا يمنع ثبوتها في أحدهما، وانعقاد الإمامة بعهد من قبله مما انعقد الإجماع على جوازه ووقع الاتفاق على صحته لأمرين، أحدهما: أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه عهد بها إلى عمر رضي الله عنه فأثبت المسلمون إمامته بعهده، والثاني أن عمر عهد بها إلى أهل الشورى فقبلت الجماعة دخولهم فيها وهم أعيان العصر، وإذا أراد الإمام أن يعهد بها فعليه أن يجتهد رأيه في الأحق بها والأقوم لشروطها، فإذا تعين الاجتهاد في واحد نظر فيه فإن لم يكن ولدا أو والدا جاز أن ينفرد بعقد البيعة له، فإن كان ولدا أو والدا ففيه ثلاثة مذاهب، أحدها: لا يجوز أن ينفرد بعقدها لولد ولا لوالد حتى يشاور فيها أهل الاختيار فيرونه أهلا لها فيصح منه حينئذ عقد البيعة، والمذهب الثاني يجوز أن ينفرد بعقدها لولد ووالد، والمذهب الثالث يجوز أن ينفرد بعقد البيعة للوالد لا للولد، فأما عقدها لأخيه ومن قاربه من عصبته فكعقدها للأباعد الأجانب في جواز انفراده بها: وإن عهد بالخلافة إلى من يصح العهد إليه على الشروط المعتبرة فيه كان العهد موقوفا على قبول المُوَلَّى، واختلف في زمان قبوله فقيل هو بعد موت المولي في الوقت الذي يصح نظر المولَّى، وقيل وهو الأصح: أنه ما بين عهد المولِّي وموته وليس للإمام المولِّي عزل من عهد إليه ما لم يتغير حاله وإن جاز له عزل من استنابهُ من سائر خلفائه لأنه مستخلف لهم في حق نفسه، ومن عهد إليه مستخلف في حق المسلمين، فلم يكن له عزله كما لم يكن لأهل الاختيار عزل من بايعوه إذا لم يتغير حاله عما كان عليه، وتعتبر شروط الإمامة في المولَّى وقت العهد
إليه، فإن كان صغيرا أو فاسقا وقت العهد وبالغا عَدْلًا عند موت المولِّي لم تصح خلافته حتى يستأنف أهل الاختيار بيعته، وإذا عهد الإمام إلى غائب وهو مجهول الحياة لم يصح عهده، وإن كان معلومَ الحياة صح وكان موقوفا على قدومه، وإن مات المستخلف وولي العهد على غيبته استقدمه أهل الاختيار، فإن بعدت غيبته واستضر المسلمون بتأخُّر النظر في أمورهم استأنف أهل الاختيار نائبا عنه يبايعونه بالنيابة دون الخلافة، فإذا قدم الخليفة الغائب انعزل المستخلف وكان نظره قبل قدوم الخليفة ماضيا وبعد قدومه مردودا، ولو أراد ولي العهد قبل موت الخليفة أن يرد ما إليه من ولاية العهد إلى غيره لم يجز لأن الخلافة لا تستقر إلا بعد موت المستخلف، وكذا لو قال: جعلته ولي عهدي إذا أفضيت الخلافة إليَّ لم يجز لأنه في الحال ليس بخليفة، فلا يصح عهده بالخلافة، وإذا خلع الخليفة نفسه انتقلت إلَى وَلِيِّ عهده وقام خلعه لنفسه مقام موته، وَلَو عهد الخليفة إلى اثنين لم يقدِّم أحدهما على الآخر جازَ اختيارُ أهل الاختيار أحدَهما بعد موته كأهل الشورى، فإن عمر رضي الله عنه جعلها في ستة، ويجوز للخليفة أن ينص على أهل الاختيار كما يجوز له أن ينص على أهل العهد، فلا يجوز إلَّا اختيار من نص عليه، كما لا يصح إلا تقليد من عهد إليه، ولو عهد الخليفة إلى اثنين أو أكثر ورتب الخلافة بينهم، فقال الخليفةُ: بعدي فلانٌ، فإن مات فالخليفة بعده فلان، جاز وكانت الخلافة منتقلة إلى الثلاثة على ما رتب، فقد رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش مؤتة زيد بن حَارِثَة، وقال: (إن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليتربص المسلمون رجلا
(1)
). فتقدم زيد بن حارثة فقتل، فأخذ الراية جعفر فقتل، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة وتقدم فقتل، فاختار المسلمون بعده خالد بن الوليد. والظاهر من مذهب الشافعي ما عليه جمهور الفقهاء أنه يجوز لمن أفضيت إليه الخلافة من أولياء العهد أن يعهد بها إلى من شاء ويصرفها عمن كان مرتبا معه، ويجوز للخليفة العهد بالإمامة، ويجوز له الترك. انظر شرح الشيخ ميارة للأمية الزقاق، وفيه: وقد تلقينا من بعض شيوخنا المحققين أن الخلافة تنعقد بوجه
(1)
البخاري، كتاب المغازي، رقم الحديث 4261.
ثالث وهو التغلب وعظم الشوكة، ولا تجوز منازعته لارتكاب أخف الضررين، ولا يشترط فيه إذ ذاك شرط من الشروط، ودليل هذا الوجه ما قاله الشيخ محيي المدين النووي في منهاجه في قوله صلى الله عليه وسلم: (اسمع وأطع وإن كان عبدا
(1)
) قال: تتصور إمامة العبد إذا ولاه بعض الأئمة وتغلب على البلاد بشوكته وأتباعه فيسمع له ويطاع، وقال ابن العربي في الحديث (وأن لا تنازع
(2)
الأمر أهله
(3)
) يعني من ملكه لا من استحقه، فإن الأمر فيمن يملكه أكثر منه فيمن يستحقه، والطاعة واجبة في الجميع، فالصبر على ذلك أولى من التعرض لإفساد ذات البين. انتهى. نقله المواق أول فصل الباغية.
الثالث: اعلم أنه تجب طاعة الأمير ولو كان غير عدل ما لم يأمر بمعصية، وقد منع عمرو بن العاص رضي الله عنه جيشه وَقِيدَ النار في ليلة باردة، فلما قدموا شكوا لرسول الله صلى الله عليه رسلم فقال عَمْرٌو: كَان أصحابي في قلة فكرهت أن يراهم العدو فأعجبه صلى الله عليه وسلم، وإنما يسألونه فيما يخاف فيه الهلكة ويجمع على أنه خطأ، فيسألونه ويناظرونه فإن ظهر صوابه أطاعوه، وإلا فلا وقد رجع الصحابة لرأي أبي بكر في قتال أهل الردة. واعلم أن الإكراه لا ينفع في فعل يتعلق به حق المخلوق كالقتل والغصب، فلا يعذر أحد بالإكراه على ذلك. وفي معين الحكام: ومن هدِّد بقتل أو غيره على أن يقتل رجلا أو يقطع يده أويأخذ ماله أو يزني بامرأة أو يبيع متاع رجل فلا يسعه ذلك، فإن فعل فعليه القود ويغرم ما أتلف، ويحد إن زَنَى، ويضرب إن ضرب ويأثم، ويجب للرعية على الإمام أن يحكم بينهم بالعدل والرفق بهم ورعايتهم والنصح لهم. وسئل ملك عن الوالي إذا قام عليه قائم يطلب إزالة ما بيده هل يجب علينا أن ندفع عنه غيره؟ قال. أما مثل عمر بن عبد العزيز فنعم، وأما غيره فلا، فدعه وما يريد منه، ينتقم الله من ظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما وسئل ملك إذا بايع الناس رجلا بالإمارة ثم قام آخر فدعا الناس إلى البيعة فبايعه بعضهم؟ فقال: قد رَوَى معاوية أن البايَع الثاني يُقتل، وهذا عندي إذا كان
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث 696، ولفظه: اسمع وأطع ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة.
(2)
كذا في الأصل والذي في القبس وغيره ننازع: بنونين.
(3)
البخاري، كتاب الفتن، رقم الحديث 7056 - مسلم، كتاب الإمارة، رقم الحديث 1709.
الأول عدلا، وأما إن كان مثل هؤلاء فليس له بيعة وفي تفسير القرطبي: لا ينبغي للناس أن يسارعوا إلى نصرة مظهر العدل وإن كان الأول فاسقا، لأن كل من يطلب الملك يظهر من نفسه الصلاح حتى يتمكن فيعود بخلاف ما أظهر، وسئل ملك عن الفتن بالأندلس وكيفية الخرج منها إذا خاف الإنسان، فقال: أما أنا فما أتكلم في هذا بشيء، فأعاد الرجل الكلام عليه، وقال: إني رسول من خلفي إليك، فقال له ملك: كف عني الكلام في هذا ومثله وأنا لك ناصح ولا تُجِبْ فيه. ولابن محرز: من شارك في عزل إنسان وتولية غيره ولم يأمر بسفك دم مسلم فقد شَارَك في سفك دمه إن سُفك. وقال عياض في إكماله: أحاديث مسلم كلها حجة في منع الخروج عن الأئمة الجَوَرَة وفي لزوم طاعتهم. قال: وجمهور أهل السنة من أحل الحديث والفقه والكلام أنه لا يخلع السلطان بالظلم والفسق وتعطيل الحقوق، ولا يجب الخروج عليه بل يجب وعظه وتخويفه، وقال أبو عمر في قوله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة
(1)
) كل من أمكنه نصح السلطان لزمه. قال ملك: وذلك إذا رجا أن يسمع، قال أبو عمر: وإلا دعا لهم، فإنهم كانوا ينهون عن سب الأمراء، ومن كلام سحنون: وإن كان الإمام غير عدل وخرج عليه عدل فعَلَيكَ الخُرُوج مع العدل حتى يظهر دين الله، وإن كان الخارج غير عدل وَسِعك الوقوف إلا أن يريد نفسك ومالَكَ فادفع عن نفسك ومالِكَ وعن ظلم المسلمين إن قدرت، وإن كانوا يطلبون الوالي المظالم فلا يجوز لك الدفع عنه ولا يسعك الوقوف عن العدل كان هو القائمَ أو المقومَ عليه. انتهى المراد منه. وقال ابن المنذر: وقد روينا عن جماعة من أهل المعلم أنهم رأوا قتل اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم، هذا ووهب ابن عمر والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة وملك والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان، وبهذا يقول عوامُّ أهل المعلم: أنَّ للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله إذا أريد ظلمه. انتهى. وفي حديث مسلم والبخاري عن أبي هريرة: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: (فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنتَ شهيد، قال: فإن قتلتُه؟ قال:
(1)
مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث 55.
هو في النار
(1)
). انتهى. ويستثنى من هذا السلطان فإن جماعة أهل الأثر والحديث كالمُجمِعين على أن من لم يمكنه أن يمنع نفسه وماله إلا بالخروج عن السلطان ومحاربته لا يخرج عنه اللأخبار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي فيها الأمر بالصبر على ما يكون منهم من الجور والظلم وترك قتالهم والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة
(2)
). وفي الإكمال: وقد اختلف العلماء في الفاسق، وحكى ابن مجاهد الإجماع على أنه لا يقام عليه. انتهى. ورد عليه بعضهم بقيام الحسين وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية، وقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحَجّاج، وأجاب الجمهور بأن القيام على الحجاج لما غير من الشرع وبيعه الأحرار وتفضيله الخليفة على النبي صلى الله عليه وسلم. ابن عطية: وذكر أن الحجاج لما قر آية {وَهَبْ لِي مُلْكًا} الآية قال: كان سليمان حسودا، ولا خلاف أن هذه الكلمة توجب كفره وزندقته إن ثبتت، وبكفره كان يصرح ابن عرفة وغيره من الشيوخ المعاصرين له مع ما أضيف إلى هذه الكلمة من كثرة سفك الدماء وعظيم الظلم، فقيل: إنه قتل مائة ألف وأربعين ألف رجل وستين ألف امرأة، ومات وفي سجنه مائة ألف وعشرون ألفلا وضاقت سجونه حتى صار يسجن في الحمامات، وإنما يجب قيامهم على الكافر منهم أو الفاسق في أحد القولين إذا تخيل المسلمون العزة عليه، وإن تحقق العجز عنه لم يجب القيام على الأول، ويحرم القيام على الثاني، ويجب على المسلم الهجرة من أرضه إلى غيرها. ابن عرفة عن المازري: ومن ثبتت إمامته وجبت طاعته واتباعه في اجتهاده فيما ليس بمعصية، فإن تغيرت حالته بكفره فواضح خلعه، وببدعته كالاعتزال فإن دعا إليها لم يطع، فإن قاتل قوتل، وإن لم يدع إليها فعلى تكفيره يخلع، وعلى تفسيقه ففي خلعه إن أمكن دون إراقة دم وكشف حرم مذهبان، الأول: خلعه وإن تغيرت بفسق كالزنى وشرب الخمر، فإن قدر على خلعه دون سفك دِمَاءٍ ولا كشف حرم ففي وجوبه أول قولي الشافعي وثانيهما مع كثير مع أهل السنة والقاضي مستدلا بالأحاديث انتهى وحكم القائم على
(1)
مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث 140.
(2)
مسلم، كتاب الإمارة، رقم الحديث 1855 - البخاري، كتاب الفتن، رقم الحديث 7053 - 7054.
الخليفة حكم المحارب، وقد مر الكلام على ولاية الشرطة والرد والمظالم والسوق والمصر في فصل المفقود فراجعه إن شئت.
فحكم بقول مقلده، يعني أنه لا يجوز للمقلِّد بكسر اللام قاضيا أو الإمام الأعظم أن يحكم إلا بقول مقلَّده بفتح اللام أي بالمشهور أو الراجح من قول مقلده ولا خصوصية له بذلك، بل وكذا قول أصحابه فالحاصل أنه لا يحكم إلا بمشهور المذهب. والله سبحانه أعلم. واعلم أن الذي يجب أن يحكم به ويفتَى به إنما هو المتفق عليه والراجح والمشهور. والراجح ما قوي دليله، والمشهور ما كثر قائله، كما يناسب معناه لغة، فإن تعارضا فمقتضى نصوص الفقهاء والأصوليين أن العمل بالراجح واجب، وقيل: المشهور ما قوي دليله فيترادف مع الراجح واعلم أن قول ملك في المدونة مقدم على قول ابن القاسم فيها، وأحرى في غيرها، وقول ابن القاسم فيها مقدم على قول غيره فيها وأحرى في غيرها، وقول غيره فيها مقدم على قوله أي ابن القاسم في غيرها، ويؤخذ مما مر تقديم قول ابن القاسم على قول غيره إذا كانا معا في غيرها ولم يكن للمسألة ذكر فيها، وهذا لمن قصر عن الاجتهاد وإلا وجب عليه بذل وسعه في الترجيح كما قاله غير واحد. قاله الشيخ الهلالي. ومقابل المشهور يسمى الشاذ والضعيف ومقابل الراجح. واعلم أيضا أن رواية ابن القاسم في المدونة عن الإمام، مقدمة على رواية غيره فيها عن الإمام ويقدم أيضا قول ابن القاسم في المدونة على رواية غيره في غيرها عن الإمام.
تنبيه: قال الشيخ بناني عن المسناوي: إذا جرى العمل ممن يقتدى به بمخالف المشهور لمصلحة وسبب فالواقع في كلامهم أنه يعمل بما جرى به العمل وإن كان مخالفا للمشهور، وهذا ظاهر إذا تحقق استمرار تلك المصلحة وذلك السبب، وإلا فالواجب الرجوع إلى المشهور، وهذا هو الظاهر، ثم فائدة ذكر الأقوال مع امتناع الحكم بغير المشهور أمران، اتساع المنظر ومعرفة مدارك الأقوال، وليعمل بالضعيف في نفسه إذا تحقق ضرورته، ولا يجوز للمفتي أن يفتي بغير المشهور لأنه لا يتَحقق الضرورة بالنسبة لغيره كما يتحققها من نفسه، ولذلك سدوا الذريعة فقالوا: يُمنع الفتوى بغير المشهور خوف ألَّا تكون الضرورة محققة لا لأجل أنه لا يعمل بالضعيف إذا تحققت الضرورة يوما ما. انتهى. وقد مر الكلام على ما يجب على القاضي والمفتي من الحكم والفتوى بالراجح
والمشهور، وأشار إلى القسم الثاني بقوله: ونفذ حكم أعمى وأبكم وأصم، يعني أن القاضي إذا حكم وهو متصف بصفة من هذه الصفات الثلاث وهي العمى والبكم والصمم فإنهُ حكمُه ينفذ سواء ولي كذلك أو طرأ عليه، لأن عدم واحد من هذه الأمور ليس شرطا في صحة ولايته ابتداء ودواما، وإنما هو شرط في جواز ولايته ابتداء ودواما، ولهذا قال: ووجب عزله، بخلاف الخليفة يطرأ عليه ذلك فلا يعزل. قال عبد الباقي: والظاهر أنه يضر وجود اثنين منها أو الثلاثة. انتهى. قال بناني: هذا يقتضي أن ذلك من عنده وأنه لم يقف عليه لغيره، مع أن ابن عبد السلام صرح بذلك ونقله عنه الحطاب، ونصه بعد ذكره أنَّ هذه الأوصاف إنما يوثر فقدها في وجوب العزل لا في انعقاد الولاية، قال: وإنما يظهر هذا إذا انعدم واحد من تلك الأجزاء بقيد الوحدة، وأما إذا انعدم اثنان منها فأكثر فلا تنعقد الولاية. انتهى. قال عبد الباقي. ويجوز تولية الأعمى الفتوى كما للبرزلي.
تنبيه: ترك المؤلف الكلام على الكتابة، قال ابن رشد والباجي: هل يشترط في القاضي أن يكتب؟ وعن الشافعية قولان أظهرهما الجواز. انتهى. ابن عبد السلام: رجح الباجي وابن رشد صحة الولاية. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: وَلنصرف العِنان إلى أمور لا بد منها قد تقدم ذكر شيء منها عند قول المص مبينا لما به الفتوى، فأقول وبالله تعالى التوفيق: قال ابن فرحون: يلزم القاضي المقلد إذا وجد المشهور أن لا يخرج عنه، وذكر عن المازري رحمه الله أنه بلغ درجة الاجتهاد وما أفتى قط بغير المشهور، وعاش ثلاثا وثمانين سنة وكفى به قدوةً في هذا، فإن لم يقف على المشهور من القولين أو الروايتين فليس له التَّشهِّي والحكم بما شاء منهما من غير نظر وترجيح، فقد قال ابن الصلاح رحمه الله في كتاب أدب المفتي والمستفتي: اعلم أن من يكتفي بأن يكون في فتياه أو عمله موافقا لقول أو وجه في المسألة ويعمل بما شاء من الأقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح فقد جهل وخَرَق الإجماعَ، وسبيلُهُ سبيل الذي حكى عنه أبو الوليد الباجي من فقهاء أصحابه أنه كان لصديقي عليَّ إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه، وحكى الباجي عمن يثق به أنه وقعت له واقعة وهو غائب من فقهائهم يعني المالكية من أهل الصلاح بما
يضره، فلما عاد سألهم؟ فقالوا: ما علمنا أنها لك وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه، قال الباجي: وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز. انتهى. واعلم أن قول من قال: من قلد عالما لقي الله سالما، محله حيث لم يبحث في كلام العالم أو يظهر بطلان قوله قاله الشيخ أبو علي عند قول ابن عاصم:
كل من يمينه باللازمه
…
.......................
الأبيات الثلاثة، وقال الحطاب: قال ابن الصلاح: فإذا وجد من ليس أهلا للتخريج والترجيح اختلافا بين أئمة المذاهب في الأصح من القولين أو الوجهين فينبغي أن يفزع في الترجيح إلى صفاتهم الموجبة لزيادة [الثقة
(1)
] بآرائهم، فيعمل بقول الأكثر والأورع والأعلم، فإذا اختص أحدهما بصفة أخرى قدم الذي هو أحرى منهما بالإصابة، فالأعلم الورع مقدم على الأورع العالم، وكذلك إذا وجد قولين أو وجهين لم يبلغه عن أحد من أئمة المذاهب
(2)
بيان الأصح منهما اعتبر أوصاف ناقليهما أو قائليهما، قال ابن فرحون: وهذا الحكم جار في أصحاب المذاهب الأربعة ومُقَلّدِيهم، وقال بعده بأسطر يسيرة: وهذه الأنواع من الترجيح معتبرة أيضا بالنسبة إلى أئمة المذاهب. ابن أبي زيد: ولا ينبغي الاختيار من الاختلاف للمتعلم ولا للمقصر، ومن لم يكن فيه محلٌّ لِاختيارِ القول (فله في اختيار المتعصبين من أصحابنا
(3)
من نقادهم) مقنع، مثل سحنون وأصبغ وعيسى بن دينار، ومن بعدهم مثل ابن المواز وابن عبدوس وابن سحنون، وابنُ المواز أكثرُهم تكلفا للاختيارات، وابن حبيب لا يبلغ في اختيارته وقوة رواياته مبلغ من ذكرنا. انتهى. والحاكم إن كان مجتهدا لم يجز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده، وإن كان مقلدا جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه وأن يحكم به وإن لم يكن راجحا عنده مقلدا في رجحان القول المحكوم به إمامه، وأما اتباعُ الهوى في القضاء والفتوى فحرام إجماعا، واعلم أن الفتيا والحكم بما هو مرجوح
(1)
ساقط لمن الأصل والمثبت ج 6 ص 299 ص دار الرضوان.
(2)
كذا في الأصل والذي في الحطاب ج 6 ص 299 ط دار الرضوان المذهب.
(3)
في الأصل فله اختيار من نقادهم والمثبت من الحطاب ج 6 ص 299 ط دار الرضوان.
فخلاف الإجماع، وإذا كان في المسألة قولان أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تسهيل فلا ينبغي أن يفتي العامة بالتشديد والخواص وولاة الأمور بالتخفيف، وذلك قريب من الفسوق والخيانة والتلاعب بالمسلمين، وذلك دليل فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه، وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق، نعوذ بالله من صفات الغافلين، والحاكم في هذا كالمفتي. وإذا تعارضت الأدلة عند المجتهد وتساوت وعجز عن الترجيح فهل يتساقطان أو يختار أحدهما؟ قولان للعلماء. قاله القرافي. وقال أيضا: إن للحاكم أن يحكم يأحد القولين المتساويين من غير ترجيح. انتهى. وما ذكره من العمل بأحد المتساويين حكى غيره الإجماع على منعه، وقد أنكر الشاطبي القول بالتخيير غاية، وبالغ في إبطاله، وقال: إن القولين عند المقلد كالدليلين عند المجتهد، فكما أن المجتهد لا يجوز له العمل بأحد الدليلين من غير نظر بل لا بد له من الترجيح أو الوقف، فكذلك المقلد إن تعذر الترجيح توقف، وقول المفتي للمقلد: أنت مخير بين القولين إحداثُ قولٍ ثالث بلا دليل، وإذا لم يجد المقلد في النازلة نصا فنقل في التوضيح عند قول ابن الحاجب، فيلزمه المصير إلى قول مقلده عن ابن العربي ما نصه ويقضي حينئذ بفتوى مقلده بنص النازلة، فإن قاس على قوله أو قال يجيء من كذا [كذا
(1)
] فمتعذٍ، خليل: وفيه نظر والأقرب جوازه للمطلع بمدارك إمامه، وقال ابن عرفة إثر كلام ابن العربي: قلت: يرد كلامه بأنه يؤدي إلى تعطيل الأحكام لأن الفرض عدم المجتهد، فإذا كان حكم النازلة منصوصا عليه ولم يجز للمقلد المولَّى القياس على قول مقلده في نازلة أخرى تعطلت الأحكام، وبأنه خلاف عمل متقدمي أهل المذهب كابن القاسم في المدونة في قياسه على أقوال ملك، ومتأخريهم كاللخمي وابن رشد والتونسي والباجي وغير واحد من أهل المذهب، بل من تأمل كلام ابن رشد يعد اختياراته بتخريجاته في تحصيله الأقوال أقوالًا. انتهى. وقال القرافي: لمن حفظ روايَاتِ المذهب وعلم مطلقها ومقيدها وعامها وخاصها أن يفتي بمحفوظه منها، وما ليس محفوظا له منها لا يجوز له تخريجه على ما هو محفوظ له منها إلا إن حصَّل علم أصول الفقه
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من الحطاب ج 6 ص 300 ط دار الرضوان.
وكتاب القياس وأحكامه وترجيحاته وشرائطه وموانعه، وإلا حرم عليه التخريج، وكثير من الناس يُقدِمون على التخريج دون هذه الشروط، بل صار يفتي من لم يُحط بالتقييدات ولا التخصيصات من قول إمامه وذلك فسق ولعب، وشرط التخريج على قول إمامه أن يكون القول المخرج عليه ليس مخالفا للإجماع ولا لنص ولا لقياس جلي، لأن القياس عليه حينئذ معصية، وقول إمامه ذلك غير معصية لأنه باجتهاد أخطأ فيه. قاله القرافي. والظاهر أن قول القرافي وعِلم مطلقَها لخ، معناه أن يغلب على ظنه أن هذه الرواية مطلقة وهذه مقيدة، وأما القطع بأن هذه الرواية ليست مقيدة فبعيد، ويكفي الآن في ذلك وجود المسألة في التوضيح أو في ابن عبد السلام. قاله الحطاب. ابن رشد: لانعقاد الولاية ثلاثة شروط: المعلم بشرط الولاية في المولَّى. الثاني: ذكر المولَّى له كالقضاء والإمارة، فإن جهل ذلك فسدت. الثالث: ذكر البلد الذي عقدت عليه الولاية ليمتاز عن غيره. والألفاظ التي تنعقد بها الولايات صريح وكناية، فالصريح: وليتك، وقلدتك واستخلفتك واستنبتك والكناية: اعتمدت عليك، وعولت عليك، ورددت عليك، وجعلت إليك، وفوضت إليك، ووكلت إليك، وأسندت إليك، وعهدت إليك. وفي الذخيرة: قال الشافعية إذا انعقدت الولاية لا يجب على المتولي المنظر حتى تشيع ولايته في عمله ليذعنوا له، وهو شرط أيضا في وجوب الطاعة، وقواعد الشريعة تقتضي ما قالوه، فإن التمكن والمعلم شرطان في التكليف عندنا، فالشياع يوجب له المكنة والعلم لهم. انتهى. وللإمام أن يستخلف من يرى غير رأيه كالمالكي يولي شافعيا أو حنفيا، ولو شرط الإمام على القاضي الحكم بما يراه الإمام من مذهب معين أو اجتهاد له كان الشرط باطلا وصح العقد، نقله في الجواهر عن الطرطوشي، وقال غيره: العقد غير جائز، وينبغي فسخه وردُّه، وهذا إنما هو إذا كان القاضي مجتهدا، وإلا فلا يحرم على الإمام أن يأمره أن لا يتعدى في قضائه مذهب ملك مثلا، وقول من قال: إن المجتهد ينهى عن الخروج عن مذهب أهل بلده لتهمة أن يكون خروجه هوى عمل بمقتضى السياسة، ومقتضى الأصول خلافه، والمشروع اتباع المجتهد مقتضى اجتهاده.
تنبيهان: الأول: قال ابن عرفة: قال ابن سهل: قال بعض الناس: خطة القضاء من أعظم الخطط قدرا وأجلها خطرا لا سيما إذا جمعت إليها الصلاة أي إمامة الصلاة، ومقتضاه حسن
اجتماعهما، والمعروف ببلدنا قديما وحديثا مَنْعُ إمامة قاضي الجماعة بها أو الأنكحة [إمامة
(1)
] الجامع الأعظم بها، وسمعت بعض شيوخنا يعللون ذلك بأن القاضي مظنة لعدم طيب نفس المحكوم عليه به مع تكرر ذلك في الآحاد فيودي إلى إمامة الإمام من هو له كاره: وقد خرج الترمذي عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق حتى يرجع وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط وإمام قومٍ وهم له كارهون
(2)
) الثاني: قال في النوادر: قال ملك: أول من استقضى معاوية، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأبي بكر ولا لعثمان قاض، بل الوُلَاةُ يقضون، وأنكر قول أهل العراق: إن عمر استقضى شريحا، وقال: كيف يستقضي بالعراق دون الشام واليمن وغيره؟ فليس كما قالوا.
ولزم المتعين، يعني أن التعين للقضاء أي المنفرد بشروطه يلزمه قبول تولية القضاء إن طلب، وطلب التولية إن لم يُطلب، ولا يجوز له الهروب، ووجب على الإمام توليته. أو الخائف فتنة إن لم يتول، يعني أن الخائف فتنة بين المسلمين منه أو من غيره إن لم يتول، أو خافها على نفسه أو ولده أو ماله إن لم يتول، يلزمه أن يقبل تولية القضاء إن طلب، وأن يطلبها إن لم يطلب وإن لم ينفرد بصفات القضاء، بل ولو كان هناك من هو أفضل منه، وقوله: على نفسه، الرهوني: في كلام ابن بشير نحوه لكن جعل ذلك جائزا لا واجبا ويرد هو وما في الطرر ما قاله عبد الباقي. قال الأبهري: إن دعي إلى العمل فإن أبى وخشي ضرب ظهره أو سجنه وصبر فهو أفضل، وإن خشي على دمه فإن عمل فهو في سعة أن يتحرى العدل والإنصاف، وإن لم يمكنه لم يجز أن يتعدى الحق، إذ لا يجوز أن يبطل حق المسلمين وحرمتهم بحق نفسه.
أو ضياع الحق، يعني أن الخائف ضياع حق له أو لغيره إن لم يتول يلزمه أن يقبل تولية القضاء إن طلب بها، وأن يطلبها إن لم يطلب بها وإن لم ينفرد بصفات القضاء، وعلم مما قررت أن قوله القبول فاعل لزم والطلب عطف على القبول.
(1)
في الأصل إمام والمثبت من الحطاب ج 6 ص 303.
(2)
الترمذي: كتاب الصلاة، رقم الحديث 360.
تنبيهان: الأول: قوله: ولزم المتعين، قال ابن عرفة: قال ابن عبد السلام: هذا حين كان القاضي يعان على ما وُلِّيَه وربما كان بعضهم يحكم على من ولاه ولا يقبل شهادته إن شهد عنده، وأما إذا صار القاضي لا يعان بل من ولاه ربما أعان عليه من مقصودُه بلوغُ هواه على أي حال كان فإن ذلك الواجب ينقلب محرما، نسأل الله السلامة. وأكثر الخطط الشرعية في زماننا أسماء شريفة على مسميات خسيسة. انتهى. ونقله في التوضيح. نقله بناني. وكلام ابن عبد السلام هذا ارتضاه غير واحد، ففي قول أبي علي: قد لا يسلم، نظر. قاله الرهوني. الثاني: قوله: ولزم لخ، هذا ما لم يكن الطلب بدفع مال وإلا فالظاهر أنه لا يجوز له بذله إن لم تكن المفسدة المترتبة على عدم ولايته أشد من دفع المال وإلا جاز ولو بدفعه ارتكابا لأخف الضررين. قاله الشبراخيتي. قال بناني عن غير ابن مرزوق: يجب عليه الطلب إذا لم يكن بمال، وأفرط قوم كعلي الأجهوري ومن تبعه فقالوا: ولو بمال، وفي الحطاب: وإذا. منع من التولية من لزمه الطلب إلا ببذل مال فهل يجوز له بذله؟ والظاهر أنه لا يجوز له بذله، لأنهم قالوا: إنما يلزمه القبول إذا تعين إذا كان يعان على الحق، وبذل المال في القضاء من أول الباطل الذي لم يعن علي تركه، فيحرم عليه حينئذ. وقد يفهم ذلك من الفرع الآتي لابن فرحون. والله تعالى أعلم. انتهى. وهذا هو الظاهر، والذي لابن فرحون هو ما نقله عن أبي العباس تلميذ ابن سريج الشافعي: من يقبل القضاء بقبالة وأعطيَ عليه الرشوة فولايته باطلة وقضاؤه مردود وإن كان قد حكم بحق انتهى وقوله: والطلب، قال بناني: أشار به إلى قول المازري: يجب على من هو من أهل الاجتهاد والعدالة السعي في طلب القضاء إن علم أنه إن لم يله ضاعت الحقوق أو وليَه من لا يحل أن يولَّى، وكذا إن كان وَلِيَه من لا تحل تَولِيَتُه ولا سبيل لعزله إلا بطلبه، ويحرم طلبه على فاقد أهليته، ويستحب لمجتهد خَفِي علمُه وأراد إظهاره بولاية القضاء، وللعاجز عن قوته وقوت عياله إلا برزق القضاء. انتهى. ابن عرفة: هذا كله ما لم تكن توليته ملزومة لما لا يحل من تكليفة تقديم من لا يحل تقديمه للشهادة، وقد شاهدت من ذلك ما الله أعلم به. انتهى. واعترض ابن مرزوق ما ذكره المازري من وجوب الطلب بأنه لم يقف عليه للأقدمين، بل حالة الأقدمين النهي عن طلبه مطلقا: وإن لم يدل كلامهم على التحريم فلا أقل من الكراهة، وجَلَب على ذلك أدلة. انتهى.
وأجبر وإن بضرب، يعني أن المتعين إذا امتنع من القبول فإنه يجبر ولو بضرب أو سجن، قال عبد الباقي: وهو راجع للمسألة الأولى، وأما من خاف الفتنة أو ضياع الحق فلا يتأتى في حقه غير الطلب والقبول، لكن لو كان الخوف من الإمام لَتأتى الجبر، والمصنف إنما علق الخوف بغير الإمام. قاله أحمد انتهى. وقال الخرشي: وإذا امتنع من وجب عليه من القبول أجبر وإن بضرب أو سجن، فقد أقام الإمام حولا يجبر سحنونا على القبول للقضاء ولم يقبله، فلما تخوف منه قبله، ولما ولي سحنون القضاء قال له رجل من أهل الأندلس: وددنا والله أن نراك فوق أعواد نعشك ولا نراك قاضيا. قاله الخرشي. وقال الرهوني: وبقي ابن الأغلب يطلب أبا سعيد سحنون نحو العام وهو يمتنع منه حتى حلف لئن لم تتقدم لأقدمن على الناس رجلا من الشيعة، فتقدم لما تعين على شروط شرَطَها عليه. انتهى.
وإلا، أي وإن لم يتعين عليه القضاء بأن لم يختصَّ بشروط القضاء ولم ينفرد بها، بل هناك من هو مثله، ولم يخف فتنة ولا ضياع الحق بأن انتفى كل من الثلاثة المذكورة، فله الهرب: لينجوَ بنفسه ويستعين بالله على خلاصه. وإن عين، يعني له أن يهرب حيث انتفى الثلاثة ولو كان الإمام قد عينه للقضاء، لأن القاعدة أن فُرُوضَ الكفاية تتَعَين بتعيين الإمام إلا القضاء فإنه لا يتعين حينئذ لشدة خطره في الدين، قال ابن مرزوق: وهذا دليل على أن ولايته من أعظم المحن، حيث جازت له مخالفة الإمام هنا، ولم تجز له في الجهاد الذي فيه تعريض النفس للتلف، الأن التلف في الجهاد تعقبه سعادة دانمة، وفي القضاء ضرر دائم لعسر التخلص منه. قوله: وإلا فله الهرب، ظاهره تساوي الأمرين، وفي شرح الرسالة لابن ناجي: والأصل أن ذلك مكروه إلا لعارض. قاله الرهوني. واعلم أن طلب القضاء ينقسم إلى خمسة أقسام: واجب، وأشار إليه بقوله: ولزم المتعين لخ، وحرام، وإليه أشار بقوله:
وحرم لجاهل، يعني أنه يحرم على الجاهل طلب القضاء وقبوله، ففاعل حرم ضمير مستتر أي هو، أي ما ذكر من القبول والطلب، ومثل القاضي في ذلك السلطان فيحرم عليه القبول والطلب إن كان جاهلا لأن الجهل يؤدي إلى مخالفة الأمور المتفق عليها، وحكى ابن رشد عن بعضهم أنه
أجاز تولية الجاهل ورأى كونه عالما مستحبا لا شرطا في الصحة ولا موجبا للعزل، وهو قول شاذ بعيد من الصواب. قاله ابن فرحون. وهذا القول الشاذ هو الذي مر عليه ابن عاصم حيث قال:
ويستحب العلم فيه والورع
…
....................
لخ، وكما يحرم على الجاهل من قاض وسلطان القبول والطلب، يحرم على قاصد الدنيا القبول والطلب أيضا. ولهذا قال:
وقاصد دنيا أي يحرم على قاصد دنيا أن يطلب القضاء وأن يقبله ليلا يوديه غرضه الدنيوي إلى أخذ أموال الناس بالباطل، كأخذ الرشا، وكقصد الانتقام من أعدائه، فيحرم عليه، ومراد المص حرم كل بانفراده، فالواو بمعنى أو، ولو قال المص: وحرم لمن لم يكن فيه أهلية، لكان أشمل، كأن يطلب وهو من أهل العلم لكنه متلبس بما يوجب فسخه. والثالث: الإباحة وهو الأصل في القضاء، وربما يشير له قوله: فله الهرب. قاله عبد الباقي. وقال في التبصرة: المباح أن يكون فقيرا وله عيال، فيجوز له السعي في تحصيله لسد خلته، وكذلك إن كان يقصد به دفع ضرر عن نفسه فيباح له أيضا. انتهى. والرابع: الكراهة، كأن يكون سعيه في طلب القضاء لتحصيل الجاه والاستعلاء على الناس، فهذا يكره له السعي ولو قيل إنه يحرم كان وجهه ظاهرا لقوله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} . ويكره أيضا إذا كان غنيا عن أخذ الرزق للقضاء، وكان مشهورا لا يحتاج إلى تشهير نفسه وعلمه بالقضاء، ويحتمل أن يلحق هذا بقسم المباح. قاله في التبصرة. خامس الأقسام: الندب، وإليه أشار بقوله:
وندب ليشهر علمه، يشهر بضم الياء وهو المحفوظ من أشهر، وبفتحها من شهر، وهو الموافق لقوله الآتي: إن شهر عدلا، وربما يدل عليه كلام الصحاح. قاله عبد الباقي. يعني أنه يستحب لعالم خامل الذكر القبول والطلب ليعلم الجاهل ويرشد المستفتي، لا الشهرة لرفعة دنيوية، وكذا يندب لمن يعلم أنه أنهض وأنفع للمسلمين من غيره. قال عبد الباقي: وكذا لفقير عاجز عن قوته وقوت عياله إلا برزق القضاء من بيت المال أو من مرتب وقف عليه، كما اقتصر عليه ابن عرفة،
وفي ابن ناجي والتبصرة: أنه مباح فقط. انتهى. وقال الخرشي: ومن أقسام المستحب أن يكون عاجزًا عن قوته وقوت عياله إلا برزق القضاء وهو أهل له، والمراد برزق القضاء المجعول للقاضي من بيت المال أو من الأوقاف على القضاء، لا من مال من حكم له بالحق فإن ذلك لا يجوز كما نقله صاحب الجواهر في الشرط الرابع. انتهى. وأشار إلى القسم الثالث وهو شرط الكمال بقوله: كورع، يعني أنه يستحب أن يكون القاضي ورعا، فتولية الورع مندوبة، ولا يشترط في صحتها أن يكون من ولَّى ورعا، والورِع هو التارك للشبهات خوف الوقوع في المحرمات. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: ثم شبه في الندب قوله: كورع، أي شديد الورع كحَذِر أي شديد الحَذَر، وهو التارك للشبهات وبعض المباحات خوف الوقوع في المحرم. انتهى. وقال عبد الباقي: كورع بكسر الراء أي تارك شبهات وبعض مباحات خوف وقوع في محرم انتهى وقال الحطاب: إن الورع هو التارك للشبهات انتهى. الخرشي: ويستحب أن يكون القاضي بلديا لعلمه بأحوال الشهود على الراجح. ونحوه للشبراخيتي. الحطاب: زاد ابن الحاجب أن يكون مليا، ولا يخاف في الله لومة لائم، والمص إنما ترك الأول لأن ابن رشد وابن عبد السلام قالا: إن الوُلَاة اليوم يرجحون غير البلدي على البلدي، وترك الثاني لأنه قال في التوضيح تبعا لابن عبد السلام: الظاهر أنه راجع إلى النوع الأول لأن الخوف من لومة لائم راجع إلى الفسق. انتهى.
غني، يعني أنه يستحب في حق القاضي أن يكون غنيا، أي ذا مال غير محتاج بحيث لا تتطلَّع نفسه لما في يد غيره، ولا تتطرق مقالة السوء فيه، فالغني مظنة التنزه عن الطمع، لأن المال عند ذوي الدين زيادة لهم في الخير والفضل، لا سيما من نصب نفسه للناس، ولهذا قال الإمام الشافعي: من تولى القضاء ولم يفتقر فهو سارق، ولا ينافي ذلك ما مر عن ابن ناجي من إباحته لفقير ليستعين [بمرتبه]
(1)
من نحو بيت المال على عياله لأنه في المباح، وما هنا في المندوب. قاله عبد الباقي وغيره.
(1)
في الأصل: بمرتبة، والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 126.
حليم، يعني أنه يستحب في حق القاضي أن يكون حليما لا يحمله الغضب على تعجيل العقوبة ما لم تنتهك حرمات الشرع أو يسيء عليه أحد في مجلسه كما يأتي. نَزِهٍ يعني أنه تستحب النزاهة في حق القاضي. ابن غازي: والنزه الكامل المروءة، وقال غيره: النزه هو الذي لا يتشوف لما في أيدي الناس، وقال الجوهري: النزاهةُ البعد عن السوء. وقال ابن مرزوق: أي مترفعا عن الوقوع في الرذائل. قاله الشبراخيتي. وقال التتائي: نزه أي كامل المروءة بترك ما لا يليق بمثله، بأن لا يصحب الأرذال، ولا يجلس مجالس السوء. ابن عرفة: قول عمر بن عبد العزيز: أن يكون ذا نزاهة عن الطمع مستخفا بالأَئِمّة، يريد أنه يدير الحق على من دار عليه ولا يبالي بمن لامه على ذلك.
نسيب، يعني أنه يستحب في القاضي أن يكون نسيبا، وهو من ألفاظ المبالغة، ومعناه معروف النسب ليلا يتسارع إليه ألْسِنَةُ الناس بالطعن، وظاهره أن تولية غير النسيب جائزة سواء كان انتفاء نسبه محققا أم لا وهو كذلك، وحينئذ فتجويز سحنون ولاية ولد الزنى موافق للمذهب، زادَ: ولكن لا يحكم في الزنى لعدم شهادته فيه، وقد نقله ابن عرفة استقلالا على أنه خلاف، فقال: وأما المحدود في الزنى فعند أصبغ أنه يحكم فيه ولا يشهد فيه، وعند سحنون أنه لا يحكم فيه كولد الزنى. قاله الخرشي. وقال التتائي: نسيب أي معروف النسب ليلا يُتسارَع للطعن فيه. سحنون: يجوز أن يستقضى ولد الزنى ولا يحكم فيه. انتهى. وقال عبد الباقي: نسيب، أي معروف النسب ليلا يتسارع للطعن فيه، وظاهره أن تولية غير النسيب جائزة سواء كان انتفاء نسبه محققا أم لا وهو كذلك، قال ابن رشد: من الصفات المستحبة أن يكون معروف النسب ليس بابن لعان. انتهى. ثم قال عبد الباقي: ويأتي قريبا ما يفيد ترجيح ما لأصبغ؛ وقال الحطاب: قال ابن عرفة: قال سحنون: ولا بأس بولاية ولد الزنى ولا يحكم في حده. قال الباجي: الأظهر منعه لأن القضاء موضع رفعة فلا يليه ولد الزنى كالإمامة. الصقلي عن أصبغ: لا بأس أن يستقضى من حُدَّ في زنى إذا تاب ورضيت حالته وكان عالما، ويجوز حكمه في الزنى وإن لم تجز شهادته فيه.
مستشير، يعني أنه يندب في حق القاضي أن يكون مستشيرا لأهل العلم، أي معروفا بالاستشارة قبل التولية، فلا يتكرر مع قوله: أو شاوَرَهم، لأنه فيما بعد التولية كما يفيده السياق. قاله الرهوني. وإنما ندب فيه ذلك لأن ذلك مما يعينه ويوصله إلى الصواب، فلا يستقل برأيه خوف الخطإ، وقوله: مستشير، قال الخرشي: وبعبارة أي كثير الاستشارة لأنه وإن كان مجتهدا أو أمثل مقلد لا يتقيد الصواب به لإمكان أن يكون الصواب عند من هو أدنى منه.
بلا دَيْن، يعني أنه يندب أن يكون القاضي غير مدين، لأن الدين يحط، ولا يغني عن هذا قوله: غني، لأنه قد يكون غنيا وهو مدين. وحد أي وبلا حد يعني أنه يندب أن يكون القاضي غير محدود في زنى وغيره مما يوجب الحد، وظاهره سواء قضى فيما حد فيه أو في غيره، بخلاف الشاهد فإنه لا يقبل فيما حد فيه، ويقبل في غيره، وفرق بأن القضاء وصف زائد يعتبر فيه ما يسقط اعتباره في غيره، واستناد القاضي لبينة بخلاف الشاهد فبعدت التهمة، والموضوع أنه تاب مما حد فيه بالفعل، فإن ترتب عليه ولم يحد وتاب فلا بأس به. قاله عبد الباقي. قوله: وفرق بأن القضاء لخ، قال بناني: هذا الكلام كله للتتائي، وبينه مصطفى فقال: ذكر فرقين، الأول: بين كون القضاء يطلب فيه أن يكون القاضي غير محدود مطلقا، قضى فيما حد فيه أو في غيره بقوله: فإن القضاء وصف زائد، والثاني: بين كون القضاء يقبل من القاضي فيما حد فيه، ولا تقبل شهادة الشاهد في ذلك بقوله: استناد القاضي إلى بينة، وقوله: وحد، قال في التوضيح: وجوز أصبغ حكمه. فيما حد فيه، ومنعه سحنون قياسا على الشهادة. انتهى.
وزاندٍ في الدهاء، أي وبلا زائد في الدهاء، يعني أنه يندب أن يكون القاضي غير زائد في الدهاء بفتح الدال والمد كما ضبطه غير واحد كالخرشي والتتائي وعبد الباقي والشبراخيتي والحطاب، وقال: كذا ضبطه ابن قتيبة، وهمزته منقلبة عن الياء، والمراد به الفطنة والحذاقة لأن ذلك يحمله على أن يحكم بين الناس بالفراسة ويعطل أبواب الشريعة من إقامة بينة وما أشبه ذلك قاله الخرشي. وقوله: وزائد في الدهاء، أي وبلا عقل زائد في الدهاء، قال الشبراخيتي: ولو عبَّر بالمصدر كان أولى كزيد أو زيادة.
وبطانة سوء، أي وبلا بطانة سوء، بطانة الرجل أصحابه المطلع بعضهم على ما بطن من بعض، سُموا بها تشبيها ببطانة الثوب وهي خلاف ظهارته لاطلاعهم على الأمور الباطنة، يعني أنه يستحب أن يكون القاضي خاليا عن خليل يتهم منه السوء، لأن المرء على دين خليله، والسلامة من ذلك رأس كل خير، وكثيرا ما يُوتَى أهل الخير من جهة المعاشرين لهم من قرناء السوء. ابن عرفة: الذي في المعونة أخص من هذا وهو أن يستبطن أهل الدين والأمانة والعدالة والنزاهة فيستعين بهم، وأما البطانة التي لا يتهم منها السوء بل تحقق منها فالسلامة منها واجبة، وفي التتائي: وينبغي للإمام أن يعزل من قضاته من يخشى عليه الضعف والوهن وبطانة السوء وإن أمن عليه الجور.
ومنع الراكبين معه، يعني أنه يستحب للقاضي أن يمنع من الركوب معه، إذ بكثرتهم تعظم نفسه ويهابه ذو الحاجة فلا يصل إليه، ولاعتقاد كثير أنه لا يستوفي الحق منهم، وهذا إذا كان في غير حاجة ولا رفع مظلمة ولا خصومة. قاله الشبراخيتي. والمصاحبين له، يعني أنه يندب للقاضي أن يمنع من مصاحبته، أي يندب للقاضي أن يمنع من الركوب معه، ويندب له أيضا أن يمنع من المصاحبة له، أي يندب كل منهما، فهما مندوبان، كما في الشبراخيتي، وقال عبد الباقي: ومنع الراكبين معه والمصاحبين له، أي ندب له منع من ذكر من ركوبهم معه ومن مصاحبتهم له ليلا يتوهم أنه لا يستوفي عليهم الأحكام الشرعية، إلا أن يحتاج للراكبين في رفع مظلمة أو خصومة، أو يكون المصاحبون له أهل أمانة ونصيحة.
وتخفيف الأعوان، يعني أنه يندب للقاضي أن يخفف الأعوان أي يقللهم، لأنهم لا يسلمون غالبا من تعليم الخصوم وقلب الأحكام، وينبغي أن يبعد عنه من طالت مدته في هذه الخدمة، فإنه يزاد سُوءُهم بالناس، والأعوان هم الرسل والوكلاء. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: وندب تخفيف الأعوان لأنه لم يكن لأبي بكر وعمر أعوان، إلا أن يضطر إلى الأعوان فليخفف منهم ما استطاع، وقال في التوضيح: قال مطرف وابن الماجشون: ولو استغنى عن الأعوان أصلا لكان أحب إلينا. واتخاذ من يخبره بما يقال في سيرته، يعني أنه يندب للقاضي أن يتخذ من يخبره بما يقال في سيرته، قال في القاموس: والسيرة بالكسر السنة والطريقة والهيئة والمنزلة، فيجتنب
ما يكرهه الناس. وحكمه، فيجتنب ما يُكره من ذلك. وشهوده، ليعمل بمقتضى الأخبار من عزل أو إبقاء: وقد كان لعمر رضي الله عنه من يخبره بذلك.
وتأديب من أساء عليه، يعني أنه يندب للقاضي أن يؤدب من أساء عليه، كقوله: ظلمتني، وظاهر كلام ملك أنه على الوجوب، ويستند في ذلك لعلمه فيفعل وإن لم تشهد به بينة، بخلاف تأديب من أساء على خصمه فإنه واجب. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي وندب له تأديب من أساء عليه، أي على القاضي العدل في مجلسه وإن لزم منه الحكم لنفسه، لانتهاك حرمة الشرع، ولو بغير بينة لأن هذا مما يستند فيه لعلمه، والعقوبة في هذا أولى من العفو، لا بغير مجلسه وإن شهد عليه به عنده لأنه لا يحكم لنفسه في مثل ذلك فيرفعه لغيره إن شاء. انتهى. وقال بناني: وتأديب من أساء عليه، حمل بعضٌ هذا على الوجوب لحرمة الشرع، وهو ظاهر كلام ابن عبد السلام، وحمله بعض على الندب وهو ظاهر كلام ابن رشد نظرا إلى أنه كالمنتقم لنفسه، وهذا إن أساء على القاضي، أما على غيره فالوجوب. وفي رجز ابن عاصم:
ومن جفا القاضيَ فالتأديب
…
أولى وذا لِشاهدٍ مطلوب
تنبيه: وقع في سماع ابن القاسم أن القاضي إذا كان من أهل الفضل وأراد الخصم إذايته عاقبه. قال: وما ترك ذلك حتى خاصم أهل الشرف في العقوبة في الإلداد، أي ما ترك الناس إذاية القضاة حتى قام أهل الشرف بحقوقهم وعاقبوا أي الحكام من ءاذاهم وألدَّ عليهم فانكفوا عن إذايتهم. انظر أبا علي.
إلا في مثل اتق الله في أمري، يعني أنه إذا قال للقاضي: اتق الله في أمري، أو اذكر وقوفك للحساب بين يدي الله، وما أشبه ذلك مما فيه وعظ وإشارة فإنه يجب عليه أن يترك أدبه، ويندب أن يرفق به، كما قال: فليرفق به وليعرض عن الإشارة، وقوله: فليرفق به، بأن يجيبه جوابا لينا، بأن يقول له: رزقني اللهُ وإياك تقواه، أو ما أمرت إلا بخير، وعلينا وعليك أن نتقي الله، أو ذكَّرني وإياك الوقوف للحساب والأعمال كلها مكتوبة ونحو ذلك. والله سبحانه أعلم.
تنبيه: قد علم من المص أي من قوله: مجتهد لخ، ومن قوله: وحرم لجاهل، أن العلم من الصفات المشترطة وليس من الصفات المُسْتَحَبَّةِ وهو خلاف ما لابن عاصم حيث يقول:
منفذ للشرع للأحكام
…
له نيابة عن الإمام
واستحسنت في حقه الجزاله
…
وشرطه التكليف والعداله
وأن يكون ذكرا حرا سلم
…
من فقد رؤية وسمع وكلِم
ويستحب العلم فيه والورع
…
مع كونه الحديث للفقه جَمَع
قوله: منفذ، خبر مبتدإ محذوف، أي القاضي منفذ، وللأحكام يتعلق بمنفذ، وكذا بالشرع، وله نيابة مبتدأ وخبر، والجملة خبر ثان، والرابط لجملة الخبر ضمير له، يعني أن القاضي هو المنفذ للأحكام بمقتضى الشرع وموافقته، وأن له نيابة عن الإمام، فللإمام عزله متى شاء لسبب ولغير سبب كما هو الشأن فيمن استناب غيره، بخلاف من أوصى له الإمام بالخلافة وقَيلَ فليس له عزله لأن ذلك حكم حَكَم به على المسلمين، وأحكامه عليهم نافذة، وقوله: واستحسنت أي استحبت، والجزالة الوقار وأمالة الرأي، وعد ابن عاصم العلم من الصفات المستحبة، وهو ما ذهب إليه ابن زرقون وابن رشد، خلاف ما ذهب إليه عياض والمازري، من كونه من الشروط الواجبة، قال عياض: وشرط العلم إذا وجد لازم، ولا يصح تقديم من ليس بعالم، ولا ينعقد له تقديم مع وجود العالم المستحق للقضاء، وعلى كل حال فلا بد أن يكون له علم ونباهة وفهم بما يتولاه، وإلا لم يصح له أمر. انظر شرح الشيخ ميارة. وقال الإمام الحطاب عند قول المص:"مجتهد إن وجد وإلا فأمثل مقلد" يشير إلى أن القاضي يشترط فيه أن يكون عالما، وجعل ابن رشد العلم من الصفات المستحبة، وقال ابن عبد السلام: والمشهور أنه من القسم الأول. انتهى. وكذا عده صاحب الجواهر والقرافي من القسم الأول، وعليه عامة أهل المذهب، وعليه فلا يصح تولية الجاهل، ويجب عزله وأحكامه مردودة ما وافق الحق منها وما لم يوافقه، وسيصرح المؤلف بأنها مردودة ما لم يشاور، والله أعلم. انتهى. وقوله: مع كونه، الحديث لخ، يعني ليتهيَّأَ له النظر في النوازل والبحث عن الدلائل والترجيح عند وقوع الخلاف والاختيار عند تعارض الأقوال.
ولم يستخلف، يعني أن القاضي المولى من الخليفة الذي لم ينص له على استخلافه ولا عدمه لا يجوز له أن يستخلف في جهة قريبة، ولو اتسع عمله فيها، ولو مرض أو سافر عند سحنون، وقال الأخوان: له ذلك حينئذ، فإن استخلف لغير عذر لم ينفذ حكم مستخلَفه إلا أن ينفذه. انظر الحطاب. وتنظير علي الأجهوري فيه قصور. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: وإذا ولَّى الخليفة قاضيا وأطلق وسكت عن الإذن له في الاستخلاف وعدمه لم يستخلف أي لا يجوز له أن يستخلف أي يحرم عليه الاستخلاف، وأما لو نص له على الاستخلاف فله الاستخلاف مطلقا اتسع عمله أم لا، قربت الجهة أو بعدت، أو نص على عدمه فليس له الاستخلاف مطلقا. انتهى. وقال الحطاب: قال ابن عبد السلام: إذا نهي عن الاستخلاف فيتفق على منع الاستخلاف، ويتفق أيضا على جواز الاستخلاف إذا أذن له في ذلك من ولَّاه.
إلا لوسع عمله، يعني أن محل الحرمة في الاستخلاف المذكور إنما هو إذا استخلف في الجهة القريبة، أما إن كان عمله متسعا فيريد أن يستخلف في الجهات البعيدة فالمشهور الجواز، وقال ابن عبد الحكم: لا يجوز إلا بإذن الخليفة، وإلى المشهور أشار بقوله: في جهة بعدت، والمجرور متعلق بعامل محذوف، أي فيستخلف في جهة بعدت، وقوله في جهة بعدت، قال الشبراخيتي: لأنه قرينة على الإذن له في الاستخلاف، والذي يفيده كلام المتيطي أن البعد ما كان زائدا على مسافة العدوى أي القصر، وفهم من كلام المص منع الاستخلاف في الجهة القريبة مع وسع عمله، وظاهره ولو لعذر كمرض أو سفر وهو كذلك خلافا لطرف وابن الماجشون، وقال عبد الباقي: ثم محل تفصيل المص فيما إذا لم يخص على الاستخلاف في القريبة فيستخلف، اتسع عمله أم لا، كان له عذر من مرض أو سفر أم لا، أو على عدمه فيمنع مطلقا، وينبغي أن العرف في الأمرين كذلك.
من علم ما استخلف فيه، يعني أنه إذا استخلف لوجود شرط الاستخلاف فإنما يستخلف شخصا يكون عالما بالأمر الذي استخلف فيه. فقط، أي لا يشترط علمه بجميع أبواب الفقه، وإنما يشترط علمه بالأمر الذي ولي فيه نكاحا أو بيعا أو شركة أو غير ذلك، فعلمه بما استخلف عليه كاف.
تنبيه: قد علمت أن قوله: ولم يستخلف إلا لوسع لخ، فيما إذا كان المولِّي للقاضي هو الإمام، وأما لو كان المولي له القاضي فكذلك أيضا على ما للحطاب، فإنه قال بعد كلام: وعلى هذا فيكون حكم النواب مع من استنابهم حكم القضاة مع السلطان، فإن منعهم الذي قدمهم من الاستنابة فلا تجوز لهم الاستنابة اتفاقا، وإن أجاز لهم الاستنابة جاز أن يستنيبوا على مقتضى الإذن، فإن كان الإذن مطلقا جازت الاستنابة مطلقا، وإن كان مقيدا بمرض أو سفر جازت الاستنابة في المرض والسفر، وإن عريَ عقد التولية عن الإذن وعدمه فالأصح أنه لا يجوز لهم الاستنابة، وقيل: تجوز الاستنابة عند المرض والسفر، هذا ما ظهر لي. والله سبحانه أعلم. انتهى.
فرع: قال في التوضيح: ابن محرَز: ولم يختلفوا أن القاضي ليس له أن يوصي بالقضاء عند موته لغيره، بخلاف الموصي والإمام الأكبر، وضَابط ذلك: كل من ملك على وجه لا يُمْلَك معه عَزْلُه فله أن يوصي به ويستخلف عليه كالخليفة والوصي وإمام الصلاة، وكل من ملك حقا على وجه يُملَك معه عزلُه عنه فليس له أن يوصي به كالقاضي والوكيل ولو كان مفوَّضا إليه أو خليفة القاضي للأيتام وشبه ذلك. انتهى. وقوله: إمام الصلاة، ظاهره أنه لا يملك الإمام عزله، وإذا كان للوصي أن يومي فله أن يوكل غيره في حياته، وفي المتيطية: ولا يجوز لقدم القاضي على النظر لليتيم أن يوكل بما جعل إليه أحدا غيره حَييَ أو مات، ولا أن يومي به إلى أحد. وقاله ابن أبي زمنين وابن الهندي وغيرهما من الموثقين، وحكى بعض الموثقين أن الذي مضى عليه الحكم أن حكمَ مقدمِ القاضي على من قدمه عليه كحكم الوَصِيِّ من قبل الإذن في جميع أموره، لأن القاضي أقامه مقام الموصي قال بعض الشيوخ: فعلى هذا يكون لقدم القاضي أن يوكل في حياته من يقوم على المحجور مقامه. قاله الحطاب.
وانعزل بموته: يعني أن من استخلفه القاضي لوسع عمله في جهة بعدت ينعزل بموت القاضي الذي استخلفه لأنه وكيل، والوكيل ينعزل بموت موكله، وكذا ينعزل بعزله، وأما الموصي على يتيم فلا ينعزل بموت من قدمه ولا بعَزلِه، وقولي: لوسع عمله لخ، يخرج به ما إذا أذن الخليفة للقاضي في الاستخلاف، أو جرى العرف به واستخلف، فلا ينعزل بموت القاضي ولا بعزله،
وظاهر هذا ولو كان مذهب المستخلف بالكسر يقتضي عزل نائبه بذلك، ولا يعتبر مذهب القاضي الحنفي إذا استناب مالكيا بإذن من ولاه أو جرى عرف به، فلا ينعزل المالكي بموت الحنفي ولا بعزله كما هو ظاهر إطلاقِهم، ولا يعترض على المص بهذا لأن موضوع كلام المص هو الاستخلاف من غير إذن الإمام. انظر حاشية محمد بن الحسن، فإنه قال: لا وجه للاعتراض بهذا فإن موضوع لخ، وقوله: وانعزل بموته، وقيل: لا يَنْعَزِل المستخلَف بالفتح بموت القاضي المستخلِف بالكسر ولا بعزله، واقتصر عليه المتيطي وابن شأس، ومقتضى كلام ابن مرزوق ترجيحه، والله سبحانه أعلم.
لا هو بموت الأمير، يعني أن القاضي لا ينعزل بموت الأمير الذي استخلفه، ولو كان هذا الأمير الذي استخلفه هو الخليفة، فالمراد بالأمير من له سلطنة، قال في التوضيح: وانظر ما الفرق بين نائب القاضي في انعزاله وبين نائب الأمير في عدم انعزاله؟ وقد استشكله فضل وغيره. انتهى. وفهم من قول المص: لا هو بموت الأمير، أن القاضي ينعزل بعزل الأمير له أو الخليفة وهو كذلك، فإن حكم بشيء قبل بلوغ عزله نفذ كما في التبصرة لابن فرحون عن ظاهر المذهب لضرورة الناس لذلك، وانظر هل يستحق القاضي المتولي معلوم القضاء من يوم ولايته إذا ولي بلدا يحتاج إلى السفر إليها أو لا يستحق شيئا إلا بالمباشرة؟ فالمعلوم للمعزول إلى يوم بلوغ العزل له أي لأن أحكامه من يوم بلوغ العزل لا تنفذ، فوجودها كعدمها، فلا يستحق ما يقابلها من العلوم والله سبحانه أعلم. وقوله: ولو الخليفةَ قد علمت أن معناه إذا مات الإمام الذي تؤدى إليه الطاعة وقد قدَّم قضاة وحكاما فأقضيتهم نافذة وأحكامهم جائزة فيما بين موت الأول وقيام الثاني، وكذا بعد قيامه وقبل أن ينفذ لهم الولاية، وهم بمنزلة وُلاة الأيتام يقدمهم القاضي ثم يموت أو يعزل، فتقديمه لهم ماض وفعلهم جائز لا يحتاج إلى أن يمضيه القاضي الذي ولي بعده، قال ابن العطار: ونزلت عندنا واختلَف فيها فقهاؤنا وفيها اختلاف، قد قيل: إن أحكامهم في الفترة غير نافذة وينقض ما حكموا به قبل أن يُمْضِيَ الإمامُ القائمُ تقديمَهم وَوِلايتَهم، والقول بأن أحكامهم نافذة قبل إمضاء الإمام الموالي لولايتهم أحسن. انظر الحطاب.
ولا تقبل شهادته بعده أنه قضى بكذا، يعني أن القاضي المعزول إذا شهد بعد عزله أنه قضى بكذا فإنه لا تقبل شهادته، وكذا لو شهد قبل عزله أنه قضى بكذا، وأما إخباره لا على وجه الشهادة فإنه يقبل قبل العزل لا بعده. قال بناني: وَحَاصِلُ المسألة أن إخباره بذلك إن كان على وجه الشهادة لم يقبل لا قبل العزل ولا بعده، وإن كان على وجه الإعلام والخطاب فإنه يقبل قبل العزل ولا يقبل بعده. نقله المواق عن ابن رشد. ونقل الشيخ أبو علي عن العبدوسي أن لا فرق بينهما وأن الإخبار يجوز قبل العزل وإن كان شهادة ويمتنع بعده. انتهى. والفرق بين الشهادة والإخبار يعلم بنقل كلام المواق عن ابن رشد وذلك أنه قال: ابن رشد: في هذه المسألة معنى خفي وهو أن قول القاضي قبل عزله: قضيت بكذا، لا يقبل إن كان في معنى الشهادة كتخاصم رجلين عند قاض يحتج أحدهما بأن قاضيَ بلد كذا قضى لي بكذا أو ثبت عنده كذا، فيسأله البينة على ذلك، فيأتي بكتاب من عنده: إني حكمت لفلان، أو إنه ثبت عندي كذا لفلان، فهذا لا يجوز لأنه شاهد، ولو أتى الرجل ابتداء للقاضي فقال له: خاطب لي قاضيَ بلد كذا بما ثبت لي عندك على فلان أو بما حكمت لي به عليه قُبلَ لأنه مخبر. انتهى. والله سبحانه أعلم. قوله: ولا تقبل شهادته لخ، قال عبد الباقي: ومن باب أولى في البطلان إذا قال القاضي بعد عزله: شهد عندي شاهدان بكذا وقد كنت قبلت شهادتهما، فللطالب حينئذ تحليف المطلوب أن الشهادة التي بديوان القاضي ما شهد عليه بها أحد، فإن نكل حلف الطالب وثبتت الشهادة، ولا يجوز للقاضي أن يقضي وهو في غير محل ولايته، ولا تجوز شهادة محكم فيما حكم به لأنها شهادة على فعل النفس، وقوله: ولا تقبل شهادته بعده أنه قضى بكذا ولو شهد معه آخر.
وجاز تعدد مستقل، يعني أنه يجوز للإمام الأعظم أن ينصب قاضيين أو أكثر يحكم كل في كل ناحية وفي كل نوع، ولا بد من الاستقلال، فلا يصح تولية قاضيين أو أكثر لا يستقل الحكم إلا بهما أو بهم كانوا أو كانا بناحية أو كل بناحية في نوع خاص أم لا. والله سبحانه أعلم. أو خاص بناحية، بالجر عطف على مقدر، أي جازتعدد مستقلٍّ عام في جميع النواحي وجميع أبواب الفقه، أو خاص بناحية يحكم فيها في جميع أبواب الفقه. أو نوع، يعني أنه يجوز تعدد قاض مستقل خاص بنوع من الفقه يحكم في جميع النواحي، وقد علمت أنه لا بد من الاستقلال.
ابن شعبان: لأن الحاكم لا يكون نصف حاكم. ابن عرفة: منع ابن شعبان إنما هو في القضاة، وأما في نازلة واحدة فلا أظنهم يختلفون فيها أي في الجواز، وقد فعله عليٌّ ومعاوية في تحكيمهما أبا موسى وعمرو بن العاص. انتهى. وقوله: أو خاص بناحية أو نوع، وكذلك يجوز تعدد مستقل خاص بناحية ونوع، قال عبد الباقي: وأشعر كلامه يعني المص بجواز تولية القضاء عامة وخاصة وهو كذلك، خلافًا لقول أبي حنيفة: تنعقد عامة، ثم على انعقادها عندنا مطلقا يجوز للقاضي الكبير أن يمنع نوابه من الحكم بقضية معينة، كما يقع بمصر أن بعض قضاةِ عسكرها يمنع نائبه المالكي من الحكم بشاهد ويمين في المال، والحنبلي من الإجارة الطويلة، فيجوز للخليفة أن يستثني على القاضي أن لا يحكم في قضية بعينها أو لا يحكم بين فلان وفلان، وأشعر فرض المص جواز تعدد القاضي بعنع تعدد الإمام الأعظم وهو كذلك، ولو تناءت الأقطار جدا، وقيل: إلا أن لا تمكن النيابة، واقتصر عليه ابن عرفة، ونحوه للأصوليين. انتهى. المازري: تجوز تولية قاضيين في بلد على أن يخص كل واحد منهما بناحية من البلد أو نوع من المحكوم فيه، لأن هذه الولاية يصح فيها التخصيص والتحجير، وكذلك عدم التخصيص مع استقلال كل منهما بنفوذ حكمه، ومنعه بعض الناس بمقتضى السياسة خوف تنازع الخصوم فيمن يحكم بينهم، ومقتضى أصول الشرع جوازه. انتهى.
والقول للطالب، يعني أنه إذا اختلف الطالب والمطلوب في المدعى عنده فطلب كل المحاكمة عند قاض مع اتفاقهما على عين الطالب كان القول للطالب. ثم من سبق رسوله، يعني أنه إذا لم يتميز الطالب من المطلوب ودعا كل إلى قاض غير الذي دعا إليه الآخر فإن القول قول من دعا إلى القاضي الذي سبق رسوله إلى من لم يأت من المتداعيين، كما إذا ذهب أحد المتداعيين لقاض وذهب الآخر لقاض آخر فأرسل كل قاض عونه أي رَسُولَهُ إلى من لم يأت من المتداعيين. والله أعلم.
وإلا، بأن استويا فلم يسبق رسول واحد منهما أقرع بينهما فيمن يذهبان إليه من القاضيين. المازري: ولو فرضنا الخصمين جميعا طالبين كل منهما يطلب صاحبه فلكل واحد منهما أن
يطلب حقه عند من شاء من القضاة ويطلب الآخر حقه عند من شاء، وإن اختلفا فيمن يبتدئ بالطلب وفيمن يذهبان إليه من القاضيين أوجبت للسابق من رسول القاضيَين، وإن لم يكن لأحدهما ترجيح بسبقِ الطلب ولا بغير ذلك أقرع بينهما. انتهى كلام المازري. وهو يفيد أنه يعمل بقول كل واحد منهما في تعيين القاضي الذي يُدَّعَى عنده، لأنه لا يكون كلٌّ طالبًا إلا مع اختلاف الدعوى، وإنما يعتبر سبق الرسول فيما إذا اختلفا فيمن يبتدئ بالطلب وفيمن يذهبان إليه، فإن سبق أحدهما بالطلب ترجح قوله وإلا فالمعتبر من جاء رسوله أولا من القضاة. انتهى. انظر حاشية الشيخ بناني. ولا حاجة إلى ما في بعض النسخ من زيادة: كالادعاء بعد قوله: أقرع، لأن ما يفيده التشبيه ذكره تصريحا فيما يأتي من قوله: وأمر مدع لخ، فلا فائدة لذكره هنا. والله سبحانه أعلم وقوله: وإلا أقرع، أي إن اتفقا على القرعة، وإلا فلا بد من حاكم يقرع بينهما. قاله التتائي.
وتحكيم غير خصم، عطف على قوله: تعدد، يعني أنه يجوز للخصمين أن يتفقا على أن يحكما شخصا ليس مُوَلًّى بشرط أن لا يكون أحد الخصمين بحيث يكون حاكما لنفسه أو عليها. قاله بناني وغيره. وقال عبد الباقي: لا تحكيم خصم لهما أو لأحدهما. قال بناني: فيه نظر إذ ليس المراد نفي أن يحكم الخصمان من هو خصم لهما أو لأحدهما، وإنما المراد نفي أن يحكم أحد الخصمين الآخر بحيث يكون حاكما لنفسه أو عليها. ابن عرفة: ففي جواز تحكيم الخصم خصمه مطلقا وكراهته إن كان القاضي، ثالثهما: لا ينفذ حكمه إن كان القاضيَ، لنقل المازري مع اللخمي عن المذهب، والشيخ عن أصبغ، وظاهر قول الأخوين. انتهى. وجزم ابن فرحون في تبصرته بالجواز، فقال: مسألة: وإذا حَكَّم أحد الخصمين صاحبه فحكم لنفسه أو عليها جاز ومضى ما لم يكن جورا بينا، وظاهر كلام ابن عرفة وابن فرحون ترجيح الجواز ابتداء، وقال الحطاب: ظاهر كلامهم أن الجواز بعد الوقوع. انتهى. وعلى كل فعلى المص درك في التقييد بغير خصم، لأن تحكيم الخصم على ما ذكر من الجواز ابتداء وبعد الوقوع يكون مساويا لتحكيم غير الخصم، وعبارة ابن الحاجب: لو حكم خصمه، فثالثها: يمضي ما لم يكن خصمُه القاضِيَ. ابن عرفة: القول بعدم مضيه مطلقا لا أعرفه. انتهى. انتهى. الرهوني: لا درك على المص، وما نقله
اللخمي والمازري عن المذهب واعتمده العلامة ابن عبد السلام والمص هو الصواب، وفي كلام ابن عرفة ومن تبعه نظر. انتهى. ورد الرهوني ما لابن عرفة بما يعلم بالوقوف عليه، وقال الحطاب: قال ابن الحاجب: فلو حكم خصمه، فثالثها: يمضي ما لم يكن المحكم القاضِيَ. قال ابن عبد السلام: هذه الأقوال صحيحة حكاها غير واحد، وأشار بعضهم أو صرح بنفي الخلاف في أن حكمَه غير ماض، وحكى بعضهم أنه يمضي لكنه لم يتعرض لنفي الخلاف. انتهى. ونقله في التوضيح. انتهى. وقال عبد الباقي: وأجاز تحكيم غير الخصم. اللخمي والمازري: ابن عرفة: ظاهر ما لهما الجواز ابتداء، ولفظ الروايات إنما هو بعد الوقوع. اهـ. ويكفي المص شاهدا ما للخصي والمازري. انتهى. وقوله وتحكيم غير خصم، فلو حكما خصما فإن ذلك لا يجوز ولا ينفذ حكمه، وقال الشبراخيتي: وجاز تحكيم غير خصم، وأما أحد الخصمين فلا يجوز للآخر تحكيمه، وكذا إذا حكما خصما لهما أو لأحدهما. انتهى. وتقدم بحث بناني فيما إذا حكما خصما لهما أو لأحدهما، وقال التتائي: فلو حكما خصما لم يجز، وإن حكم لم يمض حكمه، قيل: اتفاقا، وقيل: مختلف فيه. انتهى.
وجاهل، يعني أنه لا يجوز تحكيم الجاهل، فلو حكما جاهلا فإن ذلك لا يجوز ولا ينفذ حكمه إن حكم، وقوله: وجاهل، عطف على خصم، قال الإمام الحطاب: قال في التوضيح: وأشار المازري واللخمي إلى أن الجاهل يتفق على بطلان حكمه، لأن تحكيمه خطر وغرر، ثم قال في التوضيح: ونص اللخمي على أنه لا يلزم حكم المحكم إذا كان [مالكيا والخصمان]
(1)
، كذلك إذا خرج عن قول ملك وأصحابه، وإن لم يخرج باجتهاده عن ذلك لزم، وقال اللخمي: إنما يجوز التحكيم إذا كان المحكم عدلا من أهل الاجتهاد أو عاميا واسترشد العلماء، فإن حكم ولم يسترشد رُدَّ وإن وافق قول قائل، لأن ذلك تخاطر منهما، وفي العمدة: إن حكما رجلا ورضيا بحكمه لزمهما حكمه إذا كان جائزا شرعا وإن خالف حكم البلد، بخلاف التحكيم في الشهادة فله الرجوع عنه. انتهى. يعني والله سبحانه أعلم إذا قال: ما شهد به عليَّ فلان فهو حق.
(1)
في الأصل: أو الخصمان، والمثبت من التوضيح ج 7 ص 401.
قال مقيده عفا الله عنه: والظاهر أن ما في العمدة لا يخالف ما نقله الحطاب عن المازري: إذا كان المحكم من أهل الاجتهاد مالكيا ولم يخرج باجتهاده عن مذهب ملك لزم حكمه، وإن خرج لم يلزم إذا كان الخصمان مالكيين، لأنهما لم يحكماه على أن يخرج عن قول ملك وأصحابه، وكذلك إذا كانا شافعيين أو حنفيين وحكماه على مثل ذلك لم يلزم حكمه إن حكم بينهما، والظاهر أيضا أنه لا يخالف ما تقدم عن اللخمي، تأمل.
وكافر، عطف على خصم، ومعناه أن الكافر لا يجوز تحكيمه ولا ينفذ حكمه إن حكم. وغير مميز، يعني أنه لا يصح تحكيم غير الميز، ولو حذفه لكان أولى لأنه مستغنى عنه بقوله: وجاهل، وقوله: وغير عطف على قوله: خصم، أي وجاز تحكيم غير غيرِ مميز وهو المميز، ولو أسقط المص غير هنا وعطف مميز على غير لكان صوابًا. والله سبحانه أَعلم. وقوله: مميز، أي من البالغين بدليل قوله: إلا الصبي، وعلم مما قررت أن معنى كلام المص يجوز تحكيم شخص مميز ليس بخصم ولا جاهل. المازري: لا يحكَّم إلا من يصح أن يُوَلَّى القضاء، وفي الخرشي: ولو شاور الجاهل العلماء وعلم الحكم لم يكن حكمَ جاهل، ولو حكم الخصم أو الجاهل أو الكافر كان الحكم مردودا، وينبغي إذا قَتَل أحدٌ منهم أن تكون الدية على عاقلته، وإذا أتلف شيئا أن يكون ضامنا له. انتهى.
في مال وجرح، متعلق بتحكيم كما يفيده الخرشي، أو بالجواز كما يفيده غير واحد، يعني أن التحكيم إنما يكون في المال والجرح وإن عظم كقطع يد أو رجل، قال عبد الباقي: فإن حكما خصما أو جاهلا أو كافرا أو غير مميز لم ينفذ حكم كل، وينبغي إذا أتلف أحد منهم عضوا أن تكون الدية على عاقلته أو مالًا ففي ماله. انتهى. وذكر سبع مسائل لا يجوز التحكيم فيها، أولاها: الحد وإليه أشار بقوله: لا حَدٍّ، يعني أنه لا يجوز التحكيم في الحدود، فلا يحكم في الزنى، ولا في شرب الخمر، ولا في القذف، ولا في غير ذلك مما يترتب فيه حد، وأشار إلى الثانية بقوله:
وقتل، يعني أنه لا يجوز التحكيم في القتل عمدا، فلو ادعى شخص على آخر أنه قتل أخاه مثلا وأنكر فلا يجوز التحكيم في ذلك، وأشار إلى الثالثة بقوله: ولعانٍ، يعني أنه لا يجوز التحكيم في
اللعان، فلو رمى رجل زوجته بالزنى مثلا أو نفى حملها فلا يجوز التحكيم في ذلك، وإلى الرابعة بقوله: وولاءٍ، يعني أنه لو ادعى شخص ثبوت الولاء له على أحد فإنه لا يجوز التحكيم في ذلك، وإلى الخامسة بقوله: ونسبٍ، يعني أنه لا يجوز التحكيم في النسب، فلو ادعى شخص أنه ابن فلان فلا يُحَكَّم في ذلك محكَّمٌ، وإلى السادسة بقوله:
وطلاق، يعني أنه لا يجوز التحكيم في الطلاق، وإلى السابعة بقوله: وعتق، يعني أنه لا يجوز التحكيم في العتق، وإنما لم يجز التحكيم في واحد من هذه السبعة، لأنه يتعلق بها حق لغير الخصمين إما لله تعالى وإما لآدمي، ففي اللعان حق للولد لقطع النسب وكذلك النسب، وفي الطلاق والعتق حق لله تعالى إذ لا يجوز بَقَاءُ المطلقة البائن في العصمة ولا رد العبد في الرق، و (الولاء لُحمة كلُحمة النسب)
(1)
، والقتل يتعلق به حق لله إذ لا يجوز قتل نفس بغير موجب، وترك المص هنا بعض مسائل ذكرها في باب الحجر حيث قال: وإنما يحكم في الرشد وضده لخ، وترك هناك بعض مسائل ذكرها هنا، فينبغي أن يزاد في كل محل ما نقصه من المحل الآخرة وعبر هناك بالقصاص وهنا بالقتل فَيُقَيَّدُ ذلك بما هنا قاله الخرشي.
ومضى إن حكم صوابا، يعني أن المحكم إذا حكم صوابا فيما لا يجوز التحكيم فيه فإن حكمه يمضي، وليس لأحدهما ولا لحاكم غيرهما أن ينقضه. وأُدِّبَ، يعني أنه وإن قلنا: إن حكمه يمضي، يؤدب أي إذا استوفى الحكم بالحد والقتل لافتياته على الإمام في الاستيفاء، وإلا فلا يؤدب بل يزجر ولا يؤدب على المعول عليه، وحينئذ إذا حكم بالقتل وعُفيَ عن المحكوم عليه لم يكن عليه أدب كما يستفاد من كلام المواق. قاله الخرشي. وقوله: ومضى إن حكم صوابا، هو في جميع ما ذكره هنا وفي باب الحجر، أصبغ: إذا حكم فيما ذكرنا أنه لا يحكم فيه فإن القاضيَ يُمضِي حكمَه وينهاه عن العودة، فإن فعل المحكم ذلك بنفسه فَقَتلَ أو اقتَصّ أو حَدّ ثم رفع إلى الإمام أدبه السلطان وزجره وأمضى ما كان صوابا من حكمه. انتهى. ومثله في المواق، فقوله: فيما ذكرنا أنه لا يحكم فيه، ظاهره العموم، وبالنقل المذكور يعلم أن الأدب إنما يكون إذا أنفذ
(1)
البيهقي، ج 6 ص 240.
الحكم بنفسه، أما إذا حكم ولم ينفذ فلا أدب عليه، خلافا لظاهر المص. انظر الحطاب. قاله بناني. وقال عبد الباقي، وأدب إن وقع استيفاء ما حكم به لافتياته على الإمام في الاستيفاء وإلا لم يؤدب بل يزجر فقط. انتهى المراد منه. وفي الحطاب: في التوضيح: قال أصبغ: إذا حكم فيما ذكرنا أنه لا يحكم فيه فإن القاضي يُمضِي حكمَه وينهاه عن العودة، زاد ابن عبد السلام: ويقيم الحد وغيره. انتهى. ثم قال في التوضيح: وإن فعل المحكم ذلك بنفسه فقتَل أو اقتصَّ أو حَدَّ ثم رفع ذلك إلى الإمام أدبه السلطان وزجره وأمضى حكمه الصواب. ونقله القرافي وغيره عن سحنون، وزاد القرافي وابن فرحون بَعْدَ هذا الكلام الأخير وبقي المحدود محدودا والتلاعن ماضيا، وقوله: ومضى إن حكم صوابا، قال في التوضيح: ولا يكون لواحد منهما ولا لحاكم غيرهما نقضه إلا أن يكون جورا بينا، وقال الشبراخيتي: ومقتضى كلام المص أن حكمه فيما ذكر من قوله: لا حد لخ، غير جائز، فإذا حكم فيها فقد فعل معصية فيؤدب عليها وجوبا وإن لم يحصل استيفاء لموت المحكوم عليه أو العفو عنه، ولكن ما ذكره المواق عن أصبغ خلافُه، أي أن الأدب إنما هو بعد استيفاء الحكم بالقتل والحد، فإن لم يستوفه فإنه يزجر ولا يؤدب، وعليه فَلَنا معصيةٌ لا يجب الأدب فيها إلا بانضمام شيء إليها فيخصص به قول المص الآتي: وعزر الإمام لمعصية الله تعالى.
وفي صحة أو مضي تحكيم صبي مميز وعبد وامرأة وفاسق في مال وجرح، وكذا غيرهما كما هو ظاهر النقل أربعة أقوال، أولها: المضي في الأربعة ثانيها: عدمه فيها. ثالثها: أي الأقوال يمضي ما حكموا به، إلَّا في تحكيم الصبي فإنه لا يصح تحكيمه ولا يمضي حكمه لأنه غير مكلف ولا إثم عليه إن جار. ورابعها: أي الأقوال المضي إلا في تحكيم صبي وفاسق، قال بناني: الأقوال في المضي وعدمه كما يشعر به ما قبله وهو ظاهر ابن عرفة والمواق، لا في صحة التحكيم كما في التتائي وتبعه الزرقاني، لأنه خلاف ظاهر المص، والقول الأول لأصبغ، والثاني لطرف، والثالث لأشهب، والرابع لابن الماجشون، وجعل ابن رشد الخلاف في الجواز وعدمه، ونصه: واختلف في العبد والمرأة والمسخوط والمولَّى عليه والصغير الذي لم يعقل، فأجاز أصبغ تحكيمهم كلهم، وأجاز ابن الماجشون في أحد قوليه تحكيم العبد والمرأة والمولَّى عليه. انتهى. نقله أبو الحسن. قال مقيد
هذا الشرح عفا الله عنه: الأمر سهل في التفريق بين المضي والصحة. والله سبحانه أعلم. وقال الحطاب: وفي صبي وعبد لخ، أدخل معهم ابن رشد المولَّى عليه.
وضربُ خصم لدّ، عطف على فاعل جاز، يعني أنه يجوز للقاضي أن يضرب الخصم إذا لد أي امتنع من إعطاء الحق أو الشرع، ويجتهد في قدره ويضربُه بيده أو بأعوانه، قال عبد الباقي: ويستند في ذلك لعلمه خلافا لما يفهم من كلام أبي الحسن. قال بناني: بل كلام أبي الحسن صريح في ذلك كما في الحطاب، ونصه: قال في المدونة: ولا بأس أن يضرب الخصم إذا تبين لدده. أبو الحسن: قوله: إذا تبين لدده، معناه إذا تبين ببينة إذ لا يقضي بعلمه إلا في التعديل والتجريح، وسلمه الحطاب، واعتراض الزرقاني تبع فيه التتائي وليس بظاهر. والله أعلم انتهى. والاعتراض على أبي الحسن المذكور أصله لابن ناجي. والله تعالى أعلم. قاله الرهوني. قال عبد الباقي: وظاهر المص كالمدونة جوازه، وفي البيان وجوبه، وعليه فالمراد بالجواز الإذن فيشمل الواجب، أو يقال: الواجب زجره بما هو أعم من الضرب، وأما الضرب بخصوصه فحكمه الجواز لأن أمره شديد. انتهى. يعني إذا كان ينزجر بغير الضرب وإلا وجب كما صرح به ابن مرزوق. قاله الرهوني. وقال الشبراخيتي: وجاز للقاضي ضرب خصم لد عن إعطاء الحق، وكذا يؤدب من امتنع من الشرع إن كان القاضي عدلا، وعليه أجرة الرسول وإلا فله الامتناع ولا أدب عليه، قال في الشرح: وظاهر نقل المواق أنه واجب لا جائز، ونحوه في البيان كما ذكره الزرقاني، وعليه فالمراد بالجواز هنا الإذن فيتناول الواجب، ولكن في المدونة: ولا بأس أن يضرب الخصم إذا تبين لدده وظلمه. ابن ناجي: يأمر الإمام أعوانه بذلك، ولو ضربه بيده جاز، ومقتضى كلام المص كغيره أنه لا يعزر بغير الضرب، ثم يرجع في قدره لاجتهاد الحاكم. وقال الخرشي: يعني أن الخصم إذا لد عن إعطاء الحق فللقاضي أن يضربه وأن يسجنه، وحكم الأدب الوجوب على الإمام، كما صرح به ابن رشد في سماع ابن القاسم. انتهى. وكلام ابن رشد هو قوله: لأن لدد أحد الخصمين بصاحبه إذاية له وإضرار به، وواجب على الإمام أن يكف أذى بعض الناس عن بعض، ويعاقب عليه بما يؤدي إليه اجتهاده. انتهى. وقال ابن فرحون في الأمور التي تنبغي
للقاضي مع الخصوم: منها أن الغريم إذا دعا غريمه فلم يجبه أدبه وجرحه إن كان عدلا، فإن تغيب فأجرة الرسول على الطالب، فإن تغيب المطلوب وتبين لدده فالأجرة عليه، ونحو ذلك للخمي، ثم قال: وينبغي له أن يمنع من رفع الصوت عنده.
وعزله لمصلحة، يعني أنه يجوز للأمير أو الخليفة أن يعزل القاضي لأجل مصلحة ككون غيره أقوى منه أو أحكم أو أصلح، وقوله: لمصلحة أو درء مفسدة. قاله الشبراخيتي. والجواز أيضا هنا بمعنى الإذن الصادق بالوجوب وهو المراد هنا. انتهى. وقال الحطاب: وعزله لمصلحة. ابن عرفة: ويجب تفقد الإمام حال قضاته فيعزل من في بقائه مفسدة وجوبا فورا، ومن يخشى مفسدته استحبابا، ومن غيرُه أولى منه عزلُه راجح. انتهى. ثم قال المازري: إذا كان في العزل مصلحة للعامة أمر الإمام بالمبادرة إليه، وإن وجد الإمام أفضل ممن ولي فله عزله لتولية الأفضل، وإن لم يجد إلا من هو دونه فلا يعزله، فإن عزله فلا ينفذ عزلته، قلت: في عدم نفوذ عزلته نظر لأنه يؤدي إلى لغو توليته غيره فيؤدي ذلك إلى تعطيل أحكام المسلمين. انتهى. انتهى.
وقال عبد الباقي: وجاز أي أذن للأمير أو الخليفة عزله أي القاضي لمصلحة أو درء مفسدة، وإن لم تكن جرحة فيه ككون غيره أفضل أو أصبر أو أجلد، فيندب عزله لذلك، كمن يخشى من بقائه مفسدة ويجب لتحققها، فإن عزل لا لمصلحة فالنقل أنه لا ينعزل. انتهى.
ولم ينبغ إن شهر عدلا بمجرد شكية يعني أنه لا ينبغي أي لا يجوز للخليفة أو الأمير عزل القاضي إن اشتهر بالعدالة بمجرد شكية أي شكوى، أي لا ينبغي عزله بالشكوى المجردة عن الكشف إن كان مشهورا بالعدالة، وكلامه صادق بما إذا تعددت الشكوى، قال عبد الباقي: ومفهوم شهر أنه لو لم يشهر بالعدالة لكان ينبغي عزله بمجرد الشكوى من غير كشف وهو كذلك إن وجد بدلا كما قال مطرف، لكن في كلام مطرف فليعزله. قاله أحمد بصيغة مضارع فيه لام الأمر، فيفيد الوجوب، فإن لم يجد عنه بدلا كشف عليه، فإن كان على ما يجب أبقاه وإن كان على غير ذلك عزله. قاله مطرف أيضا كما في الش. ثم قال عبد الباقي: ما مر عنه، ويحتمل كلام المص أن يكون معناه أن مجرد الشكية الواحدة لا ينبغي معها العزل حيث كان مشهورا بالعدالة، لكن على هذا كان ينبغي أن يستغني عن قوله: بمجرد، وقول مطرف: لا ينعزل
المشهور بالعدالة بالشكية، يحتمل الأمرين. انتهى. وقوله: عدلا، تمييز محول عن نائب الفاعل أو منصوب بنزع الخافض. الشبراخيتي: وقد عزل عمر رضي الله عنه سعدًا بالشكية وهو أحد العشرة المقطوع لهم بالجنة. انتهى. وهو دليل لأصبغ فإنه قال: أحب إلي أن يعزل بمجرد الشكية وإن كان مشهورا بالعدالة، وإن لم يكن مشهورا بالعدالة فليعزله إن وجد منه بدلا وتضافرت الشكية عليه، فإن لم يجد منه بدلا كشف عنه، فإن كان على ما يجب أبقاه وإلا عزله. انتهى. وقوله: بمجرد، قد علمت أن معناه دون كشف وهو ما قررت به أولا وفيه احتمال آخر دون تعدد الشكوى كما مر عن الشارح. والله سبحانه أعلم. وقال الإمام الحطاب: مفهوم قوله: إن شهر عدلا، أن غير المشهور عدالته يعزل بمجرد الشكية، وحكى ابن عرفة فيه ثلاثة أقوال: ونصه: وعزله بالشكاية به إن لم يكن مشهورا بالعدالة في وجوبه أو الكتب إلى صالحي بلده ليكشفوا عن حاله، فإن كان على ما يجب وإلا عزل، ثالثها: إن وجد له بدلا وإلا فالثاني، للشيخ عن أصبغ، وغيره، ومطرف. انتهى.
ولْيبَرَّأ عن غير سخط، يعني أنه يجب أن يبرأ القاضي المعزول عن غير سخط أي أمر قبيح فَيُبرِّئه مَن عَزَلَه بأن يظهر براءته بحيث يزول عنه توهم السخط، كما فعل عمر رضي الله عنه بشرحبيل بن حسنة حيث عزله، فقال يأمير المؤمنين: أعن سخط؟ فقال: لا، ولكن وجدت أقوى منك، قال: إنَّ عَزْلك عيبٌ فأخبر الناس بعذري، ففعل. وتعقب ابن عبد السلام الاحتجاج بقضية شرحبيل بأن تبرئته إنما كانت بسؤال ذلك لا ابتداء، ومفهوم قوله: عن غير سخط، أن المعزول عن سخط يظهر جرحته للناس ليلا يولى عليهم بعد ذلك إذ لا يولَّى عليهم ولو صار أعدل أهل زمانه.
وخفيف تعزير بمسجد، يعني أنه يجوز فعل خفيف التعزير أي الأدب بالمسجد، والخفيف ما يظن معه السلامة من النجس، والباء للظرفية كخمسة أسواط وعشرة، بخلاف شديد التعزير والحد، ولهذا قال: لا حَدَّ يحتمل المنع لأنه ذريعة لخروج شيء منه مما ينجس المسجد، ويحتمل الكراهة، وجوز الاحتمالين في توضيحه في قول ابن الحاجب: ولا تقام الحدود في
المسجد، وقال الحطاب: قال في المدونة: ولا يقيم في المسجد الحدود وشبهها، أبو الحسن: لأن في ذلك إهانة له والله يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} . وقوله: شبهها يعني التعزيرات الكثيرة. انتهى. انتهى.
وجلس به، يعني أن القاضي يستحب له أن يجلس للقضاء في المسجد. قال التتائي: وفي المدونة: هو من الحق والأمر القديم. قال المص: والأقرب في زماننا الكراهة لكثرة التساهل ورفع الأصوات فيه. اللخمي عن ابن شعبان: من العدل كون منزل القاضي بوسط مصره. وفي الواضحة: كان من مضى من القضاة يجلسون في رحاب المسجد. قال في الذخيرة: وفي النوادر: ويجعل للنّصارى يوما أو وقتا يجلس لهم في غير المسجد. انتهى. وقال عبد الباقي: وجلس ندبا به أي برحابه خشية امتهانه وليَصِلَ إليه الكافر والحائض والضعيف، ولخبر:(جنبوا مساجدكم رفع أصواتكم وخصوماتكم)
(1)
. انتهى. قال بناني: قول الزرقاني: برحابه، أي الخارجة عن المسجد، وكون جلوسه برحابه هو المستحبُّ عند اللخمي والباجي وصاحب المقدمات. وقال ابن عبد السلام: الأقرب في زماننا اليوم الكراهة، فالحكم في المسجد مؤد إلى دخول الحائض والجنب فيه إلى ما ينضم إلى ذلك من رفع أصوات الخصوم بكلام الباطل. انتهى.
فرع: قال الحطاب: يستحب للقاضي أن يستقبل القبلة في جلوسه، وينبغي له أن لا يتضاحك مع الناس. وقال الشبراخيتي: وجلس القاضي به أي بالمسجد للقضاء أي برحابه خشية امتهانه، وأما في داخله فهو مكروه لأن المساجد تنزه عن الخصومات كما يفيده كلام الحطاب خلافا لما في التبصرة، وهذا حيث لم يحصل امتهان المسجد بدخول من لا يجوز دخوله به كالحائض والجنب، وبفعل ما لا يجوز فعله به كالتعزير الشديد به وإقامة الحد به، فإنه يحرم الجلوس به. انتهى. ولابن عاصم رحمه الله تعالى:
وحَيْثُ لاقَ لِلقَضاءِ يَقْعُدُ
…
وفي البلاد يُسْتَحَبُّ المسْجِدُ
(1)
ابن ماجه، كتاب المساجد، رقم الحديث 750 ولفظه: جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراركم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم
…
قال الشيخ ميارة: يعني أن القاضي يجلس للقضاء والفصل بين الخصوم حيث يليق ذلك وَيَصْلَحُ له، كان في بادية أو حاضرة، يعني فإن كان في بلد وحاضرة استحب جلوسه في المسجد، وهذا هو الذي روى ابن القاسم عن ملك رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قضاء القاضي في المسجد من الأمر القديم إذا جلس فيه رضي بالدون من المجلس ووصل إليه الضعيف والضعيفة، وفي المدونة: قال ملك: القضاء في المسجد من الحق وهو من الأمر القديم لأنه يرضى فيه بالدون من المجلس وتصل إليه المرأة والضعيف، وروى ابن حبيب يجلس برحاب المسجد: وهذا أحسن لقوله صلى الله عليه وسلم: (جنبوا مساجدكم رفع أصواتكم وخصوماتكم). والمستحسن لأهل العلم في كيفية جلوسه أن يكون جلوسه مستقبل القبلة، وأن يكون متربعا أو محتبيا وعليه السكينة والوقار، وروى ابن المواز: لا بأس أن يقضي القاضي وهو متكئ، والذي ينبغي له أن يُجلِس الخصمين بين يديه كانا قويين أو ضعيفين، أو أحدهما قوي والآخر ضعيف، ويستحب في القاضي أن تكون فيه عبوسة من غير غضب، وأن يلزم التواضع والنسك في غير وهن ولا ضعف، ولا ترك شيء من الحق، وفي المجموعة وكتاب ابن المواز عن ملك: لا بأس أن يقضي القاضي في منزله وحيث أحب.
وفي تنبيه الحكام لابن المناصف: ويكره الجلوس للحاكم في داره، وقد أنكره عمر بن الخطاب على أبي موسى الأشري وأمر بإضرام داره عليه نارا، فدعا واستقال ولم يعد إلى ذلك، فإن دعته ضرورة إلى ذلك فليفتح أبوابها ويجعل سبيلها سبيل المواضع المباحة لذلك من غير منع ولا حجاب، والأحسن أن يكون مجلس قضائه حيث الجماعة وفي المسجد الجامع، إلا أن يعلم ضرر ذلك بالنصارى وأهل المال والنساء الحيض، فيجلس في رحبة المسجد، فإن دخل عليه ضرر بقعوده في المسجد لكثرة الناس حتى شغله ذلك عن النظر والفهم فليكن له موضع في المسجد يحول بينهم وبينه، وحيثما جلس القاضي المأمون فهو له جائز، وذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى القاضي تميم بن عبد الرحمن ألَّا يقضيَ في المسجد، وبذلك أخذ الشافعي. ابن أبي زيد: واحتج بعض أصحابنا في قضاء القاضي بالمسجد بقوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا
الْمِحْرَابَ}. يدل
(1)
على أن الحكومة وقعت عنده في مسجده، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم (قضى في المسجد)
(2)
. ولا يتشاغل بالحديث في مجلس قضائه إن أراد بذلك إجمام نفسه، وإذا وجد الفتور فليقم من مجلسه ويدخل بيته أو يدفع الناس عنه أو يدع في
(3)
مجلس قضائه، ويجلس للحديث مع من أحب إن أراد إجمام نفسه، وأَمّا وَهُوَ يقضي فلا ينبغي، وأجازه ابن عبد الحكم مع جلسائه وهو أحسن من القيام، ولا يكثر من القضاء جدا حتى يأخذه النعاس والعجز. انظر التبصرة. وفي الرهوني عن التبصرة للخمي: واختلف في الموضع الذي يجلس فيه للقضاء على ثلاثة أقوال، أحدها: قول ملك في المدونة: القضاء في المسجد من الأمر القديم، وقال في كتاب ابن حبيب: كان من مضى من القضاة لا يجلسون إلا في رحاب المسجد. وقال أشهب: لا بأس أن يقضي في منزله وحيث أحب. انتهى. وما قاله المص هو المشهور لأنه مذهب المدونة وعليه الأكثر، وصرح غير واحد بأنه المشهور. والله أعلم.
بغير عيد، متعلق بجلس مع قطع النظر عن قيده وهو به كما قاله الشبراخيتي، أي يجلس للقضاء ولو بغير مسجد بغير عيد، يعني أن القاضي لا يجلس للقضاء في هذه الأوقات التي يذكرها، أي يكره فيها منها العيد فطرا أو أضحى كما في الشبراخيتي وغيره.
وقدوم حاج، يعني أن القاضي يجلس للقضاء في غير الوقت الذي يقدم فيه الحاج، فيكره له الجلوس للقضاء في وقت قدوم الحاج. وخروجه، أي الحاج. ومطر، يعني أن القاضي يجلس للقضاء في غير وقت كثرة المطر لا فيه، فيكره كما يكره في وقت خروج الحاج وقدومه. ونحوه، كيوم التروية ويوم عرفة وكثرة الوحل المضر بالطريق. قاله محمد بن عبد الحكم. ويوم المِهرجان بكسر الميم رابع عشر من بونة وهو يوم ولادة يحيى. قاله الخرشي. وقال مطرف وابن الماجشون: ولا بين المغرب والعشاء ولا بالأسحار إلا في الأمر الذي يحدث ويرفع إليه مما لا بد منه، فلا بأس أن ينهى ويأمر بالسجن ويرسل للأمير والشرَطِ. الخرشي: ولا بعد الصبح ولا بين الظهر
(1)
الذي في تبصرة ابن فرحون ج 1 ص 32 فدل.
(2)
البخاري، كتاب الأحكام، رقم الحديث 7166 - 7167.
(3)
الذي في تبصرة ابن فرحون ج 1 ص 33 يدع مجلس لخ.
والعصر، البساطي: وأيام كسر النيل، وأيام الاستسقاء، وقدوم السلطان من غزاة، وقد يقال: أما بمصر ونحوها فينبغي له الجلوس يوم خروج الحاج وقدومه لا في ذلك من الفصل بين الأكرياء الذين يأكلون أموال الناس، وإذا غفل عنهم هربوا. قاله التتائي. وقال عبد الباقي: ونحوه كيوم تروية وعرفة وكثرة وحل بطريق، وبين مغرب وعشاء وسحرث فيكره بعيد وما عطف عليه ولو بغير رحابه إلا لاحتياج الناس له كالفصل بين الأكرياء الذين يأخذون أموال الناس، وإذا غفل عنهم هربوا. انتهى. والصواب في جلوس القاضي أن يكون في أوقات معلومات ولا يستغرق الجلوس للحكم أوقاته كلها حتى يكون كالمستأجر. قال ابن أبي زمنين: قالوا: ينبغي للقاضي أن يجعل لجلوسه ساعات يعرفها الناس فيأتونه فيها، وفي التبصرة: ولا بأس أن ينظر في أمور دنياه التي تصلحه، ولا بد له منها في كل الأيام في غير أوقات قضائه، ولا ينبغي أن يحكم في الطريق إلا في أمر استغيث به فيه، فلا بأس أن يأمر وينهى ويسجن. ابن عبد الحكم: ولا ينبغي له أن يجلس في العيدين وما قرب من ذلك، كيوم عرفة ويوم التروية ويوم سفر الحاج ويوم قدومه، قال بعض المتأخرين: وكذلك يوم الجمعة، واستثنى من هذه الأيام والأوقات الأمور التي يخاف عليها الفوات، وما لا يسعه إلا تعجيل النظر فيه، وذكر ابن المواز عن أشهب عن ملك قال: ينبغي للقاضي أن يكون جلوسه في ساعة من النهار، لأني أخاف أن يكثر فيخطئ، وليس عليه أن يتعب نفسه نهاره كله. ابن عبد الحكم: لا أحِبُّ أن يطيل الجلوس حتى يمل، ولكن يكون له وقت حسن في صدر النهار، وإن احتعل أن يجلس بعد العصر جلس.
تنبيه: قال المتيطي: ينبغي للإمام أن يتفقد أحوال قضاته وأمور حكامه وولاته، ويتطلع أحكامهم، ويتفقد قضاياهم، ويسأل عنهم أهل الصلاح والفضل، فإن كانوا على ما يجب أقرهم، وقد عزل عُمَرُ سعدا بالشكية. وقال: والله لا يسألني قوم عزل أميرهم ويشكونه إلا عزلته عنهم مع علمه رضي الله عنه ببراءة سعد. انتهى. واتخاذ حاجب وبواب، يعني أنه يجوز للقاضي أن يتخذ حاجبا وبوابا، قال الزرقاني: يحتمل أن يكون عطف البواب على الحاجب عطف تفسير، ويحتمل أن يكون البواب الملزوم بالباب والحاجب من يمنع الناس عنه. انتهى. قاله
الشبراخيتي. وقال: قال ابن عرفة: ويكون كل من الحاجب والبواب ثقة عدلا، وينهى عن اتخاذ من يحجب الناس وقت حاجتهم إليه. انتهى. فقول المص: واتخاذ حاجب أي في غير حاجة الناس إليه. انتهى. أصبغ: حق على الإمام أن يوسع على القاضي في رزقه ويجعل له قوما يقومون بأمره ويدفعون الناس عنه، إذ لا بد له من أعوان يكونون له يزجرون من ينبغي زجره من الخاصمين، فقد كان الحسن ينكر على القضاة اتخاذ الأعوان، فلما ولي القضاء قال: لا بد للسلطان من وزعة. ابن عرفة: ويسوغ له اتخاذ من يقوم بين يديه لصرف أمر ونهيه وكف أذى الناس عنه، وعن بعضهم لبعض، ولا يتخذ لذلك إلا ثقة مأمونا. نقله المواق.
وبدئ بمحبوس يعني أنه يجب على القاضي أول ولايته أن يبدأ - بعد النظر في الشهود، فمن كان عدلا أبقاه وإلا أراح المسلمين من إذايته - بالمحبوس، فينظر فيما يقتضيه الشرع فيما حبس فيه، لأن الحبس عذاب، فيعلم من يجب إخراجه ومن لا يجب، لأن ذلك أشد من الضرر في الأموال. قوله: وبدئ، قررته بالوجوب. وفي التتائي: أنه مندوب، قال بناني: الوجوب هو ظاهر عبارة ابن فرحون، إذ قال في تبصرته: ويلزم أن يكون أول ما يبتدئ به الكشف عن حال الشهود، والاستحباب هو ظاهر عبارة المازري، ونصها: قال أهل العلم: ينبغي للقاضي أن يبدأ بالنظر في المحبوس. انتهى. وقال الحطاب: وبدئ بالمحبوس لخ، كذا ذكر في التوضيح، وقال ابن فرحون في تبصرته: ويلزمه أن يكون أول ما يبتدئ به الكشفَ عن الشهود والموثقين، فيعرف حال من لا يعرف حاله منهم، ويفحص عن عدالتهم، فمن كان عدلا أثبته، ومن كان فيه جرحة أسقطه وأراح المسلمين من إذايتهم، ولا يحل له أن يترك غير المرضي ينصبه للناس، فإنها خديعة للمسلمين ووصمة في شعائر الدين، وعليه أن يصرح بعزل هؤلاء، ويسجل على شاهد الزور كتابا مخلدا بعد عقوبته، وكذلك يجب عليه الكشف عن المحبوسين. انتهى. فتأمله كيف جعل أول ما يبدأ به الشهود؟ وهو الظاهر لأن مدار الأمر كله عليهم، وإذا ولي قضاء غير بلده يسأل عن عدول البلد قبل خروجه، وينادي مناد يشعر الناس باجتماعهم لقراءته سجله المكتوب بولايته، فإذا فرغ نظر في المكان الذي يجلس فيه، والعدل أن يكون وسط البلد. انتهى. نقله في التوضيح عن المازري. وقال ابن عرفة: المازري: إذا ولي قضاء غير بلده ينبغي له قبل خروجه
بحثه عن عدول البلد الذي يقدم عليه إن كان بمكانه من يعرف حالهم ليكون على بصيرة، وقد يفتقر في حال قدومه للاستعانة بأحد منهم، قلت: ولهذا المعنى كنت أفهم من بعض من لقيت ممن يقتدى به أنه ينبغي لمن هو بحيثية ولاية القضاء أو الشورى فيما يعرض من الولاية الشرعية أن يسمع ما يذكر في بعض أبناء الزمان ممن يعتبر قوله وحده أو مع غيره، بنية اليناءِ عليه أحكامَ التعديل والتجريح، لا بنية التفكه، وليس ذلك من سماع الغيبة، ومنع ذلك يوجب تعطيل الأحكام أو تولية من لا تحل توليته، ولولا هذا ما صح ثبوت تجريح في راو، ولا شاهد، ولا غيره. انتهى. انتهى.
ثم وصي يعني أنه بعد النظر في المحبوسين ينظر في الأوصياء مع المحجور، فإن اليتيم عاجز عن رفع أمره إلى القضاء، فينظر فيه هل هو محسن في القيام عليه أم لا؟ ومال طفل، يحتمل أن معناه ينظر في مال الأطفال المهملة، ويحتمل ينظر في مال طفل مع مقدم قاض أو وصي الأخص مما قبله ومقدم، أي وينظر أيضا في مقدم القاضي الذي قبله على المحجور، فينظر في أمره هل هو محسن للقيام عليه أم لا؟ وقد يكون له مطالبة على المقدم فيعجز ولا يعرب عن نفسه، وفي نسخة: ومقام، ومعناهما واحد، وقوله: ومقدم، جعله المص مع الموصي في مرتبة، واعترضه المواق بأن ظاهر المازري تأخير المقدم عن الوصي. قاله بناني. ثم ضال، أي وبعد النظر فيما مر ينظر في أحوال الضوال، ومنها اللقطة، وينظر في اللقيط.
ونادى بمنع معاملة يتيم وسفيه ورفع أمرهما، يعني أن القاضي يأمر بالنداء في الناس أن كل يتيم لم يبلغ ولا وصي له ولا وكيل فقد حجرت عليه، وكل سفيه مستوجب للولاية فقد منعت الناس من معاملته، ومن علم مكان يتيم أو سفيه فليرفعه إلينا لنولي عليه، فمن داينه بعد أو باع منه أو ابتاع منه فهو مردود، وقوله: ونادى بمنع لخ، قال الإمام الحطاب: حقه أن في يذكر مع قوله: ثم وصي وما معه، وكذا ذكره ابن فرحون وأبو الحسن وغيرهما، وفي التبصرة: وهذا النداء في حق السفيه إنما يكون على مذهب من يرى أن أفعال السفيه جائزة ما لم يول عليه أو يضرب على يده، وهو مروي عن ملك، وعليه أكثر أصحابه، وأما على مذهب من يرى أن أفعاله مردودة وهو
قول ابن القاسم ومطرف فلا يحتاج إليه. انتهى. قال بناني: هذا يعكر عليه النداء بمنع معاملة اليتيم مع أنه لا اختلاف في رد أفعاله. وقوله: ونادى، يفهم من كلام الشارح والتتائي أن المناداة مستحبة، وهو خلاف كلام التبصرة فإن ظاهره أن هذا لازم للقاضي، ويفهم من قول أصبغ أن المناداة تنزل منزلة الحجر عليهما. قاله الشبراخيتي.
قال مقيده عفا الله عنه: يفهم الندب من كلام أصبغ لأنه قال: ينبغي. والله أعلم.
ثم في الخصوم، يعني أن القاضي بعد النظر فيما تقدم يَنظُر بين الخصوم من تقديم وتأخير ومساواة وغير ذلك، كما يأتي عند قوله: ولْيُسَو بين الخصمين. قاله الخرشي وغيره. وقال عبد الباقي: ثم النظر في الخصوم متأخرٌ عما تقدم، وظاهره ولو كان فيهم مسافرون يخشون فوات الرفقة، وهو ظاهر. قاله أحمد.
ورتب كاتبا، يعني أن القاضي يرتب عنده كاتبا لوقائع الناس التي يريد الحكم فيها وجوبا على ما لأحمد وندبًا على ما للحطاب، ونص الحطاب: اعلم أن ترتيبه للكاتب وللمزكي والمترجم على جهة الأولوية، هذا ظاهر عبارتهم. انتهى. عدلا، يعني أن هذا الكاتب يكون عدلا أي من أعدل الموجودين مرضيا عند الناس. وقوله: ورتب، قال في القاموس: رتب رتوبا ثبت ولم يتحرك كترتب، ورتبته أنا ترتيبا، ثم قال: والرتبة بالضم والمرتبة المنزلة. وفي التتائي: ويكون كاتبه عدلا، ففي المدونة: لا يتخذ من المسلمين إلا العدول المرضيين، ونحوه لمطرف وابن الماجشون وأصبغ. وقوله:
شرطا، معناه أنه يشترط في هذا الكاتب أن يكون عدلا كما هو ظاهر نصوص المتقدمين. قال ابن مرزوق: وقوله: شرطا، كذا في بعض النسخ، وفي بعضها: مرضيا. قال الحطاب: وهي الأولى لأن العدالة ليست شرطا. قال ابن فرحون في تبصرته: قال ابن شأس: ولا تشترط العدالة في الكاتب، ولعله يريد أن القاضي يقف على ما يكتب. انتهى. إلا أني لم أر في الجواهر ما عزاه لابن شأس. وقال ابن عبد السلام: وظاهر نصوصهم أنه لا يستعين مع القدرة إلا بالعدول، فإن لم يجدهم جاز الاستعانة بغير العدل، ثم قال: وقول ابن القاسم في المدونة: ولا يستكتب القاضي أهل الذمة في شيء من أمور المسلمين، ولا يتخذ قاسما من أهل الذمة، ولا يستكتب من المسلمين إلا العدول
المرضيين، فلعل هذا مع الاختيار. انتهى. وقال أبو الحسن إثر كلام المدونة: هذا إذا وُجِدَ وإلَّا الأمثل فالأمثل. انتهى. ووظيفة الكاتب أن يكتب ما وقع في مجلسه من الخصوم. وفي التوضيح عن المازري: إن كان الكاتب غير ثقة فلا بد من اطلاع القاضي على ما يكتبه فيُجلسه قريبا بحيث يشاهد ما يكتبه عنه، وإن كان عدلا فالمذهب أنه مأمور بالنظر إلى ما يكتب، وقوله: شرطا، الظاهر أنه مصدر أي يشترط ذلك شرطا.
فائدة: ما يكتب فيه يسمى القِمَطْر بكسر القاف وفتح الميم وسكون الطاء وبعدها راء مهملتان. وفي التتائي: ولا يشترط تعدده، يعني الكاتب، وليس في كلامه ما يدل على أنه ينظر في كتابة العدل، ولا بد منه عند الأكثر لاحتمال الزيادة أو النقص أو هما سهوا أو عمدًا لرُشوة، وإذا كان هذا في العدل ففي غيره إذا لم يوجد العدل أحرى، لأنه إذا نظر ما كتب أشهد على نفسه بأمر تيقنه، وإذا صدقه عوّل على مظنون مع قدرته على اليقين، ويأمره بكتابة الدعوى والإنكار، وأسماء البينة والمتداعين، وأنسابهم، وما يعرفون به، وما حكم به، ويحفظه عنده. قال في الذخيرة: وأصل الكاتب أنه صلى الله عليه وسلم كان له كُتَّابٌ: علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان. وكان هؤلاء يكتبون وقائع الناس وكتاب الوحي عد الفاكهاني اثني عشر. وأنهاهم بعض من تكلم على الشفا إلى أربعين. وقد نظمت ما عده الفاكهاني فقلت:
عمرٌ أبو بكر وعثمانٌ عَلِي
…
زيد بن ثابتَ والعلا بن الحضرمي
وأبيُّ حنظلةٌ أبانٌ خالدٌ
…
وكذا معاويةٌ أولوا الفضل السَّمِي
خصوا بكتب الوحي عن علم الهدى
…
خيرِ البريئة والرسولِ الأعظم
كمزك، يعني أنه يرتب مزكيا عدلا يتخذه فيخبره عن الشهود سرا في مساكنهم وأعمالهم، ويكفي أن يكون واحدا، قال الحطاب: ولا كلام في اشتراط العدالة هنا، وقال الخرشي: فإن
قلت: إن أراد مزكي السر فقد مر، وإن أراد مزكي العلانية فسيأتي، فما فائدة هذا؟ فالجواب: أن المراد مزكي السر، وذكره هنا لشيءٍ غير ما مر وهو اشتراط كونه عدلا، ويقال: إن المراد هنا اتخاذ شخص يخبره بأحوال من يشهد عنده من شهوده وغيرهم، بخلاف السابق فإنه المتخذ ليخبره بما يقال في شهوده، فتلك خاصة وهذه عامة. واختارهما، يعني أن القاضي يختار الكاتب والمزكي، أي يختار كونهما أعدل الموجودين.
والمترجم مخبر، المترجم هو الذي يفسر لغةً بلغةٍ، يعني أن المترجم عند القاضي عمن لا يعرف لسان المترجم عنه مخبر، فيقبل فيه الواحد والاثنان أحسن، والمراد بالمترجم هنا من يتخذه القاضي لنفسه مترجما، فهذا هو الذي يكفي فيه الواحد، وقول ابن شأس: يشترط تعدد المترجم، محله إذا جاء الخصم بمن يترجم عنه، فهذا هو الذي لا بد فيه من تعدد المترجم لأنه شاهد، وليس هو مراد المص، ولابد من عدالة المترجم وحريته وإن امرأة إن كانت من أهل العفاف، يعني فيما تَجوز فيه شهادة النساء، كما نقله الرهوني، لا كافر أو عبد ومسخوط، وفي الحطاب: قال في العمدة: وإذا لم يعرف لغة الخصم فإن كان الحكم لا يتضمن مالا لم يقبل في الترجمة إلا الرجال، والمذهب أنه لا يجزئ واحد
(1)
أو إن تضمن مالا فهل يقبل رجل وامرأتان؟ قولان. انتهى. وفي المواق: وسمع القرينان إن احتكم للقاضي خصوم يتكلمون بغير العربية ولا يفقه كلامهم ينبغي أن يترجم عنهم رجل ثقة مأمون مسلم، واثنان أحب إلي، ويجزئ الواحد، ولا يقبل ترجمة كافر ولا عبد ولا مسخوط، ولا بأس بترجمة المرأة إن كانت من أهل العفاف والحق فيما يقبل فيه شهادة النساء، وامرأتان ورجل أحب إلي. انتهى. وقوله: ولا تقبل ترجمة كافر ولا عبد ولا مسخوط، معناه مع وجود عدول المؤمنين، ولو اضطر لترجمة كافر أو عبد لقبل. قوله: وحكم به كما يحكم بقول الطبيب النصراني فيما اضطر فيه لقوله من جهة صرفته بالطب. كالمحلف، قال الشبراخيتي: قال حلولو: يعني أن المحلف الذي يبعثه القاضي للتحليف يكفي فيه الواحد، وانظر هل يكفي عند مرسله وغيره أو عند مرسله فقط؟ والظاهر الأول. قاله شيخنا.
(1)
في الحطاب ج 6 ص 329 واحد وإن تضمن لخ.
ويشترط في المحلف أن يكون عدلا. اهـ. وقال عبد الباقي: كالمحلف للغير عند القاضي أو الذي يبعثه للتحليف يكفي واحد، ولا بد من عدالتهما وحريتهما وإن امرأة إن كانت من أهل العفاف، لا كافر أو عبد أو مسخوط. انتهى. وضمير التثنية في كلامه عائد على المترجم والمحلف. قوله: والمترجم مخبر كالمحلف، قال ابن رشد: كل ما يبتدئ الحاكم فيه بالبحث والسؤال، كقياس الجراحات، والنظر للعيوب، والاستحلاف، والقسم، واستنكاه من استنكر لسكره، وشبه ذلك من الأمور، يجوز فيه الواحد، وإن لم يبتد فلا بد من شاهدين. انظر الحطاب. وفي التبصرة: قال ابن حبيب: ومن ذلك، يعني مما يجزئ فيه الواحد، شهادة القائس للجراح إذا كان الحاكم يأمره أن ينظر من الشجة أو من الجراح ما هي؟ وما غورُها؟ وما اسمها وقياسها؟ يقبل في ذلك واحد، وأحب إلي أن ينصب لمثل هذا من أمور الناس عدلا، وإن لم ينصب لذلك أحدا بعينه اكتفى بأن يرسل المجروح إلى من ارتضاه ووثق برأيه وبصره. انتهى. ثم قال في التبصرة: وإن لم يكن السلطان في أول ذلك أمر بقياسه وإنما جاء هذا يطلب عقل ما مضى وبرئ، لم يكن بُدُّ من أن يدَّعوا ذلك بشاهدين. ثم قال: والمحلف أيضا من هذا المذهب إذا أمره الحاكم بإحلاف أحد فقوله في ذلك مقبول إذا أنكر الطالب ذلك، وكذلك شهادة كاتب القاضي وحده على ما كتب بأمره، ولو شهد كاتب القاضي على كتابة شهادة رجل قد مات أو غاب والقاضي لا يحفظ أنه أمره بإيقاعها ولا أنه شهد بها غيره لم يكتف في هذا بالكتاب وحده، وكان بمقام شاهد واحد، ثم قال: وكذلك إذا تنازع المتبايعان في العيب الخفي أو في قدم العيب وكان العيب لا يعرفه إلا أهل العلم به، فإن وجدوا فلا يقبل غيرهم وإن كانوا غير مسلمين، ثم قال: وهذا كله إذا كان القاضي أرسلهم ليقفوا عليه، وأما إن كان المبتاع أوقف عليه من ذات نفسه فلا يثبت باتفاق من أصحاب ملك إلا بعدلين من أهل المعرفة، ثم قال: قال ابن دينار: وإذا تنازع رجلان في شيء كل واحد يظنه لنفسه من غير يقين فيسألان الرجل يفزعان إليه في علمه فيشهد أنه لأحدهما فذلك جائز ويلزمهما، ثم قال: ولا تقبل ترجمة من لا تقبل شهادته عن الذي يترجم عنه. انتهى.
وأحضر العلماء يعني أن القاضي إذا كان يقضي يحضر العلماء، وهل وجوبا أو ندبا؟ قال عبد الباقي: وأحضر القاضي المقلد وجوبا، كما في التتائي، وهو ظاهر التوضيح، وندبا كما هو النقول في الشارح، العلماء من مذهبه خاصة، ويندب للمجتهد أن يحضر المجتهدين لاحتمال أن يظهر لهم غير ما ظهر له ليظهر له بعد اجتهاده مثل ما ظهر لهم، لا تقليدا لهم إذ المجتهد لا يقلد مثله.
وشاورهم، كذا في بعض النسخ بالواو، يعني أن القاضي إذا كان يقضي يحضر العلماء ويشاورهم، أي يجمع الأمرين، وعلم مما قررت أن هذا بعد التولية فلا يتكرر مع قوله: مستشيرا، ابن المواز: لا أحب أن يقضي إلا بحضرة أهل العلم ومشاورتهم، وهو قول أشهب، لفعل عثمان رضي الله عنه، لأنه كان إذا جلس أحضر أربعة من الصحابة ثم استشارهم، فإذا رأوا ما رءاه أمضاه، ومنع من ذلكَ مطرف وابن الماجشون، قالا: ولكن إذا ارتفع عن مجلسه شاورهم، كفعل عمر رضي الله عنه، وفي بعض النسخ: بأو، وهي للخلاف أي يحضرهم، وقيل: لا يحضرهم ولكن إذا ارتفع يشاورهم. وعلى أنها إشارة للخلاف فلا تكرار أيضا، بل لو كانت للتخيير فلا تكرار أيضا لما علمت من أن هذا بعد التولية. قال عبد الباقي: ومحل الخلاف في حضورهم حيث كان فكره في حضورهم وعدمه سواء، فإن لم ينظر نظرا سديدا وجب حضورهم، أو اشتغل عنه به منع. انتهى. وهذا التقييد أصله للمازري، وفيه بحث لأنه إذا كان لا ينظر نظرا سديدا تمنع توليته. والله سبحانه أعلم.
وشهودا، عطف على قوله: العلماء، يعني أنه يجب على القاضي إذا جلس للقضاء أن يحضر شهودا عدولا يحفظون إقرار الخصم خوف رجوع بعضهم عما أقر به، وجرد المص شهودا من أل خشية توهم كون أل لِلْعهد فيكون المرادَ الشهود المتخذون للشهادة من جهة القاضي، والمراد عدول منهم أو من غيرهم، ولا يقال: جرد شهودا خشية توهم عطفه على الضمير المنصوب في شاورهم، إذ يصير وشاور شهودا اثنين، فإنه غير ظاهر. والله سبحانه أعلم.
فرع: قال سحنون: لا يستشير من شهد عنده فيما يشهد فيه، حكاه ابن يونس، وقال غير سحنون: لا بأس بذلك، حكاه ابن رشد. انتهى مختصرا من التبصرة. واقتصر في التوضيح على
قول سحنون. قاله الحطاب. واقتصر عليه أبو محمد وابن يونس، وصدر به في التبصرة، وذلك يفيد اعتماده انظر الرهوني.
فرع: قال الحطاب: قال في رسم سلف من سماع ابن القاسم من الأقضية: رأيت مالكا كتب إلى عامل في قضاء كان أمضاه عامل قبله فينظر فيه، فجاء رجل يستعين بالكتاب إليه فيه، فكقب إليه: إن كان من قبلك أمضاه بحق فأنفذه لصاحبه. ابن رشد: هذا يدل على أن للفقيه المقبول القول أن يكتب لِلْحَكَم بالفتوى ويعلمه ما يصنع. وإن لم يسأله الحاكم، وهذا في غير القضاة، فلا ينبغي أن يكتب إليهم بما يفعلون إلا أن يسألوه، لأن ذلك قد يؤدي إلى أنفة تؤذي. انتهى.
تنبيه: قال الحطاب: قولهم: رفع إلى من فوقه، وهل يرفع إلى مَن دونه؟ قولان. قال عياض: مذهب الكتاب أن أحدا لا يرفع إلى من دونه وتحت يده إلا للسلطان الأعظم للضرورة إلى ذلك، وقال في السلطان الأعظم: لا يرفع إلى من دونه ويكون هدرا. انتهى مختصرا. وفي النوادر في ترجمة القاضي يحكم لنفسه أو ولده، وقد يحكم للخليفة وهو فوقه وهو يتهم فيه لتوليته إياه وحُكمه له جائز. ونقل الخلاف في الذخيرة. انتهى.
ولم يفت في خصومة، يعني أن القاضي لا يفتي في الخصومات أي ما شأنه أن يخاصم فيه وإن لم يقع، فلا يفتي فيما يدخله الخصام، وذلك لأن الخصم إذا عرف مذهب القاضي تحيل إلى الوصول إليه أو إلى الانتقال عنه، وقوله: ولم يفت في خصومة، أي يكره له ذلك، وبالكراهة صرح البرزلي، وظاهر ابن عبد السلام المنع. قاله بناني. وقيل: إن محل النهي إنما هو في خصومة بعينها، وقوله: ولم يفت في خصومة، قال غير واحد: إلا أن يكون المسائل مستفهما فليجبه، وقوله: ولم يفت في خصومة، قال بناني: البرزلي: هذا إذا كانت الفتوى فيما يمكن أن تعرض بين يديه، ولو جاءته من خارج بلده أو من بعض الكُوَرِ أو على يد عماله فليجبهم عنها. انتهى. ومحل النهي أيضا إذا لم يمكن الاطلاع على مذهبه إلا من إفتائه، وذلك إذا كان مجتهدا أو مقلدا، وفي المسألة قولان متساويان مثلا. والله سبحانه أعلم. وقوله: ولم يفت في خصومة، قد علمت أن محله ما لم يكن المسائل مستفهما وإلا فليجبه، ولهذا جاز للقاضي أن يحضر مجالس
العلم فيعلم ويتعلم. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: البساطي: وانظر إذا كان يدرس وحضر خصم والدَّرْسُ يتعلق بتلك الخصومة، وفي كلام بعضهم أنه يستمر ولا يقيم الخصم من المجلس، وعندي أنه إن قدر أن يعميَ الكلام بحيث لا يفهم الخصم وإلا أمره بالانصراف. انتهى. وقال الحطاب: قال ابن عبد السلام في قول ابن الحاجب: ولا يُفْتِ الحاكم في الخصومات، وقال ابن عبد الحكم: لا بأس به كالخلفاء الأربعة، يريد أنه يجوز له الفتيا فيما عدا مسائل الخصام، وهل له الفتيا في مسائل الخصام؟ قولان. أحدهما: ليس له ذلك لأنه من إعانة الخصوم على الفجور. والثاني: إجازة فتواه في مسائل الخصام. وأما تعلم القاضي العلم وتعليمه له فجائز. ابن الحاجب عن ابن المنذر: يكره للقاضي الفتوى في الأحكام. وكان شريح يقول: أنا أقضي ولا أفتي، وعن ابن المناصف أنه ذكر القولين، ثم قال: الكلام الأول المنهي فيه عن فتوى القاضي في الخصومات لأحد الخصمين، والثاني فتواه في جملة الأشياء لا في خصومة بعينها، وإلى ما ذكر المص أشار ابن عاصم بقوله:
ومنع الإفتاء للحُكَّام
…
في كل ما يرجع للخصام
ولا يدخل في هذا تلقين القاضي لخصم عجز عن إلقاء حجته لدهش أو خوف أو عِيٍّ كما قال ابن عاصم:
وخصم إن يعجز عن إلقاء الحججْ
…
لوجب لقنها ولا حرج
فينبهه على الإشهاد على إقرار صاحبه، ويقول له: شهد عليك فلان وفلان فادفع عن نفسك بتجريح الشهود بعداوة ونحوها، حيث لم يعرف ذلك لدهش أو خوف أو عِيٍّ، وعلى هذا فقس. ولم يشتر بمجلس قضائه، يعني أنه يكره للقاضي أن يشتري أو يبيع بمجلس قضائه، وبالكراهة صَرّحَ ابن فرحون في التبصرة، والمتيطي وابن فتوح وغيرهم، وكلام التوضيح يؤذن بالمنع، ومفهوم قوله: بمجلس قضائه، أنه لا ينهى عنه في غير مجلس قضائه. ابن عرفة: ظاهر أقوال أهل المذهب ورواياتهم جواز شرائه وبيعه في غير مجلس قضائه. انتهى. وفي التوضيح: أنه ينبغي له
التنزه عنه مطلقا، يعني بمجلس قضائه وغيره. وقال عمر بن عبد العزيز: تجارة الولاة لهم مفسدة وللرعية مهلكة. وفي الخرشي: وأما شراؤه وبيعه في غير مجلس قضائه فجائز، وذكر ابن شأس كراهيته، وأنكر ابن عرفة وجوده في المذهب لغيره، ثم إن ما ذكره المؤلف وابن عرفة من التفرقة بين مجلس قضائه وغيره مبني على أن علة النهي شغل البال وحده أو هو مع المحاباة، وأما ما ذكره ابن شأس فمبني على أن العلة خشية المحاباة. انتهى. وقال عبد الباقي: ولم يشتر أو يبع بمجلس قضائه، أي يكره له بنفسه أو وكيله المعروف خوف المحاباة وشغل البال إلا أن يخف فيجوز. انتهى. وقوله: أو بوكيله، قال بناني: هذا زاده ابن شأس وابن الحاجب وهو مبني على ما عندهما من أن القاضي لا يشتري مطلقا لا بنفسه ولا بغيره. انتهى.
قال مقيده عفا الله عنه: تأمل هذا فإنه غير ظاهر. والله سبحانه أعلم. وقوله: ولم يشتر لخ، يشمل الشراء لنفسه أو لغيره. قاله أبو علي نقله الرهوني.
كسلف يعني أنه يكره للقاضي أن يتسلف أي يأخذ سلفا من غيره، وأما إعطاؤه السلف فقال ابن مرزوق: الظاهر أن المنفي تسلفه من غيره لا إعطاؤه السلف. وقال بناني: إن قول ابن مرزوق: إن إعطاءه السلف جائز هو الظاهر، وفي الأمير جوازه. والله سبحانه أعلم. الرهوني: وما استظهروه ظاهر، لكن يجب تقييده بأن لا يؤدي ذلك إلى ظن سوء بالقاضي كأن يسلف أحد الخصمين بحضرة الآخر بلا سبب ظاهر يرفع عنه تهمة إيثاره. انتهى.
وقراض، يعني أنه يكره للقاضي أن يدفع مالا قراضا أو يأخذ هو مالا قراضا. قاله عبد الباقي. وإبضاع، يعني أن القاضي يكره له أن يبضع أي يرسل مع غيره ما يشتري به له وأن يبضع معه وهو في معنى شرائه لغيره، وقد مر أنه لا يشتري ولا يبيع بمجلس قضائه، وهذا شامل لما إذا كان البيع له أو لغيره، وأنه يشتري ويبيع بغير مجلس قضائه، كان البيع له أو لغيره، وفي تبصرة ابن فرحون: من الأمور التي تلزم القاضي أنه يكره له المبيع والابتياع بمجلس حكمه وفي
داره، ولا يرد [منه]
(1)
شيء إلا أن يكون على وجه الإكراه أو فيه نقيصة على البائع فيرد البيع والابتياع، كان بمجلس قضائه أو غيره.
فرع: ويكره له أيضا استعارة ماعون أو دابة لركوب وما أشبه ذلك لأنه انتفاع بأموال الناس من غير عوض، وربما حاباه الغير فيما يقع بينه وبين أحد من ذلك ويستحي منه.
وحضور وليمة، يعني أنه يكره للقاضي أن يحضر وليمة دعي لها إلا أن تكون وليمة نكاح، ولهذا قال: إلا النكاح، فتجب الإجابة إن عين كما مر، وإلا من جهة ولده ووالده أو شبههما من خاصته كما في الجواهر، ويدخل في خاصّته الأخ في الله. قاله الرهوني. قال الشبراخيتي: ومراده يعني المص الوليمة اللغوية من الولم وهو الاجتماع، والمراد الطعام الذي يجتمع له، وإلا كان الاستثناء ضائعا لأن الوليمة لا تكون إلا للنكاح، وكان ينبغي له أن يقول: وحضور طعام. وقوله: وليمة، عامة أو خاصة، والجواز إنما يتوهم في العامة. انتهى.
تنبيهان: قال الحطاب عند قول المص: كسلف وقراض وإبضاع وحضور وليمة إلا النكاح: ولا شك أن النهي عن هذه على سبيل التورع. قال ابن الحاجب: ويتنزه عن العارية والسلف والقراض والإبضاع. وقال ابن فرحون في الأمور التي تلزم: منها أن يجتنب العارية والسلف والقراض والإبضاع إلا أن لا يجد بُدًّا من ذلك فهو خفيف إلا من عند الخصوم أو ممن هو في جهتهم فلا يفعل. وقوله: إلا النكاح، قال في التوضيح: ثم إن شاء أكل أو ترك. قال في التبصرة: والأولى له اليوم ترك الأكل. وفي التوضيح: كره ملك لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم. الثاني: قال الحطاب: ولا بأس للقاضي بحضور الجنائز، وعيادة المرضى، وتسليمه على أهل المجالس، ورده على من سلم عليه، لا ينبغي إلا ذلك. انتهى. وحضور وليمة إلا النكاح، ظاهره كانت عامة أو لا. سحنون: تجب العامة لا الخاصة والتنزه أحسن. وجعل ابن الحاجب حضور الولائم مما يتنزه عنه إلا وليمة النكاح العامة. وفي النوادر عن أشهب: لا بأس أن يجيب الدعوة
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من تبصرة ابن فرحون ج 1 ص 28.
العامة وليمة أو صنيعا عاما كفرح، فأما إن دعي مع عامة لغير فرح فلا يجيب، وكأنه دعي خاصة، أو لعله إنما صنع ذلك لأجل القاضي. انتهى.
تنبيه: قال الرهوني: مثل القاضي فيما ذكر غيره من ذوي المروءات. قال في كتاب محمد: وكره ملك لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم.
وقبول هدية، يعني أنه يحرم على القاضي قبول الهدية. ولو كافأ عليها أضعافها لركون النفس للمهدي، ولأنها تطفيء نور الحكمة، ويجوز للفقيه والفتي قبولها ممن لا يرجو منه عونا ولا جاها ولا تقوية لحجته على خصمه، ولا يجوز للشُّهود قبولها من الخصمين ما دام الخصام. قاله عبد الباقي وغيره. وقال الحطاب: قال في التوضيح: ظاهر قول ابن الحاجب: ولا يقبل، المنع؛ وعليه ينبغي أن يحمل قول ابن حبيب لم يختلف العلماء في كراهة قبول الإمام الأكبر وقضاته وجُباته الهدايا، قال: وهو مذهب ملك وأهل السنة. انتهى. ويمنع من قبول الهدايا سواء كانت في حال الخصام أو قبله. وفي المواق: قال ربيعة: إياك والهدية فإنها ذريعة الرشوة، ولا ينبغي للقاضي أن يقبل الهدية من أحد لا من قريب ولا من صديق ولا من غيرهما وإن كافأ عليها بأضعافها، إلا مثل الوالد والولد وأشباههم من خاصة القرابة، وقوله: ولو كافأ عليها، خلافا لأشهب حيث أجاز قبولها من غير الخصمين إذا كان صديقا وكافأ عليها أو كان قريبا.
إلا من قريب، يعني أنه يجوز للقاضي أن يقبل الهدية من قريبه. قال الحطاب: يريد الخاص من الولد والوالد والخالة والعمة وبنت الأخت. قاله ابن فرحون. ونحوه في التوضيح. انتهى. وقال عبد الباقي: إلا من شخص قريب كأبيه وخالته وبنت أخيه ومن لا يدخل عليها منهم ظنة لشدة المداخلة، ويحتمل أن يريد بالقريب من لا يحكم له، ويمكن رجوع الاستثناء لقوله: كسلف وما بعده، وهذا مستفاد من رجوعه لقوله: وقبول هدية، بطريق الأولى لأن قبولها حرام وما قبله مكروه. ونحوه للخرشي والشبراخيتي. وقوله: وقبول هدية، قال التتائي: ظاهر كلام المص سواء كان الهدي في خصومة عنده أو لا وهو كذلك، وإليه ذهب مطرف وابن الماجشون، ولابن عبد الحكم القبول في غير مخاصمة، ولما لم يكن له قبول الهدية كان للإمام أن يأخذ من قضاته
وعماله ما أخذوه زائدا على ما ارتزقوه من بيت المال، فيحصي ما عندهم قبل الولاية ويأخذ الزائد. انتهى. (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية)
(1)
وهذا من خواصه صلى الله عليه وسلم، لأنه صلى الله عليه معصوم.
تنبيهات: الأول: قال ابن فرحون في تبصرته: قال المازري: أما الارتزاق من بيت المال فإن من تعين عليه القضاء وهو غني عن الارتزاق فإنه ينهى عن أخذ العوض على القضاء، لأن ذلك أبلغ في المهابة وأدعى للنفوس إلى اعتقاد التعظيم والجلالة، وإن كان القضاء [لم]
(2)
يتعين عليه وهو محتاج إلى طلب الرزق من بيت المال ساغ له أخذ ذلك. الثاني: قال في مفيدِ الحكام: قال أصبغ: ولا ينبغي له أن يأخذ رزقه إلا من الخمس والجزية وعشور أهل الذمة. انتهى. من ابن فرحون. قاله الحطاب. وقال ابن رشد في آخر سماع سحنون من كتاب الشهادات: وأما القضاة والحكام والأجناد فلهم أن يأخذوا أرزاقهم من العمال المضروب على أيديهم أعني العمال الذين فوض إليهم النظر في ذلك، وضرب على أيديهم فيما سوى ذلك من إعطاء مال الله لمن يرونه بوجه اجتهادهم. نقله الحطاب.
الثالث: قال في التوضيح: قال ابن حبيب: ويأخذ الإمام من قضاته وعماله ما وجده في أيديهم زائدا على ما ارتزقوه من بيت المال، ويحصي ما عند القاضي حين ولايته، ويأخذ ما اكتسبه زاندا على رزقه، وقدّر أن هذا المكتسب إنما اكتسبه بجاه القضاء، وتأول أن مقاسمة عمر رضي الله تعالى عنه ومشاطرته لعماله كأبي هريرة وأبي موسى وغيرهما إنما فعل ذلك لما أشكل عليه مقدار ما اكتسبوه بالقضاء والعمالة. انتهى. ونقله ابن عبد السلام وابن عرفة، ونصه: ابن حبيب: للإمام أخذ ما أفاده العمال ويضمه إلى ما جبوه. قال: وكل ما أفاده الوالي من مال سوى رزقه في عمله أو قاض في قضائه أو متول أمر
(3)
للمسلمين فللإمام أخذه للمسلمين. انتهى. وكان عمر رضي الله عنه إذا ولَّى أحدا أحصى ماله لينظر ما يزيد، وشاطر العمال أموالهم حيث عجز عن
(1)
البخاري، كتاب الهبة، رقم الحديث 2585.
(2)
ساقطة من الأصل والمثبت من تبصرة ابن فرحون ج 1 ص 27.
(3)
في الحطاب متول أمر المسلمين ج 6 ص 334 ط دار الرضوان.
تمييز ما زادوه بعد الولاية، وشاطر أبا هريرة وأبا موسى وغيرهما. انتهى. وقد يكون الزائد من التجارة والزراعة لا من الهدية، ولا تظن الهدايا بأبي هريرة وغيره من الصحابة، إلا ما [لا]
(1)
يقتضي أخذا، ومع ذلك فالتشطير حسن، لأن التجارة لا بد أن ينميها جاه العمل، فيصير جاه المسلمين كالعامل، والقاضي أو غيره رب المال فأعطى العامل النصف عدلا بين الفريقين. ولذلك لما انتفع عبد الله وعبيد الله بالمال الذي أخذاه من الكوفة سلفا في القصة المشهورة، قال عبد الرحمن بن عوف لعمر رضي الله عنهما: اجعله قراضا يا أمير المؤمنين فجعله قراضا. انتهى.
الرابع: قال ابن فرحون: قال ابن عبد الغفور: ما أهدي إلى الفقيه من غير حاجة فجائز له قبوله: وما أهدي إليه رجاء الفوز على خصمه أو في مسألة تعرض [عنه]
(2)
رجاء قضاء حاجته على خلاف المعمول به فلا يحل قبولها، وهي رشوة يأخذها. وكذلك إذا تنازع عنده خصمان فأهديا إليه جميعا أو أحدهما يرجو كل واحد منهما أن يعينه في حجته أو عند حاكم إذا كان ممن يسمع منه ويوقف عنده فلا يحل له الأخذ منهما ولا من أحدهما. انتهى. وقال ابن عرفة: قال بعض المتأخرين: ما أهدي للمفتي إن كان ينشط للفتيا أهدي إليه أم لا فلا بأس به، وإن كان إنما ينشط إذا أهدي له فلا يأخذها، وهذا ما لم تكن خصومة، والأحسن أن لا تقبل من صاحب فتيا، وهو قول ابن عيشون، وكان يجعل ذلك رشوة. قلت: قد يخف قبولها لمن كان محتاجا ولا سيما إن كان اشتغاله بأصولها يقطعه عن التسبب ولا رزق له عليها من بيت المال، وعليه يحمل ما أخبرني به غير واحد عن الشيخ الفقيه أبي علي بن علوان أنه كان يقبل الهدية ويطلبها ممن يفتيه. وفي الطرر ظاهره لابن عيشون. ومن هذا انقطاع الرعية للعلماء والمتعلقين بالسلطنة لدفع الظلم عنهم فيما يهدونه لهم ويخدُمُونهم هو من أبواب الرشوة لأن دفع الظلم واجب على كل من قدر على دفعه عن أخيه المسلم وعن الذمي. نقله الإمام الحطاب.
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من الذخيرة ج 8 ص 71 والحطاب ج 6 ص 334 ط دار الرضوان.
(2)
في الحطاب ط دار الرضوان ج 6 ص 334 عنده.
الخامس: قال الرهوني بعد تحرير وجلب كثير من النقول ما نصه: وتحصل مما سبق أنَّ ما جزم به المص في فصل القرض وشرحه به هنا من قدمنا ذكرهم من الأئمة الأعلام هو الحق المؤيد بالدليل، وأن ما قاله أبو علي كله تطويل، وتهويل بما ليس عليه تعويل، وقوله: مما سبق، يعني منع قبول الهدية. السادس: قال القرافي: فَرعٌ: قال بعض: إذا عجزت عن إقامة الحجة الشرعية فاستعنت على ذلك بوال يحكم بغير الحجة الشرعية أثِمَ دونك، كما إذا كان الحق جارية يستباح فرجها، بل يجب ذلك عليك لأن مفسدة الموالي أخف من مفسدة الزنى والغصب، وكذلك الزوجة، وكذلك استعانتك بالأجناد يأثمون ولا تأثم، وكذلك في غصب الدابة وغيرها فإن كان الحق يسيرا ككسرة وثمرة حرمت الاستعانة على تحصيلة بغير حجة شرعية، لأن الحكم بغير ما أمر الله به أمر عظيم لا يباح باليسير. انتهى. نقله الإمام الحطاب. ابن فرحون: أجاز بعضهم إعطاء الرشوة إذا خاف الظلم على نفسه وكان الظلم محققا. قال ابن عرفة إثر نقله كلام بعضهم: ويقوم هذا من قولها: وإذا طلب السلَّابة طعاما أو ثوبا أو شيئا خفيفا رأيت أن يُعْطَوه. انتهى. وقال أبو بكر [بن أوَيْسٍ]
(1)
: يحرم على القاضي أخذ الرشوة في الأحكام يدفع بها حقا أو يشدُّ بها باطلا، وأما أن يدفع بها عن ملك فلا بأس بها. ابن عيشون: وإن تبين له الحق فيمنع من إنفاذه رجاء أن يعطيه صاحبه شيئا ثم ينفذ له، فإنَّ حكمه مردود غير جائز، ويتخرج على أحكام القاضي الفاسق إذا صادف الحق هل يمضي أم لا؟ انتهى. نقله الإمام الحطاب. ثم ذكر ست مسائل في كل منها قولان بقوله:
وفي هدية من اعتادها قبل الولاية، يعني أنه اختلف هل يجوز للقاضي أن يقبل هدية شخص كان يهدي إليه قبل أن يتولى وظيفة القضاء أو لا يجوز ذلك؟ الأول لابن عبد الحكم، وعدم الجواز هو قول مطرف وعبد الملك: لا ينبغي ذلك، وهو ظاهر في الكراهة. قاله التتائي. قال عبد الباقي: في الجواز وعدم الجواز أي الكراهة كما هو ظاهر تعبير مطرف وعبد الملك بلا ينبغي، ويحتمل المنع قولان. انتهى. انتهى. وما مر يفيد الحرمة لا الكراهة، ففي قول عبد الباقي: أي
(1)
في الحطاب ج 6 ص 336 ط دار الرضوان بن يونس.
الكراهة، نظر لأنه جزم في التي قبلها بالمنع. ففي كلامه تدافع. انتهى. وقال الخرشي: إن معناه اختلف هل يحرم ذلك أو لا يحرم؟ بل هو مكروه. انتهى. والراجح القول بالمنع كما يفيده ابن مرزوق والرهوني.
وكراهة حكمه في مشيه، يعني أنه اختلف على قولين الكراهة والجواز في حكم القاضي وهو ماش أي سائر وإن راكبا. فقال سحنون: لا يقضي وهو ماش، وقال أشهب: لا بأس به إذا لم يشغله ذلك. اللخمي: لا بأس أن يحكم وهو ماش. انظر المواق. وقال التتائي: الكراهة لسحنون ومطرف وابن الماجشون وأشهب، والجواز لأشهب أيضا بشرط أن لا يشغله المسير وزحمة الناس والنظر إليهم، وعدل عن قول ابن الحاجب في مروره للمسجد لتعقبه بأنه لا خصوصية للمسجد، بل كل مرور كذلك. انتهى.
أو متكئا، يعني أنه جرى قولان بين الجواز والكراهة في حكم القاضي متكئا، فقال اللخمي بالكراهة لأن فيه استخفافا بالحاضرين وللعلم حرمة، والجواز لأشهب وسحنون، وفي المواق: ورَوَى محمد لا بأس أن يقضي وهو متكئ، وعزاه الباجي لأشهب، قيل لإسماعيل القاضي: هلا ألفت كتابا في آداب القضاء، قال: إذا قضى القاضي بالحق فليفعل في مجلسه كيف شاء ويمد رجليه. انتهى.
وإلزام يهودي حكما بسبته، يعني أنه جرى قولان بين الكراهة والجواز في إلزام القاضي لليهودي الحكم في يوم السبت، والقول بالجواز للقابسي، وقال عبد الباقي: وإلزام يهودي هل يكره له أن يلزم يهوديا حكما بسبته، أي فيكره له أن يمكن المسلم من خصامه ليهودي أو يبعث له رسولا لمخاصمته فيه لأن فيه خرقا لما يُعظمه في زعمه الذي أقررناهم بالجزية عليه، وإن نسخ بشرعنا أو يجوز لعدم تعظيمه شرعا؟ قولان. وتخصيصه اليهودي بالذكر مخرج للنصراني فلا يكره إحضاره والحكم عليه في يوم الأحد، لأنهم لا يعظمونه كتعظيم اليهودي للسبت، وسوى بينهما ابن عات، ولما كان من عنده لم يؤثر عند المص حتى يجعله من القولين، وقال الشبراخيتي: قال التتائي: لو قال: والتمكين من خصام يهودي بسبته لكان مطابقا للنقل، فالمراد إحضار القاضي
يهوديا للحكم بسبته. انتهى. وقال المواق: قال المازري: في تمكين المسلم من استحلافه لليهودي يوم السبت قولان، الأول للقابسي. انتهى.
وتحديثه بمجلسه لضجر، يعني أنه جرى قولان فيما إذا نزل بالقاضي ضجر أي ملل أو هم هل له أن يحدث جلساءه، لأجل أن يروح قلبه ويرجع إليه فهمه، وهو قول ابن عبد الحكم: لا بأس أن يحدث جلساءه إذا مل يروح قلبه ثم يعود للحكم، أو يمنع كما قاله الشارح، أو يكره كما قاله البساطي، وهو قول ابن حبيب: يقوم إذا نزل به ضجر، والقول الأول أحسن، وقال التتائي: وفي جواز تحديثه بمجلسه للقضاء لِضجر نزل به أو هم، فيحدث جلساءه ليروح قلبه ويرجع إليه فهمه، وهو قول أشهب وابن عبد الحكم. قال الشارح: ومنعه لمطرف وابن الماجشون وابن حبيب، أو كراهتِه وقاله البساطي، قولان. وقول المدونة: وإذا دخله هم أو ضجر فليقم، محتمل لما قاله كل من الشارحَيْن من المنع والكراهة. اللَّخمي: الأول حَسَنٌ وهو أحب إلينا من قيامه وصرف الناس. ابن عرفة: هذا إن ناله ذلك في أول مجلسه وإن مضى فيه ما له بال فالثاني أصوب قال عبد الباقي: وعطف على هدية لكن بتقدير عامل خاص قوله:
وفي اشتراط دوام الرضى في التحكيم للحكم، يعني أنه اختلف هل يشترط في صحة التحكيم دوام الرضى من الخصمين إلى أن ينتهي الحكم فَلِأَحَدِهِمَا الرجوع قبل انتهاء الحكم؟ أو لا يشترط ذلك فليس لأحدهما الرجوع قبل الحكم، وأما هما معا فلهما الرجوع، والقول بالاشتراط لسحنون وهو جار، ولو نشبا في الخصومة، بل ولو أشرف على الحكم كما عرفت أو لا يشترط دوام الرضى، بل يلزم بالرضى، وإليه ذهب ابن الماجشون. المواق: قال الباجي: لو حكما بينهما رجلا فأقاما البينة عنده ثم بدا لأحدهما قبل أن يحكم، فقال ابن القاسم: أرى أن يحكم ويجوز حكمه، وقال سحنون: لكل واحد منهما أن يرجع، وفي حاشية الشيخ بناني: ابن مرزوق: الظاهر من النقل في مسألة دوام الرضى رجحان عدم اشتراطه. انتهى. قلت: وهو الذي رجحه ابن يونس لأنه لما نَقَلَ قول ابن القاسم وابن الماجشون أنه ليس لأحدهما الرجوع قبل الحكم إذا أبي صاحبه، وقول سحنون لكل واحد منهما أن يرجع ما لم يمض الحكم، قال: أي ابن يونس: قول ابن القاسم أصوب. انتهى. البساطي: هذه المسألة لا تشبه المسائل التي قبلها إلا من وجه الاختلاف فيها
فقط، لأن المسائل التي قبلها هل يكره للقاضي أو يجوز. انتهى. نقله التتائي، وقد مرت الإشارة إلى الجواب عن ذلك في كلام عبد الباقي. والله سبحانه أعلم.
قولان في كل من الفروع الستة.
ولا يحكم مع ما يدهش عن الفكر، يعني أن القاضي لا يجوز له أن يحكم مع شيء يدهشه عن تمام الفكر كحزن وغضب وحقن أي تحصر بريح ونحوه، ولقس بفتح اللام والقاف وسين مهملة وهو ضيق النفس. وفي النهاية: أنه الغثيان، وجوع شديد وأكل فوق الكفاية والمعتبر مثله، وأما ما يدهش عن أصل الفكر فيمتنع الحكم عنده، وكذا الإفتاء. قاله عبد الباقي. وقال: ولا يحكم أي يمنع كما في الحطاب عن أبي الحسن أو يكره كما في التتائي. انتهى. وقوله: أي يمنع كما في الحطاب. قال الرهوني: تقدم من كلام المدونة وابن ناجي عليها ما يشهد بما جزم به الحطاب من المنع، وبالمنع أيضا عبر ابن مرزوق، وعبارته تفيد أن الفقهاء كلهم عليه، فإنه لما ذكر الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم:(لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان)
(1)
. قال: وهذا النص إيماء إلى العلة وهو كون الغضب يمنع من تمام الفكر، فقاس الفقهاء عليه كل ما سواه في ذلك، فمنعوا الحكم، وحكمه صلى الله عليه وسلم بعد أن غضب من خواصه لعصمته. انتهى. وقال الشبراخيتي: ولا يحكم القاضي أي يمنع. ذكره الحطاب عن أبي الحسن، واختاره البساطي، وذكر الشيخ التتائي أنه يكره مع ما يدهش عن الفكر، أي عن تمامه كالغضب والجوع والحزن والنعاس والحقن واللقس، وهو كما قال الشارح ضيق النفس، وفسره بعضهم بغثيان النفس والأكل فوق الكفاية، وقد قيل: البطنة تذهب الفطنة. وفهم منه أن حكمه مع ما يدهش عن أصل الفكر أشد فيكون ممنوعا اتفاقا. وكذلك الفتي لا يفتي مع ما يدهش عن الفكر كما نص عليه عياض في شرح مسلم، وتبعه الأبي. انتهى. وقال الخرشي: يكره للقاضي أن يحكم مع ما يدهش عن تمام فكره، والمفتي مثله، ويحرم عليه الحكم مع ما يدهش عن أصل الفكر. انتهى. وقال بناني: ولا يحكم مع ما يدهش عن الفكر، من ذلك كثرة ازدحام الناس عليه، وقد كان سحنون
(1)
البخاري، كتاب الأحكام، رقم الحديث 7158 ومسلم، كتاب الأقضية، رقم الحديث 1717 واللفظ لمسلم.
يحكم في موضع خاص لا يُدخِل عليه بَوّابُّه إلا اثنين فاثنين على ترتبهم، وفي ذلك فائدتان: الستر على المتخاصمين، واستجماع الفكر. انتهى. وقال المواق: ابن عرفة: لا يجلس للقضاء وهو على صفة يخاف بها أن لا يأتي بالقضاء صوابا، وإن نزل به في قضائه تركه كالغضب والضجر والحنق والهم والجوع والعطش، وإن أخذ من الطعام فوق ما يكفيه لم يجلس. ابن عرفة: يريد إن أدخل عليه تغيرا. قال: وأصل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان). ابن عرفة: اتفق العلماء على إناطة الحكم بأعم من الغضب وهو الأمر الشاغل، وإلغاء خصوص الغضب، وسموا هذا الإلغاء والاعتبار بتنقيح المناط. انتهى. فقد علمت مما مر أن المنع متفق عليه أو هو الراجح.
ومضى، يعني أنه إذا حكم وفو متلبس بما يدهش عن تمام الفكر فإن حكمه يمضي خلافا لداوود. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي: ومضى إن كان صوابا. وقال المواق: المتيطي: إن حكم وهو غضبان جاز حكمه خلافا لداوود، وفرق ابن حبيب بين الغضب الكثير واليسير. انتهى. وقال ابن حجر: لو خالف فحكم في حال الغضب صح إن صادف الصواب، هذا قول الجمهور، وقيل: لا يمضي وقيل يمضي إن كان الغضب لله تعالى، وقيل: يمضي ان طرأ الغضب بعد أن استبان وجه الحكم. انتهى. فهي أربعة أقوال. انظر الرهوني. ابن عات: ولْيباشر القاضي ما ورد عليه من الخصوم بحضور فهم وشدة تأمل، (فقد مر عمر بأبي بكر رضي الله تعالى عنه وبين يديه خصمان فسلم عليه فلم يرد عليه أبو بكر، فجلس ناحية يبكي فمر به عبد الرحمن بن عوف فأخبره بذلك، وقال: خشيت أن يكون من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم مَوْجدَة علي، فأخبر عبد الرحمن أبا بكر بذلك، فقال: لم أسمع سلامه علي ولم أشر به أي بعمر، فإني فرغت ذهني وفهمي للخصمين لعلمي أن الله سائلي عما يقولان). اهـ. انظر الرهوني.
وعزر شاهد بزور في الملإ، يعني أنه يجب على القاضي أن يعزر أي يؤدب شاهد الزور في الملإ، وهو متعلق بعزر، القرطبي: شهادة الزور هي الشهادة بالكذب، ونحوه للباجي، وقال الأبي: ليست هي كذلك، وإنما هي أن يشهد بما لم يعلم عمدا وإن طابقت الواقع، فإن كانت شبهة فليست شهادة زور كما يشعر به ما في كتاب الاستحقاق. انتهى. وأصله لابن عرفة. قاله بناني.
وقال الشبراخيتي: وعزر القاضي وجوبا شاهدا بزور بالضرب، وهو أن يشهد بما لم يعلم عمدا وإن طابقت الواقع، كمن شهد أن زيدا قتل عمرا وهو لا يعلم أنه قتله وإن كان قد قتله مأخوذ من زور الصدر وهو اعوجاجه، لا من تزوير الكلام وهو تحسينه، ومنه قول عمر: زوَّرت في نفسي كلاما أو مقالة. وقال التتائي: وعزر وجوبا شاهد زور ثبت عليه ذلك. قال ملك: يعزره على قدره وقدر الواقعة في ملإ أي جماعة، ونحو ما للشبراخيتي لعبد الباقي، وفيه: أي وجب على القاضي أن يعزره في الملإ مهموز مقصور الجماعة من الناس وإن لم يكونوا أشرافا أو بقيد الأشراف، بأن يضرب ضربا وجيعا. انتهى. وقال الخرشي: ويضرب ضربا موجعا. وقال الحطاب: قال ابن عرفة: شاهد الزور هو أن يشهد بغير ما يعلم عمدا ولو طابق الواقع، كمن شهد بأن زيدا قتل عمرا وهو لا يعلم قتله، إياه وقد كان قتله ولو كان لشبهة لم يكنه، وقَوْلُ الباجي: من ثبت عليه أنه شهد بزور فإن كان لنسيان أو غفلة فلا شيء عليه، ومن كثر ذلك منه ردت شهادته ولم يحكم بفسقه، يقتضي أن غير العامد شاهد بزور، ويرد بما في استحقاقها: إن شهدوا بموت رجل ثم قَدِمَ حيا فإن ذكروا عذرا كرؤيتهم إياه صريعًا في قَتلَى أو قد طُعن فظنوا أنه قد مات فليست شهادتهم زورا، وإلا فهم شهود زور، وَسئلت عن رجل يشهد عند القاضي أن هذه المرأة ليس لها ولد، فزوجها القاضي، ثم ظهر أن لها ولدا ولم يكن الشاهد علم به، فهل هي شهادة زور أو لا يجوز أن ينسب إلى الزور ولا يقدح ذلك في شهادته، ومن نسبه إلى الزُّور زجره القاضي بحسب ما يراه؟ فأجبت: بأنه ليس بشاهد زور، ولا يقدح ذلك في شهادته، ومن نسبه إلى الزور زجره القاضي بحسب ما يراه، والنكاح صحيح وليس بفاسد، ولا يجب على الزوج أن يطلق، نعم لا يقدم عليه إذا علم أن لها ولدا، فإذا وقع ونزل صح النكاح. والله سبحانه أعلم. انتهى.
بنداء، الباء في قوله: بنداء بمعنى مع، أي يأمر القاضي بالنداء عليه بذلك في الملإ بين الناس ليرتدع هو وغيره عن ذلك قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: أي ينادَى عليه بذلك ليلا يفهم أنه لغير ذلك ويطاف به في الأسواق والجماعات. انتهى. وقال عبد الباقي: أي يأمر أن يطاف به في
الأسواق والجماعات. انتهى. وقوله: بنداء يتعلق بعزر، ويحتمل أن يتعلق بالكون فيكون حالا من الملإ. قاله مقيده. وقال المواق: من المدونة قال ملك: وإذا ظهر الإمام على شاهد الزور ضربه بقدر رأيه ويطاف به في المجالس. ابن القاسم: يريد في المسجد الأعظم. انتهى.
ولا يحلق رأسه، يعني أن القاضي لا يحلق رأس شاهد الزور أي يكره فيما يظهر قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: ولا يحلق رأسه على وجه النكال. أو لحيته، يعني أن القاضي لا يحلق لحية شاهد الزور أي يحرم ذلك. ولا يسخمه، أي لا يُسوِّد وجهه بسَوَاد أي يحرم ذلك، وقال عبد الباقي: ولا يسخمه أي وجهه بدقيق أو سواد ونحوه، أي يحرم. قال الشبراخيتي: والسُّخام بضم السين وخاء معجمة دخان القدر الملتزق به. وقال بناني: السخام بضم السين وخاء الدخان اللاصق بأواني الطبخ، وهذا الحكم قاله في النوادر عن ابن الماجشون وابن عبد الحكم. وقال ابن مرزوق: ظاهر المدونة أنه يسخم وجهه ويحلق لحيته. انتهى. وهو في المدونة من رواية ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز. وقال ابن عرفة: في إتيان سحنون بها ميل منه إليه أي إلى الحكم بالتسخيم. انظر المواق. وقال التتائي: ولم يذكر المص أنه يضرب، وقد نص مالك على أنه يضرب ولم يذكر عددا. ابن عبد الحكم: ويكتب بشأنه ويعدد نسخه عند الثقات. وقال عبد الباقي: ويكتب زوره في نسخ متعددة ليبلغ الثقات. انتهى. وقال المواق: ابن وهب: كتب عمر يعني ابنَ عبد العزيز إلى عماله بالشام إن أخذتم شاهد زور فاجلدوه أربعين وسخموا وجهه وطوفوا به حتى يعرفه الناس، ويطال حبسه ويحلق رأسه، وروى مطرف: لا أرى الحلق والتسخيم.
ثم في قبوله تردد، يعني أنه إذا شهد بعد التعزير والتوبة في قبول شهادته طريقان ذكرهما ابن عبد السلام، الأولى: إن كان ظاهر العدالة حين شهد بالزور لم يقبل بعد ذلك، وإن كان غير ذلك فقولان. الثانية: عكس هذه لابن رشد، فقال: إن كان ظاهر العدالة فقولان، وغير ظاهرها لا يقبل اتفاقا. انتهى. قال بناني: قال ابن عبد السلام بعد ذكر الطريقين: الأولى أنسب للفقه، والثانية أقرب لظاهر الروايات، وفي القد مات: وأما شاهد الزور فلا تجوز شهادته أبدا وإن تاب وحسنت حاله. قاله في المدونة. ولأبي زيد عن ابن القاسم: تجوز شهادته إن تاب وعرفت توبته
بتزيد حاله في الصلاح. قاله ولا أعلمه إلا من قول ملك، فقيل: ذلك اختلاف من القول، وقيل: رواية أبي زيد إن أتى تائبا قبل أن يظهر عليه وهو الأظهر. انتهى. قال عبد الباقي: فإن شهد قبل التوبة لم يقبل اتفاقا لأنه فاسق، فإن شهد بعدها وقبل التعزير فمقتضى العلة جريان التردد فيه، وكذا هو ظاهر المواق، وأشعر ذكره التردد فيمن فسقه بالزور أنه لو كان فسقه بغيره ثم شهد بعد ما تاب فإنه يقبل، ويدل عليه قوله: وزوال العداوة والفسق بما يغلب على الظن، وأشعر ذكر التردد في الشاهد أن القاضي إذا عزل لجوره ببينة أو باعترافه لم تجز توليته ولو صار أعدل أهل زمانه، وهو كذلك في النص، وأما فسقه بغير الجور فليس له هذا الحكم. انتهى.
وإن أدب التائب فأهل، يعني أن القاضي إذا أدب الشاهد بزور الذي أتى تائبا فعزر بزوره قبل ثبوته عليه فإنه يوجر على ذلك وهو أهل لذلك، وقد وضع الشيء في محله، وقوله: فأهل أي الشاهد أهل للأدب. انظر الخرشي. وقال عبد الباقي: وترك الأدب أولى. وقال الشبراخيتي: وترك أدبه أولى ليلا ينفر الناس عن الرجوع عن الزور. وقال بناني: وإن أدب التائب فأهلٌ. هذا هو قول ابن القاسم، وقال سحنون: لا يؤدب التائب لأنه لو أدب من أتى تائبا لكان ذلك وسيلة إلى عدم توبتهم. قال المتيطي: وبه العمل. وقال المازري: إنه المشهور. نقله ابن سعيد. وقوله: أدب بالبناء للفاعل، ويجوز أن يقرأ بالبناء للمفعول. انظر التتائي. وقال المواق: ولملك في المبسوط من سأل عن إصابة أهله في رمضان لا يعاقب، (لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعاقبه)
(1)
. انتهى.
ومن أساء على خصمه، عطف على قوله: شاهد زور، يعني أن القاضي يعزر وجوبا من أساء على خصمه بحضرته من غير احتياج لبينة لانتهاكه حرمة الشرع، والحق حينئذ لله لا يحل للقاضي تركه أو بغير حضرته وأقر أو قامت عليه بينة به. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: وعزر القاضي من أساء على خصمه بما يستحق الأدب به وجوبا. انتهى. وقال المواق: قال ابن حبيب عن الأخوين: إن شتم أحد الخصمين صاحبه عند القاضي أو أسرع إليه بغير حاجة كقوله: يا
(1)
البخاري، كتاب الصوم، رقم الحديث 1936 ومسلم، كتاب الصيام، رقم الحديث 1111.
ظالم يا فاجر فعليه زجره وضربه إلا ذا مروءةٍ فلتةً فلا يضربه. انتهى. وقال التتائي: ومن أساء على خصمه إلا أن تكون فلتة من ذي مروءة فليتجاوز عنه. وقال الشبراخيتي: ثم إن وقعت الإساءة بين يديه فإنه يعزره، ولا يحتاج لشهادة بينة بالإساءة عليه بمجلسه لتوقير مجلس الشرع، وإن لم تكن بين يديه فلا بد من ثبوت ذلك بالبينة. انتهى. وقال التتائي: قال ابن ناجي في شرح قول المدونة: ولا بأس أن يضرب الخصم إذا تبين لدده وظلمه: المغربي: إذا تبين لدده معناه ببينة إذ لا يقضي بعلمه إلا في التعديل والتجريح. قلت: هذا جهل منه، لأن ما ذكره إنما هو في الأموال، وأما ما يكون بين يديه من الأدب فإنه يحكم فيه بعلمه. انتهى.
أو مفت، يعني أنه يجب على القاضي أن يعزر من أساء على مفت، ويجري فيه ما مر في الإساءة على الخصم بحضرة القاضي وبغير حضرته فيستند لعلمه في الأول، ولا بد من الثبوت في الثاني، وكذا يقال في قوله: أو شاهد، أي يجب على القاضي أن يؤدب من أساء على شاهد، وكذا على القاضي بمجلس حكمه كما مر في قوله: وتأديب من أساء عليه، والحكم بعلمه في مجلسه في هذه الأربع مسائل يستثنى من قولهم: لا يحكم بعلمة إلا في التعديل والتجريح، لأن وظيفة القاضي أنه مرصد لخلاص الأعراض كما أنه مرصد لخلاص الأموال، وإلى ما ذكر المص أشار ابن عاصم بقوله:
ومن جفا القاضي فالتأديب
…
أولى وذا لشاهد مطلوب
أي أولى له التأديب من العفو، وأما تأديبه للشاهد فواجب إلا أن يكون ذا مروءة ووقع منه الجفاء فلتة فإنه يغتفر له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:(أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)
(1)
. كما قال:
وفلتة من ذي مروءة عثر
…
في جانب الشاهد مما يغتفر
(1)
الجامع الصغير، رقم الحديث 1363.
والجفاء بالمد خلاف البر. وقال أبو علي: إن قوله: وفلتة لخ، راجعٌ حتى لجفاء القاضي. والله أعلم. وقوله: أو شاهد كما لو قال له: شهدت علي بالزور، أو ما أنت من أهل العدل ولا من أهل الدين.
لا بشهدت بباطل، يعني أن من قال لشاهد: شهدت بباطل فإنه لا يعزره القاضي، فإن قال له: شهدت علي بزور عزره كما مر لأنه لا يلزم من الباطل أن تكون الشهادة زورا، لأن الباطل بالنسبة للواقع لا بالنسبة لعلمه، إذ قد يشهد بشيء يعلمه كدين لزيد عليه وهو قد قضاه ولا مضرة على الشاهد في ذلك، بخلاف الزور وهو أن يشهد بما لا يعلم عمدا، وفي المواق ما نصه: ابن كنانة: إن قال: شهدت علي بزور، فإن عنى أنه شهد عليه بباطل لم يعاقب، وإن قصد أذاه والشهرة به نكل بقدر حال الشاهد والشهود عليه انتهى ويقبل قوله فيما ادعى أنه أراد إلا بقرينة تكذبه. قاله عبد الباقي.
كلخصمه كذبت، يعني أن أحد الخصمين إذا قال للآخر: كذبت، فإنه لا يؤدب. ابن عبد السلام: لا يعد الفقهاء تكذيب أحد الخصمين فيما ادعى به عليه من السباب ولو كان بصيغة كذب وغيرها من الصريح. نقله المواق. وقال عبد الباقي: كلخصمه كذبت علي فيما ادعيته أو ظلمت أو ظلمتني أو تظلمني، وأما يا ظالم فيؤدب، ولم يكن هذا وما قبله من انتهاك مجلس الشرع، لأن لهما تعلقا بالخصومة، بخلاف الإساءة. وقال الشبراخيتي: كلخمصه كذبت، مثله قوله: ظلمتني أو ظلمني، وأما إن قال له: يا ظالم فإنه يؤدب، وقوله: كذبت أي فيما ادعيت به، وأما إن قال له: كذبت في شيء آخر غير ما ادعاه عليه فإنه يؤدب لأنه إذاية. انتهى. وإذا قال رجل لرجل: يا كذابُ، جرى على التفصيل الذي في قوله: يا كلب، قال في التبصرة: وإذا قال الرجل للرجل: يا كلب فإن ذلك يفترق فيه ذو الهيئة من غيره، فإن كان القائل والمقول له من أهل الهيئة كلاهما جميعا عوقب القائل عقوبة خفيفة يهان ولا يبلغ به السجن، وإن كانا جميعا من غير ذوي الهيئة عوقب أشدَّ من عقوبة الأول فيبلغ فيها السجن، وإن كان القائل من ذوي الهيئة والمقول له من غير ذوي الهيئة عوقب بالتوبيخ ولا يبلغ به الإهانة ولا السجن، وإن
كان القائل من غير ذوي الهيئة والمقول له من ذوي الهيئة عوقب بالضرب. انتهى. انظر الحطاب. وفي التبصرة: ولو قال رجل لرجل من سراة الناس: كذبت وأثمت، عزر بالسوط، وهذا إذا قاله في مشاتمة لأنه بمنزلة قوله: كذاب، وأما إن نازعه في شيء فقال له: أنت في هذا كاذب آثم، فلا يجب عليه في هذا أدب إلا أنه ينهى عنه ويزجر إن كان لا يتعلق به حق فيما نازعه فيه، وهو مبني على التفصيل المتقدم في قول الرجل للرجل: يا كلب. انتهى. وفي الحطاب عن التبصرة: في مسألة. يا كلب بيانُ [معنًى دني الهمة وَضيعُ القدر]
(1)
. والله أعلم. انتهى. وفي الحطاب أيضا: وقال القاضي عياض في الإكمال في شرح حديث الحضرمي والكندي من كتاب الأيمان: قولُه: يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي ما حلف عليه ولا يتورع عن شيء، فيه أن الرجل إذا رمى خصمه حال الخصومة بجرحة أو خلة سوء لمنفعة يستخرجها في خصامه وإن كان في ذلك أذى خصمه لم يعاقب إذا عرف صدقه في ذلك، بخلاف ما لو قاله على سبيل المشاتمة والأذى المجرد، وذلك إذا كان ما رماه به من نوع دعواه، ولينبه بها على حال المدَّعَى عليه، لقول الحضرمي: إنه فاجر لخ، ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم ولا زجره، ولو رمى خصمه بالغصب وهو ممن لا يليق به أدب عندنا، ولم تعلق به الدعوى، ونقله الأبي ثم نقل عن القرطبي ما نصه: الجمهور على أدب من صدر منه شيء من ذلك لعموم تحريم السباب، وأجابوا عن الحديث بأن الكندي عُلِمَ منه ذلك، وأنه لم يقم بحقه، أو أنه لم يقصد إذايته، وإنما قصد استخراج حقه. انتهى. وقال في المدونة في كتاب القذف: من آذى مسلما أدب. قال ابن ناجي: ظاهره وإن لم يحضر الموذَى فإن القاضي يؤدبه إذا كان ذلك بحضرته وهو كذلك، وكون القاضي لا يحكم بعلمه فيما كان بمجلسه إنما هو في الأموال، وأما هذا فيحكم. انتهى.
وليسوّ بين الخصمين، يعني أنه يجب على القاضي أن يسوي بين الخصمين في القيام والجلوس والكلام والاستماع ورفع الصوت والنظر لهما. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: وليسوّ بين الخصمين وجوبا في القيام والجلوس والكلام والاستماع ورفع الصوت والنظر وغير ذلك. انتهى.
(1)
في الحطاب ج 6 ص 337 ط دار الرضوان معنى ذي الهيئة ورفيع القدر.
وقال الخرشي: يعني أن القاضي يجب عليه أن يسوي بين الخصمين في الجلوس والقيام والكلام ورفع الصوت عليهما، ويجعل نظره وفكره لهما على حد سواء. وقال بناني: في طرر ابن عات: ينبغي للقاضي أن لا يبتدئ أحد الخصمين بالسلام ولا بالكلام، وإن كان له مواخيا، فإن سلما عليه لم يزد على أن يقول وعليكما السلام، فإن زاد أحدهما في ذلك لم يزد القاضي عليه شيئا. انتهى. وقال عمر في وصيته لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: وسوِّ بين الناس في مجلسك وعدلك ووجهك حتى لا يطمع الشريف في حَيْفك ولا ييئس الضعيف من عدلك. انتهى.
وإن مسلما وكافرا، يعني أنه لا بد من التسوية بين الخصمين وإن كان أحدهما مسلما والآخر كافرا، هكذا في بعض النسخ، وفي نسخة الشبراخيتي: وإن مسلما، قال: يعني والآخر ذمي بقرينة قوله الخصمين. انتهى. وقال بناني: وإن مسلما، هكذا في أكثر النسخ بإن، واعترضه ابن عاشر بأن ابن الحاجب حكى قولا بجواز رفع المسلم على الذمي، ونسبه في التوضيح للك، فالمحل للو. انتهى. وقال المواق: وإن مسلما. المازري: لو كان الخصمان مسلما وذميا ففي تسويتهما في المجلس كمسلمين وجعل المسلم أرفع قولان. ابن عرفة: لم يذكر الشيخ غير الأول معزوا لأصبغ. انتهى. وقال التتائي: وإن مسلما وكافرا على المشهور وإن امتنع المسلم من المساواة وهو الطالب. انتهى.
فائدة: في الرهوني: عن ابن عات: ادعى أبي بن كعب نخلا في يد عمر بن الخطاب، فقال أبي: هو لي، وقال عمر: هو لي، فاختصما إلى زيد بن ثابت، فلما انتهيا إلى بابه قال عمر: السلام عليكم، فقال زيد: وعليكم السلام يا أمير المؤمنين ورحمة الله، فقال عمر: بدأت بجور قبل أن أدخل الباب، فلما دخل قال: ها هنا يا أمير المؤمنين، فقال: وهذه مع هذه ولكن مع خصمي، فقال عمر: هو نخلي وفي يدي، فقال زيد لأبي: هل لك بينة؟ قال: لا، قال: فأعف إذًا أميرَ المؤمنين من اليمين، فقال، عمر: ما زلت جائرا منذ دخلنا عليك، وعليك يا أمير المؤمنين، وها هنا يا أمير المؤمنين، وأعف أمير المؤمنين، ولم يعفيني منها إن عرفت شيئا منها
أخذته بيميني. قال: ثم حلف عمر أن النخل نخله ما لِأُبي فيه حقٌّ. فقال أبي: والله إنك لصادق، وما كنت تحلف إلا على حق، ثم قال عمر: هو لك بعد ما حلف. انتهى.
وقدم المسافر، يعني أنه إذا تداعى عند القاضي مسافرون وغيرهم وتزاحموا في التقديم في الدعوى فإنه يقدم المسافرين، ولو كان ذلك الغير سابقا عليهم، ما لم يحصل للمقيم ضرر بسبب تقديم المسافر عليه، وإلا قدم، فإن حصل لكل ضرر بسبب تقديم الآخر أقرع بينهما، كما إذا كثر المسافرون جدا بحيث يحصل للمقيمين ضرر، فإنه يقرع بين جميع المسافرين والمقيمين، وبين المقيمين، وقال التتائي: وقدم المسافر إن تزاحم المدعون خوف فوات الرفقة، وظاهره الوجوب كالذي قبله، وجعله البساطي من أدبه، وظاهره ولو كثروا وحصل الضرر للمقيمين، وقيده المازري بما إذا لم يكثروا فيصار للقرعة، وظاهره ولو كان غير المسافر سابقا عليه، وسواء كان الوقت لا يسع إلا بعضهم، أو يسع الجميع ولكن أراد كل التقديم. انتهى.
وما يخشى فواته، يعني أنه إذا اجتمع عند القاضي متداعون فإنه يقدم ما يخشى فواته. قال بناني: مثال ما يخشى فواته عند ابن مرزوق النكاح الفاسد الذي يفسخ قبل الدخول والطعام الذي يتغير بالتأخير، وعطف هذا على المسافر من عطف العام على الخاص. التتائي: وقدم ما يخشى فواته لو اشتغل بغيره فسد، وظاهره الوجوب. انتهى. وقال عبد الباقي: وما يخشى فواته هو مع المسافر في مرتبة واحدة كما هو مدلول الواو، فيقدم ما هو أشد ضررا، فإن تساويا أقرع بينهما، ونحوه في الخرشي. قال الشبراخيتي: وقدم المسافر لأن إقامته ضرر عليه، وفي مرتبته ما يخشى فواته، كنكاح استحق فسخا قبل الدخول ويخاف إن أخر النظر فيه أن يدخل بها، أو طعام يسرع إليه التغير، وإذا تشاح المسافر وما يخشى فواته أقرع بينهما، وهذا حيث لا ضرر في تقديم أحدهما على الآخر، فإن كان في تقديم كل واحد ضرر ارتكب أخفهما ضررا، وإن تساوى الضرران أقرع، ثم إن تقديم المسافر على ما بعده ما لم يكثر السافرون جدا فإن كثروا جدا، بحيث يحصل للمقيمين بسببهم ضرر فيقرع بينهما. قاله الشارح عن المازري. انتهى.
ثم السابق، يعني أنه يلي المسافر وما يخشى فواته في التقديم السابق، فيقدم الأسبق فالأسبق. قال الإمام المازري من عند نفسه: يقدمه وإن بحقين، أي يقدم السابق وإن في خصومتين أو أكثر
إن كان ذلك مما لا يطول ولا يضر بمن بعده، كما قال: بلا طول، فإن كان في الخصومتين طول فينبغي تقديمه في أحدهما ولو معه طول وتأخير حقه الآخر عمن يليه. قاله عبد الباقي والشبراخيتي. وقال المواق والمازري: إذا وجب تقديم الأسبق فقال أصحاب الشافعي: إنما يقدم الأسبق في خصام واحد لا في سائر مطالبه. وهذا فيما ينظر فيه إن سبق بخصامين قدم في خصومته فيهما معا إن كان مما لا يطول ولا يضر بالجماعة الذين بعده. ابن عرفة: ظاهره أن هذا غير منصوص لأصحابنا. وقد قال أصبغ: إذا قضى بين الخصمين في أمر اختصما فيه ثم أخذا في حجة أخرى في خصومة أخرى فإن كان بين يديه غيرهما لم يسمع منهما حتى يفرغ ممن بين يديه، إلا أن يكون شيئا لا ضرر فيه بمن حضره فلا بأس أن يسمع منهما. انتهى. ونقله الحطاب أيضا. وقوله: وإن بحقين بلا طول، راجع لقوله: ثم السابق فقط، كما يفيده كلام الشارح هنا. قاله الشبراخيتي. وقال: في تعبيره يعني المص بقال نظر، إذ ما ذكره المازري مستفاد مما في النوادر كما ذكره ابن عرفة. انظر المواق. انتهى. أي فالصواب إسقاط قال، والتعبير بالاسم. كما في بناني. ثم إن استووا في السبقية أو لم يعلم السابق أقرع، وصفة القرعة أن تكتب أسماؤهم في رقاع ثم توخذ إحدى الرقاع بعد خلطها، فمن وجد اسمه في تلك الرقعة قدم.
وينبغي أن يفرد وقتا أو يوما للنساء، يعني أن القاضي ينبغي له أن يفرد وقتا أو يوما للنساء كانت خصومتهن فيما بينهن أو مع الرجال لأنه أستر لهن. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: وينبغي له أن يفرد يوما معينا أو وقتا كذلك للنساء كانت خصومتهن فيما بينهن أو مع الرجال لأنه أستر لهن. وقوله: للنساء، أي اللَّاتي يخرجن، لا المخدرات واللاتي يخشى من سماع كلامهن الشّغف بهن فيوكلن أو يبعث لهن في منزلهن، وقد وقع للنبي صلى الله عليه وسلم هذا وهذا. انتهى. وقال الحطاب. قال القرطبي في شرح قوله عليه الصلاة والسلام للنساء:(اجتمعن يوم كذا)
(1)
. يدل على أن الإمام ينبغي له أن يعلم النساء ما يحتجن إليه من أمر دينهن، وأن يخصصن بيوم مخصوص لذلك لكن في المسجد أو ما كان في معناه لتومن الخلوة بهن فإن تمكن من
(1)
مسلم، كتاب البر، رقم الحديث 2633.
ذلك بنفسه فعل وإلا استنهض الإمام شيخا يوثق بعلمه ودينه لذلك حتى يقوم بهذه الوظيفة. انتهى. وقال التتائي: وتومر الشابة ذات الجمال التي يخاف أن يؤدي كلامها لشغف بها أن توكل، وليس من حق الخصم إحضارها لمجلس القضاء، فإن احتيج إلى أن يبعث إليها بدارها لتخاطب من وراء سترها من تومن ناحيته لشيخوخته ودينه، أو يكلفه الحكومة في أمرها فعل ذلك. وقد حضرت الغامدية
(1)
مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال في المرأة الأخرى:(واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)
(2)
.
كالمفتي والمدرس، تشبيه في جميع ما تقدم من قوله: وقدم المسافر وما يخشى فواته، أي يقدم المسافر وما يخشى فواته ثم السابق لخ، قاله عبد الباقي وغيره. وقال المواق: قال ابن شأس: ويفعل المفتي والدرس عند التزاحم كذلك. وقال التتائي: ابن عرفة: لا أعرف هذا نصا لأهل المذهب، إنما قاله الغزالي في الوجيز، لكن تخريجهما على حكم تزاحم الخصوم واضح، ثم ذكر عن سماع عيسى ابن القاسم: أحب إلي أن الخياط يقدم الأول فالأول، ولم أسمع فيه شيئا، ولعله أن يكون واسعا إن كان في الخفيف كالرقعة وأشباهها، ثم ذكر عن الأخوين: لا بأس أن يقدم الصانع من أحب ما لم يقصد مطلا، وكذا يقولان في الرحا، ثم قال: جرت عادة مدرسي تونس في الأكثر بتقديم قراءة التفسير على الحديث، ثم الحديث على الفقه. انتهى. وفي المواق: لا يقدم صاحب الرحا أحدا على غيره إذا كانت سنة البلد. البرزلي: وعلى هذا يأتي التقديم في طبخ الخبز، والقراءة، وسائر الصنائع، إن كان عرف عمل به وإلا قدم الآكد فالآكد، ويقدم في القراءة من فيه أهلية على غيره لتحصيل كثرة المنافع على قلتها، وقال الشيخ الأبلي: الطالب الذي لا قابلية له ينبغي أن يقدم على غيره. انظر المواق. قوله: ويقدم في القراءة لخ، الظاهر أنه مخالف للمص، وقال عبد الباقي: وأما الطحان والفران وسائر الصناع فإن كان لهم عرف عمل عليه وإلا قدم الآكد فالآكد. انتهى. قوله: قدم الآكد فالآكد، قال بناني: مثله في المواق عن البرزلي، والذي في ابن غازي عن ابن رشد: أن الأحبّ إذا لم يكن شرطٌ ولا عُرْفٌ تقديمُ الأول
(1)
في الأصل العامرية وحديث الغامدية معروف. انظر صحيح مسلم، كتاب الحدود، الحديث رقم 4431 - 4432.
(2)
البخاري، كتاب الحدود، رقم الحديث 6827 - 6828.
فالأول. انتهى. واعلم أن أركان القضاء ستة: القاضي، والمقضي له، والمقضي عليه: والمقضي به، والمقضي فيه، وكيفية القضاء، أمَّا القاضي فقد مر الكلام عليه أول الباب، وأما المقضي له فهو كل من ثبت له حق، ويشترط أن يكون ممن تجوز شهادة القاضي له، وفي حكمه لأقاربه الذين لا تجوز شهادته لهم أربعة أقوال: المنع، وهو الذي اختاره اللخمي، وهو الذي مشى عليه المص حيث قال: ولا يحكم لمن لا يشهد له، وأما المقضي عليه فهو كل من توجه عليه حق إما بإقراره إن كان ممن يصح إقراره وإما بالشهادة عليه على الوجه المقرر في ذلك، ويشترط فيه أن يكون ممن تجوز شهادته عليه، وأما المقضيُّ به فهو الحكم من كتاب الله عز وجل، فإن لم يجد فسنة نبيه صلى الله عليه وسلم التي صحبها العمل، فإن لم يجد في السنة نظر في أقوال الصحابة فقضى بما اتفقوا عليه، فإن اختلفوا قضى بما صحبه العمل أو ما أجمع عليه، فإن لم يجد إجماعا قضى باجتهاده بعد مشاورة أهل العلم، وأما المقضي فيه فهو جميع الحقوق، وأمَّا كيفية القضاء فتتوقف على العلم بأشياء كمعرفة ما هو حكم وما ليس بحكم، فلا يتعقب ما هو حكم، ويتعقب ما ليس بحكم، ومعرفة ما يفتقر لحكم الحاكم، وما لا يفتقر لحكم الحاكم، ومعرفة الفرق بين ألفاظ الحكم التي جرت بها عادة الحكام في التسجيلات، وفي الفرق بين الثبوت والحكم. ونظم بعضٌ الأركان الستة فقال:
فجملةٌ الأركان للقضاء
…
قد نظمت في البيت باعتناء
القاضي والمقضيّ فيه ثم له
…
ثم عليه وبه والكيفيه
وأشار المص إلى كيفية القضاء والتعريف بالمدعي والمدعى عليه بقوله: وأمر مدع تجرد قوله عن مصدق بالكلام، قال ابن عرفة: الدعوى قول هو بحيث لو سُلِّمَ أَوْجب لقائله حقا، يعني أن القاضي يأمر المدعِيَ بالكلام أي يأمره بالدعوى فيبدأ بالمقال، وعرف المص المدعي بأنه هو الذي تجرد قوله عن الذي يصدقه من أصل أو معهود، ويأتي بيانهما. قال عبد الباقي: وأمر بالبناء
للمجهول مدع، أي أمر القاضي وجوبا المُدعيَ حيث علم أو وافقه خصمه على أنه المدعي بالكلام، وعرف المص المدعي بأنه من تجرد قوله حال الدعوى عن مصدق أي أصل أو معهود عرفا، أي لم يتمسك حين الدعوى بواحد من هذين، وإنما تمسك بالبينة، بخلاف المدعى عليه فإنه كان قوله على وفق أصل أو معهود عرفا، وقوله: تجرد لخ، صفة مدع، وقوله: بالكلام، أي الدعوى متعلق بأمر، وتفسير الصدق بما ذكر، وقوله: حال الدعوى، كل منهما مخرج لمن صحب دعواه بينة: إذ لا يقال له حينئذ: مدع فقط شرعا، لثبوت دعواه، نعم يسمى مدعيا باعتبار حاله قبل إقامة البينة، فلا يَرِدُ على تعريف المص أنه غير جامع لمن صحب دعواه بينة. انتهى كلام الشيخ عبد الباقي. وقال بناني: وأمر مدع تجرد قوله لخ، الآمر هو القاضي، وإنما يأمره إذا علمه كما إذا سمعهما يتخاصمان فعلم المدعي منهما، أو قال أحدهما: إنه دعاني، وأما إن لم يعلمه فله أن يسكت حتى يتكلما فيعلم المدعي منهما، فيأمر المدَّعَى عليه بالسكوت حتى يفرغ المدعي من كلامه، وله أن يقول ما شأنكما؟ أو ما خطبكما؟ وإن قال: مَن المدعي منكما؟ فلا بأس به. انظر المواق، وبه يعلم الجواب عما أورد هنا من الدور، وهو أن أمره بالكلام يتوقف على العلم بكونه مدعيا، والعلم بذلك يتوقف على كلامه. والله أعلم. وقول الزرقاني: أي أصل أو معهود عرفا لخ: ابن شأس: المدعي من تجردت دعواه عن أمر يصدقه أو كان أضعف المتداعيين أمرا في الدلالة على الصدق. انتهى. فيوخذ منه أنه إن تعارض الأصل والعرف فالمدعي من تجردت دعواه عن العرف وإن وافقت الأصل، لأن العرف أقوى منه، وقول الزرقاني: كل منهما مخرج لمن صحب دعواه بينةٌ لخ، صوابه مُدخِل لمن صحب دعواه لا مخرج. انظر الحطاب. وذلك لأن ابن عرفة أورد على تعريف ابن الحاجب الذي هو كتعريف المص أنه غير جامع لخروج المدعي ومعه بينة، فأجاب الحطاب لدخوله بأن البينة إنما يأتي بها بعد معرفة كونه مدعيا، والكلام فيما قبل ذلك. انتهى. وهذا الذي قصده الزرقاني فاختل كلامه، على أن الجواب فيه نظر، لما نقله الحطاب وغيره من أن القاضي له أن يسمع البينة قبل سماع الدعوى على مذهب ابن القاسم: كما يأتي عند الزرقاني في قوله: إلا لعذر كنسيان. انتهى. وأجاب الرهوني عن إيراد البناني بأن تصديق البينة للمدعي قبل سماع الدعوى يتوقف على تصديق المدَّعَى عليه إياها أو عجزه عن
القدح فيها. وقال المواق عن أشهب: إذا جلس الخصمان بين يدي القاضي فلا بأس أن يقول: ما لَكُمَا؟ وما خصومتكما؟ أو يسكت ليبتدئاه، فإن تكلم المدعي أسكت الآخر حتى يسمع حجة المدعي، ثم يسكته ويستنطق الآخرة ويتربص عليه حتى يفهم عنه، ولا يبتدئ أحدهما فيقول: ما تقول؟ ومَا لَك؟ إلا إن علم أنه المدعي، ولا بأس أن يقول: أيكما المدعي؟ فإن قال أحدهما: أنا، وسكت الآخر فلا بأس أن يسأله عن دعواه، وأحب إليّ أن لا يسأله حتى يقر خصمه بذلك. انتهى. وقال التتائي: وأمر مدع تجرد قوله عن مصدق بالكلام وسكت عن الآخر حتى ينتهي المدعي فيأمره بالسكوت. انتهى. وقال الشبراخيتي: لم يعرف المص الدعوى، وعرفها ابن عرفة بقوله: قولٌ هو بحيث لو سلم أوجب لقائله حقا، ولها شروط ذكر المص بعضها، وزاد غيره: معتبرة يتعلق بها غرض صحيح لم تكذبها العادة، واحترز بقوله: معتبرة، من نحو دعوى القمحة والشعيرة، وبغرض صحيح، من دعوى أجرة على محرم، وقوله: لم تكذبها العادة، من دعوى دار بيد حائز يتصرف فيها المدة الطويلة والمدعي حاضر ساكت، وهل تسمع الدعوى على الصبي والسفيه؟ فيه تفصيل، فإن ادُّعِيَ عليهما بما لا يلزمهما بالإقرار ولا بالبينة لم تسمع، كأن يدعي عليه أنه أبرأه من الحق، أو أقرضه، أو اشترى شيئا منه بكذا، وإن ادُّعِيَ عليهما بما لا يلزمهما بالبينة دون الإقرار كالغصْب سُمِعَتْ، ولا يطالب بالجواب، ويقال للمدعي: أقم البينةَ، فإن أقامها وعُدِّلت أعذر إلى وليه، فإن أبدى مطعنا وإلا أخذ المدَّعَى به من ماله. وإن ادُّعِيَ عليه بما يلزمه بالإقرار والبينة كما إذا ادُّعِيَ على السفيه بأنه طلق زوجته سُمِعَتْ، ويطالب بالجواب، ولا يتأتى هذا القسم في الصبي. ومن شروط الدعوى أن تكون لو أقر بها المدعى عليه أو قامت عليه بها بينة قضِيَ عليه بها، وإن لم يقض عليه بها فلا تسمع، كدعواه عليه أنه قال: داري صدقة بيمين مطلقا أو بغيرها ولم يعين، وكدعواه عليه وصية، وكما تقدم في الطلاق من الأمور التي يؤمر بها من غير قضاء، وكدعوى بالغ رشيد على سفيه أو صبي بمعاوضة مالية اختيارية كبيع أو شراء أو سلف فساقطة، وينهاه القاضي عن التعرض لها، بخلاف دعواه عليهما استهلاكا أو غصبا أو نهبا أو اختلاسا أو جدعا أو قتلا عمدا أو خطئا فتسمع، ويعذر القاضي
لهما لعل لهما مدفعا، ولا يعجز الصبي، ولا بد من يمين الطالب مع بينة لأن الصبي في حكم الغائب والميت والساكين، وأما عكس ذلك وهو دعوى صبي أو سفيه على بالغ رشيد فتسمع حضر وصيه أو غاب، وله إقامة بينة أو شاهد يحلف معه عبد وسفيه بالغان كما يأتي، وقوله: عن مصدق، قال غير واحد: أي غير بينة لأنه لا يشترط تجرده منها. ابن عرفة: المدعي من عريت دعواه عن مرجح غير شهادة، والمدعى عليه من اقترنت دعواه به أي بالمرجح، ويرد عليه ما إذا صحب دعواه إقرار المدعى عليه، فلو قال: غير شهادة أو إقرار لسلم من ذلك.
وإلا يعلم المدعي ولا وافق خصمه على ذلك، فالذي يؤمر بأن يبتدئ بالكلام هو الجالب، أي الطالب للخصم أن يذهب معه إلى القاضي بنفسه أو برسول القاضي، أو خاتم أو ورقة أو غير ذلك، لدلالة قرينة الحال على صدقه. وإلا يعلم الجالب بأن ادعى كل أنه الجالب ولم يصطلحا على تقديم أحدهما، أقرع بينهما في التبدئة بالكلام، ولابن عبد الحكم يقدم أيهما شاء. قاله الشبراخيتي. وقال المواق: ابن عبد الحكم: وإن لم يدر الجالب بدأ بأيهما شاء، فإن كان أحدهما ضعيفا فأحب إلي أن يبدأ به، وإن بقي كل واحد منهما متعلقا بالآخر أقرع بينهما.
فيدعي بمعلوم، يعني أنه يشترط في صحة الدعوى أن تكون بمعلوم، ومعنى معلوم أن يدعي بما هو متميز في ذهن المدعي والمدعى عليه والقاضي، ولهذا لا يسمع لي عليه شيءٌ. محقق، يعني أنه يشترط في صحة الدعوى أن تكون بمعلوم محقق، وزاد غير المص وأن تكون معتبرة يتعلق بها غرض صحيح لا تكذبها العادة، وتكون مما لو أقر بها المدعى عليه يقضى عليه بها، وقد مر محترزات هذه الثلاث. وفي المواق: سمع القرينان من دخل بزوجته ثم مات فطلبت صداقها حلف الورثة ما نعلم بقي عليه صداق. ابن رشد: فإن نكلوا عن اليمين حلفت المرأة أنها لم تقبض صداقها واستوجبته، لا على أن الورثة علموا أنها لم تقبضه، فرجعت هذه اليمين على غير ما نكل عنه الورثة، وأشار المص إلى مقابل قوله: بمعلوم، وهو ضعيف بقوله:
قال الإمام المازري: وكذا تسمع دعواه إذا قال: لي عليه شيء، قال الشبراخيتي عند قول المص: وكذا شيء مقابل لقوله: معلوم، وهو ضعيف على المذهب، كذا في الحاشية، وقال في الشرح: وظاهر كلام المص سواء كان المدعي يعلم مبلغ ما يدعيه أم لا وليس كذلك، فقد ذكر ابن فرحون
في تبصرته ما حاصله أن للمدعى عليه شيء ثلاثةَ أحوال، الأولى: أن يعلم قدر المدعى به، ويقول: لي عليه شيء ويأبى من ذكر قدره، وفي هذا لا تقبل دعواه اتفاقا. الثانية: أن يدعي جهل المدعى به، وتدل على ذلك قرينة كشهادة بينة بأن له حقا لا يعلمون قدره، وفي هذا تقبل دعواه اتفاقا. الثالثة: أن يدعي جهل قدره من غير شهادة قرينة بذلك، فهي محل الخلاف الذي اختار فيه المازري سماع الدعوى. انتهى. وفي باب الإقرار أنه إذا أجاب المدعى عليه بشيء فإنه يفسره، فإن لم يفسره فإنه يسجن حتى يفسره. وإن طال كما في ابن الحاجب، وأقره في التوضيح: ومقتضى هذا أنه ليس حكمه حكم من امتنع من الجواب فإنه يسجن، فإذا سجن ولم يقر يحكم عليه بلا يمين، ولا حكمَ من ادعِيَ عليه فأنكر فشهدت البينة بأن له عنده أعكاما لا يدرون ما فيها فإنه يطلب بالتفسير، فإن لم يفسر عمل بقول المدعي بيمين. انتهى. وفي الحطاب: وقال المتيطي: لو شهد الشهود للقائم في الدار المقوم فيها بحصة لا يعرفون مبلغها ففي كتاب ابن حبيب من رواية مطرف عن ملك: أنه يقال للمشهود عليه: أقر بما شئت منها واحلف عليه، فإن أبى قيل للمشهود له: سمِّ ما شئت واحلف عليه وخذه، فإن أبى أخرجت الدار من يد المطلوب ووقفت حتى يقر بشيء. قال مطرف: وقد كنا نقول وأكثر أصحابنا: أنه إذا لم يعرف الشهود الحصة فلا شهادة لهم ولا يلزم المطلوب بشيء، حتى قال ذلك مالكٌ فرجعنا إلى قوله واستمرت الأحكام به. انتهى. وفيه ليس من تمام صحة الدعوى أن يذكر السبب، يؤخذ ذلك من قول المص: ولمدعًى عليه السؤال عن السبب.
وإلا، بأن لم يدع معلوما بل ادعى مجهولا كشيء أو ادعى مظنونا لم تسمع دعواه، فلا يلزم المدعى عليه جوابه، ومثل لأحد الأمرين بقوله: كأظن، يعني أنه إذا قال المدعي: أظن أن لي عنده كذا، أو في ظني وأحرى أشك، فإن هذه الدعوى لا تسمع. وقوله: بمعلوم محقق، قال الحطاب: نحوه لابن الحاجب، فأورد عليه ابن عرفة توجيه يمين التهمة على القول بها. فتأمله. والله أعلم. انتهى. وقال عبد الباقي: كأظن إلا أن يقوى الظن كما يأتي في قوله "واعتمد البات على ظن قوي" ونحوه للخرشي والشبراخيتي. قال بناني: هذا القيد غير صحيح. ثم قال:
والحاصل أن ما هنا في الدعوى المصرح فيها بما يفيد عدم التحقيق، وما يأتي في الدعوى الجازمة، لكن اعتمد فيه على الظن في ذهنه. انتهى. وهو تحقيق عجيب. والله سبحانه أعلم. وقال عبد الباقي: ومحل قوله: محقق، حيث لم تكن دعوى اتهام، فلا يخالف ما يأتي في باب الشهادة في قوله: واستحق به بيمين إن حقق. انتهى. قال بناني: قول الزرقاني: حيث لم تكن دعوى اتهام، ظاهره أنه لا منافاة بين ما هنا وبين ما يأتي وليس كذلك، بل قوله هنا: وإلا لم تسمع، إنما ينبني على عدم توجه يمين التهمة، وقد أورد ابن عرفة على قول ابن الحاجب بمعلوم محقق توجه يمين التهمة على القول بها، وعلى توجهها جرى المص في مفهوم إن حقق من قوله: فإن نكل في مال وحقه استحق به بيمين إن حقق. قال الحطاب هناك في مفهوم إن حقق ما نصه: فإن كان يمين تهمة فإن الحق يثبت بمجرد النكول على المشهور صرح به ابن رشد. انتهى من التوضيح. انتهى. وقد علمت به أن ما عليه المص هنا خلاف المشهور. انتهى. وفي التبصرة في الباب الثامن والعشرين من القسم الثاني في القضاء بالاتهام وأيمان التهم: أبو الحسن الصغير: المشهور أن اليمين تجب بمجرد الاتهام وإن لم يحقق الدعوى، والظاهر أنه يريد بعد إثبات أن المدعى عليه ممن تلحقه التهمة فيما ادعِيَ عليه. انظر الحطاب. ولا بد للمدعي من بيان السبب، ولهذا قال:
وكفاه بعت وتزوجت، يعني أنه لا بد للمدعي من ذكر سبب ما ادعى، ويكفيه أن يقول: لي عليه مائة من سلف أو بيع أو نكاح. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: والمدعي لا بد له من ذكره سبب ما ادعى به، وكفاه بعت وتزوجت ولي عنده ثمنه وعند الزوج الصداق من غير احتياج لذكر أركان كل. انتهى. وقال الشبراخيتي: وكفاه في بيان السبب بعت وتزوجت، أي أن المدعي إذا قال:[لي عنده]
(1)
، دينار مثلا من بيع أو زوجته ابنتي بكذا فإن القاضي يأمر المدعى عليه بالجواب، لأن المدعي إذا أبهم ولم يذكر السبب احتمل أن يكون من وجه لا يوجب شيئا لو
(1)
في الأصل له عندي والمثبت من الشبراخيتي ج أخير مخطوط بمكتبة أحمد سالك بن ابوه.
فسرد. انتهى. وقال التتائي: ومثل بمثالين لمخالفة الشافعي في الثاني، فلا بد أن يقول: عنده بصداق وولي وشاهدين [ويلزم]
(1)
انتفاء الموانع. وقوله: وكفاه بعت مرتب، على قوله: وأقرع.
(2)
وحمل على الصحيح، يعني أنه إذا قال المدعي: بعت أو تزوجت، فإن ذلك يكفيه ولا يحتاج لذكره الأركان، فيحمل العقد على الصحة، لأن الأصل في عقود المسليمن الصحة. وإلا، يذكر المدعي السبب المستلزم له ما ذكر. فليسأله الحاكم عن السبب، أي وإن لم يذكر المدعي سبب ما ادعى به فإن الحاكم يجب عليه أن يسأله عن السبب. قال ابن حارث: يجب على القاضي أن يقول للطالب من أين وجب لك ما ادعيت؟ ومن أي شيء وجب؟ فإن لم يقل ذلك صار كالخابط عشواء، إذ لا يومن أن يكون الحق إنما يدعيه مدعيه من وجه لا يوجب حقا إذا فسره. نقله المواق. قال الشبراخيتي هنا: ولا يعارض هما قوله فيما يأتي: ولمدعى عليه السؤال عن السبب، لأن هذا فيما إذا ترك المدعى عليه ذلك لجهل أو غفلة، وما يأتي فيما إذا انتبه لذلك، أو أنه مشى على قولين فتبع فيما هنا المتيطي، وفيما يأتي أشهب. انتهى. وقال عبد الباقي: فليسأله الحاكم وجوبا عن السبب، فإن غفل أو جهل بالسنة فلمدعى عليه السؤال عنه كما يأتي، فهو كالمفرع على ترك المدعي ذكرَه والحاكمِ السُّؤالَ عنه، وتقديم الشارح المدعى عليه في السؤال عن السبب على الحاكم رده التتائي، وأيضا ظاهر المص أو صريحه خلافه هنا وفيما يأتي. انتهى. قال بناني: ما ذكره الش من تقديم سؤال المدعى عليه على القاضي مثله لولد ناظم التحفة عند قوله:
..........................
…
تحقق الدعوى مع البيان
ونصه: وللمدعى عليه أن يسأل عن السبب فإن جهل أو غفل عنه فينبغي للقاضي أن يسأله حتى يبين له وجه ذلك. انتهى. ومثله عند ابن سلمون، وأما ما اقتضاه ظاهر المص فإنما احتجوا
(1)
في الخرشي ج 7 ص 154 ولا يلزمه.
(2)
لعله وأمر مدع.
له بما نقله المتيطي وابن سهل وغيرهما عن ابن حارث من أنه يجب على القاضي أن يقول للمدعي: من أين وجب لك ما ادعيت؟ انتهى. وهذا لا يقتضي تقدمه على سؤال المدَّعَى عليه كما زعمه مصطفى تبعا لعلي الأجهوري. والله أعلم. ونص الشارح الذي ذكره الأشياخ أن المدعى عليه هو الذي يسأل المدعِيَ عن السبب. فقوله: وإلا يحتمل أن يريد وإن لم ينتبه المدعى عليه لذلك فإن الحاكم يقوم مقامه. انتهى.
تنبيه: قد مر عن الحطاب أنه قال: ليس من تمام صحة الدعوى أن يذكر السبب، يوخذ ذلك من قول المص بعد هذا ولمدعًى عليه السؤال عن السبب. قال بناني: قال مصطفى: وفيه نظر، بل صحتها تتوقف على ذلك، ففي المجموعة عن أشهب: إن أبي المدعي أن يذكر السبب ولم يدع نسيانه لم يسأل المطلوب عن شيء، ونحوه في كتاب ابن سحنون. قال الش: ووجهه أن السبب الذي يذكر المدعي قد يكون فاسدا فلا يترتب على المدعى عليه بسببه غرامة. انتهى. قلت: بل الظاهر ما للحطاب إذ لو كان ذكره من تمام صحة الدعوى ما قبل نسيانه ولبطلت الدعوى إذا لم يذكره ولم يسأل عنه، وليس كذلك فيهما، ولا دليل له في كلام المجموعة لاحتمال أنه لما قويت التهمة بامتناعه من ذكره بعد السؤال عنه لم يكلف المطلوب بالجواب. والله سبحانه أعلم. انتهى. وعطف على مدع قوله:
ثم بعد دعوى المدعي وبيان السبب يأمر القاضي مُدَّعًى عليه، يعني أنه إذا أمر القاضي المدعي بأن يبدأ بذكر دعواه وذكرها وذكر سببها فإنه يأمر المدعى عليه بجوابه، وعرف المدعى عليه بأنه هو من ترجح قوله بمعهود، أي بمصاحبة معهود، والمعهود شهادة العرف ونحوه، أو ترجح قوله بمصاحبة أصل، والأصل استصحاب الحال. قاله ابن عبد السلام. والله أعلم. قاله الحطاب. وقال التتائي: ثم أمر القاضي مدعى عليه وعرفه بقوله، ترجح قوله بمعهود، كدعوى شخص على آخر وديعة أو عارية فيدعي ردها، فمدعي الرد هو المدعى عليه لا عهد في الشرع أن الراد لا يحتاج لإقامة بينة، أو من ترجح قوله بسبب أصل كمدعي رق شخص، فيجيب الآخر بالحرية، فالمدعى عليه هو مدعي الحرية لأنها الأصل في الناس، وإنما عرض لهم الرق بسبب السبي بشرط
الكفر: والأصل عدم السبي ما لم يثبت عليه حوزُ الملك، فتكون الحرية حينئذ ناقلة عن الأصل. فلا تسمع إلا ببينة لكونه مدعيا. وبما قررت علم أن قوله:
بجوابه. متعلق بأمر، فهو ومدعى عليه معطوفان على معمولي عامل واحد، وهو أمر أي يأمر القاضي المدعى عليه بأن يجيب المدعي فيقر أو ينكر. قال التتائي: وظاهر كلام المص أن المدعى عليه يجيب ولو كانت الدعوى بجزء من مشترك وهو كذلك على تفصيل فيه. ابن عرفة: يجب جواب دعوى أحد الشركاء في حق بإرث أو غيره على غريم طلبه وإن لم يطلب باقيهم إن لم يقوموا لِطَلَبه معه، ولو حضر مع شركائه أو بعضهم بمخاصمته فللمدعى عليه ترك مخاصمتهم مفترقين حتى يقدموا لخصومته واحدا فقط، وقولُ ابن المناصف: إذا كان لجماعة حق واحد على رجل فإما وكلوا كلهم واحدًا على خصومته أو خاصموه مجتمعين، ولا يتعاورون عليه واحدا بعد واحد، إطلاقه وهمٌ، ولقولها في الولاء: لمن ورث حقا في دارٍ الخصومة فيه ولا يقضى له إلا بحظه، ولقول ابن رشد: لمن قام من أصحاب جنات لهم حق في ماءٍ الخصومة في حقه ويمكنه الحاكم من ذلك وإن لم تقم أصحابه معه. انتهى المراد منه. وفي الحطاب: من ادعى بحقوق وزعم أنه لا بينة له على بعضها وأراد استحلافه فيما لا بينة له فيه ويبقى على إقامة البينة فيما له بينة، فإنه إن التزم أنه إن لم تقم له بينة فيما زعم أن له فيه بينة لم تكن له يمين على المدعى عليه فإنه يحلفه الآن، فإن أقام البينة وإلا فلا يمين له عليه، وإن لم يلتزم ذلك لم يستعجل عليه بيمينه حتى يقيم البينة، فإن أقامها وإلا جمع دعاويه وحلف له على الجميع. انتهى.
فرع: إذا قلنا: إن الدعاوي تجمع في يمين واحدة فإن كان بعضها مما تغلظ فيه اليمين وبعضها لا تغلظ فيه اليمين، فإن من وجبت عليه اليمين يخير بين أن يحلف يمينا واحدة في المسجد، وبين أن يحلف على ما لا يغلظ فيه في غير المسجد، ثم يحلف أخرى في المسجد. قاله الحطاب. وفيه عن معين الحكام: يجوز للمحجور طلب حقوقه كلها عند قاض أو غيره، ولا يمنع من ذلك في حضور وصيه أو غيبته، قال ابن بكير: وله أن يوكل على ذلك، وخالفه غيره في ذلك. ابن رشد: للمحجور أن يطلب وصيه وغيره بما له قِبَلَه من حق ليظهره ويبينه، فإن ظهر من وصيه إنكار
لحقه وجحد عزل عنه. انتهى. وفي معين الحكام: ولو طلب يتيم لا وصي له ولا مقدم حقا له فسأل المطلوب أن يقدم عليه لأجل الخصام فلا يمكن من ذلك، وإذا استحق اليتيم قدم القاضي من يقبضه له، ويجوز الاحتساب للأيتام إن لم يكن لهم ولي إلا أن يخاف ضعفه، ولابن عاصم رحمه الله تعالى:
تمييزُ حال المدعي والمدعى
…
عليه جملةَ القضاء جَمعا
فالمدعي من قوله مجرد
…
عن أصل او عرف بصدق يشهد
والمدعى عليه من قد عضدا
…
مقالَه عرفٌ أو اصل شهدا
عد في هذا النظم أركان القضاء ثلاثة، المدعي، والمدعى عليه، والمدعى فيه. يعني أن تمييز القاضي بين المدعي والمدعى عليه ينبني عليه جميع مسائل القضاء، وذلك أن الماهية إذا عرف أركانها على التفصيل فقد عرفت حقيقتها، والمدعي والمدعى عليه ركنان، فإذا ميز القاضي كلا منهما مع صرفته بالمدَّعَى فقد عرف من يطالب بالبينة وباليمين، والدعوى التي يطالب المدعى عليه بجوابها وغيرها إلى غير ذلك، قال سعيد بن المسيب رضي الله عنه: من عرف المدعي من المدعى عليه فقد عرف وجه القضاء، وقوله: تمييز حال لفظة حال مقحمة، فمراده تمييز المدعي والمدعى عليه، وتمييز مبتدأ وجملةَ مفعول جمع، والجملة خبر، وفاعل جمع ضمير التمييز، وقوله: عن أصل أو عرف أي تجرد عنهما معا فلم يوافقه واحد منهما، والمدعى عليه من عضد أي قَوَّى مقاله واحد منهما فأحدهما كاف، مثال شهادة الأصل أن يدعي دينا قبل رجل فأنكر إذ الأصل براءة الذمة، ومثال شهادة العرف اختلاف الزوجين في متاع البيت، فللمرأة ما يعرف للنساء، وله ما يعرف للرجال، فهو المدعي في الأولى وهي الدعية في الثانية، وكذلك من ادعى الأشبه في مسائل النزاع فهو مُدّعَى عليه، وعلى هذا فقس، فالمدعي كل من أراد أن يشغل ذمة بريئة أو يُبْرئَ ذمة مشغولة، أو ادعى غير العرف، والمدعى عليه عكسه ثم قال رحمه الله:
وقِيلَ من يَقُولُ قَدْ كَان ادعى
…
ولم يكن ممن عليه يُدَّعَى
يعني أنه قيل في تعريف المدعي والمدعى عليه غير ما مر، فقيل: إن من أثبت من المتداعيين فقال كان كذا، فهو المدعي، وإن من أنكر ذلك ونفاه فقال: لم يكن، فهو المدعى عليه، وهذا التعريف جار في غالب الصور، فقد يكون المثبت مدعى عليه، والنافي مدعيا، كدعوى الزوجة الحاضرة مع زوجها أنه لم ينفق عليها، وادعى هو الإنفاق. ثم قال:
والمدعى فيه له شرطان
…
تحقق الدعوى مع البيان
هذا هو الركن الثالث من أركان القضاء، يعني أن المدعى فيه أي الشيء المتنازع فيه يشترط فيه تحقق الدعوى، وهو شامل لتحقق عمارة الذمة، كأن يقول: لي عليه مائة مثلا، واحترز بذلك عن أن يقول: أظن أن لي عليه كذا أو أشك فلا تقبل دعواه ولتحقق قدر الشيء المدعى، واحترز بذلك عن أن يقول: لي عليه شيء، أو أتحقق عمارة ذمةِ فلان بشيء أجهل مبلغه ونحو ذلك، ويشترط فيه أيضا بيان السبب الذي ترتب له به الحق قِبَلَ خصمه كبعت أو أسلفت لاحتمال أن يكون ذلك ترتب من قمار أو نحو ذلك مما لا عبرة به شرعا، ومسألة ما إذا لم يتحقق الدعوى كأظن أو أحسب أن لي عليه كذا هي مسألة يمين التهمة، وفي توجهها على كل أحد، وعدم توجهها، ثالثها: على المتهم دون غيره، رابعها: إن قويت التهمة، أقوال. ولم يبين المشهور منها، والمشهور أن اليمين تجب في دعوى التهمة ولا تنقلب، ولكن إذا كان المدعى عليه تليق به التهمة. قاله الشيخ أبو علي في حاشيته على ميارة. ابن عاصم: وإذا لم تسمع الدعوى إذا اختل أحد الوصفين إما التحقق على قول من لا يوجب يمين التهمة أو علم المدَّعَى فيه، فأحرى أن لا تسمع إذا اختلَّا معا، كقوله: أظن أن لي عليه شيئا، وقوله: تحقق لخ، يحتمل أن يريد بالتحقق الجزم بعمارة الذمة، وبالبيان معرفة المدعى فيه وبيان السبب. ثم قال:
والمدعى مطالب بالبينه
…
وحالة العموم فيه بينه
والمدعى عليه باليمين
…
في عجز مدع عن التبيين
قال الشيخ ميارة: الأصل فيما ذكر قوله عليه الصلاة والسلام: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)
(1)
. قال الشيخ أبو علي: هذا الكلام ذكر ابن رشد وغيره من الفقهاء أنه حديث، ورد ذلك ابن سهل في أحكامه، وأطال في ذلك قائلا: إنما في الحديث (شاهداك أو يمينه)
(2)
. انتهى. وقوله: وحالة العموم فيه بينه، يعني أنه مطالب بالبينة كان صالحا أو فاسقا، وقوله: والمدعى عليه لخ، يعني أن المدعى عليه إنما يطلب باليمين في حال عجز المدعي عن إقامة البينة على دعواه، وأما إن أقامها فإن الحق يثبت ولا يمين على المدعى عليه، كما لو أقر، وظاهر كلام الناظم توجه اليمين على المنكر وإن لم تثبت، الخلطة، وقوله: والحكم في المشهور سيأتي إن شاء الله عند قول المص: وهل يداعَى حيث المدعى عليه ثم قال:
وقدم السابق للخصام
…
والمدَّعِي للبدء بالكلام
هو قول المص: ثم السابق، وقوله: المدعي لخ، هو قول المص: وأمر مدع لخ، ثم قال:
وحيث خصم حال خصم يدعي
…
فاصرف ومن يسبق فذاك المدعي
وعند جهل سابق أو مُدَّعِ
…
من لج إذ ذاك لقرعة دعي
يعني أنه إذا جهل المدعي بحيث ادعى كل منهما أنه هو المدعي، أو أنه هو المدعى عليه، فإن القاضي يأمرهما بالانصراف عن مجلسه ومحل حكمه، ثم إن سبق أحدهما بالرجوع فهو المدعي، ثم إن لم يعلم المدعي بما ذكر من صرفهما لجهله أو لكونهما رجعا إليه معًا بعد صرفهما فإنه
(1)
فتح الباري، ج 5 ص 283.
(2)
البخاري، كتاب الرهن، رقم الحديث 2515 - 2516.
يقرعُ بينهما، وكذا لو لم يعلم السابق من الخصوم، فقوله: من لج أي خاصم وادعى أنه المدعي، أو لج الخصم في الخصومة وادعى أنه الأول.
قال مقيده عفا الله عنه: ومعنى قوله: أو مدع، أنه جهل المدعي منهما لكونهما رجعا إليه معا أو رجعا إليه مترتبين وجهل سابق، كما أشير إليه في الحل، وقوله: جهل سابق، راجع لقوله: وقدم السابق، كما في شرح ميارة. والله سبحانه أعلم.
إن خالطه بدين، ظاهره أنه شرط في الأمر بالجواب وليس كذلك، بل هو شرط في مقدر، أي يأمر القاضي المدعى عليه بأن يجيب المدعِيَ، فإن أنكر ولم تقم للمدعي بينة توجهت اليمين على المدعى عليه بطلبها المدعي بشرط أن يثبت المدعي أنه خالط المدعى عليه بدين، ولهذا قال البناني: صواب هذا أن يكون مؤخرا عن قوله: فإن نفاها واستحلفه، ولعل تقديمه من مخرج المبيضة. انتهى. وقال عبد الباقي شارحا للمص: والمدعي إن لم يقم بينة بعين ما ادعى وطلب يمين المدعى عليه، فإنما يحلف إن أثبت المدعي أنه خالطه بدين مرتب على ثمن مبيع لأجل أو حال أو قرض ولو مرة واحدة، أي تشهد بينة أن بينهما خلطة بكذا ولا يعرفون بقاءه ولا قدره، ولذا لم تكن الشهادة بالخلطة شهادة بأصل الحق. أو تكرر بيع بالنقد الحال.
وإن بشهادة امرأة على الخلطة، لأن القصد بالخلطة اللطخ وهو يثبت بشهادة الواحد ولو أنثى. انتهى. وقال بناني: ليس في المذهب مسألة يحكم فيها بشهادة امرأة واحدة إلا هذه. قاله المسناوي. ثم قال عبد الباقي: ولا تثبت الخلطة ببينة جرحت، أي جرحها المدعى عليه بعداوة ونحوها تشهد للمدعي بالحق الذي ادعى به، فليس للمدعي أن يكتفي بها عن بينة الخلطة، ولا تتنزل تلك البينة المجرحة منزلة المرأة، وبما قررنا علم أن قوله: إن خالطه لخ، شرط في مقدر يفهم من الكلام، وهو إنما يحلف لا في جواب المدعى عليه، وإن كان ظاهر المصنف لأنه لم يقله أحد، بل يأمره به وإن لم تكن بينهما خلطة، وما ذكر من أن الخلطة شرط في توجه اليمين هو المشهور، ونحوه في الرسالة، وعليه ملك وعامة أصحابه، ولابن نافع: لا تشترط، وعليه عمل قضاة مصر والشام وتونس، وكان الأولى أن يؤخر قوله: إن خالطه لخ، عن قوله: فإن نفاها
واستحلفه لخ، لأنه مفرع عليه كما علم مما قررنا. انتهى كلام الشيخ عبد الباقي. وعلم مما قررت أن المراد بقوله: بتكرر بيع بالحال، وليس المراد به المقبوض. ابن القاسم: الخلطة أن يبايع إنسان إنسانا بالدين مرة أو بالنقد مرارا.
تنبيه: قال المواق: قال ابن القاسم: إذا قال: قد كنت أعامل فلانا بما ادعى علي فأعطوه، قال: يصدق في معاملة مثله وأراه ذكره عن ملك، قال ابن القاسم: ويكون من رأس المال، وإن ادعى ما لا يشبه بطلت دعواه. انتهى. قاله عقب أن نَقَل عن ابن سلمون إذا لم تتم معاملة بين المتعاملين ومات أحدهما أو غاب فادعى أحدهما أنه بقي قبله من سبب تعاملهما وأشبه ما ادعاه فرأى المتأخرون أنه يثبت ذلك ويحلف على ما يدعيه ويحكم له به. انتهى. وقوله: لا ببينة جرحت، قال التتائي: جرحت في هذه الشهادة أو غيرها. المتيطي: إن جاء الطالب ببينة بالدين فسقطت بوجه مما تسقط به الشهادة أو جرحها المطلوب فليس ذلك بخلطة توجب اليمين عند ملك وابن القاسم وسحنون، وكذلك إن ترافعا قبل ذلك إلى الحاكم في حق آخر فقضى بينهما فليس ذلك بخلطة. نتهى.
تنبيه: قد مر عن عبد الباقي في قول المص: بدين، أن معناه بدين على المدعى عليه ولم يثبت لعدم ضبط البينة لقدره وبقائه. وفي الحطاب: قال في التوضيح: وفي سماع يحيى عن ابن القاسم من كتاب الشهادات فيمن يأتي بذكر حق كتبه على نفسه لرجل غائب فيشهد بما فيه: لا أرى أن يكتب فيه، لأني أخاف أن يكتب على نفسه للغائب ليستوجب بذلك مخالطته فيحلفه إن ادعى عليه، بعض الشيوخ: فظاهره أن المرة الواحدة مخالطة، ونقل عن أبي محمد صالح فيمن أتاه بكتاب فيه دين فقال له: اشهد عليَّ بما فيه أن لا يشهد إلا بحضور من له الدين خوفا من هذا، قال الشيخ: وذكر ابن رشد في سماع يحيى: أن الموثق إذا أراد أن يتحرز من هذا يكتب: أقر فلان لفلان بدين من غير محضر المقر له، قال الشيخ وهذا أبين مما قاله أبو محمد صالح، فيكتب إقرارد بما ذكر، ثم لا يحكم له بذلك حتى يقدَم. انتهى. انظر هذا فإنه كالصريح في أنه يكفي في ثبوت الخلطة كون الدين على المدعي. والله سبحانه أعلم. فَتَحَصل من هذا أنه تَثبت
الخلطة بالدين كان على المدعي أو المدعى عليه، واستثنى المص من اشتراط الخلطة في توجه اليمين ثماني مسائل تتوجه فيها اليمين بدون خلطة، فقال: إلا الصانع، يعني أن الصانع إذا ادُّعِيَ عليه بما فيه صنعة فإنه يحلف وإن لم تثبت خلطة لأن نصب نفسه في معنى الخلطة. قال التتائي: ويندرج في الصانع التاجر. قال في اختصار المتيطية: إذا ادعي عليه بما يستطيع أي مما يتعلق به. انتهى. وقال عبد الباقي: قال أحمد: مثل الصانع التاجرُ إذا ادعى عليه بشيء. قال المص: وهذا إذا ادعى عليه غريب أو بلدي وكان قد نصب نفسه للبيع والشراء، وأما دعوى أهل السوق بعضهم على بعض، فقال ابن المغيرة وسحنون: لا يكون خلطة حتى يقع المبيع بينهما، سحنون: وكذا القوم يجتمعون بالمسجد للصلاة والدرس والحرث فلا تثبت خلطة بذلك. انتهى. والمتهَم، يعني أن المتهم عند الناس بغصب أو سرقة أو عداء إذا ادعي عليه بسرقة ونحوها فإنه يحلف بدون ثبوت خلطة، وأما المجهول حَاله ففيه قولان ذكرهما المص في باب الغصب.
والضيف قال عبد الباقي، أي الغريب ضاف أم لا، يحتمل مدع أو مدعى عليه فيحلف المدعى عليه بدون ثبوت خلطة. وقال التتائي: الضيف يدعى عليه. قاله بعض الأشياخ. وقال بناني: في قول عبد الباقي: مدع أو مدعى عليه، الصواب قصره على المدعي كما تقدم في كلام ابن مرزوق، وهو المنصوص عند ابن رشد وغيره، وكلام ابن مرزوق الذي أشار إليه هو قوله عند قول المصنف: والضيف: لم أر من ذكر هذا الفرع على الوجه الذي يظهر من المص، وإنما تكلموا على الغريب إذا أودع وديعة عند رجل من أهل البلد فأنكره فتتوجه له اليمين عليه. انتهى. وقال الحطاب: ومن المواضع التي لا تحتاج إلى إثبات الخلطة لو لقي رجل رجلا فادعى عليه بقية كرائه حلف المدعى عليه أنه ما اكترى منه شيئا، وكذلك إن كان المدعى عليه هو صاحب الدابة حلف إن كان منكرا انتهى وقال الشبراخيتي: والضيف المراد به الغريب ضاف أم لا، أي أن الغريب إذا نزل بمدينة وادعى على رجل منها أنه استودعه مالا، كما قال ابن غازي تبعا للمواق: فالضيف مدع كما هو المنقول، ويتبادر من لفظ المص غير هذا، وهو أنه إن ادعى على
ضيف أنه أسلفه أو اختلس له شيئا، لكنه خلاف المنقول، وأيضا قوله: والمتهم، يغني عنه لأنه أعم من الضيف، وذكر الحطاب أن دعوى الكراء تتوجه فيها اليمين من غير خلطة. انتهى.
وفي معين، يعني أنه إذا ادعى في شيء معين كثوب بيد إنسان يدعيه غيره فإن المدعى عليه تتوجه عليه اليمين من دون ثبوت خلطة، والمراد بالمعين الذي لم تهلك ذاته لا الحاضر الشاهد، وفي معين يتعلق بالدعوى، وفي المواق: ونقل ابن يونس عن ابن مناس وغيره: إنما تراعى الخلطة فيما يتعلق بالذمم من الحقوق والأشياء المستهلكة: فأما الأشياء المعينة يقع التداعي فيها فاليمين في ذلك واجبة من غير خلطة، وعلى هذا جرت مسائل المدونة أنه لم يراع في الأشياء المعينة خلطة، من ذلك إذا أنكر المشتري الشراء وادعاه البائع تحالفا، وإذا ادعى السارق شراء السرقة حلف له ربه، وإذا ادعى شراء الأمة التي شهد عليه بوطئها حلف ربها، ولم يشترط في ذلك خلطة، وقال بعض شيوخنا: لا تجب اليمين إلا بالخلطة في الأشياء المعينة وغيرها إلا في مثل أن يعرض الرجل سلعته في السوق للبيع فيأتي رجل فيقول: قد بعتها مني، فمثل هذا تجب له اليمين بلا خلطة، لأنه عرضها لما ادعي عليه فصار ذلك تهمة توجب عليه اليمين. انتهى المراد منه. وقوله: وفي معين، هذا فيما يُدَّعَى فيه معرفة ذلك وإلا فلا يمين على المدعى عليه. قال الإمام الحطاب: قال ابن فرحون في تبصرته: فصل في تصحيح الدعوى، والمدعى به أنواع، فإن كانت الدعوى في شيء من الأعيان وهو بيد المدعى عليه فتصحيح الدعوى أن يبين ما يدعي، ويذكر أنه في يد المطلوب بطريق الغصب، أو العداء، أو الوديعة، أو العارية، أو الرهن، أو الإجارة، أو المساقاة، أو غير ذلك. انتهى. وقوله: أو غير ذلك، يدخل فيه أن يقول: ضاع مني، أو سرق مني، ولا أدري بما وصل إلى هذا الذي هو في يديه، وهذا مستفاد من نصوص أهل المذهب قال اللخمي في كتاب الشهادات: وإن ادعى عبدا بيد رجل، وقال: أبق مني، فإن كانا من بلد واحد كلف أن يأتي بلطخ أنه ملكه لأن ملك ذلك لا يخفى على جيرانه وأهل سوقه، وإن كان أحدهما طارئا لم يحلف أحدهما للآخر، لأنه إن ادعى الطارئ على المقيم، قال المدعى عليه: أنت لا تدعي عليّ معرفة ذلك لأني لست من بلدك ويجوز أن يكون صادقا في ذلك، وكذلك إذا ادعى المقيم عبدا أتى به الطارئ لم يحلف لأنه لا كلام عنده هل هو ملكه أم لا؟ فإن
أقام شاهدا أنه عبده حلف معه، وإن نكل لم ترد اليمين لأن الآخر لا كلام عنده، فلا يحلف على تكذيب الشاهد. انتهى. وانظر بقية كلامه وكلام المدونة وشروحها، وانظر ابن فرحون في فصل توقيف الشيء المدعى فيه، فإن كلامه أصرح من هذا. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب. وكلام التبصرة الذي أشار إليه هو قولها: قال ملك وابن القاسم وأصحاب ملك
(1)
والتنبيه لابن أصبغ: ومن اعترف عبدا أو دابة أو غيرهما من الحيوان بيد رجل وأراد توقيفه للطخة أو ليأتي على ذلك ببينة نظر، فإن كان في ذلك بعد فليس له ذلك، وإن كان ما ادعى من البينة بموضعه ذلك وَكَّل القاضي بالعبد ووقفه فيما قرب من يوم ونحوه، فإن لم يأت بمن يشهد له فلا شيء له، ثم لا يكون له يمين على المدعى عليه في إنكاره دعواه لأنه يقول: لا علم عندي بما تقول، فإن ظن به علم ذلك حلف، وأما إن أتى القائم بشهادة شاهد عدل أنه عبده حلف معه واستحق، فإن نكل لم ترد اليمين على المدعى عليه لأنه يقول: لا علم عندي، فإن ظن به علم ذلك حلف. انتهى المراد منه. والله سبحانه أعلم.
والوديعة على أهلها، يعني أنه إذا ادعى شخص على آخر أنه أودعه وديعة والمدعى عليه يودع عنده مثلها فإن المدعى عليه يحلف من غير ثبوت خلطة. قال الشبراخيتي: قال في توضيحه: وقيد ذلك اللخمي بثلاثة قيود أن يكون المدعي يملك مثل ذلك في جنسه وقدره وكون الودع ممن يودع عنده مثل ذلك وحصول أمر يوجب الإيداع، وكلامه هنا يشمل هذه القيود، وزاد في التوضيح عن أصبغ كون المودِع غريبا ولم يذكره هنا. انتهى. وقال بناني: ذكر ابن عاشر أن هذا مشكل لأن الوديعة لا يحلف فيها إلا المتهم وأهل الوديعة ليسوا بمتهمين. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: انظر هذا الكلام فإن الذي يظهر أنه غير صحيح، ومن أين له أنه لا يحلف من أنكر أنه أودِعَ عنده وديعةٌ إلا أن يكون متهما، ولا حجة له في قول المصنف: وحلف المتهم لأن ذلك فيمن ثبت أنه أودع. والله سبحانه أعلم.
(1)
في تبصرة ابن فرحون ج 1 ص 154
…
وكذلك قال ملك وابن القاسم وأصحاب مالك. وفي التنبيه لابن الأصبغ.
والمسافر على رفقته، يعني أن المسافر إذا ادعى على رفقته أو بعضهم أنه أودعه أو أودعهم أو دفع لهم مالا أو أنهم أتلفوا له أو بعضهم مالا في السفر فإن المدعى عليه يحلف بدون ثبوت خلطة لأنه قد يعرض له ما يوجب الإيداع، وقوله: المسافر، قال عبد الباقي: أي المريض كما في نص أصبغ، وقال الشبراخيتي: والمسافر أي بشرط كونه مريضا كما يفيده كلام المواق. ودعوى مريض: يعني أن المريض إذا ادعى على شخص بدين فإنه تتوجه اليمين على المدعى عليه من غير ثبوت خلطة، قال عبد الباقي: وإلا دعوى مريض في مرض مخوف على آخر بدين فيحلف بدونها، والفرق أن هذا مخوف ومرض المسافر وإن لم يكن مخوفا، ومثل المريض ورثته، وصرح بدعوى ليلا يتوهم أن المريض مدعى عليه. انتهى. وقال الخرشي: ودعوى مريض في مرض موته، وقال الشبراخيتي: ودعوى مريض مرضا مخوفا أن له على غيره كذا ومثله ورثة الميت. وقال المواق: والرجل يقول عند موته: إن لي عند فلان دينا يحلف المدعى عليه بدون ثبوت خلطة. أو بائع على حاضر المزايدة، يعني أن البائع إذا كان يبيع سلعة بيع مزايدة فادعى على من حضر المزايدة أنه اشتراها بكذا وأنكر الرجل الشراء فإن المدعى عليه يحلف أنه لم يشترها، وكذا لو ادعى الرجل على البائع أنه ابتاعها منه بكذا وأنكر البائع البيع فإن البائع يحلف، وبيع المزايدة هو تعريض السلعة في السوق لمن يزيد، قال بناني: المفهوم من كلام المص أنه في غير المزايدة لا يمين على المنكر إلا بعد ثبوت الخلطة، والحاصل أن القول للمنكر مطلقا مع يمينه، لكن في المزايدة لا تتوقف اليمين على الخلطة وفي غيرها تتوقف عليها، هذا معنى كلام المص، وكلام عبد الباقي غير صحيح. انتهى. فإن أقر فله الإشهاد عليه، يعني أن القاضي يأمر المدعى عليه بجواب المدعي كما مر، فإن أجابه بالإقرار بالحق فللمدعي أن يشهد على ما أقر به المدعى عليه خيفة أن ينكر إقراره.
وللحاكم تنبيهه عليه، أي فإن لم يتنبه المدعي للإشهاد على إقرار المدعى عليه فإن للحاكم أن ينبه المدعي على الإشهاد، وليس من تلقين الخصم الحجة، بل لما فيه من تقليل الخصام وقطع النزاع وتحصيل الحق، وقوله: وللحاكم تنبيهه عليه، قال الخرشي: حيث غفل الشهود الحاضرون أيضا عن الشهادة على الإقرار، قال عبد الباقي: وظاهر المص أن الحاكم مخير في
ذلك، ومقتضى النوادر طلبه به، قال أصبغ: إذا أقر أحدهما بما فيه للآخر نفع فلا بأس أن ينبهه القاضي بقوله: هذا لك فيه نفع، هات قرطاسك أكتب لك فيه، ولا ينبغي له ترك ذلك، وعلم من هذا أن تلقين القاضي للخصم إنما يمتنع في الفجور كما مر عن ابن عاصم حيث قال: وخصم إن يعجز، البيت. وعبارة ميارة: فإن للقاضي أن يلقنه، قال أبو علي: هذا ظاهر كلام غير واحد، ويحتمل أن يكون هذا ونحوه واجبا، وقال سحنون: لا ينبغي أن يشد عضد أحدهما ولا يلقنه حجة، وقال الحطاب: قوله: وللحاكم تنبيهه عليه، نحو عبارة ابن الحاجب، قال في التوضيح: ظاهر عبارته التخيير، وفي النوادر عن ابن عبد الحكم وإذا أقر المطلوب بشيء أمره أن يشهد عليه ليلا ينكر. انتهى. وفي التبصرة: من الأمور التي تنبغي للحكام مع الخصوم أنه لا بأس أن يلقن أحدهما حجة عجز عنها، وإنما كره أن يلقنه حجة الفجور.
وإن أنكر قال ألك بينة؟ هذا قسيم قوله: فإن أقر لخ، يعني أنه إذا أجاب المدعى عليه بالإنكار فإن القاضي يقول للمدعي ألك بينة؟ فإن قال: نعم، أمره بإحضارها وسمعها، ويعذر للمدعَى عليه فيها، كما يأتي إن شاء الله في قوله: وأعذر بأَبَقِيَتْ لخ، فإن لم يأت بمدفع حكم عليه، وإن ادعى مدفعا أمهله لإتيانه به، فإن لم يأت به قضى عليه. قاله التتائي. وقال الحطاب: وإن أنكر قال: ألك بينة؟ ظاهر هذا أن القاضي لا يسمع من بينة المدعي حتى يسأل المدعى عليه، ولا شك أن هذا هو الأكمل، فإن سمع البينة قبل ذلك لم يكن خطأ. قال في المتيطية: واستحسن أهل العلم ألَّا يسمع القاضي من البينة إلا بعد ثبوت المقالة، وعلى ذلك بنيت الأحكام، ومن حجتهم في ذلك أنه قد يمكن أن يقر المدعى عليه بدعوى المدعي فيستغني عن الإثبات، ولكنه إن سمع البينة قبل انعقاد المقالة لم يكن من الخطإ الذي يوجب نقض الحكم. انتهى. وفيه: لا بأس للقاضي أن يسمع البينة قبل الخصومة على مذهب ابن القاسم خلافا لعبد الملك، قال في المدونة: وإن أقام رجل البينة أن المفقود وَصَّى له بشيء أو أسند إليه الوصية سمعت بينته، فإذا قضي بموته بحقيقة أو بتعمير جعلتُ الموصي وصيا وأعطيت الموصى
(1)
وصيته إن كان حيا وحملها
(1)
في التهذيب الموصى له وصيته ج 2 ص 433.
الثلث، ولا أعيد البينة، وكذلك إن
(1)
قامت امرأة أنه زَوْجُها قضيت لها كقضيتي على الغائب، وقال ابن الماجشون: العمل عندنا أن يسمع القاضي من بينة الخصم ويوقع شهادتهم حضر الخصم أو لم يحضر، فإذا حضر الخصم قرأ عليه الشهادة وفيها أسماء الشهود وأنسابهم ومساكنهم، فإن كان عنده في شهادتهم مدفع أو في عدالتهم مجرح كلفه إثباته وإلا لزمه القضاء، وإن سأله أن يعيد عليه البينة حتى يشهدوا بمحضرهم فليس له ذلك، وقال بعض العراقيين: لا يكون إيقاع الشهود إلا بمحضر الخصم المشهود عليه، قال ابن حبيب: وقال لي مطرف وأصبغ: مثله، وقال فضل وسحنون: مثله، إلا أن يكون الخصم غائبا غيبة بعيدة. انتهى. وقال الخرشي: وللقاضي أن يسمع البينة قبل الخصومة على مذهب ابن القاسم خلافا لعبد الملك، فإذا حضر الخصم قرأ عليه الشهادة وفيها أسماء الشهود وأنسابهم ومساكنهم، فإن كان عنده في شهادتهم مدفع أو في عدالتهم مجرح كلفه إثباته وإلا لزمه القضاء، وإن سأله أن يعيد عليه البينة حتى يشهدوا بمحضره فليس له ذلك. انتهى. وقوله: قال: ألك بينة؟ لقوله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)
(2)
، حديث صحيح. وفي رد أبي علي له تبعا لابن سهل قائلا إنما الحديث (شاهداك أو يمينه)
(3)
نظر واضح، فلا تغتر بكلامهما. انظر الرهوني.
فإن نفاها، أي فإن نفى المدعي البينة بأن قال: لا بينة لي واستحلفه، أي طلب المدعي حَلِفَ المدعى عليه وَحَلَّفَه. فلا بينة للمدعي بعد ذلك تقبل، بل تتنزل منزلة العدم، هذا هو الأشهر، وروى ابن نافع عن ملك تسمع وله القيام بها، وقد قاله أشهب، وأفهم كلامه أن القاضي لا يحلف المدعى عليه إلا بطلب المدعي لليمين. المازري: الأصل أن القاضي لا يستحلفه إلا بإذن المدعي إلا أن تدل قرينة الحال أنه أراد من القاضي ذلك، وذكر عن بعض القضاة أنه حلف رجلا في ثلاثين دينارا، فقال الطالب: لم آذن في هذه اليمين، ولم أرض بها، فلا بد أن تعاد، فدفع
(1)
في التهذيب ج 2 ص 433 إن أقامت امرأة بينة أنه زوجها.
(2)
البيهقي، ج 10 ص 252 وأصله في الصحيح.
(3)
البخاري، كتاب العتق، رقم الحديث 2515 و 2516.
القاضي ذلك من ماله كراهية أن يعيد يمينا قضى عليه بها. قاله التتائي. وقال عبد الباقي: أشعر إتيانه بالسين أنه لو حلفه القاضي بغير طلب خصمه لم تفده يمينه، ولخصمه أن يعيدها عليه ثانيا، ونحوه لابن غازي، وفي المواق عن المتيطي: أنه إذا نفاها وطلب المطلوب تعجيزه وحَلِفَه له ليرفع عنه الطلب كان له ذلك على مذهب ابن القاسم. انتهى. وقال الشبراخيتي: واستحلفه أي المدعي أي طلب يمينه لأنه حقه وحلفه القاضي فلا بد من وجود الأمرين، فإن انتفى أحدهما فله إقامة البينة بدون الشرط الآتي، وإنما عبَّر المص بذلك ليبين أن القاضي لا يحلفه من تلقاء نفسه بل حتى يطلبه المدعي، والظاهر أن استحلف بمعنى فعل المضاعف. انتهى. وقال الحطاب: قوله: واستحلفه يشير إلى أن القاضي لا يستحلف الخصم حتى يطلب ذلك خصمه. قال ابن فرحون في سيرته مع الخصوم: إن القاضي لا يستحلف المدعى عليه إذا أنكر إلا بإذن المدعي إلا أن يكون شاهد ما يدل على أنه أراد ذلك من القاضي، وإذا استحلفه فلا بد من حضور المحلوف له أو وكيله، فإن تغيب وثبت تغيبه عند القاضي أقام القاضي من يقتضيها. انتهى.
تنبيه: أنكر الرهوني قول غير واحد: إن المراد حلفه بالفعل، فقال: يسقط حق المدعي بمجرد طلب الحلف، واستدل على ذلك بما نص عليه غير واحد من أن المدعي إذا قال للمدعى عليه: احلف وأنت بَرِئٌ، فإنه يبرئ المطلوب ولو رجع المدعي عن ذلك، وفيه عنهم بحث، لأنه علق الإبراء على الحلف فليس له الرجوع بعد ذلك. والله تعالى أعلم. وقال البرزلي: من وجبت له يمين على رجل فتغيب عن قبضها فالقاضي يوكل من يتقاضى عنه اليمين إذا ثبت مغيب من وجبت له اليمين. انتهى. وقال البرزلي: وإذا حلف الخصم دون حضور خصمه لم تجزه اليمين، وكذلك إذا بادر باليمين دون حضور خصمه قبل أن يسأله ذلك، فإن لم يرض بها لم تجزه،
(1)
وعكس هذا أن يطلب الطالب اليمين من المطلوب بغير محضر الحاكم وأمره فيحلف له فإن ذلك يكفيه.
(1)
ط. أي إذا لم يتغيب والله أعلم.
مسألة: وإذا وجبت يمين على رجل فأراد الطالب تأخيرها وأراد المطلوب تعجيلها أو بالعكس، فتعجيلها واجب لمن طلب ذلك منهما ولا توخر.
فرع: فإذا كانت الدعوى على امرأة وطلب الخصم أن تحلف بمحضره، فقال البرزلي في كتاب الشهادات: عبد الوهاب: إذا كانت المرأة من أهل الشرف والقدر جاز للحاكم أن يبعث إليها من يحلفها لأنها صيانة، ولا مقال للخصم لأن من له إحلافها ليس له ابتذالها. انتهى. قال البرزلي: يؤخذ من هذه أن الطالب لليمين لا يحضر معها، وبعث القاضي يكفي، ونزلت وحكم بأنه يقف بحيث يسمع يمينها ولا يرى شخصها لأنه قابض لليمين. نقله الحطاب.
إلا لعذر، يعني أنه إذا نفى البينة واستحلف المدعى عليه فإنه لا تسمع بينته إلا لعذر في عدم قيامه بها، ومثَّل للعذر بقوله: كنسيان لها، وأدخلت الكاف ما يشبه النسيان كعدم تقدم علم بها ثم تذكرها، أو أعلم بها، أو ظن موت الشهود، أو أنهم لا يشهدون، وبعد الغيبة بيمين في الجميع، وقال عبد الباقي: قال الحطاب فإن شرط المدعى عليه على المدعي عدم قيامه ببينة يدعي نسيانها وما أشبهها عمل بشرطه، وقوله: إلا لعذر كنسيان، قال الرماصي: أي فله القيام بالبينة لا بالشاهد الواحد. ابن عرفة: لو وجد شاهدًا واحدًا، فقال الأخوان وابن عبد الحكم وأصبغ لا يحلف معه ولا يقضى إلا بشاهدين. انتهى. وقال ابن ناجي عند قول المدونة: ثم وجد الطالب بينة، ظاهره وإن كانت واحدا ويحلف معه، وهو كذلك عند ابن القاسم وغيره. الرهوني: ما رجحه الرماصي هو الراجح، وبه جزم أبو علي، وكلام المازري يفيد أنه الراجح لأنه صدر به، وعزاه لجماعة من أصحاب الإمام، ورجحه أيضا صاحب المعين مقتصرا عليه كأنه المذهب، وحكى المازري القول الآخر بقيل، وليس ظاهر المدونة لأن البينة إنما تصرف للشاهدين ونحوهما إذا أطلقت. والله تعالى أعلم.
أو وجد ثانيا، قال الشيخ الخرشي: هو في حيز الاستثناء فيفيد أن وجود الشاهد الثاني بعد ما استحلفه وحلف، ومن قوله: وجد ثانيا، يستفاد أن الحلف لرد شهادة الأول، وحينئذ فصورة المسألة أنه أقام شاهدا عند من لا يرى الشاهد واليمين مطلقا أو في دعوى لا تثبت إلا بعدلين وحلف المدعى عليه لرد شهادة الشاهد، ثم وجد ثانيا آخر فله أن يقيمه ويضمه للأول ويعمل
بشهادتهما، وظاهره ولو حكم الحاكم برد شهادة الأول لانفراده. انتهى. وقال عبد الباقي: وذكر ما هو في حيز الاستثناء بقوله: أو أقام شاهدا عند من لا يرى الشاهد واليمين مطلقا، أو في دعوى لا تثبت إلا بعدلين، وحلف المدعى عليه لرد شهادة الشاهد، ثم وجد المدعي شاهدا ثانيا كان نسيه وحلف على ذلك وكان بعيد الغيبة كما في البينة، فله أن يقيمه ويضمه للأول ويعمل بشهادتهما، وظاهره ولو حكم الحاكم برد شهادة الأول لانفراده، وفي كلام التتائي نظر، وإنما لم يكن استحلاف الحاكم مبطلا للشهادة لأنه لم يحكم بإبطاله، وإنما أعرض عنه ولم يعمل به كما في أحمد. انتهى. وسيأتي الكلام عند قوله: وإن حلف المطلوب ثم أتى بآخر لخ، على ما بين المسألتين، وقال بناني: تقرير الزرقاني هنا صواب، وأصله للشارح، وبه قرر الشيخ أحمد ومصطفى وغيرهما، وهو إشارة إلى قول المدونة وذكر كلامها، ثم قال: قال في التنبيهات: قيل: ظاهر الكتاب أنه يقضي له القاضي الأول وغيره، وفي كتاب محمد: إنما هذا للقاضي نفسه ولا يسمع منه غيره، ولسحنون خلاف هذا كله لا يسمع منه هو ولا غيره. انتهى. وقال الشبراخيتي: أو وجد المدعي ثانيا معطوف على كنسيان، فهو في حيز الاستثناء، ثم ذكر ما مر من التقرير.
أو مع يمين لم يره الأول، قال عبد الباقي وغيره: وعطف على نسيان محذوفا مع حذف ثلاثة بعده، أي إلا لعذر كنسيان وكعدم قبول شهادة شاهد مع يمين لم يره الأول، وصورة المسألة على هذا أن من أقام شاهدا فيما يقضى فيه بالشاهد واليمين عند من لا يرى ذلك فلم يقبله، واستحلف المطلوب أي طلب يمينه وحلف، ثم أراد أن يقيم ذلك الشاهد عند الحاكم الذي لم يقبله، حيث تغير اجتهاده، أو عزل، أو مات، فأقامه عند غيره ممن يرى الشاهد واليمين ويحلف معه، فإن له ذلك، فليس في هذه ضم شاهد لآخر، بخلاف ما قبلها.
قال مقيده عفا الله تعالى عنه: يفرق بين هذا وقوله: ورفع الخلاف لا أحل حراما، بأنه هنا ذو عذر كما قال المص. والله تعالى أعلم.
وله يمينه أنه لم يحلفه أولا، يعني أنه إذا ادعيَ على شخص بحق فقال المدعى عليه للمدعي: أنت حلفتني على ذلك قبل وكذبه المدعي فللمدعى عليه تحليف المدعي أنه ما حلفه قبل، فإن حلف فله أن يحلف المدعى عليه، وللمدعي أن يرد اليمين على المدعى عليه أنه قد استحلفه على هذه الدعوى، ثم لا يحلف مرة أخرى. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وله أي للمدعى عليه يمينه أي تحليف المدعي أنه لم يحلفه أولا أي قبل ذلك في هذا الحق المدعى به الآن، فإن نكل حلف المدعى عليه أنه قد حلفه وسقط الحق، وإن نكل لزمته اليمين المتوجهة أولا وله ردها على المدعي. انتهى. وإنما قال: أولا، لاعتبار طلبها ثانيا، وقوله: وله يمينه أنه لم يحلفه أولا فإن حلف المدعي كان الأمر على حاله من توجه اليمين الأولى على المدعى عليه. والله سبحانه أعلم. وقوله: وله يمينه، قال المازري: وبه القضاء والفتيا عندنا. انتهى. ومقابله عدم الحلف، وما عليه المصنف هو الراجح كما في الرهوني وغيره، قال الإمام المازري: وكذا للمدعى عليه تحليف المدعي إذا قال له: أنا أعلم بعلمك بفسق شهودك، فيحلف المدعي أنه ما علم بفسق شهوده. قال المواق: قال المازري: وكذلك اختلفوا في المدعي إذا طلب يمين المدعى عليه، فقال: قد كنت استحلفتني، فاحلف لي على ذلك، فمن ذهب إلى أنه يجب أن يحلف له أوجب أن يحلف من أقام شهودا عدولا أنه لم يعلم بفسقهم ولا اطلع عليه إذا قال له المشهود عليه: أنا أعلم بعلمك بفسق شهودك. انتهى. وإلى تشبيه المازري هذه المسألة بما قبلها أشار المص بقوله: قال الإمام المازري: وكذا يُحلف المدعَى عليه المدعي في دعواه عليه أنه، أي المدعي عالم بفسق شهوده الذين أقامهم، فيحلف أنه غير عالم بفسقهم، وعلم مما قررت أن كلام المص في تصوير الدعوى لا في كيفية اليمين، فإن حلف المدعي بقي الأمر بحاله، وإن نكل ردت اليمين على المدعى عليه، فإن حلف سقط الحق. قال عبد الباقي: فإن أقام الشهود عليه على فسق شهود المدعي شاهدا فينبغي أن يحلف معه وتبطل شهادتهم عليه. ذكره أحمد. انتهى. ورد هذا بناني بما يعلم بالوقوف عليه. والله سبحانه أعلم. وقال الحطاب: انظر إذا ادعى المشهود عليه أن بينه وبين الشهود عداوة وادعى أن خصمه يعلم بذلك، فهل له أن يحلفه على ذلك أم لا؟ لم أر الآن فيها نصا، وقد سئلت عنها مرارا؟ فأجبت بما في صورته: الظاهر أن اليمين تلزمه قياسا على
هذه المسألة. فتأمله. والله أعلم. انتهى. وانظر قياس هذا الإمام، فقد قال الشيخ أبو علي: إن كلام خليل في هاتين المسألتين غير مسلم، فإن الظاهر في ذلك عدم اليمين في الصورتين وهو الحق إن شاء الله تعالى، وقد بينا ذلك في شرحنا للمسألتين غاية البيان بكلام الفحول من الأئمة الأعلام. انتهى. وقد مر أن ما قاله المص في قوله: وله يمينه، هو الراجح، وإلى ما تقدم من قوله: وأمر مدع، أشار الزقاق بقوله:
ألا أيها القاضي لِتأْمُرْ من ادعى
…
بدعواه عن عرف وأصل تحولا
يعني أن القاضي يأمر المدعي بأن يبتدئ بذكر دعواه، والمدعي هو من تحولت أي من تجردت دعواه عن أصل وعرف، فقوله: بدعواه، أي بذكر دعواه، فهو على حذف مضاف متعلق بتأمر، ويحتمل أن تكون باء بدعواه سببية تتعلق بتحول، وكذا عن عرف، وجملة تحول في محل الحال من فاعل ادعى، أي حال كون من ادعى تحول عن العرف والأصل أي خالفهما ولم يوافقاه ولا واحد منهما بسبب دعواه على هذا، فمفعول تأمر محذوف، أي بالكلام، وقد مر الكلام على العرف والأصل، ومن أمثلة العرف: ما إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين، فقال الراهن: الدين عشرة، والمرتهن: عشرون. فمن وافقت دعواه قيمة الرهن منهما فهو مدعى عليه، والآخر مدع، فيحلف المدعى عليه إن لم يُقم المدعي بينة. ثم قال الزقاق:
فإن صحت الدعوى بكون الذي ادعى
…
معينا او حقا عليه أو انجلى
يؤول لذا أو ذا وكان محققا
…
ومعتبرا شرعا وعلما به صلا
وذا غرض إن صح مع نفي عادة
…
مكذبة فأمُرْ مجيبا وأبطلا
إذا اختل شرط ذا المجيب من ادعى
…
عليه يرى بالعرف أو ما تأصَّلا
قوله: فإن صحت الدعوى لخ، يعني أن ضابط الدعوى الصحيحة أنها ادعاء معين، أو ما في ذمة معين، أو ادعاء ما يترتب عليه أحدهما، فالأول: كدعوى السلعة المعينة؛ والثاني: كالديون، والمعين الذي يدعى في ذمته قد يكون معينا بالشخص كزيد، أو بالصفة كدعوى الدية على العاقلة، أو القتل على جماعة، أو أنهم أتلفوا له متمولا؛ والثالث: كدعوى المرأة الطلاق أو الردة على زوجها، فيترتب على ذلك حوزها لنفسها وهي معينة. فالثالث: هو ادعاء ما يؤول إلى المعين، والرابع: وهو ادعاء ما يترتب عليه ما في ذمة المعين كمن طللقت وادعت المسيس وأنكره الزوج، وبدعوى المقتول أن فلانا قتله خطئا، فالدعوى في المثالين يترتب عليها ما في ذمة المعين، إما معينا بالشخص كالمثال الأول، وإما بالصفة كالمثال الثاني، فالمعين في القسم الأول والثالث هو الشيء المتنازع فيه، وفي القسم الثاني والرابع هو المدعى عليه، فقوله: أو انجلى يؤُول لذا، أي ظهر أنه يَؤُول إلى ادعاء معين، وقوله: وذا أي ظهر أنه يؤول إلى ادعاء ما في ذمة المعين، فقوله: أو حقا عليه، أي المعين، وقوله: فإن صحت الدعوى لخ، أي فإن كانت الدعوى صحيحة فلا بد أن يكون الذي ادعاه معينا، أو في ذمة معين، أو يظهرَ أنه يؤُول إلى معين، أو في ذمة معين، فقوله: يؤول جملة حالية، وصاحب الحال ضمير في انجلى عائد على الموصول، وقوله: معينا، خبر لكون، وقوله: أو حقا عليه عطف على معينا، وقوله: وكان محققا، أي لابد أن يكون الذي ادعاه محققا، احترازا مما لو قال: أظن أو أشك أن لي عليه كذا. وقوله: وكان محققا، جملة حالية. والله تعالى أعلم. وقوله: ومعتبرا، معطوف على محققا، وقوله: شرعا، منصوب بنزع الخافض، أي معتبرا في الشرع، احترازا من دعوى القمحة والشعيرة لأن هذه الدعوى لا يترتب عليها نفع شَرْعِي، وقوله: وعلما به صلا، أي صل بما ذكر العلم به أي بالشيء الذي ادعاه، أي لا بد أن يكون الذي ادعاه معلوما، احترازا مِن لي عليه شيء، فقوله: علما، مفعول صل، والألف في صلا بدل من نون التوكيد الخفيفة. والله سبحانه أعلم. وقوله: وذا غرض، هو عطف على محققا، أي ولابد أن يكون الذي ادعاه يتعلق به غرض صحيح، احترزا من دعوى أجرة على محرم، وهذا يغني عن معتبر شرعا، وقوله: مع نفي عادة مكذبة، احترازا من مسألة الحيازة المشار إليها بقول المص في الشهادات: وإن حاز أجنبي غير شريك وتصرف لخ، وقوله:
بأمر مجيبا، أي إذا استكملت الشروط المذكورة فقد صحت الدعوى، فأمر الخصم الآخر أن يجيب الخصم الذي ابتدأه بالكلام وهو المدعي، فقوله: فأمر، جواب فإن صحت الدعوى، وقوله: وأبطلا إذا اختل شرط، أي إذا اختل شرط واحد من هذه الشروط المذكورة فأبطل الدعوى ولا تأمر الخصم الآخر بالجواب، وأحرى لو بطل أكثر من واحد، وهذا هو مفهوم قوله: فإن صحت الدعوى فأمر مجيبا، وقوله: ذا المجيب، مبتدأ وصفة، وخبره مَن، وجملة يرى حال مِن من الواقعة على المدعى عليه، وباء بالعرف للمصاحبة تتعلق بيرى، ونائب يرى ضمير يعود على من، والمراد يرى قوله مصاحبا للعرف أو للأصل، فأحدهما كاف، وما تأصل عطف على بالعرف، وما مصدرية. والله سبحانه أعلم. ثم قال الزقاق:
وذا بعد الاستعداء من مدع وقيـ .... ـــــــــل إدلاؤه كافٍ ومقصوده جلا
أي أمرُ القاضي للمدعى عليه بالجواب إنما هو بعد الاستعداء من المدعي، أي بعد طلب المدعي للقاضي أن يأمر المدعى عليه بالجواب، وقيل: لا يحتاج إلى ذلك بل يأمره بالجواب من غير طلب المدعي له بذلك، لأن إدلاءه أي ذكره لدعواه وظهور مقصوده كاف في طلب الجواب، والقول بأن يأمر من غير استعداء المدعي هو ظاهر مذاهب العلماء. قاله المازري. ثم قال الزقاق:
ببعت ونحوٍ يُكتفَى ممَّن ادعى
…
وإلا فسل عن موجِبٍ جارٍ انجلى
يعني أن المدعي لا بد له من ذكر الموجب أي السبب الذي ترتب منه الحق الذي يدعيه، ويكتفى من المدعي بقوله ترتب لي عليه كذا من بيع أو قرض أو نكاح، ولا يكلف بأكثر من ذلك بأن يذكر ما يقتضي صحة المعاملة، وإلا أي وإن لم يذكر المدعي السبب فاسأله أيها القاضي عن الموجب الذي جرى بينهما وانجلى. ثم قال الزقاق:
فإن بان إقرار المجيب فنفذن
…
وإن يبتغ الإشهاد ذو الحق فاقبلا
يعني أنه إذا وقعت الدعوى الصحيحة بشروطها واستفرغ القاضي كلام المدعي وفهمه حتى لم يبق عنده فيه إشكال ولا احتمال، يأمر المدعى عليه بالجواب، وهو إما إقرار أو إنكار، فإن أجاب بالإقرار فإن القاضي ينفذ عليه الحكم، وهذا هو معنى قول الفقهاء: أقر الخصم فارتفع النزاع، ومعنى قوله: إن يبتغ الإشهاد لخ، أنه إذا أقر المدعى عليه بالحق وأراد ذو الحق أي المدعي الإشهاد على إقراره خوف الإنكار، فاقبلْ ذلك منه أيها القاضي، أي أجبه إليه.
وأعذر، يعني أن القاضي يجب عليه أن يعذر إلى من توجه عليه الحكم من الخصمين، قال المواق عن المتيطي: والإعذار المبالغة في العذر، يقال: أعذر الرجل أي أتى بعذر صحيح، ومنه المثل: من أنذر فقد أعذر. أي بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك، ومنه أعذر القاضي إلى من ثبت عليه حق في الشهود. وقال الشبراخيتي: الهمزة للسلب مثل شكى لي زيد فأشكيته أي أزلت شكواه أي قطع عذره أي لم يبق له عذرا أي قطعت حجته، وليس المراد أثبت عذره. انتهى. وبين المص الإعذار مدخلا عليه باء التصوير بقوله:
بأبقيت لك حجة، والإعذار للمدعى عليه في البينة الشاهدة عليه، وللمدعي في مجرح بينته، فيقول له: ألك حجة تطعن في المجرح لشهودك أو بينة غير هذه؟ ويقول للمدعى عليه: ألك بينة تجرح بها شهود المدعي؟ ويأتي في الشهادات ما يجرح الشهود وقال ابن عرفة: الإعذار سؤال الحاكم من تَوَجَّه عليه موجب الحكم هل له ما يسقطه؟ انتهى. ولو قال: سؤال الحاكم من توجه عليه الحكم عن موجبه هل له ما يسقطه؟ لكان أحسن. قاله الشبراخيتي. وقوله: وأعذر مستأنف، هذا هو المتعين كما يفهم مما قررت. والله سبحانه أعلم. قال الحطاب: واختلف في وقت الإعذار إلى المحكوم عليه، فقيل: قبل الحكم وبه جرى العمل، وقيل: بعد الحكم ذكره في مفيد الحكام، ونقله ابن فرحون في تبصرته. وفي مسائل ابن زرب: ولا تتم قضية القاضي إلا بعد الإعذار. انتهى. وقال عبد الباقي: ثم إن الإعذار مطلقا واجب والحكم بدونه باطل كما قاله أهل المذهب. واعلم أن المشهور أن الإعذار قبل الحكم كما قاله ابن عبد السلام، وفي التحفة أنه المختار. واعلم أنه إن ثبت وقوع الحكم بدون إعذار نقض الحكم، وإن ادّعَي المحكوم عليه عدم الإعذار فإنه لا يتعقب الحكم. قاله الأخوان. وقال غيرهما: يستأنف الإعذار، فإن أبدى مَطْعَنا
نقض وإلا فلا، قال عبد الباقي: ومحل وجوب الإعذار إن ظن القاضي جهل من يريد الحكم عليه بأن له المطعن أو ضعفه عنه وإلا لم يجب، بل يحكم إن لم يطلب الخصم القدح، فإن قال: لا أعرفهم ثم قام بعد ذلك يجرحهم بعداوة لم يقبل وبغيرها قبل. وأشعر قوله: أبقيت لك حجة، أنه لا إعذار لغير معين كمقيم بينة على وقف على فقراء أنه لم يحز عن واقفه حتى حصل مانع، أو أنه شرط النظر لنفسه فيقضى بهما من غير إعذار للفقراء، لكن مع يمين مُقيمهما. انتهى. وإذا شهد الجمع الكثير فهل حكمهم حكم الشهود فيفتقر إلى الإعذار أو يجري مجرى التواتر المحصل للعلم فلا إعذار؟ وإلى هذا مال جماعة من القرويين والأندلسين. قاله الشبراخيتي. واعلم أن ما مر من أن للقاضي سماعَ البينة من غير حضور الخصم لا ينافي الإعذار. والله تعالى أعلم. ولهذا قال:
وندب توجيه متعدد فيه، أي الإعذار المفهوم من أعذر، يعني أنه يستحب للقاضي إذا غاب المحكوم عليه لمرض أو لكونه أنثى وسمع القاضي البينة في غيبته أن لا يحكم عليه حتى يوجه إليه رجلين في الإعذار إليه يقولان له: إن القاضي يعذر إليك ويقول لك: أبقيت لك حجة، فلو لم يتعدد من وجهه إليه بل كان واحدا أجزأ، قال المواق: المتيطي: لا ينفذ القاضي حكمَه على أحد حتى يعذر إليه برجلين، وإذا أعذر بواحد أجزأه على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أنيس إذ قال:(اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجعها)
(1)
. انتهى. وعلم مما قررت أن الندب منصب على التعدد. قال الشبراخيتي مفسرا للمصنف: يعني أن من كان غائبا عن مجلس الحكم من مريض أو محبوس أو غائب أو امرأة مثلا وقلنا بوجوب الإعذار إليه، فإنه يندب أن يكون من يوجهه متعددا.
إلا الشاهد بما في المجلس، هذا مستثنى من قوله: وأعذر بأبقيت لك حجة، يعني أن الشاهد بما في المجلس أي مجلس القاضي من إقرار وغيره لا يعذر فيه القاضي لمشاركته للشهود في العلم،
(1)
- البخاري، كتاب الحدود، رقم الحديث 6827 - 6828.
ولو أعذر فيهم لأعذر في حكم نفسه، بل نص ابن سهل على أن العدلين
(1)
عند القاضي لا إعذار فيهما حتى في غير مجلسه. قاله عبد الباقي. وقوله: بل نص ابن سهل على أن العدلين
(2)
لخ، قال بناني: المراد بالعدلين
(3)
مزكَّى السر بالفتح وهو الآتي عند المص، وفي التتائي: أن الشاهد بما في المجلس لا تشترط عدالته.
وموجَّهَهُ، يعني أن من وجهه القاضي لتحليف أو إعذار، أو لحيازة ما شهد به عنده، أو للنظر في خراب موضع أو عمارته، أو تعديل بينة أو تجريحها، أو عيب، أو للشهادة على امرأة مخدرة، أو مريض لا يخرجان، أو نحو ذلك، فإنه لا إعذار فيه. قال عبد الباقي والشبراخيتي: ومما لا إعذار فيه شهود الإعذار ليلا يتسَلْسَل كما في العاصمية، قال بناني: قول الزرقاني: ومما لا إعذار فيه شهود الإعذار لخ، هذا داخل في كلام المص لأن المعذر إليه إن كان حاضرا عند القاضي فذلك من قبيل الشاهد بما في المجلس، وإن كان غائبا وسمع الدعوى عليه لسجن ونحوه دخل تحت قوله: وموجَّهَه. انظر شرح الشيخ ميارة، وبيت العاصمية هو قولها:
وشاهد الإعذار غير معمل
…
في شأنه الإعذار للتسلسل
يعني أنه إذا شهد شاهد بأن المحكوم عليه قد أعذر إليه فأنكر المحكوم عليه الإعذار فإنه لا يعذر في ذلك الشاهد الذي أثبت أن المحكوم عليه أعذر إليه، لأن ذلك يؤدي إلى أنه لا يحكم عليه أبدا. والله سبحانه أعلم. قال الشبراخيتي: ومما لا إعذار فيه من شهد بوكالة في شيء كما ذكره الحطاب أول باب الوكالة، وكذا من شهد بجرحة القاضي كما في مختصر البرزلي نقلا عن ابن الحاج، وكذا الشهود الذين يحضرون تطليق المرأة وأخذها بشرطها في مسائل الشروط في النكاح. انتهى. وعُلِّل شهودُ جرحة القاضي بأن طلب الإعذار طلب لخطَّة القضاء أو إرادة لها وحرص عليها وذلك جرحة.
(1)
في الأصل العدلين، والذي في عبد الباقي والبناني ج 7 ص 140 المعدلين.
(2)
في الأصل العدلين، والذي في عبد الباقي والبناني ج 7 ص 140 المعدلين.
(3)
في الأصل العدلين، والذى في عبد الباقي والبناني ج 7 ص 140 المعدلين.
ومزكَّى السر، بفتح الكاف، يعني أن من زكاه مزكِّي السر لا إعذار فيه، وفهم منه بالأولى أنه لا إعذار في مزكِّي السر بكسر الكاف لأن عدالة المزكي بالكسر هي بعلم القاضي، وعدالة مزكاه بالفتح هي بعلم المزكي لا بعلم القاضي، فعدالةُ المزكي بالكسر أقوى، فإذا لم يعذر في الأضعف لا يعذر في الأقوى من باب أولى. قاله بناني عن السناوي. ومزكِّي السر هو الذي يخبر القاضي سرا بعدالة الشهود، ومثله من يخبره سرا بتجريح الشهود لا إعذار فيهم، ولا يشمله كلام المص. وقوله: مزكي السر، الإضافة بمعنى في، فتح الكاف أو كسر.
والمبرِّز بغير عدواة، يعني أن الشاهد إذا كان مبرزا وهو الذي فاق أقرانه في العدالة لا يعذر فيه إلا بالعداوة أي والقرابة، ولو قدح فيه بغير ذلك لم يسمعه القاضي ولو كان له بينة، كما ذكره الزرقاني عند قوله "وقدح في المتوسط بكل" وفي كلام ابن فرحون وغيره ما يفيده. قاله الشبراخيتي. وقد علمت أنه يقدح في المبرز بالعداوة والقرابة، وذكر ابن مرزوق عن اللخمي أنه لا يقدح في المبرز بأكل بسوق ونحوه، وقوله: والمبرز هو بكسر الراء المشددة اسم فاعل من برَّز بالتشديد فاق أقرانه.
ومن يخشى منه، يعني أن الشهود على من يخشى منه بأن شهدوا بحق عليه أو بتجريح بينة شاهدة له لا إعذار فيهم. قال الشبراخيتي: ذكر الشارح والتتائي أنه لا تسمى له البينة. وفي الحطاب: أن كل من لا إعذار فيه لا يلزم القاضيَ تسميته. انتهى. وقال عبد الباقي: وحكي عن القاضي ابن بشير أنه قال للوزير لما سأله عمن شهد وحكم عليه وهو غائب: مثلك لا يخبر بذلك، وعدم الإعذار فيما تقدم هو باعتبار الشاهد، وهذه باعتبار المشهود عليه، وإن قدر الشاهد على من يخشى منه كان على نسق ما قبله، وحيث لا يعذر له فلا ينبغي للقاضي أن يهمل حقه في تفتيش حال الشهود بالكلية، بل يتنزل في السؤال عنهم منزلة المشهود عليه، ولو قيل بتحليف المشهود له مع بينته كما تقدم في الدعوى على صغير أو غائب لكان حسنا. انتهى. قال بناني: قول الزرقاني: كما حكي عن القاضي ابن بشير لخ: ابنُ بشير هذا أدرك ملكا، وليس هو أبا الطاهر بن بشير تلميذ المازري، ولما ذكر في التوضيح هذه المسألة قال: ونص المدونة أنه يخبر
من يشهد عليه بالشهادة، فلعل عنده حجة وإلا حكم عليه. اهـ. فأفاد أن قول ابن بشير خلاف مذهب المدونة، وأنه إنما أتى به جمعا للنظائر فقط. انظر مصطفى. ولفظ ابن يونس صريح في خلاف ما لابن بشير، ونصه: قال ملك: ولا يشهد الشهود عند القاضي سرا وإن خافوا من المشهود عليه أن يقتلهم، إذ لا بد أن يعرِّفه القاضي بمن يشهد عليه ويعذر إليه فيهم. انتهى. قال: وإن كان القاضي بعث من يسأل عنهم سرا لم يُعذِر فيمن عَدّلهم. انتهى. ونظم هذه المسائل الخمس الإمام التتائي بقوله:
وخمس حسان ليس يعذر حاكم
…
لآت بها فاحفظ وقيت من الزلل
موجَّه او في السر زكَّى مُبرِّز
…
ومن يخشى أو في مجلس الحكم للعمل
قال: ثم وقفت عليها منظومة مع زيادة التوسم، وهي:
ودونك ستا ليس يعذر حاكم
…
بها فاحفظ الأشياء فهما كما تُنشا
موجه او في السر زكى مبرّز
…
توسم او في مجلس الحكم أو يخشى
قوله: توسم، زادها ابن بشير سادسة، وهي من قبلت شهادته للتوسم. ابن فرحون: أي توسم العدالة فيه تجوز شهادته بغير تزكية فيما يقع بين المسافرين في السفر من العاملات على مذهب ابن حبيب، ولا يجوز فيما سوى ذلك دون تزكية، وهذا هو مجهول الحال، ولما كانت شهادته بغير تزكية مقصورة على ما ذكر لم يذكره المصنف، وقولُ الشارح في الكبير كأن الشيخ لم يذكره، لأنه شبيه بمن وجهه من قبل نفسه، إذِ استواؤهما عند القاضي فيما يظنه فيهما متحد غيرُ ظاهر. انتهى. ولابن عاصم رحمه الله:
ومن عليه وسم خير قد ظهر
…
زكي إلا في ضرورة السفر
وأنظره لها باجتهاده، يعني أن من توجه عليه الحكم من مدع أو مدعى عليه إذا قال: لي حجة، فإن القاضي يُنظره أي يؤخره لها أي للإتيان بها أي يمهله مدة موكولة إلى اجتهاده، وليست محدودة بزمن معين، فقوله: لها، أي للحجة المتقدم ذكرها في قوله: أبقيت لك حجة. وقوله: وأنظَره لها ما لم يتبين لدده فيحكم عليه من الآن، وقوله: وأنظره لها باجتهاده، لا فرق فيه بين العقارات وغيرها، وتفصيل بعض القرويين ضعيف. وللزقاق:
وللحاكم التأجيل بالحق صححن
…
إذا طلب المطلوبُ أن يتأجلا
أي إذا طلب المحكوم عليه التأجيل ليأتي بحجة فإنه يجيبه إلى ذلك.
ثم إن لم يأت بالحجة حكم عليه بما قال خصمه حيث لم يأت بدافع كنفيها: يعني أن من توجه عليه الحكم إذا لم يدع أن له حجة بل نفاها بأن قال: لا حجة لي، فإنه يحكم عليه بلا مهلة. وليجب عن المجرح، يعني أنه يجب على القاضي إذا سأله الذي أقام بينة وجرحها الآخر عمن جرح بينته أن يعين له المجرح حيث لم يكن المجرح لها القاضي، فلا يلزمه جواب لأنه يستند لعلمه في التعديل والتجريح، وكذا لو جرحت في السر أو كان المشهود عليه ممن يخشى منه.
ويعجزه، قال الخرشي: الضمير يرجع للمحكوم عليه مدعيا أو مدعى عليه، يعني أنه إذا قال المحكوم عليه: لي حجة وأنظره الحاكم لأجل الإتيان بها باجتهاده ولم يأت بحجته فإن القاضي يعجزه، ويكتب التعجيز في سجله بأن يقول: فلان ادعى أن له بينة ولم يأت بها، وقد عجزته خوفا من أن يدعي بعد ذلك عدم التعجيز، وأنه باق على حجته، وإن كان لا يقبل منه ذلك على المذهب دفعا للنزاع لأن هناك من يقول بالقبول. انتهى. وقال عبد الباقي: ويعجزه أي يحكم بعدم قبول بينة يأتي بها بعد ذلك زيادة على الحكم بالحق، ويكتب ذلك في سجله بأن يقول: ادعى فلان أن له بينة ولم يأت بها، وقد عجَّزته خوفا من أن يدعي بعد ذلك عدم التعجيز، وأنه باقٍ على حجته، وإن كان لا يقبل ذلك على المذهب دفعا للنزاع لأن هناك من
يقول بالقبول، وليس المراد بالتعجيز الحكم بعد تبين اللدد، لأن هذا لا يمنع من بقائه على حجته: فالمراد الأول، ثم إذا عجزه بالمعنى الأول فله إقامة بينة لا يعلمها بل ادعى نسيانها، وحلف عليه إن عجزه مع إقراره على نفسه بالعجز على المشهور، لا مع ادعائه حجة فلا يقيمها ولو مع ادعاء نسيان بينة وحلف عليه. انتهى. وقال الشبراخيتي: ويعجزه أي يحكم بتعجيزه أي بعدم قبول بينة إن أحضرها بعد ذلك، ثم إنه إن عجزه وله بينة نسيها فهل يقوم بها بعد حلفه أنه نسيها أو لا يقوم بها؟ فيه تفصيل قدمه المصنف بقوله: ثم لم تسمع بينته إن عجزه قاض مدعي حجة، وظاهرها القبول إن أقر على نفسه بالعجز، وهذا هو المذهب. انتهى. ومن فسر المصنف هنا بأن التعجيز مجرد الحكم لم يفترق الدم وما معه من غيره. قاله اللقاني. نقله بناني. وفيه: واختلف في العجز إذا أتى ببينة على ثلاثة أقوال: فقيل: لا تسمع منه طالبا كان أو مطلوبا، وهو قول ابن القاسم في العتبية. وقيل: تقبل منه مطلقا إذا كان لذلك وجه وهو ظاهر ما في المدونة. وثالثها: القبول في حق الطالب دون المطلوب، وهو لابن القاسم أيضا. قال في التوضيح: وصرح في البيان بأن المشهور إذا عجز المطلوب وقضي عليه أن الحكم يمضي ولا يسمع منه ما أتى به بعد ذلك، ثم قال عن ابن رشد: وهذا الاختلاف إنما هو إذا عجزه القاضي بإقراره على نفسه بالعجز، وأما إذا عجزه بعد التلوم والإعذار وهو يدعي أن له حجة فلا يقبل منه ما أتى به بعد ذلك من حجة. انتهى. وعلى مذهب المدونة وهو القبول مطلقا إن كان لذلد وجه درج المصنف في قوله: لعذر كنسيان، وفي قوله: وظاهرها القبول إن أقر لخ، لكن لا يأتي عليه قوله: إلا في دم لخ، لأن مذهب المدونة القبول فيها وفي غيرها. انتهى. ثم قال بناني: الظاهر أن يحمل قوله: ويعجزه، على صورة الاتفاق عند ابن رشد، وهي إذا عجزه مدعيا أن له حجة، وعليها يتنزل الاستثناء، فلا يكون مخالفا لما جرى عليه فيما تقدم من مذهب المدونة، وبهذا يسلم من الاضطراب ويسقط قول اللقاني. قوله: ويُعجِّزه إلا في دم لخ، هذا موافق لابن رشد في البيان مخالف لما في المدونة على ما في التوضيح. انتهى. ثم استثنى خمس مسائل لا تَعْجِيزَ فيها، وضابطها كل حق ليس لمدعيه إسقاطه بعد ثبوته، فقال:
إلا في دم، يعني أنه لا تعجيز في الدم بل المحكوم عليه باق على حجته. قال عبد الباقي: إثْبَاتًا، كادعاء شخص على آخر أنه قتل وليه عمدا، أو أن له بينة بذلك فأنظَره لها ثم تبين لدده فلا يحكم بتعجيزه عن قيامها، فمتى أتى بها قتل المشهود عليه، أو نَفْيًا كادعائه عليه أنه قتل وليه عمدا وأقام بينة فقال المدعى عليه: عندي ما يجرحها، فأنظره وتبين لدده وحكم عليه بالقتل وقتل، فإن قامت لولي المقتول ثانيا بينة بتجريح بينة القتيل أولا كان ذلك من خطإ الإمام، وارتضى الجيزي عدم سماع النفي. اهـ. وقال بناني: قال مصطفى: هذه المستثنيات يعني إلا في دم، وما بعده إنما هي مفروضة في كلام الأئمة في تعجيز الطالب، وفيه تظهر فائدة هذه الأشياء، أما المطلوب فيعجزه فيها وفي غيرها. اهـ. وقول الزرقاني: إثباتا كادعاء شخص لخ، غير ظاهر لأن صورة الإثبات لا ينطبق عليها الضابط المذكور، لأن القصاص إذا ثبت كان لمدعيه إسقاطه، والذي صوره به ابن مرزوق وهو الظاهر أن المدعى عليه بالقتل إذا أراد تجريح من شهد عليه بالقتل فعجز فحكم القاضي عليه بالقتل ثم وجد من يجرح له البينة الشاهدة عليه بالقتل فإنها تسمع منه ولا يعمل بتعجيزه لخطر الدماء. اهـ. وهو يعكر على ما قدمناه عن مصطفى من أن ذلك مقصور على الطالب، ثم محل سماع الحجة فيما صوّر به ابن مرزوق إن أتى بها قبل استيفاء الحكم كما يظهر من تصويره، أما إن قام ورثة المدعى عليه بعد قتله بما يجرح بينة المدعي فالظاهر أن ذلك لا يسمع. اهـ.
وحبس، صورتها على ما قاله الخرشي: أن يدعي شخص أن شخصا حبس عليه دارا ويطلب منه البينة على دعواه فيعجز عنها فلا يحكم عليه بعدم سماع بينته في المستقبل إن وجدها وإن رفع يده الآن عنها. اهـ. ونحوه للشبراخيتي وعبد الباقي: قال بناني عند قوله: وحبس: هذا ظاهر إن كان الحبس على غير معين كالفقراء فلا سبيل إلى تعجيز الطالب لحق الغائب، لا ما إذا كان على معين، كما صوره الزرقاني إلا أن يقال في الحبس حق الله مطلقا. انظر ابن مرزوق. اهـ. وعتق. يعني أن العتق لا يحكم فيه بالتعجيز فيما إذا ادعى عبد على سيده أنه أعتقه وأن له بينة وعجز عن إقامتها، فلا يحكم بعدم سماعها إن وجدها وإن حكم ببقائه الآن في الرق،
بهذا صوره غير واحد. ونسب، كادعائه أنه من ذرية فلان وأن له به بينة وعجز عن إقامتها، فلا يحكم بعدم سماعها إن وجدها وإن لم يثبت نسبه الآن، مثل له بهذا غير واحد.
وطلاق، صورتها امرأة ادعت أن زوجها طلقها وعجزت عن إقامة بينة على الطلاق، فلا يحكم عليها بإبطال دعواها بعد ذلك إن وجدت بينة وإن حكم ببقائها في عصمة زوجها الآن. قال الشيخ الخرشي وبهذا يعلم أن عدم التعجيز في جانب المدعي، وأما المدعى عليه بأنه قتل عمدا لخ، ولم يأت بمدفع بعد استيفاء الحجج، فإذا عجزه الحاكم فلا يقبل منه ما أتى به بعد ذلك في جميع المسائل حتى في الدم كما ارتضاه الجيزي. اهـ. وقال عبد الباقي: واعلم أن حكمه بالتعجيز لا يمضي سواء كان لإثبات أو نفي في دم ونسب وطلاق، وأما الحبس والعتق فلا يعجز طالب إثباتهما ويعجز طالب نفيهما. كذا يظهر. اهـ. وقوله: إلا في دم لخ، زاد ابن سهل على هذه الخمسة طريق العامة، فقال: يشبه الحبس طريق العامة وشبهه من منافعهم ليس عجز طالبه والقائم عنهم فيه يوجب منعه أو منع غيره من النظر له إن أتى بوجه. ونظمها التتائي فقال:
إذا ما رمت أمرا ليس فيه
…
لقاضي الشرع تعجيز الخصوم
فعتق مع طلاق ثم حبس
…
دم نسب ونفع للعموم
كطرق أو مشابهها فهذا
…
تمام الست يا حاوي العلومِ
وكتبه، الضمير للتعجيز، يعني أن القاضي يجب عليه أن يكتب التعجيز، وهو الحكم بعدم قبول بينة يأتي بها المحكوم عليه. قال الشبراخيتي: قال ابن غازي: خوفا من أن يدعي بعد ذلك عدم التعجيز وأنه باق على حجته، وإن كان ذلك لا يقبل منه على المذهب رفعا للنزاع، لأن هناك من يقول: إنه يقبل. ورجع الطخيخي الضمير للتلوم، وكلاهما صحيح لكن رجوعه للتعجيز أولى، لأنه يلزم من كتبه كتب التلوم لا العكس، ورجعه الشارح للإنظار أي المستفاد من قوله: وأنظره لها باجتهاده، وليس فيه كبير فائدة، لأن الإنظار موكول إلى اجتهاد القاضي وهو مصدق
فيه. اهـ. وقال عبد الباقي: وكتبه، أي التعجيز في غير المستثنيات، والمراد كتب كيفية التعجيز أي عجزه بعد أن ادعى حجة أو ابتداء ليرتب عليه ثمرته.
فرع: إذا قام أحد الشركاء فخاصم في شيء فقضيَ عليه، ثم قام أحدهم يريد المخاصمة فيه، فإن قام بما قام به المقضي عليه حكم عليه وألحقه به ولم تسمع حجته ولا بينته، وإن جاء بغير ذلك نظر له فيه ولم يعجزه، وكذلك من يدعي حقا للعامة. نقله في التبصرة. وقال عبد الباقي: قال ابن رشد: إذا تغيب المدعى عليه بعد استيفاء الحجج وهرب من القضاء عليه فإنه يقضى عليه ويعجزه، ولا يكون له إذا قدم أن يقوم بحجته، بمنزلة ما لو قضى عليه وهو حاضر، وأما لو هرب وتغيب قبل أن يستوفي جميع حججه فالواجب في ذلك أن يتلوم له، فإن لم يخرج وتمادى على مغيبه واختفى قضى عليه من غير أن يقطع حجته. اهـ. وقال المواق: ومن المفيد: حق على القاضي أن يكتب التعجيز ويشهد عليه، ثم لا ينظر له هو ولا من جاء بعده إن جاء ببينة تثبت ما عجز عنه من ذلك إلا العتق وما ذكر معه. انتهى. وقال الخرشي: وكتبه أي وكتب كيفية التعجيز هل عجزه بعد أن ادعى حجة أو ابتداء، لا وكتب أنه عجز، لأن هذا لا يترتب عليه حكم، وإنما يترتب الحكم على كيفية التعجيز، لأن منه ما يعتبر ومنه ما لا يعتبر كالمسائل المستثناة. اهـ. ثم ذكر ما هو راجع لقدر بعد قوله: بجوابه، أي فإن أجاب عمل بجوابه.
وإن لم يجب المدعى عليه بإقرار ولا إنكار، بل سكت أو قال: لا أخاصمه. حبس، حتى يقر أو ينكر، وظاهره عدم الاحتياج لإذن المدعي في ذلك. وإن تمادى على عدم الجواب أدب بالضرب كي يقر أو ينكر. ثم إن استمر على ذلك حكم عليه بلا يمين من المدعي، ويعد ذلك إقرارًا من المدعى عليه بالحق ومثل عدم جوابه في الحكم عليه بلا يمين ما إذا شك فقال: لا أدري هل له عندي ما يدعيه أم لا؟ على أحد قولين. قاله الشبراخيتي. ورجحه الرهوني. وقيل: يحلف المطلوب أنه لا يدري. وقيل للطالب: أثبت حقك إن حلف وإن نكل فقيل: يجبر على الإقرار
والإنكار.
(1)
وقيل: يقضى للطالب مع يمينه. وقيل: يقضى له بدون يمين. وإلى ما مر عن ابن رشد وما بعده من كلام المص أشار صاحب التحفة بقوله:
ومن ألد في الخصام وانتهج
…
نهج الفرار بعد إتمام الحجج
ينفذ الحُكْمَ عليه الحَكَمُ
…
قطعا لكل ما به يختصم
وغير مستوف لها إن استتر
…
لم تنقطع حجته إذا ظهر
لكنما الحُكْمَ عليه يُمضي
…
بعد تلوم له من يقضي
يعني أن الخصم إذا ألد في الخصام، أي أكثر الخصومة، وسلك طريق الفرار من القضاء والحكم عليه، وتغيب عن مجلس الحكم عليه، فإن كان ذلك بعد أن تمت الحجج، فإن القاضي ينفذ عليه الحكم، ويمضيه عليه، ويقطع حجته، ولا ترجى له بعد ذلك حجة، ولا تسمع له بينة. وقوله: الحكَم بالتحريك هو القاضي وهو فاعل ينفذ، والحكم قبله بضم الحاء وسكون الكاف مفعول ينفذ، وإن كان فراره وتغيبه قبل أن تستوفى الحجج فإن القاضي ينفذ عليه الحكم لكن بعد التلوم من غير قطع لا يأتي به من الحجة فقوله: الحكم مفعول يمضي مقدم، وفاعله مَن الموصولة بيقضي. واعلم أن هذا الذي هرب وتغيب طلب فلم يوجد كما في النقل. والله سبحانه أعلم. ثم قال:
ومن أبى إقرارا او إنكارا
…
لخصمه كلفه إجبارا
فإن تمادى فلطالب قضِي
…
دون يمين أو بها وذا ارتضِي
(1)
قوله والإنكار ليس في الرهوني ج 7 ص 331.
يعني أنه إذا لم يجب بإقرار ولا إنكار فإنه يكلف بالجواب فيسجن ثم يضرب، فإن تمادى على عدم الجواب قضِي للطالب من دون يمين، وقيل: بيمين. قال الناظم: وذا القول، يعني القول بالقضاء مع يمين الطالب ارتضيَ، فأو بمعنى قيل. وقال الزقاق:
وإن قام ذو التعجيز بعد بحجة
…
وقد كان ينفي العجز فاردد وأبطلا
وإن كان قد ألقى السلاح فهل كذا
…
نعم لا ولا إن كان مطلوبا انجلى
قوله: وإن كان قد ألقى السلاح، أي قال: لا حجة لي، وقوله: نعم، أي قيل: لا تقبل مطلقا. وقوله: لا ولا لخ، أي وقيل: تقبل مطلقا، وقيل: لا تقبل إن كان مطلوبا، وتقبل إن كان طالبا، وهذا ما فسر به الشيخ ميارة. والله تعالى أعلم. وقوله: وإن لم يجب لخ، وقيل: إن أبى عن الجواب لم يجبر على ذلك وَعُدَّ كالنكول فيقضي للطالب مع يمينه. انتهى.
ولمدعى عليه السؤال عن السبب، قد مر أنه لا بد للمدعي من ذكره للسبب الذي ترتب منه الحق الذي يدعيه، يعني أن المدعي إذا قال في دعواه: لي على هذا مائة مثلا، فللمدعى عليه أن يقول له: بين لي من أي وجه ترتب علي؟ هل من سلف أو بيع أو غير ذلك؟ فإن بَيَّنَ السبب، طلب من الخصم الجواب، وإن لم يبين له السبب لم يطلب منه الجواب، لأنه إذا بين السبب أمكن أن يكون فاسدا لا يترتب بسببه غرم أو غرم قليل. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: ولمدعى عليه السؤال عن السبب، حيث غفل الحاكم عن السؤال عنه، أو جهل، أو تعمد تركه لطلب ذلك منه بعد عدم بيان المدعي السبب كما مر عن التتائي، خلافا لجعل الشارح سؤال الحاكم مؤخرا عن سؤال المدعى عليه. اهـ. ولو أن المدعيَ قال: نسيت السبب، أو لا أدريه، لقبل منه ذلك من غير يمين عليه على المشهور. وإليه أشار بقوله: وقبل نسيانه بلا يمين، على المدعي، والضمير في نسيانه عائد على السبب، وقوله: بلا يمين، قاله أشهب. الباجي: القياس بيمين، واستظهره
الأشياخ. قاله التتائي. وإن أنكر مطلوب المعاملة فالبينة، يعني أنه إذا ادعى شخص حقا على آخر، فقال المدعى عليه: لم تتقدم بيني وبينك معاملة فالبينة على المدعي يأتي بها على ما ادعاه. ثم بعد الإتيان بالبينة على دعواه لا تقبل بينة بالقضاء، أي لا تقبل من المدعى عليه بينة أنه قضاه، لأن إنكار المدعى عليه للمعاملة تكذيب للبينة التي شهدت له بالقضاء، ومثل قيام البينة للمدَّعَى إقرار المدعي عليه بالحق بعد إنكار العاملة، فإذا أنكر المدعى عليه أصل العاملة ثم أقر بها من غير إقامة بينة، ثم أقام بينة أنه قضى فإنه لا تقبل بينته بالقضاء. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: ومثل إقامة البينة بعد الإنكار إقراره بما ادعى عليه بعد أن أنكره، وسواء أقر قبل إقامة البينة أو بعدها كما هو ظاهر مما ذكره الشيخ عبد الرحمن هنا، والحطاب في باب الوكالة، وقال بعض: ينبغي أن هذا إذا كان إقراره بعد قيام البينة، وأما إذا كان قبلها فتقبل بينته بالقضاء، وهو جلي يجب المصير إليه. اهـ.
بخلاف لاحق لك علي، يعني أنه لو قال المطلوب: لا حق لك علي، فإنه تقبل بينته بالقضاء لأنه لم يكذبها، فليست مثل ما إذا أنكر المعاملة، ومثل لا حق لك علي، ليس لك علي حق. قال عبد الباقي: وظاهر كلامه يعني المصنف أن هذا اللفظ كاف في جواب الدعوى، والذي لابن القاسم وبه العمل أنه لا يكفي حتى ينفي خصوص ما ادعاه المدعي من سلف أو بيع أو نحوه، وظاهر المص أيضا الفرق بين الصيغتين في حق العامي وغيره وهو ظاهر في الثاني. اهـ. قال بناني: قول الزرقاني: وهو ظاهر في الثاني يعني غير العامي، وأما العامي فقد نقل الحطاب في باب الوكالة عن الرعيني أنه لا فرق بينهما في حقه وأنه يعذر في كل منهما. اهـ. وقال المواق: وأما إن قال: ليس له علي شيء فلما قامت عليه البينة بسلف أوبيع جاء ببراءة على الدفع، فإنه يسقط ذلك الحق عنه قولا واحدا. اهـ. وقال الشبراخيتي: بخلاف لا حق لك علي، ظاهره أن هذا يكفي في جواب الدعوى، ثم قال عن شيخه في الحاشية: وهل يكفي في الجواب أولا؟ فيه قولان، قول ابن القاسم: لا يكفي، وقول ابن كنانة وابن الماجشون: يكفي. وإن لم يكن جوابا حبس وأدب كما قال المص وإن لم يجب حبس وأدب. اهـ. يعني ثم حكم بلا يمين كما قال قبيل هذا بقرب:
وكل دعوى لا تثبت إلا بعدلين فلا يمين بمجردها، يعني أن الدعوى التي لا تثبت إلا بعدلين كالعتق والطلاق والنكاح لا يلزم المدعى عليه فيها يمين بمجرد الدعوى أي بالدعوى المجردة عن الشاهد، فلا يمين على الزوج إذا ادعت المرأة عليه الطلاق، ولا على السيد إذا ادعى عليه العبد العتق، ولا على المرأة إذا ادُّعي عليها النكاح، ولا على وليها المجبر. وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى إطلاق تعليق اليمين بالدعاوِي عند إنكار المدعى عليه، حتى أثبتا ذلك في دعوى النكاح والطلاق والعتق. انظر القلشاني. وما قالاه هو ظاهر الحديث:(البينة على المدعي واليمين على من أنكر). ومفهوم قوله بمجردها أنه لو لم تجرد الدعوى عن الشاهد توجهت اليمين في بعض دون بعض على المدعى عليه ولا ترد هذه اليمين المتوجهة على المدعى عليه في بعض المسائل، وذلك في الطلاق والعتق، فإن نكل حبس وإن طال دين، ويأتي هذا التفصيل للمص حيث قال: وحلف بشاهد في طلاق وعتق لا نكاح. وعلم مما قررت أن قوله:
كنكاح، مثال للدَّعوى التي لا تثبت إلا بعدلين، وليست مثالا لا تتوجه فيه اليمين بالدعوى التي لم تتجرد ولا ترد. قال عبد الباقي: وفرق بين الطلاق والعتق وبين النكاح، بأن الغالب فيه الشهرة فشهادة واحد فيه ريبة بخلافهما، ومقتضى هذا الفرق أن سائر ما يثبت بشاهدين حكمه حكمهما في الحلف مع إقامة شاهد لرد شهادته لا حكم النكاح، ثم إنه يستثنى من قوله فلا يمين بمجردها، مسائل منها قوله: وحلف الطالب إن ادعي عليه علم العدم، وقوله: وكذا أنه عالم بفسق شهوده، وقوله: وله يمينه أنه لم يحلفه أولا، وقوله فيما يأتي: وللقاتل الاستحلاف على العفو، وكذا المتهم يدعى عليه الغصب أو السرقة، مع أن كلا منهما إنما يثبت موجبه من أدب وقطع بشاهدين، ويستثنى منه أيضا من ادعى على آخر أنه قذفه فتتوجه عليه اليمين إن شهدت بينة بمنازعة وتشاجر كان بينهما، وإلا لم يحلف. كما ذكره الحطاب. اهـ. الرهوني: في استثناء الأولى والثالثة والخامسة نظر، لأنها تثبت بالشاهد واليمين، وكذا استثناء الثانية بالنون على ما لعبد الباقي لا على ما للبناني. اهـ. ثم قال عبد الباقي: ومفهوم قوله: لا تثبت إلا بعدلين، أن الدعوى التي تثبت بشاهد وامرأتين أو أحدهما بيمين تتوجه بمجردها، أي وترد، وكذا اليمين
التي يحلفها مع الشاهد والمرأتين إذا نكل ترد على المدعى عليه، فإن نكل عنها غرم بنكوله وشهادة الشاهد، ولا ترد على المدعي لأن اليمين الردودة لا تُرَدُّ، ويَرِدُ على هذا المفهوم من ادعى على آخر أنه عبده فلا يمين عليه كما يأتي آخر باب العتق، مع أن الرق مما يثبت بشاهد ويمين، ولعله لأن الأصل في الناس الحرية. اهـ. وقال الشبراخيتي: ولا ترد إذا توجهت، وذلك في ثلاث صور، الطلاق والعتق، والقذف. ونحوه في الخرشي. وقال الحطاب: قال الرعيني في كتاب الدعوى والإنكار: وإذا ادعى رجل
(1)
أنه عبده وأنكر الآخر ذلك فلا قول للمدعي إلا ببينة، ولا يمين على المدعى عليه وهو حر، وإذا كان عبد بيد رجل مقر له بالملك ثم ادعى بعد ذلك الحرية فعليه البينة.
تنبيه: قوله: وكل دعوى لا تثبت لخ، قاعدة مسلمة، وبين المص ما لا يثبت إلا بعدلين بقوله: ولما ليس بمال ولا آئل له لخ، ومنه إسقاط الحضانة فلا تثبت فيه اليمين بمجرد الدعوى ولا يثبت بالشاهد واليمين، وما خالف هذا لا يلتفت إليه بحال، فلا تغتر بما في ابن سلمون وغيره. وأمر بالصلح ذوي الفضل والرحم، يعني أن القاضي إذا ترافع إليه من هو من أهل الفضل فإنه يندب له أن يأمرهم بالصلح، لأن الصلح أقرب إلى جمع الخواطر، وإلى تأليف القلوب، ويذهب غل الصدور، وربما كان يفعله سحنون، فقد ترافع إليه رجلان من أهل العلم فأبى أن يسمع منهما، وقال لهما: استرا على أنفسكما ولا تطلعاني من أمركما على ما ستره الله عليكما. والواو في قوله: والرحم بمعنى أو، ومعناه أنه يندب للقاضي أن يأمر أولي الأرحام بالصلح لأنه يذهب غل الصدور، والرحم القرابة. وقد قال عمر رضي الله: رددوا الحكم بين ذوي الأرحام حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث الضغائن. اللخمي: وهذا بين الأقارب حسن وإن تبين الحق لأحدهما أو لهما. قاله المواق. وقال: ويندب أهل الفضل إلى ترك الخصومات. قال ابن سحنون: كان أبي ربما رد الخصمين إلى من عرفه بالصحة والأمانة، فيقول لهما: اذهبا إلى فلان يصلح بينكما، فإن اصطلحتما وإلا رجعتما إلي، وترافع إليه رجلان من أهل العلم لخ، وقوله: وأمر
(1)
- في الحطاب ج 6 ص 348 وإذا ادعى رجل على رجل أنه عبده لخ.
بالصلح ذوي الفضل لخ، ظاهره ولو ظهر له وجه الحكم وهو كذلك. قاله الخرشي. قال: فهذا تخصيص لعموم قوله الآتي: ولا يدعُو لِصُلحٍ إن ظهر وجهه.
كأن خشي تفاقم الأمر، يعني أن القاضي إذا خشي بتنفيذ الحكم تفاقم الأمر أي اتساعه أي الفتنة بين المحكوم له والمحكوم عليه فإنه يأمر بالصلح وجوبا دفعا للمفسدة، وأمره في هذه واللتين قبلها مطلوب، ولو ظهر وجه الحكم كما علمت، فهي مخصصة لقوله: ولا يدعو لصلح إن ظهر وجهه. وقول عبد الباقي: شرط الخصص أن يكون منافيا كذلك هنا فما هنا مناف لما يأتي، فبان أنه مخصص له. انظر حاشية الشيخ بناني. والله سبحانه أعلم. ولكون الأمر في هذه واجبا أتى بالكاف. والله سبحانه أعلم. قال اللخمي: ويدعو إلى الصلح إذا تبين له الحق وهو يرى أنه متى أوقع الحكم تفاقم ما بين المتنازعين وعظم الأمر وخشيت الفتنة. انتهى. وقال التتائي: كأن خشي تفاقم الأمر أي تعاظمه فإنه يأمر بالصلح ولو ظهر له وجه الحق. اهـ.
ولا يحكم لمن لا يشهد له، يعني أن القاضي لا يجوز له أن يحكم لمن لا يشهد له من الأقارب، كأب وإن علا وأم وابن وزوجة. قاله أشهب ومطرف ومحمد. واختاره اللخمي. ولهذا قال: على المختار، خلافا لأصبغ فإنه أجاز أن يحكم لمن لا يشهد له إذا كان أي القاضي من أهل القيام بالحق، وفَصَّل ابن الماجشون فقال: يجوز حكمه لمن لا يشهد له إلا في الزوجة وولده الصغير ويتيمه، فالقائل بالمنع مطلقا قال: لا فرق بين الشهادة والخبر. والقائل بالجواز لغير المتهم بأن كان القاضي من أهل القيام بالحق قال: قد يحكم للخليفة وهو أقوى تهمة لتوليته إياه. انتهى. قال الخرشي: على المختار عند اللخمي، وهو المشهور [لأن المظنة]
(1)
تلحقه في ذلك، ولا فرق بين
الشهادة والحكم، وهذا واضح إذا كان يحتاج لإقامة بينة، لأنه ربما يتساهل في قبولها فيتهم على أنه يقبل شهادة من لم تصح شهادته، أما إذا اعترف المدعى عليه بالحق فينبغي أن يجوز له أخذا مما نقله ابن رشد بالأولى. ونصه على نقل المواق: وانظر هل يحكم لنفسه؟ قال أشهب: لا يقضي لنفسه. ابن رشد: وله الحكم على الإقرار على من استهلك ماله، أي القاضي، لقطع
(1)
في الخرشي ج 7 ص 162 لأن الظنة.
أبي بكر الأقطع الذي سرق عقد زوجته أسماء لما اعترف بسرقته. اهـ. ويأتي قريبا ما في كلام ابن رشد. وقال الشبراخيتي: وكذا لا يحكم لمن لا يشهد عليه بدليل قوله الآتي: وحكم على عدو. وذكر الشارح عند قوله: فحكم بقول مقلده، أن القاضي يحكم للخليفة ولا يتهم بتوليته إياه. انتهى. وفي البرزلي: عدواة المفتي كعداوة الشهود. وفي الحطاب: مما يجري مجرى القاضي في المنع من الحكم لمن يُتهم عليه المفتي لمن يتهم عليه ممن لا تجوز شهادته له، وينبغي للمفتي الهروب من مثل هذا. قاله الحطاب عن التبصرة.
قال مقيده عفا الله عنه. وقد مر في النذر فتوى ابن القاسم لابنه عبد الصمد بقول الليث، وقال عبد الباقي: ولا يجوز له أي للقاضي أن يحكم على من لا يشهد عليه بدليل قوله الآتي: وحكم على عدو، فإن حكم لمن لا يشهد له فهل حكمه في النقض كحكمه على عدوه أو لا فلا ينقض؟ وهو ظاهر تبصرة ابن فوحون، أو ينقضه هو لا غيره وهو ما في النوادر. اهـ. وقال الحطاب: قال اللخمي: وما اجتمع فيه حق لله وله أي للقاضي في جواز حكمه بما هو لله كمن شهد عنده عدلان بأنه سرق من ماله ما يقطع فيه في حكمه بقطعه، قولا ابني المواز وعبد الحكم، وقال ابن فرحون: وفي ابن يونس: لا ينبغي للقاضي أن يحكم بين أحد من عشيرته وبين خصمه وإن رضي الخصم، بخلاف رجلين رضيا بحكم رجل. اهـ. قاله الحطاب. وفيه: قال ابن الحاجب: ولا يحكم على عدوه. قال في التوضيح: هو متفق عليه، وفيه أيضا أن من لا تجوز شهادته عليه لا يقضي عليه ولا يحكم برد شهادته، ولأشهب في المجموعة وكتاب ابن سحنون: لا يجوز أن يقضي القاضي لنفسه، ولابن رشد: له الحكم بالإقرار على من استهلك ماله فيعاقبه ويتمول المال بإقراره، ولا يحكم في شيء من ذلك بالبينة، ودليله قطع الصديق رضي الله عنه يد الأقطع الذي سرق عقد زوجته أسماء لما اعترف بسرقته. هذه الرواية الصحيحة. اهـ. يعني بقوله: هذه الرواية الصحيحة، قطعه باعترافه، فإنه روي أنه قطعه بالبينة، والأول أصح، ولم يذكر ابن رشد ما سبق إلا على أنه المذهب، وتأمل قول ابن رشد هذا فقد قال أبو علي: هو خلاف المذهب لا يحل الحكم به أصلا، وما احتج به إنما هو في القطع وهو حق لله تعالى لا حق نفسه. الرهوني: ما قاله أبو علي ظاهر إذْ كيف يكون المشهور منعه من الحكم لأجنبي بما سمعه منه، ويمكن من
الحكم لنفسه، ولهذا كان شيخنا الجنوي يقول: الظاهر ما قاله أبو علي اهـ وسئل ابن أبي زيد هل يجوز الحكم لمُغْتَرَقِي الذمم بالغُصوب الممتنعين باليد القاهرة على أحد أو لا يجوز الحكم لا لهم ولا عليهم؟ وما لم يعلم له مالك بعينه ولا هو عين المغصوب مما بأيديهم فهل يحكم له بحكم الفيء أم لا؟ فأجاب: من كان مغترق الذمة فلا يحكم له بما ليس له، وما بأيديهم إذا لم يعلم له مالك معروف ولا يعرف وارث مالكه، ولا من يستحقه على حال من الأحوال، ولا يمكن أن يتحاص في ماله بتحر ولا غيره إذ لا يحصل ما غصب ولا قَرَّبه ولا يمكن تحريه، فإن كان فيمن غَصَبَه فقراء فيفرق بينهم ويعطى منهم من كان صغيرا قدر ما يرى، وإن كان لا يوجد فيمن غَصَبَ مستحق الصدقة كان حكمه حكم الفيء، وذلك حكم ما في بيت المال، ينظر ما هو أنفع يعمل به، إما الصدقة أو بناء القناطير، أو جميع ما يصرف فيه بيت المال، وقد وقع في هذا قولان أحدهما: يوضع ذلك في بيت المال، والآخر في الفقراء، وهي ترجع إلى قول واحد. اهـ كلام الحطاب. ولما أخبر صلى الله عليه وسلم أن القضاة ثلاثة: جائر، وجاهل، وعدل. أفاد حكمها على هذا الترتيب، فقال:
ونبذ حكم جائر، يعني أن القاضي الجائر أي الحائد عن الحق في حكمه بأن يعرف الحق ويخرج عنه تعمدًا لصداقة أو قرابة أو حمية أو عداوة أو رشوة تنبذ أي تطرح أحكامه وتلغى. قاله الإمام الحطاب. فتنبذ أحكامه كلها أي تطرح وترد، وسواء كان عالما أو جاهلا، وظاهره ولو علم أن ما حكم به حق، وفي مُختصر الواضحة: وعلى القاضي إذا أقر بالجور أو ثبت ذلك عليه بالبينة العقوبةُ الموجعة، ويعزل ويشهر ويفضح، ولا تجوز ولايته أبدا، ولا شهادته وإن أحدث توبة وصلحت حاله بما اجترم في حكم الله تعالى. اهـ. وفيه: واختلف في القضاة إذا كانت ولايتهم مطلقة غير مقيدة بنوع من الأحكام، فالجمهور على أن جميع ذلك لهم من إقامة الحدود، وإثبات الحقوق، وتغيير المنكر، والنظر في المصالح قام بذلك قائم أو اختص بحق الله، وحكمه عندهم حكم الموصي المطلق في كل شيء، إلا ما يختص بضبط بيضة الإسلام من إعداد الجيوش وجباية الخراج. اهـ. وقال عبد الباقي: ونقض أي طرح حكم الجائر أي نقضه من يولَّى
بعده وإن كان حكمه مستقيما في ظاهر الأمر، إلا أن يثبت صحة باطنه. قاله ابن رشد. قوله: إلا أن يثبت صحة باطنه أي بالبينة كما يأتي. وقال المواق: ابن رشد: القاضي الجائر ترد أحكامه دون تصفح وإن كانت مستقيمة في ظاهرها إلا أن يثبت صحة باطنها. اهـ. وفي الشبراخيتي: ظاهره يعني المص ولو وافق الصواب. وقال ابن رشد: القاضي الجائر ترد أحكامه دون تصفح وإن كانت مستقيمة في ظاهرها إلا أن يثبت صحة باطنها. قاله المواق. وهو يعود بالتخصيص على كلام المص. انتهى. وقال التتائي: ونبذ، أي طرح وألغي حكم جائر ظالم في حكمه خارج عن الحق تعمدا.
أو جاهل لم يشاور، يعني أن القاضي الجاهل الذي لا يشاور العلماء بل يحكم بين الناس بالحدس والتخمين أي برأيه أي وظنه تنبذ أحكامه مطلقا وافقت الصواب أم لا، قال الإمام الحطاب: لأن أحكامه كلها باطلة لأنها بالتخمين. وإلا مركب من إن الشرطية ولا النافية، أي وإن لم يكن على تلك الحالة من عدم المشاورة، بل كان يشاور العلماء تعقب حكمه فيما شاور فيه: فينبذ منه الجور أي الخطأ، ومضى منه غير الجور، وهو ما كان صوابا. قال عبد الباقي: ولا يقال: كيف يتعقب حكمه المرتب على مشورتهم؟ لأنا نقول: قد يعرف منهم عين الحكم ولا يعرف الطريق إلى إيقاعه، لأن القضاء صناعة دقيقة لا يعرفها كل أحد ولا آحاد العلماء، ولا يقال: العلم شرط في صحة الولاية، فعدمه يمنع انعقادها ونفوذ الحكم، لأنا نقول قد يولّى الجاهل مع وجود عالم لضعفه عن القيام بأمر القضاء لمرض ونحوه. ولو قال المص بدل غير الجور: ومضى الصواب، كان أحسن لأن غير الجور قد يكون خطأ أو سهوا أو نسيانا مع أنه أخصر. اهـ. وقال بناني: وجاهل لم يشاور، قول الزرقاني: ولو وافق الصواب إلخ، أي في ظاهره ولم يعلم صحة باطنه، أما إن ثبت صحة باطنه بالبينة فلا ينقض، واعلم أن المراد بالجاهل العدل المقلد كما فسره به أبو الحسن، ويفيده ما يأتي عن اللخمي، وبه يسقط الثاني في كلام الزرقاني. اهـ. يعني بالثاني قوله: ولا يقال: العلم شرط في صحة الولاية إلخ، ثم قال بناني: وما ذكره المصنف من التفصيل في الجاهل اعتمد فيه ما نقله ابن عبد السلام عن بعض الشيوخ، ونقله في التوضيح على قول ابن الحاجب: وأما الجاهل فيتعقبها ويمضي منها ما لم يكن جورا. ونصه:
وحكى المازري رواية شاذة أن الجاهل تنقض أحكامه وإن كان ظاهرها الصواب، لأنه وقع منه لمن غير قصد، وهذا التعليل لا يتم في المشاور. ابن عبد السلام: وقَيَّد بعضهم ما ذكره المص بما إذا كان يشاور أهل العلم في أحكامه، وأما إذا كان لا يشاورهم فتنقض كلها لأنه حكم حينئذ بالحدس والتخمين وهو صحيح، واعتمده المصنف مع نقله عن المازري أنه رواية شاذة، وقد تعقب بذلك الشيخ ابن سعيد في شرحه على المصنف، فقال: ظاهره أن الجاهل غير المشاور أحكامه منقوضة مطلقا، والمشاور تتصفح أحكامه، وظاهر كلام غيره أن التصفح إنما هو في غير المشاور إلخ، ابن رشد: القضاة أربعة، الأول: عدل عالم، فأحكامه على الجواز ما لم يتبين فيها الخطأ الذي لا اختلاف فيه. الثاني: عدل جاهل يحكم برأيه ولا يشاور العلماء، فأحكامه تصح ولا يرد منها إلا الخطأ الذي لا اختلاف فيه. الثالث: معروف بالجور، فأحكامه تنقض كلها، وحكى فضل عن ابن الماجشون أنها تتصفح كأحكام الجاهل وهو شذوذ. الرابع: فاسق لم يعلم بالجور في أحكامه، أو مبتدع من أهل الأهواء، فهذا حكم له ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون بحكم الجائر، وحكم له أصبغ بحكم الجاهل، ثم قال بعد جلب نقول: فهذه النقول كلها تدل على خلاف ما جرى عليه المص في الجاهل تبعا لابن عبد السلام. والله أعلم. انتهى.
فرع: اختلف في أحكام العمال فظاهر قول ملك أنها محمولة على الرد حتى يتبين أنها كانت أمضيت بحق فتجاز، وهو خلاف ما وقع في قوله في المدونة فيما قضت به ولاة المياه: إن ذلك جائز إلا أن يكون جورا بينا، لأن هذا يقتضي أنها على الإجازة فلا ينظر فيها ولا تتعقب ما لم يتبين فيها الجور المبين، وهذا الاختلاف إنما يصح في غير العدل من الولاة، فمرة رآها جائزة ما لم يتبين الجور وهو مذهب أصبغ، ومرة رآها مردودة ما لم يتبين فيها الحق وهو اختيار ابن حبيب، وأما العدل منهم فلا اختلاف أن أحكامهم محمولة على الجوازت وأنها لا يرد منها إلا ما تبين فيه الجور، ويحتمل أن يحمل ما في المدونة على العدل وما في سماع ابن القاسم على غيره، فلا يكون فيها اختلاف من قول مالك. قال ابن رشد: وإن جهل حاله فالذي أقول به: أنه ينظر إلى الذي ولاه، فإن كان عدلا فهو محمول على العدالة، وإن كان جائرا يولي غير العدل
فهو محمول على غير العدالة، وإن كان غير عدل إلا أنه لا يعرف بالجَور في أحكامه وتولية غير العدول جرىَ ذلك على الاختلاف في جواز أحكامه. اهـ. وفي شرح مسلم للقرطبي في بعث معاذ وأبي موسى رضي الله عنهما إلى اليمن، قال: وفيه، يعني الحديث حجة على أن لولَاة الأمصار إقامة الحدود في القتل والزنى وغير ذلك، وهو مذهب كافة العلماء، ملك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم، واختلف في إقامة ولَاة المياه وأشباههم لذلك، فرأى ذلك أشهب لهم إذا جعل ذلك الإمام لهم: وقال ابن القاسم: نحوه، وقال الكوفيون: لا يقيمه إلا فقهاء الأمصار. واختلف الشيوخ في أحكام ولاة الكُوَر، فأمضاها أبو إبراهيم، ولم يجزها للوالي حتى [يجعل]
(1)
إليه مع القيادة والنظر في أمور الكورة النظر في الأحكام، واستحسن ابن أبي زمنين إذا كان للكورة قاض [قد أفرد للنظر في الأحكام أن لا يجوز حكم الولاة، وإن لم يكن لها قاض]
(2)
أن يجوز حكمهم لا للناس في ذلك من الرفق، وهذا أحسن الأقوال وأولاها بالصواب، لأنه إذا ولي مع القائد حاكم فقد بان أنه حجر عليه الحكم في الأحكام، وإذا لم يول معه وجب أن يجوز حكمه كما قال ملك في ولَاة المياه. قال في التنبيهات: وولاة المياه للبوادي الذين يسكنون على المياه خلاف أهل الأمصار. اهـ. نقل جميعه الحطاب.
ولا يُتعَقَّبُ حُكْمُ العدل العالم، يعني أن العدل العالم لا تتعقب أحكامه أي لا ينظر فيها ولا يفتشها من ولي بعدد ليلا يكثر الهرج والخصام وتفاقم الأمر، وتعقب الأحكام هو اختبارها لينظر ما وافق الحق منها وما خالفه، قال عبد الباقي: وحمل عند جهل حاله على العدالة إن ولاه عدل انظر الحطاب وينبغي أن يكون مثله قاضي المِصْرِ كما يفيده قوله فيما يأتي: إن كان أهلا أو قاضي مصر. اهـ. وقال التتائي: ولا يتعقب حكم العدل العالم أي لا ينظر فيه من وُلِّيَ بعده، نص عليه غير واحد ليلا يكثر الهرج والخصام. انتهى. واحترز المصنف بقوله: العدل من الجائر، وبالعالم من الجاهل، وقال الإمام الحطاب: والعدل لا تتعقب أحكامه ولا ينظر فيها إلا أن يرفع أحد قضيته ويذكر أنه حكم فيها بغير صواب، فينظر في تلك القضية، وتنقض إن
(1)
في الأصل: تجعل، والمثبت من الحطاب ج 6 ص 352 ط دار الرضوان.
(2)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من الحطاب ج 6 ص 352 ط دار الرضوان والبيان ج 9 ص 172.
خالفت قاطعا أو جلي قياس. اهـ. وتعقبه مصطفى بأنه خلاف ما لابن رشد، ونقله ابن عرفة ونصه: العدل العالم لا تتصفح أحكامه ولا ينظر فيها إلا على وجه التجويز لها إن احتيج إلى النظر إليها لعارض خصومة أو اختلاف في حد، لا على وجه الكشف والتعقب لها إن سأل ذلك المحكوم عليه، فتنفذ كلها إلا أن يظهر في شيء منها عند النظر إليها على الوجه الجائز أنه خطأٌ ظاهر لم يختلف فيه فليردّ ذلك. اهـ. ومثله في المتيطي ومعين الحكام.
ونقَض وبين السبب مطلقا ما خالف قاطعا أو جلي قياس، قوله: نقض بالبناء للفاعل وهو ضمير يعود على العدل العالم، ومعنى كلامه أن العدل العالم لو وقع الحكم المذكور من العدل العالم ينقض الحكم الخالف لِقاطعٍ من نص كتاب أو سنة أو إجماع، والحكم المخالف للقياس الجلي، وإذا نقضه فإنه يبين السبب الذي لأجله نقضه مطلقا أي نقضه هو أو غيره، وقد مر التنبيه على الكيفية التي يعرف بها كون حكم العدل العالم خالف قاطعا أو جلي قياس من قول ابن رشد: لا تتصفح أحكامه ولا ينظر فيها إلا على وجه التجويز لها إن احتيج إلى النظر لها لعارض الخصومة إلخ، مثال ما خالف قاطعا من نص كتاب ما لو حكم بأن الذكر من الأولاد مثلا حظه من الميراث حظ الأنثى، ومثاله من الحديث ما لو حكم بجواز جمع المرأة مع عمتها، ومثاله من الإجماع ما لو حكم بأن الميراث كله للأخ دون الجد، فإن الأمة أجمعت على قولين أن يقاسم الأخ الجد: أو المال كله للجدة أما حرمان الجد فلم يقل به أحد، ومن القواطع أيضا القواعد الشرعية: ومثلوا لخالفتها بالمسألة السُّريجية: متى حكم حاكم بتقرير النكاح في حق من قال: إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا، فطلقها ثلاثا أو أقل فالصحيح لزوم الطلاق الثلاث له، فإذا ماتت أو مات فحكم حاكم بالتوارث بينهما نقضنا حكمه لأنه على خلاف القواعد، لأن من قواعد الشرع صحة اجتماع الشرط مع الشروط، لأن حكمته إنما تظهر فيه، فإذا كان الشرط لا يصح اجتماعه مع المشروط فلا يصح أن يكون في الشرع شرط، فلذلك ينقض الحكم في المسألة السريجية، وما قاله ابن سريج مبني على عدم اجتماع الشرط مع المشروط نظرا لقوله: قبله، وحينئذ فيجب لغو قوله قبله، والقياس الجليُّ هو ما قطع فيه بنفي الفارق أو ضعفه، وقوله:
بنفي، أي انتفاء أي إلغاء الفارق، فمثال القياس الجلي الذي قطع فيه بنفي الفارق قياس الأمة على العبد في تقويم حصة الشريك على شريكه المعتق الموسر وعتقها عليه، ومثال القياس الجلي الذي قطع فيه بضعف الفارق قياس العمياء على العوراء في المنع من التضحية الثابت بحديث السنن الأربعة (لا تجزئ في الأضاحي العوراء المبين عورها)
(1)
ومعنى القطع بضعفه أن يكون تأثيره فيه احتمالا ضعيفا، إذ يحتمل أن يفرق بينهما بأن العمياء ترشد إلى المرعى الجيد فترعى فتسمن، والعوراء توكل إلى نفسها وهي ناقصة البصر فلا ترعى حق الرعي: فيكون العور مظنة الهزال، فإن هذا الاحتمال ضعيف يعارضه الأمر باستشراف الأذن والعين في (حديث علي رضي الله عنه في السنن)
(2)
، واحترز بالقياس الجلي من القياس الخفي وهو ما كان احتمال الفارق فيه قويا كقياس القتل بمثقل على القتل بمحدد في وجوب القصاص، وقال أبو حنيفة بعدم القصاص في المثقل، وقول المصنف: قاطعا، يقتضي أنه لا ينقض إلا ما خالف القاطع وهم نصوا على أنه إذا خالف السنة غير المتواترة ينقض، وكذلك إذا خالف عمل أهل المدينة فإنه ينقض، وليس ذلك بقاطع بل هو ظن جلي، ويدفع هذا الاعتراض بأن المسائل التي ذكرها بقوله: كاستسعاء معتق وشفعة جار، إلخ، الكاف فيها للتشبيه لا للتمثيل، وهذا هو الحق كما قاله ابن مرزوق، وهو الذي ارتضاه التتائي، وجد علي الأجهوري، والشيخ أحمد، ولا يصح أن يكون مثالا لما قبله إذ ليس في الحكم به مخالفة قاطع ولا جلي.
قال مصطفى: وليس فيه مخالفة سنة، فإن المراد بالمخالفة للسنة أن لا يكون الحكم مستندا لسنة أخرى، وهذا ليس كذلك. واعلم أن ما مشى عليه المص في هذه المسائل هو مذهب ابن الماجشون فقط، وهو في التوضيح معترف بذلك، وما زال الأشياخ يستبعدونه، والمعتمد خلافه وهو قول ابن القاسم وابن عبد الحكم، ولذا لم يعرج ابن الحاجب وابن شأس على قول ابن الماجشون هذا، فكان على المص أن لا يذكره لما علمت، ولأنه لا يلائم قوله: ورفع الخلاف بل ينافيه. اهـ. كلام
(1)
أبو داود، كتاب الضحايا، رقم الحديث 2802 - الترمذي كتاب الأضاحي، رقم الحديث 1437 - النسائي، كتاب الضحايا، رقم الحديث 4378 - ابن ماجه، كتاب الأضاحي، رقم الحديث 3144.
(2)
أبو داود، كتاب الضحايا، رقم الحديث 2804 والترمذي، كتاب الأضاحي، رقم الحديث 1498 والنسائي، كتاب الضحايا، رقم الحديث 4372 وابن ماجه، كتاب الأضاحي، رقم الحديث 3143.
مصطفى. قال بناني: أجاب بعضهم عن المص بأن ما ذكره هو الذي عليه الجماعة، وقول ابن عبد الحكم بعدم النقض انفرد به عن أصحابه، وأن النقض في هذه المسائل لِمخالفةِ عمل أهل المدينة، كما ذكره المازري في شرح التلقين. قال ما نصه: أشار ابن الماجشون إلى أن هؤلاء الذاهبين إلى خلاف مذهبه خالفوا ما تواطأ عليه أهل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك كمخالفة السنة القائمة، لا سيما ومذهب ملك أن إجماع أهل المدينة حجة، وابن عبد الحكم لم ير النقض في شيء من هذه المسائل لكون أدلتها ليست بقطعية. اهـ. وقال ابن حبيب: لا يعجبني ما انفرد به ابن عبد الحكم. وقال صاحب الذخيرة: إن ابن عبد الحكم انفرد بعدم النقض عن أصحابه. وقال ابن يونس في كتابه المسمى بالإعلام: إن ما قاله ابن الماجشون من النقض قاله مطرف وأصبغ، وروي أكثره عن ملك، وأنه رَأْيُ علماء المدينة في القديم والحديث، وبهذا كله يتبين أن ما مشى عليه المص هو الموافق لنقل الأئمة، واستبعاد المازري له من جهة النظر لا يضعفه، وأن قول ابن عبد الحكم هو الضعيف لانفراده به عن أصحابه، وقول ابن عبد البر: لم يقل بالنقض غير عبد الملك مردود بما تقدم
(1)
غيره. هذا محصل جواب هذا البعض. فتأمله. والله أعلم. اهـ. كلام الشيخ بناني. وقوى الرهوني ما لمصطفى. والله تعالى أعلم. والمسائل التي قال فيها ابن الماجشون بالنقض لمخالفة عمل أهل المدينة، وقال فيها ابن عبد الحكم بعدم النقض، هي قول المص: كاسْتِسْعَاءِ مُعْتَق إلخ، قد علمت أن هذا وما بعده تشبيه لا تمثيل. قال الخرشي مفسرا للمصنف: والمعنى أنه إذا كان عبد بين رجلين مثلا وأعتق أحدهما حصته، وكان الذي أعتق حصته معسرا بحيث لا يكمل عليه بعضه لعسره وأبى شريكه أن يكمل بعضه بالعتق، فحكم القاضي بأن العبد يسعى ويأتي للشريك الذي لم يعتق بقيمة نصيبه، فإن هذا الحكم إذا وقع ممن لا يرى استسعاء العبد باطل، وكذا إذا وقع من حاكم يراه كالحنفي، وكذلك ما يأتي من المسائل فله نقضه، فإن قلت: هذا مخالف لما يأتي من أن حكم الحاكم يرفع الخلاف. قلت: هو مقيد بما إذا قوي دليله، وأما غير قوي الدليل فإنه يُنقَض ولا يعتبر حكم الحاكم فيه، كَهَذِهِ
(1)
في بناني ج 7 ص 146 بما تقدم عن غيره.
المسائل، كما ذكره الشيخ كريم الدين. اهـ كلام الخرشي. وقال الشبراخيتي: مقتضى نقل القرافي أن نقض الحكم باستسعاء المعتق لمخالفة السنة، لورود الحديث بأنه لا يسعى، لأن ما ورد أنه يسعى ضعيف كما يفيده كلام القرافي، ولا يقدح في دعوى ضعفه أن ما رواه مسلم صحيح إلا ما بَيَّنَ العلماء أنه ضعيف. اهـ. وقال التتائي: كاستسعاء معتق بعضه، هذا مشبه بما خالف النص والقياس الجلي، وليس داخلا فيه لأن مسلما وغيره رووا حديث الاستسعاء.
وشفعة جار، يعني أن الحاكم إذا حكم للجار بالشفعة فإنه ينقض حكمه أي ينقضه هو وغيره، لأن الشفعة إنما هي في المشاع، فإن الحديث الصحيح وارد باختصاصها بالشريك ولم يثبت له معارض صحيح راجح، فينقض الحكم بخلافه، قال القرافي: وما ورد مما يقتضي الشفعة للجار مرجوح بالنسبة لما يقتضي اختصاصها بالشريك. قاله الشبراخيتي. وقال التتائي: وكذا ينقض حكمه في شفعة جار، وإن وردت أحاديث تقتضيها. اهـ. وقال عبد الباقي: وشفعة جار لضعف المدرك فيها، وحديث الشفعة للشريك أصح من حديث الشفعة للجار. قاله القرافي. وحكم على عدو، يعني أن الحكم إذا حكم على من بينه وبينه عدواة دنيوية فإن حكمه ينقض أي ينقضه هو وغيره. قال الشبراخيتي: وحكم على عدو أي عدواة دنيوية، لأن الحاكم لا يستوعب موجبات الحكم لقصد التشفي غالبا من العدو، وفي الحديث:(لا يحكم عدو على عدوه). اهـ. وقال عبد الباقي: وحكم على عدو في دنيا لا في دين فلا ينقض. اهـ. يعني كحكم المسلم على الذمي. والله سبحانه أعلم. وقال المواق: ابن المواز: إذا أقام المحكوم عليه بينة أن القاضي عدوٌّ له فلا يجوز قضاؤه عليه. انتهى.
أو بشهادة كافر، يعني أن الحاكم إذا حكم بشهادة كافر على كافر مع علمه بكفر الشاهد فإنه حكمه ينقض، أي ينقضه هو وغيره، وحكمه على مثله هو محل الخلاف، فإن أبا حنيفة يجوز ذلك: وأما شهادة الكافر على المسلم فلا تجوز إجماعا. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي: أو بشهادة كافر على مثله أو على مسلم مع علم القاضي بذلك بدليل أو ظهر إلخ، قال بناني: قول الزرقاني على مثله أو على مسلم، تبع فيه التتائي، قال مصطفى: وفيه نظر، لأن محل الخلاف إذا شهد على مثله، وأما شهادته على مسلم فالإجماع على عدم قبولها، والقائل بقبولها على
مثلهم أبو حنيفة. اهـ. ومثله للفيشي. اهـ. وقال المواق عن عبد الملك: إذا قضى بخلاف السنة المشهورة وإن كان فيها الاختلاف نقض قضاؤه، كَذَوِي الأرحام بالميراث، والشفعة للجار، وشهادة أهل الذمة. اهـ. وميراث ذَوِي رحم، يعني أن القاضي إذا حكم بالميراث لذي رحم من عمة وخالة ونحوهما فإنه حكمه ينقض، أي ينقضه هو وغيره، لقوله صلى الله عليه وسلم (ألحقوا الفرائض بأهلها وما بقي فلأولى رجل ذكر)
(1)
. أو مولى أهل، يعني أن الحاكم إذا حكم بثبوت الميراث للمولى الأسفل فإن حكمه ينقض مطلقا، أي ينقضه هو وغيره، وذلك كمعتق بفتح التاء من معتقه بكسر التاء، وفي المواق عن ابن الماجشون: من الخطأ الذي ينقض به حكم العدل العالم، الحكم بالشفعة للجار، وباستسعاء العبد بعتق بعضه، وتوريث العمة والخالة، والمولى الأسفل، وشبهه. أو بعلم سبق جلسه، يعني أن القاضي إذا قضى بشيء من غير استناد لبينة أو قرينة، بل بسبب علم سبق مجلس القضاء، سواء علمه قبل ولايته أو بعدها، فإنه ينقض حكمه مطلقا أي ينقضه هو وغيره، واستظهر ابن عبد السلام عدم نقضه مراعاة لمن أجاز له الحكم بعلمه مطلقا كأبي حنيفة وغيره، واحترز بسبق العلم لمجلسه مما علمه بمجلسه، فإنه لا ينقض. قاله التتائي. وقال الخرشي: وأما إن حكم بعلم حصل له في مجلس القضاء بأن أقر عندد فإنه لا ينقضه غيره، وإن وجب عليه هو نقضه ما دام قاضيا، وقال المواق عن اللخمي: لا يقضي القاضي بما كان عنده من العلم قبل أن يلي القضاء ولا بعد أن ولي، ولم يكن في مجلس القضاء أو كان في مجلس القضاء، وقبل أن يتحاكما إليه أو يجلسا للحكومة، مثل أن يسمعهما أو أحدهما يقر للآخر فلما تقدما للحكومة أنكر وهو في ذلك شاهد، وقد اختلف إذا أقر بعد أن جلسا للخصومة ثم أنكر، فقال ابن القاسم: لا يحكم بعلمه، وقال عبد الملك وسحنون: يحكم، ورأيا أنهما إذا يجلسا للمحاكمة فقد رضيا أن يحكم بينهما بما يقولانه ولذلك قصدا. اهـ المراد منه.
أو جعل بتة واحدة، يعني أن الزوج إذا طلق زوجته بلفظ البتة، بأن قال لها: أنت بتة، أو طالق أو طلقتك أو مطلقة البتة، وحكم القاضي بلزوم طلقة واحدة فقط، فإنه ينقض مطلقا أي ينقضه هو
(1)
البخاري، كتاب الفرائض، رقم الحديث 6735.
وغيره، وأحرى لو جعل الثلاث واحدة. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي: أو جعل بتة أو ثلاثا واحدة، أي قضى بذلك، فينقض مطلقا. اهـ. وقال المواق عن ابن القاسم: من طلق امرأته البتة فرفع لمن يراها واحدة فجعلها [واحدة]
(1)
فتزوجها قبل زوج، فلمن ولي بعده أن يفرق بينهما، وليس هذا من الاختلاف الذي يقر بالحكم فيه. وقال ابن عبد الحكم: لا ينقض ذلك. اهـ.
أو أنه قصد كذا فأخطأ، يعني أن القاضي إذا تبين أنه قصد كذا أي حكعا صحيحا فأخطأ وحكم بغيره لغفلة أو نسيان أو اشتغال فِكْرٍ، وثبت ذلك ببينة، أي شهدت بينة أن ما حكم به خلاف ما قصده، وأنه أخطأ في ذلك، فإنه ينقض حكمه مطلقا أي ينقضه هو وغيره، قال عبد الباقي: وعلم البينة بقصده إما بإقرار، يعني قبل الحكم أو قرينة، فقوله: ببينة، متعلق بمقدر، أي وثبت ذلك ببينة كما علم مما قررت. قال عبد الباقي: واحترز بقوله: ببينة، عما إذا ادعى ذلك فإنه ينقضه هو فقط كما يأتي له. اهـ. قال بناني: قول الزرقاني: واحترز بقوله ببينة إلخ، أشار به لقول ابن مرزوق: اشتراط البينة إنما هو باعتبار نقض حكم غيره، وأما حكم نفسه فلا يحتاج إلى بينة، هذا هو النقل وعليه يدل قوله: ونقضه هو فقط إلخ، إذ لم يذكر بينة. اهـ. لأنه يعلم خطأ نفسه بنفسه. والله أعلم. انتهى.
أو ظهر أنه قَضَى بعبدين، يعني أن القاضي إذا قضى بشهادة شاهدين بعد الفحص عن أمرهما ثم ظهر بعد ذلك أنهما عبدان فإنه حكمه يُنقَض مطلقا، أي ينقضه هو وغيره. أو كافرين، يعني أن القاضي إذا قضى بشهادة شاهدين بعد الفحص عن أمرهما ثم ظهر أنهما كافران، فإن حكمه ينتض مطلقا، أي ينقضه هو وغيره، والفرق بين هذه وبين قوله: أو بشهادة كافر، أن هذه لم يتعمد الحكم فيها بشهادة الكفار، بخلاف السابقة كما مر. قال بناني: ولا يُغْني عن هذا قوله: أو بشهادة كافر، لأنه يتوهم أن النقض إنما يكون إذا حكم مع علمه بكفره، لا ما
(2)
أخطأ فيه كما هنا، ولا يغني ما هنا عما سبق، لأنه يتوهم أنه إذا علم بكفره لا ينقض جريا على مذهب من
(1)
ساقطة من الأصل، والمثبت من المواق ج 8 ص 138 ط دار الكتب العلمية.
(2)
في بناني ج 7 ص 147 لا ما إذا.
يقول بإعمال شهادة الكافر على مثله، فجمع المص بينهما لأن أحدهما لا يغني عن الآخر. انظر ابن مرزوق. انتهى.
أو صبيين، يعني أن الحاكم إذا حكم بشهادة شاهدين بعد الفحص عن أمرهما ثم ظهر بعد ذلك أنهما صبيان: فإن حكمه ينقض مطلقا أي ينقضه هو وغيره. أو فاسقين، يعني أن القاضي إذا حكم بشهادة شاهدين بعد الفحص عن أمرهما ثم ظهر أنهما فاسقان، فإن حكمه ينقض مطلقا أي ينقضه هو وغيره، قال المواق عن ابن الحاجب: لو ظهر أنه قضى بعبدين أو كافرين أو صبيين نقض الحكم، بخلاف رجوع البينة. وقال عن اللخمي: إن ثبت تقدم جرح البينة، فقال ملك في كتاب الشهادات: ينقض الحكم. وقال في كتاب الحدود: يمضي، وعلى هذا يجري إن ثبت أن بينهما وبينه عدواةً أو تهمة. اهـ. وقال التتائي: أو ظهر بعد قضائه أنه قضى بعبدين أو كافربن أو صبيين أو فاسقين، فقد كان عند قضائه معتمدا على عدالتهما، فإنه ينقض في الثلاث الأول اتفاقا، وفي الرابعة على أحد قولين لملك، وبه قال ابن القاسم، والآخر ينفذ وأخذ به أشهب، وإن ظهر أنه قضى بعبدين أو قريبين فأجراه بعضهم على شهادة الفاسقين، ورده المازري. اهـ. وتأمله. والله سبحانه أعلم.
كأحدهما، يعني أنه إذا حكم بشهادة شاهدين معتمدا على عدالتهما، ثم ظهر بعد الحكم أن أحدهما على الصفة السابقة، من كونه عبدًا أو كافرا أو صبيا أو فاسقا والآخر عدل، فإن حكمه ينقض مطلقا أي ينقضه هو وغيره، واستثنى من هذا العموم قوله: إلا بمال، يعني أن محل النقض فيما إذا ظهر أن أحد الشاهدين على الصفة السابقة وأن الآخر عدل إنما هو فيما إذا كان الحكم فيما ليس بمال ولا آئل له، وأما إن كان الحكم في المال وما يؤول إليه فلا يُرَدُّ الحكم إن حلف المحكوم له، لأنه استحقه بالشاهد واليمين كما في التتائي الكبير وغيره. وإلا بأن نكل المحكوم له أخذه، أي الشيء المحكوم به منه، أي ممن حكم له به إن حلف المحكوم عليه، فإن نكل فلا شيء له لأن النكول بعد النكول تصديق للناكل الأول، ونحو ما للمص في رجم المدونة.
وحلف في القصاص خمسين مع عاصبه، يعني أنه إذا شهد شاهدان على قتل شخص عمدا، وحكم القاضي بالقصاص معتمدا على ما ظهر له من عدالتهما، ثم ظهر بعد الحكم أن أحد الشاهدين عبد مثلا، فإن ولي الدم يحلف مع وأحد من عصبته خمسين يمينا ويتم الحكم، لأن الباقي لوث كما يأتي، فإن لم يحلف ولي الدم الأيمان المذكورة مع عاصبه فإن الحكم ينقض. وإلى ذلك أشار بقوله: وإن نكل ردت، أي فإن نكل المحكوم له بالقتل عن خمسين يمينا متوالية مع واحد من العصبة فإن الحكم ينقض وردت شهادة الباقي، فالضمير في ردت للشهادة. قاله الخرشي. وقال المواق عن ابن سحنون: إن بان أن أحدهما عبد أو ذمي أو مولى عليه، فإن حلف المقضي له بالقتل مع رجل من عصبته خمسين يمينا تم الحكم ونفذ، وإن نكل المحكوم له بالقتل عن القسامة فالنكول في مثل هذا ترد به الشهادة وينقض به الحكم. اهـ.
وغَرِمَ شهود علموا، يعني أنه إذا شهد شاهدان على القتل عمدا، وحكم الحاكم بالقصاص، فاقتص من المشهود عليه، ثم ظهر أن أحد الشاهدين عبد مثلا، فلا يخلو ذلك من أحد أمرين، إما أن يعلم الشاهد الباقي بكون الآخر عبدا مثلا، وإما أن لا يعلم بذلك، فإن علم بأنه عبد فإنه يغرم دية المقتول في القصاص، وظاهر كلام غير واحد أنه لا غرامة على الآخر، قال غير واحد: وهو مشكل. لأن اختصاص العالم بالغرم دون العبد أو الكافر أو الفاسق مع أن الفساد إنما جاء من قِبَلِ ساقط الشهادة مشكل، وقوله: وغرم شهود علموا، أي يختصون بالغرم عن المدعي وإن شاركهم في العلم وعن الشاهد الساقط الشهادة. قال الشيخ بناني: هذا الإشكال ظاهر. قال الشيخ المسناوي: والذي يظهر أن المصنف إنما تعرض للشاهد الباقي لما فيه من التفصيل ولا حصر في كلامه، وأما الآخر فلم يتعرض له المص لأنه لا تفصيل فيه، لا لأنه لا غرم عليه، فإن كان فيما قالوه نص فالإشكال في محله، وإلا فلا يعتمد في مثل ذلك على ظاهر التتائي وغيره، وعبارة النوادر: والغرم على الشاهدين. اهـ. قلت: ثم وقفت عن ابن عرفة على النص ونصه: وفيها أي في المدونة: إن علم بعد الجلد أو الرجم أن أحدهم عبد حد المشهود أجمعون، فإن لم يعلم المشهود كانت الدية في الرجم على عاقلة الإمام، وإن علموا بذلك فذلك على المشهود في أموالهم ولا شيء على العبد في الوجهين. انتهى. وهذا الذي أفادته المدونة هو أحد قولين، وقيل: إن علم العبد
وحده أن شهادته لا تجوز وجهل ذلك البينةُ كانت الدية كلها جناية. قاله الرهوني. قوله: ولا شيء على العبد لا من الحد ولا من الدية. وقال فضل: من الدية وأما من الحد فعليه. وقوله: في الوجهين: يعني العلم وعدم العلم، ذكره في آخر باب الشهادات، وحينئذ فالإشكال وارد. والله أعلم. ومثل ذلك في التوضيح والحطاب عند قول المص الآتي: وإن رجع اثنان من ستة فلا غرم. اهـ. وعلم مما مر أنه لا يقتص من المحكوم له بالقتل ولو انفرد بالعلم دون الشاهد. والله سبحانه أعلم. وجمع المص المشهود باعتبار أفراد جزئيات المسائل، أو المراد الجنس، وإلا فموضوع المسألة أنهما شاهدان ظهر أن أحدهما كافر. قاله غير واحد. وقال الشبراخيتي: المراد الجنس وإلا فليس هنا إلا شاهد واحد: وإنما حسن تعبير ابن الحاجب وغيره بالجمع لأنهم فرضوا المسألة في رجم شهود الزنى إذا ظهر أن أحدهم عبد، والمعتبر العلم بأن من شهد غير مقبول الشهادة، لا علمه بأنه عبد مثلا وقوله في القصاص: لو عبر بالقتل لكان أخصر وأحسن، لأنه أدل على المقصود: إذ ربما يتوهم شمول القصاص لغير القتل، وإن كان قوله: حلف خمسين، وقوله: في القطع، يبعده أو يمنعه. قاله الشبراخيتي. وإلا أي وإن لم يعلم المشهود، أي لم يعلم الشاهد بأن الثاني عبد مثلا فالدية على عاقلة الإمام. إن لم يعلم الإمام بأن أحدهم عبد مثلا، فإن علم كانت الدية في ماله: ولا يقتص منه ولو انفرد بالعلم، وهذا لا يخالف قوله فيما يأتي وإن علم الحاكم بكذبهم وحكم بالقصاص، لأن علمه هنا بأن من شهد غير مقبول الشهادة لا يستلزم العلم بكذبهم. قاله الشبراخيتي وغيره.
وفي القطع حلف المقطوع أنها باطلة، قوله: في القطع عطف على قوله: في القصاص الذي هو القتل، يعني أنه لو شهد شاهدان على شخص أنه قطع يد آخر عمدا فقطعت يده قصاصا ثم تبين أن أحدهما عبد أو ذمي مثلا، فإنه يحلف المقطوع ثانيا أن شهادة الشاهد باطلة ويستحق دية يده على الشاهد إن علم بسقوط شهادة صاحبه، وإلا فعلى عاقلة الإمام، وكذا الحكم لو شهد شاهدان بسرقة فقطعت يد المشهود عليه بالسرقة، ثم ظهر أن أحد الشاهدين كافر أو عبد مثلا، فيحلف المقطوع ويغرم له الشاهد دية يده إن علم: وإلا فعلى عاقلة الإمام، فالمص شامل
للمسألتين، وعم مما قررت أن المقطوع أولا لا يحلف لأنه لا فائدة ليمينه، لأنه لا يلزمه شيء إذ الغرم على الشاهد أو على الإمام، وكلام ابن عرفة صريح في أنه لا يحلف المشهود له هنا. انظر كلامه في المواق. وبه يتبين لك أن كلام المص يشمل قطع القصاص وقطع السرقة لأن الحكم فيهما واحد. قاله بناني. وقال الحطاب عند قول المصنف: وفي القطع حلف المقطوع أنها باطلة: قال ابن عبد السلام: وحكمها حكم الدية في المسألة الأولى، يعني مسألة القصاص فيكون الحكم على ما قال المصنف: أن الغرم على المشهود إن علموا وإلا فعلى عاقلة الإمام. ولما تكلم على المسائل التي ينقضها هو وغيره تكلم على ثلاث مسائل ينقضها هو فقط مع بيان السبب أيضا، واستغنى عن ذكره هنا بذكره قبل، فقال:
ونقضه هو فقط إن ظهر أن غيرَه أصوب، يعني أن القاضي إذا حكم في مسألة فيها اختلاف بين العلماء ثم ظهر أن غير ما حكم به أصوب مما حكم به فإن حكمه ينقضه هو فقط دون غيره، وينقضه في حال ولايته التي حكم فيها به أو ولاية أخرى بعد عزله، وقال مطرف وابن الماجشون: لا ينقضه في الثانية. وكلام الحطاب يفيد ترجيح ما لهما، وفي الشارح ضعفه وهذا في المقلد إذا كان من أهل الترجيح، كحكمه بقول ابن القاسم ثم ظهر له أن قول سحنون أرجح أو عكسه، ويجري مثله في المجتهد أيضا فإذا حكم برأيه مستندا لدليل ثم ظهر له أن غيره أرجح فينقض حكمه ولا ينقضه غيره، وإنما مكن القاضي من نقض حكم نفسه في هذه المسائل دون غيره لأنه هو يطلع على الطرق التي ظن منها أن الحق فيما حكم به فيتحقق بالنظر الثاني منشأ غلط، ويكون على ثقة من أنه لو اطلع على الثاني أولا لما حكم به، وغيره لا يعلم سبب غلطه، ويجوز أن يكون ظهر له مما قضى أمارات لو اطلع هو عليها لم يخالفه، فلا ينقضه مع تجويز كونه صوابا، وقال بناني: إن ظهر أن غيره أصوب. ابن رشد: إذا حكم باجتهاده ثم رأى ما هو أحسن منه فالمشهور أنه ينقضه ما دام على ولايته. التوضيح: وقال ابن الماجشون وسحنون: لا ينقضه، وصوبه الأئمة: ابن محرز وعياض وغيرهما، وتأولت المدونة على كل من القولين، وقد مر عن ابن الماجشون أنه ينقضه في ولايته الأولى دون الثانية فله قولان، على أن القول بعدم نقضه في
الولاية الثانية ليس مخصوصا بمطرف وابن الماجشون، بل عزاه أصبغ لابن القاسم، وقال في البيان: لا أعلم فيه خلافا.
أو خرج عن رأيه، يعني أن المجتهد إذا رأى رأيا فحكم به ثم تبين له أنه مخالف لقواعده فإنه ينقضه هو دون غيره. قاله الشبراخيتي. وقال التتائي: أو خرج عن رأيه فله نقضه ما دام في ولايته. ابن رشد: وهو المشهور. أو رأي مقلده، يعني أن المقلد إذا حكم بقول معتقدا أنه رأي مقلده ثم تبين له أنه رأي غير مقلده، كالمالكي إذا حكم بأن النكاح مثلا بلا شهود فاسد معتقدا أنه رأي مقلده، ثم تبين له أنه رأي الشافعي مثلا، فإنه ينقضه هو فقط دون غيره. قال بناني: محل كلام المص والله أعلم فيمن هو من أهل الترجيح، وأما من ليس من أهل الترجيح فقال ابن عرفة: لا يعتبر من أحكام قضاة العصر إلا ما لا يخالف المشهور ومذهبَ المدونة، وتبعه على هذه المقالة تلميذه البرزلي، حيث قال: الذي عليه العمل أن لا يحكم القاضي بغير مشهورِ مذهبِ ملك: وقد وقع ذلك في زمن السيوري ففسخ حكم القاضي، ووقع في زمن الشيخ أبي القاسم الغبريني ففسخ حكم حاكم بشاذ، إذ لم يكن القاضي من أهل العلم والاجتهاد، لأن من كان مقلدا لا يعرف أوجه الترجيح لا يجوز له أن يحكم بالشاذ وهو معزول عنه، ويفسخ حكمه، وإنما يحكم بغير المشهور من القضاة من ثبت له وجهه وثبت عنده ترجيح غير المشهور، وليس هذا في قضاة زمننا، بل لا يرى كثير منهم النص، وإنما يحكمون بالتخمين. نقله مصطفى في أجوبته عن صاحب الدرر المكنونة ونحوه في المعيار عن أبي الفضل العقباني. والله أعلم. اهـ كلام بناني. وقوله: مقلده، بفتح اللام، وقال عبد الباقي: أو خرج مجتهد عن رأيه أو خرج عن رأي مقلده غلطا، أي ادعى كل منهما الخطأ ولم تشهد بينة بدعواه وإلا نقضه هو وغيره كما مر في قوله: أو أنه قصد كذا، وهذا في المقلد إذا صادف قول عالم وقد كان قاصدا قول غيره ة وأما إن حكم بشيء غير مستند لقول أحد فصادف قول عالم فإن ذلك ينقضه هو وغيره، كما يفيده نقل المواق، ويقيد أيضا بما إذا كان مفوضا له في الحكم بقول أيّ عالم، وأما إن ولي على الحكم بقول عالم معين فحكمه بقول غيره باطل لأنه معزول عن الحكم به، وأما من قصد الحكم بقول عالم فحكم بما لم
يقله عالم فينقض حكمه هو وغيره، فالصور أربع حيث لم يثبت خطأه ببينة وإلا فثمان. اهـ. وقال المواق: أو رأي مقلده، ابن رشد: إن لم يكن مجتهدا وقضى به تقليدا فلا يسع الخلاف في أنه لا يصح له الرجوع عنه إلى تقليد آخر. ابن محرز: إن قصد إلى الحكم بمذهب فصادف غيره سهوا فهذا يفسخه هو دون غيره لأنه ظاهر الصحة لجريانه على مذهب العلماء، ووجه غلطه لا يعرف إلا من قوله، إلا أن تشهد بينة أنها علمت قصده إلى الحكم بغيره فوقع فيه فينقضه كما ينقضه هو. اهـ.
ورفع الخلاف، يعني أن حكم الحاكم المخالف يرفع الخلاف أي العمل بمقتضى الخلاف، فلا يجوز للمخالف أن يقضي بخلاف ما حكم به المخالف في تلك الجزئية، لا أن الخلاف ارتفع من أصله، وكذا في غير المسائل التي تنقض مطلقا. قاله الشبراخيتي. وقال الخرشي: يعني أن حكم الحاكم إذا وقع على وجه الصواب يرفع العمل بمقتضى الخلاف، بمعنى أنه إذا رفع لمن لا يراه ليس له نقضه، وإلا فالخلاف بين العلماء موجود على حاله، فمن لا يرى وقف مشاع إذا حكم حاكم بصحته ثم رفع لمن كان يفتي ببطلانه نفذه وأمضاه ولا يحل له نقضه. اهـ. وقال عبد الباقي: ورفع حكم الحاكم على وجه الصواب بجزئيةٍ الخلافَ فيها، بمعنى أنه لا يجوز للمخالف نقض الحكم فيها، وليس معناه أن هذه الجزئية يصير الحكم فيها عند المخالف مثل ما حكم به، إذ الخلاف بين العلماء موجود على حاله، مثال رفعه الخلاف: حكم بصحة وقف مشاع ممن يراه، فإذا رفع لمن لا يراه فليس له نقضه، ولا للمفتي إفتاء بخلافه، وكحكم شافعي بصحة نكاح من قال لأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق، فلا يحل لمالكي رفع له هذا الحكم نقضه ويوقع الطلاق. وقولي: على وجه، الصواب تحرزٌ عن حكمه فيما خالف قاطعا أو جلي قياس لوجوب نقضه مطلقا كما مر. اهـ.
لا أحل حراما، يعني أن حكم الحاكم لا يحل الحرام، كمن أقام شاهدي زور على طلاق امرأة ثلاثا ففرق الحاكم بينهما وانقضت عدتها، فإنه لا يحل للمقيم ولا لأحد الشاهدين تزوجها، خلافا لأبي حنيفة القائل: إن حكم الحاكم يحل الحرام بالنسبة للفروج، ومثل ذلك ما إذا أقام رجل شاهدي زور على نكاح المرأة فلا يحل للمحكوم له وطؤها، وقد علم مما قررت أن قوله: لا
أحل حراما، فيما كان باطنه بخلاف ظاهره، بحيث لو اطلع الحاكم على ذلك الأمر الباطن لم يحكم، فلا يخالف قوله: ورفع الخلاف، قال الخرشي: وأما قوله: لا أحل حراما. فمحمول على ما له ظاهر جائز وباطن ممنوع، بحيث لو اطلع الحاكم عليه لم يحكم بجوازه، فإن حكمه لا يحل الحرام. اهـ المراد منه. وقال التتائي: لا أحل حكم الحاكم المخالف الذي صير المختلف فيه كالمجمع عليه الحرام، وهذا عندنا عام في الأموال والفروج، ويدل لعمومه ما رواه ملك وغيره:(إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، إنما أقطع له قطعة من نار)
(1)
. وقال بناني: لا أحل حراما، هذا مخصص بما باطنه بخلاف ظاهره، وهو قسمان: أموال، وفروج. خلافا للحنفية في هذا الثاني، وبما إذا حكم بأمر يعتقد حليته وكان المحكوم له لا يرى حليته لكونه مجتهدا أو ليس هو قول مقلده، فالحرام الذي لا يحله حكم القاضي هو هذان القسمان على نزاع في هذا القسم الثاني، فإن ابن شأس وابن الحاجب قالا: لا يحله: وتعقبه ابن عرفة بأنهما تبعا وجيز الغزالي، ومقتضى المذهب خلافه، ومحل كلام ابن شأس في هذا الثاني إن حكم المُخَالفُ بقول شاذ كالشفعة للجار، وقد علمت بذلك أن الأقسام ثلاثة: ما باطنه بخلاف ظاهره، وهذا محل قوله: لا أحل حراما؛ وما حكم المخالف فيه بقول غير شاذ، وهذا محل قوله: ورفع الخلاف؛ وما حكم فيه بالشاذ، وهذا عند ابن شأس حكمه كالأول. فيدخل في قوله: لا أحل حراما، وعند ابن عرفة حكمه كالثاني، فيدخل في قوله: ورفع الخلاف: وهذا مقتضى المذهب. نعم قولُ ابن عرفة: لا أعرف لابن شأس مستندا إلا ما في الوجيز قصورٌ، فإن ما ذكره ابن شأس مثله في النوادر، ونقله الحطاب مقتصرا عليه في شرح المتن، وما في التوضيح من ابتناء ما لابن شأس على القول بنقض الحكم خلاف ما يقتضيه كلام ابن عرفة من أن قول ابن شأس: لا يحل الحرام، سواء قلنا بنقضه أم لا. راجع ابن غازي. اهـ. وقال الحطاب: لا أحل حراما، قال في النوادر في كتاب الأقضية: لو طلق امرأته البتة فخاصمه إلى من
(1)
الموطأ، كتاب الأقضية، رقم الحديث 1 وهو في الصحيحين.
يراها واحدة والزوجة مذهبها أنها ثلاث، والزوج أيضا ممن يرى أن البتة ثلاث، فلا يحل للزوج أن يقربها حتى تنكح زوجا غيره، ولا يبيح لها الحاكم أن تمكنه من نفسها حتى تنكح زوجا غيره، من قبيل أن الحاكم لا يحل لهما ما هو حرام عليهما، وكذلك لو قال لعبده: اسقني الماء يريد بذلك عتقه، والسيد يرى أن لا يلزمه في مثل هذا عتق وإن نواه، والعبد يراه عتقا: فللعبد في هذا أن يذهب حيث شاء بما حكم له، ولو قال لزوجته: اختاري، فقالت: قد اخترت نفسي، وهي تذهب إلى أن الخيار ثلاث، والزوج يراه واحدة، فإن الحاكم لا يبيح للمرأة أن تمكن الزوج منها، ولتمنعه جهدها: ولو رفعها إلى قاض يرى الخيار طلقة فارتجعها الزوج فلا يبيح لها الحاكم ما هو حرام عندها، ولا يحل لها أن يأتيها الزوج إلا وهي كارهة. انتهى. وقال عبد الباقي: لا أحل حراما فيما ظاهره جائز وباطنه ممنوع بحيث لو اطلع عليه الحاكم لم يحكم بجوازه، كمن أقام [شاهدي]
(1)
زور على نكاح امرأة فحكم بصحته حنفي لا يفحص عن عدالة الشهودة فلا يحل للمحكوم له وطؤها فيعا بينه وبين الله، لأن الحنفي لو اطلع على فسقهما لم يحكم بشهادتهما، وأما ما ظاهره كباطنه فيحل الحرام للمحكوم له، كحكم شافعي بحل تزويج أجنبية علق شخص طلاقها ولو الثلاث على نكاحها لعدم لزوم التعليق عنده، وكحكمه بحل مبتوتة مالكي بوطء صغير. اهـ. وقال المواق: قال ابن رشد: حكم الحاكم لا يحل حراما ولا يحرم حلالا على من علمه في باطن الأمر، لأن الحاكم إنما يحكم بما ظهر وهو الذي يتعبد به، ولا ينقل [الباطن]
(2)
عند من علمه [عما هو عليه]
(3)
من تحليل أو تحريم. قال الله سبحانه: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} . وفي الحديث: (لعل بعضكم أن يكون ألحن)
(4)
، الحديث وهذا إجماع من [أهل]
(5)
العلم في الأموال، وإنما اختلفوا في حل عصمة النكاح وعقدها، فذهب ملك والشافعي وجمهور [أهل]
(6)
العلم إلى أن الأموال والفروج سواء، وقال أبو
(1)
في الأصل: شاهد، والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 148.
(2)
في الأصل والمواق الباطل والمثبت من المقدمات ج 1 ص 501.
(3)
بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من المقدمات ج 1 ص 501 والمواق ج 2 ص 143 ط دار الكتب العلمية.
(4)
الموطأ، كتاب الأقضية، رقم الحديث 1 - البخاري، كتاب الأحكام، رقم الحديث 6967 - مسلم، كتاب الأقضية، رقم الحديث 1713.
(5)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من المواق ج 8 ص 143 ط دار الكتب العلمية والمقدمات ج 1 ص 501.
(6)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من المواق ج 8 ص 143 ط دار الكتب العلمية والمقدمات ج 1 ص 501 دار الكتب العلمية.
حنيفة وكثير من أصحابه: إن ذلك في الأموال خاصة، فلو أن رجلين تعمدا الشهادة بالزور على رجل أنه طلق امرأته فقبل القاضي شهادتهما لظاهر عدالتهما عنده وفرق بين الرجل وامرأته أنه يجوز لأحد الشاهدين أن يتزوجها وهو عالم بأنه كاذب في شهادته. اهـ. قال الشبراخيتي: ولا كان ما يصدر من القاضي تارة يكون حكما اتفاقا وتارة يكون [حكما]
(1)
مختلفا فيه هل هو حكم أو لا، وتارة ليس حكما اتفاقا، أفاد جميعها على هذا الترتيب، فأشار إلى الأول بقوله:
ونقل ملك، يعني أن نقل الملك عن شخص لآخر كقوله: نقلت ملك هذه الدار لزيد حكْمٌ إذا وقع بعد حصول ما يجب في الحكم من تزكية وإعذار وغيرهما لا قبله، فليس حكما. قاله عبد الباقي. وقال: ونقل ملك كقوله: نقلت ملك هذه الدار لزيد، أو هي ملك له، وكذا ثبت عندي أنها ملكه، قال غير واحد: أشار بهذا إلى أن الحكم لا يتوقف على لفظ حكمت، بل يكون بغيره، وقوله: ونقل، مبتدأ وخبره حكم الآتي، وهو مصدر مضاف إلى مفعوله. وفسخ عقدت يعني أن الحاكم إذا قال: فسخت عقد كذا نكاحا أو بيعا أو غيرهما، فإن زلك حكم إذا وقع بعد حصول ما يجب في الحكم، وفسخ مصدر مضاف إلى مفعوله وهو معطوف على ونقل.
وتقريرُ نكاح بلا ولي، يعني أن المرأة إذا زوجت نفسها ولم يزوجها وليها بأن عقدت هي نكاح نفسها ورفع ذلك إلى حاكم حنفي فسكت ولم يحكم بإثبات ولا نفي فإن ذلك حكم منه بثبوت النكاح المذكور: فالمراد بالتقرير ما يشمل سكوت الحنفي عنه حين رفع ولم يحكم بإثبات ولا نفي، فليس لمالكي نقضه لأن سكوت الحنفي عندنا حكم وأولى حكمه بإثباته. قاله عبد الباقي. وقوله: وتقرير، هو كذا في بعض النسخ، وهي أولى من: تَقَرُّر، كما في بعض النسخ، ومعناه التقرير، وعلم مما قررت أن قوله:
حُكمٌ، خبر المبتدأ كما صَرَّحْتُ بذلك، وقال المواق عن ابن شأس: ما قضى به الحاكم من نقل الأملاك وفسخ العقود ونحو ذلك فلا شك في كونه حكما، فأما إن لم يكن تأثير القاضي في الحادثة أكثر من إقرارها لما رفعت إليه، مثل أن يرفع إليه نكاح امرأة زوجت نفسها بغير ولي
(1)
كذا في الأصل والشبراخيتي.
فأقره وأجازه ثم عزل وجاء غيره، فهذا مما اختلف فيه. فقال ابن القاسم: طريقه طريق الحكم، وإمضاؤه والإقرار عليه كالحكم بإجازته، ولا سبيل إلى نقضه. واختاره ابن محرز، اللخمي: قول ابن القاسم أحسن، ابن العربي: إن ترك القاضي الحكم بالمسألة فرأى ابن القاسم أن يمضي بالترك فإنه حكم صحيح: كتركه فسخ نكاح المُحرِم ونكاح من حلف بطلاق قبل الملك ونحوه. اهـ.
تنبيه: إذا باع الحاكم على معسر أو يتيم أو فعل عقدا من العقود، فهل ذلك حكم منه بذلك الفعل أم لا؟ الظاهر أنه ليس بحكم، وقد نقل في التوضيح في بيع البراءة عن المازري ما يقتضي ذلك. والله أعلم. وانظر تبصرة ابن فرحون فإنه نقل عن القرافي أن ما تولاه من العقود في بيع أو نكاح من في ولايته ليس بحكم. قاله الحطاب.
فرع: قال ابن رشد في نوازله: إشهاد القاضي على نفسه بثبوت العقد عنده حكم بعدالة البينة عنده، فلا يلزم أن يُعيدَ الشهودُ شهادتَهم عند غيره، لأن ذلك يوجب ألَّا يحكم بشهادتهم إلا بعد علمه بعدالتهم أو بعد تزكيتهم عنده، وإذا ثبت عنده أن القاضي أشهد بثبوت العقد عنده قضى بشهادتهم بعد الإعذار دون تزكية وإن لم يعرف عدالة. انتهى. ووقع في كلامه بعد ذلك مسألة تخالف ما ذكره في هذه المسألة. نقله الحطاب. وقال الشبراخيتي: فعل القاضي ليس بحكم، فإذا زوج امرأة بطريق الولاية لم يكن ذلك حكما بالصحة بخلاف تقريره، كما يفيده كلام التوضيح عن المازري، وهو خلاف ما نقله عن ابن أبي زيد وابن محرز وابن المكاتب من أن ذلك حكم كما في التوضيح أيضا. انتهى. وفي الحطاب: سئلت عن مسألة وهي: ما إذا أسند شخص وصيته على أولاده إلى [شخص]
(1)
وأثبت ذلك حاكم مالكي وحكم به، فهل للحاكم الحنفي أو غيره أن [يثبت]
(2)
رشد ذلك المحجور ويفك عنه الحجر؟ فأجبت: بأنه إذا حكم المالكي بصحة الوصية لا ينافي ذلك حكم الحنفي أو غيره بفك الحجر عنه بما يوجب ذلك، وأما إذا حكم المالكي بموجب الوصية فللحنفي إذا آنس منه الرشد وثبت ذلك عنده أن يحكم بفك الحجر
(1)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من الحطاب ج 6 ص 354 ط دار الرضوان.
(2)
في الأصل ثبت والمثبت من الحطاب ج 6 ص 354 ط دار الرضوان.
عنه، وأما إذا أراد أن يفك الحجر بغير ذلك كما يذكر عن الحنفية أن الشخص إذا بلغ خمسا وعشرين سنة انفك عنه الحجر وإن لم يؤنَس رشده فليس له ذلك، لأن ذلك مناف لحكم المالكي بموجب الوصية، لأن موجبها أنه لا ينفك عنه إلا بإيناس الرشد. فتأمله. والله أعلم. انتهى.
فرع: قال القرافي: الإقطاع حكم من أحكام المالكية لا ينقض. نقله الحطاب.
لا لا أجيزه، يعني أنه إذا رفع هذا النكاح أي نكاح امرأة زوجت نفسها بلا ولي إلى قاض، فقال: أنا لا أجيز النكاح بغير ولي، ولم يحكم بفسخه، فإن هذا ليس بحكم بالفسخ ولكنه فتوى، فيكون لمن يأتي بعده أن يستقبل النظر فيه. قال الإمام التتائي: لا لا أجيزه فليس بحكم، كذا لابن شأس وتبعه ابن الحاجب والمص وابن عبد السلام وابن هارون. ابن عرفة: مقتضى جعله فتوى أن لمن ولي بعده أن ينقضه، والظاهر أنه لا يجوز للثاني نقضه لأن قول الأول حين رفع إليه: لا أجيزه ولا أفسخه حكم منه بأنه مكروه، والكراهة حكم شرعي يجب رعيه ولازمه، وحكم المكروه عدم نقضه بعد وقوعه ولا سيما على قول ابن القاسم في حكم الحاكم إذا كان متعلقه تركا. اهـ. وقوله: لا لا أجيزه، كذا في بعض النسخ بتكرير لا وهو الصواب. قاله الشبراخيتي: وقال المواق عن ابن شأس: أما لو رفع هذا النكاح إلى قاض، فقال: لا أجيز النكاح بغير ولي من غير أن يحكم بفسخ هذا النكاح بعينه، فإن هذا ليس بحكم ولكنه فتوى ويكون لمن يأتي بعده أن يستقبل النظر فيه. انتهى.
أو أفتي، يعني أن القاضي إذا قال في أمر رفع إليه: أنا أفتِي بكذا، فإن هذا ليس بحكم اتفاقا، لأن الفتوى الإخبار بالحكم لا على وجه الإلزام. قال الشبراخيتي: وهو من عطف العام على الخاص، وقال المواق عن ابن الحاجب: فتواه في واقعة واضح أنه ليس بحكم. ابن عرفة: جزم القاضي بحكم شرعي على وجه مجرد إعلامه به فتوى لا حكم، وجزمه به على وجه الأمر به حكم. اهـ. ولم يتعد لمماثل، يعني أن الحاكم المجتهد إذا حكم في مسألة معينة فإن حكمه فيها لا يتعدى إلى مماثلتها، ومعنى ذلك أنه لا يكون حكمه في مسألة بشيء مانعا له أو لغيره من
الحكم بخلافه في نظيرتها، نعم لا يجوز لغيره إذا رفعت إليه تلك النازلة التي حكم الأول فيها بعينها أن ينقضها. قاله بناني.
بل إن تجدد فالاجتهاد، يعني أنه إذا تجدد المماثل، وقلنا: إن الحكم في الأول لا يتعدى له، فإنه يجتهد أي يبذل وسعه في هذا الماثل، فله الحكم بما أداه إليه اجتهاده فيه كان موافقا للأول أو مخالفا له، وقوله: فالاجتهاد أي منه أو من غيره، وعلم من هذا أن الكلام في المجتهد وأما المقلد فليس له اجتهاد فيما تجدد مماثلا لما حكم به أولا بل يحكم بمثله. نقله عبد الباقي. قال: وما قيل من أن المقلد أولى بهذا الحكم، معناد أنه لا يكون الحكم في الأولى حكمًا في الثانية المماثلة رافعا للخلاف فيها لما علمت من أن الحكم على شيء معين جزئيٌّ، فلا بد من حكم آخر للمماثل حتى يرفع الخلاف فيها أيضا، ومثل للمتجدد المعرض للاجتهاد بقوله: كفسخ برضع كبير، يعني أن المجتهد إذا فسخ نكاح امرأة بسبب رضاع كبير ثم عرض عليه نكاح امرأة مثل ذلك، فإن حكمه الأول لا يجري في هذه بل يجتهد، فإذا أداه اجتهاده إلى عدم الفسخ عمل على ذلك. قاله الشبراخيتي. وقال بناني: صورتها رجل رضع مع امرأة وهما كبيران، أو أحدهما كبير والآخر صغير، ثم تزوجها فحكم قاض بفسخ نكاحهما، فإن تزوجها ثانية فرفع ذلك إلى القاضي الأول وقد تغير اجتهاده أو إلى قاض آخر لا يرى نشر الحرمة برضاع الكبير فإن له أن يقر هذا النكاح لأنه غير النكاح الذي حكم بفسخه إذ هما نكاحان، هذا مراد المص، وبحث فيه ابن عرفة بما حاصله: أن الحكم بإقرار هذا الثاني نقض للحكم الأول، لأن متعلق الحكم الأول أن الرضاع الواقع بين هذين الزوجين ينشر الحرمة، والفسخُ مُترتّب عليه، فإذا حكم بإقرار النكاح الثاني فقد حكم بأن ذلك الرضاع لا ينشر الحرمة، وهو نقض للحكم الأول بأنه ينشر. اهـ.
وتأبيد منكوحة عدة، قال بناني: صورتها من تزوج امرأة في العدة ثم فسخ الحاكم نكاحها وهو يرى تأبيد الحرمة ولكنه لم يتعرض للتأبيد بل سكت عنه، فإذا تزوجها ذلك الزوج ثانية فللحاكم الأول إذا تغير اجتهاده فرأى عدم التأبيد، ولغيره إذا رأى ذلك أن يقر هذا النكاح الثاني، لأن الحكم بفسخه إنما هو لفساده وهو لا يستلزم الحكم بالتأبيد، فإن حكم الأول بالفسخ
والتأبيد لم يجز إقرار هذا النكاح الثاني لأنه نقض للحكم الأول: وبهذا تعلم أن في كل من المثالين في كلام المص إشكالا، لكن الأول مسلم لفظا مشكل معنى، والثاني بالعكس، وعبارة ابن الحاجب أحسن، لأنه قال: ونكاح معتدة. والله أعلم. راجع ابن غازي والحطاب. وقوله: وتأبيد، قرره غير واحد بأنه عطف على رضع، أي كفسخ برضع كبير وفسخ بسبب تأبيد منكوحة عدة، لا أنه حكم بالتأبيد كما هو ظاهره، إذ لو وقع كذلك لم يكن له ولا لغيره تعقبه بل تتأبد. والله سبحانه أعلم. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: والظاهر أن هذا لا يدفع الإشكال، لأنه إذا فسخه لأجل التأبيد استلزم ذلك كونه حكم بالتأبيد، فالأحسن لو قال: ومنكوحة عدة. والله سبحانه أعلم. ويمكن تصحيح كلام المص بجعل وتأبيد عطفا على فسخ، ومعناه ينظر في تأبيد منكوحة العدة فإن أداه اجتهاده إليه وقع وإلَّا صَحَّ نكاحها حيث فسخ نكاحها لفساد العقد لا للتأبيد. والله تعالى أعلم. انتهى. وقال الحطاب: ما ذكره ابن عرفة من البحث مع ابن رشد وتفريقه بين المثالين ظاهر، لأن حكم القاضي في رضاع الكبير بفسخ النكاح مستلزم لحكمه بتحريم رضا الكبير. إذ لا موجب للفسخ سواه، فحكم القاضي بصحة النكاح الثاني رافع للحكم الأول بتحريم رضاع الكبير فلا يصح حكمه بذلك، بخلاف حكمه بفسخ نكاح المعتدة فإنه لا يستلزم الحكم بتأبيد حرمتها، لأن الفسخ لكون النكاح في العدة فاسدا وتأبيد التحريم أمر وراء ذلك اختلف فيه العلماء، نعم وقع في عبارة ابن شأس التي نقلها الجماعة عنه ومنهم ابن عرفة أن القاضي فسخ نكاح المعتدة وحرمها، فإن كان مرادهم بقولهم: حرمها، أنه حكم بحرمتها عليه للفسخ فما قالوه ظاهر، وإن كان مرادهم أن القاضي حكم بتأبيد تحريمها فكيف يصح حكم القاضي الثاني بصحة النكاح الثاني؟ ولعلهم فهموا المعنى الأول، فأما على الثاني فلا يجوز للقاضي الثاني أن يحكم بصحة الحكم الثاني. اهـ.
تنبيه: لو رفع نكاح الناكح في العدة لقاض ففسخه، ثم تزوجها ذلك الزوج بعد انقضاء العدة والاستبراء من وطئه، فرفع ذلك لقاض يرى تأبيد تحريمها ففسخ النكاح، فلا يصح حينئذ لقاض آخر أن يحكم بصحة نكاحها بعد ذلك، لأن فسخ هذا النكاح الثاني مسلتزم للحكم بتأبيد
تحريمها على الناكح في العدة إذ لا مقتضِيَ للفسخ سواه. فتأمله. والله أعلم، قاله الحطاب والشبراخيتي.
وهي كغيرها في المستقبل، يعني أن هذه المرأة التي فسخ نكاحها بسبب رضع الكبير، والمنكوحة في العدة التي فسخ نكاحها على الوجه المذكور، كغيرها ممن لم يتقدم عليها فسخ بسبب رضاع في الأولى، وممن لم يتقدم عليها عقد غير من اعتدت منه في الثانية في المستقبل، فله أو لغيره العقد عليها لمن فسخ نكاحه في الصورتين لأنه لم يوجد من الحاكم إلا مجرد فسخ النكاح، وهذا ظاهر في الثانية دون الأولى. والله تعالى أعلم. وقوله: كغيرها في المستقبل، قال بناني: ليس فيه كبير فائدة مع ما فهم مما قبله وقوله وهي كغيرها في المستقبل، نحوه لابن الحاجب تبعا لابن شأس، قال ابن عرفة: وقبلوه وهو صواب في مسألة العدة لا في رضاع الكبير. اهـ. وللشبراخيتي هنا كلام الظاهر سقوطه. والله أعلم.
ولا يدعو لِصلحٍ إن ظهر وجهه، يعني أن القاضي لا يدعو للصلح بين الخصمين إن ظهر له وجه الحق لأحدهما على الآخر ببينة شرعية أو إقرار معتبر، أي لا يجوز له ذلك، لأن الصلح لا بد فيه غالبا من حطيطة، فالأمر به هضم لبعض الحق، ويستثنى مما هنا "وأمر بالصلح ذوي الفضل والرحم كأن خشي تفاقم الأمر" لأنه خلفه عِلَّةٌ أخرى أقوى من التعليل هنا وهي خوف العداوة لقول عمر رضي الله عنه: رددوا الحكم بين ذوي الأرحام حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث الضغائن. وذوو الفضل وإن لم يكن بينهم رحم فهم إخوة، وتفاقم الأمر يورث الضغائن أيضا. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: ومما يدعو فيه الحاكم للصلح ما إذا أشكل عليه الحكم، والمراد بظهور وجهه ثبوته بالإقرار المعتبر أو البينة التي يثبت بها. وقال بناني: لو قال المص فيما تقدم بعد قوله: كأن خشي تفاقم الأمر: أو أشكل وجه الحكم، لم يحتج إلى ما هنا. ابن عرفة: ويتقرر الإشكال من ثلاثة أوجه، الأول: عدم وجدان أصل النازلة في كتاب ولا سنة. والثاني: إن شك هل هي من أصل كذا أم لا؟ الثالث: أن يجد لها أصلين بالسوية دون ترجيح. ويختلف في هذا القسم هل حكمه الموقف أو التخيير في الحكم بأيهما شاء قياسا على تعارض
الحديثين دون تاريخ؟ قال: والوقف أحسن، ومثل ذلك تعادل الأمارتين؛ والأمارة كل ما أنتج الظن، والضمير في قوله: وجهه، للحق أو للحكم. ولابن عاصم:
والصلح يَسْتَدعِي له إن أشكلا
…
حكمٌ وإن تعيّن الحق فلا
ما لم يخف بنافذ الأحكام
…
فتنة أو شحنا ذوِي الأرحام
يعني أن القاضي إذا أشكل عليه الحكم فإنه يدعو الخصمين إلى الصلح، يعني إذا كان الإشكال لتعارض البينات ونحوه، لا إن جهله القاضي مع كونه ظاهرًا في نفسه، وأما إن ظهر له وجه الحكم فلا يدعو إلى الصلح، بل ينفذ الحكم من غير مبالاة بعذل عاذل، إلا إذا خاف من تنفيذ الحكم عن صميم الشرع حصول فتنة أو وقوع شحناء بين أولي الأرحام وذوي الفضل، فإنه يأمرهم بالصلح ويحضهم عليه، وعلى القناعة ببعض الحق، وإن ظهر وجه الحكم، وكأنه ارتكاب لأخف الضررين، ومعنى يستدعي يدعو له ويأمر به، وفاعله ضمير القاضي، وفاعل يخف ضمير القاضي أيضا، وقوله: إن أشكلا، قال الشيخ أبو علي: نقلنا أن كثيرا قالوا: القاضي يدعو إلى الصلح وإن لم يكن إشكال أصلا، ولذلك قال ابن يونس ما نصه: وقال كثير من أصحاب ملك: لا بأس أن يأمرهما بالصلح متى رآه قبل النظر وبعدد أشكل أمرهما أو لم يشكل، وفيه أيضا: وقال غيره من أصحابه أي من أصحاب ملك: على القاضي أن يشير على الخصمين في أول خصامهما بالصلح. فإن أبيا منه لم يجبرهما عليه، وفي الوثائق: وليس للحاكم أن يجبر الناس على الصلح وإنما عليه أن يشير في أول الخصام، فإن أبيا منه حملهما على الحق، وفي المقرب: واحرص على الصلح ما لم يتبين لك القضاء، وهذا كلام يدل على أن الأمر بالصلح جائز أو مطلوب قبل الإشكال من جهة التصور أو الحكم. اهـ.
ولا يستند لعلمه، يعني أن القاضي لا يجوز له أن يستند لعلمه في شيء من الأشياء مجتهدا أو مقلدا، بل لابد من بينة بالحق أو إقرار الخصم به. إلا في التعديل والجرح، يعني أن القاضي
يستند في علمه لعدالة الشهود وتجريحهم اتفاقا. قال ابن حبيب: قال مطرف وابن الماجشون: إذا عرف القاضي من الشاهد الفساد والجرحة في دينه فلا يقبله وإن زكيَ عنده بجميع الناس. اهـ. قال بناني: وهو ظاهر، وإنما البحث إذا علم عدالته وجرَحه غيره، والحق أنه لا يعتمد فيه على علمه لأن غيره علم ما لم يعلمه. قاله بعض الشيوخ. اهـ. وقال الرهوني: الحق التفصيل، فإن جرحه الشاهدان بما يتحقق القاضي براءته منه كقولهما: رأيناه يشرب الخمر وقت كذا، وقد صحبه القاضي في ذلك الوقت، فلا يقبل ذلك منهما لتحققه براءته مما جرحاه به وإلا عمل على التجريح. اهـ. وفي الشبراخيتي: ويقدم علمه بالتجريح على شهادة بينة بالتعديل حيث لم يحصل بين علمه بجرحته وشهادة البينة بتعديله طولٌ، ويستند القاضي لعلمه أيضا في تأديب من أساء عليه في مجلسه، أو مفت، أو شاهد، أو على خصمه، وكذلك في ضرب من تبين لدده أو كذب بين يديه. اهـ. سحنون: لو شهد عندي عدلان مشهوران بالعدالة وأنا أعلم خلافَ ما شهدا به، لم يجز أن أحْكُمَ بشهادتهما ولا أن أردهما لعدالتهما، ولكن أرفع ذلك إلى الأمير الذي فوقي وأشهد بما علمت وغيري بما علم. اهـ. المراد منه. وهذه المسألة تفيد تخصيص قول المص: ولا يستند لعلمه إلخ. قاله الشبراخيتي. وقال سحنون: ولو شهد عندي شاهدان ليسا بعدلين على ما أعلم أنه حق لم أقض بشهادتهما. اهـ. نقله المواق. ولابن عاصم:
وعدل ان أدى على ما عنده
…
خلافه منع أن يرده
وحقه إنهاء ما في علمه
…
لمن سواه شاهدًا بحكمه
أي إذا أدى الشاهد شهادته وهو عدل والقاضي يعلم خلاف ذلك، فإن القاضي لا يرد شهادته، وحكمُه أنه يرفع ما في علمه إلى قاض سواه فيكون شاهدا في مرتبة الشاهد وهو معنى حكمه، أي يكون في حكم الشاهد، فالضمير في حكمه للشاهد.
كالشهرة بذلك، أي بالعدالة أو الجرح، يعني أنه إذا شهد من هو مشتهر بالعدالة فإن الحاكم يستند لتلك الشهرة فيحكم بشهادة من شهرت عدالته عند الناس وإن لم يعرف هو عينه، ما لم
تشهد بينة بخلاف ذلك، أو يعلم القاضي خلاف ذلك، وكذلك يستند القاضي أيضا للشهرة بالجرح فيرد شهادة من شهر بالفسق وإن لم يعلم عينه، ما لم تشهد بينة بخلاف ذلك أو يعلم القاضي خلاف ذلك، وقد شهد ابن أبي حازم عند قاضي المدينة أو عاملها، فقال له: أما الاسم فعدل، ولكن من يعرف أنك ابن أبي حازم. أبو محمد: وأعجبَ ذلك مشايخَنا قاله الشبراخيتي وغيره. وقال المواق: قال ابن عبد الحكم: من الناس من لا يحتاج أن يسأل عنه لاشتهار عدالته، ومنهم من لا يسأل عنه لشهرته بغير العدالة، إنما يكشف عمن أشكل عليه. ابن عرفة: وذكر لي بعض شيوخي أن البرقي فقيهَ المهدية شهد في مسيرة إلى الحج عند قاضي الإسكندرية: فلما قرأ اسمه قال: أنت البرقي فقيه المهدية. فقيل له: نعم. فكلف المشهود له البينة على أنه هو، وحكم بشهادته دون طلب تعديله. اهـ.
أو إقرار الخصم بالعدالة، يعني أن المشهود عليه إذا أقر بعدالة من شهد عليه فإن القاضي يستند في حكمه إلى إقرار الخصم بعدالته فيحكم بشهادته، ولا يطلب منه تزكية، وسواء كان القاضي يعرف الشاهد أم لا، وسواء كان إقرار المحكوم عليه قبل أداء الشهادة أو بعد أدائها، ولا يقضَى بهم على غير هذا المشهود عليه إلا بتعديل. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: كإقرار الخصم بعد الشهادة بالعدالة، لأنه بمنزلة إقراره بالحق المشهود به وأما قبله فلا وإن نظَّر فيه ابن عبد السلام، وجواب البساطي فاسد. اهـ. وقال عبد الباقي: أو إقرار الخصم المشهود عليه بالعدالة للشاهد عليه، فيعتمد القاضي عليه ويحكم ولو علم هو أو بينته خلاف عدالته، ولا يحتاج لتزكية لأن إقراره بعدالته كأنه إقرار بالحق، ولذا لا تثبت عدالتهم على غير المشهود عليه، فلا يقضى بهم على غيره، وسواء أقر بها قبل أدائها أو بعده اهـ بل الظاهر أن هذا بعد أدائها الشهادة لا قبله، لا ما قاله أبو علي وهذا الشارحُ. انظر الرهوني. وقال المواق عن ابن الحاجب: لو أقر الخصم بالعدالة حكم عليه خاصة. ابن عرفة: لا أعرف هذا الفرع لأحد من أهل المذهب، وفي جريه على أصل المذهب نظر، لأنه إقرار متناقض فيجب طرحه، فإن قلت: فقد قال في الكافي: إن لم يعرف القاضي المشهود واعترف المشهود عليه بعدالتهم قُضِيَ بهم إذا لم يكذبهم، ولا يُقْضَى
بهم على غيره. قلت: قوله: إذا لم يكذبهم صير المسألة إلى باب الإقرار. وقال أصبغ: إذا رضي الخصمان بشهادة من لا يعرفه القاضي لم يحكم بها، وانظر من نوع هذا عَدَّل قاض شهودا فشهدوا عليه أن فيه جرحة أو شهد على مزكيه أيضا أن فيه جرحة. قال البرزلي: لا تجوز شهادتهم لأن القدح في الأصل قدح في الفرع، وقد اعترض ما قاله ابن عرفة تلميذاه ابن مرزوق والوانوغي، فالصواب ما للمصنف، لكن من حقه أن ينبه على أن هذا بعد أداء الشهادة. انظر الرهوني.
وإن أنكر محكوم عليه إقراره بعدد لم يفده، يعني أن الخصم إذا أقر عند الحاكم فالمشهور أنه لا يحكم عليه حتى يشهد بإقراره عنده شاهدان، فلو وقع ذلك بأن حكم عليه مستندا لإقراره في مجلس الحكم فأنكر الخصم إقراره، فإن ذلك الإنكار الواقع بعد الحكم لا يفيده ونفذ الحكم، فإذا قال الحاكم: حكمت عليه بمقتضى إقراره عندي، وأنكر المحكوم عليه الإقرار لا يفيده إنكاره، فقوله: بعده، أي الحكم وهو متعلق بأنكر، وأما الإقرار فهو قبل الحكم، ومفهوم المصنف أنه لو أنكر قبل الحكم لم يحكم عليه، فإن حكم عليه بذلك الإقرار وجب عليه نقضه ما دام قاضيا. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: وأما إن أنكر إقراره قبل الحكم عليه فإنه يفيده وهذا مبني على أنه يحكم بالإقرار الواقع في مجلسه على القول بجوازه، أو أن هذا بعد وقوعه، أو أنه شهد الشهود على إقراره وحكم به ثم أنكر إقراره وتعذرت شهادة الشهود بموت ونحوه. وأما لو أقر أنه حكم لشخص بشيء بشهادة فلان وفلان، وأنكر من سمى من الشهود أن يكون شهد بذلك فإن كان عدلا مأمونا عمل بقوله وإلا فلا، وابتدأ الحكم، وليس على المشهود غرم. ذكره في التبصرة ووقع في الجلاب: أن الحاكم إذا حكم بقضية وأنكر المحكوم عليه لم يقبل قول الحاكم إلا ببينة على حكمه، ولا يخالف كلام المص، لأن ما في المصنف أنكر سبب الحكم، وما في الجلاب أنكر الحكم، على ما وَفَّقَ به ابن عبد السلام. اهـ. كلام الشبراخيتي. وقال عبد الباقي: وإن حكم على شخص بإقراره بمجلس الحكم من غير شهود، ثم أنكر محكوم عليه إقرارَه بعده أي بعد الحكم عليه به لم يفده إنكاره وتم الحكم ولا ينقض، وإن نهي عن الحكم ابتداء قبل إحضارهم، كما يفيده قوله فيما مر: وشهودًا، فقوله: بعده، متعلق بأنكر، لا بإقراره أي أنكر
بعد الحكم إقراره قبله: وأما لو أنكر قبل الحكم عليه فالمشهور أنه لا يحكم عليه، لأنه لو حكم عليه حينئذ كان حاكما بعلمه، نعم يكون القاضي حينئذ شاهدًا عند قاض آخر كما في السوداني. اهـ. وقد علمت أن المشهور أن القاضي لا يستند لعلمه فيما أقر به الخصم في مجلس الحكم. وهو قول ابن القاسم، ومقابله لسحنون أنه يستند لعلمه في ذلك. قال صاحب التحفة:
وقول سحنون به اليوم العمل
…
فيما عليه مجلس الحكم اشتمل
وهو معترض بأن كلام ابن سلمون وصاحبِ المفيد يفيدُ أن العمل على قول ابن القاسم، وقال ابن سهل: لو أدرك سحنون زماننا لقال بقول ابن القاسم في كون الحاكم لا يستند لعلمه فيما أقر به الخصم بين يديه، وقد مر عن الزرقاني وغيره ما يفيد أن المشهور أنه لا يحكم بالإقرار حتى يشهد عليه، سواء استمر على إقراره حتى حكم عليه أو أنكره قبل الحكم، واعترضه مصطفى بأن الخلاف في الحكم بالإقرار الواقع في مجلسه إنما هو إذا أنكر، أما إذا استمر على إقراره فمحل اتفاق على أنه يحكم عليه، فإن أنكر بعد الحكم فهي مسألة المص. اهـ. الرهوني: اعتراض مصطفى صواب، وكلام اللخمي صريح فيما قاله.
وإن شَهدَا بحكم نسيه أو أنكره أمضاه، يعني أنه إذا شهد شاهدان على قاض بأنه حكم بكذا وادعى أَنه نسي ما حكم به أو أنكره بأن قال: ما حكمت بذلك، فإنه يُمضي ما شهد به الشاهدان معتمدا على شهادتهما وجوبا. قال الشبراخيتي: وللولد أن ينفذ حكم والده وبالعكس. وقال الخرشي: يعني أن القاضي إذا حكم بحكم ثم ادعى نسيانه أو أنكره من أصله، وقال: ما حكمت به، ثم شهد به عليه شاهدان فإنه يجب عليه إمضاؤه، ولو اقتصَر على الإنكار لفهم منه النسيان من باب أولى، ووقع في كلام الخرشي وعبد الباقي: أمضاه معزولا أم لا. قال بناني: لا معنى لكونه يمضيه بعد عزله إلا أن يكون مراده أن من يولَّى بعده هو الذي يمضيه. اهـ. وقال المواق عن اللخمي: ولو أنكر الحاكم والمحكوم عليه الحكم وقال ما حكمت بهذا، فشهدت بينة بحكمه به وجب تنفيذه. ابن عرفة: وقاله ابن القاسم وابن وهب. وفي التلقين: إن نسي الحاكم
حكما حكم به فإن شهد عنده عدلان به أنفذ شهادتهما. قال في فروقه: بخلاف إذا شهد شهود الفرع ونسي الشهادة شاهد الأصل. قال: وفي كلا الموضعين فهو نقل عن الغير. اهـ. وأما عكس كلام المص ففي المجموعة: قال ابن القاسم: في القاضي يقول لرجل: قضيت عليك بكذا بشهادة عدول فأنكر وسئل المشهود فأنكروا، قال: يرفع ذلك إلى السلطان فإن كان القاضي يعرف بالعدل لم ينقض حكمه أنكر المشهود أو ماتوا، وإلا لم ينفذ وابتدأ السلطان النظر. نقله الرهوني.
وأنهى لغيره، الإنهاء تبليغ الحاكم حُكْمَهُ أو ما حصل عنده مما هو دونه كسماع الدعوى لحاكم آخر. وقوله. لغيره، أي لقاض آخر، ولو صرح به لكان أبين، يعني أن القاضي يجوز له أن ينهي أي يوصل حكمه لقاض آخر لينفذه، وأن يوصل إليه ما دون الحكم ليبني عليه ويتممه، والإنهاء يكون بأحد شيئين إما بمشافهة، أي مخاطبة ومكالمة، مصدر شافهه كأنه من تحريك الشفتين بالكلام.
إن كان كل بولايته، أي إذا كان الإنهاء بالمشافهة فإنه يشترط في تنفيذ الثاني وبنائه أن يكون كل منهما بمحل ولايته، وذلك على ثلاثة أوجه، الأول: أن يكونا قاضيين ببلد واحد ولكل منهما جهة تخصه. والثاني: أن يكونا ببلدين متجاورين ففي الوجهين يقف كل واحد في طرف ولايته ويخبر الآخر بحكمه أو بما حصل دونه، فجعلوا محل ولايته كزمنها، ولذا اشترطوا كون كل بمحل ولايته فيكون المتكلم في محل ولايته والسامع منه كذلك، فإذا كان المنهي بغير محل ولايته لم يعتبر إنهاؤه لأنه بمنزله إخباره أو شهادته بعد العزل، وإن كان المنهَى إليه بغير محل ولايته فإنه لا يعتبر الإنهاء إليه لأن حكمه به بعد ذلك فيه استناد لعلم سبق سبق محله. والوجه الثالث: أن يكونا ببلد واحد مشتركين مطلقا، والحكم فيه أن يشافه كل منهما الآخر بما عنده، وهذا في الحكم، وأما لو أنهى إليه أنه ثبت عنده بشهادة حاضر فقد قال في التوضيح: تردد المازري في القاضيين إذا كانا ببلد واحد وأخبر أحدهما الآخر أنه ثبت عنده بشهادة فلان وفلان كذا هل إخباره كنقل شهادة فلا يكتفَى به لحضور المنقول عنهم، إذ لا يصح نقل عن حاضر لغير عذر، أو هو كالحكم فينفذه الثاني من غير إحضار الشهود؟ وقد يقال: إذا قبلنا قول القاضي
وحده فكذلك يصح نقله. اهـ. قاله التتائي. والإنهاء إما بمشافهة كما عرفت، وإما بشاهدين كما قال: أو بشاهدين، يعني أن الإنهاء يكون بشاهدين، قال عبد الباقي: إن كان كل بولايته أيضا، فحذف من الثاني لدلالة الأول عليه. وقال الشبراخيتي: وقوله: إن كان كل بولايته، قيد في الإنهاء، وأما المشافهة والإشهاد فتنويع للإنهاء، وقوله: مطلقا، معناه في كل حق، سواء كان الحق مما يثبت بأربعة كالزنى، أو بشاهدين، أو بشاهد وامرأتين، أو أحدهما بيمين أو بشاهد فقط، أو بامرأة فقط، أو بامرأتين. قاله التتائي. وقال الشبراخيتي: مطلقا في المال وما يؤول إليه وغيرهما. وسيأتي في الشهادات أنه يُكتفَى فيه بالشاهد واليمين في المال وما يؤول إليه كما يفيده قوله: أو بأنه حكم له به، وهو المعتمد وعليه فمنطوقه مسلم، وفي مفهومه تفصيل في الأموال وما يؤول إليها يكفي شاهد ويمين، وفي غيرها لا يكفي ذلك. اهـ. وقال عبد الباقي: مطلقا سواء كان الإنهاء بشاهدين فيما يثبت بأربعة كزنى، أو بهما كنكاح وعتق، وأما الشاهد واليمين فلا يثبت كتاب قاض بهما اتفاقا إلا في المال وما يؤول إليه فيثبت بهما، كما يفيده قوله: أو بأنه حكم له به، فيستثنى ذلك من مفهوم قوله: وبشاهدين مطلقا، كما يفيده الدميري، وربما دخل في الإطلاق الإنهاء بشاهدي الأصل، إذ العدول لا يتهمون على تجويز شهادتهم الأولى، وقيل: لا يجوز. اهـ. ونحوه في الخرشي، وفيه: وكلام المؤلف مقيد بما إذا أشهد الشاهدين على نفسه وهو بمحل ولايته والآخر بمحل ولايته. اهـ. وقوله: أو بشاهد مطلقا خلافا لسحنون القائل: لا يقبل في الزنى إلا أربعة يشهدون على الكتاب الذي فيه شهادة الأربعة بالزنى.
واعتمد عليهما، يعني أن القاضي المنهى إليه يعتمد على ما شهد به الشاهدان والحال أنهما خالفا في شهادتهما كتاب القاضي المنهِي، فالواو في قوله: وإن خالفا كتابه للحال لأن صورة الموافقة لا تتوهم، ومحل اعتماده على شهادتهما مع مخالفة كتاب النهي إن طابقت شهادتهما الدعوى وإلا لم يعتمد عليهما في شهادتهما على حكمه ودفع لهما كتابه ولم يقرأه عليهما. قال
الشبراخيتي: ويتصور مخالفة الشاهد لكتاب القاضي فيما إذا شهد الشاهدان على الحكم ودفع لهما كتابه ولم يقرأه عليهما.
وندب ختمه، يعني أنه يندب للقاضي النهي أن يختم كتابه، ومعنى الختم أن يجعل عليه ما يمنع فكه ليلا يزاد فيه أو ينقص، ولما كان ذلك غير محقق كان الختم مستحبا. ابن عبد السلام: لا يظهر للاستحباب كبير فائدة، لأن الاعتماد دائر مع الشهادة، وما ذكره واضح في صورة المخالفة، وكذا إذا قرأه عليهما، وأما عند انتفاء ما ذكر ففائدة الختم ظاهرة، إذ يمكن أن يسقط أو يسرق من المشهود فيزاد فيه أو ينقص منه، وإنما لم يجب الحكم في هذه الحالة لأن ذلك غير محقق. قال عبد الباقي: قيل: وندب الختم إنما هو من خارج الكتاب لا من داخله فيجب، لأن العرف عدم قبول غير المختوم. قال بناني: هذا القيد ذكره الفيشي، ولم أر من ذكره غيره، وفيه تخليط لأن ما به العرف في هذه المسألة مخالف للمشهور فيها. اهـ.
ولم يفده وحده، يعني أن كتاب القاضي المنهي إذا كان وحده أي مجردا عن الشاهدين فإنه لا يفيد بمعنى أن القاضي المنهى إليه بمنزلة من لم يحصل إليه إنهاء، فلا ينفذ ولا يبني. قال عبد الباقي: وكلامه هنا في الإنهاء، وما مر من قوله وإن أتى رجل بكتاب قاض إلخ، ليس فيه إنهاء، وإنما حمل الكتاب نفس المدعي للعبد. اهـ. قوله: وما مر ليس فيه إنهاء إلخ، قال بناني: فيه نظر، وقد مر الجواب عن هذا في محله فانظره. قال: واعلم أنه جرى العمل في هذه الأزمان بإفادة علامة القاضي بمجرد معرفتها. قال في التحفة:
والعمل اليوم على قبول ما
…
كتبه القاضي بمثل اعلما
ابن عرفة: قال ابن المناصف: اتفق أهل عصرنا على قبول كتب القاضي في الحقوق والأحكام بمجرد معرفة خط القاضي دون إشهاد ولا خاتم معروف، ولا يستطيع أحد فيما أظن صرفهم عنه، مع أني لا أعلم خلافا في مذهب ملك أن كتاب القاضي لا يجوز بمجرد معرفة خطه، ثم وجه عمل الناس بأن الظن الحامل بأنه كتاب القاضي الباعث له حصوله بالشهادة على خطه منضما للمشهور، وهو القول بالشهادة على خط الغير حسبما تقرر في المذهب يوجب كون هذا
الظن كالظن الناشيء عن ثبوته ببينة على أنه كتابه لضرر رفع مشقة مجيء البينة مع الكتاب، مع انتشار الخطة وبعد المسافة، وإذا ثبت وجه العمل بذلك، فإذا ثبت خط القاضي ببينة عادلة عارفة بالخطوط وجب العمل به، وإن لم تقم بينة بذلك والقاضي المكتوب إليه يعرف خط القاضي المكاتب إليه فجائز عندي قبوله بمعرفة خطه، وقبول سحنون كتب أمنائه بلا بينة يدل على ذلك، ويحتمل أن يقال لا بد من الشهادة عنده على خطه. اهـ. وهذا كله إن وصل كتاب القاضي قبل موته وعزله وإلا فلا يعمل به. انظر كلام ابن المناصف عند ابن غازي. وقبله ابن عرفة لكن قال الشيخ ابن رحال: الذي أدركنا عليه أشياخنا أن الإنهاء يصح مطلقا مات المكاتب أو عزل قبل الوصول: أو مات المكتوب إليه أو عزل أو تولى غيره. اهـ. ولابن عاصم:
ثم الخطاب للرسوم إن طلب
…
حتم على القاضي وإلا لم يجب
قال الشيخ ميارة: الخطاب هو أن يكتب قاضي بلد إلى قاضي بلد آخر بما ثبت عنده من حق الإنسان في بلد القاضي المكتوب إليه، وينفذ المكتوب إليه ذلك في بلده، فيقع الحكم هنالك عملا بقوله قبل والحكم في المشهور إلخ، ومعنى قوله "ثم الخطاب للرسوم" إلخ، أن خطاب القاضي أي كتبه في الرسوم جمع رسم أي الصكوك واجب إن طلب منه وإلا لم يجب، وكذلك الإنهاء بالمشافهة يجب إن طلب منه وإلا لم يجب، وفي سماع [عيسى عن]
(1)
ابن القاسم: من ثبت حقه عند قاض فله أن يكتب له بذلك كتابا إلى أي قضاة الآفاق كان، لا يسمي قاضيا بعينه ولا بلدا بعينها، قال ابن رشد: هو كما قال. الشارح: ومما يلحق بذلكَ النظر في الخطاب وفي محله من الرسم [وفي]
(2)
كيفيته. قال ابن المناصف: شأن قضاة وقتنا كتب الخطاب أسفل وثيقة ذكر الحق، وقد يكون في ظهر الصحيفة أو أحد عرضيها إن عجز أسفلها، وربما كان في ورقة ملصقة بالوثيقة إن تعذر الموضع، ويستحب أن يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم، واستخف قضاة زماننا ترك ذلك
(1)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من ميارة ج 1 ص 68 وهو في سماع عيسى عن ابن القاسم من البيان ج 9 ص 422.
(2)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من ميارة ج 1 ص 68.
في مخاطبات الوثائق وأراهم لاكتفائهم بالاستفتاح الواقع في صدر العقد وإعادة ذلك أولى، وكيفيته: أعلم بصحة الرسم القيد فوق هذا على ما يجب الشيخَ الفقيهَ الأجلَّ أبا فلان ابن فلان أدام الله تسديده وتوفيقه وليُّه في الله فلان والسلام. وذكر تاريخ المخاطبة أولى وأحوط لاحتمال عزل القاضي المكاتب ولم يبلغه العلم بعزله، فيدخل الخلاف في إعمال خطابه وعدم إعماله، وليلا تنتقل أحوال البينة المخاطب بقبولها لجرحة حدثت، فإذا أعذر إلى من ثبت الحق عليه ولم يكن تاريخ أمكنه إبطاله بجرحها بذلك، بخلاف ما إذا كان تاريخ لسلامتها وقت الأداء والقبول من الجرحة الحادثة، وإنما قدموا في التخاطب مفعول أعلم وهو اسم المكتوب إليه على الفاعل الكاتب تعظيما له واهتماما به، ويجب على القاضي الذي ثبت عنده كتب المنهي أن يشهد على نفسه بثبوت ذلك الكتاب الذي قبله بمعرفة [خطه]
(1)
ليلا يعزل أو يموت، وإن اشتملت الوثيقة على عقود كثيرة صح جمعها عنده، نص على ذلك في خطاب واحد فيقول:[أعلمت]
(2)
الشيخَ الفقيهَ القاضي أبا فلان بصحة الرسوم الثلاثة أو الأربعة المقيدة أو الرسمين المقيدين فوق كتابي هذا أو بمقلوبه، وإن صح بعضها دون جميعها نبه على ما صح منها بأن يقول: المقيد أول هذا الصفح أو الموالي لكتابي هذا، أو يعينه تعيينا يرفع الإشكال. ولابن عاصم:
وليس يغني كتب قاض كاكتفى
…
عن الخطاب والمزيد قد كفى
وإنما الخطاب مثل أعلما
…
إذ معلَما به اقتضى ومعلَما
يعني أنه لا يحصل الخطاب بصحّ الرسم عندي أو استقل أو اكتفى، فذلك لغو، وإنما يحصل الخطاب بأعلم، ولكن قوله: صح الرسم عندي أو اكتفى أو استقل يكفي المشهود له عن زيادة الشهود، فلا يطلب بعد ذلك بشهود زيادة على ما حصل في العقد، وقوله: أعلم، أي أعلم كاتبه الواقف عليه أن هذا الرسم يستحق أن يعمل بمقتضاه لاستجماعه شروط الحكم بعد استقلاله
(1)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من ميارة ج 1 ص 70.
(2)
في الأصل: أعلم والمثبت من ميارة ج 1 ص 70.
بنفسه وعدم توقفه على غيره. وقوله: بمثل أعلم، أي لو وقع الاصطلاح بما سوى أعلم من مماثلها لما منع من ذلك، ولا تقرر الاصطلاح بالإعلام. ولابن عاصم رحمه الله:
وإن يمت مخاطب أو عزلا
…
رد خطابه سوى ما سجلا
واعتمد القبول بعض من قضى
…
ومعلم يخلفه والي القضا
والحَكَم العدل على قضائه
…
خطابه لا بد من إمضائه
أشار بهذه الأبيات إلى أن حكم ما إذا مات أحد القاضيين أو عزل أو مات، فأخبر أنه إذا مات المخاطب بالكسر أو عزل فقد اختلف هل يعتمد خطابه ويعمل عليه أو لا؟ فمنهم من رد خطابه، ثم قال: واعتمد القبول بعض من قضى أي بعض القضاة، ومحل هذا الخلاف إذا لم يسجل الحكم، وأما إن سجله وأشهد على نفسه عدلين أنه حكم وأنفذه فإنه يعمل به اتفاقا، سواء بقي على قضائه أو مات أو عزل، وعلى ذلك نبه بقوله: سوى ما سجل. قال الشيخ ميارة: فإن قلت: كلامنا في خطاب [القاضي]
(1)
بما ثبت عنده لقاض آخر [والتنفيذ]
(2)
في بلد المحكوم عليه، فكيف يسجل المخاطب الحكم وينفذه وإنما ينفذه القاضي المنهى إليه المخاطَب بالفتح؟ قلت: يتصور ذلك حيث يكون المتنازع فيه دينا في الذمة وكان المحكوم عليه مع طالبه [في]
(3)
بلد الطالب، فينفذ قاضيها عليه عملا بقوله قبل:
وحيث يلفيه بما في الذمه
…
يطلبه .........................
(1)
في الأصل القضاة والمثبت من ميارة ج 1 ص 75.
(2)
في الأصل: والتقييد والمثبت من ميارة ج 1 ص 75.
(3)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، والمثبت من ميارة ج 1 ص 75.
ثم يكتب لقاضي بلد المطلوب بما حكم به وأمضاه ليمكن الطالب من مال المطلوب إن لم يكن عنده مال في بلد الحكم. والله أعلم. ثم أخبر أنه إذا مات القاضي المكتوب إليه المخاطَب بالفتح وهو المعلَم بالفتح أو عزل فإن من ولي القضاء بعده يخلفه وينزل منزلته في إنفاذ ما خوطب به، وقوله: والحكم العدل، البيت، مفهومه قوله: وإن يمت مخاطب، ومعناه أن المخاطِب بالكسر العدل إذا لم يطرأ عليه موت ولا عزل فإن خطابه ماض غير مردود، فلا بد من إمضائه، وفاعل سَجّل ضمير يعود على مخاطب، والقبول مفعول اعتمد، واحترز بالعدل من غيره فإن خطابه لا يقبل.
وأديا وإن عند غيره، يعني أنه إذا كان الإنهاء بشاهدين ومات القاضي المنهَى إليه أو عزل فإنهما يوديان شهادتهما عند من ولي بعده، بمعنى أنه يُمضِي ذلك الغير ما شهدا به وينفذه. قال التتائي: وأديا وإن عند غيره، نحو قول أقضية المدونة: وإذا كتب قاض إلى قاض فمات الذي كتب الكتاب أو عزل قبل أن يصل الكتاب إلى القاضي المكتوب إليه، أو مات المكتوب أو عزل ووصل الكتاب إلى من ولي بعده فالكتاب جائز ينفذه من وصل إليه، وان كان إنما كتب لغيره، وقوله: وأديا وإن عند غيره، ظاهره أنهما يوديان عند غير المكتوب إليه، ولو كتب اسم المكتوب له عليه. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: وأديا وإن عند غيره، أي إذا كان المحكوم عليه يعرف عند غيره وإلا فلا يوديان إلا عند المنهَى إليه كما وقع لابن القاسم. انتهى. وذلك أنه وقع لابن القاسم في قاضي مصر إذا كتب لقاضي إفريقية في القضاء على غائب بإفريقية فلقي المحكوم له المحكوم عليه بطرابلس أنه لا يحاكمه فيها. قال المازري: يتأول على أن المحكوم عليه لا يعرفه حيث لقيه خصمه، وإنما يعرف بالبلد الذي كتب لقاضيه، وإلى هذا أشار سحنون. قاله التتائي. وقال عبد الباقي: وأديا وإن عند غيره أي غير المنهَى إليه من مولى آخر بمحل ولايته، بشرط أن يوجد فيه الخصم ويعرف أنه هو، أو بمحل المنهَى إليه لموته أو عزله، ولو كتب اسمه في الكتاب، كما هو ظاهر نقل المواق. اهـ. وقال المواق عن ابن شأس: للشاهد على الحكم أن
يشهد عند المكتوب إليه وعند غيره. اهـ. وعلم مما مر عن عبد الباقي وغيره أن قول المص: وإن عند غيره، يشمل ما إذا لقي المحكوم له المحكوم عليه بغير بلد المنهَى إليه فيؤديان عند قاضي ذلك البلد حيث كان المحكوم عليه يعرف به ولو كان القاضي المنهَى إليه لم يمت ولم يعزل والله سبحانه أعلم.
فرع: إن ادعى شخص على آخر أن القاضي قضى له عليه بمال فأنكره فطلب يمينه، فعلى أنه لا بد من عدلين لا يمين عليه، وعلى مقابله وهو الراجح يحلف، المكناسي: نزلت ووقع الحكم بوجوب اليمين. قاله الرهوني.
وأفاد إن أشهدهما أن ما فيه حكمه أو خطه، يعني أن كتاب القاضي المنهي يفيد، بمعنى أنه يَعملُ به المنهَى إليه وينفذه إذا أشهد القاضي المنهي شاهدي الإنهاء على أن ما فيه حكمه أو خطه وإن لم يفتحه ولا قرأه عليهما. قال الشبراخيتي ونحوه لعبد الباقي: ظاهره أن الشهادة من غير إشهاد لا عبرة بها، وهو قول أشهب، وقال ابن القاسم وابن الماجشون: إنه يكفي. وقوله: وأفاد إن أشهدهما إلخ، قال التتائي عن ابن عبد السلام: هو الصحيح عندي لأنهما أديا ما أشهدا به من غير معارض. اهـ. وحجته (أنه عليه الصلاة والسلام دفع إلى عبد الله بن جحش كتابا وأمره أن لا يقرأه إلا بعد أن يسير ليلتين فإذا قرأه فليبلغ ما فيه). اهـ.
كالإقرار، يعني أنه إذا قال كاتب وثيقة: اشهدوا عليَّ بما فيها أو أنه خطي أو أنه عندي أو في ذمتي فإنه يعمل بذلك ويكون إقرارا بما فيها. قال التتائي: كالإقرار من كاتب وثيقة قال: اشهدا علي بما فيها وأنا عالم بما فيها. قال المص: الصحيح قبول هذه البينة ككتاب القاضي، لأن الإقرار بالمجهول صحيح، وحكى عبد الوهاب روايتين فيمن دفع لشهود كتابا مطويا وقال:[اشهدوا]
(1)
علي بما فيه. ابن عبد السلام: اختلف المذهب في كراهة شهادة الشاهد بذلك في الوصية لاحتمال أن يكون فيها جور. اهـ. وقال الشبراخيتي ونحوه لعبد الباقي: ثم لمن أقر عنده أو أشهدد في صفة التأدية طريقان، إحداهما: أن يؤديا على نحو ما سمعا، والثانية: أن يقرءا
(1)
في الأصل اشهدا والمثبت من التوضيح ج 7 ص 445.
المكتوب ويؤديا على نحو ما فيها. اهـ. وقال بناني: قال ابن الحاجب: ولو قال: أشهدكما على أن ما في الكتاب خطي أو حكمي فروايتان، ومثله لو أقر مقر بمثله. اهـ. التوضيح: قال ابن عبد السلام: والصحيح عندي منهما إعمال ما في الكتاب لأنهما أديا عنه ما أشهدهما به ولا معارض، ووجه المازري الرواية الأخرى بأنهم إذا لم يعلموا ما تضمنه فالشهادة بمضمونه شهادة بما لم يعلموا، وضعَّفه بأن ما تضمنه على الجملة قد أقر به من أمره بالشهادة والعلم تارة يقع جملة وتارة يقع تفصيلا. اهـ. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: فهم من كلام غير واحد أن قوله: كالإقرار، مشبه بما قبله لإفادة حكم الإقرار، وقد صَرَّحَ الشيخ الخرشي بخلاف ذلك، فقال: تشبيه للقياس أي وأفاد هذا قياسا على هذا. انتهى.
وميز فيه ما يتميز به من اسم وحرفة وغيرهما، قال الخرشي: يعني أن شرط الحكم بما في كتاب القاضي أن يكون مشتملا على صفة المحكوم عليه الصفة الخاصة المميزة لموصوفها عن غيره، من اسم المحكوم عليه واسم أبيه واسم جده، أو صناعته وحليته ومسكنه وغير ذلك اهـ وقال التتائي شارحا للمص: وإذا حكم القاضي على غائب وطلب المحكوم له منه أن يكتب له كتابا إلى حاكم بلد المطلوب، كتب له وميز فيه ما يتميز به الغائب المحكوم عليه، من اسم له ولأبيه وجده، وحرفة وغيرهما من حلية ومسكن وشهرة، وقال عبد الباقي: وميز القاضي وجوبا فيه، أي في كتاب الإنهاء ما يتميز الدعى عليه به من اسم له ولأبيه وجده إن احتيج له، فإن أشهد باسمه فقط كفى أو كنيته فقط كفى، كابن عبد البر، وأبي بكر الصديق، وابن أبي زيد، فإنه لو قيل: يوسف في الأول، وعبد الله في الثاني والثالث لم يعرفا، ولا يكفي في مثلهما إلا الكنية. "وحرفة وغيرهما" من الصفات التي لا يشاركه في جميعها غيره غالبا. اهـ.
فنفذه الثاني، يعني أن المنهَى إليه ينفذ حكم الأول إن حكم. وبنى، أي يبني الثاني حيث لم يحكم الأول، فإن كتب إليه بثبوت شهادتهم فقط لم يأمرهم بإعادتها، وينظر في تعديلهم، وإن كتب إليه بتعديلهم لم ينظر فيه بل يعذر للمشهود عليه، وإن كتب أنه أعذر إليه وعجزه عن المدفع أمضى الحكم عليه. قاله عبد الباقي. قال: وكلام المص جار في وجهي الإنهاء وإن لم يكن له عذر في إتمامه، وبحث فيه في توضيحه. اهـ. وذلك أنه لما ذكر في توضيحه الإنهاء بالمشافهة
بأن يكونا قاضيين ببلد واحد [قال: هذا]
(1)
- والله أعلم - إذا عرض للأول عارض يمنعة من الإتمام كمرض ونحوه. اهـ. قاله بناني. ولما شارك حكم الإنهاء مسألة ليست منه وإنما هي موافقة له في التنفيذ شبهها به، فقال: كأن نقل لخطة أخرى، قال بناني: فرض ابن سهل هذا فيمن نقل من أحكام الشرطة والسوق إلى أحكام القضاء، قال: يبني على ما قد مضى بين يديه من الحكومة. انظر المواق. وقال عبد الباقي: كإن نقل القاضي من مرتبة لخطة بالضم أي مرتبة، كما إذا نقل من الأنكحة إلى الدماء والحدود، فيتم ما فعله قبل نقله، ويبني إن اندرج ما فيه التنفيذ والبناء فيما انتقل إليه، وأما لو عزل ثم ولي فلا يبني على ما مضى بل يستأنف على المذهب، وهذا يفهم من قوله: نقل، وقيل: يبني. اهـ. قال بناني: ما فرض فيه الزرقاني كأن نقل لخفة أخرى ليس بظاهر، لأنه إن كان مراده أنه عزل من الأنكحة والبيوع ونقل إلى الدماء والحدود فهذا لا يتصور فيه تتميم ما كان بين يديه قبل النقل لأنه قد عزل عنه، وإن كان مراده أنه ولي على الدماء والحدود زيادة على ما كان مولى عليه من قبل فهذا لم ينقل بل هو باق على خطته لبقاء ولايته فيما كان فيه. اهـ.
قال مقيده عفا الله عنه: كون مراده أنه عزل من الأنكحة والبيوع إلى الدماء، يمنعه قوله: وبنى إن اندرج ما فيه إلخ، والله أعلم. وقال الشبراخيتي مفسرا للمص: كأن نقل الحاكم الذي هو صاحب شرطة أو غيرها من هذه الخطة بأن ارتفع لخطة أخرى أي لولاية أخرى أو لرتبة أخرى من مراتب الولاية كالقضاء، فإنه ينفذ ما مضى له أو يبني عليه، فهو تشبيه في أنه ينفذ أو يبني، والخطة بالضم الأمر والقضية، وبالكسر الأرض يخطها الرجل لنفسه ويعلم عليها علامة بالخط ليعلم أنه قد اختارها ليبنيها دارا. قاله التتائي. انتهى وقال التتائي: كأن نقل الحاكم الذي هو صاحب شرطة أو غيره من هذه الخطة بأن ارتفع لخطة أخرى كالقضاء فإنه يبني على ما مضى له. قاله ابن عتاب لما سأله ابن سهل هل يستأنف أو يبني فيما لم يكمله؟ ثم قال عقب ما نقله الشبراخيتي عنه من تفسير الخطة بالكسر: ومنه خطة الكوفة والبصرة. اهـ.
(1)
في الأصل (بغير خط المؤلف) قال والله أعلم هذا والمثبت من بناني ج 7 ص 153 والتوضيح ج 7 ص 446.
وإن حدا، مبالغة في قوله: فينفذه الثاني وبنى، يعني أن القاضي المنهى إليه ينفذ ويبني ما جاء من الأول في الحقوق المالية وغيرها كالقصاص والحدود، قال الشبراخيتي: أغيا بالحدود ليلا يتوهم السقوط لأن الحدود تدرأ بالشبهة. وقال عبد الباقي: وبالغ على التنفيذ والبناء بقوله: وإن حدا أو عفوا عن قصاص. اهـ. وقال بناني: لو قال: ولو زنى، لكان أبين لقول سحنون: لا يثبت كتاب قاض في الزنا إلا بأربعة شهود. قاله ابن مرزوق. والمواق. اهـ. وقال المواق: من المدونة: يجوز كتاب القضاة إلى القضاة في الحدود والقصاص وغيرها لجواز الشهادة على ذلك. اهـ. وقال التتائي: وينفذ الثاني ما جاء من حكم عن الأول وإن لم يكن حدا بل وإن حدا وقصاصا وعفوا. إن كان أهلا، شرط في قوله: فنفذه الثاني وبنى، يعني أن القاضي المنهى إليه إنما ينفذ ويبني حيث كان القاضي المنهِي بالكسر أهلا للقضاء أي إن كان معروفا بأنه أهل للقضاء، أو لم يعرف بهذه الصفة ولكنه متصف بكونه قاضيَ مِصْرٍ من الأمصار الجامعة، كمكة والمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ومصر والعرَاق والشام والقيروان والأندلس. قال الشبراخيتي: والأولى قراءة مصر بالتنوين لا بعدمه البلد المعروف. اهـ. بل يبعد ضبطه بغير التنوين كما في التتائي إذ لو أراد البلد المعروف لأدخل عليه الكاف. فقوله: مصر أي بلد كيير، لأن قضاة الأمصار مظنة العلم والعدالة. وإلا أي وإن لم يكن القاضي النهي بالكسر أهلا للقضاء ولا قاضي مصر كبير، فلا ينفذ القاضي المنهى إليه بالفتح كتابه ولا يبني عليه، وقد قدمت أن قوله: إن كان أهلا، شرط في قوله: فنفذه الثاني وبنى. وقال عبد الباقي: إن الشرط المذكور وما بعده في قوله: وأنهى لغيره إلخ، مع بقية الشروط المتقدمة لا فيما بعد الكاف، وكذا ما شبهه بقوله: فلا، من قوله:
كأن شاركه غيره، يعني أنه إذا شارك المشهود عليه غيره في الصفات المتقدمة فإن المرسل إليه لا ينفذ الحكم على واحد منهما حيث كان المشارِكُ حَيا، بل وإن كان ميتا إن لم يكن تاريخ ترتب الحق بعد موت الميت كما يشعر بذلك لفظ شارك. قاله عبد الباقي وغيره. وقال الشبراخيتي: كإن شاركه أي شارك الشخص المحكوم عليه غيره واحد فأكثر في اسمه واسم أبيه وجده وبقية أوصافه وإن كان المشارك ميتا. اهـ. وقال المواق عن ابن شأس: وليذكر في الكتاب اسم المحكوم
عليه واسم أبيه وجده، وحليته ومسكنه وصناعته أو تجارته أو شهرة له، إن كان بحيث يتميز بذلك، فإن كان في ذلك البلد رجل يلائمه في ذلك كله لم يحكم عليه حتى يأتي ببينة تعرف أنه المحكوم عليه بعينه، ولو كان أحد الملائمين قد مات لم يستحق على الحي منهما ما في الكتاب حتى تشهد البينة أنه الذي استحق عليه، إلا أن يطول زمن الميت ويعلم أنه ليس المرادَ بالشهادة لبعده فيلزم الحي. اهـ.
وإن لم يميز القاضي المنهي بالكسر في كتابه المحكوم عليه بصفة تميزه عن غيره ففي إعدائه أي تسليطه وتمكينه من الدعوى عليه لأن الأصل عدم المشاركة حتى يثبتها المطلوب أو لا يعديه عليه حتى يثبت الطالب أحديته وليس في البلد من يشارك المطلوب قولان، وصورة المسألة أنه ليس له مشارك في البلد وإلا فلا يعدى عليه باتفاق القولين، ويخير المدعي إن شاء ادعى إليه عند القاضي الثاني ويستأنف له الحكم، وإن شاء ترك. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي: ففي إعدائه أي تسليط القاضي المرسل إليه الطالب على صاحب ذلك الاسم من أول وهلة وعلى صاحب ذلك الاسم أن يثبت أن بالبلد من يشاركه في ذلك الاسم أو لا يعديه عليه حتى يثبت الطالب أحديته، أي عدم مشارك له في البلد تحقيقا، وإلا لم يعده عليه قولان، وموضوعهما أنه ليس في البلد مشارك محقق وإلا لم يعده عليه اتفاقا. اهـ كلامه بحذف بعضه. وقال الحطاب: قال البرزلي: من شهد عليه بحق فأنكر أن يكون هو
(1)
الإثبات على الطالب في تعينه دون غيره، وأحفظ في نوازل ابن الحاج أن الحق يلزم الجميع من كان على تلك الصفة اتحد أو تعدد. اهـ.
تنبيه: قال الحطاب عند قول المص: ولم يفد وحده: قال ابن رشد: ولا يُكتفَى في ذلك بالشاهد الواحد، ولا بالشهادة على أن الكتاب خط القاضي، ولا أن الختم ختمه. وهذا في الكتب التي تأتي من كورة إلى كورة، ومن مثل مكة إلى المدينة، وأما إذا جاء من أعراض المدينة إلى قاضيها كتاب بغير بينة فإنه يقبله بمعرفة الخط أو الختم، وبالشاهد الواحد لقرب المسافة، واستدراك ما
(1)
سياق الحطاب ج 6 ص 357 ط دار الرضوان فأنكر أن يكون هو المشهود عليه فذكر ابن رشد أن الأصل أنه هو إذا كان موافقا لما في الوثيقة حتى يثبت أن ثم غيره على صفته ونسبه فيكون حينئذ الإثبات إلخ.
يخشى من التعدي. قاله ابن حبيب. وقاله ابن كنانة وابن نافع في الحقوق اليسيرة، خلاف ظاهر قول ابن حبيب وقد كان يعمل فيما مضى بمعرفة الخط والختم دون بينة حتى حدث اتهام الناس. ولما كانت الغيبة على ثلاثة أقسام، قريبة، وبعيدة، ومتوسطة، أشار إلى حكمها على هذا الترتيب، فقال:
والقريب كالحاضر، يعني أن الغائب غيبة قريبة كالثلاثة الأيام مع الأمن حكمه حكم الحاضر في سماع الدعوى والبينة عليه وتزكيتها والحكم عليه في كل شيء. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: والغائب القريب كأيام مع الأمن حكمه كالحاضر في سماع الدعوى والبينة عليه وتزكيتها ثم يعلم بهم اهـ المراد منه قوله: ثم يعلم بهم أي ثم يكتب إليه الحاكم ويعذر إليه في كل حق إما وكَّل أو قدم وإن لم يقدم حكم عليه في الدين وغيره. قال ابن رشد: ولم ترج له حجة في شيء، نقله في التوضيح والمواق وغيرهما، وأما قول الخرشي: إنه باق على حجته إذا قدم، فهو غلط منه. والله أعلم. قاله بناني. وقول ابن رشد: في الدين وغيره، أي يقضي عليه في كل شيء حتى في استحقاق العقار ويباع عقاره ونحوه في الدين ويعجزه القاضي إلا في دم وحبس إلى آخر ما مر. وقال المواق عن ابن رشد: مذهب ملك إن قربت غيبته كمن على ثلاثة أميال كتب إليه وأعذر إليه في كل حق إما وكل أو قدم، فإن لم يفعل حكم عليه في الدين - وبيع عليه ماله من أصل وغيره - وفي استحقاق العروض والحيوان والأصول وكل شيء من طلاق وعتق وغيره ولم ترج له حجة في شيء. اهـ. وأشار للبعيدة بقوله:
والبعيد جدا كإفريقية قضي عليه، يعني أن الغائب غيبة بعيدة كإفريقية من المدينة أو من مكة يقضى عليه في كل شيء دينا كان أو عرضا أو حيوانا أو عقارا، لكن يحلف الطالب يمين القضاء كما قال: بيمين القضاء، والباء في قوله: بيمين القضاء، للمصاحبة كما في الشبراخيتي. والله سبحانه أعلم. فيحلف الطالب أنه ما أبرأ، ولا استوفى، ولا اعتاض، ولا احتال، ولا وكل على الاقتضاء فيه. ولا في بعضه، وهذه اليمين تتوجه في الحكم على الغائب والميت واليتيم، أو الأحباس، أو المساكين، أو على وجه من وجوه البر، أو على بيت المال، أو على من استحق شيئا من الحيوان. قاله الشبراخيتي. وقوله: أو على وجه من وجوه البر، هو من عطف العام على
الخاص، كمال لمن يغزو به أو ليفرق على المدرسين، أو على المنقطعين إلى الله تعالى، أو ليزوج الأعزب: أو لتفك به الأسارى، إلى غير ذلك من وجوه البر. قاله مقيده عفا الله عنه. واعلم أن يمين القضاء تتوجه في الغائب وإن كان له وكيل، فقد نقل الشيخ ميارة في شرح الزقاقية أنه لا يجوز لوكيل الغائب الصالحة عنه في يمين القضاء. والله سبحانه أعلم. وقال الحطاب: وتسمى هذه يمين الاستبراء ويمين القضاء، وهي تتوجه في الحكم على الغائب والميت، وقد عقد لها في التبصرة فصلا، وذكر ابن سهل في أحكامه أنها تتوجه فيما إذا كان الحق في ذمة الميت، وأما إذا شهدت بينة بأن الميت أقر بهذا الشيء لشخص فإنه يأخذه ولا يمين عليه، وسيأتي مزيد كلام لذلك في باب الشهادات عند قول المص: وإن قال: أبرأني موكلك الغائب. اهـ. وقال الخرشي: قال ابن رشد: ويمين القضاء متوجهة على من يقوم على ميت، أو على غائب، أو يتيم، أو على الأحباس، أو المساكين، أو على كل وجه من وجوه البر، أو على بيت المال، أو على من يستحق شيئا من الحيوان. وبعبارة: ويمين القضاء تجب في الدين الذي على الميت ما لم تشهد البينة على إقرار الورثة بالدين فلا تجب. اهـ. وقال عبد الباقي: وقول ابن رشد: إنها تتوجه في الدعوى على ميت أي أن عنده دينا إلا أن يقر الورثة الكبار به قبل رفعه للحاكم فلا تتوجه عليه يمين، وهل كذا بعد رفعه إذا رضوا بعدم حلفه أو لا اختلاف لبعض الشيوخ؟ وكما تتوجه في الدعوى على اليتيم تتوجه في الدعوى على صغير أو سفيه. قال عبد الباقي: ومحل يمين القضاء على الحاضر إذا كانت دعواه وبينته بدين في ذمة الغائب قرض أو ثمن مبيع، وأما إن شهدت عند الحاكم بأن الغائب كان أقر أن عنده لفلان كذا فلا يحتاج ليمين القضاء. انتهى. قال بناني: قول الزرقاني وأما إن شهدت عند الحاكم إلى آخره، هكذا نقله الحطاب عن ابن سهل إلا أنه فرضها في الميت لا في الغائب وفرضها في المعين [لا]
(1)
في أعم منه، وليس بظاهر لإمكان أن يكون هذا المقر له أبرأه بعد الإقرار، وهذا من فوائدها. انتهى، واعلم أن يمين القضاء لا يتم الحكم إلا بها، وفي مفيد الحكام عن الباجي: قال: أجمعَ من علمت من أصحاب ملك أنه لا يتم لمستحق غير الرباع
(1)
ساقط من الأصل والمثبت من بناني ج 7 ص 154.
والعقار حكم إلا بعد يمينه. قال: ورأى بعض شيوخنا ذلك لازما في الرباع والعقار، وبعضهم لم ير في ذلك يمينا، ثم قال: وقال ابن كنانة: ليس على من قام في أرض أو حيوان أو سلعة يمين إلا أن يدعي الذي كان في يده أمرا يظن بصاحبه أنه قد فعله فيحلف ما فعله ويأخُذُ حقه. قال: وهذه قولة ثالثة.
تنبيه: قال بعض المتأخرين: هذا إذا استحقت من يد غير غاصب، وأما إن استحقت من يد غاصب فلا يمين على مستحقها إذا ثَبتَ ملكُه لها.
مسألة: ويمين المستحق على البت أنه ما باع ولا وهب، ويمين الورثة على العلم أنه ما خرج عن ملك موروثهم بوجه من الوجوه كلها، وأن ملك جميع الورثة باق عليه إلى حين يمينهم، ولو كان الدين لميت قام به ورثته على ميت أو غائب، فلا بد أن يحلف الأكابر أنهم ما يعلمون أن وليهم قبضه من المقضي عليه ولا من أحد بسببه، ولو كان المطلوب حيا لم يحلفوا حتى يدعى ذلك على الميت أو عليهم، ولا يحلف الأصاغر وإن كبروا بعد موته. وفي التبصرة: يمين القضاء لا نص على وجوبها لعدم الدعوى على الحالف بما يوجبها، إلا أن أهل العلم رأوا ذلك على سبيل الاستحسان نظرا للغائب والميت، وحياطة عليه وحفظا لماله للشك في بقاء الدين عليه أو سقوطه عنه اهـ وعلم من هذا أن يمين القضاء هي التي في مقابلة دعوى مقدرة غير واقعة بالفعل، بل يقدر وقوعها احتياطا لمال من يستحيل منه إذ ذاك أن يدفع عن نفسه، ولو ادعى الحاضر قضاء حق ثبت عليه توجهت اليمين على صاحب الحق، بخلاف ما لو لم يدع قضاء فلا يمين على الطالب. وعلم مما مر أنهم يطلقون يمين القضاء على يمين الاستحقاق، وهي الواقعة في المعينات، واعلم أنه لا تتوجه يمين الاستحقاق على الحبس ولا يمين القضاء. اهـ. من التسولي.
فروع الأول: قال في التبصرة: من شهد له شاهدان على خط غريمه بما ادعاه عليه والغريم جاحد فلا يحكم له بمجرد الشهادة على خطه حتى يحلف معها، فإذا حلف إنَّهُ لَحَقٌ وما اقتضيت شيئا مما كتبه بخطه، أعطي حقه.
قال مقيده عفا الله عنه: وهو يخالف قول المص "وجازت على خط مقر بلا يمين" ويأتي أنه إحدى روايتين حكاهما ابن الجلاب. الثاني: قد تسقط يمين القضاء في بعض الصور، قال ابن
الهندي إذا أوصى الرجل أن يُقضَى دينه من ثلثه فلا يمين على صاحب الحق، وذلك من جملة الوصايا، وقد نقل البرزلي عن المازري أنه إذا أوصى بدين في مرضه الذي مات منه ومات بإثر إيصائه فلا بد من يمين القضاء على صاحب الحق. الثالث: من أقر في مرضه بدنانير أو دراهم أو ما لا يعرف بعينه ثم مات فلا بد أن يحلف المقر له يمين القضاء أنه ما قبض، ولا وهب ولا أحال، وإنَّهُ لباق عليه إلى الآن، ولو كان الإقرار بعرض بعينه ثم مات المقر أخذه المقر له بدون يمين. الرابع: إذا كانت المرأة في ولاية أبيها فمات الزوج وطلبت الكالئ ففيها ثلاثة أقوال، المشهور أنها هي التي تحلف. وقاله ابن عتاب وابن العطار. وقال ابن القطان: لا يمين عليها في ذلك ولا على أبيها وقال غير واحد من الموثقين: إن الأب يحلف دونها وهو عندي أصح لأنها لو أقرت بقبضه لم يسقط عن الزوج بذلك. الخامس. إذا حلف يمين القضاء وتأخر القضاء فليس عليه أن يحلف ثانية بالتوهم المحتمل، ولا يشبه ذلك إذا كان صاحبه حاضرا أو ادعى عليه أنه قضاه بعد ذلك أو وهبه إياه، فإنه يحلف لحديث (اليمين على من أنكر). السادس: قد تكرر يمين القضاء في بعض الصور، وذلك إذا تأخر القضاء بعد إقامة البينة ويمين القضاء إلى أن قدم الغائب الديان وأقام مدة ثم مات فلا يقتضي الطالب حقه حتى يحلف ثانية، لأن الشك هنا حاصل كما كان أول مرة. السابع: من دفع دينا عن ميت ولم يحلف القابض فإن الدافع يضمن. الثامن: قال ابن الحاج: رجل أقر في دين أنه لا حق له فيه مع فلان، وتوجهت يمين القضاء، فأفتيت بأن يحلف المقر له لأنه صاحب الدين، وقيل: يحلف المقر، وقال ابن رشد: إن كان وهب الدين فإنه يحلف المقر الواهب، وإن كان أقر أنه لفلان دونه ولم يكن هبةً فإنه يحلف المقر والمقر له جميعا. التاسع: إذا أقر المولَّى عليه بدين لمن لا يتهم عليه، وأوصى أن يخرج من ثلثه، أخرج، وكذلك الصغير ابن عشر سنين ونحوها، ولا يحلف صاحب الدين، وروى ابن كنانة وأصبغ: أن الدين الذي يقر به المولَّى عليه يخرج من ثلثه وإن لم يوص به ما لم يكثر جدا، قالا: ولا يمين في ذلك على صاحب الدين. العاشر: من له دين على محاجير وأراد أن يترك شيئا منه ولا يحلف يمين القضاء، فهل لوصيهم أن يصالح عنهم في يمين القضاء؟ قال في المعيار:
سئل عنها ابن الفخار، فأجاب: لا يجوز حتى يرى أن غريمه يحلف، وإن ظهر له أن غريمه لا يحلف فلا يصالح إذ لعله لا يحلف، وتعرف عزيمته وعدمها بقرائن الأحوال والأمارات والكلام، ثم نقل عن ابن رشد أنه أجاب: لا يجوز لوكيل الغائب الصالحة عنه في يمين القضاء. قال: وبمثله أفتى ابن الحاج. وإذا ادعى المطلوب قضاء الدين فأنكر الطالب ذلك، وتوجهت عليه اليمين: فنكل عنها وقلبها على المطلوب فنكل عنها أيضا فإن المطلوب يلزمه غرم الدين. وللزقاق رحمه الله تعالى:
ومن يدعي حقا لميت ليثبتن
…
له الموت والورَّاث بعد لتفصلا
كعكس ولكن مع يمين كغائب
…
وذي الحجر والأحباس والشبه مجتلا
يمين قضاء ذي وتلزم مطلقا
…
ولو لم يردها ذو رشاد وقيل لا
إذا يبتغي دفعا كبير بحاكم
…
وفي غيره أطلق وإن يكن اهملا
ثبوتٌ فعن مطلوب اسقط يمينه
…
بتعجيز ذي الإيصاء قولان حصلا
معنى المبيت الأول أن من ادعى حقا لميت، كأن يدعي دينا أو وديعة لأبيه أو غيره ممن يكون هذا المدعي وأرثا له، فإن الدعى عليه لا يلزم بجوابه بإقرار أو إنكار، إلا بعد أن يثبت القائم موت صاحب الحق وعدة ورثته، فإن لم يثبت ذلك لم يكن له يمين على المطلوب، كما قال في آخر المبيت الرابع وأول الخامس، أعني قوله "وإن يكن اهملا ثبوت فعن مطلوب أسقط يمينه" أي وإن لم يحصل ثبوت ذلك أي موت الموروث وعدد الورثة فأسقط اليمين عن المطلوب، فثُبُوتُ نائب أهمل وقوله "فعن مطلوب اسقط يمينه" جوابُ وإن يكن، ومعنى قوله: كعكس، أنه إذا مات المدعَى عليه فقام المدعي على ورثته فالحكم فيها كذلك، لا بد من إثبات موت المدعى عليه
وعدة ورثته، ولا بد للمدعي في هذه الصورة من أن يحلف يمين القضاء، وعلى ذلك نبه بقوله: ولكن مع يمين، ولما لم يكن في الصورة الأولى يمين أتى بصيغة الاستدراك كالدلالة على خصوص هذه الصورة باليمين دون الأولى، ثم استطرد ذكر نظائر يلزم فيها يمين القضاء، وذلك فيمن ادعى على غائب أو محجور أو على حبس وشبههم، فقال: كغائب إلخ، وقوله: يمين قضاء ذي أي هذه اليمين هي يمين القضاء، وقوله: وتلزم مطلقا إلخ، فاضل تلزم يعود على يمين القضاء، ومعنى الإطلاق أن يمين القضاء لازمة لرب الدين، ولو كان وارثو المديان رشداءَ، ولو لم يدعوا دفع الدين عن وارثهم ولا عن أنفسهم. فقوله: ولو لم يردها ذو رشاد، تفسير للإطلاق، وأحرى في لزومها على هذا القول حيث يكون في ورثة المديان محجور، وقوله: وقيل لا، أي لا تلزم إذا كان الورثة رشداء، والحاصل أن محل الخلاف في لزوم يمين القضاء وسقوطها هو حيث يكون الورثة كلهم رشداء، أما إن كانوا محاجير أو فيهم محجورٌ فلا خلاف في لزومها، وقوله: إذا يبتغي، يتعلق بتلزم أي مقدرة ومعناه أنه تلزمه أيضا، ولو أقر الورثة بالدين ولم يريدوا أن يدفعوه إلا بحكم فلا يحكم له القاضي به إلا بعد يمينه مخافة أن يطرأ عليه وارث أو دين، ومعنى قوله: وفي غيره أطلق، أنه إذا كان الوارث صغيرا أو مولى عليه أو فيهم من هو كذلك فأطلق لزوم اليمين، ولا تقيده بإرادة الوارث، بل يحلف أرادها الوارث أم لا، وقوله: بتعجيز إلخ، يعني إذا مات المدين وكان وارثه محجورا أو فيهم محجور ولهم وصي وأحضره الحاكم فهل يعجزه كما يعجز المحكوم عليه في حق نفسه أو لا لأن الحق لغيره وباء بتعجيز في النظم ظرفية؟ وللزقاق رحمه الله تعالى:
يمين قضاء لا تعاد سوى لمن
…
يؤوب وأيضا غاب أو بعد انجلا
يعني إذا حلف القائم على الغائب بدين مثلا يمين القضاء وتَأخر اقتضاؤه للدين مدة طويلة لجمع مال الغائب وبيع عقاره مثلا، فلا تعاد هذه اليمين مرة ثانية إلا إذا تأخر القضاء بعد يمينه إلى أن جاء الغائب فأقام معه مدة ثم غاب، فلا يقتضي حقه حتى يحلف ثانية، لأن الشك ها هنا حاصل كما كان أول مرة، وكذلك الدين المنجم لا يجب عليه فيه أن يحلف عند كل نجم إلا أن
يقدم الغائب في خلالها، أو تبعد النجوم بحيث يمكن أن يكون بعد أن قبض النجم الأول قد مضى فاقتضى النجمَ الثانيَ أو وكل من اقتضاه. انتهى. فأشار الناظم بقوله "سوى لمن يؤوب وأيضا غاب" إلى أنه إذا تأخر القضاء بعد الحلف إلى أن قدم الغائب ثم غاب، سواء كان الدين منجما أم لاة وبقوله "أو بعدٌ انجلا" إلى أنه إذا بعدت النجوم بحيث يمكن أن يكون قد قبض النجم الثاني ويحصل الشك فيحلف حينئذ. والله سبحانه أعلم. وللزقاق:
وتعطى صداقا ذات حجر وأرجيت
…
لرشد كَفِي استحقاق محجورٍ انجلى
أي إذا مات الزوج ولزوجه المحجورة دين من الصداق أو غيره فإنها تقضِي دينها وترجى اليمين إلى انطلاقها من الحجر، فإن نكلت حينئذ عنها ردته، كما أفتى به ابن عتاب وابن رشد وابن سهل وأكثر الأندلُسيين، وقيل: تحلف الآن، قال في التوضيح: وهو المشهور وهو الظاهر ليلا يضيع حق الخصم، إذ قد تبقى طول عمرها محجورة، بل تقصد ذلك ليلا تحلف كما هو مشاهد عيانا. انظر التاودي. وقوله: كفي استحقاق محجورٍ انجلى، معناه إذا استحق المحجور عرضا أو حيوانا فإنه يأخذ الشيء المستحق وترجى يمين الاستحقاق لرشده. قاله التاودي. وما في ميارة من أنه إن كان صغيرا يبقى المستحق بيد المطلوب كما لو لم يقم له إلا شاهد واحد كما يأتي فَغَيْرُ ظاهر في تفسير الناظم، والذي يظهر ما في التاودي أن التشبيه في أخذ الحق الآن وإرجاء اليمين كما يأتي ما يفيده، وفي التوضيح: أن في المحجور عليه ثلاثةَ أقوال في يمين القضاء، هل يحلف المحجور أو وصيه أو لا يمين على واحد منهما؟ فالتشبيه في قوله: أرجيت، وفي نسخة: وأرجيت يمين قضاء للرشاد وكملا، وعليها فلم يشتمل المبيت إلا على المسألة الأولى. ثم قال:
كمن غاب والأقوال أربعة وقيـ
…
ـــــــــــــــل يَحْلِفُ في مهر أبوها معجلا
يعني أنه كما ترجى اليمين أي يمين القضاء على ذات الحجر ويمين الاستحقاق على المحجور لرشدهما، ترجى يمين القضاء ويمين الاستحقاق إذا توجهتا على غائب، يعني غيبة بعيدة إلى حين قدوم، ويقضى على المطلوب بدفع الحق الساعة ولا يؤخَّر، ويقال له: إذا اجتمعت مع
الطالب فحلفه، ويكتب له القاضي بذلك كتابا يكون بيده، فإن مات المقضي له حلف أكابر ورثته على مثل ذلك، ولا يحلف الصغار وإن كَبرُوا بعد موته، وصورة يمين القضاء من له دين على غائب فوكل من يذهب إليه يقتضيه، فادعى أنه قضى ذلك الدين لربه أو أنه أبرأه، فيقضَى للوكيل بقبض الحق منه، وللمقضي عليه تحليف صاحبه أنه لم يقبضه أو لم يبرئه إن لقيه، وصورة يمين الاستحقاق من أبق له عبد مثلا فوكل على طلبه، فوجده الوكيل في غير بلد ربه، فأقام بينة أنه لموكله واحتاج ليمين الاستحقاق، فيقضى للوكيل بأخذ العبد، ويقال للمستحَق من يده: حلف ربه إن لقيته. وقوله "والأقوال أربعة" يعني فيما بين اليمينين لا أن في كل واحدة أربعة أقوال، قال الحطاب عند قول المص "وإن قال أبرأني موكلك الغائب" إلخ ما محصله: أن في الغيبة القريبة لا يقضى للوكيل إلا بعد يمين موكِّله في المسألتين، وأما في الغيبة البعيدة فقيل: يقضى للوكيل في المسألتين، وهو قول أصبغ، وإليه ذهب ابن أبي زيد، وقيل: لا يقضى له في المسألتين حتى يكتب إلى موكله، وقيل: يقضى للوكيل بعد حلفه على العلم في المسألتين، فهذه ثلاثة أقوال، والقول الرابع: يقضى للوكيل في مسألة دعوى القضاء والإبراء دون مسألة الاستحقاق، وقوله "وقيل يحلف في مهر" إلخ، من تمام قوله: وتعطى صداقا ذات مهر، أي وقيل: لا ترجى يمينها بل يحلف أبوها حلفا معجلا، واعلم أن هذا كله في يمين القضاء والاستحقاق، وأما يمين النّصاب كما إذا أقام الوكيل للغائب شاهدا، فإنه يقضى على الذي عليه الحق باليمين إلى أن يقدم الغائب فيحلف مع شاهده، فإن نكل المشهود عليه عن اليمين قضي عليه، ولم يكن على الغائب إذا قدم أن يحلف. ثم قال الزقاق:
فإنفاذ إيصاء بدين لربه
…
بلا حلف قولان كالصِّدق فاقبَلا
يعني أن من أوصى أن يقضى دينه من غير أن يحلف صاحبه يمين القضاء في إنفاذ وصيته وعدم إنفاذها، أي لابد من حلفه يمين القضاء قولان، وكذلك إذا كان الحق على غائب أو ميت وقد
كان رب الدين اشترط أنه مصدق في عدم قبض حقه، ففي إعمال هذا الشرط ولا يمين عليه، وعدم إعماله ويحلف قولان أيضا.
مسألة: لا يقتضي الحاكم دين الغائب إلا دين المفقود والمحجور. قال الشيخ ميارة: يريد والله أعلم المحجور الذي لا أب له ولا وصي، أو له وغاب ولم يوكل، ويقبض للغائب ما كان عن تعد مفقودا أو غيره. وللزقاق رحمه الله تعالى:
ولا يتقاضى حاكم دين غائب
…
سوى دين مفقود ومحجور انجلا
وفي المدونة: وينظر الإمام في مال المفقود ويجمعه ويوقفه، كان بيد وارث أو غيره، ويوكل به من يرضاه، وإن كان في ورثته من يراه لذلك أهلا أقامه له، وينظر في ودائعه وقراضه، ويقبض ديونه، ولا يبرأ من دفع من غرمائه إلى ورثته، لأن ورثته لم يرثوه بعد. ثم قال المص:
وسمى الشهود، يعني أن القاضي لابد أن يسمي الشهود في حكمه على الغائب ليجد مدفعا عند قدومه بتجريح الشهود لأنه باق على حجته. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: وسمى الشهود الذين قضى عليه بشهادتهم ليتمكن المطلوب من رد القضاء بتجريح أو غيره. وقوله: وسمى الشهود، يجري في متوسط الغيبة أيضا كما يفيده كلام الشارح وغيره، بل هو أولى بذلك من بعيدها، ولعل هذا وجه إسقاط المص ذكر وسمى الشهود في متوسطها. اهـ. وقال عبد الباقي: وسمى الشهود بالحق والمعدلين لهم حيث يعذر فيهم ليجد مدفعا لأنه باق على حجته. وهذا في متوسطها وبعيدها. انتهى. وفهم من كلام المصنف: قُضِيَ عليه، أنه لا يقيم عن الغائب وكيلا ينوب عنه في حجته: وهو كذلك لانقطاع حجته بحجة وكيله، فكان ذلك أنفع له لبقاء حجته. قاله التتائي.
وإلا، أي وإن لم يسم الشهود وحكم بغير يمين القضاء نقض حكمه ويستأنف ثانيا، ما لم يكن الحاكم مشهورا بالعدالة فلا ينقض بعدم تسميتهم، كما يفيده الجزيري وابن فرحون. قال
الشبراخيتي: وهذا يفيد أن تسمية الشهود شرط لصحة الحكم على الغائب، وهو أحد قولين، وقيل: تسمية الشهود مستحبة، ومثل الغائب المذكور في تسمية الشهود الصغير. اهـ. وقال المواق عن ابن رشد: الحكم على الغائب لا بد فيه من تسمية المشهود ليتمكن من الطعن فيهم، وهو مشهور المذهب المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن ملك، فإن لم يسم فيه البينة فسخت القضية. قاله أصبغ. وهو صحيح على أن الحجة ترجى له، والحكم على الحاضر لا يفتقر إلى تسمية البينة فيه، إذ قد أعذر للمحكوم عليه وتسميتهم أحسن. قاله أصبغ وبه العمل. ابن أبي زمنين: ومثل الغائب الصغير لا بد من تسمية الشهود في الحكم عليه، وهذا كله خلاف سحنون. ابن رشد: وإذا أشهد القاضي بثبوت عقد عنده ولم يسم بمن ثبت عنده ثم عزل القاضي أو مات فلا يبطل العقد، ويحمل الجميع على العدالة. اهـ. وأشار إلى الغيبة المتوسطة. بقوله:
والعشرة أو اليومان مع الخوف يقضى عديه معها، يعني أن الغائب على عشرة أيام مع أمن الطريق أو اليومان مع الخوف أي عدم أمن الطريق يقضى عليه بيمين القضاء أيضا، في كل شيء غير استحقاق العقار. وأما هو فلا يقضى عليه فيه وينتظر لكثرة المشاحة فيه. وقول عبد الباقي: بل هو على حجته إذا قدم، غير ظاهر لأنه لا يحكم عليه أصلا حتى يقال إنه على حجته إذا قدم: ومعنى الاستحقاق أن يأتي بما يثبت أنه له، وأما بيع العقار فيحكم به، كما إذا أقامت المرأة بينة أنها عادمة للنفقة، أو أقام أرباب الديون البينة على الدين فإنه يحكم ببيع عقاره. قال عبد الباقي: واحترز بقوله: استحقاق، عن بيع العقار في دين على الغائب أو نفقة امرأته فإنه يحكم به، بل ويحكم به على حاضر ملد بدفع الحق كما هو ظاهر كلامهم، ويوافقه قوله في الرهن: وباع الحاكم إن امتنع، واعلم أن ما قارب كلا من مسافة الغيبة في الأقسام الثلاثة له حكمه على ما يظهر، واعلم أيضا أن الثلاثة في مدعى عليه غائب عن محل ولاية الحاكم، ولكنه متوطن بولايته أو له بها مال أو وكيل أو حميل، وإلا لم يكن له سماع ولا حكم، ويدل عليه قوله الآتي: ولا يزوج امرأة ليست بولايته بل تنقل الشهادة فقط من غير حكم. انتهى.
تنبيهات: الأول: قال بناني: ذكر ابن عاشر أن الغيبة المتوسطة تعطى في العقار حكم الغيبة القريبة، وفي غير العقار تعطى حكم البعيدة. فتأمله. وكلام المدونة صريح في ذلك. قال في الأمهات: قلت: أرأيت لو أن دارا في يد رجل غائب فأتى رجل فادعى أنه وارث هذه الدار مع الغائب [أيقبل]
(1)
القاضي هذه البينة والذي كانت في يده الدار غائب أم لا؟ قال: لا أحفظ من ملك فيها شيئا، إلا أني سمعت من يذكر عنه في هذا أن الدار لا يقضى على أهلها وهم غُيَّبٌ وهو رأي، قال ابن القاسم: إلا أن تكون غيبة تطول فينظر في ذلك السلطان، مثل ما يغيب الرجل إلى الأندلس أو إلى طنجة ليقيم في دلك الزمان الطويل، فأرى أن ينظر في ذلك السلطان فيقضي له. قلت: أرأيت إن أقاموا البينة أنهم ورثوا هذه الدار من أبيهم، وأن ذلك الغائب الذي هذه الدار في يده لا حق له فيها؟ قال: لم أسمع من ملك في هذا إلا ما أخبرتك أنه بلغني، فأرى أنه إن كانت الغيبة مثل ما يسافر الناس إليه ويقدمون كتب الوالي إلى ذلك الموضع أن يستخلف أو يقدم فيخاصمهم، وإن كانت غيبته بعيدة يعلم أن الذين يعلمون إرثهم لا يقدرون على الذهاب إلى ذلك الغائب الذي في يده الدار، ولا يوصل إليه لبعد البلاد رأيت أن يقضى لهم بحقوقهم. اهـ بلفظه. فانظر قوله: فأرى إن كانت الغيبة مثل ما يسافر الناس لخ، فإنه ظاهر فيما ذكرناه. والله أعلم. اهـ كلام بناني. الثاني: قال المواق عن ابن رشد في نوازله: وهذا التحديد بالقرب والبعد هو مع أمن الطريق وكونها مسلوكة وإن لم يكن كذلك حكم عليه وإن قربت غيبته. اهـ. الثالث: قال بناني عن ابن عرفة: المتيطي: إن بعدت غيبته وهو من أهل مصره خرج عنه مسافرا غير متنقل سجل وأمضى الحكم عليه دون إعذار، وإن كان من غير أهل بلده [الذين]
(2)
استقضي عليهم لم يسجل عليه، فإن ذلك ليس إليه، إنما له أن يقيد شهادة البينة عليه ويسميها ثم يشهد على كتابه ذلك من يشهد بذلك عند قاضي البلد الذي فيه المدعى عليه.
وحكم بما يتميز غائبا بالصفة، يعني أن الشيء المدعى فيه إذا كان غائبا عن البلد وهو مما يتميز بالصفة أي يقبل التمييز كعبد وفرس فإنه يوصف ويحكم به ويتنزل وصفه منزلة معاينته، وإن
(1)
في الأصل فيقبل والمثبت من بناني ج 7 ص 154.
(2)
في الأصل: الذي، والمثبت من بناني ج 7 ص 154.
كان لا يتميز بالصفة كالحديد والحرير فإن البينة تشهد بقيمته ويحكم بها لمدعيه؛ أي فالغائب عن البلد لا يشترط حضوره مطلقا لأنه إن أمكن وصفه قام وصفه مقام حضوره، وإن لم يمكن وصفه قامت قيمته مقام وصفه، ولا فرق في ذلك بين القوم والمثلي، وإنما اعتبرت القيمة في المثلي لجهل صفته، وهذا في الغائب عن البلد، وأما ما في البلد فلا بد من إحضاره مجلس الحكم، سواء كان مما يتميز بالصفة أم لا. قاله الشبراخيتي. وقوله: غائبا، حال من فاعل يتميز: وبالصفة متعلق بيتميز. وقال عبد الباقي: ولما ذكر الحكم على الغائب ذكر الحكم بالغائب، فقال: وحكم بما يتميز حالة كون المحكوم به غائبا عن بلد الحكم. اهـ. وقوله:
كدين، معناه أنه يحكم بالشيء الغائب التميز بالصفة كما يحكم بدين على شخص غائب عن بلد الحاكم، وكأنه أشار إلى قياس المسألة على الثانية لأنه لا فرق بين غيبة المحكوم عليه والمحكوم به؛ لأن المحكوم عليه الغائب إنما يتميز بالصفة، فالمحكوم به كذلك قاله ابن مرزوق وهو غاية في الحسن. والله تعالى أعلم. ويفهم من كلام غير واحد. ونَقَلَ بناني عن المازري ما نصه: إن كان المحكوم به مما لا يتميز أصلا ذكرت البينة قيمته، تقول: غصبه حريرًا أو طعاما قيمته كذا. قال بناني: وهذا مما يتعلق بالذمة، وما في الذمة تسمع البينة به، ولو لم يقبل التمييز بعينه: لتعيين صاحبه الذي هو في ذمته. وفي حاشية بناني أيضا بعد كلام: وبه يتضح لك أن البينة تسمع في الدين ولو لم يقبل التمييز في عينه لأنه في الذمة، أما ما لا يتميز بالصفة وليس دينا فلا تسمع البينة به غائبا إلا إن شهدت على عينه وهو مفهوم قوله: يتميز اهـ كلام بناني. وبه تعلم ما في كلام الشبراخيتي وعبد الباقي. والله سبحانه أعلم.
وجلب الخصم بخاتم أو رسول، يعني أن الغائب في محل ولاية الحاكم وهو متوطن بمحل ولايته إذا ادُّعِي عليه بشيء فإن القاضي يجلبه إليه؛ أي يأتي به إلى مجلس الحكم بأن يبعث إليه بطابع أي خاتم أو يرسل إليه رسولا يأتي به، أو يبعث إليه في ذلك بأمارة أو ورقة يأمره فيها بالذهاب إليه، وهذا إن كان المدعى عليه على مسافة العدوى من مجلس القاضي، وهي طلبك إلى والٍ ليُعديك على من ظلمك؛ أي ينتقم منه، تقول: استعديت على فلان الأمير فأعداني؛ أي
استعنت به عليه فأعانني، والاسم منه العدوى، وهي المعونة. قال المواق: ابن شأس: إذا غاب ولم يكن موضعه يزيد على مسافة العدوى أحضره القاضي. وقال عبد الباقي: وجلب الخصم بخاتم أو رسول أو ورقة أو أمارة إن كان على مسافة العدوى من مجلس القاضي، وهي مسافة القصر على المعتمد لا التي يذهب ويرجع فيبيت بمنزله في يوم واحد كما قيل، ويجلبه القاضي جبرا عليه إن شاء القاضي، وإن شاء كتب إليه إما حضر أو وكَّل أو أرضى خصمه. اهـ. وقال الشبراخيتي: وجلب القاضي الخصم مع مدعيه بخاتم، والمراد به الطابع الذي يطبع به كتابه سواء، كان يضعه في يده أم لا، أو ورقة، أو رسول، أو أمارة أو نحوها، وظاهره أنه يجلبه وإن لم يأت الطالب بشبهة. قال ابن عرفة: وهو ظاهر قول ابن أبي زمنين؛ وجزم ابن عاصم تبعا لسحنون بأن الحاكم لا يرفعه حتى يأتيه الطالب بشبهة ليلا يكون مدعيا باطلا ويريد تعنيت المطلوب، ويؤخذ من كلام المصنف أن من طلب للشكوى لا تلزمه الإجابة، وله أن يمتنع حتى يأتيه خاتم أو رسول. اهـ. وقال التتائي: إن كان على مسافة العدوى من مجلس القاضي مثل أن يأتي ثم يرجع يبيت بمنزله والطريق مأمون، وحد الباجي في سجلاته القرب بثلاثة أميال. اهـ. وقال الخرشي: مسافة العدوى هي التي يروح منها ويرجع فيبيت بمنزله في يوم واحد. اهـ. وقال الشبراخيتي: ومسافة العدوى مثل أن يأتي ثم يرجع فيبيت بمنزله، وقال الباجي: مثل ثلاثة أميال، وذكر الحطاب أن كلام القرافي يفيد أن مسافة العدوى هي مسافة القصر، ونحوه في تبصرة ابن فرحون. اهـ. وقال بناني: ابن عرفة: الشيخ عن ابن عبد الحكم: من استعدى الحاكم على من معه بالمصر أو قريبا منه أعطاه طابعا في جلبه أو رسولا. اهـ. وقال المواق عند قوله: وجلب الخصم بخاتم: أمر سحنون الناس أن يكتبوا أسماءهم في بطائق ثم اختلطت البطائق، ثم دُعيَ بالأول فالأول: فمن دُعيَ باسمه وخصمُه حاضر أدخلهما وأجلسهما بين يديه على الاعتدال في مجلسهما، وإن استعدى الذي خرج اسمه على رجل بحاضرة مدينة القيروان أو قصر ابن الأغلب وهو على ثلاثة أميال من المدينة أعداه على خصمه بطابع يعطيه إياه، فإذا أتى بصاحبه أمر بأخذ الطابع منه، وكان لا يعطي كتاب عدوى يجلب الخصم إلا بلطخ من شاهد عدل، فيأمر كاتبه فيكتب كتاب عدوى إلى أمينه، وقد تقدم أنه لا يرفع الخصم إلا من الأميال اليسيرة. اهـ.
وفي الحطاب عن القرافي: إن ادعى من مسافة العدوى فما دونها وجبت الإجابة، لأنه لا يتم مصالح الأحكام وإنصاف المظلومين من الظالمين إلا بذلك، ومن بعد عن المسافة لا تجب الإجابة، وإن لم يكن له عليه حق لم تجب الإجابة، أو له حق ولكن لا يتوقف على الحاكم لم تجب الإجابة، فإن كان قادرا على أدائه لزمه أداؤد ولا يذهب إليه، ومتى علم خصمه إعساره حرم عليه طلبه ودعواه إلى الحاكم، وإن ادعاه وعلم أنه يحكم عليه بجور لم تجب الإجابة: وتحرم في الدماء، والفروج، والحدود، وسائر العقوبات الشرعية، وإن كان الحق موقوفا على الحاكم كتأجيل العنين يخير الزوج بين الطلاق فلا تجب الإجابة، وبين الإجابة فليس له الامتناع منها، وكذلك القسمة المتوقفة على الحكم، يخير بين تمليك حصته لغريمه، وبين الإجابة، فليس له الامتناع، وكذلك الفسوخ المتوقفة على الحكام، وإن ادعى إلى مختلف في ثبوته وخصمه يعتقد ثبوته وجبت لأنها دعوى حق، أو يعتقد عدم ثبوته لم تجب لأنه مبطل، وإن ادعاه الحاكم وجبت لأن المحل قابل للحكم والتصرف والاجتهاد، ومتى طولب بحق وجب عليه على الفور، كرد المغصوب وجب أداؤه في الحال، ولا يحل له أن يقول: لا أدفعه إلا بالحكم، لأن المطل ظلم، ووقوف الناس عند الحاكم صعب، وأما النفقات فيجب الحضور فيها لتقديرها إن كانت للأقارب، وإن كانت للزوجة أو للرقيق خير بين إبانة الزوجة وعتق الرقيق وبين الإجابة. اهـ. وفي المسائل الملقوطة: اختلف العلماء هل يُحْضِرُ الحاكم المطلوب بمجرد الدعوى أو لا بد أن يسأله عن وجه الدعوى ويذكر للحاكم السبب؟ والذي ذهب إليه جماعة من أصحابنا أنه لا يحضره حتى يبين المدعي أن للدعوى أصلا، وهي رواية أحمد، ونقل عن الشافعي وأبي حنيفة معن أحمد في رواية أنه يحضره بمجرد الدعوى والأول أولى لأن الدعوى، قد لا تتوجه فيبعث إليه من مسافة العدوى ويحضره لما لا يجب عليه فيه شيء، ويفوت عليه كثير من مصالحه، وربما كان حضور بعض الناس والدعوى عليه بمجلس الحكام [مزريا به]
(1)
، فيقصد من له غرض
(1)
في الأصل: مزر.
فاسد أذى من يريد ذلك. اهـ. وقد مر عن ابن عاصم تبعا لسحنون خلاف ظاهرما للمص من قوله: وجلب الخصم لخ، وهو قوله:
ومع مخيلة بصدق الطالب
…
يرفع بالإرسال غير الغائب
يعني أن المطلوب إذا لم يحضر مجلس القاضي وهو حاضر معه في المصر فإن القاضي يوجه إليه من يرفعه لمجلس الحكم، وإن لم يكن معه في المصر، فإن كان على يسير الأميال مع أمن الطريق من موضعه إلى محل الحكم، فإن القاضي يكتب إليه يأمره بالحضور عوضا عن دفع الخاتم الذي كان عليه العمل قديما، وفي المسألتين لا بد أن يظهر مخايل صدق المدعي في دعواه، ومخايل الصدق دلائله؛ كأثر جرح أو ضرب، وغير الغائب هو الحاضر مع الطالب في بلده، وإذا كان قريبا وكتب إليه ليحضر ولم يحضر والطريق مأمونة فإنه يحكم عليه كالحاضر معه في البلد، وإلى هذا القسم الأخير أشار بقوله:
ومن على يسير الأميال يحل
…
فالكتب كاف فيه مع أمن السبل
لا أكثر؛ يعني أنه لا يجلب الخصم في أكثر من مسافة العدوى، وذلك كستين ميلا وما قاربها مما زاد على العدوى فلا يجلبه، فإن جلبه لم يلزمه الحضور، ومحل كونه لا يجلبه حيث لم يقم المدعي شاهد وأما إن [أقامه]
(1)
فإنه يجلبه ويجبره على الحضور، كمن على مسافتها، وإلى ذلك أشار بقوله: إلا بشاهد، وقال الشبراخيتي: إلا بشاهد فيجلبه لكن لا يجبره، ولو اقتصر على كستين ميلا لطابق ما لابن الحاجب، وصاحب التبصرة، والقرافي في الفروق. وكلام غير واحد من أحل المذهب كالمتيطي وإن وافقه بعض الموثقين، لكنه لا يتقوى قوة كلام من ذكر. اهـ. وفي رجز ابن عاصم:
ومع بعد أو مخافة كتب .... لأمثل القوم أن افعل ما يجب
(1)
في الأصل: قامه.
إما بإصلاح أو الإعرام
…
أو أزعج المطلوب للخصام
هذا مفهوم قوله قبل: ومن على يسير الأميال لخ؛ يعني أنه إذا ظهرت مخلية صدق الطالب، وكان المطلوب بعيدا بعدا حسيا من جهة المسافة أو بعدا معنويا من جهة الخوف، فإن القاضي يكتب لأمثل القوم بموضع حلول المطلوب بالأمر، يفعل ما يجب من الأمر بالتناصف بينهما، إما بالصلح أو بالعزم على المطلوب في الوصول إلى محل الحكم، أو رفع المطلوب من موضعه إلى مجلس الحكم. قاله الشيخ ميارة. ولابن عاصم:
ومن عصى الأمر ولم يحضر طبع
…
عليه ما يهمه كي يرتفع
يعني أن المطلوب إذا عصى الأمر بأن تغيب ولم يحضر مجلس القاضي، فإنه يطبع عليه ما يهمه طبعه مما لا صبر له عليه، كداره وحانوته كي يرتفع أحب أم كره؛ أي يلصق شمع أو عجين بالباب: وبما يليه، ويطبع عليه بطابع فيه نقش يظهر أثره في ذلك الشمع أو العجين، فإذا فتح الباب ورد ذلك العجين أو الشمع تغير نقشه، وعلم أن الباب قد فتح فيعاقب من فتحه أشد العقوبة، وهذا الطبع أولى من التسمير لأنه يعيب الباب أو يفسده. ثم قال:
وأجرة العون على طالب حق
…
ومن سواه إن ألد تستحق
يعني أجرة العون أي أعوان القاضي الذين يجلبون الخصوم على طالب الحق إن لم يكن المطلوب ملدا، وإلا فتكون على المطلوب، هذا قول ابن العطار، وانتقده ابن الفخار، وقال: لا نعلم ذنبا يوجب استباحة مال الإنسان إلا بالكفر وحده، وليس مطله يوجب استباحة ماله. المتيطي: هذا غير مستقيم. والصحيح قول ابن العطار. قاله المواق. وقال عن ابن فتوح: ينبغي للقاضي إن كان المطلوب قريبا أن يأمر غلامه الذي له الإجارة من بيت المال فليسر معه. ابن عبد الحكم:
والقريب من المدينة كمن يأتي ثم يرجع يبيت في منزله، فإن لم يرتفع المطلوب بالطابع أشهد عليه بعصيانه وتأبيه من المجيء، ثم يرسل القاضي عنه أحد أعوانه ويجعل له من رزقه جعلا إذا لم يكن له رزق من بيت المال إذا رفع المطلوب إليه وهو مما يلزمه، فإن لم يفعل القاضي ذلك فأحسن الوجوه أن يكون الطالب يستأجره على النهوض إلى المطلوب ورفعه ويعطي العونَ ما يتفقان عليه، وإن تبين أن الطالب دعا المطلوب إلى الارتفاع إلى القاضي فأبى عليه فإنه يكون على المطلوب أجرة العون، ولا يكون على الطالب من ذلك شيء. قال هذا ابن العطار، وانتقده ابن الفخار لخ، ابن سلمون: فإن كان الخصم في مصر الحاكم أو على الأميال اليسيرة كتب برفعه أصبغ: ولا يكتب إلا لأهل العدل اجمعوا بين فلان وفلان للتناصف، فإن أبى فانظروا، فإن رأيتم للمدعي وجه مطلب ولم يرد بالمطلوب تعنيته فارفعوه إلينا، وإلا فلا. اهـ. ولا يزوج امرأة ليست بولايته، قال الخرشي صورتها امرأة ليس لها ولي إلا القاضي فلا يزوجها إذا كانت في غير محل ولايته مثلا لو كانت امرأة بالشام ولا ولي لها إلا القاضي فلا يزوجها قاضي مصر إلا إذا دخلت بمحل ولايته؛ فلو زوجها جرى على ما تقدم من قوله: وصح بها في دنية مع خاص لم يجبر كشريفة إن دخل وطال لخ، وقال الشبراخيتي: ولا يزوج القاضي امرأة ليس لها ولي إلا القاضي ليست بولايته أي ليست بمحل ولايته وإن كانت من أهل ولايته، وأما من كانت بمحل ولايته، فيزوجها وإن لم تكن من أهل ولايته، فقوله: ليست بولايته؛ أي حال التزويج، وإلا زوجها ولو كان منزلها [خارجا عن محل]
(1)
ولايته، وهذا قاله غير واحد.
مسألة: قال الحطاب: مسألة وقعت وهي امرأة في بلاد الشجر من اليمن تزوجها رجل مغربي، ثم سافر عنها إلى جهة مصر ولم يترك لها نفقة ولا ما تنفق منه، وكتب إليه فلم يطلق ولم يرسل بنفقة، وليس ببلدها من يطلق عليه لكونها بنت قاضي ذلك البلد، فهل لقاضي مكة أن يطلق عليه، فأجاب القاضي أبو القاسم ابن أبي السعادات الأنصاري المالكي: بأن لمن يرى الحكم على الغائب أن يحكم بالفسخ، وتمكين المرأة من إيقاع طلقة بعد إثبات الفصول المعتبرة في ذلك شرعا
(1)
في الشبراخيتي خارج محل ولايته.
إذا حضرت المرأة أو وكيلها، ويكتب الحاكم لعدول بلدها بما ثبت عنده، ويأمرهم بتحليفها وتمكينها من إيقاع طلقة عليها. والله أعلم. اهـ.
وهل يداعى حيث المدعى عليه وبه عمل أو المدَّعى: يعني أنه إذا كان المدعي في بلد والمدعى عليه في بلد آخر فإنه اختلف في أي موضع يكون التداعي فيه؟ فقيل: يتداعيان إلى القاضي الذي هو في محل المدعى عليه، وبهذا القول عمل في المدينة والأندلس، وهو قول مطرف وأصبغ وسحنون: فكان ينبغي للمص الاقتصار عليه، وهو الذي لابن عاصم حيث يقول:
والحكم في المشهور حيث المدَّعَى
…
عليه في الأصول والمال معا
وعلم من هذا أن كلام المص عام في العقار وغيره من المعينات، وقيل: يتداعيان إلى قاضي البلد الذي فيه المال المدعى فيه، وأقام هذا القول فضل من المدونة، وإلى ذلك أشار المص بقوله: وأقيم منها، وهو قول عبد الملك، وأما بكسر المعين فلم يقمه فضل ولا غيره من المدونة وليس بمنصوص، وإنما خرج كما في ابن عرفة، فإن كانت الدعوى في غير معين فمحل التداعي حيث تعلق الطالب بالخصم، وإلى ذلك أشار ابن عاصم بقوله:
وحيث يلفيه بما في الذمَّهْ
…
يطلبه وحيث أصل ثَمَّهْ
أي وإذا كان التحاكم فيما هو في الذمة فإن الحكم يكون في المحل الذي ألفاه فيه، ومعنى قوله: وحيث أصل ثمه، أنه إذا كان التحاكم في الأصول وألفى المدعي المدعى عليه بمحل الأصول فإنهما يتحاكمان في ذلك المحل الذي تعلق به فيه، فالبيت الأول تضمن معنى ما في كتاب الجدار، وهو وسئل عيسى عن الرجل من أهل قرطبة تكون له الدار والحق بجيان، يدعي ذلك رجل من أهل جيان، فيريد الجياني مخاصمة القرطبي عند قاضي جيان حيث المدَّعَى؛ أيرفع معه القرطبي إلى هنالك؟ قال: لا يرفع معه وإنما يكون بينهما الحكم حيث المدعى عليه أي قرطبة؛ وروى ابن حبيب عن مطرف مثله. وقال فضل: إن قول ابن القاسم مثله، وذلك فيما
يختص بالأصول، وزاد الناظم المال تبعا لأهل الأحكام لأنه من باب القياس الجلي. قال الشيخ ميارة: قوله: حيث المدعى عليه، مقيد بما إذا كان المدعى عليه ببلده لم يخرج عنه، وأما إن وجد الطالب المدعى عليه ببلد غير بلده فإن كان فيه الأصل المتنازع فيه حبسه، وهو قوله: وحيث أصل ثمه، وأما إن لم يكن فيه الأصل المتنازع فيه فلا يحبسه. اهـ. وقال بناني بعد كلام: فقول المص أو المدعي إن كان بالكسر كان موافقا لما في التوضيح وبه شرحه الشارح وإن كان بالفتح كما في الأجهوري ومن تبعه كان موافقا للحطاب، لكن ما في التوضيح والشارح لا سلف لهما فيه، والذي أقامه فضل هو المدعى فيه كما في المتيطي وابن عرفة وكتب المالكية، ثم نقل عن ابن عرفة: والخصومة في معين دار أو غيرها في كونها في بلد المدعى فيه أو ببلد المدعى عليه، ولو كان بغير بلد المدعى فيه، ثالثها: هذا أو حيث اجتماعهما ولو بغير بلد المدعى فيه، الأول لاختصار الواضحة عن ابن الماجشون مع فضل عن سحنون وابن كنانة، والثاني لطرف، والثالث لأصبغ. اهـ.
تنبيه: اعلم أن محل قوله: وهل يداعى لخ، إذا كان المدعى عليه متوطنا ببلد غير بلد المدعي، وقوله: فيما تقدم: والقول للطالب فيما إذا كان المتداعيان ببلد واحد تعدد فيه القاضي كان المدعى فيه بمحلهما أم لا، وقوله: والقريب كالحاضر لخ، وقوله: وجلب الخصم بخاتم أو رسول لخ، كل من المحلين المذكورين المدعى عليه بمحل غير محل المدعي، لكنه في الأول في غير محل ولايته، ونكنه متوطن فيها، بخلاف الثاني فإنه في محل ولايته. واعلم أنه وقع في كلام غير واحد عند قول المص: أو المدعى أي المدعى فيه، فحذف الجار فاتصل الضمير واستتر، وعندي أنه لا حاجة إلى هذا، لأن ادعى متعد بنفسه. والله سبحانه أعلم. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه. وفهم جواب الاستفهام من قوله: وبه عمل، ومن قوله: وأقيم منها، فكأنه قال: قولان، وقد مر في الخطبة ما يدل على ذلك. والله تعالى أعلم.
وفي تمكين الدعوى لغائب بلا وكالة تردد، قد مر أن التردد في كلام المص يأتي لكثرة الخلاف، وهذه من ذلك، ومعنى كلامه أن الغائب غيبة بعيدة أو قريبة إذا كان له مال حاضر وخيف عليه تلف أو غصب: أو له دين على من يخشى فراره، أو أراد سفرا بعيدا، أو أراد شخص أن يدعي
عليه ببينة زور فأراد شخص قريب للغائب أو أجنبي أن يخاصم عنه من غير أن يكون وكيله؛ فإنه اختلف هل يمكن من ذلك حفظا لمال الغير أو لا يمكن؟ وقوله: تردد، قال الشبراخيتي: حقه أقوال: لأن فيها خمسة أقوال ثابتة للمتقدمين. اهـ. وقال مصطفى: الأولى ما قاله الشارح أنه أشار بالتردد هنا إلى الأقوال الخمسة في المسألة؛ لأنهم عدوا هذا الموضع من المواضع التي يشير المص فيها بالتردد لكثرة الخلاف. اهـ. نقله بناني، وقال عن ابن عرفة: ففي قصر القيام عنه دون توكيل منه على ابنه وأبيه وعمومه فيهما وفي الأجانب، ثالثها: يمكنون من إقامة البينة لا الخصومة؛ ورابعها: لا يمكن من واحد منهما، وخامسها: يمكن منهما الأب والابن فقط، ويمكن غيرهما، والأجنبي في العبد والدابة والثوب لفوتها وتغيرها، لما فيما سوى ذلك من دين وغيرها، ثم ذكر عزوها، ثم قال: وعلى القول بالقيام عنه في كونه في قريب الغيبة وبعيدها وقصره على غير قريبها قولان. ووقع في كلام عبد الباقي هنا، وفي تمكين الدعوى لغائب أي عنه لا عليه فلا يمكن. اهـ. قال بناني: هو غير صواب، وقد تقدم التفصيل في الدعوى على الغائب. اهـ. وقال عبد الباقي: ومحل التردد فيما لا حق فيه لمن يريد الدعوى ولا ضمان عليه كمستأجر ومستعير لما لا يغاب عليه ومرتهن رهنا كذلك، أما ما له فيه حق كزوجة غائب وأقاربه الذين تلزمه نفقتهم فيمكن من الدعوى اتفاقا، كما إذا كان عليه فيه ضمان كمستعير ما يغاب عليه ومرتهن رهنا كذلك وحميل مدين أراد سفرا بعيدا أو فرارا. اهـ. قوله: كمستأجر ومستعير لخ، تمثيله بهذين لمن لا حق له فيه نظر، وأظنه سهوا، ونص الفيشي: قوله: تردد، محله فيما لا حق فيه للمدعي ولا ضمان عليه فيه، أما ما له حق فيه كالمستأجر والمستعير عارية لا يغاب عليها والمرتهن رهنا كذلك وزوجة الغائب وأقاربه الذين تلزمه نفقتهم، أو عليه فيه ضمان كالمستعير عارية يغاب عليها والمرتهن رهنا كذلك، والغاصب إذا غصب منه شيء: والحميل إذا أراد المدين السفر وخشي ضياع، ونحو ذلك فيمكن من الدعوى اتفاقا. اهـ. ويوافقه ما في الحطاب. والله أعلم. اهـ. وقال الحطاب: في المدونة: ومن بيده وديعة أو عارية أو ذات بإجارة وربها غائب فادعاه رجل وأقام البينة أنها له فيقضى له بها؛ لأن الغائب يقضى عليه بعد
الاستيناء، إلا أن يكون ربها بموضع قريب فيتلوم له القاضي، ويأمر أن يكتب إليه حتى يقدم اهـ فلم يجعل لمن بيده الوديعة والعارية ولا للمستأجر المخاصمة، بل قضى بذلك على الغائب الذي أقام البينة أن ذلك له، وفي المدونة: وإن شهدوا أن هذا وارث أبيه أو جده مع ورثة آخرين لم يعط هذا منها إلا مقدار حصته، ويترك القاضي باقيها في يد المدعى عليه حتى يأتي من يستحقه، وقد روي عن ملك أنه ينزع من يد المطلوب ويوقف. انتهى.
باب: ذكر فيه الشهادات وأحكامها وما انضم إليها
ولم يعرفها المؤلف كابن الحاجب، وقال ابن عبد السلام: لا حاجة إلى تعريف حقيقتها؛ لأنها معلومة، ورده ابن عرفة بقول القرافي: أقمت ثمان سنين أطلب الفرق بينها وبين الرواية حتى وقفت عليه للمازري في شرح البرهان، قال: هما خبران غير أن الخبر عنه إن كان عاما لا يختص بمعين بل هو عام في كل الخلق والأمصار فالرواية، كخبر
(1)
(إنما الأعمال بالنية)
(2)
أو (الشفعة فيما لم يقسم)
(3)
بخلاف قول العدول عند الحاكم: لهذا على هذا كذا إلزام لِمعين لا يتعداه فالشهادة. ابن عرفة: حاصل ما قرره المازري أن الشهادة هي الخبر التعلق بجزئي، والرواية المتعلق بكلي، وهو مردود بأن الرواية قد تتعلق بجزئي كخبر (يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة)
(4)
(وخبر تميم الداري في السفينة التي لعب بهم الموج فيها)
(5)
. فذكر قصة الدَّجَّال إلى غيرها من أحاديث متعلقة بجزئي، وكآية {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} ونحوها كثيرٌ. اهـ. وعرف ابن معرفة الشهادة بأنها: قول هو بحيث يوجب على الحاكم سماعه الحكم بمقتضاه إن عدل قائله مع تعدده أو حلف طالبه: فتخرج الرواية، والخبر القسيم للشهادة، كإخبار القاضي بما ثبت عنده قاضيا آخر، فيجب الحكم بمقتضى ما كتب إليه لعدم شرط التعدد أو الحلف، وتدخل الشهادة قبل الأداء وغير التامة لأن الحيثية لا توجب حصول مدلول ما أضيفت إليه بالفعل حسبما ذكروه في تعريف الدلالة. اهـ. وعبر بقول دون خبر؛ لأنه أدخل الشهادة قبل الأداء، وهي قول لا خبر؛ لأنها من كلام النفس، والقول يطلق على كلام النفس لغة بخلاف الخبر، ومعنى الشهادة غير التامة التي لم تعدل، وإنما أتى بحيث ولم يقل قول يوجب على الحاكم سماعه لخ، لأجل إدخال الشهادة قبل الأداء والشهادة غير التامة؛ لأن الحيثية لا توجب حصول مدلول ما أضيفت إليه بالفعل حسبما ذكروه في تعريف الدلالة، حيث قالوا: كون اللفظ بحيث إذا أطلق دل، ولم يقولوا: لفظ دال، هذا ما
(1)
في الأصل: لخبر، وانظر فروق القرافي ج 1 ص 76.
(2)
البخاري، كتاب الأيمان والنذور، رقم الحديث 6389.
(3)
ابن حبان ج 7 ص 310 رقم الحديث 52 - 62. والبيهقي ج 6 ص 103 وفي البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث 2214 قضى النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة.
(4)
البخاري، كتاب الحج، رقم الحديث 1591 ومسلم، كتاب الفتن رقم الحديث 2909.
(5)
مسلم، كتاب الفتن، رقم الحديث 2942.
أشار إليه بقوله: لأن الحيثية لخ، وقوله: يوجب على الحاكم، تخرج به الرواية: والخبر القسيم للشهادة، ولم يقل القاضي لأن الحاكم أعم من القاضي لوجوده في التحكيم والأمير، وقوله: إن عدل قائله، أي ثبتت عدالته عند القاضي، إما بالبينة أو بكونه يعلم عدالتها، والظاهر أن في حده دورانا لأن الحكم بافتقاره للتعدد فرع عن كونه شهادة، وقوله: إن عدل قائله شرط في إيجاب الحكم، واعترض ابن مرزوق حد ابن عرفة أيضا بفساد جمعه لعدم شموله ما مر من إعمال شهادة الواحد في الخلطة والطلاق والعتق، ولذلك طلب الحلف ثمة.
تنبيهان: الأول: قال في التنبيهات: الشهادة معناها البيان، وبه سمي الشاهد لأنه [يبين عن الحكم والحق]
(1)
من الباطل، وهو أحد معاني تسميته تعالى شهيدا، وإليه أشار بعضهم في قوله تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي بين، وقيل: هو فيها بمعنى المعلم. قاله البناني. الثاني: قال ابن عرفة: قال القرافي: ولفظ الأداء أودي أو أشهد مع أنه إنشاء لا خبر، فلو قال: أديت أو شهدت لم يفد عكس لفظ الإنشاء في بعت واشتريت وأَبيعُ وأشتري لغو. قال ابن عرفة: الأظهر أن هذا لِعرفٍ تقرر لا لذات حقيقة الأداء أو غيره، والأظهر أن الإشارة الفهمة تكفي، وشاهدت من أداها إشارة فلم يقبلها منه من أداها إليه، وفي النوادر عن أشهب: إن قال: هذه شهادتي فذلك أداء لها اهـ وما استظهره من أن ذلك لعرف تقرر صرح به القرافي إذ قال بعد ما تقدم عنه: وسبب الفرق الموضع العرفي فما وضعه العرف للإنشاء كان إنشاء وما لا فلا. اهـ. وقال ابن العربي: وأداء الشهادة بلفظ الشهادة تعبد لا إدراك عند العلماء لعناه، ولا يجزئ غيره عنه، ونقل إجماع الأمة على أن الرجل لو قال للحاكم: أنا أبين عندك، أو أعلم كذا بدلا من قوله: أشهد لما أصغى إليه ولا قضى بقوله، حتى يقول: أشهد وحكى المازري عن ابن القصار ما حكاه ابن العربي من ذلك، وأن أشهد لفظ مخصوص يتعبد به في أداء الشهادة، وقال المازري: عندي لو قال الشاهد: سمعت كذا أو علمت كذا وفَهِم القاضي منه قصد الشهادة لقضى بذلك، كما يقضي لو قال: أنا أشهد به. اهـ. فما قاله القرافي موافق لما قاله ابن العربي وابن القصَّار، إلا أن
(1)
في بناني ج 7 ص 156 عند الحاكم الحق لخ ولفظ التنبيهات يبين الحكم والحق لخ ج 4 ص 2159.
القرافي أناط ذلك بالوضع العرفي، وهما بالتعبد. والله أعلم. قاله البناني. وعرف المص العدل بقوله: العدل حر، يعني أن العدل وهو المقنع في الشهادة لا بد أن يكون حرا حال الأداء ولو عتيقا، لكن إن شهد لمعتقه فله وصف آخر وهو التبريز، فإن استحق الشاهد الحر برق لم ترد شهادته، لأنه قد لا يعرف غيره الحق المشهود به كما قال في توضيحه، ولا ينافي ما مر من نقض الحكم فيما إذا قضى بشاهدين أحدهما عبد، لأن من هنا طرأ استحقاقه بالرقية بعد اشتهاره بالحرية، وهناك لم يشتهر وإنما قصَّر القاضي في الفحص عن كون الشاهد رقيقا، وأما القاضي إذا استحق برق فترد أحكامه، وتجوز ولاية العتيق عند الجمهور خلافا لسحنون. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: المراد بالعدل هنا الرضى المقنع في الشهادة. قال الجوهري: العدل خلاف الجورة ورجل عدل أي رِضًى ومقنع في الشهادة، وهو في الأصل مصدر، وقوم عدل وعدول أيضا وهو جمع عدل. اهـ. ومقصود المؤلف مقبول الشهادة، وقوله: العدل، مبتدأ وخبره حر، والبقية أوصافه؛ وكدل مشتق من العدالة، وعرف ابن عرفة العدالة بقوله: صفة مظنة لمنع موصوفها البدعة، وما يشينه عرفا، ومعصية غير قليل الصغائر، فالصغائر الخسِّية مندرجة فيما يشين، ونادر الكذب في غير عظيم مفسدة عفو مندرج في قليل الصغائر بدليل قولها في آخر شهادتها فيما يجرح به أنه كاذب في غير شي، واحد، وقوله: مظنة وصف لصفة أي ذات مظنة؛ أي أنها جامعة ضابطة لمعنى الحكمة كما يقال: التعليل بالظنة أشمل من الحكمة، ويقال: السفر علة في القصر وهي أجمع من الحكمة التي هي المشقة، وقوله: لمنع، مصدر مجرور باللام متعلق بمظنة، والبدعة معلومة شرعا وهي الأمر المحدث، والبدعة مفعول منع، وقوله: عرفا، أشار به إلى السلامة من ترك المروءة كالأكل في السوق، ويختلف ذلك بحسب البقاع والحال والزمان، فإن من مشى من أهل الصوفية حافيا لا قدح فيه، ومن مشى من أهل الحاضرة أو غيرها كذلك ففيه قدح، واعلم أن العدالة في الشاهد هي العدالة في القاضي: وقوله: العدل أي في عرف الفقهاء لا العدل في عرف المحدثين، وقوله: حر،
فلا تقبل شهادة القن اتفاقا. قال الخرشي: فلا تقبل شهادة القن بلا خلاف. وقال التتائي: ولا تقبل شهادة ذي شائبة كمكاتب ومدبر ومعتق لأجل أو بعضه؛ لأن الرق أثر كفر فيمنع كأصله. مسلم؛ يعني أنه لا بد من الإسلام في العدل، فلا تجوز شهادة كافر على مسلم. قال في التوضيح: إجماعا؛ ولا على مثله عندنا خلافا لأبي حنيفة والشعبي، وإطلاق الإجماع بعد تقرر الخلاف في المصدر الأول على جوازها في الوصية سفرا هو أحد القولين في ثبوت الإجماع بعد تقرر الخلاف فيه. الباجي: جوازها في ذلك منسوخ، وقياس الحنفي جوازها لبعضهم على بعض على ذلك جار على أصله في صحة القياس على الأصل المنسوخ؛ لأن حكم الأصل ثابت عنده بالنص، وحكم الفرع ثابت بالعلة، والنسخ إنما وقع على الأمل لا على العلة. قاله التتائي. قوله: مسلم حال الأداء، وأما قوله:
عاقل، فلا بد منه في حال الأداء والتحمل، فلا تصح شهادة غير العاقل. قال الخرشي: العقل شرط في التحمل والأداء. وقال التتائي: عاقل في حالتي الأداء والتحمل اتفاقا. ابن عبد السلام: ولا يضر ذهاب العقل في غير هاتين الحالتين، نص عليه عبد الملك، وقال ابن وهب عن ملك: في الكبير يخنق ثم يفيق، إن كان يفيق إفاقة يعقلها جازت شهادته وبيعه وابتياعه. انظر التتائي. بالغ. يعني أن البلوغ شرط في العدالة، فلا تقبل شهادة الصبي إذا كان صبيا حال الأداء، وأما حال التحمل فالمعتبر فيها الضبط والتمييز، فلا تصح شهادة الصبيان إلا على بعضهم بشروط تأتي له في جرح أو قتل لا مال، ولا تقبل شهادة المكره لأن الإكراه يمنع الثقة بالشهادة، فمن تحمل شهادة وحلف بالطلاق أنه لا يؤديها فأكره على أدائها فلا تقبل شهادته؛ لأن المكره لا يومن أن يشهد بما لا يعلم فلا يوثق بشهادته، خلاف ما قاله عبد الباقي. والله تعالى أعلم.
بلا فسق، يعني أن الفسق مانع من قبول الشهادة، والفسق هو الخروج عن طاعة الله تعالى بارتكاب الكبائر، وقوله: بلا فسق؛ أي بجارحة بدليل ما يأتي له في الفاسق بالاعتقاد، والفسق لغة الخروج، ومنه فسقت النواة عن الثمرة. قال ابن سيده في المحكم: الفسق العصيان والترك لأمر الله، والخروج عن طريق الحق، فسق يَفْسُقُ فسقا وفسوقا وفسق بالضم. قاله الخرشي. وقال المواق: قال ابن شأس: ليست العدالة أن يخلص الرجل الطاعةَ حتى لا يشوبها معصية، فإن
ذلك متعذر لا يقدر عليه إلالأولياء والصديقون، ولكن من كانت الطاعة أكثر أحواله وأغلبها عليه وهو مجتنب للكبائر محافظ على ترك الصغائر فهو عدل. اهـ. وبلا حجر؛ يعني أنه يشترط في قبول الشهادة أن لا يكون الشاهد محجورا عليه. قال المواق: سمع أشهب لا تجوز شهادة المولى عليه وهو عدل. اهـ. وقال الرهوني: المتيطي: مذهب ابن القاسم أن المولى عليه لا تجوز شهادته، وبهذا العمل، وفي المدونة: أن شهادة السفيه وإن كان عدلا لا تجوز كان مولى عليه أم لا. اهـ. نقله عن التاودي، ونقل عنه أن المشهور عدم جواز شهادة المحجور عليه: ثم قال: وما ذكره من أن المشهور عدم جواز شهادة المحجور عليه مسلم إن كان متصل السفه، كما يدل عليه كلام البيان الذي نقله هنا غير واحد من أن شهادته تجري على فعله؛ لأن السفيه الولى عليه أفعاله مردودة على مشهور قول ملك وأكثر أصحابه، وعلى ما به العمل، وهو قول ابن القاسم، فتكون شهادته مردودة أيضا عليهما معا، وأما إن كان رشيدا فمسلم على ما قاله ابن رشد من تخريج شهادته على أفعاله، وما نقله عن المتيطي مخالف لكلام ابن رشد؛ لأنه نقل عن ابن القاسم ما رأيت، وكلام ابن رشد نسب فيه لابن القاسم تخريجا أنها تجوز، ولم أر من نقل عن ابن القاسم أن شهادة المولى عليه وهو رشيد لا تجوز، لا نصا ولا تخريجا بعد البحث عنه، وكذا ما ذكره من العمل ولم يذكر ذلك ابن هارون في اختصار المتيطية، فإنه قال: وأجاز ملك في رواية أشهب وابن عبد الحكم شهادة المولى عليه إذا كان عدلا، ولم يجزها أشهب، وإن كان لو طلب ماله أخذه وفيه بعد جلب نقول كثيرة: وبهذا كله يظهر لك رجحان ما رجحه المص من أن الموجب للرد هو الولاية لا السفه دونها، ورجح غير واحد ردها للسفه وحدد دون الولاية، منهم أبو علي. وقال ابن مرزوق: والظاهر عندي قبولها إن كان عدلا كما قال ملك؛ لأن الحجر عليه لا ينافيها. اهـ. وكلام ابن رشد الذي سبقت الإشارة إليه نقله ابن عرفة، قال البناني: قال ابن عرفة: في شرط عدم الولاية في المال خلاف، سمع أشهب أتجوز شهادة المولى عليه وهو عدل؟ قال: نعم. ابن رشد: مثله روى ابن عبد الحكم في الموازية وهو قياس المعلوم من قول ابن القاسم في لغو الولاية على اليتيم البالغ في جواز أفعاله وردها، والآتي على مشهور المذهب المعلوم من
قول ملك وأصحابه في أن المولى عليه لا تنفذ أفعاله وإن كان رشيدا في أحواله أن لا تجوز شهادته، وإن كان مثله لو طلب ماله أخذه وهو نص أشهب في المجموعة. اهـ. وقال الرهوني: عن التنبيهات: قالوا: ظاهره أي كلام المدونة في كتاب الشهادات اشتراط الرشد في العدالة وهو قول أشهب، وأن شهادة السفيه لا تجوز وإن كان عدلا في نفسه، وأجاز في كتاب التفليس في باب الشهادة على الميت بدين قبول شهادته وإن كان سفيها. اهـ. قوله: شهادته، الضمير عائد على العدل. والله تعالى أعلم. وقال الرهوني: ولا يخفى عليك ما في جزم أبي علي والتاودي بأن مذهب المدونة عدم جواز شهادة السفيه بعد وقوفك على ما قدمناه من كلام التنبيهات وابن ناجي. والله أعلم اهـ.
تنبيه: قال البناني: قد تقدم في الحجر أن الذي به العمل قديما وحديثا هو قول ابن القاسم باعتبار الحال، فانظر هل يجري ذلك هنا؟ والله أعلم. وفي شرح التحفة ما يفيد ذلك. انتهى. قال الرهوني: أي ما يفيد أن العمل أيضا بقول ابن القاسم باعتبار شهادته، وقد راجعت كلام ابن الناظم فلم يظهر لي منه ذلك. اهـ. وقال عبد الباقي: بلا فسق وبلا حجر بسفه، فلا تصح من فاسق ولا مجهول حال ولا محجور عليه بوصي أو مقدم لأجل سفه، ولو صار حافظا للمال، إذ لا ينفك عنه حجرهما إلا بفكهما، بخلاف ذي الأب فلا يثبت عليه الحجر حيث حفظ المال، إلا أن يحجر عليه قرب بلوغه وكان مجهول الحال، وقولي: بلا حجر لسفه، احترازا عن الحجر على الزوجة والمريض والفلس فإنه لا تمنع شهادتهم. اهـ. ونحوه للشبراخيتي، وفيه: وأما ذو الأب فينفك عنه الحجر بحفظ المال إلا إذا حجر عليه الأب بقرب بلوغه وكان مجهول الحال، وأما الحجر على الزوجة والمريض والمفلس فلا يمنع الشهادة. اهـ.
وبدعة يعني أن المبتدع وهو الفاسق بالاعتقاد لا تصح شهادته - لأنه إما فاسق أو كافر. قال الشبراخيتي: وبلا بدعة، هذا فسق الاعتقاد، فشهادة المبتدع ساقطة، وهذه الشروط وما بعدها إنما تعتبر في أداء الشهادة، وأما تحملها فله شرط واحد، قال ابن رشد: حال التحمل لا يعتبر فيه إلا أن يكون على صفة واحدة وهي الضبط والتمييز، وأما حال الأداء فله شروط وذكرها، ونحوه قول ابن فرحون: فليس لتحملها إلا شرط واحد وهو الضبط والتمييز صغيرا كان أو كبيرا،
حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو كافرا، عدلا كان أو فاسقا. اهـ. وقال عبد الباقي: وبلا بدعة، فلا تصح من مبتدع تعمد أو جهل، بل وإن تأول كخارجي وقدري، هو كقول ابن الحاجب: ولا يعذر بجهل ولا تأويل كالقدري والخارجي، قال في توضيحه تبعا لابن عبد السلام: يحتمل أن يكون القدري مثالا للجاهل لأن أكثر شبههم عقلية، والخطأ فيها يسمى جهلا، والخارجي مثالا للمتأول لأن شبههم سمعية والخطأ فيها يسمى تأويلا، ويحتمل أن يريد بالجاهل المقلد من الفريقين، وبالتأول المجتهد منهما: ولم يعذر بالتأويل هنا لكونه أدى إلى كفر أو فسق، ولا كذلك التأويل في المحاربين، وأدخل بالكاف غير من ذكر من أهل البدع كالرافضة والأباضية وغيرهم، ومن الخوارج أهل جربة. كما في الشبراخيتي.
تنبيه: قد صرح غير واحد بأنه لا يعتبر حال التحمل من الشروط إلا الضبط والتمييز، وتعتبر كلها حال الأداء. قال البناني: هذا التفصيل إنما هو في غير شهود النكاح والشهود على الخط، وأما في النكاح والخط فلا بد من وجود الشروط المذكورة كلها وقت الأداء ووقت التحمل قاله المسناوي. وهو ظاهر. اهـ. قوله: وهو ظاهر، إنما يظهر في النكاح في بعض صوره، كمن دخل بشهادة رجلين غير عدلين ثم حصلت عدالتهما بعد المدخول، وأما لو ادعى رجل نكاح امرأة فأنكرته أو العكس فأقام المدعي شهادة رجلين كانا حين انعقاد النكاح على دعوى مدعيه غير عدلين، وثبتت عدالتهما حين التنازع والأداء، فلا وجه لإلغاء شهادتهما، بل يتعين العمل بها ويلزمه النكاح، ويؤخذ العمل بها بالأحرى من إعمال رجلين شهدا بأن فلانا قتل فلانا عمدا يوم كذا وهما غير عدلين، وصارا الآن عدلين، ومن إعمال شهادة أربعة بأن فلانا زنى يوم كذا وهو محصن وهم غير عدول إذ ذاك ثم صاروا عدولا، بعد لأن حفظ النفوس أعظم، فإذا كان يقدم على إراقة دم امرئ مسلم بشهادة من ذكر، فكيف لا يقضى بصحة النكاح ولزومه بشهادة من ذكر، وأما الشهادة على الخط فلم يتضح لي تصوير ما أشار إليه، والتبادر منه أن الشاهدين بأن هذا خط فلان الميت أو الغائب يشترط فيهما وجود الشروط كلها وقت التحمل ووقت الأداء معا، فإن
كان هذا مراده ففيه نظر؛ لأن وقت التحمل إما أن يراد به وقت مخالطة الشاهدين للمشهود على خطه ومعاينتهما للكتابة وممارستهما لخطه، وإما أن يراد به وقت كتبهما أن هذا الخط خط فلان، كما إذا كتب وثيقة بذلك ووضعا عليها علامتهما وهما غير عدلين، ثم تراخى الأداء إلى أن صارا عدلين، وعلى كل احتمال فلا وجه لا شتراط عدالتهما وقت التحمل، وقد أطلق أهل المذهب منهم ابن رشد في مقدماته، ونصه: اعلم أن للشاهد في شهادته حالين حال تحمل الشهادة وحال أدائها، فأما حال تحملها فليس من شرط الشهادة فيها إلا أن يكون ذا صفة واحدة وهي الضبط والميز، صغيرا كان أو كبيرا، حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو كافرا، عدلا كان أو فاسقا. اهـ. وتَتَبُّعُ عبارات أهل المذهب الموافقة لهذا يطول بنا جدا مع شهرتها حتى إنه مذكور في التحفة بقولها:
وزمن الأداء لا التحمل
…
صح اعتباره لمقتض جلي
فإن كان أشار إلى مضمون قول المختصر: وتحملها عدلا، فليس مما نحن فيه قطعا. اهـ. لم يباشر كبيرة هذا تبيين لحقيقة العدل؛ يعني أنه يشترط في قبول شهادة الشاهد أن لا يتلبس بكبيرة تلبسا لا تعرف له بعده توبة، ويمكن أن يؤخذ هذا من كلام المؤلف؛ أي لم يباشر كبيرة وقت أداء الشهادة؛ لأنه إذا تلبس بها وتاب وحسنت توبته ثم أداها لم يصدق عليه أنه متلبس بها، وهذا يغني عن قوله: فسق إلا أن يريد بالفسق ما كان بالجوارح الظاهرة، وبالكبيرة ما كان بالجوارح الباطنة كالحسد ونحوه. اهـ. وقال عبد الباقي: لم يباشر كبيرة أي لم يتلبس بها حال الأداء، بأن لم تقع منه أصلا، أو عرفت توبته، فإن لم تعرف توبته منها حينه فمباشر. اهـ.
تنبيه: قال الخرشي: وأفتى الشيخ الجزيري بأن من الكبائر نسيان القرآن بعد البلوغ، ويتأنس له بما قال الأبي في أحاديث فضل تلاوة القرآن في قوله عليه الصلاة والسلام:(تعاهدوا القرآن)
(1)
: معاهدة القرآن محافظته وتجديد العهد به؛ أي واظبوا على تلاوته ليلا ينسى، هذا والأظهر أن
(1)
البخاري: كتاب فضائل القرآن، رقم الحديث 5033 ومسلم، كتاب صلاة المسافرين (باب فضائل القرآن) رقم الحديث 791.
المراد تعاهدوا بالتلاوة خوف النسيان، لا تعاهده بالتدبر، وقد اختلفوا في قوله تعالى:{اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} . هل هو من الهجر الذي هو الترك والبعد، أو هو من الهُجر بضم الهاء الذي هو الفحش من القول؟ كقولهم: هو سحر، وشعر، ومفترًى. فعلى الأول ففيه تنبيه للمؤمنين على معاهدة المصحف فإنه لا يترك حتى يعلوه الغبار، وفي الحديث: من علق مصحفا ولم يتعاهده جاء يوم القيامة متعلقا به يقول هذا اتخذني مهجورا وصَدَّ عني فاحكم بيني وبينه. وحديث: (بيس ما لأحدكم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت)
(1)
. على ما اختاره القاضي في تأويله، وحديث (لم أر ذنبا أعظم من آية أو سورة حفظها رجل ثم نسيها)
(2)
. فالأمر في تَعَاهَدُوا لِلْوُجُوبِ، لأن النسيان يتسبب عن عدم التعاهد، فهو حرام للزوم الوعيد عليه؛ فالتعاهد واجب، وإذا كان الأمر بالتعاهد خوف النسيان فالتعاهد المانع من الإثم كان ابن عرفة يقول: إنه ختمة في الجمعة، وأما تعاهده بالتدبر فختمة في الشهر، وهذا باختلاف الواقع يختلف باختلاف الناس. اهـ. قَالَ مُقَيِّدُ هَذَا الشَّرْحِ عفا الله عنه: كون تعاهدوا هذا القرآن على الوجوب إن أريد به مجرد التلاوة فقط غير ظاهر، وكذا فتوى الجزيري بأن من الكبائر نسيان القرآن بمعنى نسيان اللفظ فقط، إذ الذي يظهر في قوله تعالى:{أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} وفي قوله صلى الله عليه وسلم: نظرت في ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من آية أوتيها رجل فنسيها. أن المراد بالنسيان ترك العمل بما فيها والإعراض عنها كحال المنافقين؛ لأن تلاوة القرآن مندوبة فقط، وَقَدْ قَالَ الْعَلَّامَةَ سيدي أحمد بن مبارك اللمطي: سألته يعني الشيخ الرباني سيدي ومولاي عبد العزيز الدباغ رضي الله عنه عن حديث المطلب بن حنطب عن أنس بن ملك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نظرت في ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من آية أوتيها رجل فنسيها. وقلت له: إن الترمذي نقل عن البخاري أن الحديث معلول، لكون المطلب بن حنطب
(1)
البخاري، كتاب فضائل القرآن، رقم الحديث 5032 ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث 790.
(2)
البيهقي ج 2 ص 440.
لم يسمع من أنس بن ملك، فيكون الحديث منقطعا بين المطلب وأنس، وروي مثله عن أحمد بن حنبل رحمه الله، فهؤلاء الثلاثة الترمذي والبخاري وأحمد بن حنبل علوه بما سبق، نقل ذلك عنهم الإمام أبو محمد عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الكبرى، والحافظ ابن حجر في شرح البخاري، والشيخ عبد الرؤوف المناوي، فَقَالَ رضي الله عنه الحديث صحيح، ونوره صلى الله عليه وسلم فيه، ولكنه ليس هو فيمن حفظ الآية ثم نسيها أي نسي لفظها، وإن كان عاملا بها، وإنما هو في الذي بلغه القرآن وأعرض عنه، ومنع ذاته من نوره، واستبدله بضده من الظلام، بأن أعرض عن الحق الذي فيه وتبع الضلال الذي هو ظلام، فبعد عن الله تعالى في الدنيا والآخرة، قال: كحال المنافقين في زمانه صلى الله عليه وسلم، فالحديث وارد فيهم، وعليهم نازل، وإليهم يشيرة لأنهم من أمة الإجابة التي هي في الأمة الخاصة فيما يظهر، وليس في أمة الإجابة أعظم من نفاقهم وكفرهم، فقلت: فما نور القرآن الذي تشيرون إليه؟ فقال: رضي الله عنه فيه ثلاثة أقوال، الأول: نور الدلالة على الله تعالى. الثاني: نور الامتثال. الثالث: نور اجتناب النواهي. فمن منع ذاته من دخول هذه الأنوار الثلاثة فيها وهو يسمعها في القرآن فهو المراد بالحديث. انتهى.
أو كثير كذب، يعني أنه يشترط في قبول شهادة الشاهد أن لا يباشر كثير كذب، قال عبد الباقي: فتغتقر الكذبة الواحدة في السنة لعسر التحرز منها، وهي صغيرة إلا أن يترتب عليها عظيم مفسدة فكبيرة قادحة. اهـ. وقال الشبراخيتي: ومقتضى ما في التوضيح أن الكذبة الواحدة من الكبائر لكنها اغتفرت لتعسر الاحتراز منها، ومقتضى كلام غيره أنها صغيرة، ومقتضى كلام الشارح والتتائي نحو ما للتوضيح، وفي مفهوم المص تفصيل، وهو أن الكذبة الواحدة تغتفر إذا لم يترتب عليها عظيم مفسدة، لا إن ترتب عليها عظيم مفسدة.
تنبيهات: الأول: قال ابن شأس: قال علماؤنا: ليست العدالة أن يمحض الرجل الطاعة حتى لا يشوبها بمعصية؛ لأن ذلك يتعذر ولا يقدر عليه إلا الأولياء والصديقون، ولكن من كانت الطاعة أكثر أحواله وأغلبها عليه وهو مجتنب الكبائر محافظ على ترك الصغائر فهو العدل. نقله غير واحد. ولابن عاصم رحمه الله:
والعدل من يجتنب الكبائرا
…
ويتقي في الأغلب الصغائرا
الخ، وقال المواق: عبارة ابن شأس: أن يكون مجتنبا للكبائر. زاد عياض: ومتقيا المثابرة على الصغائر. ابن عات: ومجانبا مخالطة من لا خير فيه. اهـ. وقال المواق أيضا: من المدونة: مما يجرح به الشاهد قيام بينة عليه أنه كذاب في غير شيء واحد. اهـ. الثاني: احتيج إلى بيان الكبائر هنا لقوله: لم يباشر كبيرة، روي عن سعيد بن جبير: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وقيل ما أوعد الله عليه بنار أو بحد في الدنيا، وقال ابن مسعود وغيره: هي جميع ما نهى الله عنه من أول سورة النساء إلى قوله {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} . واستخرج مكي: السبعة عشر من أحاديث متفرقة، فقال: أربعة في القلب، الشرك، والإصرار، والقنوط، والأمن من عذاب الله، وأربعة في اللسان، شهادة الزور، واليمين الغموس، والسحر، والقذف، وثلاثة في البطن، شرب الخمر، والسكر من غيره من الأشربة، وأكل مال اليتيم ظلما، وأكل الربا وهو يعلم، واثنان في الفرج، الزنى، واللواط، واثنان في اليد القتل، والسرقة، وواحدة في الرجلين، الفرار من الزحف إلا بشرطه، وواحدة في جميع الجسد عقوق الوالدين. وقال ابن السبكي في جمع الجوامع: القتل، والزنى، واللواط، وشرب الخمر، ومطلق السكر، والسرقة، والغصب، والقذف، والنميمة، واليمين الفاجرة، وقطيعة الرحم، والعقوق، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم بغير حق، والخيانة في الكيل أو الوزن، وتقديم الصلاة عن وقتها وتأخيرها عنه، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب المسلم بغير حق، وسب الصحابة، وكتمان الشهادة والرشوة، والدياثة، والسعاية يريد عند الأمراء بما يضر الناس، ومنع الزكاة، واليأس من الرحمة، والأمن من عذاب الله يريد بالاسترسال في المعاصي والاتكال على الرحمة، والظهار؛ وفطر رمضان، والغلول، والمحاربة، والسحر، والربا ويصح ضبطه بالموحدة والتحتية المثناة، وإدمان الصغيرة، وروي عن سعيد بن جبير هي إلى سبع مائة أقرب، ومنهم من حصرها بالضابط قيل: ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وقيل: ما أوجب حكما، وقيل: ما نص
القرآن على تحريمه أو وجب في جنسه حَدٌّ، وقال إمام الحرمين: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة، وهذه هي التي تسقط الشهادة، وكل جريمة لا تؤذن بذلك بل تبقي حسن الظن ظاهرا بصاحبها فهي التي لا تحط العدالة. وقيل: غير ذلك. قاله التتائي.
الثالث: قال الرهوني عند قوله: لم يباشر كبيرة، يتناول من ترك صلاة مفروضة غير جمعة حتى خرج وقتها الضروري مرة واحدة، وفيه خلاف، ففي ابن عرفة: قال الباجي: ترث شهادة من ترك واجبا كالصلاة من الفريضة والصوم حتى يخرج الوقت المشروع لها وترك الجمعة جرح في الجملة، واختلف في تركها مرة واحدة، فقال أصبغ: جرحة كالصلاة من الفريضة تركها مرة، قلتُ: فاستدلاله هذا نص في أن تركه الصلاة مرة واحدة وأنه متفق عليه، وهو خلاف ما يأتي لابن رشد أن ترك الصلاة الواحدة من الصلوات المفروضة حتى يخرج وقتها بغير عذر لا يوجب رد الشهادة حتى يكثر ذلك من فعله. اهـ منه بلفظه. ونقله ابن غازي في تكميله وأقره. اهـ كلام الرهوني.
أو صغيرة خسة، يعني أنه يشترط في قبول شهادة الشاهد أن لا يباشر صغير خسة كتطفيف حبة وسرقة لقمة لدلالة ذلك على دناءة الهمة وقلة المروءة، وقيد بعضهم ذلك بما إذا لم تكن لمسكين فتلحق بالكبيرة. قاله التتائي. وأما صغائر غير الخسة فلا تقدح إلا بشرط الإدمان عليها. قاله عبد الباقي. وفي الخرشي عن شرح الجوهرة: كل ما خرج من حد الكبيرة فهو صغيرة، ولا يحصر أفرادها، ومنها ما يتوهم كونه كبيرة وليس بكبيرة، كقبلة أجنبية، ولعن معين ولو بهيمة؛ وكذب على غير الأنبياء بما لا حد فيه ولا فساد بدن أو مال ولا ضرر، وهجو مسلم ولو تعريضا، وهجر مسلم فوق ثلاثة أيام عدوانا، ونوم وجلوس مع فاسق لا يناسبه، ونجش واحتكار مضر، وبيع ما علمه معيبا. اهـ. قوله: وهجو مسلم، عطف على المنفي، ويعين ذلك قوله: ولو تعريضا فهجو المسلم كبيرة.
تنبيه: مثل عبد الباقي لِصغيرةِ الخسة بالنظرة الواحدة. قال البناني: فيه نظر، بل النظرة ليست من صغائر الخسة. اهـ. قال الرهوني: قول محمد بن الحسن البناني: بل النظرة ليست من صغائر الخسة، صحيح لا إشكال فيه؛ لأنه إذا كانت القبلة للأجنبية ليست من صغائر الخسة،
فأحرى النظرة لكن لا بد من تقييد النظرة بما قيدت به القبلة، وهو أن لا تفعل في ملإ من الناس وإلا فهي جرحة. نقله ابن عبد السلام عن بعضهم، فإنه لو فعل ذلك بزوجته أو أمته لكان جرحة أيضا: لأنه مناف للمروءة، وهي زائدة على العدالة. اهـ.
وسفاهة. عطف على فسق؛ يعني أنه يشترط في قبول شهادة الشاهد أن لا يكون ذا سفاهة أي مجون: بأن لا يبالي بما صنع، قال ابن مرزوق: كإخراج الصوت من فيه، وكالنطق بألفاظ الخنا في الملإ مما يستبشع النطق به، وأما فصْلُ المروءة فأكثر ما يذكر فيه ما هو من المباح وقد يفعله من ليس بسفيه، بخلاف السفاهة فمحرم أو قريب منه، فلذا لم يكتف المص بالمروءة. اهـ. قاله البناني. وقال عبد الباقي: وسفاهة؛ أي مجون بأن لا يبالي بما صنع، أو بأن تقل مروءته فيكثر الدعابة والهزل في أكثر الأوقات، لكن هذا يغني عنه قوله: ذو مروءة، فالأولى التفسير الأول، وإنما حمل قوله: وسفاهة على ما ذكر ليلا يكون فيه تكرار مع قوله: بلا حجر، وأما إذا حمل على السفه الذي ليس معه حجر فلا تكرار، وقد مر الكلام على شهادة السفيه عند قوله: وحجر، فراجعه إن شئت.
ولعب نرد، يعني أنه يشترط في شهادة الشاهد أن لا يلعب بالنرد فاللعب بالنرد، قادح في الشهادة. قال الشبراخيتي: ولعب نرد لخبر: (من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير أو دمه)
(1)
. وفي الخبر أيضا: (ملعون من يلعب بالنردشير). ومن يكن ملعونا لم يكن عدلا، وظاهره ولو لم يُدْمنْ ذلك ولم يكن في قمار، وظاهر الحديث الشريف تحريم اللعب بالنرد، وتناوله لتشبيهه بتناول عين النجاسة بلا ضرورة، وبه جزم الزرقاني. اهـ. وقال التتائي: ولعب نرد لخبر: (من يلعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه). وظاهره وإن لم يدمن. اهـ. وقال عبد الباقي: ولعب نرد وإن لم يدمه بل ولو مرة ولو لم يكن في قمار، ومثله في الطاب. اهـ. وقال الخرشي: ولعب نرد لقوله عليه الصلاة والسلام: (من لعب بالنردشير فكأنما خضبت يده في لحم خنزير ودمه). اهـ. وقال ابن مرزوق: ولعب نرد؛ أي ولا يعلم منه أنه باشر لعب نرد
(1)
مسلم، كتاب الشعر، رقم الحديث 2260.
فلعب منصوب عطفا على كبيرة، والنرد قال الزبيدي: شيء يلعب به وهو فارسي، قالوا: وهو النردشير الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه). قلت: وأظن أنها القطيعات التي هي مثل الدنانير في الشكل، وقد تكون مختلفة الأشكال بالتثليث والتربيع وغيرهما من عود وعظم، وفيها أعداد نقط، رأيت النصارى يلعبون بها يرمونها على لوح وينظرون ما يتفق لهم في هيئة الوضع بعد رميها. والله أعلم. ويلحق بها على هذا اللعب بالعود المسمى بالسبيح، وبالأعواد الموضوعة في التراب، وبالكعاب، ونحو ذلك. والله أعلم. وما رأيت من حقق لي وصفها، وظاهر الحديث الكريم تحريم اللعب بها، وتناولها لتشبيهه بتناول عين النجاسة لغير ضرورة شرعية، وعلى هذا فالتحريم يقع باللعب بها مرة واحدة، وهو ظاهر قول ابن عبد الحكم، ولذا عطفه المص على ما يجرح بفعله مرة، غير الكذب الذي اشترط فيه الكثرة، ولم يشترط فيه الإدمان، كما فعل في الشطرنج. اهـ كلام ابن مرزوق. وقال الخرشي: قال الصلاح الصفدي في شرح لامية العجم: وكان أزدشير بن بابك أول ملوك الفرس قد وضع النرد، ولذلك قيل له: نرد شير، نسبوه إلى واضعه. اهـ. وقال الرهوني: ظاهر كلام ابن عرفة أن المعتمد أنه لا يشترط في النرد الإدمان، ونصه: والنرد، المازري: ظاهر المذهب أنه كالشطرنج، وفيها: الشطرنج شر من النرد، والصحيح من أحاديث الباب حديث مسلم عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده من لحم خنزير ودمه)
(1)
. انتهى. وقد مر أن الطاب مثل النرد، وهو اسم لنوع من آلات اللعب. انظر البناني. وفي الخرشي: وأما اللعب بالشطرنج فإن كان يلهي عن واجب فحرام وإلا فقولان أرجحهما الكراهة. اهـ.
ذو مروءة؛ يعني أنه يشترط في الشاهد أن يكون ذا مروءة، فمن ألا مروءة له شهادته ساقطة، والمروءة هي الصيانة عن كل خُلُق دني يرى أن من تخلق به لا يحافظ على دينه وإن لم يكن حراما. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: قال ابن الحاجب: المروءة الارتفاع عن كل ما يرى أن
(1)
مسلم، كتاب الشعر، رقم الحديث 2260.
من تخلق به لا يحافظ على دينه وإن لم يكن حراما. اهـ. وقال ابن مرزوق: اضطرب رأي المتأخرين في المروءة حل هي زائدة على حقيقة العدالة، وهي طريقة ابن الحاجب وابن شأس، أو هي من تمام حقيقة العدالة؟ وهذا ظاهر كلام الأقدمين. وبين المص المروءة بقوله:
بترك غير لائق، الباء سببية أو للتصوير. والله تعالى أعلم. يعني أن المروءة هي أن يترك الشخص ما لا يليق به، فهو كقول ابن الحاجب: المروءة الارتفاع عن كل ما يرى أن من لخ، وبين المص غير الملائق مدخلا عليه من التبيينية بقوله: من لعب حمام لخ، قال الشبراخيتي: بترك غير لائق، بأن لا يأتى بما يعتذر عنه مما يبخسه عن مرتبته عند ذوي الفضل، قال ابن عرفة: المروءة هي المحافظة على فعل ما تركه من مباح يوجب الذم عرفا كترك الملي الانتعال في بلد يستقبح فيه مشي مثله حافيا، وعلى ترك ما فعله من مباح يوجب ذمه عرفا كالأكل عندنا في السوق وفي حانوت الطباخ لغير الغريب، وفي التوضيح: ابن محرز: ولسنا نريد بالمروءة نظافة الثوب وفراهة المركب وجودة الآلة وحسن الشارة أي الهيئة، بل المراد الصون والسمت الحسن، وحفظ اللسان؛ وتجنب المجون: والارتفاع عن كل خلق ردي يرى أن كل من تخلق به لا يحافظ معه على دينه، وإن لم يكن في نفسه جرحة. اهـ. وقال الأقفهسي: لا تقبل شهادة الغموس، والمراد به من يعاشر الصالحين، ويظن أنه منهم، والفاسقين ويظن أنه منهم: لأن أقل أحواله أنه يعاشر الأراذل إن لم يوافقهم في الفعل، وقوله: بترك لخ، الباء سببية وهي متعلقة بمروءة، أو باء التصوير أي مصورة بترك، وهو صفة كاشفة لمروءة فذو المروءة هو من يترك ما لا يليق بحال العدل. اهـ. وقال البناني: قال ابن عرفة: المروءة هي المحافظة على فعل ما تركه من المباح يوجب الذم عرفا، وعلى ترك ما فعله من مباح يوجب ذمه عرفا. اهـ. جعل الأمور التي تخل بالمروءة مباحة مع أن فعلها يبطل الشهادة. ومثله قول التحفة:
وما أبيح وهو في العيان
…
يقدح في مروءة الإنسان
وانظره مع ما في نوازل الأقضية من العيار عن أبي إسحاق الشاطبي: الاتصاف بالمروءة مطلوب كما أن الاتصاف بخلافها منهي عنه، وإن ظهر لبادي الرأي أنه مباح. اهـ. وقال أبو علي عند قول صاحب التحفة: وما أبيح وهو لخ، جعل الأمور التي تنافي المروءة مباحة مع أن فعلها يبطل الشهادة، والإنسان لا يحل له أن يتسبب فيما يبطل شهادته؛ لأن الإنسان لا يخلو من تحمل شهادة لغيره، مع أن فعل ذلك يرد الشهادة، وفي ذلك تضييع الحقوق، وفي نوازل الأقضية من العيار عن الشاطبي أن الاتصاف بالمروءة مطلوب، كما أن الاتصاف بخلافها منهي عنه، وإن ظهر لبادي الرأي أنه مباح، كما قالوا في الأكل في الأسواق لمن لا يليق [به]
(1)
والاجتماع مع الأراذل، والتحرف بالحرف الذمومة التي لا تليق بمنصب المتلبسين بها، ولا ضرورة تدعو لذلك، فهذا وإن قيل: مباح في الأصل، فالتحقيق أنه منهي عنه، إما نهي كراهة أو منع بحسب حال المتصف. اهـ. والطلب يحتمل الندب أو الوجوب، وكلاهما ينافي الإباحة في اصطلاح المتأخرين، والنهي يحتمل الكراهة والمنع. قال كاتبه عفا الله عنه:
والجواب: أن ارتكاب ما ينافي المروءة حرام باعتبار ما يعرض لما تقدم من بطلان شهادته والطعن عليه بسبب ارتكاب ذلك، وفي ذلك هتك لعرضه، وإيقاع الناس في المعاصي في الكلام
(2)
فيه، مع أن في
(3)
الاجتماع مع الأراذل لا يخلو من سماع ما لا يحل أو رؤيته، ولذلك سقط به إتيان الدعوة الواجبة في النكاح، ولكن قول من قال: هذا مباح، مراده باعتبار الأصل، ومن قال: منهي عنه، مراده باعتبار ما يعرض له. اهـ كلام أبي علي. والله تعالى أعلم. وقال الحطاب: فمن ترك اللباس المحرم والمكروه الخارج عن السنة لا يكون جرحة في شهادته، كلباس فقهاء هذا الزمان من تكبيرهم العمائم، وإفراطهم في توسيع الثياب، وتطويلهم الأكمام، فقد صرح الشيخ أبو عبد الله بن الحاج في المدخل بأن ذلك ممنوع، ونقل عن العلماء من أهل المذهب وغيرهم الكلام في ذلك فراجعه: ولو مشى الإنسان حافيا أو بغير عمامة بالكلية مما هو مباح لكن العادة خلافه ينظر في
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من حاشية أبي علي على التحفة ج 1 ص 81 ط دار الكتب العلمية.
(2)
في حاشية أبي علي ج 1 ص 81 بالكلام.
(3)
في حاشية أبي علي ج 1 ص 82 أن الاجتماع.
أمره، فإن أراد بذلك كسر النفس ومجاهدتها لم يكن ذلك جرحة في حقه، وإن كان على جهة المجون والاستهزاء بذلك فذلك جرحة، كما قاله في التوضيح في الصنائع وتقدم كلام ابن عرفة، وأما حمل الانسان متاعه من السوق فهو من السنة، لقوله عليه الصلاة والسلام:(صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله)
(1)
. وذلك حين اشترى السراويل، وأراد بعض الصحابة أن يحملها عنه، وأظنه السيد أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، والقضية في الشفا. اهـ. وقال الخرشي: قوله: ذو مروءة، بضم الميم وفتحها، والفتح أفصح، ويقال فيها: مروَّة بإبدال الهمزة واوا وإدغام المدة فيها. اهـ. وقال في القاموس: مَرُؤ مرءا ومروءة فهو مريء أي ذو مروءة وإنسانية، وتمرَّأ تكلفها وبهم طلب المروءة لنقصهم وعيبهم، ومرؤ الطعام مثلثة الراء مراءة فهو مريء هنيء حميد المغبة بين المرءة كتمرة وهنأني ومرأني فإن أفرد فأمرأني وكلأٌ مريء غير وخم، ومرؤت الأرض مراءة حسن هواؤها. اهـ المراد منه. وقال الخرشي: وأهل المروءة الآن قليل. قال بعض الأذكياء:
مررت على المروءة وهي تبكي
…
فقلت عَلامَ تنتحب الفتاة
فقالت كيف لا أبكي وأهلي
…
جميعا دون خلق الله ماتوا
من حمام من تبيينية كما مر؛ يعني أنه يشترط في العدل أن يترك ما لا يليق به من لعب بالحمام، قال الشبراخيتي عند قوله: من حمام، تفسير لغير لائق، فمن لبيان الجنس، وحمام على حذف مضاف أي لعب، وقوله: من حمام؛ أي مع الإدمان كما يفيده كلام الشارح وغيره، ولا يصلح حمله على الوجه المحرم لأنه في بيان ترك غير اللائق. انتهى. وقال الحطاب: قال في التوضيح عن ابن محرز؛ الإدمان على لعب الحمام والشطرنج جرحة وإن لم يقامر عليها. قال في كتاب الرجم: ولا تجوز شهادة لاعب الحمام إذا كان يقامر عليها، واختلف الشيوخ هل يقيد ما قاله في غير هذا الموضع بهذا القيد أي المقامرة أو خلاف؟ اهـ. وقال في الشامل: بترك غير لائق
(1)
مجمع الزوائد ج 5 ص 125.
من لعب بحمام وإن دون قمار على الأصح، لكن يفهم من كلام التوضيح شرط الإدمان، وظاهر كلام المص هنا خلاف ذلك، وعزا أبو الحسن التقييد بالإدمان لكتاب الشهادات، ويفهم من كلام المص وغيره أن اللعب بالحمام غير حرام، ولكنه غير لائق. والله أعلم. انتهى. وقال عبد الباقي: وبين المص غير اللائق بقوله: من لعب حمام مع إدمانه، ولا يصح حمله على الوجه المحرم لأنه في بيان ترك غير اللائق، وهذا يشمل اللعب به الذي ليس بمحرم لأنه يخل بالمروءة، ويشمل اللعب به المحرم الذي ليس من الكبيرة ولا من صغيرة الخسة، ولا يشمل اللعب به مقامرة لأنه كبيرة، ومما لا يليق معاشرة الأراذل، قال الأقفهسي: لا تقبل شهادة الغموس، والمراد به من يعاشر الصالحين ويظن أنه منهم، والفاسقين ويظن أنه منهم. اهـ. لأن أقل أحواله أنه عاشر الأراذل إن لم يوافقهم في الفعل. اهـ. وقال المواق: من المدونة: يجرح الشاهد بثبوت لعبه بالحمام إذا كان يقامر عليه، محمد: من فعله على قمار أو أدمن عليه ردت شهادته. اهـ. وقال التتائي عند قوله: من حمام، ظاهره بقمار أم لا، وهو كذلك، كما في سرقة المدونة، وفي الرجم منها: يجرح الشاهد بلعبه بالحمام إذا كان يقامر عليه، واختلف هل يحمل مطلقها على مقيدها أو لا؟ ظاهرهما أدمن عليه أو لا. المازري عن محمد: من فعله على قمار أو أدمن عليه ردت شهادته. اهـ. قال ابن مرزوق: أطلق في كتاب السرقة من المدونة، وقيد في كتاب الرجم بالمقامرة على لعب الحمام، وعلى عدم التقييد من المص، وخَرج أبو داوود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (رأى رجلا يتبع حمامة فقال: شيطان يتبع شيطانة)
(1)
. فظاهر تسميته صلى الله عليه وسلم له شيطانا يدل على رد شهادته، وسمعت شيخنا الحافظ الصالح إمام المحدثين في عصره زين الدين عبد الرحيم العراقي رحمه الله يذكر حكاية، وهي أن بعض الملوك كان مولعا باللعب بالحمام. وكان بعض المحدثين أراد أن يحسن له ما انتحل من ذلك، فذكر له يوما حديث:(لا سبق إلا في خف أو حافر)
(2)
وزاد فيه: أو جناح، ففطن الملك أن تلك الزيادة موضوعة؛ فقال:
(1)
أبو داود، كتاب الأدب، رقم الحديث 4940.
(2)
مسند أحمد، ج 2 ص 256.
آذانا لعبنا بالحمام أن يكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أجلنا فلا ألعب به أبدا. اهـ. قال ابن مرزوق: قلت: ولقد وفق في تركه شهوته للغضب لله. اهـ.
وسماع غناء. يعني أن سماع الغناء يسقط الشهادة، وفي المدخل: الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل، قال عبد الباقي: وسماع غناء بالمد سماعا متكررا بغير آلة، لإخلال سماعه بالمروءة، وإن كره في هذه الحالة حيث لم يكن بقبيح أو يحمل عليه، واعلم أن الغناء إما بآلة أو بغيرها، وفي كل إما أن يحمل على تعلق بمحرم أو لا، وفي كل إما أن يتكرر أو لا، وفي كل إما فعلا أو سماعا، وفي كل إما في عرس أو صنيع، وإما في غير ذلك، فمتى حمل على تعلق بمحرم حرم فعلا أو سماعا تكرر أم لا بآلة أم لما في عرس أو صنيع ونحوهما أو في غير ذلك، ومتى لم يحمل على محرم جاز بعرس وَصنيع كولادة وعقد نكاح ونحوهما بآلة وغيرها، سماعا أو فعلات تكرر أم لا، لا بغير عرس أو صنيع فيمنع إن تكرر بآلة وغيرها فعلا وسماعا، فإن لم يتكرر كره سماعا، وهل كذا فعلا أو يمنع خلاف. اهـ. قول عبد الباقي: جاز بعرس وصنيع كولادة وعقد نكاح ونحوهما بآلة وغيرها لخ، ظاهره ولو كانت الآلة كالعود وهو خلاف ما تقدم له في الوليمة عن الشامل من أنه مكروه، وخلاف ما في المعيار عن المازري من أنه حرام، وفي ابن عرفة: والغناء بآلة فإن كانت ذات أوتار كالعود والطنبور والعزفة والزمار فالظاهر عند العلماء حرمته، وأطلق محمد بن عبد الحكم أن سماع العود مكروه، وقد يريد به الحرمة، ولما كان ذلك يقارن غالبا شرب الخمر ويبعث عليها انسحب عليه حكم التحريم، قال ابن عبد الحكم: سماع العود جرحة إلا أن يكون في صنيع لا شرب فيه فلا يجرح وإن كره على كل حال. اهـ. وراجع كلامه الذي قدمناه عند قوله في الوليمة: وفي الكبر المزهر لخ، وبذلك كله يظهر لك ما في كلامه هنا، وإن سكت عنه التاودي، وقد أشار البناني إلى البحث مع الزرقاني، وقول ابن عرفة عن ابن عبد الحكم: فلا يجرح وإن كره على كل حال، كذا وجدته فيه، وكذا نقله البناني وسلمه، وظاهره أن الكراهة على بابها من التنزيه، وهو خلاف ما في العيار عن الإمام المازري، فإنه قال: قال الإمام أبو عبد الله المازري: الغناء بغير آلة مكروه، أو بآلة ذات أوتار كالعود والطنبور ممنوع، ونص ابن عبد
الحكم على أن الشهادة ترد بسماع العود، إلا أن يكون في عرس أو صنيع بلا شرب مسكر فلا ترد به، وإن كان محرما على كل حال، والظاهر أن الكراهة مراد بها التحريم بدليل ما قاله قبل، وبدليل قوله: على كل حال، وقد نقل ابن مرزوق كلام المازري بلفظ وإن كان مكروها لخ، كما وقع في كلام ابن عرفة. والله سبحانه أعلم. اهـ. قاله الرهوني. وقال الخرشي: وسماع الغناء من النساء ومن المُرد يخل بالمروءة ويبطل الشهادة، وأما الترنم بحسن الصوت فإنه جائز، وقد سمع المصطفى عليه الصلاة والسلام قراءة أبي موسى الأشري وقال: (لقد أوتيت مزمارا من مزامير [آل]
(1)
داوود)
(2)
. والمشهور أن سماع الآلة حرام، ولا تجوز شهادة من يشتغل بمطلق علم الكيمياء ولا إمامته، وفي الإحياء: كل آلة منها صوت مستطرب موزون فإن كان مما يعتاده أهل الشرب حرم سماعه، وإلا فهي باقية على أصل الإباحة قياسا على صوت الغير، والغناء بالكسر والد الصوت المتقطع، والذي فيه ترنم، أو الممتد، وأما بالكسر والقصر فاليسار. اهـ. وقوله: حمام، منصوب في الأصل بنزع الخافض وقوله: أو سماع غناء، اعلم أن مجرد السماع له لا يقدح: وإنما القادح أن يقصد ذلك، وأما لو كان مارا فسمعه من غير قصد فلا يكون قادحا. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: والذي يفيده كلام المواق والشدالي أن سماع الغناء سواء كان مع آلة أم لا إنما يسقط الشهادة إذا أدمنه، كما أن فعل الغناء إنما يسقطها مع الاشتهار، كما في المدونة سواء كان بآلة أم لا. اهـ. وفي النوادر عن ابن عبد الحكم: وأكره القراءة بالألحان حتى يشبه الغناءة ولا أرد شهادة من يفعل ذلك قال ابن الْقُرطِي: وقد اختلف في ذلك، وجاءت أحاديث تتضمن ذم الغناء ولكنها ضعيفة السند. اهـ. قاله ابن مرزوق. وفي الكافي: لا بأس باستماع الحِدَاء ونشيد الأعراب ورفع العقيرة بالإنشاد والترنم بالشعر. اهـ. والعقيرة صوت المغني. قاله في الميسر. ودباغة: يعني أن الدباغة مما يسقط الشهادة لإخلالها بالمروءة. وحياكة؛ يعني أن الحياكة وهي صنعة النسج مما يبطل الشهادة لإخلالها بالمروءة، وقيد ذلك فيهما بقوله: اختيارا؛ يعني أن الدباغة والحياكة إنما يسقطان الشهادة إذا كان فاعلهما مختارا، وأما إن فعلتا اضطرارا فلا
(1)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من الأبي على مسلم الحديث 793.
(2)
البخاري، كتاب فضائل القرآن، رقم الحديث 5048، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث 793.
تسقطان الشهادة، ويمكن رجوع قوله: اختيارا لسماع الغناء أيضا، فلا يقدح سماعه من غير قصد كما مر، وفي شرح الشيخ عبد الباقي: ودباغة وحياكة اختيارا؛ أي في بلد يزريان بفاعلهما وليس من أهلهما، وأما اضطرارا أو من أهلهما فلا يدلان على ترك المروءة، كما يفيده في الحياكة قول ابن عرفة: ليست بتونس من الصناعات الدنية، وقول البرزلي: إنها بإفريقية من الصناعات الرفيعة يفعلها وجوه الناس؛ فتقاس الدباغة عليها. لكن المظاهر أن الدباغة من الصناعات الدنية مطلقا: والخياطة من الرفيعة مطلقا، لحديث ورد في مدحها في حق الرجال، ومدح صناعة الغزل في حق النساء ولفظه:(عمل الأبرار من الرجال الخياطة، وعمل الأبرار من النساء الغزل)
(1)
"خط" وابن لال وابن عساكر عن سهل بن سعد. اهـ من الجامع الصغير. ومثل ما ذكره المص الحجامة؛ ثم ما فسره به المص المروءة شامل للمرأة؛ لأنها بهذا المعنى تتصف بها كالرجل، وقد تفسر المروءة بكمال الرجولية كما قاله السعد التفتازاني، وهي بهذا المعنى لا تشمل المرأة، وإن كان يقال لها: رجلة. اهـ. قوله: ولفظه عمل الأبرار لخ، هذا الحديث نسبه السيوطي للخطيب البغدادي، وإليه رمز بلفظ خط؛ ولابن عساكر وإليه رمز بلفظ كر، كما بين ذلك في ديباجة جامعه؛ وهو حديث ضعيف لأنه ذكر في الجامع الكبير أن كل ما يعزوه للخطيب أو لابن عساكر فهو حديث ضعيف، وأنه يستغني بالعزو إليهما عن بيان ضعفه. اهـ. وقال الشبراخيتي: ودباغة وحياكة اختيارا، لإخلال ذلك بالمروءة، وخرج بالاختيار من يفعل ذلك لفاقة أو مكرها. ابن عبد السلام: وألحق بعضهم بذي الفاقة من يقصد بذلك كسر نفسه ويخلقها بأخلاق الفضلاء، ومبباعدتها عن الكبر، ولو أدخل المص الكاف على دباغة ليشمل أرباب الحرف الدنية كالحجام والكناس وما أشبهه كما قال ابن محرز لكان أولى، وظاهر كلام المص أن الدباغة والحياكة يقدحان مطلقا، وقال التتائي: قال ابن عرفة وغيره: وهذه تختلف باختلاف الناس والأزمنة والأمكنة، فإن الحياكة عندنا بتونس ليست من الصناعات الدنية. البرزلي: وهي بإفريقية عندنا من الصناعات الرفيعة يفعلها وجوه الناس، ومما تختلف به العوائد من هذا المعنى المشي حافيا
(1)
كتاب الجامع الصغير، رقم الحديث 5615.
والأكل في الحوانيت. اهـ. وقال الحطاب: قال البرزلي: رأيت لبعضهم أن هذه الصناعات إن صنعها تصغيرا لنفسه ليدخل السرور بها على فقراء أو يتصدق بما يأخذه فإنها حسنة وإلا فهي جرحة. اهـ.
قال مقيده عفا الله عنه: معنى قوله: ليدخل السرور بها لخ، لأجل صنعته لها معهم فلا يخجلون بسبب اشتراكه معهم فيها. والله تعالى أعلم. وإدامة شطرنج؛ يعني أن إدامة اللعب بالشطرنج تسقط الشهادة، قال المواق: من المدونة: من أدمن على اللعب بالشطرنج لم تجز شهادته؛ وإن كان إنما هو المرة بعد المرة فشهادته جائزة إذا كان عدلا، وكره ملك اللعب بها؛ وقال هي: أشد من النرد، وقال الأبهري: تجوز شهادة من لا يُدمن على اللعب بالشطرنج إذ لا يخلو الإنسان من لهو ومزح يسير، وقد روينا عن جماعة من التابعين أنهم كانوا يلعبون بالشطرنج. اهـ ما لابن يونس. وقال أبو عمر: قول ملك: إن كان لعبه بالشطرنج إنما هو المرة بعد المرة فشهادته جائزة، يدل على أن اللعب بها ليس بمحرم لنفسه وعينه، لأنه لو كان كذلك لاستوى قليله وكثيره في تحريمه، وليس اللعب بها بمضطر إليه ولا مما لا ينفك عنه فيعفى عن اليسير منه، قال: وممن أجاز اللعب بالشطرنج على غير قمار سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومحمد بن النكدر، ومحمد بن سيرين، وعروة بن الزبير، وابنه هشام؛ وسليمان بن يسار، والشعبي؛ والحسن البصري، وربيعة، وعطاء. اهـ. وقال الرهوني: قال الباجي: ما روي عن عبد الله بن مغفّل، والشعبي، وعكرمة، أنهم كانوا يلعبون بالنرد، [والشعبي كان يلعب بها]
(1)
غير، ثابت، وكذا عن ابن المسيب، وابن شهاب، وإنما هي أخبار يتعلق بها أهل البطالة. اهـ. وقال المواق: ومن كتاب ابن سحنون: من كان يبيع النرد والزمامير والعيدان والطنابير لم تجز شهادته. ابن عرفة: وكذا من يشتغل بطلب علم الكيمياء، وأفتى الشيخ الصالح المنتصر بمنع إمامته، وحدثني شيخي ابن سراج رحمه الله أن إنسانا أخبره أنه يُحْكِمُ عملها. قال رحمه الله: الذي أفتيك به من جهة الفقه أن لا بد أن تبين للذي تشتري منه أنها مدبرة، إذ لا يحل أن
(1)
في الرهوني ج 7 ص 359 وأن الشعبي كان يلعب بالشطرنج غير ثابت.
يكتم أحد من أمر عوضه ما إذا ذكره كرهه الآخر، أو كان ذكره أبخس له، وكل الناس يؤثر المعدني على المدبر. اهـ. وقال البناني: قال ابن غازي: قال أبو عبد الله بن هشام اللخمي في لحن العامة: ويقولون: شطرنج بفتح الشين. وحكى ابن جِنِّي أن الصواب كسرها ليكون على بناء جردحْل، وذكر قبل ذلك أنه يقال بالشين وبالسين لأنه إما مشتق من الشاطرة أو التسْطير. قال المازري: قال الأبهري في تعليل التفريق بين الإدمان وعدمه لأن الإنسان لا يسلم من يسير لهو. وقد قال بعض الشعراء:
أفد طبْعَكَ المكدود بالجِد راحة
…
يَجِمُّ وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن
…
بمقدار ما يعطى الطعام من الملح
ابن رشد: لا خلاف بين ملك وأصحابه أن الإدمان على اللعب بها جرحة، وقد قيل: إن الإدمان أن يلعب بها في السنة أكثر من مرة واحدة اهـ وما في الزرقاني عن المذهب أنها شر من النرد هو في المدونة، لكن في التوضيح: لعل مالكا إنما قال ذلك لأن الشطرنج يفتقر إلى حساب وفكرة، بخلاف النرد، لا أنه مثل النرد في الحرمة، وقال الزرقاني: لم يرد فيه مثل ما ورد في النرد من خبر: (من لعب)
(1)
لخ، هذا الحديث في صحيح مسلم كما في ابن عرفة والتوضيح وغيرهما. اهـ. وتعقب الرهوني هذا التأويل بأنه إن حرم النرد لإلهائه فهذا أولى لخ، وما قاله ظاهر لا مرية فيه. وقال الحطاب: قال في الشامل: وإدامة شطرنج ولو مرة في العام، وقيل: أكثر، وهل يحرم أو يكره؟ قولان، وثالثها: محرم مع الأوباش. انتهى. وقال عبد الباقي: وإدامة شطرنج، ظاهره أن لعبه غير حرام لجعله من أفراد ما لا يليق مع تقييده بالإدامة؛ ويوافقه تصحيح القرافي أنه مكروه، ولكن المذهب أن لعبه حرام، وفسر أحمد بن نصر الإدامة بأن يلعب بها في السنة أكثر من مرة، وبعض الأشياخ بمرة في السنة، أي ومرة أخرى في سنة ثانية: حتى يقال له: إدامة اهـ المراد منه. وسئل ملك عن التسليم على اللاعب بالكعاب والشطرنج والنرد؟
(1)
مسلم، كتاب الشعر، رقم الحديث 2260.
فقال: أما هم من أهل الإسلام؟ وإني لأكره أن أقول: لا أسلم على أحد من أهل الإسلام، فقيل له: أفترى شهادتهم جائزة؟ فقال: أما من أدمنها فلا أرى شهادتهم طائلة، يقول الله:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} . قال محمد بن رشد: لم ير ملك رحمه الله أن يترك السلام على اللاعب بالكعاب والنرد والشطرنج وأشباههم من أهل المجون والبطالات والاشتغال بالسخافات، إذ لا يخرجهم ذلك عن الإسلام، وإن كانوا يعدون بذلك غير مرضِيِّي الأحوال، فلا تجوز شهادتهم لأن الله عز وجل يقول:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} . ومعنى ذلك في السلام عليهم إذا مَرَّ بهم في غير حال لعبهم، وأما إذا مر بهم وهم يلعبون فلا ينبغي أن يسلم عليهم، بل يجب أن يعرض عنهم، فإن في ذلك أدبا لهم، ومتى سلم عليهم وهم على تلك الحالة استخفوا بالمسلم عليهم وارتفعت بذلك الريبة عنهم. وبالله التوفيق. نقله الرهوني.
وإن أعمى في قول وأصم في فعل: مبالغة في قوله: العدل حر لخ؛ يعني أن من وجدت فيه الصفات المتقدمة من قوله: حر، إلى هنا هو العدل فتقبل شهادته وإن كان أعمى وشهد في قول من الأقوال، أو أصم وشهد في فعل من الأفعال، فخرج من هذا أن الشاهد ليس كالقاضي في السمع والبصر والكلام، فلا يشترط فيه إلا أن يكون بصفة من يتأتى منه المعلم بالشهود فيه خاصة، قال في المدونة: وتجوز شهادة الأعمى على معرفة الصوت في الطلاق وغيره، وكذلك من سمع جاره من وراء جدار يطلق وإن لم يره. اهـ. وقال ابن الجلاب: وشهادة الأعمى على الأقوال جائزة، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة، ولا كان الأعمى يدرك الأصوات ويميز بينها جازت شهادته في الأقوال، والأفعالُ التي لا تدرك إلا بالبصر لا يقبل فيها، ولما كان الأصم يدرك الأفعال جازت شهادته فيها دون الأقوال، وفي كتاب الرجم من المدونة: ولا تجوز شهارة الأعمى في الزنى ويحد.
تنبيهات: الأول: قوله: وإن أعمى قول، قال البناني: لا خصوصية للقول، بل تجوز شهارته فيما عدا المرئيات، من المسموعات والملموسات والمذوقات والمشمومات، قال مصطفى: وإنما خص المص كغيره الأقوال لأن الملموس والمذوق والمشموم يستوي فيها الأعمى وغيره، فهي محل اتفاق، وإنما محل الخلاف المسموعات، فمذهب ملك الجواز، ومذهب الشافعي والحنفي كالجمهور
المنع. اهـ. وقال عبد الباقي: وإن كان الشاهد العدل أعمى خلافا لأبي حنيفة في قول لا في فعل ولو علمه قبل العمى على المعتمد، كما في الحطاب خلافا لاقتصار شرح الإرشاد على الجواز حينئذ. اهـ. قوله: ولو علمه قبل العمى على المعتمد كما في الحطاب لخ، فيه نظر، وما في الحطاب استدل عليه بأن أصحابنا ينقلون أولا المذهب، ثم يقولون: وقال الشافعي: تحمله قبل العمى؛ قال: فتخصيصهم التفرقة بين ما تحمله قبل العمى وبين ما تحمله بعدد بالشافعي يدل على أن المذهب عدم التفصيل. اهـ. قال المصطفى: فيه نظر، وهو وهم منه؛ لأن التفرقة إنما ذكروها في الأقوال ولم يتعرضوا للأفعال أصلا، فلا دليل له في كلامهم. اهـ. باختصار.
الثاني: قال عبد الباقي: أو أصم غير أعمى في فعل لما في قول ما لم يكن سمعه قبل الصمم، كذا ينبغي قياسا على الأعمى على ما في شرح الإرشاد، وأما الأعمى الأصم فلا تقبل شهادته، ولا يتزوج، وله وطء زوجته إذا طرأ عليه ذلك، ويعتمد على القرائن، وتقبل شهادة الأخرس، كما قال ابن شعبان؛ ويوديها بإشارة مفهمة أو كتابة. اهـ. قوله في الأعمى الأصم: لا يتزوج لخ، يعني - والله أعلم - لا يلي ذلك بنفسه، وإلا فيجوز أن يُولَّى عليه من ينظر له بالأصلح له، كما يقدم الحاكم على المجنون والسفيه من ينظر لهما. والله أعلم. انتهى.
الثالث: قال التتائي: وإن أعمى في قول خلافا لأبي حنيفة والشافعي، ومنشأ الخلاف هل يحصل له علم ضروري بأن هذا صوت فلان أم لا؟ لنا خبر:(إن بلالا ينادي بليك)
(1)
الحديث؛ وهو لا يعلم إلا بصوته، وأخذ الناس عن زوجاته عليه الصلاة والسلام وهُنَّ خلف الحجاب، قال ربيعة: لو لم تجز شهادته لا جاز له وطء زوجته ولا أمته. اهـ. وقال المواق: وإن أعمى قول أو أصم في فعل. ابن شأس: تقبل شهادة الأصم في الأفعال. ابن عرفة: هذا نحو نقل المازري عن المذهب: تجوز شهادة البصير فيما يصح أن يعلمه البصير. اهـ. وقال ابن مرزوق: وقال في النوادر: من العتبية والمجموعة قال ملك: شهادة الأعمى جائزة إذا عرف ما يشهد عليه وأثبته يقينا، وقد كان ابن أم مكتوم يؤذن إن قيل له: أصبحت، ونقل الصحابة عن أزواجه صلى الله
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث 620 ومسلم، كتاب الصيام، رقم الحديث 1093.
عليه وسلم ورضي عن جميعهم من وراء حجاب. وقال ملك: وتجوز شهادة الرجل على المرأة من وراء ستر قد عرفها وعرف صوتها وأثبتها قبل ذلك. اهـ.
ليس بمغفل، كمعظم؛ يعني أنه لا تقبل شهادة المغفل إلا فيما يستثنى، والمغفل هو الذي عنده قوة التنبه ولم يستعمل قوته، قال عبد الباقي: ولما ذكر شروط شهادة العدل ذكر موانعها جمع مانع، وهو ما وجوده مانع من قبول الشهادة والحكم بها، وعرف بأنه الوصف الوجودي المظاهر المنضبط، فقال: ليس بمغفل بل فطن. اهـ. وقال التتائي: ليس بمغفل. البساطي: التغفل عدم استعمال القوة المنبهة مع وجودها، فالبليد لا قوة له البتة، والمغفل له ولكنه لا يستعملها. ابن عبد الحكم: قد يكون الرجل الخير الفاضل ضعيفا لا يؤمن عليه لغفلته أن يلبس عليه فلا تقبل شهادته. اهـ. وأما البليد فلا تصح شهادته لما فيما يلبس ولما فيما لا يلبس.
إلا فيما لا يَلبس؛ يعني أن المغفل لا يشهد فيما يلبس أي يختلط، وأما ما لا لبس أي لا تخليط فيه، فإنه يشهد فيه كرأيت هذا يقطع يد هذا أو يسرق متاعه فتقبل، وقوله: يَلْبس: بفتح التحتية وكسر الباء الموحدة وماضيه بفتحها من قبيل قوله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} ، أَي لا يختلط عليه. قاله عبد الباقي. وقال: والمغفل من لا يستعمل القوة المنبهة مع وجودها فيه، وأما البليد فهو خال منها فلا تصح شهادته مطلقا، وتعقبه الرهوني بما قال عن الجنوي: لا فرق بين المغفل والبليد، فتصح شهادة كل منهما فيما لا يلبس وتبطل في غيره. قال: وما قاله هو الحق، فإن البليد والأبله متقاربان في المعنى لخ، اهـ. وقال ابن مرزوق: أي أن شهادة الغفل مردودة للعلة التي ذكرناها إلا فيما لا يوقع عاقلا في لَبْس من الأمور الظاهرة لكل أحد. انتهى. وقال المواق عند قوله: ليس بمغفل: قال ابن عبد الحكم: لا تقبل إلا شهادة العدل المأمون على ما يقول، وقد يكون عدلا ولا يؤمن أن يغفل، أو يضرب على خطه، أو يشهر على الرجل ولا يعرفه يتسمى له بغير اسمه، فمن كانت هذه حالته لا تقبل شهادته. المازري: إطلاق المتقدمين رد الشهادة بالبله والغفلة قيده بعض المتأخرين بما كثر من الكلام والجمل المتعلق بعضها ببعض، لا في نحو قوله: رأيت هذا الشخص أو سمعته قال: هي طالق. اهـ. وقال التتائي: إلا فيما لا يلبس، كرأيت هذا قطع يد هذا، وفعل معه كذا، وسمعته طلق زوجته واحدة أو ثلاثات أو شتم
هذا، وتعقب ابن عرفة قبول ابن عبد السلام وابن هارون قول ابن الحاجب؛ وقيل: إلا فيما لا يكاد يلبس فيه قائلا: لا أعرفه إلا تقييد. المازري: إطلاق المتقدمين رد الشهادة بالبله والغفلة قيده بعض المتأخرين بما كثر من الكلام والجمل المتعلق بعضها ببعض، لما في نحو قوله: رأيت هذا الشخص قتل هذا الشخص وسمعته قال: هي طالق. اهـ.
ولا متأكد القرب؛ يعني أن من شرط قبول الشهادة أن لا يكون الشاهد متأكد القرب للمشهود له، ومثل لذلك بقوله: كأب وإن علا، فالأب وإن علا والأم وإن علت لا تصح الشهادة منهما ممن لهما عليه ولادة، فالمراد الجنس لا خصوص الأب أو الأم دنية، فيدخل الأب وآباؤه والأم وأمهاتها، ويدخل الجد من قبل الأم في ذلك. والله تعالى أعلم. وظاهر ذلك وإن كان الشهود له كافرا أو رقيقا، قال ابن مرزوق: وهكذا كل من له ولادة على أبي المشهود له أو على أمه أو على أبي أحدهما أو أمه ما علا ذلك وارتفع. اهـ. وقال المواق: المازري ولا تجوز شهادة الأب وإن علا لولده وإن سفل كان جدا من قبل الأب أو الأم، ولا شهادة بني بنيهم لهم. انتهى. وأدخلت الكاف الأم. ويدخل أيضا من له ولادة عليها كالأب كما مر عن ابن مرزوق.
وزوجهما. أي الأب والأم التي أدخلتها الكاف. قال الشبراخيتي: ومعنى ذلك أن زوجة الأب لا تشهد لولد زوجها وإن سفل؛ وزوج الأم لا يشهد لولدها وإن سفل، وقول التتائي: فلا يشهد لزوجة أبيه ولا لزوج أمه لخ، خلاف سياق المص لأن سياقه في الشاهد المتأكد القرابة لما في المشهود له، فالزوج شاهد لا مشهود له، وكذلك لا يشهد لزوجته ولما لابنها ولا لأبيها، ولا الزوجة لزوجها ولما لابنه وأبويه: وأما شهادة الرجل لابن زوج ابنته فهي جائزة، ولا تجوز شهادة ابن اللعان لمن نفاه، ولا شهادة السمسار على العقد الذي تولاه، وأما إن لم يتول العقد وكانت سمسرته أي أجرتها لا تختلف بقلة الثمن وكثرته فإنها تجوز، ولا تجوز شهادة الخاطب إذا تولى العقد، وتجوز شهادة المشرف لمن هو مشرف عليه، بخلاف الوصي لمن أوصي عليه. اهـ. وقوله: ولا تجوز شهادة ابن اللعان لمن نفاه؛ أي كما قال في النوادر وغيرها لأنه بصدد أن يستلحقه فيلحق به، وإن ترتب عليه الحد في استلحاقه. اهـ. ونحوه لعبد الباقي، وقال عبد
الباقي: وزوجهما أي الأب والأم إذ الكاف أدخلتها، فمعناه أن زوجة الأب لا تشهد لربيبها وهو ولد زوجها وإن سفل، وزوج الأم لا يشهد لربيبه وهو ولدها. اهـ.
وولد وإن سفل؛ يعني أن الولد وإن سفل لا يشهد لمن له عليه ولادة، كما أنه لا يشهد له لتأكد القرابة، ومثل للولد بقوله: كبنت وابن فإنهما لا يشهدان لأبويهما، وخص البنت بالذكر وإن كان الابن مثلها ليتوصل للحكم في قوله: وزوجهما؛ أي زوج الابنة وزوج الابن الذي أدخلته الكاف لا يشهد كل لأصله، فزوج البنت لا يشهد لأبوي زوجته، وزوجة الابن لا تشهد لأبوي زوجها، وتحصل من كلام المص أنه يمنع شهادة زوجة الأب لربيبها ذكرا كان أو أنثى؛ وكذا زوج الأم لربيبه ذكرا كان أو أنثى، وأنه لا يمتنع شهادة كل منهما لزوج الربيبة، ولا لزوج الربيب، وأن الأب لا يشهد لزوجة ولده، ولا لزوج ابنته، وأنه يجوز شهادة زوج البنت، وزوجة الابن لزوجة الأب، ولزوج الأم، ولا تجوز شهادة الرجل لأبوي زوجته، كما لا تجوز شهادتها لأبويه، وأما شهادة أحد أبوي الزوجة لابن زوج ابنته من غيرها أو لأبويه فجائزة، قال الخرشي: والحاصل أن شهادة الزوج لولد زوجته أو لأحد والديها تمنع، وكذا شهادة الزوجة لولد زوجها أو لأحد والديه، وأما شهادة أحد أبوي الزوجة لابن زوج ابنته من غيرها أو لأبويه فجائزة، قال الخرشي: والحاصل أن شهادة الزوج لولد زوجته أو لأحد والديها تمنع، وكذا شهادة الزوجة لولد زوجها أو لأحد والديه، وأما شهادة أحد أبوي الزوجة لابن زوج ابنته أو لأبويه فجائزة كما يفيده كلام ابن عرفة. اهـ. وفي الميسر عن ابن شأس: اختلف في شهادة الرجل لابن امرأته، ولأبيها، ولامرأة أبيه، ولزوج ولده، وشهادة المرأة لابن زوجها، فمنع ذلك ابن القاسم، وأجازه سحنون، وقيل: إن شهادته لزوح ابنته أو زوجة ابنه تقبل من المبرز دون غيره. اهـ. وأما شهادة أحد الزوجين للآخر فيفهم منعها مما ذكر المص بالأحرى، وتزول التهمة في ذلك كله بزوال الزوجية كما ذكره ابن شأس. اهـ. ومفهوم قول المص: ولا متأكد القرب لخ، أن غير متأكد القرابة تقبل شهادته وهو كذلك، فيشهد للأعمام وبنيهم والإخوة بشرط التبريز، ويشهد لبنيهم ولأخوال وبنيهم ولبنات كل. والله تعالى أعلم.
وشهادة ابن مع أب واحدة؛ يعني أنه إذا شهد شخص وابنه على شيء كما إذا شهدا بأن زيدا قال لامرأته: أنت طالق، أو شهدا بغير ذلك فإنها بمنزلة شاهد واحد، قال عبد الباقي: وشهادة ابن مع أب القبول منهما واحدة وتلغى الأخرى، ففي الأموال لا بد من يمين المشهود له، وفي النكاح وغيره لابد من آخر غيرهما. اهـ. وإذا طرأ فسق لأحدهما فلا وجه لبطلان شهادة الآخر العدل بل هي مقبولة. انظر حاشية الشيخ البناني. والله تعالى أعلم. قوله: وشهادة ابن مع أب واحدة، هو قول أصبغ، ومقابله لسحنون ومطرف، شهادة الأب مع ابنه شهادتان، قال ابن فرحون: وهو القول المعمول به. وقال في التحفة:
وجاز أن يشهد الابن في محل
…
مع أبيه وبه جرى العمل
ومثله لابن سلمون وابن راشد في اللباب، وذكر في معين الحكام أن القول بكون شهادة الأب مع ابنه شهادتين أعدل من القول بأنها شهادة واحدة، وفي المتيطية: الذي جرى به العمل أنها شهادة واحدة، وقيل: شهادتان وهو أقيس. اهـ. فكان على المص أن يقتصر على هذا القول لقوته أو يحكي قولين. قاله مصطفى. واختلف الشيخان الفقيهان سيدي يحيى السراج وسيدي عبد الواحد الحميدي في هذه المسألة، ووقع بينهما نزاع عظيم، فأفتى السراج بما عند المص، وأفتى الحميدي بما في التحفة، فوقع الاجتماع عليها عند السلطان أبي العباس السعدي بفاس العليا، ووقع الحكم فيها بما قاله الحميدي. انظر شرح الشيخ ميارة. وقد ذكر ابن رشد أن الخلاف في هذا الفرع وفي الفروع الثلاثة بعده واحد، ولم يرجح واحدا من القولين. انظر المواق. وزاد أبو الحسن على الفروع المذكورة شهادة الولد على خط أبيه، وذكر أن فيها القولين. قاله البناني. وقوله: وشهادة ابن مع أب واحدة، مثل الابن ولد الولد كما يأتي.
ككل عند الآخر؛ يعني أنه إذا كان الأب أو الابن قاضيا فشهد عند القاضي منهما الآخر فإن تلك الشهادة ملغاة، فالتشبيه في الحكم المطوي وهو والأخرى ملغاة. أو على شهادته، يعني أن شهادة الأب على شهادة ابنه ملغاة، وكذلك شهادة الابن على شهادة أبيه ملغاة. أو حكمه؛ يعني أن
شهادة الابن على حكم أبيه أي بأنه حكم بكذا ملغاة، وكذا إذا شهد الأب على ابنه أنه حكم بكذا فإن تلك الشهادة ملغاة، وقد علمت أن الخلاف الذي في الفرع الأول جار في الفروع الثلاثة بعدد كما مر عن ابن رشد، قال المواق: قال ابن رشد: الخلاف في شهادة الأب عند ابنه والابن عنده، وشهادة كل منهما على شهادة صاحبه، وشهادة كل منهما على حكم صاحبه، وشهادة كل منهما مع شهادة صاحبه واحد، قيل: كل ذلك جائز، وهو قول سحنون ومطرف، وقيل: ذلك غير جائز وهو قول أصبغ. وأما تعديل أحدهما الآخر فلم يجزه واحد من أصحاب ملك إلا ابن الماجشون، وفي ذلك بعدٌ. ابن عرفة: ما أدركت قاضيا حفظه الله من تقديم ولده أو قريبه إلا قاضيا واحدا، جعلنا الله ممن علم الحق وعمل به. انتهى. واعلم أنه على ما لسحنون ومطرف من عدم الإلغاء في المسائل الأربع لابد من شرط التبريز عند سحنون، وأما مطرف فلا يشترط التبريز، وفي حاشية الرهوني إنما ذكروا العمل في هذا الفرع بخصوصه؛ يعني وشهادة ابن مع أب واحدة، ولم يذكروه في بقية المسائل، وانظر هل يسري هذا العمل لبقية المسائل لقول ابن رشد: إنها كلها سواء، أو يقصر على محله لأن هذا الفرع أخف من غيره إذ يجيزه من لا يجيز غيره، وهذا هو الظاهر عندي، لكن الذي شاهدناه ممن أدركنا من القضاة قبولهم شهادة أبنائهم وآبائهم، ولم نر واحدا ممن أدركنا من أشياخنا وغيرهم ينكر ذلك عليهم، والله أعلم.
تنبيهان: الأول: قال الرهوني: لا إشكال على ما درج عليه المص، وأما على مقابله ففيه إشكال لم أر من نبه عليه الآن فضلا أن يجيب عنه، وهو أنهم اتفقوا على أنه لا يجوز أن يعدل أحدهما الآخر قصدا وكذا تبعا عند غير ابن الماجشون، فلِمَ يُجَوِّزُ أن يقبل أحدهما شهادة الآخر من غير أن يعدله أحد، ويعمل بشهادته بمجرد علمه هو عدالته كما نص على ذلك غير واحد؟ ففي المواق ما نصه: قال في كتاب الأقضية من النوادر: قال مطرف وابن الماجشون: إن شهد عند القاضي أبوه أو ابنه أو من لا تجوز شهادته له فله أن يسمع شهادته ويقبلها على علمه بعدالته إن علمها، بخلاف تعديله إياه عند غيره. اهـ. فما الفرق مع أن العلة واحدة. اهـ. الثاني: قد مر أن ولد الولد كالابن، ففي نقل ابن مرزوق عن النوادر: قال سحنون في العتبية: إن شهد عنده ابنه أو ولد ولده لم أر أن تجوز شهادته إلا أن يكونا مبرزين في العدالة وبيان الفضل فليجوزها. اهـ.
قاله الرهوني. وقال: لكن مطرف الذي جعل ابن رشد قوله موافقا لقول سحنون لم نر من نقل عنه شرط التبريز. اهـ.
بخلاف أخ لأخ راجع لقوله: ولا متأكد القرب كأب لخ؛ يعني أن شهادة الأخ للأخ ليست كشهادة الأصل للفرع أو الفرع للأصل فإنها أي شهادة الأخ للأخ جائزة بشرط أشار إليه بقوله: إن برز، بفتح الباء وتشديد الراء؛ أي على صيغة المبني للفاعل، يعني أن الأخ يشهد لأخيه حيث كان الأخ الشاهد مبرزا، والبرز هو الذي فاق أقرانه في العدالة، وإذا برز الأخ وشهد لأخيه أعملت شهادته ولو شهد له بتعديل، بأن يعدله أي يزكيه، وهذا هو المشهور وعليه حمل المدونة الأكثر، وتؤولت المدونة أيضا بخلاف؛ أي بأن الأخ لا يعدل أخاه؛ لأن الأخ يشرف بتعديل أخيه، وإنما يعدل من شهد لأخيه، كذا قرره الشارح والتتائي، وقرره المواق بما يفيد أنها تؤولت على أن الأخ يشهد لأخيه وإن لم يكن مبرزا، والمص محتمل لهما، والمعتمد اشتراط التبريز، ويشترط أيضا أن لا يكون الشاهد في عيال المشهود له، وكذا المسائل الآتية، وأن تكون بمال أو جرح عمد يؤول إليه، لا في جرح عمد فيه قصاص على المشهور. قاله عبد الباقي. قوله: والمص محتمل لهما لخ؛ أي محتمل لكل منهما، ويصح حمله على مجموعهما على أن المعنى: وتؤولت بخلاف ما ذكر في الموضعين وهو أفيد. اهـ. يعني أنها تؤولت على أن الأخ يشهد لأخيه وإن لم يكن مبرزا، وأنه لا يعدل أخاه، قال البناني: أما التأويلان في التبريز فقال في التوضيح: والقول باشتراط التبريز هو الذي في أول شهادات المدونة، ولم يشترطه في أثنائها، واختلف الشيوخ فحمله الأكثرون على أنه خلاف كما فعل المص أي ابن الحاجب، ورأى بعضهم أن ما له أول الشهادات قيد لغيره. انتهى. انتهى. وأما في التعديل فقال في التوضيح أيضا على قول ابن الحاجب: وفي جواز تعديله قولان لابن القاسم وأشهب، ما نصه: الجواز لابن القاسم وهو ظاهر المدونة بشرط التبريز، لقوله فيها: إذا لم يكن الأخ والأجير في العيال تجوز شهادتهما إذا كانا مبرزين في الأموال والتعديل: وعلى هذا الظاهر حملها الأكثرون، وقال بعضهم: المراد بالتعديل هنا تعديل من شهد لأخيه فيكون من باب المال، وعلى الأول يجرح من جرحه، وعلى الثاني لا
يجرح من جرحه. اهـ. باختصار. اهـ. قال الرهوني: قول محمد بن الحسن عن التوضيح: فحملة الأكثر على أنه خلاف لخ، يفيد أن تأويل الخلاف أقوى، وقال ابن ناجي في شرح المدونة ما نصه: واشترط في الأخ التبريز ولم يشترطه بعد، فقيل: خلاف، وقيل: ما هنا مقيد لا يأتي وبه الفتوى. اهـ منه بلفظه. وقال الشبراخيتي: ثم أخرج من متأكد القرب قوله: بخلاف أخ لأخ فإنها جائزة إن برز في عدالته ولم يكن في عياله، وإلا فلا يشترط غير هذين الشرطين، وسواء اكتسب بشهادته لأخيه شرفا أو جاها أم لا، دفع عنه بها معرة أم لا، كان في جراح العمد أم لا، وما حكاه الشارح من الاتفاق والمشهور ضعيف ولو بتعديل له وعليه الأكثر، ومقابله لا يقبل تعديله له لقوة التهمة، وتؤولت أيضا بخلافه، وهو أن المراد بالتعديل تعديل من شهد لأخيه لا تعديل أخيه، كما في الشارح والتتائي، وقال المواق: معناه أن المدونة تؤولت على شهادة الأخ غير المبرز لأخيه. اهـ.
تنبيهات: الأول: قال في التحفة:
ولأخيه يشهد المبرز
…
إلا بما التهمة فيه تبرز
قال الشيخ ميارة: يعني أن الشاهد يجوز له أن يشهد لأخيه إذا كان الأخ الشاهد مبرزا أي سابقا في العدالة، وتقدم الكلام عليه، وأما غير المبرز فلا يشهد لأخيه، وإنما تجوز شهادة المبرز لأخيه إذا لم تلحقه في ذلك تهمة، فإن لحقته تهمة مثل أن يدفع عن أخيه فضيحة أي يدفع عنه بشهادته محنة فإنه في هذه الحالة كالشاهد لنفسه، وحاصل الأمر أنه يرجع إلى قوة التهمة وضعفها. اهـ.
قال مقيده عفا الله عنه: مثاله - والله تعالى أعلم - أن يجرح من شهد عليه بشرب أو سرقة أو نحو ذلك كما يفيده كلام اللخمي، ومثل له أبو علي بأن يعدله. والله تعالى أعلم. الثاني: قال الحطاب: لو شهد أخوان أن هذا ابن أخيهما الميت والمشهود له ذو شرف فإن النسب لا يثبت بشهادتهما ويثبت للمشهود له المال إن ادعاه. والله أعلم. الثالث: قال الحطاب: تنفيذ القاضي حكم والده أو ولده لم أر فيه نصا، والظاهر جواز ذلك لأن للحاكم أن ينفذ حكم نفسه إذا قامت
عليه بينة وإن نسيه وأنكره فذلك حكم ولده ووالده. والله أعلم. انتهى. الرابع: بَرَّز بفتح الباء وفتح الراء المشددة، وهو فعل لازم واسم الفاضل منه مبرِّز بكسر الراء المشددة: قال في التنبيهات: أي ظاهر العدالة سابقا غيره متقدما، وأصله من تبريز الخيل في السبق وتَقدُّم سابقها وهو المبرز لظهوره وبروزد أمامها. اهـ. وفي القاموس: برز ككرم وبرز تبريزا فاق أصحابه فضلا أو شجاعة، والفرس عن الخيل سبقها. اهـ. وليس التبريز هو الانتصاب للشهادة كما يعتقده الجهلة. قاله البناني. وقال زهير:
سبقت إليها كل طلق مبرز
…
سبوق إلى الغايات غير مزند
ولما ذكر اشتراط التبريز في شهادة الأخ لأخيه أتبع ذلك بسبع نظائر يشترط فيها التبريز، فقال: كأجير. تشبيه في قوله: إن برز؛ يعني أن الأجير لا تجوز شهادته لمن استأجره إلا إذا كان الأجير مبرزا في العدالة، ويشترط أيضا أن لا يكون الأجير في عيال من استأجره، قال الشبراخيتي: كأجير يشهد لمن استأجره فتقبل إن برز، ثم إنه يشترط في شهادة الأخ لأخيه وهذه النظائر السبعة أن لا يكون الشاهد في عيال المشهود له، وكلام المواق يفيد أن من كان يشمله بره وصلته بمنزلة من في عياله، كما ذكره في الصديق الملاطف، والظاهر أنه يجري في غيره أيضا، وأما عكس كلام المص وهي شهادة المستأجر للأجير فلا يشترط فيها التبريز. اهـ.
مسألة: اعلم أنه لا تجوز شهادة الوصي لمن أوصي عليه، وأما شهادته عليه فإنها جائزة.
ومولى، يعني أن المولى الأسفل لا تجوز شهادته للمولى الأعلى إلا إذا كان المولى الأسفل الشاهد مبرزا. ويجوز العكس بغير شرط التبريز. وملاطف؛ يعني أن الصديق اللاطف تصح شهادته لملاطفه بشرط أن يكون الشاهد مبرزا، قال الإمام الحطاب: الملاطف هو المختص بالرجل الذي يلاطف كل واحد منهما صاحبه، ومعنى اللطف الإحسان والتكرمة. قاله في التنبيهات. وقال ابن فرحون: الملاطف هو الذي قيل فيه:
إن أخاك الحق من كان معك
…
ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك
…
شتت فيك
(1)
شمله ليجمعك
وهذا الذي قاله بعيد، وقل أن يوجد أحد بهذه الصفات، فالأولى تفسيره بما في التنبيهات. والله أعلم. اهـ باختصار. قاله البناني. وقال الشبراخيتي: وصديق ملاطف لصديقه فهو صفة لمحذوف، واللاطف هو الذي له مودة زائدة على مطلق الصداقة من الملاطفة وهي الإحسان والبر، يقال: لطف به أي أحسن إليه وبرَّه، أي الذي يصل إليه برك وبره إليك. قال في التنبيهات: وهذا هو المراد، ولا يفسر بقول ابن فرحون في شرحه في كتاب الإقرار: المراد بالصديق الملاطف الموصوف بقول الشاعر:
إن الصديق الحق من كان معك
…
...................
لخ؛ لأن هذا معدوم في هذا الزمان. اهـ. ويشترط أيضا أن لا يكون في عياله كما مر فيه وفي الثمانية. وفي المواق: شهادة الصديق الملاطف الذي تحت إنفاق من شهد له لغو، وإن لم يكن تحت إنفاقه فطرق، المارزي: مشهور المذهب قبول شهادته لصديقه إن كان ليس في نفقته ولا يشتمل عليه بره وصلته. اهـ.
ومفاوض في غير مفاوضة؛ يعني أن شريك المفاوضة تجوز شهادته لمن فاوضه بشرط التبريز، وهذا إذا شهد في غير مال الشركة، فشهادته له تصح بشرط أن يكون مبرزا، وأن تكون شهادته في غير مال المفاوضة، وأن لا يكون في عيال المشهود له، ولا مفهوم لقول المص: ومفاوض، فكذا الشريك في شركة العِنَانِ إنما يشهد لشريكه في العنان بشرط التبريز، وأن يشهد في غير مال الشركة، وأن لا يكون الشاهد في عيال الشريك، قال ابن مرزوق: وفي تخصيص المؤلف الشريك بالمفاوض قصور، لأن الحكم في المفاوض وغيره سواء، لا يقال: المفاوض هي عبارة المدونة؛ لأنا نقول: هي في الأم
(1)
في الأصل: فيه، والمثبت من البناني ج 7 ص 161 والحطاب ج 6 ص 372 ط دار الرضوان.
مفروضة في السؤال فلا مفهوم له، ولقد أحسن ابن رشد في مقدماته، فقال: ولشريكه في غير التجارة، ثم قال: ولو قال المص: وشريك في غير شركتهما لكان أبين. اهـ. ونحوه لابن بشير، ونصه: ولشريكه في غير التجارة. اهـ. ومثله للمتيطي. اهـ. قاله الرهوني. وقال عبد الباقي: ومفاوض في غير مفاوضة، وكذا كل شريك تجر عنان أو غيرها يشهد لشريكه في غير الشركة إن بَرَّز. وأما شريك في معين كدابة فيشهد لشريكه في غير ما فيه الشركة وإن لم يكن مبرزا؛ وأما ما فيه الاشتراك مطلقا أي معينا أو غيره فيمنع ولو مبرزا لتضمنها شهادة لنفسه، فالأقسام ثلاثة. اهـ. فصح كلام عبد الباقي للنقل الذي رأيت. والله تعالى أعلم.
تنبيه: بحث ابن مرزوق في اشتراط التبريز في المفاوض: قال: فلم يشترط فيه في المدونة التبريز: فذكر نص التهذيب، وكلام النوادر عن المجموعة والعتبية، وكتاب ابن سحنون، وقال بعد ذلك: ولم أر من نقل اشتراط التبريز في المفاوض إلا ابن رشد ومن تبعه من الموثقين كالمتيطي، نقله الرهوني. وقال: قلت: إتيان ابن رشد بذلك في المقدمات غير معزو كأنه المذهب كاف في ذلك وإن لم يتابع عليه، فكيف مع متابعة الجم الغفيرة؟ وقد جزم به أيضا في البيان، وعزاه لابن القاسم، وسلم له ذلك الإمام ابن عرفة، ولم يحك غيره، وقال ابن ناجي عند قول التهذيب: وتجوز شهادة الرجل لشريكه، يريد بشرط التبريز. اهـ. فبحثُ ابن مرزوق ساقطٌ. انتهى.
وزائد أو منقص، يعني أن من زاد شيئا في شهادته بعد أدائها أو نقص فيها بعد أدائها فإنه يقبل منه ذلك إذا كان مبرزا، وسواء كانت الزيادة بعد أن كانت شهادته الأولى على طبق دعوى المدعي أو لا، غير أن ما زاده على دعوى المدعي لا يأخذه المدعي حيث لم يدعه، فإذا ادَّعَي بعشرة فشهد البرز بذلك أو بأقل أو أكثر، ثم شهد بزيادة على ما شهد به أولا، فإن ذلك لا يقدح في شهادته، وسواء كان بعد الحكم أو قبله. اهـ. ولا يأخذ المدعي إلا عشرة في هذا المثال، فإن لم يكن مبرزا بطلت شهادته كلها. قال ابن رشد: وإذا لم يأت الشاهد بالشهادة على وجهها وسقط عن حفظه بعضها فإنها تسقط كلها بإجماع. اهـ. نقله الحطاب. وبحث ابن مرزوق فيما إذا شهد بنقص بعد الحكم، واستظهر أن ذلك من باب الرجوع عن الشهادة فيجري على حكمه فلا
ينقض الحكم ويغرم الشاهد. اهـ. قاله البناني. وقوله: وزائد أو منقص، قال الرهوني: مثال ذلك أن يشهد بأن لزيد في ذمة عمرو عشرة، ثم يقول: بل هي خمسة عشر أو تسعة، أو يشهد بأن له في هذه الدار مثلا النصف، ثم يقول: بل الثلثان أو الثلث، أو بأنه باع كذا لزيد وعمرو وَخالد، ثم يقول: ومن فلان لشخص رابع، أو بل من فلان وفلان فقط من الثلاثة الأول، ونحو ذلك، وكل ذلك بعد الأداء لا قبله، فلا يسمى زيادة ولا نقصا، ولا يدخل في كلام المص ما إذا كان إجمال فَبَيّنَه بعد الأداء، أو عموم فخصصه، أو إطلاق [فَبَيَّنهُ]
(1)
، ففي نوازل الهبات والصدقات من المعيار أثناء جواب لمؤلفه: وأما إن كان ما أتى به الشاهد بعد الأداء تخصيص عموم أو تفسير إجمال أو تقييد إطلاق فمقبول من كل أحد بإطلاق. اهـ. واستفسار الشاهد عما أجمله مما تتوقف عليه صحة الشهادة لا بد منه، فإن تعذر بموته أو غيبته أو سئل فلم يجب بطلت شهادته؛ وسواء قصر الزمان أو طال، وليس هذا هو محل الخلاف بين المتأخرين هل يستفسر الشهود بعد ستة أشهر أو لا يستفسرون مطلقا، خلافا لمن أخطأ في ذلك ممن يتعرض للفتوى في هذا الزمان وهو لا يفقه شيئا، ففي المعيار من جواب لسيدي عبد الله العبدوسي: معنى الاستفسار سؤال الشاهد عن شهادته التي أداها عند القاضي كيف أداها؟ فإن أتى بشهادته نصا أو معنى وإن اختلف اللفظ [صحت]
(2)
وإلا بطلت، وهذا على ما مضى به العمل في استفسار الشهود مراعاة لمصلحة التحقيق في الشهادة لكثرة تساهل الناس في الشهادة، وأما باعتبار الأصل فلا يستفسر الشاهد إذ الاستفسار كأداء ثان ولا يلزم الشاهد أن يؤدي شهادته مرتين إذ ذاك إضرار به. والله تعالى يقول:{وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} . ويمنع الاستفصال المعهود اليوم، وليس هذا بخلاف ما قاله أهل المذهب من سؤال الشاهد عما أجمله في شهادته مما يترتب عليه حكم. وبالله تعالى التوفيق. اهـ ما نقله الرهوني. وقد مر قول ابن رشد: وإذا لم يأت الشاهد بشهادته على وجهها وسقط عن حفظه بعضها فإنها تسقط كلها بإجماع. اهـ. أبو علي: لا يصح الاتفاق فضلا عن الإجماع، ونقل الرهوني ذلك وذكر كثيرا من صور النسيان، وذكر الخلاف في أنه يتنزل إلى
(1)
كذا في الأصل والذي في الرهوني ج 7 ص 366 فقيده.
(2)
ساقطة من الأصل والمثبت من الرهوني ج 7 ص 367.
المستيقن، وجلب كثيرا من النقول، ثم قال بعد ذلك: فتحصل مما سبق أن بطلان الشهادة هو قول ابن القاسم وروايته عن ملك في المدونة وغيرها، وقول ابن الماجشون وأصبغ، واختاره البرزلي وصوبه، وأفتى به، وأن الاستنزال هو قول مطرف وابن كنانة، وبه أخذ ابن حبيب، واختاره اللخمي، وقال أبو الحسن: إنه الذي اعتمده أهل السجلات، وقال أبو مهدي: لا ينبغي أن يختلف فيه، قلت: ويكفي في رجحان الأول كونه قول ابن القاسم وروايته عن ملك في المدونة والعتبية نصا، مع حكاية ابن رشد في بيانه ومقدماته الإجماع عليه، وتسليم ابن فرحون والحطاب ذلك مقتصرين عليه، وإن كانت حكاية الإجماع غير مسلمة. اهـ المراد منه. وقوله: وزائد ومنقص، قال عبد الباقي عنده: واعلم أن لنا مقامين، الأول: من ادعى قدرا وشهد له عدل ابتداء بأزيد منه أو أنقص قبلت شهادته وإن لم يكن مبرزا، ويحلف معه فيهما، لكن على طبق دعواه فقط في الأولى ولا يأخذ الزائد، وعلى طبق شهادة الشاهد في الثانية وأخذ ما شهد به فقط، فإن رجع فيها إلى شهادته بما ادعى المدعي قُبل إن كان مبرزا، وهذا هو المقام الثاني، ويحلف المدعي على ما رجع له الشاهد لأنه إنما حلف قبل على طبق شهادته؛ وكلام المص في المقام الثاني لاشتراط التبريز، لا لأول لعدم اشتراطه كما علمت. اهـ.
وذاكر بعد شك؛ يعني أن الشاهد إذا وقع الشك في شهادته بأن قال: لا أدري، ثم قال: تذكرتها، فإنها تقبل منه إن كان مبرزا، وسواء كان صحيحا أو مريضا، وما وقع في الرواية من التقييد بالمريض فرض مسألة كما استظهره الأجهوري، قال المازري: سئل ملك عمن سئل عن شهادته فلم يذكرها، ثم عاد فقال: تذكرتها. فقال: تقبل شهادته بشرط التبريز، المازري: والظاهر قبولها من غير اشتراط التبريز؛ لأن التوقف يعرض للعالم بالشيء ثم يذهب ويعود إلى اليقين، ثم قال المازري: قال سحنون: وإن قال: أنا أتذكر فيها، ثم قال: تذكرتها، فإنها تقبل منه إن كان بارز العدالة، وإن قال: لا أعلمها، ثم قال: تذكرت فعلمتها، فإن قول ملك اختلف في ذلك، وكلام المؤلف شامل للصورتين، إذ من قال: لا أعلمها شاك. اهـ. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وذاكر أي متذكر شهادة بعد شك منه فيها حين سئل عنها، وكذا بعد النسيان،
وليس هذا قوله: وزائد أو منقص؛ لأنه جزم في شهادته بشيء، ثم ذكر زائدا أو ناقصا، والناسي لم يذكر شيئا حتى يجزم به، وظاهر المص سواء كان الذاكر صحيحا أو مريضا، وما في الرواية من تقييده بالمريض فرض مسألة. اهـ.
فرع قال ابن رشد في مسائل الشهادات في نوازله: في رجل شهد لرجل شهادة، فقال المشهود عليه للمشهود له: ما بال هذا الشاهد لم يؤد لك هذه الشهادة منذ كذا وكذا؟ فقال المشهود له: إنه لتحريه وتوسوسه توقف وتثبت حتى جاء بنص كلامك مخافة أن يزيد عليك فيه شيئا لم تقله، فزعم المشهود عليه أن قول المشهود له المنصوص فوق هذا مسقط لشهادة الشاهد لما فيه من ذكر الوسوسة: فأجاب: أن ذلك لا يبطل شهادة الشاهد لأنه إنما وصفه بالتحري والتثبت. اهـ. مختصرا. قاله الحطاب.
فرع: قال في الطرر: الذي يسأل الشهادة فيقول: هي اليوم عندي
(1)
ألف سنة، قال بعضهم: هو جاهل ولا تسقط شهادته لأنه محمول على المبالغة، وقد قال عليه الصلاة والسلام:(لا يضع عصاه عن عاتقه)
(2)
قاله الحطاب.
فرع: آخر: وإذا قال الشاهد للمشهود عليه: إن كنت شهدت عليك بذلك فأنا مبطل، فإنه رجوع عن الشهادة. قاله الحطاب.
وتزكية، يعني أن التزكية أي التعديل لا بد فيها من التبريز، فإذا زُكِّي شخص أي عُدِّلَ فإنه نقبل شهادة معدله بشرط أن يكون مبرزا. وإن بحد؛ يعني أن التزكية تجوز في كل شيء في المال، بل وإن في الحدث خلافا لقول أحمد بن عبد الملك: يشترط في الدماء عدم احتياج الشاهد إلى التزكية. اهـ. ولا يلزم من هذا أن يكون الشاهد في الدماء مبرزا عند أحمد بن عبد الملك، إذ قد يَشْهَدُ عدل عند القاضي في الدماء معروف العدالة عند القاضي فلا يحتاج للتزكية، فقوله: وتزكية وإن بحد، معناه أن التزكية لا تكون إلا من مبرز، فإذا زكى الشاهد البرز شاهدا عُمل بشهادة المزكَّى بالفتح، ولا فرق في ذلك بين الأموال والدماء خلافا لقول أحمد بن عبد الملك: إذا زكى
(1)
كذا في الأصل، وسيأتي قريبا: أنا أعلم ما شهدت به عليك من ألف سنة.
(2)
مسلم، كتاب الطلاق، رقم الحديث 1480.
المبرز شاهدا في الدماء فإنه لا يعمل بشهادة ذلك الشاهد لأنه إنما يقبل في الدماء من لا يحتاج إلى تعديل. والله تعالى أعلم. قال المواق: المتيطي: التعديل يجوز في كل شيء في الدماء وغير ذلك. قاله في المدونة خلافا لأحمد بن عبد الملك. اهـ. ولو قال المص: ولو بدم، لحسن رده على أحمد بن عبد الملك، إذ الخلاف فيه خاصة لا في مطلق الحد، كما يقتضيه المص. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: ولو قال الشاهد للمشهود عليه: لا شهادة لي عليك: وليس عندي علم، وإن شهدت عليك بشيء فشهادتي باطلة، فإن ذلك لا يقدح في شهادته، وإن كان قوله ذلك ببينة، وسواء كان مبرزا أم لا، وأما إن قال ذلك بعد ما شهد فإنه رجوع عن شهادته، وإن قال: أنا أعلم ما شهدت به عليك من ألف سنة فلا يقدح في شهادته لحمله على المبالغة، والظاهر أن هذا الأخير لا يقدح في الشهادة ولو من غير مبرز، كما يدل له التعليل، وأما ما قبله فإنه لا يقدح في شهادة المبرز فقط إذا وقع منه ذلك بعد أداء الشهادة، وأما قبل أدائها فلا يقدح مطلقا، فالأقسام ثلاثة. اهـ.
مسألة: وإذا مات الشاهد بعد الأداء وقبل أن يزكى وكان يحتاج لتزكية فهل تصح تزكيته بعد موته؟ فالجواب: نعم، ويصح تزكية الشاهد المعين ولو كان غائبا، ونص على ذلك كله في المدونة، ثم إن التزكية إنما تكون معتبرة بعد أداء الشهادة. قاله الخرشي. ونظم الإمام التتائي هذه الأمور الثمانية التي يشترط فيها التبريز فقال:
ويشترط التبريز في شاهد أتى
…
بزيد كذا نقص شريك مفاوض
أخ وأجير ثم مولى ملاطف
…
مزك وذي شك بغير معارض
وفي نوادر الشيخ عن كتاب ابن المواز: أيدفع الكتاب للشاهد حتى يقرأه أم يقال له اذكر ما فيه؟ قال: يمكن من قراءة شهادته، فإذا عرفها شهد، وليس كل الناس يسوق شهادته على ما كتب
حتى يقرأها، ولو كان ذلك بعد أن يقرأها ما قدر؛ يعني فكيف به قبل أن يقرأ؟ فإذا أثبت العدل ما قرأ جازت الشهادة.
من معروف، نعت للتزكية؛ يعني أن التزكية لا تكون إلا من معروف عند القاضي أو بين الناس بالعدالة، ولا يكون المزكي بالكسر إلا رجلا. إلا الغريب؛ يعني أن الشاهد الغريب لا تشترط معرفة القاضي بعدالة مزكيه، فيزكي مزكيه من هو معروف عند القاضي، فالمعرفة عند القاضي لا بد منها، لكن إن كان غير غريب فبلا واسطة، وإن كان غريبا فبواسطة، ومثل الغريب النساء لقلة خبرة الرجال بهن. انتهى. قاله الخرشي. وقال البناني: إلا الغريب ومثله النساء. اهـ. ولبعضهم:
تعديل احتاج لتعديل هبا
…
إلا مزكي امراة أو غربا
يعني أن مزكي النساء والغرباء لا يشترط فيه أن يكون معروفا عند القاضي، فإنه يجوز تعديل من عدلهم، ولو كان المعدل لهن غير معروف عند القاضي، والهباء قصره للضرورة، وهو ما يرى في الشمس يدخل من كوة مثل الغبار، وفي شرح الشبراخيتي: من معروف للقاضي بالعدالة، إلا الغريب فيقبل في تزكيته غير معروف بالعدالة للقاضي، بشرط أن يعدل العدلين معروفون بالعدالة للقاضي، وألحق بعض شيوخ صقلية بالغريب المرأة لقلة خبرة الرجال بها. اهـ. وقال المواق: من المدونة: إن شهد قوم على حق فعدّ لهم قوم غير معروفين، وعدل العدلين آخرون، فإن كان الشهود غرباء جاز ذلك، وإن كانوا من أهل البلد لم يجز؛ لأن القاضي لا يقبل عدالة على عدالة. اهـ. وقال عبد الباقي: والتزكية إنما تكون من معروف عند القاضي بالعدالة أو بين الناس، إلا الشاهد الغريب فلا يشترط معرفة القاضي بعدالة مزكيه، لكن لابد أن يزكي ذلك المزكي من هو معروف عند القاضي بالعدالة، فمعرفة القاضي بالعدالة لا بد منها، لكن إن كان الشاهد غير غريب فبلا واسطة، وإن كان غريبا فبواسطة، ومثل الغريب النساء لقلة خبرة الرجال بهن. اهـ.
بأشهد أنه عدل رضي، الباء للآلة أو للتصوير؛ يعني أن التزكية هي أن يقول العدل أشهد أنه عدل رضي؛ لأن العدالة تشعر بسلامة الدين، والرضى يشعر بالسلامة من البله والغفلة، ثم إن كلام كل من المدونة والإرشاد يفيد أنه لا يشترط الإتيان بلفظ أشهد، وقال ابن مرزوق: من تأمل المنصوص وجدها موافقة لكلام المص في شرط اجتماعهما أي عدل ورضى، ولم أقف على شرطية لفظ أشهد في التزكية. اهـ. قاله الشبراخيتي: وقال عبد الباقي: مُقْتَضَى المص أنه لا بد من لفظ: أشهد، فلو قال: عدل رضي، لم يكف على المشهور نقله الطخيخي عن البساطي. وأما الجمع بين عدل ورضى فلا بد منه، فإن اقتصر على أحدهما لم يجزه على المشهور. اهـ. وقوله: ولا بد من لفظ أشهد لخ، فيه نظر، وإن اتبع فيه التوضيح؛ والنصوص شاهدة لما قاله ابن مرزوق، والحق ما قالاه أي المصطفى وابن مرزوق، وقوله: فإن اقتصر على أحدهما لخ، نقل ابن عرفة عن ابن رشد ما نصه: أختار أن يجمع بين قوله: من أهل العدل والرضى، لقوله تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، مع قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، فإن اقتصر على أحدهما اكتفى به؛ لأنه تعلى ذكر كل لفظ على حدته. ابن عرفة: قُلْتُ: وهو نقل ابن فتوح عن المذهب. اللخمي: إن قال إنه عدل رضي، صحت العدالة، واختلف إن اقتصر على إحدى الكلمتين، هل هو تعديل أم لا؟ فإن قال إحدى الكلمتين، ولم يسأل عن الأخرى فهو تعديل لورود القرآن بقبول شهادة من وصف بإحداهما، وإن سئل عن الأخرى فوقف فهو ريبة في تعديله يسأل في سبب وقفه: فقد يذكر ما لا يقدح في العدالة، أو يذكر ما يريب فيوقف عنه، وفي الجلاب: أن يقول الشاهدان: نشهد بأن فلانا عدل رضي ولا يقتصران على لفظ واحد من العدالة والرضى، هذا نقل ابن عرفة، وفي التوضيح: كون إحدى الكلمتين لا تكفي هو الذي في الجلاب، قال الكافي: هو تحصيل مذهب ملك، وقال ابن زرقون: المعروف من المذهب خلافه، وأنه إن اقتصر على إحداهما أجزأه، وهو العلوم لملك وسحنون وغيرهما، واختار اللخمي التفصيل، ثم ذكر ما تقدم عنه: وبه تعلم أنه كان على المص أن يشير هنا إلى الخلاف في ذلك. والله أعلم. قاله البناني.
وقال الرهوني: ما فعله المص هو الصواب؛ لأن كلا من القولين وإن رجح فالثاني أرجح. اهـ. وقوله: وتزكية إلى هنا جار في مزكي السر والعلانية، فيشترط فيهما التبريز.
فرع: ذكر الدماميني في حاشية البخاري في كتاب الشهادات في قوله: لا نعلم إلا خيرًا، أن هذا اللفظ لا يفيد التزكية، وإنما يكتب في التبرئة من التهم، فيقولون في عقد التبرئة: لا يعلم شهوده على فلان إلا خيرا، ولا بد في هذه الشهادة من خبرته ومباطنته، وكذلك قوله: لا أعلم له وارثا، وقوله: لا أعلم له مالا. قاله الحطاب.
من فطن، يعني أن التزكية لا تكون إلا من فطن، والفطن هو الذي لا يخدع في عقله ولا يستزل في رأيه. عارف، يعني أنه لا بد أن يكون المزكي بالكسر عارفا بباطن المزكَّى بالفتح كمعرفته بظاهره، بهذا فسره غير واحد، وقال البناني عارف بأحوال الناس بمخالطته لهم، فلا يغتر بظواهرهم إذ كم من ظاهر مُّمَوَّهْ، على باطن مُشَوَّهْ، وعليه يترتب قوله: لا يخدع، ويحتمل أن يكون مراد المص عارف بما يقدح في العدالة. انظر ابن الحاجب. وأما معرفته بالمزكى فتؤخذ من قوله: من سوقه لخ، فلا يفسر به المعرفة هنا. والله أعلم. انتهى. وصوب الرهوني التفسير الأول، فقال: قول الزرقاني: عارف بباطن المزكى بالفتح كمعرفة ظاهره، صواب موافق في المعنى لقول البناني: أي عارف بأحوال الناس بمخالطته لهم، فلا يغتر بظواهرهم، فما ألزمه الزرقاني غير لازم له، ولا أدري من أين ألزمه ذلك؟ فتأمله. اهـ.
لا يخدع، هو تفسير وبيان لفطن على ما لعبد الباقي، فإنه قال: لا يخدع في دينه ولا يستزل في رأيه، وهو تفسير وبيان لفطن، فلو قدمه عقبه لكان أظهر. اهـ. قال ابْنُ مَرْزُوقٍ: فَإنْ قُلْتَ هل ما تقدم في شرط العدل المطلق من كونه ليس بمغفل يكفي عن هذا الشرط، فإن الذي ليس بمغفل هو الفطن؟ قُلْتُ: لا؛ لأن هذه الفطنة المشترطة هنا أرفع من تلك، وإنما اشترط في المزكي من زيادة الفطنة ما لم يشترط في شهود الحق لأن كثيرا من الناس يتظاهرون من الديانة بأزيد مما فيهم لمقاصد. انتهى.
تنبيه: قد تساهل الناس اليوم في التزكية، وارتكب القضاة بقبولها من كل أحد أمرا عظيما حصل به في الفروج والأموال، ضرر كبير يعلمه الكبير المتعال، وربما يظن ظان أن ما في المقصد المحمود شاهد لهم. قاله الرهوني.
معتمد على طول عشرة؛ يعني أنه يشترط في المزكي أن يعتمد في تزكيته على [طول]
(1)
عشرة للمزكَّى بالفتح في الحضر والسفر، ويرجع في طولها وقصرها للعرف، قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: معتمدٍ في التزكية على طول عشرة، وخالطه في الأخذ والإعطاء، وسافر معه ورافقه، ويرجع في طولها للعرف. اهـ. وقال الشبراخيتي: معتمد في قوله أشهد لخ، على طول عشرة لا مطلق العشرة، ويرجع في الطول للعرف. اهـ. وأشعر إتيان المص بالأوصاف مذكرة بأن النساء لا تقبل تزكيتهن لا لرجال ولا لنساء، لما فيما تجوز شهادتهن فيه، ولما في غيره وهو كذلك. قاله الخرشي وغيره. وقال المواق: قال سحنون: لا يزكَّى إلا من خالط في الأخذ والإعطاء وطالت صحبته إياه في السفر والحضر. اللخمي: ولا يقبل بيسير المخالطة. اهـ. وفي النوادر عن المجموعة وكتاب ابن سحنون أنه قال: إن صحبه شهرا فلم ير إلَّا خيرا لا يزكيه بهذا، وهو كبعض من يجالسك، وليس هذا باختبار. قال المتيطي: قيل: إذا أثنى على الرجل جيرانه في الحضر، وأصحابه في السفر، ومعاملوه في الأسواق، فلا تشكوا في صلاحه، وزكى رجل آخر عند عمر رضي الله تعالى عنه، فقال له عمر: أنت جاره الأدنى تعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: أرافقته في السفر الذي يستدل فيه على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: أعاملته بالدينار والدرهم الذي يستبين به ورع الرجل؟ قال: لا، قال: أظنك رأيته قائما في المسجد يهمهم بالقرآن يخفض رأسه ويرفعه، قال: نعم، قال: لست تعرفه، وقال للرجل: إيتني بمن يعرفك. وفي النوادر ونقله ابن يونس: قال ملك: وأما التجريح فبالصحبة اليسيرة، وباللقاء، وبأيسر ما يكون من أمره يطلع عليه أنه من غير أهل الورع، ويسمع منه، أو يطلع منه على ما لا تجوز به شهادته، أو يقع ذلك في قلبه فلا يزكيه. قاله ابن مرزوق. والله تعالى أعلم.
(1)
ساقطة من الأصل وقد وردت في الخرشي ج 7 ص 182.
لا سماع، يعني أنه لا يعتمد في التزكية على سماعه من الناس الثناء عليه. قال ابن مرزوق: قال ابن يونس: ونقله في النوادر عن العتبية والمجموعة، قال سحنون: ولا يقبل من العدلين والمجرحين أن يقولوا: سمعنا فلانا وفلانا يقولان: إن فلانا عدل أو غير عدل. انتهى. وقال الشبراخيتي: لا سماع من معين، كسمعت فلانا وفلانا يقولان: زيد عدل. انتهى. وقال عبد الباقي: لا على سماع من معين أو من ثقات وغيرهم، ولم يحصل بخبرهم القطع، وقطع المزكي بالتزكية فلا يزكي، فإن أسندها للسماع من غير قطع جاز وكفت، أو حصل بخبرهم القطع قطع أو أسندها للسماع. انتهى. فالأقسام ثلاثة، قسم لا تحصل به الشهادة قطع أو أسندها للسماع، وقسم تحصل به قطع أو أسندها للسماع، وقسم تحصل به إن أسندها للسماع لا إن قطع. انظر الشبراخيتي. وقال البناني عند قوله: لا سماع، لما عورض هذا مع ما يأتي من قبول شهادة السماع في التعديل وفقوا بين المحلين بتخصيص هذا بالسماع من معين؛ أي فلا يقبل من المعدلين أو المجرحين أن يقولوا: سمعنا فلانا وفلانا يشهدان بأن فلانا عدل رضي أو غير عدل، نقله العوفي عن سحنون في المجموعة، قال: إلا أن يكون المشهود على شهادته قد أشهدهم على التزكية والتجريح. اهـ. نقله الطخيخي، ووفق الشيخ أحمد بين الموضعين بتوفيق آخر، فحمل ما هنا على ما إذا شهد بالقطع معتمدا على سماع فاشيا كان أو لا، وما يأتي حيث شهد على السماع، وجمع الزرقاني بين التوفيقين، قال ابن عاشر: وإذا كفى في التعديل السماع الفاشي ضاعت هذه القيود أي معتمدا على طول عشرة لخ.
من سوقه ومحلته؛ يعني أنه يشترط في المزكي أن يكون من أهل سوق المزكى بالفتح ومن أهل محلته، وهي منزل القوم، لا من غيرهم إلا أن يكون أهل سوقه ومحلته لا عدول فيهم، فإنه يقبل تزكيته من سائر بلده، وإليه أشار بقوله: إلا لتعذر، وقال ابن مرزوق: قال اللخمي: التعديل يقبل من جيران الرجل وأهل سوقه وأهل محلته، ولا يقبل من غيرهم لأن وقوفهم عن تعديله مع كونهم أفقه به وأعلم بحاله ريبة في عدالته، فإن لم يكن فيهم عدل قبل من غيرهم من سائر بلده. اهـ. وقال عبد الباقي: إلا لتعذر بأن لم يكن فيهم عدول مبرزون: وقوله: من سوقه،
متعلق بتزكيته، فهو صفة لها أيضا، فكأنه قال: وتزكية حاصلة من معروف، وحاصلة من سوقه؛ أي من أهل سوقه وأهل محلته.
ووجبت إن تعين؛ يعني أن التزكية تجب على من طلبت منه إن تعين بذلك، كأن يكون الشاهد لا يعرف عدالته إلا من طلب في التزكية، لا ما إن كان يعرفه غيره فلا تجب عليه، هكذا يقتضي مفهوم الشرط في كلام المص، وإن انتفى الوجوب فقد يبقى الاستحباب، وعبارته قاصرة لأن التزكية فرض كفاية كسائر الشهادات، فهي واجبة على كل حال تعين المزكي أم لا، إلا أنه إن لم يتعين فهي واجبة عليه وجوب الكفاية يسقط عنه الإثم بقيام غيره بها، وإن ترك الجميع أثِموا، وإن تعين وجبت عليه وجوب الأعيان، فلو قال المص: وتعينت إن تعين كان أولى. قاله ابن مرزوق: وقال عبد الباقي: ووجبت التزكية أي الشهادة بها إن تعين أداؤها، بأن لا يوجد من يعدله غيره أو نحو ذلك، وفي بعض النسخ: ووجب؛ أي التعديل ثم إن عرف تزكية الشاهد بالحق أربعةٌ وجب على اثنين كفاية، وإن لم يعرفها إلا اثنان فهي فرض عين عليهما، ومحل الوجوب بقسميه إن طلبت، فإن لم تطلب في حقه لم تجب؛ وأما في محض حق الله تعالى فتجب المبادرة بالتزكية إن استديم تحريمه كما يأتي. انتهى.
فرع: إذا شهد جمع كثير لا يمكن تواطؤهم على الكذب عادة في قضية من القضايا فالظاهر أنه لا يحتاج إلى تزكيتهم، لأن اجتماعهم يفيد المعلم بمضمون ما شهدوا به؛ لأن هذا كالتواتر في تلك الإفادة، كما يدل عليه ما تقدم في باب القضاء في بحث الإعذار مما يؤول إلى عدم وجوب الإعذار في مثل ذلك، فيلزم منه عدم الاحتياج إلى التزكية فيما ذكر، وقياسا بطريق الأولى على ما إذا علم عدالته فيستند لعلمه ولا يحتاج لتزكية كما يستند في التجريح أيضا لعلمه، وكما أن الشهرة بذلك كافية.
كجرح إن بطل حق، تشبيه في الوجوب؛ يعني أن من علم جرحة شاهد وإن لم يجرحه بطل الحق فإنه يجب عليه أن يجرحه، قال عبد الباقي: كجرح إن بطل حق، تشبيه في الوجوب، أي أن من علم جرحة شاهد وأنه إن لم يجرحه بطل الحق بسبب شهادته، أو حَقَّ باطل، فإنه
يجب تجريحه ليلا يضيع الحق أو يحق الباطل، والشرط راجع لا بعد الكاف، لا لما قبلها أيضا، لاستغنائه بشرطه الذي هو في المعنى يرجع إلى بطلان الحق حيث ترك التزكية. اهـ. فقوله: كجرح إن بطل حق، وكذا لو شهد الشاهد بحق وأنت تعلم جرحته. اهـ.
وندب تزكية سر معها، يعني أنه يندب الجمع بين تزكية السر والعلانية. واعْلَم أن نَدْبَ تزكية السر مع العلانية لا يتوقف على تعدد تزكية السر، بل يكفي في تحصيل ندب الجمعية واحد، لكن إذا جمعهما وتزكية السر من متعدد فقد حصَّل مستحَبَّين، وهما جمعها مع العلانية، وكونها من متعدد، وهذا ظاهر، ويفيده كلام التوضيح وغيره. قاله بناني. ويندب في تزكية السر التعدد إذا اكتفى بها، كما يندب في حال الجمعية، فندب التعدد في السر غير مقيد بجمعها مع العلانية، كما قاله البناني. وقال ابن مرزوق: وإنما نَدْبُ تزكية سر معها لأن الشاهد في العلانية قد يستحي فيثني خيرا بخلاف السر، ولكون العدل يبعد في حقه أن يقول غير الحق كانت التزكية سرا معها مندوبة لا واجبة، فضمير معها في المص عائد على تزكية الجهر. قاله ابن مرزوق.
من متعدد، يعني أن التزكية لابد فيها من التعدد أي تزكية الجهر، فلا يكفي فيها الواحد بلا خلاف، وإنما اختلف في الزائد عليه، ففي تبصرة ابن فرحون: وأما عدد من يقبل في تزكية العلانية فقيل: يجزئ في ذلك اثنان وهو المشهور، وقيل: لابد من ثلاثة وهو مروي عن ابن كنانة، وعن ابن الماجشون أن أقل من يزكي الرجل أربعة شهود. قاله الرهوني. وقال عبد الباقي: وندب تزكية سر معها أي مع تزكية العلانية؛ أي ندب للقاضي الجمع بينهما، فإن اقتصر على السرية أجزأته اتفاقا. كالعلانية على المعتمد، وتزكية السر لا يشترط فيها التبريز ولا التعدد ولا الإعذار. والله تعالى أعلم. انتهى بنقص.
وإن لم يعرف الاسم، يعني أنه إذا عدله مع وجود ما مر من الأوصاف فإنه يقبل تعديله له وإن كان المزكي بالكسر لا يعرف اسم المزكى بالفتح. قال عبد الباقي: وإن لم يعرف المزكي الاسم للمزكى بالفتح ولا الكنية ولا اللقب لأنه يزكي ذاته لا ما اشتهر به. اهـ. وقوله: وإن لم يعرف الاسم، كذا في النوادر عن ابن سحنون عن أبيه: أن من عدل رجلا لم يعرف اسمه قُيل تعديله،
وجعله ابن عرفة كالمنافي لقول سحنون في نوازله: لا ينبغي لأحد أن يزكي رجلا إلا رجلا قد خالطه في الأخذ والإعطاء وسافر معه ورافقه، ولقول اللخمي عن ابن المواز: لا يزكيه حتى تطول المخالطة فيعلم باطنه كما يعلم ظاهره، قال: يريد يعلم باطنه في غالب الأمور لا أنه يقطع بذلك، نقله ابن غازي. قال ابن غازي: والذي في أصل المتيطي: وتجوز تزكية من لا يعرف اسمه إذا كان مشهورا بكنية أو لقب لا يعز عليه ذكره، ورب رجل مشهور بكنية لا يعرف له اسم، وهذا أشهب بن عبد العزيز لا يكاد أكثر الناس يعرف اسمه مسكين، وسحنون بن سعيد اسمه عبد السلام. اهـ. نقله البناني. قال: وبه تعلم ما في كلام الزرقاني. اهـ. وقال الرهوني: سلم هذه المنافاة كما سلمها ابن غازي، وكأنهم رحمهم الله لم يقفوا على ما للباجي في منتقاه، وجلب الرهوني النقل في ذلك إلى أن قال: قال ابن سحنون عن أبيه: يصح أن يزكي المزكي رجلا لا يعرف اسمه. قال القاضي أبو الوليد: ومعنى ذلك عندي أنه زكاه على عينه، وأن هذا لأمر يقل ويندر إذا كان لا يصح تزكيته له إلا بعد المداخلة في السفر والحضر والمعاملة الطويلة بالأخذ والإعطاء، ويكون مع ذلك لا يعرف اسمه، إلا أن يكون مشهورا بكنية أو لقب، ومع هذا فلا أقول: إن الجهل باسمه يؤثر في تزكيته، وإنما يقل مع ما شرط من سبب معرفته. اهـ.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا يصحح ما لعبد الباقي. والله تعالى أعلم.
فاندة: لا ينبغي الإسراع إلى التزكية لصعوبتها، ولذلك حذروا من الشهادة في ست مسائل، وهي التزكية، والشهادة على الخط، والجرح، والتحجير، والترشيد، والتدمية. ونظمها بعضهم فقال:
اترك شهادة بجرح تزكيه
…
رشد وتحجير وخط تدميه
أو لم يذكر السبب؛ يعني أنه لا يشترط في العدل بكسر الدال أن يذكر السبب الذي لأجله عدل، لأن التعديل يتوقف على أمور، وربما لا يتيسر استحضارها عند التزكية. قاله عبد الباقي وغيره. وقال ابن الحاجب: لا يجب ذكر سبب التعديل. ابن المواز: التزكية جائزة من غير تفسير، وروى ابن وهب قوله: لا أعلم إلا خيرا لقول ابن عرفة: ومثله لا بأس به. اهـ. نقله المواق. وقال
التتائي: أو لم يذكر السبب الذي عدل لأجله؛ لأن التعديل إنما يكون بعد طول العِشرة واخْتِبَار الأفعال الكثيرة، وذكر ذلك يطول، وقد يعسر التعبير عنه فيسقط. اهـ. وقال ابن مرزوق: وفهم من قوله: وإن لم يعرف الاسم، أن الأكمل معرفة المزكي باسم من زكاه، وظاهر عطف قوله: أو لم يذكر السبب، على ما قبله أن الأكمل في التزكية ذكر سببها أيضا، كما في معرفة الاسم، ولا يكاد يوجد هذا في المذهب. اهـ. فعلم من هذا أنه إذا قال: عدل رضي، ولم يعرف اسمه، ولم يذكر السبب الذي لأجله عدله: فإنه يصح تعديله ويعمل بتزكيته.
بخلاف الجرح؛ يعني أنه لا يقبل من المجرح أن يقول: هو مجرح أو مردود الشهادة، بل حتى يقول: هو مجرح؛ لأني رأيته يفعل كذا من أسباب التجريح، وإنما لم يجب ذكر سبب العدالة لأنها كثيرة لا تحصى، وأيضا هي ظاهرة لا تخفى، ولذلك لم يختلف الناس في الأوصاف الموجبة للعدالة: وأما الجرح فأسبابه منحصرة وخفية، واختلف الناس في كثير منها، فلو لم يشترط ذكر أسباب الجرح لاحتمل أن يكون الجرح بني على ما يراه تجريحا، والحاكم لا يرى ذلك، هذا إذا كان عالما بوجوه التجريح، وإلا فيجوز أن يجرحه بما لا يوجب التجريح، وذكر المحدثون لذلك أمثلة منها: الذي جرح شخصا وسئل عن السبب؟ فقال: رأيته يبول قائما، إلى غير ذلك من الأمثلة. اهـ. قاله ابن مرزوق. وقال عبد الباقي: بخلاف الجرح بالفتح فلا بد من ذكر سببه لأنه ربما اعتقده المجرح بما لا يجرح به شرعا كالبول قائما، وعدم ترجيح ميزان، ونحوه للخرشي، وزاد: كما وقع لبعضهم أنه جرح شاهدا، فسئل عن سببه؟ فقال: رأيته يبيع ولا يرجح الميزان. قال المازري: أكد الشافعي في وجوب الكشف في الجرح؛ لأن شاهدًا جُرح فسئل عن جرحته؟ فقال: رأيته يبول قائما، فقيل له: وإذا بال قائما ماذا يكون؟ قال: يتطاير عليه بوله، فقيل له: هل رأيته بصلي بعد ذلك؟ قال: لا. فظهر غلطه. اهـ. وقال المواق: قال اللخمي: اختلف في قبول التجريح إجمالا على أربعة أقوال، قيل: يقبل: وقيل، لا يقبل، وقال الأخوان: يقبل ممن يعرف وجه التجريح كان المجرح ظاهر العدالة أم لا، وقال أشهب: لا يقبل في مشهور العدالة إلا مفسرا. اهـ.
وهو مقدم، الضمير عائد على الجرح؛ يعني أنه إذا عدل الشاهد معدلون وجرحه آخرون فشهادة الذين جرحوه هي المقدمة على شهادة الذين عدلوه، وإنما كان الجرح هو المُقَدَّمَ لأن شهوده علموا من حال الشاهد المجرح ما لم يعلمه العدلون؛ لأن المعدلين نفوا الجرح والمجرحين أثبتوا الجرحة، والمثبت مقدم على النافي. قاله ابن مرزوق. وقال الرهوني عند قوله: وهو مقدم، محله إذا لم يعين المجرح لا جرح به وقتا ويشهد العدلون بسلامته منه في ذلك الوقت. اهـ. يعني فَيُصَارُ إلى الترجيح بالعدالة مثلا كما تراه عن المازري. والله تعالى أعلم. وقوله: وهو مقدم: هذا قول ابن نافع وسحنون؛ وروى ابن نافع عن ملك أنه يقضى بأعدل البينتين. وقال المازري: لو قالت طائفة: شاهدناه ليلة كذا عاكفا على الخمر، وقالت أخرى: شاهدناه تلك اليلة عاكفا على الصلاة لقطع بكذب إحدى الطائفتين، فيقع الترجيح بزيادة العدالة أو بكثرة العدة عند من يرجح به من أصحاب ملك. اهـ. وقوله: وهو مقدم، قال البناني: سمع القرينان مالكا: في الشاهد يعدله رجلان ويأتي المطلوب برجلين يجرحانه، قال: ينظر في ذلك إلى الشهود أيهم أعدل؟ وقال ابن نافع: المجرحان أولى ويسقط التعديل. وقال سحنون: مثله. ابن رشد: وقول ابن نافع وسحنون هو دليل ما في كتاب السرقة من المدونة؛ ورواية عيسى عن ابن القاسم عن ملك، وفي المسألة قول ثالث حكاه في المبسوط عن مطرف وابن وهب، وهو: أن التعديل أولى من التجريح، وهذا الاختلاف إنما هو إذا لم يبين المجرحون الجرحة وتعارضت الشهادة في المظاهر، بأن يقول المعدلون: هو عدل جائز الشهادة، ويقول المجرحون: هو مسخوط غير جائز الشهادة، فأما إذا بَيَّن المجرحون الجرحة فلا اختلاف في أن شهادتهم أعمل من شهادة العدلين وإن كانوا أقل عدالة منهم، ولكل قول منها وجه، ثم قال بعد توجيهها: والقول بأن شهادة المجرحين أعمل هو أظْهَرُ الأقوال وأولاها بالصواب. اهـ. وقال المتيطي لما تعرض لاختلاف الشهود في الكفاءة في النكاح ما نصه: والذي مضى به العمل أن التجريح أتم شهادة لأنهم علموا من الباطن ما لم يعرفه المعدلون، وهو قول ابن نافع وسحنون. اهـ. وقال في كتاب الشهادات من نهايته أيضا ما نصه وشهادة التجريح أقوى من شهادة التعديل، يبطل بشهادة عدلين شهادة من يعدله العدد الكثير
من الرجال العدول؛ لأن المجرح علم من باطن حال المجرح ما لم يعلمه المزكي، هذا هو القول المشهور من قول ملك وأصحابه. اهـ. وقد علمت به أن القائل بتقديم الجرح على التعديل يقوله ولو كان شهود التعديل أعدل أو أكثر، خلاف ما في التحفة إذْ قال:
وثابت الجرح مقدم على
…
ثابت تعديل إذا ما اعتدلا
اهـ. وقوله: وهو مقدم، قال الخرشي: ولو بعد الحكم لمن عدلت شهوده وينقض الحكم، كما نسبه ابن فرحون لابن القاسم، خلافا لأشهب وسحنون. اهـ.
تنبيه: لو اختلف اثنان في سبب الجرح بأن قال واحد: رأيته يسرق، وقال آخر رأيته يشرب الخمر فهل يلفقان أو لا؟ قولان لسحنون، والأول لابن عبد الحكم أيضا. قاله التتائي. ابن رحال: ظاهره يعني كلام ميارة كظاهر النظم أن التجريح كالتعديل لا بد فيه من العدة والتبريز، ولا يجزئ من دون ذلك، وصرح ابن الناظم بذلك، هذا هو الذي جرى به العمل ومضت عليه الأحكام. ابن عات: ولا يشترط أهل التبريز في العداوة، وإنما يطلب التبريز في غير العداوة من وجوب التجريح، ولا أعلم في هذا خلافا. اهـ. ولا يشترط في تعديل السر وتجريحه التعدد. انتهى.
وإن شهد شخص شهادة وزكي فيها بشروط التزكية، ثم شهد ثانيا أي في زمن ثان شهادة أخرى ففي الاكنفاء بالتزكية الأولى كما لأشهب، أو ما لم يطل كسنة، كما لابن القاسم، أو ما لم يغمز فيه أو يسترب
(1)
كما للأخوين، أو لا تكفي كما لسحنون. فقوله: تردد، مبتدأ وخبره في الاكتفاء، أشار به لكثرة الخلاف، فهو تردد للمتأخرين من أهل المذهب في نقل الخلاف. قاله ابن مرزوق. قال الرهوني: مراده - والله أعلم - أن بعضهم نقل في ذلك قولين فقط، وبعضهم نقل ثلاثة فقط، وبعضهم أكثر. اهـ. وقال عبد الباقي: وإن شهد المزكى بالفتح ثانيا قبل تمام عام وجهل حاله ففي الاكتفاء بالتزكية الأولى، وعدمه إن لم يكثر معدلوه، تردد، فإن لم يجهل حاله بل عرف
(1)
في الأصل: يستراب.
بالخير أو كثر معدلوه لم يحتج لتزكية أخرى، فإن شهد مجهول الحال بعد سنة ولم يكن زكاه قبلها كثير احتيج لإعادتها ثانيا. اهـ. قوله: فإن علم بالخير لخ، جعل هذا خارجا عن محل الخلاف وهو صواب؛ لأنه لما ذكر في سماع عيسى قول ابن القاسم: إن شهد بالقرب لم يحتج لزكية، وبعد طول احتاج إليها، وأن الطول سنة. قال فيه ما نصه: قال أصبغ: إلا أن يكون الرجل مشهورا بالخير لا يحتاج في مثله إلى ابتداء سؤال، قال ابن رشد: قول أصبغ تفسير لقول ابن القاسم، ورواه ابن سحنون. اهـ. نقله ابن عرفة وأقره. ونحوه يفيده كلام المنتقى. وقوله: فإن شهد مجهول الحال بعد سنة احتيج لإعادتها لخ، هذا محترز قوله: قبل تمام عام، فجعل هذا خارجا عن محل التردد، فاقتضى كلامه أن يتفق على أنه لا بد من تزكيته، وفيه نظر، وإن سلمه التاودي والبناني بسكوتهما عنه. قاله الرهوني. وجلب النقل في ذلك، وقوله: تردد، اعلم أن الخلاف جار ولو مات المعدل له في الشهادة الأولى ولم يوجد من يعدله، وفي حاشية الرهوني: وإن كان المشهود بتعديله أول مرة مشهورا بالعدالة لم يطلب تعديله ثانية ما دام بحاله. وإلا ففي الاكتفاء به ما لم تظهر له تهمة وافتقاره للتعديل ما لم يوجب تَكَرُرُهُ شهرة عدالته، ثالثها: ما لم يطل ما بين شهادتيه بسنة، ورابعها: بسنة أو أقل على قدر الاجتهاد، وخامسها: بنحو خمس سنين. للك مع الأخوين، وسحنون مع الشيخ عن ابن كنانة، وسماع عيسى، وابن القاسم؛ وابن عبد الحكم، وأشهب. اهـ.
فرع: قال ابن عرفة: وللشيخ عن ابن حبيب عن الأخوين وأشهب وأصبغ: من عدله رجل وعجز عن آخر ثم عدَله ثان بعد سنة لم يقبل الأول وطلب فيه الآن اثنان كان أحدهما الأوَّلَ أوْ لا. اهـ.
وبخلافها لأحد ولديه على الآخر أو أبويه إن لم يظهر ميل له، معطوف على خلاف من قوله: بخلاف أخ لأخ، وأعاده لطول الفصل، والضمير في بخلافها عائد على الشهادة، والمعنى أن شهادة الوالد والوالدة لأحد ولديه على الآخر جائزة إن لم يظهر ميل للمشهود له، وكذلك شهادة الولد ذكرا كان أو أنثى لأحد أبويه على الآخر جائزة إن لم يظهر ميل للمشهور له، وكذلك
شهادة الولد ذكرا كان أو أنثى لأحد أبويه على الآخر جائزة إن لم يظهر ميل للمشهور له، ففوله: إن لم يظهر ميل، قيد في المسألتين، ومَفْهُوم الشرط أنه إن ظهر ميل للمشهور له لم تجز الشهارة اتفاقا، وما مشى عليه المص هو الذي رجحه ابن محرز، وهو قول ابن القاسم؛ لأن الشاهد استوت حاله فيمن شهد له وعليه، فصار كمن شهد لأجنبي، وقال سحنون: لا تجوز شهادة الأب لابنه على حال، واشترط بعضهم في قبول هذه الشهارة التبريز، ولم يذكره المص، فإن ظهر الميل للمشهود عليه فأول بالجواز، قال ابن الحاجب: يريد على القول بالجواز، ولا يريد أنه يتفق على الجواز لأن سحنون يمنع، وإن شهد للأكبر على الأصغر وللرشيد على السفيه وللعاق على البار، وكأنه رآه حكما غير معلل، وأن المنع في ذلك على البينة. اهـ. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: فإن ظهر ميل للمشهود له لم تجز، كشهادة الأب للبار على العاق، أو للصغير على الكبير، أو للسفيه على الرشيد، لاتهامه على إبقاء المال تحت يده أي الأب، وتجوز شهادة الولد على أبيه بطلاق أمه إن كانت منكرة، واختلف إن كانت هي القائمة بذلك، فمنعها أشهب وأجازها ابن القاسم، وإن شهد بطلاق غير أمه لم يجز إن كانت الأم في عصمة أبيه، لا إن كانت ميتة، ولو شهد لأبيه على جده أو لولده على ولد ولده لانبغى أن لا تجوز قولا واحدا، ولو كانت على العكس لانبغى أن تجوز قولا واحدا. اهـ. قوله: إن كانت الأم في عصمة أبيه، وكذا لو كانت حية مطلقة. قاله الرهوني. وقال الشبراخيتي: إن لم يظهر ميل له بأن تساويا عنده في المنزلة أو كان ميله للمشهود عليه، ومفهومه إن ظهر ميله للمشهود له لم يقبل، كأن يكون في ولاية الأب، أو تزوج على أمه وأغارها فيتهم أن يكون غضب لأمه. اهـ. وقال المواق: قال ابن رشد: شهادة الابن علي أبيه بطلاق أمه جائزة إلا أن تكون هي المطالبة للطلاق، وبطلاق غير أمه جائزة إن كانت أمه ميتة، وغير جائزة إن كانت حية في عصمته، إلا أن تكون المرأة هي المطالبة للطلاق. اهـ. وقال التتائي: وأما إن شهد بطلاق غير أمه لم يجز إن كانت أمه في عصمة أبيه، وأجيزت إن كانت ميتة، وهذا إن كانت الأجنبية منكرة، واختلف إن كانت هي القائمة والأم في عصمته، فأجازها أصبغ، ومنعها سحنون بعد أن قال: هي جائزة، والقياس المنع مطلقا كانت
الأم في عصمته أو لا، حية أو ميتة، أنكرت الأجنبية أو لا، لجري العادة بالبغض بينها وبين الربيب. اهـ.
ولا عدو، يعني أن شهادة العدو على عدوه ساقطة، والمراد العداوة الدنيوية، لجواز شهادة المسلم على الكافر، قال ابن عرفة: عداوة الشاهد للمشهود عليه معتبرة في المانعية اتفاقا، وفي نوازل سحنون: إن كانت العداوة بين الشاهد والشهود عليه في أمر الدنيا في الأموال والمواريث والتجارة ونحوها لسقطت شهادته عليه، وإن كانت غضبا لله لفسقه وجرأته على الله لا لغير ذلك لم تسقط. قال ابن رشد: هذا مفسر لجميع الروايات. قاله الخرشي. وقال التتائي: ولا عدو في أمر دنيوي في الأموال والمواريث والتجارة والجاه والمنصب، وأما إن كانت غضبا لله لفسقه وجرأته على الله لا لغير ذلك لم يسقط. ابن رشد: ولذا لم تسقط شهادة قاض على من أقام عليه حدا أو ضربه في أمر يوجب ضربه. اهـ. وظاهر كلام المص سواء كان مصارما للعداوة أو غير مصارم وهو كذلك. قاله ابن عبد البر في كافيه. وقال سحنون: وهو مصارم له ولو كان عدلا في جميع الأمور. اهـ. وقال الحطاب: ولا عدو، يريد إذا كانت العداوة بينة. قال ابن كنانة في المجموعة: إن كانت الهجرة في أمر خفيف فشهادة أحدهما على الآخر تقبل، وأما المهاجرة الطويلة والعداوة البينة فلا تقبل. اهـ. ونقله ابن عرفة عن المازري، ونصه: قال ابن كنانة: إن كانت العداوة خفيفة على أمر خفيف لم تبطل الشهادة. اهـ. وقال الشبراخيتي: ولا عدو في أمر دنيوي من مال أو جاه أو منصب، وأما لو كانت غضبا لفسقه وجرأته على الله تعالى لا لغير ذلك لم تسقط. اهـ.
فرع: لا بأس بالشهادة على صغير أو سفيه في حجر عدوه. اهـ. قاله الخرشي، ونحوه للحطاب. وقال: على الأصح.
ولو على ابنه، يعني أنه لا فرق بين أن تكون العداوة بسراية أو غيرها، فلا تصح شهادته على ابن عبدوه ومثل الابن الأب. قاله الحطاب وغيره. وقال المواق: عياض: شهادته على ابن عبدوه وأبيه بقتل أو حد ساقطة، وفي المال والجراح، ثالثها: في الجراح. ابن الحاجب: شهادة العدو على ابن عدوه بمال وما لا تلحق الأب منه معرة، قال ابن القاسم: لا تجوز. اهـ. قال الخرشي:
ولما ذكر أن العداوة بين الشاهد والمشهود عليه تمنع القبول تكلم على ما إذا كانت إليه بسراية منبها على ما منعها، مشيرا للخلاف في ذلك بقوله: ولو على ابنه؛ أي ابن العدو؛ أي ولو كان الشاهد مثل عبد الرحمن بن شريح العافري، وسليمان بن القاسم، أحد شيوخ عبد الرحمن بن القاسم، وأشار بالمبالغة لرد قول محمد بالجواز، ومحل الخلاف حيث لم تلحق الأب معرة وإلا فلا تقبل اتفاقا، ثم إن قوله: ولا عدو، عطف على: مغفل، من قوله: ليس بمفغل، والواو هي العاطفة؛ ولا لتأكيد النفي. اهـ كلام الخرشي.
تنبيه: قال بعضهم: العداوة إنما تكون إذا خاصم في الأمر الجسيم لما فيما لا خطب له كقليل الثمن ونحوه مما لا يوجب العداوة، فإن شهادته على خصمه في غير ما خاصمه به جائزة؛ وحقيقة العدو ما قال الشيخ النووي في منهاجه: ولا تقبل من عدو وهو من يبغضه بحيث يتمنى زوال نِعَمِه ويحزن بسروره ويفرح بمصيبته، كذا نقله عن النوادر، ومنه يعلم تعريف العداوة؛ فيقال: العداوة البغض بحيث يتمنى زوال نعمه لخ. اهـ. والعدو ضد الولي، يقع بلفظ الواحد للواحد والاثنين والجمع والمؤنث والمذكر، والفرق بين العداوة والخصومة، قال الأموي: المخاصمة من قبيل القول، ويجوز أن يخاصم الإنسان غيره من غير أن يعاديه. اهـ. وحاصله أن المخاصمة أعم من العداوة. قاله الخرشي. وقال الرهوني: وفي الجواهر: قال ابن القاسم: إذا كانا عدوين لأبي الصبي لم تجز شهادتهما ولو كانا مثل ابن شريح وسليمان بن القاسم. اهـ. وعبد الرحمن بن شريح في طبقة ملك والثوري، أخذ عن أبي قبيل وأبي الزبير؛ وروى عنه هانئ بن المتوكل وابن القاسم، من الثقات، وللباجي في كتاب سنن الصالحين: قال قال ابن القاسم: سمعت سليمان بن القاسم وغيره ممن أثق به يقول: بلغني أن الرجل يريد أن يبلغ وجها من العبادة فيمنعه الله إياها نظرا له؛ ولو بلغها كان فيها هلاكه، وعن عبد الله بن وهب قال: تبعت سليمان بن القاسم رضي الله تعالى عنه يوم عيد منصرفنا من المصلى لأنظر عند من [أتغدى]
(1)
، فدخل المسجد الجامع فكبر للصلاة فكبرت خلفه مختفيا، وصليت ركعتين وقعدت في التشهد وخر ساجدا، فسمعته
(1)
في الرهوني ج 7 ص 383 يتغدى.
يقول في سجوده: يا رب انصَرَفَ عبادك إلى ما أعَدُّوا من زهرات الدنيا ليومهم هذا من زينتهم وطعامهم: وانصرف عبدك سليمان إليك يسألك فكاك رقبته من حر نارك، ويسألك مغفرتك برحمتك، فيا ليت شعري ما فعلت به؟ فإن كنت قبلته فقد سعد، وإن كنت لم تفعل فيا ويحه ويا بؤسه، وأخذ في الانتحاب والبكاء فطال عليَّ انتظاره، فانصرفت إلى منزلي بعد أن جعلت على ثوبه علامة وهو ساجد، فتغديت مع القوم وأطلت الحديث ونمت نوما طويلا ثم جئت المسجد قريبا من الزوال، وإذا هو ساجد على حالته وعلامتي على ثوبه لم تَزُلْ، وهو في بكائه وتضرعه: فعبد الرحمن بن شريح المعافري وسليمان بن القاسم شيخان لابن القاسم قاله الرهوني. والله تعالى أعلم.
تنبيه آخر. قال في التبصرة: واختلف إذا شهد على صبي في ولاية عدوه فأجازها ابن القاسم ومنعها مطرف وابن الماجشون. اهـ. وقال في المسائل الملقوطة:
مسألة: قوم بينهم فتنة أو بين آبائهم وأجدادهم ثم اصطلحوا فلا يشهد بعضهم على بعض حتى ينقضي القرن الذين شاهدوا الفتنة. قاله ملك في أسئلة محمد بن سالم. ومثله لابن العربي في الأحكام. اهـ. قاله الرهوني. وقال عبد الباقي: ولو على ابنه أي لا تجوز شهادته على ابن عدوه، وكذا ابن العدو لا يشهد على عدو أصله ولو مات؛ لأن العداوة تورث. اهـ.
أو أي ولو بين مُسْلمٍ وكافرٍ؛ يعني أن العداوة الدنيوية إذا كانت بين مسلم وكافر فإن شهادة المسلم على ذلك الكافر ساقطة، بخلاف ما إذا كانت العداوة عامة وهي الاختلاف في الدين، فيجوز معه شهادة المسلم عليه. قاله عبد الباقي. وقال المواق: عياض: قوله، في آخر الكتاب: تجوز شهادة المسلمين على الكفار، هذا مما لا يختلف فيه، وعداوة الدين غير معتبرة لأنها عامة غير خاصة، وإنما تعتبر العداوة الخاصة، واختلف إذا طرأت بين المسلم والكافر عداوة في بعض الأمور، فاعتبرها بعضهم ولم يجز الشهادة وهو الصحيح، لأنه أمر خاص. اهـ. وليخبر بها، يعني أن الشاهد إذا أدى شهادته والحال أن بينه وبين الشهود عليه عداوة دنيوية فإنه يجب عليه أن يخبر بالعداوة الحاصلة بينه وبين المشهود عليه، سمع ابن القاسم: من شهد على رجل
بينه وبينه عداوة فاحتاج أهل الشهادة إليها فليشهد عليها وليخبر مع شهادته بعداوته إياه ولا يكتم. ابن رشد: هذا في سماع عيسى خلاف سماع سحنون ونوازله، وأصح القولين أنه لا يخبر بها لأنه يبطل بذلك حقا يعلم صحته. اهـ. قاله المواق. وقال عبد الباقي: وليخبر الشاهد بها أي بالعداوة وجوبا إذا قال له القاضي: أدِّ الشهادة، فيوديها ويخبر بالعداوة لاحتمال أن لا تكون قادحة إذا فسرت ليسلم من التدليس، هذا سماع عيسى ابنَ القاسم، وسمع سحنون: لا يخبر بها لأنه يبطل بها حقا. وقال ابن رشد: إنه أصح القولين كما في المواق والشارح، فانظر جعل مقابل المص الأصح، وما قررنا من أن الأخبار بعد الأداء هو ظاهر نقل المواق خلافا لحل التتائي، ومثل العداوة القرابة.
كقوله بعدها تتهمني وتشبهني بالمجنون مخاصما، هذا تشبيه بالعداوة أو تمثيل لها؛ يعني أن الشاهد إذا قال بعد أداء الشهادة وقبل الحكم للمشهود عليه: تتهمني وتشبهني بالمجنون، فإن ذلك يكون قادحا في شهادته فترد إذا صدر منه ذلك على وجه المخاصمة. قال الخرشي: بأن يكون كلامه مفيدا لكون شهادته إنما هي لأجل ما قيل له لا شاكيا، لا إن كان قوله بعد أداء الشهادة وقبل الحكم: تتهمني وتشبهني بالمجنون على وجه الشكاية للناس بأن يقول لهم: انظروا ما فعل معي وما قال في حقي يتهمني ويشبهني بالمجانين، أو ما كنت أظن أنك تفعل معي هذا تتهمني وتشبهني بالمجانين، فانظروا هل ما فعل معي مناسب أو لائق أو نحو ذلك؟ وفي حاشية الشيخ البناني عند قوله مخاصما لا شاكيا ما نصه: هذا التفصيل الذي ذكره المص هو قول أصبغ في الثمانية، ولم يكمله المص، ونصه: على نقل ابن رشد كما في المواق إن قاله على وجه الشكوى والاستنهاء من الأذى لا على وجه طلب خصومة ولا سمى الشتمة فلا أراه شيئا، وإن سمى الشتمة وهي مما في مثلها الخصومة، أو كان ذلك منه على وجه الطلب لخصومته، وإن لم يسم الشتمة فشهادته ساقطة. اهـ. وهكذا نقله ابن عرفة، ونقله في التوضيح ناقصا كما هنا، ولابن الماجشون: تبطل شهادته بهذا القول من غير تفصيل قائلا لأنه أخبر أنه عدوه، ولو قال: ما هو أدنى من هذا سقطت شهادته. ابن رشد: وقول ابن الماجشون أصوب، قال المواق: ونحو هذا اختار اللخمي. قال: طرح هذه الشهادة حسن إلا أن يكون مبرزا فكان على المؤلف الاقتصار
على ما صوبه ابن رشد واختاره اللخمي، وقول المص: تتهمني، الذي في الرواية كما في المواق تشتمني. اهـ. وقال عبد الباقي: وشبه بالعداوة أو مثل لها بقوله: كقوله أي الشاهد للمشهود عليه بعدها أي بعد أداء الشهادة وقبل الحكم: تتهمني في شهادتي عليك وتشبهني بالمجنون، حال كون القائل المذكور مخاصما له عند الحاكم، فهو حال من المضاف إليه، وهو الهاء في قوله: فترد شهادته؛ لأنه قرينة على العداوة، فقوله قبل: ولا عدو: أي من ظهرت عداوته ولو بقرينة، وهذا يؤيد أنه مثال، ويكون نبه بالأخف ليعلم منه الأجلى بطريق الأولى؛ وهو من أقر بعداوة المشهود عليه، وأما إن فسر قوله: ولا عدو، بمن ثبتت عداوته، فيكون قوله هنا كقوله تشبيها لا شاكيا للناس ما فعل به من دعواه عداوته وما كنت أظنه يقول ذلك، أو معاقبا له بسبب ما قال، ولا يرد على ردها حال كونه مخاصما ما يأتي من أن العداوة الحادثة بعد الأداء لا تقدح في الشهادة لأنها في الطارئ بعد الأداء، وما هنا مقارنة له، وفرق بين المانع الطارئ بعد أدائها وبين القارن لها، ومفهوم قولي وقبل الحكم، أنه لو قال ما ذكر بعد الحكم لا يكون كذلك، وانظر هل هو بمنزلة رجوعه عن الشهادة فيغرم ما أتلفه بشهادته أم لا؟ واعلم أنه إن قامت قرينة على تحقق الخصام أو على ظنه أو على تحقق الشكاية أو ظنها عمل على ذلك، وأما إن فقد ما ذكر من القرينة فيحمل على أنه غير مخاصم؛ لأن الشك في المانع يلغى. انتهى.
تنبيهان: الأول: قال الإمام الحطاب: في مختصر الواضحة: فيمن عنده شهادة على شيء لا يعتقد جوازه والقاضي يرى إجازتها: قال ابن عبدوس: سألت سحنونا عن الرجل يكون عنده الشهادة وهو ممن لا تجوز عنده والقاضي ممن يرى إجازتها، أترى على الشاهد أن يوديها إلى القاضي؟ فقال: كيف هذه الشهادة؟ قلت: مثل أن يشهد على صداق معجل في نكاح ومعه مؤجل لم يضرب له أجل، فقال: ما أرى أن يشهد فإن جهل الشاهد وشهد فينبغي للقاضي أن ينبهه على أنه لا ينبغي له أن يشهد في ذلك. اهـ.
الثاني: قال الرهوني عند قوله: ولا عدو ولو على ابنه ما نصه: زاد ابن الحاجب عقب مسألة المص ما نصه قال سحنون: ومثله لو شهد المشهود عليه على الشاهد وهو في خصومته. اهـ. قال في التوضيح: وما حكاه عن سحنون يوهم أنه لو
شهد عليه بعد الخصومة لَقُبلَ، والذي نقل المازري عن سحنون إذا شهد رجل بشهادة فبعد ذلك بنحو شهرين شهد المشهود عليه على الشاهد الذي شهد عليه أن شهادته لا تقبل. اهـ. قال الرهوني: قلت: ما نقله ابن الحاجب هو الذي في ابن يونس في موضعين، أحدهما في الفصل الثاني من كتاب الشهادات الثاني، قال ابن سحنون: وكتب إلى سحنون من شهد عليك بشهادة ثم شهدت أنت عليه بحدثان ذلك بعد الشهرين ونحوهما والأول في خصومته بعد، قال: أرى ظنة قائمة فلا تجوز شهادته عليه. الثاني: في كتاب الشهادات الأول: ينظر في العداوة فإن كانت في أمر الدنيا [من]
(1)
مال أو تجارة أو ميراث فلا تقبل شهادته، وإن كانت عداوة غضبا لله تعالى لجرمه أو فسقه أو لبدعته فشهادته جائزة. وقال في كتاب ابنه: فيمن شهد لرجل ثم شهد المشهود عليه على الشاهد بعد ذلك وهو في خصومته، قال: ترد شهادته. اهـ. قال التتائي: ولما كان الأصل أن يعتمد الشاهد على المعلم وقد يتعذر ذلك أو يتعسر في بعض المسائل فيعتمد على غلبة الظن ليلا تضيع الحقوق، أشار لبعض تلك المسائل، فقال:
واعتمد في إعسار بصحبة وقرينة صبر ضر؛ يعني أن الشاهد في الإعسار يعتمد في شهادته على صحبته للشخص الذي شهد بإعساره مدة يغلب معها على ظنه أنه معسر، ويعتمد أيضا في شهادته في الإعسار على قرينة مثل صبره على الضر كالعري والجوع. قال الشبراخيتي: واعتمد الشاهد في شهادته لشخص بإعسار بصحبته على ما يشاهده ويعاينه أيام الصحبة، بحيث أنه صار يعرف حاله بخبرة باطنه، وعلى قرينة أي قرينة الحال مثل صبر ضر كصبر الشهود له على الجوع وتكلف مشاقه فيما لا يوجد مثله إلا مع الفقر، بحيث يقوى الظن القريب من العلم أن من معه شيء لا يصبر على مثله. قوله: وقرينة صبر ضر، من عطف العام على الخاص، أو من عطف الخاص على العام، ويحتمل أنه مغاير. قاله عبد الباقي. قال البناني: صوابه عطف أعم على أخص بدل قوله: عام على خاص لخ؛ لأن العام لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر وليس بموجود هنا، وجواز كونه من عطف الأعم على الأخص وعكسه صحيح؛ لأن قرينة صبر الضر أعم من الصحبة لأنها تكون معها أو بدونها، كما أن الصحبة أعم من قرينة صبر الضر
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من الرهوني ج 7 ص 382.
باعتبار آخر، لأن الصحبة يطلع بها على أمور أخرى غير صبر الضر يستدل بها على الإعسار، فثبت أن كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه. قاله البناني.
كضرر الزوجين؛ يعني أن الشاهد في ضرر أحد الزوجين بالآخر يعتمد على القرائن المؤدية إلى الظن وغلبته كقرينة صبر الضر.
تنبيه: قال عبد الباقي المعنى يجوز للشاهد أن يعتمد في شهادته على الظن القوي في هذين والثالث بعدهما. ولا يشترط المعلم. اهـ. قوله: في هذين؛ يعني الإعسار وضرر الزوجين، وقوله: والثالث بعدهما، هو الشهادة بالملك، لقول البناني هنا: إن الشهادة بالملك مما لا يمكن القطع به، فقول الرهوني: انظر ما المشار إليه لخ، غير ظاهر. والله تعالى أعلم.
تنبيهات: الأول: قال البناني: ما ذكره المص مبني على أن الشاهد يكفيه الظن القوي فيما يعسر فيه المعلم قال ابن عرفة: وفي شرط شهادة غير السماع بقطع الشاهد بالعلم بالمشهود به مطلقا وصحتها بالظن القوي فيما يعسر المعلم به عادة طريقان، الأُولَى للمقدمات: لا تصح شهادة الشاهد بشيء إلا بالعلم به والقطع بمعرفته لا بما يغلب على الظن معرفته ثم قسم محصلات العلم. الثانية للمازري: إنما يطلب الظن القوي المزاحم للعلم بقرائن الأحوال كالشهادة بالإعسار. وعلى هذا مر ابن شأس وابن الحاجب، وهذا الظن الناشئ عن القرائن إنما هو كاف في جزم الشاهد بالمشهود به على وجه البت، ولو صرح بأداء الشهادة بالظن لم تقبل، ولعله مراد ابن رشد، فيتفق. الطريقان: المازري: ومنه الشهادة بالملك فإنه لا يمكن القطع به. اهـ. فقف على قوله: ومنه الشهادة بالملك لخ.
الثاني: قال الإمام الحطاب: لا يكلف الشهود من أين علموا ما شهدوا به، قال ابن سهل: إذا شهدوا أنه كفؤ لليتيمة: قال ابن لبابة: الشهادة تامة وليس على القاضي أن يسألهم من أين علموا ذلك. اهـ. وقال محمد بن عبد الحكم: وإذا شهد شاهدان [أن]
(1)
لفلان على فلان مائة دينار ولم يقولا: أقر بذلك فلا تجوز شهادتهما لأنهما حاكيان حتى يبينا ذلك فيقولا: أقر عندنا أو
(1)
ساقط من الأصل والمثبت من ابن سهل ص 59.
أسلفه. اهـ. ونقل ابن فرحون عن معين الحكام أن ظاهر كلام ابن حارث خلاف ذلك، ونصه: في معين الحكام قال محمد بن حارث: إذا لم يبين الشهود وجه الحق الذي شهدوا فيه ولا فسروه فليس ذلك بشيء حتى يبينوا أصل الشهادة، وكيف كانت؟ فيقولون: أسلفه بمحضرنا أو أقر عندنا المطلوب أنه أسلفه، وإن كان الدين من بيع فسروا ذلك، وقالوا: باع منه كذا بمحضرنا أو بإقراره عندنا، وفي أحكام ابن سهل: قال ابن عبد الحكم: وذكر كلامه المتقدم ثم قال بعد:
تنبيه: وفي معين الحكام قال بعض المتأخرين: ظاهر هذا أنه إذا أقر عندهما بالدين مجملا ولم يذكر المقر وجهه وشهدوا
(1)
به يؤخذ بذلك، وظاهر ما قاله ابن حارث في هذه المسألة خلاف هذا حتى يشهد بإقراره بالسلف أو بالمعاملة. اهـ.
الثالث: في الميسر ما نصه: فرع: اختلف فيمن عنده شهادة رجل وكان يذكرها ثم عاداه. اللخمي: وقبولها هنا أخف إذا كانت قد قيدت أي كتبت. اهـ. وقبولها مخالف لما مر ولما يأتي. والله تعالى أعلم. الرابع: قال المواق عقب نقله الطريقتين اللتين قدمت عن البناني ما نصه راجع ابن عرفة فإنه رد الطريقتين إلى طريقة واحدة، قال: لو صرح في أداء شهادته بالظن لم تقبل، يعني على كلا الطريقتين. اهـ. وقال التتائي: كضرر أحد الزوجين بالآخر يكفي فيه الظن، ولابن القاسم جوازه بالسماع من الجيران والأهل. اهـ.
ولا إن حرص على إزالة نقص فيما رد فيه، هذا معطوف على ما عطف عليه قوله: ولا عدو.
قاله ابن مرزوق. يعني أن الشاهد إذا حرص أي اتهم على أنه حريص على إزالة نقص كان موجودًا فيه وقت أداء الشهادة بأن أدى الشهادة فردت لـ أجل فسق؛ أو ردت لأجل صبًى أو ردت لأجل رق، أو ردت عليه لأجل كفر، فلما زال المانع بأن أسلم وحسنت حاله، أو تاب الفاسق، أو احتلم الصبي، أو عتق العبد، وحسنت حالهما، أدوا شهادتهم الآن، فإن شهادتهم ترد عليهم لأنهم يتهمون على الحرص على إزالة النقص الذي لحقهم من عدم قبول شهادتهم. قال عبد الباقي: ولا إن حرص بفتح الراء قال تعالى {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أي اتهم على الحرص على
(1)
كذا في الأصل والحطاب.
إزالة نقص كان موجودا فيه وقت أدائها فيما رد فيه أي حكم بردها لفسق أو صبًى أو رق أو كفر، فلما زال المانع بأن تاب الفاسق وحسنت حاله، وبلغ الصبي، وتحرر العبد وأسلم الكافر، أداها فلا تقبل للاتهام على قبولها لا جُبلَ عليه الطبع البشري في دفع المعرة، فلو لم يحكم بردها حتى زال المانع فأداها قُبلَتْ. فقوله: بنقص؛ أي تعيير أي دفع عار عنه، وقوله: فيما، متعلق بمحذوف أي كشهادته فيما أي في حق رد فيه بعينه، وأما في مثله فتقبل بعد زوال المانع. اهـ. وقوله: لفسق أو صبًى أو رق، وكذا جميع الموانع كما في الحطاب، وقال التتائي: ولا إن حرص الشاهد على إزالة نقص حصل له بتحمل الشهادة وهو غير عدل، ثم يزول المانع فيشهد بعد أن صار عدلا فيما أي في شيء أو الذي رد فيه قبل العدالة لفسق أو صبًى أو رق أو كفر فإنه لا يقبل. المازري والشيخ لابن سحنون عنه: أجمع صحابنا على أن الشهادة إذا ردت لظِنة أو تهمة لمانع من قبولها ثم زالت التهمة والوجه المانع من قبولها أنها إن أعيدت لم تقبل، ومفهوم كلام المص أنه لم يؤدها حال قيام المانع أو أداها ولم ترد ثم أداها ثانيا بعد زوال المانع لجازت، وهو قول ابن القاسم. أشهب: من قال لقاض: يشهد لي فلان العبد أو النصراني أو الصبي، فقال: لا أقبل شهادتهم، ثم زالت موانعهم قبلت شهادتهم؛ لأن قوله فتوى، وفي كتاب ابن سحنون عنه وعن ملك وأصحابه: إن أشهد العبدُ والصبيُّ والنصرانيُّ عدولا على شهادتهم في وقت لا تقبل فيه شهادتهم ثم انتقلوا إلى حال جوازها أنها لا تقبل؛ لأنهم أشهدوا على شهادتهم في وقت لا تقبل فيه شهادتهم، بخلاف ما لو شهدوا في الحالة الثانية بما علموا في الأولى، الصقلي: وهذا دليل على أنهم إذا شهدوا في الحالة الأولى فلم ترد شَهَادَتُهُمْ حتى زالت موانعهم وحسنت حالتهم أنها لا تجوز حتى يعيدوا شَهَادَتَهُمْ الآن. اهـ. وقال الشبراخيتي: ولا إن حرص الشاهد أي اتهم على الحرص على إزالة نقص أي ما حصل له من النقص بسبب رد شهادته، كأن يتحمل بالشهادة وهو غير عدل ثم يزول المانع فيشهد بعد أن صار عدلا فيما أي في شيء أو الذي رد فيه قبل العدالة لفسق أو صِبًى أو رق أو عداوة أو كفر، ويمكن دخول الكفر في قوله: لفسق؛ لأن الكفر أعظم أنواعه. اهـ المراد منه. وقال الخرشي ما نصه: في المدونة: إن شهد
صبي أو عبد أو نصراني عند قاض فردها لموانعهم لم تجز بعد زوالها أبدا. اهـ. ابن عرفة: من موانع الشهادة التهمة على إزالة نقص عرض أو تخفيف معرة بمشاركة فيها. انتهى.
أو على التأسي؛ عطف على قوله على إزالة؛ يعني أن من موانع الشهادة الاتهام على الحرص على التأسي، والمراد بها هنا أن يشاركه غيره في هذا الأمر، ومثل لذلك بقوله: كشهادة ولد الزنى فيه أي في الزنى، قال الخرشي مفسرا للمص والمعنى أن من موانع الشهادة الحرص على التأسي ومعنى التأسي أن يجعل غيره مثله، كشهادة ولد الزنى فيه وفيما يتعلق به كالقذف واللعان والمنبوذ فلا تقبل؛ لأن الإنسان إذا كان له من يشاركه في صفته خفت عليه المصيبة، وقد قالوا: إن المصيبة إذا عمت هانت وإذا ندرت هالت وودت الزانية أن النساء كلهن يزنين، وقوله: أو على التأسي؛ أي اتهم على التأسي أي مشاركة غيره في معرته. ابن عرفة: الشيخ عن الأخوين: المحدود في الزنى يتوب شهادته جائزة في كل شيء إلا في الزنى، والقذف واللعان وغير ذلك من وجوه الزنى وكذا المنبوذ لا تجوز شهادته في شيء من ذلك وإن كان عدلا، وصورة اللعان أن يشهد ولد الزنى أنه حصل بين الزوجين لعان كان سببه رميه لها بالزنى وأنكر ذلك الزوجان. قوله: كشهادة ولد الزنى فيه؛ أي في الزنى، ومثله متعلقاته، كما قاله مطرف وابن الماجشون، وكذا ليس له الحكم في الزنى. قال سحنون: ولا بأس أن يستقضى ولد الزنى ولا يحكم في الزنى. اهـ. وقال عبد الباقي: أو اتهم على الحرص على التأسي أي على مشاركة غيره في معرته؛ أي اتهم على أن يجعله مثله لتهون عليه المصيبة كما قالوا: من أنها إذا عمت هانت وإذا خصت هالت وتود الزانية أن النساء كلهن يزنين، فليس المراد بالتأسي الاقتداء، وإنما المراد به المشاركة كولد الزنى فيه أي في الزنى، ومثله متعلقاته كقذف ولعان، وكذا المنبوذ لا تجوز شهادته في شيء من ذلك ولو كان عدلا، وصورة اللعان أن يشهد ولد الزنى أنه حصل بين زوجين لعان بسبب رميه لها بالزنى وهما ينكران ذلك. اهـ. وقال الشبراخيتي: أو حرص على التأسي أي الائتساء والائتساء الاقتداء والاتباع، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، والمراد هنا الاتهام على مشاركة غيره في معرته، ومثَّلَه بقوله: كشهادة ولد الزنى فيه؛ أي الزنى ومثله متعلقاته، كما قاله مطرف وابن الماجشون، من قذف ولعان إذا كان سببه رميه لها بالزنى لأن
المصيبة إذا عمت هانت وإذا ندرت هالت، ولذا قال عثمان رضي الله تعالى عنه: ودَّتِ الزانية أن النساء كلهن يزنين. اهـ. وقال المواق: المازري: لم يختلف المذهب في رد شهادة ولد الزنى في الزنى وقبولها فيما سوى ذلك مما لا تعلق له بالزنى. اهـ. ثم ذكر مثالا آخر للتأسي، فقال: أو من حد فيها حد فيه، عطف على ولد الزنى فيه؛ يعني أنه لا تجوز شهادة المحدود في شيء حد فيه أي في ذلك الشيء بخصوصه، وأما إن شهد في غيره فإنها تقبل، كما لو حد في القذف فشهد في شرب الخمر فإنها تقبل، قال عبد الباقي: أو شهادة من أي مسلم حد بالفعل لا تقبل فيما أي في مثل ما حد فيه بخصوصه، وأما في غيره فتقبل، كمن حد في شرب خمر فيشهد في قذف ونحوه، وقولي: حد بالفعل احتراز عما إذا عفي عنه فيشهد في مثله إن كان قذفا كما في المدونة، لا إن كان قتلا فلا يشهد في مثله كما في الواضحة عن الأخوين، ومثل من حد من عزر فلا يشهد فيما عزر فيه إلا أن يكون وقع ذلك منه فلتة، وقولي: أي مسلم احتراز عن كافر حد ثم أسلم وحسنت حَالَتُه فتقبل شهادته في كل شيء، والقاضي له أن يحكم ولو فيما حد فيه. قال سحنون: ولا بأس أن يستقضى ولد الزنى ولا يحكم في الزنى. اهـ. وقال الشبراخيتي: أو شهادة من حد ثم تاب فيما حد فيه أي في مثله من قذف أو شرب أو زنى فإنها لا تقبل على المشهور، وذكر الحطاب خلافا في كون القصاص كالحد أو لا، وكلام المص مقيد بما إذا لم يحد وهو كافر ثم يسلم وإلا جازت، وفهم من قوله: حد، أنه إن لم يحد صحت شهادته وهو مذهب المدونة، وفهم من قوله: فيما حد فيه، أنه لو شهد من حد في غيرما حد فيه كمن حد للشرب وشهد في القذف مثا، أنه يقبل وهو كذلك. اهـ. وقال الحطاب: أو من حد فيما حد فيه، هذا هو المشهور وصرح بمشهوريته ابن عبد البر في الاستذكار، وشهره ابن رشد، قال ابن عرفة: الشيخ عن الأخوين: المحدود في الزنى يتوب شهادته جائزة في كل شيء إلا في الزنى والقذف واللعان، وكذلك المنبوذ لا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى لا قذف ولا غيره وإن كان عدلا. وفي نوازل سحنون: من اقتص منه في جناية لم تجز شهادته في مثل الجرح الذي اقتص منه فيه. ابن رشد: هذا شذوذ، ثم قال: وأما الشتم ونحوه وهو في غير ذلك يعرف بالصلاح فلا ترد شهادته.
اهـ. وقال المواق: روى ابن نافع وابن عبد الحكم أنها تصح فيما حد فيه قذفا أو غيره، وقاله ابن كنانة وأصبغ: وهو ظاهر كتاب الديات من المدونة، وروى الأخوان وأصبغ: لا تصح، قال أبو عمر: وهذا هو المشهور. اهـ. ابن عرفة: وفي ولد الزنى طريقان المازري: لم يختلف المذهب في رد شهادة ولد الزنى في الزنى وقبولها فيما سوى ذلك مما لا تعلق له بالزنى، ثم ذكر الطريق الثانية لابن رشد، ونصه: شهادة ولد الزنى في الزنى وفي نفي الرجل عن أبيه جاريةٌ على الخلاف فيمن حد في شيء هل تجوز شهادته فيه أم لا؟ والمشهور من قول ابن القاسم أنها مردودة. اهـ. قال في التوضيح في هذا المحل: قال مطرف وابن الماجشون: وكذلك لا تقبل فيما يتعلق بالزنى كاللعان والقذف والمنبوذ. اهـ. قاله الحطاب. والفرق بين المحدود في القذف مثلا وولد الزنى على طريق المازري أن معرة هذه الأشياء تزول بالتوبة ويصير فاعلها كأنه لم يفعل، كالكافر يسلم، ومعرة ولد الزنى لا تزول ولا يتغير حاله لأنها ولادة كالأبوة. انظر ابن مرزوق. وقال الخرشي: والمراد بقوله: حد، بالفعل وإلا فقولان. انتهى.
ولا إن حرص على القبول، يعني أن العدل إذا ظهر منه الحرص على قبول شهادته فإن شهادته تُرَدُّ، ومثل لذلك بقوله: كمخاصمة مشهود عليه مطلقا، فإذا خاصم الشاهد المشهود عليه حال الأداء فإن شهادته ترد لما في ذلك من الحرص على قبول الشهادة، ومعنى قوله: مطلقا، في حق الله تعالى أو في حق الآدمي، قال الحطاب: أما في حق الله كما لو تعلق أربعة برجل ورفعوه للقاضي وشهدوا عليه بالزنى، وأما في حق الآدمي فقال ابن عرفة: وقول ابن الحاجب: وفي القبول كمخاصمة المشهود عليه في حق الآدمي إن أراد بتوكيل من المشهود له فهو نقل الباجي عن ابن وهب: الوكيل على خصومة لا تجوز شهادته فيما يخاصم فيه، وإلا فهو أحرى في عدم القبول. اهـ. وقوله: كمخاصمة مشهود عليه؛ أي خاصمه على وجه يظهر منه أنه لقبول الشهادة، وأما على وجه العداوة فقد مر.
تنبيهات: الأول: قال في النوادر: ومن كتاب ابن المواز: ومن وكل رجلا على طلب رجل في حق ثم عزله وتولى الطلب بنفسه فشهادة الوكيل له جائزة. الثاني: ظاهر كلام المص أن المخاصمة في حق الله تعالى مبطلة سواء كان مما يستدام فيه التحريم أم لا، وهو كذلك على ما قال بعض
المتأخرين: إنه مذهب ابن القاسم، خلاف مذهب مطرف وابن الماجشون، وعند ابن رشد أن المخاصمة إنما تبطل ما لا يستدام فيه التحريم، وأما ما يستدام فيه التحريم فلا تبطله المخاصمة، وظاهر كلام المازري فيما حكى عنه الإطلاق كظاهر المص. قاله الحطاب. الثالث: ظاهر كلام المص أيضا أن المخاصمة في حق الله تعالى مبطلة مطلقا ولو كان القائم فيها من أصحاب الشرط الموكلين بتغيير المنكر، وليس كذلك بل هو مقيد بغيرهم، قال ابن رشد في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب الشهادات: قال ابن القاسم في صاحب سوق أخذ سكرانا فسجنه وشهد عليه وآخر معه: فقال: لا أرى أن تجوز شهادته لأنه قد صار خصما حين سجنه، ولو رفعه إلى غيره قبل أن يسجنه وشهد مع الرجل جازت شهادته عليه. اهـ. قال ابن رشد: وإنما جازت شهادته عليه لأن ما فعل من أخذه ورفعه لازم له من أجل أنه موكل بالمصلحة، ولو لم يكن صاحب السوق موكلا بالمصلحة فأخذ سكرانا فرفعه إلى غيره لم تجز شهادته عليه، وقال ابن القاسم في أربعة نفر شهدوا على رجل بالزنى فتعلقوا به فأتوا به إلى السلطان وشهدوا عليه، قال: لا أرى أن تجوز شهادتهم وأراهم قَذَفَةً، ورواه أصبغ في كتاب الحدود، قال محمد بن رشد: إنما لم تجز شهادتهم لأن ما فعلوه من أخذهم وتعلقهم به ورفعهم إياه إلى السلطان لا يلزمهم ولا يجب عليهم: بل هو مكروه لهم؛ لأن الإنسان مأمور بالستر على نفسه وعلى غيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يُبْدِ لنا صفيحته نُقِمْ عليه كتاب الله)
(1)
. اهـ. وقال عبد الباقي: ويستتنى رفع صاحب شرطة مُوَلًّى من سلطان أو نائبه على تغيير المنكر بالمصلحة فتقبل شهادته مع غيره عند موليه على سرقة شخص أو زناه حيث رفعه عند أخذه كما قال ابن القاسم؛ لأنه مأمور برفعه من حيث إنه موكل بالمصلحة، لا إن سجنه ثم رفعه له فلا إلا لعذر كليل. اهـ. وقال الشبراخيتي: ولا إن حرص على القبول لشهادته كمخاصمة مشهود عليه من إضافة المصدر للمفعول؛ أي كمخاصمة الشاهد مشهودا عليه مطلقا أي في حق الله وحق الآدمي، وسواء خاصم عن الآدمي بتوكيل أو بغير
(1)
الموطأ، كتاب الحدود، رقم الحديث 13.
توكيل: والمراد بالمخاصمة هنا الطلب ولو لم يدفعه ولو لم يتعلق به. الباجي: من قام يطلب حقا لله لم تجز شهادته فيه. قاله ابن القاسم. وقال مطرف: تجوز شهادته فيه، وهذا ما لم تكن المخاصمة في حقه تعالى من أصحاب الشرطة، فإن مخاصمته لا تقدح في شهادته عليه إلا أن يكون سجنه أي لغير مصلحة كما ذكره الحطاب. اهـ. وقال التتائي: قال المازري: مخاصمتهم على شدة الحرص على إنفاذها قد يحملهم ذلك على تحريفها أو زيادة فيها. اللخمي عن ابن القاسم: في أربعة أتوا برجل متعلقين به فشهدوا عليه بالزنى لم تجز شهادتهم، وأجازها ابن حبيب. اللخمي: هو أحْسَنُ؛ لأن أصل المنازعة من سبب الدين، واستظهره ابن رشد. وذكر للحرص على القبول مثالا ثانيا، فقال:
أو شهد وحلف؛ يعني أن من مبطلات الشهادة أن يشهد ويحلف، قال عبد الباقي: أو شهد وحلف على صحة شهادته في حق الله وفي حق آدمي، قدم الحلف على الشهادة أو أخره، وظاهره عاميا أو غيره. ابن عبد السلام: ينبغي أن يعذر العامي لأن العوام يسامحون في ذلك، وللقاضي أن يحلف الشاهد بالطلاق إن اتهمه. قاله ابن فرحون. اهـ. وقال البناني: أو شهد وحلف أي حلف عند أدائها. قال في التبصرة: وأما الحرص على القبول فهو أن يحلف على صحة شهادته إذا أداها وذلك قادح فيه؛ لأن اليمين دليل على التعصب وشدة الحرص على نفوذها. اهـ. وهو ظاهر في أن اليمين القادحة هي الواقعة عند الأداء، خلاف ما يقتضيه ظاهر قول الزرقاني: قدم الحلف على الشهادة أو أخره. والله أعلم. اهـ. وقال الخرشي مفسرا للمص: أي وكذلك لا تقبل شهادة الشاهد إذا شهد في حق الله أو الآدمي وحلف مع ذلك على صحة شهادته، ولا فرق بين أن يكون الحلف متصلا بالشهادة كقوله: أشهد والله أن له عنده كذا، أو منفصلا عنه كقوله: أشهد أن له عنده كذا والله. قال ابن عبد السلام: إلا أن يكون الشاهد من جملة العوام فإنهم يسامحون في مثل ذلك، وينبغي عندي أن يعذروا به. اهـ. وقال الشبراخيتي: أو شهد في شيء وحلف على صحة شهادته، سواء كان الحلف قبل الشهادة أو بعدها، وسواء كان في حقه تعالى أم لا، وسواء كان عاميا أم لا، وقال ابن عبد السلام: ينبغي أن يعذر العامي. اهـ. وقال التتائي: أو شهد وحلف على صحة شهادته. قاله ابن شعبان. وأخذ ابن رشد من
العتبية عدم كونه مانعا. اهـ. وقال الرهوني: قول البناني: وهو ظاهر في أن اليمين القادحة هي الواقعة عند الأداء لخ. هذا هو الذي فهمه ابن مرزوق إذ قال: وأما رد شهادة من حلف على أن ما شهد به حق فظاهر كلام المص وابن الحاجب أيضا أن ذلك عند الأداء. اهـ.
تنبيه: قال الرهوني: هذا الفرع نقله الباجي وغيره عن ابن شعبان وقبلوه، ونقله ابن عرفة وغيره عن المازري معبرا عنه بقيل، ونص ابن عرفة: المازري: من رَدِّ الشهادةِ بتهمة الحرص على قبولها ما قد قيل: إذا حلف الشاهد على صحة شهادته أن حلفه كالعَلَمِ على التعصب والحمية. اهـ. فقد فرضه بقيل من غير تعيين قائله فهو يؤذن بضعفه، وقد صرح بذلك في موضع آخر، نقله عنه العلامة الأبي وسلمه: فإنه قال في إكمال الإكمال أثناء تكلمه على قوله صلى الله عليه وسلم: (تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)
(1)
: المازري: احتج به لما في كتاب ابن شعبان ولا يوجد في غيره من بطلان شهادة من حلف على شهادته، وقولُ مالك وسائر من يحفظ عنه المعلم أنه غير قادح، وقد قال تعالى:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} . انتهى. ولا خفاء أنه يفيد شذوذَ قول ابن شعبان، وقد سلمه الأبي، وما نسبه لملك هو مصرح به في العتبية من رواية ابن القاسم عنه، ففي رسم الصبرة من سماع يحيى من سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات الثالث ما نصه: قال: وسمعت ملكا قال: في رجل ادعى أنه أسلف رجلا عشرين دينارا فجاء بأربعة شهداء عدولٍ مرضيين أشهدهم عليه في مجلس واحد حين دفع السلف إليه فيشهد اثنان بالله لأسلفه عشرين دينارا بحضرتنا، وقال الآخران: نشهد بالله لما أسلفه يومئذ بحضرتنا حتى افترقنا إلا عشرة دنانير، فتوجه الجواب الذي مضى به الأمر في هذا أن يؤخذ بالعشرين دينارا لأن الذَيْنِ شهدا له بها أثبتا وحفِظَا ما أغفله الآخران أو نسياه؛ فالشاهدان بالأكثر أحق بالتصديق، قَال محمد بن رشد: قوله: إنه يؤخذ بشهادة الذَيْن أثبتا الأكثر، هو المشهور من مذهب ابن القاسم، وقد رأى ذلك في أحد قوليه تكاذبا وتهاترا، والقولان قائمان من المدونة، وفي قوله: شهد اثنان بالله لأسلفه، وقال الآخران: نشهد بالله لا أسلفه إجازة الشهادة
(1)
البخاري، كتاب الشهادات، رقم الحديث 2652. ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، رقم الحديث 2533.
مع اليمين: خلاف ما في كتاب ابن شعبان من أنه لا تقبل شهادة من شهد وحلف، والصواب أن لا تبطل بذلك شهادته لأن الله تبارك وتعالى قد أمر نبيه باليمين فيما أمره به من الشهادة، فقال:{قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} ، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}. اهـ. محل الحاجة منه. ففي إغفال المص ومن تكلم عليه هذا ما لا يخفى. والله أعلم. انتهى كلام الرهوني. وقال الحطاب: قال ابن حجر في شرح البخاري في كتاب الشهادات: قال ابن بطال في قوله عليه الصلاة والسلام: (تسبق شهادة أحدهم يمينه)
(1)
: يستدل به على أن الحلف في الشهادة يبطلها، قال: وحكى ابن شعبان في الزاهي: من قال: أشهد بالله أن لفلان على فلان كذا وكذا لم تقبل شهادته لأنه حالف وليست بشهادة، قال ابن بطال: والمعروف عن ملك خلافه. اهـ.
أو رفع قبل الطلب في محض حق الآدمي، هذا هو الحرص على أداء الشهادة وهو مانع أيضا، فلو قال المص بدل ولا إن حرص على القبول: ولا إن حرص على الشهادة؛ أي أداء، أو قبولا كان أولى. والله تعالى أعلم. ومعنى كلام المص أن الشاهد إذا رفع شهادته قبل أن تطلب منه فإنها لا تقبل وهي باطلة لأنه شهد قبل أن يستشهد، وفي الحديث:(شر الشهود من شهد قبل أن يستشهد). وهذا في معرض الذم، وورد في معرض المدح قوله صلى الله عليه وسلم:(ألا أخبركم بخير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها)
(2)
، ومما ورد في معرض الذم أيضا قوله صلى الله عليه وسلم:(ثم يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون)
(3)
. وقوله عليه الصلاة والسلام (تبادر شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)
(4)
، ويندفع التعارض بجعل ما ورد من الذم في محض حق الآدمي، وهو قول المص: أو رفع قبل الطلب في محض حق الآدمي، وما ورد من المدح في محض حق الله المشار إليه بقول المص: وفي محض حق الله لخ، قاله البناني عن الحطاب، ورده الرهوني بما يأتي في التنبيه الرابع هنا. والله تعالى أعلم. وقال عبد الباقي: وذكر الحرص على أداء الشهادة وهو مانع من قبولها أيضا، فقال: أو رفع شهادته للحاكم قبل الطلب من المشهود
(1)
البخاري؛ كتاب الشهادات، رقم الحديث 2652 - مسلم، كتاب فضائل الصحابة، رقم الحديث 2533.
(2)
الموطأ، كتاب الأقضية، رقم الحديث 3. ومسلم، كتاب الأقضية، رقم الحديث 1119.
(3)
البخاري، كتاب الرقائق، رقم الحديث 6428. ومسلم، فضائل الصحابة، رقم الحديث 2535.
(4)
مسلم، كتاب فضائل الصحابة، رقم الحديث 2533 ولفظه: تبدر شهادة أحدهم لخ.
له؛ فشهد قبل أن يستشهد في محض حق الآدمي وهو ما له إسقاطه لا ما لا حق فيه لله: إذ ما من حق لآدمي إلا وفيه حق دفه وهو أمره بإيصاله لمستحقه ونهيه عن أكله بالباطل، ويجب عليه أن يخبر صاحب الحق عينا إن علمه فقط وكفاية إن علمه هو وغيره. اهـ. قوله: للحاكم، محترزه رفعها لصاحب الحق وسيقول بعد: ويجب عليه أن يخبر صاحب الحق، وما قاله من الوجوب هو قول ابن القاسم والأخوين وصححه ابن العربي، ومحل الوجوب إن لم يكن رب الحق عالما بالشهادة، فإن ترك إعلام رب الحق حيث يطلب به بطلت شهادته على المعتمد، ففي ابن عرفة: وسمع عيسى ابن القاسم: من ترك القيام بشهادته في عقال أو مال يراه بيد غير ربه يبيعه ويهبه ويحوله عن ماله ثم يقوم بها لم تقبل. ابن رشد: قال الأخوان: إنما تسقط شهادته إذا لم يكن عند رب الحق علم بذلك، ولو علم بعلمهم ولم يقم بحقه لم يضرهم، وهذا تفسير لهذا السماع لأنه إنما تبطل بترك إعلام رب ذلك بذلك، وكذا الشاهد الواحد، ففي إبطالها بذلك وفيما يستدام تحريمه من حقوق الله من حرية وطلاق وشبهه، ثالثها في حقوق الله فقط، لابن وهب مع ابن القاسم، والأكثر، وظاهر قول أشهب وسحنون. وهو أظهرها. اهـ. ووجه استظهاره قول سحنون: أن الشاهد لا يقطع بأن الذي بيده المالُ يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه ظالمٌ ومتعد، لاحتمال أن يكون من يعلمه له قد باعه منه أو وهبه له، فلا يكون بهذا الاحتمال مجرحا بترك إعلام الشهود له بما له عنده من الشهادة إن كان حاضرا، ولا بترك رفع الشهادة إلى السلطان إن كان غائبا. اهـ. ويفهم من هذا التوجيه
(1)
يقول بالبطلان إذا انتفى هذا الاحتمال، وقد أخذ ذلك ابن يونس من كلام سحنون فلو كانت رباع أعارها مالكها هذا الذي هي بيده أو أكراها منه فمات المالك وله ابن لم يعلم بها فباعها الذي هي بيده فعلى الشاهد أن يعلمه بذلك وإلا بطلت شهادته. اهـ. ونقله المص في التوضيح وابن هلال في الدر النثير وغير واحد وسلموه: فعلى هذا المسألة
(2)
ثلاثة أوجه وجه يوافق فيه سحنون غيره على البطلان؛ وهو ما إذا
(1)
في الرهوني ج 7 ص 385 فيفهم من توجيهه هذا أن سحنونا يقول بالبطلان لخ.
(2)
في الرهوني ج 7 ص 385، المسألة على ثلاثة أوجه.
انتفى الاحتمال المتقدم، ووجه يوافقه فيه على الصحة وهو ما إذا علم الشهود له بالشهادة، ووجه هو محل الخلاف وهو ما إذا لم يعلم المشهود له بالشهادة ولم ينتف الاحتمال المتقدم. والله تعالى أعلم. انظر الرهوني.
تنبيهات: الأول: محل البطلان بترك إعلام رب الحق أو السلطان في محض حق الله تعالى بشرطه إذا لم يكن لهم عذر في ذلك، كما قاله جماعة منهم المتيطي، ونصه على اختصار ابن هارون: فرع: وإذا رأى الشهود رجلا يتصرف في غير ملكه تصرف المالك في ملكه ولم يخبروا بشهادتهم ربه إذا كان حاضرا ولا قاموا بها عند السلطان في غيبته فذلك جرحة لهم، إلا أن يدعوا نسيان الشهادة أو يذكروا وجها يعذرون به، مثل أن يكون المقُومُ عليه ذا سلطان، وقيل: تجوز شهادتهم إلا أن يروا فرجا يوطأ أو حرا يستملك وهم سكوت. اهـ بلفظه. وظاهر قول المتيطي: يتصرف في غير ملكه تصرف المالك لخ، أن ذلك وحده كاف في بطلان الشهادة، وهو ظاهر كلام غير واحد، ولكن قال أبو الوليد الباجي في المنتقى بعد أن ذكر قول ابن القاسم والأخوين وسحنون: وهذا عندي إنما يكون جرحة في الشاهد إذا علم أنه إذا كتمها ولم يُعْلِم بها بطل الحق فكتم ذلك حتى صالح على أقل مما يجب، أو حتى نالته بكتمان شهادته معرة ودخلت عليه مضرة، فعلم ضرورته إلى شهادته ولم يقم بها حتى دخلت عليه مضرة بكتمانه إياها فهي جرحة في شهادته، وأما على غير هذا الوجه فلا يلزمه القيام بها لأنه لا يدري لعل صاحب الحق قد تركه. اهـ.
الثاني: إذا اعتذر الشاهد أنه جهل وجوب ذلك عليه فهل هذا عذر أو لا؟ فيه قولان للثغرى وسيدي أحمد المريض. قاله الرهوني. وأتى بما يفيد أن الراجح قول سيدي أحمد المريض الذي هو العذر بالجهل بأن ذلك يلزمهم. اهـ. وفي الرهوني: أن جهل الحكم فيما فيه خلاف لا يقدح في العدالة ولو كان الخلاف فيه شاذا على ما أفتى به أبو الوليد بن رشد، ففي نوازله: في رجل يحرث الأرض بالربع أو بالثلث من غير أن يجعل رب الأرض نصيبا من الزريعة هل ترد بذلك شهادته؟ وكيف إن كان عالما بفساد ذلك أو غير عالم بين لنا ذلك؟ الجواب عنه: قد قيل إن شهادته لا تجوز، لما جاء أن عبد الرحمن بن عوف أعطى سعد بن أبي وقاص أرضا له زَارَعَه
فيها على النصف، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أتحب أن تأكل الربا ونهاه)، والذي أقول: إنه إن فعله جَاهلا أو متأولا لما جاء من الخلاف فلا يكون ذلك جرحة فيه، وإن فعل ذلك مع سماع النهي عنه فاعْتَقَدَ أنَّ ذلك لا يَجوز مستخفا بارتكاب المحظور في ذلك فهو جرحة فيه؛ لأن ذلك يشهد عليه بأنه لا يبالي بارتكاب الذنوب والخطايا. وبالله تعالى التوفيق. اهـ. وفي الرهوني: أن في الدر النثير ما يفيد الاتفاق على أنه يعذر بالجهل. ثم قال: وقد جلب أنقالا، وبذلك كله يظهر لك أن الراجح أن الجهل عذر. والله أعلم. الثالث: قال في الدر النثير: وتأمل هل يعذر الشاهد بعدم قيامه بشهادته في الطلاق والحرية في هذه البلاد الشاغرة من الحكام وممن ترجع إلية الشهادة أم لا؟ والأظهر عندي - والله تعالى أعلم - أنه يعذر. اهـ. قال الرهوني: قلت: وانظر هل أراد أنها شاغرة من الحكام أصلا وهو ظاهر لفظه، أو من الحكام الذين يعتنون بما رفع إليهم؟ والظاهر أن الحكم سواء. والله أعلم. انتهى. الرابع: بحث ابن مرزوق فيما قاله المص من أن الرفع للقاضي في حق الآدمي الحاضر مبطل للشهادة بأنه لا يعرفه لغير ابن الحاجب وابن شأس، على أن كلام ابن شأس ليس صريحا في موافقة ابن الحاجب والمازري إنما حكاها عن الشافعي لخ، ثم قال بعد كلام: وتبع ابن الحاجب شراحُه، والذي تقتضيه نصوص المذهب خلاف ذلك، وأنه إن رفع قبل الطلب لا يقدح ذلك في شهادته، بل إن لم يكن فعل مندوبا فلا أقل من أن لا تردت وما ذكرنا أنه مقتضى المنصوص هو مقتضى ما أخرجه ملكٌ في الموطإ ومسلمٌ من حديث زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها)
(1)
قال الباجي قال ملك في المجموعة وغيرها: معنى الحديث أن تكون عند الشاهد شهادة لرجل لا يعلم بها فيخبره بها ويؤديها له عند الحاكم. اهـ. فظاهر قوله: ويؤديها عند الحاكم أعم من أن يكون بعد طلبه بذلك أو لا؟ ومثل هذا التفسير نقل في الإكمال، ثم أطال في ذلك إلى أن قال: وبالجُمْلةِ لم أر نصا أنها تبطل برفعها للحاكم قبل الطلب إلا لمن ذكرتُ. اهـ. قال الرهوني: ويشهد له ما قال أبو بكر بن
(1)
الموطأ، كتاب الأقضية، رقم الحديث 3 - مسلم، كتاب الأقضية، رقم الحديث 1719.
العربي عند تكلمه على آية الدين بعد أن ذكر قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} : قال علماؤنا: هذا في حالة الدعاء إلى الشهادة، فأما من كانت عنده شهادة لرجل لم يعلمها مستحقها، فقال قوم: أداؤها ندب لقوله: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} ، ففرض عليه الأداء عند الدعاء، وإذا لم يدع كان ندبا لقوله عليه الصلاة السلام:(خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها)
(1)
، والصحيح عندي أن أداءها فرض لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(انصر أخاك ظالما أو مظلوما)
(2)
، فقد تعين عليه نصره بأداء الشهادة التي له عنده إحياء لحقه الذي أماته الإنكار. اهـ. ويشهد لما قاله ابن مرزوق أيضا كلام أبي الفضل عياض في الإكمال وقد نقله العلامة الأبي في إكمال الإكمال وسلمه، فإنه قال في كتاب الأقضية عند تكلمه على حديث. (خير الشهداء) الحديث، قوله: الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها، عياض: فسره ملك بمن عنده شهادة لإنسان وذلك الإنسان لا يعلم أنه شاهد، فيأتي فيخبره أنه شاهد ويرفع ذلك إلى السلطان، وقيل: إنه لا يختص بحق الآدمي، ثم قال عياض: وقيل: إنه محمول على المجاز وإنه كناية عن سرعة الأداء بعد الطلب لا قبل، كما يقال: الجواد يعطي قبل سؤاله؛ أي يعطي عقب السؤال من غير تأخير، ولا يعارض هذا الحديث ذم من يأتي بالشهادة قبل أن يسألها المذكور في حديث (خير القرون قرني)
(3)
من قوله في آخر الحديث: (ثم يأتي من بعد ذلك قوم يشهدون ولا يستشهدون) وقد احتج به قوم وقالوا: لا تجوز شهادة من يشهد قبل أن يستشهد، لأن معناه عند أهل المعلم في شاهد الزور من حيث إنه يشهد بما لا أصل له [فيه]
(4)
ولم يستشهد فيه: لأنه خرج مخرج الذم لما يأتي بعد القرون الفاضلة، وقد وصفه بخصال من فشو الكذب والخيانة وكثرة الحلف وقلة الوفاء بالأمانة وهذه الشهادة من ذلك لأنها كذب من حيث إنهم يشهدون على ما لا أصل له، ويشهدون على ما لم يشهدوه، وقد يكون معناه فيمن تصدى
(1)
مسند أحمد، ج 5 ص 193 الترمذي، كتاب الشهادات، رقم الحديث 2303.
(2)
البخاري، كتاب المظالم، رقم الحديث 2443.
(3)
فتح الباري، ج 7 ص 6، والإتحاف، ج 2 ص 223.
(4)
كذا في الأصل وليست في الرهوني ج 7 ص 388 ولما في الأبي ج 6 ص 251.
للشهادة وليس من أهلها، كما قال:[يخونون ولا يؤتمنون]
(1)
وقال النخعي: معنى الشهادة هنا اليمين، ويدل عليه قوله آخر الحديث: وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد، قيل: معناه أن يقول: أشهد بالله لكان كذا، وقيل: معنى يشهدون، ولا يستشهدون في الذي يقطع على المغيب من غير توقف، ويشهد فيقول: فلان من أهل الجنة وفلان من أهل النار. اهـ.
وفي محض حق الله تجب المبادرة بالإمكان إن استديم تحريمه، المحض مع الميم وإسكان الحاء المهملة وبالضاد المعجمة الخالص من كل شيء؛ يعني أن الحق إذا تمحض لله تعالى وكان مما يستدام تحريمه فإنه يجب على الشاهد المبادرة بالشهادة إلى الحكام والمبادرة بحسب الإمكان، وقوله: وفي محض حق الله هو ما ليس للمكلف إسقاطه، وقوله: بالإمكان أي حيث أمكنه ذلك والتأخير جرحة كما مر، وأما إن لم تمكن المبادرة بالرفع لعذر فلا يقدح التأخير، والباء في قوله: بالإمكان إمَّا بمعنى مع أي مع الإمكان فإن لم يمكن المبادرة فلا تجب، وإما بمعنى على أي بحسب الإمكان؛ أي على حسب الإمكان ومثل لا يستدام تحريمه بقوله: كعتق، فإذا علم بعتق عبد وسيده يستخدمه كالرقيق أو يحبسه ويدعي الملك ويطأ بغير عقد، فإنه يجب عليه المبادرة بالرفع إلى الحاكم؛ لأن هذا مما يستدام فيه التحريم. وطلاق، هو أيضا مما يستدام تحريمه، فإذا علم بطلاق امرأة ومطلقها يعاشرها في الحرام، فإنه يجب عليه الرفع بمجرد علمه حيث أمكنه ذلك وإلا فلا، ومثل الطلاق في وجوب المبادرة بالرفع العفو عن القصاص، وقوله: إن استديم تحريمه، على حذف مضاف أي استديم ارتكاب تحريمه؛ لأن كل تحريم مستدام قاله البناني وقوله: في محض حق الله، لو حذف لفظ محض كما فعل ابن الحاجب لكان أحسن. قاله البناني يعني أن ما هو حق لله قد يتمحض كونه حقا لله وقد يوجد فيه حق الآدمي؛ فإن العتق له حق في العتق لتَخْلِيصِ رقبته من الرق، وكذا المرأة المشهود بطلاقها لها حق في تخليص عصمتها من الزوج، وقد يتمحض الأمران لحق الله تعالى كما إذا رضي العتق بالرقية أو رضيت المرأة ببقائها تحته، والله تعالى أعلم. انظر الشبراخيتي.
(1)
البخاري، كتاب الرقاق، رقم الحديث 6427.
ووقف، هو مثال لحق الله تعالى المستدام تحريمه، فإذا علم بوقف على غير معين وهو بيد غير الواقف فإنه تجب عليه المبادرة. قال عبد الباقي: ووقف على غير معين كما يفيده جعله من أمثلة حق الله المستدام تحريمه، لكن إن كان الواضع يده عليه غير الواقف لأن الواقف لما مر من أنه لا يقضى بالوقف على غير معين فرفع الشاهد حينئذ لا ثمرة له، وأما إن كان على معين فهو حق لآدمي له إسقاطه حتى بعد قبوله، وقد يقال: هو من المستدام تحريمه أيضا لأن حقه تعالى في الوقف أن لا يغير عن سنته خصوصا بعد القبول. اهـ. وقال البناني: ووقف، قيد ابن شأس الوقف بأن يكون على غير معين، وأطلق فيه القول الباجي وابن رشد، وفصل بعض المحققين في الوقف لمعيَّنٍ قائلا: إن كان الواقف بتله أوَّلًا ولكن جعله لعين فالحق في هذا حق لله؛ لأن ذلك المعين إذا لم يقبله رجع للفقراء والمساكين لا للواقف أو ورثته، وأما إن كان من أول وهلة على معين من غير تبتيله أولا كأن يجعله حبسا بشرط أن يكون على فلان، فهو حق آدمي لأنه إذا لم يقبله هنا رد لمالكه أو ورثته. اهـ. قال الرهوني: سلم البناني كلام التوضيح هنا كما سلمه الحطاب وجسوس، وانظره مع ما لابن مرزوق فإنه قال: فإن قلت: أطلق المص في الوقف، وقيد ابن شأس وهو في بعض نسخ ابن الحاجب بالوقف على غير المعينين، وهو معنى قول الباجي: وهو تقييد لا بد منه، فلِمَ تركه المصنف؟ قلت: لَما ذكره مثالا لحق الله المستدام فيه التحريمُ لم يحتج إلى تقييده؛ لأنه إن كان على معين فهو من حقوق الآدميين. انتهى. فعزا للباجي مثل ما عزاه لابن شأس. والله تعالى أعلم.
ورضاع، هو من أمثلة ما فيه حق لله تعالى، فإذا علم برضاع بين زوجين مثلا فإنه تجب عليه المبادرة بالرفع لما في ذلك من استدامة التحريم وهو كالطلاق، فقد يتمحض الحق فيه لله تعالى كما إذا رضيت المرأة ببقائها تحت الرجل، وقد يكون فيه حق الآدمي كما إذا لم ترض بذلك، وأما قول عبد الباقي: وأما الرضاع فظاهر تمحضه لله ففيه نظر، بل المظاهر أنه كالطلاق. قاله الرهوني. وقوله: وفي محض حق الله لخ، دخل فيه الرفع في رؤية الهلال، فإذا رآه شخصان عدلان وجب عليهما الرفع للقاضي إن أمكن، فإن لم يرفعا إلى القاضي مع إمكانه ليلا كان التأخير جرحة في حقهما فلا تقبل لهما شهادة، وانظر في سب النبي صلى الله عليه وسلم أو
أحدا من الأنبياء أو الملائكة، هل هو مما يستدام تحريمه فتجري عليه أحكامه؟ أو من المعصية التي انقضى زمنها وان كان الحق باقيا فتجري عليه وهو الذي يظهر. قاله الخرشي. وفيه: واعلم أن الموقوف عليه المعين معتبر قبوله أو قبول وليه، فهو قبل القبول من محض حق الآدمي لأن للموقوف عليه إسقاطه أو رده، وبعد القبول هو من محض حق الله تعالى إذ ليس له رده كما هو الظاهر. وحيتئذ يكون كالوقف على الفقراء في وجوب المبادرة بالإمكان، قلت: وفيه نظر، لأن للموقوف عليه المعين أن يسلمه لمن يدعي ماليته، وهذا إسقاط منه. تأمل. اهـ. وإلا؛ أي وإن لم يستدم تحريم حق الله تعالى بل كان التحريم ينقضي بنفس الفراغ من الفعل، خير في الرفع والترك: والترك أولى للستر على العباد، ومثل لا ينقضي ارتكاب التحريم فيه بنفس الفراغ منه بقوله: كالزنى وشرب الخمر، فإذا عاين الشهود من يزني أو يشرب الخمر فإنهم يخيرون في الرفع والترك، ولم يجب عليهم الرفع لأنه بنفس الفراغ من الزنى والشرب والعياذ بالله تعالى تنقضي المعصية، قال الخرشي عند قوله: وإلا خير؛ يعني أن الحق إذا كان لله تعالى إلا أنه لا يستدام تحريمه بأن كانت المعصية تنقضي بالفراغ منها مثل الزنى وشرب الخمر ونحوهما، فإن الشاهد بالخيار إن شاء رفع وإن شاء ترك لأن ذلك من الستر، وهذا في غير المشهور بالفسق والمعاصي المجاهر بها، وإلا فقد كره ملك وغيره الستر عليه، ويرفع عليه الشهادة بما اعترف ليرتدع عن فسقه كما قيد به في التوضيح. اهـ.
تنبيهات: الأول: أفاد بقوله: إن استديم تحريمه أن محل قوله: كالزنى إذا كانت المعصية تنقضي بالفراغ منه، وكذلك شرب الخمر، ولهذا قال الشبراخيتي عند قوله: كالزنى إذا كان يزني بها ويرسلها، وأما لو كان يزني بها ولا يرسلها فيجب الرفع لأنه مما يستدام تحريمه. وقال التتائي: كالزنى وشرب الخمر المنقضيين. اهـ. الثاني: قال الخرشي: قيل لملك: من له جار سوء يظهر ما لا ينبغي في الإسلام هل أدل عليه؟ قال: انْهَهُ فإن لم ينته فدل عليه. قال ابن حبيب: مشى عمر رضي الله تعالى عنه في الليل فرأى نارا في بيت فأتى إليها، فإذا بقوم يشربون وشيخ فاقتحم عليهم وقال: يا أعداء الله أمكن الله منكم، فقال الشيخ: ما نحن أعظم منك ذنبا،
تواريت ودخلت بغير إذن فاحتشم عمر وقال ذروا هذه بهذه. اهـ. وقال عياض: مر ابن مسلمة القاضي بإنسان في رأسه غرارة وبيده كَبَرٌ، فأمر بكسر الكبر، وعلم ولم يشك أن الغرارة مملوَّة أكبارا فأمر بتفتيشها، وكان معه أحمد بن عبادة فقال له أحمد: ما عليك أن تفتش أمتعته وإنما عليك أن تغير ما ظهر من المنكر، فأمسك القاضي عما أمر به من تفتيش الغرارة، ثم اجتمع القاضي مع ابن لبابة وذكر له ذلك، فقال ابن لبابة: مثل ما قال أحمد، فأقبل القاضي على أحمد وقال: لقد انتفعنا اليوم بصحبتك. اهـ. الثالث: قال الخرشي: قال الغزالي: من ستر معصيته في داره وأغلق بابه لا يجوز أن يتجسس عليه، وإذا رأى فاسقا وتحت ذيله شيء لم يجز أن يكشف عنه، ولو أخبره عدلان من غير استخبار بأن فلانا في داره خمر فله الدخول من غير استئذان، فلو أخبره عدل وعبدان ففيه نظر، والأولى المنع إذ لا يسقط حق إلا بعدلَيْن. وفي التمهيد: في قوله عليه الصلاة والسلام: (من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر عنا بستر الله)
(1)
دليل على أن الستر واجب في خاصة نفسه إذا أتى فاحشة، وواجب ذلك في غيره. اهـ. وقال المواق: قال ابن الحاجب: فإن كانت حقا لله لا يستدام فيه التحريم كالزنى وشرب الخمر فلا يقدح فيه ترك الرفع، ولا يجب إلا في التجريح إن شهد على أحد ابن رشد: الشهادة على ما مضى من الحدود التي لا يتعلق بها حق لمخلوق كالزنى وشرب الخمر لا يلزم القيام بها، ويستحب الستر إلا في المشتهر، ولا تبطل بترك القيام وإن كان مشتهرا اتفاقا، وقال ابن القاسم: في أربعة شهدوا على رجل بالزنى فتعلقوا به ورفعوه للسلطان وشهدوا عليه، لا تقبل شهادتهم ويحدون لأنهم قذفوه، ابن رشد: إنما لم تجز شهادتهم لأن تعلقهم به ورفعهم إياه لا يجب عليهم بل هو مكروه لهم؛ لأن الإنسان مأمور بالستر على نفسه وعلى غيره، وقال صلى الله عليه وسلم:(من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله)
(2)
. قال في التمهيد: في هذا الحديث دليل على أن الستر واجب على المسلم في خاصة نفسه إذا أتى فاحشة، وواجب ذلك أيضا في غيره، وقال ابن العربي: إذا رأيته على معصية فعظه فيما بينك وبينه ولا تفضحه، روى النسائي
(1)
الموطأ، كتاب الحدود، رقم الحديث 13.
(2)
الموطأ، كتاب الحدود، رقم الحديث 13.
وأبو داوود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة من قبرها)
(1)
. وقال صلى الله عليه وسلم لهزال: (هلا سترته بردائك)
(2)
. خرجه أهل الصحيح، ولا أمر صلى الله عليه وسلم بقطع السارق، قال صفوان: لم أرد هذا يا رسول الله، فقال:(فهل لا قبل أن تأتيني به)
(3)
. وكذلك الجِوارُ أَمانَةٌ والجار عليه أمين يَغُضُّ بصره ويُصِمُّ أذنيه ويكف عنه أذاه ويسدل دونه حجابه، فإن رأى عورة سترها أو سيئة غفرها أو حسنة بثها ونشرها، وكان لأبي حنيفة جار إسكاف أي صانع يعمل نهاره أجمع، فإذا جنه الليل رجع إلى منزله وقد حمل لحما فطبخه أو سمكة فشواها، ثم لا يزال يشرب حتى إذا دب الشراب فيه غزل بصوت يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
…
ليوم كريهة وسداد ثغر
فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يصلي الليل كله، ففقد أبو حنيفة ليلة صوته فاستخبر عنه، فقيل: أخذه الشرط وهو محبوس، فلما صلى أبو حنيفة الصبح من غد ركب بغلة وجاء الأمير فاستاذن عليه فأذن له وأن لا ينزل حتى يطأ البساط، فلم يزل الأمير يوسع له في مجلسه حتى أنزله مساويا له، فقال: ما حاجتك؟ قال: إسكاف أخذه الحرس ليأمر الأمير بتخليته، قال: نعم، وكل من أخذ معه تلك الليلة، فخلى جميعهم، فركب أبو حنيفة والإسكاف يمشي خلفه فلما نزل مضى إليه، وقال: يا فتى أضعناك؟ قال: لا، بل حفظت ورعيت جزاك الله خيرا عن حرمة الجار ورعاية الحق، وتاب الرجل مما كان فيه. اهـ. الرابع: إذا شهد واحد على إنسان أنه شرب خمرا ينكل الشاهد. قاله في المدونة. نقله المواق. الخامس: إن تضرر بالرفع سقط عنه كما يسقط التغيير، ولما ذكر عياض شرف ملك ورجوع أشياخه إليه حكى أن ابن هرمز مر بدار بعض أهل الأقدار وهو واقف مع مولاة له فقال له ابن هرمز: إنك على الطريق وهذا لا يحل لك، فقال لعبيده: طئوا بطنه فوطئوه حتى حمل إلى
(1)
أبو داود، كتاب الأدب، رقم الحديث 4891.
(2)
الموطأ، كتاب الحدود، رقم الحديث 3 ولفظه لو سترته بردائك.
(3)
الموطأ، كتاب الحدود، رقم الحديث 31.
منزله، فعاده الناس وفيهم ملك والناس يدعون له وملك ساكت، ثم تكلم فقال: إن هذا لم يكن لك أن تأتي إلى رجل من أهل القدر على باب داره مع حشمه ومواليه، فقال له ابن هرمز: أفتراني أخطأت؟ فقال: إي والله. وقيل لملك: الرجل عنده علم بالسنة يجادل عليها؟ قال: لا يُخْبرُ بالسنة فإن سمع منه وإلا سكت. قيل: فينصح السلطان؟ قال: إن رجا أن يسمعه وإلا فهو من ذاك في سعة. اهـ. السادس: إذا كان ذو الدار بالمنكر
(1)
والجيران يتضررون به الفقه أنه لا يقنحم عليه في الدار، ولكن ترفع الشكوى به للقاضي ويعذر له، ثم تكرى عليه من غير أن يقذف أو يكشف. انظر المتيطي. اهـ. قاله المواق. السابع: إذا عرف انفراد رجل بعمل معصية أو اجتماعهم لذلك فإنه يتعين على من عرف ذلك تنفيرهم عن ذلك بكل حال وتغييره، وإن لم يتفق له ذلك إلا بكشفه لمن يعينه أو السلطان. قاله الحطاب.
بخلاف الحرص على التحمل كالمختفي، راجع لقوله: ولا إن حرص على القبول؛ يعني أن الحرص على التحمل ليس كالحرص على القبول، فإن الْحِرْصَ على التحمل لا يقدح في الشهادة، ومثلوا لذلك بالمختفي عن شخص ليسمع إقراره فيشهد عليه، قال الخرشي: قال أشهب وعيسى بن دينار وعامة أصحاب ملك: إن الحرص على تحمل الشهادة لا يقدح فيها، وهذا هو المشهور، قيل لملك: في رجل يقر خاليا أفيجوز أن أقعد لها [مختفيا]
(2)
لأشهد عليه؟ قال: إن تحقق الإقرار كما يجب فليشهد. وقوله: بخلاف الحرص لخ، بشرط أن يعلم أنه غير خائف ولا مخدوع، ولا ينبغي للشاهد أن يفعل هذا، ولا يفعله كامل المروءة. اهـ. وقال التتائي: بخلاف الحرص على التحمل كالمختفي أي المتواري عن المشهود عليه ليشهد على إقراره، فالمشهور العمل بها ولا يضر الاختفاء، وعليه ملك وعامة أصحابه، وعن ملك أيضا: لا يشهد حتى يقول المشهود عليه اشهد علي بكذا. قاله الشارح. وقال البناني عند قوله: كالمختفي أي فتقبل شهادته بناء على جواز تحمل الشهادة على المقر من غير أن يقول: اشهد به عليَّ بشرط أن يستوعب كلامه هذا الذي به العمل كما في المفيد والتحفة وهو المشهور كما في المواق، وأطلق
(1)
كذا في الأصل.
(2)
في الأصل مختفتا والمثبت من الخرشي ج 7 ص 188.
المص في قبولها من المختفي وهو مقيد كما في النوادر بأن لا يكون مخدوعا أو خائفا وإلا فلا تقبل. قاله ابن مرزوق. ونقل ابن الحاجب القيد عن محمد، وقال في التوضيح: وليس قول محمد بقيدٍ للمشهور بل هو من تمامه. اهـ. قوله: وإلا فلا تقبل قاله ابن مرزوق لخ، ظاهره وإن أنكر الإقرار جملة، وليس كذلك بل محل ذلك إذا اعترف بذلك الإقرار واعتذر عنه بما ذكر، هذا الذي يفيده نقل ابن مرزوق عن النوادر، وهو مصرح به في كلام الحطاب، فانظره. اهـ. قاله الرهوني. ولابن عاصم رحمه الله تعالى:
ويشْهد الشاهد بالإقرار
…
من غير إشهاد على المختار
بشرط أن يستوعب الكلاما
…
من المقر البدء والتماما
ولا إن استبعد معطوف على قوله: ولا إن حرص؛ يعني أنه لا تقبل شهادة العدل حيث استبعد إشهاده في شيء؛ أي إن كان الناس يعدون إشهاده في ذلك الشيء بعيدا عادة أي كان مستغربا، فاستبعد مبني للمفعول والنائب ضمير العدل على حذف مضاف أي إشهاده، ومثل لذلك بقوله: كبدوي لحضري؛ أي مثال ذلك أن يشهد بدوي لحضري بأن حضريا آخر أو بدويا أشهده في الحاضرة أن لفلان الحضري قبله كذا، فإن هذه الشهادة تُردُّ لما فيها من التهمة بالاستبعاد المذكور، فإن تَرْك الحضري التوثقة لنفسه بإشهاد عدول الحاضرة الذين يجدهم مهمى احتاج إليهم وتعدية ذلك إلى إشهاد أهل البادية الذين يتعذر إليه الوصول إليهم ريبة، قاله ابن مرزوق، والأصل في اعتبار هذا المانع ما خرجه أبو داوود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لا تجوز شهادة بدوي على حضري)
(1)
؛ قال في البيان: بعض من أجاز الشهادة عليه وصحح الحديث تأوله على أهل البادية الذين لا يجيبون إذا دعوا وليسوا
(1)
أبو داود، كتاب القضاء، رقم الحديث 3602. وابن ماجه، كتاب الأحكام، رقم الحديث 2367.
على [شرط العدالة]
(1)
من أهل الحاضرة وليس ذلك [بشيء]
(2)
والأنقال لا تجوز شهادة البدوي مطلقا. اهـ قاله ابن مرزوق. وقال النسائي: هذا الحديث ليس بالقوي، ولما كان معارضا لعموم قوله تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} خصصوا عمومه بحمله على أن المراد به إشهاد الحضري في الحضر للبدويين، ويبقى معمولا به في غير ذلك جمعا بين الأدلة، وهذا تأويل ملك، ولما كان الذي حعله على هذا التأويل الاستبعاد المذكور قصر الرد على قصد الإشهاد، لزم من ذلك قبولها إن مر أو سمع وفيما لا يقصد فيه الإشهاد كالغصب والقتل، ولهذا قال.
بخلاف إن سمعه أو مر به؛ يعني أن البدوي إذا سمع الحضري يقر في الأقوال في الحضر أو رآه في الأفعال أو مر به الحضريان في السفر فيقر أحدهما للآخر فإنه لا استبعاد في شهادة البدوي حينئذ فتقبل، وقوله: مر، إما مركب فيشمل ما إذا مر به أو مر بهما، وإما بسيط وضمير الفاعل يعود على البدوي أو الحضري، انظر الخرشي قال الخرشي: بخلاف إن سمعه في الأقوال أي أو رآه في الأفعال أو مر البدوي عليهما وهما يتقاران، وكذلك استشهاده له في السفر، ومثله الأمور التي يطلب فيها الخلوات والبعد عن العدول، وقوله: كبدوي لحضري، الحضري هنا شامل للقروي والمصري. اهـ. وقال الخرشي: يعني أن الاستبعاد يمنع من قبول الشهادة لمخالفة العادة، كشهادة البدوي للحضري على حضري لقوله عليه الصلاة والسلام:(لا يشهد بدوي على حضري)، وفي طريق آخر [على صاحب قرية]
(3)
أي فيما يستبعد كالأموال، وأما الحرابة والقتل والقذف والجرح وشبهه فلا استبعاد، والاستبعاد الاستغراب بأن يستغرب شهادة هذا لهذا، وهو هنا عدوله عن أهل الحاضرة ويشهد أهل البادية، وقوله: كبدوي؛ أي تحملها في الحضر لأنه هو الذي يحصل به الاتهام، وأما لو تحملها في البادية فتقبل، والضمير في استبعد للاستشهاد والسين للطلب أي لطلب الشهادة للحضري من البدوي، فشهادة البدوي للحضري من غير طلب مقبولة لأنه لا استبعاد فيه. اهـ.
(1)
في البيان ج 9 ص 432 شرط أهل العدالة.
(2)
الذي في البيان ج 9 ص 432 ببين.
(3)
أبو داود، كتاب القضاء، رقم الحديث 1602 - ولفظه: لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية.
وقال عبد الباقي: ولا إن استبعد الإشهاد أي طلب الشهادة أي استغرب كبدوي يشهد في الحضر في الأموال لحضري قروي أو مصري على حضري، ولذا عدل عن خبر:(لا يشهد بدوي لقروي) كما في الرواية لرواية (لا يشهد بدوي على حضري)، وحملها ملك على طلبها منه؛ لأن ترك شهادة الحضري ريبة واستغراب، وأما تحملها منه في الحضر على حضري بحرابة أو قتل أو قذف أو جرح أو شبهه فلا استبعاد، وأما السين في المص فللتأكيد، وصرح بمفهوم طلب الإشهاد بقوله: بخلاف إن سَمِعَه في الأقوال؛ أي سمع البدوي الحضري يقر لحضري، وكذا إن رآه في الأفعال يغصب مثلا لحضري مالا أو مر بالبناء للمفعول به؛ أي مر حضريان في سفر ببدوي فيشهد في الأموال ولو استشهد وكذا في الدماء والجراح وحيث تطلب الخلوات والبعد عن العدول فيشهد، كما في المواق. اهـ.
وقال الشبراخيتي: ولا إن استبعد وقوع مثله عادة بأن يكون على خلاف ما جرت به العادة، والاستبعاد الاستغراب استبعد أي الاستشهاد أي طلب الشهادة، وأما شهادة البدوي للحضري من غير استشهاد فهي مقبولة لا استبعاد فيها. انتهى. يعني قوله: بخلاف إن سمعه يقر في الأقوال أي أو رآه في الأفعال، أو مر الحضري أو البدوي، وفي بعض النسخ: مرَّا؛ أي المدعي والمدعى عليه به، ومثله استشهاده في السفر، ومفهوم كلام المص قبول الحضري على البدوي. انتهى. قاله الشبراخيتي أيضا.
وقال ابن مرزوق: قال في النوادر: قال محمد بن عبد الحكم: تأول ملك ذلك؛ يعني الحديث في الحقوق إذا شهدوا في الحاضرة للتهمة في إشهادهم وترك من معه من أهل الحضر؛ وأجازها في الدماء والجراح وحيث يطلب الخلوات والبعد من العدول، وقال مثله في العتبية والمجموعة، وزاد في المجموعة: فأما إن شهدوا في البادية على القروي فجائز كما لو حضرته الوفاة بها فيوصي أو يبيع فيها أو يبتاع، وقال عنه ابن القاسم في هذه الكتب: ولذلك لو انقطع إليها بالسكنى فشهادتهم له جائزة. اهـ.
والحاصل أن شهادة البدوي في الحضر لحضري أو بدوي لا تجوز فيما يقصد الإشهاد عليه من عقود معاوضة ووصية وتدبير وعتق وشبهه، فلا تجوز شهادة البدوي في الحضر لحضري على حضري أو بدوي ولا لبدوي على بدوي أو حضري وتجوز فيما لا يقصد الإشهاد عليه كالجراح والقتل والزنى وشرب الخمر والضرب والشتم وشبهه والإقرار، وتجوز فيما يقع بالبادية من ذلك كله على حضري أو بدوي، فعلى هذا لو حضر أهل بادية شيئا مما يقع في الحاضرة بين أهلها وغيرهم من معاملة وغيرها دون أن يُحْضَرُوا لذلك ويُقْصَدَ إلى إشهادهم فشهدوا بما حضروا جازت شهادتهم إن كانوا عدولا، وأما شهادة الحضري على البدوي فتجوز وفيها خلاف ذكره في التوضيح. والله سبحانه أعلم.
فائدة: قال في الذخيرة: البدوي منسوب إلى البادية وهي من بدا إذا ظهر فإن البرية لا تخفى شيئا، والقروي منسوب إلى القرية وهي الدور المجتمعة من قريت الماء في الحوض جمعته، فكل مدينة قرية لأن المدينة من الإدانة وهي الطاعة، فإذا كان في القرية من يطاع من وُلاة الأمر فهي مدينة. قاله الخرشي.
ولا سائل في كثير، يعني أن السُّؤّال لا تجوز شهادتهم في الحق المالي إذا كان كثيرا وتجوز في التافه، فقوله:"في كثير" متعلق بمقدر أي شهد في كثير، وقوله:"ولا سائل في كثير" ينبغي كما قال الشارح أن يكون هذا إذا قصد للشهادة، وأما إذا سمعه يقول أو مَرّ بهما وهما يتنازعان فأقر أحدهما للآخر بكذا فتقبل شهادة السائل في الحق الكثير، وقوله:"ولا سائل في كثير" المانع في هذه الاستبعاد كالتي قبلها. قاله غير واحد. وقال الخرشي: وأما لو كانت في جراح أو قتل عمد فتقبل شهادته إذ لا استبعاد حينئذ. انتهى. وقوله: "ولا سائل في كثير" المراد بالكثير ما لم تجر العادة باستشهاده فيه وترك الأغنياء. قاله الخرشي.
وقال ابن مرزوق: يعني ولا تقبل شهادة العدل أيضا إن كان فقيرا يسأل الناس الصدقة إن شهد في شيء كثير مما له بال، ومفهومه أنه يقبل في الشيء التافه الذي لا بال له. اهـ. وقال عبد الباقي: ولا سائل صدقة لنفسه غير زكاة لا تقبل شهادته في كثير، فهو متعلق بمقدر كما قررنا لا بقوله:"سائل"، وتجوز في التافه اليسير ثم الكثير ما لم تجر العادة باستشهاده فيه وترك
الأغنياء، ومنعت للريبة والتهمة وللاستبعاد أيضا، فيجري فيها قوله: بخلاف إن سمعه كما استظهره اللخمي، فكلامه مع قصد الشهادة منه أيضا. ولو قال: أو سائل في كثير لكان أظهر لأنه من الاستبعاد أيضا كما علمت. اهـ.
وقال الشبراخيتي: ولا تجوز شهادة فقير سائل لجميع الناس لا فرق بين الشريف وغيره إن شهد في شيء كثير وهو ما لم تجر العادة باستشهاده فيه، وترك الأغنياء لأن الشيء الكثير إنما يقصد في توثيقه بخلاف الشيء القليل، ولأن الفقر وشدة الحاجة قد يحمل على أخذ الرشوة فتقوى تهمة الرد غالبا للأغنياء فالعدول عنهم إلى الفقراء ريبة، وظاهر كلام المص سواء سأل لمصيبة نزلت به أم لا. انتهى.
وقال التتائي: لا تجوز شهادة فقير سائل إذا شهد في شيء كثير لأن مثله لم تجر العادة باستشهاده فيه وترك الأغنياء المشهورين، وقيده اللخمي بما إذا قصد إلى إشهاده، وأما لو قال مررت بهما يتنازعان فأقر فلان لفلان بكذا فإنه يقبل كما في الفرع السابق، ولم يذكر المؤلف هذا التقييد وظاهر كلام المص سواء سأل لمصيبة نزلت به أم لا. وقال ابن كنانة: من سأل الناس لمصيبة نزلت به أودية عليه لم ترد شهادته، وفهم من قوله:"في كثير" أنه تقبل شهادة في القليل، ونحُوه قول المدونة: لا تجوز شهادة السُّؤّال إلا في التافه اليسير فيجوز إذا كان عدلا. انتهى.
بخلاف من لم يسأل يعني أن الفقير المتعفف الذي لا يسأل أحدا تقبل شهادته في الكثير وغيره، سواء كان يأخذ إذا أعطي أو لا. قاله التتائي. وقال المواق: قال ابن يونس: قال بعض أصحابنا: تجوز شهادته وإن كان يقبل الشيء ممن يعطيه من غير مسألة؛ لأنه قد جاء: (ما أتاك من غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه الله) فهو خارج عن السؤال، وذكر اللخمي هذا اختيارًا لنفسه وابن يونس أقدم. انتهى. وقال عبد الباقي: بخلاف من أي فقير لم يسأل لكنه يقبل إذا أعطِيَ. قاله أحمد. وقال الشبراخيتي: بخلاف من لم يسأل سواء كان يأخذ إذا أعطي أو لا فإنه يقبل.
انتهى. وقال الخرشي: يعني أن الشخص الذي لا يسأل الناس تجوز شهادته في المال الكثير؛ لأن الذي قد جاءك من غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه الله: فهو خارج عن السؤال. انتهى.
أو يسأل الأعيان يعني أن من يسأل أعيان الناس لنفسه تجوز شهادته في الشيء الكثير وغيره كمن لم يسأل، وكذا تقبل شهادة من سأل الزكاة ولو لنفسه، وكذا لو سأل لغيره مطلقا. قال عبد الباقي: أو يسأل الأعيان أي الأغنياء أو يسأل صدقة واجبة أو لغيره مطلقا كما لابن ناجي على المدونة. انتهى. ونحوه للشبراخيتي. وقال التتائي: أو يسأل الإمام أو الأعيان من الناس فإنه يقبل مطلقا في القليل والكثير. ابن الحاجب: على الأصح ومقابله لا يقبل في الكثير، ووقع في نسخة البساطي الأغنياء موضع الأعيان. فقال: أي تجوز شهادة من يسأل من لا يكون السؤال منه داعيا إلى ما يدعو إليه السؤال من غيره كالملوك والأعيان، إذ لا بد للناس من سؤالهم، وعبر عنه المؤلف بالأغنياء وفيه شيء. اهـ. وقال الخرشي: وكذلك من يسأل أعيان الناس وأشرافهم فتجوز شهادته ولو في الحق الكثير. قال الجوهري: أعيان القوم سراتهم وأشرافهم. اهـ.
وتحصل مما مر عن المص أن الأقسام ثلاثة: من يسأل الناس في الواجبة وغيرها لا تقبل شهادته في الكثير وتقبل في القليل من لم يسأل يقبل في الكثير والقليل، من يسأل الأعيان يقبل في القليل والكثير وهذا فيمن سأل لنفسه، وأما من يسأل لغيره فيقبل في القليل والكثير، ومثله من لا يسأل إلا الواجبة. والله تعالى أعلم.
ولا إن جر بها نفعا كعلى موروثه المحصن بالزنى يعني أنه لا تقبل شهادة العدل أيضا إن اتهم في شهادته على أنه يجر بها إلى نفسه نفعا، كما لو شهد الشاهد على من يرثه بأنه زنى والحال أنه أتي الموروث محصن. قال الخرشي: والمعنى أن الإنسان إذا جر بشهادته نفعا فإنها لا تقبل للتهمة؛ كما إذا شهد على موروثه المحصن بالزنى فإن شهادته لا تجوز لاتهامه على قتله ليرثه، وسواء كان الشهود كلهم ورثة أو بعضهم ممن لا تتم الشهادة إلا به، وسواء كان الموروث أباه أو أخاه أو ولده، واحترز بالمحصن من الموروث البكر فإن شهادته عليه جائزة إذ لا تهمة حينئذ وكوصي شهد بدين للميت. الشيخ: لأنه يجر بذلك النظر في المال. قال في المدونة: وإن كانوا كبارا يلون أنفسهم فتجوز شهادته لأنهم يقبضون لأنفسهم. انتهى. ابن يونس: قال ابن
القاسم: لو شهد أربعة على أبيهم بالزنى ردت شهادتهم ولا يرجم لأنهم يتهمون على إرثه، [ويحدون].
(1)
انتهى. وقال عبد الباقي: ولا إن جر بها نفعا كعلى أي كشهادته على موروثه المحصن الغني بالزنى فإن شهادته لا تجوز لاتهامه على قتله ليرثه، سواء كان الشهود كلهم ورثةً أو بعضهم ممن لا تتم الشهادة إلا به، واحترز بالمحصن عن موروثه البكر فإن شهادته عليه جائزة لعدم التهمة حينئذ. انتهى. وقال المواق: قال ابن القاسم: لو شهد أربعة بالزنى على أبيهم ردت شهادتهم ولا يرجم لأنهم يتهمون على إرثه [ويحدون].
(2)
وقال أشهب: إن كان الأب عديما جازت شهادتهم إن كانوا عدولا ورجم الأب.
أو قتل العمد هذا من أمثلة الجر يعني أن الشاهد إذا شهد على موروثه أنه قتل أحدا عمدا أي قتل قتلا موجبا للقصاص، فإن شهادته ترد لأنه جر بشهادته نفعا وهو إرثه لوروثه إذا اقتصر منه وقوله:"أو قتل" عطف على "بالزنى"، لكن لا مفهوم للمحصن بالنسبة لهذا؛ أي شهدا
(3)
بقتل موروثه لشخص عمدا، سواء كان الموروث محصنا أو غير محصن.
إلا الفقير يعني أنه تصح شهادة الوارث على موروثه المحصن بالزنى أو على موروثه بالقتل عمدا إذا كان الموروث فقيرا لانتفاء تهمة الجر حينئذ والله تعالى أعلم. وقوله: "إلا الفقير" هو مستثنى استثناء متصلا كما هو واضح. قاله البناني. وقال عبد الباقي: إلا الموروث الفقير فإن شهادة وارثه عليه بالزنى والقتل عمدا جائزة لعدم اتهامه حينئذ على نفعه فتجوز شهادته عليه، ولو أنفق الشاهد عليه على المعتمد، ودخل بالكاف قول النوادر: من حلف لغريمه بالعتق ليقضينه حقه لأجل كذا فحنث فقام رقيقه فشهد له الطالب، فترد كما رواه أشهب عن مالك ودخل بها أيضا شهادة رب دين على مدين أنه حلف بطلاق زوجته ليقضينه إلى أجل كذا ويشهد عليه بذلك بعد مضي الأجل عند دعوى زوجته أنه وقع عليه الطلاق، فإنه لا تجوز شهادته قاله مالك ابن رشد: لأنه لما لم تجز قبل الأجل لتهمة طلب تعجيل دينه لم تجز بعده لاحتمال أن يكون قد
(1)
في الأصل ويجرون والمثبت من ابن يونس ص 337.
(2)
في الأصل ويجرون والمثبت من المواق ج 8 ص 191.
(3)
كذا في الأصل.
ادعى عليه قبله وأراد بعده أن يحقق دعواه السابقة، والأظهر عندي جوازها بعده لأنه لم يبق إلا الحنث، فلا تهمة في طلب تعجيل الحق. انتهى. ودخل بها أيضا شهادة سيد وحده أو مع غيره بطلاق عبده لامرأته [الأمة]
(1)
له أو لغيره أو الحرة لأنه عيب يتهم على إزالته. انتهى.
تَنبيهَاتٌ: الأول: قوله: والأظهر عندي جوازها لخ، قال البناني: الظاهر أن بحث ابن رشد يجري في مسألتي العتق والطلاق. انتهى. وقوله: وتجوز شهادته عليه ولو أنفق عليه الشاهد على المعتمد. قال البناني: انظر من قال هذا؟ والذي في المواق عن ابن رشد في شهادتهم على الأب بقتله فلانا عمدا أنه يجب قبول شهادتهم بذلك ما لم يتهموا على إرثه أو الراحة من النفقة عليه، ونقل قبله عن ابن اللباد ما نصه لا تجوز شهادتهم وإن كان الأب معدما لتهمتهم على سقوط نفقته عنهم برجمه. انتهى. والله تعالى أعلم.
الثاني: لو شهد اثنان على قاض بأنه حكم بكذا وقد شهدا على ما حكم به، فأظهر الأقوال جواز شهادتهما فيهما، وقيل تبطل فيهما، وقيل لا تجوز على الحكم وتجوز على الأصل. قاله عبد الباقي.
الثالث: قال التتائي عند قوله: "إلا الفقير": وظاهره كان عاجزا عن التكسب بحيث تجب نفقته على الشاهد أوْ لا وهو كذلك، وقال ابن اللباد: لا تقبل على العاجز عن التكسب لاتهام الشاهد على إسقاط نفقته عنه، وهذا إنما يكون في الأب. اهـ. والظاهر أنه لا فرق بين أن يكون الوارث هو الشاهد أو توقف القتل على شهادته بأن يكون هو المزكي لشاهد القتل. انتهى كلام التتائي.
الرابع: قال في الذخيرة عن الموازية: إذا قال حبست على أهل الحاجة من قرابتي حبسا فشهد منهم أهل الغنى، فإن كان الحبس يسيرا بحيث لا ينتفع هؤلاء إن احتاجوا قبلت شهادتهم وإلا ردت.
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 168.
الخامس: من العتبية: روى عيسى عن ابن القاسم فيمن له قِبل رجلين حقٌّ وأيهما شاء أخذه بحقه فأقر أنه قبضه من أحدهما والآخر يقول أنا دفعته إليه فشهادة القابض للدافع ها هنا جائزة؛ إذ ليس له عليه شيء يجر به إلى نفسه شيئا. انتهى. وانظر لو حكم الحاكم في شيء يتعلق بعامة المسلمين كالطريق المورود، هل يقبل فيه عدول من المسلمين أو لا؟ نعم يقبل ولا يقال للشاهد فيه منفعة لأنه لا يمكن إلا كذا.
السادس: إذا شهد شاهد بطلاق امرأة من زوجها فأثبت زوجها أنه كان يخطبها، فهل تسقط بذلك شهادته ولا يلزم الزوج يمين؛ قولان حكاهما في النوادر. قاله الحطاب.
السابع: قال القرطبي في شرح مسلم: يجوز قبول أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم من الراوي لها العدل، وإن كان جر لنفسه بذلك نفعا أو لولده أو ساق بذلك مضرة لعدوه، كإخبار علي عن الخوارج. اهـ.
الثامن: في نوازل أصبغ: من شهد شهادة تؤدي إلى حده أنه تسقط شهادته ويحد، كما إذا شهد شاهدان أن رجلا طلق امرأته البتة وأنهما رأياه بعد ذلك يزني بها كالمرود في المكحلة، وقال سحنون: الشهادة ساقطة ولا حد عليهما، قال ابن رشد: وقيل يلزمه الطلاق ويحدان وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وقولُ أصبغ في إيجاب الحد على الشاهدين إن سقطت شهادتهما في الطلاق أظهرُ من قول ابن الماجشون وسحنون. اهـ. قاله الحطاب. والله تعالى أعلم.
أو بعتق من يتهم في ولائه يعني أنه لا تقبل شهادة العدل فيما إذا شهد بعتق عبد يتهم في ولائه، كما لو شهد أن أباه أعتق عبدا ومعه أخوات فلا تجوز شهادته إذا كان العبد ممن يرغب في ولائه؛ لأنه يتهم أن يجر ولاءه إلى نفسه دون أخواته، فإنهن لا يرثن معه ولاء من أعتق آباؤهن وإن كان العبد لا يرغب في ولائه، ككونه شيخا كبيرا فقيرا قبلت شهادته لانتفاء التهمة. قال في المدونة: وإن شهدَا أن أباهما أعتق هذا العبد ومعهما أخوات أو زوجة للأب: فإن لم يتهما في ولائه لدناءته جازت شهادتهما، وإن كان يرغب في ولائه ويتهمان على جره لم تجز شهادتهما.
انتهى. قاله ابن مرزوق. وقال: ومفهوم كلام المص أن شهادته بعتق من لا يتهم في ولائه جائزة وقد تضمن نص المدونة منطوقه ومفهومه. انتهى.
وقوله: "أو بعتق من يتهم في ولائه" هذا معطوف على إن جر بها. قاله ابن مرزوق. وقال التتائي عند قوله "أو بعتق من يتهم في ولائه": كشهادته أن أباه أعتق عبده فلانا. قال في التوضيح: وقيد ذلك في المدونة بكون العبد ممن يرغب في ولائه، وأن يكون في الورثة من لا حق له في الولاء كالبنات والزوجات، وأن تكون التهمة حاصلة الآن بأنه لو مات الآن لَوَرِثه ولم يذكر ذلك هنا، وكأنه استغنى عنه بقوله:"يتهم في ولائه" ولم يعتبروا هنا ضعف التهمة باحتمال موت الشاهد قبل العبد أو بعده وللعبد من يحوز ماله أو موته عن غير مال؛ لأن للناس رغبةً في انتساب الغلام الفاره أو الغلام أو الصالح إليهم. اهـ.
وقال عبد الباقي: أو شهادة بعتق من يتهم الشاهد في ولائه لغناه أو لعلمه أو صلاحه أو جاهه لرغبة في انتسابهم لمن اتصف بذلك أي شهد أن موروثه أعتق العبد المذكور، زاد في المدونة قيدين آخرين لرد شهادته أحدهما أن يكون في الورثة من لا حق له في الولاء كبنات وزوجات لأن شهادته تؤدي إلى إحرام المذكورات، فإن كانوا كلهم ذكورا قبلت، ثانيهما كون التهمة حاصلة وقت الشهادة بأن يكون لو مات ورثه الشاهد وإلا قبلت، كشهادة أخوين على أخ ثالث لهما أنه أعتق عبده وللمعتق بالفتح أو الكسر ابن، والمراد بالولاء المال. انتهى.
وقال الشبراخيتي: وتحصل التهمة المانعة بوجود ثلاثة أمور: كونه يرغب في ولائه بأن يكون فارها أو صالحا أو عالما أو كثير المال، وأن يكون في الورثة من لا يرث الولاء كالبنات والزوجات، وأن تكون التهمة حاصلة حين الشهادة، وأما لو كان هناك حين الشهادة شخص يقدَّم عليه كابن العتق بالفتح أو كابن المعتق بالكسر، فإنه لا يقدح ذلك في شهادته، وإذا حصلت التهمة منعت الشهادة ولو كان ميراثه من الولاء قليلا جدا حيث كان عالما أو فارها أو صالحا؛ لأن للناس رغبة في انتساب من يكون كذلك إليهم، ومقتضى كلام المواق أن هذا هو المرتضى وكلام المص في الشهادة في المال، وأما في عِرْضٍ أوْ قصاص فتجوز. انتهى.
أو بدين لمدينه هذا أيضا من أمثلة الجر؛ يعني أنه إذا شهد العدل بدين لمدينه أي لمن للشاهد عليه دين فإنه لا تقبل شهادته؛ لأنه يتهم أن يكون شهد له بذلك الدين ليتخلص هو من دينه لصيرورة المشهود له مليا بذلك الدين، وإذا صح أن العلة هذه صح تقييد من قيد المسألة بما إذا شهد له بمال كما قال ابن الماجشون ومطرف، وبما إذا لم يكن للمشهود له مال كما قال ابن القاسم وبما إذا لم يكن غير ملد، فإن شهد لديانه بغير المال قبل إذ لا تهمة قال في النوادر: ومن العتبية من سماع ابن القاسم - وهو في كتاب ابن المواز وابن سحنون - والمجموعة قال ابن القاسم: ومن له على رجل دين فشهادته له جائزة إذا كان مليا بما يسأله من الدين، وقاله أشهب، وإن لم يكن معه وفاء لحق الشاهد لم يجز. قاله ابن مرزوق. وقال عبد الباقي: أو شهادة بدين لمدينه عن هبة أو جرح خطإ أو نحوه مما يؤول للمال لاتهامه على أخذ ما يحصل له في دينه، فهذا وما قبله من أمثلة الجر لا بقذف وقتل عمد ونحوه لعدم التهمة، ولو أبدل دينا بمال لكان أشمل كشهادته له بمعين كثوب أو دار، وقُيِّدَ كَلامه بما إذا ألد المدين أو أعسر والدين حال أو قريب الحلول، فإن لم يلد أو لم يقرب حلوله قبلت، وعبر هنا بمدينه، وفيما يأتي بمدان تفننا إذ هما لغتان، وقدم ثالثة وهي مديان، وبقيت رابعة وهي مديون. انتهى.
وقال الحطاب: يعني أن شهادة رب الدين للمديان بدين له على شخص آخر لا تجوز لأنه يتهم أن يكون شهد له بذلك ليقضيه منه ولا خصوصية للدين، وفرضها في التوضيح بما إذا شهد له بعال ويدخل فيه ما إذا شهد له بقضاء دين عليه فإنها شهادة بمال وهو ظاهر الرواية، وأطلق رحمه الله في رد شهادته، ولم يفرق بين أن يكون المديان مليا أو معسرا، وتبع في ذلك ابن الحاجب وعلى ذلك اقتصر ابن فرحون في تبصرته، وذكر في التوضيح في ذلك ثلاثة أقوال، الأول: رد شهادته مطلقا، قال: وهو مذهب ابن القاسم. الثاني: إجازتها له وإن كان معدما. الثالث: التفرقة بين أن يكون المديان معدما فتمنع الشهادة وبين أن يكون مليا فتجوز الشهادة، وجعل ابن رشد في البيان القول بالتفرقة بين الملي والمعدم تفسيرا، والقول بالتفرقة منقول عن مالك. انظر الحطاب.
وقال الشبراخيتي: أو بدين لا مفهوم له، والمراد بمال لمدينه لاتهامه على أخذ دينه منه إن كان المشهود له معسرا أو ملدا وقرب حلوله وإلا قبل، وأما الشهادة في قصاص أو عرض فتجوز. انتهى. وقال الخرشي: ولا بد من تقييده يعني المص بما إذا كان المشهود له معسرا وكان دينه حالا أو قريب الحلول؛ وأما إن بعد فالشهادة له جائزة كما لو كان مليا أو كانت شهادته له غير مال. اهـ. وقوله: "أو بدين لمدينه" منه شهادة رب المال للعامل في القراض. قاله ابن مرزوق. بخلاف المنفق للمنفق عليه يعني أن شهادة النفق للمنفق عليه جائزة إذا كانت نفقته عليه غير واجبة أصالة بل لكونه أجيرا عنده أو تكون نفقته بالالتزام، وسواء كان قريبا أم لا، وأما من وجبت نفقته أصالة فلا لتأكد القرب، بخلاف عكس كلامه وهو شهادته لمن ينفق عليه غير مقبولة لخشية أن يقطع عنه نفقته إذا لم يشهد له. اهـ. قوله: إذا كانت نفقته عليه غير واجبة صحيح؛ لأنها إن وَجَبت أصالة كان متأكد القرب كما هو ظاهر، فلا وجه لانتقاد ذلك.
تنبيه: يتعارض مفهوم قوله: أو لا غير واجبة أصالة، وقوله: آخرا فلا لتأكد القرب فيمن أعتق صغيرا فقيرا فإن مفهومه أولا يفيد عدم صحة شهادته له، ومفهومه آخرا يفيد صحتها والصواب في ذلك التفصيل، فإن شهد له بشيء لا يعود لغناه الموجب سقوط نفقته عنه فشهادته جائزة وإلا فباطلة إلى آخر كلامه. وقال الخرشي: بخلاف النفق للمنفق عليه ما نصه: أي فإن الشهادة جائزة كما إذا كان أجيرا عنده ليس في عياله أي لم تكن نفقته عليه واجبة بطريق الأصالة؛ وسواء كان قريبا أو أجنبيا. انتهى. وقال المواق من المدونة: لا تجوز شهادة من هو في عيال الرجل للرجل. قال ابن حبيب: وأما إن كان المشهود له في عيال الشاهد فتجوز شهادته إذ لا تهمة هنا. انتهى.
وشهادة كل للآخر يعني أنه إذا شهد رجل لغيره بحق، ثم شهد المشهود له للشاهد بحق فإن الشهادتين تقبلان حيث كانتا بمجلسين، بل وإن كانت الشهادة الثانية بالمجلس الذي وقعت فيه الشهادة الأولى بأن كانتا بمجلس واحد، ومحل قبولها فيما قبل المبالغة وفيما بعدها من غير شرط ولا تواطؤ وإلا منعت. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي: وبخلاف شهادة كل من شاهدين للآخر فتجوز وإن بالمجلس؛ أي سواء شهد كل لصاحبه بمجلس واحد أو أحدهما بمجلس غير
مجلس الآخر، وسواء كان المشهود عليه واحدا أو متعددا. اهـ. قوله: وسواء كان المشهود عليه واحدًا لخ هذا هو ظاهر المص، وعلى هذا حمل في التوضيح قول ابن الحاجب: وأما شهادة كل واحد منهما للآخر فجائزة على المشهور قائلا: وهو قول ابن القاسم في العتبية وقاله سحنون والشاذ منعها وإليه رجع سحنون، ثم قال: وقول مطرف ثالث، واختيار اللخمي رابع. انتهى. ونقله جسوس بتمامه وإياه اعتمد في الشامل، فقال: ولو شهد كل لصاحبه جاز على المشهور، وثالِثُهَا إن اتحد المشهود عليه مع المجلس لم يقبلا. انتهى. وفي كبير التتائي: وبخلاف شهادة كل من الشهود للآخر، سواء شهد الثاني للأول على المشهود عليه أو على غيره إن لم يكن ذلك بالمجلس الأول، بل وإن كان بالمجلس الأول وهو المشهور وقول ابن القاسم: وقال مطرف وابن الماجشون: لا تقبل في المجلس الواحد إذا شهدوا على واحد، وان كان شيئا بعد شيء جاز وإن كان على رجلين جاز بمجلس أو بمجلسين. اللخمي: ترد مطلقا لتهمة اشهد لي وأشهد لك إلا أن يطول ما بينهما، وظاهر كلام المص سواء كان المشهود به حقيرا أو لا، وأشار أصبغ إلى أنه ينبغي الالتفات للتبريز ولحقارة المشهود به.
البساطي: لهذه المسألة صور، الأولى: أن يشهد الشاهد على رجل بأن عليه لفلان عشرة دراهم ويشهد له فلان المشهود له بأن على الرجل المشهود عليه عشرة دراهم بمجلس واحد، فهاهنا اتحد المشهود عليه والمشهود به والزمان والمكان، فقال مطرف وابن الماجشون: لا يقبلان: وظاهر المص تشهير القبول وهو ظاهر كلام ابن القاسم. الثانِيَةُ: إذا تعدد المشهود عليه والمسألة بحالها فالمذهب القبول ورأى اللخمي عدمه. الثالثة: تعدد المجلس والمسألة بحالها وهي كالتي قبلها فيما تقدم، وحكى المازري فيها الاتفاق ولم يعتبر رأي اللخمي. الرَّابعَةُ: أن يختلف الكل ويطول الزمان ولا يعلم في هذه خلاف في القبول. انتهى. وقد بأن لك مما مر أن المشهور على ما قال غير واحد هو ما مشى عليه المص، لكن قال ابن مرزوق بعد أنقال: فقد ظهر لك من هذه الأنقال أن المشهور قبول هذه الشهادة إذا كان الحق على رجلين أو على رجل في مجلسين، لا ما يعطيه ظاهر المص من قبولها ولو على رجل في مجلس، فإن المازري قال في هذه: ظاهر المذهب على
قولين المنصوص منهما لمطرف وابن الماجشون ردها، وظاهر كلام أصبغ إمضاؤها. انتهى المراد منه.
والقافلة بعضهم لبعض في حرابة يعني أن القافلة وهم المسافرون الذين جمعهم سفر واحد يشهد بعضهم لبعض على من حاربهم في طريقهم، بأنه حاربه وأخذ ماله أو جرحه أو قتل أو نحو ذلك، فتقبل شهادة بعضهم لبعض في ذلك ولا تقبل شهادة الواحد لنفسه، وإنما قبل بعضهم لبعض للضرورة وإن كانوا يتهمون على اشهد لي وأشهد لك وهو من الجر للنفس، ويتهمون أيضا للعداوة إلا أن في الحرابة حقا لله تعالى، فأشبهت العداوة الدينية وصارت الأموال تبعا والمحاربون إنما يرصدون بمحاربتهم الخلوات وحيث لا يتمكن من الإشهاد عليهم.
قال في كتاب المحاربين من المدونة: وتجوز على المحاربين شهادة من حاربوه إن كانوا عدولا إذ لا سبيل إلى غير ذلك، شهدوا بقتل أو بأخذ مال أو بغيره، ولا تقبل شهادة أحد منهم لنفسه وتقبل شهادة بعضهم لبعض. اهـ. وظاهر الأم أن هذه الشهادة تجوز عليهم في ثبوت الحرابة وما بعدها من الأفعال. قاله ابن مرزوق وقال عبد الباقي: وبخلاف شهادة القافلة، وأبدل منه بعضهم لبعض في حرابة على من حاربهم، فيجوز أن يشهد عدلان منهم لبعض بأخذ مال أو نفس أو نسب وهذه وإن كانت فيها شهادة كل للآخر كالسابقة إلا أنه ربما يتوهم في هذه عدم الجواز لا بينهم وبين المحاربين من العداوة الدنيوية فقبلت هنا للضرورة، أو "بعضهم" مرفوع مبتدأ وخبره "في حرابة". اهـ. وقال البناني: والقافلة بعضهم لبعض قيد في المدونة هذا بكون الشهود عدولا وهو ظاهر المص؛ لأن سياقه فيمن تقبل شهادته خلافا للتتائي، وهذا إذا شهدوا في حرابة، وأما إن شهدوا بعضهم لبعض في العاملات، فنقل المواق من رواية الأخوين عن مالك وجميع أصحابه أنهم يجيزونها للضرورة بمجرد توسم الحرية والعدالة في ذلك السفر وحده وإن لم تحقق العدالة وعليه درج في التحفة؛ إذ قال:
ومن عليه وسم خير قد ظهر
…
زكي إلا في ضرورة السفر
انتهى. وقال التتائي: وبخلاف شهادة القافلة بعضهم لبعض في حرابة على من حاربوه إذ لا سبيل لغير ذلك، وظاهره سواء كانوا عدولا أو لا لكن في المدونة: إن كانوا عدولا وسواء شهدوا بمال أو قتل أو غيره وفهم من قوله: "لبعض" عدم قبول شهادة الواحد منهم لنفسه وهو كذلك، والقافلة الرفقة لا بقيد رجوعها من السفر لا كما يقوله أهل اللغة، وظاهره سواء قلت أو كثرت. اهـ. وقال الشبراخيتي: وبخلاف شهادة القافلة وهم الرفقة لا بقيد رجوعها من السفرة بل مطلقا لا كما يقوله أهل اللغة بعضهم يقبل لبعض بدل من القافلة في حرابة على من حاربوه، بشرط أن يكونوا عدولا أي بسبب حرابة أي إذا تلفت أموالهم أو تلفت رجالهم بسبب حرابة. اهـ المراد منه.
وقال الخرشي: وأهل المركب تقبل شهادتهم على من حاربهم من أهل مركب لآخر. اهـ. وقوله: "والقافلة بعضهم لبعض في حرابة" هو قوله في المدونة كما رأيت، وحكى ابن عرفة في المسألة أربعة أقوال، ففي المواق: ابن عرفة: في صحة هذه الشهادة في الحد والمال ولو لأنفسهما وردها فيهما ولو بالمال لغيرهما، ثالثها في الحد والمال لغيرهما لا لأنفسهما، ورابعها لا يجوز في ذلك أقل من أربعة. انتهى.
وقال المواق: وعن مطرف وابن الماجشون: رأيت مالكا وجميع أصحابه يجيزون للضرورة شهادة بعض أهل الرفقة على بعض إذا عرض لهم خصام فيما يدور بينهم من البيع والكراء والسلف والمعاملة بتوسم الحرية والعدالة في ذلك السفر وحده، كانوا من بلد واحد أو من بلدان شتى، ولا تجريح للخصم فيهم، ولا تجوز شهادة بعضهم على بعض في الحدود والغصب لأن هذه الوجوه لا شهادة فيها إلا بالعدالة الظاهرة، وإنما أجيزت فيما ذكر لإصلاح السبل وردع الشرار.
لا المجلوبين يعني أن المجلوبين لا تجوز شهادة بعضهم لبعض إلا أن يكثروا ويشهد منهم كالعشرين، قال الخرشي: فأكثر مما يفيد المعلم فتقبل حينئذ ولا تجوز شهادة بعضهم لنفسه، وهل تشترط العدالة في العشرين كما عند التونسي أو لا تشترط كما عند اللخمي؟ وقوله:"المجلوبين" فسروا بأن المراد بهم من يأتون من الكفار مُتَرَافقين إلى بلد الإسلام فيسلمون، وسواء
جرى عليهم الاسترقاق أم لا، وعلل ذلك باتهامهم على حمية البلد، وفسروا أيضا بأنهم القوم الذين يرسلهم السلطان لسد ثغر أو حياطة قرية أي حراستها أو لقطر من الأقطار. انظر الشبراخيتي.
وقال عبد الباقي: لا المجلوبين كذا في بعض النسخ بياء الجمع وهو مجرور عطف على لفظ القافلة، قال ابن مالك:
وجر ما يتبع ما جر ومن
…
راعى في الاتباع المحل فحسن
أي لا تجوز شهادة المجلوبين بعضهم لبعض، وفي بعضها بواو الجمع عطف على لفظ بعضهم لبعض على أحد وجهيه المتقدمين أو على القافلة، إذ محلها الرفع لأن التقدير أن تشهد القافلة، قال ابن ملك:
................. ومن
…
رَاعَى في الاتباع المحل فحسن
إلا أن يكثر الشهود من المجلوبين كعشرين يشهدون على غيرهم إن كانوا عدولا كما قال التونسي. ونحوه للمدونة كما في التتائي خلافا للخمي، وما قررنا من أن المراد أن العشرين يشهدون جميعهم لا اثنان منهم صرح به أبو الحسن في كتاب الاستحقاق، وانظر لو شهد عشرة منهم وحلف المشهود له هل يعمل بذلك في المال أم لا؟ وهو ظاهر كلامهم. وقولي على غيرهم أي أجنبي، وأما لو شهد بعضهم على بعض منهم فيكفي شاهدان. والمراد بالمجلوبين قوم يرسلهم السلطان لسد ثغر أو حراسة قرية أو لقطر من الأقطار أو قوم يأتون من الكفار مترافقين إلى بلد الإسلام فيسلمون، وسواء جرى عليهم الاسترقاق ثم أعتقهم الإمام أم لا، وعلل المنع باتِّهَامهم على حمية البلدية. اهـ. ونحوه للخرشي، وقال: وهذا يقتضي منع شهادة طوائف العسكر الذين قدموا مترافقين بعضهم لبعض، بل التعليل بالحمية يقتضي منع شهادة العسكر على أبناء العرب وإن لم يكونوا مترافقين، وهذا مشاهد منهم في زماننا. اهـ.
وقال المواق: لا المجلوبين إلا كعشرين، قال مالك في الحصن يفتح فيسلم أهله فيشهد بعضهم لبعض: فإنهم يتوارثون بأنسابهم كما كانت العرب حين أسلمت، وأما العدد القليل يتحملون إلينا فهؤلاء لا تقبل شهادة بعضهم لبعض إلا أن يشهد سواهم من تجار أو أسارى كانوا عندهم فيتوارثون بذلك، قال ابن القاسم: والعشرون عدد كثير، وانظر من هذا المعنى ما لابن عات أن أهل البادية إذا شهدوا في حق لامرأة أو غيرها ولم يكن فيهم عدل أنه يستكثر منهم ويقضى بشهادتهم، ونقل البرزلي هذا في نوازله. اهـ.
ولا من شهد له بكثير ولغيره بوصية الباء في قوله: "بوصية" للظرفية؛ يعني أن من شهد أن زيدا مثلا أوصى له أي للشاهد ولغيره بمال، فإن تلك الوصية تبطل في حق الشاهد وغيره حيث شهد الشاهد أنه أوصى له بكثير، سواء شهد أنه أوصى لغيره بقليل أو كثير. وإلا بأن شهد أنه أوصى له أي للشاهد بقليل قبل ما شهد به لهما أي للشاهد نفسه وغيره، وسواء شهد للغير بكثير أو قليل. قال عبد الباقي: ولا من شهد له أي لنفسه بكثير في نفسه بحيث يتهم في ذلك لا بالنسبة إلى ما شهد به لغيره وشهد لغيره بكثير أو قليل بدليل مقابلته، وحذف المتعلق المؤذن بالعموم وكانت الشهادة المذكورة بوصية أي فيها فلا تصح له ولا لغيره للتهمة، والشهادة إذا بطل بعضها للتهمة بطل جميعها، وكشهادة عَتِيقَيْ شخص عليه بأنه غصبهما من آخر مع غصب مال أيضا، فإن شهادتهما في غصب رقابهما باطلة لاتهامهما على إرادة إرقاق أنفسهما والحر لا يجوز له أن يرق نفسه، فتبطل شهادتهما في غصب المال أيضا. وأما إذا بطل بعضها للسنة فيجوز منها ما أجازته فقط؛ كشهادة رجل وامرأتين بوصية بعتق ومال فإنها ترد في العتق لما في المال، وكمسألتنا هذه في بعض صورها في قوله وإلا يشهد لنفسه بوصية بكثير بل بقليل ولغيره بكثير كما في الطخيخي، لا مطلقا كما في التتائي قبل ما شهد به لهما أي لنفسه ولغيره، وحلف الغير معه إن لم يكن له شاهد آخر واستحق وأخذ الشاهد ما أوصِيَ له به؛ لأنه بشهادته لنفسه بيسير في حكم التبع، فإن نكل الغير فينبغي أن يبطل حق الشاهد أيضا لأنه الآن غير تابع، ثم محل قبوله لهما إذا كتبت الوصية بكتاب واحد بغير خط الشاهد بل بخط الميت أو غيره بأمره، فإن كتبت
بخط الشاهد أو لم تكتب قبلت شهادته لغيره مطلقا لا لنفسه ولو بقليل، كإن كتبت له بكتاب ولمن شهد له بكتاب آخر فإنها تصح للآخر دونه.
ومفهوم قوله: "بوصية" أنه لو شهد لنفسه ولغيره في غير وصية فلا تقبل له ولا لغيره بقليل أو بكثير فيهما للتهمة: والفرق بين الوصية وغيرها أن الوصي قد يخشى معاجلة الموت ولا يجدُ غير المُوصَى له، بخلاف غيره. اهـ كلام عبد الباقي. قول عبد الباقي: فإن كتبت بخط الشاهد أو لم تكتب أصلا قُبِلَتْ شهادته لغيره مطلقا لخ، قال الرهوني: قبول شهادته للغير في اليسير ظاهر، وأما في الكثير فهو أحد قولين وبه صَدَّرَ في المقدمات والأجوبة، وقد أتقن هذه المسألة في المقدمات [وخلصها تخليصا]
(1)
حسنا، قال فيها: وأما التهمة الحاصلة في بعض الشهادة فإنها تبطل جملة الشهادة على المشهور العلوم في المذهب، مثل أن يشهد رجل أن له أو لابنه ولرجل أجنبي على فلان ألف درهم من معاملة أو سلف أو ما أشبه ذلك.
وقد وقع في المدونة وغيرها في شهادة الشاهد أن رجلا أوصى له ولغيره بوصية مال اختلاف كثير وهي مسألة تنقسم إلى قسمين كل قسم [منها]
(2)
لا يخلو من وجهين أحد القسمين أن يكون الموصي أشهد على وصية مكتوبة قد أوصى فيها للشاهد بوصية، ولا يخلو أن يكون ما سمى فيها الشاهد يسيرا أو كثيرا، فإن كان يسيرا ففي ذلك أربعة أقوال، أحدها: أن شهادة الموصى له لا تجوز لنفسه ولا لغيره لأنه يتهم في اليسير كما يتهم فيه في غير الوصية وهي رواية ابن وهب عن مالك في المدونة. والثاني: شهادته تجوز لنفسه ولغيره، فإن كان وحده حلف الموصى لهم مع شهادته أن ما شهد به حق وأخذ هو ماله فيها بشهادته مع أيمانهم، لأنه في حيز التبع لجملة الوصية، فإن كان معه غيره ممن أوصى له أيضا فيها بيسير ثبتت الوصية بشهادتهما وأخذ كل واحد منهما ماله فيها من غير يمين، وإن كان الشاهد الذي معه ممن لم يوص له فيها بشيء ثبتت الوصية بشهادتهما أيضا وأخذ هو ماله فيها بغير يمين، وهذا قول ابن القاسم في المدونة ورواية مطرف عن مالك في الواضحة. اهـ. قال الوهوني: وكلامه يوهم أنه لابن القاسم فيها رأيا لا
(1)
في الرهوني ج 7 ص 394 وحصلها تحصيلا.
(2)
في الرهوني ج 7 ص 394 منهما.
رواية، وهو خلاف ما في المواق عن المدونة وابن عرفة وشيخنا الجنوي عن الأجوبة، وخلاف ما قدمناه عن التهذيب ونحوه لابن يونس إلا أنه جعله بلاغا لا سماعا، فلو قال ابن رشد: وهو قول ابن القاسم وروايته في المدونة ورواية مطرف لخ لمسلم من ذلك الإيهام. اهـ. قال ابن رشد في المقدمات: القَولُ الثَّالِثُ أن شهادته تجوز لغيره ولا تجوز لنفسه، وإن كان وحده حلف الموصى لهم مع شهادته واستحقوا وصاياهم ولم يكن له هو شيء، وإن كان مع غيره ممن أوصى له فيها بشيء يسير أيضا ثبتت الوصية بشهادتهما لمن سواهما، فأخذوا وصاياهم بغير يمين وحلف كل واحد منهما مع شهادة صاحبه فاستحق وصيته، وإن كان معه من لم يوص له فيها بشيء ثبتت الوصية بشهادتهما لمن سواهم وحلف هو مع شهادة صاحبه فاستحق وصيته وهو قول ابن الماجشون في الواضحة. والرابع: أن شهادته تجوز له ولغيره إن كان معه شاهد غيره، فتثبت الوصية بشهادتهما ويأخذ ماله فيها بغير يمين، وتجوز لغيره ولا تجوز لنفسه إن لم يكن معه شاهد غيره، فيحلف غيره مع شهادته ويستحق وصيته ولا يكون له هو شيء، وهو قول يحيى بن سعيد في المدونة، وإن كان الذي فيه للشاهد كثيرا فلا تجوز شهادته لنفسه ولا لغيره في المشهور، وتجوز شهادته لغيره ولا تجوز لنفسه على قياس قول أصبغ في نوازله من كتاب الشهادة في العبدين يشهدان بعد عتقهما بأن معتقهما غصبهما من رجل مع مائة دينار أن شهادتهما تجوز في المائة ولا تجوز في غصب رقابهما؛ لأنهما يتهمان على أن يريدا إرقاق أنفسهما ولا يجوز لحر أن يرق نفسه إذ يقوم من قوله في هذد المسألة أن الشهادة إذا رد بعضها للتهمة جاز منها ما لا تهمة فيه وهو خلاف المشهور العلوم. ثاني القسْمين: أن يشهد الوصي على وصيته لفظا بغير كتاب، فيقول لفلان كذا ولفلان كذا لأحد الشهود، فلا يخلو أيضا أن يكون الذي أوصى به لأحد الشهود كثيرا أو يسيرا، فإن كان يسيرا فلا تجوز شهادته لنفسه باتفاق وتجوز لغيره، فإن كان وحده حلف الموصى لهم مع شهادته واستحقوا وصاياهم، وإن كان مع غيره ممن يشهد لنفسه بيسير أيضا حلف كل واحد منهما مع شهادة صاحبه واستحق وصيته وأخذ من سواهما وصاياهم بشهادتهما دون يمين، وإن كان معه
غيره ممن لم يشهد لنفسه بشيء حلف هو معه واستحق وصيته وأخذ من سواه وصيته بشهادتهما دون يمين، وإن كان الذي شهد به لنفسه كثيرا فلا تجوز شهادته لنفسه باتفاق وتجوز لغيره على قول مطرف وابن الماجشون، ولا تجوز على ما في سماع أشهب من كتاب الشهادات، فإن لم يكن معه غيره على ورهب ابن الماجشون ومطرف حلف الموصى لهم واستحقوا وصاياهم بأيمانهم مع شهادته، وإن كان معه غيره ممن يشهد لنفسه بكثير أيضا حلف كل واحد منهما مع شهادة صاحبه، فاستحق وصيته إن لم تكن شهادة كل واحد منهما لصاحبه في مجلس واحد على مذهبهما في الشهود يشهد بعضهم لبعض أن شهادتهم لا تجوز إن كانت لرجل واحد في مجلس واحد وأخذ من سواهما وصيته بشهادتهما دون يمين.
واعلم أن المشهور من المذهب أن الشهادة إذا رد بعضها للتهمة ردت كلها، وقد قيل إنه يجوز منها ما لا تهمة فيه على قياس قول أصبغ الذي حكيناه، والمشهور في المذهب أيضا أن الشهادة إذا رد بعضها للسنة جاز منها ما أجازته السنة، وقد قيل: إنها ترد كلها وذلك قائم من المدونة، وأما إن لم يأت الشاهد بالشهادة على وجهها وسقط من حفظه بعضها فإنها تسقط كلها بإجماع. انتهى.
وتَحَصَّل من كلام ابن رشد ثلاثة أقسام في بطلان بعض الشهادة، فإن كان للتهمة بطلت كلها هذا هو المشهور، وإن بطل بعضها للسنة، كما لو شهد رجل وامرأتان بعتق ومال بطل منها ما أبطلته السنة وهو العتق لتوقفه على عدلين ذكرين وصح منها ما صححته السنة وهو الشهادة بالمال هذا هو المشهور، وقيل ترد كلها. الثالث أن يبطل بعضها لسقوطه عن حفظ الشاهد فتبطل كلها بإجماع على ما قال ابن رشد، وقد مضى الخلاف بصحتها في الأقل المحقق ففي الإجماع نظر. والله تعالى أعلم. وإذا لم يصح الإجماع فلا أقل من أن يكون هو المشهور كما مر. واعلم أن تخريج
ابن رشد على قول أصبغ المار في العبدين يعتقان ثم يشهدان بأن معتقهما غصبهما مردود بأن منع قبول شهادتهما ليس للتهمة بل للسنة؛ لأن قبول شهادتهما في غصبهما يؤدي ثبوته لنفيه لبطلان الشهادة بالرقية. انظر الرهوني.
تنبيهات: الأول: قال ابن عرفة: المازري: وبعض أشياخي يرى أن لا وجه لهذا التفصيل بين كون الوصية نطقا أو مثبتة في كتاب، قلت: هو قول اللخمي في تبصرته. اهـ. قاله الرهوني.
الثاني: في المقرب: شهادة الوصي على الميت جائزة، وإن شهد بدين للميت على أحد لم تجز شهادته لأنه يجر إلى نفسه إلا أن يكون الورثة كلهم كبارا مرضيين، ولا يجر بشهادته إلى نفسه شيئا فشهادته جائزة. وقال مالك: وإن شهد وَصِيًّا ميت أن الميت أوصى لفلان جازت شهادتهما: وقال غيره: وهذا إذا ادعى ذلك فلان ولم يكن لهما فيما شهدا به شيء يجرانه إلى أنفسهما، وكذلك شهادة الوارثين في مثل هذا إذا شهدا أن الميت أوصى لفلان. وقال في كتاب الشهادات من المدونة: وتجوز شهادة الوصيين والوارثين بدين على الميت. ابن يونس: مع يمين الطالب أنه ما قبض منه شيئا ولا سقط عنه بوجه ما. انتهى. قاله الامام الحطاب.
الثالث: قول المص: "ولا من شهد له" قال البناني: الأولى تجريده من لا إذ هو من سلك ما قبله، ثم فيه تعدي فعل الفاعل المتصل إلى ضمير المتصل، وذلك خاص بأفعال القلوب. قاله مصطفى. قلت: لا يبعد إجراء شهد مجرى أفعال القلوب لرجوعه للعلم. اهـ.
الرابع: قد علمت أن مفهوم قوله: "بوصية" أنه لو شهد لنفسه ولغيره في غير وصية أن الشهادة باطلة للشاهد ولغيره، ومحل البطلان إن لم تكن عامة وإلا قبلت. نص عليه غير واحد منهم. أبو الفضل: عياض: صدر كتابه الإكمال، فإنه قال بعد كلام: ولهذا تعمل الشهادة العامة كيف كانت ولا نردها بظنة منفعة ولا عداوة، كالشهادة على العدو من أهل الكفر على الأمور العامة للمسلمين في سككهم ومرافقهم وإن كان الشاهد واحدا منهم. اهـ. قاله الرهوني.
الخامس: قال الرهوني: وقعت نازلة وهي قوم نترعوا في أرض يغرسونها وهم يدعون ملكيتها، فنازعهم جيرانهم وزعموا أنها حريم لهم قريب جدا، وشهد لهم بذلك بعض مدشرهم،
(1)
فأفتى بعضهم ببطلان الشهادة وبعضهم بصحتها والصواب مع الأول، وقال التتائي: قال ناصر الدين بن المُنَيِّر:
(1)
في الرهوني ج 7 ص 397: بعض أهل مدشرهم.
يشهد في المضمون بالوصية
…
وحظه الأقل في القضية
فاقبله للغير وللنفس معا
…
واجعل قليله الحقير تبعا
خصيصة خصت بها الوصايا
…
لبغتة المنون للبرايا
وانظر على تفريعنا أن تسمعه
…
لو حلفوا عند انفراده معه
هل يأخذ الذي له لا يحلف
…
ما ذاك إلا نادر يستطرف
أو يحلف الشاهد مع شهادته
…
كل عجيب في خلاف عادته
ولا إن دفع يعني أن العدل إذا دفع بشهادته عن نفسه ضررا فإن شهادته لا تقبل. قال الخرشي: والمعنى أن من موانع قبول الشهادة أن يدفع بها عن نفسه ضررا، وقال الشبراخيتي: ولا إن دفع الشاهد بشهادته ضررا لولاها لناله، ومثَّل لذلك بمثالين أحدهما قوله: كشهادة بعض العاقلة بفسق شهود القتل يعني أنه إذا شهد شاهدان مثلا على زيد أنه قتل عمرا خطأ، فشهد شاهدان من عاقلة زيد القاتل خطأ بفسق الشاهدين على القتل خطأ، فإنه لا يلتفت إلى شهادة الشاهدين بالفسق لاتهامهما على إرادة أن يدفعا الغرم عن أنفسهما. قال عبد الباقي: ولا إن دفع الشاهد بشهادته ضررا عن نفسه كشهادة بعض العاقلة للقاتل خطأ بفسق شهود القتل أي الشهود الذين يشهدون بأنه قتل خطأ إلا أن يكون البعض فقيرا، بحيث لا يغرم شيئا من الدية، واستغنى عن تقييده بذلك لقوله:"دفع"، وعن تقييد القتل بالخطإ بقوله:"العاقلة" لأنها لا تحمل عمدا ولا ما دون الثلث كما يأتي. وظاهر كلامه سواء شهد بفسقه بعد أداء شهود القتل وقبل الحكم أو بعدهما معا. اهـ. قوله: إلا أن يكون البعض فقيرا لخ أصل هذا القيد لابن عبد
السلام بحثا وجزم به في التوضيح، وقد أبقى الخرشي كلام المص على إطلاقه وذلك غير صواب. اهـ. وقوله:"بفسق" أي بشيء من المجرحات كالتغفل والعداوة. انظر الشبراخيتي.
أو المدان المعسر لربه هذا هو المثال الثاني لدفع الضرر، والضمير في "لربه" راجع للدين المفهوم من المدان. والمدان بضم الميم وتخفيف الدال وهو الذي عليه الدين يعني أن من عليه الدين، إذا كان معسرا فإنه لا تجوز شهادته لرب الدين بمال ولا بغيره؛ لأن غير المال قد يكون أهم خلافا لنقل ابن زرقون، فإن كان موسرا لا يستضر بدفع ما عليه فإن شهادته جائزة لصاحب الدين شهد له بمال أو غيره. قوله:"المعسر" قال المؤلف: ينبغي أن يقيد المنع من شهادته بما إذا لم يثبت عسرُه، وإلا جازت شهادته لأنه يجب إنظاره فلا يخاف الضرر بالسجن ونحوه. فقوله:"المعسر" في نفس الأمر ولم يثبت عسره فيخشى من رب الدين أن يضيق عليه أو يحبسه. انظر الخرشي. وقال عبد الباقي: أو شهادة المدان المعسر لربه أي الدين بمال أو بغيره كقصاص أو فيما يتعلق بعرضه أو نسبه فلا تجوز إن حل الدين أوقرب حلوله ولم يثبت عسره، فإن ثبت جازت ولو حل الأجل. فقوله:"المعسر" أي في نفس الأمر وهو ملي في المظاهر، فإن كان عسره ثابتا عند الحاكم جازت شهادته لأنه لا يخشى حبسا حينئذ كما تجوز من ملي وحل الحق. اهـ. وقال البناني: قال في التوضيح: وفسر أي الباجيُّ الغني بأن لا يستضر بإزالة هذا المال، وأما إن كان يستضر بأخذه منه فترد شهادته خليل: وينبغي أن يقيد العسر هنا بأن يكون إعساره ثابتا عند الحاكم. اهـ. وقد علمت به أن المراد بالإعسار أن تكون عليه مضرة بأداء ما عليه وإن كان مليا به، وأن ذلك يُقَيد بالثبوت عند الحاكم ليبطل شهادة الشاهد، وبذلك تعلم ما في كلام الزرقاني. والله تعالى أعلم.
قال مقيده عفا الله عنه: والظاهر ما لعبد الباقي. والله تعالى أعلم.
ولا مفت على مستفتيه إن كان مما ينوى فيه يعني أنه لا تجوز شهادة المفتي على من استفتاه فيما استفتاه فيه إن كان المستفتى فيه مما ينوى فيه المستفتي، ولو أقر به المستفتي عند القاضي أو أسرته البينة لحكم عليه وألغى نيته، كما إذا حلف بالطلاق أن لا يكلم زيدا وكلمه بعد عشرة أيام مثلا وادعى نية ذلك عند الحلف، فإذا طلبت الزوجة الفتي ليشهد لها عند القاضي على
زوجها بما سمعه منه فإنه لا يجوز له أن يشهد عليه؛ لأن الفتي يعلم من باطن اليمين خلاف ما يقتضيه ظاهرها، وأما الشيء الذي لا ينوى فيه فإن على المفتي أن يرفع كما إذا أقر عند القاضي بطلاق زوجته.
وإلى ذلك أشار بقوله: وإلا بأن كان الذي استفتاه فيه لا ينوى فيه أو لم يستفته، بل أقر عنده بطلاق أو حد مما ليس له رجوع عنه رفع شهادته على التفصيل السابق من كونه محض حق لآدمي ومحض حق الله إن استديم تحريمه أو لم يستدم على ما مر. قال عبد الباقي: ولا يشهد مفت ولا حاضر عنده كما في التتائي على مستفتيه فيما استفتاه فيه بالفعل إن كان الإفتاء فيما ينوى أي تقبل نية الحالف فيه في الفتيا، كحلفه بالطلاق لا كَلَّمَ زيدا وكلمه بعد أيام مثلا وادعى نية ذلك عند الحلف، فإذا طلبت الزوجة الفتي ليشهد لها عند القاضي على زوجها بما سمعه منه لم يجز له أن يشهد عليه لأنه يعلم من باطن اليمين، خلاف ما يقتضيه ظاهرها وإلا بأن لم يستفت كإقراره عنده بطلاق زوجته أو بحد ونحوه يعني فيما ليس له الرجوع عنه، ثم أنكر ما أقر به أو استفتاه فيما لا ينوى فيه كإرادة ميتة رفع وشهد على التفصيل السابق من كونه محض حق آدمي أو محض حق الله إن استديم تحريمه أو غير مستدام على ما مر. اهـ.
وقال الخرشي: والمذهب جواز شهادة الحاكم لأحد الخصمين ويرفع لمن هو أعلى منه، وكذا شهادة من كان يصلح بين جماعة وقيل لا. اهـ. وقال عبد الباقي: لا تجوز شهادة الصلح بين الناس. انظر الطخيخي. لأنها تشبه الشهادة على فعل نفسه. انتهى. قوله: لا تجوز شهادة المصلح بين الناس لخ، قال الرهوني: قال في المنتقى: قال الشيخ أبو إسحاق: لا تجوز شهادة الحاكم بما سمع من الخصوم وكذلك شهادة من توسط بين اثنين. اهـ. ونقله الحطاب وزاد واقتصر عليه صاحب المسائل الملقوطة، ونصه: وشهادة المتوسط الذي يدخل بين اثنين لا تجوز وإن استوعب كلامهما من الكافي لابن عبد البر والمنتقى للباجي. اهـ. فهذا كله بظاهره يشهد لما. قاله الزرقاني.
لكن الحطاب فهم ذلك غلى أن المراد بالمتوسط بين الناس من أدخله رجلان بينهما لمحاسبتهما وشرط عليهما أن لا يشهد بينهما بما يقران به، فيقر أحدهما ويطلب الآخر شهادتهما، ومُحَصَّل
ما ذكره فيهما أن ابن القاسم روى عن مالك أنهما لا يعملان بذلك فإن اصطلحا وإلا شهدا بما سمعا، وبه قال الأخوان وروى عنه ابن نافع أنه قال: لا أرى من امتناعهما من الشهادة بأسا. قال الحطاب بعد هذا: وما ذكره الباجي عن الشيخ أبي إسحاق فالظاهر أنه اختيار منه لرواية ابن نافع، فعلى ما فهمه منه الحطاب لا شاهد فيه للزرقاني، لكن بحث بعض المحققين وهو أبو العباس الملوي فيما قاله الحطاب بأن ابن نافع روى: لا بأس بامتناعهما، فمقتضاه أن شهادتهما جائزة بل مقتضاه أن امتناعهما مرجوح لأن لا بأس تستعمل لا غيره أفضل منه؛ وأبو إسحاق وصاحب المسائل الملقوطة قالا: لا تجوز شهادتهما. اهـ. وهو كما قال. قلت: المظاهر أن شهادة المصلح كشهادة الخاطب فيكون فيها ثلاثة أقوال، ويكون الصواب جوازها. والله أعلم. اهـ كلام الرهوني. وقوله:"ولا مفت على مستفتيه" أي لا تجوز تلك الشهادة ولو شهد لم تنفع شهادته. قاله ابن المواز.
ولا إن شهد باستحقاق وقال أنا بعته له يعني أنه إذا شهد باستحقاق ثوب أو دابة أو دار أو غير ذلك لزيد مثلا، وقال مع ذلك: أنا بعته له أي لزيد فإن هذه الشهادة لا تصح، لأن الملك لا يثبت بالشراء حتى تشهد البينة بالملك للبائع.
تنبيه: قال عبد الباقي: ولا إن شهد باستحقاق وقال أنا بعته له أي للمشهود له فلا تصح لاتهامه على رجوع المشتري عليه بالثمن لو لم يشهد له، ولذلك لو أبدله بوهبته له أو تصدقت به عليه صحت لانتفاء الرجوع عليه إن لم يشهد. انتهى.
قوله: ولذلك لو أبدل بعته لخ، قال البناني: مثله في الخرشي وأصله للأجهوري عن بعض شيوخه، وقد بنوه على تعليل عدم القبول بتهمة دفع الرجوع على نفسه بالثمن إن لم يشهد وهو غير مسلم، فإن المسألة أصلها لابن أبي زيد، والنقل عنه يدل على أن العلة هي أن الملك لا يثبت بالشهادة بمجرد الشراء؛ لأن الملك لا يثبت بالشراء حتى تشهد البينة بالملك للبائع، فهو إذا قال: أنا بعته أو وهبته فقد شهد لنفسه بملك ذلك الشيء وذلك لا يصح، وحينئذ لا فرق بين بعته أو وهبته. انظر ابن مرزوق وغيره. اهـ.
تنبيه: لا تجوز شهادة القُسَّام على ما قَسَمُوا قسما بأمر قاض أو لا؛ لأنهما شهدا على فعل أنفسهما، وأجازها ابن حبيب عند القاضي الذي أمرهما به ومنعت عند غيره، ونقل عن ابن المواز أيضا في رسولَيْ رجل يزوجانه أو يشتريان له جارية لا تجوز شهادتهما على ذلك وإن حضر المرسل. قال محمد: وأحب إلينا أن لا تجوز إن عقدا هما النكاح، وإن عقده غيرهما جازت نقله ابن مرزوق. وقال: فهذه المسائل تدل على أن من شهد على فعل نفسه لا يقبل، إلا أنه ذكر في النوادر مسألة من كتاب سحنون عن أبيه: إن شهد لرجل في سهم في شرب عين أو نهر أو حق في أرض وكان أصل ذلك كله بينه وبينه، فقاسمه ثم شهد له الآن بملك ذلك الشيء الذي صار له في القسم من أصل عين أو أرض. قال: شهادته له فيه جائزة. اهـ. وقوله: "ولا إن شهد باستحقاق وقال أنا بعته له" لو ثبت بالبينة أنه باعه له استظهر أحمد له أنه أحرى من الإقرار بهذا الحكم، قاله عبد الباقي بعد أن قال: ومفهوم قوله: "وقال أنا بعته له" أنه لو ثبت بالبينة أنه باعه له فلا يضر. اهـ.
ولا إن حدث فسق بعد الأداء يعني أن الشاهد إذا أدى شهادته وبعد أدائها وقبل الحكم بها حدث به فسق، فإن شهادته لا تجوز لأن ذلك دليل على أن الشاهد عنده كمين من ذلك الفسق، وأنه كان متلبسا به وقت أداء الشهادة فهي باطلة، وأما لو حَدَثَ بعد الحكم فلا يكون مانعا من تنفيذ ما حكم به، وانظر لو حكم ثم بعد الحكم المذكور ثبت أنه شرب الخمر بعد الأداء وقبل صدور الحكم هل ينتقض هذا الحكم أو لا؟ ومقتضى ما تقدم من النقض إذا ظهر أنه قضى بفاسقين النقض هنا لأنه قد ظهر أيضا أن حكمه مستند لشهادة فاسقين إذ فسقه ثبت قبل الحكم. هكذا قاله بعض الشيوخ. قاله الخرشي.
وقال عبد الباقي: ولا إن حدث للشاهد بعد الأداء وقبل الحكم فإن شهادته لا تجوز لأن ذلك دليل على أن الشاهد عنده كمين من ذلك الفسق، وأنه كان متلبسا به فهي باطلة، فإن حدث بعد الحكم لم يبطل ما حكم به. وأشعر قوله:"حدث" أنه لو ثبت بعد الحكم أنه كان شرب خمرا مثلا بعد الأداء وقبل الحكم فإنه ينقض، كما إذا ظهر أنه قضى بفاسقين وأشعر أيضا أنه لو اتهم بحدوثه فإنه لا يضر وهو كذلك كما يفيده النق عند قوله:"ولا تهمة بسرقة". اهـ.
وقال البناني عند قوله: "ولا إن حدث فسق بعد الأداء" ما نصه: أما إن كان مما يستره الناس كزنى وشرب خمر فمقتضى كلام بعض الشيوخ أنه متفق عليه لأنه يدل على الكمون، بخلاف قتل وقذف ونحوهما مما لا يكون كذلك فاختلف فيه، فقال ابن القاسم: تبطل الشهادة كالأول. وقال ابن الماجشون: لا تبطل واختاره غير واحد من الشيوخ، ولفظ ابن الحاجب: ولو حدث بعد الأداء بطلت مطلقا، وقيل: إلا بنحو الجراح والقتل. اهـ. وقال المواق: ابن عرفة: إن شهدت بينة عند قاض ثم جُنّت أو جَنَت خطأ لم ترد شهادتها، وإن أحدثت بعد أدائها قبل الحكم بها بعد تعديلها ما يمكن إسراره كشرب خمر ردت شهادتها. محمد: لأنه مما يظن أنه فعله قديما، وإن كان مما لا يمكن إسراره. قال عبد الملك: كقتل على نائرة أو قذف أو قتل من شهد عليه ففي ردها قولان. اهـ. وقال التتائي: إن حدث أي ظهر من الشاهد فسق بعد الأداء لشهادته عند الحاكم وقبل الحكم بها فإنها ترد، وعبر عن ظهوره بحدوثه لأن ظهوره حينئذ يؤذن بسبقيته للأداء لجري العادة غالبا بأن الشيء لا يظهر إلا بعد تكرره، وسواء كان الفسق مما يسر كالزنى والشرب أو لا كالجرح والقتل والقذف، وهو قول ابن القاسم وأصبغ. وقال ابن الماجشون: لا تبطل؛ واختاره غير واحد. اهـ.
بخلاف تهمة جر يعني أشه إذا ظهر بعد الأداء وقبل الحكم ما يؤذن بأنه يتهم في شهادة بأنه يجر بها نفعا إليه، فإن شهادته مقبولة لخفة الأمر في ذلك؛ مثاله أن يشهد لامرأة بمال ثم تزوجها قبل الحكم فإن شهادته لا ترد. قاله التتائي. يخِلافِ طُرُوِّ تهمة جر بعد الأداء كتزوجه بامرأة بعد أن شهد لها فإنها لا ترد، وقيده ابن رشد بأن لا يرى له خطبة لها قبل ذلك. اهـ.
وقال الخرشي: مثال تهمة جر ما إذا شهد شاهد بحق لامرأة ولم يحكم الحاكم بشهادته حتى تزوج الشاهد بتلك المرأة. وقاله أصبغ. اهـ. ونحوه للبشراخيتي.
تنبيه: قال عبد الباقي: بخلاف تهمة جر بعد الأداء وقبل الحكم فلا تضر، كشهادته بطلاق امرأة ثم تزوجها ولم يثبت أنه خطبها قبل زواج الشهود عليه بطلاقها، وكشهادته لامرأة بحق على آخر ولم يحكم بشهادته حتى تزوجها الشاهد. اهـ. قوله: كشهادته بطلاق امرأة ثم تزوجها
لخ، قال الرهوني: سكت عنه البناني مع أنه لا يصح أن يكون مثالا، لقوله: بعد الأداء وقبل الحكم، إذ لا يتصور نكاحه إياها قبل الحكم على الزوج بطلاقها، بل ولا بعده قبل انقضاء عدتها إن كانت مدخولا بها فيجب إسقاطه، ثم وجدت التاودي قد اعترضه. اهـ. وقال المواق: قال أصبغ: إن خاصم الشاهد المشهود عليه بعد الشهادة لم تبطل شهادته إلا أن يقر أن ما يطالبه به كان قبل إيقاع الشهادة. انتهى.
ودفع يعني أنه إذا ظهر بعد أداء الشهادة ما تحصل منه تهمة بأنه أراد بشهادته دفع ضرر عنه، فإن شهادته مقبولة لخفة الأمر في ذلك، كما لو شهد رجل بفسق آخر تم بعد ذلك شهد المشهود بفسقه قبل الحكم بفسقه على رجل أنه قتل شخصا خطأ والشاهد بالفسق من عاقلة المقاتل، فإن ذلك لا يبطل شهادته بالفسق. قال عبد الباقي: وتهمة دفع كشهادة شخص بفسق آخر ثم شهد المشهود بفسقه على رجل أنه قتل رجلا خطأ والشاهد بالفسق من عاقلة المقاتل، فإن ذلك لا يبطل الشهادة بالفسق. قاله الشيخ داود تبعا للبساطي. قاله أحمد. وقوله: ثم شهد المشهود بفسقه أي قبل الحكم بفسقه. انتهى. ومن أمثلة تهمة الدفع أيضا أن يستدين الشاهد العسر من المشهود له بعد الأداء لأنه دفع ضرر الفقر. اهـ. قاله عبد الباقي.
وعداوة يعني أنه إذا حدث بعد الأداء وقبل الحكم عداوة بين المشهود عليه والشاهد، فإن ذلك لا يضر في قبول الشهادة فيحكم بما شهد به، قال عبد الباقي: وقوله: "وعداوة" عطف على "تهمة"، ولو قال: بخلاف عداوة وتهمة جر ودفع لكان أولى؛ أي أن حدوث العداوة بعد الأداء وقبل الحكم لا يضر حيث تحقق حدوثها، وأما لو احتمل تقدمها على الأداء فإنها تضر كما مر في قوله: كقوله بعدها تتهمني وتشبهني بالمجنون مخاصما فما مر عداوة تُحقق سبقها أو احتمل، وما هنا حدثت بعد أداء الشهادة تحقيقا فلا معارضة. انتهى.
ولا عالم على مثله يعني أن شهادة العالم على العالم لا تجوز وظاهره ثبت أن بينهم عداوة أم لا، وقال عبد الباقي: ولا يشهد عالم على مثله حيث ثبت أن بينهم عداوة دنيوية وإلا قبلت؛ لأن شهادة ذوي الفضل مقبولة بعضهم على بعض. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)، ولا عبرة
بمن شنع عليهم. اهـ. وقال المواق: قال ابن عرفة: العمل اليوم على خلاف هذا، وشهادة ذوي القبول منهم مقبولة بينهم كغيرهم. اهـ. وقال الحطاب: قال ابن عرفة: قال في الطرر: قال بعض أهل الشورى: إن شهادة أهل المذهب جائزة على جميع المسلمين، يريد أصحاب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما. وقال في الاستغناء: إن هذا إجماع. اهـ. وقال الشبراخيتي: وكلام ابن عرفة: - يعني قوله العمل اليوم على خلاف هذا لخ - هو المذهب. اهـ. والذي يظهرما قاله ابن عرفة؛ لأن من ثبتت عدالته لا يتهم في تزوير الشهادة، لكن إن ثبتت العداوة بينهم فلا إشكال في عدم قبول شهادة بعضهم على بعض قاله مقيده عفا الله عنه.
وقال الخرشي: يعني أن العلماء الذين ثبت بينهم التحاسد والتباغض والعداوة إذا شهد أحدهم على صاحبه فإن شهادته عليه حينئذ غير جائزة، ولا يُحمَل كلامه إلا على هذا، وأما إذا لم يثبت ما ذكر بينهم فإن شهادة ذوي الفضل منهم مقبولة على بعضهم ولا مانع من ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام:(يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله)، وكلام ابن عرفة هو المذهب وإلا جازت إجماعا. قاله ابن عات. وأما قول ابن شعبان: تقبل شهادة القراء في كل شيء يعني العلماء إلا شهادة بعضهم على بعض. اهـ. فقد رده ابن عرفة وبالغ بعضهم في رد كلام الشعباني ونحوه بقوله: وهو كلام ساقط ولم يزل الأشياخ ينكرون هذه الرواية، وربما نسبوا إلى النقلة الوهم، وقد ذكر البرزلي عن شيخه التونسي إنكار هذه الرواية، وقال الشيخ عن شيخه: ليس عليها العمل. اهـ. وبالغ حلولو في شرحه للمختصر حتى قال في آخر كلامه: فيا ليت خليلا لم يذكره. انتهى.
وقوله: "ولا عالم على مثله" وكذا أهل الحرفة الواحدة بعضهم على بعض فهي غير مقبولة؛ أي على ما ذكر المص؛ لأن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء إذا كانت شهادتهم غير مقبولة فأولى أرباب الحرف. انظر الشارح. وهو خلاف ما صرح به أبو إسحاق الشاطبي، ونصه: وشهادة الأجنبي على الأجنبي المشارك له في الحرفة والسبب والجوار جائزة. قاله الخرشي.
ولا إن أخذ من العمال أو أكل عندهم يعني أن الأخذ من العمال المضروب على أيديهم أي الذين جعل لهم جباية الأموال فقط دون صرفها في وجوهها يقدح في العدالة ويبطل الشهادة، وأما العمال الذين فوض إليهم جميع أمور الأموال فجوائزهم كجوائز الخلفاء يجوز الأكل عندهم وأخذ جوائزهم من غير كراهة. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: ولا تقبل شهادة الشاهد إن أخذ من العمال المضروب على أيديهم أي الذين جعل لهم جباية الأموال فقط دون صرفها في وجوهها أو أكل عندهم متكرر الًا خذ أو الأكل. قال الشارح: لأن أخذه منهم وأكله عندهم مما يزري به ويحط قدره ويؤدي إلى إسقاط المروءة. انتهى. وقد يجاب عن المص بأنه أطلق في العمال لأن الغالب الحجر عليهم وأطلق في الأخذ والأكل عندهم، مع أنه مقيد بالتكرر لأن المرة كصغائر غير الخسة لا تقدح. قاله ابن مرزوق بعد اعتراضه بترك القيدين. اهـ.
قال الرهوني: قول الزرقاني متكرر الأخذ أو الأكل لخ شرط تكرر الأكل مسلم، وأما شرط تكرر الأخذ فهو ظاهر نقل المواق عن سحنون [لكنه]
(1)
اختصر كلامه جدا، والذي نقله المص في التوضيح وابن عرفة والحطاب وغيرهم عن سحنون يفيد أنه لا يشترط التكرر في الأخذ، وكذا ما نقله المواق عن المتيطي وما نسبه الزرقاني لابن مرزوق ليس فيه بل فيه عكسه، ونصه: وكان من حقه أن يقيد العامل بالضروب على يديه كما ذكرنا والأكل بالتكرر وهكذا هو منصوص. ثم ذكر الجواب، وقال ما نصه: قال في النوادر: وأما من قبل جوائز العمال المضروب على أيديهم فساقط الشهادة، وأما الأكل عندهم فإن كان المرة الفلتة فغير مردود، وأما المُدْمِنُ فساقطها. انتهى.
تنبيهان: الأول: ظاهر كلام المص أن ما ذكر قادح ولو فعله ليتصدق به، وفي المواق ما يفيد أن من فعله لهذا لا يقدح في عدالته. قلت: وذلك ظاهر إن كان فاعله ظاهر الفضل والدين معروفا بالورع والتحري؛ لأن مَن هذه حالته لا يظن به السوء عند أخذه وقد شهدت شيخنا الجنوي مرة أتاه بعض العمال المضروب على أيديهم بمال فقبله منه، ثم بعث به إلى بعض أقربائه ممن يستحقه
(1)
ساقط من الأصل، والمثبت من الرهوني، ج 7 ص 405.
ووجه المصلحة في ذلك ظاهر، ويؤخذ ذلك مما يأتي على الأثر من كلام المعيار بالأحرى. والله أعلم. قاله الرهوني.
الثاني: يقيد كلام المص أيضا بما في المعيار وسلمه وهو: وسئل سيدي عبد النور بن محمد العمراني رحمه الله عن بعض المشهود البرزين في الحوانيت يكثرون التردد إلى الولاة من غير حاجة ولا دعوى منهم إليهم [ويولونهم]
(1)
ويكثرون الجلوس معهم ليلا ونهارا ويأكلون من أطعمتهم من غير حاجة ولا دعوى إلى ذلك، فهل يكون ذلك قادحا في شهادتهم أم لا؟ فأجاب: أكرمكم الله تعالى، الأمر فيما سألتم عنه لا بد فيه من تفصيل ونظر خاص في عين الرجل المذكور، فإذا كان ظاهر العدالة معلوم الديانة وله منعة - صوابه ضيعة - تحتاج إلى المداراة عليها والذب لباطل الولاة عنها، وممن يرى القطع أن الوالي لا يقنع منه لغلظته إلا بمثل تلك الوالاة، فينبغي أن يجوز ولا يبطل بذلك ما تقرر من عدالته لعزة العدالة اليوم وشدة ضغطة الولاة وامتداد أيديهم في خاصة الناس وعامتهم، وإن علم من الرجل المذكور أنه لَيّنٌ لا حامل له على موالاة الوالي المذكور إلا ليتوصل به وبجاهه إلى اكتساب الدنية والرغبة في نصبه إياه للوجوه الفيدة في الجبايات الباطلة من غير نظره إلى التوقي مما يشين أو يقدح في منصب العدالة من غير قصد دفع مظلمة أو تُقيةٍ فلا خفاء أن مثل هذا ساقط العدالة بعيد من درجة قبول الشهادة. وبالله تعالى التوفيق لا رب سواه. اهـ. قاله الرهوني أيضا. والله تعالى أعلم.
بخلاف الخلفاء يعني أن الخلفاء يجوز الأكل عندهم ويجوز أخذ جوائزهم ومثلهم العمال المفوض إليهم جباية الأموال وصرفها في مصارفها كالباشا، وكالأمراء الملتزمين للبلاد فلا يقدح الأخذ منهم والأكل عندهم في الشهادة، إذ جوائزهم كجوائز الخلفاء تجوز من غير كراهة. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: يعني أن الخلفاء يجوز الأكل عندهم ويجوز أخذ جوائزهم. وفي التمهيد لابن عبد البر: قال سفيان: جوائز السلطان أحب إلي من صلة الإخوان لأنهم لا يمنون والإخوانُ يمنون،
(1)
الذي في الرهوني ج 7 ص 402 ويوالونهم.
وكانت هدايا المختار تأتي ابنَ عمر وابنَ عباس، وقال الحسن: لا يرد عطاءَهم إلا الأحمق
(1)
أو مُرَاءٍ. اهـ. وهذا فيما لا يعلم فيه الحرام بعينه. وأخذ الإمام الشافعي من هارون الرشيد ألف دينار دفعة واحدة، وأخذ مالك من الخلفاء أموالا جمة. وقوله:"بخلاف الخلفاء" ينبغي إعرابه بأنه خبر مبتدإ محذوف تقديره: وذلك بخلاف الخلفاء. اهـ.
وقال محمد بن الحسن البناني: قسم ابن رشد ما بيد الأمراء من الأموال إلى ثلاثة أقسام، أحدها: أن يكون حلالا لكن لا يعدلون في قسمه فهذا الأكثر على جواز قبوله منهم وقيل يكره. الثاني: أن يكون مختلطا فهذا الأكثر على كراهته وقيل يجوز. الثالث: أن يكون حراما وهذا قيل يحرم أخذه منهم وقيل يكره وقيل يجوز. وقال ابن رشد: إن كان الغالب عليه الحرام فله حكم الحرام، وإن كان الغالب عليه الحلال فله حكم الحلال وفيه كراهة ضعيفة. اهـ.
وفي الإحياء: أموال السلاطين في عصرنا حرام كلها أو جلها حتى الجزية لأنها إنما تؤخذ بأنواع من الظلم وكذا غيرها فلا ينبغي الأخذ منهم بحال لذلك، ولأنهم إنما تسمح أنفسهم في خصوص هذه الأزمنة لمن طمعوا في استخدامه والاستعانة به على أغراضهم الفاسدة. اهـ. وفي كتاب مسلم في باب الزكاة: قيل لأبي ذر: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه فإن فيه اليوم معونة فإذا كان ثمنا لدينك فدعه. اهـ. أي بأن يرى العطاء منهم فيستميله به عن الحق، وإنما كان أخذ علماء السلف منهم لما علموه من صلاح قصدهم دون مذلة ولا سؤال ولا يطيعونهم في أغراضهم الفاسدة. اهـ. ثم كان العلماء يأخذونه ويفرقونه. وفي الإحياء أيضا: منع قبول الفتوى والرواية والشهادة من الذي يرى أنه يأكل من مائدة لسُلطانٍ أغلبُ مالِه حرامٌ ويأخذ منه إدْرارا وصلة من غير أن يعلم أن الذي يأخذه من وجه حلال، فكل ذلك فسق يقدح في العدالة. اهـ. نقله الشيخ أبو زيد رضي الله عنه. اهـ.
وقال المواق: وأما الأمراء الذين فوض إليهم الخليفة أو خليفته قبض الأموال وصرفها في وجوهها باجتهادهم كالحجاج وشبهه من أمراء البلاد المفوض جميع الأمر فيها إليهم فجوائزهم كجوائز
(1)
الذي في العدوى ج 7 ص 193 إلا أحمق.
الخلفاء، وأما القضاة والأجناد والحكام فلهم أخذ أرزاقهم من العمال المضروب على أيديهم، وإن كان المَجْبيُّ حلالا لم يعدل في قسمه فالأكثر على جواز أخذ الجائزة منه وكرهه بعضهم، وإن شاب المجبي حلال وحرام فالأكثر على كراهة الأخذ منهم، ومنهم من أجازه وإن كان المجبي حراما فمنهم من حرم أخذ الجائزة والرزق على عمل من الأعمال منه، وروي هذا عن مالك ومنهم من أجازه ومنهم من كرهه.
تنبيهات: الأول: نقل ابن بطال عن الطبري: من كان من أهل الإسلام بيده مال لا يُدْرَى من حرام، كسبه أم من حلال فإنه لا يحرم قبوله لمن أعطيه بعد أن لا يعلمه حراما بعينه. قال: وبهذا قالت الأئمة من الصحابة والتابعين، ومن كرهه فإنما ركب في ذلك طريق الورع وتجنب الشبهات لأن الحرام لا يكون إلا بينا.
الثاني: قال المواق: وفي طرر ابن عات، من عمل للسلطان فظلم الناس أو كان قاهرا غاصبا أو قاطعا للسبيل أو سارقا أو تاجرا عمل بالربلا ثم مرض وأراد أن يتمخى مما نال من ذلك كله وأراد أن يوصي بماله كله عن ذلك، وقال: أنا قد نلت من أموال الناس أكثر من جميع مالي ولا أعلم أصحابه وأنا أوصي بجميع مالي عن ذلك كله للمساكين لم يكن له ذلك إذا أبى ورثته عن ذلك وجاز له الثلث، وكان ينبغي أن يفعل ذلك في صحته. انتهى.
الثالث: في المدونة: من أودعته دنانير فابتاع بها سلعة فليس لك أخذها، إنما لك أخذ دنانيرك. اهـ. وهذا يشبه ما للمص من قوله: وكره النقد والمثلي لخ.
الرابع: قوله: "بخلاف الخلفاء" ظاهره ولو تحقق جور الخليفة وهو كذلك. انظر كلام سحنون الذي في الحطاب والتوضيح وغيرهما. قاله الرهوني.
ولا إن تعصب الفاعل ضمير يعود على"العدل". قاله ابن مرزوق. يعني أنه لا تقبل شهادة الشخص إن تعصب أي اتهم على التعصب، قال ابن فرحون: ومن موانع الشهادة العصبية، وهي أن يبغض الرجل الرجل لكونه من بني فلان. اهـ. قاله الشبراخيتي. وقال البناني في المفيد: العصبية أن يبغض شخصا لكونه من بني فلان، روي عن واثلة بن الأسقع قلت: يا رسول الله ما
العصبية؟ قال: (أن تعين قومك على الظلم)
(1)
، قال ابن مرزوق: والأولى أن تمثل بشهادة الأخ لأخيه بجرح أو قذف، ومما يتوهم فيه العصبية أيضا منعهم من تعديل شاهد الأخ وتجريح شاهد عليه، ومن ذلك ما تقدم من شهادة بعض العاقلة بفسق شهود القتل فإن العصبية فيه ظاهرة، وكذا شهادة العدو على عدوه. اهـ. وقال عبد الباقي: كبغضه لكونه من بني فلان أو من قبيلته. اهـ.
كالرشوة يعني أن الرشوة تبطل الشهادة، وفي الحديث:(لعن الله الراشي والمرتشي)
(2)
والرشوة: بذل مال لإبطال حق أو تحقيق باطل، وأما دفع المال لإبطال باطل أو تحقيق حق فهو جائز للدافع حرام على الآخذ. قاله غير واحد. فهي مسقطة لشهادة الآخذ والمعطي، وقد علمت أن دفع المال لتحقيق حق جائز فليس برشوة، قال التتائي: كالرشوة مثلثة الراء، والتشبيه لإفادة الحكم وهي من الكبائر لخبر:(لعن الله الراشي والمرتشي). وعرفها بعضهم بأنها: بذل مال لتحقيق باطل أو إبطال حق، يحتمل أن يريد المص آخذها أو دافعها أو هما معا، وأما إن دفعت لإبطال ظلم فجائز للدافع محرم على الآخذ. اهـ. وعلم من هذا أن الآخذ تسقط شهادته مطلقا، وأن الباذل يفصل فيه، فإن كان دفعها لتحقيق حق أو إبطال باطل فذلك جائز، وإن كان لإبطال حق أو تحقيق باطل حرم ذلك وقدح في شهادته. انظر البناني. والراشي هو الباذل والمرتشي هو الآخذ.
واعلم أن المرتشي هو من كان شأنه أخذ الرشوة فترد شهادته ولو كان لم يأخذ من هذا الذي شهد له الآن. قاله الخرشي. وقال: قال بعض العلماء: وهي مأخوذة من الرشاء لأنه يتوصل بها إلى مطلوبه كالحبل، ولهذا قيل: الرشوة رشاء الحاجة، وفي الرشوة وجمعها أربع لغات: رشوة ورشا بكسر الراء فيهما، ورشوة ورشا بضم الراء فيهما، ورشوة بالكسر ورشى بالضم وعكسهما ورنتوة بالفتح، وقد رشاه يرشوه وارتشى أخذ رشوة واسترشى طلبها. اهـ.
(1)
أبو داود، كتاب الأدب، رقم الحديث:5119.
(2)
الترمذي، كتاب الأحكام، رقم الحديث:1336. أبو داود، كتاب القضاء، رقم الحديث: 3580. ابن ماجه، كتاب الأحكام، رقم الحديث:2313.
قال مقيده عفا الله عنه: علم من هذا أن الرشوة تطلق على المال المدفوع وعلى الدفع. والله تعالى أعلم. وتلقين خصم يعني أن شهادة من يلقن الخصوم غير جائزة أي يلقنه من الحجة ما يستعين به على خصمه بغير حق، وأما ما يثبت به حقه من ذلك فليس بمانع من القبول. قاله الخرشي وغيره. وفي الحديث:(من ثبَّتَ غَبيًّا في خصومة حتى يفهمها ثبت الله قرمه يوم تزل الأقدام). انتهى. وقال عبد الباقي: لا تجوز شهادة من شأنه تلقين الخصوم، وإن لم يلقن الذي شهد له الآن. انتهى. وقال المواق: قال ابن عات: لا تجوز شهادة مرتش ولا ملقن للخصوم فقيها كان أو غيره، ويضرب على يديه [ويشهد]
(1)
به في المجالس ويعرف به ويسجل عليه، وقد فعله بعض القضاة بقرطبة بكثير من الفقهاء بمشورة أهل العلم عنده. اهـ.
تنبيه: قال المواق: وسئل بعض الشيوخ المتأخرين عن الهدية تأتي الفقيه عن الفتيا؟ فقال: إن كان ينشط في الفتوى. أهدي إليه أو لم يهد إليه فلا بأس بها، وإلا فلا يأخذها وهذا ما لم تكن خصومة، وإنما يستفتيه في شيء يعرض له والأحسن أن لا يقبل هدية من صاحب فتيا ولا مسألة وهو قول ابن عيشون، وكان يجعل غير ذلك رشوة. وقال عليه الصلاة والسلام:(من شفع لأخيه شفاعة وأهدى إليه هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا)
(2)
. ومن هذا انقطاع الرعية إلى العلماء والمتعلقين بالسلطان لدفع الظلم عنهم فَيُهَادُونَهُمْ لذلك، وما أُهْدِيَ لفقيه رجاء العون على خصومة فلا يحل له قبولها لأنها رشوة، وكذلك إذا تنازع إليه خصمان فأهْدَيَا إليه جميعا أو أحدهما يرجو أن يعينه في حجة عند حَكَمَ إذا كان ممن يسمع منه فلا يحل له أن يأخذ منهما ولا من أحدهما شيئا على ذلك. انتهى.
وقال البناني عند قوله: "وتلقين خصم" قال الشيخ المسناوي رحمه الله تعالى: من هذا ما يفعله المفتون اليوم لأن الإفتاء إنما كان في الصدر الأول لأحد أمرين: إذا توقف القاضي في الحكم، أو سجل الحكم. إلا أنه خيف أن يكون حكمه لم يصادف محله فيأتون بالحكم مكتوبا للمفتي، وأما
(1)
في المواق ج 8 ص 200 ويشهر.
(2)
أبو داود، أبواب الإجارة، رقم الحديث 3541 باختلاف يسير.
الآن فلا تراهم يشرعون في الخصام إلا بعد الاستفتاء لينظر هل الحق له أو عليه فيحتال على إبطاله؟ وترى المفتي الواحد يكتب لكل واحد من الخصمين نقيض ما كتب للآخر في نازلة واحدة. نسأل الله أن يصلح أمورنا. انتهى.
فائدة: الربا يطلق على كل حرام، قال ابن مرزوق: الرشوة من الربا على تفسير عائشة رضي الله تعالى عنها الربا بكل حرام، وقد قال تعالى:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} جاء في تفسير أنه الرشى، وخرج الترمذي وغيره من حديث عبد الله ابن أبي أوفى قال:(لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي)
(1)
. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. اهـ.
ولعب نيروز يعني أن لعب النيروز يقدح في الشهادة، والنيروز قال الخرشي: هو أول يوم السنة القبطية ولعبه يقدح في العدالة لأنه مظنة ترك المروءة لا سيما إذا لعبه مع الأوباش، وهو من فعل الجاهلية والنصارى، وقد قال عليه الصلاة والسلام:(من أحب قوما فهو منهم)، ثم إن الإضافة على معنى في كقوله تعالى:{مَكْرُ اللَّيْلِ} أي لعب في يوم نيروز، قال التتائي: قيل إنه كان بمصر قديما يفعل في يوم النيروز ولا نعرف صفته، لكن رأيت ببعض قرى الصعيد يأتي رجل ممن يسخر به لكبير القرية، فيجعل عليه فروة أو حصيرا يحزمه في رقبته ويركب فرسا ويتبعه رعاع الناس وحوله جماعة يقبضون على من أمرهم بالقبض عليه على وجه اللعب ولا يطلقونه إلا بشيء يدفعه لهم أو يعدهم به. اهـ. وقال ابن مرزوق: ولعب نيروز أي وكذا ترد شهادة من يتعاطى لعب النيروز أو يصنع فيه ما يصنعه النصارى، فإنه من أعيادهم ومواسمهم يصنعون فيه أطعمة مخصوصة ويلعبون فيه لعبة تخص به أيضا، فمن وافقهم في صنيعهم أو لعبهم من المسلمين قصدا لذلك الفعل في ذلك الوقت فهو مردود الشهادة لاستنانه بسنة أهل الكفر ومخالفة سنة المسلمين. قال ابن عات في طرره: ويجرح الرجل بصنيعه في النيروز والهرجان؛ إذ هو من فعل النصارى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(من عمل عملا ليس عليه أمر لنا فليس منا). اهـ. قلت: ونص
(1)
سنن الترمذي، كتاب الأحكام، رقم الحديث 1336 - أبو داود، كتاب القضاء، رقم الحديث 3580.
الحديث الآخر في البخاري: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ)
(1)
. والنيروز هو: يناير، والهرجان: العنصرة؛ وهو اليوم الرابع والعشرون من شهر يونيه. اهـ.
ومطل يعني أن المطل قادح في الشهادة، والمطل هو: تأخير الدفع عند استحقاق الحق وقدرته عليه مع الطلب أو تركه استحياء من طلبه. قال عبد الباقي: ومطل من مقر بحق غني لأنه إذاية للمسلم في ماله، والمطل تأخير الدفع عند استحقاق الحق وقدرته عليه مع الطلب أو تركه استحياء من طلبه، كما يفهم من بحث التوضيح، وهذا إذا تكرر ذلك منه كما يفيده ابن رشد. اهـ. ونحوه للخرشي مستدلا بقوله عليه الصلاة والسلام:(مطل الغني ظلم)
(2)
، قال: فوصفه بالظلم؛ والظالم لا تقبل شهادته. اهـ. ونحوه لابن مرزوق، وزاد ما نصه: لقوله صلى الله عليه وسلم: (لَيُّ الواجد يحل عقوبته وعرضه)
(3)
، واللَّيُّ أيضا التأخير والعدل لا يكون ظالما ولا تباح عقوبته ولا عرضه.
واعلم أن هذه الأمور كل واحد منها قادح، فالواو في هذه المعطوفات ينبغي أن تحمل على التقسيم. انظر ابن مرزوق. وقال الحطاب: ومطل، قال في التوضيح: وإذا مطل الغني ردت شهادته عند سحنون لأنه ظالم، لا عند محمد بن عبد الحكم. خليل: والظاهر أن من علم من صاحب الدين الاستحياء في المطالبة أن ذلك كالمطل. والله أعلم. وزاد أبو الحسن في القول الثاني: ما لم تكن عادته. انتهى.
فرع: قال في التوضيح: البخيل الذي ذمه الله ورسوله هو الذي لا يؤدي زكاة ماله، فمن أدى زكاة ماله فليس ببخيل ولا ترد شهادته، وقال بعض أصحابنا: شهادة البخيل مردودة وإن كان مرضي الحال يؤدي زكاة ماله. اهـ. قال ابن فرحون: وقد اختلف في شهادة البخيل وإن كان يؤدي زكاته. قال المازري: البخل منع الحقوق الواجبة، وأما منع ما لا يجب فالقدح به في
(1)
البخاري، كتاب الاعتصام، رقم الحديث:7394. ومسلم، كتاب اللقطة، رقم الحديث: 1718.
(2)
البخاري: كتاب الحوالات، رقم الحديث: 2287 ومسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث:1564.
(3)
أبو داود، كتاب القضاء، رقم الحديث: 3628 والنسائي، كتاب البيوع، رقم الحديث 4693.
الشهادة مفتقر إلى تفصيل يعرفه من عرف الاستدلال بحركات الناس وطبائعهم وسيرهم في دينهم وصدقهم. اهـ.
وحلف بعتق وطلاق يعني أن الحلف بالعمق قادح في العدالة فترد شهادة الحالف فيه، وكذلك الحلف بالطلاق قادح في العدالة فترد به الشهادة. وعلم مما قررت أن الحلف بأحدهما كاف في القدح، فالواو بمعنى أو. قال الشبراخيتي:"وحلف بعتق وطلاق": الواو للتقسيم بمعنى أوْ وَالحلف بأحدهما قادح في الشهادة، لحديث:(إنهما من أيمان الفساق)
(1)
، لكن قال السخاوي: لم أقف على أنه حديث، وذكره في النوادر عن ابن حبيب. انتهى. وقال عبد الباقي: وحلف بعتق وطلاق، الواو بمعنى أو وهذا إذا تكرر ذلك منه، وعليه يحمل أيضا خبر:[الطلاق والعتاق من أيمان الفساق]، فسمى الحالف بذلك فاسقا وهو لا تقبل شهادته. اهـ. وقال الحطاب: وحلف بطلاق وعتق، ظاهره أن مجرد الحلف بهما ولو مرة يكون جرحة، والذي ذكره في مختصر الواضحة في أول كتاب الأيمان أنه جرحة في حق من اعتاد الحلف بذلك، فيتعين أن يقيَّد ذلك بمن اعتاد الحلف بذلك كما ذكره في الواضحة، وكما وقع ذلك في كلام صاحب النوادر واللخمي وابن رشد والمتيطي وغيرهم ناقلين له عن مطرف وابن الماجشون وكلهم قبلوه، وقد نقلت كلامهم في الحاشية على رسالة ابن أبي زيد عند قول صاحب الرسالة: ويؤدب من حلف بطلاق أو عتاق، وقال ابن فرحون: من الموانع اعتياد الحلف بالطلاق والعتاق. اهـ. فالجرحة إنما تكون لمن اعتاد ذلك. والله أعلم. اهـ.
وبمجيء مجلس القاضي ثلاثا بلا عذر يعني أن الشهادة ترد بمجيء الشاهد إلى مجلس القاضي ثلاثة
(2)
أيام متوالية بلا عذر قاله الحطاب. لاتهامه أن له خصوصا بالقاضي أو لأنه يطلع على الخصومة وغيرها فيتحيل في تحريف الخصومة، وأولى ثلاث مرات في يوم واحد. واحترز بقوله:"بلا عذر" عما إذا كان ذلك لعذر كحاجة أو علم فإنه لا يكون قادحا. قاله الشبراخيتي. وقال البناني: قال ابن فرحون: ومن الموانع إتيان مجلس القاضي ثلاثة أيام متوالية من غير حاجة،
(1)
كشف الخفاء، رقم الحديث:1660.
(2)
في الأصل: ثلاث، والمثبت من الشبراخيتي مخطوط.
لأن في ذلك إظهار منزلته عند القاضي ويجعل ذلك مأكلة، وينبغي للقاضي أن يمنعه من ذلك. اهـ. وأما تعليل الزرقاني بقوله: لأن مجلسه عورة، فلم أره لغيره. اهـ.
قال مقيده عفا الله عنه: هو في التتائي الكبير والخرشي ولكنه غير ظاهره. والله تعالى أعلم. وقال ابن مرزوق معللا قوله: "وبمجيء مجلس القاضي" لخ: إما لأنه يطلع على ما يجري في مجلسه من الأحكام وغيرها فيَتَحَيَّل في تحريف الخصومة، أو لأنه يوهم الناس أن له اختصاصا بالقاضي. اهـ. وقال عبد الباقي: وبمجيء مجلس القاضي ثلاثا أي ثلاثة أيام متوالية، وأولى ثلاث مرات في اليوم بلا عذر لا له كعلم أو حاجة فغير قادح. اهـ.
وقال الحطاب: قال ابن فرحون: ومن الموانع إتيان مجلس القاضي ثلاثة أيام متواليات من غير حاجة؛ لأن في ذلك إظهار منزلته عند القاضي ويجعل ذلك مأكلة، وينبغي للقاضي أن يمنعه من ذلك. وقال في العارضة في كتاب الزكاة في كون الصحابة جلوسا حول النبي صلى الله عليه وسلم: هذا يدل على جواز الجلوس حول القاضي يسمعون قضاءه ويتعلمون أعماله، وقال الفقهاء: لا يجلس حوله [أحد]
(1)
، وذلك منقسم، أما من كان قصده التعلم ويظن ذلك به فليقرب، ومن كانت إرادته الدنيا ليس المعلم فليباعد، ومن كان قصده التعلم ويطوي في ذلك نيل معاش حلال فيمكن
(2)
ذلك بحسب ما [يظهر للعامل]
(3)
القاضي من شمائل أو فراسة. انتهى.
وتجارة لأرض حرب يعني أن التجارة إلى أرض الحرب أو إلى بلد السودان تقدح في العدالة. قال سحنون من ركب البحر إلى بلاد الروم لطلب الدنيا فهو جرحة في حقه وهو المشهور لجري أحكام الكفر عليه. قاله الخرشي. وقال عن بعض الشراح: أي إذا كانت تجري عليه أحكام الحربيين، وقيده بعضهم بما إذا علم ذلك. وظاهر كلام المؤلف الإطلاق؛ ومثل أرض الحرب أرض السودان. اهـ. وقال الخرشي: السفر إلى أرض الحرب على ثلاثة أوجه، فإن كانوا يُكرِهون من سافر إليهم على فعل ما لا يجوز من التقرب لآلهتهم أو على شرب خمر لم يجز السفر إليهم، وإن كانوا لا
(1)
ساقطة من الأصل، والمثبت من العارضة ج 2 ص 73.
(2)
كذا في الأصل: والذي في الحطاب ج 6 ص 390 ط دار الرضوان: فيمكن وذلك.
(3)
كذا في الأصل، والذي في العارضة ج 2 ص 73: ظهر للعالم.
يُكرهون على شيء مما ذكر ولكن يناله مذلة وصَغار لم يجز أيضا والأول أشدت وإن كان سفره إليهم كسفره إلى بلد الإسلام كان الأمر أخف ولا يبلغ به الجرحة. وظاهر قول اللخمي أنه في القسم الأول والثاني جرحة، وقال ابن حبيب: قول مالك وأصحابه أنه لا يجوز دخول أرض الحرب لا تاجرا ولا غير تاجر إلا أن يدخلها للمفاداة، وينبغي أن يمنع الإمام من ذلك ويشدد ويجعل الوعد فيه. قال سحنون: من ركب البحر إلى بلاد الروم لخ.
وقوله: "وتجارة" مفهومه أنه لو دخل دار الحرب بمفاداة أسير من المسلمين عندهم أو أدخلته الريح غلبة فلا يكون جرحة وهو كذلك. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وتجارة لأرض حرب أو ببلد سودان، واحترز بتجارة عن دخول أرضهم لفداء مسلم عندهم أو أدخلته الريح غلبة، ولا تجوز شهادة تجار لا يعرفون أحكام البيع والشراء، لما في مال ولما في نكاح ولا في شيء من الأشياء لغلبة أكلهم الربا بسبب جهلهم أحكام البيع والشراء. هذا مذهب مالك وأجازها ابن مسلمة في تقويم ما بأيديهم من السلع لرفتهم بها، وكذا يقول المالكية حيث لم يرى التقويم غيرهم. اهـ. وقال المواق: قال سحنون: لا تجوز شهادة من تجر إلى أرض العدو، وأجازها أبو صالح في المختلفين إلى أرض العدو إذا كانوا لا بأس بحالهم، قال البرزلي: كان شيخنا الإمام يقول في السفر في مراكب الروم: نُظر في حال هذا، كان بعض أهل الصلاح يركب معهم. اهـ. وقال ابن مرزوق: وفي المتيطي: وقال أصبغ: لا تجوز شهادة الدرب في البحر إلى أرض الحرب للتجارة. انتهى. الجوهري: الدرب معروف وأصله المضيق في الجبال، ومنه قولهم: أدرب القوم إذا دخلوا أرض العدو من بلاد الروم. اهـ. ومنه درب الحجاز لبريته المشهورة، وكأن عبارة أصبغ تعطي أن التجريح بما ذكر لتغريره بنفسه كما قيل في قول الشيخ: وبلد السودان لا لجري أحكام الكفر، وقد تكون العلة مركبة من الأمرين. اهـ.
وسكنى مغصوبة يعني أن الشهادة ترد بالانتفاع بكل ما علم غصبه، كسكنى الدار المغصوبة ونحو ذلك، وسواء كان الشاهد الساكن في الدار المغصوبة أو المنتفع بما علم غصبه هو الغاصبَ أو غيرَه. قال عبد الباقي: وسكنى دار مغصوبة، وكذا كل انتفاع بما علم غصبه. انتهى. وقوله: "سكنى
مغصوبة" قال ابن مرزوق: وهذا بين لأن سكناه في الدار المغصوبة فسق والفاسق لا تجوز شهادته. انتهى.
أوْ مَعَ وَلَدٍ شرِّيبٍ يعني أن الشهادة تسقط أيضا بسكنى الشاهد مع ولد له شريب أي كثير شرب الخمر، وهذا إن علم به ولم يغير عليه مع القدرة، وأما إن غير عليه جهده ولم ينزجر أو لم يقدر على التغيير ولا على الانتقال عنه فلا تسقط شهادته إذا هجره بقدر الإمكان، ويفهم قيد المعلم من قوله:"شريب" إذ الغالب على من يساكن من تكون حاله هذه أنه لا يخفى عليه حاله ويعلم قيد نفي التغيير، وما ذكر بعده من كون هذا الأصل من باب تغيير المنكر فمن تركه مع القدرة وتوفر شروط التغيير فهو آثمٌ مجرح، ومن فعل ما وجب عليه من ذلك بغاية الإمكان فقد سقط عنه الفرض؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم:(من رآى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)
(1)
، وإذا عرفت هذا علمت أنه لا فرق في مساكنة الشريب بين الولد وغيره. قاله ابن مرزوق.
وقال عبد الباقي: أو سكنى مع ولد شريب أيمما مكثر شرب خمر كما تفيده صيغة المبالغة؛ لأن سكوته على ذلك مع قدرته على منعه أو إزالته دليل على عدم مروءته. قاله الش. والكثرة بالعرف أو تفسر بما فسر به إدامة الشطرنج، تردد في ذلك بعض وتعليله يفيد أن غير الولد مثله، ويفهم بالأولى لزيادة محبة ولده على غيره من أقاربه غالبا، وكذا كل ما يحرم أكله وتعاطي سائر ما يحرم مع قدرة على الإزالة في الجميع. اهـ.
وقال الشبراخيتي: أو بسكناه مع ولد - وأحْرى غيره، وإنما نص على المتوهم - شريب بكسر الراء المشددة من ألفاظ المبالغة أي يكثر شرب السكر من خمر أو غيره ولا مفهوم للشريب، والمراد السكنى مع شخص مرتكب للمعاصي وهذا إذا علم به ولم يُغَيِّر عليه مع القدرة، وأما إن لم يعلم أو غير جهده ولم ينزجر أو لم يقدر على التغيير ولا على الانتقال عنه لم تسقط شهادته إذا هجره طاقته. اهـ.
(1)
مسلم. كتاب الإيمان، رقم الحديث 49.
وقال التتائي: وسكنى دار مغصوبة غصبها غيره: وسكنها هو لأنه مأمور بالخروج منها في كل وقت، وقد اختلف العلماء في صحة الصلاة فيها وأحرى إن كان هو الغاصب، أو سكناه مع ولد له شريب أي يكثر شرب السكر من خمر أو غيره، وكذا كراء داره لمن يبيعه بها أو يبيعها لمن يبيعه بها وترد أيضا شهادة بائعه. انتهى. وقال الحطاب: قال ابن فرحون: من الموانع أن يسكن في دار يعلم أن أصلها مغصوب. اهـ. وقال ابنه: ومن ذلك معاملة أهل المغصوب والسلف منهم؛ وقال بعده: والطحن في الرحى المغصوبة إذا علم ذلك. اهـ.
وقال البناني: قال في المفيد عاطفا على ما تبطل به الشهادة: وبسكناه دارا يعلم أن أصلها مغصوب، أو يكون له ولد شريب يسمع الغناء من الخدم وغيرهن ويسكن معه في دار واحدة. اننهى. وقال أبو عمر في كافيه: ومن جلس مجلسا واحدا مع أهل الخمر في مجالسهم طائعا غير مضطر سقطت شهادته وإن لم يشربها، ومن دخل الحمام بغير مئزر وأبدى عورته سقطت شهادته وبانت جرحته إلا أن يكون وحده أو مع حليلته. اهـ.
وبوطء من لا توطأ قال الخرشي: يعني أن من وطئ من لا توطأ شرعا لا تجوز شهادته، كمن اشترى أمة فوطئها قبل استبرائها، وكذلك من وطيء زوجته في حيضها أو في نفاسها أو عادة كوطء من لا تطيق الوطء، ويشهد لذلك ما نقله حلولو في قوله في النكاح:"والبتوتة حتى يولج بالغ قدر الحشفة" ونصه: واشترط اللخمي وغيره كون الزوجة مطيقة للوطء، وأما إن كانت صغيرة جدا فلا تحل بذلك وهي جناية. اهـ. فاقتضى أن وطء غير المطيقة حرام لأنه جناية، ومحل رد الشهادة في ذلك، ووجوب الأدب عليه إذا كان يعلم حرمة ذلك. اهـ. ونحوه لعبد الباقي والشبراخيتي، فإنه قال: وبوطء من لا توطأ أي من لا يجوز وطؤها شرعا، لحيض وصوم وإحرام واستبراء وأمة مشتركة ونحوها، أو عادة كوطء من لا تطيق الوطء ويؤدب إن كان يعلم حرمة ذلك.
وبالتفاته في الصلاة يعني أن المصلي إذا التفت في صلاته فإن ذلك يكون قادحا في شهادته. قال الخرشي: يعني أن المصلي إذا التفت في صلاته عن يمينه أو عن شماله يكون قادحا في عدالته،
وسواء كانت صلاته فرضا أو نفلا لأن ذلك يدل على عدم اكتراثه بها ويدل على استخفافه بها، وذلك مخل بالمروءة. وقال حلولو: يعني - والله أعلم - إذا كثر ذلك منه لغير ضرورة، وفي شرح الأجهوري: وظاهره يشمل من لم يتكرر منه ذلك. اهـ. وكذلك ترد شهادته إذا كان لا يقيم صلبه في أركانها من غير عذر، وكذا من أخر صلاته عن وقتها الاختياري عمدا إذ لا يجوز تأخيرها عن وقتها الاختياري من غير عذر. اهـ. ونحوه لعبد الباقي. قول الخرشي: فرضا أو نفلا، قال البناني: هكذا نقله ابن يونس وغيره عن ابن كنانة. وقال ابن عرفة: الأظهر إن علمت إقامته في الفرض جازت شهادته. اهـ. قاله البناني.
قوله: عكذا نقله ابن يونس، قال الرهوني: فيه نظر؛ لأن كلامه صريح في أن كلام ابن كنانة واختيار ابن عرفة هو في الالتفات وليس كذلك، فإن الذي قال ابن كنانة ونقله عنه ابن يونس وغيره من التسوية بين الفرض والنفل لم يقله في الالتفات [في نص]
(1)
ابن يونس، قال ابن كنانة: ومن لا يقيم صلبه في الصلاة في الركوع والسجود فلا تقبل شهادته إذا تعمد ذلك في فريضة أو نافلة. اهـ. وهكذا نقله المواق. وقال ابن كنانة: ولا تقبل شهادة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود في فريضة أو نافلة إذا كان فعله ذلك من غير سهو ولا عذر. اهـ. ونص ابن عرفة في الواضحة عن الأخوين وابن عبد الحكم وأصبغ من يُعرَفُ أنه لا يقيم صلبه في الركوع والسجود دون عذر لم تجز شهادته، قلت: الأظهر إن علم إقامته في الفرض جازت شهادته. اهـ. فأنت ترى هذه المنصوص كلها إنما فيها التسوية بين الفريضة والنافلة في عدم إقامة الصلب، ولم يذكروا عنه الالتفات أصلا ولم يذكر في المفيد الالتفات إلا عن بعض العلماء، فإنه قال: قال بعض العلماء: يجرح الشاهد بأكل الربا فذكر أمورا إلى أن قال: وبالالتفات يمينا وشمالا. ونقله ابن مرزوق شاهدا للمص مقتصرا عليه. وظاهره الإطلاق لكن اختيار ابن عرفة السابق يجري في
(1)
كذا في الأصل والذي في الرهوني ج 7 ص 406 ونص ابن يونس.
الالتفات بالأحرى، ولا يصح قياس الالتفات على ما لابن كنانة من تعميم الإقامة في الركوع والسجود لوضوح الفارق. انتهى.
فرع: قال البناني: نقل ابن يونس في الكثير المال القوي على الحج فلم يحج: فهو جرحة إذا طال زمانه واتصل وفره وليس به سقم، قيل له: وإن كان بالأندلس؟ قال: وإن كان. اهـ. ومثله في العتبية عن سحنون، قال ابن رشد عقبه: وهذا بين على ما قاله؛ لأن الحج من دعائم الإسلام الخمس، قال: وإنما اشترط طول الزمان مع القدرة لاختلاف أهل المعلم في الحج، هل على الفور أو على التراخي؟ فلا يكون تأخيره كبيرة إلا أن يؤخره تأخيرا كثيرا يغلب على الظن فواته به، والذي أقول به: إن ذلك لا يكون إلا بعد بلوغ حد التعمير وهو سبعون عاما، فمن تركه بعد السبعين وهو قادر عليه فهو عنده آثم بإجماع مجرح ساقط الشهادة. وقوله: في أهل الأندلس إنهم لا عذر لهم بسبب البحر لقدرتهم على الانتقال إلى موضع لا يكون بينهم وبين الحج بحر، معناه أنهم إن كانوا من الأندلس بموضع يتعذر الجواز منه فإنهم يقدرون على الانتقال منه إلى موضع لا يتعذر الجواز منه، فإنما تكلم - والله أعلم - على ما وصف له من تعذر الجواز في البحر في موضع دون موضع. اهـ باختصار.
وباقتراضه حجارة من المسجد يعني أنه إذا تسلف حجارة أو خشبة أو غير ذلك من المسجد فإنه يجرح بذلك ولو رد مثلها؛ لأنه من معنى بيع الحبس، وكما يجرح آخذها يجرح دافعها له، ولذا قال ابن مرزوق: وفي بعض النسخ: وبإقراضه، فيكون المراد الذي يعطيها سلفا والأمر فيهما سواء. اهـ. وكلام المص حيث علم الحرمة، وأما الجاهل فمعذور. انظر الرهوني.
وقال عبد الباقي: وباقتراضه حجارة أو خشبا ونحوه من المسجد أو الحبس غير المسجد مع علمه بالحرمة فيهما، قال أحمد: ظاهره ولو اشتريت من غلة الوقف لأجل المسجد وهو ظاهر، وأما اقتراض الناظر ما يحصل من غلته فحكمه حكم اقتراض الوديعة. قاله بعض شيوخنا. اهـ. وقال الشبراخيتي: وباقتراضه حجارة أو لبنا من المسجد يبني بها أو يرم بها إذا علم حرمة ذلك، وأما إن جهل فلا ترد شهادته كما في النوادر، وسواء كان المسجد عامرا أو خَرِبا سواء كان يحتاج
لتلك الحجارة أم لا، يرجى عمارة أم لا، ولو قال: من الحبس، كان أشمل. وأما اقتراض الناظر ما يحصل من غلة الوقف فحكمه حكم اقتراض الوديعة. انتهى.
وقال الخرشي: وباقتراضه حجارة من المسجد أو لبنا وهو عالم بالتحريم فإنه يكون قادحا في عدالته: ولو رد مثل ذلك إلى المسجد، وأما لو جهل الحكم فإن ذلك لا يكون قادحا في عدالته، ومذهب ابن القاسم أنه لا يجوز صرف فاضلِ حبسٍ في غيره وعليه فلا يجوز سلفه. اهـ. ولو عبر المؤلف بالحبس بدل المسجد لكان أشمل ولا مفهوم للحجارة. اهـ.
وعدم إحكام الوضوء يعني أن من لم يُحكم الوضوء بضم الياء وكسر الكاف؛ أي لم يتقنه فإن شهادته باطلة، فقوله:"إحكام" بكسر الهمزة أي يجرح الشاهد بعدم إحكامه أي إتقانه للوضوء. قال المواق: ابن كنانة: لا تجوز شهادة من لا يُحكم الوضوء. اهـ. وأحرى إذا لم يعرف ذلك، والغسل يعني أن من لم يتقن الغسل تبطل شهادته، وأحرى إذا لم يعرف ذلك، فقوله:"والغسل" عطف على "الوضوء" أي تبطل الشهادة بعدم إحكام الغسل.
والزكاة يعني أن من لا يرف أحكام الزكاة وهي لازمة له، كما قال: لمن لزمته الزكاة فإن شهادته باطلة، فالزكاة عطف على "إحكام" على حذف مضاف أي عدم معرفة نصاب الزكاة أو عطف على الوضوء، والمعنى على هذا أن التساهل في الوضوء والغسل وفي إخراج الزكاة لمن لزمته الزكاة مسقط للشهادة أي كل منها على انفراده تبطل الشهادة بالتساهل فيه. قال عبد الباقي: وعدم إحكام بكسر الهمزة أي إتقان الوضوء أو التيمم والغسل والزكاة لمن لزمته؛ أي التساهل في فعل الوضوء والغسل والتساهل في إخراج الزكاة، وهذا بناء على عطف الزكاة على الوضوء، ويحتمل عطفها على إحكام وفي الكلام حذف مضاف أي وعدم معرفة نصاب الزكاة. قاله أحمد. والاحتمال الأول فيما لا يأخذها ساع بأن تكون لا ساعي لها كالنقد، أو لها ولم يخرج وكالحرث زماننا بمصر، وكذا كل ما يلزمه فعله كحج مستطيع، والأغلف الذي لا عذر له في الختان لا تجوز شهادته. اهـ.
وقال الشبراخيتي: وعدم إحكام بكسر الهمزة بمعنى إتقان الوضوء والغسل، وأحرى من لم يعرف ذلك ويصح فتحها أي عدم علم أحكام، وكذا من لم يعرف التيمم إذا لزمه ولو قال أحكام الطهارة لتنارل التيمم وغيره، ويلحق بعدم إحكام الوضوء والغسل كل شروط الصلاة وعدم معرفة الزكاة لمن لزمته، فهو معطوف على "إحكام"، وفي الكلام حذف مضاف كما قررنا، وهو شامل لعدم معرفة قدرها وقدر النصاب. اهـ.
وقال التتائي: وترد مع عدم إحكام الوضوء والغسل وأحرى إن لم يعرف ذلك، وكذا من لم يعرف التيمم إذا لزمه فرضه لسفر أو مرض، ويلحق بعدم إحكام الوضوء والغسل كل شروط الصلاة وعدم معرفة الزكاة لمن وجبت عليه وفي كم تجب من المال أو عدم معرفة قدر النصاب. قاله سحنون. ابن عرفة: إلا أن يكون ماله كثيرا لا يفتقر في زكاته لتحقيق قدر النصاب لأنه لا يتوقف إخراجه على معرفة قدره، وهذا في المعين لما في الماشية والزرع. اهـ.
والمنجم. الذي يدعي أنه يعرف القضاء جرحة، وقطع الدنانير والدراهم جرحة عند ابن القاسم ولا يعذر بجهل، وعنه أيضا: جرحة إلا أن يعذر بجهل. ابن رشد: قطعها على ثلاثة أوجه: إن قطع منها حتى ردها ناقصة وغش بها فلا اختلاف أنها جرحة، وإن قطعها وهي لا تجوز بأعيانها عدة وإنما تجوز بالميزان فلا خلاف أن ذلك ليس بجرحة، وإن قطعها وهي تجوز عددا في بلد لا يجوز فيه الناقص على أن ينفقها ويبين نقصها فهي مسألة الخلاف.
وسمع عيسى ابن القاسم: الفرار في الزحف من الصف، وإدمان لبس الحرير جرحة، وكذا الجلوس عليه إلا في مرة، ولا تقبل شهادة شاعر يمدح من أعطاه ويهجو من منعه. وفي المتيطي: وتجوز شهادة الشاعر الذي يصف النساء والخمر إذا كان عدلا، وقد فعل ذلك حسان وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم، وقال ابن زرب: إذا كان يكذب في شره لم تجز شهادته. اهـ. كلام التتائي.
وقال ابن مرزوق: تنبيه: قد مر أن فاعل "لزمته" راجع إلى "الزكاة" فقوله: "لمن لزمته" راجع إلى "الزكاة"؛ أي أن جهله بأحكام الزكاة إنما يكون جرحة في حق من لزمته الزكاة، وأما الجهل بأحكام الوضوء والغسل فجرحة في حق كل مكلف. قاله ابن مرزوق. وذكر أن قوله:"إحكام" يحتمل فتح الهمزة وكسرها، قال: والنصوص توافق كلا من الاحتمالين، وقال ابن حبيب: وكذلك من عرف بتضييع الوضوء أو الزكاة ولا يعذر فيه بجهل. اهـ. وقال ابن مرزوق بعد جلب كلام كثير: والحاصل أن ما يجرح به الشاهد لا تحصى جزئياته ولا تخفى كلياته، وإنما ذكرنا ما ذكرنا تأنيسا بالجزئيات.
وبيع نرد وطنبور يعني أن بيع النرد والطنبور والمزامير وما أشبه ذلك يقدح في العدالة. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: ولو أدخل الكاف على نرد ليدخل الزامير والعيدان لكان أحسن. اهـ. وقال عبد الباقي: وبيع نرد وطنبور ونحوه من كل آلة لهو، والطنبور بضم الطاء فارسي معرب، والطنبار لغة. ابن عرفة: وترد شهادة من يشتغل بمطلق علم الكيمياء، وأفتى الشيخ صالح الفقيه أبو الحسن بمنع إمامته.
واستحلاف أبيه يعني أن الولد إذا استحلف أباه أو أمه فإن ذلك يبطل شهادته؛ أي يكون جرحة في حقه إلا اليمين المنقلبة والمتعلق بها حق لغير الولد، وقوله:"واستحلاف أبيه" أي وحلفه بالفعل، واعلم أن المذهب أن الولد لا يمكن من حلف والده. وقوله:"واستحلاف أبيه" قال عبد الباقي: دنية وأمه نسبا في حقه عليهما أو على أحدهما وأنكره أي وحلفه بالفعل ولا يعذر بجهل، وربما يخرج بقوله:"استحلاف" المنقلبة من الولد والمتعلق بها حق لغير الولد؛ لأن المتعلق بها حق ليس للولد فيها طلب، والمنقلبة شأنها أن لا تطلب. اهـ.
تنبيه: قد مر للمص في باب الفلس أن الولد لا يحلف والده حيث قال: "وحبس السيد لكاتبه والجد والولد لأبيه لا عكسه كاليمين إلا المنقلبة والمتعلق بها حق لغيره". اهـ. قال البناني: وينبغي أن يحمل المص عليه هنا بأن يكون تفسيقه بذلك إنما هو بعد الوقوع، وأما ابتداء فلا يمكن من تحليفه على المشهور. قال ابن رشد: واختلف في تحليف الرجل أباه في حق يدعيه قِبَلَه
أو حدّه على ثلاثة أقوال، أحدما: أنه مكروه وليس بعقوق فيقضى له بذلك ولا تسقط شهادته.
الثاني: أن ذلك عقوق فلا يقضى له به وهو مذهب مالك، وأظهر الأقوال وأولاها بالصواب لا أوجب الله من بر الوالدين بنص القرآن وما تضافرت به الآثار، وقد روي أن رسول الله صلى عليه وسلم قال:(لا يمين للولد على والده ولا للعبد على سيده)
(1)
. والثالث: أن ذلك عقوق إلا أنه يقضى له به إن طلبه ويكون جرحة فيه تسقط به شهادته، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية وهو بعيد؛ لأن العقوق إن كان من الكبائر فلا ينبغي أن يمكن من فعله أحد. اهـ. وقد علمت أن الخلاف إنما هو بالكراهة والتحريم خلافا للتتائي في ذكره الإباحة. اهـ. كلام البناني.
وقدح في المتوسط بكل يعني أن الشاهد المتوسط في العدالة إذا شهد على شخص وأعذر القاضي للمشهود عليه في ذلك الشاهد، فإنه يجوز له أن يقدح فيه بكل قادح من تجريح أو قرابة أو عداوة أو غير ذلك. قاله غير واحد. وقال الشبراخيتي: وقدح في الشاهد المتوسط العدالة إذا أدى شهادته وأعذر القاضي في ذلك للمطلوب بكل من الموانع المسابقة من تجريح وعداوة وقرابة؛ أي أن المشهود عليه إذا طلب القدح في الشاهد المتوسط فإنه يسمع القدح فيه ويوقف الحكم إلى إثباته: وأما إن لم يطلب ذلك، فإن كان به ضعف أو جهل سأله الحاكم في تجريح الشاهد عليه وإلا فلا، وحينئذ فقوله السابق:"وأعذر بأبَقِيَتْ لك حجة"؟ مقيد بما إذا كان به جهل أو ضعف. اهـ. وقال ابن مرزوق: يعني أن الشاهد الذي ليس بمبرز في العدالة بل هو متوسط الحال فيها يقبل فيه التجريح بكل نوع من أنواع الجرح: وقدح مبني للمفعول أي وسمع من المشهود عليه البينة بالقدح فيمن شهد عليه إن كان متوسط العدالة بكل مجرح من كل عدل، كان الذي جرحه مثله في العدالة أو فوقه أو أدنى منه، ويحتمل أن يكون "قدح" مبنيا للفاعل أي وقدح المشهود عليه في الشاهد عليه التوسط إلى آخر ما ذكرنا. اهـ.
وقال التتائي: وقدح في الشاهد المتوسط العدالة إذا أدى شهادته وأعذر القاضي في ذلك للمطلوب بكل من الموانع المسابقة، من تجريح وعداوة وقرابة. واختلف هل يقول له دونك فجرح؟ وهو قول
(1)
كنز العمال، رقم الحديث:15054.
ابن نافع ومطرف وابن الماجشون وابن كنانة: أولا يقول ذلك؟ وهو قول مالك. اهـ. وقال الرهوني: قال ابن مرزوق: واختلف المذهب هل يدعو الحاكم إلى الإعذار أم لا؟ وظاهر المدونة إن طلب الخصم ذلك منه، وإلا فإن ظن جهله أو ضعفه دعاه إليه، وإلا فلا. اهـ. فظاهره أن قوله: وإلا فإن ظهر جهله لخ هو من تمام ما عزاه لظاهرها، وصرح بذلك ابن يونس فقال: أشهب عن مالك في العتبية في البينة تعدل عند الحاكم فلا يقول للمطلوب دونك فجرح: وذلك توهين للشهادة. وقال ابن نافع: أرى أن يقول له ذلك، وقد يكون العدل عدوا للمشهود عليه، وقد فرق في المدونة بين من يجهل وجه التجريح وبين من لا يجهل. انتهى.
وفي المبرز بعداوة وقرابة الواو في قرابة بمعنى: أو؛ يعني أن البرز وهو من برز عن أقرانه في العدالة يقدح فيه بالعداوة والقرابة، بأن يشهد عدلان بأن بين المبرز والمشهود عليه عداوة دنيوية، أو بأن بينه وبين المشهود له قرابة متأكدة، كالأبوة والبنوة مثلا حيث كان العدلان الشاهدان بالعداوة أو القرابة مثل البرز، بل وإن كان القدح وقع بشاهدين عدلين دونه أي دون البرز في العدالة: ولو عبر المص بلو لرد قول ابن العطار لكان أحسن، فقد قال ابن عرفة: منع ابن العطار من إسقاط شهادته بالعداوة ممن هو دونه، وأجازها ابن الهندي: ونقل ابن مرزوق نحوه عن المتيطي ومثله في المفيد، ونصه: ومنع ابن العطار من إسقاط شهادته بالعداوة ممن هو دونه وأجازها ابن الهندي. انظر الرهوني.
وقوله: "بعداوة وقرابة" حقه أن يزيد وشبههما، والمراد بشبههما ما عدا الإسفاه أي الفسق وهذا هو الذي حكى عليه ابن ناجي الاتفاق، فإنه قال: فأما المتوسط في العدالة فتسمع فيه المطاعن كلها من تجريح وعداوة وصداقة، وأما المبرز في العدالة ومعناه الذي في أعلى درجاتها وهو في اللغة السابق فهذا يسمع فيه القدح بالعداوة والقرابة وشبههما، وهل يسمع فيه التجريح؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها لمطرف أنه يسمع ذلك فيه من كل عدل سواء كان دونه في العدالة أو مساويا أو أعلى درجة منه، ومقابله لأصبغ، والثالث التفصيل بين المساوي له في العدالة فأعلى فيسمع منه، وبين من هو دونه فلا يسمع، وظاهر قولها: وإذا طلب المشهود عليه تجريحا يقتضي أنه
إنما يمكنه من ذلك إن طلب ذلك الخصم، وأما إن لم يدعه إليه فلا يطلبه، ومعناه ما لم يكن به جهل أو ضعف، فإن ظن ذلك دعاه إليه وهذا هو المشهور، وقيل: يدعوه القاضي إلى الإعذار مطلقا. اهـ. وما حكاه من الاتفاق وإن رده الرهوني فأقل أحواله أن يكون هو المشهور، وما رده به هو ما نقله عن التوضيح وابن عرفة أنه لا يباح تجريح المبرز بعداوة وقرابة ولا غيرهما، واستبعده ابن رشد. انتهى.
كغيرهما على المختار يعني أن اللخمي اختار قول مطرف المذكور أنه يجرح المبرز بالفسق كما يجرح بالعداوة والقرابة وشبههما، وقد علمت أن المقابل لقول مطرف التفصيل بين أن يجرحه من هو مساو له في العدالة أو أعلى منه فيسمع منه، ومن هو دونه فلا يسمع. وقول أصبغ: إنه لا يسمع منه مطلقا. والله تعالى أعلم.
تنبيهان: الأول: قال مقيده عفا الله تعالى عنه: قوله: "كَغَيْرِهِمَا على المختار" غَيرُ مخالف لما مر من قوله: "والبرز بغير عداوة" كما هو المفهوم من كلام غير واحد؛ إذ القدح فيه بالسفه لا يستلزم أن القاضي أعذر إليه كما هو واضح.
الثاني: قوله: "كغيرهما على المختار" هذا خلاف المعتمد، فإن المعتمد أنه إنما يقدح في المبرز بالعداوة والقرابة وشبههما هذا، هو الذي صححه القلشاني في شرح الرسالة، فإنه قال: رتبة التبريز لا يسمع في صاحبها التجريح بالإسفاه يعني الفسق على الصحيح من القولين، وإنما يسمع فيه التجريح بالعداوة والقرابة ونحو ذلك. اهـ. ويدل على أنه المعتمد أيضا اقتصار صاحب التحفة عليه وتسليم شراحه وحواشيه ذلك له، بل صرح أبو علي في حاشيته بأنه المشهور ونصه فيها: ولكن المشهور أن المبرز لا يجرح إلا بالعداوة. اهـ.
قال الرهوني: قلت يشهد لذلك ما نقله ابن عرفة عن ابن رشد وسلمه وهو ولابن رشد في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب: المبرز في العدالة لا يجرح بالإسفاه. قاله أصبغ في الواضحة. وهو تفسير لقول من أجمل القول في ذلك، كقول سحنون في نوازله وغيره من أصحاب مالك. اهـ. إلى غير ذلك من الأدلة على اعتماد هذا القول، فقول عبد الباقي عند قوله:"كغيرهما على المختار". هذا هو المعتمد. فيه نظر. انظر الرهوني. والله تعالى أعلم.
وعلم مما مر أن محل قول المص: وأعذر بأبقيت لك حجة حيث كان به جهل أو ضعف وإلا فلا يعذر إليه على المعتمد، لكن إن طلب التجريح مكنه من ذلك في غير المبرز فيقدح فيه بكل قادح، وأما المبرز فبالقرابة والعداوة وشبههما لا بالفسوق على المعتمد. والله تعالى أعلم. وعلى أنه يقدح في المبرز بالفسوق فإن أثبته لم يحكم عليه بشهادة المبرز، وإلا أدب.
وزوال العداوة والفسق بما يغلب على الظن مني أن الشاهد إذا ردت شهادته لفسق أو لعداوة بينه وبين المشهود عليه، ثم شهد عليه ثانيا بغير الحق الأول فإن شهادته الثانية تقبل إن زالت عداوته أو فسقه بمضي زمن يغلب على الظن زوالهما به؛ أي ظن الناس زوالهما به ويسألهم القاضي عن ذلك فيخبرونه بذلك حيث بدا لهم. وقوله:"بما" أي وزوال العداوة والفسق بما أي بمضي زمن يغلب على الظن زوالها بمضيه مع قرائن تدل على ذلك، ويعتمد الشاهد في زوال العداوة على غلبة الظن بأن يصير إلى ما كانا عليه قبل العداوة، وفي الفسق بأن يتصف بصفات العدالة. وفسرت المص بأن ما في قوله:"بما" واقعة على زمن مع قرائن على حذف مضاف أي بمضي زمن يغلب على الظن زوال ما ذكر بمضيه مع قرائن تدل لخ. وفسرها عبد الباقي بأنها واقعة على قرائن، فقال:"بما" أي بقرائن يغلب على الظن زوالها بها، ففي العداوة رجوعهما إلى ما كانا عليه قبلها، وفي الفسق أن يتصف بصفات العدالة. وقولي: بغير الحق الأول تحرز عما إذا شهد بالحق الأول فإنها مردودة، كما مر في قوله:"ولا إن حرص على إزالة نقص فيما رد فيه" لخ.
وفي التتائي: وزوال العداوة بين الشاهد والمشهود عليه وزوال الفسق عن الشاهد يحصل ذلك في كل منهما بما يغلب على الظن، أما في العداوة فيعرف ذلك بأن يصير أمرهما كما في سماع أشهب إلى سلامة وصلاح. ابن رشد: صيرورتهما إلى صلاح هو أن يرجعا إلى ما كانا عليه قبل الخصومة. ابن عرفة: مثله في سماع سحنون ونوازل أصبغ. اهـ. وأما الثاني فبعد توبته لا بمجرد قوله تبت: بل لا بد من القرائن الدالة على صدقه واتصافه بصفات العدالة. اهـ. وقال الشبراخيتي: وزوال العداوة بين الشاهد والمشهود عليه وزوال الفسق من الشاهد يحصل ذلك في كل منهما بما
يغلب على الظن أي بالقرائن التي يحصل بها غلبة الظن بزوالهما لكثرة اختلاف الناس فيه، فمنهم من لا يظهر على باطنه على طول الدهر ويخالط الحذاق حتى يظن صالحا وهو في الباطن على خلافه، ومنهم خلافه فلذلك رجع إلى الظواهر وغلبة الظن وهي في العداوة رجوعهما إلى ما كانا عليه قبل الخصومة، وفي الثاني حصول ما يدل على صدقه في التوبة واتصافه بصفات العدالة. وقوله:"الظن" أي ظن الناس ويسألهم القاضي عن ذلك فيخبرونه به. اهـ.
واعلم أن المص تبع ابن الحاجب في تسويته بين العداوة والفسق، وبحث في ذلك ابن عرفة فقال بعد كلام: في إجراء العداوة على رفع الفسق نظر؛ لأن ثبوت عدالة الشاهد شرط في قبول شهادته؛ فنظر القاضي في ثبوتها ضروري وهو مستلزم لرفع فسقه أو بقائه، وأما العداوة فلا نظر للقاضي في رفعها لأنه مانع يبديه المشهود عليه، فإن أثبتها ثم شهد عليه بعد ذلك احتمل النظر في تكليفه إياها ثانيا لاحتمال ارتفاعها وعدمه لاحتمال بقائها، والأظهر تخريجها على حكم من عدل في شهادة ثم شهد شهادة أخرى هل تستصحب عدالته أو يستأنف إثباتها؛ وقد تقدمت. اهـ.
قال بعضهم: إنما يتم الفرق الذي ذكره إذا لم يثبت المانع، أما مع ثبوته فلا يسوغ للحاكم الحكم إلا أن يثبت رفعه، وليس هذا من قبيل الشك في المانع بل من قبيل الشك في رافعه. اهـ. نقله التتائي في كبيره. قال البناني: وعليه فيكفي شاهدا للمص وابن الحاجب ما نقله ابن عرفة عن السماع. اهـ. يعني السماع الذي قدمت الإشارة إليه في الرجلين يختصمان ثم يشهد أحدهما على صاحبه بعد سنين، قال: إن صار أمرهما إلى صلاح وسلامة فذلك جائز. ابن رشد: صيرورة أمرهما إلى صلاح هو أن يرجعا إلى ما كانا عليه قبل الخصومة ومثله في سماع سحنون ونوازل أصبغ. اهـ. قال عبد الباقي: وبَحْثُ ابن عرفة مخالف للمنصوص، وقال الرهوني. قول البناني: فما نقله ابن عرفة عن السماع يكفي شاهدا للمص لخ ظاهر، وقد قال ابن مرزوق ما نصه: وفي النوادر وغيرها، ومن العتبية: أشهب عن مالك: فنقل ذلك ثم نقل كلام اللخمي، وقال عقبه: وهذا مثل ما في النوادر عن أشهب، ثم قال: وكل هذا معنى قول المص: بما يغلب على الظن، وقد ترك ابن عرفة والبناني من كلام ابن رشد ما لا يصلح تركه، فإنه زاد بعد ما نقلاه عنه، وإذا
كانت بينهما عداوة معلومة فاصطلحا جازت شهادة كل واحد منهما على صاحبه. وقال مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ: وذلك إذا طال الأمر واستمر الصلح وظهرت براءتهما من ذحْل العداوة.
تنبيه: ذكر الحطاب مضمون ما في سماع أشهب هذا عند قول المص قبل: "ولا عدو" على عدوه وقال بإثره، قاله في سماع أشهب، ونقله ابن عرفة وقال في المسائل الملقوطة: مسألة: قوم بينهم فتنة أو بين آبائهم وأجدادهم ثم اصطلحوا فلا يشهد بعضهم على بعض حتى ينقضي القرن الذين شاهدوا الفتنة قاله مالك في أسئلة محمد بن سالم. وفي النوادر: ومثله لابن العربي في الأحكام، واستدل بقوله تعالى:{قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} . اهـ كلام الحطاب. والظاهر أنه أتى بما في المسائل الملقوطة للتنبيه على أنه مخالف لما ذكره قبله عن سماع أشهب، لكن كلامه يوهم أن ما فيها أقوى وليس كذلك. اهـ. قاله الرهوني.
وقال: وقد أشار أبو العباس الملوي إلى اعتراضه، فكتب بهامش الحطاب ما نصه: أسئلة محمد بن سالم وكذلك الاحكام في مسائل الأحكام كل منهما مطعون فيه محذر من الاعتداد به، ويأتي للمص:"وزوال العداوة والفسق بما يغلب على الظن بلا حد". اهـ. قلت: وما قاله من مخالفة ذلك لكلام المص هنا ظاهر. اهـ كلام الرهوني. ثم قال بعد كلام: فتعين العمل بما قاله المص هنا لا بما قاله في المسائل الملقوطة. اهـ.
بلا حد يعني أن زوال العداوة والفسق يرجع فيه إلى القرائن التي يغلب على الظن بسَبَبهَا زوالهما ولا حد في ذلك بزمن مخصوص، خلافا لمن حد ذلك بستة أشهر وخلافا لمن حده بسنة. قال ابن مرزوق: ومن العتبية: أشهب عن مالك: إن وقعت بينهما خصومة فأقاما سنين ثم شهد أحدهما على الآخر، إن صار أمرهما إلى سلامة وصلح فذلك جائز، وقال ابن الماجشون: إن سلم عليه فقط ولم يكلمه في غير ذلك إن كان له خاصَّةً لم يخرج من الهجرة لما في الإثم ولما في جواز الشهادة، وإن لم يكن ما بينهما خاصا فذلك يخرجه من الهجرة. اهـ. وقال اللخمي: لا تجوز شهادة الخصم والعدو والمتهاجرين، فإن اصطلحا فقال قال محمد: تجوز، وقال مطرف وابن الماجشون:
إن شهد بحدثان الصلح لم تجز، وإن طال وتحقق صلحهما وظَهرت براءتهما من ذحل العداوة والخصومة جازت. اهـ. وهذا كما في النوادر. وَقول محمد: لا ينبغي أن يكون خلافا لهم، وحمله ابن عبد السلام على الخلاف اعتمادا على إطلاقه وكل هذا معنى قول المص:"بما يغلب على الظن". وقوله: "بلا حد" أي من غير تحديد بزمان ولا غيره كالسلام ونحوه. اهـ.
وتحصَّلَ مما مر أن معنى قول المص: "وزوال العداوة والفسق بما يغلب على الظن بلا حد" أنه إنما ينظر في زوال العداوة والفسق للقرائن التي يغلب على الظن بسبب حصولها زوالهما، ولا بد من طول زمن بين الشهادتين ولا حد في قدر ذلك الزمن ولما فيما يقع بينهما من سلام ونحوه، وإنما الرجع في زوالهما بما يغلب على الظن من زوالهما بسبب القرائن وطول الزمن. والله تعالى أعلم.
ومن امتنعت له لم يزك شاهده يعني أن من امتنعت شهادتك له لأجل القرابة المتأكدة كأبيك وابنك ونحوهما لا يجوز لك أن تزكي من شهد له لأنك تجد له بذلك منفعة، فلا تمح شهادتك بذلك، وكما لم يزك شاهده لم يجرح شاهدا عليه بحق لأنه يدفع عنه بذلك مضغ فيجرح معطوف على مدخول "لم". قاله عبد الباقي. وقال ابن مرزوق: والمعنى أن كل من لا تقبل شهادته على غيره لقرابة ونحوها لا تقبل تزكيته لمن شهد لذلك الغير، ولا يقبل تجريحه لمن شهد عليه أيضا وهذا بين؛ لأن تزكيته وتجريحه لمن ذكر لما كانا نافعين لمن امتنعت له امتنعا لأنهما يرجعان إلى الشهادة لمن تقبل له.
ومن امتنعت عليه فالعكس يعني أن من لا تقبل شهادته على غيره لعداوه أو نحوها لم يقبل تجريحه لمن شهد لذلك الغير ولا تزكيته لمن شهد عليه، وإنما لم يقبلا منه لأنهما يضران المشهود عليه فامنتع قبولهما منه كما تمنع شهادته عليه، وفهم من المص أن من امتنعت له يزكي من شهد عليه ويجرح من شهد له، وإن امتنعت عليه يزكي من شهد له ويجرح من شهد عليه. إلا الصبيان مستثنى من قوله أول الباب:"العدو بالغ" لخ. قال الخرشي: لما ذكر شروط شهادة البالغين وانتفاء موانعها، أخرج من ذلك شهادة الصبيان بعضهم على بعض فإنها لا يشترط فيها جميع الشروط ولا انتفاء كل الموانع، فتجوز شهادتهم بشروطها الآتية وهو مذهب مالك وجماعة
من الصحابة منهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومعاوية رضي الله عنه، ومنعها الأئمة الثلاثة وابن عباس وجماعة، وإنما جازت شهادة الصبيان للضرورة ولأنهم يندبون إلى تعليم الرمي والصراع وغير ذلك مما يُدَرِبُهُم على حمل السلاح والكر والفر، والغالب أن الكبار لا تحضر معهم، فلو لم تقبل شهادة بعضهم على بعض لأدى ذلك إلى إهدار دمائهم. اهـ. والاستثناء منقطع أي تجوز شهادة العدل بالشروط المذكورة، لكن شهادة الصبيان تجوز في القتل والجرح بالشروط التي ستذكر.
لا نساء في كعرس يعني أن النساء عند اجتماعهن في عرس أو حمام أو وليمة أو مأتم كمقعد أي حزن لَسْنَ كالصبيان فلا تجوز شهادتهن في القتل والجرح، فلا بد من استيفائهن للشروط المتقدمة، فإذا توفرت قبلت فيما تقبل فيه شهادتهن وهو المال وما يؤول إليه، فالمنفي هو أنهن لسن كالصبيان. قال الرهوني مفسرا لقول المص "لا نساء": أي لا يستثنى النساء كما استثني الصبيان لا يتوهم من أن اجتماعهن لا يحضره الرجال فيكن كالصبيان للمساواة في العلة، وأما ما ذكر الزرقاني ففيه نظر ولا سيما قوله: لأنهن لا يقبلن فيهما فهو غير صحيح، لصادمته لقول المص الآتي:"أو جرح خطإ أو مال"، ولقول الباجي: وسواء كان الكبار رجالا أو نساء؛ لأن النساء يجزن في الخطإ، وعمد الصبي كالخطإ، قاله كله سحنون. اهـ. ومثله في ابن يونس وغيره، ولما نقل ابن عرفة كلام الباجي، قال عقبه ما نصه: قلت هو نصها مع كل المذهب. انتهى.
في جرح أو قتل راجع للأمرين قبله إثباتا في الأول ونفيا في الثاني؛ يعني أن شهادة الصبيان جائزة في الجرح والقتل لما في المال، فلا تجوز في غصب بعضهم من بعض، ولا تجوز شهادة النساء في الجرح والقتل عند اجتماعهن في كعرس إلا إذا توفرت فيهن الشروط المتقدمة، فتجوز في المال وما يؤول إليه كجرح المال كما يأتي. وفي حاشية الشيخ البناني: ابن عرفة: الباجي: إذا جوزت في القتل، فقال غير واحد من أصحاب مالك: لا تجوز فيه حتى يشهد العدول على رؤية البدن مقتولا. ابن رشد: رواه ابن القاسم عن مالك وقاله غير واحد من أصحابه. اهـ. واعلم أنه لا
قسامة في شهادة الصبيان، وقال ابن مرزوق: وقوله: "لانساء في كعرس" أي ولا يلحق بشهادة الصبيان بينهم شهادة النساء بينهن في الجرح والقتل في الموضع الذي يجتمعن فيه حيث لا رجال كبارا كالأعراس، بما يتوهم من جامع الضرورة إلى قبولهن لأن شهادة الصبيان قبولها خارج عن القياس: ومن شرط الأصل المقيس عليه أن لا يكون معدولا به عن سنن القياس، ولأن اجتماع الصبيان لما ذكر مأذون فيه شرعا بخلاف اجتماع النساء، قلت: كذا قيل وفيه نظر، أما نحو اجتماعهن في الحمام فمسلم أنه غير مأذون فيه وكذا في نحو العرس على ما هو الحال اليوم، وأما في العرس على الوجه المشروع فلما لما جاء في السنة من الإذن لهن في ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح لأمنا عائشة رضي الله عنها وقد أقبلت من عرس:(أكان معكن لهو فإن الأنصار يحبون اللهو)
(1)
، فيبقى الفارق الأول. اهـ. يعني - والله تعالى أعلم - كون شهادتهم مقبولة بالسنة، وكونهم يندبون إلى ذلك تدريبا لهم على الحروب.
وقال الرهوني: قال ابن سحنون: قلت لسحنون: لم أجزت شهادة الصبيان بينهم في الجراح ولم تجزها في الحقوق؟ قال: للضرورة؛ لأن الحقوق يحضرها الكبار ولا يحضرون في جراح الصبيان، ألا ترى لو حضر فيهم كبير لم تجز شهادتهم؟ قلت: فيلزمك أن تجيزها في غصب بعضهم بعضا، قال: هذا اتباع الماضين ولا وجه للقياس فيما هو سنة أو هو كالسنة. قال غير سحنون: لا يستوي المال والدماء وقد فرقت الأئمة بينهما فقبلوا في الدماء ما لم يقبلوه في المال: وما الضرورة، إلى تحصين دماء الصبيان كَالضَّرورة إلى تحصين أموالهم فلكل شيء من هذا موقعه. انتهى. قال الرهوني: الفرق بينهما ظاهر وإن خفي على هؤلاء السادات الأكابر؛ لأن إلغاء شهادتهم في غصب الأموال لا يوجب بطلانها لإمكان توصل من غصب منه شيء إلى أخذه بإقامة البينة أنه كان يملكه قَبْلُ لتَيَسُّر ذلك في الغالب، بخلاف الجرح والقتل فتأمله بإنصاف. والله الموفق. اهـ.
وقوله: "في جرح أو قتل" قال التتائي: عند ابن القاسم وهو المشهور، وقال ابن مرزوق: قال اللخمي: شهادة الصبيان فيما بينهم من جراح أو قتل، قال مالك: تجوز فيهما وقيل تجوز في
(1)
البخاري، كتاب النكاح، رقم الحديث 5162 ولفظه: يا عائشة ما كان معكم لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو.
الجراح خاصة، وقال ابن عبد الحكم: لا تجوز فيهما لأن الله تعالى إنما أجاز شهادة العدل الرضى، والأول أحسن لأن القتل والجرح موجود والشأن صدقهم عند أول قولهم والضرورة تدعو إلى معرفة ذلك منهم، والقول الثاني عزاه في المدونة لأشهب وغيره، وأما شهادة النساء في هذا الباب؛ فقال ابن الجلاب: ولا تجوز شهادة النساء بعضهن على بعض في المواضع التي لا يحضرها الرجال مثل الحمام والرس والأتم، وقال بعض أصحابنا: تجوز شهادتهن في ذلك واعتبرها بشهادة الصبيان بعضهم على بعض.
ولشهادة الصبيان شروط أشار لأولها بقوله: والشاهد حر يعني أن شهادة الصبيان المذكورة إنما تصح حيثما كان الصبي الشاهد حرا، لا إن كان قنا كله أو بعضه؛ لأن كبار القن لا تقبل شهادتهم فصغارهم أحرى، وحكى عبد الوهاب عن بعض متأخري أصحابنا أن شهادة صغار العبيد جائزة. نقله الرهوني. ولا خلاف في اشتراط الإسلام فلا يقبل صغار أهل الذمة لكن لا يخفى أن اشتراط الحرية يتضمن اشتراط الإسلام كما قال ابن غازي؛ لأن عدم قبول شهادة العبد كونه رقا والرق أثر الكفر وليس في كلامه اعتبار ذلك في المشهود عليه. قال التتائي: ولا فرق بين أن يشهد صغار المسلمين على حر أو عبد، لكنه خلاف قول المواق عند قوله:"إلا الصبيان" من اعتبار الحرية والإسلام في المشهود عليه. اهـ. يشير به إلى قول المواق، قال المقري: كل من ليس بحر، مسلم، مكلف، عدل، مستعمل لمروءة مثله لا تقبل شهادته، إلا بعض ذكور صبيان المسلمين الأحرار على بعض في الدماء. انتهى. ويأتي تحقيق هذا عند قوله:"ولا قريب".
ولثانيها بقوله: مميز يعني أنه يشترط في صحة شهادة الصبي المذكور أن يكون مميزا؛ لأن غيره لا يضبط ما يقول ولا يثبت على ما يفعله، قال عبد الباقي: ولا بد من كونه ابن عشر سنين وما قاربها في القلة كما في المدونة، وليدر في كلامه ما يدل عليه. اهـ. قال الرهوني: فيه نظر عَزْوًا وفِقْهًا؛ إذ لم يذكر في المدونة التمييز في شهادة الصبيان أصلا، والذي في ابن عرفة هو قوله: وشَرَطَ القاضي أن يكون ممن يعقل الشهادة، قلت: لقولها: وتجوز وصية ابن عشر سنين وأقل مما يقاربها. اهـ. فليس فيه أن ذلك في المدونة نصا ولا أنه شرط لا بد منه؛ ولذلك قال ابن
مرزوق: ولا خفاء لوجه اشتراط التمييز لأن غير المميز كالبهيمة، وينبغي أن يكون من المميز ما ذكره المحدثون في من [من]
(1)
يصح سماعه من أربع أو غيرها أو إحالته على وجود الضبط المختلف باختلاف الصبيان وهو التحقيق. اهـ. وفي القصد المحمود: وأن يكونوا ممن يعقل ابن سبع فما فوق. اهـ. والمميز هو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب وهذا يعقل الشهادة. قاله الشبراخيتي. وقال التتائي: وإنما لم تجز شهادة غير المميز لأنه لا يثبت على ما يعانيه من الأمور ولا تنضبط أحواله ولا يحرص على ما يصدر منه من الأقوال. اهـ.
ولثالثها بقوله: ذكر يعني أنه لا بد في شهادة الصبي المذكورة من كونه ذكرا، فلا تقبل شهادة صغار البنات أو كن مع صبي على المشهور وهو قول مالك وابن القاسم. قاله التتائي وقال عبد الباقي: ذكر فلا تجوز شهارة الإناث من الصبيان وإن كثرن. قاله في المدونة. يريد ولو كان معهن ذكرت وهذا يقتضي أن لفظ الصبيان يستعمل في الإناث. اهـ. وقيل تجوز شهادة الإناث من المسلمين الأحرار.
ولرابعها بقوله: تعَدَّدَ يعني أنه لا يعمل بشهادة الصبيان إلا أن تكون من متعدد اثنان فصاعدا، ففي المدونة: لا تجوز إلا شهادة اثنين منهم فأكثر بعضهم على بعض إذا كانوا صبيانا كلهم ولا تجوز شهادة واحد، قال: ولو شهدت بينة على قول الصبي إن فلانا الصبي قتله لم ينتفع بهذا إلا ببينة على القتل ولا يقسم بذلك، وإن اعترف القاتل وليس في الصبيان قسامة فيما بين بعضهم على بعض. قاله التتائي. وقال المواق من المدونة: لا تجوز إلا شهارة اثنين منهم فأكثر، ولا تجوز شهادة واحد ولا تجوز أيضا شهادة الإناث من الصبيان وإن كثرن. اهـ.
ولخامسها بقوله: لَيْسَ بعَدُوٍّ يعني أنه يشترط في قبول شهادة الصبي المذكورة أن يكون الصبي الشاهد غير عدو للمشهود عليه، سواء كانت العداوة بين الصبيان أنفسهم أو بين آبائهم. قال عبد الباقي: والظاهر أن مطلق العداوة هنا مضرة أي دينية أو دنيوية. اهـ. وهذا هو الذي يفيده ما نقله المواق عن المقري المتقدم عند قوله: "والشاهد حر".
(1)
في الأصل: ما، والمثبت من الرهوني ج 7 ص 411.
ولا قريبٍ أي ولا بد أيضا من كون الصبي الشاهد غير قريب للمشهود له، فإن كان قريبا له ولو بعيدة كعم وخال لم تقبل شهادته كما استظهره الجيزي. قاله عبد الباقي. وقال: وذِكْرُ المص الأوصاف المسابقة للشاهد يدل على أنها لا تشترط في المشهود عليه منهم، وصرح التتائي بعدم اشتراط الحرية والظاهر من كلامه أن التمييز كذلك دون الإسلام والذكورة، وظاهر ما ذكره المواق اعتبار الحرية والإسلام فيه وهو مشكل وإلا لم يكن لتخصيص المص الشاهد بذلك فائدة. اهـ. ولقد صدق عبد الباقي في أن المواق ذكر ما يفيد ذلك كما مرت الإشارة إليه، ونص المواق: قال المقري: كل من ليس بحر مسلم مكلف عدل مستعمل لمروءة مثله لا تقبل شهادته إلا بعض ذكور صبيان المسلمين الأحرار على بعض في الدماء. اهـ. وقد استظهر علي الأجهوري ما قاله التتائي وهو ظاهر نصوص المتقدمين والتأخرين؛ لأنهم إنما ذكروا الشروط في الشاهد فقط، فقول الزرقاني: وإلا لم يكن لتخصيص المص الشاهد بذلك فائدة، الأوْلى أن يقول بدله: وإلا لم يكن لتخصيص أهل المذهب الشاهد لخ. وقد صرح الباجي بذلك في المنتقى في الحرية وساقه فقه مسلما ونصه: إن شهد أحرارهم لعبيدهم جاز. قاله أشهب في المجموعة. اهـ. وقد أغفلوه كلهم. والله أعلم. قاله الرهوني. واشتراط المص انتفاء العداوة والقرابة بينهم، فحكاه في النوادر وابن يونس وغيرهما عن ابن القاسم، وقال ابن يونس: قال ابن المواز: ولا ينظر في الصبيان إلى عداوة أو قرابة، وقال ابن القاسم: لا تجوز لقريب ولا لعدو منهم إن ثبتت العداوة. وقال عبد الملك: تثبت في العداوة وتسقط في القرابة. اهـ. نقله ابن مرزوق.
ولسادس الشروط بقوله: ولا خلاف بينهم يعني أنه يشترط في قبول شهادة الصبيان أن لا يكون بينهم اختلاف في الشهادة، قال عبد الباقي: فلو شهد اثنان أن فلانا شج فلانا وشهد آخران أنه إنما شجه فلان غير ذلك بطلت، وإن قال واحد: قتل أو جرح فلان وآخر فلان لغيره منهم بطلت أيضا، وفي الشامل: لو لعب ستة منهم ببحر فغرق منهم واحد، فقال ثلاثة: إنما غرَّقه الاثنان، وقال الاثنان إنما غرقَّه الثلاثة، فالدية على الخمسة وقيل تبطل، ولو شهدا أن فلانا قتل فلانا وقال آخران إنما رفسته دابة قدمت بينة القتل. اهـ. وَوُجِّه الأخير بأن من أثبت حقا
أولى ولكنه ضعيف والصحيح سقوطهما. اهـ كلام عبد الباقي. قوله: وإن قال واحد قتل أو جرح لخ، قال البناني: هذا مثال غير صواب؛ لأن الواحد لا يقبل في غير الاختلاف فضلا عنه. اهـ منه بلفظه. وقوله: وَوُجِّهَ الأخير أي الفرع الأخير في كلام الشامل وهو شهادة صبيين أن فلانا قتله وشهد آخَرَان أنَّ دابة أصابته. وقوله: والصحيح سقوطها صححه اللخمي، فإنه قال: والصحيح أنها قد اختلفت فتسقط جميعها. اهـ. ويشهد للشامل كلام الباجي في المنتقى فإنه ساق ما لابن الماجشون من تقديم بينة القتل مقتصرا عليه كأنه المذهب. قاله الرهوني. وما ذكره في مسألة الغرق مُصَدِّرًا به من كون العقل على الخمسة رواه ابن وهب عن مالك قال ابن المواز: هو غلط لاختلافهم ولا يجوز، وكذلك قال ابن حبيب عن مطرف، قال: ولو كانوا كبارا فاختلفوا هكذا كانت الدية عليهم في أموالهم لأنه صارت شهادتهم إقرارا. اهـ. ومثله لابن يونس، وقال ابن مرزوق: هو في النوادر. قاله الرهوني.
تنبيهان: الأول: قد مر قول ابن الماجشون إنه إن شهد صبيَّان أن فلانا قتله وشهد آخران أنه رفسته دابة فإنه تقدم بينة القتل، قال: ووجه ذلك أنهم لو كانوا كبارا عدولا لحكم بشهادة شاهدي القتل. انتهى.
الثاني: قال ابن يونس: قال أصبغ: إذا شهد اثنان من الصبيان أن صبيا قتل صبيا الساعة، وشهد رجلان أنه لم يقتله وأنهما كانا حاضرين حتى سقط الصبي فمات، قال: شهادة الصبيين تامة؛ ثم قال: قال ابن الماجشون: وأنكر سحنون قول أصبغ هذا، وقال: قول أصحابنا أن شهادة الكبيرين أحق وغير هذا خطأ إذ لا يشبه ذلك بالكبيرين. محمد بن يونس: قال بعض فقهاء القرويين: قول سحنون أصوب: لأن شهادة الصبيان تبطل بحضور الكبار، سواء أثبت الصبيان حكما أو نفوه. انتهى.
ولسابعها بقوله: وفرقة يعني أن شهادة الصبيان إنما تقبل ما داموا مجتمعين، وأما إن تفرقوا قبل لقي العدول لهم فلا تقبل شهادتهم. قال عبد الباقي:"وفرقة" بالرفع والنصب ولا يصح بناؤه على الفتح لعدم اقترانه بلا. انتهى. وقال الشبراخيتي: ولا فرقة بينهم وإنما كان التفرق قادحا في شهادتهم لأنه مظنة تخبيبهم أي تعليمهم؛ لأن الخِبَّ الخديعة ومنه قول عمر في نهيه
عن رطانة العجم لأنها خب. انتهى. وقال التتائي: ولا فرقة بينهم لما في المدونة تجوز شهادتهم ما لم يتفرقوا أو يخببوا أي يعلموا. وقال الباجي: أي يدخل بينهم كبير على وجه يمكنه أن يلقنهم. ابن عرفة: مقتضى قولها: ما لم يتفرقوا أو يخببوا أنهما غير مترادفين لأن تفرقتهم مظنة مخالطتهم من يلقنهم ما تبطل به شهادتهم، وكذا لفظ اللخمي. ولفظ الجلاب: قبل أن يتفرقوا أو يخببوا فإن افترقوا وأمكن تخبيبهم لا تقبل شهادتهم إلا أن يشهد الكبار على شهادتهم قبل افتراقهم، ونحوه لفظ ابن فتوح. انتهى. وقال المواق: قال مالك: تجوز شهادة الصبيان بعضهم على بعض في القتل والجراح ما لم يتفرقوا أو يخببوا. الباجي: التخبيب أن يدخل بينهم كبير على وجه يمكنه أن يلقنهم. ابن فتوح: معنى يخببوا أي يعلموا. انتهى.
إلا أن يشهد عليهم قبلها أي التفرقة: يعني أنهم إذا شهد على شهادتهم عدلان أو أكثر قبل التفرق فإنه تقبل شهادتهم لأنها محفوظة فلا يضر اختلافهم بعد التفرقة.
ولثامنها بقوله: ولم يحضر كبير يعني أن قبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض مشروطة بأن لا يحضرهم كبير، فإن حضرهم كبير وقت الجرح أو القتل فإنه لا تقبل شهادتهم. قال عبد الباقي: ولم يحضر كبير أي بالغ بينهم وقت الجرح أو القتل، فإن حضر وقته أو بعده وأمكنه تعليمهم ذكرا أو أنثى عدلا أو غيره ولو عبدا أو كافرا سقطت. هذا ظاهر كلام المص. لإمكانه تعليمهم، ولكن في الحطاب أن هذا واضح في غير العدل اتحد أو تعدد، وفي العدل إن تعدد، وسواء حضر في هذه الصورة في جرح أو قتل، وكذا في العدل إن اتحد وشهدوا في جرح فتبطل شهادتهم، لما في قتل فلا تبطل شهادتهم. انتهى باختصار. ولا يخفى أن حضور العدل الواحد في الجرح يستغنى بشهادته عن شهادة الصبيان مع يمين المدعي وينتظر بلوغه. انتهى. أي بلوغ الصبي المدعي الذي شهد له الآن عدل فيحلف معه إذا بلغ وهو واضح. قاله الرهوني.
وقال البناني: قوله ولكن في الحطاب أن هذا واضح لخ، حاصل ما تضمنه كلام الحطاب هنا أن الكبير الحاضر بينهم إن كان ممن لا تجوز شهادته كالكافر والفاسق والعبد، فقال الأخوان وأصبغ: لا يضر حضوره في شهادة الصبيان. المازري: لا خلاف فيه منصوص عندنا، وعزا ابن
يونس وأبو الحسن مقابله لابن المواز، والخلاف مبني على التعليل بارتفاع الضرورة بشهادة الكبير أو بإمكان التخبيب أي التعليم وإن كان الكبير عدلا، فإن قال: لا أدري من رماه ثبتت شهادة الصبيان. قاله اللخمي. وإلا لم تقبل اتفاقا عند الرجراجي وعلى المشهور عند غيره، وقال سحنون بالجواز، ثم قال الحطاب: إذا علم ذلك فالفرع الذي أشار إليه المص غير الفرع الذي أشار إليه صاحب الرسالة، بقوله: ولم يدخل بينهم كبير، لأن المص أراد الحضور وقت الجراح أو القتل، وكلام الشيخ ابن أبي زيد فيما إذا حضر بعد ذلك، والظاهر حينئذ أن ينظر فإن كان يمكن التخبيب سقطت شهادتهم وإن كان عدلا لم تسقط. انتهى. وليس فيه تفريق بين الجرح والقتل ولا تعرض لتعدد الكبير. واللَّه أعلم. انتهى.
أو يشهد عليه أو له هذا تَاسِعُ الشروط يعني أن شهادة الصبيان إنما تقبل حيث شهد بعضهم لبعض في جرح أو قتل وأما إن شهدوا للصغير عليه أي على الكبير أي شهدوا بأن البالغ جرح صغيرا أو قتله، أو شهدوا للكبير على الصغير أي بأن الصغير قتل الكبير أو جرحه فإن شهادتهم غير مقبولة، وظاهر قوله:"أو له" ولو شهدوا بقتله من حينه بحيث لا يمكن أن يعلمهم وهو مقصود المص، لأنه حمل كلام ابن الحاجب على ظاهره، وجعل تفصيل ابن المواز مقابلا لا تقييدا: فإنه قال عند قول ابن الحاجب: ولا تقبل شهادتهم على كبير لصغير ولا عكسه. وقال محمد: وأما على صغير بقتله فتجوز - انتهى - ما نصه: الشرط الثامن أن تكون شهادة بعضهم على بعض، فلا تجوز شهادتهم لصغير على كبير وبالعكس والأول أظهر، وقول محمد بن المواز له وجه لأن معناه أن شهادتهم مقبولة على صغير أنه قتل كبيرا؛ لأن بموت الكبير يؤمن تعليمه، بخلاف العكس فإنهم متهمون على الدفع عن أنفسهم، وقول المص في قول محمد بقتله احتراز مما لو جرحه فإنها لا تقبل عنده، ولهذا زاد في قول محمد لأنه لم يبق حتى يعلمهم. انتهى. وتبعه في الشامل، وفي كلام الحطاب ما يفيد أن ما لابن المواز هو المذهب. قاله الرهوني. وَرَدَّ الرهوني على الحطاب بما فيه كفاية، ويعلم بالوقوف عليه. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "أو يشهد له أو عليه" الظاهر في تعليله أن شهادة الصبيان على خلاف الأصل، وإنما جازت للضرورة فيقتصر فيها على محلها وهي شهادة بعضهم على بعض، كما يؤخذ ذلك من
قول الموطإ: مالك عن هشام بن عروة: أن عبد اللَّه بن الزبير كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح، وسمعت مالكا يقول: الأمر المجتمع عليه أن شهادة الصبيان تجوز فيما بينهم من الجراح ولا تجوز على غيرهم. قاله الرهوني. وهذا الذي عليه المص وابن الحاجب هو المشهور كما صرح به الرهوني.
ولا يقدح رجوعهم يعني أن الصبيان إذا شهدوا بالشروط المذكورة ثم رجعوا عن تلك الشهادة بعد ما سمع العدول منهم فإنه لا يعتبر رجوعهم والعبرة بما شهدوا به أولا، وسواء رجعوا قبل الحكم أو بعده، ولو تأخر الحكم لبلوغهم وعدلوا لقبل رجوعهم. قاله ابن المواز. وجعله اللخمي المذهب أي إذا تيقنوا الآن أنهم شهدوا بباطل لا إن شكوا فيعمل الآن بما شهدوا به قبل، وفهم من قوله:"رجوعهم" أنهم رجعوا في حال صغرهم، لأن الضمير عائد على الصبيان إذ هم بعد بلوغهم ليسوا بصبيان. قاله الخرشي. وعلم منه أن رجوعهم بعد بلوغهم وبعد الحكم في صغرهم بشهادتهم لم يقبل رجوعهم الحاصل بعد بلوغهم وتعديلهم، وبقي على المص من الشروط أن لا يكون الشاهد منهم معروفا بالكذب.
ولا تجريحهم يعني أن الصبيان إذا شهدوا بالشروط المذكورة ثم جرحوا من غيرهم أو من بعضهم لبعض: فإن ذلك لا يقدح في شهادتهم لعدم بلوغهم الذي هو رأس أوصاف العدالة. قاله ابن المواز. ثم قال: لم يختلف في أنه لا ينظر إلى عدالة ولا إلى جرحة في الصبيان، "وتجريحهم" من إضافة المصدر لمفعوله. قاله الخرشي وغيره.
تنبيه: قال التتائي عند قوله: "ولم يحضر كبير" لو قال رجلان قتله هذا أخذ بقولهما يعني ولا يلتفت لشهادة الصبيان: وإذا أخذ بقولهما فتكون الدية على عاقلة من شهدا عليه إلا أن يقوم أولياء القتيل بشهادة الصبيين فتسقط الدية، ولو شهد عدل أن هذا الصبي قتله لغير من شهد عليه الصبيان فإنه يُقْسَم معه وتكون الدية على عاقلة الصبي القاتل، وكذلك إن وافقه الصبيان فيما شهد به لأن حضور الكبير معهما مسقط لشهادتهما وهذا هو الصحيح من المذهب. انتهى.
ثم ذكر المص مراتب الشهادة الأربع على طريق التدلي فيها بادئا بأعلاها، فقال: وللزنى واللواط أربعة يعني أن الشهادة على فعل الزنى وعلى فعل اللواط لابد فيها من أربعة عدول، لقوله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} ، ولقوله تعالى فيما يدفع به حد القذف:{ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية. قال ابن عرفة: شرط بينة الزنى كونها أربعة بنص القرآن وحكم عُمَر، قال المازري: ولا خلاف فيه إن كانت الإصابة طوعا، وإن كانت على الإكراه فكذلك، على أن الرجل يحد في الإكراه والأصح في ذلك رجلان لا تستحقه المرأة من مهر على الواطئ. اهـ. وقوله:"أربعة" أي لا يكفي إلا من أربعة، وقولي: على فعل الزنى وعلى فعل اللواط تحرز عن الإقرار بذلك، فإنه لا يحتاج إلى شهادة على القول الذي مشى عليه المص؛ لأن المقر بهما له أن يرجع عن إقراره ذلك، ولو أقر بحضرة الجم الغفير من العدول:
وقبلوا رجوع زان شارِبْ
…
ومثله السارق والمحارب
في محض حق الله لا في المال
…
فغرمه له بكل حال
قال الشبراخيتي: وهل طلب التشديد بالأربعة لقصد الستر ودفع العار اللاحق للزاني ولها ولأهلها، وهذا أحسن ما قيل فيه للغزالي، أو لأنه لما كان لا يتصور إلا من اثنين اشترط أربعة ليكون على كل واحد اثنان، أو تغليظا على الشهود لعدم امتثالهم الستر؟ أقوال. انتهى. وقوله:"وللزنى" لخ مبتدأ وخبر أي وأربعة كائنة أو حاصلة للزنى واللواط، وتقديم ما حقه التأخير قد يفيد الحصر أي لا يقبل للزنى واللواط إلا أربعة، وعطف اللواط على الزنى من عطف الخاص على العامِّ قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وإنما اختصت شهادة الزنى بأربعة مع أن القتل أشد لقصد الستر ودفع عار الزاني والمزني بها وأهلها، ولا لم [تلحق]
(1)
معرة في القتل اكتفي باثنين وإن كان أشد. وقيل لأنه لما كان الزنى إلى أن تتم الأقوال الثلاثة في كلام الشبراخيتي، قول عبد
(1)
في عبد الباقي ج 7 ص 173: تلحقه.
الباقي: ولما لم تلحقه معرة في القتل اكتفي باثنين أظهر منه أنه اكتفي فيه باثنين لحفظ النفوس، لأن القصاص شرع لذلك قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، والاجتزاء باثنين أردع للجُنَاة: وقوله: وقيل لما كانت الشهود مأمورين بالستر لخ قال ابن مرزوق: هذا أحسن ما قيل فيه، قال الرهوني: قلت: فيه نظر لأن شرب الخمر ونحوه يؤمر بالستر فيه أيضا مع أنه يكفي فيه اثنان اتفاقا. انتهى.
بوقت ورؤيا اتحدا يعني أنه يشترط في الأربعة أن يؤدوا في وقت واحد وأن تكون رؤيتهم له يزني بها أو يلوط به في وقت واحد فقوله بوقت أي لابد من اتحاد وقت تأديتهم للشهادة بأن يؤدوا شهادتهم في وقت واحد. وقوله: "ورؤيا" أي لا بد من اتحاد وقت تحملهم للشهادة بأن يروه في وقت واحد يزني بها. وقوله: "اتحدا" ضمير التثنية فيه للوقت والرؤية أي لا بد من اتحاد وقت الأداء، ولا بد من اتحاد وقت الرؤية، هذا هو توضيح المسألة. والله تعالى أعلم. قال فيها: وجه الشهادة في الزنى أن يأتي أربعة شهداء في وقت واحد يشهدون على وطء واحد في موضع واحد، بهذا تتم الشهادة. اهـ. والباء للظرفية حقيقة في المعطوف عليه ومجازا في المعطوف، واستعمل المص الرؤيا التي هي لرأي الحلمية غالبا في مصدر رآى البصرية وهو جائز غير غالب. قاله الخرشي. فإن لم يتحد وقت الأداء بطلت الشهادة، وكذا تبطل إن لم يتحد وقت الرؤية وَحُدُّوا ولا حد على المشهود عليه، وكذا لو شهد واحد أنه زنى يوم الأحد والآخر أنه زنى يوم الجمعة وهكذا، وواحد أنه وقت الصبح وآخر أنه وقت الظهر مثلا وهكذا حدوا، ولا حد على المشهود عليه، ولو اجتمعوا ونظروا واحدا بعد واحد لبطلت شهادتهم وحُدُّوا كما هو مدلول كلام المدونة، ولو اختلفوا في صفة الزنى فشهد اثنان منهم أنها عصت واثنان أنها طاعت حُدَّ الأربعة، ولا يحد واحد منهما للزنى. نقله التتائي عن ابن القاسم. أما المرأة فظاهر لعدم اتفاق الأربعة على طوعها والمكرهة لا حد عليها، وأما الرجل فلأن الشهادة إذا بطل بعضها تبطل كلها، فلذا لم يحد مع اتفاق الأربعة على زناه. قاله عبد الباقي.
وقال ابن مرزوق قال في كتاب الرجم من التهذيب: ووجه الشهادة في الزنى أن يأتي الأربعة الشهداء في وقت واحد فيشهدون على وطء واحد في موضع واحد بصفة واحدة فبهذا تتم الشهادة، ثم قال بعد هذا في اتحاد المكان والفعل: وإن شهد رجلان أنه زنى بها في قرية كذا وشهد اثنان أنه زنى بها في قرية أخرى لم يحد لذلك وحد الأربعة للقذف، وقال في كتاب القذف في شأن اللواط: والشهادة فيه كالشهادة في الزنى، ويفهم اشتراط اتحاد المكان من قول المص:"ورؤية اتحدا" بأن اشتراط اتحاد الرؤية يستلزمه. وفي التلقين: وأما البينة فشهادة أربعة رجال عدول يشهدون مجتمعين لا تراخي بين أوقات إقامتهم الشهادة على معاينة الزنى الواحد، ورؤية فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة وما جرى مجرى ذلك. اهـ.
وفي المقدمات: لا خلاف بين العلماء أن حد الزنى لا يقام بأقل من أربعة، لقوله تعالى:{فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً} ، وقوله:{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ، وعن قوم: إجازة ثلاثة رجال وامرأتين وهو خلاف القرآن. انتهى. وقال ابن يونس: وخالف مطرف وابن الماجشون في شرطية اجتماعهم، فقال: لا تجوز شهادتهم وإن كانوا هم القائمين بها مجتمعين أو مفترقين إذا كان افتراقهم قريبا بعضه من بعض. وقال ابن يونس أيضا: وخالف ابن الماجشون في شرطية اتحاد وقت الرؤية والموضع، فقال: إذا اتفقوا على صفة الزنى والرؤية واختلفوا في الأيام والمواطن تقبل شهادتهم. وقال محمد: إن قال بعضهم وطئها متكئة وبعضهم مستلقية، أو قال بعضهم في غرفة وبعضهم في سفل، أو قال بعضهم ليلا وقال بعضهم نهارا، أو اختلفوا في الأيام والساعات بطلت شهادتهم وحُدُّوا للقذف. وقال اللخمي: إن افترقوا وشهدوا بفعل واحد أو اجتمعوا وشهدوا بفعلين أو بوصفين بطلت عند ابن القاسم وحُدُّوا، وقال أشهب في كتاب محمد: تجمع شهادة الأربعة وإن أتوا متفرقين ويحد المشهود عليه، ولا ينبغي للإمام أن يؤخر حد من شهد قبل أن تتم الشهادة، فإن أخره حتى ثبتت الشهادة حد المشهود عليه، وقال أبو الفرج: لو سأل الثلاثة إنظارهم يأتوا برابع كان معهم وجب إنظارهم وجمعت الشهادات وحد المشهود عليه وهذا أحسنها.
وفرقوا فقط يعني أنه إذا اجتمع الشهود لأداء الشهادة في الزنى واللواط فإنهم يفرقون في هاتين الشهادتين فقط دون شهود غير الزنى واللواط فلا يفرقون، وقوله:"وفرقوا" وجوبا عند الأداء بعد إتيانهم جميعا كما يشعر به لفظ فرقوا. وقوله: "وفرقوا" سواء حصلت ريبة أم لا، خلافا لقول سحنون: لا ينبغي تفريقهم إلا عن تهمة فيغعله برفق. انتهى. وقوله: وفرقوا فإن فرقوا واختلفت شهادتهم بطلت وحُدُّوا، ولم يحد المشهود عليه. وفي الشبراخيتي: وفرقوا فقط لعظم ما شهدوا فيه؛ فلعل بعضهم لا يضبط شهادته فتسقط، فإن فرقوا واختلفوا بطلت شهادتهم. اهـ. وقال ابن مرزوق: قال ابن القاسم: كل الشهود لا يسألون ولا يفرقون إذا كانوا عدولا إلا على الزنى فإنهم يسألون ويفرقون. انتهى.
أنه أدخل فرجه في فرجها متعلق بمقدر وهو يشهدون، وقال الخرشي: وعبارة الشارح تدل على أنه معمول لرؤيا يعني أن صفة شهادة الأربعة أن يشهدوا أنه - أي الزاني - أدخل فرجه في فرجها أي المزني بها إن كانت أنثى، أو في دبره إن كان ذكرا. ومقتضى نقل المواق أنه لا بد أن يزيد: كالمرود في المكحلة: وكلام الشارح يفيده. وقال ابن مرزوق: ظاهره أنه لا يحتاج لزيادة: كالمرود في المكحلة، والظاهر أنه تأكيد. انتهى. قاله الشبراخيتي. وقال الخرشي: قوله: في فرجها إن كان أنثى أو في دبره إن كان ذكرا، وقد يقال: إن المؤلف أطلق الفرج على ما هو أعم. انتهى. وقال عبد الباقي: ويشهدون أنه أدخل أو أولج فرجه أي ذكره في فرجها: أو رأينا فرجه في فرجها ونحوه مما يدل على التيقن والتثبت، ولا بد من زيادة: كالمرود في المكحلة كما قرره به الشارح. البساطي: استغنى المؤلف عنها لأنها زيادة بيان فقط، ولعل الحامل على ذلك الحرص على ترك هذه الفاحشة أي على ترك الشهادة بها. انتهى. وقال المواق: مالك: لا تتم شهادتهم حتى يقولوا: كالمرود في المكحلة في البكر والثيب. الغزالي: ونِيَط الزنى بهذا وهذا قط لا يتفق فهذا من أعظم الأدلة على طلب الشرع لستر الفواحش، فانظر إلى الحكمة في حسم باب الفاحشة بإيجاب الرجم الذي هو أعظم العقوبات، ثم انظر إلى كثيف ستر الله كيف أسبله على العصاة بتضييق الطريق في كشفه، فنرجوا من اللَّه أن لا نُحْرَمَ هذا الكرم يوم تبلى السرائر. انتهى.
ولكل النظر للعورة يعني أنه يباح لكل واحد من الشهود النظر للعورة أي قصد النظر للعورة حال فعل الفاحشة ليتحملوا الشهادة بذلك فيثبت الحد، وإنما جاز ذلك وإن كان النظر للعورة محرما للضرورة، لأنه إن لم يبح ذلك لم تثبت الشهادة في هذا الباب، والقرآن دل على مشروعيتها فيه وكذا السنة على ما ثبت في الصحيح من قول سعد للنبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يجد مع امرأته رجلا: (أيمهله حتى يأتي بأربعة شهداء
(1)
). الحديث. وهو أظهر في الاستدلال من الآية، وفي كتاب الرجم من التهذيب قيل: فإن شهد أربعة على رجل بالزنى، فقالوا: تعمدنا النظر [إليها]
(2)
لنثبت الشهادة، فقال: وكيف يشهد الشهود إلا هكذا. اهـ. وقال ابن عبد السلام: قصد النظر جائز على الشهور بشرط أن يكون معه ثلاثة عدول؛ لأن من لا يقبل لا فائدة في نظره فيحرم على الأصل. قاله ابن مرزوق.
فرع: قال الشبراخيتي: ذكر ابن رشد ما يفيد أن شهود الزنى لا يضرهم إمكان منع الزاني من فعله، فتجوز شهادتهم مع قدرتهم على منعه من الزنى، خلافا لما ذكره ابن عرفة وتبعه ابن غازي. قاله الحطاب.
وندب سؤالهم يعني أنه إذا شُهِدَ عند الحاكم بالزنى فإنه يندب له أن يسأل الشهود عن الرؤية، وكونها كالمرود في المكحلة بوقت واحد، ووطء واحد وكيف اجتماعهم ومن أين دخلوا وما الباعث لهم وكيف خفي عليهما وصولكم إليهما؟ قاله التتائي. وقال الشبراخيتي: وندب سؤالهم عن كيفية توصلهم لما شهدوا به من الرؤية، فيندب سؤالهم على أي حالة رأوها، وهل راقدين أو لا وهل كانا في الجانب الغربي أو الشرقي؟ ونحو ذلك لعل أن تختلف شهادتهم فتدرأ الحدود بالشبهات. وانظر لو خالف أحدهم في ذلك هل يضر وهو الذي ينبغي أم لا؟ اهـ. وقوله: وانظر لو خالف أحدهم. في كلام عبد الباقي ما يفيد أن هذا التنظير قصور، ونصه: وندب للحاكم سؤالهم على أي حالة رأوهما هل راقدين أو لا وهل كانا في الجانب - أي للبيت مثلا - الغربي أو الشرقي أو غير ذلك، قاله أحمد. أي وهل كانا على الجانب الأيمن أو الأيسر وهل كانت على
(1)
مسلم، كتاب اللعان، رقم الحديث:1498.
(2)
الذي في التهذيب ج 4 ص 420: إليهما
ظهرها أو بطنها؟ والمراد: ندب سؤالهم عما ليس شرطا في الشهادة، بدليل أنه قدم ما هو شرط فيها ومع كون هذا مندوبا، فلو اختلفوا بطلت شهادتهم كما في ابن عرفة، وجَعْلُه أحمد بحثا قصورٌ. نعم، قوله: إنه كان على هذا يقتضي وجوب السؤال ظاهر. انتهى. وقال المواق من المدونة: قال مالك في الشهود في الزنى: ينبغي للإمام أن يسألهم عن شهادتهم، قال ابن القاسم: كيف رأوه وكيف صنع؟ فإن كان في ذلك ما يدرأ به الحد درأه. محمد: فإن غابوا قبل أن يسألهم غيبة بعيدة أو ماتوا أقام الحد بشهادتهم.
تنبيه: قول محمد: هذا صريح في أن ينبغي للندب وهذا هو الذي في المص. وقال أبو الحسن: الأقرب أن ينبغي للوجوب، وقال الرهوني: والحق أن الشهود إن كانوا من أهل العلم بوجوه هذه الشهادة فسؤالهم مستحب وإلا فهو واجب، وهذا مأخوذ مما قدمناه عن ابن رشد. قاله المتيطي وغيره في الشهادة في الأموال بالأحرى. ونص عليه سحنون في شاهدي السرقة وهو الذي يفيده كلام اللخمي، وصرح به ابن فرحون جازما مقتصرا عليه. ففي التبصرة: وكذلك الشهادة على الزنى واللواط فيسألهم الحاكم ويستفسرهم كما يسألهم في السرقة إلا أن يكون الشاهد مبرزا عالما بوجوه الشهادة. اهـ. والظاهر أن التبريز ليس شرطا عنده. واللَّه تعالى أعلم. وفي الخرشي عن بعض الشراح عند قوله: "وندب سؤالهم": أي وندب سؤالهم عما ليس شرطا في الشهادة؛ بأن يقول القاضي لهم: من أين أتيتم لهما وكيف خفي عليهما أمركم، وأما ما هو شرط فيها كقولهم: إنه أدخل فرجه في فرجها فهو واجب. انتهى.
كالسرقة، ما هي وكيف أخذت؟ يعني أنه يندب للحاكم أيضا أن يسأل بينة السرقة، فيقول لهم ما هي؟ أي السرقة بمعنى الشيء المسروق، والسؤال بما عن حقيقة الشيء، فإن أجابوا بأن المسروق مما يجب فيه القطع تمت الشهادة وإلا درأ الحد، ويقول له أيضا: كيف أخذت؟ هل على سبيل الاختفاء أو أخرجت من حرز إلى حرز وغير ذلك من الأحوال التي تتوقف عليها إقامة الحد، أو على غير تلك الوجوه مما لا يكون فيه قطع؛ لأن كيف سؤال عن الحال. قاله ابن مرزوق. وقال الخرشي عن بعض الشراح: ندب سؤالهم في السرقة فيما ليس شرطا في الشهادة،
وأما ما هو واجب كأن يشهدوا على أخذ المال من الحرز خفية فلا بد منه، ويندب سؤالهم عما زاد على ذلك. وقوله:"كالسرقة" أي الشيء المسروق، فإن اختلفوا بطلت شهادتهم. قال ابن عرفة: وإن كان [السؤال]
(1)
مندوبا، وتنظير الزرقاني في البطلان وعدمه قصور. انتهى. وقال التتائي: كالسرقة يقول لهم ما هي من أي الأنواع وكيف أخذت ومن أين أخْذُهَا وإلى أين ذُهبَ بها ونحو ذلك؟ انتهى. وقال اللخمي في بينة السرقة: إن غابوا قبل أن يسألوا ولم يقولوا سرق ما يوجب القطع لم يقطع، إلا أن يكونوا من أهل العلم ومذهبهم مذهب الحاكم. انتهى.
ولما ليس بمال ولا آئل له المجرور الأول خبر للمبتدإ الآتي الذي هو عدلان، والجملة معطوفة على الجملة الأولى التي هي:"وللزنى واللواط أربعة"، ومعنى كلام المص أنه يشترط في الشهادة التي هي في غير المال ولا ما يؤول أي يرجع إليه أن تصدر من رجلين عدلين.
ومثل المص لا ليس بمال ولا آئل للمال بقوله: كعتق يعني أن العتق لا بد فيه من شهادة عدلين ذكرين، فلا يثبت بدونهما. والعتق عقد لازم لا يحتاج إلى عاقدين، وفيه إخراج عن ملك، ويناسبه طلاق غير خلع ووصية بغير مال وعفو عن قصاص، ويلحق بذلك الولاء والتدبير. قاله عبد الباقي. قوله: وطلاق غير الخلع لخ إنما أخرج الخلع لعدم انخراطه في هذا السلك، وسيذكره في العقود التي تفتقر لعاقدين. وقوله: وعفو عن قصاص هذا ظاهر في العفو عن القتل، وأما الجرح فقد يقال إن العفو عنه كإثباته، وعبارة التوضيح عن ابن القاسم: ولا تجوز شهادتهن أي النساء مع رجل في العفو عن الدم كما لا تجوز في العمد. انتهى. ودم العمد فيه تفصيل كما علمته من كلام المص. قاله البناني.
تنبيه: قال عبد الباقي عند قوله "كعتق": ومثله وقف، قال البناني: مثله في التتائي، فقال مصطفى: لم أر من ذكر أن الوقف لا بد فيه من شاهدين من الشراح غيره، وقول المص بعد: وإن تعذر يمين بعض كشاهد بوقف ينافيه، وقال ابن رشد: المشهور المعروف من مذهب مالك وأصحابه أن شهادة النساء عاملة في الأحباس، لأنها من الأموال، وقد عده ابن فرحون في تبصرته
(1)
في الأصل: السبب، والمثبت من الخرشي ج 7 ص 200.
مما يثبت بالشاهد والمرأتين أو الشاهد واليمين. انتهى. وصوب كلامه الرهوني. ونقل عن ابن رشد أن المشهور المعلوم من مذهب مالك وأصحابه أن شهادتهن في ذلك عاملة، لأن الأحباس من الأموال ولا اختلاف أن شهادة النساء على الأموال جائزة، وإنما اختلف فيما جر إلى الأموال كالوكالة عليها وشبه ذلك، وإنما يتخرج أن شهادتهن في ذلك غير عاملة على مذهب ابن الماجشون وسحنون أن شهادة النساء لا تجوز إلا حيث يجوز اليمين مع الشاهد إذا قلنا إن الحبس لا يستحق باليمين مع الشاهد، وفي ذلك بين أهل العلم اختلاف.
وقول البناني: إنما خرج الخلع لعدم لخ كلامه وكلام عبد الباقي يقتضي أن الخلع لا يثبت إلا بشاهدين مطلقا وليس كذلك، بل محله إذا ادعته الزوجة والزوج منكر، وأما إذا ادعاه الزوج وأنكرته المرأة فإنه يثبت بشاهد ويمين كما تجب فيه اليمين بالدعوى المجردة. قال في المدونة: وإن صالحته على الشيء فيما بينهما، فلما أتى بالبينة لتشهد جحدت المرأة أن تكون أعطته على ذلك شيئا فالخلع ثابت ولا يلزمها على ذلك اليمين، وإن جاء الزوج بشاهد على ما يدعي حلف معه واستحق انتهى وقال الحطاب: ولا ليس بمال ولا آئل له يريد وليس زنى ولا مما يختص به النساء، واكتفى الشيخ عن ذكر الزنى بما تقدم، وعن ذكر ما يختص بالنساء بما سيذكره، ومما لا يكتفى فيه بالشاهد واليمين إسقاط الحضانة. انتهى.
وقال المواق: ابن رشد: الشهادة في العدد على ثلاث مراتب: أعلاها بينة الزنى عددها أربعة، الثانية ما عدا الزنى مما ليس بمال ولا يؤول إلى المال كالنكاح والرجعة والطلاق والعتق والإسلام والردة والبلوغ والولاء والعدة والتجريح والتعديل والعفو عن القصاص وثبوته في النفس والأطراف على خلاف فيهما وثبوت النسب والموت والكتابة والتدبير وشبه ذلك شرط ذلك كله العدد والذكورة: وإنما تثبت بشهادة رجلين ولا تثبت بشهادة رجل وامرأتين. وفي الرسالة: مائة امرأة كامرأتين. قال شارحها: انظر لو حصل العلم للحاكم بشهادة نسوة، قال اللخمي: يَخْرُجُ هذا عن باب الشهادة ويكتفي بهن. وقاله ابن رشد في الأجوبة. انتهى.
ورجعة هو مثال أيضا لما ليس بمال ولا آئل للمال يعني أن الرجعة لا تثبت إلا بعدلين، سواء ادعاها الزوج وأنكرتها المرأة أو ادعتها المرأة وأنكرها الرجل ويقبل دعواه هو أنه راجعها إذا كانت دعواه قبل انقضاء العدة، وقوله:"ورجعة" قال عبد الباقي: وفيها إدخال في ملك، ومثلها استلحاق وإسلام وردة ويناسبها إحلال وإحصان. انتهى. وكتابة هو مثال أيضا لما ليس بمال ولا آئل له: فلا بد من ثبوت الكتابة من عدلين ذكرين وهي عقد يفتقر لعاقدين ونكاح ووكالة في غير مال وخلع وتاريخ عدة موت أو طلاق لانقضاء قروء أو وضع لتصديقها كما قدم المصنف. اهـ.
وقال الشبراخيتي: وذكر المؤلف ثلاثة أمثلة: العتق وهو فيه إخراج ومثله الطلاق والعفو عن القصاص والوصية بغير المال، ويلحق به الولاء والتدبير والرجعة وهو كالأول إلا أن فيه إدخالا فمثله الاستلحاق والإسلام والردة ويناسبه الإحلال والإحصان والكِتَابَة وهو عقد يفتقر إلى عاقدين، ومثله النكاح والوكالة في غير المال، وأما الوكالة في المال فإنها تثبت بعدل وامرأتين لا بأحدهما بيمين على المشهور، وأما الشركة فهي مال. انتهى. وقال التتائي: وكتابة ونكاح وطلاق وخلع وعدة وتمليك ومبارأة وإسلام وردة ونسب وولاء وبلوغ وقتل وظهار واستيلاد. اهـ. قال الخرشي: وفي الزرقاني: إن قلت الكتابة مشتملة على المال فكيف أوردها هنا؟ فالجواب أن الكاتب هو المدعي وليس طالب مال وإنما هو طالب للعتق فقط، ولو ادعاها السيد وأنكرها العبد لم يلتفت إلى قول العبد لأن للسيد إنشاءها الآن. وفي شرح الأجهوري ما معناه أنه لو [قام]
(1)
شاهد لشخص أصم وأبكم بدين ورثه من أبيه فهذا لا يمكن أن يحلف فيحلف المدعى عليه ويبقى بيده إلى أن يزول المانع عنه فيحلف. انتهى.
عدلان قد مر أن قوله: "عدلان" مبتدأ وخبره، "ولما"، وأن هذه الجملة عطف على قوله:"وللزنى واللواط أربعة"، وقوله:"ولا ليس بمال ولا آئل له" لخ، لقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فكان الأصل ذلك في سائر الحقوق إلا ما أخرجه الدليل وهذا النوع لم يخرجه الدليل فيبقى على الأصل. وإلا يكن المشهود به ما مر بل كان مالا أو آثلا إليه، فله عدل وامرأتان
(1)
في الأصل: أقام، والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 179.
عدلتان أو أحدهما أي عدل فقط أو امرأتان فقط، بيمين أي يثبت المال وما يؤول إليه بعدل مع يمين أو بامرأتين مع يمين، فالأقسام ثلاثة: عَدْلٌ وامرأتان فلا يمين، عَدْلٌ لا بد معه من اليمين، امرأتان عدلتان لا بد معهما من اليمين، والباء بمعنى مع. فَعُلِمَ من كلام المص أن المرأتين بمنزلة العدل الواحد، ولهذا لو شهدتا بالطلاق أو بالعتق حلف المدعى عليه لرد شهادتهما، فإن نكل حبس وإن طال دين، فقوله: الآتي: "وحلف بشاهد في طلاق وعتق" مثله ما نزل منزلته وهو المرأتان، وفائدة حلفه عدم سجنه فلا ينافي أن الطلاق والعتق إنما يثبت كل بشاهدين. قاله عبد الباقي.
وقال ابن مرزوق: وأما الاكتفاء في هذا النوع برجل وامرأتين، فلقوله تعالى في الدين:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} . الآية. وأما الاكتفاء بالعدل مع اليمين، (فلقضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيه بالشاهد واليمين
(1)
)، وثبت ذلك عنه حسبما في الموطإ ومسلم وغيرهما، والمسألة من الخلافيات وأطال من الاستدلال عليها في الموطإ، وأما قبول المرأتين مع اليمين فما تنزل منزلته كذلك. قال في المدونة: ويحلف الطالب مع شهادة المرأتين في الأموال ويقضى له. وقال في الشاهد واليمين: ومن أقام شاهدا على رجل أنه تكفل له بما له على فلان حلف مع شاهده واستحق الكفالة قِبَلَهُ، ويحاص من قُضِيَّ له في دينه بشاهد ويمين مع من قضي له بشاهدين.
كأجل مثال لا يؤول إلى المال، يعني أن المتبايعين إذا اختلفا في الأجل أي في أصله أوفي قدره، فإن ذلك يثبت بعدل وامرأتين أو أحدهما بيمين، ومِثْل ذلك ما إذا اختلفا في البيع أو قبض الثمن فيثبت بعدل وامرأتين أو أحدهما بيمين. وخيار يعني أن المتبايعين إذا اختلفا في وقوع البيع على الخيار، فادعى أحدهما أن البيعة بيعة خيار وادعى الآخر أن البيع على البت، فإنه يثبت كونه على الخيار بعدل وامرأتين أو أحدهما بيمين، لأن هذا آئل إلى المال. وشفعة مثال لا يؤول إلى المال أيضا؛ يعني أنه إذا ادعى المشتري إسقاط الشفيع للشفعة وادعى الشفيع خلافه أو غيبته
(1)
الموطأ، كتاب الأقضية، رقم الحديث 7، ومسلم، كتاب الأقضية، رقم الحديث:1712.
عند العقد، فإنه يقبل في ذلك عدل وامرأتان أو أحدهما بيمين. قال الشبراخيتي: وشفعة أي ما يتعلق بها من أخذ أو ترك. انتهى. ونحوه للخرشي. وزاد: أو إسقاط أو غيبة الشفيع أو شفع قبل السنة أو بعدها. وقال ابن مرزوق: وكما لو شهدوا بأن هذا شفيع فإنها تستلزم دفع ثمن وأخذ مثمون.
وإجارة يعني أنه إذا ادعى شخص إجارة أي أصلها أو أصل كراء أو قدر المدة وخالفه الآخر في ذلك. فإنه يقبل في ذلك عدل وامرأتان أو أحدهما بيمين. قال عبد الباقي: وإجارة أي أصلها أو المدة بقدر معين تخالفا في ذلك. انتهى. وقال الشبراخيتي: وإجارة كاستأجرت واجرت وينكر الآخر. انتهى. وقاله التتائي. وقال ابن مرزوق. عاطفا على ما يقبل فيه عدل وامرأتان أو أحدهما بيمين ما نصه: أو شهدوا أن هذا استأجر غيره فإنها تستلزم دفع أجرة واستيفاء منافع وهي مثمون لأنها متقومة. انتهى.
وجرح خطإ يعني أن جراح الخطإ مما يثبت بعدل وامرأتين أو أحدهما بيمين، أو مال يعني أن جرح المال مما يثبت بعدل وامرأتين أو أحدهما بيمين. وقوله:"أو مال" عطف على "خطإ"، فيفيد أن المراد الجرح الذي وقع عمدا من مكلف وليس فيه القصاص لكونه من المتالف كمأمومة وجائفة، وعمد الصبي وخطؤه سواء وأداء كتابة يعني أنه
(1)
ادعى الكاتب أنه أدى كتابته، وأنكر السيد ذلك فإنه يثبت تأديته للكتابة بعدل وامرأتين أو أحدهما بيمين. وقوله:"وأداء كتابة" أي كلها أو بعضها ويحلف العبد مع الشاهد أو المرأتين حتى في النجم الأخير.
وإيصاء بتصرف فيه هذه المسائل الثمان أمثلة لا يؤول إلى المال؛ يعني أنه إذا أوصاه أن يتصرف في ماله بعد موته أي موت الموصي فإن ذلك مما يقبل فيه عدل وامرأتان أو أحدهما بيمين، وكذا لو وكله على أن يتصرف له في المال في حياته فإنه يقبل في ذلك عدل وامرأتان أو أحدهما بيمين. قال البناني: لما ذكر ابن الحاجب ما يجوز فيه رجل وامرأتان، قال: وكذلك الوكالة بالمال والوصية به على المشهور. التوضيح: قوله: وكذلك الوكالة بالمال أي وكله في حياته ليتصرف له
(1)
كذا في الأصل، ولعله يعني أنه إذا ادعى الخ.
والوصية به أي أوصاه بأن يتصرف في أمواله بعد وفاته، لا أوصى له بمائة مثلا فإن هذه مال محقق، فلا يجري فيها خلاف. ومقابل المشهور في الوكالة والوصية لعبد الملك. انتهى. وقال ابن عرفة: ابن رشد: لا خلاف أنه لا يجوز شاهد ويمين في الشهادة على الوصية ولا في الشهادة على الوكالة، خلاف نقل اللخمي والمازري. قال اللخمي: اختلف إذا شهد شاهد على وكالة من غائب هل يحلف الوكيل والمشهور أنه لا يحلف وهذا أحسن إن كانت الوكالة لحق الغائب فقط، فإن كانت مما يتعلق بها حق للوكيل لأن له على الغائب دينا أو ليكون ذلك المال بيده قراضا أو تصدق به عليه حلف واستحق إن أقر الموكل عليه بالمال للغائب. وقال المازري: معروف المذهب أن الشاهد واليمين لا يقضى به في الوكالة، لكن منع القضاء بها ليس من ناحية قصور هذه الشهادة، بل لأن اليمين فيها مع الشاهد متعذرة لأن اليمين لا يحلفها إلا من له فيها نفع والوكيل لا نفع له فيها، وإن كان وقع في المذهب أن الوكيل يحلف مع شاهده بالوكالة ويقبض الحق، فتأول الأشياخ هذه الرواية على أن المراد وكالة بأجرة يأخذها الوكيل أو يقبض المال لمنفعة له فيه. انتهى.
وقال عبد الباقي: وإيصاء بتصرف فيه أي في المال بعد موت الموصي، ومثله في حياته لكنها تكون وكالة، واعْتُرِضَ ثبوت هذين الأمرين بعدل أو امرأتين مع يمين بأنه لا يحلف أحد ليستحق غيره، فالقياس أن لا يثبت إلا بعدلين أو بعدل وامرأتين، وأُجِيبَ بأن محل ثبوتهما مع اليمين إذا كان فيهما نفع للوصي أو الوكيل، كما إذا كانت بأجرة أو رهن كدعوى أنه وكله على قبض سلعة ليجعلها عنده رهنا في دينه على الموكل أو الميت الموصي له بذلك، فإن حلف الوصي أو الوكيل مع عدل أو امرأتين ثبت ذلك، وإن نكل حلف الموكل أو الموصي إن كان حيا، فإن كان ميتا بطلت بنكول الوصي، وأما دعوى أنه وكيل أو وصي من غير نفع يعود عليه فلا تثبت إلا بعدلين أو عدل وامرأتين لا بأحدهما مع يمين. انتهى. ونحوه للشبراخيتي، وقوله: وأجيب بأن محل ثبوتهما لخ، قال الرهوني: ويجاب أيضا بما إذا كان القائم بذلك من تعامل مع الوكيل. انظر المعيار.
تنبيه: قوله: "أو أحدهما بيمين"، فإذا قال الطالب: لا أحلف حتى تبرز لي الحق فليس له ذلك إذ لا يستحق المال إلا بعد يمينه، فإن قال أخشى أن أحلف ثم تدعي العدم قيل له لك أن تشهد عليه أنه موسر، فإذا شهد بذلك حلف واستحق، وإن ادعى بعد الحلف العدم حبس حتى يؤدي، وإن شهدت بينة بالعدم لم تنفعه لأنه أكذبها. ذكره ابن الهندي في وثائقه. انتهى. نقله الشيخ أبو الحسن في كتاب السرقة. قاله الخرشي.
تنبيه آخر: قال في التبصرة: من قام له شاهد واحد بحق، فدفعه المشهود عليه من غير رفع للحاكم، وقال: ظننت لزومه لم ينفعه ذلك وهو ماض. انتهى.
أو بأنه حكم له به يعني أنه إذا حكم الحاكم لشخص بمال ثم أراد المحكوم له أن ينفذ هذا الحكم عند قاض آخر، فإنه يكفي في ثبوت ذلك الشاهد واليمين أو المرأتان واليمين، كذا شهره ابن رشد. نقله أبو الحسن. وكلام ابن غازي متعين، ولا يلتفت لكلام ابن الحاجب وابن هارون وابن عبد السلام ومن تبعهم، فإنه معترض. انتهى. قاله الشبراخيتي.
وقوله: "أو بأنه حكم له به" أي بالمال وهذا لا يخالف ما سبق من قوله: "أو بشاهدين مطلقا" لأن ذلك حيث كان المنهي الحاكم وهذا لا تعرض فيه للحاكم. قاله الخرشي. وكلام ابن الحاجب الذي أشار إليه الشبراخيتي، هو قوله: وأما الشاهد بالقضاء بمال فالمشهور لا تمضي وله استحلاف المطلوب، فإن نكل لزمه بعد يمين الطالب. اهـ. قال التتائي: ومعنى كلام ابن الحاجب إذا ادعى رجل على آخر أن القاضي حكم له عليه بمال فأنكر فأقام عليه شاهدا بذلك، فهل له أن يحلف مع شاهده؟ المشهور: لا. انتهى. وقوله: "أو بأنه حكم له به" هو عطف على المعنى أي كالشهادة بأجل، أو بأنه حكم له بكذا.
كشراء زوجته تشبيه لا تمثيل؛ يعني أن المتزوج بأمة إذا ادعى شراءها فإنه يثبت بعدل وامرأتين أو أحدهما بيمين، فتصير ملكا له وينفسخ النكاح. وتقدم دين عتقا يعني أن الدين يثبت تقدمه على العتق بشاهد وامرأتين أو أحدهما بيمين، فيرد العتق ويباع العبد في الدين. قال عبد الباقي: ونحوه للخرشي والشبراخيتي، وهذا إذا كان المدعي الغرماء، وأما المعتق بالكسر إذا أراد رد العتق وأقام شاهدا على تقدم الدين على العتق فإنه لا يكفي ذلك، ولا بد من شاهدين. وكذا إذا ادعى
العتق بالفتح تقدم عتقه على الدين فلا بد من شاهدين. انتهى. قوله: وأما العتق بالكسر إذا أراد رد العتق لخ، نحوه في الأجهوري غير معزو وهو ظاهر؛ لأن رد العتق إنما هو من الغرماء كما تقدم في الفلس، ولا حق فيه للمدين العتق إذ لو أجازه الغرماء لزمه. واللَّه تعالى أعلم. قاله البناني.
فرع: لو قذف شخص آخر فقام المقذوف على قاذفه بالحد، فَشَهدَ برِقِّ المقذوف رجل وامرأتان، سقط عنه الحد. قاله الشبراخيتي وغيره. واللَّه تعالى أعلم.
وقصاص في جرح يعني أن جراح العمد التي فيها القصاص تثبت بعدل وامرأتين أو أحدهما بيمين، وأما جراح العمد التي لا يقتص فيها لكونها من المتالف أو جراح الخطإ فمما يؤول إلى المال. قال عبد الباقي: وقصاص في جرح عمدا يثبت لمدعيه بعدل وامرأتين أو أحدهما بيمين، وأتى في هذه الثلاث مسائل بكاف التشبيه ولم يعطفها كالتي قبلها على أجل؛ لأن الثالثة منها ليست بمال ولا آئلة إليه قطعا، وإنما هي إحدى المستحسنات والاثنتان قبلها فيهما مال وغيره، ولا يقال أداء الكتابة فيها أيضا مال وغيره وهو العتق فلم لم يجمعها مع الثلاث؛ لأنا نقول لما كانت الكتابة ثابتة فالشهادة بأدائها شهادة بمحض مال، وأيضا فإنها تقع ببعض الكتابة أي على وجه لا يتضمن عتقا فلا يكون فيها عتق، أشار له أحمد. وقوله: وإلا فعدل وامرأتان أو أحدهما بيمين سواء كان العدل مبرزا أم لا. هذا هو التحقيق. وأما المرأتان فالتبريز صفة تختص بالرجال ولا يوجد في النساء لنقصان شهادتهن، فإن امرأتين كرجل فلا يتوهم فيهما.
فائدة: قال أبو بكر بن العربي في أحكامه الكبرى: قال بعض علمائنا في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} من ألفاظ الأبدال، فكان ظاهره يقتضي أن لا تجوز شهادة النساء إلا عند عدم شهادة الرجال كحكم سائر أبدال الشريعة مع مبدلاتها، وهذا ليس كما زعمه، ولو أراد ربنا ذلك لقال: فإن لم يوجد رجلان، فأما وقد قال:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا} فهذا قد يتناول حالة الوجود والعدم. واللَّه أعلم. انتهى. نقله الرهوني.
ولما لا يظهر للرجال امرأتان هذه هي المرتبة الرابعة من مراتب الشهادة، وهي الأربعة من العدول الذكور والعدلان الذَّكَرَان، والثالثة عدل وامرأتان أو أحدهما بيمين، والرابعة هذه يعني أن ما لا يظهر للرجال تكفي فيه امرأتان عدلتان، ومثل لذلك بقوله: كولادة لحرة أو أمة ادعيت فأنكرت، وظاهره أنه لا يشترط حضور شخص المولود وهو كذلك على المشهور: وقول ابن القاسم: واشترط سحنون حضوره ليشاهده الرجال واختاره ابن رشد. قاله التتائي. وقال الشبراخيتي: كولادة ادعيت فأنكرت وإن لم يحضر شخص المولود، بخلاف شهادة الصبيان المتقدمة فلا بد من مشاهدة البدن ميتا، ولا فرق بين الحرائر والإماء، وترك المص مسألة شهادة النساء على أن المولود - ذكر - التي ذكرها ابن الحاجب، لجزمه في التوضيح عن ابن القاسم بأنها لا بد فيها من الحلف مع المرأتين. انتهى.
وعيب فرج يعني أن عيب الفرج مما لا يظهر للرجال فتكفي فيه امرأتان، كما قال المص قبل:"وإن أتى بامرأتين تشهدان له قبلتا"، وقد مر أن الحرة تصدق في داء فرجها. وفي الشبراخيتي عند قوله:"وعيب فرج" ما نصه: يحتمل في الأمة فقط، وأما الحرة فقد تقدم في باب خيار الزوجين أنها مصدقة في دائها، ويحتمل التعميم أي في أمة مطلقا أو حرة إن مكنت من النظر إلى فرجها، ولو قال: وعيب عورة، لكان أحسن. انتهى. وقال التتائي: وفهم من قوله: "عيب فرج" أن عيب غيره مما هو عورة لا يقبل فيه النساء وهو كذلك على أحد القولين، ففي الموازية وغيرها: قبول شهادة النساء فيما تحت الثياب، وقيل: يبقر الثوب من موضعه ويراه الرجال. قال المص: وعلى هذا لا تقبل شهادة النساء. قال في الشامل: ولا يثبت بواحدة إلا أن يرسلها قاض فقولان، فإن غابت الأمة أو ماتت فلا بد من امرأتين. اهـ. وقال عبد الباقي: وأراد هنا بعيب الفرج ما يشمل ما بين سرة وركبة. انتهى.
واستهلال يعني أن استهلال المولود أي كونه ولد حيا مما يقبل فيه امرأتان، وكذا تقبل امرأتان في كونه ولد ميتا. قال الشبراخيتي: واستهلال، وهو أن يشهد أن المولود قد استهل صارخا أو لم يستهل وهو عام في الحرائر والإماء. انتهى. وقال عبد الباقي: واستهلال المولود حرة أو أمة، ومثله ما إذا قالتا ذكر أو أنثى أو لم يستهل لِتَرتُّبِ إرث وعدمه - ونحو ذلك - عليه. انتهى
قول عبد الباقي. ومثله ما إذا قالتا ذكر لخ؛ ظاهره من غير يمين وليس كذلك؛ إذ لم أر من ذكر ذلك أصلا وقد نقله الباجي عن ابن القاسم في العتبية من رواية عيسى. وفي كتاب ابن سحنون مع اليمين: وكذا ابن يونس وعزاه لابن القاسم في العتبية وكتاب ابن المواز وفي المعين، وكذلك اختلف إذا شهدن في مغيب الجسم أنه ذكر. فقال ابن القاسم: يحلف الطالب مع شهادتهن ويستحق حقه، ومنع منه أشهب. انتهى.
وفي التوضيح عند قول ابن الحاجب: وفي قبولها على أنه ابن قولان، أي اختلف في قبول شهادة المرأتين على أن المولود ذكر، فقبلها ابن القاسم لكن بشرط حلف القائم بشهادتهن، وعلله ابن القاسم بأن شهادتهن على مال، وردها مالك في رواية أشهب واختاره أشهب وسحنون، ثم قال ابن الحاجب: ما لم يتعذر تأخيره للرجال. التوضيح: ظاهره أن هذا تقييد لمحل الخلاف، وأنه إن تعذر قبلت بالاتفاق، وبذلك صرح ابن رشد، وهذا التقييد وقع لأصبغ وسحنون وغيرهما. اهـ. نقله الرهوني.
فرع: قال في المنتقى: إذا شهد رجل وامرأة على استهلال الصبي لم تجز شهادتهما، وبه قال ابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ، وذلك لارتفاع الضرورة بحضور الرجل فسقطت شهادة المرأة، ولا تتم الشهادة برجل واحد، قال ابن حبيب: وقد سمعت من أرضى من أهل العلم يجيز ذلك ورآه أقوى من شهادة امرأتين وهو أحب إلي. وقال مطرف عن مالك: وإذا شهدت امرأة ورجل على استهلال الصبي لم تجز شهادتهما، وقاله ربيعة وابن هرمز وغيرهما. قال ابن حبيب: لخ. وقد روى ابن وهب أن أبا بكر وعمر وعليا أجازوا شهادة المرأة المسلمة وحدها، فكيف بهذا.
فرع آخر: قال اللخمي: وأحلف ابنُ القاسم السيد بشهادة امرأة على أمته أنها ولدت إذا شهد شاهدان على الوطء، قال: لأنها لو أقامت امرأتين ثبتت الشهادة على الولادة، فإذا أقامت امرأة عليها حلف. اهـ. نقله الرهوني.
وحيض يعني أن الحيض في الإماء يقبل فيه امرأتان عدلتان، وأما الحرائر فهن مصدقات كما مر للمص من قوله:"وصدقت في انقضاء عدة القرء"، ولا يصدق السيد في رؤية الحيض في أمته، ولا
بد من اعتماده على امرأتين إذا أراد بيعها. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وحيض في أمة لا في حرة لأنها مصدقة كما قدم المصنف. انتهى. ونحوه للشبراخيتي. وقال التتائي: وحيض من أمة، وأما الحرة فمصدقة فيه، ولا ينافي تصديقها إقامة الزوج البينة على أنها حاضت عند إنكارها في أمور كثيرة. انتهى.
ونكاح بعد موت حق هذا الكلام أن يكون هو وما بعده متأخرا عن قوله الآتي: "كقتل عبد آخر" أو متقدما على قوله: "ولما لا يظهر للرجال" منخرطا في سلك ما يقبل فيه عدل وامرأتان أو أحدهما بيمين، ومعنى كلامه أن المرأة إذا ادعت بعد موت رجل أنه تزوجها بصداق معلوم، وأقامت على ذلك شاهدا وامرأتين أو أحدهما وحلفت معه، فإنه يثبت بذلك المال دون النكاح عند ابن القاسم وهو المشهور. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: ونكاح شهد به ادعته امرأة بصداق عينته بعد موت لرجل لتأخذ صداقها من تركته، فالظرف متعلق بشهد مقدرا. انتهى. وقال الشبراخيتي: ونكاح بعد موت لأنها ترجع للميراث، وأما قبله أي الموت فلا؛ إذ هي شهادة بنكاح وما بعده مما يثبت بشاهد ويمين، أو امرأتين بيمين أو شاهد وامرأتين، ويدل له ما تقدم في تنازع الزوجين من قوله:"ولو أقام المدعي شاهدا وحلفت معه ورثت". اهـ. وقال الخرشي: قال اللخمي من الشهادة: [بما ليس بمال]
(1)
، ويستحق بها مال أن يشهد رجل وامرأتان بنكاح بعد موت الزوج أو الزوجة أو على ميت أن فلانا أعتقه أو على نسب أن هذا ابن الميت ونحوه، فالشهادة على قول ابن القاسم صحيحة. انتهى. وقال ابن مرزوق: قال ابن القاسم، إذا شهد عدل بالنكاح لامرأة حلفت معه وورثت، وقال أشهب: لا يرث حتى يصح النكاح. انتهى.
أو سبقيته يعني أن سبقية موت أحد الزوجين لموت الآخر يقبل فيها عدل وامرأتان أو أحدهما بيمين، قال عبد الباقي: أو شهد على سبقيته أي الموت أي أن أحد الزوجين المحققي الزوجية مات قبل صاحبه. انتهى. وقال الشبراخيتي: أو سبقيته أي سبقية موت أحد الزوجين للآخر ويقاس عليهما موت غيرهما. انتهى. وقال التتائي: أو شهد رجلان أو رجل وامرأتان بسبقيته أي
(1)
في الأصل: ما ليس بمال، والمثبت من المواق ج 8 ص 212.
بسبقية موت أحد الوارثين موت الآخر. انتهى. وقال المواق: قال ابن رشد: أما شهادة النساء في المرأة تلد ثم تهلك هي وولدها في ساعة على أيهما مات أولا فجائز اتفاقا لأنها على ما لا يتعدى إلى غير المال. انتهى. أي والمال يثبت بعدل وامرأتين أو أحدهما بيمين. قاله مقيده عفا اللَّه عنه. أو موت ولا زوجة ولا مدبر ونحوه يعني أنه إذا وقعت الشهادة على موت رجل والحال أنه لا زوجة له ولا مدبر ولا أوصى بعتق ونحو ذلك فلم تبق إلا المقاسمة، فإنه يقبل في ذلك عدل وامرأتان أو أحدهما بيمين، قال فيها: ولو شهد رجل وامرأتان على موت رجل فإن لم تكن له زوجة ولا أوصى بعتق عبده ونحوه وليس إلا قسمة المال فشهادتهما جائزة، فقوله:"ولا زوجة" لخ خاص بقوله: "أو موت"، والواو في قوله:"ولا مدبر ونحوه" ليست بمعنى أو، وفي قوله:"ولا زوجة" واو الحال، قال عبد الباقي: أو وقعت الشهادة على موت رجل والحال أنه في الفرع الأخير لا زوجة له ولا مدبر له، والواو فيه بمعنى: أو. قال مقيده: وفيه نظر، ثم قال عبد الباقي: ونحوه كعبد موصى بعتقه أو أم ولد وليس إلا قسم المال، واعتُرِضَ قوله:"ونكاح" بأقسامه الثلاثة، والمسألتان بعده أي قوله:"والمال دون القطع في سرقة"، وقوله:"كقتل عبد آخر" بأن الثلاث مما يثبت بشاهد وامرأتين أو أحدهما مع يمين، ويدل للأول قوله في تنازع الزوجين:"ولو أقام المدعي شاهدا وحلفت معه وورثت"؛ أي ولا يثبت النكاح، فحقه ذكر الثلاث قبل قوله:"ولما لا يظهر" لانخراطها في سلك ما قبله، واحترز بقوله:"ولا زوجة" لخ عما إذا كانت له زوجة أو مدبر أو نحوهما فإن الشهادة كلها ترد. قاله ابن مرزوق.
وثبت الإرث والنسب له وعليه راجع للولادة والاستهلال؛ يعني أنه إذا شهدت امرأتان عدلتان على الولادة لحرة أو أمة أو على أن الولد استهل فإنه يثبت الإرث للمولود حيث كان يرث، أي يثبت له إرث من مات قبله من موروث له، كما أنه يثبت الإرث عليه أي يثبت الإرث على المولود لمن يرثه حيث مات المولود قبله. قال الشبراخيتي: وثبت الإرث راجع للولادة
والاستهلال، فكان حقه أن يصله به. وقوله:"وثبت الإرث" أي له ممن تقدم موته عليه وعليه لمن تأخر عنه، وكما يثبت الإرث يثبت النسب، ومن لوازم ثبوت النسب ثبوت الإرث.
وأما قوله: بلا يمين فهو راجع لقوله: "ولما لا يظهر للرجال امرأتان" يعني أنه يكفي في ذلك المرأتان من غير انضمام يمين إليهما، ولو قدم المص قوله: وثبت الإرث والنسب له وعليه بلا يمين على قوله: "ونكاح بعد موت"، وقدم قوله:"ونكاح بعد موت" لخ على قوله: "ولما لا يظهر للرجال امرأتان" لأتى بكل في موضعه. انتهى. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي: الإرث والنسب له وعليه أي النسب والميراث يثبتان بشهادة امرأتين على الولادة والاستهلال للمولود، فإن شهدتا أنه استهل ومات بعد أمه ورثها وورثه ورثته، ولو قال: وثبت النسب والإرث له أو عليه ليصل قوله: "والإرث"، بقوله:"له وعليه" لأنه راجع له فقط لكان أظهر. انتهى. وقال البناني: وثبت الإرث والنسب له أو عليه، نحوه لابن الحاجب، قال ابن عرفة: ولم يتعرض له ابن عبد السلام، وقرره ابن هارون بقوله: مثل أن تشهد امرأتان بولادة أمة أقر السيد بوطئها وأنكر الولادة، فإن نسب الولد لا حق به وكذا موارثته إياه له أو عليه. ابن عرفة: هذا كقوله آخر أمهات الأولاد من المدونة: وإن ادعت أمة أنها ولدت من سيدها [فإن أنكر]
(1)
لم أحلفه لها إلا أن تقيم رجلين على إقرار السيد بالوطئ وامرأتين على الولادة فتصير أم ولد، ويثبت النسب للولد إن كان معها ولد إلا أن يدعي استبراء بعد الوطء فيكون ذلك له، وهذه نص في جواز شهادتهن فيما لا تجوز فيه شهادتهن إذا كان لازما لما تجوز فيه شهادتهن وهو في الموطإ وغيره. انتهى. يعني أن النسب ثبت بشهادتهن لما ذكر وهو مما لا تجوز شهادتهن فيه كما صرح به التتائي.
تنبيهان: الأول: من حلف بالحرية أو بالطلاق أن بزوجته عيبا بموضع كذا ما لا يراه إلا النساء: والزوجة حرة أو أمة وأنكرت ذلك وقالت لا نكشف لأحد ينظر إليَّ، أو أذنت لامرأة أو أكثر في النظر فنظرت إليها وقلن ليس بها ما يدعيه فإنه لا يحنث ويدين. قاله ابن القاسم. ابن
(1)
في التهذيب ج 4 ص 606 فأنكر.
رشد: لأنه لا يجب العتق أو الطلاق بشهادة النساء. قاله في العتق الثاني من البيان. انتهى. نقله الخرشي.
الثاني: قوله: "بلا يمين"، قال الخرشي: ولو حقق الدعوى ولو كان عليه يمين لساوى هذا القسم الأول. انتهى. وقد مر أنه إذا قالتا ذَكَرٌ أنه يحلف الطالب مع شهادتهما، وقد مر عن الشبراخيتي أن قوله:"بلا يمين" راجع لقوله: "ولما لا يظهر للرجال امرأتان" ونحوه لعبد الباقي، فإنه قال:"بلا يمين" راجع لجميع مسائل ما لا يظهر للرجال، ولو قدمه عقب قوله:"امرأتا " لكان أظهر. انتهى.
والمال دون القطع في سرقة يعني أنه إذا شهد عدل وامرأتان أو أحدهما بيمين بسرقة شخص ربع دينار فأكثر أو ثلاثة دارهم أو ما يساويها، فإنه يثبت المال ولا قطع على المشهود عليه، وهل يضمن السارق ضمان الغاصب لأن السرقة لم تثبت إذ شرطها شاهدان أو ضمان السارق والسرقة تثبت بالنسبة للمال، وإن تخلف شرط القطع قولان لابن القاسم وأشهب، وقد تعقب في توضيحه على ابن الحاجب في كونه لم يصل هذا الفرع بالأموال إلى أن قال: ولكنه اتكل على تمييز ذهن السامع. قال جميعه الخرشي. وقال عبد الباقي: أي أنه إذا شهد على شخص بسرقة شرعية شاهد وامرأتان أو أحدهما بيمين، فإنه يثبت على السارق المال دون القطع ويضمن المال ضمان الغاصب مليا أم لا: لأن السرقة لم تثبت إذ شرطها عدلان. هذا قول ابن القاسم. وقال أشهب: يضمنه ضمان السارق أي إن أيسر من الأخذ إلى الحكم بالغرم لأن السرقة تثبت بالنسبة للمال والمتخلف شرط القطع، وهذا من المسائل التي تثبت بشاهد وامرأتين أو أحدهما بيمين كما قدمته قريبا. انتهى. وقال التتائي: ويثبت المال دون القطع بشهادة رجل وامرأتين في سرقة. ابن عبد السلام: اتفاقا أي ولا يمين، وأما لو شهد بالسرقة واحد لحلف معه وثبت المال ولا قطع ونحوه في المدونة، وهل يضمن ضمان الغاصب إلى آخر ما مر عن الخرشي وغيره؟.
كقتل عبد آخر صورتها أن يشهد عدل وامرأتان أو أحدهما مع يمين أن عبدا قتل عبدا آخر مكافئا، له فإنه يثبت المال وهو قيمة المجني عليه أو رقبة الجاني ولا يقتل، فالتشبيه في ثبوت
المال دون القتل. قال مالك في المدونة: من أقام شاهدا أن عبد فلان قتل عبده عمدا أو خطأ فإنه يحلف معه يمينا واحدة ويستحق العبد ولا يقتله وإن كان عمدا، ويخير سيده بين أن يغرم قيمة المقتول أو يسلم عبده، فإن أسلمه لم يقتل لأنه لا يقتل بشهادة واحد ولا قسامة في العبد. سحنون: كل ما جاز فيه شاهد ويمين جازت فيه شهادة النساء. نقله المواق: وقال قال مالك: وإن شهد رجل وامرأتان على رجل بسرقة ضمن المال ولم يقطع كما لا يقتل العبد القاتل بشاهد ويمين، ولكن يكون جناية في رقبته. انتهى.
تنبيهات: الأول: قد مر قول المص: "وقصاص في جرح"، قال في النوادر: قال مالك وإن كان الشاهد غير عدل حلف المطلوب، وما قال أحد غير هذا إلا بعض من لا يؤخذ بقوله. انتهى.
الثاني: قال في النوادر أيضا: وإذا تعلق به، وقال: أنت جرحتني فله عليه اليمين، وإن كان من أهل التهم أدب، والذي في سماع أشهب عن مالك: إذا تنازعا ثم أتى أحدهما بإصبعه مجروحة تُدْمِي يزعم أن صاحبه عَضَّهَا، قال: يحلف له وإن كان من أهل التهم أدب. اهـ.
الثالث: قال الخرشي: فلو كان المقتول حرا فيصير جناية في رقبة القاتل ما لم يقسم معه، فمحل كلام المؤلف في القتل عمدا ليتم التشبيه، وأما الخطأ فلا يتوهم لأنه مال. انتهى. الرابع: قال البناني عند قول المص "والمال دون القطع في السرقة": الوانوغي: هذه المسألة على خلاف قول الأصوليين: العلة إذا أوجبت حكمين متساويين لزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر، وهنا القطع والضمان حكمان للسرقة ثبت أحدهما دون الآخر، وخلاف قول المنطقيين إن وجود اللزوم يلزمه وجود لازمه، فيلزم على هذا لزوم القطع لوجود السرقة، ويتضح هذا بذكر فرق ابن المناصف في هذا الباب، وتقرير السؤال الذي استلزمه فرقه أن يقال: قال في المدونة: إذا شهد رجل وامرأتان على السرقة ثبت الضمان وانتفى القطع، ولو شهد رجل وامرأتان على أداء نجوم الكتابة كلها أو أن فلانا باع أمته من زوجها أو باع عبدا ممن يعتق عليه صحت الشهادة ولو ترتب عليها العتق وفَسْخُ النكاح، وفي كلا الموضعين الشهادة بما يتعلق بالأموال والأبدان، والفرق بينهما أن وجود الضمان لا يستدعي القطع حتى لا يتم إلا به، بخلاف الكتابة وأخواتها، فكأنه يقول: قول الأصوليين في الاستدلال بثبوت أحد المُوجَبَيْن على الموجَب الآخر إنما هو إذا كان بينهما تلازم،
أما إذا فُقِدَ التلازم فلا يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر كالقطع والضمان، وهنا نكتتان إحداهما أن الشهادة إذا بطل بعضها للتهمة بطل جميعها، بخلاف ما إذا بطل بعضها للسنة ومسألتنا من هذا القبيل: الثانية قال غير واحد: إن المراد من الضمان هنا ضمان الغصب والتعدي لا ضمان السرقة وهو مذهب ابن القاسم. انتهى كلام الوانوغي. ثم ذكر مسألة الحيلولة وهي من جملة ما يوجب حكما غير المشهود به كما في المسائل قبلها.
فقال: وحيلت أمة مطلقا يعني أن من بيده أمة إذا نازعه إنسان فيها وأقام المدعي شاهدا عدلا أنها له، أو أقام اثنين يحتاجان إلى التزكية أو ادعت هي الحرية وأقامت بها عدلا أو اثنين يحتاجان للتزكية: فإنها توقف على يد عدل ويحال بينها وبين من هي بيده مطلقا؟ أي سواء كانت الأمة رائعة أو لا، كان الذي هي بيده مأمونا عليها أم لا، طلبت الحيلولة أم لا، ادعت الأمة الحرية أو ادعى شخص ملكها. هذا ظاهر المص. وقال عبد الباقي: ولما ذكر حكم مراتب الشهادة الأربع إذا تمت، ذكر ما يترتب عليها قبل تمامها وهو منخرط في سلك ما يوجب حكم غير المشهود به، وكان من جملة ذلك الحيلولة، ويقال لها العقلة بضم العين المهملة وسكون القاف: ويقال لها أيضا الإيقاف، فقال: وحيلت أمة ادعيت حريتها أو ملكها مع إقامة عدل أو اثنين يحتاجان للتزكية بينها وبين من هي بيده مطلقا، رائعة أم لا، طلبت فيها الحيلولة أم لا، ادعت الأمة الحرية أو ادعى شخص رقها لحق اللَّه لصيانة الفرج إن لم يكن من هي بيده مأمونا: وإلا لم يحل عنها كما في ابن الحاجب والشامل، وبه قرره الشمس اللقاني، وفي ابن عرفة ما يفيد أنه المذهب، ففي أحمد نظر وظاهر النقل عدم حيلولة المأمون ولو سافر بها. اهـ. قوله: كما في ابن الحاجب لخ، قال البناني: ذكر الخلاف لكن صدر بهذا فيقتضي كلامه ترجيحه، ونصه: وتحال الأمة وإن لم تطلب إلا أن يكون مأمونا عليها وقيل تحال الرائعة مطلقا. انتهى. وبالأول جزم ابن رشد ونصه: إن ادعت الجارية أو العبد الحرية فإن سببا لذلك سببا كالشاهد العدل أو الشهود غير العدول وقف السيد عن الجارية وأمر بالكف عن وطئها إن كان مأمونا، وإن لم يكن مأمونا وضعت على يد امرأة. انظر تمام كلامه في المواق. وعليه اقتصر ابن عرفة فدل كلامه على
أنه المذهب، وبه تعلم ما في كلام ابن غازي إذ قال: كانت بيد مأمون أو غير مأمون، ونحوه لأحمد - نعم - قال ابن عبد السلام: ينبغي إن كان من بيده الأمة مكذبا لمن شهد لخصمه أن يحال بينهما ولو كان مأمونا. انتهى. ولكن لا يقاوم الأول. واللَّه أعلم. اهـ. وقال الرهوني: ما ذكره الزرقاني والبناني هنا من التفصيل بين المأمون وغيره ظاهره طلب المدعي الحيلولة أو لا: ويجب قصره على ما إذا لم يطلبها وإلا وقفت؛ إذ لا تكون الأمة أدنى من الدابة والثوب ونحوهما. تأمل. انتهى.
كغيرها إن طلبت يعني أن غير الأمة من الحيوانات والعروض مثل الأمة يوقف على يد عدل بالشرط المذكور إن طلبت الحيلولة، والحاصل أن غير الأمة من المعينات لخ كبقرة وفرس ودار وأرض وغير ذلك إذا أقام المدعي عدلا أو اثنين يزكيان أن ذلك الشيء له، فإنه يحال بينه وبين من هو بيده إن طلب من هو بيده الحيلولة، وهذا الذي قررت به المص من شموله للعقار تقرير له بحسب ظاهره، وبه قرر عبد الباقي والتتائي، وعبارة عبد الباقي: فإنه يحال بينه وبينه بغلق كالدار ومنع المكتري من حرث أرض. اهـ. قال البناني: مثله للتتائي، واعترضه ابن عاشر ومصطفى بأنه خلاف قول ابن القاسم في المدونة وإن قال به جماعة من الموثقين، وهو قول مالك في الموطإ، وقول ابن القاسم في العتبية، وجرى به القضاء، وإنما مذهب ابن القاسم في المدونة هو أن العقار لا يوقف بحال.
قال ابن عرفة: قال ابن رشد: واختلف في الحد الذي يدخل به الشيء المستحق في ضمان المستحق وتكون الغلة له، ويجب التوقيف به على ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا يدخل في ضمانه ولا تجب له الغلة حتى يقضى له به وهو الآتي على قول مالك [في الغلة للذي هو]
(1)
بيده حتى يقضى به للطالب، فعليه لا يجب توقيف الأصل المستحق توقيفا يحال بينه وبينه ولا توقيف غلته، وهو قول ابن القاسم في المدونة إن الربع الذي لا يحول ولا يزول لا يوقف مثل ما يحول ويزول، وإنما يوقف وقفا يمنع به من الإحداث.
(1)
في البناني ج 7 ص 181 في الغلة إنها لمن هي بيده.
والثاني أنه يدخل في ضمانه وتكون له الغلة ويجب توقيفه توقيفا يحال بينه وبينه إذا ثبت له بشاهدين أو بشاهد وامرأتين وهو ظاهر قول مالك في الموطإ؛ إذ قال فيه: إن الغلة للمبتاع إلى يوم يثبت الحق وهو قول غير ابن القاسم فيها، إذ قال: إن التوقيف يجب إذا أثبت المدعي حقه ويحلف وكلف المدعى عليه المدفع، وعلى هذا القول جرى عندنا.
الحكم الثالث أنه يدخل في ضمانه وتجب له الغلة والتوقيف بشهادة شاهد واحدة وهو الآتي على قول ابن القاسم في رسم العرية في الضمان حسبما ذكرناه. انتهى. ونقله أبو الحسن أيضا عن ابن رشد. وزاد عنه وكذلك النفقة تجري على هذا الاختلاف، وقد فرق في رواية عيسى عن ابن القاسم بين النفقة والضمان، وسوى بينهما عيسى من رأيه وهو القياس، وكذلك ظاهر المدونة أنه فرق بينهما والصواب أنه اختلاف من القول. اهـ.
ولا شك أن القول الأول الذي هو مذهب المدونة عليه درج المص في قوله: "والغلة له للقضاء"، ومعنى قوله فيه: وإنما يوقف وقفا يمنع من الإحداث لخ، أن يقال للذي هو عنده وفي يده لا تحدث فيه حدثا من تفويت ولا تغيير ولا يخرج من يديك. قاله أبو الحسن. اهـ. وعلم مما قررت أن قوله:"طلبت" مركبا ونائبه ضمير يعود على الحيلولة المفهومة من حيلت، وفي بعض النسخ: طلب مبني للفاعل وفاعله ضمير يعود على المدعي، ويحتمل أنه مبني للمفعول ونائبه ضمير الإيقاف أي إن طلب الإيقاف أو طلب المدعي الإيقاف. واللَّه تعالى أعلم.
وقال شيخ الإسلام بهرام الدميري: وصفة الإيقاف أن الدعوى إن كانت في دار غلقت، وإن كانت في أرض منع من حرثها، وإن كانت فيما له خراج وقف الخراج، وإن كانت في أرض ودار أغلقت الدار كلها والأرض ومنع من الكراء فيما له كراء. قاله ابن سهل. وعلى ذلك الفتوى. اهـ. قال الخرشي: لكن قوله: وصفة الإيقاف لخ ضعيف لأن الغلة هي لمن بيده المدعى فيه ولكن يمنع من الإحداث في المدعى فيه، ببيع أو غيره. اهـ.
وعلم مما قررت أن قوله: بعدل أو اثنين يزكيان أي يحتاجان للتزكية، متعلق بقوله:"وحيلت"، والباء سببية فيرجع لما قبل الكاف ولا بعده، وإنما لم يقدم قوله:"بعدل" على قوله: "كغيرها"
ليلا يتوهم قصر العدل وما بعده على ما قبل الكاف، فأخره ليعمهما وإن كان الأصل في التشبيه التمام، لكن تأخيره عنها يقتضي رجوعه لما بعدها على قاعدته الأغلبية. وفي البساطي أنه متعلق بمحذوف أي إن أتى بعدل، وقوله:"أو اثنين يزكيان" مثلهما بينة سماع من غير ثقات. قاله عبد الباقي.
وبيع ما يفسد ووقف ثمنه معهما قال الخرشي: ضمير التثنية يرجع للشاهدين المجهولين يحتاجان للتزكية، والمعنى أنهما إذا شهدا في شيء [مما]
(1)
يسرع إليه الفساد كاللحم ورطب الفاكهة فإنه يباع ويوقف ثمنه، فإن ضاع أو تلف كان مصيبته ممن قضي له به، ومتعلق "وقف" محذوف ومعهما متعلق ببيع وهو على حذف مضاف؛ أي وبيع مع شهادتهما ووقف ثمنه بيد عدل. انتهى. وقال عبد الباقي: وبيع ما يفسد لو وقف كلحم ورطب فواكه ووقف ثمنه بيد عدل معهما أي مع إقامتهما أي الشاهدين المحتاجين للتزكية، فمتعلق وقف محذوف وهو بيد عدل كما قررنا. وقوله:"معهما" متعلق ببيع على حذف مضاف كما علم. انتهى. وعلم من هذا أن ما لا يفسد من عقار وغيره كبعض الحيوان وبعض العروض فإنه يبقى موقوفا إلى أن يتم الحكم، فيأخذه من يقضى له به.
بخلاف العدل فيحلف ويبقى بيده يعني أن المدَّعَى فيه إذا كان مما يفسد لو وقف وأقام المدعي عدلا أنه له وأبى من الحلف معه لإقامة ثان قائلا فإن لم أجده لم أحلف فلا يباع المدعى فيه وإذا لم يبع فيحلف المدعى عليه ويبقى المدعى فيه بيده ملكا على ما في أحمد يتصرف فيه بالبيع، ويضمنه للمدعي إن أتى بشاهد ثان، والمذهب أنه يبقى بيده حوزا بغير كفيل فيضمنه ولو هلك بسماوي، ومفهوم فيحلف أنه إذا نكل أخذه المدعي بشاهد مع نكول المدعى عليه. وقوله:"بخلاف" لخ إنما لم يبع هنا ويوقف ثمنه كما في الذي قبله، لأن مقيم العدل قادر على إثبات حقه بيمينه، فلما ترك ذلك اختيارا صار كأنه مَكَّنَهُ منه، وما قررته من أن موضوع المص أن المدَّعَى امتنع من اليمين هو ما قاله عياض وأبو حفص، وقبله ابن عرفة وأنا إن قال لا أحلف
(1)
في الأصل ما والمثبت من الخرشي ج 7 ص 204.
لأني أرجو شاهدا ثانيا وإن لم أجده حلفت، فإن المدعى فيه يباع ويوقف ثمنه بيد عدل كما في الأول. قاله عبد الباقي.
وقال البناني: فيحلف ويبقى بيده؛ أي فإذا أتى المدعي بشاهد ثان فإنه يضمنه للأول ويستحق، قال أحمد: وتأمل هذا مع قول المص فيما يأتي: "وإن حلف المطلوب ثم أتى بآخر فلا ضم". اهـ. قال البناني: قُلْتُ: لا معارضة، فإن ما يأتي محله إذا امتنع من الحلف وقد عجز عن الإتيان بشاهد ثان: فيحلف المدعى عليه لرد الشاهد، فإذا أتى المدعي بعد بشاهد لم يسمع منه، وأما ما هنا فالمدعى عليه إنما حلف ليبقى بيده والطالب يدعي أن له ثانيا، فلم تكن يمينه لرد الدعوى. واللَّه أعلم.
وقول عبد الباقي: وما قررته به هو ما قاله عياض وأبو حفص لخ، اعلم أن ابن الحاجب قال في المسألة: وما يفسد من الطعام وغيره قالوا يباع ويوقف ثمنه إن كان شاهدان، ويستحلف ويخلى إن كان شاهد. اهـ. فتبرأ بقوله. قالوا مشيرا إلى إشكال ولا شك أن هذا التقييد الذي ذكره عياض وأبو حفص وجعله ابن عرفة المذهب يزول به الإشكال، فينبغي أن يقرر وجهه، فإنهم قالوا مع العدل الواحد يمكن المدَّعى عليه من المدعى فيه، ومع الشاهدين المجهولين لا يمكن منه، مع أن الحق مع العدل الواحد أقرب إلى الثبوت لإمكان إثباته وجد ثانيا أم لا، بخلاف المجهولين فإنه إن لم يجد من يزكيهما لم يثبت الحق فالعدل الواحد أقوى، فيجاب أنه إنما يمكن من المدعى فيه مع العدل الواحد، إذا قال المدعي: لا أحلف معه البتة لأن الواحد لا يصير حينئذ أضعف من المجهولين؛ لأن احتمال عدم الثبوت حاصل في كل منهما والواحد أضعف من الاثنين، وأيضا فإن المدعي مع الواحد قادر على إثبات حقه بيمين وتركه اختيارا كما قال في النكت. اهـ. وهذان جوابان يندفع بهما الإشكال.
وإن سأل ذو العدل أو بينة سمعت وإن لم تقطع وضع قيمة العبد ليذهب به إلى بلد يشهد له على عينه أجيب يعني أن من ادعى شيئا بيد غيره سواء كان دابة أو عبدا أو عرضا أو غير ذلك، وأقام بذلك شاهدا عدلا وأبى من الحلف، أو أقام بذلك بينة سمعت حصل عندها من السماع ما تقطع
به وقطعت أي بأن له عبدا مثلا هذا وصفه لا على عينه، أو لم يحصل لها إلا الظن القوي فلم تقطع وسأل المدعي مقيم العدل أو مقيمها وضع قيمة الشيء المدعى فيه عند القاضي أو نائبه ليذهب بذلك الشيء الموضوع قيمته إلى بلد له فيها بينة تشهد له على عينه، فإنه يجاب إلى سؤاله ويمكن من الذهاب به إلى البلد الذي طلبه، وهذا التقرير للبناني فإنه قال عقب قوله "وإن لم تقطع" ما نصه: هكذا عبارة المدونة والمبالغة على حالها لأن السماع تارة يحصل به العلم فيجوز لهم القطع، وتارة لا يحصل به إلا الظن القوي فلا يجوز القطع، فأفاد المص كالمدونة أنه لا فرق بين الأمرين، وبه يندفع قول من جعل الواو للحال مثل الزرقاني والخرشي تبعا لأحمد، لفهمهم أن القطع هو الشهادة على العين وليس كما فهموه. قاله مصطفى. اهـ. وقوله: أجيب وضمانه في ذهابه ممن ذهب به لأنه أخذه لحقه، لا على وجه الأمانة كما صرح به ابن فتوح. اهـ. كلام البناني. ثم موضوع مسألة المص هنا في المدعي ومثله في المدعى عليه إذا أثبت شخص أن ما بيده ملك لغيره، وطلب المدعى عليه وضع قيمته بيد عدل ليذهب به إلى البلد الذي ابتاعها به فإنه يجاب إلى ذلك ولو في أمة إن كان أمينا، قال في أواخر كتاب الصناع من المدونة: وَمَن اعتُرِفتْ بيده دابة وقُضِيَّ عليه فله وضع قيمتها بيد عدل ويخرج بها إلى بلد البائع منه لتشهد البينة على عينها، وكذلك في العروض والعبد أو الأمة، إلا أنه في الأمة إن كان أمينا دفعت وإلا فعليه أن يستأجر معها أمينا. اهـ. قال ابن ناجي: معنى اعترفت استحقت، ثم قال: وقوله: وكذا في العروض والعبد يريد إذا كان العبد يستطيع النهوض، وأما إذا كان لا يستطيعه لضعفه فلا ويخرج بصفته ويريد أيضا إلا أن يستحق بحرية فلا يخرج به لأن الحر لا يمتهن. قال فضل في وثائقه: إلا أن يقر العبد بالرق للبائع فإنه يخرج به لأنه غره. اهـ. ونحوه لابن سلمون وغيره.
تنبيهات: الأول: هو محمول في الأمة على عدم الأمانة، ففي ابن سلمون: وإن كان المستحق جارية فلا تدفع إليه حتى يثبت أنه مأمون عليها، وإلا دفعت إلى أمين ثقة يتوجه بها معه فيستأجره هو وإلا لم تدفع إليه بوجه، وكذا نفقتها في ذهابها ورجوعها وأجرة حملها كل ذلك على الذي يذهب بها. اهـ.
الثاني: قول ابن ناجي: إلا أن يقر العبد لخ مخالف لما في المتيطية، فإنه بعد ذكره حكم المستحقة برق والمستحقة بحرية وأنه ليس له الذهاب بالثانية، قال: ونحوه في المجموعة لابن القاسم، قال ابن كنانة: إلا أن تكون قد غرت من نفسها عند البائع وذكرت أنها مملوكة للبائع فيلزمها السير مع المبتاع إن كان ثقة، وذكر الدمياطي عن ابن القاسم ذلك، قال فضل: لأن للمبتاع الرجوع عليها بالثمن إذَا دَلَّسَتْ، وفي وثائق ابن حبيب في العبد تثبت حريته أنه يذهب مع مشتريه ليرجع بثمنه على بائعه، قال فضل: لأنه لا ضرر عليه في ذلك بخلاف الحرة لأنها لا تسافر إلا مع ذي محرم منها. انتهى. وجزم بذلك في العين، وفهم ابن رشد كلام ابن حبيب على خلاف ما فهمه عليه فضل، فإنه قال في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الجهاد: وقد قال ابن حبيب: إن الغلام إذا استحق بحرية والبائع غائب أنه يرجع مع المشتري إلى موضع البائع ليأخذ رأس ماله منه كما لو استحق برق، ومعنى ذلك إذا علم بحريته وغر من نفسه، وكذلك قال ابن كنانة، وأما إن كان الرق قد جرى عليه من الصغر ولم يعلم بحريته فلا يجب أن يرجع معه، وحكى ابن عبدوس عن ابن القاسم في الجارية أنها لا ترجع معه وإنما يكتب له السلطان بصفتها معناه وإن غرت من نفسها فالاختلاف في هذا إنما هو إذا غرت من نفسها على قياس الاختلاف في وجوب اتباعها بالثمن إذا كان البائع ميتا أو عديما. واللَّه أعلم. انتهى. قاله الرهوني. وقال بعد جلب كثير من النقول كما هو عادته ما نصه: فعلم من ذلك كله أنَّ لكُلٍّ من القولين مع الغرور مرجحا، وأن القول [بلزوم]
(1)
الذهاب أرجح وأقوى، فيتعين العمل به والفتوى، وإن انتفى الغرور فلا يلزم الأمة الذهاب اتفاقا، وكذا العبد خلافا لما نقله المتيطي عن فضل وسلمه وإن تبعه على ذلك صاحب العين، وتعليل فضل الفرق بينهما بقوله: لأنه لا ضرر عليه في ذلك، بخلاف الحرة لأنها لا تسافر إلا مع ذي محرم منها. اهـ. فيه نظر وإن سلمه المتيطي وصاحب العين إلى آخر كلامه.
(1)
في الأصل بلزم والمثبت من الرهوني ج 7 ص 426.
الثالث: قال ابن غازي في تكميله عند قول المدونة في تضمين الصناع ومن اعتُرِفَتْ بيده إلى آخر ما قدمناه عنها صَرَّحَ في كتاب اللقطة بجواز الاستحقاق بالصفة؛ إذ قال: وإذا أتى رجل إلى قاض بكتاب من قاض يذكر فيه إنه قد شهد عندي قوم أن فلانا صاحب كتابي إليك قد هرب منه عبد صفته كذا فحلاه ووصفه بالكتاب وعند هذا القاضي عبد آبق محبوس على هذا الوصف، فلْيُقْبَلْ كتاب القاضي والبينة على الصفة ويدفع إليه العبد، قيل: أفترى للقاضي الأول أن تقبل منه البينة على الصفة ويكتب بها إلى قاض آخر؟ قال: نعم، ثم صرح بجواز الرجوع بالصفة؟ إذ قال: قيل فإن وصل كتاب القاضي إلى القاضي وثبت بشاهدين، هل يكلف الذي جاء بالبغل أن يقيم بينة على أن هذا البغل هو الذي حكم به عليه؟ قال: إن كان البغل موافقا لما في كتاب القاضي من صفته وخاتم القاضي في عنقه لم يكلفه ذلك. نقله الرهوني.
ابن هارون: إذا كان الحكم بالصفة عند ابن القاسم، فَلِمَ أجاز للمستحق منه الذهاب بها لبلد البائع لتشهد له البينة على عينها؟ وكان يجب على أصله أن يقضى له على بائعه برد الثمن إذا شهدت البينة له أن الأمة التي باع له موافقة لما في كتاب القاضي من الصفة، قلت: يحتمل أنه إنما جوز له الذهاب بها لبلد البائع لأن قاضيه قد لا يكون ممن يرى الحكم بالصفة. ابن عَرَفَةَ: يُرَدُّ جوابه بأن ظاهر أقوال متقدمي أهل المذهب ومتأخريهم وجوب إجابة المستحق من يده إلى خروج بالشيء المستحق إلى بلد بائعه ليس لاحتمال كون المكتوب إليه ممن لا يرى الحكم بالصفة؛ لأنهم ذكروا الكتاب والحكم بخروجه به بين قضاة الأندلس وكورها حسبما ذكره ابن رشد وابن سهل وغيرهما، والمعلوم من حال قضاتهم الحكم بالصفة والجواب عن توهم السؤال المذكور أن وجوب إسعافه بالخروج به إنما هو لتحصيله موجب رجوعه على بائعه منه بثمنه؛ لأنه لا يجب له الرجوع بمجرد بينة الاستحقاق لأنها لا تتضمن كون المستحق من يده اشترى المستحق ولا تعيين من باعه له، فوجب حينئذ على المستحق من يده إقامة البينة بأن ما استحق منه، كان ابتاعه من فلان الذي طلبه بثمنه والبينة بابتياعه منه مع حضور المستحق متيسرة غير متعسرة؛ لأن الإنسان إذا رآى عين المبيع عرفه وأمكنه أن يشهد بأنه الذي ابتاعه المستحق منه ممن طلب ثمنه منه، وَإن كَانَ غائبا وافْتَقَر إلى البينة بأنه الذي ابتاعه من الذي طلبه بثمنه تعسر
عليه إقامة البينة بذلك لجواز ذهول من حضر معه على شرائه ممن طلبه بثمنه على صفته الخاصة به لغيبته عنه، وعدم ضبط صفته حين الشراء وهو لو حضر علم أنه المشترى والنصف يجد هذا من نفسه، فلو لم يحكم له بخروجه به لبلد بائعه أدى إلى ضرره بذهاب ثمنه، والذي في التقييد إنما قال يخرج بها لأنه لتشهد البينة على عينها لأنه أكمل إذ ليس كل أحد يضبط الصفة. انتهى.
قال الرهوني: قلت: فعلى جواب ابن عرفة لا تعارض أصلا بين كلاميهما، وقد نقله ابن ناجي في كتاب اللقطة عن أبي عمر فإنه قال: ومن اعتُرِفَتْ من يده دابة لخ هي من قول مالك، وتقدمت معارضتها بما ذكرناه قَبْلُ، وأجاب بعض أصحابنا بأنه اكتفى بالصفة في مسألة العبد لكونه لا منازع له لأنه وجده محبوسا عند القاضي، وهنا له منازع وما ذكره ضعيف فبين وجه ضعفه، ثم قال: وقال ابن عبد البر في الكافي: إنما لم يُكتَف هنا بالصفة لاحتمال أن تدعي البينة عدم معرفة صفتها لطول المدة. اهـ. وأشار بقوله: وتقدمت معارضتها لخ، إلى قوله: ويقوم من قولها لتشهد البينة على عينها أنها لا تستحق بالصفة. وقال أشهب: تستحق بها والعمل على الأول. اهـ. وبهذا جزم الرجراجي، فإنه قال: وهل تجوز الشهادة على الصفة وهو قول ابن القاسم أيضا، حيث قال: يجوز له وضع القيمة وبه قال ابن كنانة، وقد أفتى ابن الحاج مرة بالأول ومرة بالأخير. انظر ابن سلمون.
الرابع: في المفيد: وإذا وضع الذي استحقت الدابة أو الأمة من يده القيمة، ونهض بها [ليعدى بثمنها]
(1)
على الذي باعها منه فأعدى عليه بالثمن وزعم المعدَى عليه أنه ابتاعها بموضع آخر، وطلب أن يضع قيمتها وينهض بها إلى الموضع الذي زعم أنه اشتراها به ليعدى أيضا منه على بائعها منه بالثمن فليس له ذلك. قاله أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم قال: وإنما ذلك للأول خاصة ويجتزئ هذا الثاني بالاسم والصفة، ووقع في كتاب الاستحقاق أن الثاني يمكن من وضع القيمة والذهاب بها. اهـ. وكذا الثالث والرابع وهكذا أبدا. ابن رشد: وإن تلفت الدابة في شيء
(1)
في الأصل ليعدى بها بثمنها والمثبت من الرهوني ج 7 ص 428.
من هذا بيد أحد ممن سار بها فلربها المستحقة من يده أكثر القيم الموضوعة، كما قاله ابن عتاب رحمه الله.
قال أبو الوليد بن رشد رضي اللَّه تعالى عنه: مثال هذا أن زيدا استحق دابة بقرطبة من يد عمرٍو، وقد كان عمرو ابتاعها من بكر بجيان، وابتاعها بكر بغرناطة من خالد، وابتاعها خالد بالمرية؛ فوضع عمرو لزيد قيمتها ثلاثين، ووضع بكر لعمرو قيمتها بجيان أربعين، ووضع خالد لبكر قيمتها بغرناطة خمسين، وذهب بها إلى المرية فتلفت في ذهابه بها أو في رجوعه، فإن القاضي بغرناطة لا يقضي لبكر بأخذ الخمسين [التي]
(1)
وضعها له خالد عنده إن كان أقر عنده أنه لم يضع هو فيها بجيان إلا أربعين، أو ذكر ذلك قاضي جيان في خطابه إليه فإنما يقضي له منها بأربعين، لأنه يقول: العشرة الزائدة على الأربعين لا حق لك فيها، وإنما هي لمستحق الدابة بغرناطة فلا بد من بقائها له موقوفة، فيسلم إليه الأربعين ويخاطب له بذلك قاضي قرطبة، فيسلم قاضي قرطبة لزيد مستحق الدابة الثلاثين التي وضعها له عمرو وهو المستحق من يده الدابةُ، ويقول له لك من قيمة دابتك عشرة بجيان وعشرة بغرناطة، اذهب إلى ذلك إن شئت فتستوفي بذلك الخمسين التي هي أربع قيم دابتك على ما قاله ابن عتاب رحمه الله، ولو تلفت الدابة بيد واضع الأربعين بعد أن ردها واضع الخمسين وأخذ الخمسين التي وضعها لأخذ واضع الثلاثين بقرطبة من الأربعين الموضوعة له بجيان الثلاثين الموضوعة له بقرطبة ويذهب إلى العشرة الباقية له من الأربعين إلى جيان إن شاء فيأخذها، ولو تلفت الدابة بيد واضع الثلاثين بعد أن ردها إليه واضع الأربعين، وأخذ الأربعين التي وضعها لأخذ مستحق الدابة الثلاثين الموضوعة ولم يكن له سواها، ولو لم تتلف الدابة وأتى بها لَرَدَّهمَا إلى مستحقها وأخذ الثلاثين التي وضعها له والاعتبار بملاء الواضع وعدمه؛ لأن الخمسين أو الأربعين أو الثلاثين مثلا قد وضعها فتؤخذ ولا يصح أن تكون القيم بالعكس بأن تكون قومت أولا بستين وفي البلد الثاني بخمسين وفي البلد الثالث بأربعين، لأن من حق واضع الستين أن لا يسلم الدابة حتى توضع له الستون
(2)
التي وضع
(1)
في الأصل الذي والمثبت من الرهوني ج 7 ص 428.
(2)
في الأصل: الستين، والمثبت من الرهوني ج 7 ص 430.
كيما إن تلفت الدابة أخذها عوض الستين التي وضعها عند صاحب الدابة، وكذا الثاني اللهم إلا أن يكون لم يتضمن خطاب واحد من القضاة أن القيمة التي وضعها ستون فلا يلزم الذي أراد أخذ الدابة لاستخراج حقه بها أن يضع فيها إلا ما تساوي في ذلك الوقت وفي ذلك البلد، فإن قومت في هذا الوجه على الثاني بخمسين وعلى الثالث بأربعين حسبما ذكرت لم يلزم واحدا منهما إن تلفت إلا ما قومت عليه به، فإن تلفت بيد الذي قومت عليه بأربعين لم يلزمه إلا الأربعون وغرم الذي قومت عليه بخمسين تمام الخمسين وذلك عشرة، والذي قومت عليه بستين تمام الستين وذلك عشرة أيضا، ومن حق مستحق الدابة أن لا يطلق القيمة الموضوعة إلى صاحبها حتى ترد إليه دابته، فلا يكون للمستحق منه إذا وضع القيمة وأخذ الدابة لاستخراج حقه بها أن يأخذ القيمة حتى يأتي بالدابة، ولا يصح للقاضي أن يحكم له بذلك وإن راجعه القاضي الذي كتب إليه بأن الذي رجع إليه قد وضعله قيمة الدابة عنده لما على المستحق من الضرر في الشخوص إلى بلد آخر، ولعله على مسيرة العشرة الأيام أو العشرين عن الدابة إن ردها الذي ذهب بها أو عن القيمة التي وضع فيها إن لم يردها والذي ذهب بالدابة فوضعت له القيمة أحق بالانتظار حتى ترجع الدابة فيردها، أو لا ترجع فيأخذ القيمة الموضوعة له عوضا عن القيمة التي وضع للمستحق.
الخامس: قال ابن غازي في أحكام ابن سهل ما حاصله: أن من اعترف دابة فحُكِمَ له بها ثم حكم للذي قامت بيده على بائعها منه ثم حكم لذلك البائع على بائعها منه وذلك كله في مجلس واحد لإقرارهم به، فأراد المحكوم عليه آخرا أن يضع قيمة الدابة لمستحقها ويطلب بها حقه ممن باعها منه فله ذلك، وليس للمحكوم له بها أن يقول له لا معاملة بيني وبينك. انتهى. وانظر هذا هل هو على القول الثاني الذي في المفيد أو هو حتى على الأول الذي جرى به العمل في هذه الأزمنة؛ فإن كان مبنيا على الثاني فلا إشكال، وإن كان مبنيا حتى على الأول وهو الظاهر فوجهه ظاهر لأن المضرة التي تلحق مستحقها بتعدد الذهاب بها منتفية في هذه الصورة، فتأمله. واللَّه أعلم. قاله الرهوني.
السادس: ظاهر كلام المفيد والعتبية والمدونة أنه يذهب بها قرب البلد أو بعد، لكن قال ابن ناجي في شرح المدونة قوله في الكتاب ليخرج بها إلى بلد البائع يريد ما لم يبعد فإن بعد فلا يمكن منها ويعطى صفتها. نص على ذلك ابن [جرير]
(1)
رحمه الله. انتهى. ونقله أبو علي، ورد أبو علي على قول ابن ناجي ما لم يبعد بأنه خلاف ظاهر المدونة وكلام الكافي وغير ذلك. قال الرهوني: وكلام ابن رشد المتقدم صريح في رد ما قاله ابن ناجي، وقد سلمه أبو الحسن والظاهر أنه لا يذهب بها في البعيد جدا، وليس في كلام ابن رشد ما يخالفه، وقد صرح بذلك الوانوغي في كتاب اللقطة، ونصه قوله: ليخرج إلى بلد البائع ظاهره قرب البلد أو بعد ومعناه إذا قرب أو توسط ولا يمكن في البعيد جدا. انتهى. ونقله ابن غازي في تكميله وأقره، فإن حمل كلام ابن [جرير]
(2)
على البعيد جدا كان ظاهرا غاية. واللَّه أعلم.
السابع: إنما يمنع من الذهاب بها غير من استحقت بيده على ما به العمل إذا أراد أن يذهب بها ليرجع بثمنها، وأما إذا أراد أن يقيم البينة على عينها أنها ملكه فلا إشكال أنه يمكن من ذلك، وليس من محل الخلاف لأنه إذا مكن من ذلك الأجنبي فهذا أحرى وقد نبه على هذا أبو علي قائلا: ونبهني بعض شيوخنا على هذا ونقله تلميذه أبو عبد الله بن قاسم في شرح عمليات أبي زيد الفاسي، وقال عقبه ما نصه: وهو تنبيه حسن غاية. انتهى. وهو كما قال، وكثيرا ما يقع الخطأ في ذلك من جهال القضاة والمفتين. والله الموفق. قاله الرهوني.
الثامن: ظاهر كلام المدونة وغير واحد أنه يذهب بالشيء المستحق ليرجع بثمنه ولو استحق الحبس، وفي طرر ابن عات عن أبي بكر في فرس حبس أنه لا يجاب المستحق من يده إلى ذلك لأنه يمنع من الانتفاع بالفرس في وجوه تحبيسه.
التاسع: إذا قال من اعْتُرِفَتْ بيده الدابة إني لا أريد أن أخاصم وإنما أريد أن أذهب بها لأرجع على بائعي، وهذه هي مفهوم قول المدونة: وقضي عليه، ولم يتعرض من قدمنا ذكرهم من شراحها لهذا المفهوم، والظاهر أن الحكم سواء في الضمان والتمكين. واللَّه أعلم.
(1)
في الرهوني ج 7 ص 430 حدير.
(2)
في الرهوني ج 7 ص 430 حدير.
العاشر: قال أبو الحسن: قوله ليخرج بها لخ، سئل أبو عمران عن الدابة المعترفة هل يركبها؟ فقال: النفقة عليه، فإذا كانت النفقة عليه فله أن يركب ركوبا غير فادح.
الحادي عشر: إذا ادعى المستحق أن المستحق منه إنما أراد أن يمنعه من الذهاب بدابته وأنه أراد السفر الآن فليس له ذلك كما تقدم في نص المدونة، ولا إشكال في ذلك إذا أثبت المستحق منه ما ادعاه: وظاهر المدونة أن له ذلك وإن لم يكن إلا مجرد دعواه. قال أبو الحسن ما نصه: في الأمهات: أيقبل قوله وإن لم يقم بينة؟ قال: نعم، [وإن لم]
(1)
يقبل قوله إلا ببينة لبين العلماء ذلك. انتهى. قاله الرهوني. ابن ناجي: عادة القضاة لا يكتمون العدل الموضوع عنده تلك القيمة؛ لأنه قد يموت المستحق من يده فلا يدرى بيد من وضعها، ولا يؤخذ في القيمة رهن ولا حميل إلا برضى المستحق. قاله ابن أبي جمراء. قاله الرهوني. وقال: قلت: ومثل هذا من أراد أن يذهب بالدابة ونحوها ليقيم بينة الاستحقاق على عينها فليس له ذلك إلا برضى من ألْفِيَتْ بيده، كما نص عليه في المعين ونصه: وإذا وجبت القيمة على من أراد قبض دابة أو عبد وما أشبه ذلك ليثبت ذلك، فطلب أن يعطي بالقيمة ضامنا أو يدفع رهنا فليس له ذلك إلا برضى من ألْفِيَتْ بيده فيسوغ. انتهى. هكذا نص عليه في المعين، ولم يحك فيه خلافا، وبهذا أفتى الإمام سيدي عبد القادر الفاسي في أجوبته مستدلا عليه بكلام العين وهذا ظاهر. انتهى. وإذا أقام العبد شاهدا بحرية وأراد أن يعطي حميلا بقيمته ليذهب إلى بلد ليقيم شاهدا ثانيا كان له ذلك، ولا يخرج على هذا في مسألة ابن أبي جمراء. انظر الرهوني.
لا إن انتفيا وطلب إيقافها ليأتي ببينة وإن بكيومين راجع لمسألتي الإيقاف والذهاب به إلى بلد الخ، فقول المص: وطلب إيقافه وأحرى الذهاب به، وحينئذ فالضمير في انتفيا يرجع إلى العدل وما ذكر معه الشامل لاثنين يزكيان في الإيقاف وللسماع في الذهاب به، ومعنى كلام المص أن المدعي إذا طلب إيقاف الشيء من أمة وغيرها ليأتي ببينة على مسافة يومين ونحوهما تشهد له على دعواه المجردة، ولم يقم عدلا ولا اثنين يزكيان فإنه لا يجاب إلى ذلك الإيقاف وهو من
(1)
في الرهوني ج 7 ص 432 ولو لم.
جملة الحيلولة، وهي العقلة المتقدمة، وإذا لم يجب إلى الحيلولة فأحرى الذهاب به إلى بلد يشهد له فيه على عينه، وكذا في المسألة الثانية إذا لم يقم عدلا ولا بينة سماع وطلب إيقافه ليأتي ببينة على مسافة كيومين أو أكثر تشهد بدعواه المجردة، فإنه لا يجاب إلى ذلك وإنما لم يجب إلى ذلك في المسألتين بمجرد دعواه لأنه يريد بذلك إضرار المالك وإبطال انتفاعه بالشيء المدعى فيه في تلك المدة.
إلا أن يدعي بينة حاضرة يعني أنه إذا ادعى بينة حاضرة بالبلد تشهد له على دعواه المجردة، بل ولو ادعى بينة على مسافة كيوم فإن الشيء المدعى فيه يوقف بأمر القاضي ويوكل من يحفظه فإن أتى المدعي بها عمل القاضي بمقتضاها وإلا خلى سبيل المدعى عليه. أو سماعا يثبت به يعني أنه إذا انتفى ما ذكر وادعى سماعا فاشيا يثبت به المدعى فيه فإنه يوقف بأمر القاضي ويوكل على حفظه حيث كانت هذه البينة على مسافة كيوم، فإن أتى بها أمر بمقتضاها وإلا خلى سبيل المدعى عليه، قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: قوله: "إلا أن يدعي بينة حاضرة" معناه تشهد بالقطع معتمدة على معرفتها للشيء المدعى فيه. وقوله: "أو سماعا يثبت به" كذلك إلا أن البينة معتمدة فيه على السماع الفاشي المفيد للعلم. والله تعالى أعلم. وهذا الذي قررت به المص خلاف ما قرره به البناني تبعا لابن مرزوق مصوبا له، فإنه قال عند قول عبد الباقي: أو سماعا يثبت به المدعى به بأن كان فاشيا. انتهى. ما نصه: قول الزرقاني يثبت به المدعى به لخ تقريره بهذا وإن كان هو ظاهر المدونة، لكن يوجب تكراره مع ما قبله لاندراج هذا تحت البينة الحاضرة، والأولى ما قرره به ابن مرزوق من أن المراد سماعا يثبت به اللطخ، فيضع قيمة العبد كشهادتهم بأنهم سمعوا أن فلانا هرب له عبد ولم يعرفوا عينه. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: معنى ما قاله ابن مرزوق أنه ادعى سماعا حاضرا أو على مسافة كيوم فيوقف ويوكل بحفظه، فإن أتى به وقف ليأتي ببينة تشهد له على عينه، ويمكن أيضا من الذهاب به إلى بلد يشهد له فيه على عينه على ما مر. والله تعالى أعلم.
وعلم مما قررت أن قوله: فيوقف لخ مرتب على ما بعد "إلا"، فهو جار في المعطوف والمعطوف عليه، وقوله:"فيوقف" أي الشيء المدعى فيه بأمر القاضي، وَيُوَكَّلُ به أي بحفظه في دعوى
المدعي بينة على كَيَومٍ، فإن جاء بها عمل بمقتضاها وإلا أسلمه القاضي للمدعى عليه بعد يمينه وخلى سبيله من غير كفيل، والغلة له للقضاء يعني أن غلة الشيء المتنازع فيه تكون للمدعى عليه إلى أن يقضى به لمن هو له. قال عبد الباقي: والغلة الحاصلة في المدعى فيه له أي للمدعى عليه فيما ليس فيه حيلولة، وكذا فيما هي فيه على الراجح لأن الضمان منه فيهما للقضاء به للمدعي. انتهى. وقال الخرشي: يعني أن الغلة تكون للمدعى عليه إلى يوم القضاء؛ لأن الضمان كان منه كما صرح به في المدونة، وقال الزرقاني: وما ذكره المص مثله في المدونة وهو موافق لما قدمه في باب الغصب، وأما ما ذكره في المدونة من الضمان فظاهره الإطلاق، وحينئذ يخالفه قول المؤلف:"لا بسماوي" اللهم إلا أن يحمل على غير السماوي فتحصل حينئذ الموافقة. واللَّه أعلم. وقوله: "للقضاء" فيما ليس فيه حيلولة، وكذا ما فيه حيلولة على الراجح من أقوال ثلاثة.
والنفقة على المقضي له به يعني أن النفقة على المدعى فيه من يوم الدعوى إلى يوم الحكم على من قُضِي له أي حُكِمَ له به؛ لأن الغيب انكشف على أنه ملكه، قال البناني: قال الرجراجي: فأما ما يوقف وقفا يمنع من الاستخدام، فإن كانت له غلة فنفقته من غلته، وإن لم يكن له غلة فقولان: أحدهما أن النفقة على من يقضى له به وهو مذهب المدونة، والثاني أن النفقة عليهما معا فمن قضي له به رجع عليه الآخر بما أنفق، وهذا القول في غير المدونة وهو أصح وأولى بالصواب. انتهى. وقال عبد الباقي: والنفقة على العبد مثلا زمن الإيقاف ومنه زمن الذهاب بعبد لبلد يشهد فيه أنه للمدعي، كما قال المواق: على المقضي له من يوم الدعوى لكشف الغيب أنه على ملكه من يوم الإيقاف، ولأنه كان أقر على نفسه بأن النفقة عليه فأخذ بإقراره بها دون الغلة؛ لأنه إقرار لنفسه ولم يعمل به فاختص بها المدعى عليه، فإن أنفق رجع بها على المدعي ويختص بالغلة ولا تقام في النفقة. وبالتعليل الثاني ظهر الفرق بين ما هنا وبين الرد بالعيب، وباقي المسائل الخمس التي يفوز فيها بالغلة ولا يرجع بالنفقة، وظاهر قوله:"والنفقة" لخ سواء كان له غلة أم لا: وهو كذلك عند ابن القاسم وهو المعتمد. وقولي: زمن الإيقاف، احتراز عما قبل الإيقاف فإن النفقة على من هو بيده، كما أن الغلة له من غير خلاف كما ذكره ابن فرحون في
تبصرته. انتهى. وقوله: "والغلة له للقضاء والنفقة" لخ. اعلم أن في المسألة ثلاثة أقوال: القول بالتفصيل وهو الذي ذكره المص، قال في المدونة: ونفقة العبد في الإيقاف على من يقضى له به، والغلة أبدا للذي هو بيده لأن الضمان منه حتى يقضى به للطالب، وقيل النفقة والغلة على من هو بيده وقيل على من يقضى له به. قاله الحطاب.
تنبيهات: الأول: قال الحطاب: قال في النكت: فإن تشاحا في النفقة كانت عليهما جميعا ثم ينظر بعد ذلك من يقضى له به، وقال بعض شيوخنا من أهل بلده: إن لم يتطوع أحدهما بالنفقة وتشاحا كانت على من هو بيده لأنه على أصل ملكه لا يخرجه الإيقاف حتى ينظر فيه، يريد فإذا ألزم النفقة ثم ثبت للآخر رجع عليه بذلك. اهـ.
الثاني: قال في أواخر كتاب الدعاوي من الذخيرة: قال بعض العلماء: إذا ألزم المدعى عليه بإحضار المدعى به ليشهد عليه البينة، فإن ثبت الحق فالمؤنة على المدعى عليه وإلا فعلى المدعي، ولا تجب أجرة تعطيل المدعى به في مدة الإحضار لأنه حق للحاكم لا يتم مصالح الحكام إلا به.
الثالث: إذا تنازعتما حائطا مبيضا هل منعطف لدارك أو لداره؟ فأمر الحاكم بكشف البياض لينظر فالظاهر أنه يُلْزِمُ الحاكمُ كل واحد منهما باستيجاره، وتلزم الأجرة في الأجير من ثبت له الملك كما يحلف في اللعان وغيره وأحدهما كاذب. قاله الحطاب. فهذا الفرع الثالث كالفرع الثاني الذي قبله. وقال الخرشي: وأما أجرة الإتيان بالشيء المدعى فيه أي حمله فعلى المقضي عليه فليس كالنفقة، بخلاف أجرة الكشاف على الخراب مثلا أو البيت فتكون كالنفقة. انتهى.
الرابع: قال التتائي عند قوله: "والنفقة على القضي له به"، قال أبو عمران: هذا إذا لم يكن له غلة، وأما إن كانت فمنها، وحكاه عبد الحق. ابن ناجي: ومن هنا يعلم حكم مسألة كثيرة الوقوع بين البوادي في امرأة يدعيها رجلان، كل يقول إنها زوجته دون الآخر وآل الأمر إلى أن أوقفها القاضي لمن يثبتها له منهما وطلبت النفقة. اهـ.
ولما كانت الشهادة على الخط ثلاثة أقسام على خط المقر وعلى خط الشاهد الميت أو الغائب وخط نفسه. ابن رشد: الأولى أقواها وتليها الثانية، والثالثة أضعفها، ذكرها على هذا الترتيب فقال:
وجازت على خط مقر يعني أن الشهادة على خط المقر جائزة، فإذا شهد عدلان على خط شخص في ورقة مكتوبة بالشروط الآتية فإنه يعمل بها ولا يمين على المدعي المشهود له بالإقرار، كما قال: بلا يمين، وقوله:"وجازت" الشهادة أي أداؤها، فالمراد بالشهادة أداؤها. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وجازت شهادة أي أداؤها على خط مقر بخطه أي من كان مقرا، فلا ينافي أنه ينكره إلا أن تشهد بينة عليه بأنه خطه أي كتابته أن عنده لفلان كذا ووصله حقه من فلان، ولا بد من حضور الخط ومن كون الشاهد عليه اثنين على المعتمد، وإن كان الحق مما يثبت بشاهد ويمين أو امرأتين لأن الشهادة على خطه بمنزلة النقل عنه، ولا ينقل عنه إلا اثنان ولو في المال على المعتمد وأولى في هذا الحكم الشهادة على خط الشاهد لأنها دونها، ثم إن الشهادة على خط المقر ينزع بها من يد حائز، فهي أقوى من شهادة السماع ولا يحتاج معها ليمين كما قال:"بلا يمين" من المدعي لتكميل النصاب، فلا ينافي أنه قد يحلف يمين القضاء أنه ما وهب ولا أبرأ أو نحو ذلك فيما إذا كان المقر بخطه ميتا أو غائبا، وأما إن كان موجودا وأنكر أنه خطه فلا يحتاج مع شهادة الشاهد ليمين القضاء كما لا يحتاج لها لتكميل النصاب كما قال المص، وإنما لم يحتج ليمين تكملة النصاب، مع أن المال إنما يثبت بها مع شاهد لأنه إنما كتب خطه بأن عنده كذا بعد بينته أو إقراره، ولو تجرد المكتوب فيها خطه عن شهود على المعتمد. انتهى كلام عبد الباقي.
قوله: ولا بد من حضور الخط ومن كون الشاهد عليه اثنين على المعتمد لخ، أما حضور الخط فقال ابن عرفة: فتوى شيخنا ابن عبد السلام بأن شرط الشهادة على الخط حضوره ولا تصح عليه في غيبته صواب، وهو ظاهر تسجيلات الموثقين: المتيطي وغيره. انتهى. ونقل في العيار عن أبي الحسن الصغير أنه سُئِلَ عن شاهدين نظرا وثيقة بيد رجل وحفظاها وتحققا ما فيها وعرفا شهودها، وأنهم ماتوا بوسم العدالة ثم ضاعت الوثيقة؟ فأجاب بأن القاضي يعمل على ذلك إذ لا فرق عند القاضي بين غيبة الوثيقة وحضورها باستيفاء هذين [جميع]
(1)
ما فيها. انتهى. ثم قال
(1)
في الأصل جمع والمثبت من بناني ج 7 ص 103.
صاحب المعيار إثره: وانظر ما يناقض هذه الفتوى في ابن عرفة والمتيطي وهو الصحيح الذي لا يلتفت إلى غيره. انتهى. وأما [كون ثبوت الخط]
(1)
لا يثبت إلا بعدلين على المعتمد دون الشاهد واليمين ففيه نظر، بل المعتمد ثبوته بالشاهد واليمين إذ هو الذي يفهم من التوضيح. انتهى. وقال الرهوني بعد جلب كلام ابن عات في ثبوت الخط بشاهد ويمين روايتان عن مالك والصواب منهما عدم الثبوت ما نصه: لكن كلام ابن يونس وابن رشد يخالف ما قاله الزرقاني، وكأن البناني لم يطلع على ذلك وإلا لاستدل به ثم جلب كلام ابن يونس وكلام ابن رشد، فقال ما نصه: فَتَحَصَّلَ من هذا أن الراجح خلاف ما رجحه الزرقاني. واللَّه تعالى أعلم.
فرع: قال ابن رشد يختلف إذا كتب شهادته في ذكر حق على أبيه ثم مات أبوه وهو وارثه، فقام صاحب الحق بذكر الحق على أبيه وفيه شهادته فأقر بالشهادة وزعم أنه كتبها على غير حق أو أنكرها فشُهد على خطه، فقال مطرف وأصبغ: يؤخذ بالحق لأن مال أبيه لما صار إليه فكأن الشهادة على نفسه، وقال ابن الماجشون: ليس لما شهد به على غيره وإن صار إليه ماله كما لو شهد على نفسه، ولا يؤخذ منه الحق إلا بإقرار سوى خط شهادته ومحمله محمل الشهادة لا محمل الإقرار، واختار ابن حبيب قول مطرف وأصبغ، وقول ابن الماجشون أقيس. انتهى. نقله الرهوني.
وقال التتائي: بلا يمين على المقر له على إحدى روايتين حكاهما ابن الجلاب وصححها ابن الحاجب، وظاهر كلام المص كابن الحاجب كتب شهادته عليه في ذكر الحق، أو كتب ذكر الحق على نفسه بيده، فقال لفلان علي كذا وكذا ولم يكتب شهادته، والشهادة على خطه كالشهادة على إقراره.
فرع آخر: إذا أظهر شخص صحيفة بإقرار شخص وزعم أنه خطه وأنكر ذلك وطلب المدعي أن يجبره على أن يكتب خطه بحضرة العدول ليقابلوه بما في الصحيفة، فأفتى عبد الحميد بعدم جبره واختاره ابن عرفة. قال المازري: لأنه كإلزامه إحضار بينة تشهد عليه، وأفتى اللخمي
(1)
في البناني ج 7 ص 183 كون الخط.
بجبره على أن يطول فيما يكتب تطويلا لا يمكن فيه أن يستعمل خطا غير خطه. انتهى. نقله التتائي.
مسألة: من خط الناصر اللقاني: الشهادة على خط إذا كانت الكتابة على لوح أو كاغد، فلو كتب على الأرض لا شيء عليه ولو عرفوه إلا أن يشهد على ذلك، والظاهر أن الشهادة على الختم كالخط خصوصا في هذا الزمن، ولو قال شخص لجماعة: اشهدوا أن على فلان هذا مائة درهم مثلا وهو ساكت لزمه، بخلاف ما لو قال: أسكنت هذا داري بمائة دينار مثلا وهو ساكت فلا يلزمه. قاله الخرشي. وقال البناني: وفي قبول شاهد على ذلك روايتان بناء على أنه يحلف مع الشاهدين أولا، وعلى القبول فيحلف بيمينين. انتهى. يعني الخلاف المتقدم في قوله:"وجازت على خط مقر بلا يمين".
وخط شاهد مات أو غاب ببعد يعني أن الشهادة على خط الشاهد الميت جائزة بشروطها الآتية، وكذلك الشهادة على خط الشاهد الغائب جائزة أيضا بالشروط الآتية ويشترط فيها أيضا بعد الغيبة، واختلف في حد البعد، فقال عبد الملك: قدر ما تقصر فيه الصلاة، وحكى ابن مزين عن أصبغ أنها مثل مصر من إفريقية أو مكة من العراق، وقال ابن عبد السلام: ما ينال الشاهد فيه مشقة. قاله الخرشي. واستُظهِر قول ابن عبد السلام وجهل المكان بمنزلة البعد. انتهى. قاله الخرشي وقال عبد الباقي: وجازت على خط شاهد مات ولو لم يدركه الشاهد على خطه كما في التتائي وهو المعتمد، أو على خط شاهد غاب إن كانت غيبته ببعد وهو ما ينال الشاهد فيه مشقة فلا تجوز مع القرب، وجهل المكان كالبعد والمرأة المشهود على خطها بشهادتها بشيء كالرجل، فيشترط في الشهادة على خطها بُعْدُ غيبتها وإن كانت في النقل عنها ليست بمنزلته، فينقل عنها ولو لم تغب لأن الشهادة على الخط ضعيفة فلا يصار إليها مع إمكان ضيرها، وينبغي جواز شهادة الرجال على خطهن ولو فيما يختص بهن دونهن، فلا يشهدن على خط رجال ولا نساء ولو فيما يختص بهن.
وإن بغير مال فيهما مبالغة على جواز الشهادة على خط المقر وخط الشاهد بنوعيه، فالضمير في قوله:"فيهما" عائد على مسألة الشهادة على خط المقر، ومسألة الشهادة على خط الشاهد بنوعيه، ومعنى كلامه أن الشهادة على الخط تجوز في الحقوق المالية وغيرها كالطلاق والعتق وغيرهما، كما تجوز على خطه بالإقرار بالمال وعلى خطه شاهدا بالمال، وتجوز الشهادة بالسماع على الخط بأن يقولوا سمعنا من الثقات وغيرهم أن هذا خط فلان. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وما للمص به العمل بتونس، وروى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ: لا تجوز في طلاق ولا عتق ولا حد ولا كتاب قاض لقاض، بل في الأموال فقط. قاله التتائي. وذكر المواق ما يفيد أن المعتمد تسليم ما للمص في الشهادة على خط المقر وعدم تسليمه في الشهادة على خط الشاهد، وأنها إنما تجوز فيه بمال أو بما يؤول إليه مع يمين لضعف القسم الثاني عن الأول. اهـ.
تنبيهات: الأول: قال الرهوني: وأما الشهادة على خط الشاهد الميت أو الغائب فلم يختلف في الأمهات المشهورة قول مالك في إجازتها وإعمالها، وقد قيل إنها لا تجوز روي ذلك عن مالك، وإلى هذا ذهب محمد بن المواز وجعل الشهادة على خطه كالشهادة على شهادته إذا سمعها منه ولم يُشْهِدْهُ عليها. قاله ابن رشد. وهو مخالف لقول الباجي: المشهور من قول مالك: لا تجوز الشهادة على خط الشاهد، رواه ابن المواز واختاره، وروى ابن القاسم وابن وهب عن مالك في العتبية والموازية: تجوز الشهادة على خطه ولا يجزئ في ذلك أقل من شهادة شاهدين ويحلف الطالب ويستحق حقه. وقاله سحنون. وقال أصبغ الشهادة على خط الشاهد الغائب أو الميت قوية في الحكم بها، واقتصر المص في قوله:"وخط شاهد مات أو غاب ببعد" على تشهير ابن رشد هذا لاقتصار صاحب الجواهر عليه وقول ابن الحاجب فروايتان أشهرهما أنها جائزة. انتهى المراد منه.
الثاني: قد مر عن عبد الباقي ما نصه: وذكر المواق ما يفيد أن المعتمد تسليم ما للمص في الشهادة على خط المقر وعدم تسليمه في الشهادة على خط الشاهد لخ، قال الرهوني: ما عزاه للمواق في الشهادة على خط المقر مسلم، وأما في الشهادة على خط الشاهد ففيه نظر، بل الذي يفيده كلامه قوة كل من القولين، ثم قال بعد جلب كثير من النقول: والذي تَحَصَّلَ عندي من كلام الأئمة بعد
المراجعة والتأمل أن كلام المص مسلم في الشهادة على خط المقر، وأما ما قاله في الشهادة على خط الشاهد فهو أحد الرجحين أو مقابله أرجح. واللَّه تعالى أعلم.
الثالث: قال ابن عاشر: ليس في كلام خليل ما يؤذن بأن الشهادة على الخط لا بد فيها من عدلين فانظره. اهـ. ونقله جسوس ولم يزد عليه شيئا، وظاهرد أنه لابد منهما في الشهادة على الخط مطلقا وهو موافق في ذلك بالنسبة إلى الشهادة على خط المقر لما قاله الزرقاني، ويؤخذ من ذلك بالأحرى أنه لا بد منهما في الشهادة على خط الشاهدين لأنهما أضعف منها باتفاق، كما يؤخذ من النقول التي قدمناها وغيرها، وأما على ما رجحه البناني وقد قدمنا ما يشهد له من أن خط المقر يثبت بالشاهد واليمين فلا يؤخذ منه ثبوت خط الشاهد بذلك، وكلام الباجي الذي قدمناه قبل يفيد أنه لا يثبت بذلك اتفاقا فراجعه متأملا، وهو موافق لما أفاده كلام ابن عاشر وسلمه جسوس، فيتعين التعويل عليه والصير إليه. والله أعلم.
إن عرفته كالمعين ذكر المص هنا ثلاثة شروط هذا أحدها وهو عام في الشهادة على خط المقر وعلى خط الشاهد بنوعيه والاثنان بعده في الثاني بنوعيه، يعني أن الشاهد على الخط يشترط في صحة شهادته أن يكون قد عرف الخط المشهود عليه، كمعرفته للشيء العين من كعبد وثوب فلا بد فيها من القطع كما في التتائي، ولذا إنما تقبل من الفطن العارف بالخط، وإن لم يدرك صاحبه على المعتمد كما مر، وعلله ابن عبد السلام بقوله: لأنا نعرف كثيرا من خطوط من لا ندري، كخط الشلوبين وابن عصفور وابن السيد ونحوهم لتكرر خطوطهم علينا مع تلقينا من غير واحد من الشيوح أنها خطوطهم. انتهى. وبقي من شروطها في القسمين أن لا يكون في المستند ريبة من محو أو كشط وإلا لم تجز الشهادة عليه. قاله عبد الباقي. وزاد: ولو اعتذر عن ذلك على المذهب. اهـ. وفي هذه الزيادة نظر كما قال البناني، ففي التوضيح: معنى اشتراط انتفاء المحو والريبة إذا لم يكن معتذرا عنه في الوثيقة، فإذا كان معتذرا عنه فهو من زينة الوثيقة على ما قال كبار الشيوخ، بل قال بعضهم: هي أصح من الوثيقة التي ليس فيها ذلك، لأنها تدل على أن الشاهد تثبت في شهادته وتصفحها بعد كتبها. اهـ. وقال المواق: قال بعض الشيوخ: دل قولهم أن الشهادة على
الخط إنما تكون على القطع. وفي كتاب القزويني: أنها في ذلك إنما تكون على العلم. ابن عرفة: مغايرته بين القطع والعلم يدل على أن مراده بالعلم الظن. انتهى.
وقال الخرشي: هذا شروع منه رحمه الله في ذكر شروط صحة الشهادة على الخط، منها: أن لا يكون في المستند ريبة محو أو كشط وإلا فلا عبرة بالشهادة فيه على الخط، ومنها في الشاهد على الخط الشاهد بنوعيه أن تعرف الشهود الخط معرفة تامة لا شك فيها ولا ريبة أي تعرفه كالأشياء المعينة من ثياب أو غيرها، بمعنى أن الشهادة على الأشياء المعينة لا بد فيها من القطع فلا يكفي فيها الظن على المشهور. ومنها: أن يكون الخط حاضرا وهذا يؤخذ من قوله: "إن عرفته كالمعين"، ومنها أن يكون الشاهد على الخط فطنا عارفا بالخطوط، ولا يشترط أن يكون قد أدرك صاحب الخط. انتهى.
وقال الشبراخيتي: إن عَرَفَته أي الخط كالمُعَيَّن أي ميَّزته البينة الشاهدة كما تميز المعين من الأشياء كثوب وعبد ونحوهما، وهو يفيد أن الشهادة على الخط لا تكون إلا على القطع، وعلم منه أن الخط حاضر. انتهى. وقال التتائي: إن عرفته أي الخط معرفة لا شك فيها، فيشترط حضوره ليشهد على عينه كالمعين. ابن عات: الخط عندنا شخص قائم ومثال مماثل تقع العين عليه ويميزه العقل كما يميز سائر الأشخاص والصور. انتهى. أي فلا يكون إلا على القطع لا الظن. انتهى.
وأنه كان يعرف مُشْهِده عطف على الهاء في قوله: "عرفته" يعني أنه يشترط في صحة شهادة الشاهد على خط الشاهد بنوعيه أن يعرف أن صاحب الخط كان يعرف من شهد عليه، قال الشبراخيتي: وأنه كان يعرف مشهده، عطف على الهاء في "عرفته" أي لابد أن تعرف البينة الشاهدة على الخط أن صاحب الخط كان يعرف من شهد عليه، كان من له الحق أو عليه أي يعرف نسبه أو عينه، فإن لم يعرف ذلك لم يشهد على خطه. انتهى. وقال عبد الباقي: وأنه أي الشاهد الكاتب خطه بشهادته كان يعرف مشهده أي من شهد عليه بنسبه أو بعينه، فإن لم تعرف البينة ذلك لم تشهد على خطه لاحتمال أنه شهد على من لا يعرف، وهذا في الحقيقة لتحقيق ماهيته لا أنه شرط خارج عن الماهية، إذ الشهادة على من لا يعرف من شهادة الزور،
ولذا قال ابن راشد: الصواب خلاف هذا الشرط، وجرى على خلافه العمل عندنا بقفصة أي لأنه يشبه اشتراط الشيء في نفسه. انتهى.
وقال البناني: وأنه كان يعرف من شهد عليه. قاله المص. شرط صحة وهو الذي نقله ابن رشد عن ابن زرب، ومثله لابن فتوح، قال ابن رشد: وهو صحيح لا ينبغي أن يختلف فيه. ونقل ابن عرفة عن المتيطي أنه شرط كمال فقط لا شرط صحة، وما ذكره الزرقاني عن ابن راشد ظاهر وعليه العمل عندنا: ومحل الخلاف في ذلك إذا كانت الوثيقة المشهود عليها خالية من التعريف أي لم يذكر فيها وعرفه أو عرف به، فلو كان فيها ما ذكر، فقال بعض الشيوخ: لا يحتاج لهذا الشرط اتفاقا، ويدل عليه ما نقله ابن عرفة عن المتيطي. انتهى.
تنبيه: قوله: "مُشهِدَه" الظاهر أنه بضم الميم وكسر الهاء، لقول المواق: وأنه كان يعرف مشهده. ابن رشد: قول ابن زرب: لا تجوز الشهادة على خط الشاهد حتى يعرف أن المشهود على خطه كان يعرف من أشهده معرفة العين، صحيحٌ لا ينبغي أن يختلف فيه. المتيطي: لا تقبل الشهادة على الخط إلا من الفطن العارف بالخطوط وممارستها، ولا يشترط فيه أن يكون قد أدرك ذا الخط. انتهى.
وتحملها عدلا ضطف على "كان" يعني أنه يشترط في صحة شهادة الشاهد على خط الشاهد أن يعرف أن المشهود على خطه تحمل الشهادة أي وضع خطه وهو عدل واستمر عدلا لموته، قال البناني:"وتحملها عدلا" ليس المراد حقيقة التحمل بل وضعها في الرسم، ولو قال المص: ووضعها في الرسم عدلا كان أصوب، وما ذكره هو تعديل للمشهود على خطه، وظاهر كلامه أن الشاهد على الخط لابد أن يشهد بذلك، وذكر المتيطي أنه لا يشترط ذلك بل يكفي أن يشهد بذلك غيرهما. انظر الحطاب. انتهى. وقال البناني. أيضا: وعرفت أنه تحملها عدلا أراد به أن يكون مقبول الشهادة من تاريخ وضعها في الرسم وبعده إلى أن مات أي أو غاب ببعد، وقال عبد الباقي: وأشعر قوله: "إن عرفته" إلى آخر الشروط أن شهود الخط يعتمدون على ذلك ولا يحتاجون لذكر ذلك عند الشهادة وهو كذلك كما يفيده ابن راشد. انتهى.
ووقع في شرح عبد الباقي ما نصه: وعرفت أنه تحملها أراد به أن يكون مقبول الشهادة قبل أدائها ولم يعلم أنه تغير بعد ذلك حتى حكم بشهادته أو مات أو غاب، إذ لا تُشترط العدالة عندنا في التحمل بل في الأداء، نعم يشترط في التحمل عدم الصبا والفسق والكفر كما للبساطي الخ. قوله: قبل أدائها لخ كلامه غير صواب، إذ الفرض أنه كتبها ثم مات أو غاب ولم يقع أداء، وإلا لم يحتج للشهادة على خطه. وقوله: نعم يشترط في التحمل عدم الصبا لخ سلم ما قاله البساطي وهو غير صحيح، بل التحقيق هو ما تقدم له أول الباب من أنه لا يشترط حين التحمل إلا العقل. قاله البناني. وبتفسير قوله:"وتحملها عدلا" بأن المراد بالتحمل هنا وضعها في الرسم، اندفع ما يقال: إن التحمل لا يشترط حينه إلا العقل. واللَّه تعالى أعلم.
لا على خط نفسه هذا هو القسم الثالث من أقسام الشهادة على الخط، والقسم الأول هو الشهادة على خط المقر، والثاني هو الشهادة على خط الشاهد بنوعيه؛ يعني أنه لا يجوز للشخص أن يشهد على خط نفسه ولو عرفه وتيقنه، أي أنه لا يعتد بها أي بشهادته حتى يذكرها أي القضية التي شهد فيها بأن يعرف حقيقتها ويتيقنها، لا أنه لا يجوز له أن يشهد على الحقيقة، بدليل قوله: وأدى بلا نفع يعني أنه إذا لم يذكر القضية يؤدي شهادته وجوبا، ولكن لا تنفع تلك الشهادة ما دام لم يتذكر الشهود به. قال عبد الباقي: لا الشهادة على خط نفسه في رسم حاضر شهد فيه ونسيه، فلا ينتفع بها ولو عرف خطه حتى يذكرها أي القضية، هذا مراده بالنفي لا عدم الجواز لمنافاته لقوله:"وأدى" - وجوبا - "بلا نفع" باعتبار ما عند الشاهد على خط نفسه، وفائدة التأدية احتمال أن الحاكم يرى إجازتها وهو مجتهد إن وجد، ويجب عليه إخباره عند التأدية أنه غير ذاكر للقضية مع اعترافه أن الخط خطه. قال ابن القاسم: يقول للحاكم: هذه شهادتي بيدي ولا أذكرها، وكيفية التأدية أن يقول للقاضي: هذا يقول إنه أشهدني على كذا: وأخرج رقعة فيها خط وأنا أعرف أنه خطي ولا أتذكر الشهادة، قال في المدونة: ولا ينفعه.
وقال الخرشي: قول المؤلف: "لا على خط نفسه" المعطوف محذوف والمعطوف عليه الضمير المستتر في "جازت". انتهى. وقد مر أن معنى عدم الجواز عدم النفع بها، بدليل قوله:"وأدى بلا نفع" وهو راجع لما قبل "حتى". انتهى.
وقال البناني عند قوله: "لا على خط نفسه حتى يذكرها" ذكر في التوضيح عن البيان في هذه خمسة أقوال: وما ذكره هنا هو مذهب المدونة. ابن رشد: وكان مالك يقول: إن عرف خطه ولم يذكر الشهادة ولا شيئا منها وليس في الكتاب محو ولا ريبة فليشهد، وإن كان الرق مطليا أو مغسولا أو فيه محو فلا يشهد، وبه أخذ عامة أصحابه: مطرف وعبد الملك والغيرة وابن أبي حازم وابن دينار وابن وهب وابن حبيب وسحنون في نوازله، وقال مطرف: وعليه جماعة الناس، قال مطرف وابن الماجشون: وليقم بالشهادة تامة بأن يقول ما فيه حق وإن لم يحفظ ما في الكتاب عددا ولا مقعدا
(1)
ولا يعلم السلطان بأنه لم يعرف غير خطه، فإن أعلمه بذلك لزم الحاكم ردها. انتهى.
وقال في التوضيح: صوب جماعة أن يشهد إن لم يكن محو ولا ريبة، لأنه لابد للناس من ذلك لكثرة نسيان الشاهد المنتصب، ولأنه لو لم يشهد حتى يذكرها لا كان لوضع رسم خطه فائدة. انتهى. وقال ابن مرزوق: وأما قوله: "لا على خط نفسه" لخ، فقال في كتاب الأقضية من المدونة: وإذا عرف الشاهد خطه في كتاب فيه شهادته فلا يشهد حتى يذكر الشهادة ويوقن بها، ولكن يؤدي ذلك كما علم ثم لا تنفع الطالب. اهـ. ونقل ابن محرز وغيرد عن ابن المواز: أنه لا يرفعها، وعن سحنون: يرفعها وتنفع إن لم يسترب في الكتاب بحك ولا محو، وابن المواز لم يسوغ للقاضي الاجتهاد في هذا فلذا لم ير الرفع، وأنا أرى للقاضي أن يقبل في هذا من الشهود المتيقظ الذي لا يخشى عليه التباس الأمور وتقف شهادة من ليس كذلك. انتهى.
وقوله: "لا على خط نفسه حتى يذكرها" لخ في المسألة خمسة أقوال، أحدها: مذهب المص هذا، الثاني: القول الذي عليه عامة أصحاب مالك الذي رجع عنه مالك. الثالث: إن كانت في كاغد
(1)
في الأصل: مقعد، والمثبت من بناني ج 7 ص 185.
لم يجز له أن يشهد، وإن كانت في رق جازت إن كانت في بطن الرق لا على ظهره؛ لأن البشر في ظهره أخفى منه في الكاغد. الرابع: قول ابن المواز: إنه لا يرفع شهادته. الخامس: إن كان ذكر الحق إلى آخر ما يأتي، وقال ابن سهل: أنا أرى للقاضي أن يقبل في هذا من الشهود المتيقظ الذي لا يخشى عليه التباس الأمور وتقف شهادة من ليس كذلك. انتهى.
وحكى في التوضيح فيها الخمسة الأقوال، فقال: الْأَوَّلُ أنها شهادة جائزة يؤديها ويحكم بها، والثاني أنها غير جائزة لا يؤديها ولا يحكم بها، والثالث أنها غير جائزة إلا أنه يؤديها ولا يحكم بها، والرابع أنها إن كانت في كاغد لم يجز له أن يشهد وإن كانت في رق جاز له أن يشهد، قال: يريد - واللَّه أعلم - إذا كانت الشهادة في بطن الرق ولم تكن على ظهره، والخامس إن كان ذكر الحق والشهادة بخطه جاز أن يشهد وإن لم يكن بخطه إلا الشهادة لم يشهد. اهـ. وفي القاموس: الكاغد القرطاس وفيه الرق ويكسر: جلد رقيق يكتب فيه وضد الغليظ كالرقيق والصحيفة البيضاء. انتهى.
لطيفة قال ابن عرفة: وَأَخْبَرَنَا شيخنا أبو عبد اللَّه بن سلمة رحمه الله في هذا المعنى عن بعض مشاهير عدول تونس وهو أبو عبد اللَّه بن العوادَ كانت له دراية بفقه الوثيقة وكتبها وكان يدرس العربية ومع ذلك وقفه عن الشهادة القاضي [أبو يعقوب]
(1)
وارتحل إلى المشرق ثم قدم فدخل عليه واعتذر له عما نسب إليه من سبب وقفه، فأجابه القاضي ابن يعقوب على ما أخبرني به شيخنا أبو عبد اللَّه بن الحباب بما لا يمكن كتبه فأيس منه وارتحل ثانية إلى المشرق، ثم قدم بعد انصراف ابن يعقوب فأعيد لشهادته وكان أحد شهود الديوان في أوائل هذا القرن الثامن، وولي مدة يسيرة قضاء الأنكحة بتونس أَنَّهُ أتاه طالب بوثيقة بعال له بال على رجل أنكره وأنكر الشهادة عليه، فطلب منه رفع شهادته في الوثيقة، فنظرها فتحقق أن شهادته بخطه وتذكر وطنها أو أنه شهد على ذلك الرجل وكان ممن لا يجهل فلم يذكر ذلك، وعرضت له حيرة بتعارض حالتي تيقنه خطه وتيقنه عدم شهادته على الرجل المذكور، فكانت الوثيقة بيده وهو
(1)
في الرهوني ج 7 ص 448 أبو عبد الله بن يعقوب.
يتأمل ويتذكر في بيته: فعرضت له حاجة أخرجته من بيته وهي في يده فاتفق أن نظرها ويده بها مرفوعة على وجهه وهو في ضوء الشمس، فوقع بصره على شهادته فتأمله لضوء الشمس فوجد محل شهادته في الكاغد ألصق إلصاقا خفيا بالكاغد، كتب فيه ذكر الحق على المطلوب، فانكشف غمه وفطن دافع الوثيقة له، ففر. نقله الرهوني.
وبهذا يظهر لك وجه القول بالتفصيل وهو القول الخامس، فيتأكد في حق الشاهد أن يكون الوثيقة كلها بخطه ذكر الحق والشهادة. واللَّه تعالى أعلم. وقوله: وأدى بلا نفع فإن امتنع من التأدية فانظر هل يكون بمنزلة الرجوع أم لا؟ والثاني هو الظاهر في زماننا لأن فائدة التأدية احتمال عمل القاضي بها وهذا منتف الآن، فإن أنكر أنه خطه وشهد عليه شاهدان أنه خطه فالظاهر أنه لا يعمل بشهادتهما: لأنه لو اعترف أن الخط خطه ولم يذكر ما شهد به فإنه لا يشهد على القضية، وإنما يؤدي الشهادة ويبين أنه غير ذاكر لا شهد به كما قال المص. انتهى.
وقد مر أنه إن أنكر المقر أن الخط خطه ولم يوجد من يشهد به، فإنه اختلف هل لا يجبر على الخط؟ وهو قول عبد الحميد، أو يجبر على الكتابة وعلى أن يطول فيما يكتب تطويلا لا يمكن فيه أن يستعمل خطا غير خطه؟ وهو قول اللخمي. واختار ابن عرفة الأول واختار غير واحد الثاني. قال عبد الباقي: ومقتضى كلام اللخمي وعبد الحميد أنه لو طاع بالكتابة وأدرك العارفون المماثلة بينهما لزم الحق. قاله الوالد. قوله: ومقتضى كلام اللخمي وعبد الحميد لخ، قال البناني: هذا الكلام لابن عرفة، ونصه بعد ذكر الخلاف بينهما قلت: الأظهر ما قاله عبد الحميد، ومقتضى قوليهما: وظاهر سياق المازري أنه لو شهدت بينة عدلة على مكتوب أنه بخط المدعى عليه وهو مماثل لخط الكاتب الذي قام به المدعي أنه يثبت بذلك للمدعي دعواه وفيه نظرة لأنه لا يحصل للشاهد المدرك للمماثلة بين الخطين ظن كون الخط الذي قام به المدعي خط المدعى عليه بمجرد إدراك المماثلة مرة واحدة، ولا يحصل إدراك كون الخط خط فلان إلا بتكرر رؤية خطه أو سماع مفيد للعلم حسبما ذكرناه في الشهادة على خط الغائب. اهـ.
ولا على من لا يعرف إلا على عينه هذا معطوف على قوله لا على خطه يعني أن الشاهد لا يشهد على من لا يعرفه باسمه واسم أبيه إلا على عينه، بأن يحضر المشهود عليه عند الأداء فيقول: أشهدني هذا على كذا، ولو قال له هذا الذي لا يعرفه أنا فلان ابن فلان فاشهد عليَّ بكذا لم يكن للشاهد أن يشهد على الاسم الذي ذكره مخافة أن يتسمى باسم غيره، فيلزم الشاهد صاحب ذلك الاسم حقا من الحقوق وهو لم يشهده بذلك. قاله ابن مرزوق. وقال عبد الباقي: ولا يشهد الشاهد على من لا يعرف نسبه حين الأداء والتحمل إلا على عينه أي شخصه وحليته، بحيث يبقى [المعول]
(1)
عليه إنما هو من وجدت فيه تلك الأوصاف وهو استثناء مفرغ في الأحوال، أي لا يشهد على من لا يعرف في حال من الأحوال إلا في حال وجود ذلك الشخص بعينه ولا يعرف نسبه، وليس تفريغا في الذوات ليلا يلزم اتحاد المستثنى والمستثنى منه، إذ الواقع هنا أنه واحد، ومثل جهل نسبه حيث تعدد المنسوب لمعين، كمن له بنتان: فاطمة وزينب، وأراد الشاهد الشهادة على فاطمة فلا يشهد إلا على عينها إلا أن يحصل له العلم بها وإن بامرأة وأما إذا لم يكن للمعين إلا بنت واحدة لا يعرف له غيرها فمن معروفة النسب لأن الحصر ظاهر فيها بالقرينة. انتهى. ونحوه للشبراخيتي. وقال التتائي: ولا يشهد الشاهد على من لا يعرف نسبه إلا على عينه أي شخصه وظاهره عدم الجواز، واستقرأ ابن عرفة من كلام بعض الأندلسيين ما يقتضي أن في شهادة الشاهد إذا لم يذكر التعريف بالمشهود عليه في العقد قولين في صحة إعمالها. قال: والأظهر أنه إذا كان الشاهد معروف الضبط والتحفظ قبلت شهادته، وإن لم يذكر معرفة ولا تعريفا وإلا ردت إلا أن يكون على مشهور معروف، وما ذكره المص نحوه لابن الحاجب. قال ابن عبد السلام: وهو الصحيح لاحتمال أن يضع الرجل اسم غيره على اسمه، ويحتمل كلام المص الكراهة.
وفي سماع أشهب قيل لمالك: أيشهد الرجل على من لا يعرف؟ قال: أحب إلي أن لا يفعل. انتهى. ابن رشد: إن أشهد رجل على نفسه جماعة يعرفه بعضهم فلمن لا يعرف أن يضع
(1)
في الأصل: المعمول، والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 185.
شهادته عليه، وهو من ذلك في سعة لأمنه بمعرفة بعضهم أن يتسمى باسم غيره، وإن لم يعرفه أحد منهم كره أن يضعوا شهادتهم عليه خوف أن يتسمى باسم غيره، فيقر أنه باع داره من فلان ثم يشهد على خطوطهم بعد مماتهم فتجوز شهادتهم. قاله الأخوان. اهـ. وقال ابن مرزوق: ظاهر العتبية الكراهة وصرح بذلك ابن رشد، وظاهر كلام المص عدم الجواز لعطفه على ما لا يجوز، لكن تعليلهم يدل على المنع. انتهى.
وليسجل على من زعمت أنها ابنة فلان يعني أنه إذا شهدت البينة على عين امرأة لا تعرف نسبها، وقالت المرأة المشهود على عينها: إنها ابنة فلان، فإن القاضي يسجل أي يكتب في كتابه من زعمت أنها ابنة فلان، وليس له أن يكتب بنت فلان حتى يثبت عنده بالبينة أنها ابنة فلان، لأنه يمكن أن تتسمى باسم غيرها فيؤخذ بما عليها غيرها: وإيضاح هذا أن تقول: إذا اشترت امرأة من زيد مثلا سلعة بثمن في ذمتها وحضرت ذلك البينة ولم تعرف البينة نسبها وإنما شهدت على عينها، وقالت المرأة المذكورة: أنا بنت فلان، فإنه ليس للقاضي أن يكتب في سجله أي كتابه هذه المرأة التي في ذمتها الثمن بنت فلان معتمدا على قولها، وإنما يكتب في ذمة من زعمت أنها ابنة فلان إلا إذا ثبت ببينة أنها بنت فلان فيكتب ذلك، وفي نسخة: ولا يسجل على من زعمت أنها ابنة فلان أي لا يكتب أنها بنت فلان إذا لم يكن إلا قولها أنا ابنة فلان. واللَّه تعالى أعلم. ومثل المرأة في ذلك الرجل، وقوله:"زعمت"، وكذا قالت، أو ذكرت أو نحو ذلك، وإنما خص المص النساء لغلبة الجهل بهن، فهن والرجال في ذلك سواء كما عرفت، وقررت المصنف بلا يسجل القاضي ويصح تقريره بلا يسجل الشاهد والكل صحيح كما في التوضيح.
ولا على متنقبة لتتعين للأداء يعني أنه لا تجوز الشهادة على المرأة المتنقبة حتى يكشف عن وجهها ويعرفها الشهود معرفة تامة لأجل أن تتعين أي يعينها الشهود للأداء أي عند أداء الشهادة، فاللام الأولى للتعليل في النفي فهو متعلق بلا، لأن حروف المعاني يجوز تعلق الجار
والمجرور بها كما قاله ابن الحاجب في الأمالي، واللام الثانية بمعنى عند كما يفيده ابن مرزوق وصرح به الشبراخيتي. وهذا في غير معروفة النسب ومن في حكمها، لا في معروفته فلا تحتاج لكشف نقابها. وفي شرح عبد الباقي: ولا تجوز الشهادة أي تحمُّلُها على منتقبة بل يكشف عن وجهها ليشهد على عينها وصفتها لتتعين أي انتفاء الجواز لأجل أن تتعين للأداء؛ أي يطلب من الشاهدين على إقرارها بحق لشخص أن يتحملا الشهادة عليها بعد معرفة عينها من غير نقاب لأنهما لو شهدا عليها منتقبة لم يؤديا شهادتهما عليها لعدم معرفة عينها ووجهها.
فقوله: "ولا على منتقبة" أي تحملا كما قررنا لا أداء كما يفيده قوله لتتعين للأداء فالتعليل للنفي لا للمنفي الذي هو منتقبة فهو كقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} أي انتفاء القتل متيقن، وهذا في غير معروفة النسب وفي معروفته حيث كان لها أخت فأكثر ولم تميز عند الشاهد عن مشاركتها، وأما معروفته المنفردة أو المتميزة عنده عن مشاركتها فيشهد عليها منتقبة. انتهى. وفي المصباح: ونقاب المرأة جمعه نُقُب مثل كتاب وكُتُب وانتقبت وتنقبت غطت وجهها. قاله الخرشي.
تنبيه: التوضيح: هذا يعني قوله: "ولا على متنقبة لتتعين" مخصوص بالنكاح، وأما الحقوق كالبيوع والهبات والوكالات ونحوها فلا يشهد عليها في شيء من ذلك إلا من يعرف عينها واسمها ونسبها. اهـ. ونقله البناني، وقال: وأصله لابن رشد، فتأمله. والنكاح في الخط كغيره. اهـ. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: أمر بالتأمل لمخالفته لما مر من قوله: "ولا يسجل على من زعمت" لخ، ولمخالفته لقوله:"ولا على من لا يعرف إلا على عينه" لأنه قد مر التعميم في ذلك. واللَّه تعالى أعلم.
وإن قالوا أشهدتنا منتقبة وكذلك نعرفها قلدوا يعني أن الشهود إذا شهدوا على امرأة منتقبة يعرفون نسبها دون عينها، وعلم أن مراده هذا من قوله. وكذلك نعرفها وحين سئلوا الأداء على عينها قالوا لم نشهد عليها إلا منتقبة ولا نعرفها إلا كذلك؛ أي إلا حالة كونها منتقبة لا على غيرها من الأحوال فإنهم يقلدون فيما ادعوه ويشهدون به. قاله ابن مرزوق. وقال الشبراخيتي: وإن قالوا أي الشهود أشهدتنا منتقبة وكذلك نعرفها أي ونعرفها على تلك الحال أي منتقبة، فهي تقييد للأولى وحينئذ فمحل المنع في الأولى إذا كانوا لا يعرفونها منتقبة، "قلدوا" جواب
الشرط أي عمل بجوابهم في تعيينها؛ لأن الفرض أنهم عدول لا يتهمون، وهذا في معروفة النسب قطعا إذ غيرها إنما يشهد على عينها أي على حليتها وصفتها، وهذا لا يحصل مع الانتقاب. اهـ. وقال الخرشي: يعني أن الشهود إذا قالوا شَهِدْنا عليها في حالة انتقابها ولا نعرفها إلا كذلك وإن كشفت عن وجهها لا نعرفها وأنكرت المرأة الشهادة عليها، يقلدون في شهادتهم إن كانوا عدولا لأن العدول لا يتهمون في هذا. فقوله:"قلدوا" أي وكلوا إلى دينهم في تعيينها وهذا في معروفة النسب قطعا، وغيرها إنما يشهد على عينها. انتهى. وقال عبد الباقي: وإن قالوا - أي العدول -: أشهدتنا معروفة بدين عليها لزيد مثلا حالة كونها متنقبة وكذلك نعرفها وإن كشفت عن وجهها لا نعرفها قلدوا، أي قطع بشهادتهم ولو أنكرتها لأنهم عدول. اهـ. وقولي: متنقبة بالرفع فاعل أشهدتنا كما لابن مرزوق، أو خبر مبتدإ محذوف كما للشبراخيتي، أو بالنصب على الحال كما لغير واحد.
وعليهم إخراجها إن قيل لهم عينوها جعله المواق في معروفة النسب، فإنه نقل عن سحنون: لو شهدا على امرأة بنكاح أو إقرار أو براءة أي ابراء كما في الشبراخيتي، وسأل الخصم إدخالها في نساء ليخرجوها وقالوا: شهدنا عليها على معرفتنا بعينها ونسبها ولا ندري هل نعرفها اليوم وقد تغيرت حالها، أو قالوا لا نتكلف ذلك فلا بد أن يخرجوا عينها، وإن قالوا نخاف أن تكون تغيرت، قيل لهم: إن شككتم وقد أيقنتم أنها بنت فلان وليس لفلان إلا بنت واحدة من حين شهدوا عليها إلى اليوم جازت الشهادة. اهـ. وقال ابن مرزوق عن النوادر: قال سحنون في كتاب ابنه: ولو شهدا على امرأة بنكاح أو إقرار أو براءة وسأل الخصم إدخالها في نساء ليخرجوها، وقالوا: شهدنا عليها على معرفة منا بعينها ونسبها ولا ندري هل نعرفها اليوم وقد تغيرت حالتها، أو قالو: لا نتكلف ذلك، قال سحنون: لا بد أن يخرجوا عينها، وإن قالوا نخاف أن تكون تغيرت عن حالها، قيل لهم: إن شككتم وقد أيقنتم أنها بنت فلان وليس لفلان إلا بنت واحدة من حين شهد عليها إلى اليوم جازت الشهادة. انتهى.
قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: فَتَحَصَّلَ من هذا أنهم إذا شهدوا عليها على معرفة منهم بعينها ونسبها، يقال لهم: أخرجوها أي عينوها، فإن قالوا: نخشى أن تكون قد تغيرت عن حالها فلا تتم معرفتنا لها، فإن استمروا على حفظ نسبها ومعرفته معرفة تعينها بأن تكون لا مشارك لها صحت الشهادة، وإلا فعليهم إخراجها. واللَّه تعالى أعلم. وجعله عبد الباقي في غير معروفة النسب، فإنه قال: وأما قوله: "وعليهم"، وجوبا كما يشعر به على إخراجها إن قيل لهم عينوها ففي غير معروفة النسب، وإنما شهدوا على عينها وصفتها وأنكرت وكلفوا بإخراجها من بين نسوة فعليهم إخراجها وتشخيصها، وليس من مُتَعَلِّقات ما قبله. انتهى المراد منه. ونحوه في الخرشي والشبراخيتي.
قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: وتحرير هذه المسألة أن تقول: هي على ثلاثة أقسام، الأول: أن يشهدوا عليها معتمدين على معرفتهم بنسبها ولا يعرفون عينها، وهذا هو قوله:"وإن قالوا أشهدتنا منتقبة وكذلك نعرفها قلدوا". القسم الثاني: أن يشهدوا على عينها ونسبها فيقال لهم أخرجوها أي عينوها وشخصوها، فإن شكوا في معرفة عينها، فإن تيقنوا نسبها بحيث لا تلتبس بغيرها صحت شهادتهم وإلا فعليهم إخراجها. انظر كبير الخرشي، فإنه صرح بهذا وقال: وبهذا يتفح لك ما ذكره المواق، وهذا هو قوله:"وعليهم إخراجها" لخ. القسم الثالث: أن يشهدوا على عينها والحال أنهم لا يعرفون نسبها، وهذا هو قوله:"ولا على منتقبة لتتعين للأداء" وهو كالتبيين، لقوله: ولا على من لا يعرف إلا على عينه. والله سبحانه أعلم.
تنبيه: قال عبد الباقي عند قوله: "وعليهم إخراجها إن قيل لهم عينوها" ما نصه: ثم إذا لم يخرجوا غير المعروفة ولم يتيسر لهم معرفتها، فالظاهر ضمانهم لا شهدوا به عليها لأنه بمنزلة الرجوع عن الشهادة، خلافا لا استظهره بعض شيوخ أحمد من عدم الضمان؛ لأنهم بمثابة فسقة يعلمون أن شهادتهم لا تقبل وشهدوا بحق على آخر ولم يقبلهم الحاكم عند الأداء. اهـ. فعلم من هذا ومن قوله:"وعليهم" أنهم متى شهدوا على عينها ولم يخرجوها ضمنوا مطلقا، عرفوا نسبها
ثم شكوا فيه أم لا، وأشعر فرضها في المرأة بأنهم لو شهدوا على رجل بدابة أو رقيق معينين أو موصوفين وأدخلهم المشهود عليه في مماثل لم يطلبوا بإخراجه إن قيل لهم عينوه كما في التتائي، وهو خطا ممن فعله. انتهى المراد منه.
قال البناني: ظاهره أن من يقول بالتعيين في المرأة يخالف في الدابة وليس كذلك، بل من قال إنه لا يكلف بذلك في الدابة قال كذلك في المرأة. قاله مصطفى. ونقل المواق يدل عليه. اهـ. ونقل المواق الذي أشار إليه هو قوله الذي لابن عرفة: سئل ابن القاسم من اعترف دابة أو رأسا هل تجمع دواب أو رقيق ويدخل فيها ويكلف الشهود إخراجها؟ قال: ليس ذلك على أحد في شيء وذلك خطأ، ولكن إن كانوا عدولا قبلت شهادتهم. أصبغ: وكذلك النساء إن شهد عليهن. انتهى.
وجاز الأداء إن حصل العلم وإن بامرأة يعني أن من تحمل شهادة على امرأة عرفه بها أحد عند التحمل وحصل له بخبره العلم أي الثقة بخبره، فإنه يستند في أداء الشهادة عليها إلى التعريف الحاصل عند التحمل؛ أي يجوز له ذلك ولو كان المعرَّف له بها امرأة يوثق بخبرها. واللَّه تعالى أعلم. قال الشيخ محمد بن الحسن البناني: روى ابن القاسم وابن نافع في المبسوط فيمن دعي إلى الشهادة على امرأة وهو لا يعرفها أنه: إن شهد عنده عدلان أنها فلانة فليشهد عليها، قال ابن القاسم: هذا باطل ولا يشهد عليها إلا وهو يعرفها بغير تعريفها، وقال ابن الماجشون: الذي قاله ابن القاسم هو الباطل، وكيف يعرف النساء إلا بمثل هذا؟ وقال ابن القاسم في المجموعة: إذا دعي الرجل ليشهد على امرأة لا يعرفها وشهد عنده رجلان بأنها فلانة فلا يشهد إلا على شهادتهما. وقال ابن نافع فيه: أنه يشهد، وذكره عن مالك وابن رشد: والذي أقول به أن المشهود له إن أتاه بالشاهدين ليشهد له بشهادتهما عنده أنها فلانة فلا يشهد إلا على شهادتهما، وإن كان هو سأل الشاهدين فأخبراه أنها فلانة فليشهد عليها، وكذلك لو سأل عنها رجلا يثق به وامرأة لجاز له أن يشهد، ولو أتاه الشهود له بجماعة من لفيف الناس يشهدون عنده أنها فلانة لجاز له أن يشهد إذا وقع العلم بشهادته، فهذا وجه القول في هذه المسألة. اهـ.
وتفصيل ابن رشد هذا تبعه عليه ابن شأس وابن عرفة والمص في التوضيح وغير واحد، وهو جار على مذهبه في أن ما يبتدأ فيه بالسؤال يفيد فيه الخبر، وما لا فليس بخبر وعليه حمل مصطفى كلام المؤلف، فقال: معنى قوله: "وجاز الأداء" مستندا إلى التعريف إن حصل العلم أي وكان على وجه الخبر، والمراد بالعلم الثقة بخبر الخبر، وقوله:"لا بشاهدين" أي إذا كان على وجه الشهادة إلا أن يحصل بهم العلم بأن بلغوا حد التواتر، هذا المُحَصَّلُ من كلام ابن رشد وإن كان المتبادر من كلام المص غير هذا ونحو عبارته لابن الحاجب، وبذلك تعلم أن قول الزرقاني تبعا للأجهوري لا بشاهدين لم يحصل بهما العلم فيه نظر؛ إذ لم أر من فصل في الشاهدين هذا التفصيل، فمراد المص الاستناد في الأداء إلى التعريف الحاصل عند التحمل، فقول الزرقاني: عرف نسبها ثم نسيها عند إرادة الأداء لخ غير ظاهر، ولا معارضة بين ما هنا وبين قوله قبل: ولا على من لا يعرف إلا على عينه؛ لأن ما تقدم محله ما إذا لم تحصل معرفة ولا تعريف، وهذا معنى من لا يعرف. اهـ.
ثم قال البناني: والظاهر قول المصطفى: يمكن حمل الخلاف بين ابن القاسم وغيره على ما كان على وجه الشهادة، كما يؤخذ من تعبير الرواية بالشهادة، فيكون اختيار ابن رشد وفاقا لابن القاسم. انتهى. وبالجملة الظاهر ما قاله ابن رشد وأن يحمل كلام ابن القاسم عليه وكذا كلام المص. واللَّه الموفق. اهـ. وقال البناني: وقرر ابن رحال كلام المص على ظاهره، فقال ما معناه: وجاز الأداء إن حصل العلم بالتعريف وإن بتعريف امرأة، ولا يجوز الأداء بحصول العلم بسبب تعريف شاهدين عدلين، وإذا لم يعتمد عليهما مع حصول العلم فأحرى مع عدمه، وأما تقرير الشارح وتبعه التتائي والأجهوري وابن مرزوق وغير واحد من شروحه أن قول المص:"لا بشاهدين" إنما هو إذا لم يحصل بهما علم فغير صحيح لأنه خلاف كلام الناس، وأن الشاهدين
(1)
لا يعتمد عليهما في التعريف مطلقا حصل علم أم لا، وهذا على مذهب ابن القاسم بخصوصه لمرور المص عليه، وأما على قول ابن الماجشون وما رواه ابن نافع عن مالك، فيصح كلام الشارح ومن
(1)
في الأصل: الشاهد، والمثبت من بناني ج 7 ص 187.
تبعه إلا أنه قليل الجدوى؛ إذ لو أراد المص ذلك لقال بدل لا بشاهدين: لا إن لم يحصل علم، فإن قلت: ما وجه قول ابن القاسم بالمنع مع حصول العلم بالشاهدين؟ قلت: لأن توقف الشاهدين عن الشهادة على من عرفاه مع صحة شهادتهما وحضورهما فيه تهمة وريبة: وقد صرح ابن مرزوق وغيره بأن المشهور هو ما قاله ابن القاسم، وصرح أبو الحسن وصاحب الفائق وغير واحد بأن تفصيل ابن رشد قول ثالث اهـ باختصار. اهـ. قال البناني: قلت: هو مبني على فهم قول ابن القاسم: لا يعتمد على الشاهدين مطلقا ولو حصل العلم بهما وهو بعيد، وإن كان هو مقتضى من جعل ما لابن رشد قولا ثالثا، والظاهر قول مصطفى يمكن حمل الخلاف بين ابن القاسم إلى آخر ما مر قريبا.
تنبيهات: الأول: قال ابن عرفة: الذي عليه العمل عندنا أنه إن عين الشاهد في الوثيقة من عرَّفه بالمشهود عليه فإنها شهادة ساقطة وصارت كالنقل عمن عرفه. اهـ.
الثاني: إذا لم يذكر الوثق في الوثيقة المعرفة ولا التعريف، فظاهر كلام المتيطي أن ذلك لا يقدح في شهادته، ومقتضى كلام ابن سهل وابن فتوح أن ذلك. يبطلها. وقال ابن عرفة: الظاهر أن الشاهد إن كان معلوم الضبط والتحفظ قبلت شهادته وإن لم يذكر معرفة ولا تعريفا، وإلا ردت إلا أن تكون على مشهور معروف كالرؤساء. اهـ. فهي أقوال ثلاثة. انظر الفائق. نقله البناني. وقد مر هذا واللَّه تعالى أعلم. ومحل هذه الأقوال إذا تعذر سؤال الشاهد لموته أو غيبته وإلا سئل عما أجمله، فإن بين ما تصح به شهادته صحت وإلا ألغيت، ولا يشترط التبريز لأنه تفسير المجمل لأمن الزيادة والنقص. وقوله: إلا أن تكون على مشهور معروف مثله من هو ساكن مع الشاهد في محل واحد قد طال سكناهما واجتماعهما في ناديهم ومسجدهم وسوقهم ومسارحهم ومزارعهم وغير ذلك مما يوجب الجزم بصرفته إياه. قاله الرهوني.
الثالث: قال في نوازل ابن رشد في مسائل الشهادات في رجل شهد على امرأة أنها أوصت لأخيها لأمها بثلثها: وأدى الشهادة على ذلك وقطع بمعرفتها، ثم شهد عليه شاهدان أنه أقر عندهما بعد أداء الشهادة أن هذه المرأة لم يكن يعرفها قبل ذلك الإشهاد ولا رآها قط، وإنما عيَّنتها له في
حين ذلك الإشهاد امرأة وثق بها، فهل ذلك مسقط لشهادته في هذه النازلة خاصة ويكون كالرجوع عن الشهادة، أم تراه إقرارا منه على نفسه بتعمد الكذب فتكون جرحة فتسقط شهادته، في ذلك وفي غيره؟ فأجاب: شهادته عاملة إذا كان هو ابتدأ سؤال المرأة؛ لأن ذلك من ناحية قبول خبر الواحد، وأما إذا لم يبتدئ هو بسؤالها وإنما قالت له ذلك ابتداء على سبيل الشهادة عنده بذلك، مثل أن تكون المرأة التي أشهدته على نفسها بما أوصت به قد أتته بامرأة يعرفها فتقول له هذه فلانة تعرف أني فلانة بنت فلان تعرفك بذلك، فلا يجوز له أن يشهد عليها بتعيين المرأة إياها على هذا الوجه وإن كانت عنده ثقة، فإن جهل وشهد سقطت شهادته عليها ولم يكن ذلك جرحة تسقط شَهَادَتَهُ فيما سوى ذلك. انتهى. نقله الحطاب وغيره.
لا بشاهدين معناه على ما لمصطفى والبناني أن المشهود له إذا أتاه بشاهدين ليشهد له على المرأة بشهادتهما عنده أنها فلانة، فإنه لا يشهد عليها وإن حصل له العلم أي الثقة بشهادتهما، ومعناه على ما لأبي علي أنه لا يشهد عليها بتعريف شاهدين لها، وإن حصل له العلم يتعريفهما لأن توقفهما عن الشهادة على من عرفاه مع صحة شهادتهما وحضورهما فيه تهمة وريبة، ومعناه على ما لغير واحد من الشراح لا بشاهدين لم يحصل بهما العلم. واللَّه تعالى أعلم. والظاهر ما للرماصي والبناني. واللَّه تعالى أعلم.
إلا نقلا معناه على تفسيرات المص الثلاثة واضح أي لا يشهد على شهادة الشاهدين إلا على طريق النقل الآتي في قوله: "كاشهد على شهادتي" لخ فلا بد من انضمام شاهد آخر إليه، وأن يقولا اشهد على شهادتنا وغير ذلك. قال عبد الباقي: وهذا حيث شاركاه في علم ما يشهد به، وإلا فلا يتصور نقله عنهما. اهـ. ثم أخذ يتكلم على شهادة السماع فقال: وجازت بسماع فشا عن ثقات وغيرهم يعني أنه تجوز شهادة السماع بشرط أن يكون السماع فاشيا أي سائرا في الناس عن العدول وغيرهم، ولا بد أن تقول البينة إذا تؤدي لم نزل نسمع من الثقات وغيرهم كذا. انظر الخرشي. وقال عبد الباقي: وجازت بسماع أي أذن فيها، إذ قد تجب فشا عن ثقات وغيرهم أي يعتمدون على ذلك في شهادتهم وإن لم ينطقوا به، بل قالوا: لم نزل نسمع أن هذه الدار حبس أو ملك فلان كما في المدونة، فإن نطقوا فزيادة بيان، واختلف في اعتمادهم على ذلك أو
نطقهم به هل لا بد من الجمع بين الثقات وغيرهم، وعليه أبو الحسن على المدونة. المتيطي: وبه العمل ونحوه لابن فتوح، أو يكتفى بأحدهما؟ وهو قول ابن القاسم وهو الأشهر، وعليه فالواو في قوله:"وغيرهم" لمنع الخلوِّ لا لمنع الجمع، وإنما جازت شهادة السماع للضرورة وإن كانت على خلاف الأصل؛ إذ الأصل أن الانسان لا يشهد إلا بما تدركه حواسه. قاله أبو الحسن.
وقوله: "بسماع" متعلق "بجازت"، ويمكن أن يتعلق بضمير جازت العائد على الشهادة بناء على جواز إعمال المصدر مضمرا، أو الباء بمعنى عن متعلق بمحذوف أي وجازت الشهادة الناشئة عن سماع ولا تقل، وجازت شهادة السماع بالسماع ليلا يكون في الكلام ركاكة. انتهى. قوله: واختلف في اعتمادهم على ذلك ونطقهم به لخ، الذي يفيده كلام الأئمة أن الخلاف إنما هو في النطق كما يدل عليه ما يأتي، وقوله: أو يُكتفى بأحدهما وهو الأشهر، تبع الحطاب فإنه قال: ظاهر كلام المواق أنه لا بد من الثقات وغيرهم، وهذا قول ذكره في التوضيح عن بعضهم ومذهب المدونة، خلافه ويحتمل أن يكون مراد المص أنه يشترط فيها أن يكون السماع فاشيا، سواء كان عن الثقات أو غيرهم وهذا هو الراجح. انتهى.
ثم قال: فيحمل كلام المص على المحمل الثاني ليكون موافقا لظاهر المدونة كما قال المازري، وعلى هذا عول العبدوسي في قصيدته وفيه نظر، بل الجمع بين الثقات وغيرهم كما هو ظاهر المص هو الذي اعتمده الباجي؛ إذ قال: شهادة السماع أن يقولوا: سمعنا سماعا فاشيا من العدول وغيرهم وإلا لم تصح، ونحوه لابن سهل وابن سلمون وابن فتوح قائلا: شهادة السماع لا تكمل إلا أن يضمن فيها أهل العدل وغيرهم، على هذا مضى عمل الناس ونقله ابن عرفة وأقره، قال مصطفى بعد ما ذكر: فعلم أن عدم اشتراط العدالة لا مستند له إلا ما يؤخذ من ظاهر المدونة وغيرها، وقد قيدها أبو الحسن بقول محمد والمتيطي: صرح بأنه إذا لم يَجْمَع بين الأمرين لم تصح وبه العمل. انتهى. وبه صدر ابن شاس. قال ابن رحال في حاشية التحفة: الذي به العمل أنه لابد من الجمع بين الكلمتين. انتهى. ولم يعرف المؤلف شهادة السماع وعرفها ابن عرفة
بقوله: شهادة السماع لقب لما يصرح الشاهد فيه بإسناد شهادته لسماع من غير معين، فتخرج شهادة البت والنقل. انتهى.
وقوله: "ثقات" هو بثاء مثلثة، قال في المصباح: وثقت به أثق بكسرهما ثقة ووثوقا: اطمأننت إليه وأمنته، وهو وهي وهما وهم وهن ثقة لأنه مصدر، وقد يجمع في الذكور والإناث فيقال: ثقات كما يقال عداة قاله الرهوني وقال في التبصرة قال ابن رشد شهادة السماع لها ثلاث مراتب المرتبة الأولى تفيد العلم وهي المُعَبَّرُ عنها بالتواتر كالسماع بأن مكة موجودة ومصر ونحو ذلك فهذه إذا حصلت كانت بمنزلة الشهادة بالرؤية وغيرها مما يفيد العلم. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: شهادة الاستفاضة وهي تفيد ظنا قويا يقرب من القطع وترتفع عن شهادة السماع، مثل أن يشهد أن نافعا مولى ابن عمر وأن عبد الرحمن ابن القاسم فيجوز الاستناد إليها، ومنها إذا رآى الهلال رؤية مستفيضة ورآه الجم الغفير من أهل البلد وشاع أمره فيهم لزم الصوم والفطر من رآه ومن لم يره، وحكمه حكم الخبر المستفيض لا يحتاج فيه إلى شهادة عند الحاكم ولا إلى تعديل. المرتبة الثَّالِثة: شهادة السماع وهي التي يقصد الفقهاءُ الكلام عليها. اهـ المراد منه. وهي التي عرفها ابن عرفة بما مر. الخرشي: قال الباجي: شرط شهادة السماع أن يقولوا: سمعنا سماعا فاشيا من أهل العدل وغيرهم وإلا لم تصح. قاله ابن حبيب عن الأخوين. وقال محمد: ولا يسموا من سمعوا منه، فإن سموه خرجوا عن شهادة السماع إلى النقل. قاله ابن القاسم وأصبغ. اهـ. واعلم أن شهادة السماع يحتمل الأمر فيها أن تكون عن واحد غير عدل، لكن أجيزت للضرورة واللَّه تعالى أعلم.
انظر ما يأتي عند قول المص: "وحلف"
بملك هذا شروع منه رحمه الله في المواضع التي تجوز فيها شهادة السماع؛ يعني أن شهادة السماع تجوز ويعمل بها في الملك، فقوله:"بملك" الباء بمعنى: في، وهو متعلق بجازت أي وجازت شهادة السماع في الملك، لحائز يعني أنه إنما تجوز شهادة السماع بالملك لمن هو حائز للشيء المتنازع فيه المشهود بملكيته، وَهُنَا بَحْثٌ وهو أن يقال: إن كانت دعوى القائم مجردة فالحوز كاف من غير احتياج إلى بينة سماع، فما الذي أفادته شهادة السامع للحائز؟ وأجيب بأنه تظهر لذلك فائدة في رب الدين إذا أراد أن يبيع دار مدينه الغائب، ويثبت بها الملك لغير
الحائز في صورتين: إحداهما إذا كانت الأرض عفا على أحد القولين، الثَّانِيَةُ إذا كان الحائز من أهل الغصب فحوزه كلا حوز كما في ابن سلمون.
متصرف يعني أن هذا الحائز الذي شهدت له بينة السماع بالملك لا بد في استحقاقه لذلك الشيء من التصرف فيه، قال عبد الباقي: متصرف بهدم وقلع شجر وغرس وزرع عشرة أشهر من غير منازع، بل تصرفا لا يفعله إلا المالك. وأما قوله: طويلا فمتعلق بحائز كأربعين سنة وعشرين على ما يأتي قريبا، وأما تصرفه بالهدم والبناء من غير منازع فيكفي أن يكون عشرة أشهر كما مر من مدة العشرين سنة والأربعين لا جميعها. اهـ. قال البناني: قال مصطفى ما محصله: لم أر من اشترط في شهادة السماع التصرف سوى المؤلف في مختصره وتوضيحه نقلا عن الجواهر وهو وهم؛ لأن ما نقله من كلام الجواهر إنما هو في شهادة الملك على القطع، وهو الآتي في قول المص: وصحة الملك بالتصرف لخ وأما شهادة السماع بالملك فقد نبه عليها ولم يشترط فيها التصرف، وإنما اشترط فيها الحوز فقط وكذا في المدونة وابن يونس والمالكية مطبقون على التعبير بأن لا ينزع بها من يد حائز، وإنما تجوز للحائز ولم يقولوا للمتصرف وذلك ظاهر لمن أنصف وعرف الحق من نفسه لا بالرجال، والعجب من الحطاب والشارح والمواق وغيرهم كيف تواطئوا على نقل كلام الجواهر تقليدا 4 للتوضيح، ولم ينتبهوا لما قلنا مع وضوحه؟ وتبعهم الأجهوري. وفسروا طول الحيازة الواقع في كلام الجواهر بعشرة أشهر، ولا شك أنه مراد صاحب الجواهر لكن في الشهادة بالملك على البت كما يأتي في نص المؤلف، وأما هنا فلا يتأتى مع شرط طول الزمن كالعشرين بل كالخمسين والستين كما في المدونة والموازية ما هذا إلا تهافت، والعذر للمص أن صاحب الجواهر تكلم على الشهادة بالملك على البت أثناء شهادة السماع، فتوهم أن ذلك من جملة شهادة السماع فوقع فيما وقع والكمال للَّه تعالى. انتهى باختصار.
قلت: ووقع لابن مرزوق أنه قرر كلام المصنف على ظاهره، واحتج له بقول المازري: مما تقبل فيه شهادة السماع الشهادة بالملك المطلق، فإن الملك لا يكاد يقطع به، قال: ويعتمد الشاهد في شهادته بذلك على وضع اليد عليه والتَّصَرف فيه تصرف المالك في ملكه ونسبته مع ذلك لنفسه
وعدم المنازع وطول الحيازة ونحوه في النوادر. اهـ. وهو وَهَم أيضا من ابن مرزوق في كلام المازري، فإن قوله: ويعتمد إلى آخره إنما هو في شهادة القطع بالملك لا السماع. اهـ. وقال الخرشي: ثم إن قوله: "طويلا" معمول لحائز حذف موصوفه أي حوزا طويلا والطول كعشرة أشهر. انتهى.
وقدمت بينة الملك قال الخرشي يعني أن البينة التي شهدت بالملك بتا تقدم على من شهدت بالملك سماعا، كان هناك حوز أم لا، فالمراد بالملك الحقيقيُّ وهو ما شهدت به بينة البت، وإلا فالبينتان شهدتا بالملك لا أن إحداهما شهدت بالملك والأخرى شهدت بالحوز. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وإن شهدت بينة بالملك لدار بَتًا لشخص [وشهدت]
(1)
أخرى سماعا لآخر قدمت بينة الملك بتا على بينته سماعا.
إلا بسماع أي إلا أن تشهد بينة السماع أنه اشْتَرَاهَا أي الذات المنازع فيها، أووهبت له مثلا من كأبي القائم أوجده فتقدم؛ لأنها ناقلة على البينة القاطعة لأنها مستصحبة، وهذا ما لم يكن من شهدت له بينة الملك حائزا للمتنازع فيه، وإلا قدمت بينته على بينة السماع الناقلة لأنها لا ينزع بها من يد حائز. وعلم مما قررنا أن البينتين شهدتا بالملك لا أن إحداهما بالملك والأخرى بالحوز كما فهم التتائي ومن تبعه. اهـ. وقوله:"القائم" أي القائم على من شهدت له بينة السماع بالشيء المدعى فيه والقائم هو المنازع. وقال الخرشي: وقدمت بينة الملك إلا أن تشهد بينة السماع أن الشيء المتنازع فيه اشتراه من جد أو أبي هذا الذي شهد له بالملك بتا، فيقدم حينئذ بينته على بينة البت لأنها ناقلة، ولا مفهوم للشراء بل الهبة والصدقة ونحوهما كذلك. وقوله:"إلا بسماع" أنه اشتراها من كأبي القائم ما لم يكن من شهدت له بينة الملك حائزا للمتنازع فيه وإلا قدمت بينته على بينة السماع الناقلة؛ لأنه لا ينزع بها من يد حائز. اهـ المراد منه.
وفي المواق: قال ابن رشد: الذي مضى عليه العمل فيما أدركنا وأفتى به شيوخنا فيما علمنا أن من ادعى عقارا بيد غيره، وزعم أنه صار إليه ممن ورثه عنه أن المطلوب لا يسأل عن شيء حتى يثبت الطالب موت موروثه الذي ادعى أنه ورث ذلك العقار عنه ووراثته له، فإذا ثبت ذلك
(1)
في الأصل وشهد، والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 188.
وقف المطلوب حينئذ على الإقرار أو الإنكار خاصة ولم يسأل من أين صار له، فإن أنكر وقال الملك ملكي اكتفي منه بذلك ولم يلزمه أكثر من ذلك، وكلف الطالب إثبات الملك الذي زعم أنه ورثه عنه وإثبات موته ووراثته له، فإن أثبت ذلك على ما يجب من صحة شروطه سئل المطلوب حينئذ من أين صار إليه وكلف الجواب على ذلك، فإن ادعى أنه صار إليه من غير موروث الطالب الذي أثبت الملك لم يلتفت إليه، وإن ادعى أنه صار إليه من قبل موروث الطالب بوجه يذكره كلف إثبات ذلك، فإن أثبته وعجز الطالب عن الدفع في ذلك بطل دعواه، وإن عجز عن إثبات ذلك قضي عليه للطالب. هذا مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، ولا خلاف في ذلك أحفظه. اهـ
وفي الرهوني أن مسألة ابن رشد هذه لا تتناول مسألة من قام مدعيا على غيره أن هذا الذي بيدك مالي وملكي ورثته عن أبي مثلا، وكان بيدي فتعديت أنت عليه فيه وأخذته من يدي تعديا أي فلا يكلف بإثبات الموت وعدد الورثة، بل يكلف المدعى عليه في هذه بالجواب بالإقرار أو الإنكار كما قال الأبي في مسألة الحضرمي والكندي المذكورة في صحيح مسلم، ففيه عن علقمة بن وائل عن أبيه، قال: (جاء رجل من حضر موت ورجل من كندة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول اللَّه إن هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرض في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: (ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه
(1)
)، قال: يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي ما حلف وليس يتورع من شيء، فقال: ليس لك منه إلا ذلك فانطلق ليحلف، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا أدبر: (أما إن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقينَّ اللَّه عز وجل وهو عنه معرض
(2)
)، قال الأبي: لم يكن على الحضرمي إثبات الوفاة، فإنه قال: غلبني على أرض لي كانت لأبي فهو إنما ادعى
(1)
مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث 139.
(2)
مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث 139.
أنه غصب منه أرضا صارت له من أبيه، وإنما يكلف إثبات الوفاة إذا ادعى أن الذي بيد الغير صار له عن أبيه.
قال الرهوني: من تأمل القضيتين وجدهما متفقتين في المعنى، إذ لا فرق بين قول الحضرمي من أرض لي كانت لأبي، وبين قول ذلك تملكها مولاي التهامي وتركها لولده [مولاي]
(1)
عبد الكريم، فملكها بعده عشرين سنة وبقيت بيد وارثه حتى ترامى عليها المدعى عليه على وجه الظلم. اهـ. والمدعي في هذه أثبت موت أبيه وعدد ورثته وملكيته للمدعى فيه وتركه لورثته، وأنه بقي على ملكهم إلى أن تعدى عليه المدعى فيه، وخالف ما مر بعض الحكام فلم يقنع منه بذلك فكلفه إثبات موت جده وعدد ورثته وملكيته لذلك، واستمرارها إلى أن مات، وبالغ الرهوني في إبطال ما فعل هذا البعض بما يعلم بالوقوف عليه. واللَّه تعالى أعلم.
تنبيه: قال الرهوني: قَوْلُ ابن رشد فإن ادعى أنه صار إليه من غير موروث الطالب الذي ثبت له الملك لم يلتفت إليه غير مسلم قطعا، بل الحق أن يقال للمطلوب إذ ذاك أثبت الملك لك أو لمن ادعيت أنه صار إليك منه، فإن لم يثبت شيئا قضي للطالب وإن أثبته نظر في الحجتين، فإن رجحت بينة الطالب فكذلك، وإن رجحت بينة المطلوب قضي له، وإن تعذر ترجيح سقطتا وبقي بيد حائزه مع يمينه، وهذا أمر ظاهر لا يخفى على من دون ابن رشد ولكن وقعت الغفلة منه ومن الناقلين لكلامه وإن كثروا وجل قدرهم. والكمال للَّه تعالى. اهـ.
ووقف عطف على قوله: "بملك" يعني أن شهادة السماع يثبت بها وقفية الشيء لمن هو بيده. قال الحطاب: ووقف أي لحائز كما قاله في التوضيح وغيره، ولا يشترط فيها تسمية المحبس ولا إثبات ملكه بخلاف ما لو شهدا على الحبس بالقطع فإنه لا يثبت الحبس حتى يشهدا بالملك للمحبس. قاله في التوضيح. قال ابن سهل في أحكامه الصُّغرى والكبرى كيفية الشهادة بالسماع في الأحباس أن يشهد الشاهد أنه يعرف الدار التي بموضع كذا وَحَدُّهَا كذا، وأنه لم يزل يسمع منذ أربعين سنة أو عشرين عاما متقدمة لتاريخ شهادته هذه سماعا فاشيا مستفيضا من أهل العدل
(1)
في الأصل مولا والمثبت من الرهوني ج 7 ص 453.
وغيرهم أن هذه الدار أو هذا الملك حبس على مسجد كذا أو على المرضى بحاضرة كذا أو على فلان وعقبه، أو حبس لا غير وأنها كانت محترمة بحرمة الأحباس وتحوزنها
(1)
بالوقوف والتعيين لها، فإذا أديت هكذا وكان الشهود بها شاهدين فصاعدا حكم بها بعد حيازة الشهود بتحبيسه والإعذار إلى من يتعرض فيه ويدعيه. قال ابن القاسم في سماع عيسى في حبس العتبية: إذا شهد رجلان أنهما كانا يسمعان أن هذه الدار حبس جازت شهادتهما وكانت حبسا على المساكين إن كان لم يسم أحدا. اهـ.
وفي الرهوني: وقد أطبقت كلمة الأئمة على أنه لا ينزع بها من يد حائز، وبهذا تعلم أن التردد الذي في شرح عبد الباقي حذفه هو الصواب، وأن الصواب الجزم بما جزم به التوضيح والشارح في شرحه وشامله واللخمي وغيرهم كما فعل الحطاب، وعلى التقييد يعني أنه لا ينزع بها من يد حائز، عول الشيخ ميارة في شرح التحفة وسلمه أبو علي في حاشيته ونص اللخمي في تبصرته، وكذلك الشهادة على الحبس تصح لمن ذلك الربع بيده ولا ينزع بها من يد ويوخذ بها ما ليس عليه يد. اهـ. وقد قال ابن فرحون في تبصرته: إنما تجوز شهادة السماع الذي هي بيده حائزا لها مع تقادم العهد ومضي الزمان، ولا تسمع شهادة السماع إذا قام بها من ليس الربع في يديه، يريد إخراج ذلك من يد حائزه على المشهور، واختلف هل يؤخذ بها ما ليس عليه يد كعفو الأرض. اهـ. واعترض ابن عرفة ما مر عن الحطاب من أن شهادة السماع بالوقف لا يشترط فيها إثبات الملك للحبس، وقد أشار إلى البحث مع ابن عرفة. ابن غازي: وصرح بذلك أبو علي فقال: بَيَّنَّا أن الراجح هو ما اعترضه ابن عرفة. اهـ. وقال الخرشي: قال بعض الأندلسيين: لو شهدوا على أصل الحبس بعينه لم يكن حبسا حتى يشهدوا بالملك للمحبس يوم التحبيس، ولو شهدوا بالسماع جازت ولا يسمون المحبس ولا يحتاجون إلى إثبات الملك. اهـ من اختصار البرزلي. ونحوه في الحطاب، قوله: حتى يشهدوا بالملك أو تشهد بينة أخرى بذلك. اهـ.
(1)
كذا في الأصل.
وَمَوْتٍ ببُعْدٍ يعني أن شهادة السماع على الموت جائزة فيما بعد من البلاد إن قصر زمن السماع وأما البلاد القريبة أو في بلد الموت فإنما تكون الشهادة على البت ومثله لو طال زمن السماع، به فلا تشهد إلا بالبت لا بالسماع. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وعمل بشهادة سماع على موت لشخص إذا مات ببعد أي ببلد ذي بعد كأربعين يوما كبرقة من تونس. انتهى. إن لم يطل الزمن. قال عبد الباقي: وجهل موضعه كبعده فيما يظهر لا في مكان قريب ولا في بلد موته، فلا بد من الشهادة بالقطع فيهما كالطول في الزمان كان ببلده أو بغيره.
إن طال الزمن يعني أنه يشترط في شهادة السماع أن يطول زمن السماع كأربعين سنة على ظاهر المدونة أو عشرين سنة وهو لابن القاسم وبه العمل بقرطبة، لا دون ذلك فلا تكفي شهادة السماع بل لابد من القطع. قال عبد الباقي: إلا أن تكون بضرر الزوجين فيثبت بها وإن لم تطل المدة كما في شرح ابن عاصم، ثم هذا الشرط في المص شرط في غير الموت، وأما الموت فطول الزمان فيه مبطل لشهادة السماع، ولا بد حينئذ من الشهادة على البت. اهـ. ويعمل بشهادة السماع في الرهن كما في الحطاب، ولا يعمل بها في تقدم موت شخص على آخر كما في البرزلي اهـ يعني أنه ليس من محل شهادة السماع أصلا كما في الرهوني. وقال البناني: إن طال الزمان مثله لابن الحاجب فحمله ابن عبد السلام على إطلاقه وتبعه في التوضيح، وأما ابن هارون فاعترضه بأن طول الزمن ليس شرطا في جميع الأفراد بل في الأملاك والأشرية والأحباس والأنكحة والصدقة والولاء والنسب والحيازة، قال: وأما الموت فيشترط فيه تناءي البلدان أو طول الزمان، واعتمد ابن عرفة كلام ابن هارون في حصره وتبعه ابن غازي، واختار ابن عرفة في شهادة السماع في الموت بُعد البلدان وقرب الزمن، قائلا: إذا بعد الزمن يمكن بت الشهادة بفشو الأخبار، فلا تجوز شهادة السماع بقرب البلد. اهـ. وعليه قرره الزرقاني، وقال الخرشي: والمؤلف تابع لقول ابن الحاجب، وتجوز شهادة السماع الفاشي عن الثقات في الملك والوقف والموت للضرورة بشرط طول الزمان وانتفاء الريبة، وقد قال ابن عرفة: حمله ابن عبد السلام على إطلاقه، وليس على إطلاقه إنما هو في الملك والوقف والصدقة والأشرية القديمة والنكاح والولاء والنسب والحيازة جيمع ذلك يشترط فيه طول الزمان: وأما الموت فمقتضى الروايات والأقوال أن شهادة السماع القاصرة عن شهادة البت
يشترط فيها كون المشهود به بحيث لا يدرك بالقطع والبت به عادة، فإن أمكن عادة البت لم تجز فيه شهادة السماع. اهـ المراد منه.
وقال الشبراخيتي: واختلف في حد الطول، فقيل أربعون سنة. قاله في المفيد. ابن زرقون: وهو ظاهر المدونة، وعن ابن القاسم: عشرون سنة. ابن رشد: وبه العمل بقرطبة، وقيل خمسة عشر وإليه ذهب مطرف وابن الماجشون وأصبغ، وقيل: هي طول في الوباء دون غيره. اهـ. وقوله: إن طال الزمان يعني طولا لا يظن معه فناء الشهود الذين عاينوا القضية؛ لأن شهادة السماع الأصل فيها أن لا تقبل لأنها شهادة بما لم يعاين الشاهد، فهي خلاف قوله تعالى:{وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} ، وإنما قبلت للضرورة. قاله ابن مرزوق. وقال: ونقل التونسي أن الخمسة عشر إن كان وباء فطول وإلا فلا. اهـ.
واعلم أن المص ذكر لشهادة السماع أربعة شروط، أحدها طول الزمن، ثانيها أشار إليه بقوله: بلا ريبة يعني أنه يشترط في شهادة السماع انتفاء الريبة، قال ابن القاسم: إن شهد رجلان على السماع وفي القبيل مائة رجل من أسنانهم لا يعرفون شيئا من ذلك، فلا تقبل شهادتهم إلا بأمر يفشو ويشهد عليه أكثر من اثنين. قاله ابن مرزوق. وقال عبد الباقي: بلا ريبة كشهادة اثنين على السماع وليس في البلد مثلهما سنا بموت شخص، فإن وجدت ريبة كوجود مشاركهما سنا في البلد من جم غفير ولم يعلموا بموته لم تقبل شهادتهما للتهمة. انتهى. قوله: ولم يعلموا صوابه لم يسمعوا. قاله الرهوني. وتمثيله بالموت جار على إعمال شهادة السماع فيه مع بعد الزمن كما يقول ابن هارون وكما هو ظاهر المص تبعا لابن الحاجب، وهو خلاف ما اختاره ابن عرفة، وخلاف ما قرر به عبد الباقي قوله:"وموت يبُعْدٍ".
ثَالِثُهَا أشار إليه بقوله: وحلف يعني أنه يشترط في إعمال شهادة السماع أيضا أن يحلف المشهود له على ما ادعى لأن هذه الشهادة ضعيفة، وعلل ابن محرز الحلف بقوله: إذ لعل أصل السماع كان شاهدا واحدا. اهـ. قال شارح العاصمية: لا يخلو تعليل ابن محرز عن بحث لأنه يعود إلى أصل شهادة السماع بالإبطال؛ لأنها كما يحتمل أن تكون عن واحد فيحتمل أن يكون الواحد
غير عدل وشهادة غير العدل لا توجب حكما لا بيمين ولا بدونها. قاله الخرشي. وقال التتائي: وظاهرها لا يمين على الحائز القائم بشهادة السماع. اهـ.
رابعها أشار إليه بقوله: وشهد اثنان يعني أنه لا بد في شهادة السماع من اثنين ذكرين، قال الشبراخيتي: لما كانت شهادة السماع خاصة بالذكور ولا مدخل للإناث فيها عبر المص بما هو خاص بمثنى الذكور وهو اثنان. اهـ. وقال الخرشي: ومنها يعني من شروطها أن يشهد بالسماع اثنان ويكتفى بهما على المشهور. عبد الملك: لا بد من أربعة. ابن القاسم: إن شهد شاهد واحد على السماع لم يقض له بالمال وإن حلف، لأن السماع نقل ولا يجوز شهادة واحد على شهادة غيره، ومر في الخلع:"وبيمينها مع شاهد" أي ولو شاهد سماع كما ذكره ابن عبد السلام، لكن ذكر في الشامل أن في رد المال بشهادة الواحد بالسماع مع اليمين قولين من غير ترجيح، ولا كانت شهادة السماع لا مدخل للإناث فيها عبر المؤلف بما هو خاص بمثنى الذكور. اهـ. وقال عبد الباقي: وشهد اثنان عدلان فأكثر لا واحد بها فلا يقضى بالمال، وإن حلف مقيمه لأن السماع نقل شهادة ولا يكفي فيه واحد إلى آخر ما مر، ثم قال: وبقي عليه شرط خامس وهو أن يكون الشاهدان بالسماع ذكرين فلا تقبل فيه شهادة النساء، وربما يشعر به إتيانه بمثنى الذكر. انتهى.
كعزل هذه واحدة من عشرين ذكرها المص تقبل فيها شهادة السماع، يعني أن العزل لقاض أو وكيل مثلا يثبت بشهادة السماع، قال عبد الباقي: كعزل لقاض أو وكيل أي تقول لم نزل نسمع من الثقات وغيرهم أنه عزل. اهـ. وقال الشبراخيتي: كعزل لقاض أو أمير أو وكيل وهو مشبه في إفادة السماع لا بقيد الطول. اهـ. وهو صريح في أن العزل يثبت بشهادة السماع وإن لم يطل زمن السماع، خلاف ما يعطيه ظاهر المص. واللَّه تعالى أعلم. وجرح يعني أن التجريح للشهود يثبت بشهادة السماع، قال الشبراخيتي: وجرح أي تجريح بأن يقولا لم نزل نسمع من الثقات وغيرهم أنه مجرح: وكذا ما يكون به التجريح كشرب ولو قالا لم نزل نسمع من الثقات وغيرهم أنه زنى
ثبت بذلك كونه مجرحا، ولا [يكونان قاذفين].
(1)
انظر الزرقاني. اهـ. وقال عبد الباقي: وجرح أي تجريح بمعين أم لا كلم نزل نسمع من الثقات وغيرهم أنه يشرب الخمر أو مجرح ولا يكونان قاذفين. انتهى.
وكفر يعني أن الكفر يثبت بشهادة السماع، سواء كان أصليا أو ارتدادا. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي: وكفر لعين، وقال الخرشي: بأن يشهدوا بالسماع الفاشي بكفر فلان. اهـ. وقال ابن مرزوق: أي سماع أن فلانا متصف بالكفر. وسفه يعني أن السفه لمعين يثبت بشهادة السماع بأن يشهدوا بالسماع الفاشي أن فلانا متصف بالسفه. قال الخرشي: بأن يشهدوا بالسماع الفاشي بسفه فلان. ونكاح يعني أن النكاح يثبت بشهادة السماع بأن يشهدوا بالسماع الفاشي أن فلانا تزوج فلانة، قال الخرشي: ومنها النكاح بأن يشهدوا بالسماع الفاشي بالنكاح بين الزوجين إذا أنكره أحدهما. انتهى. ونحوه لعبد الباقي. قوله: "أنكره أحدهما"، قال البناني: فيه نظر، وفي التوضيح: قال أبو عمران: يشترط في شهادة السماع على النكاح أن يكون الزوجان متفقين عليه، وأما إذا أنكره أحدهما فلا. اهـ. ولم يزد عليه فظاهره أنه المذهب. وقال الشيخ ميارة في شرح التحفة: شرط السماع في النكاح أن تكون المرأة تحت حجاب الزوج
(2)
يحتاج إلى إثبات الزوجية أو يموت أحدهما فيطلب الحي الميراث، فلو لم تكن في عصمة رجل فأثبت رجل بالسماع أنها زوجته لم يستوجب البناء عليها بذلك، لأن السماع إنما ينفع مع الحيازة ولاحتمال كون أصل السماع من واحد وهو لا يجوز به. قاله أبو عبد الله بن الحاج. اهـ. لكن قال ابن رحال في حاشيته: ظاهر النقل خلافُ ما قاله أبو عمران وابن الحاج. اهـ. وهو في عهدته، فانظره. واللَّه أعلم. اهـ.
قال الرهوني: لا عهدة عليه، لقول ابن هارون في اختصار المتيطية: وإذا ادعى رجل نكاح امرأة أو ادعت عليه لم تجب اليمين على المنكر منهما، وكذا لو أقام المدعي شاهدا ثم قال بعد كلام:
(1)
في الأصل يكونا قادمين والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 189.
(2)
في شرح ميارة ج 1 ص 134: حجاب الزوج فيحتاج.
فإن أتى المدعي منهما ببينة السماع الفاشي على النكاح واشتهاره بالدف والدخان ثبت على المشهور وبه العمل، وقال أبو عمران: إنما تجوز شهادة السماع بالنكاح إذا اتفق الزوجان عليه، وأما إن ادعاد أحدهما وأنكره الآخر فلا. اهـ. ونحوه نقل أبو حفص الفاسي في شرح التحفة عن المتيطي. فتأمله. واللَّه أعلم. قاله الرهوني. فصح ما قاله الخرشي وعبد الباقي. واللَّه تعالى أعلم. وضدها يعني أن شهادة السماع يعمل بها في ضد هذه المذكورات، فضد العزل التولية وضد الجرح التعديل وضد الكفر الإسلام وضد السفه الرشد وضد النكاح الطلاق، قال عبد الباقي: وضدها أي المذكورات كشهادتهما سماعا بتولية معين أو بتعديله أو بإسلامه أو برشده أو بطلاق زوجته. اهـ. وقال الخرشي: وَمِنْهَا ضد ما تقدم بأن يشهدوا بالسماع الفاشي بعزل فلان أو بتعديله أو بإسلامه أو برشده أو بطلاق زوجته. اهـ. ونحوه للشبراخيتي، وبالغ على ضد النكاح بقوله: وإن بخلع لشبهه بالبيع. قاله التتائي. وفيه نظر لأن البيع يثبت بالسماع بل المبالغة لرد قول من قال: الخلع لا تكون فيه شهادة السماع، وإن كان قولا ضعيفا وخارج المذهب. انظر الخرشي. يعني أن الخلع يثبت بشهادة السماع، بأن قالوا: لم نزل نسمع أنه خالعها فيثبت الطلاق لا دفع العوض. قاله عبد الباقي. وقال: وكذا شهادتهما بالبيع والنكاح يثبت العقد لا دفع الثمن ولا نقد الصداق. وقال التتائي: وشهادة السماع على النكاح أن يدعيه أحد الزوجين وينكره الآخر فيقبل السماع فيه للمدعي على المشهور المعمول به مع اشتهاره بالدف والدخان كما قدمه المص، وقاله ابن فرحون في تبصرته. وقال أبو عمران: إنما يجوز له إذا اتفق الزوجان على ذلك، وأما مع إنكار أحدهما فلا، وشهر هذا في الشامل فقال: ونكاح اتفق عليه الزوجان وإلا فلا على المشهور، ويدخل في النكاح بناء المحلل كما قاله ابن رشد، وأشعر قوله: نكاح بأن نقد الصداق لا يثبت بالسماع وهو كذلك ذكره فضل في وثائقه، وعن ابن مغيث إعمالها فيه والأول أصح ذكره ابن فرحون وغيره. انتهى.
وضرر زوج يعني أن ضرر الزوجين معا أو أحدهما يثبت بشهادة السماع بأن يشهدا بالسماع الفاشي أن فلانا أضر بزوجته بالإساءة عليها من غير ذنب ويطلقها القاضي عليه، وقدم في الخلع ما يترتب على كل لكن تقدم فيه أيضا ورد المال بشهادة سماع على الضرر، وظاهره بغير يمين
وبه صرح ابن عرفة، وظاهر المص هنا أنه بيمين لجعله هنا الحلف من شروطها. قاله عبد الباقي. وهبة يعني أن الهبة تثبت بشهادة السماع بأن يشهدوا بالسماع الفاشي أن فلانا وهب لفلان كذا، ووصية يعني أن الوصية تثبت بالسماع، قال عبد الباقي: ووصية من موص لمعين بكذا أو أنه وصيه أو على معين أنه كان موصى عليه من قبل أبيه يتولى النظر له والإنفاق عليه، أو بتقديم قاض له على المشهود له وإن لم يشهدهم أبوه بالإيصاء ولا القاضي بالتقديم، ولكن علموا ذلك بالاستفاضة من العدول وغيرهم، ويصح بهذه الشهادة تسفيهه كما في نص الكافي. اهـ. قوله: من موص لمعين بكذا أو أنه وصيه: معناه - والله تعالى أعلم - أنه أوصى لزيد بكذا أي بمال، أو أنه جعل زيدا وصيا له أتي شهدوا بالسماع أنه أوصى لزيد بكذا أو أنه جعله وصيا. وقوله: أو على معين لخ أي شهدوا أنهم لم يزالوا يسمعون أن فلانا كان في ولاية فلان يتولى النظر والإنفاق بإيصاء أبيه إليه، وقوله: أو بتقديم قاض أي شهدوا أنهم لم يزالوا يسمعون أن فلانا كان في ولاية فلان بتقديم قاض عليه ويوضح هذا قول التتائي ووصية، قال في التوضيح على أيتام، ونحوُه قول الكافي أن يشهدوا أنهم لم يزالوا يسمعون أن فلانا كان في ولاية فلان يتولى النظر والإنفاق عليه بإيصاء أبيه به إليه، أو بتقديم قاض عليه وإن لم يشهد أبوه بالإيصاء ولا القاضي بالتقديم، ولكن علم ذلك بالاستفاضة من أهل العدل وغيرهم فذلك جائز، وتصح الوصية إذا شهد بذلك شاهدان ويصح بها تسفيهه. ابن رشد: سئل ابن زرب عمن قامت له بينة بعد ثمانين سنة بالسماع على تنفيذ وصية أسندت إليه، فقال: شهادتهم جائزة. اهـ.
وولادة يعني أن الولادة تثبت بشهادة السماع، قال ابن مرزوق: وتجوز أيضا في الولادة أن فلانة امرأة فلان ولدت ذكرا أو أنثى. اهـ. وكذا لو كانت جارية أولدها سيدها ونازعت الورثة في الولادة ونحو ذلك. وحرابة يعني أن الحرابة تثبت بشهادة السماع، قال ابن مرزوق: وتقبل أيضا في الحرابة بأن يسمعوا أن فلانا محارب. اهـ. وقال الشبراخيتي: لا يقال سيأتي في باب الحرابة: "ولو شهد اثنان" أنه المشتهر بها ثبتت وإن لم يعايناها، لأنا نقول ليس هذا من شهادة سماع بالحرابة. اهـ. وإباق يعني أن الإباق يثبت بشهادة السماع، قال ابن مرزوق: وكذا في الإباق
بأن يسمعوا أن عبد فلان أبق، وعدم يعني أن العدم يثبت بشهادة السماع كان المثبت له الغرماء أو المدين. قاله الشبراخيتي. وقال ابن مرزوق: وكذا في العدم أي الإعسار. انتهى. وأسر يعني أن الأسر يثبت بشهادة السماع، قال ابن مرزوق: وكذا في الأسر أي أن فلانا أسره العدو. وعتق يعني أن العتق يثبت بشهادة السماع أي يقولوا: لم نزل نسمع أنه أعتق عبده فلانا وكذا الحرية، قال الحطاب عند قول المص:"وعتق" ما نصه: عَدَّ ابن جزي في المواضع التي تجوز فيها الشهادة بالسماع الفاشي الحرية. واللَّه أعلم. اهـ.
وقال الشبراخيتي: وعتق من جانب المدعي أو المدعى عليه، ومقتضى كلامه هنا أن الولاء يثبت بشهادة السماع، وهو الذي قاله ابن عرفة وهو خلاف ما جزم به فيما يأتي في باب الولاء، وآخر باب العتق من قوله:"وإن شهد واحد بالولاء" وشهد اثنان أنهما لم يزالا يسمعان أنه مولاه أو ابن عمه لم يثبت لكنه يحلف ويأخذ المال بعد الاستيناء، والمشهور ما أفاده كلامه هنا. اهـ. وقال المواق: الكافي: الشهادة على السماع عند مالك وأصحابه جائزة في النسب المشهور وفي الولاء المشهور وفي الأحباس والصدقات التي تقادم أمرها، إذا قال الشهود: لم نزل نسمع أن هذه الدار تحاز حوز الأحباس، وأن فلانا ابن فلان مولى عتاقة ويثبت بذلك النسب، وقال ابن القاسم: لا يثبت بذلك نسب إنما يستحق به المال إلا أن يكون أمرا [مشتهرا]
(1)
، مثل نافع مولى ابن عمر، ابن عرفة: قال ابن القاسم في المدونة: شهادة السماع لا يثبت بها نسب ولا ولاء. اللخمي: ومما يثبت به القسامة السماع المستفيض. انتهى.
ولوث قال الخرشي: ومنها يعني من الأمور التي تثبت بشهادة السماع اللوث بأن يقولوا سمعنا سماعا فاشيا أن فلانا قتل فلانا، فشهادة السماع لَوْثٌ وهو ما يفيده كلام ابن مرزوق والمواق، لا أنها يثبت بها اللوث كما هو ظاهر كلام المؤلف، وحمله الشيخ كريم الدين على ظاهره، فقال: اللوث: اللطخ الشار إليه بقوله في باب الجراح والقسامة: "سببها قتل الحر المسلم في محل اللوث" وصورتها أن يقولوا: لم نزل نسمع من الثقات وغيرهم أن فلانا، قال: دمي عند فلان.
(1)
في الأصل مشتهر والمثبت من المواق ج 8 ص 231 ط دار الكتب العلمية.
اهـ. ويحتاج لنقل يدل عليه. وقوله "كعزل" مشبه في إفادة السماع لا بقيد الطول. اهـ كلام الخرشي. ونحوه لعبد الباقي، وقال: ودخل بالكاف البيع كما مر والنسب والولاء والرضاع والقسامة كما في الشارح، والتشبيه في إفادة السماع في العشرين موضعا لا بقيد الطول، فلذا رتبها بالكاف.
تنبيه: قال البناني: اعلم أن الناس قد اجتهدوا في عد مواضع شهادة السماع، فعدها القاضي أبو عبد الله بن العزفي السبتي إحدى وعشرين، ونظمها وزاد عليه ولده ستة، ونظمها وزاد ابن عبد السلام خمسة. فهذه اثنتان وثلاثون. ونظمها العبدوسي في قصيدة رجزية وذكر ذلك كله ابن غازي، وزاد مسائل أخر ونظمها فانظره، وقد رأيت أن أثبت هنا نظم أبي عبد اللَّه بن مرزوق، فقد نظم أربعين موطنا في سبعة أبيات، ونصها:
فعدل وإسلام ورشد ولاية
…
وأضدادها ثم المقر وواهب
رضاع وقسم نسبة ووصية
…
ولاء وأسر ثم موت ونائب
نكاح وضد ثم خلع عتاقة
…
إباق وتفليس كذاك المحارب
ووقف وبيع طال عهدهما وفي
…
جراح وحمل والفارق راغب
وإضرار زوج ثم لوث قسامة
…
ولادتها طول التصرف غالب
وإنفاق من أوصى ومن هو نائب
…
وتنفيذ إيصاء وعشرون عاقب
وإرث وإيسار فذي أربعون خذ
…
فما رتبة إلا علتها مراتب
وتعقب عليه ابن غازي في التكميل ذكر الجراح قائلا: ما وقفت في الجراح على شيء لغيره، وأما عده الإقرار منه فهو تابع فيه للقرافي في فروقه، وأشار بقوله: طول التصرف غالب وإنفاق من أوصى ومن هو نائب إلى قول الكافي، وجائز أن يشهد أنه لم يزل يسمع أن فلانا كان في ولاية فلان، وأنه كان يتولى النظر له والإنفاق عليه بإيصاء أبيه عليه به أو بتقديم قاض عليه، وإن لم
يشهد أبوه بالإيصاء ولا القاضي بالتقديم، ولكنه علم ذلك كله بالاستفاضة من أهل العدل وغيرهم، ويصح بذلك سفهه إذا شهد معه غيره بمثل شهادته، وفيها بين أصحابنا اختلاف فأطلق ابن مرزوق السبب الذي هو التصرف، والإنفاق على السبب الذي هو التقديم، والإيصاء ومثل ذلك وقع في نظم ابن عرفة فانظره في ابن غازي وقوله: وتنفيذ إيصاء أشار به إلى ما ذكره ابن هشام في مفيده من أن ابن زرب أفتى في وصي قامت له بينة بعد ثلاثين سنة على تنفيذ وصية أسندت إليه بالسماع من أهل العدل والثقة أنها جائزة. انتهى. قال في التكميل: وأما قوله وعشرون عاقب أي متأخر عن تنفيذ الإيصاء، فلعله فهم أن الثلاثين في فتوى ابن زرب وقعت في السؤال، فاعتمد على صريح قول ابن القاسم في إعمال السماع في العشرين. اهـ.
وللقاضي أبي عبد اللَّه بن العزفي:
أيا سائلي عما ينفذ حكمه
…
ويثبت سمعا دون علم بأصله
ففي العزل والتجريح والكفر بعده
…
وفي سفه أو ضد ذلك كله
وفي البيع والأحباس والصدقات والـ
…
ـــرضاع وخلع والنكاح وحله
وفي قسمة أو نسبة وولاية
…
وموت وحمل والمضر بأهله
وَلِوَلَدِهِ:
ومنها هبات والوصية فاعلمن
…
وملك قديم قد يضن بمثله
ومنها ولادات ومنها حرابة
…
ومنها إباق فليضم لشكله
فدونكها عشرين من بعد سبعة
…
تدل على حفظ الفقيه ونُبله
أبي نَظم العشرين من بعد واحد
…
وأتبعته ستا تماما لفعله
نقله التتائي، وقال: قال ابن هارون: واستدرك عليه الملاء والعدم والأسر، وقال اللخمي: تجب القسامة في القتل مع شهادة السماع، فقلت تتميما للمقال ونسجا على المنوال:
وفي اليسر والإعسار سَمْعٌ مقرر
…
وفي الأسر يدوى من يقوم بنقله
أبو الحسن اللخمي قائل يقسمُ
…
ولاة قتيل بالسماع لقتله
وذيلها ابن عبد السلام بقوله:
(1)
وقد زيد فيها الفقر والأسر والملا
…
ولوث وعتق فاظفرن بنقله
فصارت لدى عدٍ ثلاثين أتبعت
…
يثنتين فاطلب نصها في محله
والتحمل إن افتقر إليه فرض كفاية التحمل لغة الالتزام، وفي الشرع: قال ابن عرفة: علم ما يشهد به بسبب اختياري، فيخرج بقوله اختياري ما علمه دون اختياره، كمن قرع سمعه صوت مطلق ونحوه من قول يوجب على قائله حكما، فالمعرض للتكليف به الأول دون الثاني من غير اختيارت فإنه لا يسمى تحملا، ومعنى كلام المص أن تحمل الشهادة عند تعدد من يقوم به إذا افتقر إليه فرض كفاية، ومعنى افتقر إليه أنه يخاف ضياع الحق إن لم تتحمل الشهادة، وفرض الكفاية يسقط بقيام البعض به ويتعين إذا لم يوجد من يقوم به غيره، وفرض الكفاية يتعين بالشروع فيه والضمير المجرور بإلى راجع للتحمل. قال ابن مرزوق: والتحمل إن افتقر إليه فرض كفاية يأثم الجميع إن تركوه ويسقط عنهم الفرض بقيام البعض كسائر فروض الكفاية، وهذا - واللَّه أعلم - لقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ، ولقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، فلولا أنه يجب التحمل على المُسْتَشْهَدِينَ إذا دعوا إليها لما أفاد الأمر بالإشهاد، وأما قوله تعالى:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} ، {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} فيحتمل أن يراد التحمل أو الأداء أو كلاهما. اهـ.
واحترز بقوله: "إن افتقر إليه" عما إذا لم يفتقر إليه، كأن يقول: اشهدوا أني قد زنيت فإنه لا يستحب فضلا عن أن يكون فرض كفاية، وقوله:"إن افتقر إليه" كان المشهود به جائزا أو واجبا أو مندوبا، فإن كان مكروها كان التحمل مكروها أو محرما كان محرما. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: والتحمل للشهادة إن افتقر إليه فرض كفاية لأجل حفظ المال أو غيره؛ إذ لو تركه
(1)
لعل المقصود ذيلها بقوله إنشادا، انظر ابن غازي، شفاء الغليل، مركز نجيبويه، القاهرة 2008، ج 2، ص 1042.
الجميع لضاعت الحقوق وفرض عين إن لم يوجد من يقوم به غيره، وانظر هل يقيد بقوله الآتي "من كبريدين" أم لا؟ وفرض الكفاية يتعين أيضا بالشروع فيه، ويجوز للشاهد أن ينتفع على التحمل الذي هو فرض كفاية دون الأداء كما يذكره، وظاهر قوله: فرض كفاية ولو كان فاسقا إذ قد يحسن حاله وقت الأداء وهو العتبر، واحترز بقوله: افتقر إليه عما لو لم يفتقر إليه فليس فرض كفاية: بل يندب كأن يقول اشهدوا علي أني رأيت الهلال. اهـ. وقوله: ويجوز للشاهد أن ينتفع على التحمل الذي هو فرض كفاية، ظاهره أنه إن تعين لا يجوز له أن ينتفع عليه وليس كذلك. ابن عرفة: وفي جواز أخذ العوض على التحمل خلاف واستمر عمل الناس اليوم وقبله بإفريقية وغيرها على أخذ الأجرة على تحملها بالكتب ممن انتصب لها، قال ابن المناصف: اختلف في كتب الوثيقة بأجرة فأجيز ومنع والكتب واجب على الكفاية، فيجري فيه ما جرى في غيره من واجبات الكفاية، وعلى الجواز فالأولى لمن قدر واستغنى ترك الأخذ وعلى الأخذ تكون الأجرة معلومة مسماة، وتجوز بما اتفقا عليه من قليل وكثير ما لم يكن المكتوب له مضطرا للكاتب، إما لقصر القاضي الكتب عليه لأجل اختصاصه بموجب ذلك، وإما لأنه لم يجد بذلك الموضع غيره فيجب على الكاتب أن لا يطلب فوق ما يستحقه، فإن فعل فهو جرحة وإن لم يسعيا شيئا ففيه نظر، وهو عمل الناس اليوم وهو عندي محمل هبة الثواب، فإن أعطاه أجرة المثل لزمه وإلا كان مخيرا في قبول ما أعطاه وتمسكه بما كتب له إلا أن يتعلق بذلك حق للمكتوب له؛ يعني من تضمن الكتاب شهادة وحق ثبت فيكون فوتا ويجبران على أجرة المثل. وقوله: ظاهر قوله فرض كفاية ولو كان فاسقا لخ فيه نظر؛ لأنه تعريض لضياع الحقوق لأن الغالب رد شهادته، نعم إن لم يوجد سواه ظهر طلب تحمله تأمله. قاله البناني.
وقال الرهوني: قوله: ولو كان فاسقا لخ إذا فقد العدول، فربما يقال هذا وأما مع وجودهم فلا يظهر تأمل. اهـ. وقوله: كأن يقول اشهدوا أني رأيت الهلال لخ تمثيله بهذا لما لم يفتقر إليه غير ظاهر، لأن التحمل قد يكون متعينا لغيبة الرائي أو مرضه مع ترتب حكم شرعي على رؤيته، والأولى أن الذي لا يفتقر إليه مثل أن يقول اشهدوا أني قد زنيت لأن له أن يرجع عن إقراره ولأن الستر مطلوب. اهـ. قاله البناني.
وقال الشبراخيتي: والتحمل للشهادة إن افتقر إليه فرض كفاية عند تعدد من يقوم به لأجل حفظ المال وغيره ولو تركه الجميع لضاعت الحقوق ويسقط بقيام البعض به، ويتعين بما يتعين به فرض الكفاية كأن لم يوجد من يقوم به غيره، وقوله:"إن افتقر إليه" هذا إذا طلبت الشهادة، وانظر لو لم يطلب مع علمه باحتياجه إلى ذلك وينبغي أن يخاطب بذلك. اهـ. وقال الحطاب: قال ابن رشد: من دعي أن يشهد على أمر جائز أو مستحب أو واجب فالإجابة عليه فرض من فروض الكفاية، ومن دعي أن يشهد على مكروه فيكره له أن يشهد عليه، ومن دعي أن يشهد على حرام فلا يحل له أن يشهد عليه. اهـ.
وقال الدماميني في قوله عليه الصلاة السلام: (لا أشهد على جور
(1)
) قال المهلب في الحديث: من الفقه أن الإنسان لا يضع اسمه في وثيقة لا تجوز، ومن العلماء من رآى جوازه بقصد الشهادة على الممنوع ليرد، قال ابن المنير: إنما يريد لا يضع خطه في وثيقة بظاهر الجواز مع أن الباطل باطل، وأما المساطير التي تكتب لإبطال الفاسد بصيغة الاستدراك لا البناء فلا خلاف ولا خفاء في وجوب وضع الشهادة فيها، ولو وضع شهادة في وثيقة كتبت بظاهر الجواز والعقد فاسد زاد في خطه فقال: والأمر بينهما في ذلك محمول على ما يصححه الشرع من ذلك أو يبطله، ومثل هذا الوضع لا يكاد يختلف فيه.
وتعين الأداء من كبريدين يعني أن الأداء فرض عين يتعين على الشاهد أن يؤدي الشهادة إن كان بينه وبين المحل الذي يؤدي فيه الشهادة كبريدين. فأقل، قال عبد الباقي: ولما ذكر أن التحمل فرض كفاية ذكر أن الأداء فرض عين، بقوله:"وتعين الأداء" على من تحمل أي إعلام الحاكم بشهادته على شيء معين من كبريدين، والكاف استقصائية على ظاهر نقل المواق، والظاهر الاكتفاء في الأداء بالإشارة المفهمة. اهـ. وقال ابن مرزوق: أي وأما أداء ما تحمل الشاهد من الشهادة فهو متعين عليه أي فرض عين إن كان مكانه قريبا من المحل الذي يؤدي فيه الشهادد، كما لو كان منه على بريدين فأقل وإنما تعين عليه لقوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ
(1)
البخاري، كتاب الشهادات، رقم الحديث 2650، ومسلم، كتاب الهبات، رقم الحديث 1623.
قَلْبُهُ}، وظاهر كلام المص أن الأداء من المسافة المذكورة متعين على الشاهد مطلقا متبع في هذا ابن الحاجب وابن شاس، وفي نقل المتيطي أن ذلك مقيد بما إذا لم يكن في موضع الشاهد أمين للقاضي أو حاكم، وظاهر نقل النوادر موافقة المص. اهـ.
وقال الرهوني: وتعين الأداء أي وجب عينا على من عنده شهادة أداؤها إذا لم يكن غيره فإن تعددوا وجب كفاية. اهـ. وقال البناني: قال ابن الحاجب: والأداء من نحو البريدين إن [كانا
(1)
] اثنين فرض عين، وإن كانوا أزيد فالأداء عليهم فرض كفاية إلا أن لا يكتفي القاضي بالاثنين الذين أديا أولا لمانع من قبول شهادتهما أو شهادة أحدهما، فيتعين على الثالث لخ. ابن عرفة: ظاهر قولهم أن الأداء فرض عين مطلقا وهو القائم من المدونة. اهـ باختصار. وذكره أول الباب، وقال في فصل الأداء: وقول ابن شأس إن كانا اثنين فقد تعينا، فإن امتنع أحدهما وقال احْلِفْ مع الآخر فهو آثم لا أعرفه لأصحابنا، بل للغزالي في وجيزه وهو جار على مذهبنا. انتهى.
قال مقيده عفا الله عنه: تأمل عبارة ابن مرزوق أي فرض عين إن كان مكانه قريبا من المحل لخ، فإنها حسنة جدا، وتأمل أيضا قول الرهوني أي وجب عينا على من عنده شهادة فإنه حسن جدا، لإفادة الأول أن بين المحل الذي فيه الشاهد وبين محل الأداء بريدين
(2)
، ولإفادة الثاني وجوب التأدية وإن لم يحصل منه تحمل للشهادة، كمن سمع من غير قصدٍ إقرارَ شخصٍ لآخر. واللَّه تعالى أعلم.
وعلى ثالث إن لم يجتز بهما قال الخرشي: يعني لو شهد بالحق المالي أكثر من اثنين فشهد عند الحاكم منهم اثنان ولم يجتز بهما لعدم عدالتهما أو لغير ذلك فإنه يتعين على ثالث من الشهود أن يشهد، فإن لم يجتز به أيضا فإنه يتعين على رابع وعلى خامس إلى أن يثبت الحق. وإن انتفع فجرح يعني أن الشاهد إذا انتفع على الأداء وهو على مسافة بريدين فأقل، فإن ذلك يكون قادحا في شهادته، قال الخرشي: يعني أن الشاهد إذا كان على مسافة بريدين فما دون ذلك
(1)
في الأصل كان والمثبت من البناني ج 7 ص 190 والتوضيح ج 7 ص 549.
(2)
كذا في الأصل: بريدان.
وتعين عليه الأداء، فإنه إذا انتفع بشيء من المشهود له على أداء شهادته يكون ذلك رشوة قادحة في عدالته، فلا تقبل شهادته لأنه أخذ أجرا على أداء واجب عليه فهو بمنزلة من أخذ على الصلاة أجرا لا يجوز، أما إن لم يمتنع ودفع له المشهود له من غير طلب فليس بجرح. اهـ. ونحوه لعبد الباقي، فإنه قال: وإن اتنفع من تعين عليه الأداء بأن امتنع منه إلا بأخذ شيء فجرح يمنع قبول شهادته لأخذه رشوة على أداء واجب عليه، وأما إن انتفع بشيء دفعه له المشهود له من غير طلب ولا امتناع بعد أداء الشهادة فليس بجرحة. قاله التتائي.
قوله: بأن امتنع منه إلا بأخذ شيء لخ تبع فيه ما نقله بعد عن التتائي من أنه إن انتفع بشيء من غير طلب ولا امتناع لم يكن جرحة قال مصطفى: وهو مخالف لإطلاق الأئمة في الانتفاع كابن رشد وابن شأس وابن الحاجب وابن عرفة وغير واحد، ولم يفصلوا تفصيله وعلى الإطلاق قرره ابن مرزوق، وإن كان التقييد بالامتناع وقع في الرواية عن سحنون فلا عبرة به لأنه وقع في السؤال، ولم يعول عليه ابن رشد في شرحه. اهـ. وقال ابن مرزوق: يعني أن الشاهد إن انتفع من المشهود له بسبب الشهادة التي أداها له من المكان الذي يلزمه الأداء منه، فإن ذلك الانتفاع الذي حصل له جرح يوجب سقوط شهادته، فقوله:"جرح" خبر مبتدإ محذوف تقديره فهو، وهو عائد على الانتفاع المفهوم من انتفع، ودل على أن هذا الحكم إنما هو فيما قرب من المسافة، بدليل قوله بعد:"لا كمسافة".
إلا ركوبه لعسر مشيه وعدم دابته يعني أن كل ما انتفع به على الشهادة من المسافة القريبة يوجب الجرح إلا ركوبه على دابة المشهود له إن عسر مشي الشاهد وعدم دابة له يركبها، فإنه يجوز له حينئذ أن ينتفع بركوب دابة المشهود له ولا يكون جرحا، وظاهره أنه إن انتفع بغير الدابة كالنفقة فإن ذلك جرح، وإن كان الشاهد لا يقدر على ذلك وقدمنا من نقل المتيطي خلافه، وسيأتي أيضا ذلك في نقل الباجي وابن يونس والنوادر والعتبية، وإنما تبع المص ابن الحاجب وابن شأس اهـ. وقال عبد الباقي: واستثنى من قوله: "فجرح إلا ركوبه لعسر مشيه وعدم دابته"
فليس بجرح فله فإن أخذ حينئذ أجرة ركوبه ومشى، فانظر هل يكون جرحا وهو ظاهر أو لا؟ اهـ.
وقال الشبراخيتي: إلا ركوبه دابة ولو بأجرة من المشهود له ذهابا وإيابا، وتفريق بعضهم تعمق في الفقه لعسر مشيه لموضع أدائها وعدم دابته، فليس جرحا. اهـ. وهذا الذي قاله ظاهر، فإن كلام ابن رشد يدل على أن الاكتراء حكمه حكم دابة المشهود له في الجواز: فتنظير البساطي قصور. واللَّه أعلم. انظر البناني. وظاهر كلام المص أنه لو أخذ الأجرة حيث يكون ركوبه على المشهود له ومشى فإن ذلك يكون جرحة. واللَّه تعالى أعلم. انظر الشبراخيتي.
لا كمسافة القصر عطف على "كبريدين"، يعني أنه إذا كان بين الشاهد ومحل الأداء مسافة القصر فإنه لا يلزمه الذهاب إلى محل أدائها، قال عبد الباقي: بل يؤديها عند قاضي بلده ويكتبها لقاض على مسافة القصر. اهـ. قال البناني: نحوه للتتائي، والذي في نوازل سحنون وكلام ابن رشد وابن عرفة أنه يؤديها عند رجل ولم يخص القاضي. وفي التوضيح والشارح والمواق عن سحنون: ويشهدون عند من يأمرهم القاضي به بذلك البلد، قال مصطفى: فلا أدري من أين أخذ التتائي تخصيص القاضي؟ اهـ.
وله أن ينتفع منه بدابة ونفقة يعني أنه يجوز للشاهد إذا اختار أن يؤدي من هذه المسافة البعيدة أي مسافة القصر فما فوقها أن ينتفع من المشهود له بدابة يركبها ونفقة ينفقها على نفسه طول طريقه وفي مقامه بالبلد الذي فيه الحاكم إلى أن يؤدي الشهادة إن عسر عليه لقاء الحكم سريعا، وهذه الزيادة منصوصة كما ترى ولم ينبه عليها المص، ثم لا يكون هذا الانتفاع مع البعد جرحا يسقط الشهادة لأن هذا شيء لا يجب عليه، فله أن يأخذ عليه أجرة وإن جاز له أخذ الأجرة لم يكن جرحة، والأول لما كان الأداء عليه واجبا منه كان أخذ الأجرة عليه حراما فكان جرحة.
تنبيهات: الأول: قال ابن مرزوق: هنا المسألة بكمالها من الباجي ونحوه لابن يونس، وأصلها من النوادر: ومن كان على بريد أو بريدين فإنه يؤدي عند الحاكم، فإن وجد نفقة ومركوبا، فقال سحنون: لا يقوم المشهود له بذلك، فإن فعل سقطت شهادته ووجهه ما فيه من الرشوة لأن ذلك يلزم الشاهد لوجوب الأداء عليه، لقوله تعالى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} ،
ولقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} ، فإن لم يجد الشاهد نفقة ولا مركوبا فللمشهود له أن يقوم بهما، ووجهه أنه مؤونة لا تلزم الشاهد فلا تبطل شهادته بتكلف الشهود له ذلك كسائر نفقاته، وكذلك لو استنهض الشهود إلى مسافة بعيدة ليعاينوا حدود أرض وصفتها، قال مطرف: لا بأس أن يركبهم المشهود له ويطعمهم، وقال سحنون في الشاهد يأتي من البادية فينزل في ضيافة المشهود له حتى يخرج: لا ترد شهادته بذلك إن كان عدلا وهو خفيف، يريد أن هذا أمر معتاد عند الناس، ولَعَلَّ ذلك كان بينهم قبل ذلك. انتهى. وقال سحنون: إن دعوا إلى شهادة بغير البلد فقالوا يشق علينا النهوض فيركبهم المشهود له أو ينفق عليهم إن كانوا على مثل البريد أو البريدين وهم يجدون الدواب والنفقة سقطت شهادتهم، وإن كانوا لا يجدون ذلك جاز وقبلوا ولو أخبر بذلك القاضي لكان أحسن. اهـ. وفي العتبية مثله. ابن رشد: الأصل في هذا قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} ، ومعناه بالإجماع فيما قرب لا فيما بعد، وهو من تخصيص عموم القرآن بالإجماع، فإن انتفع الشاهد بشيء من المشهود له في المسافة التي يلزمه الأداء منها سقط، وخففه ابن حبيب إذا كان قريبا وكان أمرا خفيفا، وينبغي أن يجعل تفسيرا لقول سحنون: والقرب الذي يلزم الأداء منه على هذا التأويل قسمان: قريب جدا تقل فيه مؤنة النفقة والركوب فهذا لا يضر الشاهد ركوب دابة المشهود له وإن كانت له دابة ولا أَكْلُ طعامه، وما فوقه مما تكثر فيه مؤنتهما تسقط الشهادة بركوب دابة المشهود له إن كانت للشاهد دابة وبأكل طعامه عند سحنون، وقيل لا تبطل بذلك فإن لم يقدر الشاهد على نفقة ولا ركوب وهو ممن يشق عليه المشي لم تبطل شهادته بركوب دابة المشهود له وبأكل من طعامه، وقيل تبطل بذلك إن كان مبرزا فإن بعد الشاهد بحيث لا يلزمه الأداء وليس بموضعه من يشهد عنده فلا يضره أكل طعام المشهود له ولا ركوب دابته، وإن لم يحتج إلى شيء منهما، وكذا لا يضره إنفاق المشهود له عليه إن احتجب السلطان عن الشاهد ما دام منتظرا له إن لم يجد من يشهد على شهادته وينصرف، وقيل إنها تبطل بذلك وهو الأظهر.
الثاني: قال المص: "وتعين الأداء من كبريدين" قد علم من النصوص المتقدمة أن الكاف استقصائية وهو نقل غير واحد. وفي الخرشي: والتحمل كالأداء يتعين من كبريدين.
الثالث: قال في النوادر في كتاب الشهادات: من شهد بدين فشهد عنده شاهدان بقضائه أو رجل وامرأتان فإنه لا يشهد، قيل: فإن أخبره شاهد واحد فوقف وقال ما تبين لي. اهـ. قاله الحطاب.
الرابع: قال الخرشي في قوله: "إلا لركوبه لعسر دابته" ما نصه: إضافة الدابة له مخرج لدابة قريبه، فليس عليه استعارتها، وقوله:"وتعين الأداء من كبريدين" لخ ظاهره ولو كان اشتغاله بأدائها يمنعه من اشتغاله بما يقيم به أوده. قاله الخرشي.
وحلف بشاهد في طلاق وعتق يعني أنه إذا قام للمرأة على الطلاق شاهد واحد أو امرأتان والزوج منكر للطلاق فإنه يحلف لرد شهادة الشاهد، وكذا إذا قام على العتق شاهد واحد أو امرأتان والسيد منكر للعتق فإنه يحلف لرد شهادة الشاهد، وهذا راجع لمفهوم قوله فيما مر:"فلا يمين بمجردها" أي فإن لم تتجرد الدعوى بل قام للمدعي شاهد فبعضها تتوجه فيه اليمين كالطلاق والعتق، وبعضها لا تتوجه فيه اليمين كنكاح، الباء في، "بشاهد" للسببية أو بمعنى مع، قال الخرشي: والمعنى أن المرأة إذا أقامت شاهدا على زوجها أنه طلقها أو أقامت امرأتين بذلك كما في التوضيح، فإنه يقضى على الزوج بيمين أنه ما طلق، فإن حلف ردت الشهادة وإن نكل فإنه يحبس حتى يحلف، فإن طال حبسه كسنة فإنه يدين أي يخلى بينه وبين زوجته، وكذلك العبد إذا أقام شاهدا على سيده أنه أعتقه فإن السيد يلزمه يمين لرد الشهادة، فإن نكل حبس وإن طال دين.
ومعنى قوله: لا نكاح أن أحد الزوجين إذا أقام شاهدا واحدا أنه زوج للآخر وهو منكر فإنه لا يمين على المنكر منهما، فإن أقام شاهدا آخر عمل به وهذا وإن كان مساويا للطلاق والعتق من حيث إن كلا منهما لا يثبت إلا بشاهدين فالنكاح لشهرته لا يكاد يخفى على الأهل. والجيران، فإن عجزه عن إقامة شاهدين قرينة تكذب مدعيه ويفرق أيضا بأن الطلاق والعتق يلزمان بالإقرار، بخلاف النكاح.
تَنبيهَاتٌ: الأول: قال الخرشي: مثلُ الطلاق والعتق ما إذا أقام شخص على آخر شاهدا أنه قذفه فإن المدعى عليه يلزمه يمين لرد الشهادة، فإن نكل حبس وإن طال دين.
الثاني: قد مر الفرق بين النكاح والطلاق والعتق بأنهما يلزمان بالإقرار، بخلاف النكاح، ومحل ذلك إذا ادعته المراة أو ادعي عليها فلا يثبت لفقد العقد من الولي. قاله البناني.
الثالث: قوله: "لا نكاح" هذا في غير الطارئين، وأما في الطارئين فتتوجه على منكر النكاح منهما بالشاهد لا بمجرد الدعوى. قاله الخرشي وغيره.
الرابع: قال عبد الباقي بعد ذكر الفرق بين النكاح والعتق ما نصه: ومقتضى الفرق المذكور بين النكاح وبينهما أن مثلهما سائر ما لا يثبت إلا بعدلين، وقد قدمنا جميع ذلك. انتهى.
فإن نكل حبس وإن طال دين يعني أنه إذا حلف الزوج لرد شهادة الشاهد فلا شيء عليه، وإن نكل حبس ليحلف أو يقر، فإن حلف ترك، فإن استمر على نكوله، فإن طال حبسه سنة دين أي وكل إلى دينه فيما ادعاه أنه لم يطلق، أي لا يحال بينه وبين زوجته، وكذلك السيد إذا لم يحلف لرد شهادة الشاهد فإنه يسجن ليحلف أو يقر، فإن حلف فلا شيء عليه وإن استمر على نكوله فإن طال سجنه سنة فإنه يدين أي يوكل إلى دينه فيما ادعاه من عدم العتق؛ أي لا يحال بينه وبين استخدامه للعبد على وجه الاسترقاق، قال الشبراخيتي: فإن حلف منكر الطلاق والعتق برئ وإن نكل حبس ليحلف فيهما، فإن حلف ترك وإن طال سجنه دين أي وكل إلى دينه فيما ادعاه أنه لم يطلق ولم يعتق. قال الزرقاني: والطول معتبر باجتهاد الحاكم وبسنة على ما رجع إليه مالك وأخذ به ابن القاسم. وقال ابن عاصم: وبه عمل. اهـ. وقال عبد الباقي: فإن نكل من توجهت عليه من زوج أو سيد وكذا من ادعي عليه بقذف كما زدناه حبس، وإن طال حبسه سنة على ما رجع إليه الإمام وأخذ به ابن القاسم. ابن عاصم: وبه العمل دين أي وكل إلى دينه وخلي بينه وبين زوجته ورقيقه، ولم يلزمه حد قذف.
تنبيه: قد مر أنه ليس على الفقيه مكافأة ولا ضيافة أحد ولا شهادة بين اثنين، قال ابن مرزوق: قُلْتُ: ووجهه بين، فإنها أمور تشغل سره وتجر إلى تعطيله عن العلم وأمره لا يحتمل ذلك. واللَّه أعلم. اهـ.
وحلف عبد يعني أن العبد إذا قام له شاهد بحق فإنه يحلف معه ويقضى له على المدعى عليه، وأطلق العبد ليشمل المأذون وغيره وهو كذلك اتفاقا، وسكت عما لو نكل، وفيه قال اللخمي: إن كان مأذونا له في التجارة حلف المدعى عليه وبرئ، ولا مقال لسيده، وإن كان غير مأذون له حلف سيده واستحق، ويشمل قوله: بشاهد ما لو أقبضه سيده مالا ليقضي عنه فقضاه بشاهد حلف العبد وبرئ سيده، وإن نكل حلف المشهود عليه وغرم العبد إن كان مأذونا له موسرا، وإن كان معسرا أو غير مأذون له حلف السيد وبرئ، ويشمل أيضا ما لو وكله غير سيده فقضى بشاهد ونكل عن اليمين، فإن الطالب يحلف ويغرم العبد إن كان مأذونا له، قال محمد: كالحر يوكله رجل. قاله التتائي.
وسفيه يعني أن السفيه إذا قام له شاهد بحق فإنه يحلف معه ويقضى له، وإن نكل السفيه حلف المدعى عليه لرد شهادة الشاهد وبرئ، وعلم مما قررت أن قوله: مع شاهد راجع لمسألتي العبد والسفيه، قال عبد الباقي: وحلف عبد مأذون له في التجارة أم لا؟ وسفيه بالغ مع قيام شاهد لكل بحق مالي تولى كل منهما فيه المعاملة، واستحق كل ما حلف عليه مع شهادة شاهده وأخذه العبد وولي السفيه، فإن نكل العبد عن اليمين، فإن كان مأذونا له حلف المدعى عليه وبرئ، وإن كان غير مأذون له حلف سيده وأخذ ما حلف عليه مع شهادة شاهد عبده، وإن نكل السفيه حلف المدعى عليه لرد شهادة الشاهد وبرئ، وأشعر قوله:"وحلف" لخ أنهما مدعيان وأنه لا يشترط في المدعي الحرية ولا الرشد وهو كذلك، بل ولا البلوغ. وقولي: تولى المعاملة احترازا عما إذا لم يتول السفيه المعاملة بل تولاها وليه، فإنه الذي يحلف مع إقامة الشاهد كما قدمه المص في النكاح من قوله:"وحلفت هي أو أبوها إن كانت سفيهة"، وفي باب تنازع الزوجين من قوله:"ولا كلام لسفيهة" أي لأن التولي للمعاملة وليها فلا تعارض بينهما. اهـ. ونحوه للشبراخيتي، وقوله:"وحلف عبد وسفيه مع شاهد" أي يحلفان الآن، ولا يؤخران للرشد
والعتق، وقال المواق: وإن شهد شاهد لسفيه حلف معه الآن واستحق لأنه مخاطب بالشرع وهو كالرشيد في اليمين، واختلف إذا نكل، فقال ابن القاسم: يحلف المطلوب ويبرأ ولا يحلف السفيه إذا رشد، وكذلك البكر المولى عليها تنكل عن اليمين مع شاهدها فلا يمين عليها إذا رضي حالها. انتهى. وقال البناني: وحلف عبد وسفيه لخ، فرض المسألة في حلف السفيه مع الشاهد يدل على أنه لا يمين عليه في الإنكار أو التهمة وهو كذلك، سواء كان ذكرا أو أنثى إذ لا فائدة لليمين حينئذ لأنها تتوجه حيث لو أقر المدعى عليه لزمه وهنا ليس كذلك. اهـ.
لا صبي يعني أن الصبي إذا قام له شاهد بحق فإن الصبي لا يحلف مع شاهده، قال عبد الباقي: لا يحلف صبي مع شاهد قام له بحق مالي إرث أو غيره، وقال ابن مرزوق: وأما الصبي إذا قام له شاهد بحق فإنه لا يحلف معه، ويبقى الأمر موقوفا إلى بلوغه فيحلف حينئذ. اهـ. وأبوه يعني أن الصبي إذا قام له شاهد بحق ولد أب، فإن الأب لا يحلف عنه مع الشاهد المذكور حيث لم ينفق عليه، بل وإن أنفق الأب على الصبي لفقره على المشهور بحيث يكون ليمين الأب فائدة في سقوط النفقة عنه، وقال ابن مرزوق: أي ولا يحلف أيضا أبو الصبي مع الشاهد الذي قام للصبي ليثبت حق الصبي، وإن كان الأب منفقا على الصبي لكونه لا مال له، أما أن الصبي لا يحلف مع شاهده فلكونه غير مكلف لا يتورع عن الإثم، وأما أن أباه لا يحلف عنه فلأن القاعدة أنه لا يحلف أحد ويستحق غيره.
وحلف مطلوب ليترك بيده يعني أنه إذا قام للصبي شاهد بحق فإنه لا يحلف الصبي ولا أبوه ولا غير الأب من الأولياء، ولكن يحلف المطلوب أي المدعى عليه ليترك الشيء المتنازع فيه بيده إلى بلوغ الصبي حوزا فقط إن كان معينا وله غلته، وإن كان بيده حوزا كما يفيده قوله فيما سبق: "والغلة له للقضاء والنفقة على المقضي له به ويضمن الحائز إذا تلف ولو بسماوي؛ لأنه متعد، فإن كان دينا بقي في ذمته. قاله عبد الباقي. وقال البناني: وحلف المطلوب ليترك بيده، الذي لابن الحاجب: فإذا حلف أي المطلوب ففي وقف العين قولان، فنسب في التوضيح الأول لظاهر الموازية وكتاب ابن سحنون، وعزا الثاني - يعني القول بأنه يبقى بيد المطلوب - للأخوين وابن
عبد الحكم وأصبغ، قال: وبنى المازري الخلاف في الإيقاف على الخلاف في إسناد الحق إلى الشاهد فقط واليمين كالعاضد، فيحسن الإيقاف أو إليهما معا فيضعف الإيقاف. اهـ.
وذكر ابن رشد في البيان الخلاف في وقف الدين، ثم قال: ووقفه في القياس صحيح؛ إذ لو كان المدعى فيه شيئا بعينه لوجب توقيفه أو بيعه وتوفيقه ثمنه إن خشي عليه على ما يأتي لابن القاسم. اهـ. فظاهره أن وقف العين هو المذهب. واللَّه أعلم. اهـ. قوله: فنسب في التوضيح الأول لظاهر الموازية لخ، قال الرهوني: سلم ما عزاه التوضيح للموازية كما سلمه أبو علي. وفيه أمران: أحدهما أنه يقتضي أنه ليس في الموازية إلا ما عزاه لها وليس كذلك، بل فيها القولان ما عزاه لظاهرها وهو من قولة ابن المواز نفسه، وما اقتصر عليه المص وجعله من قول مالك، كما نقله ابن يونس وسلمه. ثانيهما أنه يوهم أنه ظاهر الموازية فقط لا مصرح به فيها، وليس كذلك بل هو مصرح به فيها، واغتر أبو علي رحمه الله بعبارة التوضيح، والمذهب ما قاله المص. اهـ.
وأسجل ليحلف إذا بلغ يعني أنه إذا حلف المطلوب ليترك الشيء المتنازع فيه عنده إن كان معينا، وإن كان دينا بقي في ذمته كما عرفت، وحينئذ فإنه يسجل القاضي المدعى فيه أي يأمر أن يكتب في سجله شهادة الشاهد صونا لحفظ مال الصبي وخوفا من موت الشاهد أو تغير حاله عن العدالة قبل بلوغ الصبي وفسقه بعد الإسجال، بمنزلة فسقه بعد الحكم لا يضر فلا يعارض ما سبق للمص، فإذا بلغ الصبي فإنه يحلف ويأخذ المدعى فيه إن كان قائما، وقيمته إن فات أو مثله إن كان مثليا، ومفهوم حلف مطلوب أنه إن نكل فإن الصبي يأخذ المدعى فيه ملكا من الآن ولا يمين عليه إذا بلغ.
كوارثه قبله يعني أن الصبي الذي قام له شاهد بحق إذا مات قبل البلوغ فإن وارثه يحلف الآن ويستحق، فالضمير في قبله عائد على البلوغ المفهوم من بلغ، وظاهر إطلاق المص أن وارث الصغير يحلف الآن ولو كان كبيرا مشاركا في الحق أو لا، وحلف وكأنه اعتمد في هذه الصورة قول ابن يونس حيث قطع بتكرير اليمين، وسلمه المازري وابن عبد السلام وابن عرفة، وقطع ابن رشد بعدم تكريرها وردها عياض إلى أصل مختلف فيه، ثم قال: ويَقوَى عندي أنه لا بد من اليمين، إذ اليمين مع الشاهد ليست بثبات حق وإنما هي إيجاب حكم بالمال المحلوف عليه. اهـ. قاله
الرهوني. ثم قال: وبذلك كله تعلم أن حمل المص على إطلاقه أولى إذ يد اللَّه مع الجماعة واللَّه أعلم. اهـ. والأقسام ثلاثة: أن يكُونَ وارث الصبي غير مشارك له في الحق أولا، أو مشارك له فيه ولم يحلف لصغر مثلا وحلفه في هذه ظاهر. الثاني أن يكون مشاركا له في الحق أولا وحلف، فهاتان المسألتان يشملهما قوله:"كوارثه قبله"، والثانية هي محل الخلاف الذي عرفت. الثالث أن يكون الوارث مشاركا للصبي في الحق أولا ونكل، وإليه أشار المص بقوله: إلا أن يكون نكل أولا ففي حلفه قولان صورتها أن يشهد عدل أو امرأتان بحق لصغير ولأخيه الكبير فينكل الكبير واستؤني بيمين الصغير لبلوغه فمات قبل بلوغه وورثه أخوه الكبير، ففي حلف الكبير على نصيب الصغير الذي ورثه منه لأنه إنما نكل أولا عن حصته. ابن يونس: وهو الذي يظهر، ألا ترى أنه لو حلف أولا وأخذ حصته ثم إنه ورث الصغير لم يأخذ حصته إلا بيمين ثانية، وعدم حلفه لأنه قد نكل أولا فلا يرجع عليه اليمين قولان، قال المازري للمتأخرين: ولا نص فيها للمتقدمين، قال غير واحد: حقه تردد، قال البناني: ويُجَابُ بأن المص إنما قال إنه إن ذكر الترددت فقد أشار به لتردد المتأخرين لخ، ولم يقل إنه مهما اختلف المتأخرون حكى اختلافهم بالتردد تأمل. انتهى.
فإن نكل اكتفى بيمين المطلوب الأولى يعني أنه إذا نكل الصبي بعد بلوغه عن اليمين أو نكل وارثه بعد موته وكان المطلوب قد حلف أولا، فإنه يكتفي بيمين المطلوب الأولى أي اليمين التي حلفها ليترك بيده فلا تعاد عليه ثانية.
تنبيهات: الأول: قال البناني عند قول المص "وإن أنفق" ما نصه: لو عبر بلو كان أولى، ونص ابن رشد: وليس لولي الصغير أن يحلف مع شاهده، واختلف هل ذلك للأب أم لا؟ فالمشهور المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن ذلك ليس له، وقال ابن كنانة: ذلك له لأنه يمونه وينفق عليه وهذا فيما لم يل [فيه]
(1)
الأب أو الوصي المعاملة؛ لأن ما ولي أحدهما فيه المعاملة فاليمين عليه واجبة؛ لأنه إن لم يحلف غرم. انتهى من رسم جاع من سماع عيسى.
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من البناني ج 7 ص 192.
انتهى. وقال الخرشي: وقيد الخلاف بما إذا لم يل الأب المعاملة وأولى غيره من الأولياء، فأما إن تولى الأب أو غيره من الأولياء المعاملة فإنه يحلف، فإن لم يحلف غرم.
الثاني: قال عبد الباقي عند قوله: "ليحلف إذا بلغ" ما نصه: وأشر فرض المص في إقامة الشاهد بأنه لو قام للصبي شاهدان فإنه يأخذه، ولا يترك بيد المطلوب وهو كذلك، وتؤخر يمين القضاء لبلوغه، فإن حلف بعده تم الحكم له به، وإن نكل رد إلى من أخذ منه. اهـ. وقال الخرشي: وأما يمين القضاء إذا توجهت على الصبي فإنه يحلف بعد بلوغه، فإذا قامت للصبي بينة واحتاج ليمين القضاء فإنه يحلفها بعد بلوغه كما يأتي في نظم ابن عاصم؛ أي ويدفع له المال وما ادعى به من الآن، فإذا بلغ فإن حلف هو أو وارثه فالأمر واضح، وإن نكل رجع له. اهـ. وقد مر أنه لا يمين عليه للقضاء إذا بلغ عند قول المص:"والبعيد جدا كإفريقية" قضي عليه بيمين القضاء. واللَّه تعالى أعلم.
الثالث: إذا قام للمغمى عليه أو للمجنون الذي ترجى إفاقته شاهد فإنه ينتظر فلا يحلف المطلوب، وأما الذي لا ترجى إفاقته ومن لا يمكنه الحلف لصمم وخرس وعدم اليمين بالإشارة فإنه يحلف المطلوب فيهما كما في مسألة الصبي. قاله الخرشي. وقال عند قوله:"وحلف عبد وسفيه مع شاهد": هذا فيما إذا كان كل من العبد والسفيه مدعيا، وأما إن كان مدعى عليه فلا يمين.
الرابع: ذكر الحطاب عند قول المص: "وفي تمكين الدعوى" لخ أنه إذا وجبت يمين القضاء على غائب له حق في غيبته، هل يوقف حتى يحلف أو يسلم لوكيله وتؤخر اليمين حتى يقدم فيحلف أو يموت فتحلف ورثته، وإن نكل أو نكلوا رجع عليه، ذكر البرزلي في ذلك قولين.
الخامس: قوله: "كوارثه قبله"، فإن كان الوارث بيت المال فإنه لا حق له لأنه يتعذر منه اليمين ويبقى بيد المدعى عليه، ولا يثبت الحق بشاهد واحد وإنما تتوجه اليمين على المطلوب، وهو قد حلفها أولا، ومثل بيت المال الوارث الذي لا يتأتى منه اليمين كمجنون لا ترجى إفاقته وأخرس لا يشير ليمين ولا يكتب، ومثله إذا مات بعد بلوغه وقبل أن يطلب منه اليمين وينكل عنها. قاله الخرشي.
السادس: قال الرهوني عند قوله: "وحلف مطلوب ليترك بيده": قال ابن يونس في كتاب محمد: وإن حلف المطلوب أولا أخر عنه الحق حتى يكبر الصبي فيحلف ويأخذ حقه، فإن كان الغريم حينئذ عديما، فإن كان يوم أخذ الكبير حقه لا شيء له إلا ما أخذ رجع الصغير على أخيه بنصف ما كان أخذ بعد يمينه إذا كبر، قيل ويحلف الصبي على ما لم يعلم، قال: لا يحلف حتى يعلم بالخبر الذي يتيقنه فله أن يحلف، قال مالك: يحلف على البت إن هذا لحق.
السابع: قول المص: ليترك بيده شامل للمعين، ولما في الذمة كما مر، قال الرجراجي: فإن حلف بقي الحق عنده، كان الحق معينا أو ثابتا في الذمة حتى يحلف الصغير بعد بلوغه فيستحق حقه ما كان منه في الذمة وما بقي من العين، وإن فات فقيمته يوم الحكم به للصبي إن كان بسبب الفوات من الذي هو بيده أو من آدمي غيره، وإن كان من قبل اللَّه تعالى فلا شيء عليه إلا أن يكون غاصبا أو متعديا. رواه ابن حبيب عن الأخوين وأصبغ وابن عبد الحكم. انتهى. وعبارة العبدوسي: هل يضمن قيمته يوم الحكم أو يوم الهلاك؟ هكذا قال، ولم يجزم بأحدهما. قاله أبو علي. قال الرهوني: وفي توركه على الرجراجي بكلام العبدوسي ما لا يخفى؛ لأن ما جزم به الرجراجي هو الذي جزم به المحققون ممن قبله. اهـ. وقد مر عن عبد الباقي عند قوله: "وحلف مطلوب ليترك بيده" أنه يضمن ولو بسماوي وهو مخالف لما مر صريحا في كلام الرجراجي، لكن قال أبو علي في حاشية التحفة عقبه: وتفصيله في الضمان لم يذكره الباجي. قال الرهوني: لا خصوصية للباجي بذلك بل ظاهره وظاهر كلام ابن أبي زمنين أنه يضمن مطلقا كما قال الزرقاني. واللَّه أعلم. اهـ. وقد مر نقل ابن يونس عن محمد في حلف الصغير إذا بلغ أنه لا يحلف إلا بالخبر الذي تيقنه، ونحوه في المواق عن ابن عرفة وزاد، وقال مالك: يحلف كما يحلف الوارث على ما لم يحضر وهو لا يدري، شهد له بحق أم لا، فيحلف معه على خبره، ويصدقه، كما جاز له أن يأخذ ما شهد له به الشاهدان وهو لا يعلم ذلك إلا بقولهما. ابن عرفة، ففي شرط حلفه مع شاهده بتيقنه أو ظنه قولا محمد ومالك. اهـ.
الثامن: ما يقبل فيه النساء يقبل فيه الشاهد الواحد واليمين، فيجري ذلك في هذه المسائل من قوله:"وحلف عبد وسفيه" لخ.
التاسع: قال ابن مرزوق عند قوله: "وحلف عبد وسفيه مع شاهد"، والحاصل من ظواهر النصوص أن العبد والذمي كالرشيد اتفاقا، وأن السفيه اختلف فيه فقيل كالرشيد وهو المشهور، وقيل كالصبي حكى الخلاف الباجي والمازري وغيرهما، وقال ابن زرقون: لم يختلف ابن القاسم ومطرف في أنه يحلف مع شاهده، وإنما اختلفا إن نكل وحلف المطلوب ثم رشد، فقال مطرف: يحلف بعد رشده ويقضى له، وقال ابن القاسم: لا يحلف لنفوذ الحكم للمطلوب وهكذا هو منصوص في الواضحة.
وإن حلف المطلوب ثم أتى بآخر فلا ضم هذه مسألة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها، يعني أن الطالب إذا أتى بشاهد على ما ادعى ولم يحلف معه، وَحَلَّف المطلوب على أنه لا شيء له قبله، ثم بعد ذلك أتى الطالب بشاهد آخر على دعواه فإن هذا الشاهد لا يضم إلى الأول حتى يثبت الحق بهما من غير يمين، كما لو أتى بهما ابتداء. قاله ابن مرزوق. وقال الخرشي: يعني أن من ادعى حقا وأقام شاهدا ولم يحلف معه، وحلف المطلوب وهو المدعى عليه ثم أتى المدعي بشاهد آخر فإنه لا يضم إلى الأول لأن شهادته بطلت بنكول المدعي وحلف المدعى عليه لأن الحق يثبت بالشاهد واليمين.
وفي حلفه معه يعني أنه إذا بطلت شهادة الأول لنكول المدعي وحلف المدعى عليه فإنه اختلف، هل يحلف المدعي مع الشاهد الثاني وهو قول غير ابن القاسم، لأنه وإن نكل أولا فقد يظهر له الآن ما يقدم به على الحلف؟ أولا يحلف وهو قول ابن القاسم في المبسوط؛ لأنه لما نكل أولا فقد أسقط حقه؟ وتحليف المطلوب إن لم يحلف يعني أنه إذا فرعنا على القول الأول وهو أن للمدعي أن يحلف مع الشاهد الثاني ونكل المدعي عن الحلف معه، فإنه اختلف هل يحلف المطلوب لرد شهادة الشاهد الثاني أولا يحلف، وعلى القول بحلف المطلوب لو نكل المطلوب عن اليمين لأخذ الطالب الحق بغير يمين كما في التوضيح، والقول الثاني لا يحلف المطلوب ثانيا ويسقط الحق لأن يمينه قد تقدمت فلا تعاد عليه مرة ثانية، وهذا قول ابن بشير ولا مفهوم لقوله:"بآخر" على
كلام ابن القاسم في المبسوط، وله مفهوم على كلامه في الموازية، وهو أنه إن أتى بشاهدين قُضي له بهما. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وإن ادعى شخص على آخر بحق مالِيٍّ، وأقام شاهدا عند من يرى ثبوته به وبالحلف معه وردها على المطلوب وحلف المطلوب، ثم أتى بآخر أي أتى المدعي بشاهد ثان فلا ضم أي لا يضمه للأول الذي نكل عن اليمين معه لبطلان شهادته بنكوله معه وحلف المطلوب، وإذا لم يضمه له وأراد الحلف مع الثاني فإنه في حلفه معه لأنه قد يظهر له بشهادته ما يقدم به على اليمين وعدم حلفه، لأنه لما نكل أولا فقد أسقط حقه.
قولان وعلى القول بحلفه مع الثاني، ففي تحليف المطلوب إن لم يحلف مقيمه بل نكل مع الثاني أيضا لأن حلف المطلوب قبل ذلك لرد شهادة الأول فيحتاج ليمينه لرد شهادة الثاني أيضا، وعلى هذا القول لو نكل المطلوب عن اليمين أخذ الطالب الحق بغير يمين كما في التوضيح وعدم تحليفه لأنه حلف أولا لرد شهادة الأول قولان محذوفان من الأول، لدلالة هذا عليه كما قررنا، وجعلنا موضوع المص في حق مالي يثبت بشاهد ويمين، وأقامه عند من يرى ثبوته به، وأبى من الحلف مع الأول احترازا عن إقامته في نحو طلاق وعتق، فحلف المطلوب لرد شهادته ثم أتى الطالب بآخر فإنه يضمه للأول اتفاقا لعدم ثبوت ذلك بعدل ويمين، وعن إقامة شاهد في حق مالي عند من لا يرى ثبوته به، وحلف المطلوب ثم أتى بآخر فإنه يضمه له كما تقدم هذان في قوله:"أو وجد ثانيا أو مع يمين لم يره الأول". اهـ كلام عبد الباقي. وقال عبد الباقي أيضا: قال بعض: قوله: "فلا ضم" لا يعارض قوله: "أو وجد ثانيا" لأن تلك لم يحلف فيها المطلوب. اهـ.
قال الرهوني: قال التاودي: اقتصر الخرشي على قول هذا البعض وفيه نظر؛ لأن الموضوع هناك أن المطلوب حلف بالفعل. اهـ. والقولان الأولان المحذوفان لابن المواز وابن كنانة، ففي الموازية: يحلف مع شاهده، وقال ابن كنانة: لا يحلف. وقاله أيضا ابن القاسم. والقولان الأخيران أحدهما له تحليف المطلوب وهو لابن المواز، والقول بأنه لا يحلف لابن ميسر. انظر المواق. ومفهوم قوله:"بآخر" أنه لو أتى باثنين لكان له القيام بهما عند ابن القاسم في الموازية، وله في المبسوط لا قيام
له بهما ونحوه لابن كنانة كما في التتائي، وعلى الثاني فلا مفهوم لقوله:"بآخر"، وتقدم أنه إذا حلف الطالب المطلوب وله بينة حاضرة أو كالجمعة يعلمها لم تسمع، ولا يخالف الأول من قولي ابن القاسم لإمكان حمله على ما إذا لم يعلمها أو كانت على أبعد من كالجمعة. قاله الشيخ عبد الباقي.
وإن تعذر يمين بعض يعني أنه إذا قام شاهد واحد بحق لمتعدد وتعذر اليمين من بعضهم وتيسر من بعضهم أو تعذر اليمين من كل، فهنا مسألتان إحداهما تعذر اليمين من بعض وتيسرت من بعض والأخرى تعذرت فيها اليمين من كل، ففي المص حذفُ أَوْ مع معطوفها وهو سائغ كما قاله غير واحد. ومثل للمسألة الأولى بقوله: كشاهد بوقف على بنيه وعقبهم أي مثال ما إذا تيسر الحلف من بعض وتعذر من بعض أن يشهد واحد أو امرأتان أن هذه الدار أو الأرض أو غيرهما وقف على بني فلان وعقبهم بطنا بعد بطن، لا أنه سوى بين البنين وعقبهم كما قد يتوهم من الواو، فاليمين متيسرة من البنين ومتعذرة من عقبهم وهم بعض الموقوف عليهم، ومثل للمحذوف بقوله: أو شاهد أو امرأتين بوقف بدار أو أرض أو غيرهما على الفقراء فاليمين متعذرة من جانبهم، وجواب الشرط أعني قوله:"وإن تعذر"، قوله، حلف من يخاطب باليمين وهو البعض الموجود من الوقوف عليهم في الأولى والمدعى عليه في المسألة الثانية، فإن حلف البعض الموجود مع الشاهد ثبت الوقف، وإن حلف بعض دون بعض ثبت نصيب مَنْ حَلَفَ دون من لم يحلف فنصيبه ملك للمدعى عليه إن حلف، وإن نكلوا كلهم بطل الوقف إن حلف المدعى عليه. قاله عبد الباقي.
قال البناني: قول الزرقاني: وإن نكلوا كلهم بطل الوقف إن حلف المدعى عليه، وكذا قوله قبله: دون من لم يحلف فملك للمدعى عليه إن حلف لخ، ظاهره أن الوقف قد بطل بحلف المطلوب حتى بالنسبة للبطن الثاني، وأنه لا كلام لهم وهو خلاف ما استظهره المازري وغيره. ابن عرفة: لو عرضت اليمين على البطن الأول فنكل جميعهم ثم جاء بعدهم البطن الثاني، فمن قال: أخذ البطن كأخذ الإرث من آبائهم لم يمكنوا من الحلف لبطلان حقهم بنكول آبائهم، وعلى الطريقة الأخرى وهي أن أخذهم إنما هو بعقد التحبيس من المحبس يمكنون من اليمين، ولم يضرهم
نكول آبائهم وهو الظاهر. اهـ. وقولي: بطنا بعد بطن المُحْوِجُ له هو ما رتبه المص عليه من التردد الآتي، فإنه لا يتفرع إلا على هذا المعنى، وفيه فرض المسألة.
ابن الحاجب: وإن حلف المدعى عليه في مسألة الفقراء ثبتت الملكية له وبطل الوقف، الا يحلف بعد نكولهم في المسألة الأولى وابتداء في مسألة الفقراء، فالشيء الذي قام على وقفيته شاهد واحد أو امرأتان حبس في المسألتين، وَالْحَاصِلُ أن المشهود عليه يحلف في المسألتين معا وإلا لزم الحبس، لكن حلفه في المسألة الأولى بعد نكول المشهود لهم أو بعضهم، وفي المسألة الثانية يحلف ابتداء أما مستنده في كون المشهود عليه يحلف ابتداء، في المسألة الثانية وهي مسألة الفقراء فهو ما ذكره اللخمي والمازري وابن شاس وابن الحاجب، وتعقبه ابن عرفة فقال: ظاهر الروايات عدم حلفه لعدم تعيين طالبه. اهـ. وأما مستنده في كونه يحلف في مسألة وقف على بنيه وعقبهم فهو ما فهمه في توضيحه من قياس هذا الفرع على مسألة الفقراء بناء على ما ذكره اللخمي ومن تبعه فيها من اليمين.
ثم فرع على الفرع الأول فقط في خصوص ما إذا حلف بعضهم دون بعض قوله: فإن مات البعض الحالف اتحد أو تعدد ولم يبق إلا البعض الناكل، ففي تعيين مستحقه أي مستحق نصيب الحالف الذي مات وكل من استحق لابد من يمينه؛ لأن أصل الحبس بشاهد واحد، وبين جنس المستحق بمن البيانية فقال: من بقية الأولين دون البطن الثاني لأن نكولهم عن الحلف على نصيبهم لا يمنعهم من استحقاق نصيب الحالف الميت، كما مر في تأخير الصبي إذا نكل أخوه الكبير ثم مات الصغير قبل بلوغه، أو البطن الثاني أي إنما يستحق نصيب الحالف الميت البطن الثاني دون بقية البطن الأول لبطلان حقهم بنكولهم.
وقوله: تردد مبتدأ، وخبره قوله:"في تعيين" لخ يعني أنه جرى التردد فيما إذا مات البعض الحالف وبقي البعض الناكل، هل المستحق لنصيب الحالف البعض الناكل لأنه بقية الأولين والموضوع أن الواقف قال: وقف على العقب وبنيهم بطنا بعد بطن أو المستحق لنصيب الحالف الميت إنما هو البطن الثاني لا بقية الأولين؟ قال ابن مرزوق مفسرا للمص: فإن مات إلى تردد أي
إن اجتمع ممن تمكن يمينه مع هذا الشاهد جماعة، فحلف بعضهم ونكل بعضهم واستحق الحالف نصيبه وسقط نصيب الناكل ثم مات الحالف عن نصيبه الذي استحقه، فهل يستحق نصيبه بقية الأولين الذين الحالف منهم فينتقل نصيبه لمن بقي من أهل درجته ولو كانوا نكلوا عن اليمين، وهذا القائل يرى أنهم ورثوه عن هذا المستحق لا عن المحبس، أو يستحقه أهل البطن الثاني ولا شيء لبقية الأولين لنكولهم، تردد في ذلك المتأخرون من أهل المذهب، وإنما عبر المص هنا بالتردد لعدم نص المتقدمين في المسألة، وظاهر كلام المص القول الثاني أنه ينتقل لجميع البطن الثاني وهو أحد القولين، وفيها قول آخر نقله المص، وهو أنه لا يستحقه من أهل البطن الثاني إلا من حلف أبوه من البطن الأول، وقد مر عند قوله:"ففي تعيين مستحقه" أن كل من استحق لا بد من يمينه. قاله عبد الباقي وغيره.
وقال الشيخ التتائي: وسكت المص عمن وجب له أخذ من بقية البطن الأول، هل يأخذه بيمين أو بغير يمين؟ وهما قولان. وقوله:"تردد" قال عبد الباقي: الراجح منه الثاني، قال البناني: انظر من رجحه وهذا التردد إنما حكاه ابن شأس ومن بعده عن المازري، وهو إنما استظهر القول الأول، قال ابن عرفة عن المازري: ولو حلف واحد فاستحق حقه ونكل الآخر من البطن الأول ثم مات الحالف وبقي إخوته الناكلون، فقيل نكولهم كموتهم فينتقل الحق للبطن الثاني، وهذا عندي لا يصح على إحدى الطريقتين اللتين ذكرناهما، وهو أن نكول من نكل لا يبطل حق من يأتي بعده ولا يرجع حظ الناكل إلى أهل البطن الثاني، والأظهر إن اشترط أن لا يأخذ البطن الثاني شيئا إلا بعد انقراض البطن الأول وموت جميعهم لم يأخذ أحد من البطن الثاني شيئا ما دام أحد من الناكلين حيا. انتهى.
وقال عبد الباقي: ثم تمكين بقية البطن الأول على القول بأن الحق لهم من اليمين بعد ما نكل عنها مخالف، لقوله: ولا يمكن منها إن نكل، ولما تقدم من قوله:"إلا أن يكون نكل أولا ففي حلفه قولان" اهـ. قال البناني: قول الزرقاني: ولا تقدم من قوله: إلا أن يكون نكل أولا لا مخالفة لأن كلا من المسألتين فيه قولان. اهـ. وقال الخرشي: إنه لا يخالف قوله: "ولا يمكن منها إن نكل" لأن حلفه هنا على حق موروثه الحالف لا على الحصة الناكل هو عنها. انتهى
وقال عبد الباقي أيضا: وما ذكرناه من أن بقية الأولين يستحقونه بعد الحلف ظاهر في الناكل على ما فيه، وأما على القول بأنه يستحقه أهل البطن الثاني فبعد الحلف كما مر، وينبغي أن يحلف غير ولد الميت لأنه يأخذه بالوراثة، وجعلي موضوع التردد أنه لم يبق إلا البعض الناكل احتراز عما إذا مات بعض من حلف وبقي منهم بعض مع الناكلين، فلا شيء للناكلين ويستحق نصيب الحالف الميت بقية الحالفين على أحد تقريرين في أحمد، والتقرير الآخر شمول التردد لذلك أيضا، وعلى الأول فهل يحلفون حينئذ أيضا أم لا؟ قولان.
واعلم أن كلام المص هنا في بيان أن الوقف المعقب يثبت بشاهد ويمين لا في القضاء به، فلا يخالف ما مر في قوله: وإن قال داري صدقة بيمين مطلقا أو بغيرها ولم يعين لم يقض إلا ببت معين من أن مثله داري حبس، فالوقف على شخص بعينه يثبت بشاهد ويمين على المشهور، ويقضى به لأنه آئل لمال وهو كون الغلة تصرف في مصرفه المشهود به. اهـ. قال البناني: ما ذكره في دفع التعارض تبعا للأجهوري اعترضه مصطفى، ونصه: ما ذكره المص من اليمين على المشهود عليه في مسألة الفقراء تبع فيه صاحب الجواهر وابن الحاجب والمازري، وأصله للخمي. وقال ابن عرفة: ظاهر الروايات عدم حلفه لعدم تعين طالبه. اهـ. قال: وبه تعلم معارضة ما ذكره المؤلف هنا لما ذكره آخر الهبة من أن الصدقة على غير المعين، ومثلها الحبس لا يقضى به إذ توجه اليمين فرع القضاء، وأن ما ذكره هناك هو الموافق لظاهر الروايات وهو نص المدونة، وقول الأجهوري ومن تبعه: كلام المص هنا في بيان ما يثبت به الوقف لا في القضاء، وحينئذ فلا يخالف ما تقدم من قوله: وإن قال داري صدقة لخ فيه نظر. انتهى. أي لأنه لا فائدة للثبوت إلا القضاء.
قال البناني: قلت: قد يقال في دفعها أن ما تقدم آخر الهبة محله في الدعوى على المالك لشيء أنه تصدق به أو حبسه على غير معين، فلا يقضى عليه به وما هنا في حائز لشيء يدعي ملكه يستحق من يده بإثبات أنه وقف من غيره على غير معين، وهذا يقضى به. فتأمله. انتهى.
تنبيه: قال الخرشي: لو حلف الموجودون كلهم ثبت الحبس كله، فلو ماتوا استحقه من بعدهم من غير أيمان، وحملنا كلام المؤلف على ما إذا قال الواقف في وقفه بطنا بعد بطن، وأما لو لم يكن هناك شرط فيصير التردد هكذا، هل يدخل بقية الأولين مع البطن الثاني أو يختص بالبطن الثاني؟ اهـ.
ولما فرغ من ذكر أنواع الشهادات التي يؤديها الشاهد بنفسه عند الحاكم ومنها شهادة السماع، أخذ يذكر الشهادة على الشهادة، وصدره ببيان الشهادة على حكم القاضي لأنها لما كانت نقلا لحكمه أشبهت نقل الشهادة، فلذا ذكرها هنا وإن كانت من الذي قبله، فقال: ولم يشهد على حاكم قال: ثبت عندي إلا بإشهاده يعني أن من سمع حاكما يقول ثبت عندي كذا فلا يشهد عليه أنه ثبت عنده ذلك حتى يشهد القاضي الشاهد بذلك فيقول له اشهد علي أنه ثبت عندي كذا، فحينئذ يشهد به. اهـ. قاله ابن مرزوق. وقال عبد الباقي: ولم يشهد على حاكم، قال: ثبت عندي لفلان على فلان كذا أو في أمر عام، وكذا إذا سمعه يقول حكمت بطلاق زوجة فلان كما في أحمد بحثا أو بغير طلاق إلا بإشهاد منه لهما، بأن يقول اشهد على حكمي. اهـ. وعلل ابن مرزوق قول المص:"ولم يشهد على حاكم قال ثبت عندي" لخ بقوله، لأنه قد يكون ذلك من القاضي على وجه الاستفهام أو التثبت لأحد الخصمين أو الترتب على الخصم. انتهى.
فرع في المدونة: قيل لمالك: فرجلان تنازعا في أمر فأدخلا بينهما رجلين على أن لا يشهدا بما سمعا منهما فيتقاران ثم يفترقان فيتجاحدان، قال: فليعذر الشاهدان إليهما ولا يعجلا، فإن تماديا على الجحود فَلْيُشْهَدْ عليهما. انتهى من كتاب الحدود في الزنى. ومنه في ابن يونس عنها هناك ولم يذكر غيره، فوجب التعويل عليه. واللَّه أعلم. قاله الرهوني. وقد مضى الخلاف في هذه المسألة وفي الخرشي عن الأجهوري عند قوله:"ولم يشهد على حاكم" لخ، فلو حضر الثبوت ولم يشهده فلا ينقله هذا الذي حضر عنده، ومثل ثبت عندي قوله حكمت به كان بطلاق أو غيره، وقول الزرقاني: بطلاق صورة مسألة.
كاشهد على شهادتي يعني أن نقل الشهادة لا يصح إلا بأحد أمرين، أحدهما أن يقول الشاهد المنقول عنه للشاهد الناقل اشهد على شهادتي، فإذا قال له أنا أشهد على كذا فاشهد على
شهادتي بذلك فإنه يصح له النقل عنه، قال عبد الباقي: وشرع في شهادة النقل فقال كاشهد على شهادتي، مثال لمحذوف معطوف على حاكم أي أو على شاهد لشخص بحق إلا بإشهاد أو ما هو بمنزلة الإشهاد، كما أشار له بقوله: أو رآه يؤديها هذا هو الأمر الثاني؛ يعني أن الشاهد إذا رآى من يؤدي شهادته عند القاضي فإنه يجوز له النقل عنه ولو لم يقل له اشهد على شهادتي، فالحاصل أنه إذا قال له اشهد على شهادتي فإنه يسوغ له النقل عنه ولو لم يكن ذلك عند الحاكم، كما أنه إذا رآه يذكرها عند الحاكم ينقل عنه، ولو لم يقل له اشهد على شهادتي، قال ابن مرزوق: وقوله: "كاشهد على شهادتي" إلى "يؤديها"، هذا هو نقل الشهادة أي كما لا يشهد على القاضي بأنه ثبت عمده، كذا إن سمع منه ذلك لا يشهد على شهادة شاهد سمعه يذكر شهادة عنده حتى يقول له الشاهد اشهد على شهادتي، وهذا إذا سمعه يذكرها عند غير الحاكم، وأما إن رآه يؤديها عند الحاكم وحضر المجلس وسمع تلك الشهادة فإنه يجوز له أن يشهد على شهادته تلك، كما لو قال له: اشهد على شهادتي، وإلى هذا أشار بقوله:"أو رآه يؤديها" أي عند الحاكم؛ لأن الأداء إنما يكون عنده، وما ذكره أنه يشهد إن رآه يؤديها مختلف فيه، ولأشهب في كتاب ابن المواز خلافه كما ترى في نقل النوادر، وهذا هو الذي كان ينبغي للمص أن يفتي به؛ لأن ظاهر المدونة كما ترى في عموم لفظها وهو ظاهر العتبية أيضا وقول أصبغ، وما ذكر المصنف قول مطرف.
قال في المدونة: ومن سمع رجلا يذكر شهادته أن لفلان على فلان كذا، أو يقول سمعت فلانا يطلق زوجته فلا يشهد على شهادته حتى يقول: اشهد على شهادتي. اهـ. وقال في النوادر: ونقله أيضا ابن يونس في كتاب ابن المواز: إن سمع قوما يقولون لقوم اشهدوا على شهادتنا أن لفلان على فلان كذا فلا يشهد على شهادتهم حتى يقولوا له اشهد على شهادتنا. اهـ. وفي العتبية: قال ابن القاسم في رجلين قالا: سمعنا فلانا يذكر أنه شهد لفلان في كذا، قال: ما أحب أن يشهدا وإن شهدا لم يقبلا، قال ابن رشد: هذا مثل ما في المدونة وهو متفق عليه لا اختلاف أنه لا يشهد أحد على شهادة أحد دون أن يشهده، وإنما اختلف إن سمعه يشهد غيره على
شهادته: فقيل يجوز له أن يشهد عليها وقيل لا حتى يشهده، وقال ابن يونس: وهو في النوادر أيضا، قال مطرف: ومن سمع رجلا يشهد عند القاضي شهادته ثم مات القاضي أو عزل فتجوز شهادته عليه، وتكون شهادة على شهادة. اهـ. وقال عبد الباقي: أو رآه يؤديها عند قاض فيشهد على شهادته لأن سماعه يؤدي الشهادة عند القاضي منزل منزلة قوله: اشهد على شهادتي، ثم إن قوله:"ولم يشهد" لخ موافق لما في الإنهاء من قوله: وأفاد إن أشهدهما أن ما فيه حكمه أو خطه فإنه يفيد أنه إذا لم يشهدهما وسمعا قوله ما فيه حكمي فلا يشهدان وهو كذلك عند أشهب، ولكن قول ابن القاسم وابن الماجشون خلافه، وأنهما يشهدان حيث سمعاه يقول ما فيه حكمي وإن لم يشهدهما. قاله الأجهوري. وتقدم نحوه هناك وانظره مع [نقل أحمد]
(1)
هنا: ما للمص قول ابن القاسم ومطرف. اهـ. وهو ظاهر.
وَالْفَرْقُ أن الإنهاء له أحكام تخصه، وأشعر قوله: رآه يؤديها أنه إذا سمع شاهدا يقول لآخر: اشهد على شهادتي فليس للسامع أن ينقل عن الشاهد الأصلي، وذكر الشارح فيه خلافا، واقتصر المواق على أن له أن ينقل عنه، وقال: إنه المشهور أي لأنه شهره ابن رشد كما في المواق، وظاهر كلام المص أنه يجوز النقل ولو تسلسل وهو ظاهر الروايات، فلا يطلب التاريخ للنقل، وظاهره أنه يجوز النقل وإن لم يعرف الناقل المنقول عنه، وفهم من قوله:"كاشهد على شهادتي" لخ أن المنقول عنه عدل وقت قوله المذكور أو وقت رؤيته أداءها، لا صبي أو عبد أو كافر قال كل اشهد على شهادتي وانتقلوا إلى حالة العدالة بعد النقل عنهم، وماتوا أو غابوا فلا يجوز النقل عنهم لأن المنظور إليه وقت التحمل عنهم، ولا يخالف هذا قول المص:"إلا أن يشهد عليهم" قبلها لأن الشهادة عليهم بها بمنزلة الشهادة على أصل ما شهدوا به، وليس بنقل عنهم إذ لم يعتبروا في شهادة الصبيان نقلا. انتهى كلام عبد الباقي.
تنبيهات: الأول: عَرَّفَ ابن عرفة شهادة النقل بقوله: النقل عرفا إخبار الشاهد عن سَمَاعِهِ شهادة غيره أو سماعه إياه لقاض، فيدخل نقل النقل ويخرج الإخبار بذلك لغير قاض، وظاهر
(1)
في عبد الباقي ج 7 ص 195 نقل ق.
عموم الروايات وإطلاقها صحة نقل النقل، ولم أقف عليه نصا فيه فيها مع غيرها، وتجوز الشهادة على الشهادة في الحدود والطلاق والولاء وكل شيء، قُلْتُ: والنقل عن الأصل شيء، فإن قال المنقول عنه للناقل: اشهد على شهادتي أو انقلها عني صح نقله اتفاقا. انتهى. نقله البناني. والنقل لغة معلوم، وقد قصره الشرع في عرفه على بعض مدلوله، وعرفا منصوب على نزع الخافض. وقوله: إخبارت صَيَّرَ الجنس للنقل الإخبارَ وهو مصدر أخبر، وقوله: الشاهد أخرج به ما ليس بشاهد إذا أخبر بما سمع لا على وجه الشهادة، وأطلق الشاهد على من تحمل السماع. قوله: عن سماعه شهادة غيره معناه أنه أخبر عن الذي سمعه يذكر شهادة عنده وعن سماعه متعلق بالإخبار، والضمير عائد على الشاهد، وشهادة غيره مفعول سماعه، وقوله أو سماعه عطف على سماعه، والضمير فيه عائد على الشاهد وإياه عائد على الإخبار، وذكر هذه الزيادة ليدخل نقل النقل، وفي نسخة: إياها فضمير سماعه يعود على غيره، في قوله: شهادة غيره، وضمير إياها عائد على الشهادة، وأدخل بها أيضا نقل النقل. وقوله: الشاهد أي من نسب له الشهادة ذكرا أو أنثى، وقوله: لقاض يتعلق بالإخبار واللام تقوية للعامل، فَإن قُلْتَ: إذا تعدد النقل فالوسائط أطلق عليها نقلا وليس في الوسائط إخبار لقَاض، قُلْتُ: أطلق النقل على الوسائط لغة والمعتبر شرعا هو الطرف الأخير الذي وقع فيه الإخبار للقاضي: وقوله: لقاض يخرج ما إذا أخبر الشاهد الثاني غير قاض، فلا يقال فيه نقل. انظر الخرشي.
الثاني قال المواق: قال ابن رشد: شهادة الرجل بما سمعه دون إشهاد من المشهود عليه ثلاثة أقسام: الأول: ما سمعه منه من قذف يوجب حده أو عقوبته شهادته به مقبولة اتفاقا، القسم الثاني: ما سمعه منه من إقرار على نفسه بحق لرجل، فقال ابن القاسم في المدونة: تصح وهو أحد قولي مالك في المدونة، وقوله: الآخر لا تصح. الْقِسْمُ الثَّالثُ: شهادته عليه بما سمع من شهادته على غيره بحق أو قذف أو زنى لا تجوز اتفاقا. قال الباجي: من سمع رجلا ينص شهادته لم يجز أن ينقلها عنه حتى يشهده على ذلك، ومن المدونة قال ابن القاسم: ومن سمع
رجلا يذكر شهادته يقول سمعت فلانا يقذف فلانا أو يطلق زوجته فلا يشهد على شهادته حتى يقول له اشهد على شهادتي.
الثّالِثُ: قال مطرف: من سمع رجلا يؤدي عند القاضي شهادته، ثم مات القاضي أو عزل فتجوز شهادته عليه وتكون شهادة على شهادة، وقال أصبغ: لا تجوز حتى يشهده على ذلك أو يشهد على قبول القاضي لتلك الشهادة. ابن يونس: قول أصبغ أعدل وأشبه بظاهر المدونة، وقال ابن رشد: إن سمعه يؤديها عند الحاكم، أو كان هو الحاكم فشهد بها عنده أو سمعه يشهد غيره وإن لم يشهد فالمشهور أنها جائزة. انتهى. قوله: أو كان هو الحاكم لخ، صورة ذلك - والله أعلم - أن يؤديها الشاهد عند الحاكم فينقلها الحاكم ويشهد بتلك الشهادة عند حاكم آخر من غير أن يشهده المنقول عنه. قاله مقيده عفا الله عنه. والله تعالى أعلم.
وذكر شروط صحة النقل بقوله: إن غاب الأصل يعني أنه يشترط في صحة النقل أن يكون الأصل المنقول عنه غائبا، وهو أي والحال أن الأصل المنقول عنه رجل، بخلاف ما إذا كان المنقول عنه امرأة فإنه يجوز أن ينقل عنها مع حضورها، بمكان لا يلزم الأداء منه يعني أنه يشترط في صحة النقل أن يكون الأصل غائبا عن محل الأداء بموضع لا يلزمه أن يؤدي الشهادة منه، وهو ما فوق البريدين هذا فيما إذا كان المشهود به مالا اتفاقا.
وأشار للحدود بقوله: ولا يكفي في الحدود الثلاثة الأيام يعني أنه لا يكفي في النقل عن الشاهد الأصلي في الحدود الثلاثة الأيام؛ أي كون مسافته ذهابا على ثلاثة أيام، فلا يصح النقل إلا إذا كان المنقول عنه على مسافة أكثر من ثلاثة أيام، وما مشى عليه المص قول ابن القاسم في الموازية: وقال سحنون: الغيبة البعيدة مسافة القصر، ولم يفرق بين الحدود وغيرها وعلى ما للمص، فإذا كان بموجب حد على مسافة قصر فأعلى ولم يبعد أكثر من ثلاثة أيام رفع شهادته إلى من يخاطب قاضي المصر الذي يراد بنقل الشهادة إليه، وانظر لمَ لَمْ يكتف بنقل الشهادة هنا مع اكتفائهم فيها بالخط إلى قاضي بلد الخصومة. قاله ابن عاشر؟ وَأُجِيبَ بأنه إنما اكتفوا بالخطاب لأنه لما كان صادرا من القاضي وثقت النفس به ما لا تثق بنقل الشاهد. والله أعلم. قاله البناني.
تنبيه: فهم من كلام المص أن شهادة النقل يعمل بها في كل شيء، قال في المدونة: وتجوز الشهادة على الشهادة في الحدود والطلاق وفي كل شيء. اهـ. وقال في القطع في السرقة: وتجوز الشهادة على الشهادة في السرقة وغيرها، وعلل القاضي في التنبيهات عدم قبول النقل حيث لم يشهد الأصل الناقل، بقوله لأنهم لو دعوا إلى الشهادة لعلهم لا يشهدون لعلة، أو لأن كثيرا من يستعمل في كلامه المعاريض والمزح. اهـ. ثم إنه جرى في قوله:"الثلاثة الأيام" على مذهب الكوفيين هذا على جر الأيام، ويجوز فيها الرفع على البدلية كما في الخرشي والشبراخيتي. والله تعالى أعلم.
أو مات عطف على غاب يعني وكذلك يصح النقل إن مات الأصل المنقول عنه لتعذره أو مرض أي وكذلك يصح النقل عن الأصل إذا مرض مرضا يتعسر معه الحضور لأداء الشهادة، وإن كان بموضع يلزمه الأداء منه لو لم يكن مريضا، قال ابن مرزوق: أي ومن شروط قبول الشهادة على الشهادة أن يكون المنقول عنه الشهادة غائبا أو ميتا أو مريضا، ويعني مرضا لا يقدر معه على الأداء، نص على هذا التقييد في المرض المازري وغيره، وهو من كلام ابن المواز كما في النوادر، وكان من حق المص أن ينبه عليه كما فعل ابن شاس، وإنما تركه المص وابن الحاجب - والله أعلم - لأنهما رأياه ظاهرا فلم يحتاجا إلى ذكره استغناء بظهوره، وأما إن كان الأصل المنقول عنه حاضرا صحيحا لا مانع يمنعه من أداء الشهادة فلا يجوز نقلها عنه؛ لأن تركه الأداء مع تمكنه منه ربية، ولأنه لو حضر عند القاضي لتبين للقاضي من أحواله ما ترد به الشهادة، أو لأنه لا يؤديها كما يؤديها الناقل عنه. اهـ.
ومثل مرض الأصل كل عذر تترك له الجمعه. نقله في الميسر عن ابن شأس. وقوله: "إن غاب الأصل" أو مات أو مرض الأصل هو المنقول عنه لأنه أصل في الشهادة والناقل فرع. وقوله: "وهو رجل" جملة في موضع الحال من الأصل، وقوله:"بمكان" الباء فيه للظرفية، وقوله:"بمكان لا يلزم الأداء منه" قد تقدم أنه كمسافة القصر. انتهى كلام ابن مرزوق. وقد مر أن البريدين هما الذي يتعين الأداء منهما عن غير واحد، وذلك صريح في أن مسافة القصر وما دونها مما فوق
البريدين لا يتعين الأداء منه، وحينئذ فالظاهر أن الكاف في قوله:"لا كمسافة القصر" مدخلة لما فوق البريدين. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه. وقد مر لعبد الباقي أن الكاف في كبريدين استقصائية على ظاهر نقل المواق، قال: وظاهر مقابلة المص لما هنا بقوله: "لا كمسافة القصر" أن ما دونها يتعين الأداء منه. والله تعالى أعلم. وقوله: "وهو رجل" قال ابن يونس: ولا يجوز النقل عن الصحيح الحاضر - يريد إلا النساء - فإنه يجوز النقل عنهن وهن أصحاء لضرورة الكشف، وقال ابن الماجشون في كتاب ابن حبيب: ينقل عن النساء وإن كن حضورا وذلك الشأن، وقال [ابن شاهين]
(1)
وابن الحاجب: قال مطرف: لم أر قط امرأة بالمدينة أدت شهادتها وإنما تنقل عنها. انتهى.
فرع: قال في التوضيح: ويشترط أيضا في صحة النقل أن يسمِّيَ الناقلون من نقلوا عنه، لاحتمال أن يكونوا إذا سَمَّوْهُمْ طعن فيهم. انتهى. قاله الخرشي. وقال ابن مرزوق: وأما النقل عن الميت، فقال ابن يونس: وهو في النوادر أيضا. ابن حبيب: في نقل الناقلين لشهادة قوم في نكاح أو حق فقالوا أشهدنا قوم على كذا وكانوا عندنا يومئذ عدولا ولا ندري اليوم من هم، فلا تجوز شهادتهم حتى يسموهم فيعلم أنهم غُيَّبٌ أو أموات فيجوز وإلا لم يجز؛ إذ لعلهم حضور قد نزعوا عن شهادتهم أو نسوها أو حالت حالتهم إلى جرحة، وقاله أصبغ. انتهى المراد منه. وقوله:"أو مات أو مرض" قال الشبراخيتي: ومثلهما الاعتكاف كما مر في بابه. اهـ.
ولم يطرأ فسق يعني أن من شرط نقل الشهادة أن يكون من نقلت عنه عدلا حين تحملها الناقل عنه، وتستمر عدالته إلى حين أدائها عنه فلو طرأ فسق قبل أن تؤدى عنه لبطلت، وظاهره عموم بطلانها بطرو الفسق من أيِّ نوع كان، وبعضهم يستثني ما كان من نوع الجراح مما يمكن حدوثه كما مر في الشاهد نفسه. قاله ابن مرزوق. أو عداوة يعني أن من شرط نقل الشهادة أن لا يكون من المنقول عنه من حين تحمل الشهادة إلى أن تؤدى عنه ما يمنع من قبول شهادته على المشهود عليه كعداوة بينهما، فلو طرأت بين المنقول عنه وبين المشهود عليه عداوة قبل الأداء لم تود عنه،
(1)
كذا في الأصل ولعله ابن شأس.
والحاصل أن طرو الفسق أو العداوة على الأصل المنقول عنه قبل أداء الفرع الناقل يبطل شهادة الفرع، وأَمّا لو طرأ على الأصل الفسق أو العداوة بعد الأداء أي الأداء الحاصل من الفرع الناقل، فإنه لا تبطل شهادة الفرع بل تصح لأن أداءه بمنزلة الحكم هذا هو التحقيق.
بخلاف جن أي طرو جن يعني أنه لو طرأ للمنقول عنه جن بعد النقل فإن ذلك لا يمنع من صحة شهادة النقل عنه، كان ذلك قبل أداء الفرع أو بعده. قال الإمام الحطاب: ولم يطرأ فسق أو عداوة، بخلاف جن أي طروّ الفسق والعداوة على الأصل قبل أداء الفرع يبطل شهادة الفرع، بخلاف طرو الجنون على الأصل فإنه لا يبطل شهادة الفرع. انتهى. وقال عبد الباقي: ولم يطرأ فسق للمنقول عنه أو عداوة بينه وبين المشهود عليه قبل أداء الشهادة، فلو زال الفسق عن الأصل فهل ينقل عنه بالسماع الأول أو حتى يأذن ثانية خلاف؟ بخلاف طرو جن أي جنون بعد تحمل الناقل عنه فلا يقدح في النقل عنه. انتهى. وقال الخرشي: يعني أن طرو الجنون على شاهد الأصل لا يقدح في النقل عنه. ابن عرفة: طرو الجنون والعمى على الأصل لغو.
ولم يكذبه أصله قبل الحكم يعني أن من شروط شهادة النقل أن لا يكذب الأصل الناقل قبل الحكم بشهادة النقل ولو بعد الأداء، فلو كذبه قبل الحكم لم تصح شهادته. وعلم مما قررت أن قوله:"قبل الحكم" خاص بالأخيرة، وأما قول عبد الباقي: إن قوله قبل الحكم راجع للمسائل الثلاث فغير صحيح، قال البناني: قول الزرقاني وهو راجع للمسائل الثلاث لخ غير صحيح، والصواب رجوعه للأخيرة فقط، وأما الفسق والعداوة فالأداء فيهما بمنزلة الحكم فلا يضر طروهما بعد الأداء كما في التوضيح وابن عرفة. انظر كلامه في المواق. انتهى. وقال الرهوني: قول الزرقاني راجع للمسائل الثلاث، أراد بالثلاث: طرو الفسق وطرو العداوة وتكذيب الأصل، وفيه نظر بل هو خاص بالأخيرة، ورجوعه للأولين مخالف لقوله: أو لا عقبهما قبل أداء الشهادة، وما قاله أولا هو الصواب. والله أعلم. وقوله:"ولم يطرأ فسق أو عداوة" وكذا صهارة أو مانع أعم، كما لو تزوج الأصل المرأة المشهود لها. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: ولم يكذبه أصله، فإن كذبه
حقيقة أو حكما كشكه في أصل شهادته بالشيء لم ينقل عنه، ومثل تكذيبه طرو فسق الناقل قبل الحكم، بخلاف طرو عداوة بينه وبين المشهود عليه. انتهى.
وقال التتائي: ولم يطرأ فسق للمنقول عنه أو عداوة بينه وبين المشهود عليه أو ردة، فإن حدث شيء من ذلك قبل التحمل أو قبل الأداء أبطل شهادته، وظاهره كان الفسق مما يخفى ويكتم كالزنى أو مما يتجاهر به كالقتل وهو كذلك، بخلاف طرو جن وعمى على الأصل بعد النقل وقيل الأداء فإنه غير مانع من النقل عنه، وكذا طروه على الفرع بعد الأداء للغوهما في غير النقل، وأشار لشرط آخر بقوله:"ولم يكذبه" أي الفرع أصله قبل الحكم بشهادة الفرع: فإن كَذَّبه بأن قال: لم أشهده على شهادته ولا أديتها عند قاض، أو قال: لا شهادة لي في ذلك بطلت إذ هو كرجوعهم عنها قبل الحكم. اهـ.
وإلا بأن كذب الأصل فرعه الناقل عنه بعد الحكم بشهادة الناقل، مضى الحكم فلا ينقض بلا غرم على الأصل، ولا على الناقل كما في الخرشي وغيره؛ لأن كل واحد منهما يحتمل أن يكون صادقا في نفس الأمر أو كاذبا، فكيف يغرم بالشك؟ قال ابن مرزوق: وأما إن كذب الأصل الفرع بعد حكم الحاكم بها فإن التكذيب بها لا يفيد والحكم ماض، وهذا معنى قوله:"وإلا مضى" أي وإن لم يكذبه قبل الحكم بل كذبه بعده مضى أي الحكم الواقع بشهادة النقل، ولا ينقض وليس على الأصل المكذِّبِ غرمُ ما أتلف بشهادته المنقولة عنه، كما يغرم الشاهد إذا رجع بعد الحكم لأنه لم يشهد حتى يعد تكذيبه رجوعا، وهذا معنى قوله:"بلا غرم" أي بلا غرم من الأصل المكذّب، ويحتمل أن يريد مع ذلك ولا من الناقل كما نقل اللخمي عن ابن القاسم ومطرف؛ لأن كل واحد منهما يحتمل أن يكون صادقا في نفس الأمر وكاذبا، فكيف يغرم بالشك؟ وهذا الذي ذكر من التكذيب قبل الحكم يسقط النقل قيده في كتاب ابن المواز بما إذا لم يصر في ذلك إقرار على الأصل أو في جحوده منفعة له، وإنما لم يقيده المص - والله أعلم - لأنه رآى أن الأمر إذا آل إلى ما ذكر خرجت الشهادة عن النقل وصارت إلى أنها شهادة على المقر. اهـ.
وقال الرهوني: لم يقيد الزرقاني ولا غيره كلام المص بشي، وفي ابن يونس: ومن كتاب ابن المواز: وإذا شهد رجلان على شهادة رجل ثم قدم وأنكر شهادته أو شك فيها عن قرب ذلك أو
بُعْدِه فلا يجوز أن تنقل عنه إلا أن يكون صار ذلك إقرارا على نفسه، أو آل أمره إلى أن صار جحوده منفعة له فينفذ ذلك. اهـ. وقوله:"وإلا مضى بلا غرم" هو قول ابن القاسم ومطرف، ومقابله رواه ابن حبيب عن مالك أنه ينقض. انظر ابن مرزوق. وقال الشبراخيتي: وإلا بأن كذب الأصل فرعه بعد الحكم بشهادته مضى الحكم بلا غرم من الأصل المكذب. اهـ. وقال التتائي: وإلا بأن كذب الأصل فرعه بعد الحكم بشهادته مضى الحكم بلا غرم، واستقرأ اللخمي أنه يمضي ويغرم شهود الأصل. ابن المواز: شك الأصل مع جزم الفرع بمنزلة الإنكار. انتهى.
ونقل عن كل اثنان عطف على "غاب" يعني أنه يشترط في صحة شهادة النقل أن ينقل عن كل من الأصلين اثنان، والحال أن الناقلين ليس أحدهما أصلا وهو صادق بأربعة، بأن ينقل عن زيد الأصل شاهدان، وينقل عن عمرو الأصل شاهدان آخران، وباثنين بأن ينقل عن زيد الأصل اثنان ثم يذهبا إلى عمرو الأصل فينقلا عنه، ولا يكفي في النقل إذا كان أحد الناقلين أصلا أي من المنقول عنهم؛ لأنه إذا كان أحدهما أصلا يرجع إلى أن واحدا أحيا شهادتهما، فيلزم ثبوت الحق بشاهد واحد، قال عبد الباقي: وعطف على غاب قوله: "ونقل عن كل من الشاهدين الأصلين في غير الزنى اثنان ليس أحدهما؛ أي أحد الناقلين أصلا أداء شهادته، وذلك لأنه يلزم ثبوت الحق بشاهد واحد، والمتبادر من المص أن الناقلين عن اثنين أربعة ويصدق أيضا، وإن كان خلاف المتبادر منه بنقل اثنين عن واحد بمجلس ثم ذهبا للآخر فنقلا عنه بمجلس آخر. انتهى.
قال الرهوني: قول الزرقاني لأنه يلزم ثبوت الحق لخ التعليل الذي في المواق أبين وعليه يتفرع ما علل به الزرقاني، وكلام المواق هو قوله: ونقل عن كل اثنان من المدونة، قال مالك: شهادة الرجلين تجوز على شهادة عدد كثير ولا ينقل أقل من اثنين في الحقوق عن واحد فأكثر، ولا يجوز نقل واحد عن واحد مع يمين الطالب في مال؛ لأنها بعض شهادة شاهد والنقل نفسه ليس بمال ولو أجيز ذلك لم يصل إلى قبض المال إلا بيمينين، وإنما قضى النبي صلى الله عليه وسلم في الأموال بشاهد ويمين واحدة ليس أحدهما أصلا، قال ابن القاسم في المجموعة: إذا شهد الرجل في حق على علمه وشهد هو وآخر ينقلان عن رجل ذلك الحق، فلا يجوز لأن واحدا أحيا
الشهادة، قال في العتبية: وتجوز الشهادة على علم نفسه ولا يجوز نقله عن الآخر، وانظر إذا شهد رجلان على شهادة رجل وشهد أحدهما وثالث على شهادة آخر في ذلك الحق، نص ابن الماجشون أن ذلك أيضا لا يجوز لأنه يرجع إلى أن واحدا أحيا شهادتهما. اهـ. وقال التتائي عند قوله:"ليس أحدهما أصلا": كأن يشهد اثنان على شهادة واحد وأحدهما أصل؛ إذ لو كان كذلك لصار الأصل مؤديا إذ نقله عن نفسه ساقط فتبطل شهادة الناقل معه لانفراده. اهـ. وقال الخرشي: "ونقل عن كل اثنان ليس أحدهما أصلا" يعني أن شرط النقل في غير الزنى بدليل ما بعده أن ينقل عن كل واحد من شهود الأصل اثنان ليس أحدهما من شهود الأصل؛ لأنه إذا كان أحدهما من شهود الأصل صار الحق كله إنما ثبت بشاهد واحد. قال ابن القاسم: وإذا شهد رجل في حق على علمه وشهد هو وآخر ينقلان عن رجل في ذلك الحق، فلا يجوز لأن واحدا أدى الشهادة.
وفي الزنى أربعة يعني أن شهود النَّقْلِ في الزنى لا بد أن يكونوا أربعة، ولا بد في ذلك من أن ينقل الأربعة عن كل واحد من شهود الأصل الأربعة، بأن ينقلوا كلهم عن زيد ثم ينقلوا كلهم عن عمرو ثم ينقلوا كلهم عن بكر ثم ينقلوا كلهم عن خالد مثلا، فالناقلون في هذه الصورة أربعة فقط، وأحرى في الثبوت لو نقل عن كل واحد أربعة ثم نقل أربعة آخَرُون عن كل واحد من الثلاتة ونحو ذلك.
أو عن كل اثنين اثنان يعني أنه يكفي في شهادة النقل في الزنى أن ينقل عن كل اثنين من الأصول اثنان؛ بأن ينقل اثنان عن زيد وعن عمرو أي ينقل الاثنان عن كل واحد منهما وينقل اثنان آخران عن بكر وخالد؛ أي ينقل الاثنان عن كل واحد منهما فالناقلون أربعة في هذه أيضا قوله: "وفي الزنى أربعة" معطوف على مقدر أي ونقل عن كل اثنان في غير الزنى وفي الزنى أربعة، فقد عطف معمولان على معمولين لعامل واحد. قال عبد الباقي: وفي الزنى أربعة أي ينقل جميع الأربعة عن كل أي عن كل واحد من الأربعة الأصل، فشهود النقل أربعة في هذا وفي قوله: أو نقل أربعة عن كل واحد من اثنين من الأصول اثنان أي ينقل اثنان عن كل واحد من اثنين من الأربعة الأصول، وينقل غيرهما عن كل واحد من الاثنين الباقيين من الأربعة، فلو نقل اثنان عن
ثلاثة وعن الرابع اثنان لم يصح خلافا لابن الماجشون، أو أدى الرابع بنفسه لم يصح صرح به المواق وأحمد، أو نقل ثلاثة عن ثلاثة وواحد عن الأربعة لم يتم الحكم. قاله الشارح. إذ الرابع لم ينقل عن شهادته اثنان، ثم لا بد أن يقول شهود الزنى لمن ينقل عنهم: اشهدوا عنا أنا رأينا فلانا يزني وهو كالمرود في المكحلة، ولا يجب الاجتماع في تحمل النقل ولا تفريق الناقلين وقت شهادتهم عند الحاكم، بخلاف أصولهم كما مر. اهـ.
قوله: فلو نقل اثنان عن ثلاثة وعن الرابع اثنان لم يصح لخ، قال البناني: أي على المشهور كما في التوضيح، خلافا لابن الماجشون، وَوَجْهُ عدم صحتها أنه لا تصح شهادة الفرع إلا حيث تصح شهادة الأصل لو حضر: والرابع الذي نقل عنه الاثنان لو حضر ما صحت شهادته مع الاثنين الناقلين عن الثلاثة لنقص العدد، ويحتمل أن عدم الصحة لأن عدد الفرع فيها ناقص عن عدد الأصل حيث نقل عن الثلاثة اثنان فقط، والفرع لا ينقص عن الأصل لقيامه مقامه ونيابته منابه، كذا على ما للمص في التوضيح، وفي ابن عرفة خلافه، ونصه: وسمع أبو زيد ابن القاسم: يجوز ثلاثة عن ثلاثة في الزنى واثنان عن واحد، ثم قال عن ابن رشد: وقول ابن القاسم في السماع: يجوز ثلاثة الخ كلام خرج على سؤال سائل أنه لا يجوز عنده أقل من ذلك؛ لأنه يجوز على مذهبه اثنان عن ثلاثة واثنان عن واحد. اهـ. فمقتضاه أن الجواز في ذلك هو مذهب ابن القاسم. اهـ.
وقال الرهوني: قوله فمقتضاه أن الجواز في ذلك هو مذهب ابن القاسم، قال الرهوني: هو نص في ذلك، ولفظ ابن رشد الذي اختصره أوضح في الدلالة على ذلك وعلى أنه المذهب، ففي سماع أبي زيد من كتاب الشهادات الرابع، قال ابن القاسم: تجوز شهادة ثلاثة على ثلاثة في الزنى واثنين على واحد، قال الإمام القاضي: هذا نص قول ابن القاسم في المدونة أن الشهادة على الشهادة في الزنى لا تتم بأقل من أربعة شهداء إذا شهدوا على كل واحد من الأربعة الذين شهدوا على الرؤية، وكذلك لو شهد منهم اثنان على اثنين واثنان على اثنين، أو اثنان على ثلاثة واثنين
(1)
(1)
في الرهوني ج 7 ص 477 واثنان على واحد.
على واحد لخ. وصرح بذلك أيضا اللخمي في موضعين من تبصرته، فقال: قال ابن القاسم: لو شهد أربعة على شهادة أربعة بالزنى لحد المشهود عليه، وسواء شهد جميع هؤلاء الأربعة على شهادة كل واحد من شهود الزنى، أو شهد اثنان على شهادة اثنين واثنان على شهادة اثنين، أو شهد اثنان على شهادة ثلاثة واثنان على شهادة واحد، ثم نقل عن أبي الحسن مثله، ثم قال: وما صرح به هؤلاء الأئمة هو المأخوذ من نقل النوادر عن ابن القاسم، ومن كلام ابن يونس ومن كلام ابن عرفة فما في التوضيح - يعني ما قدمته عنه من أن المشهور هذا الذي ذكر المص هنا وإن سلمه الناصر في حواشيه بسكوته، ونقله جسوس وقبله واعتمده الأجهوري وأتباعه - فيه نظر، والصواب خلافه. والله أعلم. انتهى كلام الرهوني.
وَلُفِّقَ نَقْلٌ بأَصْلٍ يريد في الزنى وغيره، والباء بمعنى: مع يعني أنه يجوز تلفيق الناقل مع شهود الأصل، فإذا شهد اثنان بالرؤية في الزنى ونقل اثنان عن اثنين تمت الشهادة، وكذلك لو شهد ثلاثة بالرؤية ونقل اثنان عن رابع تمت الشهادة على المشهور، وقال ابن القاسم: إن شهد واحد برؤية نفسه وثلاثة على شهادة ثلاثة فذلك تام، وأما لو شهد واحد على رؤية نفسه واثنان على شهادة ثلاثة لم يجز وَحُدَّ شاهد الرؤية للقذف. انتهى. انتهى. نقله الخرشي. وأما التلفيق في غير الزنى، فأن يُشْهَدَ واحد بالأصل وينقل اثنان عن واحد، ثم إن المؤلف ضَمَّنَ لُفِقَ مَعْنَى ضُمَّ، فعداه بالباء أو هي بمعنى مع أي ضم مع أصل. وقوله:"ولفق" لخ أي إذا كان النقل صحيحا. قاله الخرشي أيضا. وقال عبد الباقي: ولفق نقل بأصل أي جاز تلفيق نقل مع شهادة أصل في الزنى وغيره، كأن يشهد اثنان على رؤية وينقل اثنان عن كل من الاثنين الآخَرَيْن، أو يشهد ثلاثة بالرؤية وينقل اثنان عن الرابع فتتم الشهادة في هاتين الصورتين، ولا بد من كون النقل صحيحا، احترازا عما إذا نقل اثنان عن ثلاثة وشهد الرابع بنفسه فلا تلفق الشهادة كما تقدم النقل عن المواق وأحمد لعدم صحة النقل. انتهى.
وجاز تَزْكِيَةُ ناقلٍ أَصْلَهُ يعني أن ناقل الشهادة عن غيره يجوز أن يزكي المنقول عنه إذا كان الحاكم لا يعرفه "فتزكية" مصدر مضاف لفاعله وأصله مفعول تزكية، والهاء عائدة على الناقل. قاله ابن مرزوق. وهو كالصريح في أن نقل الشهادة يجوز عمن يحتاج القاضي إلى التعريف به
فيزكيه الناقل أو غيره، قال في النوادر في كتاب ابن المواز: وليس النقل عن الشاهد بتعديل حتى يعدله الناقلون أو يعرفه القاضي بعدالته، قال أشهب: وإلا طُلِبَ منه أن يزكيه. اهـ. ولا خلاف في جواز تزكية الناقل الأصل، بل شرط أبو حنيفة في صحة النقل أن يزكي الناقل الأصل، والمذهب عدم الشرطية كما رأيت. ومن العتبية: قال أشهب: وإن شهد على شهادة رجل من لا يعرفه بالعدالة والقاضي يعرفه بالعدالة وعدله غيره فذلك جائز. قال أصبغ: وذلك إذا عرفه القاضي والذين عدلوه أنه المنقول عنه بعينه ليلا يجعل اسمه لغيره. قاله ابن مرزوق أيضا. وقال عبد الباقي: وجاز تزكية ناقل أصله؛ أي يجوز لشخص أن يزكي شاهده الأصل بعد أن ينقل عنه شهادته. وكأنهم لم ينظروا للتهمة في تجويز نقله لأنه خفف في شهادة النقل ما لم يخفف في الشهادة الأصلية، وعكس كلام المص أي تزكية المنقول عنه الناقل لا يجوز لأن التهمة في هذه أقوى منها فيما قبلها. انتهى.
تنبيه: قال عبد الباقي: ولا يجوز تزكية أحد الناقلين أو الشاهدين الأصليين لصاحبه إن حصل تواطؤ، لا إن لم يحصل فيجوز كما قدم المص قوله:"وشهادة كل للآخر وإن بالمجلس". اهـ. قوله: إن حصل تواطؤ لا إن لم يحصل فيجوز لخ، هذا غير صحيح إذ لا يتصور تزكية كل واحد من الشاهدين أو الناقلين الآخر إلا مع التواطؤ لا بدونه؛ لأنهما إذا كانا معا يحتاجان للتزكية فهما مجهولان والمجهول لا يزكي غيره لما قدمه المص من اشتراط التبريز في المزكي، وإنما الذي هنا تزكية أحد الشاهدين فقط لصاحبه. قاله البناني.
وقال الرهوني: قول الزرقاني: إن حصل تواطؤ لخ فيه نظر إذ لم أر من ذكر هذا التفصيل، بل النص موجود بخلافه، ففي ابن يونس: قال ابن كنانة وابن القاسم في المجموعة: وإذا شهد رجلان فلا تجوز تزكية من عرفت عدالته منهما للآخر. قال عبد الملك: ويصير الحق قد حَيي به وحده. قاله سحنون في كتاب ابنه. وقال ابن هارون في اختصار المتيطية: ولا يزكي الشاهد من شهد معه أو نقل معه شهادة، وأجاز سحنون إذا شهدت طائفة في حق ثم شهد فيه أخرى أن تزكي كل طائفة صاحبتها كما لو شهدتا في حقين، وروي عنه المنع من ذلك ولو شهدتا في حقين.
اهـ. ونحوه في المعين ونحوه في ابن يونس. اهـ. فلو اعترضه البناني بهذا لأجَادَ، وأما ما اعترضه به من قوله إذ لا يتصور لخ ففيه نظر؛ لأنه يتصور أن يكون أحد الشاهدين معروفا عند قاضي بلد دون آخر. انتهى.
ونقل امرأتين مع رجل في باب شهادتهن يعني أن النقل يجوز ويصح إذا نقل عدلان ذكران كما مر، ويجوز أيضا إذا نقلت امرأتان بشرط أن ينقل معهما رجل فينقل الجميع عن رجل أو امرأتين في باب شهادة النساء وهو المال وما يؤول إليه وما في حكم ذلك وما لا يظهر للرجال، إذا عرفت هذا فاعلم أنه لا بد من نقل رجل مع امرأتين ولو فيما ينفردن به مما لا يظهر للرجال على المعتمد ابن عرفة: في لغو نقلهن مطلقا وصحته في مطلق ما تجوز فيه شهادتهن بشرط نقل رجل معهن، ثالثها يجوز فيما لا يطلع عليه غيرهن ولو كن اثنتين دون رجل، ورابعها إن كن فيه دون رجل فلا بد من أربع؛ فالأول لابن الماجشون مع سحنون، والثاني لابن القاسم في المدونة مع سماع عيسى. والثالث قول أصبغ، والرابع لابن لبابة. انتهى. قاله البناني.
وقال ابن مرزوق: وما ذكره المص هو قول ابن القاسم وأشهب، ومنع غيرهما نقل النساء، قال في المدونة: وتجوز شهادتهن على الشهادة في الأموال وفي الوكالة على الأموال إذا كان معهن رجل وهن وإن كثرن كرجل واحد، ولا ينقلن شهادة إلا مع رجل نقلن عن رجل أو امرأة. [وقاله]
(1)
أشهب وقال غيره: ولا تجوز شهادتهن على شهادة غيرهن ولا على وكالة في مال. ابن القاسم: وما لا تجوز شهادتهن فيه فلا يجوز أن يشهدن فيه على شهادة غيرهن، كان معهن رجل أم لا. اهـ. وقال اللخمي: اختلف في نقلهن فأجازه ابن القاسم فيما يشهدن فيه، فينقل رجل وامرأتان عن رجلين شهدا بمال فتتم الشهادة، أو عن رجل فيحلف الطالب على شهادة الأصل، وعن امرأة فتكون ربع شهادة، أو عن رجل وامرأتين بطلاق أو عتق أو قتل فيحلف الزوج أو السيد ويقسم الأولياء، ولا يَصْلَحُ نقل امرأتين كما لا ينقل رجل عن رجل ولا عن امرأتين، واختلف في
(1)
في الأصل: وقال، والمثبت من التهذيب ج 3 ص 588.
نقل امرأتين عن امرأتين في ولادة أو استهلال فأجازه أصبغ كشهادتهما بذلك. وقال ابن القاسم: لا يجوز في ذلك إلا رجل وامرأتان. اهـ المراد منه.
وقال عبد الباقي ما معناه: كلام المص شامل لشيئين، الأولُ: ما يقبلن فيه مع يمين أو مع رجل وهو المال وما يؤول إليه، الثاني: ما يختص بشهادتهن فقط كولادة أو استهلال وعيب فرج وهذا إنما يصح أن يكون الرجل ناقلا فقط عن امرأتين مع نقل امرأتين. وَمَفهُومُ قوله: "مع رجل" عدم صحة نقلهن في باب شهادتهن لا مع رجل، ومفهوم قوله:"في باب شهادتهن" عدم صحة نقلهما، انفردتا أو كانتا مع رجل، فيما لا تجوز شهادتهن فيه استقلالا كطلاق أو عتق. اهـ. وقال الشبراخيتي: ونقل امرأتين مع رجل أي ناقل. وقوله: "مع رجل" مصب الجواز أي حالة كونهما مع رجل، فإن لم يكن معهما رجل لم يجز نقلهما في باب شهادتهن التي يشاركهن فيها الرجال وهو المال وما يؤول إليه، أو باب شهادتهن الخاصة بهن كالولادة وعيب الفرج والاستهلال والحيض.
ولما ذكر الشهادة أصلا ونقلا، أخذ يذكر ما يبطل الشهادة من رجوع أو شبهه، فقال:"وإن قالا وهمنا" لخ. قاله ابن مرزوق. وقال التتائي: ثم شرع في الكلام على الرجوع عن الشهادة، وَعَرَّفَهُ ابن عرفة بأنه: انتقال الشاهد بعد أداء شهادته بأمر إلى عدم الجزم به دون نقيضه فيدخل انتقاله إلى شك على القولين بأن الشاك حاكم أو غير حاكم، والأول قول الأصبهاني، والثاني قول القرافي، وقيدُ بعد الشهادة وهو ظاهر الروايات، وظاهر لفظ المازري صدقه على ما قبل الأداء، فعليه يحذف لفظ بعد أداء شهادته. انتهى. وللرجوع صور: قبل الحكم وبعده قبل الاستيفاء، وبعد الاستيفاء ثم تارة تكون عن المشهود عليه وتارة عن المشهود به وأشار للرجوع قبل الحكم عن المشهود عليه، بقوله: وإن قالا بعد الأداء وقبل الحكم وهمنا في المشهود عليه وهو زيد مثلا، بل شهادتنا على عمرو وهو هذا سقطتا أي الشهادتان. رواه ابن القاسم عن مالك، وقاله هو وأشهب، وعلله أشهب بأنهما أخرجا أنفسهما من العدالة لإقرارهما أنهما شهدا على الوهم والشك. اهـ كلام التتائي، وقال ابن مرزوق: معناه أن الشاهدين إن أديا شهادة على أحد بأن قبله حقا من
الحقوق، ثم قالا للقاضي قبل الحكم: وهِمْنَا في شهادتنا على هذا بل الذي قِبَلَهُ الحق هو هذا الآخَرُ، فإن الشهادة الأولى التي ادعوا الوهم فيها والثانية التي زعموا تحقيقها ساقطتان، ففاعل قالا؛ ضمير الشاهدين المفهوم من السِّيَاق، وضمير هو عائد على المشهود عليه، كما أن الإشارة بهذا إليه، وفاعل سقطتا ضمير الشهادتين الأولى والثانية الصادرتين من هذين الشاهدين. قال في كتاب القطع في السرقة من المدونة: وإذا شهد رجلان على رجل بالسرقة ثم قالا قبل القطع: وهمنا بل هو هذا الآخر لم يقطع واحد منهما. اهـ. وقال في النوادر: ونقله ابن يونس وغيره، قال سحنون: ولو شهدا على رجل بسرقة أو قصاص ثم أتيا قبل الحكم بآخر، فقالا: هذا هو، فلا تقبل شهادتهما على الأول ولا على الآخر، فقد خرجا عن حد العدالة ويحدان فيما شهدا به من الزنى حد القذف في الحر المسلم، وإن حكم به مضى قالا: وهمنا أو تعمدنا، قال في كتاب ابن المواز: إن قالا قبل الحكم وهمنا فقد صارا غير عدلين لا يقبلان. وقاله ابن القاسم وأشهب، وقالا: لو قالا في الأخير على هذا شهدنا ووهمنا في الأول لم يقبلا على واحد منهما. وقاله ابن القاسم عن مالك. قال أشهب: كان ذلك في قتل أو حد أو سرقة لأنهما أخرجا أنفسهما من العدالة بإقرارهما أنهما شَهِدَا على الوهم والشك. اهـ. وقد تقدم حكم الشاهد بشك في شهادته ثم يزول شكه قبل الأداء عند قول المص: "وذاكر بعد شك". اهـ كلام ابن مرزوق.
وقال عبد الباقي: وإن قالا بعد أداء الشهادة وقبل الحكم بها وهمنا أي غلطنا في شهادتنا بدم أو حق على زيد، بل هو أي المشهود عليه هذا عمرو سقطتا أي الشهادتان لاعترافهما بأنها على وهم وشك في الأولى، والثانية لاعترافهما بعدم عدالتهما حيث شهدا على شك، وكذا بعد الحكم وقبل الاستيفاء إن كانت في دم لا في مال فلا يسقط، ويدفع لمن شهدا له به أولا. اهـ. قال البناني: قال ابن عاشر: لما ذكر ابن الحاجب أن للرجوع ثلاث صور: أولها الرجوع قبل القضاء، ذكر مسألة قولهما:"وهِمْنا" ويظهر لي أن محط الفائدة في هذه إنما هو عدم صحة شهادتهم على الثاني، وأما الأول فإن رجوعهم عن الشهادة عليه قبل القضاء يسقط شهادتهم وهو من معنى الرجوع قطعا. اهـ. وهو ظاهر وبه تعلم أن قول عبد الباقي: وكذا بعد الحكم إلى آخره
خلاف ما مشى عليه المص بعد في الرجوع من أنه بعد الحكم لا ينقض الحكم مطلقا على قول مالك وقول ابن القاسم المرجوع عنه. انتهى كلام البناني.
وقال الرهوني: هذا الفصل يعني رجوع الشاهد عن شهادته يُحتاج إليه اليوم كثيرا لكثرة وقوع ذلك من الشهود لأمورٍ اللهُ يعلمها. اهـ. وقال الخرشي: كان على المؤلف أن يؤخر قوله: "وهمنا" عن قوله: "لا رجوعهم" كأن
(1)
يقول لا رجوعهم، كقوله: وهمنا وهمنا، بل هو هذا ويترك قوله:"سقطتا". اهـ. يعني لأن هذا من الرجوع فيكون مثالا له. والله تعالى أعلم.
تنبيهات: الأول: قال الحطاب: قال في الطرر: لو شهد الشاهد ثم قال: بالله الذي لا إله إلا هو ما شهدتُ إلا بالحق لكني أرجع عن شهادتي فلا يقضى بها، فأفتى ابن خزيمة وأصبغ بن سعيد أنه يقضى بها وليس هذا برجوع، والرجوع أن يكذب نفسه ويدخله الشك، وأفتى ابن زرب أنه لا يقضى بها لأنه إن كان رجع عن حق علمه فقد فعل ما لا يجوز له، وأسقط شهادته وينبغي أن يفصل بين العامي الذي يجهل حرمة ذلك فلا ترد شهادته وبين غيره ممن يعلم ذلك. والله أعلم. انتهى.
الثاني: ظاهر قوله: "سقطتا" ولو عادت الشهادة عليه، كما إذا شهدا على زيد بشيء ثم مات فصار الشاهد وارثه فرجع بعد أن صار وارثا، وقد تقدم عند قوله:"وخط شاهد مات" ما يفيد أن في ذلك قولين، والموافق في المعنى لما قدمناه عن ابن يونس عن ابن المواز قريبا عند قوله:"ولم يكذبه" أصله أنه لا يقبل منه الرجوع. والله أعلم. قاله الرهوني.
الثالث: وقع نزاعٌ هل يشترط في الرجوع أن يكون عند القاضي الأول أو عند القاضي مطلقا أو لا يشترط ذلك، ففي أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات الأول، قيل لسحنون: أرأيت رجلا شهد عليه رجل فلقيه المشهود عليه، فقال له: بلغني أنك شهدت علي بكذا وكذا، فقال له الشاهد: إن كنت شهدت عليك بكذا فأنا فيه مبطل وقد كان شهد بذلك، هل شهادته ساقطة؟ قال: أرى هذا رجوعا إذا كان على قوله بينة، وتسقط شهادته ولا تجوز ولا يثبت بها
(1)
لفظ الخرشي بأن يقول لا رجوعهم كقوله: وهمنا بل هو هذا الخ ج 7 ص 220.
شيء إذا كان رجوعه قبل القضاء، وإن كانت هذه المقالة بعد القضاء ضمن ما استهلك من المال. وقال مطرف وابن الماجشون: يشترط أن يكون رجوعه عند الحاكم الذي شهد عنده، فإذا رجع عن شهادته عند غير القاضي الذي شهد عنده لا يكون رجوعا، وعند سحنون يكون رجوعا، وفي ابن سلمون: والرجوع لا يكون إلا عند القاضي الذي شهد عنده، قال ابن الحاج: فإذا رجع عند غيره فلا يضره ولا يعمل بذلك، وفيها قول آخر: إذا شهد عليه بالرجوع بطلت شهادته.
ونقض إن ثبت كذبهم يعني أن الحاكم إذا حكم بأمر قامت عليه البينة، فثبت بعد ذلك كذب الشهود فإنه ينقض الحكم إن أمكن نقضه، قال الخرشي: يعني أن الشهود إذا تبين كذبهم فإن الحكم ينقض، ثم قال عن أحمد: الزرقاني: ونقض إن ثبت كذبهم أي حيث الإمكان. انتهى. وقال عبد الباقي: ونقض الحكم إن ثبت بعده كذبهم إن أمكن نقضه، كما زاده ابن الحاجب: فإن لم يثبت كذبهم إلا بعد الاستيفاء لم يبق إلا الغرم كما سيذكره، ومثل لثبوت كذبهم بقوله: كحياة من قتل يعني أنهم إذا شهدوا بأن زيدا قتل عمرا عمدا فحكم الحاكم بلزوم القصاص أي بقتل زيد، ثم إن عمرا تبين أنه حي قبل أن يقتص من زيد فإن الحكم ينقض فلا قصاص على زيد.
أوجَبه قبل الزنى يعني أنهم إذا شهدوا على بكر بالزنى وحكم الحاكم برجمه أو جلده، ثم تبين أن بكرا كان مجبوبا قبل الزنى والحال أنه لم يستوف على بكر حد الزنى، فإن الحكم ينقض ولا حد على بكر، وإنما نقض الحكم في المسألتين لتبين كذب الشهود، فلو لم يظهر ذلك إلا بعد الرجم أو القصاص فالدية. قال البناني عند قوله:"ونقض إن ثبت كذبهم" لخ: هذه المسألة استوفاها ابن الحاجب وأجملها المص، فلو قال المص: ونقض إن ثبت كذبهم قبل الاستيفاء كحياة من قتل أو جَبِّه قبل الزنى أو بعد الاستيفاء وأمكن كدية الخطإ، وإلا فلا كرجوعهم ولو عن دماء وحد وغرما مالا ودية. اهـ. لكان أوضح وأتم. ذكره ابن عاشر. وقال: هذا هو تفصيل المسألة، ويعود الضمير من غرما على الشاهدين في عدم النقض في صورتي تبين الكذب والرجوع. انتهى. ودخل بالكاف حياة من شهد بموته وتزوجت زوجته فلا تفوت بدخول، وقوله:"أوجبه" يعني ولا حد قذف على الشهود إذ لا حد على من قذف مجبوبا بالزنى. قاله في المدونة.
تنبيهات: الأول: قال الخرشي: قوله: "وإن قالا وهمنا" لخ ويؤدبان إلا أن يأتيا بأمر يعذران به، ولا تقبل شهادتهما في المستقبل إلا أن يكونا مشهورين بالعدالة فتقبل شهادتهما في المستقبل في غير هذا. انتهى. وانظره مع ما يأتي عن المواق في التنبيه الرابع.
الثاني: قال الشبراخيتي: واعلم أن قول ابن القاسم: والأكثر أنهما لا يغرمان إذا قالا وهمنا أو غلطنا بعد الحكم، وكذا هو ظاهر الرسالة، وأن ظاهر المدونة في كتاب القطع والديات أنهما يغرمان في دعوى الوهم والغلط وهو الموافق لما في الجلاب والمعونة، واختاره ابن عبد السلام. اهـ. ونحوه لعبد الباقي، والصواب تأخيره عن قوله:"وغرما" لخ كما يأتي.
الثالث: قال الشبراخيتي: كحياة من قتل أو جَبِّه قبل الزنى، مثل أن يشهدا أن فلانا قتل زيدا فلم يقتص منه بعد الحكم بالقصاص حتى قدم زيد حيا، أو شُهِدَ على مُحصَن بالزنى فلم يرجم بعد الحكم برجمه حتى وجد مجبوبا، فإن الحكم ينقض فيهما لإمكان نقضه، هذا هو الصواب في تقريره، فإن لم يثبت الكذب حتى اقتص من المشهود عليه أو رجم المشهود بزناه فالدية في مال الشاهدين، ولا شيء على الإمام ولا على من قتله، وإن كانت الشهادة بقتل الخطإ، فإن أخذت الدية من عاقلة القاتل رجعت العاقلة على من أخذها منهم وهم المستحقون للدية، فإن كانوا معدمين رجعوا على من شَهِدَ بالقتل لأنهم السبب في أخذها، ولا رجوع للغارم من الولي والشهود على الآخر.
الرابع: قال المواق: قال سحنون: وإذا رجع الشهداء قبل الحكم وقد شهدوا بحق واحد فإنهم يقالون ولا شيء عليهم ولا عقاب، ولو اتهموا أو رجعوا بشك لأن العقوبة توجب أن لا يرجع أحد. ابن يونس: روى المغيرة [عن ابن أبي ذئب]
(1)
أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في شاهد شهد ثم رجع عن شهادته بعد أن حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام:(تمضي شهادته الأولى لأهلها وهي الشهادة والأخيرة باطلٌ)، وأخذ بهذا ملك وغيره. اهـ.
(1)
ساقط من الأصل، وما بين المعقوفين من جامع ابن يونس ج 5 ص 455.
لا رجوعهم عطف على قوله: "كذبهم" يعني أنه لا ينقض الحكم برجوع الشهود عن شهادتهم، قال الشبراخيتي: لا رجوعهم عن الشهادة بعد الحكم فلا ينقض به، وأما قبله فتسقط شهادتهم ولا أدب على الشاهدين الراجعين كما قال حلولو وابن ناجي، وذكر بعضهم أنهما يؤدبان حيث حصل تعمد الزور وحصل الرجوع بعد الاستيفاء، فإن لم يتعمد الزور أو حصل الرجوع قبل الاستيفاء فلا أدب عليهما، وقد يقال: إن الأول في الأموال وما هنا في القذف والشتم. اهـ. وقال عبد الباقي: لا رجوعهم بعد الحكم والاستيفاء، وكذا قبله يعني الاستيفاء في المال اتفاقا، وكذا في الدم على أحد قولي ابن القاسم، وعليه فيستوفى، وقال التتائي: لا رجوعهم عن الشهادة فلا ينقض الحكم به، وظاهره رجعوا بعد الحكم وقبل الاستيفاء أو بعدهما، أما الصورة الأولى فإن كان الحكم فيها بمال مضى اتفاقا، وإن كان بقصاص أو حد، فقال ابن القاسم: لا ينقض كما في المال، وقال هو أيضا وغيره: لا يستوفى الدم لحرمته وتجب الدية، وأما الصورة الثانية فقال المص: لا خلاف أن الحكم تام اتفاقا. اهـ.
وغرما مالا يعني أن الشهود إذا رجعوا بعد الحكم عن شهادتهم بمال فإن الحكم لا ينقض، بل يمضي المحكوم به للمشهود له ويغرمان للمشهود عليه المالَ الذي فوتاه عليه. قال عبد الباقي: وغرما بكسر الراء حيئنذ مالا رجعا عن شهادتهما به، وقال التتائي: وإن رجع الشاهدان بعد الحكم غرما مالا أتلفاه بشهادتهما، ولو قالا غلطنا؛ لأن الخطأ والعمد سواء بالنسبة لضمان أموال الناس. اهـ. ونحوه للشبراخيتي، وظاهر قوله:"وغرما مالا" تعمدا أم لا، وهو أحد قولين ومختار غير واحد، قال ابن ناجي في شرح الرسالة بعد ذكره القول بالضمان: وهو الصواب الذي عندي لقول أصحابنا: العمد والخطأ في أموال الناس سواء، وكذلك قال في أحكام الشعبي: من أفتى بغُرم ما لا يجب فقُضِي به غرم. قاله أصبغ بن خليل. اهـ. قاله الرهوني.
ودية يعني أنهما إذا شهدا بقتل فحكم بموجَبه من قصاص في العمد ثم رجعا بعد الاستيفاء فإنهما يغرمان الدية حيث لم يثبت تعمدهما بإقرارهما بأن ادعيا الغلط، بل ولو تعمدا أي إنما عليهما الدية ولو ثبت أنهما أقرا بأنهما تعمدا الزور عند ابن القاسم، ولا يقتص منهما بل عليهما الدية في مالهما، ورد بلو قول أشهب: إن ثبت تعمدهما بإقرارهما يقتص منهما وعليهما الدية إذا
غلطا، قال ابن مرزوق: قوله: "ولو تعمدا" أي إنما يغرمان فيما أتلفاه بشهادتهما من نفس أو طرفٍ الديَة ولو كانا تعمدا شهادة الزور، ولا يقتص منهما بتسببهما لأنهما لم يباشرا القتل، وأغيا "بلو" تنبيها على خلاف أشهب في المسألة أنه يقتص منهما إن ثبت تعمدهما بإقرارهما. قال ابن الجلاب: ولو شهد شاهدان على رجل بالقتل فقتل بشهادتهما ثم رجعا وأقرا بالكذب والغلط غرما الدية ولم يلزمهما القود. وقال أشهب: يقتص منهما إذا تعمدا ويغرمان الدية إذا غلطا، وقال اللخمي في كتاب الرجم: إن أقروا بالتعمد بعد الرجم فالقول إنهم يقتلون أشبه لأنهم كالمجبرين للإمام، ولا فرق بين أن يلوا ذلك بأيديهم أولا. اهـ. وقوله:"تعمدا"
(1)
يحتمل أن يكون ماضيا مسندا إلى ضمير الشاهدين وهو الظاهر أي تعمدا شهادة الزور، ويحتمل أن يكون مصدرا خبرا لكان واسمها ضمير التسبب في الإتلاف المفهوم من السياق؛ أي ولو كان تسببهما في الإتلاف للمال وغيره تعمدا. اهـ المراد منه. ومقتضى كلامه أو صريحه أن المبالغة على هذا راجعة. لقوله:"مالا ودية" وذلك باطل؛ إذ العمد في المال أحرى بالغرم فلا يبالغ عليه كما يأتي قريبا إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.
وقال الرهوني عند قول المص: "ولو تعمدا": اعلم أن في الدية أربعة أقوال: أحدها أن الدية في مال الشاهدين إذا رجعا عن شهادتهما بعد الحكم تعمدا الزور أو شبه عليهما وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية وفي الواضحة وقولُ مطرفٍ وأصبغ فيها، وظاهر ما في كتاب السرقة من المدونة. والثاني: أنه إذا تعمدا كان عليهما القصاص وإن شبه عليهما كانت الدية في أموالهما وهو قول ابن نافع وأشهب، وروى ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والثالث: أنه إن تعمدا كانت الدية في أموالهما وإن شبه عليهما كانت على عواقلهما، وهو قول أصبغ في سماعه من كتاب الديات. والرابع: أنه إن تعمدا كانت الدية في أموالهما وإن شبه عليهما كان ذلك هدرا وهو قول ابن الماجشون والمغيرة وابن دينار وابن أبي حازم وغيرهم. اهـ وما أفاده كلام المص من
(1)
في الأصل: تعمد.
الغرم في غير العمد هو الذي للجلاب والمعونة، واختاره ابن عبد السلام لأنه ظاهر المدونة، وقال ابن القاسم: والأكثر لا يغرمان إذا قالا وهمنا وكذا هو ظاهر الرسالة. انتهى.
وقال عبد الباقي: وغرما مالا ودية ولو تعمدا الزور في شهادتهما ومع الغرم يوجعان أدبا ويسجنان مدة طويلة كما في المواق، وقول ابن القاسم الثاني: ورجع إليه أنهما إذا رجعا بعد الحكم وقبل الاستيفاء لا يستوفى بحرمة الدم، ومشى المص على قول ابن القاسم الأول وإن رجع عنه لأنه قول مالك كما في المتيطي، فأشار لقول ابن القاسم إذا رجعا في عتق أو دين أو قصاص أو حد أو غير ذلك، فإنهما يضمنان قيمة المعتق والدين والعقل في القصاص في أموالهما وبلو لرد قول أشهب: يقتص منهما في العمد، قال المص: وهو أقرب لأنهم قتلوا نفسا بغير شبهة. اهـ. وظاهر قوله: "نقض" أنهما إذا رجعا بعد الاستيفاء بدون حكم، كمن أقام شاهدين بدين على شخص لآخر فدفعه له من غير رفع لحاكم ثم رجعا فإنهما لا يغرمان، مع أن الظاهر غرمهما أيضا، ويحتمل أن يرجع به على من دفعه له وأن يؤدب إن تعمد الزور، وشمل قوله:"وغرما مالا" ما إذا شهدا بوفاء حق لمستحقه ثم رجعا فإنهما يغرمان للمشهود عليه لا للمشهود له. اهـ. قوله: مع أن الظاهر غرمهما أيضا فيه نظر، بل الظاهر عدم غرمهما لأنه تطوع بالدفع، قياسا على ما قاله فيما إذا قام المشتري على بائع غير مدلس بالعيب، فقد نصوا على أنه إن قبله بغير حكم فلا يرد السمسار الجعل، وبحكمٍ رَدَّه. والله أعلم. قوله: ويحتمل أن يرجع لخ لا معنى لهذا الاحتمال. قاله الرهوني.
تنبيه: قال البناني عند قوله: "ولو تعمدا" ما نصه: المبالغة راجعة لقوله: "ودية فقط" إذ العمد في المال أحرى بالغرم فلا يبالغ عليه، واعلم أن ما قبل المبالغة فيه خلاف أيضا لكن بالغرم وعدمه، وما مشى عليه المص فيه من الغرم هو خلاف قول أكثر أصحاب مالك، لكنه هو ظاهر المدونة كما ذكره ابن عرفة وغيره، وهذا الخلاف الذي ذكره الزرقاني عند قوله:"وإن قالا وهمنا" اهـ. وقد مر أن محله هنا.
وقال ابن مرزوق: قال سحنون: روى ابن وهب عن علي رضي الله عنه أن رجلين شهدا عنده على سارق فقطعه، ثم قالا: وهمنا إنما هو هذا فأبطل شهادتهما الآخرة وأغرمهما دية الأول،
وقال: لو علمت بتعمدكما قطعه قطعتكما. قال ابن عبد الحكم: وفيه قطع يدين بيد، كقولنا: خلافا للحنفي وفيه قطع الشاهدين مع العمد وهو قول أشهب وبه أقول، وفي البيان تَحْصِيلُ القول في رجوع الشاهد إن رجع قبل الحكم، وقد شبه عليه قبل الآن وفي المستقبل وبعد الحكم لم يرد الحكم، واختلف هل يضمن أم لا؟ وهل يقبل في المستقبل أم لا؟ فإن قال: شبه علي قُبل إن كان مبرزا اتفاقا، فإن لم يكن مبرزا ففيه خلاف، وإن لم يأت بشبهة وتعمد الزور أدب وضمن ما أتلف بشهادته، ولا يقبل في المستقبل كان رجوعه قبل الحكم أو بعده، وقال سحنون: لا يؤدب قبل الحكم.
ولا يشاركهم شاهدا الإحصان يعنى أنه إذا شهد على شخص أربعة بالزنى وشاهدان بالإحصان فرجع الجميع، فإنه يختص شهود الزنى بالغرم أي غرم الدية، ولا يشارك شهود الزنى في الغرم شاهدا الإحصان، فالضمير في "يشاركهم" يعود على شهود الزنى المفهومين من قوله:"أو جبه قبل الزنى"، وما ذكره المص هو قول ابن القاسم، وقال أشهب: يغرم الجميع لتوقف الرجم عليهم، وعلى قول أشهب فهل الستة يستوون في الغرم؟ أو على شاهدي الإحصان نصفها، لأن الشهود نوعان فيكون على كل نوع نصفها؟ قولان. قاله البناني.
وقال عبد الباقي: وإذا شهد أربعة على شخص بالزنى وشاهدان بالإحصان، فرجع الجميع اختص شهود الزنى بالغرم ولا يشاركهم شاهدا الإحصان في الغرم؛ لأنه لما كانت شهادتهما منفردة لا يثبت بها حكم وشهادة شهود الزنى منفردة يثبت بها حكم، صارت شهادتهما غير منظور إليها. اهـ. ونحوه لغير واحد، وقال ابن مرزوق: يعني إذا شهد أربعة بزنى واثنان بإحصان فرجم ثم رجع جميعهم فإن ديته على شهود الزنى خاصة، ولا غرامة على شاهدي الإحصان لأنه لم يقتل بشهادتهم، وذلك كما لو شهد الأربعة بالزنى أو اثنان بحق وزكى الشهود غيرهم ثم رجع جميعهم، فإن الغرامة أيضا على الشهود دون المزكين؛ لأن الحق إنما أخذ بالشهود المزكَّيْن بالفتح لا بالمزكِّين بالكسر، فقوله: كرجوع المزكى قصد به الاستدلال على عدم غرم شاهدي الإحصان، فجعل مسألة التزكية كالأصل لها، وكذلك أتى بها من نص على
المسألة، وكأن عَدَمَ غُرْم المزكي متفقٌ عليه. اهـ. قال ابن مرزوق: وفيه نظر لأنه لولا تعديلهم ما قبلوا، ونفي الغرامة عن شاهدي الإحصان أظهر منه عن المزكي. انتهى.
وقال الشبراخيتي: وظاهر كلام المص أنه لا غرم على شهود الإحصان ولا على المزكي، سواء حصل منهم الرجوع مع من شهد بالأصل أيضا أو رجع شهود الإحصان فقط أو رجع المزكي فقط وهو كذلك. اهـ. وقال البناني: واعلم أنهم لم يذكروا في رجوع المزكي خلافَ أشهبَ المذكور في شهود الإحصان، ولعله يتخرج من هنا بالأحرى من شاهدي الإحصان لعدم ثبوت شيء دون المزكي، بخلاف شاهدي الإحصان فيثبت بدونهما الجلد. قاله السناوي. رحمه الله. انتهى. وقوله:"ولا يشاركهم شاهدا الإحصان" قد علمت أن الذي مشى عليه المص قول ابن القاسم، وقال: أصبغ بقول ابن القاسم وقال هي كما لو شهد شاهدان على رجل أنه حلف بحرية عبده إن دخل المسجد شهرا وشهد غيره أنه دخله قبل الشهر، فعتق ثم رجع شاهدا الدخول فلا شيء عليهما، وإن رجع شاهدا اليمين قضي عليهما، ولا شيء على شاهدي الدخول إلا ما لزمهما من الحرية. انتهى.
وأدبا في كقذف يعني أنهما إذا شهدا على شخص أنه قذف شخصا أو شبه ذلك كالشتم فَحُدّ المشهود عليه حدَّ القذف أو أدِّب في الشتم، ثم رجعا عن شهادتهما فإنهما يؤدبان، قال في النوادر: قال سحنون: فإذا شهدا على رجل أنه قذف رجلا أو شتمه أو لطمه أو ضربه بسوط فحدَّه القاضي في القذف أو أدَّبه فيما يجب عليه الأدب فيه، ثم رجعا وأقرا بالزور فليس في هذا عند جميع أصحابنا غرم، ولا قود ولا حدٌّ معروف إلا الأدب من السلطان، ولا تقع المماثلة في اللطمة ولا ضرب السوط بأمر يضبط ولا أرش لذلك، وإنما فيه الأدب. نقله ابن مرزوق. وقال عبد الباقي: وأدبا أي الشاهدان على شخص في كقذف؛ أي أنه قذف آخر أو ضربه أو شتمه فأقيم عليه الحد أو التعزير ثم رجعا فعليهما الأدب فقط بلا غرم؛ إذ لم يتلفا مالا ولا نفسا، هذا إن جعل مدخول الكاف ما ليس فيه مال ولا دية، ويفوته حينئذ أدبهما فيما فيه غرم، وقد قدمناه عن المواق وإن جعل مدخولها شاملا لما فيه غرم كغصب وسرقة ثم رجعا بعد الاستيفاء وغرم المال
ودية اليد فيؤدبان أيضا، فيفيد الأدب فيما مر في النفس بالأولى، ومحل أدبهما في رجوعهما في كقذف حيث تبين كذبهما تعمدا، فإن تبين أنه شبه عليهما فلا أدب، وإن أشكل فقولان.
وقولي: فأقيم عليه ثم رجعا هو نقل المواق عن سحنون، قال أحمد: وظاهره أنهما لو رجعا قبل الاستيفاء لا أدب عليهما، سواء حصل الاستيفاء بعد ذلك أم لا، ولعله غير مراد لكون الاستيفاء مستندا لشهادتهم. اهـ. وقال الخرشي: وُجِدَ عندي ما نصه: سواء كان رجوعهما فيما ذكر بعد الحكم والاستيفاء أو بعد الحكم وقبل الاستيفاء، فإنهما يؤدبان لأن الحكم لا ينقض. انتهى. قال ابن مرزوق: فإن قُلْتَ: لا يدخل في كلامه القذف نفسه لأنه إنما حكم على مثله، قُلْتُ: القذف مماثل لمثله وكل شيء هو كذلك. اهـ.
وحُدّ شُهُودُ الزِّنَى مُطْلقًا يعني أنه إذا شهد شهود على شخص بالزنى ثم إنهم رجعوا عن شهادتهم فإنهم يحدون حد القذف مطلقا، أي رجعوا قبل الحكم أو بعده، قبل الاستيفاء أو بعده، وسواء حد المشهود عليه أم لا، قال الخرشي: يعني أنه إذا شهد أربعة على شخص بالزنى ثم رجعوا عن شهادتهم فإنهم يحدون حد القذف، ومعنى الإطلاق سواء رجعوا قبل الحكم أو بعده، سواء حد المشهود عليه أم لا، فقوله:"وحد شهود الزنى" إن رجعوا كلهم، بدليل ما بعده. اهـ. ابن الحاجب: للرجوع ثلاث صور: قبل الحكم أو بعده قبل الاستيفاء، وبعد الاستيفاء. ويحدون في شهادة الزنى في الصور كلها. اهـ. نقله المواق.
كرجوع أحد الأربعة قبل الحكم يعني أنه إذا شهد أربعة على شخص بالزنى، ثم رجع أحد الشهود الأربعة قبل أن يحكم عليه بموجَبِ الزنى فإنه يحد الأربعة؛ لأن الشهادة لم تتم. والله تعالى الموفق. قال الخرشي: والمعنى أنه إذا شهد أربعة على شخص بالزنى ثم رجع واحد منهم قبل الحكم، فإن الشهود الأربعة يحدون حد القذف، لأن الشهادة لم تكمل. اهـ. وقال عبد الباقي: كرجوع أحد الأربعة، تشبيه في حد الجميع للقذف لأن الشهادة لم تكمل، واحتمال حد الراجع فقط يرفعه قوله: وإن رجع أحد الأربعة بعده أي بعد الحكم حد الراجع لاعترافه على نفسه بالقذف فقط أي دون غيره، فلا يحد واحد من الثلاثة الباقين. قال ابن الحاجب: فلو
رجع أحد الأربعة قبل الحكم حدوا، وبعد إقامته حد الراجع اتفاقا دون الثلاثة على المشهور. التوضيح: يعني إذا رجع أحد الأربعة، فإن كان رجوعه قبل الحكم حد الجميع، وإن كان بعد إقامة الحد وبعد الحكم حد الراجع اتفاقا لاعترافه على نفسه بالقذف دون الثلاثة على المشهور، وهو مذهب المدونة لأن الحكم قد نفذ بشهادتهم وهم باقون عليها، والشاذ أنهم يحدون أيضا. اهـ. قوله: على المشهور أي من أنه لا ينقض الحكم ويقام عليه الحد، ومفهومه أن على الشاذ من نقض الحكم وسقوط الحد يحد الجميع، وصرح بذلك اللخمي. وإن رجع بعد الحكم وقبل أن ينفذ أقيم الحد على المشهود عليه وعلى الراجع، وعلى القول الآخر أنه لا ينفذ لا يحدُّ هاهُنَا وحد جميعهم. وفي الجواهر: ولو كان رجوعه بعد الحكم وإقامة الحد على الزاني لحد الراجع بلا خلاف، واختلف هل يحد الباقون أو لا يحدون؟ لأن الحكم قد نفذ بشهادتهم وهم الآن باقون عليها. انتهى. وجعل ابن رشد الخلاف في حد الباقين حيث كان رجوعه بعد الحكم وقبل إقامة الحد، وأما لو كان رجوعه بعد إقامة الحد على الزاني فيحد هو وحده بغير خلاف، ونص ابن رشد: ولا حد على الثلاثة الذين ثبتوا ولا اختلاف في هذا. اهـ. لكنه خلاف ما لا بن يونس واللخمي عن ابن المواز من أن ابن القاسم كان يقول: يحد من لم يرجع مع من رجع، ثم رجع عن هذا القول، وقال: لا حد على من لم يرجع؛ لأن الحكم لم ينتقض. انظر الرهوني.
وقال عبد الباقي عند قوله: "وبعده حد الراجع فقط" ما نصه: بخلاف ما إذا ظهر بعد الحكم وقبل الاستيفاء أن أحد الأربعة عبد، فإن الحد على الجميع وسقطت الشهادة، وإن تبين بعد الحكم أن أحدهم فاسق فلا حد على واحد منهم؛ لأن الشهادة تمت باجتهاد القاضي، وألحقوا بالعبد الكافر والأعمى أي فيما لا تقبل شهادته فيه وولد الزنى كذلك والولى عليه. اهـ. قال البناني: فرق بين العبد والفاسق بناء على أن الحكم لا ينقض بتبين أن أحدهم فاسق وهو مذهب المدونة في كتاب الحدود، ولكنه خلاف مذهبها في كتاب الشهادات أنه ينقض في الفاسق كالعبد، وعليه مشى المص في القضاء بقوله:"أو ظهر أنه قضى بعبدين أو كافرين أو صبيين أو فاسقين كأحدهما" لخ، وعليه فيحد الجميع في الفاسق أيضا. انتهى.
وإن رجع اثنان من ستة فلا غرم ولا حد الشهود في التي قبلها أربعة، وهنا أكثر من أربعة؛ يعني أنه إذا شهد على شخص ستة بالزنى ثم رجع منهم اثنان فإنه لا غرم عليهما ولا حد؛ لأنه بقي من يستقل الحكم به، فشهادتهم بزناه تصيره غير عفيف، فلذا لم يحدا للقذف وهذا هو المشهور، وقيل: يحد من رجع مطلقا. قاله ابن مرزوق. وقال الشبراخيتي: وإن رجع اثنان من ستة بعد الحكم بشهادتهم حتى يتأتى نفي الغرم؛ يعني أنه إذا كان الرجوع قبل الحكم فلا يتوهم الغرم حتى ينفيه المص بقوله: فلا غرم قال الشبراخيتي: فلا غرم ولا حد على من رجع أو بقي. اهـ. وقال عبد الباقي فلا غرم ولا حد عليهما للقذف؛ لأن شهادة الأربعة بزناه تصيره غير عفيف، وإنما عليهما الأدب الشديد بالاجتهاد. اهـ.
إلا أن يتبين أن أحد الأربعة عبد يعني أنه إذا رجع اثنان من ستة فلا غرم ولا حد كما عرفت، هذا إن لم يتبين أن أحد الأربعة الباقين عبد وأما إن تبين أن أحد الأربعة الباقين عبد، فإنه يحد الراجعان للقذف ثمانين، ويحد العبد نصف حد الحر أربعين، وعلل حد الثلاثة في كتاب محمد بأن الحد قد أقيم بأربعة بطل أحدهم لرقه، ولا حد على الثلاثة الباقين. قال عبد الباقي: فإن قلت: تقدم أنه إذا ظهر بعد الحكم أن أحد الأربعة عبد حد الجميع وهنا جعلوا الحد عليه وعلى الراجعين فقط؟ قلت: لأنه في الأول لم يبق أربعة غيره، بخلاف ما هنا فإنه بقي خمسة غيره؛ لأن شهادة الراجعين معمول بها في الجملة، ألا ترى أن الحكم المرتب عليها لا ينقض. اهـ. قال البناني: ما تقدم هو الذي في المدونة، وما هنا مذكور في الموازية، والسؤال والجواب مذكوران في التوضيح، ونقلهما ابن عرفة عن ابن هارون وابن عبد السلام. اهـ المراد منه.
والحاصل أنه إذا رجع بعض الشهود بعد الحكم فإنه يحد الراجع فقط حيث لم يبق من يستقل الحكم به، وأما إن بقي من يتم به الحكم فلا حد، وإن كان الشهود أربعة ثم ظهر بعد الحكم أن أحدهم عبد فإنه يحد الجميع، فإن كان الشهود ستة - مثلا - ورجع منهم اثنان وتبين أن أحد الأربعة الباقين عبد، فإنه يحد الراجعان والعبد فقط، واسْتُشْكِلَ بما تقدم من أنه إن تبين أن أحد الأربعة عبد حد الجميع، وأجيبَ عنه بما مر.
وغرما فقط ربع الدية يعني أنه إذا رجع اثنان من ستة، وتبين أن أحد الأربعة عبدٌ. فإن الراجعين والعبد يحدون للقذف كما عرفت، وعلى الراجعين ربع الدية ولا شيء على العبد من الدية، وإنما عليه الحد كما علمت، ولا غرم ولا حد على الثلاثة الباقين. قال التتائي: وألحقوا بالعبد الأعمى وولد الزنى والمولى عليه والكافر. اهـ. وقال ابن مرزوق: قوله: "إلا أن يتبين" إلى "ربع الدية" أي إلا أن يظهر بعد رجوع اثنين من ستة أن أحد الأربعة الباقين عبد، وما في معناه ممن لا تجوز شهادته كالكافر والصبي فإنه حينئذ يحد الراجعان والعبد ويغرم الشاهدان فقط دون العبد ربع الدية، أما أحد الراجعين والعبد فلقذفهم وليس فيمن بقي نصاب الشهادة، وأما اختصاصهما بالغرامة دون العبد فلأن ماله لسيده، وهذا أحسن من قول من قال: إنما لم يغرم العبد لأنه لم يرجع عن شهادته، فإن مفهوم تعليله أنه لو رجع لغرم ورجوعه وعدمه سواء بعد تبين كونه عبدا، وأما غرمهما ربع الدية فلأنه لما بقي ثلاثة كانا هما في حكم واحد لأن بأحدهما مع الثلاثة يستقل الحكم والآخر زائد، لكن لما كان في تغريم أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح شُرِّكا في الغرم، وظاهر كلامه أن الثلاثة الباقين لا يحدون وهو المشهور، وقيل: يحدون. اهـ كلام ابن مرزوق.
وقد مر أنه لا غرم على العبد لأن ماله لسيده، قال ابن مرزوق: فإن قلت: مقتضى الفقه أن تكون جناية في رقبته كشيء استهلكه، قلت: لا نسلم أنه استهلك شيئا وإنما وقع منه الغرور القولي، والمشهور فيه عدم الغرامة والتفريط إنما وقع من الحاكم. انتهى. ونص هذه المسألة من النوادر من كتاب ابن المواز: فإن شهد ستة بالزنى فرجم ثم رجع اثنان فلا غرم عليهما ولا حد، فإن وجد أحد الأربعة الباقين عبدا فإنه يغرم الراجعان ربع الدية، ولا حد على من لم يرجع من الأحرار ولا غرم، ويحد العبد أربعين جلدة ولا غرم عليه. اهـ.
ثم إن رجع ثالث حد هو والسابقان هذه المسألة ليست من تمام المسألة التي ظهر فيها أن أحد الأربعة عبد، وإنما قوله:"ثم إن رجع" عطف على قوله: "وإن رجع اثنان" يعني أنه لو شهد ستة بالزنى على شخص فرجم، ثم رجع منهم اثنان فلا غرم ولا حد كما مر، فإن رجع ثالث فإن حد القذف واجب على الثلاثة، لأنه لم يبق من يستقل به الحكم. وغرموا ربع الدية يعني
أن هؤلاء الذين حدوا وهم السابقان والثالث الراجع بعدهما يلزمهم أن يغرموا ربع الدية أثلاثا بينهم مستوين فيه؛ لأنهم كواحد إذا بقي بعدهم ثلاثة، وإن رجع بعد رجوع الثلاثة رابع فإن الأربعة يغرمون نصفها أي الدية يغرمونه أرباعا بينهم، ويحد الرابع أيضا، فإن رجع خامس فثلاثة أرباعها بينهم أخماسا، فإن رجع سادس فجميعها بينهم أسداسا، وسكت عن هذا لوضوحه. وقوله:"غرموا ربع الدية ورابع فنصفها"، سواء رجعوا مجتمعين أو متفرقين، وإن شهد على شخص ستة بالزنى وهو محصن، فلما شرع الإمام في رجمه رجع سادس بالنسبة للباقين بعد فقء عينه، ورجع خامس بالنسبة للباقين وهو ثان بالنسبة للأول الذي هو السادس بعد موضحة، ورجع رابع بالنسبة للباقين وهو ثالث بالنسبة للماضين بعد موته، فعلى الثاني وهو الخامس خمس دية الموضحة لأنها حصلت بشهادة خمسة هو أحدهم، مع سدس دية العين كالأول؛ أي فإن الأول وهو السادس عليه سدس دية العين لأنها ذهبت بشهادة ستة هو أحدهم وعلى الثالث بالنسبة للماضين وهو الرابع بالنسبة للباقين ربع دية النفس؛ لأنها ذهبت بشهادة أربعة هو أحدهم فقط؛ أي لا شيء عليه من دية الموضحة والعين لاندراجهما في النفس، وإنما وجب الغرم على السادس والخامس لرجوع الرابع، فلو لم يرجع فلا غرم على واحد منهما، بدليل قوله:"وإن رجع" من يستقل الحكم بعدمه فلا غرم فإذا رجع غيره فالجميع، وهذا الفرع عزاه ابن الحاجب لمحمد بن المواز. قاله في توضيحه. وهو مبني على مذهبه أن الرجوع بعد الحكم وقبل الاستيفاء يمنع من الاستيفاء، وأما على قول ابن القاسم إنه يستوفى، فينبغي أن يكون على الثلاثة الراجعين ربع دية النفس دون العين والموضحة لأنه قتل بالستة، وتندرج دية الأعضاء فلا اعتراض على ابن الحاجب لأنه عزاه لمحمد، وأما المص فلم يعزه فهي معارضة للتي قبلها لبنائها على مذهب ابن القاسم.
وقال الأجهوري: ينبغي أن المذهب ما قاله المص؛ أي لأنه لا غرابة في بناء مشهور على ضعيف. قاله عبد الباقي. وقال ابن مرزوق: يعني أنه إذا شهد ستة على محصن بالزنى فأمر الإمام برجمه، فلما فُقِئتْ عَيْنُهُ في أثناء الرجم رجع أحد الستة ثم جرح موضحته، فرجع آخر ثم مات
فرجع آخر، فعلى الراجع الأول - وهو الذي سماه المص "سادسا" سدس دية العين، وسماه ثانيا أولا في قوله:"كالأول"، وإنما سماه سادسا تنبيها على علة لزومه سدس الدية؛ لأن هذه عين تسبب في إتلافها ستة، فعلى كل واحد سدس ديتها، وسماه أولا لأنه أول من رجع وعلى الراجع الثاني، وهو الذي عبر عنه أولا بخامس، وثانيا بالثاني خمس دية الموضحة لأنه جرح بسبب خمسة وهم الباقون بعد رجوع الأول، فعليه خمس ديته ولذا سماه خامسا، وعليه أيضا مع هذا الخمس سدس دية العين؛ لأنه بسبب الستة أصيب، وهذا معنى قوله:"مع سدس العين كالأول" أي الوجه الذي لزم به الأول سدس العين، وهو كونه أحد ستة. فقوله:"كالأول" إشارة إلى الحكم والعلة وعلى الراجع الثالث وهو الذي سماه أولا رابعا ربع دية النفس فقط؛ لأنه أحد أربعة تسببوا في هلاك نفس، ولا شيء عليه في دية العين ولا من دية الموضحة لاندراجهما في دية النفس وهذا هو المشهور، وقيل عليه ذلك مع السدس والخمس كصاحبيه. اهـ.
وقال الشبراخيتي: وهذا الفرع الذي مشى عليه المص لابن المواز وهو ضعيف وهو مخالف لقول المص: "لا رجوعهم" من أن الحكم لا ينقض قبل الاستيفاء وهو المشهور؛ لأن الأعضاء تندرج في النفس، فإن لم يرجع الثالث فلا غرم على الأول والثاني باتفاق منهما؛ لأن النصاب تام بدونهما. اهـ. وقال البناني: هذا الاعتراض أصله لابن عبد السلام، ونقله ابن عرفة وأجاب عنه بأن قال: القول بإمضاء الحكم بشهادة من رجع بعده وقبل تنفيذه إنما ثبت حيث لا مستند للحكم إلا شهادة الراجعين، ولا يلزم منه إسناده إليه حيث صح إسناده لمقيم على شهادته كهذه المسألة. انتهى.
ومكن مدع رجوعا من بينة يعني أن المشهود عليه إذا ادعى أن من شهد عليه قد رجع عن شهادته وطلب إقامة البينة على ذلك، فإنه يجاب إلى ذلك ويمكن منه، فقوله:"من بينة" متعلق بمكن أي يمكن من إقامة بينة على دعواه رجوع الشاهدين عما شهدا به عليه، وسواء أتى بلطخ أي شبهة أو لا. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: ومكن غارم مدع رجوعا من الشاهدين عليه عن شهادتهما، من إقامة بينة عليهما أنهما رجعا فيغرمان له ما غرمه، وظاهره تمكينه من إقامتهما، ولو عجزه القاضي عن إقامتها حيث نسيها وقت غرمه بشهادة الشاهدين أو أقر على نفسه
بالعجز. اهـ. وأما إن عجزه وهو يدعي حجة فلا تسمع بينته بحال كما تقدم. قاله الشبراخيتي. وقوله: "ومكن مدع رجوعا" لخ: وأما إن أقرا له بالرجوع فيغرمان له ولا يحتاج لإقامة بينة. قاله غير واحد.
كيمين إن أتى بلطخ يعني أن المشهود عليه إذا ادعى أن من شهد عليه رجع عن شهادته والتمس يمين المشهود على ذلك، فإنه يجاب إلى ذلك بأن يحلفا أنهما لم يرجعا عن شهادتهما، فإن حلفا برئا من الغرامة وإلا حلف المدعي أنهما رجعا وأغرمهما، فإن نكل فلا شيء له عليهما، ومحل توجه اليمين على الشاهدين أنهما لم يرجعا حيث أتى المشهود عليه بلطخ في دعوى الرجوع بأن يكون لدعواه وجه؛ بأن يتحدث الناس أنهم سمعوا أنهم رجعوا، فاللطخ هو القرينة؛ كأن يشيع بين الناس أن فلانا وفلانا رجعا عن شهادتهما، وكأن يأتي المدعي بشاهد غير مقبول الشهادة أو امرأتين. واعلم أن دعوى الرجوع هنا موجبة للمال ولو فيما ليس بمال ولا آئل له كطلاق وعتق. قاله البناني.
وقال ابن مرزوق: يعني إن ادعى المقضي عليه أن البينة الذين شهدوا عليه رجعوا عن شهادتهم عليه، فإنه يمكن من إقامة البينة على دعواه كما يمكن من تحليفهم على ذلك إن أنكروا دعواه عليهم ذلك ولم تكن له بينة، لكنه لا يحلفهم إلا إن أتي بلطخ يدل على قوة دعواه، ومقتضى مفهوم الشرط أنه إن لم يأت بلطخ فلا يمين عليهم وهو كذلك، فإن أتى بلطخ ونكلوا عن اليمين بعد طلبه منهم حلف المقضي عليه وأغرمهم، وهذه فائدة توجه اليمين عليهم "ورجوعا" في كلام المص مفعول "مدع". اهـ. وقال الشبراخيتي: والظاهر أن اليمين تتوجه على البينة ولو عجزه القاضي. انتهى.
وقال التتائي: واللطخ أن يكون لدعواه وجه وإلا فلا يمين، ولذا قال ابن عرفة: نقلُ ابن الحاجب توجه اليمين على البينة لا يفيد قيام اللطخ وهم، وفي نقل ابن عرفة: من شهد عند حاكم، ثم قال: نالني أذى من أجل شهادتي وحلف أنه ما شهد إلا بالحق، وأنا رجعت عنها، فقال ابن خزيمة وأصبغ: لا تسقط شهادته بهذا، وقال ابن زرب: تسقط، قال ابن عرفة: الأظهر
إن علم نزول ضرر به لأجلها قضى بها وإلا فلا. اهـ. وقال الخرشي: وقوله: "ومكن مدع" لخ "مكن" فعل ماض مبني للمفعول، "ومدع" نائب الفاعل. انتهى. وقوله:"ومكن مدع رجوعا من بينة"، قال ابن مرزوق: قال محمد بن عبد الحكم: وزعم أبو حنيفة وأصحابه أنه لا يقبل عليهما شهادة من شهد برجوعهما، قال محمد: وهذا خروج عن المعقول؛ لأن من قولهم: لو أقر بالرجوع لزمهما الغرم: فما الذي فرق بين إقرارهما عند الحاكم بالرجوع وبين قيام البينة عليهما بذلك؟ اهـ.
ولا يقبل رجوعهما عن الرجوع يعني أن الشاهدين إذا شهدا بحق على شخص، ثم رجعا عن شهادتهما ثم رجعا عن رجوعهما، فإن ذلك لا يقبل منهما، فإذا شهدا بأن هذه الناقة التي عند زيد لعمرو، أو شهدا بأن لعمرو على زيد دينا - مثلا - ثم رجعا عن ذلك بعد الحكم لعمرو على زيد في المسألتين، ثم رجعا عن رجوعهما ذلك، وقالا: لا شيء لعمرو مما شهدنا له به فإنه لا يقبل منهما هذا الرجوع الأخير، ويغرمان لزيد ما أتلفا عليه بشهادتهما وهو الناقة التي استحقها عمرو بشهادتهما في المسألة الأولى، والدين الذي غرمه له في الثانية. والله تعالى أعلم. قال الخرشي: يعني أن الشاهدين إذا شهدا بحق على شخص ثم رجعا عن شهادتهما ثم رجعا عن رجوعهما ذلك، فإنه لا يقبل منهما ويغرمان ما أتلفا كالراجع المتمادي. اهـ.
وقال عبد الباقي: ولا يقبل رجوعهما حين طالبهما المقضي عليه بأصل شهادتهما بما غرمه أي طلبهما لأجل رجوعهما عما شهدا به فقالا رجعنا عن الرجوع، فلا يقبل بل يغرمان ما أتلفاه بشهادتهما كالراجع المتمادي؛ لأن رجوعهما عن الرجوع بمنزلة من أقر ورجع عن إقراره. اهـ. وقال الشبراخيتي: ولا يقبل رجوعهما عن الرجوع ويعد نَدَمًا؛ لأنه بمنزلة من أقر ورجع عن إقراره. انتهى. وقال المواق: عبارة ابن شأس: لو رجعا عن الرجوع لم يقالا بل يقضى عليهما بما يقضى به على الراجع المتمادي في رجوعه، ووجه ذلك أن رجوع الشاهد عن شهادته ليس بشهادة وإنما هو إقرار على نفسه بما أتلف بشهادته. انتهى. وقال ابن مرزوق: يعني أن الشاهدين إذا رجعا عن شهادتهما بعد الحكم بها ثم رجعا عن رجوعهما لم يقبل الآخر ويعد
منهما ندما، وإنما المعول عليه من رجوعهما هو الأول لأنه إقرار بإتلاف، والثاني كتعقب الإقرار بالرافع فلا يقبل.
وإن علم الحاكم بكذبهم وحكم فالقصاص يعني أنه إذا شُهِدَ على رجل بما يوجب قتله أو عقوبته دون القتل والشهود كاذبون، فحكم الحاكم بقتله فقتل والحاكم يعلم أنهم كاذبون في شهادتهم، فإنه يقتص منه وليس هو كالشهود في قول ابن القاسم: إن تعمدوا الكذب فإنما عليهم الدية، كما قدمه المص بقوله:"ولو تعمدا" لأن الشهود لم يباشروا القتل ولا أمروا به، وإنما هم متسببون والحاكم تولى القتل بنفسه أو أمر به، قال في المدونة: وإن أقر القاضي أنه رجم أو قطع الأيدي أو جَلَدَ تعمدا لِلْجَورِ أقيد منه. اهـ. وظاهر هذا العموم سواء فعل هذا استنادا للشهادة التي علم كذبها قبل الحكم وهي مسألة المص، أو فعله من غير استناد إليها إذ كل ذلك جور، وظاهره أيضا وإن لم يباشر ذلك لأنه منفذه وهو ممن تجب طاعته، بخلاف الشهود فإن غيرهم هو المنفذ، وأخذ من قوله: أقيد منه، وقد ذكر الجلد أن في ضرب السوط القود كما نص عليه في غير هذا المكان، وروي عن مالك أنه لا قود فيه. انتهى. انظر ابن مرزوق. وقال الشبراخيتي: وإن علم الحاكم يشمل المحكم في الجرح كالقتل لأنه يمضي حكمه، وقول المدونة القاضي فرض مسألة. انتهى.
وقال عبد الباقي: وإن علم الحاكم بكذبهم أي الشهود أو بقادح من القوادح في شهادتهم وحكم بما شهدوا به من رجم أو قطع يد أو رجل أو جلد تعمدا للجور، وأولى إن باشر ذلك أو علم به وثبت علمه بإقراره لا ببينة تشهد عليه بعلمه، فلا يقتص منه على ما استظهره الأجهوري أي لفسقهم بكتمهم الشهادة قبل الاستيفاء. انتهى. قوله: أو بقادح من القوادح، مثله في الخرشي والشبراخيتي، وليس بصواب إذ لا قصاص في هذه، وإنما عليه الدية في ماله، وقد جزم بذلك الخرشي وعبد الباقي عند قول المص في باب القضاء:"وغرم شهود علموا وإلا فعلى عاقلة الإمام". انظر البناني. والله تعالى أعلم. وفي الخرشي: وليس على الشهود غرم حيث اقتص من الحاكم أو الولي كما هو الظاهر، ولا شيء على من باشر القتل لأنه مأمور من جهة الشرع. اهـ. وقال قبل
هذا مفسرا للمص: يعني أن الحاكم إذا علم بأن الشهود الذين عنده شهدوا بالجور والزور وحكم بشهادتهم، فإنه يقتص منه، وظاهره سواء باشر القتل أولا وهو كذلك كما هو ظاهر المدونة، وحملها بعضهم على ذلك، وكذلك يقتص من ولي الدم حيث علم بكذبهم وتعمده، وإن علم القاضي والولي بالكذب اقتص منهما، وذكره الزرقاني على سبيل البحث بلفظ ينبغي، واعترضه بعض الشراح بأن المسألة مذكورة في ابن غازي. انتهى.
وإن رجعا عن طلاق فلا غرم يعني أنه لو شهد شاهدان على شخص بأنه طلق زوجته فحكم بذلك ثم رجعا عن شهادتهما، فإنه لا غرامة عليهما للزوج لأنهما لم يفوتا عليه إلا الاستمتاع وهو لا قيمة له. كعفو القصاص يعني أنهما إذا شهدا على ولي الدم أنه عفا عن القاتل فحكم الحاكم بذلك، ثم رجعا عن تلك الشهادة فإنهما لا يغرمان لولي الدم شيئا، لأنهما لم يتلفا عليه شيئا؛ إذ ليس له على قول ابن القاسم إلا القتل أو العفو، وكلاهما لا قيمة له، وأما على قول أشهب أن له مع ذلك إلزامَ القاتل الديةَ فإن الولي يرجع عليهما بها. قاله ابن مرزوق. وقال عبد الباقي: وإن رجعا عن طلاق شهدا به على زوج فلا غرم عليهما لأنهما لم يتلفا عليه بشهادتهما مالا، وإنما فوتاه البضع وهو لا قيمة له، وشبه بقوله:"فلا غرم" قوله: "كعفو القصاص"؛ أي إذا شهدا بأن ولي الدم عفا عن القاتل فحكم به وسقط القصاص ثم رجعا عن شهادتهما بالعفو فلا غرم عليهما؛ لأنهما لم يفوتاه متمولا وإنما فوتاه استحقاق الدم، وهو لا قيمة له ويؤدبان ويجلد القاتل مائة ويحبس سنة. اهـ. وقوله:"كعفو القصاص" التشبيه لإفادة الحكم لا للاستدلال. قاله التتائي وقال الشبراخيتي: قال الشارح: ويجلد القاتل مائة ويحبس سنة ويؤدب الشاهدان. اهـ. وسيقول المص: "وعليه مطلقا جلد مائة ثم حبس سنة" وهو يفيد أن على القاتل ذلك، وإن استمر الشاهدان بالعفو على شهادتهما. انتهى. إن دخل شرط في قوله:"فلا غرم" يعني أن محل عدم الغرم على الشاهدين بالطلاق الراجعين عن شهادتهما به إنما هو حيث دخل الزوج بالمرأة المشهود بطلاقها، وإلا بأن لم يدخل بها فعليهما نصف من الصداق يغرمانه للزوج عند ابن القاسم. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: يعني وإن رجع الشاهدان بالطلاق عن شهادتهما وكانت المرأة غير مدخول بها فعليهما نصف الصداق، قال ابن عبد السلام والمص: نص في المدونة على
أنهما يغرمان نصف الصداق، وسكت عمن يستحقه. قال ابن عرفة: وفيها إن رجعا بعد قضاء قاض بشهادتهما بالطلاق قبل البناء، فعليهما نصف الصداق. عياض: كذا قيدنا في الأصل. قال بعض الشيوخ: لم يبين لمن هذا النصف، وحمله الشيوخ على أن غرمه للزوج، وكذا جاء مفسرا في كتاب العشور من الأسمعة، وحمله غير واحد على أن غرمه للمرأة ليكمل لها صداقها الذي أبطله عليها بالفراق قبل الدخول، وعليه اختصر المسألة القرويون، قالوا: وهو مقتضى النظر والقياس؛ لأن غرمه للزوج لا وجه له إذ النصف عليه متى حصل الفراق قبل الدخول، وأشهب وسحنون لا يريان عليهما من المهر شيئا. اهـ. ونحوه في التوضيح وابن عبد السلام. اهـ.
واعلم أن القول بأنهما يغرمان للزوج النصف مبني على أنها لا تملك بالعقد شيئا، والقول بأنهما يغرمان النصف للزوجة، قال البناني: الظاهر أنه مبني على القول بأنها تملك بالعقد الجميع. انتهى. وقال عبد الباقي: وإلا يدخل فنصفه يغرمانه للزوج عند ابن القاسم، بناء على أنها لا تملك بالعقد شيئا لجواز ارتدادها، فبشهادتهما غرم نصف الصداق، ثم قال: ومحل كلام المص في نكاح مسمى فيه صداق لا في تفويض وشهدا قبل التسمية ثم رجعا فلا غرم عليهما، وإنما لم يؤخر قوله:"كعفو القصاص" عن شرط ما قبله ليلا يتوهم أن التشبيه في غرم النصف، ولا يتوهم أن الشرط راجع لما بعد الكاف على القاعدة الأغلبية لعدم صحته هنا. اهـ.
كرجوعهما عن دخول مطلقة التشبيه في غرم نصف الصداق للزوج؛ يعني أنه لو شهد شاهدان على رجل أنه دخل بزوجته والحال أنه مقر بطلاقها قبل الدخول بها، فحكم القاضي عليه بالطلاق وكمال الصداق، ثم رجعا عن شهادتهما بالدخول بها فإنهما يغرمان للزوج نصف الصداق، ولو رجع أحدهما غرم ربع الصداق، وكلام المؤلف في نكاح التسمية وإلا غرما جميع الصداق، ولو شهد بالدخول امرأتان ثم رجعتا فإنهما يغرمان للزوج النصف؛ لأن الدخول يثبت بامرأتين. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي:"كرجوعهما عن دخول مطلقة" أقر الزوج بطلاقها وادعى أنه قبل البناء وحكم عليه بسبب شهادتهما بدخوله ليتكمل الصداق، فيغرمان له برجوعهما نصف الصداق، فإن رجع أحدهما غرم ربعه، ومحل المص في نكاح مسمى وإلا غرما له
جميع الصداق؛ لأن التفويض إنما يستحق فيه بوطء لا بموت أو طلاق كما مر في فصل الصداق. انتهى.
واختص الراجعان بدخول عن الطلاق صُورَتُهَا: امرأة في عصمة رجل نكاحها ثابت، شهد اثنان بطلاقها وشهد آخران بأن زوجها قد دخل بها، فحكم القاضي على الزوج بالطلاق وجميع الصداق ثم رجع الأربعة فإن الغرم لجميع الصداق مُخْتَصٌّ بشاهدي الدخول؛ لأنه إنما دفع بشهادتهما ولا غرم على شاهدي الطلاق لأنه بمنزلة رجوعهما عن طلاق مدخول بها، وقد تقدم عدم الغرم في ذلك أي واختص الراجعان عن شهادة الدخول بغرم جميع الصداق، بناء على أنها لا تملك بالعقد شيئا عن شاهدي الطلاق الراجعين عن شهادتهما بالطلاق، فإن قيل قد تقدم أن شاهدي الطلاق إذا رجعا عن الطلاق وكانت الزوجة غير مدخول بها يرجع عليهما بنصف الصداق، فلم اختص شاهدا الدخول بغرم الجميع ولم يشترِكَا مع شاهدي الطلاق، مع أنهما بشهادتهما ألزماه النصف وبشهادة بينة الدخول يكمل الصداق؟ فالجواب: أن شاهدي الطلاق في الحقيقة إنما شهدا بطلاق مدخول بها إذ قد شهدت البينة بالدخول، وقد تقدم عدم الغرم في ذلك، فإن قيل لم كان على شاهدي الدخول الجميع ولم يكن عليهما النصف خاصة على أنها تملك النصف بالعقد أو بالطلاق؟ فَالْجَوَابُ: أن هذا الفرع مبني على أنها لا تملك بالعقد شيئا والطلاق مستند إلى الشاهدين به، وقد تعذر الرجوع عليهما كما تقدم، فوجب الرجوع على شاهدي الدخول قاله الخرشي.
وقال عبد الباقي: وإن شهد اثنان على رجل أنه دخل بزوجته وآخران بطلاقها وحكم القاضي بالطلاق وجميع الصداق على الزوج، ثم رجع الأربعة اختص الراجعان بدخول الباء بمعنى عن، أي اختصا بغرم جميع الصداق لأنه إنما دفع بشهادتهما بناء على أنها لا تملك بالعقد شيئا كما في أحمد وهو ظاهر الشارح، قيل: وهو المعتمد هنا، وفي التتائي وحلولو والمواق: يغرمان له نصف الصداق وهو مبني على أنها تملك بالعقد النصف أو الجميع، والطلاق يشطره عن شاهدي الطلاق فلا غرم عليهما برجوعهما عنه؛ لأنه بمنزلة رجوعهما عن طلاق مدخول بها وقد مر عدم الغرم
في ذلك. انتهى. ونحوه للشبراخيتي، وقال البناني: التقرير الثاني في كلام الزرقاني هو الصواب، وهو الذي اعتمده ابن مرزوق إلى آخر كلامه.
وإن ماتت الزوجة في رجوع الأربعة رجع شاهدا الدخول على الزوج بما غرماه له، وهو جميع الصداق عند رجوعهما عن الدخول على التقرير الأول؛ أي تقرير أحمد والشارح، وقد قيل إنه المعتمد، أو نصف الصداق على التقرير الثاني وهو تقرير التتائي وحلولو وابن مرزوق، وقد قال البناني: هو الصواب. بموت الزوجة الباء سببية تتعلق برجع أي ورجع شاهدا الدخول على الزوج بما ذكر بسبب موت الزوجة، بشرط أشار إليه بقوله: إن أنكر الطلاق أي إنما يرجع شاهدا الدخول على الزوج عند موت الزوجة حيث أنكر الزوج الطلاق؛ أي استمر على إنكاره إذ الفرض إنكاره لأن موتها في عصمته على دعواه قبل البناء يكمل عليه الصداق، وقوله:"شاهدا الدخول" من إقامة الظاهر مقام المضمر، ولو قال: رجعا على الزوج كان أخصر. قاله أحمد. ومفهوم الشرط أنه إن أقر بالطلاق وشهدا عليه بالدخول ثم رجعا لم يرجعا عليه بشيء عند موتها لانتفاء العلة المذكورة، وبهذا يعلم حسن ذكر المص الشرط؛ إذ لو لم يأت به لتوهم رجوع شاهدي الدخول على الزوج بموتها، ولو أقر بالطلاق لإطلاقه حينئذ مع تقدم المسألتين في كلامه مسألة إقراره ومسألة إنكاره، ومثل موت الزوجة موت الزوج. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: وإن ماتت الزوجة - والمسألة بحالها أو أعم - رجع شاهدا الدخول بما غرماه من الصداق على الزوج بموت الزوجة إن أنكر الطلاق، وهذا في نكاح التسمية وإلا فالتفويض لا يوجب بالعقد شيئا، ولو ماتت الزوجة. وقوله:"إن أنكر" لخ شرط في رجوع الشاهدين، وأما لو رجع لتصديق شاهدي الطلاق فلا رجوع لهما عليه. اهـ.
ورجع الزوج عليهما بما فوتاه من إرث دون ما غرم الضمير في عليهما يرجع لشاهدي الطلاق؛ يعني أنه إذا شهد شاهدان بطلاق امرأة قبل البناء فحكم القاضي بالطلاق، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما بالطلاق فغرم الزوج للمرأة نصف الصداق ثم ماتت المرأة، فإن الزوج يرجع على شاهدي الطلاق بما فوتاه من الإرث، وهو النصف إن لم يكن لها ولد والربع إن كان لها ولد، ولا
يرجع الزوج على الشاهدين بما غرم من نصف الصداق للمرأة لاعترافه بتكميل الصداق عليه بموت المرأة؛ إذ هو منكر للطلاق قبل البناء. قاله في التوضيح. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: وهذه المسألة ليست خاصة بما قبلها، بل هي عامة فيه وفي غيره، وهو أن كل شاهدين شهدا بطلاق امرأة ثم رجعا عن شهادتهما وماتت الزوجة، فإن الزوج يرجع عليهما بما فوتاه من إرث، ولا فرق بين أن يكون ذلك قبل الدخول [وبعده]
(1)
، كان هناك شاهدا دخول أولا. اهـ. ونحوه لعبد الباقي.
ورجعت عليهما بما فوتاها من إرث وصداق يعني أن الزوجة ترجع على شاهدي الطلاق عند موت الزوج بما فوتاها من إرثها منه ومن نصف صداقها؛ إذ لولا شهادتهما بالطلاق لكانت ترثه ولتكمل صداقها، قال الخرشي: وعلم مما قررنا أن الموضوع حيث لم يكن إلا شهود طلاق قبل البناء. وكلام المؤلف يدل على المراد. اهـ.
وإن كان عن تجريح أو تغليط شاهدي طلاق أمة غرِمَا للسيد ما نقص بزوجيَّتها يعني أنهما إذا شهدا بطلاق أمة من عصمة زوجها قبل الدخول بها أو بعده، والحال أن سيدها مصدق على الطلاق فحكم القاضي بالفراق بينهما، ثم إن شاهدين شهدا بتجريح شاهدي الطلاق بوجه من وجوه التجريح على ما تقدم، أو شهدا بتغليطهما بأن قالا: سمعنا شاهدي الطلاق يقران على أنفسهما بالغلط وماتا أو غابا أو حضرا وأنكرا الغلط. قاله الشبراخيتي. فحكم القاضي برد الأمة في عصمة زوجها بأن نقض حكمه، ثم إن شاهدي التغليط أو التجريح رجعا عن شهادتهما بما ذكر، فإنهما يغرمان للسيد ما نقص من قيمة الأمة بسبب زوجيتها أي بسبب بقائها وعودها لعصمة زوجها، فإن عودها ثانيا عيب فتقوم الأمة بلا زوج وتقوم متزوجة فيغرمان ما بين القيمتين. قاله الخرشي وغيره. وقال غير واحد: وتجريح بغير تنوين لأنه مضاف في التقدير لمثل ما أضيف إليه ما عطف فهو من باب قول الشاعر:
يا من رآى عارضا يسر به
…
بين ذراعى وجبهة الأسد
(1)
في الخرشي ج 7 ص 224 أو بعده.
ونقل عن الخرشي عن بعض الشراح أنه قال: قوله "شاهدي" يتنازعه تجريح وتغليط، فهو من باب قول العرب: بين ذراعي وجبهة الأسد، وقول النحاة: قطع الله يدَ ورجلَ من قالها. اهـ. وقولي: والحال أن سيدها مصدق على الطلاق احتراز عما لو كان منكرا له فلا يغرمان شيئا؛ لأنهما ما أدخلا على أمته عيبا، ومفهومه أنه لو كان الرجوع عن تجريح أو تغليط شاهدي طلاق حرة لا يغرمان شيئا؛ لأن الحرة لا قيمة لها، والظاهر أن العبد كالأمة. قاله الخرشي. البناني: هذه المسألة لا تتصور إلا أن يكون القاضي حكم بالطلاق أولا ثم نقضه، فهما حكمان. اهـ. وهذا هو الذي صورت به المسألة وبه صور الخرشي وعبد الباقي والتتائي، وكذا هو عند ابن عرفة، وقول المص: أو تغليط تقدم تقرير الشبراخيتي له، ونحوه للبناني عن الشيخ أحمد بابا، فإنه قال: إن كيفية الشهادة بغلط الشاهدين أن يشهدا أنهما أي شاهدي الطلاق أقرا على أنفسهما بالغلط وماتا أو غابا ولم يسألا. اهـ المراد منه.
ولو كان رجوعهما عن شهادة على امرأة بخلع بثمرة، وفي نسخة: بخلع ثمرة بالإضافة لم تطب أي لم يبد صلاحها، أو كان رجوعهما عن شهادة بخلع برقيق آبق أو بعير شارد، ونحو ذلك مما يصح الخلع به لا ما لا يصح الخلع به، فاللازم لهما القيمة أي قيمة الثمرة يغرمانها للمرأة، بدل ما أُغرمته للزوج بالحكم بالخلع حينئذ، وقال البناني: فالقيمة حينئذ أي حين الرجوع إن قلنا: إن الظرف متعلق بلزوم القيمة، فيكون قوله:"حينئذ" في مقابلة قوله: "بلا تأخير" لخ، أو حين الشهادة إذا كان إشارة إلى وقت اغترامهما القيمة، وبهذا يتفق كلام الشراح، فإن منهم من قال حين الرجوع، ومنهم من قال حين الشهادة والكل صحيح. اهـ. وقال الشبراخيتي: فالقيمة حيتئذ أي حين الشهادة لا حين الرجوع؛ لأنهما قد لا يرجعان إلا بعد الطيب أو حصول الآبق، وهذا قول عبد الملك واختاره ابن راشد القفصي.
وإلى اختيار ابن راشد لقول عبد الملك، أشار المص بقوله: على الأحسن كالإتلاف تنظير بمعلوم أي أن المعتبر هنا في ضمانهما القيمة وقت تفويت ثمرتها بشهادتهما، كاعتبار ذلك فيمن أتلف
لشخص سلعة في ضمانه قيمتها يوم الإتلاف، والمعنى قياسا على إتلافها قبل زهوها، فإنها تقوم على الرجاء والخوف. قاله عبد الباقي وغيره.
بلا تأخير للحصول فيُغرم القيمة حينئذ يعني أن التقويم إنما يكون حين الشهادة بالخلع، ولا يؤخر إلى حصول طيب الثمرة ووجود كالآبق، فتغرم القيمة حينئذ أي حين طيب الثمرة ووجود كالآبق، ورد بهذا على محمد القائل: يؤخر التقويم إلى طيب الثمرة ووجود كالآبق فيغرم الشاهدان القيمة حينئذ أي حين حصول ما ذكر. وعلم مما قررت أن قوله: "فتغرم القيمة حينئذ" داخل في المنفي، وأن قوله: على الأحسن راجع للقيمة المثبتة لا المنفية، والحاصل أن المص مشى على قول عبد الملك: إن القيمة تعتبر وقت الشهادة ولا ينتظر بها حصول ما ذكر، وقول عبد الملك اختاره ابن رشد، فقال: قول عبد الملك أقيس إنما يقع الغرم وهو على الصفة التي كان عليها يوم الخلع، كالإتلاف ولا اعتبار بقول محمد. اهـ. قال الشبراخيتي: قيمة الثمرة وما معها تعتبر حين الخلع؛ لأنه الوقت الذي أخرج الشاهدان الثمرة عن ملكها فيه وأدخلاها في ملك الزوج بشهادتهما، فقد أتلفاها عليها بشهادتهما بالخلع، وأما الغرم فلا يكون إلا حين الرجوع. وَتَحَصَّلَ من هذا أن القيمة إنما تكون على الرجاء والخوف؛ أي تغرم القيمة على احتمال أن يحصل ما ذكر وأن لا يحصل، سواء رجع الشاهدان قبل الحصول أو بعده. والله تعالى هو الموفق. البناني: أشار المص بقوله: "بلا تأخير" لاختيار قول عبد الملك ورد قول ابن المواز، وأشار بقوله:"على الأحسن" لقول ابن راشد: قول عبد الملك أقيس. اهـ. وقال عبد الباقي وغيره: فالقيمة الأولى حين الخلع والحكم به وهي مثبتة، والثانية حين الحصول وهي منفية فلم يتواردا على محل واحد، فلا تكرار كما ظن الشارح. اهـ. وقال الحطاب: فالقيمة حينئذ كالإتلاف؛ يعني أن قيمة الثمرة على الرجاء والخوف، وقيمة الآبق والبعير الشارد على أقرب صفاتهما، فإن ظهر أنه كان ميتا قبل الخلع لم يكن عليهما شيء، ولو ظهر أنه أصابه عيب قبل الخلع لم يلزمهما إلا قيمته كذلك، ويستردان ما يقابل العيب. قاله ابن عبد السلام وابن عرفة. وبعضه في التوضيح. اهـ.
وقال الحطاب أيضا عند قوله "بلا تأخير للحصول فيغرم القيمة حينئذ" ما نصه: يشير بهذا إلى القول الثاني الذي يقول: تؤخر الغرامة حتى تجذ الثمرة ويوجَد الآبق والشارد فتغرم القيمة حينئذ ابن عرفة: قال محمد بل قيمتها يوم جذها الزوج. انتهى. وقال ابن الحاجب: وقال محمد: يؤخر الجميع للحصول فيغرمان ما يحصل. اهـ. وقال الشبراخيتي: وينبغي على هذا القول الثاني أن الكلفة على الثمرة تسقط عن الشاهدين من القيمة، وعلى هذا القول الثاني أيضا لو هلكت الثمرة قبل جذها أو لم يرجع الآبق أو نزل الجنين ميتا، هل لا غرم على الشاهدين أو يغرمان القيمة؟ ومقتضى قول ابن شاس أنه لا غرم عليهما. اهـ. وقال الشبراخيتي أيضا: قال ابن غازي: وينبغي أن يقرأ فيغرم بالنصب جوابا للنفي وعطفا للمصدر المؤول على الصريح. اهـ. الأجهوري: قوله: فينبغي أن يقرأ بالنصب ليس بمتعين إذ هذا المعنى يحصل مع قراءته بالرفع، بناء على عطفه على تأخير والنفي مُنصَبٌّ على كل منهما، كما هو أحد وجهي الرفع، وقد نظمت الأوجه الأربعة في نحو هذا بقولي:
فِي نَحْوِ زَيْدٍ ما يجي فأكرمَهْ
…
رَفعٌ ونصبٌ جاء كل فاعلمه
فرفعه بجعلها فاء السببْ
…
والمبتدا مقدر بلا نصب
أي أن الإكرام مسبب على
…
نفي المجي الذ به جي أولا
كذا بعطفه فكل قد نفي
…
وانصبه فالمقدر في كل نفي
وقد نفي الثاني بنفي الأول
…
لكونه مسببا فامتثل
أو عطف الثاني وقد نفى فقط
…
فهذه أربعة بلا شطط
والباء في بخلع وما عطف عليه بمعنى عن علي حذف مضاف؛ أي ولو كان رجوعهما عن شهادتهما بخلع لخ، وأتى المص في البعض بعن وفي البعض بالفاء للتفنن. قاله الشبراخيتي وغيره.
وإن كان بعتق غرما قيمته يعني أنهما لو شهدا على شخص أنه أعتق عبده عتقا ناجزا، فحكم القاضي بذلك ثم رجعا عن شهادتهما فإنهما يغرمان لسيده قيمته يوم الحكم بعتقه. وولاؤه له يعني أن ولاء هذا العبد الذي حكم بحريته بسبب شهادتهما يكون لسيده، فقد غرما له القيمة مع أن الولاء له، فإذا مات العبد ولا وارث له فإن سيده يأخذ ماله، وفي نسخة: وولاؤه لسيده. قال عبد الباقي: وإن كان رجوعهما عن شهادتهما على سيد بعتق ناجز لرقيق والسيد منكر وحكم بالعتق غرما قيمته لسيده يوم الحكم بعتقه، ولا يرد العتق برجوعهما وولاؤه له لاعترافهما له بذلك، ولأنهما بغرمهما القيمة، كأنهما أعتقاه عنه فرجوعهما لا يفيد فيما أقرا به لغيرهما وهو الولاء، فإن من أقر بشيء ثم رجع فإن رجوعه لا ينفعه فيما يتعلق بغيره، وإن كانت أمة لم يجز لها إباحة فرجها بالتزويج إن علمت بكذب الشاهدين، والظاهر أن للسيد وطأها عند علمه أنه لم يُعْتقْ، وأنهما شهدا عليه بزور ولا يمنع من ذلك أخذه القيمة عند رجوعهما لأنه أمر جر إليه الحكم. قال المازري: فإن مات العبد ولا وارث له أخذ السيد ماله. اهـ.
وانظر لو كان له وارث، هل يرجع السيد عليهما بما أخذه الوارث؟ لأنه لولا شهادتهما لأخذ ماله بالرق أولا لأنهما غرما قيمته له وهو الظاهر، ولا يشكل عليه ما يأتي في قوله:"وغرما له نصف الباقي" لأن الآتي المال من التركة وهنا للعبد الذي دفعت قيمته. انتهى. قوله: أولا لأنهما غرما قيمته له وهو الظاهر لخ، قال الرهوني: إن كان هذا المال موجودا يوم قوم عليه، فما قاله ظاهر لأنه يقوم بما ليس للسيد أن يرجع عليهما به بعد أخذه عوضه، وإن لم يكن موجودا يومئذ فليس بظاهر لأن غرم القيمة لا تأثير له فيما هو أعظم من هذا، وهو إباحة الوطء بعد غرمها إذا كانت أمة، لقول الزرقاني قبل: والظاهر أن للسيد وطأها عند علمه بأنه لم يعتق، فكيف يؤثر في هذا؟ تأمل. اهـ.
وهل إن كان لأجل يغرمان القيمة يعني أنه لو شهد شَاهِدان على شخص أنه أعتق عبده إلى أجل فحكم القاضي بذلك ثم رجعا عن شهادتهما، فقد اختلف في ذلك، فقال عبد الملك: يغرمان القيمة حالة لمنعهما له من بيعه، وعلى قول عبد الملك هذا تكون المنفعة أي خدمة العبد إليه أي إلى الأجل لهما أي للشاهدين، يأخذان منها ما أديا لكن يبقى العبدُ تحت يد سيده ويُعطيهما من تحت يده، وقال سحنون: مثل قول عبد الملك إلا أنه يسلم إليهما حتى يستوفيا ما غرماه ثم يرجع لسيده، وهذان القولان يحتملهما قول المص:"والمنفعة إليه لهما".
أو تسقط منها أي من القيمة المنفعة يعني أن عبد الله بن عبد الحكم، قال قولا مخالفا للقولين المتقدمين، فإنه قال: إن منفعة العبد إلى الأجل تقوم على غررها فتسقط من القيمة وباقي القيمة يأخذه السيد الآن ويتسلم منافع العبد إلى الأجل، قال عبد الله بن عبد الحكم: تقوم منافعه على غررها وتجويز أن يموت العبد قبل الأجل أو يعيش فيخرج حرا فتحط القيمة على تلك الصفة من جملة القيمة التي يغرمانها، وتبقى منافع العبد لسيده على حسب ما كان قبل أن يرجعا عن الشهادة. وقوله:"أو تسقط منها المنفعة"، قال البناني: هذا قول عبد الله بن عبد الحكم كما قاله ابن عرفة وابن عبد السلام، لا قول محمد بن عبد الحكم كما في التوضيح، ولا قول عبد الملك كما قال ابن الحاجب. اهـ.
أو يخير فيها هذا قول ابن المواز، فإنه قال: يخير السيد في المنفعة أي يخير بين أن يسلم المنفعة إلى الأجل للشاهدين ويأخذ منهما قيمته بتمامها، وبين أن يأخذ منهما قيمته الآن ويتمسك بالمنافع إلى الأجل ويدفع قيمتها إليهما وقتا بعد وقت بحسب ما يراه هو لا هما، وفي نسخة بضمير التثنية فالضمير عائد على الإسقاط وعدمه، لا على القولين قبل، كما يوهمه المص أي يخير بين أن يسقط حقه من المنفعة ويسلمها للشاهدين مع أخذه قيمته منهما، وفي عدم إسقاطها بأن يأخذها ويدفعها إليهما شيئا فشيئا مع أخذه قيمته منهما أيضا، وكَلَامُ الشارح خلاف النقل. قال عبد الباقي: وهل إن كان رجوعهما عن شهادتهما على سيد بعتق لأجل وحكم به يغرمان للسيد القيمة الآن؛ أي قيمة العبد المحكوم بعتقه لأجل شهادتهما والمنفعة في العبد إليه أي إلى
الأجل لهما يستوفيان منها القيمة التي غرماها، فإن استوفياها وبقي من الأجل بقية رجع باقيها للسيد، فإن قتله السيد رجعا عليه ببقية قيمة المنفعة أو ببقية مالهما إن زادت قيمة باقي المنفعة على ذلك، قال التتائي: فإن مات في يد السيد قبل الأجل وترك مالا أو قتل فأخذ له قيمة أو مات بعد الحرية وترك مالا، فإنهما يأخذان ما بقي لهما من ذلك، وأما إن مات بيد السيد ولم يترك مالا أو قتله بعد استيفائهما مالهما من خدمته فلا علاقة لهما، أو لا يغرمان جميع القيمة، بل تسقط منها عنهما المنفعة أي قيمتها، فتحسب منفعته من جملة القيمة التي يغرمان الآن، وللسيد ما زاد على قيمة المنفعة وتبقى تلك المنفعة لسيده على حسب ما كان قبل رجوعهما عن الشهادة، فإن مات في هذه الحالة فلا شيء للسيد عليهما لأنهما أخذا قيمتها على غررها، وتجويز موت العبد قبل الأجل وحياته إليه. اهـ. وقوله أقوال مبتدأ حذف خبره أي في ذلك أقوال، قال عبد الباقي: أقوال ثلاثة الراجح منها الأول. اهـ. ومر عنه في تفسير القول الأول ما يفيد أن مراده به قول عبد الملك لا قول سحنون. والله تعالى أعلم.
تنبيهات: الأول: قال البناني: وهل إن كان لأجل يغرمان القيمة لخ، جعل المص الأقوال في هذه ثلاثة وهي في الحقيقة أربعة، الأول لعبد الملك يغرمان القيمة والمنفعة إلى الأجل لهما لكن يبقى تحت يد السيد ويعطيهما من تحت يده، الثاني لسحنون كالأول إلا أنه يسلم إليهما حتى يستوفيا ما غرماه ثم يرجع لسيده وهذان القولان يحتملهما قول المص والمنفعة إليه لهما، والثالث يغرمان القيمة بعد أن تسقط منها قيمة المنفعة على الرجاء والخوف وهو قول عبد الله بن عبد الحكم كما قاله ابن عرفة وابن عبد السلام، الرابع لابن المواز يخير بين الوجهين الأولين، وكلام المص لا يفي بهذا الأخير بل يوهم خلافه، وقد أصلحه ابن عاشر بقوله: والمنفعة لهما تحت يده أو يدهما أو تسقط منها المنفعة أو يخير في الأولين. اهـ.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن المص أتى بالأربعة: ويكون الأول شاملا لقول عبد الملك وسحنون.
الثاني: إن شهدا بتنجيز عتق معتق لأجل، فقضي بذلك ثم رجعا فعليهما قيمة الخدمة على غررها، ولو كان معتقا إلى موت فلان فعليهما قيمة خدمته أقصر العمرين. اهـ.
الثالث: قال الخرشي: لو شهدا بإخدام عبد لآخرَ حَياتَه ثم رجعا فعليهما قيمة العبد إلى أقصَرِ عمر العبد. والمخدم الذي هو الآخر لا عمر السيد.
الرابع: قال ابن مرزوق: قال ابن يونس: وهو في النوادر عن سحنون: إن رجعا عن شهادة بعتقه إلى سنين غرما قيمته حالة، ويطلبان ذلك في خدمة العبد فيؤاجرانه ويستخدمانه، فإن قبضا ما وديا قبل الأجل خدم العبد سيده إلى الأجل، وإن تم الأجل ولم يتم ما أديا فلا شيء لهما مما بقي، وإن مات العبد قبل الأجل وترك مالا أو قتل وأخذ له قيمة، أو مات بعد الحرية وترك مالا فليأخذ الشاهدان من ذلك ما بقي لهما، وإن أعتقه السيد قبل أن يقبضا ما غرما فليرد عليهما ما غرما أو ما بقي لهما إن كانا قبضا شيئا من خدمته. اهـ المراد منه.
وإن كان بعتق تدبير فالقيمة الإضافة بيانية أي بعتق هو تدبير؛ يعني أنهما إذا شهدا على سيد عبد أنه دبره فحكم الحاكم بتدبيره، ثم رجعا عن شهادتهما فالقيمة أي غرم قيمة العبد واجب عليهما قال عبد الباقي: وإن كان رجوعهما عن شهادتهما بعتق تدبير وحكم بعتقه والإضافة بيانية أي بعتق هو تدبير، بدليل قوله:"واستوفيا" لخ، ولو أسقط لفظ عتق كان أولى، وأما إن شهدا بتنجيز عتق المدبر فيرجع عليهما بقيمته على أنه مدبر فلا شيء لهما كما في المواق.
واستوفيا من خدمته يعني أنهما يستوفيان من خدمة المدبر القيمة التي غرماها للسيد، قال المواق: قال ابن الحاجب: لو شهدا على رجل أنه دبر عبده فقضي بذلك والسيد ينكر، ثم رجعا وأقرا بالزور فليتعجل منهما قيمة العبد، ويقال: ادخلا فيما أدخلتماه فاقتضيا من الخدمة التي أبقيتما في يده ما وديتما، ثم ترجع بقية خدمته لسيده. ابن المواز: لو شهدا أنه أعتق مدبره فقضي بتعجيل عتقه ثم رجعا فعليهما قيمته للسيد؛ لأنهما أتلفاه عليه، ولأنها إن كانت أمة كان له وطؤها ويقضى بها دينه بعد موته. اهـ. وقال عبد الباقي: وإن كان بعتق تدبير فالقيمة ناجزا، وتعتبر يوم الحكم بتدبيره واستوفيا خدمته تقاضيا أي شيئا فشيئا، ولا يملكان جميعها، والمراد استوفيا إن شاء سيده، وإن شاء أمسكها ودفع لهما قيمتها كما في ابن مرزوق عن ابن يونس،
والظاهر أنه يدفع لهما قيمتها شيئا فشيئا بحسب ما يستوفيها، لا أنه يعجلها لهما دفعة فهي كالمسألة السابقة، وأشعر قوله:"استوفيا" أنه لو كان لا خدمة له فلا شيء لهما وهو كذلك. تنبيه: وقع في شرح عبد الباقي ما نصه: والظاهر أنه ينجز عتقه حينئذ يعني حين لا خدمة له؛ لأن عدم تنجيزه إنما هو لأجل أن يستوفيا من خدمته، وقد انتفى ذلك والأنثى كالذكر. قاله علي الأجهوري ولا ينافيه قول المص:"فإن عتق بموت سيده" اهـ.
قوله: "والظاهر أنه ينجز عتقه" لخ، قال البناني: فيه نظر؛ إذ كونه لا خدمة له لا يقتضي سقوط حق سيده منه، ولأنه قد يموت السيد ولا يحمله ثلثه فيرق كله أو بعضه، وأيضا إذا كان المدبر أمة بقي فيها حق السيد في الوطء، والحاصل أنه لا وجه لتنجيز عتقه عند انتفاء خدمته. والله تعالى أعلم. وكذا تعليله بقوله لأن عدم تنجيزه إنما هو لأجل أن يستوفيا من خدمته لا معنى له؛ إذ يقتضي أنه لولا تعلق حق الشاهدين بالمدبر لَنُجِّزَ عتقه وهو غير صحيح، نعم ذكر في التوضيح ما نصه: ولو كان موضع المدبر مدبرة ممن لا حِرْفَةَ لها وينهى عن استيجارها، فإنه إذا قضى على الشاهدين بقيمتها نجز عتقها؛ إذ لا فائدة في بقائها إلا أن يلتزما النفقة عليها رجاء رقها بعد وفاة سيدها، فذلك لهما أو تطوع السيد بذلك رجاء أن ترق له فذلك له، ومثله نقله ابن عرفة عن سحنون. اهـ. وقوله:"واستوفيا من خدمته" قال الشبراخيتي: مثل ذلك أرش الجناية عليه، فلو كان لا خدمة له فلا شيء لهما. اهـ.
فإن عَتَق بموت سيده فعليهما يعني أن هذا الذي شهدا بتدبيره وحكم به ثم رجعا عن شهادتهما، إذا عتق بموت سيده بأن حمله الثلث، فإن كانا قد استوفيا ما غرماه فلا كلام، وإن كانا قد بقي لهما شيء فقد ضاع عليهما. وهما أولى إن رده دين أو بعضه يعني أنه إذا لم يحمله الثلث أو حمل بعضه، فإنهما أولى به حيث رده الدين كله أو بما رق منه من غيرهما من أرباب الديون حتى يستوفيا، قال عبد الباقي: وهما أولى أي أحق حتى يستوفيا إن رده أي العتق أو التدبير دين أو بعضه؛ لأنهما لما دفعا قيمته لسيده فكانت كحق تعلق بعينه، وهو مقدم على الدين المتعلق بالذمة، فإن مات قبل الاستيفاء أخذ من ماله، فإن لم يكن له مال فلا شيء لهما، فإن قتل أخذا من قيمته. انظر المواق. اهـ. وقوله:"وهما أولى إن رده دين أو بعضه" قال البناني:
هذا يقتضي أن رِقِّيَّة البعض تتوقف على الدين كَرِقِّيَّة الكل وليس كذلك، فإن السيد إذا مات ولم يترك مالا سوى المدبر عتق منه الثلث ورق الثلثان. اهـ.
قال مقيده عفا الله عنه: إنما قصد الوجه المشكل لأنه إذا كان أولى من أرباب الديون فأحرى أن يقدم، فيمارق منه إذا لم يكن دين، فلا يفيد أنه إذا لم يكن دين لا يرق بعضه حيث لم يحمله الثلث. والله تعالى أعلم.
تنبيه: قال في التوضيح: قال محمد بن عبد الحكم: فإن كان الشاهدان عديمين لم يوجد عندهما ما يؤخذ من القيمة التي لزمتهما، فالواجب أن يحكم عليهما بما بين قيمة العبد مدبرا ممنوعا مشتريه من بيعه ومجوزا عتق جميعه أو عتق بعضه أو رق جميعه لو جاز في الشرع البيع على هذا. فيطلب سيد العبد ذلك من الشاهدين متى أيسرا، وقيل يستوفي السيد من خدمته ما لزمهما فيبقى في يده مدبرا، فإن مات قبل الاستيفاء أخذ من الشاهدين ما بقي من قيمته إذا أيسرا.
كالجناية يَحْتَمِلُ أن معناه أن المدبر إذا جنى على غيره فإن المجني عليه أحق به من أرباب الديون إن رق كله أو بعضه، وهذا الاحتمال يدل عليه قول ابن عرفة: ولو مات سيده وعليه دين يرقه بيع لهما أي للشاهدين قبل الدين، كما لو جنى جناية والدين محيط فإن أهل الجناية أولى برَقَبَتِهِ. اهـ. ومثله قول التوضيح: فإن مات السيد وحمله الثلث خرج حرا، وإن رق منه شيء فهما أولى به، وكذلك إن رده دين فهما أولى من صاحب الدين وهما كأهل الجناية، ثم إذا بيع وفضل منه فضل لم يكن للشاهدين أخذه؛ إذ لا يربحان. اهـ. وكلاهما صريح في أن التشبيه راجع لقوله: وهما أولى إن رده دين لخ. وعلى هذا الاحتمال فأل عوض عن المضاف إليه، فالمدبر هو الجاني، وَيَحْتَمِلُ أن معناه أن المدبر إذا جني عليه فإن الشاهدين يستوفيان مالهما مما أخذ في جنايته، ويدل عليه نقل المواق، فإنه قال عند قوله كالجناية ما نصه: سحنون لو مات المدبر قبل أن يستوفيا وترك مالا أو قتل لأخذا من ماله أو من قيمته ما بقي لهما، وإن لم يترك شيئا فلا شيء لهما. اهـ.
تنبيهان: الأول: قوله: "كالجناية" اعلم أن المجني عليه يستوفي من خدمته المدبر تقاضيا، وكذا المعتق لأجل فإن المجني عليه يستوفي من خدمة تقاضيا، وأما القن الخالص فإنه يسلم إلى المجني عليه ملكا إن لم يَفْدِهِ سيده بالأرش.
الثاني: قال عبد الباقي: سكت المص عما إذا رجعا عن شهادتهما بتنجيز عتق المعتق لأجل وهو غرمهما قيمة رقبته؛ أي على أنه معتق لأجل لا خدمته. انظر ابن عرفة. اهـ. قوله: وهو غرمهما قيمة رقبته لخ، قال البناني: غير صحيح، بل الذي عند ابن عرفة والتوضيح أن عليهما قيمة الخدمة على غررها لا قيمة الرقبة. اهـ.
وإن كان بكتابة قالقيمة يعني أنه إذا شهد شاهدان على شخص أنه كاتب عبده فحكم القاضي بذلك ثم رجعا عن شهادتهما فإنهما يغرمان قيمته للسيد عاجلا، قال عبد الباقي: وإن كان رجوعهما عن شهادة بكتابة أي بأنه كاتب عبده وحكم بذلك عليه، فالقيمة أي قيمة المكاتب لا الكتابة يغرمان قيمته للسيد عاجلا، وتعتبر يوم الحكم بشهادتهما. اهـ. وقال الشبراخيتي: وإن كان رجوعهما عن شهادتهما بكتابة، فالقيمة - أي قيمة المكاتب قنا لا مكاتبا - لازمة لهما ناجزا.
وَاسْتَوْفَيَا مِن نُجُومِهَا يعني أنهما يغرمان قيمته على أنه قن كما علمت، فإذا غرماها له فإنهما يستوفيان ما غرماه من القيمة من نجوم الكتابة، فإن فضل منها شيء فللسيد، وإن نقصت عما لهما فلا شيء لهما سواها. وإن رق فمن رقبته يعني أنه إذا عجز عن أداء الكتابة فإنه يصير قنا ويستوفيان ما غرماه من رقبته بأن يباع ويستوفيا من ثمنه. والله تعالى أعلم. قال المواق: سحنون: وإن شهدا بأنه كاتب عبده فقضى بذلك ثم رجعا وأقرا بالزور فالحكم ماض، وليؤديا قيمته ناجزة للسيد يوم الحكم ويتأدياها من الكتابة على النجوم، فإذا اقتضى منها مثل ما وديا رجع السيد فأخذ باقي الكتابة منجمة، فإن وداها عتق وإن عجز رق له، وإن عجز قبل أن يقبض الراجعان ما وديا نقل ابن عرفة أنه يباع لهما منه تمام ما بقي لهما، فإن عجز عن تمامه لهما. فلا شيء لهما هذا قول عبد الملك. قال ابن المواز: وبه أقول وعليه أصحاب مالك، وما قاله ابن القاسم فغير معقول. اهـ. وقال ابن مرزوق في النوادر ما معناه: روى أصبغ عن ابن القاسم أنهما يغرمان
القيمة، فتوضع بيد عدل ويتأدى السيد الكتابة، فإن استوفى من الكتابة مثلها رجعت إلى الشاهدين، وإن كانت الكتابة أقل ومات المكاتب قبل الاستيفاء دفع إلى السيد من تلك القيمة تمام قيمة عبده. قال محمد: وهو جواب غير معتدل، وبقول عبد الملك أقول وعليه أصحاب مالك. اهـ. المراد منه. وأشعر قول المص:"واستوفيا" من نجومها أنهما رجعا قبل أدائها، وأما لو لم يرجعا حتى أداها وخرج حرا فالظاهر أن السيد يرجع عليهما بباقي القيمة، ولا وجه للتوقف في ذلك. انظر حاشية الشيخ البناني.
وإن كان بإيلادٍ فالقيمة يعني أنهما إذا شهدا على رجل أنه استولد أمة فحكم القاضي بذلك، ثم رجعا عن شهادتهما فإنهما يغرمان للسيد قيمتها الآن قنا، قال الشبراخيتي: وإن كان رجوعهما عن شهادتهما على السيد بالإيلاد فالقيمة أي قنا يوم الحكم بإيلادها، ولا يخفف عنهما شيء من قيمتها لأجل ما بقي له فيها من الاستمتاع. اهـ.
وأخذا من أرش جناية عليها يعني أنهما يستوفيان ما غرماه من قيمة الأمة التي شهدا بأنه استولدها من أرش جناية عليها نفسا أو طرفا، قال المواق من كتاب ابن المواز: إن شهدا على رجل أنه أولد جارية أو أنه أقر أنها ولدت منه، فحكم عليه بذلك ثم رجعا فعليهما قيمتها للسيد ولا شيء لهما، وهي أم ولد للسيد يطؤها ويستمتع بها ولم تبق فيها خدمة ولا يرجعان فيها بما غرما، إلا أن تجرح أو تقتل فيؤخذ لذلك أرش فلهما الرجوع في ذلك الأرش بقدر ما وديا والفضل للسيد. قال محمد: ولا يرجعان فيما تستفيد من مال بعمل أو هبة أو بغير ذلك وذلك للسيد مع ما أخذ، وقال سحنون: يرجعان في الأرش وفي كل ما تستفيده.
وإلى قول محمد وسحنون أشار المص بقوله: وفيما استفادته قولان يعني أنه اختلف فيما تستفيده بعمل أو هبة ونحو ذلك على قولين، فقيل: ذلك للسيد وليس للشاهدين أن يستوفيا منه وهو قول محمد، وقيل: يستوفيان منه كأرش الجناية وهو قول سحنون. قال عبد الباقي: وفيما استفادته من هبة أو وصية أو نحو ذلك، وكذا ما اكتسبت من عمل كما في التتائي، قولان في أخذهما منه؛ لأنه في معنى الأرش وعدمه؛ لأنه منفصل عنها وهو الراجح كما في ابن مرزوق لا فيما استفاده
ولدها من غير السيد. اهـ. وقال الشبراخيتي: وهل لهما أن يرجعا فيما استفادته بعمل أو فائدة أو هبة أو غير ذلك؟ وهو قول سحنون، أو لا شيء لهما في ذلك وهو للسيد مع ما أخذ؟ وهو قول محمد بن المواز. وهو الراجح كما قال ابن مرزوق قولان. اهـ. قوله: مع ما أخذ يعني القيمة قاله مقيده عفا الله عنه، وقال ابن مرزوق: يعني فإن شهدا على رجل أنه أولد أمة له فقيمة تلك الأمة واجبة عليهما لأنهما منعاه من بيعها والتصرف فيها إلا بالأمر الخفيف الذي له في أم الولد من الاستمتاع والخدمة اليسيرة، وظاهر كلامه أنهما يغرمان قيمة الأمة كاملة ولا يوضع عنهما شيء لهذا الأمر الذي بقي للسيد فيها. وقيل: إنه يخفف عنهما بذلك ثم لا شيء للشاهدين من القيمة التي غرما إلا أن يُجْنَى عليها جناية، فإنهما يستوفيان من أرش تلك الجناية ما دفعا من قيمتها، وإن لم يوف ذلك بالقيمة فلا شيء لهما غيره، واختلف هل يأخذان من مال استفادته أو لا؟ على قولين، ولم يطلع المص على نص على الراجح منهما، فلذلك حكى القولين.
وإن كان بعتقها فلا غرم يعني أنهما إذا شهدا على السيد بأنه أعتق أم ولده، فحكم القاضي بذلك ثم رجعا عن شهادتهما فإنهما لا يغرمان شيئا لسيدها؛ لأنهما لم يفوتا عليه إلا الاستمتاع بها وهو لا يتقوم كما في الرجوع عن الطلاق بعد البناء. قاله الخرشي. وقال المواق: ابن المواز: إن شهدا في أم ولد رجل أنه أعتقها فحكم بذلك ثم رجعا، فقال أشهب وعبد الملك: لا شيء على الشاهدين لأنه لم يبق له فيها غير ذلك ولا قيمة له، وقال ابن القاسم: على الشاهدين قيمتها للسيد، كما لو قتلها رجل والقول الأول أقوم وأصح. اهـ. وقال عبد الباقي: وإن كان رجوعهما عن شهادتهما بعتقها أي أنه نجز عتق أم ولده وحكم به فلا غرم؛ لأنهما إنما فوتاه استمتاعه بها وهو لا قيمة له، كما لو رجعا عن طلاق مدخول بها، وليس له وطؤها ولو بالتزويج إلا أن يبت عتقها فيتزوجها. قاله الأجهوري، وانظر ما الفرق بينه وبين ما قدمته في قوله:"وهل إن كان لأجل" لخ من أن له وطأها حيث علم بكذبهم وهو المناسب، بل هذا أولى لأنهما لم يغرما له شيئا، وقد يُفرّقُ بقوة الشبهة هناك بكونها قنا خالصة بخلاف هذه. اهـ. وقال التتائي: واسْتُشْكِلَتْ هذه المسألة بأن الشاهدين لو قتلاها لغرما قيمتها وشهادتهما بعتقها كقتلها، وقد
استدل به ابن القاسم، فما الفرق؟ وأجاب البساطي بأن قتلها لا يكون هدرا لأنها معصومة، فلا بد من الغرم والذي يأخذ ذلك السيد، وليس هذا المعنى موجودا في الشهادة فافترقا. اهـ.
أو بعتق مكاتب فالكتابة يعني أنهما إذا شهدا على السيد أنه نجز عتق مكاتبه، فحكم القاضي بذلك ثم رجعا عن شهادتهما فإنهما يغرمان للسيد ما أتلفاه عليه مما كان على المكاتب عينا أو عرضا ويؤديانه على النجوم ولا يغرمان قيمة الكتابة، ولذا عدل المؤلف عن عبارة ابن الحاجب: غرما قيمة كتابته؛ لأن ذلك غير مقصود كما نبه عليه الطخيخي، والباء في قوله:"بعتق مكاتب" بمعنى: عن، أي وإن كان رجوعهما عن عتق مكاتب أي عن شهادتهما بعتق مكاتب فالكتابة يغرمانها على نجومها إن لم يكن أدى منها قبل عتقه بشهادتهما، فإن كان أدى منها قبله غرما ما بقي منها، هذا مستفاد من كلام الشارح. قاله الخرشي. وقال ابن مرزوق: أي إن رجعا عن شهادة بعتق مكاتب، فإن الحكم فيها كالحكم فيما إذا رجعا عن شهادة بقبض كتابة مكاتب، والحكم إنما يغرمان ما كان على المكاتب. اهـ.
وإن كان ببنوة فلا غرم يعني أنهما إذا شهدا على شخص أنه ابن فلان أي أقر بأنه ولده مثلا وفلان ينكر ذلك، فحكم القاضي بذلك ثم رجعا عن شهادتهما فإنه لا غرامة عليهما؛ لأنهما لم يفوتا على الأب مالا. قال عبد الباقي: وإن كان رجوعهما عن شهادة ببنوة أي ادعى شخص على شخص أنه أبوه وشهدا بإقراره ببنوة أو استلحاقه له وحكم بها ثم رجعا فلا غرم عليهما للأب لأنهما لم يفوتا عليه مالا. اهـ. وقال الشبراخيتي: وإن كان رجوعهما عن شهادتهما ببنوة كما لو ادعى شخص أن أباه زيد فأنكر ونفاه وشهدا له بذلك وحكم بشهادتهما ثم رجعا فلا غرم عليهما؛ إذ لم يتلفا على الأب بشهادتهما مالا إلا أن يكون الشهود ببنوته صغيرا وأنفق عليه بسبب البنوة، فيرجع عليهما بالنفقة. اهـ. وقال البناني عند قوله:"وإن كان ببنوة فلا غرم" ما نصه: ينبغي حمله على ما إذا لم تكن نفقته واجبة على الأب، وإلا فقد ألزماه نفقته بشهادتهما. قاله البساطي. وقال الحطاب: إنه الظاهر، ولم أر فيه نصا. اهـ.
إلا بعد أخذ المال بإرث يعني أن هذا الشخص الذي حكم ببنوته لزيد مثلا لشهادة شاهدين بذلك ثم رجعا، فإنه لا غرم عليهما كما عرفت، هذا إذا لم يمت الأب ويأخذ هذا المحكوم ببنوته ماله بالإرث، وأما إذا مات الأب وأخذ هذا الولد المال بالإرث فإنهما يغرمان للعصبة ما أخذه ذلك الولد بالإرث إن كان هناك عصبة، أو لبيت المال إن لم تكن عصبة، والباء في قوله:"ببنوة" بمعنى: عن؛ أي عن شهادتهما ببنوة، واحْتَرَزَ بقوله:"بإرث" عما إذا أخذ المال بغير إرث، كدين ونحوه فإنه لا شيء على من شهد. قاله الخرشي. وقال المواق من كتاب ابن سحنون: من ادعى أنه ابن فلان والأب ينفيه، فأقام بينة أن الأب أقر أنه ابنه فحكم بذلك ثم رجعا قبل موت الأب فلا شيء عليهما في النسب قبل أن يرث ويمنع العصبة، فحينئذ يغرمان للعصبة ما أتلفا. اهـ. وقال عبد الباقي: إلا بعد أخذ المال بإرث فيغرمان قدره للثابت أو لبيت المال، واحترز عن أخذه بغيره كدين ونحوه فإنه لا غرم عليهما. اهـ. وقال الشبراخيتي: إلا بعد أخذ المال بإرث، كموت المحكوم عليه وهو الأب فأخذ الابن المال وللأب ورثة يحجبهم هذا الوارث أو يشاركهم فإنهما يغرمان ما أخذه الولد، فإن لم يكن له مشارك غرما جميع التركة لبيت المال. قاله في التوضيح. اهـ. وقال التتائي: وإن كان فيها مقوم غرما قيمته والتقييد بالإرث مخرج لا يؤخذ بدين أو نحوه فلا غرم على الشاهدين فيه. اهـ. وقال الحطاب: قوله: "بإرث" احترز به مما لو أخذه بدين أو غصب أو غير ذلك فلا غرم على الشاهدين. قاله البساطي. والله أعلم. اهـ.
إلا أن يكون عبدا فقيمته أولا مستثنى من قوله: "فلا غرم" يعني أنه لا غرم على الشاهدين فيما إذا رجعا عن شهادتهما بالبنوة المذكورة حيث كان الأب حيا كما عرفت، ومحل هذا حيث لم يكن المشهود ببنوته عبدا، وأما إن كان المشهود ببنوته عبدا حكم بحريته وثبوت نسبه ثم رجعا عن شهادتهما واعترفا برقيته، فإنهما يغرمان للسيد قيمته أولا؛ أي حين رجعا في أول الأمر من قبل أن يحصل موت، فيؤخذ المال بإرث، ولو حصل الموت بإثر الرجوع بدئ بالقيمة ثم ورث الباقي. قاله عبد الباقي. قوله: ولو حصل الموت بإثر الرجوع لخ؛ أي لو حصل الموت للسيد بعد الرجوع وبعد أخذه القيمة من الشاهدين بدئ من ماله بقدر القيمة يختص به الولد الثابت النسب، والباقي من ماله يرثه الولدان: العبد، وثابت النسب: قاله البناني.
قال مقيده عفا الله عنه: يريد ثم يرجع ثابت النسب على الشاهدين بما ورثه العبد المشهود ببنوته كما مر للمص. والله تعالى أعلم. وعلم مما قررت أن غرم القيمة لا يتقيد بموت المشهود عليه.
ثم إن مات وترك آخر فالقيمة للآخر يعني أنه إذا مات المشهود عليه بالبنوة وهو الأب، وترك المشهود ببنوته وترك ولدا آخر ثابت النسب، فإن قيمة العبد المشهود ببنوته تكون للولد الثابت النسب يختص بها دون العبد، فإنه لا يأخذ منها شيئا أصلا لأنه يدعي أن نسبه ثابت وأن أباه قد ظلم الشهود في أخذها منهم، وأنه لا ميراث له منها، ثم يقسمان ما بقي من التركة نصفين، فما خص الولد المشهود له يغرمان مثله للولد الثابت النسب لأنهما أتلفاه عليه بشهادتهما، فإن لم يترك الأب إلا المشهود له، فقال ابن الحاجب: ولو لم يترك غير المسْتَلْحَق والمال مائتان وكانت القيمة المأخوذة مائة، أخذ المستلحَق مائة وبيت المال مائة، ثم غرم الشاهدان لبيت المال مائة أخرى لما فوتاه. وعلم مما قررت أن قوله:"ثم إن مات وترك آخر" مرتب على ما بعد الاستثناء، الثاني وقوله:"ثم إن مات وترك آخر" اعلم أنه إذا لم توجد عنده القيمة بعينها فإنها تؤخذ من تركته كما في الشارح وغيره، ويدل له نقل المواق. قاله البناني. وقال المواق من كتاب ابن المواز: وإن شهدا على رجل أنه أقر في عبده أنه ابنه فقُضِي بإلحاق نسبه وحريته، ثم رجعا والسيد صحيح البدن فالحكم بالنسب ماض وعليهما للسيد قيمة العبد، فإن مات الأب بعد ذلك وترك ولدا آخر مع المستلحق فليقسما تركته إلا قيمة المستلحق التي أخذ الأب من الشاهدين، فإنها تعزل من التركة فتكون للابن الأول وحده؛ لأن المستلحق يقول إن أباه ظلم فيها الشهود وأنه لا ميراث له فيها، وينظر ما حصل للمستلحق من الميراث غير القيمة فيغرم الشاهدان مثله للابن الأول بما أتلفاه عليه.
وغرما له نصف الباقي يعني أن القيمة يختص بها الثابت النسب، فإذا أخذها من التركة فإن الباقي بعد ذلك يقسم على حسب الميراث، فيكون بينهما نصفين إن لم يكن وارث غيرهما، وإلا قسم على حسب ميراثهم وترجع الورثة على الشاهدين بما أخذه العبد، فقوله:"وغرما" أي
الشاهدان له أي الثابت النسب نصف الباقي؛ أي ما بقي بعد القيمة من التركة يقسم نصفين بين العبد والثابت، ويرجع الثابت على الشاهدين بما أخذه العبد الذي هو نصف الباقي فيغرمانه له. اهـ.
وإن ظهر دين مستغرق أخذ من كل نصفه وَكُمِّلَ بالقيمة يعني أنه إذا مات الأب فإن الثابت النسب يختص من التركة بالقيمة ويقتسمان الباقي بعدها، فيأخذ كل نصفه كما عرفت، ثم إن ظهر بعد ذلك دين على الأب يستغرق التركة فإنه يؤخذ من كل من الولدين الثابت النسب والآخر نصفه الذي أخذه منها، وإن لم يوفه كمل بالقيمة أي من القيمة التي اختص بها ثابت النسب، والعبد نصفه أي نصف الباقي عن القيمة من التركة ويقضى به الغرماء، فإن وفي بما على الأب فالأمر واضح، فإن لم يف ذلك بما عليه فإنه يدفع للغرماء من القيمة ما يتم به قضاء ديونهم، فعلم من هذا أنه يقضى الغريم بالمحقق كونه تركة وهو ما عدا القيمة، فإن وفي بالدين فإنه يختص الثابت النسب بالقيمة، فإذا لم يف ذلك بالدين فإنه يدفع من القيمة ما يكمل به قضاء الدين.
وقوله: "وإن ظهر دين مستغرق" وكذا إن كان الدين غير مستغرق فإنه يؤخذ من كل نصفه أيضا، وإنما أتى المص بقوله:"مستغرق" لأجل قوله: "وكمل بالقيمة"، وإلا فلا مفهوم له، فلو قال: وإن ظهر دين اقتضى من كل نصفه كان أشمل. قال البناني: وقال عبد الباقي: وإن ظهر على الميت دين والمسألة بحالها مستغرق للتركة، وكذا غير مستغرق أخذ من كل من الولدين نصفه الذي أخذه من التركة بالميراث وكمل وفاؤه بالقيمة التي اختص بها ثابت النسب، وإنما كانت متأخرة لأن كونها ميراثا غير محقق إذ المستلحق بالفتح يدعي أنها ليست لأبيه. اهـ.
وقال الشبراخيتي: وإن ظهر على الأب الميت دين مستغرق جميع التركة أخذ من كل من الولدين الثابت النسب، والآخر نصفه الذي أخذه منها، وإن لم يوفه كمل بالقيمة أي من القيمة التي انتهى بها ثابت النسب. وإنما أخرت القيمة لأن كونها ميراثا غير محقق، ولو حذف قوله:"مستغرق" لكان أتم فائدة، لشموله حينئذ للمستغرق وغيره، ولا مفهوم لقوله:"تصفه" أي أخذ
من كل واحد ما يخصه، إن نصف فنصف وإن ثلث فثلث وإن ربع فربع، إلا أن يكون الدين دون ما أخذاه فإنه يؤخذ من كل واحد نصف الدين. اهـ.
ورجعا على الأول بما غرمه العبد للغريم يعني أنه إذا أخذ من كل نصفه، فإن الشاهدين يرجعان على ثابت النسب بمثل ما دفعه العبد المشهود ببنوته لرب الدين، يعني أن العبد إذا أخذ فرضه من التركة فإن الثابت النسب يرجع على الشاهدين بما أخذه العبد المذكور، فإذا ظهر دين فإن العبد يدفع ما نابه أو بعضه للغريم، فيرجع الشاهدان على ثابت النسب بمثل ما دفعه العبد للغريم؛ لأنه تبين أنهما لم يتلفا عليه شيئا لأنه تبين أن ذلك لرب الدين. قال عبد الباقي: ورجعا أي الشاهدان على الأول أي الثابت النسب، ولو تأخر وجوده عمن شهدا ببنوته "بما" أي بمثل ما غرمه المشهود ببنوته للغريم أي رب الدين؛ لأنهما غرما النصف لثابت النسب بسبب إتلافه عليه بشهادتهما وأخذ المشهود له إياه، فلما ثبت على التركة دين فلم يتلفا شيئا عليه، وإن كان الدين غير مستغرق أخذ من كل واحد أيضا نصف الدين ورجع الشاهدان على ثابت النسب بمثل ما غرمه المشهود ببنوته للغريم. اهـ.
وقال الشبراخيتي: ورجعا أي الشاهدان على الأول الثابت النسب بما غرمه العبد أي بمثل ما غرمه العبد؛ أي من كان عبدا وهو الأخ المشهود ببنوته للغريم هو رب الدين، وهو القدر الذي كان فوتاه لثابت النسب على تقدير عدم الدين؛ لأنه تبين أنهما لم يضيعا عليه شيئا. اهـ. وقال الخرشي: والمراد بالأول الثابت النسب بلا نزاع وسماه أولا لذلك، فيصدق بما إذا وجد بعد الإشهاد ببنوة المشهود له، ولو عَبَّرَ بالثابت بدل الأول لكان أوضح، ويلغز بهذه المسألة، فيقال: ولدان ورث أحدهما الثلث والآخر الثلثين ويغرمان الدين بالسوية. اهـ. وقال البناني: إنما قال: "بما غرمه العبد" لخ، لأن الدين قد لا يستغرق التركة، فلا يرجعان على الأول إلا بقدر ما يلزم الثاني للغريم. قاله البساطي. قال الحطاب: وهو ظاهر إلا أن فرض المسألة في دين مستغرق فلا يلائم ما قاله، وإنما يلائمه لو قال: بما غرماه له، قال: ويظهر لي إن ساعده النقل أن الغريم قد
لا يجد بيد العبد إلا بعض ما أخذ وهو معسر بالباقي، فلا يرجع الشهود على الأول إلا بما دفع العبد للغريم. اهـ. باختصار.
لطيفة: مما أنشده الشيخ الأبار لنفسه عند قراءة هذا المحل عليه لغزا في هذه المسألة وهو قوله:
أُسَائِلُ أهْلَ الفقه أي قَضِيَّةٍ
…
يضاعف فيها للمساوي برتبة؟
وإن بان غرم من ديون تخلدت
…
بذمة ميت أُغْرِمَا بالسوية
فأجابه تلميذه: سيدي أبو عبد الله عياش في المجلس، بقوله:
نعم في رجوع الشاهدين بعيد ما
…
على عبد مرء سَجَّلَا بالبنوة
وقيمته قد أغرما وتُراثَه
…
فتعطى أخاه بعد موت لحكمة
وقال الرهوني ما قاله البناني مخالف للتاودي، ونصه: ألغز في ذلك شيخ بعض شيوخنا العلامة سيدي عبد القادر الفاسي، فقال: أسائل لخ.
تنبيه: لا يخفى أن الجواب غير واف بالسؤال، ولم ينبه البناني عليه، وقال التاودي: ولم يوف رحمه الله الجواب للسؤال، فقلت:
وعند ظهور الدين يؤخذ منهما
…
وإن كان بعض فاضلا ذا مزية
فائدة: اللَّغز في هذه المسألة هو بفتح اللام وسكون الغين، قال في القاموس: اللغز ميلك بالكلام عن وجهه، ثم قال: وألغز في كلامه [أعمى]
(1)
، مراده منه، وأما بالضم فهو اسم للفظ الذي تقع به التعمية وفي هذا لغات، وقد قلت في ذلك تقريبا للحفظ:
(1)
الذي في الرهوني ج 7 ص 485 والقاموس مادة لغز عمى.
اللغز يا صاح بفتح اللام
…
تعمية في الشيء بالكلام
واللغز بالضم حقيقا وزد
…
كعنق وجمل وصرد
وكالحميراء وسماها معا
…
ألغُوَزة لفظ يُعمى فاسمعا
والأربع الأول تجمع على
…
ألغَازِ فلتكن بذا محتفلا
وَفى بذا القاموسُ بالتصريح
…
وبعض ذا ذكر في التصريح
وقولي: على ألغاز يقرأ بغير تنوين للضرورة، ولا يخفى مابين بالتصريح وفي التصريح من الجناس التام المماثل. اهـ. وقوله:"بما غرمه العبد" سماه عبدا وإن كان محكوما بحريته، إما باعتبار ما كان عليه أو باعتبار اعتقاد المنكرين من الأب وابنه والشاهدين بعد رجوعهما. قاله ابن مرزوق. وإن كان برق لحر فلا غرم صورتها: شهد زيد وعمرو على بكر أنه عبد لمسعود، والشخص المشهود برقيته يدعي الحرية، فحكم القاضي بأنه رقيق لمسعود، ثم رجعا عن شهادتهما واعترفا بأنه حر، فإن الحكم برقيته لمسعود ماضٍ ولا غرامة على الشاهدين؛ لأنه يدعي الحرية والحر لا قيمة له. قاله غير واحد. وقال البناني: قال في التوضيح: يتخرج على ما مر في الغصب من أن من باع حرا وتعذر رجوعه فعليه الدية أن يكون على الراجعين هنا ديته. اهـ. وهو تخريج ضعيف؛ لأن القول أضعف من الفعل، ولأنه انضم إلى القول هنا دعوى المدعي. قاله الشيخ المسناوي. وأصله لابن عبد السلام وابن عرفة، قالا: إنما لم تجب عليهما الدية لأنهما لم يستقلا بالتسبب في الرقية بل المدعي معهما. اهـ. وبحث الرهوني في هذا الرد بما يعلم بالوقوف عليه. قال: وَالْحَقُّ في رد التخريج أن مسألة بيع الحر لم يقع فيها مجرد تفويت الحرية فقط الذي هو العلة في مسألتنا؛ لأن الفرض فيها أن المشتري غاب فلم تدر حياته من موته، فصار فعله ذلك شبيها بقتله فلذلك أوجبوا فيه الدية ت ويدل لذلك ما قاله الحطاب وغيره عند قوله في الغصب:"كحر باعه وتعذر رجوعه" من أنه يضرب مائة ويحبس سنة، فحكموا له بحكم مثل العمد في ذلك. اهـ. والله تعالى أعلم.
وقال الشبراخيتي: وإن كان رجوعهما عن شهادتهما برق قضي به لحر أي على مدعي الحرية، فاللام بمعنى على، ثم رجعا فلا غرم عليهما لأن الحر لا قيمة له، وهذا ما لم يكن له أولاد صغار أحرار: فإن كانوا له فإنهم يرجعون على الشهود بالنفقة التي فوتوها عليهم كما في السماع، ولو كان له أولاد من أمته فالظاهر أنه يسري عليهم الرق، ويجري فيهم ما جرى في أبيهم المشار إليه بقوله:"إلا لكل ما استعمل ومال انتزع" اهـ. ونحوه لعبد الباقي.
إلا لكل ما استعمل مستثنى من قوله: "فلا غرم"، ومعناه أنهما إذا شهدا على حر أنه رقيق فحكم بشهادتهما ثم رجعا، فإن الحكم بالرقية ماض ولا غرامة عليهما كما عرفت، إلا أن يستعمل فإذا استعمله المشهود له، فإن الشاهدين يغرمان للمشهود عليه بالرقية أجرة كل عمل عمله للمشهود له، وكذلك يغرمان له أيضا كل مال انتزع من يده، قال الشبراخيتي: إلا أن عليهما الغرم لكل ما استعمل فيه من أجرة مثل؛ لأن العبد يملك ويغرمان له أيضا كل مال انتزع من يده. انتهى. وقال عبد الباقي: إلا لكل ما استعمل المشهود له ومال انتزع أي انتزعه المشهود له من المشهود عليه ويغرمان له، نظير ذلك لأن العبد يملك. اهـ. وقال الحطاب من كتاب ابن سحنون: إن شهدا على رجل أنه عبد لمن ادعاه والمدعى عليه يجحد، فحكم برقه ثم قاطعه المحكوم له بمال أخذه منه وأعتقه أو كاتبه عليه فأدى وعتق ثم أقرا بالزور، غرما للمشهود عليه ما أدى للسيد والحكم ماض والولاء قائم. اهـ. وقال الخرشي: ولو كاتبه المشهود له بالرقية فإنه يرجع على الشاهدين أيضا، والولاء للمشهود له. اهـ.
ولا يأخذه المشهود له يعني أن هذا المال الذي أخذه المشهود عليه من الشاهدين لا يجوز للسيد أن يأخذه من المشهود عليه بالرقية لأنه يعتقد رقيته، وأنه ظالم للشهود فيما أخذ منهم، قال الشبراخيتي: ولا يأخذه المشهود له أي لا يأخذه المشهود له وهو السيد ما أخذه المشهود برقه في نظير ما استعمله السيد أو انتزعه منه، وإنما لم يأخذه المشهود له لأنه يعتقد حرمته وأن العبد ظلم الشهود فيما أخذه منهم. اهـ. وقال عبد الباقي: ولا يأخذه المشهود له أي لا يجوز للسيد أن يأخذ منه ذلك المال الذي أخذه من الشاهدين الراجعين، لأن العبد إنما أخذه منهما عوضا عما أخذه السيد منه وهو يعتقد أن العبد ظلمه في رجوعه عليهما، لاعتقاده أنه عبده وأن رجوعهما في
غير محله. اهـ. وقال البناني: ولا يأخذه المشهود له؛ إذ لو أخذه السيد منه لغرم الشهود له عوضه، فيأخذه السيد أيضا ويتسلسل.
وَوُرِثَ عنه يعني أن هذا المال الذي يأخذه العبد من الشاهدين الراجعين يورث عن العبد أي يرثه عنه من يستحقه من أقاربه الأحرار، قال عبد الباقي: وورث عنه أي يرثه عنه من يستحقه بالحرية ولا يرثه سيده لأن الميت إنما أخذه من الشاهدين على تقدير الحرية، وإن لم يكن وارث فبيت المال. اهـ. ونحوه لغيره. والله تعالى أعلم.
وله عطية يعني أن للعبد أن يعطي ذلك المال الذي أخذه من الشاهدين في نظير ما استعمله السيد أو انتزعه فيهبه ويتصدق به ويوصي به في الثلث، قال عبد الباقي: وله أي لذلك العبد عطية هبة أو صدقة أو وصية في ثلث مما في يده لمن شاء، ويلغز بقوله:"ولا ياخذه" إلى هنا، فيقال: عبد ليس للسيد انتزاع ماله ولم يتعلق به كتابة ولا تدبير ولا عتق لأجل، وله أن يهب ويتصدق ونحوهما. لا تزوج يعني أنه ليس للعبد أن يتزوج بالمال الذي أخذه من الشاهدين الراجعين لأن التزويج يعييه فللسيد منعه منه. قال الشبراخيتي: لا تزوج أي ليس له أن يتزوج منه لأن النكاح ينقص رقبته. قاله الشارح. وهو يفيد أن له التزويج بإذن سيده. اهـ. ونحوه لعبد الباقي. وقال المواق: قال ابن عبد الحكم: إن شهدا على رجل أنه عبد فلان وهو يدعي الحرية فقضي برقه، ثم رجعا فلا قيمة عليهما ويغرمان للعبد كلما استعمله سيده وخراج عمله وما انتزعه منه وليس لمن قضي له بملكه أخذ ذلك منه، لأنه عوض ما أخذه منه، ولو مات العبد لم يرث ذلك السيد ولكن يوقف ذلك حتى يستحق ذلك مستحق ثم يرثه بالحرية، وإن أوصى منه العبد كان ذلك في الثلث، وإن وهب منه أو تصدق جاز ذلك ويرث باقيه ورثته إن كان له من يرثه إن كان حرا، وليس للعبد أن يتزوج منه لأن النكاح ينقص رقبته. اهـ.
تنبيه: قد مر أنه يلغز بقوله: "ولا يأخذه" لخ، قال التاودي: نظمت ذلك فقلت:
خليلي ما عبد يرى خالص الرق
…
وما لامرئ في نزع مَالِهِ مِن حق
ويملك أن يعطي بلا إذن سيد
…
ويورثه حرا تقيا أخا صدق
قال الرهوني: ولم يذكر له جوابا، فأجبته بقولي:
جوابك في حر يصير إلى رق
…
فينزع منه ماله دون ما رفق
فيرجع بعدُ الشاهدان فيغرما
…
فلا حجر مع إرث لذي نسب حق
وقوله: "وله عطية" وكذا له أن يعتق منه، ففي نقل ابن مرزوق: فإن أَعْتَقَ منه العبد قبل موته جاز عتقه وكان ولاؤه بعد لمن كان يرث عنه الولاء لو كان حرا، ويرثه العبد إن مات وهو حي. اهـ. وقال التتائي: وورث عنه هذا المال أي يرثه من يستحقه بالحرية لا هذا السيد ولو أعتق منه هذا العبد عبدا في حياته، جاز عتقه وكان ولاؤه بعد موته لمن كان يرث عنه الولاء لو كان حرا. اهـ.
وإن كان بمائة لزيد، وعمرو ثم قالا: لزيد غرما خمسين للغريم فقط يعني أنهما إذا شهدا بمائة لزيد وعمرو بالسوية بينهما على بكر فحكم القاضي بذلك، ثم رجعا عن شهادتهما وقالا بل المائة كلها لزيد وحده فإنه لا يقبل منهما ذلك ويغرمان للغريم الذي هو بكر في هذا المثال الخمسين التي أخذها عمرو، ولا يغرمان لزيد شيئا وهذه النسخة التي شرحت عليها وهي للغريم ظاهرة كما قررت، وفي نسخة لعمرو بدل قوله:"للغريم"، واللام فيها للتعليل ومتعلق غرما محذوف أي للمدين يعني أنهما يغرمان خمسين للمدين فقط لأجل رجوعهما عن شهادتهما لعمرو، وهذا التقرير وإن كان فيه تكلف خير من دعوى ابن غازي التصحيف الفظيع، وهذه النسخة التي شرحت المص عليها هي التي شرح التتائي عليها، قال: ووقع عند الشارحين موضع للغريم لعمرو فاعترضا على المص لخ، وما قررت به لعمرو من أن اللام للتعليل. قاله غير واحد. وفي الخرشي: وفي عبارة اللام في لعمرو زائدة وأقحمت بين المضاف والمضاف إليه والجر للام لا للمضاف لأنها أقرب، وعمرو يكتب بالواو في حال الرفع والجر بخلاف النصب. وقوله:"فقط" راجع للخمسين. اهـ.
وفي الخرشي أيضا: قال عبد الحكم: إن شهد شاهدان على رجل أنه أقر لفلانِ وفلانِ بمائة دينار، فقضي بذلك لهما ثم رجع الشاهدان فقالا إنما شهدنا بها لأحدهما وسمياه، فللَمقضي عليه بالمائة أن يرجع عليهما بخمسين لأنهما أقرا أنهما أخرجاها من يده إلى من لا حق له فيها، ولا تقبل شهادتهما للآخر أن المائة كلها له لأنهما مجرحان برجوعهما ولا عليهما أن يغرما له
شيئا؛ لأنه إن كان له حق فقد بقي على من هو عليه. اهـ. ونحوه في التتائي، وزاد: وليس قول من قال يغرمان له خمسين بشيء لأنهما إنما أخذا خمسين من المطلوب أعطياها لمن لا شيء له عليه. وفي ابن عرفة عقب السابقة يليها: لو كان عبدا بعينه شهدا أنه أقر به لفلان وفلان فرجعا بعد القضاء به لهما وقالا إنما أقر به لفلان منهما فهاهنا يغرمان لمن أقرا له قيمة نصفه لأنهما أتلفاه عليه، هذا إن أقر من كان العبد بيده أنه لمن شهدا له أخيرا: وإن ادعاه لنفسه وأنكر شهادتهما غرما نصف قيمته للمشهود عليه، وليس للمقر له أخيرا إلا نصفه. اهـ.
وإن رجع أحدهما غرم نصف الحق يعني أنه إذا شهد شاهدان بحق على شخص فقُضِي به ثم رجع أحدهما، فإنه يغرم للمقضي عليه نصف الحق وهو عام في جميع مسائل الرجوع، وليس خاصا بمسألة زيد وعمرو، ولعله نبه على ذلك ليلا يتوهم أنه يغرم الكل، واختلف إذا ثبت حق بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد، هل يغرم جميع الحق وهو مذهب ابن القاسم وهو المعتمد، وإن كان مبنيا على ضعيف وهو أن اليمين استظهار، وقيل يغرم نصفه بناء على أنها مع الشاهد مكملة للنصاب. قاله عبد الباقي وغيره. قال الرهوني: في هذا البناء عندي نظر، بل الظاهر أن قول ابن القاسم الذي هو المشهور يصح بناؤه على كل من القولين؛ لأن موجب الغرم في هذا الباب كون التلف نشأ عن شهادته إلى آخر كلامه. وقال ابن مرزوق: لما تقرر أن رجوع الشاهدين يوجب عليهما غرم جميع الحق الذي أتلفاه إن أقرا بتعمد الزور ونفذ الحكم بشهادتهما الأولى، لزم من ذلك أنه إن رجع أحدهما غرم نصف الحق وهذا أبين.
كرجل مع نساء يعني أنه لو شهد رجل وامرأتان فأكثر في حق مالي فحكم القاضي بذلك، فإن على الرجل إذا رجع عن شهادته نصف الحق سواء رجع وحده أو رجع مع غيره، فإذا شهد رجل ونساء في حق مالي فقضى بذلك القاضي، ثم رجع الجميع فإن الغرامة على الرجل شطرها وعلى النساء وإن كثرن شطرها؛ لأنهن كرجل واحد وإذا رجع الرجل وحده أو رجع مع امرأة وبقي بعدها من النساء اثنتان، فعلى الرجل غرم نصف الحق ولا شيء على المرأة، فإن بقي منهن واحدة فعلى الرجل نصف وعلى من رجع منهن واحدة أو أكثر ربع الحق، قال المواق: سحنون:
لو شهد رجل وثلاث نسوة ثم رجع الشاهد وامرأة فعلى الرجل نصف الحق وحده، ولا تضم المرأة إلى رجل وإنما تضم إلى مثلها واثنتان منهن فأكثر عدل رجل، فلو رجع الرجل والنسوة كلهن لزم الرجلَ نصفُ الحق والنسوةَ نصفُه. اهـ. وقال عبد الباقي: كرجل شهد مع نساء بمال قضي به فيغرم برجوعه نصفه للمقضي عليه ويَغْرَمْن وإن كثرن نصفه لأنهن كرجل واحد، فهو تشبيه في أن على الرجل نصف الحق سواء رجع وحده أو مع بعض النساء حيث بقي منهن اثنتان على شهادتهما، ولا يضم له في المال واحدة ممن رجعت فإن رجعت، واحدة من الباقيتين فعليها مع من رجع من النساء وإن كثرن ربع الحق. انتهى. فإن رجعت الأخرى فعليها مع جميعهن نصف الحق يقسم على رؤوسهن. قاله البناني.
وهو معهن في الرضاع كاثنتين يعني أنه إذا شهد رجل مع نساء برضاع بين زوجين، فحكم القاضي بالفراق ثم رجع الجميع فإنه يكون على الرجل مثل غرامة امرأتين. قال عبد الباقي: وهذا ضعيف والمذهب أنه فيه كواحدة وهو الموافق لقوله في الرضاع: "ويثبت برجل وامرأة وبامرأتين إن فشا" فجعل الرجل فيه كالمرأة. والحاصل أن الرجل في شهادة المال مع النساء كامرأتين، فإذا شهد رجل ومائة امرأة بمال ورجع الرجل وحده أو مع بعض النساء بحيث بقي منهن اثنتان فعليه نصف الغرم، ولا شيء على الراجعات معه إذ لا تضم المرأة للرجل في شهادة الأموال، فإن رجعت المرأتان الباقيتان كان نصف الغرم عليهن كلِّهن، وإن رجعت امرأة من الباقيتين فربع الغرم عليها وعلى بقية النساء، والنصف على الرجل الراجع وأما شهادة الرضاع وما شابهه مما تقبل فيه شهادة المرأتين
(1)
، فكواحدة على المذهب كما يفيده ما قدمه في باب الرضاع، وإن وجهه ابن عبد السلام بأنه آئل إلى المال، فإذا شهد رجل وعشر نسوة برضاع فرجع الرجل وحده أو مع ثمان نسوة فلا غرم عليه ولا عليهن؛ لأنه بقي من يستقل الحكم به وهو امرأتان إن فشا قبل العقد، فإن رجعت امرأة من الباقيتين كان نصف الغرم على الرجل وعلى النسوة التسع، ويجعل كامرأة لا كامرأتين، فإن رجعت الباقية فالغرم عليه وعليهن وهو كامرأة،
(1)
في الأصل: المرأتان.
فقد بان مما ذكرنا أن النساء تضم للرجل في الغرم في شهادة الرضاع في حالة رجوعه مع بعض من يستقل الحكم به ومعهن كلهن، بخلاف شهادة الأموال فلا تضم له في الحالتين، فإن قُلْتَ: كيف يتصور غرم شهود الرضاع بالرجوع؛ لأنه إن شهدوا بعد البناء فقد وجب لها به الصداق ولم يتلفوا له مالا وإنما أتلفوا عليه الاستمتاع فقط، وإن شهدوا به قبله فلا غرم على الزوج لأنه لا نصف لها في فسخ الرضاع قبله؟ فالجواب: أنه يتصور بعد موت الزوج أو الزوجة فيغرم الشاهدان للباقي من الزوجين ما فوتاه من الإرث، ويغرمان للمرأة بعد موت الزوج ما فوتاها من الصداق إن شهدا بالرضاع قبل البناء، بل وإن لم يحصل موت أحدهما فيغرمان لها نصف الصداق حيث فسخ قبله؛ لأن من حجتها أن تقول فوتُّما عَلَيَّ بشهادتكما مع
(1)
رجوعكما قبل البناء نصف الصداق لو طلقني قبله فلها نصف الصداق. اهـ كلام عبد الباقي. ونحوه لغير واحد. ولما ذكر أن الشاهد إذا رجع وحده عن جميع الحق غرم نصف الحق، ذَكَرَ ما إذا رجع عن بعضه فقال: وعن بعضه غرم نصف البعض يعني أن الشاهد إذا رجع عن جميع الحق فإنه يغرم نصفه، وأما إن رجع عن بعضه فإنه يغرم نصف ذلك البعض، فعن النصف يغرم الربع وعن الثلث يغرم السدس وعن الربع يغرم الثمن، وعلى ذلك القياس. قاله الشبراخيتي وغيره. وقال ابن مرزوق: ابن يونس من كتابي ابن المواز وابن سحنون عن ابن القاسم وغيره في شاهدين قُضِي بشهادتهما في حق ثم رجع أحدهما: فإنه يغرم نصف الحق، ولو رجع عن نصف ما شهد به غرم الربع، ولو رجعا معا عن الحق أو عن بعضه غرما ما رجعا عنه بالسوية، ولو اختلف في رجوعهما غرم كل نصف ما رجع عنه لأنه هو الذي أتلف. اهـ.
وإن رجع من يستقل الحكم بعدمه فلا غرم يعني أنه إذا رجع بعد الحكم بعض الشهود وبقي على الشهادة غيره فإنه رجوعه كالعدم؛ أي فلا يؤثر رجوعه غرما عليه هذا إذا بقي على الشهادة من يستقل به الحكم لأن الراجع لما كان الباقي على الشهادة يتم به الحكم؛ والراجع يستقل الحكم؛ أي يتم لو لم يشهد أصلا كان رجوعه كلا رجوع لتمام الحكم بدونه، والله تعالى
(1)
في عبد الباقي ثم رجوعكما.
أعلم. قال عبد الباقي: وإن رجع بعد الحكم من يستقل الحكم بعدمه كثالث ثلاثة في مال فلا غرم عليه لبقاء اثنين فإن رجع ثان غرم هو والأول النصف سوية.
فإذا رجع غيره فالجميع يعني أنه إذا رجع غير من يستقل الحكم بعدمه بأن رجع من لا يتم الحكم دونه، فإن الغرم على الجميع أي جميع الراجعين يغرمون ما رجعوا عنه من يستقل الحكم بعدمه وغيره، قال ابن مرزوق مفسرا للمص: يعني أن رجوع بعض الشهود الموجب لغرم الراجع هو ما إذا كان الحكم لا يستقل إلا بالراجع لتحقق إتلافه بشهادته ما يغرمه، وأما إذا كثر الشهود ورجع بعضهم وبقي من يستقل الحكم به ولا يحتاج إلى من رجع، فإن الراجع لاغرم عليه لأنه لم يتلف بشهادته شيئا لأن وجوده كعدمه، ثم إن رجع من لا يستقل الحكم بعد رجوعه بمن بقي فإن هذا الراجع آخرا يشترك في غرم ما ينوبه مع جميع من تقدم قبله، وهذا معنى قوله:"فإذا رجع غيره" أي غير من رجع والحكم مستقل بدونه وبالضرورة لا يكون هذا الراجع آخرا إلا من يستقل الحكم به تحقيقا للغيرية. وقوله: "فالجميع" أي من رجع أولا وآخرا وهو مبتدأ وخبره محذوف أي يغرمون، وقد تقدم شيء من هذا الحكم عند قوله:"وإن رجع اثنان من ستة فلا غرم ولا حد"، وإنما لم يكتف عن هذا النص بذلك لأن ذلك خاص بمسائل الزنى، وذكره ليفرع عليه ما يناسبه مما ذكر هنالك وهذا النظر عام في كل رجوع، وبالجملة لا يخلو كلامه من تكرار، وما ذكره من أنه لا غرم على من يستقل الحكم بدونه هو المشهورة وقيل يغرم الراجع مطلقا، قال ابن يونس: ولو كانت البينة ثلاثة فرجع أحدهم بعد الحكم فلا شيء عليه لبقاء من يثبت به الحق، ثم إن رجع ثان غرم هو والراجع قبله نصف الحق بينهما بالسوية. وقال محمد بن عبد الحكم: إن رجع أحدهم غرم ثلث الحق وهو أحب إليَّ، وقاله أشهب في أربعة شهدوا بدرهم فرجع ثلاثة أن عليهم ثلاثة أرباع درهم. اهـ.
وقال الشبراخيتي: وإن رجع من يستقل الحكم بعدمه فلا غرم على الراجع حينئذ، فإن رجع بعده غيره ممن لا يستقل الحكم بعدمه فالجميع أي يشتركون في الغرم بالسوية، فإذا رجع اثنان من أربعة فلا غرم على الراجعين لبقاء النصاب، فإن رجع ثالث غرم مع الأَوَّلَيْن النصف أثلاثا
على المشهور. اهـ. وقال عبد الباقي: فإذا رجع غيره دفعة واحدة أو مرتبا فالجميع أي جميع الراجعين يغرمون ما رجعوا عنه من يستقل الحكم بعدمه وغيره. انتهى.
وللمقضي عليه مطالبتهما بالدفع للمقضي له هذه المسألة تتعلق بجميع ما تقدم، وليست من مسألة: غريمُ الغريم غريمٌ يعني أن من قضي عليه بشهادة شاهدين ثم رجعا عن شهادتهما قبل أن يدفع المقضي عليه المال لمستحقه فللمقضي عليه أن يطالب الشاهدين بالمال ليدفعاه عنه لمستحقه، وكحو المقضي له، هكذا في النوادر وغيرها عن ابن عبد الحكم. قال ابن يونس: قال ابن عبد الحكم: للمقضي عليه أن يطالب الشاهدين بالمال حتى يدفعاه عنه إلى المقضي له. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يقضى على الشاهدين بشيء حتى يؤدي المقضي عليه وفي هذا تعريض لبيع داره وإتلاف ماله، واللذان أوجبا ذلك عليه قائمان، أرأيت لو حبسه القاضي في ذلك أيترك محبوسا ولا يغرِّم الشاهدين، بل يؤخذان بذلك حتى يخلصاه فإن لم يفعلا حبسا معه. اهـ. وهذه المسألة ليست من باب قولهم: غريم الغريم غريم، بل التي بعدها كما هو ظاهر. قاله البناني. وللمقضي له ذلك إذا تعذر من المقضي عليه يعني أن للمقضي له أن يطالب الشاهدين بالمال المذكور إذا تعذر الغرم من المقضي عليه، قال ابن مرزوق: لفظ المقضي المتكرر الذكر هنا اسم مفعول والمجرور بعد كل هو مفعوله وهو بكسر الضاد في الجميع، وأصله مَقْضُويٌ من الثلاثي، وَمَعْنَى المسألة أن الشاهدين إذا ترتب عليهما الغرم بسبب رجوعهما ولم يكن المقضي عليه بشهادتهما دفع شيئا للمقضي له، فإن للمقضي عليه طلب الشاهدين بأن يدفعا عنه للمقضي له ما ألزماه بشهادتهما ولا يتكلف أن يبيع متاعه أو نحو ذلك، وللمقضي له أيضا أن يطالب الشاهدين فيما شهدا به بعد رجوعهما إذا تعذر عليه أخذ ذلك من المقضي عليه لإفْلاسه أو لدده أو نحو ذلك؛ لأنهما غريمان للمقضي عليه بما ترتب له عليهما، فكما يطالب غرماءه إذا تعذرعليه الأخذ منه كذلك يطالب الشاهدين. اهـ.
وما ذكره المص من قوله: "واللمقضي له" تبع فيه ابن الحاجب وهو خلاف ما في النوادر عن الموازية أنه إذا حكم بشهادتهما ثم رجعا فهرب المقضي عليه قبل أن يؤدي وطلب المقضي له أن
يأخذ الشاهدين بما كانا يغرمان لغريمه لو غرم لا يلزمهما غرم حتى يغرم المقضي عليه فيغرمان له حينئذ، ولكن ينفذ القاضي الحكم للمقضي عليه على الراجعين بالغرم هرب أو لم يهرب، فإذا غرم أغرمهما. اهـ. والحق في الجواب عن ابن الحاجب - والله تعالى أعلم - أن ابن الحاجب فهم أن ما لابن المواز مخالف لما لابن عبد الحكم ومقابل له، وترجح عنده قول ابن عبد الحكم لموافقته لقاعدة: غريم الغريم غريم، وجعله مقابلا له وهو المتبادر من سياق ابن يونس وسياق الشيخ أبي محمد في نوادره. قاله الرهوني ثم قال بعد كلام ما نصه: فكلام النوادر هذا صريح فيما قاله ابن الحاجب واعتمده المص هنا. اهـ المراد منه. والله تعالى أعلم.
ولَمّا فَرَغَ من الكلام على رجوع الشهود ذكَرَ حكم تعارض البينتين، فقال: وإن أمكن جمع بين البينتين جمع وقد عرفوا تعارض البينتين بأنه اشتمال كل منهما على ما ينافي الأخرى، يعني أنه إذا تعارضت البينتان فإن ذلك لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يمكن الجمع بينهما أو لا، فإن أمكن الجمع بينهما فإنه يجمع بينهما بمعنى أنه يجب العمل بمقتضى كل من الشهادتين، من أمثلة ذلك ما في الطرر عن الاستغناء: إن تداعى رجلان ثوبا بيد رجل وأقام كل منهما بينة أنه باعه في الذي هو بيده بألف دينار - وهو منكر - قضي له بالثوب وقضي عليه بالبينتين جميعا لأنه جائز أن يبيعه أحدهها منه، ثم يصير إلى المدعي الآخر بشراء أو غيره ثم يبيعه منه فتكون البينتان صادقتين. قاله الرهوني. ومن أمثلة ذلك ما لو شهدت للمسلم بَيِّنَةٌ أنه أسلمه هذا الثوب في مائة إردب حنطة، وشهدت آخرى للآخر أنه أسلمه هذين الثوبين سواه في مائة إردب حنطة لزمه أخذ الثلاثة الأثواب في مائتي إردب حنطة. قاله غير واحد. وقال الخرشي: ولو قال المسلم إليه أسملت إليَّ هذا الثوب الذي ذكرت مع هذا العبد فيما سميت وأقاما البينة قضي بالبينة الزائدة فيأخذ الثوب والعبد وتلزمه مائة إردب. اهـ.
قوله: ومن أمثلة ذلك ما لو شهدت للمسلم بينة لخ، فإن قُلت: المسلم إنما يدعي مائة في مقابلة ثوب معين والمسلم إليه إنما يدعي ثوبين معينين غير الذي عينه المسلم وهذا يتضمن دخول مال في ملك شخص جبرا عليه بغير ميراث؟ فالجواب: أنه لما كانت شهادة كل من البينتين معمولا بها فكأن كل واحد ادعى ما أنكره، أو أنه لما كان ينكر دخوله في ملكه هنا في مقابلة عوض
يدفعه جبرا عليه لزمه قبوله ليلا يؤدي إلى إبطال حق من له عوضه عن العوض. قاله غير واحد. وقال البناني: قال ابن عرفة: تعارض البينتين اشتمال كل منهما على ما ينافي الأخرى، فمهما أمكن الجمع بينهما جمع كالدليلين. انتهى. المتيطي: ومن ادعى أنه أسلم هذا الثوب في مائة إردب حنطة، وقال المسلم إليه: بل ثوبين غيره في مائة إدرب من حنطة، وأقام كل منهما بينة على دعواه كانت الثلاثة الأثواب في المائتين؛ لأن بينة كل واحد شهدت على غير ما شهدت عليه بينة الآخر، قال ابن عبدوس: هذا إن كان ذلك في مجلسين، وأما إن كان في مجلس واحد فهي
(1)
تكاذب. وقال بعض القرويين: سواء كان ذلك في مجلس واحد أو مجلسين؛ لأن كل بينة أثبتت حكما غير ما أثبتته صاحبتها، ولا قول لمن نفى ما أثبته غيره ولو لم يقيما بينة لتحالفا وتفاسخا، ومن أقام بينة على أنه أسلم هذا العبد في مائة إردب حنطة، وأقام البائع بينة على أن ذلك العبد وثوبا معه في المائة الأردب، فقال ابن القاسم: إن الثوب والعبد يكونان في المائة ويقبل قول البائع لأن بينته شهدت بالأكثر. اهـ. والمسألتان معا في المدونة، قال ابن عرفة: ولابن رشد في سماع يحيى: إن شهدت إحدى البينتين بخلاف ما شهدت به الأخرى مثل أن تشهد إحداهما بعتق والثانية بطلاق، أو إحداهما بطلاق امرأة والثانية بطلاق امرأة أخرى وشِبْهِ هذا، فلم يختلف قول ابن القاسم ورواية المصريين في أنه تهاتر يحكم فيه بأعدل البينتين، فإن تكافأتا سقطتا وروى المدنيون أنه يقضى بهما معا إذا استوتا في العدالة أو كانت إحداهما أعدل، ثم قال ابن عرفة: وقول ابن الحاجب: ومهما أمكن الجمع جُمع يدل على أنه إن شهدت إحداهما بأنه طلق الكبرى والأخرى بأنه إنما طلق الصغرى فإنه يجمع بينهما، وتقدم من نقل ابن رشد أنه خلاف قول ابن القاسم ورواية المصريين. اهـ.
قال الحطاب وفيه نظر من وجهين: الأوَّلُ أن ما لزم ابن الحاجب لزمه لأنه صدر في أول كلامه بمثل ما قال ابن الحاجب كما تقدم عنه، الثاني أن ما نقله عن ابن رشد لا يمكن الجمع فيه لأن فرض المسألة أن البينتين في مجلس واحد وكل واحدة تنفي أن يكون تكلم بغير ما شهدت به
(1)
في البناني ج 7 ص 207 فهو.
ويتبين ذلك بنقل المسألة بلفظها ونقل سماع يحيى فانظره، وبه يتبين أن الجمع بين البينتين مقيد بكون شهادتهما في مجلسين لا في مجلس واحد، وأنَّ به يسقط اعتراض ابن عرفة على ابن الحاجب الذي عبارته كعبارة المص. والله أعلم. انتهى. وقوله:"وإن أمكن جمع بين البينتين جمع" اعلم أنه قد تقرر في علم الأصول والحديث وغيرهما أن الجمع بين الدليلين ما أمكن أولى من اطراحهما أو اطراح أحدهما. قاله ابن مرزوق، وإلا أي وإن لم يمكن الجمع بين البينتين رُجِّحَ أي صير إلى الترجيح بينهما، بسبب أي بذكر سبب ملك، فقوله:"وإلا رجح" أي صِيرَ إلى الترجيح أي طلب لإحدى البينتين وبه يرجحها على الأخرى ولا يرجح بالتشهي، وقوله:"بسبب ملك" أي بذكر سبب ملك.
اعلم أن صورة المسألة على ما لابن غازي أن كل واحدة شهدت بالملك، لكن إحداهما زادت ذكر السبب فتقدم التي زادت ذكر السبب على التي شهدت بالملك المطلق أي شهدت إحداهما بأنه ملك لزيد ولم تزد على ذلك، وشهدت الأخرى بأنه ملك لعمرو صاده أو نتج عنده، وصورها في التوضيح بأن إحداهما شهدت بأنه صادها أو نتجت عنده، وشهدت الأخرى بالملك المطلق فتقدم التي شهدت بسبب الملك. قال البناني: ما قرر به الزرقاني من أن المراد شهادة إحداهما بالملك والسبب معا والأخرى بالملك المطلق تبع فيه ابن غازي، قائلا: بنحو هذا فسر ابن عبد السلام كلام ابن الحاجب، وقال في التوضيح: كما لو شهدت إحداهما أنه صادها أو نتجت عنده، وشهدت الأخرى بالملك المطلق لقدمت من شهدت بسبب الملك والأول هو الذي في المدونة وهو متفق عليه، وما في التوضيح به قرر الشارح في صغيره، قال المصطفى: والمسألة ذات خلاف والمعتمد ما عليه الشارح تبعا للتوضيح. قال اللخمي: قال أشهب فيمن أقام بينة في أمة بيد رجل أنها وُلِدَتْ عنده: لا يقضى له بها حتى يقولوا كان يملكها لا نعلم لغيره فيها حقا، وقد يولد في يده ما هو لغيره. اللخمي: وقول ابن القاسم إنها لمن ولدت عنده أصوب، ومحمل الأمر على أنها كانت له حتى يثبت أنها وديعة أو غصب. اهـ.
ونقل ابن عرفة كلام اللخمي وأقره، ولما نقل في توضيحه قول أشهب هذا، قال: وخالفه التونسي. اهـ. قال: مصطفى: فظهر لك أن المعتمد ما عليه الش وهو مراد المؤلف، وإلا لقال:
ورجح بسبب ملك معه. اهـ. وقوى الرهوني ما قاله مصطفى ورد على البناني في رده على مصطفى. والله تعالى أعلم.
تنبيه: قال الرهوني: أطلق المص هنا وفي التوضيح في تقديمه بينة السبب، ولم يقيده أحد ممن تكلم عليه ممن وقفنا على كلامه، وقيد ابن سحنون واللخمي ذلك فقصرا كلام المدونة على ما إذا لم تورخا معا أو كانت الشهادة بالسبب أقدم تأريخا، فلو أرختا ولم تكن ذات السبب أقدم تاريخا كان ذلك تكاذبا وقضي بأعدل البينتين. والله تعالى أعلم.
كنسج ونتاج هذان مثالان لسبب الملك؛ يعني أنه لو شهدت بينة بالملك لزيد وشهدت أخرى بأنه ملك لعمرو، وذكرت سبب ملكه له بأن ذكرت أنه نسخه أو ولد عنده أو نسخه أو اصطاده أو نحو ذلك، فإنه تقدم البينة التي شهدت بالملك وبينت سببه، فيكون المدعى فيه لمقيمها، هذا معنى المص على ما لابن غازي، ومعناه على ما للتوضيح أنه إذا شهدت بينة بالملك وشهدت بينة بالسبب، فإنه تقدم ذات السبب فيكون لمقيمها. والله تعالى أعلم.
إلا بملك من المقاسم مستثنى من قوله: "كنسج ونتاج" يعني أنه إذا شهد بينة لأحدهما بأنه ملك هذا الشيء من المقاسم؛ أي شهدت بينة بأنه اشتراه أو وقع في سهمه من المقاسم فإن الشيء يكون لمقيمها سواء كانت الشهادة للآخر شاهدة بالملك وسببه أو بالملك فقط، وسواء كانت بيد الآخر أم لا، وسواء أرخت بينة الآخر أو كانت أقدم تاريخا أم لا، وكلام المواق يفيد ما ذكرنا لأن ما غنمه الحربيون يملكونه. قاله الشبراخيتي. وقال ابن مرزوق مفسرا للمص: تقدير الكلام ترجح بينة النسج والنتاج على البينة التي لم تذكر سببا أو ذكرت سببا غيرهما إلا أن تشهد بينة بملك المشهود له ذلك الشيءَ من المقاسم، فإنها ترجح على النسج والنتاج ويقضى لمن شهدت له إلا أن يعطيه الآخر قيمة ذلك فيكون أحق به، وما ذكرنا من تقديم من شهدت بالملك من المقاسم على التي شهدت بالملك بالنسج والنتاج هو ظاهر لفظه، والذي رأيته منصوصا هو تقديم الملك من المقاسم على الملك بالنتاج، فكان حقه أن يقول: وكنتاج، فيعيد العامل ليفيد أن الاستثناء مختص به، ولعله رآى أن لا فرق بين الشهادة بالنتاج والنسج وهو ظاهر، أو لعله وقف عليه منصوصا في
النسج، واحترز بقوله:"من المقاسم" عن شهادتهما أنه اشتراها من السوق أو وهبت له أو تصدق بها عليه، فلا تقدم على بينة الآخر لأن البائع في السوق أو الواهب أو المتصدق قد يكون غير مالك. قاله عبد الباقي.
أو تاريخ يعني أن البينة التي أرخت أي ذكرت الوقت الذي ملكه فيه تقدم على البينة التي لم تؤرخ عند تعارضهما، أو تقدمه يعني أن البينتين عند تعارضهما إذا أرختا أو كان تاريخ إحداهما أقدم من تاريخ الأخرى فإنه يعمل بالتي هي أقدم تاريخا، وقوله:. "أو تاريخ" أو تقدمه معطوف على "بسبب"، قال ابن مرزوق: أي وترجح إحدى البينتين المتعارضتين على مقابلتها بذكرها تاريخ الملك إذا لم تؤرخه الأخرى أو يكون تاريخ إحداهما متقدما على تاريخ الأخرى إذا أرختا جميعا، والهاء في تقدمه عائدة على التاريخ. انتهى. وقال الشبراخيتي: والظاهر أن ذاكرة السبب تقدم مطلقا إلا على الشاهدة بالملك من المقاسم، وتليها المؤرخة ومقدمة التاريخ ويلي ذلك زيادة العدالة. ولا يخفى تقديم كل مرجح على اليد. قاله الأجهوري. وهو مخالف لما في الحاشية عند قوله: إن لم ترجح بينة مقابله، فإنه ذكر أن أقوى المرجحات العدالة. اهـ. وقال عبد الباقي: وتاريخ ذكرته بينة فتقدم على التي لم تؤرخ أو تقدمه أي التاريخ فتقدم الشاهدة بسبقه على المتأخرة تأريخا ولو كانت أعدل من المتقدمة، وسواء كان المتنازع فيه بيد أحدهما أو بيدهما أو بيد غيرهما أو لا يد لأحد عليه ذكره ولد ابن عاصم في المؤرخة، ولعل تقدم التاريخ كذلك. انظر أحمد. اهـ. وقال البناني:"أو تاريخ". ابن الحاجب: وفي مجرد التاريخ قولان. التوضيح: القول بتقديم المؤرخة لأشهب، زاد إلا أن يكون في شهادة التي لم تؤرخ أن الحاكم قضى بهذا العبد لمن شهدت له، والقول بنفي التقديم ذكره اللخمي والمازري ولم يعزواه. اهـ.
وبمزيد عدالة يعني أن البينتين إذا تعارضتا فإنه يقدم ذات مزيد العدالة على غيرها أي فيقضى لمقيمها: قال الشبراخيتي: وبمزيد عدالة في إحدى البينتين على الأخرى في المال وما يؤول إليه لا في غير ذلك، لقوله في النكاح: وأعدلية متناقضتين ملغاة. اهـ. وقال عبد الباقي: ورجح بمزيد عدالة في إحدى البينتين بمال، كقيام بينة لأحدهما أنه ملكه والآخر كذلك وزادت إحداهما عدالة فتقدم على الأخرى، ويحلف مقيمها بناء على أن زيادتها كشاهد. وفي الموازية: لا يمين عليه بناء
على أن الزيادة كشاهدين، ومثل المال ما يؤول إليه وكقصاص في جرح، وأما مزيدها في المزكين للبينة فإنه غير معتبر عند ابن القاسم وهو المشهور، كما أنه لا يعتبر مزيدها نفسها في النكاح كما قدمه فيه، بقوله:"وأعدلية متناقضتين ملغاة"، وينبغي أن تكون بقية المرجحات كذلك. اهـ.
قوله: بمال، ومثل المال ما يؤول إليه. قال البناني: أفاد به أن الترجيح بزيادة العدالة خاص بالأموال ونحوها من كل ما يثبت بالشاهد واليمين دون غيرها مما لا يثبت إلا بعدلين، كالعتق والطلاق والنكاح والحدود ونحوها فلا يقع الترجيح في شيء من ذلك بزيادة العدالة لأنها بمنزلة الشاهد الواحد على المشهور، وهو مذهب المدونة كما يفيده قول ابن عرفة الصقلي، قال بعض القرويين: اختلف إذا كانت إحدى البينتين أعدل، هل يحلف صاحب التي هي أعدل؟ ففي المدونة أنه يحلف. اهـ. وأما على مقابله أنها كالشاهدين فيثبت الترجيح بها في كل شيء، وهو الموافق لما تقدم عن سماع يحيى عند قوله:"وإن أمكن جمع بين البينتين جمع" على أن ما ذكر ليس خاصا بزيادة العدالة بل سائر المرجحات كذلك لا يثبت الترجيح بها إلا في الأموال ونحوها، كما يفيده كلام القرافي، ونقله ابن فرحون في الباب الرابع والعشرين من القسم الثاني من التبصرة، ونصه: حكى القرافي في كتاب الأحكام في تمييز الفتاوي من الأحكام مذهب المالكية أنه لا يحكم بترجيح إحدى البينتين عند التعارض إلا في الأموال خاصة. انتهى. وبه تعلم أن قول الزرقاني: وينبغي أن تكون بقية المرجحات كذلك، قصور. انتهى.
لا عدد يعني أنه لا ترجح إحدى البينتين المتعارضتين بمزيد العدد، فإذا أقام أحدهما رجلين عدلين وأقام الآخر ثلاثة كذلك أو أربعة كذلك فإنه لا ينظر لزيادة العدد، بل يرجح بغير ذلك من المرجحات إلا إذا كثروا حتى يقع بهم العلم فيقضى بهم. ابن مرزوق: وما ذكره المص من الترجيح بمزيد العدالة وعدمه بمزيد العدد هو المشهور فيهما، وقيل لا يرجح بمزيد العدالة وقيل يرجح بكثرة العدد إلا إذا كان كل من البينتين قد زادت على النصاب فلا يرجح بالكثرة؛ كأن تكون إحداهما ثلاثة والأخرى أكثر من ذلك.
وبشاهدين على شاهد ويمين يعني أنه إذا أقام أحد المتداعيين شاهدين على ما ادعاه، وأقام الآخر شاهدا وأراد الحلف معه فإنه يقدم مقيم الشاهدين فيقضى له، أو امرأتين يعني أنه يقضى لمقيم شاهدين على مقيم شاهد وامرأتين، والحاصل أنه عند التعارض يقضى لمقيم شاهدين على مقيم شاهد يريد الحلف معه، ويقضى له على مقيم شاهد وامرأتين. والله تعالى أعلم. قال عبد الباقي: ورجح بشاهدين من جانب على شاهد ويمين من جانب آخر، ولو كان أعدل زمانه كما في المواق إذ من العلماء من لا يرى الحكم بشاهد ويمين وعلى شاهد وامرأتين، لقوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} ، فجعل في الآية مرتبتهم عند عدم الشاهدين ما لم يكن الشاهد الذي مع المرأتين أعدل من الشاهدين فيقدم هو والمرأتان على الشاهدين، وأولى إن كانتا أعدل كالشاهد معهما، وأما إن كانتا أعدل دونه فيقدم الشاهدان. اهـ.
وقال ابن مرزوق بعد جلب كلام: والحاصل أن ابن القاسم يقول: إن الشاهدين لا يقدمان في المسألتين بل المسألتان من تعارض البينتين صرح بهذا في المدونة في الشاهدين مع الشاهد والمرأتين: كما تقدم من قوله: "حتى لو كانت بينة [أحدهما]
(1)
، رجلين أو رجلا وامرأتين فيما تجوز فيه شهادة النساء والأخرى مائة رجل لا ترجح المائة". اهـ. وحمله اللخمي والمازري على المبالغة: وأما لو كثروا حتى يقع العلم بهم لقضي بهم لأن شهادة الاثنين إنما تفيد غلبة الظن. والله تعالى أعلم.
وبيد إن لم ترجح بينة مقابله يعني أنه إذا تعارضت البينتان فإنه يرجح باليد بشرط أن لا يكون لغير ذي اليد ما يرجح بينته من المرجحات، قال عبد الباقي: والترجيح يكون أيضا بيد أي كون الشيء في حوزه مع تساو البينتين في الشهادة بالملك لما لم يعرف أصله، وهذا يقتضي أن بينة الداخل مقدمة على بينة الخارج كمذهب الشافعي، وكون الحوز مع الشرط يعني قوله:"إن لم ترجح" لخ مرجحا تَجَوُّزٌ، لأنه لما تعادلت البينتان سقطتا وبقي بيد حائزه كما يأتي للمص. اهـ. وهذا الذي قاله اعتراض ظاهر، ويجاب بأن ما يأتي في غير المتنازعين وهذا فيهما. والله تعالى
(1)
في الأصل: إحداهما، والمثبت من: التهذيب ج 3 ص 605.
أعلم. وقوله: "وبيد" كان ذلك الشيء دارا أو عرضا أو نقدا أو غير ذلك، وفي الحطاب: قال القرافي في كتاب الدعاوي: اليد عبارة عن القرب والاتصال فأعظمها ثياب الإنسان التي عليه ونعله ومنطقته، ويليه البساط الذي هو جالس عليه، والدابة التي هو راكبها، ويليه الدابة التي هو سائقها أو قائدها، والدار التي هو ساكنها فهي دون الدابة لعدم الاستيلاء على جميعها قال بعض العلماء: فيقدم الأقوى على الأضعف، فلو تنازع الساكنان الدار سوي بينهما بعد أيمانهما، أو الراكب مع الراكب والراكب والسائق يقدم الراكب مع يمينه. انتهى. وفي نوازل سحنون في كتاب الشهادات: إن شهدت بينة بقتل زيد عمرا يوم كذا، وشهدت بينة أنه كان ذلك اليوم ببلد بعيد عن موضع القتل قضي ببينة القتل: قال ابن رشد: هذا مشهور المذهب وقاله أصبغ، وقال إسماعيل: يقضى ببينة البراءة إن كانت أعدل، وإن كانتا في العدالة سواء طرحتا. وقاله ابن عبد الحكم. اهـ.
فيحلف يعني أنه يحلف ذو اليد ويبقى الشيء بيده يعني حيث لم ترجح بينة مقابله، قال الشبراخيتي: فيحلف ذو اليد وهو مفرع على المنطوق وهو عدم ترجيح بينة مقابله فيفيد حلف ذي اليد إذا رجحت بينته على بينة مقابله، قال: والمرجحات كلها تحتاج إلى اليمين لأن أقواها العدالة، ومع ذلك لا بد معها من اليمين. انتهى. وقال الخرشي مفسرا للمص: يعني أن اليد من المرجحات فيما لم يعرف أصله، ثم قال: وقولنا فيما لم يعرف أصله احترازا مما إذا عرف أصله فإنه يقسم بين ذي اليد ومقابله، فإذا مات شخص وأخذ ماله من يدعي أنه مولاه أو وارثه وأقام على ذلك بينة وأقام غيره بينة أنه وارثه أو مولاه وتعادلتا كما في الطخيخي عن المدونة، فإنه يقسم بين ذي اليد ومقابله. وقوله:"فيحلف" قال الخرشي: فإن نكل أخذه الآخر بيمين حوزا فيهما، فإن نكل أيضا بقي بيد من كان معه حوزا، وقوله:"إن لم ترجح بينة مقابله" فإن رجحت بينة مقابله أخذه بيمين ملكا، فإن نكل أخذه الآخر حوزا فإن نكل أيضا رجعتْ له. اهـ. وقال عبد الباقي: فيحلف ذو اليد مع الشرط المذكور، ومفهومه لو رجحت بينة مقابله بأي مرجح نزع من ذي اليد ويحلف آخذه، فهو مفرع على المنطوق والمفهوم معا.
وبالملك على الحوز يعني أنه يرجح بالملك على الحوز، ومعنى ذلك أن الترجيح يكون بالبينة الشاهدة بالملك على البينة الشاهدة بالحوز، ولو كان تاريخ الحوز سابقا لأن الحوز قد يكون عن ملك وعن غيره، قال أشهب: إذا شهدت بينة أنه يملكها منذ سنة وأخرى أنه يحوزها منذ عامين، فإن بينة الملك مقدمة. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: والترجيح يكون بالبينة الشاهدة بالملك مع اعتمادها على حوز سابق على الحوز؛ أي على البينة الشاهدة بالحوز الآن المجردة عن شهادة ملك، ولو كان تاريخ الحوز سابقا لأن الحوز قد يكون عن ملك وعن غيره. اهـ. وقال الشبراخيتي: وترجح البينة الشاهدة بالملك على بينة الحوز لأن الحوز قد يكون بغير الملك كالعارية والغصب، وظاهره ولو أرخت. وقوله:"على الحوز" أي بينة شهدت بالحوز فقط. وقوله: "وبالملك" أي مع اعتماد بينة الملك على الحوز كما يأتي قريبا إن شاء الله تعالى، وحينئذ فلا يعارض قوله:"وبيد إن لم ترجح بينة مقابله" لأنها شهدت بالملك. انظر الشبراخيتي والخرشي.
ورجح أيضا بنَقْل أي ترجح بينة نقلت عن أصل على بينة مُسْتَصْحِبَةٍ للأصل، كأن تشهد بينة أنه أنشاها ولا يعلمونها خرجت عن ملكه إلى الآن، وتشهد بينة لآخر أنه اشتراها منه فتقدم لأنها علمت ما لم تعلمه المستصحِبة ولو كانت المستصحبة عدلين والناقلة عدل ويمين أو رجل وامرأتان. والله تعالى أعلم. والظاهر عدم التعارض بين هاتين البينتين، فليس هذا من باب الترجيح. قاله غير واحد. وقال عبد الباقي: ثم الناقلة تقدم على المستصحبة ولو كانت الناقلة سماعا كما مر في قوله: "إلا بسماع أنه اشتراها من كأبي القائم"، ومن تقديم الناقلة على المستصحبة تقديم الشاهدة أنه اشتراها من المقاسم على الشاهدة بالملك وسببه، ومنه أيضا: تقديم البينة بالتنصر كرها لأنها ناقلة عن البينة بإقراره بالطوع؛ لأن الأصل أنه إن تنصر أسير فعلى الطوع.
تنبيهان: الأول: وقع لعبد الباقي وغيره عند قول المص: "وبنقل على مستصحبة" ما نصه: لو شهدت المستصحبة بأنها باقية في ملكه إلى الآن فالمعارضة بينها وبين الناقلة ظاهرة؛ أي فيصار
إلى الترجيح، قال البناني: سيأتي قريبا أن الراجح في هذه الشهادة أنها باطلة لأنها لم تشهد على نفي العلم. انتهى.
الثاني: قال البناني: بقي من المرجحات: الأصالة تقدم على الفرعية، فإذا شهدت إحدى البينتين أنه أوصى وهو صحيح العقل، وشهدت الأخرى أنه موسوس، فقال ابن القاسم في العتبية: تقدم بينة الصحة لأنها الأصل والغالب، قال في الفائق ومن نظائر هذه المسألة بينتا الطوع والإكراه والصحة والفساد والرشد والسفه والعسر واليسر والعدالة والجرحة والحرية والرقية والكفاءة وعدمها والبلوغ وعدمه. اهـ.
وقوله: من نظائر هذه المسألة أي مسألة الترجيح لا بقيد الأصالة: وقوله: بينتا الطوع والإكراه أي فتقدم بينة الإكراه على الطوع، وكذا كل ضرر لأن من أثبت قد زاد كما صححة ابن رشد وابن الحاج، ونقله في نوازل الاستحقاق من المعيار. وقوله: والرشد والسفه أي فتقدم بينة السفه كما نقله صاحب المعيار في نوازل الحجر عن ابن لب، وكذا مراده تقديم اليسار لأنه الغالب، وكذا تقديم الجرحة. اهـ كلام البناني. الرهوني: وبنقل عن مستصحبة، يشبه أن يكون من هذا المعنى ما إذا تعارضت بينتان بالحوز وعدمه فيما يفتقر إلى الحوز، وقد تقدم من ذلك مافيه الشفاء فراجعه في الهبة عند قوله:"بخلاف سنة"، وقول البناني: تقدم بينة الصحة، قال ابن رشد: القياس أن شهادة الصحة أعمل لأنها أثبتت الحكم وعلمت ما جهلته الأخرى على ما في سماع أبي زيد، وما لأصبغ في سماعه من كتاب العتق. وقد قيل: إنه ينظر إلى أعدل البينتين، فإن استوتا في العدالة بطلتا، ويتخرج في المسألة قول ثالث أن شهارة المرض أعمل. اهـ.
وقوله: أي فتقدم بينة الجرحة على بينة العدالة، وظاهرة ولو كانت المعدلة أعدل وهو كذلك على المشهور، وخلاف ما اقتضاه ظاهر كلام التحفة، ومن هذا النوع الكفاءة وعدمها، ففي التوضيح عن أحكام ابن زياد أن شهادة من شهد بعدم الكفاءة أتم، وليس على الحاكم أن يسأل الشهود من أين علموا عدم الكفاءة، وقيل يقضى بأعدل البينتين، فإن تكافأتا كان الجرح أولى، وقيل: يسقطان وينظر الحاكم في ذلك وفي أحكام ابن جدير عن جماعة من الشيوخ: إن بيَّن الشهود
الحال التي كان بها غير كفؤ كانت شهادتهم أولى، فإن شهدوا مجملا كانت شهادة الآخرين أولى بعض الموثقين الذي جرى به الحكم إن كانت إحدى البينتين أعدل حكم بها، وبه قال سعيد بن أحمد وابن زرب وغيرهما.
قُلْتَ: يتعين أن يكون محل هذا الخلاف إذا بين من شهد بعدم الكفاءة وجه ذلك، أو كان من أهل العلم وإلا فلا بد من سؤالهم عنه، فإن تعذر فلا عبرة بشهادتهم لما هو معلوم. والله أعلم. وقوله: فتقدم بينة السفه، بهذا جزم ابن فتوح. ابن عات: وينظر إلى أعدل البينتين ويقضى بها. اهـ. المراد منه. وفي الرهوني. أيضا: وإذا أطلق الوصي اليتيم ثم باع ماله أو أفسده وقامت البينة أنه لم يزل سفيها منذ عرفوه إلى وقتهم لزمته الولاية ورد فعله وعزل الوصي وجُعِلَ غيره، ولم يضمن الوصي شيئا مما أتلفه لأنه فعل باجتهاده. ومن نوازل ابن رشد: وأما إن كان نكاحه بعد أن ثبت عند القاضي رشده وقضى بترشيده فالنكاح ماض ولها الصداق والميراث قولا واحدا، والحكم نافذ لا يرد بشهادة من شهد أنه متصل السفه، وإن كان أعدل من الشهود الذين قضى القاضي بشهادتهم؛ إذ قد فات موضع الترجيح بين الشهود بنفوذ الحكم فإنما تفيد شهادتهم الحكم بتسفيهه، ويكون ما تقدم من أفعاله من يوم حكم بترشيده إلى يوم حكم بتسفيهه جائزا ماضيا. اهـ. والله تعالى أعلم.
ثم شرع يتكلم في شروط صحة الشهادة بالملك وهي أربعة. ابن عرفة: الملك استحقاق التصرف في الشيء بكل أمر جائز فعلا أو حكما، فيدخل ملك الصبي ونحوه لاستحقاقهما ذلك حكما، ويخرج تصرف الوصي والوكيل وذي الإمرة. اهـ.
وصحة الملك بالتصرف يعني أن صحة شهادة البينة إذا شهدت بالملك لشخص، سواء كان حيا أو ميتا مشروطة بأن يعتمدوا في شهادتهم على هذه الأمور الأربعة، وإن لم يصرحوا بها إلا الأمر الأخير فلا بد من التصريح به على ما سيأتي. الْأَمْرُ الْأَوّلُ: التصرف التام للمشهود له. الأمر الثاني: عدم المنازع له في ذلك الأمر، وإليه أشار بقوله: وعدم منازع له في التصرف كما في الخرشي، أو في الشيء المتصرف فيه كما في ابن مرزوق. الأمر الثالث: الحيازة له على ذلك المال حيازة طويلة، وإليه أشار بقوله: وحوز طال بأن يختص به دون مشارك له فيه مدة طويلة، ومثل
للحيازة الطويلة بقوله: كعشرة أشهر. الأمر الرابع أن تذكر البينة أنه أي الشيء المشهود بملكه لم يخرج عن ملكه في علمهم، وإليه أشار بقوله: وأي،، وتقول البينة الشاهدة بالملك في أداء شهادتها أنه أي الشيء المشهود بملكه - لم يخرج عن ملكه؛ أي ملك المشهود له في علمهم أي علم الشهود؛ أي لابد أن تذكر البينة أنهم لم يعلموا أنه خرج عن ملكه بناقل شرعي، ببيع أو هبة أو وجه من الوجوه إلى الآن، فإن قالوا: إنها لم تخرج عن ملكه قطعا بطلت شهادتهم، فإن أطلقوا ففيه خلاف، فإن أبوا أن يقولوا ما علموه باع ولا وهب ولا تصرف فشهادتهم باطلة، هذا على أن قولهم ذلك شرط صحة وقيل شرط كمال كما في عارية المدونة، وإليه أشار بقوله:
وتؤولت المدونة على الكمال أي على أن هذا الأخير شرط كمال لا شرط صحة، كما قال: في الأخير، وهو قوله، وأنها لم تخرج عن ملكه في علمهم وعلى أنه شرط كمال، فإن لم تذكره البينة حلف المشهود له بتا وورثته على العلم أنه ما باع ولا وهب ولا تصدق ولا خرج عن ملكه بناقل وتمت شهادتهم. وقوله:"وتؤولت على الكمال في الأخير" قال غير واحد: والمذهب الأول دون قوله: "وتؤولت على الكمال في الأخير"، وقال ابن مرزوق: لما ذكر أن بينة الملك تقدم على بينة الحوز أراد أن يبين ما هو مستند الشهود في الشهادة بالملك، فإنه لا ينبغي لهم أن يشهدوا بالملك بمجرد رؤية الشيء بيد الحائز له أو رؤيتهم شراءه إياه؛ لأن اليد قد تكون بالعارية والغصب، والشراء يكون من غاصب، وجملة ما ذكر من الأمارات الدالة على صحة الملك أربع: الأولى التصرف في الشيء ولا يريد مطلق التصرف بل التصرف المعهود من المالكين في أملاكهم، فأل في التصرف للعهد وهو وإن لم يذكره إلا أنه اتكل على أنه لا يخفى هذا على من بلغ في هذا الْفَنِّ إلى هنا. الثانية: عدم المنازع له فيما هو متصرف فيه. الثالثة: الحوز الطويل، ومعنى الحوز أن يختص بالشيء ويحوزه إلى نفسه ولا يكون شركة بينه وبين غيره، وحد الطول عشرة أشهر كما ذكر، وقيل ستة وهما متقاربان. الرابعة: كون الشيء المتصرف فيه لم يخرج عن ملكه فيما يعلم الشاهد بالملك إلى حين الشهادة به، وإنما قال في علمهم احترازا عما في نفس الأمر، فإنه يحتمل أن يكون مالكه باعه ولم يعلم الشهود بذلك، ولابد أن تكون الشهادة بالملك هكذا، ولو شهدوا
أنها لم تخرج عن ملكه على القطع لكانت الشهادة زورا وهذد الأمارة وقعت في المدونة، فمنهم من تأولها على أنها من شروط الكمال، وأنها إن لم تذكر في الشهادة لم تضر وهذا معنى قوله:"وتؤولت" أي المدونة: "على الكمال في الأخير" أي في القيد الأخير أو في الدليل الأخير من أدلة الملك إذا الأمارة دليل. اهـ.
وقال عبد الباقي: وصحة شهادة بينة الملك لشخص حي أو ميت ثابتة بالتصرف؛ أي أن يشهدوا بتصرفه فيه تصرفا تاما، والمراد بالصحة الاعتماد والباء بمعنى على؛ أي اعتمدت البينة بالملك على التصرف وعدم منازع، وحوز طال كعشرة أشهر الكاف استقصائية كما تفيده المدونة، وقيل وزيادة شهرين، وما قدمناه من أنها تعتمد على ذلك في الشروط الثلاثة المتقدمة فلا يلزمها ذكره هو مفاد أبي الحسن وابن مرزوق وحلولو. وفي النوادر ما ظاهره خلافه، ودرج عليه التتائي ولكن لا يعول عليه، وأما قوله في الشرط الرابع: وأنها، فمعمول لمقدر أي تقول أو تؤدي أنها لم تخرج عن ملكه في علمهم ببيع أو هبة أو وجه من الوجوه إلى الآن، فإن قالوا: إنها لم تخرج عن ملكه قطعا بطلت شهادتهم، فإن أطلقوا ففيه خلاف، فإن أبوا أن يقولوا ما علموه باع ولا وهب فشهادتهم باطلة بناء على أن قولهم ذلك شرط صحة، كما صدر به المص وهو المذهب دون قوله:"وتؤولت على الكمال في الأخير" اهـ. المراد منه.
تنبيهات الأول: قال البناني. عند قول المص: "وحوز طال كعشرة أشهر" ما نصه: ما نقله المواق هنا على هذا النص لا يطابقه إنما يطابق قول المص الآتي: "وإنما تفترق الدار من غيرها في الأجنبي ففي الدابة" الخ.
الثاني: قد مر قول عبد الباقي: فلا يلزم الشهود ذكره كما هو مفاد أبي الحسن، قال البناني: ظاهره أن أبا الحسن أطلق عدم لزوم ذكرها وليس كذلك، بل قيده بمن يعرف ما تصح به الشهادة بالملك وإلا لزمه ذكرها، قال: فإن كان الشاهد يعرف ما تصح به الشهادة بالملك قُبلَ منه إطلاقُ معرفة الملك - وقليل ما هم - وإلا فلا حتى يفسر الخمسة أشياء: أن يعرف الشاهد لمدعي الملك كون يديه على ما يدعي، وأنه يعرف تصرفه تصرف المالك، وأنه ينسبه لنفسه، وأنه لا ينازعه فيه منازع، وأن تطول مدة ذلك عاما فأكثر. وفي المدونة: ما يقوم منه أن عشرة أشهر طول
هذا الذي يشترط في الشهادة بالملك لا غير. اهـ. وقال ابن هلال: قال المازري رحمه الله: لا نبيح للشاهد أن يشهد بالملك بمجرد شهادته شخصا باع سلعة من الآخر؛ لأنه قد يبيعها غاصب أو مودَع ومن لا يجوز له البيع، ولكن حقيقة الشهادة به يستدل عليها بالحوز ووضع اليد على الشيء والتصرف فيه تصرف المالك مع دعوى الملك وإضافته إلى نفسه وطول الزمن ولا يظهر من ينازعه في ذلك، قال: فإذا شهد بأن هذه الدار لفلان وعوَّل على ما أطلق من الشهادة بالملك على معرفته بهذه الأمور قبلت شهادته، وإن أطلق الشهادة ولم يضفها لهذه الأمور لم تقبل إلا إن كان عارفا. قال: وإلى هذا أشار سحنون وغيره من أصحابنا. اهـ.
الثالث: قال البناني: قال ابن عرفة: وفي لغو شهادة الشاهد في دار بأنها ملك فلان حتى يقول ومال من أمواله وقبولها مطلقا، ثالثها إن كان الشهود لهم نباهة ويقظة، الأول لابن سهل عن ابن مالك قائلا: شاهدت القضاء به، والثاني لأبي المطرف، والثالث لابن عتاب. انتهى.
الرابع: قال البناني عند قول المص: "وأنه لم يخرج عن ملكه في علمهم": هذا ما في كتاب الشهادة من المدونة، ففيها: من تمام شهادتهم أن يقولوا: ما علمناه باع ولا وهب ولا خرج عن ملكه، ثم لا يقضى له بذلك حتى يحلف على البت أنه ما باع ولا وهب ولا خرج عن ملكه بوجه من الوجوه، وفي العارية منها: وإن شهدوا أن الدار له ولم يقولوا لا نعلم أنه ما باع ولا وهب ولا تصدق حلف على ذلك وقضي له. انتهى. فظاهر هذا أنه شرط كمال فقط، وحمل أبو الحسن وأبو إبراهيم الأعرج ما في الشهادة على هذا، وإليه أشار المص بقوله:"وتؤولت على الكمال في الأخير"، وعزاه ابن عرفة لنص عارية المدونة ولظاهر قول ابن يونس وابن رشد، وقال ابن العطار: هو شرط كمال في وثيقة الحي وشرط صحة في وثيقة الميت. انتهى.
الخامس قد مر أنهم إذا قالوا لم تخرج عن ملكه قطعا بطلت شهادتهم، قال البناني: قال ابن رشد: قولا واحدا، وإن لم يصرحوا به ولكن جزموا شهادتهم فهي محل الخلاف.
السادس: قوله: "وعدم منازع" الواو بمعنى: مع، وقوله:"وعدم منازع" أي عند الحاكم، فالمنازعة عند غير الحاكم لا عبرة بها.
لا بالاشتراء عطف على قوله: "بالتصرف" يعني أن الشهود بالملك يعتمدون على التصرف لخ: ولا يعتمدون في شهادتهم بالملك لشخص على أنه اشتراها، فإذا أقام أحد المتنازعين بينة أنه اشتراها من غير الحائز لها، وادعى من هي بيده أنها له، فإن بينة الشراء تلغى ويبقى بيد حائزه، ومثل الشراء الإرث والهبة والصدقة لاحتمال عدم ملك كل، وهذا مقيد بغير ما تحقق أن كلا ممن ذكر غنمه وإلا عمل بها، وكذا يقيد أيضا بما إذا شهدت أنه اشتراها من الخصم، وإلا عمل بها لأنها ناقلة والأخرى مستصحبة. قاله عبد الباقي وغيره. وفسر الشارح المص بأن معناه أن أحد الخصمين إذا اشترى الشيء من الآخر وقامت على ذلك بينة، فإنها تستصحب ولا يقبل قول المشهود عليه إنها عادت إليه. انتهى. ونحوه لابن الحاجب تبعا لابن شأس. وإن أنكره ابن عرفة قائلا: لا أعرف عينها نصا في المذهب إلا له ولمن تبعه. انتهى. وإيضاح المص على هذا أنه لا بد أن تقول البينة الشاهدة على الملك: إنه لم يخرج عن ملكه في علمهم، لا فيما إذا شهدت أنه اشتراه من خصمه فلا يحتاج الشهود إلى أن يقولوا إنها لم تخرج عن ملكه في علمهم، وعلى هذا فيكون متعلق بالاشتراء محذوفا أي منه أي من الخصم. قال مصطفى: وبه يلتئم كلام المؤلف مع ما قبله، وغايته أنه حذف لفظة منه والخطب سهل. انتهى. وعلى هذا فيكون من نوع قوله:"وإن شهد بإقرار استصحب". الرهوني: محل عدم ثبوت الملك بالشراء إذا لم يثبت الملك للبائع بشروطه، واستمراره إلى أن باعه لهذا المشتري، وأما إذا ثبت ذلك بشهادة شاهدي الشراء أو غيرهما فإنه يقضى بذلك وينزع الشيء من يد حائزه، ومحله أيضا إذا لم يشهد شاهد الشراء أنه ملكه بعد الشراء بحوزه ويتصرف فيه، وتوهم بعض المعاصرين رحمه الله أنه مهما شهد بالشراء كان الحكم ما ذكره المص، وإن شَهِدَا مع ذلك بما ذكرنا وليس ما توهمه بصحيح، وقد رجع رحمه الله عن ذلك بعد أن أوقفته على نصوص الأئمة. والله أعلم. انتهى.
تنبيه: قال الزهوني: لما ذكر في نوازل المعيار جوابا لأبي محمد مضمنا قول المص فيما تقدم: "ولا إن شهد باستحقاق وقال أنا بعته"، قال عقبه: قال بعض الشيوخ: من هنا أخذ أن وثائق الأشرية القديمة يجب دفعها للمشتري، ويجب أن يكون لهذه الوثائق دلالة على الحوز، فيكون القول قول من هو بيده حتى يثبت ما يخرج به ذلك من يده، ورد على من قال: إن وثائق
الأشرية لا توجب رفع النزاع إلا بين المتنازعين خاصة، ونقله ابن عرفة عن شيخه ابن عبد السلام. انتهى.
وإن شهد بإقرار استصحب قال الخرشي: أي ثم رجع للإنكار، والمعنى أنه إذا شهدت البينة لأحد المتنازعين في شيء بأن الآخر أقر به لمن ينازعه فيه قبل هذا الوقت، فإنه يستصحب هذ الإقرار فلا تحتاج البينة أن تزيد في هذه الصورة وأنها لم تخرج عن ملكه في علمنا. اهـ. ونحوه لعبد الباقي، وقال عبد الباقي: لأن الخصم لما أقر لخصمه ثبت ذلك فلا يصح للمقر دعوى الملك فيه إلا بإثبات انتقاله إليه ثانيا. اهـ.
تنبيهان: الأول: قال عبد الباقي: وانظر في المنازعة بين ورثة المقروبين المشهود له بالإقرار، هل هو كذلك؟ فتكفي شهادة البينة بإقرار أبيهم، ولا تحتاج لزيادة أنها لم تخرج عن ملكه في علمهم، أو لابد من الزيادة لانقطاع ملك المقر بموته؟ اهـ. قال البناني: قول الزرقاني: وانظر في المنازعة بين ورثة المقر. الخ. الظاهر أنه لا فرق بين المقر وورثته في ذلك. اهـ.
الثاني: ترك المص [مما]
(1)
، تعتمد عليه البينة خامسا مع أنه لابد منه وهو نسبة الشيء المشهود به له. قاله عبد الباقي. وقال ابن مرزوق: شهد مبني للمفعول، والمعنى أنه إن شهدت بينة في شيء تنازع فيه خصمان أن أحدهما أقر به قبل هذا الوقت لصاحبه، فإنه يستصحب هذا الإقرار ويقضى بالشيء للمقر به ولا يحتاج الشهود أن يزيدوا في هذه الصورة، ولا نعلم ذلك خرج عن ملك المقر له، لأن الخصم لما أقر به لخصمه ثبت له ملكه فلا يصح للمقر دعوى الملك فيه إلا بإثبات انتقاله إليه ثانية. اهـ.
وقال البناني: وإن شهد بإقرار استصحب. ابن شأس ولو شهدت أنه أقر بالأمس ثبت الإقرار ويستصحب موجبه. ابن عرفة: لا أعرف هذا. اهـ. وهو ظاهر لاحتمال أنه خرج عن ملكه بوجه من الوجوه. اهـ قول البناني. وهو ظاهر يوهم أن ابن عرفة أنكر وجوده، وابن عرفة إنما أنكر وجوده نصا على أن ذلك لا يليق بمنصب ابن عرفة، فإن النصوص بذلك كثيرة. قاله الرهوني.
(1)
في الأصل ما والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 211.
وجلب على ذلك من النقول ما جلب، وقال ابن مرزوق: هذه المسألة - يعني قوله: "وإن شهد بإقرار استحصب" - ذكرها ابن شاس وابن الحاجب ووافقه شراحه، وزاد: وكذلك لو قال أحد الخصمين للآخر كان هذا الشيء ملكا لك بالأمس فإنه يستصحب أيضا، ورآى المص الاستغناء عن هذه لدخولها فيما ذكر. انتهى.
وإن تعذر ترجيح سقطتا صورتها أن الشيء المتنازع فيه بيد شخص يدعيه كدار مثلا فادعاها رجلان وأقام كل واحد بينة أنها له وتكافأت بينتهما، فإن البينتين تسقطان وتصيران كالعدم، وإذا سقطتا وصارتا كالعدم بقي بيد حائزه حيث ادعاه لنفسه.
وعلم مما قررت أن قوله: "بيد حائزه" أي من غير المتنازعين، وأما إن كان بيد أحد المتنازعين فهو قوله. وبيد إن لم ترجح بينة مقابله.
تنبيه: قال البناني: قال ابن عرفة: وفي الولاء منها: من ورث رجلا بولاء يدعيه ثم أقام آخر البينة أنه مولاه، وأقام قابض الميراث مثلها وتكافأتا فالمال بينهما، قيل: ولم؟ وقد قال مالك إذا تكافأت البينتان فالمال هو للذي بيده: قال: إنما ذلك إذا لم يعرف أصل المال وهذا مال عرف أصله، وقال غيره: هو للذي بيده كمن بيده ثوب ادعاه رجل وأقام بينة أن ذلك الثوب كان لزيد يملكه، وأن المدعي اشتراه منه، وأقام حائزه بينة مثلها ومات البائع ولم تؤرخ البينتان، وهم في العدالة سواء سقطت البينتان وبقي الثوب لحائزه ويحلف. الصقلي: مسألة الولاء بخلاف هذه؛ لأن الولاء لم يحزه أحدهما، وإنما وقع الحوز في مال عرف أصله، وعبر عنهما المازري بقوله: إن عرف مبدأ حوزه، ففي الترجيح به قولان. اهـ. قُلتُ: ما أفاده المازري من شمول القولين للمسألتين أظهر من تفريق ابن يونس بينهما. اهـ. ورده الرهوني، وقال: إن ما لابن يونس هو الصواب.
أو لمن يقر له معطوف على "بيد حائزه"؛ أي إذا تكافأت البينتان فإنهما يسقطان ويبقى الشيء المتنازع فيه بيد حائزه من غير المتنازعين حيث ادعاه لنفسه، فإن لم يدعه الحائز لنفسه بل أقر
به لغيره: فإنه يكون للمقر له يعني حيث كان المقر له من
(1)
أحد المتنازعين. قال عبد الباقي: أو بقي بمعنى صار لمن يقر الحائز له من المتنازعين المقيم كل بينة، وتعذر الترجيح بإقرار من هي بيده لأحد مقيمي البينة كأنه ترجيح للبينة، لا إن أقر به لغيرهما فلا يعمل بإقراره على الراجح، ثم إذا أقر به لأحد مقيمي البينة فيأخذه لكن بيمين لضعف إقراره بوجود البينتين المتساويتين، وأما إن تجردت دعوى كل عن بينة فيعمل بإقرإره ولو لغيرهما، ويأخذه المقر له من المتنازعين أو من غيرهما بلا يمين لقوة إقراره حين عدم البينتين، فإن لم يقر به لأحد وادعاه لنفسه حلف وبقي له، فإن لم يكن بيده أو لم يدعه دخل في قوله:"وقسم على الدعوى" لخ. اهـ.
قوله: بلا يمين، قال الجنوي: فيه نظر، والظاهر أنه بيمين. الرهوني: إن كان المراد أنه يأخذه ملكا فالحق ما قاله شيخنا، وإن كان المراد أنه حائز ثم يقال للآخر: أثبت ما ادعيت، فالحق ما قاله الزرقاني. والله أعلم. اهـ. وقال البناني: إنه إذا كان الشيء بيد أحدهما فظاهر حكمه مما تقدم، وإن كان بيد غيرهما فظاهر ما ذكره الزرقاني وغيره في ذلك من الصور ثمان؛ لأن من هو بيده تارة يدعيه لنفسه وتارة يقر به لأحدهما وتارة لغيرهما وتارة لا يدعيه لأحد، وفي كل من الأربع فتارة تقوم لكل من المتنازعين بينة وتسقط البينتان بعدم الترجيح، وتارة لا تقوم لواحد منهما بينة فهذه ثمان صور، ففي صور البينة: إن ادعاه لنفسه وسقطت البينتان حلف وبقي بيده كما في المتن وهو قول المدونة، وقيل ينزع منه ويقسم بين المتنازعين، وإن أقر به لأحدهما فهو للمقر له بيمينه كما في المتن وهو مذهب المدونة أيضا، وقيل إقراره لغو ويقتسمانه. قاله ابن عرفة. وإن أقر به لغيرهما أو سكت لم يلتفت إليه وقسم بينهما، ويدخلان في قول المص:"وقسم على الدعوى" وفي صور عدم البينة إن ادعاه لنفسه حلف وبقي بيده، وإن أقر به لأحدهما أو لغيرهما أخذه المقر له بلا يمين لقوة الإقرار هنا، وضعفه مع البينة فلذا حلف معها ولم يحلف هنا، وإن سكت أو قال لا أدري قسم على الدعوى. انتهى.
(1)
كذا في الأصل.
وعلم مما مر ثلاثة أقسام: إن أمكن جمع بين البينتين جمع، فإن لم يمكن الجمع رجح، فإن تعذر الترجيح سقطتا. والله تعالى أعلم.
وقسم على الدعوى إن لم يكن بيد أحدهما يعني أنه إذا أقام كل البينة وتعذر الترجيح ولم يكن الشيء المتنازع فيه بيد أحدهما؛ بأن كان بأيديهما معا أو ليس بيد أحد، كَعَفْوٍ من الأرض أو بيد أجنبي غيرهما ولم يدعه لنفسه ولم يقر به لأحدهما، فإن الشيء المتنازع فيه يقسم على الدعوى أي على قدر الدعوى، وإذا قسم على قدر الدعوى، فقال الأكثرون: يكون ذلك كمسألة العول في الفرائض التي زاد سهامها على أصلها. قال عبد الباقي: وقسم الشيء المتنازع فيه بعد أيمانهما على قدر الدعوى، لا نصفين كما يقول أشهب. وقوله الآتي:"كالعول" أي لا على التسليم؛ أي من سلم له شيء من المتنازعين أخذه، والمُنَازَعَةِ كما يقول ابن القاسم كذا للوالد، وفيه رد لقول أحمد: انظر ما فائدة قوله على الدعوى؛ أي مع قوله: "كالعول". اهـ باختصار. إن لم يكن بيد أحدهما بل كان بأيديهما معا أو بيد غيرهما ولم يقر به لأحدهما ولم يدعه لنفسه، ولا مرجح لبينة أحدهما وذلك بعد أيمانهما، وكذا لو لم يكن بيد أحد كتنازعهما في عفو من الأرض أو في زرع في أرض شخص لا يدعية، فكلامه يشمل هذه الصور الثلاث، كالعول في فريضة زادت سهامها على أصلها، كما لو ادعى أحدهما الكل وادعى الآخر النصف، فيقسم على الثلث والثلثين.
وكيفية العمل أن يزاد على الكل النصف ونسبة النصف للكل حين الزيادة ثلث، فالمسألة من ثلاثة: يعطى لمدعي الكل اثنان ولمدعي النصف واحد، وإذا ادعى أحدهما الكل وآخر النصف وآخر الثلث، فيحصل أقل عدد يشتمل على هذه المخارج وهو ستة، يزاد عليها نصفها وثلثها فيعطى لمدعي الكل ستة ولمدعي النصف ثلاثة ولمدعي الثلث اثنان، وكأن ادعى كلٌّ كسرا وكانت الكسور تزيد على الكامل، كادعاء واحد النصف وآخر الثلثين فلصاحب النصف ثلاثة أسباع المتنازع فيه، وللآخر أربعة أسباعه، وكأن ادعى أحدهما الكل والآخر الثلث فلمدعي الكل ثلاثة أرباع المتنازع فيه ولمدعي الثلث ربعه، وكدعوى آحدهما الكل والآخر الثلثين، فإنه يعال لمدعي
الثلثين بمثل ثلثي ثلاثة وذلك اثنان، فيقسم المدعى فيه ضلى خمسة لمدعي الكل ثلاثة ولمدعي الثلثين اثنان، وعلى هذا فقس. اهـ كلام عبد الباقي.
وفي نسخة: وإن لم يكن - والواو للحال - قول عبد الباقي بعد أيمانهما لم يذكر من المبدأ منهما باليمين وفيه خلاف. ابن عرفة: الأظهر تبدئة آخرهما دعوى على صاحبه لأنه الأول من المدعى عليه منهما. اهـ. ثم القسم إنما يكون بعد الاستيناء كثيرا إن كان مثل الدور والأرضين، وفليلا إن كان مثل الحيوان والعروض والطعام والرقيق لعل أحدهما أن يأتي بأثبت مما جاء به صاحبه، فيقضى له به. وقوله: لا نصفين كما يقول أشهب، وكذا قوله: لا على التسليم والمنازعة، ظاهره أن هذا الخلاف في القسم مطلقا وليس كذلك، بل محله فيما إذا كان بأيديهما، وأما قسم ما ليس بأيديهما فعلى قدر الدعوى اتفاقا، وإن كان في أيديهما فقيل على الدعوى وقيل نصفين. التوضيح. قال مالك وابن القاسم وعبد الملك وغيرهم: يقسم على قدر الدعاوي وهو المشهور، وقال أشهب وسحنون: يقسم بينهما نصفين لتساويهما فيه في الحيازة. اهـ. ابن الحاجب: وإذا قسم على الدعاوي، فقال الأكثرون: يعول كالفرائض، وقاك ابن القاسم وابن الماجشون: يختص مدعي الأكثر بالزائد. انتهى. وفسر ابن هارون قول ابن الحاجب في القسم الأول على قدر الدعاوي اتفاقا، بقوله: فعليه إن ادعى أحدهما جميع الثوب والآخر نصفه قسم بينهما أثلاثا. اهـ.
فقصره على قسمه كالعول، وتعقب ابن عرفة الاتفاق المذكور بنقل ابن حارث عن عبد الملك وسحنون في ذلك أن لمدعي الكلِّ النصفَ بإجماعهما عليه، والنصف الثاني الذي تداعيا فيه بينهما نصفين. قال: وكذا نقله في النوادر عن أشهب في كتاب ابن سحنون وهو خلاف قول ابن الحاجب اتفاقا. اهـ. وسلمه المواق وابن غازي وهو غير ظاهر، وذلك أن قول ابن الحاجب على قدر الدعاوي صادق بقسمه كالعول وبقسمه على الدعوى والتسليم، وإنما قصد بالاتفاق نفي القول بقسمه نصفين فقط، بدليل قوله: وإذا قسم على الدعاوي، فإنه راجع لمحل الاتفاق والخلاف معا، وإنما بنى ابن عرفة اعتراضه على تفسير ابن هارون وهو غير قاصر عليه. والله أعلم. ثم إن كلام المص شامل لما إذا كان النزاع بين أكثر من اثنين فيقسم بينهم على الدعوى كالعول، قال
ابن يونس: وهذا أعدل الأقوال وأبينها، وإليه كان يذهب جماعة شيوخنا. انظر المواق. قاله البناني.
ولم يأخذه بأنه كان بيده يعني أنه إذا أقام شخص بينة على أن هذا الشيء كان بيده فإنه لا ينزع بذلك من يد حائزه، قال عبد الباقي: ولم يأخذه أي لم يأخذ الشيء ممن هو حائز له شخص أقام بينة بأنه كان بيده قبل ذلك لم تشهد له بملكه، بل يبقى بيد حائزه، ويحتمل أن يكون المعنى أن كلا من المتنازعين إذا أقام بينة أنه ملكه وزاد بينة من لم يكن بيده أنه كان بيده، فإنها لا ترجح بذلك وكل منهما صحيح. قاله أحمد. اهـ. وقال الشبراخيتي: ولم يأخذه من شهد له أنه أي بسبب شهادة البينة أنه كان بيده أمس، ولم تشهد بينة بملكه فلا ينزع من يد حائزه بهذه الشهادة. اهـ.
وقال الخرشي: ولم يأخذه بأنه كان بيده أي بسبب شهادة بينة أنه كان بيده من غير شهادة بالملك، فلا ينزع من يد حائزه بهذه الشهادة؛ لأن كونه في يده لا يدل على أنه مالكه، ولا أنه مستحق له بوضع يده عليه ما لم تزد البينة أنه انتزعه منه أو غصبه أو غلبه عليه، فالشهادة على هذا جائزة ويجعل المدعي صاحب اليد. اهـ. وقال ابن مرزوق: يعني إذا ادعى كل واحد من الخصمين في شيء أنه ملكه وليس هو حين التداعي في يد واحد منهما، أوكان في أيديهما جميعا وشهدت بينة لأحدهما أن هذا الشيء كان بيده قبل هذا لم يأخذه المشهود له بهذه الشهادة؛ إذ ليس فيها إلا أنه كان بيده، وكونه بيده لا يقتضي ملكه إياه ولا يأخذه حتى تقول الذي كان بيده ملكا، وتقرير كلامه: ولم يأخذ أحد الخصمين الشيء المتنازع فيه إن لم يكن في يده في الحال، بشهادة أنه كان في يده قبل ذلك، وإنما قلنا إنه يريد إن لم يكن في يده في الحال لما قدم من أنه مع تعارض البينتين وتساقطهما يبقى الشيء بيد حائزه فأحرى مع مجرد الدعوى، لكن لا بد من اليمين في هذه الفصول. اهـ. وقال البناني: ولم يأخذه إن شهد أنه كان بيده كذا لابن شاس وابن الحاجب، قال ابن عبد السلام: لأن كونه في يده لا يدل على أنه مالكه ولا أنه مستحق لوضع يده عليه، قال ابن شأس: ولو شهدوا أنه انتزعه منه أو غصبه أو غلبه عليه فالشهادة على هذه جائزة، ويجعل المدعي صاحب اليد ففرق بينهما، وكذا فعل ابن
الحاجب، قال ابن غازي: وأغفل المص هنا هذه الثانية، وذكر ابن عرفة أنه لا يعرفهما معا نصا لمن قبل ابن شاس من أهل المذهب، مع أن هذه الثانية في النوادر. والكمال لله سبحانه. اهـ.
قلت: وكذا المسألة الأولى وهي مسألة المص منصوصة لأشهب وابن القاسم. والكمال لله. قال العوفي: قال التونسي: رأيت لأشهب: لو كان عبد بيد رجل فادعاه آخر وأقام بينة أنه كان أمس بيده، فلا يكون أحق به حتى تقوم له بينة بأنه ملكه، قال التونسي: وفي هذا نظرٌ لأن كونه في يده أمس سابق للذي هو في يده اليوم، فيجب رده إلى يده حتى يُثبت هذا أنه كان في يده قبله؛ لأن الأصل أن كُلَّ من سبقت يده على شيء لا يخرج من يده إلا بيقين. ابن محرز: قول أشهب صحيح، قال العوفي: قلت: وكلام التونسي ومذهب ابن القاسم أصوب من كلام أشهب. اهـ. نقله الطخيخي، وأبو علي. وقول ابن غازي: أغفل المص هنا يعني في هذا الباب، وإلا فقد قدم في باب الغصب ما يفهم منه ذلك، حيث قال:"كشاهد بملك لثان بغصبك وجعلت ذا يد لا مالكا"، والمسألة في المدونة كما نقله المواق هنالك. فانظره. اهـ. وقال المواق: قال ابن الحاجب: لو شهد أنه كان بيد المدعي لم يأخذه بذلك، ولو شهد أنه غلبه عليه جعل صاحب يد. اهـ.
تنبيه: قال الحطاب: من أقام بينة على شيء فقضي له به، ثم أقام المدعَى عليه بينة بخلاف ما شهدت به البينة الأولى، فإنه من تعارض البينتين وينظر في أعدلهما، وكذلك إذا أقام شخص بينة على شيء فقضي له به، ثم أتى آخر أقام بينة مثل بينة الأول فإنه ينظر فيهما. اهـ.
قال مقيده عفا الله عنه: حاصل هذا أن الحكم بشيء ببينة لا يفيت النظر فيه لمقيم بينة أخرى أنه له، سواء كان مقيم البينة بعد الحكم المدعى عليه أو غيره. والله تبارك وتعالى أعلم.
قال عبد الباقي: ثم أشار إلى أربع صور في أب معلوم النصرانية أو مجهولها وله ولدان مسلم ونصراني ادعى كل أن أباه مات على دينه دعوى مجردة أو ببينة، فأشار للمجردة في معلوم النصرانية بقوله: وإن ادعى أخ أسلم أن أباه أسلم فالقول للنصراني يعني أنه إذا مات نصراني وترك ولدين مسلما ونصرانيا، وادعى المسلم من الأخوين أن أباهما مات مسلما وطلب أن يرثه دون أخيه، وزعم أخوه النصراني أن أباهما مات نصرانيا على حاله ولا بينة لواحد منهما،
فالقول قول النصراني لأن دعواه موافقة للأصل في بقاء الشيء على ما هو عليه، وعلم من قوله:"أسلم" أنهما متفقان على أن أصله النصرانية، وعبر بأخ نظرا للمنازع الآخر. وقوله:"فالقول للنصراني" وكذا القول لليهودي أو المجوسي في معلوم المجوسية أو اليهودية، فلو قال: للكافر، لكان أشمل، وإنما لم يعبر بالكافر تبعا لغيره. والله تعالى أعلم.
وقدمت بينة المسلم يعني أنه إذا أقام الأخ الذي أسلم بينة على أن أباهما أسلم ولم يقم الأخ النصراني بينة إلا على أصل نصرانيته، فإنه تقم بينة الأخ المسلم فيختص بالمال لأنها ناقلة والأخرى مستصحبة. وقوله:"وقدمت بينة المسلم" أي ولو كانت بينة النصراني أعدل، قال الخرشي: وشمل قوله: "وقدمت بينة المسلم" ما لو شهدت بينة النصراني بأنه نطق بالنصرانية ومات عليها، وشهد بينة المسلم بأنه نطق بالإسلام وإن لم تقل ومات عليه، وفيه نظر؛ إذ هذا من التعارض فيصار إلى الترجيح. فإن تعذر قسم المال.
إلا بأنه تنصر إن جهل أصله يعني أنه إذا شهدت لكل من الأخ المسلم والأخ النصراني بينة بما ادعى من موت الأب على الإسلام والنصرانية، والحال أن الأب مجهول الأصل أي لم يعلم هل هو مسلم أصالة أو كافر فإنه يصار إلى الترجيح، فَإذا لم يوجد مرجح فإنه يُقسم المال بينهما نصفين كمال تنازعه اثنان إذ لا ترجيح لإحدى البينتين على الأخرى، وَهُو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة، وقال غيره فيها: إذا تكافأت البينتان قضي بالمال للمسلم بعد أن يحلف، ابن يونس: قال بعض أصحابنا: وقول ابن القاسم أصوب، لأن معناه أن الرجل جهل أصله، وإذا جهل فليس ثم زيادة ولا أمر يرد إليه، فوجب قسم المال بينهما. اهـ. وعلم مما قررت أن الاستثناء منقطع؛ لأن ما قبله في معلوم النصرانية وهذا في مجهولها.
كمجهول الدين يعني أنه إذا لم يعلم هل الأب مسلم أو كافر ومات وتداعياه، فقال المسلم: هو مسلم، وقال النصراني: بل هو نصراني ولا بينة لواحد منهما، فإنه يقسم المال بينهما لأنه مال تنازعه اثنان: وعلم مما قررت أن صور هذه المسألة أربع؛ لأن الأب إما معلوم النصرانية أو مجهولها، وفي كل قارنت دعوى المسلم منهما بينة أو لا، فإن كان معلوم النصرانية وأقام بينة أو تجردت دعواه فهاتان صورتان، أشار إليهما بقوله: "وإن ادعى أخ أسلم أن أباه أسلم فالقول
للنصراني وقدمت بينة المسلم"، فأشار لما إذا لم يقم المسلم بينة بقوله: "وإن ادعى أخ أسلم أن أباه أسلم فالقول للنصراني"، وأشار لما إذا أقام البينة بقوله: "وقدمت بينة المسلم" وأشار لمسألة مجهول الدين حيث أقام كل البينة بقوله: "إلا بأنه تنصر ومات" إن جهل أصله"، وأشار لما إذا تجردت دعوى كل عن بينة بقوله:"كمجهول الدين" والله تعالى أعلم.
تنبيه: قال عبد الباقي: انظر هل يحلف كل في مجهوله عند تجرد دعواهما كما يحلف فيما سيأتي أم لا؟ اهـ. قال البناني: التنظير قصور، وقد صرح العقباني في شرح فرائض الحوفي بأن القسم بينهما إنما يكون بعد يمينهما في صورتي قيام البينة وعدم قيامها، وربما يشعر به قول المص:"وإن كان معهما طفل فهل يحلفان" لخ. اهـ.
وقسم على الجهات بالسوية يعني أنه إذا كان بنو مجهول الدين ثلاثة - مثلا -: مسلم ويهودي ونصراني، فإنه يقسم ماله على الجهات الثلاث المذكورة، وكذا على أربع إن كان له ولد رابع مجوسي، وزاد قوله:"بالسوية" لإفادة أنه يقسم أثلاثا بين ثلاث جهات أو أرباعا بين أربع جهات أو نصفين بين جهتين، ولو كانت أفراد جهة أكثر من أفراد الجهة الأخرى، فإذا كان المسلم واحدا واليهود عشرة والنصارى كذلك فللمسلم الثلث ولكل فريق غيره ثلث، وكذا يقال في الأخوين والأربع، ثم إذا قسم بالسوية على الجهات فيراعى في كل جهة ما في شريعتهم، فيقسم ما ينوب جهة الإسلام على حكم الإرث عندنا حيث تعددت جهة المسلم ذكرا أو أنثى كذا يظهر، فإن لم يخلف إلا بنتا مسلمة وأختا كافرة أو عكسه فإن ما تأخذه المسلمة تعطى نصفه والنصف الآخر لبيت المال؛ لأن كلا من الأخت والبنت تدعي نصف ماله والنصف الآخر لا يدعيانه. ذكره بعض المالكية من شراح الرحبية. ويلغز بها، فإذا
(1)
كانت البنت هي المسلمة فيقال: ميت عن بنت أخذت ربع المال وبيت المال ربعه ونصفه لأخته، وسواء في هذا كله كان المال بيدهم أو بيد أحدهم، أو لايد لأحد عليه لأنه مال علم أصله لمجهول الدين، فلا أثر للحوز فيه.
(1)
- كذا في الأصل والذي في عبد الباقي ج 7 ص 214 ويلغز بها إذا كانت.
وإن كان معهما طفل يعني أنه إذا مات مجهول الدين وله ولدان مسلم وكافر، وادعى كل منهما أن أباه مات على دينه وكان معهما طفل ولد للميت ذكرا كان الطفل أو أنثى ولم يحكم بإسلامه لجهل دين أبيه، فإنه اختلف في ذلك على قولين، هل يحلفان؟ أي يحلف كل أن أباه مات على دينه وينبغي التبدئة بالقرعة، ويوقف للصغير الثلث لأنه ربما ادعى جهة ثالثة فمن أي فالأخ الكبير الذي وافقه الطفل أي ادعى دعواه أخذ الطفل حصته أي القدر الذي ينوب الأخ الكبير من الثلث لو قسم بين الأخوين الكبيرين، ورد الطفل على الآخر الذي لم يوافقه النصف الآخر من الثلث: فمن واقعة على أحد الولدين، وضمير وافقه البارز عائد على من، والمستتر عائد على الطفل: وضمير أخذ عائد على الطفل أيضا، والضمير في حصته عائد على من أيضا، والتقدير: فأي ولد وافقه ذلك الطفل أخذ ذلك الطفل حصة ذلك الولد من الثلث الموقوف وهي النصف في هذا المثال، ويدفع النصف الآخر للولد الذي لم يوافقه الطفل، فإذا كان المال اثنيْ عشر دينارا دفع لكل من البالغين أربعة، ووقف للصغير على هذا القول أربعة، فإذا بلغ ووافق أحدهما أخذ دينارين، ورد للذي لم يوافقه دينارين، ولا يشارك الصبي من وافقه في شيء من الأربعة التي أخذها أولا، فالطفل ينوبه سدس التركة وينوب الذي وافقه الطفل ثلثها، وينوب الذي لم يوافقه الطفل نصفها، وإنما لم يشارك الطفل من وافقه مع أنه مساو له في الدرجة؛ لأنه حين الموت قد استحق كل من أصحاب الجهتين الثلث ولا ينقص عنه، وإنما وقف للصغير لأنه ربما ادعى جهة ثالثة كما مر، ولم يعطه لأنه لما وافق المسلم مثلا كانا جهة واحدة، فتستحق الجهة الأخرى النصف، ولو ادعى الطفل جهة ثالثة لدفع له جميع الثلث. قال عبد الباقي: ومفهوم المص أنه إن لم يوافق واحدا منهما بأن تدين لجهة ثالثة أخذ الموقوف كله. اهـ.
وعلى هذا القول إن مات الصغير قبل بلوغه حلفا أي حلف كل من الولدين البالغين على طبق دعواه، وإذا حلفا قسم نصيب الطفل بينهما فاليمين السابقة لاستحقاق كل حظه من أبيه، والثانية لاستحقاق كل حظه من نصيب الطفل، وإن مات أحدهما قبل بلوغ الطفل وله ورثة يعرفون فهم أحق بميراثه، وإن لم يكن له ورثة وقف فإذا كبر الصغير وادعاه كان له. قاله عبد الباقي.
أو للصغير النصف يعني أنه قيل إن الحكم في ذلك ليس كما ذكر، والحكم أنه يكون للصغير النصف من موروث أبيه لأن كلا منهما مقر بأنه أخوه، ويُجْبَرُ الآن على الإسلام ترجيحا له لأنه يعلو ولا يعلى عليه، وقوله: قولان مبتدأ حذف خبره أي في ذلك قولان، الأول في كتاب ابن سحنون. والقول الثاني حكاه في النوادر عن أصبغ، قال المواق: قال ابن يونس: اختلف إن كان معهما ولد صغير، فقال أصبغ: يأخذ النصف لأن كل واحد مقر أن له النصف فيعطيه نصف ما بيده، فيصير له وحده النصف. وفي كتاب ابن سحنون: يحلفان ويوقف ثلث ما بيد كل واحد منهما حتى يكبر الصغير فيدعي مثل دعوى أحدهما، فيأخذ ما وقف له من سهمه، فإن مات قبل أن يبلغ حلفا واقتسما ميراثه.
ثم تكلم المص على مسألة ترف بمسألة الظفر فقال: وإن قدر على شيئه فله أخذه يعني أنه إذا كان لشخص قِبَلَ آخر حق وقدر على أخذه فإنه يجوز له أن يأخذ حقه أو ما يساوي قدره من مال ذلك الغير، فعلم من هذا أنه يجوز له الأخذ سواء كان المأخوذ من جنس الحق أم لا، وسواء علم غريمه أو لم يعلم ولا يلزمه الرفع للحاكم، وجواز الأخذ مشروط بشرطين أشار إلى أحدهما بقوله: إن يكن غير عقوبة يعني أنه إنما يجوز له الأخذ حيث كان الحق غير عقوبة، وأما إن كان عقوبة كأدب وحد وقصاص فلا يجوز له ذلك لأنه لابد فيها من الرفع للحاكم.
وأشار إلى الشرط الثاني بقوله: وأمن فتنة ورذيلة يعني أنه يشترط في جواز أخذه شيئه أيضا أن يكون ذلك الشيء يأمن مع أخذه من فتنة تحصل له بسبب أخذه، كقتال أو إراقة دم أو نحو ذلك، ومن رذيلة تنسب إليه كسرقة أو غصب أو حرابة أو نحو ذلك، وإلا لم يجز الأخذ. قال عبد الباقي: وإن قدرمن له حق على غيره على أخذ شيئه بعينه فله أخذه ولا يلزمه الرفع للحاكم، وكذا غير عين شيئه ولو من غير جنسه على ظاهر المذهب. قاله ابن عرفة. ويدل له قول المص:"إن يكن غير عقوبة"، فيراد بشيئه حقه الشامل لغير شيئه وعوضه، فاحتاج إلى إخراج العقوبة منه. وشمل قوله:"شيئه" دينه على ممتنع من أدائه فله أخذ قدره، ولو كان من
غير جنسه، وإن كان غريمه مدينا أخذ قدر حصته في الحصاص فقط، وشمل كلامه أيضا الوديعة على المعتمد. وما قدمه في مثلها من قوله:"وليس له الأخذ منها لمن ظلمه بمثلها" ضعيف.
والأخذ بشرطين أحدهما، قوله:"إن يكن غير عقوبة" لأن العقوبة لا بد فيها من الرفع للحاكم وكذا حق الله والحدود، والآخر: قوله: "وأمن فتنة" تحصل له كقتال أو إراقة دم أو نحو ذلك، وأمن رذيلة تنسب إليه كسرقة أو غصب أو حرابة أو نحو ذلك، وإلا لم يجز الأخذ. انتهى. وقال الشبراخيتي: وإن قدر من له حق على غيره على أخذ شيئه فله أخذه علم غريمه أو لم يعلم، وكذلك غير شيئه كان من جنسه أم لا على ظاهر المذهب، فالمراد قدر على عين شيئه أو مثله أو قيمته إن فات، ويدل له قوله:"إن يكن غير عقوبة" لأن العقوبة لا يمكن أخذها وإنما يمكن أخذ مثلها، وظاهره أنه يأخذه ولو كان وديعة، وهو المعتمد خلافا لما قدمه المص في باب الوديعة إلى آخر ما مر. والله تعالى أعلم.
وإذا كان شخصان لكل منهما حق على الآخر وجحد أحدهما حق صاحبه فلصاحبه أن يجحد بقدر ما جحده الآخر على المعتمد، وقد مر أن له الأخذ ولو من غير الجنس، ويأخذ من المقوم بقدر قيمته المثلي ومن المثلي بقدر قيمة المقوم يوم التعدي. انظر الخرشي. وقال المواق: ولابن عرفة هنا يعني في باب الوديعة: فمن ظفر بمال لمن جحده مثله فيه اضطراب، وقال في فصل الدعوى، فيه أربعة أقوال، المنع والكراهة والإباحة والاستحباب، وقد قال خليل بعد هذا:"وإن قدر على شيئه فله أخذه" إن يكن غير عقوبة وأمن فتنة ورذيلة، وقال المازري: من غصب منه شيء وقدر على استرداده مع الأمن من تحريك فتنة أو سوء عاقبة بأن يعد سارقا أو نحو ذلك جاز له أخذه، ولم يلزمه الرفع إلى الحاكم، وأما العقوبة فلا بد من الحاكم. ومن قدر على غير شيئه. فثالثها: إن كان من جنسه جاز.
ابن عرفة: هذه طريقة ابن شأس، وقال المازري: ظاهر المذهب أن لا فرق بين جنس ماله وغيره، وقال ابن رشد: من أودع رجلا وديعة فجحده إياها ثم استودعه وديعة وائتمنه على شيء، ففي المدونة: لا يجحده، وروى ابن وهب له أخذه إن لم يكن عليه دين، فإن كان فبقدر حصاصه منه. المازري: هذا هو المشهور، وقال ابن عبد الحكم: له أن يأخذ وإن كان عليه دين، وقال
اللخمي: إن كان عليه غرماء عالمين بفلسه أو شاكين وتركوه يبيع ويشتري جاز له حبس جميعها. وإن كان ظاهره عندهم اليسر، ولو علموا ضربوا على يديه جاز له أخذ ما لا شك أنه يصير له في المحاصة، وإن كانت الوديعة عرضا جاز أن يبيعها ويحبس الثمن بماله عليه. المازري: ولا يأخذ العرض يتملكه عوض حقه لأن ذلك إلزام للمانع المستحق عليه أن يعوض عنه بغيره اختياره، وسامح بعضهم في هذا للضرورة. قال: وإذا قلنا إن المشهور لا يتملكه، فهل له أن يبيعه بنفسه لأنه إن رفعه إلى القاضي كلفه إثبات دينه؟ اختار بعض أشياخي هذا: ويبيع ذلك بنفسه لهذه الضرورة التي نبهنا عليها، والصواب أن له أن يجحد ما أودعه مكان حقه عليه، لقوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} . الآية. ولحديث هند: (خذي ما يكفيك). انتهى المراد منه.
تنبيه: قد مر قول المص: "إن يكن غير عقوبة وأمن فتنة ورذيلة"، وقال عياض عند قوله:(اهجهم أو هاجهم وجبريل معك)
(1)
، فيه جواز الانتصار من العرض وغيره بما يقدر عليه من الكفار وغيرهم، وقد قال تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ، وقال تعالى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} . اهـ. وقد مر أن للغريم أن يأخذ ما ينوبه في الحصاص، قال المواق: قال ابن يونس: وإنما جاز له أخذ قدر ما ينوبه، وإن كان للغرماء الدخول معه فيه للضرورة التي تلحقه لو أظهر ذلك، فمتى لم يضر بالغرماء بأخذ ما ينوبه جاز له ذلك. قال بعض فقهائنا: فإن حلف ما ضره ذلك كالمكره على اليمين في أخذ ماله فيحلف ولا يضره ذلك. قال مالك: إنما يجوز له أن يجحده إذا أمن أن يحلفه كاذبا، يريد أن المودع يقول له: احلف لي أني ما أودعتك وقيل: يحلف ما أودعتني شيئا، ينوي: يلزمني رده، وقيل ينوي مثله أو يحرك به لسانه وكل ذلك واسع، والصواب له أن يجحد ما أودعه مكان حقه عليه، لقوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الآية، ولحديث هند:(خذي من ماله)، وقيل: معنى (ولا تخن من خانك
(2)
أن تأخذ فوق حقك. وحاصل كلام اللخمي والمازري وابن رشد وابن يونس ترجيح جواز
(1)
البخاري، كتاب بدء الخلق، رقم الحديث 3213، ومسلم، فضائل الصحابة، رقم الحديث 2486.
(2)
الترمذي، كتاب البيوع، رقم الحديث 1264. أبو داود، كتاب البيوع، رقم الحديث 3535.
الأخذ وقد نصوا في الوصي إذا علم بالدين دون غيره أنه إن خفي له دفعه دون معقب فعل وإلا كان شاهدا.
ومن ابن يونس قال مالك في ميت أوصى لصغير بدينار ولم يشهد على ذلك إلا الوصي: فإن خفي له دفع ذلك حتى لا يتبع به دفع ذلك دون السلطان، وكذلك لو رفعه فلم يقبل شهادته السلطان ثم خفي له دفع ذلك فله ذلك، وقد كنت أفتيت في زمن القائد أبي القاسم بن السراج رحمه الله أن يأخذ المجاهد من الغنيمة قدر حقه لقلة الاهتبال بجمع الغنائم وقسمها، وما كان أحد وافقني على ذلك حتى وجدت النص بما أفتيت في نوازل البرزلي، وكان من جملة مستندي مع ما تقدم ما نقله عياض أن هارون الرشيد أجاز مالكا بثلاثة آلاف، فقيل لمالك: يا أبا عبد الله ثلاثة آلاف تأخذها من هذا؟ كأنه يستكثرها، فقال: إذا كان مقدار ما لو كان إمام عدل فأنصف أهل المروءة أصابه شبيه لذلك لم أر به بأسا.
وسأله غير واحد عن جائزة السلطان، فقال: لا تأخذها، فقال له: فأنت تقبلها، فقال له مالك: تريد أن أبوء بإثمي وإثمك. اهـ. وانظر قول مالك هذا إنما هو لأن التصريح بالفقه لمثل هذا السائل موحش. كما قال ابن القاسم حين منع من قبالة مصر، فقيل: أشهب يقبلها، فقال للرجل: قم أنت ببعض ما يقوم به أشهب وحينئذ خذ ما يأخذ أشهب، أو كما قاله. وكما حكي عن زيادة الله عامل إفريقية أنه أجاز العلماء، فمنهم من قبل الجائزة ومنهم من ردها فَاسْتَنْقَصَ زيادة الله كل من قبل، فبلغ ذلك أسد بن الفرات - وكان ممن قبل - فقال: لا عليه إنما أوصلنا إلى بعض حقنا والله حسيبه فيما يمسكه عنا، وقد نصوا أنه إن لم يكن بيت مال أن يجمع الناس مالا ليرتبوا به الجند وحملة العلم؛ أعني فرض الكفاية الذي سئل مالك عنه، أهو فرض؟ فقال: أما على كل الناس فلا. قالوا: والذي يتعين عليه هذا العلم هو: من جاد حفظه وحسن إدراكه وطابت سجيته وسريرته، فمثل هذا هو الذي يجوز له أخذ الجائزة، ومن لم يكن فيه هذه الأوصاف فلا يجوز له الأخذ، وربما كان طلبه للعلم من باب العبث بالنسبة للمصلحة المجتلبة، ومن طلب ما لا يطيق في حقه وكلاهما باطل شرعا، فكيف يحل له أن يأخذ على ذلك مرتبا أو أجرا؟ اهـ كلام المواق.
تنبيه: قد مر قول المص: "إن يكن غير عقوبة" إنما جاز له أخذ المال لما جاء في ذلك من السنة، وأما العقوبة من دون الحاكم فإن ذلك مثير للفتنة غالبا، ولأن الحقد اللاحق عن موجب العقوبة أكثر من اللاحق عن أخذ المال، فيخاف على المعاقب من دون الحاكم أن يتجاوز في القصاص، فيحتاج إلى أن يقتص منه ثانية وهو خلاف ما شرع القصاص من أجله، ومنع أن يمكن المجني عليه من استيفاء حقه بنفسه في الأطراف، وأسلم الجاني في النفس إلى ولي المقتول؛ لأن الأول لا كان يقتص لنفسه خيف منه المجاوزة في العقوبة قصدا للتشفي لما به من الحقد على الجاني، بخلاف الولي فإن الأمر لا يبلغ به ذلك المبلغ، ومع ذلك ينهى على العبث. انتهى. انظر ابن مرزوق.
وإن قال أبرأني موكلك الغائب أنظر يعني أن الوكيل إذا أتى من للموكل حق عليه يستقضي دين موكله والموكل غائب، فقال من عليه الدين للوكيل: أبرأني مما تُطالبني به موكلك الغائب أو قضيته حقه أنظر؛ أي أخر إلى أن يأتي الموكل ليعلم ما عنده لا بالاجتهاد، وإنما ينظر بكفيل بالمال على الأرجح إن قربت غيبة الموكل لأنه مقر، فإن بعدت قضي عليه بالدفع من غير يمين الوكيل، خلافا لابن كنانة القائل: إنه يحلف الوكيل ما علم الموكل أبرأ أو اقتضى، وهو بعيد لأنه لا يحلف أحد ليستحق غيره، ثم إن قدم الموكل من البعيدة حلف وتم الأخذ، فإن نكل حلف الغريم ويرجع على الوكيل بما دفعه له. قال عبد الباقي: وإن قال من ادعى عليه وكيل شخص بحق لموكله: أبرأني موكلك الغائب أو قضيته حقه انظر إلى أن يعلم ما عنده لا بالاجتهاد، فلا يصح أن يرجع قوله: بالاجتهاد لهذه أيضا، وإنما ينظر بكفيل بمال على الأرجح لأنه مقر به إن قربت غيبة الموكل، فإن بعدت قضي عليه بالدفع من غير يمين الوكيل انه ما يعلم موكله أبرأ أو اقتضى، خلافا لابن كنانة لأنه لا يحلف ليستحق غيره، ثم إن قدم الموكل من البعيدة حلف وتم الأخذ، فإن نكل حلف الغريم ورجع على الوكيل بما دفعه له. اهـ. وقال البناني: وإن قال أبرأني موكلك الغائب أنظر؛ أي إذا قال المدين لوكيل رب الدين الغائب أبرأني موكلك أنظر أي أخر حتى يحلف الغائب أنه ما أبرأه، وظاهره في الغيبة القريبة
والبعيدة، وهذا حكاه اللخمي بلفظ، قيل: والمنصوص لابن القاسم في سماع عيسى أنه يقضى بالحق على المطلوب ولا يؤخر، ولم يفرق بين كون الموكل قريبا أو بعيدا، وفرق ابن عبد الحكم بين قربه وبعده. ابن رشد: وهو عندي تفسير لقول ابن القاسم. ابن رشد: زاد ابن كنانة أنه لا يقضى عليه في بعيد الغيبة حتى يحلف الوكيل على نفي العلم. ابن عبد السلام: وهو بعيد جدا لأنه يحلف لينتفع غيره. اهـ المراد منه. وتحصل من هذا أن الراجح أنه ينظر في القريبة إلى أن يعلم ما عند الموكل الغائب، وأنه في البعيدة يقضى على المدين بالدفع من غير يمين الوكيل، وبه على ما لابن كنانة وفيه ما فيه، وقيل ينظر مطلقا أي في القريبة والبعيدة إلى أن يعلم ما عند الموكل. والله تعالى أعلم.
ومن استمهل لدفع بينة أمهل بالاجتهاد يعني أن من أقيمت عليه بينة بحق لشخص، فطلب المهلة لدفع تلك البينة بأن يثبت أنه دفع الحق أو أنه أبرأه منه أو طلب دفعها لعداوة أو نحو ذلك، فإنه يمهل باجتهاد الحاكم، قال عبد الباقي: ومحل المص إن قربت غيبته كجمعة وإلا قضي عليه وبقي على حجته إذا أحضرها. اهـ.
كحساب وشبهه يعني أن المدعى عليه إذا طلب المهلة لأجل حساب يظهره أو لشيء مكتوب عنده ليكون في جوابه بإقرار أو إنكار في ذلك على بصيرة، فإنه يجاب إلى ذلك ويمهله القاضي باجتهاده. بكفيل بالمال قيد فيما قبل الكاف فقط، يعني إنه إنما يمهل فيما قبل الكاف إذا أعطى كفيلا بالمال، وأما ما بعدها فبكفيل بالوجه على المعتمد. قال عبد الباقي: كحساب وشبهه من شيء مكتوب عنده، طلب المهلة للنظر فيه أو ليتفكر ما يجيب به جزما، فهو غير منكر بل أتى بما يحتمل الإقرار، ولا يعارض هذا ما تقدم في قوله:"ولم يجب وكيل للخصومة ولا كفيل بالوجه بالدعوى إلا بشاهد"، لحمل ما تقدم على المنكر وإمهالهُ لدفع البينة يكون بكفيل أي معه بالمال، فهذا راجع لما قبل الكاف فقط، وأولى لقوله أنظر كما مر، وأما ما بعدها فبكفيل بالوجه على المعتمد، إلا أن يحمل على ما إذا وقع طلب حساب وشبهه بعد شهادة بينة عليه بالحق، ويفوت المص حينئذ ما إذا كان طلبه للحساب وشبهه قبل إقامتها. اهـ.
كإن أراد إقامة ثان تشبيه في الإمهال وفي لزوم كفيل بالمال؛ يعني أن المدعي إذا أقام شاهدا وطلب المهلة لأجل إقامة شاهد ثان فإنه يجاب إلى ذلك، ويلزم المطلوب حميل بالمال لأن له الحلف مع شاهده. قاله غير واحد. أو لإقامة بينة عطف على قوله:"لدفع" يعني أن المدعي إذا استمهل لأجل إقامة بينة، وطلب من المدعى عليه كفيلا بعد دعواه المجردة، فليس على المطلوب أن يأتيه بكفيل بالمال، ولكن عليه أن يأتيه بحميل بالوجه، وقدم في باب الضمان أنه لا يجب وكيل للخصومة ولا كفيل بالوجه بالدعوى، وهذا الذي ذكره هنا من لزوم حميل بالوجه بالدعوى في المدونة، وفيها أيضا نفيه أي نفي حميل الوجه كما هو سياقه، واختلف الشيوخ هل ما في الموضعين من المدونة خلاف أو وفاق؟ وهو أحد وجهين أحدهما المراد بالحميل وكيل يلازمه أي يلازم المطلوب ويحرسه لأنه يطلق على الوكيل حميل، أو المراد بقوله:"فبحميل بالوجه" إن لم تعرف عينه أي عين المدعى عليه بأن لم يكن مشهورا لتشهد البينة على عينه، فإن كان معروفا مشهورا لم يلزمه حميل بوجه؛ لأنا نسمع البينة في غيبته ثم يعذر إليه قيها إلا أن يخشى تغيبه.
تأويلات. مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلات ثلاثة، واحد بالخلاف واثنان بالوفاق، قال البناني: قال ابن الحاجب: ومن استمهل لإقامة بينة أو لدفعها أمهل جمعة ويقضى ويبقى على حجته. وللمدعي طلب كفيل في الوجهين. اهـ. التوضيح: أي طلب أن يمهل لإقامة بينة هذا في حق المدعي أو لدفعها، هذا في حق المدعى عليه أمهل جمعة هو لغير ابن القاسم في المدونة ابن عبد السلام: والمذهب لا تحديد في ذلك، قال غير واحد من أهل المذهب: ضرب الأجل مصروف إلى اجتهاد القضاة والحكام. ابن رشد: العمل على أحد وعشرين يوما، وذكر ابن سهل وغيره في الأصول خمسة عشر يوما ثم ثمانية ثم أربعة ثم ثلاثة تتمة للثلاثين يوما. ذكره ابن العطار. وقوله: وللمدعي طلب كفيل في الوجهين أي في إقامة البينة وفي دفعها، وأجمل في الكفيل إذ لم يبين هل بالوجه أو بالمال، فأما المطلوب إذا أجل لدفع البينة فللطالب أخذ حميل بالمال. المازري: وكذلك لو أقام عليه شاهدا وطلب ذلك المدعي ليأتي بشاهد آخر، وأما إن طلب المدعي
كفيلا حتى يقيم البينة بالحق، فحكى المازري الاتفاق على أنه لا يلزمه حميل بالمال، وأما بالوجه ففي الحمالة من المدونة: لا يلزمه، وفي الشهادات منها: يلزمه، ثم قيل: ما في الموضعين خلاف، وقال أبو عمران: المراد بالكفيل في الشهادات وكيل يلازمه، وقال ابن يونس: لزوم الكفيل إذا لم يكن المدعى عليه معروفا مشهورا ليوقع البينة على عينه. اهـ. باختصار. هذا شرح ما أشار إليه المص في هذا الفصل. والله أعلم.
تنبيهان: الأول: قوله: "فبحميل بالوجه" مقيد بقيدين، أحدهما أن لا يدعي بينة قريبة بكالسوق كما تقدم في الحمالة، والثاني وجود الخلطة أو التهمة كما في المدونة، ففي الشهادات من المدونة: ومن ادعى قِبَلَ رجل دينا أو غصبا أو استهلاكا، فإن عرف بمخالطته في معاملة أو علمت تهمة فيما ادعي قبله من التعدي والغصب نظر فيه الإمام، فإما أحلفه أو أخذ له كفيلا حتى يأتي بالبينة، وإن لم تعلم خلطته أو تهمته فيما ذكر لم يعرض له، وفي الحمالة من المدونة: ومن كان بينه وبين رجل خلطة في معاملة فادعى عليه حقا لم يجب له كفيل بوجه حتى يثبت حقه. اهـ.
الثاني: وقع في شرح عبد الباقي عند قوله: "فبحميل بالوجه" ما نصه: أي إن أقام المدعي شاهدا يحتاج لتزكية وكان مُزَكِّيهِ أو إقامةُ ثان بَعِيدًا عن السوق، وكذا البينة التي يريد إقامتها لا بد من إقامة شاهد على دعواه لخ، قوله: بعيدا خبر كان، وقوله: إن أقام المدعي شاهدا لخ، قال البناني: هذا القيد غير صحيح، وقوله: وكذا البينة التي يريد إقامتها لخ غير صحيح أيضا، والحاصل أنه ليس هنا إلا قيدان، أحدهما أن لا يدعي بينة قريبة إلى آخر ما مر.
ويجيب عن القصاص العبد يعني أن العبد إذا ادعى عليه دعوى يلزمه بمقتضى الإقرار بها حكم في بدنه من قصاص نفس أو طرف وفي معنى ذلك الحدود، فإن جواب هذه الدعوى على العبد أي يلزم العبد أن يجيب من ادعي عليه موجب قصاص منه بإقرار أو إنكار؛ لأن ذلك إنما يكون في بدنه. قاله ابن مرزوق. وقال عبد الباقي: ويجيب - عن دعوى جناية القصاص أو الحد أو الأدب من الأحكام المتعلقة ببدنه - العبد إذا ادعي عليه بذلك؛ لأنه الذي يتوجه عليه الحق ويقع عليه الحكم فيدعى عليه بذلك، فيلزمه الجواب ولا يقبل قول سيده في ذلك لأنه إقرار على
غيره، وكذا مدعى عليه بمال فيجيب عنه، فإن أقر به أخذ بإقراره إن كان مأذونا وإلا وقف الأمر على السيد، فإن عتق قبل العلم لزمه كما في الحطاب، فقوله. في باب الإقرار:"كالعبد في غير المال" مراده غير المأذون فلا يتعلق بما في يده، وأما المأذون فتقدم أنه يؤخذ ما في يده وإن مستولدته، كعطيته لا غلته ورقبته. وسيأتي في باب الكتابة أن المكاتب ليس له إقرار بجناية خطإ ونحو ذلك، وإن أقر العبد بسرقة لزمه القطع بلا غرم وإقرار السيد عليه بها بالعكس، وقيد المص هنا بما إذا لم يتهم، فإن اتهم في جوابه لم يعمل به كإقراره بقتل مماثله واستحياه سيد مماثله ليأخذه فيبطل حق الولي إن لم يكن مثله يجهل ذلك، وإلا فله أن يرجع للقصاص بعد حلفه. اهـ. كلام عبد الباقي.
وقال الحطاب: قال ابن فرحون في التبصرة، ومن أنواع المدعى عليهم العبد، فإذا ادعي عليه بما يوجب القصاص فيلزمه الجواب، وإن ادعي عليه بما يوجب الأرش فيطلب الجواب من السيد، وإن ادعي عليه بما يوجب المال فيطلب الجواب من العبد، فإن أقر وكان مأذونا فهو كالحر، وإن لم يكن مأذونا وقف إقراره على سيده، فيرده [أو يلزمه إياه]
(1)
، فإن عتق قبل أن يعلم ما عند السيد لزمه الدين ولا يحكم القاضي بإلزام الدين ذمته حتى يثبت عنده ما عند السيد فيه من إلزام أو إسقاط وذلك بعد أن يثبت عنده ما للعبد من إذن أو حجر، فإن لم يثبت شيء فهو على الحجر حتى يثبت عنده خلافه. اهـ قول عبد الباقي والحطاب إن العبد يجيب عن المال إذا ادعي عليه. قال الرهوني: المراد في المال الذي تعامل به معه مالكه، مثل أن يدعي عليه بسلف أو بيع أو إجارة أو كراء أو يدعي عليه بوديعة أو عارية أو نحو ذلك، وأما إن ادعي عليه أنه غصب مالا أو تعدى عليه ونحو ذلك، فالذي يجيب عنه هو السيد، ويدخل هذا في قول المص: وعن الأرش السيد لأن هذا من باب الجناية، وقد أحكمت السنة أن العبد فيما جنى، فإذا ثبت عليه شيء من ذلك وجب على السيد أن يفتَكَّه أو يسلمه، بخلاف ما ثبت عليه من بيع وما ذكر
(1)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من الحطاب ج 6 ص 424 ط دار الرضوان.
معه، بل له أن يسقطه عنه فيسقط ولا يؤاخذ به إذا عتقه بعد الإسقاط، فإن عتق قبل الإسقاط لزمه وهذا أمر معلوم مذكور عند المص في مواضع وعند غيره. اهـ.
وعن الأرش السيد يعني أن العبد إذا جنى جناية توجب الأرش أي ما لا قصاص فيه وإنما فيه الأرش، فإن الذي يجيب عن ذلك هو السيد والأرش كالخطإ وقطع الحر ولو عمدا. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: ويجيب عن إقراره في موجب الأرش السيدُ لا العبدُ إلا لقرينة تصدقه، كمشي دابة ركبها على إصبع صغير فقطعته فتعلق به الصغير وهي تدمى، فيقول فعل بي هذا فصدقه العبد فيقبل ويتعلق برقبته. اهـ. وقال الشبراخيتي: ويجيب عن دعوى جناية القصاص أو الحد أو الأدب العبد، لأن جواب الدعوى إنما يعتبر فيما يؤاخذ به المجيب لو أقر به، وإقرار العبد بالأحكام المتعلقة ببدنه يلزمه، فيلزمه الجواب عنها ولا يقبل قول سيده فيها لأنه إقرار على غيره، إلا أن تقوم قرينة على كذبه. اهـ.
وقال ابن مرزوق: وَالْحَاصِلُ أنه إذا ادعى عليه جناية عمد يلزمه فيها القصاص فالمجيب العبد ويلزمه إقراره، وإن ادعي عليه جناية توجب الأرش أي غرم المال فجواب هذه الدعوى على سيد العبد، ولا يلزم العبد أن يقر بها لأنه لا يعطيها من ماله لأنه محجور عليه، قال في الرسالة: وإقرار العبد فيما يلزمه في بدنه من حد أو قطع يلزمه، وما كان في رقبته فلا إقرار له فيه، وقال في آخر كتاب الوديعة: وإن أودعك عبد وديعة وهو مأذون أو غير مأذون، ثم غاب فقام سَيِّدُهُ ليأخذها فله ذلك. اهـ. وقال الخرشي: في اللباب ما حاصله أن العبد يُدعَى عليه في القصاص، والسيد يدعى عليه في الأرش. اهـ.
تنبيهات: الأول: قال مطرف: إذا شهد للمأذون شاهد بحق ونكل لا يحلف سيده ونكوله كإقراره جائز، فإن مات حلف السيد لأنه وارثه. اهـ. قاله الحطاب.
الثاني: قال في الموازية: إن بعت لابنك الصغير حلفت مع الشاهد، فإن رددت اليمين على المشهود عليه حلف وبرئ وغرمته، وكذلك يغرم الوصي إذا ادعى غريم الميت الدفع للوصي فرد الوصي اليمين على الغريم لجنايته برد اليمين. اهـ. قاله الحطاب.
الثالث: قال مالك: إذا استحق من يدك ما اشتراه شريكك الغائب المفاوض وشهد شاهد أن شريكك اشتراه حلفت أنت معه. قاله الحطاب.
الرابع: قال ابن كنانة: إن وكلته وثبتت الوكالة وجحد البائع وشهد شاهد حلفت معه، وإن لم تثبت الوكالة حلف الوكيل. اهـ. قاله الحطاب أيضا. وقال الخرشي: إذا توجهت يمين على ولي المحجور في مال محجوره، فرد اليمين على المطلوب وحلف غرم الولي لرده اليمين، وإذا أنكر الوكيل على قبض ثمن القبض وكان صغيرا أو نحوه حلف الموكل ما يعلم وصوله لوكيله واستحق. قاله مالك. اهـ.
الخامس: قال الرهوني عند قوله: "وعن الأرش السيد" ما نصه: فائدة هذا توجه اليمين عليه؛ يعني على السيد عند الإنكار لا على العبد هذا الذي يدل عليه كلامه، وكاد أن يكون صريحا في كلام التوضيح وفي كلام ابن عرفة. اهـ. وقال التتائي عند قوله:"وعن الأرش السيد": أطلق هنا، وفي توضيحه إلا أن تقوم قرينة توجب قبول إقرار العبد فيها بالمال كما في كتاب الديات في عبد راكب على برذون مشى على إصبع صبي فقطعها فتعلق به وهو يدمى، فيقول: هذا فعل بي فصدقه العبد أن الأرش يتعلق برقبته. البساطي: قد يقال: إن عدم قبول العبد في الأرش إنما هو للاتهام وفي هذه الصورة وشبهها لا تهمة. اهـ. وحيث قبل إقراره في القصاص فعفا عنه مستحقه على أن يأخذ العبد فليس له ذلك؛ لأن العبد يتهم على إرادة الفرار من سيده بإقراره على هذا الوجه. قاله في المدونة. اهـ.
واليمين في كل حق بالله الذي لا إله إلا هو يعني أن اليمين القاطعة للنزاع هي في جميع الحقوق أن يقول من توجهت عليه: بالله الذي لا إله إلا هو، والواو كالباء، قال الفاكهاني: والصحيح من المذهب الإجزاء بقول: والله الذي لا إله إلا هو، وفي المنتقى للباجي: واتفق أصحابنا على أن الذي يجزئ من التغليظ باليمين: والله الذي لا إله إلا هو. انتهى. فإن قال: والذي لا إله إلا هو، أو قال: والله فقط، فإن ذلك لا يجزئه. وقال الخرشي: لا بد أن يأتي بالاسم والوصف ولا يكفي أحدهما، وإن كان كافيا في كونه يمينا تكفر. وقال عبد الباقي: واليمين المتوجهة عند حاكم
أو محكم على مدع أو مدعى عليه بمجرد طلب الخصم اليمين من خصمه بدون من ذكر لا يلزمه الحلف به في كل حق مال إلا اللعان والقسامة؛ إذ يقول في الأول: أشهد بالله كما قدمه، وفي القسامة: أقسم بالله لمن ضربه مات، وكيفيتها في كل حق غير هذين أن يقول: بالله الذي لا إله إلا هو أي بهذا اللفظ، فلا يكفي الاسم دون وصفه المذكور، وإن كانت يمينا تكفر لأن الغرض هنا زيادة التخويف، وهو إنما يحصل بهما والواو كالباء كما في أبي الحسن. أهـ. ويأتي الكلام على تحقيق اليمين في القسامة، وقال الخرشي: وكيفية اليمين القاطعة للنزاع بين الخصوم: بالله الذي لا إله إلا هو، فلا بد أن يأتي بالاسم والوصف، ولا يكفي أحدهما فقط وإن كان كافيا في كونه يمينا، ولا يكفي غير ذلك من أسماء الله وصفاته، وقضية عبارتهم أجمعين أنه لابد من حذف الفعل، فلو صرح به فقال: أحلف أو أقسم بالله الذي لا إله إلا هو فلا يكفي وهو واضح؛ لأن الفعل إذا ذكر احتمل الإخبار فحذفوه دلالة على الإنشاء. قوله: "بالله" ومثل الباء الواو، وأما التاء فلم يرد الحلف بها في الحقوق الشرعية وإن كانت من حروف القسم اللغوي.
تنبيهات: الأول: قال البناني: لا بد في اليمين أن تكون بحضرة الخصم، فلو أحلفه القاضي من غير حضور الخصم فإنه لا يجزئه ذلك. قاله الباجيُ. فعلى هذا ما يكتبه الموثقون من قولهم أحلفه القاضي بحضرة خصمه وتَقَاضِيهِ اليمينَ شرط. قاله أبو الحسن.
الثاني: لو وجبت اليمين لورثة أو غيرهم، فأحلفه القاضي لبعضهم فلا يحلف للآخرين ثانية. قاله أبو الحسن. نقله البناني.
الثالث: قال ابن عرفة: قول ابن الحاجب: ولا يحلف مع البينة إلا أن يدعى عليه طرو ما يبرئه من إبراء أو بيع هو قولها في اللقطة وغيرها: ولا يستحلف طالب الحق مع شاهديه، يريد غير يمين الاستحقاق في غير الربع على المشهور، وقال ابن الحاجب: واليمين في الحقوق كلها: بالله الذي لا إله إلا هو فقط على المشهور، وروى ابن كنانة يزاد في ربع دينار، وفي القسامة واللعان: عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم. اهـ. التوضيح: المعروف من المذهب المنصوص عند جميع المالكية أنه لا يكتفى، بقوله: بالله فقط، وكذلك لو قال: والله الذي لا إله إلا هو ما أجزأه حتى يجمع بينهما. اهـ.
الرابع: قال الخرشي: قد علمت أن اليمين الشرعية في كل حق لا يوجبها إلا الحاكم أو المحكم وإلا فلا يمين على المطلوب؛ أي ليس لخصمه أن يحلفه. اهـ.
الخامس: قال الحطاب عند قول المص: "واليمين في كل حق بالله الذي لا إله إلا هو": قد يتبادر أنه لا بد في اليمين أن يكون حرف القسم فيها الباء؛ لأن غالب من وقفت على كلامه من أهل المذهب يقول: لما تكلم على صفة اليمين، واليمين: بالله الذي لا إله إلا هو، أو يقول: وصفة اليمين أن يقول: بالله الذي لا إله إلا هو، ونحو ذلك، إلا أن الظاهر أنه لا فرق بين الباء وغيرها من حروف القسم، لكني لم أقف على نص في التاء الفوقانية، وأما الواو فغالب من رأيت كلامه من أهل المذهب كاللخمي وابن فرحون وابن عرفة والجزولي والشيخ زروق في شرح الإرشاد وغيرهم يقول بعد كلامه المتقدم: إذا قال والله ولم يزد، أو قال: والذي لا إله إلا هو، قال الشيخ أبو الحسن: قال أشهب: وإن حلف، فقال: والذي لا إله إلا هو لم يقبل منه، وكذا إذا قال: والله فقط: حتى يقول: والله الذي لا إله إلا هو لخ.
ولو كتابيا بعني أن الكتابي كالمسلم في الحلف بالله الذي لا إله إلا هو ولا يكون ذلك إيمانا منه، فلا يزيد اليهودي الذي أنزل التوراة على موسى، ولا النصراني الذي أنزل الإنجيل على عيسى. وقوله ولو كتابيا هذا هو المشهور وعليه تؤولت المدونة.
وأشار إلى مقابل المشهور بقوله: وتؤولت أيضا على أن النصراني يقول: بالله فقط يعني أن المدونة تؤولت أيضا على أن النصراني يقول في حلفه في كل حق: بالله فقط، وأما اليهودي فيقول: بالله الذي لا إله إلا هو، وتؤولت أيضا على أن اليهودي والنصراني كل واحد منهم، إنما يحلف بالله فقط. التوضيح. وظاهر قول مالك أن المجوسي يحلف كما يحلف المسلم: بالله الذي لا إله إلا هو، وقيل: لا يلزمه أن يقول إلا: بالله فقط، وفي بعض النسخ بإسقاط أيضا. والفرق على هذا التأويل الذي في التوضيح أن النصراني لا يَقُولُ بالتوحيد بخلاف اليهودي، واعْتُرِضَ بما ذكر الله عنهما في قوله:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} ، فهما متساويان في عدم القول بالتوحيد. قاله عبد الباقي. قال البناني: أصل هذا الاعتراض للبساطي، وأجاب
الفيشي بأن اليهود إنما قالوا ببنوة عزير دون أُلُوهِيَّتِه، والنصارى قالوا ببنوة عيسى وأُلُوهِيَّتِه، فافترقا. قال: وخفي هذا الفرق على البساطي. اهـ.
وعلم مما مر ثلاثة تأويلات أحدها: أن الكتابي يقول: بالله الذي لا إله إلا هو كالمسلم. ثانيها: أن النصراني يقول بالله فقط، بخلاف اليهودي فيقول كما يقول المسلم. ثالثها. أن اليهودي والنصراني كل منهما يقول: بالله فقط، الأول لابن شبلون، والثاني لغيره، والثالث لابن محرز. وغلظت في ربع دينار بجامع يعني أن اليمين تغلظ أي تثقل في ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو عرض يساوي أحدهما، وتغليظها يكون بالجامع الأعظم الذي فيه الخطبة كما في ابن مرزوق، لا بمسجد ولو مسجد جماعة. قال الشبراخيتي: الباء معدية لا ظرفية والجامع آلة التغليظ، وذلك لأنها لو كانت ظرفية لكان المعنى أن التغليظ يكون في الجامع، ولا يدرى ما الذي يغلظ به. اهـ. وفيما قاله نظر، فإن باء الآلة ليست للتعدية وإنما التي للتعدية هي العاقبة للهمزة، نحو: ذهبت بزيد أي أذهبته ولا يصح في كلامه هنا إرادة التعدية العامة لأنها لا فرق فيها بين التي للظرفية والتي للآلة وغيرهما. والله تعالى أعلم. وغلظت يمين الحالف أي ثقلت من الغلظ الذي هو مقابل الرقة في ربع دينار فصاعدا لا دونه بم إذ هو أقل مال له بال. انتهى. وقد علمت أن مثل ربع الدينار ثلاثة دراهم وعرض يساوي أحدهما، قال عبد الباقي: وغلظت وجوبا لحق الطالب فمن امتنع منه عد ناكلا لا لحق الله في ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو عرض يساوي أحدهما لشخص واحد ولو على اثنين متضامنين. انتهى. أي لأن كلا منهما كفيل عن الآخر يلزمه أداء الجميع، وعبارة القرافي كما إذا ادعى أحد المتفاوضين على شخص بثلاثة دراهم، فليس عليه أن يحلف بالجامع لأن كل واحد إنما يجب له درحم ونصف، ولو ادعى عليهما بثلاثة دراهم حلفهما في الجامع لأن كل واحد عليه درهم ونصف وهو كفيل بالباقي، فالثلاثة على كل واحد منهما، وأما ما هو أقل من ربع دينار من المذهب أو أقل من ثلاثة دراهم من الفضة أو عرض لا يساوي أحد الأمرين فلا تغلظ فيه اليمين ولو وجب دفعه وكان تافها وادعى به فتتوجه فيه اليمين، بدون تغليظ. قاله عبد الباقي.
وقال: والتغليظ يكون بجامع أي الحلف فيه نفسه تغليظ، فالباء للآلة لا للظرفية إذ ليس المراد تغليظ زيادة على ما تقدم في الجامع، فإن امتنع من الحلف فيه كان كالنكول. اهـ. يعني أن كونها للظرفية يقتضي أن المراد اليمين إذا وقعت في الجامع تغلظ بصفات أخر زائدة على الوصف، بالله الذي لا إله إلا هو وليس كذلك، بل اليمين واحدة في الجامع وغيره، لكن في ربع دينار تغلظ بوقوعها في الجامع. قاله البناني.
فروع: الأول: سئل أبو الحسن عن قوم لا جامع لهم؟ فأجاب: يحلفون حيث هم، ولا يجلبون إلى الجامع. اهـ. وقال التازغدري: يجلبون إلى الجامع بمقدار مسافة الجمعة، وقيل بنحو عشرة أميال وإلا حلفوا بموضعهم. نقله في المعيار. قاله البناني.
الثاني: إذا زعم من وجب حلفه عجزه عن الخروج لمرض، ففي نوازل الشعبي أربعة أقوال، قال ابن بقي: إن ثبت ذلك ببينة حلف ببيته وإلا أخرج، وقال ابن حارث: وإلا حلف لا يقدر على الخروج أو رد اليمين، وقال ابن لبابة: إن ثبت مرضه حلف ببيته في المصحف وإلا حلف على عجزه وخير المدعي في الأمرين، وقال ابن زرب: يختبره القاضي ببَعثِهِ له شاهدين، وأنكر هذا القول محمد بن ميسور. اهـ نقله ابن عرفة. قاله البناني.
الثالث: قال الرهوني: قال في المدونة: وكل شيء له بال فإنه يحلف فيه في جامع بلده في أعظم مواضعه. ابن ناجي: يعني ربع دينار أو ثلاثة دراهم شرعية وما ذكره في حلفه في الجامع الأعظم، قال المازري: هو المعروف، وفي المذهب ما يشير إلى مساواة مساجد الجماعات والقبائل للجامع الأعظم، وأصله لشيخه ابن عرفة.
الرابع: قال الرهوني: ظاهر كلام المدونة وغيرها كالمص أنه يحلف في المسجد الجامع مطلقا، لكن قال ابن ناجي: ويريد في الكتاب ما لم تكن بلدة يعظمون مسجدا من مساجد بلدهم غير جامعهم فإنهم يحلفون به، وبه حكمت ببلد سبتة لما وجدت ذلك بها، وكذلك الحكم ببلد قفصة لما كان ذلك بها، ونقله أبو علي بحاشية التحفة، وقال عقبه: واحتججنا بهذا حين ولينا القضاء بالمدينة البيضاء: فاس الجديد. وقد وجدنا جل أهلها يعظمون جامع مسجد الحجر، وكنت إذا
رأيت الدعوى قريبة وطلب رب الحق التحليف بهذا المسجد مكنته من التحليف به بعد أن أعلمه أن الجامع الأعظم هو الذي تجب له اليمين [به]
(1)
، وإنما سقنا هذا تقوية للتحليف على المصحف لمن طلبه، إذ بمثل كلام ابن ناجي نعرف أن الدار في الأيمان هو المحل الذي يرهب به الحالف. اهـ.
الخامس: قوله: "بجامع" يعني إذا كان الحالف مسلما، قال التتائي: بجامع من مسلم، وقال الخرشي: ويكون التغليظ في حق المسلم بالجامع. اهـ. وقال ابن مرزوق: وهذا التغليظ يكون بمكان اليمين كالمسجد الجامع الذي فيه الخطبة إن كان الحالف مسلما.
السادس: قال المتيطي إذا ادعى رجل على رجل حقوقا وزعم أنه لا بينة له في بعضها وأن له بينة على بعضها وذهب إلى استحلاف المدعى عليه فيما لا بينة له فيه، وأن يبقى على إقامة البينة فيما له فيه بينة، فإنه إن التزم إن لم تقم له بينة على ما زعم أن له فيه بينة أن لا يكون له يمين على المدعى عليه، كان له أن يستحلفه فيما لا بينة له فيه، فإن أقام بينة على ما زعم من دعاويه عمل بها وإلا فلا يمين له عليه، وإن لم يلتزم ذلك لم يكن له أن يستعجل يمينه فيما لا بينة له عليه، ويؤخر ذلك حتى تقوم البينة التي زعمها على البعض، فإن أتى بها وإلا جمع دعاويه كلها وحلف له على الجميع كما نقله الناصر اللقاني. قوله: وإن لم يلتزم ذلك، محله ما لم يرض المدعى عليه بالحلف فله ذلك.
السابع: قال الخرشي: ويجوز للقاضي أن يحلف الخصم بالطلاق إذا علم أنه لا يصدق بالله، كما نص على ذلك. ابن عاصم: أخذه من قول عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. اهـ. وقال الرهوني: في المواق والعيار وغيرهما عن ابن وضاح أن ابن عاصم كان يُحَلِّفُ بالطلاق، وابن عاصم من رواة ابن القاسم وروى عن أشهب أيضا وكان محتسبا بالأندلس. اهـ. ومع هذا فذلك غير مرتضى فإن سحنون لم يرتض قول ابن عاصم، وقد بحث فيه الشيخ ميارة في شرح التحفة وقد جزم أبو علي بعدم الجواز، فقال بعد أنقال: قال كاتبه عفا
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من الرهوني ج 7 ص 501.
الله عنه: التحليف بالطارق لا يحل ولا يجوز أصلا، وربما كان هذا الطلاق هو آخر الثلاث ويصعب عليه مفارقة زوجته فيبقى معها على حرام وذلك هو الداهية العظمى. اهـ. قال الرهوني: وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين كيفية اليمين، (وأخبر أن الحالف ظلما يلقى الله وهو عليه غضبان)، وأنزل الله تعالى مصداق ذلك في كتابه فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} . الآية. وعمل بذلك الخلفاء الراشدون فمن بعدهم من أئمة المسلمين، فكيف يعدل عن الحكم بما بينه وضمل به وأجمع على العمل به أصحابه فمن بعدهم إلى الحكم بما نهى عنه عليه الصلاة والسلام ومن لم تصلحه السنة لا أصلحه الله؟
وفي نوازل الشهادات من المعيار يحكى أن بعض الملوك المتأخرين كتب إلى فقيه من الفقهاء أن الناس فسدوا فاكتب لي أن أحكم بينهم بما يليق بهم فإني استوفيت لهم الطالب الشرعية فأكل الناس بعضهم بعضا، فأجابه: لو علم الله مصلحة لهذه الأمة غير الشريعة التي اختارها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لاختارها لهم، فلا حكم إلا بما جاء به الشرع والسلام. قال مالك بن أنس: لمن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لست بمبتدع ولكني متبع. اهـ.
الثامن: قال الشبراخيتي عند قوله: "وغلظت في ربع دينار": وظاهره وجوب التغليظ وإن لم يطلبه مستحق اليمين، لكن نص القرافي وغيره على أنه من حق من توجهت اليمين من أجله، واختلف في ذلك هل هو واجب أو أولى، وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا حلف على عدم التغليظ هل يُحَنَّث أو لا؟ فعلى الوجوب يُحَنَّث وعلى عدمه فلا يُحَنّثُ، وأيضا على الوجوب تعاد يمينه وعلى عدمة لا تعاد: وأيضا على الوجوب يكون ناكلا بامتناعه وعلى مقابله لا يكون ناكلا بذلك، ولو كان الرفع لشخصين ولو متفاوضين على شخص واحد فإنها لا تغلظ، وإن كان المدعى عليه شخصين متفاوضين والمدعى به ربع دينار لواحد فإنه تغلظ اليمين على كل واحد، والمراد بالدينار هنا دينار الدم الذي هو اثنا عشر درهما، لأن اليمين ملحقة بالحدود فهي ملحقة بالسرقة لا دينار الزكاة وهو عشرة دراهم. اهـ. وقال الخرشي: والتغليظ واجب ومن امتنع منه عد ناكلا،
وظاهر كلامهم أنه من حق الخصم فله أن يرضى بتحليف من توجهت عليه اليمين في مجلس الشرع لا من حق الله. وقوله: "في ربع دينار" أو ما يتضمنه كالنكاح والطلاق لأن النكاح لا يصح إلا بربع دينار والطلاق فرعه والعتق والدماء. اهـ.
كالكنيسة يعني أن التغليظ يكون في الجامع في حق المسلم، ويكون في حق اليهودي بالكنيسة، ويكون في حق النصراني بالبيعة، والكنيسة: مسجد اليهود، والبيعة: مسجد النصارى، ويكون التغليظ للكافر المجوسي ببيت النار، قال عبد الباقي: كالكنيسة لليهودي والبيعة للنصراني وبيت النار للمجوسي وحيث يعظمون، وللمسلم الذهاب لتحليفهم بتلك الواضع وإن كانت حقيرة في نظر الشرع، لأن المقصد صرفهم عن الإقدام على الباطل ويؤخذ من ذلك بالأولى جواز حلف المسلم على المصحف أو براءة أو أضرحة المشايخ أو بالطلاق الثلاث أو نحو ذلك حيث لا ينفك عن الباطل إلا بذلك، ويدل على الجواز أيضا أن من قواعد الشرع ارتكاب أخف الضررين وهو تحليفه على ما ذكر دون ضياع الحق، ويوافقه قول الرسالة عن عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور: وتقدم عن ابن فرحون أن للقاضي أن يحلف الشاهد بالطلاق إن اتهمه. اهـ كلام عبد الباقي.
قوله: ويؤخذ من ذلك جواز تحليف المسلم على المصحف يعني يحلف بالله ويضع يده على المصحف، وقوله: أو براءة يعني السورة المعلومة، وقوله: أو أضرحة المشايخ أي يحلف بالله عندها لا أنه يحلف بصاحب القبر كما يفعله كثير من الجهلة، وما ذكره في المصحف تقدم في كلام أبي علي تقويته، وقال ابن ناجي عند قول المدونة: ويحلفون في كنائسهم وحيث يعظمون: أخذ شيخنا أبو محمد عبد الله الشبيبي على ما بلغني من هنا أن الأعراب الذين يعظمون الحلف بالمصحف يحلفون به بجامع التعظيم، فكما قالوا: يحلف الكفار حيث يعظمون، فكذلك الحلف بالمصحف ولم يرتض فتواه بذلك بعض شيوخنا لظاهر نصوصهم، وسمعت شيخنا حفظه الله يفتي بالثاني ثم رجع إلى الأول. اهـ. وقوله: أو بالطلاق الثلاث، انظر من زاد الثلاث فإن الذي في المواق والمعيار وغيرهما عن ابن وضاح أن ابن عاصم كان يُحَلِّفُ بالطلاق، وكلام هؤلاء الأئمة ليس فيه ذكر الثلاث، ومع هذا فهو غير مرتضى فلم يرتضه سحنون أي لم يرتض قول ابن عاصم: إنه
يحلف بالطلاق، وقد بحث فيه الشيخ ميارة، وقد جزم أبو علي بعدم الجواز إلى آخر ما مر عن الرهوني وقد مر عن الرهوني، أن عدم جواز التحليف بالطلاق هو الحق الذي لا محيد عنه، قال: وأما توجيه سيدي يعيش بأنه أرتكاب أخف الضررين وتسيلم ابن قاسم له ففيه نظر؛ لأن ضرر الحلف بالطلاق محقق وضرر أكل أموال الناس غير محقق. والله تعالى أعلم.
وبالقيام يعني أن التغليظ يكون بالقيام أي يحلف قائما، قال التتائي: وغلظت بالقيام في ربع دينار لا جالسا. ابن هشام: وبه القضاء ونحوه في الرسالة. اهـ. لا بالاستقبال يعني أن اليمين لا تغلظ بالاستقبال وهو مذهب المدونة، لكن على القول بالاستقبال جرى ابن سلمون قائلا به العمل وعليه درج في التحفة وهو قول الأخوين. قاله البناني. وقال المواق: قال مالك في كتاب ابن سحنون: يحلف جالسا، وفي كتاب محمد: يحلف قائما، ومن المدونة: ليس عليه أن يستقبل بيمينه القبلة. اهـ. وقال عبد الباقي: وبالقيام لا بالاستقبال إلا أن يرهب منه، فيكف عن الباطل؟
وبمنبره عليه الصلاة والسلام يعني أن التغليظ يكون بمنبر النبي عليه الصلاة والسلام، قال الشبراخيتي: الباء بمعنى عند كما هو ظاهر المدونة، أو بمعنى على وهو قول ابن المواز، لقوله: يحلف عليه، وكلام المص محتمل للقولين، وقوله: فقط قيد في المنبر، ويحلف في مكة عند الركن الذي فيه الحَجَرُ الأسود لأنه أعظم مكان فيه، ويحلف في غيرهما في الجامع الأعظم. اهـ كلام الشبراخيتي. وقال ابن مرزوق: وقوله: "فقط" أي إنما يكون التغليظ بالمنبر في منبر النبي صلى الله عليه وسلم لا في منبر سائر البلاد، وظاهر كلام المص أن الجامع كله سواء وأن مطلقه كاف في التغليظ، وفي المدونة: أنه يحلف في أعظم مواضعه وكان حقه أن ينبه عليه، ونص هذه الجملة من المدونة: وكل شيء له بال فإنه يحلف فيه في جامع بلده في أعظم مواضعه، وليس عليه أن يستقبل القبلة ولا يعرف مالك اليمين عند المنبر إلا منبره صلى الله عليه وسلم في ربع دينار فأكثر. اهـ.
ابن يونس: قال ابن حبيب: قيل لمالك: أيحلف قائما أو قاعدا؟ قال: قائما أبين، وقال عند ابن القاسم: يحلف قائما إلا من علة، وقال ابن كنانة: يحلفون في مدائنهم وأمصارهم في مساجد جماعاتهم جلوسا لا قياما [ويتوخوا بأيمانهم]
(1)
في المال العظيم وفي الدماء واللعان الساعاتِ التي يحضر الناس فيها المساجد ويجتمعون للصلاة، وأما ما سوى ذلك من حق أو مال ففي كل حين، وقال مطرف وابن الماجشون: يحلَّف الرجال والنساء مستقبلين القبلة في ربع دينار فأكثر في المدينة عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبغيرها في مسجدهم الأعظم حيث يعظمون منه عند منبرهم وتلقاء قبلتهم، فإن لم يبلغ الحق ربع دينار حلفوا جلوسا إن أحبوا، ويحلف الرجل في أقل من ربع دينار في مكانه الذي قضي عليه فيه، ومن امتنع أن يحلف عند المنبر أو غيره من مقاطع الحقوق فناكل ويغرم. قال ابن يونس: بعد يمين المدعي في ذلك الوضع قال ابن حبيب: وإن كان مدعيا بطل حقه، وكذلك قضى مروان على زيد بن ثابت، قال أبو محمد: قال مالك: من أبى أن يحلف عند المنبر فكالناكل، ويحلف أهل مكة في القسامة في مسجدهم، كما يحلف أهل المدينة وبيت القدس في مسجديهما. اهـ.
وقال التتائي: "وغلظت بمنبره عليه الصلاة والسلام" الباء بمعنى عند كما هو ظاهر المدونة، أو بمعنى على وهو قول ابن المواز، لقوله: يحلف عليه. البساطي: منبره عليه الصلاة والسلام كان معروفا موجودا في زمن مالك، وأما في هذه الأيام فينظر هل هذا الحكم في المنبر الذي هو في مسجد المدينة أو موضع منبره عليه الصلاة والسلام؟ وأنكر مالك الحلف عند غير منبره عليه الصلاة والسلام، وظاهر كلام المص أنها لا تغلظ بالزمان في المال وهو كذلك، وعلى التغليظ به فقيل وقت الصلاة أي حين حضور الناس في المساجد يجتمعون للصلاة، وأما في الدماء واللعان فتغلظ بالمكان والزمان. اهـ.
قوله: وأما في هذه الأيام إلخ فيه نظر يأتي التنبيه عليه قريبا في كلام الشيخ عبد الباقي، وقال الخرشي: ولا يختص التغليظ بمكان من المسجد إلا منبره عليه الصلاة والسلام، وفي مكة عند
(1)
في ابن يونس ج 5 ص 431 ويتحرى في أيمانهم.
الحجر الأسود، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وفي غير ذي في أَيّ موضع، ولا يغلظ بالزمان ككونه بعد العصر إلا في اللعان والقسامة. اهـ. وقال الحطاب: وبالقيام، قال في الرسالة في باب الأقضية: يحلف قائما، وقال في القسامة: ويحلفون في القسامة قيماما، فإن لم يحلفوا قياما فهل يكون ذلك نكولا أو لا اختلف وذلك. اهـ.
وقال عبد الباقي: وغلظت بمنبره عليه الصلاة والسلام أي عنده كما هو ظاهر المدونة أو عليه كما قال ابن المواز. البساطي: منبره كان موجودا معروفا في زمن مالك، وأما في هذه الأيام فينظر هل هذا الحكم في المنبر الذي هو في مسجد المدينة أو موضع منبره عليه الصلاة السلام. قاله التتائي. وظاهر قوله: أو صريحه أنه صار الآن في غير محله، والذي للدماميني والسيد السمهودي في تاريخهما وغيرهما من الأفاضل أنه موضوع الآن في غير موضعه الذي كان فيه منه عليه الصلاة والسلام. قاله الفيشي عن شيخه اللقاني. وفي مكة عند الركن لأنه أعظم مكان في المسجد، وفي غيرهما في الجامع الأعظم ولا يختص بمكان منه ولا تغلظ بالزمن ككونه بعد العصر. اهـ.
وقال البناني: وبمنبره عليه الصلاة والسلام نحوه في المدونة، وإنما اختص منبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا لقوله عليه الصلاة والسلام:(من حلف عند منبري كاذبا فليتبوأ مقعده من النار)
(1)
، وقول الزرقاني: والذي للدماميني إلخ ما ذكره من أن المنبر الآن بالموضع الذي كان فيه في زمنه عليه الصلاة والسلام صرح به ابن رشد في البيان، ومثله في التبصرة لابن فرحون، وقول الزرقاني: لا يختص بمكان منه إلخ الذي جرى به العمل عندنا أنه يحلف عند المنبر حتى في غير المدينة. ذكره المسناوي وهو قول مطرف وابن الماجشون.
وخرجت المخدرة فيما ادعت أو ادعي عليها الجارية المخدرة هي التي ألزمت الخدر وهو الستر يعني أن المرأة التي أُلْزمت الخدر إن توجهت لها يمين على غيرها في حق ادعته عليه أو توجهت عليها يمين في حق ادعي عليها فإنها تخرج لقبض يمينها أو لتحلف، قال عبد الباقي:
(1)
الموطأ، كتاب الأقضية، رقم الحديث 10 ولفظه: من حلف على منبري آثما تبوأ مقعده من النار. أبو داود، كتاب الإيمان، رقم الحديث 3246. وابن ماجه، كتاب الأحكام، رقم الحديث 2325.
وخرجت للتغليظ المخدرة أي الملازمة للخدر وهو الستر ويزري بها مجلس الحكم، وإن كانت تنصرف إلى غيره فيما ادعت وقام لها شاهد بمال ربع دينار أو ما يساويه فتحلف معه، أو ادعي عليها بذلك وتوجهت عليها اليمين ويحلفها بحضرة رب الحق فإن أبت هي أو زوجها من حضوره خشية الاطلاع عليها، فحكم ابن عبد السلام بأنه يبعد عنها أقصى ما يسمع لفظ يمينها، فإن ادعى صاحب الحق عدم معرفتها فهل إثبات من يعرفها عليه أو عليها؟ قولان، فإن أريد التغليظ عليها بمسجد فادعت حيضا حلفت على ما ادعت وأخرت. اهـ. وقال الشبراخيتي: وخرجت للتغليظ المستفاد من قوله: "وغلظت في ربع دينار": المخدرة أي: الملازمة للخدر وهو الستر فيما ادعت، متعلق بخرجت أي لتحلف إن كانت طالبة لكمال النصاب أو ليمين ردت عليها مغلظة بالجامع في ربع دينار كالرجل، أو ادعي عليها لتحلف لرد الدعوى. اهـ.
ومر عن ابن مرزوق أنها تخرج لقبض اليمين ولكن ذلك إن اختارت كما صرح به، قال الخرشي: وخرجت المخدرة فيما ادعت أو ادعي عليها، المخدرة هي: المستترة في بيتها لأن الخدر هو الستر. قاله الجوهري. وجد عندي ما نصه: المخدرة من يزري بمثلها حضور مجالس الحكم وإن كانت تتصرف بالخروج لمصالحها، والمعنى أن المخدرة تخرج لليمين فيما ادعت وأقامت شاهدا فتحلف معه وهو ربع دينار فأكثر، وكذلك تخرج إذا ادعي عليها وتوجهت عليها اليمين. اهـ. وقال التتائي: وخرجت المخدرة أي اللازمة للخدر وهو الستر فيما ادعت لتحلف، إن كانت طالبة لكمال النصاب أو ليمين ردت عليها مغلظة، بالجامع في ربع دينار كالرجل. المازري: وهو المشهور، ولابن القاسم: لا تخرج إلا في المال الكثير، وفسره اللخمي بالدينار فأكثر.
إلا التي لا تخرج نهارا يعني أن المخدرة التي عادتها أنها لا تخرج نهارا وتخرج ليلا حيث كانت حرة، بل وإن كانت مستولدة فإنها لا تخرج نهارا للتغليظ، بل تخرج له ليلا لأن أمهات الأولاد لهن حرمة ساداتهن وأبنائهن كحرمة الحرائر ومن عداهن من المكاتبات والمدبرات والسراري كالذكران من الرجال، قال عبد الباقي: فإن كانت المخدرة ممن لا تخرج في حوائجها أصلا لمعرة عليها حلفت في ربع دينار ببيتها بحضرة شاهدين يوجههما القاضي لها ولا يقضى
للخصم بحضوره معهما على ظاهر المدونة. قاله ابن عرفة. فتستثنى هذه الصورة من قولهم: لابد من حضور الطالب لليمين وإلا أعيدت بحضوره، وكذا من قولهم: إنما تقام البينة بحضرة المدعى عليه الحاضر بالبلد أو قريب الغيبة وقد كتب إليه ليحضر. اهـ. قوله: إنما تقام البينة بحضرة المدعى عليه إلخ، صوابه إنما يقيم المدعي البينة بحضرة المدعى عليه الحاضر بالبلد. إلخ. قاله البناني. وقال ابن مرزوق: ولو قال وخرجت المرأة كما هي عبارة المدونة لكان أشمل وأخصر، ولكنها عبارة صاحبيه. اهـ. وقال البناني: إلا التي لا تخرج نهارا، قال أبو حمص العطار: معنى قولهم لا تخرج أي غير مستترة، وأما التي تخرج مستترة فحكمها حكم من لا تخرج البتة قاله القلشاني. انتهى. وقال الرهوني: إلا التي لا تخرج نهارا، ظاهره أنها تخرج في ربع دينار. قال في توضيحه. المازري: وهو المشهور وهو قول مطرف وابن الماجشون، وفي الموازية عن ابن القاسم: إنما تخرج في المال الكثير، وفسره اللخمي بالدينار فأكثر. وقول عبد الباقي: فإن كانت لا تخرج في حوائجها أصلا إلخ هذا أحد قولين، ثم ظاهره ولو كانت هي الطالبة وليس كذلك. ففي التوضيح: وظاهر كلام المصنف أنها تخرج ليلا ولو كانت لا تخرج جملة ولا تنصرف كنساء الملوك، وهكذا قال الأندلسيون قالوا: وإن منعت من الخروج حكم عليها بحكم الملد. عياض: ليس بصواب لأنها مكرهة، فكيف تؤخذ بذنب مانعها؟ وقال ابن كنانة وغيره: وهو الذي ذكره عبد الوهاب أن مثل هذه تحلف في بيتها وهو أظهر والمدونة محتملة للقولين، فهذا إنما هو فيما تطلب به المرأة من اليمين ويجب عليها، وأما يمينها فيما تستحق به حقها فلتخرج إلى موضع اليمين نص عليه ابن كنانة وغيره ولم يذكر فيه خلافا. اهـ.
وتحلف في أقل ببيتها يعني أن المراة التي تخرج لصالحها نهارا أو ليلا تحلف في أقل من ربع دينار ونحوه ببيتها، كالتي لا تخرج أصلا في ربع دينار كما مر الكلام عليه، وكذا عليل لا يستطيع مشيا ولا ركوبا في ربع دينار. قاله عبد الباقي. وقاله الخرشي أيضا، قال مقيد هذا الشرح: علم مما مر قسمان، أن يكون الحق لا يبلغ ربع دينار فهذا لا تغليظ فيه، كان الحالف ذكرا أو أنثى. القسم الثاني: أن يكون الحق له بال كربع دينار فأكثر فهذا تغلظ فيه اليمين
فيخرج الحالف لتغلظ عليه اليمين، أما إن كان ذكرا فيخرج حرا كان أو عبدا، ومثله غير المخدرة من النساء، وأما المخدرة فعلى ثلاثة أنواع: نوع يخرج في حوائجه نهارا وغيره وهذه تخرج للتغليظ ليلا ونهارا، ونوع لا تخرج في مصالحها نهارا وتخرج ليلا فهذه تخرج للتغليظ ليلا لا نهارا، النوع الثالث لا تخرج أصلا فهذه إن كانت مطلوبة فيها قولان، قيل تحلف في مكانها ويوجه القاضي إليها شاهدين للحلف ولا يمكن الخصم من الحضور معهما، وقيل تخرج للتغليظ ليلا كالتي تخرج بالنهار في حوائجها فقط، والقول بأنها تحلف في بيتها أظهر وإن كانت طالبة فهذه تخرج إلى موضع اليمين كما نص عليه ابن كنانة وغيره، ولم يذكر فيه خلافا. هذا هو تحرير المسألة. والله تعالى أعلم.
وإن ادعيت أيها الدين قضاء على ميت أي ادعيت أنك وفيته قبل موته ولم تصدقك ورثته على ذلك وطلبت تحليفهم، لم يحلف على نفي العلم إلا من يظن به العلم واحدا أو متعددا من ورثته البالغ منهم يوم موته، ظنه قبله أو بعده لا من بلغ بعده ولو قبل الدعوى. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي يعني أن من عليه دين شرعي ثابت في ذمته مات صاحبه وطلبت الورثة دين أبيهم، فقال الذي عليه الدين: قضيته لموروثكم ولم تصدقه الورثة على ذلك، فللذي عليه الدين أن يحلف من الورثة من يظن به علم ذلك مثل أبيه وأخيه أو نحو ذلك ممن يخالطه، ويحلفون على نفي العلم أي أنهم لم يعلموا أن موروثهم أخذ شيئا من ذلك ولا أحال به وما أشبه ذلك، ومن لا يظن به علم ذلك من الورثة فإنه لا يحلف، وكذلك الصغير يوم موته لا يحلف، وهل يشترط في دعوى المطلوب العلم على الوارث أو لا يشترط ذلك؟ فيه قولان ذكرهما في توضيحه. قوله:"قضاء" أي إسقاطا من جانب الميت فيشمل الإبراء والهبة ونحو ذلك. اهـ. وقوله: "لم يحلف إلا من يظن به العلم من ورثته" أي البالغ يوم موته كما عرفت، قال عبد الباقي: فإن نكل البالغ ردت اليمين على من عليه الحق فيحلف أنه قضى وسقط حق البالغ فقط، قال التتائي: من يظن به العلم كقريب القرابة لا بعيدها. البساطي: وقد يكون البعيد من الورثة مخالطا للميت والقريب بضده فينظر الحاكم في ذلك، أي ويكون البعيد وارثا كأخ لأم مع أخ شقيق لا غير وارث؛ إذ لا يحلف ليستحق وارث، ودخل في ورثته كما لأبي الحسن زوجته فيفصل فيها بين ظن علمها
وعدمه اهـ قال الرهوني الذي في ابن ناجي عن أبي الحسن هو التوقف ونصه المغربي انظر الزوجة هل هي ممن يظن به العلم أم لا؟ قلت: الأقرب حملها على العلم لأن غالب الحال أنها تعرف مال زوجها، واختار شيخنا أبو مهدي عكسه ولا يبعد أن يكون الخلاف فيها خلافا في حال. اهـ.
فال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: وإذا تأملت ما قاله عبد الباقي علمت أنه لا يتعقب لأنه إنما قال إنها من الورثة فيفصل فيها، ولم يقل إنها ممن يظن به العلم أو لا وهذا ظاهر كما أشار له ابن ناجي. والله تعالى أعلم.
وقوله: "لم يحلف إلا من يظن به العلم من ورثته" قال كبد الباقي: وظاهر كلام المص كظاهر المدونة حلف الوارث، سواء ادعى المطلوب عليه العلم أم لا، وإنما طلب منه اليمين فقط وهو كذلك على أحد قولين ذكرهما في توضيحه، والآخر أنه لا يحلف مع ظن علمه إلا إن ادُّعِي عليه العلم، كما إذا حلف بالغ منهم قضي لغير البالغ ولا يطلب بعد بلوغه بيمين، ولمن يظن به ولمن لا يظن به حيث لم يطلب الحلف من جميع من يظن به أو طلب وبادر أحدهم واكتفي به ولم يكن من باقي الفريقين نكول، وإلا ثبت حق الحالف وسقط حق الناكل إن حلف المطلوب أنه قضى الميت وإن نكل غرمه للناكل، وكذا لبقية الورثة إن لم يطلب منهم اليمين أو طلب وحلفوا، فإن نكلوا فهل يغرم لهم نظرا لنكوله أو لا نظرا لنكولهم وهو الظاهر، وليس لهم تحليفه لنكوله أو لا عن اليمين. اهـ.
قوله: ثم إذا حلف بالغ منهم قضي لغير البالغ إلخ، كلامه يوهم أن القضاء لغير البالغ ومن لا يظن به العلم يتوقف على حلف البالغ وليس بظاهر، بل الظاهر ما أفاده كلامه أول التقرير من عدم التوقف على ذلك، وإن كانت عبارته هنا كقول ابن شأس، وإذا حلف البالغ قضي لجميعهم. اهـ. والمراد بجميعهم الفرق الثلاث من يظن به العلم ومن لا يظن به العلم وغير البالغ. وقوله: ولم يكن من باقي الفريقين نكول، صوابه لم يكن من باقي من يظن به العلم نكول. إلخ. إذ لا يعتبر النكول من غير هذا الفريق. وقوله: وكذا لبقية الورثة إلخ فيه نظر، لأنه مع ركاكته يقتضي أن
المطلوب بعد نكوله يغرم حق الناكل له ولبقية الورثة، وليس كذلك بل حق الناكل إنما يغرمه للناكل، وأما بقية الورثة فإنما يغرم لكل واحد منهم حقه من الدين إذا حلفوا أو لم يطلب منه اليمين.
وحَاصِلُ ما أشار إليه فَرْعَانِ: أَحَدُهُمَا أنه إذا حلف من يظن به العلم قضي له وللفريقين الآخرين كما تقدم، الثاني أنه إذا نكل واحد ممن يظن به العلم أولا سقط حق الناكل إن حلف المطلوب، فإن نكل غرمه للناكل ثم إذا نكل بعده آخر ممن يظن به العلم، فَيَحْتَمِلُ أن يقال: يغرم له المطلوب نظرا لنكوله أولا وهو مستمر، وَيَحْتَمِلُ أن يقال: لا يغرم نظرا لتأخر نكول هذا الطالب عن نكول المطلوب وهو الظاهر. والله أعلم. قاله البناني.
وقال عبد الباقي: وعلم مما قررنا أن موضوع المص ثبوت الدين ببينة عليه، فإن كان شاهد به فقط وحلف معه بعض الورثة ثبت الحق لجميعهم ولم يحتج لحلف باقيهم، وهذا مخالف لغرماء المفلس، ولقوله. فيما تقدم:"لا صبي وأبوه" من أن البالغ يحلف وتوقف حصة الصبي حتى يبلغ إلا أن يحمل على ما إذا حلف البالغ على حصته فقط، وأما لو ادعى بعض ورثة بدين لأبيه على غريم وحلف الغريم للمدعي فحكم قاض، فهل هو حلف لجميعهم وبه العمل أو تعاد عند طلب بعض آخر؟ قولان، وسكت المص عن دعوى شخص على ورثة ميت أن له عليه دينا ولا بينة له، فإن علمت قضي من تركته بعد يمين القضاء، وإن لم تعلم حلفت أنها لا تعلم إن ادعي عليهم العلم وإلا فلا، فإن ادعي عليهم فلم يجيبوا كانت من أفراد ما تقدم من قوله:"وإن لم يجب حبس وأدب ثم حكم بلا يمين" انتهى. قوله: ثبت الحق لجميعهم ولم يحتج لحلف باقيهم إلخ فيه نظر، بل النص بخلافه، ففي تبصرة ابن فرحون: وإذا مات رجل وله ورثة كبار وصغار وترك ذكر حق وليس فيه إلا شاهد واحد، فإن الكبار يحلفون كلهم مع شاهدهم ويستحقون حقهم، وأما الصغار فيقال للغريم: احلف أن الذي شهد به عليك الشاهد باطل وأنه ليس عليك، فإن نكل أخذ منه حق الصبي ودفع إلى وليه، وإن حلف أقر حق الصبي بيده، فإذا بلغ الصبي حلف وأخذ، فإن نكل عن اليمين لم يكن له شيء وهذا هو الموافق لا تقدم عند المص، وأما
ما ذكره الزرقاني تبعا لعلي الأجهوري فلا أصل له وحمله على ما إذا حلف البالغ على الجميع كما ذكره لا يصح لما علم من أنه لا يحلف أحد ليستحق غيره. انتهى.
وحلف في نقص بتا وغش علما يعني أن من دفع لغيره دراهم من حق ترتب له عليه، ثم ادعى آخذها أن عددها ناقص عما قال الدافع، وأنكر الدافع فإنه يحلف على البت أي على القطع أنه أعطاه العدد الذي ذكر، وإن ادعى الآخذ أن تلك الدراهم مغشوشة أو فيها مغشوش وأنكر الدافع فإنه يحلف على العلم أنه ما أعطاه إلا جيادا في علمه، والفرق أن العدد يتوصل إلى القطع فيه والغش قد يخفى فلا يحلف فيه إلا على علمه، ولو حلف على البت كانت اليمين غموسا، والظاهر أن انتصاب بتا وعلما من كلام المص على أنهما نائبان عن المصدر النوعي، وأشار بعضهم إلى الفرق بين الصيرفي وغيره، فالصيرفيُّ يحلف على البت، وهذه المسألة إنما هي فيمن أخذ الدراهم لنفسه على التصديق، وأما لو أخذها ليقلب فيأخذ ما أعجبه ويرد الآخر لكان القول قوله، لأنه أمين. قاله ابن مرزوق.
وقال عبد الباقي: ومن دفع لآخر دنانير أو دراهم صرفا أو قضاءَ حق فاطلع فيها على نقص أو غش. وأراد رَدَّها لدافعها فأنكر أن يكون فيها ذلك حلف الدافع في نقص العدد كوزن في متعامل بد وزنا فقط بتا أنه ما دفع إلا كاملا، لأن النقص يمكن فيه حصول القطع ولا يتعذر الجزم به صيرفيا أو غيره، وفي دعوى غش ونقص وزن في متعامل به عددا روزنا معا علما أي على نفي العلم أي أنه ما دفع إلا جيادا في علمه، وزاد ابن يونس: ولا يعلمها من دراهمه لأن الجودة والرداءة مما لا يخفى، وظاهره حلفه على نفي العلم صيرفيا أو غيره وهو قول ابن القاسم، وقيل: هذا في غير الصيرفي فيحلف على البت مطلقا. قاله التتائي ونحوه للشارح. وظاهر كلام الحطاب في باب المبيع اعتماد تقييد قوله: "وغش علما" بغير الصيرفي، وظاهر كلام المص في القسمين قبول قول الدافع بيمينه، سواء قبضها الآخذ مقتضيا لها أو ليقلبها فيأخذ الطيب ويرد غيره.
وقال بعض الشراح: على الاقتضاء لا على التقليب، والظاهر أن لا فرق. قاله التتائي. قال ابن غازي والظاهر ما لبعض الشراح فالقول قول الآخذ لا الدافع، لأنه ائتمنه في أن ما أخذه رَدِيٌ أو
ناقص. اهـ. قوله: والظاهر ما لبعض الشراح إلخ، ما قاله بعض الشراح هو نص المدونة في سلمها، ونصها: وإذا أصاب المسلم إليه من رأس المال رصاصا أو نحاسا فردها عليه، فقال: له ما دفعت لك إلا جيادا، فالقول قوله ويحلف ما أعطاه إلا جيادا في علمه، إلا أن يكون إنما أخذها على أن يريها فالقول قوله مع يمينه وعليه بدلها. اهـ نقله ابن عرفة. ولم يذكر له مقابلا. اهـ. قاله البناني. وقوله:"وحلف في نقص" إلخ هذا الحكم جار في المسكوك وغيره في النقص منصوص عليه في المدونة وغيرها، وقد قال المص في المسلم:"وحلف لقد أوفى ما سمى" والظاهر أنه في المعيب كذلك. قاله الرهوني.
تفريع: في أواخر نوازل الدعاوي والأيمان من المعيار: وسأل السلطان أبو عنان قاضيه على الجماعة أبا عبد الله المقري التلمساني رحمهما الله عمن لزمته يمين على نفي العلم فحلف جهلا على البت، هل يعيد اليمين أم لا؟ فأجابه بإعادتها، قال: وكان من حضره من الفقهاء أفتوه بأن لا تعاد لأنه أتى بأكثر مما أمر به على وجه يتضمنه، فقلت: اليمين على وجه الشك غموس، قال ابن يونس: الغموس الحلف على تعمد الكذب أو على غير يقين، ولا شك أن الغموس محرمة منهي عنها، والنهي يدل على الفساد ومعناه في العقود عدم ترتب أثره عليه فلا أثر لهذه اليمين ويجب أن تعاد، وقد يكون من هذا اختلافهم فيمن إذنها صماتها فتكلمت هل يُجْتَزَى بالكلام؟ والاجتزاء هنا أقرب لأنه الأصل والصمات رخصة لغلبة الحياء، فإن قلت: البت أصل ونفي العلم إنما يعتبر عند تعذره؟ قلت ليس رخصة كالصمات وليس المحل بالذي يحرم فيه الكلام، ألا ترى الثيب ولو تمسك بالأصل؟ وجعل كلام الثيب للضرورة، قلنا: ليس التحريم كالتحريم. اهـ منه بلفظه، فليتأمل.
واعتمد البات على ظن قوي يعني أن الحالف على البت يجوز له أن يعتمد في إقدامه على حلفه بتا على ظن قوي، قال ابن مرزوق: يعني أن الحالف على البت لا يشترط فيه أن لا يحلف إلا على ما يتيقنه مما طريقه العلم، بل يجوز أن يعتمد على ظن قوي يحصل له، ومثل لذلك بقوله: كخط أبيه يعني أن هذا مما يحصل له الظن القوي، فيقدم به على الحلف بتا وهو أن يجد خط أبيه أن له قبل فلان كذا، أو يعلم من أبيه أنه لا يكتب مثل هذا إلا عن تحقيق، ثم لا يدعي
فلان القضاء بل ينكر المعاملة، فإنه يسوغ للوارث أن يحلف في هذا الحق على البت، ومثل خط أبيه خطه هو.
أو قرينة من عطف العام على الخاص أي كل قرينة حصلت له الظن القوي فإنه يجوز له أن يعتمد عليها ويحلف على البت، أما ما ذكر من اعتماد البات على الظن القوي فهو المشهور، وقيل لا يعتمد إلا على ما يتيقنه. قاله ابن مرزوق. وقال عبد الباقي: واعتمد البات في إقدامه على حلفه بتا في سائر الأمور لا في خصوص المسألة السابقة فقط على ظن قوي، كخط أبيه أو خطه أو قرينة من خصمه كنكوله عن الحلف فيما ادعى عليه به، أو شاهد لأبيه يغلب على ظنه صدقه وتقدم أن الاعتماد على الظن غموس، وظاهره ولو قوي، فأما أن يقال هذا على أحد قولين أو يقال الأموال ليست كغيرها أو أنه هنا قيد بكونه قويات بخلاف ذلك فإنه مطلق، فيقيد بما إذا لم يكن قويا: واقتصر أحمد على الأول نافيا للأخير، ومفهوم البات أن غيره ممن يحلف على نفي العلم يعتمد على الظن وإن لم يقو، وهذا بخلاف الشهادة فلا يشهد الشاهد إلا على العلم إلا فيما لا يمكن كضرر الزوجين إلا في بعض المسائل كما تقدم في قوله:"واعتمد في إعسار بصحبة وكشهادة السماع". اهـ.
قوله: فإما أن يقال هذا على أحد قولين على هذا اقتصر المص في التوضيح وهو الظاهر. قاله البناني. واقتصر عليه الشيخ أحمد كما قال عبد الباقي، وقال الرهوني على ما استظهره البناني: يكون المص هنا رجح هذا القول، وفي اليمين رجح مقابله ولا يُدْرَى من كلامه ما المعول عليه منهما، ورجح أبو علي ما في اليمين في الشرح، وفي حاشية التحفة فإنه قال: قيل لا يعتمد إلا عدى اليقين وقيل على الظن، والأول هو الذي يظهر رجحانه وعليه الباجي قائلا: هو المعلوم من مذهب مالك وهو الصحيح. اهـ. وكلام الباجي هو قوله في المنتقى: يحلف الصغير إذا كبر مع شاهده على البت. ابن المواز: ولا يحلف حتى يعلم بالخبر الذي يتيقن به، وفي كتاب ابن سحنون أنه يحلف كما يحلف الوارث على ما لم يحضر ولم يعلم، وهو لا يدري هل شهد له بحق أم لا فيحلف معه على خبره ويصدقه، كما جاز له أن يأخذ ما شهد له به الشاهدان من
مال أو غيره، وهو لا يعلم ذلك إلا بقولهما وظاهر قول مالك: والمعلوم من مذهبه أنه لا يحلف حتى يقع له العلم بالخبر التواتر، سواء كان الخبر له عدلا أو غير عدل، فحينئذ يحلف مع شاهده، فإن لم يبلغ هذا الحد امتنع من اليمين واستحلف المدعى عليه لأنه لا يحل لأحد أن يحلف على ما لا يستيقنه. اهـ.
وقوله: وهو الصحيح إلى آخره من كلام أبي علي لا من كلام الباجي. اهـ. وقال الرهوني أيضا: لكن رجح غير واحد ما هنا. اهـ. ففي نقله: ثم الحالف تحل له اليمين بظن غالب يحصل له من خط أبيه أو خط نفسه أو من يثق به أو قرينة حال من نكول خصم وغير ذلك، وقيل: لا يحلف إلا على ما يتيقنه ولم يتعقبه ابن عرفة، بل في كلامه ما يؤيده، ففيه عن المازري: وينظر في حق الله تعالى في إباحة اليمين مع الشاهد للصغير الذي لم يعاين ما شهد به الشاهد ولا علمه ضرورة، فإن لم يعلم ذلك إلا من قول الشاهد وغلب على ظنه صدقه بخبره أو غير ذلك، ففي إباحة اليمين له بذلك ووقفها على تيقنه قولان لكتاب ابن سحنون والموازية، واحتج سحنون بجواز تصرف الولد الصغير في مال شهد له شاهدان أنه لأبيه. اهـ. وقد جزم ابن ناجي أن محل القولين عند غلبة الظن.
وقال الرهوني أيضا بعد جلب نقول: إن القولين متفقان على أنه يحلف على البت، وإنما اختلف كحل يعتمد في ذلك على غلبة الظن أو لا بد من اليقين، وقول عبد الباقي: ومفهوم البات أن غيره ممن يخلف على نفي العلم يعتمد على الظن وإن لم يقو، قال شَيخُنا الجِنْويُّ: بل يجوز له أن يحلف على نفي العلم وإن كان شاكا كما يفهم مما نقله الحطاب عن النوادر. اهـ. وهو واضح. اهـ. وقال الشبراخيتي: واعتمد البات في إقدامه على حلفه بتا على ظن قوي، كخط أبيه أو خطه أو قرينة من خصمه، كأن سأل الصلح على بعض الْمُدّعَى مثلا أو نكول المدعى عليه أو شاهد لأبي المدعي. اهـ. وقال التتائي: واعتمد البات في إقدامه على ظن قوي كخط أبيه أو خطه أو قرينة من خصمه أو شاهد لأبيه يغلب على ظنه صدقه، ولا يحتاج البات للقطع بموجب حلفه عند مالك واحتجوا له بأنه يسوغ لصغير قام له شاهدان بدين لأبيه على آخر أخذ المال والتصرف فيه مع عدم قطعه بصدقهما. اهـ. وقال المواق: قال ابن يونس: إن قيل كيف يحلف الوارث على
ما لم يحضر ولم يعلم وهو لا يدري هل شهد له بحق أم لا؟ قِيلَ: حلف مع الشاهد على خبره وتصديقه كما جاز له أن يأخذ ما شهد له به الشاهدان من مال أو غيره ولم يعلم ذلك، ولا يختلف في هذا. اهـ.
ويمين المطلوب ماله عندي كذا ولا شيء منه يعني أن يمين المطلوب لا تكون إلا على نفي ما يطابق دعوى الطالب، ويحتاط في نفي الدعوى باليمين حتى لا يبقى احتمال إلا ويرفعه بيمينه، فإذا قال الطالب مثلا: لي عليك عشرة وأنكر المطلوب فتوجهت عليه اليمين، فإنه يقول: بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندي عشرة ولا شيء منها، لاحتمال أن يكون بقي عليه ما دون العشرة ولا ينتفي بقوله: ماله عندي عشرة. قَالَهُ ابْنُ مَرْزُوقٍ. وقال عبد الباقي: وَيَمِينُ الْمَطْلُوبِ أي المدعى عليه بقدر معين كعشرة مَالَهُ أي للمدعي عندي كذا للقدر المعين، وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ لأن مدعى العشرة كمدع لكل آحادها، فحق اليمين نفي كل واحد لأن إثبات الكل إثبات لكل أجزائه، ومثل ما ذكره المص ما يؤديه كما له عندي شيء من العشرة مثلا، فإن أسقط ولا شيء منه وجب حلفه عليه أو يعيد الصيغة بتمامها. اهـ. وقال الخرشي: قال ابن الحاجب: وشرط اليمين أن تطابق الإنكار. انتهى. فإن قُلْتَ: إنه أشهد عليه شاهد بعشرة وآخر بخمسة وأنكر جميع ما شهد له عليه فإن المشهود له يأحْدْ الخمسة بشهادة الشاهدين ويحلف على الزائد مع شاهده فإن لم يحلف على الزائد حلف المشهود له على نفيه واليمين في هذه غير مطابقة للإنكار لأنه منكر للجميع، قلت: إن الإنكار الذي يعتبر مطابقة اليمين له الإنكار الذي يفيد فيه اليمين. اهـ كلام الخرشي بحذف بعضه والله تعالى أعلم.
ونفَي سَبَبًا إنْ عيّنَ وغَيْرَهُ يعني أنه إذا عين الطالب السبب الذي ترتب منه الدين على المطلوب؛ كأن يقول إن العشرة من سلف أو بيع لَزِمَ الطلوبَ أن ينفي ذلك السبب الذي عَيَّنَهُ الطالبُ وَغيْرَهُ بيمينه، فيقول: ماله عندي عشرة ولا شيء منها من سلف ولا غيره، وإنما زاد ولا غيره لأن نفي الأخص وهو ترتب الدين من سلف لا يلزم منه نفي الأعم وهو ترتبه من غيره، ففاعل نفى ضمير المطلوب وعين مبني للمفعول وهو ضمير السبب، وَمَفهُومُ إن عين أنه إن لم يعين لا
يلزم المطلوب نفيه باليمين بناء على أنه لا يلزم ذِكرُ السبب في الدعوى، وقد مر الكلام عليه عند قول المص: ولمدعًى عليه السؤالُ عن السبب، وعند قوله: وإلا فليسأله الحاكم عن السبب. انظر ابن مرزوق.
فإن قضى نوى سلفا يجب أنه يعني أنه إذا عين الطالب السبب فإن المطلوب ينفي ذلك السبب المعين وغيره، فإن كان المطلوب قد قضاه سلفا كان عليه ولا بينة له بقضائه وجحد الطالب القضاء، فإن المطلوب يقول: ما أسلفني وينوي سلفا يجب رده، وأما قول ابن مرزوق مفسرا للمص: فإن كان المطلوب قضى الطالب السلف المدعَى مثلا وجحد الطالب الاقتضاء ولا بينة للطالب، وأراد المطلوب أن ينكر أصل العاملة لعلمه بأنه لا شيء عليه ويحلف على ذلك، فإنه يسوغ له ذلك ويقول ما له عندي كذا ولا شيء منه من سلف، وينوي حينئذ في نفسه سلف يجب عليَّ رده ويبرأ من الغرامة ومن الإثم. اهـ. فغير ظاهر لأن هذا ليس له عنده سلف حتى يحتاج إلى أن ينوي في نفسه يجب رده، بل لو حلف هذا الحَلِفَ لم يحتج إلى تلك البينة. قال البناني: قال ابن عبد السلام: مذهب الكتاب أنه لا يقبل منه أن يقول ما له عندي حق، فلهذا يلزمه أحد الأمرين: إما الحلف بيمين كاذبة، وإما غرم ما لا يجب عليه غرمه إن أقر. وقال ابن عبدوس: يقول: والله ما اشتريت منك هذه السلعة، وينوي: شراء يلزمني الآن منه شيء وكذلك في السلف وما أشبهه ويبرأ من الأثم، ومن غرم ما لا يجب عليه غرمه. اهـ.
ومَفهُومُ المص أنه إن لم ينو سلفا يجب رده الآن حنث، ومثل ما ذكره المصنف العسر إذا خاف أن يحبس فإنه يحلف كذلك أي يحلف ما أسلفتني وينوي سلفا يجب رده، والمراد المعسر حقيقة بحيث لا يكون عنده ما يباع على المفلس، وهذه المسألة مما تحرم الفتوى به حيث كان عند الدين ما يباع على المفلس. اهـ. قاله عبد الباقي. وقال البناني عند قوله:"فإن قضى نوى سلفا يجب رده": ابن عرفة: تقدم الكلام في نية الحالف في الأيمان وأن الخلاف عام في يمين القاضي وغيره حسبما نص عليه ابن رشد، قائلا: إلا أن تتضمن نية المحكوم عليه إبطال حق فهي على نية المحلوف له اتفاقا، ونص ابن رشد في كتاب النذور من البيان بعد أن ذكر ستة أقوال في يمين الحالف، وهذا ما لم يقطع بيمينه حقا لغيره، فإن اقتطع بها حقا لغيره فلا ينفعه في ذلك نية إن
نواها بإجماع وهو آثم عاص لله عز وجل، داخل تحت الوعيد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حَرَّمَ الله تعالى عليه الجنة وأوجب له النار)
(1)
اهـ. ونحوه في المقدمات، وقال ابن الحاجب: واليمين على نية الحاكم فلا تفيد تورية ولا استثناء. اهـ. وقال المواق: ابن شاس: قال أحمد بن زياد: قلت لابن عبدوس: إذا أسلف الرجلُ الرجلَ مالا فقضاه إياه بعد ذلك بغير بينة وجحد القابض، فإن أراد أن يحلفه أنه ما أسلفه، وقال المستسلف: بل أحلف ماله عندي شيء، قال: لا بد أن يحلف ما أسلفه شيئا، قلت له: فقد اضطررتموه إلى يمين كاذبة أو إلى غرم ما لا يجب عليه، قال: يحلف ما أسلفه وينوي في ضميره سلفا يجب علي رده إليه في هذا الوقت وبرئ من الإثم في ذلك. اهـ.
وقال الخرشي: ثم كان على المؤلف أن يزيد الآن وإلا فهو حانث لأنه استسلف منه سلفا كان يجب عليه رده بحسب الأصل. اهـ. وقال ابن الحاجب: إن المسائل لابن عبدوس ابن دينار خلاف ما ذكر ابن شأس من عزو السؤال لأحمد بن زياد، وذكر ابن حارث في كتاب المديان كلفظ ابن شأس وعزو ابن الحاجب وهم لأن ابن دينار إما عيسى وإما عبد الرحمن وإما محمد، وكلهم لا يستقيم أن يسأل ابن عبدوس لعلو طبقاتهم، أما عيسى فهو أكبر من ابن عبدوس، قال عياض وغيره: إنه أخذ عن مالك ولازم ابن القاسم، فقال عياض فيه: لقي ابن القاسم في رحلته الأخرى وروى عنه سماعه وعرض عليه المدونة وفيها أشياء من رأيه، وكلاهما من أهل الأندلس وذكرهما في طبقة سحنون، وأما محمد فقال فيه عياض: إنه صحب مالكا وابن هرمز وروى عنه ابن وهب، قال ابن عبد البر: كان مفتي أهل المدينة مع مالك وعبد العزيز، وأما ابن عبدوس فقال فيه عياض هو: محمد بن إبراهيم بن عبدوس، وكان من أصحاب سحنون وهو أحد المحمدين الأربعة الذين اجتمعوا في عصر واحد من أئمة مذهب مالك، لم يجتمع في زمن مثلهم، اثنان مصريان: ابن عبد الحكم وابن المواز، واثنان قرويان: ابن عبدوس وابن سحنون، والحق ما ذكره ابن حارث أن المسائل أحمد بن زياد. قال عياض: صحب ابن عبدوس وغيره، سمع منه ابن
(1)
الموطأ، رقم الحديث 459. مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث 137.
حارث وأبو العرب وغيرهما، قال أبو العرب: كان عالما بالوثائق وضع فيها عشرة أجزاء أجاد فيها. قاله البناني.
تنبيهات: الأول: قال الخرشي: لو مات إنسان وله وارث أبكم أصم، وقام شاهد لأبيه بدين فهذا لا يمكن أن يحلف مع شاهده فيحلف من عليه الحق ويبقى عنده إلى أن يزول ذلك فيحلف، فإن لم يزُلْ عنه ذلك برئ من عليه الحق ولا تعاد عليه اليمين كما تقدم في قوله:"فإن نكل اكتفي بيمين المطلوب الأولى" وإذا ادعى بعض الورثة بدين على غريم وحلف الغريم لذلك الوارث بحكم القاضي، فإنه حلف لجميعهم وعليه العمل. انتهى.
الثاني: لو كان للميت شاهد واحد وعليه دين حلف الورثة ودفعوا لذي الدين دينه واقتسموا الفضل، فإن أبوا حلف الغريم وأخذ حقه، فلو أراد الوارث بعد ذلك الحلف وأخذ الفضل لم يكن له إلا أن يكون امتناعه لعذر أو لجهل أن فيه فضلا. قاله في الإرشاد. والظاهر قبول قوله في العذر والجهل. اهـ. نقله الخرشي.
الثالث: اسْتُشْكِلَ ما ذكره المص من قوله: فإن قضى نوى سلفا يجب رده بأن اليمين على نية الحاكم، ويجاب بأن المجمع عليه أنها لا تفيد إنما هو حيث اقتطع بيمينه حق امرئ مسلم وهنا لم يقتطعه بها فتنفعه على خلاف في ذلك. والله تعالى أعلم.
وإن قال: وقف أو لولدي لم يصنع مدع من إقامة بينة يعني أن من ادعى شيئا معينا بيد غيره من دار أو غيرها، فقال المدعى عليه: هذا وقف أو هو لولدي تصير المنازعة بين الطالب وناظر الموقف أو بينه وبين الولد الكبير أو بينه وبين ولي الصغير فيقيم بينة بذلك ويعمل بمقتضاها، قال عبد الباقي: وإن قال: من ادعي عليه بشيء معين عقارا أو غيره في يده هو وقف أو هو لولدي الكبير أو الصغير لم يمنع مدع لذلك الشيء بسبب القول المذكور من إقامة بينة على المقر له وينتقل خصام المدعي لناظر الموقف أو للولد الكبير أو لوالد الصغير.
وإن قال لفلان يعني أنه إذا قال المدعى عليه هو لفلان، فلا يخلو ذلك من أمرين: إما أن يكون المقر له حاضرا وإما أن يكون غائبا، فإن حضر القر له أي كان حاضرا ادَّعَى بالبناء للفاعل كما في ابن مرزوق، وفاعله ضمير يعود على المدعي عليه أي على المقر له الحاضر، ومعنى ادعى عليه
أنه تنتقل الدعوى إلى المقر له باعتراف الأول مع تصديق المقر له إياه، ثم لا يخلو المقر له من أن يحلف أو ينكل، فإن حلف استحق الشيء المتنازع فيه، وحينئذ فللمدعي تحليف المقر بكسر القاف أنه صادق في إقراره للمقر له، وأنه لا حق فيه للمدعي، فإن حلف سقط حق المدعي، ويأتي في كلامه: نكوله، وإن نكل المقر له حلف المدعي أن المقر كاذب في إقراره وأنه حقي وأخذه بيمينه مع نكول المقر له، فإن نكل المدعي فلا شيء له وليس له حينئذ تحليف المقر بخلاف ما إذا حلف المقر له، فللمدعي تحليف المقر كما قال المص، وليست بيمين تهمة خلافا للتتائي، بل يمين تحقيق، بدليل قوله:"وإن نكل حلف وغرم ما فوته له". قاله عبد الباقي.
وقال البناني: اسْتُشْكِلَ هذا بأن هذه اليمين للتهمة وهي ضعيفة، بدليل الخلاف فيها هل تتوجه وأيضا فإنها لا تنقلب، فكيف ساغ مع النكول عنها أن يحلف الآخر ويغرم المقر ما فوته مع أن النكول؟ بمنزلة شاهد وهو هنا ضعيف، وأجاب الزرقاني: بأن اليمين ليست يمين تهمة وإنما هي تحقيق، بدليل قوله: وإن نكل المقر بعد حلف المقر له وأخذه الشيء المقر به، حلف المدعي أن المقر كاذب في إقراره لمن أقر له، وغرم المقر بكسر الراء ما فوته أي الشيء الذي فوته عليه بإقراره للمقر له أي قيمته إن كان مقوما، ومثله إن كان مثليا. وذكر قسيم قوله:"فإن حضر"، بقوله: أو غاب أي وإن كان المقر له غائبا غيبة بعيدة لا يعذر له فيها، لزمه أي لزم المقر أحد أمرين: يَمِينٌ أن إقراره حق لاتهامه أنه أراد إبطال الخصومة عن نفسه، أو بينة أنه ملك لفلان الغائب أودعه عنده أو رهنه أو أعاره أو نحو ذلك. قاله عبد الباقي.
قوله: إنه ملك لفلان الغائب، قال البناني: لا يشترط شهادة هذه البينة بالملك للغائب، بل شهادتها بالإعارة أو بالإيداع تكفي في بقائه تحت يده، ورد دعوى المدعي المجردة كما يأتي له. اهـ. واذا وجد أحد هذين الأمرين بقي بيد المدعى عليه، وانتقلت الحكومة له أي انتقلت المخاصمة فيه عند الحاكم للمقر له الغائب فيبقى المدعي على حقه إذا قدم المقر له، وإن نكل المقر عن اليمين في غيبة المقر له أخذه المدعي إلى حضور المقر له بلا يمين على المدعي؛ إذ لا معنى لها لأنها لا تقطع حجة الغائب، وإن جاء المقر له بعد يمين المقر أو نكوله وتسليمه للمدعي
فهو كالفرع على الأمرين، فصدق المقر فيما أقر به أخذه المقر له من يد المقر حيث حلف أو أقام بينة أو من يد المدعي حيث انتفيا بلا يمين في الأوليين، وبها في الثالثة كما يفيده الحطاب، وقرر معظم شيوخ علي الأجهوري أنه بيمين في الأوليين أيضا؛ لأن إقراره به له ويمينه أنه له كشاهد حيث كان عدلا، والبينة التي أقامها في غيبته حيث لم تشهد بالملك بل بالإعارة أو الوديعة أو الرهن كذلك، فإن شهدت بالملك أخذه المقر له بلا يمين وينبغي التعويل على هذا. قاله الشارح والتتائي. واللفظ له.
ومَفْهُومُ صدق المقر أنه لو كذبه سقط حقه، وهل يكون لبيت المال لأنه كمال لا مالك له لا؟ المازري: وهو ظاهر الروايات عندنا أو يسلم لدعيه لأنه لا منازع له فيه وبيت، المال لم يحز حتى يدافع الإمام عنه المُدَّعيَ كما قيل فيما أخذه السلابة [فأخذه منه]
(1)
، فإنه يقضى به لدعيه بعد الاستيناء والإياس ممن يطلبه أو يبقى بيد حائزه أقوال، والظاهر القول الثاني لأن ملكه دائر بين المقر والمقر له والمدعِي فيما يظهر، فإذا انتفى ملك الأولين بقي للمدَّعِي. قاله عبد الباقي. وقوله:"بلا يمين" في الأوليين وبها في الثالثة كما يفيده الحطاب، ما أفاده الحطاب هو الظاهر لأن معناه أن المقر له إذا حضر يأخذه من المقر بلا يمين، لكن إذا خاصمه المدعي حلف له لقول المص:"وانتقلت الحكومة له"، وشيوخ علي الأجهوري إنما تكلموا على حلفه للمدعي لا للمقر كما يدل عليه كلامه عنهم، فلا خلاف إذا بينهم وبين الحطاب. فتأمله. والله أعلم. قاله البناني.
تنبيهات: الأول: قوله: "أو غاب" لو قال: وإن غاب لنسج على منوال قسيمه. قاله عبد الباقي، وغيره.
الثاني: وقع في شرح عبد الباقي ما نصه: ويقدح في القياس على السلابة أن احتمال كونه أي الشيء المتنازع فيه يعني حيث كذب المقر له المقر لغير من يدعيه أقوى من احتمال كونه لغير المدعي. اهـ. وفيه نظر، والصواب أن يقول: والقياس أحروي كما في الرهوني. والله تعالى أعلم. الثالث: قوله: "وإن جاء المقر له" إلخ تفصيل لقوله: "وانتقلت الحكومة له" قاله الخرشي.
(1)
في عبد الباقي ج 7 ص 223 فأخذ منهم.
وإن استحلف وله بينة حاضرة أو كالجمعة يعلمها لم تسمع يعني أن المدعي إذا كان له بينة حاضرة أو غائبة كثمانية أيام ونحوها ذهابا وإيابا وهو عالم بها وحَلَفَ المدعى عليه، فإنه لا تقبل بينته بعد ذلك إذا حضرت لأنه ما حلف خصمه إلا على إسقاطها، فلذا تسقط بمجرد الحلف وإن لم يصرح بالإسقاط كما هو ظاهر كلام المؤلف وهو حمل الأكثر لِلْمُدَوَنة، وقال آخرون: لا يكون تاركا لها إلا بتصريحه بترك القيام بها وأما إن لم يعلم بها فله القيام بها، والقول قوله في نفي العلم مع يمينه. قاله سحنون. فقوله: فإن استحلف أي وحلف وليس المراد أن مجرد الحلف يسقط قيام البينة كما هو ظاهر قول الرسالة، وإذا وجد الطالب بينة بعد يمين المطلوب، فإن لم يكن علم بها قضي له بها، وإن كان علم بها فلا تقبل منه، وقد قيل تقبل منه. وقوله:"كالجمعة" أي مع الأمن، واحترز بذلك عما إذا كانت الغيبة بعيدة فإن له أن يقيمها، فإن قيل: المستحلف إنما يستحلف بعد أن ينفي البينة وإذا نفاها، كيف يكون له القيام بها مع أنه أسقطها؟ فالجواب: أن البينة الغائبة غيبة بعيدة نزلوها منزلة العدم، فإذا نفاها لم يضره ذلك. قاله الخرشي.
وقوله: "يعلمها" صفة لبينة فهو راجع للمسألتين، وليس قوله:"وإن استحلف" تكرارا مع ما سبق من قوله: "وإن نفاها واستحلفه فلا بينة إلا لعذر؛ " لأنه هنا أفاد تفصيلا لم يفده هناك، ولو نكل المدعى عليه وحلف المدعي على ما ادعى وغرم له المدعى عليه، ثم وجد المدعى عليه بينة بالوفاء فله أن يقيمها. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وإن استحلف المدعي أي طلب يمين غريمه وحلف بالفعل لا مجرد طلبه من غير حلف، إذ لا تسقط به بينة وله بينة حاضرة بالبلد يعلمها أو قريبة كالجمعة ذهابا فقط يعلمها، وأراد إقامتها بعد ذلك لم تسمع لأنه إنما حلف على إسقاطها فتسقط، وإن لم يصرح به إلا أن يشترط سماعها بعد حلفه ويوافقه الآخر فيعمل به كما في الحطاب عن زروق، ومفهوم يعلمها سماعها حيث لم يعلمها، والقول قوله مع يمينه على نفي علمها، وكذا نسيانها وبعدها الزائد عن كالجمعة على ظاهر المص، فإن قيل هذه المسألة مكررة مع قوله فيما مر:"فإن نفاها واستحلفه فلا بينة إلا لعذر كنسيان"، فالجواب أن هذه استفيد
فيها ما لم يستفد مما هناك. اهـ. قوله: حلف بالفعل إلخ، قال الرهوني: تقدم ما فيه في باب القضاء فراجعه. اهـ. ولي معه بحث. والله تعالى أعلم. وقال الشبراخيتي: فلو كانت البينة بعيدة سمعت. علم بها أم لا. اهـ.
تنبيه: قال في التبصرة: ومن الحزم للمدعى عليه إذا طلب المدعي يمينه أن يلزمه أنه أسقط بينته ما علم منها وما لم يعلم، فإذا عقد على نفسه مثل هذا لم يكن له أن يقوم بالبينة بعد اليمين. اهـ.
وإن نكل في مال وحقه استحق به بيمين فاعل "نكل" من توجهت عليه اليمين، يعني أن من توجهت عليه اليمين في مال أو في حقه أي المال أي ما يؤول إلى المال كأجل وخيار ونكل عنها، فإن صاحبه يستحق ما ذكر من المال وحقه بالنكول ممن توجهت عليه اليمين مع يمين الطالب، قال عبد الباقي: وإن نكل مدعى عليه عن يمين توجهت عليه في مال وحقه أي المال وما يؤول إليه، كخيار وأجل استحق مدع ما ادعاه به أي بسبب نكوله بيمين من المدعي، أي معه لا بمجرد النكول، وهذا إن حقق المدعي معرفة ما ادعى به فالتحقيق قيد في اليمين، فإن كان موجبه التهمة فبمجرد نكوله استحقه المدعي لأن يمين التهمة لا ترد. قال عبد الباقي: ولا يعارضه قوله في باب القضاء: "فيدعي بمعلوم محقق وإلا لم تسمع كأظن" لأنه في غير دعوى الاتهام، وما هنا في دعواها. اهـ.
قوله: ولا يعارض قوله في باب القضاء فيدعي بمعلوم إلخ، تبع فيه الأجهوري وفيه نظر، بل هو معارض له لكن مشى هنا على قول وهناك على قول آخر، وقد قال الحطاب في مفهوم قول المص:"إن حقق"، فلو كانت يمين تهمة فإن الحق فيها يثبت بمجرد النكول على المشهور، صرح به ابن رشد. اهـ من التوضيح. قال ابن عرفة: ابن زرقون: اختلف في توجه يمين التهمة، فمذهب المدونة في تضمين الصناع والسرقة أنها تتوجه، وقاله غير ابن القاسم في غير المدونة، وقال أشهب: لا تتوجه وعلى الأول فالمشهور لا تنقلب، وقي سماع عيسى من كتاب الشركة أنها تنقلب، قُلْتُ: هو كلام ابن رشد. اهـ. وقال مصطفى: قول المص: "بيمين إن حقق" تفريع على توجه يمين التهمة، وقوله في القضاء:"فيدعي بمعلوم محقق" إلخ يقتضي عدم سماع دعوى التهمة
فضلا عن توجه اليمين فيها، وفي المسألة خلاف، فيؤخذ من كلام المص قولان بالتوجه وعدمه، ثم ذكر كارم ابن فرحون في تبصرته بقوله: ثم قال إذا علمت هذا ظهر لك أن قَوْلَ الأجهوري: إن ما تقدم في القضاء من قوله: "فيدعي بمعلوم محقق" إلخ هو في غير دعوى الاتهام أما فيها فتسمع، فيه نَظَرٌ ولا معنى له؛ إذ كل ما خالف التحقيق فهو تهمة، وكأنه فهم أن المراد بالاتهام كون المدعى عليه من أهل المتهم، وليس كذلك لما علمته من كلام الأئمة أن يمين التهمة - أعني المقابلة للمحققة - تتوجه على القول بها، وإن كان المدعى عليه ليس من أهل التهم، نعم في بعض المسائل يشترطون ذلك لموجب وهي قليلة، فتأمله. قاله البناني.
وقال الشبراخيتي: وإن نكل مدعى عليه عن اليمين في مال وحقه أي حق المال وهو ما يؤول إليه كخيار وأجل استحق ما ادعاه به؛ أي بسبب نكوله بيمين من المدعي مع النكول، والباء الأولى سببية والثانية بمعنى مع أي حقق الدعوى احترازا عن الاتهام، فلا يحتاج ليمين المدعي بل يغرم بمجرد النكول، والنكول كما قال ابن عرفة: امتناع من وجبت عليه أو له يمين منها. اهـ. وقال المواق: ابن شأس: ولا يثبت الحق بمجرد النكول ولكن ترد اليمين على المدعي إذا تم نكول المدعى عليه، ويتم نكوله بأن يقول: لا أحلف أو أنا ناكل، أو يقول للمدعي: احلف أو يتمادى على الامتناع من اليمين فيحكم القاضي بنكوله، فإن قال بعد ذلك: أنا أحلف لم يقبل منه. ابن عتاب: قوله عليه الصلاة السلام: واليمين على من أنكر، مذهبنا أن هذا على الخصوص؛ إذ لو أن رجلا ادعى نكاح امرأة أو العكس أنه لا يمين على المنكر إذ لا يقضى فيه بالنكول إذ لا ينعقد النكاح بالأيمان؛ ابن زرقون: اختلف في توجه يمين التهمة، ومذهب المدونة أنها تتوجه وعلى توجهها فالمشهور أنه إن نكل فلا تنقلب على المدعي، قال الباجي: إن ادعى المودَع تلف الوديعة وادعى الودِع تعديه عليها صدق المودَع إلا أن يتهم فيحلف. قاله أصحاب مالك، قال ابن عبد الحكم: فإن نكل ضمن ولا ترد اليمين هنا. اهـ.
وليبين الحاكم حكمه أي حكم النكول، يعني أن الحاكم يجب عليه أن يبين حكم النكول للمدعى عليه بأن يقول له: إن نكلت حلف المدعي واستحق ما ادعى، قال عبد الباقي: وليبين
الحاكم للمدعى عليه حكمه أي النكول أي ما يترتب على النكول في دعوى التحقيق أو التهمة، وظاهره كعبارة الأم الوجوب وعليه فهو شرط في صحة الحكم كالإعذار في محله للمدعى عليه، وظاهر ابن شأس وابن الحاجب الاستحباب. اهـ.
قال مقيده عفا الله عنه: والأولى أن يكون معني المص: وليبين الحاكم حكمه أي النكول من مدع أو مدعى عليه. اهـ. ومحل طلب القاضي حيث لا يعرف المُدّعَى عليه أو يعرف ويعرف منه الجهل.
ولا يمكن منها إن نكل يعني أن من توجهت عليه اليمين من مدع أو مدعى عليه إذا نكل عن اليمين وأراد بعد ذلك أن يحلف، فإنه لا يمكن من اليمين، قال عبد الباقي: ولا يمكن من توجهت عليه من مدع أو مدعى عليه كما في التتائي عن التوضيح منها إن نكل عند السلطان أو غيره؛ لأن نكوله دليل على صدق خصمه، وسيأتي مفهومه إن سكت، وقال الشبراخيتي: ولا يمكن منها إن نكل سواء كان مدعيا أو مدعى عليه، وسواء كان عند القاضي أو غيره. اهـ.
وقال مالك فيمن أقام شاهدا على مال وأبى أن يحلف معه ورد اليمين على المطلوب ثم بدا له أن يحلف: فليس له ذلك.
بخلاف مدع التزمها ثم رجع يعني أن من التزم اليمين من مدع أو مدعى عليه أي التزم الحلف بنفسه، وأنه لا يرد اليمين على صاحبه ثم رجع عن ذلك وأراد تحليف صاحبه، فله ذلك أي له أن يحلفه بعد التزام أنه يحلف بنفسه ولا يحلف صاحبه؛ لأن التزامه لا يكون أشد من إلزام الله تعالى له اليمين، وهو إذا رد اليمين بعد أن كانت عليه كان له ذلك.
تنبيهان: الأول: قوله: "ولا يمكن منها إن نكل" أي ولو كانت اليمين متعددة كأيمان القسامة، وقوله:"ولا يمكن" أي لأنه تعلق لخصمه حق بنكوله فلا يمكن من إبطاله. قاله الخرشي. ومفهومه أنه لو أسقط حقه لكن منها. قاله في التبصرة. وإذا تم نكوله، ثم قال بعد ذلك: أنا أحلف لم يقبل منه ولم يلزم ذلك خصمه إلا أن يشاء. اهـ.
الثاني: قال الخرشي: يؤخذ من هذا الفرع أن من وجبت عليه يمين فطلب التأخير ليتروى في أمره أنه يجاب لذلك؛ إذ قد يكون له غرض صحيح في ذلك وهو خوف نسبته للتجرؤ على
اليمين لو حلفها من غير تحقق، ويدل له قول المواق عند قول المؤلف:"وإن نكل في مال وحقه" إلخ، ولو قال: أمهلوني أمهل. اهـ. وهذا ما لم يطلب خصمه التعجيل كما يفيده قول ابن فرحون.
مسألة: وإذا وجبت يمين على رجل فأراد الطالب تأخيرها وأراد الآخر تعجيلها أو العكس، فتعجيلها واجب لمن طلب ذلك منهما. اهـ. قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: ولو قال: بخلاف من التزمها ثم رجع لكان أخصر وأشمل. اهـ.
وإن ردت على مدع وسكت زمانا فله الحلف يعني أن اليمين إذا توجهت على مدع أو مدعى عليه، وسكت هذا الذي توجهت عليه زمانا قصيرا أو طويلا لم يقض العرف بأنه نكول، فإن له الحلف وهذا مفهوم قوله:"ولا يمكن منها إن نكل"، قال عبد الباقي: وإن ردت يمين على مدع أو مدعى عليه من مقيم شاهد في مال وَرَدَّ اليمين على المدعى عليه لرد شهادة الشاهد وسكت زمانا قصيرا أو طويلا، لم يقض العرف بأنه نكول فيما يظهر فله الحلف، ولا يعد سكوته نكولا، وأولى إن طلب المهلة ليتروى في الإقدام عليها أو الإحجام، إلا أن يطلب خصمه التعجيل كما لابن فرحون. اهـ.
وقال البناني: لو قال: عوض ما ذكر وإن سكت من توجهت عليه زمانا إلخ لكان أحسن لشموله. اهـ. وقال المواق: ابن شأس: نكول المدعي بعد نكول المدعى عليه كحلف المدعى عليه. ابن عرفة: هذا هو نص الروايات في المدونة وفي غيرها، ومثله قول ابن الحاجب: لو ادعى أنه قضاه ثم نكل بعد نكوله لزمه، وقال ابن عرفة: الأقوال ثلاثة فيمن وجبت عليه يمين، وقال أمهلني أنظر في حسابي، قيل: يمهل، وقيل: لا، وقيل: يمهل ثلاثة أيام لا يزاد عليها.
وسُئِل ابن عتاب: إذا رد المطلوب اليمين على الطالب فسكت ثم أراد أن يحلف، فقال: المراد لا أمكنك الآن وأنا أحلف على إنكاري دعواك، واليمين إنما بقيت عليَّ لا عليك، فجاوب: يحلف الطالب ويستحق ما حلف عليه. قاله مالك وعامة أصحابه. ابن سهل: هو في سماع أصبغ وسماع عيسى وفي المختلطة. اهـ.
وقال الشبراخيتي: وإن ردت يمين على مدع ومثله المدعى عليه فسكت غير ملتزم ولا ناكل، ثم أراد أن يحلف فله الحلف ولا مقال للآخر، إذ لا يعد سكوته نكولا، وسواء طال أو لا. قاله ابن عتاب. اهـ. وقال ابن مرزوق: وظاهر ما تلخص من النقل أن لا رجوع بعد النكول ورد اليمين اتفاقا وبعد النكول وقبل ردها قولان، وظاهر المص أن مجرد النكول مانع من الرجوع. اهـ.
ثم تكلم على مسألة تعرف بمسألة الحيازة وألحقها بالشهادة؛ لأن في بعض أنواعها ما تسمع فيه البينة، وفي بعضها ما لا تسمع فيه، وربما يذكرونها مع الأقضية لأن بعضها يقع فيه القضاء، وذكر منها ثلاثة أنواع: أجنبي غير شريك، وأجنبي شريك، وأقارب شركاء أصهار وغيرهم، فأشار للنوع الأول بقوله:
وإن حازَ أجنبيٌّ غير شريك وتصرف ثم ادعى حاضر ساكت بلا مانع عشر سنين لم تسمع ولا بينته يعني أن الأجنبي غير الشريك إذا حاز شيئا على صاحبه وتصرف فيه ولو بغير هدم كالإسكان والإجارة على المشهور مدة عشر سنين وصاحبه حاضر ساكت طول المدة لا مانع له من القيام بحقه، فإن ذلك ينقل الملك عنه أي يدل على نقل الملك عنه، فإذا قام صاحبه الأجنبي بعد ذلك يطلب متاعه فإن دعواه ملك ذلك الشيء لا تسمع، وكذلك إذا أقام بينة تشهد له بالملك لذلك الشيء فإن بينته لا تسمع أي لا تقبل واستحقه الحائز، لقوله عليه الصلاة والسلام:(من احتاز شيئا عشر سنين فهو له)
(1)
، ولا بد أن يدعي الحائز الملك بشراء أو هبة أو غير ذلك، فإن لم يدع الملك له سمعت دعوى المدعي وبينته. والله تعالى أعلم.
قال عبد الباقي: وإن حاز أجنبي غير شريك، وأشار لصفة الحوز وأول شروطه بقوله: وتصرف بواحد من ثلاثة عشر: سكنى أزدراع، غرس، استغلال، هبة، صدقة ت نحلة، عتق، كتابة، تدبير، بيع، هدم، بناء كثير لغير إصلاح لا له، أو يسير عرفا. وفي بعض الشراح: استثناء المبيع والهبة والصدقة والوطء والكتابة ونحو ذلك، فإن هذا لا يحتاج معه إلى طول الزمان إذا علم المدعي ذلك ولم ينكر، وهذا عام في جميع الأقسام التي ذكر المص، والتي لم يذكرها كالأصهار
(1)
مراسيل أبي داود، رقم الحديث 415.
والموالي ولا يلتفت لكلام الشارح وغيره، ولثانيها بقوله: ثم ادعى أجنبي حاضر مع الحائز ولو حكما، كعلى مسافة يومين في حق الرجال لا النساء. قاله ابن عاصم. وأراد يومين مع الأمن، فإن بعدت غيبته كالسبعة الأيام فله القيام متى قدم اتفاقا مطلقا، فإن قربت كالأربعة وثبت عذره عن القدوم لعجز ونحوه عن التوكيل فكذلك أيضا، وإن أشكل أمره فكذلك عند ابن القاسم. وقال ابن حبيب: يسقط حقه ما لم يثبت عذره كذا يفيده الشارح وغيره، فجَعْلُ التتائي اختلاف ابن القاسم وابن حبيب في القريبة كالأربعة مع ثبوت العذر فيه نظر، لما علمت من أن اختلافهما مع جهله: وأما مع ثبوته فله القيام باتفاقهما. اهـ كلام عبد الباقي.
وقال الرهوني بعد جلب نقول: فالقولان لابن القاسم وليسا متساويين، بل الأول هو المعتمد ومقابله لابن حبيب وهو قول ابن القاسم الرجوع عنه. اهـ. وقال عبد الباقي: ولثالثها بقوله: "ساكت" فإن نَازَعَ الحائز لم يسقط حقه، وظاهره ولو في أي وقت من العشر سنين، وفي ابن مرزوق عن سحنون: لا بد من دوام النازعة فيها. اهـ. [وظاهره]
(1)
وإن لم تكن عند حاكم وهو ظاهر الشارح وابن ناجي، وفي ابن عمر أنه تنفعه إن كانت عند قاض. اهـ. وفيه نظر، بل الذي صرح به ابن ناجي أن الخصام الذي ينفعه هو ما كان عند القاضي. قاله الرهوني. وقال بعد جلب كلام: وبه تعلم أن الراجح هو الثاني؛ أي إنما تنفع إذا كانت عند قاض لا ما صدر به. اهـ.
وقال عبد الباقي: قال التتائي عنه - يعني عن ابن عمر -: الحيازة إنما تكون في موضع الأحكام، وأما في موضع البادية فلا حيازة، ولرابعها بقوله:"بلا مانع"، ومن عدمه جهل حكم أن الحيازة تقطع البينة فلا يعذر به، ودعواه سكوته لغيبتها أو غيبة وثيقته، فحين حضرت بعد العشر سنين قام بها فلا ينفعه ذلك. اهـ. قوله: لغيبتها أو غيبة وثيقته فيه نظر، بل ذلك من العذر كالذي بعده، وهو قوله فإن سكت لعذر إلخ، فهما معا من العذر. قاله الرهوني.
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 224.
وقال عبد الباقي: فإن سكت لمانع كدعوى جهله ما يقوم به من بينة أو وثيقة ثم وجدها عذر بذلك، وكخوفه من سطوة الحائز أو استناده لذي سطوة أو كونه رب دين على المدعي وهو معدم، كصغره أو سفهه مولى عليه أو بكر غير معنسة وكان ذلك عشر سنين، ظرف لحاضر ساكت بلا مانع وهو يتضمن كون الحيازة عشر سنين أي للحائز أو له ولوارثه، فإنها تلفق منهما وليس ظرفا لتصرف إذ لا يعتبر فية تلك المدة، بل يكفي فيه أول جزء منها. قاله علي الأجهوري. وفي ابن مرزوق ما يخالفه، فإنه قال: قوله: "عشر سنين" يصح أن يعمل فيه حاز أو تصرف أو حاضر أو ساكت فيعمل فيه أحدها، وباقيها في ضميره إن جاز تنازع مثل هذا العدد، وإلا فيقدر معمول لا زاد على العوامل، ولايجوز أن يعمل في ضمير المتنازع فيه والمعتمد ما في الأجهوري لم تسمع دعواه كسماعها على غير الحائز، بحيث تكون البينة على المدعي واليمين على من أتكر، وليس المراد نفي سماعها مطلقا إذ تسمع لاحتمال إقرار الحائز للمدعي واعتقاد الحائز أن مجرد حوزها تلك المدة يوجب له ملكها وإن كانت ثابتة الملك [لغيره]
(1)
. قاله التتائي.
وبقي عليه شرط خامس، وهو أن يعلم هذا الحاضر أنه ملكه مع تصرف الحائز له، وأما إن قال لا علم لي بأنه ملكي وما وجدت الوثيقة إلا عند فلان، أو كان وارثا وادعى أنه لم يعلم قبل قوله مع يمينه. قاله في الوثائق المجموعة. ويحتمل أن يدخل هذا في قول المص "بلا مانع". اهـ. أي في مفهومه، وبقي من شروطها أيضا أن يدعي الحائز ملك الشيء المحوز أي ولو مرة، وأما إن لم تكن له حجة إلا مجرد الحيازة فلا ينفعه كما قاله ابن مزروق: وإنما لم تسمع دعواه بعد المدة المذكورة مع شروطها لأن العرف يكذبه؛ إذ سكوته تلك المدة دليل صدق الحائز لجري العادة أن الإنسان لا يسكت عن ملكه تلك المدة، ولخبر: من حاز شيئا عشر سنين فهو له، والتحديد بها هو المشهور كما قال ابن رشد، وعزاه في المدونة لربيعة.
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 7 ص 224.
"ولا بينته" ذكره لدفع توهم أن دعواه تسمع مع البينة ولأجل قوله: إلا أن تشهد البينة بإسكان من المدعي للحائز، ونحوه كإعماره ومساقاته أو مزارعته فإن ذلك لا يُفَوِّتُه على صاحبه فتسمع بينته، فليس مراده إلا بدعوى إسكان لعدم قبول دعواه مع إنكار الحائزة نعم إن أقر به كان كالبينة أو أولى كما في المَوَّاق. انتهى. قوله: فليس مراده إلا بدعوى إسكان إلخ غير صحيح، لمخالفته للنصوص، والحق أن الاستثناء راجع للأمرين أي لم تسمع دعواه إلا أن يدعي الإسكان ولا بينته إلا بينة شهدت بالإسكان. قاله الرهوني. وقال عبد الباقي عقب قوله كما في المواق: ثم لا بد من حلفه إن ادعى الحائز الملكية من المدعي أو غيره ببيع أو هبة، فإن ادعى مجرد الحيازة لم يحلف مقيم البينة معها. قاله في التوضيح. وأصله لابن رشد والمازري وتقدم نحوه، وفي المدونة: الحيازة كالبينة القاطعة لا يحتاج معها ليمين. اهـ.
ولا يكون قوله: وهبته لي إقرارا بالملك فيخص ما تقدم في باب الإقرار بما إذا لم تكن مدة حيازة لتقديم شهادة العرف على إقراره، وقيد قوله:"إلا بإسكان ونحوه" بما إذا لم يحصل من الحائز بحضرة المدعي بيع أو هبة أو صدقة أو نحلة أو عتق أو كتابة أو تدبير أو وطء أو نحو ذلك مما لا يحصل إلا من المالك في ملكه، فلا تسمع بينة المدعي بإسكان ونحوه. قاله أبو الحسن والتبصرة وقيد قوله لم تسمع إلخ بحق الآدمي، وأما في حق الله كوقف وبناء الطريق فتسمع البينة ولو زادت مدة الحيازة على الأمد المذكور قطعا في الأول، وقيد ابن عرفة الثاني بما إذا لم يتقادم البناء بالطريق كستين سنة، والإطلاق هو الموافق لقول المص في باب الشركة:"وبهدم بناء بطريق ولو لم يضر"، فظاهره ولو تقادم. ويستثنى من قوله:"ولا بينته" الديون الثابتة، قال أحمد: وفي فتاوي البرزلي: اختلف المذهب في حد السكوت القاطع لطلب الديون الثابتة في الوثائق والأحكام مع حضور ربها وتمكنه، فقيل: عشرون سنة وهو قول مطرف، وقيل: ثلاثون وهو قول مالك، قال: وأحفظ لابن رشد أنه إذا تقرر الدين وثبت لا يبطل وإن طال، لعموم خبر:(لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم) واختاره التونسي إذا كان بوثيقة مكتوبة وهي في يد الطالب، واختاره شيخنا الغبريني وسواء كان من مبايعة أو سلف أو صَدُقَاتٍ. اهـ.
تنبيهات: الأول: من العذر كون الإنسان واسع المال له مال عديد ببلاد شتى وجرت عادته بالتفضل مع الناس لعلو همته. قاله الرهوني. وجلب دليله فانظره إن شئت.
الثاني: قول عبد الباقي: وبقي من شروطها أن يدعي الحائز ملك الشيء المحوز، قال الرهوني: يشمل صورتين: الأولى أن يدعيه ملكا لنفسه ولا يقر بأنه، كان ملكا للقائم عليه ولا إشكال في هذه، الثانية أن يدعي ذلك لنفسه مع اعترافه أنه كان ملكا للقائم لكن ادعى أنه اشتراه منه أو وهبه له أو تصدق به عليه، ومحصله أنه تنفعه الحيازة في دعوى الشراء على المشهور وفي دعوى الهبة والصدقة قولان قويان. اهـ. ومثل قوله: للمحوز عنه وهبته لي قوله أي الحائز للمحوز عنه: وهبه لي والدي ووالده كما في الدر النثير.
الثالث: قال المواق: سئل ابن زرب عمن بيع ماله بمحضره ولم ينكر، فقال: يقضى له بالثمن وليس له نقض المبيع، وسئل أيضا: إذا كان غائبا ثم علم وسكت السنة والسنتين، فقال: إنه له القيام، وقال أبو عمران وابن عبد الحكم: ليس له القيام إلا إن قام بعد اليوم والأيام اليسيرة، ومن هذا المعنى: إذا رآى التركة تقسم ثم قام بذكر حق أنه لا شيء له نقله ابن سهل. اهـ.
الرابع: قال البناني: يستثنى من قوله: لم تسمع، ما إذا كان الحائز معروفا بالغصب لأموال الناس فإن الحيازة لا تنفعه. ابن عرفة: سمع يحيى بن القاسم: من عرف بالغصب لأموال الناس لا ينتفع بحيازة مال غيره في وجهه، فلا يصدق من أجلها على ما يدعيه من شراء أو عطية وإن طال بيده أعواما إذا أقر بأصل الملك لدعيه أو قامت له به بينة، قال ابن رشد: وهذا صحيح لا خلاف فيه لأن الحيازة لا توجب الملك إنما هي دليل عليه توجب تصديق غير الغاصب فيما ادعاه من تصييره إليه؛ لأن الظاهر أنه لا يجوز أخذ مال أحد وهو حاضر لا يطلبه ولا يدعيه إلا وقد صار إلى حائزه إذا حازه العشرة الأعوام ونحوها. اهـ. الرهوني: هذا مقيد بما إذا كانت حيازة الغاصب بغير المبيع ونحوه، وإلا فالغاصب كغيره. اهـ.
الخامس: اختلف هل يطالب الحائز ببيان وجه ملكه؟ فقال ابن أبي زمنين: لا يطالب به، وقال غيره: يطالب، وقيل: إن لم يثبت أصل الملك للمدعي لم يطالب الحائز، وإن ثبت أصل الملك
للمدعي طولب الحائز بالبيان. قاله البناني. قال الرهوني: والراجح القول الثالث، وناقش في العزو لابن أبي زمنين.
السادس: قد مر قول عبد الباقي: وفي المدونة: الحيازة كالبينة القاطعة إلخ، قال البناني: هو موضوع في غير محله لأن كلامه هنا في القضاء للمدعي وكلام المدونة في القضاء للحائز، فلو قدمه عند قول المص:"لم تسمع" إلخ كان صوابا، وكذا قوله:"ولا يكون وهبته لي" إلخ، الصواب تقديمه هناك أيضا؛ لأن معنى هذا الفرع أن المدعي لم تشهد له بينة بإسكان ولا نحوه، وادعى الحائز أنه ملكه من جهة المدعي بهبة أو ابتياع مثلا، فإن الحائز يصدق بعد المدة بيمينه. اهـ. وفي المعيار: وسُئِلَ سيدي أبو عبد الله العبدوسي عمن له دين على رجل برسم وللرسم المذكور مدة من أربعين سنة، فهل يبطل الدين بتقادم عهده أم لا؟ فأَجَابَ: طول المدة المذكورة لا يبطل الدين عن المديان المذكور ولا خلاف في ذلك، وإنما الخلاف إذا كان الدين برسم وطالت المدة المذكورة جدا وادعى المديان قضاءه، ولم يكن هناك ما يدل على أنه لم يقضه من مغيب أو إكراه أو إنكار أو غير ذلك، فقيل يقبل قوله في القضاء مع يمينه، وقيل لا يقبل وهو المشهور، وإن كان بغير رسم فقيل يقبل قوله في القضاء مع طول المدة مع يمينه وهو المشهور، ولا سيما إن كان رب الدين محتاجا والذي عليه الدين مليا وكانا حاضرين، ولا دلالة بينهما تمنع من الطلب. وبالله التوفيق. نقله البناني.
السابع: قوله: "عشر سنين" قال البناني: هذا خاص بالعقار، والتحديد بالعشرة نحوه في الرسالة، وعزاه في المدونة لربيعة، قال ابن رشد: وهو المشهور في المذهب، ولابن القاسم في الموازية: ما قارب العشر كسبع وثمان كالعشر، وقال مالك في المدونة: تحد باجتهاد الحاكم.
الثامن: قد مر قول عبد الباقي عند قوله: "ثم ادعى حاضر": ولو حكما كمن على مسافة يومين أي في حق الرجال، فإن قربت كالأربعة وثبت عذره ثم قال وإن أشكل أمره فكذلك عند ابن القاسم، قال البناني: قول الزرقاني وإن أشكل أمره فكذلك أيضا تبع فيه الأجهوري، وأصله في التوضيح، قال مصطفى: وظاهر النقل أن ابن القاسم لا يسقط حقه بالأربعة ولو كان لا عذر له
فيما يراه الناس. اهـ. قال ابن عرفة: ابن رشد: وهذا الخلاف في القريب إنما هو إذا علم وإن لم يعلم فلا حيازة عليه وإن كان حاضرا، غير أنه في [القريب]
(1)
محمول على غير العلم حتى يثبت علمه، وفي الحاضر محمول على العلم حتى يتبين أنه لم يعلم. اهـ.
التاسع: قال البناني: قال ابن رشد في كتاب الاستحقاق من البيان: لا تنقل الحيازة ملك المحوز عليه إلى الحائز اتفاقا، ولكنها تدل على الملك كإرخاء الستور ومعرفة العفاص والوكاء، فيصدق الحائز مع يمينه لحديث:(من حاز شيئا عشر سنين فهو له)، ومعناه عند العلماء أن الحكم يوجبه له بدعواه، فمن حاز مال غيره في وجهه عشرة أعوام مع الهدم والبناء أم لا وادعى ملكه ببيع أو هبة مدق مع يمينه. انتهى باختصار. قال الحطاب: وسواء ادعى [صيرورة]
(2)
ذلك من غير المدعي أو ادعى أنه صار إليه من المدعي، ثم قال ابن رشد: والحيازة ستة أقسام أضعفها حِيَازَةُ الأب عن الابن، ثم حيازة الأقارب الشركاء، ثم الأقارب غير الشركاء، ثم الموالي والأختان غير الشركاء، ثم الأجانب الشركاء، ثم الأجانب غير الشركاء وهي أقواها. انظر الحطاب. وقول الزرقاني: وفي بعض الشراح استثناء المبيع والهبة إلخ، محل هذا الاستثناء إنما هو قوله:"عشر سنين" كما يفيده كلامه، ونص ابن رشد؛ وتحصل الحيازة في كل شيء بالبيع والهبة والصدقة والعتق والتدبير والكتابة والوطء ولو بين أب وابنه ولو قصرت المدة، إلا أنه إن حضر مجلس المبيع فسكت لزمه المبيع وكان له الثمن وإن سكت بعده الْعَامَ وَنَحْوَه استحق البائع بالحيازة مع يمينه، وإن لم يعلم بالبيع إلا بعد وقوعه فقام حين علم أخذ حقه، وإن سكت العام ونحوه لم يكن له إلا الثمن، وإن لم يقم حتى مضت مدة الحيازة لم يكن له شيء واستحقه الحائز، وإن حضر مجلس الهبة والعتق وسكت لم يكن له شيء، وإن لم يحضر ثم علم فإن قام حينئذ كان له حقه وإن سكت العام ونحوه فلا شيء له، ويختلف في الكتابة هل تحمل على البيع أو على العتق؟ قولان، اهـ باختصار. اهـ.
(1)
في البناني ج 7 ص 224 الغائب.
(2)
ساقطة من الأصل والمثبت من البناني ج 7 ص 223 والحطاب ج 6 ص 430 ط دار الرضوان.
العاشر قال الحطاب: "وإن حاز أجنبي غير شريك" احترز بقوله: "أجنبي" من القريب فإنه يأتي حكمه: وبقوله: "غير شريك" من الشريك فإنه يأتي أيضا حكمه، ومفعول قوله:"حاز" محذوف أي حاز عقارا من دار أو أرض، وأما غير العقار فلا يفتقر في الحيازة إلى عشرة أعوام كما يأتي بيانه: وقوله: "وتصرف" يعني أنه يشترط في الحيازة أن يكون الحائز يتصرف في العقار المحوز، وأطلق التصرف لينبه على أن حيازة الأجنبي غير الشريك يكفي فيها مطلق التصرف في العقار المحوز، ولو كان ذلك السكنى والازدراع الذي هو أضعف أنواع الحيازة، وهذا هو المشهور في المذهب أن الحيازة بينهم - يعني الأجانب غير الشركاء - تكون في العشرة الأعوام، وإن لم يكن هدم ولا بنيان. وعن ابن القاسم أنه لا تكون حيازة إلا مع الهدم والبنيان، ولاخلاف أنه تكون حيازة مع الهدم والبنيان. اهـ.
وقوله: "ثم ادعى حاضر" يعني أنه يشترط في كون الحيازة مانعة من سما دعوى المدعي أن يكون المدعي حاضرا احترز بذلك مما لو كان المدعي غائبا غيبة بعيدة كالسبعة الأيام، قال في التوضيح: وإن كانت الغيبة قريبة كالأربعة الأيام وثبت عذره عن القدوم والتوكيل من عجز ونحوه فلا حجة عليه، وإن أشكل أمره فظاهر المذهب أنه على قولين، قال ابن القاسم: لا يسقط حقه لأنه قد يضعف عن القدوم، قيل له: فإن لم يتبين عجزه عن ذلك، قال: قد يكون معذورا من لا يتبين عذره، وذكر ابن حبيب أنه يسقط حقه إلا أن يثبت عذره ساكت، واحترز بذلك مما لو تكلم قبل مضي مدة الحيازة، فإن حقه لا يبطل بلا مانع؛ يعني أن سكوت المدعي في المدة المذكورة إنما يبطل حقه إذا لم يكن له مانع يمنعه من الكلام، فلو كان هناك مانع يمنعه من الكلام فإن حقه لا يبطل، وفسر ابن الحاجب المانع بالخوف والقرابة والصهر، وقد احترز المص من القرابة بقوله: أوَّلا "أجنبي" فيكون المراد بالمانع في كلامه الخوف أي خوف المدعي من الذي في يده العقار لكونه ذا سلطان أو مستندا لذي سلطان، فإذا كان سكوته لذلك لم يبطل حقه. قال الجزولي: وكذلك إذا كان للحائز على المدعي دين ويخاف إن نازعه أن يطلبه ولا يجد من أين يغطيه. اهـ.
ويدخل في المانع ما إذا كان المدعي صغيرا أو سفيها فإن سكوته لا يقطع دعواه، قال ابن فرحون: قال ابن العطار: ولا يقطع قيام البكر غير المعنسة ولا قيام الصغير ولا قيام المولى عليه الاعتمار المذكور بحضرته إلا أن يبلغ الصغير ويملك نفسه المولَّى عليه وتعنس الجارية وتحاز عنهم عشرة أعوام من بعد ذلك وهم عالمون بحقوقهم لا يتعرضون من غير عذر. انتهى. ويدخل في المانع أيضا ما إذا لم يعلم المدعي بالحيازة أو لم يعلم بأن العقار المحوز ملكه، قال والرسالة: ومن حاز دارا على حاضر عشر سنين تنسب إليه وصاحبها حاضر عالم، قال الشيخ أبو الحسن الصغير في أواخر كتاب الشهادات: لما تكلم على الحيازة: وفي الرسالة وصاحبها حاضر عالم، الشيخ: أي عالم بمعلومين بتصرف الحائز وبأنها ملكه ولا يفيد العلم بأحدهما دون الآخر. اهـ كلام الحطاب.
وقال عند قوله: "عشر سنين" بعد جلب كثير: فتحصل في مدة الحيازة ثلاثة أقوال، الأول: قول مالك في المدونة: إنها لا تحدد بسنين مقدرة بل باجتهاد الإمام. نقله ابن يونس وابن شأس وابن عرفة. القَولُ الثاني: أن مدة الحيازة عشر سنين وهو الذي مشى عليه المص وعليه اقتصر في الرسالة، قال في النوادر: وبه أخذ ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ، وقال ابن يونس: قال سحنون: لما أمر الله نبيه بالقتال بعد عشر سنين كانت أبلغ شيء في الإعذار، واعتمد أهل المذهب على الحديث المتقدم وعلى أن كل دعوى يكذبها العرف فإنها غير مقبولة، ولا شك أن بقاء ملك الإنسان بيد الغير يتصرف فيه عشر سنين دليل على انتقاله عنه. والله أعلم. القَوْلُ الثّالِثُ: أن مدة الحيازة سبع فأكثر وهو قول ابن القاسم الثاني. اهـ.
ثم قال الحطاب: الهدم والبناء مقيدان بما إذا لم يخش سقوطه فإن ذلك لا ينقل الملك وكذا الإصلاح اليسير، والحيازة على النساء عاملة إذا كن في البلد، وتقدم أنه لا حيازة على الغائب، إلا أنه يستحب له إذا علم أن يشهد أنه على حقه. قاله ابن بطال والرجراجي. والمدة المذكورة يستوي فيها الوارث والموروث، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:(من حاز شيئا عشر سنين فهو له)، وتضاف مدة حيازة الوارث إلى مدة حيازة الموروث، مثل أن يكون الوارث حاز خمسة أعوام وكان موروثه قد حاز خمسة أعوام، فيكون ذلك حيازة على الحاضر.
وأشار للنوع الثاني بقوله: كشريك أجنبي حاز فيها إن هدم وبنى يعني أن الشريك الأجنبي إذا حاز شيئا عن صاحبه عشر سنين، وتصرف فيه بالهدم أو البناء فأحدهما كاف وصاحبه حاضر ساكت طول المدة المذكورة، ولا مانع له من القيام بحقه فإن الحائز يملكه بذلك، ولا تسمع دعوى صاحبه ولا بينته بعد ذلك. قال عبد الباقي: وأشار للنوع الثاني بقوله: "كشريك" في المتنازع فيه لا مطلقا أجنبي حاز فيها أي في العشر سنين إن هدم أو قلع غرسا، أو باع أو وهب أو تصدق أو نحل أو أعتق أو كاتب أو دَبَّرَ أو وطئ، والواو بمعنى أو في قوله: "وبنى كثيرا بالعرف للتوسعة فتثبت له الحيازة بذلك، ونبه عليه لأنه قد يتوهم أن الشريك يحابي شريكه فتسمع دعواه وبينته فنفي ذلك، وأما إن هدم ما يخشى سقوطه أو بنى يسيرا فإن ذلك لا يمنع من قيام شريكه، ومثل البناء غرس بدار أو أرض واستغلال في غيرهما لا استخدام رقيق أو ركوب دابة أو لبس ثوب. إهـ. قوله: واستغلال أي ككراء الدابة ومؤاجرة العبد مثلا وأخذه أجرة ذلك لنفسه. قاله الرهوني. وقال الشبراخيتي: إن هدم وبنى ثم إن الهدم وحده يكفي كما أن البناء كذلك، ولا بد أن يكون الهدم للتوسعة ونحوها لا للإصلاح وأن يكون كثيرا، وأما البناء فقط فكالهدم في التفصيل المذكور، والظاهر أنه يرجع في كونه كثيرا أو يسيرا لقول أهل المعرفة، قال الحطاب: والاستغلال في غير الدور والأرضين يقوم مقام الهدم والبناء والغرس في الدور والأرضين، وفي اختصار المتيطية أنه يُكتفى بالهدم وحده أو البناء وحده أو الغرس وحده، وأن الكراء في العقار بمنزلة ذلك وكذلك الكراء في غيره بمنزلة البناء والهدم فيه.
وفي الشريك القريب معهما قولان يعني أن الشريك القريب إذا حاز شيئا على شريك عشرة أعوام وهو يتصرف فيه بالهدم والبناء، وإليهما يعود ضمير التثنية فإن في ذلك قولين، أحدهما: أن ذلك حيازة فيكون للحائز ولا تسمع دعوى شريكه الآخر القريب ولا بينته، وثانيهما أن ذلك لا يكون حوزا بل حيازته أزيدُ من الأربعين عاما. قال عبد الباقي: وفي الشريك القريب معهما أي مع الهدم والبناء وما يقوم مقام كل كما مر، قولان: أحدهما عشر سنين، والثاني زيادة على أربعين عاما معهما وهو المعتمد بين الأقارب، ولو غير شركاء في عقار إلا لعداوة بينهم فكأجانب
شركاء كما في ابن عاصم، كأصهار لا قرابة بينهم وموال كأجانب شركاء، وقيل كأجانب غير شركاء، وقيل كأقارب غير شركاء، والأقوال الثلاثة لابن القاسم، والفرق على الأول بينهم وبين الأقارب أن شدة مداخلة القريب غير الشريك أقوى من الموالي والأصهار غير الشركاء، وأما الأصهار الذين بينهم قرابة فيجري فيهم ما جرى في الأقارب الذين ليسوا بموال ولا أصهار، وسكت المص عن الموالي والأصهار كما ترى. اهـ.
وقال الشبراخيتي: وفي الشريك القريب معهما أي مع الهدم والبناء قولان لابن القاسم، فمرة قال عشر سنين حيازة، ومرة قال لا تكون حيازة إلا بأمد يزيد على أربعين سنة مع الهدم والبناء أو الغرس وهو الراجح الرجوع إليه، وسكت المص عن الأقارب غير الشركاء والراجح أنهم كالشركاء الأجانب فلا فرق بين الشركاء وغيرهم، وهذا في أقارب ليس بينهم تشاجر وإلا فكالأجانب وسكت عن الوالي والأصهار الشركاء، وذكر الحطاب أن القريب الشريك وغيره سواء لا بد من زيادة مدة حيازته على أربعين عاما مع الهدم أو البناء أو ما يقوم مقامهما. اهـ. وقال الإمام الحطاب: ظاهر كلام المص وغيره أن القولين متساويان، وقد علمت أن القول الذي رجع إليه ابن القاسم أن ذلك لا يكون حيازة، ولا شك أن العمل على القول الرجوع إليه يعني القول بأن حيازة ذلك أزيد من أربعين عاما، وعلم من قول المص معهما أنه لا تحصل الحيازة بين الأقارب الشركاء إذا لم يكن هدم وبناء وهو كذلك، ولم يذكر المص حكم القريب الذي ليس بشريك، واختلف فيه قول ابن القاسم فجعله مر كالقريب الشريك فالحيازة فيه أزيد من أربعين عاما، ومر رآى أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبناء والراجح الأول.
قال مقيد كهذا الشرح عفا الله عنه: تحصل من هذا أن في الشريك القريب قولين، والراجح أن الحيازة فيه أزيد من أربعين عاما، وأن في القريب غير الشريك قولين أيضا، والراجح أن الحيازة فيه أيضا أزيد من أربعين عاما. قال الحطاب بعد جلب نقله: وَتَحَصّلَ من هذا أن الحيازة بين الأقارب سواء كانوا شركاء أو غير شركاء لا تكون بالسكنى والازدراع، وإنما تكون بالبناء والهدم في الأمد الطويل الذي يزيد على أربعين سنة على الأرجح من القولين. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب.
ومقابل الأرجح عشرة أعوام حيازة مع الهدم والبناء أوما يقوم مقامهما، قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: لا بد من تحرير هذه المسألة، فأقول معترفا بالتقصير، معتصما باللطيف الخبير: الحيازة إما بين الأجانب شركاء أو غير شركاء أو بين الأصهار شركاء أو غير شركاء أو الموالي شركاء أو غير شركاء أو الأقارب شركاء أو غير شركاء، فأما بين الأجانب غير شركاء فهي عشرة أعوام بشروطها المارة، وقيل لا تحد بمدة بل باجتهاد الإمام، وقيل مدة الحيازة بينهم سبعة أعوام فأكثر، وأما الأجنبي الشريك فعشرة أعوام إن هدم أو بنى أو فعل ما يقوم مقام ذلك كما مر مستوفى فراجعه إن شئت، وأما الموالي والأصهار إن كانوا شركاء فقيل عشرة أعوام إن هدم أو بنى وقيل لا. قاله الحطاب. يعني فتكون بأزيد من أربعين عاما كالقريب. والله تعالى أعلم. وإن كانوا غير شركاء، فقال الحطاب: وفي كون السكنى والازدراع في العشرة الأعوام حيازة لمولى وصهر غير شريكين، أو إن هدم في العشر وبنى أو إن طال جدا أقوال، وأما الأقارب شركاء أو غير شركاء فالراجح أنها زيادة على أربعين عاما، ومقابله عشرة إن هدم أو بنى أو فعل ما يقوم مقام ذلك.
هذا في الأقارب الذين ليسوا بأب وابنه، وإلا فهو ما أشار إليه بقوله: لا بين أب وابنه إلا بكهبة، قال الخرشي: عطف على المعنى أيَ والحيازة بين من ذكر لا بين أب وابنه كما في مختصر المتيطية، فلا يصح حوز أحدهما بالهدم والبناء والسكنى والازدراع ونحو ذلك، ولا خلاف في الفوات بالبيع والشراء والهبة والعتق والوطء ونحوه. فقوله:"إلا بكهبة" أي إلا أن يكون تصرف الأب أو ابنه بكهبة وعتق ونحوه مما لا يفعل الشخص إلا في ملكه، وهو راجع لجميع الباب، أو يقال: إنه راجع للأب وابنه وأولى غيرهما. وقال الحطاب: قال ابن رشد: وتحصل الحيازة في كل شيء بالبيع والهبة والصدقة والعتق والتدبير والكتابة والوطء ولو بين أب وابنه ولو قصرت المدة، إلا أنه إن حضر مجلس المبيع فسكت حتى انقضى المجلس لزمه البيع في حصته وكان له الثمن، وإن سكت بعد العام ونحوه استحق البائع الثمن بالحيازة مع يمينه؛ وإن لم يعلم بالبيع إلا بعد وقوعه وقام حين علم أخذ حقه وإن سكت العام ونحوَه لم يكن له إلا
الثمن، وإن لم يعلم حتى مضت الحيازة لم يكن له شيء واستحقه الحائز، وإن حضر مجلس الهبة والصدقة والتدبير والعتق وسكت حتى انقضى المجلس لم يكن له شيء، وإن لم يحضر ثم علم، فإن قام حينئذ فإن له حقه وإن سكت العام ونحوه فلا شيء له، ويختلف في الكتابة هل تحمل على المبيع أو العتق؟ قولان. اهـ.
إلا أن يطول معهما ما تهلك البينات وينقطع العلم يعني أن حيازة الأب على ابنه أو العكس تصح إذا طال الزمن بحَيْث تهلك فيه البينات وينقطع فيه العلم وهو يهدم ويبني والمالك حاضر ساكت طول المدة ولا مانع له، فليس له القيام فلا تسمع دعواه بالملك ولا بينته. وَقَوْلهُ:"إلا بكهبة" وقوله: "إلا أن يطول معهما" إلخ كلاهما مستثنى من قوله: "لا بين أب وابنه": وكان حقه لو عطف الأخير بالواو، فيقول: وإلا أن يطول معهما إلخ، والضمير في قوله:"معهما" عائد على الهدم والبناء، قال عبد الباقي: إلا أن يطول أمد الحيازة بين الأب وابنه معهما أي مع الهدم والبناء أو مع أحدهما "ما" أي زمان يغلب على الظن أنه تهلك فيه البينات وينقطع العلم معه بحقيقة ما يدعيه كل منهما، فتعتبر الحيازة بينهما حينئذ وتنقطع حجة المدعي ولا تسمع دعواه ولا بينته، ولا يخفى أن هلاك البينة وانقطاع العلم يختلف باختلاف سن المشهود، وسكت المص في أنواع الحيازة الثلاثة عن حيازة الأكثر، هل يكون الأقل تبعا له أو لا وفيه قولان، وإن حاز النصف فلكل حكمه. اهـ.
وقال الشبراخيتي في مختصر المتيطية: إن حاز الأكثر بشروطه صح حوزه، وفي الباقي قولان أحدهما أنه تبع للأكثر فيستحقه الحائز للأكثر مع يمينه. رواه يحيى عن ابن القاسم. ولم يذكر اليمين، والثاني أنه لا يكون تبعا ويكون للمحوز عليه حقه فيه بعد يمينه وهو قوله أيضا في سماع سحنون: وإن حاز الأقل فظاهر رواية سحنون عن ابن القاسم أنه له بحيازته ولا يكون تبعا لما لم يحز، وروى عنه يحيى أنه يكون تبعا لا بقي ويأخذ المحوز عليه حقه في الجميع، فإن فات بعتق كان له قيمة حظه على معتقه، وإن بيع كان له حظه من الثمن وإن وعب أو تصدق به أخذ حظه منه إلا أن لا يجده فيكون له قيمة حظه على معطيه، وإن حاز النصف ونحوه فلا خلاف أنه لا يكون له بعض ذلك تبعا فيختص الحائز بما حاز دون ما لم يحز. اهـ.
وإنما تفترق الدار من غيرها في الأجنبي يعني أن المحوز لا تفترق أنواعه إلا في الأجنبي، فمدة الحيازة في الدار وغيرها من أنواع العقار عشرة بالشروط المتقدمة، ويأتي حكم غير العقار، وأما الأقارب فلا فرق بالنسبة لهم بين الدور ونحوها من بقية أنواع العقار، وغير ذلك من العروض كالثياب والدواب وغيرها فلا تفترق مدة الحيازة في الأقارب والأب وابنه في الأصول والعروض والحيوان بل هي مستوية وقد مرت مدة حيازتهم.
وأشار لما إذا كان المحوز غير عقار، بقوله: ففي الدابة وأمة الخدمة السنتان يعني أن مدة الحيازة في الدابة وأمة الخدمة السنتان فأكثر بالنسبة للأجنبي، ويزاد على ثلاث سنين لا على سنتين كما يوهمه المص في عبد لخدمة أو غيرها، كتجر وعرض ثوبا أو غيره، قوله:"ففي الدابة" تركب وأمة الخدمة تستخدم قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: ففي الدابة إذا كانت تركب والظاهر أن استعمالها في غير الركوب كاستعمالها فيه، وأمة الخدمة إذا كانت تستخدم السنتان، وأما إن لم تركب الدابة ولم تستخدم الأمة فالظاهر أن حكمهما حكم العرض، ويفهم من قوله:"وأمة الخدمة" أن أمة الوطء بمنزلة الهبة والصدقة وطئها
(1)
، وإن لم يحصل فيها وطء بالفعل فالظاهر أنه يفيتها أقل من ذلك، لأن التي شأنها الوطء شأنها أن يسارع لوطئها فهي مظنة الوطء، وانظر هل يفيتها سنة أم لا؟ وظاهر قوله:"ويزاد في عبد وعرض" أنه يكتفي بثلاث سنين وليس كذلك، بل لابد من الزيادة على ثلاث سنين كما في النقل. قال في الحاشية: والزيادة هنا باجتهاد الحاكم. اهـ.
وقال الحطاب مفسرا للمص: يعني أنه إنما يفرق بين الدور وغيرها في مدة الحيازة إذا كانت الحيازة بين الأجانب، وأما في حيازة القرابة بعضهم على بعض فلا يفرق بين الدور وغيرها. قال ابن رشد: إن الأقارب الشركاء بالميراث أو بغير الميراث لا خلاف أن الحيازة بينهم لا تكون بالسكنى والازدراع، ولا خلاف أنها تكون بالتفويت بالبيع والهبة والصدقة والعتق والكتابة والتدبير والوطء، وإن لم تطل المدة والاستخدام في الرقيق والركوب في الدواب كالسكنى فيما يسكن
(1)
كلمة: "وطئها" ليست في الشبراخيتي.
والازدراع فيما يزرع، والاستغلال في ذلك كالهدم والبنيان في الدور وكالغرس في الأرضين، ثم قال: ولا فرق في مدة حيازة الوارث على وارثه بين الرباع والأصول والثياب والحيوان والعروض، وإنما يفترق ذلك في حيازة الأجنبي مال الأجنبي بالسكنى والازدراع في الأصول والاستخدام والركوب واللباس في الرقيق والدواب والثياب، فقد قال أصبغ: إن السنة والسنتين في الثياب حيازة إذا كانت تلبس وتمتهن، وأن السنتين والثلاث حيازة في الدواب إذا كانت تركب، وفي الإماء إذا كن يستخدمن، وفي العبيد والعروض فوق ذلك، ولا يبلغ في شيء من ذلك كله بين الأجنبيين إلى العشرة الأعوام كما يصنع في الأصول. اهـ.
وعلم من كلام ابن رشد أن اللباس في الثياب كالسكنى في الدور، وأنه لا تحصل به حيازة بين الأقارب ولو طالت المدة، وأن الاستغلال في الرقيق والدواب والثياب بمعنى قبض أجرة العبيد والدواب والثياب كالهدم والبنيان في العقار، فلا تحصل الحيازة بين الأقارب في الرقيق والدواب والثياب والعروض إلا في الاستغلال، ويختلف في مدتها على القولين السابقين الذين أشار إليهما المص بقوله:"وفي الشريك القريب معهما قولان" أو بالأمور المفوتة كالبيع والهبة والصدقة والعتق والوطء" ويعلم من كلام المص لأنه لا جعل ذلك مفوتا بين الأب وابنه، علم أنه مفوتٌ في حق غيرهما من باب أحرى. والله أعلم. وفهم من قوله: "في الأجنبي" أن القريب لا تفترق الدار من غيرها في حقه: سواء كان شريكا أو غير شريك، ففيه إشارة إلى ترجيح القول بتساويهما كما تقدم، وتقدم في كلام ابن رشد أن الثياب تكفي في حيازتها السنة والسنتان ولم يتعرض لها المص، بل قد فهم من كلامه دخولها في العروض، تنبه لذلك. اهـ.
وقال البناني: إنما اعتمد المص في هذا الحصر كلام ابن رشد الذي نقله المواق والحطاب وغيرهما، واعترضه مصطفى بأن ابن رشد لم يستند فيما ذكره من التفريق إلا لأصبغ، فاقتضى كلامه أن أصبغ سوى بين العقار والثياب وما معها في القريب مع أن أصبغ فرق بينهما فيه أيضا، ففي ابن سلمون قال أصبغ ومطرف: وأما حيازة الشريك الوارث عمن ورث عنه في العروض والعبيد بالاختدام واللبس والامتهان منفردا به على وجه الملك له، فالقضاء فيه أن الحيازة في ذلك فوق العشرة الأعوام على قدر اجتهاد الحاكم عند نزول ذلك. اهـ. ولذا اعترض ابن مرزوق عبارة المص
قائلا: مفهوم الحصر يقتضي مساواة الدار وغيرها بالنسبة للأقارب في مدة الحيازة، ولا عمل على هذا المفهوم لمخالفته النص، قال ابن يونس وغيره عن مطرف: وما حاز الشركاء والورثة من العبيد والإماء والدواب والحيوان وجميع العروض تختدم وتركب وتمتهن العروض، فلا يقطع حق الباقين ما لم يطل، والطول في ذلك دون الطول بينهم في حيازة الدور والأرضين بالسكنى والازدراع وفوق حيازة الأجنبي عن الأجنبيين. اهـ. كلام ابن مرزوق.
وما نقله ابن يونس عن مطرف يرجع لنقل ابن سلمون عنه مع أصبغ، وقوله: والطول في ذلك دون الطول في حيازة الدور والأرضين بالسكنى والازدراع لأن مدة ذلك بالنسبة للسكنى والازدراع في كلام ابن عاصم وغيره أزيد من أربعين سنة، ونقله في شرح التحفة عن المنتقى خلافا لقول ابن رشد: لا حيازة بين الورثة الشركاء بالسكنى والازدراع وإن طال الزمن جدا، فقد ظهر لك أن أصبغ كما فرق بين العقار وغيره في الأجنبي فرق في الأقارب، وأما ابن القاسم فسوى بين الأصول وغيرها في الأجنبي، كما سوى بينهما في الأقارب ت ففيها: قال ابن القاسم: ومن حاز على حاضر عروضا أو حيوانا أو رقيقا فذلك كالحيازة في الربع. اهـ. ولم أر التفصيل الذي سلكه ابن رشد من التفريق في الأجنبي فقط إلا أنه رجل حافظ ولعله تفقه له، فتأمل ذلك. وقد جرى الحطاب على طريق ابن رشد معتمدا عليه، وأما الأجهوري فقال: اعتراض ابن مرزوق صحيح، بل ربما يتعين المصير إليه لموافقته لما في النوادر، وهو مقدم على ما يدل عليه كلام ابن رشد. اهـ من مصطفى باختصار. والله سبحانه أعلم. اهـ. كلام البناني.
تنبيهات: الأول: قال الرهوني: قال التاودي: مما ينبغي أن يدرج في قوله ونحوه؛ يعني. قوله: إلا بإسكان ونحوه، فرع ابن الحاج: من قام بعقد ابتياع من القوم عليه أو من أبيه قبله وتاريخ الابتياع أكثر من عشرين سنة، وقال: لم يعلم بشراء أبيه ولا جده إلى الآن فليحلف على ذلك ويأخذ الأملاك. اهـ. وهو ظاهر ولا يعارضه ما تقدم من أن رسوم الأشرية بمجردها لا تفيد ولا ينتزع بها من يد حائز مثل شهادة السماع، كما اعترض به صاحب المعيار على ابن الحاج قائلا: فتواه مخالفة لما دلت عليه المنصوص، وشهد لاعتباره المنصوص إلى آخر كلامه، لأنا نقول
محل ذلك إذا لم يكن الشراء من المقوم عليه، كما قال ابن لب: عقود الأشرية لا تكون حجة إلا على جهة البائع.
الثاني: قال يحيى: سألت ابن القاسم عن رجل أمدق امرأة عن ابنه منزلا، فلما دخل ابنه بالمرأة أخذت النزل إلا حقولا يسيرة تركتها في يد حموها، فلم تزل في يده حتى مات بعد طول زمان، ثم أرادت المرأة أخذها فمنعها ورثة الحمو، وقالوا: قد عايشته زمانا من دهرك وهي في يده ولا تشهدين عليه بعارية ولا كراء ولا ندري لعله أرضاك من حقك، أترى للمرأة في ذلك حقا؟ قال نعم: لها أن تأخذ تلك الحقول التي هي مما كان أصدقها الحمو عن ابنه، ولا يضرها طول ما تركت ذلك في يد الحمو لأنها ليست بالصدقة فتلزم حيازتها، وإن الصداق ثمن من الأثمان، قال: وكذلك لو تركت كل [ما]
(1)
أصدقته في يد الحمو لم يضرها ذلك، قال القاضي: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها لأنه حقها تركته في يده، فلا يضرها ذلك طال الزمان أو قصر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم)، وليس هذا من وجه الحيازة التي ينتفع الحائز بها، ويفرق فيها بين القرابة والأجنبيين والأصهار؛ إذ قد عرف وجه كون الأحقال بيد [الحمو]
(2)
فهي على ذلك محمولة حتى يعرف مصيرها إليه بوجه صحيح؛ لأن الحائز لا ينتفع بحيازته إلا إذا جهل أصل مدخله فيها، وهذا أصل في الحكم بالحيازة وبالله التوفيق. اهـ. نقله الحطاب، والرهوني. قال الرهوني: قوله في الرواية: عايشته، كذا وجدته في نسختين من البيان بالشين المعجمة، من العيش وهو في جميع ما وقفت عليه من نسخ الحطاب قد عاينته بالنون من المعاينة، والمعنى صحيح على كل منهما والأول أوجه. والله أعلم. اهـ.
الثالث: قال الحطاب: أَصّلَ ابن رشد أن ترجيح الحيازة إنما هو فيما جهل أصله، وأما إذا ثبت أصلها بكراء أو إعارة أو إعمار أو غير ذلك فلا يزال الحكم كذلك وإن طال الزمان، ثم جلب على ذلك مسألة يحيى، قال: سألت ابن القاسم إلى آخر ما مر. والله تعالى أعلم.
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من: الرهوني ج 7 ص 521.
(2)
ساقطة من الأصل والمثبت من الرهوني ج 7 ص 522 والحطاب ج 6 ص 441 ط دار الرضوان.
الرابع: قال الخرشي: والمراد بالأجنبي يعني من قوله: وإنما تفترق الدار من غيرها في الأجنبي أعم من أن يكون شريكا أو لا، ونقل عن بعض الشراح أن قوله: وإنما تفترق الدار من غيرها في الأجنبي أي غير الشريك: وكان ينبغي أن يقول العقار. اهـ. وفي مختصر الواضحة: وإذا قضي للرجل على الرجل بشيء فلم يخرجه المقضي له من يد من قضي عليه حتى تقادم زمانه وحازه عليه بعد أن قضي له بذلك لا يسقط حق المقضي له، ونحو هذه المسألة في البيان. نقله في التبصرة.
الخامس: قال في التبصرة: وحكم تفويت الأجنبي ملك الأجنبي ببيع ونحوه، وتفويت القرابة ذلك بالبيع أو الوطء أو العتق يفترق الجواب فيه، وفيه تفصيل بين تفويت الكل أو الأكثر أو الأقل أو النصف، انظر ذلك في البيان والتحصيل لابن رشد مستوفى. اهـ.
قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: انظر هذا عند قول المص: "إلا أن يطول معهما ما تهلك البينات وينقطع العلم" معزوا للشبراخيتي، فإنه استوفى فيه ذلك. والله تعالى أعلم. انتهى.
السادس: قال في التبصرة: قال ابن رشد اختلف في الأب والابن هل يحوز كل منهما على صاحبه بالهدم والبنيان والغرس أم لا؟ على قولين، المشهور أنه لا يحوز عليه بذلك إن ادعاه ملكا لنفسه، قام عليه في حياته أو بعد وفاته، قال ابن رشد: يريد والله أعلم إلا أن يطول الأمر إلى ما تهلك فيه البينات وينقطع العلم، والقول الثاني أنه يحوز عليه بذلك، قام عليه في حياته او على سائر ورثته بعد وفاته إذا ادعى ملكا لنفسه، ومثل الأب والابن الأب والجد ولا اختلاف أنه لا تكون الحيازة بينهما بالسكنى والازدراع ولا بالاستخدام والاتفاق، على أنها تكون بالتفويت من المبيع والهبة والصدقة والعتق والتدبير والكتابة والوطء. اهـ.
فروع في مسائل متفرقة في القضاء والشهادات، الفرع الأول: إذا نهى الحاكم أحد الخصمين عن الكلام فلم يفعل، وأتى بالحجج ليخلط على صاحبه ويمنعه من الكلام ويكثر معارضته في الكلام، أمر القاضي بأدبه. قاله في التبصرة. وإذا غلط الشاهد في مجلس القاضي في نقص الشهادة، فعلى القاضي أن يأمر الخصمين ألَّا يعرضا له لا المدعي بتلقين ولا المدعى عليه بتوبيخ، فإن اقتحم
أحدهما ذلك بعد النهي أمر بأدبه. قاله سحنون. وكان سحنون إذا غلط عنده الشاهد في شهادته أعرض عنه وأمر المكاتب أن لا يكتب، وربما قال له: تثبت ثم يردده، فإذا ثبت على شهادته أمر كاتبه فكتب لفظ الشاهد ولا يزيد ولا ينقص، وليمنع القاضي ذات الجمال والنطق الرخيم أن تباشر الخصومة ويأمرها أن توكل وكيلا. وقال المازري: إذا كانت الدعوى على امرأة شابة لها جمال ويخاف عليها إن تكلمت أن يؤدي سماع كلامها إلى الشغف بها، فإنها تؤمر أن توكل.
وقد حضرت الغامدية إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقرت بالزنى، فأمر برجمها: وقال صلى الله عليه وسلم في المرأة الأخرى: (واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)
(1)
، فلم يأمر بإحضارها ولعلها كانت على حال لا يحسن إحضارها وخطابها بمحضر الناس، وينبغي للقاضي أن يؤدب من قام بشكية بغير حق أو ادعى باطلا وأقل ذلك الحبس ليندفع بذلك أهل الباطل واللدد عن ذلك. قاله في التبصرة. وإذا توجه الحق لأحد الخصمين بتغيب خصمه، فأراد من الحاكم رسولا يعينه على طلبه فيجب على الحاكم إجابته إلى ذلك، وإذا دخل عليه الخصمان فلا يسألهما من المدعي منهما، بل يسكت حتى يبدأ أحدهما بالكلام. وقال بعضهم: يسألهما، قال ابن أبي زمنين: وهذا شأن حكام العدل. وقال المازري: هو بالخيار إن شاء سكت عنهما حتى [ينظر]
(2)
أحدهما ويستدعي من القاضي الجواب، وإن شاء سألهما جميعا بلفظ التثنية، فقال: ما لكما أو ما حاجتكما، ولا يخص أحدهما بالسؤال لأن سؤال أحدهما يشعر بعناية القاضي به وإقباله عليه دون خصمه، والقاضي مأمور بالعدل بينهما في مدخلهما إليه فلا يأذن لأحدهما قبل الآخر، وفي مخرجهما عنه فلا يصرف أحدهما قبل الآخر وإقباله بوجهه عليهما وفي كلامه لهما.
وقد نزل ضيف بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فخوصم عنده، فأمر ضيفه أن يتحول عنه من منزله ولا يحلف المدعى عليه إذا أنكر إلا بإذن خصمه، إلا أن يكون شاهد من حاله أنه أراد ذلك من القاضي، وينبغي للقاضي موعظة الخصمين وتعريفهما بأن (من خاصم في باطل فإنه خَائِضٌ
(1)
البخاري، كتاب الحدود، رقم الحديث 7828.
(2)
الذي في التبصرة ج 1 ص 41 ينطق.
في سخط الله)، ومن حلف ليقطع مال أخيه بيمين فَاجِرَةٍ فليتبوأ مقعده من النار)، ويعظ الشهود أيضا كما رُوي عن شريح انه كان يقول لمن يشهد عنده: إنما يقضي على هذا المسلم أنتما بشهادتكما وإني مُتّقٍ بكما من النار فاتقيا الله والنار، ولا ينبغي للقاضي أن يصرف من ابتدأ التحاكم عنده رجاء أن يظهر حقه عند غيره، بل يعجزه إن عجز ويقطع عن المطلوب تعنيته إياه، وينبغي للراغب في هذا أن يختار لنفسه الحاكم الذي يظن ظهور حقه عنده، وأما بعد ابتدائه عند حاكم ثم يريد العدول عنه إلى آخر فغير سائغ له.
مسألة: قال ابن حبيب: قال مطرف في القاضي يتواضع الخصمان عنده الحُجَجَ فيقول لهما اجتهدا فإني لست أقيلكما فيضعان حجتهما ويوقع ذلك في ديوان القاضي، ثم يريد أن يتحول من حجته إلى حجة أخرى: فأنا أرى له أن يقيل الناس من حججهم؛ لأن الرجل قد يضع حجة فيسقط منها كثيرا نسيانا أو عجلا أو حصرا إلا أن يستوعب أمر الخصمين بالكشف عن أمرهما ويعجزا له أنفسهما، ويقولان: ليس عندنا من الحجج والبينات إلا الذي وضعنا عندك، ثم إن القاضي وقف يستشير في ذلك، فحينئذ إن بدا لأحدهما أن ينتقل عن حجته تلك إلى غيرها تكون أنفع له لم يكن له ذلك إلا أن يرى القاضي ذلك ويثبت عنده عذره، فإن أتى ببينة وكان قد عجز نفسه عنها، فإن رآى السلطان أن بينته تلك كانت غائبة عنه غيبة بعيدة أو لم يكن يعرفها قبل ذلك نظر له ما لم يفصل الحاكم بينهما، فحينئذ لا ينظر له في بينة ولا يعذره بغيبتها وما خفي عنه من أمرها، وكذا لو أراد أن يأتي بحجة لم يكن أتى بها أو يجرح من تمكن من جرحه فلم يفعل لم يكن له شيء من ذلك ومضى أمره، وهذا الذي عليه أمر الحكام بالمدينة، ولا بأس أن يقضي القاضي بين الخصمين له على أحدهما دين إذا كان به موسرا، فإن كان به معسرا لم يجز له النظر بينهما. قاله مطرف.
ولو شهد عند القاضي رجلان أن رجلا سرق متاع القاضي قطعه ولم يُغرِّمْه حتى يرفعه إلى غيره لأن السرقة حق له وهو لا يحكم لنفسه. وفي ابن يونس: ولا ينبغي له أن يحكم بين أحد من عشيرته وبين خصمه وإن رضي الخصم، بخلاف رجلين رضيا بحكم أجنبي فينفذ ذلك
[عليهما]
(1)
، ولا يقضي بين عبده وخصمه وإن رضي الخصم بذلك، فإن فعل فليشهد على رضاه ويحكم بالعدل ويجتهد، ومما يجري مجرى القاضي في المنع من الحكم لمن يتهم عليه المفتي يعني لمن يتهم عليه ممن لا تجوز شهادته له، فينبغي للمفتي المتهم الهروب متى قدر عليه.
قال المازري: وقد نزل بي مثلُ هذا في خصام لزوجتي في مواريث وسألني القاضي والخصوم في الفتوى فامتنعت من ذلك، ويجوز للقاضي أن يحكم بين أهل الذمة إذا رضوا حكمه أي رضي به الخصمان، وإن لم ترض أساقفتهم به وليحكم بينهم بحكم الإسلام، ولا يحكم بينهم في الخمر والزنى والربا. ومن أفعال الحاكم ما يستلزم الحكم، كبيعه العبد الذي أعتقه من أحاط الدين بماله، وكتزويجه امرأة تزوجت تزويجا يستحق الفسخ، فإن نفس العقد عليها يستلزم فسخ نكاحها المتقدم، يريد أن الحاكم زوجها قبل دخول الأول بها ومن الأشياء ما يفتقر لحكم الحاكم كالطلاق بالإعسار والطلاق بالإضرار والطلاق على المولي، وإذا قالت امرأة المعترض: لا تطلقوني وأنا أصبر إلى أجل آخر فذلك لها، ثم تطلق نفسها متى شاءت بغير سلطان، وكذلك الذي يحلف ليقضين فلانا حقه يوقف عن امرأته، فإذا جازت أربعة أشهر قيل له فيْء وإلا طَلَّقْنا عليك، فتقول امرأته أنا أنظره شهرين أو ثلاثة فذلك، ثم تطلق متى شاءت بغير أمر السلطان. وقد مر أن القاضي يحكم في كل شيء إلا ما استثني هناك، وأما غير القاضي فمقصور على ما قدم عليه. وفي المتيطي: أربع مسائل لا يحكم فيها صاحب الشرطة: التحجير والحكم على الغائب وإقامة الحدود والقسم بين الكبار والصغار، وما عداها يجوز حكمه فيه. اهـ.
مسألة: اعلم أن العقود من الحكَّام كالبيع والشراء والإجارة وعقد النكاح، ونحو ذلك من التصرفات ليست حكما فلغيرهم النظر فيها فيرد ما ليس بصواب إلا أن تتوقف هذه التصرفات على إبطال تصرفات قبلها كما مر، واختلف هل يعزل القاضي بنفس الفسق أو حتى يعزله الإمام؟ المازري: ظاهر المذهب على قولين، وأشار إلى ترجيح عدم العزل وهو قول أصبغ، ومذهب
(1)
في الأصل: عليهم، والمثبت من: ابن يونس ج 5 ص 76.
ابن العطار أنه إذا طرأ عليه الفسق بعد ولايته انفسخ عقد ولايته، وإذا عزل القاضي فحكم قبل بلوغ العزل فظاهر المذهب أن أحكامه تلك نافذة لضرورة الناس إلى ذلك.
مسألة في البيان والتحصيل في رجل أتى إلى زمزم، فقال لرجل ناولني قدحك، فقال إذا أخاف عليه، فقال هذا كسائي عندك حتى أعود به فأخذ القدح ووضع الكساء ثم رجع فلم يجد الرجل، فحكمه: أن يأتي السلطان فيخبره، فيأمره السلطان إن كان صادقا أن يَبيعَ القدح ويقبض ثمنه من ثمن الكساء، قيل لأشهب: أيأمر السلطان بذلك؟ قال: نعم يأمره من غير حكم على الغائب، ويقول له: إن كنت صادقا فافعل، فإن جاء الرجل كان على خصومته، وفائدة رفعه إلى السلطان أن صاحب القدح إذا جاء لم يكن له على الذي باعه إلا الثمن الذي بيع به، وإن باعه بغير أمر السلطان كان عليه قيمة القدح بالغة ما بلغت.
وفي مختصر الواضحة لفضل بن مسلمة: أن المرأة إذا رفعت أمرها إلى القاضي ليفرض لها النفقة على زوجها الغائب وحاله في العسر واليسر مجهول، فليشهد لها السلطان لئن كان فلان زوج فلانة مليا اليوم موسرا في غيبته هذه فقد أوجبنا عليه لامرأته فريضةَ مثلها من مثله، وإن كان معسرا فلا شيء عليه ويكتب التاريخ ثم تكون الفريضة لازمة له إلا أن يثبت عسره. قاله في التبصرة. وإذا أراد رجل أن يزوج يتيمة تحت نظره من ولده فلا بد أن يثبت عند القاضي رضى اليتيمة بالزوج والسداد في صداقها، وأن الزوج كفؤها في جميع أحوالها، وحينئذ يأذن له القاضي أن يزوجها من ولده. قاله في التبصرة.
مسألة: لا تجب الملاعنة إذا كان الزوج والمرأة من أهل المصر إلا بعد ثبوت الزوجية وإن لم تثبت الزوجية لزم الزوجَ الحدُّ، وإن لم يكونا من المصر لزمت الملاعنة وإن لم تثبت الزوجية.
مسألة: إذا ادعى على الوصي في مال الميت والورثة صغار فلا بد من ثبوت الورثة وصغر الورثة، فإن ثبت ذلك كانت الخصومة مع الوصي حينئذ، غير أن الوصي لا يكلف جوابا لأن إقراره في ذلك وإنكاره غير معتد به، ولكن يحضر ليعلم من شهد على الميت ليكون ذلك عونا له في مدفعه إن رامه. قاله في التبصرة.
مسألة: كان الرد بالمعيب إذا ادعى رجل على شخص أنه اشترى منه زريعة وزرعها فلم تنبت، فإن وجد من تلك الزريعة بقية فإنها تجرب فيعرف صدق المشتري من كذبه، فيجب له إذا عرف صدقه الرجوع بقيمة العيب إن لم يكن البائع مدلسا وبجميع الثمن إن كان مدلسا، ولا يجب له الرجوع بشيء إذا عرف كذبه، فإذا لم يبق منها ما تجرب به حلف المبتاع أنه زرعها في الأرض، يريد أن تنبت فلم تنبت، فإن أثبت ذلك كان الأمر على ما تقدم من الرجوع بجميع الثمن أو قيمة العيب، وإن لم يثبت ذلك حلف البائع على العلم أنه ما علم أنها لم تنبت. قاله في التبصرة. قوله فإن أثبت ذلك لخ.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن المراد بالإثبات ما يعم البينة وحلف المبتاع. والله تعالى أعلم. مسألة: لا يسمع القاضي من أحد دعواه الوكالة حتى يثبت عنده ذلك بشاهدين عدلين أو بشاهد ويمين على قول مالك وابن القاسم، ولا بد أن يشهد الشهود عند القاضي على معرفة عين الموكل ويثبت أيضا عين الوكيل، إما بالشاهدين الأولين أو بغيرهما، وإذا حضر الوكيل والخصم واتفقا على صحة الوكالة فلا يحكم بينهما بمجرد قولهما؛ لأنه حق لغيرهما يتهمان على التواطؤ عليه، ولو صدق الخصم الوكيل في الدعوى واعترف بالمدعَى به لم يجبره الحاكم على دفعه على المشهور حتى يثبت عنده صحة الوكالة.
مسألة من باب الرهن: لا يحكم القاضي للمرتهن ببيع الرهن حتى يثبت عنده الدين والرهن وملك الراهن له، ويحلف بعد ذلك أنه ما وهب دينه ولا قبضه ولا أحال به ولا استحال به، وأنه لباق عليه إلى حين قيامه.
مسألة: إذا أتى رجل إلى الحاكم، وقال: إن فلانا دفع إلي أو بعث إلي دنانير ذكر أنها لورثة فلان وأنا أريد أن أدفعها إليهم بأمر الحاكم، فالحكم في هذه أنه إذا ثبت عند الحاكم عدة الورثة، وأقر هذا أن الغائب أمره بدفعها إليهم كتب إليه الحاكم: إنك ذكرت أن فلانا أمرك بدفع ذلك إلى ورثة فلان وأنا أمرتك أن تدفعها إليهم بعد أن ثبت عندي أنهم ورثة فلان. قاله في التبصرة.
مسألة: إذا شرط الزوج لزوجته أنه إن غاب عنها أكثر من سنة فأمرها بيدها، فقامت عند الحاكم تريد الأخذ بشرطها، فإن القاضي يكلفها إثبات الزوجية والشرط الذي ادعته وغيبته عنها، ثم يحلفها في الجامع لقد غاب عنها أزيد من كذا، وما أذنت له فيما زاد على ذلك ولا رجع إليها سرا ولا جهرا، وما أسقطت شرطها عنه وما كان سكوتها تركا منها لشرطها، وما علمت بانقطاع عصمتها منه، فإذا ثبت ذلك كله عند الحاكم أباح لها الأخذ بشرطها.
مسألة في المرأة تريد الفراق من زوجها الغائب لعدم النفقة: إذا قامت المرأة بذلك كلفها القاضي إثبات الزوجية والغيبة واتصالها، وأنهم ما علموه ترك لها نفقة ولا بعث إليها بشيء فوصلها ولا أحالها بها ولا بشيء منها فاستحالت ولا أحالت عليه أحدا بها ولا بشيء منها فاستحال ولا وكلت أحدا على قبضها منه ولا طاع أحد بالإنفاق عليها بسببه ولا رضيت بالمقام معه دون نفقة ولا له مال يعدى فيه بنفقتها، فإذا ثبتت هذه الفصول عنده نظر في الغيبة، فإن كانت قريبة أعذر إليه، وإن كانت بعيدة أو كان غير معلوم المكان أجلها القاضي بحسب ما يراه. وذكر المتيطي خسمة وأربعين يوما، فإذا انقضى الأجل استظهر عليها اليمين ووجه لحضور يمينها عدلين فتحلف أنه ما رجع إليها من غيبته سرا ولا جهرا إلى حين يمينها هذه، ولا ترك لها نفقة قليلة ولا كثيرة وذكر ما تقدم من الفصول المشهود بها، ثم تقول: وما علمت أن عصمة النكاح انقطعت بيني وبينه حتى الآن، فإذا ثبت يمينها عنده طلقها عليه. قاله في التبصرة.
مسألة في مملوكة قامت في مغيب سيدها بعدم النفقة وذكرت أن سيدها غاب عنها وتركها بلا شيء تنفق منه على نفسها وأنه لم يرسل إليها شيئا وسألت الحاكم النظر في أمرها، فيكلفها ما يجب إثباته وذلك أن يثبت عنده ملك سيدها إياها وغيبته، وأنه لم يخلف عندها شيئا لنفقتها ولا أرسل شيئا إليها وأنها لا مال لها ولا له ما يعدى فيه بنفقتها فأفتى ابن عتاب وابن القطان: إذا ثبت ذلك فيأمر الحاكم من يبيعها ويقبض ثمنها للغائب ويوقفه عنده أو عند ثقة غيره حتى يقدم الغائب.
مسألة: إذا ادعى الرجل على خصمه، فهل للمدعى عليه أن يوكل قبل أن يجيب عن تلك الدعوى بإقرار أو إنكار؟ فقيل: إنه لا يمكن من التوكيل حتى يجيب، فإن لم يجب حمله الحاكم على الجواب بالأدب، قال ابن الهندي: وقول من قال: إن له أن يوكل قبل أن يجعيب أصح لأنه قد أجيز للحاضر أن يوكل. قال ابن سهل: والصحيح عندي أنه لا يمكن من ذلك لأن اللدد فيه ظاهر.
مسألة: إذا مات الموكل لم يكن للوكيل أن يخاصم إلا أن يشرف على تمام الخصومة فله أن يتمها، وليس للورثة حينئذ عزله عنها.
مسألة: إذا قام رجل على رجل في مهر امرأته أو دين رجل وادعى وكالة صاحب ذلك، فأقر المطلوب بالدين أو المهر واعترف بصحة الوكالة، فإنه يلزمه دفع ذلك إليه، فإن قام صاحب الحق على المطلوب يطلبه بذلك قضي له به لأنه إنما يقضى عليه أولا لإقراره والمصيبة منه قاله في التبصرة.
مسألة: قال في التبصرة: وإذا أدخل القاضي أحد الخصمين تحت أجل أو أدخلهما معا على ما تقدم بيانه، ثم عزل أو مات قبل انصرام الأجل لم يستأنف الذي ولي بعده ضربَ أجل آخر، فلينفذ الحكم من اليوم الذي انتهى إليه العزل أو الموت، وكذا في الخصمين إذا مات أحدهما قبل انقضاء الأجل الذي ضرب له فإنه يكمل في حق الآخر أو حق ورثته، ولا يعد اليوم الذي يكتب فيه الأجل ولا يحتسب به، كما لا يحتسب باليوم الذي يكتب فيه العهدة، وقد يصدق القاضي في جميع وجوه التعجيل ولا يحتاج أن يشهد عليه شهود، وإذا أجاب القائم بعد انصرام الأجل بأن له بينة يرتجيها نظر، فإن كانت قريبة أجله بعد ذلك، وإن كانت بعيدة وتبين لدده قضي عليه وأرجئ للحجة له، وله القيام متى جاءت عند هذا القاضي أو عند غيره، ولمن ولي بعده نقض ذلك الحكم بسبب ذلك إذا أتى بما ينفعه.
مسألة: إذا قام أحد الشركاء يخاصم في شيء فقضي عليه، ثم قام أحد شركائه يريد المخاصمة فيه أيضا، فإن قام بما قام به المقضي عليه حكم عليه وألحقه به ولم تسمع حجته ولا بينته، وإن جاء بغير ذلك نظر له فيه ولم يعجزه وكذا من يدعي حقا للعامة.
مسألة: قال أصبغ: إذا وجد في ديوان القاضي بعد موته أو عزله أن عند فلان ابن فلان من الأموال التي عندنا، أو قال من مال فلان اليتيم كذا وكذا دينارا وأنكر الأمين، فإنه يحلف ويبرأ ويضمن القاضي ذلك المال حيا كان أو ميتا؛ لأنه فرط حين لم يشهد عليه. قاله في التبصرة.
مسألة: من باع ثوبا فرد عليه بعيب فادعى البائع أنه بينه للمبتاع، فأنكر المبتاع وأراد يمين البائع عند المنبر، فإن كان نقصان العيب أكثر من ربع دينار لم يحلف إلا في الجامع. قاله في التبصرة. قوله: وأراد يمين البائع يعني نكل المبتاع عن اليمين ورد اليمين على البائع. قاله مقيده عفا الله عنه. والله تعالى أعلم.
مسألة في المتيطية: إذا طلق زوجته بشىِء من الكنايات المقتضية للبتات وذلك قبل البناء بها، ونوى واحدة وشهدت البينة بلفظه وبادعائه النية فيه وأراد مراجعتها فلا بد من يمينه عند مراجعتها على ما نواه، ويحلف في المسجد الجامع بالله الذي لا إله إلا هو ما أراد بقوله لزوجه: فلانة حبلك على غاربك، إلا طلقة واحدة.
مسألة: وإذا رد المبتاع الأمة بعيب، فقال له البائع: احلف أنك ما وطئتها، ففي المسألة خلاف، قيل: لا يحلف، وقيل: يحلف، وقيل: لا يحلف إلا أن يكون متهما، ومن قال بالتحليف فيحلفه في مقطع الحق على ذلك، ومن ذلك أيمان اللعان وأيمان القسامة لا تكون إلا في المسجد. مسألة: لو ادعى المطلوب قضاء الدين فأنكر الطالب وتوجهت اليمين على رب الدين، فنكل عنها وقلبها على المطلوب فنكل عنها أيضا، فإن المطلوب يلزمه غرم الدين، واليمين تجب على الورثة ويتقاضاها أحدهم، فيمينه تجري على الجميع إذا كانت بأمر الحاكم وذلك حكم ماض، وإن كانت بغير أمر الحاكم فكل من قام عليه منهم يحلفه. قاله غير واحد من الموثقين. وبه الحكم. ولأبي محمد بن أبي زيد خلافه، وأن لمن غاب منهم أن يحلفه وإن كانت اليمين بأمر الحاكم، وإذا حلف الخصم دون حضور خصمه لم تجزه اليمين، وكذلك إذا حلف بحضور خصمه قبل أن يسألة ذلك، فإن لم يرض بها لم تجزه.
مسألة: إذا وجبت يمين على رجل، فأراد الطالب تأخيرها وأراد المطلوب تعجيلها أو بالعكس، فتعجيلها واجب لمن طلبه منهما ولا تؤخر. نقله ابن عبد السلام. قاله في التبصرة.
مسألة: في المدونة عن ابن القاسم: إذا ادعى رجل على رجل بحمالة، فقال ابن القاسم لا بد من الخلطة. اهـ. يعني في توجه اليمين، قال ابن راشد: يريد خلطة صحبة ومؤاخاة لا خلطة مبايعة، قال ابن محرز ظاهر المدونة أن الخلطة تعتبر بصحبة مدعي الدين والمدعى عليه، والصواب عندي يراعى ذلك من الغريم والمدعى عليه الحمالة. اهـ.
مسألة: من كانت عنده شهادة ودعي إلى أدائها لزمه أداؤها، ولا يحل له أن يكتمها، قال تعلى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} ، وحكم الإشهاد في البيع وما يجري مجراه هو قوله تعلى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ، واختلف في هذا الأمر، قال بعض العلماء: هو على الوجوب، وقال مالك: هو على الندب، وإنما قال مالك ذلك - وإن كان مذهبه أن الأمر إذا تعرى من القرائن محمول على الوجوب - لأدلة قامت على ذلك منها قوله تعلى:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، فلما جاز أن يترك الرهن هو بدل الشهادة جاز ترك الشهادة، ولا يفرق الخالف بين ترك الإشهاد والرهن الذي هو بدله بل يقول بوجوب كل واحد منهما. انظر باقي الأدلة في المقدمات. وحكم الدين حكم البيع من أنه مندوب إلى الإشهاد فيه، فإذا قلنا إنه غير واجب فيهما فإنه حق لكل من دعا إليه من المتبايعين على صاحبه يقضى له به عليه إن أباه؛ لأن من حقه أن لا يأتمنه، ولذلك وجب على من باع سلعة لغيره الإشهاد على البيع، فإن لم يفعل ضمن لأن رب السلعة لم يرض بائتمانه، وكذا كل ما فيه حق لغائب الإشهاد فيه واجب.
مسألة: تجوز شهادة الرجل لابن أخيه ولعمه ولابن عمه بالمال، ولم يجزها ابن كنانة إلا في اليسير، ولا تجوز شهادة الأخ لأخيه إذا كان في عياله، واختلف في المذهب في شهادة الرجل لابن امرأته ولأبيها ولامرأة أبيه والمرأة لابن زوجها، وفي شهادة الرجل لزوج ابنته فلم يجز ذلك ابن القاسم وأجازه سحنون.
مسألة: قول المص في المسائل التي يعتبر فيها التبريز: "بخلاف المبرز إن برز" لخ، يضاف إلى ذلك شهادة الصناع لمن يكثر استعمالهم للتهمة في جر أعمالهم، ويضاف له أيضا الشهادة للصناع إذا كان مثله يرغب في عمله ولا عوض منه، فلا بد من التبريز في المسألتين. قاله في التبصرة.
مسألة: قال ابن حبيب: سمعت ابن الماجشون يقول: من كتب على رجل كتابا بحق له، وأشهد عليه شهودا ثم ادعى أن كتاب الحق قد ضاع، وسأل الشهود أن يشهدوا له بما حفظوا من ذلك فلا يشهدوا على حرف منه، وإن كانوا لجميع ما فيه حافظين لأنه يخاف أن يكون اقتضى حقه ودفعه للمديان فمحاه، فإن جهلوا وقاموا بشهادتهم لم يسع الحاكم إلا قبولها، ويقال للمشهود عليه: أقم بينة ببراءتك أو بما تدفع به الشهادة. وقال مطرف: لهم أن يشهدوا وإنما الكتاب تذكرة، وقاله مالك وأصبغ، وقال ابن حبيب: وهذا أحب إلي إن كان المدعي مأمونا، وإن كان غير مأمون فقول ابن الماجشون أحب إلي. قاله في التبصرة.
مسألة: قال في التبصرة: تجنب الشهادة على شهادة من لم تصح عدالته، فربما جعلت شهادتك على شهادتة تعديلا منك له، وإذا حضر الموثق رجل وامرأة وادعيا أنهما زوجان بعقد صحيح، وأن المكتوب الذي بينهما عُدِمَ ويقصدان تجديد كتاب الصداق، فإن كانا غريبين طارئين فالقول قولهما، وإن رآى ريبة تركهما، وإن كان قدومهما مع رفقة يعلمون أنهما زوجان فليكشف أمرهما من الرفقة، وينبغي أن يسأل كل واحد من الزوجين بانفراده ويمتحنهما في المسألة بما يزيل الريبة، فإن زالت الريبة وإلا دفعهما عنه، وإن كانا بلديين فلا يكتب لهما حتى يصح عنده أنهما زوجان. اهـ.
مسألة: قال محمد بن عبد الحكم: إذا شهد شاهدان [أن
(1)
] لفلان على فلان مائة دينار ولم [يقولان
(2)
] أقر بذلك عندنا ولا نحو ذلك، وإنما أطلقا الشهادة هكذا لم أر شهادتهما تحق؛ [لأنهما
(3)
كأنهما جاءا حاكيان] حتى يقولا أسلفه أو أقر عندنا بذلك أو ما يبينان به ما شهدا فيه، وقد
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من التبصرة ج 1 ص 195.
(2)
في الأصل يقولوا والمثبت من التبصرة ج 1 ص 195.
(3)
الذي في التبصرة ج 1 ص 195 لأنهما كحاكيين.
نجد من الناس من يحلل بيع النبيذ السكر ويوجب له ثمنا وغير ذلك. قاله في التبصرة عن أحكام ابن سهل. وفي معين الحكام: قال محمد بن الحارث: إذا لم يبين الشهود وجه الحق الذي شهدوا فيه ولا فسروه فليس ذلك بشيء حتى يبينوا أصل الشهادة وكيف كانت، فيقولون أسلفه بمحضرنا أو أقر عندنا المطلوب أنه أسلفه، وإن كان الدين من بيع فسروا ذلك. قال بعض المتأخرين: ظاهر هذا - يعني كلام ابن سهل - أنه إذا أقر عندهما بالدين مجملا ولم يذكر وجهه وشهدا به يؤخذ به، وظاهر ما قاله ابن حارث في هذه المسألة خلاف هذا حتى [يشهدوا]
(1)
، بإقرار بالسلف أو المعاملة. اهـ. ولو شهدا أنه خاط لفلان ثوبا بدرهم لم يجب للخياط شيء حتى يقولا إنه رد الثوب مخيطا وجميع الصناع بهذه المنزلة، وإذا شهد [الشاهدان]
(2)
، أن هذا العبد مأذون له في التجارة لم تتم الشهادة حتى يبينوا أن سيده أذن له في ذلك، أو يبينوا أنهم حضروا التجارة في موضع كذا بمحضر مالكه وعلمه ولم ينكر، وإذا أثبت الذي له الدين أن المدعى عليه ملي ولم يُعَيِّن ماله، فقال بعضهم: الشهادة عاملة ويسجن حتى يؤدي، وقاله ابن زرب. قال بعض الموثقين: وبه القضاء وقال بعضهم هذه الشهادة ليست بشيء.
مسألة إذا شهد شاهدان أن زيدا باع رجلا سلعة بمائة دينار لم يقض عليه بذلك؛ لأنه ليس في شهادتهما ما يوجب أنه قبض السلعة.
مسألة: من أقام بينة في عبد قد مات في يد رجل أنه عبده، فليس له على الذي مات في يديه ضمان حتى تقول البينة إنه غصبه، وفي المدونة: ومن أقام شاهدا واحدا أن هذا الرجل عبده حلف مع شاهده وكان بذلك عبده. قاله في الشهادات. وفي منتخب الأحكام لابن أبي زمنين: قال سحنون: إن كان معروفا بالحرية لم يجز ذلك فيه، ولا تجوز شهادة الشهود في الملك الذي توفي عند مالكه حتى يقولوا إنهم لا يعلمون الشهود له به فوت شيئا منه، وإن لم يقولوا هذا لم يتم انتقال الملك للورثة ولا تصح الشهادة لهم بوراثة الملك إلا بذلك، وإذا مات من ورثة الميت
(1)
الذي في التبصرة ج 1 ص 195 يشهدا
(2)
الذي في التبصرة ج 1 ص 195 الشهود.
الأول واحد ولم يقل الشهود إنه لم يفوت ما نقلته الوراثة إليه من ذلك في علم الشهود إلى أن توفي لم تعمل الشهادة لورثة البيت الثاني شيئا على ما تقدم من القول في الورثة الأولين.
مسألة: في الطرر لابن عات لو شهد الشهود بالجرحة على العلم لم تجز الشهادة ولو توجب حكما، ولا تكون الشهادة في ذلك إلا على البت، وإذا شهدت البينة أن فلانا افترى على فلان أو شتمه أو آذاه أو سفهه فلا يجوز ذلك حتى يكشف عن حقيقة ذلك؛ إذ قد يظنون صحة ما قالوه وهو على خلاف ما ظنوا، وقاله أصبغ. قال أصبغ: إلا أن تفوت البينة ولا يقدر على إعادتهم فليعاقب الشهود عليه على أخف ما يلزم في ذلك.
مسألة: قال ابن عتاب: الذي أحاط به العلم وجرى به الحكم في التجريح بالعداوة أنها تكون بشهادة من يُزكَّى من الشهود، ولا يشترط في ذلك أهل التبريز في العدالة وإنما يطلب التبريز في غير العداوة من وجوه التجريح، ولا أعلم في هذا خلافا من أحكام ابن سهل قاله في التبصرة. وفي الوثائق المجموعة: ولا ينبغي لأحد أن يجرح شاهدا يعلم أنه شاهد بالحق.
مسألة: فإن حلف المدعي حين نكل المدعى عليه وأخذ ما ادعاه، ثم إن المدعى عليه وجد بينة ببراءتة من ذلك نفعه ذلك واستعاد ما أخذه منه المدعي من مختصر الواضحة. قاله في التبصرة. واعلم أن محل لزوم يمين القضاء في غير ما استحق من يد غاصب، وأما ما استحق من يد غاصب فلا يمين على مستحقه إذا ثبت ملكه له.
مسألة في يمين القضاء: قال ابن سهل: وإذا شهد لرجل شاهدان على دين لأبيه حلف أنه ما يعلم أن أباه باع ولا وهب ولا خرج من يده بوجه من وجوه زوال الملك، واليمين في ذلك على من يظن أنه علم ذلك، ولا يمين على من لا يظن به علم ذلك ولا على صغير، ومن نكل ممن تلزمه اليمين منهم سقط من الدين حصته فقط، قال في رواية يحيى بعد يمين الذي عليه الحق: ومن أقام بينة على حاضر بدين فلا يحلف مع بينته على إثبات الحق، ولا على أنه ما قبضه حتى يدعي المطلوب أنه دفعه إليه أو دفعه عنه دافع من وكيل أو غيره، فحينئذ يحلف. قاله في المدونة. وقد تكرر يمين القضاء في بعض الصور، وذلك إذا تأخر القضاء بعد إقامة البينة ويمين
القضاء إلى أن قدم الغائب المديان وأقام مدة ثم مات، فإنه يجب أن لا يقضى للطالب حقه حتى يحلف ثانية.
مسألة: قال ابن حبيب: قال مطرف وابن الماجشون وأصبغ في الرجل يوكل الوكيل على دفع دين عنه إلى رجل، أو كان وكيلا مفوضا إليه فدفعه بشاهد واحد وجحد المقتضي فأبى الوكيل أن يحلف مع الشاهد، وأراد الموكل أن يحلف مع الشاهد: لم يكن للموكل ذلك ما كان الوكيل مليا لأنه ضامن للموكل إذ لم يشهد، وصار نكول الوكيل كإقراره أنه لم يدفع ذلك إليه، وإذا كان الوكيل مفلسا فعند ذلك يجوز للذي وكله أن يحلف مع الشاهد ويبرأ لأنه صار كغريم الغريم. قاله في التبصرة.
مسألة في المقنع لابن بطال: قال ابن كنانة: من أمر رجلا أن يشتري له جارية أو سلعة ففعل، وقام له بذلك شاهد والبائع منكر، فإنه إن قامت للآمر بينه على أنه أمره أن يشتري له جارية حلف مع شاهد وكيله، وإن لم تقم له بينة فاليمين على الوكيل. والله أعلم. قاله في التبصرة.
مسألة: إذا أوصى للمساكين أو للسبيل أو لبني تميم أو لقريش أو للأنصار، فلا خلاف أنه لا يمين في تلك مع الشاهد، وإنما الخلاف إذا أوصى لن يحصرهم العدد كآل فلان أو مساكين آل فلان فهي المسألة التي اختلف فيها، هل يحلف الجل أو يُكتفَى فيها بواحد؟ وفي معين الحكام: وقيل لا يمين في ذلك مع الشاهد.
مسألة: ولو نكل المدعي عن اليمين بعد أن رَجَعَها عليه المدعى عليه فلم يعطى المدعي شيئًا لنكوله: ثم وجد البينة على أن دعواه حق فإنه يأخذ ببينته ولا يمنعه من ذلك نكوله عن اليمين حين ردت إليه.
مسألة: في التهذيب فيمن أودعته وديعة فاستهلكها ابنه الصغير فذلك في مال الابن ويصدق الأب في ذلك، وليس هذا إقرارا إنما يكون الإقرار فيما ولي من المعاملات عليه أو الوصي. قاله في التبصرة في الباب الرابع عشر في القضاء، يقول رجل بانفراده.
مسألة: وفي الوثائق المجموعة: وروي في الرجل يشهد لابنه بحق فيدفع الشهود عليه المال للابن بشهادة الأب بغير حكم من السلطان، وفي الرجل يقوم له شاهد واحد على حقه فيدفع المشهود
عليه الحق إلى المشهود له، وفي الرجل يطلق امرأته فتدعي حملا وهو غير ظاهر فينفق عليها ثم ينفش الحمل أن ذلك كله أصل واحد لا رجوع لواحد منهم في شيء مما دفعوه، وليس ينفعهم قولهم: ظننا أن ذلك يلزمنا؛ إذ لو شاءوا تثبتوا قبل الدفع، وهذه الشهادة وإن لم تكن إلى الحاكم ابتداء فإنه يمضي ما ترتب عليها إذا وقع التحاكم عنده.
مسألة: ومن ذلك شهادة الطبيب في الجراح إذا كان الحاكم يأمره أن ينظر في الشجات أو الجراح ما هي وما غورها وما اسمها وقياسها؟ [فالذي]
(1)
ذكرناه من أمر الطبيب وما أشبهه فيقبل في ذلك واحد، وأحب إليَّ أن ينصب لمثل هذا من أمور الناس عدلا وإن لم ينصب لذلك أحدا بعينه اكتفي بأن يرسل المجروح إلى من ارتضاه وإن لم يكن السلطان أمر بقياسه، وإنما جاء هذا يطلب عقل ما قد مضى وبرئ لم يكن بد من أن يدعوه بشاهدين عدلين. اهـ. ومما يكتفى فيه بالواحد إذا قال الإمام: من قتل قتيلا فله سلبه، قال أبو الوليد الباجي: عندي أنه يجزيء في قبول ذلك الشاهد الواحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفع السلب إلى أبي قتادة بشهادة رجل واحد ولم يحلفه، وحمله بعضهم على أنه من باب الخبر لا من باب الشهادة، ويقبل قول الراوي فيما يرويه، ويقبل عند مالك قول الطبيب فيما يدعيه، ويقبل قول الملاح في القبلة إذا جهلت أدلتها وكان عدلا ورئيسا في السير في البحر، وكذلك كل من كانت صناعته في الصحراء وهو عدل، وكذلك يجوز عند مالك تقليد الصبي والأنثى والكافر والعبد والواحد في الاستيذان، وكذلك يقلد في النصاب في الزكاة ذكرا كان أو أنثى، مسلما أو كتابيا ومن مثله يذبح ويقبل قوله إنه ذكى، وليس هذا من باب الشهادة ولا الرواية، بل من باب القاعدة الشرعية أن كل أحد مؤتمن على ما يدعيه أنه ملكه أو مباح له، فيقبل قوله وإن كان أفسق الناس، وإذا وجب على أهل القافلة طلب الماء فأرسلوا واحدا منهم فرجع، وقال: لم أجد شيئا قبل خبره، وجاز لهم التيمم.
(1)
في التبصرة ج 1 ص 244 كالذي.
مسألة: قال في التبصرة: قال أصحابنا: يجوز تقليد المفتي الواحد إذا كان عدلا بالغا سواء كان حرا أو عبدا أو امرأة، ويجوز تقليد رسولك إليه إذا كان ثقة، وكذا إذا كتب المفتي خطه في رقعة للمستفتي جاز العمل بالخط إذا كان الرسول ثقة.
مسألة: إذا تنازع رجلان في شيء كل واحد يظنه لنفسه من غير يقين، كالشيء يكون من قبل الأب أو الجد فيسألان الرجل يفزعان إليه في علمه فيشهد أنه لأحدهما فذلك جائز، ويلزمهما ولا تشبه هذه مسألة الرجلين يتداعيان الشيء، فيقول أحدهما: قد رضيت بشهاة فلان بيني وبينك فيشهد الرجل على أحدهما، فيقول الشهود عليه: ظننت أنك تقول الحق الذي تعلم أنه الحق، فأما إذ شهدت علي بغير الحق فلا أرضى بذلك فذلك له، والشهادة غير جائزة عليه لأن المسألة الأولى ليس مع أحدهما يقين في دعوى الملك وقد رضيا بعلم الرجل وشهادته، وفي هذه المسألة المشهود عليه يدعي تحقيق ملكه للشيء المشهود عليه فيه فافترقا.
مسألة: إذا أخبره عدل أنه صلى فهل يكتفى به أو لا بد من اثنين؟ خلاف، والمؤذن يكفي إخباره بدخول الوقت إذا كان بالغا، عاقلا، عالما بالأوقات، مسلما، ذكرا ويعتمد على قوله.
مسألة: لو وضعت الأمة على يد رجل، فلما أخبر بخروجها من الاستبراء قيل له بم عرفت أنها حاضت؟ فيقول: أخبرتني خادمي أو زوجتي بذلك فذلك جائز. قاله فضل بن مسلمة وغيره.
مسألة: إذا كانت للناس حقوق على من حبسه السلطان، فإن الحاكم يأمره أن يوكل من يخاصم عنه ويسمع الدعوى ويعذر إليه، فإن امتنع من التوكيل حكم عليه بعد أن يعذر إليه. قاله ابن فرحون.
مسألة: إذا دعاد خصمه وعلم أن الحاكم يحكم عليه، بجور لم تجب الإجابة، وتحرم الإجابة إذا كان الحكم في الدماء والفروج والحدود وسائر العقوبات الشرعية. قاله في التبصرة.
مسألة: لو ادعى البائع أنه باع بالدراهم، وقال المشتري: بل بسلعة، فالقول قول البائع لقوة قرينة صدقه؛ لأن الدراهم هي الأثمان وبها يقع البيع.
مسألة: إذا ادعت المرأة الغريبة الطارئة من بلد بعيد أنه لا زوج لها فالقول قولها، ويزوجها الحاكم إذا لم يطمع بالوقوف على حقيقة دعواها.
مسألة: لو قال من بيده الدار: أعرتني هذه الدار، وقال ربها: بعتها، فالقول قول مدعي العارية في الدار مع يمينه، وفي المتيطية: سئل مالك عن من رد جارية بعيب على بائعها منه، فأراد البائع أن يستحلفه أنه ما وطئها وقد رآى العيب بها، فقال: لا يمين عليه، قال سحنون: جيدة، وقال ابن القاسم في سماع عيسى: إن كان متهما حلف وإلا فلا.
مسألة: إذا اشترط الزوج لزوجته أنها مصدقة في دعوى إضراره بها دون يمين تلزمها فذلك لها، فإذا شكت إضراره بها وثبت الشرط طلقت نفسها دون يمين. وقال ابن القاسم: الجزيري في وثائقه: إن طاع بتصديقها في الضرر لزمه ويكره عقده، فإن قيده بيمينها فيه حلفت حيث يجب إلا أن يقول فيه دون يمين: ما لم تمكنه من نفسها، فإن تلذذ بشيء منها سقط شرطها، وإن ادعى التلذذ وأنكرت حلفت ولها رد اليمين. انتهى. قاله في التبصرة. والله سبحانه أعلم. وفي المجموعة عن المغيرة فيمن افترى على جماعة، قال: إن قالته جماعة عظيمة مثل أهل مصر أو الشام أو مكة جازت شهادة من شهد منهم لبعد الحمية والتعصب من هذا وإن حصل الظن، وإن قاله لفخذ كزهرة ومخزوم أو جيرانه وجيرانه غير كثير فلا تصح الشهادة لبعضهم ممن عُنِي بالقول للتهمة، وأجاز سحنون شهادة من شهد على رجل أنه قطع من حراث الفلاحة، وإن كان هو طريقه الذي يمر فيه إذا لم يل هو الخصومة بنفسه.
مسألة: وفي المستخرجة عن أصبغ فيمن ترثه ابنته وأخواه فتركا ميراثهما منه قبل موته، فلما مات وجدت الابنة ذكرا حق له بشهادتهما، قال: هي جائزة إذ لا يجران إلى أنفسهما شيئا. قاله في التبصرة: وقال فيها عن عيسى في المستخرجة فيمن حضر ورثته أخويه وابنته وأخواه شاهدان في حق له، فقال لهما: اتركا منه إرثكما أو يتركه أحدكما، فتجوز شهادتكما فيه ففعلا أو فعل، قال: لا تجوز شهادتهما. انتهى.
مسألة: وفي المعيار: وسئل ابن أبي زيد عمن تلفت له دابة فوجدها بيد رجل زعم أنه اشتراها من متغلب من رجال السلطان، فذهب ليقيم البينة عليها فردها من وجدت بيده إلى المتغلب وأخذ ثمنها منه، ثم جاء الطالب فلم يجدها بيده هل يتوجه له الطلب على الذي كانت بيده أو على
الذي صارت إليها؟ فأجاب: إن قدر القائم على إقامة البينة عند الحاكم على عين الدابة، أو قالت البينة هي التي كانت بيد فلان وأنه ما باع إلى آخر الشهادة، وقدر الحاكم على الحكم على الذي هي بيده فعله وأخذ الطالب دابته، وإن لم يوجد البينة على هذا الوجه ولم يمكنه فله اليمين على من كانت بيده الدابة أن فلانا أقاله فيها ورد عليه الثمن، ثم يطلبها إن أمكنه ذلك. انتهى.
وسئل أبو عبد الله العبدوسي عن رجل اعترف دابة بيد رجل فبعد أيام طلبه في إحضارها ليثبتها: فقال: إني بعتها، فهل يصدق أم لا؟ ويلزم بإحضارهات وكيف إن ادعى بيعها من رجل غائب، فأجاب: إن زعم أنه باعها من رجل حاضر فإنه يطلب بتعيينه، فإن عينه طولب بإحضارها أعني مشتريها لتشهد البينة على عينها، وإن زعم أنه باعها من غائب بعيد الغيبة أو من رجل لا يعرفه حلف على ذلك وصدق. انتهى. نقل هاتين المسألتين الشيخ ميارة في شرح لامية الزقاق. وهما من واد واحد. والله تعالى أعلم.
وسئل ابن الحاج عمن اعترف دابة وأقام بها ما يوجب له الذهاب بها ووضع القيمة ففعل ذلك وزاد على الأجل الذي ضرب له، فأراد صاحب الدابة أخذ القيمة فأعطاها القاضي إياه، ثم قدم بالدابة ولم يثبتها، فأجاب بأن: القيمة تكون للمستحق منه وتكون الدابة للذاهب الذي كان اعترفها: فإن أتى بالدابة وقد أثبتها فتكون له الدابة ويأخذ القيمة ويرجع المستحق من يده على من باع منه إن أحب، إلا أن يعطيه القاضي القيمة في الوجه الأول على إن جاء الذاهب بالدابة بها رد عليه القيمة وأخذ دابته، فيأخذ الدابة ويرد القيمة، وأما إن أتى وقد أثبت الدابة فيأخذ الدابة القيمة على كل حال مع الدابة. نقله الشيخ ميارة.
مسألة: وإذا أستحقت الجارية بحرية لم يلزمها الذهاب مع المشتري إلى موضع بائعها ليسترجع ثمنها، وإنما يكتب له القاضي بصفتها. ذكر ذلك ابن عبدوس عن ابن القاسم. وذكر ابن حبيب في وثائقه أن من حق المشتري الذي استحقت من يده أن ترجع معه ليأخذ رأس ماله من البائع مثل ما لو استحق برق. وقال ابن كنانة: ترجع معه إن كانت غرته ولا ترجع معه إن لم تغره وهو جيد، ينبغي أن يحمل قوله على التفسير لقول ابن القاسم ويقول ابن حبيب. قاله صاحب
البيان. نقله الشيخ ميارة. قوله: غرته أي أقرت له بالرق، وعلى المذاهب بمن استحق بملك أو حرية نفقتهم وكسوتهم وركوبهم ذاهبين وراجعين في التأجيل الضروب لطالب الذهاب بهم. قاله الشيخ أبو إبراهيم. وقال: من استحق بحرية يلزمه الذهاب في الوضع القريب دون البعيد، ومن مات من العبيد المستحقين بعد إمضاء الحكم فمصيبته ممن حكم له به، ويجب للذي استحق من يده الرجوع على بائعه منه بثمنه. وقال أصبغ في الجارية الرائعة لا تخرج مع من استحقت من يده بل يكتب صفتها، والصواب أنها كسلعة من السلع إلا أن يكون السفر بعيدا كالشهر ونحوه فالصفة فيه تجزئ، أو يكون المستحق حرا فتجزئ صفته. نقله الشيخ ميارة.
مسألة: وإذا تم الاستحقاق يقال للمحكوم عليه: أنت مخير بين أن تسلم للمستحق شيئه وتتبع البانع منك أو تجرح البينة، ثم لا يقضى منك باتباع البائع إذا غلبْتَ. واعلم أن في هذه المسألة قولين، قيل: لا يتبع البائع إذا عجز عن الدفع: وقيل يتبعه ابن العطار وبالرجوع القضاء. المتيطي: الرجوع هو اختيار الشيوخ بالأندلس وهو دليل المدونة في مسألة ميمون به. عبد السلام، والأصح عدم الرجوع. نقله الشيخ ميارة. وقال عن إبراهيم فيمن استحق بحرية إن الحكم بثبوت الصفات والنعوت كثبوت ذلك بإحضارهم بأعيانهم، ولكن إن طلب المستحق منه الذهاب بأعيانهم مكن منه؛ لأن إحضار العين أوضح وأبين. انتهى.
وفي الشرح المذكور ما نصه: وإنما مكن المستحق منه بالذهاب بالعبد أو الدابة، وإن كان الحكم بالصفة عند ابن القاسم جائزا لأن قاضي بلد البائع قد يكون ممن لا يرى الحكم بالصفة، ولا يحلف المستحق يمين القضاء حتى يعذر للمحكوم عليه في البينة، لأنه إذا حلف قبل الإعذار فقد يجرحهم فتذهب يمينه بلا فائدة. انتهى.
مسألة: وأما القضاة والأجناد والحكام وحملة العلم فلهم أخذ أرزاقهم من العمال المضروب على أيديهم، والحاصل أن من له حق في بيت المال أخذه أو ما تيسر منه على يد من كان، وقد نص أيمتنا رضي الله تعالى عنهم على أنه إن لم يكن بيت مال ويعنون والله أعلم، أو كان ولم يتوصل إليه فإنه يجب على الناس أن يجمعوا مالا ليرتبوا منه للجند وحملة العلم يعنون على فرض
الكفاية، وإذا كان ذلك واجبا على الناس والفرض أنهم لا يفعلونه اختيارا قطعا وبركن يخص حملة العلم فمن للمسلمين به انتفاع أن يتوصل لبعض ذلك على وجه لا بأس به، كأن يأخذ في أجرة شهادة من أهل الثروة والمال ومن استخلص بعض ما يجب عليهم من إعانة كذلك جماعته. والله أعلم. فإن كان يعطى من الأجرة المذكورة مستغرق الذمة لبيت المال فالجواز في حقه أظهر بالنسبة لحملة العلم. والله أعلم. نقله الشيخ ميارة في الشرح المذكور.
مسألة: قال الرعيني: قال محمد: وإن قال رجل لرجل: كان لك عندي ألف دينار وديعة وقد ضاعت مني، وقال ربها: بل كانت عليك سلفا، فالقول قول مدعي السلف، وإن قال: ما أودعتك ذلك ولكنك غصبتني ذلك أو سرقته مني، فلا قول له والقول قول مدعي الوديعة.
انتهى الجزء السادس من لوامع الدرر في هتك أستار المختصر، للعبد الفقير إلى مولاه الغني به عمن سواه: محمد بن محمد سالم بن محمد سعيد المجلسي العلوي الفاطمي الحسني الإدريسي:
الله عَظمَ قدر جاه محمد
…
وأناله فضلا عليه عظيما
في محكم التنزيل قال لخلقه:
…
(صلوا عليه وسلموا تسليما)
اللهم صل وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آل سيدنا محمد عدد معلوماتك وأضعاف ذلك وأضعاف أضعاف ذلك عدد ذلك. وسلم تسليما كذلك.