الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: في حكم ستر العورة وحدها،
وصفة الساتر وما يتعلق بذلك، وهي في اللغة: الخلل في الثغر وغيره، وما يتوقع منه ضرر، ومنه عورة المكان، قال تعالى حكاية عن المنافقين:{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} ، أي خالية يتوقع الفساد فيها، ولذلك سميت السوءتان عورة لأنه بكشفهما يحصل خلل في حرمة مكشوفهما، والمرأة عورة لأنه يتوقع من رؤيتها أو سماع كلامها خلل في الدين والعرض والمروءة، لا من العورة بمعنى القبح لعدم تحققه في الجميلة من النساء لميل النفوس إليها. قاله الشيخ إبراهيم وافتتح المصنف الكلام بالاستفهام على لسان سائل سأل فقال: هل ستر بفتح السين هنا لأنه مصدر، وأما الستر بالكسر فهو ما يستتر به. قاله الشيخ بناني. وقوله:"ستر"، مبتدأ أضيف إلى مفعوله، وهو قوله: عورته أي المصلي المكلف، وأما الصبي إذا صلى بلا ساتر فإنه يعيد في الوقت، وإن صلى بلا وضوء فلأشهب يعيد أبدا أي ندبا، ولسحنون يعيد بالقرب لا بعد يومين وثلاثة. أبو الحسن: إنما قال أشهب يعيد أبدا ليلا تركن نفوسهم إلى التهاون بالصلاة. والفرق بين المسألتين أن الصلاة بدون ستر أخف منها بدون وضوء؛ لأن من عجز عن الستر يصلي عريانا، ومن عجز عن رفع الحدث والتيمم سقطت عنه الصلاة.
بكثيف متعلق بمقدر وهو يكون أو كائن فهو ظرف مستقر حالا من ستر، وليس متعلقا به فيكون ظرفا لغوا، ليلا يوهم أن القول الثاني غير مقيد بالكثيف، أوأن معناه: أو ليس ستر عورته بكثيف بشرط وبغيره شرط. انظر شرح الشيخ عبد الباقي.
وإن بإعارة أي ولو كان الستر حاصلا بإعارة من غير طلب ولزمه قبوله، ولو تحقق المنة، ويدل على هذا أنه لم يقل باستعارة أو طلب بشراء أو باستعارة ممن جهل بخلهم به لكل صلاة، وإن توهمه لا تحقق عدمه كما في طلب الماء في التيمم، ويجري فيه. "فالآيس أول المختار" الخ، وإنما قال المصنف: وإن بإعارة أو طلب لأنه مع ذلك قادر على الستر فيطلب به، وإن أعير لزمه القبول كالماء للتيمم
(1)
. قاله في الذخيرة. أو نجس أي وإن كان الستر حاصلا بنجس كجلد خنزير
(1)
في الذخيرة، ج 1 ص 479: للمتيمم.
أو ميتة، وأحرى المتنجس، وأحرى أن يستتر بهما عن أعين الناس. ومحل وجوب استتاره بالنجس إن كان النجس وحده أي لم يوجد غيره. فإن وجد طاهرا يستتر به بطلت الصلاة بالنجس، والمتنجس كحرير تشبيه في الأمرين أي يستتر بالحرير إن لم يجد غيره طاهرا؛ لأن علة المنع وهو خوف الكبر والسرف منتفية مع الضرورة، فإن وجد ثوبا طاهرا غير الحرير لم يجز له أن يصلي بالحرير: وقيل: يقدم التعري على الحرير.
وهو مقدم يعني أن الحرير مقدم على النجس والمتنجس، فمن لم يجد إلا حريرا أو نجسا أو متنجسا فإنه يلبس الحرير ويصلي به؛ لأنه لا منافاة بينه وبين الصلاة. وقال أصبغ: يقدم النجس لأن الحرير يمنع مطلقا، والنجس إنما يمنع في الصلاة، ويقدم المتنجس على النجس؛ لأن نجاسته عارضة، ولما قالوه فيمن أكره على الزنى بمحرمه أو أجنبية؛ من تقديم الأجنبية لأن حرمتها تزول بعقد صحيح بناء على تعلق الإكراه بالزنى. شرط خبر عن قوله:"ستر" إن ذكر في حال الصلاة أنه مكشوف العورة.
وقدر أي قدر على الصلاة بساتر بأن وجد ما يستتر به حيث كان بحضرة الناس، بل وإن بخلوة أي انفراد عن الناس في ضوء أو ظلام. للصلاة متعلق بقوله شرط، "واللام" بمعنى. "في" كما في شرح الشيخ عبد الباقي، وقوله: للصلاة أي في صحة الصلاة فرضا أو نفلا. وأما ستر العورة عن أعين الناس فواجب إجماعا. كما قاله ابن عبد السلام. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله: "شرط" أي: هل الستر المذكور واجب وجوب شرط، أو هو واجب غير شرط؟ في ذلك خلاف فهو مبتدأ حذف خبره كما في نظائره ومعنى كلام المصنف من قوله:"هل ستر عورته" إلى قوله: خلاف أن أهل المذهب اختلفوا في حكم ستر عورة المكلف المغلظة في الصلاة، فمنهم من ذهب إلى أنه واجب وجوب شرط لكن مع الذكر والقدرة، فمن صلى بلا ساتر عامدا قادرا، أثم، وأعاد أبدا، وهذا هو الذي لابن عطاء الله، فإنه قال: والمعروف من المذهب أن ستر العورة المغلظة من واجبات الصلاة وشرط فيها مع العلم والقدرة، ومنهم من ذهب إلى أنه واجب وجوبا غير شرط. فمن صلى بلا ساتر عامدا قادرا أثم وصحت صلاته، وشهره في القبس، واختاره القاضي إسماعيل، والأبهري وابن بكير. وعلى كلا القولين فلا يكون إلا بكثيف. فالشاف كالعدم على كلا القولين؛ وهو الذي
تظهر البشرة تحته بلا تأمل، ويجب تحصيل الساتر الكثيف بشراء أو غيره كقبول إعارته أو طلبها، ويجب عليه الستر بالنجس إذا لم يجد غيره، وكذا المتنجس، وكذا يجب عليه الستر بالحرير للصلاة إذا لم يجد طاهرا غيره، ويقدم الحرير على النجس والمتنجس، ويقدم المتنجس على النجس، ولا فرق في وجوب الاستتار للصلاة بين أن يكون المصلي مع الناس أو منفردا عنهم، ولا فرق في ذلك أيضا بين أن يكون في ظلام وغيره. واللباس في الصلاة إن كان صفيقا لا يصف العورة فهو الذي تصح الصلاة به على وجه الكمال، فإن كانت البشرة تظهر منه بلا تأمل فكالعدم. كما مر. فيعيد معه أبدا، فإن أبداها بتأمل أعاد بالوقت، وكره وإن بغير صلاة كمحدد بلا ريح، بل لضيقه. أو لرقته.
واعلم أن الراجح من القولين، القول الأول، وقوله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ؛ أي ما يواري عوراتكم والمساجد الصلوات، أو الصلوات في المسجد، وقيل: نزلت ردا لما كانوا يفعلونه من الصلوات عراة. وفي الأمير: ووجب طلب الساتر لكل صلاة بإعارة أو معتاد شراء كالماء لا هبة. انتهى. وقيل: إن ستر العورة للصلاة سنة. وقيل: مندوب، ولا تصح إرادتهما هنا لأنهما لم يشهرا، وكشف بعض العورة ككشف كلها. واعلم أن هذا الخلاف إنما هو في الصلاة، وأما الستر عن أعين الناس فواجب إجماعا. كما مر عن ابن عبد السلام. ومحله أيضا في العورة المغلظة، وقوله بعد:"وهي من رجل" الخ في العورة الشاملة للمغلظة والمخففة. والمغلظة من الرجل: السوءتان، وهما من المقدم: الذكر والأنثيان، ومن المؤخر: ما بين الأليتين، فلا يعيد لكشف فخذه. وظاهره ولو عمدا. ولا يعيد أيضا لكشف إحدى أليتيه، أو بعضهما، أو هما، أو لكشف عانته وما فوقها أبدا فيما يظهر، بل في الوقت. قاله بعضهم. ويبحث فيه بأن ما قارب الشيء يعطى حكمه، فالقياس أن يعيد أبدا لكشف أليتيه، أو إحداهما، أو عانته، ونحو ذلك. والمغلظة من مؤخر أمة: الأليتان، ومن مقدمها: فرجها وما والاه. كذا ينبغي بدليل ذكره أنها تعيد في الوقت لكشف الفخذ والفخذين، وينبغي أن تعيد أبدا لكشف بعض الأليتين، وما يعيد فيه الرجل بوقت. والمغلظة لحرة: بطنها، وساقاها، وما بينهما، وما حاذى ذلك خلفها، كما قد
يفيده قول ابن عرفة: إن بدا صدرها أو شعرها أو أقدامها
(1)
أعادت في الوقت، وإلا أبدا. انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي. ثم قال: ومثل الصدر الظهر في الإعادة في الوقت فيما يظهر من الالتذاذ به كصدرها عادة وكتفها، وأما المخففة: كالفخذ لأمة أو رجل، وكصدر وشعر وأطراف لحرة، فليست من محل الخلاف المذكور في المصنف، وإن كان يجب على الحرة الستر لذلك لصحة صلاتها مع كشف ذلك أو بعضه اختيارا. انتهى.
قال جامعه عفا الله تعالى عنه: وانظر قوله: بطنها وساقاها وما بينهما، وما حاذى ذلك خلفها فإنه يفيد أنها تعيد أبدا في كشف ما يقابل البطن من الظهر مع قوله، ومثل الصدر الظهر في الإعادة في الوقت فيما يظهر، والظاهر ما أفاده بقوله وما حاذى ذلك خلفها لقول ابن عرفة: إن بدا صدرها أو شعرها أو أقدامها
(2)
أعادت في الوقت، وإلا أبدا. انتهى.
تنبيهات: الأول: تقدم أنه ينبني على الخلاف المذكور أنه لو صلى مكشوف العورة عامدا قادرا يأثم، وتبطل على الشرطية، وأما إن كان عاجزا أو ناسيا، فإنه يعيد في الوقت، فلو سقط ساتره في الصلاة بطلت، ولو رده بالقرب واستخلف الإمام وخرج، فإن تمادى بطلت عليه وعليهم، وإن رده بالقرب عند سحنون وهو المشهور، بخلاف قول ابن القاسم: لا شيء عليه إن رده بالقرب، وإن أخذه بالبعد أعاد في الوقت. ابن رشد: هو على أن الستر سنة. انتهى.
وفهم من كلام ابن رشد بالأحروية أنه يعيد في الوقت على أنه واجب غير شرط مع العجز والنسيان، وأنه على القول بأنه واجب غير شرط لو صلى مكشوفا مع العلم والقدرة لسقط عنه الفرض، وإن كان آثما عاصيا فلو صلى مكشوفا ناسيا أو عاجزا على هذا القول فإنه يعيد في الوقت لعدم تقييدهم لهذا القول بالذكر والقدرة، وليس معناه يجب الستر على العاجز والناسي، وإنما معناه يعيد في الوقت عامدا أو عاجزا أو ناسيا عدم الستر، بخلاف القول بالشرطية، فيعيد
(1)
كذا في الأصل والذي في ابن عرفة ص 201 ط دار المدار الإسلامي: قدماها
(2)
كذا في الأصل والذي في ابن عرفة ص 201 ط دار المدار الاسلامي: قدماها
أبدا مع الذكر والقدرة لا مع عدمهما ففي الوقت، ويفيد ذلك ما رد به قول المصنف: لا عاجز صلى عريانا.
الثاني: قول المصنف: وإن بخلوة، رد بالمبالغة القول بالندب حيث كان خاليا عن أعين الناس، قال في بديع الشرمساحي: وإن كان في صلاة غير خال عن الناس فيجب الستر قولا واحدا، وإن كان خاليا. فحكى اللخمي قولين: الوجوب والاستحباب. انتهى. نقله الشيخ محمد بن الحسن. قال: وبه تعلم أن إنكار الرماصي القول بالاستحباب، ودعواه أن ابن بشير لم ينقله إلا في الخلوة في غير الصلاة قصور. الثالث: قول ابن بشير: لا خلاف في الوجوب وإنما الخلاف في الشرطية: ضعفه ابن عطاء الله، وابن شأس، وابن عرفة. والقول بالسنة هو قول إسماعيل، وابن بكير، والأبهري. ونقله ابن محرز عن الأكثر. وأخذه ابن رشد من كلام ابن القاسم قاله القلشاني. واعلم أن الرماصي تعقب المصنف في تقييده الشرطية بالذكر والقدرة، بأنه تبع فيه ابن عطاء الله كما في التوضيح، ولم يقيده غيره بالذكر. قال: وهو الظاهر فيعيد الناسي أبدا، وقد صرح الجزولي بأنه شرط مع القدرة ذاكرا أو ناسيا وهو الجاري على قواعد المذهب. انتهى. باختصار قاله الشيخ محمد بن الحسن. ورد على الرماصي بما في الحطاب عن الطراز، ونصه: قال القاضي عبد الوهاب: اختلف أصحابنا هل ستر العورة من شرائط الصلاة مع الذكر والقدرة، أو فرض ليس بشرط في صحة الصلاة حتى إذا صلى مكشوفا مع العلم والقدرة يسقط عنه الفرض، وإن كان آثما عاصيا. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: وبه تعلم أن تعقبه على المؤلف وقوله: لم يقيده غيره، كل ذلك قصور. والله تعالى أعلم. انتهى.
الرابع: قال الشيخ عبد الباقي: ودخل في قوله: "بكثيف"، الحشيش، وكذا الطين على أحد القولين، والآخر لا يستتر به إما لأنه يغلظ العورة بدون فائدة، وإما لأنه مظنة يبسه وتطايره عنها فتكشف، وهما إذا لم يجد غيره، كما يفيده ذكر الشارح لهما عند قوله: ومن عجز الخ. انتهى. وقوله: وهما إذا لم يجد غيره الخ، هذا صريح في التوضيح، ونصه: قال الطرطوشي في تعليقاته اختلف إذا لم يجد ما يستتر به إلا الطين، هل يتمعك به ويستتر أم لا؟ انتهى. قاله الشيخ
محمد بن الحسن. وقال الشيخ الأمير: ولا يجب بالطين على الظاهر من قولين؛ لأنه مظنة التساقط، ويكبر الجرم فهو كالعدم، بل بماء لمن فرضه الإيماء، وإلا فالركن مقدم. انتهى.
الخامس: اعلم أن جلد الميتة يجوز لبسه اختيارا في غير الصلاة، كما يفيد ذلك قول المصنف:"ورخص فيه مطلقا" انظر حاشية الشيخ بناني.
السادس: اعلم أن للشيخ عبد الباقي بحثا مع ابن رشد في قوله: إن قول ابن القاسم يعيد في الوقت إن رد الساتر بالبعد مبني على السنية وهو بحث ساقط. كما قاله الشيخ محمد بن الحسن. واعلم أن ما تقدم من أن الشاف الذي تظهر البشرة تحته بلا تأمل كالعدم، وما يصف لضيقه أو لرقته مكروه، هو الذي يظهر، وهو الصواب. لا أنه يعيد فيهما أبدا، ولا أنه يعيد فيهما في الوقت. ولما اختلفت عورة المصلي باختلاف أحواله من ذكورة وحرية وضديهما، أشار إلى ذلك بقوله: وهي من رجل يعني أن عورة الرجل بالنسبة للصلاة والنظر ما بين السرة والركبة، والغايتان خارجتان أي ليستا من العورة، والعورة شاملة هنا للمغلظة والمخففة. وقد مر تحديد المغلظة في الرجل بأنها من المقدم: الذكر والأنثيان، ومن المؤخر ما بين الأليتين، فإن قيل سيأتي أن المرأة ترى من الأجنبي ما يراه من محرمه. فالجواب أن المراد بما يأتي: بيان ما يباح لها أن تنظر من الأجنبي، وما يحرم عليها نظره منه، ولا يلزم أن يكون ذلك عورة منه لأنه لا يجب عليه أن يستره. هذا هو المتعين. وأما تقييد هذا بما يأتي فغير صحيح لما علمته. قاله الرماصي. نقله الشيخ محمد بن الحسن.
قال جامعه عفا الله تعالى عنه: وهذا صريح في أن الرجل لا يجب عليه أن يستر ساقيه، ولا ما فوق سرته عن الأجنبية كركبتيه وسرته، ولكن لا يجوز لها هي أن ترى منه إلا الوجه والأطراف، وسيأتي بيان الأطراف إن شاء الله تعالى. وأمة يعني أن عورة الأمة بالنسبة للصلاة والنظر مع كل أحد، ما بين السرة والركبة، وهما؛ أي السرة والركبة ليستا من عورتها كالرجل كما مر، فهما مستويان في العورة إلا أنها هي تخالفه في المغلظة. كما مر: لأن عورتها المغلظة من المؤخر: الأليتان، ومن المقدم: فرجها، وما والاه. وسيأتي ما تراه الأجنبية من الرجل. واعلم أن السوأتين من الرجل عورة بلا خلاف، وأن ما فوق السرة وتحت الركبة منه ليس بعورة بلا
خلاف، واختلف فيما عدا ذلك، والذي تقتضيه نصوص أهل المذهب أنه يجب على الرجل أن يستر من سرته لركبتيه. وقال الشيخ أبو عبد الله بن الحاج في المدخل: إن إظهار بعض الفخذ مكروه على المشهور. وقيل: حرام. انتهى. قاله الإمام الحطاب. وقال الش: عورة الأمة القن أو من فيها شائبة حرية، من السرة إلى الركبة، ولا تدخلان، وقد اختلف في ذلك. وأما الرجل فاتفق على أن السوءتين منه عورة، واختلف فيما عداهما. فقيل: هي ما بين السرة والركبة، وإليه ذهب جمهور أصحابنا. قاله الباجي. وشهره مصنف الإرشاد. وقيل: السوءتان فقط، وقيل: السرة والركبة داخلتان فيها، وقيل: السوءتان والفخذان، وفي المقدمات: أنه لا خلاف أن فخذ الأمة عورة، وإنما اختلف في فخذ الرجل.
وإن بشائبة يعني أن عورة الأمة؛ وهي ما بين السرة والركبة بالنسبة للصلاة، والرؤية لا فرق فيها بين القن، ومن فيها شائبة حرية، كمبعضة، ومكاتبة، وأم ولد، ومدبرة، ومعتقة لأجل، وما يأتي من أن أم الولد يندب لها ستر واجب على الحرة لا يرد على ذكر أم الولد هنا؛ لأن الكلام هنا فيما هو عورة يجب ستره. كما قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقوله:"شائبة" من الشوب، وهو الخلط؛ أي اختلطت برقيتها حرية. وشمل قوله:"وإن بشائبة" المعتق بعضها. كما مر؛ لأن أحكام المبعض قبل العتق لبعضه الآخر، كالقن كما يأتي للمصنف، خلافا لقول القباب إنها كالحرة، وعليه رد المصنف بالمبالغة. والله تعالى أعلم.
تنبيه: في الحطاب: أن رجلا حصل في شجرة عريانا، فحلف له آخر إنك لا تنزل إلا مستورا ولا يمد لك أحد ما تستتر به، فأفتى بعض فقهاء أهل ذلك الزمان أنه ينزل بالليل ولا حنث على الحالف، وتلا قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} ، وهذا على مراعاة الألفاظ في الأيمان بين، وعلى مراعاة العرف أو البساط أو النية على أصل ملك فلا بد من حنثه. والأول مذهب الحنفية فعلى هذا المذهب يحتمل أن لا إعادة عليه للصلاة؛ لأن الليل يستره والله تعالى أعلم. انتهى. ابن فرحون: إذا خشي من الأمة فتنة وجب الستر لدفعها، لا لأنه عورة. قاله الشيخ إبراهيم.
وحرة مع امرأة يعني أن عورة الحرة بالنسبة للرؤية؛ أي رؤية امرأة لها حرة أو أمة ما بين السرة والركبة، وأما بالنسبة للصلاة فجميع بدنها؛ أي ما عدا الوجه والكفين، ولو صلت بحضرة مثلها وهذا مما أطبق عليه أهل المذهب كما في بناني ولا يلزم من ترك واجب بطلان الصلاة، بل منه ما يبطل ككشف بطنها ونحوه مما مر أنه يبطلها، ومنه ما لا يبطلها كصدرها وأكتافها. وظاهر قوله:"مع امرأة" ولو كافرة، خلافا لابن الحاج القائل: وأما الكافرة فالمسلمة معها كالأجنبية مع الرجل اتفاقا، فعورتها معها ما عدا الوجه والكفين إلا أن تكون أمة للمسلمة فكالمسلمة مع المسلمة. وأما الذمي فلا يجوز له أن يرى المسلمة بحال وينبغي إلا أن يكون عبدا لها فيكون كالأجنبي المسلم معها. وعلم مما مر أن العورة يجب سترها في الصلاة مخففة ومغلظة ولو صلى بحضرة مثله: لكن المغلظة يبطل ترك سترها. والمخففة لا يبطل ترك سترها وما ذكره المصنف من أن عورة الحرة مع المرأة بين السرة والركبة هو المشهور، وقيل: كالرجل مع محرمه، فترى المرأة من المرأة الوجه والأطراف فقط. وقيل: كالرجل مع الأجنبية فلا ترى المرأة من المرأة إلا الوجه والكفين إن أمنت الفتنة. قاله الشيخ ميارة. قال: ومقتضى كلام ابن الحاج أن الخلاف إنما هو في المسلمة مع المسلمة، وأما المسلمة مع الكافرة فكالأجنبية مع الرجل اتفاقا. انتهى.
بين سرة وركبة هذا هو خبر المبتدأ، أعني قوله: وهي فهو راجع للمسائل الثلاث أي عورة الرجل وعورة الأمة. وعورة الحرة مع المرأة هي ما بين السرة والركبة، وقد علمت أن السرة والركبة ليستا من العورة في المسائل الثلاث على المشهور. واعلم أن بين من الظروف المتصرفة، ومثلوا لذلك بقوله تعالى:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} بالرفع، وبقوله تعالى:{هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} ، ولم يجعلوا تصرفها لغة قليلة، ومن تصرفها قولهم: بعيد بين المنكبين، ونقي بين الحاجبين. وأما كونها مبنية على الفتح فغير صحيح؛ إذ لا وجه لبنائها.
تنبيه: لا يجوز له أن يمكن دلاكا يدلك له فخذه. ابن القطان: هو أشد من النظر إليه، وأما الضرب على الفخذ فاختار ابن القطان جوازه. والله تعالى أعلم. قاله الإمام الحطاب. وقال ابن عبد البر في التمهيد: قال ملك: السرة ليست بعورة وأكره للرجل أن يكشف فخذه بحضرة زوجته. انتهى. قاله الحطاب. وفي الكافي: عورة الأمة كعورد الرجل إلا أنه يكره النظر إلى ما
تحت ثيابها لغير سيدها، وتأمل ثديها وصدرها وما يدعوا إلى الفتنة منها، ويستحب لها كشف رأسها. انتهى. قاله الحطاب. ومن لبس السراويل تحت السرة فقد ارتكب النهي فيما بين السرة إلى حد السراويل. أشار له الحطاب.
ومع أجنبي غير الوجه والكفين يعني أن عورة الحرة بالنسبة لرؤية الأجنبي هي جميع جسدها ما عدا الوجه والكفين حتى دلائلها
(1)
وقصتها وأما الوجه والكفان ظاهرهما وباطنهما فله رؤيتهما مكشوفين ولو شابة بلا عذر من شهادة أو طب، ومحل جواز رؤية الوجه والكفين إن لم يخش فتنة ولا قصد لذة وإلا حرم النظر لذلك. قاله الشيخ عبد الباقي. ويجب عليها حينئذ ستر وجهها على المشهور، وقيل: لا يجب عليها وعلى الرجل غض بصره، وقيل: إن كانت جميلة وجب، وإلا استحب. انظر حاشية الشيخ بناني.
واعلم أنه لا يجوز السفر مع العرب الذين لا يحجبون حريمهم حيث لا يمكن التحفظ من النظر المحرم ولم تدع ضرورة إلى السفر معهم، فإن دعت إليه ضرورة خوف الهلاك على نفسه أو ما يجحف به من ماله جاز السفر معهم، ويؤمر بالتحفظ جهده، ولا يجوز له أن ينظر إلى ما لا يحل له النظر إليه [من نسائهن
(2)
]، وإن كان لا غرض له فيهن ولا يميل طبعه إليهن، ولا يجوز له أن يؤاكل النساء إلا زوجته أو ذات محرم إلا المتجالة منهن. على هذا يحمل ما وقع في الرواية عن مالك رضي الله عنه. وأما رفع الأحمال مع النساء، فإن دعت إليه ضرورة شديدة جاز، وإلا فلا. وبالله التوفيق. انتهى. من نوازل ابن هلال. وقوله:"ومع أجنبي غير الوجه والكفين"، في كلام بعضهم ما يدل على أنه إنما يباح النظر لوجه المتجالة دون الشابة إلا لعذر. وقوله:"ومع أجنبي"، معطوف على قوله:"مع امرأة". وفي شرح الشيخ عبد الباقي أنه يحرم النظر لأمرد كما للفاكهاني والقلشاني، كخلوة به وإن أمنت الفتنة. كما نقله زروق عن نص الشافعي وفي المواق
(1)
في عبد الباقى، ج 1 ص 176: دلاليها.
(2)
في نوازل ابن هلال: منهن. ص 191 مخطوط بمكتبة أحمد سالك بن محمد الأمين بن ابّوه.
الكبير ما يفيده. وقال ابن الفاكهاني: مقتضى مذهبنا أن ذلك لا يحرم إلا بما يتضمنه، فإن غلبت السلامة فلا تحريم، ومذهب الشافعي أحسن.
وفي الشيخ سالم: ابن القطان: لا يلزم غير الملتحي التنقب لكن ينهى الغلمان عن الزينة، وأجمع على حرمة النظر إليه بقصد اللذة وإمتاع البصر بحاسته،
(1)
وعلى جوازه بغير قصد اللذة، والناظر أَمِنَ من الفتنة وجنايةُ البصر صغيرة تكفرها الطاعات إن اجتنبت الكبائر. وقوله:"ومع أجنبي"، قال الشيخ عبد الباقي: مسلم، ولو عبدها فيما يظهر، ثم قال: وقولنا: مسلم، لإخراج كافر غير عبدها، فإن عورتها معه جميع جسدها حتى الوجه والكفين. انتهى. وقال الشيخ الأمير: وعبدها الوخش كالمحرم في الرؤية، وفي الخلوة خلاف، والجميل كالأجنبي، وإن مجبوبا وعبد الزوج المجبوب كعبدها، فإن كان وخشا فكالمحرم، ومطلق الجس حرام ولو لغير العورة كوجه أجنبية؛ لأنه أشد من النظر، ويجوز في المحرم ففي صحيح البخاري: (أن الصديق قبل عائشة رضي الله عنهما
(2)
)، ونقل عن الشيخ سالم أن الحرمة في المتصل، وحرمت الشافعية المنفصل حتى قالوا: إن علم شعر عانة بعد حلقه، حرم النظر إليه. انتهى. وقوله: غير الوجه والكفين، قيل: والقدمين، قاله الحطاب.
وأعادت لصدرها وأطرفها بوقت يعني أن الحرة إذا صلت مكشوفة الصدر كلا أو بعضا، أو مكشوفة الأطراف كلا أو بعضا عامدة أو جاهلة أو ناسية؛ فإنها تعيد في الوقت، وتعيد الظهرين للاصفرار، والعشاءين لطلوع الفجر، والصبح لطلوع الشمس، وتعيد لما فوق المنحر في الوقت المذكور كما أفاد ذلك المصنف بقوله إن تركتا القناع، وكذا كتفها فإنه كصدرها فيما يظهر، قاله الشيخ عبد الباقي. وقد مر أنها تعيد لكشف بطنها أبدا كفخذيها: خلافا لقول أشهب تعيد في البطن أو في الفخذين في الوقت. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. ومثل الحرة في إعادتها لكشف صدرها وأطرافها في الوقت، أم الولد. ابن غازي: المعيدون فيها؛ أي في المدونة في الوقت ثلاثون: عشرة
(1)
في عبد الباقي، ج 1 ص 176: بمحاسنه.
(2)
قال البراء فدخلت مع أبي بكر على أهله فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها حمى فرأيت أباها يقبل خدها وقال: كيف أنت يا بنية؟. البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم الحديث:3918.
للاصفرار، وعشرة للغروب، وعشرة لآخر المختار، وقد كنت نظمت أصولهم في ثلاثة أبيات فقلت:
لوقت الاصفرار في المدونة
…
طهران لبس قبلة مبينه
ومطلق العذر إلى الغروب
…
كالعجز عن طهر وكالترتيب
ولاختيار مقتد بمبتدع
…
ومطلق المسح ففصل تطلع
أي فصل الطهرين لخمسة؛ وهي من توضأ بماء مختلف في نجالسته، ومن تيمم على موضع نجس، ومن صلى ومعه جلد ميتة ونحوه، ومن صلى بثوب نجس، ومن صلى على مكان نجس. وفصل اللبس بضم اللام، وهو اللباس لثلاثة وهي: الحرة إذا صلت بادية الشعر، أو الصدر، أو ظهور القدمين. ومن صلى بثوب حرير، ومن صلى بخاتم ذهب، وفصل القبلة لاثنين: من أخطأ القبلة، ومن صلى في الكعبة، أو في الحجر فريضة. فهذه عشرة.
وفصل مطلق العذر لسبعة وهي: الكافر يسلم، والصبي يحتلم، والمرأة تحيض أو تطهر، والمصاب يفيق أو عكسه، والمسافر يقدم أو عكسه، ومن صلى في السفر أربعا، ومن عسر تحويله إلى القبلة. وفصل الترتيب إلى اثنين وهما من صلى وهو ذاكر لصلاة، وتارك ترتيب المفعولات إلى العاجز عن طهر الخبث كمن صلى بثوب نجس لا يجد غيره. فهذه عشرة. وفصل المسح لتسعة وهي: من تيمم إلى الكوعين، وناسي الماء في رحله، والخائف من سبع أو نحوه، والراجي، والموقن إذا تيمم أول الوقت، واليائس إذا وجد الماء الذي قدره، والمريض لا يجد مناولا، والماسح على ظهور الخفين دون بطونهما، والمستجمر بفحم ونحوه إلى المقتدي بالمبتدع. فهذه عشرة. فهذه ثلاثون. وإطلاق الإعادة على جميعهم تغليب؛ لأن ذوي الأعذار لا تتصور فيهم إعادة. والله أعلم. وفي عد اليائس إذا وجد الماء نظر لما قدمناه في التيمم عن المدونة من أن اليائس لا يعيد مطلقا، وقد بحث فيه الشيخ ميارة بذلك، انظر حاشية الشيخ بناني. وقوله: وتارك ترتيب المفعولات، قال الشيخ
ميارة: قلت أي الحاضرة الوقت مع يسير الفوائت كمن صلى الظهر والعصر، ثم تذكر فوائت يسيرة فإنه يصلي الفوائت ويعيد الظهر والعصر إلى الغروب. انتهى.
ككشف أمة فخذا يعني أن الأمة تعيد في الوقت المذكور لكشف فخذ أو فخذين منها، وسواء في ذلك ذات الشائبة وغيرها، ويحرم النظر لفخذها ولو لغير شهوة. كما مر ما يفيده. وقوله:"فخذا" مفعول لكشف؛ وهو مصدر مضاف إلى فاعله. لا رجل يعني أن الرجل لا يعيد لكشف فخذه، ولا لكشف فخذيه. لا في الوقت، ولا في غيره ويحرم كشفه والنظر له، وشهر في المدخل كراهة النظر له، وقد مر أنه يحرم تمكين دلاك من الفخذ. قال الشيخ عبد الباقي: ظاهره حرمة تمكينه. ولو بحائل ككيس، وأولى في التحريم تدليكه أليتيه؛ لأن جس العورة أقوى من نظرها والمنع ولو كان الجس على ذي شيبة؛ لأن علة المنع ليست هي النظر أو الجس بشهوة، والنظر للعورة مستورة غير حرام، بخلاف جسها مستورة. وقال في الرسالة: الفخذ عورة وليس كالعورة نفسها. ابن عمر: الفخذ عورة خفيفة يجوز كشفها مع الخاصة: ولا يجوز في الجموع، (وقد كشفه النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر وستره مع عثمان
(1)
). انتهى.
وهذا دليل على أن عثمان عنده صلى الله عليه وسلم ليس من الخاصة الذين يجوز كشفه بحضرتهم. قاله الأجهوري. قال عبد الباقي: وفيه نظر؛ إذ لم يأت ابن عمر بالفاء لتدل على جري الحكم الذي أفاده، وإنما أتى بالواو، فقال: وقد كشفه لقصد إفادة الحديث، وأن عثمان كالخاصة، ولكن غطاه لعلة؛ وهي استحياء الملائكة منه، فعن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام كان جالسا كاشفا عن فخذيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله، فاستأذن عمر فأذن له وهو على حاله: ثم استأذن عثمان فأرخى عليه الصلاة والسلام ثيابه. فلما قاموا قلت: يا رسول الله استأذن أبو بكر وعمر فأذنت لهما وأنت على حالك، فلما استأذنك عثمان أرخيت عليك ثيابك فقال يا عائشة: (ألا أستحيي من رجل والله إن الملائكة لتستحيي منه
(2)
)، رواه أحمد.
(1)
ألا أستحيي ممن تستحي منه الملائكة. مسند أحمد، رقم الحديث:25927. وهو في صحيح مسلم بلفظ ألا أستحى من رجل تستحي منه الملائكة. كتاب فضائل الصحابة، رقم الحديث:2401.
(2)
ألا أستحيي ممن تستحي منه الملائكة. مسند أحمد، رقم الحديث:25927.
وسئل الحافظ السخاوي عن المواطن التي استحيت الملائكة فيها من عثمان، وقال: لم أقف عليه في حديث معتمد، ولكن لشيخنا البدر النسابة في بعض مجاميعه عن الحمال الكازوري (أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل
(1)
بين المهاجرين والأنصار بالمدينة في بيت أنس، وتقدم عثمان كذلك كان صدره مكشوفا، فتأخرت الملائكة منه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتغطية صدره، فعادوا إلى مكانهم، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب تأخيرهم
(2)
فقالوا: حياء من عثمان))، قلت: وروى الطبراني في الكبير، وابن عساكر في تاريخه، عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مر بي عثمان وعندي جيل من الملائكة فقالوا شهيد من الآدميين يقتله قومه إنا نستحيي منه
(3)
). انتهى. من شرح مسلم للسنباطي. نقله الشيخ عبد الباقي. وفي الشبراخيتي: والظاهر أن النظر لفخذ الأمة حرام بلا نزاع. انتهى.
ومع محرم غير الوجه والأطراف يعني أن عورة الحرة مع رجل محرم لها بنسب أو صهر أو رضاع، جميع جسدها ما عدا وجهَها وأطرافَها. والأطراف هي: الذراعان، والقدمان، وما فوق المنحر، والذراع من المرفق إلى طرف الأصابع. فليس له أن يرى منها غير ما ذكر من الوجه والأطراف، وأما الوجه والأطراف فله أن يراها. وفي الشبراخيتي ما نصه: قال الحطاب: ولا يجوز ترداد النظر وإدامته إلى امرأة شابة من محارمه أو غيرهن إلا عند الحاجة إليه والضرورة في الشهادة ونحوها، وعليه فيقيد كلام المصنف بغير ترداد النظر وإدامته، ومفهوم الشابة أنه يجوز ذلك في المتجالة. وعلم مما مر أنه ليس للرجل أن يرى ثدي محرمه، ولا صدرها، ولا ساقها ولا عضدها. بخلاف شعرها. كما مر. القرافي: لا بأس أن ينظر الرجل شعر أم زوجته، ولا ينبغي إن قدم من سفر أن تعانقه وإن كانت عجوزا. قاله أحمد. وقوله:"غير الوجه والأطراف"، يقيد
(1)
في عبد الباقي ج 1 ص 177: آخى.
(2)
في عبد الباقى ج 1 ص 177: تأخُّرهم.
(3)
.... سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مر بي عثمان وعندي ملك من الملائكة فقد: شهيد يقتله قومه إنا لنستحيي منه
…
المعجم الكبير للطبراني، رقم الحديث:4939.
- مر بي عثمان وعندي جيل وقال المكي ملك من الملائكة فقالوا وقال المكي شهيد يقتله قومه إنا نستحيى منه. تاريخ ابن عساكر، رقم الحديث:15225.
جواز نظره للوجه والأطراف بغير شهوة، وإلا حرم في بنته وأمه وغيرهما من محارمه. وفي الحطاب: وقال ابن عبد البر في التمهيد: وجائز أن ينظر إلى الوجه والكفين منها لغير ريبة ولا مكروه. انتهى. وفي الحطاب أيضا: وأما النظر للشهوة فحرام تأملها فوق ثيابها لشهوة، فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة. انتهى. وفي الموطإ قال مالك: ليس على الرجل أن ينظر إلى شعر امرأة ابنه، أو شعر أم امرأته
(1)
. الباجي: قول مالك رحمه الله: ليس على الرجل إلى آخره، يريد -والله أعلم- على الوجه المباح من نظره إلى ذوات محارمه كأمه وأخته وابنته، ولا خلاف في ذلك، كما أنه لا خلاف في منعه على وجه الالتذاذ والاستمتاع. والله أعلم. انتهى قاله الإمام الحطاب. ونقل الأبي: وكل ما أبيح النظر إليه من جميع ما تقدم فإنما هو لغير شهوة، وأما مع الشهوة فيمتنع حتى نظر الرجل إلى ابنته وأمه، وكل ما منع النظر إليه من جميع ما تقدم فإنما هو لغير الحاجة، فإن كان لحاجة، جاز. انتهى. نقله الإمام الحطاب. وقال في جامع الكافي ولا بأس أن ينظر إلى وجه أم امرأته وشعرها وكفيها، وكذلك زوجة أبيه وزوجة ابنه، ولا ينظر منهن إلى معصم ولا ساق ولا جسد، ولا يجوز ترداد النظر وإدامته إلى امرأة شابة من ذوي المحارم أو غيرهن إلا عند الحاجة إليه والضرورة في الشهادة ونحوها. وإنما يباح النظر إلى القواعد التي لا يرجون نكاحا والسلامة من ذلك أفضل. انتهى. نقله الإمام الحطاب.
وترى من الأجنبي ما يراه من محرمه يعني أن المرأة حرة أو أمة يجوز لها أن ترى من الرجل الأجنبي وجهه وأطرافه، وذلك هو الذي يسوغ للرجل أن ينظره من محارمه. وقد تقدم أن عورة الرجل ما بين السرة والركبة، وحينئذ فلا يجب على الرجل أن يستر إلا ما بين السرة والركبة، ويحرم على المرأة أن تنظر منه ما عدا وجهه وأطرافه، وأما الوجه منه والأطراف فلا يحرم عليها نظرها حرة أو أمة. وعلم من هذا أن قوله:"وترى من الأجنبي"، ليس مخصصا لقوله: وهي من رجل الخ؛ لأنه لا يلزم من عدم جواز نظر الأجنبية لغير الوجه والأطراف أن يكون ما عداهما
(1)
ولفظ الموطإ: ليس على الرجل ينظر إلى شعر امرأة ابنه أو شعر أم امرأته بأس (السنة في الشعر)). شرح الزرقاني ج 5 ص 368 وكذا في الحطاب ج 2 ص 188 دار الرضوان.
عورة، بل عورته إنما هي ما بين سرته وركبته. والله أعلم. فالأمة ترى من الأجنبي الوجه والأطراف فقط لا غير، ويرى هو منها ما عدا ما بين السرة والركبة. وقال ابن رشد في سماع أصبغ: اختلف في بدن الرجل هل هو عورة على المرأة فلا يجوز لها أن تنظر منه إلا ما يجوز للرجل أن ينظره من المرأة: والصحيح أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلا ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من ذوات محارمه. قاله الإمام الحطاب. واعلم أن الحجاب على ضربين: حجاب عن الأبصار مباشر للذات، فلا يجوز للأجنبي مباشرته؛ لأن مباشرته مباشرة للمرأة، وحجاب للذات مفارق لها منفصل عنها، فهذا سائغ للأجنبيين مباشرته للضرورة في ذلك إذا كان فيهم أهلية ومعرفة، كما كان الأهلية في الحاملين لهودج السيدة عائشة رضي الله عنها المذكور في حديث الإفك. انظر العميري على العمليات الفاسية.
ومن المحرم كرجل مع مثله، يعني أن المرأة يجوز لها أن ترى من الرجل المحرم بنسب أو رضاع أو صهر ما يجوز للرجل أن يراه من الرجل؛ وهو ما عدا ما بين السرة والركبة كما مر، وسواء كان هذا الرجل المحرم مسلما أو كافرا، وهذا تكرار مع بعض مفردات ما مر من قوله: وهي من رجل الخ ولما قدم تحديد عورة الأمة الواجب سترها، أشار إلى حكم ما عداها بقوله: ولا تطلب أمة بتغطية رأس، يعني أن الأمة لا تطلب بتغطية رأسها لا وجوبا ولا ندبا، بل يندب لها أن لا تغطيه وكان عمر رضي الله عنه يضرب من تغطي منهن رأسها ليلا يتشبهن بالحرائر. وقد تقدم أنه إذا خشي منها الفتنة، وجب الستر لدفعها لا لأنه عورة. وقوله: ولا تطلب أمة؛ يعني وإن بشائبة ما عدا أم الولد، ويلزم الإماء بهيئة من اللباس يعرفن بها من الحرائر. وقال عياض: الصواب كشفُ رأسها بغير صلاة، ونَدْبُ تغطيتِها بها، قاله الشيخ إبراهيم، وغيره. وفي المدونة: وللأمة، ومن لم تلد من السراري، والمكاتبة، والمدبرة، والمعتق بعضها: الصلاةُ بغير قناع، ولا يصلين إلا بثوب يستر جميع الجسد. انتهى. وما ذكره في الكتاب خلاف قول الجلاب، والمكاتبة بمنزلة أم الولد، ومثله ابن عبد البر، وقوله: لا يصلين إلا بثوب يستر جميع الجسد، هو المطلوب. انتهى قاله الإمام الحطاب. وسئل إمامنا مالك: أتكره أن تخرج جارية
متجردة؟ قال: نعم، وأضربها على ذلك. قال محمد بن رشد: يريد متجردة مكشوفة الظهر أو البطن، وأما خروجها مكشوفة الرأس فهو سنتها ليلا تتشبه بالحرائر اللواتي أمرهن الله بالحجاب. قال في الواضحة: وما رأيت بالمدينة أمة تخرج، وإن كانت رائعة إلا وهي مكشوفة الرأس في ضفائرها أو في شعر محمم لا تلقي على رأسها جلبابا لتعرف الأمة من الحرة، إلا أن ذلك لا ينبغي اليوم لعموم الفساد في أكثر الناس، فلو خرجت اليوم جارية رائعة مكشوفة الرأس في الأسواق والأزقة لوجب على الإمام أن يمنع من ذلك، ويلزم الإماء من الهيئة في لباسهن ما يعرفن به من الحرائر. انتهى. نقله الإمام الحطاب. وفي التوضيح: واعلم أنه إذا خشي من الأمة الفتنة، وجب الستر لخوف الفتنة لا لأنه عورة. انتهى ومنع عمر رضي الله عنه الإماء من لبس الإزار، وقال لابنه: ألم أخبر أن جاريتك خرجت في الإزار وتشبهت بالحرائر؟ ولو لقيتها لأوجعتها ضربا. قاله في الذخيرة. وذلك لأنه جرت عادة السفهاء بالتعرض للإماء دون الحرائر، فخشي رضي الله عنه من تشبههن بالحرائر تعرض السفهاء للحرائر ذوات الجلالة فتكون المفسدة أعظم: وهذا معنى قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} أي يتميزن بعلاماتهن من غيرهن. انتهى. نقله الشيخ إبراهيم. ومعنى قوله: أدنى الخ؛ أي أقرب لمعرفتهن بسبب نميزهن بالعلامات، فلا يؤذين بالتعرض لهن.
وندب سترها بخلوة؛ يعني أنه يندب في غير الصلاة ستر العورة المغلظة لمن هو منفرد عن الناس، وسواء في ذلك الرجل والمرأة، وكره تجرد لغير حاجة، حياء من الملائكة، وأما المخففة كالفخذين، فلا. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ الأمير: وندب بغير صلاة ستر السوءتين وما قاربهما بخلوة من كل أحد، وقيل: المغلظة على اختلافها، وقيل: السوءتان فقط. وفي الحطاب: قال الشيخ أحمد زروق: حكى ابن القطان في نظر الإنسان عورته من غير ضرورة قولين: بالكراهة، والتحريم. قال الترمذي الحكيم: ومن داوم على ذلك ابتلي بالزنى. انتهى. كلام الشيخ زروق. والذي رأيته في أحكام ابن القطان إنما هو قول عن بعض العلماء بالكراهة، وردَّه، وكذلك اختصره القباب. انتهى. كلام الحطاب. وفي الشبراخيتي: وأما نظر المرء إلى عورة نفسه خارج الصلاة، فقال ابن القطان: كرهه بعض الفقهاء، ولا معنى له، ولعله أراد أنه ليس من المروءة،
وإلا فلا مانع من جهة الشرع انتهى. وأما ستر العورة في الصلاة فقد مر أنه واجب في الخلوة وغيرها، وقوله:"وندب سترها بخلوة"، وقيل: بالوجوب، حكى القولين ابن بشير واستظهر الوجوب لقوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله
(1)
). انظر التوضيح.
ولأم ولد؛ يعني أنه يندب لأم الولد دون غيرها من ذوات الشائبة إذا كانت تصلي أن تستر جميع جسدها ما عدا الوجه والكفين، وهو الستر الواجب على الحرة البالغة في الصلاة، وقوله:"ستر"، واجب على الحرة، أي الستر الزائد على القدر المشترك فيه، فإن أم الولد يجب عليها ستر ما بين السرة والركبة.
وصغيرة؛ يعني أنه يندب للحرة الصغيرة أي التي تؤمر بالصلاة كبنت سبع فأكثر إذا كانت تصلي، أن تستر جميع جسدها ما عدا الوجه والكفين: وهو الستر الواجب على الحرة البالغة في الصلاة، وقوله:"وصغيرة" قال الشيخ عبد الباقي: وصغير، قال الشيخ محمد بن الحسن: ذكره الصغير هنا سهو. كما هو ظاهر. انتهى. وبما قررت علم أن قوله ستر واجب على الحرة راجع لأم الولد، والصغيرة التي تؤمر بالصلاة، وقوله:"ستر"، عطف على نائب ندب، ويقدر بعده مجرور أي في الصلاة. انظر شرح الشيخ عبد الباقي وقوله:"واجب"، صفة لقوله:"ستر". وأعادت إن راهقت؛ يعني أن الصغيرة الحرة إذا تركت القناع في الصلاة، بأن صلت بادية الشعر فإنها تعيد الظهرين. للاصفرار، والعشاءين للفجر، والصبح لطلوع الشمس، وهذا إذا تركته وهي مراهقة، فإن لم تكن مراهقة فلا إعادة عليها اتفاقا. قال الرجراجي: وأما الحرائر غير البوالغ فلا تخلو من أن تكون مراهقة أو غير مراهقة، فإن كانت مراهقة فصلت بغير قناع، أو كان الصبي عريانا، فهل عليهما الإعادة في الوقت أم لا؟ قولان: أحدهما الإعادة، وهو لأشهب، والثاني: لا إعادة، وهو لسحنون. وأما غير المراهق منهم كابن ثمان سنين فلا خلاف في المذهب أنها تؤمر بأن
(1)
الترمذى، كتاب الأدب، رقم الحديث:2800.
تستر من نفسها ما تستره البالغة، ولا إعادة عليها إن صلت مكشوفة الرأس، أو بادية الصدر انتهى قاله الشيخ محمد بن الحسن وقال: ويكفي هذا شاهدا للمصنف. انتهى. فينتفي عنه اعتراض الرماصي بأن القائل بالإعادة هنا هو أشهب؛ وهو مصرح بأن من تؤمر بالصلاة تعيد في الوقت. انتهى. ومعنى راهقت قاربت البلوغ كبنت إحدى عشرة سنة.
ككبيرة، يعني أن الكبيرة أي البالغة حرة أوأم ولد إن تركت القناع في الصلاة بأن صلت وهي بادية الشعر فإنها تعيد الظهرين للاصفرار، والعشاءين لطلوع الفجر، والصبح لطلوع الشمس. وبما قررت علم أن قوله إن تركا. أي الشخصان المراهقة والبالغة. القناع شرط قوله:"وأعادت"، فهو راجع للمراهقة والبالغة حرة أو أم ولد. والله سبحانه أعلم. ولم تعد كل منهما في الاصفرار، لأنه لا تصلى نافلة في الاصفرار وصلاة ذي العذر فرض فكانت للغروب. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله: "وأعادت إن راهقت، ولو صلت عريانة لكانت كالصبي يصلي عريانا. وقد مر أنه يعيد في الوقت كمصل بحرير تشبيه في الإعادة في الوقت؛ يعني أن من صلى بحرير لابسا له، وكذلك من صلى بخاتم ذهب لابسا له، يعيد الظهرين للاصفرار، والعشاءين لطلوع الفجر، والصبح لطلوع الشمس. ولو صلى حاملا لما ذكر من الحرير وخاتم المذهب غير لابس له فإنه لا إعادة عليه. قاله الشيخ عبد الباقي.
وإن انفرد؛ يعني أن من صلى لابسا للحرير يعيد في الوقت كما عرفت، ولا فرق في ذلك بين أن ينفرد الحرير بأن لا يوجد غيره، وبين أن يكون الحرير موجودا عنده هو وغير الحرير، خلافا لأصبغ القائل إنه لا يعيد إذا صلى بالحرير عادما غيره. وعلى هذا فما قبل المبالغة حيث صلى بالحرير واجدا له ولغيره، وما بعدها حيث صلى بالحرير عادما غير الحرير، ويحتمل المصنف أن معناه وإن انفرد باللبس مع وجود غيره؛ أي إنما استتر في الصلاة بالحرير فقط مع وجود غير الحرير، خلافا لابن حبيب القائل: إذا صلى فيه وحده مع وجود غيره يعيد أبدا، وعلى هذا فما قبل المبالغة حيث صلى بالحرير وغيره، وما بعدها حيث صلى في الحرير وحده مع وجود غيره. والله سبحانه أعلم. قال الشيخ إبراهيم. والاحتمالان صحيحان؛ لأن الخلاف موجود في المسألتين. أو بنجس. يعني أن من صلى بنجس أو متنجس لابسا له أو حاملا له يعيد الظهرين للاصفرار،
والعشاءين للفجر، والصبح للطلوع. وقوله:"بغير" متعلق بيعيد المدلول عليه بالتشبيه، والضمير المقدر راجع لما ذكر من الحرير والنجس؛ يعني أن من صلى لابسا للحرير إنعا يعيد في الوقت بغير الحرير؛ أي إنما يعيد بطاهر غير الحرير صلى بالحرير اختيارا مع وجود غيره، أو صلى به اضطرارا لا مع وجود غيره، وكذلك من صلى بنجس أو متنجس فإنه يعيد بغير متنجس ولا نجس، وكذا لا يعيد بالحرير من صلى بمتنجس أو نجس، وكذا من صلى بالحرير لا يعيد بنجس ولا متنجس. كما صرح به الشبراخيتي قائلا: كما نص عليه سحنون.
أو بوجود مطهر راجع للنجس؛ يعني أن من صلى بالنجس أو المتنجس يعيد في الوقت إن وجد طهورا واتسع الوقت وأمكنه التطهير وَطَهَّر، وبالغ على الإعادة بقوله: وإن ظن عدم صلاته وصلى بطاهر؛ يعني أن من صلى بنجس أو متنجس أو حرير فإنه يعيد في الوقت بطاهر غير الحرير. كما مر. ولا فرق في ذلك بين من لم تحصل منه إعادة لها أصلا، وبين من أعادها بطاهر، لكنه ظن أنه لم يصل أصلا بأن نسيها فصلاها بطاهر غير حرير؛ لأن هذه الثانية لم يوقعها جابرا بها الأولى.
ألا عاجز صلى عريانا، قوله:"لا عاجز"، بالجر، عطف على "مصل"؛ يعني أن من عجز عن الستر بطاهر أو نجس أو حرير وصلى عريانا، ثم وجد ما يستتر به لا إعادة عليه في وقت، ولا في غيره عند ابن القاسم. ولم يحك ابن رشد غيره، وقال المازري: المذهب أنه يعيد في الوقت. ابن عرفة: وتبعوه، وبحث بعضهم في كلام ابن عرفة بأن أتباع المازري هم: ابن بشير، وابن شأس، وابن الحاجب. وفي كتاب الشيخ الأمير ترجيح ما للمازري، وتضعيف ما مشى عليه المصنف. وفي شرح الشيخ عبد الباقي ما نصه: ولا يخفى قوة ما للمصنف لكونه قول ابن القالم، ولم يحك ابن رشد غيره. فهذا يعادل قول المازري. انتهى. وقوله:"لا عاجز صلى عريانا"، مالك: يصلي قائما يركع ويسجد ولا يومئ. كفائتة تشبيه في عدم الإعادة؛ يعني أن من صلى فائتة ثم تبين أنه صلاها بنجس أو حرير لا يعيدها إن وجد غير ما ذكر؛ لأن كل ما تعاد منه الحاضرة في الوقت لا تعاد منه الفائتة لانقضاء وقتها، ولا تعاد منه النافلة أيضا.
وكره محدد؛ يعني أن المحدد أي الواصف للعورة لرقته أو إحاطته بها كحزام بالزاي وسراويل، يكره في الصلاة وخارجها. فقد كره مالك السراويل دون قميص، ولو تردى على ذلك رداء. وقال: ما السراويل من لباس الناس، وإن الحياء من الإيمان. ابن رشد: لأن الرداء على السراويل دون قميص مما يستقبح من الهيئات في اللباس، ولا يفعله إلا ضعفة الناس، قاله الشيخ عبد الباقي. لا بريح. يعني أنه إذا وصف الثوب العورة بسبب ريح فإنه لا يكره، ومثل الريح البلل، وكذا إن كان المحدد مئزرا كبردة؛ وهي الملحفة أو حرام بالراء المهملة ينضم بجميعه به حتى يصير تحديدا للعورة، لكن دون تحديد السراويل، كما قال القرافي: لكون جزنه على الكتف، فلا يكره لكونه من زي العرب، ويحتاجون إليه بخلاف السراويل فإنه من زي العجم، ويمكن تغطيته بثوب. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: الذي تدل عليه عبارة ابن يونس والجلاب وغيرهما أن المئزر غير محدد، ولذا كان غير مكروه: فالسراويل فيه علتان: التحديد، وكونه من زي العجم. والمئزر انتفى منه الأمران. ثم قال: على أن أبا الحسن اختار كراهة الصلاة بالإزار وعللها بكون كتفيه ليس عليهما شيء، لا بالتحديد لعدمه أو قلته ونقل ابن عرفة الكراهة عن ابن حارث، ولم يعترضها. انتهى.
وانتقاب امرأة، يعني أنه يكره للمرأة الانتقاب في الصلاة؛ وهو تغطية الوجه بالنقاب وأولى الرجل. وعبارة الأمير: وكره في صلاة انتقاب وتلثم وإن لامرأة أو اعتيد. انتهى. وبما قررت علم أن الانتقاب في الصلاة مكروه، جعل لأجلها، أم لا. كما قاله الشيخ محمد بن الحسن. ككفت كم. يعني أن كفت الكم لأجل الصلاة؛ أي تشمير مكروه، وأحرى تشمير الذيل عن الساق. كما في الشامل. قاله الشيخ عبد الباقي.
وشعر؛ يعني أنه يكره كفت الشر لأجل الصلاة أي ضمه، وإذا فسر الكفت بالضم تسلط على المعمولين، وفي الحديث:(إذا سجد الإنسان فسجد معه شعره كتب له بكل شعرة حسنة)). وبما قررت علم أن اللام في قوله: لصلاة بالتنكير للتعليل، وأن قوله:"لصلاة" راجع للأمرين بعد
الكاف، فيفيد أن محل الكراهة حيث جعل ذلك لأجل الصلاة لما في ذلك من ترك الخشوع والتذلل، فلو فعله لغيرها كشغل، ثم حضرت الصلاة وهو على تلك الحالة لم يكره، لكن الأكمل إرساله، ثم عدم الكراهة سواء عاد لشغله أم لا، وحمله الشبيبي على ما إذا عاد لشغله، وصوبه ابن ناجي. قاله العلامة بناني. وعلم أيضا مما قررت أن قوله:"لصلاة"، لا يرجع لقوله:"وانتقاب"؛ لأن النقل يدل على أنه هو والتلثم مكروهان في الصلاة جعلا لها أم لا. وهذا الذي قررت به كلام المصنف من أن اللام في قوله: "لصلاة"، تعليلية فلا يكره ذلك إن لم يكن لأجل الصلاة هو الذي يفيده ابن يونس، فقد قال: إن النهي عنه إنما هو إذا قصد به الصلاة، وما لابن يونس هو ظاهر المدونة. كما قاله ابن عرفة. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني ويحتمل أن تكون "اللام" بمعنى: في، فيرجع قوله لصلاة للانتقاب، وما بعد الكاف. ففي الحطاب عن الشيخ زروق أن المشهور كراهة كفت الكم والشعر في الصلاة لغير شغل كان لأجلها أم لا. انتهى. والله سبحانه أعلم. وفي الحطاب: ومن الكمال حل الشعر إن كان معقوصا: وإرسال الثياب إن كانت مشمرة انتهى. نقله عن ابن الفاكهاني على الرسالة، قال: وقال في شرح الرسالة في قوله: ويكره أن يصلي بثوب ما نصه: يريدَ والله تعالى أعلم أنه يكره أن يصلي ولحم كتفيه بارز مع المقدرة على ما يستتر به من اللباس. انتهى. ويكره شد الوسط للصلاة. ذكره في الإرشاد، وغيره. قاله الإمام الحطاب.
وتلثم، يعني أنه يكره التلثم في الصلاة للرجل والمرأة، وهو تغطية الشفة السفلى. كما في الصباح، وفي النهاية أنه سد الفم باللثام والنقاب ما يصل إلى العيون. انتهى. وقد تقدم أن الانتقاب والتلثم مكروهان في الصلاة فعلا لأجلها أم لا، وقد مر قول الأمير: وكره انتقاب وتلثم وإن لامرأة أو اعتيد، وقال الشيخ زروق: يمنع تلثم لكبر ونحوه، وكره لغير ذلك إلا أن يكون ذلك شأنه كأهل لمتونة، أو كان في شغل عمله من أجله فاستمر عليه. انتهى. ابن عرفة: استحب ابن رشد تلثم المرابطين لأنه زيهم، وهم حماة الدين، ويستحب تركه في الصلاة لغيرهم، ومن صلى به منهم فلا
حرج. قال بعضهم: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم العرب عن التشبه بالعجم)). ولم يأت أنه نهى وفد قوم من العجم عن زيهم، وندبهم إلى زي العرب، وليس كل ما فعلته الجاهلية منهيا عن ملابسته، والأصل في الأشياء الإباحة حتى يثبت النهي. وسئل إمامنا مالك رضي الله عنه من الصلاة في البرانس؟ فقال: هي من لباس المصلين، وكانت من لباس الناس في القديم، وما أرى بها بأسا، واستحسن لباسها ابن رشد ولا تجوز الصلاة بها وحدها؛ لأن العورة تبدو من أمامه، وهذا في البرانس العربية، وأما العجمية فلا خير في لباسها في الصلاة، ولا في غيرها. نقله الشيخ محمد بن الحسن. ابن حبيب: يحرم لبس البرانس التي من زي النصارى، ويؤدب لابسها، وعليه الإثم والفدية إن لبسها وهو محرم. قاله الإمام الحطاب. والبرنس بضم الباء والنون: كل ثوب رأسه منه درعا أو جبة أو غيرهما، ومما وافق الجاهلية، ولم يرد نهي شرعنا عنه، وصلة الناس أرحامهم في المباحات في النيروز. (وقد حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق ولم تكن العرب تعرفه)، ومدح قسي العجم، وقال:(هم أقوى منكم رمية)، قال مالك: ولقد سمعت عبد الله بن أبي بكر: وكان من عباد الناس ومن أهل الفضل ما أدركت الناس إلا ولهم ثوبان: برنس يغدو به، وخميصة يروح بها. ولقد رأيت الناس يلبسون البرانس، فقيل له: ما كان ألوانها؟ قال: صفر. ابن رشد: البرانس: ثياب مِتان في شكل الغفائر عندنا مفتوحة من أمام تلبس على الثياب في المطر والبرد مكان الرداء، فلا تجوز الصلاة فيها وحدها إلا أن يكون تحتها قميص أو إزار أو سراويل؛ لأن العورة تبدو من أمامه، والخمائص: أكسية من صوف رقاق معلمة وغير معلمة يلتحف فيها، كانت من لباس الأشراف في أرض العرب.
ككشف مشتر صدرا أو ساقا. يعني أنه يكره لرجل مريد شراء أمة أن يكشف منها صدرا أو ساقا أو معصما. خشية تلذذه، وإن جاز النظر للأمة، ما عدا ما بين سرتها وركبتها. كما مر. ابن القاسم: وإنما ينظر الوجه والكف ونحوهما كخطبة الحرة. وروي عنه ينظر ما عدا الفرج، وأما جس ما ذكر باليد عند الشراء فحرام. وذكر الشيخ محمد بن الحسن من النقول ما يفيد أن المشهور خلاف ما للمصنف من جواز ما ذكر، وأن القول بالكراهة مقابل للمشهور. قال: والتعليل بأن أفعال العقلاء تصان عن العبث، يقال عليه نعم، لكن لا عبث هنا؛ لأنه يقلب للشراء.
والأصل في فعل المسلم عدم المعصية، والغالب هو قصد التقليب لا قصد التلذذ. وفي بعض النسخ مسدل، يقال: سدل شعره يسدله ويسدله وأسدله: أرخاه، وفي بعض النسخ مستر، قال الشيخ إبراهيم: بضم الميم وسكون السين المهملة وكسر التاء، والمعنى أنه يكره للمستر أن يكشف صدره أو ساقه في الصلاة. انتهى.
وصماء؛ يعني أن لبسة الصماء بالفتح وشد الميم والمد مكروهة في الصلاة. بستر؛ يعني أن محل كراهة الصماء في الصلاة إذا كان معها ساتر، وإنما كرهت مع الساتر؛ لأنه يبدو معها جنبه فهو كمن صلى بثوب ليس على أكتافه منه شيء؛ لأن كشف البعض ككشف الكل والصماء أن يشتمل بثوب يلقيه على منكبيه مخرجا إحدى يديه من تحته، وأما التوشيح وهو أخذ أحد طرفيه من تحت يده اليمنى ليضعه على كتفه اليسرى، وأخذ الطرف الآخر من تحت اليسرى ليضعه على كتفه اليمنى، فإنه جائز. قاله الشيخ عبد الباقي. وفي الحطاب: عن البوني في شرح الموطإ: هو أن يلتحف بالثوب، ويخالف بين طرفيه، ويعقده في عنقه. انتهى. والستر بالكسر والضم: ما يستتر به، وبالفتح مصدر ستر كقتل.
وإلا؛ أي وإن لم تكن الصماء معها ساتر. منعت لحصول كشف العورة أو خوفه، وكره اضطباع وهو أن يرتدي بثوب ويجعل يده اليمنى من فوق طرفه، فالمسائل ثلاث: توشيح جائز كما تقدم، وصماء، واضطباع مكروهان بساتر ممنوعان بغيره. كاحتباء لا ستر معه؛ يعني أن الاحتباء الذي لا ستر معه يمنع في غير الصلاة، وفيها في بعض أفعالها كحالة التشهد، ويجوز مع الستر في الصلاة وغيرها. وبما قررت علم أن التشبيه في قوله:"كاحتباء" الخ، في المنع. وقال الإمام مالك: إذا مد المصلي قاعدا رجليه طالبا للراحة أرجو أن يكون خفيفا. اللخمي: وليس يحسن مع الاختيار. ابن حبيب: وله مد إحدى رجليه إن أعيا، وكان سعيد بن جبير يصلي قاعدا محتبيا، فإذا بقي عليه عشر آيات قام فقرأ وركع. قاله الشيخ عبد الباقي. وفي المدونة: ولا بأس أن يصلي محلول الأزرار وليس عليه سراويل ولا مئزر، وهو أستر من الذي يصلي متوشحا بثوب، ومن صلى بسراويل أو متَّزرا وهو قادر على الثياب لم يعد في وقت ولا غيره. والأزرار جمع زر، وهي:
الأقفال التي يقفل بها الثوب من ناحية الصدر. أبو محمد: صحيح
(1)
هذا إذا كان مستور العورة. وعصى وصحت إن لبس حريرا؛ يعني أن من صلى بلباس من حرير خالص تصح صلاته، ولكنه عصى الله تعالى بلبس الحرير إن كان ذكرا بالغا، وكذا لو جلس عليه لحرمة لبسه بغير الصلاة على بالغ: والتحاف به وركوب وجلوس عليه ولو بحائل. ابن عرفة: وإجازة ابن الماجشون افتراشه والاتكاء عليه خلاف قول مالك بالمنع؛ أي ولو تبعا لزوجته، فقول ابن العربي: يجوز للزوج الجلوس عليه تبعا لزوجته لا أعرفه. وابن العربي: حجة حافظ. وقد نقل صاحب المدخل عن شيخه ابن أبي جمرة وناهيك بهما في الورع والتشديد أنه لا يجوز له افتراشه إلا تبعا لزوجته، ولا يدخل الفراش إلا بعد دخولها له، ولا يقيم فيه بعدها ولو قامت لضرورة ثم ترجع، بل ينتقل حتى ترجع، وإن قامت عنه وهو نائم فتوقظه أو تزيله عنه، ويجب عليه أن يعَلِّمها ذلك. انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله وابن العربي: حجة حافظ الخ، قال الشيخ محمد بن الحسن: هو مع كونه حجة حافظا، شأنه أن يدخل في كتابه أقاويل ومسائل من غير المذهب. كما قاله في التوضيح قبيل الرعاف. انتهى.
ويمنع لبس الحرير لحكة أو في جهاد على المشهور، خلافا لابن حبيب في الأول، ولابن الماجشون في الثاني، وأجازه في الجهاد جماعة من الصحابة والتابعين. ومحل منعه لحكة إن لم يتعين طريقا للدواء، وإلا جاز كتعليقه ستورا من غير مسه فإنه جائز، ولو منع ذلك لمنع دخول الكعبة؛ لأن سقفها مكسو بالحرير. قاله الإمام الحطاب. ويجوز اتخاذ الراية منه بلا خلاف، قال ابن عرفة: وأجاز الكل خيط العلم، والخياطة به، وجوز بعض أصحاب المازري الطوق واللبة؛ وهي قبة من حرير تجعل في الثوب كالرقعة. ابن حبيب: لا يجوز جيب ولا زر. انتهى. وفي التتائي على الرسالة: واختلف في العلم في الثوب، فروى ابن حبيب لا بأس به، وإن عظم. وقيل: ينهى عنه كراهة، واختلف في مقداره، فقيل: أربع أصابع، وقيل: ثلاثة، وقيل: إصبعان، وقيل: إصبع. قال ابن القاسم: ولم يجز مالك إلا الخط الرقيق، أي دون الإصبع فإنه
(1)
في الحطاب ج 1 ص 191: صالح.
جائز اتفاقا. وروي عنه صلى الله عليه وسلم: (من إصبعين إلى أربع
(1)
). ابن حبيب: ولا يستعمل ما بطن بالحرير أو حشي أو رقم به. قال القاضي أبو الوليد: يريد إذا كان كثيرا هذا حكم خالص الحرير، وأما الخز وهو ما سداه حرير، ولحمته وبر، وما في معناه مما لحمته قطن أو كتان، فقال ابن رشد: أظهر الأقوال وأولاها بالصواب أن لبسها مكروه يؤجر على تركه ولا يأثم في فعله؛ لأنه من المشتبهات المتكافئة أدلة حلها وحرمتها التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اتقاها فقد استبرأ لدينه وعرضه
(2)
)، وعليه يأتي ما روي من لباس ملك كساء إبريسيم كساه إياه هارون الرشيد. والإبريسيم: ما سداه حرير، ولحمته قطن، وقيل: لباسها جائز، من لبسها لم يأثم، ومن تركها يؤجر على تركها؛ وهو قول ابن عباس، وجماعة من السلف. منهم ربيعة، وقيل: لباسها غير جائز، وإن لم يطلق عليه أنه حرام، فمن لبسها أثم، ومن تركها نجا. وهو مذهب ابن عمر. وقيل: يجوز لباس الخز، ولا يجوز لباس ما سواه؛ وهو مذهب ابن حبيب، وهو أضعف الأقوال. قاله الإمام الحطاب. فتلك أربعة أقوال.
واعلم أن خير الألوان في الثياب البياض ما لم يكن خلقا فيكره، كما كره مالك لباس الصوف خوف الشهرة؛ لأن في غيره من القطن ونحوه ما يغني عنه، وأجاز مالك والشافعي لبس الأحمر والمعصفر والمزعفر. النووي: وترك المعصفر أولى، ومفهوم قوله:"إن لبس حريرا"، أنه لو حمل ذلك في كمه أو جيبه ونحوهما، ولم يلبسه لم يعص وهو كذلك. وأما الصبي فالحرير في حقه مكروه. وفي المدخل أن المنع أولى. قال: ويستخف ذلك للرضيع، قاله الشيخ إبراهيم: ويستحب أن يُتَجَمَّل في الصلاة بأحسن الثياب، ويستحب للإمام أفضل ذلك، وأحسنه زينة كالرداء وشبهه. نقله الإمام الحطاب. واعلم أن لباس الحرير الخالص حرام بالإجماع على الرجال. نقله الإمام الحطاب. وتحصل مما مر أن الحرير على ثلاثة أقسام: لبس خالص الحرير حرام على
(1)
نهى نبى الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع اصبعين أو ثلاث أو أربع. مسلم، كتاب اللباس، رقم الحديث:2069.
(2)
إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرا لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعى حوك الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب. مسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث:1599.
المذكور البالغين بالإجماع، وتجوز الخياطة والخط الرقيق والراية بلا خلاف، وقد قيل بكراهة الخط الرقيق، وقد مر الخلاف في غير هذين القسمين.
أو ذهب يعني أن الذكر البالغ إذا صلى وهو لابس للذهب خاتما أو غيره فإنه تصح صلاته ولكنه عصى الله تعالى، ويعيد في الوقت كان المذهب خاتما أو غيره، لا إن حمله في كم أو جيب أو نحوهما أو فم ولم يشغله عن القراءة. قاله الشيخ عبد الباقي. ابن يونس: وكره لبس الحرير والذهب للصبيان، واختلف في التوضؤ من آنية الذهب والفضة فعندنا أنه يصح مع تحريم فعله، وقال داوود: إنه لا يصح، قاله الإمام الحطاب: أو سرق. يعني أن المكلف إذا سرق شيئا في صلاته تصح، ولكنه عصى الله تعالى. أو نظر محرما؛ يعني أن المكلف إذا نظر محرما في صلاته فإنه تصح صلاته ويعصي ربه إلا عورة إمامه عمدا، وإن نسي كونه في الصلاة كعورته هو إن تعمد، وذكر كونه في الصلاة. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: والنصوص تدل على بطلان صلاة من تعمد النظر لعورة نفسه، وإن لم يذكر كونه في الصلاة. انتهى. وقال الحطاب: من حس في ذكره بنداوة وهو في الصلاة، فرفعه ونظر فلم ير شيئا، بطلت صلاته؛ لأنه نظر عورة نفسه. وأما نظر عورة غير نفسه وإمامه فإنما تبطل صلاته به إن تلذذ، أوأدى نظره إلى خلل ركن لا انتفيا. وقوله: فيها؛ أي في الصلاة يتنازعه الأفعال الثلاثة، وهي لبس: وسَرَقَ، ونَظَرَ. وقد مر أنه يعيد في الوقت فيما إذا لبس حريرا أو ذهبا فيها.
تنبيه: قال أبو عمران: يؤخذ من مسألة النهي عن الطلاق في الحيض أن الصلاة في الدار المغصوبة ينهى عنها ابتداء، وإذا وقعت أجزأت، الزناتي: إنما ذلك في الغاصب نفسه، وأما غيره، أي وهو غير عالم بالغصب فلا يدخل في ذلك، وهذا أيضا في الدار خاصة، وأما غيرها من الأراضي المغصوبة فلا يدخلها النهي عن الصلاة فيها؛ لأن الغالب عدم التشاح في ذلك، ويؤخذ من مسألة الصلاة في الدار المغصوبة أن السوق المغصوب لا يجوز البيع والشراء فيه. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ الأمير: وعصى وصحت بمحرم لا يشغل عن الأركان كفي مغصوبة حازها غاصب، وإلا جاز ولو بلا إذن المالك. كما قاله أبو بكر بن عبد الرحمن. ومثله الفراش المتسامح فيه. وإن لم يجد إلا سترا لأحد فرجيه، يعني أن مريد الصلاة إذا لم يجد إلا ما يستر به أحد
فرجيه كلا أو بعضا واستوى كشفهما، ففي كيفية ما يفعل ثلاثة أقوال: أولها يستر الدبر؛ لأنه أشد عورا وخصوصا عند الركوع والسجود، ثانيها يستر القبل؛ لأنه أفحش. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي: لشدة فحشه، ثالثها يخير في ستر أيهما شاء، وأما لو لم يستو كشفهما كما لو صلى لحائط أمامه فإنه يستر الدبر، أو خلفه فإنه يستر القبل. قاله البساطي. وهو ظاهر، لكنه مخالف لظاهر إطلاقهم. ويجب على الشخص ستر ما قدر عليه من عورته إذا لم يجد إلا ما يكفيه لبعضها. قاله الإمام الحطاب. وغيره ومن عجز صلى عريانا؛ يعني أن الشخص إذا عجز عن كل ما تقدم من وجوه الستر بنجس أو حرير أو غيرهما، فإنه يجب عليه أن يصلي عريانا؛ لأن الستر شرط مع الذكر والقدرة بخلاف طهارة الحدث فإنها شرط مطلقا، وعلى القول بعدم الشرطية لو صلى بلا ساتر صحت، فكيف يتوقف في كونه يصلي؟ ففي كلام الشيخ عبد الباقي نظر ظاهر. انظر حاشية الشيخ بناني. فإنه قال: هذا الكلام لا يقوله أحد؛ يعني كلام عبد الباقي هنا فإن اجتمعوا بظلام فكالمستورين؛ يعني أنه إذا اجتمع عراة وأرادوا الصلاة ولم يجدوا ما يستترون به، فإما أن يكونوا في ظلام أو لا، فإن كانوا بظلام فحكمهم حكم المستورين، أي يصلون قياما بركوع وسجود، ويتقدمهم إمامهم، ويجب عليهم تحصيل الظلمة ولو بإطفاء السراج، وإن كان معهم نساء صلين خلفهم، قال تعالى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} ، وإلا يكونوا بظلام، بل كانوا بضوء نهارا أو ليلا مقمرا تفرقوا وجوبا، وصلوا أفذاذا بحيث لا ينظر بعضهم عورة غيره. كما في الشبراخيتي، فليسوا كالمستورين فإن تركوا التفرق مع القدرة عليه أعادوا أبدا فيما يظهر. قاله غير واحد؛ لأنهم كمن صلى عريانا مع القدرة على الساتر. فإن لم يمكن تفرقهم: لكونهم بسفينة أو خافوا سبعا أو نحوه. صلوا جماعة قياما راكعين ساجدين صفا واحدا، وقيل: يصلون جلوسا ويومئون، وليس في المسألة قول: إنهم يصلون قياما إيماء، وإنما فيها هذان القولان؛ أي الصلاة جلوسا إيماء وقياما بالركوع والسجود. قاله الشيخ محمد بن الحسن. حال كونهم غاضين أبصارهم؛ أي يجب عليهم أن يغضوها. قال ابن عبد السلام: وكراهة غض البصر في غير هذا، فإن تركوا الغض، فكمن صلى عريانا مع القدرة على الستر، لا كمن نظر عورة حتى يجرى فيه
ما تقدم؛ لأن ذلك مع الستر، وهذا مع عدمه. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر: بل الحق أنه بمنزلته. انتهى. إمامهم وسطهم، يعني أنه إذا لم يمكن تفرقهم فإنهم يصلون قياما راكعين ساجدين، ويغضون أبصارهم، ويكون إمامهم وسطهم بسكون السين؛ أي بينهم لأنهم لو صلوا أفذاذا نظر بعضهم ما ينظر من بعض لو صلوا جماعة، فالجماعة أولى. قاله الشيخ إبراهيم. وإذا كان فيهم في هذه الحالة نساء توارين إن أمكن، وصلين قائمات راكعات ساجدات، فإن لم يجدن متوارًى صلين جالسات. قاله اللخمي. نقله الشيخ عبد الباقي. والصواب أن يصلي الرجال، وتصرف النساء وجوههن، ثم النساء: وتصرف الرجال وجوههم عنهن. قاله الشيخ إبراهيم. عن شيخه الأجهوري.
وإن علمت في صلاة بعتق مكشوفة رأس يعني أنه إذا علمت في الصلاة مكشوفة رأس بأنها قد أعتقت، سواء كان العتق سابقا على الصلاة أو متأخرا عن دخولها في الصلاة كما لو سمعته من سيدها فيها، فإنها تستتر، أي يجب عليها أن تستر رأسها إن قرب الساتر كالصفين القرب الذي في السترة؛ أي فلا يحسب الصف الذي خرج منه ولا الذي يأخذ الثوب منه، بل هذا أولى لوجوبه. وندب السترة فتكون الصفوف خمسة: الذي خرج منه، والذي دخل فيه، وثلاثة بينهما. والله سبحانه أعلم. وقوله:"مكشوفة"، فاعل علمت.
أو وجد عريان ثوبا يعني أن من دخل في الصلاة وهو عريان لعدم قدرته على ما يستتر به، ثم إنه وجد ثوبا وهو في الصلاة يجب عليه أن يستتر إن قرب منه ذلك الثوب كالصفين، كما في مسألة مكشوفة الرأس من غير فرق. وبما قررت علم أن قوله: استترا جواب الشرطين؛ أعني قوله: "وإن علمت في صلاة" وقوله: "أو وجد عريان" وضمير التثنية عائد على مكشوفة الرأس والعريان، وقوله: إن قرب؛ أي الساتر شرط في الاستتار، ومفهومه أنه لو بعد الساتر فإنهما لا يذهبان إليه، بل يتماديان ولم يعيدا. قاله ابن القاسم في سماع عيسى. وإلا يستترا مع القرب. أعادا بوقت، وقال سحنون: يقطع، وإن أمكن الستر. وابن القاسم: يقول في سماع موسى بالإعادة وإن لم يمكن الستر ومفهوم المصنف أنهما إن لم يجدا ما يستتران به إلا بعد الصلاة فلا إعادة، أما في الأمة فظاهر، وأما في العريان فعلى ما مشى عليه المصنف حيث قال: "لا عاجز صلى
عريانا"، وقد مر الكلام عليه. وظاهر قوله: "أو وجد عريان ثوبا" كان نسيه أم لا؛ لأنه يمكنه أخذه بلا إبطال صلاته، بخلاف ناسي الماء يجده في الصلاة فإنه لا يمكنه تحصيل الشرط إلا بإبطال ما هو فيه، أشار له الشيخ إبراهيم ومن دخل في الصلاة بنجس أو متنجس لعدم ساتر طاهر، ثم وجد في أثنائها طاهرا، بطلت صلاته فيما يظهر إن أتسع الوقت، وإلا تمادى كذاكر نجاسة فيها، وقوله: "وإلا أعادا بوقت"، لا منافاة بين وجوب الساتر وندب الإعادة كما في ترتيب الفوائت، وكمسألة كشف صدر الحرة وأطرافها. قاله الشيخ إبراهيم. وغيره.
وإن كان لعراة ثوب صلوا أفذاذا؛ يعني أنه إذا اجتمع عراة وأرادوا الصلاة وليس لهم ما يواري العورة إلا ثوب واحد يملكون ذاته أو منفعته، فإنهم يصلون أفذاذا؛ أي يستتر به أحدهم ويصلي، ثم واحد بعد واحد كذلك، وهذا إن اتسع الوقت، فإن ضاق فالظاهر القرعة، كما لو تنازعوا في التقدم. قاله البساطي. ولو ضاق الوقت عن القرعة مع المشاحة صلوا عراة. قاله الشيخ الأمير. وفي الطراز: إذا كان ثوب لشخص وأعاره لجماعة وضاق الوقت المختار، فإنه يصلي من لم يَصِلْ إليه عريانا، ويعيد إذا وصل إليه في الوقت الموسع. انتهى، أي الضروري كما لبناني، ولم يذكر قرعة. وقد يحمل هذا على حالة الرضى، إذ مع التشاح لا يمكن إلا القرعة. قاله الشيخ عبد الباقي -وهو ظاهر- والله سبحانه أعلم. وقوله:"وإن كان لعراة"، أي يملكون ذاته أو منفعته كما مر قال الشيخ عبد الباقي، أو بعضهم يملك ذاته وبعضهم يملك منفعته. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر، بل يقدم في هذه صاحب المنفعة.
أو لأحدهم ندب له إعارتهم؛ يعني أنه إذا اجتمع عراة وأرادوا الصلاة، ولم يكن لهم ما يواري العورة إلا واحدا منهم له ثوب، فإنه يندب له بعد أن يصلي به أن يعيره لهم يصلون به، ويجلس عريانا حتى يصلوا. هذا إن لم يكن فيه فضل، وإلا ففي جبره على إعارة الفضل واستحبابه له قولا ابن رشد، واللخمي. وكلام ابن عرفة يفيد ترجيح ما لابن رشد. قاله الشيخ إبراهيم. والقاعدة أيضا أنه إذا تعارض كلام ابن رشد واللخمي، قدم الأول؛ أي ابن رشد
فائدة: نقل ابن زكري عن المنذري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف رحله
(1)
). انتهى. ولفظ النصيحة: وقال عليه السلام: (من تتبع عورات أخيه تتبع الله عورته فيفضحه ولو في جوف بيته
(2)
). انتهى. ونقل ابن زكري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه
(3)
). انتهى. ولفظ النصيحة: ويحرم ذكر حال الزوجة في فراشها، إذ هي أمانة عند الرجل، وقد عظم النبي صلى الله عليه وسلم أمر ذلك، ولا يجوز إفشاء السر بل يحرم، وضابط السر الذي لا يجوز إفشاؤه كل ما حدثت به مما تظن إفرادك به لما فيه من الضرر؛ إذ الضرر حاصل مهمى فهم قصد المحدث لكتمه، ففي الحديث: (المجالس بالأمانات
(4)
)، وفيه: (إذا حدثك الرجل والتفت فهي أمانة
(5)
). انتهى. قوله: فهي أمانة؛ أي فالكلمة التي حدثك بها أمانة عند المحدَّث أودعه إياها، فإن حدث بها غيره فقد خالف أمر الله حيث أدى الأمانة إلى غير أهلها فيكون من الظالمين، فيجب عليه حفظها؛ إذ التفاته بمنزلة استكتامه، وهذا من جوامع الكلم لما في هذا اللفظ الوجيز من الحمل على آداب العشرة، وحسن الصحبة، وكتم السر، وحفظ الود، والتحذير من النميمة بين الإخوان المؤدية للشنآن. وقد مر أن ضابط السر الذي لا يجوز إفشاؤه كل ما الخ، فكل لتعميم الجزئيات أي سواء تعلق المحدث به بحال المحدث أو غيره، كان في مسألة دينية أو دنيوية مما شأنه أن يكتم عند الناس، أو لا صرح المحدث بكتمه،
(1)
الترمذي، كتاب البر والصلة، رقم الحديث:2032. وفيه: ولا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم الخ.
(2)
خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها أو قال في خدورها ثم قال: يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته. شعب الإيمان للبيهقي، رقم الحديث:10436.
(3)
مسلم، كتاب النكاح، رقم الحديث:1437.
(4)
أبو داود، كتاب الأدب، رقم الحديث:4869.
(5)
أبو داود، كتاب الأدب، رقم الحديث:4869.
أو فهم ذلك من حاله إلى غير ذلك من الاعتبارات. ولا يتوقف الإفشاء على ذكر جميع الحديث؛ لأن الإذاية كما تحصل بذكر الجميع تحصل بذكر البعض. الماوردي: كما يجب للرجل أن يخفي عيوب نفسه وأسراره، يجب أن يخفي عيوب أخيه المسلم وأسراره، وإن احتاج إلى الكذب في ذلك فله أن يفعل في حق أخيه، فإن أخاه نازل منزلته، وهما كشخص واحد فليس الصدق واجبا في كل مقام. انتهى من ابن زكري.
ولما أنهى الكلام على الشروط الثلاثة، أتبعه بالكلام على الشرط الرابع فقال:
فصل في الاستقبال،
والأصل فيه قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، أي جهته، نزلت بعد أن صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا فكانت ناسخة لذلك
(1)
)، وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه أن تكون قبلته قِبَلَ البيت، وأنه
(2)
أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر، وصلى معه قومه، فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة، فدَارُوا كما هم قِبَل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم؛ إذ كان يصلي قبل بيت المقدس فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك فنزل:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} ، فقال السفهاء وهم اليهود:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} ، فرد عليهم بقوله:{قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، ولما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: (يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس
(3)
)، فأنزل الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ، وما مر من أن أول صلاة صليت إلى بيت الله تعالى: العصر، لا ينافي أنها حولت إلى بيت الله تعالى في الركعة الثالثة من الظهر، فجمع فيها بين القبلتين؛ لأن المراد أول صلاة تامة. ووقع في البخاري: (فحولت في ركوع العصر
(4)
). قاله الشيخ الخرشي. وأخرج الطبري عن ابن جريج قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم (أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة فصلى ثلاث حجج، ثم هاجر فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا، ثم وجهه الله إلى الكعبة
(5)
). نقله محمد بن عبد الباقي. وسميت القبلة قبلة لأن المصلي يقابلها. واعلم أن الكعبة هي بيت الله الحرام، وهو أول بيت وضع للناس، قال جل من قائل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ
(1)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله تعالى (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ). البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:399.
(2)
كذا في الأصل.
(3)
انظر صحيح البخاري، الحديث:40.
(4)
البخاري، كتاب التفسير، رقم الحديث:4486.
(5)
جامع البيان عن تأويل اي القرآن لابن جرير الطبري، رقم الحديث:1971.
مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}، وفي الصحيح من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي مسجد وضع أول؟ فقال له: (المسجد الحرام، قال: قلت: ثم أي، قال: ثم المسجد الأقصى: قلت كم بينهما؟ قال: أربعون عاما
(1)
). وذكر الزبير بن أبي بكر بإسناده إلى جعفر الصادق رضي الله عنه قال: (جاء رجل أبيض الرأس واللحية، جليل العظام، بعيد ما بين المنكبين، عريض الصدر، عليه ثوبان غليظان في هيئة المحرم: فجلس إلى جنب أبي -وكان يصلي- فخفف الصلاة فسلم، ثم أقبل عليه فقال له الرجل: أخبرني عن بدء هذا البيت كيف كان؟ ثم قال له أبي: بدء خلق هذا البيت أن الله تبارك وتعالى قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ، فردوا عليه:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} ، الآية فغضب عليهم، فعاذوا بالعرش فطافوا حوله سبعة أطواف يسترضون ربهم، فرضي عنهم، فقال لهم: ابنوا لي في الأرض بيتا فيعوذ به من سخطت عليه من بني آدم، ويطوفون حوله كما فعلتم بعرشي، فأرضى عنهم، فبنوا له هذا البيت، فقال له الرجل: يا أبا جعفر فما بدء خلق هذا الركن؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى لما خلق الخلق، قال لبني آدم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، وأقروا، وأجرى نهرا أحلى من العسل، وألذ من الزبد، ثم أمر القلم فاستمد من ذلك النهر، فكتب إقرارهم وما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم ألقم ذلك الكتاب هذا الحجر، فهذا الاستلام الذي ترى إنما هو بيعة على إقرارهم بالذي كانوا أقروا به، فقام الرجل وذهب، فقال لي أبي: ذلك الخضر
(2)
)، وفي حديث الترمذي: (نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم
(3)
)، وفي حديث: (إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب
(4)
وفي الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحَجَرِ: (والله
(1)
البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، رقم الحديث:3366. ومسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث: 520.
(2)
الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، ج 1 ص 25.
(3)
الترمذي، كتاب الحج، رقم الحديث:877.
(4)
سنن الترمذي، كتاب الحج، رقم الحديث:878. إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب.
ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق
(1)
)، وفي حديث عطاء وقتادة أن آدم عليه السلام لما أهبطه الله تعالى من الجنة، وفقد ما كان يسمعه ويأنس إليه من أصوات الملائكة وتسبيحهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله تعالى في دعائه وصلاته: فوجهه إلى مكة، وأنزل الله تعالى ياقوتة من ياقوت الجنة فكانت على موضع البيت الآن، وقال الله له: يا آدم إني قد أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي، فانطلق إليه آدم فطاف به هو ومن بعده من الأنبياء إلى أن كان الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة حتى أمر الله إبراهيم عليه السلام ببناء البيت، فبناه، فذلك قوله تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} الآية وفي حديث ابن عباس: (إن البيت بني من خمسة أجبل: من طور سيناء، وطور [زيتا
(2)
]، ومن لبنان، والجودي، وبنى قواعده من حراء. وروي أن آدم حج من الهند أربعين حجة على رجليه. وذكر الواقدي عن أبي جهم أن آدم عليه السلام أمر بأساس البيت فبناه هو وحواء أسساه بصخر أمثال الخلفات يعني النوق التي في بطونها أجنة واحدتها خلفة، أذن الله عز وجل للصخر أن تطيعهما، ثم أنزل البيت من السماء من ذهب أحمر وكل به من الملائكة سبعون ألف ملك فوضعوه على أس آدم عليه السلام. ونزل الركن وهو يومئذ درة بيضاء، ووضع موضعه اليوم من البيت، وطاف به آدم وصلى فيه، فلما مات آدم عليه السلام وليه بعده ابنه شئث، فكان كذلك حتى حجه نوح عليه السلام، فلما كان الغرق؛ يعني الطوفان بعث الله جل ثناؤه سبعين ألف ملك، فرفعوه إلى السماء كي لا يصيبه الماء النجس، وبقيت قواعده: وجاءت السفينة فدارت به [سبعا
(3)
]، ثم دثر البيت فلم يحجه من بين نوح وإبراهيم أحد من الأنبياء على جميعهم السلام. وفي الخبر أن موضعها كان غثاء على الماء قبل أن يخلق الله سبحانه السماوات والأرض، فلما بدأ الله بخلق الأشياء خلق التربة قبل السماء، فلما خلق السماء وقضاهن سبع سماوات دحى الأرض: أي بسطها. وإنما دحاها من تحت الكعبة فلذلك سميت
(1)
الترمذي، كتاب الحج، رقم الحديث:961.
(2)
في الأصل زيناء والمثبت من كتاب الاكتفاء للكلاعي ج 1 ص 28.
(3)
ساقطة من الأصل والمثبت من كتاب الاكتفاء للكلاعي ج 1 ص 28.
مكةُ: أم القرى. وذكر ابن هشام أن الماء لم [يعل
(1)
]، الكعبة حين الطوفان، ولكنه قام حولها، وبقيت هي في هواء إلى السماء.
قال جامعه عفا الله تعالى عنه: أي لم يمسها الماء هي وما فوقها إلى السماء. والله سبحانه أعلم. وأن نوحا قال لأهل السفينة وهي تطوف بالبيت: إنكم في حرم الله وحول بيته، فأحرموا لله ولا يمس أحد امرأة، وجعل بينهم وبين النساء حاجزا، فتعدى حام، فدعا عليه نوح بأن يسود الله لون بنيه، فأجابه الله تعالى على وفق ما دعاه، واسود كوش بن حام وولده إلى يوم القيامة. وقد قيل في سبب دعوته عليه غير هذا. والله أعلم. ويروى أنه لما نضب ماء الطوفان بقي مكان البيت ربوة من مدرة، فحج إليه بعد ذلك هود وصالح ومن آمن معهما، وأن يعرب قال لهود عليه السلام: ألا تبنيه؟ قال: إنما يبنيه نبي كريم يأتي من بعد يتخذه الرحمن خليلا.
ولما أراد الله عز وجل أن يُبَوئَ إبراهيمَ مكان البيت وأعلامه، أوحى الله إليه يأمره بالمسير إلى بلده الحرام، فركب إبراهيم البراق، وحمل إسماعيل أمامه؛ وهو ابن سنتين، وهاجر خلفه ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم، فكان لا يمر بقرية إلا قال له إبراهيم: بهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل: لا حتى قدم به مكة؛ وهي إذ ذاك عِضَاهٌ وَسَلَمٌ وسَمُر، والعماليق يومئذ حول الحرم. وهم أول من نزل مكة، ويكونون بعرفة، وكانت المياه يومئذ قليلة، وكان موضع البيت قد دثر؛ وهو ربوة حمراء [مدرة
(2)
] يشرف على ما حوله، فقال له جبريل حين دخل من كداء وهو الجبل الذي يطلعك على الحجون والمقبرة: بهذه أمرت؟ قال إبراهيم: بهذه أمرتَ، قال: نعم، فانتهى إلى موضع البيت، فعمد إبراهيم إلى موضع الحِجْرِ فئاوى فيه هاجر وإسماعيل، وأمر هاجر أن في تتخذ فيه عريشا، فلما أراد إبراهيم أن يخرج ورأت أم إسماعيل أنه ليس بحضرتها أحد من الناس ولا ماء ظاهر، تركت ابنها في مكانها
(3)
وتبعت إبراهيم، فقالت: يا
(1)
كذا في الأصل والذي في كتاب الاكتفاء للكلاعي ج 1 ص 28: لم يصل.
(2)
ساقطة من الأصل والمثبت من كتاب الاكتفاء للكلاعى ج 1 ص 28.
(3)
الذي في كتاب الاكتفاء للكلاعى ج 1 ص 28: مكانه.
إبراهيم إلى من تدعنا؟ فسكت عنها حتى إذا دنا من كداء. قال: إلى الله عز وجل أدعكم، قالت: فالله عز وجل أمرك بهذا؟ قال: نعم قالت: فحسبي، تركتنا إلى كاف، وانصرفت هاجر إلى ابنها [وخرج إبراهيم
(1)
]، حتى وقف على كداء ولا بناء ولا ظل ولا شيء يحول دون ابنه، فنظر إليه فأدركه ما يدرك الوالد من الرحمة لولده، فقال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} ثم انصرف إبراهيم راجعا إلى الشام، وعمدت هاجر فجعلت عريشا في موضع الحِجْر من سمر وثمام ألقته [عليها
(2)
]، ومعها شن فيه شيء من ماء، فلما نفد الماء عطش إسماعيل وعطشت أمه، فانقطع لبنُها، فأخذ إسماعيل كهيئة الموت فظنت أنه ميت، فجزعت وخرجت جزعا أن تراه على تلك الحال، وقالت: يموت وأنا غائبة عنه أهون علي، وعسى الله أن يجعل لي في ممشاي خيرا، فانطلقتْ فنظرتْ إلى جبل الصفا فأشرفتْ عليه تستغيث ربها عز وجل وتدعوه، ثم انحدرت إلى المروة فلما كانت بالوادي خبت حتى انتهت إلى المروة، فعلت ذلك سبع مرات؛ كلما أشرفت على الصفا نظرت إلى ابنها فتراه على حاله، وإذا أشرفت على المروة فمثل ذلك. فكان ذلك أول ما سعي بين الصفا والمروة، [وكان من قبلها يطوفون بالبيت ولا يسعون بين الصفا والمروة
(3)
] ولا يقفون المواقف حتى كان إبراهيم، فلما كان الشوط السابع ويئست، سمعت صوتا فاستمعت فلم تسمع إلا الأول، فظنت أنه شيء عرض لسمعها من الظمإ والجهد، فنظرت إلى ابنها فإذا هو يتحرك فأقامت على المروة مليا، ثم سمعت الصوت الأول، فقالت: إني سمعت صوتك فأعجبني، فإن كان عندك خير فأغثني فإني قد هلكت وهلك ما عندي، فخرج الصوت [يصوت
(4)
] بين يديها، وخرجت تتلوه قد قويت نفسها حتى انتهى
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من كتاب الاكتفاء للكلاعي ج 1.
(2)
كذا في الأصل والذي في كتاب الاكتفاء للكلاعي ج 1: عليه.
(3)
ساقط من الأصل وما بين المعقوفين من كتاب الاكتفاء للكلاعي ج 1.
(4)
في الأصل يصوب والمثبت من كتاب الاكتفاء للكلاعى ج 1.
الصوت عند رأس إسماعيل، ثم بدا لها جبريل فانطلق بها حتى وقف على موضع زمزم، فضرب بعقبه مكان البير، فظهر الماء فوق الأرض حين فحص بعقبه، وفارت بالرِّوَى، فجعلت أم إسماعيل تحظر الماء بالتراب خشية أن يفوتها قبل أن تأتي بشنتها، فاستقت، وبادرت إلى ابنها فسقته، وشربت فجعل ثدياها يتفطران
(1)
لبنا، فكان ذلك الماء طعاما وشرابا لإسماعيل، وكانت تجتزئ بماء زمزم، فقال لها الملك لا تخافي أن ينفد هذا الماء، وأبشري فإن ابنك سيشب ويأتي أبوه من الشام فيبنون هنا بيتا تأتيه عباد الله من أقطار الأرض مُلَبِّين لله جل ثناؤه شعثا غبرا، فيطوفون به ويكون هذا الماء شرابا لضيفان الله عز وجل الذين يزورون بيته، فقالت: بشرك الله بخير، وطابت نفسها وحمدت الله عز وجل. ولما بلغ إسماعيل ثلاثين سنة وإبراهيم يومئذ ابن مائة سنة، أوحى الله جل ثناؤه إلى إبراهيم: أن ابن لي بيتا، فقال إبراهيم: أي رب أين أبنيه؟ فأوحى الله إليه أن اتبع السكينة، وهي ريح لها وجه وجناحان، ومع إبراهيم الملك والصرد فانتهوا بإبراهيم إلى مكة، فنزل إسماعيل إلى الموضع الذي بوأه الله عز وجل إبراهيم، وموضع البيت ربوة حمراء مدرة مشرفة على ما حولها، فحفر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وليس معهما غيرهما أساس البيت، يريدان أساس آدم الأول فحفرا عن ربض البيت، يعني حوله، فوجدا صخرة لا يطيقها إلا ثلاثون رجلا، وحفرا حتى بلغا أساس آدم، ثم بنى عليه وحلقت
(2)
السكينة كأنها سحابة على موضع البيت، فقالت: ابن علي، فلذلك لا يطوف بالبيت أحد أبدا كافر ولا جبار إلا ريئت عليه السكينة، فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت فجعلا طوله في السماء: تسعة أذرع، وعرضه في الأرض: ثلاثين ذراعا، وطوله في الأرض: اثنين وعشرين ذراعا، وأدخل الحِجْرُ في البيت، وكان قبل ذلك زربا لغنم إسماعيل، وإنما بناه بحجارة بعضها على بعض، ولم يجعل له سقفا، وجعل له بابا، وحفر له بيرا عند بابه خزانة للبيت، يلقى فيها ما أهدي للبيت، وجعل الركن علما للناس، فذهب إسماعيل إلى الوادي يطلب حجرا، ونزل جبريل
(1)
في كتاب الاكتفاء للكلاعي ج 1. يتقطران.
(2)
في الأصل خلفه والمثبت من كتاب الاكتفاء للكلاعى ج 1 ص 36.
بالحجر الأسود، وكان قد رفع إلى السماء حين غرقت الأرض كما رفع البيت، فنزل به جبريل، فوضعه إبراهيم موضع الركن، وجاء إسماعيل بالحجر من الوادي فوجد إبراهيم قد وضع الحجر، فقال: من أين هذا، من جاءك به؟ قال إبراهيم: من لم يكلني إليك ولا إلى حجرك، وأمر إبراهيم بعد فراغه من البناء أن يؤذن في الناس بالحج، فقال: يا رب، وما يبلغ صوتي؟ قال الله جل ثناؤه: أذن، وعلي البلاغ: فارتفع على المقام؛ وهو يومئذ ملصق بالبيت، فارتفع به المقام حتى كان أطول من الجبال، فنادى وأدخل إصبعيه في أذنيه، وأقبل بوجهه شرقا وغربا يقول: أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم عز وجل، فأجابه من تحت البحور السبعة ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أطراف الأرض كلها: لبيك اللهم لبيك، أفلا تراهم يأتون يلبون؟ فمن حج من يومئذ إلى يوم القيامة فهو ممن استجاب لله عز وجل
(1)
.
ومع الأمن استقبال عين الكعبة لمن بمكة؛ يعني أنه يشترط في صحة الصلاة مع الأمن والقدرة أن يستقبل المصلي في جميع صلاته عين الكعبة؛ أي ذاتها يقينا بجميع بدنه، فلو انحرف عنها ولو بأنملة، بطلت صلاته، هذا إذا كان المصلي بمكة وما في حكمها مما يجاورها بحيث تمكن المسامتة قولا واحدا، ولا يعارض هذا ما يأتي من أن التلفت بجسده كله عن القبلة وقدماه لها أن صلاته صحيحة، نعم، الالتفات الذي لا ينحرف به إلا إلى جزء من أجزاء البيت غير مضر كما نصوا عليه. والله سبحانه أعلم. ومسامتة عين الكعبة لمن بممسجد مكة ظاهر، وأما لمن بمكة ومجاورها فهو بأن يطلع على سطح أو غيره، ويعرف سمت الكعبة بالمحل الذي هو به، فإن لم يقدر على طلوع السطح أو كان بليل استدل بأعلام البيت: كجبل أبي قبيس ونحوه على مسامتته لذاتها، بحيث لو أزيل الحاجز بينه وبينها كان مسامتا لها، وحيث عرف المسامتة في داره أول مرة بالعلامات كفاه ذلك في بقية الصلوات دائما في بيته، فليس المراد أنه لا تصح الصلاة إلا بمسجدها ولوجوب المسامتة يصلون دائرة وقوسا بالمسجد إن لم تحصل إلا بذلك، ومفهوم قوله:"مع الأمن"، أنه مع الخوف لا يجب الاستقبال كما سيقول المصنف في فصل صلاة الخوف:
(1)
الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، ج 1 ص 25.
"وحل للضرورة مشي وركض وطعن وعدم توجه"، وخرج بقيد المقدرة: المريض الذي لا يمكنه التحويل ولا التحول، والمربوط، ومن تحت الهدم. فلا يشترط استقباله فلو صلى إلى غيرها مع المقدرة على التحويل أو التحول أعاد أبدا. قاله ابن يونس. نقله الحطاب، وغيره. وإذا لم يشترط في العاجز الاستقبال فوقته كالتيمم. قاله اللخمي. فاليائس ممن يحوله تلقاءها: أول الوقت، والراجي: آخره، والمتردد في وجوده: وسطه، وهل يعيد كل في الوقت؟ كصحيح ليس بمكة أخطأ أم لا إعادة عليه. انظره. قاله الشيخ عبد الباقي. وفي الحطاب: إذا لم يستطع التحول إلى القبلة، ولا وجد من يحوله، فصلى كما هو، فإذا قدر أو وجد من يحوله، أعاد في الوقت. انتهى.
واعلم أن الاستقبال شرط في صحة الصلاة فرضا أو نفلا إلا ما سيأتي إن شاء الله من قوله: "وصوب سفر قصر" الخ، وقوله:"استقبال"، مبتدأ، وخبره الظرف قبله، وهو قوله:"مع الأمن". ابن عرفة: واستقبال الكعبة فرض في الفرض إلا لعجز قتال، أو مرض، أو ربط، أو هدم، أو خوف لصوص أو سباع. ابن بشير: فإن عجز عن استقبال القبلة بنفسه حول إليها، فإن عجز عن تحويله سقط حكم الاستقبال في حقه كالمسايف.
فإن شق، يعني أن من شق عليه تيقن الاستقبال، وهو بمكة مشقة شديدة، ولم يجد من يستنيبه في رؤيتها مع قدرته على الاستقبال، وليست هي خوف الرض، ولا زيادته كما في التيمم، ففي جواز الاجتهاد له في أن عين الكعبة في هذا المكان الذي أداه اجتهاده إليه، بحيث لو أزيل الساتر كان مسامتا لانتفاء الحرج في الدين ومنعه، وهو الراجح. فلو قال: وإن شق لجرى على الراجح، نظر. أي تردد. قال ابن فرحون: قال ابن رشد: الصواب المنع، ولما ذكر صاحب الجواهر هذه المسألة، قال في آخرها: وقد تردد المتأخرون في جواز الاقتصار على الاجتهاد، قال الش: وجه التردد إن نظرت إلى أن الحرج، وهو المشقة منفي عن الدين، أجزت الاجتهاد، وإن نظرت إلى أنه قادر على اليقين لم تجز له ذلك. انتهى. والعلم يحصل برؤية العين، أو بالمس أو بخبر يفيد التواتر، أو خبر واحد احتف به من القرائن ما يفيد العلم. قاله الشبراخيتي. وقد علمت أن الراجح المنع من الاجتهاد في هذا الفرع وأما العاجز الذي لا يقدر على المسامتة فيجتهد
فيها أي في المسامتة من غير تردد، وإلا يكن المصلي بمكة ولا بما ألحق بها، فقال الأبهري: الواجب عليه استقبال جهتها بحسب اجتهاده، فيجتهد في جهتها، ويستقبل الجهة التي أداه اجتهاده إلى أنها هي جهة القبلة، خلافا لابن القصار القائل: إنه يجتهد في مسامتة عينها، أي يقدر أنها بمرآه. واستظهر ابن رشد قول الأبهري، وإلى استظهاره أشار المصنف بقوله: فالأظهر جهتها. أي عين الكعبة: وقوله: اجتهادا أعربه بعضهم بأنه تمييز محول عن الخبر، أي فالأظهر الاجتهاد في الجهة. وقال أحمد: الأحسن كونه منصوبا بنزع الخافض، أي بالاجتهاد، وأعرب أيضا بأنه مفعول مطلق؛ أي يجتهد اجتهادا. وذكر أبو طالب المكي هنا نكتة أنه يشدد على من في الحضرة ما لا يشدد على المحجوب. قاله الشيخ الأمير. قال ابن غازي: ظاهر المصنف أن الاستظهار لابن رشد، ولم أجده له لا في المقدمات ولا في البيان، وإنما وجدته لابن عبد السلام؛ وهو ظاهر كلام غير واحد: وأجاب التتائي بأن ابن رشد في المقدمات اقتصر عليه، ففهم المصنف من ذلك أنه الراجح عنده. وفي الخرشي أن الاستظهار وقع لابن رشد في قواعده الكبرى. قال الشيخ عبد الباقي: وينبني على القولين؛ يعني قول الأبهري الذي هو المذهب، ومقابله الذي هو قول ابن القصار: لو اجتهد فأخطأ فعلى المذهب يعيد في الوقت ندبا، وعلى مقابله يعيد أبدا، كما هو مذهب الشافعي. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: ولا تظهر لهذا الخلاف ثمرة كما صرح به المازري، وما في عبد الباقي تبعا لغيره غير صواب؛ لأنها قبلة اجتهاد على كلا القولين، والأبدية إنما هي في الخطإ في قبلة القطع، وكأنهم أخذوا ذلك مما في التوضيح عن عز الدين، وهو مذهب شافعي. انتهى
والحاصل أنه اختلف فيمن بغير مكة ونحوها، هل الواجب عليه الاجتهاد أو الإصابة؟ وعلى أن الواجب الاجتهاد، فقيل: هل الاجتهاد في الجهة أو في السمت؟ وعلى كليهما فإن اجتهد وأخطأ صحت صلاته وعلى أنه لا بد من الإصابة، فقيل: لابد من إصابة السمت، وقيل: تكفي إصابة الجهة، وعلى كليهما: فإن أخطأ بطلت صلاته ونظمت هذا الحاصل فقلت:
جرى خلاف عن ذوي الإنابه
…
هل يجب اجتهاد أو إصابه؟
كل بوجه أو بسمت أبطل
…
بخطإ في الثاني لا في الأول
واعلم أن القبلة سبعة أقسام: قبلة عيان، وهي قوله:"ومع الأمن استقبال" لخ، وقبلة تحقيق؛ وهي قبلة مسجده صلى الله عليه وسلم؛ لأنها قبلة وحي، فمن بالمدينة يستدل بمحرابه صلى الله عليه وسلم، ويجب عليهم تقليده ولا يجوز لهم الاجتهاد بها، فقد ثبت بالتواتر محرابه الذي كان يصلي إليه. وقبلة استتار، وهي قبلة من غاب عن البيت من أهل مكة، أو عن مسجده صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة؛ وهي قوله فإن شق ففي الاجتهاد نظر. وقبلة اجتهاد، وهي قوله:"فالأظهر جهتها اجتهادا"، وقبلة تقليد، وهو قوله:"إلا لمصر"، وقبلة بدل، وهي قوله:"وصوب سفر"، وقبلة تخيير؛ وهي قوله:"فإن لم يجد" لخ. وزاد غير واحد قبلة ثامنة، وهي قبلة إجماع؛ أي قبلة جامع عمرو بالفسطاط، فلا يجوز لمن بمحلته أن يجتهد، بل لا بد من علم جهتها ببيته مثلا. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: كونه قبلة إجماع غير صحيح، فقد ذكر السيوطي في حسن المحاضرة أن قبلة الجامع المذكور كانت مشرقة جدا، وأن قرة بن شريك لما هدمه وبناه في زمن الوليد بن عبد الملك بن مروان تيامن قليلا، قال: وذكر أن الليث بن سعد وعبد الله بن ربيعة كانا يتيامنان إذا صليا فيه، وأيضا فإن الذين وقفوا على إقامة قبلته من الصحابة إنما هم نحو الثمانين، كما ذكره السيوطي. ومثل ذلك لا يقال فيه إجماع. انتهى. وفي كتاب الشيخ الأمير ما نصه: وأبطل فيهما انحراف يسير كمكة. انتهى. وقوله: فيهما، يعني المسجد النبوي، وجامع عمرو المذكور.
واعلم أنه يشارك قبلة مسجده صلى الله عليه وسلم مسجد قباء، وسائر المساجد التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم. واعلم أيضا أن الاستقبال واجب يرتد جاحده، وإذا وجب فيجب تعلم أدلته لمن يتأتى منه ذلك. كما لعبد الباقي. وفي شرح الشيخ عبد الباقي: وإذا جعل المصلي المغرب خلف الظهر في أي زمان كان، وجعل المشرق أمام وجهه في أي زمان كان، صحت صلاته
عندنا؛ لأن هذا إن لم يصادف انحرافه يسير. انتهى. وفي الشبراخيتي أن من صلى بغير اجتهاد لم تجزه صلاته، وإن وقعت للقبلة. انتهى.
تنبيه: قال عمر رضي الله عنه: ما بين المشرق والمغرب جهة إذا توجه قبل البيت، وكذا قال عثمان وعلي وابن عباس، فقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين المشرق والمغرب قبلة
(1)
) معناه: إذا توجه قبل البيت، وهذا صحيح لا خلاف فيه. قاله محمد بن عبد الباقي. ثم شبه مختلفا فيه بمتفق عليه. فقال: كإن نقضت يعني أن الكعبة إذا نقضت -والعياذ بالله تعالى- ولم يبق لها أثرت فإنه يستقبل جهتها اجتهادا لمن بغير مكة، وسمتها اجتهادا لمن بمكة، فإن بقي منها شيء أو عرف البقعة بأمارة استقبلها مسامتة، وهذه كالدليل لما قبلها. قاله الشيخ عبد الباقي. وفي البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرب الكعبة ذو السويقتين
(2)
). انتهى. القسطلاني: يخربها عند قرب الساعة حين لا يبقى في الأرض من يقول لا إله إلا الله. انتهى. وقد ثبت ذلك في صحيح مسلم كما في ابن حجر، وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كأني به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا
(3)
). الحليمي: خراب الكعبة في زمن عيسى عليه السلام، وقال القرطبي: بعد رفع القرآن من الصدور والمصاحف، وذلك بعد موت عيسى؛ وهو الصحيح.
وبطلت إن خالفها؛ يعني أن من بغير مكة وما ألحق بها يجب عليه أن يجتهد في جهة القبلة ليستقبلها في صلاته، فإن أداه اجتهاده إلى تعيين جهة الكعبة، وصلى إلى غيرها مخالفا لما أداه اجتهاده إليه، فإن صلاته باطلة حيث خالف جهة القبلة في نفس الأمر، بل وإن كان قد صادف القبلة في الجهة التي خالف إليها؛ وهي باطلة عندنا، وعند الشافعي، وأبي حنيفة نقله الحطاب كما لو صلى ظانا أنه محدث، ثم تبين له الطهر فصلاته باطلة، ولو دخل الصلاة مع شكه في الحدث وحرمة ذلك عليه، ثم تبين له الطهر، فصلاته صحيحة عند ابن القاسم، لا عند
(1)
الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:342. وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، رقم الحديث: 1011.
(2)
البخاري، كتاب الحج، رقم الحديث:1596. ولفظه: يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة.
(3)
البخاري، كتاب الحج، رقم الحديث:1995.
غيره. قال الشيخ عبد الباقي: وهو أي كلام ابن القاسم مخالف لما مر في الوضوء، من أن من شك في الوضوء قبل التلبس بالصلاة وصلى شاكا فإن صلاته باطلة، ولو تبين له أنه متوض. وفي بعض النسخ: إن خالفه بتذكير الضمير فيرجع للاجتهاد وعلى التأنيث فيرجع للجهة. كما قررت. ومفهوم قوله: "إن خالفها أنه لو صلى إلى جهة اجتهاده ثم ظهر خطؤه لم تبطل صلاته لفعله الواجب، ثم إن كان اجتهاده مع ظهور العلامات أعاد في الوقت إن انحرف انحرافا كثيرا؛ لأن ظهور علاماتها قاض بأن اجتهاده ليس بإمعان النظر، وإن كان مع عدم ظهورها، فلا إعادة عليه. قاله الباجي. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. وقوله: "خالفها" ظاهره: سواء خالفها عمدا أو نسيانا، وخصه التتائي بالعمد، ونحوه للزرقاني، وزاد: وأما لو خالفها نسيانا فانظر، هل هو كذلك؟ أي تبطل كالعمد، أم لا؟ وما يأتي في النسيان حيث أخطأ أي فلا يجري هنا الخلاف الآتي في النسيان.
وصوب؛ أي جهة، وهو مبتدأ. سفر قصر. أربعة برد فأكثر لراكب دابة عرفا ركوبا معتادا فقط، راجع للقيود الأربعة وإن بمحمل، أي فيه على المشهور بفتح أوله وكسر ثالثه؛ وهو مركب من مراكب النساء، والعكس خاص بعلاقة السيف. بدل خبر عن المبتدإ، وهو قوله صوب، وقوله:"لراكب"، متعلق بقوله:"بدل" قدم عليه؛ لأنه يغتفر مثل ذلك في الجار والمجرور. قاله الشيخ إبراهيم. ومعنى كلام المصنف أن المسافر سفر قصر له أن يتنفل على دابته، وتكون جهة سفره عوضا له عن القبلة؛ أي فيستقبل جهة سفره بشرط أن يكون ركوبه معتادا، وسواء كان في محمل أم لا، وقد علمت أن قوله:"فقط" راجع للقيود الأربعة التي ذكرها المصنف، وهي: السفر، والقصر، والركوب، والدابة. فخرج الحاضر والمسافر دون مسافة القصر، والعاصي بسفره لعدم قصره الصلاة، والماشي والراكب لآدمي، أو سفينة؛ لأن المراد بالدابة الدابة عرفا، ولا بد من كون الركوب معتادا كما أشرت إليه في أول الحل، فخرج بذلك الراكب مقلوبا؛ أي المقبل إلى دبر الدابة، أو الراكب بجنب فهؤلاء لا تكون الجهة المذكورة عوضا لهم عن القبلة قال الشيخ عبد الباقي بعد أن ذكر راكب الآدمي في المحترزات ما نصه لكن مقتضى جعلهم السفينة محترز
راكب دابة شمول دابة لكجمل وآدمي، وقد حج السهر وردي على أعناق الرجال. انتهى. وقال الشيخ إبراهيم: ومقتضى احترازهم براكب دابة عن راكب السفينة والماشي، أن راكب الآدمي حكمه حكم غيره من جمل ونحوه. انتهى. وقوله:"وصوب سفر قصر" الخ، أي ويعمل على دابته مالا يستغني عنه، من مسك عنان، وضرب بسوط، وتحريك رجل ومدها لتعب، وتنحية وجه عن الشمس يستقبله
(1)
، ولا يصلي لدبر الدابة -كما مر- ولو لجهة الكعبة، يعني ابتداء، ولا في الأثناء فإن ذلك مبطل، ويجلس متربعا ويركع متربعا، ويفحع يديه على ركبتيه في ركوعه، وإذا رفع من ركوعه رفعهما، ويومئ للسجود وقد ثنى رجليه، فإن لم يقدر أومأ متربعا، ويحسر عمامته عن جبهته، ويقصد الأرض بإيمائه. -كما قاله غير واحد- ولا يتكلم، ولا يلتفت، ولا يسجد على قربوس سرجه. وقال الشيخ عبد الباقي: ويومئ له لا للأرض، وتشترط طهارة ما يومئ له من قربوس ونحوه. انتهى. وقوله: لا للأرض، قال الشيخ محمد بن الحسن: نصُّ ابن عرفة، وروى اللخمي: يرفع عمامته عن جبهته إذا أومأ، ويقصد الأرض. انتهى. ولم ينقل التوضيح ولا المواق غيره، فانظر من أين أتى بخلافه؟ ثم قال: وحاصل ما ذكروه هنا أنه إذا تحول إلى دبر الدابة بأن ركب مقلوبا فصلاته باطلة، وإن صادف القبلة، وإن انحرف بدابته أي عن جهة سفره، والله سبحانه أعلم على الوجه المعتاد، فإن كان لعذر أو صادف القبلة صحت، وإلا بطلت. انتهى. ولو صلى النفل راكعا ساجدا من غير نقص أجزأ. سحنون: لا يجزئه لدخوله على الغرر، وإن وصل منزلا وهو في أثنائها، فإن كان منزل إقامة نزل عنها وكمل بالأرض راكعا ساجدا؛ أي ومستقبلا، وإن كان غير منزل إقامة خفف وأتم على الدابة؛ لأن عزمه على السير. ويشعر التعليل بأن منزل الإقامة: محل سكناه، والظاهر أنه يتم عليها إن بقي تشهده، كما يشعر به قوله: راكعا ساجدا. انتهى قاله الشيخ عبد الباقي. والظاهر: ما للشيخ الأمير أنه منزل إقامة، تقطع حكم السفر، وإن لم يكن وطنه، وقوله:"وكمل بالأرض راكعا ساجدا"؛ يعني إلا على قول من يجيز الإيماء في النافلة للصحيح، فإنه يتم صلاته على دابته. كما في الحطاب. والظاهر أيضا
(1)
في الشبراخيتى: وتستقبله ج 1 مخطوط.
أن جواز النفل بشروطه من ابتداء محل القصر للفرض. كما لعبد الباقي. وفي الحطاب: وإذا انحرف إلى جهة بعد الإحرام من غير عذر ولا سهو، فإن كانت القبلة فلا شيء عليه لأنها الأصل، وإن كانت غيرها بطلت صلاته. وقاله الشافعي: وأما إذا ظن أن تلك طريقه أو غلبته دابته فلا شيء عليه. انتهى.
في نفل؛ متعلق ببدل كما علم من التقرير، يعني أن الجهة المذكورة إنما تكون عوضا عن القبلة في النفل لا الفرض ولو منذورا، وكذا الجنازة على القول بوجوبها لا على سنيتها فتكون من جملة النفل. وقد صرح القرافي بأنها لا تصلى على الدابة، فقال: ولا يصلي فريضة، ولا صلاة جنازة على راحلته. نقله عن الجواهر. قاله الحطاب. وقال: وأما إن لم يكن سفر قصر فلا يتنفل إلا على الأرض ليلا ونهارا، وله أن يصلي في السفر الذي يقصر في مثله على دابته أينما توجهت به الوتر وركعتي الفجر والنافلة، ويسجد إيماء، وإذا قرأ سجدة تلاوة أومأ، فأما في سفر لا يقصر فيه أو في حضر فلا، وإن كان إلى القبلة، أبو الحسن عن اللخمي: ولا يتنفل المسافر وهو ماش. انتهى. والله أعلم. وقول عبد الباقي: لا في فرض عيني إلا لخضخاض أو مرض الخ، الصواب: إسقاطه كما قال بناني، لاقتضائه أنه يصلي الفرض في هذين لغير القبلة.
وإن وترا، يعني أن الجهة المذكورة بدل عن القبلة في النفل بالشروط المتقدمة، ولو كان النفل وترا لفعله عليه الصلاة والسلام ذلك
(1)
، فأحرى ركعتا الفجر وسجود التلاوة، ولكن الأفضل له أن يصلي وتره بالأرض، ولو كانت نيته أن يتنفل على دابته. قاله في المدونة. قاله الإمام الحطاب. وقال سيدي محمد بن عبد الباقي: وفي حديث إيتاره صلى الله عليه وسلم على الدابة دليل على أن الوتر ليس بواجب، وإن كان الأفضل فعله على الأرض لتأكد أمره، فمن صلى على راحلته في ليل، استحب له أن ينزل للوتر قاله الباجي.
(1)
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى في السفر على راحلته حيث توجهت به يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض ويوتر على راحلته، البخاري، كتاب الوتر، رقم الحديث:1000. ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث: 700.
وإن سهل الابتداء لها يعني أن المسافر بالشروط المتقدمة له أن يبتدئ النفل على دابته لجهة سفره المخالفة لجهة القبلة، ولا يجب عليه أن يبتدئ النفل لجهة القبلة، وإن سهل عليه ابتداء النفل لجهة القبلة بأن كانت الدابة مقطورة أو واقفة، وهذا هو المشهور، خلافا لابن حبيب في إيجابه ابتداء النفل حينئذ مستقبلا للقبلة. وقوله:"وإن سهل الابتداء لها": لكن يستحب التوجه للقبلة ابتداء قاله الشيخ إبراهيم. وقول المصنف: وصوب سفر قصر الخ؛ اعلم أن الجمهور أجازه في كل سفر، وخصه مالك في المشهور عنه بسفر القصر، وحجته الأحاديث التي في الموطأ
(1)
؛ وهي إنما وردت في أسفاره صلى الله عليه وسلم: ولم ينقل عنه أنه سافر سفرا قصيرا، فصنع ذلك. والله سبحانه أعلم نقله الزرقاني لا سفينة يعني أن راكب السفينة ليس كراكب الدابة، فصَوْبُها غير بدل له من القبلة في النفل حيث كان سفر قصر، وأحرى الفرض لسهولة استقبال راكب السفينة. وقال ابن حبيب: السفينة كالدابة فلا يدور. فيدور إن أمكن يعني أنه لأجل منع النفل على السفينة حيث ما توجهت به يدور لجهة القبلة لأجل النافلة؛ وهذا إن أمكنه الدوران، وإلا صلى النافلة حيث ما توجهت به السفينة كالفرض قاله جد علي الأجهوري. وقال أحمد: يترك النفل حينئذ، أي لأنه لا ضرورة لفعله. كما قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: صلى النافلة حيثما توجهت به لكن لا يصلي إيماء كما قاله الشبراخيتي.
وهل إن أومأ يعني أنه اختلف في مذهب المدونة من المنع، هل هو محمول على ما إذا صلى إيماء في السفينة؛ وأما إن ركع وسجد فله أن يصلي النفل على السفينة حيثما توجهت به فلا يدور؛ وهي حينئذ كالدابة؛ وهو لابن التبان. أو مطلقا يعني أن من الشيوخ من ذهب إلى أن مذهب المدونة منع النفل على السفينة حيثما توجهت به مطلقا؛ أي وإن ركع وسجد؛ وهو تأويل ابن أبي زيد. وقوله: تأويلان مبتدأ حذف خبره؛ أي في ذلك تأويلان، وهما في النفل، وأما الفرض فيدور مطلقا إن أمكن الدوران، وإلا صلاه حيثما توجهت به وإن اتسع الوقت، وقوله:"أومأ"،
(1)
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو على حمار وهو متوجه إلى خيبر. الموطإ، كتاب قصر الصلاة في السفر، الحديث: 355/ 356/ 357.
قال الشيخ عبد الباقي: أي جاز له الإيماء لعذر كمرض أو ميد، وليس معنى المصنف أنه يومئ ولو لغير عذر كما قد يتبادر من المصنف وبه قرر بعضهم ولا قائل به. انظر ابن غازي. وفي حاشية الشيخ بناني ما يوافق هذا التقرير، فإنه قال: تبع في تقييده الإيماء لكونه لعذر. السنهوري: واعترضه الرماصي قائلا: هذه زيادة انفرد بها لم يذكرها ابن غازي ولا أبو الحسن ولا غيرهما ولا معنى لها؛ إذ من العلوم أن قول المدونة ولا يتنفل في السفينة إيماء إنما يتوجه للصحيح القادر على الركوع والسجود واختلف شيوخنا في سبب المنع، وحاصل ذلك أن المدونة قالت: ولا يصلي في السفينة إيماء حيثما توجهت به كالدابة، واختلفوا في علة ذلك، فقال ابن التبان وأبو إبراهيم: علة المنع في الإيماء، فإذا ركع وسجد جاز أن يصلي حيثما توجهت به، وقال ابن أبي زيد: علته هي قولها: "حيثما توجهت به، وعليه فلا يصلي فيها إلا للقبلة. ولو ركع وسجد فتبين أنه لا يومئ في السفينة لغير القبلة اتفاقا، وإنما الخلاف بينهما هل يصلي بالركوع والسجود لغير القبلة، أو لا يصلي لغير القبلة أصلا؟ انتهى. وساق من المنقول ما يدل على صحة ما قال قال الشيخ عبد الباقي: وظهر مما قررنا أن قوله: "وهل إن أومأ" لخ، راجع للمنع المفهوم من قوله: "لا سفينة".
ولا يقلد مجتهد غيره يعني أنه لا يجوز للمجتهد وهو من يعرف الأدلة للقبلة أن يقلد غيره في القبلة، بل لا بد من اجتهاده فلو اختلفا لم يأثما، وظاهره ولو كان الغير أعرف، ولا بد من الاجتهاد لكل صلاة إن تغير دليله بأن كان كل وقت بمحل غير محله قبله أو نسيه، وإلا كفى اجتهاد واحد. ومحل كلام المصنف إن اتسع الوقت وظهرت الأدلة، فإن ضاق قلد، وإن خفيت سأل مجتهدا غيره، فإن بان له صواب اجتهاده اتبعه وإلا انتظر ظهورها إلا أن يخاف خروج الوقت فيقلده. وأفهم قوله:"ولا يقلد" الخ أنه لا يمنع أن يصدق مجتهدا غيره ثقة أن قبلة بلد كذا جهة كذا. قاله الشيخ عبد الباقي. ومثل المجتهد، القادر على الاجتهاد، فمن كان بحيث لو اطلع على وجه الاجتهاد لاهتدى إليه لزمه السؤال ولا يقلد في القبلة. ابن الحاجب: والقدرة على اليقين تمنع من الاجتهاد، وعلى الاجتهاد تمنع من التقليد. قاله الشيخ ميارة. وقد مر قول
عبد الباقي: "وأفهم قوله ولا يقلد" الخ، قال الشيخ محمد بن الحسن: فإن قلت أي فائدة في التصديق إذا لم يقلده؟ قلت: أجيب بأن فائدة التصديق في الأدلة إن سأله عنها، وفي جهة قبلة البلد المعين فيقلدها. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: إن المجتهد الذي خفيت عليه الأدلة حكمه كالمقلد وهو غير المتحير الآتي؛ لأن المتحير الآتي هو من التبست عليه الأدلة مع ظهورها؛ أي تعارضت عنده الأمارات. وأما المتحير ففيه ثلاثة أقوال: أحدها يتخير كما يأتي، الثاني يقلد غيره، الثالث يصلي أربعا.
ولا محراب يعني أنه لا يجوز للمجتهد أن يقلد محرابا. إلا لمصر يعني أن المجتهد إذا قلنا إنه لا يجوز له أن يقلد محرابا، فإنما محل ذلك حيث لم يكن المحراب لمصر كبير، وأما إن كان لمصر كبير بحيث يعلم أن محرابه إنما نصب باجتهاد جمع من العلماء سواء كان عامرا أو خرابا فيجوز تقليده، ولا يجب لأنه أقرب إلى الصواب من اجتهاد واحد ما لم يقطع بخطئه، وإلا فلا يقلده مجتهد ولا غيره. وليس بالديار المصرية بلد يقلد محاريبه المشهورة إلا مصر والقاهرة والإسكندرية، وبعض محاريب دمياط وقوص. وأما المحلة ومنية بني خصيب والفيوم فإن جوامعها في غاية الفساد، وليس بينها وبين الكعبة ملابسة، والصواب أن محراب الجامع الأزهر لا انحراف فيه، وقد ألف التاجوري تأليفا بيِّن فيه أن جل محاريب فاس متباينة، وسبب بناء الأقدمين لها كذلك أنهم فهموا قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين المشرق والمغرب قبلة
(1)
)، على الإطلاق، وليس كذلك، فقد قال بعض أهل العلم: وقد اجتمعوا على أن الحديث مخصوص بأهل المدينة ومن كان على سمتهم. انتهى. وأما من كان في المشرق والمغرب فقبلته فيما بين الجنوب والشمال. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وظهر من هذا أن المحاريب المتباينة لا تقلد ولو كانت لمصر كبير لكونها لم تتفق على جهة واحدة.
وإن أعمي يعني أن المجتهد لا يجوز له أن يقلد مجتهدا آخر ولا محرابا لغير مصر كبير، سواء كان المجتهد أعمى أو بصيرا لقدرة الأعمى على الاجتهاد بالسؤال كما قال.
(1)
الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 342 وابن ماجه، كتاب إقامهَ الصلاة، رقم الحديث:1011.
وسأل عن الأدلة يعني أنه إذا لم يجز للمجتهد الأعمى أن يقلد فإنه يسأل مكلفا عارفا عن أدلة القبلة، كقوله: القطب في أي جهة؟ أو الكوكب الفلاني أو مطلع الشمس أو مغربها؟ وقلد غيره مكلفا عارفا يعني أن غير المجتهد وهو العاجز عن الاجتهاد بصيرا كان أوأعمى يلزمه أن يقلد في جهة القبلة مكلفا عاقلا بالغا عارفا بطريق الاجتهاد، ولا بد من كونه غير فاسق بأن يكون عدل رواية.
أو محرابا يعني أن العاجز عن الاجتهاد لا بد له من التقليد حيث أمكنه فيقلد مكلفا عارفا -كما مر-، أو محرابا؛ أيَّ محراب كان أو هما. وفي الجواهر: البصير الجاهل بالأدلة فإن كان بحيث لو اطلع على وجه الاجتهاد لاهتدى إليه لزمه السؤال، ولا يقلد وإن لم يكن بحيث يهتدي ففرضه التقليد. واعلم أن الجاهل بأدلة القبلة الذي لا بد له من التقليد يكون عاصيا بسفره الذي لا يجد فيه موثوقا بعدالته وبصيرته يقلده، ولا قرى متصلة فيها محاريب يقلدها وإلا لم يكن عاصيا. قاله الشيخ ميارة. ويقدم المجتهد في التقليد على محراب المصر الصغير بخلاف محراب الكبير، كما للأمير. فإن لم يجد يعني أنه إذا لم يجد العاجز عن الاجتهاد من يسأله ولا من يقلده ولا محرابا، فإنه يتخير جهة ويصلي لها. وقد مر أن المجتهد الذي خفيت عليه الأدلة حكمه حكم المقلد أو تحير مجتهد يعني أن المجتهد إذا تحير بأن التبست عليه الأدلة مع ظهورها كما إذا نسيها أو نسي كيفية الاستدلال بها، ولم يقدر على معرفة ذلك بسؤال أو غيره، فإنه يتخير جهة ويصلي لها. وما فسرت به المتحير من أنه هو الذي التبست عليه الأدلة مع ظهورها هو المفروض في كلام الأئمة، قاله الرماصي. وأما من خفيت عليه الأدلة لغيم أو سحاب أو نحوه، فإنه يقلد -كما مر- وبما قررت علم أن قوله: تخير جواب للشرطين؛ أعني قوله: "فإن لم يجد"، وقوله: أو "تحير" وتخير بالخاء، أي يختار جهة من الجهات ويصلي لها، وندب تأخيره لآخر الوقت رجاء زوال المانع، ولم تلزمه أعداد تحيط بحالات الشك؛ لأن الاستقبال شرط مع الأمن والقدرة. كما مر. وظاهر المصنف أنه يصلي لأي جهة شاء من غير ركون نفسه لجهة، وفي الذخيرة: يتحوى جهة تركن إليها نفسه ويصلي إليها واحدة، وقيل: يقلد،
قال في توضيحه: وهو أظهر الأقوال. ولو صلى أربعا لحسن: ما صدر به المصنف أولا، وهو قوله:"تخير"، هو: قول الكافة، وقوله:"ولو صلى أربعا" هو: قول ابن مسلمة، يعني أنه لو صلى صلوات أربعا كما يقوله ابن مسلمة لكان ذلك مذهبا حسنا، والذي استحسن قول ابن مسلمة هذا ابن عبد الحكم، وهذا إن كان تحيره في الجهات الأربع، فإن كان تحيره في ثلاث جهات صلى ثلاثا، أو في جهتين صلى صلاتين، وهذا القول الذي استحسنه ابن عبد الحكم اختاره اللخمي، وإلى اختيار اللخمي أشار المصنف بقوله: واختير والواجب التعبير بالمختار لأنه اختيار من الخلاف. كما علمت. وقول ابن مسلمة: هذا ضعيف، والأول هو المذهب؛ لأنه هو الذي عزاه سند للكافة، وقوله:"ولو صلى أربعا" الخ: لابد فيه من الجزم بالنية عند كل صلاة قال الشيخ الأمير في كتابه: فإن تحير تخير أو صلى للجهات إلا أن يجد مجتهدا فيتبعه إن ظهر صوابه أو جهل وضاق الوقت انتهى.
ولما قدم مطلوبية الاستقبال ابتداء ذكر مطلوبيته دواما، فقال: وإن تبين يعني أنه إذا تبين للمصلي في قبلة اجتهاد تحقيقا أو ظنا لا شكا، فإنه لا عبرة به. خطأ فاعل تبين، أي عدول عن القبلة بغير نسيان. بصلاه أي فيها. قطع صلاته التي تبين خطؤه فيها. غير أعمى: وجواب الشرط: قطع، وفاعل قطع: غير ومنحرف. عطف على أعمى. يسيرا أي انحرافا يسيرا. وقوله: "غير أعمى ومنحرف يسيرا"، هو: بصير انحرف انحرافا كثيرا، وأما الأعمى مطلقا وبصير انحرف انحرافا يسيرا فإنهما يستقبلانها في صلاتهما، فإن لم يستقبلاها فصحيحة في اليسير من بصير أو من أعمى، وباطلة للأعمى في الكثير.
قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: والظاهر أن اليسير: ما لا يقطع بانحرافه. والله سبحانه أعلم. والكثير: ما يقطع بانحرافه. والله سبحانه أعلم. وقوله: "وإن تبين خطأ" الخ اعلم أن الصور أربع: مجتهد اجتهد أو تخير، مقلد قلد أو لم يجد، وكلام المصنف عام فيها؛ لأن نصوص الأيمة تدل على التعميم. فتوقُفُ بعض الشراح في مجتهد لم تَعْمَ عليه الأدلة، وفي مقلد قلد غيره أو محرابا قائلا: لم أر في ذلك نصا لا معنى له. كما قاله الشيخ محمد بن الحسن. والله سبحانه أعلم.
وعلم مما مر أن قوله: "وإن تبين خطأ" إنما هو في غير من بمكة والمدينة، وأما من بهما فإنه يقطع لبطلان صلاته مطلقا، كان أعمى أو بصيرا سواء كان انحرافه يسيرا أو كثيرا. كما للشبراخيتي. وغيره. وسواء تبين خطؤه في الصلاة أو بعدها. وقد مر أن مثل مكة ما جاورها بحيث يقدر على المسامتة، وفي الطراز: لو اعتقد المأموم أن الإمام انحرف، فارقه وأتم لنفسه. انتهى. ومنه يستفاد أن للمأموم أن يفارق إمامه بالنية في هذا: وإن كان مخالفا لقاعدة المذهب من أنه لا ينتقل من الجماعة للانفراد، فلعل هذا الفرع ضعيف. قاله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمد بن الحسن هذا الفرع على تقدير صحته يقيد بغير ما الجماعة شرط فيه. كالجمعة، والجمع ليلة المطر؛ وإلا بطلت عليهم أيضا لعدم صحة الانفراد في ذلك -كما لا يخفى- انتهى. وبعدها أعاد في الوقت يعني أنه إذا تبين للمصلي الخطأ بعد الصلاة، فإن كان هذا الذي تبين له الخطأ بعدها من لو تبين له الخطأ فيها قطع، وهو بصير انحرف كثيرا، فإنه يعيد في الوقت، فإن لم يؤمر بالقطع فإنه لا إعادة عليه. ويعيد من بمكة وما ألحق بها أبدا، ولو أعمى انحرف يسيرا. كما مر. وقوله:"وبعدها"، خاص بمجتهد لم تَعْمَ عليه أدلته. وأما مجتهد عميت عليه أدلته، أو مقلد لم يجد من يقلده ولا محرابا فلا إعادة عليهما واختلف في مقلد قلد غيره، أو محرابا هل يعيد أم لا؟ فيعمم في أول كلام الشيخ، أعني قوله:"وإن تبين خطأ بصلاة، ويخصص في قوله: "وبعدها أعاد". كما علمت. وقاله غير واحد، وفاعل أعاد ضمير يعود على البصير المنحرف كثيرا؛ وهو قوله: "غير أعمى ومنحرف يسيرا". المختار هذا ظاهر في العصر، وأما الظهر فيعيدها للاصفرار، ويعيد العشاءين للفجر، والصبح لطلوع الشمس. وقد مر أن الانحراف اليسير لا تبطل الصلاة به إلا في مكة وما ألحق بها وانظر ما حكم الإقدام عليه ابتداء. قاله الشيخ عبد الباقي. ولما ذكر تبين الخطإ بقسميه بغير نسيان، أشار إلى ما كان به بقوله: وهل يعيد الناسي أبدا يعني أنه إذا صلى لغير جهة القبلة، ناسيا لحكم الاستقبال أو لجهة القبلة وتبين له ذلك بعد فراغه من الصلاة، وكان خطؤه بحيث لو اطلع عليه فيها لأبطلها، فإنه اختلف فيه، هل يعيد أبدا أو في الوقت؟ على قولين مشهورين، كما أشار إلى ذلك بقوله: خلاف
فذهب ابن يونس إلى أنه يعيد أبدا، قال: والرواية فيه كذلك، قال: وهو محكي عن المغيرة وابن سحنون، قال الشيخ عبد الباقي: وانفرد ابن الحاجب بتشهيره ولم يعرج عليه ابن عرفة، وذهب ابن رشد في البيان إلى أن المشهور أنه يعيد في الوقت، ونقل عن ابن الماجشون وابن حبيب، ومحله: إذا تبين له ذلك بعد الفراغ -كما مر- في أول الحل وكان في الفرض، وأما لو تبين له ذلك في الصلاة فإنها تبطل ويعيد أبدا، وأما في النفل فلا إعادة عليه ومحله أيضا في غير من بمكة وما ألحق بها، وأما ناسي الأدلة فإن قدر على معرفتها بسؤال أو غيره وتركه بطلت، وإن لم يقدر فمجتهد تحير. وتقدم أنه لا إعادة عليه بعدها، ومثل ناسي الأدلة ناسي كيفية الاستدلال بها مع علمها عند الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ عبد الباقي: مقلد وتقدم التفصيل فيه، إذا تبين خطؤه فأقسام الناسي أربعة: اثنان منها محل الخلاف الذي ذكر المصنف وأقسام الجاهل أربعة أيضا: الأول: جاهل حكم الاستقبال يعيد أبدا اتفاقا. كما في الشبراخيتي. إلا إن صادف فتصح على المعتمد كما لعبد الباقي، الثاني جاهل جهتها قال الشيخ عبد الباقي: فيه خلاف: هل يعيد أبدا أو في الوقت؟ وقال الشيخ محمد بن الحسن: الظاهر أن هذا هو المقلد، الثالث جاهل الأدلة مع علمه بالحكم وكيفية الاستدلال بها لو علمها. قال عبد الباقي: هو كناسي الأدلة، وقد تقدم. وقال محمد بن الحسن: استظهر في التوضيح أن المراد بالجاهل الذي فيه الخلاف، هل يعيد أبدا أو في الوقت؟ هو الجاهل بالأدلة، الرابع جاهل كيفية الاستدلال، قال الشيخ عبد الباقي: هو مقلد، وقد تقدم حكمه وقال الشيخ محمد بن الحسن: الظاهر أنه كجاهل الأدلة، وأراد المصنف بالنسيان:
(1)
ما يشمل الساهي الذي هو الذاهل؛ وهو الغافل الذي يتنبه بأدنى تنبيه، والناسي الذي يزول عنه العلم بالشيء، فيستأنف تحصيله، ولبعضهم:
السهو عن معلوم
…
الذهول قلت وفي نسياننا يزول
(1)
في عبد الباقي، ج 1 ص 191: بالناسي.
تنبيه: قال الزركشي: قال ابن القاص
(1)
: من صلى بالاجتهاد فأخطأ إلى الحرم جاز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البيت قبلة لأهل المسجد، والسجد لأهل الحرم، والحرم لأهل مشارق الأرض ومغاربها، قال الإمام الحطاب: وهذا شيء لا نعرفه لأصحابنا. نعم. حكوا عن مالك أنه قال: الكعبة قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة أهل مكة، والحرم قبلة أهل الدنيا. وهذا النقل عنه غريب. وأما الحديث فأخرجه البيهقي في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض
(2)
). قال البيهقي: انفرد به عمر بن حفص، وهو ضعيف لا يحتج به. انتهى.
ولما فرغ من حكم الصلاة إلى الكعبة شرع في حكمها فيها وعليها فرضا ونفلا، فقال: وجازت سنة فيها يعني أن الصلاة المسنونة كوتر وأحرى غيره تجوز في الكعبة أي تمضي وتنفذ، ولا تجوز ابتداء بخلاف النافلة فتندب، ولو تأكد ندبها كراتبة ظهر وعصر وبعد مغرب وضحى لخبر الصحيحين: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة هو وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال وأغلقوا عليهم فلما فتحوا كنت أنا أول من ولج فسألته هل صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نعم بين العمودين اليمانيين
(3)
)، وهو أن يجعل الباب خلفه ويندب فعل النفل في هذا المحل، وكذا ركعتا طواف مندوب كواجب أو ركن على القول بندبهما، كما شهره ابن عسكر في عمدته، لا على القول بوجوبهما أو سنيتهما وقال أشهب تجوز السنة ابتداء، وظاهر المصنف موافقته.
وفي الحجر يعني أنه تجوز السنة في الحجر، أي تمضي وتنفذ بعد الوقوع ولا تجوز ابتداء إلى آخر ما مر. وقوله: لأي جهة راجع لقوله: "فيها فقط"، ولا يرجع لقوله:"في الحجر"، يعني
(1)
في الأصل القاضي وكذالك في طبعات الحطاب القديمة. والمثبت من الحطاب طبعة دار الرضوان ج 2 ص 200. وإعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشى ص 96.
(2)
السنن الكبرى للبيهقى، ج 2 ص 10.
(3)
مسلم، كتاب الحج، رقم الحديث:1329. والبخاري، كتاب الصلاة، الحديث: 468.
أنه إذا صلى الصلاة المتقدمة في الكعبة فإنه يجوز له أن يصليها لأي جهة ولو لجهة بابها مفتوحا. وأما في الحجر فإنه لا يصلي لأي جهة، وإنما يصلي لجهة الكعبة؛ لأن من صلى في الحجر واستدبر الكعبة، صلاته فاسدة. وقال اللخمي: تصح صلاة من استقبل من الحجر القدر الذي تواتر أنه من البيت، وكلامه أي اللخمي فيمن كان خارج الحجر، وما قاله اللخمي ضعيف والمعتمد عدم الصحة قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"تواتر أنه" الخ قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر؛ لأن ما نقله الحطاب صريح في ترجيح منع الصلاة إلى الحجر خارجه، ولذا قال بعض الشيوخ: لا نعلم أنه رواه من البنيان
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم غير السيدة عائشة رضي الله عنها مع البحث عنه. والله أعلم. انتهى. وفي الحطاب بعد جلب نقول: لم يقل أحد بجواز الصلاة إلى الحجر ابتداء، وإنما الكلام في الصحة بعد الوقوع. كما يفهم من كلام اللخمي. وغيره. انتهى.
لا فرض؛ يعني أنه لا يجوز فعل الصلاة المفروضة في الكعبة ولا في الحجر، ومنه صلاة الجنازة على القول بوجوبها، وهل يمنع أو يكره؟ قولان، والمذهب الكراهة. فيعاد في الوقت؛ يعني أنه إذا صلى الفرض في الكعبة فإنه يعيد في الوقت. وأول بالنسيان؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا في فهم كلام المدونة. وهو: من صلى في الكعبة فريضة أعاد في الوقت كمن صلى إلى غير القبلة. انتهى. فحملها ابن يونس وجماعة على الناسي، لقول مالك فيها: كمن صلى لغير القبلة، وهو لو صلى لغيرها عامدا أعاد أبدا، فكذلك من صلى فيها عامدا أعاد أبدا. ابن حبيب: يعيد العامد والجاهل أبدا، والناسي في الوقت وحملها عبد الوهاب واللخمي وابن عات على ظاهرها، وأن العامد كالناسي يعيدان في الوقت، وإلى تأويلهم أشار بقوله: وبالإطلاق؛ أي لا فرق بين العامد والناسي في أنه إنما على كل منهما الإعادة في الوقت، وتأويل الإطلاق هو المذهب كما للشيخ إبراهيم وغيره. وعبارة الأمير: وندب نفل فيها لأي جهة كالحجر، كركعتي الطواف غير الواجب، وكره مؤكَّده كركعتي الفجر كالفرض، وكراهته أشد فيعاد في الوقت وإن عمدا على الراجح مما في
(1)
في البنانى ج 1، ص 191: من البيت.
الأصل انتهى والجنازة على الفرضية تعاد، وعلى السنية لا تعاد وقوله:"فيعاد في الوقت"، قال البناني: يعيد الظهرين للاصفرار، والعشاءين لطلوع الفجر، والصبح لطلوع الشمس. كما في المدونة. انتهى. ولعبد الباقي والحطاب أن المراد به: المختار.
وبطل فرض على ظهرها، يعني أن من صلى الفريضة على ظهر الكعبة تبطل صلاته، كما أنها تبطل إذا صلى في سرب تحتها أو مطمورة. قال سند: لو جَوَّزْنا الصلاة في الكعبة أو على ظهرها لم تجز في سرب تحتها أو مطمورة؛ لأن البيوت شأنها أن ترفع وليس شأنها أن تنزل، ولذلك حكم بأن سطوح الساجد كالمساجد في الأحكام، بخلاف ما لو حفر تحتها بيتا فإنه يجوز أن تدخله الحائض والجنب. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله:"وبطل فرض على ظهرها"؛ أي إلا لضرورة أو خوف من كسبع، ويجري هذا أيضا فيمن حفر مطمورة ننحتها، وقوله:"وبطل فرض على ظهرها"؛ أي ولو بين يديه قطعة من سطحها، خلافا لأبي حنيفة في اعتباره الهواء واكتفائه بقطعة من سطحها. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي. عند قوله:"وبطل فرض على ظهرها" أو في بطنها بل ولو في النفل إلا لضرورة فيهما؛ لأن استقبال القبلة شرط مع المقدرة؛ فيبطل قول من قال: تسقط الصلاة في هاتين الصورتين، انتهى. وفيه: عنده أيضا، خلافا لأبي حنيفة؛ لأن المقصود عنده استقبال بعض هوائها، وكذا الشافعي؛ لأن المقصود عنده استقبال بعض بنائها. ومفهوم قوله:"فرض جواز النفل على ظهرها" كما في الجلاب وعند غيره، لا ابن عرفة: والفرض على ظهرها ممنوع. ابن حبيب: والنفل. الجلاب: لا بأس بفعله عليه. انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال: تقي الدين الفاسي: وأما النافلة على سطح الكعبة فلا تصح على مقتضى مشهور المذهب إذا كانت النافلة متأكدة كالسنن، والوتر، وركعتي الفجر، وركعتي الطواف. والواجب مساواة هذه النوافل للفريضة في حكم الصلاة في جوف الكعبة، وفي صحة النافلة غير المؤكدة في سطح الكعبة نظر على مقتضى رأي أكثر أهل المذهب. انتهى نقله. الإمام الحطاب. وقال الشيخ الأمير: وبطل فرض على ظهرها لا نفل، وهل وإن مؤكدا؟ قولان. انتهى. كالراكب يعني أن من صلى الفريضة راكبا تبطل صلاته، فالتشبيه في بطلان الفرض. وفي شرح
الشيخ ميارة وأما الفريضة فلا تؤدى راكبا اختيارا اتفاقا. انتهى. وفي شرح الشيخ عبد الباقي: كالراكب لدابة صحيحا آمنا اختيارا يبطل فرضه عليها، ويعيده أبدا. انتهى. وفيه أن النفل: يصح على الدابة إذا فعل بركوع وسجود، وأما الفرض فلا يفعل عليها بركوع وسجود. وفي الشبراخيتي أن من صلى على الدابة قائما راكعا ساجدا من غير نقص: صحت صلاة فرضه وإن كان صحيحا ولا مشقة عليه في النزول، كما يفيده كلام سند، ويفيد أيضا أنه المعتمد. انتهى. إلا لالتحام يعني أن بطلان صلاة الراكب محله في غير الالتحام، وأما في الالتحام فتصح صلاة الراكب. والمراد بالالتحام هنا كل قتال جائز، ومفهوم الالتحام أن صلاة القسْم يشترط فيها الاستقبال، وقوله:"إلا لالتحام" أي ويومئ للأرض أو خوف من كسبع يعني أن صلاة الراكب كما تصح في الالتحام تصح لخوف من سبع كفهد وذيب، فإذا خاف من كسبع إن نزل إلى الأرض فإنه يصلي راكبا إيماء للأرض وإن لغيرها يعني أنه تصح صلاة الراكب في الالتحام، وخوف من كسبع وإن صلى لغير القبلة حيث لم يمكنه التوجه إلى القبلة، وهذا مفهوم قوله أول الفصل: ومع الأمن وقد علمت أن المراد بالالتحام كل قتال جائز سواء كان قتال كافر أو غيره كالذب عن نفس، أو مال، أو حريم، أو هزيمة جائزة، والاستثناء راجع لقوله:"كالراكب"، ويصح رجوعه أيضا لقوله:"وبطل فرض على ظهرها".
وإن أمن أعاد الخائف بوقت يعني أن الراكب على الدابة لالتحام أو خوف من كسبع إذا أمن بعد فراغه من الصلاة، فإنه يعيد في الوقت المختار فيما إذا صلى عليها لخوف من كسبع، وأما إن كان ذلك لالتحام فإنه لا إعادة عليه في وقت ولا في غيره كما سيأتي، وإنما يعيد الخائف من كسبع في الوقت إن تبين عدم ما خافه، فإن تبين ما خافه أو لم يتبين شيء فلا إعادة عليه عبد الحق وهذا الخائف من سباع أو غيرها على ثلاثة أوجه: موقن بانكشاف الخوف، ويائس من انكشافه: وراج كالمسافر في التيمم. نقله الشيخ بناني.
وإلا لخضخاض لا يطيق النزول به يعني أنه كما تصح صلاة الراكب للفرض إيماء لخوف من كسبع أو لالتحام. تصح أيضا لأجل خضخاض أو ماء لا يطيق النزول للأرض بسببه خوف الغرق، فيصلي على الدابة إيماء، وسواء في ذلك الحاضر والمسافر، وهذا حيث أيس من الخروج
من الخضخاض أو الماء قبل انقضاء الوقت، فإن تيقن خروجه منه قبله أخره لآخره، فإن شك صلى إيماء وسط الوقت، وأما خوف تلوث الثياب فقط فلا يبيح الصلاة على الدابة، بل ينزل ويومئ على المشهور. وهو قول مالك. وقيل: يسجد وإن تلطخت ثيابه. وهو قول ابن عبد الحكم. ورواه أشهب. وعلى الأول يكون سجوده أخفض من ركوعه، وإذا امتلأ الجامع يوم الجمعة وكان بإزائه ورحابه خضخاض، فهل يصلي في ذلك من جاء قائما إيماء؟ وهو ما ذكره ابن عمر عن ابن الطلاع. قال: وقيل يذهبون إلى مسجد آخر ويصلون فيه الجمعة بناء على جواز تعددها، أو يصلي فيه ويسجد فيه ويجلس فيه؛ لأن الجمعة فرض ولو خشي الضرر، ولو صلى الظهر فهو في سعة؛ وهو ما ذكره الأقفهسي عن ابن الطلاع. فقد اختلف نقلهما عنه.
أو لمرض يعني أنه تجوز صلاة الراكب أيضا لأجل مرض، وإن كان يطيق النزول معه للأرض كما يفيده تأخيره عن قوله:"لا يطيق النزول به" ويؤديها عليها كالأرض يعني أن المريض إذا صلى راكبا فإنه يؤديها، أي صلاة الفرض عليها؛ أي على الدابة إيماء، ولو مع المقدرة على ركوعه وسجوده عليها، كما يؤديها على الأرض إيماء فقط؛ أي إنما يباح الفرض على الدابة إذا كان يصليه على الأرض إيماء، وحينئذ فيصليه على الدابة إيماء ولو مع المقدرة على ركوعه وسجوده على الدابة. والصور أربع: أحدها يصليها بركوع وسجود عليهما قائما أو جالسا ثانيها يصليها بركوع وسجود على الأرض فقط قائما أو جالسا فينزل للأرض فيهما، ثالثها يقدر على الإيماء فقط عليهما، وهي التي فيها كلام المصنف، فيصلي على الدابة إلى القبلة كما أشار له بقوله: فلها أي فيصلي لجهة القبلة بعد أن توقف له، ولا يصليها عليها سائرة، ويومئ بالسجود للأرض، فإن أومأ إلى كور الراحلة أو إلى جسد الدابة كظهرها أو رقبتها أو جنبها، بطلت، رابع الصور: يقدر على الإيماء بالأرض فقط، وعلى الركوع والسجود على الدابة من قيام أو جلوس فيصلي على الدابة لكن يومئ. ومن لا يطيق النزول يصلي على الدابة من غير اعتبار حالة. قاله الشيخ عبد الباقي.
وفيها كراهة الأخير يعني أنه وقع في المدونة أنه تكره صلاة المريض راكبا، وهو المراد بالأخير أي الأخير من الفروع الأربعة، ولو قال: وفيها في الأخير لا يعجبني، وهل على الكراهة؟ وهو المختار، والمقول أو على المنع وهو الأظهر، أو حيث توجهت به لا واقفة؛ وهو الأرجح تأويلات، لطابق ما ذكروه لأنه ليس في المدونة لفظ الكراهة.
ولما أنهى الكلام على شروط الصلاة الخارجة عن ماهيتها، شرع في الكلام على أركانها الداخلة في ماهيتها متبعا ذلك بذكر سننها ومندوباتها وما يتعلق بذلك، فقال:
فصل فرائض الصلاة تكبيرة الإحرام يعني أن فرائض الصلاة،
أي ما ذكره منها خمسة عشر على خلاف في بعضها أولها: تكبيرة الإحرام لكل مصل لخبر الترمذي: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم
(1)
)، وسميت بذلك لأنها يحرم بها على المصلي ما كان مباحا له قبلها من مفسدات الصلاة كالأكل والشرب والكلام، ولا يحملها الإمام كالفاتحة لورود السنة بحملها، فبقي ما عداها على الأصل، والإضافة في قوله:"فرائض الصلاة"، من إضافة البعض للكل؛ لأن الفرائض بعض الصلاة. والفرائض جمع فريضة بمعنى مفروضة، أي مفروضات الصلاة، وهذا الجمع على غير قياس لكون فعيلة هنا بمعنى: مفعولة، فقول الألفية:
وبفعائل اجمعن فعاله
…
وشبهه ذا تاء أو مزاله
لا يشمل فعيلة بمعنى مفعولة كما هو مقرر في محله، وقوله:"الصلاة" يشمل الفرائض والنفل لكن يصرف الكلام لما يصلح له؛ لأن القيام للفاتحة ولتكبيرة الإحرام غير فرض في النافلة. والله سبحانه أعلم. والإضافة في قوله: "تكبيرة الإحرام"، من إضافة السبب إلى المسبب، أي التكبيرة التي يتسبب عنها الإحرام، والإحرام عبارة عن الدخول في الحرمات؛ أي ما لا يحل انتهاكه. واعلم أنه يشترط لتكبيرة الإحرام النية، أي نية الصلاة المعينة، والاستقبال. واعلم أن أقوال الصلاة ليست فرضا إلا ثلاثة تكبيرة الإحرام، والفاتحة، والسلام. وأن أفعالها كلها فروض إلا ثلاثة: رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، وجلوس التشهد، والتيامن بالسلام، وقيام لها هذه هي الفريضة الثانية من فرائض الصلاة؛ يعني أن القيام لتكبيرة الإحرام من فرائض الصلاة المفروضة لمن هو قادر على القيام، فلا يكبر جالسا ولا منحنيا، فإن فعل لم يجز. إلا لمسبوق يعني أنه لا إشكال في فرضية القيام لتكبيرة الإحرام على الإمام والفذ، والمأموم غير المسبوق، وأما المسبوق ففي وجوب القيام عليه لتكبيرة الإحرام، وعدم وجوبه تأويلان سببهما قول المدونة: قال مالك:
(1)
الترمذي، كتاب الطهارة، رقم الحديث:3.
إن كبر المأموم للركوع ونوى به تكبيرة الإحرام، أجزأه، فقال ابن يونس، وعبد الحق، وصاحب المقدمات: إنما يصح هذا إذا كبر للركوع من قيام، وقال الباجي، وابن بشير: يصح إن كبر وهو راكع؛ لأن التكبير للركوع إنما يكون في حال الانحطاط، فعلى التأويل الأول يجب القيام على المسبوق، وعلى الثاني يسقط عنه، ويترتب على الوجوب وعدمه إجزاء تلك الركعة، وعدمه حيث فعل بعض التكبيرة في حال قيامه أتمها في حال الانحطاط أو بعده من غير فصل بين أجزائها وإلا بطلت صلاته كلها فيما يظهر، وهذه ثلاث صور: فإن ابتدأها حال انحطاطه وأتمها فيه: أو بعده من غير فصل بين أجزائها بطلت الركعة اتفاقا في هاتين الصورتين، فإن حصل فصل بين أجزائها فينبغي بطلان الصلاة كلها. وهذد ثلاث أيضا. فالصور ست تبطل الصلاة منها في صورتين، والركعة فقط في صورتين، ويجري التأويلان في الركعة فقط في صورتين، ولعل وجه صحة الصلاة حيث بطلت الركعة اتفاقا، أو على أحد التأويلين أنه لما حصل القيام في الركعة التالية للأولى فكأن الإحرام حصل حال قيامها، فتكون أول صلاته. والله تعالى أعلم. قاله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمد بن الحسن: هذا الجواب مأخوذ من كلام المازري، لكن قال المسناوي لا يخفى ما فيه. وقد يقال: إنما حكموا بصحة الصلاة مراعاة لقول من يقول بأن القيام لها غير فرض بالنسبة للمسبوق. والله أعلم. وقال أيضا: وقد يقال إنما جاء عدم الاعتداد بالركعة من وجه آخر: وهو الخلل في ركوعها حيث أدمج الفرض الثاني في الأول قبل أن يفرغ منه لأنه شرع في الثاني قبل تمام التكبير، أو شرع فيه مقارنا للتكبير. وعلى هذا فالقيام للتكبير إنما وجب لأجل أن يصح له الركوع فتدرك الركعة. انتهى. فإن قيل: ما الفرق بين صحة الإحرام منحنيا على القول به: وعدم صحة السلام قائما؟ أجيب بأن الركوع يصدق عليه القيام لصحة وصفه بأنه قائم غير مستقيم، والسلام لا يصدق عليه أنه أوقعه جالسا. قاله غير واحد. وهذا الذي قررت به كلام المصنف هو للأجهوري ومن تبعه. وأما الحطاب فجعل التأويلين في صحة الصلاة وبطلانها وهو الذي يتبادر من المصنف وكثير من الأئمة كأبي الحسن وغيره، لكن ما تقدم عن الأجهوري أقوى مستندا والله سبحانه أعلم. انظر حاشية الشيخ بناني. والحاصل أن الأجهوري ومن تبعه جعل التأويلين في الاعتداد بالركعة وعدمه مع الجزم بصحة الصلاة، والحطاب جعلهما في صحة
الصلاة وبطلانها، وأن ما للأجهوري أصح. والله سبحانه أعلم. والتأويلان جاريان فيمن نوى بتكبيره العقد، أو نوى به العقد والركوع، أو لم ينوهما. فإن نوى بالتكبير مجرد الركوع بطلت، وإن تمادى لحق الإمام. قاله الأمير.
ولما كان معنى التكبير التعظيم فيوهم إجزاء كل ما دل على ذلك، بَيَّن انحصار المجزئ في هذه الكلمة الشريفة، فقال: وإنما يجزئ الله أكبر يعني أنه لا يجزئ في الإحرام من الألفاظ الدالة على التعظيم إلا هذا اللفظ، وهو: الله أكبر بعربيَّةٍ لقادر عليها مستقبلا قائما -على ما مر- وبتَقديم الجلالة ومدها مدا طبيعيا، وعدم مد بين الهمزة وبين لام الله لإيهام الاستفهام، وعدم مد باء أكبر وعدم تشديد رائها، وعدم واو قبل الجلالة، وعدم وقفة طويلة بين كلمتيه فلا تضر وقفة يسيرة، وبدُخُولِ وقت فرضا أو نفلا، وبتَأخِيرِهَا عن تكبيرة إمام في حق مأموميه. فهذه اثنا عشر شرطا إن اختل واحد منها لم تنعقد صلاته.
ولا يضر قلب همزة أكبر واوا ولا يضر عدم جزم الراء من أكبر، والظاهر أنه يضر زيادة واو قبل همزة أكبر كما للشافعية، خلافا لما في شرح الشيخ عبد الباقي. انظر حاشية الشيخ محمد بن الحسن. فإن أشبع ضمة الهاء فالظاهر أنه لا يضره كما للأجهوري، ولو أشبعها وأتى بواو ثم همزة أكبر قال الشيخ عبد الباقي: الظاهر أنه يضر، وقال ابن المنير: ويحذر أن يشبع ضمة الهاء حتى تتولد الواو، وأن يقف على الراء بالتشديد، هذا كله لحن ويخاف منه بطلان الصلاة، وقوله:"وإنما يجزئ الله أكبر" رد به على أبي حنيفة القائل: يجوز دخولها بنحو الله الأجل والأعظم، وعلى الشافعي: يجوز دخولها بالأكبر فإنه لا يجزئ عندنا، وكذا لا يجزئ زيادة بين الاسمين كالله -الذي لا إله إلا هو الملك القدوس- أكبر، خلافا للشافعية، ولا يشترط أن يسمع نفسه جميع حروفها إذا كان صحيح السمع، ولا مانع من لغط ونحوه خلافا لهم أيضا، ودليل وجوب التكبير خبر: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى
تطمئن جالسا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها
(1)
)؛ لأن لفظ التكبير إذا أطلق لا يقع إلا على الله أكبر، وخبر: (صلوا كما رأيتموني أصلي
(2)
)، ولم يرد أنه دخل الصلاة بغيرها. قاله الشيخ إبراهيم، وغيره، وقال الشيخ الأمير: وأجزأ إبدال الهمزة واوا كإشباع الباء على الظاهر وتضعيف (رَ). وأما نية أكبار جمع كبر للطبل الكبير فكفر، وأما زيادة واو عطف ففي بناني عدم اغتفارها خلافا لعبد الباقي، وأجزأ وصله بالقراءة كبالنية قبله مع درج الهمزة على الظاهر أيضا. انتهى.
فإن عجز سقط يعني أن المصلي إذا عجز عن النطق بتكبيرة الإحرام جملة لخرس أو عجمة، فإنه يسقط عنه الطلب بالتكبير، ويدخل الصلاة بالنية لا بمرادف التكبير عربية أو من لغته، فإن أتى بمرادفه من لغته بطلت صلاته، ولا يسقط عنه التكبير إن كان لا يقدر على النطق بالراء لعارض؛ لأن ذلك يعد تكبيرا عند العرب ولو كان أقطع اللسان لا ينطق إلا بالباء سقط، وكذا غيرها من الحروف، فإن قدر على النطق بأكثر من حرف لزمه إن عد تكبيرا عند العرب: أو دل على معنى لا يبطل الصلاة كذات الله أو صفته، نحو: بر. لخبر: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم
(3)
)، وإن دل على معنى يبطلها لم ينطق به، والظاهر أن اللحن فيه يجري على اللحن في السلام وسيأتي. وكما لا يجزئه التكبير إذا ترك المد الطبيعي لا يكون الذاكر ذاكرا إذا تركه، ولو شك في تكبيرة الإحرام قبل أن يركع كبر بغير سلام واستأنف القراءة، وإن ركع قطع وابتدأ، وإن تذكر بعد شكه أنه أحرم جرى على من شك في صلاته ثم بان الطهر ولو كان إماما، فقال سحنون: يمضي في صلاته فإذا سلم سألهم، فإن قالوا: أحرمت: رجع لقولهم. وإن شكوا أعاد جميعهم. انظر التبصرة. قاله الشيخ إبراهيم.
ونية الصلاة المعينة يعني أن من فرائض الصلاة نية أي قصد الصلاة المعينة بهذا الفعل، أي يجب عليه تعيينها عن غيرها بكونها: ظهرا، أو عصرا، أو مغربا، أو عشاء، أو صبحا، أو فجرا، أو كسوفا، أو خسوفا، أو استسقاء، أو وترا، أو عيدا، وقوله:"ونية الصلاة المعينة"، أي
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث: 757، ومسلم، كتاب الصلاة، الحديث:397.
(2)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:631.
(3)
البخاري، كتاب الاعتصام، رقم الحديث:7288.
ولا يضر ذهوله عن كونها فرضا، وقوله:"ونية الصلاة المعينة"؛ تعيينها يتضمن الوجوب والأداء والقربة، فهو يغني عن الثلاثة لكن استحضار الأمور الأربعة هو الأكمل. وقال القرافي: النية التي يتوقف عليها صحة الفعل لا تتضمن الثواب، بل قد يكون الشيء مستجمعا لجميع ما يعتبر في صحته شرعا من نية وغيرها، ولا ثواب فيه. انتهى. ونية الفعل بقصد الامتثال تتضمن الثواب، ولو صلى مكرها، أو اغتسل مكرها، أو توضأ مكرها اجتزئ منه بذلك في ظاهر الحكم، وعمله عند الله مردود عليه. وقال ابن شعبان: لو أكره الجنب على الغسل لم يجزه، وقال ابن أبي زيد في نوادره: ومن قول أصحابنا من توضأ مكرها لم يجزه، وقال ابن التلمساني: من صلى في حال تهديده ينبغي أن يعيد الصلاة التي صلاها مكرها، ويستثنى من قوله:"المعينة"، من ظن الظهر جمعة فنواها فتجزئ عنه على المشهور بخلاف العكس، وفي الحطاب عن سند أن النوافل المقيدة؛ وهي السنن الخمس كالفرائض: لا بد فيها من نية التعيين، والمطلقة وهي ما عداها، تكفي فيها نية الصلاة، والسنن الخمس هي: العيدان، والكسوف، والاستسقاء، والوتر، وركعتا الفجر. قال: فهذه مقيدة إما بأسبابها، وإما بأزمانها. والمطلقة ما عدا هذه، فإن كان في ليل؛ فهو قيام الليل، أو كان منه أول النهار؛ فهو الضحى، أو عند دخول مسجد؛ فهو تحية، وكذلك سائر العبادات من صوم أو حج أو عمرة لا يفتقر إلى التعيين في مطلقة، بل يكفي فيه أصل العبادة. انتهى كلام الحطاب. وفي كتاب الشيخ الأمير: ولا يشترط نية اليوم وما يأتي في الفوائت وإن علمها دون يومها صلاها ناويا له لكون سلطان وقتها خرج فاحتيج في تعيينها لملاحظته، وأما الوقت الحال فلا يقبل الاشتراك فليتأمل. وأجزأت نية الجمعة عن الظهر لا عكسه، ووجهوه بأن شروط الجمعة أكثر من شروط الظهر، ونية الأخص تستلزم نية الأعم ولا يخلو عن تسامح، فإن الجمعة ركعتان والظهر أربع، انتهى. وقال الإمام الحطاب: قال صاحب المقدمات: النية الكاملة هي المتعلقة بأربعة أشياء: تعيين الصلاة، والتقرب بها، ووجوبها، وأدائها. واستشعار الإيمان يعتبر في ذلك كله فهذه هي النية الكاملة، فإن سها عن الإيمان ووجوب الصلاة أو كونها أداء أو التقرب بها لم تفسد إذا عينها لاشتمال التعيين على ذلك، وقال الشيخ الأمير: ونوى
الصبي عين الصلاة كالظهر، ولا يتعرض لنفل ولا فرض، فإن نوى النفل صحت كالفرض على الظاهر قياسا على من اعتقدها كلها فرائض. وقَوْلُ الباقلاني: يلزم عند الإحرام ذكر حدوث العالم، وأدلة إثبات الأعراض، وامتناع خلو الجواهر عنها، وإبطال حوادث لا أول لها، وأدلة العلم بالصانع، وما يجب له تعالى، وما يستحيل عليه، وما يجوز له، وأدلة المعجزة، وصحة الرسالة هَفْوَةٌ. قاله ابن عرفة عن الطراز. المازري: أردت اتباعه فرأيت في نومي كأني أخوض بحرا من ظلام، فقلت: هذه والله قولة الباقلاني. انتهى. قاله ابن عرفة. أيضا ومن أدرك جلوس الجمعة أتمها ظهرا، كذا في المدونة. ابن رشد: اتفاقا؛ لأنه بنية الظهر يحرم، ولو وجده في تشهد الجمعة، وأحرم بنية الظهر، فذكر الإمام سجدة من الركعة الأولى، فيقوم ليأتي بركعة؟ فقيل: يصليها معه، ويأتي بركعة، وتكون له جمعة تامة، وقيل: يعيدها ظهرا أربعا من أجل أنه أحرم بنية أربع، وحَوَّلها إلى نية الجمعة. وعكسه أن يجد الإمام قد رفع رأسه من ركوع الثانية، فيكبر ويدخل معه وهو يظنه في الركعة الأولى، فقيل: إنه يبني على إحرامه أربعا: وقيل يستأنف الإحرام؛ لأنه أحرم بنية الجمعة؛ وهي ركعتان، قاله الإمام الحطاب.
ولفظه واسع الضمير في لفظه للناوي أو المصلي؛ يعني أن عدم التلفظ بالنية أولى، فإن لفظ بها لم يضره ذلك وهذا في غير الموسوس، وأما هو فيندب له التلفظ ليذهب عنه اللبس. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وفي الحطاب: والجهر به بدعة. قاله في الدخل.
فإن تخالقا فالعقد ضمير التثنية عائد على النية واللفظ؛ يعني أنه إذا اختلف النية واللفظ فإن المعتبر في ذلك العقد وهو النية دون اللفظ، كمن نوى الظهر وتلفظ بالمغرب مثلا وهو يصلي الظهر فإن صلاته صحيحة، وهذا إذا كان ساهيا، فإن كان عامدا بطلت صلاته، قاله في الإرشاد؛ أي لتلاعبه. قال الشيخ الأمير: لأنه لما التصق بالصلاة صار كالتلاعب فيها، وإذا قلنا بالصحة فيما إذا اختلفت النية واللفظ؛ أي في حالة السهو، ففي الإرشاد: والأحوط الإعادة؛ أي يعيد الصلاة في الوقت إذا فعل ذلك سهوا تذكر بعد الفراغ أو قبله، ويجب تماديه عليها؛ لأنها صحيحة هذا هو الصواب لا ما للأجهوري ومن تبعه فإنه غير صواب. كما هو ظاهر انظر حاشية الشيخ بناني.
والرفض مبطل يعني أن الرفض للصلاة وهو رفع النية الحاصلة فيها مبطل لها أي للصلاة حيث حصل الرفض في أثنائها على المشهور، وقال الشيخ عبد الباقي: إن الرفض في الأثناء مبطل للصلاة اتفاقا، وناقشه الشيخ محمد بن الحسن فقال: في الاتفاق نظر، والذي في التوضيح: مبطل على المشهور، وقد مر الكلام على الرفض في باب الوضوء بأتم من هذا، فراجعه إن شئت. وأما الرفض للصلاة بعد فراغه منها ولو بعد مدة، فإنه يبطلها على أحد قولين مرجحين. قال الشيخ عبد الباقي: ومثلها الصوم في القسمين بخلاف الوضوء والحج فلا يبطلان بالرفض مطلقا. انتهى. وقد تقدم ذلك في الوضوء بأتم من هذا فراجعه إن شئت، ثم شبه في البطلان قوله: كسلام يعني أن من ظن إتمام صلاته ولا إتمام في نفس الأمر، فسلم سلاما تيقنه، فشرع أي أحرم في نافلة مثلا؛ إذ مثلها ما لو شرع في فرض -كما قاله غير واحد- فإنه تبطل صلاته التي سلم منها حيث طالت قراءته فيما شرع فيه والطول يحصل بما زاد على الفاتحة، وأما الفاتحة فليست بطول كما يفهم من أبي الحسن، ويدل له قوله: أو ركع فيها بالانحناء، إذ لو كانت طولا لم يكن لقوله:"أو ركع" فائدة. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ الخرشي: وقد يركع ولم تطل القراءة كما لو كان عاجزا عنها، ويندب الفصل بين تكبيره وركوعه، وسيأتي ما يفعل بالمذكور فيها.
أو ظنه يعني أن من ظن السلام من صلاته لظنه إتمامها، والحال أنه لا سلام ولا إتمام في نفس الأمر، فأحرم بنافلة أو فرض كما في التي قبلها، تبطل صلاته التي ظن أنه سلم منها حيث طالت قراءته في التي أحرم بها قبل إتمام الأولى. والطول يحصل بما زاد على الفاتحة. وأما الفاتحة فليست بطول كما يفهم من أبي الحسن، ويدل له قوله:"أو ركع بالانحناء"، إذ لو كانت طولا لم يكن لقوله: أو ركع فائدة قاله الشيخ عبد الباقي وقال الشيخ الخرشي: وقد يركع ولم تطل القراءة كما لو كان عاجزا عنها، ويندب الفصل بين تكبيره وركوعه، وسيأتي ما يفعل بالمذكور فيها. وبما قررت علم أن قوله: فأتم بنفل راجع للمسألتين، أي مسألة تيقن السلام، ومسألة ظنه. ومعنى "أتم بنفل": أحرم به كما أشرت إليه في الحل، ولو عبر "بشرع" لكان
أحسن لكنه أطلق على الشروع إتماما لأنه إتمام في الصورتين. قاله الشيخ عبد الباقي. إن طالت القراءة، قيد في البطلان المفهوم من التشبيه؛ أي إنما تبطل صلاته في الصورتين بدخوله في الثانية حيث حصك أحد أمرين، أحدهما: طول القراءةَ وقد مر بيانه، ثانيهما: أشار إليه بقوله: أو ركع وعلم مما قررت أنه إن طالت القراءة بطلت الأولى في المسألتين ركع أم لا، وأنه إن ركع بطلت الأولى في المسألتين أيضا طالت القراءة أم لا. وإلا أي وإن لم يحصل طول ولا ركوع في المسألتين فلا تبطل الأولى فيهما، ولا يعتد بما فعل، بل يرجع للحالة التي فارق الفرض فيها، فيجلس ثم يقوم ويسجد بعد السلام: ثم شبه في النفي وهو عدم البطلان فروعا خمسة، فقال: كإن لم يظنه هذا مفهوم قوله: "أو ظنه"، يعني أنه إذا لم يظن السلام بأن ظن أنه في نافلة فإنه لا تبطل صلاته حيث طالت القراءة والحال أنه معتقد أنه في نافلة: أو ركع بنية النفل؛ لأنه لم يخرج من صلاته لكونه لم يسلم ولم يظن السلام، ويجزئه ما صلى بنية النفل عن فرضه. ومثل ذلك ما لو نوى الظهر ثم نسي وظن أنه في العصر. قال ابن فرحون: وأما العامد فإن قصد بنيته رفض الفريضة بطلت، وإن لم يقصد رفضها لم تكن منافية. قال الشيخ محمد بن الحسن: فصّل في العامد، وهو خلاف ما في المواق عند قوله:"أو رفع نية نهارا"، عن عبد الحق: اختلفت أصحابنا فيمن حالت نيته إلى نافلة سهوا، فأما العابث العامد فلا خلاف أنه أفسد على نفسه، فأطلق في العامد البطلان وهو ظاهر. انتهى. وقوله: كسلام، هو ساه عن عدم إكمال صلاته غير ساه باعتبار نحو صدور السلام منه، وإذا بطل الفرض لطول القراءة أو الركوع أتم النفل -كما يأتي-، وينبغي أن يقيد إتمامه بما إذا كان يُتنفلُ قبل الفريضة التي بطلت، فإن لم يكن يتنفل قبلها كمغرب لم يتمه كما إذا كان يصلي العصر. وحاصل هذا أنه يجب إتمام النفل مطلقا، عقد ركعة أم لا إن اتسع الوقت، وكذا إن ضاق وقت الفرض الذي بطل، وعقد من النفل ركعة لأن النفل لا يقضى، فإن ضاق ولم يعقد ركعة قطع، وقطع الفرض مطلقا إن ضاق الوقت كإن اتسع ولم يعقد ركعة، فإن عقدها أي أتمها بسجدتيها شفع ندبا -كما يأتي إن شاء الله- فندب الإشفاع خاص بالفرض، وأما النفل فيلزم شفعه. وقد علمت أن هذا التفصيل فيما إذا سلم أو ظن السلام. والله سبحانه أعلم. وقوله:"كسلام" هو بحسب ظاهره شامل لما إذا نوى به الخروج من
الصلاة، ولما إذا لم ينو به الخروج من الصلاة سواء بنينا على اشتراط نية الخروج به، أو بنينا على عدم اشتراطه، ولو اقتصر المصنف على "وإلا فلا"، ولم يقل:"كإن لم يظنه" لكفاه، ويكون معنى قوله: "وإلا وإن لم يظنه ولم تطل القراءة. كما نص عليه غير واحد والله سبحانه أعلم.
أو عزبت عطف على قوله: "كإن لم يظنه"؛ يعني أن المصلي لا تبطل صلاته إذا عزبت نيته، أي غابت بعد الإتيان بها في محلها، وإن كان عزوبها لأمر دنيوي تقدم الصلاة، خلافا لابن العربي القائل: تبطل بدنيوي تقدمها، وعزب كنصر وضرب.
أو لم ينو الركعات عطف على لم يظنه كالتي قبلها، يعني أنه لا يلزم المصلي أن يستحضر عدد ركعات الصلاة حال الإحرام؛ لأن كل صلاة تستلزم عدد ركعاتها، فلو لم ينو عدد الركعات صحت صلاته. وفي القلشاني على قول ابن الحاجب: وفي نية عدد الركعات قولان، ظاهره أنه اختلف هل يلزمه أن يتعرض لنية عددها وأن فيه قولين، وظاهر كلام خير واحد أن الخلاف في نية عدد الركعات إنما هو على وجه، وهو أنه إذا نوى عددا فهل يلزمه، ويجب عليه حكم، أو لا يلزمه، وحكم التخيير باق على حقه، وذلك كمسافر ينوي عددا، فهل يلزمه ولا يجوز له الانتقال عنه، أو لا يلزمه ويجوز له إتمامها على غير ما نواه؟ وفي ابن عرفة: وفي لزوم ما نوى من عدد خلاف، وقال القباب: ما رأيت أحدا من العلماء قال بلزوم استحضار عدد الركعات، وإنما الخلاف موجود فيمن دخل بنية صلاة السفر فأراد إتمامها، والعكس هل يلزمه ذلك أم لا؟ قولان، نقله الشيخ محمد بن الحسن، ونقل غيره مما يدل على صحته، ولا ينوي الأيام اتفاقا قاله الإمام الحطاب. وفيه عن الشيخ زروق: المشهور عدم وجوب نية القضاء والأداء، وكذا ذكر اليوم الذي هو فيه. انتهى.
أو الأداء عطف على الركعات؛ يعني أن المصلي إذا أحرم في الصلاة في وقتها ولم ينو الأداء، فإنه تصح صلاته. أو ضده يعني أن من عليه صلاة خرج وقتها، وأراد أن يقضيها لا يلزمه أن ينوي عند الإحرام قضاءها. والأداء فعل الصلاة في الوقت، والقضاء فعل الصلاة بعد أن خرج وقتها. ونقل الشيخ محمد بن الحسن عن التوضيح في باب الصيام عن سند وابن عطاء الله أنهما قالا: لا
نعرف خلافا في إجزاء نية الأداء عن نية القضاء في الصلاة. ونقل أن الباجي خرج قولا بعدم الإجزاء في مسألة صوم الأسير حيث كان يصوم شعبان عدة أعوام مثلا فلا يجزئ عن رمضان قبله، وفيه بحث؛ لأن رمضان عام لا يكون قضاء عن رمضان قبله. انتهى. واعلم أنه إذا شك في بقاء الوقت لأجل غيم فإنه ينوي الأداء، وفي كتاب الشيخ الأمير: وناب أحدهما أي الأداء والقضاء عن الآخر إن اتحد ولم يتعمد، واحترز بقوله: اتحد، عمن صلى الظهر قبل الزوال أياما، فإنه يعيد الصلاة لجميع الأيام ولا يحتسب بصلاة يوم عن يوم.
ونية اقتداء المأموم يعني أن من فرائض الصلاة أن ينوي المأموم أنه مقتد بإمامه، وسيذكر المصنف أن نية الاقتداء شرط في صحة صلاة المأموم. قال الشيخ محمد بن الحسن: التحرير أن الشرط هو كون نية الاقتداء أوَّلًا لا وجودها؛ لأن فقدها لا يبطل الصلاة، وفي الشبراخيتي: ولا تضر محاذاة شخص آخر في أفعاله من غير أن ينوي الاقتداء به. انتهى.
وجاز له دخول على ما أحرم به الإمام يعني أن من أراد أن يقتدي بشخص ولم يدر هل هو مقيم، أو مسافر، أو في الجمعة: أو غيرها كظهر الخميس مثلا؛ فإنه يجوز لهذا المقتدي الذي لم يدر حالة إمامه أن يحرم بما أحرم به إمامه قالوا ويجزئ ما صادف من ذلك كمن أعتق رقبة عن واجب عليه لا يدري أهو ظهار، أو قتل. قاله في النوادر عن أشهب وسحنون. زاد ابن يونس عن سحنون: ويجزئ كلا من المسافر والمقيم ما تبين من سفرية وحضرية، وإن خالف حاله حال الإمام، لكن يتم المقيم بعد الإمام المسافر، ويتم المسافر مع الإمام المقيم. انتهى. بخلاف ما لو دخل على أنها أحدهما بعينه. وانظر إذا أدرك مع الإمام ركعة، ولا يدري أهي آخرة الجمعة أو آخرة الظهر؟ وتعذر عليه علم ذلك بإشارة أو بكلام. والظاهر أنه يبني على أنه ظهر احتياطا، ويجزئه ولو تبين خلاف ذلك. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي. عند قوله:"وجاز له دخول على ما أحرم به الإمام": في جميع الصور أحدها أن يدخل مسافر أو حاضر مع إمام لا يعلمان أهو مسافر أم حاضر؟ فإن تبين أنه مسافر سلم معه المسافر، وقام الحاضر لإتمامها، وإن تبين أنه حاضر تبعه المسافر كالحاضر، الثانية أن يدخل مأموم مع إمام لا يدري أهو في ظهر يوم الخميس أو في الجمعة؟ فيحرم بما أحرم به فيتبعه أيضا، الثالثة أن يشك هل هو في الظهر أو في
العصر فإن تبين أن الذي كان يصليه هو الذي على المأموم من ظهر أو عصر فواضح، وإن تبين مخالفته له فصلاة المأموم نافلة له، إن كان قد صلى الظهر مفردا وفي جماعة حيث كان الإمام في الظهر، ولا يتوهم سقوط العصر عنه، أي لأن العصر لم تكن منوية لواحد منهما. كما قال الشيخ محمد بن الحسن. وما هنا كلام على جواز الإقدام على الدخول، وأما الإجزاء وعدمه فقدر آخر، فإن كان الإمام يصلي العصر والمأموم لم يصل الظهر، فأحرم بما أحرم به الإمام فإذا هو في العصر، فصلاة المأموم صحيحة، ولو تبين له ذلك في أثنائها، ويتمادى عليها ويعيد في الوقت فقط بعد صلاة الظهر التي عليه. كما يؤخذ من كلام الحطاب وتستثنى هذه من كون ترتيب الحاضرتين شرطا. انتهى. المراد من كلام الشيخ عبد الباقي.
وقال الشيخ محمد بن الحسن بناني: يتعين حمل كلام المصنف على مسألة الظهر والجمعة، ومسألة السفر. والإقامة. فقط، إذ هاتان المسألتان هما اللتان يدل عليهما كلام النوادر واللخمي، وابن رشد، وسند. ثم قال بعد كلام: فإذا علمت هذا تبين أن قوله: "ونية الصلاة المعينة" على عمومه لا يستثنى منه شيء. والله أعلم. انتهى. وفي ابن عرفة: ولو نوى منويَّ إمامه جاهلا قصره وإتمامه، أجزأه. ابن رشد: اتفاقا. وفي الحطاب: قال في النوادر: قال سحنون: وإن دخل مسافر أو مقيم مع إمام لا يدري أمقيم هوأم مسافر؟ ونوى صلاته أجزأه ما صلى معه، فإن خالفه، فإن كان الداخل مقيما أتم بعده، وإن كان مسافرا أتم معه ويجزئه. قال أشهب: وكذلك من دخل الجامع والإمام في صلاته لا يدري أهي جمعة أو ظهر يوم الخميس، ونوى صلاة إمامه فهذا يجزئه ما صادف، وإن دخل على أنها إحداهما فصادف الأخرى فلا تجزئه عند أشهب في الوجهين، وتجزئه في الذي نوى صلاة إمامه لأن نيته غير مخالفة له، وقصد ما عليه كمن أعتق نسمة عن واجب عليه لا يدري في ظهار أو قتل نفس أنه يجزئه انتهى وقال ابن الحاجب: وفيمن ظن الظهر جمعة وعكسها مشهورها تجزئ في الأولى. التوضيح: أي وفي المسألتين ثلاثة أقوال، ووجه المشهور أن شروط الجمعة أخص، ونية الأخص تستلزم نية الأعم بخلاف العكس. انتهى. وقوله:"أي وفي المسألتين ثلاثة أقوال"؛ يعني الإجزاء مطلقا، وعدمه مطلقا، والمشهور
كما أفاده بقوله: "مشهورها"؛ أي الأقوال. وقد تقدم عن الشيخ الأمير أن في هذا مسامحة؛ لأن الجمعة ركعتان، والظهر أربع. قال الإمام الحطاب: وحكى في البيان قولا رابعا بعكس المشهور، ثم قال. ولا يمكن أن يحمل المصنف على إطلاقه بحيث أن من لم يدر هل الإمام يصلي في العصر أو في الظهر؟ يحرم بما أحرم به الإمام؛ لأنه لا بد من مساواة فرض الإمام للمأموم. وفي الطراز في شرح قول المدونة: ومن أتى المسجد وقوم في الظهر فظن أنهم في العصر، أن قول أشهب: إذا نوى صلاة إمامه أجزأه ما صادف، فيه نظر لافتقار المكتوبة للتعيين، وإن أخذ ذلك مما جاء عن علي في الحج، فذلك لا حجة فيه، إذ يحتمل أن يكون إحرامه نفلا، وإن كان حجه فرضا فالحج لا يفتقر إلى تعيين النية وتخصيصها، بل إذا أطلق منه الحج انصرف إلى الحجة الفروضة إجماعا، والصلاة إذا أحرم بأنه يصلي لم تجزه عن الفرض إجماعا حتى يعين أي صلاة يصلي. ولما تكلم المصنف في التوضيح على الإحرام بما أحرم به فلان، نقل عن ابن عبد السلام أنه قال غير واحد من الشيوخ: إنه الأمر في الصلاة، فيجوز لمن دخل المسجد والناس في الصلاة، ولا يدري ما هي أن يحرم بما أحرم به الإمام. انتهى.
وقال الشيخ الأمير: فإن شك هل الجماعة سفر أو حضر وهو مسافر، أو هل جمعة أو ظهر؟ دخل على ما أحرم به الإمام وأجزأ ما تبين. انتهى. قوله:"وهو مسافر"، يوافق ما يأتي للشيخ عبد الباقي أنه إذا شك أنهم مقيمون أو مسافرون، فأحرم بما أحرم به الإمام، والداخل الشاك مقيم فتبين أنهم مسافرون، فإنه تبطل صلاته. والله سبحانه أعلم.
وبطلت بسبقها إن كثر يعني أن نية الصلاة المعينة إذا سبقت تكبيرة الإحرام بكثير، فإن الصلاة تبطل بذلك اتفاقا، ومفهوم قوله: بسبقها أن تأخر النية عن تكبيرة الإحرام يبطل مطلقا كثر أو قل: وهو كذلك، وأولى في البطلان لو عدمت النية بالكلية وإلا أي وإن لم يكثر السبق، بل تقدمت له النية بيسير في بطلان صلاته وعدمه خلاف والمقارنة هي محل الصحة والكمال اتفاقا. ومعنى المقارنة أنه لا يجوز الفصل بين النية والتكبير، لا أنه يشترط أن تكون مصاحبة للتكبير، فمن يشترط المقارنة عندنا لا يقول بأن محلها بين الهمزة والراء. قاله التتائي. وقال الشيخ ميارة: ومعنى اشتراط المقارنة على القول به أنه لا يجوز الفصل بين النية والتكبير، لا أنه
يشترط أن تكون مصاحبة للتكبير. أشار إلى ذلك المازري. انتهى. وفي التوضيح: والذي يظهر لي أن قول المتأخرين تشترط المقارنة، معناه أنه لا يجوز الفصل بين النية والتكبير، لا أنه يشترط أن تكون مصاحبة له. نقله الشيخ إبراهيم. وقوله:"وإلا فخلاف" هو في التشهير، فالبطلان لابن الجلاب وتلميذه عبد الوهاب وابن العربي. قال: قال بعضهم: يجوز تقديم النية على التكبير قياسا على أحد القولين في الوضوء وهذا جهل عظيم، فإن النية في الصلاة متفق عليها أصل، والنية في الوضوء مختلف فيها فرع لها، ومن الجهل حملُ الأصل على الفرع، ولكن القوم يستطيلون على العلوم بغير محصول. انتهى. والإجزاء هو المذهب عند ابن رشد وابن عبد البر وغيرهما. انتهى قاله الشارح. قال صاحب التوضيح: الإجزاء هو الظاهر. وفي كتاب الشيخ الأمير ترجيحه. فإنه قال وسبقها بيسير مغتفر على المختار كمِن بَيْتِه للمسجد في نحو المدينة. وانظر هل ولو غير متوض عند الخروج من بيته وتوضأ بعد كما سبق في الوضوء؟ لأن النية موجودة عند الإحرام حكما، وهو إذ ذاك متوض. انتهى. وفي الشبراخيتي: واليسير أن ينوي ببيته ثم تذهب عنه النية حتى يتلبس بالتكبير لها في المسجد. كما يفيده كلام ابن عبد البر. انتهى. وفيه: وفي عبد الباقي ما نصه: ويعتبر مسجد المدينة المنورة من أبعد دار منها؛ لأن الإمام رضي الله عنه إنما تكلم على بلده. انتهى. وزاد عبد الباقي: والظاهر أن المراد بأبعد دار منها مما هو داخل سورها؛ لأنه الذي كان آخرها زمن الإمام لا الآن؛ لأنه قد خرجت الدور عن سورها كثيرا. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: هذا غير صحيح، لقول ابن رشد: ليس عن مالك ولا عن أصحابه المتقدمين نص في ذلك. نقله في التوضيح.
وفاتحة على حذف مضاف، يعني أن من فرائض الصلاة قراءة الفاتحة فيها فرضا أو نفلا بجميع حروفها وحركاتها وشداتها، ويجب على الرجل تفقدها في ولده وعبده وأمته إلا لعجمة تمنع النطق فلا حرج. وقيل: إن المشهور سنيتها فيما عدا الفرائض، وتجب قراءتها على من يلحن فيها على القول بأن اللحن لا يبطل ولا يقرؤها على مقابله، وإن لحن في بعضها وجب قراءة ما لا لحن فيه، وترك ما يلحن فيه إذا كان متواليا وإلا ترك الكل. كذا يظهر. قاله الشيخ عبد الباقي.
ومعنى كون الفاتحة فرضا في النفل أن صحة العبادة تتوقف عليها. بحركة لسان متعلق بقراءة المقدرة قبل فاتحة؛ يعني أنه لا بد في قراءة الفاتحة من حركة اللسان، بأن ينطق بالحروف بلسانه واحترز بذلك من القراءة بالقلب فإنها، لا تكفي؛ لأنها لا تعد قراءة بدليل جوازها للجنب. وما مر من أن القراءة الملحونة تجب بناء على أن اللحن لا يبطل هو للشيخ عبد الباقي، ونحوه للشيخ إبراهيم، والشيخ الخرشي نقلا عن الشيخ علي الأجهوري. قال الشيخ الأمير شيخنا: وهو استظهار بعيد، إذ القراءة الملحونة لا تجوز، بل لا تعد قراءة فصاحبها ينزل منزلة العاجز. وفي الحطاب: لو قرأ بالزبور والتوراة بطلت؛ وهو كالكلام الأجنبي. قلت: وكذا ما نسخت تلاوته من القرآن فيما يظهر. انتهى كلام الشيخ الأمير. على إمام وفذ يعني أن الفاتحة إنما تجب على الإمام والفذ، وأما المأموم فلا تجب عليه؛ لأن الإمام يحملها عنه وإن لم يقصد الحمل، فلو نوى أنه لا يحملها أو لا يحمل السهو، فلا أثر لنيته كما في الحطاب. والظاهر أن قوله:"على إمام" ظرف مستقر في موضع الصفة أو الحال من فاتحة، أو متعلق بتجب مقدرا دل عليه قوله:"فرائض". والله سبحانه أعلم. وفي الخبر (قراءة الإمام قراءة المأموم
(1)
)، ولا تلزم قراءة الفاتحة المأموم في السرية ولا في الجهرية، خلافا لابن العربي القائل: تلزمه في السرية، وسواء كان إمامه يسكت بين التكبير والقراءة أم لا، خلافا لرواية ابن نافع: يقرؤها إن كان ممن يسكت؛ وسواء في عدم اللزوم سمع قراءة الإمام أم لا.
وإن لم يسم نفسه يعني أن قراءة الفاتحة في الصلاة تكفي إذا نطق بها القارئ بفمه، وإن لم يسمع نفسه، خلافا للشافعية، ولو أسمع أذنيه كان أولى، قاله غير واحد. ولو قطع لسانه، فقال سند: لا يجب عليه أن يقرأ في نفسه خلافا لأشهب، ويختلف في وقوفه بقدر القراءة تخريجا على الأمي. قاله الش. وفاعل يسمع: ضمير يعود على القارئ. والله سبحانه أعلم. وكان ينبغي للمصنف أن يعبر "بلو"، بدل "إن"؛ لأن الخلاف فيها مذهبي قاله الشيخ إبراهيم عن شيخه الأجهوري.
(1)
سنن ابن ماجه، الحديث:850.
وقيام لها يعني أن من فرائض الصلاة القيام في حال قراءة الفاتحة، وهذا في الفريضة؛ أي يجب عليه أن يقرأها قائما، واللام في قوله:"لها"، للتعليل، والضمير للفاتحة، أي يجب القيام لأجل الفاتحة، وهذا هو المعتمد. قال في التوضيح: واختلف في القيام للفاتحة، هل هو لأجلها أو فرض مستقل؟ وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا عجز عن الفاتحة. وقدر عليه. انتهى. وأيضا فلا يجب القيام على المأموم إلا من جهة مخالفة الإمام عند من يقول إنه واجب لها. قوله:"وقيام لها"، قال غير واحد: في حق الفذ والإمام، وأما المأموم فلمخالفة الإمام لا لها؛ لأنها لم تجب عليه. وقال الشيخ الأمير: لا لمأموم فإن استند حالها لا لو أزيل لسقط صحت. انتهى. وفي شرح الشيخ ميارة: قال أشهب: من قرأ في صلاته بشيء من التوراة والإنجيل والزبور؛ وهو يحسن القراءة أو لا يحسنها فقد أفسد صلاته وهو كالكلام، وكذا لو قرأ شعرا فيه تسبيح وتحميد لم تجزه. انتهى. فبسبب وجوب الفاتحة يجب على الشخص تعلمها فيقرؤها في الصلاة، ومحل وجوب تعلمها على الشخص إن أمكن تعلمه لها، بأن قبل التعليم، واتسع الوقت، ووجد معلما، ويجب عليه فيما يظهر تعليمه لإنقاذه من الجهل قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن. عن كتاب تنبيه الغافل: لا يجب عليه التعليم حتى يطلب، وهو الصحيح عند القاضي أبي بكر وغيره محتجا بحديث: (اركع حتى تطمئن
(1)
)، خلافا للطرطوشي ومن قال بقوله. انتهى. وهو يشير إلى حديث المسيء في صلاته المتقدم عند الزرقاني في قوله: وإنما يجزئ الله أكبر. انتهى. وقوله: فيجب تعلمها إن أمكن، قال الشيخ إبراهيم: ولو بأجرة، وانظر ما قدر الواجب منها، والظاهر أنه إذا لم يكن معه أجرة يجب على الغير تعليمه بلا شيء. انتهى.
وإلا ائتم، يعني أن الأمي إذا لم يمكن تعلمه للفاتحة بأن لم يتسع الوقت أو اتسع ولم يجد من يعلمه، فإنه يجب عليه أن يأتم بمن يحسن الفاتحة إن وجده، وتبطل صلاته إن ترك الائتمام عند محمد وسحنون؛ وهو الأصل في مخالفة الواجب. وفي الطراز: ظاهر المذهب أن صلاته باطلة.
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:757.
ابن فرحون في شرح ابن الحاجب: بطلت صلاته عند أصحاب مالك، وقال أشهب: تصح، وقال الأجهوري: تفسير الإمكان بقبول التعليم يقتضي أن العاجز لخرس ونحوه لا يجب عليه أن يأتم؛ وهو كذلك. انتهى. وقال الشيخ الأمير: وإلا ائتم غير الأخرس، وإنما وجب على الأمي الائتمام؛ لأن قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة، ولا يتوصل للواجب حينئذ إلا به. وما مر من أن من عجز عن التعليم لخرس ونحوه لا يجب عليه أن يأتم، لا ينافي قوله:"وإلا ائتم"؛ لأن القابلية وعدمها إنما يكونان فيمن عنده نطق.
فإن لم يمكنا؛ يعني أن الأمي إذا لم يمكنه التعلم ولا الائتمام، فإنه اختلف فيما يفعل، فقال ابن سحنون: فرضه أن يذكر الله تعالى في صلاته يريد في موضع قراءته، وقيل: يسقط عنه القراءة والقيام لها؛ وهو الذي اختاره اللخمي: وإلى ذلك أشار المصنف بقوله: فالمختار سقوطهما، أي الفاتحة، والقيام لها. وقال ابن مسلمة: يستحب له أن يقف قدر قراءة أم القرآن وسورة، وليس هذا بالبين؛ لأن الوقوف إنما هو للقراءة لا لنفسه. قاله الش. على ما اختاره اللخمي؛ وهو للقاضي عبد الوهاب ندب له فصل بوقفة يسيرة بين تكبيره وركوعه. ابن فرحون: ولا خلاف أنه لا يعوض القراءة بمعناها في لغته، ولو طرأ على الأمي قارئ لم يلزمه أن يقطع ليأتم به، ومن افتتح الصلاة كما أمر وهو غير عالم بالقراءة، وطرأ عليه العلم بها في أثناء الصلاة؛ فلا يستأنف الصلاة لأنه أدى ما مضى على حسب ما أمر، فلا وجه لإبطاله، ويتم صلاته كعاجز عن القيام قدر عليه أثناءها. قاله في كتاب ابن سحنون. ويتصور ذلك بأن يكون سمعها في الصلاة ممن قرأها، فعلقت بحفظه من مجرد السماع. قاله الإمام الحطاب. وتكفي الأخرس نيته بلا خلاف كما في الحطاب عن ابن ناجي. وقال الشيخ الأمير: فإن حفظ غيرها من القرآن فهو ويذكر بينه أي الركوع وبين التكبير. انتهى. وكلام عبد الوهاب الذى اختاره اللخمي هو قوله: لا يلزمه تسبيح ولا تحميد: ويستحب له أن يقف وقوفا ما يكون فاصلا بين الركعتين، فإن لم يفعل وركع أجزأه. انتهى. وقوله:"تكبيره"؛ أي تكبير الإحرام، والتكبير الذي يقوم به بعده. أشار له الشيخ إبراهيم.
وهل تجب الفاتحة في كل ركعة؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا في حكم قراءة الفاتحة في الصلاة فمنهم من ذهب إلى أنها تجب في كل ركعة، وهو للإمام مالك رضي الله عنه في المدونة، وشهره ابن شاس، وابن الحاجب، وعبد الوهاب، وابن عبد البر، وهو الراجح من طريق النظر لخبر: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج خداج خداج
(1)
)، أي غير تمام من خدجت الناقة ولدها: إذا ألقته غير تمام بناء على أن المراد بالصلاة كل ركعة، إذ محل القراءة من الصلاة كل قيام. أو الجل، أي ومن الشيوخ من ذهب إلى أن الفاتحة إنما تجب في الجل، وتسن في الأقل سنة مؤكدة، وإليه رجع مالك وشهره في الإرشاد. القرافي: وهو ظاهر المذهب. خلاف؛ أي في ذلك خلاف ويتفرع على الخلاف أنه إن ترك آية منها سجد، أي وعلى كلا القولين اللذين ذكر المصنف إن ترك إمام أو فذ آية منها سهوا ولم يمكنه تلافيها، بأن ركع، فإنه يسجد قبل السلام، وكذا أقل من آية وأكثر سهوا، وقوله:"وإن ترك آية منها سجد"، قال ابن فرحون: وعلى هذا فإن ابتدأ المصلي بالفاتحة قبل أن يعتدل قائما، فينبغي أن يسجد قبل السلام إن كان قرأ في حال قيامه آية ونحوها: وتصح صلاته إن كانت فرضا أو نفلا. وأما على القول بأنه لا سجود عليه، فلا ينبغي أن يسجد في هذه الصورة؛ لأنه أتى بالفاتحة كلها لكن ترك الاعتدال في بعضها. وقد نصوا على أن الجماعة إذا صلوا في سفينة تحت سقفها منحنية رؤوسهم، قال مالك: صلاتهم أفذاذا على ظهرها أحب إلي من صلاتهم جماعة منحنية رؤوسهم؛ لأنهم تركوا تمام الاعتدال؛ وهو سنة. قال الشيخ أبو الحسن الصغير: وكذلك الصلاة في الخباء؛ نحو السفينة. انتهى. فلم يوجب عليهم بترك تمام الاعتدال شيئا. فتأمل ذلك. وعلى كل فحالة النفل أخف من حالة الفريضة؛ فينبغي أن لا سجود عليه، وشاركت في ذلك الشيخ الإمام العلامة الحافظ أبا عبد الله بن عرفة التونسي، فقال: حال النافلة في ذلك خفيف، فسألته عن الفريضة فلم يجب فيها بشيء، وذلك بالمدينة في سنة اثنين وتسعين وسبعمائة. انتهى وفيها حج الإمام ابن عرفة وسكن
(1)
مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، رقم الحديث:395.
بالمدينة في منزل الشيخ ابن فرحون. كذا قال في الديباج نقله الإمام الحطاب. وقوله: "وإن ترك آية منها سجد" قال الشيخ عبد الباقي: واعلم أن الصور أربع: ترك بعضها؛ ترك كلها سهوا أو عمدا فالترك سهوا فيه السجود قبل السلام مطلقا، ترك بعضها أو كلها في ركعة أو ركعتين من رباعية كما شهر في التوضيح بناء على وجوبها في ركعة واحدة؛ وهو أظهر من تشهير ابن راشد البطلان، أو في ثلاث منها كما شهر الفاكهاني، وهاتان صورتان. الثالثة: ترك كلها عمدا في ركعة فعلى وجوبها في الجل، فهل تبطل -كما اقتصر عليه بعض شراح الرسالة- أولا؟ وسجد قبل السلام؛ وعليه اللخمي، قولان، وعلى وجوبها بكل ركعة تبطل الصلاة قطعا كما إذا تركها عمدا في ركعة من ثنائية؛ إذ لا جل لها، الرابعة: ترك بعضها عمدا فالقولان على الجل، والبطلان على الكل، انتهى. وقوله: فالترك سهوا فيه السجود قبل السلام مطلقا الخ؛ قال الشيخ محمد بن الحسن: تبع الأجهوري، وفيه نظر، بل ظاهر المذهب كما في التوضيح أنه إذا ترك الفاتحة سهوا من الأقل كركعة من الرباعية، فإنه يسجد قبل السلام، ثم يعيد، وهو الذي اختاره في الرسالة، ونصها: واختلف في السهو عن القراءة في ركعة من غيرها، أي من غير الصبح، فقيل: يجزئ فيها سجود السهو قبل السلام، وقيل: يلغيها ويأتي بركعة، وقيل: يسجد قبل السلام ولا يأتي بركعة ويعيد الصلاة احتياطا؛ وهوأحسن ذلك إن شاء الله تعالى. انتهى. وهذا هو المشهور فيمن تركها من النصف كركعتين من الرباعية. كما نقله في التوضيح عن ابن عطاء الله وهو المشهور أيضا فيمن تركها من الجل. كما ذكره ابن الفاكهاني.
فتحصل أن من ترك الفاتحة سهوا فإما أن يتركها من الأقل، أو من النصف، أو من الجل، وأن المشهور في ذلك كله أنه يتمادى ويسجد قبل السلام، ويعيد. قال الرماصي: والراد بالإعادة الأبدية، ومثله في السنهوري، وإنما أعاد أبدا مراعاة للقول بوجوبها في الكل، وسجد قبل السلام مراعاة لقول الغيرة بوجوبها في ركعة، وفهم التتائي أن الصلاة صحيحة وأن الإعادة وقتية، وكذا فهم الأجهوري، وتبعه الزرقاني. قال الرماصي: وذلك كله فهم غير صحيح. انتهى كلام الشيخ محمد بن الحسن.
وركوع تقرب راحتاه فيه من ركبتيه، يعني أن الركوع الشرعي من فرائض الصلاة. والركوع لغة: انحناء الظهر، قال:
أليس ورائي إن تراخت منيتي
…
لزوم عصى تحنى عليها الأصابع
أخبر أخبار القرون التي مضت
…
أدب كأني كلما قمت راكع
وقيل: الخشوع، وشرعا، وهو المراد هنا أقله أن ينحني، ويضع يديه على فخذيه بحيث تقرب راحتا المصلي في انحنائه من ركبتيه، فلو قصرتا لم يزد على تسوية ظهره، ولو قطعت إحداهما وضع الأخرى على ركبتها. قاله في الطراز. قاله الشبراخيتي. وقال: وقوله: "تقرب راحتاه" الخ، هذا بيان لأقل ما يتحقق به الواجب، فإن لم تقرب راحتاه فيه من ركبتيه لم يكن ركوعا، وإنما هو إيماء، وهذه الكيفية التي ذكرها المصنف خلاف الأولى، وأكمله تمكينهما منهما، وبينهما كيفية فوق الأولى ودون الثانية؛ وهي وضع يديه على ركبتيه، فالكيفيات ثلاث. وكيفية ركوعه صلى الله عليه وسلم محمولة عندنا على الكمال، ورفع العجيزة سنة كما في الفيشي والشبراخيتي، وقد ورد في كيفية ركوعه صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا ركع وطأ ظهره حتى لو وضع على ظهره كوز من ماء لم يهرق منه شيء
(1)
)، هذا وقد روى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل صلبه في الركوع والسجود
(2)
)، وقال: حديث حسن، والعمل على هذا عند أهل العلم. نقله في الرياض. وروى أبو داوود الطيالسي بسنده عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحسن الرجل الصلاة فأتم ركوعها وسجودها قالت الصلاة: حفظك الله كما حفظتني، فترفع وإذا أساء الصلاة فلم يتم ركوعها ولا سجودها قالت الصلاة: ضيعك الله كما ضيعتني، فتُلَف كما يُلَفُّ
(1)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع لو وضع قدح من ماء على ظهره لم يهرق. مسند أحمد، ج 1 ص 123.- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع لو صب على ظهره ماء لاستقر. مجمع الزوائد، ج 2 ص 126.
(2)
الترمذي في سننه، كتاب الصلاة، رقم الحديث:265.
الثوب الخلق فيضرب بها وجهه
(1)
). قاله الثعالبي. وانظر ما يأتي عند قول المصنف: واعتدال، وظاهر المدونة: وجوب وضع اليدين في الركوع، فلو سدلهما من غير وضع بطلت صلاته. كما قاله أبو يوسف الزغبي، وذكر البرزلي وابن ناجي: استحباب وضع اليدين، فلو سدلهما لم يضر. كما قاله ابن فرحون، وأبو الحسن. وكلام المصنف في قوله:"تقرب راحتاه" ظاهر في الأول، ويمكن حمله على الثاني، بأن يراد بقوله:"تقرب"، أن لو وضعتا. انتهى كلام الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي: إنه لا يجب أصل وضعهما فلو سدلهما لم تبطل صلاته على المعتمد. كما أفتى به البرزلي، والشبيبي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: قال أبو الحسن: إن الوضع من أصله غير واجب، ونقله عن ابن يونس، ولذا قال الزرقاني: إنه المعتمد: وقوله: "راحتاه"؛ الراحة: باطن الكف، والجمع راح بغير تاء.
والحاصل أن الواجب من الركوع إنما هوأن ينحني بحيث تقرب راحتاه من ركبتيه، ويستحب أن ينصب ركبتيه وأن يضع كفيه عليهما، وأن يجافي مرفقيه، ولا ينكس رأسه إلى الأرض: بل يكون ظهره مستويا: وأن كيفية ركوعه صلى الله عليه وسلم محمولة عندنا على الكمال. والله سبحانه أعلم. وعلم مما مر أن أصل وضع اليدين على أطراف الفخذين، إما واجب، وإما مندوب على الخلاف المتقدم. وقد مر أنه لو قطعت إحدى اليدين: وضع الأخرى على ركبتها، وعن بعض الشافعية أنه يضع الأخرى على ركبتيه جميعا. وندب تمكينهما منهما يعني أنه يندب في الركوع تمكينهما أي الراحتين من الركبتين، وفيها: كره مالك أن يحدد لهما حدا في وضعهما من تفريق الأصابع أو ضمها، وأراه
(2)
بدعة؛ وهو المشهور. قاله الشيخ إبراهيم. وانظر هذا مع ما في الشادلي من أنه صلى الله عليه وسلم: (كان إذا ركع فرج بين أصابعه وإذا سجد ضمها
(3)
). ونصبهما، يعني أنه يندب في الركوع نصب الركبتين بأن يقيمهما معتدلتين فلا يُبْرِزهما، وكره إبرازهما. وقول البساطي: يبرزهما قليلا مستويتين ليمكن وضع كفيه عليهما، قال التتائي: غير
(1)
مسند أبي داود الطيالسى، ج 802. الحديث:585.
(2)
كذا في الأصل والشبراخيتي، ولعلها: ورآه.
(3)
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع فرج أصابعه وإذا سجد ضم أصابعه. البيهقي، ج 2 ص 112.
ظاهر، وقال الشبراخيتي: كلام البساطي ضعيف، قال ابن عبد السلام: انظر لو نكس رأسه إلى الأرض، هل يجزئه عند من يوجب الطمأنينة أم لا؟ قال بعضهم: والصواب أنه يجزئه؛ لأن الطمأنينة تحصل بذلك، وانحناؤه لا يضر.
ورفع منه؛ يعني أن من فرائض الصلاة الرفع من الركوع فمن لم يرفع وجبت عليه الإعادة على المشهور، خلافا لما رواه علي بن زياد من عدم البطلان، وعدم الإعادة. وحجة المشهور: (حديث المسئ لصلاته الذي دخل المسجد فصلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا. وافعل ذلك في صلاتك كلها
(1)
)، والرجل المبهم هو خلاد بن رافع، وحجة المقابل: التمسك بظاهر قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} ، فلم يذكر رفعا.
وسجود؛ يعني أن من فرائض الصلاة السجود. والسجود لغة: الميل والانخفاض إلى الأرض، سجدت النخلة: مالت، قال الشاعر:
بجمع تظل الأكم ساجدة له
…
وأعلام سلمى والهضاب النوادر
وقال:
بجيش تضل البلق في حجراته
…
ترى الأكم فيه سجدا للحوافر
وشرعا؛ وهو المراد هنا، قال ابن عرفة: مس الأرض وما اتصل بها من سطح محل المصلى كالسرير بالجبهة والأنف. انتهى. قاله غير واحد. وزاد من سطح إلى آخره: إشارة إلى أن من بالأرض وسجد على كرسي بين يديه، لا يعد ساجدا، وأورد عليه أنه إذا كان بين يديه حفرة
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:757.
فيها كرسي مساو للأرض، ووضع وجهه عليه لم يسجد على مقتضى حده، وكان بعضهم يلتزم ذلك ت وأنه لا يجزئه السجود، وفيه بحث. قاله الشيخ عبد الباقي، وضيره. وقال الشيخ إبراهيم: ولو حذف قوله من سطح محل المصلي، كان ظاهرا. وقال الشيخ الأمير: وسجود على الأرض أو ما اتصل بها من ثابت، وإن علا عن سطح ركبتيه كسرير شريط لمريض بجبهته. انتهى. وقال في الشرح بعد قوله من ثابت: لافراش عهن منفوش جدا. وقال في الحاشية بعد قوله وإن علا عن سطح لخ: وإن كان الأكمل خلافه. وهو ما ذكره ابن عرفة في تعريفه. وحد، الشافعية بارتفاع الأسافل وانحدار الأعالى، قالوا: ولابد من التحامل؛ وهوأن يلقي رأسه على ما يسجد عليه حتى لا يعد حاملها، فلا يكفي إحساس مجرد الملاصقة. وليس معنى التحامل شد الجبهة على الأرض حتى يؤثر فيها كما يفعله الجهلة، و {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}: الخشوع والخضوع. انتهى. وفي الحطاب: يتنزل منزلة الأرض السرير من الخشب المنسوج من الشريط ونحوه واعلم أن الشيطان لا يوسوس في حال السجود، وإذا وجد فيه وسواس، فمن النفس، ففي الحديث: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلتاه أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار
(1)
). انظر ابن زكري. علي جبهته، يعني أن السجود إنما يكون على الجبهة؛ وهي مستدير ما بين الحاجبين إلى الناصية، وأطلق الجبهة، وأراد بعضها لقول عياض: بعضها كاف، لكن المستحب وضع جبهته وأنفه بالأرض على أبلغ ما يمكنه. وأما الواجب فيكفي فيه وضع أيسر ما يمكن من الجبهة.
والحاصل أن السجود الكامل هو السجود على الجبهة والأنف على أبلغ ما يمكنه، إلا أنه لا يشدها بالأرض، قال مالك: والسجود على الجبهة والأنف جميعا. انتهى. فإن سجد على الأنف دون الجبهة أعاد أبدا، وإن سجد على الجبهة دون الأنف أجزأه. قاله ابن القاسم. عبد الوهاب: ويعيد في الوقت استحبابا، وقيل: بالإجزاء مع الاقتصار على السجود على أحدهما.
(1)
إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله وفي رواية أبي كريب: يا ويلي، آمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار. مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث:133.
حكاه أبو الفرج عن ابن القاسم. وقال: يعيد في الوقت، وقيل: بنفي الإجزاء حتى يسجد عليهما معا، وهو لابن حبيب. قاله الشيخ ميارة وعلم مما قررت أن الجبهة هنا المراد بها غير الجبهة التي مرت في الوضوء، قال الخرشي في الوضوء: والمراد بالجبهة هنا ما ارتفع عن الحاجبين إلى مبدإ الرأس، فيشمل الجبينين. والجبهة الآتية في الصلاة هي مستدير ما بين الحاجبين إلى الناصية. انتهى. وقال الدردير: وهي مستدير ما بين الحاجبين إلى الناصية. انتهى. قال الدسوقي: فلو سجد على ما فوق الحاجب لم يكف. انتهى. وكره مالك شدها بالأرض، وأنكره أبو سعيد الخدري على من ظهر أثره في جبهته، ولا يفعله إلا جهلة الرجال وضعفة النساء، وقد كرهه سعد بن أبي وقاص. والمعني بقوله تعالى:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} : خضوعهم وخشوعهم، وما يعتريهم من الصفرة والنحول. وقد كان الصحابة أشد الناس عبادة ولم يروأن واحدا منهم كان ذلك في جبهته. قاله الشيخ إبراهيم.
وأعاد لترك أنفه بوقت، يعني أن من ترك السجود على الأنف؛ بأن اقتصر على الجبهة، يعيد صلاته بوقت اختياري. وذكر أحمد أن الذي ينبغي أنه الضروري، وما ذكره المصنف من أنه يعيد بالوقت هو المشهور؛ لأن السجود عليه مستحب على المشهور، والإعادة مراعاة للقول بوجوبه، وإلا فالمستحب لا يعاد لتركه، وظاهر المصنف: كان الترك عمدا أو سهوا، وظاهره أيضا: ولو في سجدة من رباعية.
واعلم أن الصلاة على السرير أمر لا خلاف في جوازه؛ لأنه كالصلاة على الغرف، وعلى السطح. ابن فرحون: السجود على الفراش المرتفع عن الأرض لا يجوز وفي مختصر الواضحة: وإذا شق على المريض النزول عن فراشه إلى الأرض للصلاة، وكان ممن لا يقدر على السجود بالأرض لشدة مرضه، صلى على فراشه، فإن كان غير طاهر ألقى عليه ثوبا كثيفا طاهرا، فإن كان ممن يقدر على السجود على الأرض فلينزل إلى الأرض فيصلي ساجدا بالأرض.
تنبيه: لم يتعرض المؤلف هنا لحكم مسح التراب عن جبهة المصلي وكفيه، ولا لمسح موضع سجوده. أمَّا الأول فقد قالوا فيما يتعلق بالجبهة والكفين من التراب في الصلاة أن له أن يزيل
ذلك داخلها وأحرى خارجها، وقيل: إنما يزيل ذلك خارج الصلاة، والأول شهره ابن ناجي وفيها من كثر التراب بجبهته أو كفه فله مسحه. انتهى. فظاهره مطلق. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وأمَّا الثاني ففي الموطإ (أن عبد الله بن عمر إذا أهوى ليسجد مسح الحصباء لموضع جبهته مسحا خفيفا
(1)
)، وفيه أيضا: عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغة أن أبا ذر كان يقول: (مسح الحصباء مسحة واحدة وتركها خير من حمر النعم
(2)
)، وقوله: مسح الحصباء: تسوية الموضع الذي يسجد عليه، وقوله: حمر النعم بسكون الميم لا غير: الحمر من الإبل، وهي أحسن ألوانها؛ أعظم أجرا مما لو كانت له فتصدق بها، أو حمل عليها في سبيل الله قاله سحنون، ومن قبله الأوزاعي. وقيل: معناه أن الثواب الذي يناله بترك الحصباء يجب أن يكون أشد سرورا به منه بحمر النعم لو كانت له ملكا دائما مقتنى، وهذا ورد مرفوعا. أخرج أحمد، وأبو داوود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه من طريق سفيان عن الذهبي، عن أبي الأحوص: عن أبي ذر يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يمسح الحصباء
(3)
). نقله سيدي محمد الزرقاني. ونقل أيضا عن أبي ذر أنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كل شيء حتى سألته عن مسح الحصباء، قال: واحدة، أودع
(4)
) ونقل أيضا عنه صلى الله عليه وسلم (أنه قال في مسح الحصباء: واحدة ولأن يمسك عنها خير من مائة ناقة كلها سود الحدق
(5)
) وحكى النووي: اتفاق العلماء على كراهة مسح الحصباء وغيرها في الصلاة، وفيه نظر، لحكاية الخطابي عن مالك أنه لم ير به بأسا، وكان يفعله فكأنه لم يبلغه الخبر. كذا في الفتح. قاله سيدي محمد الزرقاني. والأولى إن صح ذلك عن مالك أنه كان يفعله
(1)
الموطأ، كتاب قصر الصلاة، ج 1 ص 128.
(2)
الموطأ، كتاب قصر الصلاة، ج 1 ص 128.
(3)
سنن النسائي، كتاب السهو، رقم الحديث:1191. وأبو داود، كتب الصلاة، رقم الحديث: 945. والترمذى، كتاب الصلاة، رقم الحديث:379. وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، رقم الحديث: 1027. ومسند أحمد، ج 5 ص 150.
(4)
مسند أحمد، ج 5 ص 163.
(5)
عن جابر بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسح الحصى فقال واحدة ولأن تمسك عنها خير من مائة ناقة كلها سود الحدق. مجمع الزوائد، ج 2 ص 89.
مرة واحدة مسحا خفيفا كفعل ابن عمر وترجي أنه لم يبلغه الحديث بعيد جدا أو ممنوع مع ذكره حديث أبي ذر وإن كان موقوفا وقوله في الحديث إذا قام أحدكم إلى الصلاة، المراد به الدخول فيها فلا ينهى عن المسح قبل الدخول في الصلاة، بل الأولى أن يفعل ذلك حتى لا يشتغل باله، وهو في الصلاة. قاله سيدي محمد الزرقاني.
وسن على أطراف قدميه يعني أنه يسن للمصلي أن يكون سجوده على هذه الهيئة؛ بأن يسجد على أطراف القدمين، أي يباشر بأصابعهما الأرض، ويجعل كعبيه أعلى، واحترز بذلك من السجود على ظهورهما. وعلى ركبتيه وقوله: كيديه يعني به أن السجود على اليدين سنة، وتكون اليدان في حالة السجود مبسوطتين، قال في الرسالة باسطا يديك مستويتين إلى القبلة، وفي المدونة: ويتوجه بيديه إلى القبلة ولو خالف، وهو متوجه بكل ذاته لم يضره ذلك. انتهى. وقوله: وسن على أطراف قدميه وركبتيه كيديه، قال الشيخ أحمد: ينبغي أن يكون كل ما ذكر سنة في كل ركعة، وأن يكون من السنن غير الخفيفة، وينبغي في ترك أحد أطراف القدمين أو أحد الركبتين واليدين عدم السجود؛ لأن المتروك بعض سنة. وانظر في ذلك. انتهى.
على الأصح راجع لما بعد الكاف على القاعدة الأكثرية. كما قاله الشيخ محمد بن الحسن؛ يعني أن السجود على اليدين سنة على القول الأصح، ومقابله الوجوب، قال في التوضيح: يتخرج في وجوب السجود على اليدين قولان من القولين الذين ذكرهما سحنون في بطلان صلاة من لم يرفعهما من الأرض، فعلى البطلان يكون السجود عليهما واجبا، وإلا فلا. وفي الش أن من ترك السجود على الركبتين وأطراف القدمين: تجزئه صلاته على المشهور، وقيل: لا تجزئه وليعد أبدا، ولم أر من صرح بسنية شيء مما ذكر غير ابن القصار، فإنه قال في السجود على الركبتين وأطراف القدمين: الذي يقوى في نفسي أنه سنة في المذهب وهكذا نقل صاحب الجواهر، وعول عليه الشيخ هنا. انتهى. واعترض الشارح قول المصنف على الأصح، فقال في تعيينه الأصح في مسألة اليدين نظر. قال الإمام الحطاب: وقد نقل صاحب تصحيح ابن الحاجب عن الذخيرة أن
سندا قال: الأصح عدم الإعادة. قال: وصحح خليل أن السجود على اليدين سنة، واعترضه شارحه بهرام، وما تقدم يرده. انتهى.
ورفع منه؛ يعني أن الرفع من السجود فرض باتفاق؛ لأنه لو لم يرفع منه فهو سجدة واحدة، إذ السجدة ولو طالت لا تتصور سجدتين، فلا بد من فصل بين السجدتين برفع حتى تكونا اثنتين مع أنه لا يمكن الإتيان بما بعد السجود من الأركان إلا بالرفع منه. وفي إجزاء صلاة من لم يرفع يديه أو إحداهما بين السجدتين مع الرفع الفرض، قولان، المشهور الإجزاء. كما في الحطاب عن الذخيرة؛ لأن الأصل الوجه، وأما اليدان فتبع له، والتابع لا يضر تركه. وفي الحطاب عن الذخيرة أنه على القول بوجوبه يرجع له ما لم يعقد ركعة، وهل يرجع فيضع يديه في الأرض ثم يرفعهما، أو يضعهما على فخذيه فقط؟ يتخرج على الخلاف في الرفع من الركوع إذا ترك، ووجه القول بالبطلان ما جاء أن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه، وقوله:"ورفع منه". لا يعارض قول ابن عرفة: الباجي في كون الجلسة بين السجدتين فرضا أو سنة خلاف؛ لأن هذا الخلاف في الاعتدال لا في أصل الفصل بين السجدتين. قاله الشيخ محمد بن الحسن. (وكان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه لم يسجد حتى يستوي جالسا
(1)
). كما في الصحيحين، خلافا لأبي حنيفة القائل بأنه: يكفي أن يرفع رأسه عن الأرض كحد السيف، ولعل المصنف إنما ترك ذكر فرضية الجلوس بين السجدتين اعتمادا على الاعتدال؛ لأنه يلزم منه الجلوس بين السجدتين. الشبيبي. الجلوس للفصل بين السجدتين واجب على المشهور، وقيل سنة. وذكر ابن جزي في القوانين أن: الجلوس بين السجدتين واجب إجماعا. نقله الإمام الحطاب. قال: وسمعت أن معتمده في كتابه هذا الاستذكار لابن عبد البر، وقد حذروا من إجماعات ابن عبد البر، واتفاقيات ابن رشد، ومن خلافيات الباجي، ثم قال: وعلى كل تقدير فقد قوي القول بوجوب الجلوس بين السجدتين. انتهى. واختلف في الحكمة في كون الركوع واحدا والسجود اثنتين، فقيل: إن آدم عليه السلام لما سجد تاب الله عليه، فرفع رأسه وسجد ثانيا شكرا لله تعالى، وقيل: (لأن
(1)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 498 .... بلفظ: وكان إذا رفع رأسه من السجدة الخ. ولم نطلع عليه في البخاري.
الملائكة رفعوا رؤوسهم
(1)
من السجدة ليلة الإسراء، وسلموا على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عادوا إلى السجدة). فلذلك صار السجود في الصلاة اثنتين. وقال المهاجري:(روي أن جبريل عليه السلام أم النبي صلى الله عليه وسلم فأطال السجود، فظن أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع رأسه، ولم يكن رفع، فرفع جبريل، فعاد إلى السجود فصيرها الله عبادة يتعبد بها). وقيل: لأن الأولى إشارة إلى خلق الإنسان من التراب، والثانية إشارة إلى أنه يعود إليه. وقيل: إنهم يدعون إلى السجود يوم القيامة حين يكشف عن ساق، فيسجد المؤمنون، ولا يقدر المنافقون والكافرون على السجود، فإذا رأى المؤمنون ذلك سجدوا ثانيا شكرا لله تعالى، فالأولى للدعاء، والثانية للشكر. وقيل: لأن السجود أحب الطاعة إلى الله تعالى فلذلك كرر. قاله الشيخ إبراهيم. وجلوس لسلام يعني أن الجلوس للسلام أي لأجل إيقاع السلام من فرائض الصلاة، فالجزء الأخير من الجلوس الذي يوقع فيه السلام فرض؛ لأنه محل السلام إعطاء للظرف حكم الظروف، فالفرض هو الجلوس بقدر ما يعتدل ويسلم تسليمة التحليل، واعلم أن الصلاة وضعت على أربعة أركان: قيام، وقعود، وركوع، وسجود. كما أن الخلق أربعة أصناف: قائم كالأشجار. وراكع مثل الأنعام، وساجد مثل الهوام، وقاعد كالأحجار. فأراد الله أن توافق الجميع في أحوالهم.
وسلام يعني أن السلام من فرائض الصلاة لقوله عليه الصلاة والسلام: (الصلاة بين زمانين التكبير والتسليم))، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (مفتاحها الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم
(2)
) ولا خلاف في وجوبه عندنا ولا يقوم مقامه غيره من تكبير أو مناف. وأما ما روى عن ابن القاسم: من أحدث في آخر صلاته أجزأت، فمردود نقلا ومعنى: أما نقلا، فلأن المنقول عن ابن القاسم إنما هو في جماعة صلوا خلف إمام فأحدث إمامهم فسلموا هم لأنفسهم، فسئل عن ذلك، فقال: تجزئهم صلاتهم؛ أي تجزئ المأمومين فقط، وأما معنى: فلأن الأمة في ذلك على
(1)
في الأصل: رأسهم، والمثبت من الشبراخيتي ج 1 مخطوط.
(2)
الترمذي، كتاب الطهارة، رقم الحديث:3.
قولين: منهم من يرى السلام بعينه؛ وهو الإمام مالك، ومنهم من لا يراه، ولكن يشترط بكل مناف أن ينوي الخروج من الصلاة كأبي حنيفة القائل: بأنه يخرج من الصلاة بكل ما ينافيها من القيام، أو الكلام، أو الحدث، أو غير ذلك إذا قصد به الخروج. انظر الشبراخيتي، وحاشية الشيخ بناني.
عرف بأل؛ يعني أنه لا بد في السلام الواجب من أن يكون معرفا. "بأل"، فلا يجزئ ما عرف بالإضافة كسلامي أو سلام الله عليكم؛ ولا ما نكر كسلام عليكم على المشهور، ولا ما نون معرفا على ما اختاره ابن ناجي، وقيل: يجزئ، وشهر الزناتي الإجزاء، وهو ظاهر إن كان أميا. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله:"عرفا بأل في لغة حمير وغيرهم؛ لأنهم إنما يبدلونها "بأم" حيث كان اللام مظهرا لا مدغما، كما هنا. انظر حاشية الشيخ بناني. وفي الحطاب: ولو قال: السلام عليكم، فجمع بين التنوين والألف واللام، فقال أبو عمر: إن كنا نحفظ عن الحورائي
(1)
وأبي محمد صالح أن: صلاته باطلة، حتى جاء السرمساحي فقال: يدخل فيه من الخلاف ما يدخل في صلاة اللحان. ولو قال: السلام. فقط. من غير أن يقول: عليكم، فقيل: تجزئه، وقيل: لا تجزئه. وصفة السلام الفرض أن يقول: السلام عليكم، بتقديم لفظ السلام المعرف "بأل" على لفظ "عليكم"، وقال الأمير: وإنما يجزي السلام عليكم، والأولى الاقتصار عليه، فزيادة: رحمة الله وبركاته، هنا، خلاف الأولى انتهى. وقوله:"وسلام عرف بأل"، سواء في ذلك الإمام والمأموم والفذ، وسواء كان خلف الإمام رجل أو امرأة، أو متعدد منهما، أو من أحدهما. والفرض من السلام تسليمة واحدة لقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه
(2)
)، وفي الخبر: (كنا نزدَحِمُ على الصلاة عن يمينه عليه الصلاة والسلام كي نرى وجهه إذا سلم
(3)
)، وأحاديث التسليمتين تحمل على المأموم. قاله الشيخ إبراهيم. وقال:
(1)
في الحطاب ج 2 ص 216 ط دار الرضوان الجوراءي.
(2)
عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه يميل إلى الشق الأيمن شيئا. الترمذي في سننه، كتاب الصلاة، رقم الحديث:236.
(3)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:709. ولفظه: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه يقبل علينا بوجهه.
ولا يزيد ورحمة الله وبركاته، وإنما يزاد في التحية بين الناس، فإن زاده لم يضر؛ لأنها زيادة خارجة عن الصلاة. وعلم مما مر أنه لا بد من جمع الضمير جمع تذكير في عليكم، كان المصلي فذا أو إماما أو مأموما، إذ لا يخلو من مصحوب من الملائكة ولو الحفظة. قاله الجزولي. وحكى الزناتي قولا أنه: يختلف بحسب المسلم عليه من: تذكير وتأنيث وإفراد وتثنية وجمع كما تقتضيه اللغة. نقله الشيخ ميارة.
تنبيهات: الأول: لا بد أن يأتي بالسلام بلفظ العربية، فإن عجز سقطت فرضيته، ووجب الخروج بالنية قطعا فيما يظهر، فإن قدر على الإتيان ببعضه عربية أتى به إن كان له معنى ليس بأجنبي عن الصلاة، ولو قدم عليكم، ففي صحة صلاته، ولا يجزئه ما فعل، وبطلانها قولان. قاله الشيخ عبد الباقي.
الثاني: لو أسقط الميم من أحد اللفظين وأولى منهما لبطلت، وقد مر أنه لا بد من ذكر عليكم، والاختلاف فيمن اقتصر على لفظة السلام، وقال الشيخ عبد الباقي: وفي الجزولي أن اللحن في السلام يضر، وفي الشبراخيتي: ويجري اللحن في تكبيرة الإحرام على اللحن في السلام، بل هو فيها أشد؛ إذ قد اتفق عليها بخلاف السلام. ابن العربي: الأصح أن لفظ السلام تعبد، وفي الحطاب أنه: لا بد في السلام من التلفظ، فلو سلم بالنية لم يجزه، وهذا في حق القادر، وأما العاجز بخرس فالظاهر أن النية تكفيه بلا خلاف كما تقدم في التكبير، والعاجز لغير خرس الظاهر أنه كالعاجز لغيره في التكبير، وفي الحطاب: واختلف إذا قال: سلام عليكم منكرا؟ الفتوى بالبطلان، ولابن العربي: ولفظه: السلام عليكم صرفا، فإن نكره، أو قال: عليكم السلام، ففيه قولان، الأصح أن يكون بلفظه؛ لأنه تعبد.
الثالث: اعلم أنه قد أكثر الناس الكلام في مسألة دعاء الإمام إثر الصلاة، وتأمين الحاضرين على دعائه. وحاصل ما انفصل عليه الإمام ابن عرفة والغبريني: أن ذلك إن كان على نية أنه من سنن الصلاة أو فضائلها فهو غير جائز، وإن كان مع السلامة من ذلك فهو باق على أصل حكم الدعاء. والدعاء عبادة شرعية فضلها من الشريعة معلوم عظمه، وكذلك الأذكار بعدها على الهيئة
المعهودة كقراءة الأسماء الحسنى، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مرارا، ثم الرضى عن الصحابة رضي الله عنهم وغير ذلك من الأذكار بلسان واحد. وقد مضى عمل من يقتدى به في العلم والدين من الأئمة على الدعاء بإثر الذكر الوارد بإثر تمام الفريضة. ابن عرفة: وما سمعت من ينكرة إلا جاهل غير مقتدى به. نقله الشيخ ميارة.
وفي اشتراط نية الخروج به خلاف؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا في نية الخروج بالسلام من الصلاة، فمنهم من قال: يشترط تجديدها؛ وهو لصاحب الإشراف، ووافقه صاحب الاستلحاق. سند: وهو ظاهر المذهب وعليه لو سلم من غير نية الخروج منها، بطلت صلاته. قاله الشاذلي. ومنهم من قال: لا يشترط تجديدها لانسحاب النية في أول الصلاة عليه كغيره من الأركان، بل يستحب فقط. وفي ابن عرفة ما يفيد اعتماده، وشهر هذا القول ابن الفاكهاني. وقال الشيخ الأمير: والأرجح الندب. وينوي الإمام بالسلام الخروج من الصلاة، والسلام على المأموم، وعلى الملائكة -أيضا- ندبا، ونوى غيره الخروج من الصلاة والسلام على الملائكة ندبا. أيضا. والفرق بين السلام وتكبيرة الإحرام حيث اتفق على النية فيها، أن الصلاة فيها تكبيرات كثيرة فطلبت النية لتكبيرة الإحرام لتمتاز عن غيرها، وأنه قبل الصلاة غير متلبس بتلك العبادة الخاصة فطلب بالنية. والخروج منها ليس بعبادة خاصة بل من تمام العبادة التي هو متلبس بها. قاله بناني. ولو خرج من الظهر بنية العصر ففي بطلان صلاته قولان، أصحهما البطلان، أي إن كان عامدا، وإن كان ساهيا أتى بغيره، وسجد بعد السلام.
تنبيه: قال في الشفا: واستحب أهل العلم أن ينوي الإنسان حين سلامه كل عبد صالح في السماء والأرض من الملائكة وبني آدم والجن انتهى. يعني إذا قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. قاله الإمام الحطاب.
ولما كان الأصل تساوي صورة تسليمة التحليل وغيرها، نبه على أن غيرها يجزئ فيه ما لا يجزئ فيها. كما في الشبراخيتي. فقال: وأجزأ في تسليمة الرد سلام عليكم يعني أنه يجزئ في تسليمة الرد على الإمام وعلى من باليسار وأولى التحية، كما للأمير، سلام عليكم مرتبا منكرا، وكذا يجزئ في تسليمة الرد أيضا عليك أو عليكم السلام بالتقديم، والتأخير، والإفراد، والجمع.
والأفضل كونه كالتحليل ويشعر به أجزأ. ومفهوم قوله: "في تسليمة الرد" أن ذلك لا يجزئ في تسليمة التحليل كما مر. وينبغي للإمام تخفيف السلام، وتكبيرة الإحرام، ولا يبالغ في التخفيف حتى يؤدي إلى حذف الألف، فلا يجزئه تسليمه، ولا تكبيره كما قاله الشبراخيتي في السلام، وكما مر في التكبير.
وطمأنينة يعني أن من فرائض الصلاة الطمأنينة في جميع الأركان، وهي استقرار العضو زمنا مّا زيادة على ما يحصل به الواجب من انحناء واعتدال، وتحصل الطمأنينة ولو في حال الدبيب كمن ركع دون الصف حين يخشى فوات ركعة. كما في الشبراخيتي عند قول المصنف:"وركع من خشي فوات ركعة دون الصف إن ظن إدراكه قبل الرفع". الشيخ زروق: من ترك الطمأنينة أعاد في الوقت على المشهور. نقله الشيخ محمد بن الحسن. وقيل: بعدم فرضية الطمأنينة، والقول بوجوبها هو الأصح. كما في الشبراخيتي. لحديث الأعرابي
(1)
.
وترتيب أداء يعني أن ترتيب الأداء من فرائض الصلاة، وترتيب الأداء هو الإتيان بأقوالها وأفعالها في مراتبها أي أماكنها؛ بأن يبدأ بالإحرام، ثم بالقراءة، ثم الركوع، وهكذا إلى آخر الصلاة. والمراد ترتيب أداء الفرائض، فلو قدم السورة على الفاتحة لم تبطل، غايته أنه مكروه، والمشهور إعادة السورة إذا قدمها على الفاتحة. وعليه ففي السجود قولان لابن سحنون وابن حبيب. قاله الشيخ محمد بن الحسن واعتدال يعني أن الاعتدال من فرائض الصلاة، والاعتدال في القيام والجلوس بأن لا يكون منحنيا، بل منتصبا فيهما، والطمأنينة والاعتدال يوجدان معا فيمن نصب قامته في القيام أو الجلوس وبقي حتى استقرت أعضاؤه. ويوجد الاعتدال فقط فيمن نصب قامته فيهما، ولم يبق حتى تستقر أعضاؤه. والطمأنينة فقط فيمن استقرت أعضاؤه في غير القيام والجلوس، وهذا يخالف قول ابن عبد البر: رفع اليدين في الرفع من السجود فرض عند الجميع،
(1)
صحيح البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:757. مسلم، كتاب الصلاة، الحديث: 397 ولفظه: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها.
إذ لا يعتدل من لم يرفعهما. والاعتدال في الركوع والسجود والرفع منهما فرض، لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وفعله له، وقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي
(1)
)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله عز وجل إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده
(2)
)، ولا خلاف في ذلك. إنما الخلاف في الطمأنينة بعد الاعتدال، ولم نعد قول أبي حنيفة وبعض أصحابنا خلافا لأنهم محجوجون بالآثار وبما عليه الجمهور نقله سيدي محمد بن عبد الباقي. وروى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل صلبه في الركوع والسجود
(3)
)، وقال حديث حسن، والعمل على هذا عند أهل العلم. نقله الثعالبي المالكي. وروى أبو داوود الطيالسي بسنده عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحسن الرجل الصلاة فأتم ركوعها وسجودها قالت الصلاة حفظك الله كما حفظتني فترفع، وإذا أساء الصلاة فلم يتم ركوعها ولا سجودها قالت الصلاة ضيعك الله كما ضيعتني فتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه
(4)
). نقله الثعالبي -أيضا-. ومر عن الشبراخيتي: وكيفية ركوعه صلى الله عليه وسلم محمولة عندنا على الكمال، وقد ورد في كيفية ركوعه صلى الله عليه وسلم (أنه كان إذا ركع وطأ ظهره حتى لو وضع على ظهره كوز من ماء لم يهرق منه شيء
(5)
)، وما ذكره الشبراخيتي مخالف لما نقلته عن هذين الإمامين. والله سبحانه أعلم. وفي نوازل ابن هلال بعد جلب أحاديث: ولهذه الأحاديث الكريمة قال علماؤنا: ابن كنانة، ومطرف، وابن الماجشون، وابن عبد الحكم، وأصبغ رضوان الله عليهم: أن من لا يقيم صلبه في ركوعه ولا في سجوده دون سهو، ولا عذر في فرض أو نفل فشهادته غير جائز، والقادح في الشهادة قادح في الإمامة. انتهى. وقد قدم قبل هذا أنه لا تجوز إمامة من لا يتم الركوع والسجود ولا صلاته فذا، وما ذكره المصنف من وجوب الاعتدال هو الذي في مختصر
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:631.
(2)
مسند أحمد، ج 4 ص 22.
(3)
الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:265.
(4)
مسند أبى داود الطيالسي، ج 2 ص 80 رقم الحديث:585.
(5)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع لو وضع قدح من ساء على ظهره لم يهرق. مسند أحمد، ج 1 ص 123.
ابن الجلاب، وصححه المصنف بقوله: على الأصح وعليه فإن لم يعتدل وجبت الإعادة لخبر المسيء لصلاته حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع فصل فإنك لم تصل) الخ، وقال ابن الحاجب: فلو لم يعتدل، فقال ابن القاسم أجزأه ويستغفر. وقال أشهب: لا يجزئه، وقيل: إن كان إلى القيام أقرب أجزأه، وإلا فلا، قاله الش وغيره.
والأكثر على نفيه يعني أن الأكثر من العلماء على نفي وجوب الاعتدال إلى سنيته، وعليه فإن سها عنه سجد للسهو، وقوله:"والأكثر على نفيه" ضعيف وبقي على المصنف فرضان القيام للركوع، والجلوس بين السجدتين، ويمكن أن يستغنى عن الأول بقوله: يجب بفرض قيام، وعن الثاني بالاعتدال. وذكر المصنف خمس عشرة فريضة. وقوله:"والأكثر على نفيه"، قال الإمام الحطاب: ما عليه الأكثر هو الظاهر من مذهب المدونة، ومن كلام ابن بشير وغيره. قال فيها: وصلاتهم على ظهرها أفذاذا أحب إلي من صلاتهم محنية
(1)
رؤوسهم تحت سقفها. انتهى. ابن بشير: وهذا محمول على أن الانحناء كثير، وأما لو كان يسيرا لكان الجمع أولى. وقال الشيخ أبو الحسن: والخباء مثل السفيفة. انتهى. ولم يذكر المصنف الخشوع؛ وهو كما في ابن عرفة عن ابن رشد: الخوف باستشعار الوقوف بين يدي الخالق. ابن رشد: هو فرض لا ركن ولا شرط. انتهى. وانظره مع قول المصنف: وتفكر بدنيوي، فإنه يضاد الخشوع بالمعنى المذكور، فيكون حراما، مع أن المصنف حكم فيه بالكراهة، اللهم إلا أن يقال: المكروه هو ما زاد على ما ينافي استشعار الخشوع، أو يراد به استشعار الوقوف في جزء من الصلاة.
ولما أنهى الكلام على فرائض الصلاة، وكان منها ما يعم الفرض وغيره؛ وما يخصه دون غيره كالقيام -وكانت السنن كذلك- شرع فيها، وبدأ بالسورة لأنها أول السنن في الفعل، فقال: وسنتها سورة؛ يعني أن من سنن الصلاة قراءة سورة، وإنما تحصل بها السنة حيث قرئت بعد الفاتحة، فلو أتى بها قبل الفاتحة لم تحصل السنة، وليعدها بعد قراءة الفاتحة في الأولى
(1)
كذا في الأصل والذي في الحطاب ج 2 ص 217 ط دار الرضوان منحنية.
والثانية؛ يعني أن السورة إنما تسن في الركعة الأولى وفي الثانية، وهي سنة في كل ركعة بانفرادها من رباعية أو ثلاثية، أو ثنائية ولذا استحسن لفظه على من قال في الأوليين لعدم شموله الثنائية، فلو نسيها فيهما لم يقرأها في الأخريين خلافا لأبي حنيفة، وتحصل السنة ولو بآية قصيرة نحو:{مُدْهَامَّتَانِ} لا بعضها ما لم يكن له بال كآية الكرسي والدين: وترك إكمال السورة مكروه: قال الشيخ عبد الباقي: على المشهور، وقال الشيخ محمد بن الحسن: انظر من أين له هذا التشهير، فقد ذكر في التوضيح قولين لمالك بالكراهة والجواز من غير ترجيح، وليس في الحطاب تشهير وإنما فيه الكراهة، وإكمال السورة مندوب لعدم السجود إن لم يكملها. وقد يقال لا سجود لأنه سنة خفيفة، ويكره عدم إكمال السورة لما روي أنه صلى الله عليه وسلم (نهى أن يصلي الرجل مختصرا (1)). قيل: لم يتم السورة. انظر الشادلي. وتكره السورة فيما عدا الأولى والثانية، وليقرأ السورة إذا كرر الفاتحة لعدم حصول السنة بتكريرها، وكونها بعد الفاتحة شرط لها فيعيدها إذا قدمها -كما مر- وفي سجوده قولان، وقيل: كونها بعدها سنة، فلو قدمها أتى بسنة وترك سنة، ويكره قراءة سورتين كما شهره ابن عرفة، وقيل: يجوز، والأفضل قراءة سورة واحدة، وينبغي أن يكون سورة وبعض أخرى مكروها وهذا في حق الفذ والإمام، وأما المأموم فيقرأ مع الإمام فيما يسر فيه إذا فرغ من السورة، وهو أفضل من سكوته، وله أن يدعو كما قاله الإمام الحطاب. وفيه: وإن ركع الإمام وهو في أثناء السورة أو الآية قطعها وركع، وابتدأ في الركعة الثانية بسورة غيرها. قاله في النوادر. ولا يكره تخصيص صلاته بسورة فيما يظهر. قاله الشيخ عبد الباقي. ويحرم تنكيس آي سورة واحدة بركعة واحدة أو زمن واحد ولو بغير صلاة، وأما تنكيس الآي بركعتين فمكروه، وكره تنكيس سورتين أو سور بصلاة أو غيرها إن قصد القرآن، فإن قصد الذكر المجرد كالذي يجمع تهليل القرآن أو تسبيحه فخلاف الأولى فقط، والأولى ترتيبه على ما في القرآن. ومن التنكيس المكروه قراءة النصف الأخير ثم الأول في ركعة أو ركعتين، وتحصل به السنة، وتبطل الصلاة بالتنكيس الحرام؛ لأنه كالكلام الأجنبي. وظاهر المصنف
1 - البخاري، كتاب العمل في الصلاة، رقم الحديث:1220. مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث: 545.
حصول السنة ولو قرأ في الثانية سورة لا تلي المقروءة في الأولى بل بعدها وهو كذلك. كما قال الشيخ الأمير: وليس ترك ما بعد السورة الأولى هجرا لها. انتهى. ويكره عند الحنفية الفصل بسورة لا بسورتين فأكثر، وظاهره أيضا: ولو قرأ في الثانية سورة قبل السورة الأولى. وقال الباجي: يكره. وسمع ابن القاسم: هو من عمل الناس، وهو والترتيب سواء، ورواية مطرف: والترتيب أفضل. ابن رشد: لعمري إنه أحسن؛ لأنه جل عمل الناس، فعدم الترتيب من عمل الناس والترتيب جل عملهم. عياض: ولا خلاف في جوازه، وإنما يكره في ركعة واحدة، وتحصل السنة ولو كرر سورة الأولى في الثانية. ابن عرفة: مكروه، وذكر غيره أنه خلاف الأولى، وانظر هل يجري مثل ذلك في النفل أم لا؟ ويجوز في النافلة قراءة سورتين في ركعة واحدة من غير كراهة، وكره مالك تكرار {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في ركعة ليلا يعتقد أن أجر قارئها ثلاثا كأجر قارئ القرآن لخبر: (إنها تعدل ثلث القرآن
(1)
)، وليس معناه ذلك عند العلماء. ومقتضى كلامه في البيان أن: الكراهة خاصة بحافظ القرآن، وحكى ابن السيد عن الفقهاء والمفسرين أن: قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثلاث مرات ثوابها كثواب ختمة كاملة، ويجري مثله في حديث: (إذا زلزلت تعدل نصف القرآن
(2)
). قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ الأمير: ولا يقرأ السورتين إلا مأموم خشي من سكوته تفكرا مكروها، ولا يكره التزام سورة مخصوصة بخلاف دعاء مخصوص. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: ولا يكره تخصيص الصلاة بسورة فيما يظهر.
قال جامعه عفا الله عنه: قد مر عن ابن عرفة أن تكرير السورة مكروه، وعن غيره أنه خلاف الأولى. وحينئذ فمعنى ما ذكره هذان الشيخان من عدم كراهة تخصيص الصلاة بسورة حيث لم يكررها، بل التزم سورة في الأولى وسورة أخرى في الثانية. هذا على ما نقل عن ابن عرفة، وأما على ما لغيره فلا إشكال والله سبحانه أعلم. وفي ابن زكري على النصيحة الكافية: ومن آفات الصلاة أن يدخل فيها فيقف متفكرا فيما يقرأ من الآيات المناسبة لقصده، كأن يقرأ بـ {أَلَمْ
(1)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:812.
(2)
الترمذي، كتاب فضائل القرآن، رقم الحديث:2894.
نَشْرَحْ} إذا كان مطلبه البسط. وحصول اليسر بعد العسر، وسورة الناس لذهاب الوسواس. ونحو ذلك وكأن يقرأ:{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} لرد الضالة. وهذا مذهب للخشوع مدخل في البدعة لكونه مخالفا للسنة: ومنها أن تكون له سورة معلومة لا يقرأ بغيرها في الصلاة لإخلاله بالسنة من التطويل في موضعه، أو التوسط في موضعه، أو التقصير في موضعه. ومنها التخفيف جدا بحيث يوقع في ترك الطمأنينة الفرض أو الزائد المسنون، لأجل أن الإمام مأمور بالتخفيف، وهذا جهل بالسنة يغلط فيه الناس. ومنها التطويل جدا حتى يذهب بالخشوع، وهو يعم الإمام والفذ أو يؤذي من خلفه، وهو خاص بالإمام وقد رأى بعض العلماء بطلان صلاة السمع والمصلي بتسميعه. انتهى. وقد مر عن الحطاب أنه إذا ركع الإمام والمأموم في أثناء السورة أو الآية، فإنه يقطعها ويركع ويبتدئ في الركعة الثانية بسورة غيرها. واعلم أن من نوى أن يقرأ سورة يستحب له أن لا يركع حتى يقرأ قدرها، [قال ابن القاسم من كتاب الوضوء
(1)
] فيما إذا وقف القارئ في الصلاة وأعيا: أحب إلي أن يبتدئ سورة أخرى. قال ابن رشد: وجه استحبابه أنه لما افتتح بسورة فقد نوى إتمامها فاستحب له أن لا يركع حتى يقرأ قدر ما كان نوى قراءته. وفي الصحيح (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ المؤمنون، فلما أتى على ذكر موسى أو عيسى، أو موسى وهارون أخذته سعلة، فركع
(2)
)، فدل ذلك على أنه يكتفى في السنة ببعض السورة، ولا تتوقف السنة على كمالها. وقوله: أو موسى وهارون، هو قوله تعالى:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ} . وهذا إما اختلاف في الرواية أو شك فيها. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله: وسننها سورة الخ. اعلم أن كل سنة في الفرض سنة في النافلة إلا الأربع الأول في كلامه هنا وهي السورة، والقيام لها، والجهر، والسر بمحلهما؛ فإن هذه الأربع مندوبة في النفل فلا يوجب السهو عنها، ولا عن بعضها سجودا، وسواء في ذلك الوتر وغيره. قال في البيان: ما زاد على الفاتحة في الوتر مستحب، وقوله: وسننها سورة. الخ هذا مع اتساع الوقت، وأما مع ضيقه فلا تقرأ السورة.
(1)
لفظ الحطاب: قال في رسم شك من سماع ابن القاسم من كتب الوضوء.
(2)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:455.
واعلم أن السهو في النافلة كالسهو في الفريضة إلا في خمس: السورة، والسر، والجهر بمحلهما -كما مر قريبا-، الرابعة إذا عقد ركعة ثالثة في النفل أتم رابعة بخلاف الفريضة، الخامسة إذا نسي ركعة من النافلة وطال فلا شيء عليه بخلاف الفريضة فإنه يعيدها. وذكر صاحب الألغاز عن ابن قداح: أن من ترك السورة في الوتر لا شيء عليه إن كان عمدا، وإن كان سهوا سجد، وإن ترك الفاتحة سهوا سجد لها ولم يعد.
وقيام لها؛ يعني أن القيام للسورة في الفرض سنة في كل ركعة، فلو استند فيها بحيث لو أزيل العماد سقط صحت صلاته بخلاف ما لو جلس لأنه فعل كثير. وجهر أقله أن يسمع نفسه ومن يليه؛ يعني أن الجهر في صلاة الفرض سنة، وأقل الجهر الذي تحصل به السنة لرجل وحده أن يسمع نفسه ومن يليه إذا أنصت، ولا يستحب للمنفرد الزيادة على ذلك، وأما الإمام فيستحب له أن يرفع صوته ليسمع الجماعة الذين خلفه.
واعلم أن أعلى الجهر لا حد له لكن لا يخرج به عن المعتاد، وقوله: ومن يليه، يعني لو كان معه أحد وأنصت له، وأما إذا لم ينصت له فلا يعتبر إسماعه. كما للشيخ إبراهيم. وأما المرأة فجهرها مرتبة واحدة وهو أن تسمع نفسها فقط، كما أن سرها مرتبة واحدة وهو أن تحرك لسانها فقط، فليس فيهما أعلى وأدنى، فإن اقتصرت في الجهرية على حركة اللسان سجدت قبل السلام. هذا الذي يدل عليه كلام ابن عرفة وغيره، قاله الشيخ محمد بن الحسن رادا على الشيخ عبد الباقي. في قوله: وأما المرأة فجهرها كأعلى سرها. انتهى. ونحو ما لعبد الباقي للشبراخيتي والحطاب. وظاهر كلام المصنف أن: الجهر جميعه في محله سنة واحدة وكذا السر، وعليه حمله المواق ومن وافقه لا أن كل واحد منهما في كل ركعة سنة، لكن يسجد لترك الجهر أو السر في ركعة واحدة؛ لأن البعض الذي له بال كالكل. واحترز بقوله: وحده، عن من معه مصل آخر، فإن حكمه في الجهر كحكم المرأة، ولا يجوز له أن يزيد على ذلك، كما أن المرأة لا تزيد على ذلك؛ لأن رفع صوتها عورة. واعلم أن المسجد وضع للصلاة، والقراءة تبع لها، فلا تجوز قراءة من يخلط على من يصلي. انظر الحطاب. وظاهره: ولو كان القارئ حسن الصوت والمصلي في
نفل، والظاهر نهي المصلي عن الجهر ولو اختلفت صلاتهم بالفرض والنفل. قاله الشيخ عبد الباقي. وسر؛ يعني أن السر في صلاة الفريضة سنة، والضمير في قوله: بمحلهما للسر والجهر، يعني أن السر والجهر إنما يسنان بمحلهما، فالجهر سنة بالمحل الذي شرع فيه من صلاة الفرض؛ وهو الصبح، والجمعة، والركعتان الأوليان من المغرب، والأولى والثانية من العشاء. ومحل السر أخيرة المغرب، وأخيرتا العشاء والظهر والعصر. وفي الشبراخيتي عن الطراز (أنه عليه الصلاة والسلام: كان يجهر في صلاته بالنهار)، وكان المنافقون يجدون بذلك وسيلة فيصفرون ويكثرون اللغط، فشرع الإسرار حسما لمادتهم. ولا بد من حركة اللسان كما مر، فمن قرأ بقلبه في الصلاة فكالعدم. واعلم أن أعلى السر حركة اللسان، وأقله أن يسمع نفسه.
وكل تكبيرة يعني أن كل تكبيرة سنة بمفردها. البرزلي: وهو المشهور، فلو نسي السجود لثلاث وطال بطلت. وقيل: إن التكبير كله سنة واحدة وهو قوي. وعلى هذا القول المقابل للمشهور لا يعيد من سها عن التكبير كله. كما في الحطاب. إلا الإحرام يعني أن كون كل تكبيرة سنة إنما هو فيما عدا تكبيرة الإحرام، وأما تكبيرة الإحرام فهي ركن لا تصح الصلاة إلا بها.
وسمع الله لمن حمده يعني أن قول سمع الله لمن حمده سنة عند الرفع من الركوع، وهل كل واحدة سنة أو الجميع يجري على الخلاف السابق في التكبير؟ وعلى الأول فهو عطف على تكبيرة، وعلى الثاني فهو عطف على سورة. وهل هو خبر؟ فمعناه استجاب الله دعاء من حمده، أو دعاء ومعناه: اللهم اسمع دعاء من حمدك. وقال بعض الأشياخ: المراد به الحث على الحمد والترغيب فيه، وإليه مال الحذاق. وعلى كل فسمع مجاز، وجعل الحمد دعاء ويستجيبه الله تعالى؛ لأن الحمد على النعمة يستدعي بقاءها وازديادها لنص:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} ، وبذلك وجه: (أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله
(1)
)، والأصل فيه أن الصديق رضي الله عنه لم تفته صلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء يوما يهرول وقت العصر وظن أنها فاتته، فاغتم فوجده صلى الله عليه وسلم راكعا، فقال: الحمد لله، وكبر خلف رسول الله صلى
(1)
الترمذي، كتاب الدعوات، رقم الحديث:3383.
الله عليه وسلم، فنزل جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركوع، فقال: يا محمد سمع الله لمن حمده، فقل: سمع الله لمن حمده فقالها عند الرفع من الركوع فصارت سنة من ذلك اليوم ببركة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قاله الشيخ إبراهيم. وكان قبل ذلك يركع بالتكبير ويرفع به. لإمام؛ يعني أن قول سمع الله لمن حمده سنة -كما مر- وذلك في حق الإمام، وأما المأموم فلا يقولها، ويقتصر الإمام عليها لخبر الوطإ [والصحيحين
(1)
]، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه
(2)
)، أي وافقهم في النية والإخلاص، فكأنه قال: من قال هذا القول مثل قول الملائكة في الإخلاص والخشوع واستحضار النية والسلامة من الغفلة غفرت له ذنوبه المتقدمة. قاله الشيخ إبراهيم، ابن حجر: في الحديث إشعار بأن الملائكة تقول ما يقوله المأمومون. وفذ، يعني أن الفذ كالإمام في سنية سمع الله لمن حمده. ومر أن الإمام يقتصر عليها، وأما الفذ فإنه يزيد عليها استحبابا: ربنا ولك الحمد كما يأتي.
تنبيه: أجاد المصنف رحمه الله في تبيين أحكام فرائض الصلاة، وسننها، ومندوباتها، ومكروهاتها، وترك ذكر صفتها اتكالا على شهرتها ومعرفة الخاص والعام بتكرر وقوعها، ولا بأس بذكر صفتها على سبيل الإيضاح. فأقول: قال الشيخ أبو محمد: والإحرام في الصلاة أي الدخول فيها فرضا كانت أو نفلا أن تقول: الله أكبر، لا يجزئ غير هذه الكلمة، وقد مر الكلام عليها. وترفع يديك؛ أي حال إحرامك حذو منكبيك، أو دون ذلك القول الأول انتهاء رفع اليدين إلى المنكبين، وانتهاء رفعهما على القول الثاني المشار إليه بأو إلى الصدر. الأقفهسي: والرجل والمرأة في حد الرفع سواء. انتهى. وانظره مع قول القرافي المشهور أن منتهى الرفع إلى حذو المنكبين، وهذا في حق الرجل. وأما المرأة فدون ذلك إجماعا، ثم بعد أن تفرغ من التكبير
(1)
في الأصل: في الصحيحين، والمثبت من الشبراخيتى ج 1 مخطوط.
(2)
الموطأ، كتاب الصلاة، رقم الحديث:51. والبخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث: 796. ومسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:408.
تقرأ؛ أي تتبع [التكبير بالقراءة
(1)
]، من غير أن تفصل بينهما بشيء، فقد كره مالك رحمه الله في القول المشهور عنه، التسبيح والدعاء بين تكبيرة الإحرام والقراءة، واستحب بعضهم الفصل بينهما بلفظ: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك. فإن كنت في الصبح قرأت جهرا بأم القرآن لا تستفتح ببسم الله الرحمن الرحيم في أم القرآن، ولا في السورة بعدها لا سرا ولا جهرا، إماما كنت أو غيره، فإذا قلت {وَلَا الضَّالِّينَ} فقل: آمين إن كنت وحدك أو خلف إمام، ولا يقولها الإمام فيما جهر فيه، ويقولها فيما أسر فيه، وفي قوله إياها في الجهر اختلاف. ثم إذا فرغت من قراءة أم القرآن تقرأ سورة لا تفصل بينهما بدعاء ولا غيره من طوال المفصل، وإن كانت أطول من ذلك فحسن بقدر التغليس، وتجهر بقراءتها أي السورة، فإذا تمت السورة كبرت في حال انحطاطك إلى الركوع، فتمكن يديك من ركبتيك، وتسوي ظهرك مستويا، أي معتدلا لما روى ابن ماجة (أنه صلى الله عليه وسلم كان يسوي ظهره
(2)
)، ولا ترفع رأسك ولا تطأطئه؛ أي لا تصوبه إلى أسفل، وتجافي أي تباعد بضبعيك؛ أي عضديك بفتح الضاد وسكون الباء الموحدة، وهذا التجنيح مندوب: وتعتقد أي بقلبك الخضوع بذلك. قال بعضهم: الإشارة تعود على ما تقدم من الانحناء والتجافي وتسوية الظهر وتمكين اليدين من الركبتين. ومنهم من قال: تفسيرها ما بعدها؛ وهو قوله: بركوعك وسجودك ولا تدعو في ركوعك. قوله: ولا تدعو، قال الشادلي: هكذا رويناه بإثبات الواو بصيغة الخبر، والمراد به النهي على جهة الكراهة لما صح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم
(3)
): أي حقيق، ولا يعارضه ما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي
(4)
)؛ لأن هذا محمول على بيان الجواز، والأول على بيان الأولوية. انتهى. وقل إن شئت أي في سجودك: سبحان
(1)
في الأصل القراءة بالتكبير وما بين المعقوفين من كفاية الطالب الرباني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني ط. المدني ص 491.
(2)
عن راشد قال: سمعت وابصة بن معبد يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى فكان إذا ركع سوى ظهره حتى لو صب عليه الماء لاستقر. ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، رقم الحديث:872.
(3)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:479.
(4)
البخاري، كتاب المغازي، رقم الحديث:4293.
ربي العظيم وبحمده. الجزولي: هو مستحب فكيف يخير في فعله وتركه، وليس في ذلك توقيت قول: قوله في ذلك، أي عدد ما يقوله في الركوع وكذلك في السجود، وقوله: توقيت قول؛ أي تحديد ما يقوله لقوله عليه الصلاة والسلام: (أما الركوع فعظموا فيه الرب
(1)
)، ولم يعلق ذلك. واستحب الشافعي أن يسبح ثلاثا لما في أبي داوود والترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا ركع أحدكم، فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاث مرات، فقد تم ركوعه وذلك أدناه. وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تم سجوده وذلك أدناه
(2)
) ولا حد في اللبث أي المكث في الركوع، يريد في أكثره، وأما أقله فسيذكره. ثم إذا فرغت من التسبيح في الركوع، ترفع رأسك وأنت قائل: سمع الله لمن حمده إن كنت إماما أو فذا، ثم تقول مع ذلك: اللهم ربنا ولك الحمد إن كنت وحدك أو خلف إمام، وتخفيها ولا يقولها الإمام، ولا يقول المأموم سمع الله لمن حمده، وإنما يقول: اللهم ربنا ولك الحمد. والأصل في هذا التفصيل ما في الموطإ وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد فإنه من وافق قوله قول الإمام
(3)
غفر له ما تقدم من ذنبه
(4)
)، وهذا الحديث اقتضى أن الإمام لا يقول: ربنا ولك الحمد، وأن المأموم لا يقول: سمع الله لمن حمده، وإذا رفعت رأسك من الركوع فإنك تستوي قائما مطمئنا مترسلا، معناه متمهلا، أو هو مرادف لقوله مطمئنا، ثم تهوي ساجدا ولا تجلس، ثم تسجد حتى يكون سجودك من جلوس، كما يقوله بعض أهل العلم. قوله: ثم تهوي ساجدا، لفعله عليه الصلاة والسلام، وما قاله بعض أهل العلم مستند لفعله عليه الصلاة والسلام أيضا والجواب عنه ما قالته عائشة رضي الله عنها (أنه صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك في آخر أمره لما بدن
(5)
)، أي ثقلت حركة أعضائه الشريفة لارتفاع سنة، وهذا الجلوس إن
(1)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:479.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:886. الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 261.
(3)
في الموطإ: قول الملائكة. قال العدوي في حاشيته على كفاية الطالب الرباني ص 503 وفى رواية الملائكة - كما في خط بعض العلماء.
(4)
الموطأ، كتاب الصلاة، رقم الحديث:51. والبخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث: 796. ومسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:408.
(5)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:732.
وقع سهوا ولم يطل لم يضر، وإن طال سجد له، وإن كان عامدا فالمشهور أنه إن لم يطل لم يضر، وتكبر في حال انحطاطك للسجود، وتمكن جبهتك وأنفك من الأرض، وتباشر بكفيك الأرض باسطا يديك، فيه تكرار مع قوله: وتباشر بكفيك الأرض؛ لأنه لا يكون ذلك إلا مع البسط، وإن سجد وهو قابض بهما شيئا كره مستويتين إلى القبلة تجعلهما حذو أذنيك أو دون ذلك، والأصل في ذلك كله فعله عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك أي وضعهما حذو أذنيك أو دونهما واسع: أي جائز، غير أنك لا تفترش ذراعيك في الأرض. أتى به ليرفع توهم أنه له أن يضع يديه على أي وجه كان، لقوله واسع، (وصح أنه عليه الصلاة والسلام نهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع
(1)
). وفي رواية (افتراش الكلب
(2)
) ولا تضم عضديك إلى جنبيك، ولكن تجنح بهما تجنيحا وسطا، وهذا التجنيح مستحب في الرجل. وسيأتي الكلام على المرأة، وتكون رجلاك في سجودك قائمتين، وبطون إبهاميهما إلى الأرض، وكذلك بطون سائر الأصابع، ويزاد على هذا الوصف أن يفرق بين ركبتيه، وأن يرفع بطنه عن فخذيه، وهذا كله على جهة الاستحباب. (ودليله من السنة
(3)
)، وتقول إن شئت في سجودك: سبحانك رب إني ظلمت نفسي وعملت سوءا فاغفر لي، أو تقول غير ذلك إن شئت. وأتى بهذا ليرد على من يقول: التسبيح واجب، وتدعو في سجودك إن شئت. وظاهره التخيير. والذهب استحبابه، وليس لطول ذلك أي السجود وقت، أي حد، وأقله أن تطمئن مفاصلك اطمئنانا متمكنا، ثم إذا فرغت من الدعاء والتسبيح في السجود، ترفع رأسك بالتكبير فتجلس وجوبا بمقدار ما يقع الاعتدال، فتثني؛ أي تعطف رجلك اليسرى في جلوسك بين السجدتين، وتنصب؛ أي تقيم رجلك اليمنى وبطون أصابعها إلى الأرض، ولا تختص هذه الصفة بالجلوس بين السجدتين، بل هي صفة جميع الجلوس في الصلاة، وإذا رفعت رأسك من السجود فإنك ترفع أيضا يديك عن الأرض فتجعلهما
(1)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:498.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:897. ولفظه: اعتدلوا في السجود ولا يفترش أحدكم ذراعيه افتراش الكلب. والبخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:822.
(3)
روى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شئ من فخذيه. سنن أبى داود، كتاب الصلاة، الحديث:735.
على ركبتيك، فإن لم ترفعهما عن الأرض ففي بطلان صلاتك قولان، أشهرهما على ما قال ابن عمر: البطلان، والأصح على ما قال القرافي: عدم البطلان. قاله الشادلي. ثم تسجد السجدة الثانية -كما فعلت أولا-، ثم تقوم من الأرض كما أنت معتمدا على يديك، وهذا الاعتماد مستحب، ولا ترجع جالسا لتقوم من جلوس، ولكن كما ذكرت لك في السجود؛ وهو أنك تهوي إليه من قيام لا من جلوس. فكذلك ترجع إلى القيام من السجود من غير جلوس ليكون قيامك من سجود لا من جلوس. وتكبر في حال قيامك ثم تقرأ كما قرأت في الركعة الأولى، وتفعل مثل ذلك سواء. قيل: الإشارة عائدة على الجهر، وقيل: على الركوع، وقيل: على جميع ما ذكر وعليه يكون قوله بعد: ثم تفعل في السجود الخ، تكرار غير أنك تقنت بعد الركوع، وإن شئت قنت قبل الركوع بعد تمام القراءة، والقنوت: اللهم إنا نستعينك الخ، وتفعل في السجود والجلوس كما تقدم من الوصف، فإذا جلست بعد السجدتين، نصبت رجلك اليمنى وبطون أصابعها إلى الأرض، وثنيت اليسرى، وأفضيت بأليتك، أي مقعدتك اليسرى إلى الأرض، وهذه هي الرواية الصحيحة. ويروى بأليتيك بالتثنية، وهي خطأ؛ لأنه إذا جلس عليهما كان إقعاء؛ وهو مكروه. قاله الشادلي. ولا تقعد على رجلك اليسرى تكرار، وإن شئت أحنيت اليمنى في انتصابها فجعلت جنب بهمها إلى الأرض فواسع، ثم تتشهد، والتشهد: التحيات لله الخ، وقوله: أخيرا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، المشهور أنه لا يعيده. وعن مالك: يستحب للمأموم إذا سلم إمامه أن يقول: السلام علينا الخ، ثم تقول: السلام عليكم تسليمة واحدة عن يمينك تقصد بها قبالة وجهك، وتتيامن برأسك قليلا هكذا يفعل الإمام والرجل وحده، وأما المأموم فيسلم واحدة يتيامن بها قليلا، ويرد أخرى على الإمام قبالته يشير بها إليه بقلبه، وقيل برأسه إذا كان أمامه، وإن كان خلفه أو على يمينه أو على يساره ترك الإشارة إليه برأسه، ويرد أخرى على من كان سلم عليه عن يساره، فإن لم يكن سلم عليه أحد لم يرد على يساره شيئا ويجعل يديه في تشهديه على فخذيه، ويقبض أصابع يده اليمنى، ويبسط السبابة مشيرا بها وقد نصب حرفها إلى وجهه. واختلف في تحريكها، فقال ابن القاسم: يحركها، وقال ابن مزين: لا يحركها،
وعلى أنه يحركها فهل في جميع التشهد أو عند الشهادتين فقط؟ قولان، وعليهما فهل يمينا وشمالا، أو أعلى وأسفل؟ قولان والقراءة في الظهر بنحو القراءة في الصبح من الطول، في قول، وهو لأشهب وابن حبيب: ودون ذلك في قول مالك ويحيى، أي في الركعتين الأوليين، ويفعل في جميعها من الركوع والسجود وغير ذلك -كما مر في الصبح- إلا أنه يسر القراءة ويجلس فيها بعد ركعتين، فيتشهد إلى قوله: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ويقرأ في الأخيرتين منها بالفاتحة فقط سرا، ويتشهد بعدهما ويسلم -كما مر في الصبح- وكذا يفعل في العصر إلا أنه يقرأ في الأوليين منها بسورتين من قصار المفصل، ويفعل في المغرب مثل ما مر في الصبح، إلا أنه يقرأ في الأوليين منها بسورتين من قصار المفصل، ويتشهد بعدهما إلى قوله: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم يأتي بركعة بالفاتحة فقط سرا، ثم يتشهد ويسلم -كما مر في الصبح-، ويفعل في العشاء كما مر في الظهر والعصر من غير فرق، إلا أنه يقرأ في الأوليين بسورتين من متوسط المفصل يجهر فيهما، والجمعة مثل الصبح من غير فرق.
وكل تشهد؛ يعني أن كل تشهد سنة مستقلة وسواء في ذلك التشهد الثاني وغيره، ولو في مسائل البناء والقضاء، وشهره ابن بزيزة، فإنه حكى في التشهدين ثلاثة أقوال المشهور أنهما سنتان، وقيل: فضيلتان، وقيل: الأول سنة والثاني فريضة، ويكفي في حصول السنة تهليلة واحدة، وقوله: وكل تشهد أي للإمام والمأموم والفذ، وإن نسيه المأموم حتى قام الإمام فليقم ولا يتشهد، ويتشهد المأموم بعد سلام الإمام حيث لم ينفصل الإمام عن محله، ولو تحول تحولا يسيرا لا يكون منفصلا به عن محله بخلاف ما إذا انفصل عن محله فلا يفعله. قاله الشيخ عبد الباقي. وغيره. قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر، والذي نقله الحطاب عن سند عند قول المصنف في السهو: كتشهد، ما نصه: فإن كان مأموما وذكر التشهد قبل السلام وبعد سلام إمامه وقيامه قال ابن القاسم: يتشهد ويسلم، فانظر قوله: وقيامه. ونقل عقبه عن النوادر ما نصه: قال ابن القاسم عن مالك: من نسي التشهد الأخير حتى سلم الإمام، فليتشهد ويسلم، وإن نسي التشهد الأول حتى قام الإمام فليقم معه ولا يتشهد. انتهى. وفي القلشاني: والمشهور في المذهب أنه -يعني-
التشهد سنة واحدة. وقيل: كل واحد سنة، وقيل: الأخير واجب. انتهى. وقوله: وكل تشهد سواء كان بما ورد عن عمر رضي الله عنه أو بغيره بدليل ما يأتي.
وقد مر أنه يكفي في تحصيل السنة تهليلة واحدة، وأما قول الشيخ أبو محمد: فإن سلمت بعد هذا أجزأك في تحصيل الأكمل، وإلا فيجزئ تهليلة واحدة. والله سبحانه أعلم. وفي الشبراخيتي: لو نسي المأموم التشهد حتى سلم الإمام تشهد ولا يدعو. قال سند: معناه أن الإمام لم ينفصل عن محله، وأما لو انفصل لم يتشهد، ثم إن قول سند معناه أن الإمام لم ينفصل عن محله، يفيد أنه يأتي بالتشهد بعد سلام الإمام حيث لم يقم الإمام من محله، ولو تحول تحولا يسيرا لا يكون به منفصلا عن محله. والظاهر أنه إذا أطال السجدة الثانية حتى سلم الإمام أنه يجري فيه التفصيل المذكور. انتهى. وقوله وكل تشهد، سمي التشهد تشهدا لاشتماله على النطق بشهادة الحق تغليبا لها على بقية أذكاره لشرفها، ولم يوجبه مالك وأبو حنيفة، بل قال مالك: سنة واجبة. أحمد وجماعة: في الجلوسين معا، وأوجبه الشافعي في الأخير دون الأول، ورواه عن مالك أبو مصعب، وقال: من تركه بطلت صلاته. قاله سيدي محمد بن عبد الباقي.
والجلوس الأول عطف على سورة، يعني أن من سنن الصلاة الجلوس الأول؛ أي ما عدا الأخير فيشمل مسائل البناء والقضاء، ولم يقل: وكل جلوس ليلا يدخل فيه الجلوس بين السجدتين، وقوله: والجلوس الأول أي كل واحد منه سنة مستقلة، وأفاد بقوله: والجلوس الأول أنه تحصل سنته، وإن لم يقرأ فيه تشهدا بخلاف قيام السورة حيث قال: وقيام لها. قاله مقيده عفا الله عنه.
والزائد على قدر السلام من الثاني، يعني أن الجلوس الأخير، وهو المراد بالثاني ما زاد منه على قدر تسليمة التحليل سنة، وأما الجلوس الذي تقع فيه تسليمة التحليل فهو واجب، فقوله: الثاني؛ أي ما فيه السلام ثانيا أو ثالثا أو رابعا أوأول كما في الصبح. وقوله: "والزائد على قدر السلام من الثاني"، فيه إجمال، وذلك لأن حكم الظرف حكم المظروف، فالجلوس للتشهد سنة، وللصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كونه سنة وفضيلة خلاف، وللدعاء مندوب قبل سلام الإمام، وبعده مكروه، وللرد سنة، وللسلام واجب. وقوله: والزائد الخ، أي هو سنة مستقلة.
وعلى الطمأنينة؛ يعني أن ما زاد من الطمأنينة على الطمأنينة التي يحصل بها الفرض سنة مستقلة. قال الشيخ عبد الباقي: وانظر ما قدر هذا الزائد في حق الفذ والإمام والمأموم، وهل هو مستو فيما يطلب فيه التطويل، وفي غيره كالرفع من الركوع، ومن السجدة الأولى أم لا؟ ومقتضى المصنف استواؤه في جميع ما ذكر، وانظر لو طول فيه بحيث يعتقد الناظر له أنه ليس في صلاة، هل تبطل صلاته بذلك أم لا؟ والظاهر الأول، وصرح ابن عمر بالكراهة في الركوع خاصة، فقال في قول الرسالة: ولا حد في اللبث، أي الإقامة للركوع، وهذا في حق الفذ ما لم يطل جدا حتى يتعدى عن الحد، فإذا أفرط جدا فإنه يكره؛ وهذا في الفريضة، فأما النافلة فإنه يطول فيها ما شاء، ويكره في حق الإمام أيضا ما لم يضر بالناس انتهى. كلام الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ إبراهيم: فلو أطال فيه جدا وأفرط بحيث يعتقد الناظر أنه ليس في صلاة، فإنه يكره في الإمام والفذ. كما قاله ابن عمر. وسكت عن المأموم؛ لأنه محدود في المأموم بأن لا يتلبس الإمام بفعل بعد الفعل الذي هو فيه كما يأتي عند قوله:"لكن سبقه ممنوع والظاهر البطلان". انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: انظر من نص على أن الزائد على الطمأنينة سنة، ونص اللخمي: اختلف في حكم الزائد على أقل ما يقع عليه اسم طمأنينة، فقيل: فرض موسع، وقيل: نافلة وهو الأحسن. انتهى. وقال ابن عرفة: والزائد على أقلها، ابن شعبان: فرض موسع، وبعضهم نفل، وصوبه اللخمي. انتهى. وهكذا عبارتهم في أبي الحسن وغيره. انتهى.
ورد مقتد على إمامه؛ يعني أن من سنن الصلاة أن يرد المقتدي على إمامه تسليمة واحدة بعد تسليمة التحليل، ولا بد أن يكون المقتدي أدرك مع الإمام ركعة فأكثر كما يشعر به كلامه، إذ لا يصدق عليه أنه إمامه إلا بذلك بقي إمامه أو انصرف. ويشير إليه بقلبه لا برأسه ولو كان أمامه، وسمي ردا لأن الإمام يقصد بسلامه للتحليل الخروج من الصلاة، ويحصل سلامه على المصلين والملائكة تبعا فلذا لم يجب الرد، ويطلب الرد من المأموم على الإمام وعلى من على يساره، وإن لم يقصد واحد منهما السلام عليه. وفهم من قوله:"رد" أنه لا يسلم على الإمام قبل التحليل وهو كذلك، فإن فعل سجد قبل السلام. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله:"فإن فعل" الخ، أي سهوا كما
هو ظاهر. وعلم مما مر أن المقتدي لو لم يدرك مع الإمام إلا أقل من ركعة فإنه لا يرد عليه. واعلم أن رد المقتدي على الإمام سنة مستقلة.
ثم يساره، يعني أنه يسن للمقتدي أيضا أن يرد على من على يساره من المأمومين تسليمة ثالثة بعد رده على الإمام تسليمة ثانية، فكل من الردين سنة مستقلة. ومحل رد المقتدي على يساره إذا كان به، أي في يساره أحد مقتد، حصلت منه ركعة فأكثر كما علم من أول الحل بقي أو انصرف؛ وهو يشمل كل من على اليسار من المأمومين مسبوقا أو غير مسبوق ولو صبيا، وظاهره مسامتته له لا تقدمه أو تأخره عنه، وظاهره قرب منه أو بعد جدا، وظاهره أيضا فصل بينه وبينه فاصل كرجل لا يصلي معه، أو كرسي أو منبر أولا وحرر الجميع نقلا. قاله الشيخ عبد الباقي.
قال جامعه عفا الله عنه: يكفي من النص الظواهر. والله سبحانه أعلم. وقوله: "ثم يساره"، هل يشير برأسه إلى من بجهة اليسار؟ ويأتي عن الحطاب ما يفيد ذلك. والله سبحانه أعلم. وسيأتي عنه أيضا ما يفيد تقوية الرد على الإمام بالنية؛ أي يقصده بالسلام الملفوظ به، ولا يشير إليه برأسه. والله سبحانه أعلم.
ومن لم يدرك ركعة لا يرد على من باليسار، كما لا يرد على الإمام، بل يسلم سلام الفذ. وقيل: يقدم في الرد من على اليسار على الإمام والظاهر ندبه على كليهما، وقيل: يخير في ذلك، ويجب تقديم تسليمة التحليل على ما بعدها، وكلام الشيخ عبد الباقي غير صحيح، وقيل: إن تسليمتي الرد سنة واحدة، وقيل: فضيلتان، ويقتصر الفذ والإمام على تَسْليمَةٍ واحدة على المشهور وعليه العمل. ابن يونس: وقد سلم النبي صلى الله عليه وسلم تسليمة واحدة وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم
(1)
. وإنما قُدم الإمام في الرد تشريفا له، ولخبر أبي داوود: (سلموا على اليمين ثم على قارئكم ثم على أنفسكم
(2)
)، والذي يظهر من الحطاب أن الذي هو سنة على
(1)
مجمع الزوائد، ج 2 ص 149. والمعونة للقاضي عبد الوهاب، ج 1 ص 101.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:975. ولفظه: ثم سلموا على اليمين ثم سلموا على قارئكم ثم على أنفسكم.
المعتمد رد المقتدي على الإمام؛ لأنه عزاه لابن يونس وابن رشد والقرافي، وارتضاه القباب، ولم يتعرض هؤلاء لحكم الرد على من باليسار. قاله الشيخ إبراهيم.
وما ذكره المصنف من أن المقتدي يسلم ثلاث تسليمات هو المشهور، وقيل: يسلم تسليمتين الأولى عن يمينه للخروج من الصلاة، والثانية على الإمام وهذا القول رواية عن مالك. قال الإمام الحطاب بعد جلب نقول: وظاهر كلام هؤلاء الجماعة أن الثانية إنما يقصد بها الرد على الإمام، والذي في كلام الباجي في المنتقى أنه على هذا القول يقصد بها الرد على الإمام والمأمومين، واختار هذا القول ابن العربي، إلا أن ظاهر كلام الجماعة المتقدمين أن المأموم يسلم الثانية تلقاء وجهه، وابن العربي أنه يسلمها عن يساره، ونصه: الذي أقول به أن يسلم اثنتين واحدة عن يمينه يعتقد بها الخروج من الصلاة، والثانية عن يساره يعتقد بها الرد على الإمام والمأمومين، والتسليمة الثالثة احذروها فإنها بدعة لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة، وحديث عائشة معلول. انتهى. وفي الحطاب: أن الظاهر أن المراد بالإشارة القصد؛ يعني في الرد على الإمام لا الإشارة بالرأس، والرد على الإمام مجمع عليه، وقد مر الخلاف فيمن يقدم في الرد على ثلاثة أقوال، ووجه القول بتقديم الرد على الإمام أنه سبق بالسلام، فيقدم الرد عليه على الرد على غيره، ووجه تقديم الرد على من باليسار أنه يجب اتصال الرد بالتحية لقوله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} والإمام قد انقطع اتصال تحيته بسلام المأموم: فإذا انخرم ذلك في حقه فلا ينخرم في حق المأموم مع إمكانه، ووجه القول بالتخيير تعارض مقتضى التقديم مع الاتفاق على أن ذلك على جهة الأولى، وإذا سلم المقتدي على من باليسار، فهل يشترط في ذلك التأخير حتى يسلم من على اليسار؟ ليس فيه نص، والظاهر أنه ليس يشترط. قاله الحطاب عن القرافي.
وفي الشامل: والمسبوق كغيره، وقيل: إن كان الإمام ومن على يساره لم يذهبا، وإلا فواحدة، ولا يرد على الإمام ولا من على اليسار إلا من أدرك ركعة فأكثر. كما مر. وما تقدم من أن التحية يجب اتصالها بالرد الظاهر أن معناه أن ذلك سنتها، فقد مر أن الملبي، والمؤذن يردان السلام بعد فراغهما. انظر الحطاب. وقد مر أن الإمام والفذ يقتصران على تسليمة واحدة على المشهور.
ومقابل المشهور ما روي عن مالك أن الفذ يسلم تسليمتين واحدة عن يمينه وواحدة عن يساره. رواه مطرف في الواضحة. قال: وبهذا كان يأخذ مالك في خاصة نفسه، وكذا روي عن مالك أن الإمام يسلم تسليمتين كالفذ، ولا يسلم من خلفه حتى يفرغ منهما، ولم يشترط أحد تسليمتين، وكل من أثبت التسليمة الثانية يقول إنها غير واجبة إلا ابن حنبل والحسن، وهو باطل بإجماع من تقدمهما ومن تأخرهما، فلو أحدث المصلي بعد فراغه من التسليمة الأولى لم تفسد صلاته، وعلى هذا القول الذي هو مقابل للمشهور؛ أعني القول بأن الإمام يسلم تسليمتين لا يقوم المسبوق لقضاء ما عليه حتى يفرغ الإمام منهما، فإن قام بعد تسليمة واحدة، فبيس ما صنع ولا يعيد. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: فإن كان مذهب الإمام أن لا يخرج من الصلاة إلا بالتسليمة الثانية لم يسلم المأموم إلا بعد الثانية، فإن سلم بعد الأولى عصى وصحت. انتهى.
وجهر بتسليمة التحليل؛ يعني أن من سنن الصلاة الجهر بتسليمة التحليل لكل مصل إماما أو مأموما، أو فذا فرضا أو نفلا وفي سجود سهو، واحترز بقوله: فقط، من غير تسليمة التحليل من رد المأموم على الإمام ومن على اليسار، فإن الأفضل فيهما السر، وندب لكل مصل الجهر بتكبيرة الإحرام، ويندب للمأموم والفذ السر بغيرها من التكبير، وبسمع الله لمن حمده، ويندب للإمام الجهر بهما للإسماع، ويندب لكل مصل السر بغير ذلك من ذكر الصلاة، كما في الحطاب عند قوله:"وقنوت". ونقل عن البرزلي: أن الجهر بالتشهد والقنوت لا يجوز، ويعيد من تعمد ذلك، ويسجد الساهي إلا أن يكون خفيفا. ثم قال بعد ذلك: وأما الجهر بالتشهد والقنوت فالمعلوم من المذهب أن الجهر بالذكر لا يبطل الصلاة، بل تركه مستحب خاصة، وجهر المرأة في القراءة وغيرها أن تسمع نفسها وسنية الجهر بتسليمة التحليل في حق الرجل الذي ليس معه من يخلط عليه، وأما من معه من يخلط عليه بجهره بها، أن يسمع نفسه فقط، وقد يقال لخفة السلام لا يحصل بالجهر به تخليط فليس مخالفا لغيره في الجهر.
وإن سلم على اليسار، يعني أنه إذا سلم المصلي على اليسار إماما أو مأموما، أو فذا قاصدا للتحليل ثم بعد سلامه للتحليل، تكلم عمدا أو سهوا لم تبطل صلاته، فإن قيل: ما فائدة قوله:
"تكلم"، فإنه حيث سلم للتحليل لا تبطل صلاته بموجب بطلان حدث بعد سلام التحليل، فلو حذفه لكان حسنا؟ فالجواب أن اللخمي قال: اختلف في المأموم يسلم على يساره، ثم عن يمينه بعد أن تكلم، فقيل: تبطل صلاته، وقيل: لا تبطل. حكى ابن أبي زيد البطلان عن ابن شعبان، قال: ولا وجه له، فظهر من هذا أن قول المصنف:"ثم تكلم" أتى به للرد على ما لابن شعبان. فإنه يقول ببطلان صلاة من سلم على اليسار، ثم بعد أن تكلم سلم عن يمينه، فظاهره أنها تبطل ولو قصد بتسليمه عن يساره التحليل. والله سبحانه أعلم. والمختار من ذلك التفصيل بين أن يسلم عامدا للخروج بها فلا تبطل، وبين أن لا يقصد بها الخروج من الصلاة، فصلاته باطلة؛ لأنه قد تكلم قبل سلامه عمدا. كما نقله الشيخ محمد بن الحسن، عن ابن عرفة. وقال الإمام الحطاب عند قول المصنف:"وإن سلم على اليسار الخ "، يريد: إذا سلم قاصدا بذلك التحليل، وأما إن قصد به الفضيلة فتبطل كما صوبه ابن عرفة. انتهى.
وقال الشيخ الأمير: ولو تعمد التحليل عن اليسار أجزأ وخالف المطلوب، فإن سها عن التحليل وسلم للفضل صح إن عاد بقرب؛ كإن قدم ناويا العود، وإلا بطلت. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: إن هذا التفصيل خاص بالمأموم الذي على يساره أحد، ونسب ذلك للحطاب. وقال: فإذا لم يكن على يساره أحد فالصلاة صحيحة، فإن لم يقصد شيئا جرى على الخلاف في اشتراط نية الخروج بالسلام. انتهى. واعترض الشيخ محمد بن الحسن نسبة ذلك للحطاب قائلا: ليس القيد المذكور فيه، بل لم يزد الحطاب على التقييد بقصد التحليل، قال: وإلا بطلت. كما صوبه ابن عرفة. انتهى. وتحصل مما مر أنه لو قصد المأموم الفضيلة، ثم يرجع لتسليمة التحليل، بطلت إن تكلم عمدا لا سهوا، فيسلم ويسجد بعد. فإن لم يسلم وطال بطلت، كما إذا لم ينو العود حين قدم تسليمة الفضل عامدا، ولو لم يتكلم فتسليمه للفضل مع نية العود للأولى ليس كالكلام الأجنبي.
وسترة؛ يعني أن من سنن الصلاة السترة على ظاهر المدونة عند المازري وابن عبد البر وابن حبيب، والمعتمد أنها مستحبة. ففي التوضيح: الأمر أمر ندب كذا قال الباجي وغيره، وفي الشامل: والسترة مستحبة، وقيل: سنة. وقال الشيخ أبو الحسن الصغير: السترة من فضائل الصلاة، وقال القاضي عياض. في قواعده: من فضائل الصلاة الدنو من السترة، وعدها ابن رشد من فضائل الصلاة، وقال
ابن ناجي: اختلف في السترة على ثلاثة أقوال: الأول أنها مستحبة، قاله: عياض، ومثله للباجي. الثاني: سنة قاله في الكافي، الثالث: واجبة وَرُدَّ. لإمام وفذ؛ يعني أن السترة تسن للإمام والفذ بصلاة، ولو نفلا أو سجود سهو أو تلاوة؛ لأن كلا صلاة. كذا يظهر. قاله الشيخ عبد الباقي. وشرعت السترة ليجتمع قلب العبد لمناجاة ربه، ولهذا شرعت الصلاة لجهة واحدة، وشرع فيها الصمت، وترك الأفعال العادية، ولذا لا تقام الصلاة في حالة الجوع وغيره من المشوشات ما لم يخش خروج الوقت تحصيلا لأدب القلب مع الرب أعاننا الله على ذلك بمنه وكرمه. قاله الشيخ إبراهيم. ولناظم مقدمة ابن رشد:
وتكره الصلاة في حال التعب
…
وحالة الجوع وحالة الغضب
ويمنع الجري إلى الصلاة كراهة، وإن فاتت الجماعة وفي الشارح عن ابن بشير: أن الأمر بالسترة مجمع عليه.
إن خشيا مرورا شرط في الأمر بالسترة؛ يعني أن الإمام والفذ إنما يؤمران بالسترة حيث خافا مرور شيء بين أيديهما ظنا أو شكا لا وهما، وإلا فلا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صلى لسترة
(1)
ولغيرها، فحملت صلاته لغيرها على الأمن من المرور، وهذا هو المشهور، وقيل: يؤمر بها مطلقا، واختاره اللخمي، وبه قال ابن حبيب. والحاصل أن المشهور أن الفذ والإمام لا يؤمران بالسترة عند الأمن من المرور، فمن صلى بصحراء لا يمر عليه بها شيء، أو كان بمكان مرتفع يغيب عنه رؤس المارين لا تطلب منه السترة وسواء في ذلك المسافر والحاضر. وروى ابن القاسم: من صلى على موضع مشرف فإن كان يغيب عنه رؤوس الناس وإلا استتر، والسترة أحب إلي.
وتحقيق فقه هذه المسألة أن من لا يرى رؤوس المارين، ومن لم يخش مرورا لا يؤمران بالسترة على المشهور، ويؤمران بالسترة على مقابل المشهور، وهو قول ابن حبيب الذي اختاره اللخمي؛
(1)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:494.
وهو الذي يفيده كلام العتبية، ويستحب الدنو من السترة قيل: بشبر فإذا ركع تأخر، وقيل: بذراغ، وقيل: قدر مرور الشاة، وقيل: قدر ثلاث أذرع، وقال الإمام مالك: لا بأس أن ينحاز الذي يقضي بعد سلام الإمام إلى ما قرب منه من الأساطين بين يديه، وعن يمينه، وعن يساره، وإلى خلفه يقهقر قليلا يستتر بها، وإن بعد أمام ودرأ المار جهده: وروى ابن نافع بالمعروف.
تنبيهات، الأول: مفهوم قول المصنف: لإمام وفذ، أن المأموم ليس كذلك، فلا يطلب بها وهو كذلك؛ لأن سترة الإمام سترة لمأمومه. قاله عبد الوهاب. وعن الإمام مالك أنه قال: إن الإمام سترة للمأموم. قيل: على حذف مضاف أي سترة الإمام سترة للمأموم فيتفقان: وقيل: يختلفان فيبقى كلام الإمام على ظاهره، وتظهر فائدة الخلاف فيمن مر بين الصف الذي خلف الإمام والإمام، فعلى الخلاف يأثم عند الإمام، وعلى الوفاق لا يأثم، كما لا يأثم في المرور بين الصفوف على كلا، القولين؛ لأن السترة حينئذ حكمية لا حسية، والمنع إنما هو في الثانية، قاله الإمام الحطاب، وغيره. وبحث فيه بأن السترة مع الحائل ليست أدنى من عدم السترة أصلا، وقد قالوا بالحرمة فيه. نعم إن قلنا: إن الإمام سترته، فحرمة المرور بين الإمام وسترته لحق الإمام فقط، وإن قلنا: سترة الإمام سترته، فالحرمة فيه من وجهين فليتأمل. قاله الشيخ الأمير:
الثاني: في الحديث: (سترة المصلي مثل مؤخرة الرحل يجعله بين يديه
(1)
)، وفي المدونة: قال مالك: هو نحو عظم الذراع، يريد في الارتفاع، والذراع ما بين طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى، ومؤخرة الرحل هي العود الذي خلف الراكب، وهي بضم اليم وكسر الخاء بينهما همزة ساكنة ة وبفتح الواو وشد الخاء، ويقال آخرة بالمد، ويقال: بضم الميم وفتح الخاء مشددة بينهما همزة مفتوحة.
الثالث: قال الشيخ ميارة: وهل شرعت للصلاة حذارا من مرور ما يشتغل به، أو حريما للصلاة حتى يقف نظره عندها؟ قولان، والمذهب أن المصلي يدفع من يمر بين يديه دفعا خفيفا لا يشغله عن الصلاة، وقال أشهب: إذا مر بين يديه شيء بعيدمنه رده بالإشارة ولا يمشي إليه، فإن
(1)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:499. بلفظ: إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبالي من مر وراء ذلك.
فعل وإلا تركه، وإن قرب منه فلم يفعل فلا ينازعه، فإن ذلك أشد من مروره، فإن مشى أو نازعه لم يفسد صلاته: وهذا خلاف ما قاله ابن العربي أنه: ليس للمصلي حريم إلَّا ثلاثة أذرع، وأما خبر: (فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان
(1)
)، فمعناه أوائل المقاتلة؛ وهو الدفع بعنف ما لم يؤد إلى العمل الكثير في الصلاة، ويحتمل أن المراد فليواخذه على ذلك، وليوبخه على فعله بعد تمام الصلاة، ولا يريد المقاتلة على ظاهرها بإجماع. انتهى. وسيأتي إن شاء الله ما يترتب على الدافع من الضمان عند قوله:"ومصل تعرض".
بطاهر؛ يعني أنه لا يستتر إلَّا بالطاهر، قال الش: واحترز بالطاهر من النجس كقصبة مرحاض ونحوه. ثابت؛ يعني أنه إنما يستتر بالطاهر الثابت لا النجس -كما مر- ولا المتحرك، فلا يستتر بالصبي، ولا بالمجنون، ولا بسوط جلد وغير ذلك من كلّ متحرك. غير مشغل؛ يعني أنه لا يلستتر بما هو مشغل، واحترز بذلك عن المشغل كالمرأة الأجنبية فلا يستتر بها خشية الفتنة كما سينص عليه وكالوجه كما يأتي، وكالنائم؛ لأنه قد يحدث منه شيء يشوش على المصلي، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني نهيت أن أصلي إلى النائمين والمتحدثين
(2)
). في غلظ رمح هذا بيان لقدر السترة؛ يعني أن مقدار السترة في الغلظ هو مقدار غلظ الرمح. مالك: وإني لأحب أن يكون في جلة الرمح، يريد في غلظه.
وطول ذراع، يعني أن مقدار السترة في الطول مقدار طول الذراع، فغلظها غلظ الرمح وارتفاعها؛ أي طولها طول ذراع. والذراع كما تقدم ما بين طرف الرفق إلى طرف الإصبع الوسطى. قاله ابن سيدة. وبذلك فسره عياض. ابن عرفة: وفيها يسيره؛ أي ما يستتر به قدر مؤخرة الرحل، وهو نحو عظم الذراع في جلة الرمح، والزرع سترة إذا كان بعضه مترا كما على بعض. وقال ابن
(1)
البخاري، كتاب بدء الخلق، ردم الحديث:3274.
(2)
نهيت أن أصلى خلف المتحدثين والنيام. الطبرانى في المعجم الأوسط، رقم الحديث:5246. وفي سنن أبى داود، كتاب الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث. الحديث: 694.
حبيب: لا بأس أن تكون السترة دون مؤخرة الرحل في الطول، ودون الرمح في الغلظ، قال: ولا يكون السوط سترة لرقته إلَّا أن لا يوجد غيره.
لا دابة؛ يعني أنه لا يستتر بالدابة، وهذا هو محترز قوله:"بطاهر ثابت"، حيث كان بول الدابة نجسا فإن كان بولها طاهرا فهي محترز قوله:"ثابت". قال التتائي: والظاهر كراهة الاستتار بالدابة. كما يفيده ابن رشد. فتحصل من هذا أنه لا يستتر بالدابة، إما لنجاسة بولها، وإما لزوالها. قال في العتبية: لا يستتر بالخيل والبغال والحمير؛ لأن أبوالها نجسة بخلاف الإبل والبقر والشاء. يريد إذا أثبتت بوثاق.
وحجر واحد؛ يعني أنه لا يستتر بحجر واحد؛ أي يكره الاستتار به إن وجد غيره خوف التشبه بعبدة الأصنام؛ لأنهم إنما كانوا يجعلون أصنامهم حجرا واحدا. قاله الشيخ إبراهيم. فإن لم يجد غيره أو كان الحجر أكثر من واحد، استتر به. واعلم أنه لا ينصب السترة؛ أي جميع ما يستتر به من حجر واحد وغيره قبالة وجهه، بل بجنبه الأيمن أو الأيسر، قال الأبي: واختلف في حد حريم المصلي الذي يمتنع المرور فيه، فقيل: قدر رمي الحجر، وقيل: قدر رمي السهم، وقيل: قدر المضاربة بالسيف، وأخذت كلها من لفظ المقاتلة. ابن العربي: الجميع غلط، وإنما يستحق قدر ركوعه وسجود إلى أن قال: والأولى ما قاله ابن العربي؛ لأنه القدر الذي رسم الشارع أن يكون بين المصلي وسترته. انتهى. ففيه اختيار ما لابن العربي: في زاد عليه لا يحرم المرور فيه، وفي نقل الذخيرة عن ابن العربي أن المصلي سواء صلى لسترة أم لا، لا يستحق زيادة على مقدار ما يحتاجه لقيامه وركوعه وسجوده. ابن هلال: وكان ابن عرفة يحد حريم المصلي بما لا يشوشه المرور فيه، ويحدد بنحو عشرين ذراعا. نقله الشيخ محمد بن الحسن. وقوله: وحجر واحد لم يذكر ما هذا محترزه، ولذا كان الأولى أن يقول: بطاهر ثابت غير حجر واحد، وغير مشغل. قاله الشيخ عبد الباقي.
وخط؛ يعني أنه لا يستتر بالخط، ومعناه أنه يخط خطأ بالأرض من المشرق إلى المغرب، أو من القبلة لدبرها. ففي المدونة: الخط باطل، ونظرت أمة إلى ابن جريجٍ يصلي وقد خط خطأ، فقالت: وا عجبا لهذا الشيخ وجهله بالسنة؟ فلما قضى صلاته، قال: ما رأيت من جهلي، قالت: حدثتنى
مولاتي عن أمها عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الخط باطل لأن العبد إذا كبر تكبيرة الإحرام سدت في بين السماء والأرض)، فذهب معها إلى مولاتها فحدثته بذلك، وقالت: تجهل هذا وأنت من علماء المدينة؛ فقال:
خلت الديار فسدت غير مسود
…
ومن الشقاء تفردي بالسؤدد
فقال: أتبيعينها مني؟ -يريد أن يحسن إليها-، فقالت: ذلك إليها، فقالت: لا حاجة لي بذلك؛ لأن مولاتي حدثتني عن أمها عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا اتقى العبد ربه ونصح مواليه فله أجران ولا أحب أن أنقص من أجري). قاله التتائي. قال الشيخ إبراهيم: قوله: وأنت من علماء المدينة، صوابه: مكة. انتهى. وما قدمت في صفة الخط هو للشارح والشبراخيتي، وقال محمد بن الحسن بناني: أبو محمد صورته عند من ذهب إليه أن يخط خطأ من القبلة إلى الدبور عوضا من السترة. انتهى. وقيل: من اليمين إلى اليسار منعطف الطرفين كالهلال، وقد مر عن ابن العربي أن المصلي سواء صلى لسترة أم لا، لا يستحق زيادة على مقدار ما يحتاجه لقيامه وركوعه وسجوده انتهى فيستفاد منه أنه لا إثم على من يصلي بحانوته والناس تمر عليه؛ لأنه لم يتعرض، ولا إثم على المار أيضًا لأنه لم يمر في حريم المصلي. وقوله: وخط، كما لا يستتر بالخط، لا يستتر بحفرة، وواد، وماء، ونار، ومشغل كنائم، وحلق المحدثين والفقهاء، وكل حلقة بها كلام بخلاف الساكتين، ولا بكافر أو مابون، ولا إلى من يواجهه. فيكره في الجميع. ويجوز بظهر رجل أو صبي إن رضي كلّ أن يثبت لآخَرَ صلاة المصلي، وفي جنبه قولان، فإن لم يرض بالثبات لم يكن المصلي آتيا بالسترة المطلوبة. وقد مر أن السترة تجوز بزرع إن كان بعضه متراكبا على بعض. وأجنبية، يعني أنه لا يستتر بظهر امرأة أجنبية، وأما وجهها فلا خصوصية له بذلك؛ لأن الاستتار بوجه الرجل كذلك -كما مر-، ولا بزوجته أو أمته.
وفي المحرم قولان؛ يعني أن الأجنبية لا يستتر بها، وأما المرأة المحرم ففي جواز الاستتار بها وكراهته قولان متساويان، كما للشيخ إبراهيم. والقول بالجواز لابن الجلاب، والقول بالكراهة في المجموعة. وفي الأمير، وإنما تصح مع الإمكان بغلظ رمح: وطول ذراع طاهر ثابت غير مشغل، وصح بظهر محرم على الراجح: كرجل غير كافر، ومأبون، والوجه مشغل. انتهى. ومر عن الشيخ عبد الباقي أنه يكره الاستتار بكل حلقة بها كلام بخلاف الساكتين. وللشيخ إبراهيم: واختلف إذا كانوا سكوتا فأجيز؛ لأن الذي يليه ظهر رجل وكره لأن وجه الآخر يقابله. انتهى. وقوله: وأجنبية، قال في المدونة: ولو كانت امرأته. الأبي: والأظهر عدم افتقار مصل على جنازة لسترة لوجود سر وضع السترة في الميت، فيمتنع المرور بين الإمام وبينه، وسواء كان على سرير أو بالأرض ولا يبالي بكونه صار نجسا بالموت على القول بنجاسته، ولا بكون طولها ذراعا، ويستتر بالوسادة والمرفقة، ولا يشتر بشيء يخاف زواله، ولا يستتر المصلي بردائه. ابن ناجي: واختار بعض شيوخنا؛ يعني ابن عرفة، وشيخنا أبو مهدي أن الرداء الذي جرت العادة بكونه يعمل سترا لباب يكفي في السترة؛ لأن الغرض يحصل به أكثر مما يحصل من قدر الذراع، وكذلك الزرع إن كان متراكما. وما قاله في الزرع ظاهر، وأما الرداء وشبهه فظاهر كلامهم خلافه لرقته. انتهى. نقله الإمام الحطاب. وفي مختصر الوقار: من صلى خلف أحد من أهل البدع جاهلا ببدعته أعاد في الوقت، وإن كان عالما أعاد أبدا، وإن علم فِي الصلاة قطع؛ لأنه لا يجوز أن يتخذ سترة في نافلة، فكيف بأن يجعله إماما في فريضة؟ قاله الحطاب. ولا يستتر بالمصحف، ولا بأس بالسترة بالصبي. قاله الحطاب. وفي الاستتار بجنب الرجل روايتان: منعه مرّة، وخففه في رواية ابن نافع.
وأثم مار؛ يعني أن من مر بين يدي المصلي يأثم بفعله ذلك، ومثل المار مناول آخر شيئًا بين يدي المصلي، ومكلم آخر بين يدي المصلي، ومحل إثم من ذكر حيث كان له مندوحة؛ أي إنما يأثم من ذكر حيث كان له سعة في ترك ذلك لا مضطر فلا إثم عليه في كلّ حال، وقوله:"وأثم مار"،
هذا عام فيمن يصلي لسترة وغيرها، وقوله:"وأثم مار"، لخبر: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خريفا خيرا له من أن يمر بين يديه
(1)
)، رواه مالك، وأبو داوود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة. ولخبر: (لو يعلم المار بين يدي المصلي لأحب أن ينكسر فخذه ولا يمر بين يديه (
(2)
). رواه ابن أبي شيبة مرسلا، ورواهما السيوطي في الجامع الصغير، وروى أيضًا عن الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: (لو يعلم أحدكم ما له في أن يمر بين يدي أخيه معترضا في الصلاة كان لأن يقيم مائة عام خير من الخطوة التي خطاها (
(3)
)، ومفهوم قوله:"له مندوحة" أن المضطر لا إثم عليه. كما مر قريبا. وقوله: "وأثم مار"؛ أي غير مصل، وغير من بالمسجد الحرام، أما المصلي فلا إثم عليه في مروره سواء كان بالمسجد الحرام أو غيره كالمضطر وأما من بالمسجد الحرام فإن صلى لغير سترة جاز المرور بين يديه كانت للمار مندوحة أم لا، وإن صلى لسترة كره المرور بين يديه للطائف، وحرم على غيره؛ يعني وللمار مندوحة فيهما، والمذهب أن المار لا يقطع الصلاة. الأبياني: لو عاود الإحرام من اعتقد ذلك لم يضره؛ لأنه إنما زاد تكبيرة، وقراءة المازري يريد ما لم يركع، ومن مر بين يدي مصل وجاوزه، فلا يرده، وإن لم يجاوزه رده. قاله الحطاب.
ومصل تعرض يعني أن المصلي يأثم بتعرضه للمرور؛ يعني ومر شيء بين يديه بالفعل، وأما إن لم يمر شيء بين يديه فإنه لا يأثم، وهذا إذا صلى لغير سترة. وقوله: ومصل تعرض؛ بأن صلى لغير سترة بمحل يخشى فيه المرور وهو قادر عليها وحصل المرور، سواء حصل ممن له مندوحة أم لا. وبما قررت علم أنه لا يأثم بمجرد التعرض حيث لم يحصل مرور، فلو خاطر وسلم منه فلا إثم عليه. كما مر. وعلم مما قررت أيضًا أن الصور أربع؛ لأن المار لا يخلو من أن يكون له مندوحة أم
(1)
الموطأ، ص 126. والبخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 510. ومسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:507. وأبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 701. والترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:336. والنسائي، كتاب القبلة، رقم الحديث: 756. وابن ماجة، كتاب إقامة الصلاة، رقم الحديث:945. والجامع الصغير، رقم الحديث: 7497.
(2)
مصنف ابن أبي شيبة، ج 1 ص 316. والجامع الصغير، رقم الحديث: 7498.
(3)
الجامع الصغير، رقم الحديث:7504.
لا، وعلى كلّ إما أن يتعرض المصلي أم لا، فعلم أنهما يأثمان ولا يأثمان، ويأثم أحدهما دون الآخر ويدفع المصلي المار بعد أن يشير له دفعا خفيفا لا يشغله، فإن كثر أبطل، ولو دفعه فسقط منه دينار أو تخرق ثوبه، ضمن، ولو دفعا مأذونا فيه، ولو مات كانت ديته على العاقلة عند أهل المذهب، ولو مر به كالهر رده برجله، أو لصق بالسترة حتى يرده
(1)
من خلفه. وفي الحطاب: أن فاعل المرور عمدا آثم، ومن أكثر من ذلك واستخف به كانت فيه جرحة واعلم أن من تناول شيئا بغير إذن صاحبه كآنية أو سيف أو قدر، وقلبه فسقط منه فانكسر ضمنه، وكذا الدابة يركبها ليستخبرها فتموت تحته، والفرس وما أشبه ذلك، فإنه يضمن إن أخذ ذلك بغير إذنه، وإن كان بإذنه فلا ضمان. قاله الشيخ ميارة في شرح التحفة. وقال فيه: فإن رفع القارورة وصاحبها ساكت ينظر لم يأمره ولم ينهه فانكسرت، ففي ضمانه قولان مبنيان على أن السكوت على الشيء إذن فيه أولا، وفيه أنه إن أذن له في التقليب يضمن ما وقعت عليه دونها هي. والله سبحانه أعلم. فإن قلت كون المصلي يأثم، مناف لما تقدم من أن السترة مندوبة؛ إذ لا إثم إلَّا في الوجوب، فالجواب أن ما تعلق به الإثم غير ما هو مندوب، إذ الندب متعلق بفعل السترة والإثم بالتعرض وهما متغايران. وفي الحديث (أنه عليه الصلاة والسلام لم يزل يدرأ بهيمة أرادت أن تمر بين يديه حتى لصق بطنه بالجدار (
(2)
) وجاء (أنه حبس هرا برجله أراد أن يمر بين يديه))، وفي المدونة: ولا يناول من على يمينه من على يساره، وروى ابن القاسم: ولا يكلمه. قاله الحطاب. وفي مسائل ابن قداح: إذا تشوس المصلي من شيء أمامه فمنعه من السجود، أزاله، فإن كان عن يمينه أبعده، ولا يرده عن يساره؛ لأنه كالمار بين يديه. قاله الحطاب. وفيه: قال مالك: لا أكره المرور بين الصفوف والإمام يصلي. قاله ابن فرحون. وهو في المدونة. ابن عرفة: وفيها: لا بأس بالمرور بين الصفوف. انتهى. وقد مر شيء من هذا، ومن صلى في المسجد الحرام إلى غير سترة فلا يدرأ من يمر بين يديه بخلاف المصلي في غير المسجد الحرام إلى غير سترة، والإثم عليه في ذلك
(1)
في الحطاب ج 2 ص 233 ط دار الرضوان حتى يمر من خلفه.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:708.
دون المارين بخلاف صلاته إلى الطائفين. والفرق بين الطائفين وغيرهم من المارين بين يديه في إجازة الصلاة إليهم، أن الطائفين يصلون؛ لأن الطواف بالبيت صلاة وإن جاز فيه الكلام، ألا ترى أنه لا يكون إلَّا على طهارة؟ وإن صلى بالمسجد الحرام إلى سترة فلا يجوز لأحد أن يمر بينه وبينها من غير الطائفين -كما مر-، وله حينئذ أن يدرأ من يمر بينه وبينها، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه يجوز أن يصلي في المسجد الحرام إلى غير سترة، وإن مر الناس بين يديه في الطواف وغيره، ولا إثم في ذلك عليه ولا عليهم، وأن مكة مخصوصة بجواز المرور فيها بين يدي المصلي بدليل ما روي عن المطلب بن أبي وداعة أنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي مما يلي باب بني سهم والناس يمرون بين يديه ليس بينه وبين القبلة شيء
(1)
)، وقال بعض الرواة: ليس بينه وبين الطواف سترة، فمن طريق المعنى أن الذي يصلي محاذيا إلى الكعبة يستقبل في صلاته وجوه بعض المصلين إليها، ولا يجوز ذلك في غيرها، فإذا جاز له أن يستقبل وجوههم. جاز له أن يمروا بين يديه؛ لأنه لا يستقبل بذلك إلَّا خدودهم، فهو أخف. والله سبحانه أعلم. قاله الإمام الحطاب، عن ابن رشد. وقد مر أن المصلي ينبغي له أن يدنو من السترة، واختلف في قدر الدنو منها، فقيل: يكون بينه وبينها قدر شبر، فإذا ركع تأخر، وقيل: قدر ثلاثة أذرع، وروى ابن القاسم: ليس من الصواب قدر الصفين، وفي الزاهي: ويصلي المصلي بينه وبين سترته قدر ممر الشاة.
وإنصات مقتد، يعني أنه يسن للمأموم في الجهرية أن ينصت؛ أي يسكت عن القراءة، وتكره قراءته سمع قراءة الإمام أو لم يسمع، ولو سكت إمامه، يعني أنه يسن للمأموم أن يسكت في الجهرية فلا يقرأ، ولو كان مذهب إمامه السكوت بين تكبيرة الإحرام والفاتحة، أو بين الفاتحة والسورة، وقيل: يقرأ المأموم في الجهرية إن لم يسمع قراءة الإمام، ورد المصنف "بلو" رواية ابن
(1)
أبو داود، كتاب المناسك، رقم الحديث: 2016 .... ولفظه في أخره: والناس يمرون بين يديه وليس بينهما سترة.
نافع عن مالك: إن كان إمامه يسكت بين التكبير والقراءة، قرأ الفاتحة. انتهى وقوله:"وإنصات مقتد" الخ، وأولى في السكوت لو أسر الإمام في الجهرية.
واعلم أنه ذهب الإمام الشافعي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق إلى أنه على الإمام ثلاث سكتات: بعد تكبيرة الإحرام لدعاء الافتتاح، وبعد تمام أم القرآن، وبعد القراءة ليقرأ من خلفه فيهما. وذهب مالك إلى إنكار جميعها، وذهب أبو حنيفة إلى إنكار الأخيرتين. انتهى. قاله الإمام الحطاب. وسيأتي إن شاء الله دعاء الافتتاح عند قول المصنف:"كدعاء قبل قراءة".
تنبيه. قال الشبراخيتي: الإنصات هو الاستماع، وأطلقه هنا على السكوت بدليل قوله:"ولو سكت إمامه". انتهى. وظاهر صنيع صاحب القاموس أن الإنصات هو السكوت حقيقة، فإنه قال: نصت ينصت، وأنصت: سكت، وأنصته وله: سكت له واستمع لحديثه.
وندبت إن أسر؛ يعني أنه يندب للمأموم أن يقرأ في محل السر؛ أي يقرأ الفاتحة والسورة سواء جهر الإمام أم لا، وسواء جهر عمدا أو نسيانا، ويستحب للمأموم إذا قرأ في محل السر أن يسمع نفسه للخروج من خلاف الشافعي القائل بأن حركة اللسان لا تكفي. وبما قررت علم أن معنى قوله:"إن أسر" أمر بالإسرار لكون المحل محل سر. وفي مسائل الصلاة من البرزلي: من صلى في جبة أكمامها طويلة لا يخرج يديه منها عند الإحرام، ولا في ركوع ولا في سجود، صلاته صحيحة مع الكراهة، لأجل عدم مباشرته الأرض بيديه مع ضرب من الكبر. قاله الحطاب. كرفع يديه. يعني أنه يندب لكل مصل أن يرفع يديه، فلذا فصل بالكاف، وما قبله في المأموم، ويرفعهما حذو منكبيه على المشهور قائمتين كالنابذ كفاه حذو منكبيه؛ وأصابعه حذو أذنيه. سحنون: مبسوطتان بطونهما إلى الأرض كالراهب، وقيل: مبسوطتان بطونهما إلى السماء كالراغب: والأول؛ أعني كونهما قائمتين كفاه حذو المنكبين والأصابع حذو الأذنين هو المشهور. وقال الشيخ عبد الباقي: إن كونهما مبسوطتين بطونهما إلى الأرض هو المذهب. كما قال الفاكهاني، ونحوه للشيخ إبراهيم. ونظر في ذلك الشيخ محمد بن الحسن بأن الذي استظهره في التوضيح هو الأول، أي كونهما قائمتين، قال: وهو ظاهر ابن عرفة لتصديره به، وصرح المازري بتشهيره كما في المواق، قال: وما نقله عن الفاكهاني لعله تحريف وقع في نسخة الأجهوري منه،
فإن الموجود في نسخة الفاكهاني؛ وهو المرهب بالراء. قاله بعض. وقال الشيخ زروق: والظاهر قائمتان على صفة النابذ، وقال الشيخ الأمير: ظهورهما للسماء، وهذه صفة الراهب رجحها الأجهوري، ورجح اللقاني النابذ. انتهى. وقوله:"كرفع يديه"، خلافا لأبي محمد في قوله إنه سنة، قاله الشادلي.
مع إحرامه متعلق برفع، يعني أن ندب رفع اليدين إنما هو في حالة الإحرام فقط، لا مع الركوع، ولا مع الرفع منه، ولا في قيام من ركعتين على المشهور، خلافا لابن وهب. وقال في التوضيح: والظاهر أنه يرفع عند الركوع، والرفع منه، والقيام من اثنتين، لورود الأحاديث الصحيحة بذلك
(1)
)، وفي المواق أن هذه الرواية مشهورة عن مالك عمل بها كثير من أصحابه، وندب كشفهما حال الرفع، فإن رفعهما من تحت ثوب كسلا كان مذموما لقوله تعالى:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} فإن وقع جاز، وندب أن يرسلهما برفق ووقار إلى جنبيه، ولا يدفع بهما أمامه، ولا يخبط بهما لمنافاة ذلك للخشوع، ويكون الإرسال حال التكبير، فقد نقل الحطاب عن سند ما نصه: والأظهر عندي أن يرسلهما حال التكبير ليكون مقارنا للحركة. انتهى. القرافي: والمرأة دون الرجل في رفع اليدين إجماعا. الفاكهاني والأقفهسي: المشهور أن المرأة كالرجل. وقوله: "مع إحرامه" لا لم يكن مع تكبيرة الإحرام ركوع ولا سجود، شرع الرفع علما عليه، وقيل: لينبذ الدنيا وراء ظهره، وقيل: لأن المنافقين كانوا يصلون معه صلى الله عليه وسلم، والأصنام تحت آباطهم، (فأمر صلى الله عليه وسلم بالرفع)، فسقطت الأصنام، فذهبت العلة وبقي الحكم. حين شروعه؛ يعني أن وقت رفع اليدين هو وقت الأخذ في التكبير، ولا يغني عنه قوله:"مع إحرامه"؛ لأن الإحرام مركب من: النية، والاستقبال، والتكبير. ولا يلزم من ذلك الشروع في التكبير.
(1)
الموطأ، ص 80. والبخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث: 735. ومسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:390.
وتطويل قراءة صبح؛ يعني أنه يستحب تطويل القراءة في ملاة الصبح، أي يستحب أن يقرأ فيها سورة من طوال المفصل، وسمي المفصل لكثرة فصله بالسور، أو لقلة منسوخه، فإن ابتدأ بسورة قصيرة قطعها وشرع في طويلة، إلَّا لضرورة كسفر أو خوف خروج وقت ونحوه.
وفي الحديث: (من شهد الصبح فكأنما قام ليله)، فالتطويل يحصل للمسبوق هذه الفضيلة. وفي الحطاب عند قوله:"وتطويل قراءة صبح"، قال ابن المنير، بكالحواميم ونحوها ما لم يخش الإسفار. انتهى. وقال التادلي: اختلف إذا افتتح سورة طويلة، ثم بدا له أن ينتقل عنها، فقيل: يلزمه إتمامها، وقيل: لا، وقيل: إن نذرها لزمه، وإلا فلا.
قال ابن ناجي: وما ذكره لا أعرفه نصا، والذي تلقيته من غير واحد من الشيوخ إجراء ذلك على من افتتح النافلة قائما ثم شاء الجلوس. انتهى. ابن عرفة: روى ابن حبيب إن افتتح في العصر طويلة تركها، وإن قرأ نصفها ركع: ولو افتتح قصيرة بدل طويلة تركها، فإن أتمها زاد غيرها، وإن ركع بها فلا سجود، ومن قرأ في الصبح ب:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تجزئه بإجماع. الشيخ زروق: العصر والمغرب يشتركان في قصر القراءة، إلَّا أن العصر أطول قليلا، وقيل: لا، وهو المشهور. انتهى. وما شهره غير مشهور. قاله الإمام الحطاب.
وما ورد في الصحيح من قراءة المغرب بالأعراف
(1)
والطور والمرسلات
(2)
إنما ورد لبيان الجواز، وقد قرأ صلى الله عليه وسلم في الصبح بالمعوذتين
(3)
)، رواه النسائي، وهو لبيان الجواز. قاله الحطاب. والظهر تليها. يعني أنه يستحب تطويل قراءة صلاة الظهر لكن التطويل فيها دون التطويل في صلاة الصبح؛ بأن يقرأ في صلاة الصبح من أطول طوال المفصل، وفي الظهر من قصار طواله.
(1)
الترمذي في سننه، كتاب الصلاة، رقم الحديث:308. ولفظه: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بالأعراف في الركعتين كلتيهما. - عن مروان بن الحكم قال لي زيد بن ثابت مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بطولى الطوليين قال قلت وما طولى الطوليين؟ قال الأعراف والأخرى الأنعام. أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، رقم الحديث:812. وبعضه في البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث: 764.
(2)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث: 763/ 765. ومسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 463.
(3)
عن عقبة بن عامر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المعوذتين قال عقبة فأمَّنا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر. النسائي في سننه، كتاب الافتتاح. رقم الحديث:949.
وتقصيرها بمغرب، يعني أنه يستحب تقصير القراءة في صلاة المغرب لضيق وقتها، بأن يقرأ فيها من قصار المفصل. وعصر، يعني أنه يستحب تقصير القراءة في صلاة العصر؛ لأنَّها تأتي وقت شغل وهما مستويان. وقيل: العصر أطول، والأول قول مالك. قال الشبراخيتي: وهو المشهور. كما قال الشيخ زروق. انتهى. وقد تقدم عن الحطاب أن ما شهره ليس مشهورا. كتوسط بعشاء، يعني أنه يستحب أن يكون العشاء متوسطا بين الظهر والعصر فيقرأ فيها من متوسط الفصل، والصحيح أن المفصل من الحجرات لآخر القرآن، فطواله من الحجرات إلى عبس بإخراج الغاية، ووسطه من عبس إلى والضحى بإخراج الغاية أيضًا، وقصاره من سورة: والضحى، إلى آخر القرآن. وللشيخ علي الأجهوري:
أول سورة من المفصل
…
الحجرات لعبس وهو الجلي
ومن عبس لسورة الضحى وسط
…
وما بقي قصاره بلا شطط
وعبس من الوسط كما يفيده النظم، والضحى من قصاره كما في الرسالة، وله أيضًا رحمه الله:
طوال بضم أي طويل وجمعه
…
بكسر وما بالفتح طول زمان
وشرع التطويل في الصبح لأنَّها ركعتان فقط، وتدرك الناس وغالبهم نيام، والظهر تَجَاذبَهَا مقتضى الإطالة لتفرغ الناس من الأعمال للتخلي للقائلة والأغذية، ومقتضى عدمها لأنَّها تدرك الناس مستيقظين، وعددها أربع فكانت دون الصبح والعشاء لا شغل لأحد في وقتها غالبا، لكن قد يغلب النوم وطلب الراحة بالاضطجاع، فالمتوسط فيها لا يضر بأحد في الغالب. ومحل ندب التطويل في فذ وإمام لعينين طلبوه منه، وعلم قدرتهم عليه، فإن علم عذرهم أو جهله أو كانوا غير معنيين، فالتخفيف أحسن؛ إذ هو لكل إمام في فريضة أو نافلة مجمع على استحبابه، وفي
الحديث: (إذا أم أحدكم فليخفف فإن في الناس الكبير والمريض وذا الحاجة
(1)
)، وروي عن عمر: (لا تبغضوا الله إلى عباده
(2)
). قال أبو محمد: وإذا كان الناس يؤمرون بالتخفيف في الزمن الأول، فما ظنك بهم اليوم؟ وفي الحديث: (إني لأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاة مخافة أن أفتن أمه
(3)
: وفيه أيضًا: (أفتان أنت يا معاذ
(4)
)، قاله له لا أطال الصلاة بالناس. وقال الشيخ بناني ما معناه: وإذا أطال الإمام القراءة حتى خرج عن العادة وخشي المأموم تلف بعض ماله إن أتم معه أو فوت ما يلحقه منه ضرر، المازري: يسوغ له الخروج عنه، ويتم لنفسه. وحكى عياض في ذلك قولين عن ابن العربي، وفي الصحيحين: (إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن فيهم السقيم والضعيف والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء
(5)
). انتهى. وإن علم من جماعة ما علم من نفسه فليحملهم محمله. وعليه يخرج تطويله عليه الصلاة والسلام، والخلفاء بعده. وقال ابن عبد البر ينبغي للإمام إذا كمل الأركان أن يخفف جهده ولا يطول، وإن علم قوة من خلفه؛ لأنه لا يدري ما يعرض لهم من الآفات من شغل أو بول أو حاجة.
وثانية عن أولى؛ يعني أنه يندب تقصير قراءة الركعة الثانية عن قراءة الركعة الأولى في الفريضة، وتكره المبالغة في التقصير مثل: سورة يوسف في الأولى، وإنا أنزلناه في الثانية، فالأقلية بنقص الربع أو أقلّ، ويكره كون الثانية أطول من الأولى. وظاهر تقرير الشارح أنه يندب تقصير الثانية عن الأولى في الزمن، واختاره في التوضيح. وعليه فيحصل الندب بقصر الزمن، وإن كثرت قراءة الثانية عن قراءة الأولى، لكن ظاهر المصنف التقرير الأول. قاله الشيخ إبراهيم. والنفل ليس كالفرض: ولذا قال في المدخل: وله أن يطول قراءة الثانية في النفل إذا وجد حلاوة. وقال الشيخ
(1)
إذا أم أحدكم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض. مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:467.
- إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن في الناس الضعيف والسقيم وذا الحاجة. مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:467.
(2)
فتح الباري، ج 2 ص 193.
(3)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث: 708، ولفظه: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن يفتن أمه.
(4)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:703. ومسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 465.
(5)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث. 703. ومسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 467.
الأمير: وزمن ثانية وإن قرأ فيها أكثر كما في الكسوف. انتهى. الجزولي في شرح الرسالة: لا تكون القراءة في الثانية على النصف من الأولى، فإن فعل أجزأه ولكن فعل مكروها، وقال الشيخ يوسف بن عمر: ويكره أن يقرأ في الثانية أقصر من الأولى جدا حتى تكون نصفها، أو دون ذلك. انتهى. قاله الإمام الحطاب. ومن قرأ في الركعة الأولى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} . يقرأ في الثانية سورة فوقها، ولا يكررها. وقيل: يعيدها، والصواب الأول؛ لأن المشهور عدم كراهة فعل ذلك خلافا لابن حبيب، والمشهور كراهة تكرير السورة. قاله الحطاب. وانظر هل يندب تقصير السجدة الثانية عن الأولى؟ لم أر فيه نصا. قاله الأقفهسي.
وجلوس أول؛ يعني أنه يندب تقصير الجلوس الأول عن جلوس السلام فمساواته له أو زيادته عليه مخالفة للندب، ويلزم منه تقصير التشهد الأول عن الثاني، ولذا كره الدعاء فيه. والمراد بالجلوس الأول في عدا جلوس السلام، وقد أشرت إلى ذلك في أول الحل. ومثل الجلوس الأول في ذلك الجلوس في تشهد السهو. كما قاله الشيخ الأمير. وقوله:"أول" ممنوع الصرف؛ لأنه بمعنى أسبق، وقوله: و"جلوس أول"، هذه إحدى المسائل التي يعرف بها فقه الإمام، والثانية خطفه الإحرام والسلام، والثالثة دخوله المحراب بعد الإقامة.
وقول مقتد وفذ ربنا ولك الحمد؛ يعني أن المقتدي يستحب له أن يقول: ربنا ولك الحمد بعد رفع إمامه، وقوله:"سمع الله لمن حمده". كما للشيخ إبراهيم، والشيخ عبد الباقي. وكذلك يستحب للفذ أن يقول: ربنا ولك الحمد، بعد أن يقول: سمع الله لمن حمده، فالمأموم يخاطب بمندوب؛ وهو ربنا ولك الحمد، والفذ يخاطب بمندوب؛ وهو ربنا ولك الحمد، وبسنة، وهو سمع الله لمن حمده، والإمام يخاطب بتلك السنة فقط، فيندب له عدم الجمع بينهما. وجمعه بينهما إما مكروه أو خلاف الأولى. قال الشيخ عبد الباقي: والظاهر أن الترتيب بينهما؛ يعني للفذ مستحب، وقوله:"ربنا ولك الحمد" معمول المصدر الذي هو: "قول"، وقوله:"ولك الحمد"، بإثبات الواو؛ وهو قول ابن القاسم، والكلام معها ثلاث جمل: جملة النداء؛ لأن النادى مفعول به لفعل محذوف، وجملة:"ولك الحمد"، وجملة:"استجب لنا" جواب النداء
المنبهة الواو عليها، بخلاف حذفها كما عند ابن وهب، فإن الكلام جملة النداء والثناء، وفي زيادة اللهم طريقان، وأكثر روايات الحديث على إثبات الواو. واعلم أن من سبيل الدعاء أن يدعو واحد، ويؤمن آخر، فلذا اقتصر الإمام على سمع الله لمن حمده ندبا؛ لأنَّها دعاء، واقتصر المقتدي على: ربنا ولك الحمد؛ لأنه تأمين، والفذ يدعوا ويؤمن على دعائه، فلذا جمع بينهما، وهذا على أن سمع الله لمن حمده دعاء، وأما على أنَّها حث على الحمد فالإمام يجاوبه مأمومه، فلذا اقتصر على التسميع بخلاف الفذ فيجاوب نفسه لأنه لا مجاوبَ له.
وتسبيح بركوع؛ يعني أنه يندب للمصلي أن يسبح الله تعالى في ركوعه للصلاة نحو: سبحان ربي العظيم وبحمده قيل: الباء سببية: أي بسبب حمده، أي توفيقه وإعانته على التسبيح، ومنه قول السيدة عائشة رضي الله عنها لما نزلت براءتها: بحمد الله لا بحمد أحد، أي بفضله وإعطائه وإحسانه، وقيل بمعنى الألف واللام، وهو قول لا نظير له. قاله الشيخ إبراهيم. وسجود؛ يعني أنه يستحب للمصلي أيضًا أن يسبح الله عز وجل في سجوده نحو سبحانك رب إني ظلمت نفسي وعملت سوءًا فاغفر لي، وأدنى مراتب الدعاء في السجود الندب. قاله ابن عبد السلام. وفي التوضيح: ينبغي أن يكون مستحبا للآثار الواردة في ذلك
(1)
)، والظاهر أن الاقتصار على أحدهما أي التسبيح والدعاء يفوت المندوب الآخر. قاله الشيخ عبد الباقي. وظاهر كلام المصنف أن التسبيح غير محدود بواحدة أو بثلاث، ولا مخصوص بلفظ معين، خلافا لمن يقول: إن أقله ثلاث، فمذهب أبي حنيفة أنه لا بد أن يسبح ثلاثًا، لخبر أبي داود والترمذي:(إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثًا فقد تم ركوعه وذلك أدناه، وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تم سجوده وذلك أدناه)، إلَّا أنه غير متصل الإسناد. ابن شعبان: قال الله تعالى {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} ، فحق على كلّ قائم إلى الصلاة أن يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده، وفي الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا
(1)
الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:261. ولفظ أبي داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 886. إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات سبحان ربى العظيم وذلك أدناه فإذا سجد فليقل سبحان ربى الأعلى ثلاثًا وذلك أدناه.
ركع أحدكم فليسبح ثلاث مرات فإنه يسبح الله تعالى من جسده ثلاثة وثلاث مائة عظم وثلاثة وثلاثمائة عرق
(1)
)، رواه إبراهيم بن الفضل. قال عبد الحق: إبراهيم بن الفصل ضعيف عندهم، وخلافا لمن يخصه بلفظ معين لقول المدونة: لا أعرف قول الناس في الركوع سبحان ربي العظيم، وفي السجود سبحان ربي الأعلى، أي لا أعرف وجوبه وتعينه، ولا يصح إنكاره من حيث الجملة لما رواه عقبة بن عامر قال: لما نزل {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} ، قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوها في ركوعكم
(2)
). قالة الشيخ إبراهيم. ونقل في رياض الصالحين عن أحمد بن حرب أنه قال: إذا كنت مع الناس جالسا فعليك بالتسبيح مكان الكلام، ويقال: خير العمل تسبيحه لحديث: (إذا كنت تسبح الله سبحانه والناس يتحدثون، وتذكر الله والناس غافلون كالمقاتل خلف الفارين)). انتهى.
وتأمين فذ يعني أنه يستحب للفذ أن يؤمن على قراءة نفسه، بأن يقول: آمين بعد {وَلَا الضَّالِّينَ} وعده القرافي سنة. مطلقًا كانت الصلاة سرية أو جهرية. وإمام بسر، يعني أنه يندب للإمام أن يؤمن على قراءة نفسه بعد أن يقرأ: ولا الضالين، إذا كان المحل محل سر، واحترز بقوله بسر عما إذا جهر الإمام فإنه لا يؤمن، وهو مذهب المصريين، وروى المدنيون عن مالك أنه يؤمن، وحكاه عنه في الواضحة، والدليل لما في المصنف قولة صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه
(3)
)، والدليل لمقابله: (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له
(4)
). وحمل بعض المالكية إذا أمن الإمام على أن معناه: بلغ موضع التأمين، واختلف في هؤلاء الملائكة، فقيل: الحفظة،
(1)
إذا ركع أحدكم فسبح ثلاث مرات فإنه يسبح لله من جسده ثلاثة وثلاثون وثلاث مائة عظم وثلاثة وثلاثون وثلاث مائة عرق. الدارقطني، رقم الحديث:1126.
(2)
في الشبراخيتى: قال عليه الصلاة والسلام (اجعلوها في ركوعكم) فلما نزل سبح اسم ربك الأعلى قال (اجعلوها في سجودكم) ج 1 مخطوط. وانظر سنن أبي داود، كتاب الصلاة، الحديث:869. وابن ماجة، كتاب إقامة الصلاة، الحديث: 887.
(3)
الموطأ، كتاب الصلاة، رقم الحديث:196. والبخاري، كتاب التفسير، رقم الحديث: 4475.
(4)
إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، الموطأ، كتاب الصلاة، الحديث:48. مسلم، كتاب الصلاة، الحديث: 410.
وقيل: الملائكة المتعاقبون، وقيل: جميع الملائكة؛ لأن الجمع المحلَّى باللام يفيد الاستغراق بأن يقولها الحافظون ومن فوقهم حتى ينتهي إلى الملإ الأعلى وأهل السماوات، واختار هذا الأخير ابن بزيزة. قال ابن حجر: والذي يظهر أن المراد بهم من يشهد تلك الصلاة ممن في الأرض أو في السماء. القرافي: وفي جهر الإمام بالتأمين ثلاثة أقوال: المنع لابن القاسم، وروى عبد الملك الجواز، وخيره أبو بكر. انتهى. والظاهر أن المراد بالمنع هنا الكراهة لا ما هو ظاهره، كما فهمه من تقدم. قاله الشيخ أحمد. قاله الشيخ عبد الباقي.
ومأموم بسر؛ يعني أنه يندب للمأموم أن يؤمن على قراءة نفسه في السر بعد أن يقرأ ولا الضالين. أو جهر؛ يعني أنه يندب للمأموم أن يؤمن على قراءة إمامه في الجهر بأن يقول آمين، إذا قال الإمام: ولا الضالين. ومحل تأمين المأموم في الجهرية إن سمعه، أي سمع. إمامه يقول: ولا الضالين. وأعاد قوله: "بسر" مظهرا ليلا يلزم العطف في قوله: "أو جهر" على الضمير المجرور من غير إعادة الجار. واحترز بقوله: "إن سمعه"، عما إذا لم يسمع المأموم قول الإمام ولا الضالين، فإنه لا يؤمن. قاله في الطراز عن مالك. واستظهره ابن رشد، ولهذا قال: على الأظهر. وبما قررت علم أن قوله: "على الأظهر". راجع للمفهوم أي فإن لم يسمعه فلا يؤمن على القول الذي استظهره ابن رشد، بل يؤمر بعدم التأمين لأنه قد يصادف ما هو أولى أن يستعاذ بالله منه من أن يؤمن عليه، فإن سمع تأمين المأمومين، فهل لا يؤمن وقوفا مع ظاهر الخبر؛ ولأن التحري مقابل؟ أو يؤمن لأنهم نواب الإمام؛ قولان، ومقابل الأظهر لابن عبدوس. قال: يتحرى ويؤمن، والدليل لما ذكر المصنف خبر: (إذا سمعتم الإمام يقول ولا الضالين فقولوا آمين، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه
(1)
)، قيل: وافق في خلوص النية، وقيل: في الوقت، والذي يترجح أن الموافقة في خلوص النية والإقبال على الرغبة إلى الله تعالى بقلب سليم، وقوله:"إن سمعه"، فإن سمع ما قبل ولا الضالين ولم يسمعها من الإمام لم يؤمن كما علمت.
(1)
إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. الموطأ، كتاب الصلاة، الحديث:190. والبخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث: 780. ومسلم، كتاب الصلاة، الحديث:410.
وإسرارهم به؛ يعني أنه يندب للجميع أي الفذ والإمام والمأموم أن يسروا بالتأمين لأنه دعاء، وهو يندب فيه الإسرار، لقوله تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} ، ودليل كونه دعاء، قوله تعالى:{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} ؛ لأنه كان موسى يدعو وهارون يؤمن، وهو اسم فعل عربي مشتق من الأمان، بمعنى استجب دعاءنا وَأَمِّنَّا، يمد ويقصر مع التخفيف، وقيل إن: آمين اسم من أسمائه عز وجل، قال ابن العربي: ولم يصح نقله، وقيل معناه: كذلك يكون، فتلك أقوال ثلاثة وأصحها الأول. والله سبحانه أعلم. قال ابن عباس: (ما حسدكم أهل الكتاب على شيء ما حسدوكم على آمين
(1)
)، (وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو، فقال: أوجب إن ختم، فقال: بأي شيء يختم يا رسول الله؟ فقال: بآمين
(2)
). وعن وهب ابن عنبسة أن: آمين أربعة أحرف يخلق الله تعالى من كلّ حرف ملكا يقول: اللهم اغفر لمن يقول آمين. وروى الحارث بن أبي أسامة، وابن مردويه عن أنس مرفوعا: (أعطيت ثلاث خصال: أعطيت الصلاة في الصفوف، وأعطيت السلام وهو تحية أهل الجَنَّة، وأعطيت آمين ولم يعطها أحد ممن كان قبلكم إلَّا أن يكون الله أعطاها -أي الخصلة الثالثة نبيه هارون؛ فإن موسى كان يدعو الله ويؤمن هارون
(3)
)، فالخصلتان الأوليان من خصائص هذه الأمة مطلقًا، وكذا الثالثة بالنسبة لغير هذين الأخوين. قاله الشيخ إبراهيم. عن النووي.
وقنوت؛ يعني أن القنوت مندوب. وهذا هو المشهور. قال ابن الفاكهاني: القنوت عندنا فضيلة بلا خلاف أعلمه في المذهب، وقال يحيى بن عمر: غير مشروع، ومسجده بقرطبة لا يقنت فيه إلى حين أخذها العدو، أعادها الله للإسلام. ولابن زياد ما يدلُّ على وجوبه؛ لأنه قال من تركه فسدت صلاته، أو يكون على القول ببطلان صلاة من ترك السنة عمدا، وقال ابن سحنون: إن القنوت سنة فيسجد له. والقنوت لغة: الطاعة، قال الله تعالى:{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} ، والسكوت،
(1)
ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين، فأكثروا من قول آمين. ابن ماجة، كتاب إقامة الصلاة، رقم الحديث:857.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:938.
(3)
المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، رقم الحديث:450.
قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، وقيل: خاشعين. ويطلق على الدعاء بخير، وهو المراد هنا وسبب مشروعيته أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو على مضر في صلاته، فنزل عليه جبريل وأمره بالسكوت، وقال له: إن الله لم يبعثك سبابا ولا لعانا، وإنما بعثك رحمة {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} وعلمه القنوت. سرا؛ يعني أن القنوت مستحب، وكونه سرا مستحب ثان، فلو قال: وسرا بالواو لأفاد ذلك انظر الشبراخيتي. وقوله: سرا هذا هو المشهور، وقيل: يجهر به، وقال التونسي: الجهر بالتشهد والقنوت لا يجوز ويعيد من تعمد ذلك، ويسجد الساهي إلَّا أن يكون خفيفا، وكذلك القراءة. بصبح؛ يعني أن القنوت لا يكون إلَّا في الصبح، فقوله:"بصبح" توقيت للمكان الذي يشرع فيه -كما قررت-، فلا يعد من المندوبات. أشار له الشيخ الأمير. ولهذا قال. فقط؛ أي فلا يشرع في وتر ولا في غيره. والظاهر أن حكم القنوت في غير الصبح: الكراهة؛ لأن الصبح هي التي قنت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فارق الدنيا
(1)
). وعن الأسود: (صليت خلف عمر رضي الله عنه في السفر والحضر في كان يقنت إلَّا في صلاة الفجر
(2)
)، ولا ينافي هذا ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة المغرب؛ لأنه لم يستمر على ذلك، وقد جاء عن بعض الصحابة أنه قنت في الوتر في النصف الأخير من رمضان واستمر برهة ثم تركه. وقال أبو حنيفة: يقنت في الوتر، والشافعي: في النصف الأخير من رمضان، وروي هذا عن إمامنا مالك، ولو قنت في غير الصبح لم تبطل صلاته. قاله سند. ابن فرحون: فإن صلى مالكي خلف شافعي جهر بدعاء القنوت، فإنه يؤمن على دعائه، ولا يقنت معه، والقنوت معه من فعل الجهال. انظر مختصر الواضحة في القنوت في رمضان، فلو قنت المالكي عند قول الشافعي: فإنك تقضي ولا يقضى عليك، كان حسنا، ولم أره منصوصا. انتهى. قال الشيخ سالم: وما قاله ابن فرحون غير ظاهر، واستدلالة بكلام الواضحة في قيام رمضان ضعيف للفرق بينه وبين قنوت الفريضة المشروع المأمور به: وإنما أمر بالتأمين على دعائه
(1)
عن أنس بن مالك قال ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا. مسند أحمد، ج 3 ص 162.
(2)
البيهقي، ج 2 ص 203.
في قنوت رمضان، ولا يقنت لعدم مشروعية القنوت بخلافه في الفريضة فليس الجهر به من الإمام بمانع منه للمأموم. انتهى. وفي قول المصنف:"بصبح"، تنبيه على خلاف أهل المذهب في الوتر، وخلاف من أجازه في سائر الصلوات عند الضرورة. قاله الإمام الحطاب.
وقبل الركوع؛ يعني أنه يندب أن يكون القنوت في الصبح قبل الركوع، أي ركوع الثانية (لأنه صلى الله عليه وسلم سئل: أهو قبل الركوع أو بعده؟ فقال: قبل)، زاد البخاري: قيل لأنس: إن فلانًا يحدث عنك أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع، قال: كذب فلان
(1)
). انتهى. ولما فيه من الرفق بالمسبوق. وقوله: "وقبل الركوع"، فإن نسيه قبل الركوع قنت بعد الركوع، وإن رجع له من الركوع أفسد صلاته، كما في السورة. وقال ابن حبيب: هو بعد الركوع أفضل، وفيها: هما سواء. ونص ابن الجلاب على أنه: لا بأس برفع يديه في دعاء القنوت. قال الحطاب: وظاهر المدونة خلافه، قال فيها: ولا يرفع يديه إلَّا في الافتتاح، والمشهور أنه لا يكبر. وقال الأقفهسي: هل يكبر أم لا؟ وهل يرفع يديه أم لا؟ قولان، وعلى الرفع، فهل راغبا أو راهبا؟ أو يرهب بإحدى يديه، ويرغب بالأخرى؟ خلاف، وفيها: لا يكبر له. وروى علي أنه: كبر حين قنت، وقال في الجواهر لما ذكر القنوت: ثم إن كانت في نفسه حاجة دعا بها حينئذ ابن القاسم: من أدرك القنوت بعد ركوع الإمام قنت إذا قضى، ولو أدرك ركعة معه وقنت لم يقنت في قضائه أدرك قنوت الإمام أم لا. قاله الإمام الحطاب. وقال الشيخ الأمير: والأظهر قنوت المسبوق؛ لأن القول الذي يقضى خصوص القراءة وغيره بناء كالتشهد. انتهى.
ولفظه؛ يعني أن لفظ القنوت المتعارف عند المالكية مندوب؛ وهو اللفظ الوارد الذي رواه إمامنا مالك، وإليه أشار بقوله: وهو اللهم إنا نستعينك إلى آخره؛ يعني أن اللفظ المندوب هو اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونخنع لك ونخلع، ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجوا رحمتك، ونخاف عذابك الجد، إن
(1)
البخاري، كتاب الوتر، الحديث:1002. ولفظه: حدثنا عاصم قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت فقال: قد كان القنوت قلت: قبل الركوع أو بعده، قال: قبله، قال: فإن فلانًا أخبرني عنك أنك قلت: بعد الركوع، فقال: كذب
…
عذابك بالكافرين ملحق. انتهى. قوله: اللهم؛ أي يا الله، وقوله: إنا نستعينك، أي نطلب منك الإعانة، أي التقوية على الأمور، وقوله: ونستغفرك؛ أي نطلب منك المغفرة، أي ستر الذنوب؛ أي عدم المؤاخذة بها، وقوله: ونؤمن بك: أي نصدق بوجودك وبوحدانيتك، وبما ظهر من آياتك وبربوبيتك ويدخل في ذلك اتصافه بالصفات الواجبة له، وتنزهه عن الصفات التي لا تليق بجلاله، وقوله: ونتوكل عليك؛ أي نعتمد عليك في جميع أحوالنا لا على من سواك، وقوله: ونخنع بفتح النون وسكون الخاء المعجمة بعدها نون مفتوحة آخره عين مهملة؛ أي نذل ونخضع: وقوله: ونخلع؛ أي نزيل ربقة الكفر من أعناقنا لوحدانيتك، وقوله: ونترك من يكفرك: أي نترك موالاته ونتجنب دينه، فنخلع العابد كما خلعنا المعبود، لقوله تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} . ولا يعترض بنكاح الكتابية بأننا إن نكحناها ملنا إليها؛ لأن النِّكَاح من باب المعاملات، والمراد الدين. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله: إياك نعبد؛ أي لا نعبد إلَّا إياك؛ لأن تقديم المعمول يؤذن بالحصر، وكذا يقال في: "لك من قوله: ولك نصلي ونسجد، وخص الصلاة وإن كانت داخلة في العبادة لشرفها، وكذا يقال في عطف السجود على الصلاة؛ لأن السجود أشرف أحوال الصلاة لخبر: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد
(1)
)، ويحتمل أن يكون من عطف المغايرة، بأن يراد بالصلاة الدعاء، وبالسجود الخضوع. وقوله: وإليك نسعى؛ أي إلى الجمعة، أو بين الصفا والمروة، أو في جميع ما يرضيك؛ وهو أولى لشموله لما ذكر ولغيره، وقد مر أن تقديم المعمول يؤذن بالحصر، وقوله: نحفد: نخدم؛ وهو بكسر الفاء، وقوله: نرجو رحمتك ونخاف عذابك، جمع بين الخوف والرجاء للتنبيه على أنه ينبغي أن يكون المكلف متلبسا بهما، وقال بعضهم: ينبغي تقديم الخوف في الصحة، والرجاء في المرض، وقوله: الجد بكسر الجيم؛ أي الحق، وفي القلشاني أنه بفتح الجيم وكسرها، وقيل: إن معنى الجد الدائم الذي لا يُفَتَّرُ، وقوله: ملحق، بالفتح، بمعنى أن الله يلحقه بهم، وبالكسر: بمعنى لاحق: وهما روايتان،
(1)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:482. وأبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 875.
وقيل: إن الصواب الفتح، ومر أن هذا اللفظ مندوب، فلو أتى بغيره كان آتيا بمندوب ومخلا بآخر، كما لو قال بدله: (اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وقنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت
(1)
).
قاله الشيخ إبراهيم. وقوله: وقنا شر ما قضيت؛ معناه أن الله تعالى يقدر المكروه بعدم دعاء العبد المستجاب، فإذا استجاب دعاءه لم يقع المقضي لفوات شرطه، ومن هذا الباب (صلة الرحم تزيد في العمر والرزق
(2)
)، وأولوه على هذا؛ لأن القضاء لا يمكن أن يقع غيره. وبما قررت علم أن مندوبات القنوت أربع: أصل القنوت بأي لفظ، وهذا اللفظ المتعارف الذي رواه إمامنا مالك، وكونه سرا، وكونه قبل الركوع. فهذه هي مندوباته، وإنما يكون في ثانية الصبح لا في غيرها. وتكبيره في الشروع يعني أنه يندب لكل مصل إماما أو مأموما أو فذا أن يكون تكبيره في حال شروعه في الأركان معمرا به الركن من أوله إلى آخره ومثل التكبير التسميع لإمام وفذ وتحميد لمأموم، وأما تحميد الفذ فهو بعد تسميعه، والظاهر أن المصنف إنما اقتصر على التكبير لقوله: إلَّا في قيامه من اثنتين يعني أن ما تقدم من أن تكبير المصلي يكون في حال شروعه في الأركان محله في غير القيام من اثنتين، وأما تكبيره في حال قيامه من اثنتين إماما أو مأموما أو فذا، فيؤخره لاستقلاله أي عند تمام قيامه ندبا، ولا يقوم المأموم إلَّا بعد تكبير الإمام، فإذا كبر قام، فإذا استقل المأموم بعده كبر. وظاهره ولو كان الإمام شافعيا يكبر في حال قيامه، فيصبر المأموم حتى يستقل بعده فيكبر. ابن حجر: قال ناصر الدين بن المنير: الحكمة في مشروعية التكبير في الخفض والرفع أن المكلف أمر بالنية أول الصلاة مقرونة بالتكبير، فكان من حقه أن يستصحب النية إلى آخر الصلاة، فأمر أن يجدد العهد في أثنائها بالتكبير الذي هو شعار النية. انتهى. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ زروق: يستحب أن يبدأ بالتكبيرة في كلّ ركن مع أوله، ولا
(1)
ولفظ أبي داود: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر قال ابن جواس في قنوت الوتر، اللهم اهدنى فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولنى فيمن توليت وبارك لى فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت. كتاب الوتر، رقم الحديث:1425.
(2)
من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه. البخاري، كتاب الأدب، رقم الحديث:5985.
يختمه إلَّا مع آخره، ويجوز قصره على أوله أو آخره، ولكنه خلاف الأولى، وكذا سمع الله لمن حمده. انتهى. ومثله لابن المنير وعياض، وقوله:"إلَّا في قيامه من اثنتين"، يشمل المقتدي الذي أدرك مع الإمام ثانية الظهر مثلا، أو أدركه في التشهد الأول، أو قبله مما دون ركعة، فلا يكبر إلَّا بعد استقلاله، ولا يستقل إلَّا بعد استقلال إمامه وتكبيره. ويشمل من أدرك ركعتين مع الإمام، فإنه إذا سلم الإمام يقوم ليأتي بما عليه، ولا يكبر إلَّا بعد استقلاله، بخلاف من أدرك ركعة واحدة أو ثلاثًا، فإنه لا يكبر كما يأتي، والله سبحانه أعلم. وإنما كبر من أدرك ثانية الظهر مثلا بعد استقلاله، ومن أدرك مع الإمام ركعة واحدة أو ثلاثًا لا يكبر؛ لأن الأول لم يفارق الإمام فيفعل ما يفعله إمامه، وإنما قام من أدرك اثنتين أو التشهد الأخير بالتكبير؛ لأنه كمفتتح صلاة، وقوله:"فلاستقلاله"، أي لا يكبر حتى يستقل قائما على المشهور، هذا هو السنة. قال الشبيبي: فإن كبر قبل الاستقلال ففي إعادة التكبير قولان. وروي عن مالك أنه: يكبر في حال قيامه، وليس بالمشهور. قاله الإمام الحطاب. وقوله:"فلاستقلاله" قال الشيخ إبراهيم: إما للعمل وكفى به، أو لأنه كمفتتح صلاة. انتهى.
والجلوس كله الاسم الأول على خذف مضاف، أي هيئة، والثاني توكيد؛ يعني أن الهيئة المعهودة في الجلوس مندوبة، سواء كان الجلوس واجبا كجلوس السلام والجلوس بين السجدتين، أو سنة كجلوس التشهد، أو مندوبا كجلوس الدعاء في التشهد الأخير. وبما قررت علم أن قوله: والجلوس، عطف على المندوب، وقوله:"كله"، رد به على ابن العربي اختار في جلوس التشهد غير الأخير كون أليتيه على رجله اليسرى، والمرأة كالرجل -كما هو ظاهر المصنف- لإطلاقه هنا، وتقييده المجافاة بالرجل؛ وهي رواية ابن القاسم عن مالك، وروى ابن زياد عنه أنَّها تركب فخذها على الأخرى، وتشد لحمها ولا ترخيه، فجلوسها ليس كجلوس الرجل. وبين المصنف الجلوس، أي هيئته بقوله: بإفضاء اليسرى: الباء للتصوير، يعمي أن هيئة الجلوس المندوبة هي أن يفضي المصلي في جلوسه برجله اليسرى للأرض؛ أي يوصلها إليها، فيلصق الرجل اليسرى بساقها، وطرف وركها بالأرض.
والحال أن الرجل اليمنى تكون عليها؛ أي على الرجل اليسرى؛ أي تكون اليمنى منصوبة وساقها فوق الرجل اليسرى. كما قاله غير واحد. بحيث يصير الورك الأيمن مرتفعا عن الأرض، ويفضي أيضًا بباطن. إبهامها؛ أي الرجل اليمنى للأرض فتصير رجلاه إلى الجانب الأيمن وقعوده على طرف وركه الأيسر وقوله وإبهامها للأرض، وكذلك بقية أصابعها كما صرح به الشبراخيتي، ونصه: ولا مفهوم لإبهامها؛ إذ بطن بقية الأصابع كذلك، وما قررته من أنه يفضي بباطن إبهام اليمنى للأرض هو الراجح، وقيل يفضي بجانب الإبهام للأرض. واعلم أن الرجل يجافي في جلوسه بين فخذيه، وقد مر الكلام على المرأة فإن لم يكن الجلوس على هذه الهيئة حصل هو في نفسه واجبا أو سنة أو مندوبا وفات ندب الهيئة المذكورة. وبما قررت علم أن المفضى به إلى الأرض هو الألية اليسرى، أي طرفها -كما مر- ورواية: وأليتيه بالتثنية خطأ. قاله الجزولي. نقله الشيخ محمد بن الحسن. وقول المصنف: واليمنى عليها يستلزم وضع الألية اليسرى على الأرض. واعلم أن التفرش خلاف الأولى؛ وهو كون أليتيه على رجله اليسرى. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله: "والجلوس كله" الخ، لا يتناول من يصلي جالسا، فإنه يتربع في جلوسه الذي هو بدل من القيام والركوع. كما يأتي. وهنا تم الكلام على صفة الجلوس المندوبة. فقوله: ووضع يديه على ركبتيه بركوعه ليس من تتمة ما قبله؛ يعني أن وضع اليدين على الركبتين في الركوع مندوب، وهو تكرار مع قوله: وندب تمكينهما منهما، ويندب في الجلوس وضع اليدين بقرب الركبتين كما في الجواهر، واقتصر عليه الفاكهاني. وقال القرافي: على فخذيه، وعليه اقتصر ابن عرفة، وفرق في الرسالة بين الجلوس بين السجدتين فيضعهما على ركبتيه، وبين الجلوس في التشهد فيضعهما على فخذيه. انتهى. والمعتمد إما بقربهما فيهما أو على فخذيه فيهما. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: هذا كله متقارب. وفي بعض النسخ إسقاط لفظ ركوعه
(1)
)، وجر لفظ
(1)
في عبد الباقي ج 1 ص 213: بركوعه.
وضعها
(1)
عطف على قوله: "بإفضاء اليسرى"، فهو من تمام صفة الجلوس. قاله ابن غازي. ونقل الحطاب عن ابن بشير استحباب وضع اليدين على الركبتين في الجلوس.
ووضعهما حذو أذنيه؛ يعني أنه يندب للمصلي في السجود أن يضع يديه حذو أذنيه يتوجه بهما إلى القبلة، وقوله:"حذو أذنيه"، أي إزاءهما، ودليله (أنه صلى الله عليه وسلم كان يسجد بين كفيه
(2)
). أو قربهما؛ يعني أنه قيل إن المندوب في السجود وضع اليدين قرب الأذنين بحيث تكون أطراف أصابع اليدين محاذية للأذنين، ويحتمل غير ذلك "فأو" إشارة لقول آخر قاله الشيخ إبراهيم، وعلل قوله:"أو قربهما"، بأن ما قارب الشيء له حكمه. انتهى. ومعنى المصنف على ما قال الشيخ إبراهيم أن الندب إنما يحصل بوضع اليدين حذو الأذنين لا قربهما، وقيل: يحصل بوضع اليدين قرب الأذنين؛ كما يحصل بوضعهما حذو الأذنين لأن ما قارب الشيء له حكمه. وقوله: بسجود "متعلق" بوضع والله سبحانه أعلم.
ومجافاة رجل فيه بطنه فخذيه ومرفقيه ركبتيه؛ يعني أنه يندب للرجل في السجود أن يجافي؛ أي يبعد فخذيه من بطنه، ومرفقيه من ركبتيه. فقوله:"بطنه" بالنصب: مفعول مجافاة المضاف إلى فاعله لا بالجر بدل من "رجل" لعدم صحة حلوله محله، "وفخذيه" منصوب بنزع الخافض، "ومرفقيه ركبتيه" عطف على الاسمين قبلهما لأنهما معمولا عامل، واحترز المصنف بالرجل من المرأة فإنها تكون منضمة منزوية في سجودها. وقال الش: وأما المرأة فتكون في صلاتها منزوية منضمة، وقيل: هي كالرجل. وقد مر بعض الكلام عليها في الجلوس. وقال الشيخ عبد الباقي: ثم ندب ما ذكر المصنف في الفريضة والنافلة التي لا يطول
(3)
فله وضع ذراعيه على فخذيه لطول السجود في النوافل.
تنبيه. اعلم أن للسجود سبع مندوبات ذكر المصنف منها اثنتين: أولهما وضع اليدين حذو الأذنين أو قربهما، الثاني مجافاة الرجل بطنه عن فخذيه، ومرفقيه عن ركبتيه. وبقي عليه
(1)
في عبد الباقي ج 1 ص 213: وضع.
(2)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:401. وابو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 723. والمعجم الكبير للطبرانى، رقم الحديث:75.
(3)
في عبد الباقى ج 1 ص 214: لا يطول فيها لا فيما يطول فيها فله وضع لخ.
خمسة: أحدها مجافاة الذراعين عن الفخذين، الثاني مجافاة الضبعين عن الجنبين، الثالث التفريق بين الركبتين، الرابع رفع الذراعين عن الأرض، الخامس تجنيحه بهما تجنيحا وسطا. ومن فضائل الصلاة ومستحباتها أن يجافي في ركوعه وسجوده بضبعيه عن جنبيه، ولا يضمهما ولا يفترش ذراعيه. وقوله: ومجافاة رجل، أي تفريجا مقاربا. وفي الرسالة: في الركوع تجنيحا وسطا انظر شرح الشيخ ميارة.
والرداء؛ يعني أن الرداء يندب لكل مصل إماما أو مأموما أو فذا فرضا أو نفلا إلَّا المسافر؛ وهو الثوب الذي يضعه على عاتقيه وبين كتفيه فوق ثوبه دون أن يغطي به رأسه، فإن غطى به رأسه، ورد على أحد كتفيه صار قناعا، وهو مكروه للرجل لأنه من سنة النساء إلَّا من ضرورة حر أو برد. نقله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: وينبغي أن الكراهة ما لم يكن شعارا لقوم وإلا لم يكره. انتهى. وقوله: "والرداء"، طوله ستة أذرع، وعرضه ثلاثة. وفي المدخل: وطوله أربعة أذرع ونصف، وقال الشيخ الأمير: وندب مع الإمكان ستة أذرع في ثلاثة. انتهى. ولندبه مراتب أوكدها لأئمة المساجد، ويليها صلاة منفرد بمساجد الجماعات والقبائل، ويليها صلاة إمام بداره أو فنائه، ويلي هذه المرتبة صلاة منفرد بداره أو فنائه، ويقوم مقامه في كلّ من هذه ما في معناه من الغفائر والبرانس. والظاهر أن المأموم فوق الفذ ودون الإمام، ويكره تركه لأئمة المساجد -كما يأتي-، ويتأكد للأئمة ندب ستر الرأس، ويندب لغيرهم، ويطلب من المصلي أخذ عمامة سقطت في الصلاة وأمكنه أخذها؛ بأن لا ينحط لها إلَّا أن يكون في أخذها كثير شغل كشد تحنيكها، فانحطاطه لها فعل كثير كشد تحنيكها، ولبس العمامة بغير عذبة ولا تحنيك ليس ببدعة خلافا لابن الحاج، فقد اعتُرض عليه (بأنه صلى الله عليه وسلم لبس العمامة بعذبة وبغير عذبة، وبالتحنيك وغيره، وبالقلنسوة وغيرها، ولبس القلانس وحدها
(1)
) أخرجه السيوطي. ومثله ذكره الشعراني في آخر كتابه: كشف الغمة. ونقل عن القوري أن: لبس العمامة بغير عذبة
(1)
انظر الحاوي للسيوطي، دار الفكر، (د. ت). ص. ص. 72 - 73. ص. ص.302 - 304.
ولا تحنيك ليس ببدعة، وما مشى عليه المصنف في الرداء هو الراجح عند جماعة من الشيوخ. وقال الأبهري: هو سنة. قاله الشارح. وقال الحطاب: وأما القناع للمرأة فعده في المدخل من سنن الصلاة، وعد الرداء في الفضائل، وفي الحطاب أن: العذبة صارت من شعائر السادة الصوفية وكبار العلماء، فإذا تلبس بشعارهم ظاهرا من ليس منهم حقيقة لقصد التعاظم على غيره أثم باتخاذها بهذا القصد. وذكر السخاوي عن معجم الطبراني الكبير: (أنه صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى خيبر فعممه بعمامة سوداء، ثم أرسلها من ورائه، أو قال على كتفه الأيسر
(1)
)، وتردد فيه راويه وجزم بالثاني. وصرح الحنفية باستحباب إرسال العذبة، وعن النووي أنه: لا كراهة في إرسال العذبة ولا في عدم إرسالها. وتعقبه ابن أبي شريف بأن الإرسال مستحب وتركه خلاف الأولى. وسدل يديه يعني أنه يندب لكل مصل ولو نفلا أن يسدل يديه أي يرسلهما إلى جنبه، وظاهره صلى قائما أو جالسًا.
وهل يجوز القبض في النفل يعني أنه وقع في المدونة، وكره مالك وضع اليمنى على اليسرى في الفريضة، وقال: لا أعرفه في الفريضة، ولا بأس به في النافلة لطول القيام يُعينُ به نفسَه، واختلف في تأويل ما في المدونة فحملها غير صاحب البيان على أن مذهب مالك فيها جواز القبض في النفل مطلقًا طول أم لا لجواز الاعتماد فيها من غير ضرورة، وحملها صاحب البيان على ظاهرها من أنه يكره في الفرض والنفل إلَّا أنه إن أطال في النافلة جاز، وإلى تأويل صاحب البيان أشار بقوله: أو إن طول؛ أي أن ابن رشد قال: محل جواز القبض في النفل إن طول، وأما إن قصر فإن القبض يكره. والله سبحانه أعلم. وتقدم عن الإمام أن القبض مكروه في الفرض. وإلى علة كراهته فيه أشار بقوله: وهل كراهته في الفرض لاعتماد؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا في علة كراهة القبض في الفرض، فذهب القاضي عبد الوهاب إلى أن: العلة في كراهته فيه الاعتماد فلو فعله تسننا لم يكره قال الشيخ عبد الباقي والشيخ إبراهيم: المراد بالقبض ما عدا السدل لا ما سبق فقط. انتهى. وأنت إذا
(1)
الأجوبة المرضية للسخاوي، ج 3 ص 1197. وفيها: اليسرى بدل الأيسر.
تأملت علمت أن سياق المصنف إنما هو في الصفة السابقة، وهي التي يتمشى عليها التعليل؛ لأنه قد تقدم أنه لو فعله تسننا؛ أي لكونه صلى الله عليه وسلم فعله لم يكره.
أو خيفة اعتقاد وجوبه؛ يعني أن من الأشياخ من ذهب إلى أن العلة في كراهة القبض في الفرض خوف أن يعتقد الجاهل وجوبه؛ وهو للباجي، واستبعده ابن رشد، وضعفه بعضهم، بأنه يؤدي إلى كراهة كلّ المندوبات عند خوف اعتقاد الجاهل وجوبها.
أو إظهار خشوع؛ يعني أن من الأشياخ من ذهب إلى أن علة الكراهة هي مخافة إظهار خشوع ليس في الباطن؛ وهو لعياض، قال أبو هريرة: أعوذ بالله من خشوع النفاق، قيل: ما هو؟ قال: أن يرى الجسد خاشعا، والقلب غير خاشع. وعليه فلا تختص الكراهة بالفرض.
تأويلات؛ أي في ذلك تأويلات خمس: اثنان في النفل، وثلاثة في الفرض، والتعليل الأول في الفرض بغير المظنة -كما مر- بخلاف الأخيرين، وفي القبض ثلاثة أقوال غير الكراهة، أحدها: يستحب في الفرض والنفل، وهو لمالك في رواية مطرف وابن الماجشون وقول المدنيين، واختاره غير واحد من المحققين منهم، اللخمي وابن عبد البر، وأبو بكر بن العربي، وابن رشد، وابن عبد السلام، وعده ابن رشد في مقدماته من فضائل الصلاة، وتبعه عياض في قواعده، ونسبه في الإكمال إلى الجمهور، ونسبه أيضًا الحفيد لهم، وهو أيضًا قول الأئمة الثلاثة الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد وغيرهم، وكلام الموطإ يقتضي ندبه أيضًا. الثاني: أنه يباح في الفرض والنفل، الثالث: يمنع فيهما، وهو من الشذوذ بمكان، قال المسناوي: وإذا تقرر الخلاف في أصل القبض وجب الرجوع إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . وقد حكمت السنة بمطلوبيته في الصلاة بشهادة ما في الموطإ والصحيحين وغيرهما من الأحاديث السالمة من الطعن فالواجب الانتهاء إليها والوقوف عندها والعمل بمقتضاها. نقله العلامة بناني. وقال التتائي: لم يذكر المصنف من علل الكراهة كونه مخالفا لعمل أهل المدينة. انتهى. قال مؤلفه عفا الله عنه: ويكفي هذا شاهدا للمصنف.
وتقديم يديه في سجوده؛ يعني أنه يندب للمصلي أن يقدم يديه في السجود على ركبتيه؛ أي يندب أن يضعهما بالأرض قبل أن يضع ركبتيه بها. ابن الحاجب: وتقديم [يديه قبل]
(1)
ركبتيه أحسن.
وتأخيرهما عند القيام؛ يعني أنه يندب للمصلي أن يؤخر يديه عند القيام من السجود؛ بأن يرفع ركبتيه عن الأرض قبل أن يرفع يديه: وفي الحديث: (لا يبركن أحدكم كما يبرك البعير ولكن يضع يديه ثم ركبتيه). وفي أبي داوود والترمذي: (كان صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع يديه قبل ركبتيه)، وروى ابن عبد الحكم عن مالك: التخيير. قاله الحطاب. وروي عن مالك: تقديم ركبتيه في السجود وتأخيرهما عند القيام. كما روي عنه الأول. فهي أقوال ثلاثة. وحجة الأخير: (كان صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه)، والجواب أن الأول أمر لأمته واتَّصل به العمل بالمدينة، والثاني صفة فعله صلى الله عليه وسلم فيحمل على أنه فعله لعذر. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله في الحديث:(لا يبركن أحدكم كما يبرك البعير ولكن يضع يديه قبل ركبتيه)، أي لا يقدم ركبتيه عند السجود كالبعير عند بروكه، ولا يؤخرهما في القيام كما يؤخرهما البعير في قيامه، والمراد بركبتيه ركبتاه اللتان في يديه؛ لأنه يقدمهما في بروكه، ويؤخرهما في قيامه، عكس المصلي. وقوله:"وتأخيرهما عند القيام"؛ الظاهر شموله للقيام من التشهد لإطلاق غير واحد من الشراح، قاله مؤلفه عفا الله عنه. وعقده يمناه في تشهديه الثلاث؛ يعني أنه يندب للمصلي إذا كان في التشهد واحدا أو أكثر أن يعقد أصابع يمناه الثلاث؛ أعني الخنصر والبنصر والوسطى وأطرافها على اللحمة التي تلي الإبهام، حال كونه مادًا الاثنتين الباقيتين: السبابة ويجعل جنبها إلى السماء، والإبهام واضعا لها على الوسطى. قال عبد الباقي عقب قول المصنف والإبهام: بجانبها أي السبابة فيصير هيئة تسع وعشرين، وهو قول الأكثر قال محمد بن الحسن بناني: قوله بجانبها لم يكن في ابن الحاجب، ولا في ابن شأس، ولا في التوضيح، ولا ابن عبد السلام، ولا ابن عرفة، ولا الشراح لفظ بجانبها. ووقع في
(1)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل وهو في جامع الأمهات لابن الحاجب انظر التوضيح، ج 1 ص 358. ط مركز نجيبويه.
التتائي تبعا للشارح يضم الإبهام إلى السبابة تحتها. قاله ابن شأس. قال الرماصي: لفظ ابن شأس يمد السبابة ويضع الإبهام على الوسطى، ولم يكن لفظ تحتها في واحد ممن وقفت عليه. ونقل الحطاب كلام التوضيح بلفظ تحتها، ولم أره في النسخة الصحيحة منه. وتأول الحطاب قوله: تحتها؛ يعني إلى جانبها، ولا شك أنه منخفض عن السبابة. فقد علمت أن تقييد عبد الباقي بجانبها أصله للحطاب، وأنه لا أصل له في كلام الأئمة. انتهى كلام الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ عبد الباقي: وقيل يجعلها؛ يعني الثلاث المعقودة وسط الكف؛ وهو ثلاث وعشرون، وقيل: يجعلها وسط الكف مع وضع الإبهام على أنملة الوسطى؛ وهو صفة ثلاث وخمسين، وقوله: مع وضع الإبهام الخ. قال بناني: فيه نظر، إذ صورة الخمسين مد السبابة، وجعل الإبهام إلى جانبها كالراكع. كما في ابن عرفة. الجزولي: هي وضع رأس الإبهام على وسط الأنملة الوسطى من السبابة، وهو قريب من الأول لأنك إذا جعلتها على السبابة منعطفة كالراكع يمس رأسها الأنملة الوسطى من السبابة، وهذا القول الثالث لا يلائمه قول المصنف:"مادا السبابة والإبهام"، إلَّا أن يحمل المد على ما خالف العقد، وقوله: الثلاث، بدل بعض من يمناه، وقوله: وعقده يمناه في تشهديه الخ، في الحطاب عن ابن عرفة: وصورة ما يفعل أن يقبض ثلاث أصابع، وهي الوسطى والخنصر وما بينهما، ويبسط المسبحة، ويجعل جانبها مما يلي السماء، ويمد الإبهام على الوسطى، وهو كالعاقد ثلاثة وعشرين. النووي: لو قطعت اليمنى لم ينتقل لليسرى؛ لأن شأنها البسط. التادلي: فيه مجال، إذ يقال إن شأنها البسط مع وجود اليمنى لا مع فقدها. انتهى. ومفهوم قوله: في تشهديه، أنه يضع يديه في جلوسه بين السجدتين على فخذيه، أو قرب ركبتيه مبسوطتين ولا يقبض منهما شيئًا.
فائدة: الواحد: ضم الخنصر لأقرب باطن الكف منه، والاثنان: ضمه مع البنصر كذلك، والثلاثة: ضمهما مع الوسطى كذلك، والأربعة: ضمهما برفع الخنصر، والخمسة: ضم الوسطى فقط، والستة: ضم البنصر فقط، والسبعة: ضم الخنصر فقط على لحمة أصل الإبهام، والثمانية: ضمها والبنصر عليها، والتسعة: ضمهما والوسطى عليها، والعشرة: جعل السبابة على نصف
الإبهام: والعشرون: مدهما معا، والثلاثون: إلزاق طرف السبابة بطرف إبهامه، والأربعون: مد إبهامه على جانب السبابة، والخمسون: عطف إبهامه كالراكع إلى جانب السبابة ممدودة، والستون: تحليق السبابة على أعلى إبهامه، والسبعون: وضع طرف إبهامه على وسطى أنامل السبابة مع عطف السبابة إليها قليلا، والثمانون: وضع طرف السبابة على ظهر إبهامه، والتسعون: عطف السبابة حتى تلقى الكف وضم الإبهام إليها، والمائة: فتح اليد بها. انتهى. نقلته من ابن عرفة. والحطاب. والشبراخيتي.
وتحريكني دائما -يعني أنه يندب للمصلي تحريك السبابة دائما في تشهديه يمينا وشمالا ناصبا حرفها إلى وجهه كالمدية، وما مر من أنه يحركها في تشهديه هو للتتائي، وآخر التشهد: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وهو يقتضي أنه لا يحركها في الدعاء، والذي شاهدنا عليه علماء عصرنا تحريكها للسلام؛ وهو مقتضى التعليل بأنها مقمعة أي مطردة للشيطان لتذكره بالتحريك ما يمنعه عن السهو في الصلاة والشغل عنها قاله الشيخ عبد الباقي. واختصت السبابة بذلك؛ لأن عروقها متصلة بنياط القلب، فإذا تحركت انزعج فينتبه وما ذكره المصنف من ندب تحريك السبابة هو الروي عن مالك، وهو الذي صدر به ابن الحاجب، وابن شأس. وجعل ابن رشد التحريك سنة، قال ابن عرفة: وهو ضد قول. ابن العربي: إياكم وتحريك أصابعكم في التشهد، ولا تلتفتوا لرواية العتبية فإنها بلية. انتهى. وسميت هذه الإصبع سبابة، وهي التي تلي الإبهام؛ لأن العرب كانت تشير بها للسب، وقيل: لأن آدم لا دخل الجَنَّة صار نور محمد صلى الله عليه وسلم في جبهته، ثم انتقل إلى كتفه الأيمن، ثم إلى رأس سبابته، فرفع آدم سبابته ورأى النور فسميت بذلك لأنَّها سبب رؤية ذلك النور، ويقال لها: السبعة؛ لأنَّها يشار بها للتوحيد. قاله الشيخ إبراهيم.
وتيامن بالسلام؛ يعني أنه يندب التيامن بالسلام، أي الالتفات قليلا إلى جهة اليمين في تسليمة التحليل عند النطق بالكاف والميم من "عليكم"، إماما أو مأموما أو فذا. قاله ابن يونس، وابن سعدون؛ وهو ظاهر العزية وغيرها. والمعتمد أن المأموم يوقعها بتمامها عن يمينه من غير إشارة بها إلى قبالة وجهه؛ إذ هو الذي عليه أهل المذهب، والإمام والفذ يوقعانه قبالة الوجه إلى النطق
بالكاف والميم فيتيامنان به قليلا. ولو سلم الفذ والإمام على اليمين ولم يسلما تلقاء الوجه فالمشهور الإجزاء، وقيل: لا يجزئه، ويعيد السلام انتهى. قاله. الأقفهسي. وقال الشيخ يوسف بن عمر: قال في كتاب ابن سحنون: تبطل صلاته، وقال ابن المنير: ثم يسلم عن يمينه بالتفات يسير غير مقدم على ذلك شيئًا، لا كما يفعل العامي ينحني قبالة وجهه، ثم ينتقل للسلام، فذلك بدعة، وزيادة هيئة جهلا. والله الموفق. قاله الإمام الحطاب.
ودعاء بتشهد ثان؛ يعني أنه يندب في التشهد الثاني، وأرإد به تشهد السلام، كان أولا كالصبح، أو ثانيا أو ثالثا أو رابعا كمسائل البناء والقضاء، ولا يدخل في الدعاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والباء في قوله:"بتشهد"، بمعنى "مع". قاله الشيخ إبراهيم. ومن نسي التشهد حتى سلم الإمام فليتشهد ويسلم، ولا يدعو بعد تشهده. قاله الإمام الحطاب عن مالك في العتبية. واحترز بقوله:"ثان" عن التشهد الأول، فإن الدعاء معه مكروه. كما سيذكره المصنف. ولما قدم أن التشهد بأي لفظ كان سنة، وكان الناس مختلفين في لفظه المختار لتعارض الآثار فيه بَيَّن مختار إمام الأئمة بقوله: وهل لفظ التشهد؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا في لفظ التشهد المروي عن عمر هل هو سنة؟ أعني اللفظ الذي اختاره إمامنا مالك لجريه مجرى الخبر المتواتر؛ لأنه ذكره بحضرة جمع من الصحابة، ولم ينكروه عليه، ولا خالفوه فيه، ولا قالوا إن غيره من التشهد جرى مجراه، وعلى هذا القول من أتى به أتى بسنتين، وشهره ابن بزيزة أو هو فضيلة، وعليه فمن أتى به أتى بسنة وفضيلة. وبهذا قرره الشيخ إبراهيم. واعلم أن الإمام مالكا صرح في المدونة باستحباب اللفظ المذكور، واختلف المتأخرون في معنى اختيار الإمام للفظ المذكور، هل هو على وجه السنية؟ وهو قول بعض البغداديين، أو الاستحباب؟ وهو قول الداوودي، ولا يفسر المصنف بهذا الخلاف؛ إذ لو قصده المصنف لقال تفسيران وتردد. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وحمل الش كلام المصنف على أن الخلاف في أصل التشهد بأي لفظ كان، واعترضه الشيخ بناني، بأنه خلاف ظاهر المصنف، ويحتاج إلى تشهير القول بأن التشهد فضيلة، ولم يحكه المصنف في التوضيح، ولا غيره انتهى.
والحاصل أن أصل التشهد بأي لفظ كان سنة قطعا أو على الراجح، وخصوص اللفظ مندوب قطعا أو على الراجح. انظر كتاب الشيخ الأمير. ولفظ التشهد المذكور: (التحيات لله، الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبيء ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له
(1)
)، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
(2)
). انتهى. واختار الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد تشهد ابن مسعود؛ وهو: (التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبيء ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
(3)
). واختار الإمام الشافعي تشهد ابن عباس رضي الله عنهما؟ وهو (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله: سلام عليك أيها النبيء ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله
(4)
). وليس في الصحيحين إلَّا ما اختاره الإمام أبو حنيفة، والإمام أحمد، وهو تشهد ابن مسعود. الترمذي: هوأصح حديث في التشهد، روي من نيف وعشرين طريقًا، ولا أعلم في التشهد أثبت منه ولا أصح أسانيد، ولا أشهر رجالا. قال الحافظ: ولا خلاف بين أهل الحديث في ذلك. وممن جزم بذلك البغوي، ومن مرجحاته أنه متفق عليه. قاله محمد بن عبد الباقي. الشيخ زروق: نص الشافعي رضي الله عنه على بطلان الصلاة بزيادة الألف بعد التاء من "التحيات لله"، ولم أقف لأهل المذهب على شيء فيه الشبراخيتي: يحتمل إجراءه على اللحن في القراءة.
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يعني أن الشيوخ اختلفوا في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، هل هي سنة؟ وشهره صاحب الجواهر، أو فضيلة؟ وشهره ابن عطاء الله. وبما قررته علم أن قوله: سنة. خبر عن قوله: "لفظ"، وقوله: أو فضيلة. عطف عليه؛ أي على الخبر،
(1)
لم نطلع عليها في نسخ الموطأ والبخاري التى بأيدينا، وقد وردت في نسخة يدوية من الموطإ بخط محمد مولود بن الناهى الدمانى المغفري الشنقيطي وكتب في المتن فوقها (خ) إشارة إلى أنها مثبتة في نسخة. مخطوط بمكتبة دار الرضوان لصاحبها أحمد سالك بن محمد الأمين ابن ابُّوه.
(2)
الموطأ، كتاب الصلاة، الحديث 204.
(3)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:831. ومسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 402.
(4)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:403.
وقوله: خلاف، مبتدأ خبره محذوف، أي في ذلك خلاف. وهو راجع للمسألتين: أي اختلف في اللفظ المذكور، وفي أصل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، هل كلّ منهما سنة، أو كلّ منهما فضيلة؟ وفي اللباب: من الفضائل إسرار التشهدين. وقال في الاستذكار: وإخفاء التشهد سنة عند جميعهم، وإعلانه بدعة وجهل، ولا خلاف فيه. قاله الحطاب. وقال: والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم محلها، بعد التشهد وقبل الدعاء. قاله في الشفاء: وقال في النوادر: قال الحسن وغيره: ويدخل في الصلاة على آل محمد: أزواجه، وذريته، وكل من تبعه. وقيل: آل محمد: كلّ تقي. انتهى. ويندب في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد. انتهى. قاله الشيخ الأمير.
تنبيهات: الأول: قال الشيخ أبو محمد عند آخر التشهد الروي عن عمر رضي الله عنه؛ أعني قوله: "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله": فإن سلمت بعد هذا أجزأك، ومما تزيده إن شئت: وأشهد أن الذي جاء به محمد حقٌّ، وأن الجَنَّة حقٌّ، وأن النار حقٌّ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت ورحمت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، اللهم صل على ملائكتك والمقربين، وعلى أنبيائك والمرسلين، وعلى أهل طاعتك أجمعين، اللهم اغفر لي ولوالدي ولأئمتنا، ولمن سبقنا بالإيمان مغفرة عزما، اللهم إني أسألك من كلِّ خير سألك منه محمد نبيك، وأعوذ بك من كلِّ شر استعاذك منه محمد نبيك، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن عذاب النار وسوء المصير، السلام عليك أيها النبيء ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين انتهى قوله: السلام عليك أيها النبيء لخ؛ يعني به أنك إذا فرغت من الدعاء لا تسلم تسليمة التحليل
حتى تقول هذا على جهة الاستحباب. قاله ابن عمر. وهو خلاف المشهور. وظاهره أنه مطلوب في حقّ كلّ مصل، وليس كذلك.
قال القرافي: المشهور أنه لا يعيد التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا، وعن مالك يستحب للمأموم إذا سلم إمامه أن يقول: السلام عليك أيها النبيء ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشار له الحطاب، وغيره. وتقدم أن التشهد يجزئ بأي لفظ كان، فلو قال: لا إله إلَّا الله مرّة واحدة لكفى ذلك في حصول السنة، ولكن الأكمل أن يأتي باللفظ المخصوص، فقول الرسالة: فإن سلمت بعد هذا أجزأك؛ أي على جهة الكمال، وأما أصل السنة فيحصل بأقل من ذلك -كما عرفت-. وأتى به أيضًا للرد على من يقول: لا بد من الإتيان بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: التحيات لله؛ أي الألفاظ الدالة على الملك مستحقة لله تعالى، جمع تحية، وذلك أنهم كانوا لا يحيون إلَّا الملك نحو: انعم صباحا، وأبيت اللعن.
وعش كذا سنة؛ ولما لم يكن في تحياتهم شيء يصلح للثناء على الله تعالى، أبهمت ألفاظها واستعمل منها معنى التعظيم؛ أي أنواع الثناء والتعظيم، مما يدلُّ على أن الملكية ثابتة لله تعالى. قاله غير واحد. وقوله: الزاكيات؛ أي الناميات، وهي الأعمال الصالحات أي الأعمال التي تنمو ويكثر أجرها، إنما هي الأعمال التي لله، فمن عمل لغيره لا ينمو عمله، ولا يكون له ثواب زاك: وقوله: الطيبات: أي الكلمات الطيبات: وهي ذكر الله وما والاه؛ يعني أن الله تعالى هو الذي يستحق أن يذكر بما يليق بصفاته، ويطيب ويحسن أن يثنى به عليه مما يدلُّ على تعظيمه من تكبير وتنزيه وتهليل وتحميد وغير ذلك. والله سبحانه أعلم. وقوله الصلوات، أي الصلوات الخمس وكذا غيرها؛ أي لا يستحق أن يعبد بالصلوات إلَّا الله عز وجل، وغيره لا حظ له في ذلك. وقوله: السلام عليك؛ أي أمان الله عليك، وقوله: أيها النبي، مفعول بفعل محذوف؛ أي أخصك بهذا التبجيل العظيم، وقوله: ورحمة الله، الرحمة كلّ ملائم، وقوله: وبركاته، البركة الخير الكثير، وعلى هنا للاستعلاء المعنوي كما قال الهلالي عند قول المصنف: والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وقوله: السلام علينا، أي أمان الله علينا، وقوله: وعلى عباد الله الصالحين؛
أي المؤمنين من الجن والإنس والملائكة، وينوي بقوله: وعلى عباد الله الصالحين، كلّ عبد أطاع الله، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (أن العبد إذا قال ذلك أصابت دعوته كلّ عبد صالح من الجن والإنس
(1)
)، وأقيم منه أن القائل لغيره: فلان يسلم عليك، ولم يأمره بذلك، أنه غير كاذب؛ لأن المراد بعباد الله الصالحين، المؤمنون. واستظهره ابن ناجي: إن كان المنقول عنه يفهم معنى ما يتكلم به. ابن العربي: ينبغي أن يقصد الروضة الشريفة حين يقول: السلام عليك أيها النبيء، وقوله: أشهد، أي أتحقق وأتيقن. واعلم أن قوله التحيات لله إلى قوله: الصلوات لله، هو للنبي صلى الله عليه وسلم حَيَّا به ربَّه، وقوله: السلام عليك أيها النبيء ورحمة الله وبركاته، هو لله تعالى حيا به نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام.
واعلم أن الله تعالى هو الذي بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالتحية، وقوله: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، هو للنبي صلى الله عليه وسلم، قاله ليعم الأمان جميع عباد الله الصالحين، ولا يختص به هو وحده، وقوله: أشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، هو للملائكة. وفي التنبيه: اللهم صل وسلم على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آل سيدنا محمد الذي بادرت الملائكة بقولهم لما علموا أنه حبيبه وخليله: أشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وقوله: حقّ، أي ثابت، وقوله: وأن الجَنَّة حقٌّ وأن النار حقٌّ، أي وأتحقق وأتيقن أنهما مخلوقتان، الآن وهذا مما يحب اعتقاده، وقوله: وأن الساعة، أي القيامة، وقوله: لا ريب فيها، أي لا شك فيها، وقوله: يبعث من في القبور، أي يحييهم {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} وذكر القبور إما لأن القبر هو الأغلب، وإما لأن قبر كلّ شيء بحسبه، وقوله: اللهم؛ أي يا الله. وقوله: كما صليت على إبراهيم؛ خص إبراهيم بالذكر في الصلاة لأنه دعا أن يجري ذكره على لسان أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولأنه سلم على أمته صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ولم يسلم غيره من الأنبياء عليهم، بل سلموا كلهم عليه صلى
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث: 831/ 6230 بلفظ: .... فإنه إذا قال ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض
…
- مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:402.
الله عليه وسلم، ولأنه قال حين فرغ من بناء الكعبة: اللهم من حج هذا البيت من شيوخ أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهبه مني السلام، فقال أهل بيته: آمين، ثم قال ابنه إسحاق: اللهم من حج هذا البيت من شبان أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهبه مني السلام، فقالوا: آمين، ثم قالت سارة: اللهم من حج هذا البيت من نساء أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهبها مني السلام، فقالوا: آمين. ثم قالت هاجر: اللهم من حجه من الموالي والموليات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهبه منى السلام فقالوا: آمين. فلما سبق منهم السلام قابلناهم في الصلاة مجازاة لهم على حسن صنيعهم: وقوله: كما صليت على إبراهيم، ورد فيه سؤال وهو أن المشبه بالشيء لا يقوى قوته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر
(1)
)، فالجواب أن التشبيه في أصل الصلاة، لا في القدر، كما في قوله تعالى {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ؛ إذ ليس كإحسانه تعالى إحسان، وقوله تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} ؛ إذ ليس قدر الإيحاء إليه صلى الله عليه وسلم قدر الإيحاء إلى غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقيل: التشبيه بين آل محمد وإبراهيم وآله، وقيل معناه: تقدمت منك الصلاة على إبراهيم وآله فصل على محمد وعلى آل محمد بطريق الأحرى، إذ ما ثبت للفاضل يثبت للأفضل بالأحرف: وقوله: وارحم محمدا رواية، وارحم ضعيفة جدا. وفي كتاب الشيخ الأمير المحقق: وندب لفظه؛ يعني التشهد، كفي الصلاة: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد (
(2)
). انتهى. ونحوه في شرح الشيخ عبد الباقي، فإنه قال: والأفضل فيها ما في الخبر: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد
(3)
). ابن العربي، لا تكون بغير لفظ مروي عنه صلى الله عليه
(1)
سنن ابن ماجة، كتاب الزهد، رقم الحديث: 4308 - الترمذي، كتاب المناقب، رقم الحديث:3615.
(2)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:405. - البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، رقم الحديث: 3370. وأبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:976.
(3)
الموطأ: باب ما جاء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث:398. والبيهقي في السنن الكبرى؛ الحديث: 2671.
وسلم، وقوله: حميد؛ أي محمود أي موصوف بصفات الكمال، وقوله: مجيد؛ أي ذو مجد أي جلال وعظمة فهو من الصفات الجامعة، وقوله: والمقربين من عطف الخاص على العام، وكذلك قوله: والمرسلين وذلك للتفضيل وهو غير خاص بالواو. كما قال الدماميني، خلافا لما قاله الشيخ الجكني رحمه الله تعالى:
واعطف بها لا غير ما عم على
…
ما خص والعكس أجز مفضلا
وقوله وعلى أهل طاعتك؛ أي المؤمنين، وقوله: أجمعين؛ أي ولو كانوا عصاة، وقوله: ولأئمتنا، هم العلماء، وقوله: عز ما؛ أي عاجلة، وقيل قطعا واحترز بذلك من أن يقول: إن شئت، (لأنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال: اللهم اغفر لي إن شئت
(1)
). قاله الشادلي. وقوله: سألك منه محمد نبيك هذا عام أريد به الخصوص؛ إذ الشفاعة العظمى مخصوصة به صلى الله عليه وسلم لا يشاركه غيره فيها. قاله الشادلي. وقوله: أعوذ؛ أي أتحصن أي أتمنع وأتحفظ، وقوله: ما قدمنا وما أخرنا؛ قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} ؛ أي بما عمل وما لم يعمل، أو بما قدم: ما عمل في أول عمره؛ وما أخر: ما عمل في آخره، أو بما قدم: ما عمل من السيئات، وما أخر: ما عمل به غيره بعد مماته. (فإن من سن سنة سئية عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، كما أن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة
(2)
)، فتأتي هذه التأويلات الثلاث في قول الشيخ هنا. والله سبحانه أعلم. وقوله: وما أسررنا؛ أي ما أخفينا من المعاصي عن الخلق، وما أعلنا؛ أظهرنا من المعاصي للخلق، وقوله: وما أنت أعلم به منا؛ أي ما وقع منا ونحن جاهلون بحكمه، أو وقع منا عمدا ونسيناه، وقوله: في الدنيا حسنة، قيل: هي العلم وقيل: هي المال الحلال، وقيل الزوجة الحسنة، وقيل: العافية، وقوله: وفي الآخرة حسنة؛ هي الجَنَّة، وقوله: وقنا؛ أي اجعل بيننا وبين النار وقاية،
(1)
البخاري، كتاب الدعوات، رقم الحديث:6339. - مسلم، كتاب الذكر والدعاء، رقم الحديث: 2679.
(2)
مسلم، كتاب الزكاة، رقم الحديث:1017.
وقوله: ومن فتنة المحيا، هي الكفر، وقيل: العصيان، وقوله: المات، هي التبديل عند الموت. والعياذ بالله تعالى، وقوله: ومن فتنة القبر، هي عدم الثبات عند سؤال الملكين، وقوله: ومن فتنة المسيح بالحاء المهملة، هي فتنة عظيمة (أمر صلى الله عليه وسلم بالتعوذ منها
(1)
)، أعاذنا الله منها؛ لأنه يدعي الربوبية، والأرزاق تتبعه، فمن تبعه كفر، وهو يسلك الدنيا كلها إلَّا مكة والمدينة، ويبقى في الدنيا أربعين يومًا. وسمي مسيحا؛ لأنه ممسوح القدمين لا أخمص لهما، وقيل: لمسحه الأرض أي طوافه بها في أمد يسير، ووصفه بقوله: الدجال؛ لأنه يغطي الحق بالباطل، وللفرق بينه وبين المسيح: رسول الله عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه. وسمي السيد عيسى مسيحا لأنه ما مسح على ذي عاهة إلَّا برئ بإذن الله تعالى. وقيل: لسياحته في الأرض فعيسى النبي مسيح الهدى والخير، والدجال لعنه الله تعالى مسيح الضلال والشر. وقيل: سمي الدجال مسيحا؛ لأن إحدى عينيه ممسوحة لا يبصر بها، والأعور يسمى مسيحا. واستنصت النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم حجة الوداع فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر المسيح الدجال وأطنب في ذكره وقال: (ما بعث الله من نبيء إلَّا أنذره منه (
(2)
)، أنذره نوح عليه السلام أمته والنبيئون بعده، وإنه يخرج فيكم في خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم أن ربكم ليس بأعور، وإنه أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية
(3)
)، رواه في التيسير، عن مسلم والبخاري. والطافية من العنب: التي خرجت عن حد نبات أخواتها من العنقود ونتأت. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن مع الدجال إذا خرج ماء ونارا، دأما الذي يرى الناس أنه نار فإنه ماء عذب، وأما الذي يرى الناس أنه ماء فنار تحرق فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يرى أنه نار فإنه ماء بارد عذب
(4)
). رواه في التيسير عن الشيخين وأبي داوود، وقال صلى الله عليه وسلم: (يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة، فينتهي إلى بعض السباخ فيخرج إليه
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:832. - مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث: 589.
(2)
كذا في الأصل، والذي في التيسير ج 4 ص 69: أمته.
(3)
التيسير، ج 4 ص 69.
(4)
التيسير، ج 4 ص 62.
رجل هو يومئذ خير الناس أو من خير الناس، فيقول أشهد أنك الدجال الذي حدثنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، فيقول الدجال أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته هل تشكون في الأمر فيقولون لا، فيقتله ثم يحييه الله فيقول حين يحييه والله ما كنت قط أشد بصيرة مني اليوم، فيقول الدجال أقتله ولا يسلط عليه
(1)
)، رواه في التيسير عن الشيخين. وفي الحديث: (أن عيسى عليه السلام يقتل الدجال بباب لدٍّ
(2)
)، وفي الحديث (إن الدجال إذا رأى السيد عيسى ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده؛ أي بيد عيسى حتى يريهم دمه في حربته
(3)
). رواه في التيسير عن مسلم، وقوله: وسوء المصير، قيل أراد به سوء الخاتمة أعاذنا الله منه فهو تكرار مع قوله:"والممات"، وإن أراد به سوء المنقلب فهو تكرار مع قوله من عذاب النار.
الثاني: بقي على المصنف استحباب الذكر عقب الصلوات، قال القلشاني في شرح الرسالة روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سلم قال: (أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يعود السلام حينا ربنا بالسلام تباركت ذا الجلال والإكرام، لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد
(4)
). قال النووي: الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أن الجد بالفتح وهو الحظ في الدنيا بالمال أو الولد أو العظمة أو السلطان، والمعنى لا ينجيه حظه منك وإنما ينجيه فضلك ورحمتك. قاله ابن حجر. وروى مالك عن يحيي بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر كلّ صلاة أدخله الله الجَنَّة)، قال: وتقدم في العقيدة: (من قرأ آية الكرسي في دبر كلّ صلاة
(1)
التيسير، ج 4 ص 68.
(2)
مسلم، كتاب الفتن، رقم الحديث: 2937 .... بلفظ: فيطليه حتى يدركه بباب لد فيقتله.
(3)
التيسير، ج 4 ص 68.
(4)
مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث: 591/ 593. واللفظ قريب مما هنا.
لم يمنعه من دخول الجَنَّة إلَّا الموت
(1)
)، ولا يواظب عليها إلَّا صديق أو عابد وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما:(من قرأ آية الكرسي دبر كلّ صلاة مكتوبة كان الذي يتولى قبض نفسه ذا الجلال والإكرام، وكان كمن قاتل مع أنبياء الله حتى استشهد)). وفي الرسالة: ويستحب الذكر إثر الصلوات، يسبح الله ثلاثًا وثلاثين، ويحمد الله ثلاثًا وثلاثين، ويكبر الله ثلاثًا وثلاثين: ويختم المائة بلا إله إلَّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير. ابن ناجي: الأصل فيما ذكر الشيخ (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك فقالوا يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم [ولا يكون أحد أفضل منكم]
(2)
إلَّا من صنع مثل ما صنعتم قالوا بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كلّ صلاة ثلاثًا وثلاثين مرّة وتختمون المائة بلا إله إلَّا الله وحده لا شريك له. فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله سمع إخواننا أهل المال بما فعلنا ففعلوا مثله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
(3)
). فقال الفقهاء: لا خصوصية للفقراء في هذا الحديث لقوله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقال الصوفية: بل قوله ذلك فضل الله، يدلُّ على أن هذا الفضل مخصوص بهم لا يلحقهم غيرهم فيه. انتهى.
الثالث: يتعلق بهذا الذكر؛ أعني الوارد في حديث الفقراء مسائل الأولى: محل هذا الذكر إثر الفرائض دون النوافل، فإن كان الفرض مما يتنفل بعده قدم هذا الذكر. الثانية: اختلف هل يجمع هذا الذكر فيقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثًا وثلاثين مرّة مجموعة؛ وهو
(1)
الإتحاف، ج 5، ص 133.
(2)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل.
(3)
مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:595.
اختيار جماعة، أو يفصل فيقول: سبحان الله ثلاثًا وثلاثين وكذا ما بعده واختاره جماعة أيضًا. الثالثة: وقع في الصحيحين تقديم التحميد على التكبير
(1)
)، وفي الموطإ تقديم التكبير على التحميد (
(2)
). الرابعة: وقع في رواية لمسلم: (يكبر أربعًا وثلاثين
(3)
)، فالأحوط أن يفعل ذلك فيكون لا إله إلَّا الله زائدًا على المائة. الخامسة: ليس في الحديث زيادة: يحيي ويميت، وقيل: إنه ورد في رواية. سادستها: لا ينبغي الزيادة على هذا العدد الوارد كما هو الشأن فيما حده الشارع لعل لتلك الأعداد خاصية تفوت بمجاوزة ذلك العدد. سابعتها: قال الشيخ زروق: وقد صح الترغيب في ذلك عشرا، عشرا فكان شيخنا أبو عبد الله القوري يأخذ به إن أعجله أمر. ثامنتها: روى أصحاب السنن (أنه صلى الله عليه وسلم كان يعقد التسبيح بيمينه
(4)
)، وروى الديلمي بسند ضعيف: (نعم المُذكِّرُ السبحة
(5)
). قال بعض الشيوخ: وقد اتخذ السبعة سادة يؤخذ عنهم ويعتمد عليهم، قاله الشيخ ميارة.
ولا بسملة فيه أي في التشهد يعني أنه لا بسملة في التشهد؛ أي يكره فيما يظهر ولو بنفل، وصرح غير واحد بعدم صحة المروي في البسملة على أنه لو ورد لم يصحبه عمل. وجازت يعني أن البسملة تجوز قراءتها في النافلة قبل الفاتحة أو بعدها وقبل سورة سرا أو جهرا. كتعوذ يعني أن التعوذ يجوز في النافلة قبل الفاتحة أو بعدها وقبل السورة ويسر التعوذ على المنصوص لمالك، ويكره الجهر به. قاله في العتبية وأجاز في المدونة الجهر به، قاله الشيخ إبراهيم. وعن مالك أنه لا يقرأ البسملة في النفل. وبما قررت علم أن قوله: بنفل متعلق بجاز فهو راجع للأمرين؛ أي تجوز البسملة في النفل كما يجوز التعوذ به. والله سبحانه أعلم.
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:843. - مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث: 595.
(2)
الموطأ، ج 1 ص 159.
(3)
مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:596.
(4)
أبو داود، كتاب الوتر، رقم الحديث:1502.- الترمذي، كتاب الدعوات، رقم الحديث: 3411.- النسائي، كتاب السهو، رقم الحديث:1355.
- ابن ماجة، كتاب إقامة الصلاة، رقم الحديث:926.
(5)
نعم المذكر السبحة وإن أفصل ما يسجد عليه الأرض وما أنبتته الأرض. الفردوس بمأثور الحطاب، رقم الحديث:6765.
وكرها بفرض يعني أن البسملة والتعوذ يكرهان في صلاة الفريضة. ودليل كراهة البسملة في الفرض ما في صحيح مسلم، ولفظه قال الله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال الحمد لله رب العالمين، قال الله حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال ملك يوم الدين قال الله مجدني عبدي، وقال مرّة فوض إلي عبدي، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. قال هذا [لعبدي]
(1)
)، ولعبدي ما سأل)
(2)
ودليله أيضًا حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين
(3)
). وفي حديث آخر: (كانوا لا يقرؤن ببسم الله الرحمن الرحيم
(4)
)، ودليله أيضًا حديث عبد الله بن مغفل، فإنه قال لابنه: (بني حدث إياك والحدث فإني صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فلم يكن واحد منهم يقرؤها
(5)
)، وحجة المخالف إجماع الصحابة على كتبها في المصحف، وما رواه النسائي عن نعيم قال: (صليت وراء أبي هريرة رضي الله عنه فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن، قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم
(6)
). وما في الترمذي عن ابن عباس أنه: (كان صلى الله عليه وسلم يفتتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم
(7)
)، والجواب عن الأول أنَّها لما نزلت في النمل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن لا يكتب كتاب إلَّا ابتدئ بها، فجرى الصحابة رضوان الله عليهم
(1)
سقط من الأصل وما بين المعقوفين من مسلم والموطإ.
(2)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:395. - الموطأ، ج 1 ص 86.
(3)
عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين. صحيح البخاري، كتاب الأذان، الحديث:743. ومسلم، كتاب الصلاة، الحديث: 399. ولفظه: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين.
(4)
قمت وراء أبى بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتح الصلاة. الموطأ، كتاب الصلاة، الحديث:179.
(5)
الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:244. النسائي، كتاب الافتتاح، رقم الحديث: 907. بلفظ، فما سمعت أحدا منهم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم. ابن ماجة، إقامة الصلاة، رقم الحديث:815.
(6)
النسائي، كتاب الافتتاح، رقم الحديث:905.
(7)
الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:245.
على ذلك كما هو اليوم). ولذلك روي عن ابن عباس قال: (قلت لعثمان ما بالكم كتبتم بسم الله الرحمن الرحيم، وأسقطتموها من براءة، فقال: ما تحققت أنَّها سورة على حدتها أم هي والأنفال سورة
(1)
)، وعن الثاني أنه لم يخرجه أحد ممن اشترط الصحة، وحديثه في الموطإ يوهن هذا الحديث، وعن الثالث أنه ضعفه الترمذي، والتعوذ أثقل من البسملة لقوة الخلاف فيها، وخروجه عن القرآن بلا ريب، وكراهة التعوذ في الفرض هي المشهورة. ومن قرأه في النافلة أو كان ممن يراه في الفريضة فهل يسره أو يجهر به؟ قولان، وكان ابن عمر يسره، وأبو هريرة يجهر به. وهل يتعوذ في جميع الركعات؟ وهو رأي ابن حبيب والشافعي؛ لأنه من توابع القراءة، أو يختص بالركعة الأولى؟ وهو رأي أبي حنيفة؛ لأنه لافتتاح الصلاة. خلاف. وفي تفسير ابن جزي: يتعوذ في أول كلّ ركعة عند الشافعي وأبي حنيفة، وفيه أن: القارئ يؤمر بالتعوذ على جهة الندب في ابتداء القراءة؛ يعني في غير الصلاة. ولفظ التعوذ: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(2)
)، وهذا اللفظ هو المختار عند القراء؛ وهو مروي عنه صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أيضًا: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
(3)
). وفي الحطاب أنه: لا يقرأ البسملة في الفرض، فإن قرأها فلا يجهر بها، فإن جهر بها فذلك مكروه. وقال الشيخ عبد الباقي: إن محل كراهة البسملة في الفرض إذا اعتقد أن الصلاة لا تصح بتركها ولم يقصد الخروج من الخلاف، فإن قصده لم تكره قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر؛ إذ لم أر من قيد الكراهة بهذا. والظاهر من كلام المازري أنه يعترف بفعل المكروه لتكون صلاته صحيحة اتفاقا. انتهى. وأشار الشيخ بناني بهذا إلى ما نقلوه عن المازري أنه كان يبسمل سرا، فقيل له في ذلك، فقال: مذهب مالك على قول واحد: من بسمل لم تبطل صلاته، ومذهب الشافعي على قول واحد: من تركها بطلت صلاته.
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:786. الترمذي، كتاب تفسير القرآن، رقم الحديث: 3086.
(2)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم
…
إلى ولا إله غيرك ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. الإتحاف، ج 3 ص 46.
(3)
أبو داود كتاب الصلاة، الحديث:775. الترمذي، كتاب الصلاة، الحديث: 242.
انتهى؛ أي وصلاة يتفقان على صحتها خير من صلاة يقول أحدهما ببطلانها، وقال القرافي وغيره: الورع البسملة للخروج من الخلاف البقاعي: ولابن حجر في البسملة بحث مرقص مطرب حاصله: أن من تواترت في حرفه تجب عليه القراءة بها وتبطل الصلاة بتركها، ومن لا فلا سواء قلنا إنها آية من كلّ سورة أو من الفاتحة فقط. ولذا أوجبها الشافعي؛ لأن قراءته قراءة ابن كثير، ولا ينظر لكون الذي تواترت عنده شافعيا أو مالكيا أو غيرهما. فمن حصل له ذلك أتى بها ومن لا فلا؛ بهذا يرتفع الخلاف بين أئمة الفروع. انتهى. وفيه بحث واضح كما قاله المحقق الأمير. وفي البسملة في المذهب أربعة أقوال: الكراهة للمدونة، والفرض لابن نافع، والندب لابن مسلمة، والإباحة لمالك في المبسوط. والمشهور من هذه الأقوال الأول: وهو الكراهة. نقله ابن الفرات. وقد مر الكلام على البسملة من أوجه ثمانية: معنى مفرداتها، ومعنى تركيبها، وإعرابها، وحكمها، وسبب الابتداء بهات وفائدتها، وقرآنيتها، وكتابتها. فراجع ذلك إن شئت أول الكتاب. والله الموفق للصواب.
كدعاء قبل قراءة يعني أنه يكره للمصلي الدعاء وغيره من ذكر بعد إحرامه وقبل أن يقرأ في الفرض والنفل: وعن مالك استحباب قوله قبل القراءة: (سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك)
(1)
(وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين
(2)
)، (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، ونقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد
(3)
). انتهى. وهذا هو دعاء الافتتاح.
وبعد فاتحة يعني أنه يكره للمصلي أن يدعو بعد الفاتحة وقبل السورة ليلا يشتغل عن قراءة السورة، وهي سنة بما ليس بسنة، والحق بذلك المأموم. وبما قررت علم أن هذا خاص بالأولى والثانية؛ لأن الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع جائز باتفاق. انظر حاشية الشيخ بناني. وقوله:
(1)
النسائي، كتاب الافتتاح، رقم الحديث:899.
(2)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:771.
(3)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:744. - مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث: 598. بإثبات اللهم في المقاطع الثلاثة.
وبعد فاتحة في الطراز ويدعو بعد الفراغ من الفاتحة إن أحب قبل السورة، وقد دعا الصالحون. ونقل كراهته في التوضيح عن بعضهم والظاهر ما في الطراز، وفي شرح الجلاب أن الدعاء بعد الفاتحة وقبل السورة مباح ليس بمكروه. قاله الحطاب. وقوله: وبعد فاتحة، قال الشيخ محمد بن الحسن: هكذا نقل في التوضيح كراهته عن بعضهم وفي الطراز: وشرح الجلاب خلافه، قال الحطاب وهو الظاهر. انتهى. وقوله: وبعد فاتحة هذا في الفرض، وأما في النفل فجائز. قاله الشيخ عبد الباقي. وأثناءها يعني أنه يكره للمصلي أن يدعو في أثناء الفاتحة؛ أي خلال قراءتها لأنَّها مشتملة على الدعاء؛ فهي أولى. وقوله:"وأثناءها"، هذا في الفرض. وأما في النفل فجائز، كما في الطراز. قاله الشيخ عبد الباقي.
وأثناء سورة يعني أنه يكره للمصلي أن يدعو في أثناء السورة، قال غير واحد هذا في الفرض، وأما في النفل فمباح. وقوله:"وأثناء سورة"، قال الشيخ عبد الباقي: هذا في حق من يقرأ كالفذ والإمام، وأما المأموم ففي المدونة: ولا يتعوذ المأموم إذا سمع ذكر النار، وإن فعل فسرا في نفسه. وفي الشامل: مالك وإن سمع مأموم ذكره عليه الصلاة والسلام فصلى عليه أو ذكر الجَنَّة فسألها أو النار فاستعاذ منها فلا بأس ويخفيه ولا يكثر منه كسماع خطبة. انتهى. وفي المسائل الملقوطة: ويكرر ذلك المرة بعد المرة، وكذا لا بأس أن يقول المأموم عند قراءة الإمام: قل هو الله أحد إلى آخر السورة: الله كذلك، وكذا قول المأموم: بلى إنه أحكم، أو قادر عند قراءة الإمام:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ، أو بلى إنه على كلّ شيء قدير، وما أشبه ذلك. وقولي: وكذا لا بأس أن يقول المأموم الخ قاله الشيخ محمد بن الحسن، عن الحطاب، عن المسائل الملقوطة. ونسب الشيخ عبد الباقي والشيخ إبراهيم لها ذلك في الإمام. والله سبحانه أعلم. وقال ابن رشد: خفف مالك رحمه الله التعوذ للقارئ في الصلاة إذا أخطأ في قراءته؛ لأن ذلك من الشيطان، لما روي (أن النبي صلى الله عليه وسلم عَرض له شيطان في صلاته، فقال: أعوذ بالله منك
(1)
). قاله الحطاب.
(1)
مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:542.
وركوع يعني أنه يكره للمصلي أن يدعو في ركوعه لكونه محل تعظيم الرب لخبر: (أما الركوع فعظموا فيه الرب
(1)
)، فهم العلماء منه الأمر بقول: سبحان ربي العظيم وبحمده، وإن كان الدعاء لا ينافي التعظيم لا رفع منه فيندب للآثار المذكورة في هذا الباب إلَّا أنه خاص بربنا ولك الحمد. قاله الشيخ عبد الباقي. وانظره مع ما يأتي إن شاء الله قريبا عند قول المصنف:"وسمى من أحب": وقوله: "وركوع" خلافا لأبي مصعب، ولا يرد ما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم (كان يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي (
(2)
)، لأنه في حقه صلى الله عليه وسلم وذلك في حقِّ الأمة. ويحتمل أن يكون قد أمر فيه بتكثير الدعاء بدليل لفظ: (اجتهدوا
(3)
)، وأما ما وقع في الركوع من قوله:(رب اغفر لي)، فليس بكثير. قاله الشيخ إبراهيم.
وقبل تشهد؛ يعني أنه يكره للمصلي أن يدعو قبل تشهده وسواء في ذلك التشهد الأول وغيره. وبعد سلام الإمام؛ يعني أنه إذا سلم الإمام فإنه يكره للمأموم الذي لم يسلم أن يدعو قبل سلامه، وقال التلمساني في شرح الجلاب: لا يجوز الاشتغال بعد سلام الإمام بدعاء ولا بغيره قاله الحطاب. وقال عبد الباقي عند قوله: "وبعد سلام إمام": ولو في مكانه بخلاف التشهد، فإنه يفعل بعد سلام الإمام إن بقي في مكانه أو تحول تحولا يسيرا. كما مر. انتهى. وقد تقدم هذا مع زيادة.
وتشهد أول؛ يعني أن المصلي يكره له الدعاء بعد التشهد الأول، وصرح في العتبية في سماع أشهب؛ بأنه جائز لا كراهة فيه، ولم يحك في ذلك خلافا فانظره. وفي المجموعة عن مالك: ليس في التشهد الأول موضع للدعاء، قال في الكبير: لم أر من تعرض لتشهير أحد القولين غير الشيخ، قال الظاهر الكراهة. انتهى. قاله الإمام الحطاب. وقوله:"وتشهد أول"، قال الشيخ عبد الباقي: ويتأكد فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره الرصاع، وهذا يدلُّ على
(1)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:479.
(2)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:794. مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 484. ولفظهما: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي.
(3)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:479.
أنَّها ليست من الدعاء. انتهى. وهو يخالف ما للشيخ الأمير، فإنه قال: وكرها بفرض كصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بتشهد أول. انتهى.
لا بين سجدتيه؛ أي المصلي؛ يعني أنه لا يكره للمصلي أن يدعو بين السجدتين على الصحيح، وأما في السجود فمندوب. كما مر ما يفيده، ومن أحسن ما يقوله الإنسان في سجوده ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: (اللهم ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلَّا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم
(1)
). قاله الشيخ إبراهيم ولا يكره الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع، ولا في رفع منه. كما مر. وكان صلى الله عليه وسلم يقول بين سجدتيه:(اللهم اغفر لي وارحمني واسترني واجبرني وارزقني واعف عني وعافني). قاله الشيخ عبد الباقي. وتحصل مما مر أن الدعاء يندب في سجود، ورفع منه، ورفع من ركوع. قال الشيخ عبد الباقي: بخاص
(2)
بربنا ولك الحمد، وسيأتي البحث معه، وأنه يجوز بعد تمام القراءة أي بعد السورة في الأولى والثانية، وبعد الفاتحة في الأخيرة أو الأخيرتين. كما نص عليه الشيخ محمد بن الحسن.
ودعا بما أحب يعني أنه حيث قلنا بندب الدعاء للمصلي أو جوازه، فإن له أن يدعو بما أحب من ممكن شرعا وعادة، فيحرم بممتنع شرعا وعادة وهل تبطل به مطلقًا أو بالممتنع شرعا لا عادة؟ واحترزت بقولي: حيث قلنا بندب الخ عن المواضع الثمانية المكروه فيها الدعاء التي أولها كدعاء قبل قراءة.
(وإن لدنيا) يعني أنه إذا جاز للمصلي الدعاء أو استحب، فإنه يجوز له أن يدعو بما شاء من أخروي أو دنيوي كتوسعة رزق: وزوجة حسنة وغير ذلك مما يجوز الدعاء به خارج الصلاة لما في المدونة عن عروة بن الزبير رضي الله عنه: إني لأدعو الله في حوائجي كلها في الصلاة حتى بالملح
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:834. مسلم، كتاب الأذان، رقم الحديث: 2705. ولفظهما: اللهم إني ظلمت نفسي إلخ.
(2)
لفظ عبد الباقي إلَّا أنه خاص الخ ج 1، ص 217.
وفاقا للشافعي، وخلافا لأبي حنيفة وأحمد القائلين بأنه: لا يجوز الدعاء في الصلاة إلَّا بالأدعية المأثور أو الموافقة للقرآن العظيم، فإذا دعا بغير ذلك مما يسأله الناس بطلت صلاته.
وسمى من أحب يعني أنه يجوز للمصلي إذا جاز له الدعاء أو استحب أن يسمي شخصا -أي يذكر اسمه- أحب تسميته للدعاء له أو عليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال بعد رفعه من الركوع: (غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله ودعا على آخرين، فقال: عصية عصت الله ورسوله، اللهم العن بني لحيان والعن رعلا وذكوان
(1)
). ثم سجد كما في صحيح مسلم. قاله الشيخ إبراهيم. وانظره مع ما تقدم عن الشيخ عبد الباقي من أن الدعاء بعد الرفع من الركوع إنما هو بربنا ولك الحمد.
تنبيه قال ابن زكري: أخرج الإمام أحمد وأبو داوود والديلمي عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيكون أقوام يعتدون في الدعاء والطهور)
(2)
قالوا: الاعتداء في الأول الدعاء بما لا يجوز ورفع الصوت وتكلف السجع، وفي الثاني صب الماء فوق الحاجة والمبالغة في استعماله حتى يفضي إلى الوسواس، قال الطيسي: ينبغي أن يكون الطهور بضم الطاء ليعم الأمرين. انتهى. وقال الشبراخيتي: قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله السارق
(3)
)، ففيه جواز لعن الجنس لنفوذ الوعيد على من شاء الله منهم، وإنما يكره وينهى عن لعن العين، وقول من قال: معنى الحديث يلعن العاصي ما لم يحد؛ لأن الحدود كفارات غير سديد ولا صحيح، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن اللعن في الجملة
(4)
). فَحَمْلُ النهي على العين جمع بين الأحاديث، ويجوز الدعاء على الظالم بعزله ظلمه أو ظلم غيره، والأولى عدم الدعاء على من لم يعم ظلمه، فإن عم فالأولى الدعاء، وينهى عن الدعاء عليه بذهاب أولاده وأهله أو بالوقوع في معصية لأن إرادة المعصية معصية. انتهى.
(1)
مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:679.
(2)
الإتحاف، ج 2 ص 370. مسند أحمد، ج 5 ص 55، وج 4 ص 87. أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:96. الديلمى، رقم الحديث: 3440.
(3)
البخاري، كتاب الحدود، رقم الحديث:6783. مسلم، كتاب الحدود، رقم الحديث: 1687.
(4)
لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضب الله ولا بالنار. أبو داود، كتاب الأدب، رقم الحديث:4906. الترمذي، كتب البر والصلة، رقم الحديث: 1976.
ولو قال يا فلان فعل الله بك كذا لم تبطل قال عبد الباقي: إن غاب فلان مطلقًا أو حضر ولم يقصد خطابه، فإن قصده بطلت. انتهى. ومعنى كلام المصنف أن المصلي إذا قال: اللهم افعل بفلان كذا من غير نداء فإنه لا تبطل صلاته اتفاقا، وكذا لو أتى بحرف النداء بأن قال: يا فلان فعل الله بك كذا فإنها لا تبطل على المذهب خلافا لابن شعبان. وقال الإمام الحطاب: وفي المدونة قال مالك: لا بأس أن يدعو الله في الصلاة على الظالم، قال ابن ناجي: أراد بلا بأس صريح الإباحة، وظاهره وإن لم يظلمه بل ظلم غيره، وهو كذلك باتفاق، وظاهره أنه يدعو عليه بالموت على غير الإسلام، وبه قال بعض شيوخنا، وكان شيخنا يعجبه ذلك ويفتي به، والصواب عندي تحريمه. انتهى. وقال في شرح قول الرسالة: وتقول في سجودك، وأفتى بعض شيوخنا غير ما مرّة بأن يدعو على المسلم العاصي بالموت على غير الإسلام، واحتج بدعاء موسى على فرعون بذلك. والصواب أنه لا يجوز ولا دليل في الآية لأنه فرق بين الكافر المأيوس منه كفرعون، وبين المسلم العاصي المقطوع له بالجنة. إما أولا وإما ثانيا. انتهى. كلام الحطاب. وفيه ما نصه: وقد ذكر القرافي أن الدعاء بسوء الخاتمة اختلف في تكفير الداعي به، وقال المصنف الأصح أنه لا يكفر. انتهى.
وكره سجود على ثوب يعني أنه يكره السجود بالوجه واليدين على ثوب منفصل من قطن أو كتان أو صوف؛ لأن الثياب مظنة الرفاهية، فلا تنتفي الكراهة بانتفاء الرفاهية منها، خلافا لابن بشير. وكره أيضًا على بساط لم يعد لفرش بمسجد في صف أول، وإلا لم يكره كان من الواقف، أو من ريع وقفه، أو من أجنبي وقفه ليفرش بصف أول للزوم وقفه واتباعه إن جاز أو كره. والمزاحمة على الصف الأول مطلوبة لندب إيقاع الفرض به. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ إبراهيم عند قوله:"وكره سجود على ثوب"، وهذا ما لم يعد للفرش في المسجد كالبسط التي تشترى لتفرش في الصف الأول؛ لأن التزاحم على الصف الأول مطلوب، ويفهم منه أن ما فرش في غير الصف الأول يكره السجود عليه، وأشعر قوله:"سجود"، أنه لو وقف أو جلس عليها وسجد على غيرها فلا كراهة وهو كذلك. كما في المدونة. انتهى. واحترزت بقولي: بالوجه
واليدين، عن السجود بالركبتين والرجلين على الثوب فيه رفاهية أم لا، فإنه لا يكره. كما نص عليه غير واحد. ابن الحاجب: وتستحب مباشرة الأرض بالوجه واليدين، وفي غيرهما يخير، وقال ابن عرفة: ابن حبيب تستحب مباشرة الأرض بالوجه واليدين. انتهى. قال الإمام الحطاب: فظاهر هذا أن ما عدا الوجه واليدين لا تستحب مباشرة الأرض به؛ وهو خلاف ما قال اللخمي: يستحب للمصلي أن يقوم على الأرض من غير حائل، وأن يباشر بجبهته الأرض، وما قاله ابن الحاجب وابن حبيب موافق لما في المدونة، ففيها: ويكره أن يسجد على الطنافس: وثياب الصوف، والكتان، والقطن، وبسط الشعر، والأدم، وأحلاس الدواب، ولا يضع كفيه عليها؛ ولكن يقوم عليها ويجلس ويسجد على الأرض. انتهى. قال الإمام الحطاب: وإلى هذا القسم أشار المؤلف بقوله: "وسجود على ثوب"، وأطلق في الثوب ليشمل ثوب الكتان والقطن والصوف والوبر، وكذلك بسط الشعر والأدم وأحلاس الدواب -كما تقدم عن المدونة- انتهى. ولو قال المصنف: كثوب لشملها، وقد تقدم أن ابن بشير علق الكراهة على الرفاهية فما فيه رفاهية كره عنده، وما لا يقصد للرفاهية لا يكره ولو صوفا. وقوله:"ثوب منفصل" مثله التصل. كما يأتي للمصنف. ومحل الكراهة للسجود على الثوب في غير الضرورة: وأما لحر أو برد أو خشونة أرض فلا كراهة، وقوله:"وسجود على ثوب"؛ يعني لكل مصل ولو امرأة.
لا حصير؛ يعني أن الحصير لا يكره السجود عليه، والمراد به كل ما تنبته الأرض إلا أن تكون الحصر مما يشترى بالأثمان العظام، ويقصد به الكبر والترفه والزينة والجمال، فيكره السجود عليها حينئذ.
ويتحصل من كلامهم هنا أن السجود باعتبار محله على ثلاثة أقسام: قسم مستحب؛ وهو مباشرة الأرض بالوجه والكفين، وقسم مكروه، وهو السجود على الثياب وما أشبهها؛ فإنه مكروه لغير عذر، ولا تنتفي الكراهة بانتفاء الرفاهية، والفرش التي لا تنبت الأرض لها حكم الثياب، وعلق ابن بشير الكراهة على الرفاهية -كما مر-. وقسم جائز؛ وهو السجود على ما تنبته الأرض كالحصر التي لا يقصد بها الترفه، كحصر الحلفاء والدوم؛ لأنها تشاكل الأرض من حيث إنها لا يقصد بها الترفه والكبر والزينة، ولذلك ما يقصد به الترفه من الحصر كالحصر التي تشترى
بالأثمان العظام، ويقصد بها الكبر والترفه والزينة، والجمال يكره السجود عليه. وأجاز ابن مسلمة الصلاة على ثياب القطن والكتان؛ لأنها مما تنبته الأرض؛ والأظهر ما ذهب إليه مالك، لأن ذلك مما فيه الترفه والأرض لا تنبته بطبعها، وإذا كانت العلة القصد إلى التواضع وترك ما فيه الترفه فالصلاة فيها مكروهة. قاله ابن رشد. ووقع في عبارة ابن عرفة: ويجوز على حائل من نبات لا يستنبت، وفي عبارة ابن رشد: الصلاة على حائل مكروهة إلا أن يكون الحائل مما يشاكل الأرض، ولا يقصد به الترفه والكبر كحصر الحلفاء والدوم وشبه ذلك مما تنبته الأرض بطبعها. قال الإمام الحطاب: ما ذكره؛ يعني ابن رشد وابن عرفة من تقييد النبات بما لا يُستَنْبَت لم أره لغيرهما، وعبارة المدونة: ولا بأس أن يسجد على الخمرة والحصير وما تنبت الأرض، ويضع كفيه عليها. انتهى. وعبارة ابن عرفة وابن رشد تقتضي أن السجود على الخمرة ليس بجائز؛ لأنها من النخل، وهي مما يستنبت، وقد أجاز ذلك في المدونة فعلى هذا فينبغي أن يقيد كلامهما بما عدا ما يستعمل من النخل.
وإذا كان السجود على ما تنبته الأرض مما لا رفاهية فيه ولا زينة غير مكروه، فتركه أحسن؛ أي أفضل فهو خلاف الأولى لخبر:(يا رباح عفر وجهك بالأرض)
(1)
؛ (ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يسجد على الأرض، وقد يصبح على جبهته وأنفه أثر الماء والطين
(2)
). وكان عمر بن عبد العزيز يؤتى بالتراب فتوضع على الخمرة بضم الخاء: حصير صغير من جريد، قدر ما يضع الرجل عليه وجهه في سجوده. سمي بذلك لأنه يخمر وجه الصلي أي يغطيه، ولذلك لم يفرش المسجدان الشريفان إلا بالرمل، فلو كان الفراش مستحسنا لفرشا بأحسنه. وقد علمت أن السجود على الثوب ونحوه مكروه، وأن السجود على الحصير الذي لا رفاهية فيه خلاف الأولى، والفرق بينه وبين المكروه أن تركه فيه ثواب أكثر من ترك خلاف الأولى.
(1)
الترمذي، رقم الحديث:381. ولفظه:
…
يا أفلح ترب وجهك
…
قال أبو عيسى وروى بعضهم عن أبى حمزة هذا الحديث وقال مولا لنا يقال له رباح.
(2)
البخاري، كتاب فضل ليلة القدر، رقم الحديث:2018. مسلم، كتاب الصيام، رقم الحديث: 1168.
وحاصل ما مر من التحصل أن مباشرة الأرض في السجود بالوجه واليدين مندوبة، وأن السجود بالوجه واليدين على حائل مكروه إلا أن يكون الحائل مما تنبته الأرض ولم يقصد للزينة، فترك السجود عليه أحسن: وليس السجود عليه بمكروه بل هو خلاف الأولى. والثوب مظنة الترفه فيكره السجود عليه مطلقا كان مما تنبته الأرض أولا، انتفت منه الرفاهية أولا، وأن محل الكراهة إذا لم يكن ذلك لعذر، وأما إن كان لعذر كحر أو برد أو خشونة أرض فجائز، وأن المكروه على مذهب المدونة ما لا تنبته الأرض مطلقا فيه رفاهية، أولا وما تنبته مما فيه رفاهية. والله سبحانه أعلم.
تنبيه: الأدم الجلود المدبوغة جمع أديم، وأحلاس الدواب بفتح الهمزة والحاء والسين المهملة ما يلي ظهور الدواب وما يجعل تحت اللبود، والسروج وأصله من اللزوم، والطنفسة بكسر الطاء وفتح الفاء وهو أفصحها وبضمهما وكسرهما؛ بساط صغير كالنمرقة. وفي القاموس: مثلث الطاء والفاء وبكسر الطاء وفتح الفاء وبالعكس، وفي الذخيرة قال صاحب الطراز: فإن فرش خمرة فوق البساط لم يكره، وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا، قال: فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس ثم ينضح ثم يقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقوم خلفه فيصلي بنا، وكان بساطه من جريد النخل
(1)
). واعلم أن الوجه آكد في الكراهة من اليدين، وفي الحطاب: واليدان يليان الوجه في التأكيد، وفي المدونة: وإن كان حر أو برد جاز أن يبسط ثوبا ويسجد عليه، ويجعل عليه كفيه. انتهى.
ورفع مومئ ما يسجد عليه؛ يعني أنه يكره للمصلي إذا كان شرعه الإيماء أن يرفع شيئا إلى جبهته أو ينصبه ويسجد عليه سواء اتصل بالأرض أم لا، قال فيها: ولا يرفع إلى جبهته أو ينصب بين يديه شيئا يسجد عليه. انتهى. قاله المواق. أبو الحسن: قال أشهب في المجموعة: وذلك إذا أومأ إلى ذلك الشيء برأسه حتى يسجد عليه، وأما إن رفعه إليه حتى أمَسَّه جبهته
(1)
مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:659. البخاري، كتاب الأدب، رقم الحديث: 6203.
وأنفه من غير إيماء لم يجزه ذلك وأعاد أبدا. انتهى. انتهى. وساق ابن يونس قول أشهب مساق التفسير، وعليه يدل قوله: في الكتاب ليسجد عليه. انتهى. وفي المواق عن اللخمي: هذا إن نوى حين إيمانه الأرض، وأما إن كانت نيته الإشارة إلى الوسادة التي رفعت له دون الأرض لم يجزه، ويؤيد هذا قول مالك إنه: يحسر العمامة عن جبهته حين إيمائه. انتهى. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني، قال: والحاصل أن السجود على شيء مرتفع منفصل عن الأرض مبطل، والسجود على أرض مرتفعة مكروه فقط. انتهى.
وقال الشيخ الأمير: ورفع مومئ ما يسجد عليه وبطلت إن لم يتصل بالأرض. انتهى. وقد مر أن السجود على أرض مرتفعة مكروه، وحينئذ فلا يشترط ارتفاع الأسافل على الأعالي وإن نظر فيه الحطاب. انظر الشبراخيتي. وللشافعية أنه: يشترط التنكيس وهو ارتفاع الأسافل على الأعالي، فلو ارتفعت أعاليه أو استويا لم يصح. انظر شرح الشيخ عبد الباقي، وفيه عن الجزولي أن الفراش الطاهر لا يخلو من وجهين: إما أن يكون محشوًّا أولا، فإن كان غير محشو صلى عليه بلا تفصيل كالقطيفة ونحوها. انتهى. قال الشيخ بناني: ينبغي أن يقيد بغير التي لها وبر كثير، وإلا فهي كالمحشو ومثلها الهيدورة الكثيرة الصوف. والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى قال الشيخ عبد الباقي: وإن كان محشوا فإن امتهن واندك صُلِّيَ عليه، وإن كان بحدثان حشوه أعاد من صلى عليه أبدا. انتهى. ولا يجوز السجود على الفراش المرتفع عن الأرض، كما في حاشية الشيخ بناني. وفي مختصر الواضحة: وإذا شق على المريض النزول عن فراشه إلى الأرض للصلاة، وكان ممن لا يقدر على السجود بالأرض لشدة مرضه، صلى على فراشه، فإن كان غير طاهر ألقى عليه ثوبا كثيفا طاهرا، وإن كان ممن يقدر على السجود في الأرض فلينزل إلى الأرض فيصلي جالسا بالأرض. انتهى. ومفهوم قول المصنف:"مومئ"، بطلان صلاة صحيح فعل ذلك ولو جهلا، وهو الذي تفيده المدونة خلافا لقول غير واحد: إنه مكروه. انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: "ما يسجد عليه"، ما هذه نكرة موصوفة؛ أي شيئا يسجد عليه.
وسجوده على كور عمامته؛ يعني أنه يكره السجود على كور العمامة بفتح فسكون؛ مجتمع طاقاتها مما شد على الجبهة إن كان قدر الطاقتين؛ أي التعصيبتين، ولا إعادة إن كان خفيفا لا كثيفا؛ أي أزيد من الطاقتين أو برز عن الجبهة فيمنع، فإن فعل أعاد. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: أعاد، قال الشيخ بناني: قوله: "أعاد"؛ أي في الوقت كما في ابن يونس وأبي الحسن وغيرهما. وقال الأمير: فإن زاد على الطاقتين وما قاربهما، أعاد بوقت حيث التصق على الجبهة وإلا بطل. وقال الشيخ إبراهيم: أما ما برز عنها حتى منع لصوقها فإنه لا يجزئ اتفاقا. انتهى. والطاقة: هي اللية برمتها، وليس المراد بها الحاشية الواحدة؛ لأن اللية هي التي يحصل منها الكور. حرره الوانشريسي. انظر شرح الشيخ ميارة. وقال الإمام الحطاب: ويكره ستر اليدين بالكمين في السجود، إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة حر أو برد. انتهى.
أو طرف كم؛ ما تقدم من قوله: "وسجود على ثوب"، في المنفصل، وما هنا في المتصل؛ يعني أنه يكره للمصلي أن يسجد على طرف كمه أو غيره من ملبوسه إلا لضرورة كحر أو برد. وقالت الشافعية بالبطلان في السجود على المتصل، ويكره أن يروح على نفسه في المكتوبة، وخفف في النافلة، وكره الترويح في المسجد بالمرواح.
(1)
ومر قريبا أنه يكره ستر اليدين بالكمين في السجود إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة حر أو برد، ومن صلى في جبة أكمامها طويلة لا يخرج يديه منها لإحرام ولا ركوع ولا سجود، صلاته صحيحة مع الكراهة؛ لأن عدم مباشرته بيديه الأرض فيه ضرب من التكبر. انتهى.
ونقل حصباء المسجد من موضعه؛ يعني أن نقل حصباء المسجد من موضع منه مظلل لأجل أن يسجد عليه من يصلي في الشمس مكروه؛ لأنه يؤدي إلى تحفير المسجد، وقوله:"لسجد"، متعلق بنقل: وأولى بالكراهة النقل المؤدى للتحفير لغير سجود، والكراهة للتحفير لا للنقل من موضع لآخر؛ إذ لا كراهة في ذلك. ولو خرج بالحصباء في يده ناسيا أو في نعله، فإن رد ذلك فحسن وليس بواجب؛ لأنه أمر غالب. انظر أبا الحسن. قاله الشيخ أحمد. نقله الشيخ عبد الباقي وقوله:
(1)
في عبد الباقي ج 1 ص 218: بالمراوح.
"حصباء"؛ يعني أو تراب، وقوله:"من ظل"، وكذا نقل حصباء شمس مسجد. كما قاله غير واحد. وعلم مما قررت أن: محل الكراهة إنما هو في النقل حيث كان يؤدي إلى تحفير المسجد، وإلا فلا كراهة كما نص عليه الشيخ إبراهيم، واحترز بقوله:"بمسجد"، عن غير المسجد، فإنه لا كراهة فيه. قاله غير واحد. وعبارة الشيخ الأمير: ونقل حصباء ظل أو شمس مسجد. انتهى. قال في الشرح: بحذف تنوين ظل وشمس للإضافة، وإنما يفعل هذا فيما شأنهما الاصطحاب كيد ورجل، وكل وبعض، لا دار وغلام. انتهى. ومن هذا قول الشاعر:
سقى الأرضين الغيث سَهْلَ وحزنها
…
فنيطت عرى الآمال بالزرع والضرع
وقراءة بركوع؛ يعني أنه يكره للمصلي أن يقرأ في حالة ركوعه. أو سجود يعني أنه يكره للمصلي أن يقرأ في حالة سجوده، والأصل في ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء لأنفسكم فقمن أن يستجاب لكم)
(1)
؛ أي حقيق. وعللت الكراهة بأن الركوع والسجود حالتا ذل، فيكره أن يجمع بين كلام الله عز وجل وهذه الحالة. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله:"وقراءة بركوع أو سجود"، وكذا في التشهد. قاله في اللباب. والله أعلم قاله الحطاب.
ودعاء خاص؛ يعني أنه يكره للقادر على الدعاء العام أن يدعو في الصلاة وخارجها بدعاء خاص، قال الإمام الحطاب: يحتمل أن يريد بقوله: "خاص"، أن الدعاء خاص بنفسه لم يشرك المسلمين فيه، وهذا خلاف المستحب، ويتأكد في حق الإمام، وقد روي في الحديث أنه خانهم
(2)
)، ذكره صاحب المدخل وغيره. انتهى المراد منه. ويحتمل أيضا أن يريد بقوله:"خاص". باللفظ، وعليه فلا كراهة بدعوات متعددة وإن لم تكن عامة للناس. نعم، التعميم أفضل. قاله عبد الباقي. قال:
(1)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:479.
(2)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:90. الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 357.
ولعل الكراهة في الخاص الذي لا يدعو بغيره ما لم يكن متعلقة عاما كسعادة الدارين مع كفاية همهما فلا كراهة، ويحتمل العموم وهو صريح المصنف، وإنما كرهوا الدعاء الخاص باللفظ لأن الأدعية فيها أسرار، فقد يكون السر في بعضها دون بعض ولذلك كانت أسماء الله تعالى متعددة مع أن المسمى واحد لأجل أن يتسع مجال الداعين وتفتح لهم أبواب الخيرات كالأبواب والطرقات؛ إذ بعضها أقرب في الوصول من بعض لاختلافها باختلاف أحوال الداعين، فربما صلح الدعاء ببعضها لشخص دون آخر. انتهى. قاله الشيخ إبراهيم. وقال هو وغيره: إنه على الاحتمال الأول تتأكد الكراهة في حق الإمام، فقد ورد في الحديث: أن ذلك يعني عدم إشراك المؤمنين معه في الدعاء خيانة للمؤمنين. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: ولعل كراهة الخاص الذي لا يدعو بغيره ما لم يكن متعلقة عاما كسعادة الدارين مع كفاية همهما، فلا كراهة في ملازمة ذلك كما شاهدت الأجهوري يدعو به في سجوده غالبا. انتهى.
أو بعجمية لقادر؛ يعني أن الدعاء في الصلاة بالعجمية مكروه لقادر على العربية، ومفهوم في الصلاة الجواز خارجها. قال الشارح: منهم من منع ذلك مطلقا، وكذا يكره الحلف بالعجمية، قال فيها: وما يدريه أن الذي حلف به هو الله؟ وأخذ منه اللخمي الجواز لمن علم أنه من أسماء الله في تلك اللغة: ومفهوم لقادر: عدم الكراهة لغيره، وهو كذلك، ففي سماع ابن القاسم عن الأعجمي يدعو في صلاته بلسانه، فقال: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وانظر هذا مع ما في الذخيرة عن الطراز من بطلان صلاة من دعا أو سبح أو كبر بالعجمية ولو غير قادر، ولم يحك فيه خلافا. قاله الشيخ إبراهيم. (ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بالفارسية في المسجد الحرام)
(1)
وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلين يتكلمان بالفارسية في الطواف، فقال: ابتغيا إلى العربية سبيلا. قاله الإمام الحطاب.
وقال الشبراخيتي: ويكره الكلام بالعجمية في المساجد لمن كان قادرا على العربية لنهي عمر عن رطانة الأعاجم، وقال: إنها خب؛ أي مكر وخديعة. ابن يونس: نهي عمر عنها إنما هو في
(1)
تاريخ مكة للفاكهي، ج 1 ص 330.
المساجد، وقيل: إنما ذلك بحضرة من لا يفهمها لأنها من تناجي اثنين دون. ثالث قال القرافي: وتكره مخالطتهم؛ لأنهم وسيلة إلى ذلك. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي: والكلام بها؛ يعني بالعجمية مكروه لقادر في المسجد فقط، لنهي عمر عن رطانة الأعاجم في المسجد، وقال: إنها خب أي مكر؛ وهي بفتح الراء وكسرها كلامهم بألسنتهم، وقيل: إنما هو بحضرة من لا يفهمها؛ لأنه من تناجي اثنين دون واحد. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: وعلى هذا فلا خصوصية للكراهة بالمسجد، وهذا التأويل قال أبو الحسن: أسعد بقوله إنها خب، وانظر التأويل الأول أنما ذلك في المساجد، هل لأنها من اللغو الذي تنزه عنه المساجد. انتهى. وقال الشيخ الأمير عاطفا على المكروه: ودعاء خاص وبعجمية لقادر كالحلف وإحرام الحج. انتهى. والتفات؛ يعني أن الالتفات في الصلاة مكروه لحديث عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد
(1)
) رواه البخاري. ولحديث أبي داوود: (لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في الصلاة ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه
(2)
). وروى ابن وهب عن أبي هريرة رضي الله عنه: (ما التفت عبد في صلاته قط إلا قال الله تعالى أنا خير لك مما التفت إليه
(3)
). وقوله: "والتفات"؛ أي في صلاة ولو بجميع جسده حيث بقيت رجلاه للقبلة، وأطلق المصنف في الكراهة وليس كذلك؛ إذ محلها حيث كان الالتفات لغير حاجة، وإلا فلا كراهة. فالالتفات على ضربين: مباح، ومكروه، فما كان للحاجة فمباح؛ (لحديث أبي بكر حين التفت في الصلاة، وكان لا يلتفت في الصلاة، وذلك أنه لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم صفق الناس، فلما أكثروا التصفيق التفت رضي الله عنه فرأى النبي صلى الله عليه وسلم فتأخر
(4)
). وفي حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله فإنه لا يسمعه أحد حين يقول سبحان الله إلا التفت
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:751.
(2)
لا يزال الله عز وجل مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه. أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:909.
(3)
كنز العمال، رقم الحديث: 19979، 19984.
(4)
الموطأ، ص 131. البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث: 684. مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:421.
إليه
(1)
)، وفي حديث أبي داوود عن سهل بن الحنظلية قال: (ثوب بالصلاة، -يعني الصبح- فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس
(2)
). والمكروه الالتفات لغير ضرورة -كما مر-، وقال صاحب الطراز عن المختصر: لا بأس أن يتصفح بخده ما لم يلتفت لما روي عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام (كان يلحظ في الصلاة ولا يلوي عنقه خلف ظهره
(3)
)، رواه الترمذي وروى النسائي (أنه كان يلتفت يمينا وشمالا ولا يلوي عنقه
(4)
)، والحديثان ضعيفان إلا أن النظر يصحح ذلك فإنه إنما عليه أن يتوجه إلى القبلة، فإذا لم يخل ذلك باستقباله لم يكن به بأس. انتهى. قال الإمام الحطاب: ظاهر كلام صاحب الطراز أن التصفح جائز لغير ضرورة، والظاهر أن ذلك إنما هو للضرورة فأما لغير ضرورة فهو من الالتفات إلا أن الالتفات يتفاوت، فالتصفح بالخد أخف من لي العنق، ولي العنق أخف من الالتفات بالصدر.
وقد تقدم أنه يكره ولا يمنع، ولو التفت بجميع جسده حيث بقيت رجلاه إلى القبلة فتصح صلاته؛ لأنه من وسطه إلى أسفله مستقبل، وجسده أيضا في حكم المستقبل، وإنما هو منحرف يسيرا. وأما إذا استقبل برجليه جهة غير جهة القبلة كان تاركا للتوجه منصرفا عن جهة البيت، ولو حول وجهه إلى القبلة لم ينفعه ذلك، كما لو جعل ناحية
(5)
خلف عقبيه ثم التفت إليها بوجهه وراء ظهره. انتهى كلام الحطاب. ومن المكروهات في الصلاة: رفع البصر إلى السماء ولو في حالة الدعاء، وفي الحديث: النهي عنه، وأن من لم ينته عن ذلك يخطف بصره، ولفظ الحديث: (لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتخطفن أبصارهم
(6)
). انتهى. قال الأبي: وكان الشيخ ابن عرفة يقول: إنما المعنى إذا رفع لغير الاعتبار،
(1)
البخاري، كئاب السهو، رقم الحديث 1234.
(2)
أبو داود، كتاب الجهاد، رقم الحديث:2501.
(3)
الترمذي، كتاب السفر، رقم الحديث:587. بلفظ: كان يلحظ في صلاته يمينا وشمالا .. الخ.
(4)
النسائي، كتاب السهو، رقم الحديث:1201. بلفظ: كان يلتفت في صلاته يمينا وشمالا.
(5)
في الحطاب ج 2 ص 253 ط. دار الرضوان: ناحية القبلة.
(6)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:429. ولفظه: لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم
…
الخ.
فأما للاعتبار فلا بأس، ولا يلحقه الوعيد. قال العلماء حين رأوا عامة الناس يرفعون أبصارهم إلى السماء، وهي سالمة: المراد بالخطف أخذها عن الاعتبار حتى تمر بآيات السماء وهو معرض، وذلك أشد الخطف. ونكتة ذلك أن قول المصلي: الله أكبر يحرم عليه الأفعال بالجوارح، والكلام باللسان، ونية الصلاة تحرم عليه الخواطر القلبية والاسترسال في الأفكار، إلا أن الشارع لا علم أن ضبط السر يفوت طوق البشر
(1)
). نقله الإمام الحطاب: وقال ابن العربي: قال العلماء: إن المصلي يجعل بصره إلى موضع سجوده، وبه قال الشافعي والصوفية بأسرهم، فإنه أحضر للقلب، وأجمع للفكر. وقال مالك: ينظر أمامه، فإنه إذا أحنى رأسه ذهب بعض القيام المفروض عليه في الرأس وهو أشرف الأعضاء، وقال ابن رشد الذي ذهب إليه مالك رحمه الله أن يكون بصر المصلي أمام قبلته من غير أن يلتفت إلى شيء أو ينكس رأسه، وهو إذا فعل ذلك خشع بصره، ووقع في موضع سجوده على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يضيق عليه أن يلحظ ببصره الشيء من غير التفات إليه، فقد جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. قاله الإمام الحطاب.
تنبيه: ما تقدم من الالتفات المكروه شامل لمعاين الكعبة حيث لم يخرج شيء من بدنه عنها، فإن خرج شيء من بدنه ولو إصبعا عن سمتها، بطلت صلاته. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ الأمير: وسبق إبطال الانحراف اليسير في الاستقبال القطعي، ويكفي في غيره الوقوف بساق أو صدر.
وتشبيك الأصابع؛ يعني أنه يكره تشبيك الأصابع في الصلاة، ويجوز في غيرها ولو في المسجد، فقد (صح أنه صلى الله عليه وسلم شبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم في المسجد
(2)
)، وفي البخاري أن: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك أصابعه
(3)
). وأومأ داوود بن قيس ليد مالك مشبكا أصابعه ليطلقها. وقال: ما هذا قال مالك، إنما يكره في الصلاة، ابن رشد: (صح في حديث ذي اليدين تشبيكه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه
(1)
في الحطاب ج 2 ص 254 ط. دار الرضوان: طوق البشر سمح فيه.
(2)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:47.
(3)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:481.
في المسجد
(1)
) انتهى. قاله غير واحد. وقال الش: خص مالك الكراهة بالصلاة خلافا لمن كره ذلك في المسجد. انتهى.
وفرقعتها؛ يعني أنه تكره فرقعة الأصابع في الصلاة في المسجد وغيره، وفي المدونة أنها تكره في الصلاة. ابن رشد: لم يتكلم؛ يعني في المدونة على ما سوى الصلاة. وفي العتبية: كرهها مالك في غير الصلاة في المسجد وغيره: لأنها من فعل النساء، وضعفة الناس الذين ليسوا على سمت حسن، ولما قيل إنها تسبيح الشيطان، وخص ابن القاسم الكراهة بالمسجد دون غيره. نقله ابن عرفة وصاحب التوضيح وغيرهما. قاله الحطاب. وقال الشيخ إبراهيم: وقع في كلام الحطاب ما يفيد أن مالكا وابن القاسم اتفقا على كراهة فرقعة الأصابع في المسجد في غير الصلاة، ولا يعول عليه. ونحوه للشيخ عبد الباقي.
وإقعاء؛ يعني أن الإقعاء في الصلاة مكروه: قال الإمام: ما أدركت أحدا من أهل العلم إلا وهو ينهى عن الإقعاء. انتهى. وإنما يكره الإقعاء في التشهد وبين السجدتين، ولمن صلى جالسا، وهو أن يرجع على صدور قدميه، وينبغي أن يكون مثله جلوسه عليهما وظهورهما للأرض، وجلوسه بينهما وأليتاه على الأرض وظهورهما للأرض وجلوسه بينهما وأليتاه على الأرض ورجلاه قائمتان على أصابعهما. وأما إقعاء الكلب فممنوع؛ وهو إفضاؤه بأليتيه إلى الأرض ناصبا فخذيه واضعا يديه بالأرض، فالإقعاء المكروه أربع، والممنوع واحدة. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ الأمير: وأما جلوسه كالمحتبي؛ وهو جلوس الكلب، والبدوي المصطلي فممنوع، والأظهر عدم البطلان. انتهى.
وتخصر؛ يعني أن التخصر في الصلاة مكروه وهو وضع اليد على الخاصرة (لأنه من فعل اليهود)
(2)
كذا فسر الشارح التخصر، ولم يقيده بالقيام. وقال الشيخ عبد الباقي والشيخ إبراهيم بأن يضع يده على خاصرته في القيام. انتهى. ونحو ما للشارح للأمير. والله سبحانه أعلم.
(1)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:482.
(2)
مصنف ابن أبي شيبة، ج 1 ص 497.
وتغميض بصره؛ يعني أنه يكره تغميض البصر في الصلاة إلا أن يكون ذلك أجمع لفكره أو ينظر محرما، وإنما كره تغميض البصر في الصلاة لخبر: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يغمض عينيه
(1)
).
انتهى. انظر شرح الشيخ إبراهيم ويضع بصره أمامه، وكره مالك أن يضعه بموضع سجوده، وعده عياض من مستحباته، وكره قيامه منكس الرأس، وقد قال عمر للمنكس رأسه: ارفع رأسك فإنما الخشوع في القلب، وأراد المصنف بالبصر العينين فأطلق اسم الحال على اسم المحل. قاله الشيخ عبد الباقي. والظاهر شمول المصنف لما إذا غمض إحدى عينيه وفتح الأخرى.
ورفعه رجلا؛ يعني أنه يكره للمصلي أن يرفع رجلا عن الأرض ويعتمد على أخرى، كما تفعله الدابة، وهو الصفن إلا لضرورة كطول القيام، وما مشى عليه المصنف تبع فيه عياضا، وظاهر المصنف كراهته مطلقا كما في التوضيح. قاله الشبراخيتي، وغيره.
ووضع قدم على أخرى؛ يعني أنه يكره للمصلي أن يضع قدما على قدمه الأخرى، وكذا يكره له أن يضع قدمه على ساقه؛ لأنه من العبث إلا لطول قيام وشبهه. وإقرانهما؛ يعني أن إقران القدمين في الصلاة مكروه، وإقرانهما ضمهما كالقيد معتمدا عليهما دائما فيجعل حظهما من القيام سواء دائما؛ إذا اعتقد أنه لا بد من ذلك ليلا يشتغل، فإن لم يعتقد ذلك لم يكره كما لو اعتمد على رجل تارة وعلى أخرى تارة أو عليهما لا دائما، ويكره توسيعهما على خلاف المعتاد. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الإمام الحطاب: وفسر أبو محمد الإقران بأن يجعل حظهما من القيام سواء راتبا دائما، فلو كان متى شاء روح واحدة ووقف على الأخرى، فهو جائز. انتهى. وقال عياض في قول المدونة: وأكره أن يقرنهما يعتمد عليهما. انتهى؛ يعني ولا يقرنهما ويعتمد عليهما معا، بل يفرق بينهما ويعتمد أحيانا على هذه وأحيانا عليهما انتهى. قاله الحطاب. وفيه أن: الأمر موسع يفعل من ذلك؛ يعني من التفريق والقران ما يسهل عليه في الصلاة، ولا يجعل شيئا
(1)
كنز العمال، رقم الحديث:20027.
من ذلك سنة ولا يلتزم حالة واحدة. وفي الزاهي: وليس من فعل الناس أن يكون الإنسان قائما في الصلاة لا يتحرك منه شيء. انتهى. قاله الحطاب.
(وتفكر بدنيوي) يعني أنه يكره للمصلي التفكر في صلاته بأمر دنيوي؛ لأنه يؤدي إلى عدم الضبط وقلة الخشوع، وهذا إذا كان لا يشغله حتى لا يدري ما صلى فإن شغله عنها حتى لا يدري ما صلى أعاد أبدا على ظاهر المذهب. قاله الحطاب. ولم يبن على النية مع أنها خالصة منه قطعا؛ لأن تفكره كذلك بمنزلة الأفعال الكثيرة. قاله عبد الباقي، قال بناني: أصل هذا للخمي قاس الأشغال الباطنة على الظاهرة، واعترضه بعض الشيوخ بأن حبس الجوارح أيسر من حصر القلب عن التفكر، وبأنه معارض بما يأتي من أن: من شك هل صلى ثلاثا أم أربعا؟ بنى على اليقين، والغالب حصول الشك عن تفكر ولم يقيدوه. انتهى كلام الشيخ بناني. وقال الشيخ عبد الباقي: وإن شغله زائدا على المعتاد ودرى
(1)
وصلى، أعاد في الوقت ولا يكره بأخروي لم يتعلق بالصلاة؛ (لأن عمر جهز جيشا في الصلاة
(2)
)؛ أي دبر تجهيزه وهو فيها، وينبغي أن يجري فيه قيد التفكر بدنيوي الذي فيه الإعادة، وأما التفكر المتعلق بالصلاة فلا يكره ولا يجري فيه القيد فيما يظهر. انتهى. والباء في قوله "بدنيوي": بمعنى في، أو سببية. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ الأمير عاطفا على المكروه: وتفكر بدنيوي وبنى على الأقل، فإن لم يدر شيئا بطل، ولو بأخروي لا يتعلق بالصلاة وإن كان لا يكره، وفي أواخر فضائل رمضان لعلي الأجهوري حصول الثواب لمن في جماعة ولو لم يحضر قلبه، بخلاف الفذ. فلينظر. انتهى.
(وحمل شيء بكم) يعني أنه يكره للشخص أن يصلي وهو حامل شيئا في كمه، فالباء بمعنى "في"، وهذا إذا كان لا يمنع عن ركن من أركان الصلاة. قال فيها: أكره أن يصلي وكمه محشو خبزا أو غيره، وظاهرها ولو مخبوزا بأرواث الدواب النجسة؛ لأن دخان النجس لم يحك ابن رشد في طهارته، خلافا وأقره ابن عرفة، والمصنف في التوضيح، فإن شغله ما حمله بكمه عن
(1)
في عبد الباقي ج 1 ص 225: ويدري ما صلى.
(2)
البخاري، كتاب العمل في الصلاة، انظره قبل الحديث:1221. ولفظه: قال عمر رضى الله عنه إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة.
ركن من أركانها فلا إشكال في المنع، وقوله:"وحمل شيء بكم"، قال الش: لأنه مما يشغله عن الصلاة انتهى ونحوه في الحطاب عن ابن رشد.
قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: ومفاده أنه لو انتفى الشغل بالكلية كشيء قليل أحكم شده بكمه لا كراهة فيه، وهذا يقع كثيرا ويرشد إلى ذلك قوله في المدونة: أكره أن يصلي وكمه محشو خبزا أو غيره.
(أو فم) يعني أن حمل شيء بفم في الصلاة مكروه كدينار أو درهم لا يمنعه من إخراج الحروف، وظاهره: ولو كان ذلك الشيء خبزا مخبوزا بأرواث دواب نجسة وهو كذلك ما لم تر النجاسة فيه، وقوله:"شيء"، اعلم أن الشيء يطلق عند أهل السنة على الوجود، وعلى المحقق الوقوع حقيقة نحو، {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} ، أو حكما نحو:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، لا الممكن المعدوم قبل كونه محقق الوقوع بدليل النفي في قوله تعالى:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} ، وجمعه أشياء غير منصرف، وتصغيره شُِيي بضم الشين وكسرها، ولا يقال شوي، وتصغير الجمع أشَيَّاء بضم أوله وتشديد يائه، وجمع الجمع أشاوي بكسر الواو وفتحها كصحاري. وقوله:"حمل شيء بكم أو فم"، فإن فعل ذلك فلا شيء عليه، قاله الشارح. (وتزويق قبلة) يعني أنه يكره تزويق قبلة المسجد، والتزويق: التزيين، وقبلة المسجد: محرابه. والمكروه تزيين القبلة بالذهب وشبهه، لخبر: (إذا ساء عمل قوم زخرفوا مساجدهم
(1)
)، وكذا كتابة بالقبلة، وتزويق مسجد بذهب وشبهه. وأما تحسين بناء المسجد وتجصيصه فيستحبان. ابن القاسم: والتصدق بثمن ما يجمر به المسجد أو يخلق أحب إلي من تخليقه وتجميره. عياض: تبخيره بالبخور، وتخليقه جعل الخلوق بحيطانه والطيب المعجون بالزعفران، فهو مندوب إليه، لكن التصدق بثمن ذلك أحب إليه. انتهى. أي ما لم يكن شرط واقف فيتبع، والعلة في كراهة ما ذكر من التزويق والكتابة ما يخشى على المصلين من أن يلهيهم ذلك في صلاتهم. وفي الحطاب:
(1)
ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، رقم الحديث:741.
قال ابن الحاجب: وكره التماثيل في نحو الأسرة، بخلاف البسط والثياب التي تمتهن، قال الشيخ: التمثال إن كان لغير حيوان كالشجر جاز، وإن كان لحيوان: فماله ظل يقيم فهو حرام بإجماع، وكذا إن لم يقم كالعجين خلافا لأصبغ، (لما ثبت أن المصورين يعذبون يوم القيامة: ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم
(1)
)، وما لا ظل له فإن كان غير ممتهن فهو مكروه، وإن كان ممتهنا فتركه أولى. انتهى. ابن القاسم: كان مالك يكره أن يكتب في القبلة في المسجد شيء من القرآن أو التزويق، ويقول. إن ذلك يشغل المصلي. انتهى. قاله الحطاب.
وتعمد مصحف فيه ليصلي له؛ يعني أنه يكره جعل المصحف فيه؛ أي في المحراب عمدا ليصلَّى إلى جهته: فقوله: "له"؛ أي المصحف أي ليصلَّى إلى جهته، واحترز بقوله:"تعمد" عما إذا لم يتعمد جعله في المحراب ليصلى له، بل كان ذلك موضعه فلا كراهة. وبما قررت علم أن معنى قوله: تعمد جعل المصحف في المحراب عمدا، وأن قوله: ليصلَّى، علة في قوله:"تعمد"، وقوله:"فيه"، الظاهر أنه إنما ذكر الضمير: وإن كان عائدا على قبلة المسجد أي محرابه لا في القبلة من معنى التذكير باعتبار المحراب، كما قال طرفة في عكسه:
أرق العين خيال لم يقر
…
طاف والركب بصحراء يسر
جازت البيد إلى أرحلنا
…
آخر الليل بيعفور خدر
ثم زارتني وصحبي هجع
…
في خليط بين برد ونمر
ومن مكروهات الصلاة، التروح بكمه أو غيره وعبث بلحية، يعني أنه يكره للمصلي أن يعبث بلحيته؛ أي يلعب بها. قاله الشيخ ميارة. أو غيرها. أي ويكره للمصلي أن يلعب بغير لحيته، كما يكره له أن يعبث بلحيته كخاتم وشبهه إلا أن يجوله
(2)
لعدد الركعات خوف السهو، فليس من العبث، بل هو فعل لإصلاحها، ومثله الذي يحصي الآي بيده في صلاته فذلك جائز. ولا
(1)
البخاري، كتاب اللباس، رقم الحديث:5951. مسلم، كتاب اللباس، رقم الحديث: 2107.
(2)
في عبد الباقي ج 1 ص 225: يحوله.
تبطل صلاته بعبثه حيث طلع منها شعرة أو اثنتان أو ثلاث، كما لجد علي الأجهوري؛ وهو كمن صلى وفي ثوبه ثلاث قملات وهو ذاكر قادر. كبناء مسجد غير مربع: يعني أنه يكره بناء مسجد غير مربع، ومثله الربع، وقبلته أحد أركانه لعدم تسوية الصفوف. وفي كره الصلاة به قولان؛ يعني أنه اختلف في الصلاة في المسجد غير الربع، فقيل: تكره الصلاة به للعلة المذكورة، وقيل: تجوز، وقال الشيخ الأمير: وفي كره الصلاة به قولان، ومن الورع مراعاة الخلاف ليتفق على البراءة. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: ومقتضى العلة المذكورة أنه يتفق القولان على الجواز فيما إذا كان المصلي به فذا. والله سبحانه أعلم.
(فصل) يذكر فيه حكم القيام في الصلاة،
وما يطلب به المصلي عند العجز عنه، وما يتعلق بذلك. وبدأ ببيان حكمه في الصلاة المفروضة، فقال:(يجب بفرض قيام) يعني أن الصلاة المفروضة يجب فيها القيام، وذلك في ثلاثة مواضع منها: عند تكبيرة الإحرام، وفي قراءة الفاتحة، وفي الركوع. وقوله:"قيام": استقلالا أي غير مستند لشيء استنادا يسقط لأجله بزوال ما استند له، وقوله:"فرض"؛ أي عيني ولو بنذر إن نذر فيه القيام فيجري فيه ولو سقط قادر بزوال الخ، أو كفائي على الوجوب لا على السنية فيندب، وقوله:"قيام"؛ أي استقلالا -كما مر- ولو لم يقدر معه على طمأنينة ولا اعتدال. والقيام فيما مر خاص بتكبيرة الإحرام والقيام للفاتحة، وهذا أعم فيشمل الركوع، واحترز بقوله:"فرض"، عن النفل -كما يأتي- وقيل: يجب القيام للوتر وركعتي الفجر، وهذا ضعيف، والراجح جواز الجلوس فيهما. فالمراد بالفرض هنا ما قابل النفل الشامل للسنة كما في الشبراخيتي. وعلم مما مر قريبا أن قوله:"يجب بفرض قيام"، غير مكرر مع ما تقدم من وجوب القيام لشمول ما هنا للركوع، وأيضا هذا توطئة لا بعده. كما قاله غير واحد. وأما القيام للسورة فقد مر أنه سنة، وكون من قرأها جالسا تبطل صلاته، هو من باب تعمد كسجدة ولأجل ذلك إذا استند في حال قراءتها لا تبطل صلاته. -كما يأتي إن شاء الله تعالى- وقوله:"يجب بفرض"، شامل للصبي، ومعنى الوجوب في الصبي أن هذا فعل لا تصح الصلاة إلا به: وقوله: "بفرض" الباء بمعنى "في"، كما يفيده الشارح.
تنبيه إذا كبر المأموم وهو راكع لا يحمل ذلك عنه الإمام، وكذا إذا جلس المأموم في التشهد الأول حتى ركع الإمام، وقام هو وركع من غير قيام لا يحمله. ابن الفخار: ولو جلس في التشهد حتى اطمأن الإمام راكعا فليقم وليركع، فإن لم يقم لم يحمل الإمام عنه. كما في الحطاب. انتهى خلافا لظاهر أبي محمد؛ وهو خلاف مذهب مالك. انظر الحطاب.
(إلا لمشقة) يعني أن وجوب القيام في الصلاة المفروضة إنما هو حيث لم تلحق منه مشقة فادحة، وأما إذا خاف أن تلحقه منه مشقة فادحة فإن ذلك يبيح له الصلاة جالسا، وظاهره أن الصحيح الذي لا يخاف إلا المشقة الحالية يصلي جالسا؛ وفيه نظر، بل هذا لا يصلي إلا قائما على المشهور.
والحاصل أن الذي يصلي الفرض جالسا هو من لا يستطيع القيام جملة، ومن يخاف من القيام المرض أو زيادته كالتيمم، وأما الصحيح الذي يحصل له بالقيام الشقة الفادحة فالراجح أنه لا يصلي جالسا، فإن كان مريضا صلى جالسا؛ لأن الشقة في المريض لا يؤمن معها حدوث علة أو زيادتها، وظاهر كلام ابن عرفة أنه لا يصلي جالسا، ومن منع من فعل الصلاة سقط عنه ما لم يقدر عليه من قيام أو ركوع أو سجود أو غيرها، ويفعل ما قدر عليه فلوأكره على ترك القيام مثلا سقط عنه. كما قاله القباب. ويدل له صلاة المسايفة وهو يفيد أنه يؤخر لآخر الاختياري، واعترض بما سيأتي أن الصلاة تبطل بتعمد كلام وإن بكره، وأجيب بأن مراد القباب أنها تجب حيث يضيق. وقد قال اللخمي: إن محل البطلان بالكلام حيث أكره عليه إن لم يضق الوقت، وإلا تكلم وصحت. واعلم أنه لا يتأتى الإكراه على ترك الصلاة بالكلية، كما مر عند قوله: شرط لصلاة. واعلم أن الإكراه في العبادات كالإكراه في الطلاق المشار إليه بقوله: "بخوف مؤلم" الخ. (أو لخوفه) عطف على المستثنى؛ يعني أن القيام تسقط فرضيته لأجل خوف المصلي؛ به؛ أي بسبب القيام؛ أي بسبب صلاته قائما ضررا يبيح التيمم، وسواء حصل ذلك الخوف. فيها؛ أي في الصلاة المفروضة بأن حصل في أثنائها، أي حصل قبل؛ أي قبل الدخول فيها، وفي بعض النسخ: قبلها. ضررا؛ مفعول "خوف" كما فهم من التقرير، وبين المصنف الضرر المبيح لترك القيام بقوله: كالتيمم؛ يعني أن هذا الضرر الذي يسقط فرضية القيام هو الضرر الذي تقدم في باب التيمم؛ يعني خوف المرض أو زيادته أو تأخر البرء. كما قاله الشارح وغيره. ويحتمل أن يكون معنى قوله "كالتيمم" أنه لا خلاف فيه كما في التيمم قاله الشارح. وقوله: أو "قبل ضررا"، كأن تكون عادته إذا قام يغمى عليه أو يسقط أو تحصل له دوخة فصار بهذا كالمريض، فيجلس من أولها. وعلم من المصنف مما يأتي: سقوط القيام عمن لا قدرة له عليه، وعلم أيضا مما هنا بالأحروية، ولا بد أن يكون الخوف هنا مستندا لأمر كإخبار عارف أو تجربة في نفسه أو غيره من مقارب له في المزاج، كما مر في التيمم، وقد يقال: اعتبار الخوف على هذا الوجه يشق في الصلاة، فيعتبر مطلق الخوف الحاصل كما ذكرنا نحوه في الرعاف قاله الشيخ عبد الباقي،
والشيخ إبراهيم. كخروج ريح تشبيه في سقوط القيام؛ يعني أن الشخص إذا كان يخاف خروج ريح منه بسبب قيامه في الصلاة فإنه يصلي جالسا. قاله ابن عبد الحكم؛ لأن المحافظة على الشرط الواجب في كل العبادة -يعني كانت الصلاة فرضا أو نفلا- أولى من المحافظة على الركن الواجب فيها في الجملة، فإن القيام إنما يجب في الفرض لا النفل، وبهذا يجاب عن قول سند: لم لا يصلي قائما ويغتفر له خروج الريح منه؟ ويصير كالسلس الذي لا يقدر على رفعه، فلا يترك الركن لأجله كعريان يصلي قائما بادي العورة. انتهى. لأنه هنا كسلس يقدر على رفعه، ورفعه هنا بالجلوس. وانظر ما الفرق بين جعله هنا ناقضا لقدرته على رفعه بالجلوس، وبين ما تقدم من أن من يخرج منه حدث إن توضأ لا إن تيمم لا يكون ناقضا على مختار الحطاب، لا على مختار غيره من النقض والتيمم، مع أنه شرط في المحلين. قاله الشيخ عبد الباقي. ولا مفهوم لقوله:"ريح"، ولو قال: كحصول ناقض كان أشمل. قاله الشيخ الراهيم.
ثم استناد؛ يعني أن المصلي إذا لم يقدر على القيام مستقلا فإنه يجب عليه أن يقوم مستندا، ويستند لكل شيء طاهر من حيوان أو جماد. وقوله:"استناد" على حذف مضاف؛ أي قيام ذو استناد؛ أي ملابس له. لا لجنب؛ يعني أن المصلي إذا لم يقدر على القيام مستقلا، وقدر عليه مستندا -وقلنا إنه يستند لكل شيء- فإنما ذلك في غير الجنب، وأما الجنب فإنه لا يستند له كان الجنب ذكرا أو أنثى، محرما حيث كان المستند رجلا، وكذا المرأة لا تستند لجنب أنثى أو ذكر محرم.
وحائض؛ يعني أن مثل الجنب الحائض فلا يستند لها العاجز عن القيام استقلالا. وقوله: "لا لجنب وحائض"؛ أي يكره الاستناد لهما لنجاسة أثوابهما وبعدهما عن الصلاة، ولا يصح أن يستند لأجنبية أو زوجة أو أمة ولو غير حائض لمظنة اللذة. وفي بعض التقارير تقييد عدم الصحة بتحقق حصول اللذة أو الفتنة أو الاشتغال المفسد للصلاة وإن لم يجد غيرهما، فإن تحقق عدم ذلك أو شك استند لهما ولو مع وجود غيرهما حيث لا حيض لهما ولا جنابة، وهذا التقرير هو الذي ارتضاه الرماصي. ولهما أعاد بوقت؛ يعني أنه إذا ارتكب المكروه بأن استند للجنب أو الحائض أو لهما مع وجود الغير، فإنه يعيد في الوقت الضروري، وإن لم يجد غير الجنب والحائض فإنه يجب الاستناد
لهما: ولا إعادة. وعلم مما مر أنه يجوز الاستناد لحيوان لا يعقل ورجل غير جنب، وقوله:"لا لجنب"، لو أدخل الكاف عليه ليدخل السكران، كان أشمل. قاله الشيخ إبراهيم.
والحاصل أن الاستناد لكل شيء جائز إلا للجنب والحائض، فيكره لهما مع وجود غيرهما، وإلا وجب لهما ويعيد في المكروه لا في الواجب ولا في الجائز. وأما الاستناد للأجنبية أو للأجنبي فلا يجوزت وأما للزوجة والأمة فكذلك ولو غير جنب أو حائض على ما للشبراخيتي وعبد الباقي، لأنهما مظنة اللذة. قال الشيخ عبد الباقي: ولكن في بعض التقارير تقييد عدم الصحة إلى آخر ما مر، وقوله:"ولهما أعاد بوقت"، علله أكثر الأشياخ بأنه باشر نجاسة في أثوابهما، وعليه فلو تيقنت طهارة ثيابهما فلا إعادة عليه. وقال ابن بشير: العلة فيهما بعدهما من الصلاة، وقيل: لأن المستند له حكمه حكم المصلي؛ لأنه كالعاون له فيجب أن يكون على أكمل الحالات. قاله الشارح.
ثم جلوس؛ يعني أنه إذا لم يقدر على القيام بحالتيه من استقلال واستناد، فإنه يجب عليه الجلوس، ولا يجوز له الاضطجاع. كذلك؛ يعني أنه إذا وجب عليه الجلوس فإنه يجب عليه أن يأتي به مستقلا، فإن عجز عن ذلك فالواجب عليه أن يأتي به مستندا على التفصيل المتقدم في القيام من الاستقلال والاستناد لا لجنب وحائض، ولهما أعاد بوقت من غير فرق بينهما في ذلك، فلو اضطجع مع قدرته على الجلوس أعاد أبدا. قاله ابن بشير. قال الشيخ عبد الباقي: والمعتمد أن الترتيب بين القيام مستندا، وبين الجلوس مستقلا مندوب فقط، فالترتيب بين القيامين واجب، وكذا بين الجلوسين، وكذا بين القيام مستندا والجلوس مستندا، وكذا بينه وبين الاضطجاع. وأما بين القيام مستندا والجلوس مستقلا فمندوب على المعتمد. والصور عشر لأنك تأخذ القيام مستقلا معه مستندا، ومع جلوس بقسميه، ومع اضطجاع. فتلك أربع، ثم تأخذ القيام مستندا مع ثلاث بعده، ثم الجلوس مستقلا مع الاثنتين بعده، ثم الجلوس مستندا مع الاضطجاع. وإن لم يقدر على الاستناد حال تلبسه بالصلاة إلا بالكلام، تكلم، ويصير من الكلام لإصلاحها، ويجب الترتيب في الصور المذكورة كلها على ما قال المصنف، وعلى مقابله يجب
فيما عدا واحدة؛ وهي الترتيب بين القيام مستندا والجلوس مستقلا، فيندب فيها. وقد مر عن الشيخ عبد الباقي أن المعتمد مقابل المصنف، وقال الشيخ محمد بن الحسن ما معناه ما ذكره المصنف من وجوب الترتيب بين القيام مستندا والجلوس مستقلا. ذكره ابن شأس وابن الحاجب، وذكر ابن ناجي والشيخ زروق أن ابن رشد ذكر في سماع أشهب أن ذلك على جهة الاستحباب، قال؛ أي بناني: وليس في هذا ترجيح على أن ابن ناجي اختار خلاف ما لابن رشد. وقال: إنه ظاهر المدونة عندي، -وأيضا- ما لابن شأس هو الذي نقله القباب عن المازري مقتصرا عليه؛ وهو الذي في التوضيح، وابن عبد السلام، والقلشاني، وغيرهم. وبه تعلم أن ما ذكر الزرقاني أنه المعتمد ليس هو المعتمد. والله أعلم. انتهى.
(كذلك) يعني أن هذا العاجز عن القيام بحالتيه إذا صلى فريضته جالسا، فإنه يتربع ندبا في حال قيامه العجوز عنه، كما روي عن ابن عباس، وابن عمر. وأنس. وقوله:"وتربع"؛ بأن يخالف بين رجليه، فيضع رجله اليمنى تحت ركبته اليسرى، ورجله اليسرى تحت ركبته اليمنى، وسمي متربعا لأنه جعل نفسه أرباعا: الساقان، والفخذان. والظاهر أن المراد أرباع تلي الأرض، فلا يقال هو أرباع تربع أو لم يتربع، وما مشى عليه المصنف من التربع في العاجز عن القيام بحالتيه هو المشهور، وقال ابن عبد الحكم: كالتشهد، واختاره المتأخرون، واستحسنه اللخمي؛ لأنه أقرب للتواضع وهو جلوس الأدنى بين يدي الأعلى. والتربع جلسة الأكفاء، وقال الأجهوري: والظاهر أنه لا فرق في الندب بين كون قدميه تحت وركيه أو تحت ساقيه أو بين ساقيه، ووركيه من كل جانب. ولما كان تعبيره بالفعل ربما يوهم الوجوب دفع ذلك بقوله:
(كالمتنفل) يعني أن هذا العاجز يتربع، كما أن المتنفل يتربع والحكم فيهما الندب.
واعلم أن حكم تربع التنفل الذي أحال عليه المصنف يعلم من الذهب، وأما المصنف فلم يذكره. والله سبحانه أعلم. انظر الشبراخيتي. وقوله:"كالمتنفل"؛ أي لفعله عليه الصلاة والسلام، وقوله:"وتربع"، قال في الجواهر: ولو عجز عن القيام فلا يتعين في القعود هيئة للصحة، لكن
الإقعاء مكروه، وهوأن يجلس على وركيه ناصبا فخذيه، والمشهور أن يتربع في موضع القيام. قاله الإمام الحطاب. وغير جلسته بين سجدتيه؛ يعني أن التربع يغير جلسته بين سجدتيه سواء كان متنفلا أو مفترضا، وقوله:"وغير جلسته بين سجدتيه"؛ أي ندبا، وكذا في تشهده بأن يأتي بالهيئة المتقدمة في قوله:"والجلوس كله بإفضاء اليسرى للأرض واليمنى" إلى آخر ما مر، ويغير التربع أيضا في سجوده على وجه السنية: بأن يسجد على أطراف قدميه وركبتيه ويديه -كما مر- وسكت المصنف عن ذلك للعلم به مما تقدم له في الفصل قبل هذا، ولا يكبر إلا بعد تربعه بعد إكمال تشهده في الجلوس الوسط؛ لأنه بمنزلة استقلاله.
ولو سقط قادر بزوال عماد بطلت؛ يعني أن من استند في الصلاة استنادا يسقط لأجله إذا أزيل عنه ما استند إليه تبطل صلاته إن استند في الفاتحة بفرض عمدا أو جهلا، وركعة الاستناد فقط إن كان سهوا. وقوله:"ولو سقط"؛ أي تقديرا أو فعلا، وقوله:"قادر"؛ أي قادر على القيام مستقلا أو قادر على الجلوس مستقلا. وقوله: "عماد" المراد بالعماد ما يعتمد؛ أي ما يُستَنَد إليه كان عمودا أو عصى أو حائطا أو غير ذلك. وبما قررت علم أن كلام المصنف شامل لمن يستند في القيام والجلوس مع قدرته على الاستقلال فيهما، وفي المدونة: ولا يتوكأ في المكتوبة على حائط أو عصى ولا بأس به في النافلة قاله الإمام الحطاب.
وإلا كره؛ يعني أن المستند المذكور إذا لم يكن يسقط بزوال ما استند له، فإنه يكره فعله ذلك ويعيد في الوقت الضروري. قاله الشيخ عبد الباقي، والشيخ إبراهيم، والشيخ الخرشي. قال الشيخ محمد بن الحسن: ما ذكره عبد الباقي والخرشي من الإعادة في الوقت لم أر من ذكره، والكراهة لا تستلزم الإعادة وأما لو استند في السورة فالجاري على أصل الذهب أنه لا شيء عليه؛ لأن القيام لها سنة فمن تركه لا شيء عليه. قاله الحطاب. وقد مر نص المدونة: ولا يتوكأ في المكتوبة على حائط أو عصى ولا بأس به في النافلة. انتهى.
ثم ندب على أيمن؛ يعني أن من عجز عن القيام مستقلا ومستندا والجلوس كذلك، فإنه يجب عليه أن يصلي مضطجعا، فإن قدر على حالة من حالات الاضطجاع دون غيرها صلى على تلك
الحالة بحسب ما أمكنه، وإن قدر على الصلاة على جنبه الأيمن والأيسر والظهر فإنه يندب له البداءة بالصلاة على شقه الأيمن ووجهه إلى القبلة كالملحد في قبره وإلا بطلت.
ثم أيسر؛ يعني أنه إذا لم يقدر على الصلاة على جنبه الأيمن، وقدر على الصلاة على الجانب الأيسر والظهر، فإنه يندب له تقديم الأيسر ووجهه للقبلة وإلا بطلت. ثم ظهر؛ يعني أن من لم يقدر على القيام ولا على الجلوس ولا على الجانب الأيمن ولا الأيسر، وقدر على الظهر والبطن فإنه يصلي على ظهره وجوبا ورجلاه للقبلة، فإن جعل لها رأسه بطلت. فحالات الاستلقاء الثلاث: أي الجنب الأيمن، والأيسر، والظهر مخير فيها، ولا يصلي على البطن إلا من عجز عن حالات الاستلقاء الثلاث فيجب تقديمها على البطن، وحيث صلى على بطنه فيكون رأسه للقبلة وإلا بطلت وهذا مع قدرته على التحول ولو بمحول: ويجري فيه قوله: "فالآيس أول المختار" الخ: وهذا الترتيب الذي ذكره المصنف هو قول ابن القاسم، ومطرف، وابن الماجشون، وابن عبد الحكم. ولابن القاسم على ما نقله ابن حبيب: تقديم الظهر أولا، فإن لم يقدر فعلى جنبه الأيمن، فإن لم يقدر فعلى الأيسر. وقوله:"ثم ظهر"، هو من عطف الجمل؛ أي ثم صلى على ظهر؛ لأن الظهر يجب تقديمه على البطن، ولهذا قال الشيخ الأمير: وندب على أيمن ثم أيسر ثم وجب على ظهر. وأما كونه من عطف المفردات ففيه بحث لأن حالات الاستلقاء الثلاث مقدمة على البطن وجوبا والندب إنما هو فيها. وقوله: ثم ندب على أيمن ثم أيسر، كان ينبغي له أن يقول كذلك؛ أي مستقلا ثم مستندا لا لجنب وحائض، ولهما أعاد بوقت. وقوله: ثم ندب على أيمن لخ، مصب الندب التقديم، وإلا فأحد الحالات الثلاثة: واجب لا بعينه كخصال الكفارة فهو واجب مخير فيه، ووجوب الصلاة على البطن في حق من عجز عن الحالات الثلاث المذكورة في المتن مستفاد من قوله: وإن لم يقدر إلا على نية الخ. قاله الشيخ إبراهيم.
وأومأ عاجز إلا عن القيام؛ يعني أن من عجز عن جميع أفعال الصلاة ما عدا القيام، يصلي قائما ويومئ للركوع والسجود من قيام، ويكون سجوده أخفض من ركوعه، وهل تكون نيته في الفعل الذي يومئ له بمنزلة الفعل؟ فإذا تركها يكون بمنزلة من ترك ركنا، أو النية التي وقعت في أول الصلاة منه تكفيه؟ فمن لم ينو الجلوس للسلام، هل يكون بمنزلة من ترك الجلوس للسلام؟ أو
يكتفي بنية الصلاة أولا كما يكتفي بها إذا كان يجلس للسلام، وهذا فيمن يقدر على الإيماء بشيء من جسده كما يدل له لفظه: وإلا فهو كمن لا يقدر إلا على نية قاله الشيخ علي الأجهوري. ومعنى النية التي ذكر -والله سبحانه أعلم- أن ينوي في الفعل الذي يومئ فيه أنه بدل الركوع وأنه بدل السجود. قاله الشيخ محمد بن الحسن.
ومع الجلوس أومأ للسجود منه؛ يعني أن من عجز عن جميع أفعال الصلاة غير القيام والجلوس يومئ للركوع من قيام وللسجود من جلوس وجوبا، فإن أومأ للسجود من قيام بطلت صلاته.
واعلم أن القادر على الركوع والسجود لا يجوز له الإيماء لهما في الفرض اتفاقا، واختلف في جوازه في النافلة، فعند ابن القاسم: لا يجوز خلافا لابن حبيب، فإنه أجاز له إذا صلى جالسا أن يومئ للسجود من غير علة. قاله الش. وعلى قول ابن القاسم: إن أومأ من غير علة أجزأه كما قال ابن يونس. وقوله: للسجود يشمل السجدتين. ويكون الضمير في قوله: "منه" عائدا على الجلوس؛ لأنه أقرب مذكور -كما قررت- فيجب الإيماء لهما أي للسجدتين من جلوس، فإن لم يفعل بطلت صلاته -كما مر في أول الحل- ويحتمل أن يكون الضمير في قوله:"منه" عائدا على القيام، فيكون موافقا لأبي إسحاق القائل يومئ للسجدة الأولى من قيام لكنه ضعيف. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ بناني: عزاه ابن بشير للأشياخ، ومن قدر على الجلوس ولم يومئ منه، بطلت صلاته.
وهل يجب فيه الوسع؛ يعني أن من يصلي إيماء من قيام أو جلوس، اختلف فيه هل يجب عليه أن يبذل غاية وسعه؛ أي طاقته في الإيماء للركوع والسجود؟ وعلى هذا لا يبالي بمساواة إيماء الركوع لإيماء السجود، وعدم تمييز أحدهما عن الآخر حتى لو قصر عنه بطلت صلاته، وهذا التأويل هو ظاهر ما في مختصر ابن شعبان ونحوه في مختصر ما ليس في المختصر، فإنه قال: إذا أومأ إلى حد يطيق من الانحطاط أكثر منه فسدت صلاته واستظهر لأنه الأقرب إلى الأصل، أو لا يجب عليه بذل الوسع، بل يكفيه أدنى ما يطلق عليه إيماء لهما وهو ظاهر المدونة عند اللخمي والمازري، لقوله فيها: وإذا صلى إيماء جعل إيماءه للسجود أخفض منه للركوع، ففيه بيان أنه لا
يجب عليه أن يأتي بغاية قدرته. قاله الش. وعلى هذا التأويل الأخير فلا بد من تمييز حقيقة الإيماء للسجود من الركوع قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: الظاهر في هذا أن لو قال المصنف تردد كما يؤخذ من كلام ابن عرفة ونصه: وفي نهاية وسعه بالانحناء قولان للخمي، الأول من رواية ابن شعبان من رفع ما يسجد عليه إن أومأ جهده صحت وإلا فسدت، والثاني من قوله فيها: يومئ القائم بالسجود أخفض من الركوع فهما معا. للخمي: وليسا بتأويلين على المدونة. انتهى.
أو يجوز أن يسجد على أنفه؛ يعني أن ابن القاسم قال في من بجبهته قروح تمنعه السجود عليها هو مأمور بالإيماء ولا يسجد على أنفه، وأن أشهب قال فيه: يجزئه أن يسجد على أنفه. واختلف المتأخرون في مقتضى قول ابن القاسم، فمنهم من قال: هو موافق لقول أشهب، وهو لابن يونس؛ لأن الإيماء لا يختص بحد ينتهي إليه، فلو قارب المومئ الأرض أجزأه باتفاق فزيادة إمساس الأرض بالأنف لا يؤثر، مع أن الإيماء رخصة وتخفيف، ومن ترك الرخصة وارتكب الشقة فإنه يعتد بما فعل كمتيمم أبيح له التيمم بعذر فتحعل الشقة واغتسل، فإنه يجزئه، ومنهم من ذهب إلى أن قول ابن القاسم مخالف لقول أشهب. وحينئذ فلا يجزئه أن يسجد على أنفه؛ لأنه لم يأت بالأصل ولا ببدله حكاه ابن القصار. وقال الشيخ الأمير فإن سجد على أنفه غير مومئ أي غير ناو الإيماء بالجبهة مع ذلك أبطل. تأويلان؛ أي في ذلك تأويلان وهما راجعان للمسألتين. ولما وصف في المدونة الإيماء بالظهر والرأس. المازري: والطرف لمن عجز عن غيره. واختلف شيوخنا هل لليدين مدخل معهما في الإيماء للسجود، أو ليس لهما مدخل؟ أشار إلى ذلك بقوله: يومئ بيده للسجود أو يضعهما على الأرض؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا فيما يفعله المومئ للسجود بيديه، فمنهم من قال: يومئ بيديه إلى الأرض إذا أومأ له من قيام ويضعهما على الأرض حيث أومأ له من جلوس كما يفعل الساجد غير المومئ، ومنهم من قال: لا يفعل ذلك، فلا يومئ بهما حال إيمائه له من قيام، بل يتركهما مسدولتين ولا يضعهما على الأرض حال إيمائه له من جلوس؛ بل يضعهما على ركبتيه لأنهما تابعان للجبهة في السجود، وهي لم يسجد عليها في الحالتين، فالتأويل الذكور يشتمل على حالتين، وكذا الطوي كما ظهر لك، "وأو" في قوله: "أو
يضعهما"، بمعنى الواو. قاله الشيخ إبراهيم. وعلى أنه يضعهما على الأرض، فإن رفع وضعهما على ركبتيه. كما قاله الشيخ إبراهيم. وأما من يومئ للركوع من قيام فيشير بيديه لركبتيه، ومن يومئ له من جلوس يضعهما على ركبتيه، وليس فيهما تأويلان. وهو؛ أي التأويل المذكور على الحالتين: المختار دون التأويل المطوي، ثم ذكر مسألة مالك المتفق عليها في الوجوب، فقال: كحسر عمامته؛ يعني أن من يومئ للسجود من قيام أو جلوس يحسر عمامته عن جبهته؛ أي يرفعها عنها حال إيمائه للسجود اتفاقا قاله غير واحد. وصرح عبد الباقي بالوجوب، فيعيد أبدا إن لم يحسرها. قال الشيخ الأمير: ولعله لضعف الإيماء، وإلا فقد سبق في السجود تقييده بالوقت أو يحمل على التفصيل السابق. انتهى. وقوله: "كحسر عمامته"، فيه تقوية لا اختاره اللخمي، فإن قيل: ما الفرق بين اشتراط حسر العمامة، وعدم اشتراط طهارة المحل؛ إذ المومئ إلى مكان نجس لا يضره ذلك؛ لأن المراد بمكان المصلي ما تماسه أعضاؤه بالفعل. فالجواب أن طهارة المحل اختلف فيها؛ وأما السجود فهو ركن متفق عليه. قاله الشيخ إبراهيم. وبما قررت علم أن قوله: بسجود يتنازعه الثلاثة؛ أي يومئ، ويضع وحسر. وإلى ما ذكره وطواه أشار بقوله: تأويلان؛ أي في ذلك تأويلان، وهما فيما قبل التشبيه كما علمت. قال الشيخ عبد الباقي: وانظر ما حكم الإيماء باليدين ووضعهما على الركبتين، هل هو واجب لأنه من جملة الإيماء للركن فهو من جملة بدله، أم لا؟ انتهى. والظاهر أن ذلك يجري على حكم السجود عليهما، فعلى المشهور من أن السجود عليهما سنة يكون ذلك سنة، وعلى أنه واجب يكون ذلك واجبا. والله سبحانه أعلم. وقوله: "وهو المختار"، قال الشارح: ونص اللخمي: وإذا كان المصلي يقدر على القيام دون القراءة صلى قائما، وإذا أومأ بالسجود يومئ بيديه إلى الأرض. وفي النوادر عن مالك: وإذا أومأ بيديه إلى الركوع مد يديه إلى ركبتيه. اللخمي: وإن كانت صلاته جالسا فعل في الركوع مثل ذلك، يجعل يديه على ركبتيه حين إيمائه للركوع، فإذا رفع أزالهما، وإذا أومأ للسجود جعل يديه على الأرض، وإذا رفع جعلهما على ركبتيه. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: وإذا تأملت هذا علمت أن قوله: "وهو المختار": ليس جاريا على اصطلاحه، وإنما هو قول اللخمي من نفسه. كما أشار إلى ذلك الشيخ محمد بن الحسن. والله سبحانه أعلم.
وإن قدر على الكل وإن سجد لا ينهض أتم ركعة؛ يعني أن المصلي إذا كان يقدر على جميع أركان الصلاة ولكنه إذا سجد لا يقدر بعد سجوده أن يأتي بالقيام، فإنه يأتي بركعة تامة بسجدتيها؛ ثم بعد أن أتمها بسجدتيها، جلس. أي استمر جالسا وبقية صلاته؛ لأن السجود أعظم من القيام في الإجلال لخبر: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد
(1)
)، وللاتفاق على وجوبه، ولأن المكلف يطلب أولا بما قدر عليه: ولا ينتقل عنه حتى يتحقق عجزه، وقيل: يصلي قاتما بركوع وإيماء لسجود إلا في الأخيرة فيركع ويسجد. قاله الشبراخيتي. وذكر عكس قوله: أو لخوفه الخ، بقوله: وإن خف معذور انتقل للأعلى؛ يعني أن المعذور؛ أي العاجز عن بعض أركان الصلاة أو هيئةٍ مندوبةٍ فيها إذا خف في أثناء الصلاة أي قدر على أن يأتي بما هو أعلى من حالته التي كان يصلي عليها، فإنه ينتقل إلى الحالة العليا وجوبا فيما يجب فيه الترتيب، وندبا فيما يندب فيه. كما في حالات الاضطجاع على ما تقدم؛ فإن لم ينتقل بطلت فيما يجب فيه الترتيب، لا فيما يندب. وفهم من قوله:"انتقل"، أنه خف وهو في الصلاة، وأما إن خف بعدها فلا إعادة عليه في وقت ولا في غيره. كما في سماع عيسى. بخلاف غريق صلى إيماء لعجزه فيعيد في الوقت، ولعل الفرق أن المرض وإن زال يبقى أثره مدة غالبا، فخفف عنه بعدم الإعادة، والغرق إذا زال لا يبقى أثره غالبا وقوله:"انتقل للأعلى"؛ أي لأنه لما زال عنه العذر وجب أن يأتي بالأصل، وهذا هو المذهب وقاله في المدونة. وخرج قول بأنه: يبتدئ ولا قائل بأنه يتمها على ما كان عليه. قاله الإمام الحطاب.
وإن عجز عن فاتحة قائما جلس؛ يعني أن المصلي إذا عجز عن أن يقرأ الفاتحة كلا أو بعضا سواء قدر على القيام بقدرها بدون قراءتها أم لا، فإنه يجلس لأجل أن يقرأها بعد أن يكبر
(1)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:482.
للإحرام قائما، ثم بعد قراءة الفاتحة جالسا يقوم للركوع، ودخل في كلام المصنف من لم يحفظها ويقدر على قراءتها جالسا بمصحف، فإن قدر على بعضها قائما كملها جالسا إن قدر على القيام للركوع، فإن لم يقدر عليه إلا بقراءة جميعها جالسا في الفرض المذكور فانظر، هل يقرؤها جالسا محافظة على القيام للركوع إذ هو ركن بكل ركعة من غير نزاع بخلاف الفاتحة؟ أو يقرأ بعضها قائما وبعضها جالسا لسبق خطابه بها على خطابه بالقيام للركوع؟ وإذا كان إذا أتى ببعضها قائما لا يقدر على قراءة بقيتها جالسا، ويقدر أن يأتي بها كلها جالسا فإنه يجلس لها أيضا إن كان ينهض للركوع قائما، وإلا فالظاهر تركها ليأتي بالركوع من قيام؛ لأن وجوبه في كل ركعة متفق عليه. وقوله:"وإن عجز عن فاتحة قائما جلس"، مثل ذلك من عجز عنها جالسا وقدر عليها مضطجعا فإنه يضطجع. قاله غير واحد. قال الشيخ عبد الباقي: والظاهر جريان التفصيل التقدم فيه، وعجز بفتح الجيم وكسرها يعجز بكسرها أفصح من فتحها، وفهم من تقييد المصنف بالفاتحة أن من عجز عن السورة قائما لا يجلس وهو كذلك. ابن رشد واللخمي: والعاجز عن قيام السورة يركع إثر الفاتحة، وإذا وجد القاعد خفة في أثناء القراءة فليبادر إلى القيام، وإن خف بعدها انتقل إلى القيام للهوي للركوع. قاله الإمام الحطاب. واختلف في القوم ينكسر بهم الركب فيتعلقون بالألواح فلم يقدروا على الصلاة بالإيماء أو غيره حتى خرج الوقت، هل تسقط عنهم؟ وهي رواية معن بن عيسى عن مالك فيمن يكتنفهم العدو حتى لا يقدروا على الصلاة أولا، ويصلونها بعد الوقت؛ وهو قولها في الذين ينهدم عليهم البيت، فإن كلا من هؤلاء غير عاجز عن الإيماء بالعيون والحواجب. قاله ابن غازي. قال الشيخ سالم: يمكن أن يقال إنما جاء الخلاف في هؤلاء بالوجوب والسقوط من جهة عجزهم عن الطهارة، فلو قدروا عليها لوجبت عليهم بالإيماء بلا خلاف. وقد مر أن المريض إذا خف بعد الصلاة لا يعيد في الوقت.
وإن لم يقدر إلا على نية أو مع إيماء بطرف فقال وغيره لا نص ومقتضى المذهب الوجوب؛ يعني أن الشخص إذا لم يقدر على شيء من أفعال الصلاة وأقوالها إلا على نية فقط، أو قدر عليها مع إيماء بطرف أو يد أو حاجب أو غيرهما من الأعضاء، فإن الحنفية قالت بالسقوط في المسألتين،
وقالت الشافعية بالوجوب فيهما، وقال الإمام المازري من أئمتنا في المسألة الثانية، وهي ما إذا قدر على النية مع إيماء بطرف أو يد أو نحو ذلك، مقتضى المذهب وجوب الصلاة على من اتصف بذلك؛ أي صرح بذلك أي بأن مقتضى المذهب الوجوب وذلك يتضمن أن لا نص، ولم يعرج على مقتضى المذهب في الأولى بحال. وقال ابن بشير: من أئمتنا إنه لا نص في الأولى؛ أي صرح بذلك: وهي ما إذا لم يقدر إلا على النية فقط، فإنه قال: لا نص فيها؛ أي في الأولى، وأوجب الشافعي القصد إلى الصلاة وهو أحوط. انتهى. وهذا يتضمن أن مقتضى المذهب الوجوب عنده؛ وأما الثانية فقال. فيها: لا خلاف أي في المذهب أنه يصلي ويومئ بما قدر على حركته. أشار له الشيخ إبراهيم. والحاصل أن كلاهن الإمامين قال: لا نص، ومقتضى المذهب الوجوب، فالمازري قال: مقتضى المذهب الوجوب صريحا في الثانية؛ أي صرح بأن مقتضى المذهب الوجوب؛ وتضمن ذلك أنه قال: لا نص، ولم يعرج على الأولى بحال. وابن بشير صرح بأنه: لا نص في الأولى؛ وقال: وأوجب الشافعي القصد إلى الصلاة وهو أحوط، وذلك يتضمن أن مقتضى المذهب الوجوب عنده فيها، وأما الثانية فقال فيها لا خلاف في المذهب أنه يصلي ويومئ بما قدر على حركته، والنفي -والله أعلم- إنما هو النص الأصولي، وهو ما لا يحتمل غير المراد، لا الفقهي وهو ما أفاد معنى مع الاحتمال المرجوح أو نفيه؛ إذ هو موجود من قول الجلاب: ولا تسقط عنه الصلاة ومعه شيء من عقله: وفي المدونة: وليصل المريض بقدر طاقته فإن دين الله يسر. ونحوه في الرسالة. انظر الشبراخيتي.
ولما قدم حكم العجز بمرض لا تسبب للمكلف فيه، شرع في بيان حكم ما كان بسببه من مداواة
وطلب نجح: فقال: (وجاز قدح عين أدى لجلوس) القدح: دواء في العين. قاله الشيخ الأمير، ولا خصوصية للعين، بل مداواة سائر الجسد كذلك؛ يعني أن قدح العين أي مداواتها ليعود لها إبصارها أو ليكمل؛ إذا كان يؤدي للجلوس والإيماء فإنه يجوز ويصلي جالسا مومئا ولو إلى أربعين يوما، كما هو ظاهر المصنف؛ إذ ظاهره طالت المدة أو قصرت.
(لا استلقاء) يعني أن مداواة العين للإبصار إذا كانت تؤدي إلى الاستلقاء فإنها لا تجوز، فإن فعل القدح المؤدي للاستلقاء. إنه يجب عليه أن يصلي قائما وإن ذهبت عيناه كما روى ابن القاسم،
فإن خالف وصلى مستلقيا فإنه يعيد أبدا عند ابن القاسم. اللخمي: إنما فرق مالك وابن القاسم بين الجالس والمضطجع، فإن
(1)
الجالس يأتي بالعوض عن الركوع والسجود وهو الإيماء بالرأس يطأطئه، والمستلقي لا يأتي بعوض وإنما يأتي عند الركوع والسجود بالنية من غير فعل. انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي.
وصحح عذره أيضا؛ يعني أن رواية ابن وهب أنه يجوز له القدح المؤدي للاستلقاء للإبصار فهو معذور، وهذا القول صححه بعض الأشياخ معترضا على الأول بأن التداوي مباح فينبغي أن لا يعيد، وعلل ما لمالك وابن القاسم بتردد النجح، وأجيب بأن البرء يحصل والتجربة تشهد لذلك، وكما جاز له الانتقال من الغسل إلى المسح بسبب الفصادة فكذلك هنا، وكما جاز التعرض للتيمم بالأسفار بسبب الأرباح المباحة فهنا أولى، ومحل الخلاف إن كان القدح لعود البصر لا غير، وإن كان لدفع الضرر جاز اتفاقا. كما في الحطاب. وقال الشبراخيتي: إن قوله: "وصحح عذره أيضا" ضعيف، والمذهب قوله:"لا استلقاء". انتهى. وفي نوازل ابن الحاج مسألة، قال القاضي أبو عبد الله: إذا كان به وجع في عينه فأراد أن يقدحه ليزول الوجع ويصلي على تلك الحال فذلك جائز له بلا اختلاف، وإذا لم يكن به وجع وأراد قدح عينه ليعود إليه بصره لا غير، فهذه مسألة الاختلاف. وفي كتاب الشيخ الأمير: ما يخالف ما مر عن الشيخ إبراهيم، فإنه قال: وجاز قدح وإن لضوء بلا وجع، وأدى لاستلقاء في الصلاة على الصحيح مما في الأصل. وفهم مما قررت أن محل الخلاف كما يفهم من المصنف فيما إذا أدى الدواء إلى الاضطجاع لا إلى الجلوس كما في التوضيح، والخلاف مقيد بما إذا أدى ذلك إلى الاضطجاع، وأما إن أدى إلى ترك القيام للجلوس فإنه يصلي جالسا ويجوز له ذلك. قاله المازري. ولم يحك فيه خلافا انتهى.
ولمريض ستر نجس بطاهر ليصلي عليه، يعني أنه يجوز للمريض ستر نجس فراشا أو غيره بطاهر كثيف غير حرير إن وجد غير الحرير وإلا فبالحرير؛ لأنه مقدم على النجس. ابن يونس: عن
(1)
في عبد الباقى ج 1 ص 255 لأن الجالس.
بعض الأشياخ إنما رخص في هذا للمريض خاصة، وأما الصحيح فلا. وخالفه غيره من شيوخنا، وقال: ذلك جائز للمريض وغيره؛ لأن بينه وبين النجاسة حائلا طاهرا. ابن يونس: وهو أصوب، وإلى ذلك أشار بقوله: كالصحيح على الأرجح. ابن ناجي: ويجري عليها إذا فرش ثوبا على ثوب حرير ولا أعرف فيها لأهل المذهب نصا ولا إجراء وأجراها الغزالي في الوسيط على ما ذكرنا. انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي وقال الشيخ محمد بن الحسن: انظر، فقد تقدم له في قول المصنف:"وعصى وصحت إن لبس حريرا"، عن المازري وعياض: منع الجلوس على الحرير بحائل، إلا أن يقال كلام ابن ناجي في: المريض يضطر إلى فراش الحرير ولم يمكنه التحول عنه في وقت الصلاة. والله أعلم. انتهى. وقوله: "ولمريض ستر"، عطف على قدح، "أو لمريض"، خبر مقدم مبتدؤه ستر. والله سبحانه أعلم. واشترط الأمير عن شيخه أن لا يكون الساتر ثوبه. وذكر عن النفراوي ميله لجوازه أخذا من النجاسة أسفل نعل.
ولمتنفل جلوس؛ يعني أنه يجوز للمتنفل مع قدرته على القيام الجلوس ولو نذر أصل النفل لكنه خلاف الأولى، لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجالس على النصف من صلاة القائم
(1)
)، وهذا إن كان لغير عذر لا له، ففي الخبر القدسي: (اكتبوا لعبدي ثوابه صحيحا
(2)
)، والجلوس في السنن مكروه. كما نص عليه الشيخ إبراهيم وغيره، وقيل: يجب القيام في الوتر، وركعتي الفجر؛ وهو ضعيف. والراجح جواز الجلوس فيهما.
ولو في أثنائها؛ يعني أن المتنفل يجوز له الجلوس، ولا فرق في ذلك بين أن يكون ابتدأ النافلة جالسا ويستمر على ذلك، وبين أن يجلس في أثنائها بعد أن ابتدأها قائما، وإذا جلس في أولها استحب إذا قارب الركوع أن يقوم فيقرأ ما تيسر ويركع؛ (لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة جالسا حين أسن فإذا بقي من قراءته ثلاثون آية قام فقرأ ثم ركع وسجد، ثم يفعل في
(1)
ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، رقم الحديث:1229. وأصله في الصحيحين.
(2)
ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلا أمر الله الحفظة فقال اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدودا في وثاقى. مصنف ابن أبي شيبة، ج 3 ص 118.
الركعة الثانية مثل ذلك
(1)
). وظاهر إطلاقهم أنه يجوز تكرار القيام والجلوس ولو كثر. واستظهره بعض فليس من الأفعال الكثيرة. وكان سعيد بن جبير يصلي قاعدا محتبيا، فإذا بقي عليه عشر آيات قام فقرأ وركع، وقوله:"ولمتنفل جلوس"، وأحرى القيام مستندا، وفي المدونة: ولا يتوكأ في المكتوبة على حائط أو عصى ولا بأس به في النافلة. انتهى.
إن لم يدخل على الإتمام؛ يعني أن المتنفل إنما يجوز له الجلوس حيث لم يدخل على شرط الإتمام قائما، فإن دخل عليه قائما لم يكن له الجلوس، وظاهره التزم ذلك بلفظ النذر أولا وهو لأشهب، وأجازه ابن القاسم وهو أحسن، ولذلك حملوا المصنف على أن معناه: دخل على الإتمام قائما ملتزما للقيام بأن ينذره باللفظ وهو صادق بما إذا افتتحها قائما، ولا نية له بأي وجه يتمها، أو نوى إتمامها قائما ولم ينذر، وإن التزم الإتمام قائما وأتم جالسا أثم ولا تبطل صلاته كذا ينبغي. قاله الشيخ إبراهيم. وغيره. وقال الشيخ الأمير: ولمتنفل جلوس ولو في أثنائها إن لم ينذر القيام ولا يلزم بمجرد النية. وقوله: "إن لم يدخل على الإتمام".
اعلم أن الصور أربع، ثلاث يجوز فيها الجلوس؛ وهي منطوق المصنف وهي: نية الإتمام قائما، نية الجلوس، عدم نية شيء منهما. ومفهومه واحدة؛ وهي ما إذا نذر القيام نذر أصل النفل أولا. وبما قررت علم أن معنى قول المصنف:"إن لم يدخل على الإتمام" لم يلتزم الإتمام قائما بالنذر بأن ينذره باللفظ، فالدخول هنا بمعنى الالتزام بالنذر. كما قاله الشيخ محمد بن الحسن، وغيره. ابن عرفة: وفي جواز جلوس مبتدئه قائما اختيارا قولان لها ولأشهب. انتهى. واختلف المتأخرون في محل هذا الخلاف، فذهب ابن رشد وأبو عمران إلى عمومه في الثلاث الأول، وذهب بعض شيوخ عبد الحق إلى قصره على الثانية والثالثة، وأما الأولى؛ وهي أن ينوي الإتمام قائما فيلزمه باتفاقهما لأنه يصير بالنية كنذر. وذهب اللخمي إلى أن محله هو الأولى فقط، وأما إن نوى
(1)
البخاري، أبواب تقصير الصلاة، رقم الحديث:1118. مسلم، صلاة المسافرين، رقم الحديث: 731.
الجلوس أو لم ينو شيئا فله الجلوس باتفاقهما، وضعفه ابن عرفة ورجح الأول وهو ظاهر كلام ابن الحاجب. انتهى.
لا اضطجاع؛ يعني أنه يمنع للشخص أن يصلي النافلة مضطجعا إن قدر على القيام أو الجلوس، وإلا جاز. وإن أولا؛ يعني أنه لا يجوز التنفل في حالة الاضطجاع، وإن ابتدأ مضطجعا فلا فرق في المنع بين أن يبتدئه مضطجعا وبين أن يبتدئه قائما أو جالسا ثم يضطجع بعد ذلك. وفي ابن الحاجب: ولا يتنفل قادر على القعود مضطجعا على الأصح. التوضيح: ظاهره كان مريضا أو صحيحا، وحكى اللخمي في المسألة ثلاثة أقوال: أجاز ذلك ابن الجلاب للمريض خاصة، وهو ظاهر المدونة. وفي النوادر: المنع وإن كان مريضا، وأجازه الأبهري للصحيح، وقال ابن عبد السلام على كلام ابن الحاجب المذكور: هل يجري الجلوس في حق المريض مجرى القيام في حق الصحيح؟ فيتنفل المريض القادر على الجلوس مضطجعا كما يفعل ذلك الصحيح جالسا، فيه قولان. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال في الرسم: الأول من سماع أشهب، وسئل عن المصلي في المحمل أين يضع يديه؟ فقال: على ركبتيه أو فخذيه، قيل له: فالمصلي على الدابة؟ قال: مثل ذلك. ابن رشد: يريد أن يضع يديه على ركبتيه أو فخذيه إذا ركع وإذا تشهد، وأما في سائر الصلاة فلا خير في أن تكون يداه على ركبتيه، يدل على ذلك قوله في المدونة: فإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه عن ركبتيه. انتهى. وفي المدونة: قال ابن القاسم قال لي مالك وعبد العزيز ولم أسمع من عبد العزيز غير هذه: من تنفل في المحمل فقيامه تربع ويركع متربعا ويضع يديه على ركبتيه، فإذا رفع رأسه من ركوعه، قال مالك: يرفع يديه عن ركبتيه ولا أحفظ رفع يديه عن ركبتيه عن عبد العزيز، ثم قال: إذا أهوى للسجود ثنى رجليه وأومأ بالسجود، فإن لم يقدر أن يثني رجليه أومأ متربعا. انتهى. نقله الإمام الحطاب.
قال جامعه عفا الله عنه: وبهذا تعلم أن من صلى متربعا متنفلا أو مفترضا لا يضع يديه على فخذيه ولا على ركبتيه في حال قراءته، بل يتركهما مسدولتين،
كما قال المصنف: وسدل يديه، فإنه شامل للفرض والنفل. كما مر.
فصل:
قال الشيخ عبد الباقي: ذكر فيه أربع مسائل: قضاء الفوائت، وترتيب الحاضرتين، والفوائت في أنفسها، ويسيرها مع حاضرة، وهي في كلامه هكذا مرتبة، فأشار إلى الأول بقوله:"وجب قضاء فائتة؛ " يعني أنه يجب قضاء الفائتة على الفور على المشهور ويقضيها على نحو ما فاتته من قصر وإتمام وجهر وسر وقنوت في صبح. ابن ناجي: وظاهرها أي المدونة أن القضاء على الفور ولا يجوز تأخيرها مع القدرة وهو كذلك على المشهور، وقيل: على التراخي، وقيل يلزمه أن يقضي يومين في يوم. انتهى. وقال ابن رشد في الأجوبة: إنه لا يتنفل ولو قيام رمضان إلا وتر ليلته وفجر يومه، وقال ابن العربي: يجوز له أن يتنفل ولا يخلي نفسه من الفضيلة. نقله ابن ناجي. وقال في شرح الرسالة: ظاهر كلام الشيخ أن قضاء الفوائت على الفور ولا يجوز تأخيرها يريد إلا لعذر؛ وهو كذلك في نقل الأكثر من أهل المذهب. وقال ابن رشد في البيان: ليس وقت النسية بضيق لا يجوز تأخيرها عنه بحال كغروب الشمس للعصر وطلوعها للصبح لقولهم: إن ذكرها مأموم تمادى، وكذلك الفذ عند ابن حبيب، ومثل هذا قال في آخر أجوبته أيضا: إنما يؤمر بتعجيلها خوف مفاجأة الموت، فيجوز تأخيرها لمدة بحيث يغلب على ظنه أداؤها نقله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ عبد الباقي: ولوجوب القضاء فورا لا يجوز تنفل من عليه فوائت خلافا لابن العربي إلا ما خف من الصلوات المسنونة، وفجر يومه، والشفع المتصل بالوتر، وأما ما كثر من النوافل المرغب فيها كقيام رمضان، فلا. قاله ابن رشد في أجوبته. زاد في غيرها. فإن فعل أوجر من وجه وأثم من وجه؛ أي أوجر من حيث إن مفعوله طاعة، وأثم من حيث أن مفعوله يتضمن تأخير القضاء. القوري: لو كان يترك النفل للفرض؛ أي لقضائه فلا يتنفل، وإن كان للبطالة فتنفله أولى. وقال الشيخ إبراهيم: وجب على المكلف فورا على منصوص المذهب لقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} أي لذكر صلاتي، فهو من مجاز الحذف، ولا يجوز أن يؤخر إلا بمقدار ما يحتاج إليه من معاشه. قال أبو الحسن: انظر هل دَرْسُ العلم من ذلك أم لا، ومراده بالعلم غير المتعين، وأما المتعين فينبغي أن يقدم مطلقا، والظاهر أن التمريض، وإشراف القريب، ونحوه على الموت. كذلك. أبو محمد صالح: إن قضى في كل يوم يومين لم يكن مفرطا فأما مع
كل صلاة صلاة كما تقول العامة ففعلة لا تساوي بصلة إلا لمن لم يقدر إلا على ذلك. المشدالي: لو واجر نفسه ثم أقر أن عليه منسيات يجب تقديمها على الحاضرة، لم يقبل منه. انتهى. وقوله:"فائتة"، محققة الفوات أو مظنونته أو مشكوكته، وأما الوهم والتجويز العقلي فلا، ثُمَّ إن كانت محققة الفوات أو مظنونته فإنه يأتي بها ولو في وقت النهي، وأما إن كان إتيانه بها للشك فيها فإنه يتوقى أوقات النهي. وقوله:"فائتة"؛ أي لغير عذر مسقط، فإن فاتته لعذر مسقط: كحيض: ونفاس؛ وعدم ماء، وصعيد فلا قضاء. انتهى.
مطلقا قال الشيخ عبد الباقي: حال من "قضاء"، ومن "فائتة"؛ أي حال كون القضاء مطلقا في جميع الأوقات، فيقضي وقت طلوع الشمس وغروبها، وخطبة جمعة، وزمن سفر وحضر مع وجوب قضانه لشك في ذمته مستندا لعلامة -كما هو ظاهر إطلاقهم- لا بمجرد وهم أو تجويز عقلي، ويصلي ما وجب قضاؤه بحضرة الناس، وليس عليه إعلامهم، ولكنه يتوقى في المشكوك فيه أوقات النهي وجوبا في المحرم، وندبا في المكروه ولو ممن يقتدى به. وفي المشدالي من نوازل ابن الحاج: إذا ذكر الصبح والإمام يخطب فليقم ويصليها بموضعه، ويقول لمن يلي: إنما أصلي الصبح إن كان ممن يقتدى به، وإلا فليس عليه ذلك. انتهى. والظاهر أن غير الصبح مثلها، وكذا يقال في الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها فيما يظهر، ويستثنى من التعميم في الأوقات وقت يحتاج فيه إلى تحصيل معاشه، وحال كون الفائتة مطلقا تحقيقا أو ظنا أو شكا مستندا لعلامة، ولكنه يتوقى وقت النهي -كما مر- وحال كونها فائتة سهوا باتفاق وعمدا على المعروف، ولا يقال الأولى الاتفاق على العمد والاختلاف في السهو؛ لأنه قد يتوهم أن تركها عمدا كاليمين الغموس التي لا تكفر لعظمها، ولمراعاة قول ابن حبيب بكفر تاركها عمدا. انتهى. ومقابل المعروف ما نقله في التوضيح والحطاب وغيرهما عن داوود من أنه يقول بسقوط القضاء حينئذ قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ مدة الباقي: وحال كون الفائتة فائتة بدار إسلام أو كفر، فدخل فيه من أسلم بدار حرب وبقي فيها مدة ولم يصلِّ بها لجهله وجوبها، ثم دخل دار الإسلام على أحد قولين والآخر لا قضاء عليه؛ أي ترغيبا له في الإسلام، والأول هو المشهور كما يفيده المواق، ويدل عليه ما قدمه المصنف، ومن تكلم في بيان الأعذار المسقطة للقضاء؛ إذ لم يعدوا
منها الجهل بوجوب الصلاة لمن أسلم بدار حرب وبقي فيها، مدة ومذهب المدونة وجوب القضاء على المستحاضة فيما تركته جهلا بالحكم، وقيل: بسقوطه عنها، وقيل: بلزوم القضاء إن كانت أياها يسيرة لا كثيرة. انظر القلشاني. ثم وجوب القضاء على المكلف، وأما الصبي فيندب له. وقد مر في أول فصل سعتر العورة أن الصبي إن صلى عريانا يعيد في الوقت، وإن صلى بلا وضوء يعيد عند سحنون فيما قرب كيومين، وفي الش عند قول المصنف:"مطلقا"؛ أي كثيرة كانت أو يسيرة. اللخمي: وقضاؤها على الفور، ولا يؤخرها إن كان قادرا على الإتيان بجميعها من غير حرج، فإن كثرت وكان لا يقدر على الإتيان بجميعها مرة إلا بمشقة أتى بما قدر عليه، ثم كذلك حتى يأتي بجميعها من غير حرج انتهى.
ولو أقر الأجير بفوائت لم يعذر حتى يفرغ ما عقد عليه، كمن رهن عبدا ثم أقر أنه لغيره، ومن باع عبدا ثم أقر أنه لغيره، ومن باع عبدا ثم أقر أنه كان أعتقه، فإنه لا يقبل الجميع لتعلق حق الغير فلا يسقط بمجرد إقراره للتهمة في ذلك. قاله الحطاب.
وعلم مما مر أنه يأتي بما يرفع الشك؛ أي إذا كان بعلامة وشك بلا علامة وسوسة فلا يقضى كما يفعله العجائز والجهال، وإنما يقضى بغالب ظن أو شك مؤثر في النفسى، ومنهم من يجعل في موضع كل نافلة فريضة لاحتمال الخلل في فرائضه، وهذا خلاف السنة. وقد تقدم أنه يقضي الصلاة على نحو ما فاتته، ويستثنى من ذلك ما إذا تركها في حال قدرته على القيام فيها ثم عند القضاء لم يقدر إلا على الجلوس أو الاضطجاع وعكسه، وكذا لو فاتته في حالة لو صلاها لصلاها بالوضوء أو الغسل وعند القضاء لم يستطع إلا التيمم وعكسه، فإنه يأتي بها في ذلك كله على حالته التي هو عليها إذ ذاك، ولا قضاء عليه بعد ذلك إن انتقل إلى حالة أعلى منها. والله سبحانه أعلم. وقال الشيخ الأمير: وجب قضاء فائتة بصفتها مثلا الليلية جهرا ولو قضيت نهارا، وعند الشافعية فائتة السفر تتم حضرا لأنه ليس محل قصر. وفي زروق: يقنت في الفائتة على ظاهر الرسالة، قال: ويطول، وخالفه غيره. وقال: لا يقيم وسبق خلافه، نعم يقضي العاجز
بما قدر والقادر بالقيام ولو فاتته حال عجزه؛ لأن ذلك من العوارض الحالية كالتيمم والوضوء تتبع وقتها، وأشار إلى الثانية بقوله:
ومع ذكر ترتيب حاضرتين؛ يعني أنه يجب على الشخص مع الذكر أن يرتب بين الصلاتين الحاضرتين أي يوقع كل واحدة منهما في مرتبتها؛ بأن يقدم الأولى منهما على الثانية، ولا بد مع الذكر من القدرة أيضا، احترازا عما لو أكره على تقديم العشاء على المغرب فتصح له العشاء. وقوله:"مع ذكر"، سواء ذكر في الابتداء أو في الأثناء؛ وهو المعتمد عند عبد الباقي والشبراخيتي خلافا لأحمد، وعبارة عبد الباقي ابتداء وكذا في الأثناء على المعتمد، كما في التوضيح والناصر اللقاني. قال محمد بن الحسن بناني: أما ما نقله عن التوضيح فليس هو فيه، وأما قوله: على المعتمد، فيحتاج إلى دليل، ومقتضى ما يأتي عن ابن رشد وابن بشير وابن عرفة، هو ما قاله أحمد، وهو ظاهر نقل المواق. ومفهوم قول المصنف ذكر أنه لو قدم الأخيرة من الحاضرتين نسيانا صحت، ويعيدها في الوقت لا بعده، وقيل: يعيدها ولو خرج الوقت. وقد مر أن المكره تصح له وإنما يتأتى ذلك في العشاءين، أو في عصر وجمعة.
شرطا؛ يعني أن وجوب الترتيب بين الحاضرتين وجوب شرط؛ أي فإن نكس عمدا أعاد أبدا بلا خلاف، فلو نسي الظهر والعصر إلى قدر ما يصلي فيه واحدة قبل الغروب فذكر العصر وحدها فلما صلاها ذكر الظهر، فيصليها ولا يعيد العصر، فلو كان يدرك منها ركعة فأكثر لأعادها استحبابا، ومن قدم الأخيرة من الحاضرتين على الأخرى جهلا أعاد أبدا وشمل كلام المصنف ما لو ضاق الوقت عن فعلهما معا، ووسع إحداهما. كما نقله المثيخ محمد بن الحسن عن ابن رشد؛ فإنه نقل عنه أنه لا خلاف في الحاضرتين إذا نكس بينهما عامدا أنه يعيد أبدا، وإن كان ساهيا أعاد الثانية بوقت مثل أن ينسى الظهر والعصر إلى ما يصلي فيه واحدة قبل الغروب الخ ما مر. قال الشيخ محمد بن الحسن: وبما ذكرناه قرره ابن عاشر من غير نقل وهو صواب، ومن اعترض عليه بكلام الأجهوري ومن تبعه لم يصب. والله أعلم. انتهى. وما ذكر الشيخ محمد بن الحسن خلاف ما قاله الشيخ الأمير، فإنه قال: ومنه أي اليسير مع الحاضرة مشتركتان ضاق الوقت عن أولاهما. انتهى. وما قاله الشيخ الأمير ظاهر، ولكن ما قاله الشيخ بناني دعمه بالنقل. والله
سبحانه أعلم. وقوله: شرطا، أعربه الش: حالا من "ترتيب"، والعامل، "وجب"، وأعربه غيره صفة لمصدر محذوف؛ أي وجوبا شرطا. قاله الشيخ إبراهيم.
وأشار إلى الثالثة بقوله: والفوائت في أنفسها؛ يعني أنه يجب مع الذكر والقدرة وجوبا غير شرط ترتيب الفوائت في أنفسها، ومعنى الترتيب أن يأتي بكل واحدة في مرتبتها الأولى فالثانية فالثالثة، وهكذا ولهذا لا يعيدها إذا نكس ولو عمدا؛ إذ بالفراغ منها يخرج وقتها، وهذا الذي مشى عليه المصنف ذكره المازري وغيره. وفي ترتيب الفوائت ثلاثة أقوال: الوجوب مطلقا، والسنة والوجوب مع الذكر، والسقوط مع النسيان. قاله غير واحد. وقوله:"والفوائت في أنفسها"، سواء كانت يسيرة أو كثيرة.
وأشار إلى الرابعة بقوله: ويسيرها مع حاضرة: يعني أنه يجب مع الذكر والقدرة ترتيب يسير الفوائت مع الحاضرة؛ بأن يبدأ بيسير الفوائت قبل إتيانه بالحاضرة حيث كان ذاكرا قادرا. وإن خرج وقتها؛ يعني أف يجب تقديم يسير الفوائت على الصلاة الحاضرة وإن كان الإتيان بيسير الفوائت قبل الحاضرة، يؤدي إلى فعل الحاضرة بعد خروج وقتها. وفي الحديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها، فإن وقتها ذكرها
(1)
). وما مشى عليه المصنف هو مذهب المدونة وهو المشهور، وقال ابن وهب: يبدأ بالحاضرة، وقال أشهب: يبدأ بأيهما أحب، وقال ابن مسلمة: يبدأ بالفوائت وإن كثرت إذا كان يأتي بجميعها مرة واحدة.
وهل أربع؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا في حد اليسير الذي يجب تقديمه على الحاضرة، هل هو أربع فدون كما في الرسالة؟ وهو ظاهر المدونة عند سند وجماعة، ونقله في النوادر عن سحنون: وعليه فما زاد على الأربع كثير أو حد اليسير. خمس؛ أي خمس صلوات فدون إلى واحدة، والكثير على هذا ما زاد على الخمس المازري: وهو مشهور مذهب مالك، وإليه ذهب ابن الجلاب والقاضي عبد الوهاب، وقاله مالك في العتبية، وذكره عنه ابن حبيب؛ وهو ظاهر المدونة عند
(1)
التمهيد، ج 3 ص 179، دار الكتب العلمية.
جماعة. قاله الشارح. وقوله: خلاف، مبتدأ حذف خبره؛ أي في ذلك خلاف ومحله في الخمس، فالأربع من حيز اليسير اتفاقا كما لابن يونس، وطريقة ابن رشد أن الأربعة مختلف فيها كالخمس والست كثيرة اتفاقا، وقال الرماصي: وتقدم الحاضرة على كثير الفوائت جدا كالخمسة عشر: والكثير لا جدا يبدأ به ما لم يخف فوات وقت الحاضرة، وحد الكثير الخمس أو الست، ولابن مسلمة أنه: يبدأ بالكثير ولو صلاة شهرين، وإن خرج وقت الحاضرة إذا كان لا يفارق الكثير حتى يصليه جميعا. وقد مر عن الشيخ الأمير: أن من اليسير مع الحاضرة مشتركتان ضاق الوقت عن أولاهما.
فإن خالف ولو عمدا أعاد؛ يعني أن الشخص إذا خالف ما أمر به في هذا القسم الأخير، بأن قدم الحاضرة على يسير الفوائت كانت المخالفة عمدا أو سهوا، فإنه يعيد ندبا الحاضرة بعد إتيانه بيسير الفوائت ويعيدها. بوقت الضرورة المدرك فيه ركعة بسجدتيها، وشمل قوله: أعاد مغربا صليت في جماعة وعشاء بعد وتر، وأولى إذا صلاهما فذا وله حينئذ إعادتهما جماعة فيما يظهر؛ لأن القصد الترتيب لا فضل الجماعة. كما قاله الشيخ عبد الباقي. ورد بقوله:"ولو عمدا"، قول مطرف وابن الماجشون: إنه يعيد أبدا، روياه عن مالك.
وفي إعادة مأمومة؛ يعني أن الإمام إذا أمر بالإعادة لكونه قدم الحاضرة على يسير الفوائت فإنه اختلف في إعادة مأمومه؛ لأن الخلل في صلاة الإمام خلل في صلاة المأموم، وعدم إعادته لأنه لا خلل في صلاة المأموم وإنما هو في صلاة الإمام. وقوله: خلاف. مبتدأ، وخبره قوله:"في إعادة"، والراجح عدم الإعادة؛ إذ هو الذي رجع إليه الإمام، وأخذ به ابن القاسم وجماعة من أصحاب الإمام، ورجحه اللخمي، وأبو عمران، وابن يونس. واقتصر عليه ابن عرفة وابن الحاجب، قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. والفرق بين جريان الخلاف هنا وعدم جريانه في مأموم طلب إمامه بالإعادة لنجاسة حيث جزموا بإعادة المأموم تبعا لإمامه قوة الخلل بالنجاسة على خلل الترتيب. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"وفي إعادة مأمومه"، القول بالإعادة شهره ابن بزيزة، قيل: وهو الأقيس للارتباط، وقد علمت أن الراجح هو القول بعدم الإعادة كما نص عليه غير واحد. خلاف ما قاله الشيخ عبد الباقي من أن: الراجح القول بالإعادة. والله سبحانه أعلم.
وإن ذكر اليسير في صلاة ولو جمعة قطع فذ؛ يعني أنه لو ذكر مصل فذا أو إماما أو مأموما يسير الفوائت في صلاته فإنه يقطعها إن كان فذا أو إماما، ويقطع مأمومه تبعا له سواء كانت الصلاة المذكور فيها فرضا أو نفلا ما عدا الجنازة فإنها لا تقطع، ولا يلحق بالجنازة في عدم القطع وتر، ولا عيد، ولا كسوف، ولا استسقاء، ولا فرق على المشهور في قطع الصلاة المذكور فيها يسير الفوائت بين أن تكون جمعة وغيرها إذا كان الذاكر إماما. وقيل: لا يقطع الإمام، وقوله:"قطع فذ"، وهل وجوبا أو ندبا؟ قولان.
وشفع إن ركع؛ يعني أن الفذ إذا ذكر يسير الفوائت قبل أن يتم ركعة بسجدتيها فإنه يقطع، وأما إن لم يذكره إلا بعد أن ركع أي أتم ركعة بسجدتها فإنه يشفعها؛ أي يأتي لها بثانية ويكون ذلك نافلة ولو صبحا على المذهب أو جمعة، وسيأتي عن أحمد عن أبي الحسن أنه: يتم الصبح بعد ركعة لا مغربا، فيقطع إن ركع كما في كتاب الصلاة الأول من المدونة. واعتمده أبو الحسن، وفي كتاب الصلاة الثاني منها: يشفعها بعدها، ورجح ابن عرفة أنه يتمها مغربا حينئذ، والفرق على الأول بين قطعها وبين شفع النافلة بعد عقد ركعة منها مع النهي فيهما عن التنفل ابتداء، أن النهي في المغرب لذات الوقت، ولتضمنه تأخير قضاء الفائتة، والنهي في التنفل عند ذكر الفائتة لتضمنه تأخيرها فقط لا لذات الوقت، ولا يبحث فيه بأنه لذات الوقت أيضا، إذ بذكرها صار الوقت لها مضيقا؛ لأن الكلام في الإقدام مع التذكر. قاله الشيخ عبد الباقي. وما مشى عليه المصنف من أنه يقطع ما لم يعقد ركعة هو المشهور، وفي سماع أشهب: يتم ركعتين، وقيل: يقطع في النافلة مطلقا، وفي الفريضة ما لم يركع، ومعنى قوله: قطع بغير سلام، وأصل المذهب أن النية كافية في القطع. قاله الإمام الحطاب.
وإمام؛ يعني أن من ذكر يسير الفوائت في الصلاة إذا كان إماما فإنه يقطعها حيث لم يعقد ركعة وأما إن عقد ركعة، بأن أتمها بسجدتيها فإنه يشفعها، ويستفاد هذا من قول المصنف كما هو ظاهر. واعلم أن قوله:"ولو جمعة"، إنما يرجع للإمام والأموم لا للفذ لعدم تأتيها فيه، كما هو
ظاهر فقوله: "وإن ذكر"؛ أي المصلي فذا أو إماما أو مأموما، وأجاب عن الفذ بقوله:"قطع فذ"، وعن الإمام بقوله:"وإمام"، وعن المأموم بقوله:"لا مؤتم".
وكما يقطع الإمام إن لم يتم ركعة بسجدتيها ويشفع إن أتمها بسجدتيها، فمأمومه كذلك يقطعون تبعا له فيما يقطع فيه، ويشفعون تبعا له فيما يشفع فيه، ولا يستخلف الإمام. قاله مالك مرة؛ وهو المشهور، ورواه عنه ابن القاسم، وقال: مرة يستخلف وهو رواية أشهب، وقال ابن كنانة: إن لم يعقد ركعة استخلف وإلا أتم بهم، وقوله:"قطع فذ وإمام"، علم مما مر أن من لم يقطع منهما وأتم تصح صلاته، وقوله:"قطع فذ وإمام"، قد مر الخلاف في القطع، هل هو واجب أو مندوب؟ وقوله: وإمام، قال سند على القول بأنهم: يستخلفون يقطع في أي موضع ذكر اليسير، وعلى القول بأنهم يقطعون معه فيكون حكمه على ما تقدم في الفذ. وقال ابن فرحون: يفارق الإمام الفذ من جهة أنه يقطع مطلقا، والفذ يجعلها نافلة على ما قدمناه وهو مخالف لكلام صاحب الطراز. قاله الإمام الحطاب. وقال الشيخ إبراهيم: قال سند: إن الإمام كالفذ في التفصيل، وقال ابن فرحون: يقطع مطلقا عقد ركعة أم لا، وقوله: وإمام ومأمومه إن جعل معطوفا على فاعل قطع كان ماشيا على كلام ابن فرحون، وإن جعل متنازعا فيه قطع وشفع كان ماشيا على كلام الطراز وهو المذهب، وكلام ابن فرحون ضعيف. انتهى كلام الشيخ إبراهيم.
لا مؤتم؛ يعني أن المأموم إذا ذكر اليسير في حالة اقتدائه فإنه يتمادى وجوبا على صلاته، وكذا لو ذكر المأموم حاضرة في حاضرة فإنه يتمادى، وإذا قلنا: إن المأموم الذي ذكر اليسير يتمادى في صلاته ويتمها، فإنه إذا أتمها يعيدها في الوقت الضروري بعد إتيانه باليسير، وبالغ على وجوب تماديه، وإعادة ما تمادى فيه بقوله: ولو جمعة. ويعيدها جمعة إن أمكن وإلا ظُهْرًا، هذا هو المذهب، وقال أشهب: إن علم أنه إذا قطع وصلى المنسية يدرك ركعة من الجمعة قطع وإلا تمادى، ولا يعيدها ظهرا. قاله الشارح. وعلى أشهب رد المصنف "بلو". والله سبحانه أعلم.
تنبيه: قال الشيخ محمد بن الحسن: وهذا التفصيل الجاري في ذكر الفائتة يجري كله في ذكر الحاضرة فهما سواء في الحكم، ثم ذكر قولين في المسألة أحدهما أنه لا يقطع ركع أم لا، ثانيهما أنه يقطع ركع أم لا، وساق من النقول على استواء الحاضرة والفائتة ما فيه مقنع، ثم قال:
فيتحصل من هذا أن الصورتين في الحكم سواء، وأن فيهما ثلاثة أقوال: مذهب المدونة هو ما عند المصنف: وأما تمادي المأموم في الحاضرة فهو مذهب المدونة أيضا. انتهى. والقولان الآخران: أحدهما أنه يقطع عقد ركعة أم لا، ثانيهما أنه يتم ركعتين عقد ركعة أم لا. وقوله: وإن ذكر اليسير في صلاة لا فرق في المذكور فيها بين أن تكون نافلة وبين أن تكون فريضة. وقال الشيخ إبراهيم والشيخ الخرشي، والشيخ عبد الباقي: إن ترتيب الحاضرتين شرط في الصحة مع الذكر كان في الابتداء أو في الأثناء، وقال الشيخ الأمير: وإن ذكر الحاضرة في نفل أتمه، وفي فرض بطل، وتمادى مأموم ذكر على باطله لحق الإمام. وقوله: بطل، قال في الشرح: لشرط الترتيب على إحدى طريقتين في الأثناء. انتهى.
وكمل فذ بعد شفع من المغرب؛ يعني أن الفذ إذا ذكر اليسير من الفوائت بعد شفع من المغرب؛ أي ركعتين تامتين فإنه يكملها وجوبا بنية الفرض، ويعيد في الوقت، وكذا الإمام بطريق الأحروية، ويفيد ذلك قوله: فإن خالف ولو عمدا الخ.
كثلاث من غيرها؛ يعني أن الفذ إذا ذكر اليسير بعد أن أتى بثلاث ركعات من غير المغرب كملت بسجداتها، فإنه يتم تلك الصلاة المذكور فيها بنية الفريضة، فإن ذكر قبل عقد الثالثة رجع وتشهد وسلم. وقوله:"وكمل فذ بعد شفع من المغرب كثلاث من غيرها"، قد علمت أن هذا في ذكر يسير الفوائت، وقد علمت أن مثل الفذ الإمام، قال الشيخ محمد بن الحسن: وكذا الحاضرتان، وصرح بأن ذكر الحاضرة في الحاضرة كذكر الفائتة في الحاضرة فتصح المذكور فيها إن أتمها، فقول المصنف: ومع ذكر ترتيب حاضرتين أي ابتداء لا انتهاء، فإعادة الثانية إنما هي في الوقت، وقد مر هذا ومن ذكر فرضا أو وترا بعد فجر صلى المذكور وأعاد الفجر ليتصل بصلاة الصبح. وقد مر أن قوله:"في صلاة"، شامل للفرض والنفل، وذكر بعضهم أن مقتضى قوله:"وشفع"، إن ركع تخصيصه بالفرض، وأما النفل فيقطعه ركع أم لا، فيظهر تأثير الذكر فيه، فإنه لو كمل فيه اثنتين لم يظهر للذكر تأثير فيه، بخلاف الفرض فإنه يظهر الأثر فيه، وهو شفعه.
وإن جهل عين منسية مطلقا صلى خمسا؛ يعني أن من نسي صلاة من الصلوات الخمس، ولم يدر أي الصلوات الخمس هي سواء علم يومها أم لا، يصلي خمسا؛ أي الصلوات الخمس، وينوي عند كل واحدة أنها المنسية، كما قال الأبهري، وتبعه القرافي. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"وإن جهل عين منسية"، وكذا الحكم لو تركها عمدا أو جهلا، فالدار على تركها تركت عمدا أو جهلا أو نسيانا. واعلم أن من عليه صلاة واحدة لا تخلو إما أن تكون مجهولة أو معلومة، فإن كانت مجهولة، فإما أن تكون مجهولة في صلاة الليل، أو في صلاة النهار؛ أو فيهما معا، وعلى كل حال فإما أن يكون يومها معلوما أو مجهولا في الأسبوع، أو مشكوكا في بعض الأسبوع، وعلى كل حال فإنه يصلي في المجهولة في صلاة الليل صلاتين. وفي المجهولة في صلاة النهار ثلاث صلوات، وفي المجهولة في اليوم والليلة خمس صلوات وهذه هي مسألة المصنف، وينوي في كل واحدة أنها المنسية كما مر. وقد مر أن معنى قوله:"مطلقا" علم يومها أم لا، ويحتمل أن معناه في سفر أو حضر، وأن معناه عدم الاختصاص بليل أو نهار. وقوله:"صلى خمسا"، إنما وجب عليه الإتيان بجميع الخمس؛ أعني الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح لوجوب الإتيان بأعداد تحيط بحالات الشك ليتيقن براءة الذمة. وللشيخ عبد الباقي هنا كلام فيه نظر. انظر حاشية الشيخ بناني.
وإن علمها دون يومها صلاها ناويا له؛ يعني أنه إذا علم عين الصلاة دون أن يعلم يومها فإنه يصليها فقط ناويا بها اليوم الذي يعلم الله أنها له، والنية المذكورة مندوبة فيما يظهر لأن تعيين الزمن لا يشترط في صحة الصلاة، ولا يلزمه تكرارها بعدد أيام الأسبوع لأنها لا تختلف باختلاف الأيام كما أشار له الشيخ عبد الباقي، وقال الشيخ الأمير: وندب نية يومها الذي يعلمه الله حيث جهله. انتهى. وقال في الحاشية: فإن لم ينوه أجزأ بخلاف ما إذا نوى يوما فتبين غيره. انتهى. وقال الإمام الحطاب عند قول المصنف: "أو لم ينو الركعات أو الأداء أو ضده": ولا ينوي الأيام اتفاقا. المازري: حضرت شيخنا عبد الحميد رحمه الله، فأتاه بعض الخواص فوجد عنده بعض من كان يقرأ معنا عليه ممن اشتهر بالوسوسة، فقال: كنت البارحة أصلي المغرب بمسجد فلان، فأتى هذا الفتى وأشار إلى الوسوس فصلى إلى جنبي، فسمعته عند الإحرام يقول: المغرب
ليلة كذا فأنكرت نفسي تسمية الليلة، ثم خشيت أن يكون ما قاله إنما هو لا سمع منك، فجئت أسألك، فأنكر شيخنا على صاحبنا واعتذر للسائل عنه بما اشتهر من وسوسته، فلما انصرف السائل أقبل علينا جملة أهل الميعاد، فقال: هل يتخرج من المذهب اعتبار ذكر القلب يوم الصلاة عند النية؛ فلم يظهر لنا شيء، فأشار رحمه الله لما وقع من الاختلاف إلى
(1)
مراعاة الأيام. انتهى. وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة في أول صفة العمل في باب الصلاة المفروضة: المشهور عدم وجوب نية القضاء والأداء، وكذلك نية اليوم الذي هو فيه. انتهى.
واعلم أن ما فوق الواحد من الفوائت إما أن يكون معينا أم لا، وفي كل قسمان؛ لأن غير المعين إما أن يعلم نسبة كل واحد من الآخر أم لا، والمعين إما أن يعلم ترتيبه أم لا. القسم الثالث تركه المصنف لوضوحه، والثاني لم يذكره وسأبينه إن شاء الله تعالى، والقسمان الباقيان هما المذكوران في المتن، أحدهما قوله، وإن نسي صلاة وثانيتها صلى ستا؛ يعني أن من نسي صلاتين غير معينتين وهو يعلم نسبة كل واحدة منهما إلى الأخرى كما لو نسي صلاة وثانيتها؛ أي التي تليها، ولا يدري من ليل أو نهار أو منهما، ولا سبقية إحداهما، يصلي ست صلوات متوالية يختم بما بدأ به لاحتمال كونه المتروك مع ما قبله، والذمة تبرأ بخمس، ووجوب ختمه بما بدأ به لمراعاة مرجوح؛ وهو أن تارك ترتيب الفوائت يعيد أبدا، لا لأجل الترتيب لأنه إنما يطلب بعد براءة الذمة إن بقي الوقت، فما هنا مشهور مبني على ضعيف، وهذا يجري في جميع ما يأتي. وبيان ما قال المصنف أنه: يحتمل أن يكون عليه ظهر وعصر، أو عصر ومغرب، أو مغرب وعشاء، أو عنتاء وصبح، أو صبح وظهر. فإذا ختم بالذي بدأ به كأن يبدأ بالظهر ثم يأتي بالعصر، ثم بالمغرب، ثم بالعشاء، ثم بالصبح، ثم بالظهر الذي بدأ به، فإنه يحتاط بحالات الشك. ونبه بقوله:"وثانيتها" على سابعتها، وثانية عشرتها، ونحوهما من مماثل الثانية فالحكم في ذلك واحد، فيصلي ستا مرتبة، يبدأ بالظهر ندبا، ويختم به. والله سبحانه أعلم.
(1)
في الحطاب ج 2 ص 208 ط دار الرضوان: الاختلاف في مراعاة.
واعلم أن الشك يكون في الإتيان، وفي الأعيان، وفي الترتيب. ومعنى الشك في الإتيان، شكه هل أتى بما يطلب به أم لا؟ ومعنى الشك في الأعيان شكه في عين المتروك هل هو ظهر أو غيرها؟ ومعنى الشك في الترتيب كونه لا يدري الأولى من غيرها مع علمه بعين ما عليه. والله سبحانه أعلم.
وندب تقديم ظهر؛ يعني أنه إذا نسي صلاة وثانيتها، فإنه يصلي ستا -كما مر-، ويندب له أن يبتدئ بالظهر لأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: يبدأ بالصبح فإن علم أنهما من ليل فقد علمهما فليصلهما ناويا الليل الذي هما له، أو من نهار فقط صلى النهاريات الثلاث، وإن تحقق واحدة من ليل وأخرى من نهار وعلم تواليهما كما هو فرض المسألة، فإن علم سبقية إحداهما فواضح، وإلا صلى العصر والمغرب والعشاء والصبح، وإن لم يعلم هل هما من ليل أو نهار أو منهما وتيقن تقدم اليوم أو الليلة صلى خمسا فقط، وبدأ بالصبح في الأولى بأن تيقن أنهما من يوم السبت وليلة الأحد مثلا، وبالمغرب في الثانية بأن تيقن أنهما من ليلة الأحد ويومه مثلا، وقوله:"وندب تقديم ظهر"، وكذا يندب البداءة بالظهر فيما يأتي له من نسيان صلاة، وثالثتها أو رابعتها أو خامستها أو سادستها أو حادية عشرتها، وأما المعينات فلا يندب فيها تقديم الظهر. كما يفيده الشيخ عبد الباقي والله سبحانه أعلم.
وفي ثالثتهما؛ يعني أن الحكم فيمن نسي صلاة وثالثتها غير معينتين كالحكم فيما إذا نسي صلاة وثانيتها، في أنه يصلي ستا، وفي أنه يندب له البداءة بالظهر إلا أن صفة القضاء مختلفة، ففي الأولى يصلي ستا مرتبة، وفي هذه يثنى بالنسي؛ أي يوقع النسية في المرتبة الثانية بالنسبة لا انفصل عنه، فيبدأ بالظهر، ويثنى بالمنسي؛ أي بثانيه بأن يثني بالمغرب، فإذا صلى الظهر والمغرب فقد برئت ذمته على احتمال كونهما المتروكتين، وبقيت احتمالات أخر لا تبرأ ذمته عليها، وهي كون المتروك مغربا وصبحا؛ إذ هي ثالثتها، والمغرب قد صلاها وهي أول المنسي على أحد الاحتمالات الباقية، فيثني لها بثاني المنسي على هذا الاحتمال، بأن يثنيها بالصبح، وقد برئت ذمته على هذا الاحتمال، وبقي احتمال كون الصبح هي الأولى فقد أتى بها؛ وهي أول المنسي، ويثني بثاني المنسي؛ وهو العصر، ثالثتها، وبقي احتمال كون العصر هي أولى المنسي
فقد أتى بها، ويثني بثانيه وهو العشاء ثالثتها، وبقي احتمال كون العشاء هي أولى المنسي فقد أتى بها، ويثنى بثاني المنسي؛ وهو الظهر فقد ختم بما بدأ به واحتاط بحالات الشك كلها. والله سبحانه أعلم. ونبه بقوله: ثالثتها، على ثامنتها، وثالثة عشرتها ونحوهما من كل ما ماثل الثالثة، فالحكم في ذلك كحكم من نسي صلاة وثالثتها، فيصلي ستا على الوجه الذي قدمته، كما نص عليه غير واحد. والله سبحانه أعلم. وقوله: صلاة وثالثتها، هما بينهما واحدة كما قررت.
أو رابعتها؛ يعني أن الحكم فيمن نسي صلاة ورابعتها وهما ما بينهما اثنتان والمنسيتان غير معينتين، كالحكم فيمن نسي صلاة وثانيتها في أنه يصلي ستا، وفي أنه يندب تقديم الظهر، إلا أن صفة القضاء في هذه أن يبدأ بأول المنسي، ويثني بثانيه؛ أي يوقعه في المرتبة الثانية بالنسبة لما انفصل عنه، كما مر في قوله:"وثالثتها"، فيبدأ بالظهر ندبا، ثم بالعشاء، ثم بالعصر، ثم بالصبح، ثم بالمغرب، ويختم بالظهر التي بدأ بها. وقد مرَّ بيان ما يرشد إلى معرفة هذا في قوله:"وفي ثالثتها"، ونبه بقوله:"أو رابعتها"، على تاسعتها ورابعة عشرتها، ونحوهما من كل ما ماثل الرابعة، فالحكم في ذلك أنه كنسيان صلاة ورابعتها.
أو خامستها؛ يعني أن من نسي صلاة وخامستها وهما ما بينهما ثلاث، والنسيتان غير معينتين، حكمه حكم من نسي صلاة وثانيتها في أنه يصلي ستا، وفي أنه يندب تقديم الظهر، فيبدأ بأول المنسي، ويثنى بثانيه أي يوقعه في المرتبة الثانية بالنسبة لا انفصل عنه، فيبدأ بالظهر ندبا، ثم بالصبح، ثم بالعشاء، ثم بالمغرب، ثم بالعصر، ويختم بما بدأ به وهو الظهر. وقد مر ما يوضح لك هذا في قوله:"وثالثتها"، ونبه بقوله:"خامستها"، على عاشرتها، وخامسة عشرتها ونحوهما من مماثل الخامسة. وبما قررت به يثني علم أنه: ليس المراد به يثني ضد يثلث ويربع ويخمس ويسدس، ومنهم من فسرها بذلك، فقال: يثنى ويثلث ويربع ويخمس ويسدس.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر التفسير الأول لأنه هو الذي يسفر عن المراد؛ إذ هو دافع للإتيان بالصلوات الخمس مرتبة، ويختم بما بدأ به، ولهذا لم يقله عند قوله: "وإن نسي صلاة
وثانيتها"، والله سبحانه أعلم. وبما قررت علم أن قوله: كذلك راجع للمسائل الثلاث، ومعناه يصلي ستات وندب تقديم ظهر كما قررت؛ وهو معمول لصلى محذوفا، ولك أن تجعل الكاف اسما بمعنى: مثل مبتدأ، والخبر قوله: "في ثالثتها"، وقوله: يثني بالمنسي راجع للمسائل الأربع أيضا كما تقدم تقريره، وقوله: "بالمنسي"، على حذف مضاف؛ أي بثاني المنسي، وقوله: يثنى بالمنسي جملة حالية: ولتصديرها بمضارع لم يأت فيها بالواو كما في الألفية:
وذات بدء بمضارع ثبت
…
حوت ضميرا ومن الواو خلت
قوله: "وفي ثالثتها أو رابعتها" الخ، سواء تركت عمدا أو جهلا أو نسيانا. وصلى الخمس مرتين في سادستها؛ يعني أن من نسي صلاة ومماثلتها، وكذا الحكم لو تركها عمدا أو جهلا، فإنه يصلي الخمس مرتين، وذلك كصلاة وسادستها، وهما ما بينهما أربع صلوات، أو كصلاة. وحادية عشرتها فالسادسة مماثلة الأولى من يوم ثان، وحادية عشرتها مماثلتها من يوم ثالث، وكذا سادسة عشرتها لأنها مماثلتها من يوم رابع، وكذا حادية عشريها لأنها مماثلتها من يوم خامس، ونحو ذلك، فإنه يصلي الخمس مرتين في جميع ذلك، وذلك محتمل لأمرين: أحدهما أنه يصلي صلاة يوم متوالية، ثم يصلي صلاة يوم متوالية وهو مختار ابن عرفة، والثاني أن يصلي كل صلاة من الخمس مرتين، فيصلي الظهر مرتين، ثم العصر مرتين، ثم المغرب مرتين، ثم العشاء مرتين، ثم الصبح مرتين؛ وهو للمازري. وندب تقديم ظهر في هذه أيضا كما نص عليه الشبراخيتي، وسكت المصنف عما إذا ترك صلاتين ولا يدري ما هما ولا نسبة إحداهما للأخرى؛ وهو ثاني الأقسام الأربعة، فإن علم أنهما من يوم واحد صلى خمسا يبدأ بالصبح ويختم بالعشاء، وإلا صلى الخمس مرتين.
وفي صلاتين من يومين معينتين: بالتأنيث صفة لصلاتين، حقه أن يتصل بموصوفه لا مذكر صفة ليومين؛ إذ لا فرق بين أن يكون اليومان معينين أم لا على الراجح قاله الشيخ عبد الباقي؛ يعني أن من ترك صلاتين معينتين من يومين. لا يدري السابقة منهما صلاهما، ناويا كل صلاة ليومها، كما يدل عليه قوله:"وإن علمها دون يومها صلاها ناويا له"؛ إذا صلاهما، أعاد المبتدأة وجوبا
كما للطخيخي لوجوب ترتيب الفوائت حتى يصير ظهرا بين عصرين، أو عصرا بين ظهرين، وندبا كما لغيره؛ لأن الترتيب إنما يجب قبل فعلها، وأما بعده فيندب، والراجح عدم طلبه حينئذ لخروج وقت الفائتة بالفراغ منها، والذمة قد برئت بصلاتهما.
ومع الشك في القصر أعاد إثر كل حضريةٍ سفريَّةً هذا عام في جميع مسائل الباب ما تقدم وما يأتي؛ يعني أن من عليه فائتة أو أكثر، وشك هل فاته ذلك في السفر أو في الحضر، يعيد إثر كل حضرية صلاها صلاة سفرية ندبا، وهذا حيث بدأ بالحاضرة كما هو موضوع كلامه، فإن بدأ بالسفرية أعاد الحضرية وجوبا، ويتضح لك هذا بالمثال، فلو نسي ظهرا وعصرا مثلا، ولا يدري السابقة، وشك هل كان ذلك في القصر أو في الحضر؟ فإنه إذا صلى الظهر سفرية يجب عليه أن يعيدها حضرية، فإن صلاها ابتداء حضرية ندب له أن يعيدها سفرية، وكذا يقال في العصر، وإذا أعاد المبتدأة فعل بها كذلك. والله سبحانه أعلم. واستشكلت الإعادة؛ لأن المسافر إذا أتم إنما يعيد في الوقت، ووقت الفائتة ينتهي بالفراغ منها، وأجيب بما في المواق أن الذي لابن رشد أن: إجزاء الحضرية عن السفرية خاص بالوقتية، وأما الفائتة في السفر فلا تجزئ عنها حضرية، وهذا خلاف ما قدمته من ندب إعادة السفرية بعد الحضرية، ورد هذا الجواب بأن ما لابن رشد خلاف المذهب. والصواب أن المصنف تبع ابن عبد السلام في قوله: إذا ابتدأ بالحضرية تكون الإعادة مستحبة، والظاهر أن لا وجه له. كما يفيده ما نقله الحطاب عن اللخمي. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقول المصنف:"إثر" لا مفهوم له؛ لأن حقيقة الأثر ما كان فورا، والفورية غير مشترطة هنا، فلو عبر "ببعد"، بدل "إثر" كان أولى؛ لأن البعدية تصدق بالتراخي. قاله الشبراخيتي ثم ذكر تتمة قوله: وفي صلاتين من يومين الخ، فقال: وثلاثا كذلك سبعا؛ يعني أن من نسي ثلاث صلوات معينات من ثلاثة أيام، عينت الأيام أم لا، ولا يدري السابقة كصبح وظهر وعصر من ثلاثة أيام، يصلى سبع صلوات بأن يصلي الثلاث المعينات، ثم يعيدها، ثم يعيد المبتدأة، وبراءة الذمة تحصل بثلاث، وبهذه الكيفية يحصل الترتيب. وقد علمت أن الراجح على ما عند ابن رشد: عدم طلبه بعد براءة الذمة -كما مر- ولا يبدأ هنا بالظهر، وبيان حصول
الترتيب بما ذكر أن كل واحدة من الصلوات المذكورة تحتمل أن تكون أولى أو وسطى أو أخرى، فإن كانت الصبح هي الأولى فلها حالتان: إما أن تليها الظهر، أو العصر، فإذا بدأ بالصبح وأتبعها الظهر ثم العصر بقي احتمال أن العصر هي التالية للصبح، فإذا أعاد الثلاث فقد أحاط بالاحتمالين، ولو كانت الظهر هي الأولى ففيها احتمالان أيضا: أن تليها العصر، أو الصبح؛ فإن كانت العصر هي التي تليها، فقد تلتها بصلاتين أوَّلاً، وبالإعادة يحاط بالاحتمالين، ولو كانت العصر هي الأولى ففيها احتمالان أيضا: أن تليها الصبح، أو الظهر، فبإعادتهن تلتها الصبح، وبإعادة المبتدأة يحاط بالاحتمالين. والله سبحانه أعلم. وبما قررت علم أن معنى قوله:"كذلك"، معينات؛ وهو صفة لثلاث، والإشارة راجعة لقوله:"معينتين".
وأربعا ثلاث عشرة؛ يعني أن من نسي أربع صلوات معينات من أربعة أيام عينت الأيام أم لا، ولا يدري السابقة كظهر وعصر ومغرب وعشاء من أربعة أيام، يصلي ثلاث عشرة؛ بأن يصلي الأربع ثم يعيدها مرتين، ثم يعيد المبتدأة، وبذلك يحصل الترتيب يقينا، ويعلم هذا مما مر في المسألة قبله.
وخمسا إحدى وعشرين؛ يعني أن من نسي خمس صلوات معينات من خمسة أيام عينت الأيام أم لا، ولا يدري السابقة منها، يصلي إحدى وعشرين صلاة، فيصلي الخمس ويعيدها ثلاثا، ثم المبتدأة، والضابط في العدد الواجب فعله أن تضرب عدد النسيات في مثله، وتسقطه إلا واحدا، أو تضرب عددها في أقل منه بواحد ثم تزيد واحدا على الحامل، وكذا لو ترك معينات أكثر من خمسة ولا يدري السابقة، ثُمَّ ذكر ما هو من تتمة قوله:"وإن جهل عين منسية"، وقوله:"وإن نسي صلاة وثانيتها"، فقال: وفي ثلاث مرتبة من يوم لا يعلم لأولى سبعا، يعني أن الشخص إذا كان عليه ثلاث صلوات مرتبة أي متوالية من يوم وليلة، ولا يعلم سبق اليوم وعكسه، ولا يعلم عين واحدة منهن كما علم من قوله:"لا يعلم الأولى"، فإنه يصلي سبع صلوات، وبذلك يحصل الترتيب، فإن بدأ بالظهر وختم بالعصر فقد برئ بإيقاع الخمس مرتبة إن كانت الظهر أولى، وكذا إن كانت العصر هي الأولى أو المغرب، وبإعادة الظهر يبرأ إن كانت العشاء هي الأولى، وبإعادة العصر المختوم بها يحصل الترتيب إن كانت الصبح أولى. والله سبحانه أعلم. ولو علم أن بعضها
من النهار وبعضها من الليل صلى ستا، فيبدأ بالظهر ويختم به حيث لم يعلم تقدم أحدهما، وإلا صلى أربعا، فإن علم تقدم أحدهما ولكن لا يدري، هل هي كلها من النهار أو بعضها منه وبعضها من الليل؟ صلى خمسا في علم تقدم النهار، وبالعكس صلى أربعا. والله تعالى أعلم. ويصليها مرتبة.
وأربعا ثمانيا؛ يعني أن من عليه أربع صلوات متوالية من يوم وليلة، ولا يدري سبق اليل على النهار ولا عكسه، ولا يعلم عين الأولى منهن، يصلي ثماني صلوات، فيبدأ بالظهر مثلا، ثم يأتي بما بعده مرتبا حتى يختم بالمغرب، وبذلك يحصل الترتيب، وبراءة الذمة تحصل بخمس. وخمسا تسعا؛ يعني أن من عليه خمس صلوات متوالية لا يعلم عين الأولى منهن، ولا يدري هل من يوم وليلة، أو من يومين وليلة بينهما، أو من ليلتين ويوم بينهما يصلي تسع صلوات، فيبدأ بالظهر مثلا ثم يأتي بما بعده مرتبا حتى يختم بالعشاء، وبهذا يحصل الترتيب، فكلما زدت في هذا النوع منسية زدت مقضية، ولو علم أن الخمس من يوم وليلة فقط اكتفى بسبع، فإن علم المتقدم منهما اكتفى بخمس. والله تبارك وتعالى أعلم. وقوله:"أربعا وخمسا"، معمول "نسي"، وقوله:"ثمانيا وتسعا"، معمول "لصلى" وقد علمت أنه لا مفهوم للنسيان، فإن الحكم في العمد والجهل كذلك.
ولما فرغ من بيان حكم السهو عن الصلاة بالكلية شرع في الكلام على حكم السهو عن بعضها، فقال:
فصل: يذكر فيه حكم السهو عن البعض،
وفي الذخيرة: التقرب إلى الله بالصلاة المرقعة المجبورة إذا عرض فيها الشك أولى من الإعراض عن ترقيعها والشروع في غيرها، والاقتصار عليها أيضا بعد الترقيع أولى من إعادتها، فإنه منهاجه عليه الصلاة والسلام، ومنهاج أصحابه، والسلف الصالح بعدهم؛ والخير كله في الاتباع، والشر كله في الابتداع. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا صلاتين في يوم
(1)
): والله سبحانه وتعالى لا يتقرب إليه بمناسبات العقول، وإنما يتقرب إليه بالشرع المنقول وقوله: أولى في كلامه أولا وثانيا للوجوب؛ إذ قطع العبادة وإعادتها بعد إتمامها كل منهما ممنوع، ولابن أبي جمرة أن: المرقعة تعدل سبعين صلاة ليس فيها سجود؛ لأن فيها ترغيم الشيطان، وكل ما فيه ترغيمه فيه رضى الرحمن. انتهى. وقوله سبعين صلاة، قال الشيخ بناني: يعني -والله أعلم- سبعين من التي يأتي بها بعد رفض الصلاة التي وقع فيها موجب السجود، أما حمله على ظاهره فبعيد، والسهو الذهول عن الشيء تقدمه ذكر أم لا، وأما النسيان فلا بد أن يتقدمه ذكر. قاله الإمام الحطاب، ولبعضهم:
السهو عن معلوم الذهول
…
قلت وفي نسياننا يزول.
واختلف في حكم سجود السهو، فأما القبلي فقيل: إنه سنة. قاله ابن عبد الحكم. وقيل: واجب، وقيل بوجوبه إن ترتب عن ثلاث سنن، وإن ترتب عن سنتين فسنة، وأما البعدي فقال عبد الوهاب والمازري: هو سنة، وقيل: واجب، ومشى المصنف على السنة في القبلي والبعدي. أما البعدي فلا كلام في رجحان سنيته، وإنما الكلام في إثبات مقابله، فمنهم من أثبت وجوبه؛ ومنهم من أنكره: وأما القبلي فاعتمد المصنف فيه على ما قاله ابن عبد السلام، ورجح القول بالسنة، وصرح الشارح بأنه المشهور، وتبعه على ذلك الأقفهسي وجماعة، واقتصر ابن الكدوف على القول بالوجوب، وقال في الشامل: سجود السهو قبل السلام سنة، ورجح أو واجب؛ وهو مقتضى المذهب قولان، وقال البساطي: أكثر نصوصهم على الوجوب. قاله الإمام الحطاب.
(1)
لا تصلوا صلاة في يوم مرتين. أبو داود، كتب الصلاة، رقم الحديث:579. النسائي، كتب الإمامة، رقم الحديث: 860. البيهقي، ج 2 ص 303.
واعلم أن العلماء اختلفوا في محل السجود على مذاهب، فقال الإمام أبو حنيفة: كله بعدي، وقال الإمام الشافعي: كله قبلي، وقال الإمام أحمد: يسجد قبل حيث سجد صلى الله عليه وسلم قبل، وبعد حيث سجد صلى الله عليه وسلم بعد، وما عداهما كله قبل زيدا أو نقصا، وقال إمامنا مالك: يسجد للنقص قبل، وللزيد بعد، ولاجتماعهما: قبل، تغليبا للنقص، ولهذا قال: سن لسهو؛ يعني أنه يسن السجود قبليا أو بعديا لأجل جبر خلل حصل بسهو غير مستنكح، فإن استنكحه الشك ندب كما يأتي، وإن استنكحه السهو فلا سجود كما يأتي. واعلم أن الأصل في الجابر أن يؤتى به عند مجبوره، وأُخِّرَ سجود السهو عن محله؛ إذ لو أتي لكل سهو بسجوده عنده لربما تكرر سهوه، وشق عليه فخفف عنه لطفا به وإن تكرر؛ يعني أن سجود السهو لا يتكرر بتكرر موجبه، بل يكتفى بسجدتين حيث كان تكرر الموجب قبل السجود للسهو، فيخرج مسبوق أدرك مع إمامه ركعة وسجد مع الإمام قبليا، ثم بعد مفارقته لإمامه سها هو، فإنه يسجد لسهوه أيضا، ولا يكتفي بالأول على المشهور. ويخرج أيضا من سجد لنقص قبل سلامه، ثم تذكر أنه بقي عليه شيء منها فأتمه وسها فيه، فإنه يسجد ثانيا، ويخرج أيضا من سجد لسهوه قبل السلام، ثم تكلم ساهيا قبل سلامه، فإنه يسجد بعد السلام، ويخرج أيضا من سجد القبلي ثلاثا سهوا، فإنه يسجد بعد السلام عند اللخمي، وقال غيره: لا سجود عليه، وأما البعدي إذا سجده ثلاثا سهوا فإنه لا يسجد أصلا، وفي الرهوني: أن ما للخصي خلاف المعتمد. وبما قررت علم أن محط البالغة قوله: "سجدتان" كما يأتي إن شاء الله.
بنقص سنة متعلق بسهو، والباء للملابسة. كما في الشبراخيتي؛ يعني أن الساهي المخل بأمر من صلاته لا يخلو، إما أن يزيد فيها أو ينقص منها شيئا، فإن كان سهوه بنقص فينظر في ذلك، فإن نقص سنة فإنه يسجد بشرط أن تكون مؤكدة. كما أشار إلى ذلك بقوله: موكدة، واحترز بقوله:"سنة" عن الفضيلة، فإنه لا يسجد للسهو عنها، فإن سجد له قبل بطلت صلاته -كما سيأتي- وعن الفريضة فإنه لا يسجد لها لعدم جبرها بالسجود، بل يتدارك أو يبني إن أمكن وإلا بطلت -كما يأتي- واحترز بقوله:"مؤكدة" عن غير المؤكدة، فإنه لا يسجد لها، ومن
سجد لها قبل بطلت صلاته -كما يأتي- ولا بد في السجود لنقص السنة المؤكدة من كونها داخلة في ماهية الصلاة بخلاف الأذان والإقامة، وشمل كلام المصنف الفاتحة إذا سها عنها في أقل الصلاة فليسجد لها، وإلا فكترك قبلي عن ثلاث سنن على أحد قولين -كما مر- وقد مر أن العمد كذلك راجع ما تقدم عند قوله:"وفاتحة بحركة لسان".
واعلم أن السنن التي يسجد لتركها ثمانية: الجَهْرُ، والسر، والتشهدان؛ الأول والثاني، وشمل الأول مسائل البناء والقضاء، والسُّورةُ، والجُلوسُ الأول، والتّكْبير، والتَّسْميع؛ أي قول: سمع الله لمن حمده، ويسجد لترك الجهر في الفاتحة ولو مرة، وإن كان الجهر في جميع الصلاة سنة واحدة؛ لأن البعض الذي له بال كالكل، ولا يسجد لترك الجهر في السورة مرة واحدة، بل لتركه فيها مرتين: ويسجد لترك تشهد واحد أدى جلوسَه خلافا للمصنف، ويسجد لترك الجلوس ولو واحدا، ولا يسجد لتكبيرة واحدة ولا لتسميعة واحدة، بل لتكبيرتين فأكثر، أو لتسميعتين فأكثر. أو لتكبيرة وتسميعة فأكثر وأما السر فيسجد لتركه بعد السلام على المشهور خلافا لابن القاسم: لأن الجهر فيه معنى الزيادة، وإنما يعتبر في الفاتحة أو ركعتين. كما نص عليه الشيخ المحقق الأمير، وما عدا ما ذكر من السنن كالمندوب في الحكم، فلا يترتب في سهوه سجود. والله سبحانه أعلم. فالتكبيرة الواحدة سنة خفيفة، وتتقوى بإضافة غيرها لها من تكبيرة أو تسميعة أو غيرهما من هذه السنن، وكذا يقال في التسميعة، ونظم بعضهم السنن التي يترتب في تركها السجود، فقال:
سينان شينان كذا جيمان
…
تاءان عد السنن الثمان
فالسينان: السر والسورة، والشينان: التشهدان، والجيمان: الجهر والجلوس، والتاءان التكبير والتسميع. والله سبحانه أعلم. وقول المصنف:"لسهو" احترز به عن العمد، فإنه لا سجود في ترك السنة المؤكدة عمدا، وهل تبطل أولا؟ قولان كما يأتي للمصنف. أو زيادة، يعني أنه يسجد لنقص السنة بما تقدم من الشروط حيث تمحض نقصها، أو حصل نقصها مع زيادة.
واعلم أن النقص مع الزيادة لا يتقيد بكونه عن سنة مؤكدة على المشهور، فمن نقص تكبيرة واحدة مع زيادة كقيامه مع ذلك لخامسة، فإنه يسجد قبل السلام، وقيل: بشرط التأكيد، وإلا سجد بعدُ إن أوجبت الزيادة سجودا، وإلا فلا سجود، ويأتي هذا في قول المصنف:"وفي إبدالها بسمع الله لمن حمده" الخ، وعلى الأول يكون قوله: أو مع زيادة عطفا على مؤكدة، وعلى الثاني يكون عطفا على مقدر تقديره: منفردة.
والصور التي يسجد فيها القبلي سبع: تحقق النقص فقط، أو شك فيه فقط، أو شك هل زاد أو نقص، أو تحققهما، أو شك فيهما، أو تحقق النقص وشك في الزيد، وكذا العكس، ويدخل في ذلك صورة القرافي؛ وهي ما إذا تيقن موجب السجود، وشك هل هو قبل أو بعد فليست زائدة على المتن خلافا للتتائي. قاله الشيخ إبراهيم، وبقي للبعدي اثنتان: تحقق الزيد فقط أو الشك فيه فقط، ولأبي الحسن أن من قرأ السورة وشك في الفاتحة؛ فإنه يقرؤها ويعيد السورة ولا سجود عليه؛ وهو وارد على قولهم: الشك في الزيادة كتحققها. قاله الشيخ عبد الباقي وفي كتاب الشيخ الأمير: ولو كرر الفاتحة سهوا سجد، ومنه إعادتها لسر أو جهر، والشد على الظاهر بخلاف السورة، ومنه إعادتها لتقديمها على الفاتحة، ولا يعول على ما في الخرشي هنا. انتهى. ونقل الشيخ أحمد عن المدونة أن من قدم السورة سهوا على الفاتحة يعيدها بعد الفاتحة، ويسجد بعد. نقله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ بناني: ما ذكره عن أبي الحسن نحوه نقل المواق عن سماع عيسى عند قول المصنف: وإعادة سورة فقط لهما، وما ذكره عن أحمد من السجود بعد هو قول ثان في المدونة ذكره أبو الحسن بعد أن ذكر كلام المدونة بعدم السجود. انتهى.
سجدتان هذا هو محط المبالغة؛ أي يُكتفى بسجدتين، وإن تكرر موجب السجود من نوع واحد كنقص فقط أو زيادة فقط إجماعا، بل وإن من نوعين كنقص وزيادة على المذهب؛ وهو قول جمهور العلماء. وقال ابن أبي حازم وعبد العزيز بن أبي سلمة بالتعدد، فيسجد قبل وبعد، وأنكر ذلك الرجراجي. وقال: هو مخالف للنقل موافق لدليل العقل، وقوله: سجدتان كونه سجدتين
مجمع عليه. ودلت عليه الأحاديث الصحيحة
(1)
)، فلا تجزئ السجدة الواحدة، ولا تجزئ الثلاثة، فلو سجد واحدة ثم تذكر قبل السلام أضاف إليها أخرى، فإن سلم ثم تذكر أنه إنما سجد واحدة سجد أخرى وتشهد، وسلم ولا سجود عليه: وإن سجد ثلاث سجدات سهوا سجد بعد السلام في القبلي عند اللخمي ولا شيء عليه في البعدي -كما مر- وكلام اللخمي مخالف للمدونة في أنه لا سجود في زيادة سجود السهو القبلي بجعله ثلاث سجدات. والله سبحانه أعلم. قاله الإمام الحطاب.
قبل سلامه؛ يعني أن السجود لأجل نقص سنة مؤكدة أو مع زيادة محله قبل السلام وبعد تشهده، وعدد سجدتان، -كما مر- لا ينقص عنهما، وتمنع الزيادة عليهما. قال الشيخ عبد الباقي: وانظر لو فعله قبل التشهد، هل يعتد به أم لا؟ لأنه لم يقع في محله فيكون بمنزلة من لم يأت به. وحينئذ فينظر إن ترتب عن ثلاث سنن أو أقل، والظاهر الأول، وعليه فالظاهر أنه يكفي له وللصلاة تشهد واحد. قال الشبراخيتي: ونقل ابن ناجي في شرح المدونة: أن المصلي إذا أعرض عن السجود القبلي وأعاد الصلاة ثانيا لم تجزه، والسجود باق في ذمته، ونقل معناه عبد الباقي عن ابن بشير، وعزاه للحطاب، ثم قال عبد الباقي: وظاهره أن الصلاة ليست بطول ولو أطال فيها، فإن جعلت طولا بطلت الأولى إن كان النقص عن ثلاث سنن وإلا سقط سجوده. انتهى المراد منه. وقال الشيخ بناني: معنى كلام ابن بشير أن من ترتب عليه سجود قبلي غير مبطل فأعرض عنه وأعاد الصلاة لم تجزه تلك الصلاة عن ذلك السجود؛ لأن تلك الصلاة ليست بطول فلا بد أن يأتي به، واستدل لذلك بالنقل عن أبي الحسن وابن يونس، قال: فلم يجعل الصلاة طولا في السهو، والظاهر أن العمد كذلك، وفي سقوط القبلي غير المبطل بالطول طرق والمذهب السقوط بالطول، ثم قال: وذكر شيخ شيوخنا أبو علي: أن ما نقلوه عن ابن بشير غير صحيح، وأن كلام ابن بشير ليس فيه أن السجود قبلي، ثم قال؛ أي أبو علي: فإذا علمت أن ابن بشير لم يقيد بالقبلي فيجب أن يحمل في كلامه على البعدي، ويسقط الإشكال. انتهى
(1)
البخاري، كتاب السهو، رقم الحديث: 1224/ 1225. مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث: 570.
باختصار. وقوله: قبل سلامه حيث لم يُصَلِّ خلف من يرى السجود بعد، وإلا فلا يخالفه، فإن الخلاف شر، كما قاله في المدونة.
وبالجامع في الجمعة؛ يعني أن من ترتب عليه قبلي فإنه يسجده في سهو غير الجمعة بالجامع وغيره، وأما في سهو الجمعة فإنما يسجده بالجامع الذي صليت فيه الجمعة فقط ولا يسجده في غيره، واستشكل بأن الخروج من المسجد مبطل إن ترتب عن ثلاث سنن وإلا فلا يتأتى السجود في غير الجامع حتى ينفى، وأجيب بأنه مبني على القول بأن الخروج منه غير مؤثر -كما يقوله محمد- وسيأتي أن الخروج طول عند ابن القاسم وأشهب، وأجيب أيضا بأن هذا فيمن صلى خارجه لضيق، بناء على أنه إن زال المانع كملها فيه لا في محله، فإذا صلاها شخص برحاب المسجد لضيق أو اتصال صفوف وكان مسبوقا ثم زال الضيق فإنه يدب للمسجد ليكملها، أو سجود سهوها به فيما يظهر؛ لأنه يدب للسترة؛ وهي مستحبة أو سنة، فأولى دبه للسجود القبلي؛ لأنه شرط في صحتها حيث لا ضيق على ما يأتي للمصنف في الجمعة لا على خلافه، فيكمل، بموضعه. وأما البعدي من الجمعة فإنه يسجده في أي جامع شاء فيشترط فيه أن يكون بالجامع، ولكن لا يشترط فيه الجامع الذي صلى فيه، وإن لم يسجد القبلي في الجامع كان كتركه، فيفصل فيه إذا طال بين أن يكون عن ثلاث أو أقل ويسجد القبلي في غير الجمعة عند طلوع الشمس وغروبها وخطبة جمعة؛ لأنه داخل الصلاة ولو أخره، وكذا البعدي إن ترتب عن فرض، وإن ترتب عن نفل فقيل كذلك؛ وهو ظاهر المدونة، وقيل: لا؛ وهو لأبي الحسن وعبد الحق، وهل هو تفسير لها أو خلاف؛ قولان، وقوله: وبالجامع في الجمعة إنما يتصور في حق الإمام أو في حق المسبوق إذا سها بعد مفارقة الإمام على القول بأن الإمام لا يحمله؛ وهو المشهور. وأعاد تشهده؛ يعني أن من ترتب عليه السجود القبلي إذا سجده فإنه يعيد تشهده، ثم يسلم ولا يسلم منه بمجرد سجوده، بل حتى يتشهد، وهل وجوبا كما روى ابن القاسم عن مالك، أو ندبا كما روى ابن عبد الحكم مع ابن رشد، عن ابن وهب، أو لا يطلب به كما روى ابن حارث عن أشهب، واللخمي عن عبد الملك؟ والمراد بالوجوب أنه أمر تتوقف صحته عليه كركوع النافلة،
وفسر أحمد الوجوب بأنه الطلب على وجه التأكد، قال الشيخ عبد الباقي: وتفسير الشيخ أحمد هو المتعين فيما روى ابن القاسم؛ إذ كيف يعقل أن تشهد أصل الفرض سنة، وتشهد سجود السهو واجب، وكثيرا ما يعبر المتقدمون بالوجوب عن الطلب استنانا، قال الشيخ أحمد: وانظر لو نسيه وسلم عقبه من غير فصل، هل يسجد أم لا؟ وينبغي السجود. انتهى. وهو مخالف لمفاد الحطاب من أنه لا سجود عليه، وقوله:"وأعاد تشهده"، هذا أحد المواضع التي لا يطلب في تشهدها الدعاء، ومن أقيمت عليه الصلاة أو خرج عليه الخطيب وهو في تشهد نافلة، ومن سها عن التشهد حتى سلم الإمام.
والحاصل أن القبلي يسجده قبل سلامه، وبعد إتيانه بالتشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء، وأنه إذا أتى بالقبلي يقرأ التشهد ولا يدعو فيه ولا يطيله. والله سبحانه أعلم.
كترك جهر مثال للنقص الموجب للسجود؛ يعني أنه يسجد لترك الجهر في الفاتحة، ولو في ركعة أو في السورة من ركعتين، لا من ركعة، وإن كان الجهر كله سنة واحدة؛ لأن البعض الذي له بال كالكل بأن أبدله بأعلى السر؛ أي حركة اللسان فقط. وأما إن أبدله بأدنى السر؛ وهو أن يسمع نفسه فقط؛ فلا سجود.
وسورة؛ يعني أن من ترك السورة المشروعة سهوا يسجد قبل السلام، ومحل السجود لترك الجهر والسورة إنما هو صلاة فرض؛ فهو قيد فيهما، وإلا فلا سجود، والسهو في النفل كالسهو في الفرض إلا في خمس: السر، والسورة، والجهر، ومن عقد ثالثة ففي النفل يكمل أربعا، وفي الفرض يرجع متى ما ذكر، ومن ترك ركنا وطال ففي الفرض يعيد وفي النفل لا شيء عليه، ومثل الطول إذا تذكر بعدما شرع في فريضة أو ركع في نافلة أخرى أوأطال، كما يأتي في قوله:"فمن فرض" الخ.
وتشهدين؛ يعني أنه يسجد لترك تشهدين قبل السلام في فرض أو نفل، ويتصور تركهما في مسائل البناء والقضاء، ويتصور أيضا فيمن يصلي النفل ستا وهو ضعيف، وقد مر أن السنن التي يسجد لتركها إنما هي ثمانية جمعها بعضهم بقوله:
سينان شينان كذا جيمان
…
تاءان عد السنن الثمان
وأن ما عداها كالمندوب لا سجود في تركه، وفهم من قوله:"تشهدين"، أنه لا يسجد لترك تشهد واحد وسينص على ذلك، وسيأتي أن فيه طريقين، وأظهرهما السجود. ومن نسي التشهد حتى سلم، فإن ذكر بقرب السلام رجع وتشهد وسلم وسجد كما في المدونة؛ وهو مبني على أن التدارك لا يفيته السلام، وهو المشهور، وروي عنه أنه يفيته، واستشكل تصور السجود للتشهد؛ لأن الثاني إن ذكره قبل السلام تداركه، والأول وحده لا سجود فيه على ما للمصنف، وأجيب بما تقدم، وبأنه إن ذكره بعد السلام بالقرب رجع وتشهد وسجد قبل، ثم سلم لزيادة سلام، ونقص تشهد واحد وهو الأول، وبأنه أيضا يسجد قبل لترك الأول مع زيادة تأخير الثاني عن محله، ولو لم يكن نقص التشهد الأول سجد بعد السلام لتمحض الزيادة، ولو لم يذكر التشهد إلا بعد الطول لم يسجد؛ إذ لا سجود مع الطول، ولا تبطل صلاته؛ لأن القبلي المرتب عن أقل من ثلاث سنن لا تبطل الصلاة بتركه سهوا مع الطول. والله سبحانه أعلم. وقوله:"وتشهدين"؛ يعني مع إتيانه بالجلوس، وما ذكره المصنف من أن السجود القبلي يعاد فيه التشهد هو المشهور، ودليله ما رواه الترمذي، وحسنه من حديث عمران ابن حصين (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم
(1)
)، والقول بعدم إعادة التشهد لمالك أيضا، واختاره عبد الملك، ووجهه أن سنة الجلوس الواحد أن لا يكرر فيه التشهد مرتين. قاله الإمام الحطاب. وفيه: فإن لم يعد التشهد فالظاهر أنه لا شيء عليه كما يؤخذ من كلام صاحب الطراز، وقوله:"كترك جهر"، هذا هو مذهب المدونة. قال ابن عرفة: وفي سجود ترك الجهر ثلاثة قبل وبعد، ولا سجود لها، وللمازري عن رواية أشهب وسماع القرويين، وعلى السجود لو ذكر قبل ركوعه أعاد صوابا، وفي سجوده سماع عيسى عن ابن القاسم ومحمد عن أصبغ.
(1)
الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:395. أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 1039.
وإلا فبعده؛ يعني أنه إذا تمحضت الزيادة اليسيرة من غير أقوال الصلاة المسنونة تحقيقا أو شكا، فإنه يسن له سجدتان بعد سلامه الواجب، والسنة لحديث ابن مسعود رضي الله عنه (أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا وسجد بعد السلام
(1)
)، ولحديث ذي اليدين (أنه صلى الله عليه وسلم سلم من ركعتين في صلاة العصر ثم قام إلى خشبة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، وخرج سرعان الناس يقولون: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له: ذو اليدين، واسمه: خرباق، فقال يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: صلى الله عليه وسلم كل ذلك لم يكن؛ أي في ظني، فقال: قد كان بعض ذلك؛ أي في نفس الأمر، فأقبل صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال: أحق ما يقول ذو اليدين، قالوا: نعم: فتقدم فصلى ما ترك، ثم سجد سجدتين بعد السلام
(2)
). ودليل النقصان حديث ابن بحينة: قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من اثنتين، ولم يجلس فلما قضى صلاته سجد سجدتين قبل السلام
(3)
)، ثم مثل للزيادة المشكوك فيها، فأحرى المحققة بقوله: كمتم لشك؛ يعني أنه يسن له أن يسجد بعد السلام فيما إذا أتم صلاته لأجل شك؛ أي عدم يقين فيما صلى، أواحدة أم اثنتين، أو اثنتين أم ثلاثا، أو ثلاثا أم أربعا فيبني على الأقل في جميعها ما لم يكن مستنكحا، ويأتي بما يتمها يقينا وجوبا، فأراد بالشك هنا، وفي الآتية مطلق التردد؛ لأن الوهم معتبر في الفرائض لا في غيرها، فإذا توهم أنه صلى ركعتين وظن ثلاثا عمل على الوهم، وإذا توهم أنه ترك تكبيرتين لم يسجد، ويعتبر الشك فيتم ولو طرأ بعد السلام على أحد قولين. ويظهر من كلام الطراز ترجيح أنه يعتبر كما في الحطاب. قاله الشيخ محمد بن الحسن. والقول الآخر أنه يبني على يقينه الأول، ولا يؤثر طروُّ الشك بعد السلام، وقوله:"كمتم لشك"، بيان للحكم والسجود جميعا.
(1)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:404. مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث: 572.
(2)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:482. مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث: 573.
(3)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:829. مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث: 570.
ومقتصر على شفع شك أهو به أم بوتر؛ يعني أنه إذا كان يصلي الشفع، وشك بعد تيقن إتمام الركعتين في حال جلوسه، أو هو قائم فلم يدر أهو به أو أتمه؟ وهو بوتر، فإنه يحتاط بأن يجعل ذلك من الشفع، فيقتصر عليه ليكون على يقين في إتمام الشفع، ويسجد بعد سلامه منه، ثم يستأنف الوتر. قال الشيخ عبد الباقي: وهذا يغني عنه ما قبله؛ إذ فهم منه أن الشاك يبني على الأقل، والنافلة كالفريضة، وشمل كلامه الشك البسيط أي التردد بين أمرين -كما قررت- والمركب وهو التردد بين ثلاث أي شك أهو جالس بأولى الشفع أو ثانيته أو بوتر؟ أتى بركعة، وسجد بعد السلام، ثم أوتر بواحدة. وعبر المصنف في هذه بمقتصر لأنه يقتصر على الركعتين المتيقنتين، فيسلم منهما ثم يوتر، وبمتم في الأولى لأنه لا يقتصر على المتيقنتين، بل يأتي بما شك فيه فحصل التقابل بين اللفظين بأوجز عبارة. وقوله:"ومقتصر على شفع" الخ، بيان للحكم والسجود جميعا كالذي قبله. أبو الحسن: ليس في الأمهات بعد السلام، واختلف الشيوخ هل يسجد قبل السلام أو بعده؟ وإنما سجد لاحتمال أن يكون أضاف ركعة الوتر إلى ركعتي الشفع من غير سلام، فيكون قد صلى الشفع ثلاثا، فيسجد بعد السلام لاحتمال هذا. صح من النكت. ونقل عن عبد الحق في غير النكت أنه قال: التعليل إنما يقتضي أن يسجد قبل السلام لا بعده؛ لأنه ترك السلام من الشفع، وقوله:"شك" بيان للسبب الذي اقتصر على الشفع لأجله، وقوله:"أهو به أو بوتر" تصوير للشك.
أو ترك سر؛ يعني أن من ترك السر وأتى بأعلى الجهر يسجد بعد السلام لأنه كزيادة محضة؛ وهو مذهب ابن القاسم، وقال غيره: يسجد قبل لأنه زاد الصوت ونقص السر وهو أقيس. قاله التتائي. وقد مر عنه أنه يسجد قبل لترك السر، فله قولان، ومحل السجود المذكور حيث كان يقرأ بصلاة فرض، وجَهَرَ في الفاتحة ولو مرة، أو في السورة في ركعتين. كما للشيخ الأمير. وأما في النافلة فلا يسجد لترك السر؛ لأن السر في النفل مندوب، ولا يسجد لترك مندوب. وقوله:"أو ترك سو بفرض"، هو المشهور كما نص عليه غير واحد، ونسب في التوضيح المقابل لابن القاسم لا لغيره. قال الرهوني: وما ذكروه من الخلاف مخالف لما قال ابن رشد في سماع القرينين، فإنه
قال: وأما من جهر فيما يسر فيه من صلاته ناسيا فلا اختلاف أحفظه في المذهب في أنه يسجد بعد السلام، وسلمه ابن عرفة وابن ناجي في شرح المدونة. انتهى. وأما لو أتى في محل السر بأدنى الجهر فإنه لا سجود عليه.
أو استنكحه الشك؛ يعني أنه إذا استنكحه الشك أي داخله وكثر منه بأن يطرأ عليه كل يوم مرة فأكثر فإنه يسجد بعد السلام، والسجود في هذه مستحب كما مر. ولَهِيَ عنه؛ يعني أنه إذا استنكحه الشك فإنه يجب عليه أن يلهى عنه أي يضرب ويعرض؛ أي يجب عليه أن يعرض عن مقتضاه، فإذا شك فيما صلى هل اثنتين أم ثلاثا، أو ثلاثا أم أربعا؟ فإنه يبني على ثلاث في الأولى وجوبا، ولا يجوز له البناء على اثنتين، بل يأتي بركعة ويسلم، ويبني على أربع في الثانية، ويسجد بعد السلام ندبا فيهما ترغيما للشيطان، فإن لم يله عن الشك المذكور بأن عمل بمقتضاه ولو عمدا أو جهلا لم تبطل، وفتح الهاء لغة طيء، وكسرها لباقي العرب. قاله النووي. وفي الصحاح أنه: بفتح الياء وكسر الهاء فقط. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: وفي الصحاح: لهيت بالشيء بالكسر لهيا ولهيانا إذا سلوت عنه وتركت ذكره وأضربت عنه، وألهاه أي شغله، ولهوت بالشيء بالفتح لهوا إذا لعبت به. انتهى. وقوله: ولهي عنه؛ أي وجوبا -كما قررت- لأن الاشتغال به يؤدي إلى الشك في الإيمان. والعياذ بالله تعالى. وقد تقدم أن الاستنكاح هو أن يطرأ عليه كل يوم مرة فأكثر سواء اختلفت صفة إتيانه كأن يأتيه، مرة في نيتها، ومرة في عدد ركعاتها أم لا، فيلفق ما وقع من ذلك، إلا الوسائل مع القاصد فلا تلفق، كأن يأتيه الشك مرة في الطهارة، ومرة في عدد الركعات، فإن لم يطرأ الشك إلا بعد يوم أو يومين أو ثلاثة فليس بمستنكح. واعلم أن من تكرر منه إعادة الصلاة لكثرة العوارض من الغفلة وترك الخشوع وغير ذلك، فقد اختلف في ذلك، هل هو محمود أو هو من باب التعمق في الدين؟ انظر الحطاب.
(كطول بمحل لم يشرع فيه) تشبيه في سجود البعدي؛ يعني أن المصلي يسجد بعد السلام فيما إذا حصل منه طول لتفكر متعلق بصلاته زائدا على طمأنينة واجبة وسنة، وكان ذلك الطول في محل لم يشرع التطويل فيه كرفع من ركوع وجلوس بين سجدتين، ومستوفز للقيام على يديه وركبتيه،
فإن طول عبثا أو لتذكر شيء من غير صلاته، فانظر ما الحكم؟ قاله الخرشي والشبراخيتي وغيرهما. ومحل السجود حيث ترتب على الطول ترك سنة، فإن ترتب عليه ترك مستحب فقط كتطويل، جلوس وسط فلا سجود كما لابن رشد. وذكر غيره أنه مكروه والسنة هنا عدمية، فتركها زيادة، فلذا كان السجود بعديا كما في ترك السر، ولم يبينوا حد الزائد على الطمأنينة الذي هو سنة، ولا حد التطويل الذي يوجب السجود، ومفهوم طول أنه لو لم يطول لا سجود عليه كما يأتي في قوله:"أو شك هل سها"، ومفهوم قوله:"بمحل لم يشرع به"، المطويل أنه لو طول طولا خارجا عن الحد في محل شرع به التطويل أنه لا يسجد، ومعنى شرع به التطويل أن التطويل به قربة كالقيام والركوع والسجود، وهذا التفصيل الذي درج عليه المصنف هو لأشهب، ومقابله قولان: أحدهما لابن القاسم أنه لا سجود عليه مطلقا كان المحل الذي طول فيه مشروعا به التطويل أم لا، والثاني لسحنون يقول بالسجود مطلقا شرع بالمحل الذي طول فيه التطويل أم لا. قال ابن رشد في البيان: قول أشهب؛ يعني القول بالتفصيل الذي مشى عليه المصنف هو أصح الأقوال، وإلى ما قاله ابن رشد في البيان أشار المص بقوله: على الأظهر، وبهذا تعلم أن قول الشيخ عبد الباقي، والشيخ إبراهيم: لا سجود في محل شرع به التطويل إلا أن يخرج عن حده، الصواب، إسقاطه؛ لأنه لسحنون، وهو مقابل للقول الذي مشى عليه المصنف. كما علمت. والله سبحانه أعلم. وقال الشيخ عبد الباقي: إن من قرأ مكتوبا بمحرابه بقلبه فقط بطلت صلاته إن طول، قال: وظاهره ولو مرة بمحل يشرع فيه التطويل. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: وفيه نظر، قال: وكتب بعض هنا ما نصه: لا وجه للبطلان حيث كانت القراءة بقلبه ما لم يطل جدا بحيث يكون شغلا كثيرا، وإن كان يقرأ بلسانه فالذكر والقراءة لا يبطلان، وغيرهما واضح إبطاله إن كان عمدا، ولا فرق بين المحراب وغيره. هذا ما ظهر لي. انتهى.
ولابن عرفة: من جلس على وتر قدر تشهد سجد، وفيما دونه مطمئنا فيه قولان، قال: ولا سجود على إمام جلس ينتظر صنع الناس لشكه وإن بعد شهر؛ يعني أن السجود البعدي المتروك لا يسقط الخطاب به طول الزمان الحاصل بعد الصلاة التي ترتب منها، بل يسجده وإن طال
الأمد كما لو ذكره بعد شهر كما في المدونة، أو بعد سنة كما في الواضحة والمجموعة، أو أبدا كما في غيرها؛ لأنه لما كان جابرا للفرض أمر به لتبعيته، وإن كان النفل لا يقضى سوى الفجر، وهذا يقتضي أن سجود النفل لا يقضى، إلا أن يقال: النفل يصير فرضا بالدخول فيه. وانظر ما حكم تأخيره، هل هو مكروه أولا؟ ولو حذف المصنف قوله:"بعد شهر"، وقال: وإلا فبعده أبدا لكان أحسن. والمطلوب فعله إثر الصلاة، ويفعل في كل مكان إلا في الجمعة كما تقدم، وفي أي وقت حتى الطلوع والغروب، وخطبة جمعة إن ترتب من فرض ومن نفل قيل: كذلك؛ وهو ظاهر المدونة. قاله في الطراز، وهو خلاف ما حملها عليه أبو الحسن أنه يسجد البعدي عند الطلوع والغروب، إلا أن يكون من نافلة. وقوله:"وإن بعد شهر"، قدر الشيخ إبراهيم بين الظرف وبين إن ذَكَرَ. انتهى.
بإحرام؛ يعني أن البعدي إنما يكون أصليا أو قبليا بإحرام أي نية مع تكبيرة السجود لا تكبير زائد عليها، والظاهر أنه لا يرفع يديه، قال الشيخ إبراهيم: ولا يفتقر القبلي لنية؛ لأنه من الصلاة. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: ويحتاج القبلي لتكبيرة هوي مع نية. والفرق بين البعدي والقبلي إن ترتب عن أقل من ثلاث سنن، تسقط الطالبة به مع الطول أن البعدي فيه ترغيم الشيطان، فلا يتقيد بزمان والقبلي جابر فلذا سقط مع الطول. وأمر بالبعدي بَعْدَ بُعْدٍ مع أنه ليس بفرض، والقاعدة أن النافلة لا تقضى؛ لأنه لما كان جابرا للفرض أمر به لتبعيته لا لنفسه. قاله في التوضيح. وقوله: للفرض، يقتضي أن سجود النافلة لا يقضى إلا أن يقال النافلة صارت فرضا بالدخول فيها. قاله الشيخ سالم، قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: جابرا للفرض، لا ينافي ما تقدم من أنه ترغيم للشيطان؛ لأنه للترغيم وللجبر معا. والله سبحانه أعلم.
وتشهد؛ يعني أنه إذا سجد السجدتين البعديتين فإنه يتشهد لهما كتشهد الجلوس الأول فقط، وقال في الطراز: لا خلاف أن التشهد لهما ليس بشرط أي فلا يبطل تركه. قاله الشيخ إبراهيم. وسلامه؛ يعني أنه إذا سجد السجدتين البعديتين فإنه يتشهد لهما ويسلم منهما وسلامه منهما واجب غير شرط، ولا يبطل البعدي بترك الثلاثة أي التكبير والتشهد والسلام فيما يظهر، وأما النية فلا بد منها. وفي المدونة: وإن نسي سجود سهو بعد سلام سجده متى ما ذكر ولو بعد
شهر، وإن انتقض وضوؤه توضأ وقضاهما، وإن أحدث فيهما توضأ وأعادهما، وإن أحدث بعد ما سجدهما توضأ وأعادهما، فإن لم يعدهما أجزأتاه، وصلاته في ذلك كله تامة لأنهما ليستا من الصلاة. قاله الإمام الحطاب. وقوله:"بإحرام"، هذا هو المشهور، وقيل: لا يفتقر البعدي للنية؛ وهو لمالك. قاله الحطاب. وفي الطراز: لا يختلف أنه يتشهد لهما ويسلم، وإنما الخلاف، هل يشترط التسليم والإحرام أم لا؟ وما تقدم من أنه يكبر تكبيرة واحدة للهوي، دليله ما في الموطإ من حديث ذي اليدين، (فصلى ركعتين ثم كبر فسجد
(1)
)، وذلك يقتضي أنه كبر تكبيرة واحدة. ونقل ابن فرحون في شرح ابن الحاجب ما يقتضي: أنه يكبر تكبيرتين. جهرا؛ يعني أنه يجهر بتسليمة البعدي، والجهر بها سنة.
وصح إن قدم؛ يعني أن من ترتب عليه بعدي، وقدمه بأن سجده قبل السلام يصح ويجزئه ولو عمدا، رعيا لمذهب الشافعي القائل: إن السجود كله قبلي، ولو كان المقدم له المأموم؛ بأن ترك المأموم السلام الأول مع الإمام، وسلم معه بعد السجود، ويتصور في المسبوق أيضا؛ بأن يقدم السجود على سلام نفسه بعد القضاء، ولا تبطل إلا إن سجد البعدي قبل القضاء قاله الشيخ محمد بن الحسن. أو أخر؛ يعني أن من ترتب عليه قبلي. وأخره بأن سجده بعد السلام، فإنه يصح ويجزئه ولو عمدا، رعيا لمذهب أبي حنيفة القائل: إن السجود كله بعدي، ويحرم تقديم البعدي، ويكره تأخير القبلي ولو أخر الإمام القبلي. البرزلي: كان شيخنا ابن عرفة يقول: إن المأموم يسجد قبل، وظاهر كلام غيره أنه يتبعه في السلام والسجود، وفي المواق: فيها لمالك: وكذا إن قدم الإمام القبلي وأخره المأموم فتصح صلاته. قاله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمد بن الحسن: قوله: وفي المواق فيها لمالك الخ، لم أر في المواق ما ذكره، وهو مشكل؛ إذ يلزم عليه سلام المأموم من الصلاة قبل إمامه، اللهم إلا أن يكون المأموم سها عن السجود مع الإمام حتى سلم الإمام. فتأمل. انتهى. وفي حاشية الرهوني عن المدونة: أن الإمام إذا كان يرى تأخير القبلي
(1)
الموطأ، كتاب الصلاة، ص 91.
لا يخالفه المأموم. انتهى. واعلم أن الصلاة ليست بطول في القبلي المرتب عن أقل من ثلاث سنن، فمن ذكره أو ذكر البعدي في صلاة فرضا أو نفلا لم تبطل واحدة منهما، فإذا أتم صلاته سجدهما، فقول المصنف فيما يأتي:"إن أطال القراءة" الخ: خاص بالقبلي المرتب عن ثلاث سنن ونحوه، وفاعل صح: ضمير يعود على سجود السهو.
لا إن استنكحه السهو؛ الظاهر أنه معطوف على مقدر بعد قوله: "سن لسهو"؛ أي إن لم يستنكح؛ يعني أنه لا سجود على من استنكحه السهو أي داخله كثيرا، بأن يأتيه كل يوم مرة فلا سجود عليه من زيادة أو مع نقص عند انقلاب ركعاته أو نقص فقط. وانظر، هل يحرم سجوده أو يكره، أو الأول إن كان قبليا والثاني إن كان بعديا؟ وهل تبطل بالقبلي أولا لأن هناك من يقول بسجوده؟ قاله الشيخ عبد الباقي.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر في القبلي الحرمة لإدخاله في الصلاة ما ليس منها وبطلانها، وفي البعدي الكراهة والله سبحانه أعلم.
ويصلح؛ يعني أن من استنكحه السهو لا سجود عليه، ولكن عليه أن يصلح إن أمكنه الإصلاح كما لو تذكر بعد تمام القراءة سجدة فيسجدها، ويعيد الفاتحة. والظاهر أنه يسن له قراءة شيء بعدها؛ لأنه كمن لم يقرأ، وكما لو تذكر السورة قبل تمام الانحناء فيرجع ويأتي بها، وهذا البحث لا يخص المستنكح بالسهو، وإن لم يمكن الإصلاح فلا إصلاح عليه، كما لو استنكحه السهو في سورة حتى ينحني أو عن الجلوس الوسط حتى يفارق الأرض بيديه وركبتيه، ولا سجود عليه، وصلاته صحيحة. كما يدل عليه كلام الأئمة. قال الشيخ عبد الباقي: وفي الشادلي على الرسالة أنه: يؤمر المستنكح برجوعه بعد مفارقة الأرض بيديه وركبتيه. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: ما ذكره عن الشادلي لم أر ما يطابقه، وفي شرح الشيخ عبد الباقي: قال أحمد: قوله: "ويصلح"، هذا ما لم يكن استنكاحه بعد أن يقرأ السورة، هل قرأ الفاتحة أم لا؟ فإنه يقرأ الفاتحة، ولا يعيد السورة، قاله القرافي. قال الشيخ بناني: قوله عن أحمد: "ما لم يكن استنكاحه" الخ فيه نظر، فإن هذا من استنكاح الشك لا السهو، وقوله: فإنه يقرأ، خلاف قول المصنف:"ولهي عنه". وفي الحطاب عند قوله: "أو استنكحه الشك"، من سماع أشهب ما نصه:
ومن شك في قراءة أم القرآن، فإن كثر هذا عليه لهي عنه، وإن كان المرة بعد المرة فليقرأ، وكذلك سائر ما شك فيه، وقوله:"ويصلح"، إن أمكن -كما مر- فإن لم يمكن كما لو تذكر سجدة بعد رفع رأسه من الركوع بعدها بطلت تلك الركعة، ويأتي بها على ما سيذكره المصنف من قوله:"ورجعت الثانية أولى" الخ. والحاصل أنه إذا لم يمكن له إصلاح الفرائض لأجل فوات التدارك فهو كغيره ما عدا السجود، كما لو لم يفته. وقي كتاب الشيخ الأمير: وأصلح سهوه إن أمكن، وإلا أبطل ترك الفرض لبُعدٍ من سلام، فإن لم يبعد بطلت الركعة فقط، على ما يأتي في مبحث الإصلاح.
واعلم أن من ترك السورة سهوا أو عمدا صحت صلاته، كما في المدونة. وعلم من المصنف أربعة أقسام: ساه غير مستنكح، وشاك غير مستنكح، كل منهما يصلح ويسجد، وشاك مستنكح يسجد ولا يصلح، وساه مستنكح يصلح ولا سجود عليه. وإلى القسم الأول أشار بقوله:"سن لسهو وإن تكرر بنقص سنة مؤكدة أو مع زيادة سجدتان قبل سلامه"، وبقوله:"وإلا فبعده"، وإلى الثاني بقوله:"كمتم لشك ومقتصر على شفع الخ"، وإلى الثالث بقوله:"أو استنكحه الشك ولهي عنه"، وإلى الرابع بقوله:"لا إن استنكحه السهو ويصلح". والفرق بين الساهي بقسميه، والشاك بقسميه أن الساهي يضبط ما وقع له بخلاف الشاك، ونظم بعضهم الأقسام الأربعة بقوله:
غيران يسجدان يا إخوان
…
ويصلحان قل بلا بهتان
وصاحب الشك والاستنكاح
…
يسجد بعد قل بلا إصلاح
وموقن مستنكح لمن يسجدا
…
ويصلح الفروض حتما أبدا.
وصرح بمفهوم قوله: "كطول بمحل لم يشرع به"، التطويل، فقال: أو شك هل سها؛ يعني أنه لا سجود على من شك هل سها عن شيء يتعلق بالصلاة من زيادة أو نقص، أو لم يسه فتفكر قليلا، ثم تبين أنه لم يسه، وعلى هذا التقرير فكلام المصنف ناقص يقدر معه فتفكر قليلا، كما في المدونة. ويحتمل أن يراد به الشك الذي لم يستند لعلامة فإنه بمنزلة الوهم، وعليه حمل
القلشاني قول الجلاب: ومن شك في صلاته فلم يدر سها فيها أم لا فلا شيء عليه، لكنه مقيد بالشك في غير الفرائض، فكلامه ناقص على كلا الاحتمالين، والاحتمال الأول أقرب. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. أو سلم؛ يعني أن من شك هل سلم أو لم يسلم، سلم ولا سجود عليه إن كان قريبا، ولم ينحرف عن القبلة، ولم يفارق موضعه: والمراد بالشك مطلق التردد فيشمل الوهم حيث تعلق بالفرائض.
واعلم أن المراد بالشك حيث تعلق بالفرائض مطلق التردد الشامل للوهم، وأما بالنسبة لغير الفرائض فالمراد به ما لا يشمل الوهم. كما قاله الشيخ إبراهيم، وغيره. فإن انحرف عن القبلة كثيرا سجد، وإن طال جدا بطلت، وإن توسط أو فارق مكانه بنى بإحرام، وتشهد وسلم وسجد بعد السلام كما سيأتي إن شاء الله. وقال الشيخ محمد بن الحسن في التوسط: إنه لا سجود عليه لأنه طول في محل شرع به التطويل.
أو سجد واحدة في شكه فيه هل سجد اثنتين؛ يعني أنه إذا تحقق أنه سجد سجدة واحدة من سجدتي السهو، وشك في إتيانه بالثانية، فبنى على اليقين بأن سجد واحدة أخرى لأجل دفع الشك، فإنه لا سجود عليه. وقوله:"هل سجد اثنتين"، تفسير للشك أي شك هل سجد اثنتين سجدتي السهو أو لم يسجد إلا واحدة؟ وبما قررت علم أن في الأولى للسببية كما في الحديث: (دخلت امرأد النار في هرة ربطتها لا هي أطعمتها ولا هي أطلقتها تأكل من خشاش الأرض
(1)
). وعلم أيضا أن هنا معطوفا محذوفا هو والعاطف بعد اثنتين تقديره أو واحدة، وقوله:"سجد"، معطود على قوله:"لا إن استنكحه السهو"، وقوله: "أو سجد واحدة؛ أي لا سجود عليه؛ لأنه لو أمر بالسجود لأمكن أن يشك أيضا فيتسلسل، ولأن الصغر لا يصغر ثانيا، ولو سجد القبلي ثلاثا سهوا ثم تذكر، سجد بعد السلام عند اللخمي، وعند غيره لا سجود عليه في القبلي ولا في البعدي؛ وهو مذهب المدونة كما في الحطاب. والله سبحانه أعلم. وأما البعدي فوافق
(1)
البخاري، كتاب بدء الخلق، رقم الحديث:3318. ولفظه: دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض. مسلم، كتاب السلام، رقم الحديث:2242.
اللخمي فيه على عدم السجود، ولو شك في السجدتين هل هما للفريضة أو للسهو؟ أتى بأربع سجدات. وحكىَ أن محمد بن المواز قال للكسائي: لم لا تشتغل بالفقه؟ فقال من أحكم علما هداه إلى سائر العلوم، فقال محمد: أنا ألقي عليك شيئا من مسائل الفقه وخَرِّج جوابه من النحو، فقال: هات، فقال: ما تقول في من سها في سجود السهو؟ فتفكر ساعة ثم قال: لا سهو عليه، فقال: من أي أبواب النحو أخرجت منه هذا؟ فقال: من باب التصغير، فإن المصغر لا يصغر، فتعجب من فطنته.
أو زاد سورة في أخرييه؛ يعني أنه لا سجود على من زاد سهوا على الفاتحة سورة في الركعتين الأخيرتين معا، هذا هو المشهور، وقال أشهب: يسجد، وأما في إحدى أخرييه فلا سجود اتفاقا، وقوله:"في أخرييه"، وأولى في عدم السجود لو زاد سورة في أولييه.
أو خرج من سورة لغيرها؛ يعني أنه لا سجود على المصلي إذا كان يقرأ سورة، وخرج منها لغيرها سهوا، ويكره تعمد ذلك ما لم يكن افتتح بسورة قصيرة في صلاة يشرع فيها التطويل، فإن له أن يتركها إلى سورة طويلة، كما في الجلاب. قاله الخرشي. وإذا كره الخروج من رواية إلى أخرى، فأولى من سورة إلى أخرى. قاله التلمساني؛ أي رواية القرآن، وهل في الآية الواحدة، أو ولو في آيتين. وذكر لي بعض الفضلاء أن النووي صرح بالكراهة في الحالتين. قاله الأجهوري. والكراهة خاصة بالصلاة، ولعل وجه ذلك أن في تعددها إعمال خاطره بما يمنعه من الخشوع في الصلاة قاله الشيخ عبد الباقي. وأما القراءة برواية واحدة في الصلاة فلا كراهة فيها، وأما القراءة في الصلاة بالتجويد فمطلوبة لقول ابن الجزري:
والأخق بالتجويد حتم لازم
…
من لم يصحح القران آثم
وتجويده مراعاة مده، والإدغام بغنة وغيرها، والإظهار، والإخفاء. وقال صاحب البيان: كره مالك إظهار الهمزة في الصلاة، واستحب التسهيل في قراءة ورش؛ لأن ذلك لغة النبي صلى الله عليه وسلم. وكره الترقيق، والروم، والإشمام، وغير ذلك من معاني القرآن. نقله القرافي. انتهى
قاله الشيخ عبد الباقي عن الشيخ أحمد. وقال الشيخ محمد بن الحسن: اعترض ابن عرفة كلام البيان هذات ونصه: سمع ابن القاسم كراهة النبر في قراءة الصلاة. ابن رشد: هو إظهار الهمزة بكل موضع، ولذا جرى عمل قرطبة أن لا يقرأ إمام جامعها إلا بورش، وإنما ترك منذ زمن قريب. ويحتمل أن الترجيع الذي يحدث به نبر ءا ءا ءا، أو فعل بعض المقرئين من تحقيق الهمز، والترقيق؛ والتغليظ، والروم، والإشمام، وإخفاء الحركة، وإخراج كل الحروف من حقيقة مخارجها لشغله عن فهم حكمه وعبره وتدبره، قلت: هذا الاحتمال لا يليق لاتفاق كل القراء عليه وتواتره، ولا سيما إخراج الحروف من مخارجها. انتهى المراد منه.
أو قاء غلبة؛ يعني أنه لا سجود على من قاء غلبة، ولا تبطل صلاته إن كان يسيرا طاهرا، فإن قاء عمدا بطلت صلاته كما لو كان كثيرا أو نجسا، ومحل الصحة فيما إذا كان يسيرا طاهرا حيث لم يزدرد منه شيئا عمدا، فإن ازدرد منه شيئا عمدا بطلت صلاته، فإن ازدرده غلبة ففي بطلانها وعدمه قولان، وعلى القول بالصحة فلا سجود عليه فيما يظهر، وإن ازدرده سهوا صحت وسجد بعد السلام. وقد مر هذا.
أو قلس؛ يعني أن من قلس غلبة لا سجود عليه، والقلس كالقيء في التفصيل المذكور من غير فرق. والله سبحانه أعلم. وعلم مما قدمته أن محل قوله:"أو قاء غلبة أو قلس"، إنما هو حيث لم تبطل صلاته، راجع ما تقدم عند قوله:"ومن ذرعه قيء لم تبطل صلاته".
ولا لفريضة؛ يعني أن الفريضة لا تجبر بسجود السهو حيث تركها مصل سهوا، ولا بد من الإتيان بها تداركا أو غيره، فإن عرفها أتى بها، وإلا جعلها الإحرام فيحرم بنية، ثم يصلي ويسجد بعد ولو أيقن بالإحرام جعلها الفاتحة وهكذا أبدا، وهذا محترز قوله:"بنقص سنة". قال الشيخ عبد الباقي: فإن قلت: قوله: فيحرم بنية ثم يصلي؛ يقتضي عدم الاعتداد بما وقع منه من أفعال الصلاة. وقوله: يسجد بعد السلام يخالفه، قلت: لا يخالفه؛ لأن عدم الاعتداد بما ذكر لا ينفي الشك في حصول الإحرام منه أولا؛ إذ الإحرام الحاصل منه ثانيا لا ينفي ما حصل منه من الإحرام أولا إن كان حصل منه؛ إذ يجوز كونه تأكيدا، وإذا كان كذلك فيحصل الشك
في زيادة الإحرام الثاني، فلذا يسجد بعد السلام، وسيأتي أن القطع إنما يكون بسلام، أو مناف، أو رفض.
وغير مؤكدة، هذا محترز قوله -سابقا- مؤكدة؛ يعني أنه لا سجود لترك سنة غير مؤكدة، وبطلت الصلاة إن سجد لها قبل، قال الشيخ عبد الباقي: وانظر حكم النهي في جميع ما ذكر، هل على الحرمة أو الكراهة؛ انتهى. وقوله: وانظر حكم النهي إلى آخره، قال الشيخ بناني: حيث كانت الصلاة تبطل بفعل القبلي، فالحرمة فيه ظاهرة لحرمة فعل البطل لغير ضرورة، وقوله: وغير مؤكدة أي بانفرادها، وأما مع زيادة ففيها قولان بالسجود وعدمه.
كتشهد مثال للسنة غير المؤكدة؛ يعني أن من نسي تشهدا واحدا أدى جلوسه، لا سجود عليه؛ لأنه سنة غير مؤكدة، وقال الشبراخيتي وغيره: إن هذا ضعيف، والمعتمد أنه سنة مؤكدة، فيسجد له، كما قاله المواق، وذكره صاحب العزية. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: ما ذكرد المصنف من عدم السجود للتشهد الواحد إذا جلس له، نحوه لابن عبد السلام، ونص عليه الجلاب، وجعله في الطراز المذهب، وهو خلاف ما صرح به اللخمي، وابن رشد من أنه: يسجد للتشهد الواحد، وإن جلس له. وصرح ابن جزي والهواري بأنه: المشهور، وعلى السجود له اقتصر صاحب النوادر، وابن عرفة. قال الإمام الحطاب: والحامل أن فيه طريقين أظهرهما السجود، وفي التهذيب: من نسي التشهد حتى سلم فذكر ذلك، يرجع إلى الصلاة، ويتشهد ويسلم، ثم يسجد بعد السلام، وتقدم نحوه في كلام النوادر عن ابن حبيب قال ابن عرفة: وهذا معارض لقول المازري في المدونة: إن ذكر تارك التشهد الأخير؛ وهو بمكانه سجد لسهوه، وإن طال فلا شيء عليه، ونحوه للصقلي، فيكون فيها قولان. انتهى. وانظر كيف جعله يرجع للتشهد؛ وهو سنة، وقد حصل ركنا من أركان الصلاة؛ وهو السلام؟.
والقاعدة أنه إذا فات محل فعل السنة فإنه لا يرجع كمن نسي السورة حتى ركع. قاله الإمام الحطاب. وقال ابن عرفة: ونقص السنة عمدا في بطلان الصلاة به، ثالثها: يسجد قبل،
ورابعها: يعيد في الوقت لبعض أصحاب مالك، وابن القاسم، وغيره، واختيار الجلاب. ونقل اللخمي قاله الإمام الحطاب.
ويسير جهر؛ يعني أنه لا سجود على من اقتصر في السرية على يسير جهر؛ بأن أسمع نفسه ومن يليه. أو سر؛ يعني أنه لا سجود على من اقتصر في الجهرية على يسير سر؛ بأن أسمع نفسه فقط، فالسجود لترك الجهر محله إذا بالغ في الإسرار، وكذا السر هذا هو الصحيح، وما عداه وَهَمٌ. والله سبحانه أعلم. انظر حاشية الشيخ بناني.
وإعلان بكآية؛ يعني أنه لا سجود في إعلان بكالآية في محل السر، وكذا السر به في محل الجهر وإعادة سورة فقط لهما؛ يعني أن من أسر بالسورة في محل الجهر ساهيا، وذكر قبل الانحناء فإنه يعيدها جهرا لأجل تحصيل سنة الجهر: ولا سجود عليه في إعادته للسورة، وكذا لو جهر بها في محل السر، وذكر قبل الانحناء؛ فإنه يعيدها سرا لأجل تحصيل سنة السر، ولا سجود عليه في إعادته للسورة، وهذه الإعادة في الموضعين مأمور بها، وتفوت بالانحناء كما يأتي. واحترز بقوله:"فقط"، عما لو أعاد الفاتحة لهما، أو أعادها مع السورة لهما؛ فإنه يسجد بعد السلام، وقيل: لا سجود في إعادة القراءة للجهر.
واعلم أن من كرر الفاتحة سهوا سجد، وعمدا أثم، ولا بطلان. وقال الشيخ الأمير: ولو كرر الفاتحة سهوا سجد: ومنه إعادتها لسر أو جهر، والشك على الظاهر بخلاف ما لو كرر السورة فلا سجود عليه، ومنه إعادتها لتقديمها على الفاتحة، ولا يعول على ما في الخرشي هنا. انتهى بإيضاح. وفي بناني ما معناه: سمع عيسى عن ابن القاسم: من أعاد القراءة لسهوه عن جهرها سجد، وسمع القرويون: من أعاد القراءة لسهوه عن جهرها لم يسجد، ومن كرر السورة للتنكيس، فقيل: يسجد، وقيل: لا يسجد. وبما قررت علم أن اللام في قوله: "لهما" للتعليل، وضمير التثنية للسر والجهر؛ أي لا سجود في إعادة السورة لأجل تحصيل سنة الجهر أو السر. وتكبيرة؛ يعني أنه لا سجود على من ترك تكبيرة واحدة، فقوله:"وتكبيرة"؛ عطف على قوله: "تشهد"؛ فهو مثال ثان للسنة غير المؤكدة، وكذا لا سجود على من ترك سمع الله لمن حمده مرة واحدة، وقوله:"وتكبيرة" ما لم تكن من تكبير العيد، فإنه يسجد قبل السلام لترك تكبيرة
واحدة منه -كما يأتي؛ لأن كل واحدة من تكبيره سنة مؤكدة. وكما يترتب القبلي في نقصه يترتب البعدي في زيده، كما نص عليه غير واحد. قال الإمام مالك في مختصر ابن شعبان: من سها في العيد فزاد تكبيرة واحدة سجد بعد السلام.
وفي إبدالها بسمع الله لمن حمده؛ يعني أن شراح المدونة اختلفوا فيمن جعل موضع الله أكبر، سمع الله لمن حمده، فمنهم من تأولها على السجود؛ لأنه نقص وزاد، ومنهم من نفى السجود، ومحل التأويلين حيث أبدل التكبيرة بسمع الله لمن حمده سهوا عند الخفض للركوع مرة واحدة. أو عكسه؛ يعني أن شراح المدونة اختلفوا فيمن جعل موضع سمع الله لمن حمده، الله أكبر مرة واحدة، فمنهم من تأولها على السجود لأنه نقص وزاد، ومنهم من نفاه، وقوله: تأويلان: مبتدأ تقدم خبره، وهو قوله:"في إبدالها" الخ، فالتأويلان في السجود، ونفيه يعني القبلي في المسألتين، ومحلهما إن أبدل في أحد المحلين، فإن أبدل بالمحلين معا سجد قطعا، ومحلهما أيضا إن فات التدارك بأن تلبس بالركن الذي يليه، وإلا أتى به ولا سجود عليه، وإن أبدل إحدى تكبيرات السجود خفضا أو رفعا بسمع الله لمن حمده لم يسجد، فإن أبدل بمحلين سجد، وقال الشيخ إبراهيم: وأما لو أبدل سمع الله لمن حمده، بقوله: ربنا ولك الحمد، فإنه لا سجود، قاله في النوادر عن الواضحة، ونحوه في الحطاب، فإنه قال: ولا يأتي التأويلان فيمن أبدل موضع سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، فإنه لا سجود عليه. انتهى. وفي البرزلي: ومن نسي التكبير في صلاته كلها شهرا أعادها كلها على المشهور، وعلى قول من يقول: كله سنة، فإنه لا يعيد. ومن نسي سمع الله لمن حمده في صلاته شهرا، وهو مسافر، فإنه يعيد المغرب ثلاثين مرة، ولا يعيد غيرها؛ لأن القبلي في غيرها إنما ترتب عن سنتين وهذا على المشهور. وأما على أن سمع الله لمن حمده كله سنة فلا يعيد المغرب، ولو نسيها في الحضر أعاد ما سوى الصبح على المشهور لا على مقابله، ولو كان يضيف إلى سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، فلا إعادة عليه، كذا كان شيخنا الإمام يفتي أن ربنا ولك الحمد تنوب عن التسميع، لكونه ذكرا شرع في المحل، بخلاف إبدال التكبير منها، كما قال في المدونة؛ لأن التحميد يشارك التسميع في الطلب
مع اتحاد المحل، فالحقيقة قريب بعضها من بعض، ولو نسي تكبيرتين أو تحميدتين شهرا صحت صلاته. انتهى. نقله الإمام الحطاب. وفي التهذيب: ولا يجزئ من الإحرام إلا الله أكبر، ولا من السلام إلا السلام عليكم. ابن ناجي: اتفق المذهب على أنه إذا قال: الله، أنه لا يجزئ، أي عن السلام عليكم: مع أنه مجانس، وأحرى إذا قال غيره كقوله: الله السميع، ويقوم منه أن من أبدل سمع الله لمن حمده، بربنا ولك الحمد في ثلاث ركعات فأكثر، أن صلاته باطلة ولا اعتبار بالمجانسة، وبه كان يفتي أبو محمد الشبيبي إلى أن مات رحمه الله، وتوجه فتواه بأن المستحب لا يقوم مقام السنة لضعفه، وكان بعض شيوخنا يفتي بالصحة والصواب الأول. انتهى.
وقوله: إن صلاته باطلة -يريد إذا لم يسجد لسهوه. قاله الإمام الحطاب. قال الشيخ عبد الباقي: ثم ذكر مسائل لا سجود في سهوها؛ لأن عمدها منه ما يطلب؛ ومنه ما يجوز، ومنه ما يكره كما بين ذلك في كلامه، فقال: ولا لإدارة مؤتم؛ يعني أنه لا سجود لأجل إدارة مؤتم أداره إمامه عن يساره ليمينه، ويندب عمدها؛ لأن الوسيلة تعطى حكم مقصدها، وأصلها قصة ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نمت عند خالتي ميمونة والنبي صلى الله عليه وسلم عندها تلك الليلة فتوضأ ثم قام يصلي فقمت عن يساره فأخذني فجعلني عن يمينه
(1)
)، وفي رواية (فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه
(2)
)، وفي أخرى (فوضع يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى يفتلها فأقامني
(3)
). وهذا كله في صحيح البخاري. قاله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ بناني: قوله: "ولا سجود الخ"، كذا شرحه التتائي وغيره، وهو ظاهر المصنف، قال الرماصي: وليس ذلك مراده، بل مراده أن ذلك مغتفر؛ لأن كلامه في فعل ذلك عمدا، وكأنه يحوم على قول ابن الحاجب فكثير الفعل مبطل مطلقا، وإن وجب كقتل ما يحاذر، أو إنقاذ نفس أو مال والقليل جدا مغتفر، ولو كان كإشارة لسلام أو رده أو لحاجة على المشهور، وما فوقه من مشي يسير وشبهه إن كان لضرورة كانفلات دابة أو لصلحة من مشي يسير لسترة أو فرجة أو دفع مار دفعا خفيفا، فمشروع، وإن
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:698.
(2)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:699.
(3)
البخاري، كتاب العمل في الصلاة، رقم الحديث:1198.
كان لغيره فإن أطال
(1)
الإعراض فمبطل عمده، ويجبر سهوه، وإلا فمكروه، فأشار للمشروع بقوله:"ولا لإدارة مؤتم إلى آخره"؛ أي لا شيء عليه فيه لكونه مطلوبا، وأشار للجائز بقوله:"ولا لجائز"، إلا أنه لشدة الاختصار لم يفصح بالمراد، وخلط المطلوب بالجائز والمكروه.
وحاصله أن ما كان من مصلحة الصلاة كإدارة المؤتم، وإصلاح الرداء والدنو من السترة، وسد الفرجة فمطلوب، وغيره إن قل جدا جائز، وإلا فمكروه لغير ضرورة ولها مغتفر. انتهى. وقال الشيخ علي الأجهوري في شرحه ما معناه أنَّ فعْلَ ما لا يسجد لسهوه منه ما هو مطلوب، وأشار إليه بقوله:"ولا لإدارة مؤتم"، إلى قوله:"ولا لجائز"، ومنه ما هو جائز، وأشار إليه بقوله:"ولا لجائز"، إلى قوله:"ولا لتبسم"، ومنه ما هو مكروه، وأشار إليه بقوله:"ولا لتبسم"، فإنه ليس من الجائز لعطفه عليه، ويجعل التشبيه في قوله: كأنين لوجع وبكاء تخشع لإفادة نفي السجود فقط؛ لأن الملجأ غير مكلف فلا يكونان من الأقسام المذكورة. أشار له الشيخ إبراهيم. ونقل عن ابن السبكي ما نصه: والصواب امتناع تكليف الغافل والملجإ، وكذا المكره على الصحيح. انتهى. وإصلاح رداء؛ يعني أنه لا سجود على المصلي في إصلاح ردائه، لفعله عليه الصلاة والسلام، وعمده مندوب إن خف إصلاحه، ولم ينحط له، وإلا لم يندب بل ينهى عنه، ولكن لا تبطل صلاته. وقال الشيخ الأمير: وندب إدارة مؤتم لليمين إن وقف بغيره، وإصلاح رداء أو سترة وإن انحط مرة وأبطل إن زاد، وأما الانحطاط لأخذ عمامته فمبطل لأنها لا تصل مرتبة ما ذكر في الطلب، إلا أن يتضرر لها. كما في عبد الباقي انتهى.
أو سترة سقطت؛ يعني أنه لا سجود في إصلاح سترة سقطت بل يستحب إصلاحها إن خف ولم ينحط لها من قيام، وإلا فلا بل ينهى عن إصلاحها، ولكن لا تبطل إلا إذا انحط لها مرتين، لأنه فعل كثير، وانظر في الإدارة إن تكررت، وكذا النظر فيما بعده. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ إبراهيم: أي ويستحب إصلاحها إن خف ولم ينحط لها من قيام، وإلا فلا، بل ينهى عن
(1)
في التوضيح ج 1 ص 396: أخال.
إصلاحها، ولكن لا تبطل. انتهى. وروى علي عن مالك في المجموعة: إذا استتر الإمام برمح فسقط فليقمه إن كان ذلك خفيفا، وإن شغله فليدعه. ونقله سند ثم قال: وهذا إذا كان جالسا بين يديه فيقيم السترة فذلك يسير، فأما إن كان قائما ينحط لذلك فثقيل إلا أنه يغتفر مثله للضرورة.
أو كمشي صفين لسترة؛ يعني أنه لا سجود على مصل مشى كالصفين لأجل سترة يستتر بها كمسبوق سلم إمامه، والكاف داخلة على صفين، وأدخلت الثالث. وفي المدونة: ينحاز الذي يقضي بعد سلام الإمام إلى ما قرب منه من السواري، وبين أبو الحسن القرب بالعرف، ولم يحده بالصفين والثلاثة، وإنما تبع المصنف قول ابن عبد السلام أكثر عبارات أهل المذهب أنه يمشي الصفين، وربما قالوا والثلاثة. انتهى. ويمكن تفسير العرف الواقع في أبي الحسن بالصفين والثلاثة فلا اختلاف. قاله الشيخ عبد الباقي.
أو فرجة؛ يعني أنه لا سجود في مشي كصفين لأجل فرجة يسدها ولا يحسب من الثلاثة الذي خرج منه، ولا الذي دخل فيه. وانظر هل يجري ذلك فيما قبل الفرجة من المسائل وما بعدها، أم لا؟ قاله الشيخ عبد الباقي. والفرجة بضم الفاء: فرجة الحائط مثلا، وأما الفرجة للتفصي من الهم فمثلثتها، وقد علمت أن المشي المذكور مندوب: لأنه وسيلة إلى تسوية الصفوف، وهي اعتدال القامة على سمت واحد، ويراد بها أيضا سد الخلل الذي في الصف. وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة من أجمعها حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولا تذروا فروجات للشيطان ومن وصل صفا وصله الله
(1)
)، رواه أبو داوود: وصححه ابن خزيمة والحاكم. وروى أبو داوود، وصححه ابن خزيمة أنه صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس بوجهه فقال (أقيموا صفوفكم ثلاثا والله لَتُسَوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم
(2)
)، معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء؛ لأن اختلافهم في
(1)
أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات الشيطان ومن وصل صفا وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله. أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:666.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:662.
الظواهر سبب لاختلاف البواطن. قال الراوي للحديث، وهو النعمان بن بشير رضي الله عنه: فلقد رأيت الرجل منا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وكعبه بكعبه. قاله سيدي محمد الزرقاني. أو دفع مار يعني أنه لا سجود في مشي كصفين لأجل دفع مار يريد مرورا بين يديه قال الشيخ عبد الباقي: انظر من قيده بمشي كصفين؛ إذ مفاد نقل الشارح، والتتائي عن أشهب أن: التحديد بالقرب إلا أن يفسر بهما. وانظر إذا حصل من المصلي مشي كالصفين لكل من السترة والفرجة والظاهر اغتفاره، وكذا يقال في إصلاح الرداء مع إصلاح السترة. انتهى. وقال الشيخ الأمير عاطفا على المندوب: ومشى لسترة أو فرجة قربتا كالصفين مستقبلا، أو دفع مار فإن بعد أشار له ولا يرجعه إن جاز، وسد فيه لتثاؤب بغير باطن اليسرى لملابسة النجاسة، وليس التفل عند التثاؤب مشروعا، وما نقل عن مالك لاجتماع ريق إذ ذاك ولا سجود لها؛ أي للمذكورات. انتهى.
أو ذهاب دابة يعني أنه لا سجود في مشي قل كالصفين لأجل أن يرد دابة ذهبت كانت الدابة للمصلي الذي مشى ليردها، أو لغيره. قال الشبراخيتي: ولم نر من حد المشي في هذه بكصفين، ويستفاد من ابن رشد وعبد الحق أنه متى خشي بذهابها تلف نفسه أو مشقة شديدة يتكلم ويقطع، كثر ثمنها أم لا، ضاق الوقت أم لا. فتلك أربعة يقطع فيها، فإن لم يخش ذلك تمادى على صلاته في ثلاثة وهي: ما إذا ضاق الوقت كثر ثمنها أو قل، أو اتسع الوقت وقل ثمنها، فإن كثر ثمنها واتسع الوقت قطع. وللشارح فيما إذا خشي هلاكا أو شديد أذى أنه لو قيل: يطلبها ويصلي كالمسايف ما بعد، ونحوه لابن ناجي وكأنه من توافق الوارد في الخواطر، والمال كالدابة في هذه الثمانية، والظاهر أن المراد بالوقت: الضروري. قال الشيخ عبد الباقي، والشيخ إبراهيم: وانظر هل الكثرة والقلة منظور لها في نفسها، أو بالنظر للمالك؟. وفي باب الحج والتيمم ما يفيد الخلاف في ذلك، وفي ابن عرفة ما يفيد أن الكثير ما يضر، وما هنا عام في الفذ والإمام والمأموم، وما يأتي من الاستخلاف في صور القطع الخمسة فلا مخالفة. انظر حاشية الشيخ بناني.
وإن لجنب أو قهقرة راجع للأربع؛ أعني مشيه كصفين لسترة، أو فرجة أو دفع مار، أو ذهاب دابة؛ يعني أنه إذا مشى في هذه الأربع لا فرق بين أن يمشي أمامه وبين أن يمشي لجنب أو
قهقرة، وظاهره أنه لا يستدبر القبلة، ولو لعذر، وهو كذلك فيضره الاستدبار. والظاهر أن حكم الانحراف الكثير حكم الاستدبار، وفي الرعاف: يستدبر لعذر، والظاهر أن ما هنا أولى. قاله الشيخ علي الأجهوري. قال الشيخ عبد الباقي: هو ظاهر في ذهاب الدابة للضرورة فيستدبر فيما يظهر لها فقط دون السترة والفرجة ودفع المار، ولذا لم يبالغ إلا على الجنب والقهقرة لجريانهما في الجميع، وصوابه قهقوى. قاله الشيخ عبد الباقي، والشيخ إبراهيم. وسمع بعض أن ما هنا لغة قاله الشيخ عبد الباقي.
وفتح على إمامه إن وقف؛ يعني أن المأموم لا سجود عليه إذا فتح على إمامه في الصلاة فرضا أو نفلا حيث وقف الإمام؛ أي استطعم، ومعنى الفتح تلقينه القراءة عند الوقف، ومعنى استطعم -كما مر- بأن علم طلب ذلك منه، أو تردد. كما للشبراخيتي. ومثله إذا خلط آية رحمة بآية عذاب نص عليه ابن حبيب، وكذا إذا وقف وقفا قبيحا؛ فإنه يعيده على الصواب، وهو واجب في الفاتحة، وإن لم يقف بأن قرأ من مكان آخر، وفي السورة إما سنة أو مستحب، وإذا لم يقف في السورة كره ذلك بأن ينتقل من سورة إلى سورة. كما في الحطاب. ولا تبطل صلاة الفاتح، وقال الشيخ عبد الباقي: ويفتح عليه فيما يظهر إن أبدل خبيرا ببصيرا وسميع عليم بواسع عليم، ومن باب أولى فيما يظهر إن ترك الفاتحة وابتدأ بالسورة. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالناس وقرأ:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} ، فأسقط آية، فلما فرغ قال: أفي المسجد أبي بن كعب؟ قال: ها أنا يا رسول الله، قال: ما منعك أن تفتح علي حين أسقطت الآية؟ قال: حسبت أنها نسخت، قال: إنها لم تنسخ). قاله الشيخ إبراهيم. وإن ترك الفتح في الفاتحة صحت صلاة الإمام، وانظر في صلاته هو. ويتحصل من كلامهم هنا أنه يفتح على إمامه في الفاتحة من غير شرط، وأما في السورة فيفتح عليه إن وقف؛ أي استطعم بأن علم طلب ذلك منه أو تردد، ومثله إذا خلط آية رحمة بآية عذاب أو غير تغييرا يقتضي الكفر، وكذا لو وقف وقفا قبيحا، وكذا لو أبدل خبيرا ببصير ونحو ذلك، وكذا لو ترك الفاتحة وابتدأ بالسورة، وكذا لو أسقط آية. وأما إن لم يقف بأن انتقل من سورة إلى سورة فإنه لا يفتح عليه في السورة كراهة، فإن فتح وارتكب المكروه صحت صلاته. وبالله تعالى التوفيق.
وحاصل هذا أنه يرشده إلى الصواب إلا فيما إذا كان الإمام يقرأ السورة: وانتقل منها لغيرها، وقال الشيخ عبد الباقي: إن وقف حقيقة بأن استطعم ولم ينتقل ولم يكرر، أو حكما بأن تردد أو كرر آية؛ إذ يحتمل أن يكون للتبرك أو التلذذ بها، ويحتمل الاستطعام كقوله: والله ويكررها ويسكت، فيعلم أنه لا يعلم أن بعد غفور رحيم، أو على كل شيء قدير. وقال الشيخ الأمير عاطفا على ما لا سجود فيه: وفتح على إمامه، وله حكم قراءته فيجب بفاتحة، ويسن في أصل الزائد، وكره إن خرج من غير الفاتحة لأخرى، وأبطل فتح على غيره، وإن مصليا لأنه في معنى مخاطبته إلا بقراءة في محلها. كما يأتي في قصد التفهيم. انتهى والله سبحانه أعلم. وقال الأخضري: ومن وقف في القراءة ولم يفتح عليه أحد ترك الآية وقرأ ما بعدها، فإن تعذرت عليه ركع، ولا ينظر مصحفا بين يديه إلا أن يكون في الفاتحة، فلا بد من إكمالها في مصحف أو غيره.
وسد فيه لتثاؤب؛ يعني أنه لا سجود على المصلي فيما إذا سد فاه عند تثاؤبه، وندب عمده له لا لغير تثاؤب ولا سجود في سهوه خلافا لظاهر المصنف، ولا بطلان في عمده. قاله الشيخ عبد الباقي. وكرهت قراءته حالة التثاؤب، وأجزأت إن فهمت وإلا أعادها، وإلا أجزأته إلا في الفاتحة، وصحت صلاته لأن ما أتى به من القراءة ليس كالكلام الأجنبي، وإذا لم يعد الفاتحة فيجري على حكم من تركها، والسد بباطن اليمنى وظاهرها، وبظاهر اليسرى لا بباطنها قاله غير واحد. ولعل حكم السد بباطن اليسرى الكراهة، وعبارة الشيخ الأمير: عاطفا على المندوب وسد فيه لتثاؤب بغير باطن اليسرى لملابسة النجاسة، وليس التفل عند التثاؤب مشروعا وما نقل عن مالك لاجتماع ريق إذ ذاك. انتهى. وقال مالك في الواضحة: يسد فاه بيده في الصلاة حتى ينقطع تثاؤبه، فإن قرأ حال تثاؤبه فإن كان يُفهم ما يقول فمكروه ويجزئه، وإن لم يفهم فليعد ما قرأ، فإن لم يعد فإن كان في الفاتحة لم يجزه وإلا أجزأه. انتهى. قاله الإمام الحطاب. وفي الحطاب: أن من تثاءب في الصلاة سد فاه إن شاء بيده وإن شاء أطبق شفتيه. انتهى. وفيه: وليس النفث من أحكام التثاؤب، وربما يجتمع في فم الإنسان ريق يكثر عند التثاؤب فينفث، ولو بلعه جاز، وينبغي له أن ينفثه إذا كان صائما. انتهى. والتثاؤب: هو النفث الذي ينفتح معه الفم لدفع
البخارات المختلفة في عضلات الفك، وهو إنما يكون من امتلاء المعدة، وهو يورث الكسل، وثقل البدن؛ وسوء الفهم، والغفلة. قاله الكرماني. نقله الشيخ عبد الباقي.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر أن المراد بالنفث في هذا الحد النفخ؛ لأن من معاني النفث النفخ اللطيف بلا ريق. والله سبحانه أعلم.
ونفث بثوب لحاجة؛ يعني أنه لا سجود في نفث وقع سهوا بثوب لحاجة، والنفث: البصاق بلا صوت، كما لأبي محمد صالح، أو به كما لابن شبلون. واللام في قوله:"لحاجة"، للتعليل؛ أي لأجل حاجة، ومفهوم قوله:"لحاجة": قال الشبراخيتي: فإن كان لغير حاجة عمدا أو جهلا بطلت، وسهوا سجد إن كان إماما أو فذا لا مأموما. ونحوه للحطاب عن الجزولي. زاد الشبراخيتي: وهذا كله إن كان بصوت: فإن كان بلا صوت لغير حاجة فلا سجود في سهوه ولا بطلان في عمده، وينبغي كراهته، وحكم النفث في الصلاة الجواز لمن احتاج إليه. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: والنفث البصاق بلا صوت، كما لأبي محمد بثوب لحاجة ولغيرها سهوا يسجد، فإن كان بصوت عمدا وجهلا بطلت، وسهوا سجد بعد السلام إن كان إماما أو فذا لا مأموما فيحمله عنه إمامه. قاله البرزلي، ثم قال: والنفث عمدا لحاجة جائز. وكره لغيرها فيما يظهر. انتهى. وقوله: فإن كان بصوت عمدا أو جهلا بطلت، قال الرهوني: إنه خلاف الراجح: قال الشيخ بناني: قوله: وكره لغيرها الخ، قال الشيخ أبو علي: إنما زاد المصنف لحاجة ليكون النفث مطلوبا فيدخل في هذا القسم الذي يطلب فعله، وإلا فلا فرق بين الحاجة وغيرها في النفث لكن إن كان لحاجة فلا سجود اتفاقا، وإلا فقولان؛ لأنه مع الحاجة إما مطلوب أو جائز، وبلا حاجة إما أن يكون جائزا أو مكروها، وحكم ذلك كله في أبي الحسن، وكلام هذا الشارح يقتضي أنه لم يقف على نص. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: وقول بعضهم: النفث نفخ لطيف بلا ريق على الصحيح، وقيل: بريق غير ظاهر؛ إذ النفخ مبطل لطف أم لا. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: وفيه نظر؛ لأن ما في المواق والحطاب صريح في جواز النفخ اليسير لمن لم يفعله عبثا؛ إذ لا يسلم منه البصاق. انتهى. وقال الشيخ الأمير: وبصق بثوب وإن بصوت للحاجة، وإلا يكن لحاجة والموضوع أنه بصوت فكالنفخ والكلام، فإن الكلام هنا بمعنى مطلق الصوت ولو نهق
كالحمار، قالوا: إن حرك شدقيه وشفتيه لم تبطل، وينبغي حمله على ما يحصل بين يدي الكلام، أما إن حصلت صورة الكلام بتحرك اللسان والشفتين، فينبغي البطلان كما اكتفوا به في قراءة الفاتحة والإحرام، وترددوا هل تبطل إشارة الأخرس أو إن قصد بها الكلام له؟ أما إن نطقت يده بلا قصده فلا، وبه ولي يفتي نفسه انتهى.
كتنحنح؛ يعني أن من تنحنح في صلاته سهوا لا سجود عليه، والأولى ترك عمده، وإن كان لشيء نابه في صلاته يتعلق بها أو بغيرها لخبر: (من نابه شيء في صلاته فليسبح
(1)
)، فإن كان التنحنح لأجل توقف قراءة عليه وجب في الواجبة، وندب أو من في غيرها. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: كتنحنح؛ أي لحاجة. وفسر ابن عاشر الحاجة بضرورة الطبع، قال المازري: التنحنح للضرورة، وأنين الوجع مغتفر. انتهى. وقال الشارح عند قوله:"كتنحنح"، يريد أن التنحنح لحاجة لا يبطل الصلاة ولا سجود فيه. ابن بشير: باتفاق، واختلف إذا تنحنح من غير حاجة، هل يكون كالكلام فيفرق فيه بين السهو والعمد، وهو قول مالك في المختصر أولا تبطل به الصلاة مطلقا؛ وهو قول مالك أيضا، وبه أخذ ابن القاسم واختاره الأبهري واللخمي، وإليه أشار بقوله: والمختار؛ أي عند اللخمي من قولي مالك عدم الإبطال؛ أي ابطال الصلاة به. أي بالتنحنح كغيرها؛ أي لغير حاجة أصلا، كما في نقل الحطاب، فلا تبطل ولو عبثا أي إذا قل، وإلا أبطل. وحمله السنهوري وأحمد على أن معناه لغير حاجة تتعلق بالصلاة، كأن يسمع غيره أنه في صلاة فلو فعله عبثا لبطلت. انتهى. وفي الرهوني أن: ما حمله عليه السنهوري وأحمد لا يعول عليه، وأن الإطلاق هو الموافق لكلام أهل المذهب، والتنخم كالتنحنح كلاهما لا يفسد الصلاة، ولالك قول أنهما يفسدان الصلاة قاله الإمام الحطاب. قال: والقولان إنما هما في تنحنح غير المضطر. انتهى. وقال الشيخ إبراهيم: وأما التنخم بأن يقول: أخ، فلا يبطل إن كان لضرورة البلغم الذي يسقط من دماغه، ولغير ضرورة قال الجزولي: من تنخم عمدا في صلاته
(1)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:421.
أعادها لأنه كلام، وهو، أخ، وقال البرزلي: ولغير ضرورة للتسميع الصواب أن لا تبطل. انتهى. ولا تبطل بجشإ للضرورة، والظاهر عدم بطلانها بجمع التنحنح والتنخم. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ الأمير عاطفا على ما لا سجود فيه: وتنحنح وإن عبثا أي لغير حاجة إلا أن يتلاعب أو يكثر، وكذا التبسم على هذا التفصيل. انتهى. ولابن العربي في العارضة: البزاق في المسجد ضرب من الإهانة، ولكن جعل الله للعبد طرحه ضرورة في أي حال كان حتى في الصلاة، وهو كلام لأنه كلام
(1)
إما بفْ أو تُفْ، أو أع، أو أخ، أو أح أح وسمح فيه. قاله الإمام الحطاب. ونقل عن أبي الحسن الخلاف في النفخ، والتنحنح، والتأوه، والأنين؛ والبصاق بصوت، والاستفهام بالقرآن. انتهى. وقال الشيخ إبراهيم: والتنهد غلبة مغتفر ولغيرها عمدا أو جهلا مبطل وسهوا سجد غير المأموم، وينبغي أن لا يبطل الجشأ إذا كان غلبة كالتنهد، وأما الجشأ من غير غلبة فإن كان عمدا أو جهلا أبطل، وإن كان سهوا فإنه يسجد غير المأموم. وذكر الشيخ زروق في شرح القرطبية أنه: إذا ابتلع الإنسان ما اجتمع من ريقه في الصلاة فإنها تبطل، وكذا الصيام، ويرده قول المصنف: وتعمد بلع ما بين أسنانه، وذكر في الشامل في الصيام: التردد في ذلك. انتهى. ونقل الإمام الحطاب عن الجزولي: ومن تنحنح في صلاته عامدا أعادها؛ لأنه كلام، وإن كان ذلك لضرورة كبلغم نزل من دماغه فلا شيء عليه. انتهى. وفيه عن البرزلي أن: التنحنح والتنخم إن كان لضرورة لا شيء فيه، ولغير ضرورة للتسميع اختلف، هل تبطل أو لا تبطل؟ والصواب أن لا تبطل. وكان شيخنا الإمام يفتي بقول ابن عبد الحكم ببطلانها إذا فعلت عمدا أو جهلا، فسألته عن ذلك، فقال: هو تغليظ على العامة؛ لأنهم يفعلونه كثيرا في جامع الزيتونة عند القنوت في الصبح للتسميع. وبالله تعالى التوفيق. انتهى. وفيه عن الجزولي ما نصه: واختلف في التنحنح في الصلاة لغير ضرورة، هل تبطل به الصلاة أو يكره؟ فإن وقع ونزل أجزأته صلاته قولان: وكذلك التأوخ، والتأوه، والأنين، والبكاء بالصوت. انتهى.
(1)
ليست في الحطاب.
وتسبيح رجل أو امرأة لضرورة، يعني أنه لا سجود في تسبيح رجل ولا امرأة لأجل ضرورة؛ أي حاجة عرضت في الصلاة تعلقت بإصلاحها أم لا، لخبر: (من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله
(1)
)، ومن تشمل الرجل والمرأة لأنها من ألفاظ العموم، وحديث: (فليسبح الرجال وليصفق النساء
(2)
) ضعفه مالك لقادح فيه، ولم يأخذ به، ولهذا قال: ولا يصفقن؛ أي النساء المدلول عليهن "بامرأة" على المشهور. قاله الشيخ عبد الباقي، والشيخ إبراهيم. وعدل المصنف عن الإفراد في قوله: ولا "يصفقن"، إلى الجمع تلميحا لخبر: من نابه شيء في صلاته فليسبح الرجال وليصفق النساء، ولو جعل الضمير مفردا عائدا على امرأة لفاتته نكتة التلميح. وفي شرح الشيخ عبد الباقي (من أبي الحسن في شرح قولها: وضعف مالك أمر التصفيق للنساء بحديث التسبيح. انتهى. وهو: (من نابه شيء في صلاته فليسبح وإنما التصفيق للنساء
(3)
)، ومَن مِن ألفاظ العموم وقوله: وإنما التصفيق للنساء، يحتمل أن يكون للذم، ويحتمل أن يكون للتخصيص، فقدم ظاهر عموم من نابه الخ: على ما يحتمل أن يكون مخصصا، وأن يكون ذما. وانظر لِمَ لَمْ يجعل صوتها بالتسبيح عورة ولعله للضرورة ولخفته: وصفة التصفيق على مقابل المشهور؛ أعني على القول بأن النساء يصفقن؛ أن تضرب المرأة بظهر إصبعين من يمينها على باطن كفها اليسرى. ومقتضى ما مر عن الأجهوري أو صريحه أن تسبيح الرجل والمرأة في الصلاة للضرورة مندوب. والله سبحانه أعلم. ومفهوم قوله: لضرورة، أنه لغيرها لا يجوز، ويبطل إن قصد التفهيم به عبثا وإلا فلا، والظاهر كراهته. انتهى. وقال الأخضري: ومن ناداه أحد أبويه، فقال: سبحان الله كره له وصحت صلاته. انتهى. ومن كتاب ابن سحنون: وإذا سها الإمام، فقال له من خلفه: سبح، قال: إنما القول سبحان الله، وأرجوا أن يكون هذا خفيفا. ومن الواضحة: ولا بأس أن يسبح للحاجة في الصلاة، فإن جعل مكان ذلك: لا حول ولا قوة إلا بالله، أو هلل، أو كبر فلا حرج، وإن قال: سبحانه، فقد أخطأ،
(1)
البخاري، كتاب العمل في الصلاة، رقم الحديث:1218.
(2)
مسند أحمد، ج 5 ص 333.
(3)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:421.
ولا يبلغ به الإعادة. ابن الماجشون: ولا بأس بالمصافحة في الصلاة، قال الأبهري: فإن صفقت المرأة لم تبطل صلاتها، والمختار التسبيح.
وكلام لإصلاحها بعد سلام؛ يعني أنه لا سجود كلام قل عمدا لإصلاح الصلاة بعد سلام إمام من اثنتين أو من غيرهما، كان الكلام من الإمام أو المأموم أو هما إن لم يفهم إلا به، ولم يحصل طول بتراجعه، وسلم معتقدا الكمال ونشأشكه من كلام المأمومين، فإن اختل شرط من هذه الشروط الأربعة بطلت صلاته وصلاتهم، فلو حصل له الشك من قبل نفسه منع سؤالهم قبل السلام أو بعده، فيبادر لفعل ما شك فيه والسجود هنا للسلام لا للكلام. ونص المصنف على عدم السجود في الكلام لإصلاحها بعد السلام مع أنه لإصلاحها قبل السلام كذلك، خلافا للتتائي لأنه من العمد الذي لا يبطلها للرد على من قال: الكلام لإصلاحها بعد السلام لا يجوز، وتبطل الصلاة به وإن حديث خرباق اللقب بذي اليدين لطولهما، منسوخ كما قال أصحاب مالك، أو مخصوص بصدر الإسلام، وحديث ذي اليدين هو ما في الموطإ عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين: فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق ذو اليدين؟ فقال الناس: نعم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين أخريين، ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أوأطول، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع
(1)
). انتهى. قوله: أقصرت بالبناء للمفعول، ورفع الصلاة على النيابة عن الفاعل، أو بضم الصاد للبناء للفاعل، قال النووي: وهذا أكثر وأرجح، قاله سيدي محمد الزرقاني، ونسخ قبل خروج ابن مسعود من الحبشة كما قال أبو حنيفة، ورد بأن راويه أبو هريرة؟ وهو متأخر الإسلام، وما قدمته من أنه لا فرق بين سلامه من اثنتين وغيرهما، هو المشهور كما في الذخيرة، وقال سحنون: خاص بالسلام من اثنتين؛ لأنه الوارد في قصة ذي اليدين
(2)
، وجوابه أنه معلل بإصلاح الصلاة، فيتعدى محل مورده. قاله الشيخ عبد
(1)
الموطأ، ص 91.
(2)
البخاري، كتاب الأذان؛ رقم الحديث:714.
الباقي. وقال الشيخ الخرشي في شرح قول المصنف: "وكلام لإصلاحها" أي: ولا سجود في كلام قليل عمدا لإصلاح الصلاة من مأموم وإمامه بعد السلام وقبله. ابن عرفة: كإمام سلم من اثنتين ولم يفقه التسبيح، فكلمه بعضهم فسأل بقيتهم فصدقوه، أو زاد أو جلس في غير محله ولم يفقه فكلمه بعضهم. ابن حبيب: كمن رأى في ثوب إمامه نجاسة فليدن منه ويخبره كلاما. انتهى. وقال الإمام الحطاب: وقوله: بعد سلامه، هذا بالنسبة إلى الإمام في بعض الصور، ويجوز له الكلام في مسألة الاستخلاف قبل سلامه، وأما المأموم فإنه يكلم الإمام إذا خالف ولو لم يسلم. وقد نص اللخمي على أن الإمام إذا قام إلى ركعة زائدة، وسبح به فلم يفقه، أنه يكلمه أحد المأمومين. انتهى. وظاهر كلام المصنف أنه: يجوز الكلام والسؤال بعد سلامه على يقين سواء حدث له شك بعد السلام أو لم يحدث له، وهذا هو الذي اقتصر عليه صاحب البيان، وهو ظاهر كلام ابن الحاجب، وهو خلاف ما نقل في التوضيح عن اللخمي، والمشاور من أنهما قالا: المشهور والمعروف أنه إذا شك بعد سلامه فلا يبالي، بل يبني على يقينه. قاله الإمام الحطاب. وقال الشيخ الأمير: إن الكلام لإصلاح الصلاة يجب على المأمومين كفاية إن لم يفد التسبيح كمستخلف جهل ما صلى الأول واحتاج للكلام، وقول المصنف:"بعد سلام"؛ يعني به إذا سلم معقتدا الكمال كما قدمته، وإلا بطلت كما يأتي إن شاء الله. واحترز بقل عما إذا كثر فإن الصلاة تبطل حينئذ. وقد علمت أن السجود ثابت في مسألة المصنف هذه للسلام والذي نفاه المصنف إنما هو السجود للكلام لإصلاحها.
ولما أحكمت السنة أن الشاك في صلاته يرجع إلى يقينه لا إلى يقين غيره، وخرج عن ذلك رجوع الإمام إلى مأمومه لحديث ذي اليدين، وبقي ما عداه على الأصل، أشار إلى ذلك بقوله: ورجع إمام فقط؛ يعني أن الإمام إذا أخبر بالتمام فإنه يرجع بقول عدلين يعتمد على خبرهما، بشرط أن يكونا من مأموميه، واحترز بقوله:"فقط" عن الفذ والمأموم، فلا يرجعان لعدلين، ولا لأكثر منهما. إن لم يتيقن؛ يعني أن محل اعتماد الإمام على خبر العدلين من مأموميه إنما هو حيث غلب على ظنه صدقهما، أو تردد فيه بأن لم يتيقن خلاف خبرهما. ومعنى رجوع الإمام للعدلين
أنه لا يأتي بما شك فيه، وموضوع المصنف أن الإمام غير مستنكح، وأما المستنكح فقد تقدم أنه لا يأتي بما شك فيه، وأشعر قوله: إمام أن العدلين المذكورين من مأموميه؛ وهو كذلك كما لابن القاسم في المدونة، وقد أشرت إلى ذلك في أول الحل، قال الشيخ محمد بن الحسن: هذه الطريقة هي التي شهرها ابن بشير والذي اعتمده في التوضيح، وهو طريقة اللخمي، الرجوع لعدلين من مأموميه أو غيرهم، لكن اختار الحطاب حمل المصنف على ما لابن بشير. وقوله:"إن لم يتيقن"، قال عبد الباقي. يشمل ثماني صور؛ أي يرجع لقولهما حيث تردد، أو غلب على ظنه صدقهما مستنكحا أم لا، أخبراه بالتمام أو بالنقص، وسواء في هذه الأربع قبل السلام أو بعده معتقدا الكمال، فيرجع لقولهما في الصور الثمان، فإن لم يرجع بطلت صلاته. ومفهوم الشرط أنه إن تيقن خلاف خبرهما لم يرجع لقولهما في الصور الثمان، بل يعمل على يقينه ولو خالفه غيرهما أيضا من مأموميه حيث لم يفد خبرهما العلم الضروري، فإن عمل على كلامهما وكلام نحوهما بطلت عليه وعليهم. ثم إذا عمل على يقينه ولم يرجع لقولهما: فإن كانا أخبراه بالنقص فعلا معه ما بقي من صلاته، فإذا سلم أتيا بما بقي عليهما أفذاذا أو بإمام، وإن كانا أخبراه بالتمام فكإمام قام لخامسة، فيأتي فيه تفصيله قاله الشيخ عبد الباقي. وفيه عندي تسامح من حيث تقرير المصنف: لا من حيث الفقه، والأظهر عندي أن: يقرر المصنف بأن الإمام غير المستنكح أخبر بالكمال، وأما إن أخبر بالنقص فإنه يرجع لأي مخبر إن لم يتيقن، ويأتي بما شك فيه ولو طرأ له الشك من قبل نفسه، فإن أخبر غير المستنكح بالنقص رجع لعدلين. وقوله:"فقط" هو مذهب المدونة كما عزاه ابن عرفة لها، فإنه قال في رجوع الشاك لعدلين ليسا في صلاته وبنائه على حكم نفسه نقلا اللخمي عن المذهب مع ابن الجلاب عن أشهب، والعتبي عن ابن القاسم معها. انتهى. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني.
إلا لكثرتهم جدا؛ يعني أنه إذا تيقن الإمام خلاف خبر العدلين فإنه لا يرجع لهما، ولا لأكثر منهما وافقهما إلا أن يكثر المخبرون له جدا بحيث يفيد خبرهم العلم الضروري سواء كانوا عدولا أم لا، فإنه يرجع لقولهم مع تيقنه خلاف خبرهم وأولى مع شكه مستنكحا أم لا، أخبروه بالنقص أو بالتمام، وسواء في هذه الصور أخبروه قبل سلامه أو بعده معتقدا الكمال، فإن لم يرجع
له بطلت صلاته وصلاتهم في الصور المذكورة. والمراد بتيقنه مع كثرتهم جدا الجزم، ويجوز في الاستثناء الانقطاع وهو ظاهر؛ لأن الذي قبله عدلان فقط، وهذا أكثر. وأيضا لا فرق بين كون الكثير جدا مأموميه أم لا، وقد مر أن مصليا غير إمام لا يرجع لخبر واحد أو أكثر؛ أي إلا أن يفيد خبرهم العلم الضروري، وقوله:"إلا لكثرتهم جدا"، هو قول محمد بن مسلمة، وقال الرجراجي: إن الأصح المشهور أنه لا يرجع عن يقينه إليهم ولو كثروا إلا أن يخالطه ريب، فيجب عليه الرجوع إلى يقين القوم، وإن أخبر بالنقص وكان غير مستنكح رجع لأي مخبر إن لم يتيقن وإلا فلا إلا لكثرتهم جدا. وإن كان مستنكحا فقد مر أنه يلغي الشك ويبني على الأكثر، فإن تيقن عمل على يقينه إلا لكثرتهم جدا، وقال الشيخ الأمير: ولا يرجع الإمام عن يقينه إلا لمستفيضة كغيره. انتهى. قال في الشرح: تشبيه في الرجوع للمستفيضة، ولا يشترط فيها مأمومية ولا عدالة.
تنبيه: من شك هل صلى؟ فأخبرته زوجته، وهي ثقة، أو رجل عدل أنه قد صلى، لم يرجع إلى قول واحد منهما إلا أن يكون يعتريه كثيرا. روى ذلك ابن نافع عن مالك في المجموعة. قاله الإمام الحطاب.
ولا لحمد عاطس؛ يعني أنه لا سجود على المصلي فيما إذا عطس فحمد الله عز وجل، واللام في قوله:"لحمد عاطس" للتعليل؛ أي ولا سجود لأجل حمد عاطس، والعطاس بخار يطلع بسرعة من الخيشوم تندفع به مضرة، والفعل عطس كضرب ونصر، وله مصدران عطاس وعطس بسكون الطاء، وأما عطش بشين معجمة فبكسر الطاء ومصدره بفتحها.
واعلم أنه يستحب للعاطس في غير الصلاة أن يقول: "الحمد لله" ويقتصر على ذلك، وقيل يزيد: "رب العالمين - على كل حال - حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه. قاله. الشادلي. قال الشيخ أبو محمد: وعلى من سمعه يحمد الله أن يقول له: يرحمك الله. انتهى. قال شارحه: النفراوي: إنما هو في حق العاطس الرجل المسلم، والمرأة المحرم، أو الأجنبية المتجالة، أو ما في معناها مما لا تميل إليه النفوس. وأما الشابة التي تخشى منها الفتنة إذا سمعها الرجل الأجنبي تعطس،
وسمع حمدها فلا يشمتها، كما لا يرد سلامها، وأما الكافر فيقول له: هداك الله، لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لليهود الذين يعطسون بحضرته: (يهديكم الله ويصلح بالكم
(1)
) ولا يجوز لأحد أن يقول للكافر: يرحمك الله؛ لأن الكافر لا يرحم إلا أن يؤمن. انتهى. وفي الشادلي: ويبلغ بالتشميت ثلاثا، فإن زاد عن الثلاث، قال له: إنك مضنوك.
أو مبشر؛ يعني أنه لا سجود على الشخص فيما إذا بشر فحمد الله عز وجل وهو في الصلاة، وقوله:"أو مبشر" بفتح المعجمة، وكذا لا سجود في استرجاع في مصيبة؛ وقوله:"ولا لحمد عاطس أو مبشر"، نفي السجود في هذا يدل على أن الحمد وقع منه سهوا، ولهذا قال: وندب تركه؛ يعني أنه يندب للمصلي ترك ما ذكر من الحمدين؛ أي حمد العطاس، وحمد التبشير. والظاهر الكراهة لقول ابن القاسم: لا يعجبني قوله لخبر يسمعه: (الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
(2)
)، أو على كل حال أو استرجاعه لصيبة، وصلاته مجزئة، وخبر رفاعة: (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطست فقلت الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما تُحب ربَّنا وتَرضى، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، قال ثلاثا: من المتكلم في الصلاة؟ فلما لم يتكلم أحد، قلت في الثالثة: أنا يا رسول الله، فقال: والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكا أيهم يصعد بها
(3)
)، يقتضي عدم تركه. قاله الشيخ إبراهيم وسمع القرينان: من قال عند سماع قراءة إمامه الإخلاص: الله كذلك، لم يعد، ومثله: صدق الله العظيم، وكذا: الله رب العالمين، عند سماع آخر سورة تبارك، وعند: أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى، بلى إن الله قادر، وعند قوله إياك نستعين، استعنا بالله، فالأولى ترك جميع ذلك ولو في نافلة. وفي الشادلي أن: المصلي إذا عطس يحمد الله في نفسه.
ولا لجائز؛ يعني أنه لا سجود في أمر يجوز ارتكابه في الصلاة حيث وقع سهوا، واعترض بأنه يقتضي أن ما قبله ليس من الجائز مع أن بحضه جائز، وأجيب بأن المراد هنا نوع خاص من
(1)
أبو داود، كتاب الأدب، رقم الحديث:5038. الترمذي، كتاب الأدب، رقم الحديث: 2739.
(2)
ابن ماجه، كتاب الأدب، رقم الحديث:3803.
(3)
الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:404. النسائي، كتاب الافتتاح، رقم الحديث: 931.
الجائز، وهو الجائز لنفسه لا لإصلاحها، ولا ما يشملهما بخلاف ما سبق فإنه جائز لإصلاحها، كالفتح على الإمام والتسبيح، وبأنه أراد به هنا ما استوى طرفاه، وما قبله مطلوب، قال عبد الباقي: لكن يرد على هذا، قتل عقرب تريده فإنه واجب، كما نقل ابن عرفة عن ابن رشد، فالأولى الجواب الأول. ويراد بالجائز المأذون فيه، فيشمل الواجب كقتل الحية، والإشارة لرد السلام. انتهى كلام الشيخ عبد الباقي.
ونقل في التوضيح: الجواز في قتل العقرب التي تريده عن ابن رشد، خلاف ما عزا الزرقاني له عن ابن عرفة، ومَثَّل المصنف للجائز بأربعة أمثلة، أحدها: قوله: كإنصات؛ يعني أنه لا سجود على المصلي فيما إذا حصل منه إنصات أي استماع بشرط أن يكون هذا الإنصات قد قل، وقوله: لمخبر بكسر الباء اسم فاعل فيشمل ما إذا كان الإخبار للمصلي الذي أنصت، أو لغيره. وقوله:"لمخبر"، متعلق بإنصات؛ أي لا سجود في إنصات؛ أي استماع لخبر قل ذلك الاستماع. ومفهوم قل أنه إن توسط سهوا سجد، وعمدا بطلت، والكثير يبطل مطلقا. وهو ما يخيل للناظر الإعراض عن الصلاة بإفساد نظامها ومنع اتصالها. نقله الشيخ محمد بن الحسن، عن ابن شأس، عند قول الشيخ عبد الباقي هنا: والطول والتوسط والقلة بالعرف كذا ينبغي. انتهى. قائلا: كأنه لم يقف على نص، والذي لابن شأس: والكثير ما يخيل للناظر الخ، ثانيها: قوله: وترويح رجليه؛ يعني أنه لا سجود في ترويح الرجلين، فإن فسر بالاعتماد على رجل مع عدم رفع الأخرى -كما فسره به بعضهم- لم يحتج لتقييد، وإن فسر بالاعتماد على رجل مع رفع أخرى -كما فسره به الشارح- احتاج إلى التقييد بأمر اقتضاه، كطول قيام وإلا كره إلا أن يكثر فيجري على الأفعال الكثيرة، وكره التروح بمروحة أو غيرها في فرض لا نفل، ويكره الإتيان إلى المسجد بالمراوح، والتروح بها فيه. قاله الشيخ إبراهيم
(1)
). وغيره. وقوله: والتروح بها فيه، ظاهره كراهته، وإن لم يأت هو بها بناء على أنه مستقل لا من تمام ما قبله. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الإمام
(1)
في عبد الباقي ج 1 ص 246 الشيخ سالم.
الحطاب بعد جلب أنقال ما نصه. فتحصل من هذا أن التروح في الفريضة مكروه، وسواء كان بكم أو بمروحة، وأما في النافلة فخففه ابن القاسم في العتبية، وكرهه في الواضحة. وظاهر كلام الشيخ ابن أبي زيد أن كلام ابن القاسم تفسير لقول مالك في العتبية، وعلى ذلك اقتصر في الطراز. وظاهر كلام ابن رشد: أن كلام ابن القاسم خلاف لقول مالك. انتهى. وما أشار إليه عن مالك هو قول العتبية: وسئل مالك عن التروح في الصلاة من الحر، فقال: الصواب أن لا يفعل، قال ابن القاسم: يريد في المكتوبة، ولا بأس به في النافلة إذا غلب الحر. ابن رشد: رأى مالك ترك التروح والصبر على شدة الحر ومجاهدة النفس على ذلك أصوب من التروح فيها، لقول الله عز وجل:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، واستخف ابن القاسم ذلك في النافلة؛ إذ ليست بواجبة. انتهى. وفي اللباب: من المكروهات التروح بكمه أو غيره، وفي النوادر عن الواضحة: ويكره التروح بمروحة أو بكمه أو بغير ذلك في فرض أو نفل أو يلقي الرداء عن منكبيه في الحر، وقال في المختصر: لا بأس أن يلقي الرداء عن منكبيه للحر إذا كان جالسا في النافلة، ولا يفعل ذلك في قيامه. وقال عن الواضحة: ولا بأس أن يمسح؛ أي المصلي العرق. انتهى. ثالثها: قوله: وقتل عقرب تريده؛ يعني أنه لا سجود على المصلي في قتل عقرب تريده وأحرى الحية، وقتلهما حينئذ واجب. قال ابن رشد: إن وجب فعله كقتل حية أرادته لم يسجد له، وقول المصنف:"تريده"، مفهومه أنها إذا لم ترده كره له تعمد قتلها، وإن تعمده ساهيا عن كونه في الصلاة ففي سجوده قولان، وقال الشيخ عبد الباقي: ولا تبطل صلاته لانحطاطه
(1)
بأخذ حجر يرميها به في قسمي الجائز والمكروه، بخلاف انحطاطه لأخذ حجر يرمي به طائرا، فتبطل، فإن أخذه وهو جالس، أو قوسا رمى به طيرا أي ساهيا عن كونه في الصلاة، فلا تبطل. انظر التتائي. وظاهره عدم البطلان ولو تكرر فعله؛ أي حيث لم يكثر، ثم قال عبد الباقي: ويبحث في مسألة القوس بأن الرامي يعتقد أنه في غير الصلاة، وما كان كذلك فهو من الأفعال الكثيرة. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: قول عبد الباقي: ولا تبطل بانحطاطه الخ، فيه نظر، والذي يظهر من
(1)
في عبد الباقي ج 1 ص 246 بانحطاطه لأخذ حجر.
نقل الحطاب أن الانحطاط من قيام لأجل حجر أو قوس من الكثير البطل للصلاة مطلقا، سواء كان لقتل عقرب لم ترده أو طائر أو صيد، فالتفريق في ذلك غير ظاهر.
واعلم أن الإرادة ثابتة لكل حيوان عند العقلاء. وعرفوا الحيوان بأنه الجسم النامي الحاس التحرك بالإرادة، ومن سقطت عمامته وهو قائم وطأطأ لأخذها فينبغي أن تبطل صلاته، إلا أن يخشى ضررا بتركها، ولا بأس بإصلاح السراج في الصلاة أي بغير فم. قاله ابن قداح. ويشمل ما إذا طأطأ له، ويكره قلب منكاب قريب منه في جلوسه، فإن كان قائما وطأطأ له فالظاهر البطلان. قاله الحطاب. قال عبد الباقي: وينبغي تقييد البطلان في قلبه بما إذا لم يحتج له لمعرفة وقت، وسمع أبو زيد: من رمى طيرا في صلاته أساء ولا تفسد صلاته إن لم يطل. ابن رشد: إن كان جالسا والحجر أو القوس بجنبه ولو تناولهما قائما بطلت، ويكره قتل ما سوى الحية والعقرب من طير أو صيد أو ذرة أو نحلة أو بعوضة بلا خلاف، ولا تبطل بشيء مما ذكر إلا بما فيه شغل كثير. قاله الإمام الحطاب، وغيره. ابن عرفة: ابن رشد: إن وجب فعله لقتل حية أرادته لم يسجد له، وإن كره قتله ولم ترده في سجوده قولان، وفي العارضة: إن كانت دانية وتمكن منها بعمل يسير قتلها، وإن خاف منها وكانت بعيدة وعمل كثيرا، قتلها واستأنف الصلاة. قاله الإمام الحطاب. وقال: وقوله: "وقتل عقرب"، وأحرى الحية، فإن لم يُرِيدَاهُ كان مكروها، ونقله في التوضيح عن المقدمات: ويتمادى على صلاته في الصورتين إلا أن يكون شغل كثير. انتهى. وفي الحطاب: إن أخذ القوس ورمى به الصيد أو تناول الحجر من الأرض فرمى به الطير لم تفسد صلاته إذا لم يطل ذلك، يريد إذا كان جالسا والحجر والقوس إلى جانبه. فتناولهما ورمى بهما، وأما لو كان قائما فتناول الحجر والقوس من الأرض ورمى به لكان مبطلا. انتهى. رابعها: قوله: وإشارة لسلام؛ يعني أنه لا سجود في إشارة بيد أو رأس لسلام ردا وابتداء، وأما رده باللفظ عمدا وجهلا فمبطل على الصواب، وسهوا سجد. ومن قال لعاطس: يرحمك الله، بطلت عند القرطبي وسند، خلافا للبرزلي، وقول البرزلي ضعيف، وقال بعض: قول المصنف: "لسلام"؛ أي لرده لا ابتدائه فإنه مكروه، خلافا لقول ابن الحاجب: يجوز، فإن ابن هارون قال: لم أر ذلك لغيره
وتركه عندي صواب، والكلام هنا في الجائز. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: الصواب التقرير الأول لا في الحطاب عن سند أنه لا فرق بين الرد والابتداء. انتهى. وقوله: وإشارة لسلام. اعلم أنه يجب الرد بالإشارة للسلام كما تقدم التنبيه عليه عند قوله: ولا لجائز؛ إذ المراد بالجائز المأذون فيه. فيشمل الواجب كقتل العقرب والحية والإشارة لرد السلام، وقد صرح ابن رشد بوجوب الرد. (وقد سلم الأنصار على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو في الصلاة فرد عليهم إشارة بيده
(1)
)، وقال عبد الله بن عمر: إذا سلم أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم وليشر بيده: قاله لرجل سلم عليه في الصلاة فرد عليه الرجل كلاما. نقله الزرقاني على الموطإ، وقال؛ أي الزرقاني: ورده؛ أي السلام بالكلام مفسد للصلاة عند جمهور العلماء كالأئمة الأربعة، وقال قتادة والحسن وطائفة من التابعين: يجوز رده كلاما. انتهى.
أو حاجة؛ يعني أنه لا سجود في إشارة لأجل طلب حاجة أو ردها وهذا جائز، وقيدها ابن القاسم بالخفيفة: (وقد فعله صلى الله عليه وسلم بيده
(2)
)، وروي (بإصبعه
(3)
). وقوله: "وإشارة لسلام أو حاجة": وقيل: يكره للمصلي الإشارة لسلام أو حاجة، وفصل ابن الماجشون، فقال: تكره الإشارة للحاجة لا لرد السلام، قال: والمذهب أظهر، ولا فرق في الإشارة بين الجواب والابتداء. قاله الإمام الحطاب. وقد مر هذا، وقال ابن وهب: ولا بأس أن يشير الرجل بلا ونعم في الصلاة. قال القاضي: هذا مثل ما في المدونة، والأصل في ذلك ما روي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى قباء، فسمعت به الأنصار فجاءوا فسلموا عليه، وهو يصلي، فرد عليهم إشارة بيده
(4)
)، فكان مالك لا يرى به بأسا أن يرد الرجل إلى الرجل جوابا بالإشارة في الصلاة، وأن يرد إشارة على من سلم عليه، ولم يكره شيئا من ذلك، وقد روى عنه زياد أنه كره أن يسلم على المصلي، وأن يرد المصلي على من سلم عليه إشارة برأس أو بيد أو بشيء، والحجة لهذه الرواية
(1)
ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، رقم الحديث:1017.
(2)
النسائي، كتاب السهو، رقم الحديث:1187.
(3)
النسائي، كتاب السهو، رقم الحديث:1186. أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 925. الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:367.
(4)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:927. ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، رقم الحديث: 1017.
(أن ابن مسعود رضي الله عنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فلم يرد عليه
(1)
). والأظهر من القولين عند تعارض الأثرين وجوب رد السلام، إشارة لقول الله عز وجل:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ، ومن كتاب ابن سحنون: وإذا سها الإمام فقال له من خلفه: شح سبح، قال: إنما القول سبحان الله، وأرجوا أن يكون هذا خفيفا. ومن الواضحة: ولا بأس أن يسبح للحاجة في الصلاة، فإن جعل مكان ذلك لا حول ولا قوة إلا بالله، أو هلل أو كبر فلا حرج، وإن قال: سبحانه فقد أخطأ، ولا يبلغ به الإعادة. ابن الماجشون: ولا بأس بالمصافحة في الصلاة. قاله الإمام الحطاب. ابن العربي: نزلت نازلة ببغداد في أبكم أشار في صلاته، فقال بعض شيوخنا: بطلت صلاته؛ لأن إشارة الأبكم ككلامه، وقال بعضهم: لا تبطل لأن الإشارة في الصلاة جائزة، وقال الشيخ زروق في شرح الإرشاد: وفي إلحاق إشارة الأخرس بالكلام، ثالثها: إن قصد الكلام. انتهى. ولا فرق في الإشارة بين أن تكون بالرأس أو باليد، قال في المدونة: ولا يكره السلام على المصلي في فرض أو نافلة، وليرد مشيرا برأسه أو بيده، وفهم من قول المدونة: وليرد؛ أن الرد واجب. لا على مشمت؛ يعني أنه لا يرد مصل عاطس بالإشارة على من شمته؛ لأنه إن لم يحمد لم يستحق ردا، وكذا إن حمد فقد فعل مكروها منهيا عنه، والمعدوم شرعا كالمعدوم حسا، ويكره الرد إشارة على مشمت ولو عطس قبل الإحرام، وحمد جهرا ثم شمته بعد ما أحرم؛ لأن الدعاء لا يحصل بالإشارة، وهو من الشمت؛ وهو الدعاء، وكل داع مشمت. والظاهر أن "لا"، في قوله:"لا على مشمت"، عاطفة محذوفا تقديره: لا رد بإشارة على مشمت، والمعطوف عليه محذوف، والتقدير: ويجوز ما ذكر لا رد بإشارة على مشمت فلا يجوز؛ أي يكره. والله سبحانه أعلم. فإن قلت التشميت فرع سماع الحمد، والفرض أنه لا يحمد، فكيف يشمت؟ فالجواب أن ذلك يمكن فرضه إذا عطس وحمد جهرا قبل الإحرام، ثم أحرم فشمته فإنه لا يرد عليه حينئذ -كما مر قريبا-. والتشميت: قول من سمع العاطس يقول،
(1)
البخاري، كتاب العمل في الصلاة، رقم الحديث:1199. ولفظه: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا. مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:538.
الحمد لله رب العالمين: يرحمك الله، وفي التشميت أربعة أقوال، قيل: فرض عين، وقيل: فرض كفاية، وقيل: سنة، وقيل: ندب. والفرق بين الإشارة لابتداء السلام وهو غير واجب اتفاقا مع أنه يشير له في الصلاة -كما مر- ورد التشميت مختلف في وجوبه وندبه، وتكره الإشارة له، لأن التشميت المقصود منه الدعاء، وهو لا يحصل بالإشارة، والسلام المقصود منه الأمان وهو يحصل بالإشارة. قاله غير واحد. وممن قاله، عبد الباقي: قال الرهوني: قول الزرقاني: ورد التشميت مختلف في وجوبه وندبه الخ، هو كلام التوضيح، ولم أر من ذكر التصريح بحكم رد العاطس على من شمته غير كلام التوضيح هذا، ولكن المصنف مطلع ثقة. وظاهر التلقين أنه سنة كحمد العاطس وتشميته، ونصه: ومن سنة العاطس أن يحمد الله، وأن يشمته من سمعه؛ بأن يقول: يرحمك الله، وأن يرد عليه العاطس بأحد لفظين؛ بأن يقول: يغفر الله لي ولكم، أو يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم. انتهى. والله سبحانه أعلم.
كأنين لوجع؛ يعني أن الأنين في الصلاة لأجل الوجع، لا شيء فيه؛ فهو تشبيه بالجائز في أنه لا شيء فيه، وليس من أفراد الجائز؛ لأن الفعل الضروري لا يتصف بالحكم الشرعي، وظاهر المصنف عدم البطلان ولو كان من الأصوات الملحقة بالكلام؛ لأنه محل ضرورة.
وبكاء تخشع؛ يعني أن بكاء التخشع لا شيء على الآتي به؛ وقوله: "وبكاء" عطف على قوله: "كأنين"، فهو تشبيه بالجائز في أنه لا شيء فيه، وليس من أفراد الجائز لأن الفعل الضروري لا يتصف بالحكم الشرعي. وبما قررت علم أن المراد بالتخشع الخشوع؛ أي البكاء لخوف الله عز وجل والدار الآخرة، ويقيد بالغلبة، والخشوع، وليس المراد به حقيقة التخشع الذي هو تكلف الخشوع؛ فإنه يكره إظهار التخشع. وفي الحطاب عن سند: وقد اتفق الناس في البكاء للمصيبة والوجع، أنه يقطع الصلاة، ولو نهق ونعق من غير حركة شفتيه ولسانه بطلت، ولو حرك الإنسان شفتيه وشدقيه من غير كلام فلا شيء عليه، والنفخ في الصلاة يبطل عمده كما يأتي. وقد اجتمعت الأمة على أن النفخ لا ينبغي أن يفعل، وإنما اختلف الناس هل هو محرم أو مكروه؟ ولا ينبغي للإمام أن يكثر من البكاء لأنه يشوش على المصلين. وإلا بأن أنَّ لا لوجع، أو بكى بصوت لغير خشوع كمصيبة أو وجع. فبكاؤه كالكلام يفرق بين سهوه وعمده، وقليله وكثيره.
واعلم أن أقسام البكاء ثمانية؛ لأنه: إما بصوت أو غيره، وفي كل إما اختيارا، أو غلبة، وفي كل إما لتخشع، أو مصيبة؛ فما لا صوت فيه لا يبطل اختيارا أو غلبة، تخشعا أم لا. وينبغي إلا أن يكثر الاختياري فإن كثر ضر، وما بصوت يبطل إن كان اختيارا مطلقا، وإلا أبطل إن كان لمصيبة لا لتخشع، ظاهره ولو كثر، والتنهد غلبة مغتفر ولغيرها عمدا أو جهلا مبطل، وسهوا سجد غير المأموم، ولو حرك شدقيه وشفتيه من غير كلام أو تنفس أو نفخ من الأنف عند امتخاطه لم تبطل، ولو نهق أو نعق من غير حركة لسانه وشفتيه بطلت. كما مر قريبا.
ولما قدم أنه يجوز للمصلي رد السلام إشارة، شبه به أنه يجوز لغير المصلي السلام على المصلي ابتداء، فقال: كسلام على مفترض؛ يعني أنه يجوز السلام أي ابتداء به على المصلي فرضا، وأولى نافلة. قاله الإمام في المدونة، ودليله (أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى قباء فسمعت به الأنصار فجاءوا فسلموا عليه وهو يصلي فرد عليهم إشارة بيده
(1)
)، وقد روى زياد عن مالك أنه كره أن يسلم على المصلي وأن يرد المصلي على من سلم عليه إشارة برأس أو بيد أو بشيء، وقد تقدم دليله عند قوله:"وإشارة لسلام أو حاجة"، فراجعه إن شئت. وقوله:"كسلام على مفترض"، تشبيه في الجواز فقط لا في الجواز ونفي السجود؛ إذ الفرض أن المسلم ليس في صلاة، ولذا كان المناسب ما سلكه المصنف من ترك العاطف كما أشار له ابن غازي. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ إبراهيم: وهذه المسألة أجنبية. انتهى. وعطف على ما لا سجود فيه، قوله: ولا لتبسم؛ يعني أنه لا سجود لأجل تبسم حصل في الصلاة سهوا أو عمدا، لكن يكره عمده إن قل فيهما، وإن كثر أبطل ولو سهوا، فإن توسط سجد في سهوه؛ وهوأول الضحك وانشراح الوجه وإظهار الفرح. وقوله:"ولا لتبسم"، وعن مالك: يسجد، وهل قبلُ وهو لأشهب، أو بعدُ وهو لسحنون؟ قولان. الأقفهسي: الضحك على وجهين بغير صوت؛ وهو التبسم، وبصوت؛ وهو المراد بقول الرسالة: ومن ضحك في الصلاة أعادها، ولم يعد الوضوء. وفي النوادر: قال أصبغ لا شيء في
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:927. ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، رقم الحديث: 1017.
التبسم إلا الفاحش منه شبيه بالضحك فأحب إلي أن يعيد في عمده ويسجد في سهوه. انتهى. قاله الحطاب. وفيه: وقال في الطراز: فإن أشكل عليه تبسمه، قال أصبغ: إلى آخر ما مر، ثم قال: وهذا مذهب أصبغ في الضحك، وعلى مذهب الكتاب يعمل بالأحوط متى أشكل. انتهى. وقوله: ولا لتبسم ما ذكره المصنف من عدم السجود رواه ابن القاسم عن مالك، وقد مر عن مالك أنه: يسجد: وروى عنه ابن عبد الحكم أنه: يسجد بعد السلام، واستحسنه اللخمي. وقاله سحنون.
وفرقعة أصابع؛ يعني أن المصلي لا سجود عليه فيما إذا فرقع أصابعه سهوا، ويكره عمد فرقعة الأصابع. كما مر. والتفات بلا حاجة؛ يعني أنه لا سجود على المصلي فيما إذا التفت لغير حاجة سهواة ويكره عمد الالتفات بلا حاجة، ويجوز الالتفات للحاجة.
وتعمد بلع ما بين أسنانه؛ يعني أنه لا سجود على المصلي فيما إذا تعمد بلع ما بين أسنانه، وإن كان ذلك مكروها فلا تبطل صلاته ليسارته، ومثل الصلاة الصوم، ولو رفع حبة من الأرض وابتلعها فعليه القضاء، والكفارة في العمد والقضاء فقط في السهو على الراجح، خلافا لقول ابن يونس: ينبغي لا قضاء عليه، والجهل كالسهو. وقوله:"وتعمد بلع ما بين أسنانه"، قال الشيخ عبد الباقي: ومثل بلع ما بين أسنانه مضغ ما بينهما، وبلع تينة كاملة أو لقمة كان كل منهما بفيه قبل الصلاة، وكذا بلع حبة رفعها من الأرض، فلا يضر في الصلاة على ما صوبه ابن ناجي. وفي الناصر أنه: يضر. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: المضغ عمل كثير بخلاف البلع، وكذا بلع التينة واللقمة فالظاهر أنه من العمل الكثير. انتهى. وفي الحطاب: ابن ناجي: وظاهره، يعني كلام المدونة أنه لو رفع حبة من الأرض وابتلعها فإنه يقطع: والصواب لا شيء عليه ليسارة ذلك، ولعله إنما ذكر بين أسنانه؛ لأنه الأعم الأغلب. انتهى. وفي مسائل ابن قداح: من ابتلع نخامة في الصلاة وهو قادر على طرحها بطلت صلاته، وصومه إن كان صائما. انتهى. وتقدم عن اللخمي أن: في ذلك قولين قاله الحطاب. وقال الشيخ الأمير عاطفا على ما لا سجود فيه: ولا لمكروه كبلع ما بين أسنانه مطلقا؛ أي ولو بمضغ كيسير غيره بلا مضغ، واغتفروا ما بين الأسنان في الصوم كالريق، ولا ينبغي. وقال الإمام مالك في المدونة: ومن كان بين أسنانه
طعام كفلقة فابتلعه في صلاته لم يقطع ذلك صلاته. أبو الحسن: لأن فلقة الحبة ليست بأكل له بال تبطل به الصلاة، ألا ترى أنه إذا ابتلعها في الصوم لا يفطر على ما في الكتاب؟ فإذا كان الصوم لا يبطل بها فأحرى الصلاة. انتهى. وقوله:"تعمد بلع ما بين أسنانه"، ينبغي تقييده باليسير، فإن كثر ولو سهوا أبطل، وإن توسط سهوا وعمدا فالظاهر البطلان.
وحك جسده؛ يعني أنه لا سجود على المصلي فيما إذا حك جسده، وكره لغير حاجة لا لها ويقيد عدم السجود في هذا باليسير، فإن توسط سهوا سجد، وعمدا أبطل. كما للأمير. وإن كثر مطلقا أبطل.
وذكر قصد التفيهم به؛ يعني أنه لا سجود على المصلي فيما إذا قال في صلاته ذكرا، قصد التفهيم به؛ أي قصد أن يفهم به شخصا، ولا إشكال في صحة الصلاة، والمراد بالذكر كل مشروع جنسه في الصلاة قرآنا أو تسبيحا أو غيرهما، ومن لازم نفي السجود الصحة كما أشرت إليه، ومحل الصحة حيث كان الذكر الذي فهَّم به مقولا. بمحله؛ أي الذكر كاستيذان شخص وهو يقرأ:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ، فرفع صوته بقوله:{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} ، لقصد الإذن، أو رفعه بتكبير أو تحميد أو غيرهما للإعلام بأنه في صلاة، أو ليوقف المستأذن أو قصد أمرا غيره كأخذه كتابا وهو يقرأ:{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} ، فجهر بقوله:{يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} لينبه على مراده. قال الشيخ عبد الباقي: ومن محله أيضا ما إذا شرع عقب الفاتحة في: {ادْخُلُوهَا} ، و:{يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} عند حدوث السبب آخر الفاتحة. كما هو الظاهر. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: ابن عرفة: لو نبه غيره بقرآن كـ: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} ، و {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}. المازري: إن أتى به ففي بطلانها قولا بعض البغداديين وابن حبيب، ولو وافق فرفع صوته لم تبطل، وخَرَّجَ اللخمي الأول على بطلانها بالفتح. ابن رشد: وفي إبطالها برفع صوت ذكرا أو قرآنا لإنباء غيره قولا ابن القاسم وأشهب، بخلاف رفع صوت بالتكبير في الجوامع؛ لأنه لإصلاحها. انتهى. وعلى الطريقة الأولى جرى المصنف، وبه تعلم أن قول الزرقاني: ومن محله أيضا إذا شرع عقب الفاتحة الخ، غير
ظاهر؛ لأنه أتى به قصدا تأمل، لكن في المواق عن المازري ما يفيد أنه من محله، حيث قال: لو أفرده على وجه التلاوة، وقصد به التنبيه لم يبعد أن يقال بصحة صلاته. انتهى. قال الشيخ عبد الباقي بعد كلامه السابق: فيصدق محله: يعني من قوله: "قصد التفهيم به" بمحله بشيئين أن يكون عقب الفاتحة بلا فاصل، أو متلبسا بالآية التي قبل:{ادْخُلُوهَا} ، وقبل:{يَايَحْيَى} ، ويصدق أيضا بتلبسه بقراءة أول:{ادْخُلُوهَا} ، وقبل: بـ {يَايَحْيَى} ، فيجهر بباقيها لقصد إفهام. والمراد بمحله في غير القرآن كالتسبيح في الصلاة كلها لحاجة لا لغيرها.
وإلا؛ بأن قصد التفهيم به بغير محله، كما لو كان يقرأ:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ} ، فقطعها وقرأ {وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} ، وكما لو كان يقرأ في آية وقطعها، وابتدأ:{يَايَحْيَى} بطلت؛ صلاته على الأصح في غير التسبيح والحوقلة والهيللة، وقوله:"بطلت"؛ أي عند ابن القاسم خلافا لابن حبيب، فإن لم يقصد التفهيم به لم تبطل تسبيحا أو غيره، وإن فهم به عبثا بطلت في التسبيح وغيره. وانظر لو كان في السورة التي بعد الفاتحة فختمها، ثم قرأ:{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} . مثلا لقصد التفهيم، والظاهر أنه إن قصد قراءة ما ذكر قبل الاستئذان لم تبطل وإلا بطلت. وانظر أيضا إذا حصل الاستيذان بعد ما قرأ:{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} ، فكررها لقصد الإفهام. والظاهر أنه إن قرأ بعدها شيئا ثم رجع لها كان مما هو بغير محله، وإلا فهو مما هو بمحله. قاله الشيخ عبد الباقي. وشمل قوله:"ذكر حمد المبشَّر" فهو مثل: {ادْخُلُوهَا} ، فإن كان بمحله فلا شيء عليه وإلا بطلت. نقله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمد بن الحسن: مثل ما ذكره أحمد في التوضيح، والظاهر ضبط البشر بالكسر اسم فاعل، بمعنى أن المصلي أراد أن يبشر غيره، وبه يناسب الموضوع، والمختار في لفظ التسبيح: سبحان الله لخبر البخاري
(1)
)، فإن قال: سُبِّح سُبِّح، أرجوا أن يكون خفيفا، وإنما القول؛ أي المستحب: سبحان الله. ابن حبيب: فإن قال: سبحانه، فقد أخطأ، ولا أبلغ به الإعادة وقوله:"بطلت"؛ أي لما فيه من معنى المكالمة.
(1)
البخاري، كتاب العمل في الصلاة، رقم الحديث: 1218
…
بلفظ: من نابه سيء في صلاته فليقل سبحان الله.
كفتح على من ليس معه في صلاة، يعني أن المصلي إذا فتح على من ليس معه في صلاة؛ أي لقنه القراءة، فإن صلاته تبطل. وقوله: من ليس معه في صلاة، بأن كان في صلاة أخرى، أو قارئا خارج الصلاة. ويفهم من المصنف صحة صلاة مأموم فتح على مأموم آخر معه في صلاته، لكنه مخالف لمذهب المدونة، فإن مذهبها بطلان صلاته، لقولها: لا يفتح أحد على من ليس معه في الصلاة، ولا مصل على مصل آخر، فإن فتح أعاد، وما في التتائي مما يخالف هذا غير معول عليه. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله: على الأصح، راجع للفرعين، أعني قوله:"وإلا بطلت"، وقوله: كفتح على من ليس معه في صلاة، ومقابل الأصح في الأول. ابن حبيب: كما تقدم التنبيه عليه، ومقابله في الثاني قول أشهب. لا تبطل: وأخذ به ابن حبيب. والأصح في الأول لابن القاسم، وفي الثاني لابن القاسم وسحنون. ابن رشد: في إبطالها برفع صوت ذكر أو قرآن لإنباء غيره قولا ابن القاسم وأشهب، بخلاف رفع صوته بالتكبير في الجوامع؛ لأنه لإصلاحها. قلت: لابن حارث عن عباس بن مروان: رفعهم مبطل، ورده لقمان بعدم إنكاره علماء الأمصار بمكة. انتهى. ورفع الصوت المبلغ بمكة موجود إلى الآن يرفعه رفعا بليغا.
وبطلت بقهقهة؛ يعني أن الصلاة تبطل بالقهقهة، وهي الضحك بصوت عمدا أو غلبة أو نسيانا لكونه في الصلاة، ولم يكن سهوها كسهو الكلام لأنه شرع جنسه فيها كالكلام لإصلاحها بخلاف القهقهة، وظاهره ولو سرورا بما أعد الله لأوليائه، وصوب ابن ناجي حينئذ الصحة كالبكاء خوف عقاب الله، وتصويبه ضعيف، وقياسه فاسد؛ لأن البكاء خوف عقاب الله ليس بينه وبين الصلاة منافاة، وما تقدم من تعميم البطلان في الضحك هو رواية ابن القاسم عن مالك، ونقله في البيان عن ابن القاسم. وقال سحنون وأشهب وأصبغ وابن المواز: إن نسيان القهقهة كنسيان الكلام. ابن ناجي: وكل من لقيته لا يرتضي هذا القول للزوم الضحك عدم الوقار مطلقا. انتهى. قاله الإمام الحطاب: وفيه: وإن قهقه المصلي وحده قطع. ابن ناجي: زاد في الأم، ويعيد الإقامة. ظاهره وإن كان ناسيا وهو كذلك على المشهور، وقيل: تصح ويسجد بعد السلام كالكلام، واتفق على إبطالها في العمد.
واعلم أن القهقهة في غير الصلاة مكروهة عند الفقهاء، وحرام عند الصوفية قاله الأقفهسي. ولعل المراد بالحرمة الكراهة الشديدة، أو أنهم نظروا فيها لمعنى يوجب التحريم عند الفقهاء لو اطلعوا عليه؛ إذ الصوفية لا يخالفون الشرع، ومن ذلك قول بعض الصوفية بجواز سماع بعض آلات اللهو المحرمة عند الفقهاء لسماعه منها ذكر الله دون اللهو، فالجواز قاصر على من هو بتلك الصفة، ومن ذلك إتلاف الشبلي ما يلبسه بنحو حرقه، مجيبا من قال له: جاء النهي عن إضاعة المال؛ بأن إضاعته لمداواة مرض بدني غير منهي عنها بل مطلوبة، فكيف بإضاعته لمداواة مرض ديني؟ وأنا أفعله لذلك. قاله الشيخ عبد الباقي.
وتمادي المأموم؛ يعني أن المأموم إذا قهقه فإنه تبطل صلاته ويتمادى عليها وجوبا حتى يتمها، وأما الفذ والإمام فإنهما يقطعان في القهقهة مطلقا عمدا، أو غلبة أو نسيانا؛ فتلك ثلاث صور. وقوله: إن لم يقدر على الترك شرط في تمادي المأموم؛ يعني أن تمادي المأموم إنما هو في اثنتين من الصور المذكورة في الفذ والإمام، وهما ما إذا كان ضحكه عن غلبة أو نسيان، ويقطع في الأربع الباقية. وإنما تمادى المأموم في الصورتين المذكورتين مراعاة لقول سحنون بصحة الصلاة، وإذا تمادى المأموم فإنه يعيد وجوبا بعد إتمام صلاته التي تمادى فيها لبطلانها. وقد علمت أن محل كلام المصنف إن لم يكن ضحك ابتداء عمدا وإلا لم يتماد في الغلبة بعد، إن لم يقدر على الترك بعد وكلام المصنف مقيد بغير الجمعة، وينبغي تقييده أيضا، والناسي بما إذا لم يخف بتماديه خروج الوقت، وإلا قطع، وبما إذا لم يلزم على بقائه ضحك المأمومين أو بعضهم وإلا قطع، ويجري هنا ما يأتي في جمع الظهرين لمن تحصل له القهقهة في جميع وقت إحدى المشتركتين الاختياري قدم أو أخر، فإن كان يقهقه بعد ما يسع صلاة الظهر والعصر بعد الزوال إلى الغروب قدم العصر، وإن كان يقهقه إلى أن يبقى للغروب ما يسعهما أخرهما، وكذا يجري بقية ما يجري في الجمع هنا. ومفهوم قوله:"وتمادى المأموم" أن الفذ يقطع مطلقا -كما مر- وكذا الإمام -كما مر- أيضا، وتبطل على مأموميه أيضا إن تعمد لا سهوا أو غلبة فعليه دونهم، ولابن القاسم في العتبية ونحوه في الموازية أن: الإمام يستخلف في الغلبة والسهو، ويرجع مأموما ويعيد أبدا، وهل يعيد مأمومه أم لا؟ واستظهره ابن رشد قولان، وقوله: وهل يعيد مأمومه، قال الشيخ عبد
الباقي: لعل إعادتهم في الوقت. وانظر لو كان كلما شرع في فرض ضحك، هل تسقط عنه؟ كمن كلما صام عطش عطشا يوجب الفطر، أو يصلي على حالته، كمن كلما دخل في الصلاة أحدث؟ وهو الظاهر، واقتضى تمادي المأموم أن وضوءه لا ينتقض وهو مذهب الأكثر، خلافا لأبي حنيفة متمسكا بأن أعمى وقع في حفرة في المسجد فقهقه بعض المصلين، (فأمره صلى الله عليه وسلم بإعادة وضوئه وصلاته
(1)
). وأجيب بضعفه، وحجة المذهب خبر الدارقطني؛ وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (القهقهة تنقض الصلاة ولا تنقض الوضوء
(2)
). قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ محمد بن الحسن: حاصل ما قرر به الزرقاني وغيره أن الصور ست؛ لأن الضحك ابتداء، إما عن عمد أو غلبة أو نسيان، وفي كل إما أن يقدر على تركه بعد وقوعه، أو لا ويتمادى المأموم في صورتين، وهما إن كان ضحكه عن غلبة أو نسيان ولم يقدر على الإمساك عنه، وفي الأربع الباقية يقطع. قلت: وفيه نظر، أما أولا فلأن هذا التقرير لا يلائم القيود التي ذكروها في التمادي، بل هي تناقض موضوعه، وأما ثانيا فلمخالفته للنقل، فإن الذي في التوضيح والحطاب والبيان لابن رشد أن: الصور ثلاث فقط؛ وهي إما عن عمد، أو غلبة، أو نسيان، فيتمادى في الأخيرتين دون الأولى، ولا يقيد تماديه بعدم القدرة على الإمساك في الأثناء، بل قالوا: إذا لم يقدر على الإمساك في الأثناء يقطع ليلا يخلط على من معه.
وحاصل ما في البيان أن العامد غير المغلوب تبطل صلاته، ويقطع ولو مأموما، ولا يستخلف الإمام لأنه أبطل عليه وعلى من خلفه، والمغلوب يستخلف إن كان إماما، وكذلك الناسي ويتمادى المأموم المغلوب والناسي. قال: وهذا يأتي على قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وقال فضل: إن استخلف الإمام فإنه يقطع ويدخل معهم؛ لأن الصلاة قد فسدت عليه لضحكه وهذا لا يلزم إذ لا يقطع بفساد صلاته، ولذلك أمر المأموم بالتمادي. قال ابن رشد: والأظهر أن صلاة المستخلف
(1)
كنا نصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل ضرير البصر فتردى في حفرة كانت في المسجد فضحك ناس من خلفه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة. الدارقطني، ج 1 ص 162.
(2)
الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء. الدارقطنى، ج 1 ص 173.
عليهم لا يعيدونها، بخلافه فإنه يعيد على أصله في المدونة، والمغلوب هنا هو الذي يتعمد النظر في صلاته. أو الاستماع إلى من يضحكه فيغلبه الضحك فيها، وأما الذي يضحك اختيارا ولو شاء أن يمسك عنه أمسك فلا خلاف أنه أبطل صلاته، والغلبة والنسيان هنا لم يعذره ابن القاسم فيهما. خلافا لسحنون، فإنه جعل الضحك نسيانا كالكلام نسيانا. ومعنى النسيان هنا عنده أنه ينسى أنه في صلاة. هذا حاصله بعد التأمل غاية. قاله أبو علي. انتهى كلام الشيخ محمد بن الحسن.
قال جامعه عفا الله عنه: والذي يظهر ما قرره به الشيخ محمد بن الحسن. والله سبحانه أعلم. وشبه في التمادي فقط لا بقيد البطلان: كما لابن غازي ومن وافقه. فقال: كتكبيره للركوع بلا نية إحرام؛ يعني أن المأموم يتمادى وجوبا فيما إذا كبر للركوع غير ناو الإحرام ناسيا له؛ وهو نية الصلاة المعينة لكن سبق منه بيسير وصلاته صحيحة، فالتشبيه في التمادي في هذه المسألة والتي بعدها، وشمل كلام المصنف الجمعة، وهذه هي قوله: أو لم ينوهما، لكن ما هنا في التمادي، وما يأتي في الإجزاءت والمسائل أربع؛ وجدت نية الصلاة المعينة، وتكبيرة الإحرام، وقيام لها، ثم تكبير ركوع؛ وهذه صحيحة قطعا. الثانية: وجدت نية الصلاة المعينة وتكبيرة الإحرام لكن بعضها من قيام، وبعضها حال انحطاطه، أو بعده من غير فصل، وفيها تأويلان في المسبوق. الثالثة: وجدت نية الصلاة المعينة، وترك تكبيرة الإحرام عمدا، واكتفى بتكبير الركوع، وهذي باطلة قطعا. الرابعة: هي الثالثة، إلا أنه ترك تكبيرة الإحرام ناسيا، وأتى بتكبيرة الركوع معتقدا أنه كبر للإحرام فصلاته صحيحة على المذهب. وكلام المصنف هنا فيها، وهذا إنما هو في المأموم في ركعة دخوله فقط؛ إذ هو الذي يركع عقب دخوله ليدرك الإمام دون الفذ والإمام، وكلام المصنف هنا فيها قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: إن حمل على ما شرح به عبد الباقي تبعا لابن غازي من صحة الصلاة لتقدم النية بيسير، تكون هذه هي قول المصنف الآتي:"أو لم ينوهما"، وإن حمل المصنف على ظاهره من التمادي مع البطلان، كان هو قوله الآتي: وإن لم ينوه ناسيا له تمادى المأموم، ويأتي أن التمادي في هذه مراعاة لقول سعيد بن المسيب وابن شهاب: إن الإمام يحمل عن المأموم الإحرام. والله أعلم. وحيث حمل كلام المصنف
على ما لابن غازي ومن تبعه من أن التشبيه في التمادي فقط، فالتمادي في الجمعة واجب من غير خلاف لأنها صحيحة، وإن حمل على التقرير الثاني فقيل: يتمادى عليها، وقيل: يقطعها ويبتدئ. انتهى. وقد مر على تقرير ابن غازي ومن تبعه أن: محل الصحة حيث كان هذا في ركعة دخول المأموم فقط، وأما إن نسي تكبيرها، وكبر في الركعة الثانية ولم ينو به الإحرام، فقال مالك في الموطإ: يقطع أي لتباعد ما بين النية والتكبير في هذه دون الأولى. كما قال ابن رشد. قاله الشيخ عبد الباقي.
وذكر فانتة؛ يعني أن المأموم إذا ذكر فائتة فإنه يتمادى وجوبا -كما مر- وكذا إذا ذكر المشاركة، وتصح المذكور فيها في المسألتين على ما مر عن الشيخ محمد بن الحسن، وعلى ما للشيخ عبد الباقي وغيره يعيد ثانية المشتركتين الذكورَ فيها لبطلانها بعدم الترتيب. والله سبحانه أعلم. والمراد بقوله:"فائتة"، ما يجب ترتيبه من الفوائت مع الحاضرة كأربع أو خمس على ما مر.
ويحدث، يعني أن الصلاة تبطل بالحدث أي بحصوله فيها على أي وجه كان عمدا أو غلبة أو سهوا أو بذكره، ولا تبطل صلاة المأموم بحدث الإمام إلا إذا تعمد الإمام الحدث، أو علم مؤتمه -كما يأتي- والله سبحانه أعلم وبسجوده لفضيلة؛ يعني أن الصلاة تبطل بسجود المصلي قبل السلام لفضيلة؛ أي لتركها ولو تكررت أو كثرت عمدا أو جهلا إن لم يقتد بمن يسجد لها، ويجري مثل ذلك في قوله: أو لتكبيرة؛ يعني أنه كما تبطل الصلاة بالسجود القبلي لفضيلة، تبطل بالسجود القبلي لترك تكبيرة واحدة ونحوها من كل سنة خفيفة، وكذا تبطل بالسجود القبلي لترك سنة مؤكدة خارجة عن ماهية الصلاة، كإقامة لإدخاله في الصلاة ما ليس منها في الجميع. قال الشيخ محمد بن الحسن بعد جلب أنقال: لم نر من شهد للمصنف فيما ادعاه من البطلان في السجود لتكبيرة، وأما السجود لفضيلة ففي الحطاب عن ابن رشد أنه: صدر فيه بعدم البطلان. والله أعلم. وفي شرح الشيخ ميارة في القنوت أنه على المشهور من أنه فضيلة: من سجد له بطلت صلاته، وعلى الشاذ من أنه سنة لا تبطل، وقال بعضهم: من أراد الخروج من الخلاف
فليسجد له بعد السلام، وقال الإمام الحطاب: وشمل كلام المصنف القنوت، وقد ذكر ابن رشد في سماع أصبغ من كتاب الصلاة: خلافا فيمن سجد للقنوت وصدر بأنها لا تبطل. انتهى. فانظره. وقال الفاكهاني: لو سجد لترك تكبيرة أو تحميدة لم نعلم من يقول ببطلان صلاته. انتهى. فانظر ذلك. وقال في الكافي: وأما زينة الصلاة وفضيلتها فرفع اليدين والتسبيح في الركوع والسجود، وقوله: آمين، والقنوت، والدعاء للمؤمنين، والمؤمنات، ولا سجود على أحد نسي شيئا من ذلك، ومن سجد في شيء من ذلك متأولا لم تفسد صلاته. انتهى. وفي التوضيح: قد نص أهل المذهب على أن من سجد قبل السلام لترك الفضيلة أعاد أبدا، وكذلك قالوا: المشهور إذا سجد لترك تكبيرة واحدة قبل السلام.
وبمشغل عن فرض؛ يعني أن المصلي إذا وقع له شيء يشغله عن فرض من فروضها، فإنه تبطل صلاته وذلك كحقن، أو قرقرة، أو غثيان، أو حقب، أو حزق، أو حقم، منع من الركوع أو السجود مثلا. فالحاقن: المحصور بالبول، والحاقب: المحصور بالغائط، والحازق: المحصور بالريح؛ وقيل: الحازق: الذي ضاق خفه فخرج قدمه، والحاقم: باليم المحصور بالبول والغائط، والغثيان: ثوران النفس واندفاع الأمعاء إلى خارج، فيصير مشرفا على التقايؤ ولا يتقيأ. وقوله:"بمشغل"، من أشغل رباعيا؛ وهي لغة جيدة، أو قليلة، أو ردية. وفي الشارح: يريد أن المصلي إذا حصل له شيء يشغله عن فرض في صلاته فإنها تبطل، وإن شغله عن سنة أعاد في الوقت. وهكذا قال ابن بشير فيمن صلى؛ وهو يدافع الأخبثين بقرقرة ونحوها، أو شيء يشغله أو يعجله، وعند العراقيين إن كان أمرا خفيفا فلا شيء عليه، وإن صلى وهو ضام وركيه، أمر بالقطع، وأعاد في الوقت إن تمادى، وإن كان مما يشغله عن استيفائها أعاد أبدا.
وعن سنة يعيد في الوقت؛ يعني أن المصلي إذا وقع له شيء يشغله عن سنة فإنه يعيد في الوقت؛ أي سنة من السنن الثماني، وإلا فلا إعادة كالفضائل. وقوله: في الوقت؛ أي الذي هو فيه فيما يظهر، وكلامه في الفرض، وكذا في نفل محدود له وقت معين فيما يظهر لا في ما لا وقت له معين. قاله الشيخ عبد الباقي. وبزيادة أربع؛ يعني أن الصلاة الرباعية تبطل بزيادة أربع ركعات متيقنات وقعن سهوا، وكذا الثلاثية؛ فإنها تبطل بزيادة أربع لا باثنتين على المشهور، وقيل:
تبطل بزيادة اثنتين، وقال الشارح؛ أي وتبطل الصلاة بزيادة أربع ركعات فيما إذا كانت رباعية كالظهر والعصر والعشاء، أو ثلاثية كالغرب على أحد قولي ابن القاسم. ابن شأس: وهو المشهور، وقيل: لا تبطل وتَنْجَيرُ بسجود السهو بعد. انتهى. وقوله: "وبزيادة أربع"؛ أي متيقنة - كما مر - وإلا فلا تبطل، وتنجبر بسجود السهو. انتهى.
كركعتين في الثنائية؛ يعني أن الصلاة الثنائية أصالة تبطل بزيادة ركعتين سهوا متيقنتين، وذلك كالصبح والجمعة بناء على أنها فرض يومها؛ وهو قول مشهور. قال الشيخ عبد الباقي: وتبطل السفرية بأربع بناء على أن الرباعية هي الأصل، وكذا الجمعة على أنها بدل من الظهر وهو مشهور أيضا، ولا غرابة في تشهير بطلانها بناء على أحد المشهورين، وقول الشيخ عبد الباقي إن السفرية تبطل بزيادة أربع، قال عنده الشيخ محمد بن الحسن: قال بعض: ينبغي أن لا تبطل إلا بزيادة ست. انتهى؛ وهو ظاهر. انتهى. والظاهر أن عقد الركعة هنا، رفع الرأس، فإذا رفع رأسه في ثامنة في رباعية أو سابعة في ثلاثية، أو في رابعة في ثنائية بطلت. كما هو عند ابن القاسم. والنفل المحدود من فجر، وعيد، وكسوف، واستسقاء يبطل بزيادة ركعتين فيما يظهر، فيبطل الكسوف بزيادة ركعتين ولو كانتا على غير صفة الكسوف فيما يظهر أيضا. قاله الشيخ عبد الباقي. والوتر إنما يبطل بزيادة مثليه، لا بزيادة مثله، فيسجد بعد السلام كما تفيده المدونة، ونحوه في المواق، والنفل غير المحدود لا يبطل بزيادة ركعتين. ففي الذخيرة: ولو قام لخامسة في نافلة رجع، ولا يكمله بسادسة، ويسجد بعد السلام؛ لأن الذي عليه الجادة من العلماء في النافلة عدم الزيادة على أربع، فإن لم يرجع من الخامسة بطلت صلاته، وخرج بقيد التيقن ما لو شك في الزيادة الكثيرة، فإنه يجبر بالسجود اتفاقا. قاله ابن رشد وقد مر هذا وقال الشارح: ابن رشد. والمشهور أن الصبح تبطل بذلك؛ يعني ركعتين، وقيل: لا تبطل وذهب ابن كنانة وابن نافع في ثمانية أبي زيد إلى أن الجمعة تبطل بزيادة ركعة وكذا الصبح.
وبتعمد كسجدة؛ يعني أن ما تقدم من أن الرباعية لا تبطل إلا بزيادة أربع ركعات، وأن الثلاثية كذلك، وأن الثنائية لا تبطل إلا بركعتين، إنما ذلك مع السهو، وأما مع العمد فلا يشترط في
البطلان ذلك القدر، بل تبطل الصلاة بتعمد سجدة ونحوها من كل ركن فعلي في فرض أو نفل، ولا تبطل الصلاة بتكرير الفاتحة على الراجح من القولين، خلافا لمن قال من كرر الفاتحة عامدا، فالظاهر البطلان. واعلم أن الزيادة التي يبطل عمدها يسجد لسهوها احترازا من التطويل في القراءة والركوع والسجود.
أو نفخ؛ يعني أن الصلاة تبطل بتعمد نفخ فيها بفم وإن لم يظهر منه حرف، خلافا للشافعي وابن قداح الذي يقول: النفخ الذي هو كالكلام ما نطق فيه بألف وفاء. انتهى. ولا يبطل النفخ بأنف، وينبغي تقييده بما إذا لم يكثر، فإن كثر فهو من العبث فتبطل الصلاة به لأنه فعل من غير جنس الصلاة. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي: ينبغي تقييد ما من الأنف بغير العبث: وإلا جرى على الأفعال الكثيرة، واغتفر النفخ بالأنف: لأن ما يخرج منه وإن اشتمل على ألف وفاء فليس بحرف، وإنما هو على صورته؛ لأن مخارج الحروف ليست من الأنف، ولا يشكل هذا بما يأتي من أن الصوت المجرد عن الحرف مبطل؛ لأنه في خارج من محل الكلام لا من أنف. وقال ابن الماجشون: النفخ والتنحنح والجشأ كالكلام، وفي النوادر عن الواضحة عن ابن الماجشون: ومن نفخ في موضع سجوده أو عند الجشأ فهو كالكلام. قاله مالك. فإن كان سهوا سجد، ولا يسجد المأموم إن نابه ذلك، وإن كان عمدا أو جهلا قطع، وابتدأ إن كان إماما، وإن كان مأموما تمادى وأعاد. وقيل: النفخ لا يبطل، واحتج من يقول إن النفخ لا يبطل بحديث ابن عمر (أنه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف نفخ في آخر سجوده، فقال: أف أف
(1)
). أخرجه أبو داوود. قاله الإمام الحطاب. وما ذكره من أن النفخ من مساجن الإمام، الظاهر أنه مقابل لأنه مخالف لإطلاق أهل المذهب. المدونة وغيرها: ولأن أهل المذهب تعرضوا لعد مساجن الإمام، ولم أر أحدا منهم عد هذه منها. قاله الرهوني. وفي الشارح عند قول المصنف:"أو نفخ"، ما نصه: ومذهب المدونة أن الجهل في الإبطال كالعمد بخلاف السهو، وعن مالك الإبطال في السهو أيضا.
(1)
أبو داود، كتاب الاستسقاء، رقم الحديث:1194.
وقيل: بعدم الإبطال في العمد، واختاره الأبهري؛ لأن النفخ ليس فيه حرف هجاء كالكلام. انتهى. أو أكل، يعني أن الصلاة تبطل بتعمد الأكل وإن قل.
أو شرب؛ يعني أن الصلاة تبطل بتعمد الشرب وإن قل، وتبطل الصلاة بالشرب وإن كان من أنف. أو قيء؛ يعني أن الصلاة تبطل بتعمد القيء فيها ولو ماء، والقلس مثله، وهذا مفهوم قوله:"ومن ذرعه قيء لم تبطل صلاته". أو كلام؛ يعني أن من تعمد الكلام في صلاته، تبطل صلاته وإن قل بصوت اشتمل على حرف أم لا، فلو نهق كالحمار أو نعق كالغراب، بطلت. وقوله:"أو كلام"، عبارة الشبراخيتي: المراد به الصوت، ثم قال: قوله: "كلام"؛ أي من ناطق، وفي إلحاق إشارة الأخرس به: ثالثها إن قصد الكلام. وإن يكره؛ يعني أنه لا فرق في بطلان الصلاة بالكلام عمدا بين أن يكون المصلي تكلم اختيارا، وبين أن يكون تكلم مكرها، وعذر الناسي بخلاف المكره، فإنه ذاكر كما قيل فيمن صلى بالنجاسة: إذا كان ناسيا أعاد للاصفرار، وإن كان مضطرا أعاد للغروب. والله سبحانه أعلم. قاله الإمام الحطاب. وبما قررت علم أن قوله:"وإن بكره"، راجع "للكلام"، وقال بعضهم: يتعين رجوعه للجميع. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي: قال غير واحد من أشياخ علي الأجهوري: ينبغي رجوعه للجميع.
أو وجب؛ يعني أن الصلاة تبطل بالكلام فيها، وإن وجب على المصلي. لأجل إنقاذ أي تخليص. أعمى، أو صغير مثلا أن يقع في نار أو بير مثلا، فتبطل ضاق الوقت أم لا على المشهور. وقال اللخمي: إن اتسع الوقت، وإلا أنقذه بالكلام؛ لأنه لإحياء نفس ولم تبطل كالمسايف وقال اللخمي أيضا: إن المكره على الكلام إذا ضاق الوقت يتكلم، ولا تبطل صلاته، ولو ناداه أحد أبويه وهو في نافلة فليخفف، ويسلم، ويكلمه. وظاهره أنه لا يجوز له القطع، وهو الظاهر لإمكان الجمع بينهما بالمبادرة بالتسبيح ورفع الصوت به، وتخفيف ما هو فيه، فإن لم يمكن الجمع ككون النادي بالكسر أعمى أصم فيتعارض واجبان، فيقدم أو كدهما، وهو إجابة الوالدين للإجماع على وجوبها، والخلاف في وجوب النافلة. قاله القرطبي. أي: وتبطل الصلاة بذلك ولو نادته كل من أمه وزوجته في طلب ما وجب لها عليه من الإنفاق، فتقدم إجابة الزوجة
لأن نفقتها بعوض وهذا صادق بما إذا كان في غير صلاة أو فيها، ووجبت الإجابة. والظاهر أنه يقدم إجابة الأم على إجابة الأب. وتبطل الصلاة إذا وجب أكله أو شربه لإنقاذ نفسه، ووجب عليه القطع ولو خشي خروج الوقت، وإن وجب الكلام لإجابته صلى الله عليه وسلم لم تبطل، وقيل: تبطل، ولعل المراد إجابته لمن يمكن اجتماعه به الآن يقظة كالمرسي، وأما في حياته صلى الله عليه وسلم فلعل معناه اعتقاد كونه من خصائصه صلى الله عليه وسلم: وعدم بطلان صلاة مجيبه: ومثل وجوب الكلام لإنقاذ أعمى، وجوبه لخوف ذهاب مال أو دابة: على ما مر فيها من الأقسام الثمانية. وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج
(1)
): وكان جريج رجلا عابدا فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: اللهم أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت بعد ثالث يوم في ثالث مدة: اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات، فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بها، فقالت: إن شئتم لأفتتنه فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت، فلما ولدت، قالت: هو من جريج: فأتوه فأنزلوه من صومعته فهدموها وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: زنيت بهذه البغي، فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه، فقال: يا غلام من أبوك؟ فقال: فلان الراعي، فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني صومعتك من ذهب، قال أعيدوها من لبن كما كانت ففعلوا وبينما صبي يرضع من أمه ورجل على دابة باهرة وشارة حسنة، فقالت المرأة: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل عليه ينظر إليه وقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبك على ثديه وجعل يرضع، قال: فإني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فيه يمصها. ومروا بجارية يضربونها ويقولون: زنت سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها [فترك الرضاع ونظر
(1)
البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، رقم الحديث:3436. مسلم، كتاب البر والصلة، رقم الحديث: 2550.
إليها وقال: اللهم اجعلني مثلها]
(1)
: فهنالك تراجعا الحديث، فقالت: مر رجل حسن الهيئة فقلت: اللهم اجعل ابني مثله، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة يضربونها، ويقولون: زنت سرقت فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهم اجعلني مثلها، قال: إن ذلك الرجل كان جبارا، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه الأمة يقولون: زنت سرقت، ولم تزن ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها. رواه في التيسير. القرطبي: قوله: يا رب أمي وصلاتي، يدل على أنه كان عابدا ولم يكن عالما؟ إذ بأدنى فكره يدرك أن صلاته كانت ندبا وإجابة أمه واجبة فلا تعارض يوجب الإشكال، فكان يجب عليه تخفيف صلاته أو قطعها وإجابة أمه لا سيما وقد تكرر مجيئها. القاضي عياض: لا شك عندنا أن بر أمه فرض، والعزلة والصلاة النافلة طول ليله ونهاره ليست بفرض، والفرض مقدم، ولعله غلط في إيثار صلاته وعزلته، فلذلك أجاب الله دعوتها. وقوله: المومسات، جمع مومسة، وهي الزانية، والمياميس مثله، والبغي الزانية. ويتمثل بها؛ أي يعجب بحسنها، فيقال لكل من يستحسن هذا مثل فلانة في الحسن، والشارة: الحسنة جمال الظاهر في الهيئة واللبس والركب ونحو ذلك، والجبار: العاتي المتكبر القاهر للناس، والله سبحانه أعلم. واستثنى من قوله أو كلام، قوله: إلا لإصلاحها؛ يعني أن محل بطلان الصلاة بتعمد الكلام فيها إنما هو إذا لم يكن الكلام لإصلاحها، وأما تعمد الكلام لإصلاحها بعد السلام أو قبله. فلا تبطل إلا بكثيرة أي الكلام الذي يتعلق بالإصلاح، ويتوقف عليه لإعراضه عن الصلاة حينئذ، وأولى بكثير لا يتعلق بإصلاحها، وكذا كثير الكلام سهوا، وكذا كثير فعل الجوارح عمدا أو سهوا، كفعل قلب حيث لا يدري معه ما صلى. قاله الشيخ عبد الباقي. وظاهر المصنف أن الكثير في نفسه وإن تعلق بالإصلاح مبطل، قال ابن ناجي. في شرح المدونة: إذا قلنا إن الكلام لإصلاحها لا يبطل فلا بد من تقييده بأمرين، أحدهما تعذر الإفهام بالتسبيح، والثاني عدم إطالة الكلام وكثرته. وقد صرح ابن الحاجب بأن
(1)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من التيسير، ج 4 ص 61.
الكلام إذا كان سهوا يبطل الصلاة إذا كثر. قاله الإمام الحطاب، وقال: إن غير المصنف يطلق القول بأن الكلام لإصلاحها لا يبطل، والمصنف قيده بغير الكثير. وفي الجواهر: فإن طال الأمر وكثر الفعل ووقع اللغط بينهم والمراء، وترددت المراجعة بينهم بعضهم مع بعض بطلت، وقيل: لا تبطل، بل يبني وإن طال. انتهى. وهذا هو ما يأتي للمصنف من قوله: وبنى إن قرب الخ، وقال ابن حبيب: إن طال التراجع بين الإمام والمأمومين بحيث يؤدي إلى المراء بطلت. انتهى.
وبسلام وأكل وشرب؛ يعني أن الصلاة تبطل باجتماع سلام وأكل وشرب كذا في المدونة في كتاب الصلاة الأول لكثرة النافي بحصول الثلاثة، ووقع في بعض الروايات بأو، فعلى المصنف الدرك في إسقاطها: فكان عليه أن يقول: وجاء أو شرب. وفيها أيضا في كتاب الصلاة الثاني: إن أكل -فقط- أو شرب. فقط، انجبر سهوه بسجود البعدي.
وهل اختلاف؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا، هل ما في كتابي المدونة اختلاف؛ أي تناقض؟ وعليه فالنظر لحصول المنافي بقطع النظر عن تعدده واتحاده فحكم بالبطلان في أحد الموضعين دون الآخر، فقال فيه: يجبر سهوه بسجود البعدي، أو لا، أي ومن الشيوخ من ذهب إلى أن الموضعين لا اختلاف بينهما، بل هما متفقان، لكن اختلف الموفقون في كيفية التوفيق، فمنهم من قال: إن البطلان للسلام في الأولى لشدة النافاة في السلام مع أكل وشرب، أو مع أحدهما لا بسلام وحدده، ولا بأكل مع شرب، ولم تبطل في الثانية لعدم وجود السلام. ومنهم من ذهب إلى أن البطلان في الأولى لجمع شيئين الأكل والشرب أو السلام مع أحدهما، وليس ذلك في الثانية، وإلى هذا أشار بقوله: أو للجمع؛ أي بطلت في الأولى لأجل جمع شيئين بخلاف الثانية، وتعبير المصنف باختلاف أولى من التعبير بخلاف، ليلا يوهم أنه خلاف في التشهير، وقوله: تأويلان مبتدأ حذف خبره، أي في ذلك تأويلان، فإذا حصلت الثلاثة اتفق الموفقان على البطلان، وصاحب التأويل الأول يحكي الخلاف وكذا إذا حصل السلام مع أحدهما ولو حصل الأكل والشرب فقط اختلف الموفقان، وصاحب التأويل الأول يحكى الخلاف، وإذا حصل واحد فقط اتفق الموفقان على الصحة، وصاحب التأويل الأول يحكي الخلاف. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: وفيه نظر بالنسبة للسلام. وقد حكى الطخيخي الاتفاق على أنه: لا يبطل، ومحل
التأويلين في السهو، وإلا بطلت، ولا فرق بين الفذ والإمام والمأموم، لكن على الانجبار يحمله الإمام، وعلى البطلان لا يحمله. والتأويلان في الحقيقة ثلاث: واحد بالخلاف، واثنان بالاتفاق. قال الشيخ الأمير: ولعل تأويل الجمع هو الأقوى لكثرة المنافي. انتهى. ومن سلم من اثنتين، وقال: السلام، ولم يزد، ثم ذكر فراجع الصلاة، وسجد بعد السلام، كان شيخنا الإمام ابن عرفة يفتي بأنه: يرجع بإحرام. وسمعت في المذاكرات أنه لا سجود ولا إحرام عليه؛ لأن السلام اسم من أسماء الله تعالى. وعن الباجي: إن وقع سهوا لم يقصد به الخروج من الصلاة، فلا إحرام عليه كالكلام، ويتحصل فيه ثلاثة أقوال: يحرم مطلقا وعكسه، والفرق بين القرب جدا فما فوقه. انتهى. قاله الإمام الحطاب ومن شرع في السلام بعد سلام الإمام، فكبر الإمام تكبير العيد بعد السالأم، فترك بقية السلام حتى كبر مع الإمام الثلاث تكبيرات؛ أي التكبيرات بعد فرائض يوم النحر، قال: يعيد الصلاة أبدا، قلت: يريد لأنه تكلم بلفظ السلام جاهلا قبل تمام الصلاة، فبطلت من هذه الجهة، ولو كبر قبل أن يلفظ بشيء من سلامه أجزأه، ولكن يكره من باب تأخير السلام عقب سلام الإمام. كما قال ابن عبد الحكم: إذا اشتغل بالتشهد بعد سلام الإمام فإنه يكره وتصح صلاته. انتهى. قاله الإمام الحطاب عن البرزلي -أيضًا - ونص المدونة في الكتاب الأول: وإن انصرف حين سلم فأكل أو شرب ابتدأ وإن لم يطل. انتهى. أبو الحسن: وفي بعض رواياتها بالواو، واختلف في السلام سهوا، هل يخرج المصلي عن حكم الصلاة أولا؟ قولان. وعلى الإخراج يرجع إليها بإحرام، والخلاف إنما هو إذا سلم قاصدا التحليل وهو يرى أنه قد أتمها، ثم شك في شيء منها، وأما إن سلم ساهيا قبل تمام صلاته، فقال في المقدمات: لا يخرج بذلك بإجماع. انتهى.
وبانصراف لحدث ثم تبين نفيه؛ يعني أن الصلاة تبطل بالانصراف أي الذهاب لأجل حدث تذكره؛ وهو في الصلاة أو أحس به وهو فيها، ثم بعد انصرافه تبين له نفي الحدث الذي انصرف لأجله، وإنما بطلت لتفريطه لأنه كمن ظن الرعاف فخرج لغسله فظهر نفيه، فتبطل. كما مر. وبما قررت علم أن الانصراف في كلام المصنف على حقيقته، وليس المراد بالانصراف الإعراض
بالقلب؛ لأن ذلك رفض، والرفض قدمه المصنف بقوله: والرفض مبطل. كما يفيده الشيخ بناني. كمسلم شك في الإتمام ثم ظهر الكمال؛ يعني أن من سلم وهو شاك في الإتمام، ثم ظهر له أن صلاته قد كملت تبطل صلاته حيث سلم عمدا أو جهلا. والمراد بالشك عدم الجزم، وأشار له الشيخ عبد الباقي، قال الشيخ محمد بن الحسن: مقتضاه أن السلام مع ظن التمام مبطل مطلقا، وليس كذلك؛ إذ كل من رأيناه يحمل الشك هنا على ظاهره: وهو الذي يفيده نقل الحطاب عن ابن رشد عند قوله: ولا سهو على مؤتم. فانظره. انتهى. وهذا القول الذي مشى عليه المصنف، قال ابن رشد: إنه الأظهر: وإلى ذلك أشار بقوله: على الأظهر. وإنما بطلت لمخالفته ما وجب عليه من البناء على اليقين، خلافا لابن حبيب القائل: تصح كمتزوج بامرأة لا يدري أحي زوجها أو ميت؟ ثم ظهر موته، وانقضاء عدتها قبل العقد عليها، وكوقوع نكاح بقلة خمر، فإذا كحي خل فصحيح: وكمن شك في نجاسة جسمه في صلاة فتمادى ثم تبين نفيها فصحيحة، وكمن شك في صلاته ثم بأن الطهر، وفرق بثقل الغرم في النكاح وخفة إعادة الصلاة، وبخوف تعلق القلب في النكاح ولو قبل البناء فيؤدي ذلك للوقوع في الزنى معها، وفرق بين الصلاة والنجاسة بخفتها للاختلاف فيها وعدم الاختلاف في عدد الركعات، وفرق بين الإعادة هنا وبين مسألة من شك في صلاته ثم بان الطهر لم يعد؛ بأن القصد أقوى من الوسيلة، ولا يُقدح في هذا بمسألة: وبطلت إن خالفها، وإن صادف لحرمة مخالفة ما أداه إليه اجتهاده، فهو كمن دخل في الصلاة وهو شاك فتبطل ولو بان الطهر. وقوله:"ثم ظهر الكمال"، وأما إن لم يظهر الكمال فلا إشكال في البطلان، ونص على ذلك ردا لقول ابن حبيب، وأما لو شك في الكمال وسلم سهوا فإن تذكر عن قرب أصلح ما بقي له وأعاد السلام؛ لأنه بمنزلة من لم يأت به، وإن تذكر عن بعد بطلت صلاته. كما يأتي للمصنف.
وبسجود المسبوق مع الإمام بعديا؛ يعني أن صلاة المسبوق تبطل بسجوده البعدي عمدا أو جهلا مع الإمام، أو قبله أو بعده وقبل قضاء ما عليه، واقتصر المصنف على ما ذَكَر لتوهم الصحة باتباعه وسواء أدرك مع الإمام ركعة فأكثر أم لا.
أو قبليا إن لم يلحق ركعة؛ يعني أن صلاة المسبوق تبطل بسجوده مع الإمام قبليا عمدا أو جهلا حيث لم يدرك مع الإمام ركعة فأكثر، وما مر من أن الجهل كالعمد هو قول عيسى، قال ابن رشد: وهو القياس على أصل المذهب من إلحاق الجاهل بالعامد، ولأنه أدخل في صلاته ما ليس منها، وقال ابن القاسم: الجهل كالسهو. قاله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمد بن الحسن: هكذا ذكر ابن هارون الخلاف في المسألتين، واعترضه في التوضيح؛ بأن هذا الخلاف إنما هو في البعدي خاصة إذا قدمه. وبما قررت علم أن: الشرط، أعني قوله:"إن لم يلحق ركعة"، راجع لمسألة القبلي، وإنما لم تبطل الصلاة مع الجهل على القول بعدم البطلان مراعاة لقول سفيان بوجوب سجوده معه، وإذا كانت تبطل بذلك فلا سجود عليه بعد إتيانه بالصلاة، وقوله:"بسجود المسبوق" الخ، مكرر مع قوله: وبتعمد كسجدة، وأعاده إما لأن هذا التصوير لا يفهم مما سبق، وإما ليرتب عليه قوله: وإلا؛ أي وإن انتفى عدم لحوق المأموم المسبوق مع الإمام ركعة بأن لحق معه ركعة فأكثر، سجد القبلي معه قبل قضاء ما عليه عند ابن القاسم وبعده عند أشهب، ومبنى الخلاف هل ما أدرك آخر صلاته أو أولها؟ فإن أخره عمدا أو جهلا بطلت صلاته على ما لابن القاسم، لا سهوا قدمه قبل سلامه أو أخره، ولا على ما لأشهب مطلقا عمدا أو جهلا أو سهوا قدمه قبل سلام نفسه أو أخره، والأول هو الراجح فإن أخره الإمام حتى صار بعديا، فهل يفعله معه قبل قضاء ما عليه؟ قياسا على المستخلف المسبوق الذي ترتب على أصله سجود سهو قبل السلام، أو يفعله بعد قضاء ما عليه قبل سلام نفسه؟ وهو ما يفيده كلام البرزلي، أو إن كان عن ثلاث سنن فالأول وإلا فالثاني: وهو ما ارتضاه ابن ناجي، وبعض من لقيه، وأبو مهدي، واقتصر الشيخ إبراهيم على الأول؛ وهو الذي قاله الشيخ سالم، وذلك يفيد قوته. والله سبحانه أعلم. وإذا قدم الإمام البعدي، هل يسجده المسبوق معه لأن تقديمه صيره بمنزلة القبلي، أولا نظرا لأصله؟ وعلى كل حال فلا تبطل صلاته بسجوده معه مراعاة للخلاف في ذلك. قاله الشيخ عبد الباقي. وبما قررت علم أن معنى قوله: سجد؛ أي مع الإمام، وكلامه فيما إذا سجد الإمام في محله قبل سلامه، ولو كان على رأي الإمام فقط، كشافعي يسجد قبل السلام لترك قنوت،
فتبعه مالكي في ذلك، وفي الكافي: وكذلك لو كان الإمام ممن يرى السجود كله قبل السلام، فإنه يسجد معه، ثم يقضي ما عليه. انتهى. وهذا يشمله كلام المصنف. وفي الحطاب عن البرزلي: إمام عليه سجود سهو بعد السلام فسجده في محله، وسجد المأمومون قبل سلامهم ثم سلموا، فعند اللخمي تصح صلاتهم، وإذا سجد المسبوق القبلي وسها بعد إمامه، فهل يغتني بالسجود الأول؟ وهو قول ابن الماجشون؛ أولا يغتني؟ وهو قول ابن القاسم: وهو المشهور، وسلامه كسلام المأموم، وحكمه في قول سمع الله لمن حمده، وربنا ولك الحمد: حكم الفذ لأنه يدعو ويؤمن على دعائه. انتهى. وتجب عليه قراءة الفاتحة، وإذا قدم الإمام البعدي وسجده المسبوق معه فلا تبطل صلاته. كما مر. وقال الشيخ الأمير: ولو قدم البعدي تبعه.
ولو ترك إمامه؛ يعني أن المأموم المسبوق المدرك لركعة فأكثر يسجد القبلي بعد إكمال صلاته؛ أي صلاة نفسه، وقبل سلامه إذا تركه الإمام، ولا يسجده قبل قيامه لقضاء ما عليه، قاله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمد بن الحسن: ما شرحه به الزرقاني من أنه إذا تركه الإمام يسجده المسبوق بعد إكمال صلاته، وقبل سلام نفسه خلافُ ما استظهره الحطاب من أنه يسجده قبل قيامه للقضاء وعبارة الشيخ إبراهيم ويسجد المأموم القبلي في محله مسبوقا ولو ترك إمامه السجود أصلا أو أخره عمدا أو سهوا حتى صار بعديا، وقوله:"ولو ترك إمامه"؛ أي السجود عمدا أو سهوا أو رأيا، وقوله: أو لم يدرك موجبه عطف على مدخول "لو"، فهو في حيز المبالغة؛ يعني أن المأموم المسبوق يترتب عليه سجود السهو، ولو لم يدرك مع الإمام الوجب الذي أوجب عليه سجود السهو، وقوله:"أو لم يدرك موجبه"؛ بأن سها الإمام قبل دخول هذا المسبوق معه، وإن سها بنقص وسهو إمامه بزيد، اجتزأ بالقبلي، ولبعضهم:
ومن له القبلي مع بعدي
…
إمامه اجتزأ بالقبلي
وإذا ترك الإمام القبلي، وكان عن ثلاث سنن وطال، بل ولو تركه عمدا أو جهلا وفعله المسبوق صحت صلاته. وبطلت صلاة إمامه، وتكون من المستثنيات؛
واعلم أن كل صلاة بطلت على الإمام بطلت على مأمومه إلا في مسائل: ولنذكرها ست عشرة مستثناة من القاعدة المذكورة، الأولى: سبق الحدث، الثانية: صلاته به ناسيا، الثالثة: ضحكه غلبة أو نسيانا، واستخلف في الثلاثة، الرابعة: علم المؤتم بنجاسة بثوب إمامه وأعلمه بها فورا، أو استخلف بناء على ما رجحه ابن رشد، فإن لم يستخلف بطلت عليه وعليهم، وشهر ابن ناجي القطع، وعليه فلا استثناء. الخامسة: إذا سقط ساتر عورته فقطع واستخلف فإن رده وتمادى بطلت عليه وعليهم هذا قول سحنون، ولابن القاسم: إن رده وتمادى صحت صلاتهم مطلقا ويعيد هو في الوقت إن رده بالبعد. السادسة: إذا رعف واستخلف عليهم بالكلام لغير ضرورة سهوا اتفاقا وعمدا أو جهلا. عند ابن القاسم. السابعة: مستخلف لم ينو الاستخلاف. الثامنة: مسألة: وإن سجد إمام الخ، كما يأتي. التاسعة: إذا ترك الإمام قبليا عن ثلاث سنن وطال وفعله مأمومه، بل ولو تركه الإمام عمدا أو جهلا، خلافا لقول ابن رشد في إحدى قاعدتيه: كل ما لا يحمله الإمام عن من خلفه لا يكون سهوه عنه سهوا لهم إذا هم فعلوه؛ أي إلاَّ في النية وتكبيرة الإحرام المفيدة بمفهومها إن تركه عمدا بطلت عليهم. العاشرة: إذا فارق الإمام الطائفة الأولى بصلاة الخوف في محل المفارقة، فحصل منه مبطل بعد مفارقتها. الحادية عشر: إذا انحرف كثيرا فللمأموم مفارقته بالنية، وهو فرع غريب. الثانية عشر: سقوط النجاسة. الثالثة عشر: إمام خشي تلف مال أو نفس. الرابعة عشر: مسافر نوى الإقامة في الصلاة ولكن المشهور فيها البطلان على المأمومين أيضا. الخامسة عشر: ظنه الرعاف فخرج فظهر نفيه، وفي الرهوني: المشهور فيها البطلان على المأمومين. السادسة عشر: ذكر الفوائت اليسيرة ولكن المشهور فيها البطلان عليهم، والمشهور في القهقهة صحتها لهم. وقال الشيخ ميارة: إن المشهور البطلان عليهم فلا يستخلف، وتعقبه الشيخ محمد بن الحسن، فقال: ما ذكر؛ يعني الشيخ ميارة في القهقهة أن المشهور فيها عدم الاستخلاف، فيه نظر وظاهر ما تقدم عن ابن رشد: وهو الذي اقتصر عليه التوضيح وغيره خلافه، وقاعدة ابن رشد الثانية كل ما يحمله الإمام عمن خلفه فسهوه عنه سهو
لهم، وإن هم فعلوه؛ أي يترتب عليهم السجود، ولو فعلوا ما تركه الإمام. وللشيخ ميارة ناظما للمستثنيات:
ذكر النجاسة سقوطها وزد
…
نسيانه الحدث سبق قد يرد
وكشف عورة سجود أغفلا
…
إن عن ثلاثة وطال فاقبلا
وإن على نفس يخف أو مال
…
أو ظهره فاعدد ولا تبال
مسافر لدى الصلاة قد نوى
…
إقامة ظن الرعاف قل سوى
مقهقه غلب أو إذا نسي
…
أبطلها للكل عامد مسي
ذكر الفوائت اليسيرة اعلما
…
ترك الإمام سجدة لذا اضمما
وذيلها الشيخ محمد بن الحسن بقوله:
مستخلفا لم ينو قل وراعفا
…
كلم مطلقا وزد منحرفا
فارقه المأموم نيَّة وُعِي
…
إمام خوف بعد الأولى فاجمع
وللشيخ ابن سودة رحمه الله تعالى:
صحت صلاة المقتدي دون الذي
…
به اقتدى في حرف أي فاحتذ
في حدث وضحك ومن رعف
…
وبكلام اختيارا قد خلف
أوأري النجس فورا أو قطع
…
لعورة أو سجدة لم يتبع
وترك قبلي وذي استخلاف
…
مفارق الأولى وذي انحراف
وكلها فيما الجماعة له
…
ليست بشرط فاعرفن نقله
ذكر هذا الشيخ عبد الباقي
…
قدس سره الإله الواقي
وما ذكره عن الشيخ عبد الباقي في قوله وكلها فيما الخ، نحوه للشيخ إبراهيم، فإنه قال: والظاهر بل المتعين أن بطلان صلاة الإمام دون المأمومين في غير المسائل التي الجماعة شرط في صحتها، وأما فيها كالجمعة والخوف ونحوهما، فإن صلاة المأمومين تبطل أيضا. انتهى.
وأخر البعدي؛ يعني أن المأموم المسبوق المدرك ركعة فأكثر لا يسجد البعدي مع الإمام، فإن سجده معه بطلت صلاته -كما مر- والحكم فيه أنه يؤخره حتى يقضي ما عليه، ويسجده بعد سلام نفسه، وقوله:"البعدي"؛ أي ولو في مذهب إمامه. وقد مر أنه إن قدمه جهلا اختلف فيه، هل يلحق بالعمد أو بالسهو؟ وإذا لم تبطل بالسهو فإنه يعيده، وكذا في الجهل على قول ابن القاسم. والأولى أن يقوم المسبوق لقضاء ما عليه حيث كان إمامه عليه بعدي بعد سلام إمامه من صلب صلاته، وهو مذهب المدونة، واختاره ابن الحاجب، وقيل: الأولى أن يقوم من بعد سلام إمامه من سجود سهوه، واختاره ابن القاسم في سماع أصبغ، وقيل بالتخيير. ويجري هذا فيمن أدرك مع الإمام ركعة، قال التتائي: أو أدرك معه التشهد فقط، وغير المسبوق يسجد مع الإمام بعديا أو قبليا، ولا يضره تقديم القبلي في محله مع تأخير الإمام له، وكذا إذا قدم المأموم البعدي كما للبرزلي، وشمل قوله: وبسجود المسبوق مع الإمام قبليا أو بعديا، من أدرك البعدي مع الإمام فأحرم معه ظانا أنه في الصلاة فتبطل. وعلم مما ذكر أن البعدي إنما يخاطب به من أدرك ركعة، فإن لم يدرك ركعة وسجده بطلت، ولو أخره حيث سجده قبل سلام نفسه، وإذا كان الإمام ممن يرى القبلي دائما فينبغي أن يفعله معه، ولا يجوز له تأخيره، كما إذا اقتدى بمن يسجد لفضيلة فيتبعه وليس له ترك السجود، ولو قام للقضاء فذكر الإمام بعديا فرجع له المسبوق بعد اعتداله بطلت صلاته.
ولا سهو على مؤتم حالة القدوة؛ يعني أنه لا سهو أي لا سجود سهو على المأموم بسبب نقص سنة مؤكدة، أو مع زيادة عرض ذلك حالة تبعيته للإمام، وظاهره: ولو سها عن سنن كثيرة لحمل الإمام ذلك ولو نوى عدم حمله، وكذا لا يضر المأموم عمد نقص السنن المؤكدة. وقوله:"ولا سهو على مؤتم حالة القدوة"، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس على من خلف الإمام سهو فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه
(1)
) أخرجه الدارقطني ولخبر (الإمام ضامن)
(2)
أي للقراءة وسجود
(1)
الدارقطنى، ج 1 ص 377. ط، دار المحاسن 1966.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:517. الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 207.
السهو انظر نوازل ابن هلال وأما في غير حالة التبعية فلا يحمل عنه الإمام، وقوله:"القدوة" بالفتح؛ وأما القدوة بتثليث القاف فبمعنى المقتدى به: قاله الشيخ محمد بن الحسن. ولو سلم المأموم لظن سلام إمامه، ثم رجع قبل سلام إمامه حمله عنه، وبعده سلم وسجد. ابن القاسم عن مالك: يسجد قبل؛ أي لأنه نقص السلام مع الإمام وزاد هو سلاما، فإن كان مسبوقا وفعل بعد ما ظن سلام إمامه فعلا وتبين له ذلك قبل سلام إمامه رجع إليه ولا سجود سهو عليه، وإن لم يتبين حتى سلم لم يرجع لأنه إنما كان يرجع للإمام وقد زال، ولا يعتد بما فعل قبل سلام الإمام، فإن فعل بعض الفعل قبله وبعضه بعده لم يعتد بما فعل قبل السلام، واعتد بما بعده إلا أن يكون ما بعدد يتوقف على ما قبل كفعل سجود ركعة ركع فيها قبل سلامه وسجد لها بعده إلا فيعيد الركعة بتمامها: ويسجد بعد السلام. نقله عبد الباقي، وغيره. وفي القلشاني: لو اعتقد المسبوق سلام الإمام فقام للقضاء فسلم الإمام عليه وهو قائم أو راكع، قال في المدونة: ابتدأ القراءة وسجد قبل سلامه؛ يعني لنقص النهضة، فإن كان جالسا، فقال عبد الملك: لا خلاف في سقوط السجود عنه. وما فعله قبل سلام إمامه يحمله عنه الإمام، وإن كان ساجدا قال بعضهم: إن رفع رأسلأ من السجود إلى الجلوس سجد بعد؛ لأنه زاد بعد سلام الإمام رفع الرأس من السجود إلى الجلوس، وإن رفع رأسه إلى القيام سجد قبل لنقصه جزءا من النهضة؛ لأنه كان حقه أن ينهض إلى القيام من جلوس، وهذا كله بناء على المشهور أنه لا يعتد بما فعل قبل سلام الإمام، وفي المبسوط عن ابن نافع قول باعتداده بذلك انتهى ولبعضهم:
إذا ظن مسبوق سلام إمامة
…
وقام ليقضي ثم من بعد سلما
إمام فذا المسبوق لم يخل أمره
…
من اربع حالات فخذها مسلما
قيام ركوع ذا القراءة يبتدي
…
ويسجد من قبل السلام ليختما
لنقص نهوض للقيام وإن يكن
…
جلوس يقم من غير نقص وتمما
وإن يك في حال السجود فرفعه
…
لحال جلوس بعد يسجد فاعلما
وإن يك من هذا السجود قيامه
…
لنقص نهوض قبل يسجد فافهما
وكل الذي صلى بصلب إمامه
…
فمغتفر للحمل خذه مسلما
وقد قال في المبسوط يعتد بالذي
…
بصلب إمام قد قضاه وعمما
بفضلك يا مولاي للعبد فاغفرن
…
معَ أصل وفرع يا كريم ترحما
وصل على الهادي النبي وآله
…
لدى البدء والإتمام أيضا وسلما
وبما قررت علم أن قوله: "حالة"، متعلق بمقدر تقديره "عرض" لا بسهو؛ لأنه يقتضي أنه يسجد بعد مفارقة الإمام إن كان مسبوقا وليس كذلك.
تنبيهات: الأول: قيل لأصبغ: ما تقول في إمام صلى بقوم فسها في صلاته سهوا يكون سجوده بعد السلام، فلما كان في التشهد الآخر سمع أحدهم شيئا فظن أنه قد سلم الإمام، فسلم ثم سجد سجدتين، ثم سمع سلام الإمام، فسلم أيضا، وسجد الإمام فسجد معه؟ فقال: يعيد الصلاة إذا كان قد سلم قبل سلامه، وسجد. انتهى. وهذا صحيح على القول بأن السلام سهوا يخرج عن الصلاة، فلما كان يخرج أبطل سجوده قبل الرجوع إليها، ووجب عليه استينافها كما في المدونة فيمن سلم من ركعتين ساهيا، ثم أكل أو شرب، ولم يطل، فإنه يبتدئ ولا يبني. وأما على أن السلام سهوا لا يخرج عن الصلاة فيحمل عنه السجود الذي بعد أن سلم قبل أن يكمل الإمام صلاته، وإذا سلم الإمام من اثنتين ساهيا وسجد للسهو ثم تذكر أنه بقي عليه شيء من صلاته أتمها وأعاد سجود السهو، وكذا لو كان قبل السلام لأعادهما، وإذا ظن أنه سلم فسلم، ثم علم قبل أن يسلم الإمام، فعلى الأول يرجع بتكبير، وعلى الثاني يرجع بلا تكبير.
الثاني: ينبني على أن السلام سهوا لا يخرج عن الصلاة فيمن دخل مع الإمام في التشهد الأخير، فلما سلم الإمام وقام هو فقضى صلاته رجع الإمام فقال: إني كنت أسقطت سجدة، أنه ينظر فإن ركع الركعة الأولى من قضائه في حد لو رجع الإمام له لصح له الرجوع إلى إصلاح صلاته ألغى تلك الركعة؛ لأنه صلاها في حكم الإمام، وإن كان لم يركع في الركعة الأولى من قضائه إلا بعد أن فات الإمام الرجوع إلى إصلاح صلاته، صحت له تلك الركعة، وسجد قبل السلام؛ لأنه قرأ الحمد في حكم الإمام فكأنه أسقطها.
الثالث: اعلم أن السلام من الصلاة إما أن يقع في محله؛ أي بعد تمام الصلاة، أولا فإن كان بعد تمام الصلاة وقصد به التحليل فالأمر واضح، وإن سلم غير قاصد به التحليل كما لو وقع سهوا أجزأ على أحد القولين المتقدمين، في قوله: وفي اشتراط نية الخروج به خلاف إلا أن ينوي به تسليمة الفضل، وإن سلم قبل تمام الصلاة قاصدا به التحليل وهو يعلم أن الصلاة لم تتم بطلت صلاته، وإن ظن، أي اعتقد تمامها فسلم لذلك فإذا هي لم تتم فذلك هو محل الاختلاف المتقدم، وهو كون السلام سهوا يخرج عن حكم الصلاة أولا، وأما إن سلم ساهيا قبل تمام صلاته غير قاصد التحليل فإنه لا يخرج عن حكم الصلاة بإجماع، بل ذلك سهو دخل عليه يسجد له بعد السلام فتأمل تلك الأقسام الأربعة الحسان. انظر الحطاب.
وبترك قبلي عن ثلاث سنن وطال؛ يعني أن المصلي إذا ترتب عليه قبلي وكان عن ثلاث سنن فأكثر، وتركه سهوا ولم يتذكره حتى حصل طول من انتهاء صلاته التي ترتب فيها، فإن صلاته تبطل، ومثل الطول ما إذا حصل مانع. وكذا إن تكلم، أو لابس نجاسة: أو استدبر عامدا قاله ابن هارون. قاله بناني. وقوله: "عن ثلاث سنن" سواء كانت قولية كثلاث تكبيرات أو تكبيرتين مع تسميعة، أو تسميعتين مع تكبيرة، أو قولية وفعلية كترك الجلوس الأول؛ إذ يلزم عليه ترك التشهد، والجلوس له، والتكبير للقيام بعده، كما في الرهوني عن التوضيح، ونصه؛ لأنه محتو على ثلاث سنن: الجلوس، والتكبير، والتشهد. وأما فعلية فلا يتأتى قاله الشيخ إبراهيم. وقوله: وبترك قبلي عن ثلاث سنن؛ أي مراعاة للقول بوجوبه هذا أقرب ما يدفع به إشكال إبطاله مع أنه سنة. قاله الشيخ الأمير. وقال الشيخ محمد بن الحسن: إن الجلوس الوسط فيه سنتان قوليتان: التشهد، ولفظه. والظاهر ما قدمته. والله سبحانه أعلم. وقوله:"وطال"، محل ذلك حيث تركه سهوا، وأما عمدا فتبطل قطعا، وإن لم يطل. قاله الشيخ عبد الباقي. ولا يجري فيه الخلاف الآتي في ترك السنن عمدا؛ لأن هذا ترك السنن وما يترتب عليها بخلاف الآتي، فإنه ترك سنة عمدا قاله عبد الباقي.
فعلم أن المصنف شامل لتركه عمدا أو سهوا، ولكن قيد الطول راجع للسهو، وأما السورة فمشتملة على سنتين: نفسها، والقيام لها. وأما صفتها من سر أو جهر فبعض سنة فلا يوجب قبليها بطلانا مع الطول -كما في الرسالة. والله سبحانه أعلم. وفي الحطاب عند قوله:"وبترك قبلي عن ثلاث سنن"، كما لو ترك السورة، ولم يقم لها، فإنه ترك السورة والقيام لها، وصفة القراءة من الجهر والإسرار فلو قام لها فلا شيء عليه. صرح به الشيخ زروق. وقال الرهوني: الذي يدل عليه كلام أهل المذهب أن الراجح في هذا؛ يعني ترك القبلي المرتب عن ترك السورة الصحة، وكلام الرسالة صريح في ذلك، وسلم كلامها القلشاني، والشيخ زروق. ونقل ابن يونس عن محمد مثله، وساقه كأنه المذهب، ولم يقيده بشيء ولم يحك خلافه، وقال ابن القاسم في العتبية: فإن نسيها حتى طال فلا شيء عليه، وقال أشهب ومالك في مختصر ما ليس في المختصر: لا شيء عليه، لا إعادة ولا سجود. وقال عيسى: إذا تركها عمدا أو جهلا أعاد أبدا، وجعلها واجبة، وعلى هذا إذا تركها سهوا ولم يسجد حتى طال الأمر، تبطل صلاته. انتهى. منه بلفظه على نقل ابن غازي. نقله اللخمي. قال الرهوني: فأنت ترى اللخمي لم يحك القول بالبطلان إلا تخريجا على قول عيسى، والخرج عليه خلاف مذهب المدونة. انتهى.
لا أقل؛ يعني أن السجود القبلي إذا ترتب عن أقل من ثلاث سنن، فإن الصلاة لا تبطل بتركه سهوا مع الطول، وإذا لم تبطل مع الطول. فلا سجود؛ يعني أن القبلي إنما يطلب مع القرب لأنه سنة مرتبطة بالصلاة وتابعة لها، ومن حكم التابع أن يعطى حكم التبوع بالقرب، فإذا بعد لم يلحق به فلذا لم يؤت به مع الطول. وينظر حينئذ، فإن كان مرتبا عن ثلاث سنن، أعاد الصلاة أبدا لبطلانها بفواته، وإن كان عن أقل من ثلاث سنن لم تبطل بفواته. والله سبحانه أعلم. ومن المدونة: فإن كانتا أي سجدتا السهو عن تكبيرتين، أو سمع الله لمن حمده مرتين عمدا أو قراءة السورة مع أم القرآن من ركعة أو ركعتين، أو ترك الجهر في القراءة فليسجدهما إن قرب، وإن تباعد، وطال الكلام، وانتقض وضوءه، فلا شيء عليه. نقله الرهوني. وفهم من قوله:"قبلي"، أنها لا تبطل بترك البعدي، وهو كذلك، ويسجده أبدا. كما مر. وقال الهواري: لو سها
مدرك ركعة من الرباعية أو من المغرب عن الجلوس الأول من قضائه، لكان كمن نسي الجلوس من اثنتين، إلا أنه إن نسي سجود السهو حتى طال لم تكن عليه إعادة الصلاة فيما يقع بقلبي لدخول الخلاف فيه من كل وجه، وكذا لو تعمد تركه على مراعاة الخلاف فيه، ولم أر فيه نصا. انتهى. وهو الظاهر. والله أعلم. قاله الإمام الحطاب. واعلم أن كل سجود بعدي أو قبلي مرتب عن أقل من ثلاث سنن لا يقطع من ذكره في صلاة. كما مر. فيأتي به، وبالبعدي بعد الصلاة، وأما القبلي المرتب عن ثلاث سنن، فأشار إليه بقوله: وإن ذكره في صلاة؛ الضمير البارز عائد على القبلي المرتب عن ثلاث سنن يعني أن من ذكر القبلي المرتب عن ثلاث سنن؛ وهو في صلاة فلا يخلوا من أن يكون قد حصل من الطول بين الأولى المتروك هو منها، وبين الثانية المذكور فيها ما تبطل به الأولى أو لا، فإن ذكره في الثانية، والحال أن الأولى قد بطلت من أجل الطول الحاصل قبل الدخول في الثانية، فالحكم في ذلك كحكم ذكرها؛ أي صلاة في صلاة قطع فذ وشفع إن ركع، وإمام ومأمومه لا مؤتم فيعيد في الوقت. كما مر. في الفوائت، وقوله:"وبطلت" لم يبرز الضمير إما لعدم اللبس على رأي الكوفيين، وإما لا اختاره أبو حيان من أن الإبراز إنما يجب مع الوصف دون الفعل. وبما قررت علم أن قوله:"وبطلت" جملة حالية، وأن الطول فيها خارج عن الصلاة. والله سبحانه أعلم.
وإلا؛ أي وإلا يحكم ببطلان الأولى لعدم الطول المذكور، فالحكم في ذلك، كحكم ذاكر بعض بالتنوين؛ أي كمن ذكر بعض صلاة في صلاة، وذلك له أربعة أوجه؛ لأن المتروك إما من فرض أو نفل، وعلى كل ذكره في فرض أو نفل، فإن كان المتروك. من فرض ذكره في فرض أو نفل، فإنه إما أن يذكره بعد أن أطال القراءة، ومثل طول القراءة الركوع أولا، فإن ذكره بعد أن أطال القراءة من غير ركوع، بأن خرج من الفاتحة. قاله الشيخ عبد الباقي. أو ركع بالانحناء من غير قراءة فاتحة كأمي ومأموم، بطلت الصلاة المذكور منها إن سلم أو ظن السلام، وإلا فلا، ويرجع لإتمامها، ويعتد بما فعله في المذكور فيها فيجعله لإصلاح الأولى، والطول في هذه داخل الصلاة. وما قدمته في تفسير طول القراءة هو لعبد الباقي هنا كما عرفت. قال الشيخ محمد بن الحسن: قد
مر له في الفرائض عن أبي الحسن أن المراد بطول القراءة الزيادة على الفاتحة، ونقله ابن عرفة عن ابن رشد، فيجب اعتماده. انتهى. والله سبحانه أعلم.
وتحصل مما مر أن البطلان في ذكر البعض، وذكر القبلي المرتب عن ثلاث سنن مشروط بالسلام أو ظنه فيهما، ويفترقان إن لم يسلم ولم يظنه، ففي البعض يعتد بما فعل، وفي القبلي يرجع ولا يعتد بما فعل.
وحيث بطلت الأولى، أتم النفل. والمراد بالنفل ما قابل الفرض، فيشمل السنة والندب، وإنما أتمه لأنه لا ترتيب بين الفريضة والنافلة. ويتم النفل إن اتسع الوقت مطلقا عقد ركعة أم لا، وكذا إن ضاق الوقت وعقد ركعة أي أتمها بسجدتيها، وإلا تركه وأحرم بالأولى.
وقطع غيره؛ يعني أنه إذا ذكر القبلي المرتب عن ثلاث سنن أو بعض صلاة في الفريضة بعد أن أطال القراءة أو ركع، فإن الأولى تبطل -كما مر- ويقطع الفريضة المذكور فيها لوجوب الترتيب إماما أو فذا لا مأموما فيتمادى. ومحل قطعه للفريضة إن ضاق الوقت مطلقا عقد ركعة أم لا، وكذا إن اتسع ولم يعقد ركعة.
وندب الإشفاع إن عقد ركعة؛ أي أتمها بسجدتيها؛ يعني أنه إذا عقد ركعة من الفريضة ثم ذكر القبلي أو بعض فريضة فإنه يندب له أن يشفع تلك الركعة بأخرى، فينصرف عن شفع بشرط أن يكون الوقت قد اتسع، وهذا في غير المغرب. وأما هي فلا يشفعها -كما مر- في الفوائت، ويتم الصبح والجمعة بعد ركعة بنية على قول، والمذهب أنه يشفعهما. وانظر هل النفل المنذور كالفرض نظرا لطرو النذر، أو كالنفل نظرا لأصله؟ ولا تدخل الجنازة في كلام المصنف هنا؛ لأنه لا يتأتى فيها الإشفاع، بل إما القطع أو الإتمام. وقوله:"وأتم النفل وقطع غيره"، إنما أتم النفل في ضيق الوقت مع عقد ركعة منه، وقطع الفرض مع ضيقه؛ لأن النفل لا يقضى فلو لم يتمه لمذهب بالكلية، والفرض إذا لم يشفعه لضيق الوقت يأتي به، وإلا راجع لقوله: إن أطال القراءة أو ركع؛ أي وإن لم يحصل منه في الثانية طول قراءة ولا انحناء، وكان قد سلم أو ظن السلام رجع
لإصلاح الأولى؛ ولو مأموما، بلا سلام من الثانية؛ أي يجب تركه، فإن سلم بطلت في غير القبلي المرتب عن ثلاث سنن، لقول المصنف: وصح إن قدم أو أخر.
ومن نفل في فرض تمادى؛ يعني أنه إذا كان المتروك بعضا أو قبليا مرتبا عن ثلاث سنن من نفل ولو مؤكدا، وذكره بعد دخوله في فرض، فإنه يتمادى مطلقا، عقد ركعة أم لا، أطال القراءة أم لا لقوة الفرض على النفل. كفي نفل تشبيه في التمادي؛ يعني أنه إذا كان المتروك بعضا أو قبليا عن ثلاث سنن من نفل، وذكره في نافلة، فإنه يتمادى في هذا النفل المذكور فيه ولو دون المذكور منه، وإنما محل تماديه. إن أطالها؛ يعني أن محل التمادي المذكور إنما هو حيث أطال القراءة في المذكور فيها. أو ركع؛ يعني أنه كما يتمادى حيث أطال القراءة يتمادى إذا ركع، ومفهوم كلام المصنف أنه إن لم يحصل منه طول قراءة ولا ركوع في الثانية، فإنه يرجع لإصلاح الأولى ولو دون المذكور فيها بلا سلام من الثانية، ويتشهد ويسلم ويسجد بعد في ذكر البعض، وأما في ذكر القبلي فإنه يسجد قبل السلام لا بعده؛ لأنه اجتمع له النقص والزيادة. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقد علمت أن المراد بطول القراءة الزيادة على الفاتحة، وحينئذ فيتأتى الركوع من غير طول القراءة. وقد مر أن هذا هو المعتمد، ومنهم من جعل طول القراءة الخروج من الفاتحة، ويجعل قوله:"أو ركع"، في الأمي أو المسبوق. والله سبحانه أعلم.
وهل بتعمد ترك سنة؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا في بطلان صلاة من تعمد ترك سنة، فمنهم من ذهب إلى البطلان بذلك، وهو لابن كنانة وشهره في البيان، وكذا شهره اللخمي، ومحل البطلان عند القائل به حيث كان التارك لها إماما أو فذا لا مأموما، فإن الإمام يحمل عنه ذلك. أو لا؛ يعني أن من الشيوخ من ذهب إلى أن الصلاة لا تبطل بتعمد ترك سنة، وليستغفر الله تعالى، وهو قول مالك وابن القاسم، وشهره ابن عطاء الله. وعليه فالمشهور أنه لا سجود عليه لأنه إنما يكون للسهو في ذلك. (خلاف) في التشهير كما عرفت، وقوله: وهل بتعمد ترك سنة؛ أي واحدة مؤكدة داخلة في الصلاة، فإن لم تكن السنة داخلة في الصلاة، ومثلها السنتان الخفيفتان الداخلتان في الصلاة، فإن لم تكن السنة داخلة في ماهية الصلاة كإقامة وأذان صحت كما تقدم عند قوله: وصحت ولو تركت عمدا، وكذا تصح إن لم تكن مؤكدة، ولا ما يقوم مقامها من السنتين
الخفيفتين كتكبيرة واحدة. وقد مر أن المأموم لا تبطل صلاته بتعمد ترك سنة مؤكدة، بل لا تبطل ولو ترك السنن كلها فهو خارج عن الخلاف، كما علمت. ومفهوم واحدة أنه لو ترك الفذ أو الإمام أكثر من واحدة أو ما يقوم مقامها، بطلت باتفاقهما، كما عند ابن رشد، ولكن ذكر سند عن المدونة أن: من ترك السورة في الأوليين استغفر الله ولا شيء عليه، وإن ترك سنة مختلفا في وجوبها وسنيتها كالفاتحة فيما زاد على الجل، بناء على وجوبها في الجل، فتبطل بتركها عمدا في الزائد عليه مراعاة للقول بوجوبها في الكل. قال الشيخ بناني: تقدم عن اللخمي الخلاف في سجود السهو لتركها عمدا، وقال القلشاني: وعلى وجوب الفاتحة في الأكثر، قال اللخمي: هي في الأقل سنة فيسجد لتركها سهوا قبل، ويختلف إذا تركها عمدا، هل تبطل الصلاة أو تنجبر بالسجود على ترك السنن عمدا؟
وعلم مما قررت أن محل الخلاف خمسمة أشياء؛ أولها: أن تكون السنة داخلة في ماهية الصلاة لا خارجة عنها، كأذان وإقامة فلا تبطل بتعمد تركهما. ثانيها: أن تكون مؤكدة أو ما يقوم مقامها من السنتين الخفيفتين كتكبيرتين لا تكبيرة لغير عيد. ثالثها: كون المتعمد للترك إماما أو فذا رابعها: أن لا يترك أكثر من واحدة، وإلا بطلت قطعا على ما مر خامسها: أن يتفق على سنيتها لا فاتحة على ما مر. والله سبحانه أعلم.
واعلم أن الإمام يحمل عن المأموم كل شيء فلا يضره ما ترك عمدا أو سهوا؛ أي لا يبطل عليه إلا تكبيرة الإحرام، والسلام، والركوع، والسجود، والرفع منه، وجلوس السلام ونحو ذلك، ولكنه أساء في تعمد الترك مع صحة صلاته. وعلم مما مر أيضا أن محل الخلاف إنما هو في السنن الثمانية التي تقدم ذكرها، وهي السنن الموجبة للسجود، والمشار إليها بقوله:
سينان شينان كذا جيمان
…
تاءان عد السنن الثمان
وقال الرهوني بعد جلب كثير من النقول: فإذا تأملت ما سبق كله ظهر لك أن الراجح القول بالصحة؛ لأنه نص قول ابن القاسم، وروايته: عن مالك في المدونة وغيرها، وشهره ابن عطاء
الله، وابن بشير، وابن ناجي، وصححه ابن رشد ورجحه في الشامل برد مقابله، واعتمده أبو عمر قائلا: إن القول بالبطلان ضعيف عند الفقهاء، وليس لقائله سلف ولا حظ من النظر، ولو كان كذلك لم يعرف الفرض من غيره. وقال: إن طريقة الأكثر أن الخلاف غير مقيد بترك سنة واحدة، بل جار في ترك أكثر منها، وقال: إن التوضيح صرح بجريان الخلاف في الجلوس الوسط. وحكى ابن بطال الاتفاق على بطلان صلاة من تركه عمدا: وأبو عمر الإجماع عليه.
وبترك ركن؛ يعني أن المصلي إذا ترك ركنا من صلاته فإن كان متعمدا لذلك تبطل صلاته، وأما إن كان ساهيا فإنما تبطل إذا طال ما بين انتهاء صلاته وتذكره، وقوله:"وطال" جملة حالية من ترك؛ أي حال كون الترك طال زمنه. كشرط تشبيه في البطلان؛ يعني أن الصلاة تبطل بترك شرط من شروطها الأربعة من: طهارة حدث، وخبث، وستر عورة، واستقبال قبلة. وقد مر ذلك مبينا في محله.
وتداركه؛ يعني أنه لا تبطل صلاته في ما إذا ترك الركن سهوا وتذكره قبل الطول، والحكم في ذلك أن يتدارك الركن المتروك إن أمكن تداركه، لا إن لم يمكن: كنية ولا شرطا فالبطلان ليس إلا، والتدارك أن يأتي بالركن فقط من غير استيناف. ركعة قال الشيخ إبراهيم: هو بيان لمفهوم طال. إن لم يسلم؛ يعني أن الركن المتروك سهوا إما أن يكون من الركعة الأخيرة، أو من غيرها، فإن كان من الأخيرة فإنما يتداركه حيث لم يسلم أصلا، أو سلم ساهيا عن كونه في الصلاة، أو ساهيا عن تلفظه به، أو غلطا فيأتي به وبما بعده. ومفهوم قوله:"إن لم يسلم"، أنه إن سلم معتقدا الكمال قصد التحليل أم لا، فاته التدارك -كما يأتي- لأن السلام ركن حصل بعد ركعة بها خلل فأشبه عقد ما بعدها، فيأتي بركعة كاملة إن قرب سلامه، ولم يخرج من المسجد كما يأتي للمصنف، حيث قال:"وبنى إن قرب" والمعتبر سلام التارك نفسه، فسلام الإمام لا يفيت التدارك على المأموم فيأتي بما نسيه من السجود مثلا عند ابن القاسم، وأشهب، ومطرف، وابن الماجشون. وقيل: يفيته؛ وهو لابن هارون، وعليه يلغيها ويأتي بركعة. وقوله:"إن لم يسلم" شامل للأخيرة، ولما إذا سلم من غيرها معتقدا الكمال ثم تبين أنه نسي سجدة من الركعة الثانية من رباعية أو ثلاثية، فيأتي بركعتها وبما بقي من الصلاة إن قرب بإحرام. قاله الشيخ إبراهيم.
ويستثنى من المصنف الجلوس بقدر السلام فلا يفيته السلام كما في المدونة، فيجلس بعد التذكر، ويتشهد، ويسلم، ويسجد بعد لسهوه إن قرب، فإن طال بطلت. وقوله:"وتداركه إن لم يسلم"، ما مشى عليه المصنف هو المذهب، وقيل: لا يفيت السلام التدارك.
ولم يعقد ركوعا؛ يعني أنه إذا كان الركن المتروك سهوا من غير الركعة الأخيرة، فإنه يتداركه إن لم يعقد ركوعا أصليا، فإن عقده فات التدارك ورجعت الثانية أولى. وأما الركوع الزائد فلا يفيت التدارك، وقيل: يفيته، وعليه فهل تنوب عن ركعة الخلل أم لا؟ قولان، والكلام هنا في الفذ، والإمام. وحكم المأموم هو ما يأتي في قوله:"وإن زوحم". قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني.
واعلم أن الركن هو ما تنعدم الماهية بانعدامه، وهو من أجزائها كالركوع والسجود ونحوهما من أجزاء الصلاة، والشرط ما تنعدم الماهية بانعدامه، ولكنه خارج عن الصلاة كالطهارة بقسميها، وستر العورة، واستقبال القبلة، وهي شروط الصلاة الأربعة. والله سبحانه أعلم. وسيأتي كيفية التدارك في قوله:"وتارك ركوع يرجع قائما".
ولما كان العقد يختلف ففي بعض المسائل يعتبر بالسجدتين -كما تقدم- وفي بعضها برفع الرأس، وهو الأعم الأغلب عند ابن القاسم، وفي بعضها بالانحناء، وهو الأعم الأغلب عند أشهب، أشار إلى مذهب ابن القاسم بقوله: وهو رفع رأس؛ يعني أن عقد الركوع المفيت للتدارك أي الوجب لبطلان الركعة، هو رفع رأس من الركعة التالية لركعة النقص عند ابن القاسم مطمئنا معتدلا، فإن رفع دونهما فكمن لم يرفع، فيرجع ويتدارك لا مجرد انحناء، خلافا لأشهب. إلا لترك ركوع؛ يعني أن هذه المسائل المستثناة عقد الركوع فيها المفيت للتدارك ليس هو رفع الرأس المذكور. قال الشيخ إبراهيم: ولا مفهوم لركوع أي إلا لترك ركوع أو رفع منه أو سجود أو قراءة، فلو قال: إلا لترك ركن كركوع لكان أشمل. انتهى. وسيأتي قريبا عن الشيخ عبد الباقي ما يخالفه، والظاهر ما للشيخ عبد الباقي لا ما للشيخ إبراهيم؛ لأنه مخالف لظاهر المصنف، ولأنه يناقض قول المصنف: وبترك ركن الخ. قاله جامعه عفا الله عنه. والله سبحانه أعلم. والظاهر أن اللام في قوله: "لترك"، بمعنى في على حد قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} ، ولا
مانع من كونها للتعليل. والله سبحانه أعلم. والمعتبر في هذه المستثنيات الانحناء لما يلي الركعة التي ترك ركوعها، كما أشار إلى ذلك بقوله: فبالانحناء، يعني أن الركوع المتروك سهوا يفوت تداركه بالانحناء، وهو وضع اليدين على الركبتين، وظاهره وإن لم يطمئن في انحنائه. قاله الشيخ إبراهيم. فتبطل ركعة النقص، وتقوم هذه مقامها عند ابن القاسم كقول أشهب؛ إذ لا بد من إبطال أحد الركوعين، وإبقاءُ ما تلبس به أولى، قال الشيخ عبد الباقي: وأما لو ترك الرفع من الركوع فقط فيدخل فيما قبل الاستثناء، فلا يفيته الانحناء وإنما يفيته رفع رأسه من التي تلي ما تركه منه فإن ذكره منحنيا رفع بنية رفع الركوع السابق، ثم يسجد لوجوب ترتيب الأداء. ولو تذكره في قيام الركعة الثانية فلا يتأتى له الإتيان بما فاته إلا إذا ركع، فيركع. انتهى كلام عبد الباقي، وهو صريح في خلاف قول الشبراخيتي، فيفيد إبقاء المصنف على عمومه، ولم يتعقبه بناني. وقوله:"فبالانحناء"، قال الشيخ إبراهيم: أي فينعقد بالانحناء إن قلنا إن ابن القاسم رجع لأشهب، أو يفوت تداركه بالانحناء إن قلنا إنه لم يرجع له، والأول هو ظاهر كلام المصنف خصوصا، والأصل في الاستثناء الاتصال.
والحاصل أن ابن القاسم وافق أشهب في هذه المستثنيات، وقوله: كسر، الكاف للتشبيه وهي لا تدخل شيئا، لا تمثيلية؛ يعني أن من جهر في محل السر يطالب بأن يعيد القراءة سرا، ويفوت تلافي ذلك بالانحناء، ومثل السر الجهر والسورة والتنكيس؛ بأن يقدم السورة على الفاتحة، فيفوت تدارك ذلك بالانحناء.
وتكبير عيد؛ يعني أن من ترك تكبير العيد كلا أو بعضا، عمدا أو سهوا يفوته تلافي ما ترك من ذلك بالانحناء. كما سيأتي. وسجدة تلاوة؛ يعني أن من قرأ ما فيه سجود في صلاته، وجاوز محل السجدة ولم يسجد، يطالب بسجود التلاوة ما لم يركع؛ أي ينحن، فإذا انحنى للركوع بوضع اليدين على الركبتين، فإن سجدة التلاوة تفوته، فإن كانت الصلاة فرضا فإنه لا يأتي بها فيما يأتي به من صلاته، وإن كانت نافلة فعلها في ثانيته، كما يأتي. وإنما لم تفت بالركوع الآتي في قوله:"فإن قصدها فركع سهوا" الخ، على مذهب ابن القاسم؛ لأن ما يأتي انحط بنية
السجدة سهوا، وركع سهوا فلم يعتد بالركوع؛ لأن ابن القاسم يشترط قصد الحركة للركوع وما هنا انحنى بنية الركوع فيعتد به، ويفوت تلافيها اتفاقا.
وذكر بعض؛ يعني أن من ترك بعض صلاة سهوا وذكره في صلاة أخرى، يفوته تلافي ما ذكره من الأولى بالانحناء في الثانية على ما مر تفصيله، ومثله القبلي المرتب عن ثلاث سنن وشمل كلام المصنف ست صور وهي: ما إذا كان البعض، والقبلي من فرض، وذكرهما في فرض أو نفل، أو من نفل، وذكرهما في نفل، ولا يشمل ما إذا كانا من نفل وذكرهما في فرض؛ إذ لا يعتبر هنا في فواتهعا طول قراءة ولا ركوع. كما نص عليه غير واحد.
وإقامة مغرب عليه وهو بها؛ يعني أن من أقام عليه الإمام الراتب صلاة المغرب؛ وهو بها أي في صلاة المغرب في المسجد يفوته القطع بوضع يديه على ركبتيه في ركوع الثالثة، والمشهور في المذهب أن من أقيمت عليه المغرب وقد أتم منها ركعتين بسجودهما يتمها وقبل ذلك يقطعها. ولعل المصنف قصد جمع النظائر، وإلا فهذا ضعيف -كما علمت- وسيذكر المصنف حكم غير المغرب بقوله:"وببيته يتمها"، وقوله:"وإقامة"، عطف على قوله:"سر"، وفي قول المصنف:"وهو بها"، إجمال؛ لأنه يحتمل أنه في الركعة الأولى أو الثانية أو الثالثة، ولا يمكن حمل المصنف على المشهور؛ لأن كلامه فيما يفيته الانحناء. انتهى.
ولما قدم المصنف أن تارك الركن من الركعة يتداركه إن لم يسلم، ووراء ذلك أحد أمرين: إما بطلان الصلاة جملة، وهو المنبه عليه بقوله:"وبترك ركن وطال"، وإما بطلان ركعة النقص فقط، والبناء على ما بقي، وهو المنبه عليه بقوله: وبنى؛ يعني أن المصلي إذا سها عن ركن من صلاته وسلم، فإنه يفوته التدارك، ويبني على ما معه من صلاته ويأتي بدل ركعة الخلل بركعة كاملة. إن قرب؛ يعني أن هذا الذي سلم وفاته التدارك فإنه يبني -كما مر- وإنما يكون له البناء بشرطين؛ فإن انتفيا أو أحدهما بطلت صلاته؛ أحدهما أن يقرب سلامه عرفا من ذكر ما عليه، فإن بعد بطلت صلاته -كما عرفت- وأشار لثانيهما بقوله: ولم يخرج من المسجد؛ يعني أنه كما يشترط في بنائه القرب، يشترط فيه أيضا أن لا يخرج من المسجد الذي صلى فيه صلاته التي
سها عن بعض أركانها باتفاق ابن القاسم وأشهب، فلو بعد ابتدأ صلاته -كما مر- لبطلانها، ولو خرج من المسجد ولو صغيرا وصلى بإزائه بما يعد خروجا عرفا لم يَبْنِ وتبطل صلاته، وابتدأها، ولو قرب جدا فالخروج بإحدى رجليه لا يعد خروجا عرفا، وإن كان لا يخرج من المسجد فالظاهر أن الطول بالعرف ولو صلى بغير المسجد، فقيل: حد القرب الصفان والثلاثة، وقيل: بالعرف من غير تحديد، وقال أشهب: حيث يصلي بصلاة الإمام، واقتصر على هذا الأخير. قاله الشيخ إبراهيم. وبما قررت علم أن الواو في قوله:"ولم يخرج من المسجد" على بابها. وقوله: حيث يصلي بصلاة الإمام، يفيد أن البعد المجاوزة التي تمنعه أن يصلي بصلاتهم بأن لا يرى أفعال الإمام ولا المأمومين، ولا قوله:"ولا قولهم"؛ لأن الاقتداء يحصل برؤية فعل الإمام أو سماع قوله أو برؤية فعل المأموم أو سماع قوله وما قدمته من أن ابن القاسم يقول بأن: الخروج من المسجد مبطل هو للشادلي على الرسالة، ونحوه للشيخ محمد بن الحسن والتاودي، فإنه، أي التاودي، قال في قول الشيخ عبد الباقي: الأول لابن القاسم؛ يعني بالأول القرب بالعرف، والثاني لأشهب؛ يعني بالثاني الخروج من المسجد نحوه في التوضيح وهو مشكل؛ إذ ابن القاسم عنده الخروج من المسجد طول أيضا، كما صرح به أبو الحسن، فقال في قول المدونة: من سها عن سجدة أو ركعة أو عن سجدتي السهو قبل السلام بنى فيما قرب، وإن تباعد ابتدأ صلاته، ما نصه: البعد الصفان أو الثلاثة أو الخروج من المسجد. انتهى. نقله الرماصي. ونقل أبو الحسن عن ابن المواز أنه قال: لا خلاف أن المسجد طول؛ أي الخروج من المسجد طول باتفاق. وحينئذ فيتعين أن "الواو" في كلام المصنف للجمع، لا بمعنى "أو". وفي المواق عن المدونة أنهما: معا طول عند الإمام. انتهى. وبين المصنف كيفية البناء بقوله: "بإحرام" متعلق بقوله: "وبنى" يعني أن البناء إنما يكون بإحرام؛ أي تكبير ونية، ولو قرب جدا. والظاهر ندب رفع اليدين حين شروعه. ولم تبطل بتركه؛ يعني أن الإحرام بمعنى التكبير إنما هو على وجه السنية أو الندب، فلذا لم تبطل الصلاة بتركه؛ أي الإحرام بمعنى التكبير عند ابن أبي زيد ومشايخ عصره. وأما النية؛ أي نية إتمام ما بقي من الصلاة فلا بد منها، ولو قرب جدا اتفاقا، فالقائل بأنه إذا قرب جدا لا يحتاج إلى إحرام اتفاقا أراد به التكبير، فالخلاف إنما هو في التكبير حيث قرب
جدا مع أنه طريق، والأخرى لا بد منه لا في النية، خلاف ما يوهمه التتائي من أن اختلاف الطريقتين في الإحرام بمعنى النية والتكبير معا، فلا يعول عليه لاتفاقهما على النية مع القرب جدا. انتهى. نقله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: في الاتفاق نظر، بل النية إنما يحتاج إليها عند من يرى أن السلام مع اعتقاد الكمال يخرج من الصلاة، وهو قول مالك وابن القاسم، لا عند غيره. انظر المواق، والتوضيح، والحطاب، فالرد على التتائي غير صحيح. والحاصل أنهما طريقان، الأولى للباجي عن ابن القاسم عن مالك: وجوب الإحرام ولو قرب جدا، والثانية لابن بشير: الاتفاق على عدم الإحرام إن قرب جدا، والظاهر مما ذكرناه أن اختلافهما في الإحرام بمعنى النية والتكبير، كما يقول التتائي، لا في التكبير فقط كما يقوله غيره. والله أعلم. انتهى. ونقض الرهوني ما للبناني، وأقر ما لعبد الباقي والله سبحانه أعلم.
وجلس له؛ يعني أن من سلم من اثنتين، وتذكر ما بقي من صلاته قائما، يجلس ثم بعد أن يجلس يكبر؛ لأنها الحالة التي فارق منها الصلاة. قاله ابن شبلون. وقال ابن القاسم: يكبر قائما ثم يجلس، وأنكره ابن رشد واستظهر قول ابن شبلون، ولذا قال: على الأظهر؛ وقيل: يكبر قائما أي ويستمر قائما. والله سبحانه أعلم. وأما إن سلم قبل عقد ركعة، أو بعد عقدها، أو عقد ثلاث فإنه يرجع إلى حال رفعه من السجود، ويحرم حينئذ. وظاهره: ولو كان جلس قبل المفارقة، وهو الظاهر لأنه جلوس في غير محله، وكذا لو لم يسلم حتى استقل قائما، فإنه يرجع لحال رفعه من السجود، ويحرم منه فيما يظهر، وتكون حركته كلها مقصودة للركن المكمل. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الإمام الحطاب عن الهواري: إنه إذا سلم من الاثنتين يكبر وهو جالس، ثم يكبر تكبيرة أخرى للقيام يريد بعد أن يستوي قائما. انتهى. ثم قال: وإن سلم على ركعة أو ثلاث ولم يحدث ولم يطل فهو بمنزلة من سلم على ركعتين في كل ما قررناه. انتهى. وقوله: وجلس له؛ أي للإحرام. وقد علمت أنه يجلس بغير تكبير، فإذا جلس كبر، وقوله:"وجلس له"، الظاهر أن حكم الجلوس الوجوب، ولكن لا تبطل بتركه فيما يظهر، مراعاة لقول من يقول: يحرم قائما.
ولما قدم أنه يتدارك الركن من الأخيرة إن لم يسلم وإلا فات، كان مظنة سؤال، وهو ما الذي يفيت تدارك السلام الذي لا ركن بعده، فأجاب مشيرا إلى أن ذلك خمسة أقسام، بقوله: وأعاد تارك السلام التشهد؛ يعني أن المصلي إذا ترك السلام سهوا، فإنه يعيد التشهد بعد أن يحرم جالسا، ويسجد بعد السلام إذا طال طولا متوسطا أو فارق موضعه. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: قوله: "ويسجد بعد" الخ، هذا صحيح فيما إذا فارق موضعه، وأما في الطول المتوسط فجزم صاحب شرح المرشد بأنه لا يسجد؛ وهو ظاهر؛ لأنه طول بمحل شرع به. وسجد إن انحرف عن القبلة؛ يعني أن من ترك السلام سهوا يسجد بعد السلام؛ أي من بعد أن يعتدل ويتوجه إلى القبلة، ويسلم فيما إذا انحرف عن القبلة من غير طول، ولا مفارقة موضع، ولا يحتاج هذا إلى تكبير ولا إلى إعادة تشهد، ولو لم ينحرف في هذا القسم أو انحرف يسيرا سلم فقط، ولا سجود عليه، فما لا يبطل عمده لا سجود في سهوه، وإن طال كثيرا بطلت لقوله:"وبترك ركن وطال". وهذا في غير مكة والمدينة. كما مر. فتأمل تلك الصور الخمس الحسان. وقوله: "وأعاد تارك السلام التشهد"، الظاهر أنه على سبيل السنة لا الندب؛ لأن ما حصل منه قبل السلام من التشهد كالعدم. والله سبحانه أعلم. قاله الشيخ عبد الباقي. وسكت المصنف عن الإحرام في القسمين الأولين اتكالا على قوله:"بإحرام"، وسكت عن كون السجود بعد لوضوح الزيادة.
ورجع تارك الجلوس الأول؛ يعني أن المصلي إذا ترك الجلوس الأول سهوا -والمراد به ما عدا جلوس السلام- فإنه يرجع ليأتي به، ومحل رجوعه ليأتي بالجلوس الأول إنما هو، إن لم يفارق الأرض بيده وركبتيه: منطوق هذا الكلام صادق بسبع صور؛ بأن لم يفارق الأرض أصلا، أو فارقها باليدين دون الركبتين، أو العكس، أو فارق بإحدى يديه مع ركبتيه، أو بإحدى ركبتيه مع يديه، أو بإحدى يديه فقط، أو بإحدى ركبتيه فقط. فيرجع في هذه الصور السبع، وهل رجوعه واجب أو لا؟ قولان مستفادان من قوله:"وهل بتعمد ترك سنة أو". والمشهور إلحاق الجاهل بالعامد، وعلى أن رجوعه ليس بواجب فالظاهر أنه سنة. قاله الشيخ إبراهيم. وقال عقب هذا: وذكر في الحاشية أن قوله: "ورجع استحبابا" وإذا رجع، فلا سجود عليه في
تزحزحه؛ لأن ما لا يبطل عمده لا يسجد لسهوه. قاله في التوضيح. وفيه فائدتان: إحداهما أن من تزحزح للقيام في محل الجلوس عامدا صحت صلاته، ثانيتهما: أن كل ما لا يبطل عمده لا يسجد لسهوه. قاله الحطاب. وقوله: "ورجع تارك" الخ. فإن لم يرجع سهوا سجد قبل السلام، وعمدا جرى على حكم تارك السنن عمدا. وقوله:"ولا سجود؛ أي في جميع الصور السبع. وإلا بأن فارق الأرض بيديه وركبتيه بالكلية، فلا يرجع لأنه تلبس بركن، وهل يحرم؟ وربما يقتضيه نقل المواق، أو يكره؟ ويؤخذ من هذا ومما مر في السورة، وما ذكر معها أن من نسي المضمضة والاستنشاق لا يرجع لهما بعد شروعه في غسل وجهه، ويفعلهما بعد تمام فرائضه، وأن الإمام إذا شرع في الخطبة بعد فراغ مؤذن ثان ظنا منه أنه ثالث فيتمادى ولا يقطعها، وبه أفتى بعضهم، وأفتى غيره بخلافه، والصواب الأول، والظاهر أنه يجب عليه قطع أذانه حيث علم بشروع الخطيب. وقوله: وإلا فلا؛ يعني في غير المأموم، وأما هو إذا قام وحده من اثنتين واستقل، فإنه يرجع لمتابعة الإمام. كما نص عليه الشيخ محمد بن الحسن. وإنما لم يرجع للسورة ونحوها من الركوع للاتفاق على فرضيته بخلاف قيامه قبل التشهد للفاتحة، فإنه غير متفق على فرضيتها بكل ركعة، بل فيه خلاف. قاله الشيخ عبد الباقي؛ أي فلذلك رجع قبل أن يفارق الأرض بيديه وركبتيه. والله سبحانه أعلم. وقوله: "وإلا فلا"، أما قبل الاستقلال فلا يرجع على المشهور، وقيل: يرجع، ومنشأ الخلاف، هل النهوض إلى القيام في حكم القيام، أو لا يفارق حكم الجلوس إلا مع الانتصاب؟ وأما إذا استقل قائما فإنه لا يرجع بلا خلاف. كما في الحطاب. ومن نذر أن يصلي ركتتين، وأن يقرأ في كل ركعة حزبا مثلا، فقرأ نصف حزب مثلا ونسي وركع، ثم تذكر وهو راكع، فهل يرجع ويكمل أم لا؟ والظاهر أنه يرجع؛ لأن هذه القراءة واجبة، فلم يرجع من فرض لسنة خصوصا إذا عين الركعتين. قاله الإمام الحطاب.
ولا تبطل إن رجع؛ يعني أنه إذا فارق الأرض بيديه وركبتيه، فإنه لا يرجع، وإذا خالف ما أمر به ورجع فإن صلاته لا تبطل بلا خلاف حيث كان رجوعه سهوا، وكذا لو رجع عمدا أو جهلا بعد الاستقلال على المشهور، كما أشار إلى ذلك بقوله: ولو استقل، واقتصر الفاكهاني في شرح
الرسالة على القول بالبطلان في العمد بعد الاستقلال، والجاهل مساو للعامد. قاله الحطاب. وإنما صحت على المشهور فيما إذا رجع بعد الاستقلال عمدا أو جهلا، مراعاة لمن يقول إنه مأمور بالرجوع: ومقتضى ما للحطاب أن الرجوع قبل الاستقلال عمدا أو جهلا غير مبطل بلا خلاف، ومَن صلاتُه جلوسٌ ونسي الجلوس الأول ورجع بالنية عمدا: هل هي كمسألة من رجع للجلوس بعد القيام أولا؟ المشدالي: نعم، وصوبه جماعة من المذاكرين؛ لأن العلة في الأصل التلبس بالركن، وموجب السجود هو زيادة اللبث إذا قلنا بالصحة، وهذا موجود في الفرع. قاله الإمام الحطاب. وإذا رجع للتشهد بعد ما نهض وقد كان جلس، لم تبطل صلاته، كما لا تبطل إذا رجع للجلوس. انتهى من شرح الرسالة للفاكهاني، ونقله في التوضيح عن ابن رشد. قاله الإمام الحطاب. وقوله:"ولا تبطل إن رجع ولو استقل"، بل ولو قرأ إلا أن يتمها. وانظر ما المراد بإتمام القراءة؟ هل الفاتحة أو السورة؟ ويتصور ذلك في مسائل البناء والقضاء. وقوله:"ولا تبطل إن رجع ولو استقل": وإذا رجع فلا ينهض حتى يتشهد، فإن قام عمدا قبل أن يتشهد بطلت. قاله الشيخ عبد الباقي. وفي نوازل ابن الحاج: إذا قام من اثنتين ولم يجلس: فسبح به فجلس، ثم سبح به فقام؛ فإنه يعيد الصلاة؛ لأنه زاد فيها جاهلا وهو كالعامد، والمشهور عدم البطلان بكثرة السهو إن لم يزد مثلها، فلا يضر تكرره. وفي كلام الشيخ عبد الباقي هنا نظر، كما قاله الشيخ محمد بن الحسن.
وتبعه مأمومه؛ يعني أن المأموم يتبع الإمام فيما مر فيتبعه في قيامه ورجوعه، كان رجوعه مشروعا أم لا، انتصب المأموم دون الإمام أو العكس. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وفي الحطاب فلو قام الإمام والمأموم، ثم رجع الإمام بعد استوائه تبعه المأموم أيضا. انتهى. وفيه أيضا: فلو انتصب المأموم قبل الإمام، وذكر الإمام قبل أن ينتصب فرجع، فهاهنا يرجع المأموم؛ وهو المعروف. وقوله: وتبعه مأمومه؛ أي وجوبا، واستحب ابن حبيب تسبيحهم له قبل اتباعهم له، فإن لم يتبعه مأمومه سهوا أو تأويلا صحت، لا عمدا أو جهلا. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. وسجد بعده؛ يعني أن تارك الجلوس الأول إذا فارق الأرض بيديه وركبتيه، فإنه لا يرجع -كما مر- فإن رجع صحت صلاته، وسجد بعد السلام لتمحض الزيادة. وسواء رجع بعد الاستقلال أو
قبله. أما إذا استقل فمذهب ابن القاسم، وروايته أنه يسجد بعد السلام، وخالف أشهب في ذلك، وقال إنه يسجد قبل السلام؛ لأن رجوعه عنده غير معتد به، فمعه نقص التشهد وزيادة القيام. وأما إن رجع قبل الاستقلال، فقيل: يسجد بعد السلام. رواه ابن القاسم، عن مالك في المجموعة. وقال في التوضيح: إنه الأظهر: وقيل: لا سجود عليه لخفة الزيادة وقلتها. قاله الإمام الحطاب. وعلم مما قررت أن محل السجود البعدي حيث رجع، فإن لم يرجع فإنه يسجد قبل السلام. والله سبحانه أعلم.
كنفل لم يعقد ثالثته؛ تشبيه في الرجوع وسجود البعدي؛ يعني أن المصلي للنافلة إذا قام من اثنتين ساهيا، فإنه يرجع متى ما ذكر حيث لم يعقد الركعة الثالثة برفع رأسه من ركوعها، ولا يفوته الرجوع بالانحناء، ويسجد بعد السلام، وإن رجع قبل أن يفارق الأرض بيديه وركبتيه، فلا سجود. وإلا بأن عقد الثالثة، بأن ذكر بعد رفع رأسه من ركوعها، كهل أربعا لقول بعض العلماء بجواز النفل بأربع في ليل أو نهار ما عدا ركعتي الفجر لأنها محدودة باتفاق قاله الشيخ إبراهيم وعبارة الشيخ عبد الباقي كمل أربعا لقول بعض العلماء بجواز النفل بأربع في ليل أو نهار إلا الفجر؛ ثم قال والعيد والكسوف والاستسقاء كالفجر. انتهى. وقوله:"كنفل لم يعقد ثالثته"، قال الشيخ عبد الباقي: فإن لم يرجع في مسألة المصنف بطلت، ثم قال:
تنبيه: إن قام سهوا لثالثة في نفل بتراويح رمضان أو بغيرها سبح له، فإن لم يرجع، فإذا خيف عقده الثالثة قاموا، فإن تبعوه بغير تسبيح أو قبل خوف عقدها، صحت صلاتهم؛ لأنها زيادة مشروعة مأمور بها على قول، كما في الوانشريسي. وأما إن قام لثالثة في النفل عمدا، فانظر هل لا تبطل أو تبطل عليه وعليهم؟ ويدخل حينئذ تحت قوله:"وبتعمد كسجدة" انتهى. وانظر كيف جزم بالبطلان فيما إذا لم يرجع حيث قال: فإن لم يرجع في مسألة المصنف بطلت؛ يعني قوله: "كنفل لم يعقد ثالثته"، وتردد هنا في البطلان، قال الشيخ محمد بن الحسن: والظاهر عدم البطلان رعيا للقول بجواز النفل أربعا.
وفي الخامسة مطلقا؛ يعني أن الخامسة في النفل ليست كالثالثة فيه فإنه يرجع في قيامه في النفل إلى الخامسة مطلقا عقد الخامسة برفع رأسه من ركوعها أم لا: بناء على أنه لا يراعى من الخلاف إلا ما قوي: واشتهر عند الجمهور والخلاف في الأربع قوي بخلاف غيره. فإن لم يرجع بطلت. قاله الشيخ عبد الباقي.
وسجد قبله فيهما؛ أي في مسألتي النفل؛ يعني أنه إذا لم يذكر في النفل حتى عقد الثالثة فإنه يكمل النفل أربعا، ويسجد قبل السلام، وكذا إذا لم يذكر حتى قام لخامسة، فإنه يرجع مطلقا عقدها أم لا، ويسجد قبل السلام. فقوله:"فيهما"؛ أي في تكميل النفل أربعا: وفي قيامه لخامسة رجع قبل إتمامها أو بعده. كما علمت. وأما إذا قام لخامسة الفرض فإنه يسجد بعد السلام إن لم يكن هنا نقص، أما وجه السجود القبلي في الأولى من مسألتي النفل فلنقصه السلام بعد ركعتين. ولا يقال: السلام فرض فلا ينجبر بالسجود؛ لأن رعي النفل أربعا يصير سلام الركعتين كسنة، وأورد على هذا القول وهو لابن القاسم: من صلى الظهر خمسا فقد نقص السلام عن محله مع أنه يسجد بعد، وَرُدَّ بأن الثالثة والرابعة في النفل مشروعتان على قول، والنفل عندنا اثنتان، وقد نقص السلام، والخامسة في الفرض محض زيادة؛ إذ لا قائل بها.
وما تقدم من توجيه القبلي في مسألة النفل الأولى من أنه لنقص السلام بعد الركعتين هو لابن القاسم كما عرفت. وقال القاضي إسماعيل، وابن مسلمة: يسجد قبل لأنه نقص الجلوس، واختاره اللخمي، وابن الكاتب، والقابسي، وعليه فقال اللخمي: لو كان جلس بعد الثانية فلا سجود عليه لا قبل ولا بعد، وقال الشيخ عبد الباقي وهذا يفيد أن الجلوس بعد النفل لمن صلى أربعا سنة مؤكدة، وأما الثانية فوجه السجود فيها قبل السلام أنه أتى بنقص وزيادة، فالنقص قد تقدم بيانه، والزيادة واضحة، وفي رواية الأكثر في الخامسة سجوده بعد، ولم يعتمدها المصنف. والله سبحانه أعلم.
وتارك ركوع يرجع قائما؛ يعني أن من سها عن الركوع وانحط للسجود، فذكر قبل أن يسجد، أو هو ساجد، أو بعد السجود ولم ينتصب قائما، فإنه يرجع قائما ثم ينحط للركوع من القيام على المشهور. وقيل: يرجع محدودبا إلى الركوع، فإن رجع محدودبا لم تبطل صلاته على الأول،
وعلى المشهور الذي هو الأول، ندب له ان يقرأ قبل انحطاطه للركوع شيئا من القرآن فاتحة أو غيرها؛ لأن شأن الركوع أن يقع عقب قراءة. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الإمام الحطاب: وعلى المشهور فإنه إذا رجع قائما يستحب له أن يقرأ شيئا من القرآن ليكون ركوعه عقب قراءة. هكذا قال في التوضيح. وأصل المسألة في سماع أشهب، قال: ولوأنه قرأ قبل أن يركع كان أحب إلي. انتهى. وعلم منه أن المطلوب قراءة شيء من القرآن، ولا يندب له إعادة الفاتحة، وهو ظاهر. والله أعلم. انتهى. كلام الحطاب
وأما تارك الرفع من الركوع، فقال محمد: يرجع محدودبا حتى يصل إلى الركوع، ثم يرفع، فإن رجع قائما بطلت، وظاهر كلام ابن حبيب أنه لا يرجع محدودبا بل قائما كالرفع من الركوع، وكأنه رأى القصد بالرفع من الركوع أن ينحط إلى السجود من قيام، فإذا رجع إلى القيام وانحط منه إلى السجود فقد حصل المقصود، نقله المواق عن المازري. وعلم منه أن معنى قول ابن حبيب يرجع قائما كالرفع من الركوع ثم يسجد لا أنه يرجع قائما ثم يركع ثم يرفع كما صرح به الشيخ محمد بن الحسن وعلى ما لابن حبيب لا يقرأ لأنه يهوي بعد قيامه ساجدا والسجود لا يطلب فيه أن يقع عقب القراءة. وأما على قول محمد: إنه يرجع محدودبا فلا يتوهم أنه يقرأ حتى تنفى قراءته، انظر حاشية الشيخ بناني.
وعبارة الشيخ الأمير: وإن ترك الركوع رجع قائما، وندب قراءته من الفاتحة أو غيرها مع الأول فيه تكرار الركن القولي، والثاني لا يظهر في الأخيرتين، فكأنهم اغتفروا ذلك لضرورة؛ لأن شأن الركوع أن يعقب قراءة.
وسجدة يجلس؛ يعني أن من ترك السجدة الثانية، وتذكرها في حال قيامه، فإنه لا ينحط لها من قيام، بل يجلس قبل إتيانه بها، ثم يأتي بها. وظاهر المصنف كغيره أنه يجلس ليأتي بها من جلوس جلس قبل نهضته أم لا، وقيده في التوضيح بما إذا لم يكن جلس قبل نهضته، وإلاَّ خَرَّ ساجدا بغير جلوس اتفاقا. قاله الشيخ عبد الباقي. وما حكاه من الاتفاق يرد بحكاية ابن ناجي ثلاثة أقوال: يجلس مطلقا لمالك في سماع أشهب يسجد من قيام مطلقا رواه أشهب عن مالك،
ثالثها إن كانت السجدة من الركعة الثانية فالثاني لحصول الجلوس أولا، وإلا فالأول ذكره عبد الحق. وفي أبي الحسن أن: عبد الحق لما ذكر التفصيل المذكور: قال عرضت هذا على بعض شيوخنا القرويين فاعترضه، وقال: إنه وإن أتى بالجلوس في تشهده فقد بقي عليه أن ينحط للسجدة من جلوس، فإذا خر ولم يجلس كما وصفت فقد أسقط الجلوس الذي يجب أن يفعل السجدة منه، وهذا الذي قاله له عندي وجه، ونقله الحطاب عن ابن ناجي، ثم قال: وهذا يُرَجَّحُ القول الأول. والله أعلم انتهى. فتبين ضعف التقييد من أصله. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. والله سبحانه أعلم. وإذا تذكر السجدة وهو راكع، فإنه يخر لها؛ ولا يرفع وهو ظاهر المدونة. قاله الشيخ عبد الباقي، والشيخ إبراهيم. وهو يؤيد ما تقدم من أن غير الركوع من الأركان ليس كالركوع، فلا تفوت السجدة إلا برفع الرأس من الركوع. والله سبحانه أعلم. وقولي: السجدة الثانية، قال الشيخ عبد الباقي: لو كان المتروك السجدة الأولى، فلا يجلس بل ينحط من قيام، ثم يأتي بالثانية، ولو فعلها أولا لوجوب ترتيب الأداء. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: وفيه نظر بل لا يتصور ترك الأولى وفعل الثانية؛ لأن الفرض أنه أتى بسجدة واحدة؛ وهي الأولى قطعا، ولو جلس قبلها فجلوسه ملغى لوقوعه بغير محله، ولا يصيرها الجلوس قبلها ثانية، كما هو واضح. انتهى.
لا سجدتين؛ يعني أن من نسي السجدتين معا لا يجلس قبل إتيانه بهما، بل ينحط لهما من قيام حيث تذكرهما بعد قيامه اتفاقا، كمن لم ينسهما، ولو ذكر سجود الأولى وهو منحط في ركوع الثانية. ففي رفعه ليخر له من قيام ورجح، وانحطاطه منه وهو سماع القرينين
(1)
)، فلو رفع بنية الرفع من ركوع الثانية أو بلا نية أصلا، فهل تبطل أو لا تبطل عبد الحق فلو ذكر السجدتين وهو جالس أو كان ترك الركوع من الثانية وانحط لسجودها فذكر سجدتي الأولى وهو ساجد فإنه يرجع للقيام ليأتي بالسجدتين منحطا لهما منه فإن لم يفعل وسجدهما من جلوس أو سجود سهوا سجد قبل السلام لنقص الانحطاط لهما فالانحطاط لهما غير واجب وإلا لم يجبر بالسجود
(1)
في الأصل: القرويين، والمثبت من عبد الباقي ح 1 ص 262.
ويكره تعمد ذلك كما للشيخ زروق قاله الشيخ عبد الباقي وقوله والانحطاط لهما غير واجب الخ. قال الشيخ محمد بن الحسن: مثله في التوضيح، والحطاب عن عبد الحق، واعترضه اللقاني بأنه على المشهور من أن الحركة للركن مقصودة هي واجبة فرض، فكيف تنجبر بالسجود، وعلى أنها غير مقصودة فليست بواجبة ولا سنة. وأجاب بعض شيوخنا بمثل ما مر في سلام النفل من أن مراعاة القول بأنها غير مقصودة صيرتها كالسنة، فلذا جبرت بالسجود. انتهى كلام الشيخ بناني. قال الشيخ عبد الباقي: وكثيرا ما يقع انحطاط المأمومين للسجود قبل الإمام لاسيما في قنوته بعد رفعه من ثانية الصبح، وتختلف أحوالهم، فمنهم من يرجع ويقف معه، حتى يخر للسجود معه فهذا هو المطلوب على المعتمد من المذهب خلافا لقول المصنف الآتي:"لا إن خفض". ومنهم من يستمر ساجدا حتى يأتيه الإمام، فيسجد معه ويرفع برفعه. ومنهم من يرفع من سجوده قبل الإمام ويستمر جالسا إلى أن يسجد الإمام فيعيد السجود معه من جلوس، فهذان صلاتهما صحيحة حيث كان
(1)
أخذا فرضهما من رفع الركوع مع الإمام، وقد أخطآ في عدم العود له، ونقص الانحطاط يحمله عنهما الإمام، فإن لم يأخذا فرضهما معه أو فعلا ذلك عمدا بطلت صلاتهما، ومنهم من يكتفي بسجوده قبل الإمام فلا يجزئه؛ لأن المأموم لا يعتد بركن عقده قبل الإمام، فإن تنبه هذا من سهوه قبل السلام أو بعده، ولم يطل، وأعاد السجدتين ثم سلم صحت صلاته، وإن لم ينتبه حتى سلم وطال، أو تنبه قبل سلامه وتركهما عمدا وسلم وإن لم يطل، بطلت صلاته، والجاهل كالعامد. انتهى.
ولا يجبر ركوع أولاه بسجود ثانيته؛ يعني أن من ترك سجودا سهوا من ركعة أولى، وأتى بركوعها، ونسي ركوع التي تليها وأتى بسجودها؛ أي التالية لها، فإنه لا يجبر ركوع أولاه المنسيّ سجودها بسجود ثانيته المنسي ركوعها لأنه نواه للثانية، فيسجد للأولى سجودا آخر ويسجد بعد السلام، فإن ذكر وهو جالس أو ساجد، فقال عبد الحق: ينبغي أن يرجع للقيام
(1)
في عبد الباقي ج 1 ص 263: كانا.
ليأتي بالسجدتين وهو منحط لهما من قيام، فإن لم يفعل وسجدهما فقد نقص الانحطاط فيسجد قبل، ولا خصوصية لقوله:"أولاه"، وعكس المصنف لا يجبر لوجوب ترتيب الأداء إجماعا، ونص المصنف على الصورة المذكورة لأنها هي محل الخلاف بيننا وبين الشافعي، وذكر الشيخ الجزولي، والشيخ يوسف بن عمر، والأقفهسي، وغيرهم في شرح قول الرسالة ثم تهوي ساجدا لا تجلس ثم تسجد، أنه: إذا جلس ثم سجد فإن كان عامدا فلا شيء عليه؛ لأنه يسير، وإن كان سهوا، فقيل: يسجد للسهو، وقيل: لا يسجد.
وبطل بأربع سجدات من أربع ركعات الأُول؛ يعني أنه يبطل بترك أربع سجدات بفتح الجيم من أربع ركعات الركعات الثلاث الأول لفوات التدارك بعقد الركوع، ويتدارك الرابعة بأن يسجد، وكذا لو ترك ثماني سجدات فإنه يتدارك الرابعة بالإتيان بسجدتيها إن لم يسلم، فإن سلم بطلت في المسألتين، وتصير الرابعة حيث أصلحها قبل السلام أولى لفذ وإمام، ثم يأتي الفذ أو الإمام بركعة بأم القرآن وسورة، ثم يجلس ويتشهد، ثم يأتي بركعتين بأم القرآن فقط، ويسجد قبل السلام. وقوله:"وبطل بأربع سجدات" الخ، تقدم أن هذا حيث لم يسلم، فإن سلم بطلت: وفات التدارك. قال الحطاب على أحد القولين: فيصير بمنزلة من زاد أربعا سهوا، ونظر فيه الرماصي بأن المبطل زيادة أربع بسجداتها لكثرة السهو، وهنا ليس كذلك فيبني على الإحرام؛ ويأتي بأربع ركعات فيما يظهر. انتهى. قال الشيخ بناني: وما قاله الحطاب وتبعوه هو الظاهر؛ لأن الركعات بطلت كلها، والبناء إنما يكون بتجديد الإحرام كما مر في قوله:"وبنى إن قرب ولم يخرج من المسجد بإحرام" انتهى. وفي الحطاب: وهل تبطل الصلاة بكثرة السهو أم لا؟ المشهور عدم البطلان إن لم يزد مثلها، ثم ذكر ما هو راجع لمفهوم قوله:"ولم يعقد ركوعا"، فقال: ورجعت الثانية أولى ببطلانها؛ يعني أنه إذا بطلت الركعة الأولى بترك ركن منها، وفات تداركه بعقد الثانية، فإن الركعة الثانية تصير أولى بسبب بطلان الأولى، "فالباء" للسببية، والضمير المؤنث عائد على الأولى، وهو من باب: عندي درهم ونصفه، وهذا الانقلاب المذكور؛ أعني رجوع الثانية أولى إنما هو بالنسبة لفذ وإمام. وإذا انقلبت ركعات الإمام انقلبت ركعات مأمومه، وهكذا ترجع الثالثة ثانية ببطلان الثالثة، والرابعة ثالثة ببطلان الثالثة، وعلى هذا فقس
حتى ترجع الرابعة أولى كما في المسألة السابقة، فقوله:"ورجعت الثانية"؛ أي مثلا، وإذا انقلبت ركعات الإمام والفذ، سجدا قبل إن حصل نقص، أو مع زيادة، وإلا يكن مع الزيادة نقص، بل تمحضت الزيادة فبعد السلام. ومفهوم قوله:"لفذ وإمام"، أن ركعات المأموم لا تنقلب حيث لم تنقلب ركعات إمامه، فيأتي ببدل ما بطل على صفته، فإن حصل الخلل في الأولى أو في الثانية مثلا أتى بعد سلام إمامه بركعة بأم القرآن وسورة جهرا في الجهرية وسرا في السرية في كل من المسألتين، وقوله:"ورجعت الثانية أولى" الخ، هذا هو المشهور، وقيل: لا ترجع الثانية أولى ولا غيرها، بل تبقى ركعات الصلاة على حالها وهذا الخلاف إنما هو في صلاة الفذ والإمام، وأما المأموم فلا خلاف أن الثانية وغيرها باقية على حالها في حقه؛ لأن صلاته مبنية على صلاة إمامه.
تنبيه: قال ابن رشد: إن الإمام إذا شاركه القوم أو بعضهم في إسقاط السجدة فهو كالفذ في البناء وإلا فكالمأموم في القضاء. انتهى. وإذا سها عن ركن فعند ابن القاسم: يأتون به فيكون قاضيا لذلك الركن إن لم يشاركه في الترك أحد منهم، وعند سحنون: لا يأتون به بل يتبعون الإمام، ومذهب ابن القاسم خلاف ما مشى عليه المصنف، فيما يأتي من قوله: وإن سجد إمام سجدة" الخ. وهو لسحنون كما عرفت.
ولما كانت القاعدة أن الشك في النقص كتحققه، فرع عليها بقوله: وإن شك في سجدة لم يدر محلها سجدها؛ يعني أنه لو شك مصل إماما أو مأموما أو فذا في سجدة، فلم يدرهل أتى بها أو تركها، وعلى تقدير تركها لم يدر محلها هل الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة؟ فإنه يسجدها لاحتمال كونها من الركعة التي لم يفت تداركها، فإن لم يسجدها بطلت صلاته؛ لأنه أبطل ركعة أمكن تلافيها، وقوله:"سجدها"؛ أي إلا أن يتحقق أن السجدة ليست من التي تليه، فلا يسجدها. وقوله:"وإن شك في سجدة" الخ، قررته بأنه شك في الإتيان بها، فلم يدر هل أتى بها أو تركها؟ -كما علمت- وكذا الحكم لو تيقن تركها، ولم يدر محلها فالحكم فيهما واحد، ويمكن حمل المصنف على هذه الثانية. والله سبحانه أعلم. وقوله:"لم يدر محلها"، يحتمل أنه صفة لسجدة؛ أي شك في سجدة مجهولة المحل، فهو شاك في السجدة وفي محلها معا، ويحتمل
أن يكون بدلا من قوله: "شك"؛ أي فالشك في محلها، وأما تركها فمحقق، وقد علمت أن الحكم في المسألتين واحد. والله سبحانه أعلم. انظر شرح الشيخ عبد الباقي.
وفي الأخيرة يأتي بركعة؛ يعني أنه إذا تذكر سجدة تركها، ولم يدر محلها في التشهد الأخير؛ بأن تذكرها في جلوسه للتشهد بعد إتيانه بالركعة الأخيرة، فإنه يسجدها لعل محلها لم يفت، ويأتي بركعة بالفاتحة فقط لعل محلها فات إن كان إماما أو فذا، ولا يتشهد؛ لأن المحقق له ثلاث وليس محلا للتشهد، ويسجد قبل السلام؛ لأن الثالثة صارت ثانية بتقدير بطلان الأولى أو الثانية. وإن كان مأموما سجدها لعل محلها لم يفت، وأتى بها بالفاتحة وسورة لاحتمال كونها من الأولى، أو الثانية مع كون الركعات لا تنقلب في حقه، ويسجد بعد السلام لاحتمال أن المأتي بها زائدة.
وقيام ثالثة بثلاث؛ يعني أنه إذا تذكر هذه السجدة التي لم يدر محلها؛ وهو في قيام الركعة الثالثة، فإنه يسجدها لعل محلها لم يفت، ويأتي بثلاث ركعات لعل محلها فات، واحدة منهن بالفاتحة وسورة، ويجلس ويتشهد، ثم يأتي بركعتين إن كان فذا أو إماما، وإن كان مأموما أتى بركعتين مع الإمام بعد أن سجدها، ثم بعد سلام الإمام يأتي بركعة بالفاتحة وسورة، ويسجد بعد السلام إماما أو مأموما أو فذا. وقوله:"وإن شك في سجدة لم يدر محلها سجدها"، هذا قول ابن القاسم، وقال أشهب وأصبغ: يأتي بركعة فقط، ولا يسجد لأن المطلوب رفع الشك بأقل ممكن. انتهى. ولو شك المصلي بعد رفع رأسه من ركوع الثالثة في سجدة فلا يسجد لفوات التدارك، بل يأتي بركعتين بعد أن يجلس ويتشهد ويسجد قبل السلام؛ لأن الثالثة صارت ثانية. وفي كلام الشيخ عبد الباقي نظر حيث قال. عن الشيخ أحمد: يسجد قبل لنقص السورة، والجلوس في محله مع الزيادة. انتهى.
ورابعة بركعتين؛ يعني أنه إذا ذكر سجدة لم يدر محلها، وهو في قيام الركعة الرابعة؛ فإنه يجلس ليأتي بالسجدة من جلوس فيسجد لعل محلها لم يفت، ثم يأتي بركعتين بالفاتحة فقط، وقبل أن يأتي بهاتين الركعتين يتشهد عقب إتيانه بالسجدة وإنما أتى بركعتين لأنه لم يتحقق إلا ركعتين، ويسجد قبل السلام لرجوع الثالثة ثانية ببطلانها أو الأولى، وهذا في الفذ والإمام.
وأما المأموم فإنه بعد أن يسجدها يأتي بركعة مع الإمام، ثم بعد سلامه يأتي بركعة بأم القرآن وسورة، ويسجد بعد السلام ولا يتشهد عقب الإتيان بالسجدة كها هو ظاهر؛ لأنه ليس بمحل تشهد للإمام، وإن شك في محل سجدتين من ركعتين، أو شك فيهما وفي محلهما منهما فإنه يسجد سجدة لتمام الركعة التي لم يفت تلافيها، ثم إن حصل شكه في الجلسة الأخيرة فإنه يتشهد ثم يأتي بركعتين بأم القرآن فقط؛ لأن المحقق له ركعتان. قاله الشيخ عبد الباقي، وإن سجد إمام سجدة وقام لم يتبع؛ يعني أنه إذا سجد الإمام سجدة من الركعة الأولى مثلا وترك الثانية فقام سهوا؛ فإنه لا يتبعه في قيامه من علم بسهوه من مأموميه، بل يستمرون جالسين. وسبح به؛ يعني أنه يجب على المأمومين أن يسبحوا له لعله يرجع للسجدة فيأتى بها، فإن تركوا التسبيح بطلت صلاتهم، فإن لم يفقه به لم يكلموه عند سحنون؛ لأن المسألة على هذا الوجه الذي ذكره المصنف لسحنون؛ وهو يرى أن الكلام لإصلاحها مفسد. وظاهر المصنف أنهم لا يعيدون التسبيح مرة أخرى، وهو ظاهر المنقول عن سحنون، ولعله أنه إذا لم ينتبه بالتسبيح الحاصل عقب الترك لا ينتبه بالواقع بعد طول، أوأن ما يحصل من مخالفتهم له في الجلوس الأول والثاني فيه تنبيه كالتنبيه بالتسبيح. والظاهر أن العتبر تسبيح
(1)
شأنه أن يحصل به تنبيه؛ أي شأنه ذلك ولو من بعضهم؛ لأن خطابهم به فرض كفاية. وقوله: "به"، الظاهر أنه أتى به لتلمح صيح من سُبِّح، وقال الشبراخيتي: إن الباء بمعنى اللام. وعلم من قولي: مثلا، أنه لا فرق بين الرباعية وغيرها، وأنه لا فرق بين كون السجدة من الركعة الأولى وغيرها، فسواء كانت من الأولى وقام للثانية، أو من الثانية وقام للثالثة، أو من الثالثة وقام للرابعة.
فإذا خيف عقده قاموا؛ يعني أن هذا الإمام الذي سجد سجدة واحدة إذا سبح به ولم يرجع، فإنه إذا خيف عقده للثالثة يقوم مأموموه الذين أمروا بالجلوس قبل ذلك ويتبعونه مخافة أن تفوتهم الركعة الثانية، فإذا قاموا وتبعوه تصير هذه الثانية أولى للجميع، ولا يسجد المأمومون
(1)
في عبد الباقي ج 1 ص 264: تسبيح يحصل به تنبيه أي شأنه ذلك لخ.
السجدة التي تركها إمامهم، فإن سجدوها لم تجزهم عند سحنون: ولكن لا تبطل صلاتهم ولعله لأجل الاختلاف، فإن رجع إليها الإمام وجب عليهم عنده سجودها معه وإن كانوا قد سجدوها، وعند غيره يعتدون بها ولا يعيدونها. كما يأتي إن شاء الله. وإنما لم تجزهم عند سحنون وإن سجدوها حيث تركها الإمام؛ لأنه يقول: كل ما لا يحمله الإمام عمن خلفه يكون سهوه عنه سهوا لهم وإن هم فعلوه.
فإذا جلس قاموا؛ يعني أن المأمومين إذا أتوا بتلك الركعة التي صارت أولى لهم ولإمامهم، ثم جلس عقب هذه التي ظنها ثانية وهي أولى في نفس الأمر، فإنهم لا يتبعونه في الجلوس بل يقومون؛ لأن ذلك ليس بموضع جلوس، فينتظرونه قياما حتى يأتيهم. كقعوده بثالتة التشبيه في أنهم يقومون؛ يعني أن الإمام إذا جلس بعد إتيانه بثلاث ركعات في مسألتنا هذه، فإن المأمومين يقولون ولا يجلسون معه، وقوله:"بثالثة"؛ أي في نفس الأمر لبطلان الأولى بترك سجدة من سجدتيها. وأما الإمام فيظنها رابعة، وإذا لم يجلس الإمام في الثانية في نفس الأمر لظنه أنها ثالثة، فإنهم يقومون لأجل متابعة الإمام؛ ولا يجلسون كما يعلم مما تقدم في قوله:"وتبعه مأمومه". فإذا تذكر الإمام قبل سلامه، أتى بركعة بناء؛ أي بالفاتحة فقط يتابعه فيها القوم، فإن لم يتذكرت وسلم بطلت صلاته، وأتوا هم بعد سلامه بركعة بناء لا قضاء، ولا ينتظر قدر بنائه لبطلان صلاته؛ لأن سلامه عند سحنون بمنزلة الحدث. وأمهم أحدهم؛ يعني أنه يجوز أن يؤمهم أحدهم في الركعة التي يأتون بها بعد سلامه، وإن شاءوا أتوا بها أفذاذا، وعلى كل فتصح لهم دونه. كما مر. وسجدوا قبله؛ يعني أنهم إذا أتوا بالركعة فإنهم يسجدون قبل أن يسلموا لنقصر السورة والجلسة الوسطى. وقوله: وأمهم أحدهم هو الجاري على المشهور من رجوع الثانية أولى، وقيل: لا يؤمهم؛ وهو الجاري على مقابله، ومبنى القولين أن الركعة التي يأتون بها، هل هي بناء أو قضاء؟ فعلى أنها قضاء لا يؤمهم فيها أحدهم؛ لأن المأموم إذا قام لقضاء ما عليه لا يأتم به غيرد فيه، وعلى أنه بناء يؤمهم أحدهم ويتنزل سلامه منزلة حدثه. كما قال الإمام المازري. والإمام إذا أحدث فللمأموم أن يستخلف، وجوز ابن عرفة الائتمام على القول بأنها قضاء أيضا، وعليه فالقضاء المانع من الجماعة هو ما فات المأمومين دون إمامهم. والله سبحانه أعلم.
انظر الشبراخيتي. وقوله: "وسجدوا قبله"، هذا على أنهم بانون، وعلى مقابله يسجدون بعد السلام. كما في الشارح. والله سبحانه أعلم. وقوله:"وسجدوا قبله"، هو المشهور كما علمت، وعليه فإن ترك هذا القبلي بطلت الصلاة.
ابن رشد: المسألة على قسمين، أحدهما أن يسْهُوَ الإمام عن السجدة وحده، فلا يخلو من خلفه، إما أن يسجدوا لأنفسهم أو يتبعوه عالمين بسهوه، فإن سجدوا لأنفسهم ولم يرجع الإمام إلى السجدة حتى فاته الرجوع إليها بعقد الركعة التي بعدها، فركعة القوم صحيحة باتفاق، ويقضي الإمام تلك الركعة التي أسقط منها السجدة في آخر صلاته وهم جلوس، ثم يسلم بهم ويسجد بعد السلام. واختلف إذا تذكر قبل أن يركع فرجع إلى السجود، هل يسجدون معه ثانية؟ على قولين وأما إن اتبعوه على ترك السجدة عالين بسهوه فصلاتهم فاسدة باتفاق، والوجه الثاني أن يسهُوَ الإمام هو وبعض من خلفه، وهي مسألة السماع، فلا يخلو من لم يَسْهُ من أن يسجدوا لأنفسهم، ولم يرجع الإمام إلى السجود حتى فاته الرجوع إليه بعقد الركعة التي بعدها، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: قول ابن القاسم في هذه الرواية أن السجدة تجزئهم وتصح لهم الركعة ويلغيها الإمام، ومن سها معه فإذا كمل الإمام ثلاث ركعات قام هو ومن سها معه إلى الرابعة، وقعدوا حتى يسلم فيسلموا بسلامه، ويسجد بهم جميعا سجدتي السهو بعد السلام، وهوأضعف الأقوال لاعتدادهم بالسجدة، وهم إنما فعلوها في حكم الإمام ومخالفتهم إياه في أعيان الركعات؛ لأن صلاتهم تبقى على سنتها وتصيرُ للإمام، ومن سها معه الثانية أولى وهكذا. ولهذا قال ابن القاسم في الرواية: أحب إلي أن لو أعادوا الصلاة وإنما يسجد الإمام بهم بعد السلام إن ذكر بعد أن ركع في الثانية؛ لأنه يجعلها أولى، ويأتي بالثانية بالحمدُ وسورة، ويجلس فيها فيكون سهوه كله زيادة. وأما إن لم يتذكر حتى صلى الثالثة أو رفع من ركوعها، فإنه يسجد قبل السلام على ما اختاره من قول مالك في اجتماع الزيادة والنقص؛ لأنه جعلها ثانية، وقد قرأ فيها بأم القرآن فقط، وقام ولم يجلس، واختلف في هذا الوجه إن ذكر الإمام قبل أن يركع فرجع إلى السجدة هل يسجدون معه ثانية أم لا؟ على القولين، والقول الثاني أن صلاتهم فاسدة للمعنى الذي ذكرناه من
مخالفة نيتهم نيته في أعيان عدد الركعات، وهو قول أصبغ، والثالث أن السجود لا يجزئهم وتبطل عليهم الركعة كما بطلت على الإمام ومن معه، ويتبعونه في صلاتهم كلها وتجزئهم. حكى هذا القول محمد بن المواز. وأما إن اتبعوه على ترك السجدة عالين بسهوه، فقال في الرواية: إن صلاتهم منتقضة، ويخرج على ما في كتاب محمد أن تبطل عليهم الركعة ولا تنتقض عليهم الصلاة؛ لأن السجدة على مذهبه لا يجزئهم فعلها فلا يضرهم تركها. انتهى. قاله الإمام الحطاب. وقال بعد جلب نقول: تحصيل المسألة أنه إذا سها الإمام عن السجدة الثانية وقام، وسبحوا به فلم يرجع، يسجدون لأنفسهم وتجزئهم تلك الركعة، ولا يتبعون الإمام فيها إذا رجع يسجدها، وهو قول ابن المواز على ما نقل اللخمي، والمازري. وقول ابن القاسم أيضا: إلا أنه يستحب الإعادة. ومذهب سحنون أنهم لا يسجدونها، ولو سجدوها لا يضرهم وكأنه لأجل الاختلاف في ذلك: ثم اختلف هل الخلاف مطلق سواء سها الإمام عنها وحده، أو هو وبعض من خلفه؟ وهو ظاهر كلام اللخمي والمازري. وعليه فهمه المصنف، أو إنما الخلاف إذا سها عنها الإمام وبعض من خلفه، وأما إذا سها وحده فلا يتبعونه فيها، وتجزئهم باتفاق وإن اتبعوا الإمام في تركها بطلت صلاتهم باتفاق؛ وهذه طريقة ابن رشد. وظاهر كلام المصنف أنه مشى على قول سحنون، وأنه فهم أن الخلاف جار في الصورتين. فتأمله. والله أعلم. انتهى.
وفيه عن الهواري: الحاصل أن الإمام إذا سها عن فرض من فروض الصلاة لم يلزم المأموم سهوه إذا فعل ذلك دون الإمام في قول ابن المواز، وابن القاسم في العتبية: ويلزمه في قول سحنون، وهذا كله فيما عدا النية وتكبيرة الإحرام. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: ومشى المصنف في هذه المسألة: يعني قوله: "وإن سجد إمام سجدة" الخ. على قول سحنون؛ وهو ضعيف، والذي حكى عليه ابن رشد الاتفاق أنه إذا لم يَسْهُ أحد معه منهم، فإنه إذا لم يفهم يسجدون السجدة لأنفسهم وتجزئهم ولا يتبعونه في تركها، وكذا إذا سها البعض على الراجح عند ابن عرفة وعلى هذا الذي لم يمش عليه المصنف، فإذا تذكر الإمام في قيام التي تليها ورجع لسجودها فلا يعيدونها معه عند ابن المواز؛ وهو الصحيح على نقل اللخمي والمازري؛ وهو قول ابن القاسم أيضا، إلا أنه قال: يستحب إعادة الصلاة: خلافا لقول سحنون بإعادتهم لها معه -كما مر- وهذه المسألة مستثناة
من قاعدة كل صلاة بطلت على الإمام بطلت على المأمومين على كل من قول سحنون؛ لأن السلام عنده بمنزلة الحدث. ومن قول ابن القاسم حيث طال تركه للركن بعد سلامه؛ لقوله: "وبترك ركن وطال". انتهى. وقوله: لأن السلام عنده بمنزلة الحدث، معناه أنه تبطل صلاته طال أم لا، وأنه بمنزلة طرو الحدث على الإمام فيستخلف المأمومون من يتم بهم، أو يتمون أفذاذا. وقال الشيخ الأمير: وإن ترك إمام سجدة فالراجح مذهب ابن القاسم: يسبحون له، فإن لم يرجع سجدوها وحدهم وإن وافقه بعضهم، وقيد بما إذا خيف عقده وتابعوه وصحت لهم، وبطلت عليه إن طال فلا يحمل عنهم سهوا ولا يحصل لهم فضل الجماعة فيعيدون له، وكذا كل ما بطل على الإمام فقط. انتهى.
ولما فرغ من بيان حكم ما إذا أخل الإمام بركن، أخذ يبين إخلال المأموم به، فقال: وإن زوحم مؤتم عن ركوع؛ يعني أن المأموم إذا منعه الزحام أي تضايق المأمومين عليه من أن يأتي بالركوع مع الإمام، فإنه يتبع الإمام، بأن يأتي بالركوع الذي سبقه به، ويدركه في الرفع من الركوع، أو يأتي بالركوع والرفع منه، ويدرك الإمام في السجود حيث سبقه بهما، وضمن المصنف زوحم معنى بوعد؛ لأنه عداه بعن، والزحام إِنما يتعدى بعلى كقوله:
يَزْدَحِمُ النَّاسُ عَلَى بَابهِ
…
والمَنْهَل العَذْبُ كَثِيرُ الزِّحَامْ
ونص على الزحام ردا على ابن القاسم القائل؛ بأن الزحام ليس بعذر ولا يباح به قضاء ما فات من الركوع؛ لأنه فعل آدمي يمكن التحرز منه، فصاحبه مقصر، والنعاس، والغفلة فعل الله سبحانه وتعالى. قاله الشيخ إبراهيم. أو نعس؛ يعني أن المأموم إذا لم يأت بالركوع مع الإمام لأجل نعاس حصل له، فإنه يتبع الإمام بأن يأتي بالركوع الذي سبقه به، ويدركه في الرفع من الركوع، أو يأتي بالركوع والرفع منه، ويدرك الإمام في السجود حيث سبقه بهما. وإنما اتبعه في النعاس؛ لأن نوم القائم لا ينقض الوضوء؛ إذ لا يكون ثقيلا إلا إذا أسقطه للأرض. قاله الشبراخيتي. وغيره. أو نحوه؛ يعني أن المأموم يمبع الإمام أيضا إذا لم يأت بالركوع معه لأجل
حصول نحو ما ذكر كغفلة أو اشتغال بحل إزار، أو ربطه بأن يأتي بالركوع، الذي سبقه به ويدركه في الرفع من الركوع أو يأتي بالركوع والرفع منه ويدركه في السجود حيث سبقه بهما. وعلم مما قررت أن قوله:"نحوه"، فاعل فعل محذوف تقديره: حصل، وإنما كان كذلك ليكون من عطف الجمل، إذ لا يعطف اسم على فعل إلا إذا أشبه الاسم الفعل، وهذا ليس كذلك، وفي الألفية.
واعطِف عَلَى اسْمٍ شِبْهِ فِعْلٍ فِعْلا
…
وَعَكْسًا اسْتَعْمِلْ تَجِدْهُ سَهْلا
وبعا قررت علم أن قوله: اتبعه. أي فعل ما فاته وسبقه به جواب الشرط، أعمي قوله:"وإن زوحم"، فهو راجع للمسائل الثلاث أي الزحام والنعاس ونحوهما، وليس المراد باتباعه أن يترك ما فاته " ويلحقه فيما هو فيه - كما علمت - في غير الأولى متعلق باتبعه؛ يعني أن محل إتيان المأموم بما سبقه به الإمام في المسائل الثلاث إنما هو في غير الركعة الأولى بالنسبة للمأموم، وهي للإمام ثانية أو ثالثة أو رابعة، وأما إن حصل للمأموم ما ذكر في أولاه فإنه لا يتبع الإمام؛ أي لا يأتي بما سبقه به، بل يخر ساجدا معه حيث كان في السجود، ويصير كمسبوق أدرك الإمام في السجود. فإن اتبعه عمدا أو جهلا بطلت صلاته كما يقع كثيرا لبعض العوام، أنه يحرم مع الإمام حال رفعه من ركوع أو بعده، فيركع فتبطل لزيادته في الصلاة ركوعا، ومحل اتباعه في غير الأولى. ما لم يرفع الإمام من سجودها؛ أي سجود غير الأولى كله كما هو ظاهره - ويفيده النقل - فإذا كان يدرك الإمام في ثانية سجدتيه، ويفعل الثانية بعد رفع الإمام من ثانيته، فإنه يفعل ما فاته ويسجدها، ويتبعه خلافا لقول الشيخ سالم: لا يفعل ما فاته حينئذ، ولا يفعل ما زوحم فيه إلا إذا كان يدرك السجدتين معا، أو يسجد الأولى حال رفع الإمام منها، ويسجد الثانية معه. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: معنى قول المصنف: "ما لم يرفع من سجودها"، أنه يركع إذا ظن أن يدرك الإمام قبل رفعه من السجود الثاني؛ بأن يقتدي به في السجدتين معا أو في الثانية. ففي المواق ما نصه: ومن أدرك الصلاة قضى ما فاته مع الإمام، وهو في الصلاة لكن بشرط أن لا يفوته أن يفعل مع الإمام ما هو آكد من تشاغله بالقضاء، والمشهور أن الذي هو آكد سجود
الركعة التي غلب على ظنه إدراكها، وهل تعتبر السجدتان معا أو الأولى منهما؟ المشهور منهما اعتبار السجدتين معا، فيتبع الإمام ما لم يرفع من السجدة الثانية. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: فقوله: بشرط أن لا يفوته مع الإمام الخ؛ صريح فيما للسنهوري؛ لأنه إذا فعل الأولى حال فعل الإمام الثانية، وفعل الثانية بعد قيام الإمام - كما يقوله الشيخ علي الأجهوري - فقد فاته مع الإمام السجدتان معا؛ لأنه لم يقتد به في واحدة منهما. انتهى.
وقال الإمام الحطاب تحصيل المسألة أن المأموم إذا سها عن الركوع مع الإمام حتى فاته، أو غفل عنه، أو نعس، أو زوحم، أو اشتغل بحل إزاره، أو ربطه، ففي المسألة أربعة أقوال: الأول: أن تلك الركعة فاتته مطلقا، سواء كانت أولى أو غير أولى، سواء كانت الصلاة جمعة، أو لا. الثاني: لا تفوته مطلقا. الثالث: تفوته إن كانت أولى، ولا تفوته في غير الأولى؛ وهو المشهور. الرابع: تفوته إن كانت جمعة، ولا تفوته في غير الجمعة، ولا تفريع على القول الأول. وأما على الثاني والثالث فيما إذا كانت غير الأولى، وعلى الرابع في غير الجمعة إذا قلنا: يتبع الإمام، فاختلف إلى أي حد يتبعه، فقيل: ما لم يرفع من سجود الركعة، وقيل: ما لم يعقد الثانية والأول هو المشهور، وعليه فهل المعتبر السجدتان، أو الأولى فقط؛ قولان، المشهور الأول، وإذا قلنا ما لم يعقد الثانية، فهل العقد بوضع اليدين على الركبتين، أو بالرفع من الركوع؟ قولان على الخلاف في عقد الركعة. ابن رشد: وسواء على مذهب الإمام مالك، أحرم قبل أن يركع الإمام، أو بعد أن ركع إذا كان لولا ما اعتراه من الغفلة وما أشبهها لأدرك معه الركوع. وأما لو كبر بعد أن ركع الإمام فلم يدرك معه حتى رفع الإمام رأسه، فقد فاتته الركعة، ولا يجزئه أن يركع ويتبعه قولا واحدا. انتهى. من التوضيح مختصرا. وعلم من هذا أنه لو تعمد المأموم ترك الركوع مع الإمام لم يجزه قولا واحدا. انتهى. كلام الحطاب. وعلم مما قررت أن المراد بالأولى بالنسبة إلى المأموم لا إلى الإمام، وقال الإمام الحطاب: واختلف في المسألة من حيثية أخرى، فمذهب مالك أنه لا فرق بين المزحوم والناسي، والغافل وما أشبه ذلك. وأخذ ابن القاسم في الزحام بالقول الأول، وفيما سواه بالقول الثالث، وأخذ ابن وهب وأشهب بالقول الأول فيما إذا أحرم قبل أن يركع الإمام،
وبالثاني فيما إذا أحرم بعد أن ركع الإمام، وفي ابن عرفة ما نصه: ومن نعس عن ركوع إمامه حتى رفع أو سها أو زوحم أو شغل بحل إزاره أو ربطه، ففي تلافي ركوعه وإلغائه لاتباع إمامه ثالث الروايات: إن كان عقد ركعة وعلى تلافيه ففي كونه ما لم تفته سجدتاها أو أولاهما: أو رفع ركوع ثانيتها، أو خفضه أربعة أقوال، الأول: للؤلؤي مع المازري، وقوله:"ما لم يرفع من سجودها": أي فإن ظن أنه لا يدركه في شيء منها لم يفعل ما زوحم عنه وقضى ركعة، فإن خالف وأدركه صحت، فإن لم يدركه بطلت: كما لو اتبعه في غير الأولى بعد رفعه من سجودها، فإن فعل مع ظن الإدراك وتخلف ظنه بأن رفع الإمام من سجودها بعد أن أتى بالركوع لم يعتد بذلك الركوع.
واعْلَم أن من شروط الركعة الحائلة بينه وبين قضاء ما فاته حين رفع إمامه من السجود إمكان فعلها مع الإمام. فلو تمادى نعاسه إلى أن عقد الإمام ركعة أخرى، فليصلح أول ما نعس فيه من الركعات لا ما بعده، فإنما يقضيه بعد سلام الإمام ليلا يكون قاضيا في صلب الإمام. ويمكن اجتماع البناء والقضاء حينئذ كما لو كان مسبوقا بركعة، وحصل له العذر في الثالثة؛ لأنها غير أولاد. وتمادى به إلى أن عقد الرابعة. فإنه يتلافى ركعة العذر: وتفوته الرابعة، وهي بناء، والأولى قضاء.
واعلم أن محل تلافيه لركعة العذر حيث فاتته التي بعدها ما لم يخش فوات ركوع الرابعة مع الإمام، وإلا ترك الركعتين، وتبع الإمام في الرابعة. وتصوير المسألة بذي العذر يدل على أن المأموم لو تعمد ترك الركوع مع الإمام لم يجزه قولا واحدا؛ أي وتبطل صلاته. قاله الشبراخيتي. وببطلان الصلاة جزم علي الأجهوري: قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: ما قاله الإمام الأجهوري من أن مراده بطلان صلاة غير ذي العذر هو الظاهر. والله سبحانه أعلم. انتهى. ولو زوحم أو حصل له نعاس أو نحوه عن الرفع من الركوع، فهل هو كمن زوحم عن الركوع؟ وهو البين كما قال ابن يونس، وهو مبني على الراجح من أن عقد الركوع برفع الرأس، أو كمن زوحم عن سجدة؟ فيجري فيه تفصيل من زوحم عنها، خلاف قاله الشيخ إبراهيم. وسئل مالك عن الرجل ينعس في قعوده مع الإمام للتشهد الأول، فلا ينتبه إلا بقيام الناس؛ أيقوم أم
يتشهد ثم يقوم؟ قال: بل يقوم، ولا يتشهد. ابن رشد: وهذا كما قال؛ لأن التشهد قد فات بنعاسه، وذهب موضعه، ووجب عليه أن يقوم إذا قام الإمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا
(1)
)، ولا شيء عليه في التشهد؛ لأنه يسير، ومن نسي التشهد حتى سلم الإمام، قال مالك: يتشهد ويسلم ولا يدعو بعد التشهد: ابن رشد: يريد ولا سهو عليه؛ لأنه قد تشهد قبل سلامه، وإن كان بعد سلام الإمام؛ لأنه لا يخرج من الصلاة بسلام الإمام حتى يسلم هو. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: والذي يظهر أنه لا سجود عليه لو لم يذكره إلا بعد سلامه؛ وهو لحمل الإمام ذلك، وحينئذ فلا يجري تركه له عمدا على ترك السنن عمدا لأن ذلك في الفذ والإمام، ويدل لهذا ما في الحطاب عن ابن رشد، وأما المأموم فإذا لم يتشهد حتى سلم الإمام، فمقتضى أصل المذهب أنه يسلم، ويجزئه تشهد الإمام. وفي العتبية من رواية ابن القاسم عن مالك أنه: يتشهد بعد سلام الإمام، وإذا وجد الخلاف في منع السلام من تدارك الفروض فأحرى أن يمنع تدارك التشهد. انتهى. كلام الحطاب.
أو سجدة؛ يعني أن المأموم إذا زوحم أو نعس أو حصل له نحوه عن سجدة أو سجدتين تحقيقا، أو شكا من أولاه أو غيرها فلا يخلو ذلك من أمرين: إما أن يطمع في أنه يأتي بها ويدرك الإمام قبل أن يرفع رأسه من ركوع التالية لها، أو لا يطمع في ذلك. فإن لم يطمع فيها. أي في الإتيان بها قبل عقد إمامه، برفع رأسه من تالية التي زوحم عن سجدتها؛ بأن تيقن أو ظن عقده قبل أن يدركه، تمادى؛ أي لا يأتي بها، وقضى بعد سلام الإمام بدل ركعة النقص ركعة على نحو ما فاتته؛ لأن المأموم لا تنقلب الركعات في حقه. كما مر. وإلا بأن طمع فيها قبل رفع إمامه رأسه من الركوع سجدها، وتبع الإمام في عقد ما بعدها، وحمل الإمام القراءة عنه، فإن أدركه فواضح، وإلا بطلت الركعة الأولى لعدم الإتيان بسجودها على الوجه المطلوب. والثانية: لفوات ركوعها مع
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:688.
الإمام، وحيث ترك السجدة لعدم طمعه بها وقضى ركعة، فلا سجود عليه لزيادة ركعة النقص إن تيقن ترك السجدة منها؛ لأنه لا سهو على مؤتم حالة القدوة، وأما إن شك وترك السجدة وقضى ركعة؛ فإنه يسجد بعد السلام لاحتمال أن المأتي بها زيادة؛ أي فلا يحملها الإمام لاحتمال أنها زيادة بعد مفارقة الإمام. وبما قررت علم أن قوله:"ولا سجود عليه إن تيقن"، راجع لقوله:"فإن لم يطمع فيها"، فقط هذا هو الصواب، ولا يرجع للمسألتين ما إذا لم يطمع، وما إذا طمع: ولا يصح ذلك لأنه في الصورة الأخيرة لم يات بشيء بعد مفارقة الإمام، بل إنما أتى بالسجدة وهو في حكم الإمام، فإن كانت واجبة فواضح: وإن كانت زائدة فهي زيادة في حكم الإمام والله أعلم. قاله الإمام الحطاب. قال: ويمكن رجوع ذلك أيضا إلى مسألة الركوع، ويفصل فيها. انتهى.
ولما أنهى الكلام على إخلال الإمام والمأموم ببعض الأركان، وكان حكم زيادة المأموم واضحا من أنه إن كانت سهوا حملها الإمام، وعمدا لإصلاحها وكثرت أبطلت، وقلت اغتفرت. شرع في بيان حكم ما إذا زاد الإمام ركعة سهوا، هل يتبعه المأموم أم لا؟ وحكم ما إذا فعل ما أمر به، أو خالف ما أمر به فقال: وإن قام إمام الخامسة؛ يعني أن الإمام إذا قام لزائدة، فإنه يرجع وجوبا متى علم. وإلا بطل عليه وعلى من خلفه، فقوله: لخامسة؛ أي مثلا، ولو قال: لزائدة، ليشمل الرابعة في الثلاثية، والثالثة في الثنائية لكان أحسن، فإن لم يعلم الإمام أنه قام لخامسة، فمأمومه على خمسة أقسام: متيقن انتفاء ما يوجب الركعة، ومتيقن الوجوب وظانه وظان عدمه، وشاك فيهما. فمتيقن انتفاء موجبها يجلس: المراد بالتيقن هنا الاعتقاد، طابق ما في نفس الأمر أم لا؛ يعني أن من تيقن انتفاء الموجب؛ أي ما يوجب الركعة التي قام لها الإمام، بأن اعتقد أن الصلاة قد تمت، وأن الإمام إنما قام ساهيا يجلس وجوبا ولا يتبع الإمام في قيامه، ويسبح في جلوسه للإمام وجوبا لعله يتذكر فيرجع، وإلا يتيقن انتفاء الموجب، بل تيقن الموجب، أو ظنه، أو شك فيه، أو توهمه. يتبعه؛ أي يجب عليه أن يتبع الإمام في قيامه، ولا يعمل على ظنه خلافا لأبي حنيفة وابن الحاجب، ثم إن ظهر له قيام إمامه لموجب فواضح، وإن ظهر له بعد فراغه من الخامسة سواء كان قبل سلامه أو بعده أنه لم يقم لموجب وإنما قام ساهيا، سجد بعد السلام،
وسجد معه المتبع. فإن خالف عمدا بطلت فيهما؛ يعني أنه إذا خالف كل من المتيقن لانتفاء الموجب وغيره ما أمر به من قيام أو جلوس عمدا أو جهلا، فإن صلاته تبطل، فقوله: فيهما؛ أي في مسألتي جلوسه واتباعه؛ أي تبطل في المسألتين إلا أن يتبين أن المخالفة موافقة لما في نفس الأمر، ومن وجب عليه الجلوس وقام عمدا ثم تبين أن ذلك موافق لما في نفس الأمر، فالصلاة صحيحة -كما علمت- وهل تنوب تلك الركعة التي قام لها عمدا عن ركعة الخلل أم لا؟ قولان ثانيهما: يوافق قوله: "وتارك سجدة من كأولاه لا تجزئه الخامسة إن تعمدها".
تنبيه: قد مر أن من تيقن انتفاء الموجب يجلس وجوبا، ويسبح وجوبا فإن لم يسبح بطلت صلاته لأنه لو سبح لربما رجع الإمام فصار المأموم متعمدا الزيادة في الصلاة، فإن لم يفهم بالتسبيح كلموه، فيرجع لقولهم إن تيقن صحته أو شك فيه، فإن لم يرجع بطلت صلاته على ما مر في قوله:"ورجع إمام فقط لعدلين" فأجْرِهِ عليه في الرجوع والبطلان يا فتى، وكونها تبطل عليه في الشك إن لم يرجع هو ما للشيخ إبراهيم؛ وهو الموافق لما مر. لكن في الحطاب أنه يجب عليه الرجوع إليهم في حالة الشك، فإن لم يرجع، فقال ابن عرفة عن ابن المواز: لا تبطل صلاته إن لم يجتمع كلهم على خلافه، ولو أجمعوا فخالفهم بشك، بطلت عليه وعليهم لوجوب رجوعه عن شكه ليقينهم. انتهى. وإذا لم يجب رجوع الإمام عند تيقنه خلاف ما عندهم، ولم يكثروا جدا بحيث يفيد خبرهم العلم الضروري، فهل يسلمون قبله، أو ينتظرونه حتى يسلم ويسجد لسهوه؟ قولان. لا سهوا هذا مفهوم قوله:"فإن خالف عمدا بطلت فيهما؛ " يعني أن محل البطلان في المسألتين حيث كانت المخالفة عمدا، وأما إن كانت المخالفة سهوا فإن الصلاة تصح في المسألتين، فتصح للجالس، والمتبع اتفاقا، لكن من حكمه وجوب القيام وجلس يأتي بركعة، وإليه أشار بقوله: فيأتي الجالس بركعة، وهذا إذا استمر على تيقن الموجب، أو ظنه، أو شكه، أو توهمه. وأما إن حدث له يقين على انتفاء الموجب فإنه لا يأتي بركعة.
ولما فرغ من بيان ما يلزم المأمومين قبل سلام إمامهم من جلوس واتباع، وما يترتب على من خالف ما أمر به سهوا أو عمدا، شرع في بيان أحكامهم بعد سلام الإمام، فقال: ويعيدها المتبع؛
يعني أن من تيقن انتفاء الموجب إذا اتبع الإمام الذي قام لزائدة؛ وكان اتباعه له سهوا ثم إنه تغير يقينه، فإنه لا يكتفي بتلك الركعة التي أتى بها مع الإمام، بل يعيدها، وقيل: يكتفي بها عن ركعة الخلل فلا يعيدها، قال الشيخ محمد بن الحسن ملخص هذه المسألة أن المأموم له حالان، إما أن يتيقن انتفاء الموجب، أم لا، وفي كل إما أن يفعل ما أمر به، أو يخالف عمدا، أو سهوا، أو تأويلا، فهذه ثمان، فأما متيقن انتفاء الموجب، فإن فعل ما أمر به من الجلوس صحت صلاته بقيدين إن سبح ولم يتبين له وجود الموجب، وإلا بطلت لقوله: ولمقابله إن سبح، ولقوله: لا لمن لزمه اتباعه، وإن خالف عمدا؛ بأن قام بطلت إن لم يتبين له الموجب، وإلا صحت على قول ابن المواز، وعليه فهل تنوب عن ركعة الخلل؛ وهو ظاهر كلام ابن المواز، أو يقضيها؟ قولان. واختار اللخمي البطلان مطلقا: وإن خالف سهوا فقام لم تبطل اتفاقا، وكذا تأويلا على ما اختاره اللخمي، فإن زال يقين الساهي والمتأول، فهل يكتفيان بتلك الركعة أو لابد من ركعة بدل ركعة الخلل، وقد جزم المصنف بالثاني في الساهي فأحرى المتأول، لكن مفهوم قوله: لا تجزئه الخامسة إن تعمدها، أن الساهي يجتزئ بها. وأما من لم يتيقن انتفاء الموجب فإنه يقوم، فإن فعك فواضح: وإن خالف فجلس عمدا بطلت صلاته إلا أن يوافق نفس الأمر، وإن جلس سهوا لم تبطل، ويأتي بركعة وتأويلا فكالعامد على المعتمد، وهذا التحصيل نحوه في الأجهوري. انتهى. وقوله:"ويعيدها المتبع"؛ أي إن قال الإمام بعد سلامه: قمت لموجب؛ قاله الشيخ عبد الباقي. وإن قال قمت لموجب يعني أن الإمام إذا قال بعد سلامه: قمت لموجب؛ أي أتى بما يؤثر وجود الموجب ولو وهما كان بهذا اللفظ أو بغيره؛ فإن المتبع له سهوا يعيد تلك الركعة التي حدث له وجود موجبها بقول الإمام: قمت لموجب، فهو قيد في قوله:"ويعيدها المتبع". وقد علمت أن المراد بقول الإمام قمت لموجب، إتيانه بما يؤثر وجود الموجب، كان بهذا اللفظ أو غيره، وإن لم يؤثر عند المأموم لم يعتبر. وعلى ما قررت به كلام المصنف فالواو في قوله:"وإن قال قمت لموجب" للحال؛ أي ويعيدها المتبع، والحال أن الإمام قال: قمت لموجب، وقوله: صحت لمن لزمه اتباعه وتبعه. الصواب إدخال الواو على قوله: صحت؛ بأن يقول، وصحت لمن لزمه اتباعه وتبعه، ومعنى الكلام على هذا أن من لم يتيقن انتفاء الموجب وتبع الإمام الذي قام لزائدة بحسب
اعتقاد المأموم تصح صلاته مطلقا، سواء قال الإمام قمت لموجب أم لا؛ وحملت المصنف على غير ظاهره ليوافق الصواب. وقال الشيخ عبد الباقي: فلو أخر الواو الداخلة على قوله: "وإن قال قمت لموجب"، لكوني أسقطت ركنا من إحدى الركعات وأدخلها على قوله:"صحت لمن لزمه اتباعه"، وتبعه لأفاد ذلك؛ يعني ما قدمته -وأما إدخالها على قوله:"إن قال قمت" الخ؛ ففيه خلل من وجهين، أحدهما أنه يقتضي أنه إنما تصح صلاة من لزمه اتباعه، وتبعه، إن قال قمت لموجب مع أنه مطلق كما لابن هارون؛ وهو المرتضى خلاف ما لابن عبد السلام، فإنه غير مرتضى. ثانيهما أنه يوهم أن قوله:"ولمقابله إن سبح"، فيما إذا قال: قمت لموجب"، وليس كذلك فإنه مطلق، ولولا خلو قوله: صحت عن حرف العطف لأمكن أن يجاب عنه بجعل إن للحال. انتهى. ولمقابله إن سبح؛ يعني أن من تيقن انتفاء الموجب وهو المراد بالمقابل تصح صلاته بقيدين -كما مر- أحدهما أن يسبح للإمام، فإن لم يسبح له بطلت، وقول المصنف: "وتبعه"، تقدم مفهومه في قوله: "فإن خالف عمدا بطلت فيهما" الخ، وقوله: "إن سبح"، هو لسحنون، قال في التوضيح، شرط سحنون في صحة صلاة الجالس التسبيح، واستبعده أبو عمران، ورأى ابن رشد أنه تفسير للمذهب، واعتمد المصنف كلام ابن راشد.
(1)
وقوله: "ويعيدها المتبع"، قد تقدم الخلاف في ذلك، وهو على الخلاف فيمن ظن كمال صلاته فأتى بركعتين نافلة، ثم تذكر أنه بقي عليه من صلاته ركعتان، وقد أنكر ابن عرفة وجود القول بالإعادة الذي اقتصر عليه المصنف، ونصه وأجزأ من تبعه سهوا فيهما، ونَقْلُ ابن بشير: يقضي ركعة في قوله: "وأسقطت سجدة"، لا أعرفه، وقوله: كالخلاف فيمن صلى نفلا إثر فرض واعتقد تمامه فتبين نقصه واضح فرقه. انتهى. والله أعلم. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وفي الحطاب: قال ابن عبد السلام، وابن هارون: وأصل المشهور الإعادة. انتهى.
(1)
في الحطاب ج 2 ص 322 ط دار الرضوان: ابن رشد.
كمتبع تأول وجوبه؛ يعني أن من تيقن انتفاء الموجب، وتبع الإمام متأولا لجهله وجوب الاتباع، تصح صلاته لعذره بالتأويل، مع أنه لا يجوز له الاتباع لأنه متيقن انتفاء الموجب على المختار؛ أي تصح صلاة المتبع المتأول لوجوب الاتباع على ما اختاره؛ اللخمي وهو لسحنون، وابن المواز؛ فلذا عبر بالاسم. وبما قررت علم أن قوله: -كمتبع"، تشبيه في الصحة، وهل ذلك خاص بما إذا قال الإمام: قمت لموجب؟ وإلا بطلت، وعليه الشيخ علي الأجهوري، وهو الظاهر من كلام اللخمي أولا، وعليه الحطاب. وعلى كل فإن قال الإمام: قمت لموجب، فهل تنوب عن ركعة الخلل؟ وهو ظاهر عبارة ابن المواز، أو يقضيها؟ قولان ثانيهما هو الوافق لقول المصنف: "لا تجزئه الخامسة إن تعمدها، وهذا متعمد بتأويله جهلا. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال ابن غازي معرضا بقول الشارح: لم أر للخمي في هذه اختيارا. انتهى. صدق المصنف رحمه الله تعالى فيما نسبه للخمي، وذكر نص تبصرته.
لا لمن لزمه اتباعه في نفس الأمر ولم يتبع؛ يعني أنه لا تصح صلاة من لزمه اتباع الإمام باعتبار ما في نفس الأمر، ولم يتبعه وهو متيقن انتفاء الموجب، وجلس كما هو شرعه، فتغير يقينه فصار مؤاخذا بالظاهر تارة، وبالباطن أخرى؛ أي لأنا أوْجَبْنَا عليه الجلوس عملا باعتقاده أن الإمام قام لزائدة وأبطلناها عليه باعتبار ما في نفس الأمر، ومحل البطلان حيث تغير يقينه في أثناء الصلاة، ولم يلحق الإمام في قيامه. وأما إن تغير بعدها فيأتي بركعة حيث لم يطل، كما في حاشية الشيخ الأمير. وقوله:"لا لمن لزمه اتباعه" الخ، خلافا للخمي، قال ابن غازي: وإنما لم يتبع المصنف اختيار اللخمي في هذه كما تبعه في التي قبلها؛ لأن اختياره في الأولى وافق فيه منصوصا، ولما كان في هذه رأيًا له مخالفا للمنصوص عدل عنه، ولا تصح أيضا لمن توهم الموجب، وجلس متأولا أن الظن يقدم على الوهم عند اللخمي ولا غيره. وبما قررت علم أن هذا مرتب على قوله: فمتيقن انتفاء موجبها يجلس كالذي قبله، فتصح صلاته بشرطين أن يسبح، وأن لا يقول الإمام قمت لموجب ولم تُجْز مسبوقا علم بخامسيتُها؛ يعني أن الإمام إذا قام لخامسة، وتبعه مأموم مسبوق بركعة فأكثر عمدا في تلك الركعة الخامسة، والحال أنه أي المسبوق علم بكون الركعة التي قام لها الإمام خامسة، فإنه لا تجزئه تلك الركعة الخامسة عن ما فاته مع الإمام، وصلاته صحيحة إن
قال الإمام: قمت لموجب، ولم يجمع مأمومه على نفي الموجب، فإن لم يقل قمت لموجب، أو أجمع مأمومه على نفي الموجب بطلت صلاته. قاله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ بناني: قوله: "أو أجمع مأمومه على نفي الموجب، زاده الهواري هنا، والظاهر جريانه فيما سبق في قوله: فإن خالف؛ إذ لا فرق بين الموضعين، وحينئذ فالصحة، هنا على قول ابن المواز؛ لأنه قام عمدا وتبينت الموافقة، والبطلان فيما سبق مقيد بما إذا لم تتبين الموافقة، فالخلاف السابق وهو الصحة لابن المواز، والبطلان عند اللخمي حيث تبينت الموافقة جارٍ هنا أيضا، وحينئذ فجميع ما تقدم من قوله: "وإن قام إمام لخامسة"، إلى هنا، كله يجري في المسبوق وغيره انتهى. وبهذا يتبين لك ما في كلام الشيخ عبد الباقي، والمصنف هنا تكلم على ما بعد الوقوع، وأما ابتداء فينبغي أن يكون حراما.
وهل كذا إن لم يعلم؟ هذا مفهوم قوله علم بخامسيتها؟ يعني أنه إذا لم يعلم المسبوق الذي تبع الإمام في الخامسة بكون الركعة التي قام لها الإمام خامسة، فإن الشيوخ اختلفوا في إجزاء تلك الركعة وعدمه، والحال أن الإمام قال: قمت لموجب، فمنهم من قال: لا تجزئه عن مثلها في ذمته مطلقا، سواء أجمع المأمومون على نفي الموجب عن أنفسهم فقط أولا.
أو تجزئ؛ يعني أن من الشيوخ من قال تجزئ المسبوق تلك الركعة حيث لم يجمع المأمومون على نفي الموجب عن أنفسهم، والحال أن الإمام قال: قمت لموجب، وأما إن أجمعوا على نفي الموجب عن أنفسهم فقط فلا تجزئه، وإلى ذلك أشار بقوله: إلا أن يجمع مأمومه على نفي الموجب، وقررت المصنف على أن المراد نفي الموجب عن أنفسهم فقط؛ إذ لو أجمعوا على نفي الموجب عنهم وعن إمامهم لموجب رجوعه عن شكه ليقينهم، فإن خالفهم لشكه بطلت قاله بناني في ذلك. قولان. وقررت المصنف على ظاهره وهو منتقد، وذلك لأن مبنى القولين، هل ما أتى به الإمام بناء فتجزئ الركعة المسبوق، أو قضاءٌ فلا تجزئه؟ فابن المواز يقول: إذا قال الإمام: قمت لموجب، وأجمع مأمومه على نفي الموجب عن أنفسهم، إن الركعة التي أتى بها قضاء؛ لأنهم يعتدون بالركن الذي فعلوه مع ترك الإمام له، والإمام إنما تنقلب الركعات في حقه إذا شاركه
مأموموه أو بعضهم في ترك السجدة مثلا، وإلا فكالمأموم. وسحنون قائل: إن ما يأتي به الإمام بناء فتجزئ الركعة المأموم لأنهم لا يعتدون بما فعلوا مع ترك الإمام له، فتركه للركن ترك لهم، وإن هم فعلوه فلو لم يجمع المأمومون على نفي الموجب لاتفق القولان على أن ما أتى به الإمام بناء فتجزئ الركعة اتفاقا، فالصور أربع: أن يقول الإمام قمت لموجب ولم يجمع مأمومه على نفي الموجب أجزأت الركعة المسبوق اتفاقا، وإذا لم يقل قمت لموجب أجمعوا على نفي الموجب، أم لا لم تجز فيهما، والرابعة هي محل الخلاف الذي ذكره. وكذا إذا قال الإمام: قمت لموجب، وأجمع مأمومه على نفي الموجب وحينئذ فالاعتراض يتوجه على المصنف بأنه ليس ثم قول بعدم الإجزاء إن لم يعلم، أجمع مأمومه على نفي الموجب أم لا لاتفاق القولين على الإجزاء، إن لم يجمعوا على نفي الموجب؛ لأنها حينئذ بناء باتفاقهما. وحكى الشيخ بناني عن ابن عرفة ما نصه: وفي إتيان الإمام بركعة بدل ركعة ترك سجدتها وسجدها بعض مأموميه قضاء أو بناء، ثالثها: إن سجدها كل من معه لثاني نقل الشيخ عن محمد وله ولأول نقله، ولم ينقل الصقلي وابن رشد وغيرهما. غيره. وما يأتي به إن كان بناء تبعه فيه كل مأموميه، ولو كان فعله، وإن كان قضاء فلا يتبعه فيه أحد ولا مسبوق. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: ومقتضى البناء على هذا الخلاف أن يكون الخلاف السابق مطلقا، أجمع المأمومون على نفي الموجب أم لا لا كما قاله الزرقاني
(1)
من تقييده بما إذا أجمعوا ولا كما يقوله المصنف من تقييده بما إذا لم يجمعوا. فتأمل والله أعلم انتهى. وقوله: "ولم تجز مسبوقا علم بخامسيتها" الخ، تعقبه الرماصي بأن ابن الحاجب، وابن بشير، وابن شاس، وابن عرفة أطلقوا القولين بإجزاء الخامسة؛ إذا قال الإمام: قمت لموجب، ولم يقيدوهما بالعالم ولا غيره، والبناء المذكور ظاهر في ذلك، والمؤلف جزم في العالم بعدم الإجزاء: وذكر الخلاف في غيره، وقيده بعدم إجماع من خلفه على نفي الموجب، والقائل بهذا القيد هو ابن المواز، وهو قائل به في العلم وعدمه، وفي المسبوق وغيره: ونصه ولو قال الإمام: أسقطت سجدة من الأولى، أجزأت من اتبعه ممن فاتته ركعة، وأجزأت غيره ممن خلفه ممن
(1)
في البناني ج 1 ص 270: كما قاله الحطاب.
اتبعه، إلا أن يجمع كل من خلفه على أنهم لم يسقطوا شيئا إنما أسقطه الإمام وحده، فلا تجزئ من اتبعه عمدا، ولا من فاتته ركعة وهو لا يعلم، وليأت بها بعد سلامه وتجزئه. انتهى. تم قال: فلعل المؤلف ترجح عنده عدم الإجزاء في العالم فاقتصر عليه، وحكى الخلاف في غيره. انتهى. قاله الشيخ محمد بن الحسن.
وعلم مما مر أنه إذا علم المسبوق الزيادة يجب عليه أن لا يتبع الإمام ويجلس، فإن اتبعه عامدا وتبين أن الإمام لم يسقط شيئا بطلت صلاته؛ أي المسبوق، وإن تبين أنه أسقط شيئا فهو قوله:"ولم تجز مسبوقا علم بخامسيتها". وقال الإمام الحطاب: وإذا علم المسبوق بموجب قيام الإمام، وأنه قام إليها عوضا عن ركعة فاتته، فهل يتبعه فيها؟ ذكر ابن رشد في ذلك قولين بناهما على الخلاف في الركعة التي يأتي بها الإمام، هل هي بناء أو قضاء؟ والمشهور أنها بناء، فيتبعه فيها. انتهى. وللشيخ عبد الباقي هنا كلام فيه نظر.
وتارك سجدة من كأولاه لا تجزئه الخامسة إن تعمدها: قال الإمام الحطاب: أجاد رحمه الله تعالى فيما، قال ويعني أن من ترك سجدة من الأولى ساهيا، وفات التدارك بعقد الثانية أو من الثانية، وفات التدارك بعقد الثالثة أو من الثالثة وفات التدارك بعقد الرابعة وقام إلى خامسة عمدا ثم بعد الإتيان بها تذكر أنه كان أسقط سجدة من الأولى أو من الثانية، أو من الثالثة فلا تجزئه هذه الخامسة عن الركعة المتروك منها السجدة. انتهى. المراد منه. ولم تجزه الركعة؛ لأنه متلاعب، ولابد من إتيانه بركعة، وما ذكره المصنف من الصحة هو المشهور عند ابن غلاب. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الإمام الحطاب: وإذا لم تجزه فالمشهور تبطل صلاته بزيادة تلك الركعة، وقيل: تصح. نقله الهواري. واستغنى المصنف عن ذكره؛ لأنه قدم أن تعمد كسجدة مبطل فأحرى الركعة. انتهى. ويجاب عن ذلك بأنها صحت نظرا لما في ذمته. وقوله: "لا تجزته الخامسة" أي -مثلا- فالمراد الزائدة كانت خامسة أو رابعة أو ثالثة، وقوله:"وتارك سجدة"؛ يعني إماما أو مأموما أو فذا. وقد علمت أن الموضوع أنه اعتقد كمال صلاته، ولم ينتبه لما في ذمته حتى عقد خامسة في اعتقاده، ثم تبين أن عليه مثلها فلو تذكر ما نسيه قبل عقد الخامسة لكان ما
أتى به عوضا عن ركعة الخلل، ولو نوى أنها خامسة فلا تضر هذه النية كنية الإمام أن لا يحمل عن المأموم ما يحمله عنه، ومفهوم إن تعمدها إجزاء الركعة مع السهو وهو المشهور. وقال ابن القاسم: لا تجزئ الساهي، وعليه جرى المصنف في قوله:"ويعيدها المتبع"، لكن أنكره ابن عرفة.
ولما فرغ من الكلام على ما قصده من الفروع المتعلقة بسجود السهو، وكان لسجود التلاوة شبه به لاشتراكهما في الزيادة على أركان الصلاة المحدودة وإن تفرقا في بعض الأحكام، أتبعه به معبرا بجملة لفظها الخبر، ومعناها الأمر، فقال:
فصل: يذكر فيه سجود التلاوة،
وحكمه، وشروطه، وأمكنته، ولم يعبروا بالقراءة؛ لأن التلاوة أخص فإنها مأخوذة من تلا إذا تبع، والقراءة تكون في كلمة واحدة، والأصل فيه قوله تعالى:{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} ، وقوله تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} ، وغيرهما من الآي.
تنبيه: لو ازدحموا عند سجود التلاوة حتى ما يجد بعضهم موضعا لجبهته، روى البيهقي بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: (إذا اشتد الزحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه
(1)
)؛ أي ولو بغير إذنه، ولابد من إمكانه مع القدرة على هيئة الساجد؛ بأن يكون على مرتفع، والمسجود عليه في منخفض، وبه قال أحمد والكوفيون. وقال مالك: يمسك، فإذا رفعوا سجد. وإذا قلنا بجواز السجود في الفرض فهو أجوز في سجود القرآن؛ لأنه سنة، وذلك فرض. قاله القسطلاني.
سجد بشرط الصلاة؛ يعني أنه لا يسجد سجود التلاوة قارئ ولا مستمع إلا من كان منهما ملابسا للشرط الذي لا تصح الصلاة النافلة إلا به من طهارة حدث، وخبث، وستر عورة، واستقبال قبلة. ويجري هنا:"وصوب سفر قصر لراكب دابة" الخ، ولا يجزئ عنها الركوع عندنا ولا الإيماء إلا المتنفل على الدابة بسفر قصر. كما قاله الفاكهاني، وغيره. ويجوز سجودها بسفينة لغير قبلة إن لم يمكن الدوران، والباء في قوله:"بشرط" للمصاحبة.
ولما كانت السجدة من توابع القراءة، كان لها أيضا بها شبه وهو عدم الإحرام والسلام، ولذا قال: بلا إحرام؛ يعني أن سجود التلاوة يكون بغير إحرام؛ أي لا يكبر له تكبيرا زائدا على تكبير الهوي اتفاقا، بل إنما يكبر للهوي والرفع -كما يأتي- وفهم من قوله:"بلا إحرام"، أنه لا يرفع يديه وهو كذلك، قال الإمام الحطاب ولا يرفع يديه بالتكبير عندنا، قاله الفاكهاني. انتهى. والباء في قوله:"بلا إحرام"، للتعدية. قاله الشيخ عبد الباقي.
(1)
إرشاد الساري للقسطلاني، ج 3 ص 120.
وسلام؛ يعني أنه كما لا إحرام في سجود التلاوة، لا سلام منه على المشهور، بخلاف سجود السهو الذي هو من توابع الصلاة، وفي الأبي في شرح مسلم: لا خلاف أن سجود التلاوة يفتقر إلى طهارة الحدث والدنس والنية والاستقبال، ومعنى النية فيه أن ينوي أداء هذه السنة التي هي السجدة، فما في كلام بعضهم من أنها لا تفتقر للنية مشكل. والظاهر أن إحرامه وسلامه مكروه، إلا أن يفعله خروجا من الخلاف. قاله الشيخ إبراهيم.
قارئ: فاعل سجد، وهو مهموز، وفي بعض النسخ منقوصا عومل معاملة قاض، وقوله:"قارئ"، أي يسجد القارئ ولو غير بالغ، فقول الشيخ عبد الباقي: ولابد من كونه بالغا، غير صحيح. وقد وقع في كلام المازري ما يوهم التقييد بالبلوغ، وليس ذلك بمراد، بل إنما ذكر هناك البلوغ في المتعلم ليجلب به سجود المستمع، المعلم فلا تغتر به. انتهى. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. وقال الشيخ الأمير: سن لبالغ على الراجح مما في الأصل، وندب لصبي سجود بشرط الصلاة النافلة. انتهى. ويطلب بها ولو ماشيا، وينحط لها من قيام، ولا يجلس لياتي بها منه، وينزل الراكب، ولا يكفي عنها إيماء إلا في سفر قصر -كما مر- ومستمع؛ يعني أنه كما يسجد القارئ يسجد المستمع ولو غير بالغ، فاشتراط البلوغ في المستمع غير صحيح أيضا. كما قاله الشيخ محمد بن الحسن. والمستمع هو: المصغي بسمعه.
واعلم أن الاستماع قد يكون ممدوحا، كالاستماع لما يرشد إلى معرفة الله تعالى ونحو ذلك، وقد يكون مذموما، وفي الحديث: (من تسمع حديث قوم بغير إذنهم صب في أذنيه الآنك يوم القيامة
(1)
)، والآنك بفتح الهمزة المدودة، وضم النون: الرصاص المذاب، وموضعه فيمن يستمع مفسدة كنميمة، وأما مستمع حديث قوم لقصد منعهم من الفساد؛ أي ليتحرز من شرهم فلا يدخل تحته، بل قد يندب، بل قد يجب بحسب المواطن.
(1)
ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صب في أذنه الآنك يوم القيامة. البخاري، كتاب التعبير، الحديث:7042.
واعلم أن كل ما لا يجوز النطق به لا يجوز سماعه، فقد قال صلى الله علية وسلم: (المستمع شريك القائل
(1)
)، وقال صلى الله عليه وسلم: (مستمع الغيبة أحد المغتابَيْنِ
(2)
)، وفي الحديث الصحيح: (ولا يتناجى اثنان دون واحد
(3)
)، قال النووي: النهي للتحريم، فيحرم على الجماعة المناجاة دون واحد منهم، ومذهب ابن عمر ومالك وأصحابه وجمهور العلماء: أن النهي عام في كل الأزمان، وفي الحضر والسفر، وقال عياض: في السفر دون الحضر، وتعقبه القرطبي: بأن هذا تخصيص لا دليل عليه، قال ابن عبد البر: ولا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما. انتهى. ولا ينبغي للداخل القعود عندهما ولو تباعد عنهما إلا بإذنهما، وصرح في الجلاب بأن النهي عن التناجي المذكور للكراهة، وقوله: ولا يتناجى اثنان، قال العلماء: وكذلك الجماعة إذا أفردوا واحدا منهم، ولا بأس باثنين دون اثنين، وجماعة دون جماعة إن أمنت الفتنة. وفي الحديث: (من ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتا في أعلى الجنة، ومن ترك المراء وهو مبطل بنى الله له بيتا في ربض الجنة
(4)
). انتهى. المراء كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه إما في اللفظ من جهة النحو، أو من جهة اللغة أو النظم، أو التقديم والتأخير، وإما في المعنى، وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض بكلام سمعته، فإن كان حقا فصدق به، وإن كان باطلا ولم يكن متعلقا بأمور الدين فاسكت عنه. والمجادلة عبارة عن قصد إفحام الغير وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه، ونسبته إلى القصور بالقدح في كلامه ونسبته إلى القصور والجهل فيه والربض بفتح المراء والموحدة بعدها ضاد معجمةٌ: الأسفلُ. قاله ابن زكري. وفي الشادلي على الرسالة: أن المراء التحيل على دفع الحق بالباطل وجحود الحق بعد ظهوره، وأن الجدال مناظرة أهل البدع. انتهى. وقوله: فقط، راجع لمستمع لا لقارئ؛ إذ لا محترز له، قاله الشيخ إبراهيم.
(1)
روى ابن أبى الدنيا عن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان أنه قال لمولى له نزه سمعك عن استماع الخنا كما تنزه لسانك عن القول به فإن المستمع شريك القائل. الإتحاف، ج 7 ص 543.
(2)
المستمع أحد المغتابين. الإتحاف، ج 7 ص 543.
(3)
إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد. مسلم، كتاب السلام، رقم الحديث:2183.
(4)
الإتحاف، ج 1 ص 300.
واحترز بقوله: "فقط"، عن السامع من غير إصغاء، ويسجد المستمع بثلاثة شروط: أولها قوله: "إن جلس". المستمع، ليتعلم؛ يعني أن المستمع إنما يسجد إذا كان قد قصد باستماعه التعلم للقرءان ليحفظه، أو ليتعلم أحكامه من مخارج وإدغام وإظهار وإخفاء وغير ذلك، ويشمل كلامه ما إذا جلس ليتعلم ما يجوز من الأحكام كمد عارض: وهو ما يكون بعرض السكون لأجل الوقف كمد {نَسْتَعِينُ} ، فإنه جائز كما أن قصره كذلك، وقوله:"ليتعلم"، وكذا الحكم لو جلس ليعلم، كما في الأمير، ولو جلس لسماع أو ثواب أو سجود فقط لم يسجد، وعبارة الشارح: فلا يسجد السامع غير القاصد للاستماع، ولا من جلس ليسمع القرآن لا لتعليم، وقاله في العتبية، وقال ابن حبيب: يسجد إلا أن يكون القارئ غير صالح للإمامة كالصبي والمرأة. وعلم مما قررت أن المقصود بالجلوس الانحياز للقارئ بجلوس أو غيره من قيام أو اضطجاع، ولكن عبر بالغالب. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ إبراهيم ولو قال المصنف، إن كان ليتعلم ليشمل من جلس ومن كان غير جالس لكان أشمل. انتهى.
ولو ترك القارئ؛ يعني أن المستمع يسجد ولو ترك القارئ السجدة؛ لأن كلا منهما مأمور بالسجود، فترك أحدهما له لا يسقطه عن الآخر إلا أن يكون القارئ إماما فيتركها المأموم أيضا بلا خلاف، فإن تركها الإمام القارئ وسجدها المأموم بطلت صلاته، فيما يظهر. قاله الشيخ إبراهيم. أي لقوله: وبتعمد كسجدة بخلاف سجود السهو -كما مر- لأنه جابر، ولو تركها المستمع وإن عمدا، وفعلها الإمام صحت صلاة المأموم كما ذكره ابن عرفة، وغيره ورد المصنف "بلو" قول مطرف، وابن حبيب، وأصبغ، وعبد الملك، وابن عبد الحكم القائلين بعدم السجود، والحجة لهم قوله صلى الله عليه وسلم للذي قرأ ولم يسجد: (كنت إماما فلو سجدت لسجدنا معك
(1)
)، وصوبه ابن يونس. وثانيها: قوله: (إن صلح) القارئ (ليؤم) يعني أن المستمع إنما يسجد إذا كان القارئ صالحا للإمامة، وصلح بفتح اللام وضمها ولم يعطفه بالواو لتخالف فاعلي الفعلين، كقوله تعالى: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ
(1)
كنت إماما فلو سجدت سجدت معك. البيهقي، ج 2 ص 324.
يُغْوِيَكُمْ}، وقوله:"يؤم"؛ أي في الفريضة في الجملة؛ بأن يكون ذكرا محققا بالغا عاقلا متوضئا، فلا يسجد مستمع امرأة، وصبي، وخنثى مشكل، ومجنون، ولا محدث أصغر على المعتمد، خلافا لمن قال: يسجد المستمع، وإن كان القارئ على غير وضوء، وعلى القول بإمامة الصبي في النافلة ينبغي أن يسجد مستمعه. قاله الحطاب. وأدخل بقوله في الجملة سجود مستمع غير عاجز من متوضئ عاجز عن ركن، ومستمع من مكروه الإمامة، وكذا من فاسق بجارحة على المعتمد. وثالثها: قوله: ولم يجلس القارئ ليُسْمَعَ بضم أوله مضارع الرباعي؛ يعني أنه إنما يسجد المستمع إن لم يجلس القارئ ليسمع الناس حسن قراءته. وقوله: "ليسمع" بالبناء للفاعل والمفعول، فإن جلس القارئ ليسمع فلا يسجد المستمع له لأن شأن ذلك الرياء، وإن كان إسماعه لهم حسن قراءته قد يكون لقصد إدخال الخشوع عليهم، وزيادة إيمانهم. وقد مر أن المستمع من فاسق بجارحة يسجد، ولعل المانع من سجود مستمع هذا أن فسقه متعلق بذات القراءة فأشبه الفسق المتعلق بذات الصلاة، وأما القارئ الذي جلس ليسمع فإنه يسجد، كما قاله غير واحد، وجعله السنهوري شرطا في سجود القارئ أيضا، ونحوه لأبي الحسن في شرح الرسالة، والظاهر من العبارة الأول، وزاد اللخمي في شروط المستمع أن يسجد القارئ وأن يقرأ جهرا انتهى. أما الأول فهو ضعيف؛ لأن المصنف رد عليه بقوله: ولو ترك القارئ، وأما الثاني فيؤخذ من قول المصنف ليتعلم؛ إذ لا يمكن التعلم إلا مع القراءة جهرا، قاله الشيخ إبراهيم، ويسبح الساجد في السجدة أو يدعو، وفي الحديث: (اللهم اكتب لي بها عندك أجرا، وضع عني بها وزرا، واجعلها لي عندك ذخرا، واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داوود
(1)
). وقوله: كما قبلتها؛ أي السجدة لا بقيد كونها للتلاوة، وفي الحديث أيضا: (سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته
(2)
)
(1)
الترمذي، أبواب السفر، رقم الحديث:579. وفيه: "وتقبَّلها منى كما تقبَّلتها".
(2)
أبو داود، أبواب السجود، رقم الحديث:1414. مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث: 771.
ولما بين من يسجد ومن لا يسجد وشروط السجود بَيَّنَ عَدَدَ السجدات، فقال: في إحدى عشرة. متعلق بقوله: سجد أول الفصل؛ يعني أن القارئ والستمع يسجدان بما تقدم من الشروط في إحدى عشرة سجدة من القرآن دون غيرها على المشهور، وليس في الفصل منها شيء آخر الأعراف عند قوله {يَسْجُدُونَ} ، من قوله:{وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} ، {وَالْآصَالِ} في الرعد، {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} في النحل، و {خُشُوعًا} ، في {سُبْحَانَ} و {بُكِيًّا} في مريم، و {مَا يَشَاءُ} في الحج، و {نُفُورًا} في الفرقان: و {الْعَظِيمِ} في النمل: ونقل ابن عبد السلام محلها منها: {وَمَا يُعْلِنُونَ} ، {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} في {الم} السجدة، و {أَنَابَ} في {ص} ، وقيل:{حُسْنُ مَآبٍ} و {تَعْبُدُونَ} في فصلت، وقيل:{لَا يَسْأَمُونَ} . انتهى. وما يروى من خلاف هذا فمحمول على النسخ عند الإمام، والذي استقر من أمره صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة. زاد ابن وهب وابن حبيب أربعا ردها المصنف بقوله لا ثانية الحج يعني أنه إنما يسجد في أحد عشر موضعا من القرآن وقد مر التنبيه على ذلك ولا يسجد في ثانية الحج زيادة على الإحدى عشرة وإنما يسجد في أولى الحج عند قوله تعالى:{يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} -كما مر- ورد المص بذلك على ابن وهب وابن حبيب -كما مر- وإنما لم يسجد في ثانية الحج؛ أي عند قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} ؛ لأنها في مقابلة الركوع الذي هو أحد أركان الصلاة. {وَالنَّجْمِ} ؛ يعني أنه لا يسجد في النجم عند قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} ، وإن صح أنه صلى الله عليه وسلم سجد عندها، لكنه صلى الله عليه وسلم ما سجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة، كما رواه أبو داوود عن ابن عباس رضي الله عنهما
(1)
؛ وهي أول سورة أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءتها في الحرم، وسجد معه المؤمنون والجن والإنس والمشركون غير أبى لهب، فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته، وقال: يكفي هذا. وفي رواية الشيخين أن الفاعل لذلك أمية بن خلف، والقول بأنه أبو لهب رواية ابن حبان، وفي رواية ابن أبي شيبة إلا رجلين، بين أحدهما بأنه أمية، وذكر ابن سعد أن الثاني الوليد بن المغيرة، وقوله وسجد المشركون، قال الشيخ عبد
(1)
أبو داود، أبواب السجود، رقم الحديث:1403.
الباقي: لزعمهم أنه مدح لهم آلهتهم. بقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ، وإلقاء الشيطان صوتا مثل صوته سمعوه وهو تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى. انتهى. وقوله: وإلقاء الشيطان صوتا الخ، هذا يروى حديثا كما في الشفا، وذلك ما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة النجم، قال:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ، قال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، ويروى ترضى، فلما ختم سجد وسجد معه المسلمون والكفار لما سمعوه أثنى على آلهتهم. ويروى أن الشيطان ألقاها على لسانه صلى الله عليه وسلم، وأن جبريل جاءه فعَرَضَ عليه السورتين، فلما بلغ الكلمتين قال جبريل: ما جئتك بهاتين الكلمتين، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تسلية له:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} . الآية أي إلا إذا تلا وقرأ ألقى الشيطان الخ، فتمنى بمعنى تلا مجازا، وقد جمع ابن حجر طرقا ضعيفة، قال لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا، وذكر السيوطي في الدر المنثور أنها أخرجها البزار، والطبراني، وابن مردويه، والضياء في المختار، وألف فيها الشيخ حسن بن إبراهيم المدني رسالة مقويا ثبوتها، وأنها لا تنافي العصمة، ورد عليه الشيخ العلامة أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد القادر الفاسي في رسالة بموافقة والده سيدي عبد القادر، قال فيها بعد جلب أنقال.
فتحصل أن القضية ليس لها سند صحيح، وطرقها دائرة بين الشذوذ والانقطاع والإرسال، وما ذكره الحافط ابن حجر من أن لها طرقا تدل على أن لها أصلا، يقال عليه هذه الدلالة غير قطعية؛ وهي مردودة بظواهر الآيات، والظواهر المتكاثرة ربما أفادت القطع سَلَّمْنا الدلالة على أن لها أصلا لكن يكفي في ذلك المقدار الذي يوافق ما ثبت في الصحيح (وإنما الوارد في الصحيح سجوده صلى الله عليه وسلم عند ختم السورة، وسجود المسلمين معه والكفار
(1)
)، ولو فرضنا صحة السند واتصاله فهو خبر آحاد غايته إفادة الظن، فلا يهدم ما علم يقينا من العصمة؛ إذ الظن لا
(1)
البخاري، كتاب سجود القرآن، رقم الحديث:1071.
يعارض اليقين. وقد قال ابن العربي: أجمعت الأمة على أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الشيطان ممنوع منه، قد حرم حظه فيه، وقطعت العلائق بينه وبينه، وقال القاضي عياض: هو حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند يسلم، وقد أنكره أبو بكر بن العلاء وأبو بكر البزار. نقله الشيخ محمد بن الحسن. وقال: فتحصل أن صدور الكلمات المذكورة من النبي صلى الله عيه وسلم، أو من الشيطان عند تلاوة نبينا كله غير ثابت، بل منكر لوجوب عصمته صلى الله عليه وسلم، (وإنما الوارد في الصحيح سجوده صلى الله عليه وسلم عند ختم السورة وسجود المسلمين معه والكفار
(1)
)، ولا في الانشقاق؛ يعني أنه لا سجود في سورة الانشقاق، وهي:{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ، خلافا لابن وهب وابن حبيب القائلين: يسجد في الانشقاق عند قول الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} ، ولا في القلم؛ يعني أنه لا سجود في سورة القلم، خلافا لابن وهب وابن حبيب القائلين: يسجد في القلم عند قول الله عز وجل: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} ، فلو سجد في ثانية الحج وما بعدها بطلت صلاته. قاله الشيخ إبراهيم. وفي الحطاب ما معناه، ولو كان الإمام يرى السجود في النجم فسجد، وجب على المأموم أن يتبعه وإلا أساء وصحت صلاته قاله في مختصر البرزلي، قلت: فيها نظر على أصل المذهب. انتهى. وقال عبد الباقي: وهل خلاف ابن وهب وابن حبيب في الأربع حقيقي؛ وهو الذي عليه جمهور المتأخرين، وهو ظاهر المصنف، وعليه فيمنع أن يسجد لها في الصلاة قال سند: لأنه يزيد فيها فعلا تبطل بمثله، فيتعيَّنُ حمل الحديث على النسخ لإجماع أهل المدينة. وقيل: غير حقيقي، والسجود في جميعها إلا أنه في الإحدى عشرة آكد، ويشهد له قول الموطإ: عزائم السجود إحدى عشرة؛ أي المتأكد منها. انتهى. وقال الإمام الحطاب: قال ابن فرحون: طريقة حماد حمل الرواية على الوفاق، وجمهور الأصحاب على حملها على الخلاف. وفائدة هذا الخلاف تظهر في الصلاة، فإن قلنا إنه ليس من العزائم فلا يسجد به في الصلاة. قال سند: ويمتنع عند مالك أن يسجد المصلي بذلك لأنه يزيد في صلاته فعلا مثله يبطل الصلاة. انتهى. وما مر من تفسير العزائم
(1)
البخاري، كتاب سجود القرآن، رقم الحديث:1071.
بالمتأكد خلاف ما فسره به أبو سعيد بن سليمان فإنه قال في تفسير العزائم؛ أي المقطوع بها المتفق عليها. انتهى. وقال الشيخ الأمير: وليس منها ثانية الحج: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} ، ولا النجم؛ لعدم استمرار العمل عليها، والانشقاق، والقلم فيكره، ولا تبطل الصلاة للخلاف، وليس منها أيضا:{وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} ، آخر الحجر. انتهى.
وهل سنة؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا في حكم سجود التلاوة، هل هو سنة غير مؤكدة؟ وعليه الأكثر، وشهره ابن عطاء الله والفاكهاني، ومقتضى كلام ابن عرفة أنه: الراجح. أو هو فضيلة؛ أي مندوب. واعلم أن السنة تقابل بالفضيلة؛ ففي كلام الشيخ عبد الباقي نظر -والله تعالى أعلم- وكون سجود التلاوة فضيلة هو قول الباجي، وابن الكاتب، وصدر به ابن الحاجب، وقوله: خلاف، مبتدأ حذف خبره؛ أي في ذلك خلاف، قال الشيخ إبراهيم: وكان ينبغي للمصنف الاقتصار على القول الأول، فإن القول بالفضيلة لم يشهر، وتصدير ابن الحاجب به لا يكفي في تشهيره. انتهى. وقال الشيخ الأمير: سن لبالغ على الراجح مما في الأصل، وندب لصبي سجود بشرط الصلاة. انتهى. وقوله وهل سنة الخ؛ اعلم أن محل الخلاف في المكلف، وأما الصبي فيندب له، وفائدة الخلاف كثرة الثواب وقلته، وعلى كلا القولين يطلب المصلي ولو مفترضا بسجودها، خلافا لقصر بعضهم على السنة في صلاة الفرض. قاله الشيخ عبد الباقي.
وكبر؛ يعني أن الساجد سجود التلاوة يكبر استنانا على الظاهر؛ لأنه من جملة الصلاة، خلافا لقول أحمد الزرقاني إنه مستحب. لخفض؛ يعني أنه يكبر عند هُوِيِّه للسجود. ورفع؛ يعني أنه كما يكبر للخفض في سجود التلاوة يكبر عند الرفع منه. وقد علمت أن حكم التكبير السنة، وما ذكره المصنف من أنه يكبر للخفض والرفع متفق عليه إذا كان في صلاة، وكذلك يكبر لخفض ورفع أيضا إذا كان بغير صلاة على المشهور، وإلى ذلك أشار بقوله: ولو بغير صلاة؛ يعني أنه إذا كان في الصلاة فإنه يكبر في سجود التلاوة لخفضه ورفع كما في المدونة. وقد مر أنه متفق عليه، وأما إن كان بغير صلاة فقد اختلف قول مالك في ذلك فضعف التكبير مرة، وأجازه مرة. ابن القاسم: وذلك كله واسع. وفي الرسالة: يكبر في خفضها، وفي التكبير في الرفع منها سعة، والذي
رجع إليه مالك التكبير واختاره ابن يونس، ولهذا قال المصنف: ولو بغير صلاة. قاله الشارح وترك المصنف المتفق عليه من مواضع السجود لوضوحه، وبين المختلف فيه بقوله: وص أناب؛ يعني أن موضع السجود في سورة {ص} عند قول الله عز وجل: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} ، وعند ابن وهب:{وَحُسْنَ مَآبٍ} ، وأسقطها الشافعي من عدد السجدات وفصلت تعبدون؛ يعني أن موضع السجود في سورة فصلت عند قول الله عز وجل:{وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، وعند ابن وهب {لَا يَسْأَمُونَ} ، ولم ينبه على {الْعَظِيمِ} في النمل، وإن نقل ابن عبد السلام أن محلها منها:{وَمَا يُعْلِنُونَ} ولعله لتوهيمه، فقد قال ابن عرفة: وَنَقْلُ ابن عبد السلام محلها منها وما يعلنون وَهَم، ثم ذكر مكروهات لها تعلق بالباب وليست منه، فقال: وكره سجود شكر؛ يعني أنه يكره سجود شكر؛ أي لمسرة أو دفع مضرة هذا هو المشهور. وقال اللخمي: اختلف في سجود الشكر، فكرهه مالك مرة، وذكر ابن القصار رواية أنه: لا بأس به، وأخذ ابن حبيب به؛ وهو الصواب لحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في سجدة سورة {ص} سجدها داوود توبة وأسجدها شكرا
(1)
)، وحديث أبي بكرة قال (أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرٌ فسر به فخر ساجدا
(2)
) ذكره الترمذي وحديث كعب بن مالك (لما بشر بتوبة الله سبحانه عليه، خر ساجدا
(3)
)، أخرجه البخاري. ووجه المشهور العمل، ولذا أنكر مالك قولهم: سجد أبو بكر يوم اليمامة حين بشر بقتل مسيلمة بكسر اللام، قائلا: ما سمعته قط وأراهم كذبوا عليه، وقد فتح الله على نبيه وعلى المسلمين، فما سمعت أن أحدا منهم سجد، ولو شرع لكان لأعظم نعمة؛ وهو الهداية للإيمان. وكما يكره السجود للشكر، تكره الصلاة له، وخبر: (يصبح على كل سلامى من الناس صدقة، إلى أن قال في آخره: ويجزئ عن ذلك كله ركعتا الضحى
(4)
) لا يَرِدُ؛ لأنهما ضحى، وإجزاؤهما عن الصدقة فضل منه تعالى، وكونهما للشكر
(1)
النسائي، كتاب الافتتاح، رقم الحديث:957. بلفظ: سجدها داود توبة ونسجدها شكرا.
(2)
الترمذي، كتاب السير، رقم الحديث:1578. بلفظ: فخر لله ساجدا.
(3)
البخاري، كتاب المغازي، رقم الحديث:4418.
(4)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:720.
بعيد من إضافتهما للضحى. قاله عبد الباقي. ونازع الرهوني في كراهة الصلاة للشكر، فقال: انظر من ذكر أن الصلاة للشكر مكروهة. ابن ناجي: يؤخذ من قول الرسالة: ولا يسجد سجدة التلاوة إلا على وضوء، افتقارُ سجود الشكر على القول به إلى طهارة؛ وهو كذلك على ظاهر المذهب، واختار بعضهم عدم افتقاره إليها لزوال سر المعنى الذي أتي بالسجود لأجله لو تراخى حتى يتطهر. قاله الحطاب. وفي دعوى الأخذ نظر. قاله علي الأجهوري. لأن سجدة التلاوة مطلوبة، وسجدة الشكر لم يقل الضعيف بطلبها، بل بجوازها فقط. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: واختار بعضهم الخ، قال الشيخ محمد بن الحسن هذا الخلاف مشكل مع ما نقله الحطاب أول فرائض الوضوء عن النووي، ونصه: اجتمعت الأمة على حرمة الصلاة وسجود التلاوة والشكر بغير طهارة. انتهى.
أو زلزلة؛ يعني أنه يكره السجود لأجل زلزلة أو لظلمة أو لريح شديدة، وأما الصلاة لذلك فلا تكره بل تطلب؛ أي تندب. كما قاله الشيخ الأمير، لقول المدونة: وأرى أن يفزع إلى الصلاة عند الأمر يحدث مما يخاف أن يكون عقوبة من الله تعالى، كالزلزلة، والظلمة، والريح الشديدة. وقال: يصلون أفذاذا أو جماعة إذا لم يجمعهم الإمام، أو يحملهم على ذلك، وهل يصلون ركعتين أو أكثر. وذكر بعضهم عن اللخمي أنه: يستحب ركعتين، ولم أره. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: لقول المدونة، صوابه: لقول اللخمي؛ لأنه ليس في المدونة. قاله الرهوني. وقال الشبراخيتي: إن سبب الزلزلة أن بعوضا خلقها الله تعالى وسلطها على الثور الذي عليه الأرض، فهي تطيف أبدا بين عينيه، فإذا دخلت أنفه حرك الثور رأسه فيتحرك جانب من جوانب الأرض، ويقال: إن عروق جبل قاف ذاهبة في أصول بلاد الأرض، فإذا أراد الله أن يعذب أهل بلدة أمر الله ملكا بتحريك ذلك العرق الذي هو راسخ تحتها، فتزلزل تلك البلدة، وجبل قاف، هو المحيط بالدنيا، وعن وهب: لما بلغ ذو القرنين جبل قاف صعد عليه، وقال: أخبرني عن عظمة الله تعالى، فقال الجبل: إن شأن ربنا لعظيم تقصر عنه الأوهام، إن وراءى لأرضا مسيرة خمسمائة عام، وأرضا من جبال الثلج يحطم بعضها على بعض، ولولا الثلج لاحترقت الدنيا بما
فيها من حر جهنم، فقال: ما هذه الجبال الصغار حولك، قال: هي عروقي، فإذا أراد الله أن يزلزل أرضا أمرني فحركت عرقا من عروقي فتتزلزل تلك الأرض. والله أعلم.
وذكر محمد بن علي الترمذي عن عكرمة: أن الزلزلة من تجلي الرب، وكذلك كسوف الشمس وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أرجفت المدينة أيام عمر، فخطب الناس ثم قال: إن هذا لا يكون في بلد حتى يكثر فيه الزنى والربا، فإن أرجفت ثانية لم أقم بين ظهرانيكم، قال ابن عباس: فما زلزلت حتى قبض عمر. ذكره القزويني. انتهى.
وجهز بها بمسجد؛ يعني أنه يكره الجهر؛ أي رفع الصوت بها؛ أي بالقراءة المفهومة من السياق في المسجد: قال ابن غازي: وليس الضمير عائدا على السجدة؛ إذ لم أر من نص على كراهة الجهر بالسجدة في المسجد. انتهى. وليس المراد بالجهر بالقراءة فيه مطلقا، وإنما المراد رفع الصوت بها فيه. ونص أهل العلم على جواز أخذ العلم بالمسجد، وهو مقيد بعدم رفع الصوت، قال إمامنا مالك رضي الله عنه منكرا رفع الصوت بالعلم: علم ورفع صوت، وكانوا يجلسون في مجالس العلم كأخي السرار، فإذا كان مجلس العلم على سبيل الاتباع فليس فيه رفع صوت، فإن وجد فيه رفع صوت منع وأخرج من فعل ذلك. قاله في المدخل. وهذا الحمل؛ أعني كون الضمير المؤنث المجرور بالباء عائدا على القراءة هو الظاهر، واستبعده بعضهم بأن فيه التكرار مع قوله وأقيم القارئ، وهو غير صحيح؛ لأن الجهر بالقراءة مكروه في المسجد وإن لم يتخذ عادة، وإقامة القارئ مشروطة باتخاذ ذلك عادة. انتهى.
وفي المدخل: المسجد إنما بني للصلاة، وقراءة القرآن تبع للصلاة، ما لم تضر بالصلاة، فإذا أضرت منعت، وهذا لا يعلم فيه خلاف بين أحد ممن يقتدى به من أهل العلم، ومثل القراءة الذكر في المسجد مع وجود مصل يقع له التشويش بسببه انتهى. نقله الإمام الحطاب. وقال الشيخ إبراهيم: وجهر بها؛ أي بالسجدة؛ أي إشهارها والمداومة عليها خوف اعتقاد الجاهل وجوبها إلى أن قال: وأخبرني بعض الفضلاء أن إمام مسجد مكة تركها يوم جمعة، فقام عليه جماعة من العوام، وادعوا بطلان صلاته، ثم قال: انظر التتائي، والنقل في الأبي على مسلم، كما قال خلافا لقول بعضهم: لم أره منصوصا لغيره. انتهى. المراد منه.
وقراءة بتلحين؛ يعني أنه تكره قراءة القرآن العظيم بتلحين؛ أي تطريب لا يخرجه عن كونه قرءانا، فإن أخرجه عنه إلى كونه كغناء بإدخال حركات فيه أو إخراج حركات عنه كقصر ممدود ومد مقصورت أو تمطيط يخفى به اللفظ أو يلتبس به المعنى، فإنه يحرم ويُفَسَّقُ به القارئ، ويأثم به المستمع؛ لأنه أي القرآن عدل به عن منهجه القويم إلى الاعوجاج، قال تعالى:{قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} . قاله الماوردي. ونحوه في المدخل، وزاد: وإذا كثر الترجيعات وزاد الأمر حتى صار لا يفهم معناه فهو حرام اتفاقا، كما يفعله القراء بالديار المصرية، يقرؤون أمام الجنائز والملوك، وقوله:"وقراءة بتلحين"، هو المشهور من مذهب مالك، وهو مذهب الجمهور، وذهب الشافعي إلى جواز القراءة بالتلحين، واختاره ابن العربي، وقال: إنه سنة، وقال: إن كثيرا من فقهاء الأمصار استحسنه، وسماعه يزيد عظة بالقراءة وإيمانا، ويكسب القلوب خشية وقد ثبت أن أبا موسى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو علمت أنك تسمعني لحَبَّرْته تحبيرا
(1)
)، وقال الإمام النووي: الذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن حسنا فليحسنه ما استطاع. انتهى. الأبي: تحسين الصوت بالقرآن غير قراءة الألحان فتحسين الصوت به تزيينه بالترتيل والجهر، والتحزين والترقيق والترتيل في القراءة هو التأني فيها والتمهيل وتبيين الحروف والحركات، والتحزين ترقيق الصوت والخشوع والتباكي، وذلك إنما ينشأ عن تأمل وعيده ووعده، يقال: قرأ فلان تحزينا إذا رقق صوته وصيره كصوت الحزين، وأورد على المشهور خبر: (زينوا القرآن بأصواتكم
(2)
)، وأجيب بأنه مقلوب، وأصله:(زينوا أصواتكم بالقرآن)، كما ورد ذلك في بعض طرقه
(3)
. وخبر: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن
(4)
)، معناه لم يتلذذ بسماعه كتلذذ أهل القينات بسماعهن. ابن ناجي: هذا أحسن ما قيل فيه. انتهى. وقيل معنى الحديث: ليس منا من لم يستغن بالقرآن؛ أي من لم ير نفسه أفضل حالا من الغير لغناه
(1)
الإتحاف، ج 4 ص 499.
(2)
أبو داود، كتاب الوتر، رقم الحديث:1468.
(3)
المستدرك، ج 1 ص 572.
(4)
البخاري، كتاب التوحيد، رقم الحديث:7527.
به، وقيل: معناه من لم يحسن صوته بالقرآن استدعاء لرقة قلبه بذلك. قاله القلشاني. نقله الشيخ محمد بن الحسن. ولا خلاف أن الهذَّ المفضي إلى لف كلمات القرآن وعدم إقامة حروفه لا يجوز، وبعد إقامتها اختلف، فقال الأكثر: الأفضل الترتيل، ورجح بعضهم الهذَّ تكثيرا للأجر بعدد الكلمات، وقال مالك: من الناس من إذا هذ خف عليه وإذا رتل أبطأ، ومنهم من لا يحسن الهذ وكل واسع بحسب ما يخف عليه، ومن أجاز الهذ فإنما ذلك لمن لا حظ له إلا التلاوة، وأما من منحه الله تلاوة بتدبر معانيه واستنباط لأحكامه فلا مرية أن تلاوته وإن قل ما يتلوه أفضل من قراءة ختمات. قاله الشيخ محمد بن الحسن. عن ابن الشاط.
تنبيه: قال الإمام الساحلي رضي الله عنه: السماع ثلاثة أقسام: ممنوع اتفاقا، وجائز اتفاقا، ومختلف فيه. فأما الممنوع باتفاق؛ فهو ما أضيف إليه اللاهي كالمزامير ونحوها، والمتفق على جوازه ما كان من إيراد الأشعار ذوات المعاني الشرعية من غير آلة مطربة لا كف ولا غيره ولا تأنق نغمات، والمختلف فيه من الغناء ما عري عن الآلات الملهية غير التصفيق بالأكف ونحوه مبنيا على الثاني في النغمات بالدندنة ونحوها. انتهى.
وقال في المدخل: قال العلماء: يحرم الغناء؛ وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه؛ لأنه اللهو والغناء المذموم باتفاق، فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح كالعرس والعيد، وعند التنشيط على الأعمال الشاقة كما كان في حفر الخندق ونحوه في عدة الريد، وأما القصائد الصريحة في الشعر كذكر القدود، والخدود، والخمور، والشعور فتجنبها واجب، وقيل: بالجواز إذا لم يكن فيه محذور. ففي الإحياء: وأما النسيب، وهو التشبب الذي فيه وصف الخدود، والأصداغ، وحسن القد، والقامة، وسائر أوصاف النساء فهذا فيه نظر، والصحيح لا يحرم نطقه ولا إنشاده بصوت، وعلى السامع أن لا ينزله على امرأة معينة، وإن أنزله أنزله على من تحل له من زوجته أو جاريته، فإن أنزله على أجنبية، فهو العاصي بتنزيله وإجالته الفكر فيه، ومن هذا وصفه فينبغي أن يتجنب السماع رأسا، وفي المعيار أنه: سئل الشيخ
الخطيب الرحال الحافظ الضابط أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري السبتي عن الشاعر: هل له رخصة في وصف الخدود، والقدود، والنهود؟ فأجاب: اختلف العلماء في وصف الخدود والقدود، فمن مبيح، ومن محرم، قال أبو الفرج بن الجوزي: إن الإمام أبا حامد الطوسي قال: إن النسيب بوصف الخدود والأصداغ، وحسن الخد، والقامة، وسائر أوصاف النساء الصحيح لا يحرم، وما قاله صحيح إذا كان فيمن يملكه الإنسان، وفي وصف النساء. وأما المذكور، ففي المعين: الظاهر التحريم، وفي غير المعين إن نوى به التفنن في الكلام، أو الشخص الجميل من حيث هو شخص لا ذكر ولا أنثى، وإن كان بلفظ الذكر، فالظاهر الجواز، ولا يخلوا من الكراهة، وقد سلكه الأفاضل والأماثل، وعفو الله وراء ذلك كله، والأعمال بالنيات، والله ولي التوفيق بفضله وهو الهادي. انتهى. وقال الأبي. في شرح مسلم على قوله: (هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء
(1)
) الخ فيه: أن الشعر بنفسه ليس بمذموم وإنما المنكر الإكثار منه، أو ما فيه هجاء أو قذف أو تشبب بالحرام، أو وصف الخمر وأنواع الباطل بما يهيج النفوس على ذلك، وقد جاء في شعر حسان وكعب مما مدح به النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه وصف الخمر والتشبب لكن لغير معين، وسمعه صلى الله عليه وسلم جريا على عادة العرب في ذلك، فيغتفر منه ما قل ولم ير أصحابنا رد الشهادة بمثل هذا، وقد جاء في تفسير قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} أنه الغناء، وسئل مالك عنه قال: أمن الحق هو؟ قالوا: لا، قال: فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ انتهى. ولا يمكن أن يكون كل غناء خارجا عن الحق، وقد تقدم ما في المدخل والإحياء من التفصيل، فيتنزل كلام الإمام على بعض أنواع الغناء وهو الذي يحرك من القلب ما هو مراد الشيطان، ولا يصح حمله على الإطلاق. وذكر المقدسي أن أبا مصعب سأل مالكا رضي الله عنه عن السماع، فقال: لا أدري إلا أن أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك ولا يقعدون عنه، ولا ينكره إلا ناسك غبي أو جاهل غليظ الطبع، وقال صالح بن أحمد بن حنبل
(1)
مسلم، كتاب الشعر، رقم الحديث:2255.
رحمهما الله: رأيت والدي يستمع من وراء حائط لسماع كان عند جيراننا. وسمع من الصحابة عبد الله بن جعفر، وابن الزبير، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية وغيرهم، وقد فعل ذلك كثير من السلف الصالح صحابي وتابعي وغيرهم. وقال ابن المبارك: السماع ينبت النفاق في القلب، وقال بعض السلف: السماع مرقاة الزنى، وقاك أبو الحسن رضي الله عنه: سألت أستاذي عن السماع، فأجابني بقوله تعالى:{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} وقال ابن العربي: السماع في هذا الزمان لا يحل أن يقول به مسلم. وقال ابن العربي: السماع كله بطر، وقال الشيخ زروق بعد كلام: مع أنه لا نص من الشارع بجواز ولا منع عند توفر الشروط. ابن الفاكهاني: ليس في السماع نص بمنع ولا إباحة؛ يعني على الوجه الخاص، وإلا فقد صح في الولائم والأعياد ونحوها من الأفراح المشهورة، والاستعانة على الأشغال، فإذا المسألة جارية على حكم الأشياء قبل ورود الشرع فيها، قيل على الوقف فالسماع لا يقدم عليه، وقيل على الإباحة فالسماع مباح، وقيل على المنع فالسماع ممنوع. وقد اختلف الصوفية في الثلاثة الأقوال كاختلاف الفقهاء، وقال الشيخ زروق في شرح المباحث عند قول المتن.
وللأنام في السماع خوض
…
لكن لهذا الحزب فيه روض
قال العراقيون بالتحريم
…
قال الحجازيون بالتسليم
اختلف الناس فيه، فمن قائل بالإباحة بناء على أن الأصل الإباحة حتى يأتي المحرمُ، ومن قائل بالتحريم بناء على أن الأصل المنع حتى يأتي المبيح، ومن قائل بالوقف لتعارض الأدلة. والمراد بالعراقيين أصحاب الرأي من الحنفية وغيرهم، وبالحجازيين الشافعي ومالك، ويحتمل أن يريد بالتسليم الوقف، ويحتمل الإباحة، والظاهر أنهم لا يوجد لهم نص بمطلق الإباحة، ولكنها ظواهر بعضها من طريق القول وبعضها من طريق الفعل. وعند القرطبي: أن أصل مذهب مالك فيه المنع، وهو الأشبه بقواعد مذهبه إذ كان مبنيا على سد الذرائع. واعلم أن ما ينسبونه للنبي صلى الله عليه وسلم من التواجد عند إنشاد:
في كل صبح وكل إشراق
…
تبكي جفوني بدمع مشتاق
قد لسعت حية الهوى كبدي
…
فلا طبيب له ولا راق
إلا الحبيب الذي شغفت به
…
فعنده رقيتي ودر ياق
كذبٌ وموضوعٌ باتفاق العلماء، وكل ما يستشهدون به في هذا النوع باطل. وأول من أوجد الرقص والتواجد أصحاب السامري لما اتخذ لهم العجل قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون، ومن قال بجواز السماع فإنما ذلك بثلاثة شروط: وجود الزيادة به في الإيمان مع النشاط في العبادة، الثَّانِي السلامة مما ينكره ظاهر الشرع كالاجتماع مع النساء وسماعهن مما يوجب تحريك الشهوة عندهن وكذا الأحداث، الثالث أن يراعى فيه خلو الوقت، فالاشتغال به في وقت حضور طعام أو صلاة أو صارف من الصوارف مع اضطراب القلب لا فائدة فيه فيراعى فراغ القلب. فالحاصل أنه يشترط فيه أن لا يقصد معه غيره من الأشغال الدنيوية الصارفة عنه، وأن لا يكون الوقت وقت مقصد شرعي واجب أو مندوب أهم منه، ويجتنب الرقص إلا مع الغلبة، كما قال أبو العباس:
والرقص فية دون هجم الحال
…
ليس على طريقة الرجال
واعلم أن ما يعطى لأهل الملاهي والمزامير في الأعراس، وما يعطى للزوجة تدفعه لهم ثمن يجري على حكم الإجارة عليه. وادعى ابن عبد البر الإجماع على تحريم الإجارة على ذلك، وظاهره الإطلاق. وفي المختصر: كراهة الدف والمعزف للعرس؛ وهو مذهب المدونة. عياض: وإن كان ضرب الدف مباحا في العرس فليست الإجارة مثله؛ إذ ليس كل مباح تجوز الإجارة عليه. وقال ابن يونس: وأما الدف الذي أبيح ضربه في العرس فينبغي أن تجوز إجارته، وأفتى الفقيه راشد بجواز الإجارة على ما أبيح منه كالولائم والأفراح، ونقل في سنن المهتدين عن عكرمة، قال:
[لما ختن
(1)
] ابن عباس رضي الله عنهما، [بنيه
(2)
] أرسلني فدعوت اللعابين فلعبوا، فأعطاهم أربعة دراهم. نقله العميري.
كجماعة؛ يعني أنه يكره اجتماع جماعة على القراءة أي يجتمعون للقراءة بمسجد أو غيره، وقوله:"كجماعة"، قاله في العتبية، ونصها: وكره مالك اجتماع القراء يقرؤون في سورة واحدة، وقال: لم يكن من عمل الناس وأرى أنه بدعة. انتهى. قال أبو الحسن: ابن رشد: وهذا إنما كرهه مالك لأنه أمر مبتدع ليس من فعل السلف، ولأنهم يبتغون به الألحان وتحسين الأصوات بموافقة بعضهم بعضا، وزيادة بعضهم في صوت بعض. انتهى. ويأتي الحديث: ما اجتمع قوم في بيت الخ، قال فيه القاضي عياض: قد يكون هذا الاجتماع لتعلم بعضهم من بعض، بدليل قوله: يتدارسونه بينهم، ومثل هذا لم ينه عنه مالك ولا غيره انظر الإكمال. وقوله:"كجماعة"، تحته صورتان: إحداهما؛ قراءة السبع بضم أوله، وهي أن يبتدئ أحدهم حيث يجد الآخر ولو في نصف آية أو في نصف كلمة ولا ينتهي الآخر، فإنها مكروهة عند مالك؛ لأنها خلاف ما عليه العمل، وللزوم التخليط وتقطيع القرآن وعدم إصغاء بعضهم لبعض، وقد قال تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} الآية، وأنكر عليه النووي بأنه خلاف خبر: (ما من قوم يذكرون الله إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده
(3)
)، وخلاف خبر: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده
(4)
)، وخلاف ما عليه السلف والخلف، وَيُجَابُ بأن مالكا أدرى بما عليه السلف والخلف. وقال ابن رشد: هذا إنما كرهه مالك لأنه أمر مبتدع ليس من فعل السلف، وما ذكر من الخبرين وارد لا صريحا على العموم، فقد يكون خصها الإمام بما
(1)
في الأصل اختتن والمثبت من الجزء الأخير من هذا الكتاب في باب الوصية وهو الموافق لما في سنن المهتدين ص 173.
(2)
ساقطة من هذا الجزء والمثبت من الجزء الأخير من هذا الكتاب في باب الوصية وهو الموافق لما في سنن المهتدين ص 173.
(3)
لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده، مسلم، كتاب الذكر والدعاء، رقم الحديث:2700.
(4)
…
وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه. مسلم، كتاب الذكر، رقم الحديث:2629. (جزء من حديث).
يخشى منه تقطيع كلماته لتقديم المكروه على المندوب، وإن سلم فقد تقرر من مذهبه تقديم العمل على خبر الآحاد، وإن كانت من أصح الصحيح. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أن يقرأ واحد ربع حزب مثلا وآخر ما يليه، وهكذا؛ وهي المسماة بالدارسة. قال الشيخ عبد الباقي: وهي مكروهة على نقل المواق، ومحل كراهتها ما لم يقرأ كل واحد سورة مستقلة، وإلا فلا كراهة. اهـ. وقال المُسناوي: والكراهة في هذه لم يظهر لها وجه. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: لم ينقل المواق في هذه الصورة شيئا، والظاهر الجواز. ونقل النووي أنها جائزة عند مالك، (وكان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان
(1)
). ومعنى ذلك أن يقرأ جبريل، ويعيد النبي صلى الله عليه وسلم عين ما قرأه جبريل؛ فهي غير المدارسة المتقدمة. وفي المدخل: لم يختلف قول مالك أن القراءة جماعة والذكر جماعة من البدع المكروهة. انتهى. قاله الإمام الحطاب.
وجلوس لها لا لتعليم؛ يعني أنه يكره الجلوس لأجل السجدة خاصة لا مع تعليم أو تعلم. وبما قررت علم أن قوله: لا "لتعليم"، حال يعني أنه إنما يكره الجلوس لأجل أن يسجد السجدة خاصة؛ أي غير قاصد مع ذلك الجلوس للتعليم، ومفهومه أنه لو جلس لها وللتعليم فلا كراهة، ومثل التعليم. التعلم وقال الشيخ الأمير: وكره جلوس لأجل السجود، وكره أي السجود حيث جلس له، كإن قصد الثواب بلا تعلم تشبيه في كراهة السجود ينبغي إلا لمراعاة خلاف. انتهى. وقال الشبراخيتي: وذكر أبو الحسن أن الجلوس لقصد الثواب كالجلوس للتعلم. انتهى. والله سبحانه أعلم.
وأقيم القارئ في المسجد؛ يعني أنه يقام القارئ للقرءان في المسجد رافعا صوته به، وقوله:"وأقيم"؛ أي على جهة الندب، وقوله:"في المسجد"، متعلق بقوله:"القارئ"، وقوله: يوم خميس أو غيره، متعلق بالقارئ؛ يعني أن من اعتاد القراءة في المسجد رافعا صوته بها يقام ندبا اعتاد تلك القراءة يوم الخميس أو غيره، وفعله ذلك بالشروط المذكورة مكروه. وقوله: "يوم
(1)
البخاري، كتاب بدء الوحي، رقم الحديث:6.
خميس"؛ أي اعتاد ذلك كل يوم خميس؛ أي قصد دوام ذلك. وعلم بقوله: "أو بقرينة"، وقوله: "أو غيره" ككل جمعة، أو ككل شهر مرة؛ لأن الغالب قصد الدنيا، وإن فعله لا على الدوام فلا يقام وإن كره، ويؤمر بالسكوت أو القراءة سرا، أو بلا رفع صوت. ومحل الكراهة في كلام المصنف حيث رفع صوته بالقراءة، وإلا فلا كراهة. وقوله: "وأقيم القارئ"، هذا إن لم يشترط الواقف ذلك، فإن شرط قراءته بتلك الصفة وجب اتباعه، وفي نوازل ابن هلال: أما رفع الصوت في المسجد بقراءة القرآن: فالظاهر الجواز إذا لم يكن في المسجد أحد؛ لأن العلة في ذلك التخليط على غيره من مصل أو قارئ أو ذاكر. انتهى.
وفي كره قراءة الجماعة على الواحد روايتان؛ يعني أنه نقل عن مالك في قراءة الجماعة دفعة على الشيخ الواحد روايتان، إحداهما: أنه يكره ذلك لما فيه من التخليط وعدم الإصغاء، فيحمل عنه الخطأ لظن القارئ أن ذلك قراءة له. الثانية: أنه يجوز قراءة الجماعة على الشيخ الواحد من غير كراهة للمشقة بانفراد كل واحد بالقراءة عليه: وقوله: "الجماعة"، المراد بالجماعة هنا ما زاد على الواحد، كما قاله الشيخ عبد الباقي. ولكونهما روايتين عن مالك لم يقل خلاف أو قولان أو تأويلان قاله الشيخ عبد الباقي، ومحل الروايتين حيث كان يحصل للشيخ السامع بقراءة كل واحد بانفراده مشقة، وإلا فالكراهة اتفاقا. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله:"وفي كره قراءة الجماعة على الواحد روايتان"، قال الشارح فيه: يريد أنه اختلف في كراهة قراءة الجماعة دفعة واحدة على شيخ واحد، فقيل: يكره؛ لأن بعضهم يخلط على بعض، وقيل: بالجواز؛ لأن كل واحد يقرأ لنفسه فلا تخليط، وقد كانت الصحابة والسلف يتدارسون القرآن، ويسمع لهم في الليل جلبة عظيمة. انتهى. وقوله:"روايتان"، مبتدأ، والخبر: قوله: "في كره قراءة" الخ.
تنبيه: في نوازل ابن هلال سؤال فيمن يقرأ القرآن ويجمع بين قراءة ورش وقالون، هل يجوز أم لا، جوابه -الحمد لله- إن الأمر في ذلك واسع. قال ابن عرفة رحمه الله: يصح أن تبتدئ السورة لنافع وتختمها لأبي عمرو، بل ذلك سائغ في الآية الواحدة.
واجتماع الدعاء يوم عرفة؛ يعني أنه يكره الاجتماع للدعاء يوم عرفة والأولى تنوين. قوله: "دعاء"؛ لأن الاجتماع للدعاء في يوم عرفة مكروه مطلقا بأي دعاء كان، وقوله: "واجتماع لدعاء
يوم عرفة"، قال الشيخ عبد الباقي: بمسجد يقصد أنه سنة ذلك اليوم، والتشبيه بأهل الموقف لا بزوايا القرافة بناء على أنها ليست مساجد، ولا إن قصد اغتنام فضلية الوقت ودعاء المجتمعين، فلا كراهة. وقوله: "واجتماع لدعاء يوم عرفة"، ويقاس الذكر أيضا على مطلق الدعاء، وأجازه أشهب. وكان يفعله بجامع عمرو بمصر. قال سحنون: فحضرته، وكان يصلي جالسا؛ يعني النافلة، وفي جانبه صرة يعطي منها السؤال، فإذا بيد سائل دينار مما أعطاه، فذكرته له، فقال: أوما كنا نعطي من أول النهار؟ وأجازه ابن عباس، وكان يفعله. وقيل: هو أول من فعله تشبيها بأهل عرفة، وسئل عنه أحمد بن حنبل، فقال: أرجو أن يكون خفيفا، وفعله جماعة من السلف، وكرهه منهم جماعة منهم نافع مولى ابن عمر، وإبراهيم النخعي، وحماد، ومالك بن أنس. وفي عمل اليوم والليلة: (من حفظ لسانه وسمعه وبصره يوم عرفة حفظه الله من عرفة إلى عرفة
(1)
). وفي منسك الخطيب: من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يوم عرفة ألف مرة، أعطاه الله ما سأل، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم عشية عرفة: (اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وذل لك جسمه، وفاضت لك عيناه، ورغم لك أنفه، اللهم لا تجعلني بدعائك شقيا، وكن بي رءوفا رحيما يا خير المسؤولين ويا خير المعطين
(2)
). وقوله: "واجتماع لدعاء" الخ، قال الإمام مالك رحمه الله: لأنه من البدع المحدثة، وفهم من قوله:"اجتماع"، عدم كراهة الانفراد لذلك، وهو كذلك. قال ابن القاسم عن الإمام مالك في العتبية: وأكره أن يجلس أهل الآفاق يوم عرفة للدعاء في المساجد، ومقام الرجل في منزلة أحب إلي، قال الشبراخيتي: وذكر الشيخ في شرحه أنه ينبغي أن يخص كراهة ذلك بمن يفعله على أنه من سنة ذلك اليوم، فأما من فعله لا على هذا الوجه فلا يكره، كما ذكره ابن رشد
(1)
الترغيب، ج 2 ص 101.
(2)
الإتحاف، ج 4 ص 375.
في قول المضحي: اللهم منك وإليك، وكان ابن عمر يرفع صوته عشية عرفة، يقول: اللهم اهدنا بالهدى، وزينا بالتقوى. واغفر لنا في الآخرة والأولى، ثم يخفض صوته يقول: اللهم إني أسألك من فضلك رزقا طيبا مباركا، اللهم إنك أمرت بالدعاء وقضيت على نفسك بالإجابة، وإنك لا تخلف الميعاد، ولا تنكث في يدك، اللهم ما أحببت من خير فحببه إلينا ويسر لنا، وما كرهت من شر فكرهه إلينا وجنبناه، ولا تنزع منا الإيمان بعد إذ أعطيتناه.
ومجاوزتها؛ يعني أنه يكره للشخص مجاوزة السجدة أي تركها مع قراءة محلها. لمتطهر؛ يعني أن كراهة ترك السجدة مع قراءة محلها إنما هي لمتطهر، وقوله: لمتطهر متعلق بكره، وقوله: وقت جواز متعلق بمجاوزتها، ومعنى ذلك أنه إذا قرأ محل السجدة؛ وهو متطهر، فإنه يكره له أن يترك السجدة؛ بأن لا يسجدها حيث كان الوقت يجوز فيه السجود للتلاوة. وقد مر بيان ذلك عند قوله:"وسجود تلاوة قبل إسفار واصفرار"، وكذا يكره للمتطهر ترك قراءة محلها والوقت وقت جواز لها. وإلا؛ بأن انتفى الأمران أو أحدهما بأن لم يكن متطهرا، كان الوقت وقت جواز لها أم لا، أو كان متطهرا ولم يكن الوقت وقت جواز لها ففي المدونة: لا يقرؤها وليتعدها، واختلف الشيوخ في قول المدونة المذكور، هل معناه يجاوز محلها؛ أي السجدة أي اللفظ الذي يفعلها عنده، فيجاوز {الْآصَالِ} في الرعد، و {يُؤْمَرُونَ} في النحل، و {خُشُوعًا} في {سُبْحَانَ} ، و {أَنَابَ} في {ص} ونحو ذلك، فيتركه ويقرأ ما بعده، أو معناه يجاوز الآية كلهابخ وهي في فصلت:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} . وقوله: تأويلان؛ مبتدأ حذف خبره؛ أي في ذلك تأويلان ومحلهما ما لم يقرأها بصلاة فرض بوقت نهي وإلا سجدها، وقوله: وإلا فهل يجاوز الخ، هو المذهب. وقال ابن الجلاب: يقرؤها إن تطهر أو خرج وقت النهي ويسجدها، والمذهب أبين لأن القضاء من شعار الفرائض، والسجدة ليست بواجبة حتى تقضى. وقال الشيخ عبد الباقي: وقول بعضهم في بيان التأويل في المصنف: حذف مضاف؛ أي محل ذكرها فيه نظر وقصور، أما الأول فلأن ظاهره ولو كان حذف محل ذكرها يغير المعنى وليس كذلك فقد قيده سند بأن لا يغير المعنى، وإلا لم يجز كأن يقرأ في الحج:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ} ، ويصله بقوله: {مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ}، ويحذف:{يَسْجُدُ لَهُ} ، وكأن يقرأ في فصلت:{لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ} ، ويحذف بقية الآية. وأما الثاني فلأنه قد يكون محل ذكرها ليس في محل السجود، كقوله في الرعد:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ} ، فإن محل سجودها عند {وَالْآصَالِ} وكما في فصلت، وتارة يتفقان كما في آخر الأعراف. انتهى. قوله: وقول بعضهم، إلى قوله فيه نظر وقصور الخ؛ غير صحيح، بل القصور ممن ادعاه، وذلك لأن ما ذكره البعض هو تأويل عبد الحق، ففي أبي الحسن على قولها: وليتعدها إذا قرأها ما نصه: قال عبد الحق في النكت؛ يعني موضع ذكر السجود خاصة: كان ذكر السجود في أول الآية أو في آخرها، وليس عليه أن يتعدى جملة الآية. وقال الباجي: إنما يتعدى موضع السجود، وقيل: جميع الآية. الشيخ أبو الحسن: ويحكى عن أبي عمران أنه قال: لا يتعداها لأنه إن حرم أجر السجود؛ فلا يحرم القراءة. انتهى. وعلى كلا التأويلين لا يرجع لقراءتها إذا تطهر أو زال وقت الكراهة؛ لأن القضاء من شعار الفرائض، وهذا هو المذهب -كما مر- خلافا للجلاب، وكذا القولان فيما إذا لم يتجاوزها بوقت نهي وفعلها فيه، والظاهر أن المتطهر وقت جواز؛ إذا قرأها ولم يسجدها يطلب بسجودها ما دام على طهارته ووقت الجواز باق، وإلا لم يطلب بقضائها؛ لأنه من شعار الفرائض، وقوله:"أو الآية"، قال ابن رشد: هو الصواب ليلا يغير المعنى. وعلم مما مر أن المراد بوقت النهي ما يشمل وقت المنع والكراهة. والله سبحانه أعلم. وفي الإرشاد: ويتجاوزها وقت الكراهة والحدث ويتلو بعد ويسجد، قال الشارح ولم يذكروا ما ذكره من قضائها فانظره.
واقتصر عليها؛ يعني أنه يكره للقارئ الاقتصار عليها؛ أي على السجدة بمعنى موضع السجود لأجل السجود فقط، فإن قصد ثواب القراءة لم يكره. وأول بالكلمة؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا في الاقتصار على السجدة الواقع في المدونة أنه مكروه، ونصها: وتكره قراءتها خاصة لا قبلها شيء ولا بعدها ثم يسجدها في صلاة أو غيرها، فذكر صاحب النكت أن ذلك مخصوص بما إذا قرأ موضع السجدة فقط، وعليه فلا يكره الاقتصار على الآية. والآية عطف على الكلمة؛ يعني أن بعض الشيوخ تأول قول المدونة المذكور على أن المراد به الاقتصار على جملة الآية كما في
التهذيب وعليه فأحرى الكلمة قال الإمام المازري؛ وهو أي تأويل الآية الذي هو التأويل الثاني في كلام المصنف. الأشبه بالقواعد؛ إذ لا فرق بين كلمة السجدة وجملة الآية، فالتأويلان في الآية، وحيث كره الاقتصار فإنه لا يسجد، وحيث لا فإنه يسجد: فإذا اقتصر على الكلمة فإنه لا يسجد باتفاق التأويلين، وعلى الآية فعلى الكراهة لا يسجد، وعلى مقابله يسجد، وهذا الثاني مختار للمازري من الخلاف؛ فالصواب وهو الأشبه على المقول. قاله الشيخ أحمد. وذلك؛ لأن ابن رشد ذكر في ذلك قولين، أحدهما أنه: يجوز إذا قرأ الآية جميعها لأنه يعد تاليا بذلك، والثاني: أنه لا يجوز لأن حكم التلاوة لا يحصل بذلك. وإنما يحصل لمن استمر على قراءة الآيات الكثيرة، ومحل الكراهة في قوله:"واقتصار عليها"؛ إذا كان يفعل ذلك لأجل أن يسجد وإلا فلا كراهة، وإنما كره الاقتصار عليها لأن قصده السجود لا التلاوة؛ وهو خلاف: قاله أشهب. قاله الشيخ إبراهيم.
قال جامعه عفا الله عنه: ومقتضى التأويل الأول أن ما فوق الكلمة ودون الآية لا يكره الاقتصار عليه، وأما تأويل الآية فأحرى في الكراهة ما دون الآية. والله سبحانه أعلم. وتعحمدها بفريضة؛ يعني أنه يكره تعمد قراءة ما فيه سجدة لمن يصلي الفريضة وهذا هو المشهور وروى ابن وهب جوازه، وصوبه اللخمي وابن يونس وابن بشير قال وعلى ذلك كان يواظب الأخيار من أشياخي وأشياخهم، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان يداوم على قراءة السجدة في الركعة الأولى من صلاة الصبح يوم الجمعة
(1)
)، وقوله:"وتعمدها بفريضة"، قال عبد الباقي: هذا في الفذ والإمام، وأما المأموم فلا يكره له ذلك، وليس من تعمدها بفريضة صلاة مالكي خلف شافعي يقرؤها بصبح جمعة، كما يدل عليه قوله: إلا لاقتداء بواصل، وظاهره، ولو غير راتب. انتهى. كلام الشيخ عبد الباقي. وناقشه الرهوني في هذا التفصيل؛ أي تخصيص الكراهة بالفذ والإمام، وأبقى المصنف على عمومه. وفي الحطاب عند قوله:"وتعمدها بفريضة"، قال الشيخ زروق في
(1)
كان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة في صلاة الفجر "الم تنزيل" السجدة وهل أتى على الإنسان. البخاري، كتاب سجود القرآن، رقم الحديث:1068. مسلم، كتاب الجمعة، رقم الحديث: 880.
شرح الإرشاد: فإذا قرأ سورتها استحب له ترك قراءة السجدة نفسها، فإن قرأها سجد وأعلن بها في السر. انتهى. وأصله للخمي في تبصرته. وفي الشيخ سالم: كرهها مالك ليلا يعتقد الجاهل وجوبها انتهى. والله سبحانه أعلم.
أو خطبة؛ يعني أنه يكره تعمد قراءة السجدة في الخطبة لإخلالها بنظامها، قال الشيخ إبراهيم: (وما وقع من ذلك في السنة، ونزوله صلى الله عليه وسلم، وسجوده
(1)
) فمحمول على الاتفاق أو لبيان الجواز، ولما لم يصحبه عمل ترك. انتهى. وقوله: على الاتفاق لا معنى له، بل هو باطل؛ لأن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم كلها حجة مقصودة ما لم يقم دليل على الخصوصية، كما أفاده القاضي في الشفا وغيره. قاله الشيخ محمد بن الحسن. مالك: لا ينبغي لأحد أن يقرأ من سجود القرآن شيئا بعد صلاة الصبح، ولا بعد صلاة العصر؛ لأن السجدة من الصلاة، والصلاة النافلة ينهى عنها في هذين الوقتين.
لا نفل؛ يعني أنه لا يكره تعمد قراءة السجدة في النافلة مطلقا سرا أو جهرا، أمن التخليط على من خلفه أم لا، سفرا أو حضرا، فذا أو جماعة. وقد علمت أن تعمد قراءة السجدة في الفريضة مكروهة فإن قرأها في فرض غير جنازة سجد، وهل سنة أو فضيلة؟ خلاف، وأما في الجنازة فلا يسجد، فإن فعل فالظاهر أنه يجري فيها ما يأتي في سجوده في الخطبة. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"وإن قرأها في فرض سجد"؛ أي ولو بوقت حرمة، كما قاله ابن الحاج؛ لأنها تبع للصلاة كسجود السهو القبلي، وظاهره ولو تعمد قراءة السجدة في الفرض بوقت حرمة، وقال التتائي: ينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يتعمد قراءتها بوقت نهي. انتهى.
لا خطبة؛ يعني أنه إذا قرأ السجدة في خطبته فإنه لا يسجد، وانظر هل يحرم أو يكره؟ فإن وقع لم تبطل فيما يظهر لقول أشهب: ينزل ويسجد مع الناس، فإن لم يفعل فليسجدوا ولهم في الترك سعة. انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"لم تبطل"، استظهره الناصر اللقاني. وجهر
(1)
أبو داود، أبواب السجود، رقم الحديث:1410.
إمام السرية؛ يعني أن الإمام إذا قرأ السجدة في الصلاة السرية فريضة أو نافلة، فإنه يندب له أن يجهر بقراءة محل السجدة ليعلم الناس فيتبعوه. وإلا يجهر بها، وسجد: اتُّبع؛ أي يتبعه المأموم في سجوده عند ابن القاسم؛ لأن الأصل عدم السهو. وقال سحنون: يمتنع أن يتبعوه لاحتمال السهو، وعلى كلا القولين فإن لم يتبعوه صحت صلاتهم. ذكره ابن عرفة. وغيره. قاله الشيخ عبد الباقي. وفي الطراز: ولو كان الإمام لا يرى السجود في: {ص} ، لم يجز للمأموم أن يسجد، ولو كان يرى السجود في النجم فسجد وجب على المأموم أن يسجد معه. انتهى. قاله الإمام الحطاب. ومن مسائل ابن قداح: إذا صلى الإمام بسورة السجدة، وسجد ولم تتبعه الجماعة فقد أساءوا والصلاة صحيحة. انتهى. قال البرزلي: فيها نظر على أصل المذهب. انتهى. وقال ابن عرفة: قال اللخمي: ولا يسجدها المأموم إن لم يسجدها الإمام. انتهى. قاله الإمام الحطاب.
ومجاوزها بيسير يسجد؛ يعني أن من قرأ السجدة وجاوزها لقراءة ما بعدها بيسير كآية أو آيتين ولم يسجدها؛ فإنه يسجدها من غير إعادة قراءة محلها، بناء على أن ما قارب الشيء يُعطى حُكمَه، وهذا حيث كان متطهرا والوقت وقت جواز لها، وسواء كان بصلاة أم لا. وعلم مما قررت أن معنى قوله:"ومجاوزها" أنه قرأ محلها وترك السجدة.
وبكثير؛ يعني أنه إذا قرأ موضع السجدة ولم يسجد وجاوز محلها بكثير، فإنه يعيد قراءتها، ويسجد ويعود من حيث انتهى في صلاة أو غيرها، لكن في صلاة يعود لقراءتها. بالفرض وأولى النفل، ما لم ينحن للركوع، فإن انحنى للركوع؛ بأن ركع، فات فعلها في تلك الركعة، ولا يعود لقراءتها في ثانية الفرض، فإن سجدها في ثانية الفرض من غير إعادة قراءتها لم تبطل فيما يظهر لتقدم السبب انظر كتاب الشيخ الأمير. وبما قررت علم أن قوله:"بالفرض"، متعلق بمحذوف، أي ويعيدها بالفرض ما لم ينحن فهنا حذف الواو مع ما عطفت.
وبالنفل في ثانيته؛ يعني أن من قرأ السجدة في النافلة، وجاوزها ولم يسجد وركع، يفوت فعلها في تلك الركعة بالركوع كما علمت، ويندب له أن يعود لقراءتها في ثانية النفل. ففي فعلها قبل الفاتحة قولان؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا في المحل الذي يفعل فيه السجدة التي فاتته في الأولى بالانحناء، فقال أبو بكر بن عبد الرحمن: يعود لقراءتها قبل قراءة الفاتحة في الركعة الثانية
ويسجدها ثم يقرأ الفاتحة؛ وقال ابن أبي زيد: يفعل ذلك بعد قراءة الفاتحة، في الركعة الثانية لأنها غير واجبة فمشروعيتها بعد الفاتحة، ثم يقوم منها فيقرأ السورة، وقوله: قولان؛ مبتدأ، وخبره الجار والمجرور قبله أعني قوله:"ففي فعلها"، وعلى القول الأول: لو أخرها حتى قرأ الفاتحة فعلها بعدها، بل وكذا بعد القراءة، وقبل: الانحناء، وأما على الثاني فلو قَدَّمَها، فهل يكتفي بها أو يعيدها؟ فإن لم يذكر حتى عقد الثانية فاتت ولا شيء عليه. قال ابن بشير: إلا أن يدخل في نافلة أخرى، فإذا قام قرأها وسجد. انتهى. والظاهر أنه يجري حينئذ في هذه النافلة ما جرى من الخلاف في مسألة المصنف، أعني قوله:"ففي فعلها قبل الفاتحة قولان"، قال الشيخ عبد الباقي: قوله: "وبكثير"، متعلق بقوله:"يعيدها"، وتم الكلام عنده. وقوله:"بالفرض"، متعلق بعامل مقدر مماثل للمذكور؛ أي ويعيد بالفرض، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا جواب عن سؤال مقدر، تقديره: ماذا يفعل إذا جاوزها بكثير في الفرض والنفل، وقوله:"وبالنفل"، معطوف على قوله:"بالفرض"، والموضوع واحد؛ وهو مجاوزتها بكثير، وإنما لم يجعل متعلقا بيعيدها المذكور، لاستلزام ذلك عدم الإعادة في مسألة مجاوزتها في غير الصلاة. انتهى.
وإن قصدها فركع سهوا اعتد به؛ يعني أن المصلي إذا قرأ السجدة؛ أي موضعها، فانحط بنية فعلها، فلما وصل إلى حد الركوع ذهل عنها فركع سهوا، فإنه يعتد بذلك الركوع عند مالك، فيرفع له، وفاتت السجدة؛ لأن الحركة للركن لا تشترط. ولا سهو؛ يعني أنه لا سجود سهو على هذا الذي انحط للسجدة فسها عنها وركع؛ أي لا يسجد قبل السلام لنقص الانحطاط بنية الركوع عند مالك، وسيأتي خلاف ابن القاسم له. بخلاف تكريرها؛ يعني أن من كرر السجدة ساهيا؛ بأن سجد معها سجدة أخرى تحقيقا أو شكا -وهو في صلاة- يسن له أن يسجد بعد السلام، فمن شك هل سجد للتلاوة وهو في صلاة، أو لم يسجد؟ فإنه يسجد سجود التلاوة، ويسجد لهذه الزيادة الشكوك فيها بعد السلام.
أو سجود قبلها؛ يعني أن من سجد قبل السجدة سهوا؛ بأن سجد في آية قبلها يظنها لسهوه محل السجدة، فإنه يسجد بعد السلام. وبما قررت علم أن قوله: سهوا قيد في المسألتين؛ أي
مسألتي التكرير والسجود قبلها، فإن كان عمدا بطلت فيهما. قال الإمام المازري: وأصل المذهب؛ أي قاعدته عندي في القارئ إذا قرأ سجدة وسجد لها. تكريرها؛ أي السجدة بأن يسجد كلما قرأ محلها، وفي بعض النسخ تكريره أي سجود التلاوة إن كرر حزبا فيه سجدة أو سجدات، وتقرير كلام المصنف أن تقول: قال الإمام المازري فيمن كرر حزبا من القرآن: قاعدة المذهب عندي فيه أنه كلما قرأ موضع السجدة يسجدها فيسجدها أولا، وكلما قرأها بعد ذلك فيكرر السجود بعدد تكرار قراءة موضعها ولو في وقت واحد، والمراد بالحزب ما يقرؤه مما فيه سجدة فأكثر، لا الحزب الذي هو أحد الستين.
إلا المعلم والمتعلم؛ يعني أن الإمام المازري قال في القارئ يقرأ السجدة بعد أن يسجد فيها أنه: يسجد أيضا، قال: وهو أصل المذهب عندي، إلا أن يكون ذلك القارئ ممن يتكرر عليه ذلك غالبا كالمعلم والمتعلم. ففيهما قولان، قال مالك وابن القاسم: يسجدان. أول مرة، وقال أصبغ وابن عبد الحكم: لا سجود عليهما ولو في أول مرة. قاله الشارح.
قال جامعه عفا الله عنه: فإذا عرفت هذا عرفت أن الشيخ رحمه الله أطلق، قال: على جميع كلام المازري، ما قاله من عند نفسه: وما نقله عن الشيخين الإمام وابن القاسم فالمازري استثنى مما قاله من عند نفسه ما اختلف فيه الشيوخ، فكأنه قال: قاعدة المذهب عندي تكرير السجود لمن كرر شيئا من القرآن فيه سجدة أو سجدات؛ وأعني بذلك غير المعلم والمتعلم، وأما المعلم والمتعلم فإنهما قد نص على حكمهما إمام الائمة وأصحابه، فقال هو وابن القاسم: إنهما إنما يسجدان أول مرة، وقال أصبغ وابن عبد الحكم: لا سجود عليهما ولو في أول مرة. والله سبحانه أعلم. ويسجد قارئ القرآن جميع سجداته، وإنما سجد المعلم والمتعلم أول مرة لا في غيرها للحرج والشقة. والله سبحانه أعلم. وقوله:"إلا المعلم والمتعلم"، سواء كانا قارئين، أو المعلم فقط والمتعلم سامع، أو المتعلم قارئا والمعلم سامع، كما هو ظاهر المصنف، والتوضيح. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. وقوله:"فأول مرة"، قال الشيخ عبد الباقي سواء كان أول مرة في قراءة سجدات في سور أو في تكرير سورة، أو أكثر بكل سجدة، ولذا عبر بأول مرة دون أول سجدة؛ لأنه كان ربما يوهم قصره على الثانية، وأراد بالتكرير تكرير ما تطلب فيه السجدة سواء كان عين الأولى أو غيره، ولا
يطلبان بعد بسجود آخر للحرج والشقة، ثم إن قرأ متعلم آخر تلك السجدة سجدها وحده، وإن قرأ غيرها سجداها ولو قرأ متعلمون جملة على واحد سجدة أو سجدات متماثلة، كمريم على هينة السبع، سجد كل قارئ، وكذا المعلم أول مرة فقط لاتحاد مقْرُوِّهِمْ لا مع كل بانفراده، فإن لم تتماثل قراءتهم بل اختلفت، كقراءة أحدهم الإسراء، والآخر مريم، وآخر الحج، وآخر الفرقان في وقت واحد على معلم، وكرر كل مقروه، فيسجد كل قارئ أول سجدة قطعا، وكذا يسجد المعلم أول مرة فقط عند سماعه أول سجدة من أيهم عند ابن رشد ومن وافقه. وقال اللخمي والمازري: يسجد أول سجدة مع كل واحد لاختلاف مقروهم، وانظر في عكس هذا، وهو ما إذا اتحد القارئ المتعلم، وتعدد معلمه السامع من غير جلوس كل بمحل واحد، وسجد كل معلم أول مرة، فهل يسجد المتعلم أول مرة أيضا لقراءته عند كل معلم عين ما قرأه عند آخر مطلقا أولا مطلقا؟ أو إن طال الفصل بين قراءته على كل، فالأول، وإلا فالثاني. فإن قرأ على كل غير ما قرأ على الآخر سجد عند كل أول مرة، كما إذا قرأ على الجميع جملة في وقت واحد. انتهى. قوله:"لا مع كل بانفراده" الخ؛ قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر، فإن الموضوع في كلامه قراءتهم مجتمعين على هيئة السبع، وقوله: من غير جلوس كل بمحل واحد؛ أي من غير جلوس جميعهم بمحل واحد، بل جلس كل واحد بمحل وحده.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر صحة قوله لا مع كل بانفراده؛ أي لا يسجد بعدد المتعلمين. والله سبحانه أعلم وقوله إن كرر حزبا قال الشيخ محمد بن الحسن: لو قال: إن كرر موجب سجود، كان أولى، ليشمل ما إذا كرر الأول أو غيره. انتهى. وهو نحو ما مر عن الشيخ عبد الباقي، أن المراد بالتكرير تكرير ما تطلب فيه السجدة سواء كان عين الأولى أو غيره. انتهى. وفي الحطاب: المازري: وإذا كان المتعلمون جماعة يقرءون على المعلم الواحد واحدا، بعد واحد فإنه يسجد كل واحد من المتعلمين، وقاله الفاكهاني انتهى.
وندب لساجد الأعراف قراءة قبل ركوعه؛ يعني أنه يندب لمن هو في صلاة إذا قرأ سورة الأعراف، وسجد السجدة في آخر السورة، أن يقرأ بعد قيامه منها -من الأنفال- أو من غيرها
مما يليها على نظم الصحف، لا ما قبلها -وقبل ركوعه- وإنما ندب له أن يقرأ قبل ركوعه؛ لأن من سنة الركوع أن يقع عقب القراءة. ومثل الأعراف غيرها، وإنما خص الأعراف لدفع توهم أنه من باب جمع سورتين في ركعة؛ وهو مكروه في الفرض فغيرها أحرى.
ولا يكفي عنها ركوع؛ يعني أنه لا يكفي عن سجدة التلاوة ركوع؛ أي لا يجعل الركوع عوضا عنها؛ لأنه تغيير للموضوع الشرعي عن هيئته، وهذا إذا أشركها في الركوع، وأما لو خصها بالركوع فينبغي بطلان صلاته. قاله الشيخ سالم. وقال الشيخ إبراهيم: قال ابن القاسم في العتبية: فإن تعمد الركوع بها أجزأته الركعة في الفريضة والنافلة ولا أحب له ذلك، وليقرأها في النافلة في الثانية ويسجد، وهذا يفيد الاعتداد بالركوع ولو قصد به السجدة فقط، ونحوه في البساطي. انتهى. والفرق بين كون الركوع لا ينوب عن السجدة مع أنه نواها، وبين غسل الجنابة يحصل به غسل الجمعة إن نواهما تماثل هيئة العبادتين فيما مر وتخالفهما هنا، - وبالله تعالى التوفيق -، وهذا الفرق مأخوذ من كلام ابن يونس حيث علل أن السجدة لا يكفي عنها ركوع بقوله: لأنه إن قصد به الركوع فلم يسجد وإن قصد السجدة فقد أحالها عن وجهها وذلك غير جائز؛ لأنه تغيير للموضوع الشرعي عن هيئته. انتهى.
وإن تركها وقصده صح؛ يعني أن من هو في الصلاة إذا قرأ موضع السجدة وتركها وانحط بقصد الركوع فركع ولم يجعل ركوعه عوضا عنها فإنه يصح ركوعه، وكذا لو جعل ركوعه عوضا عنها فإنه يصح كما يفيده كلام أبي الحسن. قاله الشيخ إبراهيم. وكره يعني أن هذا الذي قصد الركوع وركع وترك السجدة يكره فعله لتفويته سنة أو فضيلة.
وسهوا اعتد به عند مالك. قرره الطخيخي على أن معناه انحط بنية السجدة، فلما وصل إلى حد الركوع نواه وذهل عنها، فإنه يعتد بذلك الركوع عند الإمام مالك، ولا يعتد به عند ابن القاسم؛ أي لأنه لا ينحط بقصد الركوع وإذا فرعنا على قول ابن القاسم أنه لا يعتد بالركوع، فإنه يخر ساجدا للتلاوة، ثم يقوم فيقرأ شيئا من القرآن ويركع، فإن لم يطمئن في ركوعه الذي هوى له بنية السجدة فلا سجود عليه، وإن اطمأن فيه وأولى إن رفع منه، فإنه يسجد بعد السلام، وإلى ذلك أشار بقوله: فيسجد إن اطمأن به؛ أي يسجد بعد السلام إن اطمأن في انحنائه. والله
سبحانه أعلم. وقرره الشارح، والبساطي، وابن غازي، والتتائي على أن معناه: انحط بنية الركوع وسها عن السجدة فيعتد في لك الركوع عند مالك، ولا يعتد به عند ابن القاسم؛ لأن نية الركوع إنما كانت سهوا عن السجدة، وعلى هذا التقرير فليست هذه مكررة مع السابقة؛ لأن هذه تركها والأولى قصدها. والصواب ما قرر به الطخيخي لأنه وإن كانت هذه مكررة مع السابقة، فالشيخان إنما اختلفا فيما إذا انحط بنية السجدة، فلما وصل إلى حد الركوع ذهل عن السجدة، ودعوى التكرار خير من نسبة خلاف إلى الشيخين لم يكن. والله سبحانه أعلم. قال الشيخ محمد بن الحسن: ما قرره به الطخيخي هو الصواب، وإن لزم عليه التكرار. وفائدته التنبيه على أن المسألة ذات خلاف، وأما التقرير الآخر فمشكل من ثلاثة أوجه: أحدها ما تقدم في السهو من أن السجدة تفوت بالانحناء، وأجيب عنه بأن ما تقدم مقيد بركوع خالص لم يزاحمه سجود، كما إذا جاوز آية السجدة ثم انحنى للركوع، وأما إذا لم يخلص المحل للركوع كما نحن فيه فلا يفوت بالانحناء ثانيها: الرجوع من فرض إلى سنة، وأجيب بأن ابن القاسم لعله إنما يمنع ذلك إذا اختلفت هيئة المرجوع عنه والمرجوع إليه، وما هنا لا كبير اختلاف فيه؛ لأن الانحناء لابد منه في الركوع والسجود. ثالثها: أن اللخمي حكى الاتفاق على الاعتداد، فيما قرر به ابن غازي الخلاف هنا، وأجيب بأن ذلك طريقة اللخمي، وأما ابن يونس فطريقته الخلاف في الصورتين كما أشار إليه ابن غازي، لكن رده مصطفى فانظره. انتهى. قال المصنف: وينبغي أن يجري على هذا الخلاف أي خلاف. ابن القاسم، ومالك: من سها عن نية الركوع والسجود، وانحط بغير نية البتة. ولما أنهى الكلام على سجود التلاوة، وكان بينه وبين صلاة التطوع مشابهة، أتبعه بها، فقال:
فصل: في النوافل،
واعلم أنه نقل في رياض الصالحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن
(1)
). انتهى. وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول ما افترض الله تعالى على أمتي الصلواتُ الخمس، وأول ما يسألون عنه الصلوات الخمس، فمن ضيع شيئا منها يقول الله تبارك وتعالى: انظروا هل تجدون لعبدي نافلة من صلاة تتمون بها ما نقص من الفريضة؟ وانظروا في صيام شهر رمضان فإن كان ضيع شيئا منه فانظروا هل تجدون لعبدي نافلة من صيام تتمون بها ما نقص من الصيام؟ وانظروا في زكاة عبدي فإن كان ضيع شيئا منها فانظروا هل تجدون لعبدي نافلة من صدقة تتمون بها ما نقص من الزكاة؟ فيؤخذ ذلك على فرائض الله وذلك برحمة الله، فإن وجد فضل وضع في ميزانه، وقيل له ادخل الجنة مسرورا. وإن لم يوجد له شيء من ذلك أمرت به الزبانية فأخذ بيديه ورجليه ثم قذف في النار
(2)
). انتهى.
وقال ابن رقيق العيد في تقديم النوافل على الفرائض وتأخيرها معنى لطيف مناسب: أما التقديم فلأن النفس لاشتغالها بأسباب الدنيا بعيدة عن حالة الحضور والخشوع التي هي روح العبادة: فإزا قدمت النوافل على الفرائض أنست النفدى بالعبادة وتكيفت بحالة تقرب من الخشوع، وأما تأخيرها عنها فقد ورد أن النوافل جابرة لنقص الفرائض، فإذا وقع الفرض ناسبه أن يقع بعده ما يجبر به خلل فيه انتهى. نقله الشيخ محمد بن الحسن. واعلم أنه يكره التنفل بهذه النية، قال في سماع ابن القاسم: وليس من عمل الناس أن يتنفل ويقول: أخاف أني نقصت من الفرائض، وما سمعت أحدا من أهل الفضل يفعله.
ندب نفل؛ يعني أن النفل مندوب، والمندوب ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه. وقوله:"ندب نفل"؛ يعني في كل وقت يجوز فيه التنفل ليلا أو نهارا، ولا فرق في ذلك بين الحاضر والمسافر. انظر تحقيق هذا في أول فصل القصر، والأصل في ندب النافلة قوله صلى الله عليه
(1)
كنز العمال، رقم الحديث:1826.
(2)
كنز العمال، رقم الحديث:18859.
وسلم: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ومتكلما
(1)
)، ولخبر: (ما من امرئ يكون له صلاة بليل فغلبه عليها نومه إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه صدقة عليه
(2)
)، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة، وأي الصيام أفضل بعد شهر رمضان، فقال: (أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم
(3)
). وقال عمرو بن العاصي رضي الله عنه، ركعة باليل أفضل من عشرين ركعة بالنهار. قاله في الرياض.
والنفل لغة: الزيادة، والمراد به هنا: ما زاد على الفرض؛ وهو ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه -كما عرفت- فيشمل: المندوب، والرغيبة، والسنة. فالمندوب: ما فعله صلى الله عليه وسلم، ولم يداوم عليه، وهذا الحد غير جامع لخروج نحو الركوع قبل الظهر، لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يداوم على أربع قبل الظهر.
والرغيبة: ما رَغَّب فيه الشارع وحَدَّه، ولم يفعله في جماعة. وخرج بقوله: وحَدَّه بعض مندوب رُغِّبَ فيه -كما يأتي في الرواتب- والأحسن أن تبين الرغيبة بالعد؛ لأنه ليس لنا منها سوى ركعتي الفجر.
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها الخ. البخاري، ج 7 ص 190. وفي لفظ آخر: وفى حديث أنس ومن أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا. الأحاديث القدسية، ص 82 ط دار الفكر 1983. وفتح الباري، ج 11 ص 344 وفى رواية أخرى: عن عائشة رضي الله عنها من آذى لي وليا، فقد استحل محاربتي، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء فرائضي، وما يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت عينه التي يبصر بها، وأذنه التي يسمع بها ويده التى يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وفؤاده الذي يعقل به، ولسانه الذي يتكلم به، وإن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته. الإتحاف، ج 9 ص 569. ط دار الفكر.
(2)
أبو داود، كتاب التطوع، رقم الحديث:1314. ولفظه: ما من امرئ تكون له صلاة بليل يغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة. والنسائي، كتاب قيام الليل، رقم الحديث:1784.
(3)
مسلم، كتاب الصيام، رقم الحديث:1163.
والسنة: ما فعله صلى الله عليه وسلم، وداوم عليه، وأظهره في جماعة، واقترن به ما يدل على عدم وجوبه. فخرج ما لم يداوم عليه وإن صلاه في جماعة كالتراويح، وما لم يظهره كأربع قبل ظهر، وأربع قبل عصر، وقوله: ولم يداوم عليه، استشكل بوجوب إثبات عمله -كما يأتي- وأجيب بأن المراد بإثباته أن لا يقطعه أصلا لا أنه يفعله في كل أوقاته، وبأن المراد إثبات عمله الخاص به كنافلة عملها لنفسه لا لبيان تشريع، وقوله: وداوم عليه؛ يعني أو فهم ذلك منه ككسوف، واختلاف ألفاظه يرجع إلى قوة تأكد بعضه على بعض، فأعلاه السنة، ثم الرغيبة، ثم الندب كالضحى والرواتب، والتراويح ثم النافلة التي لم تحد ولم تقيد كالنوافل المطلقة، ثم الفضيلة، ثم التطوع.
وتأكد بعد مغرب؛ يعني أنه يتأكد ندب النفل بعد صلاة المغرب، وبعد الإتيان بالذكر الوارد عقبها: لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم يصلي علي، ثم يدعو بما شاء
(1)
). وفي الحديث: (من صلى بعد المغرب ستا لم يتكلم بينهن بسوء، عدلن له عبادة ثِنْتَيْ عشرة سنة
(2)
)، وفي لفظ: (غفرت ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر
(3)
). كذا في الشبراخيتي. وفي الحديث أيضا: (من صلى ركعتين بعد المغرب كتبتا في عليين
(4)
)، وفيه: (أسرعوا بالركعتين بعد المغرب
(5)
). رواه في الجامع الصغير. وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد الجمعة، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، فأما المغرب والعشاء ففي بيته
(6)
). أخرجه الستة. رواه في التيسير. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)
أبو داود، كتاب الوتر، رقم الحديث:1481. الترمذي، كتاب الدعوات، رقم الحديث: 3477.
(2)
الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث 435. ولفظه: من صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم فيما بينهن بسوء عدلن له بعباده ثنتي عشرة سنة.
(3)
مجمع الزوائد، ج 7 ص 233. الإتحاف، ج 3 ص 371.
(4)
الجامع الصغير، ج 6 ص 167. ولفظه: من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم كتبتا في عليين. مصنف ابن أبي شيبة، ج 2 ص 103. الإتحاف، ج 3 ص 371.
(5)
الجامع الصغير، ج 4 ص 307. ولفظه: عن حذيفة، عجّلوا بالركعتين بعد المغرب فإنهما ترفعان مع المكتوبة.
(6)
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لابن الدبيع الشيباني، ج 2 ص 209.
(من ثابر على اثنتي عشرة ركعة من السنة، بنى الله له بيتا في الجنة؛ أربع ركعات قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر
(1)
). أخرجه الترمذي، والنسائي. المثابرة: المداومة. قاله في التيسير. وفيه: عن أبي داوود عن علي رضي الله منه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في إثر كل صلاة مكتوبة ركعتين إلا الفجر والعصر
(2)
). وفيه: عن النسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه: (رمقت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين مرة يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين [قبل
(3)
] الفجر: قل يأيها الكافرون، وقل هو الله أحد
(4)
). وفي الحديث: (من صلى بعد المغرب قبل أن يتكلم ركعتين، وفي رواية أربعا، رفعت صلاته في عليين
(5)
). رواه في التيسير، وفيه: عن حذيفة، وكان يقول: (عجلوا بالركعتين بعد المغرب فإنهما يرفعان مع المكتوبة
(6)
).
واعلم أن من نوى النفل أربعا فله أن يسلم من ركعتين، وإذا أفسده وقد نواه أربعا، فإن كان قبل عقد الثالثة قضاه ركعتين فقط لا ركعتين ثم ركعتين، وإن كان بعد عقد الثالثة قضاه أربعا، (وصلى النبي صلى الله عليه وسلم المغرب في مسجد بني عبد الأشهل، فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها، فقال: هذه صلاة البيوت
(7)
). أخرجه أبو داوود، والنسائي. وعنده: (عليكم بهذه الصلاة
(8)
).
كظهر: تشبيه في تأكد ندب التنفل بعدُ؛ يعني أنه يتأكد ندب النفل بعد صلاة الظهر، كما أنه يتأكد ندبه بعد صلاة المغرب. وكما يتأكد ندب النفل بعد الظهر، يتأكد قبلها؛ أي الظهر،
(1)
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لابن الدبيع الشيباني، ج 2 ص 209.
(2)
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لابن الدبيع الشيباني، ج 2 ص 213.
(3)
في الأصل بعد والمثبت من النسائي والتيسير.
(4)
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لابن الدبيع الشيباني، ج 2 ص 210.
(5)
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لابن الدبيع الشيباني، ج 2 ص 213.
(6)
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لابن الدبيع الشيباني، ج 2 ص 213.
(7)
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لابن الدبيع الشيباني، ج 2 ص 213.
(8)
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لابن الدبيع الشيباني، ج 2 ص 213.
لخبر: (من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر: وأربع بعدها حرمه الله على النار
(1)
). رواه في التيسير عن أصحاب السنن. وفي الرياض: عن الترمذي أنه قال: حديث حسن صحيح غريب، وفي التيسير: عن علي رضي الله عنه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل الظهر أربعا، وبعدها ركعتين
(2)
). أخرجه الترمذي. وفيه: عن أبي داوود عن أبي أيوب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم يفتح لهن أبواب السماء
(3)
)، وهذا دليل للقول بجواز التنفل بأربع، وفي التيسير: عن الترمذي عن عبد الله بن السائب، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أربع ركعات [بعد
(4)
] أن تزول الشمس قبل الظهر، ويقول: إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحِبُّ أن يصعد لي فيها عمل
(5)
).
كعصر؛ يعني أنه يتأكد ندب النفل أيضا قبل صلاة العصر، لخبر: (رحم الله امرءا صلى قبل العصر أربعا
(6)
). رواه أبو داوود والترمذي، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم مستجاب. وللباجي، وسند، وابن العربي: أن البداءة بالفريضة أفضل مع اتساع الوقت، وعليه فإنما تطلب الرواتب القبلية لمن ينتظر جماعة لا للفذ، ولا لمن لا ينتظرها. وفي المدونة: من دخل مسجدا قد صلى أهله فجائز أن يتطوع قبل المكتوبة إذا كان في بقية من الوقت، وكان ابن عمر يبدأ بالمكتوبة، وقد تقدم عند قوله:"والأفضل لفذ" ما يخالف هذا، ولا خلاف في المنع إذا ضاق الوقت، وفي الحطاب بعد جلب نقول: يفهم من كلامهم أن الأولى تقديم الفريضة، وفي التوضيح: وينبغي أن يقيد هذا؛ أي كون البداءة بالفريضة أولى من البداءة بالنفل بما إذا كانت الصلاة يجوز التنفل بعدها؛ وأما ما لا يجوز كالصبح والعصر فلا. وفي التيسير: عن علي رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله
(1)
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لابن الدبيع الشيباني، ج 2 ص 211.
(2)
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لابن الدبيع الشيباني، ج 2 ص 211.
(3)
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لابن الدبيع الشيباني، ج 2 ص 211.
(4)
في الأصل قبل والمثبت من الترمذي والتيسير ج 2 ص 211.
(5)
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لابن الدبيع الشيباني، ج 2 ص 211.
(6)
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لابن الدبيع الشيباني، ج 2 ص 211.
عليه وسلم يصلي قبل العصر ركعتين
(1)
)، رواه أبو داوود. وعن علي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر أربعا يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين
(2)
). رواه في التيسير عن الترمذي، وقالت عائشة رضي الله عنها: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني في يومي بعد العصر إلا صلى ركعتين
(3)
). رواه في التيسير عن الخمسة، إلا الترمذي. (وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر، ثم لم يعد لهما
(4)
). أخرجه الترمذي. بلا حد، الظاهر أنه ظرف مستقر حال من النفل المتأكد ندبه، ويحتمل أنه ظرف لغو متعلق بتأكد. والله سبحانه أعلم. ويؤخذ ذلك من كلام الشيخ عبد الباقي؛ يعني أن هذه الرواتب من جملة ما يتأكد ندبه من النوافل، وليست محدودة بعدد تكره الزيادة عليه والنقص عنه. قاله الشيخ إبراهيم. وعبارة الشيخ عبد الباقي بلا حد بعدد خاص، بحيث تكون الزيادة عليه أو النقص عنه مفوتا للمطلوب قبل الفرائض أو بعدها، وإنما ذكر أبو محمد ذلك العدد تبركا بالوارد لا على وجه التحديد، ولا يخفى أن ما كثر من الطاعات يزيد ثوابه على ما دونه والأعداد الواردة في الأحاديث ليست للتحديد بل للفضل الرتب عليها، ولا يشترط الاتصال. ألا ترى أنه يجوز الإتيان بركعتي الفجر في أول الوقت، ثم يصلي الصبح قبل الإسفار، أو في الإسفار؟ قاله الشيخ إبراهيم وينبغي لطالب العلم أن يشد يده على مداومته على فعل السنن والرواتب، وما كان منها تبعا للفرض قبل أو بعد، وإظهارها في المسجد أفضل من فعلها في بيته (كما كان عليه الصلاة والسلام يفعله ما عدا موضعين كان لا يفعلهما إلا في بيته
(5)
): بعد الجمعة ليلا يكون ذريعة لأهل البدع الذين يحدثون بعده ولا يرون صحة صلاة الجمعة إلا خلف إمام معصوم، وبعد المغرب
(1)
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لابن الدبيع الشيبانى، ج 2 ص 212.
(2)
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لابن الدبيع الشيبانى، ج 2 ص 212.
(3)
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لابن الدبيع الشيبانى، ج 2 ص 212.
(4)
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول لابن الدبيع الشيبانى، ج 2 ص 212.
(5)
ابن حبان، رقم الحديث:2479.
شفقة على أهله عند صومه ليلا ينتظروه بالعشاء، ولم يرد شيء معين في النفل قبل العشاء إلا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة
(1)
). والمراد الأذان والإقامة والمغرب مستثناة، وفي اللمع أن: العشاء كالظهر. وقد مر أن من نوى النفل أربعا له أن يسلم من ركعتين، وإن أفسده وقد نواه أربعا؛ فإن أفسده قبل عقد الثالثة قضاه ركعتين فقط لا أنه يصلي ركعتين ويسلم منهما، ثم يصلي ركعتين وبعد عقد الثالثة قضاه أربعا. واستفيد من هذا أن النفل المفسد يجب قضاؤه وبه صرح ابن الحاجب، فقال: وإن قطع نافلة عمدا لزمه إعادتها، بخلاف المغلوب. وقال الشيخ الأمير: ندب نفل وتأكد في الرواتب بلا حد، والأفضل الوارد وبعد الأذكار وكره نية جبر الفرض، ثم قال: وهذا كمن يعبد لا في نظير ثواب مع أنه مؤمن فالنية قدر زائد على العلم؛ فإنها من قبيل الإرادات. وقد علمت أن قضاء النفل المفسَد واجب، وإنما لزمه إعادته لوجوبه بالشروع فيه عندنا، ولا عذر له. قاله في التوضيح.
والضحى؛ عطف على النفل المتأكد؛ يعني أنه يتأكد ندب صلاة الضحى، كما هو ظاهر أبي عمر، وصرح به ابن العربي، ومن أتى بها كان من الأوابين، وحمى ثلاثمائة وستين عضوا من النار. وفي الحديث: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها
(2)
). وهذا بناء على أنه كان غير واجب عليه. خلاف ما مشى عليه المصنف في الخصائص، وكان هنا تدل على التكرار بلا خلاف. والله تعالى أعلم. وفي خبر أبي هريرة: (أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام
(3)
)، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثا فأعظموا الغنيمة وأسرعوا الكرة، فقال رجل: (يا رسول الله ما رأينا بعثا قط أسرع كرة ولا أعظم غنيمة من هذا البعث، فقال: ألا أخبركم بأسرع كرة منه وأعظم غنيمة رجل توضأ فأحسن الوضوء، ثم عمد إلى المسجد فصلى فيه الغداة، ثم عقب
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:624. ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث: 838.
(2)
الترمذي، كتاب الوتر، رقم الحديث:477.
(3)
البخاري، كتاب الصوم، رقم الحديث:1981.
بصلاة الضحى، فقد أسرع الكرة وأعظم الغنيمة
(1)
). وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة الغداة في جماعة، ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم قام فصلى ركعتين، انقلب بأجر حجة وعمرة
(2)
). وفي الجامع الصغير: قال الله: (يا ابن آدم صل أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره
(3)
)؛ أي شر ما يحدث آخره؛ أي بقيته. وحمل ابن تيمية، وابن القيم الأربع على صلاة الصبح والفجر، وحملها غيرهما على سنة الضحى، ويؤيده ما روي مرفوعا: (ما من عبد يصلي الضحى ثم لم يتركها إلا عرجت إلى الله تعالى، وقالت: يا رب إن فلانا حفظني فاحفظه، وإن تركها قالت: يارب إن فلانا ضيعني فضيعه
(4)
).
وفي الحديث أيضا: (ركعتان من الضحى تعدلان عند الله بحجة وعمرة متقبلتين
(5)
)، وفي العهود المحمدية: من واظب على صلاة الضحى لم يقربه جني إلا احترق، وهي كسائر النوافل لا حرج في تركها للخبر المتقدم: كان يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها، ولا يعارضه الخبر المار: (وإن تركها، قالت: يارب إن فلانا ضيعني فضيعه
(6)
) لحمله على من تركها كسلا، وحمل الآخر على تركها لا كسلا، فما شاع عند العوام من إصابة من لم يواظب عليها بمكروه في نفسه وأولاده، فباطل. وفي التلقين أنها: نافلة غير مؤكدة، وظاهر ابن عرفة ترجيحه ووقتها من حل النفل للزوال، وأحسنه إذا كان الشمس من المشرق مثلها من المغرب وقت العصر؛ أي ابتداء وقت العصر، قال الشيخ عبد الباقي: معنى ذلك إِن وقت الزوال نصف النهار فما بعده إلى الغروب كقدر ما بعد وقت الطلوع إلى الزوال، فيحسب بعد الطلوع قدر حصة ما بين العصر إلى المغرب، كأربعين درجة مثلا، فيصلي الضحى إذا مضى من طلوع الشمس أربعون درجة حينئذ قال الشيخ عبد الباقي: وأقل الضحى ركعتان، وأكثره ثمان، وأوسطه ست،
(1)
ابن حبان، ج 4 ص 104. رقم الحديث:2326.
(2)
الإتحاف، ج 5 ص 128.
(3)
الجامع الصغير، رقم الحديث:6007.
(4)
فيض القدير، ج 4 ص 469.
(5)
الجامع الصغير، رقم الحديث:4472.
(6)
فيض القدير، ج 4 ص 463.
ويكره ما زاد على ذلك بنية الضحى لا بنية نفل مطلق. انتهى. ونحوه للشيخ الخرشي، والشيخ إبراهيم. وقوله: ويكره ما زاد على ذلك الخ، قال الشيخ محمد بن الحسن: تبع فيه الشيخ الأجهوري، وهو غير ظاهر والصواب ما قاله الباجي أنها: لا تنحصر في عدد، ولا ينافيه قول أهل المذهب: أكثرها ثمان؛ لأن مرادهم أكثرها بحسب الوارد فيها، لا كراهة الزائد على ثمان، فلا مخالفة بين الباجي وغيره، قاله المسناوي. انتهى. وانظره مع ما في التيسير عن الترمذي عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الضحى ثنتى عشرة ركعة بنى الله له قصرا في الجنة من ذهب
(1)
). واعلم أن ابن الحاجب صحح القول، بأن كان يفعل كذاة تقتضي التعميم، والأصح خلافه، كما لابن السبكي. إلا لقرينة مدح كقوله تعالى في قصة إسماعيل:{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} ، وقولهم: وكان حاتم يقري الضيف أو لعرف أو ذكر غاية بعدها كما في الحديث المتقدم. وعن أم هانئ رضي الله عنها قالت (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي يوم الفتح فاغتسل وصلى ركعتين
(2)
ثماني ركعات، فلم أر صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود
(3)
) رواه في التيسير. وفيه: عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد
(4)
). أخرجه الخمسة. وفيه: عن مسلم، وأبي داوود، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، [وأمر بمعروف صدقة
(5)
] ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما العبد من الضحى
(6)
). وفيه: عن أبي
(1)
التيسير، ج 2 ص 218
(2)
ذكر البخاري هذا الحديث دون لفظ ركعتين وذكر محمد بن عبد الباقي رواياته دونها فلعل لفظ ركعتين سبق قلم والله أعلم. كذا بهامش نسخة المؤلف.
(3)
التيسير، ج 2 ص 218.
(4)
التيسير، ج 2 ص 218.
(5)
ساقط من الأصل.
(6)
التيسير، ج 2 ص 218. ولفظ مسلم: يركعهما من الضحى. مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:720.
داوود عن بريدة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلا فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة، قالوا: ومن يطيق ذلك؟ قال: النخاعة في المسجد يدفنها، والشيء ينحيه عن الطريق، فإن لم يجد فركعتان يركعهما من الضحى
(1)
). وفيه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حافظ على شفعة الضحى غفرت ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر
(2)
)، أخرجه الترمذي. وفيه: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء الله
(3)
). واعلم أنه (روي عن عائشة رضي الله عنها إنكار الضحى
(4)
)، وروي عنها ما تقدم من أنه يصلى الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء الله، والأشبه الجمع من أنها إنما أنكرت صلاة الناس المعهودة علىما اختاره بعض السلف من صلاتها ثمان ركعات، وأنه إنما كان يصلي أربعا -كما قالت- ثم يزيد ما شاء الله. وعلى هذا يجمع بين الأحاديث المختلفة في عددها؛ لأنها أقل ما تكون ركعتين، ثم كان عليه الصلاة والسلام يزيد فيها أحيانا ما شاء الله. وقد تقدم أن أول وقتها من حل النفل للزوال، قال الإمام الحطاب: وأول وقتها ارتفاع الشمس وبياضها وذهاب الحمرة، وآخره الزوال، وأحسنه إذا كانت الشمس من المشرق مثلها من المغرب وقت العصر.
وسر به نهارا؛ يعني أنه يندب في نوافل النهار الإسرار، وفي كراهة الجهر بها فيه قولان، إلا الورد بعد طلوع الفجر فيجهر به. وجهر ليلا؛ يعني أنه يندب الجهر بالنفل في الليل؛ أي يندب إسرار القراءة في النفل بالنهار، ويندب الجهر بها في النفل بالليل إلا لتشويش مصل آخر، ويجوز السر بالليل أي هو خلاف الأولى. واستحب الجهر بالليل لظلمة الوقت فينبه بالجهر المارة أن
(1)
التيسير، ج 2 ص 218 ولفظ أبى داود: في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلا فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة قالوا ومن يطيق ذلك يا نبي الله؟ قل: النخاعة في المسجد تدفنها والشيء تنحيه عن الطريق فإن لم تجد فركعتا الضحى تجزئك. أبو داود، كتاب الأدب، رقم الحديث:5242.
(2)
التيسير، ج 2 ص 218.
(3)
التيسير، ج 2 ص 218.
(4)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط وإني لأسبّحها. التيسير، ج 2 ص 217.
هاهنا من يصلي؛ ولأن الكفار إذا سمعوا القرآن لغَوْا فيه، فأمر بالجهر وقت اشتغالهم بالنوم، وترك الجهر في حضورهم، وأمر به في الجمعة والعيدين لحضور أهل البوادي والقرى، كي يسمعوه فيتعلموه ويتعظوا به.
وتأكد بوتر؛ يعني أنه يتأكد ندب الجهر بالوتر ولو بضروريه، لا بشفع، فيندب غير مؤكد كالعيدين، فإن أسر بالوتر ولو عمدا فلا شيء عليه. وقال الأبياني: يسجد قبل في السهو، ويعيد في العمد والجهل، وضعفه عبد الحق.
وتحيه مسجد؛ يعني أنه يتأكد ندب تحية المسجد بركعتين. وبما قررت علم أنه معطوف على ما عطف عليه الضحى فهو من المتأكد، وإلا لم يكن لذكره بعد ذكر النفل معنى. انتهى. قاله ابن عاشر. نقله الشيخ محمد بن الحسن. وقوله:"وتحية مسجد"؛ أي لداخل متوضئ وقت جواز، يريد: الجلوس، وكره الجلوس قبلها، لخبر: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين
(1)
)، ولا تسقط بالجلوس قبلها، وإن تكرر دخوله كفته الأولى إلا أن يبعد رجوعه له عرفا قال عبد الباقي: وكفى عنها لحدث أو وقت نهي، قول: سبحان الله: والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر أربع مرات؛ لأنها عدل ركعتين، فتقوم مقامهما في تحصيل الثواب وإكرام البقعة، ولا يقال التحية منهي عنها إذ ذاك؛ لأنا لا نسلم أن النهي يتناول بدلها. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: ظاهر عبارة الحطاب أن ذلك الذكر ينوب عن التحية، ولو دخل متوضأ وقت جواز، وله أن يركعها حيث أراد من المسجد، ولو كان جلوسه في أقصاه. وقيل: المستحب أن يركع عند دخوله، ثم يمشي إلى حيث شاء. وذلك بمنزلة السلام على من لقي؛ لأن أول ما يبدؤه بالسلام ثم يكلمه، ونكر مسجدا ليعم مسجد الجمعة وغيره، كما منع الجنب من جميعها، وهل المراد ما يطلق عليه اسم مسجد لغة؟ فتدخل الساجد التي يتخذها من لا مسجد لهم من بيت وغيره، ومن اتخذ مسجدا في بيته أو المسجد المعروف؟ قاله الجزولي، وسيأتي أنهم يجمعون ليلة المطر بمصلى أهل البادية؛ وهو يؤكد كونه كالمسجد. قاله غير واحد. وفي الحطاب:
(1)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:714. البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 1163.
من صلى تحية ثم خرج لحاجة ثم رجع بالقرب، فهل يكرر التحية؟ ذكر ابن ناجي في شرح المدونة في كتاب القذف [نظائره
(1)
] هل تكرر أم لا؟ منها هذه، ثم قال: وهذا كله بخلاف السلام، فإني لم أر فيه خلافا، بل يسلم على من لقي ولو لم يحل بينهما إلا شجرة، على هذا مضى السلف وقبله شيخنا أبو محمد عبد الله الشبيبي، وكان يفتي به، وهو صواب لتأكد السلام. انتهى. وقال ابن فرحون في شرحه على ابن الحاجب: لو ركع عند دخوله، ثم جلس، ثم عرضت له حاجة، فقام إليها خارجا عن المسجد، ثم رجع بالقرب لم يلزمه أن يركع ثانية. وجاز ترك مار؛ يعني أن من لا يريد المكث في المسجد لا يطلب بالتحية، فلذا جاز لمن مر بالمسجد لا يريد جلوسا به أن يترك التحية، بل هو غير مخاطب؛ وهي من النفل المطلق فلا تفتقر لنية، ويجوز المرور بالمسجد كما في المدونة، وقيدها بعضهم بما إذا لم يكثر، وإلا منع؛ أي كره -فيما يظهر- وهو من أشراط الساعة، وهذا إذا كان سابقا على الطريق -كما في التتائي- لأنه تغيير للحبس. قاله الشيخ عبد الباقي. وفي الإعلام: وسئل ابن عرفة، هل يجوز اتخاذ المسجد طريقا أم لا؟ فأجاب بجوازه، وكان الشيخ ابن عبد السلام البودري يفعله فعيب عليه ولا يفهم من المصنف الجواز، ولو صلى المار ركعتين في المسجد كانتا نافلة غير تحية لعدم خطابه بها.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر أنه إذا نوى بركعتين تحية المسجد، فإنه لا يكره له ذلك، لقوله:"وجاز ترك مار"؛ إذ مقتضاه جواز فعلها. والله سبحانه أعلم. ولما كانت التحية غير مقصودة لذاتها، بل لتمييز المساجد عن البيوت، فمتى حصل إكرام البقعة بصلاة أي صلاة، حصل المقصود منها، أشار إلى ذلك بقوله: وتأدت بفرض؛ يعني أن تحية المسجد تتأدَّى أي تحصل بصلاة الفرض فيه، ومعنى ذلك أنه تسقط المطالبة بتحية المسجد بسبب إيقاع صلاة الفرض فيه؛ أي يقوم الفرض مقامها في إكرام البقعة وإسقاط الطلب مطلقا، وأما الثواب فإنما يحصل إذا نوى به الفرض والتحية، أو نوى الفرض نيابة عنها حيث طلبت. النووي: ولا يكفي
(1)
في الحطاب ج 2 ص 330 ط دار الرضوان نظائر هل تكرر الخ.
عن التحية صلاة جنازة ولا سجود تلاوة ولا شكر على الصحيح، وقال بعض أصحابنا: يكفي. انتهى. وقوله: "بفرض"، نص على التوهم، فالسنة والرغيبة كذلك؛ لأنها إذا تأدت بغير جنسها فبجنسها أولى، وهي لم تقصد لذاتها بل لتمتاز المساجد عن البيوت، وحينئذ فتحصل بأي صلاة ولو لم يلاحظ التحية. وقال الشيخ الأمير: وسقطت؛ يعني التحية بمطلق صلاة إلا الجنازة، وحصل ثوابها إن لاحظها وإلا فلا، وإن سقط الطلب.
وبدء بها بمسجد المدينة قبل السلام عليه صلى الله عليه وسلم؛ يعني أنه يندب لمن دخل المسجد النبوي أن يبدأ بالتحية للمسجد قبل أن يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد أن يركع التحية يسلم عليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنها حق الله، والسلام عليه صلى الله عليه وسلم حق لمخلوق، وحق الله آكد، وإن كان كل منهما مندوبا؛ ولأن من جملة إكرامه صلى الله عليه وسلم، امتثالَ أوامره: والركعتان مما أمر به. وما قررت به كلام المصنف هو أحد قولي مالك، وبه أخذ ابن القاسم. وقيل: يجوز البدء بها؛ وهو قوله الثاني، ولم يأخذ به ابن القاسم. وعليه فيعطف على "ترك" من قوله:"وجاز ترك مار"، وإذا كان يبدأ بتحية المسجد قبل السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بغيره؟ فيبدأ بالتحية قبل السلام على غيره، ولذا قال الشيخ المحقق الأمير: وندب البدء بها قبل السلام، وإن على النبي صلى الله عليه وسلم فظاهره يشمل مسجد المدينة وغيره، وذلك واضح، قال في شرحه بعد قوله:"قبل السلام"، إلا أن يخشى الشحناء. انتهى.
وإيقاع نفل به بمصلاه صلى الله عليه وسلم؛ يعني أنه يندب لمن في المسجد النبوي أن يوقع نفلا به أي بمسجد المدينة بالموضع الذي كان يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله:"به"؛ أي بمسجد المدينة، والباء للظرفية: وقوله: "بمصلاه"؛ أي بالوضع الذي كان يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الشيخ إبراهيم عند قول المصنف: "بمصلاه": كان اللائق أن يأتي بالواو لأنه مندوب ثالث. انتهى. والظاهر أن معنى ذلك أن النفل مندوب، وإيقاعه بمسجد المدينة مندوب ثان، وإيقاعه بالمصلى النبوي منه مندوب ثالث. والله سبحانه أعلم. وقوله:"بمصلاه"؛ هو العمود الخلق عند ابن القاسم لا عند مالك، لكنه أقرب شيء إليه، وقد يجمع
بينهما بما قاله بعضهم؛ بأن الأسطوانة الخلقة كانت مصلاه، وكانت أكابر أصحابه يصلون إليها ويجلسون عندها، وصلى إليها عليه الصلاة والسلام بعد تحويل القبلة بضعة عشر يوما، ثم تقدم لصلاه المعروف، ونازع الأجهوري في هذا الجمع المذكور. وقوله:"وإيقاع نفل به"، قال الشيخ عبد الباقي: فإن قلت هذا يخالف ما تقرر من أن صلاة النافلة في البيوت أفضل، قلت: يحمل هذا على ما صلاته في المسجد أولى، أو على ما صلاته بمسجده بخصوصه أولى، كمطلق التنفل للغرباء. انتهى. وقوله: قلت يحمل على ما صلاته في المسجد أولى الخ، قال الشيخ محمد بن الحسن: ابن عرفة: وسمع ابن القاسم: أحِبُّ النفلَ نهارا في المسجد، وليلا في البيت. ابن رشد: لشغل باله بأهل بيته نهارا، فلو أمن من ذلك كان في البيت أفضل، وسمع نفل الغريب بمسجده صلى الله عليه وسلم أحَبُّ إلي، وغيره ببيته. ابن رشد: لأن الغريب لا يعرف، وغيره يعرف، وعمل السر أفضل. واعلم أن الاحتياط الآن استيعاب جميع البقعة التي هي مظنة مصلاه بالنفل.
والفرض بالصف الأول؛ يعني أن الفرض ليس كالنفل في ذلك، فيندب إيقاعه في الصف الأول بمسجده صلى الله عليه وسلم، لا في موضع مصلاه صلى الله عليه وسلم، وغير المسجد النبوي أحرى، وما زيد في مسجده صلى الله عليه وسلم له حكمه عند الأئمة الثلاثة، ومن لا يرى مساواة ما زيد للمسجد، يرى تفضيل ما فعل بمسجده صلى الله عليه وسلم ولو بآخر صف على الصف الأول في الزيادة، وإليه نحا ابن عرفة. والصف الأول: ما وراء الإمام على الصحيح، ولو فصل بمنبر أو مقصورة، وقيل: ما لم يفصل بمقصورة أو منبر، وقيل: الصف الأول هم السابقون في الإتيان للصلاة، وانظر هل تدخل الجنازة في الفرض أم لا؟ كما يقوله الشافعية من استواء صفوفها في الفضل، وانظر أيضا هل النفل إذا صلي جماعة على وجه الطلب كالفرض أم لا؟ وللعالم أن يصلي مع أصحابه مأموما للإمام بموضعه البعيد من الصفوف ما لم يكن بها فرج، فليسدها. نقله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن:
واعلم أن المصلي بالنسبة إلى الصف الأول والبكرة إلى المسجد على أربعة أقسام: رجل أتى أول الوقت وصلى في الصف الأول فهذا أشرفها، وعكسه شرها، ورجل أتى آخر الوقت وصلى في الصف الأول، وعكسه قيل هما على حد السواء، وقال ابن العربي: عندي أن الأول منهما أفضل من الثاني. ابن ناجي انتهى.
قال القرافي: الصف الأول معلل بثلاث علل: سماع الإمام، وإرشاد الإمام، وتوقع الاستخلاف؛ وهي موجودة في الثاني، والثالث مما يلي الإمام فيكون أفضل من طرفي الصف الأول. انتهى. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وفي الشبراخيتي: والمراد بالصف الأول: الصف الذي يلي الإمام، كذا في الحاشية، فإن كان بين الناس والإمام حائل كالمقاصير التي أحدثها الناس، فالصف الأول الذي يلي المقصورة، ذكره القرطبي، وما ذكره في المقصورة ينبغي حمله على ما يفتح تارة ويغلق، أخرى فإن كانت تفتح دائما فلا يضر الفصل بها. وأول من أحدث المقصورة؛ مروان بن الحكم حين طعنه اليماني، فجعل مقصورة من طين، وجعل فيها تشبيكا. قال ابن رشد: واتخاذها في الجامع مكروه، وشمل المقصورة التي تغلق أبدا: المنبر حيث كان لا يمر فيه، أو فيه ممر ولا يصلى فيه، وليس في المذهب قول بأن الصف الأول ما يلي الإمام مطلقا كما يفيده كلام ابن عرفة. انتهى. والظاهر أن معنى قوله: مطلقا، كان ما يلي الإمام من الصف الأول أم لا كما مر عن القرافي. والله سبحانه أعلم.
وتحية مسجد مكة الطواف؛ يعني أن تحية مسجد مكة لمن دخله محرما بحج أو عمرة، سواء كان آفاقيا أو مقيما، أو كان مقيما وأراد الطوافَ، الطوافُ لقدومه، أو إفاضته، أو عمرته، أو لما أراده. وأما المقيم إذا دخل للصلاة أو لشاهدة البيت، فتحيته ركعتان كغيره من المساجد. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي، وتحية مسجد مكة الطواف، لمن طلب به ولو ندبا، أو أراده آفاقيا فيهما أم لا، أو لم يرده وهو آفاقي؛ فهذه خمس صور، فإن كان مكيا ولم يطلب بطواف ولم يرده، بل دخله لصلاة أو لشاهدة البيت، فتحيته ركعتان إن حل النفل، وإلا جلس كغيره من المساجد. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: ظاهر كلام المصنف أن التحية هي الطواف لا الركعتان بعده، وظاهر كلام القلشاني أن تحيته هي الركعتان بعده، ولكن زيد عليهما
الطواف. انتهى. وقال الشيخ الأمير: إن التحية تسقط بالطواف؛ وهو للآفاقي أفضل من الركعتين لفواته. انتهى. قوله: أفضل، صريح أو كالصريح في أن تحية مسجد مكة تحصل بالركعتين للآفاقي، ولكن كونها الطواف أفضل. وظاهر كلام المصنف أنها إنما تكون بالطواف. وقد مر كلام الشيخ محمد بن الحسن عن القلشاني، وقال الشيخ الأمير: ويؤيد كون الطواف تحصل به التحية المبادرة به، وقوله تعالى:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} ، والركعتان تبع له، وعلى ما للشيخ محمد بن الحسن: إن ركعهما خارجه لم يأت بالتحية، وفي الحطاب: فإذا دخل المسجد الحرام من يريد الطواف وطاف أجزأه ذلك عن التحية، وهذا لا إشكال فيه. وفيه: أن التحية لا تفتقر لنية تخصها؛ فأي صلاة حصلت عند دخول المسجد كفت عن التحية، فريضة كانت أو نافلة، ومن كان مجلسه بعيدا عن باب المسجد، قيل: يصلي التحية يعني عند دخوله، ثم يمضي إلى موضعه، ومفهوم قوله: مكة أن مسجد غير مكة تحيته ركعتان، ولا إشكال في ذلك، لخبر: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين
(1)
)، وفيه: وسئل مالك عن الحاج يدخل المسجد الحرام، فيريد أن يبدأ بركعتين قبل الطواف بالبيت؟ قال: بل يبدأ بالطواف بالبيت أحب إلي؟ قيل له: أيبدأ بالطواف أحب إليك؟ قال: نعم، قال ابن رشد: إنما استحب ذلك؛ لأنها من السنة من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر أنه: (لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم البيت، استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم، فقرأ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، فجعل المقام بينه وبين القبلة، وصلى ركعتين، ثم رجع إلى الركن واستلمه، وخرج من الباب إلى الصفا، وقال: نبدأ بما بدأ الله فبدأ بالصفا
(2)
). انتهى. وفيه عند قول المصنف: "وتحية مسجد مكة الطواف"، وهذا في حق القادم المحرم فإنه يطلب منه إذا دخل المسجد الحرام البداءة بطواف القدوم إن كان محرما بحج أو قران أو بطواف العمرة، إن كان محرما بعمرة وبطواف الإفاضة إذا دخله بعد الرجوع من عرفة، ولا يطلب منه الركوع عند
(1)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:714. البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 1163.
(2)
من حديث جابر، وهو حديث طويل. مسلم، كتاب الحج، رقم الحديث:1218.
دخوله، وكذلك غير القادم إذا دخل المسجد الحرام ونيته أن يطوف عند دخوله: فتحية المسجد في حقه الطواف، ولا يطلب منه حينئذ ركوع. وأما غير القادم إذا دخل المسجد الحرام ونيته الصلاة في المسجد أو مشاهدة البيت الشريف ولم يكن نيته الطواف، فإنه يصلى ركعتين إن كان في وقت تحل فيه النافلة، وإلا جلس كغيره من الساجد. انتهى. وقد مر أن التحية لا تسقط بالجلوس قبلها، فإذا جلس قبل أن يركع فإنه يستحب له أن يقوم فيركع، وقد علمت أن الجلوس قبلها مكروه. والله سبحانه أعلم.
وتراويح؛ عطف على المتأكد وهو غير منصرف؛ يعني أنه يتأكد ندب التراويح؛ وهي قيام رمضان؛ سمي بذلك لأنهم كانوا يطيلون القيام، ثم بعد كل تسليمتين يجلس الإمام والمأموم للاستراحة ويقضي من سبقه الإمام: ووقتها وقت الوتر فإن فعلت بعد مغرب لم تسقط وكانت نافلة لا تراويح، كما يفيده رد ابن عرفة على تلميذه الأبي، وقول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة؛ يعني بالبدعة جمعهم على قارئ واحد مواظبة في المسجد بعد أن كانوا يصلون أوزاعا، لا أن الصلاة في نفسها بدعة؛ (لأنه صلى الله عليه وسلم صلاها جمعا بالناس، كما في رواية البخاري، ومسلم أنه: خرج من جوف الليل فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك فاجتمع أكثر منهم، فخرج عليه الصلاة والسلام في الليلة الثانية فصلوا بصلاته: ثم كثر أهل المسجد في الليلة الثالثة أو الرابعة حتى عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم عليه الصلاة والسلام، فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة، فلم يخرج إليهم حتى خرج لصلاة الفجر: أقبل على الناس ثم تشهد فقال: أما بعد فإنه لم يَخْفَ علي اجتماعُكم الليلة، ولكن خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها
(1)
).
واستشكلت هذه الخشية لما ثبت في حديث الإسراء من قوله تعالى (هي [خمس وهي
(2)
] خمسون: لا يبدل القول لدي
(3)
)، فإذا أمن التبديل فكيف يقع الخوف من الزيادة. ابن حجر: يجاب بأنه
(1)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:761. البخاري، كتب صلاة التراويح، رقم الحديث: 2012.
(2)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل.
(3)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:349. مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث: 163.
يحتمل أن يكون الخوف منه جعل الجماعة شرطا في صحة النفل بالليل، أو يكون الخوف منه افتراض قيام الليل كفاية، أو يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة، وأقواها الأول في نظري. انتهى. باختصار. وما ادعى أنه أقرب هو أبعد من لفظ الحديث قاله الشبراخيتي. وقول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة. اعلم أنها في الحقيقة لم تكن بدعة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جمع بالناس، إلا أنه ما واظب خشية أن تفرض عليهم، فلما زالت العلة بأمنهم تجدد الأحكام بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وعلموا ما هو مقصوده، وقعت المواظبة في الجمع بعد وفاته عليه الصلاة والسلام؛ وهي أمر لم يكن فسميت بذلك بدعة. والله سبحانه أعلم. وفي الحديث: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه
(1)
). وفي حديث آخر: (من صامه وقامه احتسابا وجبت له الجنة)، وفيه: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه
(2)
). وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر أشد، وكان يحيي ليله، ويوقظ أهله، ويشد مئزره
(3)
). رواه الخمسة. وشد المئزر كناية عن اجتناب النساء، أو عن الجد والاجتهاد في العمل، وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في رمضان، فجئت فقمت إلى جنبه فجاء رجل آخر فقام أيضا حتى كنا رهطا، فلما أحس أنا خلفه جعل يتجوز في الصلاة، ثم دخل رحله فصلى صلاة لا يصليها عندنا، فقلت له حين أصبحت: أفطنت لنا الليلة؟ قال: نعم، ذلك حملني على ما صنعت
(4)
). أخرجه مسلم التجوز؛ الإسراع في العمل والتخفيف. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس في رمضان وهم يصلون في ناحية المسجد، فقال: ما هؤلاء؟ قيل: ناس ليس معهم قرآن، وأبي بق كعب يصلي بهم،
(1)
البخاري، كتاب صلاة التراويح، رقم الحديث:2009. مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث: 759.
(2)
البخاري، كتاب الصوم، رقم الحديث:1901. مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث: 760.
(3)
التيسير، ج 2 ص 219.
(4)
مسلم، كتاب الصيام، رقم الحديث:1104.
فقال: أصابوا، ونعم ما صنعوا
(1)
). أخرجه أبو داوود. وقال: هذا الحديث ليس بالقوي. ومن دخل المسجد والناس يصلون التراويح، وعليه العشاء، قال ابن حبيب: له تأخيرها للدخول معهم ما لم يخرج مختارها، وروى ابن وهب، وابن نافع: لا يؤخرها، وروى ابن القاسم: يصليها وسط الناس، ومرة بمؤخر المسجد ونحوه للجلاب. انتهى. نقله الإمام الحطاب. وقد مر أن وقت التراويح وقت الوتر: وقال الأبي في شرح مسلم: المعروف أنها بعد العشاء الآخرة، فلو أراد الإمام أن يقدمها عليها منع، وكنت إماما فصليتها قبل العشاء، فقال لي شيخنا أبو عبد الله: أعرفك أورع من هذا، وهذا لا يخلصك. وتكره التراويح لمن عليه صلوات. ابن رشد: من عليه صلوات فرائض فلا يجوز أن يتطوع من النوافل إلا وتر ليله، وفجر نهاره. انتهى. وفي رسم المكاتب من سماع يحيي من كتاب الصلاة فيمن افتتح الركعة التي يختم فيها بأم القرآن، ثم يريد أن يبتدئ القرآن من سورة البقرة: أيفتتح بأم القرآن لابتدائه القرآن؟ قال: يفتتح البقرة ويدع أم القرآن؛ لأنه لا يقرأ أم القرآن في ركعة مرتين. ابن رشد: لأن السنة أن يقرأ أم القرآن في كل ركعة مرة. كما قال صلى الله عليه وسلم للذي علمه الصلاة. قاله الإمام الحطاب وانفراد فيها؛ يعني أنه يندب الانفراد في التراويح، ولا يتأكد، فهو معطوف على فاعل ندب لا تأكد. قال الشيخ عبد الباقي وغيره: الانفراد فعلها في البيوت، ولو جماعة. قال الشيخ محمد بن الحسن وفيه نظر؛ إذ الأيمة عللوا فضيلة الانفراد بالسلامة من الرياء، ولا يسلم منه إلا إذا صلى وحده في بيته لا في جماعة، نعم؛ إذا كان يصلي في بيته بزوجته وأهل داره، فهذا بعيد في الغالب من الرياء. قاله أبو علي.
إن لم تعطل المساجد؛ يعنى أنه إنما يندب الانفراد في التراويح حيث لم تعطل المساجد؛ أي لم تترك خالية من الصلاة بها جماعة، ويحتمل عن الصلاة بها جملة، واستقرب ابن عبد السلام الثاني: واقتصر عليه شيخ التتائي، ويشترط أيضا أن لا يكون آفاقيا بالمدينة، وأن ينشط لفعلها ببيته. قاله عبد الباقي. وقال الأمير: وفعلها بالبيوت لغير آفاقي بالحرمين إن نشط. انتهى. قال
(1)
أبو داود، كتاب شهر رمضان، رقم الحديث:1377.
الشيخ عبد الباقي: وإذا صلاها ببيته، فهل وحده أو مع أهل بيته؟ قولان، ولعلهما في الأفضلية. وفي الحديث: (عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة
(1)
). وفي الحديث: (فضل صلاة الخلوة في التطوع على صلاة الجماعة في العلانية؛ أي في التطوع كفضل الجماعة في الفريضة على صلاة الفذ
(2)
). واعلم أن الرياء إيقاع القربة يقصد بها الناس لجلب خير أو دفع ضر، أو تعظيمهم له، فخرج بالقربة غيرها كالتجمل باللباس ونحوه، فلا رياء فيه، ومن عمل دقه ليوسع عليه في الدنيا فهو إخلاص عند القرافي، ورياء عند الغزالي، وإن عمل له ليوسع عليه في الدنيا لكن لأجل التعفف عن الناس والقوة على طاعة الله فهذا ليس برياء عند الغزالي، وأولى عند القرافي. وعلم من هذا أن الإخلاص على ثلاثة أنواع: أعلى وهو ما كان لله فقط، وأدنى، ومتوسط؛ فالمتوسط إخلاص باتفاق الشيخين، والأدنى إخلاص عند القرافي لا عند الغزالي. والله سبحانه أعلم. والتسميع، هو إخبار الناس بالعمل بعد فعله خالصا لله لغرض من أغراض الرياء، الثلاثة فهو بعد العمل والرياء مقارن للعمل. وفي الخبر: (من سمَّع سمَّع الله به يوم القيامة
(3)
)؛ أي ينادى هذا فلان عمل عملا ثم أراد به غيري، وأما الإخبار ليقتدى به أو تحدثا بنعمة الله حيث وفقه الله فليس من التسميع المحرم. وقوله:"وانفراد فيها" الخ؛ اعلم أنه يكره لمن بالمسجد الانفراد عن الجماعة الذين يصلونها به، وأولى إذا كان انفراده يعطل جماعة المسجد فصلاتها ببيته جماعة أو مفردا أفضل من صلاتها بالمسجد مع جماعة إن لم يعطل المسجد، فإن عطل فالأفضل المسجد. واعلم أن كون الصلاة بمسجد المدينة أفضل من الصلاة في غيره، خاص بالفرض، وقال ابن حبيب: النافلة فيه مضاعفة أيضا بألف؛ وهذا في أفضلية الصلاة في المسجد النبوي، وليس في الجماعة التي الكلام فيها.
(1)
البخاري، كتاب الأدب، رقم الحديث:6113. مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث: 781.
(2)
.... وفضل صلاة التطوع في البيت على فعلها في المسجد كفضل صلاة الجماعة على المنفرد. الجامع الصغير، الحديث:5869.
(3)
البخارى، كتاب الأحكام، رقم الحديث:7152.
والختم فيها؛ يعني أنه يندب لإمام التراويح أن يختم القرآن فيها، ولو في الشهر كله، ولو ختم القرآن في ركعة وأراد ابتداءه فيها، قال الإمام مالك: يبتدئ بالبقرة ولا يقرأ الفاتحة؛ لأن الركن لا يكرر. وقال الشيخ الأمير: والتعليل بإسماع المأمومين القرآن كله قاصر على الإمام. انتهى.
تنبيهات: الأول: روى الترمذي عن الحارث الأعور، قال: مررت بالمسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي رضي الله عنه، فأخبرته، فقال: أو قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال:(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أما إنها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؛ قال: كتاب الله تعالى، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم. وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم: وهو الصراط المستقيم. وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا تشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرد الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، خذها إليك يا أعور
(1)
). وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله تعالى فيمن عند
(2)
). أخرجه أبو داوود. وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد ثلاث خلفات عظام سمان قلنا نعم، قال فثلاث آيات يقرأ بها أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمانٍ
(3)
). أخرجه مسلم. الخلفة: الناقة العشراء وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال (أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق، فيأتي بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطيعة رحم، قلنا كلنا يا رسول
(1)
جامع الترمذي، كتاب فضائل القرآن، رقم الحديث:2906.
(2)
أبو داود، كتاب الوتر، رقم الحديث 1455.
(3)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:802.
الله يحب ذلك، قال أفلا يدخل أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله تعالى فهو خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل
(1)
). أخرجه مسلم. وأبو داوود. الكوماء: الناقة العظيمة السنام. وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول آلم حرف، ولكن أقول: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف
(2)
). أخرجه الترمذي. وصححه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أذن الله تعالى لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن أي يجهر به
(3)
). أخرجه الخمسة إلا الترمذي، وفي أخرى للبخاري: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن يجهر به
(4)
)، ومعنى ما أذن أي ما استمع، والتغني تحزين القراءة وترقيقها، وعن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أذن الله تعالى لشيء ما أذن لعبد يقرأ القرآن في جوف الليل وإن البر ليذر على رأس العبد ما دام في مصلاه، وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه
(5)
). قال أبو النضر: يعني القرآن منه بدأ الأمر به وإليه يرجع الحكم فيه. أخرجه الترمذي. قاله في التيسير. وقوله: وإن البر ليذر على رأس العبد ما دام في مصلاه، قال ابن أبي جمرة في شرح الحديث: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه، تقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه
(6)
). الجمهور على أن مصلاه موضع سجوده وقيامه، وقال بعضهم، وأظنه القاضي عياض: إنه البيت الذي اتخذه مسجدا لصلاته، مثاله إذا صلى في المسجد ثم انتقل من
(1)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:803. ولفظه: في غير إثم ولا قطيعة رحم فقلنا يا رسول الله نحب ذلك قال أفلا يغدوا أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع .... أبو داود، كتاب الوتر، رقم الحديث:1456.
(2)
الترمذي، كتاب فضائل القرآن، رقم الحديث:2910.
(3)
التيسير، ج 1 ص 73.
(4)
البخاري، كتاب التوحيد، رقم الحديث:7527.
(5)
التيسير، ج 1 ص 73.
(6)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:445.
الموضع الذي صلى فيه ولم يخرج من المسجد يبقى تدعو له الملائكة وكثير بين مجمع عليه وقول واحد. انتهى.
الثاني. قال ابن عباس رضي الله عنهما، قال رجل: يا رسول الله (أي الأعمال أحب إلى الله تعالى؟ قال: الحال المرتحل، قال: وما الحال المرتحل؟ قال: الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حك ارتحل
(1)
). وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والسر بالقرآن كالسر بالصدقة
(2)
). أخرجه أصحاب السنن. وعن أبي سعيد رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تبارك وتعالى: (من شغله القرآن عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين
(3)
). رواه الترمذي: وعن سهل بن معاذ الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (من قرأ القرآن وعمل به ألْبسَ والداه تاجا يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيت من بيوت الدنيا لو كانت فيه فما ظنكم بالذي عمل به
(4)
) أخرجه أبو داوود، وإلى هذا الحديث أشار في حرز الأماني بقوله:
فيا أيها القاري به متمسكا
…
مجلا له في كل حال مبجلا
هنيئا مريئا والداك عليهما
…
ملابس أنوار من التاج والحلا
فما ظنكم بالنجل عند جزائه
…
أولئك أهل الله والصفوة الملا
وللجكني رحمه الله:
(1)
التيسير، ج 1 ص 74.
(2)
التيسير، ج 1 ص 74.
(3)
التيسير، ج 1 ص 74.
(4)
التيسير، ج 1 ص 74.
وحيث مات صاحب القرآن
…
فيأته في صفة الإنسان
يقول ذو القبر: من انت؛ يسأل
…
يجيبه أنا القران الأفضل
أنا الذي أناشد الجليلا
…
لمؤمن رتلني ترتيلا
أنا الذي أعطيك أعلى الدرجات
…
والحور والنور بظل الغرفات
أنا الذي ألبس تاجا وحلى
…
والد صاحبي فكيف من تلا
أنا الذي أحلك الفردوسا
…
يوم الجزاء لم تخف بئوسا
أنا الذي أقيك كل وحشه
…
فلا تخف من روعة ودهشة
أنا الذي فيك شفيع أشفع
…
من قبل أن يشفع من يشفع
وعن علي رضي الله عنه: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فاستظهره فأحل حلاله وحرم حرامه أدخله الله تعالى به الجنة، وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار
(1)
). أخرجه الترمذي.
ومعنى استظهره: حفظه عن ظهر قلبه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها
(2)
). أخرجه البخاري والترمذي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع
(3)
فيه وهو عليه شاق له أجران
(4)
). أخرجه الخمسة، إلا النسائي. قاله في التيسير وفي الحديث (لكل آية ظاهر وباطن، وحد ومطلع)، فالظاهر هو المعنى الجلي؛
(1)
التيسير، ج 1 ص 74.
(2)
التيسير، ج 1 ص 74.
(3)
في الأبي ج 3 ص 140 ط دار الكتب العلمية: ويتتعتع.
(4)
التيسير، ج 1 ص 74.
والباطن هو المعنى الخفي، كنكت التقديم والتأخير، والتريف والتنكير، والتذكير والتأنيث، وغير ذلك. والحد: هو الموصل إلى معرفة ما حده الله تعالى من الأحكام الشرعية، فهو وظيفة الفقيه. والمطَّلع: هو الموصل إلى معرفة الحق تبارك وتعالى، فهو وظيفة أهل التحقيق والعرفان
(1)
). انظر شرح ابن زكري على النصيحة الشافية للشيخ زروق.
الثالث: روى البخاري عن أسيد بن حضير رضي الله عنه، قال: (بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكنت، فقرأ فجالت فسكت فسكنت الفرس، ثم قرأ فجالت، وكان ابنه يحيى قريبا منها فانصرف فأخره، ثم رفع رأسه إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فلما أصبح حدث النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: وتدري ما ذاك؟ قال: تلك الملائكة ادنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر إليها الناس لا تتوارى منهم
(2)
). أخرجه البخاري. ولمسلم بمعناه عن الخدري. وعن البراء رضي الله عنه: (كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوطة بشَطَنَيْنِ فتغشته سحابة. فجعلت تدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى لله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن
(3)
). أخرجه الشيخان، والترمذي. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لهات ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها
(4)
). أخرجه الخمسة.
وعن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه
(5)
)، أخرجه البخاري. والترمذي، وأبو داوود. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله
(1)
التيسير، ج 1 ص 74.
(2)
التيسير، ج 1 ص 74.
(3)
التيسير، ج 1 ص 74.
(4)
التيسير، ج 1 ص 74.
(5)
التيسير، ج 1 ص 74.
عليه وسلم قال: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب
(1)
) أخرجه الترمذي، وصححه. وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله تعالى يوم القيامة أجذم
(2)
). أخرجه أبو داوود.
وعن أنس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر فيها ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها
(3)
). أخرجه أبو داوود والترمذي. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه مر على قارئ يقرأ القرآن ثم يسأل الناس به، فاسترجع: وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قرأ القرآن فليسأل الله تعالى، فإنه سيجيء أقوام يقرؤون [القرآن
(4)
] ويسألون به الناس
(5)
). وعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما آمن بالقرآن من استحل محارمه
(6)
). أخرجهما الترمذي. وعن ابن عمر رضي الله عنهما. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو
(7)
)، أخرجه الثلاثة، وأبو داوود. قاله في التيسير.
الرابع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه -وهو في المسجد-: (ألا أعلمك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، هي السبع الثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته
(8)
) رواه البخاري، وأبو داوود، والنسائي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينما جبريل عليه السلام قاعدا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: (هذا باب من السماء فتح اليوم
(1)
التيسير، ج 1 ص 75.
(2)
التيسير، ج 1 ص 75.
(3)
التيسير، ج 1 ص 75.
(4)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من التيسير، ج 1 ص 75.
(5)
التيسير، ج 1 ص 75.
(6)
التيسير، ج 1 ص 75.
(7)
التيسير، ج 1 ص 75.
(8)
التيسير، ج 1 ص 75.
لم يفتح قط إلا اليوم [فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم
(1)
] فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لمن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته
(2)
). أخرجه مسلم، والنسائي. والنقيض: الصوت. وعن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما اقرأوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة
(3)
). أخرجه مسلم. قيل: البطلة: السحرة الغياية كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه كالسحابة وغيرها، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد، فاستقرأهم فقرأ كل رجل منهم ما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سنا، فقال: ما معك أنت يا فلان؟ فقال: معي كذا وكذا وسورة البقرة، فقال: أمعك سورة البقرة؟ قال: نعم، قال: اذهب فأنت أميرهم، فإنها إن كادت لتستحصي الدين كله، فقال: رجل من أشرافهم؛ والله ما منعنى يا رسول الله أن أتعلمها إلا خشية أن لا أقوم بما فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعلموا القرآن واقرءوه وقوموا به: فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكا يفوح به ريحه كل مكان، ومثل من تعلمه ورقد عنه فهو في جوفه كمثل جراب أوكي على مسك
(4)
). أخرجه الترمذي. والإيكاء: الشد، وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تَقدُمُه سورة البقرة وآل عمران، ضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن
(1)
ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من التيسير، ج 1 ص 76.
(2)
التيسير، ج 1 ص 76.
(3)
التيسير، ج 1 ص 76.
(4)
التيسير، ج 1 ص 76.
صاحبهما، المشرق: الضوء. قاله في التيسير. وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان يفرُّ من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة
(1)
)، وفيه عنه صلى الله عليه وسلم: (من قرأ بالآيتين اللتين في سورة البقرة كفتاه
(2)
)، وفيه عنه صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة لا يقرءان في دار ثلاث مرات فيقربها شيطان
(3)
). أخرجه الترمذي.
وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة القرآن: آية الكرسي
(4)
). أخرجه الترمذي. وفيه عنه صلى الله عليه وسلم: (من حفظ عشر آيات من أول، وروي من آخر سورة الكهف، عصم من فتنة المسيح الدجال
(5)
). أخرجه مسلم، وأبو داوود، والترمذي، وعنده (ثلاث من سورة الكهف
(6)
)، وصححه. وسورة تجزئ؛ يعني أن التراويح يكفي في الإتيان بها قراءة سورة واحدة في جميع الشهر، بمعنى أن من اقتصر عليها أجزأه ذلك مع فوات فضيلة الختم، وقال الشيخ محمد بن الحسن: قال ابن عرفة فيها لمالك: ليس الختم سنة، ولربيعة: لو قيم بسورة أجزأ. اللخمي: والختم أحسن، قال أبو الحسن: معناه؛ إذا لم يكن يحفظ إلا هذه السورة، ولم يكن هناك من يحفظ القرآن، أو كان، ولا يرضى حاله. وقال الإمام الحطاب: قال الأبي في شرح مسلم: والختم ليس سنة ما لم يكن العرف الختم كالعرف في مساجد تونس، فلابد فيها من الختم؛ يعني ولو كان الإمام لا يحفظ فيستأجر من يحفظ؛ لأن العرف كالشرط.
ثلاث وعشرون؛ يعني أن عدد التراويح ثلاث وعشرون بالشفع والوتر؛ وهو بيان للكيفية المندوبة. وفي النوادر عن ابن حبيب: (أنه عليه الصلاة والسلام رغب في قيام رمضان من غير أن يأمر
(1)
التيسير، ج 1 ص 76.
(2)
التيسير، ج 1 ص 76.
(3)
التيسير، ج 1 ص 76.
(4)
التيسير، ج 1 ص 76.
(5)
التيسير، ج 1 ص 76.
(6)
من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم من فتنة المسيح الدجال. الترمذي، كتاب فضائل القرآن، رقم الحديث:2886.
بعزيمة، فقام الناس وحدانا منهم في بيته ومنهم في المساجد، فعات عليه السلام على ذلك وفي أيام أبي بكر وصدر من خلافة عمر، ثم رأى عمر أن يجمعهم على إمام، فأمر أبيا وتميما الداري أن يصليا بهم إحدى عشرة ركعة بالوتر يقرؤن بالمأتين فثقل عليهم، فخفف في القيام وزيد في الركوع فكانوا يقومون بثلاث وعشرين ركعة بالوتر
(1)
). وقوله: "ثلاث" الخ بالرفع، بدل أو خبر مبتدإ محذوف؛ أي هي ثلاث وعشرون بالشفع والوتر، وإنما أراد المصنف أن يبين اختلافهم في الأفضل فلا يفيد كلامه أن الوتر مندوب، والتراويح على هذه الهيآت شاملة للشفع والوتر.
ثم جعلت ستا وثلاثين؛ يعني أن التراويح بعد عمر رضي الله عنه جعلت ستا وثلاثين بغير الشفع الوتر، وتسعا وثلاثين بالشفع والوتر في زمن عثمان أو معاوية رضي الله عنهما أو عمر بن عبد العزيز. أقوال. ورجح الأول في كلام المصنف؛ أي كونها ثلاثا وعشرين بأنه الذي عليه عمل الناس، واستمر إلى زمننا في جميع الأمصار. قاله السنهوري. والثاني: أي كونها تسعا وثلاثين بالشفع والوتر هو اختيار مالك، كما في المدونة قائلا هو الذي لم يزل عليه عمل الناس؛ أي بالمدينة بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلا ينافي قول السنهوري.
وكره مالك نقصها عما جعلت بالمدينة؛ يعني كونها ستا وثلاثين بغير الشفع والوتر، ووقع في نسخة الشارح تسعا وثلاثين أي بالشفع والوتر، قال العلماء: وسبب ذلك أن الركعات العشرين خمس ترويحات، كل ترويحة أربع ركعات، وكان أهل مكة يطوفون بين كل ترويحتين سبعة أشواط، ويصلون ركعتي الطواف أفرادا، وكانوا لا يفعلون ذلك بين الفريضة والتراويح، ولا بين التراويح والوتر، فأراد أهل المدينة أن يساووهم في الفضيلة، فجعلوا مكان كل أسبوع ترويحة، فحصل أربع ترويحات، وهي ستة عشر تضم إلى العشرين تصير ستا وثلاثين ومع ركعات الشفع والوتر تصير تسعا وثلاثين. قاله البساطي في شرح البردة. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله: ثم جعلت ستا وثلاثين، قال بعض الشراح: ثم بعد وقعة الحَرَّة؛ وهي بفتح الحاء: موضع بين المدينة والعقيق، وقصتها أنه لما قتل الحسين بن علي خلع أهل المدينة بيعة يزيد بن معاوية، وأخرجوا
(1)
النوادر، ج 1 ص 521. وأصله في الصحيحين والموطإ.
عامله ومن معه من بني أمية، فجهز إليهم يزيد جيشا عظيما من أهل الشام، وأمر عليهم مسلم بن عقبة المري، فلما نزل بالمدينة ناداهم: يا أهل المدينة ما تصنعون أتسلمون أم تحاربون؟ قالوا: بل نحارب، فوقع القتال بالحرة وكانت الهزيمة على أهل المدينة، وأباح مسلم المدينة ثلاثا، ثم أخذ البيعة عليهم ليزيد على أنهم عبيد له، إن شاء أعتق، وإن شاء قتل. وكان سبب الهزيمة، أن بني حارث من أهل المدينة أدخلوا عليهم القوم من جهتهم فكانت الهزيمة وصرخ النساء والصبيان وركب بعضهم بعضا في الطرقات، وبلغت القتلى من وجوه الناس سبعمائة من قريش والأنصار ووجوه الوالي، ومن غيرهم من النساء والعبيد والصبيان والوالي، وغيرهم عشرة آلاف. وقيل: إن الذي مات من القراء سبعمائة، وذلك سنة أربع وستين من الهجرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. نقله الرماصي.
قال جامعه عفا الله عنه: الحمد لله الذي أذهب الغموم، وكشف الهموم، حيث حبانا بعد هذا بفضله العظيم، وأولانا من فيضه العميم، فقد نلنا منتهى الأرب، واستخفنا الطرب لقول الأديب العجيب، وكلامه البديع الغريب:
رب يوم بكر بلاء مسيء
…
خففت بعض وزره الزوراء
والأعادي كأن كلَّ طريح
…
منهم الزق حل عنه الوكاءُ
وخفف مسبوقها ثانيته ولحق؛ يعني أن المأموم إذا سبقه الإمام في التراويح بركعة، فإنه يندب لذلك المأموم المسبوق أن يخفف ثانيته، وهي الركعة التي فاتته مع الإمام قاضيا لها، ويلحق الإمام في أولى الترويحة الثانية؛ أي التي تلي ما وقع السبق فيها، كما لسحنون، وابن عبد الحكم، ورجحه ابن رشد في البيان بقوله: وهذا أولى ما قيل في هذه المسألة، كما قاله الشيخ محمد بن الحسن. ولابن الجلاب: يتحرى موافقته في الأولى؛ أي يقضي لنفسه الركعة التي فاتته، ويتحرى أن يكون قيامه في ثانيته موافقا لقيامهم في الركعة الأولى عندهم، وركوعه موافقا لركوعهم، وسجوده موافقا لسجودهم من غير أن يأتم بهم فيها، ويسلم بين كل ركعتين وهكذا،
ولا يزال مسبوقا حتى يسلم؛ وهو قول ابن القاسم، وظاهر الذخيرة أنه المذهب، وعلى قول ابن عبد الحكم وسحنون: يستحب له أن يصلي ركعة القضاء جالسا، ويستحب له أن يتم النافلة أيضا جالسا إذا أقيمت عليه الصلاة، وهو في النافلة.
وقراءة شفع بسبح؛ يعني أنه يندب قراءة سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} الركعة الأولى من الشفع بعد الفاتحة، قراءة سورة:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} الركعة الثانية منه بعد الفاتحة، وأدخل المصنف حرف الجر على سبح، وإن كان في لفظ التلاوة فعلا لأنه الآن اسم قاله الشيخ إبراهيم. والمراد بالشفع هنا: ما يصلى عقبه الوتر لا مطلق الشفع، فلا تندب فيه هذه القراءة. قاله الشيخ إبراهيم.
ووتر بإخلاص ومعوذتين؛ يعني أنه تندب قراءة سورة الاخلاص؛ وهي: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، والمعوذتين في ركعة الوتر بعد الفاتحة. وقوله: ومعوذتين، بكسر الواو. قاله النووي، والفاكهاني. وقال التتائي: تفتح وتكسر. إلا لمن له حزب؛ يعني أن محل ندب قراءة الشفع بسبح والكافرون والوتر بالإخلاص والمعوذتين في غير من له حزب، وأما من له حزب أي قدر معين من القرآن يقرؤه بنافلة ليلا.
فـ يقرأ منه؛ أي من حزبه. فيهما؛ أي في الشفع والوتر، وما مشى عليه المصنف في قوله: إلا لمن له حزب، فمنه فيهما تبع فيه ابن العربي؛ أي في بعضه، وتبع في بعضه تقييد الباجي. كما سيتضح لك إن شاء الله تعالى. قال ابن العربي: الصحيح أن يقرأ في الوتر بقل هو الله أحد فقط، لحديث الترمذي
(1)
؛ وهو أصح من حديث قراءته بها مع المعوذتين
(2)
، ولقد انتهت الغفلة بقوم إلى أن يصلوا التراويح، فإذا أوتروها صلوا بهذه السورة، والسنة أن يكون وتره من حزبه. تنبهوا لهذا. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن رادا على الشيخ عبد الباقي في قوله: وما مشى عليه المصنف تبع فيه ابن العربي. انتهى. إنما تبع ابن العربي في الوتر، وأما ما ذكره في الشفع فهو
(1)
الترمذي، كتاب الوتر، رقم الحديث:462.
(2)
الترمذي، كتاب الوتر، رقم الحديث:463.
الذي فسر به المازري وعياض المذهب، ونص ابن عرفة في الشفع وفي قراءة الشفع بما تيسر وتعيين سبح والكافرون. ثالثها: إن كان إثر تهجد فالأول، وإن اقتصر على شفعه فالثاني لروايتي المجموعة وابن شعبان مع عياض عن بعض القرويين، وتقييد الباجي رواية المجموعة مع تفسير خياض المذهب. انتهى. وأما الوتر ففي المدونة: كان مالك يقرأ فيها بأم القرآن، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، والمعوذتين. وما ذلك بلازم، وإنى لأفعله. انتهى. ونص ابن العربي: الصحيح أن يقرأ في الوتر بقل هو الله أحد، كذا جاء في الحديث الصحيح، قال: وهذا إذا انفرد، وأما إذا كانت له صلاة فليجعل وتره من صلاته، وليكن ما يقرأ فيه من حزبه، ولقد انتهت الغفلة بقوم إلى أن يصلوا التراويح، فإذا أوتروا صلوا بهذه السورة، والسنة أن يكون وتره من حزبه. تنبهوا لهذا. انتهى. بلفظه فظهر أن المصنف تبع في الشفع تقييد الباجي، وتفسير عياض للمذهب ونحوه للمازري، وفصل في الوتر تبعا لابن العربي، قال الرماصي: فترك المصنف نص الإمام في الجميع، وما ينبغي له ذلك. انتهى. ولذلك تورك السنهوري على المصنف كما نقله عنه الزرقاني. انتهى. كلام الشيخ محمد بن الحسن. والذي نقله الزرقاني عن السنهوري قوله، هو خلاف ما عليه جمهور أيمتنا من ندب قراءة السُّوَرٍ المذكورة فيهما لمن له حزب ولغيره وصنيعهم هو الواضح إبقاء للنص على ظاهره. انتهى. وعن عبد العزيز بن جريج: قال: سألنا عائشة رضي الله عنها بأي شيء كان يوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: (كان يقرأ في الأولى: بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وفي الثانية بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، والمعوذتين
(1)
). أخرجه أصحاب السنن. قاله في التيسير. وفي الحصن الحصين أنه يقول بعد السلام من الوتر: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات يمد صوته ويرفع في الثلاثة.
وفعله لمنتبه آخر الليل؛ يعني أنه يندب فعل الحزب مع الوتر؛ أي تأخيره إلى آخر الليل، ويفعله فيه وهذا للمنتبه؛ أي الذي يغلب على ظنه الانتباه آخر الليل كإن اعتاده، أو نام بمحل
(1)
التيسير، ج 2 ص 215.
يكثر فيه المسبحون بالصوت الرفيع، بحيث ينتبه، ولو ثقل نومه غالبا. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله: آخر يتنازعه العاملان قبله، ومفهوم قوله:"لمنتبه"، أن من عادته عدم الانتباه، أو استوى الأمران عنده يندب له تقديمه، وندب في الثانية احتياطا. وفي الرسالة وابن يونس ما يفيد ندب تأخيره في الثانية، وقوله:"وفعله لمنتبه" الخ، إلا إذا كان يصليه أول الليل بالأرض وآخره إيماء، فيندب تقديمه ثم يتنفل آخر الليل على دابته، وكان أبو بكر يقدم وعمر يؤخر، فسألهما النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: (أصلي ثم أقوم، فأصلي فلا أوتر، فقال له: أخذت بالحزم؛ يعني الاحتياط. وقال عمر: أصلي ثم أنام، ثم أقوم فأصلي وأوتر: فقال: أخذت بالقوة
(1)
) وقال الشيخ الأمير: والأفضل لمن لا يغلب عليه النوم فعله آخر الليل. انتهى. قال الرماصي: كان الصديق يوتر أول الليل، وعمر يؤخره؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم. (إن الأول أخذ بالحزم والثاني أخذ بالقوة
(2)
). ورأيت لبعض الصوفية أن الصديق تحقق بمقام ما خرج مني نفس وأيقنت أن يعود، وعن علي أنه يوتر أول الليل بركعة فإذا انتبه صلى ركعة ضمها للأولى، فيكون شفعا، ثم تنفل ما شاء، ثم أوتر؛ وهو مذهب له رضي الله تعالى عن الجميع وعنا بهم. انتهى. وقوله:"وفعله لمنتبه آخر الليل"، الأصل فيه حديث جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليد وسلم: (من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله ثم ليرقد، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة محضورة وذلك أفضل
(3)
). أخرجه مسلم والترمذي. قاله في التيسير. وفيه: عن الخمسة إلا الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلو آخر صلاتكم بالليل وتراد
(4)
). وقال صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، وفي رواية كل ليلة في ثلث الليل الأخير، فيقول: هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفرَ له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟). انتهى. قال الثعالبي: فإن كان يقول هذا كل
(1)
التيسير، ج 2 ص 215. وأبو داود، كتاب الوتر، رقم الحديث: 1434.
(2)
أبو داود، كتاب الوتر، رقم الحديث:1434. ولفظه: عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر متى توتر قال أوتر من أول الليل وقال لعمر متى توتر قال آخر الليل فقال لأبي بكر أخذ هذا بالحزم وقال لعمر أخذ هذا بالقوة.
(3)
التيسير، ج 7 ص 215.
(4)
التيسير، ج 2 ص 215.
ليلة في آخرها، فمحال أن يدعو أحد في ذلك الوقت أو يتوب أو يستغفر فيرد؛ لأن الله عز وجل لا يخلف الميعاد. والمراد بالنزول هنا نزول طول، ومن ورحمة دون حلول ولا انتقال. انتهى. وقال سيدي محمد الزرقاني في حديث الموطإ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟
(1)
) انتهى. اختلف فيه: فالراسخون في المعلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا على طريق الإجمال منزهين لله تعالى عن الكيفية والتشبيه. ونقله البيهقي، وغيره عن الأئمة الأربعة. والسفيانين والحمادين والليث والأوزاعي وغيرهم، وتأوله المتأولون على وجهين: أحدهما أن المعنى ينزل أمره، الثاني أنه تلطف بالداعين وإجابة لهم ونحو ذلك. وقوله: الآخر، بالرفع صفة لثلث، وقوله: فأستجيب لخ، بنصب الأفعال الثلاثة في جواب الاستفهام، وبالرفع على الاستئناف، وبهما قرئ:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ} . ولم يعده مقدم ثم صلى؛ يعني أن من صلى الوتر ثم بدا له أن يتنفل وتنفل، لا يعيد الوتر ثانيا؛ أي يكره فيما يظهر لخبر: (لا وتران في ليلة
(2)
)، وأجيب عن خبر: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا
(3)
)، بتقديم النهي على الأمر، أو يخص عموم الثاني بالأول، وقوله: ثم صلى، عطف على مقدم؛ لأنه يشبه الفعل، قال الشيخ ابن مالك:
واعطف على اسم شبه فعل فعلا
…
وعكسا استعمل تجده سهلا
وجاز؛ يعني أنه يجوز التنفل بعد الوتر، والمراد بالجواز الندب لا الجواز المستوي الطرفين، وظاهر المصنف جواز النفل بعد الوتر مطلقا حدثت له نية التنفل بعد أن دخل في الوتر أم لا؛ وهو الذي جزم به الرماصي، ورد على من قيد جواز التنفل بعد الوتر بمن حدثت له نية التنفل
(1)
الموطأ، كتاب القرآن، رقم الحديث 496.
(2)
أبو داود، كتاب الوتر، رقم الحديث:1439. والترمذي، كتاب الوتر، رقم الحديث: 470. والنسائى، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، رقم الحديث:1679.
(3)
التيسير، ج 2 ص 214.
بعد الوتر أو فيه؛ فإنه قال: هذا القيد ذكره ابن عبد السلام في قول ابن الحاجب: فإن أوتر ثم تنفل جاز، فتبعه في التوضيح، وتبعه الشارح ومن بعده من شراحه، ولا أصل له.
ولما نقل هنا ما تقدم عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وغير ذلك مما ذكر من النصوص، قال: فهذه النصوص كلها تدل على عدم اعتبار القيد المذكور والله أعلم انتهى. وناقشه الشيخ محمد بن الحسن بأنه: ذكره ابن عبد السلام، وابن هارون، والتوضيح، وتبعه الشراح. وبأنه يؤخذ من قول المدونة، ومن أوتر في المسجد فأراد أن يتنفل بعد تربص قليلا. انتهى. قال: فقوله: "فأراد" الخ، يفيد القيد المذكور، ونحوه في المواق على المختصر: من أوتر في المسجد ثم أراد التنفل تنفل. انتهى. وسمع ابن القاسم منع من أوتر مع الإمام في رمضان، أن يصل وتره بركعة ليوتر بعد ذلك: بل يسلم معه ويصلي بعد ذلك ما يشاء. انتهى. وهذا يفيد أن طرو النية في الوتر كطروها بعده. وقال المازري في شرح التلقين: قد ذهب بعض إلى أن من كان له تهجد فأولى له أن لا يوتر مع الإمام، وهذا ليكون وتره آخر نفله على مقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا
(1)
). واختار ابن المنذر أن يوتر مع الإمام. انتهى. فحيث لم يذكر مقابل الأول إلا عن ابن المنذر، دل كلامه على ترجيح الأول، وهو ظاهر، نعم يستثنى من ذلك ما في المدونة، ونصها: وإن صلى المسافر على الأرض وله حزب من الليل فليوتر على الأرض ثم يتنفل في المحمل. انتهى. قال أبو الحسن: هذا على جهة الاستحباب تأكيدا للوتر. انتهى. وبذلك تعلم أن قول مصطفى: إن القيد المذكور لا أصل له، وأن هذه المنصوص تدل على عدم اعتباره، فيه نظر. انتهى كلام الشيخ محمد بن الحسن.
قال جامعه عفا الله عنه: والذي يظهر ما للشيخ مصطفى، لا ما للشيخ محمد بن الحسن. والله سبحانه أعلم. وقال الشيخ عبد الباقي: فإن طرأت النية قبل الوتر كره تنفله بعده، وبقى للجواز شرط آخر؛ وهو أن يفصل بين تنفله ووتره بفاصل عادي -كما في النقل- ويشعر به "ثم"، فإن
(1)
التيسير، ج 2 ص 214.
انتفى الشرطان أو أحدهما كره إلا للمسافر في الصورة المتقدمة. انتهى؛ يعني بها الصورة التي تقدم استثناؤها.
وعقيب شفع؛ يعني أنه يندب فعل الوتر عقب شفع، ويستحب اتصاله به، فإن طال ما بينهما ندبت إعادة الشفع، وهل يفتقر الشفع لنية تخصه، أو يكتفى بأي ركعتين كانتا؟ قال في التوضيح: وهو الظاهر قولان، وهذا هو معنى قول ابن الحاجب: وفي كونه لأجله قولان، وفي المواق: الصحيح من القولين أنه ينوب مناب الشفع كل نافلة، وعلى ما مشى عليه المصنف فالشفع شرط كمال، وقيل: شرط صحة. وشهره الباجي، فإنه قال: ولا يكون الوتر إلا عقب شفع. رواه ابن حبيب عن مالك؛ وهو المشهور من المذهب. وفي المدونة: لا ينبغي أن يوتر بواحدة، وإذا قلنا بتقديم شفع ولابد، فهل يلزم اتصاله أو يجوز؟ وإن فرق بالزمن الطويل قولان. قال: انظر مشى المصنف على ما مدر به ابن الحاجب من كون الشفع قبله للفضيلة مع توركه عليه في توضيحه بتشهير الباجي، وفي المدونة لابد من شفع قبله. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: قلت: لعله مشى على أنه للفضيلة لموافقته قول المدونة، ولا ينبغي أن يوتر بواحدة. انتهى. وقال الشيخ الأمير: والشفع شرط كمال على المعتمد. وفي الشبراخيتي: أنه شرط كمال على الصحيح. وفي البخاري: عنه صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما قد صليت
(1)
). وقوله: "وعقيب"، قال الشبراخيتي وغيره ترك يائها أفصح، وقال الإمام الحطاب: قال البرزلي: مسألة من صلى ركعتي الشفع، ثم اشتغل بشغل خفيف، ثم أوتر صح ذلك، وإن تطاول أعاد الشفع وصلى الوتر. قال البرزلي: قلت: هذا بين على وجوب الاتصال، فأقره في العتبية، والمشهور أنه ليس من شرطه الاتصال، فعلى هذا لا يعيد الشفع مطلقا. انتهى. لكن الاتصال مستحب على المشهور، فعلى هذا إذا طال الفصل تستحب إعادة الشفع. وفي شرح الشيخ ميارة: وهل يلزم اتصال الشفع بالوتر أو يجوز أن يفرق
(1)
البخاري، كتاب الوتر، رقم الحديث:993.
بينهما بالزمن الطويل؟ قولان، والقول باشتراط الاتصال لابن القاسم في العتبية، ومقابله رواه ابن نافع عن مالك، ونقل أيضا عن ابن القاسم: ومن أتى المسجد يصلي الأشفاع مع الإمام فدخل معه فإذا هو في الوتر. ابن رشد: يشفعه كما يشفعه إذا أوتر مع الإمام قبل أن يصلي العشاء. المواق: انظر على هذا في ليالي الإحياء: من أوتر أول الليل، ثم أتى المسجد آخر الليل. فعلى هذا إذا سلم الإمام من ركعة الوتر قام هذا الذي كان أوتر، فشفع هذا الوتر الذي صلاه مع هذا الإمام، وربما تجد العوام ليالي الإحياء إذا نودي بالشفع والوتر تركوا القيام مع الإمام لركعتي الشفع فضلا عن ركعة الوتر. وهذا لا ينبغي. انتهى. واعلم أنه لا يصلى الشفع بنية الوتر، ولا الوتر بنية الشفع على المشهور، خلافا لأصبغ، ومن أدرك مع الإمام ركعة من الشفع لم يسلم معه ويصلي معه الوتر، فإذا سلم الإمام من الوتر سلم معه ثم أوتر إلا أن يكون إمامه لا يسلم من شفعه ففي سلام هذا مع الإمام قولان، قال الشيخ أبو محمد وغيره: ومعنى قولهم: إنه يصلي الوتر معه، يحاذي ركوعُه وسجودُه ركوعَ الإمام وسجودَه، فأما أن يأتم به فلا؛ لأنه يكون محرما قبل إمامه قاله الشيخ ميارة.
منفصل بسلام؛ يعني أنه يندب الفصل بين الشفع والوتر بسلام، والأصل في هذا ما أخرجه البخاري ومالك عن عائشة رضي الله عنها (أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم في الركعتين من الوتر حتى يأمر ببعض حاجته
(1)
). وقوله: "منفصل بسلام"، هذا حيث كان يصلي وحده أومع إمام يفصل، وإلا وصل، ولهذا قال: إلا لاقتداء بواصل؛ يعني أن محل ندب الفصل بين الشفع والوتر بسلام إنما هو حيث لم يقتد بواصل بينهما، وأما إن اقتدى بمن يصل الوتر بالشفع ولا يسلم بينهما فإنه يصل وتره بشفعه؛ أي لا يسلم من شفعه لأجل متابعة الإمام كحنفي فيصله معد على المشهور، فإن علم حين الدخول بوصله نوى بالأوليين الشفع وبالأخيرة الوتر، وإن كان الإمام ينوي الوتر بذلك كله وإن لم يعلم ونوى خلفه الشفع فقط أحدث نية للوتر من غير نطق
(1)
لم نطلع على هذا الحديث بهذا اللفظ في البخاري والموطإ وإنما وجدنا فيهما عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يسلم بين الركعتين والركعة في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته.
عند فعل الإمام له، كمن أحرم بنفل ركعتين خلف من أحرم به أربعا ولم يعلم حين دخوله وفي اللخمي: يتبعه من غير نية في مسألة النفل، ومن دخل مع الواصل في الركعة الثانية صار وتره بين ركعتي الشفع، وفي الثالثة صار وتره قبل شفعه، ويلغز بهما، ولو أدرك مع غير الواصل ركعة من الشفع لم يسلم معه، وليصل معه الوتر، فإذا سلم منه سلم معه ثم أوتر. وفي المصنف إشعار بجواز الإقدام على الاقتداء بواصل وهو الظاهر ولا كراهة فيه. قاله الشيخ علي الأجهوري عن بعض شيوخه. وفي المواق: ما يفيد كراهته. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: لم أر في المواق ما يفيد كراهة ذلك، لكن كلام المدونة يفيد ذلك ثم ذكر نصها إلى أن قال قال مالك: وكنت أنا أصلي معهم، فإذا جاء الوتر انصرفت ولم أوتر معهم. انتهى. فقوله:"انصرفت" الخ، دليل على كراهة الاقتداء بالواصل. وقد ذكر في التنبيهات أنه إنما ترك الوتر معهم لكونهم لا يفصلون بين الشفع والوتر، وبه يرد ما استظهره الأجهوري. والله أعلم. انتهى. تنبيهات: الأول: قال الحطاب: من النوافل المرغب فيها قيام الليل، ويستحب للقائم أن يقرأ عند انتباهه:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ} لآخر سورة آل عمران ورد بذلك الحديث في الصحيحين
(1)
، ونص على استحبابه القرطبي في تفسيره، ومن المجموعة، قيل لمالك فيمن يريد أن يطول التنفل فيبدأ بركعتين خفيفتين فأنكر ذلك وقال يركع كيف شاء: وأما إن كان هذا شأن من يريد طول التنفل فلا. انتهى. وانظر الأبي في شرح مسلم، وقد صرح النووي بأن ذلك من سنن التهجد، وقيل لمالك: أيتنفل الرجل؟ ويقول: إن كنت ضيعت في حداثتي فهذا قضاء تلك، قال: ما هذا من عمل الناس. انتهى. ويدل لما قاله النووي ما في التيسير عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام
(1)
البخاري، كتاب التفسير، رقم الحديث:4569. مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث: 763.
أحدكم من الليل فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين
(1)
). أخرجه مسلم، وأبو داوود، وزاد: (ثم ليطول ما شاء
(2)
).
الثاني: روى الترمذي أنه عليه الصلاة والسلام، قال: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد
(3)
)، وروى أبو داوود عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين
(4)
). وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: (طول القيام
(5)
)، وروى الشيخان عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعاه، استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته
(6)
). تعارَّ: استيقظ. وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبدا شكورا
(7)
)؟ أخرجه الخمسة إلا أبا داوود. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع قيام الليل، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعدا
(8)
). أخرجه أبو داوود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ
(1)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:768. ولفظه: إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين. وأبو داود، كتاب التطوع، رقم الحديث:1323. ولفظه: إذا قام أحدكم من الليل فليصل ركعتين خفيفتين.
(2)
أبو داود، كتاب التطوع، رقم الحديث:1324. ولفظه: ثم ليطول بعد ما شاء.
(3)
الترمذي، كتاب الدعوات، رقم الحديث:3549.
(4)
أبو داود، كتاب شهر رمضان، رقم الحديث:1398.
(5)
أبو داود، كتاب الوتر، رقم الحديث:1449.
(6)
التسير ج 2 ص 216.
(7)
التيسير، ج 2 ص 716"
(8)
أبو داود، كتاب التطوع، رقم الحديث:1307.
امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء
(1)
). رواه أبو داوود، والنسائي.
الثالث: ذكر رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: ما زال نائما حتى أصبح ما قام إلى الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: (ذلك رجل بال الشيطان في أذنه
(2)
). أخرجه الشيخان، والنسائي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ يكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة
(3)
). أخرجه الأربعة، إلا الترمذي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عُقْدَةٌ فان توضأ انحلت عُقْدَةٌ فإن صلى انحلت عُقَدُهُ كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان
(4)
)، أخرجه الستة إلا الترمذي. قافية الرأس: مؤخره، ومنه قافية الشعر، وقيل: وسطه، والمراد: جميع الرأس، فكنى ببعضه عن كله. قاله في التيسير.
واعلم أن في قيام الليل فوائد منْهَا: أنه يحط الذنوب كما تحط الريح العاصف الورق اليابس من الشجر، ومِنْهَا أنه ينور القبر، وَمِنْها أنه يذهب الكسل وينشط البدن، ومِنْهَا أن موضعه تتراءاه الملائكة من السماء كما يتراءى الكوكب الدري لنا في السماء. قاله في الرياض. واعلم أنه ورد في الحديث: (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرا من أمور الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه
(5)
)، قال في الرياض: وذلك في كل ليلة، فإذا أردت أن تعرف هذه الساعة فاقرأ هذه الآية المذكورة، وانو الساعة، فإنك توقظ في ذلك الوقت ويتكرر تيقظك فاجتهد في الدعاء لي ولك،
(1)
أبو داود، كتاب التطوع، رقم الحديث:1308. النسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، رقم الحديث: 1610.
(2)
البخاري، كتات بدء الخلق، رقم الحديث:3270. مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم الحديث: 774. النسائي، كتاب قيام الليل، رقم الحديث 1608.
(3)
التيسير، ج 2 ص 217.
(4)
التيسير، ج 2 ص 217.
(5)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:757. ولفظه: من أمر الدنيا .. الخ.
فهذه معجزة لمن معجزات القرآن العظيم. انتهى. قوله: فاقرأ هذه الآية المذكورة؛ يعني قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا} إلى آخر السورة، فإنك تستيقظ في الوقت الذي تنويه من غير شك. كما قاله الثعالبي. وهذا الذي ذكره منصوص عليه في الحديث.
الرابع ذهب بعض الصحابة وكافة أئمة الفتوى إلى منع نقض الوتر، وأنه إذا بدا له التنفل بعد الوتر لم ينقضه ولم يشفعه، وصلى ما بدا له ولم يعده، وقد اختلف عن مالك في هذا، والمشهور عنه أنه لا يعيده.
وكره وصله؛ يعني أنه يكره وصل الوتر بالشفع من غير أن يسلم بينهما، وهذا إذا لم يقتد بواصل ولم يكن نائبا مناب واصل، فإن اقتدى بواصل فقد مر أنه يتبعه ولو ناب مناب الواصل بأن استخلفه لم يكره وصله. والله سبحانه أعلم. وقد مر حكم الإقدام على الاقتداء بالواصل. ووتر بواحدة؛ يعني أنه يكره له أن يوتر بركعة واحدة من غير أن يأتي بشفع قبلها لحاضر أو مسافر صحيحا كان أو مريضا، فلو أوتر بواحدة شفعها كما قال سند، ولو سلم إن كان قريبا، وكلام المصنف مبني على أن كونه بعد شفع، شرط كمال، وهو الذي صدر به ابن الحاجب. وقيل: شرط صحة، وعليه فيمتنع، والصحيح الأول. وقال المازري: لم يختلف المذهب عندنا في كراهة الاقتصار على ركعة واحدة في حق المقيم الذي لا عذر له، واختلف في المسافر، ففي المدونة: لا يوتر بواحدة، وفي كتاب ابن سحنون: إجازته، وأوتر سحنون في مرضه بواحدة، ورءاه عذرا كالسفر.
وقراءة ثان من غير انتهاء الأول؛ يعني أنه إذا أم في التراويح إمام ثم أم فيها إمام ثان؛ فإنه يكره قراءة الثاني من غير انتهاء قراءة الأول إذا كان يحفظه؛ لأن الغرض سماع المصلين جميع القرآن، فإن لم يعلم انتهاءه احتاط حتى يحصل لهم جميع القرآن. قاله غير واحد. قال الإمام مالك: وليقرأ الثاني من حيث انتهى الأول وهو الذي كان عليه الناس. انتهى. ولا بأس بالنفل بين الأشفاع إن جلس الإمام بين التراويح، وإلا فلا.
ونظر بمصحف في فرض؛ يعني أنه يكره لمن يصلي الفرض أن ينظر في المصحف أي يقرأ فيه ولو دخل على ذلك أوله لاشتغاله غالبا. وقال أبو حنيفة: تبطل صلاته. أو أثناء نفل؛ يعني أنه تكره القراءة في المصحف في النفل أيضا حيث لم يدخل على ذلك؛ بأن ابتدأ القراءة فيه وهو في أثناء النفل. لا أوله؛ يعني أنه لا تكره القراءة في المصحف لمن هو متنفل إذا دخل على ذلك بأن قرأ فيه في أول النافلة، والفرق بين أثناء النفل وأوله كثرة الشغل في الأول دون الثاني. وقوله:"لا أوله"، لخبر البخاري: (كان خيارنا يقرأ في المصحف في رمضان
(1)
). قال الشيخ عبد الباقي: وأما قراءة القرآن في المصحف فكرهها مالك، إلا أن يشترطها واقف مصحف فيه، وإن كان غير واقف المسجد فلا يكره. وقال الإمام الحطاب: وأما القراءة في المصحف في المسجد، فنقل الشيخ أبو محمد عن مالك أنه قال: لم تكن القراءة في المسجد في المصحف من أمر الناس القديم، وأول من أحدثه الحجاج، وأكره أن يقرأ في المصحف في المسجد. انتهى. ونقل ذلك عنه صاحب الدخل، ونقله عنه الشيخ يوسف بن عمر. انتهى. وقال الزركشي من الشافعية: قال مالك لم تكن القراءة في المصحف بالمسجد من أمر الناس القديم، وأول من أحدثه الحجاج. وقال: أكره أن يقرأ في المصحف في المسجد، وأرى أن يقاموا من المسجد إذا اجتمعوا للقراءة الخميس، قال الزركشي: قلت وهذا استحسان لا دليل عليه، والذي عليه الخلف والسلف استحباب ذلك لما فيه من تعميرها بالذكر.
وفي الصحيح في قصة الذي بال في المسجد: (إنما بنيت المساجد لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن
(2)
)، وقال:{وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ، وهذا عام في المصاحف وغيرها. انتهى. قال الإمام الحطاب: أما نقله عن السلف استحباب ذلك فمعارض لنقل مالك أنه لم يكن من أمر الناس القديم، ومالك أعلم بما كان عليه السلف، وقوله:"ونظر بمصحف في فرض" الخ؛ أي إلا أن تتوقف قراءة فاتحة بصلاة على نظر به، وإلا وجب النظر فيه، والظاهر أنه إذا لم يتيسر له قراءة
(1)
ذكر عبد الباقي في شرحه لخليل ج 1 ص 286 هذا الخبر بهذا اللفظ ونسبه للبخاري ولم نطلع عليه فيه.
(2)
مسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث:283. و 569.
الفاتحة إلا بالانحناء، فإنه يفعله، ولا يترك قراءتها كما قاله الشيخ إبراهيم. ويدل له قول المصنف:"وإن عجز عن فاتحة قائما جلس"، بل يفيد أنه إذا لم يتيسر له قراءة الفاتحة في المصحف إلا جالسا فعل، ولا يقال الفاتحة مختلف في فرضيتها والقيام متفق على فرضيته؛ لأنا نقول: القيام التابع لها كهي. قاله الشيخ عبد الباقي.
وجمع كثير لنفل؛ يعني أنه يكره صلاة النفل في الجماعة إذا كان الجمع كثيرا، ومثل النفل الرغيبة كما صرح به غير واحد، ولو بمسجده صلى الله عليه وسلم، وما روى ابن حبيب من مضاعفة النفل فيه. خلاف المشهور من أنه لا يضاعف النفل فيه، والكراهة في الجمع الكثير للنفل بالمكان المشتهر، وغيره.
أو بمكان مشتهر؛ يعني أنه إذا كان الكان مشتهرا فإنه يكره صلاة النافلة في الجماعة ولو قلت الجماعة كالرجلين والثلاثة. وإلا. بأن كان الجمع قليلا والمكان غير مشتهر، فلا كراهة إلا في الأوقات التي صرح العلماء ببدعة الجمع فيها، كليلة النصف من شعبان، وليلة عاشوراء، وليلة القدر، وأول جمعة من رجب، فإنه لا يختلف المذهب في كراهته، وينبغي للأئمة المنع منه. ومفهوم كلام المصنف أن المنفرد لا يكره له النفل مطلقا كان المكان مشتهرا أم لا؛ وهو كذلك، لكن الأولى له ترك المكان المشتهر. قاله الشيخ إبراهيم. وقد مر خبر فضل صلاة الخلوة في التطوع الخ، وفهم من قوله:"لنفل"، عدم كراهة جمع كثير لعيد وكسوف واستسقاء وهو كذلك، ومثل العيد في ذلك التراويح حيث تعطل المساجد. كما مر.
وكلام بعد صبح؛ يعني أنه يكره بعد صلاة الصبح الكلام في أمور الدنيا لا بعلم، وذكر الله، وتستمر الكراهة. لقرب الطلوع؛ أي طلوع الشمس قربا عرفيا فيما يظهر، وندب بقرآن أو ذكر، وسئل ابن المسيب أيهما أفضل في الوقت المذكور القرآن أو الذكر؟ فقال: تلاوة القرآن، إلا أن هدي السلف الذكر. انتهى. وكذا العلم على ما صوبه ابن ناجي لكثرة الجهل وعدم العلم الحقيقي. وفي الرسالة: ويستحب بأثر صلاة الصبح التمادي في الذكر والاستغفار إلى أن تطلع
الشمس أو قرب طلوعها؛ أي لخبر: (يقول الله يا عبدي اذكرني ساعة بعد الصبح وساعة بعد العصر أكفك ما بينهما
(1)
)، وخبر:(من صلى الصبح وجلس في مصلاه ولم يتكلم إلا بخير إلى أن يركع سبحة الضحى -أي بضم السين المهملة- غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر). وفي الصحيح: (من صلى الصبح في جماعة وجلس في مصلاه يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس وصلى ركعتين كان له ثواب حجة وعمرة تَامَّتَيْن
(2)
) قاله عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات، وظاهر الحديث الأول والثاني، ولو صلى منفردا دون الثالث، وكون هذا الثواب الخاص لا يحصل إلا لمن فعل ما ذكر لا يقتضي كراهة الكلام إذا قرب طلوع الشمس، وتعليق المصنف الكراهة بالكلام يقتضي نفيها عند السكوت فقط وهو كذلك، فيؤجر على الذكر وعلى ترك الكلام من ترك الكلام في هذا الوقت، وأقبل على الذكر، خلافا لقول العراقيين: لا يؤجر على ترك الكلام، بل على الذكر خاصة، وكلام الرسالة المتقدم يتبادر منه موافقته له، بل تنتفي الكراهة أيضا بالنوم بعد الصبح بنية ترك الكلام، ويثاب أيضا على السكوت والنوم إذا قصد بذلك الامتثال، فيثاب على النوم حينئذ من
(3)
الترك امتثالا وإن كان النوم منهيا عنه في هذا الوقت لخبر: (الصبحة تمنع الرزق
(4)
)، فقيل: الفضل، وقيل: اكتسابه؛ أي الرزق. قاله الجزولي. وكره كلام بغير ذكر الله، وبغير علم بمسجد، وندب أيضا تماد في ذكر واستغفار عند اصفرار شمس لغروب. قاله الشيخ عبد الباقي. ونقل في رياض الصالحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يُصبح الغداة، لا إله إلا الله الملك الحق المبين، كانت له أمانا من الفقر، وأمانا من وحشة القبر، واستقرع باب الجنة، واستجلب الغنى
(5)
).
(1)
الإتحاف، ج 5 ص 28.
(2)
الترمذي، كتاب السفر، رقم الحديث:586. ولفظه: من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة قال قل رسول الله صلى الله عليه وسلم تامة تامة تامة.
(3)
في عبد الباقي ج 1 ص 287: من حيث الترك.
(4)
مسند أحمد، ج 1 ص 73. الجامع الصغير، ج 4 ص 232.
(5)
رياض الصالحين للثعلبي مخطوط.
لا بعد فجر؛ يعني أنه لا يكره الكلام بعد انصداع الفجر وقبل صلاة الصبح، وكان الإمام مالك يتحدث ويسأل بعد طلوع الفجر حتى تقام الصلاة، ثم لا يجيب بعد الصلاة حتى تطلع الشمس. قال التادلي: فيقوم من هذا أن الاستغفار والذكر في هذا الوقت أفضل من قراءة العلم فيه، وقال الأشياخ: تعلم العلم فيه أولى، قلت: وهو الصواب، وبه كان بعض من لقيناه يفتي ولاسيما في زماننا اليوم لقلة الحاملين له على الحقيقة. وسمع ابن القاسم مرة: صلاة النافلة أحب إلي من مذاكرة العلم. ومرة العناية بالعلم بنية أفضل. قلت: وبهذا أقول، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية. وعلم ينتفع به بعد موته
(1)
). انتهى. نقله الإمام الحطاب، عن ابن ناجي. ويكره النوم إذ ذاك لخبر: (الصبحة تمنع الرزق
(2)
). قاله الإمام الحطاب أيضا. وقد تقدم قوله في الحديث الشريف: (وجلس في مصلاه) الخ، قال سيدي محمد بن أبي جمرة في شرح قوله عليه الصلاة والسلام: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه [ما لم يحدث
(3)
] تقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه
(4)
): هل يعني به الموضع الذي أوقع فيه الصلاة أو البيت أو المنزل الذي جعله لمصلاه؟ فالجمهور أنه موضع سجوده وقيامه، وقال بعضهم: إنه البيت الذي اتخذه مسجدا لصلاته وإن لم يجلس في الموضع الذي أوقع فيه الصلاة، مثاله إذا صلى في المسجد ثم انتقل من الموضع الذي صلى فيه ولم يخرج من المسجد، أنه تدعو له الملائكة وكثير بين مجمع عليه، وقول واحد. انتهى. وقوله: ما لم يحدث؛ أي الحدث الذي ينقض الطهارة، والظاهر أن هذا في كل الصلوات فرضا كانت أو نفلا، وهذا أيضا في حق المصلي الصلاة الشرعية المثاب عليها، لا التي تلعنه، ومن قبل بعض صلاته ولم يقبل البعض، الظاهر أنه يرجى له ذلك ببركة دعاء الملائكة، وفيه دليل على فضيلة الصلاة على غيرها يؤخذ ذلك من كون الملائكة تستغفر له بعد فراغه منها، وإن كان في شغل آخر
(1)
مسلم، كتاب الوصية، رقم الحديث:1631.
(2)
مسند أحمد، ج 1 ص 73.
(3)
ساقطة من الأصل.
(4)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:445.
ما دام في موضع إيقاعها، وفيه دليل لمن يُفَضِّل الصالحين من بني آدم على الملائكة؛ لأنهم يكونون في اشتغالهم والملائكة تستغفر لهم.
وضجعة بين صبح وركعتي الفجر؛ يعني أنه يكره فعل ضجعة بكسر الضاد؛ أي على يمينه بين صبح وركعتي الفجر لمن فعلها استنانا لا للاستراحة، وممن كرهها ابن مسعود رضي الله عنه، وفي الخبر: (إذا صلى أحدكم الفجر فليضطجع عن يمينه
(1)
)، ولم يصحبه عمل، وفتح الضاد هنا غير مناسب لاقتضائه أن الكراهة متعلقة بوضع الجنب بالأرض على أي صفة، والمقابل إنما يقول بالأيمن، ومن المدونة قال ابن القاسم: لا بأس بالضجعة بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح إن لم يرد فصلا بينهما، وإن أراد ذلك فلا أحبه. أبو محمد: لا يفعل ذلك استنانا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله استنانا. وفي الشبراخيتي: وأما فعله صلى الله عليه وسلم لها فإنما كان ينتظر المؤذن حتى يأتيه، كما قاله أبو محمد. انتهى.
والوتر سنة آكد: الوتر بفتح واو وتكسر كما للشيخ إبراهيم؛ يعني أن الوتر سنة آكد أي أشد تأكيدا مما بعده؛ لأنه قيل بوجوبه عينا، والعيد قيل بوجوبه كفاية، والعمرة آكد من الوتر، وآكد من العمرة ركعتا الطواف لجزم المصنف بالسنية فيها، وحكايته الخلاف في السنية، والوجوب في ركعتي الطواف، وكذا صلاة الجنازة على ما يظهر لذلك أيضا. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"وكذا صلاة الجنازة" الخ، هذا هو الذي في المقدمات أنها آكد من الوتر، وفي البيان أنه آكد منها. انظر الحطاب. انتهى.
ابن يونس: الوتر سنة مؤكدة لا يسع تركها أحدا. سحنون: يجرح تاركه. ابن عرفة: اعتذر بعضهم عن التجريح؛ بأن تركه علامة استخفافه بأمور الدين. وقال أصبغ: يؤدب. المازري: لاستخفافه بالسنة كقول ابن خويزمنداد: تارك السنة فاسق، وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا
(2)
)، قالها ثلاثا. أخرجه أبو
(1)
الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:420. ولفظه: إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:1419.
داوود. وعن علي رضي الله عنه قال: الوتر ليس بحتم كالصلاة المكتوبة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى وتر يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن
(1)
). أخرجه أصحاب السنن. وعن محيريز: أن رجلا من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلا بالشام يكنى أبا محمد، يقول: الوتر واجب، قال الكناني: فسألت عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فقال: كذب أبو محمد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة
(2)
)، أخرجه الأربعة إلا الترمذي. أبو محمد هذا من الأنصار له صحبة، وقول عبادة فيه: كذب أبو محمد، أي أخطأ، ولا يجوز أن يكذب في شيء من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قاله في التيسير. ثم عيد؛ يعني أن العيد فطرا أو أضحى ورتبتهما واحدة، آكد مما بعده.
ثم كسوف؛ يعني أن صلاة كسوف الشمس آكد من صلاة الاستسقاء، وتقديم الكسوف على العيد عند اجتماعهما لا ينافي تأكد العيد عليه؛ لأنه إنما قدم خوف فوات سببه بخلاف العيد. ثم استسقاء؛ يعني أن الاستسقاء يلي الكسوف في التأكيد. ابن فرحون: مما ترد به الشهادة الداومة على ترك المندوبات المؤكدة، كالوتر، وركعتي الفجر، وتحية المسجد، وقال الشيخ زروق في شرح الإرشاد في تفسيق تارك الوتر، قال: لاستخفافه بالسنة ابن خويزمنداد: من استخف بالسنة فسق فإن تمالأ عليه أهل بلد حوربوا. وقال القرطبي في شرح مسلم: من ترك التطوعات ولم يعمل بشيء منها فقد فوت على نفسه ربحا عظيما وثوابا جسيما، ومن داوم على ترك شيء من السنن كان نقصا في دينه وقدحا في عدالته، فإن تركه تهاونا ورغبة كان ذلك فسقا يستحق به ذما. وقال علماؤنا: لو أن أهل بلدة تواطئوا على ترك سنة لقوتلوا عليها حتى يرجعوا. انتهى. وقوله: "ثم كسوف"؛ يعني به كسوف الشمس كما تقدمت الإشارة إليه. وفي الحطاب فائدة: قال الشيخ
(1)
التيسير، ج 7 ص 214.
(2)
التيسير، ج 2 ص 214.
كمال الدين
(1)
الهمام الحنفي في شرح الهداية، في باب النوافل: إن سنة الفجر أقوى السنن حتى روي عن أبي حنيفة: لو صلاها قاعدا من غير عذر لا يجوز. وقالوا: العالم إذا صار مرجعا للفتوى جاز له ترك سائر السنن لحاجة الناس إلا سنة الفجر؛ لأنها أقوى السنن. انتهى.
ووقته بعد عشاء صحيحة وشفق؛ يحطي أن وقت الوتر كالتراويح؛ أي وقته الاختياري أوله بعد صلاة العشاء الصحيحة الكائنة بعد مغيب الشفق فَفعْلُهُ ولو سهوا قبل العشاء الصحيحة أو بعدها، وقبل مغيب الشفق كالجمع ليلة المطر لَغْوٌ، ولو أوتر ثم ذكر ما يرتب صلَّاه وأعاد العشاء والوتر. وقيل: لا يعيد الوتر، وكذا من أعاد العشاء لصلاتها بنجاسة غير عالم بها، ومن أعاد العشاء بعد الوتر في الجماعة وكان قد صلاها مفردا، ففي إعادته للوتر قولان. كذا في الشبراخيتي، وعبد الباقي. إلا أن عبارة عبد الباقي: ثم اقتحم النهي وأعادها جماعة، ومن صلى العشاء بتيمم وعنده تقصير يقتضي الإعادة، أو صلاها منحرفا انحرافا يقتضي الإعادة، أو صلتها امرأة بادية المصدر والأطراف، أو بمعطن إبل، أو كنيسة ونحو ذلك وأعادها كل -كما هو ظاهر إطلاقهم- ولو بعد الوتر أعاد الوتر، ومن لا يقرأ يصلي الوتر مع إمام يقرأ، ويقدمه في مذهبه قبل شفق وبعد عشاء؛ لأن تأخيره للشفق أي لمغيبه مود لتركه أو الإتيان به بدون فاتحة، وينبغي أن يجري هذا في جمع التقديم أو التأخير، فيجمع من لا يقرأ مع إمام يقرأ، وإن كان من لا يقرأ ليس من أهل الجمع. قاله الشيخ عبد الباقي. للفجر؛ يعني أن وقت الوتر المختار مبدؤه بعد عشاء صحيحة واقعة بعد مغيب الشفق، ويمتد ذلك المختار إلى طلوع الفجر، فينتهي بمجرد طلوع الفجر وقته المختار. وعن خارجة بن حذافة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمدكم الله بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر، فجعلها الله في ما بين العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر
(2)
)، أخرجه أبو داوود، والترمذي. حمر النعم: خيار الإبل وأعلاها قيمة. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، من
(1)
في الحطاب ج 2 ص 340 ط دار الرضوان: كمال الدين بن الهمام.
(2)
التيسير، ج 2 ص 215.
أول الليل وأوسطه وآخره، وانتهى وتره إلى السحر
(1)
)، أخرجه الخمسة، رواهما في التيسير. وعن نافع قال (كنت مع ابن عمر رضي الله عنه بمكة والسماء مغيمة، فخشي الصبح فأوتر بواحدة، ثم انكشف الغيم فرأى أن عليه ليلا، فشفع بواحدة ثم صلى ركعتين، فلما خشي الصبح أوتر بواحدة
(2)
). أخرجه مالك: رواه في التيسير.
وضرورية للصبح؛ يعني أن ضروري الوتر بعد مختاره، فمبدؤه من طلوع الفجر وينتهي لصلاة الصبح. وصرح بعضهم بأن المراد بكونه ضروريا الكراهة، وبكونه اختياريا عدمها. قاله الشبراخيتي. الباجي: آخر وقت صلاة الليل، والوتر ما لم يصل الصبح. انتهى. وما لعبد الباقي هنا غير صحيح كما لبناني: وقوله: "للصبح"؛ أي لانقضاء صلاة الصبح مطلقا، فذا أو إماما، أو مأموما. أشار له الشيخ محمد بن الحسن. ابن عرفة: لا يقضى الوتر بعد صلاة الصبح اتفاقا، وقال طاووس: يقضى الوتر لطلوع الشمس، وقيل: يقضى بعد طلوع الشمس ما لم تغرب الشمس فإذا غربت فلا يصلى ليلا يكون وتران في ليلة، ولو صلى الصبح وذكر العشاء صلاها وأعاد الصبح. سند: وكذا الوتر على الأرجح، وما ذكره سند مشكل، وقد يجاب بأن الصبح لما كانت مطلوبة الإعادة كان فعلها كالعدم. وفي الحطاب: من سلم من الوتر ثم ذكر أنه سلم من ثلاث في صلاة النهار، فإنه يعيد الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة للترتيب. وفي إعادة الشفع والوتر قولان لسحنون، ويحيى بن عمر؛ سببهما تعارض عمومين: قوله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا
(3)
)، وقوله: (لا وتران في ليلة
(4)
). ومن جلس في الوتر وذكر سجدة لا يدري من أي صلاة هي؟ أعاد الصلوات كلها، وفي الحطاب بعد جلب نقول.
والحاصل أن ابن القاسم نص على أنه يعيد الوتر إذا أعاد العشاء لأجل الترتيب، ولم يذكروا له مخالفا إلا ما تقدم من كلام ابن قداح ومن معه، ومثله من أعاد العشاء لصلاته إياها بنجاسة.
(1)
التيسير، ج 2 ص 215.
(2)
التيسير، ج 2 ص 215.
(3)
التيسير، ج 2 ص 2145.
(4)
أبو داود، كتاب الوتر، رقم الحديث:1439. والترمذي، كتاب الوتر، رقم الحديث: 470. والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، رقم الحديث 1679.
والله أعلم. وقال ابن القاسم: سمعت مالكا قال فيمن أوتر فظن أنه لم يوتر، فأوتر مرة أخرى ثم تبين له أنه قد أوتر مرتين، قال: أرى أن يشفع الوتر الأخير، يريد إذا كان بقرب ذلك، وتكون نافلة له؛ إذ يجوز لمن أحرم بوتر أن يجعله شفعا، كما يجوز لمن صلى من صلاة الفريضة ركعة ثم علم أنه قد كان قد صلاها، أنه يضيف إليها أخرى وتكون له نافلة، ولا يجوز لمن صلى ركعة من شفع أن يجعلها وترا، ولا يبني عليها فرضا؛ لأن نية السنة أو الفرض مقتضية لنية النفل، ولا يقتضي نية النفل نية السنة ولا الفرض، وهذا كله بين. وبالله تعالى التوفيق. انتهى.
وندب قطعها له لفذ؛ يعني أن الشخص إذا ذكر الوتر وهو في صلاة الصبح، فإنه يندب له أن يقطع صلاة الصبح لأجل الوتر الذي ذكره فيها عقد ركعة أم لا، وقيل: لا يقطع إن عقد ركعة والأول هو الراجح، كما في الحطاب. وإذا قطع وأتى بالشفع والوتر أعاد الفجر، كما لو ذكر منسية بعد أن صلى الصبح فيأتي به ويعيد الفجر. وقال التلمساني: الظاهر من المذهب عدم الإعادة؛ لأن الترتيب إنما هو بين الفرائض، وقوله:"وندب قطعها له" الخ، مقيد بما إذا لم يسفر جدا بحيث يخشى أن يوقعها، أو ركعة منها بعد طلوع الشمس. كما قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقوله:"له"، متعلق بالمصدر، وهو قطعها، وهو مضاف لمفعوله. وقوله:"لفذ"، متعلق بقوله:"ندب".
لا مؤتم؛ يعني أن المؤتم إذا ذكر الوتر وهو في صلاة الصبح، فإنه لا يندب له قطع الصبح لأجل الوتر، بل يندب له التمادي. قال الشارح: وهو الذي رجع إليه مالك، وقال أحمد: إن الذي رجع إليه مالك جواز التمادي، ومقتضى كلامه أنه الراجح، وعلى كل فليس هذا من مساجن الإمام. قاله الشيخ عبد الباقي. ومن ذكر الوتر في ركعتي الفجر، فهل يقطع فجره؟ قولان لابن ناجي وشيخه البرزلي، وإن ذكر الوتر بعد ما صلى الفجر أتى به وأعاد الفجر. وفي المدونة: من ذكر الوتر بعد صلاة الصبح لم يقضه، وليس كركعتي الفجر في القضاء، ومن كان خلف إمام في الصبح أو وحده فذكر وتر ليلته، فقد استحب له مالك أن يقطع ويوتر، ثم يصلي الصبح. قال ابن القاسم: ثم أرخص مالك للمأموم أن يتمادى. قاله المواق. قال الشيخ عبد الباقي: فإن قلت قد
تقدم في الفوائت أن الإمام إذا قطع لتذكر فائتة يقطع مأمومه. قلت: لما كان تمادي المأموم إذا ذكر وحده واجبا في الفوائت على الراجح، وهنا مستحب أو جائز على ما رجع إليه مالك -كما مر- كان سريان الخلل الذي في صلاة الإمام لصلاة المأموم أشدَّ في مسألة الفوائت منه في مسألتنا هذه. انتهى. كلام الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ بناني: الظاهر في الجواب أن وجوب قطع الإمام في الفائتة دل على خلل في صلاته، فسرى لصلاة المأموم، وأن جواز التمادي هنا دل على عدم الخلل فلم يكن موجب لقطع صلاة المأموم، ولو قال الزرقاني: لما كان خروج الإمام إذا تذكر واجبا الخ. كان أصوب. والله أعلم. انتهى. وإذا قلنا إن المأموم لا يقطع بخلاف الفذ، فمحل ذلك إذا كان لو قطع وأوتر تفوته جماعة الصبح، فلو كان يعتقد أنه يدرك ركعة منها قطع، وكان كالفذ لأنه يمكنه تحصيل فضيلة الجماعة، فلو منع من القطع لم يكن له إلا حرمة المكتوبة فقط، وحرمة المكتوبة ثابتة في حق الفذ ولا تمنعه من القطع. قاله في الطراز. قاله الإمام الحطاب. وقال ابن عبد البر في الاستذكار: لا أعلم أحدا قال بقطع الصبح لذكر الوتر إلا أبا حنيفة أو ابن القاسم، وأما مالك فالصحيح عنه أنه لا يقطع، قال: وأجمع العلماء على أن المأموم لا يقطع لذكر الوتر. انتهى. قال الإمام الحطاب: ويتعقب قوله الصحيح عن مالك أنه لا يقطع؛ بأنه خلاف قول مالك في المدونة، وقال ابن ناجي: تعقبه ابن زرقون بقول المدونة: إن المأموم يقطع، فكلام صاحب الاستذكار متعقب من جهتين. والله سبحانه أعلم.
وقد تقدم أن ابن ناجي يقول: من ذكر الوتر في الفجر يقطع، قال: لأنه إذا كان يقطع في الصبح فأحرى أن يقطع هنا ولا يختلف فيه، قال: وكان شيخنا؛ يعني البرزلي لا يرتضي ذلك مني، ويعتل بأنه إذا لم يقطع في الصبح فات الوتر، وهاهنا إذا تمادى على الفجر لا يفوت بل يعيده. انتهى المراد منه. الجزولي: من ذكر الوتر بعد أن صلى الفجر أتى به وأعاد الفجر، وقد تقدم شيء من هذا. وقال التلمساني. في شرح الجلاب: الظاهر أنه لا يعيدها؛ لأن الترتيب إنما يقع بين الفرائض انتهى. قاله الإمام الحطاب.
وفي الإمام روايتان؛ يعني أن الإمام إذا ذكر الوتر وهو في صلاة الصبح، ففي ندب قطعه وجوازه روايتان: الأولى لابن القاسم ومطرف وابن وهب أنه يندب له القطع، والثانية للباجي أنه يجوز
له قطع الصبح لأجل الوتر. والظاهر أن المسبوق إذا قام لقضاء ركعة فذكر الوتر على حكم المؤتم كما هو الظاهر من كلام المصنف وغيره، وهو واضح لانسحاب حكم الأمومية عليه بإدراك ركعة. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال: الظاهر أن الامام إذا خرج يستخلف. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: هذا أحد قولين في الحطاب. انتهى. ونص الحطاب: إذا قلنا يقطع الإمام فهل يقطع المأموم، كما إذا ذكر الإمام صلاة، قولان ذكرهما في التوضيح عن ابن راشد، وذكرهما الشارح في الكبير، وقال ابن رشد في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم من كتاب الجامع: فإذا قطع صلاته بالكلام فصلاة المأمومين صحيحة، خلافا لابن حبيب. انتهى. وللشيخ التتائي رحمه الله:
ويقطع مأموم لقطع إمامه
…
بذكر صلاة أو بفقد لنية
كتكبير إحرام كذا الشك فيهما
…
وذاكر وتر وهو في الصبح ما فَتِي
وفي الطراز: وروى مطرف عن مالك أنه إذا ذكر الوتر فليقطع، كان إماما أو وحدد، أو مأموما إلا أن يسفر جدا، وروى مثله ابن القاسم وابن وهب. انتهى. والقصد منه أنه يؤمر بالقطع ما لم يسفر جدا والله أعلم. قاله الإمام الحطاب.
وإن لم يتسع الوقت إلا لركعتين تركه؛ يعني أنه إذا لم يتسع الوقت الضروري للصبح إلا لركعتين؛ أي لم يبق منه في تقدير ذهنه إلا ما يسع ركعتين قبل طلوع الشمس، ولم يكن صلى الصبح والوتر، فإنه يترك صلاة الوتر ويصلي الصبح فقط، وأما الاختياري فلا يراعى فيه تفصيل المصنف، بل يصلي ذلك ولو أدى إلى أن يصلي الصبح بعد الإسفار، مراعاة للقول بأن وقتها الاختياري للطلوع. قاله الشيخ إبراهيم: وما ذكره المصنف هو مذهب المدونة. وقال أصبغ: إنه إذا بقي قبل طلوع الشمس ركعتان، أتى بالوتر، ثم يصلي الصبح ركعة في وقت الصبح وركعة خارجه. وقد علمت أنه مقابل لمذهب المدونة، ويقال: إن متقدمي الشيوخ كانوا إذا نقلت لهم مسألة من غير المدونة، وهي فيها موافقة لما في غيرها عدوه خطئا، فكيف إذا كان الحكم في
غيرها مخالفا؟ انتهى. قاله الإمام الحطاب. وإذا ذكر الوتر وقد أقيمت الصبح، فروى علي: يخرج فيصليه ولا يخرج لركعتي الفجر. قاله المواق.
لا لثلاث؛ يعني أن من لم يصل الصبح والوتر، ولم يبق له من الوقت قبل طلوع الشمس إلا ما يسع ثلاث ركعات أو أربعا، فإنه يأتي بالوتر والصبح فقط، ولا يأتي بالشفع والفجر. وقال أصبغ: إنه إذا بقي له ما يسع أربع ركعات قبل طلوع الشمس فإنه يصلى الشفع والوتر، ويدرك الصبح بركعة. ويجاب عن ترك المصنف لذكر الأربع مع أن أصبغ خالف فيها أيضا -كما علمت - بأن قوله:"إلا لركعتين": يدل على رد قوله: "في الأربع"؛ أيضا؛ إذ اللازم على قول أصبغ في كل منهما واحد، وهو أن تصلى ركعة من الصبح بعد الطلوع قاله الشيخ محمد بن الحسن. ولخمس صلى الشفع؛ يعني أنه إذا يتسع لوقت الضروري إلا لخمس ركعات أو ست؛ فإنه يصلي الشفع والوتر والصبح لندب الشفع. وندب وصله بالوتر، والمندوبان أقوى من رغيبة، ولأنه من جملة الوتر على قول أبي حنيفة بوجوبه، ولم يقل أحد بوجوب الفجر؛ ولأن الفجر يقضى للزوال فلذا تركها وأتى بالشفع. والله سبحانه أعلم.
ولو قدم؛ يعني أنه إذا اتسع الوقت الضروري لخمس ركعات أو ست، فإنه يصلي الشفع ولو كان قدْ قَدَّم الشفع أول الليل لانفصاله، وقيل: لا يعيده حينئذ، ويأتي بركعتي الفجر بدله لأن الوقت لهما، وحكى عليه ابن رشد الاتفاق، وهو وإن نوزع فيه يفيد قوته فينبغي أن يقتصر عليه أو يذكره مع ما ذكره. قال الشيخ الرماصي، والشيخ بناني: ظاهر المصنف ولو قدم الشفع مع أن فرض الخلاف عند الأئمة إذا قدم النفل. ابن الحاجب: ولخامسة وكان قد تنفل، ففي تقديم الشفع على ركعتي الفجر قولان. انتهى. وكذا لابن عرفة عن ابن بشير، واستدل ابن رشد بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر
(1)
). انتهى.
ولسبع زاد الفجر؛ يعني أنه إذا اتسع الضروري لسبع ركعات فإنه يزيد الفجر على ذلك؛ بأن يصلي الشفع والوتر وركعتي الفجر. ونص الجزولي على هذا قائلا: لا إشكال ولا خلاف في ذلك.
(1)
التلخيص الحبير، ج 3 ص 130.
قاله المواق والحطاب. هذا قول أصبغ، والذي في كلام ابن رشد المذكور أنه إذا كان قد تنفل بعد العشاء لا يعيد الشفع، فتأمله. انتهى.
وهي رغيبة؛ يعني أن صلاة الفجر رغيبة أي مرغب فيها، ورتبة الرغيبة دون السنة وفوق النافلة، وقد مر أن جنس الرغيبة لم يوجد منه إلا ركعتا الفجر، وفي الخبر: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها
(1)
)، وفيه أيضا: (لا تدعوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل
(2)
)؛ أي تبعتكم، وكانت في أثركم. وفي الصحاح: مر فلان يطردهم أي يشلهم [ويكسأهم
(3)
]، وقال في باب اللام: شللت الإبل؛ إذا طردتها وقال في باب الهمزة: [كسأته
(4)
] تبعته، ويقال للرجل إذا هزم القوم فمر وهو يطردهم: مر فلان [يكسأهم
(5)
] ويَكْسَعُهم؛ أي يتبعهم. وما ذكره المصنف من أن الفجر رغيبة، قال الشارح: هو أحد قولي مالك، وبه أخذ ابن القاسم، وابن عبد الحكم، وأصبغ؛ وهو الراجح عند ابن أبي زيد، لقوله: وركعتا الفجر من الرغائب، وقيل: من السنن، وهذا القول الثاني لمالك وبه أخذ أشهب. وقال ابن عبد البر: وهو الصحيح. انتهى. قاله الحطاب. وقال أي الحطاب: قال ابن ناجي في شرح المدونة: وصرح ابن غلاب في وجيزه: بأن المشهور السنية. انتهى. وذكر ابن ناجي أيضا أنه وقع لابن القاسم في العتبية أنها سنة. انتهى.
وقال المواق: قال ابن عبد البر: وركعتا الفجر سنة، ورواه أشهب، وعلي عن مالك، وقالاه وهو قول الشافعي، وابن حنبل، وجماعة أهل الفقه والأثر لا يختلفون في ذلك. انتهى.
تفتقر لنية تخصها؛ يعني أن الفجر تفتقر لنية زائدة على نية مطلق الصلاة تخصها أي تميزها وتعينها عن سائر النوافل.
(1)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:725.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:1258. ولفظه: لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل.
(3)
في الأصل يكثأهم والمثبت من الحطاب ج 2 ص 344 ط دار الرضوان.
(4)
في الأصل كثأته والمثبت من الحطاب ج 2 ص 344 ط دار الرضوان.
(5)
في الأصل يكثأهم والمثبت من الحطاب ج 2 ص 344 ط دار الرضوان.
واعلم أن السنن الخمس؛ أي الوتر، والعيدين، والكسوف، والاستسقاء، والفجر لابد لها من نية تخصها، فلابد لها من نية التعيين فمن افتتح الصلاة من حيث الجملة ثم أرادها لها، لم تجزه، وما عدا هذه السنن الخمس تكفي فيه نية مطلق الصلاة كالتراويح، والضحى، وتحية المسجد، وغير ذلك. وهذا الذي تكفي له نية مطلق الصلاة يسمى النفل المطلق؛ أي لم يقيد بزمن كالوتر وركعتي الفجر، ولا سبب كالكسوف والاستسقاء، وكذا سائر العبادات المطلقة من حج أو عمرة أو صوم لا تفتقر إلى التعيين: بل تكفي لها نية العبادة. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ الأمير: والفجر رغيبة تفتقر لنية تخصها، كالسنن، والمنذور، والخسوف. وغير ما ذكر يصرفه الوقت كالضحى، ووقت دخول المسجد، وتعبيري خير من قولهم النوافل المقيدة بأسبابها وأوقاتها تفتقر لنية تخصها؛ فإن الضحى مقيد بوقته، والتحية بسببها: أعني الدخول، وقد سبقت الإشارة إلى هذا في النية من فرائض الصلاة. انتهى كلام الشيخ الأمير.
ولا تجزئ إن تبين تقدم إحرامها للفجر؛ يعني أنه إذا ركع الفجر وتبين له أنه أحرم بها قبل انصداغ الفجر، فإنها لا تجزئه إذا لم يتحر قولا واحدا سواء أتمها بعد الفجر، أو فعل جميعها قبل انصداعه.
ولو بتحر؛ يعني أنه إذا تحرى طلوع الفجر، فصلى ركعتي الفجر، ثم تبين له أن إحرامهما قبل الفجر، فإنهما لا يجزآنه ويعيدهما؛ وهو مذهب المدونة، خلافا لابن حبيب، وابن الماجشون. وفهم من كلام المصنف أنه يجوز له أن يركعهما مع التحري إذا ظن الفجر طلع وهو كذلك. قاله في المدونة. قال سند: لأنه إذا تحرى الفجر منع من النفل فيه، فإذا فعل ركعتي الفجر فقد أوقعهما في وقت ثبت له بحكم التبعية. انتهى. وهما بخلاف الفريضة، فإنه لا يصليها حتى يتحقق الوقت. والله أعلم. قاله الإمام الحطاب. والمراد بتحرى الوقت حصول الظن أو غلبته. قاله الشبراخيتي. وقال الشيخ عبد الباقي: ولو بتحر أي ظن طلوعه أو غلبته، فإن تبين وقوع إحرامها بعد طلوعه، أو لم يتبين شيء مع التحري حال الإحرام أجزأت في هاتين الصورتين. انتهى. وقد علمت أنه إذا حصل التحري ولم يتيقن، هل صلاها قبل الفجر أو بعده؟ فإنه لا يعيدها لأنها من الرغائب. وما تقدم من قوله: وإن شك في دخول الوقت في الفرائض، فالفرق بين
ما هنا وبين ما تقدم خفة الرغيبة دون الفرض، وقوله:"ولو بتحر"، المبالغة على ظاهرها. قاله الشيخ محمد بن الحسن.
وندب الاقتصار على الفاتحة؛ يعني أنه يندب لمن يصلي الفجر أن يقتصر في القراءة على قراءة الفاتحة، وفي المدونة: كان مالك يقرأ فيهما بأم القرآن سرا، وروى ابن وهب أن مالكا أعجبه قراءتهما بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، والإخلاص للحديث. ابن العربي: أقل أحوال المتبتل أن يقوم قبل الفجر من نومه فيذكر الله ويقرأ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، العشر الآيات، ثم يتوضأ، ويصلي ثلاث ركعات، فإذا طلع الفجر ركع ركعتيه، يقرأ في الأولى بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وفي الثانية بسورة التوحيد، ثم يصلي الصبح. انتهى. أبو عمر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، روى ذلك من حديث عائشة، ومن حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن عمر، ومن حديث ابن مسعود، وكلها صحاح ثابتة، وكذلك: كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب. قال واهتبال
(1)
العلماء بما يقرأ فيهما دليل أنهما سنة، ولا وجه لمن قال إنهما رغيبة، ولا يوقف على مؤكدات السنن إلا بمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك، فركعتا الفجر سنة. قاله المواق. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم يخففهما حتى أقول؛ هل قرأ فيهما بأم القرآن
(2)
)؟ وفي الشبراخيتي: أن الفجر مع الصبح كالرباعية ركعتان بالحمد وسورة، وركعتان بالحمد. فقط. ولذلك شرع فيها الإسرار. انتهى. وروى ابن وهب: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فيهما بقل ياأيها الكافرون، وقل هو الله أحد، وهو في مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
(3)
. وفى أبي داوود من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وقال به الشافعي، وقد جرب لوجع الأسنان، فصح. قاله الشيخ بناني. وفي الشبراخيتي: فلو زاد سورة أو بعضها خالف
(1)
في الأصل: ابتهال، والمثبت من المواق ج 2 ص 79 ط دار الفكر ونحوه في التمهيد ج 10 ص 303 ط دار الكتب العلمية.
(2)
البخاري، كتاب التهجد، رقم الحديث:1165. ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، الحديث: 724. بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى ركعتي الفجر فيخفف حتى إني أقول هل قرأ فيهما بأم القرآن.
(3)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:726.
المستحب، وأجيب عن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز. انتهى. وما يذكر لمن أن من قرأ في ركعتي الفجر ب: ألَمْ وألَمْ لا أصل له وهو بدعة أو قريب منها. قاله الشيخ زروق. نقله الشيخ محمد بن الحسن.
وإيقاعه بمسجد؛ يعني أنه يندب إيقاع صلاة الفجر بمسجد لمصل به. قاله الشبراخيتي. بناء على أنها سنة، وإظهار السنن خير من كتمانها ليقتدي الناس بعضهم ببعض، كذا لمالك؛ وهو يفيد أن صلاة الرجل الفريضة في المسجد مع الجماعة أفضل من صلاته مع أهل بيته جماعة، وإن لزم صلاتهم فرادى لا إن لزم عدم صلاتهم بالكلية فيما يظهر. قاله الشيخ عبد الباقي ولا يندب إيقاع الفجر بالمسجد على أنها رغيبة، فالمصنف جمع بين القولين، وعلل الشيخ أحمد الندب بغير ما مر، فقال: لأنها تنوب له عن التحية ففعلها في المسجد محصل للتحية، بخلاف فعلها في البيت فإنه مخل بذلك. قاله الشيخ عبد الباقي.
ونابت عن التحية؛ يعني أن الفجر تنوب عن التحية؛ بمعنى أنه يسقط الطلب بالتحية بسبب صلاة الفجر بالمسجد، ويحصل بها إكرام البقعة ويحصل له ثواب التحية إن نواها، قوله:"ونابت عن التحية"، هو المشهور، وقال القابسي: يركع التحية ثم يركع للفجر. قاله غير واحد. وفي الجواهر: ومن دخل المسجد بعد طلوع الفجر وقبل صلاته فلا يصلي سوى ركعتي الفجر خاصة، وانفرد الشيخ أبو الحسن، فقال: يحيي المسجد ويركع للفجر. انتهى. ونحوه لابن الحاجب، وخرج اللخمي هذا الخلاف على الخلاف فيمن أتى المسجد بعد ركوعهما، فروى ابن وهب وابن القاسم: يركعهما، وابن نافع: لا يعيدهما، ففسر ابن رشد، واللخمي، وابن العربي، وابن عبد الرحمن. وأبو عمران إعادتهما بركعتي التحية. ابن عرفة: ونقلُ ابن بشير عن بعض المتأخرين إعادتهما بنية إعادة ركعتي الفجر لا أعرفه. انتهى. قاله الشيخ محمد بن الحسن.
وإن فعلها ببيته لم يركع؛ يعني أن من فعل صلاة الفجر ببيته ثم أتى المسجد لم يركع فجرا ولا تحية، وقيل: يركع، وعليه فهل بنية الفجر أو بنية التحية، وهو الظاهر، قولان، ووجه القول
بالركوع قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين
(1)
)، ووجه القول بعدمه فعله صلى الله عليه وسلم، وعدم الركوع هو مختار ابن يونس، وقول سحنون وابن وهب وأصبغ، وعليه مشى المصنف.
ولا يقضى غيره فرض؛ يعني أن القضاء من شعار الفرائض فلا تقضى صلاة خرج وقتها وهي غير فرض، إلا هي؛ يعني أن ما تقدم من أنه لا يقضى غير الفرض محله في غير الفجر، وأما الفجر فإنها تقضى من حل النفل. للزوال، وقال أحمد بن حنبل: لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى شيئا من التطوعات إلا ركعتي الفجر والركعتين بعد العصر؛ أي المطلوبتين قبله إذا فاتتاه، ويقضيهما بعد صلاته ولم نأخذ بذلك فيهما كأحمد لإمكان أنه لم يصحبه عمل. قاله السنهوري. وإذا لم يكن صلى الصبح حتى طلعت الشمس وحلت النافلة قدم الصبح على الفجر على المشهور، لخبر: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى يذكرها فذلك وقتها
(2)
)، وقيل: يقدم الفجر، والقولان لمالك، فروى عنه ابن وهب أنه لا يركع ركعتي الفجر حتى تصلى الصبح، وبه قال الثوري والليث، وقال أشهب وعلي بن زياد: يركع ركعتي الفجر ثم يصلي الصبح، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وداوود، ووجه رواية ابن وهب قوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها
(3)
)، وهذا ينفي فعل صلاة قبلها. ومن جهة المعنى أن الصلاة الفائتة يتعين وقتها بالذكر؛ وهو مقدار ما تفعل فيه فلا يجوز أن يفعل غيرها فيه، كما لو ضاق وقتها المعين لها، ووجه قول أشهب ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (عرسنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليأخذ كل رجل برأس راحلته فإن هذا منزل حضرنا فيه شيطان. قال: ففعلنا ثم دعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين، وقال يعقوب ثم صلى سجدتين، ثم أقيمت الصلاة فصلى
(1)
البخاري، كتاب التهجد، رقم الحديث:1163.
(2)
التمهيد، ج 3 ص 179، دار الكتب العلمية.
(3)
التمهيد، ج 3 ص 179، دار الكتب العلمية.
الغداة
(1)
). انتهى. وقال عياض، فيمن فاتته صلاة الصبح: هل يصلي قبلها ركعتي الفجر؟ فذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد وداوود إلى الأخذ بزيادة من زاد صلاة ركعتي الفجر في هذه الأحاديث؛ وهو قول أشهب، وعلي بن زياد من أصحابنا، ومشهور مذهب مالك أنه لا يصليهما قبل الصبح الفائتة؛ وهو قول الثوري والليث أخذا بحديث ابن شهاب. قاله الإمام الحطاب.
وإن أقيمت وهو بمسجد تركها؛ يعني أنه إذا أقيمت الصبح على من لم يصل الفجر وهو بالمسجد، أو رحبته، فإنه يترك الفجر ويدخل مع الإمام، ثم يقضي الفجر بعد حل النفل، ولا يخرج ليركعها خارج المسجد. وفي الجلاب: يخرج ويصلي ثم يدرك. انتهى. وقوله: "وإن أقيمت وهو بمسجد"، في حاشية الشيخ الأمير: أن المراد بالمسجد كل مكان معد للصلاة، وهل يسكت الإمام المؤذن أي المقيم عن الإقامة ليركع الفجر أم لا؟ خلاف، ويسكته ليصلي الوتر. وقوله:"وإن أقيمت وهو بمسجد تركها"؛ أي الفجر -كما علمت- وأما الوتر فإنه إذا أقيمت عليه الصبح وهو في المسجد ولم يصله، فإنه يخرج من المسجد ويصليه، ويسكت الإمام المؤذن؛ أي المقيم ليصلي الإمام الوتر. وقال الشيخ عبد الباقي: إنه إذا أقيمت الصبح على من هو بالمسجد، فإنه يخرج منه ويركعها، ولا يسكت الإمام المؤذن ليركعها؛ أي الفجر، ويسكته ليصلي الوتر. قاله الحطاب. وهذا كله حيث لم يخف فوات ركعة، وإلا ترك الوتر ودخل معه. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: قوله: ترك الوتر ودخل معه غير صحيح، كما يدل عليه ما تقدم قريبا، وقوله:"وإن أقيمت وهو بمسجد تركها".
قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: الذي يظهر أن هذا حيث أقيمت -لراتب كما يأتي- من أن الصلاة إذا أقيمت لغير راتب يجوز ابتداء صلاة أخرى. والله سبحانه أعلم. وسئل مالك عن الذي يدخل في صلاة الصبح والإمام قاعد فيقعد معه، أترى أن يكبر حين يقعد أو ينتظر حتى يفرغ فيركع ركعتي الفجر؟ قال: أما إذا قعد معه فأرى أن يكبر، قال ابن القاسم: ويركع ركعتي الفجر إذا طلعت الشمس. وعزا ابن رشد لابن حبيب في الواضحة أنه: لا يكبر ويقعد معه، فإذا
(1)
مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:680.
سلم قام فركع الفجر، وقول مالك أولى وأحسن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس
(1)
)، وإن فاتته صلاة الفجر في وقتها فقد أدرك صلاة الجماعة، قاله الإمام الحطاب.
وخارجه ركعها؛ يعني أن من أقيمت عليه الصبح ولم يكن صلى الفجر؛ وهو خارج المسجد؛ وخارج رحبته يركع الفجر خارج المسجد ورحبته، ومحل ذلك. إن لم يخف فوات ركعة من الصبح مع الإمام، والمراد بها الأولى، ومفهوم قوله:"إن لم يخف فوات ركعة"، أنه لو خشي بركوعه للفجر فوات ركعة، فإنه يدخل مع الإمام ويصلي الفجر بعد حل النفل، ففي المدونة: قال مالك إن سمع الإقامة قبل أن يدخل المسجد، أو جاء والإمام في الصلاة فإن لم يخف فوات ركعة فأحب إليَّ أن يركعها خارجا في غير أفنية المسجد التي تصلى فيها الجمعة اللاصقة به، وإن خاف دخل مع الإمام، ثم إن شاء صلاها بعد طلوع الشمس. انتهى. وقوله:"وخارجه"، من الخارج عن المسجد الطرق التصلة به.
وهل الأفضل كثرة السجود؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا في الأفضل في النفل هل هو كثرة الركوع والسجود لما في الحديث: (من ركع ركعة أو سجد سجدة رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة
(2)
)، ولخبر: (من سأل مرافقته في الجنة أعنّي -أي بكسر المعين- على نفسك بكثرة السجود
(3)
) ولخبر: (إن العبد إذا قام فصلى أتي بذنوبه فجعلت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت
(4)
)، أو الأفضل في النفل. طول القيام؛ يعني أن من الشيوخ من ذهب إلى أن الأفضل في النفل طول القيام فهو أفضل من كثرة الركوع والسجود، وقوله:"أو طول القيام"؛ أي بالقراءة لأنه صلى الله عليه وسلم، سئل أي الأعمال أفضل، قال: (طول القيام
(5)
)، وهذا القول استظهره
(1)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:714. البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 444.
(2)
مسند أحمد، ج 5 ص 147.
(3)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:489.
(4)
الجامع الصغير، ج 2 ص 368. ولفظه: قام يصلى .. الخ.
(5)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:1325.
ابن رشد، وقال المواق: هذا القول أظهر؛ إذ ليس في الحديث الأول ما يعارضه. المازري، وقيل: أما في النهار فكثرة السجود أفضل، وأما بالليل فطول القيام أفضل. وإنما لم يكن ما تقدم من الأحاديث معارضا للحديث الأخير؛ لأنه يحتمل أن يكون ما يعطي الله العبد بطول القيام في الصلاة أكثر من ذلك كله. والله سبحانه أعلم. انظر الحطاب. وقوله: قولان مبتدأ حذف خبره؛ أي في ذلك قولان، وهذا مع اتحاد الزمن، وإلا فالأطول زمنا أفضل باتفاق. وقال الشيخ الأمير: والراجح فضل طول القيام على كثرة الركعات لحديث: (أحب الصلاة إلى الله طول القنوت
(1)
)؛ أي القيام، (ولفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قام الليل حتى تورمت قدماه
(2)
)، (وما زاد على إحدى عشرة ركعة
(3)
)، ولبعضهم:
كأن الدهر في خفض الأعالي
…
وفي رفع الأسافلة اللئام
فقيه صح في فتواه قول
…
بتفضيل السجود على القيام
وها أنا أذكر هنا صلاة التسبيح التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس، فقال: (يا عماه، ألا أعطيك، ألا أمنحك، ألا أحبوك، ألا أفعل بك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك أوله وآخره، قديمة وحديثه، وخطأه وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلانيته، عشر خصال أن تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم فقل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمس عشرة مرة ثم تركع وتقولها وأنت راكع عشرا، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشرا، ثم تهوي ساجدا فتقولها عشرا، ثم ترفع من السجود فتقولها عشرا ثم تسجد فتقولها عشرا ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا فذلك خمس وسبعون مرة، في كل ركعة تفعل ذلك في أربع ركعات إن
(1)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:756. ولفظه: أفضل الصلاة طول القنوت.
(2)
البخاري، كتاب التفسير، رقم الحديث:4836.
(3)
البخاري، كاب التهجد، رقم الحديث:1147. مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث: 738.
استطعت أن تصليها في كل يوم فافعل، فإن لم تفعل ففي كل جمعة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي غمرك مرة
(1)
).
ولما فرغ من الكلام على النفل المنفصل عن الفرائض، شرع فيما هو متصل بها من الجماعة وأركانها، وما يتعلق بذلك من شروط الإمام والمأموم، وآدابهما، فقال:
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:1297. ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، رقم الحديث: 1387.
فصل: في حكم صلاة الجماعة،
وأول من صلى جماعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من الغار في الصبح: وإنما كانوا يصلون فرادى، وأركان الجماعة أربعة: مساجد تختص بالصلاة، وإمام يؤم فيها، ومؤذن يدعو إليها، وجماعة يجمعونها. أما المسجد؛ فيبنى من بيت المال، فإن تعذر فعلى الجماعة بناؤه من أموالهم، ويجبرون على ذلك؛ لأن ذلك إحياء للسنن الظاهرة، فلا رخصة في تركها، وإن وجد متبرع بالأذان والإمامة فلا إشكال، وإلا فعليهم استئجارهما لخفة مؤنته دون بناء المسجد. وقيل ذلك من بيت المال كبناء المسجد، ولابد في المؤذن أن يكون عارفا بالوقت أو مقلدا لمن يعرفه، وأما الجماعة فإن امتنعوا من الاجتماع أجبروا على إحضار عدد يسقط به الطلب، وذلك ثلاثة ولا يكتفى باثنين، وإن كانا أقل الجمع إذ لا تقع بهما شهرة، فإن كانوا من أهل الجمعة طلب منهم عدد تقوم به الجمعة، والمسجد، والإمام والمؤذن: على ما مر قريبا. وعد المسجد والمؤذن من أركان الجماعة إنما هو باعتبار ما يطلب به أهل البلد، وإلا فالجماعة تصح بدونهما، ولذا شرط في الجماعة أن تكون فوق اثنين، وإن كانت في نفسها تحصل بواحد مع الإمام.
تنبيه: في التحقيق عن ابن عبد الحكم: من سأل في المسجد فلا تعطوه، وأمر بحرمانهم وصرفهم خائبين، وفيه أيضا: وينزه المسجد عن غرس الشجر، فإن وقع قطع، فإن لم يقطع فهي حلال للفقير والغني؛ لأن سبيل ذلك كالفيء. الجزولي: لا ينبغي لأحد أن يقدم على أكلها خشية ما يلقى من الهوان وقد شاهدت ذلك. انتهى.
الجماعة بفرض؛ أي فعل الصلوات الخمس في جماعة أي بإمام، ومأموم سنة، وقوله:"بفرض"، عيني حاضر، أو فائت، وبما قررت علم أن المراد بقوله:"فرض"، الصلوات الخمس، وأما غير الفرض، فقال الحطاب: أما إخراج النوافل فظاهر؛ لأن الجماعة لا تطلب فيها إلا في قيام رمضان على جهة الاستحباب. وأما السنن فغير ظاهر؛ لأن الجماعة في العيدين والكسوف والاستسقاء سنة، وقال الرماصي، وقد صرح عياض في قواعده بالسنية في الثلاث. انتهى. نقله الشيخ بناني. وقال: قد نص ابن الحاجب في باب الكسوف على أن الجماعة فيه مستحبة، والظاهر ما قاله الحطاب من السنية لمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك، وفعله في جماعة
فحقيقة السنة صادقة عليه. قاله الرماصي. وقال الأمير: الجماعة في السنن غير الوتر من تمام السنة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا كذلك، كما في الرماصي، ويفيده ما يأتي في العيد أنها إنما تكون سنة مع الإمام، فإن فاتت فمندوبة. انتهى. وقال عبد الباقي والشبراخيتي. وأما غير الفرض فمنه ما الجماعة فيه مستحبة، كتراويح، وعيد، وكسوف، واستسقاء. ومنه ما تكره فيه أو تجوز، كما مر، من قوله: و"جمع كثير لنفل" الخ. ومثله فيما يظهر رغيبة وسنة غير مؤكدة كفجر على القول بسنيته، وأما الكفائي أي الجنازة فالجماعة فيه مستحبة، وللخمي سنة. انتهى. وزاد عبد الباقي بعد قوله "سنة". فإن صلوا عليه وحدانا استحب إعادتها جماعة، ولابن رشد شرط كالجمعة، فتعادما لم تدفن، ولعل معنى الشرطية الكمال؛ إذ لم يذكر الإعادة بعد الدفن. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: استحباب الجماعة في هذه السنن غير ظاهر، وأصله للشارح، والصواب ما في الحطاب ونصه: أما إخراج النوافل فظاهر، وأما السنن فغير ظاهر؛ لأن الجماعة في العيدين والكسوف والاستسقاء سنة. انتهى. وذكر ما قدمته. والله سبحانه أعلم.
غير جمعة؛ يعني أن من الجماعة أي الصلاة بإمام ومأموم سنة في الفرض إنما ذلك في غير الجمعة؛ وهو الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح، وأما الجمعة فإن الجماعة فيها واجبة وجوب شرط على ما سأبينه إن شاء الله تعالى. وبما قررت علم أن قوله:"سنة"، خبر عن قوله:"الجماعة"، وعلم به أيضا أن الجماعة بالمعنى المصدري؛ أي الاجتماع في الصلوات الخمس أفي إيقاعها بإمام، ومأموم سنة، وهذا هو قول الأكثر، وقيل: فرض كفاية، وقيل مندوبة مؤكدة. قاله في التلقين. وقال في العارضة: مندوبة يحث عليها، وجمع ابن رشد، وابن بشير بين الأقوال، فقالا: فرض كفاية بالبلد، يقاتل أهلها عليها لتركها، وسنة في حق كل مسجد، وفضيلة للرجل في خاصة نفسه. الأبي: وهو أقرب للتحقيق، وأسَدُّ كلاما، وقوله:"سنة"؛ أي مؤكدة، والجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين رجال عن ترك الجماعة أو لأحرقن
بيوتهم
(1)
)؛ أي بالنار، عقوبة لهم أنه هَمَّ ولم يفعل، أو أنه ورد فيمن تخلف للنفاق أو عن صلاة الجمعة.
واعلم أن سنة الجماعة خاصة بالرجال، وأما النساء فصلاتهن في البيوت أفضل لهن، والظاهر أنه يندب إيقاع صلاتهن في البيوت، وليس بسنة. وقال الفيشي: النساء كالرجال لخبر: (لا تمنعوا إماء القد مساجد الله
(2)
)، قال الشيخ محمد بن الحسن: قول الفيشي سنة يحتاج لنص، والحديث لا يفيد السنية، وحاصل ما لابن رشد، وابن يونس: اختصاص السنية بالرجال، ونفيها عن النساء المتجالات وغيرهن. وقوله: في الحديث: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله
(3)
)، عياض: هو إباحة لخروجهن، وحض أن لا يمنعن. ودليل أن لا يخرجن إلا بإذن. انتهى. وقال الإمام أحمدث وأبو ثور، وعطاء، وداوود: إن الجماعة فرض عين على كل مكلف من الرجال القادرين عليها كالجمعة، وأنه لا تجزئ الفذ الصلاة إلا بعد صلاة الناس، وبعد أن لا يجد قبل خروج الوقت من يصلي معه. قاله الحطاب. وقال: قال المازري: ولم يقل أحد ممن قال بالوجوب إنها شرط في صحة الصلاة، إلا بعض أهل الظاهر. انتهى.
وقال الشيخ سيدي محمد الزرقاني: ذهب الأوزاعي، وعطاء: وأحمد، وأبو ثور، وابن خزيمة، وابن المنذر: وابن حبان إلى أنها: فرض عين، وبالغ داوود وأتباعه، فجعلوها شرطا في صحة الصلاة. انتهى. وقال الحطاب: ونقل المازري: عن بعض أصحابنا أنه: فرض كفاية، قاله ابن زكري: وأُورِدَ على ما لابن بشير أنه كيف تندب الجماعة للرجل مع أن إيقاعه لها جماعة دائر بين فرض كفاية بالبلد وسنة بكل مسجد؟ وأجيب بحمل الندب على ما إذا أقيمت بالبلد وبكل مسجد. وفي الحطاب: وصرح كثير من أهل المذهب بأنه إذا تمالأ أهل بلد على تركها قوتلوا فأخذ بعضهم من ذلك أنها فرض كفاية وقال بعضهم إنما يقاتلون لتهاونهم بالسنن.
(1)
ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، رقم الحديث:793.
(2)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:442.
(3)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 442
واعلم أن من الآفات في الإمامة طلبها لغير عذر شرعي لما فيها من التصدر والتقدم على الناس في أشرف العبادات، فيسرع إلى صاحبها الكبر والعجب والرياء وغير ذلك كطلب المحمدة من الناس، وإعظامهم له، وأم أبو عبيدة بن الجراح قوما مرة فلما انصرف قال ما زال الشيطان بي حتى رأيت أن لي فضلا على غيري، لا أؤم أبدا. وصلى حذيفة رضي الله عنه بقوم فلما سلم قال: لتلتمسن إماما غيري، أو لتصَلُّنَ وحدانا، إني رأيت في نفسي أنه ليس في القوم أفضل مني، وكانت الصحابة يتدافعون الإمامة، وكان بشر بن الحارث يقول: من أراد سلامة الدنيا وعز الآخرة فليجتنب أربعا: لا يُحَدِّثْ، ولا يَشْهَدْ، ولا يَؤُمَّ، ولا يفت. وفي قوت القلوب: اجتمع قوم من الصحابة في منزل أحدهم، وقاموا إلى الصلاة فجعل ابن مسعود يقدم أبا ذر، وأبو ذر يقدم عمارا، وعمار يقدم حذيفة، فلم يتقدم واحد منهم، فأمروا مولى لأحدهم أن يتقدم فيصلي بهم، ومن الآفة في الإمامة أيضا التأبي من الإمامة لغير ضرورة؛ لأنها من المراتب الشريفة، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال (ثلاثة يوم القيامة على كثبان المسك لا يخافون إذا خاف الناس ولا يفزعون إذا فزع الناس حتى يقضى بين الخلائق: رجل أمَّ قوما وهم له راضون، ورجل أذن في مسجد سبع سنين ابتغاء وجه الله تعالى، وعبد مملوك ابتلي بالرق في الدنيا فأطاع الله وأطاع مواليه فأدى حق الله وحق مواليه).
والمشهور عندنا أن الإمامة أفضل من الأذان، وليجتنب تدافعها بعد الإقامة لما روي (أن قوما تدافعوا الإمامة بعد إقامة الصلاة فخسف بهم)، وإذا تأبى عنها لضرورة فليس في ذلك آفة، وَمِنْهَا التكلف لها في القراءة ونحوها، بأن يفعل من أمور الصلاة ما لا يفعل إن صلى وحده، وهذا يدل على دخول الرياء، ومنها أيضا ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وإن كان مذهبه عدم الوجوب، ووجوبها في الصلاة مذهب الإمام الشافعي، وقال بوجوبها ابن المواز من أيمتنا، قاله ابن زكري.
وحاصل ما مر أنه لا يطلبها لغير عذر، ولا يأبى عنها لغير عذر. والله أعلم. وفي التنبيه: اللهم صل وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آل سيدنا محمد الذي من صلى من الخمس صلاة ولم
يصل عليه أخرى. لم ترفع صلاته فوق رأسه شبرا. ومن آفات الصلاة أن يدخل فيها فيقف متفكرا فيما يقرأ من الآيات المناسبة لمقصده، كأن يقرأ بألم نشرح إذا كان مطلبه البسط وحصول اليسر، بعد العسر، وسورة الناس لذهاب الوسواس ونحو ذلك، وكأن يقرأ:{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} لرد الضالة، وهذا ورهب للخشوع، فدخل في البدعة لكونه مخالفا للسنة، ومنها أن تكون له سور معلومة لا يقرأ بغيرها لإخلاله بالسنة من التطويل في موضعه، أو التوسط بموضعه، أو التقصير بموضعه، ومنها التخفيف جدا بحيث يوقع في ترك الطمأنينة الفرض: أو الزائد المسنون لأجل أن الإمام مأمور بالتخفيف، وهذا جهل بالسنة يغلط فيه الناس، ومنها التطويل جدا حتى يذهب بالخشوع وهو يعم الإمام والفذ ويؤذي من خلفه وهو خاص بالإمام. وقد رأى بعض العلماء بطلان صلاة السمع والصلي بتسميعه، وفي الحديث: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي، ويقول: أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار
(1)
)، فالشيطان لا يوسوس في حال السجود، ومن آفات الصلاة في القيام الصفن؛ أي رفع إحدى الرجلين، والصفد؛ أي ضم القدمين، والصلب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الصلب في الصلاة
(2)
)؛ وهو أن يضع يديه على خاصرتيه، ويجافي بين عضديه في القيام، والاختصار؛ وهو وضع اليد على الخاصرة في القيام؛ وهو من فعل اليهود قاله ابن زكري. على النصيحة الكافية للشيخ العارف بالله تعالى سيدي أحمد زروق، أفاض الله تعالى علينا من بركاته.
(ولا تتفاضل) يعني أن الجماعة لا تتفاضل تفاضلا يقتضي الإعادة، فمن صلى في جماعة فليس له أن يعيد في جماعة أفضل منها، وأما نفس الفضل فحاصل، ففي الذخيرة: لا نزاع أن الصلاة مع العلماء والصلحاء والكثير من أهل الخير أفضل من غيرهم، لشمول الدعاء، وسرعة الإجابة وكثرة الرحمة، وقبول الشفاعة لكن لم يدل دليل على جعل هذه الفضائل سببا للإعادة. وقال ابن
(1)
مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث:81. ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، رقم الحديث: 1052.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:903. النسائي، رقم الحديث: 892.
حبيب: بالإعادة في المساجد الثلاثة؛ إذا صلى في غيرها جماعة، وقال أحمد وداوود وأهل الظاهر بالإعادة وكذا قالت الشافعية بندب إعادة من صلى في جماعة في أخرى مع استوائهما، أو زيادة الثانية في الفضل باعتبار الإمام أو الجمع والمكان، وورد في الصحيح: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا
(1)
)، وفيه أيضا: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة
(2)
)، والمراد بالدرجة والجزء الصلاة، لخبر مسلم: (صلاة مع إمام خير من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده
(3)
)، ويجمع بين الحديثين بأن الأول محمول على السرية، والثاني على الجهرية، وبأن الأول في حق من صلى في غير المسجد، والثاني في حق من صلى في المسجد؛ وبأن الأول فيمن قربت داره من المسجد، والثاني فيمن بعدت داره عنه، وبأن الأول في حق من أدرك بعض الصلاة مع الإمام، والثاني فيمن أدرك جميعها معه؛ وبأن الأول فيمن لم تكن صلاته كاملة الخشوع والخضوع، والثاني فيمن كانت صلاته كاملتهما؛ وبأن الأول محمول على من صلى مع عدد يسير، والثاني محمول على من صلى مع عدد كثير.
واعلم أن السبع والعشرين زيادة على الصلاة الأصلية، فلكل مصل في جماعة ثمان وعشرون صلاة، واحدة أصلية، والباقي لفضل الجماعة، قال الشيخ زروق: وفي الصحيح: (من صلى العشاء والصبح في جماعة لم يزل في ذمة الله حتى يمسي فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء). وقد ذكرلي بعض العلماء عن بعض السجانين أنه كان يسأل من يساق إليه عن هاتين الصلاتين، فلم يجد أحدا دخل عنده صلاهما تلك الليلة مدة أربعين سنة وقد سألت كثيرا ممن يقع لهم الدواهي، فأجده مفرطا فيهما، وما وجدت أحدا قط ممن أصابته مصيبة كبيرة صلاهما، وما فاتتني منهما ركعة قط إلا رأيت أمرا أخافني في يومي انتهى. وفي الحديث: (الاثنان فما فوقهما جماعة
(4)
)، قاله الشيخ إبراهيم.
(1)
الموطأ، كتاب صلاة الجماعة، رقم الحديث:291. مسلم، في صحيحه، كتاب المساجد، رقم الحديث: 649. ولفظهما: بخمسة وعشرين جزءا.
(2)
الموطأ، كتاب صلاة الجماعة، رقم الحديث:290. البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث: 645.
(3)
مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:649. ولفظه: صلاة مع الإمام أفضل الخ.
(4)
ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، رقم الحديث:972.
تنبيه: قال المنذري: قد ذهب بعض العلماء إلى تفضيل الصلاة في الفلاة، وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة في جماعة تعدل خمسا وعشرين صلاة، فإذا صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة
(1)
)؛ رواه أبو داوود، وقال عبد الواحد بن زياد: في هذا الحديث (صلاة الرجل في الفلاة تضاعف على صلاته في الجماعة) ورواه الحاكم بلفظه، وقال: صحيح على شرطهما، ورواد ابن حبان في صحيحه، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة: وإن صلاها بأرض في وأتم ركوعها وسجودها تكتب صلاته بخمسين درجة
(2)
)، قوله: في، بكسر القاف وتشديد الياء: الفلاة.
وإنما يحصل فضلها بركعة؛ يعني أن فضل الجماعة الموعود به في الخبر؛ وهو صلاة الجماعة الخ، وحكم الجماعة وهو أن لا يقتدى به، وأن لا يعيد في جماعة، وأن يترتب عليه سهو الإمام، وأن يسلم على الإمام وعلى اليسار، ونحو ذلك لا يحصل شيء منهما إلا بإدراك ركعة، بأن يمكن يديه من ركبتيه، أو مما قاربهما قبل رفع الإمام رأسه، وإن لم يطمئن إلا بعد رفعه: ولابد من تمامها بسجدتيها عند ابن القاسم. فلو زوحم عنهما أو نعس حتى سلم الإمام لكان حكمه حكم الفذ، خلافا لأشهب، واعتراض الرماصي على أبي الحسن قصور. قاله الشيخ بناني؛ يعني أن أبا الحسن ذكر أن ابن القاسم يقول: إن الجماعة لا تدرك إلا بركعة كاملة بسجدتيها، وقال الرماصي: فيه نظر لتصريح أهل المذهب بحصوله بإدراك الركوع فقط مع الإمام. انتهى. وقَيَّد الحفيد حصول الفضل بركعة بما إذا فاته ما قبلها اضطرارا، فإن فاته ولو ركعة اختيارا لم يحصل له فضلها. ومقتضى الشادلي اعتماده، وينبغي أن لا يعيد في جماعة مراعاة لمن لم يقيد، وأن لا يقتدى به فيها، ومن لم يدرك ركعة له أجر فإنه
(3)
مأمور بالدخول بلا نزاع إن لم يكن معيدا، وإلا صبر حتى يتحقق أنه بقى شيء، ولا يدخل معهم ليلا يكونوا في آخر صلاتهم انظر
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:560.
(2)
أبلى حبأن، رقم الحديث:1746.
(3)
كذا في الأصل والذي في عبد الباقي ج 2 ص 4 وأنه.
شرح الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن عند قوله: "وإنما يحصل فضلها بركعة": الذي ذكره ابن عرفة عن ابن يونس، وابن رشد: أن فضلها يدرك بجزء قبل سلام الإمام، نعم، ذكر ابن عرفة أن حكمها لا يثبت إلا بركعة دون أقل منها. انتهى. وفي الرهوني: أن كون فضلها لا يحصل إلا بركعة هو الحق، وساق من الدليل ما فيه كفاية لجلبه الحديث وكلام الفقهاء.
واعلم أن من دخل في صلاة الإمام، وهو في التشهد فظهر بسلامه أنه التشهد الأخير، فيجب عليه إتمام فرضه الذي أحرم به وإن وجد جماعة، ثم يعيد إن وجد جماعة وكانت مما تعاد؛ إذ لا ينتقل من فرض إلى سنة؛ وهي الصلاة في الجماعة، وإنما يخير بين القطع والانتقال إلى النفل من دخل مع الإمام في صلاة معادة قد صلاها وحده وإنما يخير إن كان وقت تنفل، وإلا قطع. قاله الشيخ محمد بن الحسن. ومن أحرم بعد أن سلم الإمام، ولم يعلم، ثم علم، فليتم صلاته، ولا يبتدئها. سحنون: من أدرك التشهد فضحك الإمام فأفسد، فأحب للمدرك أن يبتدئ صلاته احتياطا. وقال الشيخ الأمير: ولا تدرك؛ يعني الجماعة إلا بركعة من حيث فضلها المخصوص بحيث لا تعاد، فلا ينافي أصل الفضل بجزء ما. انتهى.
وندب لمن لم يحصله؛ يعني أن من صلى ولم يحصل فضل الجماعة تحقيقا لا شكا تقديما للحظر يندب له أن يعيد في جماعة ليحصل له فضل الجماعة، وبَيَّن من لم يحصل له فضل الجماعة بقوله: كمصل بصبي؛ فهو مثال لقوله: "من لم يحصله"؛ يعني أن من صلى إماما لصبي واحد أو متعدد، لا يحصل له فضل الجماعة، فلذا يندب له أن يعيد تلك الصلاة التي صلاها إماما للصبي في جماعة ليحصل له فضل الجماعة، وقوله:"كمصل بصبي"، وأولى من صلى مفردا فيعيد لتحصيل فضل الجماعة إن لم يكن راتبا.
لا امرأة؛ يعني أن المصلي إماما لامرأة يحصل له فضل الجماعة، فلذا لا يعيد. وقوله: أن يعيد، نائب فاعل ندب؛ أي يندب لمن لم يحصل فضل الجماعة أن يعيد لتحصيل فضل الجماعة وقوله:"بصبي"، ظرف لغو متعلق بمصل. وقوله:"لا امرأة"، عطف عليه، وقوله:"وندب لمن لم يحصله" الخ؛ يقيد هذا بأن تطرأ له نية الإعادة ولو بعد الدخول في الأولى لجزمه بها حين
نيتها أنها الفرض، ولو نوى إعادتها جماعة دبل تلبسه بها مع جزمه أنها غير الفرض، أو تردده، أو عدم نية فتبطل، وتكون الأخيرة هي الفرض إن نوى الفرض لا التفويض فقط، فلا تجزئه كالأولى، وينهى الشخص عن صلاته مفردا ناويا إعادتها جماعة، لخبر أبى داوود: (لا [تصلوا
(1)
] صلاة في يوم مرتين) [أي
(2)
] إلا لضرورة. كما في الشيخ سالم، وغيره. انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي. ومقتضاه أنه إذا نوى بالأولى الفرض جازما مع نية إعادتها جماعة، أنها صحيحة، ولكنه فعل منهيا عنه. والله سبحانه أعلم. قاله جامعه عفا الله عنه. وقوله: مفوضا. حال من فاعل يعيد؛ أي يندب له أن يعيد مفوضا الأمر إلى الله سبحانه في قبول أي الصلاتين، ولابد مع نية التفويض من نية الفرض، كما قال الفاكهاني، وإنما لم يكتف بنية الصلاة المعينة حيث لم ينو بها النفلية سواء نوى الفرضية أو لم ينوها، كما مر؛ لأنه لا سقط الفرض بفعله أو لا لم تحمل نيته هنا على الفرضية، ولشعوره بكونها معادة. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"ولابد مع نية التفويض" الخ: قال الشيخ محمد بن الحسن: هذا نقله ابن غازي
(3)
عن
(4)
الفاكهاني، وابن فرحون. وذكر أن ظاهر كلام غيرهما أن نية التفويض لا ينوي بها فرضا، ولا غيره، وجمع بينهما بعضهم؛ بأن التفويض يتضمن نية الفرض؛ إذ معناه التفويض في قبول أحد الفرضين، فمن قال: لابد معه من نية الفرض لم يرد أن ذلك شرط، بل أشار لا تضمنته نية التفويض ومن قال: لا ينوى معه فرض مراده أنه لا يحتاج لنية الفرض مطابقة لتضمن نية التفويض لها. انتهى. وكلام ابن فرحون: وحقيقة التفويض أن ينوي بالثانية الفرض، ويفوض إلى الله تعالى في القبول. انتهى. وصرح اللخمي بأنه إذا لم ينو إلا التفويض فبطلت إحداهما لا إعادة عليه، وسواء الأولى أو الثانية نقله ابن هلال في نوازله، ونحوه لابن عرفة عنه. قاله الشيخ بناني. وكونه ينوي التفويض، قال
(1)
في الأصل تصلى والمثبت من عبد الباقي، ج 2 ص 5.
(2)
ساقطة من الأصل والمثبت من عبد الباقي، ج 2 ص 5.
(3)
في البناني ج 2 ص 5: نقله ح عن ابن الفاكهاني، والكلام موجود في الحطاب ج 2 ص 383.
(4)
في الحطاب ص 353 والبناني ص 5: ابن الفاكهاني.
الفاكهاني: هو المشهور، وقيل: ينوتي الفرض، وقيل: النفل، وقيل: ينوي الإكمال: ونظم بعضهم الأقوال الأربعة في قوله:
في نية العود للمفروض أقوال
…
فرض ونفل وتفويض وإكمال
واستشكل القول بالتفويض بأن المطلوب من النية التمييز، والتفويض ضد ذلك، واستشكل القول بالفرض بأن الذمة قد برئت، وعمارتها ثانيا يفتقر إلى دليل، والنفل بأن الأمر به مجردا من غير تكميل للفرض السابق لا معنى له، والإكمال بأنه إن كان خلل الأولى في الأركان تعين نية الفرض، وإلا كانت الثانية نفلا مأموما؛ يعني أن من لم يحصل فضل الجماعة يندب له أن يعيد ليحصل له فضل الجماعة، وإذا أعاد لفضلها فإنما يعيد مأموما لا إماما؛ لأنه تبطل صلاة من اقتدى به -كما يأتي للمصنف- وقوله:"مأموما"، حال ثانية، قال الإمام مالك: لا يؤم العيد. انتهى. لأن صلاته كالنفل، ولا يؤم متنفل مفترضا. قاله الشبراخيتي. وقوله:"وندب لمن لم يحصله" الخ، هذا في غير من صلى بأحد المساجد الثلاثة: مسجد مكة، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وبيت المقدس. وأما المصلي بأحد المساجد الثلاثة مفردا فلا يعيد بغيرها جماعة، وإنما يعيد بها هي جماعة، ويعيد من صلى بغيرها جماعة فيها جماعة على المذهب عند ابن عرفة، وللخمي، والقاضي لا يعيد على ظاهر المذهب، لا مفردا على الأصح، ومن صلى بغيرها مفردا، أعاد بها جماعة، وكذا مفردا على الأصح. وعلم مما مر أن من صلى في مفضولها فذا يعيد في أفضلها جماعة لا فذا، وكذا العكس. ولبعضهم:
امنع إعادة من صلى فريضته
…
بمسجد المصطفى والقدس والحرم
ومن يصل بغير مفردا يعدن
…
بها ولو مفردا فاحفظه واغتنم
ومن يصل به جمعا يعيد بها
…
جمعا وقيل وفردا فزت بالنعم
واعلم أن من أدرك مع إمام دون ركعة يصح الاقتداء بة حين يقوم بعد سلام من أدرك معه دونها، وينوي الإمامة حينئذ كما صرح به الشيخ عبد الباقي.
ولو مع واحد؛ ويعني أن المعيد لفضل الجماعة يعيد ولو مع شخص واحد؛ وهو ضعيف، والمعتمد أنه إنما يعيد مع اثنين لا مع واحد إلا أن يكون راتبا، قال الشيخ ابن غازي: عَوَّل في الإعادة مع الواحد غير الإمام الراتب على صاحب اللباب وابن عبد السلام، وما كان ينبغي له ذلك، فإن الحفاظ لم يجدوه في المذهب حتى انتقت على ابن الحاجب جعله مقابل الأصح، فقال ابن عرفة: ونَقْلُ ابن الحاجب: تعاد مع واحد، لا أعرفه انتهى. فإن أعاد مع واحد غير راتب، فهل له أن يعيد في جماعة أو لا؟ مراعاة لما مشى عليه المصنف.
تنبيهات: الأول: قوله: "وندب لمن يحصله أن يعيد" الخ؛ اعلم أن الإعادة لتحصيل فضل الجماعة إنما تكون بوقت أداء ولو الضروري، فلو صلاها مفردا: ثم خرج وقتها: ثم وجد جماعة ترتب عليهم قضاؤها، فإنه لا يعيدها معهم لفضل الجماعة.
الثاني: لو صلى خلف إمام، ثم تبين أنه محدث، فإن صلاة المأموم صحيحة ولا يطلب ممه إعادتها في جماعة، ولو تبين أن المأموم محدث فهل يعيد الإمام في جماعة أم لا؟ قولان. قاله الأقفهسي. قاله الإمام الحطاب.
الثالث: ما تقدم من أن بيت المقدس له حكم المسجد النبوي، ومسجد مكة -فيما مر- لم ينص عليه الإمام مالك، وإنما هو رأى ابن القاسم، ومر أن من صلى بغير المساجد الثلاثة فذا يعيد في أحدها فذا، وأولى جماعة: وأن من صلى في غيرها جماعة يعيد فيها جماعة، ولا فرق في ذلك بين من دخلها وغيره، فإذا وجدهم قد فرغوا من الصلاة، فإن كان قد دخل المسجد فواضح، وإلا أتاه وصلى فيه: كما يفيده كلام ابن ناجي. والله سبحانه أعلم.
الرابع: قال الإمام الحطاب: فإن قيل الاثنان إذا كانا جماعة وجب أن يعيد مع الواحد، وإلا وجب أن يعيد من صلى مع الواحد، جوابه هما جماعة إذا كانا مفترضين، والمعيد ليس بمفترض. انتهى من الذخيرة. انتهى.
الخامس: قال الجزولي: واختلف، هل يعيد مع واحد؟ المشهور لا يعيد ما لم يكن إماما راتبا، فإن كان أعاد معه بلا خلاف. انتهى. قاله الإمام الحطاب. وقوله ت ضيو مغرب مضاف ومضاف إليه: والأول مفعول قوله: يعيد؛ يعني أن الصلوات الخمس تعاد كلها لفضل الجماعة ما عدا المغرب، فتعاد العشاء قبل الوتر، والصبح والظهر والعصر، وأما المغرب والعشاء بعد الوتر فإنهما لا يعادان لفضل الجماعة، ولهذا قال: كعشاء بعد وتر؛ أي صحيح؛ يعني أن من صلى العشاء مفردا، ومثله من في حكمه ثم أوتر بعد ذلك؛ فإنه لا يعيد العشاء لتحصيل فضل الجماعة، أما المغرب فتمنع إعادتها لذلك. قاله الشيخ عبد الباقي. لأنها وتر صلاة الليل والنهار فيلزم من إعادتها وتران في ليلة، والتنفل بثلاث، وأما العشاء بعد وتر صحيح فتمنع إعادتها أيضا لفضل الجماعة. كما قاله الشيخ عبد الباقي. وأما للترتيب أو لصلاتهما بنجاسة أو انحراف أو تيمم يعيد من صلى به في الوقت، فيعادان، وينبغي ولو جعاعة. قاله الشيخ عبد الباقي. فإن أعادها بعد الوتر، ففي إعادته للوتر قولان، قاله ابن الحاجب، وقال الشيخ محمد بن الحسن: أبو الحسن: قال أبو إسحاق: أجاز إعادة العصر مع كراهة التنفل بعدها، وإمكان أن تكون الثانية نافلة، وكذلك الصبح لرجاء أن تكون فريضة، وكره إعادة المغرب؛ لأن النافلة لا تكون ثلاثا مع إمكان أن تكون هي الفريضة؛ لأن صلاة النافلة بعد العصر والصبح أخف من أن يتنفل بثلاث ركعات. انتهى. وإنما لم تعد العشاء بعد وتر؛ لأنه إن أعاده خالف خبر: (لا وتران في ليلة
(1)
)، وإلا خالف خبر: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا
(2)
). قاله الشبراخيتي.
ومفهوم الظرف أن العشاء قبل الوتر يعاد لفضل الجماعة، وهو كذلك اتفاقا. قاله الشيخ إبراهيم. وما ذكره المصنف في المغرب هو قول مالك: وفي العشاء بعد الوتر هو قول أصحابه، وعلل مالك إعادة المغرب؛ بأنه إذا أعادها كانت شفعا، وعللها محمد بن الحسن، بأن الإعادة نافلة، ولا
(1)
أبو داود، كتاب الوتر، رقم الحديث:1439. والترمذي، كتاب الوتر، رقم الحديث: 470. والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، رقم الحديث:1679.
(2)
التيسير، ج 2 ص 214.
تكون النافلة وترا أبو عمر: هذه العلة أحسن
(1)
من تعليل مالك، وقال الشافعية والمغيرة: تعاد الصلوات كلها لعموم حديث محجن؛ إذ لم يخص صلاة من غيرها، وقال أبو حنيفة: لا يعيد الصبح، ولا العصر. ولا المغرب. نقله الزرقاني.
وإن أعاد ولم يعقد قطع؛ يعني أن من صلى المغرب فذا أو في حكم الفذ ثم أعادها سهوا لفضل الجماعة لا يخلوا، إما أن يتذكر قبل عقد ركعة، أو لا، فإن تذكر قبل عقد ركعة برفع رأسه من ركوعها فإنه يقطع ويخرج واضعا يده على أنفه كالراعف خوف الطعن في الإمام. وإلا؛ بأن عقدها برفع رأسه منها مع الإمام، شفع مع الإمام وتصير له نافلة، وسلم قبل الإمام. قال البناني: وظاهر قوله: "شفع"، أنه مطلوب بذلك فالشفع هو الأولى له؛ وهو الذي في المدونة. انتهى. وناقشه الرهوني، وصوب ما لعبد الباقي تبعا للمواق أن القطع أولى، نقله عن سماع عيسى، قال: ونسب ابن رشد للمدونة موافقة ما في السماع. وقوله: "شفع"؛ أي يشفع مع الإمام ولو فصل بين ركعتيه بجلوس؛ كأن يدخل معه في ثانيتها، وقولي: سهوا هو لعبد الباقي، قال: احتراز عما لو أعادها عمدا أو جهلا من غير رفض الأولى: فإنه يقطع مطلقا عقد ركعة أم لا، قال الشيخ عبد الباقي: وقصرنا كلامه على المغرب: وإن اقتضى ظاهر ابن الحاجب جريانه أيضا في العشاء بعد وتر لاعتراض ابن عبد السلام عليه، بأن هذا إنما هو منصوص في المغرب، زاد ابن هارون: وذكره في العشاء مما انفرد به ابن الحاجب، فيخص كلام المصنف هنا بالمغرب. انتهى. ثم قال: فيقطع العشاء عقد ركعة أم لا، وقال الشيخ محمد بن الحسن: الذي لابن عاشر أنه يشفع العشاء، وهو الظاهر من التوضيح، وإن كان النص إنما وجد في المغرب، وغاية هذا أنه يتنفل بعد الوتر وهو جائز إذا حدثت له نية، فأحرى إن كان غير مدخول عليه. وقاله الرهوني أيضا، وقد نصوا على أن من شرع في العصر، ثم تبين له أنه صلاه يشفع؛ لأنه غير مدخول عليه، وقوله:"شفع"، قد علمت أن معناه: إن شاء، والشفع أولى. والله سبحانه أعلم.
(1)
كذا في الزرقاني على الموطأ ج 1 ص 408 ونسخة المؤلف غير مقروءة هنا.
وإن أتم ولو سلم أتى برابعة؛ يعني أن من صلى المغرب فذا أو في حكمه، ثم أعاد المغرب في جماعة سهوا وأتمها؛ بأن صلى ثلاثا، فإنه يأتي بركعة رابعة إن لم يكن سلم، فإن سلم فكذلك أيضا، وإنما يأتي برابعة حيث سلم.
إن قرب تذكره أنه صلاها مفردا من السلام، ويسجد بعد السلام حيث أتى بالرابعة بعد السلام، فإن تذكر قبل السلام لم يسلم وأتى برابعة، ولا سجود عليه، وفي الحالتين يصير مصليا لما لم ينوه، ومفهوم قوله:"إن قرب"، أنه لو بعد فلا شيء عليه؛ وهو كذلك، والقرب، والبعد. كما مر. وبما قررت علم أنَّ "إنْ" في قوله:"وإن أتم" شرطية، وجوابها أتى برابعة، ولو في قوله:"ولو سلم"، للمبالغة. وما قبل المبالغة حيث لم يسلم.
وأعاد مؤتم بمعيد أبدا؛ يعني أن من صلى فذا أو في حكمه، وأعاد لفضل الجماعة إماما، فإن المؤتمين به يعيدون أبدا لأنهم مفترضون خلف متنفل، ولو نوى هذا الإمام الفرض أو التفويض في الثانية. أفذاذا، حال من قوله:"مؤتم" باعتبار المعنى، والأحسن فذا؛ يعني أن المأمومين المقتدين بهذا الذي أعاد لفضل الجماعة، يعيدون أبدا، أفذاذا؛ إذ قد تكون هذه صلاته فصحت لهم جماعة، فلا يعيدونها في جماعة، ووجبت عليهم الإعادة خوف أن تكون الأولى صلاته، وهذه نافلة، فاحتيط للوجهين. وقوله: أفذاذا، هو لابن حبيب. ابن ناجي: ولم يحك ابن بشير غيره، وصدر الشادلي بأنهم: يعيدونها جماعة إن شاءوا على ظاهر المذهب، والمدونة. قال الشيخ عبد الباقي: وهو الراجح لبطلان صلاتهم خلف معيد، وأما الإمام المرتكب للنهي فلا يعيد، ويحصل له فضل الجماعة. وقوله: بمعيد، متعلق بمؤتم، وقوله: أبدا، ظرف لقوله:"أعاد": ابن عرفة: ولا يؤم معيد، وفي إعادة مأمومه أبدا مطلقا، أوما لم يطل قولان
(1)
لابن حبيب معها وسحنون. اللخمي: إن نوى الفرض صحت على الفرض، والتفويض صحت إن بطلت الأولى، والنفل صحت
(1)
ساقطة من نسخة المؤلف والمثبت من ابن عرفة ج 1 ص 290 ط دار المدار الإسلامي.
على إمامة الصبي. انتهى. وهي لا تجوز، فإن وقعت، ففي بطلان الصلاة، قولان، المشهور بطلانها. وقال أبو مصعب. بصحة الصلاة.
وإن تبين عدم الأولى أو فسادها أجزأت؛ يعني أن من ظن أنه قد صلى فأعاد لفضل الجماعة على ما في ظنه، ثم تبين له عدم الصلاة الأولى أو تبين له فسادها؛ أي الأولى؛ بأن ظهر له أنه صلاها بغير وضوء مثلا، فإن هذه الثانية العادة تجزئه إن نوى الفرض أو التفويض، لا النفل، أو الإكمال، فهو راجع لقوله: وندب لمن لم يحصله، وينبغي رجوعه أيضا. لقوله:"وأعاد مؤتم" إلى آخره؛ أي إنما يعيد المؤتمون بالمعيد ما لم يتبين عدم الأولى أو فسادها، وإلا أجزأتهم فلم يأتموا حينئذ بمتنفل، وينبغي رجوعه أيضا لقوله:"وإن أتم" الخ؛ أي حيث سلم أتى برابعة، أم لا. وكذا إذا تذكر قبل أن يسلم، وسلم بخلاف ما لو أتى برابعة، ولم يسلم، ثم يتبين له عدم الأولى أو فسادها، فتبطل لأنه حصل منه زيادة ركن فعلي عمدا: ولو تبين فساد. الثانية، فقال ابن عرفة: ولو أحدث في الثانية، ففي إعادتها، ثالثها إن أحدث بعد عقد ركعة، ورابعها إن أعاد بنية الفرض أو التفويض روايات، إلا الثالث، فلعبد الملك وسحنون. انظر الرهوني.
ولا يطال ركوع لداخل؛ يعني أنه يكره للشخص أن يطيل ركوعه ليدركه من يقتدي به ممن يريد الدخول معه. عياض: وشدد بعضهم الكراهة جدا، ورأى ذلك من التشريك في الععل لغير الله، ولم يقل شركا لأنه إنما فعله ليحوز به أجر الداخل، وقوله:"ركوع"، قال الشيخ عبد الباقي: وأولى فعل غيره مما ليس به إدراك. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر؛ إذ لم يذكر ابن عرفة والتوضيح والبرزلي في غير الركوع إلا الجواز، وقال الشيخ الأمير: وكره تطويل في ركوع أو غيره كما في عبد الباقي، وإن رده بناني، وقوله:"لداخل" أي مريد الدخول أحس به أو رآه، وقوله:"لداخل": قال الشيخ إبراهيم: لداخل أو غيره. والمراد بالداخل مريد الدخول. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: وقيد المصنف بثلاثة قيود: أن لا يترتب على ترك التطويل مفسدة كبطلان صلاة الداخل لاعتداده بركعة لم يدرك ركوعها معه؛ كذا ينبغي، وأن لا يخشى ضرر الداخل إن لم يطول: وأن يكون الحاس إماما لجماعة؛ لأن من وراءه أعظم حقا ممن يأتي. وأما المصلي وحده فله أن يطيل الركوع لداخل أحس به. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن:
والقيود التي ذكرها لا توافق تعليل عياض. انتهى. وقوله: ولا يطال ركوع لداخل، قال الشيخ إبراهيم عن الذخيرة: لصرف نفوس المصلين إلى انتظار الداخلين، فيذهب إقبالهم على صلاتهم، وأدبهم مع ربهم. ابن حبيب: إذا ركع الإمام فحس أحدا دخل المسجد، فلا يمد في ركوعه ليدرك الرجل الركعة، وحمله المازري على المنع، واختار إن كانت الأخيرة جاز، وإلا لم يجز. وقال سحنون ينتظره وإن طال ذلك، واختاره عياض. قاله الشارح. ابن رشد عن بعض العلماء: يجوز في اليسير الذي لا يضر بمن معه، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنه أطال، وقال: إن ابنى ارتحلنى
(1)
)، (وخفف صلى الله عليه وسلم حين سمع بكاء الصبي
(2)
). قاله ابن رشد. وقد ظهر منه ميل إلى استخفاف ذلك، ومن قواعد عز الدين ظَنَّ بعض الناس أن الإمام إذا انتظر في ركوعه المسبوق ليدرك الركعة إشراك في العبادة وليس كذلك، بل هو جمع بين قربتين لما فيه من الإعانة على إدراك الركعة، ولو كان كما ظن، لكان تعليم العلم، والأمر بالمعروف، والأذان رياء، ويا ليت شعري ما الذي يقول في انتظار الإمام بقية الجماعة في صلاة الخوف؟ انتهى.
والإمام الراتب كجماعة؛ يعني أن الإمام الراتب وهو من نصبه السلطان أو نائبه أو الواقف، أو اتفق عليه أهل محلة في مسجد، أو مكان جرت العادة بالجمع فيه، وإن لم يكن مسجدا، وسواء كان راتبا في جميع الأوقات أو في بعضها كالجماعة فضلا وحكما، فينوي إذا صلى وحده الإمامة، ولا يعيد في أخرى، ولا يصلي بعده في مسجده جماعة، ويعيد معه مريد الفضل اتفاقا. ويجمع ليلة المطر وحده ولا يجمع بين التحميد والتسميع. وقيل: يجمع بينهما وإنما يكون الإمام الراتب كجماعة إن حصل أذان، وإقامة ولو من غيره، وانتظر الناس على العادة. والظاهر أنه لابد من نية الإمامة حتى عند اللخمي؛ إذ لا تتميز صلاته إماما عن صلاته فذا هنا إلا بالنية بخلاف ما إذا صلى معه جماعة، ولا يعطى كجماعة في التخفيف، بل هو كالفذ في تطويل
(1)
النسائي، كتاب التطبيق، رقم الحديث:1142. ولفظه: كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت ان أعجله حتى يقضى حاجته.
(2)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:708. مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 470.
القراءة. والظاهر أنه إذا جمع ليلة المطر واستمر بالمسجد للشفق يعيد العشاء، كالجماعة إذا قعدوا به كذلك. قاله الشيخ عبد الباقي. وظاهر ما تقدم أو صريحه أن حصول فضل الجماعة له وحكمها يتوقفان على جميع ما مر. والله أعلم.
وقوله: "والإمام الراتب كجماعة" قال الأقفهسي: يريد إذا صلى في المسجد لا في دار. وعلم مما مر أنه إذا لم يصل في الوقت المعتاد لا يقوم مقام الجماعة، كما في الحطاب. ابن عرفة: أقل الجماعة التي يعاد معها لفضل الجماعة اثنان، أو إمام راتب، وقال الإمام الحطاب عند قوله:"والإمام الراتب كجماعة"، بشرط أن ينوي الإمامة ويصلي في وقته المعتاد، وكونه يقوم مقام الجماعة؛ أي الفضيلة، والحكم فله ثواب الجماعة وحكمها بحيث لا يعيد في جماعة أخرى، ولا يصلى بعده في مسجده تلك الصلاة ويعيد معه من أراد الفضل، قال بعض الشيوخ: ويجمع ليلة المطر انتهى. وذكر ابن ناجي هذا الأخير عن الشيخ الغبريني، قال: وأنه يقول سمع الله لمن حمده، ولا يزيد ربنا ولك الحمد، وسلم له بعض من كان معاصرا له من شيوخنا الأولى. وخالفه في الثانية. ورأى أنه يجمع بينهما، قال: والأقرب عندي هو الأول. انتهى. وقوله: والإمام الراتب كجماعة؛ يعني فيما هو راتب فيه سواء كان راتبا في جميعها أو بعضها ولا تبتدأ صلاة بعد الإقامة؛ يعني أنه لا تبتدأ بمسجد ولا بأفنيته التي تصلى فيها الجمعة صلاة فرض أو نفل لا من فذ ولا من جماعة بعد الشروع في الإقامة؛ أفي يحرم ابتداؤها كما صرح به ابن عرفة وغيره، وإذا فعل أساء واجزأته، وصرح بذلك التوضيح، والقباب، والبرزلي، والأبي. وحملت الكراهة في ابن الحاجب كالمدونة على التحريم لخبر: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة
(1)
)؛ أي الحاضرة، وفهم من قوله:"الإقامة". أنها فرض، وأما الإمام يصلي نافلة فلا بأس لمن عليه فرض أن يصليه، وأما النوافل والإمام يصلي نفلا، فقال ابن عواد -شيخ عياض-: لا كراهة، وحكى غيره قولين: أرجحهما المنع. وقوله: "ولا تبتدأ صلاة بعد الإقامة"؛ أي لإمام راتب، وإلا فيجوز كيف ما فعل. قاله البرزلي. والتقييد به يدل على تخصيص النهي بالمسجد، وصرح به ابن
(1)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:710.
حبيب، قال ابن يونس: لأن النهي عن صلاتين معا إنما كان بالمسجد. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وتقدم أن قوله: ولا تبتدأ معناه يحرم ذلك، وأن ما وقع في المدونة وابن الحاجب من الكراهة محمول على التحريم. ابن عبد السلام ظاهر الأحاديث وتفاريع أهل المذهب من القطع، دليل على أن المراد بالكراهة التحريم، وفي الموطإ: أن قوما سمعوا الإقامة، فقاموا يصلون، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أصلاتان معا
(1)
)، وفي ابن عرفة: إذا أقيمت بموضع صلاة منع فيه ابتداء غيرها، والجلوس فيه، ولزمت من لم يصلها أو ملاها فذا، وهي مما تعاد. قاله المواق. الباجي: ورحاب المسجد الممنوع فيها الفجر، مثله ابن عرفة: وإن أقيمت على من بالمسجد، وعليه ما قبلها، فلابن رشد عن أحد سماعي ابن القاسم: تلزم بنية النفل، والآخر يخرج، وقاله ابن عبد الحكم. ابن رشد: ويضع الخارج يده على أنفه. البرزلي: سئل ابن أبي زيد عن قوم صلوا في مسجد بإمامين، قوم في داخله، وقوم على ظهره أو صحنه؟ فقال: ملاتهم تامة، ولا يعيدون. قلت: إن لم يكن له إمام راتب، فيجوز كيفما فعل، وإن كان له إمام راتب فاختلط معه في وقت الصلاة من صلى لنفسه، إما منفرد أو جماعة، فالصلاة صحيحة، ولا ينبغي ذلك. قاله الإمام الحطاب.
وإن أقيمت وهو في صلاة قطع؛ تقدم الكلام على حكم ابتداء الصلاة بعد الإقامة للإمام الراتب، والكلام الآن في حكم من أقيمت عليه الصلاة للإمام الراتب وهو في صلاة؛ يعني أن من أقيمت عليه الصلاة لراتب المسجد؛ وهو في صلاة فرضا أو نفلا، مغربا أو غيرها، وخوطب بالدخول مع الإمام فيها يقطع مطلقا عقد ركعة أم لا، فإن لم يخاطب بالدخول مع الإمام فيها فإنه لا يقطع كمن صلاها جماعة قبل هذا. إن خشي فوات ركعة؛ يعني أن محل القطع المذكور إنما هو حيث خشي بتماديه على إتمامها فوات ركعة إن كانت نافلة أو فريضة غير المقامة كظهر، وأقيمت عليه العصر، وبالخروج عن شفع إن كانت هي المقامة، وذلك أن غير المقامة يطلب بتمامها
(1)
الموطأ، كتاب صلاة الليل، رقم الحديث:287.
فريضة أو نافلة، إن لم يخف فوات ركعة، وإلا قطع ولو أمكنه الخروج عن شفع قبل فوات ركعة، والمقامة يطلب بتشفيعها إن أمكن، وهذا قول مالك الذي درج عليه، ولذا فرق بين المقامة وغيرها، وهذا التفصيل الذي قلناه لابد منه. قاله الرماصي. وقد مر قول ابن عرفة: إنه إن أقيمت على من بالمسجد صلاة لراتب وعليه ما قبلها، فلابن رشد عن أحد سماعي ابن القاسم: تلزم بنية النفل، والآخر يخرج لها. وقاله ابن عبد الحكم، وقوله:"قطع إن خشى فوات ركعة"، قد مر أن محلد حيث خوطب بالدخول مع الإمام. قاله الشيخ عبد الباقي، عن الشيخ سالم. وقال الشيخ محمد بن الحسن: انظر المواق عند قوله: أو فريضة غيرها، فإنه يدل على أن قوله: وخوطب بالدخول. لا يشترط. انتهى. وقال الشبراخيتي: والأولى التعميم في كلام المصنف، سواء كان يخاطب بالدخول مع الإمام فيها، أم لا وقوله: قطع إن خشى فوات ركعة؛ يعني يقطع ويدخل مع الإمام، ويعيد الصلاتين للترتيب إن كانت التي هو فيها فريضة، وإن كانت التي قطعها نافلة، فإنه لا يعيدها. قال في المدونة: لأنه لم يتعمد قطعها. قاله الإمام الحطاب. أي لأنه مغلوب على قطعها، واعلم أن الأشياء التي يليزم إتمامها بالشروع فيها ستة: الصلاة، والصوم، والاعتكاف، والحج: والعمرة، والطواف. ونظمها بعضهم، فقال:
صلاة وصوم ثم حج وعمرة
…
طواف عكوف بالشروع تحتما
وفي غيرها كالوقف والطهر خيرن
…
فمن شاء فليقطع ومن شاء تمما
وفي الحطاب: والأشياء السبع التي تلزم بالشروع فيها هي: الصلاة، والصوم، والاعتكاف، والحج، والعمرة، والائتمام، والطواف. ولما ذكر في الذخيرة هذه السبعة، قال: بخلاف الوضوء، والصدقة، والوقف، والسفر، للجهاد، وغير ذلك. قاله الشيخ عياض في التنبيهات. قال الشيخ خليل، فعلى هذا إذا سافر للجهاد، فهل له أن يرجع عن ذلك؟ وكذلد الصدقة بشيء، واختلف إذا خرج بكسرة خبز لسائل، فلم يجده، فهل له أكلها أم لا؟ قيل: يجوز له أكلها، وقيل: لا يجوز، وقيل: إن كان معينا أكلها، وإن كان غير معين لم يأكلها. انتهى. ونظم الشيخ الحطاب النظائر السبع المذكورة، فقال:
قف واستمع مسائلا قد حكموا
…
بكونها بالابتداء تلزم
صلاتنا وصومنا وحجنا
…
وعمرة لنا كذا اعتكافنا
طوافنا مع ائتمام المقتدي
…
فيلزم القضا بقطع معتد
وما ذكره من لزوم الإعادة في الائتمام غير ظاهر، فإن الظاهر عدم لزومه قاله الحطاب. وغيره. ومعنى كلامه أن الدخول خلف الإمام يلزم بالشروع، ولا يجوز الانتقال عنه، فإذا قطع لزمه الإعادة مع إمام. والله سبحانه أعلم.
وإلا أتم النافلة؛ يعني أن من أقيمت عليه الصلاة لراتب، وهو في صلاة نفلا أو فرضا، ولم يخش فوات ركعة، فإن كانت التي هو فيها نافلة، فإنه يتمها عقد ركعة أم لا، ويندب أن يتمها جالسا -كما مر- وللشيخ عبد الباقي هنا كلام غير ظاهر. والله سبحانه أعلم.
أو فريضة غيرها؛ يعني أنها إذا كانت التي هو فيها فريضة، والموضوع بحاله أنه لم يخش فوات ركعة، فإنه يتمها أيضا حيث كانت التي هو فيها غير التي أقيمت لراتب المسجد، سواء عقد ركعة أم لا. وإلا؛ أي وإن لم تكن غير المقامة بأن كانت التي هو فيها هي التي أقيمت لراتب المسجد. انصرف في قيام الثالثة؛ قبل عقدها، عن شفع، وصار نفلا بأن يرجع فيجلس ويسلم، ثم يدخل مع الإمام، فإن عقدها بالفراغ من سجودها على المعتمد كملها فريضة ولا يجعلها نافلة. كالأولى إن عقدها تشبيه في أنه ينصرف عن شفع؛ يعني أنه إذا كان في الصلاة التي أقيمت لراتب المسجد، وكان قد عقد الركعة الأولى منها بأن فرغ من سجودها، فإنه ينصرف عن شفع. قال الشيخ عبد الباقي، والشبراخيتي: وهذا في غير المغرب والصبح، وأما هما فيقطع عقد ركعة أم لا ليلا يصير متنفلا في وقت النهي. انتهى.
أما استثناء المغرب فصحيح لقول المدونة: وإن كانت المغرب قطع ودخل مع الإمام عقد ركعة أم لا، وإن صلى اثنتين أتمها ثلاثا وخرج، وإن صلى ثلاثا سلم وخرج ولم يعدها. انتهى. وأما الصبح فلم يستثنه ابن عرفة ولا غيره، ولذا قال أبو علي: إن استثناءه مخالف لظاهر كلام الأئمة
أو صريحه. انظر حاشية الشيخ بناني. وهذا التفصيل الذي درج عليه المصنف لمالك -كما علمت-، والذي للخمي والمازري أنه: لا فرق بين المقامة وغيرها من الفرائض، وأن الحكم واحد. قاله المواق. والحاصل أنها إن لم تكن هي المقامة فالحكم كما قال المصنف، وإن كانت هي المقامة، فقيل: الحكم فيها كما إذا لم تكن هي المقامة؛ وهو الذي للخمي والمازري، وقيل: ليست كهي؛ وهو الذي للمصنف؛ وهو لمالك. كما قاله الرماصي.
والقطع بسلام؛ تقدم قوله: "قطع إن خشي فوات ركعة"، فكأن سائلا سأله. بأي شيء يحصل القطع؛ فقال. والقطع بسلام أو مناف، ومعنى كلامه أن القطع حيث قيل به في هذا، وفي غيره يكون بسلام من الصلاة التي هو فيها. أو مناف؛ يعني أن القطع كما يكون بسلام من الصلاة، يكون بمناف لها من كلام أوأكل أو شرب أو رفض أو غير ذلك. وإلا؛ بأن أحرم مع الإمام من غير أن يخرج من إحرامه الأول بشيء مما ذكر. أعاد كلا من الصلاتين لأنه أحرم بصلاة، وهو في صلاة وإنما يعيد الأولى إن كانت فرضا، واستشكل بأن نية الاقتداء تكفي في المنافي، وقد قال في المدونة: وإن ظن الإمامَ كبَّرَ، فكبَّرَ، ثم كَبَّر الإمام، فإنه يكبر تكبيرة الإحرام بغير سلام. فإن لم يكبر بعد تكبيرة الإمام وتمادى معه، أعاد الصلاة. انتهى. فهذا يقتضي أن نية الاقتداء تكفي في المنافاة، ويمكن أن يفرق بأن من ظن تكبيرة الإمام فكبر، عقد على نفسه إحراما مقيدا بتبعية الإمام، فلما تبين عدم القيد عُدِمَ مقيده بخلاف المحرم بصلاة قبل الإمام. قاله الشيخ سالم. قاله الشيخ عبد الباقي.
وإن أقيمت بمسجد على محصل الفضل وهو به خرج؛ إذا أقيمت صلاة راتب لمسجد، أو ما هو في حكمه على من قد صلى تلك الصلاة المقامة في جماعة، والحال أن هذا المحصل لفضل الجماعة كائن بالمسجد أو رحبته لا بطرق متصلة به، فإنه يخرج وجوبا منه ومن رحبته ليلا يطعن بمكثه على الإمام، ويخرج واضعا يده على أنفه ولم يصلها؛ يعني أنه لا يصلي تلك الصلاة التي أقيمت عليه، وهو بالمسجد، أو رحبته لامتناع إعادة صلاة الجماعة في أخرى، ويستثنى من قوله: ولم يصلها من بأحد المساجد الثلاثة، فإنه يعيدها، وقد صلاها جماعة بغيرها. كما مر. قاله غير واحد وكما يمتنع أن يصلي المقامة، لا يجوز له أن يصلي فرضا غيرها
ليلا يقع في النهي عن صلاتين معا، ولو صلى خلفه نفلا، جاز. قاله الشيخ إبراهيم وقال الشيخ عبد الباقي: فإن أقيمت عصر، ولم يكن صلى الظهر، خرج أيضا. ولم يصل الظهر، هذا قول، وثم قول آخر يدخل معه حينئذ بنية النفل أربعا. انتهى. وقوله:"فإن أقيمت عصر ولم يكن صلى الظهر" الخ؛ قال ابن عرفة: وإن أقيمت على من به وعليه ما قبلها، ففي لزومها بنية النفل وخروجه لما عليه نقلا. ابن رشد عن أحد سماعي ابن القاسم، والآخر مع قوله فيها: لا يتنفل من عليه فرض، مع اللخمي عن ابن عبد الحكم، ويظهر من كلامه ترجيح الثاني، لكن في الحطاب عن الهواري: أن الأول هو المشهور الجاري على ما قاله المؤلف فيما إذا أقيمت عليه صلاة وهو في فريضة غيرها وخشي فوات ركعة. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني.
وإلا؛ أي وإن لم يكن حصل الفضل فيها بأن صلاها وحده أو بصبي؛ وهي مما تعاد لفضل الجماعة. لزمته؛ أي لزمه أن يصليها مع الإمام خوف الطعن عليه لو خرج أو مكث، وإن كانت الإعادة لفضل الجماعة الأصل فيها الندب، فلو كانت مغربا أو عشاء بعد وتر خرج.
كمن لم يصلها؛ يعني أن من أقيمت عليه الصلاة وهو بالمسجد أو رحيته، ولم يصل تلك الصلاة المقامة، يلزمه الدخول مع الإمام فيها؛ وهو أحرى مما قبله. ذكره استيفاء للفروع. قال الشيخ عبد الباقي: وهذا حيث كانت تلزمه بعينها، وإلا فلا كمسافر وامرأة حضرا جمعة. انتهى. قال الرماصي: هذا قاله الأجهوري. ومن تبعه، ولم أر من ذكره، بل ظاهر كلامهم اللزوم بالإقامة للمسافر ونحوه، ويدخل في عبارة المؤلف، وسيأتي في الجمعة إن شاء الله رد ما احتج به على ما زعمه: وقوله: كمن لم يصلها مقيد بالمحصل لشروطها، وبما إذا لم يكن إماما بمسجد آخر. قاله الشيخ ميارة. نقله الشيخ بناني. وببيته يتهما، هذا قسيم قوله:"وإن أقيمت وهو في صلاة"؛ أي بمسجد؛ يعني أنه إذا أقيمت عليه صلاة راتب، والحال أنه محرم في صلاة ببيته، فإنه يتمها وجوبا كانت هي المقامة أو غيرها، عقد ركعة أم لا، خشي فوات ركعة أم لا، والمراد ببيته ما كان خارج المسجد، ورحبته التي تصح فيها الجمعة. قاله الشيخ إبراهيم. وفي المدونة: من أحرم
في بيته ثم سمع الإقامة؛ وهو يعلم أنه لا يدركها فلا يقطع وليتماد. ابن يونس: لأنه ليس بصلاتين معا، وقد قال تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} .
ولما كان اجتماع المصلين على رجل يصلي بهم مطلوبا لخبر: (إذا أردتم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم
(1)
)، وكان الإمام من توفرت فيه شروط بعضها للصحة، وبعضها للكمال بين ذلك مبتدئا بشروط الصحة؛ وهي أحد عشر مشيرا إليها بذكر أضدادها عملا بقولهم:
........................................
…
وبضدها تتبين الأشياء
فقال: وبطلت باقتداء بمن بان كافرا؛ يعني أنه إذا اقتدي بشخص فظهر في الصلاة أو بعدها أنه كافر -والعياذ بالله تعالى- فإن صلاة المقتدي تبطل. ومعنى بان: ظهر. المازري: الفقهاء كلهم مجمعون على بطلان صلاة من صلى مؤتما بكافر، وإن كان لم يعلم بكفره كالحاكم بشهادة كافر ينقض حكمه، وإن لم يعلم بكفره، بخلاف ما إذا حكم بشهادة غير عدل، فإنه معذور بخطئه، ولا ينقض حكمه، وتردد بعض أصحابنا في الزنديق. وقوله:"كافرا"؛ يعني بأي أنواع الكفر، وقوله:"كافر"، الصواب أنه حال: وإنما بطلت صلاة المقتدي بكافر، لقوله صلى الله عليه رسلم:(أئمتكم شفعاؤكم فاختاروا من تستشفعون به)، والشفيع لابد أن يكون مقبولا عند، المشفوع عنده والكافر ليس بمقبول عند الله عز وجل: فلا يكون إماما. وسواء في ذلك أسر أو جهر، عاد للإسلام أم لا، وفي ابن عرفة: وفي إعادة مأموم كافر ظنه مسلما أبدا مطلقا، وصحتها فيما جهر فيه إن أسلم. ثالثها إن كان آمنا وأسلم ولم يعد الأول لسماع يحيى رواية ابن القاسم مع قوله: وقول الأخوين، والثاني لابن حارث عن يحيى وسحنون، والثالث للعتبي عن سحنون، ونقله عنه المازري دون قيد إن كان آمنا. قال: وتأول قوله: "إن أسلم"، بأنه تمادى على إسلامه، وتعقبه بعضهم بأنه صلى جنبا جهلا. وفي قتله إن لم يسلم؛ أي لم يتماد على إسلامه، ونكاله، وطول سجنه. ثالثها، إن كان آمنا لا عذر له، وعلى هذا الثالث اختلف؛ هل يصدق في دعوى
(1)
مجمع الزوائد، ج 1 ص 67.
العذر أم لا؟ انتهى وظاهر ابن رشد: ترجيح القول بإسلامه بالصلاة فيكون مرتدا إن رجع عنه، وذالك أنه قال: بعد قول العتبية: سئل مالك عن الأعجمي، يقال له: صل فيصلي ثم يموت؛ هل يصلى عليه؟ قال: نعم، ما نصه: هذا كما قال؛ لأن من صلى فقد أسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله تعالى، ومن أبى فهو كافر وعليه الجزية). انتهى.
ولما ذكر ابن ناجي الخلاف، هل يقتل إن لم يسلم أو ينكل، قال: وهذا الخلاف عندي ضعيف لنقل إسحاق بن راهويه: أجمعوا على أن من رأيناه يصلي أن ذلك دليل على إيمانه انتهى. وبه تعلم ما في قول الزرقاني: ولا يكون بصلاته مسلما. انظر حاشية الشيخ بناني. وقال عبد الباقي: ولا يكون بصلاته مسلما، ولو صلى بمسجد خلافا لأبي حنيفة، معللا بأنه من شعار الإسلام، وهذا حيث لم يقم الصلاة أو يتحقق منه فيها النطق بالشهادتين، وإلا فمسلم ويصح الاقتداء به إن أقامها، لا إن نطق بهما في تشهده لتقدم جزء منها؛ وهو كافر كما أنه يكون مسلما بأذانه على ما تقدم، وكذا إذا كثرت منه الصلاة فإنه يحكم بإسلامه كما في المقدمات، بخلاف تكرر الصوم والحج والزكاة، وانظر ما حد الكثرة ثم حيث لم يحكم بإسلامه في فرض المصنف ينكل ويطال سجنه عند ابن القاسم كان آمنا على نفسه أم لا، وهذا القدر لا يستفاد من قوله في الردة، وقبل عذر من أسلم وقال أسلمت عن ضيق إن ظهر؛ كأن توضأ وصلى. انتهى. وقال الشيخ الأمير: وتكرر الصلاة لا غيرها إسلام، والظاهر أن التكرر بما يرف به عادة. انتهى. واعلم أن الذي مال إليه ابن عرفة: أنه لا يشترط في الإمام أن يكون بشرا، فيصح الاقتداء بالملائكة والجن، والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الملائكة لكنا لا نعلم عين ما كلفوا به، وقوله: كافرا أي متفقا على كفره بدليل قوله: وأعاد بوقت في كحروري، قاله الشيخ إبراهيم: وقال الشيخ الأمير: وصح اقتداء بملَك وجني، وحَمْلُ صلاة جبريل صبيحة الإسراء على أنه صورة إمامة للتعليم، بَعِيدٌ كما في كبير التتائي. وفي الرماصي عن الوانوغي: منع نكاح الجنية، لقوله تعالى:{جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} ولا يخفى عدم نصِّيَّته. انتهى.
أو امرأة؛ يعني أنه إذا اقتُدِي بشخص فظهر أنه؛ أي المقتدى به امرأة، فإن صلاة المقتدي باطلة كان المقتدي ذكرا أو أنثى، كانت الصلاة فريضة أو نافلة، وتبطل صلاة المقتدي بامرأة ولو مع فقد رجل يؤم، وتصح صلاتها هي وظاهره ولو نوت الإمامة. وقال الشيخ الأمير: ولا تضرها نية الإمامة إلا لتلاعب. انتهى. وفي الحديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة
(1)
)، وما ذكرته من العموم هو المشهور: وروي عن مالك تؤم المرأة النساء؛ (لأنه صلى الله عليه وسلم أمر أم فروة أن تؤم النساء
(2)
).
أو خنثى؛ يعني أن من اقتدى بشخص فظهر أنه أي الإمام خنثى يريد مشكلا، تبطل صلاته أي المأموم المقتدي بالخنثى، وتبطل صلاة المقتدي به ولو كان خنثى، وسواء اعتقد المأموم ذكورته أو إشكاله، ولو اتضحت ذكورته بعد ذلك في الأخيرة؛ أي حيث اعتقد إشكاله. وأما إن اعتقد ذكورته، في حال الاقتداء واتضح بعد ذلك ذكورته، فلا وجه للبطلان. وتصح صلاة الخنثى الإمام، وأما الخنثى غير المشكل فله حكم ما اتضح أنه منه، ولا يرث الخنثى المشكل من الولاء شيئا، وقوله:"فله حكم ما اتضح" الخ؛ أي فإن اتضحت ذكورته حكم له بحكم الرجال، فيصح الاقتداء به، وإن اتضحت أنوثته حكم له بحكم المرأة فيعيد المقتدي به أبدا، وقال صاحب الكافي: ولا تجوز إمامة الخنثى بحال، وقال ابن بشير: له حكم الأنثى، فلذا لا يرث من الولاء شيئا.
ومجنونا؛ يعني أنه إذا اقتدي بشخص فظهر أنه مجنون، فإن صلاة المقتدي باطلة حيث كان مطبقا، أو كان يفيق وأمَّ حالة جنونه لا حالة إفاقته فتصح، وإنما بطلت صلاة المقتدي بالمجنون لارتفاق على عدم صحة الائتمام بكل من ليس حاضر العقل، وصلاة المجنون باطلة كالسكران ولو بحلال، سمع ابن القاسم: لا يؤم المعتوه. سحنون: ويعيد مأمومه. ابن عبد الحكم: لا بأس بإمامة المجنون حال إفاقته، ويطلب علمه بما لا تصح الصلاة إلا به. قاله المواق، والمعتوه هو
(1)
البخاري، كتاب المغازي، رقم الحديث 442.
(2)
(ينظر) أبو داود، رقم الحديث:592.
الذاهب العقل، وللشيخ علي الأجهوري. ومن تبعه هنا كلام غير ظاهر، حيث قال: ببطلان صلاة المقتدي بالمجنون إذا أم في حال إفاقته. والله أعلم.
أو فاسقا بجارحة؛ يعني أنه تبطل الصلاة باقتداء بمن بان فاسقا بجارحة، "والباء" في قوله:"بجارحة"، للاستعانة، ككتبت بالقلم، والفسق هو الخروج عن طاعة الله تعالى، بارتكاب الكبائر. وإنما بطلت صلاة المقتدي بالفاسق بجارحة، لما ورد من:(أئمتكم شفعاؤكم). والفاسق غير صالح للشفاعة، وهذا يغني عن قوله: بمن بان كافرا، على أنه قال في التوضيح: ولا ينبغي أن يعد من شروط الإمامة إلا ما كان خاصا بها، فلا يعد الإسلام ولا العقل؛ لأنهما شرط في مطلق الصلاة، وما ذكره المصنف من بطلان صلاة المقتدي بالفاسق هو الذي شهره ابن بزيزة. وقد علمت أن الفسق هو الخروج عن طاعة الله تعالى بارتكاب الكبائر، والرتكب كبيرة كعاق، وقاذف، وغاصب، ومن طلق زوجته ثلاثا وأقام معها، وسارق، وقاتل، وزان، ولائط، وكاشف لعورته بين يدي من لا يجوز له النظر إليها، وأخذ المرتبات من جباة الخازن كمكاس، ودفع دراهم لزوجته تدخل بها الحمام مع نساء متجردات، وإمامة، أو كتابة لظالم. قال الشيخ عبد الباقي: ولعل المراد كما يفيده نقل المواق: كتابة ما يظلم فيه، لا كتابة كتاب بأجرة، وسأل إنسان عطاء، فقال: إن لي صاحب سلطان يكتب ما يدخل وما يخرج أمين على ذلك إن ترك قلمه صار عليه دين، قال: أو ما تقرأ: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} ، لِيَرْمِ بقَلَمه، فإن الله آتيه برزقه. واعلم أن الصغيرة لا يفسق بها إلا مع الإصرار لانقلابها حينئذ كبيرة.
فائدة: اعلم أن استحلال المعصية كفر صغيرة أو كبيرة، وكذا الاستهانة بها -كما يأتي قريبا- وفي المنذري في ترجمة الترهيب من ارتكاب الصغائر ما نصه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم ومحقرات الذنوب، وفي حديثه: وهي الموبقات
(1)
)، وروي غير هذا، وبهذا تعلم أن لا يتهاون بالصغيرة خلاف ما يقوله بعض الجهلة، ويأتي قول بعض المعتزلة: لا يقع التعذيب
(1)
الترغيب والترهيب ج 3 ص 248/ 249.
بالصغائر إذا اجتنبت الكبائر، للآية الكريمة، ويأتي الجواب عن قوله. واعلم أن المعتمد خلاف ما للمصنف؛ إذ لا يكون أسوأ حالا من المبتدع، فتصح مع الكراهة إذا كان فسقه غير متعلق بالصلاة، وإلا بطلت خلفه ككبر بإمامة. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: الذي ارتضاه التونسي واللخمي، وارتضاه القباب: وصوبه ابن يونس: صحة الاقتداء بالفاسق بالجارحة، وهو المعتمد، كما قال الشبيبي. وما ينبغي للمصنف العدول عن المرتضى عند هؤلاء إلى تشهير ابن بزيزة، ويدل للصحة قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا خلف كل مسلم برا كان أو فاجرا
(1)
): ثم قال: لكن يحرم الدخول معه ابتداء، ويحرم عليه أن يتقدم للإمامة مع علمه بفسق نفسه. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: اعلم أن الذي يتعلق فسقه بالصلاة إن تحقق أو غلب على الظن حال التلبس بالصلاة أنه ذو مانع من صحتنها بطلت الصلاة خلفه باتفاق، وإن شك في ذلك فمقتضى كلام ابن عرفة صحتها، ومقتضى ما للقباب البطلان. انتهى.
وبما قررت علم أن المعتمد مقيد بالكبيرة غير المتعلقة بالصلاة كالتهاون بشروطها ونحو ذلك. وعلم مما قررت أيضا أنه يطلب في الإمام عدم الفسق.
وحكى ابن عرفة في إمامة الفاسق ستة أقوال: فقال وفي إعادة مأموم الفاسق في الوقت أو أبدا، ثالثها إن تأول، ورابعها إن كان واليا أو خليفة لم يعد، وإلا أعاد أبدا. وخامسها إن خرج فسقه عن الصلاة أجزأت وإلا أعاد أبدا، وسادسها لا إعادة؛ الأول لنقل ابن راشد مع اللخمي؛ والثاني لابن وهب مع مالك؛ والثالث للأبهري؛ والرابع لابن حبيب، والخامس للخمي؛ والسادس للباجي. وحكى ابن ناجي في شرح المدونة الأقوال الستة، ثم قال: وظاهر كلامهم أن الذي يغتاب كغيره، فلا يصلى خلفه، وإن وقع ونزل ففيه الخلاف كغيره. قاله الإمام الحطاب. وفيه ناقلا عن بعض العلماء: وأما الفاسق بالجوارح فإن علم من عادته التلاعب بالصلاة وشروطها وعدم القيام بها. فينبغي أن لا يختلف المذهب في بطلان صلاة من ائتم به، فغلبة الظن على بطلان صلاته، ولا يصلى خلف المشهور بالكذب والبهتان، وأما القاتل عمدا فلا تنبغي الصلاة
(1)
الدارقطني، ج 2 ص 56.
خلفه. وعن ابن حبيب: وإن تاب. والمستحب عندنا إذا أمكن من نفسه، وعفي عنه، وحسنت توبته، أن يصلى خلفه. وإلا فلا يصلى خلفه. انتهى. وفيه بعد جلب نقل: أن الظاهر من جل فتاويهم عدم الإعادة في الصلاة خلف الفاسق بالجارحة؛ وهو ظاهر المدونة عند بعضهم، وأما اختيار اللخمي الفرق بين أن يكون فسقه متعلقا بالصلاة أو لا، فيحتمل أن يكون خلافا. وإليه أشار بعض شيوخنا، ومنهم من استبعد فيه الخلاف انتهى. ابن العربي: أما عامة الناس فلا يمكنوا من التخلف عن الجماعة، ولا حجة لهم في إمامهم أن يكون غير رضى عندهم، فإنه مثلهم، وإذا كان إمامك مثلك وتقول: لا أصلي خلفه، فلا تصل أنت إذا، فإن ما يقدح في صلاتك يقدح في صلاته، وما تصح به صلاته تصح به صلاتك، ولو لم يتقدم اليوم للإمامة إلا عدل لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا. وقال القباب: أعدل الذاهب أنه لا يقدم الفاسق للشفاعة والإمامة، ومن صلى خلفه لا إعادة عليه إن كان يتحفظ على أمور الصلاة. قاله المواق.
وحجة من قال إن الصلاة تجزئ خلف الفساق من الأمراء أن منع الصلاة معه داع إلى الخروج عن طاعتهم، وسبب إلى الفتن، وقد صلى ابن عمر خلف الحجاج. وقال القباب في كلام أبي إسحاق ما يشعر بجواز إمامة شارب الخمر؛ إذا لم يسكر، وكانت ثيابه طاهرة، وغسل فاه، ولم يعتبروا ما في الجوف. وربما أعطى كلام ابن حبيب هذا المعنى، وقال سند: لما تعذر عليه رفع النجاسة صار كمن أراق الماء عامدا وصلى بالتيمم، فإنه آثم مع صحة صلاته، وهل يلزمه أن يتقيأ أم لا؟ خلاف بين الشافعية. قاله المواق، وفيه عن ابن العربي: أن الرجل الفاضل لا يؤخذ عليه في مشيه إلى السلطان الجائر فيما يحتاج إليه، وفيه عنه أيضا: أن الذنوب صغيرة لا أصغر منها؛ وهي النظر، وكبيرة لا أكبر منها؛ وهي الكفر، وما بينهما مختلف حكمه. وقال ابن القطان: جناية البصر تكفرها الطاعات. وقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. مكفَّرًا بالوضوء، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأ العبد المؤمن خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء
أو مع آخر قطرة من الماء
(1)
). انتهى. وفي الإعلام: وأجاب ناصر الدين فيمن تخرج زوجته بادية كعادة أهل البادية أن ذلك جرحة في شهادته وإمامته، وأنه لا تعطى له الزكاة، وأجاب الزواوي بصحة ذلك إن قدر على منعها، وإلا فلا، وأجاب العقباني: من صلى خلفه لا إعادة عليه، وأمر بأن يأمر أهله بالستر، فإن فعل صلوا خلفه وإلا ترك.
تنبيهات الأول: اعلم أنه اختلف في الكبيرة على ستة أقوال: فقيل: هي ما توعد عليه بخصوصه في الكتاب أو السنة، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الآية، وقيل: هي ما فيه حد كالزنى والسرقة، قال الرافعي: وهم إلى ترجيح هذا أميل، وقيل: هي ما نص الكتاب على تحريمه، كقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} . الآية. أو وجب في جنسه حد، وقيل: إنها أخفيت ليكون الناس من اجتناب جميع المنهيات على حذر مخافة الوقوع فيها، وقال الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائني، والشيخ الإمام والد صاحب جمع الجوامع: هي كل ذنب، ونَفَيَا الصغائر نظرا إلى عظمة من عُصِي بذلك وقيل: وهو المختار، وفاقا لإمام الحرمين إنها كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، ورقة الديانة، ونظم هذه الأقوال الإمام السيوطي، فقال:
(1)
مسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث:244. ولفظه: إذا توضأ العبد المسلم -أو المؤمن- فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء.
وفي الكبيرة اضطراب إذ تحد
…
فقيل: ذو توعد، وقيل حد
وقيل: ما في جنسه حد وما
…
كتابنا بنصه قد حرما
وقيل: لا حد لها بل أخفيت
…
وقيل: كل والصغار نفيت
والمرتضى قول إمام الحرمين
…
جريمة توذننا بغير مين
بقلة اكتراث من أتاه
…
بالدين، والرقة في تقواه
كالقتل، والزنى، وشرب الخمر
…
ومطلق المسكر، ثم السحر
والقذف، واللواط، ثم الفطر
…
ويَأسِ رحمةٍ، وأمن المكر
والغصب، والسرقة، والشهادة
…
بالزور، والرشوة، والقياده
منع الزكاة، ودياثة، فرار
…
خيانة في الكيل، والوزن ظهار
نميمة، كتم شهادة، يمين
…
فَاجِرَةٍ، كَذْب على النَّبي يَبين
وسب صحبه، وضرب المسلم
…
سعاية، عقوق، قطع الرحم
حرابة، تقديمه الصلاة، أو
…
تأخيرها، ومال الأيتام رووا
وأكل خنزير، وميت، والربا
…
والغل، أو صغيرة قد واظبا
قوله: القيادة: القواد: الذي يجمع بين الرجال والنساء بالحرام، فهو أعم من الديوث؛ لأنه خاص بالأهل. والسعاية هي أن يذهب بشخص إلى ظالم ليؤذيه بما يقوله في حقه، وفي حديثٍ (الساعي مثلث
(1)
)؛ أي مهلك نفسه، والمسعي به وإليه.
الثاني: الكبائر تجب منها التوبة اتفاقا، وفي الصغائر ثلاثة أقوال: الأول أنها تفتقر للتوبة، قاله القاضي عبد الوهاب؛ وهو ظاهر قول الرسالة، والتوبة فريضة من كل ذنب، وهو ظاهر قول ابن عاشر:
(1)
النهاية، ج 2 ص 37.
وتوبة من كل ذنب يجترم
…
................................................
قال أبو بكر بن الطيب: وهو المشهور. الثاني: أنها لا تفتقر إلى توبة، بل توبتها اجتناب الكبائر لقوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} ، وهو قوله في أول الرسالة وغفر الصغائر باجتناب الكبائر. الثالث: أنها إن كانت منوطة بالكبيرة، كالقبلة لمن أراد الزنى ثم تاب منها غفرت باجتناب الكبيرة، وإن كانت منفردة مستقلة بنفسها افتقرت إلى التوبة، وهل تكفير الصغائر باجتناب الكبائر على القول به قطعي، أو ظني؟ قولان. قاله الشيخ ميارة. وقال النسفي في العقائد: ويجوز العقاب على الصغيرة، وقال السعد في شرحه: سواء اجتنب مرتكبها الكبيرة أم لا، لدخولها تحت قوله، تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، ولقوله:{لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} . والإحصاء إنما يكون للسؤال والمجازاة إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث، وذهب بعض المعتزلة إلى أنه إذا اجتنب الكبائر لم يجز تعذيبه، لا بمعنى أنه يمتنع عقلا، بل بمعنى أنه لا يجوز أن يقع لوقوع الأدلة السمعية على أنه لا يقع، لقوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} . وأجيب بأن الكبيرة المطلقة هي الكفر؛ لأنه الكامل وجمع الاسم بالنظر إلى أنواع الكفر، فإن الكل ملة واحدة في الحكم، أو إلى أفراده القائمة بأفراد المخاطبين على ما تمهد من قاعدة: أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد بالآحاد، كقولنا: ركب القوم دوابهم، ولبسوا ثيابهم، وقال السعد أيضا: واستحلال المعصية بمعنى اعتقاد حلها كفر صغيرة أو كبيرة، وكذا الاستهانة بها؛ بمعنى عدها هينة ترتكب من غير مبالاة.
الثالث: قال الشيخ ميارة: الكبيرة والصغيرة نسبة وإضافة، وإلا فكل ذنب فهو كبير، فتسمية بعض الذنوب صغائر إنما هو لتكفيرها باجتناب غيرها مما هو أكبر منها، فكلها كبائر وبعضها أكبر من بعض، ولهذا لم يأت في الشرع لفظ يحصرها في عدد معين، وإنما ذلك ليكونوا في اجتناب جميع المنهيات على حذر ليلا يواقعوها، وما ورد في الأحاديث من تسميتها بالسبع
الموبقات، لا يدل على حصرها في سبع، ولهذا قال ابن عباس: هي إلى السبعين، وروي إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع. انتهى.
قال جامعه عفا الله تعالى عنه: ولعل هذا هو قول الأسفرائني، ووالد صاحب جمع الجوامع مع أنه يمكن الفرق بينهما. والله سبحانه أعلم.
الرَّابع: لا خلاف بين أهل السنة أن التوبة تصح من بعض الذنوب دون بعض، وإذا تذكر المذنب الذنب، فهل يجب عليه تجديد الندم أم لا؟ قولان للقاضي، وإمام الحرمين، قائلا: يكفيه أن لا يبتهج ولا يفرح عند تذكره، وهل توبة الكافر نفس إسلامه، أو لابد من الندم على الكفر؟ فأوجبه الإمام. وقال غيره: يكفيه إيمانه؛ لأن كفره ممحو بإيمانه، وإقلاعه عنه، قال تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} . واعلم أن الذنب إن كان حقا لله تعالى فيكفي الندم والإقلاع، ويشرع في قضاء الفوائت كالصلاة والصيام وشبه ذلك، وإن كان حقا لآدمي وجب عليه رده إن كان مالا، والتحلل منه إن كان عِرْضا، فإن لم يجده ولا وجد أحدا من ورثته، فإنه يستغفر الله ويتصدق عليه، وإن كان نفسا وجب عليه تسليم نفسه للأولياء إن أمكن ذلك، فإن لم يفعل مع الإمكان فمذهب الجمهور صحتها، وهذه معصية أخرى يجب عليه أن يتوب منها. وقيل: لا تصح، وهو مرجوح.
الخامس اعلم أن التوبة على قسمين: واجبة من المحظور، ومندوبة من المكروه. الواسطي: كانت التوبة في بني إسرائيل بقتل النفس، كما قال تعالى:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . قال: فكانت توبتهم إفناء نفوسهم، وتوبة هذه الأمة أشد؛ وهي إفناء نفوسهم عن مرادها مع رسوم الهياكل. ومثله بعضهم بمن أراد كسر لوزة في قارورة لكن ذلك يسير على من يسره الله عليه انتهى. نقله الشيخ ميارة.
السادس: اعلم أن الأنبياء كلهم معصومون من الذنوب صغيرها وكبيرها، عمدها وسهوها قبل النبوءة وبعدها، في سائر الحركات والسكنات في الباطن والظاهر، في السر والعلانية، في الجد والهزل والرضى والغضب، وقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على اتباع النبي صلى الله عليه
وسلم والتأسي به في كل ما يفعله من قليل وكثير وصغير وكبير، لم يكن عندهم في ذلك توقف حتى في السر والخلوة، علم بهم أو لم يعلم. وما حكي من الخلاف في عصمة الأنبياء من الصغائر بعد البعثة في غاية الضعف بل هو ساقط، بل ألزم قائلوه خرق الإجماع وما لا يقول به مسلم. وأما قوله تعالى:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} . فعن ابن عباس رضي الله عنهما وآخرين صحابة وتابعين أن معناه: ووجدك ضالا عما آتاك من معالم النبوءة فهداك إليها، وقوله تعالى:{وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} . فمعناه خففنا أعباء النبوءة التي أثقلت حقوقها والقيام بموجباتها ظهرك، حتى كاد أن يكون له نقيض أي صوت، أو رفعنا عنك أوزار أمتك التي أثقل ظهرك خوف غايتها حتى أمنك الله ذلك في العاجل، بقوله. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} ، وقوله تعالى:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ} . الآية. أي أنت غير مؤاخذ بذنبك أن لو كان، والمراد ذنوب أمته. انظر المنح المكية في شرح الهمزية.
أو مأموما؛ يعني أن الصلاة تبطل باقتداء بمن بان مأموما لفقد شرط عدمي؛ وهو عدم تبعية الإمام لغيره في تلك الصلاة، كمن قام يقضي ركعة فاتته مع الإمام فائتم به شخص آخر، فتبطل صلاته. وكمن صلى بمقتد بإمام يظنه غير مقتد، وليس من ذلك من أدرك مع إمام دون ركعة؛ فإند يصح الاقتداء به في تلك الصلاة. كما مر. أو محدثا؛ يعني أن الصلاة تبطل بمن بان محدثا لعدم شرط الطهارة، وهذا إن تعمد الإمام الحدث في الصلاة: أو الصلاة محدثا ابتداء أو بعد ذكره في أثنائها وتمادى جاهلا، أو مستحييا ولم يعلم المؤتم بحدثه لا إن سبق أو نسيه، فلا يطلب المأموم بإعادتها فذا ولا جماعة -كما مر-. قال الشيخ عبد الباقي: ولو تبين أن المأموم محدث، فهل يعيد الإمام في جماعة نظرا لما تبين أو لا؟ نظرا لعدم وجوب نية الإمامة، وإن نواها قولان ذكرهما الأقفهسي، ولم يطلع عليهما المصنف، فنظر في المسألة. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: هذا قصور، فإن أصل التنظير للتونسي كما نقله ابن عرفة، ونصه التونسي ولا يعيد مأموم بناسي حدثه لحصول حكم الجماعة لصحتها له جمعة كذلك، وفي إعادة الإمام في العكس نظر. المازري: لا نظر فيه مع قبوله الأول؛ لأنه والعكس سواء. ابن عرفة: بل النظر متقرر لاحتمال كون العكس أحرى فضلا عن كونهما سواء؛ لأن عمد الحدث فيهما يبطلها على غيره [في الأول لا العكس
(1)
]،
(1)
في الأصل: في الأولى للعكس، والمثبت من بناني ج 2 ص 11.
ويحتمل الفرق بأن لزوم نية الاقتداء للمأموم اللزومة للجماعة تثبتها له وعدم لزومها للإمام يلغيها. انتهى.
أو علم مؤتمه؛ يعني أن الصلاة تبطل باقتداء بمن بان محدثا ولم يتعمد الحدث بل نسيه لكن علم بحدثه قبل الصلاة، فدخل معه ناسيا لتفريطه، أو علم به فيها، وعمل معه عملا بعد علمه، فإن علم بحدثه بعد الصلاة أو فيها ولم يعمل معه عملا بعد علمه صحت، فحكم من علم بحدث إمامه في الصلاة كحكم من رأى النجاسة في ثوب إمامه، وظاهر المصنف بطلانها بعلمه بحدثه قبلها أو فيها، سواء فيهما تبين حدثه أو عدمه أو لم يتبين شيء؛ وهو كذلك، وهذه ست. والمراد بالعلم الاعتقاد، وكذا شكه قبلها، ثم تبين حدثه أو عدمه أو لم يتبين شيء، فإن شك فيها في حدث إمامه تمادى، وتبطل إن تبين حدثه أو لم يتبين شيء لا إن تبين عدم حدثه، قياسا على، وإن شك في صلاته الخ، وهذه ست أيضا فتبطل على المأموم في إحدى عشرة، وتصح في واحدة. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. ومن المدونة: وإذا صلى الجنب بالقوم ولم يعلم ثم تذكر وهو في الصلاة استخلف، وإن لم يذكر حتى فرغ فصلاة من خلفه تامة ويعيد هو وحده، وإن صلى بهم ذاكرا للنجاسة فصلاتهم كلهم فاسدة، وكذلك إن ذكر في الصلاة فتمادى بهم جاهلا أو مستحييا فقد أفسد عليهم. قاله المواق.
وما ذكره المصنف من أنه يشترط في بطلان صلاة المأموم أن يتعمد إمامه الحدث، أو يعلم هو به. هو المشهور. وقيل إنها باطلة. قاله أبو بكر الأبهري. وقال ابن الجهم: إن قرءوا خلفه أجزأتهم، وإن لم يقرءوا لم تجزهم، ويجري فيها قول بعدم الإجزاء، وإن قرءوا قياسا على أحد قولي ابن القاسم فيما إذا ذكر الإمام منسيَّة. انتهى. بالمعنى قال سند بعد ذكره قول ابن الجهم: والمذهب أنها تجزئهم من قرأ ومن لم يقرأ؛ لأن ما يتعلق بالصلاة من طهارة الإمام إنما يبنى في حقهم على حكم اعتقادهم، فإن اعتقدوا فساد طهارته ثم ائتموا به لم تجزهم صلاتهم، وإن كانت طهارته صحيحة، فكذا إذا اعتقدوا صحتها تجزئهم صلاتهم، وإن كانت طهارته باطلة. قاله الإمام الحطاب. وقال ابن عطاء الله: واختلف في صلاة المأموم، هل هي مرتبطة بصلاة الإمام، أم لا؟ على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها مرتبطة بصلاة الإمام متى فسدت فسدت عليهم. قاله ابن
حبيب. الثاني: أن كل مصل يصلي لنفسه. الثالث: قول مالك أن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام إلا في سهو الطهارة، وأما لو نسي الإمام النية أو تكبيرة الإحرام فلا تجزئهم، ولو ذكر الإمام بعد فراضه من الصلاة أنه لم يقرأ في جميع صلاته، أعاد هو ومن خلفه أبدا والفرق أن القراءة من نفس الصلاة بخلاف الوضوء والغسل وأيضا فإن القراءة يحملها عنهم ولا يحمل الطهارة، ولأن الأصل أن كل ما أفسد صلاة الإمام أفسد صلاة المأموم، وخرج عن ذلك من ذكر أنه محدث وبقي من عداه، وإن صلى الإمام بالنجاسة ناسيا، ولم يعلم هو ولا من خلفه صحت له ولهم، ويعيد هو في الوقت. ويختلف في إعادتهم على الخلاف المتقدم في الإعادة خلف. الجنب، فعلى المشهور لا يعيدون، وعلى قول ابن الجهم يعيدون إن لم يقرءوا، ولكن الإعادة هنا في الوقت، ومن علم حُكمُه حُكْمُ من تعمد الصلاة بالنجاسة، ومن ذكر في ثوبه نجاسة الجاري على قول ابن القاسم: يقطع ويقطعون: وقيل: يستخلف كذاكر الحدث. قاله الإمام الحطاب. ابن عرفة: لو تعمد إمام قطع صلاته أو خروجه منها -يريد بكلام أو حدث أو غيره- ثم عمل شيئا بطلت عليهم، وإن لم يعمل شيئا ففي بطلانها عليهم نقلا اللخمي عن ابن القاسم وأشهب؛ وهو كذلك في تبصرة اللخمي. قاله الإمام الحطاب. ولنقل ابن رشد أنها تصح عند أشهب وابن عبد الحكم، فيما إذا أحدث الإمام وتمادى بهم متعمدا أو جاهلا أو مستحييا، مراعاة لقول أبي حنيفة: إن الرجل إذا جلس مقدار التشهد تمت صلاته وخرج منها وإن لم يسلم. قاله الإمام الحطاب. وفي الحطاب عن ابن رشد أن مذهب الإمام مالك وأصحابه: أن الإمام إذا قطع صلاته متعمدا أو أحدث فيها متعمدا أو تمادى فيها بعد حدثه متعمدا أنهم بمنزلته فيما يجب عليه من الإعادة في الوقت وبعده حاشا أشهب وابن عبد الحكم فإنهما ذهبا إلى أنه إذا كان على غير وضوء متعمدا، أو أحدث وتمادى متعمدا أنه لا إعادة عليهم انتهى. وسمع يحيى ابن القاسم: إن أطاق من رأى في ثوب إمامه نجاسة أن يريها إياه فعل، وإن لم يطق وصلى معه، أعاد أبدا، وإن لم يعد إلا في الوقت أجزأه. ابن رشد: قوله فعل، يريد فيخرج الإمام ويستخلف، ويتمادى هو مع المستخلف على صلاته إلا أن يكون عمل معه عملا بعد أن رأى النجاسة. وقوله: وإن لم يعد إلا في الوقت أجزأه، مراعاة لمن يقول: إن صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام مع ما في أصل
المسألة من الخلاف، فقد روي عن أشهب: لا إعادة على من صلى بثوب نجس عامدا؛ وهو ظاهر المدونة فيمن مسح موضع المحاجم، وذهب ابن المعذل إلى مذهب أشهب. قاله المواق. وقوله: إن أطاق، قد مر قول ابن حبيب: أنه يدنو من الإمام فيخبره بأن في ثوبه -مثلا- نجاسة، وقال يحيى بن يحيى: له أن يخرق الصفوف إليه، ثم يرجع إلى الصف، ولا يستدبر القبلة في رجوعه. وقيل: إن قدر أن يفهم الإمام أنه على غير وضوء، أوأن في ثوبه نجاسة، بأن يتلو آية المدثر أو آية الوضوء، وهو قول الأوزاعي. قاله المواق.
واعلم أن الصلاة تبطل باقتداء بمعيد في الوقت؛ أي معيد لأن ذمته قد برئت، فهو كمتنفل أمَّ مفترضين، وسواء كان فذا أو إماما أو مأموما في الصلاة التي برئت ذمته بها. أشار له الشيخ إبراهيم، وهو واضح.
وبعاجز عن ركن عطف على قوله بمَنْ؛ يعني أن الصلاة تبطل باقتداء بعاجز عن ركن قولي كفاتحة، أو فعلي كركوع أو سجود، وكان الأولى أن يؤخر المصنف هذا عن قوله. أو علم لأجل الاستثناء. قاله الشبراخيتي. ومعنى قوله: أو علم أن الصلاة تبطل باقتداء بعاجز عن علم لا تصح الصلاة إلا به؛ وهو ما يلزمه من فقه الصلاة، ككيفية وضوء وغسل ونحو ذلك حقيقة أو حكما، كمعتقد أن الصلاة كلها فرائض أو سنن، أو الفرض سنة بخلاف العالم حكما فتصح خلفه؛ كمن أتى بها على الوجه الذي تصح به وإن لم يميز بين سننها وفرائضها وفضائلها كما قال زروق، حيث علم أنها فيها وأخذ وصفها عن عالم، لخبر: (صلوا كما رأيتموني أصلي
(1)
)، فلم يأمرهم إلا بفعل ما رأوا. وانظر لو اعتقد أن السنة فرض أو فضيلة أو الفضيلة سنة. انتهى. قال الشيخ عبد الباقي وقوله وانظر لو اعتقد الخ، تقدم البطلان إذا اعتقد أن الصلاة كلها فرائض. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ إبراهيم: قال الأقفهسي: ومن لم يميز بين الفرائض والسنن والفضائل في الوضوء والصلاة فإمامته وشهادته باطلان مطلقا، وكذا صلاته هو في نفسه إن وجد
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:631.
معلما، وقال العوفي: قال العلماء: من دخل الصلاة وأتى بها على الهيئة كما أمر الله من الركوع والسجود والقيام ولم يترك شيئا منها، فلما فرغ منها سئل عن فروضها وسننها وحكمها فلم يعرف شيئا من ذلك، بل قال: أفعل كما رأيت الناس يفعلون، فصلاته باطلة. وكذا من توضأ على أتم الهيئات، أو اغتسل من جنابة على أحسنها ولا يعرف من ذلك فرضا ولا سنة، فجنابته وحدثه باقيان عليه، وصلاته باطلة غير مقبولة، بل هو في جميع ما فعل آثم عاص لله عز وجل ولرسوله، وليس في ذلك بين أهل العلم خلاف، وكذلك الحج والصوم وسائر العبادات، ثم حكى عن الأشياخ فيمن اعتقد فريضة جميع أفعال العبادة من وضوء، أو صلاة، أو صوم، أو حج عدم اختلاف أهل العلم في بطلانها وحدثه باق عليه؛ وهو آثم عاص لله ورسوله لتباين أحكام الفرض والسنة من الجبر والإبطال وغيرهما. انتهى. وقال الشبيبي في شرح الرسالة: اختلفوا في صحة صلاة من لم يميز بين الفرائض والسنن بجهله على قولين، وعلى ذلك يختلف في صحة الائتمام. به انتهى. وقال الشيخ زروق: المشهور صحة صلاته. قاله الإمام الحطاب. وقال المواق: ولا يراد بالفقه هنا معرفة أحكام السهو، فإن صلاة من جهل أحكام السهو صحيحة إذا سلمت مما يفسدها، وإنما تتوقف صحة الصلاة على معرفة كيفية الغسل والوضوء، ولا يشترط تعيين الواجبات من السنن والفضائل، ولابن أبي يحيى: من لم يعرف تمييز الفرائض من غيرها إلا أنه يوفي بالصلاة، كما ذكر أبو محمد، فقال الشيخ: صلاته صحيحة: لأن جبريل صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الصلاة الكاملة بجميع فرائضها وفضائلها، نص عليه ابن رشد في الأجوبة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي
(1)
)، فلم يأمرهم بسوى فعل ما رأوا. انتهى.
إلا كالقاعد بمثله؛ يعني أن ما تقدم من أن الصلاة تبطل بالاقتداء بعاجز عن ركن، فيمتنع الاقتداء به لقوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ، إنما هو في غير اقتداء القاعد بمثله أي بمن هو قاعد، وأما اقتداء القاعد بمثله فهو صحيح بعد الوقوع، جائز ابتداء، وأتى بقوله:"فجائز"؛
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:631.
لأن الاستثناء لا يفيد إلا الصحة، والجواز أمر زائد على ذلك. قاله الشيخ عبد الباقي، وغيره. والاستثناء متصل، وسمع ابن القاسم: إن لم يستطيعوا في السفينة أن يقوموا صلوا قعودا وأمهم أحدهم. ابن رشد: وهذا كما قال؛ لأنهم كالمرضى. ابن القاسم: إذا لم يستطيعوا القعود وكان إمامهم لا يستطيع الجلوس فلا أعرف هذا، ولا إمامة فيه. ابن رشد: منع في الرواية من إمامة المضطجع المريض للمضطجعين المرضى، وسيأتي قول المصنف. وفي مريض اقتدى بمثله فصح قولان، قيل: يقوم فيتم لنفسه فذا، وقيل: يتم معه الصلاة وهو قائم، وثم قول ثالث أنه يقطع الصلاة كالأمة تعتق في الصلاة وليس معها ما يستر عورة الحرة. نقله الحطاب. عن ابن بشير. وقال عنه: وإن كان لا يقدر إلا على الإيماء فلا تصح إمامته بوجه. انتهى. وقوله: "إلا كالقاعد بمثله فجائز"، أدخلت الكاف الأخرس بالأخرس، والمشهور أن المومئ لا يؤم مثله في الإيماء، كما لا يؤم من يركع ويسجد، وقيل: يجوز اقتداء المومئ بالمومئ، وهو لابن رشد، والمازري.
واعلم أنه يمتنع اقتداء القائم بالجالس فرضا أو نفلا، لخبر: (لا يؤم أحدكم بعدي جالسا
(1)
)، ويجوز اقتداء الجالس بمثله لعجز كل منهما فرضا ونفلا، ولغير عجز يجوز في النفل كما يجوز في عجز الإمام في الفرض اقتداء التنفل به جالسا ولو قادرا على القيام.
ونظم الشبراخيتي هذا بقوله:
أجز صلاةَ جلوس خلفَ كَامِلَةٍ
…
وعكسُ هذا ولو في النفل ممتنع
إلا إذا جلس المأموم معْه بلا
…
عجز تجوز بنفل والسوى منعوا
وإن يكن منهما عجز فسو إذا
…
فرضا ونفلا ففيه الأمر متسع
(1)
البيهقي، ج 2 ص 80.
وأفتى ابن عرفة والقوري بصحة إمامة الشيخ القوس الظهر للسالمين، وقال البرزلي: وقعت، فأجريتها على إمامة صاحب السفن، والمشهور كراهة إمامته. وأفتى العبدوسي ببطلان صلاة المقتدين، به قال: لأنه راكع لا قائم. بدليل قول الشاعر:
أليس ورائي إن تراخت منيتى
…
لزوم العصى تحنى عليها الأصابع
أخبر أخبار القرون التي مضت
…
أدِبُّ كأني كلما قمت راكع
وقد لقي العبدوسي الشيخ الأديب أبا زيد فنظر إليه وقد انحنى ظهره: فقال له يستدعي منه الشعر بديهة:
لا تنحني يا شيخ لا تنحني،
فأنشد ارتجالا
يا سليل الكرام نفسي فداكا
…
قلت لا تنحني وأنت كذاكا
خفض الظهر فاعل الدهر منا
…
مع حال عدمت منها انفكاكا
ختم الله للجميع بخير
…
إنه قادر على فعل ذاكا
وفي الشبراخيتي: قال شيخنا في حاشيته: والمذهب فتوى العبدوسي، وهو ما مشى عليه المصنف. انتهى. وقال الشيخ الأمير: وعاجز عن ركن وإن مقوسا: وفاقا للعبدوسي، وخلافا للقوري. انتهى.
أو بأمي إن وجد قارئ؛ يعني أن صلاة الأمي تبطل فيما إذا اقتدى بأمي مثله إن وجد قبل الدخول في الصلاة قارئ، وتبطل عليهما معا على الأصح، فإن لم يوجد قارئ صحت به. وفي المواق: فإن ائتم به أميون صحت صلاتهم، وهذا إن لم يجدوا من يصلون خلفه ممن يقرأ، وخافوا ذهاب الوقت. انتهى. ولو اقتدى أمي بأمي فطرأ بعد إحرام المقتدي وجود قارئ، فإنه لا يقطع. كما قاله ابن عرفة. والمراد بالأمي هنا من لا يقرأ، وفي قوله تعالى:{النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} من لا يقرأ الخط ولا يكتب لبقائه على حال ولادة أمه. وقال الشيخ بناني: قال سند: ظاهر المذهب بطلان
صلاة الأمي إذا أمكنه الائتمام بالقارئ فلم يفعل، وقال أشهب: لا يجب الائتمام كالمريض الجالس لا يجب عليه أن يأتم بالقائم، واستدل له بالحديث: (يا رسول الله إنى لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا، فقال: قل سبحان الله
(1)
). الحديث. فلو كان الائتمام واجبا لأمره به. أو قارئ بكقراءة ابن مسعود؛ يعني أنه إذا اقتدى شخص بمن يقرأ بقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يخلط القرآن بالتفسير، فإن صلاة المقتدي باطلة لبطلان صلاة إمامه، ولو لم يوجد غيره؛ لأنه كمتكلم عمدا بكلام أجنبي، وأدخلت "الكاف" كل شاذ مخالف لرسم المصحف العثماني، كقراءة عمر: فامضوا إلى ذِكْرِ الله، فتبطل صلاة المقتدي بالقارئ بذلك لمخالفته مصحف عثمان المجمع عليه، وكذا من قرأ بما نسخ لفظه نحو: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما، فتبطل صلاته وصلاة المقتدي به، بخلاف من قرأ بما نسخ معناه ولم ينسخ لفظه، فلا فرق بينه وبين ما لم يقع فيه نسخ بالكلية، وأما الشاذ الموافق لرسم المصحف العثماني فلا تبطل صلاة المقتدي بالقارئ به، وإن حرمت القراءة به فتصح للمقتدي لصحتها للإمام، وذلك نحو:"أساء" في قوله تعالى: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} ، فإنه قرئ شاذا فعلا ماضيا مهمل السين، والرسم العثماني لا نقط فيه ولا شكل، وقرأه السبعة مضارعا بشين معجمة، وجميع من قرأ من الصحب بالشاذ سمعوه كذلك منه صلى الله عليه وسلم، فلذا ساغ لهم أن يقرأوا بما خالف الرسم العثماني، لكنهم لم يسمعوا منه بعد ذلك ما كان يعرضه على جبريل كل سنة في رمضان مرة، إلا عام موته فمرتين، وعثمان ومن معه حفظوا ما ثبت بعد العرض، فمصحف عثمان رضي الله عنه قطعي، وغيره خبر واحد لا قطعي. وفي كون الشاذ ما وراء السبعة أو ما وراء العشرة، رأيا ابن الحاجب، وابن السبكي وفي الشبراخيتي: قال في الحاشية: وكلام ابن السبكي هو الصحيح في الأصول، وكلام ابن الحاجب قول مرجوح في الأصول؛ وهذه مسألة أصولية. انتهى. واعلم أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقرأ ويفسر في غير الصلاة، وفيها لا يفسر كما نص عليه غير واحد. أو
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:832.
عبد في جمعة؛ يعني أنه لا يصح الاقتداء بالعبد في الجمعة ولو ذا شائبة -كما للشيخ الأمير- لعدم وجوبها عليه، فأشبه المتنفل وإن أجزأته عن الظهر مأموما، ومفهوم قوله:"في جمعة"، أنه يصح الاقتداء بالعبد في غير الجمعة؛ وهو كذلك لأنه كان لعائشة رضي الله عنها غلام يؤمها، وفي المدونة: قال مالك: لا يؤم العبد في حضر مساجد القبائل، ولا في جمعة أو عيد، وقال ابن القاسم: فإن أمهم في جمعة أو عيد أعادوا؛ إذ لا جمعة عليه ولا عيد: قال مالك: ولا بأس أن يؤم العبد في قيام رمضان: ويؤم في سفر إذا كان أقرأهم من غير أن يتخذ إماما راتبا. قاله المواق. وقال الشيخ عبد الباقي: وأما الاقتداء بالعبد في العيد فيصح على المعتمد، مع كراهة إمامته فيه وإن لم يكن راتبا. وسيأتي الكلام على إمامة العبد بأزيد مما هنا إن شاء الله تعالى عند قول المصنف:"وعبد بفرض" أو صبي في فرض؛ يعني أنه إذا اقتدى المكلف بصبي في فرض فإن صلاة المقتدي باطلة لفقد شرط البلوغ لأنه متنفل.
واعلم أن الصبي لا يتعرض في صلاته لنية نفل ولا فرض، وإنما ينوي فعل الصلاة وله أن ينوي النفل، فإن نوى الفرض، فهل تبطل لأنه متلاعب أولا؟ في ذلك رأيان؛ هذا في صلاته هو في نفسه، وأما من اقتدى به فصلاته باطلة على الإطلاق. ويجاب عن حديث عَمرو بن سَلمة -بفتح عين عمرو: وسين أول سلمة، وكسر لامه- حيث أم قومه بمنع كونها فرضا أو قضية عين، وقال بعضهم: بل كان بالغا قريب العهد بالبلوغ، وقال الإمام أحمد: حديث عمرو ليس بالقوي دعه. ومفهوم قوله: "فرض"، أن إمامة الصبي بغيره؛ أي الفرض. تصح للبالغين، وإن لم تجز لهم ابتداء، وأما إمامة الصبي للصبي فجائزة في الفرض والنفل -كما يأتي- على أن الفرض نافلة في حق الصبيان. والله سبحانه أعلم. وبما قررت علم أن قوله:"وإن لم تجز"، مبالغة في الصحة؛ أي تصح صلاة البالغ المقتدي بالصبي في النافلة، وإن كان اقتداؤه به فيها لا يجوز ابتداء: وهذا الذي ذكره المصنف من عدم الجواز هو المشهور. وفي المختصر جواز ذلك. ابن ناجي على الرسالة: والعمل عندنا بأفريقية استمر على جوازه في التراويح.
وهل بلاحن مطلقا؛ يعنى أن الشيوخ اختلفوا في صلاة المقتدي باللاحن على قولين مشهورين: أحَدُهُمَا أنه تبطل صلاة المقتدي به مطلقا في الفاتحة أو غيرها غيَّر المعنى، ككسر كاف إياك،
وضم تاء أنعمت أم لا، وجد غيره أم لا، كثر أو قل، ولو لحنة واحدة. ثانيهما: أشار إليه بقوله: أو في الفاتحة؛ يعني أن من الشيوخ من ذهب إلى أن اللاحن يصح الاقتداء به إلا أن يلحن في الفاتحة فتبطل صلاة المقتدي به، فلو كان يلحن في السورة لصحت صلاة المقتدي به، وبقي على المصنف أربعة أقوال. فالأقْوَالُ ستة: الاثنان اللذان ذكر المصنف.
ثالثها: إن غير المعنى بطلت وإلا فلا، كضم لام لله في الحمد لله. رابعها: أن ذلك مكروه واختاره ابن رشد. خامسها: يمنع ابتداء مع وجود غيره ويصح بعد الوقوع واختاره اللخمي.
سادسها وهو أضعفها: الجواز ابتداء والأرجح الصحة مطلقا لاتفاق ابن رشد واللخمي عليها وإن اختلفا في الحكم ابتداء، ودليل الصحة:(مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوالي وهم يقرءون ويلحنون، فقال: نعم ما تقرءون، ومر بالعرب يقرءون ولا يلحنون، فقال: هكذا أنزل). ولا تقيد هذه الأقوال بعدم وجود من يؤتم به، ولا بعدم إمكان المتعلم لضيق الوقت أو لعدم وجود معلم. لكن قيد القول بالمنع ابتداء مع الصحة بعد الوقوع بوجود غيره؛ وهو القول الذي اختاره اللخمي، كما مر.
قال الشيخ محمد بن الحسن: وحاصل المسألة أن اللاحن إذا كان عامدا بطلت صلاته وصلاة من خلفه باتفاق، وإن كان ساهيا صحت باتفاق، وإن كان عاجزا طبعا لا يقبل التعليم فكذلك لأنه ألكن، وإن كان جاهلا يقبل التعليم فهو محل الخلاف سواء أمكنه التعلم أولا، وسواء أمكنه الاقتداء بمن لا يلحن أولا، وأنَّ أرجح الأقوال فيه صحة صلاة من خلفه وأحرى صلاته هو. وأما حكم الاقتداء باللاحن فبالعامد حرام، وبالألكن جائز، وبالجاهل مكروه إن لم يجد من يقتدي به، وإلا فحرام -كما يدل عليه النقل- ولا فرق بين اللحن الجلي والخفي في جميع ما تقدم. قاله أبو علي. انتهى كلام الشيخ بناني. وهو تحرير عجيب، وجعل عبد الباقي من محل الخلاف أن يأتم باللاحن من هو أقرأ منه؛ بأن لا يلحن أصلا أو صوابه أكثر، قال بناني: هذا القيد إنما ذكره ابن يونس كما في الحطاب في القول الثاني عند المصنف، فَجَعْلُ عبد الباقي وعلي الأجهوري له من محل الخلاف، فيه نظر. انتهى. واعلم أن القول الأول من القولين الذين ذكر
المصنف للقابسي، وقاله بعض المتأخرين تأويلا على المدونة، قال في البيان: وهو بعيد في التأويل، غير صحيح في النظر. واحتج القابسي بظاهر قول مالك: لا يحسن القرآن ولم يفرق بين أم القرآن وغيرها، قال: وهو واضح كمن ترك قراءة السورة عمدا، وهذا القول شهره ابن الحاجب.
ابن رشد: معنى قوله في المدونة: لا يحسن القرآن؛ أي لا يحفظ ممه شيئا فلا يعرفه. والقول الثاني: وهو قوله أو في الفاتحة؛ أي كون الاقتداء باللاحن يصح إذا كان إنما يلحن في السورة، وأما إن لحن في الفاتحة فلا تصح صلاة المقتدى به غير المعنى أم لا، وجد غيره أم لا كثر أو قل لابن اللباد، ووافقه ابن أبي زيد، ورأى أن الإمام لا تصح صلاته أيضا. والقول الثالث: إليه ذهب ابن القصار وعبد الوهاب. والقول الرابع: وهو أن ذلك مكروه ابتداء، هو الذي ذهب إليه ابن حبيب: واختاره ابن رشد -كما مر- لأن القارئ لا يقصد ما يقتضيه اللحن، بل يعتقد بقراءته ما يعتقد بها من لا يلحن فيها، قال الإمام الحطاب: والذي يقتضيه كلام اللخمي وابن رشد أن صلاة اللاحن في نفسه صحيحة مطلقا، وإنما الخلاف في صلاة من اقتدى به؛ وهو الذي يقتضيه كلام ابن يونس. والذي يقتضيه كلام المازري، وعبد الحق، والصنف في التوضيح: أنه إذا بطلت صلاة المقتدي بطلت صلاة الإمام، وسبب الخلاف: هل يخرج اللحن الكلمة الملحون فيها عن كونها قرءانا ويلحقها بكلام البشر أولا يخرجها عن كونها قرءانا؟
تنبيهات: الأول: قد مر أن أصح الأقوال الستة القول بالصحة مطلقا، ويليه في الرجحان القولان اللذان ذكرهما المصنف.
الثاني: قال الإمام الحطاب: إذا وقع اللحن من المصلي في الصلاة فلا يخلو، إما أن يكون سهوا أو غير سهو، فإن كان سهوا فلا شك أن ذلك لا يبطل مطلقا: وإن كان غير سهو فلا يخلو إما أن يكون عمدا مع القدرة على الإتيان بالصواب أو أتى به المصلي لعدم قدرته على الإتيان بالصواب، فإن كان ذلك مع القدرة على الإتيان بالصواب فلا شك في بطلان صلاته وصلاة من اقتدى به، لأنه تكلم بغير القرآن في الصلاة عمدا، وإن كان لعدم القدرة على الإتيان بالصواب، فإن كان لعجز طبيعي أو لضيق الوقت مع عدم القدرة على الائتمام بمن لا يلحن في الوجهين، فلا شك في
صحة صلاته ويصير ذلك كاللكنة. ويجري الخلاف المتقدم في صلاة المقتدي به، وإن كان ذلك مع القدرة على التعلم أو إمكان الاقتداء فيجري الخلاف في صلاته على الخلاف فيمن عجز عن الفاتحة وقدر على الائتمام، هل تبطل صلاته أم لا؟ وتقدم أن في ذلك قولين، وأن ظاهر المذهب البطلان، وأشار المصنف إلى هذا، وقال ابن الحاجب: والظاهر أن من يمكنه التعلم كالجاهل في البابين، قال في التوضيح: يريد بالبابين اللحَّانَ والألكنَ؛ ويعني أنه إذا أمكن كل واحد منهما أن يتعلم فهو غير معذور. انتهى كلام الحطاب باختصار واقتصار.
ويتحصل من كلام الحطاب أن محل الخلاف الذي ذكر المصنف في عاجز يقبل التعليم، ولم يجد معلما أو وجده، وضاق الوقت ولم يجد في الوجهين من يأتم به ممن لا يلحن، وأما إن اتسع الوقت وقبل التعليم ووجد من يعلمه، فإن صلاته باطلة على الراجح كعا لو وجد قارئا يأتم به. والله تعالى أعلم. واعلم أن كلام الحطاب هذا منتقد كما مر ما يفيده عن البناني والله تعالى أعلم. وعبارة الأمير هنا: وصح بلاحن إلا أن يتعمد مع الكراهة، وقال في السهو: وبلحن تعمده؛ بأن عرف الصواب وعدل عنه، ومثله من أمكنه المتعلم ففرط وغيره عاجز.
الثالث: قال أبو حفص عمر بن مكي الصقلي: سألت أبا علي حلولو عن الصلاة خلف من يظهر النون الخفيفة والتنوين عند الياء والواو، فقال: تكره الصلاة خلفه؛ لأنه خرق الإجماع، وقرأ بما لم يقرأ به أحد. قاله الحطاب. ثم أتى بما يشهد لما تقدم عن الشيخ محمد بن الحسن؛ بأن الخلاف يدخل في اللاحن لحنا خفيفا. وقد مر بحث بناني مع الحطاب ومن تبعه في أن محل الخلاف الذي ذكر المصنف إنما هو مع عدم القدرة على الصواب، لضيق الوقت مع عدم القدرة على الائتمام بمن لا يلحن، والله سبحانه أعلم.
وبغير مميز بين ضاد وظاء، قوله:"وبغير" معطوف على قوله: "بلاحن"؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا، هل تبطل صلاة مقتد بغير مميز بين ضاد وظاء، أو صاد وسين، أو زاي وسين، أو لا تبطل بذلك؟ وقوله: خلاف مبتدأ حذف خبره؛ أي في ذلك خلاف، والأنسب بالمصنف أن
يقول: كغير مميز بين ضاد وظاء، أو ومنه غير مميز ونحو ذلك؛ إذ هذه المسألة من أفراد ما قبلها، فتقرر بالبطلان مطلقا، أو في الفاتحة إذ هما القولان المتقدمان للمصنف.
واعلم أن ابن رشد إنما حكى الاتفاق على صحة الاقتداء فيمن لا يميز بينهما طبعا وهو الألكن، لا فيمن لا يقدر على التعلم كما هنا. والله سبحانه أعلم. وقال الشيخ عبد الباقي: ويكره الاقتداء بلاحن لحنا خفيفا، ويقال له: خفي، وهو خطأ يعرض للفظ ولا يخل بالمعنى ولا الإعراب، كترك الإخفاء، والإقلاب، والغنة بخلاف الجلي؛ وهو خطأ يعرض للفظ، ويخل بالمعنى أو بالإعراب، كرفع المجرور، أو نصبه ففيه الخلاف المتقدم، وقد علمت الراجح فيه، وقد مر كلام بناني فراجعه إن شئت. وقوله:"خلاف". قال الشيخ عبد الباقي: إنه حذف لفظ خلاف من الأول لدلالة هذا عليه، واللحن في تكبيرة الإحرام أشد منه في الفاتحة للإجماع على اعتبارها في الصلاة دون القراءة، وقال ابن عرفة: وسمع ابن القاسم كراهة النبر في الصلاة؛ وهو إظهار الهمزة بكل موضع، ولذا جرى عمل قرطبة أن لا يقرأ إمام جامعها إلا بورش، وإنما ترك منذ زمن قريب. ويحتمل أنه الترجيع الذي يحدث معه نبر: ءا ءا، أو فعل بعض المقرئين من تخفيف الهمز، والروم، والإشمام، وإخفاء الحركة، وإخراج كل الحروف من مخارجها لشغل ذلك عن فهم حكمه وعِبَره وتدبره، قلت: هذا الاحتمال لا يليق لاتفاق كل القراء عليه وتواتره، ولا سيما إخراج الحروف من مخارجها حتى قيل ما قيل فيمن لم يفرق بين الضاد والظاء. انتهى.
وأعاد بوقت في كحروري؛ يعني أن المصلي يعيد بوقت اختياري فيما إذا اقتدى بمبتدع مختلف في تكفيره، ومثلوا لذلك بالحروري واحد الحرورية، وهم قوم خرجوا على سيدنا علي رضي الله عنه بحروراء، قرية من قرى الكوفة على ميلين منها، نقموا عليه قضية التحكيم، ونقموا بالميم بعد القاف؛ أي عابوا عليه، كقوله تعالى:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} ، ومن قرأه بالضاد فقد صحف. وذلك أنه لما اتفق الفريقان على التحكيم فرضي جيش علي بأبي موسى الأشعري، وجيش معاوية بعمرو بن العاص، وأنه يجب عليهم المصير لما حكما به، عاب الخوارج على عَلِيٍّ التحكيمَ المذكور وكفروه قائلين: أنت على الحق فَلِمَ تُحَكِّم، لاعتقادهم أن من فعل ذنبا كفر. وقد أجمعوا على تكفير عثمان، وعلي، وعائشة، وطلحة، والزبير، ومعاوية، وعمرو بن العاص،
وأصحاب الجمل، وأصحاب صفين، والحكمين، ومن رضي بحكمهما، وعلى تكفير أهل الكبائر ما لم يتوبوا. ويمنع الاقتداء بالحروري، وأدخلت الكاف كل بدعي اختلف في تكفيره ببدعته، كمنكر صفة العلم، وقوله: إنه عالم بالذات، وكقدري، ومعتزلي. وخرج القطوع بكفره؛ فإن الصلاة خلفه باطلة -كما مر- كمن زعم أن الله تعالى لا يعلم الأشياء مفصلة، بل مجملة، فالاقتداء به باطل كأهل الأهواء المفسرين للقرآن برأيهم، فالصلاة خلفهم باطلة. وخرج المقطوع بعدم كفره كذى هوى خفيف، كتفضيل عَلِي عَلَى سائر الصحابة فالاقتداء به صحيح. وفي المدونة: قال مالك: إذا أيقنت أن الإمام قدري أو حروري، أو غيره من أهل الأهواء، فلا تصل خلفه، ولا الجمعة، فأن أيقنته وخفته فصلها معه وأعدها ظهرا. ووقف مالك في إعادة من صلى خلف مبتدع، وقال ابن القاسم: يعيد في الوقت، والفرق بين ذلك أن الذي صلى تقية صلى على أن يعيد، ومن صلى على أن يعيد لا تجزئه الأولى، وأما الذي وقف فيه مالك فقد قصد الائتمام به على أن هذا فرضه ولا يعيد. فالصواب أن تجزئه. قاله المواق. وتحصل من كلام المصنف: أنه يشترط في الإمام في الفرض أن يكون مسلما، ذكرا: محققا، عاقلا، بالغا في الفرض، قادرا على الأركان، عارفا بما تصح به الصلاة، متطهرا لا محدثا إن تعمد، أو علم المأموم، حرا، مقيما في الجمعة، عدلا غير مأموم. ونظمها الشيخ إبراهيم، فقال:
شرط الإمام أن يكون ذكرا
…
وغير عاجز عن الركن يرى
بلوغه لكن بفرض ولتزد
…
في جمعة حرا مقيما بالبلد
وأن يكون غير مأموم ومن
…
زاد عدالة فقوله وهن
وقال بدل الأخير:
وأن يكون غير مأموم ولا
…
معيدا الصلاة يامن كملا
ولما فرغ رحمه الله من باب شروط الإمام المشترطة في صحة إمامته، شرع يبين الأوصاف المكروهة، فذكر من تكره إمامته، واستطرد مسائل مكروهة ليست من مسائل الإمامة، فقال: وكره أقطع؛ يعني أنه تكره إمامة الأقطع؛ وهو الذي قطع منه عضو، يقال: قطع كفرح؛ فهو أقطع. وقوله: "وكره أقطع"، قال الشيخ إبراهيم: ولو حسن حاله وظاهره قطع في جناية أولا؛ لأن المأموم أكمل منه، وسواء كان القطع يمينا أو شمالا، باليد أو الرجل. والمراد بالأقطع غير الأعور، بدليل ما يأتي في قوله:"وجاز اقتداء بأعمى"، فالأعور من باب أولى، ومحل الكراهة إذا وجد غيره، وإلا فلا. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي عاطفا على المكروه: ومنحن لكبر حتى صار كالراكع؛ أي قريبا منه. وأشل؛ يعني أنه تكره إمامة الأشل؛ أي يابس اليدَّ أو الرجل. قال الشيخ عبد الباقي عند قول المصنف: "وكره أقطع وأشل": أي إمامتهما عند ابن وهب، ولو لمثله -كما في النقل- خلافا لقول البساطي: ظاهر الروايات قصر الكراهة على غير مثله جاعلا ضمير غيره للثلاث وإن اقتصر عليه الشيخ. انظر نقل علي الأجهوري، عن ابن عرفة. ثم محل الكراهة حيث لا يضعانهما بالأرض، وإلا لم يكره. ثم كلامه ضعيف، والمعتمد قول مالك، والجمهور: عدم الكراهة مطلقا. انتهى. وقال الشيخ إبراهيم: والشلل يبدى في اليد أو ذهابها، يقال: شلت تشل بالفتح شلا وشللا، وأشلت وشلت مجهولين. قاله في القاموس. ثم قال: وعيني شلا: ذهب بَصَرُهَا. انتهى. والمراد هنا الأول الذي هو يبس في اليد: لا الثاني الذي هو ذهابها، ليلا يتكرر مع قوله:"أقطع"، ثم إنه على قول ابن وهب لابد من تقييد كراهة الأشل بما إذا كان لا يضع يده على الأرض، كما في نقل المواق والشارح، ويجرى مثله في أقطع اليد، كما يفيده كلام التتائي. وإنما كرهت إمامة الأقطع والأشل لأن كل واحد منهما عاجز عما يحاوله من اغتساله من الجنابة: ووضوئه، وزوال النجاسة. والصلاة أولى ما احتيط له، ولم تمنع لأن العيوب المانعة إنما هي في الأديان لا في الأبدان، ولقد أحسن الناظم حيث قال:
مكمل الأعضاء خال عن شلل
…
ومن عروجة ومن كل العلل
ثم إن ما مشى عليه المصنف من كراهة إمامة الأقطع والأشل هو قول ابن وهب وهو ضعيف، والمذهب عدم الكراهة فيهما كما في الجلاب، وصدر به ابن الحاجب وغيره وهو مذهب الجمهور. كما قاله صاحب الجواهر. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي عن القسطلاني: إن شلت يده بفتح الشين، وضمها خطأ أو قليل: أو لغة ردية. انتهى. وقال الإمام الحطاب: من تكره إمامته قسمان، قسم تكره إمامته مطلقا أي سواء كان إماما راتبا أو لم يكن، وقسم تكره إمامته في حال منه إماما راتبا، وإن لم يكن راتبا فلا تكره. كما سيأتي بيانه، فمن القسم الأول: الأقطع والأشل، وهكذا قال ابن بشير، وصاحب العمدة: إن ذلك لا يمنع الإجزاء على المشهور، وظاهر رواية ابن وهب أن ذلك يمنع الإجزاء، واقتصر ابن الجلاب على نفي الكراهة. قال الشارح: وهو المذهب عند ابن شاس، وابن الحاجب، وغيرهما. وقال في مختصر الوقار: ولا يؤم الأشل، ولا الأقطع، ولا الأعرج الذي لا يثبت قائما. انتهى. وقال الشبيبي في المكروهات: أو أقطع اليد أو الرجل على أحد القولين. انتهى. وقال البرزلي بعد أن ذكر الخلاف في إمامة الأقطع، والأعرج، وصاحب السلس وغيرهم: ومنه مسألة من انحنى لكبر حتى صار كالراكع أو قريبا منه، فنقص قيامه كثيرا، وقد وقعت وأجريناها على هذا، وجوزه لي شيخنا الإمام، واحتج للجواز في القضية الواقعة، وكان يصلي خلفه لكبر سنة وصلاحه، وقدم هجرته في الطلب. انتهى.
وأعرابي؛ يعني أنه يكره أن يؤم البدويُّ الحضريَّ خوف الطعن؛ لأنه ليس فيهم من يصلح للإمامة، أو لأنه من أهل الجفاء والغلظة، والإمام شافع والشفيع ذو اللين والرحمة، ولا فرق في الكراهة بين أن يكون البدوي عربيا أو عجميا. وقوله: لغيره؛ أي الحضري، راجع للأخير، وللبساطي: أنه راجع للثلاثة، فيكون المراد به السليم في الأوليين، والحضري في الثالث.
وإن أقرأ؛ يعني أنه تكره إمامة البدوي للحضري ولو كان البدوي أقرأ من الحضري يحتمل أن يراد به أنه أفصح، ويحتمل أن يكون ما عنده من القرآن أكثر، ولو في سفر حضري، ولو بمنزل أعرابي كما لأبي الحسن، مستدلا بقول ابن سيرين: سافرنا مع عبد الله بن معمر وحميد بن عبد الرحمن، فمررنا بأهل ماء، فحضرت الصلاة، فأذن أعرابي، وأقام فتقدم حميد وكره أن يتقدم
الأعرابي. انتهى. وقال الرماصي: يقدم الأعرابي رب المنزل، وقوله:"وإن أقرأ"، وكذا إن كان أعلم، وعبارة الشيخ الأمير: وكره أعرابي لبلدي وإن أعلم. انتهى.
وفي المدونة: قال مالك: لا يؤم الأعرابي في حضر ولا في سفر، وإن كان أقرأهم. ابن حبيب: لجهله السنن، وهذا التعليل يقتضي المنع، وعلل غيره بنقص فرض الجمعة. وفضل الجماعة. الشيخ: إن أم أجزأهم، كمتيمم لمتوضئين كرهه مالك ولم يكرهه ابن مسلمة. انظر ابن عرفة.
وذو سلس؛ يعني أنه تكره إمامة ذى السلس للصحيح، وهذا هو المشهور. وذكر ابن عطاء الله في إمامة المستنكح ثلاثة أقوال: بالإمامة، وعدمها، والثالث لا يؤم إلا أن يكون صالحا، مثل عمر رضي الله عنه. وذكر في التنبيهات هذه الأقوال الثلاثة. قاله الإمام الحطاب. ونَقَلَ عن سند عن ابن سحنون: أنه تكره إمامة ذي السلس، فإن صلى أجزأتهم كان المستنكَح يتوضأ لكل صلاة أم لا. انتهى. وقوله: "وذو سلس؛ أي معفو عنه في طهارة حدث أو خبث، وذلك بأن يخرج منه بعد طهره ما يعفى عنه. قاله الشيخ إبراهيم، وغيره.
وقرح؛ يعني أنه تكره إمامة ذى القرح للصحيح أي القرح السائل العفو عنه، والقرح بالفتح والضم: عض السلاح ونحوه مما يخرج بالبدن، أو بالفتح الأثر، وبالضم الألم. قاله الشيخ إبراهيم. عن القاموس، وقد مر كراهة إمامة الماسح لغيره. وبما قررت علم أن قوله: لصحيح، راجع لذى السلس، ولذى القرح. والصحيح هنا هو السالم من السلس بالنسبة للأول، ومن القرح بالنسبة للثاني، فلوأم ذو السلس أو ذو القرح مثله فلا كراهة، وقيل: لا تكره إمامة ذي السلس والقرح كما صدر به القرافي، وضعف مقابله الذي هو القول بالكراهة، وعلى العفو يتخرج قول عمر رضي الله عنه: إني لأجد المذي في الصلاة على فخذي يتحدر كتحدر اللؤلؤ، فما أنصرف حتى أقضي صلاتي؛ يعني أنه كان مستنكحا له في آخر عمره. وأما صلاة غيره بثوبه، فاقتصر في الذخيرة على عدم الجواز، وحكى البرزلي: فيه قولين، قال صاحب الذخيرة: إنما عفي عن النجاسة للمعذور خاصة، فلا يجوز لغيره أن يصلي بثوبه، وقول الذخيرة الذي تقدمت الإشارة إليه هو: إذا عفي عن الأحداث في حق صاحبها عفي عنها في حق غيره، وقيل: لا يعفى على القول الضعيف. وقال الرماصي تقييد المصنف الكراهة بالصحيح تبع فيه ابن الحاجب، مع أنه
في التوضيح تعقبه؛ بأن ظاهر عياض وغيره أن الخلاف لا يختص بإمامة الصحيح، ثم قال: وبالجملة فتقييد المصنف بالصحيح فيه نظر؛ وقد خالف ابن بشير وابن شاس في التقييد، وأطلقا. وأما ابن عبد السلام وابن عرفة فقد أقرا كلام ابن الحاجب. انتهى. نقله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ الأمير عاطفا على المكروه: وذو سلس وقرح لصحيح بناء على عدم تعدي الرخصة عن وجهها، ولابد من أصل التعدي، وإلا بطل كصلاة غيره بثوبه. انتهى.
وإمامة: من يكره؛ يعني أنه تكره إمامة من يكره القومُ أن يؤمهم إذا كرهوه لأمر ديني، وكرهه يسير ليسوا من أهل الفضل والنُّهى، فإن كرهه الجماعة أو أكثرهم أو ذو الفضل منهم والنُّهى، وجب تأخره واستأذن ندبا إن خشي الكراهة، وإن علم أنهم مقرُّون له بالفضل والتقدم لم يستأذنهم لما فيه من التعرض للثناء، وهذا في أهل محلته. وأما الطارئ فلغو كما لابن رشد، وظاهره: ولو علم كراهتهم، كما في شرح الشيخ عبد الباقي من أنه: إذا علم كراهة الطارئين لإمامته، جرى على البلديين فيه نظر. واحترزت بقولي:"لأمر ديني"، عما لو كرهوه لدنياه أو لدينه، في نحو القاضي العدل الذي تقرب الأباعد في الله فيه، وتبعد القرباء لم تكره إمامته.
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لعن ثلاثا رجلا أم قوما وهم له كارهون وامرأة بات زوجها عليها ساخطا ورجلا سمع حي على الفلاح فلا يجيب
(1)
).
وعن عمر رضي الله عنه: لأن أقرب فتضرب عنقي أحب إلي من أن أؤم قوما وهم لي كارهون، والكراهة هنا متعلقة بالإمام والمأموم؛ لأن كراهة الإمامة تستلزم كراهة الاقتداء، وجوازُها جوازَه، وكذا العكس، كما أفاده الرماصي، وغيره. وقد عبر ابن عرفة بالإمامة في الموضع الذي عبر فيه ابن شاس بالائتمام، إشارة إلى أنه لا فرق. نقله الشيخ محمد بن الحسن. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لرجل أن يؤم قوما إلا بإذنهم
(2)
). انتهى. وقال الشيخ الأمير
(1)
الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:358. ولفظه: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة: رجل أم قوما وهم له كارهون وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط ورجل سمع حى على الفلاح ثم لم يجب.
(2)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:91. ولفظه: ولا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوما إلا بإذنهم.
عاطفا على المكروه: وإمامة من يكرهه أقلُّ، غير فاضل، حال من أقل، وإلا بأن كرهه الكل أو الجل أو الفاضل، حرم لما ورد من لعنه
(1)
)، ولقول عمر: لأن تضرب عنقي أحب إلي من ذلك.
ولما ذكر من تكره إمامته وإن لم يترتب ذكر ما يكره أن يترتب، فقال: وترتب خصي؛ يعني أنه يكره أن يكون الخصي إماما راتبا في الفرائض بحضر. وهو فعيل بمعنى مفعول، كجريح بمعنى مجروح، والمراد به هنا مقطوع الذكر أو الأنثيين أو هما معا كما في الشبراخيتي. ولا كراهة إن أم لا على رجه الترتب، أو ترتب بسفر. أو قيام رمضان. المازري: نقص الخلقة إن كان لا تعلق له بالصلاة، فإن كان مقربا من الأنوثة، فكره ملك إمامته في الفرائض إمامة راتبة. انتهى.
ومابون: يعني أن المابون يكره ترتبه للإمامة، هذا ظاهره إن لم يكن صريحه، وقوله:"مابون"، فُسِّر بالذي يتكسَّرُ تكسُّرَ النساء قولا وفعلا؛ وهو صالح في نفسه؛ لأن ذلك مما يُسرِعُ إليه طعن الألسنة. قاله الشيخ إبراهيم، وبضعيف العقل؛ وكأنه على هذا أخف شأنا من المعتوه، وحينئذ فالمراد به من به تغفل أو يقع له غبن في بيعه أو ابتياعه، لا الذي يؤتى في دبره، فإنه أرذل الفاسقين. وبأن المراد به من فعل به ذلك ثم تاب وبقيت الألسن تتكلم فيه، وبالمتهم وهو أبين لمساعدة اللغة العربية، ففي البخاري في (حديث الذي رقى سيد الحي: فقام رجل ما كنا نأبُنه برقية فرقاه بالفاتحة
(2)
)، قال السخاوي في شرح الألفية: نأبنه بكسر الموحدة وضمها؛ أي نتهمه برقية. انتهى. فقد صحف من قرأه بزنية إنما هو رقية بالراء والقاف، واحدة الرقى، وهذا التفسير هو الأحسن، ومعناه الذي يتهم بفاحشة ولو بالإتيان في دبره إذا لم يتحقق ذلك منه، وإنما هو مجرد الشك بفاحشة حتى في إتيانه. نقله في الإسلام. قال الشيخ عبد الباقي: وفسر بمن به العلة في دبره بحيث يشتهي ذلك دون نفعه، وبمن به داء ينفعه ذلك أي لا ينفعه غيره. وقولي: أي لا ينفعه غيره، تحرز عن دفع داء أُبْنَتِه بخشبة، كما كان يفعل اللعين أبو جهل؛
(1)
الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:358. ولفظه لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة رجل أم قوما وهم له كارهون وامرأة باتتَ وزوجها عليها ساخط ورجل سمع حي على الفلاح ثم لم يجب.
(2)
البخاري، كتاب فضائل القرآن، رقم الحديث:5007.
لابتلائه بها، فلا يكون المسلم المندفعة عنه بالخشبة ممن تكره إمامته. انتهى. واعلم أن من به تلك العلة التي لا ينفعها إلا اللواط، لا ينتفي عنه الرجم بشروطه على ظاهر ما يأتي في مبحث الرجم، فلا يقال: الضرورات تبيح المحظورات.
وأغلف؛ يعني أن الأغلف يكره ترتبه للإمامة، وأما إمامته بلا ترتب فلا تكره، وهكذا قال ابن الحاجب، ولكن النص كراهة إمامته راتبا أم لا، والأغلف بالغين المعجمة وبالقاف بدلها، هو من لم يختتن، وقوله:"وأغلف"، سواء ترك الاختتان لعذر أو لغيره، ولا يعيد من صلى خلفه. كما قاله الشيخ إبراهيم، وغيره.
وولد زنى؛ يعنى أنه يكره ترتب ولد الزنى للإمامة، وفي المدونة: قال مالك: أكره أن يتخذ ولد الزنئ إماما راتبا. أبو عمر: هذا خوف أن يعرض نفسه للقول فيه؛ لأن الإمامة موضع رفعة وكمال، ينافس فيها ويحسد عليها. قاله المواق. وروى النسائي، وابن حبان، وأبو نعيم في الحلية عنه صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة ولد زنية
(1)
). انتهى.
وهي بكسر الزاي وفتحها لغة، وهو مصروف عن ظاهره، وقد [أعلَّه]
(2)
الدارقطني بأنه ورد من رواية مجاهد عن أبي هريرة، ولم يسمع مجاهد عن أبي هريرة، ويعارضه ما رواه الحاكم وصححه من قوله صلى الله عليه وسلم: (ولد الزنى ليس عليه من وزر أبيه شيء
(3)
)، وقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . وزعم ابن الجوزي: أن الحديث الأول موضوع، قال الحافظ السخاوي: ليس بجيد، وكونه لا يحمل على ظاهره متفق عليه، فمنهم من حمله على ما إذا عمل بعمل أبيه، ومنهم من قال: المراد به من يواظب على الزنى، كقولهم للشهود: أبناء صحف، وللشجعان: أبناء الحرب، وأحسن ما أجيب به عنه -والله اعلم- أنه لا يدخل الجنة بعمل أصليه لقطع
(1)
ابن حبان، الحديث:3374. حلية الأولياء، ج 3 ص 307. ولفظ النسائى في السنن الكبرى: عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا منان ولا عاق والديه ولا ولد زنية. الحديث: 4916.
(2)
في الأصل: أعلم، وما بين المعقوفين من الشبراخيتى مخطوط.
(3)
عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على ولد الزنى من وزر أبويه شئ ولا تزر وازرة وزر أخرى. الحاكم في المستدرك، ج 4 ص 100 الحديث:7053.
نسبه عن الأب، ولشؤم زنى أمه، وإن صلحت منع من وصول بركة صلاحها إليه، بخلاف ولد الرشد فإنه إذا مات طفلا وأبواه مؤمنان، ألحق بهما، وبلغ درجتهما بصلاحهما قال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} . الآية. وأخرج البيهقي من طريق أبى هريرة رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ولد الزنى شر الثلاثة، فسرته عائشة بأنه رجل بعينه كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: هو من المنافقين
(1)
) قاله الشيخ إبراهيم.
ومجهول حال؛ يعني أنه يكره ترتب مجهول الحال للإمامة، ومعنى مجهول الحال: لا تعرف عدالته من فسقه، وهذا الذي قررته به من أنه يكره ترتبه هو ظاهره؛ وهو الذي للشبراخيتي، والأمير؛ فإنه قال: وترتب خصي، وأغلف، وولد زنى، ومجهول حال في الدين أو النسب، إلا أن يرتبه عادل أو المسلمون؛ وهو خلاف ما للشيخ عبد الباقي؛ فإنه قال: وكره ائتمام بشخص مجهول حال، هل هو عدل أو فاسق؟ إلا أن يكون راتبا فلا يكره أن يؤتم به، ثم قال: وكمجهول الحال مجهول الأب، قال الشارح. وفي المدونة: كراهة إمامة ولد الزنى راتبا، قال سند: وكذلك المجهول الأب ليلا يؤذى بالطعن في نسبه. انتهى. وقوله: وكمجهول الحال مجهول الأب، فيه نظر، بل مجهول الأب كولد الزنى، كما هو صريح كلام سند الذي نقله عن الشارح عقب كلام المدونة. انظر حاشية الشيخ بناني.
واعلم أن أولاد الجاهلية يلحقون بآبائهم من نكاح أو سفاح، فلذا كانت الصحابة يصلون خلف الموالي، ومن أسلم من غير استفسار. والله سبحانه أعلم. وما مر عن عبد الباقي من كراهة إمامة مجهول الحال مطلقا ترتب أم لا، يوافق نقل الحطاب فإنه قال: قال ابن حبيب: ينبغي للرجل أن لا يأتم إلا بمن يعرفه إلا أن يكون إماما راتبات وقال ابن عرفة: الزاهي لا يؤتم بمجهول، وقال ابن حبيب عن الأخوين، وأصبغ، وابن عبد الحكم: لا ينبغي أن يؤتم بمجهول إلا أن يكون راتبا بمسجد، قال ابن عرفة: قلت: إن كانت تولية أيمة المساجد لذي هوى لا يقوم فيها
(1)
البيهقي، ج 10 ص 57.
بموجب الترجيح الشرعي لم يؤتم براتب فيها إلا بعد الكشف عنه، وكذا كان يفعل من أدركته عالما دينا انتهى.
وعبد بفرض؛ يعني أنه يكره أن يكون العبد إماما راتبا في الفرائض، وهذا هو المشهور، وهو مذهب المدونة. قاله الإمام الحطاب. ومقتضاه أن قوله:"بفرض"، راجع للعبد فقط، وقال الشيخ محمد بن الحسن: جعل ابن القاسم إمامة العبد على ثلاثة منازل: جائزة، ومكروهة، وممنوعة. فأجاز أن يكون إماما راتبا في النوافل، وإماما غير راتب في الفرائض، وكره أن يكون راتبا في الفرائض وإماما في السنن، كالعيدين، والخسوف، والاستسقاء؛ فإن أم في ذلك أجزأت، ولم يؤمروا بالإعادة، ومنع أن يكون إماما في الجمعة. انتهى. ونحوه قول ابن عرفة ونصه: ويؤم العبد في النفل راتبا كالقيام والفرض غير راتب، وفي كراهته فيه راتبا، ثالثها: إن كان أصلحهم لم يكره لابن القاسم، وعبد الملك، واللخمي. وقال الشبراخيتي، والخرشي: إن قوله: "بفرض"، راجع للست، قالا: ومثله السنن لا كتراويح. انتهى. واعلم أن كل من تقدم أن إمامته مكروهة، إما مطلقا، وإما في حال دون حال، محله مع وجود من هو أولى منه، فإن لم يوجد سواه أو لم يوجد إلا مثله جازت قولا واحدا. قاله غير واحد.
وصلاة بين الأساطين؛ يعني أنه تكره الصلاة بلا ضرورة بين الأساطين؛ أي الأعمدة، جمع أسطوانة، وكرهت الصلاة بينها لأنها مأوى الشياطين، فلا يأمن المصلي فيه من عبثهم، وهذا يلحق المنفرد والمصلي في جماعة، أو لأنه موضع جمع النعال. ورد بأن وضعها فيه محدث أو لتقطيع الصفوف، ورد بقول أبي الحسن: موضع السواري ليس بفرجة، وأبو الحسن تكلم على سواري بلده فاس؛ وهي أبنية غليظة.
أو أمام الإمام؛ يعني أنه تكره الصلاة أمام الإمام؛ أي قُدَّامه بلا ضرورة، وكذا تكره الصلاة محاذاة الإمام، وقوله:"أو أمام الإمام"، وتصح ولو تقدموا كلهم، كما هو ظاهر عياض، والمصنف. ونقل المواق: ويفيده ما نقله ابن ناجي عن ابن العربي كما في الشبراخيتي. وأماما في الحطاب عن ابن عزم من البطلان حيث تقدموا كلهم، فردَّه الشيخُ محمد بن الحسن بقول المازري: إذا وقف
المأموم بين يدي إمامه لم تبطل صلاته عندنا، خلافا للشافعي في أحد قوليه، ودليلنا أن مخالفة الرتبة لا تفسد الصلاة كما لو وقف عن يسار الإمام، فإن صلاة المأموم لا تبطل. وقال أبو الحسن على قول المدونة. وإن صلى الإمام بالناس في السفينة أسفل وهم فوق لأجزأهم
(1)
إذا كان إمامهم قدَّامهم ما نصه: مفهومه لو لم يكن قدامهم لم يجزهم وليس كذلك، بل هي مجزئة ولو لم يكن قدامهم: وإنما المعنى إذا كان قدامهم تجزئهم بلا كراهة. انتهى. وفي المدونة: قال مالك: لا بأس بالصلاة في دور محجورة بصلاة الإمام في غير الجمعة إذا رأوا عمل الإمام والناس مِن كُوًى لها أو مقاصير. أو سمعوا تكبيره فيكبروا ويركعوا بركوعه ويسجدوا بسجوده، فذلك جائز. وقد صلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجرهن بصلاة الإمام، قال مالك: ولو كان الدور بين يدي الإمام كرهت ذلك، فإن صلوا فصلاتهم تامة. وبما قررت علم أن قوله:"بلا ضرورة"، راجع للمسألتين؛ أعني قوله:"وصلاة بين الأساطين"، وقوله:"أو أمام الإمام"، ومفهوم قوله:"بلا ضرورة"، أنه لا كراهة مع الضرورة؛ وهو كذلك فلا تكره الصلاة بين الأساطين إذا ضاق المسجد، فقد قال الإمام مالك: لا بأس بالصلاة بين الأساطين إذا ضاق المسجد. ابن عرفة: مفهوم المدونة إن كان المسجد متسعا كرهت الصلاة بين الأساطين، وقال في المبسوط، لا تكره، وكره ابن مسعود الصلاة بين السواري، يريد إذا كان المسجد متسعا. قاله المواق. ولا تكره الصلاة أمام الإمام مع الضرورة، كضيق المكان ونحو ذلك، كنجاسة أو خوف. والله سبحانه أعلم. وقوله:"أو أمام الإمام"، في الشارح: في الصغير: إن تقدموا كلهم فلا يجوز لهم اتفاقا، وفي كبيره: إجماعا. واقتداء من بأسفل السفينة بمن بأعلاها؛ يعني أنه يكره لغير ضرورة أن يقتدي مَن بأسفل السفينة بمن بأعلاها لعدم تمكنهم من مراعاة إمامهم: والعلو في السفينة ليس بمحل للكبر أي شأنه ذلك فلا يعارض ما يأتي، وأما عكس كلام المصنف؛ وهو اقتداء من بأعلى السفينة بمن بأسفلها، فسيأتي في قول المصنف:"وعلو مأموم ولو بسطح"، ويجوز اقتداء من بأسفل السفينة بمن بأعلاها مع الضرورة من غير كراهة، ومن المدونة قال مالك: وإذا صلى الإمام في السفينة والناس فوق
(1)
في التهذيب ج 1 ص 250: أجزأهم.
سقفها فلا بأس إذا كان إمامهم قدامهم، ولا يعجبني أن يكون فوق السقف والناس أسفل، ولكن يصلي الذين فوق السفينة بإمام، والذين أسفل بإمام. قاله المواق.
كأبي قبيس؛ يعني أنه يكره لمن كان على أبي قبيس أن يصلي بصلاة الإمام بالمسجد الحرام؛ وهو من الجهة الشرقية عن البيت، ومثله من على قُعَيْقِعَانَ من الجهة الغربية، فيكره لمن على واحد منهما أن يقتدي بإمام المسجد الحرام مخافة أن لا يضبط فعل الإمام، فلا ينافي ما يأتي من جواز علو المأموم الإمامَ. وقعيقعان كزعيفران: جبل بمكة، سمي بذلك؛ لأن جُرْهُمًا تجعل فيه أسلحتها فتقعقع فيه. ومن المدونة قال ابن القاسم: ولا يعجبني أن يصلي على أبي قبيس وقعيقعان بصلاة الإمام بالمسجد الحرام. ابن بشير: واختلف الأشياخ في صلاة من فعل ذلك، فمنهم من قال بالصحة، ومنهم من قال بالبطلان؛ وهو خلاف في حال، فإن أمكنهم مراعاة فعل الإمام صحت، وإن تعذر عليهم ذلك بطلت، وأما من صلى على أبي قبيس وقعيقعان وحده فصلاته تامة وإن كان يعلو الكعبة؛ لأن الكعبة من الأرض إلى السماء. وكيف قالوا بالكرهة؟ مع أنه لو طرأ على الإمام سهو لم يعرفه مَنْ هناك. قاله الإمام الحطاب. وقال بعد جلب نقل: فيتحصل من هذا أن الصلاة لمن كان بأبي قبيس مقتديا بصلاة الإمام مكروهة على ما قال ابن القاسم، وهي صحيحة ما لم يتعذر عليه مراعاة أفعال الإمام، فلا شك في البطلان، وليس هذا معارضا لقول المصنف في الجائزات: وعلو مأموم ولو بسطح، لكثرة البعد هنا فتعسر المراعاة لأفعال الإمام وإن أمكن ذلك فبتكلف، وربما أدى إلى شغل البال بذلك. انتهى.
وصلاة رجل بين نساء؛ يعني أنه يكره أن يصلي الرجل بين النساء، وأولى خلفهن. وبالعكس؛ يعني أنه يكره أن تصلي المرأة بين الرجال، وشمل كلامه المحرم وغيرها، ولا يفسد غير المحرم صلاتها، ولا صلاة رجل معها إلا أن تؤدي لنقض طهارة بكمذي تحقيقا أو شكا وقال الإمام أبو حنيفة: تفسد على واحد عن يمينها، وآخر عن يسارها، وعلى من خلفها ممن يقابلها إلى آخر الصفوف، وعلى نفسها إن نوى الإمام دخولها في إمامته، وعلى الإمام لخبر: (أخروهن من حيث
أخرهن الله
(1)
). وقوله: "وصلاة رجل بين نساء"، وبالعكس، الأولى أن يراد بالرجل المفرد وبالمرأة المفرد، ليلا يكون في العبارتين تداخل. والله سبحانه أعلم. وقال في النوادر: ومن العتبية روى موسى عن ابن القاسم قال: قال مالك: وإن صلى رجل خلف النساء أو امرأة خلف الرجال كرهته، ولا تفسد صلاة أحد منهم. انتهى. وقال الشبيبي -لما عد مكروهات الصلاة في باب أوقات الصلاة وأسمائها-: وصلاة الرجل خلف صفوف النساء، والمرأة أمام صفوف الرجال، وصلاة كل واحد منهم بجنب الآخر انتهى. قاله الإمام الحطاب.
وإمامة بمسجد بلا رداء؛ يعني أنه يكره لأئمة المساجد ترك الرداء في الصلاة بالناس، وإن كان على أكتافه غيره: وكره لكل مصل غير الإمام تركه إن كان ليس على كتفيه شيء: وإلا استحب له من غير كراهة في تركه. كما أنه لا يكره تركه لإمام في غير مسجد كمسافر أو بمنزلة أو غير ذلك. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الإمام الحطاب: قال في أول رسم من كتاب الجامع: وأما الصلاة في المساجد والجماعات فيكره ترك الالتحاء بالعمائم فيها، ويقال: إن ذلك من بقايا عمل قوم لوط. انتهى. ومن المدونة قال مالك: أكره لأئمة المساجد الصلاة بغير رداء، إلا إماما في السفر أو في داره أو بموضع اجتمعوا فيه، وأحب إلي أن يجعل على عاتقه عمامة إذا كان مسافرا أو في داره.
وتنفله بمحرابه؛ يعني أنه يكره للإمام تنفله بمحرابه؛ أي المسجد، كما قاله غير واحد، أو الإمام كما يأتي قريبا إن شاء الله. وقوله:"وتنفله بمحرابه"، يريد: وجلوسه به على هيئة الصلاة من غير صلاة، والمطلوب منه أن ينحرف، (وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل على الناس بوجهه
(2)
)، قال الثعالبي: وهو السنة، ونحوه لابن أبي جمرة وصاحب المدخل، لا ما يراه بعض أهل التشديد في الدين من قيامه بمجرد فراغه كأنما ضرب بشيء يؤلمه، ويفوته بذلك خير استغفار الملائكة له ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث؛ يعني الحدث المبطل للوضوء، يقولون: (اللهم اغفر له اللهم ارحمه
(3)
). وهو يفيد أن المطلوب عدم قيامه من محرابه،
(1)
نصب الراية، ج 2 ص 36. كشف الخفاء، ج 1 ص 69.
(2)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:845. ولفظه: أقبل علينا بوجهه.
(3)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:659.
وأنه يغير هيئته، وحديث ابن مسعود:(كان صلى الله عليه وسلم إذا قضى صلاته انفتل سريعا) للتشريع. انظر الخرشي. والشبراخيتي. وقال عبد الباقي: قال سعيد بن جبير: يشرق أو يغرب؛ يعني الإمام بعد سلامه، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها. وفي المدخل: ويستحب تنفل المأموم في غير موضع الفريضة، وعلى قياسه يستحب تحوله إلى مكان آخر كلما صلى ركعتين. قاله الحطاب. وفي المدونة خلاف هذا، ففيها: قال مالك: لا يتنفل الإمام بموضعه، وليقم عنه بخلاف الفذ والمأموم فلهما ذلك. انتهى. ويكره القيام للنافلة إثر سلام الإمام من غير فصل بالمعقبات وآية الكرسي؛ أي يكره للإمام والمأموم، وكذا ينبغي. وقد جذب عمر رضي الله عنه من فعل ذلك وضرب به الأرض، وقال: ما أهلك من كان قبلكم إلا أنهم كانوا لا يفصلون بين الفرض والنفل، فسمع المصطفى صلى الله عليه وسلم مقالته رضي الله عنه، فقال: (أصاب الله بك يا عمر
(1)
). وفي الشبراخيتي: قال في الحاشية: قوله: "بمحرابه"؛ أي بمحراب الإمام؛ أي بموضع الصلاة، كان في مسجد أو غيره، في حضر أو سفر، وهذا أولى. انتهى. ومر عن المدونة قريبا نحوة، وقال مالك: وإذا سلم إمام في مسجد الجماعة أو مسجد القبائل، فليقم ولا يقعد في الصلوات كلها إلا أن يكون إماما في سفر أو في فنائه، فإن شاء تنحى أو أقام. وذكر البخاري عن ابن عمر في باب مكث الإمام في مصلاة بعد السلام أنه: كان يصلي في مكانه الذي صلى فيه الفريضة. قال: وفعله القاسم، قال: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم يمكث في مكانه يسيرا
(2)
). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قضى الصلاة انفتل سريعا، إما أن يقوم وإما أن ينحرف). وقال في صحيح البخاري: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الصلوات يستقبل الناس بوجهه بعد السلام لعبارة رؤيا أو غيرها
(3)
)، قال شارح البخاري: فعل ذلك عوضا من قيامه من مصلاة. لأن قيامه إنما هو ليعرف الناس بفراغ
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:1007. ولفظه: أصاب الله بك يا ابن الخطاب.
(2)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:849.
(3)
البخاري، كتاب الجنائز، رقم الحديث:1386.
الصلاة، وقد تقدم كلام المدونة: فليقم ولا يقعد. ابن بشير: قيل؛ لأنه موضع فضيلة وإنما استحقها بمرتبة الإمامة، فإذا انقضت صار كالمعزول عنها، وعلى هذا يزول عن موضعه بلا حد، وقيل: ليراه من لا يسمع تسليمه فيعلم انقضاء الصلاة، فعلى هذا إن قام أو تزحزح عن موضعه بحيث يبصره أجزأه. وفي الرسالة: إذا سلم الإمام فلينصرف، قال الجزولي: معنى هذا الانصراف تغيير هيئته. وفي الحطاب: ورأيت بخط بعض طلبة العلم عن ابن الفخار: وأما المأموم فهو مخير بين أن يجلس أو ينصرف.
وإعادة جماعة بعد الراتب؛ يعني أنه يكره أن تصلي جماعة بإمام في المسجد بعد صلاة الإمام الراتب فيه، وقوله:"وإعادة جماعة"، عبر بالإعادة باعتبار صلاة الإمام قبلهم، وإلا فهم ليسوا معيدين. ولو قال: وإمامة، كان أولى. ومفهوم قوله:"جماعة". أن الفذ لا تكره صلاته بعد الراتب للصلاة التي صلاها الراتب ما لم يعلم تعمده لمخالفة الإمام بتقديم أو تأخير. فيمتنع. وقوله: "بعد الراتب"؛ أي بعد صلاة الإمام الراتب. فيكره أن تصلي جماعة بإمام تلك الصلاة، سواء كان لغيرها إمام راتب أم لا، وقوله:"وإعادة جماعة بعد الراتب"؛ أي في مسجد، وما نزل منزلته من كل مكان جرت العادة بالجمع فيه كسفينة ودار، ومفهوم قوله:"بعد الراتب"، أن إعادة الجماعة بعد غير الراتب لا تكره؛ وهو كذلك حيث لا راتب أو كان راتب في بعضها: وأريد فعلها فيما هو غير راتب فيه، فلا كراهة في إقامة جماعة فيه مرة واحدة، وكذا أخرى في رواية أشهب. واختارها اللخمي، والمازري، وابن عبد السلام، ويكره في رواية ابن القاسم، والخلاف في المسألة الثانية: وأما الأولى؛ أي حيث لا راتب، فلا كراهة ولو تكررت الإعادة. وقوله:"بعد الراتب"، وكذا قبله، وحرم معه. وقوله:"بعد الراتب"، محله إذا صلى الراتب في وقته العلوم، فلو قدم عن وقته العلوم فإنهم يعيدون فيه جماعة.
تنبيه: اختلفت الفتاوي في مسألة المسجد الحرام، وهي ترتب أربعة أئمة على المذاهب الأربعة، بإذن السلطان أحدهم عند المقام؛ وهو الذي يصلى أولًا وكل واحد في موضعه العلوم، فإذا فرغ صلى الذي يليه ثم كذلك، فأفتى بعضهم بالجواز محتجا بأن مقاماتهم كمساجد متعددة لأمر الإمام بذلك، وأفتى بعضهم بالمنع محتجا بأن الذي اختلفت الأئمة فيه إنما هو مسجد له إمام
راتب وأقيمت الصلاة فيه، ثم جاء آخرون وأرادوا إقامة تلك الصلاة جماعة فهذا موضع الخلاف، فأما حضور جماعتين أو أكثر في مسجد واحد ثم تقام الصلاة، فيتقدم الإمام الراتب فيصلي وأولئك عكوف من غير ضرورة تدعوهم لذلك، تاركون إقامة الصلاة مع الإمام متشاغلون بالنوافل أو بالحديث حتى تنقضي صلاة الأول، ثم يقوم الذي يليه، وتبقى الجماعة الأخرى على نحو ما ذكرنا فالأئمة مجتمعون على أن هذه الصلاة لا تجوز. قال الرماصي بعد هذا: فقد ظهر أن المسألة المتنازع فيها ليست هي مسألة المصنف، وقال الإمام الحطاب بعد جلب كلام المجيزين والمانعين وما قاله هؤلاء الأئمة يعني المانعين، ظاهر لا شك فيه؛ إذ لا يشك عاقل في أن هذا الفعل المذكور مناقض لمقصود الشارع من مشروعية صلاة الجماعة، وهو اجتماع المسلمين، وأن تعود بركة بعضهم على بعض، ولا يؤدي ذلك إلى تفريق الكلمة، ولم يسمح الشارع بتفريق الجماعة بإمامين عند الضرورة الشديدة؛ وهي حضور القتال مع عدو الدين، بل أمر بقسم الجماعة وصلاتهم بإمام واحد. وقد أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بهدم مسجد الضرار لما اتخذ لتفريق الجماعة، ولقد أخبرني والدي رحمه الله عن بعض شيوخه أنه كان يقول: فعل هؤلاء الأئمة في تفريق الجماعة يشبه فعل مسجد أهل الضرار. انتهى المراد منه. وقوله: "وإعادة جماعة بعد الراتب"، وكذا قبله، كما مر. والظاهر حصول فضل الجماعة للمصلي بعد الراتب وقبله، كما قالوا في الصلاة في الدار المغصوبة يثاب عليها من جهة، ويأثم من جهة. وكما قاله ابن رشد في تنفل من عليه فوائت، قاله الشيخ محمد بن الحسن: ولو صلى جماعتان بإمامين في مسجد واحد معا أساءوا وصحت صلاتهم كما مر، وفي الحطاب عن القاضي: أن الجماعة إذا كانت بموضع لا يجوز لها أن تفترق طائفتين فتصلي كل طائفة منها بإمام على حدة، لقول الله عز وجل:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، ألا ترى أن الله تعالى لم يبح ذلك للغزاة مع شدة الخوف؟ وشرع لهم أن يجمعوا على إمام واحد، ولهذا إذا كان قوم مجتمعون في سفينة لا يجوز لهم أن يتفرقوا على طائفتين في الصلاة، فإذا نزل بعضهم فأقام الصلاة الذين بقوا في السفينة، فإذا جاء الذين نزلوا كره لهم أن يجمعوا الصلاة
لأنفسهم، وأجاز في المدونة أن يصلي الذين فوق سقف السفينة بإمام والذين تحته بإمام؛ لأنهما موضعان فليس بخلاف لهذا.
وإن أذن مبالغة في كراهة إعادة الجماعة بعد الراتب؛ يعني أن إذن الإمام الراتب للجماعة في الإعادة بعده لا ينفي الكراهة المذكورة لتفريق الجماعة، أو تطرق أهل البدع بالتأخير حتى يجمعوا مع إمامهم أو لإذايته، والتعليل في الثلاث بالمظنة، وقال بعضهم: إذا انتفى الأولان جازة وقوله: "وإعادة جماعة"، الخ جزم المصنف بالكراهة فيه تبعا للرسالة وابن الجلاب، وعبر اللخمي وابن بشير وغيرهما بالمنع؛ وهو ظاهر المدونة. وما أحسن قول ابن العربي عند قوله سبحانه:{وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} ؛ يعني أنهم كانوا جماعة واحدة في مسجد واحد، فأرادوا أن يفرقوا شملهم في الطاعة، وهذا يدلك على أن المقصود الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة، تأليف الكل على الطاعة، وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة، حتى يقع الأنس بالمخاطبة، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد والحسد، ولهذا المعنى تفطن مالك في أنه لا تعاد جماعة بعد الراتب خلافا لسائر العلماء حين كان ذلك تشتيتا للكلمة وإبطالا لهذه الحكمة، فيقع الخلاف، ويبطل النظام، وخفي عليهم، وهكذا شأنه معهم، وهوأثبت قدما منهم في الحكمة، وأعلم بمقاطع الشريعة. قاله المواق. وقوله: وإن أذن، قال ابن بشير: إن عللنا المنع بأنه حماية من الأذى للأئمة فيجوز بإذن الإمام، ونصوص المذهب أنه لا يجوز مطلقا قاله المواق.
وله الجمع إن جمع غيره قبله؛ يعني أنه يجوز للإمام الراتب أن يوقع الصلاة في جماعة إن صلت قبله جماعة بإمام فليس هو كغيره؛ إذ تكره صلاتهم بعده جماعة ولا كذلك هو كما علمت وبما قررت علم أن قوله: "له الجمع"، معناه له أن يصلي جماعة أي يوقعها بإمام ومأموم، وأن معنى قوله:"إن جمع غيره"، أوقعوا الصلاة بإمام ومأموم، وقوله:"وله الجمع إن جمع غيره قبله"؛ يعني حيث جمعوا بغير إذنه. فإن أذن لهم في الجمع، كره له الجمع.
إن لم يؤخر كثيرا؛ يعني أن محل كونه يجوز له أن يجمع بعدهم، إنما هو حيث لم يؤخر كثيرا، ومفهومه أنه لوأخر كثيرا بأن ضر بالمصلين أو خافوا فوات الوقت المختار كره له الجمع بعدهم وهو كذلك، وقوله:"وله الجمع" الخ؛ أي ولو كان من جمع قبله له عادة بالنيابة عند
غيبته، قال أبو الحسن: ومن كان شأنه أن يصلي إذا غاب إمامه، فصلى بهم في وقت صلاة الإمام المعتاد أو بعده بيسير كان للإمام أن يعيد الصلاة؛ لأن هذه مسابقة له. انتهى. وفي الاستذكار: في حديث إدراك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة خلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال فيه: إذا خيف فوت وقت الصلاة المختار لم ينتظر الإمام، وإن كان فاضلا جدا. انتهى. وقول أبي الحسن: ومن كان شأنه أن يصلي إذا غاب إمامه" الخ، لا يعارضه ما في النوادر عن الواضحة، قال مالك في المسجد لا يأتي إمامه فيصلي بهم المؤذن، ثم يأتي الإمام: فإن كان المؤذن يؤمهم إذا غاب فهو كالإمام، ولا تعاد الصلاة بجماعة، وإن كان المؤذن لا يصلي بهم في غيبته فللإمام أن يجمع. انتهى. لأن المازري قيد كلام الإمام في الواضحة بما إذا أخر الإمام تأخيرا يضر بالناس. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وجلب كلام المازري.
قال جامعة عفا الله تعالى عنه: مقتضى كلام الشيخ محمد بن الحسن: أن الإمام إذا أخر تأخيرا يضر بالناس وجمعوا قبله، فإنه يجمع إذا لم يكن إمامهم له عادة بالنيابة في غيبته، لا إن كان له عادة، وذلك مخالف لفهوم قول المصنف:"إن لم يؤخر كثيرًا". والله سبحانه أعلم.
وخرجوا؛ يعني أنه إذا اجتمع جماعة في مسجد صلى راتبه ولم يكونوا صلوا، فإنهم يخرجون ندبا من المسجد ويصلون جماعة فذلك هو الأفضل لهم؛ إذ تكره إعادة الجماعة بعد الراتب كما علمت، وصلاتهم أفذاذا بالمسجد أفضل منها صلاتهم خارجه جماعة؛ لأن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة.
إلا بالمساجد الثلاثة؛ يعني أن ما تقدم من أن الجماعة إذا وجدوا الراتب قد صلى، الأفضل لهم أن يخرجوا ليصلوا جماعة إنما هو في غير أحد المساجد الثلاثة، وأما إن اجتمعو بأحد المساجد الثلاثة: مسجد المدينة المشرفة، ومسجد مكة شرفها الله، وبيت المقدس، فإنهم لا يخرجون منه، ويصلون بها؛ أي بذلك الأحد الذي هم فيه. أفذاذا؛ لأن الصلاة في أحدها فذا أفضل من الصلاة في غيرها جماعة. وقوله:"وخرجوا" الخ، معناه إن وجدوا الإمام الراتب قد صلى، فإن لم يدخلوا المسجد صلوا جماعة خارجه، وإن دخلوا المسجد خرجوا منه بدليل قوله: إن دخلوها؛
أي إنما يصلون بأحد المساجد الثلاثة أفذاذا حيث دخلوه، فإن لم يدخلوه صلوها خارجه جماعة إن أمكنهم ذلك، ولا يؤمرون بدخوله حينئذ ويصلون أفذاذا، فإن لم تمكنهم الصلاة خارجه جماعة فإنهم يطالبون بدخوله ويصلون أفذاذا، ففي المفهوم تفصيل. وبحث ابن عرفة فيما ذكر بأن الصلاة في أحد المساجد إن كانت أفضل ترجحت مطلقا وإلا فالعكس، وأجاب عنه الشيخ عبد الباقي بما لم يلُح لي وجهه والله سبحانه أعلم. وفي الترغيب والترهيب عن ابن خزيمة: أن تضعيف الصلاة بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم خاص بالرجال، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لأم حميد؛ امرأة أبي حميد: (صلاتك في قعر بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي
(1)
). وبَوَّبَ عليه ابن خزيمة، فقال: باب اختيار صلاة المرأة في حجرتها على صلاتها في دارها، وصلاتها في مسجد قومها على صلاتها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. انظر الحطاب. وقد مر توجيهي لقول المصنف:"إن دخلوها"، وقال الشيخ عبد الباقي، وغيره: وزاد قوله: "إن دخلوها"، مع أن الاستثناء يفيده لئلا يتوهم أنه منقطع، وأنهم مطلوبون بالصلاة بها أفذاذا، وإن لم يدخلوها وليس كذلك حيث كانوا يصلون بغيرها جماعة، وإلا طولبوا بدخولها وصلاتهم أفذاذا، ففي مفهوم الشرط تفصيل. انتهى.
وقتل كبرغوث بمسجد؛ يعني أنه يكره قتل برغوث، وقملة، وبق، وذباب، ونحوه بالمسجد ولو في صلاة، وإلقاء القملة فيه حية كقتلها، قال الإمام مالك: أكره قتل القملة والبرغوث في الصلاة. انتهى. ويجوز إلقاء البرغوث حيا في المسجد، ومثله ما يشبهه من بق ونحوه. وقوله:"وقتل كبرغوث" الخ، هذا إذا قل، وإلا حرم لأنه يقذر المسجد وتقذيره حرام كتعفينه. قاله الشيخ إبراهيم. وذكر المواق: أن طرحها في المسجد حية لا يجوز لأنها تتعلق بالناس فتوذيهم، ومفهوم مسجد جواز قتلها خارجه، وإذا قتلها فليحسن قتلها لقول مالك: إلقاء القمل في الماء أو النار مُثْلَة: والماء أخف إن كان لضرورة. قاله الشيخ إبراهيم.
(1)
الترغيب والترهيب، ج 1 ص 173. وفيه:"صلاتك في بيتك".
وفيها يجوز أصرحها خارجه؛ أي المسجد؛ يعني أن الإمام قال في المدونة: يجوز طرح القملة خارج المسجد، فقوله:"طرحها"؛ أي القملة التي دخلت تحت الكاف، ففيه عود الضمير على مذكور. واستشكل؛ يعني أن ما في المدونة من أنه يجوز طرح القملة خارج المسجد استشكله الشيوخ؛ لأنه من التعذيب، وذكر أبو الحسن حرمته لأنها تصير عقربا قل من تلدغه إلا مات. قد مر أنه يكره طرح القملة في المسجد حية. أو يمنع، والحكم أنه يصرها حية في طرف ثوبه، وطرحها فيه بعد قتلها المكروه حرام، وصرها بعد قتلها فيه ارتكاب مكروه قتلها فيه. وحرم رمي قشر القملة في المسجد لنجاسة ميتتها، ورمي قشر البرغوث ونحوه حرام إن لزم منه تعفينه، وإلا كره. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ الأمير عاطفا على المكروه: وقتل كبرغوث بمسجد بصلاة وبغيرها، وحرم قتل قمل بصلاة، وأبطل إن كثر بالزيادة على ثلاث، وحرم تقذير بمائع وإن بطاهر كتعفين بيابس نجس، وكره بطاهر. انتهى.
ولما أنهى الكلام على مكروهات الإمام أتبعه بالكلام على شيء من الجائزات، فقال: وجاز اقتداء بأعمى؛ يعني أنه يجوز الاقتداء بالأعمى (لاستنابته صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم على المدينة في غزواته بضع عشرة مرة يؤم الناس
(1)
)، وفي الصحيح: (أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه؛ وهو أعمى
(2)
)، وهل إمامة البصير أفضل أو العكس أو هما سواء؟ أقوال، والراجح الأول كما نص عليه القرافي، فالمصنف أطلق الجواز على خلاف الأولى. ابن رشد: إنما لم ير مالك بكون الأعمى إماما راتبا بأسا من أجل أن حاسة البصر لا تعلق لها بشيء من فرائض الصلاة ولا سننها ولا فضائلها، ثم قال: وكذلك سائر الحواس الخمس لا تعلق لها بشيء من الصلاة حاشا السمع، فإن الأصم لا ينبغي أن يتخذ إماما راتبا؛ لأنه قد يسهو فيسبح به فلا يسمع فيكون ذلك سببا لإفساد الصلاة، وإنما كَرِهَ أن يتخذ الأعمى إماما راتبا من كرهه من أجل أنه قد يتوضأ بماء غير طاهر ويصلي بثوب نجس وأما نقصان الجوارح فله تعلق بالصلاة، ولذلك اختلف في إمامة الأشل
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:595. بلفظ: استخلف ابنَ أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى.
(2)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:667.
والأقطع. وقال ابن فرحون: الأعمى الذي عرض له صمم بعد معرفة لا تصح به الإمامة تصح إمامته، ولا يجوز أن يكون مأموما لأنه لا يهتدي إلى أفعال الإمام إلا أن يكون معه من ينبهه على ذلك على هذا
(1)
قواعد المذهب، ولم أنقله. قاله الحطاب.
ومخالف في الفروع؛ يعني أنه يجوز الاقتداء بمخالف في الفروع الظنية كمالكي بشافعي، أو حنفي أو حنبلي، وعكسه ولو أتى بمناف لصحة الصلاة كمسح بعض رأسه لا لشروط الإمامة كمعيد، فلا يصح، لقوله:"وأعاد مؤتم بمعيد أبدا"، هذا هو الذي يتعين المصير إليه، وينبغي التعويل عليه. ونقل المازري الإجماع على صحة الاقتداء بالمخالف في الفروع الظنية، وقال عياض: إن أبا المعالي الجويني قدَّم عبد الحق الصقلي صلى به، وقال له: البعض يدخل في الكل يعرض له بمسح الرأس؛ إذ كان أبو المعالي شافعيا، ونقل أيضا أن الأبهري -كان إمام وقته- سئل أن يلي القضاء ببغداد. فامتنع، وأشار بالرازي فامتنع أيضا، وأشار بالأبهري فلما امتنعا معا ولَّى غيرهما. قاله المواق. وقال الإمام الحطاب: قال في باب السهو من كتاب الصلاة الثاني. من صلى خلف من يرى السجود في النقصان بعد السلام. فلا يخالفه. ابن ناجي: زاد في الأم لأن الخلاف أشد، ويروى أشر بالدال والراء. وفي رواية ابن المرابط: أشر، وكان شيخنا حفظه الله يقول لا مفهوم لما ذكره من التصوير، بل وكذلك العكس. وفي الذخيرة: الشرط السادس من شروط الإمامة: موافقة مذهب الإمام في الواجبات، قال ابن القاسم في العتبية: لو علمت أن أحدا يترك القراءة في الأخيرتين لم أصل خلفه وقال أشهب عند ابن سحنون: ومن صلى خلف من لا يرىَ الوضوء من مس الذكر لا شيء عليه بخلاف القبلة، يعيد أبدا، وقال سحنون: يعيد فيهما في الوقت. قال صاحب الطراز: وتحقيق ذلك أنه متى تحقق فعله للشرائط جاز الاقتداء به، وإن كان لا يعتقد وجوبها وإلا لم تجز فالشافعي مسح جميع رأسه سنة فلا يضر اعتقاده، بخلاف ما لو أم في الفريضة بنية النافلة أو مسح رجليه. انتهى. وما قدمته في تقرير المصنف هو ضابط العوفي، وإيضاحه ما قال الشيخ محمد بن الحسن: إنه يعتبر ما كان من شروط الإمامة عند
(1)
لفظ الحطاب ج 2 ص 385 ط دار الرضوان هذا على قواعد المذهب.
المأموم لا ما كان من شروط صحة الصلاة كَدَلْكٍ وتعميم مسح الرأس فلا يعتبر انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: والظاهر أن تقيد بذلك طريقة سند وغيرها؛ لأن شروط الإمامة مما يرجع لصلاة المأموم فقط، كوضوئه، وأركان صلاته، ولا دخول
(1)
للإمام فيها. انتهى.
وألكن؛ يعني أنه يجوز الاقتداء بالألكن لسالم أو لمثله. والألكن هو من لا يستطيع إخراج بعض الحروف من مخارجها، سواء كان لا ينطق بالحرف البتة أو ينطق به مغيرا، ولو بزيادته أو تكرره فيشمل التمتام؛ وهو من ينطق أول كلامه بتاء مكررة، والأرث؛ وهو الذي يجعل اللام ثاء، وقيل: من يدغم حرفا في حرف، والألثغ؛ وهو من يتحول من السين إلى الثاء، أو من الراء إلى الغين أو اللام أو الياء، أو من حرف إلى حرف، ومن لا يتم رفع لسانه لثقل فيه، والطمطام؛ وهو من في لسانه عجمة، والغمغام، وهو من لا يكاد صوته ينقطع بالحروف، والأغَنَّ؛ وهو الذي يشوب صوته شيء من الخياشيم، والفأفاء؛ وهو من يكرر الفاء ومن لم يميز بين الضاد والظاء طبعا. واللكنة تجمع هذا كله، وما تقدم فيمن يمكنه التعلم. وقيل: إن الألكن تكره إمامته مع وجود مرضي غيره؛ وهو لابن رشد، فإنه قال: الألكن: الذي لا تبين قراءته، والألثغ: الذي لا يتأتي له النطق ببعض الحروف، والأعجمي: الذي لا يفرق بين الضاد والظاء والسين والصاد، وما أشبه ذلك لا خلاف أنه لا إعادة على من ائتم بهم وإن كان الائتمام بهم مكروها، إلا أن لا يوجد [من يرضى]
(2)
به سواهم. قاله المواق. وحكى ابن العربي الجواز في قليل اللكنة والكراهة في بينها.
ومحدود؛ يعني أنه يجوز الاقتداء بالمحدود بالفعل، وسواء تاب مما حد فيه أم لا؛ لأن الصحيح أن الحدود جوابر؛ لأنه مذهب أهل السنة، فلا يحتاج لتوبة، والعازم على العود فاسق. وقد مر الكلام على الفاسق، ومفهوم محدود بالفعل أنه إن لم يحد بالفعل، فإن عفي عنه لحق مخلوق أو سقط بإتيان الإمام طائعا في حرابة وحسنت حاله، فكذلك؛ أي يجوز الاقتداء به، وكذا إن لم
(1)
عبارة البناني ج 2 ص 16: ولا دخل.
(2)
في الأصل: من لا يرضى، والمثبت من البيان ج 1 ص 450.
يسقط عنه بتوبة من لواط وزنى ليس فيه حق زوج؛ إذ لا تفيده توبته في إسقاط الحد، فيجوز الاقتداء به إن حسن حاله لا إن لم يحسن، ولا إن لم يعف المخلوق عنه.
وعنين؛ يعني أنه يجوز الاقتداء بالعنين، وفسره بعضهم بالمعترض؛ وهو من لا ينتشر ذكره، وفسره بعضهم بمن له ذكر صغير لا يتأتى منه الجماع ولا مانع من تفسيره بهما. والفرق بين ذلك والخصاء أن العنة ليست نقص خلقة وجدت بخلاف الخصاء.
ومجذم؛ يعني أنه تجوز إمامة المجذم؛ وهو من به الجذام، وهو داء معروف يأكل اللحم. أعاذنا الله منه. ابن رشد: إمامة المجذوم جائزة بلا خلاف إلا أن يتفاحش جذامه، وعلم من جيرانه أنهم يتأذون به في مخالطته لهم، فينبغي أن يتأخر عن الإمامة. قاله المواق. وقال الشيخ إبراهيم: والأصل في جواز إمامته قوله عليه الصلاة والسلام: (لا عدوى ولا طيرة
(1)
). وفي الحديث: (لا يورد ممرض على مصح
(2)
)، ويوافقه قوله في الحديث الآخر: (فر من المجذوم فرارك من الأسد
(3)
)، والجواب عما يظهر من المعارضة بين هذه الأحاديث: أن الأول نفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية وبعض الحكماء، أن هذه الأمراض تعدي بطبعها، فلذا رد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فمن أعدى الأول
(4)
)؛ أي أن الله تعالى هو الخالق لذلك بسبب وغير سبب، والأخيران بيان لما يخلقه الله تعالى عند المخالطة للمريض. وقد يتخلف ذلك عن سببه كما أن النار لا تحرق بطبعها، والماء لا يروي بطبعه، واللباس لا يستر بطبعه، وإنما هي أسباب عادية، والقدر وراء ذلك كله. قال الشيخ إبراهيم: وقد وجدنا من خالط المصاب بالأمراض التي اشتهرت بالإعداء ولم يتأثر بذلك، ووجدنا من احترز من ذلك الاحتراز الممكن فأخذ بذلك المرض. وقوله: لا يورِدْ بكسر الراء ومفعوله محذوف؛ أي ماشية. والمرض بضم أوله من أمرض الرجل إذا وقع في ماله
(1)
البخاري، كتاب الطب، رقم الحديث: 5756 مسلم، كتاب السلام، رقم الحديث:2220.
(2)
البخاري، كتاب الطب، رقم الحديث:5771. ولفظه: "لا يوردنّ
…
" مسلم، كتاب السلام، رقم الحديث:2221.
(3)
البخاري، كتاب الطب، رقم الحديث 5707.
(4)
البخاري، كتاب الطب، رقم الحديث:5770. مسلم، كتاب السلام، رقم الحديث: 2220.
العاهة، ومُصِح اسم فاعل عبارة عن صاحب الماشية التي صحت من المرض، والظاهر أن الحديث عام في التي صحت بعد أن مرضت. وفي التي لم يسبق لها مرض.
إلا أن يشتد؛ يعني أن محل جواز الاقتداء بالمجذوم إنما هو حيث كانت حالته خفيفة ليس له رائحة؛ بأن كان في مبدإ أمره -كما في الشبراخيتي- وأما إن اشتد وآذى من خلفه، فلينحَّ وجوبا عن الإمامة، فإن أبى أجبر، وكذا ينحَّى عن حضور الجماعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار
(1)
)، ومنع عمر رضي الله عنه جذماء من المسجد، فلما مات قيل لها: إن الذي منعك قد مات، فقالت: ما كنت بالتي أطيعه حيا وأعصيه ميتا. وينبغي أن يلحق بالأجذم الأبرص. قاله الشيخ إبراهيم.
تنبيه: المازري: قال العلماء: ينبغي أن يجتنب من عرف بإصابة العين ويتحرز منه، وينبغي للإمام أن يمنعه من مداخلة الناس، وأن يلزم بيته، وإن كان فقيرا أجرى عليه رزقه، ويكف أذاه عن الناس، وضرره أشد من ضرر آكل الثوم الذي منعه صلى الله عليه وسلم دخول المسجد، ومن ضرر المجذوم الذي نهاه عمر عن مخالطة الناس. انظر المنجور.
وصبي بمثله؛ يعني أنه يجوز اقتداء الصبي بمثله، لا بالغ فتبطل في الفرض وتصح في النفل مع عدم الجواز فيهما ابتداء. كما قدمه.
وعدم إلصاق من على يمين الإمام؛ يعني أنه يجوز عدم إلصاق من على جهة يمين الإمام من المأمومين واحدا أو أكثر بمن خلف الإمام، أو يساره بفتح الياء وكسرها؛ يعني أنه يجوز عدم إلصاق من على يسار الإمام من المأمومين بمن خلف الإمام، فقوله: بمن هذوه راجع لهما -كما قررت- ومعنى حذوه خلفه، وهو متعلق بإلصاق، ويجوز أيضا عدم إلصاق من على يمين الإمام ويساره بمن خلفه، كما يجوز عدم إلصاق من على يمينه بمن على يساره، والجواز في هذا كله محمول على الجواز بعد الوقوع، وأما ابتداء فيكره ذلك، فإذا وقع ونزل فلا يطلبون بالإلصاق،
(1)
الموطأ، ص 469
بل يجوز البقاء عليه بناء على أن الدوام ليس كالابتداء، أو يحمل على من ألجأه إلى ذلك أمر والمطلوب أن يبتدئ الصف من وراء الإمام، ثم عن يمينه وشماله حتى يتم الصف، ولا يبتدأ بالصف الثاني قبل تمام الأول، ولا بالثالث قبل تمام الثاني، لخبر مسلم: (ألا تصافون كما تصاف الملائكة عند ربها
(1)
)، ثم قال: (يتمون الصف الأول ويتراصون
(2)
)، وينبغي الترتيب في الثاني والثالث كما في الأول، فيبتدئون فيه بخلفه ثم يمينه ويساره وقوله:"يساره"، قد تقدم أنه بفتح الياء وكسرها والكسر أفصح، وليس في كلام العرب كلمة أولها ياء مكسورة إلا قولهم يسار لليد؛ أي لا للرجل، أو الأذن أو العين: ولا لضد العسر، فبالفتح خاصة. قاله الشيخ عبد الباقي. وتأمله مع قولهم: يعار ونحوه وقوله: "وعدم إلصاق من على يمين الإمام أو يساره بمن حذوه"، قال الإمام الحطاب: ولا يكون ذلك مانعا من تحصيل فضيلة الصف. قاله الأبي في شرح مسلم. وصلاة منفرد حلف صف؛ يعني أنه تجوز صلاة المنفرد خلف الصف إن عسر عليه الوقوف فيه، وإلا كره مع حصول فضل الجماعة وفوات فضيلة الصف في المكروه لا في الجائز، فتحصل له فضيلة الصف لنية الدخول فيه لولا تعسره. وروى ابن وهب: البطلان مع وجود فرجة يصلي فيها، وفي المدونة: قال مالك: من صلى خلف الصف أجزأه، ولا بأس أن يصلي كذلك، وهو الشأن ابن رشد: لو صلى وحده وترك فرجة في الصف أساء. قال مالك في رواية ابن وهب: ويعيد أبدا، والمشهور أنه لا إعادة عليه. قاله المواق.
ولا يجذب أحدا؛ يعني أن المصلي خلف الصف يكره له أن يجذب إليه أحدا من الصف، أو مارا عليه يريد أن يدخل في الصلاة. وظاهر المص يشمل من لم يجد موضعا وغيره، وقوله:"يجذب"، كيضرب وليس مقلوب جبذ لكمال تصريفه، فلذا وُهِّمَ الجوهريُّ، ومعنى الجذب النتر؛ وهو؛ أي الجذب وإطاعة الآخر خطأ منهما. أي الجاذب والمجذوب ففيه حذف الواو مع ما عطفت، ومن ضاق به الصف في التشهد فلا بأس أن يخرج أمامه أو خلفه، وقد فعله بعض
(1)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث 430 ولفظه:"ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها".
(2)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:430. ولفظه: "يتمون الصفوف الأوّل ويتراصون في الصف".
الخلفاء. قاله ابن القاسم. ابن حبيب: ولا يفعله لغير عذر، فإن فعله لغير عذر أساء، ولا شيء عليه. وروى عنه ابن وهب: يعيد. وقوله: "ولا يجذب" الخ، قال مالك: ولا يجذب، فإن جذب أحدا ليقيمه معه فلا يتبعه، وهذا خطأ من الذي يفعله، ومن الذي جذبه. وقال الشيخ الأمير عاطفا على الجائز: ووقوف بيمين الإمام أو يساره أمام الصف. والأفضل الالتصاق بمن خلفه ويمينه أفضل، وكره خلف الصف إن وسع، وحصلت فضيلة الجماعة مطلقا خلافا للرملي من الشافعية كالصف إن لم يجد فرجة فيه، ولا يجذب أحدا. وعند الشافعية: يجذب من فوق الاثنين ولا يطاوع. انتهى.
وإسراع لها؛ يعني أنه إذا خاف أن تفوته الصلاة أو شيء منها؛ فإنه يجوز له أن يسرع في مشيه أو تحريك دابته لأجل إدراك الصلاة مع الإمام؛ لأن المبادرة إلى الطاعة والاهتمام بها مطلوب. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله بلا خبب؛ الظاهر أن الباء للمصاحبة، وأنه في موضع الصفة أو الحال، والموصوف قوله إسراع، والخبب الهرولة؛ يعني أنه يجوز الإسراع لأجل إدراك الصلاة مع الإمام خوف فواتها أو فوات شيء منها بلا هرولة بحيث لا يزول الوقار والسكينة، وإلا كره. وظاهره ولو خاف فواتها جمعة أو غيرها. وللخمي: أن السكينة أفضل من إدراك الركعة، وإدراكُ الصف الأول أفضل من السكينة، فإدراك الصف الأول أفضل من إدراك الركعة. قاله الشيخ إبراهيم. وكان زين العابدين رضي الله عنه إذا فرغ من وضوئه أخذته رعدة، فقيل له في ذلك، فقال: ويحكم، أتدرون إلى من أقوم ومن أريد أن أناجي؟ وقال الشيخ الأمير عاطفا على الجائز: وإسراع لها بسكينة لا هرولة، وإن خشي فوات الجمعة، وقدم الصف على الدخول، فإن ظن إدراكهما بادر للدخول ودب الصفين، والكاف في قول الأصل كالصفين استقصائية على الراجح لآخر فرجة، قائما أو راكعا لا ساجدا أو جالسا لقبح الهيئة. انتهى.
وقتل عقرب أو فار بمسجد؛ يعني أنه يجوز بمسجد بغير صلاة قتل عقرب أرادته أم لا، وقدم أن قتلها عمدا في صلاة بمسجد أو غيره لا سجود فيه إن أرادته، فإن لم ترده سجد لسهوه على أحد قولين، فلا تكرار في كلامه ولا تخالف كما ظن قاله الشيخ عبد الباقي. وكذا لا يكره قتل
الفار بالمسجد ولو الحرام، أو في صلاة ولا تبطل بذلك أراده أم لا، ولم يقتصر عليها هاهنا ليلا يتوهم منع قتل الفأر بمسجد لكونه دونها في الإيذاء، وإن كان أعم أذى، ولو اقتصر على ذكر قتله لتوهم منع قتلها فيه صيانة للمسجد وإن كانت أشد أذى، فإن قلت: لم جاز قتل العقرب في الصلاة بشرطه وكره قتل البرغوث؟ قلت: لأن ضررها أشد: فإن قلت: لم جاز قتل الفأر وكره قتل البرغوث؟ قلت: لأن الفأر من الفواسق التي يباح قتلها في الحل والحرم للمحرم والحل. قاله الشيخ عبد الباقي، وغيره. وقال الشيخ الأمير عاطفا على الجائز: وقتل عقرب أو فأر بمسجد، ويتحفظ من تقذيره وتعفينه ما أمكن. انتهى. وبما قررت علم أن قوله:"بمسجد": راجع للعقرب والفأر فهو متعلق بقتل، وقوله:"بمسجد". ولو المسجد الحرام.
تنبيه: قال ابن لبابة وأصحابه: لا تحلب الأنعام قرب المسجد لروثها وغبارها: وأجازوا قراءة الحساب في المساجد بخلاف المقامات لما فيها من الكذب والفحش، وكان ابن البراء يرويها بدويرة خارج المسجد. انتهى من الإعلام بما في العيار من فتاوى الأعلام.
وإحضار صبي به لا يعبث ويكف إذا نُهي؛ يعني أنه يجوز إحضار الصبي في المسجد، فالباء بمعنى "في". قاله الشبراخيتي. وإنما يجوز إحضار الصبي للمسجد إذا كان شأنه؛ أي الغالب عليه أنه لا يعبث، وعلى تقدير عبثه نادرا يكف عن عبثه إذا نهي عنه، فالجواز متوقف على الأمرين معا كما يفيده ابن عرفة، ونسبه للمدونة، فيفيد ترجيحه. وعلى هذا فالواو على بابها، ولابن عبد السلام وابن فرحون: يشترط في جواز إحضار الصبي أحد أمرين، إما عدم عبثه: أو كونه يكف إذا نهي بتقدير أن يعبث؛ لأن المقصود تنزيه المساجد، وإن حمل على ما لهما فالواو بمعنى "أو"، فإن كان يعبث ولا يكف إذا نهي، حرم إحضاره لخبر: (نزهوا مساجدكم عن مجانينكم وصبيانكم
(1)
)، والمجنون كالصبي الذي يعبث ولا يكف إذا نهي لهذا الحديث. وعلم من هذا أن المقصود تنزيه المساجد عمن لا يتوقى الحدث، أو يرفع فيها الصوت، أو يلعب فيها، لقوله تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} . وسئل مالك عن المرواح؛ أيكره أن يروح بها
(1)
ابن ماجه، كتاب المساجد، رقم الحديث:750. ولفظه: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم".
في المساجد؟ قال: نعم، إني لأكره ذلك. قال القاضي: هذا كما قال؛ لأن المرواح إنما اتخذها أهل الطول للترفه والتنعم، وليس ذلك من شأن المساجد فالإتيان إليها بالمرواح من المكروه البين. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: وعلم من هذا مكروهان: أحدهما التروح بالمرواح في المسجد، ثانيهما الإتيان بالمرواح إلى المسجد. والله سبحانه أعلم، وفي نوازل ابن هلال: ولا يجوز نشر التمر على سطح المسجد لا لمسكين ولا لغيره؛ لأن سطح المسجد له من الحرمة ما لداخله. انتهى.
وبصق به؛ يعني أنه يجوز بصلاة وبغيرها بصق بالمسجد، وهو شامل للتنخم، وأما المخط فيكره فيه. إن حصب؛ يعني أنه إنما يجوز البصق بالمسجد حيث كان المسجد محصبا؛ أي مفروشا بالحصباء كتراب فيما يظهر، فيبصق فوق الحصباء ويدفنه فيها.
أو تحت حصيره؛ معطوف على محذوف تقديره: فوق الحصباء. -كما أشرت إليه- يعني أن المسجد المحصب إذا لم يكن محصرا، فإنه يبصق فيه فوق الحصباء، ويدفن بصاقه فيها -كما علمت- وإن كان محصرا أي مفروشا بالحصير فوق حصبائه، فإنه يبصق تحت حصيره، فالضمير في "حصيره" عائد على المحصب، وفهم من قوله:"تحت حصيره"، أنه لا يبصق فوق الحصير، وإن دلكه -وهو كذلك- كما في المدونة. وأما المبلط فيمنع البصق فيه حُصِّر أم لا، هذا هو الظاهر لقول ابن بشير، وإن لم يكن محصبا فلا ينبغي أن يبصق فيه بحال وإن دلكه؛ لأن دلكه لا يذهب أثره، خلافا لظاهر نقل الطخيخي عن العوفي جواز البصق تحت حصير المبلط، وصوبه أبو علي والرماصي. وتكره المضمضة في المسجد وإن غطاها بالحصباء، وليست كالنخامة لكثرتها، وأما النخامة فيشق الخروج لها. وقوله: وإن غطاها بالحصباء، يؤخذ منه عدم كراهتها به في محل معد به للوضوء حيث يكون للماء مسرب بالأرض، ومحل جواز البصق بالمحصب أو تحت حصيره إن كان مرة أو مرتين لا أكثر، وهل المراد بالمرة والمرتين من واحد في يوم فقط؟ وأما مرة من واحد ومثلها لغيره ففعل كثير، فلا يجوز لتأذي الناس غالبا بذلك أم لا. انظره. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"وبصق به" الخ، محل الجواز أيضا إذا لم يضر به غيره، وإلا منع. كذا ينبغي.
ثم قدمه الصواب إسقاط "ثم"؛ بأن يقول: تحت قدمه، ويكون الظرف متعلقا بقوله:"وبصق"؛ أي يجوز البصق بالمحصب غير المحصر تحت قدمه الخ؛ أي اليمنى واليسار، ويكون تفصيلا لإجمال قوله:"وبصق به إن حصب"، لا له ولما بعده من مسألة المحصر. وحذف المص ما هو مساو لما تحت القدم في المرتبة؛ وهو البصق عن يساره. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: وفات المص التنبيه على البصق في جهة اليسار، والبصق في طرف الثوب، ثم على يساره. انتهى. وإنما كان الصواب إسقاط "ثم" لأنه لم يتقدم له ما يعطفه عليه. والله سبحانه أعلم. ثم إن لم يتأت له البصق تحت قدمه وكان عن يساره أحد: فإنه يبصق يمينه بالنصب؛ أي ينتقل لجهة يمينه، وإنما أخرت جهة اليمنى عما قبلها لتنزيه اليمنى وجهتها عن الأقذار، فالمراد باليمين الجهة: ولا يصح أن يراد بها القدم اليمنى لدخولها في قوله: "ثم قدمه". قاله الشيخ إبراهيم، وغيره.
ثم إن لم يتأت له البصق تحت القدم، ولا في جهة اليسار. ولا في جهة اليمين، بأن كان عن يساره أحد وعن يمينه أحد، فإنه يبصق أمامه إن لم يمكنه إلا ذلك لتنزيه القبلة عن ذلك إلا لضرورة. وجزم علي الأجهوري ومن تبعه؛ بأن هذا الترتيب خاص بالصلاة، فلا يطلب من غير المصلي. وبه قرر المسناوي رحمه الله. وللحطاب أنه: يطلب في الصلاة وغيرها، واختاره الرماصي لإطلاق عياض، وابن الحاجب، وابن عرفة، والمؤلف. ولقول الأبي في شرح مسلم: كان النهي تعظيما لجهة القبلة، فيعم غير الصلاة وغير المسجد، لكن يتأكد في المسجد. قال الرماصي: وأحاديث الصحيح مختلفة، ففي بعضها التقييد بالمصلي، وفي بعضها الإطلاق، وما ذكر المص من جواز البصاق لا ينافي حديث الصحيحين: (البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها
(1)
)؛ لأنه إنما يكون خطيئة إذا لم يدفنه، ومن أراد دفنه فلا. ويؤيده حديث: (من تنخم في المسجد فلم يدفنه
(1)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:415. مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث: 552.
فسيئة وإن دفنه فحسنة
(1)
). وحمل بعضهم الجواز على من له عذر يمنعه من الخروج من المسجد، والمنع على من لا عذر له، قاله عياض.
ومُلَخَّصُ المسألة أن المسجد إما محصب، وإما مبلط، فالثاني لا يبصق فيه بحال إلا على ما للطخيخي من أنه يبصق تحت حصيره، والظاهر ما لغيره من منع البصق فيه بكل حال، وإن دلكه لأن الدلك لا يذهب أثره، والأول يبصق فيه ثم يدفن البصاق في الحصباء إن لم يحصر، فإن حُصِّر بصق فيه تحت حصيره لا فوقه، وإن دلكه كما في المدونة، وحيث بصق في المحصب فوق الحصباء؛ فإنه يبصق أولا عن يساره أو تحت قدمه -كما في الحديث الصحيح
(2)
إلا أن يكون عن يساره أحد، ولا يتأتى له تحت قدمه، فحينئذ ينتقل لجهة يمينه ثم أمامه إن لم يمكن ذلك إلا هناك، وهل هذا الترتيب خاص بالمصلي كما جزم به علي الأجهوري ومن تبعه، أو عام فيه وفي غيره؟ كما للحطاب، واختاره الرماصي، ولو قدم المص مسألة المحصب؛ أي الترتيب المذكور ليفيد أن الترتيب راجع له وأخر مسألة المحصر كان أظهر. وقد تقدم أن الصواب إسقاط "ثم" وهذا التحصيل للشيخ محمد بن الحسن، وقال الشيخ عبد الباقي بعد كلام. فتحصل أنه يجوز بصق بمحصب فقط، وتحت حصيره كفي طرف ثوبه لصل وإن بغيره، ثم عن يساره وتحت قدميه، ثم يمينه، ثم أمامه في محصب فقط. انتهى. وفي المواق: ابن بشير: إن اضطر الإنسان إلى البصاق وهو في المسجد، فإن كان في الصلاة فالأولى أن يبصق في طرف ثوبه، فإن لم يفعل فإن لم يكن المسجد محصبا فلا ينبغي أن يبصق فيه بحال وإن دلكه؛ لأن تدليكه لا يذهب أثره. قال في المدونة: ولا يبصق في المسجد فوق الحصير ويدلكه برجله، ولكن تحته، ولا في حائط قبلة المسجد، ولا في مسجد غير محصب إذا لم يقدر على دفن البصاق فيه، وإن كان المسجد محصبا فلا بأس أن يبصق بين يديه وعن يمينه وعن يساره وتحت قدميه ويدفنه. وفي المدونة: قال مالك: لا بأس أن يبصق تحت الحصير لا على ظهره، ولا في قبلة المسجد، قال: وإن كان عن
(1)
الإتحاف، ج 3 ص 311.
(2)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:411. مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث: 548.
يمينه رجل وعن يساره رجل في الصلاة بصق أمامه ودفنه، وإن كان لا يقدر على دفنه فلا يبصق في المسجد بحال كان مع الناس أو وحده، وفي العارضة: إن أوقعته في المسجد فقد اقترفت سوءا: وكفارته دفنه في الحصباء إلا أن يكون مسطحا فكفارته مسحه، (وقد طَيَّب النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسجد من نخامة كانت في القبلة بشيء من الخلوق
(1)
): ولكن الله جعل طرحه للعبد ضرورة في أي حالة حتى في الصلاة. انتهى. وفي حديث الموطإ: (إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه إذا صلى
(2)
). الخطابي: معناه أن توجهه إلى القبلة مفض بالقصد منه إلى ربه: فصار بالتقدير كأن مقصوده بينه وبين قبلته، وقيل: هو على حذف مضاف؛ أي عظمة الله أو ثواب الله. وقال ابن عبد البر: هو كلام خرج على التعظيم لشأن القبلة، وفي هذا التعليل دليل على حرمة البزاق في القبلة سواء كان في المسجد أم لا، ولاسيما من المصلي ولا يجري فيه الخلاف في كراهة البزاق في المسجد، هل هي على التحريم أو التنزيه؟ وفي صحيحي ابن خزيمة وابن حبان عن حذيفة مرفوعا: (من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه وهي أحمى ما تكون
(3)
)، ولابن خزيمة عن ابن عمر مرفوعا:(يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه)، ولأبي داوود وابن حبان: أن رجلا أم قوما فبصق في القبلة، فلما فرغ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصلي لكم
(4)
) الحديث، وفيه أنه قال له: إنك آذيت الله ورسوله. نقله محمد بن عبد الباقي. وفي القاموس: تفل يتفل ويتفل: بصق، والتفل والتفال بضمهما البصاق، وفيه وجاهك وتجاهك مثلثين تلقاءك. ومِمَّا يجب أن يجنب عنه المسجد أن يتخذ طريقا، نص عليه ابن حبيب، قال: إلا في وقتٍ مَّا. وقال اللخمي: ولا يجوز حدث الريح به. وقد نصوا أيضا أنه يجب أن ينزه المسجد عن إماطة الأذى به، وإن لم يكن نجسا فلا يقلم ظفره به، ولا يتمضمض، ولا يستاك، ولا يتوضأ به. ومن رأى في ثوبه دما خرج
(1)
مسلم، كتاب الزهد، الحديث: 3007
(2)
الموطأ، ص 150.
(3)
ابن حبان، ج 3 ص 78. وصحيح ابن خزيمة، الحديث: 882.
(4)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 481
به من المسجد، وقيل: يغطيه ويتركه بين يديه، ومن تذكر في المسجد أنه جنب خرج ولم يتيمم -كما تقدم- (وقد اتفق للنبي صلى الله عليه وسلم
(1)
). قاله المواق. وقال الإمام الحطاب ناقلا الذي يتنخم في النعلين في المسجد، إن كان لا يصل إلى موضع حصير يتنخم تحته فلا أرى بذلك بأسا، وإن كان يصل إلى الحصير فإني لا أستحسنه، ولا أحب لأحد أن يتنخم في نعله. قال القاضي: وكره التنخم في النعلين إلا أن لا يصل إلى الحصير لظهور ذلك فيهما، وربما وضعهما في المسجد فيعلق به شيء من ذلك، ووقع في بعض الروايات مكان فلا أستحسنه: فإني أستقبحه، فيعود الاستحسان إلى التنخم تحت الحصير إن كان يصل إليها، والاستقباح إلى التنخم في النعلين إن كان يصل إلى الحصير. انتهى. وقال الشيخ أبو الحسن في شرح قوله: ولا يبصق في المسجد فوق الحصير ويدلكه برجله، قال ابن رشدة أما كراهته أن يتنخم على الحصير ثم يدلكه برجله؛ فلأن ذلك لا يزيل أثرها من على الحصير، وفي ذلك إذاية للمسلمين. وسمع القرينان من خرج من المسجد بيده حصباء نسيها أو بنعله إن ردها فحسن وما ذاك عليه ابن رشد؛ لأنه أمر غالب لا ضرر فيه على المسجد فلم يلزم رده إليه. كما أن ما بقى بين أسنان الصائم من الطعام إذا ابتلعه في النهار مع ريقه لم يوجب عليه قضاء؛ لأنه أمر غالب. وقال ابن الماجشون: وإن كان متعمدا؛ لأنه ابتدأ أخذه من وقت يجوز له؛ وهو بعيد. انتهى كلام الحطاب. وقال الشيخ الأمير عاطفا على الجائز: وبصق بمحصب تحت فراشه إن كان، وإلا فتحت قدمه اليسرى، ثم اليمنى، ثم جهتاه كذلك، والأفضل البصق بالثوب، وحرم إن أدى لتقذير كإن كثر. انتهى. وقال في الشرح بعد قوله:"وبصق بمحصب"، وأولى مترب لا مبلط. والنخامة كالبصق وكفارتها دفنها، وينهى عن المضمضة والمخط، فإن قذرا حرما. انتهى. وقال الشبراخيتي: ولو قال المص: وبصق بمحصب أو تحت حصيره كفى طرف ثوبه لمصل وإن بغيره،
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:640.
ثم على يساره وتحت قدميه، ثم يمينه، ثم أمامه في محصب فقط، لأتى بالمسألة مستوفاة سالمة من التقييد.
والحاصل أن المصلى يبصق بطرف ثوبه مطلقا، فإن لم يبصق به وأراد أن يبصق في المسجد، فإن كان غير محصب فليس له ذلك، وإن كان محصبا فله ذلك على الترتيب الذي ذكرنا. وأما غير المصلي فإنه يبصق في المحصب أيضا في خلال الحصباء أو تحت حصيره، لكن لا يطلب منه الترتيب الذي في المصلي. انتهى. وفي الحطاب: وأجاز ابن القاسم الوضوء في صحن المسجد من رواية موسى بن معاوية، وكرهه سحنون لما في ذلك من مج الريق في المسجد، وما يتناثر من الماء في المسجد مما يؤثر في نظافة المسجد. وروى محمد بن يحيى في المدونة عن مالك: لا يصلح أن يتمضمض في المسجد وإن غطاه بالحصباء بخلاف النخامة. انتهى. يريد -والله أعلم- أن النخامة تكثر وتتكرر فيشق الخروج لها من المسجد، والمضمضة تندر فلا مضرة ولا مشقة في الخروج لها من المسجد. انتهى. واعلم أن المسجد ينزه عن كل ما يستقذر ولو كان طاهرا.
وخروج متجالة لعيد واستسقاء؛ يعني أنه يجوز بل يندب خروج متجالة؛ وهي التي لا أرب للرجال فيها غالبا لصلاة عيد فطر أو أضحى ولصلاة استسقاء لتشهد دعوة المسلمين، وأولى الفرائض.
وشابه لمسجد؛ يعنى أنه يجوز على خلاف الأولى خروج شابة إلى مسجد لصلاة فرض بجماعة بليل غير مخشية الفتنة، ولا متزينة، ولا متطيبة، ولا مزاحمة للرجال، ولا بالطريق ما يتوقع مفسدته، وإلا منعت كمخشية فتنة ولو بسبب زينة، وكخروجهن لمجلس علم وذكر ووعظ، فيمنعن وإن كن منعزلات عن الرجال: كما أفتى به ابن عرفة. قاله الأبي. وانظر هل ضمير الجمع عائد على النساء مطلقا، أو على الشابات خاصة؟ قاله أحمد. وكره خروجها لجمعة -كما في كفاية الطالب- مع استيفاء الشروط غير الليل؛ لأن لها بدلا بخلاف الفرض في جماعة. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ إبراهيم عند قوله:"وشابة لمسجد"؛ أي لصلاة فرض في الجماعة؛ ويمنع خروجها لمجالس العلم والمذكر والوعظ وإن كانت منعزلة عن الرجال، وشرط العلماء في خروجهن أن يكون بليل، وقال بعضهم: لا يكون خروجهن ليلا، وإنما يكون نهارا،
وأن يكن غير متزينات ولا متطيبات، لخبر: (أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء
(1)
)، ولا مزاحمات للرجال، ولا شابة مخشية الفتنة، وفي معنى الطيب إظهار الزينة، وأن تخرج في خشن ثيابها. وأن لا تتحلى بحلي يظهر أثره للرجال بنظر أو صوت، وإلا فلا بأس به، وزاد البساطي: وأن لا تكون مشهورة بالجمال. وفي كلام ابن رشد ما يدل له، ويزاد لتلك الشروط أن لا يكون بالطريق ما تتقى مفسدته. عياض: وإذا منعن من المسجد فمن غيره أولى، وإذا وجدت الشروط، فينبغي أن يخرجن في غير الليالي المقصودة بالخروج. قال في توضيحه: ويتعين في زماننا المنع. انتهى. وقال الإمام الحطاب عند قوله: "وخروج متجالة لعيد واستسقاء وشابة لمسجد": في الحديث: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله
(2)
).
قال الأبي في شرح مسلم: قال القاضي عياض: هو إباحة لخروجهن، ونص أن لا يمنعن، ودليل أن لا يخرجن إلا بإذن الزوج، ثم قال عن القاضي: وشرط العلماء في خروجهن أن يكن غير متزينات، ولا متطيبات، ولا مزاحمات للرجال، ولا شابة مخشية الفتنة، وفي معنى الطيب إظهار الزينة وحسن الحلي، فإن كان شيء من ذلك وجب منعهن خوف الفتنة، وقال ابن مسلمة: تمنع الشابة الجميلة المشهورة، قال الشيخ محيي الدين: ويزاد لتلك الشروط أن لا يكون بالطريق ما تتقى مفسدته. قال القاضي عياض: وإذا منعن من المسجد فمن غيره أولى. انتهى. وفي مناسك ابن الحاج: ولا بأس أن تطوف المرأة وهي لابسة الحلي، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى امرأة تطوف بالبيت وعليها مناجد من ذهب، فقال:(أيسرك أن يحليك الله مناجد من نار؟ قالت: لا، قال: فأدي زكاته)، والمناجد: الحلي المكلل بالفصوص، ألا تراه لم ينهها عن لباسه؟ انتهى. وهذا فيما ليس له صوت ولا يظهر للرجال، فإن ذلك حرام. والمناجد بالدال المهملة، كذا ذكر ابن الأثير في النهاية وقال الشيخ أبو الحسن: قال يحيى بن يحيى: أجمع الناس على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد إلا المتجالة التي انقطعت
(1)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:444. ونصه: فلا تشهد معنا العشاء الآخرة.
(2)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:442.
حاجة الرجال منها فلا بأس أن تخرج، قلت: فلو أن بعض الشواب أرادت الخروج إلى المسجد فمنعها زوجها فأساءت، قال: يودبها ويمنعها، صح من تفسير ابن مزين، ثم قال الشيخ: واختلف التأويل، هل ذلك خطاب للأئمة؟ وإليه ذهب ابن رشد، أو خطاب للأزواج؟ وإليه ذهب الباجي. انتهى. وقال في الطراز بعد أن ذكر لفظ المدونة وحديث ابن عمر: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله
(1)
) ما نصه: ولا فرق في ذلك بين صلاة النهار وصلاة الليل؛ لأن الحديث عام مع أنه قد خرج مسلم في صحيحه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل
(2)
)، وهذا لأن الصلاة المكتوبة في الجماعة جاء فيها فضل كبير، وكذلك المشي إلى المساجد فبالنساء أكثرُ حاجة إلى ذلك كما بالرجال، ويرجع الحال إلى شأن المرأة، فإن عرف منها الديانة والصحة فلا بأس أن يأذن لها في ذلك، وإن عرف منها المكر ولم يتحقق أنها تريد المسجد حتى يتحقق توجه الطلب إليه فله في ذلك مقال. وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم من يوجد منها ريح البخور أن تخرج إليه بالليل، ولا يعرف أن أبكار نساء الصحابة ومن ضاهاهن يخرجن إلى المسجد، وكره في رواية أشهب ترداد المتجالة إليه، ورآى في غيرها أن تخرج إليه المرة بعد المرة، وخرج أبو داوود عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن
(3)
)، وهذا يقتضي أن خروجهن إليها جائز، وتركه أحسن على ما قاله مالك في المختصر. والله أعلم. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: ابن رشد: تلخيص هذا الباب على تحقيق القول فيه عندي أن النساء أربع: عجوز قد انقطعت حاجة الرجل منها؛ فهي كالرجل في ذلك، ومتجالة لم تنقطع حاجة الرجل منها بالجملة، فهذه تخرج إلى المسجد ولا تكثر التردد كما قال في الرواية، وشابة من الشواب؛ فهذه تخرج إلى المسجد في الفرض وفي جنائز أهلها وقرابتها، وشابة فارهة في الشباب والنجابة؛ فهذه الاختيار لها أن لا تخرج أصلا. وبالله التوفيق. انتهى. وظاهر كلامه أن القسم الثاني كالأول في الحكم،
(1)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:442.
(2)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:138.
(3)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:567.
وصرح به أبو الحسن، فقال على قول المدونة: فتخرج المتجالة إن أحبت، ما نصه ظاهره: انقطعت حاجة الرجال منها، أم لا. انتهى.
ولا يقضى على زوجها به؛ يعني أن الشابة غير المخشية الفتنة يجوز خروجها لمسجد على ما مر من الشروط، ولكن لا يقضى على زوجها بذلك؛ أي بالخروج إلى المسجد لصلاة الجماعة إن طلبته، بخلاف المتجالة كما هو ظاهره، ونحوه يفيده ابن رشد، وظاهر السماع والأبي: عدم القضاء لها أيضا. وقوله: "ولا يقضى على زوجها به"؛ أي والأولى عدم المنع لخبر: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله
(1)
) وهو مع اشتراطه في العقد آكد لخبر: (أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج
(2)
)، وقال الشيخ الأمير: وندب لمسنة خروج لمشاهد الخير ولا يقضى به، وجاز مرجوحا لمتجالة لم تكبر كشابة لخصوص الفرض وجنازة أهلها، فإن برعت منعت. انتهى. واقتداء ذوي سفن بإمام؛ يعني أنه يجوز اقتداء ذوي سفن متقاربة بإمام واحد يسمعون تكبيره أو يرون أفعاله، أو من يسمع عنه، ويندب كونه في التي تلي القبلة، فإن لم يكن في التي تلي القبلة فالصلاة جائزة، سواء كانوا في المرسى أو سائرين؛ لأن الأصل السلامة وعدم طرو ما يفرقهم من ريح أو غيره؛ فإن طرأ ما يفرقهم استخلفوا أو صلوا وحدانا، فإن اجتمعوا بعد أن استخلفوا، أو ععلوا عملا كركوع لم يدخلوا معه، فإن دخلوا بطلت صلاتهم، فإن لم يستخلفوا ولا عملوا، أو عملوا كقراءة فهم على مأموميتهم فيتبعونه وجوبا وإن عمل بعدهم عملا، ويجتمع حينئذ البناء والقضاء، فيقدمون البناء، وتفريق السفن ضروري، فلذا اعتدوا بما فعلوا بعد إمامهم بخلاف من ظن سلام إمامه، فقام لقضاء ما عليه، فتبين خطأ ظنه، فيلغي ما فعل قبل سلام إمامه -كما تقدم- وفهم مما تقدم أنهم لو اجتمعوا بعد فراغهم مع إمامهم ولم يفرغ لا شيء عليهم لخروجهم عن إمامته، كما صرح به الشيخ إبراهيم. وانظر لو حصل تفريق الريح للسفن بعد ما قرأ الإمام،
(1)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:442.
(2)
البخاري، كتاب الشروط، رقم الحديث:2721. ولفظه: "أن توفوا به".
هل يعتد المأموم بذلك؛ لأن حكم المأمومية لم يزل منسحبا عليهم إلى وقت التفريق، بل وبعده أيضا حيث اجتمعن قبل الاستخلاف وحصول عمل أولا يعتد به. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر الأول، وصرح به الأمير؛ فإنه قال: واقتداء ذوي سفن سائرة بإمام، فإن تفرقوا ندب الاستخلاف، ثم إن اجتمعوا رجعوا إليه وكفتهم قراءته، وإنما يرجعون إليه إن لم يستخلفوا، ولم يعملوا عملا غير القراءة، وعمله دونهم كالمزاحمة عن الركوع ونحوه السابق. والله سبحانه أعلم.
وفصل مأموم بنهر صغير؛ يعني أنه يجوز فصل المأموم عن إمامه بنهر صغير بحيث يسمعون قول الإمام، أو مأمومه. أو يرون فعل أحدهما، ولا يجوز الفصل بالنهر الكبير، ويعلم حدد مما مر في الصغير. ومنع الإمام أبو حنيفة كل فاصل، والحجة عليه أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يصلين بحجرهن بصلاته عليه الصلاة السلام، وحد الشافعي النهر بثلاثمائة ذراع بينه وبين الصفوف أو الإمام.
أو طريق يعني أنه يجوز فصل المأموم عن إمامه بطريق يامن معه من عدم سماع قوله، أو قول مأمومه، أو رؤية فعل أحدهما. قاله الشيخ إبراهيم. وفي المدونة: قال مالك: لا بأس بالنهر الصغير. والطريق يكون بين الإمام والمأموم. قاله المواق. اللخمي: ولا بأس أن يصلي أهل الأسواق جماعة وإن كانوا على خلاف السنة من تفرق الصفوف وفرقت بينهم الطريق؛ لأن هذه ضرورة في الصلاة.
وعلو مأموم؛ يعني أنه يجوز ارتفاع المأموم على إمامه؛ أي يجوز أن يصلي المأموم بمحل أعلى من الموضع الذي يصلي فيه إمامه، وقوله: علو بضمتين فشدة؛ أي ارتفاع. ولو بسطح؛ يعني أنه يجوز ارتفاع المأموم حال اقتدائه بمحل أعلى من الموضع الذي يصلي فيه إمامه، ولا فرق في ذلك بين علو بسطح؛ بأن يكون المأموم على سطح وغيره، ورد المص بلو قول الإمام الرجوع إليه، ففي المدونة قال مالك: ولا بأس أن يصلي في غير الجمعة على ظهر المسجد بصلاة الإمام والإمام في المسجد، ثم كره ذلك، وبأول قوْلَيْه أقول. انتهى. نقله الشيخ محمد بن الحسن. وغيره. ويدل للمصنف ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى على ظهر المسجد بصلاة الإمام، قاله
الشيخ إبراهيم. وقال الإمام الحطاب: وقال ابن بشير: اختلف قوله في المدونة في الإمام يصلي في المسجد ويصلي قوم فوق المسجد بصلاته، فكرهه مرة وأجازه أخرى، وعللت الكراهة بالبعد عن الإمام أو تفرقة الصفوف، وعدم التحقق لمشاهدة أفعال الإمام، وعلى هذا يكون الجواز إذا قرب عَلِيُّ المسجد لمن أسفله فيكون خلافا في حال. انتهى. ونقله إبن فرحون، فقال: لبعده عن الإمام، وقيل: لكونه لا يشاهد أفعاله، وقيل: لتفريق الصفوف، فعلى الأول إن كان السطح قريبا لم يكره، وعلى الثاني إن شاهد أفعال الإمام أو المأمومين لم يكره، وعلى الثالث يكره مطلقا. انتهى. والظاهر التعليل بالبعد، فلما رأى ابن القاسم أن هذا البعد يمكن معه مراعاة أفعال الإمام بحصول السماع من غير تكلف أجازه، وكرهه في مسألة أبي قبيس المتقدمة لكثرة البعد. والله أعلم. انتهى كلام الإمام الحطاب.
لا عكسه؛ يعني أن علو الإمام على المأموم لا يجوز؛ أي يكره فقط على المعتمد. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الإمام الحطاب: يعني وأما عكس المسألة الأولى وهو أن يكون الإمام على مكان أعلى من مكان المأموم فلا يجوز. قاله الشارح، وابن غازي، وغيرهما. قال ابن بشير: (وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الإمام على أنشز مما عليه أصحابه
(1)
). انتهى. ومعنى أنشز: أرفع، وذكر في الطراز عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه كان بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار رضي الله عنه، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة وأخذ على يديه فتبعه عمار حتى أنزله حذيفة رضي الله عنه، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أمَّ الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم)
(2)
أو نحو ذلك؟ فقال عمار: بذلك اتبعتك حين أخذت على يدي. أخرجه أبو داوود وقال ابن فرحون: لأن الإمامة حالة تقتضي الترفع، فإذا انضاف إلى ذلك علوه عليهم في المكان دل على قصده الكبر. انتهى. وقال الشبراخيتي: وظاهر كلام المص أن علو الإمام على مأمومه
(1)
البيهقي، ج 3 ص 109. ولفظه: لا يصلي الإمام على نشز مما عليه أصحابه. والدارقطني، ج 2 ص 88.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:598.
ممنوع، وظاهر المدونة وكلام سند: الكراهة إذا لم يقصد بعلوه الكبر، ويمكن حمل كلام المص عليه بحمل عدم الجواز على الكراهة: وحينئذ فقوله: "لا عكسه"؛ أي فيكره على المذهب. انتهى. وقوله: "لا عكسه"، قال الشيخ إبراهيم وغيره: محل ذلك إذا لم يكن لتعليم، ودخل الإمام على ذلك من غير ضرورة، فإن كان لتعليم كصلاته صلى الله عليه وسلم على المنبر، أو لم يدخل على ذلك بأن كان ابتدأ الصلاة وحدد على مكان مرتفع. فجاء من صلى أسفل منه أو دخل عليه لضرورة كضيق مكان ونحوه، جاز. انتهى. وقال صاحب الإشراف: إذا كان الإمام فوق السطح فلا تصح صلاة المأمومين؛ لأنه يحتاج إلى عمل في الصلاة بالنظر إلى ضبطه أحوال الإمام. انتهى.
وبطلت بقصد إمام به الكبر؛ يعني أن علو الإمام على المأموم، أو علو المأموم على إمامه إذا قصد به الكبر، فإنه تبطل صلاة من قصد الكبر بذلك العلو من إمام ومأموم، وقوله:"بقصد"، هو في بعض النسخ بالباء، وهي للسببية وهو الذي قررت، وفي بعض النسخ باللام وهي للتعليل، ومعنى الكلام عليها كهو على نسخة الباء؛ أي أن صلاة المعتلي من إمام ومأموم تبطل لقصد الإمام أو المأموم بالعلو الكبر. وفي بعض النسخ بالكاف كقصد: ومعنى الكلام عليها أن علو الإمام على المأموم يبطل صلاته ولو لم يقصد به الكبر، وهو قول لكنه ضعيف، فيكون قوله:"وبطلت"، من تتمة قوله:"لا عكسه"، فيقتضي البطلان مطلقا قصد الكبر أم لا، ثم شبه بالبطلان. قوله:"كقصد إمام الخ"، وقوله:"به"؛ أي بالعلو سواء قل كشبر أم لا. واعلم أن ارتفاع الإمام فعل تقدم من بني أمية على جهة التكبر، فمنع في القاصد وغيره حسما للذريعة، ومن قصد بالعلو الكبر بطلت صلاته إماما أو مأموما، وإن كان إماما أبطل عليه وعلى من خلفه.
واعلم أن المأموم إذا لم يقصد بعلوه على إمامه الكبر، فإن صحة صلاته متفق عليها قاله الحطاب. وفيه: قال ابن القاسم: كره مالك أن يصلي الإمام على شيء هو أرفع مما يصلي عليه من خلفه، مثل الدكان يكون في المحراب ونحوه من الأشياء، قال سحنون: قلت له: فإن فعل؟ قال: عليهم الإعادة، وإن خرج الوقت؛ لأن هؤلاء يعبثون إلا أن يكون على دكان يسير الارتفاع. وفي التهذيب: ولا يصلي الإمام على شيء أرفع مما عليه أصحابه، فإن فعل أعادوا أبدا لأنهم يعبثون
إلا الارتفاع اليسير مثل ما كان بمصر، فتجزئهم الصلاة. انتهى. وهذا يوافق نسخة الكاف المتقدمة؛ أعني قوله:"كقصد إمام"، الخ وقوله: يعبثون، قال ابن فرحون: العبث هو ما يفعل لقصد الكبر، فقوله: لأنهم يعبثون؛ أي يقصدون الكبر والجبروت على المؤمنين، وبه فسر قوله تعالى:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} ؛ أي تبنون بكل موضع آية أي علامة تدل على تكبركم تعبثون عبثا مستغنين عنه. انتهى. وقال سند: وقد سمى الله البناء العالي على الموضع المرتفع عبثا، فقال على لسان بعض أنبيائه:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} ، وموضع الصلاة ينافي العبث والتكبر، فإنها وضعت على التمسكن. إلا بكشبر مستثنى من قوله: لا عكسه فالأولى أن يصله به؛ يعني أن علو الإمام على المأموم محل عدم جوازه حيث كثر، وأما إن قل كشبر فإنة جائز، ونحوُ الشبر عظم الذراع أي من طرف المرفق إلى مبدإ الكف فيجوز اتفاقا، وينبغي أن يراضى الذراع المتوسط. قاله الشيخ إبراهيم، والشيخ عبد الباقي. وبما قررت علم أنه غير مستثنى من مسألة قصد الكبر؛ إذ مع قصد الكبر لا تفصيل بل البطلان ليس إلا.
تنبيهات: الأول فهم من قوله: به أن قصد الكبر، لا بالعلو بل بتقدمه للإمامة، أو بقصد المأموم الكبر بنحو تقدمه من محل مأموم آخر كوقوفه بجنب الإمام، أو وقوفه على نحو بساط لا تبطل. والتعليل بفسق المتكبر يفيد البطلان. قاله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمد بن الحسن: نقل أبو علي عن المازري عدم بطلانها بقصد التكبر في العلو اليسير وأحرى بدون علو فانظره. انتهى.
الثاني: العجب يبطل الثواب ولا يبطل الصلاة فليس كالكبر، والكبر هو استعظام النفس وهو أصل للعجب، والعجب هو استعظام النفس خصالَها التي هي من النعم، والركون إليها من نسيان إضافتها إلى المنعم، والأمن من زوالها. وإنما كان الكبر أصلا للعجب؛ لأن من كبرت نفسه عنده أعجب بعمله، ومن لا فلا، ودواء العجب رؤية المنة لله تعالى، وأنك لا تستحق شيئا من حيث أنت. وحقيقة الرياء هي طلب المنزلة في قلوب الناس بالعبادات وأعمال الخير، وأصله الطمع، ودواؤه الورع، فإن طلب المنزلة في قلوب العباد بأفعال ليست من العبادات فليس بحرام، كطلب
الجاه بكثرة المال، وحسن الثياب وحفظ الأشعار، وعلم الطب والنحو واللغة، وجاز ذلك لأن الإنسان يحتاج إلى اليسير من الجاه ليحرس نفسه من الظلم والعدوان.
الثالث: قال في الطراز: فلو كان الإمام على شرف أو كدية ومن خلفه تحته في وطاء وذلك قدر متقارب: قال ابن القاسم في العتبية: لا بأس به، وهذا يخرج على ما قدمنا؛ لأن كل هذا يعد أرضا واحدة ومكانا واحدا، سيما إذا اتصلت الصفوف بخلاف السقف والأرض، فإنهما موضعان ومكانان مختلفان. انتهى. قاله الإمام الحطاب.
وهل يجوز إن كان مع الإمام طائفة كغيرهم؛ يعني أن ما ذكره أولا من عدم الجواز في قوله: "لا عكسه" سواء حمل على الكراهة أو على المنع اختلف فيه، هل ذلك مطلقا؟ سواء كان مع الإمام طائفة من المأمومين أو كان وحده وهو ظاهر المذهب عند صاحب الطراز، أو إنما ذلك إذا كان وحده أو معه من ليسوا كغيرهم. وأما إن كان مع الإمام طائفة من المأمومين كغيرهم ممن ليس معه في العلو والفضل والعظمة؛ أي ليسوا من أشراف الناس بل من سائر الناس، فإن ذلك جائز. واعلم أن هذا الأخير لابن الجلاب، إلا أن ابن الجلاب قال: محل ذلك؛ يعني المنع أو الكراهة إن كان الإمام وحده وأما إن كان مع غيره فلا كراهة: واختاره وساقه على أنه المذهب. وقوله: "كغيرهم"، أشار به المص إلى ما ذكره في توضيحه بعد ذكره كلام ابن الجلاب ونصه. وقيد بأن تكون الطائفة من سائر الناس، قال الشارح: احترازا مما إذا صلى معه طائفة من أشراف الناس فإن ذلك مما يزيدد فخرا وعظمة. انتهى. قاله الإمام الحطاب. وقوله: تردد؛ أي في ذلك تردد. وهو إلى التأويل أقرب، قاله الشيخ إبراهيم. وتحصل مما مر أن سندا هو القائل بعدم الجواز مطلقا، وابن الجلاب هو القائل بالجواز حيث كان مع الإمام طائفة، وقيد كلامه بما إذا كانت الطائفة التي معه من سائر الناس. والله سبحانه أعلم.
ومسمع؛ يعني أنه تجوز صلاة المسمع وهو الرافع صوته للعلم بما يفعله الإمام ليتبع، ومن لازم جواز صلاته صحتها، وظاهره ولو قصد بالتكبير وربنا ولك الحمد مجرد إسماع المأمومين، خلافا للشافعية القائلين: إن قصد ذلك بطلت صلاته.
واقتداء به؛ يعني أنه يجوز الاقتداء بالمسمع، ومعنى ذلك أنه يجوز للمأموم أن يعتمد في انتقالات الإمام على صوت المسمع لعمل أهل الأمصار من غير نكير، (ولصلاته صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وراءه يسمع الناس
(1)
)، والأفضل أن يرفع الإمام صوته ويستغني عن مسمع، وظاهر المص جواز الاقتداء به ولو صغيرا، أو امرأة، أو غير مصل، أو غير متوضئ. واختاره البرزلي مخالفا لفتوى بعض شيوخه ببطلان صلاة المقتدي بسماع واحد من الأربعة، واستظهر الحطاب ما للبرزلي في الأولين وما لشيخه في الأخيرين، قال: لقولهم مراتب الاقتداء أربعة: رؤية أفعال الإمام أو المأموم، أو سماع قول الإمام أو المأموم، ويخرج من ليس في صلاة أو من على غير وضوء، وأعلاها رؤية فعل الإمام، فسماع قوله: فرؤية فعل المأموم أو سماع قوله، فإن تعذرت الأربعة فلا إمامة. فإذا كبر الإمام للإحرام وكبر المسمعون خلفه إذ ذاك قبل أن يدخلوا في الصلاة ليسمعوا الناس فيعلموا أن الإمام قد كبر، فمن أحرم بذلك سرى الخلل في صلاته لما تقدم إذ هذا ليس واحدا من الأربعة، وللوانشريسي رحمه الله.
هل المسمع وكيل أو علم
…
على صلاة من تقدم فأم
عليه تسميع صبي أو مره
…
أو محدث أو غيره كالكفره
وعلى أنه وكيل فلا يجوز التسميع حتى يستوفي شرائط الإمام، ولما ذكر المص صحة الاقتداء بصوته فأولى صوت الإمام، ذكر الرؤية بقسميها، فقال: أو برؤية؛ يعني أنه يجوز الاقتداء برؤية لإمام أو مأموم، فقد اشتمل كلام المص على مراتب الاقتداء الأربع المذكورة.
وإن بدار؛ يعني أنه يجوز الاقتداء مع حصول أحد الأمور الأربعة، وإن كان المقتدي بدار والإمام خارجها بمسجد أو غيره كان بينهما حائل أم لا خلافا للشافعي في الأول، وإذا جرت عادة
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:712.
الناس على شيء مما اختلف فيه ومستنده صحيح فلا ينبغي للمخالف أن يحمل الناس على مختاره، فيدخل عليهم شغبا في أنفسهم وحيرة في دينهم.
وقد تقرر أن من شرط تغيير المنكر أن يكون متفقا على أنه منكر، ومثل المتفق عليه ما ضعف مدرك القول به لكونه مخالف نص قرآن أو سنة أو إجماع. قوله:"وإن بدار"، قال الشيخ محمد بن الحسن: إن أراد من في الديار التي بقرب المسجد أن يصلوا بصلاة إمام المسجد جاز ذلك إن كان إمام المسجد في قبلتهم يسمعونه ويرونه ويكره إذا كان على بعد يرونه ولا يسمعونه؛ لأن صلاتهم على التخمين والتقدير، وكذلك إذا كانوا على قرب يسمعونه ولا يرونه لحائل بينهم؛ أو لأنه ليس على قبلتهم لأنهم لا يدرون ما يحدث عليه، فإن نزل جميع ذلك مضت وأجزأتهم صلاتهم. انتهى. ونقله أبو الحسن: وأقره، وبه تعلم أن المراد بالجواز هنا مطلق الإذن الشامل للكراهة. انتهى. وما ذكره من الكراهة في الرؤية فقط أو في السماع فقط خلاف الراجح، بل الراجح الجواز كما هو صريح المصنف. انظر الرهوني. والله تعالى أعلم. واعلم أنه قد قيل ببطلان صلاة المسمع وصلاة المقتدي به، وفي المدخل: إذا بطلت صلاة المسمع سرى البطلان إلى صلاة من صلى بتبليغه، فراجعه. والله أعلم. وفي المنجور: فما عليه السلف والخلف من جواز هذا الفعل يعني الاقتداء بالمسمع حجة بالغة على من خالفهم، فكيف بمن فسقهم أو بدعهم وضللهم، فهذا مخالف للجماعة جدير بهذه الأوصاف أو بعضها، أو مكابر: أو جاهل بالعلم لا عقل له. انتهى. قاله الامام الحطاب. وقال الشيخ الأمير: وجاز اعتماد على مسمع من المأمومين لا غير، فمحرم على الأظهر، والأظهر أيضا لا يشترط استيفاؤه حكم الإمام النائب عنه من ذكورة وبلوغ. انتهى، واعلم أنه لا يشترط معرفة عين الإمام، قال الشيخ الأمير: ومما يلغز به هنا: شخص تصح صلاته فذا وإماما لا مأموما؛ يعني الأعمى الأصم إلى آخر كلامه.
وشرط الاقتداء نيته؛ يعني أنه يشترط واقتداء المأموم ثلاثة شروط، أولها نيته أي نيتة اقتدائه بالإمام؛ وهو أن ينوي الاقتداء بإمامه حين إحرامه في سائر الصلوات، ويمتنع عليه بسببه الانتقال، فلوأحرم شخص منفردا ثم في أثنائها رأى إماما بين يديه فنوى الاقتداء به بطلت صلاته، لفوات محل النية؛ لأن النية لابد أن تكون مقارنة لأول الفعل، ولذلك فرع ابن الحاجب
على هذا الشرط قوله: فلا ينتقل منفرد لجماعة واعترض المص بأنه لا يتأتى اقتداؤه به من غير نية، وأجيب بأن المراد شرط له نيته من أول الصلاة، فلوأحرم شخص منفردا ثم في أثناثها إلى آخر ما مر، وقوله:"وشرط الاقتداء نيته"، قال الأبي: لما ذكر بعض مدرسيه التونسيين أن شرط اقتداء المأموم نيته شق على بعض الحاضرين، وقال: ما أصنع؟ ما نويت هذا قط، فقال الشيخ المدرس: إنك لا تحرم حتى يحرم، ولا تركع حتى يركع، فقال: بلى، فقال: تلك هي نية الاقتداء. انتهى. والاقتداء أن يَتِّبعَ مُصَلّ غيره في جزء من صلاته، والإمامة أن يتَّبَعَ مصل في جزء من صلاته غير تابع غيره فيه. انتهى. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي: وأجيب عن الاعتراض المذكور أيضا بأن يراد بالاقتداء مطلق المتابعة؛ وهو يصدق بأمرين: أحدهما اتباعه على أن يحمل عنه ما يحمله الإمام عن مأمومه، وهذا لابد فيه من نية الاقتداء، فإن نوى حمله لما ذكر ولم ينو الاقتداء بطلت صلاته ثانيهما: أن يتابعه في أفعاله لا على أن يحمل عنه ما ذكر، ويأتي في صلاته بما تتوقف صحتها عليه، فهو إنما يتابعه صورة لا حقيقة، وهذه لا يشترط فيها نية الاقتداء، وصلاته صحيحة بدونها. وإنما يحصل هذا غالبا ممن يعلم قادحا في صلاة الإمام، ويخشى ضررا بصلاته منفردا عنه ومن بعض أهل البدع الذين يرون بطلان إمامة غير المعصوم. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: التحرير هوأن الشرط هو كون نية الاقتداء أوَّلًا لا وجودها؛ لأن فقدها لا يبطل الصلاة. انتهى. ويدل له ما تقدم عن الأبي وابن الحاجب، وبهذا علم أنه لا تناقض بين عدها هنا شرطا وعده لها في فرائض الصلاة ركنا، فكأنه قال: يشترط لهذا الركن أن يكون من أول الصلاة كالإحرام بخلاف ركنية الركوع، وقال الشبراخيتي: إن محل بطلان صلاة المنفرد إذا انتقل لجماعة إنما هو إذا ترك الركن القولي الذي هو قراءة الفاتحة، وإلا كانت صلاته صحيحة. بخلاف الإمام؛ يعني أن الإمام ليس كالمأموم في شرطية النية، فإن نية اقتداء المأموم شرط في صحة صلاته، والإمام نية الإمامة ليست شرطا في صحة صلاته ولا صلاة من يقتدي به سواء أم رجالا أو نساء. وفي سماع موسى: أن من أمَّ نساء تمت صلاتهن إن نوى إمامتهن، وأخذ منه ابن زرقون وجوب نية الإمامة في إمامة النساء.
ولو بجنازة؛ يعني أن صلاة الجنازة كغيرها من الصلوات في أنه لا يشترط في صحتها نية الإمامة من الإمام، فتصح له ولهم إن لم ينوها؛ لأن الجماعة فيها شرط كمال لا شرط صحة. وقال ابن بشير. تجب على الإمام نية الإمامة في الجنازة بناء على اشتراط الجماعة فيها، وعلى هذا القول رد المص بلو إلا جمعة؛ يعني أن نية الإمامة، تشترط في أربع صلوات، إحْدَاهَا الجمعة فلابد في صحتها من نية الإمامة لشرطية الجماعة فيها، فإن لم ينوها بطلت عليه وعليهم، ثانيتها أشار إليها بقوله: وجمعا؛ يعني أن الجمع ليلة المطر لابد فيه من نية الإمامة لشرطية الجماعة فيه دون غير من جمع السفر والمرض وعرفة والمزدلفة، فلا يشترط في جمعها النية المذكورة، ونية الإمامة تكون في الصلاتين على المشهور. قاله الشيخ عبد الباقي، والشيخ إبراهيم. وقيل في الثانية فقط، وقال الشيخ محمد بن الحسن: لم يذكر التوضيح والحطاب إلا أن ابن عطاء الله تردد في هذه النية، هل محلها الأولى أو الثانية أو هما؟ انتهى ولابد أيضا من نية الجمع، وهي عند الأولى فقط، وهي واجبة غير شرط قال:
ونية الجمع فعند الأولى
…
وغير شرط فافهم المقولا
قال هذا الشارح: ولا ينافي كون نية الجمع غير شرط قول صاحب الجواهر: ولا يجزئه أن ينوي في أول الثانية، وقيل: يجزئ، ونحوه لابن عطاء الله؛ لأن معناه لا يجزئ أي لا يحصل نية الجمع الواجبة غير شرط أن تكون في الثانية. وقيل: يجزئ، قال الشيخ محمد بن الحسن: وإن ترك نية الإمامة فيهما أو في الثانية فقط بطلت الثانية فقط لا الأولى، والظاهر أنه لا يصليها حينئذ قبل الشفق أي للفصل بأربع ركعات التي بطلت. انتهى.
وبما قررت علم أن قوله: "وجمعا" مقيد بالجمع ليلة المطر، بذلك قيده ابن غازي وغيره لما علمت، ثالثتها. أشار إليها بقوله: وخوفا؛ يعني أن الإمام في صلاة الخوف لابد له من نية الإمامة، وهذا إذا أديت الصلاة فيه على هيئتها المشهورة من القسم: فإن لم ينوها بطلت صلاة الطائفتين والإمام؛ لأن صلاتها على تلك الصفة لا تصح إلا جماعة: رابعتها أشار إليها بقوله ومستخلفا؛ يعني أن من كان مأموما فطرأ على الإمام عذر فاستخلفه ليكمل الصلاة بالمأمومين
يلزمه أن ينوي الإمامة ليميز بين نية المأمومية والإماميَّة، فإن لم ينو الإمامة بطلت عليه وعليهم. وقيل تبطل عليه دونهم وتكون من المستثنيات، وقيل: تبطل عليهم دونه، قال الإمام الحطاب ما معناه أن هذا الذي ذكر المص من شرطية نية الإمامة في الاستخلاف إنما يتمشَّى على قول ابن عبد الحكم: أنه إذا طرأ على الإمام عذر ولم يستخلف وصلى القوم أفذاذا بطلت صلاتهم، وأما على مذهب ابن القاسم في المدونة الذي هو أنهم إن صلوا أفذاذا صحت صلاتهم، فليست نية الإمامة في الاستخلاف بلازمة نقله عن القباب؛ هو معترض بأن الكلام في المستخلف بالفتح وهو شرطه الجماعة، فالاعتراض بأنهم تصح صلاتهم أفذاذا غير ظاهر. انظر حاشية الشيخ بناني.
ولما كانت نية الإمامة في الصلوات الأربع شرطا له في صحتها بحيث تنعدم بانعدامه، وفضل الجماعة كذلك ينعدم حصوله للإمام بانعدام نية الإمامة عند الأكثر، وإن لم يكن ذلك شرطا في صحة الصلاة نفسها قال: كفضل الجماعة؛ يعني أنه لابد في حصول فضل الجماعة للإمام من نية الإمامة عند الأكثر، فالتشبيه في الشرطية؛ أي كما يشترط في صحة الصلوات المذكورة نية الإمامة، فإن تركها الإمام بطلت؛ يشترط في حصول فضل الجماعة للإمام نية الإمامة، فإن تركها لم يحصل له فضل الجماعة، فإذا صلى رجل منفردا ثم جاء من صلى خلفه ولم يعلم به حصل له فضل الجماعة دون إمامه، فإن علم به ونوى الإمامة حصل له فضلها، وإن لم ينو فالظاهر أنه كما لو لم يعلم به. قاله الشيخ عبد الباقي.
واختار في الأثير خلاف الأكثر؛ يعني أن اللخمي اختار أن الإمام يحصل له فضل الجماعة ولو لم ينو الإمامة، فقوله:"في الأخير"؛ أي الفرع الأخير الذي هو قوله كفضل الجماعة، فإن الأكثر قالوا: لا يحصل للإمام فضل الجماعة إلا بنية الإمامة، والأقل قالوا: يحصل له بدون نية الإمامة، وحينئذ فلو عبَّر المص بالاسم بأن يقول: والمختار في الأخير خلاف الأكثر لكان أولى؛ لأنه اختار قول الأقل. وكلام اللخمي الذي أشار إليه المص على نقل الحطاب هو قوله: قال مالك فيمن صلى لنفسه ثم أتى رجل فائتم به أنها له صلاة جماعة. قال الشيخ وكذلك الإمام تصير له جماعة ولا يعيد في جماعة أخرى. انتهى. وفي كلام اللخمي نظر لقولهم: لا يثاب المرء على ترك
العصيان إلا بقصد طاعة الملك الديان، ولا على القيام بفرض الكفاية إلا بقصد القربة، ويلزم على قول الأكثر أن يعيد في جماعة. قاله ابن عبد السلام، وابن عرفة. قال ابن علاق: ما أظن أحدا يقول ذلك، ولا يخفى أن قولهما يلزم أن لا يعد قولا لما تقرر من أن لازم المذهب ليس بمذهب. قاله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ محمد بن الحسن: قوله: يلزم على قول الأكثر إلخ، صرح به أبو الحسن كأنه المذهب قائلا: ويلغز بها. فيقال: أخبرني عن إمام صلى بقوم وحصل لهم فضل الجماعة، وله أن يعيد في جماعة أخرى. انتهى.
تنبيهات: الأول. قد قدمت عند قول المص: "ونية رفع الحدث"، أن الواجب الذي لا تتوقف صحة فعله على نية لا ثواب فيه إلا بقصد امتثال أمر الله، كالإنفاق على الزوجات والأقارب والدواب، والإمامة من هذا القبيل.
الثاني: قال الشيخ إبراهيم: اعلم أن ما تقدم من حصول الاقتداء بالالتزام يجب مراعاته في حق الإمام، فيقال: هذا الشرط وإن كان شرطا في الصحة في الأربع الأول وفي حصول فضل الجماعة في الأخيرة، لكن لا يلزم التعرض له بما يدل عليه مطابقة؛ لأن هناك ما يدل عليه التزاما لتقدم الإمام في الاستخلاف للمحراب. وكذا في الجمعة وغيرها. انتهى. ونحوه للشيخ الأمير فإنه قال: وتكفي النية الحكمية في الإمامة كغيرها، وإنما المضرنية الفذية. انتهى.
الثالث: علم مما تقدم أن نية الإمامة تكون في أول الصلاة وفي أثنائها فليست كنية اقتداء المأموم. الرابع: من نوى الإمامة ظانا أن خلفه من يقتدي به فتبين خلافه صحت صلاته فإن نواها مع جزمه بعدم صلاة أحد خلفه بطلت صلاته. قاله الشيخ علي الأجهوري. قال الشيخ عبد الباقي: ولعله لا تبطل إن شك عملا بمفهوم اخر كلامه، ونازع الشيخ بناني في قوله: فإن نواها مع جزمه بعدم صلاة أحد خلفه بطلت.
الخامس: عبارة الشيخ الأمير: اللخمي: يحصل فضل الجماعة وإن لم يقصد الإمامة والأكثر على خلافه. نص الشافعية إن أحدثها في الأثناء فالثواب من حينه، ولا يخالف مذهب الأكثر، وزادوا الجماعة المنذورة يحتاج الإمام لنية وهي عند التأمل من فروع فضل الجماعة. انتهى.
السادس: يضاف لما ذكر الإمام الراتب إذا صلى وحده، فإنه إنما تحصل له فضلية الجماعة إذا نوى الإمامة.
السابع: قد مر سماع موسى ابن القاسم: من أم نساء تمت صلاتهن إن نوى إمامتهن، فأخذ منه ابن زرقون وجوب نية الإمامة في إمامة النساء، وجعله ابن رشد مقابلا لمذهب المدونة وأنه يرى وجوب نية الإمامة في الرجال والنساء، وَوَجَّه ذلك بأن الإمام ضامن، وبأنه يحمل القراءة ولا ضمان ولا حمل إلا بنية. انتهى. نقله الإمام الحطاب. وقد علمت أن المشهور أن الإمام ضامن وحامل للقراءة ولو لم ينو ذلك -كما مر- والله سبحانه أعلم.
ومساواة في الصلاة عطف على قوله: "نيته"، وهو ثاني الشروط؛ يعني أنه يشترط في صحة صلاة المقتدي مساواة منه لإمامه في عين الصلاة التي اقتدى به فيها، فإن لم تحصل المساواة في عين الصلاة كما لو أحرم بالظهر خلف من يصلي العصر بطلت صلاته، ومن دخل مع قوم يظنهم في الظهر فلما صلى ركعة أو ركعتين تبين له أنها العصر، فحكى ابن رشد في ذلك قولين، أحدهما أنه يقطع بتسليم ثم يستأنف الصلاتين، والثاني أنه إن كان صلى معه ركعة أو ثلاثا فليشفع بأخرى، قال: وهو الذي يأتي على ما في المدونة في الذي يذكر الظهر وهو مع الإمام يصلي العصر أنه يتمادى معه ثم يعيد، قال: ولو علم ساعة دخل مع القوم في صلاتهم أنها العصر لتمادى مع الإمام إلى تمام ركعتين على الثاني، ولم يتم معه على القول الأول. انتهى. قاله الحطاب. وقوله: وإن بأداء وقضاء؛ مبالغة في المفهوم؛ يعني أنه إذا حصلت المخالفة فإن صلاة المقتدي باطلة، وإن كانت المخالفة حاصلة بأداء من أحدهما وقضاء من الآخر كمن يصلي ظهر يومه خلف من يصلي ظهر أمسه وعكسه. ومثل عبد الباقي للمخالفة بالأداء والقضاء بمالكيّ يصلي الظهر بعد أذان العصر خلف شافعي وفيه نظر، كما قال الشيخ محمد بن الحسن، فإنه قال: في منع هذه الصورة نظر، والظاهر من كلامهم جوازها كما تقدم في قوله: ومخالف في الفروع، بل ذكر ابن عرفة هنا الإجماع على جواز الاقتداء بالمخالف إذا كانت مخالفته من حيث اعتقاده فقط. انتهى. وحينئذ
فيكون معنى المص أن أحدهما يصلي الظهر مثلا في وقته أداء، والآخر يصليه قضاء؛ بأن يكون من يوم فائت.
أو بظهرين من يومين؛ يعني أنه إذا لم تكن المخالفة بأداء من أحدهما وقضاء من الآخر، بل كانت بالزمن مع اتحادهما في كونهما قضاء كصلاة من عليه ظهر أمس مثلا خلف من عليه ظهر اليوم الذي قبله، فإن صلاة المقتدي باطلة؛ وهذا هو الراجح من اعتبار الزمن في قضاء الفوائت.
ومقابل الراجح أنها تصح؛ لأنه لا يعتبر اتحاد الزمن في قضاء الفوائت. وقوله: إلا نفلا خلف فرض. مستثنى من قوله: ومساواة في الصلاة؛ يعني أن المتنفل إذا ائتم بالمفترض، فإن صلاة المتنفل صحيحة لارتفاع رتبة الفرض عنه كضحى خلف صبح صلي بعد طلوع الشمس. وفي التلقين: أن للمأموم التنفل أن يأتم بالمفترض. انتهى، ابن عرفة هذا على جواز النفل بأربع أو في سفر. قاله المواق. وقال الحطاب: التنفل بأربع الذي يظهر أنه مكروه ابتداء؛ لأن عياضا ذكر في قواعده أن من مستحبات النافلة أن يسلم من كل ركعتين، وفي التلقين: الاختيار في النفل مثنى مثنى. وفي المدونة: ما نصه: وصلاة النافلة في الليل والنهار مثنى مثنى. ابن ناجي: هذا مذهب مالك باتفاق، وفي ابن الحاجب: وعدة النوافل ركعتان ليلا ونهارا، قال الإمام الحطاب: وأما في هذه المسألة؟ يعني مسألة المص "إلا نفلا خلف فرض"، فالظاهر أنه خفيف لمتابعة الإمام. وقد قال سند فيمن صلى التراويح مع الإمام ونيته أن يتنفل في بيته أنه يجوز له أن يصلي معه الوتر ثم يشفع بأخرى؟ قال: ولا يضره جلوسه على ركعة؛ لأن ذلك بحكم متابعة الإمام، كما يتنفل خلف المفترض فيصلي أربعا بحكم المتابعة. ابن عرفة: تردد أصحابنا في ائتمام ناذر ركعتين بمتنفل، وخرجه بعض شيوخه على إمامة الصبي ورد بنية الفرض. انتهى. وقوله: إلا نفلا خلف فرض قال الشيخ عبد الباقي: كضحى خلف صبح صلي بعد طلوع الشمس: وكفجر خلف صبح صلي بوقته: خلافا للبساطي. وقال ابن غازي عن ابن عرفة بناء على جواز النفل بأربع أو في سفر. انتهى. فهذه أربعة أجوبة عن كون النفل ركعتين، والفرض غير ركعتين غالبا. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: الرد على البساطي يحتاج إلى نقل يصرح بجواز الفجر خلف الصبح، ولا يرد عليه بظاهر لفظ المص؛ لأن ظاهر كلامهم أنه في النفل المحض والفجر ليس منه.
انظر مصطفى. وقوله: فهذه أربعة أجوبة الخ، الاحتياج لهذه الأجوبة مبني على أن الاستثناء في كلام المص يفيد الجواز وفيه نظر، والظاهر أنه يفيد الصحة فقط، وأنه لا يحتاج إلى جواب. وأما ابن عرفة فإنه رتب البناء المذكور على كلام التلقين المصرح فيه بالجواز. واعلم أن من نوى النفل خلف أخيرتي الظهر مثلا فإنه يقتصر عليهما، ولو نوى به أربعا وإن دخل من أولها كمل أربعا، وإن نوى اثنتين أو ظنه مسافرا فظهر أنه مقيم، هذا حكم ما بعد الدخول فيه، وأما الإقدام عليه فظاهر نقل المواق أنه يكره، وظاهر الشارح والتتائي وبعضهم الجواز. انظر الزرقاني.
تنبيهات: الأول: لو شك أحد شخصين في ظهر يوم معين، هل فعله أم لا؟ وتحقق آخر نسيانه في ذلك اليوم واقتدى المتيقن بالشاك، فإن صلاة المتيقن تبطل وعكسه تصح صلاتهما، قاله سحنون، وذكره الحطاب. ويلغز بها فيقال: رجلان في كُلٍّ شُرُوط الإمامة، واقتدى أحدهما بالآخر في ظهر يوم بعينه، ونوى الاقتداء وصحت لأحدهما دون الآخر، وقال أيضا رجلان في كل شروط الإمامة، وأحدهما يصح اقتداؤه بالآخر دون العكس. قاله الشيخ عبد الباقي.
الثاني: قال الشيخ عبد الباقي دل ما قبل المبالغة على أنه لابد من اتحاد صلاة المأموم والإمام وما بعدها على أنه لابد من اتحاد صفتهما أداء وقضاء، وقوله:"أو بظهرين"، على أنه لابد من اتحاد زمنهما، ومسألة الشك التي ذكرناها أنه لابد من اتحاد موجبهما، فإن اختلف ففيه تفصيل كما علمت، فإن قلت من تيقن ترك ظهر يوم بعينه ومن شك في تركه كل منهما اشتغلت ذمته به، فلم بطلت صلاة المتيقن المقتدي بالشاك دون عكسه؟ قلت: لأنه لا احتمل فعل الشاك لها فصار المتيقن مقتديا بمتنفل وهذا يوجب البطلان، وصحت صلاة الشاك حيث اقتدى بالمتيقن لاشتراكهما في وجوب القضاء. ويستفاد من هذا أنه إذا كان كل منهما شاكا أن صلاة المقتدي باطلة للاحتمال المذكور، وصلاة الإمام صحيحة لأنه لا يطرقه احتمال بطلان. انتهى المراد منه.
الثالث: قول المص إلا نفلا خلف فرض، قال الشيخ الأمير: فلو ترتب على الإمام سهو في الفرض لا يقتضي السجود في النفل كترك سورة، فالظاهر اتباعه كمسبوق لم يدرك موجبه ومقتد
بمخالف، ثم قال: ولا عبرة بنذر النفل، كما أعطوه في أوقات النهي حكم أصله خصوصا، وبعض الأئمة يجيز الفرض خلف نفل، وكذا قضاء المفسد؛ فإن بعضهم لا يوجبه هذا هو الظاهر.
ولا ينتقل منفرد لجماعة هذا الفرع، والذين بعده من ثمرات الشرط الأول؛ يعني أنه إذا أحرم شخص منفردا فإنه لا ينتقل لجماعة بحيث يصير مأموما لفوات محل النية؛ لأن نية الاقتداء إنما تكون في أول جزء من الصلاة، وأما انتقال المنفرد بحيث يصير إماما فجائز -كما مر- قال الشيخ إبراهيم: إنما تبطل صلاة المنفرد إذا انتقل للجماعة إن ترك الركن القولي؛ أي الفاتحة، وإلا فلا تبطل. وقد مر هذا. كالعكس؛ يعني أنه كما لا ينتقل الفذ للمأمومية لا يتنقل المأموم للفذية وإلا بطلت. وقوله:"كالعكس"؛ أي مع بقاء الجماعة، وأما المستثنيات فقد انتقل للانفراد بعد ذهاب الجماعة. وقوله:"كالعكس" أورد عليه أنه إنما يتمشى على قول ابن عبد الحكم القانل: إن الإمام إذا طرأ عليه عذر ولم يستخلف، وأتم المأمومون أفذاذا بطلت صلاتهم: وأما على قول ابن القاسم في المدونة فلا؛ لأن المأمومين يجوز لهم أن يتموا أفذاذا. والله أعلم. قاله الإمام الحطاب. وقال الشيخ محمد بن الحسن: يستثنى من هذا مسائل الخوف، والاستخلاف، والرعاف، والسهو، وباستثنائها يندفع ما ذكره الحطاب والأجهوري من أنه مبني على قول ابن عبد الحكم بوجوب الاستخلاف إن طرأ عذر للإمام، لا على قول ابن القاسم بأنهم يتمون أفذاذا.
وفي مريض اقتدى بمثله فصح قولان؛ يعني أن المريض العاجز عن ركن إذا اقتدى بمثله على ما مر في قوله: إلا كالقاعد بمثله فصح المريض؛ فإنه اختلف هل يلزم المقتدي الانتقال عن متابعة إمامه؟ وعليه فيلزمه أن يتم منفردا، ولا نظير له في المذهب، أو يلزمه اتباعه فيتم معه مأموما لدخوله معه بوجه جائز، ومراعاة للقائل بجواز ذلك ابتداء كما لميارة، وعليه فيتبعه من قيام، والقول الأول لسحنون، والثاني ليحيى بن عمر كما في التوضيح، وعلى القول الأول فالظاهر أنه لا يصح الاقتداء به. ومفهوم قوله:"بمثله فصح" المريض، أن المريض إذا اقتدى بصحيح ثم صح المقتدي، وأن المريض إذا اقتدى بمثله فصح الإمام، وأن الصحيح إذا اقتدى بمثله ثم مرض المأموم، صحت في الثلاث، ولو مرض الإمام لم يصح الاقتداء به، كما يأتي في قوله: "وتأخر
مؤتما في العجز"، وكما تقدم في قوله: "وبعاجز عن ركن"، فإنه يشمل طرو العجز أثناءها. قاله الشيخ عبد الباقي.
وثالثها: متابعة في إحرام؛ يعني أنه يشترط في صحة صلاة المأموم متابعة منه لإمامه في تكبيرة الإحرام. وسلام؛ يعني أنه كما يشترط في صحة صلاة المأموم متابعة منه لإمامه في الإحرام، يشترط في صحتها أيضا أن يتابعه في السلام. قال الشبراخيتي: والمتابعة هي أن يبتدئ المأموم الإحرام أو السلام بعد تمام إحرام إمامه أو سلامه انتهى، وقال الشيخ عبد الباقي: أي يفعل المأموم كلا منهما بعد فراغ الإمام منه وإلا
(1)
فالمساواة؛ يعني أن المتابعة في الإحرام والسلام شرط في صحة صلاة المقتدي، فلذلك إذا ساواه فيهما بطلت صلاته، وأولى في البطلان إذا سبق الإمام في الإحرام والسلام.
والحاصل أن الصور تسع تبطل في سبع منها؛ وهي أن يبتدئ المأموم بالنطق قبل الإمام، ختم المأموم قبله أو معه أو بعده، أو ينطق معه من أول حرف، ختم المأموم قبله أو معه أو بعده، أو يبتدئ المأموم بعد الإمام ويختم المأموم قبل الإمام. فتلك سبع، وتصح صلاة المقتدي في اثنتين، وهما: أن يبتدئ المأموم بعد ابتداء إمامه، ويختم المأموم مع إمامه أو بعده، ونظمها الشيخ علي الأجهوري فقال:
مصل مساوٍ من ائتم به
…
في الاحرام أو في السلام ابطل
وإن فيهما يسبق المقتدي
…
إمام بحرف فلا تبطل
إذا لم يكن ختمه قبله
…
وإلا فأبطل على المنجلي
وللشيخ ميارة:
(1)
في عبد الباقي ج 2 ص 23: وإلا بطلت إن سبق الإمام ولو بحرف أو ساواه في البدء.
فسابق في البدء أبطل مطلقا
…
كذاك في التمام أيضا حققا
ومبتد بعد ومعه قد كمل
…
أو بعده صحت له نلت الأمل
والخلف إن معه وبعده أتم
…
وقد بدا معه وصحة تؤم
والواو في قوله: إن معه وبعد؛ بمعنى أو لكن قوله: وصحة تؤم، يقتضي ترجيح القول بالصحة في الأخيرتين، وفيه نظر، بل الراجح فيهما البطلان لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا
(1)
)، فأتى بالفاء المقتضية للتعقيب. انظر حاشية الشيخ بناني. وإن بشك في المأمومية؛ يعني أن مساواة المأموم للإمام في الإحرام أو في السلام تُبطِلُ الصلاة؛ أي صلاة المقتدي، وإن وقعت المساواة في حالة شك منهما، أو من أحدهما في المأمومية والإمامية أو الفذية. وبما قررت علم أن قوله: مبطلة؛ خبر عن قوله: "فالمساواة". وتبطل الصلاة بالمساواة والمسابقة -على ما مر- سواء كانت المساواة أو المسابقة عمدا أو جهلا أو سهوا في الإحرام، وأما في السلام فكذلك في العمد والجهل، وأما في السهو فلا تبطل إلا إذا حصل طول بعد سلام الإمام ولم يسلم، والباء في قوله:"بشك"، بمعنى: في، فعلم من هذا أنه لا فرق فيما ذكر بين من يتحقق مأموميته: وبين من يشك فيها فلم يدر أهو مأموم أو غيره؟
والحاصل أنه إذا انضم للشك من أحدهما في المأمومية شك في الإمامية والفذية، أو في إحداهما وسلم قبل سلام الآخر بطلت، فإن سلم بعده فصلاته صحيحة، وكذا لو شك كل في المأمومية والفذية، ولو شك أحدهما في الإمامة والفذية لا تبطل بسلامه قبل الآخر، ولو شك كل منهما في الإمامة والفذية أو نوى كل منهما إمامة الآخر صحت صلاتهما، تقدم سلام أحدهما على الآخر أم لا، وهذا ما لم يقتد أحدهما بالآخر وإلا بطلت صلاة المقتدي لتلاعبه. فعلم أنه إن وقع الشك منهما في المأمومية بطلت عليهما معا في المساواة، وأما في السبق من أحدهما فتبطل صلاة السابق مطلقا، وكذا صلاة المتأخر إن ختم قبل السابق وإلا صحت، وإن وقع الشك من أحدهما فصلاته
(1)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:378.
باطلة في المساواة والسبق، والآخر إن اعتقد الفذية أو الإمامة صحت صلاته وإن اعتقد المأموية بطلت عليه في المساواة والسبق أيضا، وكذا في التأخير إن ختم قبل الآخر. والله أعلم. وأشعر قوله:"مبطلة" أنه لا يحتاج لسلام؛ وهو لمالك، وقيل لابد من السلام؛ وهو لسحنون. واختاره بعض المتأخرين بمثابة من أحرم بالظهر قبل الزوال، أو أحرم بها فذكر وهو في الصلاة أنه صلاها، فإن الإحرام ينعقد نافلة فيهما فلابد من السلام، وفرق بأن هذا أحرم على أنه مأموم فلم يصح له ذلك، فهو كمن أحرم بالظهر خلف من يصلي على جنازة، لا كمن أحرم بالظهر قبل الزوال، أو ذكر بعد إحرامه. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: وأشر قوله: "مبطلة" الخ، نص ابن عرفة: وفي قطعه بسلام أو دونه قولان، قلت: الثاني لها، والأول قال التونسي: لسحنون. انتهى. قاله الشيخ محمد بن الحسن:
تنبيهات: الأول: لو اقتدى شخص بمن يصلى إماما بمسجد معين ولا يدري من هو، صحت صلاته، وكذا لو اعتقد أنه زيد فتبين أنه عمرو فيما يظهر، إلا أن تكون نيته الاقتداء به إن كان زيدا لا إن كان عمرا، فإن صلاته تبطل، ولو تبين أنه زيد لتردده في النية، وأما من اقتدى بإمام من إمامين، أو أيمة متعددة في آن واحد، ولا يدري من اقتدى به منهما أو منهم، أو درى به ولكن لا يعلم هل تابعه أو تابع غيره؟ فإن صلاته باطلة، فتأمل تلك الصور السبع الحسان. قاله الشيخ عبد الباقي.
الثاني: وظائف الإمام أربع عشرة،
الأولى: مراعاة أوائل الأوقات، لقوله عليه الصلاة والسلام:(أول الوقت رضوان الله)، إلا في الظهر، فيستحب له تأخيرها لربع القامة، ويزاد لشدة الحر،
الثانية: أن يقصد بإمامته وجه الله العظيم مع مراعاة ما يجب عليه في ذلك.
الثالثة: أن لا يكبر حتى تستوي الصفوف، أو يوكل من يسويها، أو يأمرهم بذلك، وقد كان عمر وعثمان رضي الله عنهما يوكلان رجلا بتسوية الصفوف، فإذا أخبرهما بتسويتها كبَّر.
الرابعة: أن يسرع بتكبيرة الإحرام والسلام ولا يمدهما ليلا يسبقه المأموم فيهما أو يشاركه وهي من دلائل فقهه.
الخامسة: أن يخفف الركوع والسجود بعد حصول الطمأنينة والاعتدال.
السادسة: أن لا يتقدم على قوم يعلم أن فيهم من هو خير منه قراءة وفقها في الصلاة، لخبر:(من أم قوما وهو يعلم أن فيهم من هو خير منه فقد خان الله ورسوله)، إلا أن يمتنع من التقدم.
السابعة: أن يجتهد في تقديم أفضل القوم إذا طرأ عليه في الصلاة ما يحوجه إلى الاستخلاف فيها.
الثامنة: أن لا يعجب بنفسه ولا يرى أنه خير من القوم ولولا ذلك ما قدم عليهم، بل ينظر لنفسه بعين الحقارة والازدراء.
التاسعة: أن لا يدخل الصلاة حتى يشعر نفسه أنها آخر صلاة يصليها.
العاشرة: أن لا يخص نفسه بالدعاء بل يدخل الجماعة في دعائه، لخبر: (من أم قوما ولم يشركهم في دعائه فقد خانهم
(1)
).
الحادية عشر: أن يتحول عن مصلاه إذا فرغ من صلاته، ويكفي في ذلك إقباله على الناس بوجهه.
الثانية عشر: أن يقصر الجلسة الوسطى.
الثالثة عشر: أن لا يدخل المحراب إلا بعد الإقامة.
الرابعة عشر: أن يلتزم الرداء لكل صلاة. قاله الشيخ إبراهيم.
الثالث مِن جَهْل الإمام المبادرة للمحراب قبل تمام الإقامة، والتعمق في المحراب بعد دخوله، والمتنفل به بعد الصلاة وكذا الإقامة به لغير ضرورة.
واعلم أنه لا خلاف في مشروعية الدعاء خلف الصلاة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (أسمع الدعاء جوف الليل وأدبار الصلوات المكتوبة
(2)
)، وأخرج الحاكم على شرط مسلم من طريق حبيب بن مسلمة الفهري رضي الله تعالى عنه: (لا يجتمع قوم مسلمون فيدعوا بعضهم ويؤمن بعضهم إلا
(1)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:95. الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 357.
(2)
الترمذي، كتاب الدعوات، رقم الحديث:3499. ولفظه: "قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع قال جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات".
استجاب الله تعالى دعاءهم
(1)
). وقد أنكر جماعة كون الدعاء بعدها على الهيئة المعهودة من تأمين المؤذن بوجه خاص، وإن أجازه ابن عرفة، وقد ألف الشاطبي فيه، ورام ابن عرفة وأصحابه الرد عليهم، وحجتهم في ذلك ضعيفة. وسئل عز الدين بن عبد السلام عن المصافحة بعد العصر والصبح: أمستحبة أم لا؟ وعن الدعاء عقب السلام أمستحب للإمام في كل صلاة أم لا؟ وعلى الاستحباب فهل يلتفت ويستدبر القبلة، أم يدعوا مستقبلا لها؟ وهل يرفع صوته أو يخفض؟ وهل يرفع اليد أم لا في غير المواطن التي ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رفع يده فيها؟ فأجاب: المصافحة عقب صلاة الصبح والعصر من البدع، إلا لقادم، فإن الصافحة مشروعة عند القدوم. (وكان صلى الله عليه وسلم يأتي بعد السلام بالأذكار المشروعة ويستغفر ثلاثا ثم ينصرف
(2)
). وروي أنه قال: (رب قني عذابك يوم تبعث عبادك
(3)
)، والخير كله في اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، واستحب الشافعي للإمام أن ينصرف عقب السلام. قاله الإمام الحطاب. وقال البساطي في المغني: قال في النوادر عن ابن حبيب: إذا نزل بالناس نائبة فلا بأس أن يأمرهم بالدعاء ورفع الأيدي. انتهى. وقال الشيخ ميارة: اعلم أنه قد أكثر الناس الكلام في مسألة دعاء الإمام إثر الصلاة، وتأمين الحاضرين على دعائه.
وحاصل ما انفصل عليه الإمام ابن عرفة والغبريني: أن ذلك إن كان على نية أنه من سنن الصلاة أو فضائلها فهو غير جائز، وإن كان مع السلامة من ذلك فهو باق على أصل حكم الدعاء، والدعاء عبادة شرعية فضلها من الشريعة معلوم عظمه، وكذلك الأذكار بعدها على الهيئة المعهودة، كقراءة الأسماء الحسنى ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مرارا، ثم الرضى عن الصحابة رضي الله عنهم وغير ذلك من الأذكار بلسان واحد، وقد مضى عمل من يقتدى به في العلم والدين من الأئمة على الدعاء بإثر الذكر الوارد بإثر تمام الفريضة. ابن عرفة: وما سمعت من
(1)
الحاكم، ج 3 ص 347.
(2)
مسلم، كتاب المساجدن، رقم الحديث:591.
(3)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:709.
ينكره إلا جاهل غير مقتدى به انتهى. وقد مر كلام الشيخ ميارة هذا عند قول المص: "وسلام عرف بأل". لا المساوقة؛ يعني أن المساوقة في الإحرام والسلام لا تبطل صلاة المقتدي، والمساوقة هي: كون إحرام المأموم أو سلامه عقب الإمام قبل سكوته. وهي خلاف الأولى، والأولى أن لا يحرم ولا يسلم إلا بعد سكوته. قاله ابن رشد، قاله المواق، وكذا قاله مالك. وفي التوضيح عن البيان: فإن ابتدأ بعده فأتم معه أو بعده أجزأه قولا واحدا، والاختيار أن لا يحرم المأموم حتى يسكت الإمام. وقوله: .. "لا المساوقة": يستثنى منه ما إذا أتم قبله -كما مر- قاله بناني. كغيرهما. تشبيه في عدم البطلان؛ يعني أن صلاة المقتدي لا تبطل بعدم متابعة الإمام في غيرهما؛ أي الإحرام والسلام؛ بأن سابقه أو ساواه أو ساوقه، وقوله:"كغيرهما"، على حذف مضافين أي كعدم متابعة غيرهما، لكن سبقه ممنوع؛ يعني أن سبق المأموم للإمام في غير الإحرام والسلام ممنوع، وإن كان لا يبطل؛ أي سبقه عمدا في غير الإحرام. والسلام من الأفعال ممنوع، وأما سبقه في الأقوال فمكروه، وأما سبقه في غير الإحرام والسلام سهوا فلا شيء فيه. قال عبد الباقي: ومثل السبق الممنوع تأخره في فعل من أفعالها حتى يفرغ منه. انتهى. ونحوه للشبراخيتي. وسيأتي قريبا. واعلم أنه إن سبق المأموم الإمام بفعل الركن وعقده قبله، فلا خلاف في عدم الإجزاء، وإن كان يلحقه الإمام قبل كماله فقولان، المشهور الصحة. قاله الحطاب عن الأبي وغيره. وظاهره سواء كان عمدا أو سهوا أو غفلة؛ وهو كذلك. قاله الحطاب.
وفي نوازل سحنون: قيل لسحنون: أرأيت الرجل يصلي مع الإمام فيسجد قبله ويركع قبله في صلاته كلها؟ قال: صلاته تامة، وقد أخطأ ولا إعادة عليه، ولا يَعُدْ. قال محمد بن رشد: وهذا إذا سجد قبله، وركع قبله، فأدركه الإمام بسجوده وركوعه وهو راكع وساجد، فرفع برفعه من الركوع والسجود أو رفع قبله، وأما إن ركع ورفع والإمام واقف قبل أن يركع، وسجد ورفع من السجود أيضا قبل أن يسجد الإمام، ثم لم يرجع مع الإمام في ركوعه وسجوده، وفعل ذلك في صلاته كلها، فلا صلاة له. واختلف إن فعل ذلك في ركعة واحدة أو سجدة، فقيل: تجزئه الركعة، وقيل: لا تجزئه وقد بطلت عليه، فيأتي بها بعد سلام الإمام، فإن لم يفعل بطلت صلاته. انتهى.
قال جامعه عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن محل هذا في السهو كما هو صريح كلام الأمير. والله سبحانه أعلم. وفي المواق: وأما أفعال الصلاة، فإن فعلها بعد الإمام وأدركه فيها، فهذه سنة الصلاة، وإن دخل في الفعل بعد خروج الإمام عنه فهذا ممنوع. انتهى. وفي الشبراخيتي: ومثل السبق التأخر عنه عمدا في فعل من أفعال الصلاة حتى يفرغ منه، كما ذكره المواق عن الباجي. وظاهره: ولو كان الفعل غير ركن، فمن تأخر في السجدة الثانية من الركعة الأخيرة إلى أن سلم الإمام حرم عليه ذلك وإن رفع قبل سلام الإمام، لم يحرم عليه ذلك. انتهى. وفي هذا الكلام نظر ظاهر ومخالفة في المعنى لما مر في الزحام. والله سبحانه أعلم. وبما قررت علم أن قوله: لكن سبقه ممنوع استدراك على قوله: "كغيرهما".
وإلا كره؛ أي وإن لم يسبقه في غير الإحرام والسلام، بل ساواه فيه، فإن ذلك مكروه، فالأولى أن يفعل بعده ويدركه فيها. وقال الشيخ محمد بن الحسن: وهل يتبع المأموم الإمام بإثر شروعه أو بإثر تمام فعله؟ في ذلك ثلاث روايات: يفصل في الثالثة في غير القيام من اثنتين بإثر شروعه، وفي القيام من اثنتين بإثر تمام فعله باستوائه قائما، ولما كان السبق في غير الإحرام والسلام لا يبطل ذكر ما يفعل من حصل منه ذلك، فقال: وأمر الرافع بعوده يعني أن المأموم إذا رفع رأسه من الركوع أو السجود قبل رفع إمامه، فإنه يؤمر بأن يعود إلى الإمام في ركوعه أو سجوده إن علم إدراكه قبل رفعه؛ يعني أن محل كون المأموم مأمورا بالرجوع إلى إمامه حيث رفع قبله، إنما هو إذا علم أنه يدرك إمامه قبل رفعه، فإن لم يعلم ذلك انتظره، وفي الحديث: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار
(1)
). قال الدميري في شرح سنن ابن ماجه
(2)
: قال الشيخ تقي الدين هذا التحويل يقتضي تغيير الصورة الظاهرة، ويحتمل أنه يرجع إلى أمر معنوي على سبيل مجازي، فإن الحمار موصوف بالبلادة، ويستعار هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فرض الصلاة ومتابعة الإمام. قال: وربما يرجح هذا المجاز بأن التحويل في
(1)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:427.
(2)
سنن ابن ماجه، كتاب الإمامة، الحديث:961. ولفظه: عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يخشى الذي
…
الخ.
الصورة الظاهرة لم يقع مع كثرة رفع المأمومين قبل الإمام، قال الدميري: وقيل المراد تحويل صورته يوم القيامة، ولا يمتنع وقوع ذلك في الدنيا، فقد نقل الشيخ شهاب الدين فضل الله أن بعض العلماء فعل ذلك امتحانا، فحول الله رأسه رأس حمار، وكان يجلس بعد ذلك خلف ستر حتى لا يبرز للناس، وكان يفتي من وراء حجاب. قاله الإمام الحطاب. وقوله:"وأمر الرافع"، اختلف هل الأمر على سبيل السنية؛ وهو لمالك؟ أو الوجوب؟ قولان، ومقتضى المواق ترجيح الثاني لاقتصاره عليه، ومحل القولين فيمن أخذ فرضه مع الإمام قبل الرفع، وإلا وجب العود اتفاقا، فإن تركه عمدا بطلت، ولو كان رفعه سهوا، وإن ترك العود سهوا، فكمن زوحم عنه ولو رفع سهوا.
لا إن خفض؛ يعني أنه إذا خفض المأموم بأن هوى للركوع أو السجود قبل إمامه بعد أخذه فرضه من المخفوض منه مع الإمام، فإنه لا يؤمر بالعود لإمامه بل يثبت كما هو حتى يأتيه الإمام، والمعول عليه أن الخفض كالرفع: فصوابه كإن خفض: وأما إن خفض قبل أخذ فرضه مع الإمام فإنه يعود له وجوبا، فإن ترك العود له عمدا بطلت ولو كان خفضه سهوا، وإن ترك العود سهوا فكمن زوحم عنه ولو خفض عمدا. وقوله:"لا إن خفض"، قال ابن عمر: هو المشهور، ولا عبرة بقول ابن عمر هذا، بل الصواب ما تقدم من التسوية بين الخفض والرفع -كما قاله ابن غازي- فإنه قال: الذي يظهر من نقولهم استواء الخافض والرافع في الأمر بالعود إن علم إدراك الإمام، وإنما اختلفوا فيما إذا لم يعلم إدراكه. انتهى. قال الحطاب: وما ذكره من مساواة الخافض للرافع صحيح لا شك فيه، وقوله:"لا إن خفض"، وجه القول بعدم الرجوع أن الخفض غير مقصود في نفسه، بل المقصود منه الركوع أو السجود. وقد علمت أن الراجح استواء الخفض والرفع، وما تقدم من أن الخفض غير مقصود في نفسه علل به في التوضيح، قال ابن عاشر: تأمله مع ما تقرر من الخلاف في الحركة للركن، هل هي مقصودة أم لا؟ وعلى قصدها ينبني قوله: وتارك ركوع يرجع قائما، قال: والذي يظهر في جوابه أن النفي قصدها في نفسها: والمثبت على الخلاف قصدها لغيره، وكأنه يحوم بهذا على أن الركن في الركوع والسجود إنما هو في الانحناء والاتصال بالأرض: وأما الهوي نفسه فوسيلة ولا حق له في الركنية بخلاف الرفع منهما، فإنه نفس
الركن، وليس الركن كونه قائما بعد الركوع، ولا كونه جالسا بعد السجود، فتأمله فإنه دقيق. انتهى. وظاهره أن الرفع ركن من غير خلاف -وفيه نظر- وقد ذكر الحطاب في الرعاف الخلاف في الرفع، هل هو واجب لنفسه أو وسيلة؟ ولذا قال مصطفى: شبهة تفريق المص بين الخفض والرفع كلام نقله في التوضيح عن الباجي، وفهمه على غير وجهه. انتهى. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. وفي الأمير: مشبها بالبطلان كسبق بركن. انتهى. قال في الشرح: يركع ويرفع قبله إلا سهوا فيرجع له. انتهى.
وندب تقديم سلطان؛ يعني أنه إذا اجتمع جماعة كل منهم يصلح للإمامة، فإنه يندب تقديم سلطان أو نائبه إن لم يكن سلطان؛ لأنه كهو عند عدمه، ويقدم السلطان أو نائبه ولو كان غيره أفقه منه وأفضل؛ لأن في تقديم غيره عليه وهنا في منصبه وازدراء به، لخبر مسلم وغيره: (لا يُؤَمَّ الرجل في سلطانه، ولا يُجْلَس على تكرمته بغير إذنه
(1)
). وحمل على الندب وإن كان ظاهره الوجوب؛ لأن حق الله تعالى حصل بحضور من يصلح للإمامة، ولم يبق إلا حق الآدمي. قال الرماصي: لا معنى لذكر الاستحباب هنا؛ إذ الكلام فيما يقضى به. وقد عبَّر ابن عرفة بالاستحقاق، وابن شاس وابن الحاجب بالترجيح.
وفي المدونة: أحق القوم بالإمامة أعلمهم، وقالت أيضا: وأولاهم بالإمامة أفضلهم، وعبارة الرسالة: ويؤم الناس أفضلهم وأفقههم، وهذه العبارات أسد بالمقام. انتهى. نقله الشيخ محمد بن الحسن: وقال: قلت وأجيب بأن لنا مقامين أحدهما بيان من هوأحق بالتقديم فيقضى له به، وعليه تكلم من عبَّر بالقضاء ونحوه وهو المشار إليه بقول المص:"وإن تشاح متساوون لا لكبر اقترعوا"، فيفهم منه أن غير المتساوين يقضى للأفضل منهم بالتقدم. وثانيهما: مقام بيان ما يخاطب به الجماعة دون تشاح وهذا هو المشار إليه هنا بقوله: "وندب تقديم سلطان الخ"؛ وهو
(1)
مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:673. وفيه: ولا يؤمَّن الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه.
- أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:582. ولفظه: ولا يؤم الرجل في بيته ولا في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه.
- النسائى، كتاب القبلة، رقم الحديث:784. وعنده: لا يؤم الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه.
ظاهر. انتهى كلام بناني. وهو نفيس جدا. والله سبحانه أعلم. وقال الشيخ الأمير: والندب لا ينافي القضاء، ومعنى الحديث: لا يؤمَّ الرجل
…
الخ، على ما قال النووي: أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره، وإن كان ذلك الغير أفقه وأقرأ وأورع وأفضل، وصاحب المكان أحق وإن شاء تقدم من يريده، وإن كان الذي قدمه مفضولا بالنسبة إلى باقي الحاضرين لأنه سلطانه، فيتصرف فيه كيف شاء، فإن حضر السلطان أو نائبه قدم على صاحب البيت وإمام المسجد وغيرهما. والتكرمة بفتح التاء وكسر الراء: الفراش ونحوه مما يبسط لصاحب المنزل ويختص به. انتهى. فالسلطان في الحديث على هذا بالمعنى العام الشامل لرب المنزل والمجلس، وإمام المسجد خلاف ما عند المص وغيره، كابن الحاجب، وابن شاس، وغير واحد. ولا يؤم بالبناء للمجهول، وسلطانه بمعنى سلطنته. ومر أن نائب السلطان كهو إن لم يكن سلطان، قال ابن سهل: قال بعض الناس: خطة القضاء من أعظم الخطط قدرا، وأجلها نظرا لاسيما إذا اجتمعت إليها الصلاة. نقله ابن عرفة. وقال: قلت: يريد إمامة الصلاة، ومقتضاه حسن اجتماعهما: والمعروف ببلدنا قديما وحديثا منع إمامة قاضي الجماعة بها أو الأنكحة إمام الجامع الأعظم بها. وسمعت بعض أشياخنا أنهم يعللون ذلك بأن القاضي مظنة لعدم طيب نفس المحكوم عليه مع تكرر ذلك في الأحاديث، فيؤدي إلى إمامة الإمام من هو له كاره. وقد خرج الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون
(1)
). انتهى. ولم يعرج الزقاق على بحث ابن عرفة هذا، حيث قال:
وأعظمها قدرا وأكمل منظرا
…
قضاء نعم إن أم قاض على علا
ومر ما يعلم منه الجواب عن الحديث عند قوله: "وإمامة من يكره"، فراجعه إن شئت.
(1)
الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:360.
تنبيه: اعلم أن المستحق للإمامة على التحقيق والإطلاق، * والذي هو أولى بها من جميع الكون على الشمول والاستغراق * هو سيد الوجود، * وعلم الشهود، * عليه أفضل الصلاة والسلام، * فهو إمام الائمة الأعلام * وإمام الأنبياء الكرام * عليهم أفضل الصلاة وأزكى التحية والإكرام * وإمام الأئمة الأبرار، * وإمام الأئمة الأخيار * وإمام الأمة الناجيه * وإمام أهل الرتب العاليه * وإمام رسل الله * وإمام جنود الله * وإمام الصِّدِّيقين * وإمام المخلصين * وإمام المخبتين * وإمام الموقنين * وإمام أهل دين الله * وإمام حزب الله * وإمام المجتبين * وإمام المؤمنين * وإمام الصادقين * وإمام الصابرين * وإمام أهل الإسلام * وإمام أهل دار السلام * وإمام الجماعة * وإمام أهل الطاعة * وإمام الخواص * وإمام أهل الإخلاص *. وإمام المؤيدين * وإمام الأئمة المكرمين * وإمام الفضلا * وإمام أهل المجد والعلا *. وإمام المسلمين * وإمام القائمين * وإمام القانتين * وإمام المستغفرين * وإمام المتصدقين * وإمام المهاجرين * وإمام المجاهدين * وإمام الزاهدين * وإمام الأمم * وإمام العرب والعجم * وإمام أهل الإيمان * وإمام أهل الفضل والعرفان * وإمام المهتدين * وإمام المقربين * وإمام الطيبين * وإمام الطاهرين * وإمام التوابين * وإمام الفائزين * وإمام الناصحين * وإمام المفلحين * وإمام الراكعين * وإمام الساجدين * وإمام الذاكرين * وإمام الطائعين * وإمام الخاشعين * وإمام الخاضعين * وإمام الخائفين * وإمام المتقين * وإمام أهل السياده * وإمام أهل السعاده * وإمام أهل الشهادة * وإمام أهل التحقيق * وإمام أهل التوفيق * وإمام أهل التصديق * وإمام المحسنين * وإمام الراغبين * وإمام الراهبين * وإمام الموحدين * وإمام القانعين * وإمام الشافعين في وإمام الحرمين * وإمام القبلتين * وإمام الواصلين * وإمام المتعبدين * وإمام الصالحين * وإمام العاملين * وإمام أهل الصفا * وإمام أهل الحلم والوفا * وإمام أهل الفضل والكرم * وإمام أهل الجود والشيم * وإمام أهل العناية * وإمام أهل الدرايه * وإمام من اتقى وأصلح * وإمام من نجا وأفلح * وإمام أهل الكمال * وإمام حضرة الوصال * صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين *. انظر التنبيه.
ثم رب منزل؛ يعني أنه إذا لم يكن سلطان ولا نائبه، فإنه يندب تقديم رب المنزل للإمامة؛ لأنه سلطان منزلة وأدرى بقبلته، ويندب تقديمه ولو كان غيره أفقه منه وأفضل. وحكم إمام مسجد راتب حكم رب منزل، كما قال سند، وتقدم ما قاله النووي.
والمستأجر على المالك؛ يعني أنه إذا كان بالمنزل ربه المالك لذاته والمالك منفعته كالمستأجر، فإنه يندب تقديم المستأجر على المالك، قال الشيخ عبد الباقي: وأما المستعير فالظاهر تقديم ربه عليه. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: هذا غير صحيح، بل المستعير هو المقدم لقول ابن شاس: مالك منفعة الدار كمالك رقبتها. انتهى. ونقله المواق، فإنه يشمل مالك المنفعة بعوض وبدونه. انتهى. وقال الشيخ الأمير: ومثل المستأجر كل من ملك المنفعة كمعار لتعلق العورات به وخبرته بالطهارة في المكان. انتهى. وقال الشبراخيتي: والمستأجر ونحوه من من يملك منفعة المنزل مقدم على المالك للرقبة، وبالغ المص على تقديم رب المنزل بقوله: وإن عبد؛ يعني أنه يقدم رب المنزل أي مالك ذات المنزل أو منفعته، وإن كان كل من مالك ذلك عبدا فقيها، فيقدم على من ببيته إن لم يكن معه سيده، وإلا قدم السيد؛ لأنه المالك حقيقة لذات المنزل أو منفعته، وإن لم يكن له انتزاع ماله، والمبالغة ليست في الندب بل في مقدر؛ أي مستحق الإمامة رب منزل وإن عبدا. كامرأة؛ يعني أن المرأة إذا كانت مالكة لذات المنزل أو منفعته، فإنها تستحق الإمامة استنابة لا مباشر، ولهذا قال: واستخلفت؛ يعني أنه يجب على المرأة المالكة لذات المنزل أو منفعته أن تستخلف؛ أي تقدم للإمامة غيرها ممن يصلح لها. هذا إن بقيت على حقها، وندبا إن أسقطت حقها في المباشرة، ولها أن تترك الاستخلاف. واعلم أن معنى قولهم: إذا اجتمع من يصلح للإمامة، لاستحقاق الإمامة، وأن كل رب منزل ممن لا تصح إمامته لجهل أو عجز أو غيرهما يستخلف، فلا خصوصية للمرأة بذلك، هذا هو الصواب. ويستحب للمرأة استخلاف على الأرجح.
ثم زائد فقه؛ اعلم أنه إذا لم يكن سلطان ولا رب منزل، فإنه يقدم الأب على ابنه، والعم على ابن أخيه. وعلم من هذا أن الابن يقدم على الأب إذا كان الابن رب منزل، وأن ابن الأخ يقدم على العم إذا كان ابن الأخ رب منزل: فإن لم يكن من ذكر فإنه يندب تقديم زائد الفقه؛ أي
العلم بأحكام الصلاة على من دونه فيه، ولو زاد عليه في غيره، وتقديم حسن الصوت على كثير الفقه محذور، وعلى مساويه يندب؛ لأنه يحمل على الخشوع والرقة ويدعو إلى الخير، وقد قيل في قوله تعالى:{يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} ؛ إنه حسن الصوت وحسن الصوت بالقرآن موهبة من الله، وعطية لصاحبه. وعلم مما قررت أنه يقدم الأب على ابنه ولو كان الابن زائد فقه، والعم يقدم على ابن أخيه ولو زاد عليه ابن أخيه في الفقه وهذا عند التشاح، وأما عند عدمه فيقدم زائد الفقه من ابن وابن أخ على أب وعم، ولا عقوق في هذا لأنه في حالة الرضى، وظاهره تقديم الأب والعم ولو كانا عبدين وهما حران، وأما العم والأب فأخوان، فيقدم أحدهما على الآخر بموجب تقديم. انظر الشبراخيتي.
ثم حديث؛ يعني أنهم إذا استووا في الفقه ولم يكن فيهم أحد ممن تقدم، فإنه يندب تقديم زائد حديث واسع رواية وحفظ، وهو أفضل من زائد الفقه، ولكن قدم عليه لعلمه بأحكام الصلاة أكثر من زائد الحديث.
ثم قراءة؛ يعني أنه عند التساوي في الحديث، وما قبله يندب تقديم زائد القراءة؛ أي من هو أدرى بالقراءة وأمكن من غيره بالنسبة للحروف، أو أكثر قراءة، أوأشد إتقانا وهو أفضل من زائد الحديث لكن قدم عليه؛ لأنه أحكم لسنن الصلاة، وقدم زائد القراءة على من بعده لأنه يعلم الرواية الشاذة المبطلة فيتجنبها، ويتحرز عن اللحن الخفي المعيب في غير الصلاة، فكيف بها؟ والجواب -عن ما في صحيح مسلم وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم إسلاما، ولا يؤم الرجل في سلطانه. ولا يُجْلَس على تكرمته إلا بإذنه
(1)
) أن الأكثر [قراءة]
(2)
في ذلك الزمان
(1)
مسلم كتاب المساجد، رقم الحديث:673. وعنده: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه.
- الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث:235. ولفظه:
…
فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنا ولا يؤم الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذنه.
(2)
ساقطة من خط المؤلف والمثبت من الشبراخيتى ج 1 مخطوط.
هو الأكثر فقها؛ لأنهم كانوا يتعلمون الأحكام مع الحفظ كما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كان أحدنا إذا حفظ سورة لا يخرج إلى غيرها حتى يحكم علمها ويعرف حلالها وحرامها
(1)
وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده، ولقد رأيت اليوم رجالا يؤتى أحدهم القرآن فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته لا يدري ما أمره، ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده. انتهى. قاله الشيخ إبراهيم.
ثم عبادة؛ يعني أنه عند التساوي في القراءة وما قبلها: يندب تقديم زائد عبادة من صلاة وصوم وغيرهما من أفعال الخير؛ لأن من هذا شأنه أشد خشية وأكثر تورعا وتنزها من غيره. ثم بسن إسلام؛ يعني أنه عند التساوي في العبادة وما قبلها يرجح بقدم سن إسلام، ويعتبر من حين الولادة لخبر: (كل مولود يولد على الفطرة
(2)
)، وإن كان أحدث سنا من حديث إسلام؛ إذ لا فضيلة في مجرد السن، ألا ترى إلى ما في الحديث من تقديم الأقدم هجرة على الأقدم سنا؟ ثم بنسب؛ يعني أنه عند التساوي في جميع ما سبق يقدم بالنسب؛ أي يقدم معروف الأصل على غيره، سواء كان بشرف أو غيره: ومن كان أرفع نسبا من غيره كان أولى بالإمامة، لقوله صلى القه عليه وسلم: (قدموا قريشا ولا تقدموها
(3)
)؛ لأن شرف النسب يدل على صيانة المتصف به عما ينافي دينه، ويوجب له أنفة عن ذلك.
ثم بخلق بفتح وسكون؛ هو جمال الصورة؛ يعني أنه عند التساوي في جميع ما تقدم، يقدم بجمال الصورة؛ لأن الفضل والخير يتبعانه غالبا وفي الحديث: (اطلبوا الحوائج من صباح الوجوه
(4)
)، ويروى: (اطلبوا الخير من حسان الوجوه
(5)
)، وعن أبي مليكة قال: قال رسول الله
(1)
ساقطة من خط المؤلف والمثبت من الشبراخيتى ج 1 مخطوط.
(2)
البخاري، كتاب الجنائز، رقم الحديث:1385.
(3)
الجامع الصغير، رقم الحديث:6108. فيض القدير، ج 4 ص 511.
(4)
اللآلئ المصنوعة، ج 2 ص 79.
(5)
الجامع الصغير، رقم الحديث:1107. فيض القدير، ج 1 ص 540.
صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله اسما حسنا، وخلقا حسنا، وجعله في موضع حسن؛ فهو صفوة الله من خلقه
(1)
). ولمحمد بن يزيد:
يروى حديث عن نبي الهدى
…
حكته عن أسلافنا حاملوه
أن رسول الله في مجلس
…
قال وقد حفت به حاضروه
إذا سألتم أحدا حاجة
…
فالتمسوها من كرام الوجوه
وقالت الحكماء: حسن التركيب وتناسب الأعضاء يدل على اعتدال المزاج، وإذا اعتدل المزاج نشأ عنه كل فعل حسن. ثم بخلق؛ بضمتين وهو التحلي بالفضائل والتنزه عن الرذائل؛ لأنه من أعظم صفات الشرف لخبر:(خياركم أحسنكم أخلاقا)
(2)
؛ ولأنه خلة النبيئين وصفات المرسلين، وزينة عباد الله الصالحين، وفي الحديث: (المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف
(3)
). وقدم ابن هارون الثاني على الأول، واستظهره المصنف، وعلى الثاني فيعكس الضبط والمصنف يحتملهما. وفي الشارح ما يفيد اعتماد الضبط الأول؛ لأنه صدر في حله بما يفيده، ثم قال: ومن المتأخرين من عكس ذلك. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ الأمير: ثم بنسب: ثم بحِلْمٍ ثم جمال. انتهى قال في الشرح: الحلم هو جمال الخلق بضم اللام، وقال عند قوله: ثم جمال في الخلق بسكونها، وهذا على ما في التوضيح، وهو أبين من العكس. انتهى.
ثم بلباس؛ يعني أنه عند التساوي في جميع الحالات السابقة يقدم بجمال لباس لدلالته على شرف النفس والبعد عن المستقذرات، والمراد جميل شرعا ولو غير أبيض بخلاف يوم الجمعة، وبخلاف كحرير. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: والبياض يقدم على السواد، وقال
(1)
شعب الإيمان للبيهقي، رقم الحديث:3543.
(2)
البخاري، كتاب الأدب، رقم الحديث: 3559، 6035.
(3)
الجامع الصغير، رقم الحديث:9147.
الشيخ الأمير: ثم بياض لباس: وهو معنى جمالها الشرعي، وقيل: نظافتها، وقدمه الشافعية على الجميل في خلقه كأنه لتعلق الثياب بالصلاة.
إن عدم نقص منع؛ يعني أن محل التقديم بما مر إنما هو حيث عدم من له حق في التقدم بنفسه نقصا يمنع من الإمامة كجهل وعجز وفسق ونحوها. أو كره. أو هذه بمعنى الواو؛ يعني أن محل التقديم بما مر إنما هو حيث عدم من له حق في التقدم بنفسه نقصا يمنع من الإمامة، أو تكره معه من قطع وشلل وغيرهما، فإن كان به نقص منع أو كره فلا حق له في الإمامة لا مباشرة ولا تقديما، وأما من له حق في التقديم بالاستخلاف فأشار إليه بقوله: واستنابة الناقص؛ يعني أن من له حق في التقديم والتقدم للإمامة؛ وهو السلطان ورب المنزل ليس إلَّا: تندب له الاستنابة حيث كان ناقصا: فإن كان ناقصا نقص منع وجب أن لا يباشر، وإن كان ناقصا نقص كره ندب له أن لا يباشر، ولا تجب عليه الاستنابة في الوجهين، فلو تركها وترك مباشرة الإمامة لم يأثم. انظر حاشية الشيخ بناني.
والحاصل أن قوله: "واستنابة الناقص"، خاص بالسلطان ورب المنزل. وأما غيرهما فإن كان ناقصا فلا حق له في الإمامة لا مباشغ ولا تقديما، فكيف تأتي الاستنابة؟ ثم إن كان السلطان أو رب المنزل ناقصا نقص كره، ندبت الاستنابة ولا تمنع له مباشرة الإمامة، وإن كان نقص منع وجب أن لا يباشر الإمامة، وندبت له الاستنابة. والله سبحانه أعلم. وعلم مما قررت أن قوله "واستنابة" عطف على معمول ندب، وفي كلام المصنف وجه آخر وهو للشارح، والبساطي، والمواق: أن من له المباشرة لانتفاء نقص المنع والكره، يستحب له إذا حضر من هو أعلم منه، وأولى أن يستنيبه، قيل: فيه وجه آخر وهو أن يكون قوله: "واستنابة الناقص"، عطفا على معمول عدم، وعليه حمله الناصر اللقاني، وعلى التقريرات الثلاثة يكون كلام المصنف مختصا بالسلطان ورب المنزل دون غيرهما. والله سبحانه أعلم. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وفي التقرير الثالث نظر ظاهر. ولا يختص الندب بنقص الكراهة على هذه التقريرات.
كوقوف، ذكر عن يمينه؛ يعني أنه يندب وقوف الذكر البالغ عن يمين الإمام إن كان وحد، ويندب له أن يتأخر قليلا، فإن جاء آخر: ندب لمن على اليمين أن يتأخر قليلا حتى يكونا
خلفه. وقوله: "كوقوف ذكر عن يمينه"، قال الإمام مالك: وإن قام عن يساره أداره إلى يمينه من خلفه، فإن لم يعلم به حتى فرغ أجزأته صلاته. ابن يونس: وكذا لو علم به فتركه. قاله الشيخ إبراهيم. واثنين خلفه؛ يعني أن الاثنين يقفان خلف الإمام ابتداء، أو في الأثناء لخبر مسلم عن جابر: (وقفت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي وأدارني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر فقام عن يساره، فأخذ بيدينا جميعا حتى أقامنا خلفه
(1)
). وقوله: "اثنين"؛ أي فأكثر. قاله الشيخ إبراهيم.
وصبي عقل القربة كالبالغ؛ يعني أن الصبي الذي عقل القربة أي الطاعة فعلا أو تركا؛ أي عقل أن الطاعة يثاب على فعلها وأن المعصية يعاقب عليها، حكمه حكم البالغ، فيقف عن يمين الإمام إن انفرد ومع غيره خلفه، ومن لم يعقل القربة وقف حيت شاء؛ أي هو لغو وهو من لم يؤمر بالصلاة وقوله:"وصبي" مبتدأ سوغ له الابتداء وصفه بقوله: "عقل القربة"، وقوله:"كالبالغ"، خبره.
ونساء خلف الجميع؛ يعني أنه يندب أن تقف النساء واحدة فأكثر خلف الجميع؛ أي جميع من تقدم، فتقف خلف إمام ليس معه غيرها، وخلف رجلين أو صبيين فأكثر مع الإمام، فإن كان معه رجل أو صبي عقل القربة وقفت خلفهما؛ أي يكون بعضها خلف الإمام وبعضها خلف من على يمينه، فإن وقف عن يمينه أكثر من واحد، فانظر كيف وقوفها؟ وقال الشبراخيتي: وتكره إمامته لمن ليست محرما بخلوة إلا أن يقوى في دينه، فإن كان مع نسوة كان أخف انتهى. وقال الإمام الحطاب: قال الشبيبي في شرح الرسالة في مراتب المأموم مع الإمام: الثالثة أن يكون معه امرأة أو نساء فيقفون
(2)
وراءه؛ إلا أنه يكره له إن كان أجنبيا من النسوة أن يؤمهن للخلوة بهن، وهو مع الواحدة أشد كراهة. وقال ابن نافع عن مالك: لا بأس أن يؤم الرجل النساء لا رجال
(1)
مسلم، كتاب الزهد، رقم الحديث:3010. ولفظه: .. ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامنى عن يمينه ثم جاء جبار بن صخر فتوضأ ثم جاء فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بأيدينا جميعًا ..
(2)
في الحطاب ج 2 ص 405 ط دار الرضوان: فيقفن وراءه.
معهن إذا كان صالحا. انتهى. والخنثى المشكل يقف بين صفوف الرجال والنساء، وعليه قول القائل:
وآخر صف في الرجال مكانه
…
وأما إذا لاقى النساء فأول
وعلم مما قررت أن المرأة لو وقفت إلى جنب الرجل لم تبطل صلاتها ولا صلاته، كانت أجنبية أو ذات محرم لكن خولف الندب. ورب الدابة أولى بمقدمها. كذا في المدونة، وفيها: أن رب الدار أحق بالإمامة؛ يعني أنه لو تعاقد شخص مع رب دابة على أن يحمله عليها معه، ولم يشترط تقديم أحدهما على الآخر، فإن رب الدابة أولى أي أحق بمقدمها بكسر الدال مخففة وبفتحها مشددة، لعلمه بطبعها ومواضع الضرب منها، كعلم رب الدار بقبلتها والمواضع الطاهرة منها، ولذا قضي بها عند تنازع الراكبين للمقدم، إلا لقرينة تنافي ذلك، وكلا المسألتين دليل على أن الفقيه أولى بالإمامة، وهي دلالة حسنة كما كان صاحب الدابة أولى لكونه أعلم بطبعها ومواضع الضرب منها: وصاحب الدار أولى لأنه أعلم بقبلتها والواضع الطاهرة منها، فكان الفقيه أولى لكون صاحب الفقه أعلم بما تصح به الصلاة، ونص المدونة: وأولى بمقدم الدابة صاحبها وصاحب الدار أولى بالإمامة إذا صلوا في منزلة إلا أن يأذن لأحد.
والأورع؛ يعني أنه يندب تقديم الأورع على الورع. والعدل؛ يعني أنه يندب تقديم العدل أي الأعدل على العدل. والحر؛ يعني أنه يندب تقديم الحر على العبد. والأب؛ يعني أن الأب يقدم ندبا على الابن، ولو كان الابن أزيد فقها.
والعم؛ يعني أنه يندب تقديم العم على ابن الأخ ولو كان ابن الأخ أزيد فقها. وبما قررت علم أن قوله: على غيرهم؛ راجع للخمسة؛ أي يندب تقديم الأورع على غيره الذي هو الورع، ويندب تقديم العدل أي الأعدل على غيره الذي هو العدل أي من هو عدل دونه في العدالة، ويندب تقديم الحر على غيره الذي هو العبد، ويندب تقديم الأب على غيره الذي هو الابن ولو كان الابن أزيد فقها، ويندب تقديم العم على غيره الذي هو ابن الأخ ولو كان ابن الأخ أزيد فقها قال الشيخ محمد بن الحسن: مرتبة هذه الثلاثة يعني الأورع والحر والعدل؛ بعد قوله: ثم زائد فقه أو حديث، فكان حقه أن يقدمها هناك
ولا يستغني بما تقدم عن ذكر الثلاثة -كما قيل- لأن ما تقدم من باب التحلي بالحاء المهملة، وهذه الثلاثة من باب التخلي بالخاء المعجمة، فلابد من ذكرها لكن الأولى تقديمها كما ذكرنا. انتهى. وقال الشيخ إبراهيم: ظاهره؛ يعني المصنف أن الأورع مقدم على غيره ولو كان غيره زائد فقه وليس كذلك، بل يقدم عليه زائد الفقه كما نص عليه ابن الحاجب وغيره، ويقدم الأورع ولو عبدا على حر غير أورع. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: ويقدم ندبا الأورع والعدل أي الأعدل ولو عبدا فيهما، والحر، والأب دنية ولو عبدا، والعم على غيرهم أي على ورع إلا أن يزيد فقها، وعلى عدل إلا أن يزيد بالفقه، وعلى عبد غير زائد فقه إلا مع سيده، فيقدم عليه ولو زائد فقه، ولا ترتيب بين رقيق، فلا يقدم ذو الشائبة على القن كمبعض مثلا، فلا يقدم على خالص كما هو ظاهر كلامهم، وتقديم العم على ابن أخيه ولو زائد فقه، خلافا لسحنون في تقديمه ابن الأخ الأفضل على عمة. قال: ولا يلزم مثله في الأب لزيادة حرمته، وكذا يقدم عم صغير السن على ابن أخيه الأسن منه عند مالك، خلافا لسحنون. وقول المدونة: وللسن حق، قيدها ابن رشد واللخمي بغير ابن الأخ الأسن مع عم دونه سنا فإن اجتمع في دار الابن أبوه وعمه قدم الأب إن زاد فقها وسنا على أخيه، ولأبُوَّته فلتقديمه ثلاث جهات فإن كان أخوه هو الأسنَّ والأزيد فقها قدم على الأب، وحملنا العدل على الأعدل لا على ظاهره من مقابلته بالفاسق لجزم المصنف فيما مر ببطلان الصلاة خلفه، ويمكن حمله على ظاهره لكن بجعل مقابله غير عدل شهادة، كمشي بسوق غير منتعل، وأكل به لغير غريب. انتهى. قوله: فإن اجتمع في دار الابن أبوه وعمة قدم الأب؛ الخ أي إذا فقد الابن وإلا قدم الابن؛ لأنه رب منزل فيقدم على أبيه وعمة، كما صرح به ابن عرفة. انتهى. وقوله:"والأب والعم"، قال الشيخ محمد بن الحسن: مرتبة هذين بعد رب المنزل، فكان حقه أن يقدمهما هناك، خلافا لسحنون في العم. انتهى. ابن عرفة: ومستحق الإمامة السلطان أو خليفته، ثم رب المنزل. مالك: وإن كان عبدا، ثم قال: ثم الأب والعم وإن صغر عن ابن أخيه. انتهى. وقال الشيخ الأمير: والحر على غيره ولو بشائبة إلا عبدا أفضل إماما لغير سيده انتهى. وقوله: "والأورع"، مبتدأ،
وخبره على غيرهم؛ وهو من عطف الجمل، ويحتمل عطفه على سلطان من عطف المفردات، فيكون مع ما بعده مخفوضا، وعلى الإعراب الأول لا يعلم منه عين الحكم. قاله الشيخ إبراهيم. وإن تشاح متساوون لا لكبر اقترعوا؛ يعني أنه إذا تشاح في الإمامة جماعة متساوون في الأوصاف السابقة؛ أي تنازعوا فيها؛ بأن طلب كل واحد منهم أن يكون هو الإمام. وكان تنازعهم فيها لا لكبر ورياسة دنيوية، بل لطلب فضل الإمامة، فإنهم يقترعون؛ بأن يكتب بورقة:(يقدم)، ثم تخلط بأوراق بعده الباقين يكتب:(لا يقدم)، أو بدونه. فمن وقعت عليه ورقة:(يقدم): فإنه يستحق التقديم. وشرعت القرعة دفعا للضغائن والأحقاد والرضى بما جرت به الأقدار * وقسم الملك الجبار * والاقتراع مشروع بين الخلفاء والأذان، وعلى الصف الأول، وتغسيل الميت، والحضانة، والقسمة: والدعوى عند الحاكم. والسفر بالزوجات إذا استوى المتنازعون في الأهلية في الجميع، وإن تنازعوا لِكِبْرٍ سقط حظهم؛ لأنهم حينئذ فساق، ومثل الكبر: البغض: والحسد، والرياءت والسمعة. الغزالي: تشاح رجلان في الإمامة فخسفت بهما الأرض. وقد تقدم بطلان الصلاة خلف من قصد بالإمامة الكبرة وقوله: "وإن تشاح متساوون لا لكبر اقترعوا"، يدخل في منطوقه ما إذا كان تشاحهم لحيازة كوقف على الإمام، فليس ذلك مما يُفَسِّقُهم. قاله أبو علي. قاله الشيخ محمد بن الحسن.
وكبر المسبوق لركوع؛ يعني أن المسبوق إذا وجد إمامه متلبسا بالركوع: فانه يكبر تكبيرة الإحرام، ويكبر تكبيرة ثانية للركوع، ويعتد بتلك الركعة إن تيقن إدراكها. أو سجود؛ يعني أن المسبوق إذا وجد إمامه متلبسا بالسجود فإنه يكبر تكبيرتين: فيكبر للإحرام، ويكبر للسجود، ولا يعتد بتلك الركعة. وقوله:"وكبر المسبوق"؛ أي لغير الإحرام أي يكبر للركوع، ويكبر للسجود، وأما الإحرام فقد أتى بها قبل ذلك بدليل النفى الآتي.
بلا تأخير؛ يعني أن من جاء والإمام يصلي يشرع في حقه أن يدخل الصلاة بلا تأخير؛ أي يبادر إلى الدخول في الصلاة. فقوله: "بلا تأخير"، متعلق بمقدر -كما قررت- وقوله:"بلا تأخير"؛ أي يمنع التأخير في الركوع، ويكره في السجود، قيل: يمنع، ومحل ذلك إن لم يشك في الإدراك للركوع أو السجود" وإلا ندب له التأخير. ومحل قوله:"بلا تأخير" أيضا في السجود إن لم يكن
معيدا لفضل الجماعة، وإلا أخر دخوله فيه، وفي التشهد لاحتمال كونها الأخيرة، فإن لم يكن معيدا بأن لم يحصل فرضه أمر بالدخول مع الإمام في الركوع أو في السجود أو التشهد ولو لم يتحقق أنها غير الأخيرة، فإذا سلم الإمام وقد أدرك معه هذا المسبوق ما دون ركعة، وجب عليه الإتمام، بخلاف المعيد للفضل، فإنه يخير بين القطع والانتقال إلى النفل -كما تقدم- وكلام أبي الحسن: ومن قلده معترض مخالف للنقل؛ إذ ذكر التخيير فيمن لم يحصل فرضه، وليس الأمر كذلك. انظر حاشية الشيخ بناني. وقوله:"لركوع" الخ، قال الشيخ إبراهيم: ولو حذف قوله: "لركوع"، واستغنى بذكر السجود ما ضره؛ لأنه إذا كان يطلب الدخول فورا في السجود الذي هو غير معتد به فأولى الركوع.
لا لجلوس؛ يعني أن المسبوق إذا وجد إمامه متلبسا بالجلوس، فإنه لا يكبر للجلوس وإنما يكبر تكبيرة الإحرام، وإن كان مطالبا بالدخول مع الإمام في جلوسه. وقام بتكبير؛ يعني أن المسبوق إذا فارق الإمام بالسلام، وقام لقضاء ما عليه فإنه يقوم بعد سلام إمامه بتكبير يأتي به بعد استقلاله: فلا يكبر قبل اعتداله -كما مر- وعبارة الشيخ الأمير: وإنما يقوم مسبوق بعد السلام، وإلا بطلت إلا ساهيا، فيلغي ما فعل ورجع للإمام، ومحل قيام المسبوق بالتكبير. إن جلس مع الإمام الجلوس الذي فارقه منه في ثانيته؛ أي المسبوق. وقوله: إلا مدرك التشهد، مستثنى من المفهوم؛ أي فإن لم يجلس المسبوق مع الإمام في ثانيته؛ بأن لم يدرك معه ركعتين لم يقم بالتكبير إلا مدرك التشهد الأخير، أوما دون ركعة فإنه يقوم بالتكبير.
وتحصل من هذا أن من أدرك مع الإمام ثلاث ركعات أو ركعة واحدة، لا يقوم بالتكبير، ومن أدرك معه ركعتين أو ما دون ركعة يقوم بالتكبير. والله سبحانه أعلم، وما مشى عليه المصنف هو المشهور. وقال عبد الملك: يكبر على كل حال، قال الشيخ زروق: قال شيخنا أبو عبد الله: وأنا أفتي به العوام ليلا يلتبس عليهم الأمر ويتشوشون، ومن صلى مع الإمام ركعة وجلس الإمام يتشهد، فإنه يجلس معه ويتشهد وإن لم يكن له موضع تشهد، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما
جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه
(1)
)، قال الشيخ عبد الباقي: ولقد أحسن المصنف في ترتيب هاتين المسألتين مع الثالثة بعدهما؛ إذ صدر بما يؤمر به المسبوق بعد تكبيرة الإحرام من تكبير وعدمه. ثم ثنى بقيامه بعد سلام إمامه لقضاء ما عليه بتكبير أو بدونه، ثم ثلث بكيفية قضاء ما عليه بقوله: وقضى القول؛ يعني أن المأموم المسبوق المدرك ركعة فأكثر يقضي فيما فاته به الإمام القول، قال الشيخ عبد الباقي: أي القراءة خاصة، وأما غيرها فهو بانٍ فيه كالأفعال، فلذا يجمع بين سمع الله لمن حمده وربنا ولك الحمد؛ إذ الإمام لم يقلها، وإذا أدرك ثانية الصبح قنت على المشهور. قاله الجزولي، ويوسف بن عمر: خلافا للشارح والتتائي والشيخ سالم. لما علمت من أن المراد بالقول الذي يُقْضى القراءة. وأما قنوته فمن باب الفعل؛ لأن وقوفه له كفعل الباني المصلي وحده وهو يقنت، في ثانية الصبح. انتهى. قال الرماصي: ما ذكره التتائي صواب، وهو تابع في ذلك الشارح والتوضيح، وكل الشيوخ يفرعون على القفاء في الأقوال عدم القنوت. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: ما ذكره الرماصي من أن المعتمد عدم القنوت صحيح؛ إذ هو الذي في البيان، واقتصر عليه صاحب التوضيح، والقلشاني، وابن ناجي، وغيرهم. وقال الرماصي: ونفى الفاكهاني القول بالقنوت فضلا عن أن يكون مشهورا: فإنه قال منكرا على من قال يقنت في ركعة القضاء: إن كان هذا قولا في المذهب فهو شاذ، بناء على أن ما أدرك مع الإمام أول صلاته، وهذا القول لم أره منصوصا لأصحابنا، غير أن صاحب البيان والتقريب نقله إلزاما لا نقلا.
وبنى الفعل؛ يعنى أن المأموم المسبوق إذا قام بعد سلام إمامه لقضاء ما عليه، فإنه يقضي في الأقوال -كما مر- ويبني في الأفعال. والقفاء عبارة عن جعل ما فاته قبل الدخول مع الإمام أول صلاته، وما أدركه آخرها، والبناء عبارة عن جعل ما أدركه معه أول صلاته، وما فاته آخرها. وكون المسبوق يقضي القول ويبني الفعل مذهب الإمام مالك، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يقضي القول والفعل، وذهب الإمام الشافعي إلى أنه يبني فيهما. ومنشأ الخلاف خبر: (إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:722.
فأتموا
(1)
). وروي: (فاقضوا
(2)
)، فأخذ الإمام الشافعي برواية؛ فأتموا، وأخذ الإمام أبو حنيفة برواية: فاقضوا، وعمل الإمام بكليهما لقاعدة الأصوليين والمحدثين؛ وهي أنه إذا أمكن الجمع بين الدليلين جمع، وتظهر ثمرة الخلاف فيمن أدرك أخيرة المغرب، فعلى مذهب الإمام مالك: يأتي بركعتين بأم القرآن وسورة جهرا، ويجلس بينهما. وعلى مذهب الإمام الشافعي: يأتي بركعة بأم القرآن وسورة جهرا ويجلس، ثم يأتي بركعة بأم القرآن فقط سرا، وعلى مذهب الإمام أبي حنيفة: يأتي بركعتين بأم القرآن وسورة جهرا ولا يجلس بينهما. وقوله في الحديث الشريف: وعليكم السكينة، بالرفع في الرواية المشهورة. وروي بالنصب على الإغراء، وبالنصب ضبطه القرطبي. والوقارُ قال عياض والقرطبي: هو بمعنى السكينة، وذُكِرَ للتأكيد. وقال النووي: الظاهر أن بينهما فرقا، وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث والوقار في الهيئة، كغض البصر، وخفض الصوت، وعدم الالتفات. ذكره الحافظ. نقله محمد بن عبد الباقي. وقوله: إذا أتيتم الصلاة الخ، يفيد أنه لا يسرع لها أقيمت أم لا، والتقييد بالإقامة في رواية: (إذا سمعتم الإقامة
(3)
)، وفي رواية: (إذا ثوب بالصلاة
(4)
)؛ أي أقيمت. وفي رواية: (إذا أقيمت الصلاة)
(5)
الظاهر كما قال الحافظ مفهومه مفهوم موافقة؛ إذ من باب أحرى إذا لم يخف فوات التكبيرة الأولى أو غيرها لكون الصلاة لم تقم، ولا يقال إن من جاء قبل الإقامة لاتقام الصلاة حتى يستريح، بخلاف غيره؛ لأنه مخالف لصريح: إذا أتيتم الصلاة. انظر شرح العلامة محمد بن عبد الباقي للموطإ. وتوجيه الشيخ عبد الباقي لقول المصنف: وقضى القول وبنى الفعل ليس على ما ينبغي. والله سبحانه اعلم. انظر حاشية الشيخ بناني.
(1)
أصله في الصحيحين وروايتهما فأتموا.
(2)
ابن حبان، ج 3 ص 291. مسند أحمد، ج 2 ص 238.
(3)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:636.
(4)
مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:602.
(5)
مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:602.
وركع من خشي فوات ركعة دون الصف؛ يعني أن المسبوق إذا ركع إمامه قبل أن يدخل في الصف، فإنه يركع أي يحرم ندبا، ويركع دون الصف كما يفيده كلام المدونة وابن الحاجب، وجوازا كما يفيده كلام ابن رشد وابن عرفة: وإنما يركع دون الصف حيث خشي فوات الركعة إن لم يحرم وتمادى إلى الصف. وقوله: "دون الصف". متعلق بركع، وقوله:"وركع"؛ أي لأن إدراك الصف والركعة معا خير من إدراك الصف فقط إن ظن إدراكه قبل الرفع، شرط في قوله:"وركع". والضمير في إدراكه عائد على الصف؛ يعنى أن محل ركوع من خشي فوات ركعة دون الصف، إنما هو حيث ظن أنه يدرك الصف في دبيبه بعد إحرامه قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع، وأما إن لم يظن إدراك الصف قبل الرفع فإنه يتمادى؛ أي يترك الركوع ويذهب إلى الصف، ولو كان تفوته الركعة ولم يبح له أن يركع دونه: فإن فعل أساء وأجزأته ركعته. وقوله: "وركع من خشي" الخ، روى أشهب أنه لا يكبر حتى يأخذ مقامه من الصف. ولابن القاسم أنه يركع دون الصف ويدرك الركعة، فرأى المحافظة على الركعة أولى من المحافظة على الصف، وهذا في غير الأخيرة، وأما هي فيركع ليلا تفوته الصلاة، كما قاله اللخمي. قال الحطاب: وهذا تقييد حسن لا ينبغي أن يختلف فيه: وصرح ابن عزم بالاتفاق عليه، وفي الصحيح: (من وصل صفا وصله الله
(1)
).
واعلم أن أقسام هذه المسألة ثلاثة: أحدها: أن يكون بعيدا بحيث لا يجوز له الدب لكثرة المشي القتضية للبطلان، وحكمه أن لا يركع، ويتقدم للصف. ثانيها: أن يكون قريبا بحيث يكون مشيه لا يفسد الصلاة ولكن لا يظن إدراك الصف. قيل: فهذا لا يجوز له أن يركع دون الصف، فإن فعل أجزأته ركعته، وقد أساء. كما مر. ثالثها: أن يكون قريبا بحيث لا يفسد مشيه الصلاة؛ وهو يظن إدراك الصف قبل رفع الإمام رأسه، فإنه يركع دونه وهو منطوق المصنف، ولهذا قال: يدب كالصفين؛ يعني أنه إنما يركع دون الصف بحيث يكون المشي إليه قريبا لا يفسد الصلاة، وذلك بأن يدب بكسر الدال مقدار ثلاثة صفوف لا يحسب الذي خرج منه، ولا
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:666. والنسائي، كتاب الإمامة، الحديث: 819.
الذي دخل فيه، قال الشيخ عبد الباقي ما معناه أنه: يدب ليدرك الصف قبل الرفع ولو خببا، واغتفر فيها وإن كانت أحقَّ بالسكينة من خارجها؛ لأن إحرامه يمنع من إذهاب السكينة غالبا؛ فهو وازع فيها أي كافٌّ عن إذهاب السكينة بخلاف خارجها، فيكره -لما مر- انتهى المراد منه. قال الشيخ بناني: قال أبو علي: هذا في غاية البعد أو فاسد، وذلك لأن الخبب إنما كره كما لابن رشد ليلا تذهب سكينته، وإذا كره الخبب خارج الصلاة، فكيف به فيها؟ هذا لا يقوله من له أدنى تحصيل، والجواب الحق: -والله أعلم- أنا إنما أمرناه بالركوع في هذه الحالة ليلا يخيب ظنه فتفوته الركعة، بخلاف ما إذا ركع فقد حصل له العقد مع الإمام ثم يدب؛ فإن وصل فبها ونعمت، وإلا دب في الثانية، وهكذا كما قاله شراحه. وأما إن قلنا: سر حتى تصل واركع، فربما يخيب ظنه، فلا يصل حتى يرفع، فتفوته تلك الركعة. انتهى.
لآخر فرجة؛ يعني أنه إذا كانت في الصف فرجة واحدة، فإنه يدب إليها فيسدها، وإذا تعددت، الفُرَج فإنه يدب لآخر؛ أي أبعد فرجة بالنسبة له؛ وهي أقرب فرجة بالنسبة إلى الإمام. والفرجة بضم الفاء وفتحها: الخلاء بين الشيئين، قاله الشيخ إبراهيم. وما قررت به قوله:"لآخر فرجة": هو للشيخ عبد الباقي، فإنه قال:"لآخر فرجة"، بالنسبة لِجِهَتِهِ، وهي بالنسبة إلى الإمام أُولَى، سواء كانت أمامه ويخرق الصفوف، أو عن يمينه أو يساره. وقال الشيخ إبراهيم:"لآخر فرجة" تليه وسواء كانت الفرجة أمامه أو عن يمينه أو يساره. وقال ابن حبيب: لأولها إلى الإمام. انتهى. وقال الإمام الحطاب: قال ابن حبيب: أرخص مالك للعالم أن يصلي مع أصحابه بموضعه ببعد من الصفوف، فإن كانت في الصفوف فرج فليسدها. وفي الصحيح: (من وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله
(1)
). والله أعلم. قاله الشيخ زروق في شرح الإرشاد. انتهى. قائما. حال من الضمير الستتر في يدب؛ أي يدب إلى الصف قائما في رفعه من الركوع حيث خاب ظنه، هذا ظاهره، وهو ظاهر المدونة، وابن الحاجب. والذي لابن رشد: أنه يدب قائما في
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:666. والنسائي، كتاب الإمامة، الحديث: 819.
الركعة الثانية إن خاب ظنه، ونحوه في سماع أشهب. وظاهر ابن رشد عدم ارتضاء ظاهرها، وعليه فانظر لو دب في رفعه، والظاهر عدم البطلان مراعاة لظاهرها. قاله الشيخ عبد الباقي.
أو راكعا؛ عطف على قوله: قائما أي يدب إلى الصف حال كونه راكعا، إن لم يخب ظنه في أولاه. ولو قال: راكعا أو قائما لكان أنسب لما قبله. قاله الشيخ عبد الباقي.
لا ساجدا أو جالسا؛ يعني لا يدب إلى الصف إذا كان ساجدا أو جالسا، وانظر هل يكره أو يحرم؟ وعلى أنه يحرم فالظاهر عدم البطلان، قال غير واحد: وقوله: ساجدا أو جالسا؛ أي لقبح الهيئة والتكلف وتغير الاسم؛ لأن الدب مشي خفيف؛ وهو يحصل في الركوع والقيام، ومن السجود والجلوس إنما هو زحف فتغير الاسم. انظر الشبراخيتي.
وإن شك في الإدراك ألغاها قد علمت أن المأموم مسبوقا أم لا مأمور باتباع الإمام على الحالة التي هو فيها، فإذا كان مسبوقا ووجد إمامه راكعا فأحرم وركع، فإن تيقن أنه أدركه في ركوعه فالأمر ظاهر؛ أي يرفع برفعه ويعتد بتلك الركعة، فإن تردد في الإدراك للركعة قبل رفعه، سواء استوى تردده، أو ظن الإدراك، أو توهمه، فإنه يرفع برفعه ويلغي تلك الركعة في الصور الثلاث، سواء جزم قبل إحرامه بالإدراك، أو بعدمه، أو ظن الإدراك، أو عدمه، أو تردد فيه فهذه خمس مضروبة في الثلاث المتقدمة فتلك خمس عشرة صورة يلغي فيها الركعة، فيأتي بركعة ويسجد بعد السلام لاحتمال أن المأتي بها زائدة، وإنما أتى بركعة لاحتمال عدم الإدراك. وفي تيقن الإدراك خمس؛ لأنه إما أن يحرم جازما بالإدراك، أو بعدمه، أو ظانا الإدراك، أو عدمه، أو مترددا فيه على السواء، فتلكَ عشرون صورة. -وقد علمت حكمها- وأما إن تيقن عدم الإدراك ففيها خمس صور أيضا؛ لأنه إما أن يحرم جازما بالإدراك، أو بعدمه، أو ظانا الإدراك، أو شاكه، أو متوهمه. فتلك خمس وعشرون صورة. والحكم في صور تيقن عدم الإدراك أنه يرفع لمتابعة الإمام، ويأتي بركعة ولا يسجد؛ لأنه تحقق أن التي يأتي بها غير زائدة. وكونه يرفع في الصور الخمس أعني صور تيقن عدم الإدراك هو الذي لابن عبد السلام والهواري. قاله بناني. وظاهر ما لزروق أنه لا يرفع فيهن، وأنه إن رفع عمدا أو جهلا بطلت صلاته، فإنه قال: ولو تحقق أن إدراكه بعد رفع رأسه، لم يعتد بتلك الركعة اتفاقا، قالوا: ولا يرفع رأسه، بل يهوي لسجوده منه
بعد إمامه، فإن رفع، فحكى الزهري في شرح قواعد عياض عن ابن القاسم الجزيري صاحب الوثائق أنه حكى البطلان وعزاه لمالك. انتهى المراد منه. ابن عبد السلام الحق أنه يرفع موافقة للإمام، وإن كان بعض يقول يبقى كذلك في صورة الراكع حتى يهوي الإمام للسجود فيخر من الركوع ولا يرفع، قال: لأن رفع الرأس من الركوع عقد للركعة، فلو فعل ذلك كان قاضيا في حكم إمامه، وهذا ضعيف لاسيما على مخالفة الإمام، وإنما يكون قاضيا لو كان رافعا من ركوع صحيح، وإنما هو موافقة للإمام كما في السجود. نقله في التوضيح. قال الإمام الحطاب: وهو حسن قوي والله أعلم.
وإن كبر لركوع ونوى به العقد؛ يعني أنه إذا كبر في الركوع سهوا أو عمدا مأموم مسبوق أو غير مسبوق والإمام راكع، ونوى بتكبيره ذلك؛ أي بالتكبير الذي أوقعه عند الركوع، العقدَ أي الإحرام دون تكبيرة الركوع فإنه يجزئه ذلك التكبير بمعنى الإحرام.
أو نواهما؛ يعني أن الحكم كذلك فيما إذا نوى بتكبيره للركوع الإحرام والركوع فيجزئه ذلك، ولا فرق في هذه الصورة والتي قبلها بين الركعة الأولى وغيرها. أو لم ينوهما؛ يعني أنه لو كبر مأموم مسبوق عمدا أو سهوا، ولم ينو العقد والركوع في ركوع أولاه خاصة، فإنه يجزئه ذلك. وبما قررت علم أن قوله: أجزأ، جواب الشرط فهو راجع للمسائل الثلاث، وفاعل أجزأ التكبير بمعنى الإحرام في المسائل الثلاث. وقد تقدم في الصورتين الأوليين أنهما يجريان في المسبوق وغيره، وصورة غير المسبوق أنه دخل مع الإمام من أول الصلاة يظن أنه أحرم مع الإمام. قاله الحطاب. وقد مر أنه يشترط في الأخيرة أن يكون ذلك عند ركوع الأولى خاصة، وإنما اشترط فيها ذلك دون اللتين قبلها؛ لأن الإجزاء في هذه إنما هو بانضمام هذه التكبيرة لنية الدخول في الصلاة لتقدمها بيسير، والتكبير لا يفتقر لنية تخصه، ولا شك أنه إذا لم يتذكر ذلك في الأولى ونسي تكبيرها حتى أراد الانحطاط لركوع غير الأولى فحينئذ كبر، تقدمت نيته حينئذ بكثير فتبطل الصلاة. واللام في لركوع بمعنى "في"، أو بمعنى "عند"، فلا ينافي قوله:"ونوى به العقد الخ". قاله الشيخ إبراهيم وغيره. وقال الشيخ عبد الباقي: واختلف هل الإجزاء في الصور الثلاث، ولو كبر حال
انحطاطه وعليه حمل كثير المدونة: أولا يجزئه حتى يكبر قائما: وهو تأويل عبد الحق، وابن يونس، وابن رشد. وإن لم ينصوا إلا على الخلاف في الأولى خاصة، لكن قال بعضهم يجري في الجميع قاله الشيخ سالم. انتهى. وقد مر أنه لا فرق في الصور الثلاث بين تكبيره عمدا أو سهوا، ولا يخفى أن النسيان في الصورة الأولى متعلق بوقوع تكبيرة الإحرام مع النية؛ أي نسي أن يوقعها في محلها: وكذا يقال في الصورد الثانية أي نسي أن يوقع تكبيرة الإحرام مع النية في محلها ومن شك في تكبيرة الإحرام وهو وحده أو إمام، فقيل إنه يتمادى حتى يتم ويعيد، فإن كان إماما سأل القوم: فإن أيقنوا بإحرامه صحت صلاتهم: وإن لم يوقنوا أعادوا الصلاة. وقيل: إنه بمنزلة من أيقن يقطع متى علم. وقيل: إن كان قبل أن يركع قطع، وإن كان قد ركع تمادى وأعاد إلا أن يكون إماما فيوقن القوم أنه قد أحرم، نقله الحطاب. وللإمام التتائي رحمه الله:
ويقطع مأموم لقطع إمامه
…
لذكر صلاة أو لفقد لنية
كتكبير إحرام كذا الشد فيهما
…
وذاكر وتر وهو في الصبح ما فتى
وإن لم ينوه ناسيا له تمادى المأموم؛ يعني أن المأموم إذا لم ينو العقد بتكبيره للركوع ناسيا للعقد، ولم تتقدم له نية بيسير: بل نوى به الركوع خاصة، ثم تذكر بعد تكبيره للركوع أنه نسي الإحرام، فإنه يتمادى وجوبا ويعيدها وجوبا، كما في الجلاب: أو ندبا؛ وهو ظاهر ما حكاه التلمساني عن ابن القاسم وقوله: فقط، احترز به عن الفذ والإمام، وشمل كلامه الجمعة؛ وهو ظاهر المدونة، ورواه ابن القاسم. وقال مالك، وابن القاسم، وابن حبيب: يقطع في الجمعة بسلام ثم يحرم وهو مبني على القول بالبطلان ويقطع العامد؛ من الناسي إنما تمادى لقول سعيد بن المسيب وابن شهاب: إن الإمام يحمل عن المأموم الإحرام.
واعلم أن الصور السابقة في قوله: "وإن كبر لركوع" الخ في المأموم أيضا، فقوله:"المأموم"، يتنازعه: كبر وما بعده، وقوله:"وإن لم ينوه ناسيا" لخ، فيه حالات: إن ذكر ذلك بعد رفعه من الركوع فالذهب أنه يتمادى وقيل يقطع، وإن ذكر في الركوع وعلم أنه لو رفع وأحرم لم يدرك الركوع، ففي ذلك ثلاثة أقوال: أشهرها مذهب المدونة أنه يتمادى ويعيد، والثاني يبتدئ:
والثالث هم
(1)
بالخيار. وأما لو علم أنه لو رفع وأحرم أدرك الإمام قبل رفعه: ففي ذلك قولان في الموازية والعتبية: يقطع ويحرم ورآه خفيفا، وأقطع للشك مع أنه لا يفوته شيء. وقيل: لا يقطع؛ وهو الذي يؤخذ من المدونة. قاله الحطاب. وقوله: "ناسيا"، قد مر أن العامد يقطع؛ لأن الناسي إنما تمادى لقول سعيد بن المسيب، وابن شهاب: إن الإمام يحمل عن المأموم الإحرام، وخلافهما إنما هو إذا كبر للركوع غير ذاكر للإحرام، وأما لو كبر للركوع وهو ذاكر للإحرام متعمدا لما أجزأته صلاته بإجماع فلهذا لم يتماد التعمد. قاله الحطاب. وقوله:"وإن لم ينوه ناسيا"، سواء في ذلك الأولى وغيرها فإنه يتمادى ويعيد بعد قضاء ما فاته، وحيث أمر بالقطع فهل بسلام أم لا؟ قولان حكاهما في المقدمات. وخصهما بما إذا ذكر بعد ركعة، قال: وإن ذكر قبل ركعة قطع، وذكر أن الفذ في ذلك كالمأموم. قاله الحطاب.
وفي تكبير السجود تردد؛ يعني أن المأموم إذا كبر للسجود ناسيا للإحرام فإنه اختلف فيه، هل يتمادى أو يقطع؟ فابن رشد وابن يونس واللخمي نقلوا عن ابن المواز أنه: إذا كبر للسجود ناسيا للإحرام يتمادى، وظاهر نقل سند عن المذهب: أنه يقطع متى ما ذكر. قاله الشيخ بناني. قال: وإلى هذا الخلاف أشار المصنف بالتردد، فهو لتردد المتأخرين في النقل عن المتقدمين، وعلى التمادي فابن رشد وابن يونس نقلا عن رواية ابن المواز أنه يتمادى إذا تذكر بعد ركوع الثانية، وإن تذكر قبله قطع، واللخمي نقل عن قول ابن المواز: أنه يتمادى مطلقا كما في الركوع. انتهى. وأما إن كبر لسجود، ونوى به العقد، أو نواهما، أو لم ينوهما فإنه يجزئ على المعتمد، وقيل: لا، ولا يتوهم في هذه أنه يعتد بركعة السجود؛ أعني الركعة التي كبر فيها لسجود، ونوى به العقد، أو نواهما، أو لم ينوهما. وسكت المصنف عن حكم تبيره لرفع من ركوع أو سجود؛ فظاهر المدونة لغو الأول فيقطع ولا يتمادى. وأما الثاني، ففي اللخمي: التكبير في الرفع من
(1)
في الحطاب ج 1 ص 410 ط دار الرضوان هو بالخيار.
السجود كتكبير السجود، والظاهر أنه يجري هذا الخلاف في وجوب التمادي وندبه، وأنه يعيدها وجوبا أو احتياطا كما جرى في مسألة:"وإن لم ينوه ناسيا له تمادى المأموم فقط".
وإن لم يكبر استأنف؛ يعني أن جميع ما تقدم في الركوع والسجود من الأحوال إنما هو حيث كبر المأموم، وأما إن دخل الصلاة ولم يكبر للإحرام ولا للركوع ولا للسجود فإنه يستأنف الصلاة حيثما ذكر بإحرام، ولا يحتاج إلى قطعها بسلام، وإنما استأنف لعدم حمل الإمام تكبيرة الإحرام عن المأموم. وفي التوضيح: إذا لم يكبر للإحرام ولا للركوع ابتداء حيثما ذكر لا نعلم فيه خلافا إلا ما حكي عن مالك: أن الإمام يحمل عن المأموم تكبيرة الإحرام، وهي رواية شاذة. انتهى. والله أعلم. قاله الإمام الحطاب.
ولما كان الاستخلاف من جملة مندوبات الإمام، وكان في الكلام عليه طول، أفرده بالكلام فقال:
فصل: في الاستخلاف
؛ وهو تقديم إمام بدل آخر لإتمام صلاة الأول. قاله ابن عرفة. قوله: تقديم، مصدر مضاف لمفعوله ليندرج فيه من قدمه الجماعة، ولقوله: بدل آخر، ولو كان مضافا لفاعله لقال: بدله، وقوله: بدل آخر، حال من إمام وإن كان نكرة من غير مسوغ على غير الغالب وقوله: لإتمام لخ، مخرج لتقديم إمام بمسجد بدل آخر. وأشار المؤلف إلى حكم الاستخلاف بقوله: ندب لإمام خشي تلف مال؛ يعني أنه يندب لإمام ثبتت إمامته إذا خشي بتماديه على إتمام صلاته تلف مال، أن يستخلف أي يقدم رجلا يتم بهم الصلاة، وقوله:"لإمام"، متعلق بندب، واحترزت بقولي ثبتت إمامته، عمن ترك النية، أو تكبيرة الإحرام، أو شك فيهما. وللإمام التتائي:
ويقطع مأموم لقطع إمامه
…
بذكر صلاة أو بفقد لنية
كتكبير إحرام كذا الشك فيهما
…
وذاكر وتر وهو في الصبح ما فتي
وقوله: وذاكر وتر الخ، هذا أحد قولين، والآخر يستخلف. وعبر المصنف بخشي؛ لأنه يستعمل في عرفهم في الظن فما دونه. قاله البساطي. وقال الشبراخيتي: إن هذا فاسد؛ لأن خاف يستعمل في الظن فما دونه وفي اليقين أيضا. قال تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)} ، وقوله:"مال"، كثر أو قل، ضاق الوقت أم لا إن خشي بتركه هلاكا أو شديد أذى؛ أي مشقة شديدة. كما في الشبراخيتي. وكذا إن لم يخش ذلك، وكثر ثمنها، واتسع الوقت فيستخلف في هذه الخمس، فإن لم يخش، وكثر، وضاق الوقت، أو قل. ولم يخش ضاق الوقت أو اتسع تمادى في هذه الثلاث، فتلك ثمان صور يستخلف في خمس منها ويتمادى في ثلاث. ومال الغير كماله، ومثل الإمام في القطع وعدمه المأموم والفذ، واختص الإمام بندب الاستخلاف.
أو نفس؛ يعني أن الإمام يندب له الاستخلاف أيضا فيما إذا خشي تلف مال، أو شديد أذى نفس كصبي أو أعمى أن يقعا في بير أو نار. وقوله: نفس؛ أي معصومة كغيرها إن حصل لها
بذلك تعذيب، وأما إن خشي تلف مرتد أو زان محصن، ولم يحصل لهما بذلك تعذيب، فلا؛ لأنه لا حرمة لأنفسهما.
أو منع الإمامة لعجز؛ يعني أنه يندب للإمام الاستخلاف فيما إذا منع الإمامة لأجل عجز عن ركن فعلي أو قولي، لا عن سورة، فليس من مواطن الاستخلاف.
أو الصلاة برعاف؛ يعني أنه يندب للإمام الاستخلاف أيضا فيما إذا منع إتمام الصلاة بسبب رعاف فيستخلف، وإن أوجب الرعاف القطع؛ إذ لا يزيد على غيره من النجاسات. وقد شهر ابن رشد فيها الاستخلاف، بل الاستخلاف في رعاف القطع هو ظاهر المدونة وابن يونس؛ وهو صريح كلام ابن القاسم وابن رشد، فيحمل كلام المصنف على رعاف القطع، ويستفاد منه رعاف البناء بالأولى، ويكون فيه إشارة من المصنف إلى موافقة ما شهره ابن رشد في سقوط النجاسة أو ذكرها. وفي التتائي: ولو ذكر نجاسة أو منسية أو قهقه لم يستخلف. ابن ناجي: ويقطع في النجاسة أمكنه نزعها أم لا وبه الفتوى، وتصريح ابن رشد بأن المعلوم المشهور من المذهب أنه يستخلف لا أعرفه. انتهى. قال الشيخ عبد الباقي: وابن رشد ثقة، فيكفي. وقد أنشد فيه بعض العلماء ما قاله بعض بني المهلب في واحد منهم يدعى أبا دلف:
إنما الدنيا أبو دلف
…
بين باديها وفي حضره
فإذا ولى أبو دلف
…
ولت الدنيا على أثره
وتلخص أنهما قولان مشهوران. انتهى. ومن مواطنه أيضا شكه في الصلاة هل دخلها بوضوء أم لا فيستخلف؟ وأما من تحقق الحدث والوضوء وشك في صلاته في السابق منهما فإنه يتمادى، فإن بان له الطهر لم يعد، فإن لم يبن أعادها دون مأموميه، ولا وجه لإعادة المأمومين. كما قاله الشيخ محمد بن الحسن، كما لو شك في صلاته هل أحدث فيها أم لا؟ وما تقدم من أن من قهقه لا يستخلف نقله عبد الباقي عن التتائي. قال بناني: فيه نظر. وقد ذكر الحطاب فيما تقدم أنه يستخلف في القهقهة غلبة أو نسيانا، ولم يذكر فيه خلافا، وإنما ذكر الخلاف هل يقطع الإمام أو يتم؟ وفي المواق ما نصه: وقد نص ابن رشد على أن الإمام يستخلف إن قهقه غلبة أو نسيانا،
وما مر عن عبد الباقي من قوله: وتلخص أنهما قولان مشهوران، قال بناني: فيه نظر، بل ما شهره ابن رشد أقره ابن عرفة وغير واحد، والقول الآخر أنكره غير واحد، فكيف يساوي الأول؟ أو سبق حدث؛ يعني أن الإمام إذا منع من الصلاة لأجل بطلانها عليه بسبب سبق حدث أصغر أو أكبر؛ أي خروجه فيها غلبة، فإنه يندب له الاستخلاف.
أو ذكره؛ يعني أن الإمام إذا منع من الصلاة لأجل بطلانها عليه بسبب ذكر حدث في الصلاة أصغر أو أكبر، فإنه يندب له الاستخلاف. ومن مواطن الاستخلاف أيضا مسألة السفن -كما مر- ومن مواطنه أيضا جنون الإمام، أو موته، وكذا لو اختطفته الجن أو السبع. وبما قررت علم أن قوله: استخلاف، نائب فاعل ندب؛ وهو يشعر بأن خلفه متعدد، فإن كان خلفه واحد فقط، فلا؛ إذ لا يكون خليفة على نفسه، فيتم. قاله ابن القاسم. وظاهر الشيخ سالم أنه الراجح، وقال أصبغ: يقطع ويبتدئ، وقال غيرهما: يعمل عمل المستخلف بالفتح، فإذا أدرك رجل ثانية الصبح فاستخلفه الإمام بموجب، فعلى الأول يصلي ركعتي الصبح كصلاة الفذ ولا يبني على قراءة الإمام، وعلى الثاني يقطعها، وعلى الثالث يصلي الثانية ويبني على قراءة الإمام فيها، ويجلس ثم يقضي الركعة الأولى، وإذا استخلف مقيم مسافرا فقط أتم على الأول إن أدرك ركعة، لا إن لم يدرك ركعة، فيصليها سفرية، وقطع على الثاني وأتم على الثالث أدرك معه ركعة أم لا. قاله الشيخ عبد الباقي. قال الشيخ بناني: قول الزرقاني: فإن كان خلفه واحد فقط لخ، هكذا أطلقوه، والظاهر تقييده بغير من منع الإمامة لعجز، فإنه يستخلف من وراءه ولو كان واحد؛ لأنه يتأخر مؤتما. انتهى. وإذا استخلف على نفسه بعدما صلى الركعة الأولى من المغرب، فعلى الأول يأتي بركعة بأم القرآن وسورة، ثم يجلس، ثم يأتي بركعة بأم القرآن فقط؛ لأنه بان في الأفعال، والأقوال وعلى الثاني الأمر واضح، وعلى الثالث يبني في الأقوال والأفعال كالأول إلا أنه يبني على قراءة الإمام. فظهر الفرق بين البناء على الأول والثالث. وقوله:"استخلاف"؛ أي لأنه أعلم بمن يستحق منصبه؛ وهو من باب التعاون على الخير، وليلا يؤدي تركه إلى تنازع فيمن يقدمونه فتبطل صلاتهم. واعترض البساطي المصنف بقوله: مفهوم خشي أن الإمام لا يندب له
ذلك عند عدم الشرط، ولا نعلم خلافا أنه لا يجوز. انتهى. ولا تخفى ركاكة هذا الاعتراض. كما قاله الشيخ محمد بن الحسن. وإن كان الأمر كما قال البساطي من أنه لا يجوز، (وأما استئخار أبي بكر رضي الله عنه وتقدمه صلى الله عليه وسلم مكانه في الإمامة
(1)
) فمخصوص به صلى الله عليه وسلم عند جمهور العلماء. قاله ابن عبد البر. نقله محمد بن عبد الباقي. وقد مر الكلام على المواطن التي يستخلف فيها الإمام مند قول المصنف: وإلا سجد ولو ترك إمامه.
وإن بركوع أو بسجود؛ يعني أنه يندب للإمام أن يستخلف، وإن حصل له سبب الاستخلاف وهو راكع أو ساجد أو جالس، ويستخلف في ركوعه وسجوده وجلوسه، ويرفع رأسه من الركوع بلا تسميع ومن السجود بلا تكبير ليلا يغتروا
(2)
به، ولا يرفعون برفعه، وإنما يرفع بهم الخليفة. وقيل: يستخلف من يرفع من الركوع ومن السجود لا فيهما.
تنبيه: قد تقدم أنه يستخلف للنجاسة؛ يعني في سقوطها وذكرها، وإذا رأى المأموم نجاسة في ثوب الإمام أراه إياها إن قرب منه. فإن بعد كلمه. قال سحنون: ويبتدئ، وقال ابن حبيب: يبني. ابن ناجي: قول ابن حبيب هو الجاري على قولها، وعلى المشهور أن الكلام لإصلاحها لا يبطلها. وسحنون على أصله. وحكم من علم بحدث إمامه، حكم من رأى النجاسة في ثوب إمامه؛ وهو بعيد منه. قاله ابن رشد. قاله الحطاب. وذكر البرزلي أن الجاري على قول ابن القاسم إذا ذكر الإمام نجاسة في ثوبه أنه يقطع ويقطعون. قال. وقيل يستخلف.
(ولا تبطل إن رفعوا برفعه قبله)؛ يعني أن الإمام إذا وقع له العذر في الركوع أو السجود: وقلنا
إنهم لا يرفعون برفعه، وإنما يرفعون برفع المستخلف بالفتح، فإنهم لا تبطل صلاتهم إن رفعوا برفعه أي المستخلف بالكسر قبله؛ أي الاستخلاف، أو قبل المستخلف بالفتح أي قبل رفعه. وقوله:"ولا تبطل"، قال ابن الحاجب على الأصح. انتهى. ومقابله غير منصوص بل مخرج. وقوله:"ولا تبطل إن رفعوا" الخ، محله ما لم يعلموا بحدثه ويرفعوا برفعه عمدا وإلا بطلت
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث: 684 مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث:421.
(2)
في عبد الباقي ج 2 ص 32: ليلا يقتدوا.
صلاتهم، كما يقتضيه كلام ابن بشير، وعبد الحق، وابن شأس، وابن عرفة. قاله بناني. ثم قال بعد جلب أنقال: وهو صريح في أن محل الخلاف حيث رفعوا برفعه جهلا أو غلطا، فإن اقتدوا به عمدا مع علم حدثه أفاد البطلان بلا خلاف. والله أعلم. انتهى. وبهذا يتبين لك ما في كلام الشيخ عبد الباقي. وحيث رفعوا قبل الاستخلاف أو بعده، وقبل المستخلف كان رفعهم في المسألتين برفع الإمام أم لا، فإنهم يؤمرون بعودهم ليرفعوا معه، فإن لم يعودوا لم تبطل صلاتهم إن أخذوا فرضهم معه قبل حصول المانع، وإلا وجب عليهم العود مع الخليفة، فإن تركوا ذلك عمدا بطلت صلاتهم، ولعذر وفات التدارك بطلت الركعة فقط. هذا في حقهم. وأما المستخلف بالفتح فلا بد أن يركع ويرفع، ولو أخذ فرضه مع الإمام قبل المانع لأنه نزل منزلته وركوعه غير معتد به، فيكون هو كذلك. قال جميعه الشيخ علي الأجهوري.
ولهم إن لم يستخلف؛ يعني أنه إذا ترك الإمام الذي وقع له العذر المندوب؛ بأن خرج ولم يستخلف، فإنه يندب للمأمومين الاستخلاف، فقوله:"ولهم"، عطف على قوله:"لإمام". ولو أشارلهم بالانتظار؛ يعني أن الإمام إذا وقع له العذر، فإنه يندب للمأمومين الاستخلاف، ولو كان الإمام أشار إليهم أن ينتظروه حتى يأتيهم. ورد المصنف "بلو". رواية يحيى عن ابن نافع: إن انصرف ولم يقدم وأشار إليهم أن امكثوا، كان عليهم أن لا يقدموا أحدا حتى يرجع فيتم بهم. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: والانتظار مبطل، قال في الاستذكار: جملة قول مالك وأصحابه إن ذكر أنه جنب أو على غير وضوء، فرج ولم يقدم أحدا، قدموا من يتم بهم، فإن أتموا أفذاذا أجزأتهم صلاتهم، فإن انتظروه فسدت. انتهى. وظاهره أن الانتظار مبطل مطلقا كان العذر مبطلا أم لا. وفي الشبراخيتي: ولو انتظروه حتى عاد وأتم بهم، بطلت. انتهى. وظاهر الأول بطلانها بمجرد الانتظار، وإن لم يتم بهم. وقوله:"ولهم إن لم يستخلف"، محل استخلافهم إن لم يفعلوا لأنفسهم فعلا بعد حصول المانع الأول، فإن فعلوا لم يستخلفوا؛ لأنه لا إتباع بعد القطع.
واستخلاف الأقرب؛ يعني أنه يندب للإمام أن يستخلف أقرب المأمومين إليه مسافة من الصف الذي يليه؛ لأنه أدرى بأحوال الإمام، وإن لم يستخلف الأقرب خالف الأولى.
وترك كلام في كحدث؛ يعني أنه يندب للإمام عند استخلافه أن يترك الكلام في كل مبطل، كحدث سبق أو ذكر، وأما ما لا يبطلها فتركه واجب كرعاف بناء وعجز. قاله عبد الباقي. واستدل على الوجوب بقوله: وتأخر مؤتما في العجز؛ يعني أن الإمام إذا عجز عن ركن فعلي أو قولي: يستخلف ويتأخر حال كونه مأموما؛ بأن ينوي المأمومية في العجز عن ركن: قال الشيخ عبد الباقي: يتأخر وجوبا بالنية، وعن محله ندبا، فلو صلى فذا لبطلت. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: جزم بالبطلان، وقد تردد علي الأجهوري: والصواب الصحة لقول المصنف الآتي أو بعضهم.
ومسك أنفه في خروجه؛ يعني أنه يندب لمن استخلف في كحدث أن يمسك أنفه في حال خروجه، كان العذر رعافا أو غيره، ولا ينافيه تعليلهم الندب هنا بإيهام أن به رعافا زيادة في الستر؛ لأن من بعد عنه لا يحصل الستر منه، وكذا من قرب منه حيث قطع لزيادة رعافه عن درهم في أنامل الوسطى، وأما قوله: فيخرج ممسكا أنفه الخ. ففي رعاف البناء وليس للستر، بل لتخفيف النجاسة. ويؤخذ مما ذكره أحمد عن الخطابي أن إخراج الريح بحضرة الناس منهي عنه مذموم، وإن لم يتأذوا بذلك. وذكر التتائي في الموات أنه حرام، ونص أحمد قال الخطاب
(1)
: إنما أمر المحدث بأخذ أنفه، ليوهم القوم أن به رعافا، وهذا من باب الأخذ بالأدب في ستر العورة وإخفاء القبيح والتواري بما هو أحسن، وليس يدخل في الرياء والكذب، وإنما هو من باب التجمل واستعمال الحياء وطلب السلامة من الناس، ولا يقال هذا يفيد عدم وجوب ما يحصل به الستر؛ لأنا نقول هذا حيث خيف بالترك عدم الستر من غير تحقق: وإلا وجب. قاله الشيخ عبد الباقي.
تنبيه: علم مما مر أن الإمام إذا عجز عن ركن لا يجوز له أن يستخلف بالكلام ليلا تبطل صلاته، وأما رعاف البناء ففي المواق: الباجي: من سنة الصلاة أن لا يتكلم الإمام إذا طرأ له ما
(1)
في عبد الباقى ج 2 ص 33: الخطابي.
يمنعه التمادي، ويستخلف إشارة إلا أن يخاف أن لا يفقهوا فليتكلم، وقال ابن القاسم: إن تكلم في استخلافه، فقال: يا فلان تقدم، لم يضرهم ذلك، ولكنه لا يبني إن كان راعفا. ابن رشد: قول ابن القاسم هو الصواب أن صلاتهم لا تبطل؛ لأنه إذا رعف فالقطع له جائز في قول، ومستحب في قول فلا تبطل صلاة القوم بفعل ما يجوز له أو يستحب له، خلافا لابن حبيب. وقد مر عن عبد الباقي وجوب ترك الكلام في رعاف البناء، وقد علمت ما فيه. والله سبحانه أعلم.
وتقدمه إن قرب؛ يعني أنه يندب للمستخلف بالفتح أن يتقدم إن قرب من موضع الإمام كالصفين. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي: كقرب ما يدب فيه لفرجة فيما يظهر، فإن بعد لم يجز ولو بمقدار القرب، فإن تقدم صحت بمقدار القرب لا أزيد، فتبطل.
وإن بجلوسه؛ يعني أنه إذا استخلف القريب منه فإنه؛ أي المستخلف بالفتح يندب تقدمه لموضع الإمام الأصلي على الحال التي حصل استخلافه فيها، وإن كان هذا المستخلف بالفتح جالسا أو ساجدا للعذر هنا دون ما مر من عدم دبيبه للصف جالسا أو ساجدا. وقوله:"وإن بجلوسه"، نقله في النوادر عن عيسى عن ابن القاسم.
وإن تقدم غيره صحت؛ يعني أنه إذا استخلف الإمام بعض القوم، فتقدم غير المستخلف بالفتح عمدا أو اشتباها كاشتراكهما في الاسم واقتدوا به، فإن صلاتهم تصح؛ لأن المستخلف بالفتح لا يكون إماما بنفس الاستخلاف، بل حتى يقبل ويفعل بعض الفعل مع اتباعهم له، خلافا لبعض شيوخ عبد الحق القائل: إنه يكون إماما بنفس الاستخلاف. انتهى. وفي المدونة: ولو خرج المستخلف قبل عمله شيئا، وقدم غيره أجزأتهم. ثم شبه المصنف في الصحة فروعا أربعة. أولها أشار إليه بقوله: كإن استخلف مجنونا ولم يقتدوا به يعني أن المأمومين تصح صلاتهم فيما إذا استخلف عليهم الإمام مجنونا أو نحوه ممن لا تصح إمامته والحال أنهم لم يقتدوا به، وأما إن اقتدوا به فإن صلاتهم تبطل، وإن كانوا غير عالمين كما مر في قوله: أو مجنونا. قال التتائي: وظاهره بمجرد نية الاقتداء، لكنه نقل في توضيحه عن عبد الحق، لا تبطل حتى يعمل عملا فيتبعونه فيه. انتهى. وليس بظاهر. انتهى كلام التتائي. والمذهب أنها لا تبطل إلا إذا عملوا معه
عملا بعد الاقتداء. قاله الشيخ إبراهيم. وأشار إلى الثاني بقوله: أو أتموا وحدانا؛ يعني أنه تصح صلاة المأمومين فيما إذا أتموا لأنفسهم وحدانا حيث وقع العذر لإمامهم، وقوله:"وحدانا"؛ أي كلهم. وقوله: "أو أتموا وحدانا"؛ أي ولو استخلف الأصلي عليهم؛ لأنه لا يثبت له حكم الأصلي إلا إذا اتبع. كما يفيده ما مر. وإذا صلوا وحدانا مع كونه استخلف عليهم، وصلى المستخلف وحده؛ ولم يدركوا مع الأصلي فضل جماعة، فلكل أن يعيد في جماعة. ويلغز بذلك، فيقال: شخص صلى بنية الإمامة ويعيد في جماعة، ومأموم صلى بنية المأمومية ويعيد في جماعة، ومثل الأول من نوى الإمامة معتقدا أنه دخل معه أحد، ومثل الثاني من أدرك مع الإمام دون ركعة مع نية المأمومية. كما مر. ذلك قاله الشيخ عبد الباقي. ابن القاسم: فإن صلوا وحدانا فلا يعجببي ذلك وصلاتهم تامة، إلا الجمعة فلا تجزئهم. قاله المواق. وقوله:"أو أتموا وحدانا"؛ أي ويكره ذلك. وقال الشيخ عبد الباقي: فإن خالفوا المندوب وأتموا وحدانا كره لهم -كما في المدونة- لأنهم أمكنهم أن يصلوا جماعة. قاله أبو الحسن. انتهى. وأشار إلى الثالث بقوله: أو بعضهم؛ يعني أنه تصح صلاة المأمومين كلهم فيما إذا وقع العذر لإمامهم، وأتم بعضهم وحدانا وبعضهم بإمام سواء استخلف إمام المقتدين به الإمام الأصلي أو غيره، وسواء اختلفوا أو تساووا، لكن البعض الذي صلى وحده يأثم بمنزلة من وجد جماعة تصلي فصلى وحده، وكذا يقال في قوله: أو بإمامين؛ وهو رابع الفروع؛ يعني أنه إذا وقع للإمام العذر فصلى بعض المأمومين بإمام وبعضهم بآخر، فإنه تصح صلاة الجميع، ويحرم ذلك على الثاني. ابن بشير: لو استخلف قوم منهم وأتم الباقون أو واحد منهم لصحت صلاتهم على المشهور. قاله المواق.
إلا الجمعة؛ راجع للفروع الثلاثة؛ يعني أن ما تقدم من صحة صلاة المأمومين كلهم فيما إذا أتموا وحدانا، وفيما إذا أتم بعضهم وحدانا، وفيما إذا أتموا بإمامين إنما هو في غير الجمعة، وأما الجمعة فلا، لكن تصح جمعة من صلى مع الإمام في الفرع الثاني إن كان معه اثنا عشر تنعقد بهم، وأما الفرع الثالث فتصح مع من قدمه الإمام، فإن لم يقدم أحدا لكن تقدم اثنان أو قدم هو أو هم اثنين صحت للسابق بالسلام، فإن استويا بطلت عليهما وأعاداها جمعة مع بقاء وقتها، ومحل صحتها للسابق بالسلام إن وجد معه شروطها وإلا بطلت عليه. والظاهر أنه تصح جمعة
الثاني حينئذ إن وجد معه شروطها، ويحتمل أن تبطل كما هو ظاهر ما يأتي في باب الجمعة من بطلانها بإمامين على كل. وقد يفرق بأن هنا ضرورة ولو اعتبرنا ما يأتي لأبطلنا صلاتهما هنا مطلقا؛ أي من غير نظر لسابق بسلام، ولا لمن قدمه الإمام. انظر شرح الشيخ عبد الباقي.
وقرأ من انتهاء الأول؛ يعني أن المستخلف بالفتح يندب له أن يقرأ من انتهاء الإمام الأول إن علم حيث انتهى، كانت الصلاة سرية أو جهرية. قاله الشيخ سالم بحثا. ومقتضى الندب الذي قاله بحثا أن له قراءة الفاتحة حيث قرأها الأول، وإن خالف الندب مع أن تكرير الركن القولي لا يجوز وإن لم تبطل به الصلاة، ودعوى اغتفاره هنا لأن معيده شخص آخر يحتاج إلى نقل. قاله الشيخ عبد الباقي، وقول حلولو: عليه أن يقرأ من انتهاء الأول، يقتضي الوجوب.
وابتدأ بالسرية إن لم يعلم؛ يعني أنه إذا لم يعلم المستخلف بالفتح انتهاء الأول، فإنه يبتدئ الفاتحة وجوبا كانت الصلاة سرية أو جهرية، فلا مفهوم لقوله بسرية، فلو قال: وقرأ من انتهاء الأول إن علم وإلا ابتدأ، لكان أشمل وأخصر. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"وابتدأ" الخ أي يجب عليه أن يبتدئ أم القرآن إن لم يعلم، هل قرأها الأصلي أم لا؟ ولو كان قد مكث قدرها لاحتمال نسيانه لها. قاله الشيخ إبراهيم.
وصحته بإدرأك ما قبل الركوع؛ يعني أن صحة الاستخلاف مشروطة بإدراك المستخلف قبل العذر من الركعة التي وقع فيها الاستخلاف جزءا يعتد به، وهو ما قبل عقد الركوع الذي هو رفع الرأس، وذلك بأن يدرك الإمام في الركوع فقط، وإن لم يطمئن إلا بعده، وكذا إن أدرك ما قبله ولو الإحرام فقط. وبما قررت علم أن معنى قوله:"قبل الركوع"، قبل عقد الركوع وعقد الركوع هو رفع الرأس -كما مر- فلو فاته ركوع ركعة وأدرك سجودها واستمر مع الإمام حتى قام لما بعدها فحصل له العذر حينئذ، فإنه يصح استخلافه. وكذا لوأحرم معه قبل الركوع، وركع الإمام ولم يركع المأموم حتى حصل العذر، وكذا لو أحرم والإمام مبتدئ في حالة الرفع فحصل له عذر قبل تمامه فيصح للإمام أن يستخلفه، ويأتي بالركوع من أوله لاعتداده في هذه المسائل بالسجود، فلا يؤدي إلى اقتداء مفترض بمتنفل. قاله عبد الباقي. وكلامه لا يظهر في الأخيرة؟
وهي قوله: وكذا لو أحرم والإمام مبتدئ في حالة الرفع لخ، فالظاهر أنه لا يصح استخلافه في هذه الأخيرة لاقتضائه أن الركوع يدرك بعد الأخذ في الرفع من الركوع. والله تعالى أعلم.
وإلا؛ أي وإن لم يدرك جزءا يعتد به بأن فاته الركوع، إما بأن أحرم بعد الرفع أو قبله وزوحم حتى رفع الإمام رأسه، فلا يصح استخلافه، سواء استخلفه قبل السجود، أو في السجود، أو بعده، وقبل القيام، أو في حالة القيام. وأما بعد القيام فتقدم أنه يصح استخلافه، فإن قدمه الإمام فليقدم هو غيره، فإن تمادى بهم بطلت عليهم دونه لاعتدادهم بالسجود، وعدم اعتداده هو به، فهم كمفترضين أمهم متنفل. ومحل صحة صلاته هو إن بنى على صلاة إمامه، وإلا بطلت. ومعنى بنائه على صلاة إمامه أن يأتي بما كان يأتي به مع الإمام لو لم يحصل له عذر فيأتي بالسجود، فإن لم يأت به بطلت صلاته، هذا حكم من جاء قبل العذر. وأما من جاء بعد العذر فكأجنبي كما سيقوله، والكاف زائدة؛ أي هو أجنبي حقيقة، فلا يصح استخلافه على القوم، وتبطل صلاة المؤتمين به. قاله ابن القاسم في المدونة. وفي شرح الشيخ عبد الباقي ما معناه: وصحته بإدراك المستخلف من الركعة المستخلف فيها إن حصل فيها العذر، احترازا عمن أدرك مع الإمام الأولى وقيام الثانية بتمامه، وحصل له عذر منعه من ركوعها مع الإمام من زحام ونحوه، وحصل للإمام موجب استخلاف بعد تمام رفعه منها وقبل قيامه للركعة التي تليها، فلا يصح استخلافه، ولو كان يمكنه إدراك الأصلي أن لو بقي قبل رفعه من سجودها؛ لأن ما يأتي به من السجود أو بعضه هو بمنزلة النفل، فلا يقتدي به مفترض. انتهى. وناقشه في هذه الصورة الشيخ محمد بن الحسن بناني بأن هذا لا يدفع ورود المسألة المذكورة على المصنف، والظاهر أو المتعين أن اعتراضه على عبد الباقي ساقط. والله أعلم. وفي الحطاب عن النوادر: قال ابن المواز: ومن أحرم والإمام راكع في الجمعة في الثانية فاستخلفه قبل أن يركع الداخل، فليركع الداخل والقوم ركع: ثم يرفع بهم وتصح له ولهم جمعة، ولو رفعوا قبل أن يرفع المستخلف فكمن رفع قبل إمامه، فليرجعوا حتى يرفعوا برفعه، فإن لم يعودوا أجزأهم، ولو خرج ولم يستخلف فقدموا -هذا أو غيره- فالأمر كذلك، إلا أنهم إن قدموا غيره أو قدم الإمام غيره فرفع المستخلف رأسه قبل أن يركع الداخل فلا يعتد بتلك الركعة. انتهى. ومن النوادر أيضا: وإذا رفع رأسه من
الركعة الثانية فقدم من أحرم حينئذ ولم يدرك الركعة، فليقدم هو من أدركها، فإن لم يفعل وأتمها بهم فسدت عليه وعليهم. انتهى. والله سبحانه أعلم.
ولما فهم من كلام المصنف أن من جاء بعد العذر لا يصح استخلافه، أشار إلى كيفية صلاته هو في نفسه بقوله: فإن صلى لنفسه؛ يعني أن هذا الذي جاء بعد العذر، لم يقع له موجب استخلاف، فاستخلفه الإمام، فإن صلاة من اقتدى به تبطل، وتصح صلاته هو إن صلى لنفسه، بأن نوى الفذية ولم يبن على صلاة الإمام، ولم يقبل استخلافه. قال في التوضيح: ولا إشكال في صحة صلاته، قال الإمام الحطاب: الذي يظهر أنه يدخل الخلاف في صلاته؛ لأنه أحرم خلف شخص يظنه في الصلاة، فتبين أنه في غير صلاة. وقد ذكر في النوادر ما نصه: ومن كتاب ابن سحنون: ولو أحرم قوم قبل إمامهم ثم أحدث هو قبل أن يحرم فقدم أحدهم، فصلى بأصحابه، فصلاتهم فاسدة، وكذلك إن صلوا فرادى حتى يجددوا إحراما. انتهى.
ويفهم من قول الحطاب: لأنه أحرم الخ، أنه لو أحرم خلفه وهو عالم بعذره لبطلت صلاته. قاله الشيخ محمد بن الحسن. أو بنى بالأولى؛ يعني أنه كما تصح صلاة من جاء بعد العذر فيما إذا صلى لنفسه تصح أيضا، فيما إذا بنى على صلاة الإمام؛ أي بنى على إحرامه ظانا أنه أحرم خلف إمام بشرط أن يكون الإمام استخلفه في الركعة الأولى، وظاهر هذا أنه تصح صلاته وإن لم يبتدئ الفاتحة: وصرح به الشيخ الأمير فقال: ويغتفر عدم ابتداء الفاتحة. عذروه بالجهل وللخلاف في وجوبها. انتهى. قوله: "بالأولى" ظرف مستقر حال، والباء بمعنى في أي حال، كونه كائنا في الأولى؛ أي مستخلفا في الركعة الأولى من ثنائية، أو ثلاثية، أو رباعية.
أو الثالثة، عطف على قوله بالأولى؛ أي وكذلك تصح صلاة من جاء بعد العذر أيضا فيما إذا استخلفه الإمام في الركعة الثالثة من الرباعية، وبنى أيضا على إحرامه ظانا أنه خلف إمام. وإنما
صحت في المسألتين لموافقته للفذ في الأفعال فيهما، وأما الأولى فإنه وافق الفذ فيها في الأفعال والأقوال، ولم تضره مخالفته في النية. كما مر.
واعلم أن الكلام في مسألة المصنف هذه إنما هو فيما بعد الوقوع، وأما ابتداء فلا نزاع أنه مأمور بأن يصلي لنفسه صلاة الفذ وبه تعلم أن ما نقله الشيخ عبد الباقي عن الشيخ أحمد لا محصول له. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وعلم من المصنف أنه إذا لم يبتدئ الفاتحة حيث استخلف في الأولى أو الثالثة تصح صلاته، وقد صرح بذلك الشيخ الأمير. كما مر وقوله:"أو الثالثة"، هذا على قول ابن القاسم في عمد ترك السورة. وبما قررت علم أن قوله: صحت. جواب الشرط؛ أعني قوله: "فإن صلى لنفسه": فهو راجع للمسائل الثلاث. والله سبحانه أعلم.
وإلا فلا؛ يعني أن من جاء بعد العذر إنما تصح صلاته إن صلى لنفسه مطلقا، أو بنى بالأولى مطلقا، أو بالثالثة في الرباعية -كما مر- وأما إن استخلف في الثانية مطلقا، أو في الأخيرة من رباعية أو ثلاثية، وبنى على صلاة إمامه، فإن صلاته تبطل لمخالفته للفذ لجلوسه في غير محل الجلوس. ابن عرفة: إن أحرم بعد أن أحدث الإمام بطلت على تابعه وصحت له إن لم يقبل، وإلا فقال سحنون: إن استخلف على وتر بطلت، وعلى شفع صحت. ابن عبدوس: هذا على قول ابن القاسم في عمد ترك السورة، وأما على قول علي فيعيد، وأبطلها ابن حبيب ما لم يستخلف على كلها. المازري: شفع المغرب كوتر غيرها. انتهى. ومراد المازري أنه إذا بقي للإمام ركعتان في المغرب واستخلفه، ثم بنى على صلاة الإمام، بطلت؛ لأنه يجلس في أولى الركعتين، وليس محل جلوس له. ويشمل ذلك قول المصنف:"وإلا فلا"، وبه تعلم أن قول الخرشي لا حاجة إلى كلام المازري غير صحيح؛ لأنه فهمه على غير وجهه. قاله الشيخ محمد بن الحسن. ثم شبه في عدم الصحة قوله: كعود الإمام لإتمامها؛ يعني أنه إذا وقع للإمام عذر مبطل كحدث أو رعاف قطع، ثم بعد زوال عذره المبطل لصلاته رجع لهم فأتم بهم الصلاة، فإن صلاتهم تبطل؛ وسواء خرج ولم يستخلف ولم يفعلوا لأنفسهم شيئا إلى أن عاد، أو استخلف عليهم ثم عاد فأخرج المستخلف وأتم بهم. وأما إن كان العذر الذي زال غير مبطل كرعاف البناء، فإن ائتموا به بعد ما فعلوا فعلا أو حصل استخلاف فإن صلاتهم باطلة -كما في مسألة السفن إذا
فرقها الريح- وإن لم يستخلف أحد ولم يفعلوا فعلا فلا تبطل. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ محمد بن الحسن: ما ذكره المصنف من البطلان هو المشهور، وهو قول يحيى بن عمر، وقال ابن القاسم بالصحة. ابن رشد: راعى ابن القاسم قول العراقيين بالبناء في الحدث، ومقتضى المذهب بطلانها عليه؛ لأنه بحدثه بطلت صلاته، فصار مبتدئا لها من وسطها، وعليهم لأنهم أحرموا قبله. انتهى. ثم ذكر كلام ابن القاسم الآتي، ثم قال عن ابن عرفة: وقَصْرُ ابن عبد السلام الخلاف على الإمام الراعف الباني وَهَمٌ وقُصورٌ. انتهى. قال: فكلام ابن عرفة: نص في أن الخلاف في رعاف البناء وغيره، خلافا لابن عبد السلام في قصره على رعاف البناء، وبه تعلم أن ما ذكره الزرقاني تبعا للأجهوري من عدم البطلان في الإمام الراعف الباني إذا أتم بالقوم بعد غسل دمه غيرُ صحيح، وناقشه في ذلك الشيخ الأمير، فقال: إن ما استدل به يؤيد ما لعبد الباقي والأجهوري. وقال: الوهم هو غلط ابن عبد السلام في حكم رعاف البناء، والقصور قصوره عن النقل المصرح بالحدث. اللخمي: واختلف إذا أحدث الإمام فاستخلف، ثم توضأ، وجاء فأخرج المستخلف وأتم بهم، فقال ابن القاسم: لا ينبغي ذلك، فإن فعل، فإذا تمت الصلاة أشار إليهم حتى يقضي لنفسه، ثم يسلم ويسلمون. وقال ابن عمر: لا يجوز هذا لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. قاله المواق. وفي الشبراخيتي: وتقدمه صلى الله عليه وسلم مخصوص به؛ لأن أبا بكر أظهر العلة حين سأله صلى الله عليه وسلم عن المانع له من أن يثبت مكانه؛ إذ أمره صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
). انتهى.
وإن جاء بعد العذر فكأجنبى؛ مني أن من أحرم بعد أن حصل للإمام عذر كأجنبي؛ أي هو أجنبي حقيقة أي لا يصح استخلافه. فتبطل صلاة من اقتدى به، قال غير واحد: أجمع من يعتد به من شراح المصنف أنه لا يستقيم على هذا الساق، ففيه تقديم وتأخير؛ أي تقديم قوله:
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:684. مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 421.
"فإن صلى لنفسه" الخ، على قوله:"وإن جاء بعد العذر فكأجنبي"، وحقه أن يتأخر عنه؛ إذ ما تقدم مفرع على هذا، وفيه مع ذلك زيادة الكاف كما أشرت إليه في الحل، وفيه حذف بعد قوله:"وإلا" الواقعة قبل قوله: "فإن صلى لنفسه"؛ أي وإلا يدرك جزءا يعتد به، فلا يصح استخلافه، كما تقدم ذلك.
والذي يظهر أن كلام المصنف مستقيم صالح، وذلك لأن قوله: وإلا يصدق بأمرين من لم يدرك جزءا يعتد به، ومن جاء بعد العذر، فيكون المراد بقوله:"وإلا"؛ أي وإن لم يدرك مع الإمام شيئا؛ بأن أحرم بعد العذر فالحكم في صلاته أي الذي جاء بعد العذر أنه إن صلى لنفسه أو بنى بالأولى أو الثالثة صحت، وإلا فلا، ويكون من أدرك مع الإمام جزءا لا يعتد به مستفادا حكمه من مفهوم قوله: وصحته بإدراك ما قبل الركوع، فإن مفهومه أن من أحرم مع الإمام بعد رفع الرأس من الركوع، فوقع للإمام العذر، لا يصح استخلافه. وأما قوله:"وإن جاء بعد العذر"، فكأجنبي، فإنه أتى به ليفيد حكما لم يقدمه صريحا، وهو أن من جاء بعد العذر لا يصح استخلافه، وأما وجه إتيانه بالكاف في قوله:"فكأجنبي"، فهو كونه أحرم بنية المأمومية، فكأنه غاير بذلك الأجنبي. والتشبيه يقع بأدنى سبب، ووجه كونه لم يقل وهو أجنبي، أنه وقع الفصل بينه وبين ما هو من تتمته بقوله:"كعود الإمام لإتمامها"، ووجه كونه لم يقتصر على قوله:"فإن صلى لنفسه"، ولم يأت بقوله:"وإن جاء بعد العذر" الخ، أنه ذكره استيفاء لفروع المسألة، وإن كان يفهم من قوله:"بإدراك ما قبل الركوع"؛ إذ مفهومه أن من لم يدرك ما قبل عقد الركوع لا يصح استخلافه سواء أدرك ما بعد عقد الركوع فوقع العذر لإمامه، أو لم يدرك شيئا بأن أحرم بعد حصول العذر، ولم يذكر حكم صلاة من أدرك جزءا لا يعتد به لوضوحه؛ لأنه ثبت له حكم ما كان يفعله الإمام لو لم يقع له العذر بسبب إحرامه معه قبل حصول العذر. والله سبحانه أعلم.
ولما لم يكن من شرط المستخلف إدراك صلاة الإمام من أولها، بل إدراك جزء يعتد به من ركعة الاستخلاف؛ وهو صادق بمن سبق بما قبل تلك الركعة -كما تقدم تقريره- بَيَّنَ كيفية فعل المستخلف المسبوق والقوم بعد إتمام صلاة الإمام الأصلي، فقال: وجلس لسلامة المسبوق؛ الضمير
في سلامه يرجع للمستخلف بالفتح المسبوق، والسبوق فاعل جلس؛ يعني أنه إذا استخلف الإمام مسبوقا، وكان فيمن وراءه مسبوق أيضا، وأتم الخليفة ما بقي من صلاة مستخلفه بالكسر، فإنه يشير إليهم جميعا: أن اجلسوا، ويقوم لقضاء ما عليه، ويجلس المسبوق من المأمومين وغير المسبوق إلى أن يكمل المستخلف بالفتح صلاته، ويسَلِّمَ، فإذا سَلَّم سَلَّم معه غير المسبوق، وقام المسبوق لقضاء ما عليه، فاللام في قوله:"لسلامه"، للانتهاء، فإن لم يجلس المسبوق، بأن قام لقضاء ما عليه قبل سلام المستخلف بالفتح، بطلت صلاته، ولو لم يسلم قبله لقضائه في صلب الإمام. قاله الشيخ عبد الباقي.
كإن سبق هو، تشبيه في وجوب الانتظار، والضمير عائد على المستخلف بالفتح، وهذه لم يسبق فيها إلا المستخلف بالفتح، والتى قبلها سبق فيها معه أحد من المأمومين؛ يعني أنه إذا لم يكن من المأمومين مسبوق إلا المستخلف بالفتح، فإن المأمومين الذين لم يسبقوا ينتظرونه حتى يكمل صلاته، فيسلمون بعد سلامه، فإن لم ينتظروه بطلت صلاتهم. هذا هو المشهور. وقيل: يستخلف من يسلم بهم لأن السلام من بقية صلاة الإمام الأول، وأما المسألة الأولى؛ وهي ما إذا سبق المستخلف بالفتح وسبق معه أحد من المأمومين، فقيل فيها: إنهم يقضون ما عليهم إذا أكمل المستخلف بالفتح صلاة الإمام. حكاه ابن بشير. ومثار الخلاف، هل تراعى حالته في نفسه بحصول الرتبة فلا يقضون إلا بعد تمام صلاته، أو يكون حكمه في كل الأحوال كحكم الإمام الأول؟ وكأنه هو، فإذا أتم صلاته صار كالمقتدي فيقضون عند قضائه.
لا المقيمِ يستخلفه مسافر، قوله:"المقيم". بالجر عطف على الضمير المضاف إليه سلام من غير إعادة الجار؛ أي لا لسلام المقيم؛ يعني أن المسافر إذا اقتدى به المقيم والمسافر، ووقع له عذر، فاستخلف مقيما، فإن المستخلف بالفتح القيم إذا كمل صلاة الإمام لا ينتظره المأمومون، وقوله: لتعذر مسافر، علة في قوله:"يستخلفه"؛ يعني أن السنة أن يستخلف الإمام المسافر إذا وقع له العذر مسافرا حيث كان خلفه مسافر ومقيم، فإن تعذر المسافر لكونه لا يصلح للإمامة، فإنه يستخلف مقيما، وإذا استخلفه فإن المأمومين لا ينتظرونه بعد إكماله لصلاة الإمام. وأما بعد
المسافر عن محل الإمامة فليس بتعذر، بل يصلي مكانه، ولا كراهة في ذلك؛ لأن المحل محل ضرورة.
أو لجهله؛ عطف على قوله: "لتعذر مسافر"؛ أي إذا استخلف المسافر الذي خلفه المسافر والمقيم مقيما لأجل جهله بعين المسافر من المقيم، أو لجهله أن خلفه مسافر، أو لجهل الإمام بنفسه أن السنة أن يستخلف مسافرا. فإن الحكم في ذلك أنه إذا كمل المستخلف بالفتح صلاة الإمام وقام ليأتي بما عليه لا ينتظره المأمومون، وبين كيفية عدم الانتظار بقوله: فيسلم المسافر؛ يعني أن المسافر إذا استخلف مقيما وخلفه المسافر والمقيم لتعذر المسافر أو جهله، فإن المأمومين لا ينتظرون سلام هذا المستخلف القيم، فإذا أتم صلاة المستخلف بالكسر المسافر فإنه يقوم لإتمام صلاته هو، وإذا قام فإن المسافرين يسلمون؛ لأن الإمام لم يستخلفه فيما لم يدخل عليه؛ لأنه أي الإمام إنما دخل على السلام من ركعتين، ويقوم المقيمون عند قيامه لقضاء ما عليهم. وإلى ذلك أشار بقوله: ويقوم غيره للقضاء؛ أي يقوم غير المسافر؛ وهو المقيم ليأتي بما عليه عند إكمال المستخلف بالفتح القيم لصلاة الأول، ولا ينتظرونه لسلامه، بل يقوم هو وهم فيأتون بما عليهم أفذاذا. قاله غير واحد. ومقتضى قوله:"لتعذر مسافر أو جهله". أنه إذا استخلفه لا لتعذر مسافر أو جهله أن الحكم ليس كذلك، مع أنه كذلك فلو حذف قوله:"لتعذر مسافر أو جهله"، ليشمل الجميع كان أولى، لكن أراد المصنف بيان الوجه الذي يجوز فيه استخلاف المقيم على المسافر إذ استخلافه عليه في غير ذلك مكروه. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله:"فيسلم المسافر"، ضعيف، والمعتمد أن المسافر يجلس لسلام المستخلف بالفتح المقيم؛ فهي كالتي قبلها: وإنما كان ما مشى عليه المصنف في المسافر ضعيفا؛ لأنه قول ابن كنانة، ورواه ابن حبيب عن مالك. ومقابله لابن القاسم وسحنون والمصريين قاطبة. قاله الشيخ بناني. وأما قوله:"ويقوم غيره للقضاء"، ففي الشارح أنه لمالك في الواضحة. قال: وعن جماعة من أصحابنا لا يقومون للقضاء إلا بعد سلام المستخلف. انتهى. وقال الشبراخيتي: وما مشى عليه المصنف؛ يعني في المسافر والقيم خلاف المعتمد، والمذهب أنهم كلهم يجلسون لسلام المقيم المستخلف أيضا، فهي كالتي قبلها. انتهى. وقوله:"للقضاء". فيه تجوز؛ إذ الذي عليه إتمام لا قضاء، فسماه قضاء مجازا؛ لأنه إتيان ببعض صلاته بعد مفارقة
الإمام، فعلاقة التجوز المشابهة. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ إبراهيم: ويصح الاقتداء بالمستخلَف بالفتح فيما هو فيه بانٍ، سواء كان المستخلف بالكسر يفعله أم لا، كما إذا استخلف الإمام المسافر مقيما، ولا يصح الاقتداء به فيما هو فيه قاض، فمن أحرم خلف المستخلف بالفتح، فإن كان فيما يفعله مما سبقه به المستخلف بالكسر لم يصح اقتداؤه به فيه، وإن كان فيما يفعله بناء، فإنه يصح اقتداؤه به فيه، سواء كان المستخلف بالكسر يفعله أم لا. انتهى. وقوله:"ويقوم غيره للقضاء"، قد علمت مما تقدم أن المأموم المقيم لا يقتدي بالمستخلف المقيم فيما يأتي به؛ من إتمام صلاته؛ أعني أخيرتي الرباعية على كلا القولين المتقدمين. فإن قلت لم لم يصح أن يقتدي المقيم بالمستخلف المقيم المساوي له في الدخول مع الإمام المسافر فيما بقي عليه؛ لأن كلا منهما بان فيه؟ فالجواب: أنه لم يصح؛ لأنه يؤدي إلى اقتداء شخص في صلاة واحدة بإمامين، ثانيهما غير مستخلف عن الأول فيما يفعله؛ لأنه لم يستخلفه على الركعتين اللتين يتم بهما المقيم صلاته، نعم يصح لأجنبي من غير مأمومي المستخلف بالكسر أن يقتدي بالمستخلف بالفتح فيما هو بان فيه، سواء كان المستخلف بالكسر يفعله أم لا، كما إذا استخلف المسافر مقيما ولا يصح الاقتداء به فيما هو قاض فيه. انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي. بإدخال شيء فيه قليل من كلام بناني.
وإن جهل ما صلى أشار فأشاروا؛ يعني أنه إذا جهل المستخلف بالفتح ما؛ أي العدد الذي صلى الإمام المستخلف بالكسر، فإنه يشير المستخلف بالفتح للمصلين فيُعرِّفونه بالقدر الذي صلى الأصلي، فيشيرون إليه بقدر ما صلى، فإن فهم المستخلف إشارتهم فواضح.
وإلا؛ بأن لم يفهم المستخلف بالفتح ما أشاروا له به أو كانوا في ظلمة. سبح به؛ أي فإنهم يسبحون له، وقدمت الإشارة على التسبيح؛ لأنها أخف من التسبيح ولا يضر تقديم التسبيح على الإشارة حيث يحصل بها الإفهام، فإن لم يفهم بالتسبيح كلمهم وكلموه، ويضر تقديم الكلام على أحدهما حيث يحصل الإفهام بأحدهما. قال الشيخ عبد الباقي: والظاهر أنهم لو تحققوا الفهم بالإشارة فقط ففعلوا التسبيح تبطل صلاتهم، ومحل كون التسبيح إذا قصد التفهيم به بغير محله
لا يبطل إن كان لحاجة، لعموم خبر: (من نابه شيء في صلاته فليسبح
(1)
) -كما مر- فإن كان لغيرها أبطل، وفهمه بالإشارة هنا فقط صير التسبيح لغير حاجة. انتهى قوله، وقوله: والظاهر أنهم لو تحققوا الخ، قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر، بك الصواب عدم البطلان لعموم حديث: من نابه شيء في صلاته فليسبح. قاله المسناوي: وغيره. انتهى. وما تقدم من أنهم يكلمونه ويكلمهم إن لم يحصل الإفهام بالإشارة ولا بالتسبيح، هو الذي في سماع موسى. قال ابن رشد: وهو الجاري على المشهور من أن الكلام لإصلاح الصلاة غير مبطل، وقد نص على الكلام إذا لم يفهم بالتسبيح صاحب الجواهر، وابن الحاجب، واعترضهما في التوضيح. قال ابن غازي: وكأن المصنف لم يقف على ما في سماع موسى. وقول ابن رشد.
وإن قال للمسبوق أسقطت ركوعا عمل عليه من لم يعلم خلافه؛ يعني أن الإمام إذا قال للمستخلف المسبوق وللمأمومين المسبوقين: أسقطت ركوعا مما صليت قبل، أو نحو الركوع مما يبطل الركعة، فإنه يعمل على قول الإمام ذلك المستخلف المسبوق الذي لا علم عنده، وكذا يعمل عليه أيضا كل من لم يعلم خلافه؛ بأن علم صحة ما قال الإمام الأصلي، أو ظنها، أو شكها، أو توهمها. ومعنى عمله عليه أن يأتي به على ما مر من قوله:"ورجعت الثانية أولى" الخ. وأما من علم خلافه من مأموم أو مستخلف؛ إذ قد يعلم ذلك قبل الدخول معه فيعمل على ما علم، ويعمل المأموم المسبوق العالم مع المستخلف الذي لم يعلم، ولكن لا يتبعه فيما زاد عليه، ولا يجلس معه إذا جلس في محل لا يجلس فيه، فإذا استخلف في ثانية الظهر -مثلا- وقال له الأصلي بعد ما صلى ذلك المستخلف الثالثة: أسقطت ركوعا من الأولى، فإن من علم من المأمومين خلاف قوله لا يجلس مع المستخلف إذا جلس بعد فعل الثالثة التي صارت ثانية، ويفعل معه الرابعة، ويستمر جالسا لأنها هي الأخيرة في علمه، وهي ثالثة عند المستخلف بالفتح، ولا يجلس المستخلف لأنه ليس بمحل جلوس للإمام، بل يأتي برابعة بناء، فإذا أتى بها تشهد معه العالم، خلاف ما قاله الإمام، وسلم بسلامه. والله سبحانه. أعلم.
(1)
مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث 421.
وسجى قبله؛ يعني أن هذا المستخلف الذي قال له الأصلي: أسقطت ركوعا مما صليت قبلك، فإنه يعمل على ما قاله له إن لم يعلم خلافه، ويسجد قبل السلام تارة، ويسجد بعده أخرى، فيسجد قبل السلام.
إن لم تتمحض زيادة، بأن حصل نقص وزيادة. وقوله: بعد صلاة إمامه، متعلق بسجد؛ يعني أنه إذا قلنا إنه يسجد قبل السلام لكون الزيادة لم تتمحض؛ بأن حصل معها نقص، فإنه يسجد بعد كمال صلاة إمامه، وقبل قضاء ما عليه كما إذا أخبره بعد عقد الثالثة أنه أسقط ركوعا مثلا، فإند يسجد بعد كمال صلاة إمامه الذي استخلفه؛ لأن هنا زيادة ونقص السورة لرجوع الثالثة ثانية، أو أخبره بذلك في قيام الرابعة أو بعد عقدها ولو في الجلسة الأخيرة لاحتمال أن يكون من الأوليين، فتنقلب الثالثة ثانية، وهذا ما لم يتبين أنه من الثالثة، فإن تبين له ذلك سجد بعد السلام لتمحض الزيادة، وهو من مفهوم قوله:"إن لم تتمحض زيادة"، وتتمحض الزيادة أيضا فيما إذا أخبره قبل عقد الثالثة أنه أسقط ركوعا من الأولى حيث لم يحصل منه سهو فيما بقي من الصلاة، وقوله: بعد صلاة إمامه؛ فإن أخبره بعد كمال صلاة نفسه، فالظاهر أنه لا يضر. قال الشيخ عبد الباقي: منطوق المصنف واضح إذا أدرك مع الأصلي ركعة، فإن لم يدركها معه لم يسجد قبل على ما تقدم من قوله:"أو قبليا إن لم يلحق ركعة". وقد يقال بسجوده هنا لنيابته عن الإمام ويقيد ما تقدم بغير المستخلف بالفتح. انتهى. وبحث فيه العلامة محمد بن الحسن. فقال: انظر كيف يتصور هنا عدم إدراك ركعة مع ما تقدم من أنه لا يصح استخلافه إلا إذا أدرك جزءا يعتد به. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: ما قاله الشيخ محمد بن الحسن غير ظاهر؛ لأنه إذا أحرم معه في القيام فوقع العذر للإمام فيه، فإنه أدرك معه جزءا يعتد به فيصح استخلافه، وقد أدرك معه دون ركعة. والله سبحانه أعلم.
ولم يأت بقوله: "بعد صلاة إمامه"، قبل قوله:"إن لم تتمحض زيادة"، ليلا يتوهم رجوع الشرط له فيوهم أنه عند تمحض الزيادة يسجده قبل كمال صلاة الإمام، وهو فاسد. قاله الشيخ عبد
الباقي. ولو قال عقب صلاة إمامه، بدل بعد لكان أدل على المراد. وما مشى عليه المصنف من أنه يسجد القبلي بعد كمال صلاة إمامه وقبل قيامه لقضاء ما عليه هو المذهب، وقيل: يسجد بعد كمال صلاة نفسه، وقبل سلامه. وعلى ما مشى عليه المصنف لو سها سهوا يوجب السجود قبل السلام أو بعده سجده وحده ولا يسجدون معه: لأن صلاتهم قد تمت. ولو سها في بقية صلاة الإمام بزيادة أو نقص سجد لسهو الإمام بالنقص: وكفاه عن سهوه. وأما إن كان سهو زيادة فلا يسجدها المستخلف إلا بعد إكمال صلاته، وإن سها المستخلف المسبوق فيما استخلفه عليه الإمام أو فيما يأتي به قضاء كان سهوه بزيادة أو نقص: أجزأه سجوده لسهو الإمام. هذا قول ابن القاسم. وقال غيره: إذا كان سجود الأول بزيادة، وسجود المستخلف بنقص، فإنه يسجد بهم قبل السلام ويجزئهم للسهوين. انتهى جميعه من النوادر بالمعنى. والله أعلم. وانظر قول ابن القاسم هذا مع قوله: إن المسبوق إذا ترتب على الإمام سجود بعدي ثم سها المسبوق بنقص، أنه يسجد قبل السلام. والله تعالى أعلم. قاله الإمام الحطاب. ونظم بعضهم هذا الأخير فقال:
وَمَن لَّهُ القَبلِيُّ مَعْ بَعْدِيِّ
…
إمَامِهِ اجتَزأ بالقَبْلِيِّ
ومن صُوَرِ مسألة المصنف أن يدخل المسبوق مع الإمام في قيام الثالثة من الرباعية مثلا، فيستخلفه فيها، فيخبره وهو قائم في الرابعة أنه أسقط ركوعا من إحدى الأوليين، فتصير تلك ثالثة على المشهور من تحول الركعات فيكملونها، ثم يأتي المستخلف بالفتح ومن لم يعلم خلاف قول الإمام برابعة، ويتشهد ويسجد الجميع للسهو، ثم يقوم وحده لركعة القضاء، فيقرأ فيها بالفاتحة وسورة ويتشهد، ويسلم الجميع بسلامه، ويصير إنما استخلف على الثانية. وأما من علم خلاف قوله: فلا يتبعه في القيام لرابعة الإمام بل يجلس إلى أن يسلم معه، وإنما يتشهد بعد رابعة الإمام. ولو فرَّعْنا على الشاذ من عدم تحول الركعات لأتى بعد كمال التي هو فيها بركعة بالفاتحة وسورة قضاء عن الفاسدة من الأوليين وتشهد ثم قام لركعة القضاء وسلم، وسجد بعد السلام لتمحض الزيادة، ويتبعه أيضا من لم يعلم خلاف قول الإمام، لا من علم ذلك، فيجلس حتى يسلم مع الإمام: وإلى هذه الصورة أشار الشيخ ابن عرفة بقوله: محمد: ولو استخلف من
فاتته ركعتان على ركعتين، فقال له الأول بعد صلاة ركعة: أسقطت سجدة من الأوليين، صارت الثالثة ثانية؛ وهو لم يجلس عليها، فليصل بهم ركعتين بناء، فيتشهد فيسجد بهم قبل، فيأتي بركعة قضاء، فيسلم بهم. انتهى قوله. وهو لم يجلس عليها؛ أي لأنه لم يخبره إلا بعد أن قام للرابعة، وكلامه مبني على تحول الركعات. ومن صورها أيضا أن يخبره في هذا المثال بذلك بعد أن صلى بهم ركعتين بقية الصلاة وهو في التشهد، فيقوم هو ومن لم يعلم خلاف قول الإمام، فيصلي بهم ركعة بأم القرآن فقط، ويتشهد ويسجد ويسجدون معه كلهم، ثم يقوم وحده لركعة القضاء. ويسلم الجميع بسلامه. وأما من علم خلاف ذلك فيجلس إلى أن يسلم معه، وهذا إذا جزم الإمام الأول بالإسقاط، فإن قال أشك فيها، قرأ فيها بأم القرآن وسورة ولو استخلف على ركعتين؛ وهو غير مسبوق، فصلاهما فأخبره أنه أسقط سجدة من إحدى الأوليين وتذكر هذا المستخلف بالفتح سجدة من إحدى الأخريين، سجد لاحتمال كونها من الرابعة، وتشهد، وأتى بركعتين بالفاتحة فقط، ويسجد قبل؛ لأنه لم يتحقق إلا ركعتين لبطلان إحدى الأوليين واحتمال بطلان الثالثة، فرجعت الثالثة ثانية. ومن صُوَرِهَا أيضا أن يخبره بذلك بعد قضاء ركعة من اللتين سبق بهما في المثال المذكور، فتصير رابعة الإمام، ويتشهد عقبها، ويسجد الجميع هو وهم، ثم يقوم وحده لركعة القضاء ويتشهد ويسلم، ويسلم معه من علم خلاف قول الإمام، ومن لم يعلم خلافه صلى بعد سلام المستخلف بالفتح ركعة بالفاتحة فقط لتحول ركعاتهم. وإلى ذلك أشار الشيخ ابن عرفة بقوله: ولو قال له بعد قضائه ركعة فقط، جلس فتشهد فسجد بهم كما كان يفعل الأول، وصلوا بعد قضائه بناء. انتهى. ومن صُوَرِهَا أن يخبره بذلك بعد أن قضى الركعتين اللتين سبق بهما فصلاة المستخلف بالفتح تامة؛ لأنه صلى بالناس ركعتين، وقضى ركعتين، فيسجد قبل السلام ويسجدون كلهم معه، ثم يسلم ويسلم معه من علم خلاف قول الإمام ويأتي من لم يعلم خلافه بعد سلام المستخلف بركعة بالفاتحة فقط، ثم يسجد بعد السلام أيضا من شك منهم في السقوط، وكذا من تيقن عدم السقوط لتحقق الزيادة في صلاة إمامه، لا من تيقن السقوط إذ لا زيادة عنده. والسجود في الصور الثلاث قبل هذه قبلي، وفيها قبلي وبعدي. كما علمت. ومن
صورها أن يدركه في الثالثة ويستخلفه فيها ويخبره إذ ذاك بإسقاطه سجدة من إحدى الأوليين لم يدر عينها، فيسجد لعل محلها لم يفت، ويبني على ركعة لاحتمال كون الترك من الأولى فليس عنده محقق إلا ركعة واحدة، فيصلي بهم ثلاثا بانيا على واحدة، ويتشهد وينتظرون قضاء ركعة، ويسلم ويسلمون، ويسجدون بعد لتمحض الزيادة، ويعيد من خلفه صلاتهم لاحتمال كونها من الثانية فتبطل صلاتهم باتباعه لبطلان الاستخلاف؛ لأنه لم يدرك جزءا يعتد به، ولو لم يتبعوه أعادوا أيضا الاحتمال وجوب اتباعهم له، وتقديم غيره أولى، وتعليل الشيخ أبي محمد البطلان فيما إذا اتبعوه غير ظاهر والله سبحانه أعلم.
ومن صورها أيضا أن يدخل المسبوق مع الإمام في الرابعة فاستخلفه فيها، فبعد أن صلاها وجلس للتشهد أخبره الإمام بإسقاط ركوع من الثالثة، فيقوم ويأتي بركعة بأم القرآن فقط اتفاقا؛ لأنها إما رابعة على الانقلاب، أو ثالثة على مقابله الشاذ. ويتشهد عقبها، ويتبعه في ذلك من لم يعلم خلاف قول الإمام. ثم يقوم وحده لقضاء ما فاته، ثم يسلم ويسلمون، ومن علم خلاف قوله يستمر جالسا إلى أن يسلم بسلامه أيضا، ثم يسجدون كلهم بعد السلام للزيادة حتى من علم خلاف قول الإمام لترتب السجود على إمامه. والله تعالى أعلم. فالسجود في هذه والتى قبلها بعدي كما علمت. وعن هاتين الصورتين وما أشبههما احترز المصنف بقوله:"إن لم تتمحض زيادة"، وكلام المصنف قابل لأكثر من هذا؛ لأن المتروك: إما ركوع، أو سجود، أو قراءة الفاتحة، وفي كل منها، إما أن يستخلفه في قيام الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة. فهذه تسع صور، وفي كل منها إما أن يخبره بالإسقاط وقت الاستخلاف، أو بعد أن صلى ركعة، أو ركعتين، أو ثلاثا، أو أربعا. فهذه خمس صور، فإذا ضربت في التسع خرج خمس وأربعون صورة وكلها مع تحقق الإسقاط. فلو قال له الإمام: أشك أني تركت. كذا، جاءت الصور كلها. فالمجموع تسعون صورة، إلا أن بعضها يبطل فيه الاستخلاف على المشهور تحقيقا، كما إذا أدرك الثانية فاستخلفه فيها، وقال لد: أسقطت سجودا، فيسجده المستخلف لإصلاح الأولى، ويبني عليها حتى يكمل صلاة إمامه، ثم يقضيها وتصح صلاته وحده دون من ائتم به؛ إذ لم يدرك جزءا يعتد به، ويصح استخلافه على مقابل المشهور من أنه لا يشترط في صحة الاستخلاف إدراك المستخلف بالفتح جزءا يعتد
به، وفي بعضها يبطل الاستخلاف على احتمال، كما مر في الصورة الخامسة. انظر شرح الشيخ ميارة. والله سبحانه أعلم.
ولما كانت الفريضة تقع تامة غير مجموعة مع فريضة أخرى: ومجموعة ومقصورة كذلك، وفرغ من الكلام على الوجه الأول، شرع في بقية الأوجه مبتدئا ببيان حكم القصر، فقال:
فصل: يذكر فيه حكم صلاة السفر،
والمسافة التي تقصر فيها الصلاة، والجمع للصلاتين، وغير ذلك. والسَّفَرُ لغة: قطع المسافة، مأخوذ من الإسفار، ومنه أسفرت المرأة عن وجهها أظهرته، وأسفر الصبح ظهر؛ لأنه لمشقته يسفر عن أخلاق الرجال. قاله الشيخ إبراهيم. وفي القاموس: سفر الصبح يسفر: أشرق كاسفر، والمرأة عن وجهها كشفته؛ فهي سافرة.
واعلم أن الناس قد صنفوا في آداب السفر، وأكثروا وطولوا واقتصروا، ومدار ذلك على أن المسافر تتعين عليه خمسة أشياء. أولها: النظر في حكم سفره فإن كان مباحا أو واجبا أو مندوبا قدم عليه، وإلا فلا. ثانيها: أن يستخير الله تعالى ويستشير فيه أهل المعرفة به ما لم يكن واجبا في الحال فلا استخارة ولا استشارة. الثالث: أن يتعلم ما يلزمه في سفره من أحكام التيمم والقبلة والجمع والقصر ونحو ذلك. الرابع: أن يتخير صديقا صالحا لرفقته إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه ويعزم على إسعافه واتباعه إلا فيما بان غيه. الخامس: أن يستعمل الآداب المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلماء الأمة، وأول ذلك أن لا يخرج من بيته حتى لا يبقى عليه ما يمكنه أداؤه من دين، أو نفقة، أو رد مظلمة، أو غير ذلك؛ إذ لعله لا يرجع، ويوصي فيما لابد له منه، ويترك لأهله كفايتهم قدر وسعه. وإلا فلهم من لا تضيع ودائعه، فيستودع الله صغيرهم وكبيرهم بعزم صحيح: وقلب صادق، عالما أنه أرحم بهم منه، كما وقع للشيخ أبي الفضل حين عزم على الحج، كتب رقعة ودفعها إلى أهله، فقال لهم: الذي كتبت له هذه الرقعة، فلما خرج جاءهم رجل فقرأها وكان يقوم لهم بما يحتاجون حتى كان يوم دخول الشيخ قطع ذلك عنهم، ولا علم لهم به فدخل الشيخ فسألهم عن حالهم فذكروا له الحكاية، فقال هاتوا الورقة فأتوا بها فإذا فيها مكتوب:
إن الذي وجهت وجهي له
…
هو الذي خلفت في أهلي
فإنه أرفق مني بهم
…
وفضله أوسع من فضلي
فإذا تحقق هذا وحققه صلى ركعتين عند خروجه ليحفظ في أهله حتى يرجع كما ورد في الحديث
(1)
ثم يقرأ آية الكرسي فإنها أمان له حتى يرجع إليهم، ثم يقول: (اللهم زودني التقوى، واغفر لي ذنبي، ووجهني للخير أينما توجهت
(2)
)، (ويختار لسفره يوم الخميس، فهو السنة
(3)
)، وإلا فيوم الاثنين، وإلا فالأيام كلها لله. فإذا أراد الخروج ودع أهله وودعوه، وكذا أقاربه وأصحابه، ويقول لهم في ذلك: (إن الله إذا استودع شيئا حفظه
(4)
)، (أستودع الله دينك وأمانتك، وخواتم عملك
(5)
)، (وزودك الله التقوى وغفر ذنبك
(6)
)، ووجهك للخير أينما توجهت، فإذا أراد الركوب قال:(بسم الله)
(7)
اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء النظر في الأهل والمال. قوله: في الحديث: أنت الصاحب في السفر؛ أي الحافظ فيه، وقوله: والخليفة في الأهل؛ أي الوكيل، بمعنى الرازق لهم، وقوله: من وعثاء السفر بسكون العين المهملة؛ أي مشقة، وقوله: كآبة بفتح الكاف والهمز والمد، وقوله: المنقلب بضم الميم وسكون النون وفتح اللام وباء موحدة؛ أي أعوذ بك أن أنقلب إلى ما يقتضي كآبة؛ أي سوء حال من فوات ما أريد أو وقوع ما أحذر، وقوله: سوء المنظر؛ أي ما يسوءني النظر إليه، ويقول (إذا استوى على الدابة)
(8)
: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} . وأنكر ابن الحاج الأذان خلف المسافر عند وداعه، وكذا الإقامة، وقال: إنه بدعة. ولْيُلازِمْ في سفره: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} مساء وصباحا، فإنها أمان من وحشة السفر وخوفه، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} ، والإخلاص، والمعوذات ثلاثا صباحا وثلاثا مساء؛ فإنها بركة عظيمة مجربة في السفر والوجاهة، وإذا أتى بلدا أو قرية كبر ثلاثا ثم
(1)
ما خلف أحد عند أهله أفضل من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد سفرا. الأذكار للنووي، ص 233. ط دار الجيل.
(2)
الإتحاف، ج 4 ص 327.
(3)
البخاري، كتاب الجهاد والسير، الحديث:2949.
(4)
النسائي في السنن الكبرى، الحديث:10275.
(5)
الترمذي، كتاب الدعوات، الحديث:3443.
(6)
الترمذي، كتاب الدعوات، الحديث:3444.
(7)
أبو داود، كتاب الجهاد، الحديث 2602. الترمذي، كتاب الدعوات، الحديث: 3446.
(8)
مسلم، كتاب الحج، الحديث:1342.
قال: (اللهم بارك لنا فيها، اللهم حببنا إلى أهلها وحبب صالح أهلها إلينا
(1)
)، وإن وضع يده على سورها عند دخولها وقرأ:{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} يكرر آخرها ثلاثا لم يزل بها طاعما آمنا بفضل الله، وإذا اتقى على رحله لَيْلاً يدور به وهو يقرأ:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} حتى يأتي موضعه، فإنه أمان له. وذكر لي بعض العلماء حفيظة لمن أراد نجاته تكتب وتجعل في الرحل، ونصها: حسبي الله من كل شيء، الله يغلب كل شيء. ولا يقف لأمر الله شيء. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. نقله ابن زكري. وقال الأقفهسي في شرح الرسالة: السفر عند الصوفية على قسْمَيْنِ: سفر الظاهر، وسفر الباطن. فسَفَرُ الباطن السفر في نعم الله والتفكر في مخلوقاته، وسفر الظاهر على قسمين: سفر طلب وسفر هرب، فسفر الهرب واجب؛ وهو إذا كان في بلد يكثر فيه الحرام ويقل فيه الحلال، وكذلك يجب عليه الهروب من موضع يشاهد فيه المنكر من شرب خمر وغير ذلك من سائر المحرمات إلى موضع لا يشهد فيه ذلك: وكذلك يجب عليه الهروب من بلد أو موضع يُذِلُّ فيه نفسه إلى بلد أو موضع يعز فيه نفسه؛ (لأن المؤمن لا يذل نفسه
(2)
). وكذلك يجب عليه الهروب من بلد لا علم فيه إلى بلد فيه العلم، وكذلك يجب عليه الهروب من بلد يسمع فيه سب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ولو مكة والمدينة: فهذا سفر الهروب. وأمَّا سَفَرُ الطلب فهو على قسمين: واجب كسفر الحج للفريضة والجهاد إذا تعين، ومندوب؛ وهو ما يتعلق بالطاضة وقربة لله سبحانه وتعالى، كالسفر لبر الوالدين، أو لصلة الرحم، أو للتفكر في مخلوقات الله تعالى ومباح وهو سفر التجارة، ومكروه وهو صيد اللهو، وممنوع وهو سفر لمعصية الله تعالى. والسَّفَرُ الذي تقصر فيه الصلاة هو الواجب، والمندوب، والمباح.
تنبيه، اعلم أنه لا خلاف بين الأئمة في جواز التنفل للمسافر بالليل، وأما في النهار فالمشهور عن جميع السلف جوازه، وبه قال الأئمة الأربعة: وروى مالك في الموطإ عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه لم يكن يصلي مع صلاة الفريضة في السفر شيئا قبلها ولا بعدها، إلا من جوف الليل، (فإنه
(1)
الطبراني الأوسط، الحديث:4755.
(2)
الترمذي، كتاب الفتن، الحديث:2254. ولفظه: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قالوا وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق. وابن ماجه، كتاب الفتن، الحديث:4016.
كان يصلي على الأرض وعلى راحلته حيث توجهت
(1)
)، ورأى بعد أن صلى الظهر في السفر ناسا قياما، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قال الراوي: قلت يسبحون؛ يعني يتنفلون، قال: لو كنت مسبحا لأتممت صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان كذلك؛ أي فلم يزد كل على ركعتين ركعتين ثم قرأ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، وقد علمت أن المشهور عن جميع السلف جوازه، وبه قال الأئمة الأربعة، قال النووي تبعا لغيره: لعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في رحله ولا يراه ابن عمر، ولعله تركه في بعض الأوقات لبيان الجواز. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان ربما يتنفل في السفر، قال البراء: (سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة سفرة فما رأيته يترك الركعتين قبل الظهر
(2)
)، رواه أبو داوود والترمذي، قال مالك: إنه بلغة أن القاسم بن محمد
(3)
وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي كانوا يتنفلون في السفر، ظاهره ليلا ونهارا، قال يحيى: وسئل مالك عن النافلة في السفر، فقال: لا بأس بذلك بالليل والنهار. انظر الزرقاني. وأشار المصنف إلى حكم القصر بقوله: سن لمسافر؛ يعني أنه يسن للمسافر أن يقصر الصلاة الرباعية سنة مؤكدة، وفي آكديتها على سنة الجماعة، وعكسه قولا ابن رشد واللخمي، وقوله:"لمسافر"، متعلق "بسن"، واستدل لابن رشد بخبر: (خيار عباد الله الذين إذا سافروا قصروا
(4)
)، وبخبر: (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته
(5)
)، واستدل اللخمي بالحديث المتقدم: (صلاة الجماعة تعدل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة]
(6)
). وقوله: "سن"، اعتمد المصنف في السنة على قول عياض في الإكمال: كونه سنة هو
(1)
الموطأ، ص 124.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:1222. الترمذي، أبواب السفر، رقم الحديث: 550. ولفظهما: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر شهرا فما رأيته ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر.
(3)
في الموطإ: القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبا بكر لخ شرح الزرقانى ج 2 ص 20.
(4)
التلخيص الحبير، ج 2 ص 51. وانظر كنز العمال، رقم الحديث: 44083.
(5)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:685.
(6)
في الموطإ في كتاب الجماعة والبخاري في كتاب الأذان، رقم الحديث 646: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ
…
الخ.
المشهور من مذهب مالك، وأكثر أصحابه، وأكثر العلماء من السلف والخلف. انتهى. ونقل أبو عمر السنة عن المذهب، وقيل: فرض، وقيل: مستحب، وقيل: مباح، وعزاه عياض لعامة أصحابنا البغداديين، وحديث: خيار عباد الله ذكره الشافعي في سننه مرسلا، والخبر الثاني رواه مسلم من طريق يعلى بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب: أرأيت إقصار الناس الصلاة اليوم؟ وإنما قال الله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، فقد ذهب ذلك اليوم، فقال: عجبت مما عجبت منه، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. قاله الشيخ محمد بن الحسن. ولم يحفظ عنه عليه الصلاة والسلام في سفره غير القصر، قال الشيخ محمد بن الحسن: والحديثان إنما يفيدان طلب القصر؛ وهوأعم من السنة.
تنبيه: من أدركه الوقت في الحضر وأراد السفر: فقال ابن حبيب: إن شاء خرج وقصرها. وإن شاء صلاها حضرية ثم سافر. نقله في التوضيح.
قال جامعه عفا الله تعالى عنه: مقتضاه أنه لا مزية لأحدهما على الآخر، والله سبحانه أعلم.
غير عاص به؛ يعني أن المسافر الذي يسن له القصر إنما هو غير العاصي بسفره، وغير اللاهي، أما العاصي بسفره؛ فإنه يمنع قصره على المشهور، وقيل: يقصر. رواد زياد. مثال العاصي بسفره: آبق، وقاطع طريق؛ فإن تاب قصر إن بقي بعد توبته مسافة قصر: وإن عصى بالسفر في أثنائه أتم من حينئذ، بخلاف أكل الميتة فيباح للمضطر وإن لم يتب على الأصح. قاله ابن الحاجب. والفرق أن مناط أكل الميتة الضرورة لا السفر، فإن قصر العاصي لم يعد على الصواب، وقيل: يعيد في الوقت أربعا. وأما اللاهي فأشار إليه بقوله: ولاه، عطف على عاص؛ يعني أن اللاهي بسفره كسفر الصيد للهو، لا يسن له القصر، بل يكره: واستظهره الحطاب، وتأول الأقل المدونة عليه، وتأولها الأكثر على منع قصر اللاهي بسفره. كما قال البرزلي. وأنكر تلميذه ابن ناجي كون المدونة تؤولت عليه: فقال: لا أعرف القول الثاني؛ يعني التحريم تأويلا عليها، فإن قصر اللاهي بسفره فلا إعادة عليه، وقيل: بجواز قصر اللاهي، وفهم من قوله:"به"، أن العاصي في سفره يقصر؛ وهو كذلك اتفاقا. وقوله:"سن لمسافر"، قال الشيخ الأمير: شيخنا: ولو
على غير العادة كطيران وخطوة. انتهى. وقال الشيخ الأمير: سن أكيدا، وقيل بالوجوب، فسبحان من لا يتقيد جزاؤه بكثرة ولا قلة. انتهى. وقوله: أربعة برد، مضاف ومضاف إليه، والأول معمول مسافر؛ يعني أن المسافر الذي يسن له القصر إنما هو الذي سافر أربعة برد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال؛ فهي ثمانية وأربعون ميلا هاشمية، وهي ستة عشر فرسخا. واحترز بالهاشمية من المنسوبة لبني أمية، فالمسافة بها أربعون ميلا؛ إذ كل خمسة منها قدر ستة هاشمية، هذا باعتبار المكان. وباعتبار الزمان مرحلتان؛ أي سير يومين معتدلين بسير الحيوانات الثقلة بالأحمال، كما في أحمد، أو هي سفر يوم وليلة بسير الحيوانات المثقلة بالأحمال على المعتاد، كما للشادلي. قاله الشيخ عبد الباقي. وفي الأزدوي: أن المراد سير ذلك بالإبل الثقلة بالأحمال، ونحوه للدردير. والفرسخ: السكون، سمي به الفرسخ؛ لأن صاحبه إذا مشاه قعد واستراح، كأنه سكن، وقال الإمام الحطاب: اختلف في الميل، هل هوألفا ذراع وشهر، أو ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة، وصحح أو ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، أو ألف باع بباع الفرس، أو بباع الجمل، أو مد البصر؟ أقوال، وإلى هذا يرجع ما روي من يوم وليلة أو يوم أو يومين. والذراع، قال القرافي، قيل: هو ستة وثلاثون إصبعا، والإصبع ست شعيرات بطن إحداها لظهر الأخرى، وكل شعيرة ست شعرات من شعر البرذون. انتهى.
وقال الشبراخيتي وأما الميل فقال النووي الذي قاله مالك وتبعه عليه الناس وعليه أئمة اللغة كالجوهري، وصاحب القاموس: أن الميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعا معترضة معتدلة، عدد حروف لا إله إلا الله محمد رسول الله، والمراد به: الذراع الهاشمي، والإصبع ست شعيرات معتدلة معترضة، وكل شعيرة ست شعرات من شعر البرذون، وبهذا يرد على جميع شراح الكتاب وشراح الرسالة والقرافي في ذخيرته، لكن القول بأن الميل أربعة آلاف ذراع الذي قال فيه البساطي؛ وهو الأكثر مع قول القرافي: إن الذراع ستة وثلاثون إصبعا، يوافق ما نقله النووي عن مالك، وأئمة اللغة أنه ستة آلاف ذراع، وقول القرافي كل إصبع ست شعيرات بطن إحداها لظهر الأخرى، كل شعيرة ست شعرات من شعر البرذون لا يصح؛ لأن الشعيرة بهذا
الوصف تكون على جنبها؛ وهو لا يسع الست شعرات. وإنما يسعها ظهرها أو بطنها كما هو نقل النووي. والأربعة برد سفر يوم وليلة بسير الحيوانات المثقلة بالأحمال؛ أي على المعتاد. انتهى. ونحوه للفيشي، وقال الشيخ ميارة ما نصه: وفي بعض نسخ ابن الحاجب: والميل ألفا ذراع على المشهور، فالميل ثلث من الفرسخ، والفرسخ ربع من البريد. وفي ذلك أنشد شيخنا الإمام المتفنن الولي الصالح سيدي أبو عبد الله محمد السملالي رحمه الله لغيره:
الميل ألفان ولكن أذرع
…
وهي من الفرسخ ثلث أجمع
وفرسخ من البريد ربع
…
..............................
وقد ذيلت ذلك بقولنا في بيان الباع والعقبة:
باع ذراعان وقيل أربع
…
وعقبة بفرسخين تسمع
وقال الشارح: ابن عبد البر: أصح ما قيل في الليل أنه ثلاثة آلاف ذراع، وخمسمائة ذراع، وقيل ألف ذراع، وقيل ثلاثة آلاف ذراع، وقيل أربعة آلاف ذراع. انتهى. وقال الخرشي عند قوله:"سن لمسافر غير عاص به ولاه أربعة برد"؛ يعني أن المسافر سفرا طويلا أربعة برد فأكثر، كل بريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال كل ميل ثلاثة آلاف ذراع، وخمسمائة ذراع والذراع ما بين طي المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى، كل ذراع ستة وثلاثون إصبعا كل إصبع ست شعيرات بطن إحداها إلى ظهر الأخرى، كل شعيرة ست شعرات من شعر البرذون يسن في حقه أن يقصر الصلاة الرباعية لخ. وقد مر عن الشبراخيتي والفيشي أن الصواب أن تكون الشعيرة على ظهرها أو بطنها؟ إذ بذلك تسع الشعرات المذكورة. والله سبحانه أعلم، وقال الشيخ الأمير: إن الأربعة برد هي مسافة يوم وليلة، قال: ومعنى يوم وليلة أربع وعشرون ساعة، فما خرج عن اليوم دخل في الليل. انتهى. قال: ولا معنى لما في الخرشي في كبيره، هل مبدأ اليوم الشمس أو الفجر؟ انتهى. وقال الإمام مالك في الموطإ بين مكة وعُسْفان، ومكة وجدة، ومكة والطائف أربعة برد قال
النووي هذا هو الصواب. وعسفان بضم العين وسكون السين المهملتين: قرية جامعة بها بئر بين مكة والمدينة على مرحلتين من مكة، وسمي عسفان: لأن السيول عسفته، وقال الشيخ زروق: مسافة القصر أربعة برد؛ وهو حديث عن ابن عباس: (لا تقصر الصلاة في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان
(1)
)، رواه الدارقطني. وصحح ابن خزيمة وقفه. انتهى.
ولو ببحر؛ يعني أن المعتبر في القصر مسافة أربعة برد، سواء في ذلك السفر في البر والسفر في البحر: والملفق بينهما وهذا هو المشهور. وروي عن مالك في المبسوط أنه يقصر في البحر إذا سافر يوما تاما؛ لأن الأميال لا تعرف فيه. قال بعضهم: يريد يوما وليلة. وفي الحطاب: أن الخلاف المشار إليه بلو، هل هو اعتبار الأربعة برد في البحر، أو إنما يعتبر الزمان؟ إذ لا أعلم خلافا في جواز القصر في البحر. وفي شرح الشيخ عبد الباقي عند قوله:"ولو ببحر"، أنه إذا كان بعض مسافته في البر وبعضها في البحر، يلفق سواء تقدمت مسافة البحر أو تأخرت بمجذاف، أو به، وبالريح، فإن كان يسير فيه بالريح فقط لم يقصر في مسافة البر المتقدمة قبله؛ وهي دون قصر، فلا تلفيق؛ إذ لعله يتعذر عليه الريح، فإن كان مسافة قصر استمر على قصره. انتهى. وفي الحطاب: قال ابن المواز: إذا لم يكن في البر مسافة قصر، وكان المركب لا يخرج إلا بالريح، فلا يقصر في البر حتى يركب البحر ويبرز عن المرسى، وإن كان يخرج بالريح وغيرها فليقصر من حين يخرج في البر وقال ابن الماجشون: يقصر ولم يفصل، قال الباجي: وجه قول ابن الماجشون: أن من عزم على سير أربعة برد حكمه القصر ولا يخرج عن ذلك إلا بتغير عزمه وهذا متيقن للسفر عازم عليه، فلا يمنعه القصر انتظار الريح، كما لا يمنعه ذلك في أثناء سفره في البحر. ووجه قول ابن المواز ينبني على أنه لا يجوز له القصر حتى يمكنه العزم على اتصال السير. قال الحطاب: والظاهر قول ابن الماجشون، وفي كلام الباجي: ميل إليه. والله أعلم. وقول ابن المواز: حتى يركب ويبرز عن موضع نزوله. ابن يونس: يريد إذا كان في سفره من ذلك
(1)
الدارقطني، ج 1 ص 387. الموطأ، ص 122.
الموضع ما يقصر فيه. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: وفي كلام ابن يونس والتوضيح والشارح في شروحه وشامله ترجيحه فيحمل المصنف عليه. انتهى؛ يعني قول ابن المواز: أنه لا يقصر في مسافة البر المتقدمة قبله؛ وهي دون قصر حيث كان لا يسير إلا بالريح، وإنما إذا ركب في البحر وبرز عن موضع نزوله حيث كان في سفره من هذا الموضع مسافة قصر. وقال الشيخ إبراهيم: ومقتضى كلام ابن يونس والتوضيح والشارح في شروحه وشامله ترجيحه؛ يعني قول ابن المواز، ويوافقه كلام العوفي في شرح قواعد عياض، فكان ينبغي للمص الاقتصار عليه، أو يحكي القولين. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي بعد ما تقدم عن ابن المواز: ولا يقصر ما دام في المرسى، فإن أقلعوا فجروا نحو ثلاثة أميال، ثم حبسهم الريح قصروا، فإن حبسوا لغير لمن وراءهم، أتموا ذهابا؛ يعني أنه يشترط في الأربعة البرد أن تكون ذهابا، فلا يلفق لها الرجوع بل يعتبر الرجوع سفرا وحده. وهذا مراد أهل المذهب بقولهم: يشترط أن يكون السفر وجها واحدا، ولا يعنون بذلك أن تكون طريقه مستقيمة. وقوله:"ذهابا"، حال من أربعة برد على التأويل؛ أي حال كون الأبعة برد مذهوبا فيها. انظر الشبراخيتي. ويحتسب في المسافة بالاعوجاج والدوران ما لم يكن في معنى الرجوع، فمن خرج يمينا ثم رجع أماما، ثم شمالا، ثم انعطف راجعا حتى يدخل البلد الذي خرج منه، فإنه يحتسب بما كان يمينا وشمالا. وأمَّا مَا لم يستدبر فيصير وجهه في تصرفه ذلك الذي يدور فيه إلى البلد الذي خرج منه، فإنه كالراجع فلا يحسب ذلك مع ما تقدم إذا كانت نيته الرجوع إلى البلد الذي خرج منه. قاله اللخمي. قال ابن ناجي: وقبل أكثر الشيوخ تقييده بذلك، وجعله سند خلافا. انتهى. والذي رأيته في كلام سند في الطراز أنه تقييد، فتأمله. والله أعلم. قاله الإمام الحطاب: قصدت؛ يعني أنه يشترط في قصر الصلاة أيضا أن تكون المسافة المذكورة قد قصدت، فلو قطعها من غير قصد كالهائم وطالب رعي لم يقصر - كما سيذكره - وظاهره أنه لو قصدها فقصر ثم بدا له الرجوع في أثنائها أن الصلاة صحيحة، وكما لا يقصر هائم وطالب رعي، لا يقصر من خرج في طلب حاجة أو آبق ولو جاوز مسافة القصر؛ لأنه لا يدري غاية سفره، فإنه يتم في سفره ويقصر في رجوعه إذا كان أربعة برد فأكثر.
دفعة؛ يعني أنه لابد في القصر أيضا من أن تكون المسافة قد قصدت دفعة أي مرة واحدة، واحترز بذلك عما إذا خرج إلى سفر طويل إلا أنه نوى أن يسير ما لا تقصر فيه الصلاة، ثم يقيم أربعة أيام، ثم يسير ما بقي من المسافة، فلا شك في إتمامه في مقامه. وهل يقصر في سيره ويلفق بعضه إلى بعض؟ قولان، القول بالإتمام لابن القاسم في العتبية وابن المواز، وقال ابن الحاجب: إنه الأصح، ولذا اقتصر عليه المصنف. والقول بالقصر لابن الماجشون، وسحنون. قاله الإمام الحطاب. وسيأتي ما هو كالصريح في أنه إذا نوى مسافة القصر إلا أنه حين النية متردد في الإقامة القاطعة للسفر بموضع خلالها ليس بينه وبين ابتداء سفره المسافة، فإنه لا يقصر حتى يجاوزه. والله سبحانه أعلم. وقوله:"دفعة"، مفعول مطلق لفعل محذوف؛ أي يدفعها دفعة ومعنى يدفعها يوقعها؛ لأن دفعة وطورا ومرة ونحوها، مصادر منصوبة على المفعولية المطلقة. كما قاله ابن الحاجب. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله:"دفعة"، بفتح الدال. وبما قررت علم أن المراد بقوله:"دفعة"، أن لا ينوي في ابتداء سير إقامة توجب الإتمام قبل تمام المسافة، وليس المراد أنه يقطعها دفعة واحدة. وفي شرح الشيخ عبد الباقي: ثم قصدها دفعة، إنما يعتبر من مسلم، بالغ، عاقل، غير متلبس بمانع كحيض ونفاس؛ فإن زال مانع كل أثناء السفر قصر، إن بقي منه مسافة قصر وإلا أتم. انتهى المراد منه. وقال الرجراجي في شرح كتاب الصلاة الثاني من المدونة: اختلف المذهب في من سافر مسافة تقصر فيها الصلاة، ثم أسلم أثناءها إن كان نصرانيا، أو احتلم إن كان صبيا، أو كانت امرأة فسافرت وهي حائض ثم طهرت في أثناء المسافة، فمشهور المذهب أنهم يتمون الصلاة ولا يقصرون، ويتخرج في المذهب قول أنهم يقصرون. المازري: قال في السليمانية في النصراني يقدم من مصر يريد القيروان فأسلم بقلشانة: إنه يتم، قال: لأن الباقي من سفره لا يقصر فيه، وهذا يقتضي أن يراعى مقدار السير من حين البلوغ في أثناء السفر وكذا يُراعى في حق المجنون إذا عقل في أثناء السفر. قال بعض أشياخي: وفي طهر الحائض نظر، وعندي أنه لا يصح الفرق بينها وبين ما تقدم؛ لأنها غير مخاطبة بالصلاة أيام حيضتها إجماعا، والكافر مخاطب بالصلاة وغيرها من فروع الشريعة بشرط تقدم الإيمان عند جماعة من أهل
الأصول، فإذا لم يعتبر ما مضى من سفره مع الاختلاف في خطابه، فالحائض أولى بذلك لكونها لم يختلف في سقوط الخطاب عنها، إلا أن يقال إن الحائض كانت قبل حيضتها مخاطبة بالصلاة، وإن ارتفع الخطاب لمانع، والمانع متوقع ارتفاعه في كل جزء من أجزاء السفر. قاله الحطاب. وفيه: وظاهر كلام الإمام أن الصبي إذا بلغ يتم الصلاة ولو كان يقصر الصلاة في أثناء سفره قبل البلوغ.
ولما كان الإتمام هو الأصل والنية بمجردها لا تخرج عنه، اشترطوا معها الشروع والانفصال عن محل الإقامة، ولما كان محلها يختلف شرع في بيانه، فقال شارطا في قوله:"سن": إن عدا البلدي البساتين المسكونة: يعني أن البلدي أي المكمل بالبلد بدويا أو حضريا -كما نص عليها الشيخ محمد بن الحسن بناني- إنما يسن له القصر إن عدا؛ أي جاوز البساتين أي الحدائق المسكونة، ولو في بعض الأحيان، ويشترط في اعتبار مجاوزة البساتين أن تكون متصلة بالقرية، ولو حكما كارتفاق ساكنيها بأهل البلد بنار وطبخ وخبز وشراء من سوقها، فإنها حينئذ كالمتصلة، وإن لم يحصل ارتفاق بما ذكر لم تعتبر في القصر مجاوزتها قال الشيخ عبد الباقي: وإذا سافر من الجانب الذي لا بساتين به لم يقصر حتى يحاذي قدر ما هي به. وقال الشيخ محمد بن الحسن: ما ذكره غير صحيح؛ إذ غاية أمر البساتين أن تكون كجزء من البلد. انتهى. وقال الشيخ إبراهيم: وانظر إذا كان بعض مساكنها يرتفق بالبلد كالجانب الأيمن دون الآخر، والظاهر أن حكمها كلها كحكم المتصلة، وإذا كان يعتبر مجاوزة البساتين المسكونة، فأولى البناء الخراب القائم الخالي من السكان في طرف البلد، فلابد من مجاوزته، والقريتان المتصل بناء إحداهما بالأخرف أو بينهما فاصل، وترتفقان كالبلد الواحد. وقوله:"إن عدا البلدي"، سواء كانت قريته قرية جمعة أم لا. كما في الشبراخيتي. وإذا سافر من مِصْرٍ لا بناء حوله ولا بساتين، قصر بمفارقته لسوره بلا خلاف، إن لم تكن قرية جمعة، وإن كانت قرية جمعة فكذلك؛ أي يقصر بمفارقته لسوره أو بنائه إن لم يكن له سور. وقيل: لا يقصر حتى يجاوز ثلاثة أميال. واعلم أنه لا عبرة بالمزارع ولا بالبساتين المنفصلة: وقوله: "المسكونة"؛ أي التي تسكن بالأهل، ولو في بعض الأحيان. كما في كتاب الشيخ الأمير. وفيه: شارطا في القصر إن جاوز بوقتها، ولو
ضروري البناء، وإن خربا ولا تعتبره الشافعية، ولا عامرا بعد السور. انتهى. وفيه عن ميزان الشعراني قال مجاهد: إن سافر نهارا لا يقصر حتى يدخل الليل وبالعكس. انتهى. وما تقدم من اعتبار البساتين المسكونة هو المشهور، وعليه تؤولت المدونة كما يفيده كلام ابن رشد الذي نقله المواق، ولهذا قال: وتؤولت أيضا على مجاوزة ثلاثة أميال بقرية الجمعة؛ يعني أنه كما تؤولت المدونة على اعتبار مجاوزة البساتين المسكونة، تؤولت أيضا على أن المعتبر مجاوزة ثلاثة أميال حيث كانت القرية التي سافر منها قرية جمعة، وأما إن لم تكن قرية جمعة فالمعتبر مجاوزة البساتين. كما قاله الشارح. وفي الحطاب عند قوله: وتؤولت أيضا على مجاوزة ثلاثة أميال بقرية الجمعة، أن هذا قول ثان مقابل للأول تؤولت المدونة على كل منهما، كما أشار إلية بقوله:"ولكن الأول هو المشهور". انتهى. وقوله: "بقرية الجمعة"، قال الشيخ عبد الباقي: ولو في زمن دون آخر فيما يظهر. انتهى. قال الشيخ بناني: فيه نظر، بل ظاهر ابن رشد أن المراد بقرية الجمعة، وجود الجمعة فيها بالفعل. انتهى. وقوله:"على مجاوزة ثلاثة أميال"، اعلم أن الثلاثة الأميال هنا معتبرة من سور القرية إن كان لها سور، ومن آخر بنائها إن لم يكن لها سور. ونقل الشيخ محمد بن الحسن عن بعض شراح الرسالة: أن القائل بمراعاة البساتين لا يعتبر الأميال سواء كان بلد جمعة أم لا، ونقل عنه أن القرية التي تقام فيها الجمعة فيها ثلاثة أقوال: أحدها قول الرسالة: ولا يقصر حتى يجاوز بيوت المصر، وتصير خلفه ليس بين يديه ولا بحذائه منها شيء، ثانيها قول ابن حبيب: لا يقصر حتى يجاوز بساتين المصر، ثالثها: قول محمد بن مسلمة: لا يقصر حتى يجاوز بيوت المصر بثلاثة أميال. وأما الموضع الذي لا جمعة فيه فليس فيه إلا قولان: أحدهما حتى يجاوز بيوت القرية، والثاني حتى يجاوز بساتينها. انتهى. فالقول بالبساتين وارد في القريتين على هذا النقل، ونقل أيضا عن الباجي أن ما ذهب إلية مالك من أنه لا يقصر حتى يجاوز بيوت المصر ولا يكون أمامه ولا عن يمينه ولا عن يساره منها شيء، هو المشهور عنه من رواية ابن القاسم وغيره، وروى عنه مطرف وابن الماجشون أن ما كان من المدن التي يجمع فيها لا يقصر حتى يجاوز بيوت القرية بثلاثة أميال. وأما ما كان من القرى التي لا
يجمع فيها فحتى اوز بساتينها ولا ينظر إلى مزارعها، ووجه رواية ابن القاسم أن موضع الاستيطان إنما هو البيوت فيجب أن يعتبرها في المقام، ويعتبر بالخروج عنها في السفر. ووجه الرواية الثانية أن هذا موضع يجب النزول منه إلى الجمعة فكان حكمه حكم الوطن، فاعتبار الثلاثة الأميال إنما هو في مصر الجمعة، واعتبار البساتين إنما هو في قرية لا جمعة فيها، خلاف ما تقدم عن بعض شراح الرسالة.
واعلم أن قول المدونة الذي وقع فيه التأويل هو قولها: قال مالك في رجل يريد سفرا إنه يتم حتى يبرز عن بيوت القرية فإن برز قصر الصلاة. وحكى المصنف أن فيها تأويلين، أحدهما أن المراد بالبروز الذي يقصر بعده هو مجاوزة البساتين المسكونة سواء كانت القرية قرية جمعة أم لا، والثاني أنها إن كانت قرية جمعة فلا تعتبر مجاوزة البساتين، وإنما المعتبر مجاوزة ثلاثة أميال، وإن لم تكن قرية جمعة فالمعتبر مجاوزة البساتين. والله تعالى أعلم. واعلم أنه على التأويل الأول الذي هو المشهور؟ أعني قوله:"إن عدا البلدي البساتين المسكونة"، فإنما تحسب الأربعة البرد بعد مجاوزة البساتين قطعا، وأما على أن المعتبر مجاوزة ثلاثة أميال بقرية الجمعة: فهل تحسب الأميال الثلاثة من البرد الأربعة؛ وهو ظاهر كلامهم واختاره البرزلي وغيره، أولا، وصوبه ابن ناجي، وصوب بعضهم ما لشيخه؛ يعني البرزلي. وبما تقدم علم أن المعتبر للأميال الثلاثة، لا يعتبر البساتين زادت على الأميال أو قصرت، خلاف ما للشيخ عبد الباقي من أنه: إذا زادت البساتين على الأميال فالمعتبر مجاوزة البساتين اتفاقا، وأن محل الخلاف إنما هو فيما إذا نقصت البساتين عن الأميال، فقد قال الشيخ بناني: إنه غير صحيح. والله سبحانه أعلم. وينبني على كلام الشيخ عبد الباقي ما ذكره بعد من أنه إن كان بالقرية بساتين مسكونة قدر الأميال أو أكثر لم تحسب الأميال من البرد الأربعة: وإن كانت البساتين أقل من ثلاثة أميال حسب ما زاد عليها من البرد الأربعة، وهذا إن فرعنا على التأويل الثاني في كلام المصنف، وأما إن فرعنا على الأول فقد تقدم أنه إنما تحسب المسافة بعد مجاوزة البساتين قطعا. والله سبحانه أعلم. واعلم أن من سافر في البحر فيه روايتان: إحداهما يقصر بمجاوزة بيوت القرية وتخليفها، والثانية إذا توارى عن البيوت. ومن سافر في البحر من وطنه سفرا تقصر فيه الصلاة، ثم أحرم بالصلاة،
فردته الريح إلى بيوت قريته بعد أن صلى بعض الصلاة، تبطل صلاته كما لو نوى فيها الإقامة. ومن صلى في الحضر ركعة بسجدتيها، ثم مشت به السفينة حتى خرج عن القرية حيث تقصر الصلاة، فإنه يمضي على صلاته صلاة حضر لأنه دخل فيها على ما يجوز. قاله الحطاب ولو بان المسافر عن أهله، ثم نوى الرجعة بعد ما برز، ثم بدا له أن ينوي السفر لم يقصر حتى يظعن من موضعه؛ وهو بين لأنه إنشاء سفر، كمن خرج مع المسافرين ليشيعهم، فقدموه ليصلي بهم، فينوي السفر قبل أن يحرم، يصلي صلاة مقيم. وقال الشيخ زروق: لو قصر قبل مجاوزة البيوت، فهل يعيد في الوقت، أو مطلقا، أو لا إعادة عليه؟ انظر في ذلك فإني لم أقف عليه. انتهى، قاله الإمام الحطاب.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر أنه يعيد أبدا لقولهم: وفسد منهي عنه إلا بدليل، ولأنه حضري قصر صلاته. والله سبحانه أعلم.
والعمودي حلته؛ يعني أن العمودي أي البدوي سمي بذلك؛ لأنه يجعل بيته على عمد، إنما يقصر الصلاة بعد أن يجاوز حلمه بالكسر؛ وهي بيوت القوم ولو كانت بيوتهم متفرقة بشرط ارتفاق بعضهم ببعض، فالمدار على الارتفاق كانوا قبيلة أو قبائل؛ وهو معنى جمع اسم الدار، كما قاله الشيخ الأمير؛ فإن لم يرتفق بعضهم ببعض بأن تفرقوا بحيث لا يمكن ارتفاق بعضهم ببعض لم يعتبر إلا أهل محلته؛ أي الذين يجمعهم اسم الدار، وقد مر معنى جمع اسم الدار.
وانفصل غيرهما؛ يعني أن غير العمودي والبلدي المتصف بالوصف المذكور يقصر إذا انفصل عن قريته، والمراد به من هو ساكن بقرية لا بناء بها ولا بساتين. قاله الشارح. وقال الشيخ عبد الباقي: أي غير البلدي، والعمودي ذي الحلة عن مكانه كساكن الجبال، وعمودي الأخصاص كرابغ بطريق مكة، وساكن بساتين له متصلة، ومن منزلة في عرض واد بطنه، فإن جعلوا جانبي الوادي لهم بمنزلة السور على البلد اعتبر البروز عن الجانب. ولا يلزم البروز عن طوله. وقد يطول جدا، وإن كان عرضه متسعا ونزلوا بعضه روعي مفارقة البيوت والبروز عنها لا مفارقة الوادي، ولو كان وسط البلد نهر جار مثل بغداد، فجاز من جانب إلى جانب لم يقصر حتى
يجاوز الجانب الآخر؛ لأن ذلك من البلد كالرحبة الواسعة، وكذا بيوت العمودي المتفرقة حيث يرتفق بعضهم ببعض -كما مر- لأن ما بينهم حينئذ بمنزلة الرحبة في البلد. وحكى ابن فرحون في ألغازه عن أبي إبراهيم الأعرج في أسير هرب من بلد الكفار للجيش: أنه يقصر قبل أن يجاوز بناء البلد وبساتينه التي في حكمه؛ لأنه صار من الجيش. قاله الشيخ عبد الباقي.
قصر رباعية نائب فاعل سن؛ يعني أنه يسن للمسافر بالشروط المتقدمة أن يقصر الصلاة الرباعية، فيصلي الظهر ركعتين يقرأ فيهما بأم القرآن وسورة سرا ويتشهد ويسلم، ومثلها العصر: وأما العشاء فيصليها ركعتين يجهر فيهما بأم القرآن وسورة، ويتشهد: ويسلم، فالصلوات التي تقصر ثلاث، وأما الثلاثية وهي المغرب والثنائية وهي الصبح فلا يقصران اتفاقا. وقوله:"لمسافر"؛ يعني بد المتلبس بالسفر كما قاله الشيخ عبد الباقي.
وقتية؛ يعني أن المسافر إذا بلغ المحل الذي يقصر منه الصلاة فإنه يسن له أن يقصر ما أدرك وقته من الصلوات، فإن بقي من النهار ثلاث ركعات صلى الظهر والعصر سفريتين. وإن بقي قدر ما يصلى فيه ركعة أو ركعتان صلى الظهر حضرية والعصر سفرية، وإن بقي أقل من ركعة صلاهما حضريتين، ولو دخل لخمس ركعات صلاهما حضريتين، فإن كان لقدر أربع ركعات فأقل إلى ركعة صلى الظهر سفرية والعصر حضرية، ولأقل من ركعة صلاهما سفريتين، وإن قدم في ليل وقد بقي للفجر ركعة فأكثر فيما يقدر صلى العشاء حضرية سواء كان قد صلى المغرب أو لم يصلها، ولو دخل لأقل من ركعة صلى العشاء سفرية، ولو خرج وبلغ الموضع الذي تقصر منه الصلاة وقد بقي من الليل ركعة فأكثر صلى العشاء سفرية، سواء صلى المغرب أو لم يصلها، وإن كان أقل من ركعة صلى العشاء حضرية صلى المغرب أم لا.
أو فائتة فيه؛ يعني أن الصلاة الفائتة في السفر يسن قصرها سواء قضاها في السفر أو في الحضر. قاله في المدونة. واحترز بقوله: "فيه"، عن الفائتة في الحضرة فإنها لا تقصر، ولو صلى الحضرية عن السفرية لأجزأه ذلك ولا إعادة عليه في الفائتة، لكن فاته فضيلة السنة، ولكون السفرية الفائتة تجزئ عنها الحضرية، ولا إعادة لخروج الوقت كان قول المصنف ومع الشك في القصر أعاد إثر كل حضرية سفرية، غير ظاهر.
وإن نوتيا بأهله؛ يعني أن النوتي إذا سافر ومعه أهله، فإنه يقصر؛ لأن مصاحبة الأهل في السفر لا تمنع القصر، وغير النوتي أحرى، كما قاله الشبراخيتي. والنوتي خادم السفينة؛ أي فلا يتوهم أن المركب صار له كالدار. وقال أحمد: لا يقصر، واحتج بأنه مقيم في مسكنه وماله فأشبه ما إذا كان في بيته، وما ذكره المصنف هو مذهب مالك والشافعي وجماعة والدليل لعامة الفقهاء. قوله علية الصلاة والسلام: (إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة
(1)
). وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: (فرضت الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين
(2)
)، والفرض يكون بمعنى التقدير وهو عام. وروى ابن وهب عن سالم بن عبد الله بن عمر أن رجلا سأله فقال: إن أحدنا يخرج في السفينة يجعل فيها أهله ومتاعه ودجاجه؛ أيتم الصلاة؛ قال: إذا خرج فليقصر الصلاة، وإن خرج بذلك وكون أهله ومتاعه معه لا يمنعه من الترخص في السفر كالجَمَّال، قاله في الطراز. وقال ابن ناجي: وأقام شيخنا منها أن العرب إذا سافروا بأهلهم وأولادهم السفر الطويل المعزوم أنهم يقصرون، وأفتى به غير ما مرة لا يُحتاج إلى نية. قاله الإمام الحطاب. ولا ذكر ابتداء القصر ذكر منتهاه بقوله: إلى محل البدء؛ يعني أن المسافر يقصر في ذهابه إلى محل البدء؛ أي بدء القصر من المكان الذي ذهب له، ويقصر في رجوعه حتى يدخل بلده أو يقاربه. قال الشيخ الأمير: وهل أو لحكاية الخلاف أو للتنويع؟ فالأول أراد البلد أي استمر سائرا، والثاني مستريح أي نزل خارج البلد للاستراحة مثلا، أو العطف مفسر تأويلات والقرب دون الميل، وكون العطف للتفسير عليه يكون المعنى هو القرب دون الدخول، وهذا هو المعتمد عند الباجي وأبي الحسن وأبي محمد صالح، خلاف ظاهر المصنف وابن الحاجب. وقال الشيخ عبد الباقي: ودخول البساتين المسكونة المتصلة ولو حكما كدخول البلد، والقرب لها بأقل من الميل كالقرب من البلد بأقل منه. انتهى. وقال الإمام الحطاب: والظاهر أن المراد بقولهم إلى محل البدء أن المسافر يقصر، فإذا وصل إلى البلدة التي هي منتهى سفره أتم في الموضع الذي لو سافر منه
(1)
النسائي، كتاب الصيام، رقم الحديث:2282.
(2)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:687. ولفظه: فرض الله الصلاة
…
كان محلا لابتداء قصره، وهو الذي يفهم من كلام ابن بشير. انتهى. وفي النوادر: ومن المجموعة قال عبد الملك وسحنون: ومن خرج إلى الحج من أهل الخصوص، ثم قدم فألفى أهله قد انتقلوا فليتم من موضع تركهم به إلى موضع ساروا إليه، إلا أن يكون بينهما أربعة برد. انتهى. قاله الإمام الحطاب. لا أقل عطف على قوله:"أربعة برد"؛ يعني أن المسافر أقل من أربعة برد لا يباح له القصر، وليس المراد ما يعطيه ظاهره من أن المعنى لا يسن له القصر، فالمعنى لا يقصر: فإن قصر بطلت فيما دون ستة وثلاثين ميلا بلا خلاف وصحت في أربعين، وفيما بينهما فلا إعادة عليه، وقيل يعيد في الوقت وهذان القولان فيما فوق ستة وثلاثين ميلا. وأما ستة وثلاثون ميلا فمن قصر فيها لا إعادة عليه، وقيل: يعيد في الوقت، وقيل: يعيد أبدا. وما في التوضيح من أن من قصر في ستة وثلاثين ميلا يعيد أبدا على المذهب معترض، وفي المقدمات: فإن قصر فيما دون الثمانية والأربعين فلا إعادة عليه فيما بينه وبين الأربعين، وإن قصر فيما دون الأربعين إلى ستة وثلاثين، فقيل: يعيد في الوقت، وقيل: لا إعادة عليه، وإن قصر فيما دون ستة وثلاثين ميلا أعاد في الوقت. وبعده انتهى. ونقل عن يحيى بن عمر أن من قصر في ستة وثلاثين أعاد أبدا. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وللشيخ علي الأجهوري:
من يقصر الصلاة في أميال
…
بعدله تبطل بلا إشكال
وقصرها من بعد ميم لا ضرر
…
فيه وفي ما بين ذا الخلف اشتهر
فقيل لا يعيدها أصلا وقيل
…
يعيدها في الوقت فافهم يا نبيل
والراجح الأول والأخير قد
…
رجح لكن بعضهم له انتقد
وقال الشيخ الأمير: وإن قصرها لخمسة وثلاثين ميلا بطلت، ولأكثر لا إعادة عليه أصلا، وإن
منع. هذا حاصل المعتمد كما لعلي الأجهوري، وغيره. انتهى. وقوله:"لا أقل" التحقيق أنه يحرم عليه القصر فيما دون أربعة برد ابتداء، وإنما الخلاف بعد الوقوع. ولا يجوز للمسافر الفطر في أقل من ثمانية وأربعين ميلا، فإن أفطر كفر إلا بتأويل كما يأتي. انظر حاشية الشيخ بناني. وما ذكره المصنف من أنه لا يقصر في أقل من أربعة برد، وإنما يقصر في أربعة برد هو الذي عليه مالك، والشافعي، وأحمد، وجماعة. وقال أبو حنيفة: لا يقصر الصلاة في أقل من ثلاثة أيام.
وقالت طائفة من أهل الظاهر: يقصر في كل سفر، ولو ثلاثة أميال، لظاهر قوله تعالى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} ، ولم يحد المسافة. وروى مسلم وأبو داوود عن أنس: (كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ قصر الصلاة
(1)
)؛ وهو أصح ما ورد في بيان ذلك وأصرحه، وقد حمل المخالف هذا على أن المراد به المسافة التي يبتدأ منها القصر، لا غاية السفر. نقله الزرقاني في شرح الموطإ.
إلا كمكي في خروجه لعرفة ورجوعه؛ يعني أن المكي ومن في حكمه كمنوي ومردلفي ومحصبي، يسن لكل منهم في خروجه لعرفة ورجوعه القصر للسنة، وإن لم يكن في ذلك مسافة القصر. وقوله:"في خروجه لعرفة"، ظاهره: ولو أدركته الصلاة قبل أن يصل لمنى. قال سند: والأحسن أن يقصر؛ لأنه قد أعطى سفره حكم القصر، وأما إذا وصل إلى منى فإنه يقصر بلا خلاف، وكذا في ذهابه إلى عرفة، وفي عرفة، وفي رجوعه إلى المزدلفة، وفي المزدلفة، وفي رجوعه إلى منى، وفي مدة إقامته بمنى، ومثل المكي العرفي إذا خرج للإفاضة وبقية النسك.
واعلم أن أهل كل محل لا يقصرون بمحلهم، فلا يقصر العرفي بعرفة، ولا المزدلفي بمزدلفة، ولا المنوي بمنى. ولا المكي بمكة، ولا المحصبي بالمحصب.
وقال الشيخ عبد الباقي: "عند قوله ورجوعه"، لبلده حيث بقي عليه بعض عمل النسك بغيره، وإلا أتم حال رجوعه كمنوي؛ لأن بقية العمل وهو رمي أيام منى في محله. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر، بل يقصر في رجوعه لبلده مطلقا، وإن لم يبق عليه شيء من النسك لا بها ولا بغيرها على ما رجع إليه مالك، كما في الحطاب. وقوله: وكل راجع لبلده الخ. فيه نظر. انتهى ولا راجح لدونها؛ يعني أن من عزم على أن يسير مسافة القصر، وسار بعض المسافة
(1)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث:691. أبو داود، كتاب الصلاة: تفريع أبواب صلاة السفر، رقم الحديث: 1201. ولفظ مسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك - صلى ركعتين. وكذا أبو داود، إلا أنه قال: شعبة شك - يصلي ركعتين.
ورجع لبلده الذي سافر منه قبل قطع المسافة، لا يقصر في رجوعه؛ لأن الرجوع معتبر سفرا بنفسه.
ولو لشيء نسبه؛ يعني أنه لا يقصر في رجوعه من دون مسافة القصر، سواء رجع تاركا السفر أو رجع لشيء نسيه ويعود لإتمام سفره. قوله:"ولو لشيء نسيه"، قال الرماصي: هذا إذا رجع للبلد الذي سافر منه، ولو رجع لغيره لشيء نسيه لقصر في رجوعه على المشهور. قاله ابن عبد السلام. وقوله:"ولو لشيء نسيه". هو المشهور، ومقابله لابن الماجشون، قال: يقصر من رجع لشيء نسيه، والخلاف ما لم يدخل وطنه الذي خرج منه، فإن دخله فلا شك أنه يتم على القولين. قاله ابن عبد السلام. ونقله في التوضيح. ولو لم يكن المكان الذي خرج منه وطنا له وإنما أقام به، فالخلاف جار في إتمامه وقصره ولو دخله، كما صرح به اللخمي. قاله الحطاب.
ولا عادل عن قصير بلا عذر؛ يعني أن من عزم على السير بموضع، وسلك نحوه طريقا تبلغ مسافة القصر، وعدل عن طريق أخرى موصلة له دون مسافة القصر، ولم يكن عدل عن الطريق القصير لعذر: بل لقصد الترخص؛ أي ليقصر الصلاة: لا يقصر. وأما إن كان عدوله عنها لعذر، فإنه يقصر: كخوف على نفس أو مال من لصوص، أو خوف مكاس، أو عسر طريق. والظاهر أن منه شدة وحل، أو مطر بالطريق القصير، أو خوف حبس، أو ضرب، أو قصاص مما يبيح التخلف عن الجمعة. قاله الشيخ عبد الباقي. الحطاب: وانظر لو كان كل من الطريقين مسافة قصر وإحداهما أطول وسلكه لغير عذر، هل يقصر في زائده أي الزائد على منتهى القصيرة، أم لا؟ وتعليلهم بأن ذلك مبني على عدم قصر اللاهي بسفره، يقتضي عدم قصره. انتهى. وقال الشيخ الأمير: وحرم؛ يعني القصر لعاص به، وكره للاه، ومن أفراده العادل عن قصير بلا عذر. ومن العذر الوحل، ومكس له بال، ولا إعادة إن قصرا، وإن حدثا أو انقطعا فلكل حكمه انتهى. قال الشيخ عبد الباقي: ثم إن قصر في صورة المصنف أعاد إن كانت القصيرة خمسة وثلاثين، لا إن كانت أكثر. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: مقتضى ما ذكره الحطاب من تعليلهم؛ بأن ذلك مبني على عدم قصر اللاهي أنه إذا قصر لا يعيد؛ وهو الظاهر؛ لأن العدول عن القصير غير محرم. وفي التوضيح: هذا مبني على أن اللاهي بصيده وشبهه لا يقصر. وأما على القول بأنه
يقصر فلا شك في تقصير هذا. انتهى. ومر قريبا عن الأمير ما يفيد أنه لا إعادة عليه لحكمه عليه بأنه من اللاهي بسفره. والله سبحانه أعلم.
ولا هائم؛ يعني أن الهائم لا يقصر، وفسر بالفقراء المتجردين للعبادة الذين لا يخرجون لموضع معلوم، بل حيث طاب لهم بلد قاموا به. وطالب رعي؛ يعني أن طالب الرعي لا يقصر وهو من يطلب المرعى لمواشيه يرتع حيث وجد الكلأ.
واعلم أن من تاه عن طريق القصد يقصر، ولو تاه قبل قطع المسافة. كما نص عليه غير واحد. وقال الرماصي: وأما الهائم بمعنى التائه عن طريق القصد، فإن كان بعد سير مسافة قصر معزوم عليها قصر، وإن تاه قبلها وصار يتردد فلا يقصر وإن قطع المسافة في تردده. قاله الرماصي.
إلا أن يعلم قطر المسافة قبله مستثنى من الهائم وطالب الرعي؛ يعني أن عدم قصر الهائم وطالب الرعي؛ محله حيث لم يعلم كل منهما قطع المسافة قبل البلد الذي يطيب له المقام به وقبل محل الرعي يريد: وقد عزم عليه عند خروجه. وأما إن علم كل منهما قطع المسافة قبل المحل الذي عزم على السير إليه، فإنه يقصر. وقوله:"ولا هائم وطالب رعي"، وكذا لا يقصر من خرج في طلب آبق أو ضالة أو نحو ذلك، ولو جاوز مسافة القصر، كما مر نص عليه الشادلي، وغيره.
والحاصل أن كل من لا يقصد موضعا معينا، كالهائم بالمعنى المذكور، وطالب الرعي، والآبق، والحاجة لا يقصرون وإن قطعوا المسافة إلا أن يعزما
(1)
في أول السفر على قطعها، قال في المدونة: ومن خرج في طلب حاجة، فقيل له: هي بين يديك على بريدين ولا يدري غاية سفره فمشى كذلك أياما، فإنه يتم في طلبه ويقصر في رجوعه إذا كان أربعة برد فأكثر. انتهى. أبو الحسن: لأن المدة إنما تعتبر من ابتداء الوجهة ولا يضاف إليها ما قبل ذلك، فطالب الحاجة لا يقصر وإن قطع المسافة إلا إذا رجع. ابن يونس: وإذا بلغ الذي خرج في طلب الحاجة أربعة برد فأراد الرجوع، فقيل له: حاجتك في موضع كذا على بريدين بين يديك، أو عن يمينك، أو شمالك،
(1)
في الرماصي: إلا أن يعزموا. مخطوط.
فقال: أبلغ ذلك الموضع ثم أتمادى منه إلى داري على كل حال، وجدته أم لا، فذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يقصر حتى يرجع، وظهر لي ولغيري أنه يقصر؛ لأنه نوى الرجوع. انتهى. واحتج ابن يونس بتقصير المسافر لشرق خرج لمهم غربا عن بريد يرجع منه لسفره غير داخل بلده، يقصر في البريد. ابن عرفة: هذا مصادرة، ويرده رواية الشيخ: من سافر لبريدين فرجع لطريق أقصر، وممره على منزلة ولم يرد النزول به، أتم في رجوعه حتى يجاوزه. قاله الرماصي. ولا منفصل ينتظر رفقة؛ يعني أن المنفصل عن محل إقامته عازما على السفر إلا أنه أقام ينتظر رفقة لا يقصر، بل يستمر على إتمامه حيث لم يجزم بإتيانهم له قبل أربعة أيام، فإن لحقته فلا يقصر حتى يبرز عن ذلك الموضع، ولو شيع السفر رجل وهو يريد الرجعة فقدموه ليصلي بهم، فلم يدخل الصلاة حتى نوى السفر: فليتم حتى يبرز عن ذلك الموضع. قاله الرماصي.
إلا أن يجزم بالسير دونها؛ يعني أن عدم قصر المنتظر لرفقة إنما هو إذا لم يجزم بالسير دونها قبل إقامة أربعة أيام، وأما إن جزم بالسير دونها قبل إقامة أربعة أيام، فإنه يقصر بمجرد تعديه محل بدء القصر. وكذا إن تحقق أو غلب على ظنه مجيئها له قبل إقامة أربعة أيام حيث لم يجزم بالسير دونها.
وتحصل مما مر أنه إذا جزم بالسير دونها لكن بعد أربعة أيام، أو شك هل يلحقونه قبل أربعة أيام أم لا؟ فإنه يتم، وأنه إذا تحقق لحوقها قبل أربعة أيام، أو غلب ذلك على ظنه يقصر وإن لم يجزم بالسير دونها، وأنه إذا جزم بالسير دونها قبل أربعة أيام يقصر مطلقا تحقق لحوق الرفقة أو عدمه أو شك فيه. والله سبحانه أعلم. انظر بناني.
تنبيه إذا سافر العبد بسفر سيده، والمرأة بسفر زوجها، والجند بسفر الأمير، ولا يعلمون قصدهم، لم يترخص واحد منهم، فإن علموا قصدهم ونووا القصر قصروا. ولا مفهوم لقوله: نووا القصر: كما في الرهوني. وسئل مالك عن صلاة الأسير، فقال: مثل صلاة المقيم. وفي المدونة: ويتم الأسير بدار الحرب إلا أن يسافر به فيقصر. وقال الباجي في شرحه: في سفره ومقامه باختيار من يملكه، فكانت نيته معتبرة في إتمامه وقصره بما يظهر له من أمره، وكذلك العبد المسلم في بلد
المسلمين. والله أعلم. وفي ابن يونس: في العسكر يقيم بهم الإمام ولا يدرون كم يقيم، يقصرون حتى يعلموا أنه يقيم أربعة أيام، وينبغي للإمام أن يعلمهم.
وقطعه دخول بلده؛ يعني أن من سافر من بلده، ثم إنه رجع إليه بعد قطع المسافة، فإنه ينقطع حكم سفره بدخوله لبلده، فيقصر في رجوعه إلى دخوله لبلده فيتم. وأما إن رجع إليه قبل قطع المسافة، فإنه ينقطع حكم سفره برجوعه، فيتم بمجرد رجوعه. وعلم مما قررت أن المراد بالدخول هنا: الدخول الناشئ عن الرجوع بدليل الاستثناء في قوله: "إلا متوطن كمكة رفض سكناها ورجع ناويا السفر". وأما الدخول في الآتية، فالمراد به: الدخول الناشئ عن المرور بها في ذهابه، فلا تكرار. والله سبحانه أعلم. وهذا التفريق هو الذي ارتضاه ابن غازي، والحطاب، والرماصي، ومحمد بن الحسن. وأما دفع التكرار بأن البلد أعم من الوطن؛ لأن البلد كل موضع تقدمت له فيه إقامة، تقطع حكم السفر على نية التأبيد أم لا. والوطن كل موضع تقدمت له فيه إقامة تقطع حكم السفر على نية التأبيد، فإنه لا يندفع بذلك.
وإن بريح؛ يعني أنه لا فرق في قطع دخول البلد للقصر بين أن يدخله مختارا، وبين أن يدخله مغلوبا بريح من بحر أو جموح دابة، بخلاف اللص. قال الشيخ إبراهيم: والفرق بين الريح والغاصب -كما يفهم من كلام اللخمي- أن من سافر بالريح شاك من أول سفره، هل يتم أم لا؟ فكان داخلا على ذلك؛ لأنه قريب ممن ينتظر رفقة لا يسافر إلا بها، بخلاف من رده غاصب؛ فإنه لا شعور له به. وفي الحطاب: قال اللخمي: اختلف فيمن خرج مسافرا في البحر فسافر أميالا ثم ردته الريح، فقال مالك: يتم الصلاة؛ يريد في رجوعه، وفي البلد الذي أقلع منه وإن لم يكن له وطنا إذإِ كان يتم الصلاة به؛ لأنه لم يصح رفضه. وقال سحنون: يقصر إذا لم يكن مسكنا، يريد ما لم يكن رجوعه باختياره، فكان كالمكره. وقوله:"وقطعه دخول بلده"، محله ما لم يرفض سكناه -كما سيذكره- وإنما كان دخول البلد قاطعا لأنه مظنة الإقامة. كما قاله الشبراخيتي.
إلا متوطن كمكة رفض سكاناها؛ يعني أن محل قطع دخول البلد للقصر إنما هو حيث لم يرفض الداخل له سكناه، وأما إن دخله رافضا سكناه بعد قطع المسافة فإنه لا يقطع حكم سفره، ودخل "بالكاف" كل بلد، وإنما نص على مكة تبركا بذكرها، أعزها الله تعالى.
قال الإمام الحطاب بعد جلب أنقال: والحاصل أن من رجع من دون مسافة القصر أتم الصلاة على المشهور. ولو كان باقيا على نية السفر، بأن يكون إنما رجع لحاجة، أو ردته الريح، ومقابل المشهور أنه يقصر إن كانت نيته باقية على السفر في رجوعه. وفي البلد الذي خرج منه إذا لم يكن وطنه، وأن من رجع بعد أن سافر مسافة القصر يقصر على القول الراجح الذي رجع إليه مالك؛ وعلى القول المرجوع عنه يتم ويقصر هنا على مقابل المشهور في المسألة الأولى من باب أولى. انتهى. وقال الرماصي: الصواب قول الحطاب الوجب للقصر في المسألة المستثناة الرجوع بعد مسافة القصر. وقال الشيخ الأمير: وقصر ذو نسك رجع لوطنه من دون المسافة لا راجع لدونها ولو لحاجة بغير وطنه الأصلي، فإن رجع بعدها قصر في رجوعه، كإقامته إن كان بغير وطنه ولم ينو إقامة أربعة أيام؛ وهو معنى قول الأصل:"إلا متوطن كمكة رفض سكناها ورجع ناويا السفر" انتهى.
ولنذكر هنا نازلة وهي: أن قوما نووا قطع مسافة القصر وعزموا عليها، فلما ساروا دون المسافة كميل أو أكثر مثلا تغير عزمهم وصاروا طالبي رعي؟ وأجاب بعض الناس بأنهم يستمرون على قصرهم، محتجا بما قاله الشبراخيتي والزرقاني تبعا للشيخ علي الأجهوري: أن من رجع لمحل إقامته بعد أن نوى مسافة القصر يستمر على قصره، سواء رجع بعد قطع المسافة، أو قبله وبعد وصوله لمبدإ القصر ففي الشبراخيتي: ويحتمل أن يكون أشار به؛ يعني قول المصنف: "إلا متوطن كمكة" الخ إلى أن من رفض سكنى وطنه ثم رجع له غير ناو الإقامة القاطعة -وقد كان خروجه منه لسفر قصر- فإنه يقصر، سواء كان رجوعه له بعد ما بلغ مسافة القصر أو قبله، وبعد وصوله لمبدإ القصر. وحينئذ فقوله:"رفض سكناها"، في محله، ثم إنه إنما يعتبر حيث مات أهله به. قال: وأما قوله: ورجع ناريا السفر؛ أي والحال أنه رجع ناويا السفر من المحل الذي رفض سكناه، فليس بصواب على هذا الاحتمال، والصواب: ورجع غير ناو الإقامة، والمراد بالأهل في
هذا المحل: الزوجة. انتهى. وفي كلام الشيخ عبد الباقي: أن دخول البلد والوطن يقطع حكم السفر، ولو دخل ناويا السفر حيث لم يرفض سكناهما، وأن دخول محل الإقامة لا يقطعه إلا إن نوى به إقامة تقطع، وفيه عند قوله:"ورجع ناويا السفر"، رجع بعد سير مسافة أو قبلها، وبعد وصوله مبدأ قصرها ناويا السفر، أو لا نية له، فالمراد: غير ناو إقامة بها تقطع حكم السفر، فيقصر في رجوعه لها، وفي إقامته بها إقامة غير قاطعة. انتهى. والذي يظهر لي في النازلة المذكورة أنهم يتمون لقول الباجي: من عزم على سير أربعة برد فحكمه القصر، ولا يخرج عن ذلك إلا بتغير عزمه. انتهى. نقله الحطاب عند قول المصنف:"ولو ببحر". ولقول الحطاب والرماصي والخرشي والأمير: إن محل القصر في قوله: "إلا متوطن كمكة" الخ، حيث رجع بعد قطع مسافة القصر، وأما فتوى بعض الناس بالقصر تبعا للأجهوري والشبراخيتي والزرقاني، فلا شك أن كلامهم يفيد أنه يقصر وإن لم يكن صريحا فيه. وقال الشيخ بناني: إن الصواب ما قاله الأجهوري ومن تبعه لقول ابن يونس ولو أنه إذا نوى المقام فأتم خرج إلى بقية سفره وفيه أربعة برد، فلما سافر عنها ميلين رجع إليها لحاجة فليقصر هذا في رجوعه وفي دخوله حتى ينوي المقام بما يتم فيه الصلاة، إلا أن يكون فيها أهله وهو الذي آخذ به من اختلاف قول مالك في هذا، وبه أخذ ابن القاسم وأصبغ. انتهى. ابن يونس: يريد الاختلاف الذي جرى لمالك في مسألة مكة. انتهى. وتأمل ما نقله الشيخ بناني، فإنه إنما يفيد القصر فيما إذا رجع لدون مسافة القصر حيث كان ناويا السفر لقوله ورجع إليها لحاجة؛ فإن معناه أنه باق على نية السفر، كما في الحطاب. والله سبحانه أعلم. وقال ابن عرفة: محمد: من خرج مما أتم به لإقامة الأربعة لباقي سفره الطويل، فرجع بعد اليلين لحاجة المختار من قولي مالك قصره كابن القاسم وأصبغ. انتهى. وتأمل قوله: فرجع بعد الميلين لحاجة، فإنه يفيد أثه باق على نية السفر. والله سبحانه أعلم.
ومسألة مكة التي جرى لمالك الخلاف فيها هي قولها: ومن دخل مكة فأقام بها بضعة عشر يوما فأوطنها، ثم أراد أن يخرج إلى الجحفة ثم يعود إلى مكة ويقيم بها اليوم واليومين ثم يخرج منها،
فقال مالك: يتم في يوميه، ثم قال: يقصر. قال ابن القاسم: وهو أحب إلي، وعليها حمل المواق والحطاب وغيرهما المصنف، وعليها حمله الرماصي، لكن اعترض قول المصنف:"رفض سكناها"؛ بأنه لا حاجة إليه، وليس في المدونة ولا في غيرها ولا فائدة فيه، ولا حاجة إليه في الفرض المذكور. وقال الشيخ بناني: الظاهر حمل المصنف على مسألة ابن المواز؛ وهي إذا خرج من وطن سكناه لموضع تقصر فيه الصلاة رافضا سكنى وطنه، ثم رجع غير ناو الإقامة فيه فإنه يقصر، فإن لم يرفض سكناه أتم. قاله ابن المواز، ونقله الرماصي وغيره. وحينئذ يكون التوطن على حقيقته، ويكون قوله:"رفض سكناها"، شرطا معتبرا. انتهى.
وقطعه دخول وطنه؛ يعني أن دخول الوطن يقطع حكم القصر، فالمسافر إذا دخل وطنه يجب عليه أن يتم صلاته، والفرق بين هذه والتي قبلها أن الدخول في هذى دخول ناشئ عن المرور، والدخول في تلك ناشئ عن الرجوع -كما مر- أو مكان زوجة دخل بها؛ يعني أن المسافر ينقطع حكم سفره إذا دخل مكان زوجة دخل بها، ومثلها السرية، وأم الولد. فقوله: فقط، راجع لقوله:"دخل بها"، واحترز به عن غير المدخول بها فلا تقطع حكم السفر، قال الدرديري. ويحتمل أنه راجع للزوجة يحترز به عن الأقارب كأم وأب. انتهى. واعلم أن مكان الزوجة والسرية وأم الولد ملحق بالوطن، فقد ذكر ابن عبد السلام عن الفقهاء أنهم يقولون، يتنزل منزلة الوطن موضع الزوجة المدخول بها والسرية؛ يريدون إن لم يكثر سكناه عندهما. انتهى، قاله الإمام الحطاب. وعلم مما مر عن الشيخ إبراهيم أن دخول مكان الزوجة والوطن إنما كان قاطعا؛ لأنه مظنة الإقامة القاطعة.
وإن بريح غالبة؛ يعني أن دخول الوطن أو مكان زوجة دخل بها ونحوها يقطع حكم السفر، ولا فرق في ذلك بين أن يدخله طائعا وبين أن يدخله مغلوبا بريح من بحر سافر فيه. وقال الشيخ الأمير: وقطعه دخول وطنه أو مكان زوجة بنى بها أو سرية مر بهما، ولا عبرة بزوجة ناشزة وإن بغلبة ريح، ثم اعتبر ما بعده منفردا. وقال الحطاب: قول ابن غازي الراد بالدخول في الثانية: المرور غير ظاهر لاقتضائه أن مطلق الرور بالوطن يقطع حكم السفر ولو حاذاه ولم يدخله، وليس كذلك، كما اعترض ذلك في التوضيح على ابن الحاجب، وقال: إنما يقطع المرور بشرط دخوله أو
نية دخوله لا إن اجتاز. وقد تقدم ما يفيد الجواب عن ابن غازي من أن معنى ذلك الدخول الناشئ عن الرجوع، على أن الرماصي نقل عن أبي الحسن وابن يونس وابن عرفة ما يشهد لابن الحاجب في اعتبار المرور، ونص ابن عرفة: محمد: ومروره بوطنه مجتازا به لغيره كسفر منه إليه وهو مسكنه، أو ما به سرية يسكن إليها، أو زوجة بنى بها لا ماله وولده. انتهى. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وفي التوضيح بعد كلام: وحاصله إن استوطن محلا فهو وطن سواء كان عزبا أو غيره، فإن لم يستوطنه، فإن كان به زوجة مدخول بها فوطن، وإلا فلا. انتهى.
ونية دخوله وليس بينه وبينه المسافة؛ يعني أنه ينقطع حكم السفر بنية دخول ما سبق من بلد، ووطن، ومكان زوجة، وليس بينه؛ أي بين محل النية الحاصلة في ابتداء سفره، وبين المكان المنوي دخوله مسافة القصر. هذا ما قرره به الحطاب. وصواب العبارة على هذا: ومنعه لا قطعه؛ إذ لم يصح له حكم السفر حتى ينقطع، ويصح تقرير المصنف بأن المراد بالنية النية الحادثة في أثناء السفر، ومعنى ذلك أن يكون بين ابتداء السفر والوطن مثلا أقل من المسافة، ونوى في أثناء المسافة دخول وطنه؛ فإنه ينقطع حكم سفره بنية دخوله.
وحاصل المسألة أن الصور أربع: إحْدَاهَا: أن يكون بين ابتداء سفره ووطنه المسافة، ونوى في أثنائها دخوله، فهذه محل قصر باتفاق كما يدل عليه كلام الحطاب وغيره، وكلام الرماصي يدل على أن هذه هي محل الخلاف الآتي، ويرده كلام المقدمات الذي نقله هو وكلام التوضيح. الثانية: أن يكون بين ابتداء سفره والمكان القاطع أقل من المسافة ونوى في الأثناء دخوله، وهذه حكى فيها في التوضيح قولين: القصر لسحنون، والإتمام لغيره، وهي التي تقدم أنه يصح حمل كلام المصنف عليها. والثالثة، والرابعة أن ينوي دخوله في ابتداء سفره فيهما، وحكمهما واضح؛ لأن إحداهما تقدم تقرير المصنف بها، وصواب العبارة عليه: ومنعه، والأخرى واضحة. وللشيخ محمد بن الحسن: عن ابن عرفة: الصور أربع: إن استقل ما قبل وطنه وما بعده فواضح، وعكسه، والمجموع مستقل إن نوى دخوله أتم، فإن رجع لتركه اعتبر ما بقي، وإن لم ينو
دخوله قصر؛ فإن نواه بعد سيره شيئا ففي قصره قولا سحنون وغيره، ولو استقل ما قبل وطنه وقصر ما بعده، أتم فيما بعده لا فيما قبله، وعكسه عكسه.
واعلم أن حكم الفطر كحكم القصر وفاقا وخلافا، فما يقطع حكم القصر ويوجب الإتمام كنية إقامة أربعة أيام صحاح، يقطع حكم الفطر؛ أي يمنع الفطر في رمضان، وما لا، فلا. قاله الشبراخيتي. ونية إقامة أربعة أيام صحاح؛ يعني أن حكم السفر يقطعه نية إقامة أربعة أيام صحاح؛ أي تامة؛ بأن يدخل محل الإقامة قبل الفجر، ولا يرتحل إلا بعد ضروب الرابع، ومفهوم قوله:"صحاح"، أنه يلغى يوم الدخول المسبوق بالفجر: ريوم الخروج؛ أي الذي ارتحل فيه قبل غروب الشمس. قال الشبراخيتي: قوله: "صحاح"، بأن يدخل قبل الفجر. ويرتحل بعد غروب الرابع، ولا يعتبر عشرون صلاة على المذهب. وقوله:"صحاح"، رد به على ابن نافع القائل بالتلفيق، وعلى ابن الماجشون القائل باشتراط عشرين صلاة. انتهى. وللشيخ عبد الباقي: ونية إقامة أربعة أيام صحاح مع وجوب عشرين صلاة في مدة الإقامة التي نواها، فمن دخل قبل فجر السبت -مثلا - ونوى أن يقيم إلى غروب يوم الثلاثاء ويخرج قبل العشاء لم ينقطع عنه حكم السفر؛ لأنه لم يجب عليه في هذه المدة عشرون صلاة، فإن نوى الإقامة لدخول وقت العشاء، انقطع حكم السفر صلاها أم لا، فلذا عبرنا بوجوب دون فعل. انتهى. ونحوه للشيخ إبراهيم عن شرح الشيخ علي الأجهوري بعد أن نقل عنه في الحاشية ما تقدم، قال: وهذا ظاهر على ما في الواضحة من أن حكم القصر ينقطع بنية إقامة عشرين صلاة من أربعة أيام وأربع ليال، وأما على ما في المدونة والتلقين والمعونة وغيرهن من أن الذي يقطع حكم السفر نية إقامة أربعة أيام صحاح بلياليهن، فإنما يكون ذلك لمن دخل بعد غروب يوم الجمعة مثلا، وقبل عشائها على أن يخرج بعد غروب يوم الثلاثاء. انتهى ودَعَّم الشيخ الحطاب أن الذي يقطع حكم السفر نية أربعة أيام مع وجوب عشرين صلاة وما ذكره المص من أن نية إقامة أربعة أيام تقطع حكم السفر، هو الذي ذهب إليه مالك، والشافعي، وأبو ثور، وداوود، وجماعة. وقال الثوري وأبو حنيفة: إذا نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم، ودونها قصر. وروي مثله عن ابن عمر وابن عباس، قال الطحاوي: ولا مخالف لهما من الصحابة، وقيل غير ذلك. نقله سيدي محمد بن عبد الباقي.
تنبيهان: الأول: من عزم بعد نية إقامة أربعة أيام على السفر، فقال سحنون: لا يقصر حتى يظعن كالابتداء، وقال ابن حبيب: يقصر دفعا للنية بالنية. نقله في التوضيح، وابن عرفة، وصاحب الطراز، وابن ناجي في شرح المدونة، وزاد فقال والذي أقول به هو الأول الذي شاهدت شيخنا يفتي به، وابن ناجي إذا قال: شيخنا يريد به البرزلي. الثاني: قال ابن ناجي: ولو نوى المسافر أن يقيم بموضع قبل أن يصل إليه، ثم رجعت نيته قبل أن يصل إليه، فإنه يقصر. قاله في المقدمات. انتهى. قاله الإمام الحطاب. وبالغ على قطع حكم السفر إن نوى إقامة أربعة أيام بقوله: ولو بخلاله؛ يعني أن نية إقامة الأربعة المذكورة تقطع حكم السفر سواء حدثت في خلال السفر أي أثنائه، أو في آخره. ودفع بهذا ما يتوهم من أن نية الإقامة إنما تؤثر إذا كانت في آخر السفر، وأما إن كانت في أثنائه فلا أثر لها؛ لأنها حينئذ كأنها لا أثر لها. ويحتمل أن يكون المصنف نبه بهذا على أن من خرج لسفر طويل ناويا لسير ما لا تقصر فيه الصلاة، ويقيم أربعة أيام، ثم يسير ما بقي من المسافة، فلا شك أنه يتم في مقامه. واختلف هل يتم في مسيره؟ قاله ابن عبد السلام. نقله الشيخ بناني. قال: وعلى هذا يكون الخلاف المشار إليه "بلو" في كلام المصنف محله في المسافة القصيرة المتوسطة بين مبدإ السفر ومحل الإقامة، وبينه وبين منتهاه لا نفس محل الإقامة كما يتبادر من عبارته، وما اقتصر عليه المصنف هو قول ابن المواز وابن القاسم في العتبية، وصدر به ابن شأس، وصححه ابن الحاجب، ومقابله لسحنون وابن الماجشون، ورجحه ابن يونس كما في المواق. والظاهر الاحتمال الأول؛ لأن هذا هو مفهوم قوله: قصدت دفعة. والله سبحانه أعلم.
وقال الشيخ الأمير عن شرح المنهج في خبر: (يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا
(1)
) وكان يحرم على المهاجرين الإقامة بمكة ومساكنة الكفار رواهما الشيخان: فالترخيص بثلاثة يدل على بقاء حكم السفر فيها، وفي معنى الثلاثة ما دون الأربعة. انتهى.
(1)
البخاري، الحديث:3933. ومسلم، كتاب الحج، رقم الحديث: 1352.
إلا العسكر؛ يعني أن العسكر أي الجيش ينوي إقامة أربعة أيام صحاح فأكثر؛ وهو بدار الحرب؛ أي دار الكفار الحربيين لا يزالون يقصرون، ومثل دار الحرب دار الإسلام حيث لا أمن. وقوله:"إلا العسكر"، قال اللخمي: إلا أن يكون العسكر العظيم. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ عبد الباقي: (وقد أقام صلى الله عليه وسلم في حصار الطائف سبع عشرة ليلة، وبتبوك عشرين يقصر
(1)
). وبما قررت علم أن الاستثناء من قوله: "ونية إقامة أربعة أيام صحاح" أو العلم بها عادة؛ يعني أن حكم السفر يقطعه العلم بإقامة أربعة أيام بحسب العادة، ولو لم ينوها، كما علم من عادة الحاج إذا دخل مكة أن يقيم أربعة أيام. وقوله:"أو العلم"، احترز به عن الشك فيها، فيستمر على قصره؛ لأن من خوطب بالقصر لا ينتقل للإتمام بأمر مشكوك فيه، كما أن من خوطب بالإتمام لا ينتقل للقصر بمشكوك فيه، وسيأتي مزيد كلام على هذا عند قوله:"وإن بآخر سفره".
لا الإقامة؛ يعني أن الإقامة المتجردة عن نية إقامة أربعة أيام فأكثر لا تقطع حكم السفر، وإن تأخَّرَت؛ يعني أن الإقامة العارية عن النية المذكورة لا تقطع حكم السفر وإن كثرت، وهذا نحو قول الباجي: وإن كثرت الإقامة. وفي بعض النسخ: وإن بآخر سفره بالباء الوحدة، وهو نحو قول ابن الحاجب: ولو في منتهى سفره؛ واعترضه ابن عرفة برواية اللخمي عن مالك: من قدم بلد البيع لتجر شاكا في قدر مقامه أتم؛ لأن رجوعه ابتداء سفر، إلا أن يعلم رجوعه قبل الأربعة، خلاف قول ابن الحاجب: إن لم ينو أربعة قصر في غير وطنه. نقله الحطاب. ومثله في المعيار، قال: وقد وقع الغلط في هذه المسألة لكثير فنقلوها على غير وجهها، ومن نوازل ابن طركاك
(2)
: سئل الأستاذ أبو القاسم ابن سراج عن المسافر في البلد الذي لا يدري كم يجلس، هل يبقى على قصره أم لا؟ فأجاب: إن كان في أثناء سفره قصر مدة بقائه فيه، وإن كان في منتهاه أتم. اهـ. وذكر نحوه أيضا في أجوبة ابن لب. والله أعلم. قال الحطاب: ويمكن أن يقال إن كلام ابن
(1)
السنن الكبرى للبيهقي، ج 3 ص 151/ 152.
(2)
في البناني طركاط.
الحاجب، والمصنف، وصاحب الطراز فيمن كان الغالب على ظنه نجاز حاجته قبل الأربعة، وكلام اللخمي في الشاك، أو المتوهم. انتهى.
وإن نواها بصلاة شفع؛ يعني أن المسافر إذا أحرم بالصلاة بنية القصر، ثم إنه نوى الإقامة القاطعة للسفر في أثناء صلاته هذه بعد ما عقد ركعة، فإنه يشفعها أي يندب له أن يضيف لها أخرى. وتكون نافلة. وبطلت المكتوبة لاختلاف النية، وأما لو نوى الإقامة قبل عقد ركعة لقطع على المعتمد، ومثل نية الإقامة المذكورة ما إذا أدخلته الريح وهو بالصلاة مكانا يقطع دخوله حكم السفر. كما قاله غير واحد.
ولم تجز؛ يعني أن هذه الصلاة التي نوى فيها المسافر الإقامة القاطعة لا تجزئه عن الصلاة المكتوبة على كل حال، فلا تجزئه إن صلاها حضرية؛ لعدم دخوله عليها. وكذا، لا تجزئه إن صلاها سفرية، لتغير النية أثناءها، ويبتدئها حضرية وجوبا. وأما لو خالف السنة ابتداء عند الإحرام، ونواها حضرية، ثم نوى الإقامة أثناءها، فإنها تجزئ حضرية، وهذه أولى من ابتدائها حضرية مخالفا لسنته، ولم ينو الإقامة في أثنائها. قاله الشيخ عبد الباقي.
وبعدها أعاد في الوقت؛ يعني أن المسافر إذا نوى الإقامة القاطعة للسفر بعد أن صلى صلاته السفرية؛ أي عقب فرإغه منها، فإنه يعيدها في الوقت المختار ندبا حضرية، واستشكلت الإعادة بأن نية الإقامة طارئة بعد كمال الصلاة بشرائطها، فالجاري على أصل الذهب عدم الإعادة. وأجاب المصنف كابن عبد السلام بأن نية الإقامة عادة لابد لها من تَرَوِّ، فإذا جزم بها بعد الصلاة فلعل مبدأ نيته كان فيها، فاحتيط لذلك بالإعادة في الوقت، وأجاب بعض شيوخ المازري أيضا بأنه أعاد لرعْي تعلق الوجوب بآخر وقتها.
وإن اقتدى مقيم به فكل على سنته؛ يعني أن المقيم إذا إِقتدى بالمسافر، فإن كلا منهما يكون على سنته أي شرعه في ذلك وطريقته، فيسلم الإمام المسافر من ركعتين، ويأتي المأموم المقيم بعده بما بقي عليه. وكره؛ يعني أن اقتداء المقيم بالمسافر مكروه. قال الشيخ عبد الباقي: إلا أن يكون ذا سن أو فضل، فلا كراهه. انتهى.
كعكسه؛ يعني أن اقتداء المسافر بالمقيم مكروه، قال الشيخ عبد الباقي: إلا أن يكون ذا سن، أو فضل: أو رب منزل. انتنهى. وقوله: إلا أن يكون ذا فضل أو سن الخ، قال الشيخ محمد بن الحسن: هكذا في سماع ابن القاسم وأشهب، وذكره ابن رشد كأنه المذهب، ونقله المواق والحطاب على وجه يقتضي اعتماده، وذكر الرماصي أن المعتمد الكراهة على الإطلاق، واستدل بكلام ابن عرفة، دليل له فيه. انتهى.
ونص السماع الذي أشار إليه على ما نقله الحطاب: سمعت مالكا قال: لا
(1)
ينبغي لقوم سفر أن يقدموا مقيما يتم بهم الصلاة، لكن يتمون الصلاة، فإن صلى بهم فصلاتهم جائزة، لكن إن قدموه لسنه، أو لفضيلة أو لأنه صاحب المنزل فيأتموا به صلاة المقيم. انتهى. وفي الشبراخيتي وغيره عند قوله:"كعكسه": وهو اقتداء المسافر بالمقيم، فيكرد ولو بأحد المساجد الثلاثة، أو مع الإمام الأكبر إلا أن يكون المقيم ذا سن أو فضل أو رب منزل، فالأفضل للمسافر أن يقدم من ذكر. انتهى. قال الشبراخيتي: ويجري مثله في اقتداء المقيم بالمسافر إلا أنه لا يتأتى فيها أن يكون المسافر رب منزل. انتهى. وقال الشيخ ميارة: حكى بعضهم في اقتداء المقيم بالمسافر وعكسه ثلاثة أقوال: الكراهة فيهما، والجواز فيهما: وجواز اقتداء المقيم بالمسافر وكراهة العكس والمعروف الأول. ابن حبيب: اجتمعت رواة مالك على أنه إذا اجتمع مسافرون ومقيمون: أنه يصلي بالقيمين مقيم، وبالمسافرين مسافر، إلا في المساجد الكبار التي يصلي فيها الأئمة، قال الإمام المازري: يعني الأمراء، فإن الإمام يُصلى بصلاته، فإن كان مقيما أتم معه المسافرون، وإن كان مسافرا أتم من خلفه من المقيمين.
وتأكد يعني أنه يتأكد الكره في مسألة العكس؛ وهي اقتداء المسافر بالمقيم عن التي قبلها؛ وهي اقتداء المقيم بالمسافر، وإنما تأكد الكره في الأخيرة عن الأولى لمخالفة المأموم لسنة القصر؛ إذ يلزمه الإتمام تبعا لإمامه: كما أشار إلى ذلك بقوله: وتبعه يعني أن المسافر إذا اقتدى بالمقيم فإنه
(1)
نصر البيان ج 1 ص 226: لا ينبغي لقوم سفر أن يقدموا مقيما يتم بهم الصلاة لكي يتموا الصلاة فإن صلى بهم فصلاتهم تامة ولكن إن قدموه لسنه أو لفضله أو لأنه صاحب المنزل فليصلوا بصلاته صلاة المقيم.
يلزمه الانتقال إلى الإتمام، فيتم صلاته وجوبا، فإن لم يتمها بطلت لعدم اتباعه لإمامه، وهذا الذي ذكره المصنف من لزوم اتباع المسافر لإمامه المقيم هو قول ابن القاسم، وروايته في المدونة. سند: وقال أشهب: ينتظره حتى يسلم. وقد حكى ابن الحاجب في اقتداء المسافر بالمقيم على القول بفرضية القصر ثلاثة أقوال: الأول البطلان، والثاني الصحة وإن كان فرضه القصر كالمرأة في الجمعة، والثالث أنه يقتدي به في ركعتين، وعليه فهل يسلم ويتركه، أو ينتظره فيسلم معه؟ قولان، وبحث في التوضيح في بنائه القول الثالث على الفرضية تبعا لابن شأس، فإن ابن رشد وغيره حكوه مطلقا، ولم يقيدوه بالفرض ولا بالسنة وقوله:"وتبعه"، قال الشيخ عبد الباقي: فيتم معه إن نوى الإتمام ولو حكما كإحرامه بما أحرم به الإمام، أدرك معه ركعة أم لا فيهما. وفي المنتقى: وإنما يتم المسافر بإتمام إمامه إذا أدرك من صلاته ركعة فأكثر، وإن لم يدرك معه ركعة، ودخل معه في جلوس أو سجود من "آخر ركعة لم يتم صلاته، وكان عليه قصرها. انتهى. وقاله في المدونة.
ولم يعد؛ يعني أن المسافر إذا اقتدى بالمقيم، فإنه يتم كما علمت حيث أدرك معه ركعة فأكثر، ولا يعيد في وقت ولا في غيره، هذا هو قول ابن القاسم. وعن عبد الملك أنه: يعيد في الوقت، وقيل لا يعيد إلا أن يكون في أحد مسجدي الحرمين، أو مساجد الأمصار الكبار. قاله الشارح. فإن نوى المسافر المقتدي بالمقيم القصر لم يتبعه، وأتى بصلاة سفر إن لم يدرك معه ركعة، فإن أدركها معه بطلت صلاته. قاله الشيخ عبد الباقي تبعا للأجهوري. وقد صحح الرهوني والتاودي ما قاله عبد الباقي تبعا للأجهوري. ونص المدونة: وإذا أدرك المسافر خلف مقيم ركعة أتم، وإن لم يدركها قصر. انتهى. أي لأنه إذا أدرك دون ركعة ينوي القصر، فإن فرض أنه نوى الإتمام أتم بلا إشكال، وقول عبد الباقي: إن أدرك معه ركعة بطلت صلاته؛ أي لأنه نوى القصر، صرح به، وكلام الرهوني هنا صحيح ظاهر، وكذا كلام التاودي. وأما كلام محمد بن الحسن بناني هنا والشيخ مصطفى، فإنه غير صحيح بل هو في غاية التخليط. والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله:"ولم يعد"، متعلق بالفرع الثاني؛ لأنه محل توهم أن يقال إنه مسافر أتم، ويأتي في المسافر ينوي
الإتمام أنه يعيد في الوقت، وأما الفرع الأول فلا تتوهم فيه الإعادة؛ لأنه مقيم صلى أربعا. وإنما لم يُعِدْ هنا وأعاد في الفرع الآتي مع اشتراكهما في إتمام المسافر؛ لأن الصلاة هنا قد أوقعها في صلاد
(1)
الجماعة. وقد قيل إن فضيلة الجماعة أفضل من فضيلة القصر أو مساوية لها، وفيما يأتي قد أوقعها منفردا: فلذا لم يطلب بالإعادة، وطلب بالإعادة هناك وَيَرِدُ عليه أنه يقتضي أن الآتية لو كانت بجماعة لم تطلب الإعادة؛ وهو مناف لقوله:"والأصح إعادته كمأمومه بوقت". انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي. ويجاب عن الإيراد المذكور بأن الإمام في هذه لا خلل في صلاته، وفي الآتية وقع في صلاته الخلل من أجل أنه خرج عن سنته. والله سبحانه أعلم. انظر حاشية الشيخ بنَّاني. واعلم أن المسافر له ثلاث حالات: تارة ينوي الإتمام عامدا أو غير عامد، وتارة ينوي القصر كذلك، وتارة لا ينوي واحدا منهما كذلك. وذكرها مرتبة هكذا، فقال: وإن أتم مسافر نوى إتماما أعاد بوقت؛ يعني أن المسافر إذا نوى الإتمام عمدا أو جهلا أو تاويلا، فإنه يعيد في الوقت أربعا إن دخل في الحضر، ومقصورة إن لم يدخل في الحضر، كمن صلى في السفر بثوب نجس، ثم حضر في الوقت. قاله في المدونة. قاله الحطاب. وقوله:"أعاد بوقت" كذا هو في بعض النسخ، وبه يصح الكلام قاله الحطاب. وقوله: أعاد بوقت أي ولا سجود عليه، سواء أتم عمدا؛ وهو ظاهر، أو أتم سهوا لأنه فعل ما يلزمه. قاله الشيخ عبد الباقي.
وإن سهوا سجد؛ يعني أن المسافر إذا نوى الإتمام سهوا عن كونه مسافرا، أو سهوا عن كون المسافر يقصر كما في الحطاب عن التوضيح، وأتم سهوا أو عمدا، فإنه يسجد بعد السلام، فقول ابن عاشر. الصواب أن السهو هنا إنما هو عن السفر غير ظاهر، قاله الشيخ محمد بن الحسن. ووجه سجوده في إتمامه عمدا مراعاة حصول السهو في نيته، وعلى هذا القول من أنه يسجد فلا إعادة عليه، كما يفيده الشيخ عبد الباقي وغيره؛ وهو مذهب مالك وابن القاسم، وإنما سجد لأن إتمامه من معنى الزيادة.
(1)
في عبد الباقي ج 2 ص 44: في الجماعة.
والأصح إعادته، هذا مقابل قوله:"وإن سهوا سجد؛ " يعني أن القول الأصح الذي رجع إليه ابن القاسم، هو أنه؛ أي المسافر الذي نوى الإتمام سهوا، وأتم ولو سهوا يعيد في الوقت ولا سجود عليه على هذا القول، كما لا إعادة عليه على القول الأول. وقوله:"والأصح إعادته"، هو إحدى الروايتين عن مالك، واختاره سحنون بقوله: لو كان عليه سجود سهو لكان عليه أن يعيد في عمده أبدا. كمأمومه؛ يعني أن من ائتم بالمسافر الذي نوى الإتمام سهوا يعيد في الوقت كإمامه، فقوله: بوقت، متعلق بقوله:"إعادته"، وقوله: كمأمومه، سواء كان مسافرا أو مقيما، لكن المقيم يعيد أربعا، وغيره ركعتين إلا أن يدخل الحضر في وقتها فيعيد أربعا، وكذا الإمام يعيدها ركعتين، إلا أن يدخل في الحضر في وقتها فيعيد أربعا. وقد علمت أنه لا سجود عليه ولا على مأموميه على هذا القول، وهل المراد بالوقت في هذا الباب؛ أي باب السفر الاختياري؟ وهو قول الأبياني؛ أو الضروري؟ وهو قول أبي محمد، وصوبه ابن يونس. وإلى تصويب ابن يونس أشار بقوله: والأرجح الضروري، قال المواق: ذكر ابن يونس الخلاف المذكور بين أبي محمد والأبياني، وما رأيت له ترجيحا. انتهى. قال الشيخ بناني: نقله في التوضيح كما له هنا، وروايته في أصل جامع ابن يونس كذلك، ونصه: قال أبو محمد: والوقت في ذلك النهار كله. وقال الأبياني: الوقت في ذلك وقت الصلاة المفروضة. ابن يونس: والأول أصوب. انتهى منه بلفظه. وهكذا نقله عنه أبو الحسن في شرح المدونة، ولعل نسخة المواق سقط منها الترجيح. والله أعلم. انتهى. وقوله: إن اتبعه، شرط في إعادة المأموم بوقت في عمده وسهوه على القول بها، وفي سجود السهو على الأول، وفي الحقيقة شرط في صحة صلاة مأمومه في هذه المسائل. ومعنى كلام المصنف أن المؤتمين بالمسافر الذي نوى الإتمام إنما تصح صلاتهم إن اتبعوا الإمام فعلا ونية؛ بأن نووا الإتمام وأتموا.
وإلا؛ بأن خالفوا إمامهم في الفعل والنية أو في أحدهما بطلت صلاتهم لمخالفة الإمام، ويعيدون. وما شرحت به قوله:"وإلا"، من أنهم خالفوا إمامهم في النية هو للشيخ عبد الباقي وغيره، ومثله في الحطاب ونصه: وهذا إذا نوى المسافر الإتمام كما نوى الإمام ظاهر، وأما إذا أحرم على
ركعتين ظانا أن إمامه أحرم كذلك فتبين أن الإمام نوى الإتمام، فالظاهر أن صلاته باطلة ويعيد أبدا لقول المص: وإن ظنهم سفرا فظهر خلافه أعاد أبدا إن كان مسافرا؛ لأن الظاهر أن المراد أنه ظن أن الإمام نوف القصر، فتبين أنه نوى الإتمام، وعللوا ذلك بمخالفة نيته نية الإمام، ولا التفاتَ إلى كون الإمام في ذاته حضريا أو سفريا. وفي المقدمات ما يقتضي ذلك. والله سبحانه أعلم. واعترضه الرماصي قائلا: إنه خلاف إطلاقاتهم إذ لم يقيدوا
(1)
بذلك ابنُ الحاجب ولا ابن عرفة، والا أبا
(2)
الحسن، ولا ابنُ رشد، ولا غيرهم ممن وقفت عليه. اهـ. قاله الشيخ محمد بن الحسن. ولما كان في المسافر إذا نوى الإتمام قسمان، إما أن يتم بعد نية إتمامه أو يقصر، ولما
(3)
فرغ من الكلام على الأول أتبعه بالكلام على الثاني. فقال: كإن قصر عمدا؛ يعني أن المسافر إذا نوى الإتمام عمدا أو سهوا، ثم قصر الصلاة عمدا، فإنه تبطل صلاته ويؤديها سفرية لا حضرية، قياسا على مسألة المسافر إذا صلى خلف مقيم ثم ضحك في صلاته فإنه يقضيها سفرية عند سحنون. قاله الشيخ عبد الباقي. وما ذكره المصنف هو قول مالك، وإليه رجع ابن القاسم، وكان أولا يقول بالإعادة في الوقت. وقوله:"قصر"، يقال: قصر بالتخفيف والتشديد. قاله ابن فرحون. قاله الإمام الحطاب.
والساهي كأحكام السهو؛ يعني أن المسافر الذي نوى الإتمام عمدا أو سهوا، وقصر ساهيا عما دخل عليه من الإتمام، حكمه حكم المقيم يسلم من ركعتين ساهيا، فإن طال الأمر أو خرج من المسجد بطلت، وإن قرب جبرها، وسجد بعد السلام، وأعاد بالوقت كمسافر أتم. والظاهر أن الجاهل والمتأول كالعامد، كما قاله غير واحد؛ لأن الأصل في العبادات إلحاقهما بالعامد إلا في مسائل، وليست هذه منها، والفرق بين ما هنا وبين ما يأتي قريبا من إلحاقهما بالساهي، أن ما يأتي فعلهما رجوع للأصل الذي هو الإتمام بخلاف ما هنا، والمتأول هنا من تأول وجوب القصر في السفر؛ لأنه قال به جمع من أئمتنا، كما ذكره الشارح، قاله الشيخ عبد الباقي. وأشار إلى
(1)
في الرماصي والبناني 45 ط دار الفكر: إذ لم يقيد.
(2)
في الرماصي والبناني ج 2 ص 45: أبو الحسن.
(3)
كذا بهامش نسخة المؤلف.
الحالة الثانية من الأحوال الثلاثة، وهي ما إذا نوى القصر عمدا أو غيره عاطفا على "كإن قصر"، فقال: وكإن أتم ومأمومه بعد نية قصر؛ يعني أن المسافر إذا نوى القصر عمدا أو غيره فأتم الصلاة هو ومأمومه، فإن صلاته تبطل كصلاة مأموميه، وهذا حيث أتم عمدا، وما مشى عليه المصنف هو الأصح، وقيل: تصح صلاة الجميع ويعيدون في الوقت. وقوله: "ومأمومه"، وتبطل صلاة المأموم سواء نوى القصر عمدا وغير عمد اتبعوه في الفعل والنية أم لا مقيمين أو مسافرين، وعبارة المصنف تقتضي أن المأموم لا تبطل صلاته إلا إذا أتم كالإمام، وليس كذلك كما عرفت، وقوله:"عمدا"، معمول "أتم" نائب عن المصدر، أو حال. وإنما بطلت صلاة المسافر الذي أتم عمدا بعد نية قصر؛ لأنه خالف ما أمر به من القصر صار من تعمد كَسجدة والله سبحانه أعلم. ولو شك المسافر فيما نوى من قصر أو إتمام، فقال سند يتمها أربعا ثم يعيد في الوقت. واعلم أن الأصل في مخالفة الإمام البطلان على المأمومين، وخرج عن ذلك اقتداء المقيم بالمسافر بدليل خاص قاله الشيخ عبد الباقي.
وسهوا أو جهلا ففي الوقت؛ يعني أن المسافر إذا أحرم بنية القصر وأتم سهوا أو جهلا، وأولى تأويلا، فإن صلاته تصح ويعيد في الوقت الضروري، "فأل" للعهد. وعلم مما قررت أن هذه أتم فيها سهوا بعد نية قصر، وأن قوله:"وإن سهوا سجد نوى الإتمام فيها سهوا فافترقا في الموضوع، لكن لم يظهر فرق في المعنى. كما قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ عبد الباقي: فإن قلت التأويل الاستناد لشبهة وهذا أتم بعد نية القصر، قلت الشبهة هنا هي مراعاة القول؛ بأن القصر لا يجوز، أو لمن يقول إن الإتمام أفضل. انتهى. وقوله: مراعاة للقول بأن القصر الخ، انظر من ذكر هذين القولين. ولم أقف في القصر إلا على أربعة أقوال: الفرضية، والسنية، والاستحباب، والإباحة. ذكرها ابن الحاجب وغيره. وقوله: "وسهوا"، معمول لشرط مقدر؛ أي وإن أتم سهوا. وقوله: "ففي الوقت"، الفاء داخلة على جزء جواب الشرط المقدر؛ أي فهو يعيد في الوقت.
وسبح مأمومه؛ يعني أن المسافر إذا نوى القصر، وأتم سهوا أو جهلا؛ فإن المقتدين به يسبحون له إذا علموا بسهوه أو جهلوه، والمعتبر التسبيح الذي يحصل به التنبيه؛ فإن ترك المأموم التسبيح له فالظاهر أن صلاته تبطل حملا على ما تقدم في الخامسة. كما قاله ابن عاشر. نقله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ عبد الباقي: فإن لم يفهم بالتسبيح لم يكلموه كما هو ظاهرد، وكما تقدم في الخامسة. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر، بل الذي تقدم في الخامسة أنه إذا لم يفهم كلموه، وتقدم أنه المشهور خلافا لسحنون، وقوله:"وسبح مأمومه"؛ فإن كان أصم تقدم له ليفهمه بتسبيح، فإن لم يفهم بالتسبيح في حالتي كونه أصم وسميعا أفهعه بإشارة إن أمكن، فإن لم يمكنا كأن يكون مع ذلك أعمى فيجس بعض جسده، فإن لم يفهم لم يتبعوه بدليل قوله: ولا يتبعه؛ يعني أن الإمام إذا نوى القصر وهو مسافر، وقام بعد ركعتين سهوا أو جهلا فإنهم يسبحون له ويرجع لهم، فإذا لم يرجع سهوا أو جهلا، فإن المأموم لا يتبعه بل يجلس لفراضه ساكتا أو داعيات كان المأموم مقيما أو مسافرا.
وإذا سلم الإمام سلم المأموم المسافر بسلامه؛ أي الإمام لدخوله على متابعته. وأتم غيره بعده؛ يعني أن المأموم المقيم يجلس لفراغ إمامه المسافر الذي نوى القصر وأتم سهوا أو جهلا، فإذا سلم قام فيأتي بما بقي من صلاته، ولا يأتم بعضهم ببعض في حال تعددهم، بك يأتون بما بقي عليهم أفذاذا لامتناع الاقتداء بإمامين في صلاة واحدة في غير الاستخلاف، وجمع المصنف أفذاذا لأنه حال من غير وهو يصدق بالواحد وبالمتعدد، فقوله:"غيره"؛ أي غير المسافر، وهو المقيم. وأعاد فقد في الوقت؛ يعني أن هذا الإمام هو الذي يعيد في الوقت دون المأمومين، وإنما كرر هذا ليرتب عليه قوله:"فقط"، وإنما أعاد الإمام دونهم لأنهم لا خلل في صلاتهم لعدم اتباعهم له، فإن اتبعوه جرى ذلك على حكم قيام إمام لخامسة، وتنظير الشيخ أحمد في بطلان صلاة من تبعه عمدا قصور، فإن قيل بم يعلمون أنه قام عمدا أو سهوا؟ فالجواب أنهم يسبحون له: فإن رجع علم أنه قام سهوا، وإن لم يرجع فإن المأموم يجلس ولا يتبعه، فإذا سلم تبينت له الحالة من بطلان وصحة. والله سبحانه أعلم. أشار له غير واحد.
وإن ظنهم سفرا فظهر خلافه أعاد أبدا؛ يعني أن من وجد قوما يصلون بإمام، فظن أنهم سفر، وأن الإمام أحرم بنية القصر فأحرم هو، فتبين له أن الأمر على خلاف ما ظن؛ بأن تبين أنهم مقيمون، فإن صلاته تبطل ويعيدها أبدا، وهذا إن كان هذا الذي دخل معهم مسافرا؛ لأنه حين ظنهم سفرا نوى القصر، فإن انتظر الإمام إلى سلامه ليسلم بعده خالفه نية وفعلا، وإن أتم معه خالف فعله نيته، فهو كمن نوى القصر فأتم عمدا، وإن لم ينتظر تسليمه لزم أن يسلم قبله؛ وهو يوجب البطلان. وأما إذا لم يتبين له شيء كذهابهم حين سلموا من ركعتين، ولم يدر أهي صلاتهم أم الأخيرتان؟ فتبطل الصلاة أيضا. ووجه البطلان احتمال حصول المخالفة المذكورة، فقد حصل الشك في الصحة وهو يوجب البطلان، ومفهوم قوله:"إن كان مسافرا"، أنه لو كان مقيما لأتم صلاته ولا تضره المخالفة في الظن؛ أي تبين خلاف ظنه لأنه موافق لإمامه فعلا ونية؛ لأن الإتمام واجب عليه. قاله الحطاب عن ابن رشد. وقوله: كعكسه تشبيه في البطلان وفي الصحة، باعتبار المنطوق وباعتبار المفهوم؛ يعني أن من وجد قوما يصلون بإمام فظن أنهم مقيمون، فنوى الإتمام فتبين أنهم مسافرون، أو لم يتبين له شيء فإنه يعيد أبدا إن كان مسافرا، فإن كان مقيما صحت صلاته ولا إعادة عليه في هذه والتي قبلها -كما تقدم - أعني مسألة المقيم في قوله:"وإن ظنهم سفرا" الخ. وإنما صحت فيهما لكشف الغيب أنه موافق له فعلا ونية في الأولى، ولأن غاية ما في الثانية أنه كمقيم اقتدى بمسافر، وإنما بطلت صلاته حيث كان مسافرا؛ أعني في قوله:"كعكسه"، لمخالفة نيته لنية إمامه، ومخالفة فعله لنيته إن صلى صلاة الإمام، فإن صلى صلاة مقيم لم يخالف نيته فعله، فكان القياس الصحة كما في الناصر اللقاني قياسا على قوله: وإن اقتدى مقيم به فكل على سنته، مع أن ظاهر المصنف كظاهر كلامهم بطلان صلاته إن كان مسافرا في هذه، ولو صلى صلاة مقيم، والجواب عن هذا الإيراد أنه يفرق بينهما بأن هذا لما انضم فيه إلى مخالفة الإمام نية وفعلا مخالفة سنة القصر، بطلت صلاته لكثرة المخالفة في جانبه، بخلاف المقيم. ومفهوم قوله:"فظهر خلافه"، أنه لو ظهر ما ظنه من سفر أو إقامة فواضح؛ أي تصح، سواء كان الظان مقيما أو مسافرا، ومفهوم قوله:"ظنهم"، أنه لو شك فإن أحرم بما أحرم
به إمامه صحت إن ظهر أنه مسافر، وكذا مقيم إن أتم معه، وإلا بطلت كإن لم يتبين له شيء، ولو شكهم مقيم صحت في الأقسام الثلاثة إن نوى حضرية كما هو فرضه، فإن أحرم بما أحرم به إمامه صحت أيضا إن تبين أنه مقيم، لما إن تبين أنه مسافر، أو لم يتبين له شيء فتبطل، وقد مر شيء من الكلام على هذا عند قوله:"وجاز له دخول على ما أحرم به الإمام"، وقوله:"كعكسه"، هو الذي رواه ابن المواز عن ابن القاسم واختاره، وهو الجاري على أصل مالك في المسألة الأولى لمخالفة نية المأموم للإمام. وقال مالك: صلاته مجزئة، حكى ذلك وأوائل سماع ابن القاسم، ونقله في التوضيح. وقوله:"وإن ظنهم سفرا": وقوله: "كعكسه": المسألتان فيهما أربعة أقوال: الصحة فيهما، والإعادة في الأولى دون الثانية، وعكسه، وعلى الإعادة فهل في الوقت أو أبدا؟ قولان.
ولو دخل المسافر خلف القوم يظنهم مقيمين، فلما صلوا ركعتين سلم إمامهم فلم يدر كانوا
(1)
مقيمين أو مسافرين؟ لأتم صلاة مقيم أربعا: ثم أعاد صلاة مسافر لاحتمال أن يكون الإمام مسافرا. قاله الحطاب.
وعلم مما مر أن صور المسألة ثمان عشرة؛ لأن الشاك إما مسافر أو مقيم، وفي كل إما أن يحرم بما أحرم به الإمام أو ينوي القصر أو الإتمام؛ فهذى ست صور، وفي كل منها إما أن يتبين أن الإمام مقيم أو مسافر، أو لما يتبين شيء؛ فهذه ثمان عشرة صورة.
وأشار إلى الحالة الثالثة بقوله: وفى ترك نية القصر والإتمام تردد؛ يعني أن المسافر له ثلاث حالات: إما أن ينوي القصر، أو الإتمام -وقد تقدم الكلام عليهما- أو لما ينوي شيئا؛ والكلام الآن فيه، فإذا ترك نية القصر والإتمام سواء كان إماما أو مأموما أو فذا، ونوى الظهر -مثلا- فإنه اختلف فيما يفعل، فقال سند: يلزمه أن يتمها أربعا، وقال اللخمي: يخير بين الإتمام والقصر، وظاهره كغيره أنه لا تطلب منه الإعادة، كذا للشيخ علي الأجهوري. والمتبادر من المصنف ما قرره به التتائي من قوله: وفي صحة صلاة من دخل على صلاة ظهر مثلا على ترك
(1)
في الحطاب ج 731 ط دار الرضوان: أكانوا.
نية القصر والإتمام معا سهوا أو عمدا وعدم صحتها تردد. انتهى. وعلى التقرير الثاني فمحل التردد إن صلاها سفرية وإلا صحت اتفاقا، وقال الشارح: وحكى ابن الحاجب في صحة صلاة من ترك نية القصر والإتمام قولين. الشيخ: ولم أقف عليه انتهى. وقال الشيخ الأمير: وفي صحة صلاة من لم يتعرض لقصر ولا إتمام في نيته تردد، سواء قصر أو أتم، كما حققه الرماصي ردا على الأجهوري، فانظره.
وقد علمت أن هذا الذي ترك نية القصر والإتمام في صحة صلاته وبطلانها قولان، وتصح صلاة مأمومه على القول بالصحة، وتبطل على الآخر، وعلى الصحة فإن قصر أتم المقيمون أفذاذا بعد سلامه، وإن أتم أعاد هو ومن تبعه من مسافر ومقيم في الوقت، وأعاد من لم يتبعه أبدا.
وقد علمت أن القصر فيه أربعة أقوال، فقيل: فرض، وقيل: سنة، وقيل: مندوب، وقيل: مباح. وإذا قلنا إنه ليس بفرض، فهل من شرطه أن ينويه عند عقد الإحرام؟ حكى المازري عن بعض شيوخه أنه قال: يصح أن يلتزم القصر أو الإتمام قبل الشروع في الصلاة، ويصح أن يدخل في الصلاة على أنه بالخيار بين القصر والإتمام، قال: وكأنه رأى أن نية عدد الركعات لا يلزم، وعلى الفرض فهو كالحاضر في منويه. نقله الرماصي.
وندب تعجيل الأوبة؛ يعني أنه يندب للمسافر أن يعجل الأوبة أي الرجوع إلى وطنه بعد قضاء نهمته؛ أي وطره. والأصل في طلب التعجيل خبر: (السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نَهْمَتَهُ فليعجل إلى أهله، ولا يطرقهم ليلا كي تستحد المغيبة وتمتشط الشعثاء
(1)
) وليلا يجد في بيته ما يكره. واقتحم النهي رجلان، فوجد كل في بيته رجلا. قاله الشيخ إبراهيم. وفي حديث ابن عمر:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق النساء ليلا)
(2)
فطرق رجلان كلاهما وجد مع امرأته ما يكره، قاله الشيخ محمد بن الحسن. والنهي للكراهة، والنهمة بفتح النون وسكون الهاء: نيل المراد، قاله النووي في شرح مسلم. وقوله: ولا
(1)
البخاري، كتاب الجهاد، رقم الحديث:3001. مسلم، كتاب الإمارة، رقم الحديث: 1927. وفيه: نهمته من وجهه ..
(2)
البخاري، كتاب النكاح، رقم الحديث:5244.
يطرقهم؛ أي لا يدخل عليهم ليلا إذا قدم من سفر، يقال: طرق يطرق بضم الراء، والعلة في ذلك أنه ربما يجد أهله على غير أهبة من التنظف والتزين المطلوبين من المرأة، فيكون سببا للنفرة بينهما، أو يجدها على غير حالة مرضية، واقتحم النهي رجلان فوجد كل مع زوجته رجلا.
وعن جابر أن عبد الله بن رواحة أتى امرأته ليلا وعندها امرأة تمشطها، فظنها رجلا فأشار إليها بالسيف، فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى أن يطرق الرجل أهله ليلا
(1)
). وقوله: تستحد؛ أي تستعمل الحديدة وهي الموسى في إزالة الشعر المشروع إزالته، والمغيبة بضم الميم وكسر الغين: التي غاب زوجها. وقوله وتمتشط؛ أي تسرح شعر رأسها تغير وتفرق وتتزين، والشعثاء بالمثلثة والألف الممدودة خلافا لما في التتائي من أنه بالتاء وهي: المتغيرة الشعر المغبرة الرأس.
وأما حديث البخاري الذي رواه عن جابر بن عبد الله، قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة؛ أي غزوة تبوك فلما قفلنا وكنا قريبا من المدينة تعجلت على بعير لي قطوف بفتح القاف وضم الطاء المهملة؛ أي بطيء، فلحقني فنخس بعيري بعنَزة بفتح النون؛ أي عصى طويلة أقصر من الرمح كانت معه، فسار بعيري كأحسن ما أنت راء من الإبل، فالْتَفَتُّ فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما يعجلك؟ فقلت: يا رسول الله إني حديث عهد بعرس، قال؟ أتزوجت، قلت. نعم قال: أبكرا أم ثيبا؟ قال قلت: بل ثيبا، قال: فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك؟، قال: فلما قدمنا المدينة ذهبنا ندخل، فقال: أمهلوا حتى تدخلوا ليلا أي عشاء
(2)
). انتهى. فجمع بينه وبين قوله: ولا يطرقهم ليلا بأن هذا لمن علم أهله بقدومه بخلاف الأول، قاله الشيخ إبراهيم. وأخرج مسلم من حديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يطرق أهله ليلا، وكان يأتيهم في غدوة أو عشية
(3)
). وقوله: كي تستحد المغيبة. ابن حجر: ويؤخذ منه كراهة مباشرة المرأة في الحالة التي تكون فيها غير متنظفة ليلا يطلع منها على ما يكون سببا لنفرته منها، ثم قال: فعلى هذا من أعلم أهله بوصوله، أو أنه يقدم في وقت كذا مثلا لما يتناوله هذا
(1)
مسلم، كتاب الإمارة، رقم الحديث:715.
(2)
البخاري، كتاب النكاح، رقم الحديث: 5245 - 5247.
(3)
مسلم، كتاب الإمارة، رقم الحديث:1928.
النهي. وقوله في الحديث: فليعجل إلى أهله، يحتمل أن يريد بالتعجيل غير السير من ترك التلوم، ويحتمل أن يريد التعجيل في السير إلى الأهل لحاجتهم إلى قيامه بأمرهم، قال ابن حجر: وفيه كراهة التغرب عن الأهل لغير حاجة واستحباب تعجيل الرجوع ولاسيما من يخشى عليهم الضيعة بالغيبة، ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدنيا والدين. قاله الشيخ محمد بن الحسن.
وقال الشيخ زروق في شرح الإرشاد: ويستحب أن يأتي بهدية إن طال سفره بقدر حاله، وأن يبدأ بالمسجد عند دخوله، ولا يفتتح به عند خروجه. انتهى. قاله الإمام الحطاب. قال: وانظر ما معنى قوله: ولا يفتتح به عند خروجه. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر أن معناه أنه يأتيه بعد خروجه من بيته لسفره، ويودعه بنافلة، ويكون هو آخر الأمر في خروجه، ويقضي شؤونه قبل إيداعه له. والله سبحانه أعلم. وقال الشيخ الأمير: وندب الإياب إثر قضاء الحاجة وهدية. انتهى. ونقل أن المطلوب أن المسافر عند خروجه يذهب لإخوانه يلتمس دعاءهم، وإذا جاء فيطلب أن يذهبوا هم له يهنئونه.
والدخول ضحى؛ يعني أنه يبدب للمسافر الدخول على أهله ضحى أي نهارا، ويكره له المجيء لأهله ليلا، وندب نهارا لأنه أبلغ في السرور، والكرامة في حق ذي الزوجة، وتجوز المصنف في ضحى؛ لأن النهي إنما ورد عن طروق الأهل ليلا، أو أراد تأكد ندب الدخول ضحى، ومقابل الليل مندوب غير متأكد، والنهي المشار إليه هو الخبر المتقدم قريبا، وهو: السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه؛ أي كمال لذة كل فإذا قضى أحدكم نهمته -بفتح النون: مراده-، فليعجل إلى أهله ولا يطرقهم ليلا كي تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة والمغيبة بضم الميم وكسر المعجمة بعدها تحتية ساكنة ثم موحدة: التي غاب عنها زوجها -كما مر- والشعثة بشين معجمة فعين مهملة مكسورة فمثلثة فتوحة مختومة بتاء تأنيث تبدل هاء وقفا كما في السيوطي؛ وهو موافق لما تقدم عن التتائي، والنهي للكراهة والتعليل مشعر بأنه في غير معلوم
القدوم. وبما إذا طالت الغيبة بحيث يحصل لها ما تستحد منه. والحاجة إلى الامتشاط، ويشعر التعليل المذكور أيضا بأن من في البلد ولا يأتي أهله إلا بعد مدة طويلة، كالمسافر.
وفي خبر الجامع الصغير: (إذا أطال أحدكم الغيبة من سفر أو غيره فليطرف أهله بطرفة)؛ أي هدية لتلفتهم ضند طول غيبته لذلك؛ وقد سئل مالك عن الذي يقدم عشاء على أهله، أترى أن يأتيهم تلك الساعة؟ فقال: لا بأس بذلك، قال ابن رشد: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (نهى أن يطرق الرجل أهله ليلا
(1)
): (وكان لا يدخل إلا غدوة أو عشية
(2)
)، فمعنى قول مالك: لا بأس بذلك؛ أي لا إثم عليه في ذلك ولا حرج، وإن كان قد أتى مكروها؛ لأنه رأى النهي الوارد نهي إرشاد لا نهي تحريم. قاله الإمام الحطاب. وقال الشيخ الأمير عاطفا على المندوب: ودخول ذي زوجة لم يعلم قدومه قبل الاصفرار، وابتداء دخوله بالمسجد انتهى. قال الشيخ إبراهيم: وكان الأولى تأخير قوله: "وندب تعجيل" الخ عن الجمع؛ إذ هو من متعلقات السفر.
ولما أنهى الكلام على قصر الصلاة في السفر، وكانت أسباب جمع المشتركتين ستة؛ وهي: السفر: والمطر، والوحل مع الظلمة، والمرض، وعرفة، ومزدلفة. أخذ يتكلم على الأربع الأول وسيذكر الباقي في محله، فقال: ورخص له جمع الظهرين ببر؛ يعني أنه يرخص للمسافر أن يجمع الظهرين عند الزوال بالشروط الآتية حيث كان في البر بفتح الباء خلاف البحر، وأما إن كان في البحر فلا يجمع هذا الجمع قصرا للرخصة على موردها؛ أي أن السنة إنما وردت بالجمع في البر لا في البحر، وبهذا يجاب عن التنظير الذي ذكره الشيخ عبد الباقي عن بعض الشراح حيث قال: وانظر، هل يلزم من لا يشترط الجد في سفر البر أن يبيح الجمع في البحر فيحصل التعارض بين كلامه؟ انتهى. انظر حاشية الشيخ بناني.
(1)
البخاري، كتاب العمرة، رقم الحديث:1801. ولفظه: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرق أهله ليلا.
(2)
البخاري، كتاب العمرة، رقم الحديث:1800.
واعلم أن جمع الظهرين والعشاءين في السفر تقديما وتأخيرا جائز غير مستوي الطرفين؛ لأنه خلاف الأولى، وأما الجمع ليلة المطر تقديما فمندوب، وأما الجمع للظهرين بعرفة تقديما فسنة، وكذا جمع العشاءين بمزدلفة تأخيرا فإنه سنة.
ونظم ذلك الشيخ علي الأجهوري: فقال:
الجمع للظهرين يوم الموقف
…
يسن كالجمع بجمع فاعرف
وتركه أفضل في حال السفر
…
كندب فعلة بليلة المطر
وظاهر المصنف أن للمسافر جمع الظهرين ببر كان رجلا أو امرأة راجلا أو راكبا، أما الراكب فلا شك في جمعه: وأما الراجل، فقال الشيخ زروق في شرح الإرشاد: ولابن عات في الغرر المشهور أن المسافر يجمع على ما في الكتاب إذا جد به السير، وإن كان راجلا فلا بأس أن يجمع لأن جد السير يوجد منه. وقال ابن علاق: وظاهر كلامهم اختصاصه بالراكب لمشقة النزول، واقتصر المواق على الثاني، والأول أظهر، ويؤيده ما يأتي أن قوله: راكبا، مثله السائر. وفي بعض الطرر أن الشيخ زروق قال: ما لابن علاق هو المشهور، قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: ويؤيده ما يأتي، قال النتيخ محمد بن الحسن: فيه نظر؛ إذ ما يأتي إنما هو من عنده غير منقول عن واحد
(1)
)، فكيف يصح التأييد به؟ انتهى. وما تقدم عن ابن عات في الغرر هو لوالد الإمام ابن عات صاحب الطرر بطاء مضمومة فراءين، والغرر بالغين المعجمة لولده. قاله الشيخ محمد بن الحسن.
واعلم أن المذهب ما لابن عات كما قاله الشبراخيتي، ولا ينافيه قوله:"ونوى النزول بعد الغروب"، وقوله: "وإن زالت راكبا، لإمكان أن يكون جريا على الغالب؛ أي أن الغالب في المسافر أن يكون راكبا، ولابد في هذا الجمع من كون المسافر غير عاص بالسفر ولاه به. فقوله:
(1)
في البناني ج 2 ص 48. عن أحد فكيف يصلح للتأييد به.
"له"؛ أي لمسافر غير عاص به ولاه دون اعتبار، قوله:"أربعة برد"، بدليل قوله: وإن قصر؛ يعني أنه يجوز للمسافر أن يجمع الظهرين عند الزوال، ولا فرق في ذلك بين أن يكون سفره سفر قصر، وبين أن لا يكون سفر قصر بل يجمع، وإن قصر سفره عن مسافة القصر، ورد بالمبالغة قول الشافعي المشترط مسافة القصر، وقد تقدم أنه لابد من كونه غير عاص به ولاه. وقوله:"الظهرين"؛ يعني الظهر والعصر، فغلب الظهر في التثنية. وقوله: ولم يجد، عطف على قصر فهو في حيز المبالغة؛ يعني أن المسافر يجمع وإن لم يجد به السير، قال ابن رشد: وهو المشهور بلا كره؛ يعني أن هذا الجمع لا يكره: وإن كان خلاف الأولى: وقوله: "بلا كره"، متعلق برخص، قاله الشيخ إبراهيم؛ أي لا يكره للرجال ولا للنساء. وهذا هو المشهور.
ولمالك في العتبية الكراهة، وحملها الباجي على إتيان غير الأفضل، وعن مالك يكره للرجل ويرخص فيه للمرأة.
وفيها شرط الجد؛ يعني أن في المدونة خلاف ما شهره ابن رشد، ففيها أنه يشترط في الجمع المذكور أن يجد السير بالمسافر لإدراك أمر؛ أي إنما يجمع المسافر إذا جد به السير لأجل إدراك أمر: فلو لم يجد به السير لم يجمع، وكذا لو جد به السير لا لإدراك أمر كقطع المسافة. وإسناد الجد للسير من الإسناد العجازي: وهو إسناد ما للشيء إلى ملابسه، وإلا فالجد إنما هو للمسافر. قاله الشيخ إبراهيم.
واعلم أن الذي في المدونة: ولا يجمع المسافر إلا أن يجد به السير ويخاف فوات أمر، وقيد الأمر بأن يكون مهما؛ أي إدراك أمر مهم من مال، أو رفقة، أو مبادرة ما يخاف فواته. وقال الشارح: وحد الإسراع الذي يسوغ معه الجمع هو مبادرة ما يخاف فواته، أو إسراع إلى مهم. قاله أشهب. وهو وفاق. ونحوه للشيخ محمد بن الحسن، وقال ابن حبيب: يجوز له أن يجمع إذا جد في السير لقطع سفره خاصة لا لغيره، وهو قول عبد الملك وأصبغ، وعلى ما في المدونة من شرط الجد، فإن جمع من لم يجد به السير أعاد الثانية في الوقت. قاله الباجي.
واعلم أن شرط الجد على ما فيها إنما هو في الرجل، وأما المرأة فتجمع وإن لم يجد بها السير، ولم تخش فوات أمر. قاله عبد الحق عن بعض شيوخه. قال الشيخ عبد الباقي: وظاهر التوضيح
أنه تقييد للمدونة، قوله: ظاهر التوضيح الخ، فيه نظر، بل ظاهره أنه مقابل لها. انظره. قاله الشيخ محمد بن الحسن. بمنهل، بدل من قوله:"ببر"، بدل بعض من كل؛ يعني أن هذا الجمع المذكور إنما يكون بالمنهل؛ أي موضع القيلولة كان به ماء أم لا، والمنهل بفتح الهاء: المورد وعبر به المصنف عن المحل الذي ينزل المسافر، وإن لم يكن به ماء؛ لأن الغالب أنه لا ينزل إلا بالموضع الذي فيه الماء، فالتعبير به جرى على الغالب. قاله الشيخ إبراهيم. زالت به؛ يعني أنه يشترط في الجمع بالمحل الذي نزلوا به أن تزول به الشمس، وقوله:"به"، ظرف مستقر حال؛ أي حال كون الشخص بالمنهل؛ لأن الشمس إنما تزول بالسماء. قاله الشيخ إبراهيم.
ونوى النزول بعد الغروب؛ يعني أنه يشترط في هذا الجمع أيضا أن يكون هذا المسافر الذي زالت عليه الشمس؛ وهو بالمنهل قد نوى الرحيل والنزول بعد الغروب، فيجمع حينئذ الظهر والعصر قبل ارتحاله؛ لأنه وقت ضرورة للعصر فيغتفر إيقاعها به لمشقة النزول، وليس عليه تأخير الجمع بقدر ما يمضي من الزوال ما يصلي فيه الظهر -كما هو ظاهر- والفرق بين ما يأتي في جمع المغرب والعشاء، وبين هذا حيث طلب التأخير بقدر صلاة المغرب، أن القصد هنا الركوب بسرعة عقب سلامه من الصلاة خصوصا إدراك أمر، وقوله:"بعد الغروب"، متعلق بالنزول لا بنوى؛ لأن النية عند الزوال وقت ارتحاله، فيصلي الظهر عند الزوال في أول وقتها الاختياري، ويجمع العصر معها قبل ارتحاله.
وقبل الاصفرار أخر العصر؛ يعني أن المسافر الذي زالت عليه الشمس وهو نازل، ونوى الرحيل، وأنه ينزل قبل الاصفرار، يجب عليه أن يؤخر صلاة العصر لوقتها فلا يجمع، فإن قدمها أجزأت، وينبغي أن تعاد في الوقت ولا وجه للتوقف في الأذان للعصر حيث صليت قبل الاصفرار، وإما إن أخرت للاصفرار فقد تقدم أن الأذان في الضروري مكروه.
وبعدد خير فيها؟ يعني أن هذا المسافر الذي زالت عليه الشمس وهو بموضع مقيله؛ إذا نوى الرحيل عند الزوال ونوى النزول في الاصفرار، فإنه يخير، فإن شاء جمع الظهر والعصر قبل ارتحاله، وإن شاء صلى الظهر في وقتها وأخر العصر إلى نزوله. قاله اللخمي. والضمير في قوله:
"وبعده"، يعود على "قبل الاصفرار"، والذي بعد ما "قبل الاصفرار"، هو الاصفرار، ولو قال: وفيه خير فيها لكان أظهر. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله: "فيها"؛ أي العصر والأولى تأخيرها إليه؛ لأنه ضروريها الأصلي. قاله الشيخ عبد الباقي وغيره. فاللخمي وإن خيَّرَ التأخيرُ عنده أرجح، وفي كتاب الأمير: ندب تأخيرها له؛ لأن الضروري المؤخر أولى، ولا فرق بين النزول أول الاصفرار وآخره. وفي نسخة فيهما بضمير التثنية؛ أي في التأخير وعدمه، أو في الجمع وعدمه. ونازع المازري اللخمي في تقديم العصر قائلا: في جمعه نظر، وقال الرماصي: وحاصل المسألة ثلاثة أقوال: الجمع وهو المشهور، وتأخيرها، والتخيير فيها.
وإن زالت راكبا أخرهما؛ يعني أن المسافر إذا زالت عليه الشمس وهو راكب؛ أي سائر ولو عبر به لكان أشمل، فإنه يؤخر الظهر والعصر لنزوله، ومحل هذا إن نوى الاصفرار أو قبله؛ أي أن محل تأخيره لهما إن نوى الاصفرار أي النزول فيه، ولا يأثم بتأخير الظهر لأنه معذور بالسفر، وكذا يؤخرهما أيضا إن نوى النزول قبل الاصفرار. وقوله:"أخرهما"؛ أي يجوز تأخيرهما، ويجوز إيقاع كل في وقتها ولو جمعا صوريا. ولا يجوز جمعهما جمع تقديم، قال الشيخ عبد الباقي عن الأجهوري: لكن إن وقع فالظاهر الإجزاء وإعادة الثانية في الوقت: قوله: فالظاهر الإجزاء: قال الشيخ محمد بن الحسن: هذا عين قول المصنف الآتي: "أو ارتحل قبل الزوال" الخ. ونقله المواق هناك عن رواية علي، فقوله: فالظاهر قصور. انتهى.
وبما قررت علم أن قول الشيخ عبد الباقي: أخرهما وجوبا، فيه نظر؛ إذ تأخير الظهر هنا جائز غير مستوي الطرفين، بل الأفضل تقديمه، كما مر.
وإلا؛ أي وإن لم ينو النزول في الاصفرار ولا قبله بل نواه بعد الغروب فإنه يصلي الظهر والعصر في وقتيهما؛ أي الوقت المختار للظهر والوقت المختار للعصر؛ بأن يصلي الظهر آخر القامة الأولى، والعصر في أول القامة الثانية، وهذا هو الجمع الصوري.
والجمع الصوري هو ما جمع صورة لا حقيقة؛ لأن حقيقة الجمع تقديم إحدى الصلاتين أو تأخيرها. كمن لا يضبط نزول، قوله:"يضبط" بكسر الموحدة من باب ضرب، كما في فتح القدوس؛ يعني أن من لا يضبط نزوله أي لا يعرف وقت ذلك فلا يدري، هل ينزل قبل الاصفرار
أو عنده؟ فإنه يجمع الصلاتين في وقتيهما جمعا صوريا أيضا، وهذا إذا زالت وهو راكب، فإن زالت وهو نازل صلى الظهر قبل أن يرتحل والعصر في وقتها؛ أي قبل الاصفرار. قاله الشيخ إبراهيم، وغيره. وقال الرماصي: والمدار على ضبط النزول، وأما عدم ضبط الرحيل فلا عبرة به؛ لأنه إن دخل عليه الوقت قبل الرحيل وهو جاهل بوقته؛ أي الرحيل صلى الأولى، ولا وجه لتأخيرها، ولذا قالوا: قوله "ففي وقتيهما"، فيمن زالت عليه راكبا كما هو الفرض.
وكالمبطون؛ يعني أن المبطون الذي لا يضبط إسهال بطنه يجمع الظهر والعصر في وقتيهما؛ أي يجمعهما الجمع الصوري وكذا كل من تلحقه مشقة بوضوء أو قيام لكل صلاة، قوله:"وكالمبطون"، في المدونة أنه يجمع بين الظهر والعصر في وسط الوقت، وبين العشاءين عند غيبوبة الشفق. وحمل أكثرهم وسط الوقت على أن المراد به الجمع الصوري، وقال ابن شعبان: يجمع أول الظهر وأول وقت المغرب. قاله الشارح وللصحيح فعله؛ يعني أن الصحيح له أن يجمع الجمع الصوري، والفرق بين الصحيح وذي العذر أن الصحيح يفوته فضيلة أول الوقت بخلاف غيره قاله غير واحد. قوله:"وللصحيح فعله"، هذا لا خلاف فيه بين فقهاء الأمصار. قاله الشارح عن المازري. وقوله:"وللصحيح فعله"، قال الشيخ الخرشي: أي وللمقيم الصحيح فعله، وإنما جاز له ذلك لأنه لم يخرج إحدى الصلاتين عن وقتها، بل أوقع كلا منهما في وقتها إلا أن فضلية أول الوقت تفوته، بخلاف المسافر وذي العذر، فلا تفوته. انتهى.
وهل العشاءان كذلك؛ يعني أنه وقع في المدونة: ولم يذكر مالك الرحلة عند المغرب والعشاء؛ أي لم يذكر الجمع إذا ارتحل بعد المغرب كما ذكره إذا ارتحل بعد الزوال. وقال سحنون: الحكم متساو فحمله بعض المتأخرين على الوفاق، وأنه إنما ترك ذكر العشاءين اكتفاء بما ذكر في الظهرين. وحمله الباجي على الخلاف، وعلل ما فيها بأن ذلك ليس وقت ارتحال ابن بشير، والأول أصح. وقوله: تأويلان، مبتدأ حذف خبره؛ أي في ذلك تأويلان؛ أي أن الأشياخ اختلفوا في قول المدونة المذكور، هل هو موافق لقول سحنون؟ فيكون العشاءان فيمن غربت عليه الشمس نازلا بمنزلة الظهرين فيمن زالت عليه وهو نازل، فيجمعهما قبل ارتحاله إن نوى الرحيل عند
الغروب ونوى النزول بعد انصداع الفجر، وإن نوى النزول قبل انقضاء الثلث الأول أخر العشاء وجوبا، وإن نوى النزول بعد انقضاء الثلث الأول وقبل الفجر خير في العشاء، إن شاء قدمها مع المغرب قبل ارتحاله، وإن شاء أخرها لنزوله وهو أولى، وأما المغرب فلا يؤخرها بحال كالظهر في حال زوال الشمس وهو نازل، وإنما سكت عن الجمع في العشاءين على هذا اكتفاء بما قاله في الظهرين: وهذا التأويل لبعض المتأخرين -كما عرفت-، أو كلام المدونة مخالف لقول سحنون؟ فلا يجمع العشاءين بحال، بل يصلي كل صلاة في وقتها المختار؛ وهو للباجي. قال الشبراخيتي: والتأويل الأول الصرح به هو المعتمد، كما قال الحطاب، فكان حقه أن يقول: والعشاءان كذلك. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: والراجح من التأويلين الأول. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن بناني: ورجح الأول ابن بشير وابن هارون وغيرهما. انتهى. وقال الشيخ الخرشي: والمعتمد من التأويلين المصرح به؛ يعني الأول.
وقال الشيخ الأمير: والعشاءان كذلك ولو غربت نازلا على الراجح. انتهى. فصح من هذا أن المعتمد أن العشاءين كالظهرين، ودليله ما في الموطإ عن علي بن حسين أنه كان يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يسير يومه جمع بين الظهر والعصر. وإذا أراد أن يسير ليلته جمع بين المغرب والعشاء
(1)
).
وبما قررت علم أنه ينزل الفجر على التأويل الأول منزلة الغروب، والثلث الأول منزلة ما قبل الاصفرار وما بعده للفجر منزلة الاصفرار.
وعلم أيضا أن التأويلين فيمن غربت عليه نازلا؟ وأما من غربت عليه وهو سائر فكمن زالت عليه وهو سائر بلا خلاف، فيؤخرهما إن نوى النزول في الثلثين الأخيرين أو قبلهما، وإن نوى النزول بعد الفجر، ففي وقتيهما جمعا صوريا كمن لما يضبط نزوله، والحجة للتأويل المصرح به هو
(1)
الموطأ، كتاب قصر الصلاة، الحديث: 335 والتمهيد، باب بلاغات مالك، الحديث. 13.
حديث الموطإ (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في سفره إلى تبوك
(1)
).
وقدم خائف الإغماء؛ يعني أن من خاف أن يغمى عليه في وقت الثانية من المشتركتين يقدم العصر عند أول وقت الظهر، والعشاء عند أول وقت المغرب بعد صلاة الأولى. قاله مالك: وهو المشهور. وقال ابن نافع: لا يجوز الجمع ويصلي كل صلاة لوقتها، فما أغمي عليه حتى ذهب وقته لم يكن عليه قضاؤه؛ وهو الظاهر. قاله الشارح.
فرع ألحق في العتبية بخائف الإغماء الذي يأخذه النعاس، وجوز له الجمع عند الزوال، قاله في التوضيح. والناقض؛ يعني أن من خاف النافض؛ أي الحمى المرعدة وقت العصر أو العشاء، يقدم العصر أول وقت الظهر، والعشاء أول وقت المغرب. وإنما قدم خائف النافض لأنها لا يتمكن معها المحموم من الصلاة بخلاف غيرها، فإنه يتمكن معها من الصلاة ولو بالاستناد. والميد؛ يعني أن من خاف الميد أي الدوخة وقت العصر يقدمها أول وقت الظهر، وكذلك من خاف الميد وقت العشاء، فإنه يقدمها أول وقت المغرب. قوله:"وقدم"؛ أي ندبا كما قاله ابن يونس، وجوازا كما قاله ابن عبد السلام، وارتضاه المواق. قال الشيخ محمد بن الحسن: إن القول بالندب لا يعادل قول ابن عبد السلام المشهور جوازه، ومثله لابن عرفة والتوضيح.
وقوله: "وقدم خائف الإغماء والنافض والميد"، ظاهر إن خاف استغراق الوقت، فإن اعتاده في بعضه فلعل وجه التقديم أن العادة قد تتخلف، فإن لم يقدم الصلاة وحصلا في الثانية والثالثة قضاها بعد ذهابهما إن لم ينشأ عنهما إغماء، وإلا لم يطلب بقضائها، بخلاف من أغمي عليه وقت الزوال وأفاق وقت العصر فيصلي الظهر لبقاء وقتها، وقدمت المحافظة على الأركان هنا لوقوع الصلاة في ضروريها الأول دون الوقت، بخلاف ما يأتي من قوله:"وحل للضرورة" الخ، فحوفظ على الوقت لأنه لم يتحقق انكشاف العدو فيه.
(1)
الموطأ، كتاب قصر الصلاة، الحديث: 329 ولفظه بدون قوله والمغرب والعشاء.
وحاصل ما في مسألة المريض من الخلاف أن المريض إما أن يخاف أن يغلب على عقله أو لا، ولكن يشق عليه القيام لكل صلاة لشدة مرضه أو لانخراق بطنه، فقيل: يجمعان عند الأولى في الظهرين والعشاءين، وقيل: يجمعان في آخر وقت الأولى وأول الثانية، وقيل: المريض الأول يجمع عند الزوال وعند الغروب، والثاني يجمع وسط وقت الظهرين الظهر والعصر، وعند غيبوبة الشفق المغرب والعشاء، وهو الذي في المدونة. والوسط قيل: ربع القامة، وقيل: ثلثها، وقيل: نصفها. قاله الرماصي.
وإن سلم؛ يعني أن خائف ما ذكر من إغماء أو نافض أو ميد إذا قدم الثانية من المشتركتين في أول وقت الأولى كما هو جائز له أو مندوب -على ما مر- يعيد الثانية التي قدمها في أول وقت الأولى في الوقت المتقدم؛ وهو الضروري عند أبي محمد؛ وهو الأرجح عند ابن يونس، والمختار عند الإبياني. قوله:"وإن سلم"، اعترضه المواق بأن الذي نص عليه أصبغ وغيره أنه يعيد، ومثله للجزولي، فظاهر ذلك أنه يعيد أبدا. وأجاب الشيخ محمد بن الحسن بما في التوضيح: إذا جمع أول الوقت لأجل الخوف على عقله، ثم لم يذهب عقله، فقال عيسى بن دينار: يعيد في الأخيرة، قال سند: يعيد في الوقت، وعند ابن شعبان: لا يعيد. انتهى وعلى كلام سند اعتمد هنا. انتهى.
أو قدم ولم يرتحل؛ يعني أن من زالت عليه الشمس وهو نازل فأراد الارتحال: ونوى النزول بعد الغروب أو في الاصفرار، فقدم العصر لذلك ولم يرتحل، يعيد العصر في الوقت. قال الشيخ عبد الباقي: وما ذكره في هذا الفرع ضعيف، والمعتمد أنه لا إعادة عليه في وقت ولا في غيره. انتهى. وسيأتي كلام الشيخ محمد بن الحسن قريبا إن شاء الله تعالى.
أو ارتحل قبل الزوال ونزل عنده فجمع؛ يعني أن من ارتحل قبل الزوال وأدركه الزوال راكبا، فنزل عند الزوال فجمع الظهر والعصر جمع تقديم، يعيد الصلاة الثانية؛ وهي العصر في الوقت، وهذا مقيد بما إذا جمع غير ناو الرحيل، وإلا فلا إعادة عليه وقال الشيخ محمد بن الحسن: إن في كل فرع من الثاني والثالث صورتين، إحداهما أن يجمع ناويا الرحيل لجد السير ثم يبدو له، والثانية أن يجمع ولا نية له في الرحيل لكنه غير رافض للسفر بالإقامة التي تقطعه، ففي الأولى
لا إعادة عليه في الفرعين، وفي الثانية يعيد العصر في الوقت، وهذا كله يفهم من نقل الحطاب، فإن حمل الفرعان معا في كلامه على الصورة الثانية سقط الاعتراض عنه. انتهى. وفي شرح الشيخ عبد الباقي: أنه إن رفض السفر بالكلية حين نزل عند الزوال أعاد الثانية، وكذا من زالت عليه نازلا إن رفض السفر بالكلية. انتهى. قوله: بالكلية، معناه عندي أنه رافض للسفر ما دام الوقت، وقال ابن الحاجب: وإذا نوى الإقامة في أثناء إحداهما بطل الجمع. انتهى. والإقامة هنا مقابلة السفر، فلا يشترط فيها إقامة أربعة أيام، كما لا يشترط طول السفر.
واعلم أن بطلان الجمع لا يستلزم بطلان الصلاة، فلهذا إذا نوى الإقامة في أثناء الأولى أو بعد الفراغ منها وقبل التلبس بالثانية، صحت الأولى؛ ويؤخر الثانية إلى أن يدخل وقتها، وإن نوى الإقامة أثناء الثانية، صحت الأولى ويقطع الثانية أو يسلم على نافلة؛ وهو أولى، ولا يخفى أنه يتمادى عليها على مذهب أشهب، وتصح. انتهى. ونحوه في التوضيح، ويشير بقول أشهب إلى ما حكى عنه الباجي وصاحب المقدمات، من إجازة الجمع بلا سبب. والله أعلم. قاله الإمام الحطاب. وقال الفاكهاني في شرح الرسالة في صفة الجمع: ويقدم الأولى منهما وينويه في أولها، ولا يجزئه إن نوى في أول الثانية. وقيل: ومن صفة الجمع الموالاة، فلا يفرق بين الصلاتين بأكثر من قدر إقامة أو أذان، وإقامة على الخلاف، ولا يتنفل بينهما. وقال ابن حبيب: لا بأس أن يتنفل. انتهى. وانظر إذا قدم العصر إلى الظهر، هل تباح له النافلة أو تكره؟ قاله الإمام الحطاب. قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر كراهة النافلة حينئذ، كما هو ظاهر كلامهم، والظواهر إذا كثرت أفادت القطع. والله سبحانه أعلم.
وبما قررت علم أن قوله أعاد الثانية بالوقت، جواب الشرط؛ أعني قوله:"وإن سلم"، فهو راجع للمسائل الثلاث، وقد تقدم تقرير ذلك، وقد تقدم الخلاف في الوقت، هل هو الاختياري كما عند الإبياني، أو الضروري كما عند أبي محمد؟ ورجحه ابن يونس، وقوله:"أو قدم ولم يرتحل"، شامل لما إذا لم يرتحل لأمر اقتضى ذلك، ولما إذا لم يرتحل لغير أمر.
وتحصل مما مر أنه يعيد في كل من الفروع الثلاثة، أما الأول فظاهر، وأما الثاني والثالث فكذلك إن جمع فيهما ولا نية عنده في الرحيل، لكنه غير رافض للسَّير بالإقامة التي تقطعه، وأما إن جمع فيهما ناويا الرحيل ثم يبدو له فلا يرتحل، فإنه لا إعادة عليه فيهما، وبقي ما إذا جمع وهو ناو الإقامة القاطعة للسّيْرِ فيهما، فإنه يعيد كما نص عليه الشيخ عبد الباقي، ولم يبين هل هي في الوقت أو أبدية؟ فظاهره أنها أبدية، والذي يفهم من كلام الحطاب أنها في الوقت، خلاف ما يؤخذ من كلام الشيخ محمد بن الحسن. والله سبحانه أعلم. والراد بالإقامة المذكورة، الإقامة المقابلة للسفر لا إقامة أربعة أيام، وقد مر ذلك.
وفي جمع العشاءين؛ يعني أنه يرخص في جمع العشاءين؛ بأن تقدم الثانية عند الأولى، واحترز بقوله: فقط عن الظهرين، فإنهما لا يجمعان مما يجمع له العشاءان لعدم المشقة في الظهرين غالبا، بخلاف العشاءين لأنهم لو منعوا من الجمع بين العشاءين لأدى إلى حصول أحد أمرين؛ إما المشقة إن صبروا لدخول الشفق، وإما فوات فضيلة الجماعة إن ذهبوا إلى بيوتهم من غير صلاة. قاله الشيخ إبراهيم. قوله:"وفي جمع"، متعلق برخص محذوفا بعد الواو؛ أي ورخص، قاله البساطي. بكل مسجد؛ يعني أن جمع العشاءين يكون بكل مسجد، خلافا لمن خصه بمسجد المدينة أو به، وبمسجد مكة.
ومثل المسجد محل اتخذه أهل البادية محلا لصلاتهم به جماعة، قوله:"وفي جمع"، متعلق "برخص"، كما للحطاب، وهذا الجمع مندوب كما نص عليه غير واحد، وقال الإمام الحطاب: وفي كون هذا الجمع راجحا أو مرجوحا طريقان، والأكثر على أنه راجح. نقله ابن عرفة. وإنما يجمع الراتب أو من استخلفه كما صرح به الشيخ الأمير، ويفيده فتوى البرزلي في محل اتخذه أهل البادية لصلاتهم به جماعة، وأشار إلى سبب جمع العشاءين، بقوله: المطر؛ يعني أن جمع العشاءين إنما يكون لأحد أمرين، أحدهما المطر؛ والمراد به المطر الغزير الذي يحمل الناس على تغطية رؤوسهم واقعا كان أو متوقعا، كما قاله الشيخ زروق، قال الشيخ إبراهيم: فإن قلت المطر إنما يبيح الجمع إذا كثر على ما بيناه، والمتوقع لا يقال فيه ذلك، قلت: يمكن أنه كذلك
بالقرينة، ثم إنه إذا جمع في هذه الحالة ولم يحصل فينبغي أن يعيد في الوقت كما في مسألة:"وإن سلم" الخ، كذا في الشرح. انتهى.
وقال الشيخ الأمير: والظاهر إعادة الثانية بوقت إن لم يحصل: وأما لو جمع للمطر الحاصل ثم زال بعد الجمع فلا إعادة، كما يفيده الحطاب، ويدل لما ذكر من القوينة خبر: (إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة
(1)
)، ومثل المطر ثلج وبرد فيما يظهر، قاله الشيخ عبد الباقي، وقال الشيخ محمد بن الحسن: في الثلج تفصيل ذكره في العيار، ونصه: سئل عنه ابن سراج، فأجاب: لا أذكر فيه نصا، وعند الشافعية فيه قولان، والذي يظهر أنه إن كثر بحيث يتعذر نفضه، جاز الجمع، وإلا فلا. انتهى. ونقل أيضا عن الوانشريسي في شرح ابن الحاجب ما نصه:
تنبيه: ما نقلناه عن الأكثر من أن الجمع أرجح هو ما لم يجر العرف بتركه في موضع. انتهى المراد منه. وقوله في الحديث: إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت الخ؛ أي إذا طلعت السحابة من ناحية الغرب ومالت إلى الشام، فتلك السحابة غزيرة المطر، قاله الشاذلي، ثانيهما أشار إليه بقوله: أو طين مع ظلمة؛ يعني أن العشاءين يجمعان أيضا لأجل طين مع ظلمة، فتقدم الثانية عند الأولى. والمراد بالطين: الطين الذي يمنع من المشي بالمداس، وبالظلمة: ظلمة أصلية فلا تعتبر ظلمة الغيم والسحاب. لا طين؛ يعني أنه لا يجوز جمع العشاءين لأجل طين فقط.
أو ظلمة؛ يعني أنه لا يجوز جمع العشاءين لأجل ظلمة فقط، كما لا يجوز لأجل الطين فقط -كما علمت- فلا يجمع لأحدهما، ولو مع ريح شديدة. قال الشيخ عبد الباقي: وانظر، هل أراد بالمطر أنه حصل وهم في المسجد؛ أو يشمل الحاصل قبل؟ ولا ينافي هذا أن المطر الشديد المسوغ للجمع مبيح للتخلف عن الجماعة؛ لأن إباحة التخلف لا تنافي أنهم يجمعون إذا لم يتخلفوا، ويجري هذا في قوله:"أو طين مع ظلمة". انتهى.
(1)
الموطأ، ج 1 ص 147.
قال جامعه عفا الله عنه: والذي يظهر شمول ما ذكر لما حصل وهم في المسجد، وللحاصل قبل ذلك -كما هو ظاهر كلام غير واحد- والله سبحانه أعلم.
تنبيه: نقل في الرياض عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: يا جرير تواضع في الدنيا فإنه من يتواضع في الدنيا يرفعه الله يوم القيامة، ومن يتعاظم في الدنيا يضعه الله يوم القيامة، يا جرير لو حرصت على أن تجد عودا يابسا في الجنة لم تجده، قلت: كيف وفيها الثمار؟ قال: أصول الشجر الذهب والفضة، وأعلاها الثمار، يا جرير تدري ما ظلمة النار يوم القيامة؟ قلت: لا، قال: إنه ظلم الناس بعضهم بعضا في الأرض. انتهى. وأشار لصفة الجمع بقوله: أذن للمغرب كالعادة؛ يعني أنهم إذا أرادوا الجمع للعشاءين لموجب، فإنه يؤذن للمغرب على وجه السنية أذانا كالعادة؛ أي على المنار بصوت مرتفع في أول الوقت، وفهم منه أيضا أنه سنة وأخر قليلا؛ يعني أنه يندب لهم إذا أرادوا أن يجمعوا العشاءين تأخير صلاة المغرب زمنا قليلا بقدر ما يدخل وقت الاشتراك لاختصاص الأولى بثلاث بعد الغروب. الغرياني: يؤخر قدر ثلاث ركعات، وقيل: قدر ما تحلب فيه الشاة. انتهى. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي. بعد قوله: وأخر صلاتها ندبا بعد تحصيل شروطها، أو قدره لمحصلها فيما يظهر. انتهى. وفي المواق: عن ابن بشير بعد ذكر القول بعدم التأخير ما نصه، قال المتأخرون؛ وهو الصواب: ولا معنى لتأخير المغرب قليلا؛ إذ في ذلك خروج الصلاتين معا عن وقتهما. انتهى. وما تقدم من ندب التأخير هو الصواب، وذهب بعضهم إلى أنه واجب لابد منه.
ثم صليا ولاء؛ يعني أنهما يصليان ولاء بعد تأخيرهما قليلا، ولا يفصل بينهما، بل يأتون بهما من غير فاصل، وكذا كل جمع لينصرفوا، وعليهم إسفار كما في الشارح، أو قبل مغيب الشفق كما في المدونة، وفسرها ابن رشد بنصف الوقت كما في المواق. وقالوا هنا بالتأخير، ولم يقولوا به في السفر رفقا بالمسافر: وقوله: "ولاء"، بكسر الواو، وفي الشبراخيتي عند قوله:"وأخر قليلا"، ما نصه: وقال التتائي والمواق: يؤخر له قدر وسط الوقت المختار. انتهى. وفيه نظر.
وفي الحطاب عند قوله: "ثم صليا ولاء"، ليس هذا خاصا بجمع المطر، بل حو شرط للجمع من حيث هو قاله في الجواهر. وقال ابن جماعة عن المالكية: والموالاة شرط إن جمعهما في وقت الأولى، وإن
جمعهما في وقت الثانية، فقال ابن المنير: لا أثر للموالاة إلا
(1)
في عهدة الكراهة أو التأثيم، وقال الشيخ الأمير: وكره فصل بين مجموعتين، وإن بنفل كبعدهما. انتهى. قال في الشرح: فعلم أنه لا يمنع الجمع، وظاهره أنه لا جمع إذا طال الفصل حتى دخل وقت الثانية. انتهى.
إلا قدر أذان؛ يعني أنهم لا يفصلون بين المغرب والعشاء إلا بقدر أذان؛ أي بأذان بالفعل بدليل قوله: منخفض؛ يعني أن أذان العشاء في الجمع ليس على العادة كما في أذان المغرب، بل يكون منخفضا ليس بالعالي، وهذا الأذان مندوب كما نص عليه الأمير، فإنه قال:"ثم ندب أذان منخفض أمام المحراب" انتهى. قال في الشرح مستقبلا فيما يظهر: لأنه ليس القصد الإسماع بل للسنة. انتهى. وقال الشبراخيتي: والظاهر أن هذا الأذان مستحب ولا يسقط به طلب الأذان في وقتها، بل يؤذن لها بوقتها. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: والظاهر ندبه ولا يسقط به سنيته عند وقتها. انتهى. وقال الشيخ الأمير: وهل يؤذن لها ثانيا عند الوقت؟ قولان، اكتفى بعضهم بالإعلام بالوقت، ونظر غيره إلى أن الثمرة الجمع. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: يعني أن القائل بالأذان ثانيا، قال: يكفي في الطلب بالأذان ثانيا الإعلام بدخول الوقت، وإن لم ينضم إليه صلاة أهل المسجد، وبعضهم نظر إلى أن الأذان لصلاة أهل المسجد، وقَدْ قَدَّموها مع صلاة المغرب. والله سبحانه أعلم. قال الشيخ إبراهيم: ولو قال إلا لأذان، لكان أظهر، لكن قوله:"منخفض"، يدفع ما يوهمه قدر من كونه يؤخر لقدره، ولا يفعله لأنه يدل على إيقاعه، وإلا فلا فائدة في الإتيان به. بمسجد؛ يعني أن أذان الثانية ليس على العادة، فيكون منخفضا -كما مر- ويكون في المسجد؛ أي بصحنه على المشهور، لا بالمنار، ولا خارج المسجد ليلا يلبس على الناس، فيظنون أن العشاء دخل، وهذه العلة تشعر بحرمته فيما ذكر. كذا في الشرح. وقال في الحاشية: بمُقَدَّمه على المذهب، وقيل، بصحنه، وقيل: خارجه.
(1)
في الحطاب ط دار الرضوان ص 436، ج 2 لا أثر للموالاة إلا في الخلاص من عهدة
…
ومقدمه: محرابه، قال ابن أبي زيد، وغيره: وينبغي للإمام أن يقوم من مصلاه إذا صلى المغرب حتى يؤذن المؤذن، ثم يعود. انتهى. قاله الشيخ إبراهيم.
وإقامة؛ يعني أنه لا يفصل بين المجموعتين إلا بأذان منخفض -كما مر- وإقامة. ولا تنقل بينهما؛ يعني أنه لا تنفل بين المغرب والعشاء إذا أرادوا جمعهما. قاله مالك. نقله في الذخيرة. ابن عرفة: المشهور منع التنفل بين جمعهما، ولا يختص ذلك بجمع العشاءين، بل هو جار في سائر صور الجمع، كما صرح بتعميمه الشيخ زروق. وذكر الشادلي عن الفاكهاني ما يفيده. خلافا لظاهر كلام الحطاب من تخصيصه بجمع العشاءين. قاله الشيخ إبراهيم. وقد مر عن الشيخ الأمير كراهة الفصل بالنافلة بين المجموعتين.
ولم يمنعه؛ يعني أنه إذا تنفل بعد الأولى من المجموعتين، فإن ذلك ممنوع أو مكروه، كما عرفت لكن تنفله ذلك لا يمنع له الجمع، بل له أن يجمع خلافا للإمام الشافعي. وبما قررت علم: أن الضمير المستتر يعود على التنفل، والظاهر يعود على الجمع. وقوله:"ولم يمنعه"، ظاهره: ولو كثر، وينبغي أن يقيد بما إذا لم يؤد إلى دخول الظلمة الشديدة، وإلا منع فعل العشاء قبل وقتها المحقق.
ولا بعدهما؛ يعني أنه كما لا يتنفل بين المجموعتين، لا يتنفل بعدهما. وعمم الشيخ الأمير ذلك لكنه صرح بالكراهة، وقال الشيخ عبد الباقي، والشيخ إبراهيم عند قوله:"ولا بعدهما"؛ أي يمتنع، وهذا في جمع العشاءين. وانظر في جمع الظهرين، هل يجوز له التنفل بعدهما، أم لا؟ انتهى. وجمع الظهرين تقديما يوافق صفة جمع العشاءين إلا في التأخير عن وقت الزوال قليلا، فلا يطلب في الظهرين، نعم يكون بعد الخطبة في عرفة، وانظر ما وجه التأخير قليلا في جمع العشاءين دون الظهرين في غير عرفة؟ ولعله الرفق بالمسافر، ومر أنهم إذا جمعوا ليلة المطر ينصرفون، وعليهم إسفار قبل مغيب الشفق، فلو قعدوا إلى مغيب الشفق أعادوا العشاء، وقيل: لا يعيدون، وقيل: إن قعد الجل أعادوا لا الأقل. قاله الحطاب. وقال الأمير: وصليت؛ يعني العشاء بإقامة وانصرفوا، وإلا فهل يعيدون الثانية ندبا أفذاذا، أو إن بقي أكثرهم، أو لا مطلقا؟ أقوال. انتهى. وهو كالصريح في أنه إن بقي نصفهم لا يعيدون على هذا القول، وفي شرح الشيخ
عبد الباقي ما يفيد ترجيح القول الأول، وفيه أن ابن عرفة رجح الثاني، حيث قال: وفي إعادتهم إن جمعوا، ثالثها إن بقي أكثرهم، لابن الجهم، وسماع القرينين، والشيخ. انتهى. قال الشيخ بناني: لا ترجيح في كلام ابن عرفة الذي ذكره إلا ما يفيده عزوه لسماع القرينين.
وجاز لمنفرد بالمغرب يجدهم بالعشاء؛ يعني أنه يجوز أي يندب الجمع لمن صلى المغرب في بيته أو غيرد منفردا عن الجماعة الذين يجمعون، فيصدق بمن صلاها منفردا أو مع جماعة غيرهم إذا وجد القوم يصلون العشاء فيصليها معهم إن كان يدرك معهم ركعة فأكثر لفضل الجماعة. قاله الشيخ إبراهيم، وغيره. قال الإمام مالك في المدونة في الرجل يصلي في بيته المغرب في الليلة المطيرة، ثم يأتي المسجد والناس يجمعون وقد صلوا المغرب ولم يصلوا العشاء: إنه لا بأس أن يصلي معهم. وقد روي عن ابن القاسم أنه إن صلى معهم أعاد في الوقت وغيره. قاله الحطاب. وقال ابن عبد الحكم، وأصبغ، وابن حبيب ومثلُه في المختصر لا يصليها معهم، فإن دخل أساء، ولا يعيد لأنه مما اختلف فيه. قاله تاج الدين بهرام. قوله:"وجاز لمنفرد"، بناء على أن نية الجمع تجزئ عند الثانية، واغتفر ذلك للتبع وحينئذ فلا إشكال. وفهم من قوله:"لمنفرد"، بالمغرب أنه إن لم يكن صلاها لم يدخل معهم في العشاء، بل يؤخرها لأن الترتيب واجب، ولا يصلي الأولى في المسجد لأنه لا يجوز أن تصلى فيه صلاة مع صلاة الراتب. قاله غير واحد. ولمعتكف بالمسجد؛ يعني أنه يجوز لمعتكف بالمسجد أي مقيم به معتكفا أو غيره، أو غريب بات به أن يجمع تبعا للجماعة، ولهذا إذا كان المقيم إماما لم يجز له أن يصلي بهم، بل يستخلف ويجمع مأموما، أشار له الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ الأمير: ولمقيم بالمسجد تبعا، واستخلف إن كان الإمام، فإن التابع لا يصير متبوعا، فإن لم يجد صالحا أي للإمامة صلى بهم.
ونقل ابن عبد السلام والتوضيح أن استخلاف الإمام مستحب، واعترضه ابن عرفة بأنه لا يعرف القول بالاستحباب، وبأن ظاهر عبد الحق الوجوب، ومثل الأخير في التوضيح، وسلمه الحطاب وغيره، وقال المسناوي، قد يقال جوابا عن ابن عبد السلام: أن مصب الاستحباب في كلامه هو استخلاف الإمام المعتكف، لا تأخره عن الإمامة، كما فهمه من اعترض عليه، وكلامه في ذلك
ظاهر لمن تأمله. ونصه: ولهذا استحب بعضهم للإمام المعتكف أن يستخلف من يصلي بالناس، ويصلي وراءه
(1)
يَسْتَخْلِفُه. انتهى. ولا ريب أن الاستخلاف غير واجب عليه، وإن كان تأخره واجبا، قاله الشيخ محمد بن الحسن.
كإن انقطع المطر بعد الشروع؛ يعني أن الجماعة إذا شرعوا صلاة المغرب، فلما صلوها أو بعضها ارتفع المطر، فإنه يجوز لهم التمادي على الجمع، وظاهره: ولو ظهر عدم عودته، وأما لو انقطع قبل الشروع في الأولى فلا جمع إلا بسبب غيره كطين مع ظلمة، فالمراد بالشروع الشروع في الأولى؛ وهي المغرب، والشروع يحصل بتكبيرة الإحرام، وأما لو انقطع المطر بعد الشروع في الثانية فإنه لا يجوز له قطعها ولا شفعها، ويجب عليه أن يتمها على ما هي عليه. وقوله:"كإن انقطع المطر بعد الشروع؛ لأن سبب الجمع إنما يطلب ابتداء لا دواما، ومثل ما إذا انقطع المطر بعد الشروع في الأولى، ما إذا انقطع بعد تمام الأولى، وقبل الدخول في الثانية. لا إن فرغوا، عطف على يجدهم أو على معموله؛ يعني أن من انفرد بصلاة المغرب عن الجماعة الذين يجمعون: وأتى المسجد فوجدهم قد فرغوا من صلاة العشاء، فإنه لا يصلي العشاء حينئذ. ومثل ما إذا وجدهم فرغوا ما إذا كان لا يدرك معهم ركعة، فلو أدركهم في السجود أو في التشهد الأخير فلا يجوز له أن يجمع لنفسه، وهل يقطع أو يشفع؟ قولان، قال المواق: والثاني أحسن، قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي: وكَفَراغِهِمْ من لم يدرك معهم ركعة: وينبغي أن يشفعها من غير خلاف لأنه لم يصل أولا ما دخل مع الإمام فيه، ولا يجري فيه ما جرى في معيد دخل مع إمام بدون ركعة من قولي القطع والإشفاع واستُحْسِنَ. فيؤخر للشفق؛ يعني أنه إذا وجدهم فرغوا من العشاء، أو بحيث لا يدرك معهم ركعة، فإنه لا يجمع لنفسه -كما علمت- وحينئذ فإنه يؤخر العشاء وجوبا لمغيب الشفق، وقوله: "فيؤخر"، قال غير واحد: يجوز في يؤخر الرفع والنصب والجزم؛ لأنه عطف على جواب الشرط بالفاء؛ أي لا إن فرغوا فلا يجمع، ويؤخر للشفق. قال ابن مالك.
(1)
في البناني ج 2 ص 51 وراء مستخلفه.
والفعل من بعد الجزا إن يقترن
…
بالفا أو الواو بتثليث قمن
إلا بالمساجد الثلاثة، مستثنى من التأخير؛ يعني أن المنفرد بالمغرب إذا وجدهم قد فرغوا من العشاء، فإنه يجب عليه تأخير العشاء لمغيب الشفق كما علمت، ومحل ذلك في غير المساجد الثلاثة. وأما إن كان بأحد المساجد الثلاثة مسجد مكة، ومسجد المدينة، وبيت المقدس؛ فإنه يصلي العشاء قبل مغيب الشفق بنية الجمع، حيث صلى المغرب بغيرها، وفاته جمع جماعتها، فإن كان عليه المغرب والعشاء صلاهما لعظم فضلها للفذ على الصلاة في غيرها جماعة. وقال الشيخ الأمير: ولمنفرد بأحد المساجد الثلاثة حصل جمع قبله أولا ولو صلى الأولى خارجه. كما استظهره الأجهوري: لا لمرأة ولا ضعيف ببيتهما. انتهى.
ولا إن حدث السبب بعد الأولى؛ يعني أنه إذا حدث سبب الجمع من مطر أو نية سفر بعد الشروع في الصلاة الأولى، فإنه لا يجوز الجمع لفوات محل النية، بناء على أن محل النية أول الأولى؛ وهو الراجح، فلو جمع صحت صلاته. قاله الشيخ عبد الباقي. وقد علمت أن هذا مبني على الراجح. وقد بنوا المشهور من قوله:"وجاز لمنفرد بالمغرب"، على مقابل الراجح، واغتفر ذلك للتبع. كما مر.
ولا المرأة والضعيف ببيتهما؛ يعني أن المرأة والضعيف لمرض أو غيره، لا يجوز لهما الجمع ببيتهما المجاور للمسجد؛ إذ لا ضرر عليهما في عدم الجمع، قاله أبو عمران، وعبد الحق. وقيل: يجمعان، فإن جمعا على الأول تبعا للجماعة التى في المسجد، فينبغي أن لا شيء عليهما، مراعاة لمن يقول بجمعهما. قاله الخرشي.
ولا منفرد بمسجد؛ يعني أن المنفرد ليس له أن يجمع في المسجد إن لم يكن راتبا، ولو كان ينصرف عنه؛ لأن شرط الجمع الجماعة، وأما الإمام الراتب فيجمع إذا كان ينصرف عن المسجد. وقد مر أنه لا يجمع بين التسميع والتحميد، بل يقول: سمع الله لمن حمده. فقط: وهو الأصوب عند ابن ناجي.
كجماعة لا حرج عليهم؛ يعني أن الجماعة الذين لا حرج عليهم في عدم الجمع؛ أي لا مشقة عليهم لعدم احتياجهم إلى الانصراف عن مكانهم إلى غيره، لا يجمعون؛ لأن الجمع إنما هو لذلك، ثم إنهم يجمعون تبعا، كما يفيده كلام ابن عمر وغيره، ومن ذلك أن يكون الإمام خارجا عنهم فإنهم يجمعون تبعا له. ومثلوا للجماعة الذين لا حرج عليهم بأهل المدرسة المنقطعين بها ونحوهم، وأفتى المسناوي بأن أهل المدرسة يجمعون استقلالا، وأن الساكن بها له أن يجمع إماما، قال: لأنهم ليسوا كالمعتكف بالمسجد، بل هم جوار المسجد. وقال ابن عرفة: يجمع جار المسجد ولم يقيده بتبعية. قال: ولا يعارضه قول المصنف: "كجماعة لا حرج عليهم"؛ لأن موضعه في الجماعة المقيمين في المسجد، واستدل على ما قال بما ثبت في الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع إماما وحجرته ملتصقة بالمسجد ولها خوخة إليه)، وعليه فقول الزرقاني: منقطعين بمدرسة، يحمل على مدرسة اتحد محل السكنى بها ومحل الصلاة كما في الجامع الأزهر بمصر. قال الشيخ محمد بن الحسن: وفيما قاله نظر؛ إذ قد نص ابن يونس على أن قريب الدار من المسجد إنما يجمع تبعا للبعيد، ونصه إنما يباح الجمع لقريب الدار والمعتكف لإدراك فضلية الجماعة. انتهى. نقله أبو الحسن. واقتضى كلام المصنف أنه لا يجوز جمع المشتركتين لغير ما مر، وقد روى مالك عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر
(1)
). قال مالك: أرى بضم الهمزة: أي أظن ذلك كان في مطر، ووافقه على ما ظنه جماعة من أهل المدينة وغيرها، منهم الشافعي. قاله ابن عبد البر.
لكن روى الحديث مسلم وأصحاب السنن من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بلفظ: (من غير خوف ولا مطر
(2)
). وأجاب البيهقي بأن الأولى رواية الجمهور؛ فهي
(1)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث: 705 الموطأ، كتاب قصر الصلاة، رقم الحديث:4.
(2)
أبو داود، كتاب صلاة السفر، رقم الحديث:1211. الترمذي، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 187.
أولى. قال: وقد روينا عن ابن عباس وابن عمر الجمع بالمطر؛ وهو يؤيد التأويل، وأجاب غيره بأن المراد: ولا مطر كثير. انتهى. نقله الزرقاني.
ولما أنهى الكلام على القصر: أتبعه بالكلام على الجمعة لكونها تشبه ظهرا مقصورة، فقال:
فصل: في بيان شروط الجمعة،
وسننها، ومندوباتها، ومكروهاتها، ومحرماتها، وموجباتها، ومسقطاتها، وما يتعلق بذلك، وهل الجمعة واجب مستقل: أو بدل من الظهر؟ في ذلك خلاف.
ومعنى كونها بدلا من الظهر أنها بدل منه في المشروعية؛ أي أن الظهر شرعت ابتداء، ثم شرعت الجمعة بدلا منها. ومعنى كونها فرضا مستقلا أنها فرض يومها من غير كونها بدلا من الظهر، وعلى كل إذا أمكن فعلها لا تجزئ عنها الظهر، وإن تعذر فعلها لتعذر شروطها فاللازم الظهر. وعَرَّفَهَا ابن عرفة بقوله: ركعتان تمنعان وجوب الظهر على رأي وتسقطها على آخر، أشار بأول المعَرَّف إلى أنها واجب مستقل، وأشار بآخره إلى أنها بدل من الظهر والجمعة بضم الميم، وبه قرأ الجماعة، وتسكن، وتفتح، وتكسر. وقرئ بها أي بالأوجه الثلاثة شاذا. وسمي يوم الجمعة بذلك؛ لأن الله تعالى أكمل فيه خلق الموجودات. ولذا قال مجاهد في قوله تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} . قال: أولها الأحد، وآخرها الجمعة، فلما اجتمع الخلق يوم الجمعة جعله الله تعالى عيدا للمسلمين: وقيل: لأن خلق آدم جمع فيه، وقيل: لاجتماعه فيه مع حواء بالأرض، وقيل: لما جمع فيه من الخير، وقيل: لاجتماع الناس فيه للصلاة، وقيل: لأن كعب بن لؤي كان يجمع قومه فيه فيذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم، ويخبرهم بأنه سيبعث منه نبي كريم، وكان بين موته ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وستون سنة، كما رواه أبو نعيم وغيره وقيل: إن قصيا هو الذي كان يجمعهم، قال الشاعر:
أبوكم قصي كان يدعى مُجَمِّعًا
…
به جمع الله القبائل من فِهْر
وقيل: أول من سماها بذلك أسعد بن زرارة، وذلك لأنها فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ولم يصلها فيها لعدم تمكنه من ذلك. (وأول جمعة صليت بالمدينة أقامها أسعد بن زرارة في بني بياضة: لما أنفذ عليه الصلاة والسلام مصعب بن عمير أميرا على المدينة، وأمره بإقامتها،
فنزل على أسعد -وكان من النقباء الاثني عشر- فأخبره بأمرها، وأمره أن يتولى الصلاة بنفسه، فجمع لها أربعين، وصلى بهم، وقال: هذا يوم جمعة
(1)
).
(وأول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني سالم ببطن الوادي حين قدومه المدينة)، وكانت تسمى في الجاهلية عروبة من الإعراب، وهو التحسين؛ لأن الناس يتزينون فيه. قاله الخرشي. ولا شك أن العمل فيها له مزية على العمل في غيرها، ولذلك ذهب بعضهم إلى أنه إذا وافق الوقوف بعرفة يوم جمعة، كان لتلك الحجة فضل على غيرها.
وأما ما رواه رزين: أنه أفضل من سبعين حجة في غير يوم جمعة، ففيه وقفة كما نص على ذلك المناوي. وقد ورد (أن من صح له يوم الجمعة سلم به سائر جمعته، ومن صح له رمضان صح له سائر سنته، ومن صح له حجته صح له سائر عمله
(2)
). انتهى. وروى فضل بن مسلمة في مختصر الواضحة لابن حبيب بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الصلاة: (إن لله تعالى في كل يوم جمعة وليلة ست مائة ألف عتيق من النار كلهم قد استوجبوا النار
(3)
).
وهي من خصائص هذه الأمة هديت إليها، وضل عنها اليهود والنصارى كما في الصحيح
(4)
)، قيل: إن الله تعالى فرض عليهم يوما في الجمعة ووكل تعيينه إلى اختيارهم، فحرمهم الله تعالى بركة يوم الجمعة، وجعله لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وقيل: إن موسى عليه الصلاة والسلام أمرهم بالجمعة وفَضَّلها فناظروه في ذلك وخالفوه، واعتقدوا أن السبت أفضل، فأوحى الله إليه دعهم وما اختاروه. وفي حاشية الجلال السيوطي على البخاري: أن اليهود كانوا يسمون الأسبوع سبتا ثم حدث في الإسلام تسميته جمعة اعتبارا باليوم الأشرف، وفي الموطإ: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه أهبط. وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:1069. وابن ماجه، رقم الحديث: 1082.
(2)
الإتحاف، ج 3 ص 216
(3)
الإتحاف، ج 3 ص 216.
(4)
البخاري، كتاب الجمعة، رقم الحديث:876. مسلم، كتاب الجمعة، رقم الحديث: 586. النسائي، كتاب الجمعة، رقم الحديث:1368.
الساعة إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه
(1)
). وقوله: خير يوم طلعت فيه الشمس؛ أي من أيام الأسبوع.
وأما أيام السنة فخيرها يوم عرفة كما نبه عليه النووي، وقوله: وفيه خلق آدم إلخ، قال القاضي عياض: الظاهر أن هذه المعدودات ليست لبيان فضله؛ لأن إخراج آدم عليه السلام، وقيام الساعة لا يعد فضيلة وإنما هو لتعداد ما وقع فيه وما سيقع من عظائم الأمر، وبحسب ذلك تكثر فيه الأعمال الصالحة لنيل رحمة الله تعالى ودفع نقمه، وقال ابن العربي: الجميع من الفضائل، فخروج آدم عليه السلام سبب لهذا النسل العظيم الذي منه الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولم يخرج منها طردا بل لقضاء أوطار وسيعود إليها: وقيام الساعة سبب لتعجيل أجر الأنبياء والصديقين والأولياء وغيرهم وإظهار كرامتهم، وقوله: مُصِيخَةٍ مستمعة.
ومما يدل على فصل يوم الجمعة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتيت بمرآة فيها نكتة سوداء، وفي رواية بيضاء، فقلت: يا جبريل ما هذه المرآة؟ فقال: هذه يوم الجمعة، قلت: ما هذه النكتة؟ قال: هذه الساعة التي في يوم الجمعة
(2)
). قال بعض العلماء: والسر في كونها سوداء هو انبهامها والتباس عينها، وبياضها على مقتضى الرواية تنبيه على شرفها وخصوصيتها، من حيث إن البياض أشرف الألوان والأكثر على بقاء تلك الساعة، وعليه فهل من حين جلوس الإمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة؛ أو من حين إقامة الصلاة إلى الانصراف منها؟ أو من بعد العصر إلى الغروب؟ أو آخر ساعة من النهار؟ أو من الفجر إلى طلوع الشمس؟ أو ما بين الزوال ودخول الإمام في الصلاة؟ أو ما بين خروج الإمام والانصراف؟ أو عند الزوال؟ أو غير مختصة؟ ويمكن الجمع به؟ أقوال. وصحح الأول والرابع، قاله الشيخ إبراهيم. وقوله في الحديث: وهو يصلي؛ أي يدعو، فلذلك أبدل منه: يسأل الله، فالمراد بالصلاة معناها اللغوي. قاله الخرشي. ويقال: جمَّع القوم بتشديد الميم يُجَمَّعون؛ أي شهدوا الجمعة فصلوها، وأول
(1)
الموطأ، كتاب الجمعة، رقم الحديث 243.
(2)
الإتحاف، ج 3 ص 215 - 216.
جمعة جمعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بجؤاثا قرية بالبحرين، وأول ما تعددت الجمعة في بلد في أيام المعتضد سنة ثمانين ومائتين، ولم يقع قبل ذلك في الإسلام صلاة جمعتين في بلد واحد. ومن جحد وجوبها كفر، ومن امتنع من صلاتها كسلا لا يقتل، وليست كالظهر، يؤخر بقدر ركعة. سحنون: ولا يجرح إلا من تركها ثلاث مرات متوالية بلا عذر، خلافا لأصبغ القائل: بأن ترك الفريضة مرةً وثلاثا سواء في العصيان، وتعدي الحدود كمن ترك الصلاة لوقتها مرة. ابن رشد: وقول سحنون باشتراط الثلاث أظهر؛ إذ لا يسلم المسلم من مواقعة الذنوب، فوجب أن لا يجرح العدل بما دون الكبائر إلا أن يكثر منه فيعلم تهاونه بها، قاله الخرشي وفي الخبر: (من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر ولا علة طبع الله على قلبه
(1)
) بطابع النفاق.
وجعلت الجمعة ركعتين؛ لأن الناس يسعون إليها من بعيد فخفف عنهم؛ ولأنها عيد، شرط الجمعة وقوع كلها بالخطبة وقت الظهر للغروب؛ يعني أنه يشترط في صحة صلاة الجمعة أن توقع الصلاة كلها مع خطبتها فيما بين الزوال والغروب؛ فلو خطب قبل ذلك وأوقع الصلاة فيه، أوأوقع الخطبة فيه والصلاة كلها أو بعضها بعد الغروب، لم تصح، وأولى لو أوقع الصلاة أو بعضها قبل الزوال وشَدَّ بعض الأئمة، فجوز صلاة الجمعة قبل الزوال. قاله الشيخ محمد الزرقاني.
وبما قررت علم أن الباء في قوله: "بالخطبة"، بمعنى "مع"، وأن "ال" للجنس؛ أي إيقاع جميع الصلاة مع جميع الخطبتين، وقوله:"وقت"، متعلق بوقوع، واللام في قوله:"للغروب"، بمعنى:"إلى"؛ أي مبدأ وقت الجمعة، مبدأ وقت الظهر، ويمتد وقتها للغروب. وقوله:"كلها"، قال الشيخ عبد الباقي: استعمال كل المضافة للضمير في غير الابتداء والتأكيد رأي بعض، وعلى الآخر فالمؤكد محذوف على قلة أقي وقوعها كلها. انتهى. قوله: فالمؤكد محذوف على قلة الخ. جواز حذف المؤكد بالفتح هو مذهب الخليل وسيبويه، ووافقهم الصفار، خلافا للأخفش والفارسي وابن
(1)
الموطأ، كتاب الجمعة، رقم الحديث:248.
جني وابن مالك. انظر المغني. انتهى. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ الأمير: شرط وجوب الجمعة وقوعها مع الخطبة وقت الظهر للغروب، وإن لم يبق ركعة للعصر. انتهى. قال: وعدلت عن قوله: "وقوع كلها"؛ لأن الأفصح أن لا تباشر العوامل اللفظية كل المضافة للضمير. انتهى.
واعلم أن الجمعة في الوقت المختار، وفي الضروري كالظهر من غير فرق على كلا القولين. وقوله:"للغروب"، هذا بعد الوقوع، وأما ابتداء فلا يجوز ذلك. قال في المدونة: وإذا أتى من تأخير الإمام ما يستنكر، جمعوا دونه إن قدروا وإلا صلوا ظهرا. سند: يريد إذا أخرها إلى وقت العصر، وإذا صلوا الظهر صلوها أفذاذا، فإن جاء الإمام في الوقت لزمتهم الإعادة لخطإ ظنهم: وإلا لم تلزمهم إلا على قول ابن القصار: من أخر الظهر إلى الغروب لا يأثم، فلا تجزئهم، وتلزمهم الإعادة. وإذا قلنا: لا تلزمهم الإعادة، فإن أعادوا فليعيدوا بنية الجمعة، بمنزلة من صلى الظهر فردا ثم أعادها جماعة؛ فإنه يعيد بنية الظهر، ولا تجزئ الإمام إلا إذا كان معه جماعة غيرهم تستقل بهم الجمعة. وقال التونسي: مذهب ابن القاسم في الإمام إذا هرب عنه الناس وأخر الإمام، أن الإمام والناس ينتظرون إلا أن يخافوا دخول وقت العصر، فإن خافوه صلوا ظهرا أربعا: ثم لا جمعة عليهم. وقوله: "للغروب"، هو المذهب فلا يشترط إدراك شيء من العصر، ومقابله ضعيف؛ وهوأنه لابد في وجوب الجمعة من إدراك ركعة من العصر بعد الإتيان بالجمعة مع خطبتيها، وإلى هذا الخلاف أشار بقوله: وهل إن أدرك ركعة من العصر؛ يعني أنه لا خلاف في أن أول وقت الجمعة زوال الشمس، وأما آخر وقتها فقد اختلف الشيوخ فيه. فمنهم من ذهب إلى أن وقتها لا يمتد إلى الغروب، فتصلى إن بقي من النهار قدر ما توقع فيه بخطبتيها، ويبقى بعد ذلك ركعة تدرك بها العصر وإلا صلوا ظهرا، وصحح هذا القول عياض، وإلى تصحيح عياض هذا أشار بقوله: وصحح، ومنهم من ذهب إلى أن وقتها يمتد إلى أن تغرب الشمس، فتجب إقامتها إن كانت توقع بخطبتيها قبل غروب الشمس، ولو لم يبق للعصر شيء من النهار؛ وهو مذهب المدونة؛ وهو المشهور -كما مر- وجزم به أولا، وإليه أشار بقوله: أولا يشترط إدراك
شيء من العصر بعدها بخطبتيها، فحيثما أدرك خطبتيها وفِعْلَهَا قبل الغروب وجبت، كما رواد مطرف عن مالك.
رويت عليهما؛ يعني أن هذين القولين رويت المدونة؛ أي نقلت عليهما؛ أي هما موجودان فيها. والله سبحانه أعلم. ففي رواية ابن عتاب للمدونة: وإذا أخر الإمام الصلاة حتى دخل وقت العصر، فليصل الجمعة بهم ما لم تغب الشمس، وإن كان لا يدرك العصر إلا بعد الغروب. وفي رواية غير ابن عتاب: وإن كان لا يدرك بعض العصر إلا بعد الغروب. عياض: وهذه أصح وأشبه برواية ابن القاسم عن مالك، وفي اعتبار قدر الركعات بالوسط أو بما اعتاده في صلاته، قولان. نقله الرهوني. وقوله:"وهل إن أدرك" الخ، محل ذلك حيث كانت العصر عليهم، وأما لو قدموا العصر ناسين للجمعة، فإنه يتفق القولان على أن وقتها يمتد للغروب، فلا يشترط حينئذ إدراك شيء من العصر باتفاقهما.
ولا تنافي بين قوله للغروب، وذكر الخلاف الواقع بعده بقوله:"وهل إن أدرك ركعة"، الخ لأنه جزم بالمشهور أولا، ثم ساق الخلاف بعد ذلك أشار له الشيخ إبراهيم، وقال: ومُقتَضَى كلام المصنف: أن من أدرك ركعة من الجمعة قبل الغروب لا يتمها جمعة بل ظهرا أو يقطع، مع أنه يتمها جمعة على المشهور، ويجاب بأن كلامه في وجوب إقامتها ابتداء؛ أي أنهم هل لا يطلبون بإقامتها إلا إذا كانوا معتقدين أنهم يدركون ركعة من العصر بعد فعلها قبل الغروب، أم لا؟ فعلى الأول: إذا بقي من النهار قبل الغروب قدر ما يسعها وخطبتيها فقط لا تجب إقامتها، لكن إن فعلت أجزأت. وعلى الثاني: تجب. انتهى.
والحاصل أنهم إذا اعتقدوا إدراك الجمعة كلها بخطبتها، فلما صلوا ركعة منها غربت الشمس، فإنهم يتمونها جمعة، وأما إن علموا ابتداء أنهم لا يدركون إلا ركعة فلا تصلى حينئذ، فإن أحرموا بها وأدركوا ركعة فلا يعتدون بها بل يتمون أربعا، هذا هو التحقيق. كما قاله غير واحد، خلافا للأجهوري ومن تبعه. ولابن شاس مشيرا للصورة الأولى: قال الشيخ أبو بكر: إن عقد ركعة بسجدتيها قبل خروج وقتها أتمها جمعة، وإن لم يعقد ذلك بنى وأتمها ظهرا، وقال الشيخ
بهرام: قال الأبهري: آخر وقت الجمعة إذا دخل وقت العصر، وقيل: حتى يبقى أربع ركعات قبل الغروب؛ وهو قول سحنون، وقيل: تصلى ما لم تصفر الشمس. قاله أصبغ. انتهى.
واعلم أن كل ما هو شرط في الوجوب كالبلوغ والعقل وبلوغ الدعوة، فهو شرط في الأداء، ويزيد شرط الأداء بالتمكن من الفعل، فالنائم غير مكلف بأداء الصلاة مع وجوبها عليه، فالتمكن شرط في الأداء فقط. وللشيخ أبي عبد الله بن عبد السلام:
شرط الوجوب ما به يكون
…
مكلفا كالعقل يستبين
وكالبلوغ وبلوغ الدعوة
…
وجود طهر وارتفاع حيضة
ومع تمكن من الفعل أدا
…
كعدم الغفلة والنوم بدا
وما للاعتداد بالعبادة
…
لصحة شرط فخذ إفاده
وقد تقدم أن صلاة الجمعة ركعتان، فمن صلاها أربعا أعادها ركعتين، ولم تعد الخطبة إذا لم يبعد ما بينهما. باستيطان بلد؛ الظاهر أن الباء في قوله:"باستيطان، بمعنى: "في"، وهو من إضافة الصفة للموصوف، والباء متعلقة بوقوع؛ أي يشترط في صحة الجمعة أن توقع في بلد مستوطنة: واحترز بذلك عن ما لو مرت جماعة بقرية خالية، فنووا الإقامة فيها شهرا مثلا، فصلوا بها الجمعة، فإنها لا تصح لهم، كما لا تجب عليهم، وحينئذ فهو شرط وجوب وصحة، بخلاف ما يأتي من اشتراط كون المصلي في نفسه متوطنا فإنه شرط وجوب فقط.
ولا يقال البلد المستوطنة لا تطلب من المكلف، فلا تكون شرط صحة لأنا نقول إن شرط الوجوب والصحة من قسم ما لا يطلب من المكلف. ابن رشد: وللجمعة شرائط لا تجب إلا بها وتصح دونها؛ وهي ثلاثة: المذكورة، والحرية، والإقامة. وشرائط لا تجب إلا بها ولا تصح دونها وهي ثلاثة أيضا: الإمام، والجماعة، وموضع الاستيطان قرية كانت أو مصرا على مذهب مالك. وشرائط لا تصح إلا بها؛ يعني كالطهارة. وسيأتي أن الجمعة إنما تجب وتنعقد بالمتوطنين؛ أي الذين هم من سكان القرية المقامة بها الجمعة، وأن المقيم ببلدها إقامة تقطع حكم السفر وليس من
سكانها، تجب عليه تبعا، ولا تنعقد به كالمتوطن بقرية نائية بكفرسخ من المنار؛ فإنها تجب عليه تبعا ولا تنعقد به.
أو أخصاص؛ يعنى أن الجمعة إنما تصح وتجب في البلد المستوطن أو الأخصاص المستوطنة، والأخصاص جمع خص والمراد به هنا العرفي؛ أي ما يسمى في عرف الناس خصا كان من قصب، أو خشب، أو أعواد، أو بناء صغير، أو غير ذلك، لا خصوص الخص اللغوي الذي هو بيت من قصب، أو البيت يسقف بخشبة، وحينئذ فالمراد بالأخصاص ما قابل الخيم. قاله الشبراخيتي. وعلل الشيخ عبد الباقي لزوم الجمعة لأهل الأخصاص بقوله: لعدم انتقالهم غالبا، فأشبهت البنيان ولو انتقلوا من موضعهم بعد مدة طويلة إلى قريب منه وبنوا به أخصاصا وسكنوها، فتجب عليهم أيضا، وتنعقد بهم؛ لأن انتقالهم إنما هو لما يحصل في محلهم من الأوساخ بالفضلات، ويشترط اتصال بنيان من تجب عليهم ولو حكما، كتفرقها بحيث يرتفق بعضهم ببعض في ضرورياتهم، والدفع عن أنفسهم، ولو كان الاتصال من بعض الجوانب. فإن انتفى ما تقدم لم تجب على من لم يكمل عنده العدد، وهذا عام في الدور والأخصاص، واتفق عليه جمهور العلماء. لا خيم؛ يعني أن ساكني الخيم بكسر الخاء جمع خَيْمة كبَدْرَة وبدَرٍ لا تجب عليه الجمعة إلا تبعا لأهل البلد إذا كانوا مقيمين منه على كفرسخ، والمراد بالخيم الخيم العرفية أي ما يسمى في عرف الناس خيمة كانت من ثياب أو صوف أو وبر أو شعر أو غير ذلك، لا خصوص الخيم اللغوية؛ وهي أبيات تبنيها العرب من عيدان الشجر النووي، ولا تكون إلا من أربعة أعواد وتسقف بالثمام، قال أهل اللغة: ولا تكون الخيمة من ثياب وصوف ووبر وشعر. انتهى ملخصا من الخرشي والشبراخيتي. ولبعضهم:
مظلة من شعر
…
وخيمة من شجر
وأقنة من حجر
…
خباء صوف مطنب
كذا بجاد وبر
…
قبة جلد أحمر
عن ابن كلبي دري
…
هذي بيوت العرب
والفرق بين الخيم والأخصاص أن الخيم لانتقالها أشبهت السفن، بخلاف الأخصاص، قوله:"لا خيم"، يقدر له عامل يناسبه؛ أي لا بالإقامة في خيم. قاله الخرشي.
وتحصل مما مر أن ساكني البلد تجب عليهم وتنعقد بهم كساكني الأخصاص لندور انتقالهم، فقد نقل أبو الحسن عن تعاليق أبي عمران في الجماعة يقيمون ستة أشهر بموضع، وفي آخر ستة أشهر يُجَمَّعون؛ لأن ذلك كقريتين إذا حلوا بإحداهما أقاموا بها، وأن ساكني الخيم لا يُجَمِّعُون إلا تبعا إذا كانوا مقيمين على كفرسخ من المسجد. كما أن المتوطن بقرية نائية بكفرسخ منه كذلك، وأن المقيم ببلد الجمعة إقامة توجب الإتمام ولم يتوطن البلد لا تنعقد به، لكن تجب عليه تبعا. والله سبحانه أعلم.
وبجامع؛ يعني يشترط في الجمعة أن توقع كلها بخطبتها في جامع، فلابد أن تكون الخطبة في الجامع. سند: شرطه أن يكون داخل المصر ابتداء لا دواما، فإن كان داخل المصر وتهدم البناء الذي حوله وخرب حتى صار الجامع خارجا عنها فإنه لا يضر. ابن ناجي: وكثيرا ما يقع بالقرى يكون الجامع خارج القرية، فإن كان قريبا تقام فيه وإلَّا فلا، وحد بعضهم القرب بأربعين ذراعا، وقال يوسف بن عمر: ويشترط في الجامع أن يكون متصلا بالقرية بحيث ينعكس عليه دخانها، وقال الحطاب: الذي يظهر ما قاله ابن ناجي، وقوله:"وبجامع"، ظاهره يشمل ما لو كان بمال حرام في أرض مغصوبة؛ وهو كذلك، قاله الأقفهسي. ولكنه ذكر في مواضع النهي عن الصلاة لو بني بمال حلال في أرض مغصوبة وخلي بينه وبين الناس لم يكن له حرمة المسجد ولا حكمه. وفي الخرشي: أن ما ذكره سند من اشتراط كونه داخل المصر ابتداء هو المذهب، وفي كتاب الأمير ما يفيد ذلك.
واعلم أنه اختلف في الجامع، هل هو من شروط الوجوب والصحة كالإمام والجماعة؟ وقيل: إنه من شروط الصحة دون الوجوب. قاله غير واحد. مبني صفة لجامع؛ يعني أنه لابد للجامع الذي تصلى فيه الجمعة من أن يكون مبنيا، فلا تصح الجمعة في براح حُجَّرَ بأحجار أو خط حوله، والمراد البناء المعتاد للمساجد لأهل ذلك البلد، فيشمل ما لو فعل أهل الأخصاص جامعا من بوص ونحوه، فتصح فيه الجمعة. وقوله:"مبني"، صفة كاشفة، بناء على أن الفضاء لا يسمى جامعا.
وأما على قول من قال: إن المكان من الفضاء يكون مسجدا، ويسمى مسجدا بتعيينه وتحبيسه للصلاة فيه كما يقتضيه أول الحل، فلا يكون صفة كاشفة. والبوص بالضم: ثمر نبات. قاله في القاموس. قال الشيخ محمد بن الحسن: ولعل المراد هنا النبات الذي هو أصله مجازا. انتهى. والمراد بالجامع الموضع الذي أمر الإمام بإقامة الجمعة فيه، اتفق أهل البلد على إقامة الجمعة فيه أم لا. انتهى. وسئل سحنون عن القرية يكون فيها مسجد فيريد قوم آخرون أن يبنوا فيها مسجدا آخر، هل لهم ذلك؟ فقال: إن كانت القرية تحتمل مسجدين لكثرة أهلها ويكون فيها من يعمر المسجدين جميعا الأول والآخر فلا بأس به، وإن كان أهلها قليلا يخافون تعطيل المسجد الأول فلا يوجد فيها من يعمره، فليس لهم ذلك. قاله الرهوني. ونقل عن اللخمي: أنه إن كان البلد واسعا ويشق على من بعد منه الجامع الوصول إليه، كان بناء المسجد في تلك المحلة مندوبا إليه؛ لأن إقامة الجماعة ليست على الأعيان. انتهى.
متحد، صفة لجامع؛ يعني أنه لابد في الجامع المذكور من أن يكون متحدا، فلا يجوز أن تتعدد الجوامع في بلد على المشهور، وإنما لم يجز التعدد في المصر الواحد وإن عظم، رعاية لما كان عليه السلف، وجمعا للكلمة، وطلبا لجلاء صَدَإِ القلوب بالمواعظ واتعاظ الغني والغوي والطالح بغيرهم، وأجاز التعدد يحيى بن عمر وقال المصنف: لا أظنهم يختلفون في جواز التعدد في مثل مصر وبغداد.
والجمعة للعتيق؛ هذا مفهوم قوله "متحد"؛ يعني أنه إذا صليت الجمعة في مساجد متعددة، فإن الجمعة إنما تصح للذين صلوها في العتيق، وتبطل جمعة من عداهم. والعتيق هو الذي أقيمت فيه الجمعة قبل غيره، وإن تأخر بناؤه عن بناء غيره وإن تأخر أداء؛ تمييز محول عن الفاعل؛ وهو ضمير يعود على العتيق؛ يعني أنه إذا صليت الجمعة في العتيق وغيره، فإن الجمعة تصح لأهل العتيق دون غيرهم، ولا فرق في ذلك بين أن يسبق أهل العتيق غيرهم بهذه الجمعة، وبين أن يسبقهم الغير بها أو يساووهم. وسواء كان السلطان في العتيق أو في غيره، فالصور ست: تصح الجمعة فيها لأهل العتيق، وتبطل على غيرهم.
وبما قررت علم أن قوله: "وإن تأخر أداء"؛ أي أداء الجمعة في العتيق عن أدائها في غيره هو في غير الجمعة التي أثبتت كونه عتيقا؛ وهو واضح، قال الشيخ عبد الباقي: ثم قوله: "والجمعة للعتيق" مقيد بثلاثة قيود: أحدها: أن تقام به وبالجديد، فإن هجروا العتيق وصلوها في الجديد فقط صحت. قاله اللخمي. الثاني: أن لا يحكم حاكم بصحتها في الجديد تبعا لنذر بانيه عتق عبد بعينه إن صحت صلاة الجمعة فيه، فإن وقع ذلك وحكم مخالف بعتق العبد لصحتها صحت فيه؛ إذ حكمه الداخل في العبادات تبعا لنحو عتق، كما أفتى به الناصر اللقاني، لا ينقض. الثالث: أن لا يحتاجوا للجديد لضيق العتيق عنهم، وإلا صحت في الجديد لقول التوضيح: لا أظنهم يختلفون في جواز التعدد في مثل مصر وبغداد. انتهى. قوله: أن لا يحكم حاكم، قال الشبراخيتي: صورته أن يقول باني المسجد -مثلا-: إن صحت جمعة مسجدي هذا فعبدي فلان حر، فيأتي العبد إلى من يقول بالتعدد كالحنفي، فيثبت عنده أنه صلى في المسجد جمعة صحيحة، فيحكم الحاكم بعتقه لوقوع المعلق عليه، فيلزم من ذلك الحكم بصحة الجمعة ضمنا. انتهى. ونازع الشيخ محمد بن الحسن الشيخ عبد الباقي في قوله الثاني: أن لا يحكم حاكم الخ، وقال: فيه نظر؛ إذ حكم الحاكم في المسألة المذكورة لم يقع إلا في العتق لاعتقاده صحتها في الجديد، ولا يلزم من اعتقاده صحتها فيه حكمه بها. تأمله. انتهى. وفي الخرشي: أن ما أفتى به الناصر اللقاني فيه نظر، وإن قال به سند، قال: لأن حكم الحاكم لا يحل الحرام. انتهى. وفي كتاب الأمير. تقوية ما للناصر، فانظره إن شئت.
تنبيه: لو أقيمت الجمعة ابتداء في جامعين وليس أحدهما عتيقا، صحت جمعة من صلى فيه بتولية الإمام أو نائبه، وإلا فللسابق بالإحرام، فإن أحرما معا، حكم بفسادها وأعيدت جمعة، ولا تجزئهم ظهرا مع بقاء وقتها، وإن لم يعلم السابق حكم بفسادها وأعيدت ظهرا لاحتمال صحة جمعة المعيد. والجمعة لا تصلى مرتين، وما تقدم عن المصنف من قوله: لا أظنهم يختلفون في جواز التعدد في مثل مصر وبغداد. انتهى. هو نحو قول ابن عبد الحكم، وقد ذكره ابن يونس: على أنه تقييد للمذهب، لا على أنه خلاف. وقد نص العلماء على أنه يؤخذ من النص معنى يعممه، كما يؤخذ منه معنى يخصصه.
لا ذي رناء خف، هذا محترز الصفة المقدرة بعد قوله: مبنى؛ أي بناء معتادا كما تقدمت الإشارة إليه؛ يعني أن الجامع إذا لم يكن بناؤه معتادا بأن كان بناء خفيفا؛ وهو البناء الذي لا يعتاد للمساجد بحيث لا يطلق عليه اسم المسجد في عرفهم، فإنه لا تصح فيه الجمعة، أشار إلى ذلك الخرشي وغيره.
وفي اشتراط سقفه؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا في الجامع الذي تصلى فيه الجمعة، هل يشترط في صحتها فيه أن يكون مسقفا أي دواما؟ وأما ابتداء فلابد منه، وإلى ذلك ذهب الباجي، فلا يسمى عنده جامعا إلا إذا كان مسقفا أولا يشترط سقفه دواما كما ذهب إليه ابن رشد، وأما سقفه ابتداء فليس مما اختلفا فيه، بل لابد منه، انظر الشبراخيتي، وحاشية الشيخ بناني، فإنه قال: الذي يدل عليه نقل المواق عن الباجي وابن رشد: أن التردد بينهما إنما هو في الدوام، وبه قرر غير واحد، كما ذكره الرماصي. واستظهر الحطاب عدم اشتراط سقفه ابتداء ودواما، وقال الشيخ عبد الباقي: والمعتمد عدم اشتراط سقفه ابتداء ودواما، ونحوه للشيخ الأمير، فإنه قال: ولا يشترط سقف ولا قصد تأبيدها به، ولا إقامة الخمس على الراجح من التردد في الثلاثة. انتهى.
وقصد تأبيدها به؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا فيما إذا كانت الجمعة تصلى في مسجد وأرادوا إقامتها بآخر، فمنهم من قال: يشترط في صحتها في المسجد الذي نقلت إليه أن يقصدوا تأبيدها به؛ أي إقامتها فيه على الدوام؛ وهو للباجي، ومنهم من قال: لا يشترط ذلك وهو لابن رشد، وأما إذا لم تنقل من مسجد لآخر، بل أقيمت في مسجد ابتداء، فالشرط أن لا يقصدوا عدم التأبيد؛ بأن قصدوا التأبيد، أو لا قصد لهم.
وإقامة الخامس؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا في الجامع الذي تصلى فيه الجمعة، هل يشترط في صحتها فيه إقامة الصلوات الخمس فيه على الدوام؟ وهو قول ابن بشير، قال: سمعت أنه لابد أن يكون الصف دائما فيه، إلا أن تزيله الأعذار التي لابد منها، ونحوه للقاضي سند. ومنهم من ذهب إلى أنه لا يشترط ذلك، حكاه بعض الشيوخ، قال التتائي: ولم أقف عليه. ويجاب بأن سكوت غيره عن ذلك يفيد أنه لا يشترط ذلك، وتظهر ثمرة الخلاف فيما إذا بني مسجد لأن تقام
فيه فقط، وفيما إذا انقطعت إقامة الخمس فيه، ثم إن الذي يظهر أن الراجح المشهور القول بعدم اشتراط إقامة الخمس. قاله الشيخ إبراهيم. وتقدم أن ابن بشير القائل بالشرطية معترف بأن تعطله إن كان لعذر مغتفر: وقال الشيخ محمد بن الحسن: إنما أشار بالتردد في الفرع الأخير لما ذكر عن ابن بشير من الاشتراط وسكوت غيره عنه، ونزل ذلك منزلة التصريح بعدم الاشتراط؛ إذ لو كان شرطا لنبهوا عليه. انتهى. وقوله: تردد مبتدأ، وخبره المجرور بفي وما عطف عليه؛ أي في كل من الفروع الثلاثة تردد. وقد مر أن الراجح عدم الاشتراط في كل منها.
وصحت برحبته؛ يعني أن الجمعة تصح في رحبة المسجد؛ أي للمقتدي، وأما الإمام فلا تصح له ولا لهم إن صلى برحبة المسجد. كما للشيخ إبراهيم. وفي كون الرحبة صحن المسجد، أو حريم بابه، أو ما زيد في خارج محيطه لتوسعته. ابن راشد: وهو عندي أنسب؛ لأن صحنه منه، أقوال. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ إبراهيم: والصحيح أنها؛ يعني الرحبة ما زيد في خارج محيطه لتوسعته، وصحن المسجد ليس من رحابه على المذهب. انتهى.
وطرق متصلة به؛ يعني أن صلاة الجمعة تصح للمقتدي بالطرق المتصلة بالمسجد الذي تصلى فيه الجمعة، ولو كان بها أرواث دواب وأبوالها. قاله مالك. وقيده عبد الحق بما إذا لم تكن عين النجاسة فيها قائمة، قال: ولو صلى وعينها قائمة لأعاد إذا وجد من فضل ثوبه ما يبسط، وإلا كان كمن صلى بثوب نجس لا يجد غيره. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وأما الإمام إذا صلى بالطرق المتصلة بالمسجد؛ فإنها لا تصح له ولا لهم. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله: متصلة به"، معنى الاتصال أن لا يحول بينها وبين أرض المسجد غيره. قاله الشيخ إبراهيم إن ضاق؛ يعني أن محل صحة صلاة الجمعة للمقتدي بالرحبة والطرق المتصلة بالمسجد إنما هو إذا ضاق المسجد، اتصلت الصفوف، أم لا.
أو اتصلت الصفوف؛ يعني أنه لابد في صحة الجمعة للمقتدي بالرحبة أو الطرق المتصلة بالمسجد من أحد أمرين، ضيق المسجد -كما مر- أو اتصال الصفوف. وقد مر أن معنى الاتصال أن لا يحول بين الصفوف وبين أرض المسجد غير المسجد، فإذا اتصلت الصفوف صحت، ضاق المسجد أم لا، كما أنها تصح بهما إذا ضاق المسجد اتصلت الصفوف أم لا.
واعلم أن قوله: "إن ضاق" الخ، ليس مختصا بالطرق والرحاب، بل هو شرط في كل ما خرج عن المسجد منها أو من غيرها كما في المدونة، ولذا أتى ابن عرفة بعبارة عامة،
(1)
وخارجه غير محجور مثله إن ضاق أو اتصلت الصفوف، فيشمل ذلك دورا وحوانيت متصلة بحيطانه ليست محجورة. لا انتفيا؛ يعني أن الجمعة لا تصح في الرحاب والطرق المتصلة بالمسجد حيث انتفى الضيق والاتصال معا، قال في التوضيح: على ظاهر المذهب، وفي الحطاب بعد قوله: انتفيا، هذا هو الظاهر كما يفهم من كلام صاحب الطراز، خلافا لما رجحه المواق، والذي في المواق عن ابن رشد: ظاهر مذهب مالك في المدونة وسماع ابن القاسم صحة صلاته في الطرق المتصلة به مع انتفائهما، ولكنه أساء، قال الشيخ عبد الباقي: فكيف يعدل عنه؟ انتهى. وقال الشيخ الأمير: وصحت برحبته، وطرق متصلة به، وأساء إن لم يضق ولم تتصل الصفوف.
وتحصل مما مر أن الجمعة لا تصح إلا في الجامع بالشروط المتقدمة، وأنها لا تصح خارجه إلا مع ضيق المسجد أو اتصال الصفوف. سند: أما المسجد فهو شرط متفق عليه لا يؤثر فيه خلاف عن أحد إلا أبا ثور وشيء تأوله بعض الناس عن مالك، ثم قال: فعند مالك والشافعي لا يكون المسجد إلا داخل المصر ولا تصلى في مسجد العيد وقال أبو حنيفة تجوز خارج المصر، قريبا نحو المواضع التي جعلت مصلى لصلاة العيد، ووجه المذهب العمل المتصل، ولأن هذا الموضع يجوز لأهل المصر قصر الصلاة فيه إذا سافروا عن المصر، فلم تجز لهم إقامة الجمعة فيه كالمواضع البعيدة عنه. انتهى. قاله الحطاب. كبيت القناديل؛ يعني أن الجمعة لا تصح ببيت القناديل؛ أي قناديل المسجد، وكذا بيت بسطه وسقائه؛ لأنه محوز، وظاهر المصنف: ولو مع الضيق، ونظر فيه صاحب الطراز بأن أصله من أصل المسجد، وإنما قُصِرَ على بعض مصالحه فهو أخف من الصلاة في حجر النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
عبارة البناني 2 ص 55 بعبارة عامة فقال: وخارجه غير محجور الخ.
واعلم أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصلَّين الجمعة بحُجَرِهِنَّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعدد إلى أن متن؛ وهي أشد تحجيرا من بيت المال، وقد كان القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وابن شهاب يصلون في المقصورة في المسجد.
وأول من أحدث المقصورة في المسجد من الخلفاء معاوية رضي الله عنه حين طعنه الخارجي، ثم استمر العمل عليها وهذا إذا كانت مباحة، وأما المحجورة عن آحاد الناس فلا تجزئ الجمعة فيها؛ لأنها خرجت بالحَجْر عن حكم الجامع. قاله الشيخ إبراهيم. وقال ابن غازي: قال مالك: أول من أحدث المقصورة مروان بن الحكم حين طعنه اليماني، فجعل مقصورة من طين، وجعل فيها تشبيكا، قال ابن رشد: اتخاذها في الجوامع مكروه، فإن كانت ممنوعة تفتح أحيانا وتغلق أحيانا، فالصف الأول هو الخارج عنها اللاصق بها، وإن كانت مباحة غير ممنوعة، فالصف الأول هو اللاصق بجدران القبلة في داخلها. روي ذلك عن مالك. ابن عرفة: رواه ابن وهب بزيادة: لا بأس بالصلاة فيها. ونقل بعض معاصري شيوخنا أنه الموالي للإمام مطلقا، وأنكر عليه، وبحث عنه فلم يوجد، واحتج لا تقدم عن القاسم بن محمد وعروة وابن شهاب بقوله تعالى:{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} ؛ لأن حق الناس في المسجد جميعا، فليس لأحد أن يختص بشيء منه دون غيره. وانظر إذا كان بعض حوائط المسجد متصلا بالبحر وبجانبها سفن، هل تكون كالطرق المتصلة بها أم لا؟ وسطحه؛ يعني أن سطح المسجد لا تصح عليه الجمعة، قال فيها: ومن صلى يوم الجمعة على ظهر المسجد أعاد أبدا أربعا. ابن شاس: هو المشهور، وقال مالك، وأشهب، وأصبغ، ومطرف: يكره له ذلك ابتداء، فإن فعل صحت. وفصل ابن الماجشون بين المؤذن فتصح، وبين غيره فلا تصح، وحكى ابن يونس عن حمديس: الجواز إذا ضاق المسجد قاله الخرشي.
(ودار) يعني أن الدار المتصلة بالمسجد أو الكائنة بالطرق المتصلة به لا تصح فيها الجمعة حيث كانت محجورة ولو أذن أهلها، وأما إن لم تكن محجورة بأن كانت تدخل بغير إذن أهلها، فحكمها حكم رحاب المسجد والطرق المتصلة به. (وحانوت) يعني أن الحانوت المحجور لا تصح الجمعة فيه وأما إن لم يكن محجورا فأجْرِهِ على رحبة المسجد والطرق المتصلة به يا فتى.
وبجماعة؛ يعني أنه يشترط في صحة الجمعة أن توقع في جامع -كما مر- وفي جماعة من شرطها أن تتقرى؛ أي تستغني وتأمن، بهم؛ أي بتلك الجماعة قرية؛ أي أهلها؛ بأن يمكنهم الثواء؛ أي الإقامة شتاء وصيفا في محلهم، والدفع عن أنفسهم في الأمور الكثيرة لا النادرة، والباء في قوله:"بهم"، للسببية، أو للاستعانة.
وأفهم قوله: "قرية"، أنه لا يشترط كونها مصرا جامعا، وهو كذلك خلافا لأبي حنيفة، وأفهم أيضا أنه لا يشترط أن يكون بها سوق؛ وهو كذلك على الصحيح، وقد روى مطرف أن الجمعة تقام في قرية ذات ثلاثين بيتا، واعتمد عياض رحمه الله هذه الرواية في قواعده؛ إذ قال فيها: أو قرية يمكن استيطانها جامعة لأربعين بيتا أو ثلاثين فأكتر تشبه المصر في صورتها، يريد -والله أعلم- أن تكون متصلة البيوت، وقد روى القاسم بن محمد هذه الرواية حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من آثار المدونة، فمن أخذ بهذه الرواية وتقلدها وأقامها في قرية ثلاثين بيتا فأكثر متصلة البيوت أجزأته -إن شاء الله-؛ وإن كانت خلاف المشهور، قاله ابن هلال بعد تقويته أنها لا تقام إلا في الأمصار والقرى العظام التي تشبه الأمصار، بعد أن نقل أن الأصل الظهر فلا ينتقل عنه إلا بيقين، وأنها لا تقام إلا على صفة مجمع عليها، وأن الخطاب يتوجه بها، وبعد أن نقل عن ابن رشد: أن الجمعة لا تجب إلا في القرية الكبيرة المتصلة البنيان التي فيها الأسواق، ومرة سكت عن اشتراط الأسواق، وأن سحنونا أنكر إقامتها ببعض القرى. اللخمي: وأخبرني بعض تلك القرية أن بها عشرة مساجد.
واعلم أن ما يكون وسطا من مرابط الغنم والبقر، وحيث يلقى زبل، وتستنبت الخضر، وحانوت الحداد وشبهه، فإن ذلك كله من حكم الاتصال، ووقع التردد في المقبرة. انتهى. وقوله:"قرية"، بالفتح تجمع على قرى بالضم على غير قياس؛ لأن ما كان على فعلة بفتح الفاء من المعتل فجمعه ممدود كركوة وركاء وظبية وظباء، وجاء القرى مخالفا لبابه لا يقاس عليه.
ولما كان حضور الجماعة المتقرى بهم لا يعتبر في كل جمعة، بل في الجمعة الأولى فقط. قال: أولا؛ يعني أن الجماعة الذين تتقرى بهم القرية لابد أن يحضروا الجمعة الأولى؛ أي لابد في
صحة الجمعة الأولى أن توقع في جماعة تتقرى بهم القرية المقامة فيها الجمعة. بلا حد؛ يعني أن الجماعة المذكورين ليسوا محدودين على المشهور. وروى ابن حبيب: إذا كانوا ثلاثين رجلا أو ما قاربهم جمعوا، وإن كانوا أقل لم تجزهم. وفي مختصر الشيخ أبي إسحاق: اشتراط خمسين رجلا في صلاة الكسوف: قال بعضهم: فيه إشارة إلى اعتبار العدد في صلاة الجمعة. وحكى ابن الصباغ عن مالك أنها: لا تقام بأقل من أربعين رجلا، وذكر غيره قولا باعتبار اثني عشر، وأفهم كلام المؤلف أن الاثني عشر لا تتقرى بهم قرية، وعلى هذا فقوله:"بلا حد"، فيما زاد على الاثنى عشر. وإلا؛ يعني أنه إذا كان المقام غير الجمعة الأولى بل الثانية فما بعدها، فإنه لا يشترط في صحتها حضور الجماعة التي تتقرى بهم القرية، بل تصح.
وتجوز؛ أي تجوز إقامتها باثني عشر من دون الإمام أحرار ذكورٍ بالغين متوطنين؛ أي ساكنين للبلد على نية التأبيد، مالكيين، أو حنفيين، كشافعيين قلدوا واحدا ممن ذكر، لا إن لم يقلدوا فلا تصح جمعة المالكي باثني عشر شافعيين لم يقلدوا؛ لأنه يشترط عندهم في صحتها أربعون يحفظون الفاتحة بشدَّاتها. فإن نقصوا لم تصح حال كون الاثني عشر. باقين لسلامها؛ أي لابد من بقائهم مع الإمام إلى أن يسلموا كلهم، فلو فسدت صلاة واحد منهم ولو بعد ما سلم الإمام بطلت على الجميع، ولابد أيضا من أن يحضر الجماعة الاثنا عشر الخطبة، فإن حضر ثالث عشر في الصلاة دون الخطبة، ثم حصل عذر لواحد من الاثني عشر الحاضرين للخطبة بطلت صلاة الجميع.
تنبيه: من أدرك ثانية الجمعة مع الإمام، ثم بعد سلامه أي الإمام تذكر -أي هذا الذي أدرك الثانية- أنه نسي منها سجدة، سجدها باتفاق ابن القاسم وأشهب، ثم كمل أربعا عند ابن القاسم، وجمعة عند أشهب مراعاة لعدم سلام المأموم. ويوافقد ما تقدم في قوله:"وتداركه إن لم يسلم"، من أن المعتبر سلام المأموم، فإنا عرفت هذا عرفت أن الشيخين متفقان على أن سلام الإمام لا يفيت التدارك، ومبنى القولين على الخلاف فيما يحصل به إدراك الجماعة.
وقد تقدم أن ابن القاسم يشترط إدراك الركعة بسجدتيها، وأن أشهب يكفي عمده إدراك الركوع. انتهى ملخصا من شرح الشيخ عبد الباقي، وحاشية الشيخ محمد بن الحسن بناني.
وما قررت به كلام المصنف من أنه يشترط حضور الجماعة الذين تتقرى بهم القرية في الجمعة الأولى دون غيرها فيكفي اثنا عشر باقين لسلامها، مطابق لما فهمه في توضيحه من كلام ابن عبد السلام، والذي فهمه غيره من كلام ابن عبد السلام أنه لا يشترط حضور الجماعة الذين تتقرى بهم القرية في الجمعة الأولى ولا في غيرها، وإنما يشترط حضورهم في القرية بحيث إنهم إذا استعين بهم أعانوا.
ولابد من وجود اثني عشر مع الإمام في كل جمعة، وهذا الثاني هو المذهب، وإنما اكتفي باثني عشر لأن الذين لم يَنفَضُّوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدوم العير كانت عدتهم كذلك، وهم الصحابة العشرة وبلال، واختلف في الثاني عشر، فقيل: عمار بن ياسر، وقيل: ابن مسعود رضي الله عنهم، ووقع في رواية خالد الطحان أن جابرا قال: أنا منهم، وأما وقت انفضاضهم؛ ففي الخطبة.
وقال الشيخ الأمير: وتجب على جماعة تتقرى بهم قرية بلا حد، ولو سافر بعضهم قريبا ويعود اعتبر، وتسقط الجمعة بموت بعضهم حيث كان الباقي لا تتقرى بهم قرية، ثم تصح بحضور اثني عشر منهم تلزمهم الجمعة غير الإمام لسلامها، وإمام مقيم، ولو كان بقية القرية أرقاء مثلا ولو في أول جمعة، على ما قرره الحطاب؛ وهو المرتضى.
ويتحصل من كلامهم هنا أن المذهب أن الجمعة إنما تجب إذا كان في البلد جماعة تتقرى بهم القرية، فإذا وجدوا به فإنها تجب عليهم عند توفر الشروط، فإن حضروها فواضح، وإلا فتصح باثني عشر باقين لسلامها، فالجماعة المتقرَى بها شرط في وجوب الجمعة؛ بمعنى أنها لا تجب إلا إذا وجدوا في القرية، ولا يشترط حضورهم الصلاة لا في الجمعة الأولى ولا في غيرها؛ بل تجوز باثني عشر باقين لسلامها، هذا هو المعتمد كما عرفت. ويمكن حمل كلام المص عليه بتكلف. فتحمل الأولية على أولية إقامتها ووجوبها على أهل البلد؛ أي شرط خطابهم بها في أول أمرهم كونهم ممن تتقرى بهم قرية، ويكون معنى قوله: وإلا بأن لم تكن في أولها بل عند إقامتها فإنها تجوز باثنى عشر الخ. وجعله الخرشي على هذا الوجه مستدركا من مقدر أي وحضروها وإلا
يحضروها فتجوز باثني عشر الخ. وقرر بعض الأولية على أولية إحرامها والدخول فيها؛ أي تشترط الجماعة التي تتقرى بهم القرية أولا؛ أي عند الدخول فيها لا دواما، فلو تفرقوا عنه بعد الإحرام أتمها باثني عشر. قاله الخرشي.
قال جامعه عفا الله عنه: ولا يخفى ما في هذين التقريرين من التكلف. والله سبحانه أعلم. ولو كانت الجماعة التي تتقرى بهم القرية فيهم اثنا عشر ممن تنعقد بهم والباقي ممن لا تنعقد بهم، فهل يكتفى بذلك أم لا؟ قولان حكاهما ابن الحاجب وابن ناجي، واستظهر الأول وإذا تفرق من تتقرى بهم القرية يوم الجمعة في أشغالهم من حرث أو حصاد ولم يبق إلا اثنا عشر والإمام، جَمَّعوا. قاله ابن عرفة. ولو ارتحلت الجماعة المتقرية بهم القرية ولم يبق إلا اثنا عشر والإمام، جَمَّعوا إن نوت المرتحلة العود، وسافروا لموضع قريب، وأمن الباقون على أنفسهم كأن لم يكن أهلها إلا اثني عشر فقط مع إمكان الثواء والذب عن أنفسهم وإلا فلا، كتقريها بثلاثة أو أربعة. قاله الشيخ عبد الباقي. بإدخال شيء فيه من كلام الشيخ محشيه محمد بن الحسن بناني.
وعلم مما مر أن التقري شرط وجوب بإمام مقيم؛ حال من قوله: "باثني عشر"، أو من قوله:"بجماعة": كما قاله الخرشي؛ يعني أن الجمعة لابد لها من إمام مقيم إقامة تقطع حكم السفر سواء كان متوطنا أم لا، فإذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام صحاح، جاز أن يكون إماما في الجمعة، وقال الشيخ محمد بن الحسن: ولو عطف قوله: "بإمام"، بالواو على ما قبله من الشروط كان أولى. انتهى. وقال غير واحد: إنما أتى بلفظ إمام توطئة لما بعده؛ لأنه علم من قوله: "اثني عشر" الخ، ولا تتوقف إجازة إمامة المسافر المقيم في الجمعة على عدم وجود خطيب في البلد، خلافا للجزولي، وابن عمر. قال الإمام الحطاب: والجواز هو الظاهر من إطلاق أهل المذهب، وتصح إمامته، ولو سافر بعد صلاته للجمعة إماما من غير طرو عذر.
واعلم أن أهل القرية تجب عليهم وتنعقد بهم، ومن على كفرسخ تجب عليه ولا تنعقد به كالمسافر الذي نوى ببلدها إقامة تقطع حكم السفر، ويجوز أن يكون الإمام فيها من الأخيرين كالأول، وأما المسافر الذي لم ينو إقامة تقطع حكم السفر فلا يصح أن يكون إماما فيها كمن على أكثر من كفرسخ، وإنما اشترط في الإمام أن يكون مقيما، ولم يشترط فيه التوطن كالجماعة الاثني
عشر؛ لأنه نائب عن الخليفة، فأعطي حكما متوسطا بين الجماعة والخليفة. وقال أشهب وسحنون: لا يشترط في الإمام أن يكون مقيما؛ لأنها إذا حضرها وجبت عليه وصار من أهلها، وعن مطرف وعبد الملك: إن كان مستخلفا صحت، وإلا فلا. والفرق بين جواز إمامة المقيم هنا ومنع إمامة المعتكف في المسجد ليلة المطر، ضعف التبعية هنا لمشاركته للمتوطن في وجوبها على كل، وقوة التبعية في المعتكف لانتفاء موجب الجمع فيه، فمنعت أن يكون متبوعا، وأيضا الجمع رخصة يقتصر فيها على محل ورودها.
إلا الخليفة يمر بقرية جمعة؛ يعني أن الخليفة المسافر تصح إمامته في الجمعة إذا مر بقرية من قرى عمله توفرت فيها الشروط الموجبة للجمعة، فإذا مر بهم ولم يصلوا الجمعة، فيسحب له أن يُجَمِّع وتصح له ولهم، وأما لو قدم في الوقت بعد أن صلوا الجمعة فإنه لا يقيمها على الأصح. قاله في الشامل. وقوله:"إلا الخليفة" الخ هو غير مختلف فيه، قاله ابن رشد.
ومثل الخليفة نائبه في الحكم والصلاة، قال الشبراخيتي: وأما الآن فليس لهم نيابة في الصلاة فيخطب إمام المسجد بحضورهم، وقوله:"إلا الخليفة"، مستثنى من مفهوم الصفة. قاله الشيخ إبراهيم. ولا تجب عليه؛ يعني أن الخليفة الذي يمر بقرية جمعة من قرى عمله في سفره، لا تجب عليه الجمعة، وإن صحت إمامته لأهلها حيث توفرت فيها الشروط وبغيرها تفسد عليه وعليهم؛ يعني أن الخليفة إذا مر في سفره بقرية من قرى عمله لم تتوفر فيها شروط الجمعة، وجمَّع بهم؛ أي صلى بهم الجمعة، فإنها تفسد عليه؛ إذ لا جمعة يسقط عنه حضورها الظهر، وتفسد عليهم أيضا لقصرهم الحضرية. وفي المدونة: قال مالك: إن خطب الأول ثم قدم وال سواه لم يصل بهم بالخطبة، وليبتدئ هذا القادم. قال محمد: وإن لم يقدم الثاني حتى صلى الأول بالقوم ركعة فإنه يتم بهم الركعة الثانية ويسلم، ثم تعاد الخطبة والصلاة من أولها، ولا يجوز أن يصلي الثاني من الجمعة ركعة ولا أقل بلا خطبة؛ لأن خطبة الأول باطلة. قاله الخرشي. وقال: ولو حضر؛ يعني الخليفة، ولو بعد الإحرام، ولو صلى ركعة بطلت، ويبتدئ الصلاة هو أو نائبه، وقيل: بعد ركعة تصح الصلاة.
وبكونه الخاطب؛ يعني أنه يشترط في صحة صلاة الجمعة أن يكون الإمام هو الخاطب، قال ابن الحاجب: ومن شروطها أن لا يصلي غير الخاطب إلا لعذر. انتهى. قوله: "وبكونه الخاطب"؛ يعني (لأن ذلك فعله عليه الصلاة والسلام، وفعل الخلفاء بعده وغيرهم من التابعين إلى عصرنا هذا. قاله الخرشي، وغيره.
وبما قررت علم أن قوله: "وبكونه"، عطف على الشروط السابقة، وقوله:"الخاطب"، خبر الكون. إلا لعذر؛ يعني أن ما مر من اشتراط كون الإمام هو الخاطب محله إن لم يحصل للخاطب عذر، وأما إن حصل له عذر كما إذا: مرض، أو جُنَّ، أو أغمي عليه، أو عجز، أو أحدث، أو رعف مع بعد الماء؛ فإنه يجوز أن يصلي غيره إماما. قاله الشيخ إبراهيم.
وعلم من هذا أنه لا يجتزأ إلا بخطبة البالغ الذكر: وقوله: "إلا لعذر"، فيستخلف من يصلي بهم، فإن لم يستخلف استخلفوا لأنفسهم. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي عند قوله:"إلا لعذر": فيخطب بالغ حر ذكر مقيم ويصلي غيره، فإن خطب غير بالغ وصلى بطلت. انتهى.
ووجب انتظاره لعذر قرب زواله؛ أي أن الخاطب إذا وقع له عذر يمنع الإمامة بعد الخطبة أو أثناءها، فإن كان العذر يقرب زواله كالحدث فانه يجب انتظاره بالصلاة، قاله ابن كنانة وابن أبي حازم. وقيل: يستخلف عليهم، فإن لم يستخلف، استخلفوا هم ولا ينتظرونه، وهذا القول هو ظاهر المدونة. والقول الأول عزاه ابن يونس لسحنون، وقال بعض: وعزاه سند للجلاب، ورواه ابن حبيب عن مالك، ونحوه في الموازية، وقاله أشهب في المجموعة، وكأن صاحب الطراز جعله تفسيرا للمدونة، وبه جزم ابن كدوف في الوافي، فلذلك صححه المؤلف، فقال: على الأصح، وكلام المدونة هو قوله: فيها، وإذا أحدث الإمام في الخطبة فلا يتمها ولكن يستخلف من شهدها، وكذلك إن أحدث بعد الخطبة أو بعد ما أحرم، فإن مضى ولم يستخلف لم يصلوا أفذاذا واستخلفوا من يتم بهم، وأحب إلي أن يقدموا من شهد الخطبة، فإن لم يشهدها أجزأهم. انتهى.
وقد تقدم في باب الاستخلاف أن انتظار الإمام إذا وقع له العذر في الصلاة مبطل، ومفهوم قوله:"لعذر قرب" أنه إن بعد زوال العذر لا ينتظر فيستخلف أو يستخلفون، فإن تقدم إمام من غير استخلاف أحد صحت، وأما لو وقع العذر قبل الشروع في الخطبة له أولهم فينتظر لبقاء جمعة من الاختياري عند ابن القاسم، وهو المعتمد، وصلى الظهر.
وبخطبتين؛ يعني أن صحة الجمعة مشروطة بخطبتين، ولابد أن يكونا في داخل المسجد -كما مر- ولابد أيضا أن يكونا قبل الصلاة؛ أي صلاة الجمعة، فلو خطب بعدها أعاد الصلاة فقط. قاله في المدونة. قال الشبراخيتي: وأركان الخطبة ثلاثة: كَلامٌ مسجع مشتمل على تحذير وتبشير، وَكَوْنُهَا بالعربي وإليه أشار بقوله: مما تسميه العرب خطبة، وبالعجمية لغو وتعاد بالعربي، وكَوْنُها جهرا، وسرها لغو، وتعاد، ولذا قال ابن عرفة: ظاهر المذهب أن إسرارها كعدمها، وأنكر قول ابن هارون: قالوا إن سَرَّها
(1)
حتى لم يسمعه أحد أجزأته، وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فصرح سند باستحبابها، وعند الشافعي أنها لا تسمى خطبة إلا بها، وأما المصنف فصرح باستحبابها، وأما ابتداؤها بالحمد فصرح ابن عرفة باستحبابه، وأما الدعاء للصحابة فبدعة مستحسنة، وأما ذكر السلاطين والدعاء لهم فبدعة، لكن بعد إحداثه واستمراره في الخطب في أقطار الأرض بحيث يخشى من عدمه على الخطيب غوائله ولا تؤمن عقوبته صار راجحا أو واجبا. قاله الشيخ إبراهيم، وغيره. وقال ابن المقوي من الشافعية: والمختار لا بأس بالدعاء للسلطان ما لم يكن فيه مجاوزة في وصفه؛ إذ يستحب الدعاء بصلاح السلاطين. قاله الحطاب.
وقال الشيخ الأمير: وندب حمد وصلاة وهي سجع، ولا تبطل بنثرها ونظمها، والدعاء للصحابة والمسلمين بالثانية حسن، وللخليفة مكروه، وحرم لجائر أمن وإلا فقد يجب، ولا يضر تقديم الثانية. وقال الشيخ محمد بن الحسن: قال بعض المحققين: الخطبة عند العرب تطلق على ما
(1)
كذا في الأصل، وفي الشبراخيتي ج 1 مخطوط. وسيعيدها المؤلف بلفظ: أسرها، في ص 659 من هذا الجزء.
يقال في المحافل من الكلام المنبه به على أمر مهم لدينهم المرشد فيه إلى مصلحة حالية أو مئالية تعود عليهم وإن لم تكن فيه موعظة أصلا، فضلا عن تبشير أو تحذير أو قرآن يتلى. وقول ابن العربي: أقله حمد الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وتحذير وتبشير وقرآن، مقابل المشهور، كما في ابن الحاجب. انتهى. وفي الشبراخيتي: وقال بعضهم: وهي نوع من الكلام مسجع مخالف للنظم والنثر يشتمل على نوع من التذكرة، فإن أتى بكلام نثر فظاهر كلام مالك أنه يعيد قبل الصلاة ويجزئ بعدها. وقوله:"مما تسميه العرب خطبة"؛ أي ولابد أن يكون لهما بال، فإن هلل وكبر فقط لم يجز، ويستحب كونهما على المنبر. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي عند قوله:"مما تسميه العرب خطبة"، فلابد من كونها لها بال: ووقوعها بغير اللغة العربية لغو، فإن لم يكن في الجماعة من يعرف العربية والخطيب يعرفها وجبت أيضا، وقول التتائي: فإن لم يكن من يوعظ فهو عبث. انتهى. مراده: لم يكن ثم أحد بالكلية كما في عبارة ابن عطاء الله، فإن لم يعرف الخطيب عربية [لم تجب]
(1)
.
ثم إنه يجب في مسألة المصنف اتصال أجزاء بعضها ببعض، واتصالهما بالصلاة، ويسير الفصل مغتفر. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الإمام الحطاب: من شروطها اتصالها بالصلاة. انتهى. تحضرهما الجاعة؛ يعني أن الجماعة الذين لا تنعقد إلا بهم -وهم الاثنا عشر المتقدم ذكرهم- لابد أن يحضروا الخطبتين من أولهما، فأل للعهد الذكري، فإن لم يحضروا من أولهما لم يكتف بذلك.
وعلم من هذا أن حضور الخطبتين ليس بفرض عين على كل من تجب عليه الجمعة؛ إذ لو كان كذلك لما اختص بالعدد المذكور، فهو فرض كفاية إن زادوا على العدد المذكور، وفرض عين إن لم يزيدوا عليه، وإنما كان حضور الجماعة للخطبتين واجبا لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي
(2)
). ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم قط جمعة إلا بخطبة في جماعة مستقلة.
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 2 ص 57.
(2)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:631.
سند: فلو فرغ المؤذن ولم يأت أحد، نظر، فإن كان في المسجد جماعة تنعقد بهم الجمعة خطب، وإلا انتظر الجماعة، وما مشى عليه المصنف من أن الخطبتين شرط في صحة الجمعة، وأنه لو تركهما أو إحداهما لم تصح الجمعة هو مذهب ابن القاسم. وقال ابن الماجشون بسنيتهما وفي الواضحة: عن مالك سنية الثانية، وقد مر أنه لو أوقع الصلاة قبل الخطبة ثم خطب، أعاد الصلاة فقط.
واعلم أن ما يقال: إن عثمان رضي الله عنه صعد المنبر فأرتج عليه، وأنه قال كلاما من جملته: أنتم إلى أمير فعال، أحوج منكم إلى أمير قوال، كذبة عظيمة. قاله الشبراخيتي، ونحوه في الحطاب.
واستقبله غير الصف الأول؛ يعني أنه إذا قام الإمام على المنبر يخطب، فإنه يجب على غير الصف الأول أن يستقبلوه بوجوههم، وأما الصف الأول فلا يلزمهم ذلك؛ لأنهم لا يتأتى لهم استقباله إلا بانتقالهم عن مواضعهم. الشادلي: فإن استقبلوه فلا شيء عليهم. انتهى وتبع المصنف فيما قاله اللخمي؛ وهو خلاف المذهب: أنه يجب على الناس استقبال الإمام بوجوههم على أهل الصف الأول وغيرهم، من سمعه ومن لم يسمعه، من يراه ومن لا يراه؛ لأن الإمام ترك استقبال القبلة واستقبلهم ليكون أبلغ في وعظهم، فعليهم أن يستقبلوه إجابة وطاعة. ابن القاسم: رأيت مالكا يتحدث مع أصحابه قبل أن يأتي الإمام، وبعد ما جاء لا يقطع حديثه، ولا يصرف وجهه إلى الإمام، ويقبل هو وأصحابه على الحديث كما هو حتى يسكت المؤذن، فإذا سكت، وقام الإمام للخطبة، تحول هو وأصحابه إلى الإمام، ويستقبلونه بوجوههم. عياض: قوله في الحديث: (إذا قعد الإمام على المنبر فاستقبلوه بوجوهكم). انتهى. ذكر القعود هنا على المنبر مجاز، قال: إنما ذلك إذا قام يخطب، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (كنا إذا خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبلناه بوجوهنا
(1)
)، والذي يطلب استقباله هو وجه الإمام؛ أي
(1)
الترمذي في سننه، كتاب الجمعة، رقم الحديث:509. ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا.
ذاته لا جهته. قاله الخرشي. وقال الشيخ عبد الباقي: واستقبله وجوبا كما في المدونة. والباجي: عند نطقه بالخطبة لا قبله ولو جالسا على المنبر غير الصف الأول بذاته وجهته، وكذا الصف الأوك بجهته. انتهى. وقال الشيخ الأمير: والراجح سنية استقبال ذاته، ولو للصف الأول خلافا للأصل ولعبد الباقي. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: وبهذا علم أن معنى قول عبد الباقي: "واستقبله غير الصف الأول"، بذاته وجهته؛ أنه يجب استقبال ذات الإمام، ويلزم من ذلك استقبال جهته على من لم يكن في الصف الأول، فالضمير في ذاته للإمام، وكذا الضمير في جهته؛ أي يستقبلون ذاته وجهته، على حد قولهم: جاء زيد بنفسه؛ وأن معنى قوله: وكذا الصف الأول بجهته، يجب على من في الصف الأول أن يستقبلوا جهته، وإن لم يستقبلوا ذاته فليس بواجب عليهم استقبال ذاته، فلا يلزمهم الانتقال حتى يستقبلوا ذاته. والله سبحانه أعلم.
وقال الشيخ محمد بن الحسن: إن قول عبد الباقي: وكذا الصف الأول بجهته. كلام غير محرر. انتهى. وقال الشبراخيتي: والمشهور أنه يستقبله أهل الصف الأول وغيره، من يراه ومن لا يراه، من يسمعه ومن لا يسمعه، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إذا قعد الإمام على المنبر يوم الجمعة فاستقبلوه بوجوهكم، وأصغوا إليه بأسماعكم، وارمقوه بأبصاركم). انتهى. وفي الحطاب بعد جلب أنقال: فتحصل أن في وجوب الاستقبال طريقين، الأكثر على وجوبه. انتهى ورده الرماصي بقول الطراز: لا يحفظ وجوبه عن أحد، وصرح مالك بأنه سنة؛ وبأن أبا الحسن في شرح المدونة صرح بأن الاستقبال مستحب مقتصرا عليه. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: الظاهر ما للحطاب لأن الوجوب ظاهر المدونة أو صريحها، ونصها: وإذا قام الإمام يخطب فحينئذ يجب قطع الكلام واستقباله والإنصات إليه. ونقل عن أبي الحسن خلاف ما نقل عنه الرماصي من ندب الاستقبال، فقال بعد أن نقل كلامه: وهذا كالصريح في الوجوب. اهـ. وعلى ما مشى عليه المصنف، فالظاهر أن الفرق بين الصف الأول وغيره، أن الصف الأول لقربهم منه لا يلزمهم استقبال ذاته، فلا يطالبون بانتقالهم عن مواضعهم، بخلاف غيرهم.
وفي وجوب قيامه لهما تردد؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا في حكم قيام الخطيب إذا كان يخطب، فمنهم من ذهب إلى أن القيام في حال الخطبتين واجب. قاله القاضي أبو بكر. وكذا الجلوس لهما، ونحوه للمازري، وزاد أن ذلك شرط، ومنهم من ذهب إلى أن القيام سنة، فإن خطب جالسا أساء وأجزأت. قاله القاضي عبد الوهاب. أبو الحسن: والذي يقوى عندي أن القيام والجلستين واجبان وجوب السنن فقط.
وقال الشبراخيتي: الأكثر على أن القيام فيهما واجب. كما قاله ابن عرفة. وذهب ابن العربي إلى أن القيام لهما سنة.
ولما أنهى الكلام على شروط الصحة، شرع في الكلام على شروط الوجوب، وهي خمسة، فقال: ولزمت المكلف؛ يعني أنه يشترط في لزوم الجمعة التكليف، فلا تجب على صبي ولا مجنون، وليس ذكره بضروري؛ إذ هو غير خاص بها، بل تركه أولى كما قاله في التوضيح: أنه لا يذكر في شروط الشيء إلا ما يخصه، لكنه ذكره توطئة للأوصاف بعده. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله:"ولزمت المكلف"؛ أي عينا بأوصافه الآتية ولو كافرا؛ لأنهم مخاطبون بفروع الشريعة. الحر؛ يعني أنه يشترط في لزوم الجمعة مع التكليف الحرية، فلا تجب على المكلف إذا كان قنا أو فيه شائبة، ولو أذن السيد فإن حضرها الصبي أو القن أو من فيه شائبة أجزأتهم عن الظهر. الذكر؛ يعني أنه يشترط في لزوم الجمعة مع التكليف والحرية المذكورة، فلا تجب على امرأة، فإن حضرتها أجزأتها إجماعا. قاله الشيخ إبراهيم. بلا عذر؛ يعني أنه يشترط في لزوم الجمعة للمكلف الحر الذكر أن يكون غير ملابس لعذر من الأعذار الآتية، في قوله:"وعذر تركها والجماعة شدة" الخ، فإن تلبس بعذر منها سقط عنه وجوب الجمعة -كما يأتي- والأصل فيما ذكر قوله صلى الله عليه وسلم (الجمعة واجبة إلا على امرأة، أو صبي، أو مريض، أو عبد، أو مسافر
(1)
). المتوطن؛ يعني أن الجمعة تلزم: المكلف، الحر، الذكر، غير المعذور إذا كان متوطنا
(1)
البيهقي، ج 3 ص 183. ولفظه: الجمعة واجبة على كل مسلم إلا على مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض. وفى رواية له: إلا على مريض أو مسافر.
للبلد الذي تقام فيه الجمعة، ومفهوم المصنف أن غير المتوطن فيه تفصيل؛ وهو أن المسافر لا تجب عليه إن لم ينو إقامة تقطع حكم السفر، فإن نواها لم تجب عليه إلا تبعا، كما يأتي إن شاء الله سبحانه.
وقد مر أنها لا تنعقد إلا بالمتوطن، وأن المقيم إقامة تقطع حكم السفر يكون إماما في الجمعة، وإن لم يكن متوطنا بقريتها.
واعلم أن المتوطن ببلد الجمعة تلزمه وإن بعدت داره عن المنار، سمع النداء أم لا، وأما من قريته خارجة عن بلد الجمعة فإنها تلزمه إن كانت قريبة، بل تلزمه وإن كان توطنه بقرية نائية بنون وهمزة بعدها ياء، من النأي؛ وهو البعد. بكفرسخ من المنار؛ يعني أن الجمعة تلزم من كان متوطنا بقرية بعد ما بينها وبين منار المسجد الذي تصلى فيه الجمعة قدر كفرسخ؛ أي ثلاثة أميال. وثلث ميل والمنار هو: السمعة، فإن اتحد النار فالأمر واضح، وإلا فالظاهر كما قال الأمير: اعتبار الأقرب.
وبما قررت علم أن قوله: "بكفرسخ"، متعلق "بنائية"، ولو أبدل قوله:"بقرية"، بمحل لكان أحسن، ليشمل من توطن محلا قريبا من محل الجمعة، وإن لم يكن قرية كبيت شعر ونحوه. قال الخرشي في نقله عن الأجهوري، بعد أن فسر المتوطن هنا بأنه المتوطن بغير بلد الجمعة ما نصه: وأخرج بقوله: "المتوطن" من كان مقيما بكفرسخ من المنار؛ وهو غير متوطن، بأنه لا تلزمه الجمعة. انتهى.
وحاصله أن المقيم بكفرسخ من المنار لا تلزمه الجمعة، لا أمالة ولا تبعا، بخلاف المقيم ببلد الجمعة فتلزمه تبعا، ولا تنعقد الجمعة بالتوطن بكفرسخ من المنار، مع أنها تلزمه تبعا. والله أعلم. وأخرج أيضا من ببلد على أكثر من كفرسخ من المنار، فلا تلزمه الجمعة.
واعلم أن المراعى الشخص لا المسكن، فمن خرج عن مسكنه الداخل لثلاثة أميال فأخذه الوقت خارجها لا تجب عليه، وتجب على من منزلة خارج الثلاثة فأخذه الوقت داخلها، كما قاله الجزولي. وخالفه يوسف بن عمر في الثاني، فقال: لا تجب عليه إلا إن دخل مقيما لا مجتازا. انتهى. قاله الخرشي. وقد تقدم أن من في بلد الجمعة تلزمه ولو كان منزلة أبعد من المنار بأكثر
من كفرسخ، الجزولي: أهل الجمعة ثلاثة أصناف: صنف تجب عليه وتنعقد به؛ وهم أهل المصر الذي يجب أن تقام به الجمعة، وصنف تجب عليه ولا تنعقد به؛ وهم الخارجون عنها ومحلهم داخل ثلاثة أميال، وصنف لا تجب عليه ولا تنعقد به؛ وهم الخارجون عن ثلاثة أميال أي وربع الميل أو ثلثه. قاله الشيخ الخرشي. وقد تقدم تقرير قوله: باستيطان بلد، بما يعلم به أنه لا يستغنى به عن قوله:"المتوطن"، والله سبحانه أعلم.
وبما قررت علم أن "من" في قوله: "من المنار"، لابتداء الغاية في المكان، وفي كلام المصنف رد على ابن عبد الحكم القائل: إنما تعتبر الأميال الثلاثة من خارج المصر لا من المنار، والأول أظهر، ثم شبه في لزوم الجمعة فروعا أربعة، فقال: كإن أدرك المسافرَ النداءُ قبله؛ يعني أن المسافر من وطنه إذا أدركه النداء بكسر النون؛ أي الأذان، والمراد به الأذان الثاني الذي تكون الخطبة عقبه قبل أن يجاوز فرسخا، فإنه يجب عليه الرجوع إذا علم أو ظن أنه يدرك منها ركعة فأكثر، وإلا فلا فائدة في رجوعه. قاله الشيخ إبراهيم.
وقد علمت أن هذا فيمن سافر من وطنه، وأما من أقام ببلد إقامة تقطع حكم السفر، ثم خرج منه وسمع النداء قبل مجاوزة الفرسخ؛ فإنه لا يلزمه. قاله الشيخ إبراهيم، وغيره. وكلام الناصر اللقاني خلاف ظاهر كلام أهل المذهب، والله سبحانه أعلم. قوله:"كإن أدرك المسافر النداء"، ظاهره أن الرجوع معلق بسماع الأذان؛ أي فلا يلزمه الرجوع إلا إذا سمع الأذان؛ وهو قول الباجي وسند، وعلق ابن عرفة الرجوع أي وجوبه بالزوال، سمع النداء أم لا، والضمير في قوله:"قبله"، للفرسخ من دون اعتبار مدخول الكاف؛ وهو المطابق للنقل، مع أن القياس وجوبه بالأولى من الساكن بالمحل المذكور. قاله غير واحد. وقال الشيخ الأمير: كإن أدرك المسافر النداء به؛ أي بكفرسخ.
أو صلى الظهر ثم قدم؛ يعني أن المسافر إذا صلى الظهر وحدها فذا أو في جماعة، أو صلى الظهر مع العصر كذلك، ثم إنه قدم وطنه أو غيره ناويا إقامة تقطع حكم السفر، فوجدهم لم يصلوا الجمعة فإنه تلزمه صلاة الجمعة معهم عند مالك لتبين استعجاله، وإذا لزمه إعادتها وكان قد
صلى العصر، فالظاهر أنه يعيد العصر استحبابا لا وجوبا، بمنزلة من صلى العصر قبل الظهر ناسيا. قاله الشيخ إبراهيم، والشيخ عبد الباقي، وزاد كما يدل له ما تقدم عند قوله:"وجاز له دخول على ما أحرم به الإمام". انتهى.
قال الشيخ محمد بن الحسن: ما تقدم له هناك من عنده وهو غير مسلم له فراجعه. انتهى. وقوله: "أو صلى الظهر ثم قدم"، قال عبد الباقي: وإذا ترك ما وجب عليه من إعادتها معهم، فهل يعيدها ظهرا قضاء عما لزمه من إعادتها جمعة أولا؟ لتقدم صلاته لها قبل لزومها له جمعة، وظاهر قوله لآتي:"وغير المعذور إن صلى الظهر مدركا" الخ. الثاني: لعذره بالسفر. انتهى. قال الرهوني: سلم التاودي وبناني توقفه واحتجاجه، وما كان ينبغي لهما ذلك؛ فإن النصوص مصرحة بخلاف ذلك، ومن العجب أن ذلك في المواق، ففيه عن مالك ما نصه: إذا دخل المسافر وطنه بعد أن صلى الظهر ركعتين، فإن قدر أن يصلي الجمعة مع الإمام صلى وقد انتقضت صلاته. وفيه: عن ابن القاسم ولو أحدث الإمام فقدمه فصلى بهم لأجزأتهم. انتهى. وأتى بعد هذا من النقول بما هو فوق الكفاية، وما تقدم من أن من صلى الظهر ثم قدم، يشمل من قدم غير وطنه ناويا إقامة تقطع حكم السفر، صرح به في التوضيح، فجَعْلُ الأجهوري له بحثا قصور. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقوله. "أو صلى الظهر ثم قدم"، هو قول مالك، وقال ابن نافع: لا تلزمه لأنه فعل ما خوطب به، ويؤمر أن يأتي الجمعة، فإن لم يفعل فلا شيء عليه. وقال أشهب: إن صلى الظهر في جماعة فالأولى فرضه، وينبغي له أن لا يأتي الجمعة، وإن صلى فذا فله أن يعيدها جماعة. وقال سحنون: إن صلى الظهر، وقد بقي بينه وبين المسجد ثلاثة أميال فأقل لزمته، وإلا فلا. قاله الخرشي.
أو بلغ؛ يعني أن الصبي إذا صلى الجمعة أو الظهر ثم بلغ قبل تمام فعل الجمعة بحيث يدرك منها ركعة فأكثر مع الإمام؛ فإن الجمعة تلزمه، فإن لم تمكنه جمعة أعاد الظهر؛ لأن فعله ولو جمعة قبل البلوغ نفل، فلا يجزئ عن فرض. والظاهر شمول قوله:"أو صلى الظهر ثم قدم"، والفرعين بعده لمن تجب الجمعة عليه ولا تنعقد به. كما قاله الخرشي. وقد تقدم -شمول الأول لمن قدم غير وطنه ناويا إقامة تقطع حكم السفر- عن التوضيح.
أو زال عذره؛ يعني أن من صلى الظهر لعذر من سجن، أو مرض، أو رق، ثم زال عذره قبل الجمعة بحيث يدرك مع الإمام ركعة؛ بأن خلي سبيل المسجون، أو صح المريض، أو أعتق الرقيق؛ فإنها تجب عليه؛ لأن العاقبة أسفرت أنه من أهلها، وقيل: لا تلزمه؛ لأنه أدى ما عليه. ومن صلى الجمعة بمحل إقامة تجب عليه فيه الجمعة تبعا، ثم قدم وطنه قبل إقامتها فيه، لم تجب عليه إعادتها ولا وجه للتنظير في ذلك، فإن المقيم والمستوطن سواء في الوجوب عليهما. قاله الشيخ محمد بن الحسن.
لا بالإقامة؛ يعني أن الجمعة إنما تجب بالتوطن، وأما الإقامة فلا تجب بها ولو طالت، كمارين بقرية خالية يقيمون بها مدة طويلة من غير استيطان لها، والاستيطان هو نية الإقامة على التأبيد. إلا تبعا؛ يعني أن ما تقدم من عدم لزوم الجمعة لمن نوى إقامة أربعة أيام فأكثر من غير استيطان، إنما هو إذا لم يحضر من المتوطنين من تنعقد به الجمعة، وأما إن حضر من المتوطنين من تنعقد به الجمعة وهو الاثنا عشر المتقدم وصفهم، فإن المقيم حينئذ تلزمه الجمعة، وهذا هو معنى قوله:"تبعا".
وعلم من هذا أن المنفي لزومها له استقلالا -والله سبحانه أعلم- فإذا كان العدد لا يتم إلا به لم يعتبر ولا تقام الجمعة، ويجوز أن يكون إماما -كما مر- قال الشيخ عبد الباقي: ومقتضى تعريفهم الاستيطان بنية الإقامة أبدا: أن من له زوجتان ببلدين متباعدين، ينوي الإقامة عند كل واحدة سنة -مثلا- أنه ليس مستوطنا للبلدين، وقد يقال: هو ناو فيهما الإقامة أبدا. انتهى.
ولما فرغ المصنف رحمه الله من الكلام على شروطها، أخذ يتكلم على مستحباتها، فقال: وندب تحسين هيئة؛ يعني أنه يندب لمريد حضور الجمعة أن يحسن هيئته؛ يعني الذاتية، بدليل قوله:"وجميل ثياب" من قص شارب، وظفر، ونتف إبط، وحلق عانة إن احتاج إلى ذلك، وإلا فهو على هيئة فلا يتعلق بها ندب التحسين؛ لأن تحصيل الحاصل محال، وسواك مطلقا، وقد يجب إن أكل كثوم يومها ولو حرم، وتوقفت إزالة رائحته عليه فإن لم يزلها سقط حضورها. كما يأتي.
تنبيه: قال في الرسالة: والكحل للتداوي للرجال؛ أي ولا بأس بالكحل لأجل التداوي للرجال. قاله الشادلي. مفهومه: أنه لا يكتحل الرجال لغير ضرورة؛ وهو كذلك على أحد القولين، والآخر عن مالك جوازه، وعن الشافعي رضي الله عنه: هو سنة، لما روي (أنه صلى الله عليه وسلم كان له مكحلة يكتحل بها عند النوم ثلاثا في كل عين
(1)
): ووجه القول الأول بقوله: وهو من زينة النساء والتشبه بهن حرام، كالعكس إجماعا إلا لضرورة. انتهى. وجميل ثياب؛ يعني أنه يندب لمصلي الجمعة أن يلبس الثياب الجميلة؛ وهي البيض وإن عتيقة.
واعلم أن تحسين الهيئة وجميل الثياب للصلاة لا لليوم، بخلاف العيد فلليوم، وندب فيه الجديد ولو أسود، فإن كان يوم الجمعة يوم عيد لبس الجديد غير الأبيض أول النهار، والأبيض لصلاة الجمعة ولو عتيقا -كما مر- ويدل له خبر الموطإ:(ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين للجمعة سوف ثوبي مهنته)
(2)
؛ إذ الاتخاذ يشعر بقدمه، قال السيوطي: قال ابن عبد البر: المراد بالثوبين قميص ورداء، أو جبة ورداء، والمهنة بفتح الميم: الخدمة، وحُكِي كسرها، وأنكره الأصمعي. والأظهر أن ما للاستفهام الإنكاري؛ لأنه يفيد الطلب دون كونها للنفي، والمقصود من الحديث التحريض على التزين للجمعة والترغيب فيه، وعلى هذا الوجه حمله الباجي وغيره، والنفي ذكره الطيبي، واستبعده ابن مرزوق.
وطيب؛ يعني أنه يندب للمصلي للجمعة أن يتطيب، قال الشيخ الخرشي عند قوله:"وندب تحسين هيئة"، هذا المستحب، وما بعده للصلاة لا لليوم. انتهى. قوله:"وطيب"، هو والاثنان قبله لغير النساء، قاله غير واحد. والمراد به: ماله رائحة طيبة، كماء الورد والبخور. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة. ولبس من أحسن ثيابه، ومس من
(1)
الترمذي، كتاب الطب، رقم الحديث:2048. مسند أحمد، ج 1 ص 334.
(2)
الموطأ، كتاب الجمعة، الحديث:244. ولفظه:
…
ثوبين لجمعته الخ.
طيب إذا كان عنده، ثم أتى يوم الجمعة
(1)
ولم يتخط أعناق الناس، ثم صلى ما كتب له، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته، كان كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها
(2)
).
وفي الموطإ: (كان ابن عمر لا يروح إلى الجمعة إلا إذا ادَّهَنَ وتطيب
(3)
). وقال الإمام الشافعي: من نظف ثوبه قل همه ومن طاب ريحه زاد عقله.
وإنما طلب الطيب والسواك يومها لأجل الملائكة الذين يكونون على أبواب المساجد يكتبون الأول فالأول، وربما صافحوه أو لمسوه، وفي رواية لابن خزيمة: (على كل باب من أبواب المسجد يوم الجمعة ملكان يكتبان الأول فالأول
(4)
). قاله الشبراخيتي: وفي الخرشي: ومنها التطيب بأي رائحة طيب، ولو بأنثى الطيب. انتهى. وقال الشيخ زروق: وتستحب الزينة، وقص الشارب، والظفر، ونتف الإبط، والاستحداد، والسواك، وجميل الثياب. انتهى. وقاله في الطراز. قاله الحطاب. ومشي؛ يعني أند يندب للذاهب إلى الجامع لصلاة الجمعة المشي في ذهابه، لما فيه من التواضع لله عز وجل، والاستكانة المطلوبين في جميع العبادات، وأما رجوعه، فإن شاء ركب فيه، وإن شاء مشى. وفي الحديث:(من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار)
(5)
؛ أي وشأن المشي الاغبرار، وإن لم يكن بينه وبين الجامع ما يغبر منه، واغبرار قدمي الراكب نادر، أو مظنة لعدم ذلك غالبا، فلا يرد نقضا.
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يأتي ماشيا من ذي الحليفة، وقد نقل ابن الملقن في شرح البخاري: أن الماشي إلى الجمعة له بكل قدم كعمل عشرين سنة، وساق في ذلك حديثا من طريق
(1)
كذا في الأصل والذي في أبي داود: ثم أتى الجمعة.
(2)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:343. ولفظه: من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه ومس من طيب كان عنده ثم أتى الجمعة ولم يتخط أعناق الناس ثم صلى ما كتب الله له ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التى قبلها.
(3)
عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يروح إلى الجمعة إلا ادّهن وتطيب إلا أن يكون حراما. الموطأ، ص 101.
(4)
على كل باب من أبواب المسجد يوم الجمعة ملكان يكتبان الأول فالأول، كرجل قدم بدنة، وكرجل قدم بقرة، وكرجل قدم شاة، وكرجل قدم طيرا، وكرجل قدم بيضة، فإذا قعد الإمام طويت الصحف. صحيح ابن خزيمة، الحديث:1770.
(5)
البخاري، كتاب الجمعة، رقم الحديث:907.
الصديق رضي الله عنه: أن المشي إليها بكل قدم كعمل عشرين سنة، فإذا فرغ من الجمعة أجيز بعمل مائتي سنة. قاله الشيخ إبراهيم.
وتهجير؛ يعني أنه يستحب في الجمعة التهجير أي الذهاب للمسجد بالهاجرة، وهل هي الساعة التي يعقبها الزوال؛ وهي السادسة من النهار؟ وإليه ذهب الباجي، وصاحب الاستذكار، والعبدي، وشهره الرجراجي. وقال التتائي: إنه الصحيح، وقال الحطاب: إنه الأصح، واقتصر عليه الأمير فقال: ورواح في السادسة؛ وهي المقسمة في الحديث. انتهى، أو التي تعقب الزوال؛ وهي السابعة من النهار؟ واختاره ابن العربي، وقال ابن عرفة: إنه الصحيح وعليه الأبي والمواق، قولان. وقال الحطاب: ما صححه ابن عرفة خلاف الأصح؛ أي والأصح أنها السادسة؛ لأن الإمام يطلب خروجه أول السابعة، وبخروجه تحضر الملائكة. والحديث المشار إليه هو حديث الموطإ؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر
(1)
). انتهى. نقله الشيخ بناني، وغيره. وكره إمام الأئمة مالك التبكير، واستحبه الإمام الشافعي، وإنما كره مالك التبكير لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولا الخلفاء بعده، وخيفة الرياء والسمعة.
واعلم أن المراد في مذهبنا بالساعة في الحديث المذكور: أجزاء الساعة، فالساعة السادسة من النهار هي المُجَزَّأة الأجزاء المتقدمة، فجزؤها الأول هو الذي من راح فيه كأنما قرب بدنة، وجزؤها الثاني هو الذي من راح فيه كأنما قرب بقرة، وهكذا؛ وهذا هو الأصح؛ وهو الراجح. كما علمت. وقيل. إن الساعة المجزأة بهذه الأجزاء هي الساعة السابعة من النهار؛ وهي التي تعقب الزوال. وتقدم أن الإمام الشافعي استحب التبكير، واختلف فقهاؤهم في الساعة الأولى، هل هي من طلوع الفجر، أو الشمس؟ قال الشيخ عبد الباقي: والمجاز لازم على كلا المذهبين، أما على
(1)
الموطأ، كتاب الجمعة، رقم الحديث:227.
مذهبهم فالتجوز في الرواح؛ لأن الرواح حقيقة في الذهاب بعد الزوال، لقوله تعالى:{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} ، والساعة على حقيقتها في مذهبهم، وأما على مذهبنا فالتجوز في الرواح، وفي الساعة على أن المراد بالساعة المجزأة الساعة السادسة من النهار؛ وهي التي يعقبها الزوال، ففيه مجازان، وأما على أنها السابعة فالمجاز في الساعة فقط، والرواح على حقيقته، وأُيِّدَ مجاز مذهبنا بقوله في بقية الخبر: عقب الخامسة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر؛ إذ خروجه لا يعقب الخامسة، وإلا لزم إيقاع الجمعة قبل الزوال.
ثم لا يخفى أن الخبر فيه الغسل، فلا يحصل الثواب الخاص إلا لفاعله، وإلا حصل له ثواب تهجير دون ما في الخبر من بدنة فبقرة فكبش فدجاجة فبيضة. انتهى. قوله: والتجوز في الساعة، قال الشيخ محمد بن الحسن: كذا في أبي الحسن، والذي لأبي بكر بن العربي في العارضة: قال مالك: الرواح إلى الجمعة إنما يكون بعد الزوال، إلى أن قال: والساعة عند العرب جزء من الزمان غير مقدر، فأفاد أن لا تجَوُّز في لفظ الساعة، وقوله: وأيد مجاز مذهبنا الخ، هذا التأويل لا يظهر إلا إن قلنا إن الساعة الأولى عندهم من طلوع الشمس لا من طلوع الفجر، وأما إن قلنا من طلوع الشمس فلا. انتهى. وقال الشبراخيتي: إن محل الخلاف، هل الساعة الأولى من طلوع الفجر أو الشمس؟ إنما هو فيما عدا يوم الجمعة، وأما يوم الجمعة فمن طلوع الشمس بلا خلاف. انتهى. وفي الشبراخيتي ما نصه: وفي حديث: بعد الكبش (بطة ثم دجاجة ثم بيضة
(1)
)، وفي رواية النسائي: (دجاجة ثم عصفور ثم بيضة
(2)
)، وإسنادهما صحيح، وعليه فتكون الساعات ستا. انتهى. والعبرة بخروج الشخص من منزلة، لا بوصوله للمسجد، فلو خرج من منزلة في الساعة الأولى، ولبعد منزلة لم يصل إلى المسجد إلا في الساعة الثانية مثلا، فله أجر الساعة الأولى. وإقامة أهل السوق مطلقا بوقتها؛ يعني أنه يندب للإمام أو نائبه أن يقيم من في السوق مطلقا؛ أي من تلزمه الجمعة، ومن لا تلزمه عند دخول وقت الجمعة.
(1)
النسائي، كتاب الجمعة، رقم الحديث:1386. مسند أحمد، ج 2 ص 259.
(2)
النسائي، كتاب الجمعة، رقم الحديث:1384. ط دار الكتب العلمية.
ومعنى الإقامة أن يقيمهم من حوانيتهم وأسواقهم؛ أي يصرفهم عنها ولا يدعهم يتبايعون، أما إقامة من تلزمه الجمعة؛ فليلا يشتغل عنها، وأما إقامة من لا تلزمه الجمعة؛ فليلا يشغل من تلزمه أو يستبد بالربح. فيدخل على من تلزمه الضرر، فيمنعون ولو كفارا، وأيضا من لا تلزمه الجمعة يستحب حضور، وقوله:"بوقتها"، الباء للظرفية؛ وفي نسخة "باللام"؛ وهي للتعليل، أو بمعنى: عند. وقوله: "بوقتها"، وقتها هو الأذان الثاني؛ أي أنه يستحب للإمام أو نائبه أن يقيم رجلا نائبا عنه يقيم الناس من السوق وقتها. ابن حبيب: ينبغي للإمام أن يوكل قبل النداء من ينهى الناس عن البيع والشراء، وأن يقيم من الأسواق من تلزمه، الجمعة ومن لا تلزمه وندب الإقامة للإمام لا ينافي وجوب السعي، وترك البيع على من تلزمه -كما لا يخفى- قاله الشيخ عبد الباقي. وإنما يمنع من البيع من لا تلزمه الجمعة في الأسواق، وأما في غير الأسواق فجائز للعبيد، والنساء، وأهل السجن، والمرضى أن يتبايعوا فيما بينهم. قاله ابن رشد.
وسلام خطيب لخروجه؛ يعني أنه يندب للخطيب أن يسلم عند خروجه على الناس؛ أي عند دخوله المسجد ليرقى المنبر، قال ابن عرفة: ويسلم لدخوله، وفي الشادلي: ويسلم على الناس عند دخوله، فالندب منصب على خروجه على الناس.
وأما أصل السلام فسنة. وفي الرسالة: وليرق المنبر كما يدخل أي وقت دخوله، فالكاف للمبادرة، وقوله:"لخروجه": قد علمت أن المراد بالخروج هنا: الدخول، ووجه تعبيره بالخروج مع أن المراد الدخول أنه أراد به خروجه من باب المسجد على الناس. قاله الإمام الحطاب. وأيضا في الحديث: (من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه، ومس من طيب إذا كان عنده، ثم أتى يوم الجمعة ولم يتخط أعناق الناس، ثم صلى ما كتب له، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته، كان كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها
(1)
). انتهى. فتأمل قوله: ثم أنصت إذا خرج إمامه.
(1)
أبو داود، كتاب الطهارة، رقم الحديث:343. باختلاف في بعض ألفاظه.
لا صعوده؛ يعني أنه لا يندب للخطيب تأخير السلام لانتهاء صعوده على المنبر، بل يكره ذلك، ولا يجب رده لأنه لم يرد في شيء من الروايات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو أمر محدث؛ وهو مذهب الإمام الشافعي، قاله الشارح. وما تقدم من أنه لا يجب الرد حيث سلم بعد انتهاء صعوده، ولو كان المسلم شافعيا يقول به. قاله الشيخ عبد الباقي. والله سبحانه أعلم. وقال أبو الحسن: يسلم الخطيب. والمؤذن الذي يناوله العصا، قال بعض: فيؤخذ منه أن يكون معه مؤذن يناوله العصا. قاله الخرشي.
وجلوسه بالرفع، عطف على نائب فاعل ندب. أولا؛ يعني أنه يندب للخطيب الجلوس أولا؛ أي إثر صعوده لفراغ الأذان؛ وهي للاستراحة من صعوده. سند: ولذا سميت الدرجة التي يجلس عليها المستراح، والراجح أنه سنة؛ وهو الذي جزم به ابن عرفة، وحكى ابن الحاجب وجوبه، وأنكر عليه وعلى ابن عبد السلام إقراره. وبينهما؛ يعني أنه يندب للخطيب الجلوس بين الخطبتين للفصل والاستراحة من تعب القيام قدر الجلوس بين السجدتين. ابن عات: قدر: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وما ذكره في هذين منتقد، والمعتمد سنية كل اتفاقا في الثاني، وعلى الراجح في الأول كما في ابن عرفة. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: اتفاقا في الثاني، هذا الاتفاق نقله ابن عرفة عن الباجي، وعارضه بقول ابن العربي: إن الجلوس بينهما فرض. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الإمام الحطاب: لم أر في الثاني قولا بالاستحباب، فضلا عن كونه المشهور، ثم قال: والحاصل أن كلا من المسألتين سنة على المعروف. انتهى.
وتقصيرهما؛ يعني أنه يندب للخطيب تقصير الخطبتين، بحيث لا يخرجهما تقصيره لهما عما تسميه العرب خطبة، لخبر: (طول صلاة الرجل وقصر خطبته [مئنة]
(1)
، من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة
(2)
).
(1)
ساقطة من الأصل.
(2)
مسلم، كتاب الجمعة، رقم الحديث:869. ولفظه: إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة وإن من البيان سحرا.
وقد مر أن التخفيف لكل إمام مجمع على استحبابه، فراجعه إن شئت؛ أي فيحمل قوله: فأطيلوا الصلاة على ما إذا لم يضر بمن خلفه على ما مر. والله سبحانه أعلم.
والثانية أقصر؛ يعني أنه يندب أن تكون الخطبة الثانية أقصر من الأولى، ابن حبيب:(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل المسجد رقى المنبر فجلس، ثم يؤذن المؤذن، وكانوا ثلاثة يؤذنون على المنار، واحدا بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام النبي صلى الله عليه وسلم يخطب)، وكذلك كان في حياة أبي بكر وعمر، ثم أمر عثمان لما كثر الناس أن يؤذن بالزوراء عند الزوال؛ وهو موضع في السوق ليرتفع منه الناس، فإذا خرج وجلس على المنبر أذن المؤذنون على المنار، كما كان يفعل في زمنه عليه الصلاة والسلام، وزمن صاحبيه المذكورين.
ثم إن هشام بن عبد الملك لما ولي إمارة المدينة أمر بنقل الأذان الذي كان بالزوراء، فجعل مؤذنا واحدا يؤذن عند الزوال على المنار، وأمر بنقل الأذان الذي كان على المنار بين يديه، واستقر العمل عليه. انتهى. ونقل الشادلي عن الشيخ زروق ما يخالف هذا عند قول أبي محمد: والسنة المتقدمة أن يصعدوا حينئذ على المنار؛ فإنه قال: أراد بالسنة المتقدمة سنة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؛ إذ لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم منار. انتهى. قال الشادلي: وفي كلام الفاكهاني مخالفة له. انتهى.
وعلم مما مر أن الإمام يرقى المنبر كما يدخل، وإذا صعد عليه أخذ المؤذنون في الأذان واحدا بعد واحد، وبعد صعود الإمام على المنبر يجلس للاستراحة من تعب صعوده إلى فراغ المؤذنين من الأذان، ويجب السعي إليها إذ ذاك، ويحرم البيع إذ ذاك أيضا؛ أي عند جلوس الإمام على المنبر، وأخذ المؤذنين في الأذان.
ومثل البيع غيره مما يشغل عن السعي، فإذا فرغ من الأذان خطب الإمام، وتقام الصلاة عند فراغ الخطبة، ولابد من اتصالها بالصلاة، ويسير الفصل مغتفر. والله سبحانه أعلم. وفي الحطاب: أن الأذان بين يدي الإمام في الجمعة مكروه، ونهى عنه مالك؛ لأنه بدعة أول من أحدثه هشام بن عبد الملك. ورفع صوته؛ يعني أنه يستحب للخطيب أن يرفع صوته بالخطبتين؛ لأنه أبلغ في
الإسماع للوعظ، وعدل عن أن يقول: وجهر بهما؛ لأن الجهر بهما بقدر الإسماع واجب، والمندوب هو رفع الصوت بهما، وأما إسرارهما فكعدمهما.
وإنما ندب رفع الصوت بهما لخبر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته
(1)
)، ولذا يستحب كونه على منبر، وقال تاج الدين بهرام عند قوله:"ورفع صوته": يريد للإسماع، قال ابن شاس: ولذا استحب المنابر لأنها أبلغ في الإسماع، ألا ترى أنه لو خطب بالأرض جاز؟ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، وأنكر ابن عرفة قول ابن هارون، قالوا: إن أسرها حتى لم يسمعه أحد أجزأت. انتهى.
وأول من اتخذ المنبر من غير الخلفاء: عمرو بن العاص لما بنى جامعه بمصر، كتب إليه عمر: أما بعد فقد بلغني عنك أنك اتخذت منبرا ترقى فيه على رقاب المسلمين، أما يكفيك أن تقوم قائما والمسلمون تحت عقبيك، فعزمت عليك لما كسرته فكسره. وانظر أمره له بكسره مع أنه صلى الله عليه وسلم خطب على المنبر. قاله التتائي.
(وكان منبره عليه الصلاة والسلام من خشب من أثل الغابة، كما في البخاري ومسلم
(2)
). والأثل بسكون المثلثة، وفي المواهب: لم يثبت أنه كان من طين، وكان ثلاث درجات، وخطب أبو بكر بعده صلى الله عليه وسلم على الدرجة الثانية أدبا معه عليه الصلاة والسلام، ثم عمر على الأخيرة القريبة للأرض ثم عثمان على التي كان يقف عليها الصديق، ورقى علي على التي كان يقف عليها النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي صنع منبره عليه الصلاد والسلام؛ هو ياقوت النجار القبطي، صنعه من طرفاء، وقيل: ميمون، وقيل: قبيصة، وقيل: تميم الداري، (وكان عليه الصلاة والسلام يخطب إلى جذع: فلما
(1)
مسلم، كتاب الجمعة، رقم الحديث:867.
(2)
البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث:377. مسلم كتاب المساجد، رقم الحديث: 544.
اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتى إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فالتزمه) وفي رواية (فمسحه
(1)
) وفي أخرى (فسمعنا له صوتا مثل أصوات العشار
(2)
).
وكان منبره عليه الصلاة والسلام ثلاث درج غير الدرجة التي تسمى المستراح، ويستحب أن يقف على الدرجة التي تليها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، وأجيب عما يفعله الخلفاء رضي الله عنهم؛ بأن فعل بعضهم ليس بحجة على بعض، ولكل منهم قصد صحيح، والمختار موافقة النبي صلى الله عليه وسلم لعموم الأمر بالاقتداء.
وأول من خطب على المنابر سيدنا إبراهيم. واستخلاف لعذر حاضرها؛ يعني أن الخطيب إذا حصل لد عذر في أثناء الخطبة أو بعدها، وقبل الصلاة، أو في أثناء الصلاة؛ فإنه يستحب له أن يستخلف لإتمام الخطبة، أو للصلاة، أو لإتمامها من حضر الخطبة كلها في الأخيرتين، أو بعضها في الأولى، ويخطب من انتهاء الأول إن علم، وإلا ابتدأها، كما في مسألة: وقرأ من انتهاء الأول، فإن لم يستخلف وجب على المأمومين الاستخلاف.
والحاصل أن الإمام يندب له الاستخلاف في الجمعة وغيرها، فإن لم يستخلف وجب الاستخلاف على المأمومين في الجمعة، وندب لهم في غيرها، هذا هو تحرير المسألة. وإنما يستخلف في الجمعة من تصح إمامته فيها، فلا يجوز استخلاف المسافر والعبد فيها، خلافا لأشهب، كما مر في الجماعة. قاله الحطاب.
وقراءة فيهما؛ يعني أنه يستحب للخطيب أن يقرأ في الخطبتين شيئا من القرآن. ابن يونس: ينبغي قراءة سورة تامة في الأولى من قصار المفصل، (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يقرأ في خطبته:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}
(3)
: وكان عمر بن عبد العزيز يقرأ مرة: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر} ، ومرة:{وَالْعَصْرِ} . وقوله: "فيهما"؛ أي في مجموعهما الصادق بالأولى،
(1)
البخاري، كتاب المناقب، رقم الحديث 3583.
(2)
البخاري، كتاب المناقب، رقم الحديث:3585.
(3)
تفسير ابن كثير ج 3 ص 13. ط دار الفكر.
وعبارة الشيخ الأمير: وقراءة في الأولى، وعبارة الشبراخيتي: واستحب أهل المذهب سورة كاملة في الأولى من قصار المفصل، وعبارة الشيخ عبد الباقي بعد أن جلب كلام ابن يونس: ويستفاد من النص المذكور أن المراد بقوله: "فيهما" في مجموعهما.
وقد مر أن ابتداء الخطبة بالحمد لله مندوب، وكذا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وختم الثانية بيغفر الله لنا ولكم؛ يعني أنه يندب للخطيب في الجمعة أن يختم الخطبة الثانية بقوله: يغفر الله لنا ولكم، وقال ابن عرفة: ويستحب بدؤها بالحمد، وختمها بأستغفر الله لي ولكم. وأجزأ اذكروا الله يذكركم؛ يعني أنه يجزئ في تحصيل المندوب؛ وهو ختم الثانية بيغفر الله لنا ولكم أن يختمها بقوله: اذكروا الله يذكركم، لكن الأول أفضل، قال في المدونة: والشأن أن يقول إذا فرغ من خطبته: يغفر الله لنا ولكم، ولو قال: اذكروا الله يذكركم، فحسن، والأول أصوب. انتهى فقوله:"وأجزأ"؛ أي في تحصيل المندوب الذي الكلام فيه، فلا تكلف فيه، وفهم من كلام المصنف أنه لا يختمها بقوله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} .
وأول من قرأ في الخطبة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} : عمر بن عبد العزيز، وأول من قرأ في الخطبة:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} : المهدي العباسي، وقال ابن حبيب: ليس من السنة رفع الأيدي بالدعاء عقب الخطبة إلا لخوف عدو أو قحط أو أمر، فلا بأس بأمر الإمام لهم بذلك. قاله الشيخ عبد الباقي. وتوكؤ على كقوس؛ يعني أنه يستحب للخطيب أن يتوكأ أي ينعطف على قوس غير عود المنبر، ولو خطب بالأرض. وقوله:"وتوكؤ على كقوس"، وتكون في يمينه؛ وهو من الأمر القديم، (وفعل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده
(1)
). واختلف في العلة في ذلك، فقيل: خوف العبث بمس لحيته أو غيرها، وقيل: تهييب للحاضرين وإشعار بأن من لم يقبل تلك الموعظة فله العصا، فإن تمادى على عدم قبولها قوتل بالسيف أو القوس، فإن لم يتوكأ فلا سنة له فيما يصنع بيديه، فإن شاء أرسلهما أو قبض اليمنى باليسرى، أو عكسه. قاله
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:1096.
الشبراخيتي وإنما استحب كون العصا غير عود المنبر؛ لأنه لا يمكنه إرساله خوف سقوطه، بخلاف عود المنبر، فإنه يمكنه أن يرسله ولا يسقط، والمذكور في المدونة العصا، وسوى بها ابن حبيب القوس، فلو ذكرها لأنها الأصل لكان أولى، وإن لم توجد العصا فالقوس أو السيف، ويستحب أن تكون على منبر غربي المحراب، وروى ابن القاسم يخير من لا يرقاه في قيامه عن يمينه أو شماله، ورجح ابن رشد يمينه لمن يمسك عصا بقرب المحراب، وشماله لتاركها ليضع يده على عود المنبر، وأنكر ابن الحاج الصعود إلى أعلاه إن كان أكثر من درجات المنبر النبوي؛ وهي ثلاث درج -كما تقدم- والمراد بالقوس: القوس العربية؛ لأنها طويلة، لا الرومية؛ لأنها قصيرة. قاله الخرشي.
وقال الحطاب: قال ابن عرفة: وفي استحباب توكئه على عصا بيمينه خوف العبث مشهور روايتي ابن القاسم وشاذتهما. وفي إغناء القوس عنها مطلقا أو بالسفر فقط روايتا ابن وهب وابن زياد، ويستحب كونه على منبر عن يمين المحراب، وقال الشيخ الأمير: وتوكؤ على قوس عربية، وهو طويل يسير الاعوجاج، والأفضل العصا.
وقراءة الجمعة؛ يعني أنه يندب قراءة سورة الجمعة، في الركعة الأولى من صلاة الجمعة وإنما ندبت قراءة الجمعة فيها لمواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك غالبا. قاله الشبراخيتي. ولو فات الإمام قراءتها في الأولى: فلا يندب له قراءتها في الثانية، على ظاهر المذهب، إلا أن يكون قرأ في الأولى من فوقها؛ لأنه يكره تنكيس القراءة. قاله سند. قاله غير واحد. وإن لمبسوق؛ يعني أنه يندب قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى من صلاة الجمعة -كما علمت- ولا فرق في ذلك بين الإمام وغيره من مسبوق أدرك مع الإمام الركعة الثانية وفاتته الأولى؛ فإنه إذا سلم وقام لقضاء الأولى يستحب له أن يقرأ سورة الجمعة، وظاهره كالمدونة، وإن لم يكن الإمام قرأها. وهل أتيك؛ يعني أنه يندب للإمام في الجمعة أن يقرأ في الركعة الثانية منها ب:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} على ظاهر المذهب، قال فيها: وأحب إلينا أن يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة. ثم: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} .
وأجاز بالثانية بسبح؛ يعني أن الإمام مالكا عليه رضوان السلام وجمعني وإياه في دار السلام، أجاز في تحصيل الندب قراءة سورة:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، في الثانية: أو المنافقون؛ يعني أن الإمام أجاز أيضا في تحصيل الندب قراءة سورة المنافقون في الثانية، وتحقيق ما أشار إليه المصنف أنه مخير في الركعة الثانية من الجمعة بين قراءة هذه السور الثلاث:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، والمنافقون، فبأيتهن قرأ حصل المندوب.
والحاصل أن هنا قولين؛ أحدهما: أن المندوب قراءة: هل أتيك في الثانية؛ وهو قول المدونة، ثانيهما: التخيير في السور الثلاث، فبأيتهن قرأ في الركعة الثانية حصل المندوب، قال الشبراخيتي: ولو قال المصنف، و:{هَلْ أَتَاكَ} بثانية، أو هي أو:{سَبِّحِ} ، أو المنافقون، لوفى بما ذكر؛ وهو أن المستحب في الثانية إما الاقتصار على {هَلْ أَتَاكَ} ، أو الإتيان بها أو بـ {سَبِّحِ} ، أو المنافقون، والأول هو قول المدونة، والثاني هو قول الكافة. انتهى.
ولا يتوهم أن المصنف يحتمل أن {هَلْ أَتَاكَ} في الأولى، والجمعة في الثانية، مع ما علم، مما مر في كلامهم أن التنكيس مكروه أو خلاف الأولى، قال ابن قاسم الشافعي: والمصنفون يتركون أشياء اعتمادا على شهرتها فيما بينهم، ولا عيب عليهم في ذلك. انتهى. فكيف بما يفهم من سياق المصنفين أنفسهم؟ قاله الشيخ عبد الباقي.
وبما قررت من أن معنى: "أجاز"، أجاز في تحصيل الندب، اندفع ما يقال إن في قوله:"وأجاز"، نظراً؛ إذ لا يختص الجواز بما ذكر؛ إذ يجوز في الثانية قراءة أي شيء من القرآن. وحضور مكاتب؛ يعني أنه يندب للمكاتب أن يحضر الجمعة؛ أي يندب له أن يصلي الجمعة أذن سيده أم لا، لسقوط تصرفه عنه بالكتابة.
وصبي؛ يعني أنه يندب للصبي حضور الجمعة؛ أي يندب له أن يصليها أذن وليه أم لا، قال الشيخ عبد الباقي مشبها على الندب: كمسافر حيث لا مضرة عليه بحضوره ولا يشغله عن حوائجه، وإلا خير كذا ينبغي. قاله في التوضيح. فإن حضرها المكاتب لزمته ليلا يطعن على
الإمام؛ وهو يوافق قوله: المار وإلا لزمته وفي الفاكهاني: لا تجب على المسافر إذا حضرها، قال الشيخ علي الأجهوري:
من يحضر الجمعة من ذي العذر
…
عليه أن يدخل معهم فادر
وما على أنثى ولا أهل السفر
…
والعبد فعلها وإن لها حضر
انتهى. وفيه مخالفة لقول الشادلي: إن صلاة المرأة في بيتها أفضل لها من حضور الجمعة في المسجد. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن بناني عن الشيخ الرماصي: إن عدم لزومها للمسافر على نقل الفاكهاني، إنما هو إذا حضر المسجد قبل الإقامة فلا إثم عليه في تركها لتلبسه بالعذر، بل له أن يخرج قبل الإقامة، ولا إثم عليه بخلاف ذى العذر، فإنه أبيح له التخلف للعذر، فإذا تكلف وحضر وجبت عليه لزوال العلة، أما خروج المسافر من المسجد بعد الإقامة فشيء آخر لا يؤخذ من نقل الفاكهاني؛ أي فلا يجوز له الخروج بعد الإقامة كما يشمله عموم المصنف في قوله: وإلا لزمته، فتقييد الأجهوريَّ بأن قوله: وإلا لزمته، فيمن تلزمه بعينها، والمسافر لا تلزمه بعينها، بل الواجب عليه الظهر، فَهْمٌ لكلام الأئمة على غير وجهه، وذِكْرٌ لقيد انفرد به. والله الموفق. انتهى.
وعبد ومدبر؛ يعني أنه يندب للعبد القن والمدبر أن يحضرا الجمعة؛ أي يندب لهما أن يصلياها في المسجد بشرط أن يكونا قد أذن لهما في حضور الجمعة سيدهما؛ أي المالك لهما، ومثلهما المعتق لأجل، وكذا المبعض إن كان يوم الجمعة لسيده، وإلا حضر بدون إذن سيده، وللخمي أن الجماعة الساقطة عنهم الجمعةُ أصناف، صنف تجب عليهم وتنعقد بهم إذا حضروها؛ وهم أصحاب الأعذار من المتوطنين الأحرار المذكور البالغين: وصنف لا تجب عليهم إذا حضروها ولا تنعقد بهم؛ وهم الصبيان: وصنف لا تجب عليهم، واختلف هل تنعقد بهم أم لا؟ وهم: النساء، والعبيد، والمسافرون. انتهى؛ يعني أنه اختلف في انعقادها بهم إذا حضروها، وإن كان المشهور أنها لا تنعقد بهم، وكونها لا تجب عليهم إذا حضروها لا يعارض ما تقدم من قوله: وإلا لزمته؛
لأن ما تقدم فيما بعد الشروع في الإقامة، وهذا في حضور المسجد قبل الإقامة. قاله الشيخ محمد بن الحسن.
وأخر الظهر راج زوال عذره؛ يعني أن من سقط عنه وجوب الجمعة لعذر من الأعذار الآتية، يندب له أن يؤخر صلاته للظهر. حيث كان يرجو زوال عذره قبل صلاة الناس للجمعة، حتى يعلم أو يظن أنه إذا زال عذره لا يدركها ولا يتقيد بربع القامة، وكان ينبغي للمصنف أن يقول: وتأخير ظهر؛ لأنه يفيد الاستحباب بلا كلفة، وأما تعبيره بالفعل فيوهم وجوب تأخير الظهر، وليس كذلك، وإلا؛ أي وإن لم يرج زوال عذره قبل صلاة الجمعة، فـ الأفضل له؛ أي للذي لم يرج زوال عذره التعجيل؛ لأن الصلاة أول الوقت أفضل من تأخيرها -كما مر- وهذا إذا كان فذا أو من في حكمه، وإلا أخرها لربع القامة -كما مر- وغير المعذور إن صلى الظهر مدركا لركعة لم تجزه؛ يعني أن من تجب عليه الجمعة لكونه لا عذر له إذا صلى الظهر؛ وهو يدرك مع الإمام ركعة من صلاة الجمعة، فإن صلاته لا تجزئه عند ابن القاسم، وأشهب، وعبد الملك؛ لأن الواجب عليه الجمعة، ولم يأت بها، ويعيد ظهره إن لم تمكنه جمعة، سواء كان ممن تنعقد به أم لا عمدا أو سهوا، وسواء صلى الظهر مجمعا على أن لا يصلي الجمعة أم لا، بخلاف من لا تجب عليه من المعذورين أو غير مكلف، فتجزئه الظهر، ولو كان يدرك الجمعة بتمامها.
ولا يجمع الظهر ألا ذو عذر؛ يعني أن من فاتته الجمعة وهو غير معذور، لا يجمع الظهر؛ أي لا يصليها جماعة؛ أي يكره له صلاتها جماعة، وأما إن كان معذورا فيطلب منه الجمع، ولا يحرم فضل الجماعة، وهذا إذا كان عذره كثير الوقوع كالمرض والسفر والسجن، وأما العذر النادر الوقوع كبيعة الأمير الظالم فإن صاحبه لا يجمع الظهر؛ أي يكره له صلاة الظهر جماعة كغير المعذور عند ابن القاسم، خلافا لابن وهب، قال ابن القاسم: وقد نصرني مالك في هذه على ابن وهب، ومثل المرض: المطر الغالب.
وحيث استحب لأهل العذر الجمع فيستحب صبرهم إلى فراغ الجمعة وإخفاء جماعتهم ليلا يتهموا بالرغبة عن صلاة الإمام، ولا يؤذنوا إذا جمعوا، ويكره لهم الجمع بعد الراتب في المسجد،
كما يفيده قوله: "وإعادة جماعة بعد الراتب"، والقصة التى أشار إليها ابن القاسم هي أنهما تخلفا عن الجمعة بالإسكندرية خوف بيعة الأمير الظالم، فجمع ابن وهب بالقوم ورَآهم كالمسافرين، وخرج ابن القاسم عنهم، ثم قدما على مالك فسألاه، فقال: لا تجمعوا ولا يجمع إلا أحمل السجن: والمرضى، والمسافرون. انتهى. وقد تقدم أن المطر الغالب كالسفر، زاده ابن عرفة وعزاه لابن القاسم.
واعلم أن المصلين للظهر حيث تجب الجمعة أربع طوائف: طائفة لا تجب عليهم الجمعة؛ وهم المرضى والمسافرون وأهل السجون فهؤلاء يجمعون، إلا على رواية شاذة جاءت عن ابن القاسم أنهم لا يجمعون. فإن جمعوا على هذه الرواية لم يعيدوا وطائفة تخلفت عن الجمعة لعذر، فاختلف حمل يجمعون أم لا؟ وهو الخلاف المتقدم بين ابن القاسم: وابن وهب وعلى قول ابن القاسم إن جمعوا لم يعيدوا. وطائفة فاتتهم الجمعة فهؤلاء المشهور أنهم لا يجمعون، وقد قيل: إنهم يجمعون فإن جمعوا لم يعيدوا. وطائفة تخلفت عن الجمعة لغير عذر؛ فهؤلاء لا يجمعون واختلف إن جمعوا، فقيل: يعيدون، وقيل: لا يعيدون. انتهى ملخصا من الحطاب. وغيره.
وتحَصَّلَ من كلامهم أن من سعى إلى الجمعة وفاتته من أهل بلدها ونحوهم ممن يلزمه السعي إلى الجمعة -على ما مر- يصلون أفذاذا، فإن جمعوا فبئس ما صنعوا ولا إعادة عليهم، وقيل: يجمعون؛ وهو قول ابن نافع وأشهب، وأن من تخلف منهم عن السعي إليها لعذر كثير الوقوع كمرض أو سجن أو سفر يجمعون، وأن من تخلف لعذر غير غالب المشهور أنهم لا يجمعون، وعليه فإن جمعوا لم يعيدوا، وقيل: يجمعون، وأن من تخلف من أهل البلد ومن في حكمهم لغير عذر لا يجمعون، فإن جمعوا: فهل يعيدون أم لا؟ اختلف في ذلك والله سبحانه أعلم.
واستؤذن إمام؛ يعني أنه يستحب استئذان الإمام في إقامة الجمعة الأولى، وإنما كان مستحبا لأنه ليس من شروطها استئذان الإمام أو نائبه، ولو قال: واستئذان إمام
(1)
؛ لأن التعبير بالفعل يشعر بالوجوب. وقيل: يجب استيذانه وجوب شرط. نقله يحيى بن عمر. وعليه فيكفي إذنه أول مرة.
(1)
في الشبراخيتي ج 1 مخطوط: واستئذان إمام كان أولى لأن التعبير لخ.
ووجبت إن منع وأمنوا؛ يعني أنه إذا استؤذن الإمام في إقامة الجمعة ومنع منها، فإنه تجب على أهل البلد إقامتها حيث أمنوا منه على أنفسهم؛ لأن إقامتها لا تفتقر لإذنه. وإلا أي وإن لم يأمنوا على أنفسهم مع الاستئذان ومنع، أو مع عدم الاستئذان وأقاموها. لم تُجْز بضم التاء وسكون الجيم وكسر الزاي؛ أي لم يعتدوا بها في المسألتين، بل تجب عليهم الصلاة، بهذا قرر غير واحد كالشيخ عبد الباقي، والشيخ الحطاب، وغيرهما. وقال الشيخ محمد بن الحسن: الذي حصلة أبو زيد الفاسي، واختاره المسناوي ما نصه: إذا منع الإمام من إقامتها، فإما أن يكون ذلك منه اجتهادا؛ بأن رأى مثلا شروط وجوبها غير متوفرة، وإما أن يكون ذلك منه جَوْرًا، فإن كان الأول وجبت طاعته ولا تحل مخالفته، فإن خالفوه وصلوا لم تجزهم، ويعيدونها أبدا، وإن كان الثاني ففيه تفصيل، فإن أمنوا على أنفسهم منه وجبت عليهم الجمعة، وإلا لم تَجُزْ لهم مخالفته، ولكن إذا وقع ذلك ونزل أجزأتهم، وعلى ما إذا كان منعه لهم جورا يحمل كلام المصنف. وعليه فيقرأ قوله:"وإلا لم تجز" بفتح التاء وضم الجيم من الجواز. انتهى المراد منه.
وسن غُسْل؛ يعني أنه يسن لمصلي الجمعة أن يغتسل غسل الجنابة، وفي افتقار هذا الغسل إلى نية قولان، والصحيح افتقاره إلى نية، وما مشى عليه المصنف من سنية هذا الغسل هو المشهور. وقيل: واجب، وقيل: مستحب، وقيل: يجب على من له رائحة يذهبها الغسل، ويستحب لغيره. وفي ابن يونس ما نصه: قال الرسول عليه السلام: (غسل الجمعة واجب على كل مسلم بالغ الحلم). ووجوبه عندنا وجوب السنن المؤكدة، لقوله عليه السلام. (من جاء يوم الجمعة فتوضأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل
(1)
). ومعنى الحديث الذي رواه أبو هريرة: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)
(2)
كغسل الجنابة كصفة غسل الجنابة، لا كوجوب غسل الجنابة فتتفق الأخبار ولا تتنافى. انتهى باقتصار بالقاف، قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث
(1)
الترمذي، كتاب الجمعة، رقم الحديث:497. النسائي، كتاب الجمعة، رقم الحديث 1381. ولفظهما: من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل.
(2)
الموطأ، كتاب الجمعة، رقم الحديث 2. ولفظه: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم.
الشريف، فبها ونعمت؛ أي بالرخصة أخذ متصل بالرواح؛ يعني أن من شرط هذا الغسل أن يكون متصلا بالرواح أي الذهاب إلى الجامع، وما مشى ضليه المصنف من شرطية اتصال الغسل بالرواح هو المشهور، وإنما اشترط ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:(إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل)
(1)
. انتهى. ويسير الفصل مغتفر، وقوله: بالرواح؛ أي الرواح المطلوب عندنا وهو التهجير، فلو راح قبله متصلا به غسله لم يجزه، وفيه خلاف. قال ابن القاسم في كتاب محمد: من اغتسل عند طلوع الفجر وراح فلا يجزئه. وقال مالك: لا يعجبني، وقال ابن وهب: يجزئه، واستحسنه اللخمي. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ عبد الباقي عند قوله:"بالرواح": أي بالذهاب إلى الجامع لصلاة الجمعة ولو قبل الزوال. وفي الشبراخيتي: ويدخل وقته بطلوع الفجر ونحوه للخرشي. قال: فلا يجزئ قبل الفجر.
ولو لم تلزمه؛ يعني أن الغسل للجمعة سنة مؤكدة، وسواء في ذلك من تلزمه، ومن لا تلزمه من مسافر، وعبد، وامرأة، وصبي كان ذا رائحة كالقصاب أي اللحام، والحوات أي السمَّاك، أم لا؟ لخبر:(من غسل واغتسل، وبكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام يسمع ولم يَلْغُ، كان له بكل خطوة عملُ سنة أجرُ صيامها وقيامها)
(2)
. قوله: غسل بالتخفيف وبكر بالتشديد، ومعنى غسل واغتسل وبكر وابتكر: التأكيد، بدليل قوله: ومشى ولم يركب. قاله الإمام أحمد. وقيل: معنى غسل: غسل رأسه، واغتسل غسل سائر جسده. وقيل: غسل أصاب أهله قبل خروجه ليكون أملك لنفسه، وبكر: أدرك باكورة الخطبة، وقيل: غسل بالتشديد: أوجب الغسل على غيره بالجماع، واغتسل؛ أي اغتسل هو منه. وزعم بعضهم أن معنى بكر: تصدق قبل خروجه، وتأول في ذلك ما روي في الحديث:(باكروا بالصدقة: فإن البلاء لا يتخطاها)
(3)
؛ وهو لابن
(1)
البخاري، كتاب الجمعة، رقم الحديث:882.
(2)
من غسل يوم الجمعة واغتسل ثم بكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها، أبو داود، كتاب الطهارة، الحديث:345.
(3)
الطبراني الأوسط، ج 4 ص 180. رقم الحديث:5643.
الأنباري. وقوله: ولم يلغ بضم الغين، يقال: لغا الشيء يلغوا لغوا، من باب عدا يعدوا عدوا؛ أي بطل، ولغا الرجل تكلم بالكلام اللاغي أي الساقط، ولَغِيَ بالأمر من باب تعب لهج به.
والخطوة بفتح الخاء، يقال: خطوت أخطوا: مشيت، الواحدة خطوة بالفتح، مثل ضرب وضربة، والخطوة بالضم ما بين الرجلين، وجمع المفتوح خطوات بالفتح، مثل: شهوة وشهوات، وجمع المضموم كغرفة وغرفات في أوجهها.
وقد تقدم أن صفة هذا الغسل كغسل الجنابة؛ وهو للصلاة لا لليوم، فلا يجزئ بعدها، وإن ذكره بالمسجد استحب خروجه له وإن فاتته الخطبة، وإن كان يفوته بعض الصلاة فلا يخرج، ويصلي بغير غسل. قاله في تعاليق ابن هارون. وفي الإكمال ما يقتضي عدم الخروج لظاهر إنكار عمر على عثمان؛ ولأن سماع الخطبة واجب فلا يترك لسنة؛ وهو ظاهر، وما في التعاليق جار على عدم وجوب سماع الخطبة.
وأعاد إن تغدى؛ يعني أن المغتسل للجمعة إذا تغدى؛ فإنه يعيد الغسل استنانا، ومعنى تغدى: أكل الغداء بالدال المهملة. أو نام؛ يعني أنه إذا اغتسل للجمعة ثم نام، فإنه يعيد الغسل استنانا أيضا، وهذا إذا نام. اختيارا، واحترز به عما إذا نام غلبة فإنه لا يطلب بالإعادة. وبما قررت من أن قوله:"اختيارا، راجع لقوله: "أو نام". علم أنه إذا تغدى يعيد الغسل على أي وجه تغدى، اختيارا، أو مكرها، أو لشدة جوع كما هو ظاهر إطلاقهم. وقاله الشيخ محمد بن الحسن. وقوله: "وأعاد إن تغدى أو نام"، مثل ذلك ما لو حصل له عرق أو صنان، أو خرج من المسجد بعيدا، فيستأنف الغسل. قاله غير واحد.
لا لأكل خف؛ يعني أن محل كونه يعيد الغسل إذا تغدى إنما هو إذا تغدى غداء يذهب نداوة الغسل، وأما إذا أكل أكلا خفيفا؛ وهو ما لا تذهب معه نداوة الغسل، فإنه لا يعيد الغسل، وكذا لا يعيد الغسل لنقض وضوئه. ولو قبل دخوله المسجد. قاله الشيخ عبد الباقي، وغيره. وفي المدونة: فإن اغتسل وراح، ثم أحدث، أو خرج من المسجد إلى موضع قريب، لم ينتقض غسله. وإن تباعد، أو سعى في بعض حوائجه، أو تغدى، أو نام انتقض غسله وأعاده. وقال ابن مزين:
إن المتعمد للحدث يعيد الغسل. قاله الحطاب. ولو أجنب بعد غسله، فالظاهر أنه ينتقض. قاله الحطاب. وقوله:"وأعاد إن تغدى أو نام". قال الشبراخيتي: ظاهره سواء فعل ما ذكر من الغداء والنوم في طريقه أو في المسجد: وظاهر كلام الأم أن فعله في المسجد لا يضر. انتهى. وقوله: "لا لأكل خف"، وكذا إصلاح ثيابه وتبخيرها، وكذا شراؤه مارا بالسوق إن خف. وقوله:"لا لأكل "، الظاهر أنه معطوف على معنى إن تغدى؛ أي وأعاد للغداء لا لأكل خف. وفي الخرشي: أن الرواح والغدو عند العرب يستعملان في السير من ليل أو نهار.
وجاز تَخَطٍّ قبل جلوس الخطيب؛ يعني أنه يجوز التخطي لرقاب الجالسين في المسجد قبل جلوس الإمام على المنبر لفرجة ويكره لغيرها، وأما بعد جلوس الخطيب على المنبر فيحرم ولو لم يبدأ بالخطبة، ولو لفرجة، وأما بعد الخطبة وقبل الصلاة فجائز، ولو لغير فرجة. ومفهوم قوله:"تخط"، أن المشي بين الصفوف جائز ولو في حال الخطبة، قال ابن عرفة: ويمنع جلوسه لها التخطي لفرجة، وهو ظاهر المدونة، لكن قيدها ابن رشد بما إذا كان التخطي لغير فرجة في الصف الأول، وأما لها في الصف الأول فهو جائز، قال: لأن عدم وصلهم صَيَّرَهم لا حرمة لهم، ولم يرتض الشيخ الأجهوري والشيخ سالم تقييد ابن رشد اعتمادا على ما لابن عرفة.
وقد مر أنه بمنع التخطي بعد جلوسه، وظاهره: ولو في حال لغوه، ويفرق بينه وبين الكلام والصلاة يجوزَانِ إن لغا بأن التخطي فيه إذاية الجالسين وهي باقية: وقال الأجهوري: ينبغي أن يجري في التخطي حينئذ ما جرى في الصلاة والله سبحانه أعلم. وفي المدونة كراهة التخطي بعد جلوس الخطيب على المنبر؛ وهي محمولة على التحريم، فقد قال صلى الله عليه وسلم للذي تخطى رقاب الناس: (آذيت
(1)
).
واحتباء فيها؛ يعني أنه يجوز للمأموم أن يحتبي في حال الخطبتين، والاحتباء إدارة الجالس ثوبه بظهره وركبتيه، ومنه الحبوة بالضم والكسر، ومثله في الجواز احتباء الخطيب في جلوسه أولا وبينهما: وكذا فيها إن خطب جالسا لعذر، أو على القول بأن القيام لهما سنة. وقوله:
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم 11.
"فيها"، بالإفراد أي الخطبة المفهومة من الخطيب، كقوله تعالى:{اعْدِلُوا هُوَ} ؛ أي العدل {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، ولا بأس بالالتفات ومد الرجلين والإمام يخطب، وفي الحديث: (الاحتباء حيطان العرب
(1)
)؛ أي ليس في البراري حيطان، فإذا أرادوا الاستناد احتبوا لأنه يمنعهم من السقوط ويصير لهم كالجدار، وروى أبو داوود، والترمذي، والحاكم، وابن ماجة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب
(2)
). وكذلك أنس وجل الصحابة والتابعين قالوا: لا بأس، ولم يبلغني أن أحدا كرهه إلا عُبادة، وقال الترمذي: كرهها قوم وقت الخطبة ورخص فيها آخرون، وقال النووي: وكرهها بعض أهل الحديث [للحديث]
(3)
المذكور، والمعنى فيه أنها تجلب النوم، فتعرض طهارته للنقض، وتمنع من استماع الخطبة. قاله الإمام الحطاب. وقال: الاحتباء هو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره ويشد عليهما، وقد يكون باليدين عوض الثوب، وقال في النهاية: يقال احتبى يحتبي احتباء، والاسم الحبوة بالضم والكسر والجمع: حُبًا وحِبًا.
وكلام بعدها للصلاة؛ يعني أنه يجوز الكلام بعد الخطبة، وقبل: الصلاة ولو في حال نزول الخطيب، واللام للانتهاء؛ أي للدخول في الصلاة. وقال الشيخ عبد الباقي: لابتداء إقامتها، ويكره حينها أي الإقامة، ويحرم بعد الإحرام، ولا يختص هذا التفصيل بالجمعة، قال الشيخ سالم: ويجوز الكلام بين الإقامة والصلاة في غير الجمعة، وبين الخطبة والصلاة فيها. انتهى. قوله: ويكره حينها الخ، قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر، فإن الذي يدل عليه نقل المواق هنا والحطاب، آخر الأذان جواز الكلام حين الإقامة. وفي المدونة: ويجوز الكلام بعد فراغه من الخطبة وقبل الصلاة. انتهى. وفي الحطاب في المحل المذكور: عن عروة بن الزبير (كانت الصلاة
(1)
الجامع الصغير، رقم الحديث:5724. فيض القدير، ج 4 ص 392.
(2)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:1115. الترمذي، كتاب الجمعة، رقم الحديث: 514. الحاكم، ج 1 ص 289. ابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، رقم الحديث: 1134.
(3)
ساقط من الأصل والمثبت من الحطاب ج 2 ص 458 ط دار الرضوان.
تقام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي الرجل طويلا قبل أن يكبر
(1)
)، وأما الكلام بعد الإحرام، فقد نص ابن رشد على أنه مكروه. نقله الحطاب في المحل المذكور. قال: إلا أن يكون فيه تشويش على غيره من المصلين، فيحرم.
وبما ذكرناه تعلم أن ما ذكره السنهوري صحيح على ظاهره. انتهى. وقوله: "وكلام بعدها للصلاة"، نص المصنف على جوازه دفعا لقول عطاء ومجاهد: إن الخطبة بدل من الركعتين؛ أي الأخيرتين لو لم تكن جمعة، فلم يجز الكلام بعد الخطبة للفراغ من الصلاة؛ لأن من تكلم حينئذ بمنزلة من تكلم في صلب الصلاة.
وخروج كمحدث بلا إذن؛ يعني أن من طرأ له حدث في الخطبة، أو ذكره، أو رعاف، أو نحو ذلك من الأمور المبيحة للخروج من الجامع، فإنه يجوز له أن يخرج من غير أن يستأذن الإمام الأعظم أو نائبه إن كان موجودا، لا إمام المسجد؛ لأنه غير معتبر. ومصب الجواز قوله:"بلا إذن"؛ أي وجاز لكالمحدث عدم الاستئذان في الخروج؛ لأن الخروج من أصله واجب. قاله غير واحد. وقال الشيخ عبد الباقي: "بلا إذن"، من الخطيب، وعبارة الشيخ الأمير: وخروج كمحدث بلا إذن الإمام، هذا محط الجواز، وأصل الخروج للوضوء واجب. انتهى.
وإقيال على ذكر قل سرا؛ يعني أنه يجوز للشخص والإمام يخطب الإقبال على فعل ذكر قليل، وينطق به سرا، فعلم منه أن المراد بالذكر: ذكر اللسان؛ لأن السر إنما يكون باللسان. قاله الشبراخيتي. وأخفى من السر حديث النفس، وبه فسر قوله عز وجل:{فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} ، وقوله:"وإقبال على ذكر قل سرا"، ليس مما استوى فعله وتركه، بل تركه أولى. قاله الحطاب، والشبراخيتي، والخرشي. وأما قول عبد الباقي: إنه مندوب، فقال محشيه محمد بن الحسن: صوابه أن يقول: تركه مندوب كما في المدونة، ونصها: ومن أقبل على الذكر في نفسه شيئا يسيرا والإمام يخطب فلا بأس وترك ذلك أحسن، وأحب إلي أن ينصت ويستمع. انتهى.
(1)
البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:642. ولفظه: عن أنس قد: أقيمت الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم، يناجي رجلا في جانب المسجد فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم.
أبو الحسن: لأن ذلك يشغله عن الإنصات للخطبة. انتهى. وفهم من المصنف منع كثيرة وجهر يسيره، ولعل المراد بالمنع الكراهة. قاله غير واحد.
ولما اختلف في جواز ذكر قل سرا، واتفق على جواز النطق بالتأمين والتعوذ عند السبب، وإنما اختلفوا في صفته من سر؛ وهو قول مالك: وصحح أو جهر؛ وهو قول ابن حبيب، قال: يؤمن الناس ويجهرون جهرا ليس بالعالي، شبَّه المختلف فيه بالمتفق عليه، فقال: كتأمين؛ يعني أنه يجوز التأمين والإمام يخطب، وكذا تجوز الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والإمام يخطب. وتعوذ؛ أي أنه كما يجوز التأمين والإمام يخطب، يجوز التعوذ والإمام يخطب، وقوله: عند السبب، راجع للتأمين والتعوذ، ومثلهما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره. وكذا الاستغفار، فسبب التأمين الدعاء، وسبب التعوذ ذكر النار أو الشيطان، وسبب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره كما تقدمت الإشارة إليه، هذا هو الذي يفيده ابن عرفة والشارح. وقيل: سببها؛ أي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم الخطيب بها، وتقدم قول ابن حبيب: إنه يجهر بالتأمين جهرا ليس بالعالي، وأما الجهر بالتأمين جهرا عاليا فبدعة كما في الحطاب.
وما مر من الاتفاق على جواز التأمين قاله غير واحد كالحطاب والخرشي وعبد الباقي، لكن قال محمد بن الحسن بناني: يرده ما في المواق عن ابن عبد الحكم أنه: لا يحرك به لسانه، والأول ذكره المواق عن الباجي. وقال عبد الباقي: إن التأمين والتعوذ غير مقيدين باليسارة، وقوله: كتأمين وتعوذ، ليس هذا مما استوى طرفاه، بل فعله أولى. قاله غير واحد.
كحمد عاطس؛ يعني أن من عطس والإمام يخطب، فإنه يجوز له أن يحمد الله سرا، وفصل بكاف التشبيه؛ لأنه سنة عند بعض، بخلاف ما قبله، والراجح أنه؛ أي حمد العاطس، مندوب، وهل مندوب هنا أو سنة على أصله؟ تردد. انتهى. وقوله: سرا: قيد في قوله: "كحمد عاطس"، وفيما قبله ليتمشى على قول الإمام، وعبارة الشيخ عبد الباقي: قيد فيه وفيما قبله ويكره جهرا.
واعلم أن الجواز في هذه الأمور من قوله: "وإقبال على ذكر"، إلى هنا، مصبه الإقدام عليه في هذه الحالة، وإلا فهو في نفسه مطلوب، وقوله:"كحمد عاطس"، الحمد مطلوب هنا كما علمت؛ لأن الخطبة أوسع من الصلاة بدليل إبطالها بالكلام دون الخطبة. ونهي خطيب؛ يعني أنه يجوز للخطيب أن ينهى غيره في حال الخطبة، كما يجوز نهيه لغيره، يجوز له أمره في حال الخطبة.
وبما قررت علم أن كلا من قوله: "ونهي"، "وأمر" مرفوع معطوف على قوله:"تخط". والإضافة فيهما من إضافة المصدر لفاعله لا مجرور عطف على مدخول الكاف من قوله: "كتأمين"؛ لأنه من المندوب، وإن اقتضى المصنف جوازه، وهذان الأخيران جائزان فقط، والأول كقوله: لا تتكلم، والثاني نحو: أنصت، والأصل في هذا قوله صلى الله عليه وسلم للذي تخطى رقاب الناس: (اجلس فقد آذيت
(1)
): ولسليك: (أصليت؟ فقال: لا، قال: فَصَلَّ ركعتين، فتجَوَّزْ فيهما
(2)
). وإجابته؛ يعني أنه يجوز لمن كلمه الخطيب في أمر أو نهي أن يجيبه، ولا يعد كل منهما لاغيا، ودليله: سؤاله صلى الله عليه وسلم لسليك، وإجابة سليك له، وقوله:"وإجابته"، من إضافة المصدر لمفعوله، والضمير فيه للخطيب، فإن قلت الإجابة في الحديث في غير أمر ونهي؟ فالجواب أنها في المعنى متعلقة بأمر، وإذا وقف الخطيب في الخطبة فإنه لا يرد عليه أحد؛ لأنها إجابة من غير طلب منه، وفي المدونة لمالك: لا بأس أن يتكلم الإمام في خطبته بأمر أو نهي يأمر به الناس أو يعظهم به، ولا يكون لاغيا. انتهى. وليس للخطيب أن يتكلم بغير الأمر والنهي، واستظهر بعضهم أنه إذا وقف الخطيب في الخطبة واستطعم، وطلب الفتح، فإنه يفتح عليه، ولا يكون لاغيا، كما يؤخذ من قوله: وإجابته؛ لأنه طالب حكما، وأما إجابة الخطيب لغيره فتجوز فيما إذا سأله شخص عن مسألة تتعلق بدينه لكن جوابا لا طول فيه بحيث يخرج عن نظام الخطبة. قاله الخرشي. وصوب الرهوني ما لعبد الباقي، فإنه قال: وفي النوادر، قال
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:1118.
(2)
البخاري، كتاب الجمعة، رقم الحديث:931. أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 1116.
ابن حبيب: ولا يلقن فيما تعايا فيه من الخطبة، وأما ما يقرأ فيها من القرآن فلا بأس أن يلقن فيه، وقال الحطاب قال ابن حجر في فتح الباري في حديث الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُحَدِّث فمضى في حديثه ما نصه: أخذ بظاهر القصة مالك وأحمد وغيرهما في الخطبة، فقالوا: لا يقطع الخطبة سؤال سائل، بل إذا فرغ يجيبه.
وفصل الجمهور بين أن يقع في أثناء واجباتها فيؤخر الجواب، أو في غير الواجبات فيجيب، ثم قال: والأولى التفصيل، فإن كان مما يهتم به في أمر الدين، ولاسيما إن اختص بالسائل فتستحب إجابته ثم يتم الخطبة، وكذا بين الخطبة والصلاة، وإن كان بخلاف ذلك فيؤخر إجابته، وكذا يقع في أثناء الواجب، ما يقتضي تقديم الجواب لكن إذا أجاب استأنف على الأصح، ويؤخذ ذلك كله من اختلاف
(1)
الواردة في ذلك، فإن كان السؤال من الأمور التي ليست معرفتها على الفور بمهتم به يؤخر كما في هذا الحديث، ولاسيما إن كان ترك السؤال أولى، وإن كان السائل به ضرورة ناجزة فيقدم إجابته، كما في حديث أبي رفاعة عند مسلم أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب:(رجل غريب لا يدري دينه، جاء يسأل عن دينه فترك خطبته، وأتي بكرسي فقعد عليه فجعل يعلمه، ثم أتى خطبته فأتم آخرها)
(2)
انتهى.
ومن إجابة الخطيب لغيره قول علي رضي الله عنه على المنبر لسائله: "صار ثمنها تسعا"، وفهم مما تقدم أن الخطيب إذا طلب الفتح يفتح عليه. قاله الشيخ عبد الباقي، وقد مرت الإشارة إلى ذلك. وكره ترك طهر فيهما؛ يعني أن الطهر ليس شرطا في الخطبتين، فلذا لو خطب محدثا حدثا أصغر أو أكبر، أجزأ ذلك مع الكراهة أي كراهة ترك التطهر للخطبتين، وحرمة مكثه جنبا بالمسجد لا يقتضي بطلان الخطبة، فتتعلق به الحرمة والكراهة من جهتين مختلفتين، كما تتعلق الحرمة والندب من جهتين مختلفتين بصلاة نافلة لمن عليه فوائت، قاله الشيخ عبد الباقي.
(1)
في الحطاب ج 2 ص 459 ط دار الرضوان: اختلاف الأحاديث.
(2)
مسلم، كتاب الجمعة، رقم الحديث:876.
وبما قررت علم أن الضمير في قوله: "فيهما"، يعود على الخطبتين. ابن يونس عن سحنون: إن ذكر في الخطب
(1)
أنه جنب نزل للغسل، وانتظروه إن قرب وبنى، قال غيره: فإن لم يفعل وتمادى في الخطبة واستخلف في الصلاة، أجزأ ذلك، وما ذكره المصنف هو المشهور. أبو الحسن: وظاهر المذهب اشتراط الطهارة فيهما.
والعمل يومها؛ يعني أنه يكره ترك العمل يوم الجمعة؛ يريد إذا تركه تعظيما لليوم كما يفعل أهل الكتاب بسبتهم، وأما ترك العمل للاستراحة يومها فجائز، وأما تركه للاشتغال بأمر الجمعة من دخول حمام وتنظيف ثياب وسعي لمسجد من بعد منزل فمندوب، وأما العمل فيها فمنه مندوب؛ وهو عمله وظائف الجمعة، والعمل الذي قصد به الخروج من الترك المكروه، واشتغاله بالعلم فيما زاد على ما يعمل فيه وظائف الجمعة. ومنه جائز؛ وهو العمل الذي تركه جائز، ومنه مكروه؛ وهو العمل الذي يشغله عن وظائف الجمعة من غير حاجة إليه.
وبما قررت علم أن قوله: "والعمل"، مجرور عطف على طهر، وما قررت به المصنف قرره به الحطاب والخرشي، ونحوه قرره عبد الباقي والشبراخيتي، إلا أنهما قالا: إذا ترك العمل استنانا تعظيما لليوم. انتهى.
وبيع كعبد بسوق وقتها؛ يعني أنه يكره أن يتبايع من لا تلزمه الجمعة من عبد، ومسافر، وصبي، وامرأة، ومعذور وقت الخطبة؛ وهو جلوس الإمام على المنبر حيث كان تبايعهم بينهم بسوق، لا قبل جلوسه، ولا بعد الفراغ منها، ولا بغير سوق فيجوز.
وعلم مما قررت أن هذا البيع إنما وقع بين من لا تلزمهم الجمعة، وأما إن وقع بيع من لا تلزمه الجمعة مع من تلزمه الجمعة حينئذ فإنه حرام، ويفسخ كما يأتي بسوق وبغيره، ولم يقنع المصنف بقوله: وإقامة أهل السوق مطلقا بوقتها؛ لأنه استحباب للإمام، ولهذا عممه فيمن تلزمهم ومن لا تلزمهم، وهذا في حق غيره.
(1)
في جامع ابن يونس ج 2 ص 53: في الخطبة.
وما ذكره المصنف من الكراهة اعترضه الرماصي بأن النص حرمة البيع وقتها لمن تلزمه ولمن لا تلزمه، ففي المدونة: وإذا قعد الإمام على المنبر، وأذن المؤذن حرم حينئذ البيع، ومنع منه من تلزمه ومن لا تلزمه، قال الوانوغي: وقيده ابن رشد بما إذا كان في الأسواق، ويجوز في غير الأسواق لمن لا تجب عليه، ويمتنع في الأسواق للعبيد وغيرهم. انتهى. وكلام ابن رشد هذا نقله الحطاب، وكذا المواق عند قوله الآتي:"وفسخ بيع"، وفهمه على الحرمة مطلقا، وتعقُّبُ بعضهم ذلك بأن قول المدونة: منع منه، ليس معناه: حرم، بل معناه: أن الإمام يمنعهم من ذلك، فلا يدل على الحرمة مطلقا، يُرَدُّ؛ بأن إطلاق قولها: حرم البيع، وتسويتها من تلزمه بمن لا تلزمه دليل إرادة الحرمة مطلقا، كما هو ظاهرها، وعبارة الوانوغي صريحة في الحرمة. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشبراخيتي عند قوله:"وقتها": ولا يفسخ على المشهور، خلافا لابن نافع. وتنفل إمام قبلها؛ أي الخطبة؛ يعني أن الإمام إذا جاء وقد حان وقت الخطبة، فإنه يكره له أن يتنفل حينئذ، وليَرْقَ المنبر كما يدخل، وأما إن دخل قبل وقت الخطبة، أو جلس ينتظر الجماعة، فتطلب منه التحية، كما هو مقتضى نص الباجي عن ابن حبيب. قوله:"وتنفل" بالرفع، عطف على "ترك" أو جالس عند الأذان؛ يعني أنه يكره لمن كان جالسا في المسجد يوم الجمعة أن يتنفل عند الأذان الأول للجمعة، وإنما قيد بذلك ليلا يعارض ما يأتي في المحرمات، وابتداء صلاة بخروجه، وكذا كل وقت أذان للصلاة غير الجمعة على ما في مختصر الوقار، ونصه: ويكره قيام الناس للركوع بعد فراغ المؤذنين من الأذان يوم الجمعة، وغيرها. انتهى. أي إذا فعله استنانا خوف اعتقاد وجوبه ولو ممن رآه، فلا يكره لمن فعله في خاصة نفسه من غير اعتقاد سنية؛ وهو غير مقتدى به، ولا يكره أيضا لمتنفل قبل الأذان فاستمر، ولا لقادم عند الأذان في الجمعة وغيرها، وتنتهي الكراهة بالصلاة التي أذن لها، وبخروجه من المسجد، أو بوضوئه ولو بصحنه ولو تجديدا، كما تفيده العلة المتقدمة.
ومثل كراهته قبل الجمعة، تنفله بعدها استنانا. ابن عبد السلام: ويمتد وقت الكراهة بعد الجمعة حتى ينصرف أكثر المصلين لا كلهم، أو يحين وقت انصرافهم وإن لم ينصرفوا، ويحتمل
أنه يكره لكل مصل أن يتنفل بعد الجمعة في الجامع حتى ينصرف، وهذا هو المنصوص: وهو للإمام أشد كراهة، قاله الشارح، قاله الشيخ عبد الباقي. وفي الشبراخيتي: ومحل الكراهة حيث فعل ذلك من يخشى منه أن يعتقد وجوبه، وأما من فعله معتقدا أنه من النفل المندوب فلا يكره له ذلك، كما يفيده كلام الشارح. وينبغي أن يقيد بما إذا لم يكن المتنفل ممن يقتدى به، وإلا كره. انتهى. قال الشيخ عبد الباقي: ظاهر جمعهم بين قوله: "والأفضل لفذ تقديمها مطلقا"، وبين قوله:"وقبلها كعصر" من حمل الثاني على منتظر الجماعة، يفيد ضعف ما في مختصر الوقار، من جعل الكراهة لغير الجمعة أيضا. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر، بل لا يفيده؛ لأن هذا الحمل مبني على ما إذا دخل المسجد بعد الأذان، وقصد انتظار الجماعة، وما في مختصر الوقار: إذا كان جالسا عند الأذان. انتهى.
وعلم مما تقدم أن الكراهة تبتدأ من حين الأذان، وتنتهي بالصلاة الخ. وحضور شابة؛ يعني أنه يكره حضور الشابة التي لا تخشى منها الفتنة، وأما هي فيحرم حضورها لها، وأما المتجالة التي لا أرب للرجال فيها فحضورها لها جائز، وإنما كره حضور الشابة التي لا تخشى منها الفتنة للجمعة: وجاز حضورها لفرض غير الجمعة لكثرة من يحضر الجمعة؛ وهو مظنة لمزاحمة الرجال، ولعدم المظنة في غيرها، وأما الشابة الخشية الفتنة فيحرم حضورها لها. قاله الشيخ عبد الباقي وسفر بعد الفجر؛ يعني أنه يكره لمن تلزمه الجمعة أن يسافر يوم الجمعة بعد طلوع الفجر؛ إذ لا ضرر عليه في الصبر لتحصيل هذا الخير العظيم، وكذا بعد فجر يوم العيد، وقبل طلوع الشمس، ويحرم بعد طلوعها؛ نص عليه ابن رشد: قال الحطاب: وفيه نظر، وأجاب الأجهوري: بأنه مبني على أن العيد فرض عين أو كفاية حيث لم يقم بها غيره، ولا غرابة في بناء مشهور على ضعيف. قاله الخرشي. وجاز قبله؛ يعني أنه يجوز السفر لمن تلزمه الجمعة قبل طلوع فجر الجمعة من غير كراهة اتفاقا.
وحرم بالزوال؛ يعني أنه يحرم السفر على من تلزمه الجمعة عند زوال يوم الجمعة، ولو قبل النداء لتعلق الخطاب به، إلا أن يخاف فوات رفقة لا يمكنه السفر دونها خوفا على نفسه أو ماله، فإنه يباح له حينئذ السفر، وإلا أن يتحقق لقصر سفره إدراكها بقرية جمعة أخرى قبل
إقامتها فيها، فيجوز، وهل ولو لم ينو إقامة أربعة أيام للزومها له بقريته لخروجه منها بعد الزوال؟ أو لابد من نية إقامة أربعة أيام، أو التوطن؛ لأنه لا يلزم من فعله الحرام قضاؤها؟ انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي. قوله: وإلا أن يتحقق الخ، قال الشيخ محمد بن الحسن: انظر ما سنده فيه. انتهى. وقوله: إنه لا يلزم من فعله الحرام الخ. انظره، والصواب أن يقول لا يلزم من سفره حينئذ وجوب قضائها. قاله مقيده.
ككلام في خطبتيه؛ يعني أنه يحرم الكلام في الخطبتين من غير الخطيب، وكذا يحرم تحريك ماله صوت، كحديد، وثوب جديد في الخطبتين لا قبلهما، ولو في حال جلوسه على المنبر والمؤذن يؤذن، وفي حديث مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حرك الحصا فقد لغا
(1)
)، (ومن لغا فلا جمعة له)، وقوله:"ككلام في خطبتيه"، هذا مما لا خلاف فيه. والله سبحانه أعلم. بقيامه؛ يعني أنه يحرم الكلام بانتهاء قيامه المتصل بكلامه بالخطبة؛ إذ هو الذي يحرم به الكلام، لا قبل الكلام بها، ولا آخر الخطبة عند شروعه في الترضية عن الصحابة والدعاء للخليفة وغيره. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: إن ذلك غير صحيح، قال: لأن اللغو إنما هو إذا تكلم بغير ما يعني الناس، أو خرج إلى اللعن والشتم، ونقل ما في العتبية عن مالك: إذا أخذ في قراءة كتاب ليس من أمر الجمعة في شيء، فليس على الناس الإنصات. انتهى. والترضية لا تدخل في ذلك. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر أن معنى كلام الشيخ عبد الباقي أن الخطبة انتهت عند شروعه في الترضية، فلا يحرم ما هو كالكلام، لا أن الترضية من معنى اللغو فيباح الكلام حينئذ. والله سبحانه أعلم. والظاهر أن قوله:"بقيامه"، بدل من خطبتيه، بدل كل، من كل فيفيد أن القيام بنفسه لا يحرم به الكلام، بل حتى يتكلم بالخطبة. والله سبحانه أعلم. وقال الإمام
(1)
مسلم، كتاب الجمعة، رقم الحديث:857. ولفظه: ومن مس الحصا فقد لغا.
الحطاب: الظاهر أن قوله: "خطبتيه"، يغني عن قوله:"بقيامه"، بل ربما أوهم أن الإنصات إنما يجب إذا خطب قائما. انتهى.
وبينهما؛ يعني أنه يحرم الكلام في جلوس الخطيب بين الخطبتين، كما يحرم في الخطبتين، وقوله:"ككلام في خطبتيه" الخ، إنما حرم ما ذكر لأنه يشغل عن الإنصات؛ وهو واجب. ابن عرفة: يجب الإنصات لهما والصمت لهما.
ولو لغير سامع؛ يعني أنه يحرم الكلام في الخطبتين وبينهما كما علمت، ولا فرق في ذلك بين من يسمع الخطبة ومن لا يسمعها، فيحرم على الجميع الكلام حينئذ، قال الشيخ عبد الباقي: وحرمة الكلام خاصة بمن بالمسجد أو رحبته مع من بأحدهما، وظاهره ولو نساء، أو عبيدا: أو مع خارج عنهما، ويباح لخارِجَيْن عنهما ولو سمعا الخطبة على المعتمد، ولا يشرب أحد الماء ولا يدور به. وقال الشيخ إبراهيم عند قوله:"ولو لغير سامع"؛ أي إذا كان في المسجد أو في رحابه، وإلا فيجوز، لكن يستحب له الإنصات إذا سمع الإمام، ولذا قال ابن القاسم: بلغني (أن عبد الله بن رواحة سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: اجلس؛ وهو مقبل للجمعة، فجلس بالطريق
(1)
). انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: الراجح حرمته مطلقا ولو بخارج المسجد: لقول ابن عرفة: الأكثر على أن الصمت واجب على غير السامع ولو بغير المسجد. انتهى من المواق. وفي المدونة: ومن أتى من داره والإمام يخطب، فإنه يجب عليه الإنصات في الموضع الذي تصلى فيه الجمعة، وقال الأخوان: لا يجب حتى يدخل المسجد، وقيل: يجب إذا دخل رحاب المسجد. نقله الحطاب. انتهى.
وفي الحطاب بعد جلب أنقال: فعلم من هذا رجحان القول بوجوب الإنصات خارج المسجد. انتهى. وقال أهل التفسير في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} : إنه الخطبة. وفي التوضيح عن البلنسي: الخطبة ثلاثة أقسام: قسم ينصت فيه؛ وهو خطبة الجمعة، وقسم لا ينصت فيه؛ وهو خطب الحج كلها، وقسم اختلف فيه؛ وهو خطب العيدين والاستسقاء،
(1)
دلائل النبوة للبيهقي، ج 6 ص 256.
واستحب مالك الإنصات فيها. انتهى. قاله الإمام الحطاب. وقال: إن خطب العيدين والاستسقاء مختلف في وجوب الإنصات لها والاستماع إليها. انتهى.
وقد علمت أن المذهب عدم الوجوب، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت
(1)
)، رواه الشيخان وغيرهما. وقوله "ولو لغير سامع". أبو الحسن: وهذه حماية ليلا يسترسل الناس على الكلام حتى يتكلم من يسمع الإمام، وأشار المصنف بلو لرد ما نقله ابن زرقون عن ابن نافع من جواز الكلام لغير السامع، ولو داخل المسجد، حكاه ابن عرفة.
إلا أن يلغو؛ يعني أن الخطيب إذا لغا؛ بأن خرج عن أمر الخطبة بما لا تعلق له بها كان محرما لذاته، كَسَبِّ من لا يجوز سبه، أو مدح من لا يجوز مدحه، أو غير محرم لذاته كقراءته كتابا غير متعلق بالخطبة، وكتكلمه بما لا يعني، فإنه ليس على الناس الإنصات له، ولا التحول إليه. قاله مالك في العتبية، وعبد الملك. اللخمي: وهو الصواب، فيتكلمون، وإلى تصويب اللخمي أشار بقوله: على المختار وقد فعله ابن المسيب، لما لغا الإمام أقبل سعيد يكلم رجلا، فلما رجع إلى الخطبة سكت سعيد.
ومن اللغو ما لا يعني الناس، وقوله:"إلا أن يلغو"، مستثنى من قوله:"ككلام في خطبتيه"، وقوله:"يلغو"؛ أي يتكلم بالكلام اللاغي؛ أي الساقط؛ أي الخارج عن نظام الخطبة، يقال: لغا يلغوا كغزا يغزوا، ولَغِيَ يَلْغَى كعمِيَ يعْمى، والأول أفصح، وقوله تعالى:{وَالْغَوْا فِيهِ} من الثانية، ولو كان من الأولى لقال: والغُوا بضم الغين، ومقابل المختار هو قول مالك في المجموعة إنهم يسكتون عند لغو الإمام كما لو لم يلغ، وكما يجوز الكلام عند لغو الإمام، يجوز التنفل، كما نقله البرزلي عن ابن العربي.
(1)
البخاري، كتاب الجمعة، رقم الحديث:934. ولفظه: إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت
…
- مسلم، كتاب الجمعة، رقم الحديث:851. ولفظه: إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة
…
الموطأ، كتاب الجمعة، رقم الحديث:6.
والترقية بين يدي الخطيب بدعة مكروهة من عمل أهل الشام، إلا أن يشترطها واقف فيعمل بها، والحديث الذي يقوله فيها ثابت في الصحيحين وغيرهما، قال ابن الحاج: وينهى الناس عما أحدثوه من ندائه عند إرادة الخطيب أن يخطب بقوله للناس: أيها الناس صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت، أنصتوا رحمكم الله. والعجب من بعض الناس أنهم ينكرون على مالك أخذه بعمل أهل المدينة، واستحسنوا هذا الفعل واحتجوا بأنه من عمل أهل الشام، والعمل على ما عليه صاحب المدخل؛ إذ لم يذكروا هذا الفعل من السنة، ولا من المندوب، ولا من الجائز. قاله الخرشي. وقال الشيخ عبد الباقي: وقد يدل لفعل أهل الشام أنه عليه الصلاة والسلام قال لجرير في حجة الوداع: (استنصت الناس
(1)
). انتهى.
وكسلاه؛ يعني أنه يحرم ابتداء السلام والإمام يخطب؛ أي يحرم على من يطلب إنصاته كان داخل المسجد أم لا. ورده؛ يعني أنه كما يحرم السلام أي الابتداء به والإمام يخطب، يحرم رده أيضا والإمام يخطب. ابن عرفة: لا يسلم، ولا يرد، ولا يشرب ماء، ولا يشمت، وقوله:"ورده"، ولو إشارة، وظاهره أنه لا يرد بعد الفراغ من الخطبة، ونقل ابن هارون جواز الإشارة عن مالك، وأنكره في التوضيح، واعترضه الرماصي بأن أبا الحسن نقل جواز الرد إشارة عن اللخمي، قال: فلا محل لإنكار المصنف على ابن هارون. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: لم أجد في نسختين من أبى الحسن ما نقله عنه الرماصي. انتهى.
ونهي لاغ؛ يعني أنه يحرم على غير الخطيب نهي اللاغي بالنطق، نحو: لا تتكلم -مثلا- وكذا أمره له، نحو: اصمت، كما صرح الشبراخيتي بأنه لغو. وحصبه؛ يعني أنه يحرم حصب اللاغي؛ أي رميه بالحصباء زجرا له عن لغوه لخبر:(من حرك الحصباء فقد لغا)
(2)
؛ أي ومن لغا فلا جمعة له، كما في خبر آخر؛ أي كاملة.
(1)
البخاري، كتاب العلم، رقم الحديث:121.- مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث: 65.
(2)
مسلم، كتاب الجمعة، رقم الحديث:857. ولفظه: ومن مس الحصا فقد لغا.
وما يحكى من حصب عمر من لغا، فعمل أهل المدينة على خلافه، ويحتمل أنه كان
(1)
خليفة، قاله الشيخ عبد الباقي. وإشارة له؛ يعني أنه تحرم الإشارة للاغي؛ لأنه بمنزلة. قوله: اصمت، وذلك لغو، والظاهر حرمة الكتابة؛ لأنها تشغل. قاله غير واحد. وقوله:"وإشارة له"، هكذا قال الباجي إنه مقتضى المذهب، والذي صدر به في الطراز عن المبسوط جوازها، ثم ذكر كلام الباجي، ثم قال: وما في المبسوط أبين، فإن الخطبة غايتها أن تكون لها حرمة الصلاة. قاله الحطاب. وابتداء صلاة بخروجه؛ يعني أنه يحرم ابتداء صلاة النافلة عند دخول الخطيب للمسجد يريد الخطبة ولو لم يجلس على المنبر، والباء في قوله: بخروجه؛ بمعنى: عند، وقال الشبراخيتي: إنها بمعنى: بعد. قوله: "وابتداء صلاة"؛ أي لمن كان جالسا في المسجد قبل دخول الخطيب، ويقطع مطلقا، سواء ابتدأها عامدا، أو جاهلا، أو ناسيا خروجه، أو الحكم، عقد ركعة، أم لا؛ فهذه ست صور فيما قبل المبالغة.
وإن لداخل؛ يعني أنه يحرم ابتداء صلاة النافلة عند دخول الخطيب للمسجد يريد الخطبة، ولا فرق في ذلك بين من كان جالسا في المسجد قبل دخول الخطيب، وبين من دخل عند دخول الخطيب، فلا يؤمر بتحية حينئذ، ورد المصنف بالمبالغة على السيوري؛ لأنه جوزه؛ وهو من أهل المذهب، فلو عبر بلو كان أولى؛ وهو مذهب الشافعي، لحديث سليك الغطفاني، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قال له لما جلس: (إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليصل ركعتين خفيفتين ثم ليجلس
(2)
)، وتأوله ابن العربي على أن سليكا كان صعلوكا، ودخل يطلب شيئا، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصلي؛ ليتفطن له؛ فيتصدق عليه. وفي الخرشي: ويحتمل أنه منسوخ بالنهي عن الصلاة حينئذ، أو أنه قطع عليه الصلاة والسلام الخطبة، وقوله:"وإن لداخل"، ويقطع الداخل المذكور إن أحرم، عمدا، لا سهوا، أو جهلا، بخروج الخطيب، أو الحكم، فلا يقطع عقد ركعة، أم لا؛ وهذه ست فيما بعد المبالغة أيضا، يقطع في اثنتين منها،
(1)
في عبد الباقي ج 2 ص 65: كان وهو خليفة.
(2)
مسلم، كتاب الجمعة، رقم الحديث:875. ولفظه: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما.
ويتم في أربع، وإلى هذه الأربع أشار بقوله: ولا يقطع إن دخل؛ أي أنه إذا ابتدأ الصلاة بعد دخول الخطيب جاهلا أو ناسيا فلا يقطعها إن كان دخل المسجد حينئذ، وسواء كان دخوله قبل قيام الإمام إلى الخطبة، أو في حال الخطبة؛ وهذا التقرير للإمام الحطاب. وحمل الشيخ عبد الباقي قوله:"ولا يقطع إن دخل"، على من أحرم قبل دخول الإمام للخطبة، فإن الحكم فيه أنه لا يقطع مطلقا. أحرم عمدا. أو سهوا أنه يخرج عليه، أو جهلا، عقد ركعة، أم لا؛ وينبغي أن يخفف؛ وهذه ست أيضا.
قال: وجعلنا ضمير دخل للخطيب تبعا للتتائي، ليكون في المصنف أقسام ثلاثة، في كل منها ست صور -كما مر- وجعله الحطاب للمصلي. انتهى. قوله: وينبغي أن يخفف، أشار به إلى أن التمادي. متفق عليه. وإنما اختلف، هل يخفف صلاته أم لا؟ قال مالك في رواية ابن شعبان: يتم قراءته بالفاتحة فقط، ولا يدعو في التشهد كما في سماع ابن القاسم أو لا يخفف، وعليه فيدعو بما شاء؛ يعني قبل جلوس الخطيب على المنبر، وقال الشيخ محمد بن الحسن: ما حمله عليه الحطاب هو الأولى؛ لأن ما حمله عليه الزرقاني خارج عن موضوع الكلام؛ وهو مفهوم قوله: "وابتداء صلاة بخروجه"، كما قاله الحطاب. انتهى. وقوله:"ولا يقطع إن دخل"، قال الأمير: ويتمها جالسا. انتهى.
تنبيه: قول المصنف: بخروجه تعبيره بالخروج: مع أن المراد به الدخول في المسجد للخطبة أنه أراد به خروجه على الناس من باب المسجد، قاله الحطاب، وغيره. وقد مر ذلك مع زيادة، وفي الحطاب أنه: إذا جلس الإمام على المنبر يحرم على من كان جالسا التنفل اتفاقا، وأما فيما بين جلوسه على المنبر وخروجه على الناس، ففيه قولان: مذهب المدونة المنع، ورواية المختصر الجواز. ومن دخل عليه الإمام يوم الجمعة للخطبة وهو في تشهد نافلة فليسلم ولا يدعو: قاله الإمام مالك في سماع ابن القاسم، وفي رواية ابن وهب: استحب مالك إذا لم يبق من صلاته إلا السلام، أن يدعو ولا يسلم ما دام المؤذنون يؤذنون والإمام جالس: هذا حكم النفل، وأما إذا ذكر مستمع الخطبة منسية فليصلها بالمسجد ولا يخرج.
وفي البرزلي: إذا ذكر الصبح والإمام يخطب فليصلها بموضعه، ويقول لمن يليه: أصلي الصبح. إن كان ممن يقتدى به، وإلا فليس عليه ذلك. والله أعلم. وإن ذكر الخطيب صلاة صلاها وبنى على خطبته، ومن نسي الصبح، وذكرها بعد أن صلى الجمعة، صلى الصبح، ثم يعيد الجمعة أربعا، قال القاضي: والوقت في ذلك النهار كله، قال ذلك ابن المواز. وقال أشهب، وسحنون، والليث بن سعيد وغيرهم: إن السلام من الجمعة خروج وقتها، وإن ذكر صلاة الصبح وهو في الجمعة مع الإمام، يخرج إن أيقن أنه يدرك من الجمعة ركعة بعد صلاة الصبح، وإن لم يوقن بذلك، تمادى مع الإمام، وأعاد ظهرا أربعا لتعذرها جماعة، على مذهب ابن القاسم، خلافا لقول أشهب ومن قال بمثل قوله: تسقط الإعادة عنه.
وفسخ بيع؛ يعني أن البيع إذا وقع عند أذان الجمعة الثاني فإنه يفسخ، والأذان الثاني هو ما يفعل بعد جلوس الخطيب على المنبر إلى انقضاء الصلاة، وإنما فسخ البيع حينئذ لحرمته، لقوله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} ، وقوله:"وفسخ بيع"، محل هذا إذا وقع ممن تلزمه الجمعة، ولو مع من لا تلزمه الجمعة إلا من انتقضت طهارته ولم يجد ما يتوضأ به إلا بثمن، فيجوز له شراؤه: نص عليه أبو محمد، بل هو واجب، وكذا البائع ليعين المشتري على تحصيل الجمعة، وكذا لو دعت ضرورة إلى الشرب من السقاء بثمن. قاله الشبراخيتي. وقوله:"وفسخ بيع ظاهره"، ولو كانا ماشيين فإنه يفسخ سدا للذريعة، وقيل: يمضي حينئذ لكونه لم يشغلهما عن السعي.
وإجازة؛ يعني أن الإجارة إذا وقع عقدها عند الأذان الثاني فإنها تفسخ، والإجارة هي بيع المنافع فهي نوع مخصوص من البيع. وتولية؛ يعني أن التولية إذا وقعت عند أذان الجمعة الثاني فإنها تفسخ، والتولية هي: أن تولي غيرك ما اشتريته بما اشتريته؛ أي تعطيه سلعة اشتريتها، ويكون عليه مثل الثمن الذي اشتريتها به. وشركه؛ يعني أن الشركة إذا وقعت عند أذان الجمعة الثاني فإنها تفسخ. وإقالة؛ يعني أن الإقالة إذا وقعت عند أذان الجمعة الثاني فإنها تفسخ، وظاهره ولو كانت في طعام أو شفعة أو مرابحة.
وشفعة؛ أي الأخذ بها لا تركها؛ يعني أن الشفعة إذا وقع الأخذ بها عند أذان الجمعة الثاني فإند يفسخ؛ لأنه بيع: وأما ترك الشفعة إذا وقع عند أذان الجمعة الثاني فإنه لا يفسخ، وإيضاح ذلك أن من كان بينك وبينه عقار على الشيوع، فباع نصيبه، فإن لك أن تأخذ نصيبه الذي باعه إلى نصيبك، فتستكمل الأصل، وتدفع لمشتري الشقص ما دفعه لشريكك، فإذا وقع ذلك عند أذان الجمعة الثاني بطل، فإن تركت القيام بحقك عند أذان الجمعة الثاني مضى ذلك.
وبما قررت علم أن قوله: بأذن ثان راجع للمسائل الست؛ يعني أن ما ذكر من العقود الستة يفسخ حيث وقع بعد الشروع في الأذان الثاني في الجمعة، وهو الذي يفعل عند جلوس الخطيب على المنبر؛ أي كل ما وقع منها بعد الشروع في الأذان الثاني إلى انقضاء الصلاة يفسخ، فما وقع منها بعد انقضاء الصلاة لا يفسخ، وقبله يفسخ إلا أن يقع قبل الشروع، ومعنى الثاني: الثاني في الفعل. وإن كان أولا في المشروعية.
وبما قررت علم أن "الباء" بمعنى: عند، وما تقدم من أن الفسخ عند الشروع في الأذان الثاني للجمعة هو الذي اقتصر عليه سند وصاحب الرسالة، واستظهره غير واحد، وقيل: عند الفراغ منه، فإن تعدد المؤذنون ففيه اختلاف، قيل: المعتبر الأول، وقيل: المعتبر الثالث، وقال ابن ناجي: الصواب عندي أنه خلاف في حال، فمن كان مكانه بعيدا بحيث إن لم يسْعَ عند المؤذن الأول فاتته الصلاة، وجب عليه حينئذ، وإن كان قريبا لم يجب عليه: ولو كان مكانه بعيدا جدا وجب عليه السعي بمقدار ما إذا وصل إليها حانت الصلاة.
وقد تقدم أن الفسخ للبيع إنما هو إذا كان المتبايعان أو أحدهما ممن تلزمه الجمعة، وأما إن لم تلزم الجممة واحدا منهما فلا يفسخ البيع، وإن كانوا يمنعون من البيع في الأسواق كما في الحطاب، حيث قال: إن الأسواق يمنع أن يبيع فيها العبيد وغيرهم ممن لا تجب عليه الجمعة، كما يمنع من ذلك من تجب عليه الجمعة سدا للذريعة، ولا يفسخ البيع إلا ممن تلزمه الجمعة، وقال الشيخ محمد بن الحسن: وإنما أطلق المصنف هنا لأنه حكم بالكراهة -فيما مر- على من لا تجب عليه الجمعة، وذلك يستلزم عدم الفسخ فأطلق فاتكل عليه هنا، وإن كانت الكراهة مبحوثا فيها. انتهى.
واعلم أنه كان للنبي عليه الصلاة والسلام مؤذنون ثلاثة؛ إذا زالت الشمس خرج ورقي المنبر وقاموا فأذنوا بالمئذنة، واحدا، بعد واحد وتلاه على ذلك أبو بكر وعمر، وزاد عثمان ثانيا بالزوراء قبل جلوسه على المنبر؛ لما كثر الناس ليرتفع منه الناس، فإذا خرج وجلس على المنبر أذن المؤذنون على المنار كما كان يفعل في زمنه صلى الله عليه وسلم، والزوراء موضع بالسوق. المنجور على المنهج: واختلف في هذا الذي أحدثه عثمان رضي الله عنه، فمنهم من قال: إنه كان يقول قبل الزوال: الصلاة حضرت رحمكم الله، لا الأذان المجموع المعهود ويكون قبل الزوال، وروي عن ابن حبيب أنه أجاز الأذان قبل الزوال يوم الجمعة، والذي قبله حكاه بعض شراح الرسالة عن عثمان. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: مقتضى هذا أو صريحه أنه اختلف حمل الذي أحدثه السيد عثمان رضي الله عنه: الصلاة حضرت رحمكم الله؟ أو الألفاظ المخصوصة التي هي: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله، وترجيع الشهادتين -على ما مر- ثم تقول: حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح: الله أكبر اللهّ أكبر، لا إله إلا الله؟ وفي المواهب اللدنية للقسطلاني، قال سليمان بن موسى: أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان، فقال عطاء: كلا، إنما كان يدعوا الناس، ولا يؤذن غير أذان واحد. انتهى. لكن عطاء لم يدرك عثمان بن عفان، فرواية من أثبت ذلك عنه مقدمة، ويمكن الجمع بأن الذي كان في زمن عمر بن الخطاب استمر على عهد عثمان، ثم رأى أن يجعله وأن يكون على مكان عال، فنسب إلى عثمان لكونه بألفاظ الأذان، وترك ما كان يفعله عمر لكونه مجرد إعلام.
ومن تأمل ما قدمت علم أن الأذان الذي أحدثه عثمان إنما هو الأذان المعهود: الله أكبر الله أكبر الخ، هذا هو المعول عليه والمتفق عليه. والله سبحانه أعلم. وقوله:"وفسخ بيع" الخ هو من خصوصية الجمعة على المعول عليه، فلا يفسخ بيع من ضاق عليه وقت غيرها؛ لأن السعي
للجماعة هنا مقصود، وإلا لزم فسخ بيع من عليه فوائت، بل الغصاب لوجوب اشتغالهم برد ما عليهم. قاله الشيخ الأمير عن الإمام الحطاب.
فإن فات فالقيمة؛ يعني أن محل الفسخ في هذه المذكورات ورد العوض فيها إنما هو إن لم تفت بأن كان العوض قائما لم يفت، وأما إن فات بأحد المفوتات الآتية في باب المبيع من خروج عن يد وغيره. فإنه يلزم رد قيمة العوض. حين القبض؛ يعني أن المعتبر في القيمة حيث فات العوض قيمته حين قبض، هذا هو المشهور، وقيل: المعتبر قيمته حين المبيع، وقيل: يمضي العقد بالفوات. انظر الخرشي. كالبيع الفاسد، فيه حذف الصفة؛ أي كالبيع الفاسد المتفق على فساده؛ أي أن هذا العقد إذا فات بمفوت البيع يلزم رد قيمة المبيع فيه، وإن كان مختلفا في فساده فحكمه حكم المبيع الفاسد المتفق على فساده؛ إذا فات يلزم رد قيمة المبيع، فليس فيه تشبيه الشيء بنفسه. وبما قررت علم أن الخلاف إنما هو في الفسخ والمضي، وأما الإقدام عليه حيث يشغل عن السعي الواجب فلا يجيزه أحد، كما نقله الحطاب. قاله الشيخ محمد بن الحسن.
وعلم مما قررت أيضا استثناء البيع هنا من قوله في المبيع: "فإن فات مضى المختلف فيه بالثمن". تنبيه: قال المشاور: للأجير أن يحضر الجمعة، كانت إجارته يوما أو أياما أو أشهرا، ويقضى بذلد على المستأجر، وكذا يحكم عليه بحضور سائر الصلوات في المساجد. انتهى. الوانوغي: في قوله: في المساجد، نظر. لا نكاح، عطف على قوله:"بيع"؛ يعني أن النكاح إذا عقد عند أذان الجمعة الثاني، فإنه لا يفسخ مع أنه حرام ابتداء ولو لم يدخل. وقول ابن القاسم: يجوز، يحتمل أن يحمل على المضي فلا ينافي المنع ابتداء، وفسخ البيع وما معه لرجوع عوض كُلٍّ له، فلا كبير ضرر عليه بخلاف ما لا عوض فيه، فإنه لو فسخ لبطل من أصله، ولوجود الضرر بفسخ النكاح؛ إذ ربما تعلق أحد الزوجين بصاحبه، وهذا مبني على أن النكاح من العبادات لا من البياعات، خلافا لأصبغ، فإنه قال: يفسخ وإن فات بالدخول، ويكون لها الصداق المسمى. قاله الحطاب. وهبة؛ يعني أنه إذا وقعت الهبة لغير ثواب عند أذان الجمعة الثاني، فإنها لا تفسخ، وأما الهبة للثواب فإنها بيع يجري فيها ما جرى فيه، والله سبحانه أعلم.
وصدقة؛ يعني أن الصدقة إذا وقعت عند أذان الجمعة الثاني فإنها لا تفسخ، والهبة هي العطية لوجه المعطى بالفتح، والصدقة هي العطية لثواب الآخرة، ونَفَى المصنف عن هذه الثلاث؛ يعني النكاح والهبة والصدقة الفسخ؛ وذلك لا يستلزم نفي الحرمة ولا ثبوتها، ومقتضى كلامهم أنها محرمة ولكن لا تفسخ، أشار له الشيخ الحطاب، والشيخ إبراهيم. ومثل الهبة والصدقة، الكتابة، مراعاة لجانب العتق لا المال، ومثلهما الخلع فيما يظهر فيمضي على مقتضى العلة المتقدمة، قاله الشيخ عبد الباقي. قوله: فيمضي على مقتضى العلة المتقدمة؛ أي لعدم رجوع عوض كان له؛ لأن الطلاق نافذ لا يرد. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال ابن العربي -بعد أن ذكر عن ابن القاسم عدم فسخ النكاح وعدم فسخ الهبة والصدقة: - والصحيح فسخ الجميع؛ لأن المبيع إنما منع منه للاشتغال به، فكل أمر شغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعا مفسوخ ردعا. انتهى. نقله الإمام الحطاب.
ولما ورد في الخبر: (من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر ولا علة طبع الله على قلبه
(1)
) بطابع النفاق
(2)
)، بين الأعذار المبيحة لتركها؛ وهي أربعة: ما يتعلق بالنفس، وما يتعلق بالأهل، وما يتعلق بالدين، وما يتعلق بالمال، فقال: وعذر تركها؛ يعني أن من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة شدة الوحل بالتحريك على الأفصح؛ وهو الطين الرقيق الذي يحمل الناس على ترك المداس، هكذا فسره أهل اللغة، وغير الرقيق أولى. قاله الشيخ إبراهيم. والجماعة؛ يعني أن من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجماعة في الصلوات الخمس غير الجمعة: شدة الوحل.
وبما قررت علم أن قوله: "شدة وحل"، خبر عن قوله:"وعذر"، ومطر بالجر، عطف على وحل؛ أي شدة مطر؛ يعني أن من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة والجماعة في الصلوات الخمس غير الجمعة شدة المطر؛ أي الذي يحمل الناس على تغطية رؤوسهم، والواو فيه بمعنى" أو، قاله الشيخ إبراهيم. أو جذام بالجر، عطف على "وحل"؛ أي شدة جذام؛ يعني أن من
(1)
الموطأ، كتاب الجمعة، رقم الحديث:248.
(2)
في التمهيد لابن عبد البر ج 6 ص 378 من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر كتب منافقا.
الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة والجماعة في غير الجمعة، شدة الجذام، ففي التوضيح: واختلف في الأجذم، فقال سحنون: تسقط عنه، وقال ابن حبيب: لا تسقط والتحقيق الفرق بين ما تضر رائحته وبين ما لا تضر. انتهى. نقله الشيخ محمد بن الحسن. ورَدَّ على من قال: إن الجذام عذر وإن لم يشتد. المازري بعد ذكره الخلاف المذكور: وهذا على أنهم لا يجدون موضعا يتميزون فيه، وأما لو وجدوه بحيث لا يلحق ضررهم بالناس وجبت عليهم إذا كان المكان الذي يتميزون فيه تجزئ فيه الجمعة.
ومثل الجذام ما ألحق به من المضرات كالبرص، وفي الشبراخيتي عند قوله:"أو جذام": وإن لم يشتد، كما هو ظاهر نقل المواق عن سحنون، ولذا غير المصنف الأسلوب، وعطف "بأو". انتهى. ومرض؛ يعني أن شدة المرض من الأعذار التي تبيح التخلف عن الجمعة والجماعة في غير الجمعة.
وبما قررت علم أن قوله: "ومرض"، بالجر عطف على وحل، والمرض الشديد هو الذي يشق معه الوصول إلى محل الصلاة، ومثله كِبَرُ السن، لقول مالك: ليس على شيخ فَانٍ جمعة. وينبغي لزومها لقادر على مركوب لا يجحف كالحج. قاله سيدي عبد الله المنوفي. وأصل المرض الضعف وكل شيء ضعف فقد مرض. وقال ابن الأعرابي: أصل المرض النقصان، يقال: بدن مريض أي ناقص القوة، وقلب مريض أي ناقص الدين، وقيل: المرض اختلال الطبيعة واضطرابها بعد صفائها واعتدالها.
وتمريض؛ يعني أن التمريض من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة والجماعة في الصلوات الخمس غير الجمعة مطلقا إن كان المريض قريبا خاصا كولد أو أب أو زوج، وأما الأجنبي فإنما يبيح تمريضه التخلف عن الجمعة والجماعة حيث لم يكن له من يقوم به، وخشي عليه بترك تمريضه الضيعة، وأما القريب غير الخاص فهو كالأجنبي عند ابن عرفة، ولابن الحاجب أنه كالقريب الخاص، فلا يشترط فيه القيدان المتقدمان في الأجنبي. قاله الشيخ عبد الباقي. وفي الشبراخيتي: وقيد ابن الحاجب التمريض بالقريب تبعا لابن بشير: قال: وفي معناه الزوجة والملوك. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن: الذي في ابن الحاجب: أو تمريض قريب، فقال
في التوضيح: حكاه الباجي مطلقا؛ وهو ظاهر إذا لم يكن من يقوم به، قال: وقد صرح اللخمي بذلك. ابن عاشر: وإذا أريد تطبيق الكلام بكلام ابن الحاجب والتوضيح قرئ تمريض بترك التنوين بتقدير إضافته لقريب كالذي بعده، فتأمله. انتهى. وقال الشيخ الأمير: وتمريض محبوب خاص وإن صديقا ولو وجد من يعوله لما يدهم به، أو من خيف ضياعه، وتجهيز ميت. ابن الحاج: ولو لم يخش، ولبعضهم خلافه، وما أشار إليه عن ابن الحاج هو قوله في المدخل.
وقد وردت السنة أن من إكرام الميت تعجيل الصلاة عليه ودفنه، فقد كان بعض العلماء رحمه الله ممن يحافظ على السنة إذا جاءوا بالميت إلى المسجد صلى عليه قبل الخطبة، ويأمر أهله أن يخرجوا إلى دفنه، ويعلمهم أن الجمعة ساقطة عنهم إن لم يدركوها بعد دفنه -فجزاه الله خيرا- انتهى. وظاهره: وإن لم يخش تغير الميت، ولا خيف عليه الضيعة. وكلامه يفيد أنهم إذا دخلوا وقت الخطبة يأمرهم بالصلاة عليه والذهاب لدفنه. قاله الأجهوري. وقال الحطاب: وفي رسم حلف ليدفعن من سماع ابن القاسم عن مالك: أنه يجوز أن يتخلف عن الجمعة لينظر في أمر الميت من إخوانه مما يكون من شأن الميت. ابن رشد: معناه إذا لم يكن له من يكفيه، وخاف عليه التغير، هكذا ذكره في البيان بالواو، ونقله ابن عرفة بأو. ولفظه ابن رشد: إن خاف ضياعه أو تغيره. ومن بلغة وهو في الجامع أن أباه أصابه وجع يخشى عليه الموت، فله أن يخرج إليه والإمام يخطب. وقد استُصرخَ ابن عمر على سعيد بن زيد بعد أن تأهب للجمعة، فتركها وخرج إليه بالعقيق. قاله سند، والمازري.
وإشراف قريب، إشراف عطف على "شدة"؛ يعني أن من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة والجماعة في غير الجمعة، إشراف القريب على الموت وإن لم يمرضه؛ لأن هذا ليس لأجل التمريض، بل لما يدهم الشخص من شدة المصيبة بإشراف قريبه، وله أن يخرج إليه من الجامع والإمام يخطب. قاله الشبراخيتي. وقوله:"وإشراف قريب"، وأولى موته. قاله الشيخ عبد الباقي. قال: وكذا شدة مرض القريب أيضا، ولقريبه الخروج من المسجد. انتهى. ونحوه بالجر عطف على قريب؛ يعني أن نحو القريب من صديق وشيخ وزوجة ومملوك كالقريب، فيبيح إشرافه على
الموت التخلف عن الجمعة، والجماعة في غير الجمعة وإن لم يمرضه لما يدهم من شدة المصيبة بإشراف من ذكر. قال الشيخ عبد الباقي: وأولى موته. انتهى.
وخوف على مال؛ يعني أن الخوف على المال من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة والجماعة في غير الجمعة، وقوله:"مال"، له بال كان له أو لغيره، وكذا خوف على عرض أو دين، كخوفه إلزام قتل رجل أو ضربه ظلما، وبيعة الأمير الظالم ولو تحقق الخوف على نفسه من لصوص أو غاصب أو ما في معناهم، كان له التخلف بإجماع. قاله ابن بشير. نقله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ الخرشي: من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة والجماعة: الخوف من ظالم، أو غاصب، أو نار على مال له أو لغيره، ولابد أن يكون له بال، بأن يجحف به. وقوله:"وخوف" عطف على شدة. أو حبس؛ يعني أن الخوف من الحبس من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة والجماعة، وقوله:"أو حبس"، هو وما بعده عطف على "خوف" بحذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه؛ أي خوف حبس. أو ضرب؛ يعني أن الخوف من الضرب من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة والجماعة في غير الجمعة. وقوله:"أوضرب"، قال الشيخ إبراهيم: من ظالم.
والأظهر والأصح أو حبس معسر؛ يعني أن من هو معسر في الباطن؛ وهو ظاهر الملاء ككونه لابسا الثياب الفاخرة ويخاف إن ذهب للجمعة والجماعة أن يسجن، فإنه يباح له المتخلف عنهما لذلك، وخالف سحنون، فقال: إذا خاف غريما أن يحبسه لم يسعه التخلف كان له مال أم لا، والأول هو الأظهر عند ابن رشد، كما قال المصنف، والأصح عند اللخمي، فلو قال المص: والمختار، بدل الأصح، لكان صوابا، وقوله:"أو حبس معسر"، عطف على حبس، وقوله:"والأظهر والأصح"، خبر لمبتدإ محذوف؛ أي وهو الأظهر والأصح، والجملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه.
وعري؛ يعني أن من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة والجماعة العري عما يستر العورة، وأما لو وجد لا يستر به عورته، فإنه يجب عليه الحضور لهما ولو كان لا يليق به قاله الشبراخيتي وقال الشيخ الأمير في العري: الأليق بالحنيفية السمحاء أن لا يجد اللباس اللائق بمثله، وقال
الشيخ محمد بن الحسن عن ابن عاشر: ولا يبعد مراعاة ما يليق بأهل المروءة، بعد أن نقل عن الشارح والبساطي تصويره للعري هنا بأنه: العري عما يستر العورة، وقال الشيخ عبد الباقي: وعري عما يستر العورة، قال بعض: وربما يقال: لا يجوز له الخروج، وهل عليه أن يستعير أو يستتر بالنجس؟ كما تقدم في قوله:"وإن بإعارة أو طلب أو نجس وحده". أو لا لكونها لها بدل؛ فهو أخف مما تقدم، وإذا أعطي له ما يستتر به ولو إعارة من غير طلب فالظاهر وجوب القبول. قاله غير واحد. وقال الشيخ الأمير: والظاهر أنه لا يخرج لها بالنجس لأن لها بدلا كما قالوا لا يتيمم لها. ورجاء عفو قود؛ يعني أن من ترتب عليه قصاص في نفس أو طرف، أو ترتب عليه حد يفيد فيه العفو كقذف، ورجا أنه إن تخلف عن الجمعة والجماعة يشفع له أو يعفى عنه بمال أو غيره، وخشي إن خرج إلى الجمعة أو الجماعة أن يقام عليه ذلك، يباح له التخلف لرجائه لذلك، وأما ما لا يفيد فيه العفو، فلا. وأكل كثوم؛ يعني أن من الأعذار المبيحة لمن اتصف بها التخلف عن الجمعة والجماعة، أكل ماله رائحة كريهة كالثوم، والبصل النيين، والكراث، والفجل، ونحوها. وفي الحديث: الثوم والبصل والكراث من سك إبليس؛ أي طيبه؛ وهو بسين مهملة مضمومة.
وحرم في المسجد إجماعا؛ أي أكل ما له رائحة خبيثة، ومن أكل منه شيئا خارج المسجد، ففي جواز دخوله للمسجد لغير جمعة وجماعة، وكراهته قولان، ويحرم أكله بغير المسجد لمن يريد جمعة، أو جماعة، أو مجلس علم أو ذكر، أو وليمة، أو مصلى عيدين، أو جنائز وتأذوا برائحته إلا أن يقدر على إزالته بمزيل.
وانظر، وهل ولو لاستياك بجوزاء أو لا؟ لحرمتها على الرجل على الأصح. وقيل: يكره أو يستاك بها للجمعة فقط للاتفاق عليها لا لغيرها، وفي الفيشي على العزية: ويحرم على آكله إتيان المساجد، كما صرح به ابن رشد في المقدمات والبيان وغيرهما، وظاهر الرسالة الكراهة. قاله الشيخ عبد الباقي، قاله المازري، وألحق أهل المذهب بذلك أهل الصنائع المنتنة كالحواتين أي السماكين، والجزارين. ومن المبيح أيضا الصنان والبرص المتأذى بريحه. وفي الحديث: (من أكل
من هذه الشجرة فلا يقرب مسجدنا يؤذنا بريح الثوم
(1)
). فيه من الفقه أن حضور الجماعة ليس بفرض، وإلا لما أبيح ما يحبس عن الفرض.
وقد أباحت السنة لآكل الثوم التأخر عن الجماعة، وإذا كانت العلة في إخراج آكل الثوم من المسجد أنه يتأذى به، ففي القياس أن كل من يتأذى به جيرانه في المسجد؛ بأن يكون ذرب اللسان سفيها مستطيلا، أو كان ذا رائحة لا تؤلمه لسوء صنعة، أو عاهة مؤذية كالجذام وشبهه، وأرادوا إخراجه من المسجد وإيعاده عنهم، كان لهم ما دامت العلة موجودة فيه حتى تزول، فإذا زالت بأي وجه كان له مراجعة المسجد. قاله الحطاب. وقال الأمير عاطفا على الأعذار المسقطة لحضور الجمعة والجماعة: وأكل كثوم، ولا مزيل، وحرم بالمسجد والمحافل كدخول آكله على الراجح. انتهى. ومما يزيل رائحة الثوم مضغ السعف والسعتر. قاله الخرشي.
ثم شبه بمسقطات الجمعة والجماعة ما يخص الجماعة بقوله: كريح عاصفة بليل؛ يعني أن الريح العاصفة؛ أي الشديدة إذا كانت بالليل، فإنها تبيح التخلف عن الجماعة لاجتماعها مع الظلمة بخلافها نهارا، فلا تسقط الجمعة ولا الجماعة، وليس من الأعذار شدة البرد ولا شدة الحر إلا أن تكون ريح حارة تذهب بماء القرب والأسقية، فتكون عذرا لمن هو خارج المصر. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الإمام الحطاب عن سند: أما الحر والشمس فليس بعذر قاطع، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقيمها في أرض الحجاز بأصحابه. (قال سلمة بن الأكوع: كنا نُجَمِّع مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نبتغي الفيء، أوقال: الظل، وما نجد للحيطان فيئا نستظل به
(2)
). خرجه البخاري. انتهى. وقوله: "بليل"، ظاهره ولو مقمرا. لا عرس؛ يعني أن الابتناء بالعرس بالكسر، وهي امرأة الرجل، لا يبيح التخلف عن الجمعة والجماعة.
(1)
الموطأ، كتاب وقوت الصلوات، رقم الحديث:30. ولفظه: فلا يقرب مساجدنا يؤذينا .. - البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث:853. ولفظه: من أكل من هذه الشجرة - يعني الثوم - فلا يقربن مسجدنا. - مسلم كتاب المساجد، رقم الحديث:563. ولفظه: من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا ولا يؤذينا بريح الثوم.
(2)
مسلم، كتاب الجمعة، رقم الحديث:860. البخاري، كتاب المغازي، رقم الحديث: 4168.
وبما قررت علم أن قوله: "لا عرس"، على حذف مضاف؛ أي ابتناء عرس، ويقال: العرس بالكسر للرجل أيضا، ويقال للبوة الأسد. والعرس بالضم: طعام الوليمة، وبضم الراء وسكونها: الابتناء، فإن قرئ المصنف بالضم فليس على حذف مضاف، والعروس نعت يستوي فيه المذكر والمؤنث ما داما. يقال: رجل عروس ورجال عرس، وامرأة عروس ونساء عرائس.
أو عمى؛ يعني أن العمى ليس بعذر يبيح التخلف عن الجمعة والجماعة، وهذا إذا كان الأعمى ممن يهتدي للجامع، أو عنده من يقوده إليه، وأما إذا لم يجد قائدا -والحال أنه لا يهتدي للجامع- فإنه يباح له التخلف. وفي صحيح مسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رجلا أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، وسأله أن يرخص له في بيته فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب
(1)
). انتهى. قاله الإمام الحطاب. وقال الخرشي: ولو وجد الأعمى قائدا بأجرة، وجبت عليه حيث كانت الأجرة أجرة المثل، وإلا فلا. انتهى.
وشهود عيد؛ يعني أن من شهد صلاة العيد يوم جمعة لا تنوبه صلاته للعيد عن حضور الجمعة ولا الجماعة، فلا يباح ترك الجمعة أو الظهر لأجل شهود العيد. وإن أذن الإمام؛ يعني أن شهود صلاة العيد إذا كان يوم جمعة، فإنه لا يبيح التخلف عن صلاة الجمعة، سواء أذن الإمام في التخلف أم لا، خلافا لابن وهب والأخوين مطرف وابن الماجشون.
والحاصل أنه إن لم يأذن الإمام في التخلف، فلابد حضور الجمعة، خلافا لعطاء، وإن أذن في التخلف فكذلك، خلافا لعطاء وابن وهب والأخوين، وعبارة الشيخ الأمير: لا عرس أو عمى يهتدي معه وإن بأجرة مثل، ولا يبيح تركهما حضورُ صلاة عيد، فلا تنوب عنهما وإن أذن الإمام. انتهى.
(1)
مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث:653.
ولما كان الخوف من جملة ما يغير صفة الصلاة ذكره عقب الجمعة التي هي من المغيرات أيضا وجمعهما لاشتراط الجماعة فيهما وأخره عنها لشدة تغييره وإياحته ما لم يبح لغيره من مفارقة الإمام ونحو ذلك، فقال:
فصل: ذكر فيه حكم صلاة الخوف
وصفتها وما يتعلق بها، وليس المراد بقولهم: صلاة الخوف، أن له صلاة تخصه كالعيد ونحوه، وإنما المراد الصلاة التي سببها الخوف، وهي إن كانت في الحضر حضرية وفي السفر سفرية؛ فهو من إضافة الشيء إلى سببه، والخوف والخيفة ضد الأمن. واختلف في أول صلاة في الخوف، هل صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع سنة خمس من الهجرة؟ وحكاه في النوادر عن الواضحة، أو في عسفان؟ حين كان على المشركين خالد بن الوليد وصلى المسلمون الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غفلة لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية صلاة الخوف بين الظهر والعصر، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر صلاة الخوف. قاله في الطراز، أو في غزوة جهينة، أو في غزوة بني مخارق ببطن نخيل على قرب من المدينة، أو في غزوة نجد وغطفان. قاله غير واحد من الرواة. وهل سميت ذات الرقاع لأن أقدام المسلمين تنقبت فيها من الحفاء فلفوا عليها الخروق؟ أو تخرقت نعالهم فألقوا الرقاع على أرجلهم؟ أو لجبل يقال له الرقاع؛ لأن فيه بياضا وسوادا وحمرة؟ أو شجرة هناك يقال لها ذات الرقاع؟ أو لأن المسلمين رقعوا راياتهم؟ أقوال، والصحيح الأول. النووي: ويحتمل وجدان هذه الأمور كلها، قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ محمد بن الحسن: قال ابن بشير: قال ابن القصار: المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه صلاها في ثلاثة مواضع: ذات الرقاع، وعسفان، وذات النخيل). اهـ. وفي الشبراخيتي: وهل صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا وعشرين مرة كما في القبس؟ أو عشر مرات؟ قولان، واستقر عند الفقهاء ثلاثة: بطن نخيل، وعسفان. وذات الرقاع؛ وهي مستمرة بعده صلى الله عليه وسلم عند مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وجمهور أهل العلم. وقال ابن القصار وأبو يوسف: خاصة به صلى الله عليه وسلم، ودعوى المزني أنها نسخت (بتأخيره صلى الله عليه وسلم يوم الخندق أربع صلوات اشتغالا بالقتال ولم يصلها)، مردودة؛ بأنه كان قبل صلاة الخوف. انتهى. قاله الشيخ إبراهيم. ولما كانت صلاة الخوف نوعين كما قال ابن الحاجب، أشار إلى الأول منهما بقوله: رخص؛ يعني أن صلاة الخوف على هذا الوجه الذي سيذكره رخصة، ولم يذكر المصنف حكم هذه الرخصة،
وذكره أبو محمد في الرسالة، فقال: وصلاة الخوف واجبة. انتهى. أي واجبة وجوب السنن، وذكر الشارح عن ابن المواز أنها مستحبة، وقول المصنف: ولو صلوا بإمامين أو بعض فذا جاز، يقتضي الإباحة، وهذا هو الذي يقتضيه ما نقله سند عن ابن المواز. لقتال؛ يعني أنه يرخص لأجل القتال أن يقسم الإمام الناس قسمين، يصلي بطائفة منهم بعض الصلاة، وبالطائفة الأخرى بعض الصلاة الآخر على الوجه الذي سيذكره، ولابد أن يكون هذا القتال جائزا، كما أشار إلى ذلك بقوله: جائز؛ يعني أن الصلاة على الوجه الذي يذكر إنما يرخص فيها لأجل القتال الجائز؛ أي المأذون فيه، واجبا كان كقتال المشركين أو المحاربين أو البغاة أو مريد دم من آدمي أو سبع، أو مباحا كقتال مريد المال والهزيمة الجائزة، واحترز بالجائز عن المحظور كقتال الإمام العادل، وقطع الطريق، وقتال المسلمين ظلما. وقوله:"رخص"؛ يعني في سفر أو حضر، ببر أو بحر، والجمعة وغيرها سواء على الأشهر. وما نقل عن مالك من منع صلاة الخوف في الحضر لا يعرف. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الإمام الحطاب: سند: إقامة هذه الصلاة رخصة ليست سنة ولا فريضة، قاله ابن المواز، والذي قاله صحيح؛ فإن ذلك لو كان واجبا لكان شرطا ولا كان يجزئ غيره، ولا خلاف في أن الصلاة تجزئهم على خلاف هذا الترتيب. انتهى. فإن حصل الخوف في البحر وهم في مركب واحد فهم كأهل البر، وإن تعددت المراكب صلى أهل كل مركب بإمام وقسمهم، وإن أمنوا صلوا بإمام واحد، وقسم أهل كل مركب قسمين، أو قسم المراكب قسمين؛ فصلى بنصفهم ويحرس النصف الآخر، وأما المركب الذي فيه الإمام فيقسم طائفتين. قاله في الذخيرة.
أمكن تركه لبعض؛ يعني أن هذا القسم الذي يذكر، محله حيث كان يمكن لبعض الجيش ترك القتال؛ بأن كان في البعض الآخر مقاومة للعدو، وسواء في هذه الحالة رجى انكشاف العدو قبل خروج الوقت أولا. وقوله:"لبعض"، يصح تعلقه "بأمكن"، "وبتركه"، وعلى الأول اللام للتعدية ويكون البعض تاركا، وعلى الثاني للتعليل ويكون البعض متروكا لأجله على حذف مضاف؛ أي أمكن تركه لأجل قيام بعض به. انظر الشبراخيتي. قسمهم، نائب رخص؛ وهو مصدر مضاف إلى مفعوله؛ يعني أنه يرخص للإمام أن يقسمهم قسمين مع الإمكان، حيث كان العدو يمنة أو يسرة أو خلف كما كان في ذات الرقاع، بل وإن كان من يقسم؛ وهو الإمام والمسلمون. قاله الشيخ
إبراهيم. وجاه بكسر الواو وضمها؛ أي مواجه. القبلة؛ أي الكعبة؛ وهي المسجد الحرام؛ أي جاعلا لها أمامه والعدو فيها كما في عسفان وغيرها. قاله أشهب. خلافا لقول أحمد: إذا كان العدو بها صلوا مع الإمام جميعا من غير قسم لنظرهم لعدوهم.
أو على دوابهم؛ يعني أنه يرخص للإمام أن يقسمهم مع استيفاء الشروط، وإن كانوا ركبانا على دوابهم حيث احتاجوا إلى الركوب عليها، وإلا فلا ويصلون على دوابهم إيماء. وتقدم أن المومئ لا يقتدي بالمومئ، فتبطل على المقتدي، فيستثنى هذا مما تقدم لضرورة احتياجهم للدواب. قسمين مفعول مطلق، والعامل فيه قسمهم، قاله الشيخ إبراهيم؛ يعني أن الإمام يجعلهم فرقتين تساوى القسمان أم لا. مسافرين، أو حاضرين أو مختلفين ببر أو بحر، وإذا كان الخوف في الحضر ومعهم مسافرون، فيستحب أن يكون الإمام من المسافرين ليلا يتغير حكم صلاتهم لأنهم يصلون ركعتين، ولو كان أهل السفر الاثنين والثلاثة يقدم الحضري. قاله الشيخ الخرشي. ونحوه للشيخ عبد الباقي عن اللخمي، ولا تتأتى الهيئة المذكورة فيما إذا كان المقاتل واحدا أو اثنين، وإنما تمكن مع ثلاثة فأعلى، وتجوز في ثلاثة خلافا للشافعي، والواحد يجري فيه تأخيرها لآخر الاختياري أو صلاته صلاة مسايف، كما بحثه ابن ناجي والشارح فيمن ذهبت دابته وهو في الصلاة. قاله الشيخ عبد الباقي.
قال جامعه عفا الله عنه: (وقضية عبد الله بن أنيس رضي الله عنه صريحة في أن الواحد يصلي صلاة المسايف، فإنه فعلها حين أتى الذي يريد أن يجمع الجموع للنبي صلى الله عليه وسلم، فوجده يرتاد منزلا لظعنه وقد أدركه الوقت، فصلى صلاة المسايف وهو ماش معه، وأتاه مظهرا أنه يريد أن يكون معه في الجموع التي يجمعها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتال في قتله، فقتله
(1)
)، وفي ذلك يقول عبد الله بن أنيس رضي الله عنه:
أقول له والسيف يعجم رأسه
…
أنا ابن أنيس فارسا غير قعدد
(1)
مسند أحمد، ج 3 ص 496.
والظاهر أنه لا فرق بين الواحد والاثنين، واقتضى قوله:"قسمين"، أنه لا يقسمهم أكثر من ذلك. وسيأتي
(1)
إن وقع. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله: "رخص لقتال" الخ: الأصل فيه من الكتاب قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} ، والمعنى إذا كنت أيها النبيء مع المؤمنين في بعض غزواتهم وخوفهم، فابتدأت لهم الصلاة إماما، فليقم بعضهم يصلون معك وليأخذ الباقون أسلحتهم، فإذا سجد الذين معك فليكن الذين أمروا بأخذ السلاح من ورائكم، ولتأت الطائفة الذين لم يكونوا صلوا فليصلوا معك، وليأخذ الذين صلوا أولا حذرهم وأسلحتهم.
ومن السنة ما روي عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف: (أن طائفة صفت مع النبي صلى الله عليه وسلم. وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائما: وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا. وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم
(2)
). قاله الشيخ إبراهيم. والحديث لا يدل على الهيئة التي ذكر المصنف من جهة أنه عليه الصلاة والسلام ثبت جالسا حتى أتموا ثم سلم بهم -كما لا يخفى-؛ لأن المصنف ذكر أنه يسلم فيتمون بعد سلامه. وقال ابن عرفة: أبو عمر: عن بعض أصحابنا تحرم الطائفتان معا وتركعان معا ولا يختلفان إلا في السجود، على حديث ابن عباس
(3)
)، واستحسنه اللخمي لحديث مسلم، (وفيه: بعد ركوع الصفين ثم سجد وسجد الصف الذي يليه خاصة، ثم قام هو والصف الذي سجد وسجد الصف المؤخر، وقاموا وتقدم المؤخر وتأخر المقدم، ثم بعد ركوعهما سجد المقدم، ثم المؤخر، ثم سلم بهم
(4)
)، وظن موجبها كعلمه. انتهى كلام ابن عرفة. وقال ابن غازي: قال اللخمي: واختلف إذا كان العدو في القبلة، هل يصلي بهم جميعا أو
(1)
كذا في الأصل.
(2)
الموطأ، كتاب صلاة الخوف، رقم الحديث:440. - البخاري، كتاب المغازي، رقم الحديث: 4129.
(3)
البخاري، كتاب صلاة الخوف، رقم الحديث:944.
(4)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، رقم الحديث:840.
طائفتين؟ فقال أشهب في مدونته: لا يفعل لأنه يتعرض أن يفتنه العدو أو يشغله، فإن فعل أجزأه وأجزأهم، وفي كتاب مسلم: (أن العدو لما كان في القبلة صف النبي صلى الله عليه وسلم الناس خلفه صفين، كبر وكبروا معه، وركع وركعوا معه، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه خاصة، ثم قام وقام الصف الذي سجد معه، وانحدر الصف المؤخر فسجد، ثم قاموا وتقدم الصف المؤخر وتأخر الصف القدم، ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركع جميعهم معه، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه الذي كان مؤخرا، وأقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر فسجدوا، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم بهم جميعا
(1)
)، وهذه صفة حسنة وليس يخشى فيها ما يخشى إذا كان سجودهم كلهم معا. انتهى. ونقله أبو عمر في الكافي. انتهى كلام ابن غازي. وقوله:"رخص لقتال" الخ، هذه الرخصة إحدى خمس سنن في الفرض، وهي: الجمع برفة، وبمزدلفة، والقصر، وصلاة الخوف، والجماعة. وعلمهم، الواو للاستئناف واللام مشددة؛ يعني أنه يجب على الإمام أن يعلمهم كيف يفعلون في صلاتهم خوف التخليط لعدم إلفها؛ ولأن المحل محل دهش والخوف يشمل الشك والوهم، ويندب التعليم إن تحقق علمهم بكيفيتها لاحتمال نسيانهم في تلك الحالة الفظيعة؛ إذ هي حالة شديدة، قال الشاعر:
في موضع ذرب الشبا وكأنما
…
فيه الكماة لدى الهياج على لظى
وصلى بأذان وإقامة، هذه الجملة عطف على قوله:"وعلمهم"؛ يعني أن الإمام يصلي بأذان وإقامة لكل صلاة، أما الإقامة فسنة، وأما الأذان فسنة في الحضر كالسفر إن كثروا وطلبوا غيرهم، وإلا فندب. قاله الشيخ عبد الباقي. بالأولى في الثنائية ركعة؛ يعني أن كيفية صلاة الخوف هي: أن يصلي بالطائفة الأولى ركعة حيث كانت الصلاة ثنائية؛ أي ركعتين أصالة كالصبح، والجمعة
(1)
مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، رقم الحديث:840.
أو لقصر ولو باعتبار الإمام المسافر، فإذا كان الإمام مسافرا، وفي المأموم حاضر ومسافر، صلى ركعة ثم يأتي المسافر بركعة والحاضر بثلاث، والظاهر أن الطائفة الأولى يصلون الركعة الثانية من الجمعة أفذاذا ولا يستخلفون؛ لأنه بمنزلة من حصل له رعاف بناء في الثانية حتى فاته فعلها مع الإمام، فإنه يأتي بها وحده.
والظاهر أنه لابد أن تكون كل طائفة اثني عشر غير الإمام ممن تنعقد بهم: ولا يكفي أن يكون في الطائفتين اثنا عشر؛ لأن الإمام بقيامه للثانية انقطع تعلقه بالأولى، بحيث لو تعمد مبطلا لم تبطل صلاتهم، والظاهر أنه يسري الخلل في صلاتهم لصلاة الإمام؛ لأنه إمام لكلتا الطائفتين. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله: بحيث لو تعمد مبطلا الخ؛ يعني في غير الجمعة، كما في شرح الشيخ عبد الباقي. والله سبحانه أعلم. وفي شرح الشيخ عبد الباقي: أن الظاهر أنه لابد من حضور الأربعة والعشرين للخطبة. وإلا فلا تقام خلاف ما جزم به الأجهوري من أنه يكتفى بحضور الطائفة الأولى الخطبة دون الثانية: إن قلنا إنه لابد في كل طائفة من اثني عشر رجلا، واستظهر الشيخ محمد بن الحسن ما للأجهوري، وفي شرح الشيخ عبد الباقي أيضا: أنه لابد أن تصح صلاة الأربعة والعشرين، فإن حصل الخلل في صلاتهم سرى لصلاة الإمام، ولابد من بقاء المأمومين للسلام ونزل سلام الطائفة الأولى قبل الإمام بمنزلة سلامه، كما أن الظاهر سريان خلل صلاته لصلاة الأولى بعد مفارقتها لها
(1)
؛ إذ لا ينقطع التعلق حقيقة في الجمعة. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: إذا كان التعلق في الجمعة لا ينقطع، فالظاهر أنه يكفي اثنا عشر في مجموع الطائفتين. انتهى.
وإلا؛ أي وإن لم يكن الإمام يصلي ثنائية بل ثلاثية أو رباعية بالنسبة إليه؛ إذ المسافر خلفه يتم. فإنه يصلي بالطائفة الأولى ركعتين؛ ثم إذا صلى بهم ركعة في الثنائية، أو ركعتين في الرباعية أو الثلاثية قام ويأتمون به في حال قيامه إلى أن يستقل، ثم يفارقونه، فإن أحدث قبل استقلاله عمدا بطلت ضليه وعليهم، وسهوا أو غلبة استخلف هو أو هم من يقوم بهم، ثم يثبت المستخلف
(1)
في عبد الباقي ج 2 ص 68: مفارقتها له.
ويتم من خلفه، ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة ويسلم، وأما لو أحدث بعد تمام قيامه ولو عمدا فصلاتهم صحيحة تامة، فلا يستخلف عليهم لانقطاع تعلقه بهم، فإذا أتموا وذهبوا أتت الطائفة الأخرى بإمام يقدمونه كما في الحطاب.
ساكتا أو داعيا أو قارئا؛ أحوال من فاعل قام؛ يعني أنه إذا صلى ركعة وقام، فإنه بالخيار بين أن يسكت وبين أن يدعو بما عَنَّ له، والأولى أن يدعو بالنصر والفتح وبين أن يقرأ بما يعلم أنه لا يتمه حتى تأتي الطائفة الثانية، وهل يقرأ الفاتحة أو يؤخر قراءتها حتى تجيء الطائفة الثانية؟ خلاف، وقوله:"أو داعيا"، قال في التوضيح: ولا يتعين الدعاء، بل وكذلك التسبيح والتهليل وبذلك صرح ابن بشير. نقله الإمام الحطاب. وقوله: في الثنائية، متعلق بقام؛ أي يقوم في الثنائية حال كونه مخيرا بين الأمور الثلاثة، وأشار إلى ما يفعله في غير الثنائية بقوله: وفي قيامه بغيرها تردد؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا فيما يفعل الإمام إذا صلى ركعتين في الرباعية أو الثلاثية، فقال ابن القاسم ومطرف: يقوم منتظرا الطائفة الثانية وهو المشهور ومذهب المدونة، وقيل: يجلس حتى تفرغ الطائفة الأولى من بقية صلاتها أفذاذا؛ وهو لابن وهب، وابن كنانة، وابن عبد الحكم، حكى هذين القولين ابن بشير، وصاحب الإكمال، وحكيا الاتفاق على قيامه في الثنائية، وعكس ابن بزيزة فحكى الاتفاق على استمراره جالسا في غير الثنائية. وفي قيامه في الثنائية قولين، وإلى هذين الطريقين؛ أي طريق ابن بشير وصاحب الإكمال الذين حكيا الاتفاق على قيامه في الثنائية والخلاف في غيرها، وطريق ابن بزيزة الذي حكى الخلاف في الثنائية والاتفاق على استمراره جالسا في غيرها، أشار المصنف بالتردد؛ فهو تردد للمتأخرين في النقل، والطريقة الأولى أصح لموافقتها المدونة.
واعلم أنه إن قام في الثنائية خير في الثلاثة التي ذكر المصنف، وإن قام في غيرها خير بين السكوت والدعاء، ولا يقرأ؛ لأن قراءته بأم القرآن فقط، فقد يفرغ منها قبل مجيء الطائفة الثانية، وهي لا تكرر في ركعة، وأما على القول بالجلوس فلا تتوهم القراءة ولا الدعاء؛ لأنه لا دعاء في الجلوس الأول، وإنما يخير بين الذكر والسكوت. كما قاله الباجي. وذكر بعض الشراح
أنه يجلس ساكتا أو داعيا فيكون ما هنا مستثنى. انظر الشبراخيتي. وانظر ما حكم القيام في المسألتين والجلوس على القول به، وعلى القول بالجلوس في غير الثنائية فمفارقة الأولى بتمام التشهد، ويعلمهم ذلك بإشارة أو جهر بآخره، وأما على القول بالقيام، فالذي يدل عليه كلام الشبراخيتي إن لم يكن صريحه، أن مفارقة الأولى تحصل بتمام قيامه -كما مر في الثنائية- والله سبحانه أعلم. ومن أدرك الثانية من المغرب أو من صلاة الرباعية، أو أدرك الثالثة من الرباعية فإنه يجتمع له البناء والقضاء، ولكن من أدرك الثانية من المغرب أو الرباعية، هل يقوم للبناء والقضاء إذا أتمت الطائفة الأولى، أو يمهل بالقضاء حتى يفرغ الإمام من سائر الصلاة؟ فيه قولان، نقله ابن بشير. قاله الحطاب. وقوله:"وفي قيامه بغيرها تردد"، تقدم أنه أشار بالتردد إلى طريقين، وبقى طريقان أخريان ذكرهما ابن ناجي، فقال: ظاهر كلام الباجي أن الخلاف في المسألتين، ثم قال: ولابن حارث طريقة رابعة: قال: اتفقوا على أنه ينتظر الطائفة الثانية قائما في الصلوات كلها حاشى المغرب، قاله الإمام الحطاب. وقال: وإذا قلنا ينتظرهم جالسا. فقال في الطراز عن الباجي: هو مخير بين أن يسكت أو يذكر الله تعالى، قال: ومتى يقوم، فإن سبق إليه الواحد والاثنان لم يقم، وإن جاءت جماعة قام فكبر بهم. والله أعلم.
وأتموا لأنفسهم؛ يعني أنه إذا قام في الثنائية، أو قام في غيرها، أو جلس -على ما مر- فإن الطائفة الأولى يتمون لأنفسهم بعد ما صلوا معه ركعة أو ركعتين، ويتمون أفذاذا، فإن أمهم أحدهم فصلاته تامة، وصلاتهم فاسدة قاله سند. وما في التتائي على الرسالة: يتمون أفذاذا أو بإمام، فيه نظر؛ إذ لا تصلى صلاة بإمامين في غير الاستخلاف، قاله الشيخ إبراهيم.
وانصرفوا؛ يعنى أن الطائفة الأولى إذا أتموا صلاتهم فإنهم ينصرفون؛ أي يذهبون فيقفون وُجاه العدو، والمعتبر إتمام من دخل معه من الطائفة أول صلاته، ولا ينتظر بصلاته بالثانية المسبوق من الأولى، ثم إن المأموم من الطائفة الأولى لا يسلم على الإمام؛ لأنه لم يسلم عليه. قاله الشبراخيتي. وقال الشيخ الأمير: وهل يسلمون على الإمام وهو الظاهر، وذكر شيخنا في حاشية أبي الحسن عدمه، ويردون على من باليسار. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: وإذا اجتمع بناء وقضاء لمسبوق قدم البناء -كما مر للمصنف- وإذا كان من الطائفة الأولى قضى ركعة القضاء بعد البناء قبل
مجيء الطائفة الثانية للإمام. انتهى. وقيل: يؤخرها لسلامه ليلا يكون قاضيا في صلبه، ويرد بانقطاع الأولى عند مفارقتهم له. انتهى. وقد مر نحوه للحطاب.
ثم صلى بالثانية ما بقي؛ يعني أنه إذا أتمت الأولى وانصرفت تجاه العدو، فإنه يأتي الذين كانوا مواجهين للعدو؛ وهم الطائفة الثانية، فيصلي بهم ما بقي من الصلاة؛ وهو ركعة في الثنائية والثلاثية، وركعتان في الرباعية. وسلم؛ يعني أن الإمام إذا صلى بالطائفة الثانية ما بقي من الصلاة، فإنه يسلم: فإذا سلم لنفسه أتموا لأنفسهم؛ أي فلا يأتون بما عليهم إلا بعد سلام إمامهم، هذا هو المشهور، ومقابله أنه إذا أتم الصلاة لا يسلم، بل يشير لهم أن يتموا، فإذا أتموا سلم بهم، وما تأتي به الطائفة الثانية بعد مفارقة الإمام قضاء لا بناء، كما ذكره المواق وغيره. فيقرءون فيه بالفاتحة وسورة. قاله الشيخ إبراهيم.
ولو صلوا بإمامين؛ يعني أن الناس إذا انقسموا طائفتين، فصلت إحداهما الصلاة كلها بإمام والأخرى تحرس، فلما فرغوا من الصلاة انصرفوا تجاه العدو، وصلت الطائفة الثانية صلاة كاملة بإمام آخر، جاز ذلك أي مضى وصحت صلاتهم مع أنه مكروه لمخالفته سنتها السابقة. أو بعض فذا؛ يعني وكذاك لو صلى بعضهم ولو كثر فذا وطائفة قبله أو بعده جاز ذلك؛ أي مضى وصحت صلاتهم، مع أنه مكروه لمخالفته سنتها السابقة. وقوله: جاز، جواب لو، فهو راجع للمسألتين، كما علم مما قررت. وقوله:"بإمامين"، لا مفهوم له؛ أي أو بأئمة، وقوله:"ولو صلوا بإمامين"، هذا الفرع ليس بمنصوص، وإنما هو مخرج خرجه اللخمي على ما إذا صلى بعض فذا وبعض بإمام، كما في الجواهر، وابن عرفة، وغيرهما. ونازع المازري في التخريج المذكور بأن إمامة إمامين أثقل من تأخير بعض الناس عن الصلاة. قاله الشيخ محمد بن الحسن.
وإن لم يمكن أخروا لآخر الاختياري؛ هذا هو النوع الثاني من نوعي صلاة الخوف؛ وهو مفهوم قوله: "أمكن تركه"؛ يعني أنه إذا لم يمكن ترك القتال لبعض الجيش، لكثرة العدو، أو لالتحام القتال، ورجوا انكشافه قبل خروج الوقت المختار بحيث يدركون الصلاة فيه؛ فإنهم يؤخرون الصلاة لآخر الوقت المختار بحيث يبقى منه ما يسعها، وقوله:"أخروا"، قال الشيخ عبد
الباقي: ندبا فيما يظهر، قياسا على راجي الماء، وما يأتي من أن هذه المسألة مشابهة لمسألة الرعاف يفيد وجوب التأخير. انتهى. وقوله:"لآخر الاختياري"، قال الشيخ عبد الباقي: الذي في النص لآخر: "الوقت"، قال المصنف: والظاهر أنه الاختياري، قياسا على راجي الماء في التيمم بجامع رجاء كل إيقاع الصلاة على الوجه الجائز، واستظهر ابن هارون الضروري، فكان ينبغي للمصنف أن يبين ما به الفتوى المنصوص أولا، ثم يذكر بحثه؛ كأن يقول: لآخر الوقت، والظاهر الاختياري، كقوله في فصل الجزية:"سنة والظاهر آخرها"، ولا يجعل بحثه مما به الفتوى. اهـ كلام الشيخ عبد الباقي، قال الشيخ محمد بن الحسن: وفي كلام الذخيرة ما يفيد ما اختاره المصنف من أنه الاختياري، انظره في الحطاب عند قوله:"وإن أمنوا بها" الخ. انتهى كلام الشيخ محمد بن الحسن. ونقل عن ابن ناجي: لا يبعد أن تكون المسألة ذات قولين كالخلاف في الراعف إذا تمادى به الدم وخاف خروج الوقت؛ فإنه يعتبر الاختياري، ونقل ابن رشد قولا أنه: يعتبر الضروري، وقوله: أخروا لآخر الاختياري، قال الشيخ إبراهيم: فيه دليل على أن مصلحة الوقت الاختياري أعظم من مصالح استيفاء الأركان والشروط إذا بقي منه قدر ما يسع ركعة. انتهى. وصلوا إيماء؛ يعني أنهم إذا أخروا لآخر الاختياري بحيث بقي منه قدر ما يسع الصلاة فإنهم يصلون حينئذ إيماء أفذاذا ومحل الإيماء حيث لم يمكنهم الركوع والسجود، وتنظير بعض الشراح في كونهم يصلون أفذاذا قصور؛ لأن مشقة الاقتداء هنا أقوى منها وهم على دوابهم، وظاهر كلام المصنف أنه لا فرق بين كونهم طالبين أو مطلوبين وهو كذلك، قاله ابن حبيب. وقال ابن عبد الحكم: إن كانوا طالبين لم يصلوا إلا بالأرض صلاة أمن، وقوله: كإن دهمهم عدو بها؛ تشبيه في النوعين إمكان الترك لبعض وعدمه؛ يعني أنهم إذا افتتحوا صلاتهم آمنين؛ أي ابتدءوها جميعا من غير قسم، ثم دهمهم العدو وهم في صلاتهم أي بغتهم بكسر الهاء وفتحها، فإن الإمام يقسمهم قسمين إن أمكن، ولابد من الركوع والسجود مع إمكانهما، فإن لم يمكن ذلك صلوا على حسب ما يستطيعون، وقوله:"بها"، الباء للظرفية.
وعلم من التشبيه أنه إذا لم يمكن القسم صلوا صلاة المسايف، وأنه إذا أمكن القسم وجب القطع على طائفة، سواء شرع في النصف الثاني بعقد ركعة منه، أو كان النصف الأول، فإذا دهمهم
العدو في النصف الأول، وقطعت طائفة ووقفت وجاه العدو، فيصلي بمن بقى معه تمام ركعة أو ركعتين، ثم يبقى حتى يسلموا، ثم تأتي الطائفة التي قطعت فيصلي بها ما بقي من الصلاة، وتقف التي سلمت وجاه العدو، وكذا إذا دهمهم وهم قائمون في الثالثة، فإن طائفة منهم تقطع وتقف تجاه العدو، ويبقى الإمام قائما حتى يتم الذين لم يقطعوا ويسلموا، ثم تأتي الطائفة التي قطعت فيصلي بها ما بقي من الصلاة، وتقف التي سلمت وجاه العدو، وإذا دهمهم في النصف الثاني بعد عقد ركعة منه وقطعت طائفة وأتم بمن بقي معه، فلمن قطع أن يصلوا أفذاذا أو بإمام، كما لابن بشير. قاله الشيخ عبد الباقي، بإدخال شيء فيه من كلام الشيخ محمد بن الحسن بناني.
وقال الإمام الحطاب ما حاصله أنهم: إذا دهمهم العدو وهم في الصلاة، يصلون صلاة المسايف إن لم يمكنهم القسم، وأما لو أمكنهم القسم فإنهم يقتسمون، قال ابن بشير: ولو صلى بهم صلاة أمن فطرأ الخوف، فالحكم أن تقطع طائفة وتكون وجاه العدو، ويصلي الإمام بالذين معه، ثم يفعل على ترتيب صلاة الخوف، وهذا إن لم يشرع في النصف الثاني من الصلاة، وأما إن شرع فيه حتى ركع أو سجد فلابد من قطع طائفة، ويتم بالأولى وتصلي الثانية لنفسها إما أفذاذا أو بإمام آخر. انتهى. وهو نحو ما قدمته عن الشيخ عبد الباقي والشيخ محمد بن الحسن. والله سبحانه أعلم.
وحل للضرورة مشي؛ هذا راجع لقوله: "وإن لم يمكن"؛ يعني أنه يحل في صلاة المسايفة ما هو محرم في غيرها لأجل الضرورة، فيحل مشي كثيرا أكثر من كالصفين، وكذلك يحل ركض؛ وهو أشد من المشي ولذا عطفه. عليه والركض تحريك الرجل، يقال: ركض الفرس إذا استحثه برجله ليعدو، وكذا يحل لأجل الضرورة طعن بالرمح ورمي بالنبل، وكذا يحل لأجل الضرورة عدم توجه للقبلة، وكذا يحل لأجل الضرورة كلام لغير إصلاحها ولو كثر إن احتيج له كتحذير غيره ممن يريده أوأمره بقتله، وكتشجيع وافتخار عند الرمي ورجز إن ترتب على ذلك توهين العدو، وإلا لم يكن من المحتاج له.
وأما الكلام لإصلاح الصلاة فلا يختص بصلاة الخوف وكذا يحل لأجل الضرورة إمساك ملطخ من سلاح أو غيره؛ أي ملطخ بدم أو غيره من النجاسات كالعذرة، إلا أن يستغنى عنه ولم يخش عليه. قاله الشيخ عبد الباقي. وقدمت المحافظة على الوقت في هذا المفصل على الأركان والشروط غير الوقت للضرورة، وما أحسن عبارة الشيخ الأمير، حيث قال: وحل للضرورة كل فعل احتيج له، كإمساك ملطخ بدم، وإنشاد شر يقوي القوم. انتهى. وقوله:"ملطخ"، بفتح الطاء المشددة. وفي الشبراخيتي وهو مقصور على السلاح، وظاهره: سواء كان بدم أو غيره، كان في غنية عنه أم لا؛ لأن المحل محل ضرورة، لكن قال ابن شاس وغيره: إلا أن يكون في غنية عنه، ولا يخشى عليه، وقصر الش على الملطخ بالدم؛ لأنه الغالب، وإلا فالملطخ بالنجاسة كذلك؛ إذ القاعدة ارتكاب أخف الضررين؛ إذ ارتكاب حمل النجس أخف من لقائه العدو بلا سلاح. انتهى.
وإن أمنوا بها أتمت صلاة أمن؛ يعني أنهم إذا افتتحوا صلاة الخوف مسايفة أو قسما، ثم أمنوا بها؛ فإنهم يتمونها صلاة أمن، فيتم كل واحد صلاته في المسايفة على حدته راكعا ساجدا، وأما في صلاة القسم؛ فإن حصل الأمن مع الأولى قبل مفارقتها استمرت معه، ورجع ابن القاسم إلى أنه لا بأس بدخول الثانية معه بعد أن قال: يصلون بإمام ولا يدخلون معه. ابن رشد: ولا وجه له ووجَّهه في الطراز بما فيه تكلف، ومن فارقه من الطائفة الأولى ولم يفعل لنفسه شيئا فإنه يرجع إليه، ومن أتم منهم صلاته أجزأته، ومن صلى بعد الصلاة؛ أي عقد ركعة، أمهل حتى يصلي الإمام ما صلاه، ثم يقتدي به فيما بقي، ولو السلام. قاله اللخمي. وانظره مع قولهم: "وإذا فرق الريح السفن ثم اجتمعوا فلا يرجع إلى الإمام من عمل لنفسه شيئا أو استخلف، ويمكن الفرق بأنه لما لم يمكن الاستخلاف كان ارتباطهم بالإمام أشد ممن فرقهم الريح في السفن، فإن لم يمهل بأن خالف وفعل ما بقي عليه أو سلم قبله بطلت صلاته، وكذا لو أعاد مع الإمام ما فعله حال المفارقة عمدا أو جهلا لا سهوا فيحمله عنه الإمام.
وإذا حصل للطائفة الأولى سهو بعد مفارقته، ثم رجعوا له بعد الأمن فالظاهر أنه لا يحمله عنهم لمفارقتهم له، ويدل له قوله:"ولا سهو على مؤتم حالة القدوة"، وحينئذ فيسجدون القبلي بعد سلام الإمام وقبل سلامهم، والبعدي بعد سلامهم، ويلغز بها، فيقال: جماعة اقتدوا بإمام ولم
يحمل ما ترتب عليهم من سجود سهو، ولا خوطب به. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ بناني: الظاهر أنه يحمله عنهم، وقال الشبراخيتي: وانظر لو سها الإمام وحده بعد مفارقتهم، ثم رجعوا إليه، هل يسجدون معه تبعا له، أم لا؟ انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر على ما قدمته قريبا عن الشيخ محمد بن الحسن أنهم: يسجدون معه تبعا له، وقوله:"أتمت صلاة أمن"، إن سفرية فسفرية، وإن حضرية فحضرية، وقوله:"أتمت صلاة أمن"، هو قول ابن عبد الحكم، وقال ابن حبيب: هم في سعة؛ لأنهم مع عدوهم ولو وصلوا إلى حقيقة الأمن، وقيل: إن أمنوا كرة العدو أتمت صلاة أمن، وإلا فالثاني. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقوله:"صلاة أمن"، انظره مع قولهم في جمع العشاءين للمطر لو انقطع بعد الشروع تمادوا على الجمع، وفي صلاة الكسوف وإن انجلت في أثنائها ففي إتمامها كالنوافل قولان. قاله الإمام الحطاب. وأجاب عنه عبد الباقي بما لم يظهر لي وجهه. والله سبحانه أعلم.
وبعدها لا إعادة؛ يعني أنه إذا لم يحصل إلا بعد كمال الصلاة، فإنهم لا يطالبون بالإعادة في وقت ولا في غيره على المشهور، خلافا للمغيرة: يعيدون كخائف لص أو سبع.
وأجاب بعضهم للمشهور، بأن الفرق أن صلاة الخوف من العدو لما كانت بنص القرآن لقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} الآية، لذلك سقطت عنه الإعادة بخلاف غيره -تأمل- قاله الشيخ محمد بن الحسن، وأجاب الباجي أيضا: بأن خوف العدو متيقن بخلاف اللص والسبع، ولو استوى الخوف فيهما لاستوى الحكم، ولكنه حكم في كل قسم بأغلب حاله، وأجاب عبد الحق أيضا: بأن العدو يطلب النفس، واللص يطلب المال غالبا، وحرمة النفس أقوى من حرمة المال، وضعف بأن السبع يطلب النفس، وقد جعلوه كاللص.
وقد يفرق بأن السبع، وإن كان يطلب النفس لكن يمكن دفعه بأمور، ففي حياة الحيوان: أنه يفر من صوت الديك، ومن نقر الطست، ومن السنور؛ أي الهر، ويتحير عند رؤية النار، ولا يدنو
من المرأة الطامث، ولو بلغة الجهد، وكذا يدفع بغض البصر مع التخشع كما أخبر بذلك عارف به، وبإعطاء ما يشغله من اللحم، وبجر حبل بين يديه. قاله الشيخ عبد الباقي.
كسواد ظن عدوا فظهر نفيه، تشبيه وعدم الإعادة؛ يعني أنه لا فرق في عدم الإعادة فيما إذا حصل الأمن بعد الصلاة بين كون الخوف محققا أو مظنونا، كما لو رأوا سوادا فظنوه عدوا يخاف، فصلوا صلاة خوف مسايفة أو قسما، ثم بعد كمال الصلاة ظهر نفيه أي الظن أو الخوف؛ بأن تبين أن بينهما نهرا أو خندقا لا يمكن قطعه؛ فإنه لا إعادة عليهم، واعتبر هنا الظن المتبين خطؤه؛ لأنه لم يؤد لترك أصل الفعل: وإنما أدى إلى تغيير كيفيته. وقوله: "كسواد"، فسر بالشخص: وبالعدد الكثير: وبالعامة من الناس. قاله غير واحد.
وإن سها مع الأولى سجدت بعد إكمالها؛ يعني أن إمام صلاة الخوف إذا حصل له سهو يوجب سجودا مع الطائفة الأولى؛ فإنهم يسجدون القبلي بعد إكمال صلاتهم وقبل سلامهم، ويسجدون البعدي بعد سلامهم، فإن كان موجب السجود مما لا يخفى كالكلام وزيادة الركوع أو السجود أو شبه ذلك فلا يحتاج لإشارته لهم، وإن كان مما يخفى أشار لهم. فإن لم يفهموا بالإشارة سبح لهم، فإن لم يفهموا به كلمهم إن كان النقص يوجب البطلان، وإلا فلا -كذا ينبغي- كذا قرره الأجهوري. قاله الشيخ عبد الباقي. قوله: كلمهم، قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر؛ لأن هذا الكلام لإصلاح صلاة الغير: تأمل. انتهى. فإن كان السجود قبليا مرتبا عن ثلاث سنن ولم يسجدوه وطال، بطلت صلاتهم، وإن ترتب عليهم بعد مفارقته قبلي وسهوه هو بعدي، غلب جانب النقص. ولبعضهم:
ومن له القبلي مع بعدي
…
إمامه اجتزأ بالقبلي
وإلا؛ أي وإن لم يسه مع الطائفة الأولى، بل سها مع الثانية. سجدت؛ أي الطائفة الثانية السجود القبلي معه؛ أي مع الإمام قبل إتمامها لصلاتها، وسجدت السجود البعدي بعد القضاء؛ لما فاتها قبل الدخول مع الإمام وبعد سلامها، ولا يلزم الأولى سجود سهوه مع الثانية لمفارقتها له، وتسجد الثانية لسهوه مع الأولى أيضا القبلي معه والبعدي بعد القضاء، كما يفيد ذلك قوله:
أو لم يدرك موجبه، وقوله: سجدت القبلي معه؛ يعني ولو تركه إمامهم، وتبطل صلاته فقط إن ترتب عن ثلاث سنن وطال، وفي شرح الشيخ عبد الباقي: أنه إذا صلى الإمام بالطائفة الأولى ركعة في السفر، ثم ثبت قائما وأتمت لأنفسهم، ثم أتت الطائفة الثانية فصلى بهم الركعة الثانية فلما جلس ذكر سجدة لا يدري من الأولى أو من الثانية فليسجدها وتسجد معه الطائفة الثانية، ثم يثبت قائما وتصلي الطائفة الثانية ركعة بقية صلاتهم أفذاذا، ويسجدون بعد سلامهم، وتأتي الطائفة الأولى فتحرم خلفه ويصلي بهم الإمام هذه الركعة التي احتاط بها وسجد بعد السلام، وتقوم الطائفة الأولى فتتم ركعة لنفسها؛ لأنها إن كانت السجدة التي نسي الإمام من الركعة الأولى فقد كانت صلاتهم باطلة، وهذه الصلاة التي صلوها مع الإمام أول صلاتهم، وهي فريضة، وإن كانت السجدة من الركعة الثانية فقد كانت صلاتهم الأولى تامة، وهذه نافلة. قاله الناصر اللقاني على التوضيح. انتهى. قوله: وتأتي الطائفة الأولى فتحرم خلفه، هذا إنما يظهر إن حصل للطائفة الأولى شك؛ إذ الشك في النقص كتحققة وقد فاتهم التدارك بالسلام وفاتهم البناء على ركعة بالطول، فإن بقوا على التحقق فصلاتهم صحيحة، وقوله: قاله الناصر اللقاني على التوضيح، لم أر هذا الفرع في التوضيح، ولا في الناصر عليه. قاله الشيخ بناني. وقوله:"والبعدي بعد القضاء"، فإن سجدته معه بطلت صلاتهم فيما يظهر -كما تقدم في المسبوق- قاله الشيخ عبد الباقي. وإن صلى في ثلاثية؛ يعني أن الإمام إذا خالف السنة في صلاة الخوف، بأن صلى في المغرب بكل طائفة ركعة؛ أي قسمهم ثلاث طوائف، فصلى بكل طائفة ركعة، فإن صلاة الطائفة الأولى تبطل؛ لمفارقتهم الإمام في غير محل المفارقة. ابن يونس: لأن السنة أن يصلى بها ركعتين، وأيضا فقد صاروا يصلون الركعة الثانية أفذاذا، وقد وجب أن يصلوها مأمومين. قاله المواق.
أو رباعية؛ يعني أن الإمام إذا خالف السنة في صلاة الخوف، بأن صلى في الرباعية بكل طائفة ركعة؛ أي قسمهم أربع طوائف فصلى بكل طائفة ركعة فإن صلاة الطائفة الأولى تبطل لمفارقتهم الإمام في غير محل الفارقة. ابن يونس: لأن السنة أن يصلي بها ركعتين، وأيضا فقد صاروا يصلون الركعة الثانية أفذاذا وقد وجب أن يصلوها مأمومين. قاله المواق. وبما قررت علم أن قوله
بكل ركعة: متعلق بصلى، فهو راجع لمسألتي الرباعية والثلاثية، وأن قوله: بطلت، صلاة الطائفة الأولى جواب الشرط؛ فهو راجع لمسألتي الثلاثية والرباعية.
والثالثة في الرباعية؛ يعني أنه كما تبطل صلاة الطائفة الأولى في الثلاثية والرباعية، تبطل صلاة الطائفة الثالثة في الرباعية لما ذكر من التعليل، وتصح صلاة الإمام والطائفة الثانية في المسألتين؛ أي في مسألتي الثلاثية والرباعية؛ إذ صاروا كمن فاتته ركعة من الطائفة الأولى وأدرك الثانية، وكذا تصح للطائفة الثالثة في الثلاثية لموافقته سنة صلاة الخوف، وكذا تصح للطائفة الرابعة في الرباعية؛ لأنه كمن فاتته ركعة من الطائفة الثانية، فيأتي بالركعات الثلاث قضاء. هذا قول الأخوين وأصبغ، وصححه ابن الحاجب.
وقال سحنون: تبطل صلاة الجميع؛ الإمام وبقية الطوائف لمخالفة السنة. ابن يونس: وهو الصواب، وإليه أشار بقوله: مشبها في البطلان. كغيرها. أي كما تبطل للطائفة الأولى والثالثة في الرباعية تبطل لغيرهما؛ أي الطائفتين المذكورتين من الطوائف الثلاث والإمام على القول الأرجح، أشار به إلى تصويب ابن يونس كما علمت، قال الشيخ أحمد: وجه بطلان صلاة الطائفة الثانية في الثلاثية مع أنها فارقت الإمام في محل المفارقة، أن صلاة إمامها باطلة. فتبطل عليها أيضا. انتهى. وأما وجه بطلان صلاة الإمام على ما صوبه ابن يونس، فقال الشيخ محمد بن الحسن في التوضيح عن ابن يونس: أنها بطلت على الإمام؛ لأنه وقف في غير موضع قيام. انتهى. وإلى تصحيح ابن الحاجب المتقدم أشار بقوله: وصحح خلافه؛ يعني أن ابن الحاجب صحح خلاف قول سحنون، وهو قول الأخوين، وأصبغ.
فتَحَصَّل من هذا أن ابن يونس رجح قول سحنون بالبطلان، وأن ابن الحاجب صحح قول الأخوين وأصبغ، وتقديمه له يقتضي أنه عنده هو المذهب، قاله الشيخ عبد الباقي، والشيخ إبراهيم. وزاد الشيخ إبراهيم ما نصه: لكن قال في توضيحه: وتصحيح ابن يونس أظهر من تصحيح المصنف؛ يعني ابن الحاجب.
ولما كان العيد بينه وبين الجمعة مناسبة؛ لأن كلا منهما يوم فرح وسرور، وفي الفعل؛ لأن كلا منهما ركعتان، وذكر الخوف عقبها لاشتراط الجماعة فيهما ولاشتراكهما في الفرضية، أتبع العيد لهما، فقال:
فصل: ذكر فيه حكم صلاة العيد،
وكيفيتها، ومن يؤمر بها، ووقتها، ومندوباتها، وموضع إيقاعها، وخطبتها، وما يتعلق بذلك: وهو مشتق من العود؛ وهو الرجوع لتكرره، ولا يرد أن أيام الأسبوع، والمشهور، وعرفة، وعاشوراء، ونحوها تتكرر ولم تسم بذلك، وإن كان قد سمي به يوم الجمعة، فقد جاء: (أن يوم الجمعة عيد المؤمنين
(1)
)، فمن باب التشبيه بدليل أنه لا يتبادر إليه عند الإطلاق. وإنما لم يرد عليه ذلك؛ لأن هذه مناسبة ولا يلزم اطرادها، وقال عياض: لعوده على الناس بالفرح، وقيل: تفاؤلا بأن يعود على من أدركه من الناس، كتسمية القافلة في ابتداء خروجها، واللديغ سليما، وقيل: لأن فيه فوائد الامتنان والإحسان من الله تعالى.
قال الشيخ إبراهيم: والظاهر أن هذه ليست أقوالا متباينة لجواز أن يقال بجميعها، والعيد أيضا ما عاد من هم أو غيره، وهو من ذوات الواو، قلبت واوه ياء كالميزان من الوزن، وإنما يجمع بالياء للزومها في المفرد، أو للفرق بينه وبين أعواد الخشب: وأول عيد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم: عيد الفطر، في السنة الثانية من الهجرة، واستمر مواظبا عليها حتى فارق الدنيا صلى الله عليه وسلم وبين المص حكم صلاة العيد: بقوله:
سن العيد ركعتان؛ يعني أنه يسن صلاة ركعتين في يوم العيد، وقوله:"لعيد"؛ أي جنسه فطرا أو أضحى، وليس أحدهما آكد من الآخر، واللام في قوله:"لعيد"؛ بمعنى، في أو للتعليل؛ وهو متعلق "بسن". قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ محمد بن الحسن: أي سن في عيد أو لأجله ركعتان: والظرف يتعلق بركعتان، ووجود التاء لا يمنع من ذلك لاكتفاء المجرور برائحة الفعل. انتهى. وقوله:"سن"؛ أي عينا على المشهور، وقيل: فرض عين، وهو ما نقله ابن حارث عن ابن حبيب. وقيل: فرض كفاية، حكاه ابن رشد في المقدمات، وقال الشيخ إبراهيم: ويؤخذ من قوله فيما سيأتي: "أو فائتة"، أنه سنة كفاية، ولكن المذهب أنها سنة عين على من يؤمر بالجمعة وجوبا. انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن بناني: قد تقدم أول الجماعة أن الجماعة
(1)
الإتحاف، ج 3 ص 213. - ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، رقم الحديث: 1098. ولفظه: إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين فمن جاء إلى الجمعة فليغتسل وإن كان طيب فليمس منه وعليكم بالسواك.
في السنن غير الوتر سنة، وتقدم أن ما ذكره عبد الباقي من الندب هنا وهناك غير صحيح، وقال الشيخ عبد الباقي: ويشكل على جعلها سنة عين ندبها لمن فاتته، كما سيذكره المصنف، إلا أن يقال: سنيتها عينا مشروطة بإيقاعها جماعة.
لمأمور الجمعة. المجرور متعلق "بسن"، والمراد: المأمور بها وجوبا؛ يعني أن صلاة العيد إنما تسن لمن يؤمر بالجمعة، يريد على وجه الوجوب، فتسن لمن على كفرسخ من المنار فأحرى دونه، بشرط أن يكون كل من المتوطنين الأحرار الذكور البالغين، لا عبد، وصبي، وامرأة، ومسافر، وخارج عن كفرسخ؛ فتندب لهم صلاتها، كما يأتي في قوله:"وإقامة من لم يؤمر بها"، وتندب أيضا لذوي الأعذار من المصر، ولا تشرع لحاج من أهل منى أو غيرها لا استنانا ولا ندبا؛ لأن وقوفه بالمشعر الحرام يقوم مقامها، وكذا لا تشرع إقامة صلاة الأضحى جماعة لأهل منى وليسوا بحجاج؛ لأنه ذريعة إلى دخول المسافرين معهم، فليسوا كأهل بلد غيرهم، وليسوا كالمسافرين لندبها للمسافر دونهم. قاله الشيخ عبد الباقي وقال الشيخ إبراهيم: ولا تشرع إقامتها جماعة لأهل منى المقيمين بها وليسوا بحجاج، ولو صلاها مصل لنفسه لم أو به بأسا. قاله أشهب. انتهى: ونحوه للحطاب. ابن العربي: ولا يقاتل أهل بلد على تركها، ولعل الفرق بينها وبين الأذان كثرة تكرره وإعلامه بدخول الوقت. ابن عرفة: سمع ابن القاسم: لا يعجبني السفر بعد فجر يوم العيد قبل صلاته إلا لعذر. ابن رشد: لو طلعت الشمس حرم سفره. ابن ناجي على المدونة: الصواب حمل الرواية على ظاهرها؛ لأن صلاة العيد سنة، والجمعة فرض. انتهى. وهذا هو الظاهر. وما ذكره ابن رشد يقتضي إثم من تركها لغير عذر يبيح التخلف عن الجمعة، ولم أو من قال به. قاله الإمام الحطاب. وقال الشيخ الأجهوري: قد يقال: قول ابن رشد مبني على القول بأنها فرض عين أو كفاية، حيث لم يقم بها غيره، كما قيل بكل عندنا، ولا غرابة في بناء مشهور على ضعيف. نقله الشيخ عبد الباقي.
قال جامعه عفا الله عنه: والظاهر هنا ما للحطاب لا ما للأجهوري، والله سبحانه أعلم.
واعلم أن جمهور المفسرين على أن المراد بقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} ، صلاة العيد ونحر الأضحية: وقال البيضاوي: ليس المراد بصل صلاة العيد، ولا بالنحر نحر الأضحية، بل دُمْ على الصلاة خالصا لوجه الله تعالى شكرا لإنعامه؛ فإن الصلاة جامعة لأنواع الشكر، خلاف الساهي عنها المراءي فيها. وانحر البدن التي هي خيار أموال العرب: وتصدق على المحاويج، خلافا لمن يَدُعُّهُم. من حل النافلة للزوال؛ يعني أن أول وقت صلاة العيد فطرا أو أضحى، من ارتفاع الشمس قيد رمح: وهو الوقت الذي تحل فيه صلاة النفل: ويمتد وقتها إلى أن تزول الشمس عن كبد السماء، فإذا زالت خرج وقتها فلا تقضى بعد الزوال؛ أي بمجرد الزوال ينقضي وقتها ولو أدرك منها ركعة قبله؛ وهذا مذهب أحمد والجمهور. وقال الشافعي: أول وقتها بعد طلوع الشمس، وإن لم ترتفع قيد رمح، ويسن تأخيرها عنده إلى أن ترتفع قيد رمح، ولم يقل إن وقتها طلوع الشمس، كما ظن ذلك.
ويجوز الاقتداء بشافعي صلاها عقب الطلوع بمنزلة الاقتداء بالمخالف في الفروع، ولا أذان لها، ولا إقامة لا في مسلم وأبي داوود والترمذي: (عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرة بغير أذان ولا إقامة
(1)
)، وقوله:"من حل النافلة"، مقتضى كلام غير واحد أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي وأول وقتها من حل النافلة، ولا ينادى الصلاة جامعة: يعني أنه يكره أن ينادى لأجل إقامة صلاة العيد بهذا اللفظ، أعني: الصلاة جامعة، وصرح بالكراهة في التوضيح والشامل والجزولي، وصرح ابن ناجي وابن عمر وغيرهما بأنه بدعة، فما في الخرشي وغيره من أن قول ابن ناجي: إنها بدعة، يرده الحديث؛ لأنه صح أنه عليه الصلاة والسلام نادى فيها:(الصلاة جامعة)
(2)
-انتهى- غير صواب؛ وهو
(1)
مسلم، كتاب العيدين، رفم الحديث:897. ولفظه: غير مرة ولا مرتين. - أبو داود، كتاب الصلاة، باب صلاة العيدين، رقم الحديث:1148. - الترمذي، أبواب العيدين، رقم الحديث: 532. ولفظه: كل: غير مرة ولا مرتين
…
(2)
فتح الباري، ج 2 ص 452.
مردود بأن الحديث لم يرد في العيد، وإنما ورد في الكسوف
(1)
)، كما في المواق، والتوضيح، وغيرهما عن الإكمال، وقياس العيد عليه غير ظاهر لتكرر العيد وشهرته وندور الكسوف.
وفي المواق أول باب الأذان: أن عياضا استحسن أن يقال عند كل صلاة لا يؤذن لها: الصلاة جامعة، لكن لم يعرج عليه المصنف. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقوله:"الصلاة جامعة"، يصح في اللفظين الرفع على الابتداء والخبرية، ونصبهما على الإغراء في الأول والحال في الثاني، ورفع الأول ونصب الثاني على أن الأول مبتدأ حذف خبره، والثاني حال؛ أي الصلاة حضرت حال كونها جامعة، وعكسه على أن الأول منصوب على الإغراء، والثاني على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي الزموا الصلاة؛ وهي جامعة، وقوله:"الصلاة جامعة"، نائب فاعل "ينادى"، مرفوع بضمة مقدرة على آخر جزء منه، منع من ظهورها وجوب الحكاية. انظر الخرشي.
وافتتح بسبع تكبيرات؛ يعني أن المصلي صلاة العيد يأتي بسبع تكبيرات قبل القراءة في الركعة الأولى، وفي شرح الشيخ عبد الباقي: أن تقديم التكبير على القراءة سنة، فإنه قال: وافتتح استنانا فيما يظهر، وفي الشبراخيتي: الظاهر أنه مستحب، وجزم به في الحاشية، فقال: الاستفتاح بالتكبيرات السبع مستحب. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: فإن قيل قوله: "بسبع"، لا يظهر؛ لأن تكبيرة الإحرام إحدى السبع، ولا يصح أن يقال إن تقديمها سنة أو مستحب كما هو ظاهر، قيل: معناه مجموع السبع، فلا ينافي أن تكبيرة الإحرام يجب الافتتاح بها. والله سبحانه أعلم.
بالإحرام؛ يعني أن التكبيرات السبع من جملتها الإحرام، فليست سبعا غيرها، خلافا للشافعي، والأوزاعي، وإسحاق في أن السبع غيرها. وقوله:"بالإحرام"، قال الشيخ إبراهيم: متعلق "بسبع"، والباء باء الصيرورة؛ أي صيرورتها سبعا بالإحرام، ولا يصح أن تكون للسببية؛ لأن الإحرام ليس سببا للسبع، ولا للمعية، ولا للملاصقة، ولا للملابسة؛ لأنه يقتضي أن تكون
(1)
مسلم، كتاب الكسوف، رقم الحديث: 910 بلفظ: .... لما انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نودي بالصلاة جامعة.
التكبيرات ثمانية كالشافعي، وقوله:"افتتح بسبع تكبيرات بالإحرام"، تكبيرة الإحرام، هي الأولى منهن كما صرح به غير واحد؛ وهو بين ظاهر.
تنبيهات: الأول: قال أشهب: وإن كبر الإمام في الأولى أكثر من سبع، وفي الثانية أكثر من خمس، لم يتبع. قاله في النوادر. عن كتاب محمد، ونقله اللخمي والمصنف في التوضيح، وصاحب الشامل، وابن عرفة وغيرهم: ولم يحك أحد من أهل المذهب في ذلك خلافات وظاهر كلامهم: سواء زاد ذلك عمدا أو سهوا؛ وهو ظاهر كلام سند. ونصه: إذا زاد لا يتبع لأنه غير صواب، والخطأ لا يتبع فيه. انتهى. قاله الحطاب.
الثاني: قال في مختصر الواضحة: لو جهل الإمام أو سها أو قصر فلم يكبر السبع أو الخمس، لوجب على الناس أن يكبروا. قاله الحطاب.
الثالث: لو كان الإمام يرى التكبير في الثانية بعد الركوع كالحنفية، فالظاهر أن المأموم يؤخر التكبير تبعا للإمام، كما إذا أخر القنوت أو السجود القبلي. قاله الإمام الحطاب. وسيأتي عن الشيخ عبد الباقي خلافه، وبحث معه الشيخ بناني، واستظهر ما للحطاب. والله سبحانه أعلم.
الرابع: قال في النوادر: قال ابن حبيب: وليجهر من خلفه بالتكبير جهرا يسمع من يليه انتهى. قاله الحطاب.
الخامس: قال المازري في شرح التلقين: قال بعض أصحاب الشافعي: إذا نسي تكبيرة من تكبيرات العيد لم يسجد للسهو، وذكر أن مالكا وأبا ثور قالا: يسجد، واحتج علينا بأنها هيئة من هيئات الصلاة، فلا يسجد لتركها كوضع اليمين على الشمال، وقال مالك في مختصر ابن شعبان: من سها في العيد فزاد تكبيرة واحدة سجد بعد السلام: ولم يراع مالك في هذه الرواية خفة السهو، فانظره. قاله الحطاب.
السادس. قال الشيخ عبد الباقي عند قوله: "وافتتح بسبع تكبيرات بالإحرام"، فليس سبعا غيرها، خلافا للشافعي، ولو اقتدى المالكي به: قال أحمد: -قياسا على عدم وجوب الفاتحة- علينا باقتدائنا به. انتهى.
ثم بخمس؛ يعني أن المصلي صلاة العيد يأتي بخمس تكبيرات في الركعة الثانية قبل القراءة، يأتي بها بعد تمام قيامه، فلذا قال: غير القيام، ولم يقل: بست بالقيام؛ لأن تكبير القيام يفعل حال القيام؛ لأنه تكبير الرفع من السجود، والخمس بعد تمام القيام، قال عبد الباقي: ويكبرها قبل القراءة، ولو ائتم بحنفي يؤخرها بعد القراءة في الركعة الثانية، هذا هو الظاهر، لا ما استظهره الحطاب من تأخيره، قياسا على تأخير المالكي القنوت خلف شافعي يقنت بعد الركوع، للفرق بأن مخالفته فيه يلزم عليه عدم تبعيته في ركن فعلي؛ وهو الركوع بخلاف ما هنا. انتهى. وهذا الذي ذكرفى عبد الباقي هو الصواب، كما دعمه الرهوني بالنقول، فانظره إن شئت، لا ما للحطاب وبناني. والله سبحانه أعلم. وقد نص غير واحد على أن كل واحدة من تكبير العيد سنة مؤكدة، يسجد الإمام والفذ لنقص واحدة منه سهوا قبل السلام، وكذا يسجد بعد السلام لزيادتها. والله أعلم.
وقد علمت أنه لا يتبع الإمام إن زاد على السبع أو الخمس، كما لا يتبع إن نقص عن ذلك. والله سبحانه أعلم.
واعلم أن جملة تكبير العيد في كلتا الركعتين إحدى عشرة، كتكبير الصلاة في ركعتين، فالجملة اثنان وعشرون تكبيرة قدر ما في الرباعية من التكبير.
واختلف، هل مشروعيته تعبد أو معلل؟ (بأن الحسن والحسين لما أبطآ بالكلام، خرج بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يوم عيد، فلما كبر تكبيرة الإحرام للعيد كبرا، فكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير لينطلقا في الكلام، فتابعا في الأولى سبعا، وفي الثانية خمسا، واستمرت السنة على ذلك). قاله التتائي على الرسالة، نقله الشيخ عبد الباقي.
والأصل فيما ذكر المصنف ما في الترمذي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة، وفي الثانية خمسا قبل القراءة
(1)
)، ويجهر من خلف الإمام بقدر إسماع
(1)
الترمذي، أبواب العيدين، رقم الحديث:536. ولفظه:
…
وفي الآخرة خمسا قبل القراءة. - أبو داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث:1149.
من يليه، ولا بأس بالزيادة لإسماع من لا يسمع الإمام أو يجهل التكبير. موالى حال من التكبير في الأولى والثانية، أو معمول لمقدر؛ أي يكون التكبير موالى؛ أي لا يفصل بين آحاد التكبير ندبا، فيما يظهر. قاله الشيخ عبد الباقي.
إلا بتكبير المؤتم؛ يعني أن المصلي لصلاة العيد يوالي التكبيرات السبع في الأولى والخمس في الثانية، إلا الإمام؛ فإنه يستحب له أن يسكت بقدر تكبير المؤتم، ولا يتابعه خشية التخليط على المأموم، وندب للمأموم متابعة الإمام فيه، وفهم من المصنف أن من صلى وحده يتابع التكبيرة وهو كذلك كما صرح به الحطاب عن ابن فرحون؛ فإنه نقل عنه ما نصه: من صلى وحده، فإنه يتابع التكبير؛ لأن الإمام إنما يتربص خشية التخليط على من خلفه. انتهى. بلا قول؛ يعني أن المصلي لصلاة العيد لا يقول في خلال تكبيره تسبيحا ولا تحميدا ولا تهليلا؛ لأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم فيه شيء؛ وهو مكروه. أو خلاف الأولى، وقالت الشافعية: يهلل ويحمد بين كل تكبيرتين بقدر آية معتدلة.
وتحراه مؤتم لم يسمع؛ يعني أن المأموم إذا لم يسمع التكبير في صلاة العيد من إمام ولا مأموم ولا مسمع؛ فإنه يتحرى تكبير الإمام، وفاعل "تحراه":"مؤتم"، والضمير البارز عائد على التكبير، ومعنى التحري أن يقدر في نفسه أن الإمام كبر على حسب ما أداه إليه اجتهاده، فيتابعه في تكبيره. وكبر ناسيه؛ يعني أن من نسي التكبير في صلاة العيد فذا أو إماما أو مأموما، يأتي به على سبيل السنية في غير الإحرام، وقوله:"وكبر ناسيه"، لا مفهوم للناسي، فتاركه عمدا يأتي به كالناسي له، ومحل الإتيان بالتكبير المتروك عمدا أو سهوا إن لم يفت؛ بأن لم يركع، فإن ركع فات فعله كما يذكره قريبا. وسجد بعده؛ يعني أن المصلي لصلاة العيد إذا نسي التكبير حتى قرأ، فإنه يعيد القراءة ويسجد بعد السلام لزيادة القراءة التي أعادها إن كان فذا أو إماما، لا إن كان مأموما لحمل الإمام عنه، واستغنى المصنف عن ذكر إعادة القراءة لأنه لا سبب للسجود غير إعادتها.
وذكر الشيخ محمد بن الحسن هنا عن القلشاني: أن من قدم السورة على الفاتحة يعيد السورة بعد الفاتحة، ولا سجود عليه. انتهى. وفي الشبراخيتي عند قوله:"وسجد بعده": وانظر ما حكم
إعادة القراءة؟ فإن ترك إعادتها لم تبطل صلاته، وانظر إذا نسي بعض التكبير حتى قرأ، هل يبني على ما فعله قبلها، أو يبتدئ؟ وهو الظاهر. انتهى وفي الخرشي: وانظر إذا ذكره في أثناء القراءة وفعله، هل يبني على ما قرأ أو يبتدئ؟ وهو الظاهر. انتهى.
وقد مر أن المصنف استغنى عن ذكر إعادة القراءة؛ لأنه لا سبب للسجود غير إعادتها، قال الإمام الحطاب: ولله دره ما ألطف اختصاره، ولم يقيد السجود بغير المؤتم هنا، كما قيد المسألة التي قبلها لأنه لا يتصور هنا ترتب السجود على المؤتم؛ لأن السجود إنما يترتب فيها على إعادة القراءة، والمؤتم لا تطلب منه القراءة وهو واضح. انتهى. وأيضا لا سهو على مؤتم حالة القدوة، وسيأتي قريبا عن عبد الباقي وغيره أن قوله:"غير المؤتم"، يتنازعه قوله:"وسجد بعده"، وقوله:"وسجد". وإلا؛ بأن لم يذكر التكبير حتى ركع بأن انحنى، كما تقدم في قوله: كسر وتكبير عيد، تهادف على ترك التكبير، فلا يأتي به خلافا لأبي حنيفة، فلو رجع له فالظاهر البطلان، وليس كمن رجع للجلوس الأول؛ لأن القراءة ركن مختلف فيه، وأما الركوع فهو متفق عليه. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله:"وإلا تمادى"، وأحرى في التمادي إذا رفع رأسه.
قال في النوادر: ومن سها عن شيء من التكبير سجد قبل السلام، ولا يقضي تكبير ركعة في ركعة أخرى.
وسجد غير المؤتم قبله؛ يعني أن من نسي التكبير في العيد أو شيئا منه حتى ركع، فاته فعله ويتمادى على -تركه كما علمت- ويسجد قبل السلام لنقصه التكبير إن كان فذا أو إماما، وقوله:"غير المؤتم"، قال عبد الباقي وغيره: يتنازع فيه "وسجد بعده"، "وسجد"، هذه. وقال الرهوني: إن ذلك غير صحيح؛ لأن قوله: "وسجد بعده"، قد أخذ فاعله، وهو الضمير العائد على ناسيه، وأما المؤتم فمن العلوم أن الإمام يحمل عنه ذلك.
وهنا واقعة وهي: شافعي أو حنفي إمام عيد، ترك تكبيرة في الركعة الثانية، وعند كل منهما صلاته صحيحة، ولا سجود عليه، فللمالكي المقتدي ثلاث حالات: الأولى إتيانه به وصحة صلاته ظاهرة، الثانية تركه سهوا فلا سجود عليه لقوله:"ولا سهو على مؤتم حالة القدوة"، ولا
يأتي فيه قوله: "وإلا سجد ولو ترك إمامه". قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: الظاهر أنه يسجد في هذه والله سبحانه أعلم. الثالثة: تركه عمدا وصلاته صحيحة؛ لأنه لا مفهوم لقوله: "ولا سهو على مؤتم حالة القدوة"، ولا يدخل في قوله:"وهل بتعمد ترك سنة"؛ الخ لأن محل الخلاف في الإمام والنفرد -كما مر- وصحة صلاته أيضا ظاهرة من صحة الاقتداء بالمخالف مع رؤية المنافي لصحة الصلاة.
ومدرك القراءة يكبر؛ يعني أن من أدرك قراءة الإمام في صلاة العيدين في الركعة الأولى أو الثانية، يكبر والإمام يقرأ. ولا يصبر حتى يفرغ الإمام من القراءة، وكذا من أدرك بعض التكبير بالأولى، فيتابعه فيما أدركه، ثم يأتي بما فاته، ولا يأتي بما فاته من التكبير في حال تكبير الإمام. وقوله:"ومدرك القراءة يكبر" كلام لعجمل فصَّله بما بعده.
ولما شمل قوله: "ومدرك القراءة يكبر"، مدرك الأولى، والأمر فيه واضح من أنه يكبر سبعا بالإحرام، ومدرك الثانية وفيه خلاف، بيَّن مختاره منه بقوله: فمدرك الثانية يكبر خمسا؛ يعني أن من أدرك قراءة الإمام في الركعة الثانية من صلاة العيد يكبر خمس تكبيرات غير تكبيرة الإحرام؛ أي يكبر ستا بالإحرام بناء على أن ما أدرك مع الإمام آخر صلاته.
ثم بعد سلام الإمام يقوم لقضاء ما عليه ويكبر سبعا. أي سبع تكبيرات بالقيام؛ يعني أن تكبيرة القيام هي تمام التكبيرات السبع، ويشكل على هذا ما تقدم من أن من أدرك مع الإمام ركعة لا يقوم بالتكبير.
وأجيب بأن لابن القاسم في هذا الأصل قولين، أحدهما السابق، والآخر أنه يقوم بالتكبير مطلقا. قاله الشبراخيتي. ومعنى قوله: مطلقا، أدرك شفعا أو وترا. والله سبحانه أعلم. وأما على أن ما أدرك مع الإمام أول صلاته، فإنه يكبر سبعا ويقضي خمسا فإن لم يدر هل الإمام في الأولى أو الثانية؟ فالظاهر تكبيره سبعا بالإحرام: ثم إن تبين أنها الأولى فظاهر، وإن تبين أنها الثانية قضى الأولى بست، ويجري فيه ما يأتي، ولا يحتسب بما كبره حين دخوله للاحتياط. قاله
الشيخ عبد الباقي. وفي الشبراخيتي: والقياس أنه يسأل عن
(1)
المأمومين، فيشيرون له، فإن فهم فلا إشكال، وإلا بنى على أنها الأولى احتياطا. انتهى.
وإن فاتت قضى الأولى بست؛ يعني أن من فاتته صلاة العيد مع الإمام إلا أنه أدرك دون ركعة، يكبر تكبيرة الإحرام، ويتبعه فيما يفعل، فإذا سلم الإمام قام لقضاء صلاته، ويكبر للركعة الأولى ست تكبيرات، وهل بغير القيام؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا، هل يقوم بتكبير كما يفعل كل من أدرك دون ركعة؟ وعليه فيكون تكبيره بعد سلام الإمام وقبل القراءة سبعا؛ وهو فهم ابن رشد، وابن راشد، وسند، أو لا يكبر؟ بل يقوم من غير تكبير، وعليه فيأتي بست تكبيرات فقط، ويعتد بالتكبيرة التي كبرها قبل جلوسه، فلا يعيدها؛ وهو فهم عبد الحق في ذلك، تأويلان، وقد علمت صاحب كل تأويل، وسكت المصنف عن عدد تكبيره في قضاء الثانية، وهو خمس غير القيام لوضوحه، والفرق على أنه لا يكبر للقيام هنا، مع أن من أدرك دون ركعة من الصلاة مع الإمام يقوم بتكبير، أن تكبيره للعيد بعد قيامه قام مقام ذلك، فلم يخل انتهاء قيامه من تكبير، وكلام المصنف يقتضي أنه يكبر للقيام قطعا. والخلاف في كونها من الست أو زائدة عليها وليس كذلك، بل التكبيرات ست، واختلف، هل يزيد عليها سابعة؛ لأن مدرك دون ركعة يقوم بتكبير، أو لا يزيد عليها للقيام سابعة؟ بل يقتصر على التكبيرات الست، ولا يكبر للقيام؛ لأن التكبير الحاصل بعد قيامه يقوم مقام تكبيرة القيام، فلم يخل انتهاء قيامه من تكبير. والله سبحانه أعلم. وقوله:"وإن فاتت قضى الأولى بست" الخ، خلافا لابن وهب، قال: لا يدخل من فاتته الثانية. قاله الأمير، وعليه فإن دخل قطع كما في الخرشي.
ولما فرغ من كيفية صلاة العيدين، شرع في مندوباتها، فقال: وندب إحياء ليلته؛ يعني أنه يستحب إحياء ليلة العيد فطرا أو أضحى بكل ما هو خير، ففي نقل الحطاب: استحب إحياء ليلتي العيد بذكر الله تعالى والصلاة وغيرهما من الطاعات. انتهى. وقوله: "وندب إحياء ليلته"،
(1)
في الشبراخيتي ج 1 مخطوط: يسأل المأمومين.
لخبر: (من أحيا ليلتي العيد وليلة النصف من شعبان لم يمت قلبه يوم تموت القلوب
(1)
)، وفي لفظ: (من أحيا الليالي الأربع وجبت له الجنة ليلة العروبة وليلة عرفة، وليلة النحر، وليلة الفطر
(2)
)، وفي لفظ سنده ضعيف: (من أحيا ليلتي العيد محتسبا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب
(3)
) قوله: لم يمت قلبه؛ أي بمحبة الدنيا حتى تصده عن الآخرة، كما جاء:(لا تجالسوا الموتى؛ أي أهل الدنيا). وقال بعضهم: المراد لا يتحير قلبه عند النزع، ولا عند سؤال الملكين، ولا في القيامة: والمراد باليوم على المعنى الثاني: الزمن الشامل لوقت النزع، وزمن القبر، ويوم القيامة. وأما على المعنى الأول، فالمراد به الزمن الذي يحصل به موت القلوب بحب الدنيا؛ أي لم يمت قلبه بحب الدنيا في زمن موت القلوب بحبها.
واختلف العلماء فيما يحصل به الإحياء. ابن الفرات: الأظهر لا يحصل إلا بمعظم الليل. وقيل: بساعة. انتهى. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي: وظاهر المصنف كالخبر أن الندب لإحياء جميعه، وألحق معظمه به بعضهم، واستظهره ابن الفرات، وقيل: بساعة، ونحوه للنووي في الأذكار: وقيل: يحصل بصلاة الصبح والعشاء في جماعة. انتهى.
وفي الجامع الكبير للسيوطي: (من صلى العشاء الآخرة في جماعة فكأنما صلى الليل، ومن صلى الغداة في جماعة فكأنما صلى النهار كله
(4)
). انتهى.
وغسل؛ يعني أنه يندب الاغتسال للعيدين؛ أي يستحب، وكلما وقع في المختصر ندب فمعناه الاستحباب. قاله الخرشي. ومبدأ وقت اغتسال العيدين من السدس الأخير من الليل، وما ذكره المصنف من ندب الغسل للعيدين هو المشهور: ورجح اللخمي وسند سنيته، وقال الفاكهاني: المشهور أنه سنة، وفي الحطاب وغيره: ومن كان ذا ريح وأحب شهود العيد، وجب عليه الاغتسال لإزالة ذلك. انتهى. وندب أيضا كون غسل العيدين بعد صلاة الصبح؛ فهو مستحب
(1)
الإتحاف، ج 3 ص 410.
(2)
تاريخ دمشق، ج 43 ص 93. - الإتحاف، ج 3 ص 110.
(3)
سنن ابن ماجه، كتاب الصيام، رقم الحديث:1782. ولفظه: من قام ليلتي العيدين محتسبا لله لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.
(4)
الجامع الكبير للسيوطي، الحديث:5430.
ثان فإن اغتسل قبل الصلاة في وقته فاتته هذه الفضيلة، وحصل فضيلة الغسل، ولا يشترط في غسل العيدين اتصاله بالذهاب إلى المصلى، لكن يستحب، فإن لم يتصل فلا يعاد، وروى ابن القاسم: إن دخل منزلة بعد صلاة الصبح لم يجزه قياسا على الجمعة. انتهى.
وتطيب؛ يعني أنه يستحب التطيب في العيدين؛ بأي طيب كان. وتزين؛ يعني أنه يستحب في العيدين التزين بالثياب الجديدة، وتحسين الهيئة من قص شارب ونحوه؛ فإنه من كمال التطيب، بل لا تظهر للتطيب فائدة إذا كان البدن دنسا، وهذا في غير النساء.
وأما النساء إذا خرجن فلا يتطيبن، ولا يتزيَّنَّ وإن كن عجائز، خوف الافتتان بهن، ومن قدر على شيء من إظهار الزينة في الأعياد بالطيب فلا ينبغي له تركه زهدا وتقشفا ويرى أن تركه أحسن، فمن ترك ذلك رغبة عنه مع القدرة عليه فهو مبتدع. قاله الحطاب. وفيه عن الطراز: ولا ينكر فيه نحو لعب الصبيان والضرب بالدف، فقد ورد
(1)
). قاله الشيخ الأمير.
وإن لغير مصل؛ يعني أن التطيب والتزين في العيدين يندبان للمصلي صلاة العيدين وغيره، فالمبالغة راجعة للتطيب والتزين، هذا ما عليه جمهور الشارحين. وعليه فلا يغتسل إلا المصلي، وفي الحطاب: والظاهر رجوعه للغسل أيضا، لقول الجزولي في باب العيدين: يغتسل من يؤمر بالخروج إلى الصلاة، ومن لا يؤمر بها لأن الغسل لليوم لا للصلاة، بخلاف الجمعة، ونحوه لابن فرحون.
قال الشيخ عبد الباقي: وعلى ما استظهره الحطاب، فندب الإحياء خاص بالمصلي. انتهى. وفي الشبراخيتي: وأما الإحياء، فالظاهر أنه لا يخاطب به إلا من يخاطب بالعيد على وجه السنية أو الاستحباب. انتهى. وقال الشيخ عبد الباقي: وكتب الوالد ينبغي أن يرجع للإحياء أيضا.
ومشي في ذهابه؛ يعني أنه يستحب أن يكون في ذهابه إلى العيد ماشيا على رجليه؛ لأنه عبد ذاهب إلى ربه ليتقرب إليه، فينبغي أن يكون راجلا متذللا؛ وهو سير العبد إلى مولاه، فإن ركب
(1)
البخاري، كتاب العيدين، رقم الحديث:952. - مسلم، كتاب العيدين، رقم الحديث: 892.
خالف الأوْلَى فقط من غير كراهة، إلا أن يشق عليه المشي لعلة ونحوها. وفي الحطاب عن سند: اتفق الكافة على استحباب المشي، ولا يستحب المشي في رجوعه لفراغ القربة.
وندب رجوعه من طريق غير التي ذهب منها، (لما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك
(1)
) لتعم بركته الناس من كل جهة، ولشهود الطريقين له بذلك، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان يخرج إلى العيد ماشيا)
(2)
: وفي أبي داوود عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ يوم العيد في طريق، ثم يرجع في طريق
(3)
)، وفي الترمذي: عن علي رضي الله عنه، قال: (من السنة أن تخرج إلى العيد ماشيا، وأن تأكل شيئا قبل أن تخرج
(4)
)، ولهذا قال المصنف رحمه الله تعالى:
وفطر قبله في الفطر؛ يعني أنه يستحب للشخص أن يفطر قبل ذهابه إلى صلاة العيد في يوم الفطر، قال الشيخ عبد الباقي: على تمر وترا، وفي البخاري والترمذي: عن أنس رضي الله عنه: قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو على الصلاة يوم الفطر حتى يأكل تمرات وترا
(5)
)، رواه في التيسير، وفي كتاب الشيخ الأمير: والأفضل بوتر رطب ثم تمرت وفي مختصر الوقار)
(6)
: أن يطعم يوم الفطر بعد صلاة الصبح شيئا من الحلو
(7)
إن أمكن قبل صعوده المصلى. انتهى. نقله الإمام الحطاب.
وبما قررت علم أن الضمير في قوله: "قبله"، عائد على الذهاب، وتأخيره في النحر؛ يعني أنه يندب تأخير الفطر في النحر عن الصلاة، وفي التلقين: يستحب في الأضحى تأخير الفطر إلى الرجوع من المصلى. المازري: وليكن، وفي بعض النسخ ليكون أول طعامه من لحم قربته: وقال
(1)
كان النبي صلى الله عبه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق كتاب العيدين، رقم الحديث:986.
(2)
ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، رقم الحديث. 1295.
(3)
أبو داود. كتاب الصلاة، رقم الحديث:1156. ولفظه: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم العيد في طريق ثم رجع في طريق آخر.
(4)
الترمذي، أبواب العيدين، رقم الحديث:530.
(5)
التيسير، ج 2 ص 221.
(6)
في الحطاب ج 2 ص 480: قال في مختصر الوقار: بستحب للمرء أن يطعم لخ ط دار الرضوان.
(7)
في الحطاب ج 2 ص 480 ط دار الرضوان الحلواء.
التتائي في شرح الرسالة: وصرح في التلقين باستحباب التأخير: لخبر الدارقطني: (أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يفطر يوم النحر حتى يرجع ليأكل من كبد أضحيته
(1)
)، وهل ذلك لأن الكبد أيسر من غيره؛ أي أسرع نضجا من غيره؟ أو تفاؤلا؟ لما (جاء أن أول ما يأكل أهل الجنة عند دخولها كبد الثور الذي عليه الأرض، فتذهب عنهم مرارة الموت). انتهى. وقوله: الثور. وكذا النون أي الحوت كما ذكره أبو الحسن في الحديث: (نزل أهل الجنة زيادة كبد النون
(2)
)، والنزل بضم النون والزاي: ما يهيأ للنزيل، وفي التنزيل:{هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} ، وقوله:"وتأخيره في النحر"، قال الشيخ عبد الباقي: وإن لم يُضَحِّ فيما يظهر حفظا لتأخير عليه الصلاة والسلام، وفي التيسير عن الترمذي عن بريدة رضي الله عنه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي
(3)
). وفي حاشية الشيخ بناني ما يفيد أن التأخير عن الصلاة مستحب، وأن تأخيره إلى كبد أضحيته مستحب ثان. والله سبحانه أعلم. وقد صرح هو بذلك عن ظاهر ما في المواق عن المازري.
والفرق بين الفطر والأضحى: أن الأول تقدمه صوم فشرع الأكل فيه قبل الغدو للمصلى لإظهار التمييز، قوله:"في الفطر" سبحان من بيده ملكوت كل شيء، فأوجب صوم يوم وحرم صوم يوم يليه.
وخروج بعد الشمس؛ يعني أنه يندب للمصلي في العيد أن يخرج لصلاة العيد بعد طلوع الشمس لمن قرب منزلة، وإلا فقبلها بقدر ما يكون وصوله المصلى قبل الإمام. قاله اللخمي. وأما الإمام، فالسنة أن يؤخر حتى ترتفع الشمس وتحل النافلة، وقبل ذلك قليلا إذا كان أرفق بالناس؛ لأن للمأمومين أن ينتظروه في المصلى، ولا ينبغي له هو أن ينتظر أحدا، بل إذا وصل
(1)
سنن الدارقطنى، ج 2 ص 45.
(2)
البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، رقم الحديث:332. و 3329. بلفظ: وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت.
(3)
التيسير، ج 2 ص 221.
صلَّى. قاله الشيخ إبراهيم. ولو قال المؤلف: وخروج وبعد الشمس بالواو لكان أحسن؛ لأنه مندوب ثان. قاله الشيخ الخرشي.
وفي كتاب الأمير: أن خروج الإمام، حين يجتمع الناس. وقال الشيخ عبد الباقي: وخروج بعد الشمس لإمام ومصل إن قربت داره، وإلا خرج بقدر إدراكها، وندب له تأخير خروجه عن خروج المأمومين، كما يدل عليه قوله: وهل لمجيء الإمام. وفي الحطاب عند قوله: "وخروج بعد الشمس". هذا في حق من كان منزلة قريبا. وقال ابن ناجي: وأما من بعد، فيأتي بحيث ما يكون وصوله قبل وصول الإمام، نص عليه اللخمي انتهى. ونقله ابن عرفة في حق المأمومين قال ابن عرفة: وغدو الإمام، روى أبو عمر: قدر ما يصل
(1)
له صلى وقد برزت الشمس، وروى اللخمي: قدر ما يصل له حلت الصلاة. ابن حبيب: إذا حل النفل وفوقه إن كان أرفق بالناس. انتهى. وقال الشبيبي: والسنة في وقت الخروج في حق الإمام أن يؤخر حتى ترتفع الشمس وتحل النافلة: وقبل ذلك قليلا إن كان ذلك أرفق بالناس، وأما في المصلين فبحسب قرب منازلهم وبعدها، وإن كان منزل الإمام بعيدا من المصلى أمر بالخروج بقدر ما إذا وصل حانت الصلاة انتهى.
(وتكبير فيه) يعني أنه يندب لمن خرج لصلاة العيد أن يكبر في خروجه، هذا إذا كان خروجه (حينئذ) أي أن استحباب التكبير في الخروج لصلاة العيد فطرا أو أضحى إنما هو لمن خرج بعد طلوع الشمس؛ لأنه الوارد عن السلف، وإن خرج قبل طلوع الشمس فإنه يؤخر التكبير إلى أن تطلع الشمس على مذهب المدونة: قال عبد الباقي: لأنه ذكر شرع للصلاة، فلا يؤتى به قبل وقتها؛ إذ وقتها من حل النفل للزوال: وإلى هذا أشار بقوله: لا قبله؛ أي لا إن خرج قبل طلوع الشمس، فلا يستحب له التكبير في خروجه، بل يؤخره إلى أن تطلع الشمس؛ لأنه ذكر شرع لصلاة، فلا يؤتى به قبل وقتها: وتعقب بناني هذا التعليل بأن طلوع الشمس ليس وقت صلاة العيد. وصحح خلافه؛ يعني أن في المبسوط عن مالك: أن من خرج بعد صلاة الصبح لصلاة العيد
(1)
في الحطاب ج 2 ص 481 ط دار الرضوان قدر ما يصل إلى المصلى وقد برزت الشمس.
يكبر: خلاف قوله: "لا قبله"، وقال ابن عبد السلام: إنه الأولى، فأشار بالتصحيح إلى قول ابن عبد السلام إنه الأولى.
واعلم أن في المسألة أربعة أقوال ذكرها ابن عرفة بقوله: وفي ابتدائه بطلوع الشمس، والإسفار، أو انصراف صلاة الصبح، رابعها وقت غدو الإمام تحريا، الأول للخمي عنها، والثاني لابن حبيب، والثالث لرواية المبسوط، والرابع لابن مسلمة. وكلام المصنف صادق بما إذا كان خروجه بعد الإسفار أو قبله، لكن التصحيح إنما وقع في رواية المبسوط، فلذا حمل المصنف عليها؛ وهي مفروضة فيمن خرج بعد صلاة الناس، وإن لم يكن صلاها. قاله الشيخ إبراهيم.
وعلم من هذا النقل أن ابتداء التكبير على الصحيح إنما هو بعد صلاة الصبح، ويكره أن يتقدم بالتكبير ويجيبه آخرون، ولا بأس بالتحزين فيه، ويكره التطريب. وجهر به؛ يعني أنه يستحب الجهر بهذا التكبير قدر ما يسمع نفسه ومن يليه وفوق ذلك، والزيادة على ذلك حتى يعقر حلقه من البدع، ويخرج عن حد السمت والوقار، وعلة كونه جهرا التنبيه للغير، وإظهار الشريعة،
(1)
وبذلك فارق تكبير الصلاة، ومعلوم أن المرأة لا تبلغ فيه الرجل بل تسمع نفسها ليس إلا، وقال التتائي في شرح الرسالة: ويكبر كل واحد في الطريق على حدته لا جماعة، فإنه بدعة. نقله الشيخ إبراهيم، وغيره. وهل لمجيء الإمام، قال الشيخ عبد الباقي.
ولما بين ابتداءه ذكر الخلاف في انتهائه، فكأنه قال: وتكبيره في خروجه، وبعد دخوله المصلى، ولا يزال كذلك. انتهى؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا في فهم قول المدونة: ويكبر في الطريق ويسمع نفسه ومن يليه، وفي المصلى حتى يخرج الإمام فيقطع، ففهمه ابن يونس على أن التكبير ينتهي عند مجيء الإمام. وهل المراد بمجيء الإمام ظهوره للمصلين أو دخوله المصلى قولان، قاله الشبراخيتي وغيره، وسيأتي عن بناني الكلام في ذلك. أو لقيام للصلاة؛ يعني أن من الشيوخ من فهم كلام المدونة على أن معناه أن التكبير ينتهي عند قيام الإمام للصلاة؛ أي دخوله فيها، قاله
(1)
الذي في الخرشي الصغير ج 2 ص 103 إظهارا للشعيرة.
الأجهوري، ومن تبعه، لا عند مجيئه، وهو تأويل اللخمي، وعليه فيستمر يكبر، ولو جاء الإمام إلى المصلى حتى يقوم للصلاة في ذلك تأويلان جاريان في تكبير الإمام وغيره، قاله الشيخ محمد بن الحسن. وما مر من أن المراد بمجيء الإمام ظهوره على قول، وأن المراد بالقيام للصلاة الدخول فيهات قال الشيخ محمد بن الحسن: هو مخالف للمنصوص، قال ابن الحاجب: والقطع بحلول الإمام محل الصلاة، وقيل محل العيد التوضيح: أي محل صلاة الإمام نفسه، ومحل العيد هو المصلى أي محل اجتماع الناس. انتهى ومثله لابن عبد السلام. قال الرماصي: فقول الأجهوري ومن تبعه: المراد بقيامه للصلاة دخوله فيها غير ظاهر. انتهى. وكذا قوله: لظهوره لهم مخالف لذلك، فانظر من ذكره. انتهى كلام الشيخ محمد بن الحسن. وقوله: فانظر من ذكره، قال الشيخ الخرشي: قال الشادلي في شرح الرسالة: وهل المراد بمجيء الإمام ظهوره للمصلين، أو دخوله المصلى؟ وهما قولان. وقد ذكر ابن عمر الأقوال الثلاثة، فقال: وقد اختلف في قطعه، فقيل: يقطعون إذا ظهر الإمام لهم، وقيل: بدخوله في المصلى، وقيل: بدخوله في الصلاة؛ فهذه ثلاثة أقوال في المذهب. انتهى. وما ذكره عن الشادلي ذكره عنه الشيخ إبراهيم. ابن عرفة: وفي كفه بوصول الإمام المصلى، أو بصلاته، ثالثها برقيه المنبر، للخمي عنها وعن ابن مسلمة، ورواية العتبي. انتهى.
وقد تقدم عن التتائي أنه يكبر كل واحد في الطريق على حدته لا جماعة، فإنه بدعة، وأما في المصلى، فقال ابن ناجي: افترقت الناس بالقيروان فرقتين؛ أي بالمصلى بمحضر أبي عمران الفاسي، وأبي بكر بن عبد الرحمن، فإذا فرغت إحداهما من التكبير سكتت وأجابت الأخرى بمثل ذلك، فسئلا عن ذلك؟ فقالا: إنه لحسن، واستمر العمل عندنا على ذلك بإفريقية بمحضر غير واحد من أكابر الشيوخ، قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"وتكبير فيه". ابن حبيب: والأحب إلي من التكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد على ما هدينا، اللهم اجعلنا لك من الشاكرين، لقوله تعالى:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، وكان أصبغ يزيد: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وما زدت أو نقصت فلا حرج. انتهى. نقله الخرشي وغيره. وفي ابن
عرفة: الشيخ: واستحب ابن حبيب: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد على ما هدينا: اللهم اجعلنا لك من الشاكرين، وزاد أصبغ: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. انتهى. وقوله:"وجهر به"، إماما أو مؤذنا أو غيرهما، بخلاف ما يفعله بعض الناس اليوم، فكأن التكبير إنما شرع في حق المؤذن، فتجد المؤذنين يرفعون أصواتهم بالتكبير: وأكثر الناس يستمعون لهم ولا يكبرون، وينظرون إليهم كأن التكبير إنما شرع لهم، وهذه بدعة محدثة، ثم إنهم يمشون على صوت واحد وذلك بدعة؛ لأن المشروع أن يكبر كل إنسان لنفسه، ولا يمشي على صوت غيره انظر المدخل. ونحره أضحيته بالمصلى؛ يعني أنه يندب للإمام أن ينحر أو يذبح أضحيته بالمصلى ليقتدي به الناس، بخلاف غيره، فيجوز فقط، ففي المدونة ولو أن غير الإمام ذبح أضحيته في المصلى بعد ذبح الإمام جاز وكان صوابا، وقد فعله ابن عمر رضي الله عنهما، قال أحمد: ابن عمر: الندب للإمام في الأمصار الكبار، وأما القرى الصغار فليس عليه ذلك؛ لأن الناس يعلمون ذبحه لها، ولو لم يخرجها؛ أي ليس عليه على جهة الندب. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشبراخيتي وسيأتي في باب الأضحية: وأعاد سابقه إلا المتحري أقرب إمام، ومقتضاه أن المتحري ذبح إمامه إذا سبقه، يعيد مطلقا وهو كذلك، لكن محله إذا أخرج الإمام أضحيته، فإن لم يخرجها فلا يعيد سابقه حيث تحرى، وإذا لم يكن للإمام أضحية، فهل يتحرى أقرب الأئمة إليه؟ وهو ما عليه ابن عمر، أو يتحرى ذبح إمامه لو كان ذبح؟ وهو ما عليه الفاكهاني، وعبد الوهاب.
وإيقاعها به؛ يعني أنه يستحب إيقاع صلاة العيد فطرا أو أضحى بالمصلى، والمراد به الفضاء والصحراء، وصلاتها بالمسجد من غير ضرورة داعية بدعة لم يفعله صلى الله عليه وسلم، ولا الخلف بعده. قاله الشبراخيتي. وفيها: قال مالك لا تصلى في موضعين. سند: يريد لا تقام الخطبة بموضعين في المصر الواحد، وقد علمت أن المراد بالمصلى: الفضاء والصحراء، وأما البناء المتخذ فيه فبدعة، قال في المدخل: ينبغي أن يترك الموضع مكشوفا لا بناء فيه، فإن كان لا يقدر على إزالة هذا المنكر فيترك الصلاة فيما حواه البنيان ويصلي خارجه في البراح، فهو الأفضل
والأولى في حقه، بل هو المتعين اليوم، وإذا خرج الإمام إلى الصحراء وخطب، فليكن على الأرض لا على المنبر، فإنه بدعة. انتهى. وقال في الشامل: ولا يخرج إليها بمنبر، وهذا خلاف ما قاله ابن بشير، ونصه: فإذا فرغ من الصلاة صعد المنبر إن كان هناك منبر: والأولى في الاستسقاء أن يخطب بالأرض لقصد الذلة والخضوع، ولا بأس في العيدين باتخاذ المنبر كما فعله عثمان؛ لأن المقصود فيهما إقامة أبَّهَة الإسلام. انتهى. ابن حبيب: وإذا كان المطر والطين ولم يستطيعوا أن يخرجوا إلى المصلى، فلا بأس أن يصلوا في المسجد الجامع على سنة العيد في المصلى، قاله ابن فرحون. نقله الإمام الحطاب. وقوله:"وإيقاعها به". هذا الحكم جار في كل مكان، ولو بالمدينة. إلا ما استثناه بقوله: إلا بمكة؛ يعني أنه يستحب إيقاع صلاة العيدين بالمصلى الصحراوي إلا في مكة. فالأفضل لمن بها إيقاعها بمسجد مكة لا للقطع بقبلتها، ولا لفضلها لانتقاض ذلك بمسجد المدينة: بل لمشاهدة الكعبة وهي عبادة مفقودة في غيرها، لخبر: (ينزل على البيت في كل يوم مائة وعشرون رحمة، ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين إليه
(1)
)، أخرجه الطبراني: والأزرقي: والبيهقي. والحارث؛ أي يقسم على جميع الطائفين، وإن اختلف قدر طواف كل ستون، وعلله القلشاني؛ بعلة أخرى وهي أن المسجد الحرام كالصحراء لعدم سقفه، ولاتساعه؛ أي بخلاف مسجد المدينة فيهما. وفي الحديث:(أنه ينزل على كل متصافحين مائة رحمة، تسعون للبادئ، وعشر للآخر). الشبراخيتي: وإنما استحب البروز في غير مكة إلى المصلى لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك حتى النساء من الحيَّض، وربات الخدور، فقالت إحداهن: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، فقال: (تعيرها أختها من جلبابها يشهدن الخير ودعوة المسلمين
(2)
). انتهى. وأخرج البخاري، ومسلم، والترمذي، وأبو دود، والنسائي، عن أم عطية رضي الله عنها، قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج في العيد العواتق وذوات الخدور والحيض، فأما الحيض فيشهدن جماعة المسلمين ودعاءهم ويعتزلن
(1)
الإتحاف، ج 4 ص 272.
(2)
البخاري، كتاب الحيض، رقم الحديث:324. ولفظه: أعلى إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب أن لا تخرج قال لتلبسها صاحبتها من جلبابها ولتشهد الخير ودعوة المسلمين. - مسلم، كتاب صلاة العيدين، رقم الحديث:890.
مصلاهم
(1)
)، رواه في التيسير، وروى عن هؤلاء إلا الترمذي عن جابر رضي الله عنه، قال: (شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئا على بلال رضي الله عنه، فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم: ثم أتى النساء فوعظهن فذكرهن، وقال: تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم، فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير. فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال
(2)
). وسطة النساء أوساطهن حسبا ونسبا، والسفعة السواد، والشكاة بفتح الشين الشكوى، والعشير الزوج. انتهى. وفهم من قوله: ثم أتى النساء الخ، أنهن في بعد من محل الرجال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (باعدوا بين أنفاس النساء وأنفاس الرجال
(3)
)، ولو كان النساء قريبا لسمعن الخطبة، ولا احتجن إلى تذكيره بعد الخطبة. ورفع يديه في أولاه؛ يعني أنه يستحب للمصلي في العيدين أن يرفع يديه في التكبيرة الأولى من تكبيره، وهي تكبيرة الإحرام، فالضمير في أولاه راجع لمطلق التكبير الواقع في صلاة العيد الشامل للمزيد والأصل، وحينئذ فأولاه هي تكبيرة الإحرام حقيقة. قاله الشيخ بناني والله سبحانه أعلم. وليس أولى التكبير المزيد، فيرفع في أولى كل من التكبير المزيد في الركعتين، خلافا للتتائي. فقط؛ يعني أنه إنما يرفع يديه في تكبيرة الإحرام لا في غيرها من التكبير، لا في الركعة الأولى، ولا في الثانية؛ فإنه مكروه أو خلاف الأولى. وعن مالك استحباب الرفع في الجميع. وقراءتها بكسبح والشمس؛ يعني أنه يندب في صلاة العيدين قراءة:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، في الركعة الأولى:{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، في الركعة الثانية، وواضح أن ذلك بعد الإتيان بأم القرآن، وقوله:"بكسبح والشمس"؛ يعني أو نحوهما من قصار المفصل، ولذلك أتى بالكاف، وإنما ندب ذلك (لفعله عليه الصلاة والسلام، كما في الخرشي. وفي الشبراخيتي: عند قوله:
(1)
التيسير، ج 2 ص 221.
(2)
التيسير، ج 2 ص 220.
(3)
كشف الخفاء، رقم الحديث:875.
"بكسبح والشمس" ما نصه: ونحوهما من قصار المفصل على المشهور. ابن حبيب: و {اقتربت الساعة} . وكلاهما في الموطإ ومسلم انتهى. وفي الجلاب قدر قراءتها بفاتحة الكتاب، وسورة من قصار الفصل في كل ركعة من:{الضحى} ، و {ألم نشرح} ، وما أشبه ذلك من السور. انتهى. وروى الستة إلا البخاري أنه صلى الله عليه وسلم (كان يقرأ في الفطر والأضحى ب:{ق والقرآن المجيد} و {اقتربت الساعة وانشق القمر}
(1)
)، وروى الستة أيضا إلا البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة: بـ {سبح اسم ربك الأعلى} ، و {هل أتاك حديث الغاشية} ، وربما اجتمعا يوم واحد: فقرأ بهما
(2)
).
وخطبتان كالجمعة؛ يعني أنه يستحب في العيدين خطبتان كالجمعة؛ أي كخطبتي الجمعة في الصفة من الجلوس أولا وبينهما: والجهر فيهما، وتقصيرهما، وإسرارهما كعدمهما.
وبما قررت علم أن التشبيه في الصفة لا في الحكم؛ إذ الخطبتان هنا مندوبتان، وفي الجمعة واجبتان، ويذكر في خطبة الفطر الفطرة، وفي الأضحى الضحية وما يتعلق بهما، ويتمادى إذا أحدث فيهما أو قبلهما بعد الصلاة ولا يستخلف، وهل هما مندوب واحد؟ أو كل واحد مندوب مستقل؟ وحد بعضهم الجلوس بين الخطبتين بقدر الجلوس بين السجدتين، وهل يندب قيامه لهما. أم لا؟ واقتصر ابن عرفة على سنية الخطبتين، ونصه: خطبة العيد إثر الصلاة سنة، ولا يخرج إليها منبر. قاله في الشامل. وهذا خلاف ما قاله. ابن بشير، ونصه: فإذا فرغ من الصلاة صعد المنبر إن كان هناك منبر، والأولى في الاستسقاء أن يخطب بالأرض لقصد الذلة والخضوع، ولا بأس في العيدين باتخاذ المنبر، كما فعله عثمان؛ لأن المقصود فيهما. إقامة أبهة الإسلام. انتهى. وقد مر هذا. وفي المدخل: والمنبر بدعة. انتهى ملخصا من الخرشي، والشبراخيتي، وشرح عبد الباقي: وحاشية بناني. وسئل الشيخ علي الأجهوري عن خطيب قال: إن إبراهيم
(1)
التيسير، ج 7 ص 220.
(2)
التيسير، ج 2 ص 220.
عليه السلام أمَرَّ آلة الذبح على محل النحر من ولده، ثم حصل الفداء، هل يجوز له ذلك أم لا؟ لأنه جار على قول المعتزلة: إن النسخ قبل التمكن من الفعل ممتنع. فأجاب: بأن نسخ الفعل بعد التمكن منه أو بعد حصوله جائز عندنا وعند المعتزلة، وأما قبل التمكن من الفعل فجائز عندنا وممتنع عند المعتزلة، وذكر في ذلك ما نسخ مما فرض من الصلوات ليلة العراج.
واختلف في قصة الخليل مع ولده، هل وقع النسخ فيها قبل التمكن؟ وعليه الجلال المحلي في شرح جمع الجوامع، أو وقع بعد التمكن من الفعل؛ أي إمرار السكين على محل الذبح منه، وعليه غير واحد من المفسرين منهم الجلال المذكور، ثم قال: فقول الخطيب المذكور ليس خارجا عن الصواب، فمن خطأه أو قال إن قوله هذا إنما يأتي على قول المعتزلة، فهو غير مصيب. انتهى. وسماعهما؛ يعني أنه يستحب سماع خطبتي العيد أي الإنصات فيهما والإصغاء لهما، وإن كان لا يسمعهما، ولو عبر بالاستماع لكان أولى؛ لأن السماع ليس من قدرته. قاله الخرشي، وليس من تكلم فيهما كمن تكلم في خطبة الجمعة. وفي التوضيح: الخطب على ثلاثة أقسام، قسم ينصت فيه؛ وهو خطب الجمعة، وقسم لا ينصت فيه؛ وهو خطب الحج كلها، وقسم اختلف فيه؛ وهو خطب العيد والاستسقاء، واستحبه إمامنا مالك فيها، ولا بأس أن يصلي الذي تفوته صلاة العيدين في المصلى أو في غيره، وإن صلى في المصلى فلينظر حتى يفرغ الإمام من خطبته. انتهى. وهذا متفق عليه لأنه إذا اشتغل بقضائها ترك استماع الخطبة. الباجي: الخطبة من سنة الصلاة، فمن شهد الصلاة ممن تلزمه أو لا تلزمه من صبي أو امرأة لم يكن له أن يترك سنتها، كطواف النفل ليس له أن يترك ركوعه؛ لأنه من سنته. قاله الخرشي. وقال بناني: ما ذكره المصنف من استحباب الاستماع هو الذي يأتي على رواية القرويين
(1)
وابن وهب، وعلي أن الكلام فيهما
(2)
كالجمعة، وظاهر سماع ابن القاسم
(3)
ينصت في العيدين والاستسقاء كالجمعة، وقرر ابن
(1)
في بناني ج 2 ص 76: القرينين.
(2)
في بناني ج 2 ص 76: فيهما ليس كالجمعة.
(3)
في بناني ج 2 ص 76: سماع ابن القاسم الوجوب. ابن عرفة: سمع ابن القاسم: ينصت لخ.
رشد السماع المذكور على ظاهره من الوجوب، وتأوله الحطاب على أن المراد: يطلب لها الإنصات كما يطلب لخطبة الجمعة، وإن اختلف الطلب فيهما، قال الرماصي: وهذا تأويل بعيد. انتهى. وقال الشبراخيتي: ثم إن من جاء والإمام يخطب يجلس ندبا ولا يصلي كان في المسجد أو المصلى؛ لأن سماع الخطبة مندوب. انتهى. وروي عن عبد الله بن السائب، قال: (شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى قال: إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يرجع فليرجع
(1)
). نقله الإمام الحطاب. واستدل به الطحاوي على أن خطبة العيدين للتعليم كخطب الحج، فلا ينصت لها، وقال الشيخ الأمير عاطفا على المندوب. والحضور والإصغاء بأن لا يشغل فكره، وأما الكلام وقتهما، فهل هو مكروه أو حرام بعد الحضور المندوب ابتداء؛ وهو ظاهر النقل على ما أفاده الرماصي. انتهى.
واستقباله؛ يعني أنه يندب استقبال وجه الإمام في حال الخطبة، لا جهته كما في الجمعة، وفيه بحث؛ إذ حديث الجمعة يقتضي استقبال ذاته، قاله الشيخ الخرشي، وقوله:"واستقباله"؛ يعني؛ ولو الصف الأول. وبعديتهما؛ يعني أنه يستحب كون الخطبتين في العيد بعد صلاة العيدين، قال الشيخ عبد الباقي: وما ذكره المصنف من ندب البعدية خلاف ما ذكره ابن عرفة، واقتصر عليه أن البعدية سنة. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: فيه نظر، فإن ابن عرفة إنما قال ما نصه: خطبة العيد إثر الصلاة سنة، فهو إنما أخبر بالسنة عن الخطبة في نفسها، لا عن كونها إثر الصلاة. انتهى. وأعيدتا إن قدمتا؛ يعني أن خطبتي العيد إذا قدمتا على الصلاة، فإنه يستحب أن تعادا بعدها لتقعا موقعهما، وهذا إن قرب ذلك، والظاهر أن القرب هنا كالقرب الذي يبني معه في الصلاة، وقوله:"وأعيدتا إن قدمتا"، فإن لم يعد أساء وأجزأته صلاته كمن تركهما جملة، قاله غير واحد. واستفتاح بتكبير؛ يعني أنه يستحب للخطيب في العيدين أن يستفتح الخطبتين بالتكبير؛ بأن يكبر أول الأولى وأول الثانية، وهذا مما تخالف فيه خطبة العيد خطبة الجمعة؛ لأن استفتاحها
(1)
أبو داود، كتاب الصلاة، باب صلاة العيدين، رقم الحديث:1155. ولفظه:
…
من أحب ان يذهب فليذهب.
وتخليلها بالتحميد. وتخللهما به؛ يعني أنه يستحب له أيضا أن يخلل خطبتيه بالتكبير؛ بأن يكبر خلال كل فصل من الخطبتين، ويندب لمستمع التكبير أن يكبر بتكبير الإمام، وفي الجلاب: وينصتون فيما سوى ذلك. بلا حد؛ يعني أن التكبير المستفتح به الخطبتان ليس محدودا بسبع تكبيرات، وأن التكبير الذي تخلل به الخطبتان ليس محدودا بثلاث، واستحب ابن حبيب، وأصبغ، وابن عبد الحكم، والأخوان أولها سبعا سبعا نسقا، ثم ثلاثا ثلاثا. ابن رشد: عن ابن حبيب: يكبر أول الأولى سبعا، وأول الثانية سبعا، وخلال كل فصل ثلاثا. وفي الشبراخيتي. ما نصه: ويستحب للمأمومين أن يكبروا بتكبير الإمام حال الخطبة، لكن سرا، كما في شرح الجلاب للقرافي. انتهى.
وإقامة من لم يؤمر بها: الضمير المجرور بالباء عائد على الجمعة في قوله: لمأمور الجمعة، وهذا مفهوم ذلك؛ يعني أن صلاة العيد تندب إقامتها لمن لا يؤمر بالجمعة على جهة الوجوب، من صبي، وعبد، وامرأة، ومسافر، وهل في جماعة أو أفذاذا؟ قولان، قاله: الشبراخيتي. ويندب لسيد العبد الإذن، ويستثنى من كلام المصنف، أعني قوله:"سن لعيد ركعتان"، وقوله:"وإقامة من لم يؤمر بها. أو فاتته"، الحجاج، فلا يؤمرون بها استنانا، ولا ندبا، وكذا أهل منى غير الحجاج، فلا يقيمونها جماعة ولو صلاها مصل لنفسه فلا بأس، كما مر أول الفصل. سند: قال مالك في النساء إذا لم يشهدن العيد: فليصلين مثل صلاة الإمام فرادى إذا لم يكن معهن رجل تخلف لعذر، فإن كان، فهل يجمع بهن؟ يختلف فيه كما يختلف في جمع من تخلف عنها لعذر، وهل يتحرى فراغ الإمام؟ يتخرج على قولين فيمن لا تجب عليه الجمعة إذا جمع الظهر، فإنه يتحرى صلاة الإمام، ويؤخر حتى يصلي. قاله الشيخ الخرشي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: إن قوله: "وإقامة من لم يؤمر بها"، يشمل النساء، والعبيد، والصبيان، والمسافرين، وأهل القرى الصغار وأطلق المصنف فلم يبين، هل جماعة أو أفذاذا، وحصل اللخمي في ذلك ثلاثة أقوال: الأول يقيمونها جماعة وأفذاذا، والثاني: لا يقيمونها جماعة ولا أفذاذا، والثالث: يقيمونها جماعة لا أفذاذا، وتبعه على حكاية الأقوال هكذا ابن الحاجب وابن شاس معبرين
بالكراهة فيما عبر عنه بالنفي، وقال ابن عرفة بعد حكايتها: عياض: الثالث وإن قبله المازري وهم أو تغيير من النقلة. والمتوجه ضده لقوله فيها: لا يؤم النساء فيها أحد، ويصلينها أفذاذا، ومثله في التوضيح، وأبي الحسن: فيؤخذ منه أن الراجح فعلها فذا لا جماعة، خلافا لتصحيح القول بفعلها جماعة. ولا فرق بين الرجال والنساء فيما ذكر من الخلاف.
أو فاتته؛ يعني أن من فاتته صلاة العيد مع الإمام، يندب له أن يقيم صلاة العيد، وهل يقيمها فذا أو جماعة؟ قولان، ومقتضى كلام الذخيرة أن الأول هو الراجح، وعلى إقامتها جماعة فلا يخطبون. قاله الشبراخيتي. وكذا قال بناني: إن الراجح صلاة من فاتته لها فذا لا جماعة. وهو ممن تسن في حقه. وفي الحطاب: قال في الشامل: وإقامتها لمن فاتته، ولمن لا تلزمه فذا، وكذا في جماعة على الأصح فيهما انتهى. ويظهر من كلام صاحب الطراز ترجيح جواز الجمع، وعلى جواز الجمع فمن فاتته من أهل المصر لا يخطب بلا خلاف، وكذا من تخلف عنه لعذر، وكذا العبيد، والمسافرون. واختلف في أهل القرى الصغار على قولين. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب: وقال الحطاب فلو أراد أن يجمعها محن فاتته في المسجد أو في المصلى فالظاهر أنهم يمنعون من ذلك، ويدل لذلك قول ابن حبيب: من فاته العيد فلا بأس أن يجمعها مع نفر من أهله. والله سبحانه أعلم. انتهى. وقال سحنون. لا أرى أن يجمعوا؛ يعني من فاتته صلاة العيد وإن أحبوا صلوا أفذاذا، وفي الأجوبة الناصرية: أن أهل البادية يقيمون الصلاة ولا يخطبون.
وتكبيره إثر خمس عشرة فريضة؛ يعني أنه يستحب للمصلي صلاة الفرض أن يكبر عقب كل فرض في عيد النحر إلى أن تنقضي خمس عشرة فريضة، وهذا التكبير إنما يكون إثر سجودها؛ أي الخمس عشرة فريضة، البعدي بالجر نعت لسجودها فيقدمه على التسبيح، وآية الكرسي كما يشعر به قوله: إثر وقوله: "وسجودها"، عطف على قوله:"خمس"، ويبتدأ هذا التكبير الواقع إثر خمس عشرة فريضة. من ظهر يوم النحر؛ فيبتدئه عقب السلام إن لم يترتب عليه بعدي، وإثر البعدي إن ترتب عليه، وهذا التكبير يندب لكل مصل صلى مع جماعة أو وحده، أمر بالجمعة أم لا، ولو صبيا وامرأة، وينتهي هذا التكبير عقب صلاة الصبح من اليوم الرابع، وقال ابن عرفة: الشيخ عن ابن الجهم: واللخمي عن بعض أصحاب سحنون: إثر ست عشرة،
وفيها: قال ابن القاسم: سألته عن التكبير ولم يحد فيه حدا، وقوله:"وتكبيره إثر خمس"، الخ يكون هذا التكبير بقدر ما يسمع نفسه ومن يليه، قال في المدخل: وقد مضت السنة أن أهل الآفاق يكبرون دبر كل صلاة من الصلوات الخمس في أيام إقامة الجمع بمنى، فإذا سلم الإمام من صلاة الفرض في تلك الأيام كبر تكبيرا يسمع نفسه ومن يليه، وكبر الحاضرون بتكبيره كل واحد يكبر لنفسه لا يمشي على صوت غيره، على ما وصف من أنه يسمع نفسه ومن يليه؛ فهذه هي السنة. نقله الإمام الحطاب. لا نافلة؛ يعني أنه لا يستحب التكبير إثر صلاة نافلة في أيام النحر، وإنما يستحب إثر الفرائض كما علمت.
ومقضية؛ يعني أن التكبير المذكور إنما يستحب إثر الفريضة الحاضر وقتها، وأما الفريضة التي خرج وقتها وقضيت فيها؛ أي في الأيام التي يكبر فيها إثر الفرائض فلا يندب إثرها. مطلقا؛ يعني سواء كانت الفائتة من أيام العيد أو من غيرها، وكذا لا يكبر بالأحرى بعد فائتة من أيام التشريق قضاها في غيرها اتفاقا، ولا يكبر بعد النافلة في أيام النحر -كما علمت- سواء كانت تابعة للفرض أم لا، فقوله:"مطلقا": راجع للنافلة والقضية، ومعناه بالنسبة للمقضية: كانت من أيام العيد أم لا: ومعناه بالنسبة للنافلة: كانت تابعة للفرض أم لا، كما في الشبراخيتي. وقوله: لا نافلة، ظاهر كلام الشارح الكراهة، وكذا يقال في قوله: مقضية. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي عند قوله: "لا نافلة" ومقضية"؛ أي يكره. انتهى. وقوله: "مطلقا"، الظاهر أنه حال سوغ مجيئه من النكرة وقوعها بعد نفي. والله سبحانه أعلم. وما ذكر المصنف هو المشهور، وقيل: بالتكبير دبر الفرض والنفل على الرجال والنساء، وفي غير الصلاة، وفي الطريق، وفي غير ذلك، وفي المختصر: لا يكبر النساء، وقيل بالتكبير في الفائتة من أيام النحر المقضية فيها. وفي المدونة منع التكبير أيام منى في غير دبر الصلوات، وروى اللخمي: لا بأس به، وصوبه وعزاه الصقلي لابن حبيب، وسمع أشهب إجازته في غير دبرها بحضرة العدو وغيرها. ابن حبيب: استحبه العلماء في العساكر والرباطات دبر صلاة العشاء أو الصبح تكبيرا عاليا ثلاثا، وكرهوا أن يتقدم واحد بالتكبير ويجيبه الباقون، ولا بأس بالتحزين فيه، ويكره التطريب، وقول يوم العيد:
تقبل الله منا ومنك وغفر لنا ولك. وروى ابن حبيب: لا أعرفه ولا أنكره، ورأيت أصحابي لا يبتدئون به ويعيدنه
(1)
على قائله، ولا بأس بابتدائه، وكرهه مكحول، (وروى عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من فعل اليهود)، وحكى بعضهم الاتفاق على كراهة قول الرجل لصاحبه: أطال الله بقاءك، وقال هي تحية الزنادقة. وفي الاستيعاب لابن عبد البر أن عمر قال لعلي صدقت، أطال الله بقاءك: فإن صح فهو مبطل للاتفاق. سند: ولا ينكر في العيدين لعب الغلمان بالسلاح والنظر إليهم، ولا لعب الصبية بالدفوف.
وكبر ناسيه؛ يعني أن من نسي هذا التكبير الذي يوقع إثر الفرائض في أيام النحر، يستحب له أن يفعله إن قرب زمن تذكره له من سلامه من الفريضة التي يفعل إثرها: وهل القرب هنا كالمتقدم في البناء كما لأبي الحسن وسند، واستظهره الحطاب؟ أو عدم القيام من موضعه، وإن بعد كما لابن فرحون، واقتصر عليه التتائي؛ وهو لمالك في الواضحة، وقول المدونة: إن كان بالقرب رجع فكبر أي رجع للتكبير لا للموضع الذي صلى فيه، قاله أبو الحسن؛ أي لا يشترط. وقوله: ناسيه لا مفهوم له وكذا متعمد تركه، فإنه يكبر إن قرب.
والمؤتم إن تركه إمامه؛ يعني أن التكبير الذي يوقع عقب الفرائض أيام النحر إذا تركه الإمام، فإن المأموم يأتي به، وندب له تنبيه إمامه عليه بالكلام لا بالتسبيح لخروجه من الصلاة، كما في الأمهات. قاله الشيخ إبراهيم. وظاهر قوله:"إن تركه إمامه"، كان الترك عمدا أو سهوا، وإنما كبر المؤتم مع أن إمامه تركه؛ لأنه يندب لكل منهما.
ولفظه؛ يعني أنه يندب للمصلي إيقاع هذا التكبير المذكور باللفظ الوارد فيه وبين اللفظ الوارد في الحديث بقوله: وهو؛ أي اللفظ الوارد في الحديث: الله أكبر ثلاثا؛ أي يقول الله أكبر ثلاث مرات متواليات، ويخرج من عهدة الندب بذلك وإن لم يعد الثلاث مرة أخرى؛ وهو ظاهر النقل والحديث وعليه جمهور الشراح، وذكر السنهوري أنه يكررها المرة بعد المرة.
(1)
في نسخة بخط غيره: ويعيبونه.
واعلم أن التكبير دبر الصلوات مستحب وهذا اللفظ مستحب ثان، فمن أتى به أتى بمستحبين. وإن قال بعد تكبيرتين لا إله إلا الله ثم تكبيرتين ولله الحمد فحسن؛ يعني أن المصلي إذا كبر عقب الفرائض تكبيرتين بأن يقول: الله أكبر الله أكبر، ويزيد بعدهما لا إله إلا الله، ثم يكبر بعد ذلك تكبيرتين بإدخال الواو على أولاهما؛ أي الواو العاطفة لأولى التكبيرتين على الهيللة، ويقول بعدهما: ولله الحمد بالواو، فإن ذلك حسن، لما روي أن الله تعالى لما أمر جبريل عليه السلام أن يذهب إلى إبراهيم -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- بالفداء، فرآه أضجع ابنه للذبح، فقال: الله أكبر الله أكبر، لا يعجل بالذبح، فلما سمع إبراهيم صوته علم أنه يأتيه بالبشارة، فقال: لا إله إلا الله والله أكبر، فلما سمع إسماعيل كلامهما، قال: الله أكبر ولله الحمد، فلا ينبغي أن يترك بعضه، كذا في المحيط، انظر ابن مالك شارح مجمع البحرين. والجمهور على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق، وقوله:"فحسن"، قال في الحاشية: والأول أحسن، وقال التتائي. في صغيره: إن الثاني أفضل، وذكر شيخنا في شرحه أن في تعيين الأفضل قولين، ففي المدونة. ما يفيد أن أفضله الله أكبر ثلاثا، وفي غيرها ما يفيد أن أفضله ما أشار له بقوله:"وإن قال بعد تكبيرتين" الخ، قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي عند قوله:"فحسن": والأول أحسن لأنه الذي في المدونة، والثاني في مختصر ابن عبد الحكم. انتهى. وقال الخرشي عند قوله:"فحسن"، هذا في مختصر ابن عبد الحكم، والمذهب الأول. انتهى.
وكره تنفل بمصلى قبلها وبعدها؛ يعني أنه يكره التنفل بالمصلى الذي صليت فيه العيد قبل صلاة العيد وبعدها؛ أي يكره للإمام والمأموم، لما في الصحيحين (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم الأضحى فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما
(1)
)، وقال ابن شهاب: لم يبلغني أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفطر ولا يوم النحر لا قبل الصلاة ولا بعدها، ونقل عن ابن وهب إجازة ذلك، ووجه كراهة التنفل في المصلى قبل صلاتي العيدين،
(1)
البخاري، كتاب الجمعة، رقم الحديث:964. - مسلم، كتاب العيدين، رقم الحديث: 884. ولفظهما: لم يصل قبلها ولا بعدها
…
أن الخروج لصلاة العيد بمنزلة طلوع الفجر بالنسبة لصلاة الفجر فكما لا تصلى بعد الفجر، نافلة غير صلاة الفجر: لا تصلى قبل العيد نافلة غيرها، وأما وجه الكراهة بعدها فخشية أن يكون ذلك ذريعة لإعادة أهل البدع لها القائلين بعدم صحتها، كغيرها خلف إمام غير معصوم، ولا يقال: كل من هذين يجري في التنفل قبلها وبعدها في المسجد مع أنه لا يكره التنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها حيث صليت في المسجد؛ لأنا نقول: لا نسلم ذلك؛ إذ المسجد تطلب تحيته ولو في وقت النهي عند جمع من العلماء، وأما جوازه بعدها في المسجد؛ فلأنه يندر حضور أهل البدع لصلاة الجماعة في المسجد. قاله الشيخ علي الأجهوري. وقوله:"بمصلى"، وأما التنفل في البيوت، فقال سند: وأما التنفل في البيوت يوم العيد فيختلف فيه، فذهب الجمهور إلى جوازه من غير كراهة: وقال: قوم صلاة العيد سبحة ذلك اليوم، فليقتصر عليها إلى الزوال، وجنح إلى ذلك ابن حبيب. فقال: أحب إلي أن تكون صلاة العيد حظه من النافلة ذلك اليوم إلى صلاة الظهر، وهذا مذهب مردود باتفاق أرباب المذاهب. انتهى قاله الإمام الحطاب.
لا بمسجد فيهما؛ يعني أنه إذا صليت العيد في المسجد، فإنه لا تكره النافلة قبلها ولا بعدها؛ وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، وقال في الشامل: لم يعرف مالك قول الناس: تقبل الله منا ومنكم، وغفر الله لنا ولكم، ولم ينكره وأجازه ابن حبيب، وكرهه بعضهم، وقال الرهوني: في فتح الباري: روينا في المحامليات بسند حسن عن جبير بن نفير، قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد، يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك
(1)
). انتهى. وقال في المسائل الملقوطة: حكى النحاس أبو جعفر وغيره الاتفاق على كراهة قول الرجل لصاحبه: أطال الله بقاءك، وقال بعضهم: هي تحية الزنادقة.
وفي كتاب الاستيعاب لابن عبد البر: أن عمر قال لعلي رضي الله عنهما صدقت، أطال الله بقاءك، فإن صح بطل ما ذكره من الاتفاق. انتهى. نقله الإمام الحطاب. وفي الطراز: ولا ينكر في العيدين اللعب للغلمان بالسلاح والنظر إليهم، وكذا لعب الصبية بالدفوف وشبه ذلك. انتهى. ثم
(1)
فتح الباري، ج 2 ص 466.
ذكر لعب الحبشة، قال
(1)
: وقد ذكره مالك، ومحصل الحديث أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت في المسجد تراهم. انتهى. نقله الإمام الحطاب. وقوله:"لا بمسجد فيهما"، قال الإمام الحطاب وهذا في حق غير الإمام، قال في الطراز: ونحن إذا قلنا بجواز التنفل في المسجد قبلها لم نطلقه للإمام، بل سنته إذا قدم أن يبدأ بصلاة العيد إلا أن يقدم قبل الوقت، فليس ذلك بوقت التنفل. انتهى. وقال الإمام الحطاب: وإذا قلنا إن النافلة جائزة في المسجد قبل الصلاة، فهل تحرم أو تكره بخروج الإمام على الناس، أو تباح؟ لم أو في ذلك نصا. والله أعلم. انتهى.
قال جامعه عفا الله عنه: يشهد للإباحة ظاهر المصنف كغيره، والله سبحانه أعلم. وللاندزالي رحمه الله ناظما لبدع الأعياد:
ويحرمن فاعلم على الرجال
…
صبغ يد بالصبغ للجمال
كذا تصافح الرجال للنسا
…
فمن يكن فعله فقد أسا
وجمعهم عيشا لدى المساجد
…
في عيدهم من أقبح العوائد
كذاك ما يطلبه الإمام
…
بعد صلاة العيد يا كرام
وكرهوا زيارة القبور
…
لما بها من عدم السرور
قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: تأمل هذه البدعة أعني قوله: كذاك ما يطلبه الإمام الخ.
ولما أنهى الكلام على صلاة العيدين وما يتعلق بها، أتبعه بالكلام على الكسوف والخسوف، فقال:
(1)
في الحطاب ج 2 ص 486 ط دار الرضوان قال وقد كره مالك لعبهم في المسجد ويحمل الحديث الخ.
فصل: في حكم صلاة الكسوف،
وصلاة الخسوف، وصفتهما، وما يتصل بذلك، وهل الكسوف والخسوف مترادفان؟ وعليه الأكثر، أو الكسوف للشمس والخسوف للقمر؟ قال في القاموس: وهو المختار، وقيل: بالعكس، ورد بقوله تعالى:{وخسف القمر} ، وقيل: الكسوف لذهاب بعض الضوء، والخسوف لجميعه، وقيل: الخسوف ذهاب الضوء كله والكسوف تغير اللون، ويقال: كسفا وخسفا مبنيين للفاعل والمفعول، وروى البخاري في تاريخه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الشمس والقمر إذا رآى أحدهما من عظمة الله شيئا حاد عن مجراه فانكسف
(1)
)، وفي الشبراخيتي أن سبب الكسوف للشمس: أنه إذا أراد الله عز وجل أن يخوف عباده حبس عنهم ضوء الشمس ليرجعوا إلى الطاعة؛ لأن هذه النعمة إذا حبست لم ينبت زرع ولم يجف تمر، وقيل: سببه ما ورد في الحديث (أن الله تعالى ما تجلى لشيء إلا خضع له)، وقد تجلى للجبل فجعله دكا، فإذا تجلى للشمس ذهب ضوءها، وقيل: سبب الكسوف أن الملائكة تجر الشمس وهي تسير بسير الملائكة لأنها جماد، وفي السماء بحر إذا وقعت فيه الشمس أو بعضها استتر نورها بالماء. انتهى.
وفي الحديث: (وكل بالشمس تسعة أملاك يرمونها بالثلج كل يوم ولولا ذلك ما أتت على شيء إلا أحرقته
(2)
). وأشار المصنف إلى حكم صلاة كسوف الشمس بقوله "سنَّ" يعني أنه يسن لأجل كسوف الشمس صلاة ركعتين على الهيئة التي تذكر بعد، وهي سنة عين حتى لامرأة وعبد وصبي مميز، وكونه يؤمر بالخمس ندبا وبالكسوف استنانا، مما يستغرب، ويستغرب أيضا أمره بالعيد ندبا مع أنه أوكد من الكسوف، ويجاب عن الأول بأن الخمس لتكرارها خف طلبها منه، وعن الثاني بتكرر العيد أيضا بالنسبة للكسوف.
(1)
كنز العمال، رقم الحديث:21561.
(2)
الجامع الصغير، رقم الحديث:9629.
وبأنه لما كان آية من آيات الله يخوف الله بها عباده -كما في الخبر
(1)
- تأكد طلبها منه حيث عقل الصلاة رجاء قبول فعله، ولم يخاطب بخسوف القمر مع أنه آية أيضا -كما في الخبر- لغلبة نومه من الغروب. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: لم أر من ذكر السنية في حق الصبي إلا ما نقله الحطاب عن ابن حبيب، وهو يحتمل أن يكون إنما عبر بالسنية تغليبا لغير الصبي عليه، وإنما عبر ابن بشير وابن شاس وابن عرفة بلفظ: يؤمر، وإذا صح هذا سقط الاغتراب
(2)
المذكور. انتهى كلام الشيخ محمد بن الحسن. وقال الشيخ الأمير: سن لمأمور الصلاة ولو صبيا، ولا يستبعد كونه له أعلى من الخمس لأنها محل خوف وهو مقبول، ولا يرد الخسوف فإنه مندوب مع أنه يأتي وهو نائم، ولا يلحق مصيبة الشمس، وكذا الاستسقاء فإنه دونها في التأكد مع أنه لا يعم العالم ويغني عنه نحو العيون. انتهى. وفي الطراز، وسئل ابن القاسم، هل كان مالك يرى أن صلاة الكسوف سنة لا تترك مثل صلاة العيد سنة لا تترك؟ قال: نعم قال سند: وهذا مما لا يختلف فيه، وأبو حنيفة وصفها بالوجوب ونحن لا نتحاشى أن نقول تجب وجوب السنن المؤكدة على معنى أنه لا ينبغي تركها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها بالجماعة وأمر بها، وهي من شعار الدين وشعار الإسلام يجب إظهارها؛ إلا أنها غير مفروضة لما بينا في مسألة
(3)
الوتر أنه لا مفروض إلا الخمس الصلوات.
وإن لعمودي؛ يعني أن صلاة الكسوف سنة في حق الحضري والعمودي؛ أي البدوي، ولا فرق بينهما في ذلك، وقال ابن عرفة وسمع ابن القاسم إن تطوع من يصلي بأهل البادية بصلاة الكسوف: فلا بأس به. ابن رشد: يريد الذين لا تجب عليهم الجمعة، وأما من تجب عليهم فلا رخصة في تركهم الجمع للكسوف. انتهى. قاله الإمام الحطاب. أي: وأما من لا تجب عليهم الجمعة فإن شاءوا جمعوا وإن شاءوا صلوها منفردين، أما أن يتركوها، فلا كما قاله سند. وأشار
(1)
البخاري، كتاب الكسوف، رقم الحديث:1048. ولفظه: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولكن يخوف الله بهما عباده.- مسلم، كتاب الكسوف، رقم الحديث:901.
(2)
في البنانى ج 2 ص 77 الاستغراب.
(3)
في الحطاب ج 2 ص 487 ط دار الرضوان: في صلاة الوتر.
المصنف بالمبالغة لرد ما نسبه اللخمي لمالك في مختصر ما ليس في المختصر من أنه: لا يؤمر بها إلا من تلزمه الجمعة، وإنما لم يرتض المصنف نسبته لمالك، فيشير إليه بلو المشيرة إلى خلاف في المذهب؛ لأن صاحب الطراز وغيره اعترضوا ذلك على اللخمي.
وقد علمت أن العمودي هو ساكن البادية، وفي عبارة المصنف قلق لتقدير كان واسمها؛ أي وإن كان الخطاب لعمودي، والأسلس لو قال: وإن عموديا. قاله الشبراخيتي وغيره. وعبارة الشيخ عبد الباقي: وإن حصل الكسوف لعمودي. ومسافر، عطف على قوله:"لعمودي" يعني؛ أن صلاة الكسوف تسن في حق المسافر كما تسن في حق الحضري. لم يجد سيره؛ يعني أن المسافر إنما تسن في حقه صلاة كسوف الشمس حيث لم يجد سيره، وأما لو جد به السير فإنه يسقط عنه الخطاب حيث كان لإدراك أمر يخاف فواته، فالصور ثلاث: لم يجد به السير، جد به لقطع المسافة تسن في حقه صلاة الكسوف فيهما، جد به لإدراك أمر يخاف فواته سقط عنه الخطاب.
وفي الشبراخيتي عن الشارح والمواق: أنه لا يخاطب بها من جد به السير، ولو لقطع المسافة لكسوف الشمس. متعلق بقوله:"سن". قاله الشيخ إبراهيم؛ يعني أنه يسن لكسوف الشمس -أي ذهاب ضوئها أو بعضه- ركعتان إلا أن يقل البعض المذاهب جدا بحيث لا يدركه إلا أهل المعرفة بذلك، فلا يصلى له قاله الإمام الحطاب.
واعلم أنه لا خلاف بين أهل اللغة في استعمال الكسوف في الشمس، وإنما اختلفوا في استعماله في القمر. ركعتان. نائب فاعل سن؛ يعني أنه يسن لكسوف الشمس ركعتان قبل انجلائها، قال الشيخ إبراهيم: والأصل سن صلاة ركعتين لأجل زوال كسوف الشمس، فحذف المضاف، وهو صلاة، وأقيم المضاف إليه مقامه اختصارا، وفي الخرشي نحوه. إلا أنه جعل قوله:"لكسوف الشمس"، متعلقا بركعتان: باعتبار المضاف المقدر الذي أقيم هذا مقامه؛ أي صلاة ركعتين لأجل زوال كسوف الشمس. وفي الذخيرة: ولا يصلى للزلازل وغيرها من الآيات، وحكى اللخمي الصلاة عن أشهب، واختاره. قاله الإمام الحطاب. سرا؛ يعني أن القراءة في صلاة كسوف الشمس يندب إسرارها ندبا متأكدا كندب الجهر بوتر، وهذا هو المشهور؛ إذ لا خطبة لها، ولخبر ابن مسعود
ورفاعة أنه أسر، وخبر ابن عباس:(كنت لجنبه فما سمعت منه حرفا). الطراز: وعليه إجماع أهل المدينة، وقد كانت الصحابة فيها موفورين يصلونها معه صلى الله عليه وسلم، وبعده كذلك، ونقل ذلك الأبناء عن الآباء ولم يعرف بينهم خلاف في الإسرار بقراءتها، وما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها (أنه قرأ جهرا
(1)
) فمحمول على خسوف القمر جمعا بين الروايتين، وليس شرطها الجماعة على المشهور، بل هي مستحبة، وشرطها ابن حبيب. قاله الشبراخيتي. وهو يخالف ما تقدم عن الشيخ محمد بن الحسن: أن الجماعة في السنن غير الوتر سنة، ويقرأ في صلاة الكسوف المأموم مع الإمام كما هو الجاري على أصل المذهب خلافا لأشهب. وعن مالك: أن صلاة الكسوف يقرأ فيها جهرا، واستحسنه اللخمي ابن ناجي، وبه عمل بعض شيوخنا بجامع الزيتونة. قاله الشيخ الخرشي. وعبارة الحطاب عند قوله:"سرا"، وعليه فاختلف في قراءة المأموم خلف إمامه، فقال أشهب: لا يقرأ، وقال أصبغ: يقرأ، ابن ناجي: وهو الجاري على أصل المذهب. انتهى.
بزيادة، متعلق بالكون؛ لأنه في موضع الصفة لركعتين أو الحال، والباء للمصاحبة؛ أي سن ركعتان مصحوبتان بزيادة. قيامين وركوعين، عطف على قيامين؛ يعني أن صلاة الكسوف تخالف غيرها من الصلوات؛ لأنه يزيد في كل ركعة من الركعتين قياما وركوعا، فيحصل بذلك زيادة قيامين وركوعين، وذلك بأن يقوم، فيكبر تكبيرة الإحرام، ويقرأ الفاتحة وسورة، ثم يركع، ويرفع من ركوعه مكبرا في الركوع قائلا: سمع الله لمن حمده في الرفع من الركوع، وحين يرفع من الركوع يثبت قائما، فيقرأ الفاتحة وسورة، ثم يركع قائلا: الله أكبر، ويرفع من ركوعه قائلا سمع الله لمن حمده على الهيئة المعهودة في غيرها من عدم طول القيام، ثم يهوي ساجدا، ثم يرفع من السجود ولا يطيل الجلوس. بل يأتي به على ما عهد في غيرها من الصلوات، ثم يهوي
(1)
مسلم، كتاب صلاة الكسوف، رقم الحديث:901. ولفظه: عن عائشة رضى الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته فصلى أربع ركعات وأربع سجدات.- الترمذي، باب ما جاء في صلاة الكسوف، رقم الحديث:563.
ساجدا، ثم يرفع من السجود، ويستوي قائما فيقرأ الفاتحة وسورة، ثم يركع، ثم يقوم فيقرأ الفاتحة وسورة، ثم يركع، ثم يرفع ويستوي قائما ولا يطيل القيام بل يأتي به على ما عهد في غيرهامن عدم الإطالة، ويهوي ساجدا، ثم يرفع ويستوي جالسا ولا يطيل الجلوس كما تقدم في الأولى، ويهوي ساجدا، ثم يرفع بأن يستوي جالسا، ويتشهد، ويسلم. وغير ذلك من أمرها كغيرها من الصلوات، وذلك كالتكبير والتسميع وهيئة الجلوس وغير ذلك.
الشبراخيتي: وهذه الزيادة سنة مؤكدة؛ لأن سندا نص على أنه إذا ترك القيام أو الركوع الزائد سهوا سجد قبل السلام، وأما القيام والركوع الأصلي فهو فرض فلا ينجبر بالسجود. انتهى. ونحوه للخرشي.
إلا أنه زاد: والمذهب أن الزائد القيام الأول من الركعة الأولى والثانية، والركوع الأول من الركعة الأولى والثانية، فإن قيل: كيف يكون القيام الأول سنة والثاني واجب؟ مع أنهم اتفقوا على وجوب الفاتحة في الأول من الركعتين، واختلفوا في تكريرها في الثاني، فالجواب: أنه لا يلزم من وجوب القيام وجوب القراءة. انتهى.
وقال الشيخ الأمير: وحاصل ما أفاده شيخنا وغيره أن الواجب الركوع الثاني؛ لأنه على الشأن بعد قراءة وقبل سجود، والأول في أثناء القراءة؛ وهي ساقطة عن المأموم، وكذا قال: الواجب القيام الثاني والأول سنة، مع القول بأن الفاتحة واجبة في القيام الأول والثاني على المشهور، وقيل: سنة في الثاني، وقيل: لا تكرر، مع أن الظاهر أن قيام الفاتحة تابع لها. انتهى.
وركعتان ركعتان لخسوف قمر؛ يعني أن صلاة خسوف القمر سنة، هذا قول الجلاب واللخمي، وشهره ابن عطاء الله، وإنما قال:"وركعتان ركعتان"، مكررا؛ لأنه لو اقتصر على لفظ واحد من ذلك لأوهم أنها ركعتان فقط، وليس كذلك، فذكر أنها تصلى كذلك وتكرر ركعتين ركعتين حتى ينجلي، ففيه حذف حرف عطف؛ أي وركعتان وركعتان، وهكذا. وحذف عاطف ومعطوف وهو حتى ينجلي، وظاهره أن السنة لا تحصل بصلاة ركعتين فقط، لكن في شرح الأجهوري أن النقل
يفيد حصولها بصلاة ركعتين فقط، وقال الشيخ إبراهيم: وظاهر كلام المصنف أن السنة أو الندب إنما يحصل بتكرير ركعتين لا بصلاة ركعتين فقط، والنقل يفيد حصوله بصلاة ركعتين فقط كما في المدونة واللخمي والبرزلي. وقال ابن بشير، والتلقين: إن صلاة خسوف القمر فضيلة. الشبراخيتي: وهو الأرجح، وما شهره ابن عطاء الله من السنية ضعيف، وقال الشيخ عبد الباقي إن المعتمد القول بالندب، قال الشيخ محمد بن الحسن: ما ذكره من أن الاستحباب هو المعتمد هو الظاهر من كلامهم، فإن الذي لابن عرفة: وصلاة خسوف القمر اللخمي والجلاب سنة، ابن بشير: والتلقين فضيلة. وفي الحطاب: أن الأول شهره ابن عطاء الله، والثاني اقتصر عليه في التوضيح، وصححه غير واحد، وصرح القلشاني بأنه المشهور. انتهى.
وعلى ما قررت به المصنف يكون قوله: "وركعتان"، معطوفا على نائب فاعل "سن"؛ وهو ركعتان، ويمكن تمشيته على الثاني، فيكون قوله:"وركعتان"، مبتدأ، وخبره: كالنوافل، فيكون التشبيه في الصفة والحكم، فالصفة الهيئة، والحكم الندب. وعلى ما قررت أولا يكون التشبيه في قوله:"كالنوافل"، في الصفة فقط لا في الحكم؛ إذ الحكم السنية والله سبحانه أعلم. ومعنى كون التشبيه في الصفة أن صلاة خسوف القمر لا يزاد فيها قيامان ولا ركوعان بل هي على ما عهد في غيرها من الصلوات غير الكسوف من عدم زيادة ذلك، وعلى أن التشبيه في الصفة لا في الحكم يكون قوله:"كالنوافل"، حالا. جهرا؛ يعني أن صلاة خسوف القمر يستحب فيها الجهر لأنها نفل ليل، فهو غير ضروري الذكر لدخوله في قوله: وجهر ليلا، قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ إبراهيم: وهو مستغنى عنه بقوله فيما سبق: وجهر ليلا. بلا جمع؛ يعني أن صلاة الخسوف يكره أن تصلى جماعة، ويندب فعلها أفذاذا في البيوت على المشهور، لخبر ابن عباس رضي الله عنهما: خسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجمعنا إلى الصلاة كما فعل في كسوف الشمس. وكلام المصنف لا يفيد أنها إنما تفعل في البيوت، قال ابن عرفة والمشهور كونها في البيوت ولا تجمع، ووقتها الليل كله، فإن طلع مكسوفا بدأ بالمغرب، وإن خسف عند الفجر لم يصلوا، وكذا لو خسف فلم يصلوا
حتى غاب بليل، خلافا للشافعي فيهما. قاله الشبراخيتي. وإن شرعوا فيها قبل غيبوبته وغاب قبل إتمامها، أتموها، ولو طلعت الشمس وهو منكسف، فقالت الشافعية: لا يصلى له لأن سلطانه قد ذهب، والذي يقتضيه المذهب أن يصلى له لوجود السبب، ونقله المصنف في شرح المدونة عن سند، ولو طلع بعد الفجر كأواخر الشهر منخسفا، فهل يجري فيه الخلاف المذكور، بناء على أن الليل عندهم في هذه المسألة ينتهي بطلوع الفجر، أو إنما ينتهي عندهم بطلوع الشمس؟ وعليه فيتفق المذهبان على أنه يصلى له حينئذ. قاله الأجهوري وفي كون مذهبنا كذلك نظر لما مر من عدم التنفل بعد الفجر إلا ما استثنى المصنف هناك، وفي التتائي في صغيره: إذا طلع الفجر وهو منخسف لم يصل خلافا للشافعية، وكذا في بعض نسخ كبيره. وهو شامل لطلوع الفجر في وقت يطلع القمر عنده كأواخر الشهر، ولا إذا كان يطلع قبله فهو نص فيما نظر فيه الأجهوري. قاله الشيخ عبد الباقي، والشبراخيتي.
وقال الشيخ محمد بن الحسن: انظر كيف يكون كلام التتائي نصا، وقال عند قول عبد الباقي: وفي كون مذهبنا كذلك الخ: في الحطاب أن الجزولي ذكر في فعله بعد الفجر قولين، وأن التلمساني اقتصر على الجواز، وأن صاحب الذخيرة اقتصر على عدم الجواز. انتهى. وقوله:"بلا جمع"، رد به على أشهب، فإنه أجاز الجمع. وقوله:"بلا جمع"، قال في الطراز: فإن جمعوا أجزأهم؛ لأن سائر النوافل إذا وقعت جماعة صحت، وإنما الخلاف هل الجماعة من سنتها أو لا؟ قاله. الإمام الحطاب.
وندب بالمسجد هذا راجع لكسوف الشمس؛ يعني أنه يندب إيقاع صلاة كسوف الشمس بالمسجد، لا في المصلى مخافة انجلائها قبل وصول المصلى، ولا أذان لها ولا إقامة؛ لأنهما من خواص الفرض. ابن عمر: ولا يقول: الصلاة جامعة. ابن ناجي: نقل ابن هارون أنه لو نادى الصلاة جامعة، لم يكن به بأس؛ وهو قول الشافعي وغيره. واستحسنه عياض في الإكمال لما في الصحيحين (أنه عليه الصلاة والسلام بعث مناديا ينادي فيها: الصلاة جامعة
(1)
). قاله الشيخ
(1)
البخاري، كتاب الكسوف، رقم الحديث:1045. - مسلم، كتاب الكسوف، رقم الحديث: 910.
إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي: وصح أنه صلى الله عليه وسلم نادى فيها: الصلاة جامعة. واستحسنه صاحب الإكمال وغيره، وقوله:"وندب بالمسجد"، قال ابن حبيب: إن شاءوا فعلوها في المصلى أو في المسجد الشيخ خليل: وهذا إذا وقعت جماعة كما هو المستحب، فأما الفذ فله أن يفعلها في بيته. انتهى. وقال في صلاة خسوف القمر: المعروف من المذهب أن الناس يصلون في بيوتهم، ولا يكلفون الخروج ليلا يشق عليهم، واختلف هل يمنعون من الخروج؟ فقال في المدونة: لا يجمعون، وأجاز أشهب الجمع. انتهى. وقال ابن عرفة في صلاة خسوف القمر: والمشهور كونها في البيوت، ولا يجمع، وروى علي: يفزعون للجامع يصلون أفذاذا ويكبرون ويدعون، وصوب اللخمي قول أشهب: يجمعون، وقال في الطراز: وهل يستحب فيها المسجد؟ اختلف فيه، قال مالك في المجموعة: ويفزع الناس في خسوف القمر إلى الجامع فيصلون أفذاذا ويكبرون ويدعون، وقال ابن الجلاب: ويصليها الناس في منازلهم فرادى، وهكذا قال أبو حنيفة. انتهى. قاله الحطاب. وقراءة البقرة؛ يعني أنه يندب للمصلي في صلاة الكسوف أن يقرأ سورة البقرة في القيام الأول. ثم موالياتها؛ يعني أنه كما يندب له أن يقرأ سورة البقرة في القيام الأول، يندب له أن يقرأ بالسور الثلاث التي تليها. في القيامات الثلاث الباقية، فيقرأ بالفاتحة والبقرة في القيام الأول، وبالفاتحة وآل عمران في القيام الثاني، وبالفاتحة وسورة النساء في القيام الثالث؛ أى القيام الأول من الركعة الثانية، وبالفاتحة والمائدة في القيام الرابع.
وعلم مما قررت: أنه يقرأ الفاتحة في كل قيام؛ وهو المشهور كما في التوضيح وابن عرفة والحطاب، ونص ابن عرفة: وفي إعادة الفاتحة في القيام الثاني والرابع قول المشهور وابن مسلمة، فقول الخرشي: إن ما لابن مسلمة هو المشهور غير صحيح، قاله الشيخ محمد بن الحسن. ووجه المشهور أن كل قيام تشرع فيه القراءة تجب فيه الفاتحة، ولا يرد على المصنف أنه يقتضي أن يكون القيام الثالث أطول من الثاني، مع أن النص ندب كون كل قيام أقصر مما قبله؛ لأن سورة النساء مع إسراع قراءتها يكون قيامها أقصر من قيام آل عمران مع الترتيل، كما قال بعض الشراح. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: مع أن النص ندب كون كل قيام أقصر مما قبله صحيح،
نقله في التوضيح عن صاحب الإكمال وغيره. وقد ذكر في المدونة أن تطويل السجود مستحب، والتطويل في القيام والركوع كذلك كما يدل عليه كلام المواق، وذكر صاحب اللباب والشامل وغيرهما أنه إذا ترك التطويل في القيام أو الركوع أو السجود سجد، وهذا يدل على أن التطويل فيها سنة مؤكدة، وأما عمدا فيجري على تارك السنن متعمدا كذا في الحاشية. قاله الشبراخيتي. وقد أشار الحطاب إلى أن السجود في ترك التطويل في القيام أو في الركوع أو في السجود مبني على القول بسنية كل واحد منها على وجه التأكيد.
واعلم أن ندب التطويل مقيد بما إذا لم يضر بمن خلفه تحقيقا، وبما إذا لم يخف خروج الوقت. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: وظاهر المصنف أن الندب لا يحصل إلا بقراءة البقرة ثم موالياتها، وليس كذلك، بل مذهب المدونة والرسالة أنه إذا قرأ قدرها من غيرها أتى بالمطلوب. انتهى. وعبارة الشيخ الأمير: وندب البقرة فموالياتها في القيامات، وقرب الركوع من القراءة والسجود منه إن لم يضر بالمأمومين. انتهى. وفي شرح الشيخ عبد الباقي: أنه ليس ثم قول بأن تطويل القراءة سنة، وفي قراءة المأموم خلف إمامه قولان لأصبغ وأشهب. ابن ناجي: وإذا فرعنا على قولها: إنه يقرأ فيها سرا، فقال أشهب: لا يقرأ مأموم خلف الإمام، وقال أصبغ: يقرأ. انتهى. وقد مر هذا.
ووعظ بعدها؛ يعني أنه يستحب أن يعظ الإمام الناس بعد صلاة كسوف الشمس، فيذكرهم بالعواقب، وينصحهم ويأمرهم بالصلاة والصيام والصدقة والعتق ونحو ذلك. ويقال السعيد من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ به غيره. ويفعل ما ذكر من غير خطبة، وقد صح (أنه صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس بوجهه فحمد الله وأثنى عليه)، فحمله مالك على الوعظ لا على الخطبة، واستحب ذلك لأن الوعظ إذا وردت الآيات يرجى تأثيره، وإنما لم يقل بالخطبة، وإن كانت السيدة عائشة رضي الله عنها سمت ما ذكره عليه الصلاة والسلام خطبة؛ لأن الجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علي بن أبي طالب، والنعمان بن بشير، وابن عباس، وجابر، وأبو هريرة رضي الله عنهم نقلوا صفة صلاة الكسوف، ولم يذكر أحد منهم أنه عليه الصلاة والسلام خطب فيها، ولا يجوز أن يكون خطب وغفل هؤلاء كلهم، مع نقل كل
واحد ما يتعلق بتلك الحال، فوجب حمل تسمية عائشة رضي الله عنها خطبته على معنى أنه أتى بكلام منظوم، فيه حمد الله تعالى وصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم. روى في التيسير عن عائشة رضي الله عنها أنها: قالت (كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فصلى بالناس فأطال القراءة، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه فأطال القراءة؛ وهي دون قراءته الأولى، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع رأسه، ثم سجد سجدتين، ثم قام فصنع في الركعة الثانية مثل ذلك، ثم سلم. وقد تجلت الشمس، ثم قام فخطب الناس، فقال: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله تعالى يريهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة
(1)
) [أخرجه الستة]
(2)
)، ومراده بالستة: الإمام مالك، والشيخان: مسلم والبخاري، وأصحاب السنن: أبو داوود والنسائي والترمذي. وقوله: "ووعظ بعدها"، الوعظ التخويف، والعظة الاسم منه، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له قلبه، وقال الجوهري: الوعظ النصح والتذكير بالعواقب، يقال: وعظه وعظا وعظة فاتعظ؛ أي قبل الموعظة، وقال الزبيدي: الوعظ والموعظة والعظة سواء. انتهى. قاله الشيخ الخرشي.
وركع كالقراءة؛ يعني أنه يندب للمصلي في الكسوف أن يطيل الركوع بحيث يقرب من القراءة في الطول؛ أي يندب أن يكون كل ركوع كالقراءة التي قبله؛ أي قريبا منها في الطول ولا يساويها فيه؛ إذ المشبه دون المشبه به، ويسبح فيه ولا يقرأ ولا يدعو. وقوله:"وركع كالقراءة". هو كقوله في المدونة: ثم يركع ركوعا طويلا كنحو قيامه. انتهى. البساطي: قوة كلام المؤلف تعطي أن هذه صفة الكسوف، لا أنه مندوب، وإلا لقال: وركوع كالقيام. انتهى. قال الرماصي: وفيه نظر لاقتضائه أنه لابد منه، وتبطل بتركه، وليس كذلك، قال: وإنما غير المصنف الأسلوب إشارة إلى تصريح سند بأن التطويل سنة ويترتب السجود على تركه. وقال ابن بشير: ليجعل طوله دون قراءته، قال: ولا يقرأ في الركوع، بل يسبح، وهل يدعو؟ يجري على الخلاف في جواز الدعاء في
(1)
التيسير، ج 2 ص 222.
(2)
ساقط من الأصل وما بين المعقوفين من التسيير ج 2 ص 222.
الركوع، وقال: ثم يرفع رأسه، ويقول: سمع الله لمن حمده، ويقول المقتدون: ربنا ولك الحمد، ثم قال: إذا رفع رأسه من الركوع الثاني اعتدل كسائر الصلوات ولم يزد. انتهى.
وسجد كالركوع؛ يعني أنه يندب للمصلي في الكسوف أن يطيل السجود بحيث يقرب من الركوع، فالحاصل أنه يركع كل ركوع كالقراءة التي تليه قبله، ويسجد كل سجود كالركوع الذي يليه قبله؛ أي يندب أن يقرب الركوع من القراءة، والسجود من الركوع قبله من غير مساواة، بل يطيل القيام قليلا عن الركوع، والركوع عن السجود قليلا، والسجدة الثانية تكون دون الأولى، ولا يطيل الفصل بين السجدتين إجماعا قال الشيخ عبد الباقي: فإن ترك التطويل المندوب فيها كله أو بعضه من قيام أو ركوع أو سجود سهوا لم يسجد بناء على ما مر من ندبه، وقيل: يسجد بناء على سنيته، وليس ثم قول بأن تطويل القراءة سنة انتهى. وفي حاشية الشيخ محمد بن الحسن: أن القول بندب التطويل لعبد الوهاب كما في المواق. والقول بالسنة والسجود لسند، واقتصر عليه الشيخ الحطاب والشيخ زروق.
ووقتها كالعيد؛ يعني أن وقت صلاة الكسوف من حل النفل للزوال كالعيد، فإن طلعت مكسوفة لم تصل حتى تحل النافلة، خلافا للشافعية للنهي عن الصلاة حينئذ، وهل يقفون للذكر والدعاء؟ قولان لمالك، فعلى الأول ذلك مسنون مندوب إليه، وعلى الثاني جائز، ولا يعد بدعة. وحيث فرعنا على المذهب من أنها إن طلعت مكسوفة لم تصل حتى تحل النافلة، فإذا انجلت حمدوا الله تعالى، ولا يصلونها ولا تصلى إن كسفت بعد الزوال على المشهور وعند الغروب إجماعا، وقال ابن حجر: إن وقتها عند الشافعي من الطلوع إلى الغروب، وقال: لأن الصلاة علقت برؤيته أي الكسوف، وهي ممكنة في كل وقت من النهار، وقال أبو الحسن: قال ابن الجلاب في وقتها عن مالك ثلاث روايات: إحداها أنها كصلاة العيدين والاستسقاء، والأخرى أن وقتها من طلوع الشمس إلى غروبها، الثالثة أن وقتها من طلوع الشمس إلى العصر. انتهى. والأولى هي التي في المدونة. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. وقال الإمام الحطاب: قال في الجلاب: روى ابن القاسم: وقتها وقت العيدين قياسا عليهما، وعلى الاستسقاء بجامع أن هذا وقت ليس
لشيء من الفرائض، فجعل للسنن المستقلة تمييزا لها عن النوافل المتابعة. انتهى من الذخيرة. انتهى كلام الحطاب.
وتدرك الركعة بالركوع؛ يعني أن كلا من الركعتين تدرك بالركوع الثاني من الركوعين، فيدرك الركعة الأولى بالركوع الثاني، كما أن الركعة الثانية تدرك بالركوع الثاني، فلا يقضي من أدركه؛ أي الركوع الثاني في الركعة الأولى شيئا لإدراكه الصلاة كلها، ويقضي من أدرك الركوع الثاني من الركعة الثانية الركعة الأولى فقط بقياميها وركوعيها، ولا يقضي القيام الثالث؛ والركوع الثالث لأنه أدرك الركعة الثانية بسبب إدراكه للركوع الثاني، قال الشيخ عبد الباقي: ومثل فريضة الركوع الثاني القيام الذي قبله. والركوع الأول سنة كما في الشيخ سالم كالقيام الذي قبله، وظاهر كلام سند أن الفاتحة كذلك سنة في الأول وفرض في الثاني، وظاهر كلام المواق وابن ناجي فرضيتها في أول كل قيام من الركعتين، والخلاف في سنيتها في كل قيام ثان وفرضيتها، فإن ركع الأول بنية الثاني، وسها عن كونه الأول اعتد بهذا الركوع وجعله الفرض، ولم يرجع منه لفوات التدارك بالانحناء بنية الثاني الفرض، ويسجد قبل السلام سجدتين من غير تطويل فيهما بل كصفة السجود للسهو، ولو أدرك الركوع الأول وفاته الثاني برعاف بناء أو زحام أو نحوه، فإن كان الفائت ثاني الركعة الأولى فاتت بالرفع بمنزلة من زوحم عن ركوع أولاه وقضاه بعد سلام الإمام، وإن كان ثاني الركعة الثانية أتى به ما لم يرفع من سجودها كمن زوحم عن ركوع غير أولاه. انتهى كلام الشيخ عبد الباقي. قوله: وظاهر كلام سند الخ، قال الشيخ بناني: غير صحيح، بل الذي يظهر مما نقله الحطاب عن سند خلافه؛ وهو وجوب الفاتحة في كل قيام من القيامات الأربعة، وهو ظاهر نقل المواق عن ابن يونس، وقوله: والخلاف في سنيتها في كل الخ، ظاهره أن مقابل المشهور القول بسنيتها في القيام الثاني وليس كذلك، فإن الذي في التوضيح والمواق والحطاب وغيرهم أن ابن مسلمة ينفي قراءتها في القيام الثاني من كل ركعة، لا أنه يثبته على وجه السنية -كما ذكر- ونص التوضيح: ووجه الشاذ وهو قول ابن مسلمة أنها ركعتان،
والركعة الواحدة لا تكرر فيها الفاتحة. انتهى. وفي النوادر: ومن فاتته مع الإمام فليس عليه أن يصليها، فإن فعلت ما دامت الشمس منكسفة فلا بأس به. قاله الحطاب.
ولا تكرر؛ يعني أنه يمنع أن تكرر صلاة الكسوف إن أتموها قبل الانجلاء في يوم واحد، وأما إذا كسفت بيوم وفعلت ولم تنجل واستمرت مكسوفة، فإنها تصلى في اليوم الآخر، وكذا لو تكرر الكسوف في يوم واحد قبل الزوال بأن كُسِفت فصلي لها فانجلت، ثم كسفت ثانيا قبل الزوال فتكررت وإنما منع تكريرها في يوم واحد؛ بسبب واحد؛ لأنها صلاة مشتملة على فعل لو فعل في غيرها لأبطلها لزيادة القيام والركوع، فلا يجوز فعلها إلا في محل ورودها. قاله الشيخ إبراهيم. وإذا لم تكرر في يوم واحد لسبب واحد فيدعون، ومن شاء تنفل. قاله في المدونة. وفي الحطاب: ولو خسفت الشمس والقمر مرارا في السنة، فإنهم يصلون الكسوف كل مرة. انتهى.
وإن انجلت في أثنانها؛ يعني أنه إذا كسفت الشمس فدخلوا في الصلاة لها فتجلت الشمس كلها؛ فإن الشيوخ اختلفوا في الحكم حينئذ، فمنهم من قال: تتم كالنوافل أي بلا زيادة قيامين وركوعين بلا تطويل، سواء تجلت قبل تمام شطرها أو بعده، وإلى هذا أشار بقوله: ففي إتمامها، بقيام وركوع فقط من غير تطويل. كالهيئة المعهودة في النوافل؛ أي لا تكون بزيادة قيامين وركوعين ولا تطويل. ومنهم من قال: تتم على سنتها بلا طول إن تجلت بعد تمام ركعة بسجدتيها، فإن تجلت، قبل ذلك قطعت في ذلك قولان، والحاصل من كلامهم هنا أنها إذا تجلت كلها بعد تمام ركعة بسجدتيها فإنه لا خلاف في أنها لا تقطع، وإنما الخلاف في إتمامها كالنوافل، وإتمامها على هيئتها مخففة، وأما لو تجلت قبل تمام ركعة بسجدتيها؛ فإنه لا خلاف في أنه لا يتمها على هيئتها، وإنما الخلاف في إتمامها كالنوافل وهو الراجح، لحكاية ابن محرز: عليه الاتفاق وقطعها.
وعلم مما قررت أن التفصيل إنما هو في القول المطوي لا في القول الذي نص عليه المصنف، وأن في كل من الصورتين قولين، والقول بإتمامها على هيئتها لأصبغ. ابن عبد السلام: معناه من غير إطالة، والقول بإتمامها كالنوافل لسحنون، وأما لو تجلى بعضها فقط أتمها على هيئتها باتفاق، كما لو تجلى بعضها قبل الدخول. قاله في الطراز.
تنبيهات: الأول: قد تقدم قول المصنف: "وندب قراءة البقرة" الخ، وقال ابن عرفة في تحديد طول القيام الأول: بقراءة البقرة ثم ما بعدها مرتبا لكل قيام سورة، أو بمطلق الطول نقلا اللخمي عن مالك والقاضي، وفي إعادة الفاتحة في القيام الثاني والرابع قولا المشهور وابن مسلمة، وفي إطالة السجود روايتان لها ولابن عبد الحكم، وروى ابن عبد الحكم: يستقبل الناس بعد سلامه يعظهم ويأمرهم بالدعاء والتكبير والصدقة والعتق.
الثاني: إذا زالت الشمس في أثنائها، فانظر هل تكون كما لو انجلت في أثنائها فيجري فيها الخلاف؟ أو يتمها على سنتها إن أدرك ركعة؛ لأن من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت، فإن أدرك دون ركعة قطع.
الثالث: إذا كسفت الشمس وقد بقي للزوال ما يسع منها ركعة بسجدتيها إن صليت على سنتها وطولت، وإن ترك تطويلها صلاها بتمامها بصفتها، فإنه يسن تقصيرها ليدركها كلها في الوقت، وأما إذا لم يدرك منها إلا ركعة واحدة إن صلاها بزيادة قيامين وركوعين بلا تطويل، وإن صلاها كالنوافل صلى الركعتين معا قبل الزوال، فانظر هل لا يطلب بصلاتها أصلا، أو يطلب بصلاتها؟ وعليه فالظاهر أنه يتمها على صفتها بلا تطويل، فيأتي بالركعتين على هيئة صلاة الكسوف بلا تطويل فيهما، والثانية أقصر، الأولى قبل الزوال، والثانية بعده. والله سبحانه أعلم. قاله الشيخ عبد الباقي.
وقدم فرض خيف فواته؛ يعني أن الفرض إذا خيف فواته فإنه يقدم وجوبا على صلاة الكسوف كجنازة خيف تغيرها، أو فائتة يخشى إن لم يفعلها فواتها بنحو قتل أو ظن موت، ومفهومه أن لو لم يخف فواته لم يجب تقديمه.
وقد مر أن قضاء الفوائت يجب فورا، وعليه فلا يتنفل من عليه فوائت، خلافا لابن العربي إلا ما خف من الصلوات المسنونة، وفجر يومه، والشفع المتصل بالوتر، وفي حاشية الشيخ محمد بن الحسن: عن ابن رشد ليس وقت المنسية مضيقا، فلا يجوز تأخيرها عنه بحال، كغروب الشمس للعصر، وطلوعها للصبح لقولهم: إذا ذكرها مأموم تمادى، وكذا الفذ عند ابن حبيب، وفيها أيضا
عنه: يؤمر بتعجيلها إن خاف معاجلة الموت، فيجوز تأخيرها حيث يغلب على الظن أداؤها، ونقله ابن ناجي في شرح الرسالة. انتهى.
واعلم أنه إن حمل الفرض في كلامه على الصلاة، فيمثل بما ذكرت، ويتصور أيضا على الشاذ؛ وهو صلاتها إن كسفت بعد الزوال، قال الشيخ محمد بن الحسن: هذا الجواب هو المعتبر؛ لأن عبد الحق إنما فرضها في اجتماع الكسوف والجمعة، ونحوه لابن شأس وأبي الحسن، ونص عبد الحق: إذا اجتمع كسوف وجمعة قدمت الجمعة عند خوف الفوات، وإن أمن منه قدمت صلاة الكسوف، ولو اجتمعت جنازة مع هاتين الصلاتين فهي مقدمة، إلا أن يضيق وقت الجمعة؛ فإنها تقدم عند ضيق وقتها. انتهى. نقله أبو الحسن. انتهى كلام الشيخ محمد بن الحسن. وأورد على التمثيل بالجنازة المخشية التغير أنه يمكن دفنها بلا صلاة، ثم بعد صلاة الكسوف يصلَّى عليها -كما يأتي للمصنف- ورد بأن ما يأتي محمول على ما بعد الوقوع، أو على ما إذا لم يوجد مصل عليها، وأما إن حمل قوله:"فرض خيف فواته"، على غير الصلاة، فيمثل بإنقاذ أعمى، وصون ما خيف تلفه، وبفجء عدو وقت حل نافلة؛ إذ يجب الجهاد حينئذ عينا، وبهذه الأجوبة يجاب عما يقال: ليس بعد طلوع الشمس للزوال وقت من أوقات الصلاة المفروضة حتى يتصور اجتماعه مع كسوف.
ثم كسوف؛ ثم هنا للترتيب الإخباري؛ يعني أن صلاة الكسوف تقدم ندبا -كما في الخرشي- على صلاة العيدين، وإن كانت صلاة العيد آكد من صلاة الكسوف خوف انجلائها، كما أنها لم توقع بالمصلى كذلك. قاله الشيخ الأمير. والله سبحانه أعلم، ونظير ذلك قطع قراءة القرآن مع شرفه لحكاية الأذان لخوف فواتها، فلا بدعة
(1)
في تقديم المفضول على الفاضل.
واعلم أن لله تعالى أن يخلق الكسوف في أي وقت شاء، فلا معنى لاستشكال اجتماع العيد والكسوف بأنه إنما يكون يوم التاسع والعشرين من الشهر، كما قاله أهل الهيئة، والعيد لا يكون فيه؛ إذ هو إما أول يوم من الشهر أو عاشره، ويبطل ما ذكروا في ذلك (أن كسوف الشمس يوم موت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه
(1)
في عبد الباقي ج 2 ص 80 فلا بدع.
وسلم ثابت في البخاري
(1)
)، قال ابن حجر: وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة العاشرة، فقيل: في ربيع الأول، وقيل: في رمضان، وقيل: في ذي الحجة، والأكثر على أنها وقعت في العاشر من الشهر، وقيل: في رابعه، وقيل: في رابع عشرة، قال: وفيه رد على أهل الهيئة. ونقل الإمام الرافعي أن الشمس كسفت يوم موت الحسين رضي الله عنه، وكان يوم عاشوراء قاله الشيخ بناني. ثم عيد؛ يعني أن صلاة العيد تقدم على صلاة الاستسقاء.
وأخر الاستسقاء ليوم آخر؛ يعني أنه يستحب تأخير الاستسقاء عن العيد إلى يوم آخر؛ أي إذا صلوا صلاة العيد، يندب لهم أن يؤخروا صلاة الاستسقاء عن ذلك اليوم الذي صليت فيه العيد، فيصلونها في يوم آخر بعده، وهذا إن لم يضطر له بسببه الآتي، ما لا فعل مع العيد قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: فإن احتاجوا جدا؛ أي احتياجا شديدا صلوا الاستسقاء، وقال: وأما إذا اجتمع الكسوف والاستسقاء فيفعلان معا، ويؤخر الاستسقاء ما لم تشتد الحاجة، وإلا قدم. انتهى. وقوله:"وأخر الاستسقاء" الخ، إنما أخر ليوم آخر؛ لأن العيد يوم زينة وتجمل، والاستسقاء على الضد منه. قاله الشيخ إبراهيم.
ولما ذكر المؤلف الاستسقاء في الفصل السابق، ناسب أن يعقد له فصلا يذكر فيه حكم صلاته، وسببها، وما يتعلق بذلك، فلهذا قال: فصل ذكر فيه حكم صلاة الاستسقاء، وسببها.
(1)
البخاري، كتاب الكسوف، رقم الحديث:1060.